تعليقة على معالم الاصول المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيد علي العلوي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-313-8

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق حفيدة: السيد علي العلوي القزويني

الجزء الثالث

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج3)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد عليّ العلويّ القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 784

الطبعة: الأولی

المطبوع: 500 نسخة

التاريخ: 1422 ه.ق

السعر: 2500 توماناً

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

الأوامر والنواهي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المطلب الثاني

في الأوامر والنواهي *

وفيه بحثان :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ، إلى يوم الدين.

وبعد : فهذا جزء ثان ممّا علّقناه في الأصول على كتاب معالم الأصول ، نسأل اللّه التوفيق على ختمه ، فإنّه خير موفّق ومسؤول.

* ولا يخفى أنّ بناء جمع « الأمر » و « النهي » على « الأوامر » و « النواهي » هو المتعارف في ألسنة الأصوليّين والفقهاء ، بل الواقع في كتبهم المتداولة ، وكأنّه تصرّف منهم وارد على خلاف القانون ، فإنّ « فواعل » على ما صرّح به أئمّة الأدب لا يجمع بها إلاّ ما كان على زنة « فاعل » اسما أو وصفا - بمعنى « فاعلة » - كالكواهل والطوالق في « كاهل » و « طالق » أو « فاعله » اسما أو وصفا كالكواثب والضوارب في « كاثبة » (1) و « ضاربة ».

نعم ، ربّما يذكر البناء على هذا الجمع في اوزان على وجه الشذوذ ، ليس ما ذكر بشيء منها ، وكأنّه إطباق منهم على أنّ هذا الوزن لا يجمع ذلك الجمع.

مضافا إلى ظهوره في محلّ البحث خاصّة عن أئمّة اللغة ، حيث لم يذكروا للأوّل منهما جمعا سوى « الأمور ».

وإلى ما عن الحاجبي من أنّه لا يوجد في لسان العرب « أوامر » جمع « أمر » بل هذا شيء يذكره الفقهاء ، وجمع « الأمر » الواقع بمعنى الفعل والقول « امور » و « أوامر » جمع « آمرة ».

ص: 3


1- موضع من عنق الفرس ، يضع عليه الفارس يده ( منه ).

مادّة الأمر

البحث الأوّل

في الأوامر *

ومن هنا تقرّر أنّ ما في كلام علماء الاصول في بحث أمارات الحقيقة والمجاز من عدّ بعضهم الاختلاف في صيغة الجمع من أمارات المجاز ، ممثّلين له بلفظ « الأمر » الّذي يجمع بمعنى القول المخصوص - الّذي هو حقيقة فيه - على « أوامر » وبمعنى الفعل - الّذي يشكّ في كونه حقيقة فيه - على « امور » فيكون مجازا فيه ، مع تقرير الآخرين إيّاه في دعوى كون جمعه على « أوامر » من دون قيام بمنعها لا ينهض دليلا على مجيئه على هذا الوزن بعد ما ذكر من الشواهد المعتبرة ، لابتنائه على ما أشرنا إليه من التصرّف المحدث الجاري على خلاف القانون.

وأمّا ما عن بعض فضلاء طلبة الدهر في توجيه ذلك من احتمال كونهما في كلامهم أيضا جمع « آمرة » و « ناهية » بإضمار لفظة « صيغة » ومثله ما حكي القول به في كلام بعض الأفاضل.

ففيه : مع أنّه تكلّف بارد مناف لتصريحاتهم ، أنّه لا يستقيم إلاّ بفرض « الآمرة » و « الناهية » وصفين للصيغة بدعوى : التجوّز في الإسناد ، أو اسمين لها بدعوى طروّ النقل والوضع الجديد في اصطلاحهم ، كما ادّعي نظيره في صيغة « افعل » بالقياس إلى كلّ فعل « أمر » والالتزام بهما كما ترى دونه أصعب من خرط القتاد ، وظنّي أنّ كون ذلك جريا على خلاف القانون - وفاقا لما نصّ عليه غير واحد من فضلاء أهل الفنّ - أولى من تلك التكلّفات الواهية.

نعم ، فيه احتمال كونه جمعا لل « أمور » على حدّ جمع الجمع - كما حكى القول به في الإحكام - غير أنّه يضعّف : بأنّه لو كان كذلك لكان جاريا مجرى « الامور » في الاستعمالات وليس كذلك ، لاختصاصه بالأقوال واختصاص « الامور » بالأفعال ، مع أنّه لو صحّ ذلك لما كان صادقا على أقلّ من تسعة كما هو القانون في جمع الجمع - على ما نصّوا به - وليس كذلك ، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات.

* وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل

ما يتعلّق من البحث بحال مادّة الأمر

وقد أسقطه عن البين جماعة منهم المصنّف ، إمّا لزعم قلّة الجدوى في التعرّض لحكمه ،

ص: 4

أو التعويل على وضوحه في الخارج ، أو إحالة اتّضاحه بالنظر في الكتب المبسوطة من هذا الفنّ ، أو فنّ اللغة ، أو استفادته عمّا يبيّن من حكم الصيغة بتوهّم التطابق بينها وبين المادّة - على ما سبق إلى بعض الأوهام - وسيأتي الإشارة إلى ضعفه.

وعلى أيّ حال كان فالأنسب بما هو من ديدننا - من عدم الاكتفاء بما هو مسطور في زبر القوم ، ولا سيّما مع كونه من مطارح الأنظار ومزالّ الأقدام - صرف عنان الهمّة إلى النظر في تحقيق ذلك.

فنقول : لا خلاف بينهم - على ما يظهر بالتتبّع - في كون « الأمر » حقيقة في شيء طلبيّ في الجملة ، مردّد بين كونه قولا دالاّ على الطلب ، أو طلبا بالقول أو مطلقا ، على سبيل الاستعلاء ، أو مطلقا ، من العالي أو مطلقا ، على ما يأتي من الخلاف في جميع ذلك ، وإنّما خلافهم في دعوى الحقيقيّة وعدمها فيما عدا ذلك ، غير أنّه لا إشكال في كونه مع ما ذكر حقيقة في « الشأن » بمعنى الشغل - كما يقال : « أمر فلان كذا » أي شغله و « أمره مستقيم » - على طريق الاشتراك لفظا.

لنا : تبادره مع المعنى الأوّل عند الإطلاق ، تبادرا على نحو السويّة فيما لو قيل : « أمر فلان موافق للحكمة » و « أنّ أمره لا يخالف الحكمة » على سبيل الإجمال ، الموجب لتردّد الذهن وتحيّره ، وهو آية الاشتراك.

مضافا إلى عدم صحّة سلب الاسم عن شيء منهما ، ولو مع ملاحظة الخصوصيّة فيهما.

وقاعدة الإستعمال القاضية في مثل ذلك بالاشتراك - بالمعنى الّذي قرّرناه في محلّه ، لا المعنى المعروف عن السيّد ومن تبعه - إذ المفروض استعمال اللفظ فيهما على السواء ، إن لم نقل بكونه بالقياس إلى ثانيهما بحسب الوجود الخارجي أغلب وأكثركما لا يخفى على الناظر المنصف.

ولا جامع بينهما ليكون الاشتراك معنويّا ، ولا مناسبة معتبرة ليكون فيهما من باب الحقيقة والمجاز كما هو واضح ، وعلى فرض ثبوتها في الواقع - على ما نجوّزه من عدم لزوم العلم بخصوصيّة العلاقة الموجودة ، وإنّما نستكشف عنها بالمؤانسة الطبعيّة والملائمة الذوقيّة - فلا يلزم ذلك أيضا ، لعدم كفاية مجرّد وجودها في ثبوت المجاز ، لاشتراط اعتبارها والالتفات إليها من الجانبين عند الاستعمال في موضع الاشتباه ، بمعنى ابتناء صحّة الاستعمال على ملاحظتها ، وهو في خصوص المقام مقطوع بعدمه ، كيف ولو سلّم

ص: 5

عدم القطع بالعدم لكفانا في نفي احتمال التجوّز نفي احتمال ملاحظتها عند الاستعمال بالأصل ، فإنّ انتفاء اللازم - ولو ظنّا - يقضي بانتفاء ملزومه.

فممّا قرّرنا تبيّن سقوط احتمال الاشتراك معنى ، مع فساد القول به كما عن الآمدي ، وبطلان استدلاله بالأصل القاضي بأولويّة الاشتراك معنى بالقياس إلى الاشتراك لفظا والمجاز ، لكونهما بكليهما على خلاف الأصل.

كما تبيّن أيضا فساد القول بالحقيقة والمجاز كما عليه الأكثر ، مع فساد مستندهم من أولويّة المجاز بالنظر إلى الاشتراك ، فإنّ هذه قاعدة تصلح مستندا إذا لم يقم هناك ما يقضي بخلافها ، وقد عرفت قيامه من وجوه شتّى فعليه المعوّل. وبملاحظة ما نبّهناك من انتفاء لوازم المجاز تعرف بطلان ما قد يستدلّ به أيضا على المجاز في « الشأن » من عدم الاطّراد ، إذ لا يصحّ إطلاق « الأمر » على الأكل والشرب ونحوهما ، وصحّة الاشتقاق منه على المعنى الأوّل دون الثاني ، واختلاف صيغة الجمع فيهما ، مع أنّها بأجمعها مدخول فيها عندنا - على ما حقّقناه في محلّه - مع توجّه المنع إلى منع الاطّراد ، كيف وأنّ كلّ فعل يصحّ التعبير عنه في العرف ب- « الشأن » يصحّ إطلاق « الأمر » عليه كما لا يخفى على المتدبّر.

وعدم صحّة إطلاق المشتقّات منه بهذا المعنى فعلا أو اسما - كما يصحّ إطلاق المشتقّات من سائر الأفعال - فإنّما هو من جهة انتقاء عمدة شرائط الاشتقاق ، وهي كون المشتقّ منه حدثا.

ثمّ إنّ هاهنا معان اخر ذكرها بعضهم.

منها : الفعل ، فقيل : بكون « الأمر » حقيقة بينه وبين المعنى الأوّل ، فإن اريد به ما يرجع إلى « الشأن » - كما هو ظاهر الأكثر - فلا كلام ، وإلاّ فيتوجّه المنع إليه ، لعدم تبادره عند الإطلاق ، بل وعدم ثبوت الاستعمال فيه بالخصوص.

وما يستدلّ به عليه من الاستعمال في قولهم : « أمر فلان مستقيم » وقوله تعالى : ( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (1) وقوله أيضا : ( وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (2) وغير ذلك من الآيات المتكثّرة غير قاض بذلك جزما لظهور الجميع فيما ذكرنا ، مع إمكان أول ما عدا الأوّل إلى المعنى الأوّل ، أمّا في الآية الاولى فواضح الوجه بعد ملاحظة قوله : « فاتّبعوا » نظرا إلى أنّ المراد بالاتّباع الإطاعة - كما نصّ عليه جمع من

ص: 6


1- هود : 97.
2- القمر : 50.

الأصحاب - فالمناسب له حينئذ إنّما هو إرادة الطلب من « الأمر » كما لا يخفى ، بل هو المتعيّن نظرا إلى أنّ الاتّباع بمعنى التأسّي الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة ب- « پيروى كردن » لا يضاف إلاّ إلى الذات فيقال : « اتّبع زيدا » ولا يقال : « اتّبع فعل زيد ».

نعم الاتّباع بمعنى الإطاعة والانقياد المعبّر عنه في الفارسيّة ب- « فرمان بردارى » يضاف إلى « الأمر » بمعنى الطلب ، فوجب حمله عليها ويلزمه حمل « الأمر » على المعنى الطلبي.

وأمّا الآية الثانية : فلجواز كون المراد به الأمر التكويني ، ويكون إثبات الوحدة له وتشبيهه بلمح البصر كفاية عن سرعة ترتّب الكون للكائنات على هذا الأمر بلا تراخ ومهلة ، بقرينة ما تكرّر منه تعالى أيضا من قوله : ( إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1).

ومنها : الحادثة ، نصّ عليها في القاموس وغيره ، وقضيّة حجّيّة قول اللغوي - على ما تقرّر في محلّه - ثبوت الوضع لهذا المعنى أيضا إن أفاد الوصف ، وإلاّ فأصل الاستعمال فيها بالخصوص غير ثابت ، وقوله : « عرض بي أمر » ليس نصّا في ذلك ، لجواز كونه مرادا به ما ذكر ، ومن هنا - مع ما سبق - ينقدح ما في القول بالاشتراك بينهما معنى - على ما حكاه الحاجبي والعضدي - كما في كلام بعض الأفاضل.

ومنها : الشيء والغرض والطريق والصفة ، كما نقل القول بالاشتراك بينها وبين المعنيين عن أبي الحسن البصري.

وممّا ذكرنا ينقدح ما فيه أيضا ، من عدم ثبوت أصل الاستعمال ، وأول الموارد المذكورة - لإطلاقه عليها - إلى ما ذكر ، والاستدلال عنه بتردّد الذهن وحصول [ الترديد ] عند سماع قول القائل : « أمر فلان كذا » بينها واضح المنع ، فإنّه بالنسبة إلى المعنيين مسلّم كما تقدّم ، وأمّا بالنسبة إلى غيرهما فهو فرع التبادر ، وهو غير حاصل جدّا.

وأمّا ما عن بعضهم من اشتراك « الأمر » بين القول المخصوص والأدلّة العقليّة على وجوب الأفعال ، فلعلّه غير مخالف لما سنحقّقه ، من كون « الأمر » بالمعنى الأوّل عبارة عن الطلب مع القيود المعتبرة فيه الّتي يأتي بيانها ، من غير فرق فيه بين كونه بالقول أو بغيره ، من كتابة أو إشارة أو روع في القلب ، أو رؤيا في النوم ، وأشباه ذلك ، فيندرج فيه ما يستقلّ بوجوبه العقل ، فينطبق عليه حينئذ الأدلّة العقليّة على وجوب الأفعال ، نظرا إلى أنّ الدليل العقلي عبارة - عندهم عن « حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي » ولكنّه مبنيّ على

ص: 7


1- يس : 82.

كون حكم العقل من باب الإنشاء لا الإدراك ، فيصدق عليه حينئذ أنّه « أمر » بالمعنى الآتي جزما ، فما ذكره بعض الأعاظم في ردّ هذا القول - بأنّه مردود ، لعدم ثبوت الاستعمال في الأدلّة العقليّة بالخصوص - ليس بسديد.

نعم يرد على هذا القول في دعوى الحقيقيّة في القول المخصوص ، أنّ ذلك مبنيّ على ما يأتي منعه من دخول القول المخصوص في مفهوم « الأمر » ومسمّاه الحقيقي ، وأنّه بالقياس إلى الطلب لا يفترق الحال فيه بين أقسامه ، فلا وجه لتخصيصه بالأمر العقلي ، وهو الإلزام العقلي على الفعل الملازم لإلزام الشرع عليه ، بناء على ثبوت الملازمة بين حكمه وحكم الشرع.

وأمّا المعنى الأوّل الّذي أشرنا إليه إجمالا فلا بدّ من تحقيق حاله جنسا وفصلا ليتبيّن بعض الاشتباهات.

عدم كون الأمر من مقولة الألفاظ لغة وعرفا

فنقول : ينبغي القطع بأنّ « الأمر » ليس من مقولة الألفاظ لغة وعرفا ، فقد أخطأ من فسّره بالقول المخصوص ، كما في كلام كثير من العامّة والخاصّة ، لعدم انسباقه إلى الذهن في شيء من استعمالاته العرفيّة ، وانسباق غيره إليه بالنظر إلى ما سيأتي في مثل قولك : « أنا آمر بكذا ومأمور بكذا » وعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من اطلاقات « الأمر » ولا سائر مشتقّاته عند أهل اللسان ، الذين لا يكون تعرف ذلك ونظائره إلاّ موكولا إليهم لعدم مدخليّة غيرهم فيه ، من حيث كون مفهومه عرفيّا كاشفا عن أصل اللغة ، ولو مع ضميمة بعض الأصول على ما هو الطريقة المستمرّة لديهم قديما وحديثا.

فلا وجه لما عن فخر الدين في بعض كتبه من تحديده : « باللفظ الدالّ على طلب الفعل على سبيل الاستعلاء » لوضوح البينونة بينه وبين المحدود.

مضافا إلى أنّ « اللفظ » إن اريد به الملفوظ - كما هو معناه المصطلح - لم يكن ملائما للفظ « الأمر » من حيث كونه مصدرا ، فلا يفسّر بما يبائنه ، مع أنّه ممّا يصحّ الاشتقاق منه بجميع الأنواع قولا واحدا ، مع شهادة الضرورة من العرف وأهل اللسان ، وليس كذلك « اللفظ » على هذا التقرير ، فهو آية المبائنة بينهما من وجه ثالث.

وإن اريد به التلفّظ لم يكن ملائما لتوصيفه بالدلالة ، الّتي هي وصف للّفظ بالمعنى الأوّل ، مع أنّ « آمر » أو « مأمور » إنّما يصدق على من قام به أو وقع عليه المحدود صدقا حقيقيّا بلا شائبة ريب ولا استهجان عرفي ، ولا يصدق عليهما « لافظ » ولا « متلفّظ » بالكسر والفتح ، لمكان الاستهجان عرفا على حدّ الوضوح ، وهو أيضا من آيات البينونة.

ص: 8

وعلى هذا القياس صحّة إسناد « الأمر » إلى من هو له ، فيصحّ أن يقال : « فلان أمر أو يأمر بكذا » و « أنا أمرتك أو آمرك بكذا » وليس كذلك إسناد التلفّظ ، فلا يقال : « فلان تلفّظ أو يتلفّظ بكذا » و « أنا تلفّظت أو اتلفّظ بكذا » مع أنّ الحدّ يتناول لمثل ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (1) « والمؤمنون عند شروطهم » وليس من المحدود في شيء إجماعا (2).

ويمكن دفع الجميع بعدم كون المراد من اللفظ هنا مفهومه بل مصداقه الّذي يعبّر عنه « بافعل » وموازينه ، نعم يرد عليه أنّه لا يتناول لما يصدر من العالي الغير الملتفت إلى علوّه على سبيل الحتم والإلزام ، لفقده القيد الأخير ، نظرا إلى أنّ إظهار العلوّ يستلزم القصد إليه ، وهو مناف للغفلة والذهول ، والمفروض كونه من أفراد المحدود جزما بأيّ معنى يحدّ.

كما لا وجه أيضا لما عن البلخي وأكثر المعتزلة من أنّه : « قول القائل لمن دونه : « افعل » وما يقوم مقامه » ولا لما عن القاضي والغزالي والجويني وأكثر الأشاعرة من تحديده بأنّه : « القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به » ولا لما عن أبي الحسين البصري من أنّه : « قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا على جهة التذلّل ».

فإنّ الأوّل وإن كان يناسب المحدود باعتبار كونه مرادا به المعنى المصدري ، غير أنّه لا يلائمه باعتبار عدم كونه ممّا يدور عليه المشتقّات الصادقة على ما صدق عليه مشتقّات « الأمر » وصفا وإسنادا بالتقريب المتقدّم. والباقيان لا يناسبه في شيء من الاعتبارين على ما هو ظاهر هما من إرادة المعنى الاسمي منهما وهو الكلام ، والدليل على كلّ ذلك ما تقدّم من الاستهجان العرفي ، مع ما في الأوسط من الاختلال من جهة اشتماله على كون الاقتضاء من أوصاف القول ، فإنّه وصف للآمر ، فكيف يصلح وصفا للأمر القائم به ، إلاّ على إرادة التجوّز في الإسناد وهو كما ترى.

مع أنّ الأوّل منقوض في طرده بما لو اريد من الصيغة ما عدا الإيجاب ، من الندب والتهديد والإباحة وغيرها ممّا يأتي من معانيها ، وما لو صدرت الصيغة من الهازل ، وما إذا كان القائل ناقلا له ، أو غيرها ممّا يفيد مفاد « الأمر » عن غيره لمن دونه ، وما لو كان القائل

ص: 9


1- البقرة : 223.
2- فإن قلت : كيف تدّعي الإجماع على عدم كونه أمرا مع أنّهم لا يزالون يستدلّون به وبنظائره على استفادة الأمر. قلت : مفاده أمر ونحن نسلّمه ، والكلام في أنّ لفظه لا يسمّى أمراً عندهم والمفروض أنّ الحدّ يشمله ، فيخرج غير مطّرد. ( منه ).

منزّلاً نفسه منزلة المساوي أو الداني ، مع أنّه مندرج في الالتماس والدعاء حينئذ على ما يظهر من كلامهم ، بل المصرّح به في عبارة بعض الأفاضل ، وبما لو كان الخبر مرادا به الأمر والإيجاب لاندراجه في القيد الأخير ، مع أنّه ليس بأمر عندهم بهذا المعنى ، إلاّ أن يدفع ذلك بكون ذلك القيد مرادا به الصيغة من سائر اللغات ، كما فسّر بها في كلام جماعة التفاتا إلى صدق « الأمر » عليها حقيقة.

ومختلّ طردا بصدقه على الوعد والوعيد بالثواب والعقاب على الامتثال وتركه ، بل بالإخبار بهما كما في وعظ الواعظ ، ونصح الناصح ، مع عدم كون شيء من ذلك من « الأمر » في شيء ، وعلى الجمل الخبريّة إذا اريد بها الإيجاب ، وباشتماله للفظي « المأمور » و « المأمور به » الموجب للدور ، بل واشتماله على لفظ « الطاعة » الّتي هي عبارة عندهم عن موافقة الأمر ، إلاّ أن يراد بهما الذات من دون اعتبار الوصف فيها ، وبها مطلق الامتثال والانقياد ، ولكن يبقى حينئذ الحاجة إلى ارتكاب تجريد فيهما وهو تجوّز ركيك لا يصار إليه في أمثال المقام ، مع افضائه إلى خروج الحدّ غير مفيد ، لكونه حينئذ من باب تحديد المجهول بالمجهول كما لا يخفى.

وأنّ الثالث ينتقض في طرده بمثل : « لا تترك » و « لا تكفّ نفسك » لاقتضائهما استدعاء الفعل بأنفسهما لا على جهة التذلّل ، مع أنّ ظاهر أصحاب القول بكونه قولا مخصوصا عدم كونهما منه ، مع انتقاض الجميع في عكسها بما يصدق عليه المحدود لغة وعرفا ممّا يستفاد من الكتابة أو الإشارة ونحوها ممّا يأتي.

وبما تقرّر يتّضح أنّ تحديده بأنّه : « صيغة « افعل » مع تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى جهة التهديد وغيره » كما عن بعضهم ، وتحديده : « بأنّه صيغة « افعل » بإرادات ثلاث : إرادة وجود اللفظ ، وإرادة على الأمر ، وإرادة الامتثال » بدعوى : أنّه يخرج بالأولى اللفظ الصادر عن النائم ونحوه ، وبالثانية ما إذا اريد بها سائر معاني الصيغة من التهديد والإباحة ونحوها ، وكذا إذا ذكر اللفظ هزلا ، وبالثالثة ما إذا كان القائل حاكيا لها عن الغير ، فإنّه لا يريد بها الامتثال - كما عن بعض المعتزلة - أوضح فسادا ممّا تقدّم ، فإنّهما مع مبائنتهما للمحدود بكلا الاعتبارين المتقدّمين يوجبان الدور ، لاشتمالها على لفظ « الأمر ».

وما يقال في دفعه في الأوّل - وعساه يقال أيضا في دفعه عن الثاني - : من أنّ « الأمر » المأخوذ في الحدّ غير ما هو المقصود من المحدود ، فإنّ المراد به في الحدّ مدلول الصيغة

ص: 10

وفي المحدود نفس الصيغة ، فقد اخذ مدلول الصيغة في حدّها ولا دور فيه ، لا يكاد يجدي في دفعه نفعا ، فإنّ « الأمر » بمعنى نفس الصيغة لا يعرف إلاّ بمعرفة « الأمر » بمعنى مدلول الصيغة كما هو قضيّة التحديد ، فلو توقّف معرفة « الأمر » بمعنى مدلول الصيغة على معرفته بمعنى نفس الصيغة - نظرا إلى أنّ معرفة مدلول الشيء فرع معرفة ذلك الشيء - لزم الدور.

لا يقال : إنّ معرفة مدلول الشيء ملزومة لمعرفة نفس ذلك الشيء ، واللزوم ليس من التوقّف في شيء فلا دور ، حيث لا توقّف في إحدى المقدّمتين ، لأنّ الموقوف على الملزوم موقوف على اللازم ، ألا ترى أنّ حركة المفتاح تتوقّف على حركة اليد ، وهي ملزومة لإرادة المختار ، فالحركة موقوفة على إرادة المختار ، والمفروض أنّ اللازم الموقوف عليه هاهنا نفس الموقوف في المقدّمة الاولى ، فالدور بحاله.

هذا مضافا إلى ما اورد عليهما أيضا من قضاء التخصيص لصيغة « افعل » بخروج سائر الصيغ الموضوعة له في العربيّة وغيرها.

وعلى الأوّل خاصّة من تناوله للصيغة الصادرة على سبيل الهزل ، مع خلوّ المقام عمّا يدلّ عليه من القرائن ، فإنّها ليست بأمر في الواقع وإن اعتقده المأمور أمرا أوّلا ، وتناوله لما إذ استعملت الصيغة في غير الطلب خالية عن القرائن ثانيا.

وعلى الثاني خاصّة من أنّ « الأمر » المأخوذ في الحدّ إن كان بمعنى الصيغة فكيف يراد بالصيغة الدلالة عليه ، وإن كان غير الصيغة فكيف يفسّر بها أوّلا ، وأنّ إرادة الامتثال لا يوجب خروج الصيغة الصادرة عن المبلّغ ، إذ قد يقصد بتبليغه حصول الامتثال.

وبالجملة : لا ينبغي الارتياب في عدم انطباق شيء من تلك الحدود - مع فسادها باعتبارات شتّى كما عرفت - على شيء من موارد إطلاقات « الأمر » عرفا ولغة ، وكأنّ التحديد بها وهم نشأ عن الخلط بين معناه الأصلي الثابت له في العرف واللغة وما اصطلح عليه فيه علماء الأدب من أهل المعاني وأصحاب النحو ، حيث يطلقه الأوّلون في مقابلة النهي والاستفهام والعرض والتمنّي على صيغة « افعل » و « ليفعل » كما يطلق الآخرون فعل « الأمر » في مقابلة فعلي الماضي والمضارع على خصوص صيغة « افعل » وما شابهها ، ولا ريب أنّ الغرض الأصلي في هذا المقام ونظائره التوصّل إلى ما يتداوله العرف وينصّ عليه اللغة ليظهر ثمرته في خطابات الشرع ، ومن البيّن عدم إناطة شيء من ذلك بالامور الاصطلاحية المتجدّدة ، ولا سيّما مع العلم بورودها على خلاف العرف واللغة.

ص: 11

ثمّ إنّه ينبغي أن يقطع أيضا بكون ذلك المعنى الّذي بإزائه « الأمر » من مقولة الطلب ، بمعنى إنشاء الاقتضاء على حسبما تعلّق به الإرادة المنبعثة عن الحبّ والبغض النفسانيّين ، فمالا طلب فيه بهذا المعنى ليس من « الأمر » في شيء بحكم العرف والوجدان ، فلا وجه لتحديده - كما عن جماعة من المعتزلة - بإرادة الفعل ، بناء على ما سنحقّقه من كون الطلب مغايرا للإرادة ، مضافا إلى تناوله الالتماس والدعاء اللّذين هما في الطرف المقابل من « الأمر » اتّفاقا ، مع تناوله أيضا لما يحدث لا بعنوان الإيجاب.

وممّا قرّرنا يتبيّن إنّه قد أخطأ من قال في تحديده - كما عن بعض الأشاعرة - : « بأنّه عبارة عن الخبر بالثواب على الفعل والعقاب على الترك » فإنّ فساده بمكان من الوضوح.

مضافا إلى ما أورده عليه في النهاية من أنّه باطل ، لامتناع دخول الصدق والكذب في « الأمر » ودخولهما في الخبر ، ولأنّ خبره تعالى صدق فيجب الثواب والعقاب وهو باطل ، أمّا الثواب فلجواز الإحباط بالردّة ، وأمّا العقاب فلجواز العفو والشفاعة.

مع أنّه يرد عليه أيضا : اندراج الوعد والوعيد بجميع أنواعه من اللّه سبحانه أو النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أو الأئمّة عليهم السلام بل وعظ الوعّاظ ونحوه ، كما أنّه قد أصاب من هذه الجهة من ذكر في تحديده : « أنّه طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا » - كما عن بعض الأشاعرة - أو أنّه : « طلب الفعل على جهة الإستعلاء » - كما عن الآمدي في الإحكام - أو أنّه : « إقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء » - كما عن الحاجبي - ولكنّهم أخطأوا باعتبارات اخر من لزوم الدور ، واندراج الطلب الاستحبابي في الحدّ كما في الأوّل ، وخروج ما طلبه العالي إيجابا من دون أن يظهر علوّه كما في الثاني والثالث ، مضافا إلى استلزام الثالث أيضا لخروج الإيجاب الّذي يراد ب- « اترك » أو « كفّ نفسك » أو « اترك الصلاة » فإنّ الأوّل والثاني باعتبار معناهما المادّي والأخير باعتبار المتعلّق أمر ، وإن كان باعتبار الهيئة - كالأوّلين باعتبار المتعلّق - نهيا. ومن هنا يتّضح أنّ متعلّق ذلك الطلب لابدّ وأن يكون فعلا ، لا بمعنى الأمر الوجوديّ الصرف حتّى يلتزم بخروج ما يراد بمثل « اترك » من الطلب الإيجابي التفاتا إلى كون متعلّقه أمرا عدميّا ، بل بمعنى الحدث المدلول عليه بالوضع المادّي ، فإنّه بهذا الاعتبار في المثال المذكور مندرج في المأمور به ، للصدق العرفي الّذي يكشف عنه عدم صحّة السلب عرفا بعنوان الجزم واليقين ، فيدخل فيه أيضا مثل « علّمني » و « فهّمني » ويخرج منه مثل « أزيد قام أم عمرو؟ » و « هل يقوم زيد؟ » وإن شاركا الأوّلين في أصل

ص: 12

المفاد ، لعدم كون المطلوب فيهما حدثا بهذا المعنى ، والضابط في الكلّ دخولا وخروجا إنّما هو صحّة السلب وعدمها ، الكاشفين عن الصدق العرفي وعدمه.

هل يعتبر كون الأمر مستفادا من القول أو لا؟

وهل يعتبر فيه كونه مستفادا من القول أو أعمّ منه وممّا يستفاد من الفعل؟ وجهان بل قولان ، اختار أوّلهما العلاّمة في التهذيب والنهاية ، فلذا عرّفه فيهما بأنّه : « طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء » وإلى ذلك ينظر ما عن إمام الحرمين في بعض تصانيفه من تحديده : « بأنّه استدعاء الفعل بالقول عمّن دونه على سبيل الوجوب » وعلّله في المنية بكونه احترازا عن طلب الفعل بالإشارة ونحوها كالكتابة فإنّه لا يسمى « أمرا » إذ « الأمر » نوع من أنواع الكلام ، ولا يخفى ما في هذا التعليل من الفساد المتقدّم ذكره.

وصار إلى ثانيهما جمع من متأخّري الأعلام ، منهم ابن عمّنا السيّد (1) قدّس اللّه روحه ، وإلى ذلك ينظر ما تقدّم عن بعض الأشاعرة والآمدي والحاجبي ، وعلّله السيّد في ضوابطه : بأنّ المتبادر عند الإطلاق وإن كان هو الأوّل ، ولكنّه إطلاقيّ لعدم صحّة السلب عن طلب الأخرس بالإشارة أو بالكتابة ، على أنّه لو كان منحصرا في القول لزم عدم كونه تعالى آمرا على مذهب الأشاعرة لقولهم بالكلام النفسي له تعالى لا اللفظي والحال أنّهم يقولون بأنّه تعالى آمر.

وفي الوجه الأخير ما لا يخفى ، من أنّ الملازمة إذا كانت مستندة إلى مدرك فاسد لا توجب المطلوب ، لأنّ وجود ما يفسد بفساد مدركه بمنزلة عدمه ، فلا ملازمة في البين.

وتحقيق المقام : أنّ ما يحصل بالإشارة والكتابة وغيرها من المواضعة من الطلب الإيجابي إذا اشتمل على سائر القيود لا إشكال في صدق « الأمر » عليه عرفا ، وعدم صحّة سلب الاسم عنه ، ولا سلب سائر مشتقّاته عمّن يوجب بها ، وإنّما الإشكال في أنّ دلالة هذه الأشياء على « الأمر » هل هي لقيامها مقام القول فيراد به ما يعمّ التحقيقي والتقديري ، أو لكونهما في الطرف المقابل من القول فيراد به التحقيقي خاصّة؟ وجهان ، أقربهما الأوّل من أنّه يقصد بوضعها القول ، كما يشهد به الوجدان ، نظرا إلى أنّ الذهن إنّما ينتقل إلى ما يستفاد منها بعد الانتقال إلى القول المخصوص الّذي يحلّ محالّها عند انتفاء موجباتها ، كما لا يخفى على من تأمّل في موارد وضعها جيّدا.

فقضيّة ذلك شمول القول لها في كلام من اعتبره في التحديد ، لأنّه قد يكون مقدّرا يكشف عنه المواضعة بشيء ممّا ذكر ، فلا وجه لما أشرنا إليه عن المنية من حكاية الاحتراز به

ص: 13


1- وهو السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الأصول ( المتوفى 1262 ه ق ).

عنها إلاّ على إرادة الجمود بما يقتضيه ظاهر اللفظ من كونه تحقيقيّا ، فيرد على الحدّين الأخيرين حينئذ خروجها غير منعكس ، لما قرّرناه من قضيّة الصدق وعدم صحّة السلب ، مع أنّ الالتزام بذلك مع الغضّ عمّا ذكر متفرّع على ما بيّنا بطلانه من عدّ « الأمر » من أنواع الكلام.

فالحقّ أنّ أخذ القول فصلا في حدّ « الأمر » خطأ ، كما كان أخذه جنسا له خطأ ، لا لما ذكروه من قضائه بخروج الحدّ غير مطّرد بالقياس إلى الإشارة والكتابة ، بل لخروجه قيدا مستدركا فيه من جهة ما حقّقناه من كون الأمور المذكورة حكايات عن القول المقدّر ، فيتناوله المذكور في الحدّ ، فلا احتراز به عن شيء ليكون مفيدا.

والعجب عن بعض الأفاضل حيث جمع بين الخطأين بدعوى : ثبوت المعنيين للأمر في العرف ، وإن كان المتداول عندهم في الاصطلاح هو القول المخصوص ، إذ قد يراد به في العرف القول الخاصّ ، وقد يراد به الطلب المخصوص ، فعلى الأوّل يكون حدّه : « القول الّذي اريد بمقتضى وضعه إنشاء طلب الفعل مع استعلاء الطالب ، أو علوّه مع عدم ملاحظة خلافه » وعلى الثاني يكون حدّه : « طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء أو العلوّ كذلك ».

ولا يخفى عدم مساعدة شيء من إطلاقات « الأمر » ولا سائر مشتقّاته لشيء ممّا ذكره عرفا إن اريد به العام ، وإلاّ فلا ربط له بما هو الغرض الأصلى في المقام من تحديد « الأمر » باعتبار ما ثبت كونه حقيقة فيه بحسب العرف العام قبالا لما ادّعى إطلاقه عليها من المعاني المتقدّمة ، ولا ريب أنّ جميع تلك المعاني على فرض ثبوتها ممّا يراد عنه - ولو مجازا - بحسب ذلك العرف ، وقرينة المقابلة بينها وبين ما ذكر في وصفي الحقيقة والمجاز ، بل الاشتراك لفظا أو معنى بينه وبين بعض منها - على حسبما تقدّم من الاختلاف في جميع ذلك - أن يقصد بتحديده ما هو بحسب ذلك العرف ، فكيف يتعرّض مع ذلك لتحديده بحسب ما يقابله من العرف الخاصّ إلاّ على الخلط والاشتباه.

اعتبار العلوّ أو الاستعلاء في معنى الأمر

ثمّ إنّ في اعتبار الاستعلاء وحده في « الأمر » أو العلوّ كذلك ، أو هما معا ، أو أحدهما على البدل ، أو عدم اعتبار شيء منهما أقوالا.

وقد صار إلى أوّلها ابن عمّنا السيّد ، وهي محكيّ عن جماعة من الخاصّة والعامّة ، منهم الفاضلان ، والشهيد الثاني والبهائي ، وأبو الحسين البصري ، والرازي ، والحاجبي ، والتفتازاني ، بل يحكى نسبته إلى أكثر الاصوليّين ، وعن الشيخ الرضيّ الإجماع على أنّ « الأمر » عند الاصولي صيغة « افعل » الصادرة على جهة الاستعلاء ، من دون فرق حينئذٍ بين

ص: 14

كون الطالب عالياً بحسب الواقع ، أو مساوياً ، أو دانياً على ما صرّحوا به.

وعن السيّد وجمهور المعتزلة وبعض الأشاعرة المصير إلى الثاني ، وصار إليه بعض الفضلاء أيضا ، ورجّح الثالث بعض الأعلام وحكاه عن جماعة أيضا ، ووافقه بعض الأعاظم.

والرابع ما أختاره بعض الأفاضل ، كما أنّ الخامس عزاه في النهاية إلى بعض الناس ، وفي كلام بعض الأفاضل أنّه يظهر من العضدي ، ويعزى إلى ظاهر البيضاوي والاصفهاني والمنقول من حجّة أصحاب القول الأوّل وجهان :

أحدهما : أنّ من قال لغيره : « افعل » على سبيل الاستعلاء ، يقال : إنّه أمره ، ومن قال لغيره : « افعل » على سبيل التضرّع لم يصدق ذلك وإن كان أعلى.

وثانيهما : إنّهم فرّقوا بين الأمر والالتماس والدعاء بأنّه إن كان الطلب على سبيل الاستعلاء كان أمرا ، إلى آخر ما ذكروه ، مضافا إلى ما عرفت من إسناده إلى الأكثر ونقل الاتّفاق.

واحتّج في الضوابط بعدم صحّة سلب « الأمر » عن طلب الداني المستعلي ، فإنّه لا يصحّ سلبه عنه لغة وإن كان ذلك قبيحا عقلا باعتبار كون العلوّ من الشروط العقليّة لصحّة الأمر.

وحجّة القول الثاني - على ما نقلت أيضا - وجهان :

أحدهما : أنّه يستقبح أن يقال : « أمرت الأمير » ولا يستقبح أن يقال : « سألته » ولو لا اعتبار الرتبة في ذلك لما كان كذلك.

وثانيهما : جعلهم الرتبة فارقة بين « الأمر » وأخويه.

وحجّة القول الثالث على ما قرّره بعض الأعاظم : التبادر وصحّة السلب عن العاري عنهما أو أحدهما ، كأن يطلب العالي بتذلّل ، أو الداني ولو مع الاستعلاء ، والاستقباح عرفا إذا قيل : « أمر الرعيّة الأمير بكذا ».

وقد حكى بعض الأفاضل الاستدلال عليه بظهور « الأمر » عرفا في علوّ الآمر ، إذ هو المفهوم في العرف من قولك : « أمر فلان بكذا » فإذا انضمّ إلى ذلك ما يرى من عدم صدق « الأمر » مع استخفاضه لنفسه دلّ على عدم الاكتفاء في صدقه بمجرّد العلوّ فيعتبر الاستعلاء معه ايضا.

واحتجّ ذلك الفاضل على ما اختاره من القول الرابع فعلى الاكتفاء بمجرّد الاستعلاء وإن خلا عن العلوّ بظهور صدق « الأمر » بحسب العرف على طلب الأدنى من الأعلى على سبيل الاستعلاء ، ولذا قد يستقبح منه ذلك ويقال له : « ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك » وقد نصّ عليه جماعة.

ص: 15

وعلى الاكتفاء بالعلوّ الخالي عن ملاحظة الاستعلاء بأنّ من الظاهر في العرف إطلاق « الأمر » على الصيغ الصادرة من الأمير بالنسبة إلى الرعيّة والسيّد بالنسبة إلى العبد ، وإن كان المتكلّم بها غافلا عن ملاحظة علوّه حال الخطاب كما يتّفق كثيراً.

وممّا يرشد إلى ذلك انحصار الطلب الصادر من المتكلّم في الأمر والالتماس والدعاء ، ومن البيّن عدم اندراج ذلك في الأخيرين فلابدّ من اندراجه في الأوّل.

والمحكيّ من حجّة القول الخامس أوّلا : قياس « الأمر » على الخبر ، وثانيا : قوله تعالى حكاية عن فرعون لملائه ( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) (1) وقول عمرو بن العاص لمعاوية : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني » وقول الآخر ليزيد بن المهلب : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما ».

والجواب أمّا عن حجّة القول الأوّل فعن وجهها الأوّل : بأنّ ما ذكر في الاستدلال من صدق « الأمر » مسلّم إن كان القائل عاليا ولكنّه لا يقضي باعتبار الاستعلاء ، وإنّما هو لأجل العلوّ من دون أن يكون للاستعلاء مدخل فيه ، والّذي يرشد إليه صدق « الأمر » فيما لو صدر عنه الصيغة مع ذهوله عن علوّه وارتفاعه ، مع أنّه لا استعلاء فيه من جهة أنّ إظهار علوّ النفس وارتفاعها باعتبار الرتبة يلزمه عدم الغفلة والذهول. وأمّا لو كان مساويا بجميع الجهات الآتية أو دانيا بواحد من الاعتبارات فقول « الأمر » بما صدر منه من الصيغة بمكان من المنع ، كيف ولو أخبر المساوي عن نفسه بالأمر أو أسنده إلى نفسه بقوله : « أمرته بكذا » مع ثبوت مساواته يوجب الضحك ويرمي بكونه مزاحا واستهزاء ، كما أنّه لو قال به الداني بالقياس إلى من هو أعلى منه رتبة بعد ظهور حاله يكون مستهجنا ومستقبحا ، وكلّ ذلك آية ورود هذا الإطلاق في غير محلّه.

وعن وجهها الثاني فأوّلا : بمنع جعلهم الفارق بين الامور المذكورة كون الطلب على سبيل الاستعلاء وغيره ، كيف وأنّ الواقع في كلامهم ليس إلاّ إناطة الفرق بعلوّ الرتبة ومساواتها ودنائتها.

وثانيا : منع اعتبار هذا الفرق - على تقدير تسليمه - في كلام بعضهم ، كيف وما قرّرناه من شواهد العرف يوجب الوهن في ذلك.

ومن هنا ينقدح ما في الإسناد إلى الأكثر ونقل الاتّفاق من الوهن الموجب لسقوط

ص: 16


1- الشعراء : 35.

التعويل عليهما ، ولا سيّما في اللغات الّتي لا يدار أمرها إلاّ على الأسباب المعهودة عند العرف ، المتعارفة لدى أهل اللسان الّذين هم المرجع في معرفة أحكام لسانهم ومعالم لغتهم.

واجيب عن أوّل حجّتي القول الثاني : بأنّ الاستقباح قد يكون من جهة نفس الاستعمال بحسب اللغة ، وقد يكون من جهة ما يدلّ عليه اللفظ بحسب العرف نظرا في ذلك إلى خصوصيّة المقام ، والّذي يشهد بالخروج عن الوضع هو الأوّل دون الثاني ، فإن أريد بالاستقباح المدّعى هذا المعنى كان ممنوعا ، بل هو على إطلاقه فاسد قطعا ، لجواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع ولو على سبيل المجاز ، ولا قبح فيه أصلا.

نعم لو كان الاستعلاء منفيّا في ذلك المقام أيضا فربّما أمكن ما ذكر ، إلاّ أنّه لا يفيد المدّعى بل يوافق القول باعتبار الاستعلاء.

وإن أريد به الثاني فهو لا يفيد المنع اللغوي ، بل فيه شهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء ، نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه ، ألا ترى أنّه لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الانكار : « أتأمر الأمير؟ » من غير استقباح.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من أوّله إلى آخره من الفساد وخروجه عن نهج السداد ، فإنّ الاستقباح قد ينشأ عن عدم انطباق الاستعمال على قانون الوضع واللغة كما في قول القائل : « خذ هذا الكتاب » مشيرا إلى الفرس ، وقد ينشأ عن عدم انسياق مدلول اللفظ ولو بحسب الوضع واللغة إلى ما يقتضيه المقام بحسب العرف والعادة ، بأن يكون جاريا على ما لا يناسبه في نظرهما من خصوص ذلك المقام ، كما لو قال : « أدّبت أبي » أو « أهنته » من فعل بأبيه ما يقتضي تأديبه أو إهانته ، فإنّه لم يخالف شيئا من قانون الوضع واللغة مع إفادته القبح الواضح ، وقد ينشأ عن الأمرين معا كما في قول القائل : « يا ديّوث » خطابا إلى أبيه العدل والورع ، فلذلك ترى أنّه يحصل لو قيل بمثل ذلك لعدل آخر غير الأب ، إلاّ أنّه في حقّه أشدّ استقباحا منه في غيره ، وليس ذلك إلاّ من جهة الاعتبار الثاني.

وظاهر أنّ قول القائل : « أمرت الأمير » من هذا الباب ، وأقوى ما يشهد به ما لو قال بعد القول الأوّل : « وما أمرت بل سألته » لكان صحيحا من دون استهجان ولا استقباح ، فلو لا صدق هذه القضيّة - وكذلك نظرا إلى استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما - لما كان لذلك وجه ، فينتهض تلك دليلا على عدم كون إطلاق « الأمر » هنا في محلّه ، لكون صحّة السلب

ص: 17

من أقوى أمارات خلاف الحقيقة.

فلذلك ترى لو قال - في القسم الثاني بعد المثال المزبور - : « ما أهنت أبي بل أكرمته » لاستفيد منه استهجان آخر كاشف عن كذب القضيّة الثانية لما ذكر دون القضيّة الاولى ، لما عرفت من وقوع الاستعمال فيها على طبق الوضع واللغة وانطباق ما استعمل فيه اللفظ على مدلوله اللغوي.

ومن هنا جعل عدم صحّة السلب من أقوى شواهد الحقيقة.

وبالجملة لو كان إطلاق « الأمر » هنا في محلّه لما صحّ السلب عنه ثانيا ، كما لم يكن صحّ في باب الإهانة.

ووجه بطلان التالي مع الملازمة ما عرفت.

وممّا يفصح عن كون الاستهجان هنا لمجرّد خصوصيّة في اللفظ - وهو تضمّنه علوّ القائل المنتفي هنا - أنّه لو كان لأجل ورود المعنى في محلّ غير مناسب لوجب حصول الاستهجان فيما لو ورد المعنى بلفظ آخر ، كما لو قال الداني للأمير : « اطلب منك الشيء الفلاني ولا أرضى بتركه » مع أنّ الوجدان السليم يحكم بعدمه.

وأمّا ما ذكره ثانيا من الحكم بفساد إطلاق هذه الدعوى بتوهّم جواز الاستعمال فيه في الجملة عند الجميع.

ففيه : أنّ المتّجه إطلاق المنع ولو على سبيل المجاز على تقدير انتفاء العلوّ بالمرّة ولو ادّعاء.

كيف وأنّه لا يطلق على هذا التقدير إلاّ على طريق السخريّة والاستهزاء أو مع إرادة المزاح كما هو شأن الأغلاط في جميع اللغات ، وإسناد جوازه مجازا إلى الجميع موضع منع.

ولو سلّم فهو مبنيّ في صدق « الأمر » على الاكتفاء بالعلوّ في الجملة ولو ادّعاء ، نظرا إلى أنّ الاستعلاء الّذي يسلّمه المجيب في ذلك الإطلاق مآله إلى ادّعاء العلوّ.

غاية الأمر أنّه قد يصادف الواقع فيصدق معه « الأمر » حقيقة لتحقّق ما به مناط الحقيقة ، وقد لا يصادفه فينتفي معه الصدق الحقيقي ، ولو كان هنا صدق في بعض الأحيان على سبيل المجاز ، فإنّما هو لتحقّق العلوّ الادّعائي (1) لكون النتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها

ص: 18


1- ومحصّل ذلك الكلام : أنّ هذا الاستعمال على فرض صحّته عند الكلّ إنما هو لتنزيل المستعلي منزلة العالي بعد ادّعائه العلوّ فيطلق على طلبه ما هو من خواصّ المشبّه به مجازا ، وكذلك إذا أطلق المستعلي لفظ « الأمر » على طلبه وهو غير عال على فرض صحّته ، فإنّ اعتبار تلك العلاقة في النفس أقوى شاهد على أنّه مأخوذ في الموضوع له ، فلذا يعتبر في خلافه ليصحّ الاستعمال. ويمكن أن يقال أيضا : إنّ صدق « الأمر » على طلب المستعلي ولو على سبيل الحقيقة مع الغضّ عمّا ذكر لا ينافي ما ذكره المستدلّ من اعتبار العلوّ في صدق « الأمر » نظرا إلى دعوى أنّ العلوّ أعمّ من الحقيقي والادّعائي. كما صرّح به بعض الفضلاء الموافق لنا في المذهب. وقد ذكرنا في المتن أنّ مرجع الاستعلاء إلى دعوى العلوّ سواء كان من العالي أو غيره ، إلاّ أنّ المدّعى في الأوّل مصادف للواقع وفي الثاني غير مصادف له ، فلا يثبت بما ذكر مذهب المجيب من نفي اعتبار العلوّ في الأمر (منه عفى عنه).

وأنّ المقيّد أو المركّب ينتفي بانتفاء أحد قيوده أو أجزائه.

ومن هنا ينقدح ما في الفقرة الأخيرة من دعوى الشهادة على الاكتفاء فيه بالاستعلاء ، نظرا إلى كون القبح فيه من جهة استعلائه على الأمير المخالف للتأدّب معه من الفساد ، بل قيامه شاهدا على اعتبار العلوّ في « الأمر » فإنّ القبح إنّما ينشأ عمّا فهموه من العلوّ الّذي ادّعاه القائل بقوله : « أمرت » نظرا إلى عدم مصادفته الواقع من جهة عدم علوّ له على الأمير ، فلو لا اعتبار ذلك في حاقّ معنى اللفظ لما كان لانفهامه عند الإطلاق وجه سيّما إذا لم يكن القائل موصوفا به أصلا ، ولا سيّما محلّ الفرض الّذي لم يقم فيه ما يقضي باستفادة ادّعاء العلوّ من غلظة أو رفع صوت في الكلام أو نحو ذلك سوى مادّة الأمر.

ومن هنا ظهر أيضا أنّه لا كرامة لما ذكره أخيرا بقوله : ألا ترى لو طلب شيئا من الأمير على جهة الاستعلاء صحّ أن يقال له على جهة الإنكار : « أتأمر الأمير؟ » من غير استقباح.

واجيب عن ثاني الحجّتين : بأنّ الطلب الحاصل بالأمر والالتماس والدعاء إنّما ينقسم إلى ذلك بملاحظة علوّ الطالب أو مساواته أو دنوّه بحسب الواقع أو في ملاحظته على سبيل منع الخلوّ والعرف شاهد عليه.

والظاهر أنّ الطلب لا يكون إلاّ على أحد الوجوه المذكورة ، ففي ذلك شهادة على كفاية أحد الأمرين من العلوّ والاستعلاء في « الأمر » لا مجرّد العلوّ.

وفيه : ما يتبيّن بالتأمّل فيما تقدّم ، فإنّ شهادة العرف بالنظر إلى العلوّ مسلّمة دون الاستعلاء الفاقد له ، كيف وأنّ صحّة السلب في أكثر الموارد واستهجان العرف في جملة كثيرة منها ، مع وروده كثيرا مّا أو غالبا أو دائما عن غير المستعلي أيضا في موضع السخريّة والمزاح ينافيها جزما ، لقضاء الجميع بكون المعتبر في الصدق على سبيل الحقيقة إنّما هو العلوّ لا غير ولو عمّمنا العلوّ بالنسبة إلى الادّعائي أيضا - كما في كلام بعض الفضلاء - لما كان لصدق « الأمر » مع الاستعلاء فقط - على فرض تسليمه - دلالة على ما ادّعاه المجيب

ص: 19

أصلاً كما لا يخفى.

والجواب عن حجّة القول الثالث فممّا قرّره بعض الأعاظم : بأنّ تبادر العلوّ مسلّم دون الاستعلاء جدّا ، كما أنّ صحّة السلب عن العاري عن العلوّ مسلّمة دون العاري عن الاستعلاء مع تحقّق العلوّ ، كيف وأنّه يقضي بصحّة سلبه عن طلب العاري الغافل عن علوّه إذا كان على سبيل الحتم والإلزام وهو كما ترى.

وإطلاق دعوى صحّة ذلك عن طلب العالي بتذلّل بمكان من المنع ، فإنّ العالي قد يتذلّل في طلبه مع أنّه قاصد للحتم والإلزام ، فيصدق عليه أنّه « أمر » حقيقة من دون أن يعتريه شكّ وريب.

وما يرى من صحّته في بعض الأحيان فإنّما هو لأجل انتفاء هذا القيد لا لعدم الاكتفاء بمجرّد العلوّ وخلوّ المقام عن الاستعلاء ، فلذا صار الأكثرون إلى عدم اندراج الندب في « الأمر » وسيأتيك ما يقضي باعتباره مع العلوّ في صدق « الأمر ».

ومن ذلك يتّضح الجواب عمّا قرّره بعض الأفاضل من الاحتجاج على هذا القول وعمّا احتجّ به على ما اختاره من القول الرابع ، بضميمة ما تقدّم في ردّ ما أجاب به عن حجّتي القول الثاني ، فإنّ ظهور « الأمر » عرفا في علوّ الآمر مسلّم ولكن عدم صدقه على الإطلاق ومع استخفاضه لنفسه في حيّز المنع.

والوجه ما ذكرنا ، وصحّة القول على الداني الطالب عن العالي استعلاء بأنّه ليس من شأنك أن تأمر من هو أعلى منك ، أظهر دلالة على اعتبار العلوّ في « الأمر » وعدم الاكتفاء بمجرّد الاستعلاء ، فإنّه في معنى القول بأنّه ليس من شأن طلبك عمّن هو أعلى منك أن تطلق عليه « الأمر » وإن تزعمه في نفسك أمرا بادّعاء العلوّ الكاشف عنه لفقدانك ما هو مناط الصدق الحقيقي من العلوّ الحقيقي فيكون ذلك من صحّة السلب الّتي جعلت من أقوى الأمارات.

والجواب عن حجّة القول الخامس : بمنع اعتبار القياس في اللغات باتّفاق المخالف والمؤالف ، ولا سيّما مع وضوح الفارق بين المقيس والمقيس عليه ، كيف وإنّه لو صحّ ذلك لقضى بعدم دخول الصدق والكذب في مفهوم الخبر أو دخولهما في مفهوم « الأمر » أيضا وهو كما ترى ، مع أنّه مبنيّ على ما أفسدناه رأسا من كون « الأمر » من مقولة الكلام ، وعليه يخرج المقام عن كونه من مجاري القياس لاشتراطه بوجود الجامع بين طرفيه ، ولا جامع بين ما يكون من مقولة الألفاظ وما هو من مقولة المعاني كما لا يخفى ، ومنع دلالة الآية

ص: 20

على خلوّ المقام عن العلوّ بالمرّة ، لجواز كون ذلك الخطاب من فرعون إنّما سيق إلى من هو أعلى رتبة منه من ملائه ، بأن يكون مخاطبوه أهل العلم أو الحكمة من قومه كما هو الحال في سائر العلماء في سائر الأعصار والأمصار بالقياس إلى سلاطينهم حيث يرتفعون على السلاطين ، مع أنّ الاحتجاج بعد الغضّ عمّا ذكر إنّما يستقيم إذا قدّر المفعول ضميرا للمتكلم ، وأمّا إذا قدّرناه ضميرا للمخاطبين مستترا في الفعل على جهة النيابة عن الفاعل بدعوى : أنّ الفعل مبنيّ للمفعول ، فلا ، كما لا يخفى.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فليس في الآية إلاّ إطلاق مجرّد ، وهو بنفسه لا يصلح دليلا على الحقيقة جزما ، كما أنّه على تقدير صلوحه لذلك لا يصلح معارضا لما تقدّم من الوجوه القاضية باعتبار العلوّ لا محالة ، مع إمكان أن يقال : بكونه مناط الإطلاق هاهنا ، بدعوى : أنّه نزّلهم منزلة العالي فأطلق عليهم ما هو من خصائصه.

وبمثل ذلك يجاب عن الوجهين الأخيرين ، مضافا إلى ما سبقه من منع دلالة الإطلاق على ما هو المقصود ، مع إمكان أن يستكشف كونه في خصوص المقام على وجه المجاز عن توصيف « الأمر » بالجزم ، نظرا إلى أنّ الأمر الحقيقي لا يوصف به وإنّما يوصف به عرفا ما ليس بأمر حقيقة تنبيها على كونه يفيد مفاد « الأمر » في إرادة الحتم وقصد الإلزام كما لا يخفى.

فممّا قرّرنا جميعا تقرّر أنّ حقّ الأقوال هو القول الثاني ، فلا بدّ في صدق « الأمر » عرفا وكذلك لغة بضميمة أصالة عدم النقل من اعتبار العلوّ ، لدوران الصدق معه في الوجود والعدم ، وصحّة السلب مع خلوّه ، ولكن لا بدّ مع ذلك من اعتبار الحتم والإلزام مع الطلب ، والمراد به جعل الشيء لازما أو طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك ، فلو صدر لا على سبيل الحتم والإلزام ليس من « الأمر » لغة ولا عرفا ولا شرعا لصحّة السلب عنه على الإطلاق ، مضافا إلى عدم إطلاقه عليه في شيء من الموارد وخصوص قوله صلى اللّه عليه وآله « لو لا أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك » (1) وقوله الآخر لبريدة حينما طلب عنها المراجعة إلى زوجها : « لا بل أنا شافع » (2) بعد قولها : « أتأمرني يا رسول اللّه؟ » مع ثبوت الطلب الندبي في كلا المقامين.

أمّا في الأوّل : فلما دلّ على استحباب السواك بنفسه من النصوص الكثيرة البالغة حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا الثاني فلقضاء قوله : « بل أنا شافع » نظرا إلى أنّ الشفاعة عرفا مرادفة للندب أو

ص: 21


1- الوسائل 1 : 355 ب 5 من أبواب السواك ، ح 3.
2- الكافي 5 : 485.

قريبة منه.

وبذلك يسقط القول باشتراكه بينه وبين الندب كما عن ثاني الشهيدين ، فإنّ الطلب الندبي لا يصدق عليه « الأمر » جدّا مع انفهامه بل وانفهام غيره عرفا عند الإطلاق كما عرفت ، فما عنه من الاحتجاج عليه تارة : بانقسام « الأمر » إلى الواجب والندب ، واخرى : بأنّ المندوب طاعة والطاعة فعل المأمور به ، فمردود عليه.

أمّا في وجهه الأوّل : بأنّه لا يستلزم كونه حقيقة فيهما ، إذ لو اريد أنّ الأمر الحقيقي ينقسم إليهما فغير مسلّم ، وإن اريد الأعمّ فغير نافع ، مع أنّه ينقسم إلى ما ليس بحقيقة فيه بالاتّفاق كالتسخير والتعجيز ونحوهما.

والأولى أن يقال : بأنّ صحّة التقسيم إنّما تصلح دليلا على الحقيقة في القدر المشترك مع عدم نهوض ما يقضي بالتجوّز في أحد القسمين ، وقد عرفت نهوضه من وجوه شتّى ، فلابدّ حينئذ من صرف اللفظ عن ظاهره بحمله على إرادة التقسيم اللفظي كما لا يخفى.

وأمّا في وجهه الثاني بمنع كلّية الكبرى إن اريد الأمر الحقيقي ، فإنّ الطاعة إمّا فعل المندوب أو فعل المأمور به ، ومنع فائدة أصل الاحتجاج إن اريد الأعمّ من الأمر الحقيقي.

فرجع الأمر بجميع ما حقّقناه من البداية إلى النهاية إلى أن يقال في تحديد الأمر : « بأنّه طلب العالي من الداني فعلا على جهة الإلزام ».

ثمّ إنّ من الفضلاء من يظهر منه توهّم اللزوم بين العلوّ والاستعلاء بعد ما عرّف « الأمر » بما كان خاليا عن قيد « الاستعلاء » حيث قال :

« والحقّ أنّ اختصاص « الأمر » وضعا بالطلب الصادر عن العالي حقيقة أو ادّعاء يوجب إظهار المستعمل وإفادته لعلوّ من يسنده إليه على المأمور ، كما أنّ اختصاص الدعاء بطلب السافل من العالي يوجب عكس ذلك ، واختصاص الالتماس بطلب أحد المتساويين في الرتبة من الآخر يوجب [ إفادة ] تساويهما في الرتبة ، وعلى هذا فاختصاص « الأمر » بالعالي اختصاص وضعي » (1).

وكأنّه ذهول عن أنّ « الأمر » كثيرا مّا يسنده العالي إلى نفسه أو غيره إليه مع ذهوله عن علوّه.

ولا ريب أنّ إظهار العلوّ وإفادته على المأمور ممّا لا يتعقّل في تلك الصورة مع عدم كونه مصادما لصدقه العرفي أصلا كما مرّ غير مرّة.

ص: 22


1- الفصول : 63.

والفرق بين ما ذكره مع القول باعتبار العلوّ والاستعلاء معا في مفهوم « الأمر » أنّ دلالة « الأمر » على الاستعلاء التزاميّة على الأوّل لاختصاص وضعه بطلب العالي وهو ملزوم للاستعلاء ، وتضمّنيّة على الثاني ، وعلى هذا يكون ذلك قولا آخر مغاير للأقوال المتقدّمة.

والإنصاف : أنّ الاستعلاء ليس بمدلول من « الأمر » تضمّنا ولا التزاما ، أخذا بقضيّة صدقه على ما لم يلاحظ معه إظهار العلوّ وإفادته أصلا.

وفي كون الإلزام ملزوما للعلوّ فيكون أخذه في الحدّ كافيا عن اعتباره أوّلا وعدمه فيجب أخذهما معا وجهان ، من تفسير الإلزام بجعل الشيء لازما فلا يكون إلاّ من شأن العالي ، أو بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه فيعمّ المساوي والداني أيضا ، ولكن أجودهما الثاني لصدق الإلزام مع طلبهما عرفا دون جعل الشيء لازما.

وربّما يقال : بمنع اختصاص الإلزام بالمعنى الأوّل بالعالي ، لجواز صدوره من المساوي والداني أيضا ، كما لو التزم السيّد بانجاح حاجة عبده ولو بعهده وشبهه ، أو واعده على وجه يلزمه الوفاء به عقلا ، فإنّ الإلزام يتحقّق منه شرعا أو عقلا مع أنّه لا يصدق عليه « الآمر ».

وفيه : ما لا يخفى من ابتنائه على اشتباه الالتزام بالإلزام. ولا ريب أنّه التزام جاء من قبل المولى لا أنّه إلزام نشأ عن العبد ، إذ لا يقال : إنّ العبد قد الزمه بذلك.

فإن قلت : أنّ الالتزام بدون الإلزام ممّا لا يكاد يتعقّل ، لأنّه انفعال.

قلت : إنّما ينشأ الالتزام عن إلزام السيّد نفسه بعهده ومواعدته ، فالاعتماد على هذا الوجه إن كان ولابدّ لكان التمثيل له بالشروط المأخوذة في ضمن العقود - كأن يقول أحد المتعاقدين لصاحبه : « شرطت عليك كذا » - وما أشبه ذلك أولى ، لكونه في العرف عبارة عن الإلزام بذلك المعنى ، إلاّ أنّه غير مجد في دفع توهّم كفاية قيد الإلزام عن اعتبار العلوّ ، لعدم تحقّق تلك الإلزامات في حيّز الطلب ، والإشكال وارد على هذا التقدير ، لاختصاص الإلزام الناشئ عن الطلب بالعالي وبمثل ذلك يقال أيضا في مثال عهد السيّد لعبده وشبهه بناء على كونه إلزاما من العبد ، لعدم كونه ناشئا عن الطلب.

فيتوجّه إلى المنع المذكور حينئذ أنّ هذه الإلزامات إنّما خرجت بقيد « الطلب » فيبقى المناقشة بحالها لاختصاص الإلزام الطلبي بالعالي ، وإنّما يدفعها ما ذكرناه من منع تفسير الإلزام بما يوجب توجّهها ، ولذلك تراهم فرّقوا بين الإلزام واللزوم تفرقتهم بين الإيجاب والوجوب ، وهو كون الثاني خاصّا بطلب العالي دون الأوّل ، ولا يتمّ ذلك إلاّ على تفسيره

ص: 23

بعدم الرضا بالترك مع أنّه مصرّح به في كثير من العبائر.

ومن الأعلام من يظهر منه توهّم كون الإلزام من لوازم « الاستعلاء » مدّعيا لظهور « الاستعلاء » فيه ، تعليلا بأنّه لا معنى لاظهار العلوّ في المندوب وادّعائه كما لا يخفى.

ولذا ترك في تحديد الأمر قيد « الإلزام » اكتفاء بما هو ملزوم له ، وهو بظاهره غير سديد ، لأنّ « الاستعلاء » لو اريد به ما يقارن العلوّ فهو قد ينفكّ عن الإلزام مع حصوله المقارن للعلوّ الموجب لصدق « الأمر » حقيقة كما تقدّم فرضه في صورة الذهول ، فيلزم بناء على الاكتفاء بقيد « الاستعلاء » فقط خروج الحدّ غير منعكس ، ولو اريد به ما يعمّ ذلك وغيره فلا يعقل كون الإلزام لازما له إن اريد به جعل الشيء لازما ، لأنّه من خصائص العالي فيكون أخصّ من « الاستعلاء » والشيء إنّما يصلح لازما لآخر إذا كان مساويا له أو أعمّ منه.

فلا نسلّم كونه لازما أيضا ، لأنّ العالي قد يطلب شيئا عن استعلاء برفع الصوت أو تغليظ الكلام أو إطلاق صيغ الجمع على نفسه ، وهو راض بالترك لمجرّد إرادة إظهار علوّه وارتفاعه لغير المخاطب ممّن لا يعرفه كما هو حقّه ولم يطّلع بشأنه ، كما يظهر لمن تأمّل قليلا أو يراجع إلى وجدانه.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر - مع ملاحظة ما سبق - يتّضح أنّ الإلزام أيضا لا يستلزم الاستعلاء ولا العلوّ ، فلا ملازمة من الطرفين ، لحصوله في السؤال والدعاء كما عرفت ، بل « الأمر » إذا لم يكن الآمر مريدا لإظهار علوّ النفس مع إرادة الإلزام الموجب لصدق « الأمر » حقيقة ، كما لو طلب إلزاما وهو متخاضع بالقياس إلى المأمور ويخاطبه مع لينة لسانه وبشاشة وجهه إظهارا للعطف والشفقة عليه ، كما نشاهده كثيرا في أوامرنا وأوامر غيرنا من الموالي والسادات.

ثمّ إنّ المراد بالعلوّ الّذي اعتبرناه في مفهوم « الأمر » ارتفاع انسان يوجب لزوم طاعته على من هو دونه عقلا أو عرفا ما لم يقم من قبله ما يقضي بعدم إرادة الحتم ، وهو قد يكون في ثبوته شرعيّا كما في الأنبياء وأوصيائهم ، وقد يكون عقليّا كما في الموالي ، وقد يكون عاديّا كما في السلاطين وولاة الجور ، وقد يكون اعتباريّا كما في المتواطئ غيره بعقد إجارة ونحوها ، وهل يصدق مع الادّعاء أيضا؟ فيه إشكال وإن زعمه بعض الفضلاء كما عرفت.

ولك أن تقول : فيه وجهان ، من كون العبرة فيه بما يفهم من المقال في ظاهر الحال عند الجهل بها ، وبما يتحقّق في الواقع ونفس الأمر.

ص: 24

والتحقيق : ما أشرنا إليه سابقا من أنّه إن صادف الواقع فمناط الصدق عند إرادة الإلزام إنّما هو العلوّ وإلاّ فلا صدق جزما ولو مع إرادة الإلزام.

وبقي في المقام امور لا بأس بالإشارة إليها :

في الطلب والإرادة

[ الأمر الأوّل : في الطلب والإرادة ]

منها : اختلفوا في أنّ الطلب المأخوذ في مفهوم « الأمر » هل هو نفس الإرادة أو غيرها على قولين :

وقد حكي أوّلهما عن المعتزلة ، ووافقهم عليه العلاّمة في النهاية والتهذيب والسيّد في شرحه.

والثاني محكيّ عن الأشاعرة وصار إليه بعض الأفاضل ، وكلام اللغويّين وإن كان بظاهره يعطي كونهما مترادفين إلاّ أنّ القطع بملاحظة شهادة العرف وموارد إطلاقات اللفظين حاصل بابتناء ذلك على خلاف التحقيق والتنقيح.

وتحقيق المقام يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى : أنّ الإرادة حسبما يساعد عليه العرف يطلق على معان :

أوّلها : ما يرادف الاستعمال وهو استفعال من العمل ، ومعناه أن يطلب من الشيء إفادة ما في الضمير وإفهامه ، فإرادة المعنى من اللفظ عبارة عن استعماله فيه ، بمعنى أن يطلب منه إفادته وإفهامه ، وهي بهذا المعنى مسبوقة بها بالمعنى الآتي ، كما أنّها من الأمور الإضافيّة الّتي لابدّ في تحقّقها من تحقّق شرائط الإضافة من الطالب والمطلوب والمطلوب منه.

وثانيها : ما يقابل الكراهة ، وهي عبارة عن عدم الرضا بالفعل لأجل مفسدة فيه ويعبّر عنه في الفارسيّة ب- « بد داشتن » فالإرادة عبارة عن الرضا بالفعل لأجل مصلحة فيه ويعبّر عنه في الفارسيّة ب- « خوش داشتن » وهي بهذا المعنى ملزومة لها بالمعنى الآتي مسبّبة عنه ، وليست من الامور الإضافيّة بل هي معنى نفسي يحدث بحدوث منشائه.

وبما ذكر من التقرير تبيّن أنّ هذا المعنى لا يتحقّق إلاّ بتصوّر الفعل وتصوّر المصلحة الكامنة فيه الّتي تعدّ من الغايات ، كما تبيّن أنّ الفعل لابدّ من اشتماله على تلك المصلحة ، ومن هنا صار العدليّة بتبعيّة الأحكام للصفات الكامنة.

وثالثها : ما يرادف القصد والنيّة ، والمراد به تصوّر أصل الفعل قبل الإقدام على إيجاده

ص: 25

أو الحمل على إيجاده ، وهي بهذا المعنى تستلزم إرادة اخرى وهي تصوّر ما يكون غاية للفعل ، ويعبّر عن المجموع المركّب ب- « الدّاعي » وكأنّ الأوّل منه بمنزلة الجنس حيث لا ينفكّ عن شيء من الأفعال الاختياريّة ، والثاني منه بمنزلة الفصل ولذا يقبل التبادل ويعرضه التناوب ويختلف باختلاف الغايات والأغراض ، وهو الّذي يختلف بتبادل أفراده العنوانات فيندرج الفعل تارة فيما لا حرج فيه واخرى في خلافه ، كاتّخاذ العنب لغرض التخليل أو التخمير ، وبه يمتاز عمل المخلصين عن عمل المشركين فيتفرّد المرائي عن غيره ، فإنّ الغاية المتصوّرة إن كانت تحصيل الامتثال أو إدراك المثوبات أو الفرار عن العقوبات كان خلوصا ، وإن كانت إعلام الغير أو غيره من الأغراض الدنيويّة كان رياء وشركا ، ولمّا كان ذلك يتعدّد على سبيل البدليّة كان اشتراط بعضها في امتثال الواجبات على جهة التعيين يحتاج إلى دليل ، بخلاف الأوّل لانحصاره في الفرد وكونه بعينه لازما لكلّ فعل وجوديّ.

ولذا صار المحقّق عندنا - فيما يأتي تحقيقه - من كون الأصل في الواجبات التوصّليّة ، وعدم اشتراط الامتثال بها بقصد الإخلاص إلاّ ما أخرجه الدليل ، مع اشتراط قصد أصل الفعل الموجب لعدم كون الصادر عن الغافل والنائم ونحوهما امتثالا.

الثانية : أنّ الفعل الاختياري - ولو بالواسطة - لابدّ فيه من المباشرة ، وهي قد تتحقّق ممّن ظهر له صفة الفعل سواء كانت عائدة إليه أو إلى غيره.

وقد تتحقّق من غيره مع عود الصفة إليه أو إلى من ظهرت له ، فهي على كلا التقديرين لابدّ فيها من حامل ، وهو في الأوّل منحصر في ظهور الصفة المذكورة المتضمّن لتصوّر أصل الفعل وتصوّر تلك الصفة كما في مباشرة الإنسان بالأكل والشرب والنوم وغيره من أفعاله الاختياريّة ولو بالواسطة ، وفي الثاني امور تختلف باختلاف المقامات ، ففي مقام التكليف وإن كان الحامل ما تقدّم في المقدّمة الثالثة (1) ممّا عبّرنا عنه ب- « الداعي » إلاّ أنّ إيجاد هذا الداعي أيضا لابدّ فيه من حامل عليه وهو من ظهر له صفة الفعل ، فإنّه بطلبه تحمل المكلّف على إيجاد « الداعي » المستلزم لإيجاد الفعل ، فيكون حاملا له على إيجاد الفعل بالواسطة ، كما أنّه في إيجاد الطلب لابدّ له من حامل وهو ظهور صفة الفعل المتضمّن لتصوّرين ، فقد تقرّر ممّا ذكر أنّ هذا الحامل قد يدعو الإنسان إلى مباشرته بالفعل بنفسه كما في القسم الأوّل ، وقد يدعوه إلى حمل الغير على المباشرة كما في القسم الثاني ، وفي غير مقام

ص: 26


1- الصواب : المقدّمة الاولى ، لأنّ بيان مفهوم « الداعي » قد تقدّم في ضمن المعنى الثالث من معاني الإرادة في تلك المقدّمة.

التكليف قد يكون الحامل على الفعل إكراه الغير له بتوعيد ونحوه ، وقد يكون عقد إجارة ونحوه ، وقد يكون الالتزام بعهد وشبهه ، وقد يكون غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدبّر.

الثالثة : قضيّة ما قرّرناه في المقدّمتين كون الطلب كائنا ما كان عبارة عن الحمل ، وهو المنساق منه عرفا ، فالطالب هو الحامل والمطلوب هو المحمول والمطلوب منه هو المحمول عليه ، والأوّل في مقام الاستعمال هو المتكلّم ومن يقوم مقامه كالكاتب والمشير ونحوه وفي مقام التكليف هو الآمر ، والثاني في مقام الاستعمال إفادة المعنى وإفهامه وفي مقام التكليف الفعل المأمور به ، والثالث في مقام الاستعمال هو اللفظ وما يقوم مقامه ممّا ذكر وفي مقام التكليف هو المكلّف المأمور.

وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرناه في المقدّمات عرفت ما هو الصحيح من القولين عمّا هو سقيمهما ، فإنّه لا ينعقد تكليف إلاّ ويتحقّق معه إرادة بالمعنى الثاني وإرادة بالمعنى الثالث سابقة عليها بالمعنى الأوّل منشأ لحدوثها ، وطلب بالمعنى المذكور ، غير أنّ الموضوع له للفظ « الأمر » وصيغه هو الطلب خاصّة والإرادتان لازمتان له سابقتان عليه.

ولا ريب في مغايرته لهما كيف وهو أمر نسبيّ لابدّ في تحقّقه من تحقّق منتسبيه ، بخلاف الإرادة بكلا المعنيين.

وممّا يشهد بمغايرته لها أيضا أنّه معنى إنشائي ولا يتأتّى إلاّ بآلة ، ولذا يضاف إليه الإنشاء ويقال : « إنشاء الطلب » بخلاف الإرادة إذ لا يصحّ أن يقال : « إنشاء الإرادة » وهو كما ترى معنى ظاهر واضح لا خفاء فيه أصلا ، ومن شأنه أن يوضع له لفظ بالخصوص ، بل هو من الواجبات الّتي ليس للواضع الحكيم أن يهمل فيها ، كما هو الحال في سائر المعاني الواضحة الّتي يتداولها عامّة أهل اللسان.

فلا وقع لما احتجّ به العلاّمة - بل ولا ينبغي الالتفات إليه - من : أنّا لا نجد في « الأمر » أمرا آخر يغاير الإرادة ، بدعوى : أنّ المفهوم ليس إلاّ إرادة الفعل فلو كان هناك أمرا آخر يغايرها فلا يجوز كون اللفظ وضعا بإزائه ، لعدم جواز وضع الألفاظ المتداولة عند عموم أهل اللسان للامور الخفيّة الّتي لا يعقلها إلاّ الخواصّ منهم ، والمفروض منها لكونه في الخفاء بمثابة لا يدركه إلاّ الخواصّ.

ولا لما قيل أيضا من أنّ المتبادر من « الأمر » هو إرادة الفعل من المأمور فيكون حقيقة فيه ، وقضيّة ذلك اتّحادها مع الطلب ، إذ لا قائل بالتغاير بينهما مع القول بدلالة « الأمر » عليها وضعاً.

ص: 27

فإنّ تبادر الإرادة من « الأمر » غير مسلّم ، وعلى فرض صحّته فهو تبادر ثانويّ نظير تبادر المداليل الالتزاميّة ، فلا اعتداد به في إثبات الوضع.

فصار المحقّق إنّ ما ذهب إليه الأشاعرة هو الأقرب إلى الصواب بل هو عين الصواب ، وإن كانوا قد أخطأوا أيضا في توهّم جواز التفكيك بين الإرادة والطلب على ما يرشد إليه احتجاجهم ، لما عرفت من أنّ رتبة الطلب متأخّرة عن رتبة الإرادة ، وهي مسبّبة عنها فلا يعقل انفكاكه عنها.

والمحكّي من احتجاجهم وجوه :

منها : أنّ اللّه تبارك وتعالى أمر الكافر بالإيمان ، ولم يرد منه.

أمّا المقدّمة الاولى فإجماعيّة ، وأمّا المقدّمة الثانية فلأنّه تعالى عالم بأنّه لا يؤمن فيستحيل صدور الإيمان منه ، وإلاّ لزم انقلاب علمه تعالى جهلا وهو محال ، وإذا استحال صدور الإيمان منه استحال أن يريد منه لكونه تكليفا بالمحال كما في التهذيب ، أو لأنّ الإرادة لا تتعلّق بالمحال كما في النهاية.

وأيضا وقوع الكفر منه لابدّ أن يستند إلى سبب ، وذلك السبب لابدّ من أن ينتهي إلى الواجب لئلاّ يلزم التسلسل ، وإيجاده تعالى ذلك السبب مع العلم بسببيّته يستلزم إرادة المسبّب فلا يجوز مع ذلك إرادة ضدّه لاستحالة إرادة الضدّين كاجتماعهما.

واجيب عنه : بمنع عدم إرادة الإيمان من الكافر ، وما ذكر من الوجهين لا يصلح سندا لذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ العلم تابع (1) والاستحالة نشأت من فرض العلم كما تنشأ من فرض

ص: 28


1- ومحصّله : أنّ العلم في تعلّقه بمعلومه تابع لوقوع المعلوم أو كونه في معرض الوقوع لا أنّه مؤثّر فيه ، وشبهة استحالة الإيمان نشأت من فرض تعلّق علمه تعالى بعدم الايمان كما أنّها أيضا تنشأ من فرض وقوع نقيضه وهو عدم الإيمان في المحلّ ، إذ لا فرق في الاستحالة بين تعلّق علمه تعالى بعدم الإيمان وبين المعلوم وهو نفس عدم الإيمان ، فإنّ الإيمان مستحيل على كلا الفرضين. لكن لمّا كان العلم تابعا للمعلوم تبيّن عدم دخل لعلمه تعالى فى تلك الاستحالة ، لاستنادها حينئذ إلى وقوع نفس المعلوم ، بناء على التمانع بين الأضداد الوجوديّة أو [ لعدم قابليّة المحلّ باشتماله على الشاغل ]. وهذا كما ترى لا يجدي نفعا في حسم مادّة الاستدلال لبقاء مجال السؤال بنحو ما تقدّم. نعم لو قدّر التوجيه بأنّه لمّا كان العلم تابعا للمعلوم وهو تابع للإرادة الاختياريّة تبيّن عدم دخل علمه تعالى فى تلك الاستحالة ، وعدم كونها مانعة عن تعلّق الإرادة ولا عن صحّة التكليف ، لا ندفع السؤال أيضا لكن لا خفاء في قصور العبارة عن إفادة ذلك.

النقيض إذ لا فرق بين العلم والمعلوم ، هذا على ما في النهاية.

وملخّصه : أنّ العلم لا يؤثّر في المعلوم وجودا ولا عدما بل هو تابع له ، بمعنى أنّ المعلوم لمّا كان في وقته في معرض الحصول بتحقّق أسبابه ومقتضياته فتعلّق العلم به ، فهو باق على إمكانه ومقدوريّته ، والاستحالة الملحوظة بالنسبة إلى خلافه إنّما نشأت على تقدير تعلّق العلم وهو لا يقضي بالاستحالة أيضا على تقدير آخر ، كما أنّ استحالة وقوع أحد النقيضين إنّما ينشأ عن وقوع النقيض الآخر لا مطلقا ، ولذا لا استحالة في وقوعه على تقدير عدم وقوع ذلك النقيض.

فمرجع الجواب إلى منع المقدّمة الاولى وهي استحالة وقوع الإيمان من الكافر ، لا منع المقدّمة الثانية وهو عدم جواز تعلّق الإرادة بالمحال.

ويشكل ذلك : بأنّ عدم استحالة وقوع خلاف المعلوم وهو الإيمان حينئذ معلّق على أحد الأمرين من ارتفاعه وانقلابه جهلا مركّباً ، وكلاهما بالقياس إليه تعالى محال.

وظاهر أنّ المعلّق على المحال محال ، فالمحذور بحاله إلاّ أن يوجّه الاستدلال بحمله على إرادة الامتناع الذاتي فيبطل بالوجه المذكور ، نظرا إلى أنّ ما يتراءى في حقّ الكفّار امتناع عرضي ناش عن الغير فلا ينافيه الإمكان الذاتي ، ولكنّه غير مطابق لظاهر الاستدلال ، كما لا يخفى على من تأمّل جيّداً.

والأولى أن يوجّه الجواب ويقال : إنّ معنى كون العلم تابعا أنّ الكافر لو لا اختياره عدم الإيمان لما علم اللّه تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ، ولما وجب عليه الكفر ولما امتنع عليه الإيمان فكما أنّ الوجوب والامتناع لا ينافيان الاختيار بل يؤكّدانه ويحقّقانه ، فكذلك علمه تعالى لا ينافيه بل يؤكّده ويحقّقه.

وقضيّة ذلك كون العلم مع الوجوب والامتناع متلازم الوجود كما أنّهما متلازمان في الوجود لا أنّ الامتناع مترتّب عليه ، وأن يثبت له التبعيّة في الإطلاق والتقييد ثبوتها لهما ، فلو فرض اختياره عدم الإيمان ثابتا إلى الأبد يتعلّق به علمه تعالى كذلك ، ولو فرض كونه مغيّى إلى غاية متناهية يتعلّق به علمه تعالى كذلك ، فلا يلزم من وقوع الإيمان في زمان منه بعد ما اختار عدمه إلى ذلك الزمان انقلاب علمه تعالى جهلا ولا ارتفاعه.

أمّا الأوّل : فلأنّه فرع بقاء العلم بعد انقلاب الاختيار والمفروض خلافه.

وأمّا الثاني : فلأنّه فرع ثبوته من بدو الأمر على الإطلاق ثمّ ارتفاعه في الأثناء

ص: 29

والمفروض خلافه أيضا ، لفرض كونه تابعا في عدم إطلاق المعلوم واستمراره.

وبالجملة علمه تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ليس إلاّ نظير علمنا به ، فكما أنّ علمنا لا دخل له في اختياره ولا أنّه موجب لوجوب المعلوم ولا امتناع خلافه فكذلك علمه تعالى.

غاية الفرق بينهما أنّ علمنا غالبا متأخّر بحسب الزمان عن اختياره ، وعلمه تعالى سابق على حدوثه لأنّه أزليّ وهو غير مناف لكونه تابعا ، إذ ليس المراد بالتابع ما يلزمه التأخّر بل ما يعمّه وما كان منشؤه الاختيار وإن كان حاصلا قبله ، ولمّا كان مختارا بالنسبة إلى كلّ من الكفر والإيمان فأمره تعالى بالإيمان ونهاه عن الكفر أمرا متضمّنا للطلب والإرادة معا ، إن كان مرادهم بالإرادة ما تقدّم من المعنيين ، وإلاّ فلا يعقل إرادة اخرى غيرها بأحد المعنيين حتّى يقال بانتفائها وانفكاكها عن الطلب.

فإن قلت : مع سبق علمه تعالى بأنّه لا يؤمن كيف يصحّ منه تعالى إرادة الإيمان وطلبه حقيقة لأنّه يعدّ سفها في نظر العقل ، وهو قبيح على العاقل الحكيم.

قلت : الحكيم قد يأمر ويطلب وغرضه الأصلي حصول الامتثال ويكون ترتّب العقاب على تقدير خلافه مقصودا له بالتبع كما في أوامره بالنسبة إلى المطيعين ، وقد يأمر ويطلب وغرضه الأصلي قطع العذر على المكلّف ليفيد في مقام توجيه العقاب كما في حقّ العاصين ، ولا قبح فيه أصلا بل هو من طريقة العقلاء وممّا يجوّزه العقل ويحسّنه.

واعترض بعض الأفاضل على ما نقلناه من الجواب أيضا : بأنّ تابعيّة العلم للمعلوم إنّما تقضي بعدم استناد وقوع المعلوم إلى العلم ، بل لمّا كان المعلوم حاصلا في وقته بحسب الواقع نظرا إلى حصول أسبابه تعلّق به العلم على ما هو عليه ، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام ، إذ المقصود إثبات استحالة وقوع خلاف المعلوم مستندة إلى العلم.

فأجاب عن الاستدلال بما سنذكره منه.

وفيه : أنّ عدم استناد وقوع المعلوم إلى العلم يستدعي عدم استناد استحالة وقوع خلافه إليه ، لأنّ وقوع المعلوم لابدّ له من مستند وهو بعينه مستند لاستحالة وقوع خلافه ، كما هو قضيّة المقابلة القائمة بطرفي الإيجاب والسلب ، واللازم من الجواب أنّ ذلك المستند ليس هو العلم في جانب المعلوم فكذلك في جانب استحالة خلافه ، فاندفع بذلك ما هو المقصود بالاستدلال.

ويمكن أن يقال في توجيه الجواب : إنّه توطئة لمنع المقدّمة الثانية قصدا به إلى إحراز

ص: 30

كون الامتناع عرضيّا ناشئا عن الاختيار صغرى للقياس لكبرى مطويّة مناقضة لتلك المقدّمة.

فيرجع حينئذ إلى ما أفاده الفاضل المشار إليه من أنّ استناد استحالة وقوع الإيمان إلى علمه تعالى إن اريد به ما هو بحسب الواقع فممنوع ، بل استحالة وقوعه في الواقع إنّما هو بالنظر إلى انتفاء أسبابه والعلم به تابع لذلك.

وإن اريد به ما هو بحسب علمنا فلا مانع منه بل لا مجال لإنكاره ، لوضوح المقدّمتين (1) وتفرّع العلم بالنتيجة عليهما ، إلاّ أنّه لا يلزم من ذلك سلب القدرة عن المكلّف ، فإنّ السبب الباعث على استحالة صدور الفعل منه عدم إقدامه عليه وعدم مشيئته للفعل مع اجتماع أسباب القدرة.

ومن البيّن أنّ المستحيل بالاختيار لا ينافي القدرة والاختيار ، واستحالة وقوع المشيئة منه - لعدم قيام الداعي إليها - لا تنفي القدرة على الفعل ، إذ ليس مفاد القدرة إلاّ كون الفاعل بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك.

ومن البيّن صدق الشرطيّة (2) مع كذب المقدّمتين.

ومن هنا نقول بقدرته تعالى على فعل القبيح وإن استحال وقوعه منه نظرا إلى استحالة إرادته له ، انتهى (3).

ويشكل ذلك : بأنّ الإمكان لا يرفع الاستحالة العرضيّة وإن كان السبب الباعث عليها هو المكلّف ، ومعه يتمّ الاستدلال لاستحالة تعلّق الإرادة بالمستحيل مع العلم بوصفه العنواني ولو كان عرضيّا كما يحكم به ضرورة الوجدان ، بعد الإغماض عمّا قرّرناه في تصحيح الجواب المتقدّم ، وإلاّ فنمنع الاستحالة مطلقا للقدرة على الفعل بسبب القدرة على إيجاد داعيه وهو الإرادة ، وهي في كونها شرطا لتعلّق التكليف أعمّ منها بالواسطة.

ولقائل أن يقول في الجواب أيضا - على تقدير تسليم الاستحالة - : بمنع كون أمر

ص: 31


1- إشارة إلى القياس الّذي يرتّب لإثبات ما رامه المستدلّ من استحالة وقوع الإيمان من الكافر ، وهو أن يقال : إنّ الإيمان من الكافر ما علم اللّه تعالى بعدم وقوعه ، وكلّما كان كذلك يستحيل وقوعه ، فالإيمان من الكافر مستحيل وقوعه ( منه عفي عنه ).
2- والمراد بالشرطيّة ما يستفاد من قولنا : « القادر من لو شاء فعل ولو شاء ترك » وهذه القضيّة صادقة على الكافر وإن كذبت مقدّمها لأنّه لا يشاء الإيمان فلا يكون قادرا على إيقاعه ( منه عفي عنه ).
3- هداية المسترشدين 1 : 584.

الكافر بالإيمان على ظاهره ، وإنّما هو نظير الأوامر الامتحانيّة الّتي احتجّت الأشاعرة بها أيضا على مطلوبهم وستعرف ضعفه ، مضافا إلى فساد أصل الدعوى لمنافاته الإجماع والضرورة وبداهة العقل.

وعليه - بناء على صحّة الدعوى - لا يتمّ الاستدلال لجواز كون الإرادة المنتفية هاهنا - على ما اعترفوا به - نفس الطلب الّذي يقطع بانتفائه أيضا ، فلا يثبت التغاير لعدم دلالة للأعمّ على الأخصّ كما لا يخفى.

هذا كلّه على ما في النهاية من تتميم الاستدلال باستحالة تعلّق الإرادة بالمستحيل.

وأمّا على ما في التهذيب من تتميمه بلزوم التكليف بالمحال لو أراد منه الفعل فاجيب عنه - على ما حكاه الفاضل المتقدّم ذكره - : بالمنع من عدم جواز التكليف بهذا المحال نظرا إلى تجويزهم.

وأنت خبير بوهن ذلك ، لابتنائه على ما تقدّم ذكره من كون الامتناع بالاختيار ممّا لا ينافي الاختيار ، وهذه القضيّة في مقام التكاليف وإن كانت مختلف فيها - على ما يأتي في محلّه من الأقوال - ولكنّ الراجح عندنا منافاته خطابا وعقابا ، عملا بما يقتضيه القوّة العاقلة من امتناع كلا الأمرين عن الحكيم العدل لاستلزامهما ما يستلزمه التكليف مع الامتناع الاضطراري من القبح والاستقباح من غير فرق كما لا يخفى.

نعم لا مضائقة عن العقاب في فرض المقام على إيجاد سبب الامتناع المفضي إلى فوات التكليف لكونه اختياريّا من جميع الوجوه ، وهو الّذي يجوّزه العقول ، فالصواب من الجواب عن هذا التقرير أيضا ما قدّمناه من منع الصغرى ، وإلاّ فعلى فرض تسليمها لا يمكن منع الكبرى أصلا.

وقد يعترض على تقرير الاستدلال بذلك الوجه - مضافا إلى ما ذكر - بما في كلام الفاضل المشار إليه من الحكم بفساد ذلك التقرير ووهنه تعليلا : « بأنّ من البيّن أنّ الأشاعرة يجوّزون التكليف بالمحال بل يحكمون بوقوعه في أمثال ذلك ضرورة وقوع التكاليف المذكورة ، مضافا إلى ما فيه من التهافت من حيث إنّ المأخوذ في هذا الاحتجاج أوّلا هو ثبوت التكليف بالإيمان ودعوى الإجماع عليه ، فكيف يجعل التالي لزوم التكليف بالمحال ويحكم ببطلانه من جهة استحالة صدوره؟ ».

وفيه : أنّه اعتراض في غير محلّه ، لإمكان التوفيق بحمل ما يجوّزه الأشاعرة من التكليف

ص: 32

بالمحال على مجرّد الطلب الخالي عن الإرادة ، نظرا إلى ما زعموه من الفرق بينهما بناء على زعمهم أيضا جواز انفكاك كلّ عن الآخر ، وكون المراد بالتالي ما يلزمه الإرادة أيضا لزعمهم استحالة تعلّق الإرادة بالمحال كما تقدّم على ما هو الحقّ أيضا ، فإنّ الإرادة في امتناع تعلّقها بالمحال لا يفترق حالها بالنسبة إلى كونها تكليفيّة أو لا.

ومن هنا ظهر ما في توهّم التهافت ، فإنّ الواقع في الاستدلال إنّما هو لفظ « الأمر » والمفروض أنّهم يجعلونه بمعنى الطلب ويفرّقون بينه وبين الإرادة ، فهو لا يستلزمها على ما زعموه من جواز الانفكاك ، فلم لا يجوز أن يراد بالتالي ما يستلزمها وهو محال بالتقريب المتقدّم ، وب « الأمر » الواقع في الاستدلال ما تجرّد عنها ولا يكون محالا.

والأولى في الجواب عن الاحتجاج - بعد الاغماض عمّا ذكرناه من منع الصغرى - أن يقال بما أشرنا إليه أيضا : من أنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا جاز التفكيك بين الإرادة والطلب وهو بمكان من المنع ، فإنّ مفهوم « الأمر » وإن كان هو الطلب والإرادة غير داخلة إلاّ أنّها لازمة للطلب لما قرّرنا من تأخّر رتبته عنها ، فالالتزام بانتفاء الإرادة في محلّ الفرض يستلزم الالتزام بانتفاء الطلب أيضا ، كيف وأنّ عدم إرادة وقوع الإيمان من الكافر بحسب الواقع مع اقتضاء إيقاعه عنه بحسب الخارج كما ترى ، ولا سيّما مع العلم باستحالته كما هو لازم قولهم ، فلابدّ من صرف « الأمر » عن ظاهره بحمله على إرادة شيء آخر ومعه لا يثبت المطلوب ، لجواز أن يقول الخصم بأنّ الظاهر الّذي فرض عدم إرادته من « الأمر » إنّما هو الإرادة لا ما يغايرها بتوهّم الاتّحاد بينهما فيجب لإثبات التغاير دليل آخر.

هذا كلّه في الوجه الأوّل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الداعي من فعل العبد لا من خلقه تعالى حتّى يستدعي إرادة لازمه وهو الكفر.

وأورد عليه : بأنّ خلق الداعي وإن كان من فعل العبد والعبد هو السبب فيه لكنّ العبد من فعل اللّه ومسبّب عنه.

وغاية الأمر أن يكون خلق السبب البعيد منه تعالى وهو كاف في إتمام المقصود ، إذ لا فرق فيما ذكر بين السبب القريب والبعيد ، ولم يؤخذ في الاحتجاج خصوص السبب القريب حتّى يجاب بما ذكر.

فيجاب عن الاستدلال بمنع المقدّمة الأخيرة ، فإنّ إرادة الكفر نظرا إلى إرادة سببه

ص: 33

البعيد إرادة تبعيّة تكوينيّة ، حيث إنّها تابعة لإرادة إيجاد ذاته التكوينيّة ، وإرادة الإيمان منه إرادة تكليفيّة أصليّة نظرا إلى ثبوت قدرته على الفعل واختياره فيه ، لما عرفت من كون سببيّته للكفر اختياريّة إن كان ثبوت الكفر لازما بعد اختياره ، فلا مانع حينئذ من تعلّق الإرادتين المفروضتين بالضدّين نظرا إلى اختلافهما بما ذكر ، وبما تقدّم في الوجه الأوّل يظهر الوهن في ذلك.

والأولى في الجواب : المنع عن استلزام إيجاد السبب إرادة المسبّب ، وإنّما هو مستلزم للعلم بترتّبه عليه.

ومن البيّن أنّ العلم بشيء لا يستلزم إرادته.

لا يقال : بأنّ ذلك كاف في إثبات المقصود ، لصيرورة خلاف المسبّب حينئذ محالا فيستحيل تعلّق الإرادة بالمحال ، لأنّ ذلك رجوع إلى الوجه الأوّل الّذي تقدّم ضعفه ، فلا يكون وجها آخر كما هو المقصود.

ومنها : أنّه يصحّ أن يقول القائل لغيره : « اريد منك الفعل ولا آمرك به » من دون تناقضين القولين.

وأجاب عنه في النهاية : بأنّ الإرادة الاولى لم تكن خالصة ، ويمكن أن تحصل للإنسان إرادة مشوبة بعارض فلا يتعقّبها الفعل ، فكذلك هنا.

وفيه : أنّ المقصود بالدليل إبداء الفرق بين الإرادة والطلب بعدم وقوع تعارض بين القولين ، وكون الإرادة الاولى مشوبة لا يجدي في دفع الاستدلال نفعا ، إذا كان المنفيّ في القول الثاني هو تلك الإرادة ، لأنّ قضيّة ذلك وروده مناقضا للقول الأوّل وهو خلاف ما يساعده الفهم والعرف ، فالاستدلال على حاله.

اللّهمّ إلاّ أن يرجع هذا الجواب إلى ما ذكره في التهذيب من أنّ نفي « الأمر » هاهنا معناه نفي الإلزام وإن كان مريدا لإيقاع الفعل اختيارا.

وتوضيحه : أنّ نفي الشيء قد يكون بانتفاء جنسه وقد يكون بانتفاء فصل من فصوله ، فإذا كان المنفيّ في « الأمر » هو الإلزام لم يلزم المقصود بفرض عدم التناقض ، لجواز أن يكون جنسه هو الإرادة المثبتة لا ما يغائرها ، ومن البيّن أنّ وجود الجنس يصادق انتفاء كلّ من فصوله على البدل.

فعلى هذا لا وقع لما أورد عليه بعض الأفاضل : بأنّا نرى صحّة ذلك مع كون إرادته في

ص: 34

كمال الخلوص تقول : « اريد الإحسان من السلطان ولا أطلبه منه » من دون تناقض أصلا ، فالمانع هناك إنّما يمنع من إظهار الإرادة لا من نفسها لتكون غير خالصة.

ومنها : صحّة صدور « الأمر » امتحانا فيما لو توعّد السلطان من ضرب عبده انتقاما ، فاعتذر إليه بأن العبد يخالفه في أوامره ، وطلب السلطان منه إظهار صدقه بأن يكلّفه في نظره ، فإنّه يأمر ولا يريد الفعل إظهارا لتمرّده.

واجيب عنه - كما في النهاية والتهذيب والمنية - : بأنّ الأوامر الامتحانيّة ليست واردة على الحقيقة وإنّما هي صورة أمر يراد إظهار العذر ، فكما أنّ العاقل لا يريد الفعل في هذا المقام فكذلك لا يطلبه ، فإذا كان الطلب منتفيا ها هنا لا يحصل المقصود ، لجواز كونه نفس الإرادة الّتي يقول الخصم بمغايرتها له.

ومنها : جواز نسخ الشيء قبل مضيّ الامتثال ، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة كان اللّه سبحانه مريدا وكارها للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد ، وهو باطل إجماعا.

واجيب : بمنع جواز النسخ قبل حضور وقت العمل على ما يأتي تحقيقه ، فكما استحال أن يكون مريدا أو كارها فكذا استحال أن يكون طالبا للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد.

فانقدح من جميع ما قرّرناه أنّ الأشاعرة وإن كانوا أصابوا في دعواهم الفرق بين الطلب والإرادة إلاّ أنّهم أخطأوا في الاعتماد على الوجوه المذكورة ، لما عرفت من عدم نهوضها على إثباتها.

ولنا على ذلك - مضافا إلى قضاء الوجدان - تبادر الذهن إليهما معا عن كون ما يساق في مقام إنشاء الطلب قولا أو فعلا على طريق الترتّب كما هو الشأن في الانتقال إلى الملزومات بالقياس إلى لوازمها ، فإنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن بمجرّد سماع لفظة « الأمر » أو صيغة من الصيغ المتداولة في باب الإنشاء أو الاطّلاع بما يستعمل مكان هذه الألفاظ من الأفعال إنّما هو إنشاء طلب إيقاع الفعل في الخارج عن المكلّف كما هو الشأن في المداليل المطابقيّة ، ثمّ ينتقل بعد ذلك إلى أنّ ذلك الفعل ممّا أراد الطالب وقوعه بحسب الواقع كما هو الشأن في المداليل الالتزاميّة ، فيكون ذلك دليلا على كون ما عدا الأفعال حقيقة في نفس الطلب وكاشفا عن كون الإرادة من الطلب بمنزلة اللازم من ملزومه.

ص: 35

وقضيّة ذلك كون الاستعمال في غير ذلك مجازا وكون انتفاء الإرادة مستلزما لانتفاء الطلب ، ضرورة استلزام انتفاء اللازم انتفاء ملزومه.

فقد تقرّر تحقّق اللزوم بينهما بكلا قسميه العرفي والعقلي.

فما أفاده بعض الأفاضل - بعد ما صار إلى ما اخترناه من أنّ الطلب بمعنى اقتضاء إيقاع الفعل في الخارج لا يستلزم الإرادة ، وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعيّة ، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا للآمر مرادا له بحسب الواقع ، إلاّ أنّه مع العلم بالتخلّف لا يخرج الاقتضاء عن حقيقته ، ليس بسديد جزما فإنّ تخلّف الإرادة عن الطلب ممّا يأباه العرف كما اعترف به ذلك الفاضل والعقل أيضا كما يظهر بأدنى تأمّل.

وما ذكره من العلم بالتخلّف فلعلّ نظره في ذلك إلى الأوامر الابتلائيّة كما توهّمه الأشاعرة فيها.

ففيه : أنّ انتفاء الإرادة في هذه الموارد وما شابهها كاشف عن انتفاء الطلب رأسا ، ولا يكون ذلك من باب التخلّف ، وظهور اللفظ في الطلب قبل انكشاف انتفاء الإرادة لا ينافيه انتفاءه بعد انكشاف انتفائها كما هو الحال في سائر الحقائق بالنظر إلى ملاحظة ما قبل قيام القرينة فيها وما بعده.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ ما ذكره الأصحاب في ردّ الأشاعرة القائلة بكون كلامه تعالى نفسيّا مغائرا للعلم والإرادة والكراهة ، من عدم كونه بهذا المعنى معقولا مبنيّ على ما بنوا عليه مذهبهم في تلك المسألة من عدم مغايرة الطلب للإرادة والكراهة.

فبما قرّرناه ظهر سقوط حجّتهم ذلك لثبوت مغايرته لهما ، ولكن لا يرد علينا أنّ الالتزام بها التزام بما يذكره الأشاعرة من كون كلامه تعالى نفسيّا لأنّهم يجعلونه مدلولا للكلام اللفظي قائما بالنفس ويزعمونه قديما - على ما حكي عنهم - مع موافقتهم للباقين في حدوث الكلام اللفظي.

فيردّهم : أنّ الطلب بالمعنى المذكور وإن كان مدلولا مغايرا للإرادة والكراهة إلاّ أنّه ملزوم لما يكشف عنه من قول أو فعل أو نحوهما ، فيلزم من قدم الطلب قدم هذه الامور أو من حدوثها حدوث الطلب ، وكلّ ذلك كما ترى لا يقولون به والتفكيك بينهما بكون الطلب قديما مع حدوث هذه الامور لا يتمّ إلاّ على تجويز التفكيك بين الملزوم ولازمه ، وتخلّف

ص: 36

الشرط عن مشروط ، أو إرجاع الطلب إلى الإرادة والكراهة ، والأوّل غير معقول ، والثاني مناف لمذهبهم ، فالكلام النفسي الّذي يقولون به ، غير معقول من تلك الجهة ، لا لما ذكره الأصحاب من أنّ الكلام إذا كان إنشائيّا لابدّ فيه من عبارة صادرة وإرادة مضمون تلك العبارة أو كراهته ولا يعقل شيء آخر مغاير لهما.

عدم مدخليّة الإرادة في دلالة الصيغة على الطلب

[ الأمر ] الثاني

بعد اتّفاقهم على أنّ للوضع مدخليّة في دلالة الصيغة على الطلب كما هو الحال في سائر الألفاظ - اختلفوا في مدخليّة الإرادة أيضا فيها وعدمها.

فالعلاّمة في التهذيب والنهاية إلى أنّها تدلّ على الطلب من غير حاجة إلى إرادة اخرى.

وهو ظاهر العميدي والمحكيّ عن أصحابنا ، وقاطبة الأشاعرة ، والكعبي من المعتزلة.

وعن أبي عليّ وأبي هاشم الجبّائيين المصير إلى أنّه لابدّ مع ذلك الوضع من إرادة اخرى ، احتجاجا بأنّا نميّز بين الصيغة إذا كانت أمرا وبينها إذا كانت تهديدا ولا مميّز بينهما إلاّ الإرادة.

وتوضيحه : أنّا نميّز قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) عن قوله تعالى ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (2) بكون الأوّل طلبا والثاني تهديدا ولم يحصل ذلك إلاّ من جهة الإرادة ، إذ لو لا إرادته الطلب من الأوّل والتهديد من الثاني لما حكمنا به.

وأجيب : بأنّ الصيغة إنّما يفتقر في دلالتها على الطلب إلى أمر آخر غير الوضع من إرادة أو غيرها لو كانت حقيقة في غيره كالتهديد ونحوه.

وأمّا إذا كانت حقيقة في الطلب خاصّة مجازا في غيره كانت مفيدة له عند إطلاقها مجرّدة عن القرائن كغيرها من الألفاظ الموضوعة.

وبمثل ذلك احتجّ العلاّمة في النهاية على نفي اعتبار الإرادة وهو : أنّها موضوعة للطلب فلا يتوقّف دلالتها عليه إلى إرادة كسائر الألفاظ ، مضافا إلى أنّ الطلب النفساني أمر باطني فلابدّ من الاستدلال عليه بأمر ظاهر ، والإرادة أمر باطني فتفتقر إلى معرّف كافتقار الطلب ، فلو توقّفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة لم يمكن الاستدلال بالصيغة على الطلب.

أقول : وكأنّ النزاع بين الفريقين صغرويّ مبنيّ على تفسير « الدلالة » بفهم المعنى من اللفظ على الإطلاق كما عليه المعظم ، أو على أنّه مراد المتكلّم كما عليه بعض الأعلام ،

ص: 37


1- الأنعام : 72.
2- فصّلت : 40.

والفرق بينهما كما بين المطلق والمقيّد.

ومنشأ الخلاف في ذلك جعل الانتقال إلى مراد المتكلّم خارجا عن الدلالة ومرتّبا عليها أو داخلا فيها ومقوّما لها.

ولعلّه من أصحاب هذا القول غفلة نشأت عن الخلط بين حكمة الوضع وغايته ، فزعموا أنّ ما ذكروه حكمة للوضع وهو حصول إفادة المعاني واستفادتها من غير تجشّم القرائن هو الّذي أخذوه غاية له في حدّه : « بأنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه » نظرا إلى مدخليّة الإرادة في مقام الإفادة والاستفادة ، من دون تفطّن إلى ما بينهما من التغاير مفهوما ومصداقا وشروطا.

فإنّ الأوّل عبارة عن الحكمة الداعية إلى فتح باب الوضع فلا يعتبر فيها الاطّراد.

والثاني عبارة عن الأثر المترتّب على الوضع فيعتبر فيه الاطّراد ، استحالة تخلّف المعلول عن العلّة.

والثاني ينفكّ عن الأوّل في المشتركات والمجازات بالإضافة إلى معانيها الحقيقيّة ، ولا يشترط في الثاني إلاّ العلم بالوضع ، وفي الأوّل مع ذلك تجرّد اللفظ عن قرينة المجاز وانتفاء الاشتراك أو ثبوته مقترنا بما يوجب تعيين المراد ، فلذا استقرّ بناء المحقّقين في المشتركات عند تجرّدها عن ذلك على حصول الدلالة دون الإفادة والاستفادة.

فما اعتبروه في تفسير الدلالة : « بأنّها فهم المعنى من اللفظ على أنّه مراد للمتكلّم » من القيد إمّا أن يريدوا به ما هو بحسب الظاهر أو ما هو بحسب الواقع.

وعلى الثاني فإمّا أن لا يعتبروا فيه العلم أو يعتبروه.

وبعبارة أخرى : فإمّا أن يجعلوا هذا القيد في الدلالة شرطا علميّا فقط ، أو واقعيّا كذلك ، أو علميّاً [ و ] واقعيّاً معا ، احتمالات لا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل : فلأنّ الانتقال إلى كون المعنى مرادا للمتكلّم أثر من آثار الدلالة متأخّر عنها في الوجود ، ضرورة أنّ أوّل ما يحصل عند العقل بملاحظة الوضع - ولو إجمالا - إنّما هو فهم المعنى من حيث هو ، ثمّ ينتقل بضميمة مقدّمة عقليّة إجماليّة يبتنى عليها أصالة الحقيقة إلى كونه مرادا ، فكيف يعقل كونه شرطا لها مقدّما عليها في الوجود ، فإنّ الشرط لا يتأخّر عن المشروط كما أنّ الأثر لا يتقدّم على المؤثّر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الدلالة من الامور القائمة بذهن السامع والإرادة الواقعيّة من الاُمور

ص: 38

القائمة بنفس المتكلّم فلا ربط بينهما ، فكيف يجعل أحدهما شرطا للآخر ، نظرا إلى وجوب كون الشرط ممّا يجامع المشروط في محلّ واحد ، وهو غير ممكن ها هنا لمكان التضادّ بين محلّيهما كما لا يخفى. فينسدّ بذلك باب الإفادة والاستفادة بالمرّة وهو كما ترى.

وأمّا الثالث : فلأنّ العلم بالإرادة الواقعيّة إن كان من دلالة ذلك اللفظ لزم الدور ، إذ الدلالة على هذا التقدير موقوفة على العلم المذكور.

والمفروض أنّه أيضا في اللفظ المجرّد موقوف على الدلالة ، وإن كان من دلالة غيره لزم عراء الوضع واستعمال اللفظ عن الفائدة أو منافاة حكمته ، مضافا إلى لزوم [ الدور ] أو التسلسل إن كان ذلك الغير لفظا والوجه واضح (1).

فإذا تمهّد ذلك عرفت أنّ الحقّ في محلّ الخلاف ما ذهب إليه الأوّلون من عدم افتقار [ دلالة ] الصيغة على الطلب إلى إرادة الطلب ولا إلى العلم بها ، لكفاية الوضع الثابت فيها مع العلم به في حصولها لكونه سببا تامّا ، كما هو الحال في سائر الحقائق ، على أنّ مصادفة الدلالة للإرادة في الواقع غير معتبرة في وضع شيء من الألفاظ حسبما عرفت تفصيله.

ولا يذهب عليك ، أنّ البحث في تلك إنّما كان من فروع المطلب الثاني الّذي وضعناه للبحث عن الصيغة ، أوردناه ها هنا تبعا للقوم حيث أوردوه في مباحث لفظ « الأمر » ولك إجراء هذا النزاع في لفظ « الأمر » من حيث إنّه وضع للطلب بل كلّ ما كان وضعا (2) له ، وإن كان كلام الأكثرين لا يساعد ذلك حيث إنّ الواقع في عناوينهم إنّما هو الصيغة دون ما يعمّ لفظ « الأمر » أيضا ، إلاّ على احتمال زعم الترادف بينهما كما سبق إلى بعض الأوهام وسيأتي ضعفه ، ومن هنا ترى بعض الأفاضل (3) بدّل الصيغة في العنوان بلفظ « الأمر ».

في ما به يصير الصيغة أمرا

[ الأمر ] الثالث

ذكرها العلاّمة في النهاية ، أشهرها ما عن الجبّائيين كما في التهذيب ، ومحقّقي المعتزلة ، والسيّد - كما في النهاية - من أنّها تصير

ص: 39


1- ووجه ذلك يظهر فيما لو قال المتكلّم بعد قوله : « رأيت أسدا » - مثلا - بأنّى أردت من « الأسد » الحيوان المفترس ، أو يقول : « يفترس » قيدا للأسد ، فإنّ هذا اللفظ أيضا موضوع بازاء معناه والمفروض أنّ دلالته على هذا المعنى موقوفة على العلم بالإرادة في الواقع ونفس الأمر ، فهذا العلم أيضا إن كان من دلالة هذا اللفظ لزم الدور والاّ فالتسلسل أو الدور أيضا وهكذا ( منه عفي عنه ).
2- كذا في الأصل.
3- هداية المسترشدين 1 : 590.

أمراً بإرادة المأمور به.

وما عن الأشاعرة كما في النهاية ، والمحقّقين كما في المنية ، من أنّها تصير أمرا بالوضع من دون تأثير لإرادة المأمور به في صيرورتها أمرا ، واختاره العلاّمة في التهذيب والنهاية.

حجّة الأوّلين : أنّ الصيغة قد ترد أمرا وقد ترد غيره كالتهديد والإباحة ولا مخصّص لها إلاّ الإرادة ، كما أنّ في قولنا : « ضرب عيسى موسى » يصير « عيسى » فاعلا و « موسى » مفعولا بقصدنا.

واحتجّ العلاّمة على ما اختاره : بأنّ الصيغة موضوعة لتلك الإرادة ودالّة عليها كغيرها من الألفاظ الموضوعة لمعانيها ، فلا تكون مفيدة لها صفة « الأمريّة » كسائر المسمّيات بالقياس إلى الأسماء.

وفيه : ما لا يخفى من أنّ الصيغة ما لم يكن مرادا منها إرادة المأمور به ولو بحسب ظاهر اللفظ وظهور دلالته عليها فمن أين يحكم بكونها أمرا ، مع كثرة ورودها لغير « الأمر » كما عرفت.

ألا ترى أنّ لفظة « على » ترد فعلا وحرفا وكذلك كلمة « في » ولا سبيل إلى تخصيصهما بالفعليّة أو الحرفيّة إلاّ الإرادة ، ولو كان ثبوتها بحسب ظاهر اللفظ أو معونة القرائن.

وقد يقال : بأنّ مدّعي تأثير الإرادة في كون الصيغة أمرا إن أراد أنّها مؤثرة في وضع الواضع إيّاها بإزاء « الأمر » كان ظاهر الاستحالة ، وإن أراد أنّ الصيغة المجرّدة عن تلك الإرادة ليست أمرا حقيقيّا فهو حقّ ، بل يكون اللافظ حينئذ مستعملا لها في غير موضوعها كاستعماله إيّاها في الخبر وغيره ، ولا يخفى أنّ هذا جيّد.

وقد يعترض على أصل هذا النزاع : بأنّه إمّا لفظيّ أو راجع إلى النزاع المتقدّم في الأمر الأوّل ، لأنّه لو اريد بذلك توقّف كونها أمرا على إرادة الطلب فلا يكون أمرا بدونها ، فهو من الامور الظاهرة ولا مجال لإنكاره ولا يظنّ أحدا يخالف فيه كما هو الشأن في سائر الألفاظ ، لكون الإرادة هي المخصّصة لها بمعانيها حقيقيّة كانت أو مجازيّة ، وإن كان الوضع كافيا في حملها على معانيها الحقيقيّة والحكم بإرادتها من غير حاجة إلى قيام دليل آخر عليها فيعود النزاع إذن لفظيّا. فيحمل كلام الأشاعرة حينئذ على الاكتفاء بظاهر اللفظ.

وإن اريد توقّفه على إرادة المطلوب ، بمعنى أنّ الصيغة إنّما تكون أمراً إذا اريد بها من المأمور إيقاع الفعل دون ما إذا لم يرد ذلك.

ص: 40

فمرجع هذا البحث إلى البحث المتقدّم ، لكون المقصود به الإشارة إلى الخلاف الواقع في اعتبار إرادة المطلوب حسبما زعمه الأشاعرة من عدم الحاجة إليها في تحقّق « الأمر » وبنائهم على المغايرة بين الطلب والإرادة ، خلافا لغيرهم الباني على اتّحاد الأمرين فلا يمكن تحقّق « الأمر » من دون حصولها.

وأنت خبير بوهن هذا الاعتراض وابتنائه على قلّة التدبّر.

فإنّ مرادهم بالإرادة على ما يساعده ظواهر عباراتهم - بل صريح كلماتهم - إنّما هو إرادة المأمور به ، ولا يعود النزاع إلى النزاع المتقدّم.

فإنّ نزاعهم ثمّة إنّما هو في مفهوم الصيغة أو « الأمر » من حيث هو باعتبار الوضع كالنزاع الواقع في مفهومي « الغناء » و « الصعيد » ونظائرهما.

فمنهم من ذهب إلى أنّه الإرادة لا ما يغائرها.

ومنهم من قال بأنّه الطلب المغائر للإرادة ، وها هنا إنّما هو في مصاديق « الأمر » بحسب الاستعمالات الشخصيّة الطارئة للصيغة.

فمنهم من زعم الإرادة من مشخّصات الصيغة الصادرة عن المستعمل ومخصّصاتها بالأمر.

ومنهم من اكتفى في ذلك بمجرّد الوضع فإنّها « أمر » سواء اريد بها المأمور أو الطلب أولا.

ولا يفرق حينئذ بين كون مفهومها الّذي وضعت بإزائه هو الإرادة أو الطلب المغائر لها.

ولا ريب أنّ ذلك نزاع في أمر معنوي قابل لوقوعه بين أهل العلم ، كما لو فرض النزاع في صدق الكلام على قولنا : « زيد قائم » في اعتبار إرادة مدلوله الموضوع له فيه وعدمه ، ليظهر الثمرة في اللفظ الصادر عن النائم أو الغافل ونحوه ، فإنّه على الأوّل لا يكون كلاما ، فلذا ترى بعض محقّقي النحاة أنّه اعتبر في حدّ الكلام كونه مقصودا.

وعلى الثاني يكون كلاما ، فمن هنا ترى حدود الأكثرين منهم خالية عن القيد المذكور.

وممّا يشهد بذلك ما عن جماعة من الفقهاء من القول الآخر من أنّ الصيغة بجنسها وفصلها (1) تصير أمرا بشرط تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة « الأمر » إلى التهديد أو الإباحة ، مع زعمهم لو صدرت من النائم والمجنون لم تكن أمرا لقيام القرينة ، وأقوى من ذلك أكثر حدودهم المتقدّمة للأمر.

ص: 41


1- في الأصل : « ونفسها » والصواب ما أثبتناه.

منها : أنّه صيغة « افعل » مع تجرّدها عن القرائن الصارفة لها عن جهة « الأمر » إلى جهة التهديد وغيره.

ومنها : ما عن بعض المعتزلة : من أنّه صيغة « افعل » بإرادات ثلاث ، إرادة وجود اللفظ ، وإرادة دلالتها على « الأمر » وإرادة الامتثال.

وأقوى من ذلك أيضا كون ذلك ممّا عدّه العلاّمة في النهاية قولا آخر مسندا له إلى بعض المعتزلة ، حيث يقول : وربّما قال بعضهم إنّما تصير أمرا بإرادات ثلاث إرادة المأمور ، وإحداث الصيغة والدلالة بالصيغة على الأمر.

فمع هذه الشواهد القويّة كيف يعدّ النزاع لفظيّا أو راجعا إلى النزاع المتقدّم ، مع أنّه لو صحّ ذلك لكان ينبغي أن يكون العلاّمة مخالفا للأشاعرة هاهنا كما خالفهم ثمّة وقد عرفت في العنوان خلافه.

فمن جميع ما قرّرناه تبيّن لك أنّ هذا النزاع متفرّع على جعل « الأمر » من مقولة الأقوال والألفاظ ، وتفسيره بالقول أو اللفظ أو الصيغة كما تقدّم في أكثر تعاريفهم ، وأمّا على ما رجّحناه من كونه من مقولة المعاني وهو الطلب مع سائر قيوده المتقدّمة بأيّ آلة حصل فجريان النزاع حينئذ لا يساعده ظاهر عنواناتهم بل صريح عباراتهم إستدلالا وتمثيلا ونقضا ، إلاّ أنّ لنا إجراء الكلام على ذلك التقدير أيضا كما لا يخفى.

فالنظر في تحقيق الحال في ذلك المقال يقع في مرحلتين :

المرحلة الاولى : في تحقيق الحال في ذلك على التقدير الأوّل.

فنقول : إن كان المتنازع فيه كون العلم بإرادة مدلول الصيغة عنها من خارج شرطا في صدق « الأمر » عليها وعدمه ، فالحقّ مع النافين لكفاية ظاهر اللفظ في الحكم بذلك ، نظرا إلى ظهوره مجرّدا عن جميع القرائن في إرادة الطلب والامتثال بالمأمور كما هو الحال في سائر الحقائق ، ولا ينافيه ورود الصيغة في بعض الأحيان للتهديد والإباحة كما لا ينافي ورود الجملة الخبريّة في بعض الإبّان ، لصدق الخبر عليها عند تجرّدها عن القرينة الصارفة لها عن الجهة الخبريّة ، فإنّ احتمال التجوّز لا يعارض ظهور الحقيقة بلا خلاف.

وإن كان المتنازع فيه كون العلم بعدم إرادة ذلك كما في الصيغة إذا صدرت عن النائم ونحوه ، أو العلم بإرادة غيره كما فيها أيضا إذا وردت تهديدا أو إباحة مانعا عن صدق « الأمر » عليها فالحقّ مع المثبتين ، ضرورة مانعيّة أحد العلمين عن ذلك ، كما في الجملة

ص: 42

الخبريّة إذا صدرت عن نائم أو مريد للإنشاء كقوله تعالى ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (1) إذ لا يصدق عليها حينئذ أنّها خبر جزما.

المرحلة الثانية : في تحقيق الحال على التقدير الثاني ، فقد اتّضح حكمها ممّا سبق أيضا ، فإنّ صدق « الأمر » حينئذ يتوقّف على تحقّق الطلب المستلزم لإرادة المطلوب مع سائر القيود المعتبرة فيه ممّا تقدّم بيانها مفصّلا ، ولكن يكفي في الحكم بتحقّقه ظهور ما يستعمل لإفادته من فعل أو قول ولو بمعونة قرينة حال أو مقال أو نحوه ، فمفاد قوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (2) و ( الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) أمر حقيقة وإن لم يصدق « الأمر » على لفظه ، إذ ليس مدار الصدق عندنا وجودا وعدما على لفظ دون آخر كما تقدّم.

وقضيّة ذلك عدم صدقه على مدلول ما هو خاصّ بالطلب من الألفاظ باعتبار الهيئة أو المادّة أو هما معا ، فيما لو قام قرينة على عدم إرادته وعدم تحقّق شيء من سائر قيوده المعتبرة معه في صدق الأمريّة.

هل تكون للأمر صيغة تخصّه أم لا؟

[ الأمر ] الرابع

ذكر بعض الأعاظم هاهنا نزاعا آخر في أنّ « الأمر » هل له صيغة تخصّه أو لا؟ نظير ما سيأتي إن شاء اللّه في بحث العمومات من نزاعهم في أنّ العامّ هل له صيغة تخصّه أو لا؟ فنقل أقوالا ، ثالثها : ما عن بعضهم من أنّ هذه الترجمة خطأ ، فإنّ « أمرتك » و « أنت مأمور » صيغة خاصّة بالأمر من غير منازعة.

ثمّ أورد عليه : بأنّ هذا أولى بالتخطئة بل خطأ قطعا ، تعليلا بأنّ المقصود بالعنوان أنّ في لغة العرب هل يجد لفظ يكون مصداقا للأمر بالوضع.

ولا ريب أنّه ممّا يقبل النزاع بل محلّ خلاف بالفعل - إلى أن قال - : فالأظهر نعم ، لكون المتبادر من الصيغة كونها أمرا ، وسائر ما يستعمل فيه ممّا يأتي غير ما وضع هو له ، فضلا عمّا قال السكّاكي من أنّ إطباق أئمّة اللغة على إضافة نحو « قم » و « ليقم » إلى « الأمر » بقولهم : « صيغة الأمر » و « مثال للأمر » و « لام الأمر » دون أن يقولوا : « صيغة

ص: 43


1- الواقعة : 79.
2- البقرة : 233.
3- البقرة : 228.

الإباحة » و « لام الإباحة » مثلا يمدّ كونها حقيقة في الطلب على سبيل الاستعلاء لأنّه حقيقة « الأمر ».

ثمّ قال قدّس اللّه سرّه : وممّا يؤيّد ما قلناه استناد محقّقي الأصوليّين في إثبات الوجوب في الصيغة بقوله تعالى ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) و ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (2) ولو لا ما ذكرنا لما صّح ذلك (3) انتهى.

وأنت خبير بأنّ ظاهر النظر يعطي رجوع هذا النزاع إلى النزاع الآتي في حكم الصيغة ، بدعوى كون غرض القائلين بكونها حقيقة في الوجوب إثبات المطابقة بينها وبين المادّة ، كما أنّ مقصد أصحاب الأقوال الاخر نفي هذا المعنى وإبداء كونها أعّم منها ، فعلى هذا لا وجه لجعل ذلك عنوانا آخر وعدّه نزاعا مغائرا لما يأتي ، إلاّ أن يوجّه ذلك بتخصيص ما يأتي من النزاع بالصيغة من حيث كونها للوجوب وعدمه من دون نظر إلى سائر القيود المعتبرة في لفظ « الأمر » من العلوّ والاستعلاء ، فلا يفرق حينئذ بينها في جريان النزاع إذا صدرت عن العالي أو المساوي أو السافل ، بخلاف ما ها هنا فإنّه نزاع في أنّ الصيغ المتداولة في لغة العرب هل يجد فيها صيغة تكون مختصّة بالوضع بما صدق عليه لفظ « الأمر » مع جميع القيود المعتبرة فيه أو لا؟

أو يقال : إنّه نزاع في أنّ ما يصدق عليه « الأمر » حقيقة هل هو عبارة عن نفس الصيغة أو ما يدلّ عليه الصيغة وهو الطلب مع سائر قيوده؟ أو نزاع في أنّ « الأمر » هل هو طلب بالقول أو مطلقا.

ولقد عرفت في ضمن الحدود المتقدّمة « للأمر » أنّ كلّ ذلك خلافيّ عندهم بخلاف ما يأتي ، فإنّه نزاع في حكم الصيغة على جميع التقادير.

وعلى أيّ حال فلا ريب أنّ ما اعتمد عليه قدّس اللّه روحه من الاستدلال في غاية الوهن وليس إلاّ خبطا عظيما ، فإنّ تبادر « الأمر » عن الصيغة على فرض تسليمه إنّما ينشأ عن الانس التامّ بمصطلح العلماء من الادباء وغيرهم ، فإنّ لفظ « الأمر » في لسانهم يطلق تارة على المعنى العرفي المتقدّم ذكره مفصّلا ، كما ينظر إلى ذلك ما سيأتي من العناوين كقولهم : « هل الأمر بالشيء مطلقا يقتضي إيجاب مقدّماته أو لا؟ » و « إنّه هل يقتضي النهي

ص: 44


1- النور : 63.
2- الأعراف : 12.
3- إشارات الاصول للكلباسي : ص 40.

عن ضدّه أو لا؟ »

واخرى على الصيغة الشاملة ل- « افعل » و « ليفعل » وغيرهما من صيغ الأمر حاضرا أو غائبا مجرّدة أو مزيدة ، كما ينظر إلى ذلك تقسيمهم الكلام إلى الخبري والإنشائي ، ثمّ الإنشائي إلى الطلبي وغيره ، ثمّ الطلبي إلى الأمر والنهي والاستفهام وأكثر موارد إطلاقه على هذا المعنى إنّما هو من المعاني كما لا يخفى.

وثالثة على ما لا يشمل إلاّ « افعل » ونحوه من صيغ الأمر الحاضر مطلقا ، كما يطلق عليه في لسان النحاة قبالا لفعلي الماضي والمستقبل ، ولا شبهة أنّ الانس بهذه الإطلاقات ربّما يوجب تبادر الصيغة من « الأمر » أو تبادر « الأمر » من الصيغة فيتوهّم أنّ ذلك إنّما هو من جهة الأصل ، وإلاّ فعند العرف العامّ الّذي يدور العبرة على تبادره خاصّة دون غيره لا يكون لهذا التبادر أثر ، بل المتبادر عندهم من « الأمر » عند الإطلاق إنّما هو الطلب الإلزامي مع سائر قيوده المتقدّمة.

نعم لو كان الغرض بتبادر الصيغة من « الأمر » إثبات أمر اصطلاحي فلا مشاحّة إلاّ أنّه خلاف الظاهر.

ومن هنا يظهر ما في كلام السكّاكي ، فإنّه بعد ما بيّنّاه من الاصطلاح لا ينهض شاهدا بما اختاره رحمه اللّه ، ولا يصلح سندا لما رامه السكّاكي من إثبات كون الصيغة للوجوب ، فإنّ صدق « الأمر » على مثل « قم » و « ليقم » في اصطلاح أهل العلم لا يقضي بصدقه عليهما لغة وعرفا ، وأصالة عدم تغائر الاصطلاحين الراجعة إلى أصل عدم الوضع الجديد إنّما تصلح سندا إذا لم ينهض ما يقضي بالخروج عنها.

وما ذكرناه من تبادر الغير وعدم تبادر الصيغة عن « الأمر » في العرف العامّ مع ضميمة تبادرها في العرف الخاصّ صالح لذلك ، مع أنّ قضيّة الاستشهاد مع الاستدلال بما ذكر إنّما توجب المطلوب - بعد الغضّ عمّا ذكرنا - إذا فرضت الإضافة في « فعل الأمر » بيانيّة ، وأمّا إذا فرضت لاميّة فلا ، لجواز إرادة الحصر الإضافي في مقابلة فعلي الماضي والمضارع ، تنبيها على أنّ هذه الصيغة لا تأتي بهذين المعنيين ، وأمّا انحصار مدلولها في « الأمر » فلا يستفاد عن ذلك لجواز أن يكون لها مدلول آخر ممّا ادّعي ويتبيّن لك بعد ذلك.

ومن هنا يتّضح أيضا ما في التأييد من ابتنائه على الخلط والاشتباه بنحو ما مرّ ، ولا يبعّده صدور الاستدلال من المحقّقين لكثرة ما وقع منهم نظير ذلك في غاية الكثرة.

ص: 45

صيغة افعل وما في معناها

أصل

صيغة « افعل » *

المطلب الثاني

فيما يتعلّق بالصيغة

* وكأنّ في التعبير بها دون « الأمر » إشارة إلى عدم تناول هذا النزاع للفظ « الأمر » لما فيه من النزاع المتقدّم ، أو إلى أنّ « الأمر » ليس هو الصيغة كما توهّمه جماعة فعرّفوه بها حسبما عرفت ، أو لما قيل من أنّ أوامر الشارع في الأغلب وردت بالصيغة ضرورة ندرة « أمرت بكذا » أو « أنتم مأمورون بكذا » ونحو ذلك في خطابات الشرع ، كما أنّ في إضافة الصيغة إلى « افعل » دون « الأمر » _ كما في كلام بعض الفضلاء _ إشعارا بنفي الترادف بين لفظ « الأمر » والصيغة على ما توهّمه بعضهم كما عرفت ، نظرا منه إلى أنّهما وإن اشتركا معا في إفادة الوجوب _ كما زعمه _ إلاّ أنّها تفترق عنه بسائر قيوده المتقدّمة فلا يعتبر فيها علوّ القائل ولا استعلاؤه.

وقضيّة ذلك تناول النزاع للصيغة إذا صدرت عن المساوي والسافل أيضا ، فينهض شاهدا بضعف ما توهّمه بعض الأعلام في هذا المقام من كون محلّ النزاع هاهنا إفادة الصيغة للوجوب الاصطلاحي وعدمها ، بمعنى أنّها مجرّدة عن القرائن كلّها هل تدلّ على الإلزام وكون المتلفّظ بها عاليا ليثبت الوجوب الاصطلاحي الّذي يترتّب على مخالفته استحقاق الذمّ والعقاب ، بعد ما ذكر له احتمالين آخرين :

أحدهما : كون النزاع في الصيغة الصادرة عن العالي من حيث إفادتها للوجوب وعدمها.

وثانيهما : كون النزاع في أنّ هذه الصيغة بمجرّدها هل تفيد الإلزام مطلقا ، فيلزمه كونه إيجابا اصطلاحيّا بعد تعرّف حال المتلفّظ بها إن كان عاليا أو لا تفيده؟

كما ينهض شاهدا بوهن ما عن بعضهم من القول بكون محلّ النزاع خصوص الصادرة عن العالي.

وأنت خبير بخلوّ كلامهم عمّا يساعد على هاتين الدعويين تصريحا أو تلويحا ممّا يعتمد عليه.

نعم ربّما يوهم الثانية منهما استدلال القائلين بالوجوب بذمّ العقلاء العبد التارك لأمر

ص: 46

سيّده تعليلا بمجرّد ترك الامتثال ، كما أنّه يوهمها أيضا استدلال المنكرين للوجوب بتنصيص أهل اللغة على عدم الفرق بين السؤال و « الأمر » إلاّ الرتبة القاضي باشتراكهما في جميع ما عدا ذلك ، منها عدم الدلالة على الإيجاب المنافي لدلالة « الأمر » عليه ، إذ السؤال لا دلالة له عليه ، ولكن يدفعه :

أوّلا : استدلال الفريقين أيضا بما يقتضي العموم كاستدلال القائلين بالوجوب بأنّ الوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه ، لوجود القدرة على الوضع والداعي إليه مع انتفاء المانع ، ولا يصلح له إلاّ صيغة « افعل » لانتفاء غيرها بالإجماع.

ومثله استدلال المنكرين ممّن يقول بكونها للطلب مطلقا ، من أنّ الطلب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يوضع له لفظ يدلّ عليه ، وهو لفظة « افعل » إذ لا لفظ له سواها.

وثانيا : اعتراض الخصم على الأوّل بأنّ الكلام في الصيغة المجرّدة عن القرائن ، وعلوّ السيّد أو غيره ممّا يصلح قرينة على إرادة الوجوب فلا عبرة بما ذكر من فهم العقلاء.

وعلى الثاني بأنّ من يقول بدلالة الصيغة على الإيجاب في « الأمر » يقول بها في السؤال أيضا ، فدعوى أنّه لا يدلّ عليه مطلقا ممنوعة.

ولعلّ الّذي أو هم الاولى من الدعويين أيضا ما يوجد في كلامهم من شيوع إطلاق « الأمر » على الصيغة وإطلاقها عليه ، بل وتفسيره بها كما عرفت في كثير من الحدود.

ولكن يضعّفه :

أوّلا : ظهور الوفاق منهم على كون « الأمر » مفيدا للوجوب نظرا إلى شذوذ المخالف في ذلك ، فكيف يتصوّر معه اختلافهم في إفادة الصيغة له وعدمها لو كان نظرهم فيها إلى ما يستفاد من « الأمر » ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا كان نزاعهم فيها على الوجه الأعمّ.

وثانيا : مصيرهم في الصيغة إلى أقوال اخر غير جارية في لفظ « الأمر » كما يأتي إليها الإشارة.

وثالثا : نزاعهم في « الأمر » باعتبار جنسه من حيث كونه القول على الإطلاق أو الصيغة بخصوصها ، أو الطلب بالقول أو الصيغة أو على الإطلاق ، حسبما عرفت في حدودهم المتقدّمة ، ولا يستقيم ذلك لو كان بحثهم في الصيغة باعتبار كونها أمرا.

ورابعا : نزاعهم أيضا ثمّة في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء أو هما معا ، وعدم اعتبار شيء

ص: 47

وما في معناها *

__________________

منهما في مفهوم « الأمر » فكيف ينطبق ذلك على نزاعهم هاهنا لو كان جهة النزاع خصوص الإلزام الصادر من العالي من حيث كونها واحدة من الجهات المذكورة ثمّة ، مضافا إلى إطلاق أدلتهم وتصريحهم بشمول النزاع للصيغة إذا صدرت عن السائل أيضا ، كما عرفت في ردّ احتجاج المنكرين لإفادتها الوجوب ، فلا إشكال جزما في كون محلّ النزاع مطلق الصيغة ، صدرت من العالي أو غيره ، والمتنازع فيه دلالتها بالوضع على الإلزام مطلقا من دون نظر إلى كونه من العالي أو غيره.

* لا خلاف عند الشرّاح وغيرهم في تناول هذه العبارة بضميمة ما تقدّم لجميع صيغ « الأمر » مجرّدة أو مزيدة حاضرة أو غائبة ، وإنّما الخلاف في أنّ ما عدا الأمر الحاضر من المجرّد هل هو مندرج في قوله : « صيغة افعل » أو فيما بعده؟

فمنهم من جزم بالأوّل ، فجعل الثاني مرادا به أسماء الأفعال ك_ « نزال » و « صه » و « عليك » ونحوها.

ومنهم من جعل الأظهر دخوله مع أسماء الأفعال في الثاني ، ومن هؤلاء من تأمّل في دخول أسماء الأفعال واستشكل كابن المصنّف.

ومنهم من جعل الثاني عبارة عن مثل « ليفعل » وأسماء الأفعال والأخبار المتضمّنة لمعنى « الأمر » كقوله تعالى ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ )(1) و ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ )(2) ولا ريب في فساد ذلك في فقرتها الأخيرة.

ومنهم من جزم بشمول الأوّل لكلّ أمر حاضر ، وأمّا الثاني فتردّد في كونه مرادا به صيغ الأمر الغائب نحو « ليفعل » و « ليفاعل » أو أسماء الأفعال أو الأعمّ منهما.

ومنهم من أورد على الثاني بأنّه يتناول كلّ ما دلّ على معنى « افعل » ولو مجازا مع أنّه خارج عن البحث قطعا ، إلاّ أن يراد بما في معناها وضعا ، وأيضا يتناول ما كان بمعنى « الأمر » من أسماء الأفعال مع أنّ الظاهر خروجها عن النزاع لفظا وإن دخلت فيه معنى.

واستدلّ الأوّل بما حكي عن النحاة من أنّ « افعل » علم جنس لكلّ صيغة يطلب بها الفعل ، كما أنّ « فعل » و « يفعل » علمان لكلّ ماض ومضارع مبنيّ للمفعول.

ص: 48


1- آل عمران : ٩٧.
2- البقرة : ٢٢٨.

واعترض عليه تارة : بأنّ ذلك مبني على حدوث النقل في تلك الصيغة وهو غير ثابت.

واخرى بأنّ الاصطلاح المذكور إن ثبت فإنّما يثبت في عرف علماء الصرف أو وسائر علماء العربيّة ، وثبوته في عرف علماء الاصول غير معلوم بل الظاهر خلافه ، وليس من الاصطلاحات الشائعة الدائرة بين سائر الناس من غير أهل تلك الاصطلاحات كلفظ « الفاعل » و « المفعول » وفيهما الجزم بثبوت النقل وظهور عموم الاصطلاح ، فإنّ علماء الاصول أيضا يتداول في لسانهم صيغة « افعل » في مواضع غير محصورة لا تكاد تخفى على المتتبّع ، ولا ريب أنّه لا يراد به إلاّ المعنى الأعمّ.

وأقوى ما يشهد بذلك تحديد بعضهم « الأمر » بصيغة « افعل » كما تقدّم ، مع أنّه لا يفتقر عموم الاصطلاح إلى استبداد كلّ طائفة إلى الوضع الجديد عندهم ، لجواز الجري على اصطلاح طائفة من باب التبعيّة كما هو الحال في غالب الامور الاصطلاحيّة.

ألا ترى أنّ الاصوليّين يطلقون لفظ « الاسم » و « الفعل » و « الحرف » و « الجملة » و « الخبر » و « المبتدأ » ونحوها ممّا لا يعدّ ولا يحصى على معان اصطلحها النحاة أو علماء العربيّة من دون أن يكون لهم فيها اصطلاح خاصّ ، ولا أن يكون تلك الإطلاقات من باب التجوّز كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ينبغي القطع بخروج مثل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1) من الجمل الخبريّة المؤوّلة إلى الإنشاء ، وقوله : « أوجبت عليك الفعل » و « الصلاة واجبة » و « أمرتك بكذا » عن المراد بتلك العبارة ، وإن كان إطلاقها يتناولها على أحد الوجهين ، لعدم كون شيء من ذلك قابلا للنزاع كما لا يخفى.

وأمّا مثل « صه » و « آمين » من أسماء الأفعال فدخولها تحت العبارة محلّ تأمّل.

وأمّا دخولها في محلّ النزاع ففيه وجهان ، من عدم ظهور العناوين بل وظهورها في عدم الشمول ، لعدم كونها أمرا أو صيغة « افعل » أو صيغة أمر عندهم ، ومن اتّحاد المناط من حيث إنّ مدلولها مدلول « الأمر » أو الصيغة اتّفاقا.

ثمّ إنّ ظاهرهم عنوانا ودليلا بل وصريحهم يعطي عدم اختصاص البحث بالصيغ الواردة في الكتاب والسنّة ، فيرد عليهم حينئذ إشكال من وجهين :

الأوّل : أنّ هذا البحث لا يظهر له فائدة في غير تلك الصيغ فكيف يجعل محلّه على الوجه الأعمّ.

ص: 49


1- آل عمران : 97.

الثاني : أنّ هذا الفنّ يبحث عن أحوال الأدلّة من حيث دليليّتها وابتناء الأحكام عليها ، والمفروض أنّ موضوعات المسائل إمّا موضوع العلم أو أجزاؤه أو جزئيّاته أو غير ذلك ممّا هو مقرّر في مظانّه ، فكيف يفرض البحث على الوجه الأعمّ مع أنّ الحيثيّة قائمة بالخاصّ.

ويندفع : بأنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مطّردا في جميع المباحث المتعلّقة بالمبادئ اللغويّة ، ولكنّهم فرضوا البحث على الوجه الأعمّ للتوصّل عن معرفة حكم العامّ إلى معرفة حكم الخاصّ ، لما بلغهم من أنّ اللّه ورسوله والأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يخاطبون الناس على طريقة عرفهم ولسانهم كما يصرّح به قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1) ويعطيه أيضا قوله عليه السلام : « إنّ اللّه أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه » ويومئ إليه أيضا قوله : « كلّم الناس على قدر عقولهم » ولأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة لا طريق إلى معرفة أحكامها في الغالب إلاّ طريقة العرف وبناء أهل اللسان ، فلابدّ من فرض المباحث على الوجه الأعمّ ليتأتّى بذلك ما هو الغرض الأصلي منها كما لا يخفى.

نعم يبقى في المقام إشكال آخر وهو : أنّ البحث عن تلك الألفاظ على الوجه الأعمّ نقض للقاعدة المقرّرة في فنّ الميزان - الّتي قد سبق منّا تحقيق فيها في أوائل الكتاب - من أنّ العلم لا يبحث فيه عن الأحوال اللاحقة لما هو أعمّ ولا ما هو أخصّ من موضوعه ، لأنّ الغرض الأصلي من البحث فيه معرفة الآثار المطلوبة عن موضوعه الّتي هي عبارة عن الأحوال المختصّة به الشاملة لجميع أفراده الغير الشاملة لغيرها ، وأمّا الأحوال الغير الشاملة لجميعها أو الشاملة لها ولغيرها فلا تطلب عن ذلك العلم لعدم كونه من الأحوال المختصّة بموضوعه ، بل من الأحوال المختصّة بأمر أخصّ تحته أو أمر أعمّ فوقه فتطلب عن علم يكون موضوعه ذلك الأمر الأخصّ أو الأعمّ ، والأحوال العارضة لألفاظ الكتاب والسنّة على التقدير المتقدّم من هذا الباب ، لأنّها يعرضها بواسطة أمر أعمّ وهو نوع اللفظ ، مع أنّ الموضوع قسم خاصّ منه لأنّه الدليل لا مطلقا.

ويمكن دفعه : بالتزام اعتبار الحيثيّة في ذلك ، بأن يقال : إنّ موضوع تلك المباحث إنّما هو نوع اللفظ من حيث وروده في الكتاب والسنّة على نحو يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وعليه ينزّل عدّهم الكتاب والسنّة موضوعين لهذا الفنّ ودليلين للأحكام ، فلا يكون الموضوع هو الكتاب أو السنّة من حيث هما مع قيد الخصوصيّة لئلاّ ينافي دأبهم من

ص: 50


1- إبراهيم : 4.

في معنى الوجوب والإيجاب

حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللّغة على الأقوى *

__________________

النظر في اللفظ على الوجه الأعمّ ، ولا نوع اللفظ من حيث هو لئلاّ ينتقض القاعدة المذكورة فليتدبّر.

* وكثيرا مّا يعبّر عنه بالإيجاب ، وظاهر الأصحاب عدم الفرق بينهما إلاّ بالاعتبار ، فإنّ الصادر من الآمر واحد إلاّ أنّه إن قيس إليه باعتبار صدوره عنه كان إيجابا ، وإن قيس إليه باعتبار الفعل من جهة قيامه به كان وجوبا ، فهما متّحدان ذاتا متغائران اعتبارا _ كما صرّح به بعض الأفاضل وكذلك أخوه في كتابيهما (1) _ وعلى هذا القياس اللزوم والإلزام كما في الثاني ، وربّما يفرّق بينهما باختصاص الأوّل بما لو صدرت الصيغة من العالي بخلاف الثاني ، ولعلّه مبنيّ على تفسير الوجوب بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب ، والإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه ، وإلاّ فعلى تفسير الثاني أيضا بالأوّل أو الأوّل بالثاني لا يستقيم ذلك جزما.

وربّما يذكر بينهما فرق آخر وهو أنّ الإيجاب دلالة « الأمر » على أنّ الآمر أوجب الفعل المأمور به والوجوب دلالة « الأمر » على أنّ المأمور به له صفة الوجوب كما في النهاية والمنية ، حتّى أنّهما جعلا كون الصيغة للإيجاب أو للوجوب خلافا آخر وعدّا كلاّ منهما قولا برأسه.

وفي الأوّل أنّ الخلاف في ذلك بين الأشاعرة والمعتزلة ، ولعلّه مبنيّ على الخلاف المشهور بينهما في حسن الأشياء وقبحها باعتبار كونهما شرعيّين أو عقليّين.

فعلى الأوّل _ كما عليه الأشاعرة _ لا يكون في الواجب صفة يدركها العقل ولو شأنا مقتضية للوجوب ، وإنّما هو إيجاب حصل من حكم الشارع الّذي لولاه لما كان الفعل بالذات صالحا له.

وعلى الثاني _ كما عليه المعتزلة _ يكون في الواجب صفة مقتضية للوجوب يدركها العقل ولو بكشف الشرع عنها في غير مستقلاّته.

وأنت خبير بما في جميع ذلك ، أمّا في الأخيرين فواضح ، وأمّا في الأوّل فلأنّ الفعل والكيف عرضان متغايران بالذات والاعتبار معا.

ص: 51


1- وهما الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين وأخيه الشيخ محمّد حسين الإصفهاني صاحب الفصول رحمهما اللّه تعالى ، راجع هداية المسترشدين ١ : ٦٠٣ والفصول الغرويّة : ٦٩.

ومن البيّن أنّ الإيجاب عرض من مقولة الفعل قائم بالآمر ، والوجوب عرض من مقولة الكيف قائم بالفعل المأمور به ، فكيف لا يفرّق بينهما ذاتا.

نعم لا فائدة تترتّب على ذلك الفرق لكونهما متلازمين ، استحالة انفكاك الأثر عن المؤثّر ، وكلّ إيجاب يلزمه ترتّب الوجوب عليه وكلّ وجوب يلزمه كونه حاصلا من إيجاب.

نعم لابدّ في ثبوت تلك الملازمة من مراعاة التناسب بين مفهوميهما ، فإن فسّر الوجوب (1) بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب فلابدّ من تفسير الإيجاب بجعل الفعل على هذه الحيثيّة.

وإن فسّر الإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بالترك فلا بدّ من تفسير الوجوب بكون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك.

وأمّا لو فسّر الأوّل بالأوّل والثاني بالثاني لكان الفرق بينهما ذاتا واعتبارا في غاية الوضوح.

وممّا قرّرنا تبيّن لك أنّ ما اعترض على عبارة المصنّف وكلّ من وافقه في التعبير بأنّ المستفاد من الصيغة - بناء على القول المذكور - إنّما هو إيجاب الفعل على المأمور وإلزامه به ، ووجوب الفعل عليه متفرّع على الإيجاب تابع له ، فلا يتّجه جعله موضوعا له للصيغة بل ينبغي جعلها للإيجاب ، في محلّه.

فلا يرد عليه ما أفاده بعض الأفاضل في ردّه من أنّ الإيجاب والوجوب بمعنى واحد ، ولا فارق بينهما بحسب الحقيقة ، فإنّ ذلك مفهوم اخذ واسطة في انتساب الحدث إلى فاعله ومرآة لملاحظة حال ذلك المنسوب بالنظر إلى ما نسب إليه ، فإن لوحظ بالنسبة إلى ذلك الحدث سمّي وجوبا ويوصف معه الفعل بالوجوب ، وإن لوحظ بالنسبة إلى الآمر من حيث

ص: 52


1- واعلم أنّ الوجوب في اللغة - على ما في النهاية - هو السقوط ، يقال : « وجبت الشمس والحائط » أي سقطا ، والثبوت والاستقرار ، وأمّا في العرف الشرعي فعند المعتزلة أنّ الواجب : « ما يستحقّ تاركه الذمّ ، أو ما يكون على صفة باعتبارها يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، أو ما يكون تركه في جميع وقته سببا للذمّ » وأمّا الأشاعرة فقد رسمه القاضى أبو بكر بأنّه : « ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فقولنا : « يذمّ » خير من قولنا : « يعاقب » لأنّ اللّه تعالى قد يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا : « يتوعّد بالعقاب على تركه » لأنّ الخلف في خبر اللّه تعالى محال فكان ينتفي العفو ، ومن قولنا : « ما يخاف العقاب على تركه » فإنّ المشكوك في وجوبه وحرمته يخاف من العقاب على تركه مع أنّه غير واجب ، وقولنا : « شرعا » ليخرج منه الواجب على مذهب من يوجب الأحكام عقلا وقولنا : « على بعض الوجوه » ليدخل فيه المخيّر فإنّه يلام على تركه إذا ترك معه بدله ، والموسّع لأنّه يذمّ إذا أخلّ به في جميع الوقت ، والواجب على الكفاية لأنّه يذمّ إذا أخلّ به الجميع ( منه ).

صدوره عنه سمّي إيجابا وتكليفا بمعناه الحدثي ، فإنّ ذلك مع أنّه تكلّف بحت ممّا يكذّبه الوجدان القاضي بكون الوجوب وصفا للفعل أثرا للإيجاب الّذي هو وصف في الآمر عبارة عن إسناد ذلك الفعل المعبّر عنه بالحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل بعنوان أنّه مطلوب منه ولا يرضى بتركه ، والضرورة قاضية بكون الصيغة على القول المذكور موضوعة لهذا المعنى لا للأثر الحاصل منه في الحدث المطلوب ، ولعلّ حمل العبارة على المسامحة في التعبير نظرا إلى كون المعبّر به من لوازم المعبّر عنه أولى وأسدّ ، ولا بأس بذلك التعبير في أمثال المقام بعد وضوح المرام.

وبما ذكرناه من معنى الإيجاب يظهر الجواب عمّا اعترض على الحكم بكون الصيغة حقيقة في الوجوب أو الإيجاب من أنّه ليس إلاّ بعض مفاد الصيغة فكيف يحكم بكونها حقيقة فيه مع أنّ الحقيقة هو اللفظ المستعمل في تمام ما وضع له ، لجواز أن يكون المراد بالإيجاب في أمثال هذه العبارة إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل على وجه يكون مطلوبا منه بعنوان عدم الرضا بالترك.

ومن المعلوم أنّ ذلك تمام الموضوع له ، ومن يقول بأنّها للطلب يسقط عنه القيد الأخير ، كما أنّ من يقول بكونها للندب يبدّله بعنوان الرضا بالترك وهكذا.

وربّما يجاب عنه أيضا : بأن ليس المراد من كونها حقيقة في الوجوب أنّ ذلك تمام ما وضعت له ، بل المقصود كونها حقيقة فيه مع انضمام غيره إليه ممّا اخذ في معناها الموضوع له ، وتخصيص هذا الجزء بالذكر هاهنا من جهة أنّه محلّ الخلاف في المقام لكون اعتبار غيره فيه معلوما من الخارج.

ويتبيّن بالتأمّل فيما قرّرناه أنّ الطلب مطلقا أو مقيّدا بكونه وجوبيّا في مدلول الصيغة إنّما هو من المعاني الحرفيّة الرابطيّة ، فلوحظ في المقام آلة لملاحظة الغير وهو الإسناد المذكور ، ومرآة لتعرّف حال ذلك الغير.

فبذلك يندفع ما اورد على كلام المصنّف أيضا : بأنّ كون الوجوب مدلول الصيغة وضعا لا ينطبق على كونها من الأفعال المسندة إلى فاعليها بحسب الوضع ، لأنّه من حيث الصدور من لواحق المتكلّم ومن حيث القيام من لواحق الفعل المأمور به ، - أعني مدلول المادّة الّتي تعلّق بها الهيئة - لأنّه إن فسّر الوجوب بطلب الفعل على سبيل المنع من الترك كان مسندا إلى الآمر فكان ينبغي أن يسند الفعل إلى المتكلّم دون المخاطب أو الغائب.

ص: 53

وإن فسّر بالصفة القائمة بالفعل فهو من لواحق الحدث الّذي اخذ مبدءا للأمر فلا يصحّ إسناده إلى المخاطب أو غيره.

فإنّ كون الوجوب مدلولا للصيغة ليس على سبيل الاستقلال وفاقا لبعض الأفاضل ولا يكون مستقلاّ بذاته ليمكن استناده في المقام إلى شيء ، فإنّ الإسناد في الأفعال لا يصلح له إلاّ معانيها الحدثيّة لأنّها المعاني التامّة المستقلّة القابلة لذلك ، فالمستفاد بحسب الوضع واللغة عن الأفعال بأسرها إنّما هو إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى فاعله ، إلاّ أنّه في الطلبيّات منها مقيّد بكونه على سبيل أنّه مطلوب منه بعنوان اللزوم أو غيره ، فالطلب الملحوظ في المقام ليس إلاّ معنى حرفيّا غير مستقلّ اخذ في مفهومها آلة لملاحظة الغير وهو الإسناد ومرآة لتعرّف حاله ، حتّى أنّ الزمان الّذي يقال بدخوله في مفاهيم الأفعال مطلقا أو في غير الطلبيّات خاصّة ليس مستقلاّ بنفسه ، بل جعل آلة لملاحظة ما فيها من الإسناد ومرآة لتعرّف حاله ، فوضع الهيئة بإزاء الطلب المذكور ليس إلاّ كوضع الحروف بإزاء سائر الطلبيّات من التمنّي والترجّي والاستفهام ، فكما أنّ ذلك معنى حرفيّ غير مستقلّ بذاته جعل آلة لملاحظة الغير ومرآة لتعرّف حاله فكذلك الوجوب في محلّ البحث.

فلذا يقال : بأنّ وضع المشتقّات كوضع الحروف ، فعلى ما يراه المتأخّرون حقّا في الحروف من كون كلّ من الوضع منها عامّا والموضوع له خاصّا يكون الحال في المشتقّات الّتي منها محلّ البحث كذلك ، لا بمعنى أنّ الصيغة موضوعة لجزئيّات الطلب أو الوجوب ، بل بمعنى أنّها موضوعة لجزئيّات إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى فاعل مّا من حيث كونها مطلوبة من ذلك الفاعل على سبيل الإلزام وعدم الرضا بالترك ، فكون الوجوب مدلول الصيغة وضعا بذلك المعنى لا ينافي كون مدلولها وضعا إسناد الحدث المدلول عليه بالمادّة إلى الفاعل ، لكون كلّ منهما جزء من الموضوع له على التقدير المذكور.

والمفروض أنّ المراد بكونها حقيقة فيه ليس بيان أنّه تمام مدلولها.

ومن هنا ينقدح فساد ما صرّح به بعض الأعلام من كون الطلب القائم بنفس المتكلّم معنى اسميّا مستقلاّ يكون كلّ من الوضع والموضوع له فيه عامّا ، كيف مع أنّه لا ينضبط إلاّ بالتزام تعدّد الوضع في الهيئة أو إنكار وضعها بإزاء النسبة ، لامتناع اجتماعهما في وضع واحد ، وهو كما ترى ممّا لا يتفوّه به أحد ، وفساده أوضح من أن يوضح.

ثمّ إنّه قد اتّضح من جميع ما قرّرناه : أنّ المستفاد من كلامهم لكلّ من الإيجاب

ص: 54

والوجوب معنيان :

أحدهما : طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك ، أو كون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك.

وثانيهما : جعل الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب ، أو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب وتاركه الذمّ والعقاب.

والظاهر بقرينة ما سبق في تحرير محلّ النزاع - مضافة إلى شهادة عبائرهم تصريحا وتلويحا - كون المراد هاهنا هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل (1) لأنّه من لوازم الشرع إن كان العبرة في مفهومه بتحقّق استحقاق الثواب والعقاب ، أو من لوازم العلوّ وغيره من سائر خصوصيّات المقام إن كان العبرة باستحقاق المدح والذمّ وليس ذلك من ما يناسب الوضع اللغوي ، وإنّما المناسب له هو المعنى الأوّل عرفا واعتبارا.

والمفروض أنّ المقصود بالبحث في المسألة إنّما هو إثبات الوضع للصيغة لغة - كما تقدّم بيانه مشروحا - ويشهد بذلك زيادة على ما مرّ قول المصنّف : « بحسب اللغة » فإنّ ذلك صريح في أنّ النزاع إنّما هو في وضع الصيغة بحسب اللغة من دون نظر إلى الخصوصيّات الملحوظة في موارد الإطلاقات من جهة المتكلّم أو المخاطب أو مقام التخاطب ، كما يشهد به أيضا ما عن العدّة من أنّ هذه الصيغة الّتي هي قول القائل « افعل » وضعها أهل اللغة لاستدعاء الفعل ، وخالفوا بين معانيها باعتبار الرتبة فسمّوها إذا كان القائل فوق المقول له « أمرا » وإذا كان دونه « سؤالا » و « طلبا » و « دعاء » ومتى استعملوها في غير استدعاء الفعل كما في التهديد نحو ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ ) (2) وقوله : ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (3) وفي الإباحة نحو ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (4) و ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ) (5) - إلى قوله - : وما أشبه ذلك من الوجوه كانت مجازا خارجة عن باب ما وضعت له.

فبما قرّرناه يندفع ما يعترض على قوله : « حقيقة في الوجوب بحسب اللغة » بأنّ الوجوب عبارة عن كون الفعل ممّا يترتّب على تركه استحقاق الذمّ أو العقاب كما هو المعنى المصطلح ، وهو من الامور العقليّة أو الشرعيّة التابعة لملاحظة حال الآمر مع المأمور في وجوب طاعته واستحقاق الذمّ أو العقاب على مخالفته ، فهو من اللواحق الطارئة على

ص: 55


1- كذا في الأصل ، ولكن ينبغي أن تكون العبارة هكذا : « كون المراد هاهنا هو المعنى الأوّل دون الثاني » نظرا إلى السياق.
2- الإسراء : 64.
3- فصّلت : 40.
4- المائدة : 2.
5- الجمعة : 10.

الفعل المأمور به في بعض الأحوال وأين ذلك من وضع الصيغة له بحسب اللغة.

وأمّا ما يجاب عنه أيضا من نفي البأس عن كون مفاد الصيغة هو الوجوب المصطلح ، بمعنى دلالتها على الإلزام الحاصل من العالي الّذي يستحقّ في مخالفته الذّم أو العقاب ، بأن تدلّ على الإلزام وعلى كون القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب ، لجواز كونها بحسب اللغة موضوعة لخصوص « الأمر » وهو الطلب الصادر من العالي المستعلي ، فلا يكون الطلب الصادر من غيره ممّا وضع له اللفظ ، وقضيّة ذلك كون الاستعمال فيه مجازا ، ولعلّه مبتن على ما حكيناه عن بعض الأعلام من تحريره لمحلّ النزاع ، فبما قدّمنا في توهين هذه الدعوى يظهر الوهن في الجواب المذكور.

وإلى ذلك ينظر ما أورد عليه بعض الأفاضل من منع انحصار مدلول الصيغة حقيقة في ذلك ، كيف مع أنّ معظم استعمالاتها اللغويّة والعرفيّة على خلاف ذلك ، فدعوى دلالتها على كون المتكلّم بها ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا موهونة جدّا ، بل دعوى كونها موضوعة لخصوص « الأمر » غير ظاهرة أيضا ، بل الظاهر وضعها للأعمّ من « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » فليس العلوّ والاستعلاء معتبرا في وضعها أصلا ، وإنّما يعتبر ذلك في كونها أمرا ، كما يعتبر خلافه في كونها التماسا أو دعاء ، وذلك ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات المتداولة كمال الظهور.

كيف ولو لا ذلك لم يكن للطلب الالتماسي والدعائي صيغة موضوعة يكون استعمالها فيهما حقيقة ، مع أنّ الحاجة إليهما في الاستعمالات ودورانهما في المخاطبات إن لم يكن أكثر من « الأمر » فليس بأقلّ منه ، فكيف يتصوّر تخصيص الواضع لوضع صيغة الطلب بالأمر وإهماله لهما.

ثمّ أجاب ذلك الفاضل عن أصل الاعتراض بنحو ما أشرنا إليه ، فقال : بمنع كون المراد بالوجوب هاهنا هو المعنى المصطلح ، بل المراد به الطلب الحتمي بمعنى طلب الفعل على وجه لا يرضى بتركه ، فالصيغة موضوعة له لغة ، فهو إن صدر من العالي أو المستعلي كان أمرا ، وإن صدر من غيره كان التماسا أو دعاءا ، ومدلول الصيغة وضعا شيء واحد في الجميع ، فخصوصيّة « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » تعرف من ملاحظة حال القائل وليست تلك الخصوصيّات ممّا يستعمل اللفظ فيه ، واستحقاق الذمّ والعقاب على الترك بحسب الواقع إنّما يجيء بعد ثبوت وجوب الإتيان بما يطلبه المتكلّم من الخارج من العقل

ص: 56

أو الشرع ، وليس ذلك من مدلول اللفظ بحسب الوضع أصلا.

وربّما اعترض على القول بكون الصيغة حقيقة في الوجوب : بأنّ صيغة « الأمر » من جملة الإنشاءات الغير المحتملة للصدق والكذب ، فلو كان مدلولها بحسب الوضع هو وجوب الفعل على المأمور كانت محتملة للصدق والكذب ، لإمكان مطابقة المدلول المذكور للواقع وعدمها.

والحاصل المعنى المفروض من المعاني الخبريّة الّتي لها مطابق في الواقع فلا وجه لجعله مدلولا للإنشاء.

ويردّه : أنّ الفرق بين الإنشاء والإخبار إنّما هو بملاحظة النسبة المعتبرة في مدلول الأفعال وضعا باعتبار الهيئة ، فإن اعتبرت تلك النسبة حكاية عمّا هو في الواقع بين عقدي القضيّة تطابقه أو لا تطابقه كانت إخبارا وإلاّ كانت إنشاءا ، فلذا يعرّف الخبر بأنّه كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، فإنّ المراد بالخارج إنّما هو الخارج عن مدلول اللفظ المعبّر عنه ب- « الواقع » و « نفس الأمر » مرادا به ما قطع النظر فيه عن وعائي الوجودين ، كما أنّ المراد بالمطابقة والعدم ليس هو مجرّد الموافقة واللا موافقة ليرد النقض بالإنشاءات كلّها باعتبار نسبها الطلبيّة وغيرها لاحتمال موافقتها لما هو في نفس المتكلّم وعدم موافقتها ، بل باعتبار نسبها الفاعليّة أيضا ، بأن يقاس قولك : « اضرب » على قولك : « ستضرب » فإنّه كما يحتمل صدور الضرب من مخاطبك في الثاني فيلزم المطابقة وعدم صدوره فيلزم عدم المطابقة فكذلك في الأوّل من غير فرق بينهما في ذلك أصلا ، بل المراد بها كون النسبة ممّا يقصد بها المتكلّم الحكاية عمّا هو خارج عن مدلول كلامه ، فإن طابقته حينئذ يكون صدقا وإلاّ كذبا ، ومن البديهي انتفاء هذا المعنى في الإنشاءات ، فإنّ القائل : ب- « اضرب » أو « لا تضرب » أو « ليت زيدا قائم » لا يقصد بالنسب المقصودة فيها الحكاية اصلا ، فلا يطرؤها حينئذ احتمالا الصدق والكذب.

وبالجملة : الصدق والكذب من الأوصاف الطارئة للنسبة ، والمعيار في طريانهما أنّما هو صدور النسبة في مقام الحكاية والبيان ، ولا حكاية في الإنشاءات أبدا ، ولا عبرة بمجرّد موافقة ما يستفاد عنها من الطلب لما هو في نفس الأمر ولا موافقتها ، كما لا عبرة بمجرّد موافقة نسبها الحدثيّة ولا موافقتها للواقع بالمعنى المذكور.

ثمّ إنّهم ذكروا في المقام ألفاظا مترادفة للواجب ك- « اللازم » و « المحتوم » و « الفرض »

ص: 57

وفاقا لجمهور الاصوليّين *

__________________

ولم ينقلوا خلافا إلاّ في الأخير باعتبار كونه مرادفا للواجب وعدمه.

والمحكيّ فيهما _ على ما في كلام بعضهم _ أقوال ثلاث :

أحدها : ما ذهب إليه في النهاية والتهذيب وشرحه من كونهما مترادفين ، وعزي أيضا إلى المبادئ وشرحه ، والزبدة ، والمختصر وشرحه ، والإحكام ، وعن شرح المختصر التصريح بكون هذا القول ما صار إليه الجمهور.

وثانيهما : ما عن الحنفيّة من أنّ « الفرض » ما علم بدليل قطعي ، و « الواجب » : ما علم بدليل ظنّي ، وحجّتهم على ما في النهاية : أنّ « الفرض » لغة التقدير ، قال اللّه تعالى ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ )(1) أي ما قدّرتم ، و « الوجوب » السقوط ، فخصّصنا « الفرض » بما عرف وجوبه بدليل قطعي لأنّه الّذي علم منه تعالى أنّه قدّره علينا.

وأمّا الّذي عرف بدليل ظنّي فإنّه الواجب لأنّه الساقط علينا ، ولا نسمّيه فرضا لعدم علمنا بأنّه تعالى قدّره علينا.

وأجاب عنه : بأنّ « الفرض » هو التقدير سواء استند إلى علم أو ظنّ ، كما أنّ « الواجب » هو الساقط من غير اعتبار سببه ، وكما أنّ اختلاف طرق النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها ، وكذا طرق الحرام فكذلك طرق الواجب ، مع أنّه تعالى قد أطلق « الفرض » على الواجب في قوله : ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ )(2) أي أوجب ، والإجماع منعقد على أنّه يقال _ لمن أدّى صلاة مختلفا فيها _ : أنّه قد أدّى فرض اللّه تعالى ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

وثالثها : ما نقل عمّا حكي عن صاحب الحدائق من أنّ « الفرض » ما يجب إعادة الصلاة بتركه عمدا أو نسيانا وهو ما ثبت وجوبه بالكتاب ، وأمّا ما ثبت وجوبه بالسنّة فهو واجب لا تبطل بتركه سهوا ، وبذلك صرّح الأصحاب وإليه يشير صحاح زرارة ومحمّد بن مسلم ، وعنه أيضا ويدلّ على المشهور ما رواه الكليني في الكافي في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام قال : « إنّ اللّه تعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سنّة فمن ترك القراءة متعمّدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته ولا شيء عليه » انتهى.

* وعن العضدي أيضا أنّه عزاه إلى الجمهور ، وعزاه في النهاية إلى جماعة من المتكلّمين

ص: 58


1- البقرة : ٢٣٧.
2- البقرة : ١٩٧.

صيغة الأمر

وقال قوم : إنّها حقيقة في الندب فقط *. وقيل : في الطلب ، وهو قدر المشترك بين الوجوب والندب **

__________________

والفقهاء ، وفي المنية إلى الشافعي وأكثر الفقهاء ، وجماعة من المتكلّمين كأبى علي الجبّائي في أحد قوليه ، وأبى الحسين البصري ، وفخر الدين الرازى ، وعن التحصيل إلى أكثر الفقهاء والمتكلّمين ، وعن التمهيد عن أكثر المحقّقين ، وحكى بعض الأفاضل حكاية القول به عن كثير من العامّة والخاصّة منهم الشيخ والفاضلان والشهيدان وكثير من المتأخّرين والشافعي في إحدى النسبتين إليه وأبو الحسين البصري والحاجبي والعضدي والرازي والغزالي في إحدى الحكايتين عنه وغيرهم ، وعن الشيخ إلى جلّ الفقهاء ، وذهب إليه العلاّمة في التهذيب ، وقال في النهاية : والوجه عندي أنّها من حيث اللغة موضوعة للطلب مطلقا ومن حيث الشرع للوجوب ، واختاره جماعة من أعاظم المتأخّرين.

* حكاه في النهاية والمنية عن جماعة من المتكلّمين والفقهاء ، وفي النهاية : وهو منقول عن الشافعي أيضا ونقله قوم عن أبي هاشم.

** ويعبّر عنه بترجيح الفعل مطلقا ، إليه ذهب العميدي واختاره صاحب الهداية ووافقه أخوه في الفصول ، إلاّ أنّهما جعلاه منصرفا إلى الوجوب ، وفي الهداية : وكأنّه لانصراف المطلق إلى فرده الكامل ، وعزاه أيضا إلى جماعة من العامّة منهم الجويني والخطيب القزويني وبعض الحنفيّة على ما حكي عنهم ، وحكاه عن صاحب الوافية أيضا مع ذهابه إلى حمل الأوامر الشرعيّة كتابا وسنّة على الوجوب لا لدلالة الصيغة بل لقيام قرائن عامّة شرعا.

ثمّ إنّ المعروف فيما بينهم كون الطلب عبارة عن الجامع بين الوجوب والندب على ما صرّح به النهاية والمنية ، ولكن في المنية _ عند تعداد معاني الصيغة _ جعله شاملا للإرشاد أيضا ، حيث قال : وهذه الثلاثة _ يعني بها الوجوب والندب والإرشاد _ مشتركة في طلب تحصيل المصلحة إلاّ أنّ المصلحة في الأوّلين اخرويّة وفي الثالث دنيويّة كما في قوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ )(1) تعليلا : بأنّ الثواب لا يزيد ولا ينقص بالإشهاد ولا بعدمه ، ولكنّه لم ينقله قولا في المسألة.

ص: 59


1- البقرة : ٢٨٢.

وفي كلام بعض الأفاضل : وقد يجعل أعمّ من الإرشاد أيضا حسبما يستفاد من الإحكام ، حيث جعل مفهوم الطلب شاملا للثلاثة وفرّق بين الندب والإرشاد بأنّ الندب ما كان الرجحان فيه لأجل مصلحة اخرويّة والإرشاد ما كانت المصلحة فيه دنيويّة.

ثمّ جعل الأظهر كونه قدرا مشتركا بين الوجوب والندب كما هو المعروف ، تعليلا بظهور أنّ المقصود من الإرشاد هو بيان المصلحة المترتّبة من دون حصول اقتضاء هناك على سبيل الحقيقة ، فهو إبراز للمصلحة المترتّبة على الفعل بصورة الاقتضاء.

ألا ترى أنّه قد يكون ما يأمره به على سبيل الإرشاد مبغوضا عنده ولا يريد حصوله أصلا ، كما إذا استشاره أحد في إكرام زيد أو عمرو وهو يبغضهما ويريد إهانتهما ومع ذلك إذا كانت مصلحة المستشير في إكرام زيد مثلا يقول له : « أكرم زيدا » مريدا بذلك إظهار المصلحة المترتّبة عليه من غير أن يكون هناك اقتضاء منه للإكرام ، وهذا بخلاف الندب لحصول الاقتضاء هناك قطعا ألاّ ترى أنّه غير بالغ إلى حدّ الحتم ، من غير فرق بين ما يكون السبب فيه المصلحة الدنيويّة أو الأخرويّة ، كما أنّه لا فرق في الإرشاد بين ما إذا كان الغرض إبداء المصلحة الدنيويّة أو الاخرويّة ، كيف ولو لا ما قلنا لم يكن ندب في أغلب الأوامر العرفيّة لعدم ابتنائها على المصالح الاخرويّة في الغالب.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فقد يكون المصلحة الدنيويّة المتفرّعة على الفعل عائدة إلى غير المأمور وليس ذلك إذن الإرشاد ، فلا يتمّ ما ذكر من الفرق إلى آخر ما ذكره.

أقول : وكأنّ النزاع بين هذا الفاضل والّذي اشير إليه لفظيّ ، فإنّ الطلب له نسبة إلى أصل الفعل ونسبة إلى المصلحة المترتّبة عليه ، وانتفاؤه في الإرشاد بالقياس إلى الفعل لا يقضي بانتفائه بالقياس إلى المصلحة.

ألا ترى أنّه لو توقّف انتظام أمر من امور دنياك على إكرام من تغضبه ولا تحبّه فأنت تكرمه طلبا لتلك المصلحة ، مع أنّ الإكرام ليس بمطلوب عندك أصلا بل كثيرا مّا يكون مبغوضا لك.

والظاهر إنّ من جعله مشتركا بين الثلاثة نظره إليه بالقياس إلى المصلحة ، فلذلك ترى السيّد في المنية عبّر بأنّ هذه الثلاث مشتركة في طلب تحصيل المصلحة ، كما أنّ نظر هذا الفاضل إلى الطلب بالقياس إلى الفعل المشتمل على تلك المصلحة.

ومن البيّن أنّ حصول الطلب بالنسبة إلى المصلحة لا ينافي انتفاءه بالنسبة إلى الفعل.

ص: 60

فتحقيق المقال في ذلك أن يقال : إنّ من أطلق الطلب على الإرشاد إن أراد به ما ذكرناه في توجيه كلامه فلا كلام ، وإلاّ ففيه منع واضح من القطع بخلوّ الإرشاديّات عن الطلب بالمعنى الملحوظ في الوجوب والندب ، وكونها يقصد بها مجرّد الاراءة إلى طريق الوصول إلى المصالح المترتّبة على الفعل ، والهداية على سبيل التحرّز عن المفاسد المتفرّعة على الترك ، من غير فرق في ذلك بين كون المصلحة من الامور المتعلّقة بالدين كما في أوامر الوعّاظ ونحوهم ، أو الامور المتعلّقة بالدنيا كما في أوامر الطبيب ونحوه ، أخذا بما يساعده فهم العرف وضرورة الوجدان ، مع أنّ ما ذكروه وجها للفرق ينتقض في عكسه بالنظر إلى الندب بأوامر السلطان وغيره من الموالي والمخدومين ، فإنّها في الغالب واجبات أو مندوبات مع عدم اشتمال شيء بما يرجع إلى الآخرة لانحصار مصالحها فيما يترتّب على امور دنياهم ، وفي طرده بالنظر إليه بأوامر الوعّاظ حسبما عرفت ، وفي عكسه أيضا بالقياس إلى الإرشاد بمثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (1) و ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (2) و ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (3) و ( اعْبُدْ رَبَّكَ ) (4) ونظير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، ضرورة كونها من باب الإرشاد على ما يراه المحقّقون ، ويرجّحه النظر الدقيق القاضي بعدم كونها من باب الوجوب ولا الندب.

أمّا الأوّل : فللقطع بعدم تعدّد العقاب في ترك الطاعة.

وأمّا الثاني : فللجزم بعدم تعدّد الثواب في فعلها.

ومن المعلوم أنّ انتفاء اللوازم أقوى دليل على انتفاء الملزوم ، مع أنّ الطلب من الشارع لا بدّ وأن يتبع الصفة الكامنة في ذات المطلوب من حيث هو ، والطاعة والتقوى والاتّباع والعبادة ونحوها ليست إلاّ مفاهيم كلّيّة اعتباريّة منتزعة عن العنوانات المخصوصة الّتي تعلّق بها الأوامر الحقيقيّة ، فلا يكون فيها بخصوصها صفة اخرى زائدة على الصفات الكامنة في العنوانات المندرجة تحتها ، فلا يتصوّر حينئذ حمل تلك الأوامر على أحد الوجهين ، وإلاّ لا نخرم قاعدتهم المتّفق عليها المشار إليها ، فلا يبقى ما يصلح لحملها عليه إلاّ الإرشاد وهو المطلوب مع عدم اشتمال شيء منها على المصالح الدنيويّة.

وفي طرده أيضا بالقياس إليه بالأوامر الواردة مورد التقيّة ، فإنّ الظاهر ورودها لمراعاة

ص: 61


1- النساء : 59.
2- آل عمران : 102.
3- آل عمران : 31.
4- الحجر : 99.

وقال علم الهدى رضى اللّه عنه : إنّها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيّا * في اللّغة ، وأمّا في العرف الشرعيّ فهي حقيقة في الوجوب فقط. وتوقّف في ذلك قوم ، فلم يدروا للوجوب هي أم للندب ** وقيل : هي مشتركة بين ثلاثة أشياء ، الوجوب والندب والإباحة ***. وقيل : هي للقدر المشترك بين هذه

__________________

المصالح العائدة إلى الدنيا ممّا لا يكاد يخفى على ذي مسكة مع عدم كونها إرشاديّات جزما.

* وفي بعض النسخ وذهب السيّد المرتضى إلى أنّها ... إلى آخره ، وربّما يعزى ذلك إلى السيّد ابن زهرة ، وحكاية هذا القول عن السيّد هو المشهور في الكتب الاصوليّة.

واعترض عليهم : بأنّ الّذي صرّح به السيّد في الذريعة أنّها للوجوب والإباحة لا الوجوب والندب ، مع تبديله الوجوب « بالأمر » حيث قال فيها : « اختلف الناس في صيغة الأمر فذهب الفقهاء كلّهم وأكثر المتكلّمين إلى أنّ للأمر صيغة مفردة مختصّة به متى استعملت في غيره كانت مجازا ، وهي قول القائل لمن دونه : « افعل » وذهب آخرون إلى أنّ هذه اللفظة مشتركة بين « الأمر » و « الإباحة » وهي حقيقة فيهما مع الإطلاق لا يفهم أحدهما ، وإنّما يفهم أحدهما دون صاحبه بدليل ، وهو الصحيح » (1).

ثمّ أخذ في الاستدلال لما صار إليه ، فقال : « إنّ هذه اللفظة مستعملة بلا خلاف في « الأمر » و « الإباحة » في التخاطب والقرآن والشعر ، قال اللّه تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(2) وهو أمر ، وقال سبحانه ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(3) وهو مبيح ، وكذلك قوله تعالى ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا )(4) فإنّ الانتشار مباح ، إلى آخر ما ذكره.

** حكاه في النهاية عن أبي الحسين الأشعري وجماعة من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزّالي وغيرهما ، وحكاه بعض الأفاضل عن الآمدي في الإحكام مع نقله حكاية القول بالتوقّف عن جماعة بين كونها للوجوب أو الندب أو لهما اشتراكا لفظيّا أو للقدر الجامع بينهما ليكون مشتركا معنويّا.

وعن البعض التوقّف بين الأحكام الخمسة ، فهي موضوعة لواحد منها لا نعلمه.

*** والمراد به الاشتراك اللفظي بقرينة ما بعده ، وقد حكاه في المنية عن جماعة ،

ص: 62


1- الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٣٨.
2- البقرة : ٤٣.
3- المائدة : ٢.
4- الجمعة : ١٠.

الثلاثة وهو الإذن. وزعم قوم أنّها مشتركة بين أربعة امور * ، وهي الثلاثة السابقة ، والتهديد وقيل فيها أشياء اخر ** ، لكنّها شديدة الشذوذ ، بيّنه الوهن ، فلا جدوى في التعرّض لنقلها.

__________________

وعن الحاجبي في المختصر وشارحيه والتمهيد حكايته أيضا.

وقيل : إنّهم حكوا القول الّذي بعده وهو كونها للقدر المشترك بين هذه الثلاثة وهو « الإذن » ولكن قائله مع ما قبله غير معلوم.

* وهي الوجوب والندب والإباحة والتهديد ، قيل هذا القول أيضا معروف بين الفريقين والقائل مجهول.

وعن الحاجبي أنّه عزاه إلى الشيعة ، وردّ بأنّه افتراء عليهم إذ لم يذهب إليه أحد منهم فضلا عن جميعهم ، إلاّ أن يريد بالشيعة بعضهم بالمعنى العامّ المتناول لسائر فرقهم ممّن لا يعتدّ بقوله عندهم.

** كالقول باشتراكها بين الوجوب والندب والإباحة والحرمة والتنزيه ، والقول بكونها لأقلّ المراتب وهي الإباحة حكاهما في المنية ، والقول باشتراكها بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتنزيه نقل حكايته عن التمهيد ، والقول بالاشتراك اللفظي بين الأحكام الخمسة الوجوب وأخواته عن التمهيد حكاية ذلك أيضا ، والقول بالاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والتعجيز والتكوين ، والقول بالاشتراك بين الطلب والتهديد والإباحة حكاهما بعض الأفاضل.

وعن الشهيد في التمهيد : أنّه _ مضافا إلى ما سبق _ حكى أقوالا اخر :

منها : الاشتراك بين الوجوب والإرشاد.

ومنها : الاشتراك بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد.

ومنها : إنّ أمر اللّه للوجوب وأمر الرسول للندب.

وعن جماعة الاشتراك لفظا بين الوجوب والندب من غير تفصيل بين اللغة والشرع ، هذه مجموع الأقوال الّتي عثرنا بها دراية وحكاية.

ثمّ ، إنّهم ذكروا لصيغة « افعل » معاني كثيرة بالغة إلى خمسة عشر (1) أو أزيد ، وفي تغاير

ص: 63


1- وهي على ما ضبطها السيّد في المنية خمسة عشر معان : الأوّل : الإيجاب كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ). الثاني : الندب كقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً). الثالث : الارشاد كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ). وهذه الثلاثة مشتركة في طلب تحصيل المنفعة إلاّ أنّ المصلحة في الأوّلين اخرويّة وفي الثالث دنيويّة ، إذ الثواب لا ينقص ولا يزداد بالإشهاد ولا بعدمه. الرابع : التهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). الخامس : الإهانة كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). السادس : الدعاء مثل (رَبِّ اغْفِرْ). السابع : الإباحة كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). الثامن : الامتنان كقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ). التاسع : الإكرام كقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ). العاشر : التسخير كقوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). الحادي عشر : التعجيز كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). الثاني عشر : التسوية نحو (فَاصْبِرْ) أو لا تصبر. الثالث عشر : التمنّي نحو « ألا يا أيّها الليل الطويل ألا انجلي ». الرابع عشر : الاحتقار نحو بل (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ). الخامس عشر : التكوين نحو (كُنْ فَيَكُونُ) ( منه عفى عنه ).

أدلّة القول بوضع صيغة الأمر للوجوب

لنا وجوه ، الأوّل : أنّا نقطع بأنّ السيّد إذا قال لعبده : « افعل كذا » فلم يفعل عدّ عاصيا وذمّه العقلاء *

__________________

جملة منها لآخر نظر واضح يظهر بأدنى تأمّل ، وعلى كلّ تقدير فقد اتّفقوا على عدم كونها حقيقة في الجميع ، بدعوى اختصاص وضعها بالبعض ، ولكنّهم اختلفوا في تعيين ذلك البعض على أقوال عرفتها مشروحة ، إلاّ أنّ المصنّف صار إلى أنّ ذلك البعض هو الوجوب خاصّة دون غيره ، وأنّ ما عداه معاني مجازيّة تعرف من الخارج ، وهو الراجح في النظر القاصر.

* ولا يخفى أنّ ذلك إحراز لصغرى القياس في أخصّ موارده ، واستدلال على الملزوم بأظهر لوازمه ، فإنّ المقصد الأصلي في المقام إنّما هو التمسّك بالتبادر الّذي هو من شواهد الوضع وعلائم الحقيقة ، ولمّا كان ذلك من الامور الباطنيّة الّتي قد تعتريها أيادي الإنكار وكثيرا مّا لا تجدي نفعا في إفحام الخصم وإسكاته وقطع العذر عليه فاحتجّوا بما هو محسوس من لوازمه ، وهو ذمّ العقلاء عبدا ترك الامتثال بمقتضى الصيغة الصادرة عن سيّده ، الكاشف عن تبادر الوجوب إلى أذهانهم وكونه ممّا فهمه العبد أيضا فخالف ، وهو

ص: 64

وإن كان يعدّ من خواصّ العالي ومن الآثار المترتّبة على علوّه فلذا لا يتحقّق في مخالفة الداني بل المساوي ، إلاّ أنّه مستند إلى تبادر الوجوب وليس إلاّ ، فلذا لو اعتذر العبد بما كان مقبولا عندهم من الأعذار على عدم فهمه إيّاه لسقط عنه ذلك جزما.

وبما قرّرناه يندفع ما أورد عليه تارة : بأنّ ذلك إنّما هو لدلالة الشرع على وجوب طاعة السيّد على العبد.

واُخرى : بأنّه لا يأمر إلاّ بما فيه نفعه ودفع ضرره ، والعبد يجب عليه إيصال المنافع إلى سيّده ودفع المضارّ عنه.

فإنّ الطاعة في غير ما أوجبه السيّد على عبده غير واجبة عليه في الشرع جزما ، فلذا لو طلب منه بعنوان الندب والاستحباب - بأيّ لفظ كان - فترك الامتثال لم يعدّ عاصيا ولا يستحقّ ذمّا أصلا ، ومجرّد ما فيه نفع السيّد أو دفع الضرر عنه لا يوجب قيام العبد به لو لا إيجاب السيّد ، كما هو واضح لكلّ ذي بصيرة.

كما يندفع به أيضا ما اورد عليه : من أنّه معارض بالصيغة المجرّدة عن القرينة الصارفة من مجهول الحال ممّن لا يعلم وجوب طاعته بحسب الشرع أو العرف ، فإنّ المأمور لا يعدّ عاصيا بالترك ولا يتوجّه إليه ذمّ ، فلو كانت حقيقة في الوجوب لزم تعلّق الذمّ به أيضا ، فإنّ المتبادر من الصيغة إنّما هو الوجوب بمعنى الطلب الحتمي والطلب المتأكّد من أيّ قائل صدرت ، كما يشهد به التأمّل في موارد الإطلاقات ويقضي به البناء على ما يقتضيه الإنصاف.

غاية الأمر ، أنّ القائل بها لو كان ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا أو عرفا لترتّب على مخالفتها الذمّ ، فهو من لوازم الصيغة إذا صدرت من العالي لا من مقتضيات الوضع حتّى يجب اطّراده ، وإنّما الّذي من مقتضياته فهم الوجوب بالمعنى المذكور وهو مطّرد قطعا.

وأمّا ما قد يجاب عن ذلك أيضا : بأنّ دلالة اللفظ لا تستلزم مطابقة مدلوله للواقع.

وغاية الأمر دلالة الصيغة على الوجوب ، وهو لا تستلزم الوجوب في الواقع ليترتّب على مخالفته استحقاق الذمّ.

نعم ، لو علم وجوب طاعة الآمر من الخارج دلّ ذلك على مطابقة لما هو في الواقع ، ويتفرّع الذمّ على مخالفته ، فلذا فرضوا الكلام في أمر السيّد لعبده ، فهو مبنيّ على ما بيّنّا وهنه من دعوى تبادر الطلب الحتمي من الصيغة المجرّدة عن القرائن وكون القائل بها عاليا ، فلا تعويل عليه بعد ملاحظة ما قدّمناه ، وفرض المثال في أمر السيّد لعبده ليس

ص: 65

لأجل كونه هو محلّ كلامهم ، بل إنّما هو لأجل الاستدلال على المطلوب بأظهر أفراد التبادر ، لاقترانه في ذلك الفرض بأمر ظاهر محسوس كاشف عن حصوله الكاشف عن ثبوت الوضع كما عرفت.

ومن البيّن أنّ اختصاص المثال لا يوجب اختصاص النزاع كما لا يخفى ، وإلاّ لكان ذلك إشكالا مطّردا في أغلب الاستدلالات كما لا يخفى ، فالإيراد إنّما يندفع بما ذكرناه دون غيره.

ويندفع به أيضا ما يقال على الاستدلال أيضا من أنّ غاية ما يفيده ذلك دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب ، وأين ذلك من دلالة الصيغة من حيث هي على الوجوب ، فإنّ الّذي يترتّب على العلوّ إنّما هو مجرّد الذمّ على المخالفة الكاشف عن فهم الوجوب ، وأمّا نفس ذلك الفهم فليس ممّا يتفرّع عليه بل هو عامّ له ولغيره ، والمفروض أنّ الاستدلال دائر على ذلك لا غير ، مع أنّه على تقدير تسليم عدم معلوميّة حال سائر الأصناف يثبت الحقيقيّة في الصيغة الصادرة من العالي بذلك التبادر المسلّم عندنا وعندك ، ثمّ نتسرّى منها إلى ما تصدر عن سائر الأصناف بأصالة عدم تعدّد وضع الصيغة بتعدّد المستعملين لها ، وأصالة التشابه وعدم الاختلاف بين الأصناف المختلفة من أهل اللغة في أمر لسانهم ، كما تقدّم ذلك في أوائل الكتاب عند البحث عن أحوال التبادر.

وأمّا ما يقال أيضا - في منع أصل التبادر - : بأنّه لو صحّ تبادر الوجوب عن الصيغة لزم انتقال الذهن منها إلى المنع من الترك وليس كذلك ، حيث لا يخطر الترك بالبال فضلا عن المنع عنه.

ففيه : أنّ كون المنع من الترك مأخوذا في مفهوم الوجوب إنّما هو في تحليل العقل كما صرّح به فحول الأصحاب وفضلاؤهم ، وإلاّ فمفهومه المنساق منه عرفا عند الإطلاق ليس إلاّ أمرا بسيطا إجماليّا يعبّر عنه تارة بالطلب الحتمي وأخرى بالطلب المتأكّد ، نظير المفاهيم الإجماليّة المنساقة عن سائر الألفاظ الموضوعة للطبائع المركّبة من أجزاء عقليّة.

ألا ترى أنّ الإنسان لا يتبادر منه عرفا إلاّ أمر إجمالي معلوم عند كلّ أحد ، مع أنّه عند تحليل العقل ينحلّ إلى كونه جسما وناميا ومتحرّكا بالإرادة وقابلا للأبعاد الثلاثة وناطقا ، فعدم تبادر الأجزاء العقليّة عند الإطلاق لا ينافي تبادر ما هو محصّل المعنى ولبّه الّذي عليه مدار التفاهم والتخاطب ، كيف مع أنّه لو لا الاعتماد على هذا التبادر لانسدّ باب التمسّك بالتبادرات بل أغلب الأمارات في إثبات المطالب الراجعة إلى اللغات ،

ص: 66

معلّلين حسن ذمّه بمجرّد ترك الامتثال * وهو معنى الوجوب.

لا يقال : القرائن على إرادة الوجوب في مثله موجودة غالبا ** فلعلّه إنّما يفهم منها ، لا من مجرّد الأمر.

__________________

لعدم انفهام الأجزاء العقليّة في شيء منها.

* ولا يخفى أنّ ذلك توطئة لدفع ما يقال أيضا : من أنّ ذمّ العقلاء لعلّه لعلمهم بأنّ السيّد كاره للترك لا لأجل كونه تاركا للامتثال حتّى يلزم منه إفادة الصيغة للوجوب ، فإنّ علّة الذمّ والانتقام إذا كان مجرّد ترك الامتثال فلا وقع لذلك الكلام ، كيف مع أنّهم إذا سألوا عن وجه الذمّ عليه وانتقامه علّلوه بعدم امتثاله لأمر سيّده ، فلو لا دلالة الصيغة الصادرة عنه على الوجوب لما كان لذلك التعليل وجه ، إذ لا طريق لهم إلى معرفة وجوب الامتثال سواها.

ومن هنا يندفع أيضا ما اعترض : بأنّه قد يقع الذمّ على ترك بعض المندوبات وارتكاب بعض المكروهات فلا اختصاص له بمخالفة الواجب ، فيكون الدليل حينئذ أعمّ من المطلوب ، فإنّهم يعلّلون الذمّ بمجرّد ترك الامتثال.

ومن الواضح المتّفق عليه أنّ مجرّد ترك الامتثال بالمندوب لا يعدّ عصيانا ولا يوجب استحقاق الذمّ ما لم ينجرّ إلى عنوان آخر محرّم في حدّ نفسه كقصد الإهانة أو عدم الاعتناء بشأن السيّد ونحو ذلك ، فتوجّه الذمّ لأجل تلك العنوان كلام آخر لا دخل له في المقام ، إذ المفروض توجّهه هنا لترك الامتثال فلولا وجوبه لم يتوجّه جزما.

** وأنت خبير بأنّ وجوب الامتثال الموجب لاستحقاق الذمّ على المخالفة أعمّ من المطلوب ، لجواز استناد انفهامه إلى أمر خارج عن اللفظ من القرائن الحاليّة أو العاديّة الموجودة مع اللفظ كعادة السيّد ، والعطش عند طلب السقي ، والجوع عند طلب الطعام ونحو ذلك ممّا لا يكاد يخفى على المتأمّل ، فمسّت الحاجة إلى ضمّ مقدّمة اخرى ليندفع بها تلك المناقشة _ الّتي هي معروفة في الألسنة _ وبدونها لا ينهض الاستدلال على المدّعى أصلا.

فلا يرد عليها ما أورده بعض الأفاضل : من أنّه بعد أخذ قضيّة التعليل في الاحتجاج لا يتوجّه ما أورده بقوله : « لا يقال » إذ بعد ثبوت تعليلهم حسن الذمّ بمجرّد ترك الامتثال لا فرق بين قيام القرائن على إرادة الوجوب وعدمه ، إذ غاية ما يلزم من ذلك حينئذ أن تكون القرائن مؤكّدة لا مفيدة للوجوب وإلاّ لم يحسن التعليل ، والحاصل إمّا أن يؤخذ في

ص: 67

الاحتجاج انتفاء القرائن في الصيغة الصادرة من السيّد أو تعليلهم الذمّ بمجرّد ترك الامتثال ، ويتمّ الاحتجاج بأخذ واحد منهما ، وحينئذ فمع أخذه التعليل المذكور في الاحتجاج وعدم اعتبار انتفاء القرائن هناك لا يتّجه الإيراد لاحتمال وجود القرائن في المقام (1).

ولا يخفى أنّ ذلك كلام وارد في غير محلّه ، فإنّ مجرّد التعليل غير كاف في تماميّة الاستدلال ، كيف مع أنّ الوجوب إذا كان مستفادا من الخارج لصحّ التعليل المذكور أيضا من دون تأمّل ، ومع ذلك كيف يتفوّه بعدم الحاجة إلى مقدّمة.

ودعوى كون القرائن الموجودة - على فرض قيام - مؤكّدة أمر لابدّ له من شاهد قويّ ، لكونها احتمالا معارضا بكون تلك القرائن مفيدة ولا سيّما مع ملاحظة كون المعارض أقوى ، لاعتضاده بقاعدتهم المعروفة من أولويّة التأسيس من التأكيد ، فلا مناص من مقدّمة اخرى تدفع احتمال وجود المعارض ، وبالجملة فهذا كلام لا ينبغي الالتفات إليه.

فمحصّل ما أفاده المصنّف في دفع المناقشة : أنّا نفرض صدور الصيغة في مقام غير صالح لاحتمال قيام تلك القرائن ، فلا يبقى للفهم والتبادر حينئذ وجه إلاّ كونه مستندا إلى حاقّ الصيغة.

وأمّا ما يقال على ذلك : من أنّ فرض انتفاء القرائن لا يستلزم وقوع الانتفاء ، فربّما كان حكم النفس ببقاء الذمّ لانضمام القرائن وحصولها في نفس الأمر والواقع وإن فرض انتفاؤها ، نعم لو انتفت القرائن في الواقع وحكم الوجدان ببقاء الذمّ ينفع في المطلوب ، فكلام ظاهريّ لا يعبأ به ، منشؤه عدم الخبرة بما هو قانون المجازات من افتقارها بقيام قرينة ملتفت إليها من كلا طرفي الخطاب لأجل توقّف الفهم والدلالة.

وأنت بالتأمّل فيما حقّقناه - في مبحث التبادر في الجزء الأوّل من الكتاب - من أنّ الّذي يعدّ من كواشف الوضع يعتبر فيه تجرّد اللفظ عن القرائن بأجمعها ، أو عدم الالتفات منهما إلى القرينة الموجودة معه ، أو كون الالتفات إليها لا لأجل توقّف الدلالة على أصل المعنى وفهمه من اللفظ تعرف فساد هذا الكلام ، فإنّ مجرّد احتمال القرينة في الواقع غير قادح في الدليل ، لأنّه احتمال يدفع بالأصل على فرض عدم العلم بانتفائها في الواقع ، بل العلم بوجودها في المقام أيضا غير كاف في الانصراف عن حكم التبادر ، لاندفاع احتمال

ص: 68


1- هداية المسترشدين 1 : 610.

تأثيرها في الفهم والدلالة بالأصل النافي لاحتمال الالتفات.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يظهر ما في الإيراد أيضا - بأنّ التبادر المذكور بعينه حاصل في لفظ « الطلب » وما بمعناه ، كما إذا قال لعبده : « أطلب منك شراء اللحم » أو « اريد منك ذلك » مع أنّه لا كلام في كون الطلب أعمّ من الوجوب والندب ، فلو كان التبادر المفروض دليلا على الوضع للوجوب بالخصوص لجرى ذلك فيما ذكر مع أنّ المعلوم خلافه - من الفساد ، فإنّ التبادر مع العلم بكون الموضوع له خلاف المتبادر محكوم عندهم بكونه إطلاقيّا ومثله لا يعدّ من أدلّة الوضع ، بل الّذي يدلّ عليه عندهم إنّما هو التبادر إذا كان وضعيّا ، وهو الّذي لم يكن له استناد إلى أمر غير الوضع.

ولقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل فيه التبادر الوضعي ، وإنّما يتمسّك بذلك الأصل في موارد الشبهة وعدم معلوميّة جهة التبادر ، والمفروض في المقام كونه وضعيّا بحكم الوجدان ، وعلى تقدير اعتراء التشكيك في ذلك يكفينا الأصل المذكور ، فبطلت المقايسة وفسدت المعارضة.

وبذلك يندفع أيضا ما أورده بعض الأفاضل : من أنّ التبادر إنّما يكون دليلا على الوضع إذا كان الانصراف مستندا إلى نفس اللفظ دون ما إذا استند إلى أمر آخر حسبما قرّر في باب التبادر.

والظاهر أنّ انصراف « الأمر » إلى الوجوب في المقام من جهة دلالة اللفظ على الطلب الظاهر حين إطلاقه في الوجوب ، كما عرفت في انصراف لفظ « الطلب » إليه ، وكأنّه من جهة كون الوجوب هو الكامل منه ، نظرا إلى ضعف الطلب في المندوب من جهة الرخصة الحاصلة في تركه ، فإنّ الوجدان قاض بعدم مدخليّة الأمر الخارج في هذا التبادر ، وعلى تقدير الشكّ ينفي احتمال الالتفات إليه بالأصل ، مع أنّ صلاحيّة الكمال في الفرد لكونه موجبا للانصراف في المطلقات أوّل الكلام بل التحقيق خلافها ، لابتنائها على اعتبار عقلي واستحسان ذوقي لا عبرة بها في اللغات اتّفاقا ، وإنّما المعتبر فيها الأقربيّة العرفيّة المسبّبة في أفراد المطلقات عن غلبة الوجود أو غلبة الإطلاق ، وتحقيق هذه الغلبة في المقام وإن كان مسلّما ، للقطع بكون الصيغة أكثر إطلاقا على الوجوب كما لا يخفى على من تأمّل في موارد إطلاقها عرفا ، إلاّ أنّها لا تجدي المعترض نفعا في دعواه الانصراف ، لأنّها تجري في محلّ علم بكون اللفظ للماهيّة من الخارج ، فحصل انصراف تلك الماهيّة إلى بعض أفرادها بملاحظة تلك الغلبة ، والمقام ليس من هذا الباب ، لأنّ كون الصيغة لماهيّة الطلب من حيث هو أوّل المسألة ، فينهض تلك الغلبة حينئذ دليلا على كونها للوجوب ، لاندراجها تحت

ص: 69

لأنّا نقول : المفروض فيما ذكرناه انتفاء القرائن ، فليقدّر كذلك ، لو كانت في الواقع موجودة. فالوجدان يشهد ببقاء الذمّ حينئذ عرفا. وبضميمة أصالة عدم النقل يتمّ المطلوب *.

__________________

قاعدة قرّرناها في الجزء الأوّل من الكتاب _ في بحث الاستعمال من الأمارات _ وهي الحكم بكون اللفظ حقيقة فيما غلب استعماله فيه من أحد المعنيين فصاعدا ممّا علم باستعمال اللفظ فيهما مع العلم بقدر جامع بينهما استعمل فيه اللفظ أيضا أو لا.

فبجميع ما قرّرناه أيضا ينقدح الجواب عمّا عساه يورد من احتمال استناد التبادر إلى قرينة العلوّ في خصوص المثال ، بل عدّه بعضهم من الاعتراضات ، فإنّا ندّعي التبادر في الأعمّ ممّا صدر عن العالي ، ومعه لا وقع لهذا الاحتمال.

* والغرض من هذه المقدّمة دفع ما لعلّه يورد على الدليل من أنّ قصارى ما يلزم من هذا الدليل إنّما هو كون الصيغة في العرف حقيقة في الوجوب ، لما قرّر في محلّه من اشتراط كون التبادر في اصطلاح التخاطب في إثبات الوضع به ، مع أنّ الغرض الأصلي في محلّ الخلاف إثبات ما وضع له الصيغة بحسب اللغة ليفيد في أوامر الكتاب والسنّة.

ومحصّل ما يدفعه : أنّ ذلك يثبت بأصالة عدم النقل الّتي لا يزال الناظر في الأمارات المبنيّة على القواعد العربيّة لإثبات المطالب اللغويّة محتاجا إليها ، فإنّ الصيغة لو لم تكن في اللغة للوجوب أيضا للزم النقل ، للقطع بكونها عند أهل اللغة لمعنى ، والأصل عدمه.

وربّما اعترض عليه : بكونه معارضا بأصالة تأخّر الحادث ، لكون الوضع للوجوب أمر حادث والأصل تأخّره.

ويردّه : كون ذلك الأصل مقدّما على معارضه لكونه بالقياس إليه من باب المزيل ، ولاعتضاده بغلبة بقاء الألفاظ على معانيها الأصليّة الثابتة لها عن أهل اللغة إلى عرف زمن الشارع بل إلى عرفنا هذا أيضا كما لا يخفى ، وقيل أيضا لاعتضاده بالشهرة بل الإجماع ، بل بظهور عدم القائل بالفصل بين زماننا وزمان اللغة ، وبأنّ الحكم بتعدّد الوضع حكم بوجود حادث لم يكن والحكم بتقدّم الوضع حكم بسبق موجود ، ومن الظاهر أنّ الأخير أهون من الأوّل.

ثمّ إنّ المراد بالنقل الّذي نفاه بالأصل إنّما هو حدوث الوضع الجديد للصيغة بعد زمن أهل اللغة غير ما كانت عليه أوّلا ، من دون فرق في ذلك بين كونه من باب التعيين أو

ص: 70

التعيّن ، فلا يرد عليه ما عن بعضهم من أنّ هذه الضميمة لا تدلّ على المراد ، لجواز أن تكون الصيغة في اللغة للطلب أو الندب مثلا ثمّ استعملها الواضع في الوجوب مجازا ، فاشتهر عند العرف حتّى صارت حقيقة فيه ، فأصالة عدم النقل باقية بحالها من غير استلزام الوضع للوجوب ، فإنّ ذلك إنّما يتّجه لو اريد بالنقل خصوص ما كان من باب التعيين ، وصدر من الواضع ، وهو بمحلّ من المنع ، بل المراد أعمّ منه وممّا كان من باب التعيّن أو التعيين من غير الواضع من العرف بعد زمانه ، فلا وقع حينئذ للاحتمال المذكور قطعا.

فبالجملة لا إشكال في تماميّة الدليل وكون مرجعه إلى دعوى التبادر ، فإنّ المتبادر من الصيغة من أيّ قائل صدرت إنّما هو الطلب الحتمي الّذي يلزمه ترتّب استحقاق الذمّ والعقاب على ترك المطلوب بها لو صدرت ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا أو عرفا ، فلذا نرى في أنفسنا حين العزم على مخالفة من طلب منّا شيئا بالصيغة فيمن يساوينا أو دوننا في الرتبة التعويل على عدم كون القائل ممّن يجب طاعته علينا ، والركون إلى عدم صيرورة مطلوبه واجبا علينا عقلا أو شرعا أو عرفا بمجرّد إيجابه دون عدم كون الصيغة ممّا لا يفيد الوجوب.

وأيضا لا نزال عند العزم على مخالفة من هو أعلى منّا في أمره بالصيغة نفتّش في تحصيل عذر يكون مقبولا عنده نعتذر به لو أخذنا على المخالفة.

وأنت لو تأمّلت في الأوامر العرفيّة وطريقة كلّ أهل لسان في لسانهم لوجدت من القرائن الكاشفة عن فهم الوجوب عن الصيغ المجرّدة والشواهد القاضية بتبادره عنها عند الإطلاق أكثر ممّا يعدّ ويحصى ، فمع ذلك التبادر المقطوع بعدم مدخليّة ما عدا اللفظ في حصوله لعموم مورده كيف يسوغ التشكيك في كونها للوجوب خاصّة ، مضافا إلى أنّ استعمالها في الوجوب أغلب وأكثر بمراتب شتّى من استعمالها في الندب أو غيره بحيث لم نجده في جنب الأوّل إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، كما نشاهده في الصيغ الصادرة منّا بالنسبة إلى عبيدنا وخدّامنا وأزواجنا وكلّ من يساوينا ، بل نشاهده في الصيغ الصادرة ممّن هو دوننا بالنسبة إلينا من أزواجنا أو أبنائنا أو عبيدنا وخدّامنا ، فيندرج تحت قاعدة أشرنا إليها وأسّسناها في أوائل الكتاب.

وأيضا لم نجد استعمالها في خصوص الندب إلاّ ومعها قرينة من الحال أو المقال دلّتنا على فهمه بحيث لولاها لما انتقلنا إلى إرادته ، بل نجد أنفسنا ملتزمين بنصب قرينة عند إرادة الندب من تحريك يد أو إشارة أو تصريح بما يكشف عن رضانا بالترك مع أولويّة

ص: 71

الثاني : قوله تعالى مخاطبا لإبليس ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (1). *

__________________

الفعل ، ونحو ذلك ممّا يدلّ مخاطبينا عليه لئلاّ يتضيّق عليهم الأمر في تحصيل المطلوب لو كان فيه نوع عسر أو تعب أو صعوبة عليهم ، ولا يخفى أنّ ذلك أيضا من لوازم المجاز.

* وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه في ذيل بحث صحّة السلب وعدمها من الأمارات تعرف وجه الاستدلال بتلك الآية وما عداها من الآيات والروايات ، فإنّ مآل ذلك أيضا إلى الاستدلال بالتبادر كالوجه الأوّل ، إلاّ أنّه تبادر في مخاطبات عرفنا والإطلاقات المتداولة في عرف زماننا يجده العقل ، وذلك تبادر في العرف القديم يكشف عنه النقل ، ولعلّه _ لو سلم ناقله عن المناقشات _ أقوى وأفيد من الأوّل ، لعدم افتقاره في تتميم الاستدلال به إلى ضمّ بعض المقدّمات كما لا يخفى.

ومن المعلوم بإجماع العلماء الأعلام وبناء قاطبة أهل اللسان أنّ التبادر كما أنّه يوجب المطلوب مع العلم بعدم مدخليّة أمر خارج من اللفظ في حصوله ، فكذلك يوجبه مع عدم العلم بمدخليّة الأمر الخارج فيه.

غاية الأمر مسيس الحاجة إلى ضمّ أصل ينفي احتمال وجوده أو احتمال الالتفات إليه ، فإنّ كلّ ذلك أمر حادث ينفى بالأصل عند الشكّ في حدوثه ، ولا ريب في اعتباره أيضا بعد ضمّ ذلك إليه مع تحقّق سائر شرائطه المقرّرة في محلّه ، فلا وقع حينئذ لما عن بعضهم من المناقشة في الآية بأنّها من الخطاب الشفاهي لكون المخاطب بها أوّلا هو الملائكة وثانيا هو النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، والخطابات الشفاهيّة حكمها مجملة بالنسبة إلى الغائبين ، لاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائها علينا كما تتّفق كثيرا في موارد يكشف عنها الإجماع على إرادة خلاف ظاهر الخطاب ، فإنّ الخطابات الشفاهيّة بناء على عدم تناولها لغير الحاضرين تصير مبيّنة بضميمة الاصول الاجتهاديّة.

ولو سلّم ، فلسنا نستفيد حكما من الآية حتّى يرد علينا قضيّة الإجمال ، بل الغرض الأصلي من النظر فيها إحراز تبادر تكشف عن تحقّقه في العرف القديم بعنوان الجزم واليقين بالتقريب الّذي يأتي بيانه.

غاية الأمر بقاء تشكيك في استناده حين التخاطب إلى ما هو خارج عن اللفظ من

ص: 72


1- الأعراف : ١٢.

والمراد بالأمر : ( اسْجُدُوا ) في قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (1) ؛ *

__________________

القرائن المحتملة وجودها ثمّة ، فأيّ فرق حينئذ بينه وبين التبادر الّذي يحصّله الفقيه وجدانا عن ملاحظة المتفاهمات وموارد الإطلاقات أوجب جواز تتميم ذلك بضميمة الاصول دونه.

ودعوى جريانها في القرائن اللفظيّة دون الحاليّة للقطع بوجود حالة حين الخطاب.

يدفعها : مع أنّه خرم لقانون التمسّك بأكثر التبادرات ، عدم كفاية مجرّد وجود القرينة في الانصراف عن قضيّة الوضع ، لوجوب الالتفات إليها بعد وجودها ، والمفروض أنّه في المقام _ على تقدير تسليم وجودها _ محلّ شكّ فينفى بالأصل.

والمناقشة في ذلك أيضا : بكون الشكّ في الحادث ، للقطع أو الظنّ بالتفات مّا زائدا على الالتفات إلى الوضع حين الخطاب ، وإنّما الشكّ في الملتفت إليه ، متّضح المنع ، بأنّ المعتبر منه إنّما هو الالتفات إليها في فهم المعنى ، والّذي نقطع بحدوثه في المقام إنّما هو الالتفات إلى اللفظ ووضعه ، وأمّا الالتفات إلى حالة منضمّة إليه لأجل الفهم فليس بمقطوع ولا مظنون ، فالأصل جار.

إلاّ أن يقال : بأنّ القطع بالالتفات إلى حالة مّا حاصل ، وإنّما الشكّ في كونها من باب الضميمة إلى اللفظ لتكون قرينة ، وعدمه لتكون أجنبيّة ، فلا يجري الأصل.

ففيه : أنّ الشكّ حينئذ يقع في تأثيرها في فهم المعنى ، لأنّها قبل حدوث حالة الخطاب كانت منعدمة فكان تأثيرها أيضا منعدما ، فإذا حصل الخطاب وحدثت الحالة حينه والالتفات إليها فانقطع الأصل بالنسبة إلى هذه المذكورات بالقطع.

وأمّا بالنسبة إلى تأثير الحالة المذكورة فباق بحاله ، مع أنّ طريقة العرف في تلك المقامات على عدم الاعتناء بتلك الاحتمالات.

ألا ترى أنّهم ينقلون التواريخ والقصص من الكتب والطوامير القديمة اعتمادا على ظواهرها ، فإنّ ذلك كاشف عن عدم اعتنائهم بوجود القرائن الحاليّة ولا الالتفات إليها.

* دفع لما قيل : من أنّ أقصى ما تقضي به الآية إنّما هو كون لفظ « الأمر » للوجوب وهو ليس من محلّ الكلام في شيء ، حيث إنّه لا ملازمة بينه وبين الصيغة فتكون باقية

ص: 73


1- الأعراف : ١١.

على ما كانت عليها من جهالة حكمها.

وتوجيهه : أنّ المراد بالأمر هاهنا صيغة « اسجدوا » بدليل تقدّمها عليه ، مع فقد ما يكشف عن صدور طلب آخر منه تعالى سواها.

وأورد عليه : بأنّ إطلاق « الأمر » عليها مبنيّ على إرادة الوجوب عنها ، وهو أعمّ من أن يكون من جهة دلالتها عليه بالوضع أو بواسطة القرينة.

ويدفعه أوّلا : ظهور سياق الآية في عدم اقترانها بالقرينة ، فإنّه لو كانت دلالتها على الوجوب بواسطة القرينة لما اطلق عليها « الأمر » مجرّدا عنها.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتّجه على مذهب من يجعل « الأمر » من مقولة الألفاظ عبارة عن الصيغة ، وأمّا على ما اخترته من كونه من قبيل المعاني عبارة عن الطلب بأىّ آلة تحقّق فلا ، لكون المراد به حينئذ الطلب الحتمي الصادر من العالي وهو أعمّ من كونه مستفادا عن الصيغة بالوضع أو عنها مع ضميمة القرينة.

قلت : إطلاق « الأمر » في الآية على هذا المعنى إنّما هو من جهة استفادته عن صيغة « اسجدوا » فلو كان لغيرها أيضا مدخليّة في إفادته لذكر معها ، لكون آلة حصوله على هذا التقدير هو المجموع من حيث هو ، ولا يخفى أنّه ممّا ينافيه إطلاق الآية ، ولا يستقيم ذلك إلاّ مع الالتزام بكون الصيغة بنفسها آلة لحصوله وهو المطلوب.

وثانيا : أنّ في أصالة عدم القرينة أو الالتفات إليها على تقدير وجودها منضمّة إلى الصيغة كفاية في اندفاع ذلك الاحتمال ، والقول بأنّها معارضة بأصالة عدم دلالة الصيغة على الوجوب ممّا لا يرتاب في فساده ، فإنّ دلالتها عليه أمر متيقّن وإنّما الشبهة في أنّها هل دلّت عليه بالوضع أو بالقرينة فكيف يقال بتعيّن الثاني بأصالة عدم الأوّل ، مع أنّه معارض بالمثل.

والمناقشة فيها أيضا : بأنّ مجرّد الأصل لا حجّيّة فيه لدوران الأمر فيه مدار الظنّ ، مسلّمة إلاّ أنّها في محلّ البحث ليست في محلّها ، لكونه بملاحظة سياق الآية مع قرائن اخر مفيدا للظنّ فيكون حجّة.

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين (1) في دفع الإيراد : من أنّ المراد بلفظ « الأمر » هناك هو الصيغة ، والذمّ على مخالفتها يدلّ على استعمالها في الوجوب ، والأصل في الاستعمال

ص: 74


1- وهو المدقّق الشيرواني رحمه اللّه في حاشيته المتعلّقة بالمقام - المعالم : 40.

فإنّ هذا الاستفهام ليس على حقيقته * ، لعلمه سبحانه بالمانع ، وإنّما هو في معرض الإنكار والاعتراض ، ولو لا أنّ صيغة « اسجدوا » للوجوب لما كان متوجّهاً.

__________________

الحقيقة ، فعار عن التحقيق.

أمّا أوّلا : فلأنّ جواز استعمالها في الوجوب ولو مجازا لم يكن من محلّ الكلام عندهم حتّى يتمسّك لإثباته بتلك الآية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الاستعمال الثابت بالوجدان لا يعدّ من أمارات الحقيقة إلاّ على قول شاذّ ، لكونه أعمّ منها ومن المجاز باعتبار كونه جنسا لهما أو فصلا هو بمنزلة الجنس ، فكيف الاستعمال الثابت بالظاهر ولا سيّما في محلّ البحث الّذي قد استعمل في معاني عديدة كثيرة حسبما أشرنا إليها على طريق الإجمال.

* بيان لوجه الاستدلال ومحصّله : أنّ لفظة « ما » ليست على حقيقتها ، لامتناع الاستفهام الحقيقي على اللّه سبحانه من حيث علمه تعالى بعلّة ترك السجود ، فتكون مرادا بها الإنكار ، والمراد بالمنع الدعاء والبعث ، ووجه إطلاقه عليهما لكون المانع عن السجود _ كما في قوله تعالى : ( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(1) في آية اخرى _ داعيا وباعثا على تركه وعلّة له ، فيكون المراد إنكار ما يصلح داعيا إلى الترك وباعثا عليه عقلا أو شرعا لا مطلقا ، لاستحالة الترك بدونه كاستحالة الفعل بدونه.

ومن المقرّر في محلّه أنّ الإنكار في الماضي يفيد الذمّ والتوبيخ ، كما أنّه في المستقبل يفيد الترغيب والتحريص ، ولا معنى للذمّ والتوبيخ على ترك السجود إلاّ إذا كان واجبا ، وهو فرع كونه ممّا أفاده الصيغة المجرّدة عن القرائن ، كما أنّ الاستحقاق بهما فرع لفهمه عنها وهو المطلوب.

ويمكن تقرير ذلك : بأنّ الصيغة حين صدورها إن كانت ممّا فهم منها الوجوب فهو المطلوب ، وإلاّ فيلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه على تقدير كونها حقيقة في غير الوجوب فقط ، أو تأخير البيان عن وقت الحاجة على تقدير اشتراكها بين الوجوب وغيره.

واعترض عليه بوجوه :

ص: 75


1- الأعراف : 12.

منها : منع كون الاستفهام إنكاريّا ويقرّر ذلك بوجهين :

أحدهما : أنّ الاستفهام الحقيقي أعمّ من كونه للنفس أو للغير الّذي يعبّر عنه ب- « التقريري » بدليل عدم صحّة السلب عن المستفهم لأجل غيره ، والّذي يمتنع عليه تعالى إنّما هو الأوّل دون الثاني ، فلم لا يجوز أن يكون المراد به طلب الإقرار عن ابليس بالعلّة الداعية له إلى ترك السجود ، وذلك لا ينافي استحباب السجود ولا طرد إبليس ولعنه ، لجواز كون تلك العلّة بمكان من القبح بذاتها أوجبت هذه العقوبات وغيرها.

وثانيهما : أنّ المتعيّن عند تعذّر الحقيقة إنّما هو الاستفهام التقريري لكونه أقرب إليها من الإنكاري باعتبار مشاركته لها في الجنس وهو طلب الفهم.

غاية الأمر أنّه في المجاز لأجل الغير وفي الحقيقة لأجل النفس ، وهو فرق بينهما في الفصل فقط ، بخلاف الإنكار فإنّه يفارقها جنسا وفصلا كما لا يخفى ، فيكون المراد حينئذ إبراز العلّة الّتي بعثته على ترك السجود وإقراره بها وهو الاستكبار الّذي اعترف به بعد ذلك في قوله : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (1) وهذا أمر يتمّ إذا كان الأمر للندب أيضا ، فلا دلالة للاستفهام على ذمّه ولا توبيخه ، ولا في طرده وإبغاضه بعد إقراره بكون العلّة فيه ما ذكر.

ويمكن الجواب عن الأوّل ، أوّلا : بمنع شمول حقيقة الاستفهام للطلب لأجل الغير ، لكون الظاهر المتبادر منه كونه لأجل النفس ، والأصل فيه كونه وضعيّا ، ودعوى عدم صحّة السلب ، يدفعها : الجزم بصحّة أن يقال - لمن استفهم للتقرير - : إنّه ما استفهم بل طلب الإقرار والاعتراف بما هو معهود في البين.

وثانيا : منع هذه الدعوى - لو سلّمت في المادّة - في أدوات الإستفهام ، لما حقّقناه في محلّه من عدم جواز التعدّي عن إحداهما إلى الأخرى في إعمال الأمارة المختصّة بإحداهما ، ولا الحكم بمدلولها في الاخرى إلاّ بدليل آخر وليس بموجود هنا ، والملازمة بينهما أيضا غير ثابتة بل الثابت خلافه ، فإنّ المتبادر من الأدوات ليس إلاّ طلب الفهم للنفس.

وثالثا : عدم كون هذه الدعوى - بعد الغضّ عمّا ذكر - مجدية في منع وجوب السجود بدلالة الصيغة ، فإنّ كونه مندوبا ينافيه إطلاق لفظ « الأمر » لظهوره في الإيجاب بواسطة الوضع حسبما عرفت في محلّه ، فلا يراد به ما ليس بإيجاب إلاّ مع القرينة وهي مفروض الانتفاء.

ص: 76


1- ص : 75.

وبالجملة : كون الاستفهام تقريريّا يجامع كلاّ من احتمالي الندب والوجوب ، إلاّ أنّ قضيّة ظهور لفظ « الأمر » في الوجوب يعيّنه مراد من الصيغة ، والمفروض انتفاء القرينة عنهما معا ولو بحكم الأصل.

وعن الثاني : بأنّ العبرة في أمثال المقام إنّما هو بالقرب العرفي الّذي هو في جانب الإنكاري ، من حيث صيرورته من المجازات الشايعة كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات الواردة في العرف.

ولو سلّم فالمراد بالندب الّذي لا ينافيه التقرير إن كان مجرّد الاحتمال بزعم أنّه ممّا يوجب سقوط الاستدلال ، فيردّه : أنّه احتمال بملاحظة فساد لازمه - على ما تعرفه - مرجوح بالقياس إلى ما يقابله ، فلا يصلح للمعارضة حتّى يترتّب ما ذكر.

وإن كان تعيّنه ، فيردّه : مع أنّه مخالف للإجماع لزومه مجازين لا يصار إلى أحدهما بغير دليل كيف ومع كليهما ، مجاز في الاستفهام ومجاز في لفظ « الأمر » فلابدّ في الخروج عن الأصل - عملا بالدليل القاضي بتعذّر الحقيقة بالقياس إلى الاستفهام - من الاقتصار على مجاز واحد ، فلا وجه لحمل « الأمر » على الندب من دون شاهد وهو مناف لعدم كون الصيغة هنا للوجوب.

ولقد عرفت تجرّدها عن القرينة ولو بحكم الأصل ، فلا حاجة حينئذ في دفع الإشكال إلى أن يقال : بأنّ الاستكبار من إبليس لم يكن على اللّه سبحانه ليكون محرّما ، بل كان على آدم فيرجع بالنسبة إلى اللّه تعالى إلى محض المخالفة التبعيّة الغير المقصودة بالذات المتولّدة من المخالفة الحاصلة من الحميّة والعصبيّة ، وهذه شيء ربّما يعدّ من تبعها في عداد المقصّرين.

حتّى يرد عليه تارة : أنّ الترك الصادر من ابليس قد كان على جهة الإنكار ، وكان استكباره على آدم باعثا على إنكاره رجحان السجود ، ولا شكّ إذن في تحريمه بل بعثه على الكفر ، فهناك امور ثلاثة إباؤه للسجود ، واستكباره على آدم ، وإنكاره لرجحان السجود الراجح المأمور به من اللّه تعالى ، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول ، ولا ريب في بعثه على الكفر ، كما لو أنكر أحد أحد المندوبات الثابتة بضرورة الدين وكان في قوله تعالى ( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (1) إشارة إلى الامور الثلاثة ، فليس عصيانه

ص: 77


1- البقرة : 34.

المفروض مجرّد ترك الواجب ، بل معصية باعثة على الكفر ، سيّما بالنظر إلى ما كان له من القرب والفطانة وغاية العلم والمعرفة.

واخرى : بأنّ ذلك مبتن على أنّ الاستكبار وإظهاره ولا سيّما على مثل آدم عليه السلام وترك طاعته تعالى في استحقاره لا يوجب الطرد واللعنة ، سيّما بالنسبة إلى الذين يرون أنفسهم بمكان من عبوديّته والانقياد إليه ، وهذا كلّه في محلّ المنع ، وممّا يدلّ على حرمة استكباره قوله تعالى : ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) (1) وقوله تعالى : ( فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ) (2).

ومحصّل التحقيق في المقام : أنّا لا نضائق كون الاستفهام تقريريّا مطلوبا به الإقرار والاعتراف بعلّة ترك السجود وهو الاستكبار ، لا لما قيل من أنّه أقرب إلى الحقيقة ، بل لوقوع التصريح به في آية اخرى حيث يقول عزّ من قائل : ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) (3) ولكنّه لا يقضي بسقوط الاستدلال على وجوب السجود المدلول عليه بالصيغة للمخاطبين بها ، لعدم انحصار طريق الاستكشاف عنه في استفادة الذمّ والتوبيخ عن الاستفهام حتّى ينافيها حمله على التقرير ، بل إنّما نستفيدهما عن سياق الآية ، فإنّها كنظائرها من الآيات المتكرّرة في حكاية تلك واردة في سياق الذمّ والتوبيخ كما لا يخفى على من تأمّل فيها بعين الإنصاف.

ومن البيّن أنّهما فرع الوجوب ، مضافا إلى أنّ احتمال الندب منفيّ بالمحذور الّذي أشرنا إليه ، بحيث لولاهما لكفانا في إثبات المطلوب.

ولا ينافي ترتّبهما عليه قبح استكباره على آدم وإنكاره لرجحان المأمور به الموجبان لكفره وطرده ولعنه ، لجواز ترتّبهما عليه وترتّب الامور المذكورة عليهما ، فإنّ العصيان إذا تعدّد تعدّدت المؤاخذة والعقوبة بالضرورة ، والمفروض بملاحظة سياق الآيات الواردة في تلك الواقعة في مواضع عديدة متكثّرة وفقراتها المصرّح بها فيها صدرا وذيلا أنّ هناك بالنسبة إليهم تكاليف بعضها إيجابي كالسجود لآدم ، وبعضها تحريمي كالاستكبار له وإنكار رجحان السجود المكلّف به ، بل ورجحان أصل التكليف كما يقتضيه دعواه كونه خيرا من آدم ، وإنّه خلق من النار وآدم من الطين أو صلصال وحمأ مسنون ، المشعرة بقبح مثل هذا التكليف وخروجه عن موافقة الحكمة والعدالة ، فأيّ مانع من أن يترتّب الذمّ المستفاد عن السياق على مخالفة التكليف الإيجابي نظرا إلى عدم بلوغ قبحها حدّا أوجب ما زاد على

ص: 78


1- ص : 75.
2- الأعراف : 13.
3- ص : 75.

ذلك ، ويترتّب الامور المذكورة الزائدة عليه على مخالفة التكليف التحريمي التفاتا إلى بلوغها في شدّة القبح حدّا أوجبها ، بل الظاهر بملاحظة قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (1) ترتّب الأوّل على الأوّل ، حيث لم يذكر فيها شيء من الاستكبار والإنكار ، وإنّما علّق الذمّ على مجرّد فسقه عن أمر ربّه الّذي هو عبارة عن الخروج عن الطاعة ، كما أنّ الظاهر بملاحظة الآيات الاخر ترتّب الثاني وهو الطرد والرجم واللعن على الثاني وهو الاستكبار والإنكار الموجبان للكفر ، نظرا إلى لفظة « الفاء » الظاهرة في ترتّب ما بعدها على ما قبلها على ما يساعده الفهم والعرف ، كما في قوله تعالى بعد قول إبليس ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) ( قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (3) وقوله في آية اخرى بعد قول إبليس ( لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (4) ( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) (5) وقوله في آية ثالثة بعد قول إبليس ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (6) ( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) (7).

وممّا يشهد بترتّب الكفر على الاستكبار دون ترك السجود من حيث هو قوله تعالى في آية رابعة ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (8) ، (9) فلا منافاة بين كونه موجبا للطرد والرجم واللعن وكون ترك السجود موجبا لمجرّد الذمّ والتوبيخ ، لما أشرنا إليه من تفاوت مراتب القبح الثابت في المخالفة مع تعدّد التكاليف الموجب مخالفة كلّ شيء بحسب مرتبتها.

فمع ما ذكرنا من القرائن والشواهد لا ينبغي لأحد الارتياب في وجوب السجود الّذي دلّ عليه الصيغة مجرّدة عن القرائن المقتضية للدلالة ، بإبداء احتمال كونه مندوبا من دون قيام شاهد عليه من حال ولا مقال ، فإنّ هذا من الاحتمالات السوداويّة الّتي لو دارت عليها الخطابات الشرعيّة لانخرمت أساس الشريعة بالمرّة ، وانهدمت عماد الدين والطريقة ، بل

ص: 79


1- الكهف : 50. 1. الأعراف : 12.
2- الأعراف : 12.
3- الأعراف : 13.
4- الحجر : 33.
5- الحجر : 34 - 35.
6- ص : 75.
7- ص : 76 - 77.
8- البقرة : 34.
9- ومن الآيات الشاهدة ببعض ما ذكر قوله تعالى في سورة بني اسرائيل ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ ابليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ) ( منه ).

انسدّت أبواب الاستدلال بالكتاب والسنّة.

ومنها : أنّ غاية ما يستفاد من الآية هو كون صيغة الأمر في عرف الملائكة دالّة على الوجوب قبل نزول آدم إلى الأرض ، وإفادة صيغة الأمر في لسانهم له لا تقضي بدلالتها عليه عندنا.

ويدفعه : أنّ الغرض الأصلي من الاستدلال بالآية إثبات كون صيغة الأمر المحكيّ عنها الصادرة للملائكة مفيدة للوجوب وهو حاصل بما ذكر في وجه الاستدلال ، سواء وافقتها الصيغة المحكيّة الواقعة في الآية بحسب الجنس أو لا.

فإن وافقتها فلا كلام ، غاية الأمر خروج الحاجة ماسّة إلى ضمّ شيء من الاصول إليها كأصالة عدم النقل ، أو أصالة عدم تعدّد الوضع مضافة إلى أصالة التشابه الّتي مدركها غلبة التطابق في أوضاع الألفاظ ومعانيها بالنسبة إلى الأزمنة والألسنة ، ولا بأس به بعد وضوح الحجّة على الاعتبار.

وإن خالفتها فكذلك إذ الظاهر من ملاحظة بناء العرف في موارد الحكاية توارد المحكيّ والمحكيّ عنه على وصف واحد وإن تخالفا بحسب الذات ، فكما كانت الصيغة المحكيّ عنها حقيقة في الوجوب فهكذا تكون الصيغة المحكيّة ، مع أنّ الظاهر من ملاحظة الغلبة والاستقراء توافق اللغات المتبائنة في معاني هيئاتها والأوضاع الراجعة إلى تلك الهيئات ، كما لا يخفى على من لاحظ الهيئات المتداولة في لغة الفرس واللغة التركيّة واللغة العربيّة وغيرها. وإن شكّ في الموافقة والعدم فحاله قد اتّضح ممّا مرّ ، إذ المشكوك فيه بحسب الواقع غير خال عن أحد القسمين.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام في دفع الإشكال من أنّ حكاية أحوال كلّ أهل اللسان لآخرين إنّما يصحّ من الحكيم إذا تكلّم بما يفيد المطلب من لسان الآخرين ويستعمل حقيقتهم في حقيقتهم ومجازهم في مجازهم ، فإن رجع إلى ما ذكرناه ففي غاية المتانة وإلاّ فللنظر فيه مجال (1).

ومنها : أنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية إنّما هو دلالة الصيغة الصادرة منه تعالى على الوجوب ، وهو ليس من إثبات الدلالة عليه بحسب اللغة كما هو المطلوب.

ص: 80


1- وجهه : أنّ ما يقتضيه حكمة الحكيم إنّما هو نقل المطلب بعبارة وافية بتمامه ، سواء وقع التعبير بلفظ حقيقي أو مجازي ، وسواء حصلت الموافقة بين المعبّر والمعبّر عنه أو لم يحصل. ( منه ).

ويدفعه : أصالة عدم اختصاصه تعالى بوضع آخر مغاير لما في اللغة والعرف ، ومرجعها إلى أصالة عدم طروّ الوضع الجديد للصيغة بتصرّف منه تعالى على تقدير كون الواضع بشرا ، أو بتصرّف البشر على تقدير كونه تعالى واضعا ، سواء كان ذلك من باب النقل أو الارتجال ، وأصالة عدم تعدّد الوضع الطارئ لها على تقدير اشتراكها بين معنيين اختصّ أحدهما به تعالى والآخر بالبشر.

ومنها : أنّ غاية ما يستفاد عن الآية دلالة الصيغة الصادرة من العالي على الوجوب ، وأمّا دلالة صيغة « افعل » عليه مطلقا كما هو المأخوذ في العنوان فلا.

ودفعه : بأنّ احتمال مدخليّة العلوّ في الدلالة إمّا من باب القرينة أو من باب الوضع ، فإن كان الأوّل فقد اتّضح جوابه عمّا قرّرناه في شرح قوله : « والمراد بالأمر اسجدوا » وإن كان الثاني فقد اتّضح ردّه عمّا ذكرناه في دفع الاعتراض السابق ، مضافا إلى أصالة التشابه المستفادة عن غلبة الاتّحاد بين الأقوام والطوائف.

ومنها : أنّ ما يستفاد من الآية دلالة « الأمر » على الوجوب من دون انضمام القرينة ، وأمّا كون تلك الدلالة بالوضع بخصوصه فغير معلوم ، إذ قد يكون ذلك للدلالة على الطلب وظهور الطلب في الوجوب ، كما نشاهد في لفظ « الطلب » الموضوع للأعمّ مطلقا ، فما يدلّ عليه الآية أعمّ من المدّعى.

والجواب : أنّ تسليم الدلالة على الوجوب من دون انضمام القرينة مع إبداء احتمال كون ذلك دلالة على الطلب الظاهر في الوجوب كما ترى متدافعان ، فإنّ المقدّمة الثانية لا تستقيم إلاّ مع فرض الانصراف إلى الفرد الكامل كما يزعمه المورد.

ومن البيّن أنّه لا يتأتّى من دون ملاحظة كمال الفرد فيدخل ذلك في عداد القرائن ، غاية الأمر كونه من باب القرينة المفهمة.

فمحصّل دفع ذلك أنّ مناط الاستدلال بالآية إنّما هو انتفاء القرائن الموجبة لفهم الوجوب مطلقا ، من غير فرق فيها بين كونها على جهة الصرف أو الإفهام ، فإن ثبت ذلك بدلالة قطعيّة وإلاّ فالأصل كاف في نفي الجميع جزما ، ومعه لا يبقى للدلالة وجه إلاّ وضع الصيغة.

ومنها : أنّ « الأمر » بالسجود المتوجّه إلى الملائكة وارد عقيب الحظر ، لحرمة السجود لغير اللّه تعالى بالاتّفاق وقبحه بالذات ، والأمر الواقع عقيب الحظر علما أو ظنّا أو احتمالا أو وهما لا يفيد إلاّ رفع الحظر ، كما أنّ النهي الواقع عقيب « الأمر » لا يفيد إلاّ رفع الوجوب ،

ص: 81

ولمّا كان رفع الحظر أعمّ من الوجوب والندب والإباحة وكان المقصود هنا الوجوب اتّفاقا فعلمنا باقتران اللفظ بقرينة أفادت الوجوب ، فتلك القرينة رافعة للقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي إن كانت الصيغة للوجوب ، كما في القرينة المنصوبة لرفع أثر الشهرة الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي في المجاز المشهور ، ورافعة لها مع تعيينها أحد المجازات الاخر لو كانت حقيقة في الندب ، ورافعة لها مع تعيينها أحد المعنيين الحقيقيّين إن كانت مشتركة لفظا بين الوجوب والندب ، ومفهمة إن كانت مشتركة معنويّة فمع جريان تلك الاحتمالات في القرينة المقطوع بها سقطت الدلالة.

واجيب عنه تارة : بمنع الإجماع على حرمة السجود لغير اللّه تعالى على الملائكة.

واخرى : بأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر إنّما يفيد رفعه إذا تعلّق بنفس المحظور والمقام ليس منه ، إذ المحظور إنّما هو السجود لغير اللّه تعالى والمأمور به إنّما هو السجود لله سبحانه ، وآدم إنّما هو جهة السجود كالكعبة لا أنّه المسجود له حقيقة.

لا يقال : عصيان إبليس كاشف عن كون المسجود له هو آدم لا غير ، لأنّ استكباره إنّما نشأ عن جعله جهة السجود دونه عليه اللعنة.

وثالثة : بمنع وقوع الأمر عقيب الحظر ، إذ المراد به ما إذا تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي كما لو قال اللّه تعالى : « اسجدوا لآدم » بعد قوله : « لا تسجدوا لآدم » وأمّا إذا فرض متعلّق النهي أعمّ مطلقا من متعلّق الأمر كما لو قال السيّد لعبده : « اخرج إلى المكتب » أو « أعط زيدا درهما » بعد نهيه عن مطلق الخروج وعن مطلق إعطاء الغير فلا يكون داخلا في هذا العنوان ، وما نحن فيه أيضا من هذا الباب ، إذ السجود لغير اللّه أعمّ منه لآدم.

وضعف الجميع واضح على المتأمّل ، فإنّ القبح الذاتي كاف في ثبوت التحريم ، دلّ عليه الشرع أو لا ، فعدم انعقاد الإجماع - على فرض تسليمه - غير قادح ، وظاهر الآية بقرينة ذكر « اللام » دون « إلى » كون المسجود له هو آدم دون غيره ، مضافا إلى ظهور قول إبليس : ( لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (1) في ذلك أيضا ، وتعلّق النهي بالأفراد في ضمن تعلّقه بالطبيعة أصالة كاف في كون الأمر المتعلّق ببعض تلك الأفراد واقعا عقيب الحظر.

والأولى في الجواب أن يقال : بمنع صلوح مجرّد وقوع الأمر عقيب الحظر صارفا عن

ص: 82


1- الحجر : 33.

الثالث : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1) ، *

__________________

المعنى الحقيقي ، ضرورة عدم كفاية مجرّد وجود القرينة في الانصراف بل لابدّ معه من الالتفات إليها من الطرفين ، وهو في محلّ الكلام بالنسبة إلى المخاطبين محلّ شكّ فالأصل عدمه ، فلذا ترى إبليس معترفا بعصيانه واستكباره لا معتذرا بعدم انفهام الوجوب عن الأمر المتوجّه إليه ، تعليلا بوقوعه عقيب الحظر.

لا يقال : لعلّه فهمه من القرينة الخارجة الواردة على تلك القرينة كما ذكر في تقرير الإيراد ، لعدم القطع ولا الظنّ بوجودها فالأصل عدمها أيضا.

* والظاهر « أن » المصدريّة وما بعدها متعلّقة بقوله : ( فَلْيَحْذَرِ ) بتقدير حرف الجرّ على حدّ المنصوب بنزع الخافض.

ومن البيّن أنّ الاستدلال بالآية الشريفة بالتقريب الآتي من باب الاستدلال باللازم على ملزومه ، فإنّ إصابة الفتنة والعذاب الأليم لمخالف الأمر من لوازم الوجوب ، فترتّبها على مخالفته متفرّع على كونه مفيدا للوجوب.

ومن هنا يتوجّه إشكال بأنّ أقصى ما يفيده الآية هو كون الأمر مفيدا للوجوب إذا كان من العالي بل الشارع ، لاختصاص ما ذكر من اللازم بأمره ، وأين ذلك من إثبات الحكم لغة وعرفا كما هو المطلوب في المقام.

ولكن يدفعه : أنّ الملزوم إذا لم يكن له جهة اختصاص يثبت عموم الحكم بالنسبة إليه بأصالة التشابه وغلبة الاتّحاد.

غاية الأمر ثبوت الحكم بالآية في الجملة ، فتكون كالتبادر الّذي يجده الفقيه في طائفة مع الشكّ في وجوده في طائفة اخرى.

نعم يبقى الإشكال بأنّ الآية إنّما تدلّ على كون مفاد لفظ « الأمر » هو الوجوب دون الصيغة ، والمفروض أنّه لا ملازمة بينهما ، فلم لا يجوز أن يكون مستفادا (2) من الصيغة بمعونة القرينة الصارفة أو المعيّنة أو المفهمة على تقدير كونها لغير الوجوب أوله ولغيره ، أو للطلب المطلق ، فيبقى حكمها غير معلوم عن الآية.

ص: 83


1- النور : 63.
2- في الأصل : « استفادة » والصواب ما أثبتناه في المتن.

حيث هدّد سبحانه مخالف الأمر ، والتهديد دليل الوجوب *.

__________________

وما يقال في دفعه : من صدق « الأمر » لغة وعرفا على الصيغة الصادرة من العالي خالية عن القرائن الدالّة على إرادة الوجوب وعدمها ، فليس بشيء لابتنائه على توهّم كون « الأمر » من مقولة الألفاظ ، وقد تقدّم منّا مرارا ما يقضي بفساد ذلك وإباء كلّ من العرف واللغة عنه.

نعم ، يمكن أن يقال في دفعه : بأنّ المتبادر من الصيغة الصادرة من العالي إنّما هو الأمر فيرجع الكلام حينئذ إلى كون ذلك من حاقّ اللفظ أو القرائن الخارجة عنه ، فيجري فيه ما قرّرناه مرارا ممّا يقضي بارتفاع احتمال مدخليّة القرائن في نظائر المقام.

وأمّا ما يقال عليه : بأنّه لو سلّم دلالتها على حال الصيغة فإنّما تفيد وضع الصيغة الصادرة من العالي أو المستعلي أو هما معا دون صيغة « افعل » على الإطلاق كما هو المقصود بالعنوان.

فيدفعه : ما تقدّم من الأصل ، مضافا إلى أصالة عدم تعدّد الوضع بالمعنى العامّ لاحتمال النقل والاشتراك والارتجال.

* استفادة التهديد من الآية من جهة أنّ التحذير الّذي هو مفاد قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ ) مرادف للتهديد أو قريب منه وهو ملازم للوجوب ، ضرورة أنّ الندب مأذون في ترك متعلّقه فلا يعقل التهديد على مخالفته ، وربّما يتخيّل في بادئ النظر منافاة بين كلامه هذا وحمله الآية _ فيما سيأتي _ على إيجاب الحذر ، نظرا إلى أنّ التهديد والايجاب واقعان في طرفي النقيض ، فكيف يعقل جمعهما في إرادة واحدة.

ولكنّها بعد التأمّل ترتفع بأنّها إنّما تتوجّه إذا فرض متعلّق الأمرين شيئا واحدا والمقام ليس منه ، وضوح أنّ متعلّق التهديد إنّما هو مخالفة الأمر لما يلزمها من استحقاق اصابة الفتنة أو عذاب أليم ، ومتعلّق الإيجاب إنّما هو الحذر عن تلك المخالفة لكونه ملزوما للحذر عن إصابة أحدهما ، فيصحّ اجتماعهما معا بهذين الاعتبارين ، وكأنّ دلالة اللفظ على الأوّل من باب الالتزام بعد دلالته على الثاني من باب المطابقة.

نعم ، يتوجّه إليه أنّ الالتزام بكون قوله : ( فَلْيَحْذَرِ ) إيجابا ممّا لا حاجة إليه بل لا وجه له أصلا ، ضرورة أنّه مسوق سياق قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(1) و ( لا تعصوا

ص: 84


1- النساء : ٥٩.

اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) ونحو ذلك ، فلا يستفاد منه طلب فضلا عن الوجوب ، بل المراد به بيان ما هو مصلحة المأمورين في الواقع من التحرّز عن مخالفة الأمر المتوجّه إليهم ، لما في المخالفة من المفاسد المترتّبة عليها من استحقاق إصابة الفتنة أو عذاب أليم ، فيكون إرشاديّا نظير قولك لصاحبك : « اتّق الأسد » و « احذر الغضنفر » ونحو ذلك ، ولا ينافيه كونه للتهديد أيضا لما فيه من تعدّد الاعتبارين ، فإنّه بالقياس إلى ترك مخالفة الأمر إرشاد لكونه محصّلا للمصلحة ، وبالنظر إلى المخالفة تهديد أو إنذار لكونها موجبة لترتّب أحد الأمرين ، وعلى هذا القياس أوامر الطبيب وأمثاله فإنّها إرشاد وتهديد باعتباري الفعل والترك.

غاية الأمر أنّهما ينفردان في كون أحدهما مدلولا مطابقيّا مقصودا بالأصالة والآخر مدلولا التزاميّا مقصودا بالتبع ، كما لا يقدح ذلك في تتميم الاستدلال بالآية ، بل ولو قطع النظر عن جهة التهديد لكانت إرادة الإرشاد كافية في نهوضها على تمام المدّعى ، ضرورة أنّ اللازم الواقعي الّذي أخبر به الصادق لا ينفكّ عن ملزومه.

وبما قرّرناه يندفع المناقشة في دلالة الآية على حكم الأمر بحسب اللغة كما هو المدّعى ، بأنّ التحذير من الشيء إنّما يكون قبل وقوع ما حذّر عنه ، فلو كان الأمر للوجوب لغة لاستحقّ مخالفه العذاب لا محالة ، فالتحذير عنه حينئذ ممّا لا وجه له ، فالآية إنّما تصلح للدلالة على أنّ الأمر الوارد بعدها للوجوب وهو خلاف المدّعى المطلوب إثباته ، فإنّ المصلحة الواقعيّة إذا كانت في الحذر عن مخالفة الأمر وإنّ المخالفة ممّا يترتّب عليه مفسدة استحقاق إصابة الفتنة أو العذاب الأليم فلا يتفاوت الحال حينئذ بين أجزاء الزمان ، لتساوي نسبة الجميع إليهما كما في سائر الامور الواقعيّة ، والمفروض أنّ قوله : ( فَلْيَحْذَرِ ) ليس المراد به التكليف بالحذر حتّى يقال بامتناعه بالنسبة إلى مضيّ الأزمنة ممّا قبل نزول الآية ، لحصول الاستحقاق حينئذ بتحقّق موجبه لو كان الأمر للوجوب لغة ، فلم لا يجوز أن تنهض الآية كاشفة عمّا حصل من الاستحقاق في السابق ومفيدة للحذر عمّا من شأنه أن يحصل في اللاحق على تقدير وقوع موجبه ، وهذا من لوازم كون « الأمر » للوجوب لغة وهو المدّعى.

فلا حاجة حينئذ إلى أن يقال في دفعه : بأنّ التحذير كما يكون للتحرّز عن الوقوع في العذاب بفعل المأمور به فقد يكون بالتوبة على تقدير تركه ، فيجوز أن يراد بالتحذير ما يشمل التارك المستحقّ وغيره.

ص: 85


1- كذا في الأصل.

فإن قيل : الآية إنّما دلّت على أنّ مخالف الأمر مأمور بالحذر * ، ولا دلالة في ذلك على وجوبه إلاّ بتقدير كون الأمر للوجوب ، وهو عين المتنازع فيه.

حتّى يرد عليه : أنّ ذلك إنّما يستقيم لو ثبت أوّلا من الخارج أنّ المخالفة ممّا يترتّب عليها العقاب فحينئذ إذا ورد الأمر بالحذر عنها نحمله على ما ذكر ، وأمّا الحمل عليه بمجرّد الآية فغير ظاهر الوجه.

ولا إلى أن يتكلّف بأنّ الحذر من العذاب ممكن حال المخالفة وبعدها بإيقاع عدم المخالفة بدلا عن المخالفة في الزمان الّذي وقعت فيه المخالفة وإنّما الممتنع الحذر بشرط المخالفة لا في زمان المخالفة ، كما في تكليف الكافر بالإسلام وفروعه في حال الكفر.

حتّى نردّه : بأنّ مدرك هذا الكلام _ وهو عدم كون الامتناع بالاختيار منافيا للاختيار _ وارد عندنا على خلاف التحقيق فضلا عنه نفسه.

ولا إلى أن يتكلّف أيضا بما هو أهون ممّا تقدّم من جعل الأمر بالحذر للتعجيز نظير قوله تعالى : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )(1) أو التهكّم إشارة إلى أنّهم لا يقدرون على الحذر بعد المخالفة ، فيصير الاستدلال بها حينئذ أقوى ، أو أنّ المراد ب_ « الّذين يخالفون » هم الّذين يريدون المخالفة ولم تقع بعد منهم المخالفة ، ولا شكّ حينئذ يتصوّر منهم الحذر عن العذاب المترتّب على المخالفة ، بأن لا يفعلوا المخالفة فلا يحصل لهم العذاب ، حتّى يتوجّه إلى المنع كونه ممّا يأباه ظاهر الآية سياقا ومتنا. (2)

* ومحصّل الإيراد : أنّ الاستدلال بالآية دوريّ ، لتوقّف كون قوله : « فليحذر » مفيدا لوجوب الحذر على كون مطلق الصيغة للوجوب.

وقد يعترض عليه : بأنّ مناط الاستدلال أنّ الآية تدلّ على التهديد على مخالفة الأمر ، والتهديد لا يكون إلاّ على مخالفة الواجب ، وما ذكره المعترض بظاهره ليس داخلا في شيء من المقدّمتين ، فكأنّه استنبط دلالة الآية على التهديد من لفظ « الأمر » وظنّ أنّ دلالته عليه تتوقّف على كون هذا الأمر للوجوب ، فمنع ذلك يرجع إلى منع دلالة الآية على

ص: 86


1- البقرة : ٢٣.
2- ولا يخفى أنّ الأجوبة المشار إليها مذكورة في كلام سلطان العلماء ، كما أنّ أصل المناقشة مذكورة في كلامه وكلام ابن المصنّف ، مع الأوّل من الأجوبة وردّه ( منه ).

قلنا : هذا الأمر للإيجاب والإلزام قطعا إذ لا معنى لندب الحذر وإباحته *.

__________________

التهديد ، ولا يخفى فساد ما ظنّ ، وأنت خبير بوقوع ذلك في غير محلّه.

فإنّ مفاد قوله : ( فَلْيَحْذَرِ ) ليس إلاّ التحذير ، وهو على ما تقدّم مرادف للتهديد أو قريب منه ، فدلالة الآية عليه ممّا لا سبيل لأحد إلى إنكاره ، وكلام المورد إنّما يرجع إلى منع الملازمة بينه وبين الوجوب وهو بظاهره كلام متين ، لشيوع وقوع التهديد شرعا وعرفا في مقام الاحتياط الّذي هو راجح على كلّ حال ، وإلى ذلك ينظر الأخبار الواردة في هذا الباب _ على ما هو التحقيق _ من عدم إفادتها أزيد من ذلك ، كما يأتي تفصيل البحث فيها في محلّه ، ونظيرها قولك _ لصاحبك الّذي يريد سير طريق مخوف _ : « احذر عن هذا الطريق مخافة أن يفاجئك لصّ أو أسد. »

* قد عرفت ما يقضي بوهن هذا الكلام إن اريد به إنكار سنخ الندب بالإضافة إلى الحذر ، فإنّ « الأمر » في وجوبه وندبه يدور على كون الباعث عليه من فوات مصلحة أو لزوم مفسدة أمرا محقّقا أو محتملا.

ولا ريب أنّه لا وجوب على الثاني إنّ جوّزنا تعلّقه بهذا ، وإلاّ ففيه المنع المتقدّم من عدم كونه كنظائره من الطلبيّات فضلا عن إيجابها.

لا يقال : مجرّد قيام الاحتمال كاف في وجوب الحذر ، لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا ، لأنّ هذا الوجوب _ على فرض تسليمه _ ليس ممّا هو مقصود بالعنوان فإنّ الكلام إنّما هو في الوجوب الواقعي ، وما يثبت بحكم العقل عند قيام احتمال الضرر وجوب ظاهري ولا ربط بين المقامين ، على أنّ « الأمر » في اللغة لو كان للوجوب فهو بإزاء الأوّل ، إذ الثاني ربّما يثبت على تقدير كونه فيها للندب أو الإباحة أو غيرهما أيضا ، مع أنّه لو عمّمنا في محلّ البحث بحيث يتناول كلاّ من الواقعي والظاهري أيضا لما كان لما ذكر مدخل في ذلك ، إذ الكلام في وجوب هو مفاد اللفظ لغة ولو في مرحلة الظاهر ، وما ثبت بحكم العقل ليس من حيث كونه مفاد اللفظ لغة بل هو حكم عقلي نشأ منه بملاحظة اللفظ تبعا كسائر الأحكام العقليّة التبعيّة ، ولا يخفى أنّه ليس باعتبار وضع اللغة في شيء حيث إنّ العقل لاقضاء له بذلك أصلا.

غاية الأمر _ على تقدير التسليم _ قضاؤه بكونه مرادا ، وأين ذلك ممّا هو مطلوب في

ص: 87

ومع التنزّل فلا أقلّ من دلالته على حسن الحذر حينئذ ولا ريب أنّه إنّما يحسن عند قيام المقتضي للعذاب * ؛ إذ لو لم يوجد المقتضي ، لكان الحذر عنه سفها وعبثا. وذلك محال على اللّه سبحانه. وإذا ثبت وجود المقتضي ، ثبت أنّ الأمر للوجوب ، لأنّ المقتضى للعذاب هو مخالفة الواجب ، لا المندوب.

__________________

المقام بل هو بمراحل منه ، ومع ذلك كلّه فما يصدر من العقل في أمثال المقام لا يزيد على الإرشاد المحض ، وليس ذلك أيضا من المطلوب في شيء ، ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فالاستناد بحكم العقل _ حسبما قرّر _ خروج عن الاستدلال بالآية كما لا يخفى.

* ولا يخفى أنّه كما يحسن الحذر عند قيام المقتضي للعذاب وهو مخالفة الواجب محقّقا فكذلك يحسن عند احتمال قيام ذلك المقتضي ، والّذي يجدي في دفع الإشكال إنّما هو الأوّل لكون الثاني مولّدا عن احتمال إرادة الوجوب من الأمر ، ولا ملازمة بينها وبين الوضع لغة ، لكونها ممّا يجامع جميع الاحتمالات الجارية في « الأمر » على حسب الأقوال المتقدّمة.

فمدفع الإشكال حينئذ _ على ما يقتضيه النظر _ إنّما هو بمنع توقّف دلالة الآية على كون صيغة الأمر للوجوب على كون « الأمر » الوارد فيها للوجوب ، بل لو كان للإرشاد أو الإنذار لكفى في الدلالة على المطلوب بالتقريب المتقدّم فلا دور حينئذ أصلا.

وبذلك يندفع أيضا ما قيل على الاحتجاج بالآية من منع كون مطلق التهديد على الترك دليلا على الوجوب ، وإنّما يصلح دليلا عليه إذا وقع التهديد بعذاب يترتّب على ترك المأمور به على سبيل التعيين دون الاحتمال وهو غير حاصل في المقام ، لدورانه بين الفتنة والعذاب ، ولا مانع من ترتّب الفتنة على ترك بعض المندوبات.

فغاية ما يفيده التهديد المذكور مرجوحيّة المخالفة من احتمال ترتّب الفتنة الحاصل بمخالفة الأمر الندبي ، أو العذاب الحاصل بمخالفة الأمر الوجوبي ، فلا ينافي القول باشتراك « الأمر » بين الوجوب والندب لفظيّا أو معنويّا ، بل وغيرهما أيضا لقيام احتمال الوجوب القاضي باحتمال ترتّب العذاب على الترك ، فيصحّ الكلام المذكور وإن لم يستعمل شيء من الأوامر في الوجوب.

ومحصّل الاندفاع : أنّ ظاهر الآية كون ترتّب أحد الأمرين على مخالفة الأمر إنّما هو على جهة الاستحقاق ، بمعنى كون المخالفة بحيث يستحقّ فاعلها أحدهما ، فيسقط

ص: 88

به احتمال كون الأمر ندبيّا ، لأنّ ترتّب الفتنة على ترك بعض المندوبات ليس من جهة استحقاق التارك إيّاها ، بل من جهة كونها ممّا أودعه اللّه سبحانه في متعلّق المندوب من باب الخاصيّة كسائر الخواصّ المودعة في ذوات الأشياء كما لا يخفى.

ألا ترى أنّ الإهلاك في السمّ خاصيّة يقتضيها ذاته بحسب الخلقة والتكوين ، فلذلك يترتّب على محلّه استحقّه المحلّ أو لا.

وبذلك يتّضح فساد ما قد يقال أيضا : من أنّ المقتضي للحذر إن كان وجوده مقطوعا أو مظنونا وجب الحذر مع حسن الأمر به ، وإن كان عدمه مقطوعا لا يجب الحذر مع قبح الأمر به أيضا ، أو مظنونا (1) أو وجوده وعدمه مشكوكا فيهما فلا شكّ في حسن الحذر مع حسن الأمر الندبي به ، كما ورد الأمر بالحذر في فعل بعض المكروهات وترك بعض المندوبات ، كالنهي عن الغسل بالماء المشمّس تعليلا بإيراثه للبرص الّذي هو الفتنة ، وكما ورد « إنّ من لم يفرق شعر رأسه فرق اللّه رأسه بمنشار من النار » (2) مع أنّه مندوب ، فيقوم حينئذ احتمال كون الأمر بالحذر هنا ندبيّا لا وجوبيّا ، فإن إيراث البرص من خواصّ الماء المشمّس كإهلاك السمّ لا ما يستحقّه تارك الحذر ، والفرق بين المقامين واضح ، والإيراد يتّجه على الثاني دون الأوّل ، وكذا الكلام في تفريق شعر الرأس.

وبذلك يندفع أيضا ما اورد عليه : من احتمال كون التهديد بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم على سبيل التقسيم ، بأن يراد به أنّ المخالفين لأوامره منهم من يصيبه الفتنة الظاهرة بقرينة مقابلتها العذاب في الآفات والمصائب الدنيويّة ، ومنهم من يصيبه العذاب الأليم ، فلا يفيد كون أوامره مطلقا للوجوب ، بل قضيّة ذلك جواز انقسام الأوامر إلى قسمين على حسب الغاية المترتّبة على مخالفتها ، فأقصى ما يفيده إرادة الوجوب عن بعض الأوامر وهو ما هدّد عليه بالعذاب ، وهو ممّا لا كلام فيه فلا يثبت المدّعى.

فإنّ البعض الّذي يترتّب على مخالفته الفتنة إن اريد به الأوامر الندبيّة ، ففيه : ما تقدّم من اندفاعه بظهور الآية في كون ترتّب ذلك على المخالفة على سبيل الاستحقاق من المخالف ، وما يترتّب على مخالفة الأوامر الندبيّة - مع أنّه لا اطّراد فيها - ليس بهذه المثابة كما لا يخفى ، مع أنّ الاحتمال المذكور يأباه ظهور لفظة « أو » في تعلّق الحكم بأحد

ص: 89


1- أي ولا يجب الحذر لو كان عدم المقتضي للحذر مظنونا.
2- مستدرك الوسائل 1 : 402 ، الباب 36 من أبواب آداب الحمّام ، ح 2.

فإن قيل : الاستدلال مبنيّ * على أنّ المراد بمخالفة الأمر ترك المأمور به ، وليس كذلك. بل المراد بها حمله على ما يخالفه بأن يكون للوجوب أو الندب ، فيحمل على غيره.

__________________

الأمرين على سبيل الترديد.

وقضيّة ذلك كون الأوامر على نهج واحد ، ولو سلّم أنّها للتقسيم أيضا فلا ينافي المدّعى ، لجواز كونه بالقياس إلى الغاية المترتّبة على المخالفة لا بالنسبة إلى الأوامر ، بل هو الظاهر حيث وقعت بين الغايتين.

وقضيّة ذلك كون الأوامر بأسرها مفيدة للوجوب إلاّ أنّ الغاية المترتّبة على مخالفتها تنقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما يحصل في الدنيا.

وثانيهما : ما يحصل في الآخرة. وهذا عين المدّعى.

* وهذه مناقشة معروفة ومحصّلها : أنّ المخالفة محتملة لأن يراد بها تبديل مقتضى الأمر بحمله على الندب وهو للإيجاب ، أو على الإيجاب وهو للندب ، ولا ريب أنّه محرّم وفاعله مستحقّ للذمّ والعقاب ، وإن لم يكن الأمر للوجوب ، فلا دلالة في الآية على المدّعى.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ المخالفة ضدّ الموافقة ، وهي عبارة عن الإتيان بالمأمور به على وجهه ، على ما يقتضيه التفاهم العرفي ، فيكون ضدّها عبارة عن ترك الإتيان بالمأمور به عن أصله أو الإتيان به على غير وجهه ، ضرورة أنّ المقيّد قد ينتفي بانتفاء قيده وقد ينتفي بانتفاء ذاته ، فأيّ مانع من أن يراد بها المعنى العامّ الموجب لاندراج المدّعى تحته ، إن لم نقل بظهورها فيما يخصّ بالمدّعى من باب انصراف المطلق إلى أشيع أفراده.

وبالجملة : المخالفة إمّا محمولة على معناها العامّ لأصالة الحقيقة أو فردها الشائع أخذا بما هو المتفاهم عرفا ، والمطلوب على كلا التقديرين حاصل ، وأمّا الاحتمال الّذي ذكره المناقش لا ريب في مخالفته للظاهر وسقوطه عن المتفاهمات العرفيّة.

ومن هنا ينقدح فساد ما قيل أيضا من أنّ التهديد وإن تعلّق بمخالفي « الأمر » ولكن المهدّد عليه غير مذكور في الآية ، فقد يكون التهديد واردا عليهم لأمر غير المخالفة فلا يفيد المطلوب ، فإنّ الاحتمال ولا سيّما إذا كان في غاية الضعف لا يعارض ما هو ظاهر

ص: 90

قلنا : المتبادر إلى الفهم من المخالفة هو ترك الامتثال والإتيان بالمأمور به. وأمّا المعنى الّذي ذكرتموه فبعيد عن الفهم ، غير متبادر عند إطلاق اللّفظ ؛ فلا يصار إليه إلاّ بدليل. وكأنّها في الآية اعتبرت متضمّنة معنى الإعراض ، فعدّيت ب- « عن » *.

__________________

كالصريح ، بل قوله : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(1) صريح في تعليق الحكم على الوصف ، فيقضي بعلّيّة مأخذ الاشتقاق.

وبذلك يندفع أيضا ما قيل من احتمال أن يراد بالمخالفة الحكم على خلاف ما أمر اللّه تعالى به ، كما هو إطلاق معروف في مخالفة بعض الناس لبعض ، فإنّه مبنيّ على إرادة المأمور به من « الأمر » وهو مجاز لا يصار إليه إلاّ مع دليل ، ولا دليل ومجرّد الاحتمال غير كاف في الانصراف عن أصالة الحقيقة.

كما يندفع أيضا ما قيل من احتمال كون الموصول مفعولا ل_ « يحذر » ويكون الفاعل مستترا فيه عائدا إلى السابق ، فيكون المقصود بيان الحذر عن الذين يخالفون عن أمره لا وجوب الحذر عليهم ، ليفيد استحقاقهم للعذاب من أجل مخالفتهم ، فإنّ الحذر لا يتعدّى بنفسه ، فينافيه تجرّد الموصول عمّا يناسب ذلك من الحروف ، مع فقد المقام عمّا يصلح مرجعا لضمير الفاعل ، فيدور الأمر بين جعل المعمول فاعلا أو مفعولا ، والأوّل أولى كما هو المصرّح به في كلامهم ، مع أنّه غير مناف للمطلوب أصلا بل مؤكّد له ، فإنّ مخالفة « الأمر » لولاها غير جائزة لهم لما استحقّوا لأن يحذّر غيرهم عنهم بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم.

ومن البيّن أنّ ذلك بالنسبة إليهم في أعلى درجة الذمّ والتوبيخ ، وهو آية الوجوب.

ألا ترى أنّ النهي عن مجاورة شارب الخمر وغيره من العصاة كما ورد في كثير من الأخبار تعليلا بأن لا يعمّ البلاء أو العذاب النازل إليهم ، يفيد استحقاقهم للعذاب القاضي بحرمة ما كانوا يفعلون ، ومثله الآية لو صحّ الاحتمال المذكور فيها.

* وهذا ممّا أخذه المصنّف تقريبا للاستدلال أو متمّما له ، مع أنّ المانعين عن الاستدلال أخذوه موجبا للنقض ، بتقريب : أنّ المخالفة ممّا يتعدّى بنفسه وتعديتها في الآية

ص: 91


1- النور: 63.

ب- « عن » لابدّ لها من مصحّح ، ولا يكون إلاّ بتضمينها معنى الإعراض ، والمنع من المخالفة على وجه الإعراض والتنفّر وعدم المبالاة لا يقتضي المنع عن المخالفة بدون ذلك.

واجيب عنه : بأنّ تعدية المخالفة ب- « عن » إنّما تقتضي تضمّنها الاعراض بالمعنى الأعمّ وهو صرف النفس عن الامتثال ، فيتمّ المقصود ، إذ كلّ مخالفة تتضمّن الإعراض بهذا المعنى ، بل كلّ ترك للمأمور به عمدا من دون عذر في معنى الميل والإعراض عنه ، وبذلك يوجّه كلام المصنّف ليتأتّى ما رامه من تتميم الاستدلال.

وأمّا ما يجاب عنه أيضا تارة : بأنّ اعتبار ذلك إنّما هو لمجرّد المحافظة على القاعدة النحويّة ، ولا يلزم من ذلك اعتباره في المعنى المراد.

واُخرى : بأنّ المعنى يستقيم حتّى مع عدم التضمين ، تعليلا بأنّ من الأفعال المتعدّية بنفسها ما يصحّ تعديته بحرف الجرّ أيضا بدون تضمين ، كقولك : « شكرته وشكرت له » فليس ممّا ينبغي الالتفات إليه ، فإنّ صحّة التراكيب النحويّة تدور على المعاني المرادة ، كما أنّ المعاني المرادة يستكشف عنها بملاحظة التراكيب النحويّة ، فكيف يتصوّر قيام وجه مصحّحا للتركيب النحوي وهو غير مرتبط بالمراد ، وتنظير محلّ البحث بما ذكر مبناه القياس مع الفارق فلا يعبأ به ، مع كونه فاسدا في نفسه.

نعم يمكن أن يجاب أيضا : بأنّ الالتزام بما ذكر من التأويل ليس لمجرّد المحافظة على القاعدة ، وهذا الغرض كما يتأتّى بما ذكر من التضمين فكذلك يتأتّى بارتكاب تجوّز بحمل « المخالفة » على المجاوزة ، على أنّ التضمين عبارة عندهم عن إشراب اللفظ معنى لفظ آخر وقد ذكر له وجوه :

أحدها : أن يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي ويضمر ما يتعدّى بالحرف المذكور في الكلام كما في قوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) (1) فيكون المعنى : لا تأكلوا أموالهم ضامّين إيّاها إلى أموالكم.

وثانيها : عكس ذلك ، كأن يقال في الآية : لا تضمّوا أموالهم إلى أموالكم آكلين إيّاها.

وثالثها : أن يستعمل اللفظ في معناه الأصلي ويقصد بتبعيّته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ، ولا ريب أنّ شيئا منها في المقام ليس بأولى ممّا ذكرناه من الاحتمال إن لم نقل بأولويّته لشيوع وروده في المحاورات ، مع مرجوحيّة بعض الوجوه

ص: 92


1- النساء : 2.

فإن قيل : قوله في الآية : « عن أمره » مطلق فلا يعمّ * ، والمدّعى إفادته الوجوب في جميع الأوامر بطريق العموم :

__________________

المذكورة في حدّ نفسه كما لا يخفى.

* ومحصّل الإيراد : أنّه لا دلالة في الآية إلاّ على كون أمر مّا للوجوب ، بمعنى إرادة الوجوب منه ، حيث لا عموم فيها ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، كما أنّه لا يوجب المطلوب.

وجوابه التحقيقي : إنّ « أمره » مصدر مضاف ، وهو على ما يساعده ظاهر النظر يرد في المحاورة على وجهين ، فمنه ما يفيد العموم ومنه ما لا يفيده ، وإنّما يختلف ذلك بوروده في حيّز الإنشاء أو الإخبار من غير المضيّ ، ووروده في حيّز الإخبار من المضيّ.

وإن شئت حقيقة ذلك فانظر في قولك : « أطع أمر زيد » و « إنّي أحبّ ركوبه » و « رأيت ركوبه » فإنّ الأخير لا يقتضي أزيد من فرد مّا بخلاف الأوّلين.

ووجه الفرق : أنّ الإخبار إذا قيّد بالمضيّ من الأزمنة فلا جرم يقتضي وجودا لمتعلّقة في الخارج ولا موجود إلاّ الفرد ، بخلاف الإنشاء أو الإخبار بغير المضيّ فإنّهما لا يقتضيان وجودا أصلا ، بل الّذي يقتضيانه إنّما هو تعلّق الحكم بالطبيعة وهي سارية في جميع أفرادها فيتبعها الحكم وهو معنى العموم ، ومن هذا الباب محلّ البحث من الآية فلا إيراد ، ومن أطلق الحكم بكون المصدر المضاف مفيدا للعموم كالمصنّف وغيره إن أراد ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ فدائرة المنع أوسع ممّا بين الأرض والسماء إن أراد العموم الوضعي ، وكذلك لو أطلق في تلك الدعوى بحيث كانت شاملة لجميع أحوال اللفظ إن أراد العموم بالمعنى الّذي قرّرناه.

ودعوى : جواز الاستثناء في غير ما ادّعينا العموم فيه.

يدفعها : لزوم الاستهجان في الاستثناء لو ورد على ما في حيّز المضيّ كما لا يخفى.

فإنّ ظاهر العموم بالوجه المتقدّم كونه إفراديّا فيفيد التهديد على مخالفة كلّ واحد واحد من أوامره تعالى ، فلا يرد ما قيل أيضا _ بعد تسليم العموم في « الأمر » _ بإبداء احتمال إرادة مجموع الأوامر من حيث المجموع فلا يفيد المطلوب ، لصحّة التهديد على المخالفة حينئذ على تقدير كون البعض مفيدا للوجوب مجازا ، أو إطلاقا للفظ المشترك لفظا أو معنى على أحد معنييه.

ص: 93

وربّما يعترض أيضا : بأنّ أقصى ما يفيده - على تقدير دلالته على كلّ واحد من أوامره - كون المراد منها ذلك وهو أعمّ من الوضع ، فما يستفاد من الآية الشريفة حمل الأوامر المطلقة في الكتاب أو السنّة أيضا على الوجوب ، فلا مانع من أن يكون ذلك قرينة عامّة قائمة على ذلك مع كونها حقيقة لغة وشرعا في مطلق الطلب ، كما ذهب إليه بعض المتأخّرين مستدلا على حملها على الوجوب بالآية المذكورة.

والجواب عن ذلك يظهر بما قرّرناه سابقا من دلالة الآية على استحقاق المخالفين للأوامر للعذاب ، ولا ريب أنّه فرع فهمهم الوجوب عنها ، كما أن ترتّب العذاب على المخالفة من لوازم الوجوب ، فيفيد الآية على انفهام الوجوب عنها وإلاّ لما توجّه التهديد ولا استحقاق للعذاب ، فيعود الإيراد إلى إبداء احتمال كون ذلك لأمر خارج عن اللفظ ، فيدفعه : حينئذ ما أشرنا إليه مرارا من الأصل ، فيتمّ المقصود.

واعترض أيضا : بأنّ ظاهر المخالفة هو ترك الأمر الايجابي ، إذ المتبادر منها هو التصدّي بخلاف ما يقتضيه « الأمر » إذا نسبت إلى « الأمر » أو خلاف ما اقتضاه الآمر إن نسبت إليه ، وليس في ترك الأوامر الندبيّة مخالفة للأمر ولا الآمر ، نظرا إلى اشتمال الأمر الندبي على إذن الآمر في الترك ، فإن أتى بالفعل فقد أخذ بمقتضى الطلب وإن ترك فقد أخذ بمقتضى الإذن الّذي اشتمل عليه ذلك الطلب ، ولو عدّ ذلك أيضا مخالفة فلا ريب أنّ إطلاق « المخالفة » غير منصرف إليه ، وإضافة « المخالفة » في الآية إلى « الأمر » لا يقضي بكون كلّ ترك للمأمور به مخالفة ، وإنّما تقضي بتعلّق التهديد على الترك الّذي يكون مخالفة وهو الترك الّذي لم يأذن فيه ، فيختصّ التهديد بمن ترك العمل بمقتضى الأوامر الوجوبيّة لا من ترك المأمور به مطلقا ليفيد كون الأمر المطلق للوجوب.

والجواب عن ذلك - مع اشتماله من الطول بلا طائل بأخذ بعض المقدّمات فيه على ما لا يخفى على ذي مسكة - بأنّه لا يقول أحد بأنّ كلّ ترك للمأمور [ به ] مخالفة ، بل الغرض قضاء الآية بأنّ كلّ مخالف للأمر يجب عليه الحذر عن إصابة الفتنة أو العذاب الأليم على مذاق القوم ، أو كونه ممّن يستحقّ لأن يصيبه فتنة أو عذاب أليم على حسبما قرّرناه ، ولمّا كان لفظ « الأمر » أيضا باعتبار كونه مصدر مضاف عامّا ولو من باب السراية فيفيد أنّ كلّ أمر صدر منه تعالى ممّا يفيد الوجوب الّذي هدّد مخالفه بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم.

ص: 94

والحاصل : أنّ الآية متضمّنة لعامّين أحدهما بالنسبة إلى مخالف الأمر ، والآخر بالنسبة إلى الآمر ، والمفروض تعلّق التهديد بالعامّ الأوّل فيسري منه إلى العامّ الثاني.

وقضيّة ذلك كون كلّ أمر من أوامره ممّا هدّد مخالفه بإصابة الفتنة أو العذاب الأليم ، فإنكار ثبوت الحكم في مطلق « الأمر » عدول عن القول بكون المصدر المضاف مفيدا للعموم كما لا يخفى.

فإن قلت : اعتبار العموم في الأمر الإيجابي ممّا يستقيم معه القول المذكور فلا داعي حينئذ إلى تعميم الحكم.

قلت : تقييد « الأمر » في الآية بكونه إيجابيّا إخلاء لكلام الحكيم عن الفائدة بالمرّة أو إبداء لتجويز الإغراء بالجهل منه في معرض البيان ، فإنّ الأوامر الوجوبيّة الّتي هدّد مخالفيها بإصابة الأمرين إن اريد بها طائفة مخصوصة معلومة لديهم فيترتّب عليه الأوّل من اللازمين وإلاّ فيترتّب عليه ثانيهما ، وكون الفائدة على الأوّل الاحتراز عن الأوامر الندبيّة ليس ممّا يعتدّ به ، إذ لم يكن أحد يرتاب في أنّ الأوامر الندبيّة لا يترتّب على تركها شيء من الأمرين ، فلا مدفع للمحذورين إلاّ اعتبار الأمر في الآية على الإطلاق لتفيد أنّ مطلقه مفيد للوجوب فيترتّب على مخالفته أحد الأمرين.

ومن البيّن أنّ ذلك شيء يقع كثيرا مّا في حيّز الجهالة أو يرد غالبا في مظانّ احتمال إرادة الخلاف ، فتشتدّ الحاجة إلى بيان ما هو في الواقع نصّا لما ذكر من الأمرين.

وقد يعترض بما تقدّم بيانه مع جوابه في الاستدلال بالآية السابقة والتبادر المتقدّم ، ومحصّله : أنّ أقصى ما يفيده الآية دلالة « الأمر » على الوجوب مع الإطلاق وهو أعمّ من وضعه له ، إذ قد يكون ذلك لوضع الصيغة لمطلق الطلب وانصراف الطلب إلى الوجوب حتّى يقوم دليل على الإذن في الترك كما هو ظاهر من ملاحظة الحال في لفظ « الطلب ».

ومحصّل الجواب : أنّ قضيّة الانصراف دعوى لا شاهد لها ، وخلاف الأصل ممّا لا يصار إليه إلاّ مع شاهد قويّ ، ومجرّد الاحتمال غير كاف فيه ، والمفروض انفهام الوجوب في أوامره تعالى بدلالة الآية ، فيدور الأمر بين كونه عن الصيغة بنفسها أو عمّا يعدّ بالقياس إليها من القرائن المفهمة ، كما هو من لوازم الانصراف لو لا الوضع ، ولا ريب أنّ الأصل يعيّن الأوّل وهو المطلوب.

ص: 95

قلنا : إضافة المصدر عند عدم العهد للعموم ، مثل « ضرب زيد » و « أكل عمرو ». وآية ذلك جواز الاستثناء منه ، فانّه يصحّ أن يقال في الآية : فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلاّ الأمر الفلانيّ. على أنّ الاطلاق كاف في المطلوب ؛ إذ لو كان حقيقة في غير الوجوب أيضا ، لم يحسن الذمّ والوعيد والتهديد على مخالفة مطلق الأمر.

الرابع : قوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) (1) ؛ فإنّه سبحانه ذمّهم على مخالفتهم للأمر ، ولو لا أنّه للوجوب لم يتوجّه الذمّ *.

__________________

* وجه الاستدلال بتلك الآية نظير ما تقدّم في سابقتها ، فإنّ [ في ](2) الذمّ الوارد عليهم على جهة الاستحقاق _ على ما هو المستفاد عن سياق الآية _ الّذي هو من لوازم الوجوب دلالة واضحة على فهمهم الوجوب عن صيغة « اركعوا » ضرورة أنّه فرع العصيان وهو فرع التكليف وهو فرع الفهم.

نعم ، يبقى المناقشة فيه من جهة احتمال استناد ذلك الفهم إلى أمر غير اللفظ ، فيدفعه : الأصل الّذي قرّرناه مرارا من غير فرق في ذلك بين كون قيام ذلك الأمر على جهة الصرف أو جهة الإفهام.

فبذلك يندفع أيضا ما قيل بمثل ما سبق من احتمال كون ظهور الصيغة في الوجوب لأجل ظهور مدلولها _ وهو الطلب _ في كونه حتميّا ، فلا دلالة في الآية على وضع الصيغة لخصوص الوجوب كما هو المطلوب.

كما يندفع أيضا ما عن الإحكام من أنّ أقصى ما يفيده الآية كون الأمر الّذي وقع الذمّ على مخالفته للوجوب ، فلا تدلّ على أنّ كلّ أمر للوجوب ، وربّما يؤيّد ذلك بأنّ المأمور به بالأمر المفروض هو الصلاة ووجوبها من الضروريّات الواضحة ، فكون الأمر المذكور إيجابيّا معلوم من الخارج ، فإنّ تخصيص انفهام الوجوب بذلك الأمر القاضي بعدم كونه لأجل الوضع لابدّ له من مخصّص ومجرّد الاحتمال غير كاف في مقابلة الأصل ، وكون وجوب المأمور به هنا من الضروريّات الواضحة غير صالح لذلك لأصالة عدم التأثير ، مع

ص: 96


1- المرسلات : ٤٨.
2- اضفناه لاستقامة العبارة.

المنع عن بلوغه حدّ الضرورة ثمّة ، وكونه كذلك عندنا لا يقضي بكونه كذلك في أوائل نشر الإسلام بل المقطوع به خلافه ، ولا أقلّ من أصالة التأخّر لولا القطع.

وقد يجاب عنه أيضا : بأنّ الذمّ إنّما علّق على مجرّد المخالفة وترك المأمور به ، فلو كان موضوعا لغير الوجوب لم يصحّ ذمّهم على مخالفة الصيغة المطلقة كما هو ظاهر الآية الشريفة.

وأمّا ما يقال تارة : من منع كونه ذمّا لجواز أن يكون لوما ، وهو ممّا يصحّ على ترك المندوب.

واخرى : بمنع كون المراد بالركوع معناه المعهود ، لجواز أن يراد به الإطاعة ، فالحاكم بالذمّ حينئذ هو العقل القاطع سواء دلّت عليه الآية أو لا ، فلا دلالة فيها على حكم الصيغة من حيث هي ، فليس ممّا يلتفت إليه لظهور السياق في الذمّ ، كظهور الركوع في معناه المعهود ، فإنّ المجاز لا يصار إليه في أمثال المقام لخلوّه عمّا يقضي بتعيّنه.

ولو قيل : إنّه لم يعهد له إلاّ المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ، ولا سبيل إلى حمله على شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلابتنائه على ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهو في محلّ المنع.

وأمّا الثاني : فلقضاء القوّة العاقلة بعدم إرادة مطلق الإنحناء منهم ، فلابدّ من حمله على ما يقرب من معناه الحقيقي وهو الإيمان أو الإطاعة ونحوها ، ومعه لا يبقى في الآية دلالة على حكم الصيغة من حيث هي ، لاقترانها في إفادة الوجوب بقرينة عقليّة قاضية بالوجوب ، فإنّ وجوب الإيمان أو الإطاعة ممّا يثبت بحكم العقل لاستقلاله فيه ، وهو ليس من محلّ الكلام في شيء.

لقلنا : بكونه - على ما يقتضيه التحقيق - ممّا ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة بخصوصه ، ولو سلّم لكان الحمل على المعنى الشرعي أولى ، لكونه أقرب إلى الحقيقة ممّا ذكر بمراتب شتّى ، والمفروض في المقام تعذّرها لما ذكر في تقرير السؤال ، ولو سلّم لكان الحمل على ما ذكر من المعنى المجازي أيضا كافيا في حصول المطلوب.

ودعوى اقتران الصيغة في الآية بالقرينة العقليّة مسلّمة ، ولكن تأثير تلك القرينة في فهم الوجوب ممنوع بأصالة عدم الالتفات من المخاطبين إليها حين توجّه الخطاب إليهم.

ولو سلّم عدم اعتبار الأصل أو عدم جريانه لاكتفينا بظهور الآية في ترتّب الذمّ على مخالفة الصيغة من حيث هي بلا ضميمة شيء إليها ، وإلاّ لكان على الحكيم عند الحكاية

ص: 97

ذكرها معها أداء لحقّ الحكمة بتمامه ، وسدّا لما عساه يتخيّله المحكيّ لهم - وهم المخاطبون بتلك الآية - من احتمال عدم إفادتها الوجوب لمن توجّهت إليهم من المكلّفين بالركوع ، حيث وردت عليهم مجرّدة عمّا يفيده من القرائن ، فيقبح الذمّ المتوجّه إليهم حينئذ (1).

نعم ربّما يشكل الاستدلال على جميع تقادير الجواب عمّا أشرنا إليه من السؤال من جهة اخرى ، وهي أنّ دلالة الآية على المطلوب مبنيّة على كون المذمومين غير الكفّار ، أو كون الكفّار مكلّفين بالفروع ، والأوّل غير منساق من الآية بل المنساق خلافه كما لا يخفى على من لاحظ الآيات السابقة عليها ، كما أنّ الثاني ممّا يأباه القوّة العاقلة لامتناع التكليف بغير المقدور ، نظرا إلى امتناع الفروع عنهم صحيحة في حال الكفر ، واستحالة الفعل السفهي عليه تعالى نظرا إلى علمه تعالى بعدم إتيانهم بها ، وكون الكفر في أوّل المحذورين ظرفا للتكليف لا شرطا للمكلّف غير مجد في ارتفاع المحذور ، لكون الامتناع في تلك الحال.

ودعوى كونه امتناعا بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار واضح المنع عندنا ، لمكان المنافاة خطابا وعقابا بحكم العقل وبناء العقلاء.

نعم لا نضائق العقاب على تفويت الاختيار وتسديد باب التكليف وتوجّه الخطاب.

والقول بأنّ ذلك مسلّم مع سلب الاختيار كما في امتناع الوضوء ممّن قطع يديه باختياره وأمّا بدونه فلا ، كما في امتناع حصول مشروط بالطهارة من الجنب في الجنابة ، فكما أنّه مكلّف به في هذه الحالة لقدرته على إزالة المانع وهو الجنابة فكذلك الكافر لقدرته على إزالة المانع وهو الكفر فلا امتناع كما لا امتناع ، واقع في غير محلّه ، فإنّ المدّعى مسلّم كتسليم الحكم في المقيس عليه ، ولكنّ الحكم في المقيس غير مسلّم ، لمكان الفرق بينهما في دخول الأوّل في جملة أفراد موضوع المدّعى دون الثاني ، ضرورة سلب قدرتهم على إزالة الكفر بتقرّر أسبابه ومقتضياته الموجبة لعلمه تعالى بعدم صدور الإيمان منهم فيستحيل بعده لاستحالة انقلابه جهلا.

وليس في قوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) (2) ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (3) ( وَلَمْ نَكُ

ص: 98


1- فلابدّ من ذكر القرينة معها في الآية ليفيدهم أنّها حين توجّهها إلى المذمومين كانت مقرونة بتلك القرينة لينقطع به جميع طرق الاعتذار والتشبّث بما يأخذونه من الأعذار. ( منه عفي عنه ).
2- المدثر : 42.
3- المدثر : 43.

نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) (1) ( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) (2) ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (3) دلالة على تكليفهم بالفروع كما توهّم ، لكون المسؤول عنهم هم المجرمون والمجرم هو المذنب كما أنّ الجرم هو الذنب ، فهو أعمّ ممّا يرجع إلى مخالفة الاصول ومخالفة الفروع فقط ، فمن الجائز كونهم فرقا مختلفة منهم من عصى في مخالفة الفروع ومنهم من عصى بمخالفة الاصول ، فيرجع ما عدا الفقرة الأخيرة أو هي وما قبلها جوابا من الأوّلين ولا يلزمهم الكفر ، كما أنّها أو مع ما قبلها ترجع جوابا من الآخرين ولا يلزمهم التكليف بالفروع ، وبالجملة ليست الآية نصّا بل ولا ظاهرا في الملازمة كما هو المطلوب.

فإن قلت : أنّ تكليف الكفّار بالفروع في أوّل المحذورين منقوض بتكليفهم بالاصول ، كما أنّه في ثانيهما منقوض به وبتكليف العصاة لهم أيضا ، إذ الطريق واحد كما أنّ الجواب واحد.

قلنا : ما ذكر من التكليفين في كلا المقامين إنّما يراد بهما قطع العذر وإتمام الحجّة ، وهو الّذي يعبّر عنه بالابتلائي الساذج ، ولا قبح في هذا التكليف عقلا ولا عرفا فبطلت المقايسة.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون الحال في محلّ البحث أيضا كذلك ، فيكون تكليف الكفّار بالفروع ابتلائيّا وليس فيه قبح ولا عذر آخر كما اعترفت به.

قلت : مع أنّ المحذور بالنسبة إلى العقاب الّذي هو المقصود بالتكليف الابتلائي باق على حاله ، إذ الممتنع كما يقبح التكليف به حقيقة فكذلك يقبح العقاب عليه عقلا ، أنّ الالتزام بذلك في تكليفهم بالفروع نقض للاستدلال بالآية الشريفة على كون الصيغة للوجوب بتقريب : كونها في مورد الآية للوجوب ، إذ التكليف الابتلائي لا يراد منه طلب فضلا عن الوجوب الذي هو منه بمنزلة الفصل.

فقضيّة ما قرّرناه من الإشكال أن يكون المراد من الصيغة الّتي حكي عنها في الآية الإرشاد أو الإنذار ، كما أنّ محصّل المراد بالآية هو الإنذار سواء اريد من الركوع معناه المعهود الّذي هو من أجزاء الصلاة ، أو الصلاة من باب تسمية الكلّ باسم الجزء كما احتمل في المقام على ما عن بعضهم ، أو الإيمان والطاعة على ما هو أحد المحتملات فينهدم

ص: 99


1- المدثر : 44. أي لم نكن نردّ الحقوق الواجبة علينا من أصل الشرع ( منه ).
2- المدثر : 45. أي كنّا نسرع إلى الباطل ونغوي مع الغاوين ، والخوض أصله دخول القدم في مايع كالماء والطين ونحوه ، ثمّ غلّب على الدخول في كلّ ما فيه أذى وتلويث ( منه ).
3- المدثر : 46.

وقد اعترض أوّلا بمنع كون الذمّ على ترك المأمور به * ، بل على تكذيب الرسل في التبليغ ، بدليل قوله تعالى : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

وثانيا : بأنّ الصيغة تفيد الوجوب عند انضمام القرينة إليها إجماعا ، فلعلّ الأمر بالركوع كان مقترنا بما يقتضي كونه للوجوب.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ المكذّبين إمّا أن يكونوا هم الذين لم يركعوا عقيب أمرهم به ** ، أو غيرهم. فان كان الأوّل ، جاز أن يستحقّوا الذمّ بترك الركوع ،

__________________

الاستدلال حينئذ بالمرّة ، كما لا يخفى فليتأمّل.

* ومحصّله : أنّ ذمّ الكفّار في ترك الركوع لعلّه ليس لأجل تركه من حيث هو ، ليفيد كون الأمر به مفيدا للوجوب ، بل لأجل تكذيبهم الرسل كما يشعر به قوله تعالى : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )(1) فيسقط به الاستدلال بالمرّة ، لتوجّه الذمّ حينئذ وإن كان الأمر للندب.

ولا يخفى أنّ ذلك الكلام منع لعمدة مقدّمات الاستدلال ، وما ذكر من الوجه سند لذلك المنع ، وإنّما ذكر على سبيل الاحتمال فيكون الاستشهاد بالآية إبداء لصحّة هذا الاحتمال ليصلح سندا للمنع ، ضرورة عدم نهوض كلّ احتمال سندا لذلك كما هو المعهود في آداب المناظرة وإلاّ لانسدّ باب الاستدلالات بالمرّة ، فما عن بعضهم من حمل ذلك على كونه معارضة متّضح الفساد إن أراد به المعنى المصطلح عند أرباب المناظرة ، لتصريحهم بأنّها إقامة الخصم ما يشبه دليل المستدلّ ممّا يقضي بخلاف ما اقتضاه ذلك الدليل من دون تعرّض للقدح في مقدّماته كلاّ أو بعضا ، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب كما لا يخفى على المتأمّل.

** واورد عليه : بخروجه عن قانون المناظرة ، لما على المجيب من وجوب إثبات كون الذمّ على ترك الركوع من حيث هو ، فلا يكفيه مجرّد الجواز والاحتمال ، ولا يرد مثل ذلك على المعترض لأنّه مانع فيكفيه المنع وإن لم يجعله مستندا فكيف ما لو كان له سند ، ولا سيّما مع استناده إلى شاهد.

فحقّ الجواب أن يقال : إنّ ظاهر الآية الشريفة توجّه الذمّ لمجرّد عدم امتثال قول : « اركعوا ».

ص: 100


1- المرسلات : ٤٩.

والويل بواسطة التكذيب ، فإنّ الكفّار عندنا معاقبون على الفروع كعقابهم على الأصول ؛ وإن كانوا غيرهم لم يكن اثبات الويل لقوم بسبب تكذيبهم منافيا لذمّ قوم بتركهم ما امروا به.

وعن الثاني : بأنّه تعالى رتّب الذمّ على مجرّد مخالفة الأمر * ، فدلّ على أنّ الاعتبار به ، لا بالقرينة.

__________________

ومن البيّن أنّ الاحتمالات البعيدة لا ينافي الظهور ، وأنت خبير بأنّ قضيّة الظهور إن تمّت لقضت باندفاع ما أوردناه من الإشكال بحذافيره ، فعلى الناظر في الآية استقصاء النظر في ذلك ليتّضح عليه حقيقة الحال وينجلي له حجاب ذلك المقال بعون اللّه المتعال وحسن توفيقه.

* ووجه ذلك : ظهور أنّ « الأمر » في إفادته الوجوب لو كان منضّما إليه غيره لكان عليه تعالى ذكره معه في الآية ليتأتّى به المقصود ، ويحصل كمال المطلوب من كون ذلك الذمّ لاستحقاقهم إيّاه بالمخالفة ، فيكون عدمه دليلا على عدمه ومعه يتمّ الاستدلال.

ويمكن الاستدلال بوجوه اخر.

أوّلها : أنّ تارك المأمور به عاص ، وكلّ عاص متوعّد بالعذاب.

أمّا الصغرى : فلشهادة (1) العرف مضافة إلى قوله : « أمرتك أمرا جازما فعصيتني » وقوله تعالى : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )(2)( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً )(3) و ( لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ )(4) وأمّا الكبرى : فلقوله عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ )(5) بتقريب : أنّ الموصول مفيد للعموم إمّا لقضيّة الوضع أو لتضمّنه معنى الشرط ، والعذاب ملازم لترك الواجب.

ويرد عليه أوّلا : منع الصغرى بأنّ العصيان ضدّ الطاعة ، وهي على ما يساعده العرف إمّا فعل المأمور به أو فعل المندوب ، فالعصيان أيضا بقرينة المقابلة إمّا ترك المأمور به أو ترك المندوب ، وقضيّة ذلك وجوب تقييد الكبرى بما يوجب خروج ترك المندوب ، ومعه يسقط الاستدلال بالآية لعدم كون مفادها حينئذ ممّا يتنازع فيه.

ص: 101


1- وفي كلام القوم استناد الصغرى إلى مجرّد الآيات وإنّما أعرضنا عن تلك الطريقة لتوجّه المنع إلى كون مطلق ترك المأمور به عصيانا ، على أنّ الآيات المذكورة في المتن لا يقضي بأزيد من الاستعمال وهو جنس عامّ فلا يلازم الحقيقة كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).
2- طه : ٩٢.
3- الكهف : ٦٩.
4- التحريم : ٦.
5- الجنّ : ٢٣.

ويدفعه : منع العموم في مفهوم « الطاعة » فإنّها على ما يساعده الفهم والعرف موافقة « الأمر » ولا أمر في المندوب.

ولو سلّم أنّها مطلق الامتثال والانقياد - كما توهّم - ولكن أيّ شيء دلّ على أنّ العصيان ضدّ الطاعة ، على أنّ المندوب طلب راجح للفعل متضمّن للإذن في تركه فإن أتى به فقد أخذ بمقتضى الطلب ، وإن لم يأت به فقد أخذ بمقتضى الإذن في الترك فلا عصيان فيه أصلا عرفا ولا شرعا ، كما لا مخالفة فيه ، فينحصر الصغرى في ترك المأمور به وينضمّ إليها الكبرى فيتمّ الاستدلال.

وثانيا : منع كلّيّة الكبرى بسند إضافة العصيان في الآية إلى اللّه ورسوله ، فلعلّه قاض بحكم الشرع دون العرف واللغة ، فلذا نرى من فصّل في حكم الصيغة - كالعلاّمة في النهاية - فجعلها لغة للطلب وشرعا للإيجاب ، إنّه تمسّك به لثاني مدّعاه خاصّة مع أنّ النزاع واقع على الوجه الأعمّ.

ويدفعه : ما أشرنا إليه مرارا من أنّ تمام المدّعى يثبت حينئذ بضميمة أصالة عدم النقل وغلبة الاتّحاد.

نعم ربّما يتوجّه إليه في بادئ النظر أنّ التوعيد بالعذاب يصلح قرينة على اختصاص الحكم بأوامر الشارع ، وغاية ما يتعدّى إليه في المقام إنّما هو العالي على الإطلاق فيبقى غيره من المساوي والسافل غير معلوم الحكم ، ضرورة عدم ترتّب استحقاق العذاب على ترك ما صدر عنهما ، ولا تأثير لما ذكر من الأصلين بعد قيام الدليل على الخلاف.

ولكن يدفعه أيضا : أنّ استحقاق العذاب على الترك إنّما يترتّب مع تحقّق أمرين أحدهما الطلب الإيجابي ، فلذا لا يترتّب على الطلب الندبي وإن كان من العالي ، والآخر صدوره من العالي فلا يترتّب على ما صدر عن غيره.

والّذي يقتضيه النظر أنّ الأوّل منه بمنزلة الشرط والثاني بمنزلة السبب ، وقضيّة ذلك كون العلوّ من لوازم الاستحقاق للعذاب ، لأنّه الّذي يترتّب عليه ذلك وجودا وعدما لذاته ، دون الإيجاب الّذي ينفكّ عنه بانفكاك لازمه عنه وهو العلوّ.

ومن هنا جعلناه من مقولة الشروط ، نظرا إلى أنّه ممّا يترتّب على عدمه العدم ولا يترتّب على وجوده الوجود كما في إيجاب المساوي والسافل ، فالّذي قام الدليل على اختصاصه بالعالي إنّما هو الاستحقاق للعذاب وهو ليس من محلّ البحث في شيء حتّى

ص: 102

يصلح ذلك نقضا للاستدلال ، دون الإيجاب الّذي هو صار من حيث استفادته من اللفظ وضعا من محلّ النزاع ، والمفروض عدم قيام دليل على اختصاصه أيضا من حيث إنّه من المفاهيم ، بل الدليل قائم على خلاف ذلك كما عرفت.

وأمّا هو من حيث انفهامه من لفظ خاصّ لغة وعرفا وشرعا فقد صار من مطارح الأنظار ولم يقم دليل على العدم ، فينهض الوجه المذكور مع انضمام الأصلين دليلا على الوجود وهو المطلوب ، ثمّ يتمّ بالقياس إلى سائر الأصناف أيضا بثاني الأصلين مضافا إلى أصالة عدم تعدّد الوضع.

وثالثا : بمنع انطباق الدليل على المدّعى ، فإنّ أقصى ما يستفاد عن ذلك الوجه إنّما هو كون لفظ « الأمر » للوجوب ولا كلام فيه ، فيبقى الصيغة غير معلوم الحال حيث تقرّر سابقا إنّه لا ملازمة في البين ، اللّهمّ إلاّ أن يدفع ذلك أيضا بما أشرنا إليه في دفع ما ورد نظير ذلك على الاستدلال ببعض الآيات المتقدّمة من أنّ الطلب الإيجابي إذا صدر من العالي بتوسّط الصيغة يصدق عليه أنّه « أمر » حقيقة ، فيبقى التشكيك في أنّ الإيجاب الّذي هو مناط صدق الأمريّة حقيقة هل أفادته الصيغة بمجردها أو هي بمعونة العلوّ أو غيره من القرائن العامّة أو الخاصّة مدفوعا بأصل آخر منحلّ إلى اصول عديدة ، وبذلك يندفع الإيراد عليه بنحو ما تقدّم على الوجوه المتقدّمة من أنّ ذلك إنّما يفيد إفادة « الأمر » للوجوب مع الإطلاق ، وهو أعمّ من وضعه له بالخصوص ، إذ قد يكون من جهة انصراف الإطلاق إليه.

وتوضيح الجواب : ما تقدّم أيضا من أنّ الانصراف بعد انفهام الطلب من اللفظ منه إلى غيره لا يتحصّل إلاّ مع ملاحظة مؤونة زائدة على اللفظ ، واعتبارها من كمال الفرد على زعم من يجعله موجبا للانصراف ، أو غلبة وجوده ، أو غلبة الإطلاق عليه كما في اللفظ بالقياس إلى معناه المجازي.

غاية الأمر أنّ الّذي ينصرف إلى المعنى المجازي في المجازات بملاحظة القرينة إنّما هو اللفظ وإلى الفرد في المطلقات بملاحظة أحد الامور المذكورة إنّما هو الماهيّة المنفهمة من اللفظ أوّلا ، فكما أنّ احتمال قيام المؤونة الزائدة على اللفظ منفيّ بالأصل في المجازات فكذلك في المطلقات ، وقضيّة ذلك استناد فهم الوجوب إلى اللفظ بمجرّده.

ثمّ إنّ هاهنا إيرادات اخر مذكورة في الكتب المبسوطة كنهاية العلاّمة وهداية المسترشدين لبعض الأفاضل ، فمن أراد العثور عليها فليرجع إليهما يجدها مندفعة

ص: 103

بما هو مذكور فيهما أو بأدنى تأمّل.

وثانيها : ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله من أنّه دعا أبا سعيد الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه ، فقال صلى اللّه عليه وآله : ما منعك أن لا تستجيب وقد سمعت قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) (1).

بتقريب : أنّ التوبيخ على عدم الاستجابة فرع لوجوبها ، وتوجّهه من الحكيم إلى أبي سعيد دليل على فهمه إيّاه من الدعاء وهو من أهل اللسان فيكون فهمه حجّة ، مضافا إلى احتجاجه صلى اللّه عليه وآله بالصيغة الواردة في الآية ، فإنّه ينبئ عن فهمه الوجوب عنها وهو أيضا حجّة لما ذكر.

واحتمال استناده في المقامين إلى خارج من اللفظ يندفع بما هو معمول به في سائر التبادرات ، فيندفع به ما عن الإحكام من أنّ القرينة على وجوب الأمر المذكور ظاهرة ، حيث إنّ فيه تعظيما لله ورسوله ودفعا للإهانة والتحقير الحاصل بالإعراض ، كما يندفع به ما عساه يتوهّم من اختصاص الحكم للأمر الوارد في الآية الشريفة ، وما في كلام بعض الأفاضل من أنّ غاية ما يستفاد منها كون الصيغة مفيدة للوجوب ظاهرة فيه وهو أعمّ من كون ذلك بالوضع أو من جهة ظهور الطلب فيه ، والظاهر أنّه على الوجه الثاني.

وأمّا ما قيل : من أنّ دعاءه لم يعلم كونه بصيغة الأمر ، ولم يعلم أيضا كون التوبيخ الوارد عليه من جهة مجرّد عدم إجابة الدعاء ، بل قد يكون من أجل الأمر الوارد في الآية الشريفة المقرونة بقرينة الوجوب.

ففيه : ظهور الدعاء مفهوما ومصداقا في كونه بصيغة الأمر كما هو الغالب الشايع ، ولو سلّم لكان في ثاني وجهي الاستدلال كفاية في ثبوت المدّعى مع المنع عن اقتران الآية بقرينة الوجوب.

نعم ، ربّما يستشكل في ذلك من جهة أنّ تتميم الاستدلال به ونظائره فرع ثبوت الصغرى ، وخبر الواحد ولا سيّما إذا كان مرسلا بل ونبويّا غير صالح لذلك. ودعوى : أنّه صالح لإفادته الظنّ وهو حجّة في اللغات ، مع توجّه المنع إليها لا تكاد تجدي في المقام ، فإنّ الظنّ الّذي هو حجّة في اللغات ما قام الدليل باعتباره بخصوصه من إجماع العلماء أو

ص: 104


1- الأنفال : 24.

بناء العرف وأهل اللسان ، والظنّ الّذي قام الدليلان على اعتباره ما إذا تعلّق بوصف التبادر وهو كونه من حاقّ اللفظ ناشئا عن الاصول الاجتهاديّة لا ما إذا تعلّق بذاته ، بل الظاهر من طريقة القوم بل العرف لزوم القطع به ، فلذا يوجبون الفحص التامّ عند العمل بالتبادر وغيره من الأمارات ، فتأمّل جدّا (1).

وثالثها : إجماع الصحابة على الاحتجاج بالأوامر الواردة في الشريعة كتابا وسنّة من غير نكير على الوجوب ، كما حكاه في النهاية وحكى نقله عن جماعة من الخاصّة والعامّة ، بتقريب : أنّه كاشف عن فهمهم الوجوب منها ، فهو الحجّة في اللغات لكونهم من أهل اللسان ، ثمّ بضميمة أصالة عدم النقل ونحوها يتمّ المدّعى ، كما أنّ احتمال استناد فهمهم إلى الخارج من اللفظ يندفع بالأصل ، فلا يرد عليه ما تقدّم في كلام بعض الأفاضل من أنّ قضيّة الإجماع المذكور انصراف « الأمر » إلى الوجوب وهو كما عرفت أعمّ من وضعه له.

وأمّا المناقشة فيه تارة : بكونه إجماعا سكوتيّا فلا عبرة به ، واخرى : بكونه منقولا بالآحاد فلا يفيد العلم.

فيدفعها : ما أشرنا إليه من أنّ التمسّك به إنّما هو لكشفه عن الحجّة في المقام ، لا لأنّه بنفسه دليل حتّى يقدح فيه كونه سكوتيّا ، فإنّ الفهم من أهل اللسان حجّة ولو من واحد منهم فلا حاجة إلى كونه من الكلّ حتّى يمنع عن تحقّقه بالقدح المذكور ، وكونه منقولا بالآحاد إنّما يقدح في حصول العلم بالمجمع عليه لا ما هو معتبر في اللغات وهو الظنّ ، إلاّ أن يؤول ذلك إلى منع اعتبار الظنّ في صغرى القياس أيضا كما تقدّم ، لأنّ الظنّ بالإجماع هاهنا ظنّ بأصل الفهم.

ثمّ إنّ في المقام وجوها اخر استدلّ بها ، ولكن كلّها واهية جدّا لا ينبغي التعويل عليها.

منها : قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله لبريرة الّتي كانت جارية لعائشة ، وقد زوّجتها من عبد فلمّا اعتقتها وعلمت بخيارها في نكاحها وهي كارهة لزوجها ، فأرادت مفارقته فاشتكى إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال صلى اللّه عليه وآله : « ارجعي إلى زوجك فإنّه أبو ولدك ، وله عليك حقّ فقالت : يا رسول اللّه أتأمرني بذلك؟ فقال : لا إنّما أنا شافع ، فقالت : لا حاجة لي فيه » بتقريب : أنّه صلى اللّه عليه وآله نفى « الأمر » وأثبت الشفاعة الدالّة على الندبيّة ، فلو كان « الأمر » حقيقة في الندب لما كان لذلك وجه كما لا يخفى.

ص: 105


1- وجه التأمّل : أنّ الفحص الّذي يوجبه القوم في العمل بالتبادر ونحوه ، إنّما هو لتحقيق وصف التبادر على طريق العلم أو الظنّ لا لتحقيق أصله ، فلعلّ الظنّ بالتبادر كاف عندهم وفيه إشكال واضح ( منه عفى عنه ).

وفيه : أنّ أقصى ما يفيده ذلك كون لفظ « الأمر » مجازا في الطلب الندبي أو غلطا فيه من غير دلالة له على كون الصيغة حقيقة خاصّة في الوجوب مجازا في الندب كما هو محلّ البحث.

لا يقال : إنّما يدلّ على ذلك فهم بريرة الوجوب عن قوله صلى اللّه عليه وآله : « ارجعي » كما يشعر به حسن الاستفهام في قولها : « أتأمرني بذلك؟ » وهي من أهل اللسان أو تبعتهم فيكون فهمها حجّة ، فإنّ الاستفهام إنّما يحسن عند الإجمال الكاشف عن الاشتراك فهو على خلاف المدّعى أدلّ ، مع أنّ الاستفهام قد يحسن عند قيام الاحتمال ولو مرجوحا ، بل ربّما يعدّ في نظر العقول بالنسبة إلى المعنى الحقيقي قبيحا من حيث إنّه على هذا التقدير منبئ عن عدم الاعتداد بأصالة الحقيقة الّتي عليها مدار جميع اللغات في الأعصار والأمصار ، فحسنه في المقام يوهن كونه في مورد فهم المعنى الحقيقي ، مقوّيا لكونه في مورد احتمال مرجوح أو مساو وكلّ منهما خلاف المدّعى.

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله : « لولا أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة » بتقريب : أنّه صلى اللّه عليه وآله نفى « الأمر » بحسب مفهوم كلامه مع ثبوت الندبيّة بالإجماع وغيره من الأخبار الكثيرة ، وهو آية مجازيّة « الأمر » في الندب ، وكون المسلوب هو الوجوب فيكون حقيقة فيه وهو المطلوب.

وفيه : أيضا نظير ما تقدّم ، فلا قضاء له بكون إطلاق الصيغة في الندب على طريق المجاز دون الحقيقة ، ودعوى أنّها ممّا يصدق عليه « الأمر » عرفا في كلا المقامين ، يدفعها : المنع المتقدّم في محلّه مفصّلا.

نعم إنّما يستقيم الاستدلال بذلك الوجه وسابقه على رأي من يجعل « الأمر » عبارة عن الصيغة بنفسها أو صادقة عليها وعلى الطلب بها ، وقد عرفت أنّه عندنا بمعزل عن التحقيق.

ومنها : إنّ حمله على الوجوب احتراز عن الضرر المظنون - ذكره في التهذيب - وفيه : أنّ المراد بالضرر المظنون الّذي يدفعه حمل « الأمر » على الوجوب إمّا ما يظنّ في مجموع الأوامر من حيث هو ، فيجب حمل كلّ واحد منها على الوجوب من باب المقدّمة ، لعدم العلم بما يظنّ فيه الضرر بالتفصيل ، أو ما يظنّ في كلّ واحد واحد منها.

فإن كان الأوّل ، ففيه : مع أنّه لا وجه لإطلاق الظنّ عليه لكون الضرر في مجموع الأوامر معلوما بالإجمال ببديهة من العقل ، وأنّه مبنيّ على وجوب المقدّمة ولعلّ الخصم ينكره ، أنّ ذلك إذعان بما ينافي المدّعى من عدم كون كلّ أمر للوجوب لعدم ظنّ الضرر في كلّ ، ولو

ص: 106

سلّم فهو وجوب ظاهري لكون المقدّمة علميّة فلا ربط له بما هو معقد النزاع كما لا يخفى.

ولو سلّم (1) فهو حكم عقليّ لا يكون من مقتضيات الوضع اللغوي ليثمر في محلّ الخلاف.

ألا ترى أنّه لا ينافي شيئا من أقوال المسألة ، فيجامع القول بكون الصيغة للوجوب خاصّة أو للندب كذلك أو مشتركة بينهما لفظا أو معنى ، مع انضمام الإباحة وغيرها ممّا تقدّم إليهما فيهما أولا.

وإن كان الثاني فالسبب الداعي إلى ذلك الظنّ في كلّ أمر إن كان هو الوضع اللغوي بإزاء الوجوب نظرا إلى أصالة الحقيقة عند التجرّد عن القرينة.

ففيه : مع أنّه مصادرة بالمطلوب ، أنّ ذلك يرفع الحاجة إلى التمسّك بالقاعدة المذكورة في الحمل على الوجوب ، لكفاية أصالة الحقيقة عنها وعن نظائرها في ذلك.

وإن كان غيره ، ففيه : مع توجّه المنع إلى دعوى حصول الظنّ بالضرر في كلّ أمر على فرض انتفاء الوضع للوجوب ، أنّ ذلك أيضا وجوب جاء من قبل ذلك السبب أو من قبل العقل نظرا إلى حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون ، فلا يكون من محلّ الخلاف في شيء ، ضرورة أنّ النزاع لم يقع في أصل الوجوب بل في كونه مفادا للوضع اللغوي ، ليثمر في موارد التجرّد عن القرائن الصارفة عن المعنى الحقيقي.

ومنها : أنّ الوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع بإزائه لفظ مفرد يدلّ عليه ، لوجود القدرة عليه والداعي إليه وانتفاء المانع عنه ، ولا يصلح له إلاّ صيغة « افعل » لانتفاء غيرها بالإجماع ، أمّا على مذهب الخصم فلأنّه ينكر ذلك على الإطلاق ، وأمّا على ما صرنا إليه فلأنّا لا نقول به في غيرها.

وفيه : مع أنّ الندب أو الطلب أو الإباحة أيضا ممّا تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه إلى آخر الدليل ، أنّ الحاجة ترتفع بوضع الصيغة للطلب مع عموم الفائدة على هذا التقدير ، أو بجعلها مشتركة على الوجوب والندب بل الإباحة أيضا لتساوي الجميع في العلّة المذكورة.

ومنها : ما دلّ على وجوب طاعة اللّه ورسوله والأئمّة من الآيات والروايات ، بتقريب : أنّ الطاعة هو الإتيان بالمأمور به على ما يشهد به العرف واللغة ، والمناقشة فيه بأنّ غايته إفادة دلالة « الأمر » على الوجوب بحسب الشرع دون اللغة ، مدفوعة بأصالة عدم النقل.

ص: 107


1- أي ولو سلّم العموم في محلّ الخلاف بجعله أعمّ من الوجوب الظاهري والواقعي. ( منه ).

وفيه : - مع أنّ هذه الأوامر على ما يساعده النظر لا يراد منها إلاّ بيان الواقع لكونها إرشاديّة فتناول المندوبات أيضا ، فلذا يقال : إنّ الإتيان بالمندوب أيضا طاعة ، مع أنّه لا وجوب فيها جزما - أنّ تلك الآيات والروايات تصلح قرينة عامّة للأوامر الخاصّة ، فيدور الأمر فيها بين كونها مؤكّدة أو غيرها من الأنواع الاخر.

ومن البيّن أنّ الاستدلال لا يستقيم إلاّ على فرضها مؤكّدة ، وهو ممّا ينفيه أولويّة التأسيس من التأكيد ، لا لما أفاده أرباب المعاني والبيان من أنّ في التأسيس إفادة وفي التأكيد إعادة ، والإفادة أولى من الإعادة لوضوح ضعفه عندنا ، بل لما قرّرناه في مباحث الأمارات من الجزء الأوّل من الكتاب من غلبة القرائن المؤسّسة على المؤكّدة صنفا وشخصا كما لا يخفى على المتدرّب.

وقضيّة ذلك دوران الأوامر بين كونها مجازات في الوجوب أو مشتركات بينه وبين الندب لفظا أو معنى ، وأيّا مّا كان فهو مناف للمطلوب جزما.

ومنها : أنّ « الأمر » ضدّ للنهي ، وهو حقيقة في طلب الترك حتما ، فيكون « الأمر » حقيقة في الوجوب.

وفيه : بطلان القياس في اللغات بوفاق من المؤالف وجمهور المخالف.

ومنها : أنّ الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، وقد عرفت مقتضى النهي فيكون فعل المأمور به واجبا.

وفيه : - مع أنّه مفض إلى الدور ، إذ النهي الضمني لا يكون مطلوبا به الترك حتما إلاّ إذا كان « الأمر » حتميّا ، فلو توقّف ذلك على كون ذلك النهي حتميّا لزم الدور - أنّ النهي في كونه حتميّا وعدمه يتبع « الأمر » فإذا كان « الأمر » عند الخصم للندب يكون ما تضمّنه من النهي للتنزيه ، فكيف يستدلّ على بطلان مذهبه بما ذكر ، مع أنّه مبنيّ على كون « الأمر » للوجوب وهو لا يسلّمه.

ومنها : أنّ صيغة « افعل » تدلّ على اقتضاء الفعل وإيجاده ، فيكون مانعا من نقيضه كالخبر ، فإنّه لما دلّ على المعنى منع من نقيضه ، والجامع أنّ اللفظ وضع لإفادة معنى فيكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله.

وفيه : مع أنّه قياس لا تعويل عليه في العلميّات ولا سيّما اللغات ، أنّ كون الصيغة للندب لا ينافي حكم المقيس عليه ، لعدم الفرق بينه وبين كونها للوجوب في ذلك الحكم ، فإنّ مدلول

ص: 108

أدلّة القول بوضع صيغة الأمر للندب

احتجّ القائلون بأنّه للندب بوجهين :

أحدهما : قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » *. وجه الدلالة : أنّه ردّ الاتيان بالمأمور به إلى مشيّتنا ، وهو معنى الندب **.

__________________

الخبر ثبوت المعنى المصدري للمخبر عنه ونقيضه خلاف ذلك ، ومعنى كونه مانعا عن ذلك كون مدلوله هو الأوّل ، ضرورة أنّه يستلزم ممنوعيّة الثاني ، وهذا المعنى بعينه موجود في الصيغة إذا كانت للندب ، فإنّ معناها حينئذ طلب إيجاد الفعل بعنوان أنّ تركه مرضيّ به ، ونقيضه انتفاء ذلك الطلب والأوّل مانع عن الثاني جزما ، كما أنّ مدلولها إذا كانت للوجوب طلب إيجاد ذلك الفعل بعنوان الحتم والإلزام ، وهو مانع عن نقيضه وهو انتفاء الطلب بالمرّة.

* واعلم أنّ هذه فقرة مذكورة في ذيل رواية نقلها بعض الفضلاء مرسلة ، وهي _ على ما في كلامه _ أنّه خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سوادة بن مالك فقال : أفي كلّ عامّ يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ واللّه لو قلت : نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.

** ولا يخفى أنّ الاستدلال بذلك إنّما يتمّ بإحراز مقدّمات :

أحدها : إرادة العموم من لفظة « إذا » لكون الأمر الّذي مرادا به الندب في الجملة ممّا لا نزاع فيه حتّى يفتقر إلى الاستدلال ، مع عدم قضائه على هذا التقدير بما هو المدّعى في المقام.

وثانيتها : كون المراد بالأمر الندب أو الطلب المطلق ، أو الصيغة الدالّة على أحدهما ، لئلاّ يلزم التناقض بينه لو اريد به الوجوب أو الصيغة الدالّة عليه وبين قوله : « ما استطعتم » على تقدير إرادة المشيّة منها ، ضرورة تنافي التعليق على المشيّة للوجوب المانع عن النقيض.

وثالثتها : كون المراد بقوله : « فأتوا » الندب ليتمّ التقريب ، ويندفع التنافي بينه لو اريد به الوجوب وبين الأوامر الّتي اريد منها الندب كما هو الفرض.

ورابعتها : كون لفظة « ما » مصدريّة أو كانت موصولة أو موصوفة ، مع كون المراد ب_ « شيء » كلّ له أجزاء لا كلّي له أفراد ، سواء كانت كلمة « من » ابتدائيّة أو تبعيضيّة ، إذ لو كانت موصولة أو موصوفة مع كون المراد ب_ « الشيء » كلّي له أفراد لكان مفادها التخيير بين

ص: 109

أفراد المأمور به في مقام الامتثال فلا ينافي وجوبه ، لانطباقه على التخيير العقلي الثابت في جميع الواجبات بالقياس إلى أفرادها ، فلا يتمّ التقريب بكون الإتيان بأصل المأمور به مردودا إلى مشيّتنا كما في كلام الأكثرين ، أو بأنّ الردّ إلى مشيّتنا في بعض المأمور به يفيده في الكلّ فيفيد الندب كما في كلام بعض الأعاظم ، والفرق بين التقريرين ابتناء الأوّل على فهم الابتدائيّة من كلمة « من » وابتناء الثاني على فهم التبعيض كما لا يخفى.

وخامستها : كون المراد ب- « الاستطاعة » المشيّة كما هو مناط كلام المستدلّ ، إذ لو اريد بها القدرة لقضت بما هو مفاد قوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » وإن قدّرنا لفظة « ما » موصولة أو موصوفة ، أو بوجوب التكرار في المأمور به إنّ قدّرناها مصدريّة ، ولا ينافي شيء من ذلك وجوب المأمور به بل يؤكّده (1).

وأنت خبير بأنّ المقدّمة الاولى وإن لم يساعدها اللفظ من حيث كونه من أدوات الإهمال - على ما صرّح به غير واحد ، ويشهد به الفهم والعرف - إلاّ أنّها ثابتة بقيام قرينة قاضية بإرادة العموم في خصوص المقام ، من حيث كونه صلى اللّه عليه وآله في مقام ضرب قاعدة وتأسيس ضابطة ، كما يشهد به سوق الرواية صدرا وذيلا فلابدّ من كونها كليّة مطّردة ، فلا وجه لما اورد على الاستدلال بأنّ « إذا » من أدوات الإهمال فلا تفيد العموم ، كما في قولك لعبدك : « أكرم زيدا إذا جاءك » والمفروض إنّ النكرة في سياق الإثبات أيضا لا تفيد العموم ، فلعلّ في هذا المقام أمرا واحدا يصدر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله مقرونا بدلالة قاضية بإرادة الندب ، فتكون [ في ] هذه الرواية دلالة على أنّ المكلّف في ذلك الأمر مخيّر في القدر المأتّي به وفي الإتيان ، فهو معلّق على مشيّته وإرادته ، فلا حاجة إلى أن يجاب عنه حينئذ بأنّ كلمة « إذا » متى فهم منها السببيّة كقولك : « إذا أشبعت فاحمد اللّه » تكون بمعنى « متى » فتفيد العموم وإلاّ فمهملة وما نحن فيه من الأوّل دون الثاني ، حتّى يتوجّه إليه المنع ، إلاّ أن

ص: 110


1- ولا يخفى أنّ في قوله : « فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » احتمالات كثيرة جدّا متجاوزة عن ألف وخمسمأئة ، إذ الأمر في قوله : « أمرتكم » يحتمل أن يراد منه الطلب الحتمي أو الندبي أو الطلب المطلق أو الصيغة الدالّة على الطلب الحتمي أو الندبي أو المطلق ، وعلى جميع التقادير فالمراد ب- « إذا » إمّا العموم أو الإهمال ، وعلى جميع التقادير فالمراد ب- « الشيء » إمّا كلّي له أفراد أو كلّ له أجزاء أو أعمّ منهما ، وعلى جميع التقادير فالمراد بقوله : « فأتوا » إمّا الوجوب أو الندب أو الإرشاد أو الإباحة ، وعلى جميع التقادير فالجارّ إمّا ابتدائيّة أو تبعيضيّة ، وعلى جميع التقادير فلفظة « ما » إمّا مصدريّة أو موصولة أو موصوفة ، وعلى جميع التقادير فالمراد « بالاستطاعة » إمّا القدرة أو المشيّة ، وأنت بعد التأمّل واستخراج الصور تعرف مفاد كلّ احتمال وصحّته وسقمه ( منه عفي عنه ).

يكون مرجعه إلى ما قرّرناه.

وأمّا المقدّمة الثانية فمع مخالفتها ظهور اللفظ عرفا في الوجوب كما هو التحقيق ، أو الصيغة الدالّة عليه كما زعمه جماعة ، فلا يصار إليها إلاّ مع دلالة معتبرة منتفية في المقام ، يدفعها : قيام قرينة قاضية بإرادة الوجوب خاصّة كصدر الرواية وسياقها والتوبيخ المستفاد منها.

وقضيّة ذلك حمل قوله صلى اللّه عليه وآله : « فأتوا » على الوجوب دفعا للتنافي حسبما أشرنا إليه ، فلا وجه لما أورده بعض الفضلاء على جوابهم عن الاستدلال بمنع الردّ إلى مشيّتنا بل إلى استطاعتنا فيفيد الوجوب ، من أنّ الردّ إلى استطاعتنا لا دلالة له على كون « الأمر » للوجوب إلاّ إذا ثبت أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « فأتوا » للوجوب وهو يفضي إلى الدور ، بل الصواب أن يقال : فلا يفيد الندب.

وأمّا الثالثة : فمع أنّها مفضية إلى الدور (1) كما يظهر بأدنى تأمّل ، يدفعها : ما أشرنا إليه في دفع المقدّمة الثانية ، ومع الغضّ عن ذلك فهو ظاهر في الإرشاد بناء على ما يشهد به السياق ، فيراد به بيان المصلحة الواقعيّة بالمعنى العامّ المتناول كلاّ من ما في الوجوب والندب ، فأيّ شيء خصّته بالثاني دون الأوّل ، فقضيّة ذلك خروج الرواية غير واضحة الدلالة على ما رامه المستدلّ ، فتسقط به عن صلوح الدليليّة ، مع أنّه لو دلّ على التعليق على المشيّة لكان أظهر في إرادة الإباحة منه ، القاضية بالتسوية بين طرفي الفعل والترك كما لا يخفى على المتدرّب.

فقضيّة ذلك كون الأوامر مرادا منها الإباحة وهو خلاف مطلوبكم.

وأمّا الرابعة : ففيها منع واضح ، لعدم ترجيح لأحد هذين الاحتمالين على ما يقابلهما ، على أنّ لفظة « ما » كما يحتمل كونها مصدريّة فكذلك يحتمل كونها موصولة أو موصوفة ، وأنّ النكرة كما يحتمل كونها كلاّ له أجزاء فكذلك يحتمل كونها كليّا له أفراد ، أو الأعمّ منهما من دون رجحان لما هو مناط الاستدلال على ما ينافيه ، وقضيّة ذلك - بعد الغضّ عمّا ذكر في منع المقدّمات السابقة - خروج الرواية مجملة.

وأمّا الخامسة : فيبطلها ظهور « الاستطاعة » عرفا ولغة في القدرة فلا يصار إلى خلافها إلاّ بدلالة واضحة ، وهي إن لم نقل بكونها بملاحظة ما قرّرناه في إبطال المقدّمات السابقة في جانبها ، فلا أقلّ من عدم كونها في جانب خلافها.

ص: 111


1- وجهه : أنّ هذا الأمر لا يكون للندب إلاّ على تقدير كون مطلق الأمر للندب ، فلو توقّف ذلك على كون ذلك للندب كما هو مناط الاستدلال لزم الدور. ( منه ).

واجيب بالمنع من ردّه إلى مشيّتنا * ، وإنّما ردّه إلى استطاعتنا وهو معنى الوجوب **.

__________________

ولو سلّم فهو لنفي وجوب التكرار لا نفي أصل الوجوب ، كما أنّها بناء على حملها على القدرة تفيد وجوب التكرار ، فتنهض دليلا على القول بالتكرار ، فلذا تمسّك بها بعض الفضلاء على هذا المطلب ، مع أنّ إطلاق التعليق على المشيّة _ لو سلّم _ من دون تنبيه على رجحان الفعل ولا إشارة إلى مرجوحيّة الترك يلائم الإباحة ، وهو خلاف المطلوب كما عرفت.

* اجيب عنه تارة : بأنّ الرد إلى المشيّة يشير إلى الإباحة ولا أقلّ من كونه أعمّ منه ومن الندب ، فمن أين يصحّ كونه بمعنى الندب.

ثمّ إنّه لا دلالة فيه على كون اللفظ موضوعا للندب ، إذ غاية الأمر أن يكون ذلك مرادا منه وهو أعمّ من الحقيقة.

واخرى : بأنّ غاية ما يقتضيه الرواية كون « الأمر » للندب وهو غير الصيغة وهو جيّد ، وإن كان اجيب عنه بالإجماع المركّب ، لأنّ كلّ من قال بكون المادّة للندب فقط قال بكون الصيغة له كذلك ، كما أنّه كلّ من قال بكون الصيغة للوجوب قال بكون المادّة له وبالأولويّة ، نظرا إلى أنّ الخلاف وعدم الظهور في الصيغة أكثر من المادّة ، فلو قال في المادّة بكونها للندب فالأولى بذلك قوله بكون الصيغة له ، وفي كلا الوجهين نظر يظهر بأدنى تأمّل.

وثالثة : بأنّ البيان ربّما يشعر بأنّ الندب غير معناه الحقيقي ، إذ لو كان معناه الحقيقي لم يحتج إلى البيان.

** واعترض عليه تارة : بما أشرنا إليه مع ردّه ، من أنّ الردّ إلى استطاعتنا لا دلالة له على كون « الأمر » للوجوب ، إلاّ إذا ثبت أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « فأتوا » للوجوب ، وهو يفضي إلى الدور ، بل الصواب أن يقال : فلا يفيد الندب.

واخرى : بأنّ الردّ إلى الاستطاعة كما هو حاصل في الواجب فكذا في المندوب ، ضرورة عدم استحباب الإتيان بغير المقدور ، فهو أعمّ من الوجوب والندب.

والأولى أن يجاب بما عن الآمدي : بأنّ الّذي وقع التصريح به في الرواية إنّما هو الردّ إلى الاستطاعة لا المشيّة ، وهو ليس من خواصّ الندب حتّى يستدلّ به على كون مطلق « الأمر » للندب ، ضرورة كون كلّ واجب مردودا إلى الاستطاعة بل هو أولى بذلك ، حيث إنّه منع من تركه بخلاف المندوب ، فلا يكون الرواية نصّا ولا ظاهرا في المطلوب إن لم

ص: 112

وثانيهما : أنّ أهل اللغة قالوا : لا فرق بين السؤال والأمر إلاّ بالرتبة * ؛ فانّ رتبة الآمر أعلى من رتبة السائل ؛ والسؤال إنّما يدلّ على الندب ؛ فكذلك الأمر ، إذ لو دلّ الأمر على الايجاب لكان بينهما فرق آخر. وهو خلاف ما نقلوه.

وأجيب : أنّ القائل بكون الأمر للايجاب ، يقول : إنّ السؤال يدلّ عليه أيضا ** ؛ لأنّ صيغة « إفعل » عنده موضوعة لطلب الفعل مع المنع من

__________________

يكن ظاهرا في خلافه.

* ولا يخفى أنّ ذلك احتجاج بما كان مدلولا التزاميّا لنقل أهل اللغة إن كان ثابتا عنهم ، لابتنائه على مفهوم الحصر المستفاد من قولهم بطريق الدلالة الالتزاميّة.

والظاهر أنّ مثل ذلك معتبر عندهم في إثبات المطالب اللغويّة ، بل هو المصرّح به في كلام الفحول حيث عدّوا من الأمارات ما كان إحدى مقدّمتيه ثابتا بطريق النقل والاخرى بطريق العقل ، كما ذكروه لإثبات العموم في الجمع المعرّف باللام ، فلا يناقش في ذلك بأنّه احتجاج بطريق العقل الّذي لا مدخل له في اللغات ، ولا بأنّه مبنيّ على القياس الّذي لا أثر له في باب الألفاظ.

** ولا يخفى أنّ ذلك الجواب مبناه على تسليم أصل النقل من أهل اللغة ، والظاهر أنّه في مقابلة احتجاج الخصم يشبه المصادرة بالمطلوب ، فإنّ دلالة السؤال على الإيجاب أوّل المسألة ، ومجرّد كونها ممّا يقول به القائل بأنّ « الأمر » للوجوب لا ينهض دليلا على بطلان قول الخصم ، ولا سيّما مع نقل أهل اللغة أنّ السؤال لا يدلّ إلاّ على الندب كما تضمّنه الدليل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ هذه المقدّمة من مضافات المستدلّ فلم تكن ممّا صرّح بها أهل اللغة حتّى تنهض دليلا على ردّ الجواب ، فيكون مرجعه حينئذ إلى المعارضة بالمثل.

فمحصّله على هذا التقدير : أنّ النقل المذكور من أهل اللغة غير مناف للقول بالوجوب ، لابتنائه على أن يكون السؤال للندب ، وهو وإن كان ممّا يدّعيه الخصم إلاّ أنّه ليس بأولى من قول خصمه بأنّه كالأمر للوجوب ، والمفروض عدم نهوض ما يكون دليلا على تلك الدعوى ، ومجرّد قول الخصم لا يصلح حجّة على معانده.

أو يقال : إنّه منع لبعض مقدّمات الدليل ، فيؤول إلى أنّ الجزء الثاني ممّا نقله أهل اللغة محجوج عليه بما يقضي بكون السؤال للوجوب ، الملازم لكون « الأمر » له أيضا كما يقول

ص: 113

الترك * ، وقد استعملها السائل فيه. لكنّه لا يلزم منه الوجوب ؛ إذ الوجوب إنّما يثبت بالشرع ** ، ولذلك لا يلزم المسؤول القبول. وفيه نظر ***.

__________________

به القائل بذلك ، وأنت خبير بقصور العبارة عن إفادة ذلك ، مع اختلالها بخلوّها عمّا يخرجها عن كونها من باب المصادرة ، وهو الدليل المشار إليه القاضي بكون السؤال للإيجاب ، فتأمّل.

* وملخّصه : أنّ « الأمر » والسؤال سمّي في العرف العامّ أو الخاصّ بهما الطلب الحتمي بالصيغة ، أو مطلقا ، أو الصيغة الدالّة عليه باعتبار صدورهما من العالي والسافل والاختلاف في مدلوليهما بذلك الاعتبار لا يوجب اختلافا في مدلول الصيغة إذا كان ذلك الاختلاف ناشئا عن اختلاف وصفي العالي والسافل ، ضرورة عدم اختلاف مدلول لفظ واحد باختلاف اللافظين ، ولا تعدّد أوضاعه بتعدّد المستعملين ، فلو كان في المقام ما يقتضي بكون الصيغة لغة وعرفا بإزاء الطلب الحتمي _ وهو طلب الفعل مع المنع من الترك ، كما يدّعيه القائل بكونها للوجوب _ لكانت دالّة عليه من أيّ قائل صدرت.

غاية الأمر أنّه مع علوّ القائل يسمّى « أمرا » ومع خلافه يسمّى « سؤالا » كما أنّه مع مساواته يسمّى « سؤالا » فاللفظ واحد ومدلوله واحد والوضع بينهما أيضا واحد ، وإن تعدّد واختلف القائلون بحسب الصفات والاعتبارات.

** وربّما يتوهّم بين ذلك وبين ما تقدّم من دعوى دلالة السؤال على الإيجاب تدافع ، إذ الإيجاب والوجوب متلازمان فدلالة السؤال على الإيجاب يستلزم دلالته على الوجوب ، وعدم دلالته على الوجوب يستلزم عدم دلالته على الإيجاب ، ففي إثبات أحدهما ونفي الآخر تدافع.

وأجاب عنه بعض الفضلاء : بأنّ مراد المجيب بالإيجاب طلب الفعل مع المنع من الترك بقرينة تفسيره بعد ذلك به ، وبالوجوب كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب بقرينة ثبوته بالشرع ، ولا ملازمة بين الإيجاب والوجوب بهذين المعنيين ، وإنّما الملازمة بين الإيجاب بمعنى طلب الفعل مع المنع من الترك وبين الوجوب بمعنى كون الفعل مطلوب الحصول ممنوع الترك ، وكذلك الحال بين الإيجاب بمعنى جعل الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب ، وبين الوجوب بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب.

*** يمكن أن يكون وجهه : كونه بعد تسليم أصل النقل من أهل اللغة مصادرة

ص: 114

حسبما أشرنا إليه ، إلاّ أنّ ابن المصنّف ذكر له وجهين آخرين :

أحدهما : أنّ المدّعى ثبوت الوجوب لغة ، فقول المجيب : إنّ الوجوب لا يثبت إلاّ بالشرع ، لا وجه له.

وثانيهما : أنّ الظاهر من كلامه الفرق بين الوجوب والإيجاب ، والحال أنّه لا فرق بينهما إلاّ بالاعتبار.

وأجاب بعض المحقّقين عن أوّلهما : بأنّ القائل بكون « الأمر » للوجوب لغة قال بأنّ صيغة « افعل » مطلقا موضوعة لغة للطلب الحتمي الّذي يلزمه ممنوعيّة الترك ، سواء صدرت بعنوان السؤال أو غيره ، هذا هو المراد بالوجوب لغة كما أنّه المراد من كونه لغة للإيجاب ، وأمّا ترتّب الذمّ على عدم الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة فليس داخلا في معنى الوجوب وحقيقته بل هو لازم لبعض أفراده ، وهو ما إذا كان القائل ممّن يجب ويلزم إطاعته وتحصيل مراده عقلا أو شرعا ، كاللّه سبحانه والسيّد وغيرهما ممّن له حقّ على المأمور ، ولا ينافيه تعريفهم الوجوب باستحقاق الذمّ على الترك أو استحقاق العقاب عليه ، لكونه تعريفا بلازم هذا الفرد نظرا إلى أنّه المقصود بالأصالة في فنّ الاصول ، وكأنّ إلى ذلك ينظر قول المجيب : « إذ الوجوب إنّما يثبت بالشرع » وهذا لا ينافي كون ما هو حقيقة الوجوب لغة مفاد الصيغة لغة مطلقا.

ولو سلّم دخول ترتّب الذمّ واستحقاق العقاب في حقيقة الوجوب لغة فلا منافاة بين دلالة السؤال عليهما أيضا ، وعدم حصولهما فيه بحسب الواقع لجواز التخلّف في الدلالات اللفظيّة.

ألا ترى أنّ صيغة « افعل » الصادرة في مقام الأمر قد لا تقتضي حصول ترتّب الذمّ في الواقع حتّى عند أصحاب القول بكون الأمر للوجوب ، وإن كان اللفظ دالاّ عليه بحسب الظاهر ، كما لو أمر شخص حرّا أو عبدا بغير جهة شرعيّة تقتضي وجوب إطاعته ، بل لو صرّح حينئذ بالوجوب ويقول : « أوجبت عليك ذلك الفعل » فإنّه لا يقتضي حصول ترتّب الذمّ على المأمور بحسب الواقع مع دلالة اللفظ عليه صريحا بحسب الظاهر ، وكأنّ الاشتباه إنّما نشأ من الخلط بين دلالة اللفظ على الشيء وبين حصول ذلك المدلول في الخارج.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ ما ذكر من جواز تخلّف المدلول عن الدالّ في الدلالات اللفظيّة إنّما يتمّ في الإخبارات ، وأمّا الإنشاءات فيمتنع تخلّف المدلول عنها ، كما هو معلوم من ملاحظة التمنّي والترجّي والنداء وغيرها ، فلو كان مدلول « الأمر » هو وجوب

ص: 115

الفعل بمعنى كونه على وجه يستحقّ تاركه الذمّ لم يمكن تخلّفه عنه.

أقول : وكأنّ مرجع كلام المحقّق إلى تعميم ترتّب الذمّ الّذي أخذ جزءا من الموضوع له على هذا الفرض بالنسبة إلى الواقعي والظاهري معا ، كما ادّعى نظير ذلك في النسبة الّتي جعلت جزء ممّا وضع له الفعل ، بل المركّبات الإسناديّة.

ومن هنا لا يعدّ الكذب في الإخبارات من باب التجوّز ، بل هو الحال في سائر الإنشاءات طلبيّة وغيرها.

ألا ترى أنّه لا تجوّز في قول القائل : « ليتني أموت » أصلا مع عدم كونه ناظرا إلى الواقعي ، وأنّه لا فرق بين قولك : « ستضرب زيدا » وقولك : « اضرب » في عدم حصول المدلول في الخارج إذا كان مخاطبك ممّن لا يصدر منه الضرب في شيء من خطابيك ، مع أنّه لا تجوّز في شيء منهما.

وأمّا ما أورد عليه الفاضل المذكور فكأنّه مبنيّ على الخلط بين ما هو مناط الفرق بين الإخبار والإنشاء ، وما هو مصبّ الدلالات اللفظيّة من الواقع والظاهر ، وجواز تخلّف الثاني من الأوّل ، كيف ولو جعل المدار في الإنشاءات على عدم جواز تخلّف المدلول عنها لامتنع عدم الامتثال في الأوامر والنواهي ، أو خرجت عن كونها أوامر ونواهي وهو كما ترى ، بل إنّما جعل المدار فيها على عدم ورودها مورد الحكاية ، كما أنّ الإخبارات جعل المدار فيها على ورودها موردها.

وإلى ذلك ينظر تحديدهم المعروف : « بأنّ الخبر كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه بخلاف الإنشاء » فكأنّ في العبارة إضمارا ، أى لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه من حيث وقوعها حكاية عنه ، لئلاّ يفوت الحدّان عليهم بلا محصّل ، ولا التفرقة بينهما بلا ثمر ، ضرورة عدم ورود الإنشاءات بأسرها مورد الحكاية بخلاف الإخبارات بأجمعها ، فيكون ما أفاده المحقّق واردا مورد التحقيق ، إذ لا ملازمة بين مدلول الإنشاءات عنها وبين خروجها عن حدّها.

وأمّا الجواب عن ثاني الوجهين : فبما قرّرناه سابقا في ذكر أقوال المسألة في الفرق بين الإيجاب والوجوب مفصّلا ، ومحصّله : أنّ من يجعلهما متّحدين بالذات مختلفين بالاعتبار إن أراد به كونهما متلازمين فهو مسلّم ، ولكنّه لا يرد على المجيب شيء في المقام لعدم كونه ممّن ينكر ذلك ، ولو فسّر الإيجاب بطلب الفعل مع عدم الرضا بتركه فالتلازم بينه وبين الوجوب إنّما هو بحسبه ، ولو فسّر الوجوب بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب

ص: 116

والتحقيق : أنّ النقل المذكور عن أهل اللّغة غير ثابت * ، بل صرّح بعضهم بعدم صحّته.

__________________

وتاركه الذمّ والعقاب فالتلازم بينه وبين الإيجاب إنّما هو بحسبه ، وإن أراد به وراء ذلك حتّى يكون مرجعه إلى نفي التعدّد بينهما ، ففيه : منع واضح ، كيف وأنّهما متغايران ذاتا _ من حيث كون الإيجاب من مقولة الفعل ، والوجوب من مقولة الكيف _ ومتعاقبان زمانا _ من حيث كونهما مترتّبين ترتّب العلّة والمعلول _ ومتعدّدان محلاّ _ من حيث كون الأوّل وصفا للآمر والثاني وصفا للمأمور به _.

* ولا يخفى أنّ مرجع ذلك إمّا إلى إبطال جعل الفرق الّذي اسند التصريح به إلى أهل اللغة ، أو إلى إنكار دعوى كون السؤال للندب إن كان ذلك أيضا من جملة ما صرّح به أهل اللغة ، فلا تكون العبارة نصّا ولا ظاهرا في أوّل الاحتمالين حتّى يرد عليه ما أورد بعض الفضلاء من : أنّ التزام تعدّد وضع « الأمر » بالنسبة إلى العالي وغيره ممّا يأبى عنه الذوق السليم ، لجواز أن يكون مراده ثانيهما فلا تعدّد في الوضع حينئذ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لأصحاب هذا القول دليلا ثالثا حكاه بعض الأعاظم وهو : أنّ « الأمر » لطلب الفعل فلابدّ من رجحان جانبه على جانب الترك ، وأدناه الندب لتساوي الطرفين في الإباحة ، وكون المنع من الترك زائدا على الرجحان.

وفيه : أنّ رجحان جانب الفعل على جانب الترك في « الأمر » إنّما هو من الامور الّتي تجب رعايتها على الآمر إذا كان حكيما دفعا لقبح ترجيح المساوي أو المرجوح عن طلبه ، لا من الامور الواجب رعايتها على الواضع حين الوضع واعتبارها في الموضوع له ، نظير القدرة والمقدوريّة في المأمور به اللتين لا يجوز للحكيم الإهمال فيهما حين الطلب ، من دون مدخليّة لهما فيما وضع له اللفظ ، فلذا يقال : بأنّ قول القائل : « طر إلى السماء » لا اختلال فيه بحسب اللغة أصلا ، بل لو كان هناك اختلال فإنّما هو بحسب العقل بالنظر إلى القائل من حيث منافاته لما فيه من الحكمة ، وإنّما الّذي يرتبط في محلّ البحث باللغة ويتوقّع من الواضع هو جعل « الأمر » بإزاء الطلب مع كونه مقيّدا بالمنع من الترك ، أو الإذن فيه أو مطلقا.

ومن البيّن أنّ أوسط الاحتمالات ليس بأولى من أوّلها ، لتساوي كلّ منهما في

ص: 117

أدلّة القول بوضع الصيغة للقدر المشترك بين الوجوب والندب

حجّة القائلين بأنّه للقدر المشترك : أنّ الصيغة * استعملت تارة في الوجوب ، كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ، وأخرى في الندب ، كقوله : ( فَكاتِبُوهُمْ ) ، فان كانت موضوعة لكلّ منهما لزم الاشتراك. أو لأحدهما فقط لزم المجاز ؛ فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو طلب الفعل ، دفعا للاشتراك والمجاز.

والجواب : أنّ المجاز ، وإن كان مخالفا للأصل ، لكن يجب المصير إليه إذا دلّ الدليل عليه **. وقد بيّنا بالأدلّة السابقة أنّه حقيقة في الوجوب بخصوصه ؛ فلابدّ من كونه مجازا فيما عداه ، وإلاّ لزم الاشتراك المخالف للأصل المرجوح

__________________

الافتقار إلى ملاحظة الواضع خصوصيّة زائدة على طبيعة الطلب واعتباره إيّاها في الموضوع له ، بل الوجه الموافق للأصل والاعتبار هو الاحتمال الأخير ، لافتقار ما عداه من الأوّلين إلى مؤنة زائدة على ملاحظة أصل الطلب ، فيدفع عند الشبهة بالأصل ، مع كون الوضع له من حيث هو توسعة في أمر اللغة وطريق المحاورة ، من حيث إنّ الموضوع له حينئذ صالح لأمرين يشتدّ الحاجة إلى كلّ منهما من دون عدم صلاحيّته إلاّ لأحدهما على الاحتمال الثاني الّذي صار إليه المستدلّ تعويلا على ما ذكره من الاعتبار ، مع أنّ نفي اعتبار المنع من النقيض الّذي هو أمر زائد على الرجحان لابدّ له من سند ، فلا وجه لإرسال الكلام خاليا عنه.

ولو سلّم أنّه الأصل المطويّ فيه فنسبته إلى احتمالي الندب والوجوب على نهج سواء ، لتساوي كليهما في الافتقار إلى فصل مميّز هو أمر زائد على أصل الرجحان.

غاية الأمر أنّه في الأوّل هو الإذن في الترك ، كما أنّه في الثاني هو المنع عنه ، فالاستناد إلى الأصل في نفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

ولو سلّم ، فإنّما يفيد ذلك لتشخيص مراد المتكلّم من حيث إنّ المنع من الترك كالرضا به من صفاته ، ولا ملازمة بينه وبين الموضوع له ، فلم يكن المطلوب بذلك _ وهو كون « الأمر » للندب بحسب اللغة _ حاصلا كما لا يخفى.

* ومحصّل الدليل على ما في كلام جماعة : أنّ الحقيقة الواحدة خير من الإشتراك والمجاز ، [ و ] وجهه : مخالفة كلّ من الاحتمالين للأصل ، فيكون ما يوافقه خيرا.

** وملخّصه : أنّ أولويّة الوضع للقدر المشترك بين معنيين بالقياس إلى اشتراكه

ص: 118

بالنسبة إلى المجاز ، إذا تعارضا ، على أن المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا ؛ لأنّ استعماله في كلّ واحد من المعنيين بخصوصه مجاز ، حيث لم يوضع له اللفظ بقيد الخصوصيّة ** ، فيكون استعماله فيه معها استعمالا في غير ما وضع له. فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك ، سواء جعل حقيقة ومجازا ، او للقدر المشترك. ومع ذلك فالتجوّز اللاّزم بتقدير الحقيقة والمجاز أقلّ منه بتقدير القدر المشترك ؛ لأنّه في الأوّل مختصّ بأحد المعنيين ، وفي الثاني حاصل فيهما.

__________________

بينهما ، أو كونه مجازا في أحدهما _ على تقدير تسليمها على الإطلاق _ إنّما هي قاعدة عامّة يتمسّك بها عند انتفاء الدلالة المعتبرة على تعيين أحد المرجوحين ، كما أنّه يستغني عنها عند قيام الدلالة على الوضع لأحد المعنيين بخصوصه ، ولقد قدّمنا الأدلّة على الوضع للوجوب خاصّة ، فينفى احتمال الوضع للندب أيضا بقاعدة قاضية بأولويّة المجاز من الاشتراك ، نظرا إلى كون المقام بعد ما ذكر من مجاري تلك القاعدة دون ما ذكر ، واحتمال الوضع مع ذلك للقدر المشترك أيضا منفيّ بندرة الاشتراك لفظا بين الكلّي وفرده ، مضافا إلى الأصل النافي له في موارد الاحتمال.

ويمكن التشبّث في نفي القول المذكور بقاعدة اخرى _ ممّا قرّرناها في مباحث الاستعمال من الجزء الأوّل من الكتاب _ جارية فيما لو استعمل في معنيين بينهما جهة جامعة وعلاقة معتبرة مع عدم بلوغه حدّ الغلبة إلاّ في الخصوصيّتين ، فإنّ مقتضى القاعدة الاجتهاديّة عدم كونه حقيقة في القدر المشترك وإن ثبت استعماله فيه أيضا ، فيدور أمره بين كونه مشتركا بين الخصوصيّتين أو حقيقة ومجازا.

ومن البيّن أنّ استعمال « الأمر » في القدر المشترك بين الوجوب والندب في غاية الندرة إن لم ننكره كما عليه بعضهم ، فيحكم بمجازيّته فيه مع نفي احتمال الاشتراك بالقاعدة المشار إليها.

** وفيه ما لا يخفى من أنّها معارضة في غير محلّها ، فإنّ استلزام الوضع للقدر المشترك لكون الاستعمال في كلّ من الخصوصيّتين على تقدير وقوعه [ مجازا ](1) لا يوجب

ص: 119


1- أضفناه لاستقامة العبارة.

مرجوحيّة في هذا الاحتمال ، وإلاّ لكان كلّ حقيقة مرجوحة في حدّ نفسها لعموم العلّة المذكورة ، إذ ما من حقيقة إلاّ ولمعناها الموضوع له جزء أو جزئي أو لازم أو مشابه أو سبب أو مسبّب أو غير ذلك ممّا يناسبه بشيء من أنواع العلائق ، وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا وهكذا ، فكونها موضوعة بإزاء ذلك المعنى يستلزم كون استعمالها في جميع تلك المذكورات مجازا فيكون مرجوحة ، وهو ممّا لم يتفوّه به أحد ، كيف وهو موجب لتعطيل أمر الوضع ، فتنهض الضرورة قاضية ببطلانه.

وبالجملة : فرق بين إرسال اللفظ ليكون مجازا في معنى ، وجعله لمعنى آخر يستلزم كون استعماله في غير ذلك المعنى ممّا هو جزء أو جزئي له - على تقدير وقوعه فيه - على طريق التجوّز ، والّذي يعدّ مرجوحا في نظر العقول موجبا على الحكيم عدم جواز إيثاره من حيث هو إنّما هو الأوّل دون الثاني ، من حيث إنّه ممّا يترتّب على فعله ترتّب اللازم على ملزومه بغتا واتّفاقا بخلاف الأوّل.

مضافا إلى فرق آخر بين المجاز على بعض التقادير والمجاز على جميعها في كون الثاني أشدّ مرجوحيّة من الأوّل كما لا يخفى.

وكأنّه إلى ذلك ينظر ما أورده بعض محقّقي المحشّين من أنّ المستدلّ له أن يقول : إنّما ثبت استعماله فيهما مطلقا وهو لا يستلزم كونه مجازا فيهما على تقدير وضعه للقدر المشترك إذا كان ذلك الاستعمال فيهما من حيث حصول الكلّي فيهما واتّحادهما معه ، وإنّما علمت الخصوصيّة عن دليل خارج ، نظرا إلى أنّ مثل هذا الاستعمال في الفرد لا يعدّ مجازا كما صرّح به المحقّقون.

وقد يقال عليه : بأنّ المرجوح إنّما هو المجاز الفعلي لا المجاز الشأني ولعلّه ناظر إلى أوّل ما أوردناه عليه.

ثمّ إنّه عن المصنّف نقل ابنه في الحاشية أنّه ذكر في الحاشية : أنّ كون استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في خصوص الجزئي مجازا واضح عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده ، سواء قيل بعدم وجوده أصلا أو وجوده في ضمن الجزئي ، فعلى الأوّل يكون الاستعمال واقعا على ما يغاير الموضوع له وعلى الثاني على مجموع ما وضع له وغيره ، وأمّا على هذا القول - وهو كون الكلّي موجودا بعين وجود أفراده - فوجه (1)

ص: 120


1- وفي عبارة بعض الأفاضل : أنّ المصنّف ذكر ذلك الوجه جوابا عن إشكال أورده على المجازيّة على هذا التقدير ، وهو أنّ الفرد المراد من اللفظ حينئذ عين الطبيعة الموضوع لها ، فكيف يصير الاستعمال فيه مجازا ، فأجاب عنه بما ذكر في المتن ، وأمّا ما نقلناه في المتن من تضمّنه للإشكال المذكور فهو على ما حكاه عنه ابنه كما أشرنا إليه ( منه عفي عنه ).

المجازيّة أنّ إرادة الخصوصيّة تتضمّن نفي صلاحيّة اللفظ في ذلك الاستعمال للدلالة على غير الفرد المخصوص من أفراد الماهيّة ، وظاهر أنّ النفي معنى زائد على ما وضع له اللفظ ، وقد اريد معه فيكون مجازا.

وحكي الإيراد (1) عليه من وجوه :

منها : أنّ ذلك من عوارض الاستعمال لا أنّه جزء من المستعمل فيه.

واجيب : بأنّ مقصوده بذلك أنّ الخصوصيّة المتّحدة مع الطبيعة الكلّيّة النافية لصلاحيّة ذلك المعنى للصدق على الغير أمر زائد على الموضوع له ، وقد لوحظت في الاستعمال حيث بعثت على عدم صدق ذلك المعنى على غير ذلك الفرد الخاصّ ، وإلاّ فمن الواضح أنّ نفي صلاحيّة اللفظ للغير ليس ممّا استعمل اللفظ فيه ، فكيف يتعقّل اندراجه في المستعمل فيه.

أقول : لا يخفى بعد هذا التوجيه عن ظاهر العبارة ، بل الأولى أن يقال - في دفع الايراد - : إنّ معنى كون النفي الّذي هو أمر زائد على ما وضع اللفظ له مرادا معه أنّ الفرد الخارجي الّذي اريد من اللفظ معنى غير صالح للصدق على غيره كما هو مناط جزئيّته ، وقد اريد من اللفظ الّذي قد وضع لمعنى صالح للصدق عليه وعلى غيره وهما متغايران بالضرورة ، فإرادة أحدهما عن لفظ الآخر توجب التجوّز لاستعماله حينئذ في غير ما وضع له.

ومنها : أنّه لا فرق في كون إطلاق الكلّي حقيقة أو مجازا بين القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج وعدمه ، للاتّفاق على اتّحاده مع الفرد نحوا من الاتّحاد وكذا مغايرتهما في الجملة ، فالاستعمال فيه بملاحظة الاولى حقيقة وبالثانية مجاز ، سواء قيل بوجود الطبيعي أو لا (2)

ص: 121


1- المورد هو الفاضل المدقّق الشيرواني.
2- نعم يصير الاتّحاد على القول بنفي الكلّي الطبيعي بين الفرد والماهيّة مجازيّا ، كما في سائر العرضيّات وهو لا يستلزم كون الاستعمال في الفرد مجازا ، لما عرفت أنّ استعمال اللفظ الموضوع بإزاء الماهيّة في الفرد من حيث اتّحاد معناه تعليق الحكم على الكلّي ، بحيث يسري إلى الفرد ويكون المقصود في الضمير هو إثبات الحكم للفرد لا أنّ المقصود من اللفظ وما استعمل فيه هو الخاصّ ، ولا مجال للمنازعة في سراية الحكم المعلّق بالطبيعة إلى الأفراد لو كان اتّحادهما مجازيّا انتهى. هذه عبارته نقلناها بعد ماعترنا عليها (منه). - لاحظ حاشية المدقق الشيرواني - المعالم: 45.

واجيب : بعدم إباء ما ذكره المصنّف عن ذلك ، إلاّ أنّه لمّا كان وجه المجازيّة على الفرض الأوّل ظاهرا وعلى الثاني خفيّا من جهة ما ذكره من الإشكال ، فقد يتوهّم الفرق بين الصورتين ، أراد بذلك تصوير المجازيّة على الفرض الثاني أيضا بما قرّره.

ومنها : أنّ ما ذكر في وجه التجوّز إنّما يتمّ لو كانت الوحدة مندرجة فيما استعمل اللفظ [ فيه ] وإلاّ فلا مدخليّة لنفي صلاحية اللفظ في ذلك الاستعمال لغير المصداق المذكور فيما استعمل اللفظ فيه ، وقد عرفت فساده عند تعرّض المصنّف لاعتبار الوحدة في معان المفردات.

واجيب : بأنّ عدم صلاحية المعنى إذن لغير ذلك المصداق ليس من جهة اعتبار الوحدة في المستعمل فيه ، ضرورة عدمها مع عدمه أيضا.

وأنت خبير بعدم ارتباط ذلك بما ذكره المورد ، فإنّ مبناه ليس على توهّم ابتناء عدم الصلاحيّة على اعتبار الوحدة في المستعمل فيه حتّى يجاب عنه بمنع الابتناء ، بل على ظهور ما ذكره المصنّف من أنّ نفي الصلاحية معنى زائد على ما وضع اللفظ له ، وقد اريد معه فيكون مجازا فيتوجّه إليه حينئذ ما ذكر في الإيراد ، ومحصّله : أنّ كون إرادة ذلك المعنى الزائد على ما وضع له اللفظ معه من اللفظ موجبة لكونه مجازا مبنيّ على دخول الوحدة فيما وضع له اللفظ ، فيكون إرادة غيره معه موجبة لانتفاء قيد « الوحدة » فيلزم المجاز ، لكون اللفظ حينئذ مستعملا في جزء ما وضع له.

فالأولى في دفعه أن يقال : إنّ ما فرضه المصنّف من المجاز ليس من قبيل ما يلزم من جهة انتفاء قيد « الوحدة » عمّا استعمل فيه اللفظ ، وإن كان يوهمه ظاهر العبارة ، بل غرضه بذلك ما تقدّم من أنّ المعنى الغير الصالح للصدق على غير الفرد المخصوص أيضا مغاير للمعنى الصالح له ، فإرادة الأوّل عمّا وضع للثاني توجب المجاز.

ومنها : أنّه لا مدخل لوجود الكلّي الطبيعي وعدمه بالمقام ، على ما سيحقّقه المصنّف من كون الوضع في « الأمر » وغيره من الأفعال عامّا والموضوع له خاصّا ، فليس الموضوع له كلّيّا حتّى يكون فيه مجال للكلام المذكور.

أقول : لا يذهب عليك إنّه يتوجّه من هنا إشكال إلى ما ذكره المصنّف في ردّ الاستدلال من كون المجاز لازما على تقدير الوضع للقدر المشترك عند إرادة كلّ من المعنيين بقيد الخصوصيّة ، وذلك إنّ الموضوع له في « الأمر » إذا كان هو الخصوصيّات والجزئيّات كما هو قضيّة القول المذكور الّذي ذهب إليه المصنّف ، فكيف يحكم بكون

ص: 122

الاستعمال في الخصوصيّتين مجازا ، بل ليس ذلك إلاّ تدافع واضح ، وكذلك يتوجّه نظير ذلك إلى المستدلّ لو كان في الأفعال وما يضاهيها ممّا يستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه من أصحاب هذا القول ، ضرورة تنافي المصير هاهنا إلى الوضع للقدر المشترك له في بادئ النظر.

والتوفيق أنّ الخصوصيّات المندرجة تحت كلّ أمر عامّ متصوّر قبل الوضع فيما كان من الألفاظ من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ الواقعة موضوعا لها لابدّ وأن تؤخذ منسوبة بحسب المرتبة إلى ذلك الأمر العامّ ، فإن كان ذلك من مقولة الأجناس فخصوصيّاته الواقعة متعلّقة للوضع إنّما هي الأنواع المندرجة تحتها ، وإن كان من قبيل الأنواع فالخصوصيّات المنسوبة إليه إنّما هي الأشخاص والجزئيّات ، فلا يجوز التخطّي عمّا كان من الخصوصيّات من قبيل القسم الأوّل في الحكم بتحقّق الوضع لها إلى ما كان منها من قبيل القسم الثاني.

ألا ترى أنّ الخصوصيّات الّتي وضعت بإزائها هيئة « فاعل » ونحوها من المشتقّات عند من يراها من هذا الباب ليست إلاّ الذوات المتّصفة ب- « الضرب » و « القتل » و « العلم » و « الجهل » وغيره ، مع أنّها بالإضافة إلى الذات المتّصفة بالمبدأ الّتي أخذها الواضع آلة للملاحظة أنواع كما لا يخفى.

فخصوصيّة الموضوع له - فيما كان من الألفاظ من هذا القبيل - بالإضافة إلى العنوان الّذي لاحظه قبل الوضع لا تنافي كونه كلّيّا بالإضافة إلى حدّ ذاته ، فالذات المتّصفة بالضرب خاصّ لو اضيفت إلى الذات المتّصفة بالمبدأ أو الحدث ، وهي كلّي في حدّ ذاتها لو اضيفت إلى الذوات المتّصفات بهذا الضرب وذاك الضرب ، وذلك الضرب (1) ومن هذا الباب « الطلب » الّذي هو مادّة الإشكال ، فإنّه إذا كان قد لاحظه الواضع قبل الوضع من حيث هو مع قطع النظر عن قيديه الحتميّة واللاحتميّة جنس ، كالحيوان إذا لوحظ مع قطع

ص: 123


1- والحاصل : أنّ الواضع فإمّا أن يتصوّر الطلب الحتمي عنوانا ، فخصوصيّاته المندرجة تحته الطلبات الحتميّة الصادرة عن آحاد المتكلّمين الموضوع لها على القول بكونها للوجوب ، أو يتصوّر الطلب الغير الحتمي فخصوصيّاته حينئذ المندرجة تحته الطلبات الغير الحتميّة الصادرة عن آحاد المتكلّمين فيكون هي الموضوع لها على القول بالندب ، أو يتصوّر الطلب بدون ملاحظة القيدين فخصوصيّاته حينئذ هو الطلبات المطلقة المضافة إلى المتكلّمين لا الطلبات الحتميّة وغيرها. ( منه ).

وربّما توهّم تساويهما * ، باعتبار أنّ استعماله في القدر المشترك على الأوّل مجاز ، فيكون مقابلا لاستعماله في المعنى الآخر على الثاني ، فيتساويان.

__________________

النظر عن قيوده الّتي هي فصول لأنواعه ، فيندرج تحته بهذا الاعتبار أنواع ، وهي الطلبات القائمة بأنفس الطالبين شأنا ، فهذه هي الخصوصيّات الّتي تعلّق الوضع بها على تقدير صحّة القول بالوضع للطلب ، ولا شبهة في كون كلّ من تلك الخصوصيّات بالنظر إلى الاتّصاف بالحتميّة وعدمها ذا وجهين ، فيكون كلّيّا بالنسبة إليهما قدرا مشتركا بينهما.

وقضيّة ذلك خروج الاستعمال عند إرادة كلّ من الخصوصيّتين مجازيّا لخروجها عن الموضوع له جزما ، فلا تدافع ولا اعتراض كما لا يخفى (1).

لا يقال : كيف يفرض الطلب عن كلّ طالب كلّيّا مع أنّه في الواقع غير منفكّ عن إحدى الخصوصيّتين ، لأنّه _ مع أنّه يصحّ فرضه ، بل وقوعه من الغافل _ غير قادح في ذلك ، لكون كلّ منهما حينئذ من لوازم الوجود الخارجي فلا يلزم كونها معتبرة فيما تعلّق به الوضع ، كما في سائر الماهيّات الّتي لها لوازم بحسب وجودها الخارجي وليست بداخلة فيها باعتبار عروض الوضع لها.

نعم يبقى الإشكال في أنّ الطلب _ بناء على التحقيق السابق من كونه في الأفعال الطلبيّة حالة في الغير وآلة لملاحظته _ تابع للنسبة ، وهي في كونها موضوعة لها لا كلّيّة لها جزما فكيف يعقل الكليّة في تابعها.

ولكن يدفعه : إنّه إنّما يتوجّه لو كان حالة في النسبة وليس كذلك ، بل هو حالة في الحدث المنسوب ، كما أنّ النسبة حالة فيه ، فإنّ هيئة « افعل » إنّما وضعت لنسبة الحدث إلى فاعل معيّن من حيث كونه مطلوبا للمتكلّم ، بمعنى أنّ الموضوع له نسبة الحدث المطلوب للمتكلّم إلى فاعله ، كما أنّ هيئة « فعل » موضوعة لنسبة الحدث من حيث وقوعه في الزمن الماضي إلى فاعله فيكون تابعا للحدث ، فلا ينافيه كونه كلّيّا بالضرورة.

* وملخّص ذلك : أنّه على تقدير كون « الأمر » حقيقة في الوجوب مجازا في الندب لو اتّفق استعماله شرعا في القدر المشترك كان مجازا ، فيحصل معنيان مجازيّان تساوى

ص: 124


1- إشارة إلى اندفاع الإيراد المذكور بما حقّقناه ، كاندفاع التنافي المتوهّم عن كلامه والتدافع الموهوم عن كلام المستدلّ على تقديريه. ( منه ).

وليس كما توهّم ، لأنّ الاستعمال في القدر المشترك ، إن وقع ، فعلى غاية الندرة والشذوذ ، فأين هو من اشتهار الاستعمال في كلّ من المعنيين وانتشاره.

وإذا ثبت أنّ التجوّز اللازم على التقدير الأوّل أقلّ ، كان بالترجيح - لو لم يقم عليه الدليل - أحقّ.

__________________

نسبتهما اليهما على تقدير وضعه للقدر المشترك حقيقة واستعمل في كلّ واحد من الوجوب والندب مجازا.

والجواب : ما أشار إليه من أنّ الاستعمال في القدر المشترك إن وقع فعلى غاية الندرة والشذوذ.

وتوضيحه : ما نقل عنه في الحاشية من بعد الوقوع ، حيث أنّ الطالب للشيء إذا لم يكن غافلا عن تركه فإمّا أن لا يريد المنع منه أو يريده ، والأوّل هو الندب والثاني هو الوجوب ، وإنّما يتصوّر إرادة الطلب المجرّد عند الغفلة عن الترك ، وحيث إنّ العمدة في مباحث « الأمر » على أوامر الشارع ففرض الاستعمال في القدر المشترك غير معقول ، وربّما يعزى إليه إنّه عقّبه بقوله : « فتأمّل ».

فقيل في وجهه : إنّه فرق بين إرادة المنع وعدمه في الضمير ، وبين إرادة إفادته من اللفظ ، واللازم لغير الغافل هو الأوّل وملزوم الاستعمال هو الثاني ، والاشتباه إنّما من الخلط بين الإرادتين.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ المنشئ للطلب إنّما ينشئ الطلب الخاصّ الواقع منه بالصيغة الخاصّة ، فإنشاؤه الوجوب أو الندب إنّما يكون بالصيغة المذكورة ، إذ مجرّد الإرادة النفسيّة لا تقضي بإنشاء المعنى في الخارج.

كيف ومن البيّن أنّ الطالب للشيء إنّما يوقع طلبه غالبا على أحد الوجهين إلاّ أن يكون غافلا ، فالطلب الخاصّ مراد من اللفظ قطعا.

أقول : وكأنّ ما أفاده الفاضل الشيرواني راجع إلى ما قرّرناه من كون الحتميّة وخلافها على القول بالوضع للقدر المشترك من لوازم الطلب بحسب وجوده ، فلا يلزم من دخولهما في الإرادة دخولهما في الوضع ، فلا يتوجّه إليه حينئذ ما تصدّى بإيراده الفاضل المشار إليه كما لا يخفى.

ص: 125

مقالة السيّد المرتضى في مفاد الصيغة

احتجّ السيّد المرتضى رضى اللّه عنه على أنّها مشتركة لغة بأنّه لا شبهة في استعمال صيغة الأمر في الايجاب والندب معا في اللغة ، والتعارف ، والقرآن ، والسنّة ، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة * ، وإنّما يعدل عنها بدليل.

قال : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة ».

واحتجّ على كونها حقيقة في الوجوب بالنسبة إلى العرف الشرعيّ ** :

__________________

* وقد ظهر في غير واحد من مواضع الجزء الأوّل من الكتاب وفي بعض مواضع هذا الجزء أيضا تزييف هذا الاحتجاج ، فإنّ الاستعمال من الحقيقة إذا كان بمنزلة الجنس أو الفصل _ الّذي هو أيضا في معنى الجنس في العموم _ فالضرورة قاضية بعدم صلوحه دليلا عليها بخصوصها ، كيف وقضيّة قولهم : « العامّ لا يدلّ على الخاصّ » قد صارت من القضايا الّتي قياساتها معها.

نعم لو انضمّ إليه غيره ممّا أوجب القطع بالمطلوب أو الظنّ المعتبر به في المقام _ ممّا تقدّم تفصيل ذكره في محلّه _ لا منع عن المصير إليه حينئذ ، والمقام ليس منه كيف والأدلّة قد انتهضت على اختصاصها بالوجوب ، فلا يبقى تعويل على الاستعمال لو قلنا به.

فمن هنا تبيّن ما في قوله : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة » فإنّ الدلالة على الحقيقة في الشيء الواحد ليست هو الاستعمال ليتمّ القياس _ كما تقدّم في محلّه أيضا _ مضافا إلى وضوح الفرق بين المقامين بكون منع الحقيقة في أحدهما يستلزم المجاز بلا حقيقة دون الآخر.

** واعلم أنّ إطلاق هذه النسبة في كلام الجماعة يقضي بأنّه يجعل عرف الشرع في الصيغة مقابلا للّغة ، نظير ما هو الحال في المخترعات الشرعيّة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وهو وإن كان يساعده احتجاجه لحمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن والسنّة على الوجوب ، التفاتا إلى احتمال كونه احتجاجا بفهمهم والتبادر الثابت لديهم الكاشف عمّا أوجبه على هذه الدعوى ، ولكنّه لا يلائمه عدّة امور في كلامه المنقول هاهنا ، قاضية بكونه بصدد إقامة قرينة معيّنة على إرادة الوجوب خاصّة عن الأوامر الواردة في الشريعة مع بقائه على ما هي عليه بحسب اللغة.

ص: 126

بحمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، وكان يناظر بعضهم بعضا في مسائل مختلفة ، ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من اللّه سبحانه أو من رسوله صلى اللّه عليه وآله ، لم يقل صاحبه هذا أمر ، والأمر يقتضي الندب ، أو الوقف بين الوجوب والنّدب ، بل اكتفوا في اللّزوم والوجوب بالظاهر. وهذا معلوم ضرورة من عاداتهم ومعلوم أيضا : أنّ ذلك من شأن التابعين لهم ، وتابعي التابعين. فطال ما اختلفوا وتناظروا ، فلم يخرجوا عن القانون الّذي ذكرناه. وهذا يدلّ على قيام الحجّة عليهم بذلك حتّى جرت عادتهم ، وخرجوا عمّا يقتضيه مجرّد وضع اللّغة في هذا الباب.

قال رحمه اللّه : « وأمّا أصحابنا ، معشر الاماميّة ، فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه ، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللّغة ، ولم يحملوا قطّ ظواهر هذه الألفاظ إلاّ على ما بيّناه ، ولم يتوقّفوا على الأدلّة. وقد بيّنا في مواضع من كتبنا : أنّ إجماع أصحابنا حجّة ».

__________________

منها : جعله استعمال صيغة الأمر في الإيجاب والندب معا في اللغة والتعارف والقرآن والسنّة ممّا لا شبهة فيه ، فإنّ مراده من التعارف إنّما هو عرفه المتأخّر عن عرف الشرع المتأخّر عن اللغة ، فلا يتصوّر مخالفة الشرع لهما إلاّ على احتمال سخيف يبعد المصير إليه من جاهل فضلا عن عالم فاضل ، وهو هجر أحد معنيي المشترك في زمان الشرع إلى العرف المتأخّر عنه فعوده إلى ما كان عليه أوّلا.

ومنها : جعله الاستعمال فيهما ثابتا في القرآن والسنّة ، وقضيّة ذلك مع انضمام ظهور الاستعمال عنده في الحقيقة اعتقاده بالاشتراك في عرف الشرع ، فكيف يتصوّر معه المصير إلى ما ذكر إلاّ ممّن ليس له حظّ من الفهم.

ومنها : قوله في بيان كيفيّة مناظرة الصحابة بعضهم بعضا : « ومتى أورد أحدهم على صاحبه أمرا من اللّه سبحانه أو من رسوله صلى اللّه عليه وآله لم يقل صاحبه : هذا الأمر يقتضي الندب أو الوقف بين الوجوب والندب » فإنّه لو لا ما ذكرناه لكان عليه أن يقول مكان قوله : « هذا الأمر » « صيغة الأمر » كما لا يخفى على الفطن العارف الذكيّ.

ص: 127

والجواب عن احتجاجه الأوّل : أنّا قد بيّنا أنّ الوجوب هو المتبادر من إطلاق الأمر عرفا ، ثمّ إنّ مجرّد استعمالها في الندب لا يقتضي كونه حقيقة ايضا ، بل يكون مجازا ؛ لوجود أماراته ، وكونه خيرا من الاشتراك ، وقوله : « إنّ استعمال اللّفظة الواحدة في الشيئين او الأشياء كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة » ، إنّما يصحّ إذا تساوت نسبة اللفظة إلى الشيئين أو الاشياء في الاستعمال ، أمّا مع التفاوت بالتبادر وعدمه او بما أشبه هذا من علامات الحقيقة والمجاز ، فلا. وقد بيّنا ثبوت التفاوت.

__________________

ومنها : قوله : « وهذا يدلّ على قيام الحجّة عليهم بذلك ، حتّى جرت عادتهم » فإنّ مراده بالحجّة إنّما هو القرينة المعيّنة للمراد ، وإلاّ لكان منافيا لما ادّعاه أوّلا من التبادر لو نزّلنا كلامه إليه ، لأنّ التبادر مع ضميمة حجّة خارجيّة لا يقضي بالمطلوب ، مضافا إلى عدم افتقاره بعد دعوى التبادر إلى بيان تلك المقدّمة ، فيكون ذلك قرينة واضحة على أنّه ليس بصدد دعوى التبادر ، بل غرضه عن مجموع كلامه أنّ من حمل الصحابة وعملهم يستكشف عن بلوغ قرينة إليهم دلّتهم على تعيين الوجوب في إرادة الشارع ، وأقوى ما يقضي بذلك أيضا قوله _ بعد ما ذكر _ : « وخرجوا عمّا يقتضيه مجرّد وضع اللغة في هذا الباب » فإنّ مقتضى وضع اللغة مع التجرّد عن القرينة إنّما هو الوقف كما هو الحال في سائر المشتركات ، فيكون حملهم المنافي للوقف دليلا واضحا على وجود قرينة معيّنة للوجوب لديهم قد اختفت علينا لأجل الحوادث والعوارض.

وبالجملة : لا نفهم من السيّد قولا آخر في الصيغة بحسب عرف الشرع ، وإنّما يقول بالوجوب فيه نظير ما يقوله كافّة الأصحاب وأرباب سائر الأقوال من دعوى قيام الدليل على وجوب حمل الأوامر في كلام الشارع على الوجوب ، وإن لم يكن ممّا يقتضيه أصل اللغة ، غاية الفرق بينه وبين غيره أنّه يجعله بحسب اللغة مشتركا لفظيّا بينه وبين الندب ، وغيره بين من يجعله مشتركا معنويّا ومن يجعله حقيقة خاصّة في الأوّل ، ومن يجعله حقيقة خاصّة في الندب وهكذا إلى سائر الأقوال.

هذا بناء على استفادة هذا المذهب منه عن الاحتجاج المذكور لو كان عين عبارته ،

ص: 128

وأمّا احتجاجه على أنّه في العرف الشرعيّ للوجوب ، فيحقّق ما ادّعيناه ، إذ الظاهر أنّ حملهم له على الوجوب إنّما هو لكونه له لغة ، ولأنّ تخصيص ذلك بعرفهم يستدعي تغيير اللفظ عن موضوعه اللغوي ، وهو مخالف للأصل. هذا ، ولا يذهب عليك أنّ ما ادّعاه في أوّل الحجّة ، [ من ] استعمال الصيغة للوجوب والندب في القرآن والسنّة ، مناف لما ذكره من حمل الصحابة كلّ امر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب ، فتأمّل!.

احتجّ الذاهبون إلى التوقّف : بأنّه لو ثبت كونه موضوعا لشيء من المعاني ، لثبت بدليل ، واللازم منتف ؛ لأنّ الدليل إمّا العقل ، ولا مدخل له ، وإمّا النقل ، وهو إمّا الآحاد ، ولا يفيد العلم ، أو التواتر ، والعادة تقتضي بامتناع عدم الاطّلاع على التواتر ممّن يبحث ويجتهد في الطلب. فكان الواجب أن لا يختلف فيه.

__________________

وأمّا لو استفادوه عن موضع آخر من كلامه الصريح فيه فلابدّ من أن ينظر فيه.

فعلى ما ذكر لا يرد عليه ما أورده المصنّف في آخر كلامه من منافاة ما ادّعاه أوّلا من استعمال الصيغة في الوجوب والندب في القرآن والسنّة لما ذكر ثانيا من حمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن والسنّة على الوجوب ، ولا ما اورد أيضا من أنّه بعد فرض الاستعمال في الندب بالنسبة إلى عرف الشرع مجازا لا فائدة تترتّب على أخذه في الاحتجاج ، ولا ما أجابوا عن احتجاجه الثاني تارة : بأنّ الإجماع المذكور إنّما يفيد حملهم أوامر الشرع عليه وهو أعمّ من كونها موضوعة لمطلق الطلب ، أو كونها مشتركة بين المعنيين كما اختاره في وضعها بحسب اللغة.

واخرى : بأنّه لا دلالة في الإجماع المذكور على استناد الفهم المشار إليه إلى نفس اللفظ ، بل قد يكون من جهة ظهور الطلب في الوجوب كما هو معلوم من فهم العرف أيضا بعد الرجوع إلى المخاطبات العرفيّة.

وثالثة : بأنّه إذا دلّ الإجماع على كونه حقيقة في عرف الشرع في الوجوب خاصّة ، فقضيّة أصالة عدم تعدّد الاصطلاح وعدم تحقّق الهجر أن يكون كذلك بحسب اللغة أيضا.

ص: 129

والجواب : منع الحصر * ؛ فانّ ههنا قسما آخر ، وهو ثبوته بالأدلّة الّتي قدّمناها ، ومرجعها الى تتّبع مظانّ استعمال اللفظ والأمارات الدالّة على المقصود به عند الاطلاق.

حجّة من قال بالاشتراك بين ثلاثة أشياء : استعماله فيها ، على حذو ما سبق في احتجاج السيد رحمه اللّه على الاشتراك بين الشيئين. والجواب ، الجواب.

وحجّة القائل بأنّه للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الإذن ، كحجّة من قال بأنّه لمطلق الطلب : وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وجوابها كجوابها.

واحتجّ من زعم أنّها مشتركة بين الأمور الأربعة بنحو ما تقدّم في احتجاج من قال بالاشتراك ، وجوابه مثل جوابه.

فائدة

مفاد الأمر في الأحاديث المرويّة عن الأئمّة

يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة ** : أنّ استعمال

__________________

* والأولى أن يقال : إنّ العقل إن اريد به ما كان مستقلاّ في إثبات المطلوب فمنع مدخليّته مسلّم ، ولكنّ الحصر المستفاد من الاحتجاج غير مسلّم لوجود قسم آخر في المقام وهو ثبوته بما تقدّم من الأدلّة من الآيات وغيرها ، وإن اريد به الأعمّ حتّى لو كان العقل جزءا من الدليل لا يكون عليه تعويل.

ففيه : منع واضح ، كيف وعدّهم ما يتركّب من النقل والعقل من أدلّة اللغة لا خفاء فيه على أحد ، مع أنّه لا يتمّ دليل إلاّ وللعقل مدخل فيه كما لا يخفى على من لاحظ التبادرات وغيرها من الأمارات ، وأقلّ ذلك كون النظر في الدليل من قبله ، هذا مضافا إلى منع لزوم القطع في اللغات حتّى يمنع عن الاكتفاء بالآحاد ، ومنع لزوم الاختلاف عدم وقوع التواتر في الواقع ، فإنّ المتواتر إنّما يفيد القطع مع قابليّة المحلّ له بعدم سبق الشبهة إليه ، وعدم مسارعة التشكيكات القادحة إلى ذهنه.

** واجيب عنه (1) تارة : بأنّ شيوع الاستعمال في الندب مع القرينة لا يستلزم تساوي

ص: 130


1- المجيب هو السلطان ( منه ).

صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوى احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجيّ ؛ فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم السلام.

__________________

الاحتمالين في المجرّد عن القرينة.

نعم ، إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة المقارنة بأن يكون استعمالهم فيه مطلقا ، فعلم بدليل منفصل أنّ مرادهم الندب فلا بعد لما ذكره ، وكأنّه مراده ولكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو من إشكال.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ شيوع استعمال اللفظ في معناه المجازي قاض برجحان المجاز على ما كان عليه قبل الشيوع ، سواء كان استعماله فيه على الوجه الأوّل أو الثاني أو الملفّق منهما ، وكلّما زاد الشيوع قوي المجاز إلى أن يبلغ حدّ المساواة مع الحقيقة أو الرجحان عليه في صورة الإطلاق أيضا ، حملا له على الأعمّ الأغلب ، وذلك أمر ظاهر بعد الرجوع إلى العرف.

واخرى (1) : بأنّ حمل « الأمر » على الندب في أحاديثنا المرويّة إمّا لقرينة دالّة عليه فمن البيّن أنّه لا يستلزم كونه مساويا للحقيقة ، فإنّ أكثر الألفاظ في كلام العرب شاع استعمالها في المعاني المجازيّة ، وعليه معتمد الشعراء والخطّاب ، وإمّا لعارض أو ضعف في السند وذلك لا يستلزم الاستعمال في الواقع ، بل ذلك مقتضى الجمع بين الأدلّة أو العمل بدليل خاصّ دلّ على رجحان العمل بمقتضى الرواية الضعيفة.

والظاهر أنّ مراده بذلك عمومات « من بلغ ».

وأورد عليه الفاضل المذكور : بأنّه مع البناء على ذلك يلزم امتناع حصول المجاز المشهور ، بل النقل الحاصل من الغلبة ، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي إنّما يكون مع القرينة المتّصلة أو المنفصلة [ إذ ] بدونها لا يحمل اللفظ إلاّ على معناه الحقيقي. والمفروض أنّ الغلبة الحاصلة بأيّ من الوجهين المذكورين هذا (2).

ص: 131


1- هذا مستفاد من كلام الشيرواني.
2- والظاهر وقوع سقط في هذه العبارة فلابدّ من النظر في نسخة اخرى من نسخ هداية المسترشدين. ( منه ). أقول : الساقط من نسخة المؤلف قدس سره ما يلي : لا يقضي بمساواة المجاز للحقيقة أو ترجيحه عليها ولو بملاحظة تلك الشهرة ، فكيف يحصل المجاز المشهور أو النقل على الوجه المذكور؟

وأمّا البناء على الاستحباب من جهة ضعف الرواية وقصورها عن إثبات الوجوب للتسامح في أدلّة السنن فممّا لا ربط له بالمقام ، وكذا حمل الرواية على الندب عند التعارض بمجرّد ترجيح إعمال الدليلين على طرح أحدهما من غير أن يحصل هناك فهم عرفي يقضي بذلك [ كما ذهب إليه البعض ] فذكر ذلك في المقام ليس على ما ينبغي ، لوضوح خروجه عن محلّ الكلام ، إذ ليس شيء من ذلك قرينة متّصلة ولا منفصلة على إرادة الندب من اللفظ.

والمفروض في كلام المصنّف شيوع استعمال الأوامر في الندب ، وأين ذلك ممّا ذكر.

فأجاب عنه (1) ذلك الفاضل أوّلا : بأنّ المعتبر في الغلبة الباعثة على الوقف أو الصرف هو ما إذا كانت قاضية بفهم المعنى المجازي مع الإطلاق ، وكونه في درجة الظهور مكافئا للمعنى الحقيقي حتّى يتردّد الذهن بينهما أو يكون راجحا على معناه الحقيقي ، وحصول ذلك في أخبارهم [ عليهم السلام ] غير ظاهر ، بل من الظاهر خلافه ، إذ الظاهر أنّ الأوامر الواردة عنهم على نحو سائر الأوامر الواقعة في العرف والعادة ، والمفهوم منها في كلامهم هو المفهوم منها في العرف.

ويشهد له ملاحظة الإجماع المذكور في كلام السيّد وغيره ، فإنّه يشمل كلام الأئمّة عليهم السلام ، وملاحظة طريقة العلماء في حمل الأوامر على الوجوب كافية في ذلك ، ولم نجد الدعوى المذكورة في كلام أحد من متقدّمي الأصحاب مع قرب عهدهم ووفور اطّلاعهم (2).

ومع الغضّ عن ذلك ، فالشهرة المدّعاة إمّا بالنسبة إلى أعصارهم عليهم السلام ليكون اللفظ مجازا مشهورا في الندب عند أهل العرف في تلك الأزمنة ، أو بالنسبة إلى خصوص الأوامر الواردة عنهم عليهم السلام فيكون مجازا مشهورا في خصوص ألسنتهم عليهم السلام دون غيرهم.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون الشهرة حاصلة بملاحظة مجموع أخبارهم المأثورة عنهم عليهم السلام ، أو بملاحظة الأخبار المرويّة عن بعضهم ، أو بالنسبة إلى كلام كلّ واحد منهم ليكون الاشتهار حاصلا في كلام كلّ واحد منهم استقلالا.

ص: 132


1- أي عن دعوى المصنّف رحمه اللّه.
2- هكذا عقيب تلك العبارة في هداية المسترشدين : « بل لم نجد ذلك في كلام أحد ممّن تقدّم على المصنّف ، ولو تحقّقت الغلبة المذكورة لكان أولئك أولى بمعرفتها. فاتّفاقهم على حملها على الوجوب كاشف عن فساد تلك الدعوى ، بل في بعض الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام دلالة على خلاف ذلك حسب ما مرّت الإشارة إليه » ولعلّ المصنّف رحمه اللّه أسقطها تلخيصا واللّه العالم.

فإن تمّ الوجه الأوّل وظهر حصول الاشتهار على ذلك الوجه في عهد أيّ منهم عليهم السلام تفرّع عليه الثمرة المذكورة في الأخبار الواردة بعد تحقّق الشهرة ، إلاّ أنّ دعوى الشهرة المذكورة بعيدة جدّا ، ولم يدّعه المصنّف أيضا ، ومع ذلك فليس التاريخ فيه معلوما.

وعلى الوجه الثاني فالشهرة المدّعاة لا تثمر شيئا بالنسبة إلى أخبارهم عليهم السلام ، إذ من البيّن أنّ ذلك لو أثّر فإنّما يؤثّر بالنسبة إلى ما بعد حصول الاشتهار وأمّا بالنسبة إلى تلك الأخبار الباعثة على الاشتهار فلا.

وعلى الوجه الثالث لا إشكال في الأوامر الواردة عمّن تقدّم على من حصل الاشتهار في كلامه ، بل وكذا بالنسبة إلى من تأخّر عنه ، إذ المفروض عدم تحقّق الشهرة العرفيّة ، وإنّما الشهرة المفروضة شهرة خاصّة بمتكلّم مخصوص.

ومن البيّن أنّ الشهرة الحاصلة في كلام شخص خاصّ لا تقضي بجري حكمها في كلام غيره مع تحقّقها بالنسبة إليه.

وكونهم : بمنزلة شخص واحد وأنّ كلام آخرهم بمنزلة كلام أوّلهم ممّا لا ربط له بالمقام ، فإنّ ذلك إنّما هو في بيان الشرائع والأحكام دون مباحث الألفاظ وخصوصيّات الاستعمالات ، بل وكذا بالنسبة إلى الأوامر الصادرة عمّن حصل الاشتهار في كلامه إذا استند الشهرة إلى مجموع الاستعمالات الحاصلة منه ، إذ لا توقّف حينئذ في نفس تلك الاستعمالات الّتي يتحقّق بها الاشتهار حسبما عرفت.

نعم ، يثمر [ ذلك ] في كلامه لو صدر بعد تحقّق الاشتهار المفروض إن يتبيّن تاريخ الغلبة.

وقد يسري الإشكال في جميع الأخبار المأثورة عنه عليه السلام مع جهالة التاريخ أيضا ، إلاّ أن يقال : بأصالة تأخير الشهرة إلى آخر أزمنته عليه السلام مع الظنّ بورود معظم الأخبار المرويّة عنه قبل ذلك ، فيلحق المشكوك بالغالب.

ويجري التفصيل المذكور أخيرا على الوجه الرابع أيضا ، ودعوى الشهرة على هذا الوجه غير ظاهرة عن عبارة المصنّف ولا من الأخبار المأثورة حسبما استند إليها ، فإنّ أقصى ما يستظهر في المقام حصول الشهرة في الجملة بملاحظة مجموع الأخبار المأثورة.

فظهر بما قرّرناه أنّ ما ادّعاه من الشهرة على فرض صحّته لا يتفرّع عليه ما ذكره من الإشكال ، إلاّ على بعض الوجوه الضعيفة ، هذا.

ص: 133

الجمل الخبريّة المستعملة في الإنشاء

- تعليقة -

قد أشرنا سابقا في صدر بحث الصيغة إلى عدم دخول الجمل الخبريّة المستعملة في الإنشاء في عنوان هذا البحث ، تنبيها على فساد ما توهّمه بعضهم من دخولها في عبارة المصنّف بقوله : « صيغة افعل وما في معناها » فلا يشملها النزاع المتقدّم.

نعم فيها نزاع آخر فيما لو قام من القرائن ما يقضي بعدم إرادة الإخبار منها الموجب لحملها على الطلب ، كما في نحو « يغتسل » و « يتوضّأ » و « يعيد » و « المؤمنون عند شروطهم » و « المؤمن إذا وعد وفى » ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (1) وغير ذلك ممّا لا يحصى ، من حيث دلالتها حينئذ على الوجوب خاصّة إذا كانت موجبة وعدمها ، فالمعروف من مذهب الأصحاب أنّها بعد تعذّر الحقيقة دليل على الوجوب.

وعن جماعة كالبهائي والخوانساري في المشارق ، والسبزواري في الذخيرة ، وثاني الشهيدين في كفّارات المسالك ، والسيّد في المدارك المنع عن الدلالة عليه.

فعن الأوّل أنّه قال في موضع : « دلالتها على الوجوب محلّ توقّف استنادا إلى عدم انحصار سبب العدول فيما يفضي إلى الوجوب » وعنه ايضا أنّه نفى خلوّه عن إشكال في محلّ آخر ، مع أنّه أذعن بها في ثالث.

وعن الثاني : أنّه منع كون التحريم أقرب المجازات إلى النفي ، وهو يعطي منع دلالة الجملة الموجبة على الوجوب.

وربّما يعزى إليه صريحا المصير إلى الحمل على الطلب الندبي.

وعن الثالث : أنّه تأمّل فيه.

ص: 134


1- البقرة : 228.

وعن الرابع : أنّه نفى دلالتها عليه في مواضع ، وفي التمهيد جعله أصرح.

وعن الخامس : أنّه نظر في الحمل عليه ، هذا على ما في كلام بعض الأعاظم.

قال بعض الأفاضل عن جماعة من الأصحاب : المنع من دلالتها على ذلك ، نظرا إلى كونها موضوعة للإخبار وقد تعذّر حملها عليه فتعيّن استعمالها في الإنشاء مجازا ، وكما يصحّ استعمالها في إنشاء الوجوب فكذلك يصحّ استعمالها في إنشاء الندب أو مطلق الطلب ، فإذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات لزم الوقف بينها.

وقضيّة ذلك ثبوت المعنى المشترك وهو مطلق الرجحان ، والثابت به هو الاستحباب بعد ضمّ الأصل إليه ، فلا يصحّ الاستناد إليها في إثبات الوجوب إلاّ بعد قيام قرينة دالّة عليه ، هذا فيما يجري فيه أصل البراءة.

وأمّا إذا كان ذلك في مقام جريان أصل الاحتياط فلابدّ من البناء على الوجوب انتهى.

وربّما يقال - في مثل « المؤمنون عند شروطهم » و « المؤمن إذا وعد وفى » - بأنّ الداعي إلى صرفها عن الحقيقة والباعث على حملها على الإنشاء إنّما هو صون كلام الحكيم عن الكذب ومخالفة الإجماع ، فإنّ المراد به إمّا أنّ المؤمن إذا وعد وفى بوعده ولا يتخلّف عنه أبدا ، أو أنّه هو الّذي إذا وعد وفى فالذي لا يفي فليس بمؤمن ، ولا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه الكذب ولا إلى الثاني للإجماع على أنّ الوفاء بالوعد ليس من شرائط الإيمان ، فتعيّن الحمل حينئذ على الإنشاء ، وهو أنّ المؤمن إذا وعد يجب عليه الوفاء.

ويشكل أنّ المحذورين إنّما يلزمان إذا اريد من القضيّة الضروريّة أو الدائمة ، ومن الاشتراط بيان شرط الإيمان.

وأمّا لو اريد بها المطلقة العامّة - ولا سيّما في المثال المذكور من حيث اشتماله على أداة الإهمال - ومن الاشتراط شرط الكمال فلا ، كما لا يخفى.

فالأولى إيكال الوجه في كلّ مثال إلى قرائن المقام ونحوها ، ولو إجماعا على عدم إرادة الحقيقة.

وتحقيق القول في ذلك : أنّها بعد تعذّر الحقيقة تحمل على الوجوب مطلقا إلى أن يتبيّن من الخارج خلافه ، لا لما قيل من أنّها إذن مستعملة في الطلب الّذي هو ظاهر مع الإطلاق في الوجوب منصرف إليه ، لمنع الظهور ، بل لقربه إلى المعنى الحقيقي عرفا واعتبارا ، فإنّ لزوم الوقف إنّما يتوجّه عند تكافؤ الاحتمالين أو الاحتمالات مع فقد المرجّحات الخارجة.

ص: 135

ولا ريب أنّ المنساق منها في الصورة المفروضة في العرف والعادة هو الطلب الحتمي ، كما أنّه المنساق عن الهيئات الإنشائيّة.

ألا ترى أنّ « الأسد » في قول القائل : « رأيت أسدا في الحمّام » لا يحمل إلاّ على الرجل الشجاع مع احتمال الأبخر والصورة المنقوشة من المعنى الحقيقي حينئذ في الجدار ، والظاهر هو الحجّة في أمثال المقام ، مضافا إلى أنّه ممّا استقرّ عليه طريقة العرف والعقلاء ، فلذا ترى العبد أنّه لو بادر إلى ترك الامتثال فيما لو قال له السيّد : « يا عبدي تروح إلى السوق وتشتري اللحم » أو « تركب وتأتي من البستان بالفاكهة » ونحو ذلك لأطبق العقلاء على ذمّه ، وصحّ من المولى عقابه من دون أن يكون له عند ذلك عذر.

ويؤيّده كونه أقرب إلى الحقيقة اعتبارا من حيث إنّ الجملة الخبريّة للثبوت إن كانت اسميّة ، والوقوع إن كانت فعليّة ولو في آن الاستقبال ، والوجوب في الإنشاءات أقرب إلى الثبوت والوقوع لما في الندب من الرخصة في الترك الباعثة غالبا أو كثيرا على عدم الثبوت والوقوع ، وقاعدة الوقف إنّما يعمل بها إذا لم يكن هناك قرب ، أو كان اعتبارا فقط نظرا إلى أنّه لا عبرة بالاعتبارات في باب اللغات أصلا ما لم يكتنفها ظهور عرفي.

ومن هنا يتّضح عدم صلوحه للمعارضة إذا وجد في طرف المقابل لما وجد فيه القرب العرفي من الطرف الآخر.

وبذلك ينقدح ضعف الاحتجاج : بأنّ الوجوب أقرب إلى الثبوت الّذي هو مدلول الإخبار ، وإذا تعذّرت الحقيقة قدّم أقرب المجازات ، كضعف ما قيل من النكتة الباعثة على إيثارها في مقام إنشاء الطلب على « الأمر » من أنّ دلالتها على الاهتمام بالطلب آكد من دلالة « الأمر » عليه.

وعن علماء المعاني أنّ البلغاء يقيمونها مقام الإنشاء ليحملوا المخاطب بآكد وجه على أداء مطلوبهم ، كما إذا قلت - لصاحبك الّذي لا يريد تكذيبك - : « تأتيني غدا » لتحمل على الالتزام بالإتيان لئلاّ يوهم تركه له تكذيبك فيما ذكرت حيث أتيت بصورة الإخبار ، فإنّها غير مطّردة ، ولو سلّم فجريانها في الخطابات الشرعيّة متّضح المنع ، على أنّها بمجرّدها لا توجب ظهورا وبدونه لا تعويل.

ومن جميع ما قرّر يظهر الكلام في الجمل الخبريّة السلبيّة ، فإنّها بعد تعذّر الحقيقة ظاهرة في التحريم ، فيجب البناء عليه إلى أن يتبيّن من الخارج ما يقضي بخلافه.

* * *

ص: 136

الأمر الواقع عقيب الحظر

- تعليقة -

اختلفوا في مفاد « الأمر » إذا وقع عقيب الحظر ، فقيل : بأنّه الوجوب كالأمر الابتدائي ، صار إليه العلاّمة في التهذيب ، وعزاه بعض الأعاظم إلى الذريعة والعدّة والغنية ، ونقل حكايته بعض الأفاضل عن الشيخ والمحقّق والشهيد الثاني وجماعة من العامّة منهم الرازي والبيضاوي ، وعن الإحكام أنّه عزاه إلى المعتزلة.

وقيل : بأنّه الإباحة مطلقة كما في بعض العبائر ، أو مفسّرة بالرخصة كما في بعضها الآخر.

وقد نسب تارة إلى الجمهور واخرى إلى الأكثر ، واختاره من فحول المتأخّرين جماعة من الأجلاّء ، والّذي يظهر - واللّه أعلم - انحصار القول بين القدماء في هذين وقد أحدث المتأخّرون أقوالا اخر :

فمنها : كونه تابعا لما قبل الحظر إذا علّق « الأمر » بزوال علّة النهي ، كقوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (1) و ( إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (2) وقد حكى ذلك في الهداية والقوانين والإشارات والضوابط.

ومنها : الندب ، المحكيّ فيما عدا الثاني.

ومنها : رجوع الحكم السابق من وجوب أو ندب أو غيرهما ، فيكون تابعا لما قبل الحظر ، حكاه فيما عدا الثاني والرابع إلاّ أنّ الأوّل نقله حكاية عن الوافية.

ومنها : الإباحة الخاصّة ، وقد نقل في الأخير.

ومنها : كونه حقيقة شرعيّة في الإباحة ، حكاه في الثاني والثالث مسندا له إلى ظاهر الحاجبي.

ص: 137


1- التوبة : 5.
2- المائدة : 2.

ومنها : التفصيل بين ما إذا علّق الأمر بزوال علّة عروض النهي فيكون للإباحة ، وما لم يعلّق به فيكون للوجوب ، حكاه في الأوّل ووافقه في ذلك أخوه في الفصول.

ومنها : الوقف ، وقد حكى أيضا فيما عدا الثاني.

ومنها : ما اختاره في الفصول من التفصيل بين كون حكم الشيء قبل الحظر وجوبا أو ندبا وبين غيره ، فعلى الأوّل كان « الأمر » الوارد بعده ظاهرا فيه فيدّل على عود الحكم السابق ، تعليلا بأنّ إباحة العبادة غير معقولة ، وعلى الثاني كان ظاهرا في الإباحة مطلقا.

ثمّ إنّ ظاهرهم تمثيلا ودليلا وتعبيرا بالصيغة في كلام جماعة في طيّ البحث اختصاص النزاع بالأمر بالصيغة ، مضافا إلى تفريع جماعة منهم الخلاف على القول بكونها للوجوب ، وهو كذلك إذ لا ينبغي أن يرتاب أحد في كون الأمر بالمادّة مفيدا للوجوب في جميع أحواله ، كما أنّ ظاهرهم بل صريح كثير منهم عدم كون النزاع في وضع الصيغة ، لأنّه في كلّ محلّ ثبت فلا يختلف باختلاف أحوال الموضوع استحالة الوضع بالشرط ، والمفروض أنّ نزاعهم في وضع الصيغة قد تقدمّ في البحث السابق ، فيرجع نزاعهم ذلك إلى صلاحيّة سبق الحظر على « الأمر » أو تعقّب « الأمر » للحظر لكونه قرينة صارفة لها عن حقيقتها إلى غيرها ممّا ذكر وعدمها ، كما يساعد عليه الأوّل من أدلّة القائلين بإفادتها الوجوب مع الأوّل من أدلّة أصحاب القول بالإباحة - بمعنى الرخصة - على ما سيأتي ، حيث إنّ الأوّلين يتمسّكون بوجود المقتضي وهو الصيغة مع عدم المانع ، نافين لصلاحيّة ما ذكر لكونه موجبا للصرف ، والآخرين يتمسّكون بظهور المقام وكون ما ذكر موجبا لرجحان الإباحة بالمعنى المذكور ، ومثل هذا النزاع ليس بعادم النظير في ذلك الفنّ ، لوقوعه في المجاز المشهور من حيث تقدّمه على الحقيقة المرجوحة أو رجحانها عليه أو تكافؤهما الموجب للوقف ، على ما تقدّم في محلّه من رجوعه إلى أمر صغروي وهو صلوح الشهرة لكونها قرينة صارفة وعدمه.

ومثله النزاع في كون اختصاص الضمير ببعض أفراد العامّ موجبا لتخصيص ذلك العامّ بهذا الفرد وعدمه في وجه (1).

ومثلهما النزاع في كون المخصّص المتعقّب لعمومات عديدة موجبا لتخصيص الكلّ وعدمه في وجه أيضا.

ص: 138


1- والتقييد بذلك إشارة إلى كونه مبنيّا على القول بكون العامّ المخصّص مجازا في الباقي ، فتأمّل. ( منه ).

وإنّما أفردوا تلك المذكورات بالخلاف دون سائر القرائن - حاليّة ومقاليّة ، مع أنّ وقوع التعارض بينهما وبين ظاهر اللفظ باعتبار الوضع من لوازم الكلّ - لانضباطها وما فيها من الجهة الكلّيّة دون غيرها ، لكونها امورا جزئيّة غير منضبطة فلا تقع مبحوثا عنها في شأن أهل النظر ، كذا قيل.

ثمّ إنّهم صرّحوا بعدم الفرق بين كون الحظر متيقّنا أو مظنونا أو مشكوكا فيه أو موهوما ، وإلى ذلك يشير ما في المنية من التعبير عن العنوان « بالأمر الوارد عقيب الحظر أو الإستئذان ».

فعلى هذا يكون جميع الأوامر الواردة في معرض السؤال - محقّقا أو مقدّرا - عمّا يرجع إلى جواز التصرّفات بجميع أنحائها أكلا وشربا واستعمالا ونحوها من هذا الباب ، فيدخل فيه حينئذ قول السائل : « الماء يمرّ عليه الجيف والكلاب فهل أشرب منه وأتوضّأ؟ فقال : إذا تغيّر الماء فلا تشرب منه ولا تتوضّأ ، وإذا لم يتغيّر فاشرب منه وتوضّأ » (1) كما أنّ ظاهرهم - بل صريحهم - أنّ المراد بالحظر هو الشرعي ، فالحظر العقلي ليس بداخل في النزاع كما يساعد عليه - بل يصرّح به - استدلال أصحاب القول بإفادة الوجوب بأنّه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أنّ ورودها [ عقيب ] الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب إلى أن يتبيّن المخرج عنه ، مع أنّها قبل « الأمر » كانت محرّمة من جهة البدعة ، فيكون الحال كذلك في الحظر الشرعي ، ولا يخفى أنّ ذلك يقتضي كون الحمل على الوجوب عند الحظر العقلي متّفقا عليه بين الفريقين.

وهل المراد به النهي النفسي أو أعمّ منه ومن النهي الغيري؟ ظاهرهم على ما يستفاد عن الأمثلة المذكورة في الباب هو الأوّل ، كما استظهره بعض الفضلاء عن كلامهم نافيا لبعد إلحاقه به ، بمعنى أنّه وإن كان خارجا عن مقصودهم إلاّ أنّه يلحق به نظرا إلى وحدة المناط.

ويمكن استفاد [ ة ] التعميم عن استدلالهم بقول المولى لعبده : « اخرج من المحبس إلى المكتب » بعد النهي عنه ، التفاتا إلى احتمالي كون الخروج عن المحبس محظورا لنفسه أو لغيره باعتبار كونه مقدّمة لمحظور آخر. فليتأمّل.

ولا ريب أنّ ظاهره النهي التحريمي أخذا بما هو حقيقة لفظ « الحظر » كما تنبّه عليه الفاضل المشار إليه ، إلاّ أنّه حكم بإلحاق النهي التنزيهي به أيضا في الحكم كما صرّح به أخوه في الهداية ، ومثله في كلام بعض الأعاظم أيضا.

ص: 139


1- الوسائل ، الباب 3 من أبواب الماء المطلق ، ح 4 ( مع اختلاف يسير في العبارة ).

ثمّ إنّ من الأعلام من اعتبر في محلّ البحث اتّحاد مورد « الأمر » والنهي إطلاقا وتقييدا ، ففرّع عليه الحكم بخروج المثال المذكور عن محلّ البحث تعليلا بكون متعلّق النهي فيه مطلق الخروج ومتعلّق الأمر مقيّدا بالذهاب إلى المكتب.

واعترض عليه : بأنّ اشتراط اتّحاد المورد من حيث الإطلاق والتقييد يوجب خروج أكثر أمثلة الباب ، إذ كلّها منه كما لا يخفى.

والأولى أن يقال في ردّه : إن كان المراد أنّ الأمر بالمقيّد وارد على ما ليس بمحظور.

ففيه : أنّ حظر الطبيعة يستدعي حظر جميع أفرادها ، كما هو المصرّح به في غير واحد من مواضع كتابه.

وإن كان المراد أنّ النهي هنا ضمنيّ ، ففيه : منع واضح ، حيث لم يظهر منهم اشتراط صراحة النهي إن لم يكن الظاهر خلافه ، على أنّ العبرة في محلّ البحث - على ما يشهد به ملاحظة عبائرهم - بسبق الحظر سواء استفيد ذلك من نهي صريح أو ضمني ، فلو سأله عن التوضّي بسؤر الحيوان فأمره عليه السلام بالتوضّي بسؤر ما اكل لحمه من الحيوان يكون من محلّ الخلاف ، كما أنّه لو سأله عن شرب سؤر السنّور فأمره بشرب سؤر ما ليس بنجس العين من الحيوان يكون منه ، بل لو سأله عن استعمال قليل لاقاه النجاسة فأمره باستعمال الجاري الّذي لاقاه النجاسة يكون منه ، والفرق بين الأمثلة أنّ النسبة بين مورد الحظر والأمر في الأوّلين عموم مطلق مع وضوح الفرق بينهما ، وفي الأخير عموم من وجه.

وقضيّة ذلك بقاء مادّة الافتراق من جانب الحظر وهو القليل الراكد في المثال تحت الحظر.

وينبغي القطع أيضا بعدم الفرق بين كون الحظر والأمر مستفادين من منطوق الكلام أو فحواه ، فلو سأله عن شرب سؤر الجلاّل ، فأمره بالتوضّي بسؤره يكون من محلّ البحث ، لدلالة السؤال على الحظر في التوضّي والاغتسال بالفحوى ، كدلالة الجواب على الأمر بالشرب بالفحوى.

وينبغي القطع أيضا بأنّ المراد من « الأمر » في محلّ البحث ما كان واردا في سياق التنبيه على رفع الحظر على حسب تحقّقه في المقام ، باعتبار اليقين أو الظنّ أو الاحتمال ولو مرجوحا ، فلو قال : « صلّ » بعد ما نهى عن الغصب لا يكون من محلّ البحث في شيء ، بناء على جعل العامّين من وجه من أفراده كما تقدّم.

فهل المراد بالرفع ما يكون سنخيّا أو أعمّ منه ومن الشخصي؟ وجهان من ظهور الرفع

ص: 140

الواقع في كلماتهم في السنخي ، واتّحاد طريق المسألة فيندرج فيه الشخصي أيضا ، ويظهر الثمرة في الأمر بأكل الميتة في المخمصة ، والأمر بالتداوي بالخمر في حال الحاجة أو الاضطرار ، والأمر بلبس الحرير في حال الحرب أو للبرد أو الحرّ ، فعلى الثاني يكون من محلّ الخلاف دون الأوّل.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام غير واحد منهم بناء الخلاف على القول بوضع الصيغة للوجوب ، وكونه واقعا بين أصحاب هذا القول.

وأنت خبير بإمكان جريانه على سائر الأقوال أيضا ، فيحرّر حينئذ : بأنّ الأمر إذا ورد عقيب الحظر فهل يفيد معناه الحقيقي من الندب أو الطلب أو غيره من المعاني المشتركة لفظا أو معنى ، حسبما كان يفيده الأمر الابتدائي في كلّ من المذكورات أو يفيد الإباحة مطلقا؟

نعم على القول بكونها للإباحة لا يجري النزاع ، لأنّها إذا أفادت الإباحة بالوضع ابتداء فتكون مع سبق الحظر الّذي هو مظنّة إرادتها على تقدير الوضع لغيرها من المعاني أولى بالإفادة كما لا يخفى ، فلا يعقل إنكارها من أصحاب هذا القول على التقدير المذكور.

ثمّ إنّ الأصل في المقام هو الوقف ، أو الحمل على الوجوب ، أو الإباحة ، وجوه : من أنّ عدم القرينة شرط أو جزء لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي والشكّ فيهما شكّ في المقتضي ، فلا يجري أصل فيجب التوقّف لأصالة التوقيف في اللغات.

وأنّ وجودها مانع فيندفع عند الشكّ بالأصل ، فيحمل على الوجوب لوجود المقتضي - وهو الوضع - مع فقد المانع بحكم الأصل.

وأنّ القرينة موجودة وهو سبق الحظر فلا حكم للمقتضي ، سواء جعلنا وجودها مانعا أو عدمها شرطا أو جزءا ، وقضيّة ذلك الحمل على الإباحة لوجود مقتضيها.

ولكن خيرها أوسطها من غير فرق فيه بين شرطيّة أو جزئيّة عدم القرينة ومانعيّة وجودها ، لجريان الأصل على كليهما.

أمّا على الثاني : فواضح.

وأمّا على الأوّل : فلأنّ المقتضي إذا كان ممّا اعتبر فيه قيد عدمي شرطا أو جزءا يجري فيه أصالة العدم لو نشأ شكّه عن قيده العدمي ، وهو في المقام كذلك ، ولا يضرّه وجود ما ذكر من القرينة ، لأنّ القرينة المانعة أو الموجبة لانتفاء المقتضي ما علم فيه أو ظنّ بالتفات طرفي الخطاب إليه ، فهو إذا كان محلاّ للشكّ يجري الأصل كما لو كان وجودها

ص: 141

محلاّ له ، ضرورة عدم كفاية مجرّد وجودها في صرف اللفظ عن معناه الحقيقي وإلاّ لانسدّ باب المخاطبات بالمرّة ، أو نسخت القاعدة القاضية بوجوب الحمل على المعنى الحقيقي على سبيل الكلّيّة ، إذ ما من لفظ إلاّ وهو مقرون عند التخاطب بقرينة.

وإذا تمهّدت هذه كلّها فنقول : الّذي يقتضيه ظاهر النظر ، أنّ المتبادر من هذا الأمر بملاحظة سبق الحظر عليه تبادرا أوّليا - على ما يشهد به الأوامر العرفيّة المتعلّقة بالأموال وما يتبعها الواردة أكثرها عقيب الحظر - إنّما هو رفع الحظر الملازم للإباحة المطلقة المنصرفة إلى الوجوب إن تعلّقت بمصالح الآمر إلاّ ما دلّ خارج على إرادة الندب أو الإباحة أو الكراهة ، وإلى الإباحة الخاصّة إن تعلّقت بمصالح المأمور إلاّ ما دلّ خارج على إرادة غيرها.

وأمّا الندب والكراهة فلا تنصرف إليهما إلاّ بمعونة القرائن الجزئيّة الّتي لا يكون ضبطها من شأن الاصولي ، ولمّا كانت أوامر الشرع إنّما تتعلّق بمصالح العباد جميعا فينبغي تبديل صورة التفصيل بالمنافع العائدة إلى المكلّف في الآجل أو العاجل.

ولا ينافي ما ادّعيناه من أوّليّة التبادر كون المجاز من لوازمه تبادر المعنى الحقيقي أوّلا ثمّ انصراف اللفظ فيه بملاحظة القرينة إلى خلافه ، كما هو التحقيق من أنّ قرينة المجاز لا تصادم الدلالة على المعنى الحقيقي ، فقضيّة ذلك كون المتبادر أوّلا هو الوجوب لأنّه المعنى الحقيقي.

لأنّ ذلك إنّما يستقيم فيما لم يسبق الالتفات إلى القرينة على التفات اللفظ ، والمفروض في المقام خلاف ذلك ، كما في المجاز المشهور الّذي يلزمه سبق الذهن ابتداء إلى المعنى المجازي.

كما لا ضير فيما التزمنا به من قضيّة انصراف الإباحة المطلقة إلى الوجوب بملاحظة تعلّق الصيغة بمصالح الآمر ، نظرا إلى أنّه لكونه المعنى الحقيقي أولى بالتبادر من تبادر خلافه المنصرف إليه ، لأنّ سبق الحظر من القرائن اللازمة لمجازيّ هو أعمّ من الحقيقي وهو الرخصة في الفعل ، فيقضي بانفهامه بمجرّد الالتفات إليه قضيّة للّزوم ، ومن لوازم المعنى العامّ - ولو مجازيّا - إنصرافه إلى بعض خصوصيّاته إن قام هناك ما يقضي بإرادته في ضمنه ، ولا يفرق حينئذ بين كون تلك الخصوصيّة هو المعنى الحقيقي أو غيره ، كما هو من لوازم استعمال اللفظ في عموم المجاز في بعض تقاديره.

ومن هذا الباب انصرافها إلى بعض خصوصيّاتها بملاحظة سبقه على الحظر إن كانت

ص: 142

الواقعة ممّا ثبت لها حكم قبل الحظر من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة على سبيل الإطلاق أو العموم بالنسبة إلى الأفراد والأحوال ، لا بنحو يكون مخصوصا بفرد خاصّ أو حالة مخصوصة ، إلاّ أن يكون المأمور به بعد الحظر هو هذا الفرد على تقدير وجوبه قبله ، من غير فرق في ذلك بين كون الصيغة قد تعلّقت بمصالح الآمر أو المأمور.

غاية الأمر قيام قرينتين متعاضدتين على التقدير المذكور ، وقرينتين متعارضتين على سائر التقادير ، نظرا إلى أنّ القرائن الظنّيّة قد تتعارض بعضها لبعض فتترجّح إحداهما على الاخرى على حسبما يساعده الطريقة الجارية عند العرف ، والظاهر أنّ سبق الحكم كائنا ما كان راجح في نظر العرف على ما يقتضي انفهام الوجوب خاصّة في تقدير أو الإباحة الخاصّة في آخر كما لا يخفى.

فبملاحظة ما قرّرناه يتبيّن عدم ابتناء استفادة الحكم المذكور على ما قيل من عدم جواز الانتقال من الحرمة إلى الوجوب لكونهما متضادّين ، حتّى يرد عليه تارة النقض بالإباحة أيضا ، بدعوى : أنّ الأحكام بأسرها متضادّة.

واخرى : بنفي الاستبعاد عن ذلك تنظيرا له بجواز التصريح بايجاب شيء بعد تحريمه ، التفاتا إلى أنّه لم يتوّهم أحد مانعا عن ذلك ، مع أنّه لو سلّم بناؤها على ذلك لأمكن التقصّي عن الإيراد بأنّ نظر المستدلّ إلى شدّة التضادّ بين الوجوب والحرمة لتبائنهما جنسا وفصلا ، وليس التضادّ بينه وبين سائر الأحكام بهذه المثابة - كما لا يخفى - فلا وجه للنقض ، كما أنّه لا وجه للقياس على التصريح بالإيجاب بعد التحريم ، لأنّ مبنى الاستدلال حينئذ على بعد انتقال الذهن من التحريم إلى الوجوب بعد ملاحظة ما بينهما من شدّة التضادّ بمجرّد الصيغة الّتي دلالتها على الوجوب من باب الظهور الّذي يضعف في مقابلة احتمال آخر أقرب منه ، بخلاف التصريح الّذي لا يزاحمه إحتمال آخر فيوجب انتقال الذهن من دون تحيّر.

وبما ذكر يتبيّن أيضا فساد الاحتجاج على إفادة الوجوب مطلقا بوجود المقتضي - وهو الصيغة الموضوعة له - مع فقد المانع ، فإنّ فقد المانع إن اريد به فقد ذاته ، ففيه : منع واضح إن سلم عن نوع مصادرة.

وإن اريد به انتفاء وصف المانعيّة عنه مع تسليم وجوده ، بدعوى : أنّ مجرّد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح صارفا لها عن ذلك ، كما في بعض العبائر.

ففيه : أنّ ذلك مبنيّ على الظهور ، وهو أمر عرفي غير موكول إلى الاستبعادات الذوقيّة ،

ص: 143

ولقد عرفت شهادة العرف بخلافه ، كما يساعده ملاحظة الاستعمالات العرفيّة.

ولعلّه شبهة نشأت عن ملاحظة الانصراف الثانوي في كثير من موارد استعمالها - على ما عرفت بيانه - غفلة عن عدم منافاته تبادر ما ذكر من الإباحة بالمعنى الأعمّ أوّلا بملاحظة سبق الحظر ، كفساد الاحتجاج على إفادته أيضا بأمر الحائض والنفساء بالصلاة والصيام بعد النهي عنهما ، نظرا إلى أنّه لم يحمله أحد على غير الوجوب ، مضافا إلى قوله تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (1) وكذا قول المولى لعبده : « اخرج من المحبس إلى المكتب » بعد نهيه عن الخروج ، حيث لا يستفاد منه عرفا إلاّ الوجوب ، لعدم منافاة شيء من ذلك لما ذكر ، من حيث استناده إلى قرينة ما ذكر من سبق الوجوب على الحظر ، مضافا إلى تعلّقه بالمنافع الآجلة أو إلى قرينة منفصلة من اجماع ونحوه ، مع أنّ الجميع منقوض بقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (2) وقوله : ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ ) (3) وقوله : ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ) (4).

وأمّا ما يقال في الجواب عن الأخير من خروجه عن محلّ الكلام ، تعليلا بعدم تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي ، ففيه : ما تقدّم في تحرير المسألة.

وإلى ذلك ينظر ما قيل في ردّه : بأنّه إذا تعلّق النهي بالخروج عن المحبس شمل ذلك لجميع أفراد الخروج ومن جملتها الخروج إلى المكتب ، وإذا كان ذلك ممّا تعلّق الأمر به يندرج في موضع النزاع.

واعترض عليه : بأنّه إنّما تعلّق النهي به من حيث كونه خروجا لا من حيث كونه ذهابا إلى المكتب وهما متغايران بالذات ، وإن كان أحدهما ملازما للآخر ، والمأمور به إنّما هو الثاني دون الأوّل.

نعم لو عمّم النزاع بحيث يشمل الأمر المتعلّق بأحد المتلازمين بعد تعلّق النهي بالآخر لتمّ ما ذكر ، إلاّ أنّه غير ظاهر الاندراج في موضع النزاع ، وفهم العرف غير مساعد هنا حسبما ادّعوه ثمّة.

ويدفعه : أنّه إن اريد به منع كونه من مصاديق الخروج الّذي تعلّق به النهي ، ففيه : منع واضح.

ص: 144


1- التوبة : 5.
2- المائدة : 2.
3- البقرة : 222.
4- الجمعة : 10.

وإن أريد به أنّه مع ذلك من مصاديق الذهاب ، فهو المانع من جريان النزاع فيه.

ففيه : جواز وقوع شيء واحد شخصي مصداقا لمفهومين تعلّق به الأمر والنهي باعتبارين ، فيصدق عليه أنّه ما أمر به بعد ما حظر عنه بعينه ، فيندرج في ظاهر العنوان كما لا يخفى.

واستدلّ على إفادته الوجوب أيضا : بأنّ الأمر بعد الحظر اللفظي ليس بأكثر من الأمر بعد الحظر العقلي.

ألا ترى أنّ الصلاة ورمي الجمار وغير ذلك من الشرعيّات قبيح بالعقل فعلها ومع ذلك لمّا ورد الأمر بها يحمل على الوجوب أو الندب على الخلاف.

وقد يقرّر ذلك : بأنّه لا كلام عند القائل بكونها للوجوب أنّ ورودها بعد الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب ، ولذا يحمل أوامر العبادات على الوجوب إلى أن يتبيّن المخرج عنه ، مع أنّها قبل الأمر كانت محرّمة من جهة البدعة فيكون الحال كذلك في الحظر الشرعي.

واجيب عن الأوّل : بخروج ما ذكر من المحظور العقلي عن المتنازع فيه ، فإنّ الّذي تعلّق به النزاع ما إذا تعلّق الأمر بشيء بعد ما تعلّق به النهي ، فيدّعي القائل بالإباحة حينئذ إفادته الرخصة في فعله ، وليس الأمر في قضيّة الحظر العقلي كذلك لأنّ المحظور عند العقل هو ما لا يدرك العقل فيه حسنا ولا منفعة واحتمل فيه مضرّة وقبحا ، وهذا ليس ممّا تعلّق به أمر الشارع ليكون من موضوع المسألة ، فما أمر به الشارع لا يكون من موضوع حكم العقل ، وما حظره العقل لم يأمر به الشارع حتّى أنّ المحظور عقلا محرّم شرعي بعد ، فاختلف الموضوعات ، بخلاف ما يتّفق في الحظر اللفظي والأمر اللفظي ، فإنّ الموضوع فيهما واحد ولم يتحقّق فيه اختلاف إلاّ بالترتّب في الحكم بتقدّم النهي وتأخّر الأمر ، وذلك صار عرفا صارفا عن فهم الوجوب من الأمر ، فعلى هذا يقال في الجواب : إنّ هذا قياس ومع الفارق.

وعن الثاني : بالفرق الظاهر بين الحظر العقلي من جهة البدعيّة وغيرها والحظر المصرّح به في كلام الشارع ، فإنّ المنع هناك إنّما يجيء بعدم أمر الشارع به وإذنه في الإتيان به فلا يزاحمه الأمر بالفعل بعد ذلك بوجه من الوجوه ، بخلاف محلّ الكلام لوضوح غاية المبائنة بين الحكم بتحريم الإتيان بالشيء والحكم بوجوبه ، فلا يلتزم به إلاّ مع قيام دليل واضح عليه.

ص: 145

وأمّا مجرّد الأمر به فلا يكفي في الدلالة عليه ، لكثرة إطلاق الأمر في غير مقام الإيجاب فيكون الاستبعاد المذكور قرينة على حمله على الوجوب.

ويشكل الأوّل : بعدم وروده على الاستدلال المذكور ، فإنّ ما ذكره المستدلّ مثالا لما تعلّق به الحظر العقلي من الصلاة ورمي الجمار مندرج فيما سلّم المجيب فيه الحظر العقلي من العنوان الكلّي ، ضرورة كونهما لو لا كشف الشرع عن حسنهما ممّا لا يدرك فيه العقل حسنا ولا منفعة ، مع احتماله فيهما القبح والمضرّة ، فمع ذلك كيف يجاب عن استدلاله بإبداء تعدّد الموضوعين ، وعدم ورود أمر الشارع بما تعلّق به الحظر العقلي ، وتعلّق ذلك الحظر بما لم يأمر به الشارع بعد.

وكيف يدّعي كون محظوره محظورا شرعيّا ، إلاّ أن يراد بذلك إبداء الفرق بين الموضوعين بحسب الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص ، نظرا إلى أنّ موضوع حكم العقل عنوان كلّي غير ملحوظ فيه الخصوصيّات بخلاف موضوع أمر الشارع لكونه أخصّ من ذلك العنوان.

ففيه : ما تقدّم من أنّ اعتبار الاتّحاد في محلّ النزاع من جميع الجهات حتّى الإطلاق والتقييد ليس على ما ينبغي ، بل لا أصل له ولا أثر.

فالأولى في الجواب عن ذلك : إرجاع الفرق بين المقامين إلى العرف ، فإنّ ميزان المسألة إذا كان هو العرف فلابدّ من المراجعة إليه في كلّ مورد يبتلى به ، فتحقّق بعد المراجعة إليه أنّه لا يفهم الإباحة إلاّ من الأوامر الواقعة بعد الحظر الشرعي ، ولعلّه من جهة أنّ الحظر العقلي في موارده ربّما لا يطابق الواقع لابتنائه على الظاهر ، فإذا جاء الأمر يكشف عن أنّه لم يكن هناك حظر من الشارع ، فلا يكون من الأمر الواقع بعد الحظر ، ليكون مقرونا بما يصرفه عن فهم الوجوب أو الندب على الخلاف ، بخلاف الحظر الشرعي فإنّه ثابت محقّق في مورده في الظاهر والواقع ، فإذا جاء الأمر يكون واقعا بعد الحظر حقيقة.

وقد تقرّر أنّ ذلك ممّا يعدّ في نظر العرف من القرائن الصارفة له عن معناه الحقيقي.

وكأنّ الجواب عن التقرير الثاني راجع إلى ذلك ، فإن كان فهو ، وإلاّ فيجاب عن هذا التقرير أيضا بمثل ذلك.

وربّما يستدلّ على المختار بالاستقراء ، وغلبة استعماله فيها في محاورات الشارع فيلحق به مواضع الشكّ ، وليسا بثابتين سواء اريد بالأوّل ما هو في خطابات الشرع أو العرف.

ص: 146

وقد يحكى الاستدلال عليه أيضا : بأنّ ضدّية الإباحة للحرمة توجب تبادرها من الأمر المسبوق بالحظر.

واجيب : بأنّه ليس بشيء ، تعليلا بأنّ الأحكام الخمسة كلّها متشاركة في الضدّيّة.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان مراد المستدلّ بالإباحة الّتي ذكرها في الاستدلال الإباحة الخاصّة ، وليس بشيء ، لرجوع حاصل استدلاله إلى أنّ أحكام الشرع خمسة ، منها الحرمة الّتي أفادها الحظر ، فإذا وقع عقيبها الأمر فلابدّ وأن يفيد ما يضادّها ، ضرورة امتناع إفادته لها وامتناع كونه لغوا ، ولا مضادّ لها إلاّ الإباحة بمعنى الرخصة في الفعل ، لكونها ناقضة لما يلزمها من المنع عنه من دون تعيين لها في ضمن الوجوب أو الندب أو الكراهة أو الإباحة بالمعنى الأخصّ حتّى يرد عليه ما تقدّم.

ثمّ إنّ الأقوال الباقية لم ينقل لجملة منها سندا كما لم يعرف قائل كثير منها ، فينبغي الإشارة إلى احتجاجات ما نقل منها له سند ، فعن الأوّل والثالث الاحتجاج بأنّ زوال الحكم السابق إنّما كان من جهة دلالة الحظر عليه ، فبعد ارتفاعه يعود الأوّل لزوال المانع من ثبوته ، أخذا بمقتضى الدليل القاضي بثبوته.

واجيب عنه : بأنّ زوال الحكم السابق يمكن استناده إلى رفع شرط أو وجود مانع أو غيرهما ، فلا يستلزم رفع الحظر رجوعه ، وكأنّ مراده أنّ زوال الحكم السابق ربّما يكون لأجل انتفاء شرط ثبوته أو وجود مانع عنه غير النهي أو غير ذلك.

غاية الأمر أنّ الحرمة المستفادة من هذا النهي قد قارنت هذه العلّة الباعثة على زواله ، فإذا ارتفع ذلك النهي الموجب لارتفاع الحرمة لا يلزم رجوع الحكم السابق ، لجواز بقاء العلّة الباعثة على زواله.

وعن الثاني : الاحتجاج بلزوم الحمل على أقرب المجازات.

واجيب عنه : بأنّه يتمّ إذا لم يتعيّن المجاز وهنا قد تعيّن بالعرف.

والأولى أن يجاب : بمنع الأقربيّة إن اريد به العرفيّة ، لكون القرب العرفي في جانب خلافه وهو الإباحة المطلقة ، ومنع اعتبارها إن اريد بها الاعتباريّة لما قرّرناه مرارا.

وعن السادس الاحتجاج بغلبة الاستعمال في الإباحة شرعا.

واجيب : بأنّه ظاهر الفساد حيث لا فرق هنا بين الشرع والعرف ، وكأنّ المراد به أنّه كما غلب استعماله فيها شرعا فكذلك عرفا فلا مرجّح في البين.

ص: 147

وعن الثامن : بالتعادل بين ما يقتضي حمله على الوجوب وما يفيد حمله على غيره.

ومن المقرّر أنّ قرينة المجاز قد تقاوم الظنّ الحاصل من الوضع فيتردّد الذهن بين المعنى الحقيقي والمجازي ، فلا يصحّ الرجوع إلى أصالة تقديم الحقيقة على المجاز ، لأنّ مبنى الأصل المذكور على الظنّ دون التعبّد الصرف.

وبالتأمّل فيما قرّرناه في الاستدلال على المختار يظهر الجواب عن ذلك.

كما يظهر به الجواب عن احتجاج القول الأخير بمساعدة العرف والاستعمال عليه ، كما يظهر بالرجوع إلى ما يتّفق من موارده في العرف ، مضافا إلى أنّ ذلك هو الغالب في الأوامر الشرعيّة الواردة عقيب الحظر ، كما يشهد به الفحص والاختبار فيتعيّن حمل مواضع الشكّ من الموارد النادرة - على تقدير ثبوتها - عليه.

والظاهر أنّ حجج الأقوال الّتي لم يذكر لها حجّة ترجع إلى الظهورات العرفيّة كما نبّه عليه بعض الأفاضل.

« خاتمة »

صرّح في الهداية - كما هو ظاهر بعض الأعاظم - بجريان هذا الخلاف في ورود النهي عن الشيء عقيب وجوبه - بالتقريب المتقدّم - من أنّه هل يراد به ما يراد بالنهي الابتدائي ، أو يكون ذلك قرينة على إرادة رفع الوجوب ، أو يتوقّف بين الأمرين؟

كما أنّ الظاهر من الثاني اختيار الثاني (1) حسبما اختاره في الأوّل ، مع احتمال كونه مختارا للأوّل أيضا ، إلاّ أنّ الثاني أسند إلى القوم هنا قولا آخر وهو الحرمة استنادا إلى ما سيأتي ، كما أنّ الأوّل نقله بقوله : « ويحكى عن البعض الفرق بين الأمر الوارد عقيب الحظر والنهي الوارد عقيب الإيجاب ، فقال : بأنّ الثاني يفيد التحريم بخلاف الأوّل فإنّه لا يستفاد منه الوجوب ، واستند في الفرق بين الأمرين إلى وجهين واهيين :

أحدهما : أنّ النهي إنّما يقتضي الترك وهو موافق للأصل ، بخلاف الأمر لقضائه بالإتيان

ص: 148


1- والمراد بأوّل الثانيين بعض الأعاظم ، وبثانيهما ثاني الاحتمالات ، وهو احتمال كون المراد بالنهي مجرّد رفع الوجوب اعتمادا على القرينة المذكورة. والمراد بأوّل الأوّلين البحث المتقدّم في الأمر المتعقّب للحظر ، حيث اختار فيه القول بإرادة رفع الحظر في الأمر المتعقّب له ، وبثانيهما صاحب الهداية لأنّه لم يصرّح بأنّ له مختارا في ذلك ( منه عفي عنه ).

بالفعل وهو خلاف الأصل ، فحمل الأوّل على التحريم لايجابه ما يوافق الأصل لا يقضي بحمل الثاني على الوجوب مع إيجابه ما يخالفه.

والآخر : أنّ النواهي إنّما تتعلّق بالمكلّف لدفع المفاسد بخلاف الأوامر فإنّها لجلب المنافع ، واعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من جلب المنافع ، فممّا يكتفى به في صرف غير الأهمّ لا يلزم أن يكتفى به في صرف الأهمّ. انتهى.

ولا يخفى ما فيهما من كمال وضوح الضعف ، فإنّ الاعتبارات العقليّة والاستحسانات الذوقيّة لا تنوط بهما الدلالات اللفظيّة الدائرة على المفاهيم العرفيّة ، وإنّما الكلام في دلالة اللفظ بما هو لفظ ، فلا مدخليّة فيها لمخالفة الأصل ولا موافقته ، ولا لاستلزام المدلول بها في خطابات الشرع لما هو أهمّ في نظر الشارع أو غيره ، وإنّما المدار فيها على ما يساعده الفهم العرفي ، فلا يبعد أن يدّعي هنا مثل ما تقدّم في الأمر تعويلا على الظهور العرفي المستند إلى القرينة المذكورة ، فيحمل النهي بما هو نهي على مجرّد رفع الوجوب المجامع بما عدا الوجوب من الأحكام الباقية ، إلاّ إذا قام قرينة راجحة على ما ذكر ، قاضية بإرادة بعض الخصوصيّات بعينها.

* * *

ص: 149

الأمر بالأمر

- تعليقة -

ربّما يحكى عن القوم خلاف في كون الأمر بالأمر أمرا وعدمه منحصر في قولين ، ومن متأخّري الأصحاب الّذين عاصرناهم من ذهب إلى الأوّل ، ومن ذهب إلى الثاني كبعض الأعاظم ، وربّما يعزى ذلك إلى الأكثرين كما في الكواكب الضيائيّة (1).

وتنقيح المسألة يستدعي النظر في موضوع القضيّة وما تعلّق به ومحمولها ، من جهة ورود الكلّ بلفظ واحد ، ليتحرّر به ما هو موضع الخلاف ، ويتشخّص ما هو مجرى أدلّة الباب.

فنقول : إنّ موضوع القضيّة ليس المراد به معناه العرفي الّذي قد تقدّم البحث عنه وبيان الخلاف في كثير من قيوده ، للجزم بعدم مدخليّة لصدوره من العالي أو المستعلي أو العالي المستعلي بالخصوص في ذلك الخلاف ، بل المراد به معناه الاصطلاحي الّذي توهّمه جماعة كونه معنى عرفيّا وهو الصيغة ، لانطباق أمثلة الباب عليها وغير ذلك من الشواهد الّتي لا تكاد تخفى على المتأمّل.

نعم المراد بما يتعلّق بالموضوع ما يعمّ مادّة « الأمر » وصيغته ، لوجود الأمثلة في كلامهم من كلتا القبيلتين ، فمن الاولى قوله : « مرّ فلانا بكذا » ومن الثانية : « قل لفلان افعل كذا » إلاّ أنّ المعنى واحد ، لوضوح كون « قل لفلان افعل كذا » في معنى « مر فلانا بفعل كذا » وأمّا المحمول فيحتمل وجهين :

أحدهما : كونه أمرا بالقياس إلى متعلّقه وعدمه ، فتكون القضيّة في قوّة أن يقال : أنّ الصيغة المتعلّقة بالأمر بالشيء هل يراد منها ما يراد من الصيغة المطلقة - حسبما يقتضيه وضعها اللغوي من معانيها - أو لا؟ بل ينهض ذلك قرينة على إرادة خلافه من مجازاتها

ص: 150


1- في الأصل : كما في كب ضه.

كالإرشاد ونحوه ممّا يناسبه المقام ، فيكون النزاع في المسألة نظيره في المسألة السابقة ، ووجه هذا الاحتمال ورود بعض الأمثلة في كلامهم على المعنى الأوّل كقول الأمير لوزيره : « قل لفلان : افعل كذا » وبعضها على المعنى الثاني كقوله : « مر عبدك بأن يتّجر ».

وأنت خبير بأنّ هذا الخلاف مع سخافته في نفسه ينافيه التصريحات ، مضافا إلى الأدلّة والثمرات.

وثانيهما : كونه أمرا بالقياس إلى متعلّق متعلّقه وعدمه ، فيكون معنى القضيّة حينئذ هل الأمر بالصيغة بالأمر بشيء يفيد مفاد الأمر بذلك الشيء أو لا؟ وهذا هو الموافق للذوق والاعتبار ، الصالح لكونه محلاّ للخلاف بين اولي الأفهام والأنظار ، مع انطباق الامور المذكورة بأجمعها عليه.

ولكن ينبغي أن لا يراد بالإفادة ما هو من مقتضي الوضع ، لبداهة أنّ قولنا : « مر » أو « قل » لا يفيد باعتبار الوضع إلاّ الطلب المتعلّق بالحدث المدلول عليه بمادّة الأمر أو القول حتما أو مطلقا على الخلاف ، وإنّما المراد بها ما هو بطريق الدلالة بالالتزام لدخول المطابقة والتضمّن في الوضع المنفيّ هنا.

فيحرّر النزاع حينئذ بأنّه لو أمره بأن يأمر زيدا بقتل عمرو فهل يدلّ ذلك على أنّه قد طلب من زيد قتل عمرو طلبا حتميّا مطلقا ، بحيث يكون زيد مأمورا بذلك الأمر ومكلّفا بما تعلّق به الأمر المأمور به دلالة التزاميّة أو لا دلالة له على ذلك أصلا؟ مع احتمال كون النزاع في وضع هذه الهيئة التركيبيّة الكلاميّة المشتملة على الأمر بالأمر وليس ببعيد ، ولا سيّما بملاحظة تمسّك أصحاب القول بكونه أمرا بالتبادر على الإطلاق ، مع اعتراض الخصم عليه : بأنّه لو اريد به التبادر بلا قرينة فغير مسلّم ومعها فغير نافع.

وبما ظهر من التقرير ينقدح أنّ النزاع جار على جميع الأقوال في وضع الصيغة ، إلاّ أنّ الظاهر ممّن تعرّض لعنوانه والبحث عنه ممّن تقدّم الإشارة إليه اختصاصه بالقول بكونها للوجوب.

وعليه يمكن تعدية النزاع عن معناها الحقيقي وهو الوجوب إلى معناها المجازي من ندب وغيره ، بمعنى أنّه إذا قامت قرينة على عدم إرادة الوجوب منها فهل إرادة المعنى المجازي الخاصّ منها بالقياس إلى متعلّقها يلزمها إرادة ذلك المعنى المجازي منها بالقياس إلى متعلّق متعلّقها أو لا؟

ويرشدك إلى ذلك ما ذكروه من ثمرات المسألة من قوله : « مروهم بالصلاة وهم أبناء

ص: 151

سبع » القاضي بكون عمل الصبيّ شرعيّا على القول الأوّل وتمرينيّا على القول الآخر ، للقطع بعدم الوجوب على الأولياء كما صرّح به بعض الأعاظم ، فعليه يشكل الحكم بخروج مثل قوله ، « مر عبدك أن يتّجر » عن محلّ النزاع ، تعليلا بأنّه ليس من باب الأمر بالأمر اتّفاقا كما عن بعض الأجلّة.

فإنّ غايته أنّ المراد بقوله : « مر » إنّما هو الإرشاد ، فيجري الكلام فيه بأنّ هذا الإرشاد هل يراد بالنسبة إلى العبد أيضا في اتّجاره أو لا؟

ولكنّا نفرض الكلام فيها على تقدير كون المراد بها معناها الحقيقي ، فنقول : إنّها إذا تعلّقت بالأمر بشيء فتدلّ على الأمر بذلك الشيء دلالة التزاميّة عرفيّة ، فإنّ الطلب الحتمي للأمر بقتل زيد عمرا يلزمه كون قتل عمرو مطلوبا من زيد على سبيل الحتم لزوما عرفيّا ، كما يساعده الفهم العرفي ، ويشهد به الاستعمالات الجارية في العرف.

وأقوى ما يشهد بذلك أنّ القاصد للترك العالم بالأمر من الخارج لا من تبليغ الواسطة لا يكاد يعتذر بما يكون مسموعا إلاّ بعدم العلم به والعثور عليه ، فلو اعتذر بعدم بلوغ الخبر إليه من الواسطة مع اعترافه بالعلم به من الخارج لم يكن معذورا عند العرف ، فيستحقّ الذمّ والعقاب لو كان عبدا ، أو ممّن يجب عليه اطاعة الآمر وتتوهّن فيه الصداقة والمؤاخاة لو كان من أصدقائه وإخوته ، وإنّما جعلنا الالتزام عرفيّا للقطع بانتفاء اللزوم العقلي بجميع أنواعه بما يجوّزه العقل من كون غرض الآمر بالأمر ابتلاء الثالث وامتحانه ، أو إعلام حاله للواسطة من كونه بالنسبة إلى الآمر في غاية الإطاعة والانقياد ، أو أعلى مرتبة الصداقة والمؤاخاة ، أو كونه في كمال المخالفة والعصيان ، أو نهاية النفاق والعدوان ، أو غير ذلك من مقاصد العقلاء كما يتّفق كثيرا.

وأمّا من يستدلّ من المنكرين بعدم الدلالة بجميع أنواعها ، أمّا غير الالتزام فظاهر ، وأمّا الالتزام فلعدم الملازمة ، فإن أراد بها الملازمة العقليّة فعدمها مسلّم ، إلاّ أنّه لا يوجب ثبوت دعواه ، وإن أراد الملازمة العرفيّة فيردّه ما ذكر.

وأمّا استدلالهم أيضا بالنبويّ المعروف « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع » بتقريب : أنّه لا وجوب على الصبيان اتّفاقا (1).

ص: 152


1- وربّما يقرّر الدليل : بأنّه لو كان كذلك لزم تكليف الصبيان والتالي باطل إجماعا ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتّى يبلغ ، وعن النائم حتّى يستيقظ وعن المجنون حتّى يفيق » فالمقدّم مثله. بيان الملازمة : إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر البالغين أن يأمروا الصبيان بالصلاة بقوله : « مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ». وأجاب عنه بعض الأجلّة : بأنّ الممتنع هو تعلّق التكليف على سبيل الوجوب بالصبيان لا مطلقا ، بل يمكن كونهم مأمورين بشيء على سبيل الاستحباب ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الأمر المتوجّه إلى البالغين هو الأمر الاستحبابي لا الوجوبي ولا محذور في تعلّقه بالصبيان ، بل التحقيق أنّه ليس بتكليف حقيقة. فمحصّل الجواب : منع الملازمة إن اريد من التكليف الوجوبي ، ومنع بطلان التالي إن اريد الأعمّ ، سلمّنا الامتناع مطلقا لكن عدم البلوغ هنا مانع من التعلّق ، ومن عدم تعلّقه بالمأمور الثاني في محلّ خاصّ لسبب المانع لا يلزم عدم تعلّقه مطلقا وإن لم يكن هناك مانع. واستدلّو أيضا : بأنّه يلزم على هذا التقدير صحّة كون الشخص آمرا لنفسه إذا أمر غيره أن يأمره بفعل ، والتالي باطل والملازمة ظاهرة. وأجاب عنه بعض الأجلّة : بأنّ المقصود _ بعد تسليم الاستحالة _ التذكّر لا الأمر غالبا ، والإرشاد إلى بعض المصالح المتعلّقة بالمأمور توطئة أحيانا ، على أنّ عدم التعلق في محلّ لمانع _ وهو هنا استحالة كون الشخص آمرا لنفسه _ لا يقدح في إثبات القاعدة كما مرّ ( منه ).

ففيه : أنّ الوجوب عليهم مبنيّ على وجوب الأمر على الأولياء وهو مفروض الانتفاء اتّفاقا ، فهو على التقدير المذكور خارج عن محلّ البحث ، فلذا لو عمّمنا النزاع بالنسبة إلى الأمر الندبي أيضا لكان ذلك من أمثلة الباب ، لثبوت الندب بالنسبة إلى الأولياء في الأمر ، فالاستدلال به حينئذ على النفي يكون مصادرة وهو باطل.

وممّا ذكر ظهر فساد الاستدلال عليه : بأنّه لولاه لعدّ القائل : « مر عبدك بأن يتّجر » متعدّيا ، ولعدّ قول القائل : « مر فلانا بكذا » مع نهيه عن طاعته تناقضا ، ولعدّ قول القائل « وكّل فلانا » توكيلا ، فإنّ الأوّل خارج عن المتنازع فيه بعدم إرادة الوجوب عن الأمر بالأمر ليكون تعديّا بالنسبة إلى العبد ، باستلزامه الأمر عليه بالاتّجار من غير التسلّط عليه ، وعلى فرض إرادة الوجوب لا يلزم التعدّي ، إذ هو لازم لو لم يرض المالك بتصرّفه ، وأمّا لو علم برضاه ولو من شاهد وقرائن الأحوال فلا ، ولو سلّم التعدّي فتحريمه ممنوع ، كيف مع أنّ مجرّد ذلك الأمر لا يستلزم تصرّفا في العبد ولو تعلّق به.

إلاّ أن يقال : إنّ جعل ذمّته مشغولا بالمأمور به - كما هو المفروض - نوع تصرّف فيه وهو مشكل ، وكذلك الثاني فإنّ النهي السابق أو المقارن أو اللاحق ينهض قرينة على عدم إرادة المدلول الالتزامي من اللفظ ، فإنّها ممّا ينفي إرادة المدلول المطابقي الّذي هو الموضوع له فضلا عن المدلول الالتزامي ، بل ويكشف ذلك في المقام عن عدم إرادة الطلب أو الوجوب من الأمر الّذي هو مدلول المطابقي فلا تناقض أصلا ، وكذلك الثالث فإنّه ليس

ص: 153

من باب الأمر بالأمر في شيء بل هو أمر بالتوكيل ، وهو عقد مشتمل على إيجاب وقبول فيكون الأمر به نظير الأمر بسائر الأفعال الخارجيّة.

واستدلّ على المدّعى بالتبادر ، فإنّ المتبادر كون المأمور به مطلوبا من الثالث من جانب الآمر الأوّل ، وكون أمر الواسطة من باب التبليغ.

وفيه : إن اريد به ما ذكرنا من الدلالة بالالتزام فهو ، وإلاّ فيردّه أنّ الصيغة لا وضع لها إلاّ بإزاء طلب ما يطلب من الواسطة ، إلاّ أن يراد به وضع الهيئة بالتقريب المتقدّم ، فيتوقّف ما بالنسبة إليه من الردّ والتسليم إلى زيادة تأمّل.

وبعدم صحّة السلب بدعوى : أنّه لا يصحّ أن يقال : بأنّه ما أمره بذلك بعد العلم بالواسطة ، وإن كان إطلاق لفظ « أمره » ينصرف إلى صورة عدم الواسطة.

وببناء العرف على ذمّ المأمور الثالث فيما لو علم بأمر الأوّل ولم يفعله ، وإن لم يكن علمه عن إبلاغ الواسطة ، بل لو اعتذر حينئذ في ترك الامتثال بأنّ الواسطة لم يأمره لم يسمع منه عند العقلاء.

وبإطباق العقلاء على ذمّ الآمر الأوّل فيما لو عاقب الثالث الآتي بالمأمور به بعد العلم به من غير جهة إبلاغ الواسطة ، قائلا له : بأنّك لم أتيت بالمطلوب قبل أن يأمرك الواسطة.

وباتّفاق المسلمين على كون أوامر الرسول صلى اللّه عليه وآله من جانبه تعالى ، مع أنّه صلى اللّه عليه وآله قد أمر بواجبات كثيرة ولم يقل : إنّ اللّه تعالى أمركم بها ، وكذا اتّفاق الخاصّة على أنّ أوامر الأئمّة عليهم السلام من اللّه تعالى مع أوامرهم بمثابة أوامر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وليس ذلك إلاّ لأنّ الأمر بالأمر أمر.

وربّما يتأمّل في الأخير بأنّ ذلك من جهة قيام دليل خارجي عليه ، كما يشهد به قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (1) ومحلّ البحث دلالة نفس الأمر عليه عند فقد القرينة ، فأوامرهم صلوات اللّه عليهم من قبيل أن يقول : « مر زيدا من قبلي بالأمر الفلاني » وهو خارج عن محلّ النزاع لوجود القرينة وهو لفظة « من قبلي ».

وقد يجاب عنها أيضا - كما في كلام بعض الأعاظم - : بخروجها عن محلّ الكلام لظهور إرادة التبليغ فيها ، ومحلّ الكلام ما لو كان مجرّدا عن القرينة ، ومنه ما لو لم يظهر إرادة التبليغ بل يظهر عدمه ، فلذا نقول فيها (2) بذلك ، ونجعل عبادة الصبيّ شرعيّة لا تمرينيّة لغلبة

ص: 154


1- المائدة : 67.
2- هكذا كانت العبارة في الإشارات : « فلذا نقول في أوامر النبيّ والأئمّة عليهم السلام والأولياء ونحوه ... الخ ».

إرادة التبليغ في أوامر الشارع.

وفيه : أنّ الاعتراف بظهور إرادة التبليغ منها كرّ على ما فرّ إن كان المراد به ظهورها عن نفس اللفظ ، ودعوى أنّ محلّ الكلام ما لم يظهر فيه إرادة التبليغ لا شاهد لها ، بل بظاهرها مقطوع بفسادها على القول بكون الأمر بالأمر أمرا ، ضرورة أنّ أمر الأوّل لا يظهر كونه أمرا بالنسبة إلى الثالث إلاّ على تقدير كون الثاني الّذي هو الواسطة مبلّغا محضا فهما متلازمان.

ومن البيّن عدم تعقّل تحقّق أحد المتلازمين بدون الآخر ، فإنّ ظهور كون الواسطة مستقلاّ في الأمر في معنى ظهور عدم كون ذلك أمرا من الأوّل ، فمع اعتراف القائل بكونه أمرا كيف يعقل منه القول بذلك.

نعم لو كان ظهور إرادة التبليغ من خارج لا من نفس الأمر فدعوى الخروج عن محلّ الكلام متّجهة.

وأمّا التمسّك بغلبة إرادة التبليغ في أوامر الشارع فإنّما يصادم الاستدلال بالنسبة إلى غير مورد الغالب ، فيقال في ردّه حينئذ : بأنّ فهم إرادة التبليغ فيه من جهة الغلبة المذكورة لا من جهة الأمر بنفسه كما هو المتنازع ، والاستدلال يتمّ بالنسبة إلى مورد الغالب الّذي ظهر فيه إرادة التبليغ ، امتناع تحقّق غلبة اخرى بالنسبة إليه كما لا يخفى.

إلاّ أن يتشبّث لدفعه فيه أيضا بدعوى قيام قرينة اخرى غير الغلبة من قرينة حال أو مقال ، كما تقدّم الإشارة إلى دعوى قيامها من جهة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (1) التفاتا إلى أنّه أوجب ظهور إرادة التبليغ في أوامره تعالى المتوجّهة إلى النبيّ ، بأن يأمر العباد بالواجبات من العبادات وغيرها لا نفس تلك الأوامر.

وممّا يتفرّع على القولين ما لو قال المالك لأحد : « مر زيدا ببيع داري » فعلى الأوّل يجوز له التصرّف قبل أن يبلغه أمر الواسطة دون الثاني ، وعليه فلو تصرّف فهل ينفذ أو لا؟ مبنيّ على القولين.

ومن الفروع أيضا شرعيّة أعمال الصبيّ نظرا إلى قول النبيّ المتقدّم وعدمها.

وقد يورد عليه : بأنّها ليست متفرّعة على القول بكون الأمر بالأمر أمرا ، لثبوتها بما تقدّم الإشارة إليه من غلبة إرادة التبليغ في أوامر الشارع ، مضافا إلى كونها مقتضى ديدن الأكابر والعظماء ، ولا سيّما فيما بنيت أحكامه على العموم كالشرع ، ولدلالة أخبار كثيرة عليه.

ص: 155


1- المائدة : 67.

منها : الأخبار الدالّة على وجوب الصوم على الصبيّ إذا أطاق الصوم ثلاثة أيّام متتابعة والصلاة إذا عقلها ، فإنّ أقرب مجازاتها الاستحباب.

ومنها : ما رواه الكليني والصدوق في توحيده عن طلحة بن زيد عن الصادق عليه السلام قال : « إنّ أولاد المسلمين موسومون عند اللّه شافع ومشفّع ، فإذا بلغوا اثني عشرة سنة كانت لهم الحسنات ، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيّئات » ولا قائل بالفصل ، وللزوم الظلم عليه تعالى لو خلّى عمله عن الثواب ، ولا ينفع الاعتياد فيما بعد فإنّه ربّما لا يحتاج إليه.

ولفحوى ما دلّ على الثواب للوليّ نظرا إلى أنّ مشقّة الفاعل أكثر بكثير ، على أنّه لا يحرم عليهم قصد الشرعيّة وفاقا ويحتمل الطلب منهم فيستحبّ ، مضافا إلى شمول أخبار التسامح لهم ، مع مؤيّدات اخر تظهر من تتبّع الأخبار ، كالحكم بصحّة حجّهم إذا أدركوا الموقف كاملين وإجزائه عن حجّة الإسلام ، وصحّة أذانهم وغير ذلك.

ولا ينافيه حديث رفع القلم عنهم لظهوره في المؤاخذة ، وإن اشتمل على من لا يصحّ منه الفعل ندبا لعدم المنافاة ، كما لا ينافيه أمر الأولياء بأمرهم غالبا لأنّهم أولى بذلك وأحرى.

وفيه : أنّ المراد بكونها متفرّعة على هذا القول من حيث هي مع قطع النظر عن ورود دليل عليها ، فيقدّر حينئذ بأنّه لولا دليل عليها لكان في القول المذكور كفاية في ثبوتها ، فوجود الدليل لا ينافي تفريعها على غيره أيضا.

وممّا يتفرّع على شرعيّة أعماله وتمرينيّتها دخوله في الوقف على من صام أو صلّى صوما وصلاة شرعيّا وعدمه ، وكون إعطائه مبرئا لذمّة الناذر بدرهم لمن صام أو صلّى كذلك وعدمه ، وصحّة دخوله في الصلاة بعد البلوغ بالوضوء الّذي أتى به قبله وعدمه ، وكون ما أتى به من الصلاة أوّل الوقت قبل البلوغ مع بقاء الوقت بعده مجزيا لأصالة البراءة ، لأنّه أتى بالصلاة الشرعيّة فالأصل براءة ذمّته عن صلاة اخرى وعدمه.

وقيل أيضا : بأنّ عباداتهم لو كانت شرعيّة لكانت فردا من العبادة الّتي امر بها أو ندب إليها حقيقة ، بمعنى كون إطلاق الاسم عليها حقيقة فيشملها كلّ نصّ ورد لبيان الشرائط والموانع فيثبت لها ذلك ، ولو كانت تمرينيّة لم يكن إطلاق الاسم عليها إلاّ مجازا فيحتاج التزام الصبيّ بما هو خارج عن حقيقة العبادة من الشروط وترك المنافيات إلى دليل آخر.

وأورد عليه : بأنّ الأمر التمريني على تقديره إنّما هو بالعبادة الجامعة للشرائط أيضا فلا ثمرة.

* * *

ص: 156

المرّة والتكرار

أصل

الحقّ أنّ صيغة الأمر بمجرّدها ، لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار * ،

__________________

* كما نسب إلى جماعة من المحقّقين ، وربّما يقال : إنّه مذهب المحقّقين كالسيّد المرتضى وأبي الحسين البصري وفخر الدين الرازي ، واختاره العلاّمة في التهذيب بل النهاية على ما حكي عنه.

ونبّه بقوله : « بمجرّدها » على أنّ النزاع إنّما هو في وضع الصيغة لغة ، وأصرح منه ما في كلام السيّد في المنية من التعبير ب- « الأمر المجرّد عن القرائن » وهو ظاهر الأكثر بل وصريحهم في مطاوي كلامهم ، لما يقع منهم تارة من تصدير المعنى المتنازع فيه على حسب الأقوال الآتية ب- « اللاّم » المنبئ عن دعوى الحقيقة كما تقرّر في محلّه ، واخرى من التعبير بالحقيقة ، وثالثة من التعبير بالوضع ، بل هو لازم القول بالاشتراك الّذي هو أحد الأقوال ، وهو صريح الاستدلال على كونها لطلب الماهيّة من حيث هي بكونه خيرا من الاشتراك والمجاز كما في التهذيب ، وبصحّة تقييده تارة بالوحدة واخرى بالتكرار من غير لزوم تكرار ولا تناقض كما في كلام الأكثر.

فما في كلام بعض الأفاضل من إمكان كون النزاع فيما يستفاد من الصيغة حين الإطلاق سواء كان من جهة الوضع له بخصوصه أو انصراف الإطلاق إليه ، مذيّلا له : « بأنّه الّذي يساعده ملاحظة الاستعمالات » ليس على ما ينبغي ، كيف وما أشرنا إليه من الشواهد القطعيّة يأبى عنه تكذيبا ، فلا أثر لما علّل الدعوى به من : « أنّ القول بوضع الصيغة لحصول المرّة حتّى يكون الأمر بالفعل مرّتين أو ما يزيد عليه مجازا في غاية البعد بل لا يبعد القطع بفساده ، وكذا لو علّق الفعل بالمرّة بناء على القول بوضعه للتكرار ، بل قد لا يكون المادّة قابلة للتكرار ، فينبغي أن يكون تلك الصيغة مجازا دائما » فإنّ الاستبعادات الذوقيّة لا تنفي الخلافات الواقعة ولا سيّما مع معارضتها لشواهد قطعيّة.

فيحرّر موضع النزاع حينئذ بأنّ صيغة الأمر هل هي موضوعة لطلب الماهيّة من حيث هي ، أو لطلبها مقيّدة بالمرّة أو التكرار؟ وهل القيد على الاحتمالين الأخيرين داخل في الموضوع له كالتقييد أو الداخل فيه إنّما هو التقييد وحده؟ وجهان.

وممّا قرّرنا يتّضح أنّ النزاع هو في وضع الأمر بالصيغة باعتبار الهيئة لا باعتبار المادّة.

فما في كلام جماعة من الأجلّة من الاستدلال على الاحتمال الأوّل بأنّ الأوامر مأخوذة

ص: 157

وإنّما تدلّ على طلب الماهيّة *.

__________________

من المصادر الخالية عن اللام والتنوين ، وهي حقيقة في الطبيعة لا بشرط شيء اتّفاقا - كما صرّح به السكّاكي - مبنيّ على اشتباه موضع النزاع ، أو الخلط بين وضعي المادّة والهيئة ، إذ لا ضير في كون المادّة باعتبار ما لها من الوضع الشخصي موضوعة بإزاء الطبيعة لا بشرط شيء ، ثمّ عرض لها باعتبار ما للهيئة العارضة لها من الوضع النوعي بعض القيود الخارجة عنها ، كما هو الحال في وضع الصيغة للوجوب أو الندب أو غير ذلك ممّا تقدّم ، من حيث إنّ مدلول المادّة لا مدخليّة فيه لشيء من تلك المذكورات وإنّما هي من مقتضيات وضع الهيئة ، فلو صحّ الاستدلال المذكور لقضى بانتفاء الوجوب - بل الطلب رأسا - عن الأوامر ، وهو مناف لمذاهبهم جزما.

والظاهر إمكان جريان الاحتمالات المذكورة في الأمر بالمادّة بجميع مشتقّاته ، وإن كان لا يساعده صريح العنوانات وظهور الاستدلالات.

* والمراد بها الحقيقة الكلّيّة القابلة للمرّة والتكرار المعرّاة عن اعتبارهما فيها بحسب الوضع شطرا وشرطا ، فلا ينافيه لو قام من العقل ونحوه ما يقضي بدخول أحدهما في الإرادة ولو بحكم العادة ، كما في قوله : « اشتر اللحم » ونظائره ، و « احفظ دابّتي » وأمثاله من حيث جريان العادة بعدم تعلّق غرض في الأوّل إلاّ بالمرّة وفي الثاني إلاّ بالتكرار.

ومن البيّن أنّ هذا المعنى من حيث رجوعه إلى الوضع واللغة لا تلازم بينه وبين تعلّق الأوامر بالطبائع ليتوجّه إلى المصنّف تدافع بين مذهبه هنا واختياره تعلّق الأوامر بالأفراد فيما سيأتي تحقيق القول فيه إن شاء اللّه ، إذ القول بذلك إنّما نشأ عن توهّم قيام قرينة عقليّة قاضية بأنّ الطلب من الشارع لابدّ وأن يتعلّق بما يمكن وجوده لئلاّ يلزم التكليف بالمحال المستحيل على الحكيم على فرض تعلّقه بما لا يمكن وجوده ، والماهيّة ممّا لا وجود له في الأعيان ، فيتعيّن أن يكون الطلب قد تعلّق بالفرد ، ولا منافاة في كون متعلّق الطلب باعتبار تعلّق الوضع هو الماهيّة وباعتبار تعلّق أمر الشارع هو الفرد ، لأنّ ذلك من جهة قرينة توجب الإنصراف عن مقتضى الوضع ، ولا يلزم كونه من باب التجوّز حتّى يتوجّه لزوم المجاز في غالب الخطابات ، لجواز كونه من باب تعدّد الدالّ والمدلول الملازم لكون اللفظ مرادا منه معناه الحقيقي ، على أنّ القائل بتعلّق الأمر بالفرد لم يظهر منه دعوى كون الفرد مرادا باللفظ ، ولا سيّما على تفسير الأمر بالطلب - كما هو الأقوى - لا اللفظ الدالّ عليه ونحوه.

فما قد يتخيّل في المقام من أنّ القائل بكون الأمر للمرّة أو التكرار قائل بكون

ص: 158

وخالف في ذلك قوم فقالوا : بإفادتها التكرار * ، ونزّلوها منزلة أن يقال : « إفعل أبدا » ، وآخرون فجعلوها للمرّة من غير زيادة عليها ** ،

__________________

المطلوب بالأمر هو الفرد ، والنافي لدلالته عليهما قائل بتعلّقه بالطبائع حيث يقول بدلالته على مجرّد طلب مطلق الحدث من غير دلالة على مرّة ولا تكرار ليس بشيء ، فإنّ المرّة والتكرار - على ما ستعرف تفسيريهما - حالتان في الماهيّة لا ملازمة بينهما وبين تعلّق الحكم بالفرد نفيا وإثباتا ، فيجتمع القول به مع القول بهما كاجتماعه مع القول بخلافهما ، فيقال حينئذ : أنّ الصيغة وإن كانت بحسب الوضع لطلب الماهيّة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار إلاّ أنّ القرينة الخارجيّة قد دلّت على أنّ متعلّق الحكم المستفاد منها هو الفرد لا الماهيّة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار من حيث هي.

غاية الأمر أنّ الأخيرين يستدعيان اتّحاد الفرد المأمور به وتعدّده ، كما أنّ الأوّل يستلزم كون الفرد ملحوظا لا بشرط الوحدة والتعدّد ، ضرورة أنّ الفرد هو الماهيّة المتشخّصة بالوجود ولوازمه فيعتبر فيه ما اعتبر في الماهيّة المتحقّقة في ضمنه من الإطلاق والتقييد بالقياس إلى المرّة والتكرار المستلزمين للوحدة والتعدّد ، كما أنّ القول بتعلّق الحكم بالطبيعة يجتمع كلاّ من الوجوه ، فيعبّر حينئذ بالطبيعة المطلقة أو المقيّدة بالمرّة أو التكرار.

* المتبادر منه في العرف فعل الشيء مرّة بعد اخرى ، ولكنّ المراد به هاهنا الاستمرار بفعل المأمور به من الطبيعة أو الفرد على حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا ، كما يومئ إليه قول المصنّف ، فنزّلوها منزلة « افعل أبدا » نظرا إلى أنّ الدوام مقيّد عندهم بما ذكر من الإمكان حسبما يتبيّن فيما بعد ذلك ، وصرّح به السيّد في المنية ، والقول به محكيّ عن أبي إسحاق الاسفرائني وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين كما في المنية ، وربّما يحكى حكايته عن أبي حنيفة والمعتزلة.

والّذي يظهر من مطاوي كلماتهم أنّ المراد بالتكرار ما كان استقلاليّا ، بأن لا يتوقّف الامتثال بالسابق على الإتيان باللاحق.

غاية الأمر أنّه يأثم بترك اللاحق ، فكأنّ الأمر الواحد ينحلّ إلى أوامر متعدّدة على حسب تعدّد الإتيانات ، مع احتمال كونه ارتباطيّا بأن يكون الجميع امتثالا واحدا فكأنّ كلاّ جزء من المأمور به فلا يحصل الامتثال بالأوّل إلاّ مع انضمام الباقي إليه ، ولا يخفى بعده وإن ذكره بعض الأجلّة متساويا للأوّل.

** قيل : بأنّه محكيّ عن جمع كثير ، وعن أبي الحسين أيضا ، وكذا عن ظاهر الشافعي ،

ص: 159

وربّما يستفاد عن جماعة من الأجلّة للمرّة تفسيران :

أحدهما : الفرد الواحد.

وثانيهما : الدفعة الواحدة.

فيكون التكرار عبارة عن الأفراد أو الدفعات بقرينة المقابلة ، ويظهر عن بعض الفضلاء التردّد فيهما.

والأظهر عندي كون المراد بالمرّة هو الدفعة ، كما يومئ إليه ما في كلام شارح الشرح من التعبير عن الماهيّة بالحقيقة المتحقّقة في ضمن كلّ من المرّة والتكرار ، وعن المرّة والتكرار بالحقيقة المقيّدة بالمرّة أو التكرار ، نظرا إلى أنّ الماهيّة لا تتقيّد بالمرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد ، لكون الفرد هو الماهيّة المقيّدة بالوجود مع لوازمه ، وجزء الشيء لا يتقيّد بذلك الشيء ، بل الّذي يليق تقيّدها به إنّما هو المرّة والتكرار بمعنى الدفعة والدفعات كتقيّدها بالوحدة والكثرة ، والفرق بينها وبين الفرد أنّ الفرد يلزمه وحدة الوجود والزمان ، والدفعة يلزمها وحدة الزمان دون الوجود ، إذ لا ينافي وحدة الزمان تعدّد الوجود كما لو قال لعبيده في زمان واحد : « أنتم أحرار لوجه اللّه الكريم » فإنّ زمان العتق متّحد مع تعدّد وجوده بتعدّد محالّه ، فيقال : إنّه أعتق دفعة واحدة ، ولا يقال : أعتق فردا واحدا.

وربّما يستند بعض الفضلاء في إبطال كون العبرة في المرّة بالفرديّة بأنّهم لو أرادوا بالمرّة الفرد لكان الأنسب - بل اللازم - أن يجعل هذا المبحث تتمّة للبحث الآتي عن الأمر هل يتعلّق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك : وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه.

وأمّا على ما اخترناه فلا علقة بين المسألتين ، فإنّ للقائل بأنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للمرّة أو التكرار ، بمعنى أنّه يقتضي وجوب إيجادها مرّة واحدة أو مرارا - بالمعنى الّذي سبق - وأن لا يقول بذلك ، وكذا القائل بأنّه يتعلّق بالفرد دون الطبيعة ، إذ ليس المراد به الفرد الواحد بل مطلق الفرد.

وأنت خبير بوهن ذلك من حيث عدم صلوحه سندا لمنع التوهّم لجواز أن يعتذر الخصم لتتميم ما توهّمه بأنّ للقائل بأنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة أن يقول بأنّه للطبيعة المطلقة أو المتحقّقة في ضمن الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة ، وللقائل بأنّه يتعلّق بالفرد أن يقول بأنّه للفرد لا بشرط الوحدة ولا التعدّد ، أو الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة ، على أنّ الفرد

ص: 160

وتوقّف في ذلك جماعة فلم يدروا لأيّهما هي *.

__________________

كالطبيعة قابل للإطلاق والتقييد بأحد القيدين.

غاية الأمر أنّه يريد بالماهيّة - على تقدير القول بها دون المرّة والتكرار - الحقيقة الشخصيّة دون الحقيقة الكلّيّة ، نظرا إلى أنّها عرفا تطلق على حقيقة الشيء وذاته ، وهي في كلّ شيء بحسبه ، ففي الطبائع الحقيقة الكلّيّة وفي الأفراد الحقيقة الشخصيّة ، فلا علقة بين المسألتين على كلا الاعتبارين.

ثمّ إنّه على ما رجّحناه من حمل المرّة على إرادة الدفعة المفسّرة بإيجاد المأمور به في زمان واحد ، يبقى في النفس شيء بالنظر إلى إيجاد الطبيعة دفعة في ضمن أفراد عديدة كما في المثال المتقدّم ، من حيث إنّه يقتضي جواز الاكتفاء به على القول بالمرّة في مقام الامتثال ، وكون الإتيان بها في ضمن الجميع امتثالا واحدا ، لأنّه إتيان لها دفعة بذلك المعنى ، مع أنّه مخالف لما يصرّح به القوم في ذكر الثمرات من أنّ المطلوب الموجب للامتثال ليس إلاّ واحد منها فيستخرج بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، إلاّ أن يدفع بكون ذلك ممّا يتفرّع على توهّم إرادة الفرد من المرّة.

وأمّا على إرادة الدفعة منها فلا بأس بكون الجميع امتثالا واحدا من حيث موافقته لمقتضى الأمر ، وهو الإتيان بالمأمور به دفعة.

غاية الأمر أنّها قد يؤتى بها في ضمن فرد واحد وفي ضمن أفراد عديدة ، وقد اتّفق هاهنا القسم الثاني ، وتمام الكلام في ذلك يأتي عند بيان الثمرات.

* و [ في ] تثنية الضمير إشعار بكون ذلك توقّفا بين المرّة والتكرار.

وفي شرح الشرح : أنّهم لم يدروا أنّها للمرّة أو التكرار أو المطلق ، وفيه أيضا وقيل : معناه التوقّف في مراد المتكلّم بناء على الاشتراك.

وفي كلام بعض الفضلاء : أنّ المتوقّفين بين متوقّف في الاشتراك وعدمه ، وبين متوقّف في تعيين المرّة والتكرار. انتهى.

وأنت بالتأمّل في الشقّ الأوّل تقف أنّه محتمل لوجوه ثلاث.

وربّما يحكى فيه وجه آخر وهو حمل كلام الواقف على إرادة الوضع لمطلق الطبيعة ، فيتوقّف إرادة المرّة والتكرار على قيام الدليل ، حيث لا دلالة في الصيغة على شيء منها.

ولا يخفى أنّ المطابق لدليلهم الّذي نقله المصنّف هو الّذي حكاه المصنّف أو شارح الشرح أوّلا ،

ص: 161

لكون ما عداه من لوازم القول بالاشتراك أو الوضع للماهيّة من حيث هي ، فلا معنى لعدّه قولا برأسه.

وربّما يزاد على ما ذكر من الأقوال قول بالاشتراك.

وقد نسبه العلاّمة في التهذيب إلى السيّد مع أنّه في النهاية - على ما في المنية - عزى إليه أنّه ذهب إلى أنّ الأمر ليس موضوعا لأحدهما ، بل للقدر المشترك بينهما ، إلاّ أنّ الأوفق بدليله الّذي حكاه في التهذيب هو الأوّل كما ستعرفه.

فأقوال المسألة على ما عرفتها إمّا ثلاثيّة أو رباعيّة أو خماسيّة ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل.

ثمّ إنّه ربّما يستظهر (1) عن كلام المصنّف وشارح الشرح فرق بين القول بالتكرار وأخويه - الماهيّة والمرّة - بامتيازه عنهما بترتّب العقاب على ترك الزائد على المرّة بناء عليه دون أخويه ، وامتاز الماهيّة عن المرّة بترتّب الثواب على فعل الزائد بناء عليها دون المرّة ، فإنّه لا ثواب على القول بها في فعل الزائد كما لا عقاب عليه ، وكأنّه بالنسبة إلى كلام المصنّف يستفاد عن ذيل ما نقله من حجّة القول بالمرّة مع انضمام ما ذكره في ردّه إليه ، وإلاّ فكلامه قاصر عن إفادته.

وفرق آخر بين المرّة والماهيّة عن كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد والفاضل الشيرازي في حواشيه لمختصر الحاجبي بامتياز المرّة عن الماهيّة - على القول بها - بالمنع عن الزيادة دون الماهيّة - على القول بها - لتضمّنه السكوت [ عن ] الزيادة نفيا وإثباتا.

وقضيّة ذلك إمتياز التكرار عنهما بحصول الثواب في فعل الزيادة.

فقضيّة الجمع بين الفرقين أنّ الزيادة على القول بالتكرار ممّا يترتّب الثواب على فعلها والعقاب على تركها.

وأمّا على القول بالمرّة فهي مسكوت عنها نفيا وإثباتا على أوّل الفرقين وموجبة للعقاب على ثانيهما.

وعلى القول بالماهيّة فهي مسكوت عنها على ثاني الفرقين وموجبة للثواب على أوّلهما.

فقد تقرّر ممّا ذكر أنّ في كلّ من المرّة والماهيّة خلافا فيما بينهم ، وهو إمّا خلاف من أصحاب القولين بدعوى صيرورتهم فريقين كما يظهر عن بعضهم ، أو اختلاف من غيرهم في فهم مرادهم من هذين القولين ، فالزائد على المرّة على القول بالماهيّة دائر بين كونه

ص: 162


1- المستظهر هو سلطان العلماء ( منه ).

مطلوبا أو مسكوتا عنه ، وعلى القول بالمرّة مردّد بين كونه مطلوبا تركه أو مسكوتا عنه ، وقد يعبّر عن الثاني بالمرّة لا بشرط شيء ، وعن الأوّل بالمرّة بشرط لا ، إمّا على طريق التقييد بأن يتوقّف الامتثال بالمأمور به على ترك الزيادة فالآتي به بعد المرّة الاولى لا يكون ممتثلا أصلا ، أو على طريق تعدّد المطلوب بأن لا يتوقّف امتثال الأمر على ترك الزائد وإن كان في نفسه محرّما ، فالآتي به بعد المرّة الاولى يكون مطيعا وعاصيا ، هذا على ما في كلام بعض الأجلّة.

وقد يضاف إليها ما يوجب تكثّر الاحتمالات ، فيقال : إنّ القول بالمرّة يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يراد به المرّة بشرط لا ، أي الّتي لوحظ معها ترك الزائد على نحو ينحلّ الأمر إلى أمر بالنسبة إلى المرّة ونهي بالنسبة إلى الزائد إمّا على طريق الاستقلال حتّى أنّه لو أتى بالفعل مرّتين كان مطيعا عاصيا ، أو التقييد حتّى يكون فعله الثاني عصيانا ومانعا عن حصول الامتثال بالأوّل ، وحينئذ فإمّا أن يقال : بعدم إمكان الامتثال بعد ، أو يقال : بكون فعله الثاني مبطلا للأوّل ، فكأنّه لعدم العبرة به لم يأت به أصلا فلابدّ من الإتيان بالثالث ، فلو أتى حينئذ بالرابع لبطل الثالث وهكذا في سائر المراتب.

وأنت خبير بأنّ الوجهين لا وجه لأحدهما ، إذ لا مدخليّة لخصوصيّة الثاني والرابع ونحوه في الحرمة والإبطال على هذا الاحتمال ، بل مبناه على النهي عن كلّ ما يزيد على المرّة الاولى ، قبالا للقول بالتكرار المنحلّ إلى الأمر بكلّ مرّة ممّا هو داخل في حيّز الإمكان عقلا وشرعا.

وقضيّة ذلك انقضاء زمان الامتثال وعدم إمكان حصوله بعد لحوق المرّة الثانية.

الثاني : أن يراد به المرّة بشرط لا أيضا ، ولكن من دون أن ينحلّ الأمر إلى أمر ونهي ، بأن يكون المطلوب هي المرّة المقيّدة بعدم الزائد حتّى أنّه لو أتى به لم يكن ممتثلا بالأوّل لفوات شرطه ، من دون أن يكون مجرّد الإتيان بالثاني عصيانا ، وفي تحقّق الامتثال حينئذ بالمرّة الثالثة والخامسة الوجهان المتقدّمان.

وفيه : ما تقدّم.

الثالث : أن يراد به المرّة لا بشرط شيء ، بأن يفيد كون المرّة مطلوبة من غير أن يراد معها ترك الزائد ، فالمقصود هو الإتيان بالمرّة سواء أتى بالزائد أو لا ، لكن يفيد عدم مطلوبيّة القدر الزائد ، فالمأمور به هي المرّة مع عدم إرادة ما يزيد عليها فيرجع في الزائد

ص: 163

إلى حكم الأصل.

المرّة والتكرار ، ثمرات الأقوال

الرابع : الصورة بحالها لكن مع عدم دلالته على عدم مطلوبيّة الزائد ، بل غاية ما يفيده الأمر مطلوبيّة المرّة من غير أن يفيد مطلوبيّة ما زاد عليها ولا عدمها ، والفرق بينه وبين سابقه ظاهر ، فإنّه لو دلّ دليل على مطلوبيّة الزائد كان معارضا للأمر المفروض بناء على الأوّل بخلاف الثاني ، إذ عدم وفاء الطلب بالدلالة على وجوب الزائد لا ينافي ثبوت الوجوب من الخارج.

ووجه ضبط هذه الاحتمالات أنّ الأمر الدالّ على طلب الفعل مرّة إمّا أن يدلّ على مطلوبيّة ترك الزيادة ، أو على عدم مطلوبيّة فعلها ، أو لا يدلّ على شيء منهما بل كان ساكتا عنها نفيا وإثباتا ، وترك الزيادة على الأوّلين إمّا أن يكون ممّا أخذ به شرطا في المأمور به حتّى أنّه لولاه لما حصل الامتثال أصلا ، أو لا يكون كذلك حتّى أنّه لولاه لحصل الامتثال مع العصيان أو بدونه.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ القول بالتكرار أيضا فيه احتمالان ، فتصوير موضع النزاع على وجه يرد عليه الأقوال المذكورة مع الاحتمالات الجارية في كلّ واحد منها مع انطباقه على ما قدّمنا ذكره من رجوع الخلاف إلى وضع الصيغة ومفهومها بحسب اللغة ، أن يقال : إنّ الواضع حينما أخذ بوضع الصيغة أمكن له أن يتصوّر نسبة الحدث إلى فاعل مّا من حيث كون ماهيّته مطلوبة فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة بعد اخرى على حسب ما يقتضيه الإمكان مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون الاستمرار على فعله على حسب ما يقتضيه الإمكان مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة المقيّد بتركه المطلوب فيما زاد عليها مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كونه مطلوبا فعله مرّة وتركه فيما زاد عليها فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة المقيّد بتركها فيما زاد عليها مطلوبا ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة لا أزيد مطلوبا فيضع الصيغة بإزائها ، أو يتصوّرها من حيث كون فعله مرّة مطلوبا ، فهل الواقع منه في الخارج هو الأوّل أو الثاني بأحد احتماليّه ، أو الثالث بأحد محتملاته.

وينبغي الإشارة إلى امور :

- الأوّل -

ثمرات الأقوال ، وهي قد تلاحظ بالنسبة إلى إيجاد فرد واحد ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى

ص: 164

إيجاد أفراد عديدة متعاقبة في أزمنة متعدّدة ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى إيجاد أفراد عديدة في آن واحد.

أمّا القسم الأوّل : فلو أتى المأمور بعد قوله : « افعل » بفرد واحد من أفراد الماهيّة فعلى القول بالماهيّة حصل الامتثال لتحقّقها في ضمنه ، وكذلك على القول بالمرّة فيجوز الاجتزاء بذلك الفرد بجميع وجوهه ومحتملاته ، إلاّ أنّ الفرق بينه وبين القول بالماهيّة أنّ الاجتزاء هاهنا إنّما هو من مقتضى دلالة اللفظ وثمّة من مقتضى دلالة العقل ، بملاحظة دلالة اللفظ على تعلّق الحكم بالطبيعة الّتي لا يمكن الإتيان بها إلاّ في ضمن فرد مّا من أفرادها وقد حصل.

ويظهر الفائدة فيما لو دلّ على عدم جواز الاكتفاء بالمرّة فعلى الأوّل ينظر في المرجّحات الخارجة ، لكون ظهور الاكتفاء بها حينئذ وضعيّا فلا يترجّح عليه غيره إلاّ مع المرجّح ، بخلاف الثاني لكونه حينئذ ظهورا عقليّا فربّما يترجّح عليه غيره ، بل لا يتحقّق بينهما تعارض في الحقيقة ، لكون حكم العقل بالاكتفاء تعليقيّا ناشيا عن السكوت وعدم وصول البيان فلا يعارض ما يصل بعده من البيان ، ولا فرق في ذلك بين شيء من محتملات الأوّل.

نعم فرق آخر بين ما عدا الأخير من محتملاته وبين الثاني فيما لو دلّ على وجوب المرّة الاخرى على الاستقلال ، لوقوع التعارض بينه وبين ظاهر الأمر على الأوّل كما لا يخفى بخلاف الثاني ، لمكان سكوته حينئذ عن المرّة الثانية نفيا وإثباتا ، فما عدا الأخير من محتملات الأوّل يمتاز عن البواقي بذلك الفرق ، وعن الثاني بالفرق الأوّل ، وهو عمّا عدا الأخير من المحتملات بالفرقين معا.

والفرق بين الفرقين أنّ الأوّل راجع إلى اعتبار التقييد والارتباط في المرّة الاولى وعدمه ، فإنّ ظاهر الأمر قاض بعدم ارتباط الغير بها فيجتزي بها في امتثال الأمر المتعلّق بها وإن تعلّق الأمر بغيرها من المرّات الاخر ، والدليل الخارج ربّما ينافيه.

والثاني راجع إلى وجوب ما عدا المرّة الاولى وعدمه وإن فرض المرّة الاولى مستقلّة في الوجوب ، فإنّ ظاهر الأمر فيما عدا الأخير من المحتملات قاض بعدم الوجوب بل التحريم في جملة منها ، والدليل الخارج ربّما يعارضه.

وأمّا على القول بالتكرار فيجب الإتيان بالمرّات الاخر ما دام ممكنا ، وهل يحصل الامتثال بكلّ مرّة أتى بها وإن لم يلحقها المرّة الاخرى أو لا؟ وجهان مبنيّان على ما تقدّم من اعتبار التكرار على طريق الاستقلال وتعدّد المطلوب أو على طريق الارتباط والتقييد ،

ص: 165

فحصول الامتثال على الثاني مراعى بلحوق جميع ما يمكنه من المرّات المتعاقبة ، فلو نقص منها بعض المرّات ولو واحدة لا امتثال أصلا ، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال ولا سيّما بملاحظة مقايسة تكرار الأمر على تكرار النهي الّذي لا تقييد فيه جزما.

وأمّا على القول بالاشتراك فلابدّ من الأخذ بما يقتضيه القول بالمرّة أو التكرار مع وجود الدلالة على تعيين أحدهما وإلاّ فالتوقّف اجتهادا والرجوع إلى الاصول الفقاهيّة عملا حسبما يأتي الإشارة إلى تفاصيلها ، والمتوقّف كالقائل بالاشتراك في كلّ ما ذكر إلاّ على بعض وجوهه فيكون حينئذ كالقائل بالماهيّة ، وكذلك الكلام في حكم القولين بالنسبة إلي القسمين الباقيين.

وأمّا القسم الثاني : فلو أتى بعد قوله : « افعل » بأفراد الماهيّة تدريجا فعلى القول بالتكرار لا ريب في كونه ممتثلا بالنسبة إلى كلّ مرّة أتى بها وإن يكمل المرّات بأجمعها ، إلاّ على احتمال التقييد فلا امتثال حينئذ إلاّ واحدا بعد الإتيان بسائر المرّات المباينة.

وعلى القول بالمرّة يمتثل ويعصي في بعض تقاديره ولا يمتثل أصلا في التقديرين الآخرين ، وهل يعصي بمجرّد المرّة الثانية على تقدير كونها منهيّا عنها مع قطع النظر عن العصيان بعدم امتثال الأمر أو لا؟ وجهان مبنيّان على كون النهي فيها نفسيّا أو غيريّا ، ويمتثل أيضا على الاحتمالين الباقيين.

وهل يعصي حينئذ بما زاد على المرّة مع عدم دلالة اللفظ بالمنع عنه؟ قيل : نعم ، لدخوله حينئذ في عنوان البدعة والتشريع وهو من المحرّمات العامّة.

وبذلك يفرّق بينه وبين الدلالة على النهي ، لأنّ الحرمة حينئذ إنّما هي بنفس اللفظ وفيما ذكر بخارج من اللفظ ، وأصل الحرمة ثابتة مطلقا وهو موجب لانتفاء الثمرة.

ويشكل بأنّ محطّ نظر الاصولي في ذلك المقام ما يتفرّع على أقوال المسألة من حيث هي كذلك ، والحرمة التشريعيّة أمر جاء من الخارج فلا تعدّ ثمرة في القول ، وإنّما المقصود أنّ القول بالمرّة على تقدير كونه لا بشرط هل يلزمه ترتّب العصيان على فعل ما زاد على المرّة من حيث إنّه قول بالمرّة أو لا؟

ولا ريب أنّ ما ذكر من التحريم ليس بهذه المثابة ، ولو سلّم فهو بإطلاقه غير وجيه ، وإنّما يتوجّه على تقدير دلالة الأمر على عدم مطلوبيّة الزائد وإن لم يكن يدلّ على المنع عنه بالخصوص ، أو على تقدير سكوته نفيا وإثباتا مع إتيان المكلّف به بعنوان أنّه مشروع.

ص: 166

وأمّا على تقدير السكوت والإتيان به لرجاء كونه مطلوبا للآمر مشروعا عنده في الواقع فلا ، لانتفاء موضوع البدعة حينئذ كما لا يخفى ، بل ربّما يأتي به لا بقصد العبادة فلا وجه لإجراء قاعدة التشريع في مثل ذلك.

فمحصّل الكلام : إنّ الزائد على المرّة الاولى في غير محلّ الدلالة على النهي عنه بالخصوص قد يعدّ معصية ، وقد يعدّ طاعة ، وقد لا يعدّ معصية ولا طاعة ، فلا وجه لاطلاق الحكم بتحريمه من باب البدعة ، كما لا وجه للحكم بانتفاء الثمرة بين الاحتمالين ، ضرورة أنّ التحريم على تقدير دلالة الأمر على المنع ثابت على جميع الوجوه.

وعلى القول بالماهيّة فإن قلنا بحصول الامتثال بما زاد يلزم انتفاء الثمرة بينه وبين القول بالتكرار إلاّ بالاعتبار ، من حيث إنّ دلالة الأمر على التكرار على القول به إنّما هي من حيث كونه تكرارا مأخوذا في الوضع ، وعلى القول الآخر من حيث تحقّق الطبيعة في ضمنه كتحقّقها في ضمن المرّة.

إلاّ أن يقال : بكون التكرار على هذا القول تخييريّا أو استحبابيّا كما قد يتوهّم ، فيحصل الفرق بحسب المعنى حينئذ كما لا يخفى ، إلاّ أنّه مبنيّ على كون الأمر للوجوب أو للندب مع كون التكرار - على القول به - في معنى تعلّق الأمر بالمجموع من حيث المجموع ، إذ لو كان للندب مع كون التكرار في معنى تعلّق الأمر بالآحاد انحصرت الثمرة في الاعتباري.

ولا يبعد إبداء الثمرة بينهما أيضا عند وجود المعارض القاضي بنفي التكرار ، فعلى القول به يحصل المعارضة بينه وبين ظاهر الأمر بخلاف القول الآخر لما تقدّم ، وبذلك يفرّق بينهما أيضا على تقدير كون الأمر للوجوب مع عدم حمل التكرار على هذا القول على التخييري أو الاستحبابي كما لا يخفى ، فلا وجه للحكم بانتفاء الثمرة بينهما حينئذ بدعوى انحصارها في الاعتباري كما في كلام بعض الفضلاء.

وإن قلنا بعدم الامتثال بما زاد تحقّقت الثمرة بين القولين ، إلاّ أنّه يلزم انتفاؤها عمّا بين القول المذكور والقول بالمرّة ، لقضائه أيضا بسقوط الأمر بها من حيث إنّ الأمر بظاهر اللفظ لم يتعلّق إلاّ بها ، والامتثال عبارة عن موافقة الأمر أو الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فلا أمر بالنسبة إلى ما سواها ليعقل الامتثال عقيب الامتثال بها.

ولا يذهب عليك أنّه بناء على اعتبار المرّة لا بشرط ، أو تفسير البدعة بإدخال ما

ص: 167

ليس من الدين في الدين ، أو الإغماض عن وجود المعارض ، وإلاّ فمع عدم الاغماض ربّما يتحقّق الثمرة بينهما على حذو ما سبق ، ومع تفسير البدعة بإدخال ما علم خروجه عن الدين في الدين يخصّ الانتفاء بما لو اريد بالمرّة لا بشرط السكوت عمّا زاد نفيا وإثباتا ، ضرورة ظهور الثمرة أيضا لو اريد بها الدلالة على مجرّد عدم المطلوبيّة ، ولكنّه مبنيّ على صلوح قاعدة التشريع مناطا للفرق في أقوال المسألة كما توهّمه جماعة وقد تقدّم الإشكال فيه ، ومع اعتبار المرّة بشرط لا تظهر الثمرة أيضا في كمال الظهور إن اريد بها كون المأمور به مقيّدا بترك ما زاد من غير فرق في ذلك بين الدلالة على المنع عنه أيضا وعدمها ، ولا بين تفسيري البدعة ولا بين القول بالتحريم من جهتها على القول بالماهيّة وعدمها ، ولو اريد بها مجرّد المنع عمّا زاد فقد يتوهّم حينئذ انتفاء الثمرة لثبوت المنع في الطرف المقابل أيضا من باب البدعة.

وأنت خبير بأنّه - لو سلّم عمّا ذكر من الإشكال - مبنيّ على تفسير البدعة بإدخال ما ليس من الدين فيه وهو خلاف التحقيق ، لاعتبار العلم في مفهومها عرفا ، فلذا لا يعدّ الإتيان بمظنون الخروج عن الدين تعويلا على احتمال دخوله ولو مرجوحا بدعة ، ففي مشكوك الخروج وموهومه بطريق أولى ، وعلى ذلك يبتنى ما قرّر في محلّه من عدم وقوع التعارض بين قاعدتي البدعة والاحتياط ، إذ مع عنوان الاحتياط يرتفع موضوع البدعة فالسالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا القسم الثالث : فلو أتى بأفراد عديدة دفعة واحدة فربّما قيل بحصول الامتثال بالجميع على القول بالماهيّة ، لتحقّق الطبيعة المأمور بها في ضمن الجميع كتحقّقها في ضمن الواحد فلا سبيل إلى تعيينها.

وأمّا على القول بالمرّة فإن اريد بها ما ينحلّ إلى أمر ونهي ، فيبنى حصول الامتثال حينئذ على جواز اجتماع الأمر والنهي مع اختلاف الجهة.

فإن قلنا بجوازه يستخرج المطلوب بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، ويكون غيره معصية تعليلا : بأنّ الظاهر إرادة الفرد الواحد من المرّة لا مجرّد كونه في الزمان الواحد ، وإن لم نقل بجوازه فلا امتثال أصلا.

وإن اريد بها ما لا ينحلّ إليهما فلا إثم والمطلوب واحد ، ويستخرج بالقرعة في موضع الحاجة ، ولا يخفى أنّ كلّ ما ذكر ثمرة بين القول بالماهيّة والقول بالمرّة.

ص: 168

وأمّا على القول بالتكرار فقضيّة ما ذكر من كون المراد بالمرّة الفرد الواحد كون الجميع امتثالا على هذا القول أيضا لشهادة القرينة المقابلة ، لأنّه إتيان بالأفراد في مقابلة الفرد الواحد ، وهو - مع بعده بعدم مساعدة العرف على صدق التكرار على مثل ذلك - يوجب انتفاء الثمرة بينه وبين القول بالماهيّة لاشتراكهما في تلك الثمرة ، إلاّ أن يكتفي فيها بالثمرة الاعتباريّة على حذو ما تقدّم ، أو يلتزم بما يتحقّق منها في مقام وجود المعارض كما عرفت.

وكيف كان فاورد (1) عليه : بعدم الفرق في الامتثال بالجميع بين القول بالمرّة والقول بالماهيّة ، ضرورة امتناع عدم الامتثال لمكان الإتيان بالمطلوب على وجهه ، ولا الترجيح لفقد المرجّح ، ولا القرعة لأنّها إنّما تصلح لتعيين ما هو معيّن في الواقع غير معيّن في الظاهر وظاهر أنّ المقام ليس منه ، فلا ثمرة بين القولين.

وربّما يورد (2) أيضا : بأنّ الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة ، وكان حصولها في ضمن كلّ واحد من الأفراد قبل سقوط الأمر بها ، لكن حصولها في ضمن الجميع ليس بحصول واحد ، بل هناك حصولات متعدّدة والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها ، فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها ، القاضي لسقوط التكليف بها.

والحاصل : ليس حصولها في ضمن الجميع إلاّ عين حصولها في ضمن كلّ منها ، فبعد الاكتفاء في حصول الطبيعة بواحد منها لا داعي إلى اعتبار كلّ من حصولاتها ، ولا باعث لوجوبها فيتخيّر في التعيين أو يستخرج ذلك بالقرعة إن احتيج إلى التعيين ، فلا يبقى ثمرة حينئذ بين القولين.

وتحقيق القول في ذلك : أنّه على تفسير المرّة بالفرد فالوجه هو التفصيل بما نقلناه ، ولكن في غير احتمالي تقييد المطلوب بترك ما زاد والسكوت عمّا زاد لفوات الامتثال على الأوّل بالمرّة ، وتوقّف عدم كون ما زاد امتثالا موجبا للثواب على تحقّق موضوع البدعة على الثاني ، فعلى ذلك تظهر الثمرة بين الأقوال كلّها. وعلى تفسيرها بالدفعة فإمّا أن نقول بكون الجميع امتثالا أو لا ، وعلى التقديرين ينتفي الثمرة بين القول بالمرّة والقول بالماهيّة إلاّ على الاكتفاء بالثمرة الاعتباريّة أو ما يتحقّق عند وجوب المعارض.

ص: 169


1- والمورد بعض الفضلاء ( منه ) - وهو صاحب الفصول رحمة اللّه عليه.
2- المورد هو الشيخ محمّد تقي ( منه ) - صاحب هداية المسترشدين.

المرّة والتكرار ، الامتثال عقيب الامتثال

- الأمر الثاني -

اختلف القائلون بكون الأمر لطلب الماهيّة في كون ما زاد على المرّة الاولى من الثانية والثالثة امتثالا وعدمه ، على أقوال :

أحدها : كونه امتثالا ، وهو ظاهر المصنّف فيما ذكره ردّا على حجّة القائل بالمرّة ، والمحكيّ عن العضدي والتفتازاني.

وثانيها : العدم ، وهو لجماعة من المحقّقين منهم بعض الأعلام ، وبعض الأعاظم ، وابن عمّنا السيّد قدّس اللّه روحه (1).

وثالثها : التفصيل بين ما لو وجد الأفراد دفعة أو على التعاقب ، فعلى الأوّل يحصل الامتثال بالجميع وعلى الثاني لا امتثال إلاّ بالمرّة.

حجّة الأوّلين : شهادة العرف بأنّ الصيغة إذا كانت للقدر المشترك بين المرّة والتكرار - وهو طلب الحقيقة - فلا جرم يحصل الامتثال بأيّهما اتّفق.

واورد عليه تارة : بأنّه بعد الإتيان بالطبيعة في ضمن المرّة يتحقّق أداء المأمور به قطعا فيحصل الامتثال ، وهو قاض بسقوط الأمر ، ومع سقوطه لا مجال لصدق الامتثال ثانيا وثالثا.

وقد يعلّل ذلك : بأنّ الامتثال عقيب الامتثال مع وحدة الطلب غير معقول ، لأدائه إلى تحصيل الحاصل.

واخرى : بأنّ الامتثال بما زاد على المرّة مبنيّ على تعلّق الأمر به إمّا إيجابا أو ندبا ، فيلزم إمّا القول بالتكرار أو استعمال الأمر في الحقيقة والمجاز ، وكلاهما فاسدان.

ولا يخفى ما فيه من عدم صلوحه ردّا في هذا المقام ، لتمكّن الخصم عن دفعه باختيار كلّ من الشقّين ، ويقول : إنّ التكرار عند أصحاب القول به ما كان مدلولا للّفظ ناشئا عن الوضع ، وما التزمنا به من الامتثال الوجوبي فيما زاد على المرّة إنّما هو من مقتضيات العقل بعد دلالة اللفظ على طلب أصل الطبيعة ، بملاحظة أنّها لا توجد في الخارج إلاّ في ضمن الفرد ، فكما أنّها توجد في ضمن واحد من أفرادها فكذلك توجد في ضمن متعدّد منها ، فلابدّ من الإتيان بأحدهما مقدّمة لإيجادها الّذي هو المأمور به ، وبين المقامين بون بعيد.

وإنّ طريق إفادة الأمر كلاّ من الوجوب والندب غير منحصر في الاستعمال فيهما بالخصوص بما هو غير جائز أو مرجوح حتّى يلزم المحذور ، لجواز تعلّق الإرادة بما هو

ص: 170


1- والمراد منه هو صاحب الضوابط قدس سره.

قدر مشترك بينهما من باب عموم المجاز الّذي لا خلاف في جوازه ، بل ثبوته في الخطابات الشرعيّة ولو في خصوص المقام كالأوامر المتعلّقة بعدّة امور بعضها واجب وبعضها مندوب كما لا يخفى.

ولكنّه يبعّد الأوّل : أنّ العقل كما يقضي بلزوم الإتيان بالفرد مقدّمة للإتيان بالطبيعة فكذلك يقضي بحصول الامتثال وسقوط الأمر بها بعد حصولها في المرّة الاولى ، فحصول الامتثال بالثانية والثالثة يحتاج إلى دليل قاض بالأمر بهما أيضا.

والثاني (1) : أنّ الاستعمال المفروض مع جوازه لا يلتزم به إلاّ مع قيام دلالة معتبرة ، لأنّه مجاز لا يصار إليه عند الإطلاق والتجرّد ، ولو قدّر ثبوت الدلالة عليه من الخارج فهو خروج عن المتنازع فيه ، لأنّ الكلام في أنّ القول بالماهيّة من حيث إنّه قول بها هل يستلزم بقاء الامتثال عقيب الامتثال بها في ضمن المرّة الاولى أو لا؟ والمفروض ينافيه.

والأولى في الجواب عن الاستدلال أن يقال : إنّ قضيّة قولكم : « بكون ما زاد على المرّة امتثالا » إمّا مطلقة أو مهملة ، والأوّل لا سبيل إليه لأنّ الامتثال عقيب الامتثال لا معنى له إلاّ مع تعدّد الأوامر أو انحلال الأمر الواحد إلى أوامر متعدّدة ، والأوّل خلاف الفرض ، والثاني عدول عن القول بالماهيّة إلى القول بالتكرار.

ولا يرد عليه ما أوردنا على ما ذكره القوم إذ الانحلال إن كان ولابدّ فهو من دلالة اللفظ وما قرّرناه في دفع الإيراد لم يكن من باب الانحلال ، وإنّما هو - على تقدير استقامته - إلزام من العقل بايجاد المتعدّد من أفراد الطبيعة للتوصّل إلى إيجادها وهو ليس من تحليل الأمر بالطبيعة إلى أوامر عديدة في شيء كما لا يخفى.

والثاني لا يجديكم نفعا إذ المفروض من القضيّة المهملة لا مورد لها إلاّ في مثل قول القائل : « احفظ دابّتي » و « اخدم ولدي » و « أطع زوجتي » و « لازم أمري » ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ التعويل بمثل ذلك في ردّ الخصم خروج عن محلّ البحث ، نظرا إلى أنّ الكلام في الأوامر المطلقة وما ذكر من الموارد مقترنة بقرائن خاصّة أفادت هذا المعنى من عادة أو حالة أو غيرها ممّا يوجب انفهام إرادة ما يقضي بكون كلّ مرّة امتثالا.

حجّة القول بالمنع : بالنسبة إلى تدريجي الوجود انقطاع الطلب بايجاد المأمور به ، مضافا إلى أنّه لولاه لزم إمّا القول بالتكرار ، أو استعمال الأمر في الحقيقة والمجاز ، وبالنسبة إلى

ص: 171


1- عطف على قوله : « لكنّه يبعّد الأوّل » الخ.

دفعي الوجود عدم شمول الأمر له ، فإنّ مدلول الأمر طلب إيجاد الطبيعة وهو لا يتيسّر إلاّ بإيجادها في ضمن الفرد ، والمجموع من حيث المجموع ليس فردا فلا يكون متعلّق الأمر.

ولا يخفى أنّ المدّعى في الشقّ الأوّل حقّ ودليله الأوّل متين دون الثاني لضعفه بما سبق ، وفي الشقّ الثاني ممنوع ودليله غير قاض بالمنع ، لمنافاة قوله : « لعدم شمول الأمر » لقوله : « فإنّ مدلول الأمر طلب إيجاد الطبيعة » فإنّ الأمر على القول بتعلّقه بالطبائع لا إشعار له بفرد حتّى يلاحظ فيه الشمول وعدمه اللذين هما من أحوال اللفظ ، وعدم تيسّر إيجاد الطبيعة إلاّ في ضمن الفرد مقدّمة عقليّة لا تنوط بما هو من أحوال اللفظ كما لا يخفى ، إلاّ أن يكون المراد به عدم الانصراف ، بدعوى : أنّ الطبيعة الّتي تعلّق بها الأمر لا تنصرف إلاّ إلى ما هو موجود منها في ضمن فرد واحد.

فيردّه حينئذ : وضوح منع تلك الدعوى ، كيف وعدم كون المجموع من حيث المجموع فردا لا يرتبط بالمقام أصلا ، إذ الّذي لا وجود للطبيعة إلاّ في ضمنه إنّما هو آحاد المجموع ، فلا مانع من تعلّق الأمر بها تبعا من باب المقدّمة ولو بحكم العقل.

غاية الأمر أنّ الموجود منها في الخارج إن كان فرد واحد قامت الطبيعة به فحصل المطلوب في ضمنه ، وإن كان أكثر من فرد واحد في آن واحد قامت بالجميع فحصل المطلوب في ضمن الجميع لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، نظرا إلى انتفاء الترتّب بينها في الوجود من حيث التقدّم والتأخّر.

فتحقّق ممّا قرّرناه : أنّ الأقوم في المقام هو ثالث الأقوال وهو المختار ، وفاقا لما في الهداية والفصول ، فهاهنا دعويان :

الاولى : انحصار الامتثال فيما حصل تدريجا بالمرّة الاولى من المرّات المترتّبة في الوجود.

الثانية : حصول الامتثال في ضمن الجميع من الأفراد الموجودة دفعة.

لنا على الدعوى الاولى : القطع بأنّ الأمر إذا كان قد تعلّق بالطبيعة يرتفع بمجرّد الإتيان بها على أنّها مأمور بها ، ومعه لا معنى لامتثال آخر ، لابتنائه على أمر آخر وهو إمّا متعلّق بالطبيعة أيضا كالأوّل أو بغيرها ، والأوّل طلب للحاصل فيكون سفها ، والثاني خلاف الفرض ، فلا سبيل إلى شيء منها.

فإن قلت : إنّ الأمر إذا كان قد تعلّق بالطبيعة يكشف عن حسنها الباعث عليه المستلزم له ، وظاهر أنّها غير منفكّة عن شيء من أفرادها فكذلك وصفها العارض لها تبعا لها وهو

ص: 172

ملزوم للأمر ، فيدلّ الأمر المتعلّق بها على طلبها مطابقة وطلب أفرادها التزاما ، ولا يكون ذلك عدولا إلى القول بالتكرار ليخرج دفعا لما ذكر ، لأنّ دلالة الأمر عليه عند أهله مطابقيّة على ما هو المفروض من كون المتنازع فيه مفهوم الصيغة بحسب الوضع واللغة.

قلت : الحسن الّذي يكشف عنه الأمر في الطبيعة إما حسن فيها إلى الأبد أو في الجملة.

والأوّل عين القول بالتكرار على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

والثاني لا يجدي نفعا في إثبات المدّعى ، لجواز كون ذلك الحسن بمقدار ارتفع معه بالإتيان بها في المرّة الاولى ، مع أنّ حسن الشيء إنّما يلاحظ فيه بما هو هو من دون نظر إلى الخصوصيّات المنضمّة إليه ، فربّما يعارضه قبح ناش عن الخصوصيّات المنضمّة فإمّا يكافئ حسنه أو يغلب عليه ، وعلى الأوّل يستحيل الأمر لقبح الترجيح بلا مرجّح ، وعلى الثاني يجب النهي لقبح ترجيح المرجوح ووجوب ترجيح الراجح ، فلا معنى لفرض الامتثال حينئذ.

ولو قيل : بأنّ المطلوب على القول المذكور أيضا طبيعة الامتثال لا الفرد الحاصل منه بفعل المرّة ، وإن كان الفرد مطلوبا بالتبع عند أصحابه من باب المقدّمة ، إذ الكلام في المطلوب الأصلي.

ومن البيّن أنّ طبيعة الامتثال إذا لوحظت من حيث هي لم يكن لها تعدّد في صورة التكرار حتّى يلزم التعاقب ، فلا يلزم من بقائه القول بالتكرار الّذي اعتبر فيه التعاقب عند أصحابه.

لقلنا : إنّ الامتثال لا معنى له إلاّ الخروج عن عهدة التكليف بفعل المأمور به على وجهه ، وظاهر أنّ المسبّب لا يتخلّف عن سببه ، فلا معنى لمطلوبيّة الامتثال الحاصل بوجود سببه إلاّ مطلوبيّة الحاصل ، وهو ممّا لا يكاد يتصوّر.

فإن قلت : كلّ ما ذكر من التحقيق إنّما يقضي بأنّ الصيغة بمجرّدها باعتبار الوضع لا تفيد الوجوب فيما زاد على المرّة ، فلا ينافيه لو قام حجّة من الخارج تقضي بوجوب ذلك الموجب للامتثال ، بدعوى : أنّ الطبيعة المأمور بها أمر وحدانيّ وقد اتّصفت بصفة الوجوب والمطلوبيّة ، وقضيّة الاستصحاب بقاؤها بعد الإتيان بها مرّة إلى أن يتبيّن زوالها.

قلت : الاستصحاب إنّما يتمسّك به في موضع الشكّ في الزوال ، وظاهر أنّ بملاحظة ما قرّرناه من القاطع يزول الشكّ ويقطع بالزوال.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون الحجّة الخارجة عليه قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » نظرا إلى أنّ المراد : ما دمتم مستطيعين ، لا الّذي استطعتم ولا شيئا

ص: 173

استطعتم ، من دون فرق بين تفسيره بالفرد أو القدر بمعنى الجزء ، كما يشهد به ما قبله على ما روي من أنّه خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سوادة بن مالك ، فقال : أفي كلّ عام يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله؟ فأعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم؟ واللّه لو قلت : نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ».

قلت : الرواية بضعف سندها قاتلة لنفسها ، مع ابتناء نهوضها دليلا على ثبوت مقدّمات متعارضة بمثلها ، وظهور السياق فيما يدفع المعارضة من ظهور كلمة « ما » في كونها وقتيّة مصدريّة معارض بظهور ما يقضي بكونها موصولة أو موصوفة ، مرادا بهما الفرد أو القدر بمعنى الجزء ، المنطبق على الأوّل على مفاد قوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » من عدم سقوط الواجب بتعذّر أو تعسّر بعض أفراده مع التمكّن عن بعض آخر كالصلاة قياما وقعودا مثلا ، وعلى الثاني على مفاد قوله : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » من انتقال الوجوب عن الكلّ المتعذّر أو المتعسّر إلى ما تيسّر من أجزائه ، وهو لفظة « منه » لظهوره في مفعوليّة « ما » وهي لا تلائم كونها وقتيّة ، كيف ولو لا ذلك لكان الواجب تركها بتعدية الفعل إلى مفعوله بنفسه كما لا يخفى ، فتكون الرواية سبيلها سبيل المجملات فلا تصلح للاستناد إليها لو سلّمت عن المناقشة من حيث السند ، ومن حيث ظهور سياقها فيما ذكر ، وإلاّ فهو أيضا في حيّز المنع.

وأمّا ما قد يتوهّم من إمكان ابتناء ذلك على التخيير بين الأقلّ والأكثر ، فالأكثر من المرّة الاولى إنّما يجب لكونه أحد فردي الواجب التخييري.

فيدفعه : أنّ التخيير إن اريد به ما كان من قبل الآمر.

ففيه : الجزم بانتفائه ، لانتفاء ما هو من لوازمه نظرا إلى أنّ التخيير الآمري يستلزم اعتبار الترديد في القضيّة الصادرة منه في مقام الإنشاء كما يشهد به الطريقة الجارية في المحاورة ، وخلوّ القضيّة المبحوث عنها عمّا يفيده ممّا لا شبهة فيه ، أمّا لفظا فظاهر ، وأمّا معنى فلعدم مساعدة العرف بانفهامه بشيء من وجوه الدلالات.

وإن اريد به ما كان من قبل العقل.

ففيه : أنّ العقل لا قضاء له في محلّ البحث إلاّ بلزوم إيجاد فرد مّا من أفراد الطبيعة

ص: 174

المأمور بها مقدّمة لإيجادها.

نعم يستلزم ذلك تخييرا في مصاديق فرد مّا ، نظرا إلى عدم اعتبار تعيين في ذلك الفرد حذرا عن لزوم الترجيح بغير مرجّح ، ولكنّه ليس من التخيير بين الأقلّ والأكثر في شيء ، لعدم اندراج الأكثر المبحوث عنه في مصاديق فرد مّا من حيث اعتبار الوحدة في مفهومه كما لا يخفى.

فإن قلت : أنّ الأمر على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع من حيث هي كما ذكرت ، وأمّا على القول بعدم تعلّقها بها إلاّ باعتبار وجودها في الخارج - كما عليه بعض الفضلاء - فلا ، لإمكان أن يقال : بأنّ الطبيعة إذا اخذت بهذا الاعتبار كانت مردّدة بين المرّة والتكرار ، سواء فسّرناهما بالفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات بحيث لا يمكن تجريدها حينئذ عنهما ، بحيث لا دليل على تعيين أحدهما يتعيّن التخيير بينهما دفعا للترجيح بلا مرجّح ، إلاّ أنّ مرجع التخيير على أوّل التفسيرين إلى وجوب الخصوصيّات لا على وجه التعيين ، وعلى ثانيهما إلى وجوب ملزومهما لا على وجه التعيين ، بناء على استلزام الدفعة للفرد وإلاّ فمرجعه إلى عدم تعيين شيء منهما ، فيتخيّر المأمور بينهما.

فلا يرد حينئذ محذور لزوم الامتثال عقيب الامتثال الغير المتعقّل ، إذ الامتثال بالمرّة إنّما يقع حينئذ إذا لم يتعقّب التكرار ومعه يقع الامتثال به لا بالمرّة ، كما هو الحال في التخيير بين الأقلّ والأكثر.

ولا ما قيل من استلزام الخروج عن القول بالماهيّة إلى القول بالتكرار ، لأنّ القائل بالتكرار إنّما يريد به تعيين التكرار في مفهوم الأمر وضعا ونحن نقول به على وجه التخيير ، ولا ما قيل أيضا من أنّ مدلول « الأمر » عند الإطلاق لم يكن إلاّ طلب الحقيقة - كما تمسّكوا به على نفي المرّة والتكرار - فمن أين يستفاد مطلوبيّة المرّة وما زاد عليها ، لأنّ الدلالة المذكورة غير ناشئة عن نفس الصيغة بل عن اعتبار خارج ، فلا تنافي ما ذكر من أنّ مدلول الصيغة ليس إلاّ طلب الحقيقة.

قلت : لا فرق فيما ذكر بين القولين أصلا ، إذ لا معنى لوجود الطبيعة في الخارج إلاّ وجودها في ضمن الفرد ، وأقلّ مراتبه الفرد الواحد ، وظاهر أنّه لا يوجد في الخارج إلاّ وهي متحقّقة في ضمنه.

وقضيّة ذلك خروج المكلّف عن عهدة التكليف بها بالمرّة ، سواء فسّرناها بالفرد أو

ص: 175

الدفعة ، ومعه لا وجه لاعتبار التخيير بينها وبين التكرار أصلا.

نعم لو اعتبر ذلك بين الفرد الواحد والأفراد الموجودة دفعة لكان له وجه ، ولكنّه خارج عن معقد الكلام في هذا المقام.

وأمّا ما توهّم في المقام أيضا من ندبيّة الامتثالات المتأخّرة عن المرّة الاولى. ففيه : أيضا ما لا يخفى من أنّه احتمال بلا دليل ووجه بلا شاهد.

لا يقال : إنّ الطلب الحتمي بمقتضى الأمر قد تعلّق بالطبيعة ، فبإيقاعها مرّة زالت الحتميّة وبقى الطلب فأقلّ مراتبه الاستحباب ، لأنّ بقاء الطلب على الوجه المذكور غير معقول ، سواء فرضناه بالنسبة إلى المرّة المأتيّ بها أو المرّات المتأخّرة ، أمّا الأوّل فلأدائه إلى تحصيل الحاصل ، وأمّا الثاني فلإفضائه إلى تبعّض الطلب وهو أمر بسيط لا تركّب فيه أصلا حتّى يتبعّض.

نعم لو كان المقام ممّا جرى فيه احتمال رجحان ناش عن ملاحظة فتاوى من صرّح بكونها امتثالا - ولا سيّما بملاحظة الرواية المتقدّمة - لو سلم متنها عن معارضة ما تقدّم ، التفاتا إلى أنّها بضعف سندها لا تصلح دليلا على الوجوب ، مع منافاته لما فيها من التحذير على السؤال عن التكرار لو حملت عليه - لكان المصير إلى الاستحباب تسامحا في أدلّة السنن غير بعيد ، إلاّ أنّ الظاهر خروجه عن المتنازع فيه ، لظهور كون نظرهم في مدلول الصيغة من حيث إنّه أمر بالطبيعة ليستعلم أنّه هل يستلزم الامتثال فيما زاد على المرّة أو لا؟

ولا يذهب عليك أنّ ظاهر كلامهم في كون الأمر بالطبيعة مستلزما للامتثال بما زاد تعدّد الامتثال بتعدّد المرّات ، كما يومئ إليه أيضا ما في كلام المانعين من عدم معقوليّة الامتثال عقيب الامتثال.

ولنا - على الثانية من الدعويين - : القطع بأنّ الفرد لا مدخليّة له في أداء الطبيعة المأمور بها إلاّ كونه مقدّمة لوجودها ، فكما أنّها في وجودها عند اتّحاد الفرد قائمة بذلك الفرد فكذلك عند تعدّد الموجود من أفرادها قائمة بتلك الأفراد على نهج سواء.

وقضيّة ذلك قيام امتثال الأمر بها بجميع تلك الأفراد لتساويها في نسبة وجود الطبيعة إليها ، فلا سبيل إلى التعيين حذرا عن الترجيح من غير مرجّح ، ولا إلى إعمال القرعة كما احتمله بعضهم لتعيين أحدها ، لأنّه في موضع الشبهة والإشكال ، وظاهر أنّ استناد الامتثال إلى الجميع موجب لانتفائهما ، على أنّها لتعيين ما هو المعيّن في الواقع المجهول في الظاهر ، ولا تعيين هنا بحسب الواقع لقبح الترجيح من غير مرجّح ، ولا إلى التخيير بينها لأنّه في

ص: 176

موضع العلم بالوحدة المردّدة كما في المحذورين وأفراد الواجب إذا كانت تدريجي الوجود.

وبما قرّرناه من تساوي نسبة الطبيعة في الوجود إلى الجميع ، يندفع ما قيل : من أنّ الطبيعة وإن حصلت في ضمن الجميع دفعة وكان في ضمن كلّ من الأفراد قبل سقوط الأمر بها ، لكن حصولها في ضمن الجميع ليس بحصول واحد بل هناك حصولات متعدّدة ، والإتيان بالطبيعة حاصل بواحد منها ، فلا داعي إلى الحكم بوجوب الجميع مع حصول الطبيعة بواحد منها القاضي بسقوط التكليف بها.

ولا ينافي ما ذكرناه من قيام الامتثال بالجميع القاضي بكون كلّ واحد تبعا للكلّ في ذلك ، لكون كلّ مستقلاّ في وجود الطبيعة في ضمنه ، إذ الاستقلال في الوجود والعدم لا مدخليّة لهما في ذلك ، وإنّما الداعي إليه تساوي نسبتها في الوجود إلى الجميع باعتبار وحدة الزمان القاضي بلزوم التحكّم لو خصّ الامتثال بواحد وإن كان مستقلاّ في وجودها في ضمنه ، فلا يرد حينئذ ما قيل أيضا من صدق حصول الطبيعة حينئذ بالمرّة أيضا فقضيّة حصولها بها وجوبها استقلالا.

وقضيّة وجودها بالكلّ وجوب الكلّ ، ووجوب المرّة في ضمنه تبعا لوجوبه ، ولا وجه لالتزام وجوبين.

فإنّا لا نقول بوجوب الأفراد وإنّما نقول بوجوب الطبيعة في ضمنها ، وهي أمر واحد لا تعدّد فيه ، ولو سلّم فلا يلزم الالتزام بوجوبين إذ الوجوب الاستقلالي للفرد ما لم ينضمّ إليه فرد آخر في الوجود ، ومعه ينحصر وجوبه في التبعي.

فمن هنا يتبيّن أنّ معنى حصول الامتثال بالجميع كون الحاصل بها امتثالا واحدا لوحدة الطبيعة المأمور بها المتحقّقة في ضمنها ، لا أنّه امتثالات متعدّدة كما في صورة حصولها تدريجا.

المرّة والتكرار ، في تأسيس الأصل

- الثالث من الامور -

في تأسيس أصل يكون مرجعا في الموارد المشتبهة ، ومنها فقد الدليل الاجتهادي على أحد الأقوال ، والنظر هاهنا في جهات :

الاولى : النظر في حكم الأصل التوقيفي ، ولا ريب أنّ مقتضاه التوقّف من جميع الجهات لولا دليل اجتهادي على شيء منها ، لكون المسألة لغويّة والأصل فيها التوقّف كما في نظائرها.

الثانية : النظر في حكم الأصل اللفظي الاجتهادي ، ولا ريب أنّ مقتضاه تعيّن الماهيّة

ص: 177

من باب الوضع للقدر المشترك بين التكرار والمرّة ، أخذا بموجب ما ينفي التفات الواضع إلى ما زاد عليها من الخصوصيّتين ، لكونه زائدا على ما هو القدر المتيقّن حدوثه منه من الالتفات إليها.

ولا يرد عليه : أنّ الالتفات يقيني ومتعلّقه مشكوك فيكون من باب الشكّ في الحادث المانع عن جريان الأصل ، لأنّ المتيقّن تعلّقه بالماهيّة لتحقّقه مع جميع الاحتمالات ، وإنّما الشكّ في تعلّقه بما زاد عليها من أحوالها أو أفرادها فينفى بالأصل لكونه حادثا مسبوقا بالعدم الأزلي.

ولا يقال تشكيكا : بأنّ بناء العرف في مثل ذلك غير ثابت على الاعتبار ، بل الثابت خلافه ، لثبوت ذلك البناء منهم كما يظهر لمن تأمّل في مظانّ عملهم.

الثالثة : النظر في الاصول العمليّة الفقاهيّة ، وإنّما ينظر ذلك بالنسبة إلى دوران الأمر بين كلّ احتمالين من الاحتمالات الجارية على جميع الأقوال ، والصور في ذلك كثيرة جدّا (1).

منها : الدوران بين الماهيّة والتكرار التقييدي أو الاستقلالي ، وقضيّة الأصل فيهما البناء على الماهيّة المستلزمة للامتثال بالمرّة ، لرجوع الأوّل إلى الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كرجوع الثاني إلى الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، فينفى وجوب الزائد فيهما بأصالة البراءة.

أمّا في الثاني فواضح من حيث سلامتها عن معارضة غيرها ، للقطع بارتفاع الأمر والاشتغال المقطوع بهما بالنسبة إلى الأقلّ بعد الإتيان به ، نظرا إلى عدم ارتباطه بالزائد فلا يبقى بالنسبة إليه إلاّ شكّ صرف فينفيه الأصل.

وأمّا الأوّل فلما سيأتي في محلّه من البناء على الأصل فيه ، كما شكّ في جزئيّته أو شرطيّته للعبادة أو المعاملة ، ولا يقدح فيه ورود استصحاب الأمر في غير المعاملة مضافا إلى قاعدة الاشتغال على خلافه ، لوروده عليهما في خصوص المقام الّذي يضبطه كون الشكّ الّذي هو العمدة من أركانهما مسبّبا عن الشكّ المتعلّق بما ينفيه الأصل وإن كانا واردين عليه في سائر المقامات ، فلذا ترى المحقّقين مع اعترافهم بقضيّة الورود بنوا في المسألة المشار إليها

ص: 178


1- واعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام يرتقي إلى ثمانية وسبعين ، إذ المرّة لها احتمالات خمس كما تقدّم ، وعلى جميع التقادير فالمراد بها إمّا الفرد أو الدفعة ، والحاصل من ضرب الاثنين في الخمسة عشرة ، والتكرار له احتمالان فيحصل بانضمامهما إلى العشرة مع انضمام الماهيّة إليها ثلاثة عشرة ، ومضروب كلّ منها في آخر بعد اسقاط المكرّرات ما ذكر من العدد. وطريقه ملاحظة الماهيّة مع الاثني عشر الباقي ، ثمّ أحد احتمالي التكرار بعد إسقاط الماهيّة مع الأحد عشر الباقي ، ثمّ الاحتمال الآخر بعد إسقاط الاحتمال الأوّل مع العشرة الباقي ، وهكذا إلى آخر المراتب ، وضابطه جمع الآحاد المترتّبة من الواحد إلى اثني عشر فيرتقي المجموع إلى ما ذكر كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

على نفي احتمال الجزئيّة والشرطيّة تعويلا على ذلك الأصل ، وكأنّ السرّ في ذلك أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » الّذي هو عمدة مداركه يوجب علما شرعيّا بعدم الجزئيّة والشرطيّة الموجب لزوال الشكّ الّذي عليه مدار الأصلين ، فلا يبقى لهما موضوع حتّى يقضيا بخلاف ما يقتضيه الأصل ، بخلاف ما لو لم يكن ذلك الشكّ مسبّبا عمّا ذكر.

ومنها : الدوران بين الماهيّة والمرّة اللا بشرط بمعنى السكوت ، أو المرّة اللا بشرط بمعنى الدلالة على عدم المطلوبيّة فقط ، ولا يخفى أنّهما خاليين عن أصل يرجّح أحد الطرفين فيهما ، إلاّ أن يلاحظ ذلك بالنسبة إلى لوازمهما كوجوب قصد الخصوصيّة فيهما على احتمال المرّة عند النيّة ، مضافا إلى تحريم ما زاد من باب البدعة بناء على تفسيرها بإدخال ما علم خروجه على الثاني منهما خاصّة ، لاستلزامه العلم بالخروج دون الأوّل ، فالأصل براءة الذمّة عن وجوب قصد الخصوصيّة ووجوب الاجتناب عمّا زاد ولا معارض له هنا.

أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلرجوع الشكّ إلى شرطيّة شيء في النيّة ، ولقد تقرّر ورود الأصل في مثل ذلك على استصحاب الحال مع قاعدة الاشتغال.

ومنها : الدوران بين الماهيّة والمرّة بشرط لا بجميع وجوهها الثلاث ، فبأصالة البراءة عن جزئيّة ترك الزائد للمأمور به أو شرطيّته فيه بالنسبة إلى وجهين منها مضافة إلى أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عنه في أحد الوجهين مع انضمام الوجه الآخر من الثلاث إليه ، يعود الدوران إلى ما بين الماهيّة والمرّة لا بشرط فيأتي فيه جميع ما تقدّم في سابقه قاضيا بتعيّن الماهيّة.

ومنها : الدوران بين وجهي التكرار ، ولا ريب أنّ المتعيّن حينئذ التكرار التقييدي لتطابق الاصول عليه بأجمعها ، ضرورة أنّ أصالة البراءة عن تعدّد العقاب الّذي يوجبه الوجه الآخر قاضية بذلك ، فينهض كلّ من الأصلين الآخرين - نظرا إلى الاشتغال والأمر المقطوع بهما قبل الإتيان بالمرّة الاولى - عاضدا لها ، ولو فرض معارضتها بأصالة البراءة عن شرطيّة الزائد وجزئيّته للامتثال بالمرّة الاولى المستفادة من قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » لبقي الأصلان سليمين عن المعارض لمكان التساقط الناشئ عن التكافؤ.

ومنها : الدوران بينهما وبين المرّة لا بشرط بكلا قسميها ، فالمتعيّن هو المرّة لعين ما تقدّم فيما بينهما وبين الماهيّة لعين ما تقدّم ، وأصالة البراءة عن وجوب قصد الخصوصيّة القاضية بخلافها في جانبها غير منافية له ، لكونها مشغولة بمعارضة مثلها في جانب التكرار.

ص: 179

ومنها : الدوران بين التقييدي من التكرار والتقييدي من المرّة بكلا وجهيه ، فلا أصل في البين يقضي بتعيّن أحدهما فيه ، لكونه من باب ثبوت مدخليّة شيء في العبادة في الجملة ، ولم يعلم بأنّ الثابت اعتباره هل هو وجود ذلك الشيء ليكون شرطا أو عدمه ليكون وجوده مانعا ، نظير التكفير في الصلاة على ما يراه العامّة شرطا والخاصّة مانعا ، وأصالة البراءة عن شرطيّة التكرار معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّة تركه وكذلك على تقدير الجزئيّة ، وليس في البين قدر متيقّن في مقام الامتثال ليكون من مجاري قاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين المتبائنين ، أو الشبهة في أنّ المكلّف به هل هو ما اعتبر فيه التكرار أو ما اعتبر فيه ترك التكرار واستصحاب الأمر يجامع كلاّ منهما.

وقضيّة ذلك أن لا يكون من البناء على التخيير بدّ حذرا عن المخالفة القطعيّة ولكن ينبغي أن يكون التخيير بدويّا أخذا بموجب أصالة الاشتغال.

ولا يقدح فيها ما توهّم من استصحاب التخيير الثابت قبل الاختيار لاشتغاله بمعارضة مثله ، وهو استصحاب اليقين بالنسبة إلى ما اختاره في أوّل المرّة ، ضرورة تعيّنه بمجرّد الاختيار ، وزواله بعد الفراغ عنه يحتاج إلى دليل.

اللّهمّ إلاّ أن يستفاد الاستمراري عن رواية عمر بن حنظلة المذيّلة بقوله عليه السلام : « إذن فتخيّر أحدهما ، وتأخذ بما فيه ، وتدع الآخر » نظرا إلى كون النهي للدوام والاستمرار كما توهّم ، ولكنّه مبنيّ على شمول الرواية ونظائرها لمحلّ البحث وأمثالها وهو أمر يختلف باختلاف الأنظار.

ومنها : الدوران بين التكرار التقييدي والمرّة التعدّدي ، فأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عمّا زاد عن المرّة معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّته أو جزئيّته لدورانه بين كونه حراما نفسيّا أو واجبا غيريّا ، نظرا إلى أنّها كما تدفع الوجوب والحرمة النفسيّين فكذلك الغيريّين.

غاية الأمر أنّ العقاب على الأوّل يترتّب عليه لمخالفته بنفسه ، وعلى الثاني لإفضاء مخالفته إلى مخالفة ما اعتبر فيه ، وهو لا يوجب فرقا بينهما في الحكم.

فقضيّة ما ذكر تعيّن التكرار لسلامة الاستصحاب وأصالة الاشتغال عن المعارض.

ومنها : الدوران بين التكرار التعدّدي والمرّة التقييدي بكلا وجهيه.

وظاهر أنّ التكليف بالمرّة الاولى ثابت يقينا على جميع الاعتبارات ، وأمّا المرّات

ص: 180

الاُخر فيكون حالها نظير ما لو علم بتعلّق الخطاب بشيء لم يعلم بكونه عبادة مستقلّة قد أمر بها أو عدمه شرطا أو جزء لعبادة اخرى كالمرّة الاولى في محلّ الكلام ، فأصالة البراءة بالنسبة إلى ما زاد عليها وإن كانت تنفي التكليف به مستقلاّ ولكنّها معارضة بأصالة البراءة عن شرطيّة عدمه أو جزئيّته للمرّة الاولى ، ولمّا كان الاشتغال اليقيني بالنسبة إليها يستدعي اليقين بالبراءة عنها فلا جرم يتعيّن ترك الزائد تحصيلا للبراءة اليقينيّة ، ولا معارض له ليكون قاضيا بالتكرار ، لعدم ثبوت الاشتغال بالنظر إلى الزائد بعنوان اليقين ليستدعي البراءة منه بهذا العنوان.

ومنها : الدوران بين التكرار والمرّة التعدّديّين ، ولا ريب أنّ أصالة الاشتغال واستصحاب الحال لا مجرى لشيء منهما في المرّة الاولى ، وأمّا المرّة الثانية وتواليها فمردّدة بين الوجوب والتحريم ، نظير ما لو علم بتعلّق الخطاب بشيء ولم يعلم بمفاده من حيث الحكمين ، وأصالة البراءة من وجوب الإتيان بها ليست بأولى من أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب ، فهما متعارضتان فيؤول الأمر حينئذ إلى التخيير بدويّا ، لعدم دليل واضح على الاستمراري ليكون قاطعا لمقتضى الاشتغال الثابت ، مضافا إلى استلزامه المخالفة القطعيّة فإنّها غير جائزة عقلا ما لم يقم دليل على الترخيص شرعا.

ومنها : الدوران بين وجهي المرّة لا بشرط ، ولا أصل في البين يقتضي رجحان أحدهما إلاّ أصالة البراءة عن التحريم التشريعي على احتمال الدلالة على عدم مطلوبيّة الزائد ، بناء على التفسير المتقدّم للبدعة ، فقضيّة ذلك تعيّن المرّة المستلزمة للسكوت عمّا زاد.

ومنها : الدوران بين المرّة لا بشرط والمرّة التقييدي بكلا وجهيهما ، والأصل في الكلّ المرّة لا بشرط ، المستلزم لعدم اعتبار ترك ما زاد على المرّة الاولى في المأمور به جزءا وشرطا ، التفاتا إلى عدم قيام ما يقضي بالجزئيّة أو الشرطيّة بالخصوص ، والكلام في قيام أصل الشغل واستصحاب الأمر - لو فرض - نظير ما تقدّم من أنّهما في خصوص المقام لا تأثير لهما ، لمكان انتفاء ما هو مناط جريانهما بعد إعمال الأصل المذكور.

ومنها : الدوران بين المرّة لا بشرط بكلا وجهيها والمرّة التعدّدي ، ولا ريب أنّ مقتضى أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عمّا زاد بناء العمل على الاولى ، لعدم استلزامها التحريم.

لا يقال : إنّ التحريم ثابت على كلّ تقدير ، أمّا على المرّة التعدّدي فبدلالة الأمر وأمّا على غيرها فبقاعدة البدعة.

ص: 181

لنا : أنّ المتبادر من الأمر طلب إيجاد حقيقة الفعل * ،

__________________

ثمّ إنّه على تفسير المرّة لا بشرط بالدلالة على عدم المطلوبيّة فواضح ، وعلى تفسيرها بالسكوت فمبنيّ على التعميم في جنس مفهوم البدعة بتفسيرها بإدخال ما ليس من الدين.

لأنّ المرّة التعدّدي تستلزم التحريم وترتّب العقاب على فعل ما زاد على جميع الأحوال بخلاف المرّة لا بشرط مطلقا ، لاختصاص التحريم والعقاب فيها ببعض الأحوال ، كما يظهر بالتأمّل في القيود المعتبرة في البدعة ، ومن المعلوم أنّها الموافق للأصل لا ما يقابلها.

ومنها : الدوران بين وجهي المرّة التقييدي ، ولا أصل في البين يقتضي رجحان إحداهما إلاّ على تقدير كون النهي فيما يكون منهما الزائد فيها منهيّا عنه مستلزما للعقاب زيادة على إفضائه إلى فوات الامتثال بالمرّة الاولى ، بناء على فرضه نفسيّا نظير شرب الخمر حال الصلاة ، فالأصل حينئذ براءة الذمّة عن ذلك العقاب ، إلاّ أنّه على التقدير الآخر ليس بينهما ، فرق فاحش ليكون منشأ لوقوع التعارض بينهما فالفرق حينئذ لفظي.

ومنها : الدوران بين المرّة التقييدي بكلا الوجهين والمرّة التعدّدي ، والأصل فيهما المرّة التقييدي لأصالة الاشتغال واستصحاب الحال ، بعد اشتغال أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب بمعارضة أصالة البراءة عن شرطيّة أو جزئيّة ترك الزائد للمأمور به ، الموجب لحصول التساقط بينهما.

* ولا يخفى أنّ بذلك تمّ الاحتجاج ، ومحصّله : التمسّك بالتبادر الكاشف عن الوضع كما في كلام الجمهور من أهل هذا القول ، وهو في محلّه لا غبار عليه ، ولكن لمّا كان التبادر من الأمارات العرفيّة الغير الصالحة بمجرّدها لإثبات الحكم في غير العرف من الشرع واللغة فينبغي أن ينضمّ إليه أصالة عدم النقل ، القاضية بتسرّي الحكم إليهما أيضا ليتمّ الاستدلال ويثبت المدّعى بتمامه ، كما هو الحال في نظائر المقام ، وإنّما لم يتعرّض المصنّف لذكره تعويلا على وضوحه ، أو على سبق التنبيه على توقّف تتميم الاحتجاج بكلّ تبادر على ذلك في الاحتجاج على كون الصيغة للوجوب.

وبما قرّرناه تبيّن أنّه لا وقع لما قيل (1) في الفرق بين هذا التقرير والتقرير الآتي من : أنّه ادّعى في الأوّل كون مدلول الصيغة هو طلب حقيقة الفعل ، وأنّ حقيقة الفعل يخرج عنها المرّة والتكرار بدون الاستدلال عليه ، فكأنّه ادّعى البداهة فيه.

ص: 182


1- القائل هو المدقّق الشيرواني ( منه ).

المرّة والتكرار

والمرّة والتكرار خارجان عن حقيقته ، كالزمان والمكان ونحوهما *. فكما أنّ قول القائل : « إضرب » غير متناول لمكان ولا زمان ولا آلة يقع بها الضرب ، كذلك غير متناول للعدد في كثرة ولا قلّة.

__________________

وفي الثاني استدلّ على تلك المقدّمة بالوصف بالأوصاف المتقابلة ، وما يدخل في الشيء لا يوصف ذلك الشيء بمقابله. انتهى (1).

كما يندفع به - مع ملاحظة ما قدّمنا ذكره في تحرير العنوان من كون النزاع فيما اخذ في وضع الصيغة - ما اعترض على ما حكم به المصنّف بعد ذلك من خروج المرّة والتكرار عن حقيقة الفعل ، بأنّه لا يلزم من الخروج عن الحقيقة عدم الدلالة ، فإنّ دلالة الالتزام إنّما هي دلالة على الخارج عن الحقيقة ، لخروج هذه الدلالة عن مقاصد القوم ، وعدم كون الدلالة المطلقة معقدا لكلامهم ، وإنّما الكلام فيما كان مأخوذا في وضع الصيغة ، والمدلول الالتزامي ليس بهذه المثابة ، مع أنّ اللفظ لا دلالة له على كلّ خارج بالالتزام بل على ما كان لازما لما وضع له ، وهو في المقام إمّا لازم له بحسب الوجود الخارجي أو لازم بحسب المفهوم العرفي ، والأوّل مسلّم وغير مجد في الدلالة ، والثاني مجد وغير مسلّم.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا ، فالدلالة المذكورة على تقدير ثبوتها غير قادحة فيما ادّعاه المصنّف ، بل الدلالة على أحد الأمرين على طريق البدليّة من لوازم القول بكون الأمر لطلب الماهيّة ، نظرا إلى أنّ الطبيعة قابلة للتقييد بهما وجهة جامعة بينهما ، فالدلالة على الوجه المذكور لازمة لها وهي ليست من الدلالة على المرّة أو التكرار عند أصحاب القول بهما ، لاعتبار التعيين والمنع فيهما والبدليّة تنافيهما كما لا يخفى.

فلا حاجة حينئذ إلى أن يجاب عنه بما في كلام ابنه : بأنّ المرّة والتكرار والمكان وشبهها من لوازم الحدث الّذي هو المعنى المصدري - أعني جزء الأمر - ولا يلزم من لزوم شيء لجزء المركّب لزومه للمركّب ، حتّى يتوجّه إليه أنّه إنّما يستقيم في المركّبات الخارجيّة دون المركّبات الذهنيّة ، إذ المحقّق فيها كون لازم الجزء لازما للمركّب ، حيث إنّ التركيب فيها أمر يعتبره العقل بعد التحليل ، وإلاّ فالّذي يتصوّر وينساق ابتداء أمر بسيط.

* ولمّا كان ما ذكره من الاحتجاج مظنّة سؤال : بأنّ تبادر طلب حقيقة الفعل من الأمر

ص: 183


1- حاشية ملا ميرزا الشيرواني ( منه ).

لا ينافي بظاهره القول بالمرّة ولا التكرار ، إذ الشيء قد يكون ذا حقيقة مطلقة وقد يكون ذا حقيقة مقيّدة ، فأجاب عنه : بأنّ المرّة والتكرار خارجان عن حقيقة الفعل الّتي هي المتبادر.

واستدلّ عليه بعدم تبادر العدد في قلّة ولا كثرة من قول القائل : « اضرب » تنظيرا له بعدم تبادر زمان ولا مكان ولا آلة يقع بها الضرب.

فلا وجه لما أورده بعض الأفاضل من عدم الحاجة في الاحتجاج بالدليل المذكور إلى تلك المقدّمة ، بدعوى : أنّه بعد بيان كون المتبادر من الصيغة هو طلب إيجاد حقيقة الفعل يثبت كون الصيغة حقيقة في طلب إيجاد الطبيعة المطلقة ، القابلة للتقييد بكلّ من التكرار والمرّة وغيرهما ، من غير دلالة فيها على خصوص شيء منهما ، لوضوح خروج كلّ من تلك الخصوصيّات عن الطبيعة اللابشرط من غير حاجة إلى إثبات ذلك بالدليل ، فإنّ ذلك فرع ظهور الحقيقة في عبارة الدليل في الطبيعة اللابشرط وهو في حيّز المنع كما لا يخفى ، فلا مناص من المقدّمة المذكورة لأن يدفع بها السؤال.

نعم يرد عليه : أنّ أقصى ما يقضي به تلك المقدّمة إنّما هو خروج نفس المرّة والتكرار القاضي بعدم جزئيّتهما في الموضوع له ، ولا قضاء لها بخروج التقييد بأحدهما معيّنا أيضا ، ولعلّ القائل بالمرّة أو التكرار مدّع لدخولهما في الموضوع له من باب التقييد لا الجزئيّة ، ولقد تقدّم في تحرير الأقوال ما يقضي بجريان الوجهين في كلّ من القولين.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع ذلك : بتناول العبارة لدفع كلّ من الاحتمالين ، بدعوى : أنّ عدم تبادر القيدين يستلزم عدم اعتبار التقييد بهما في الوضع ، لاستلزام اعتباره تبادره عند الإطلاق الموجب لتبادرهما ولو على سبيل الترتّب ، كما في لفظة « العمى » الموضوعة لعدم البصر على طريقة التقييد.

فلا حاجة حينئذ في تصحيح تلك المقدّمة إلى ارتكاب تكلّفات لا ينبغي حمل العبارة على شيء منها ، مثل أن يقال : بأنّ خروج المرّة والتكرار عن الطبيعة المطلقة وإن كان أمرا ظاهرا إلاّ أنّه لابدّ من ملاحظته في المقام لتوقّف الاحتجاج عليه ، ووضوح المقدّمة لا يقتضي عدم اعتبارها في الاحتجاج.

أو أنّ المقصود من كون المتبادر من الأمر طلب حقيقة الفعل معناه الحدثي ، أعني المعنى المصدري كما سيشير إليه في التقرير الثاني ، فثبت بالمقدّمة الاولى كون الصيغة حقيقة في طلب معناه المادّي من دون إفادتها ما يزيد على ذلك ، فيفيد ذلك عدم دلالة

ص: 184

نعم لمّا كان أقلّ ما يمتثل به الأمر هو المرّة ، لم يكن بدّ من كونها مرادة * ، ويحصل بها الامتثال ، لصدق الحقيقة الّتي هي المطلوبة بالأمر بها.

__________________

الأمر بهيئته على شيء من المرّة والتكرار ، ثمّ بيّن بقوله : « والمرّة والتكرار خارجان » أنّ معناه الحدثي لا دلالة فيه على شيء من الأمرين ، فإنّه بعد الرجوع إلى العرف لا يفيد خصوص شيء منهما كما هو الحال في الزمان والمكان.

أو أنّ المقصود بالتبادر المدّعي عدم دلالة الأمر بالمطابقة أو التضمّن على شيء من المرّة والتكرار ، حيث إنّ مدلوله ليس إلاّ طلب حقيقة الفعل.

ومن البيّن خروج المرّة والتكرار عن نفس الطبيعة ، والمراد بقوله : « المرّة والتكرار خارجان » بيان انتفاء الدلالة الالتزاميّة ، فإنّ الخارج عن الحقيقة قد يكون مدلولا التزاميّا لها ولا يفيد خروجه عن المدلول انتفاء الدلالة عليه.

وأنت خبير بعدم ظهور هذه الوجوه عن سوق العبارة بل هي بعيدة عنها جدّا.

وربّما يقال - في الحكم بخروجهما عن حقيقة الفعل - : بكونه مبنيّا على أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة من حيث هي كما عليه المتأخّرون ، أو على أنّ المصادر الغير المنوّنة كذلك على ما ادّعى السكّاكي عليه الإجماع ، بل ربّما يؤخذ ذلك احتجاجا على تلك المقدّمة الّتي استدلّ عليها المصنّف بعدم التبادر كما في كلام جماعة من أجلّة الأصحاب.

* لا ريب أنّ ذلك لا يستلزم الاعتراف بضدّ المطلوب كما تخيّل ، بدعوى : إرادة كون المرّة الملحوظة على وجه اللا بشرط مستفادة من الصيغة نظرا إلى الوجه المذكور.

غاية الأمر كونها مدلولا التزاميّا للصيغة وضعا ، وذلك لا يقضي بالفرق في نفس المدلول إذا قضى ذلك حصول الفرق بينهما في كيفيّة الدلالة ، ولا فائدة له بعد حصول الإفادة على ما هو المقصود في المقام ، لجواز إرادة كون المرّة مرادا من خارج اللفظ من باب دالّين لمدلولين على طريقة القرائن المفهمة ، ولعلّه في المقام المقدّمة العقليّة القاضية بأنّ الطبيعة المأمور بها لا يمكن الامتثال بها إلاّ في ضمن المرّة أو التكرار ، ولمّا كان الأوّل أقلّ ما يمتثل به فهو القدر المتيقّن ممّا هو مراد في المقام ، وليس ذلك من القول بالمرّة في شيء ، مع إمكان إرادة كونها لازما للمراد على حدّ الدلالة بالإشارة ، ولو سلّم إرادة كونها مرادة من اللفظ فإنّما هي من جهة كونها مقدّمة للإتيان بالمطلوب لا أنّها مطلوبة

ص: 185

وبتقرير آخر * : وهو أنّا نقطع بأنّ المرّة والتكرار من صفات الفعل ** ،

__________________

بنفسها ، كما يومئ إليه « الباء » في قوله : « به » من حيث ظهورها في السببيّة.

وإلى ذلك ينظر ما أفاده بعض الأفاضل في دفع ما ذكر : من أنّ القائل بالمرّة يجعل خصوص المرّة مندرجة في المأمور به بخلاف ما يستفاد من الوجه المذكور.

فإنّ أقصى ما يفيده حصول المطلوب بها لا أنّها مطلوبة بخصوصها ، بعد ما ذكر أوّلا من أنّ كون المرّة أقلّ ما يمتثل به الأمر يفيد حصول الامتثال بالأكثر أيضا ، وذلك ممّا لا يقول به القائل بكون الأمر للمرّة.

فقضيّة البيان المذكور حصول الامتثال بالمرّة قطعا ، وإن قضت الصيغة بحصوله بالأكثر أيضا ، ولا ربط له بالقول المزبور.

* بينه وبين التقرير الأوّل - مضافا إلى تغائرهما من حيث العبارة كما هو شأن المقام - فرق واضح باعتبار الوضع والترتيب ، من حيث إنّه أخذ أوّلا بالاحتجاج على أصل الدعوى ، ثمّ بدفع ما تقدّم من السؤال المقدّر في التقرير الأوّل ، وعكس الأمر في التقرير الثاني.

وباعتبار المفهوم والمعنى من حيث إنّه تمسّك لدفع السؤال في الأوّل بعدم تناول اللفظ لشيء من المرّة والتكرار ، الّذي هو في معنى عدم تبادرهما من اللفظ ، التفاتا إلى شيوع التعبير عن عدم تبادر معنى من لفظ بعدم تناول ذلك اللفظ لذلك المعنى كما هو واضح للواقف على مظانّ إطلاقهم.

وفي الثاني بقاعدة تقييد اللفظ بوصفين متضادّين ، القاضية بكونه للقدر الجامع بينهما ، وهو الذات الموصوفة بهما لا بشرط اتّصافها بأحدهما.

فما يقال : من أنّ الفرق بينهما أنّه ادّعى في الأوّل كون مدلول الصيغة هو طلب حقيقة الفعل ، وأنّ حقيقة الفعل يخرج عنها المرّة والتكرار بدون الاستدلال عليه ، فكأنّه ادّعى البداهة فيه ، وفي الثاني استدلّ على تلك المقدّمة بالوصف بالأوصاف المتقابلة ، وما يدخل في الشيء لا يوصف ذلك الشيء بمقابله ، ليس بشيء فلا ينبغي الالتفات إليه.

** أي نقطع بأنّها من الصفات الراجعة إلى المعنى المصدري المستند إلى مادّة الأمر باعتبار الوضع المادّي ، كما أنّ القليل والكثير من الصفات الراجعة إليه ، والدليل على تلك الدعوى الموجب للقطع المذكور صحّة تقييده بهما عرفا في قولك : « اضرب ضربا مكرّرا » و « اضرب ضربا غير مكرّر » كصحّة تقييده بالقليل والكثير في قولك : « اضرب ضربا قليلا »

ص: 186

أعني المصدر ، كالقليل والكثير ؛ لأنّك تقول : اضرب ضربا قليلا ، أو كثيرا ، أو مكرّرا ، أو غير مكرّر ، فتقيّده بالصفات المختلفة *. ومن المعلوم أنّ الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصيّة شيء منها **.

__________________

و « اضرب ضربا كثيرا ».

* وتقييد الشيء بالصفات المختلفة دليل بحسب العرف والعادة على عدم مدخليّة شيء من تلك الصفات في حقيقة ذلك الشيء وذاته ، كما أنّ صحّة اعتبار تلك الصفات مع اللفظ ظاهرة في كونها قيودا لمعناه الحقيقي ، ظهورا كاشفا في نظر العرف عن كونه وضعا للقدر المشترك بينها ، ولعلّه من جهة الاستقراء وتحقّق الغلبة في نظائر المقام ، فلا ينافيه ما يتحقّق في بعض الأحيان من تقييده بصفات يرجع بعضها إلى المعنى الحقيقي وبعضها إلى المعنى المجازي كتقييد « الأسد » بالافتراس والرمي ، وتقييد « الماء » بالإطلاق والإضافة.

كما أنّ صحّة تقسيمه إلى الأقسام المتبائنة ظاهرة في نظر العرف والعادة باعتبار الاستقراء والغلبة في كونه بإزاء القدر المشترك فيها ، فلا ينافيه ما في بعض الأحيان من التقسيم إلى المعنى الحقيقي والمجازي كتقسيم « الأسد » إلى المفترس والشجاع.

فما يقال : من أنّ تقييد المصدر بالصفات المتقابلة لا يفيد كونه حقيقة في الأعمّ إذ قد يكون التقييد قرينة على التجوّز ، فصحّة التقييد بالقيدين دليل على جواز إرادة الأعمّ وصحّة الإطلاق عليه وهو أعمّ من الحقيقة - كما في الهداية - فهو مناقشة في غير محلّها ، إذ الحكم مبنيّ على الظاهر والغالب ، ولا ينافيهما الاحتمال المرجوح النادر.

نعم ربّما يقدح ذلك فيما ادّعاه المصنّف من القطع بالدعوى بمجرّد تلك القاعدة كما لا يخفى ، من غير أن يقدح في أصل الحكم المبتنى على الظنّ والظهور ، لكون موضوعه ممّا يدور وجودا وعدما على الظنون الاجتهاديّة والظهورات العرفيّة.

ولو اعتبر في الاحتجاج مقدّمة اخرى بأن يقال : إنّ المصدر يصحّ تقييده بالصفات المتقابلة من دون انفهام تعارض ولا تأكيد ، لارتفعت تلك المناقشة أيضا ، وأفادت القضيّة المشتملة على التقييد القطع بالمطلوب كما لا يخفى ، ولعلّها مطويّة في كلام المصنّف.

ويمكن أن يراد بالقطع [ القطع ] العرفي الغير المنافي لاحتمال الخلاف الموجب لرفع الحاجة إلى التوجيه المذكور.

** والسرّ في ذلك ما هو المعروف في الألسنة من قضيّة قولهم : « العامّ بمجرّده

ص: 187

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّه ليس المفهوم من الأمر إلاّ طلب إيجاد الفعل * أعني

__________________

لا يدلّ على الخاصّ » كما يشهد به الوجدان المقرون بالضرورة والعيان ، فإنّ المراد بالموصوف هو الذات المعرّاة عن جميع تلك الصفات القابلة لتوصيفها بكلّ منها على نحو البدليّة ، وظاهر أنّها إذا لو حظت بهذا الاعتبار تكون بالنظر إلى صفاتها المجرّدة عنها أعمّ ، فتسقط عن الدلالة على شيء خاصّ منها.

ولكن لا يذهب عليك أنّ التقابل فيما بين المرّة والتكرار إنّما يتحقّق إذا اخذت المرّة بشرط لا ، كما يومئ إليه ما في كلام المصنّف من التعبير عنهما (1) فيما لو اخذا قيدين للمصدر ب- « المكرّر وغير المكرّر » فقد أصاب بعض الأفاضل حيث تنبّه على ذلك ، ضرورة أنّ المرّة المأخوذة لا بشرط لا تنافي بينها وبين التكرار حتّى يندرجا في المتقابلين ، لما يقال : من إنّ اللا بشرط لا ينافيه ألف شرط.

فمن هنا يتوجّه إلى المصنّف أنّ الاحتجاج إنّما يستقيم إذا كان المرّة في إرادة القائل بها هي المرّة بشرط لا دون غيرها ، ولقد تقدّم أنّها في كلام هذا القائل محتملة للمرّة اللا بشرط أيضا ، إلاّ أن يدفع ذلك باستفادة هذا المذهب له عن قوله المقابل للقول بالتكرار بقرينة المقابلة القاضية بذلك.

وأنت خبير بأنّه في غاية الإشكال ، إذ التقابل فيما بين الأقوال لا يجب أن يكون كالتقابل فيما بين الأشياء المتضادّة الّذي هو المراد بالاحتجاج جزما ، بل المدار فيها على الاختلاف بوجه مّا ولو بالاعتبار لا على التقابل المصطلح ، وإلاّ لانحصر القول في غالب الخلافيّات في اثنين وهو كما ترى.

نعم ، يمكن تتميم الاحتجاج بعدم القول بالفصل إن تمّ.

* هذا استدلال بالتبادر على أصل المدّعى بعد إحراز خلوّ الفعل المدلول عليه بالمصدر بما هو فعل عن الدلالة على خصوص المرّة أو التكرار.

فقد تقرّر من جميع ما تقدّم ابتناء ثبوت المدّعى على الاستدلال بالتبادر ، وابتناء تماميّة الاستدلال على خروج المرّة والتكرار عن الفعل المعبّر عنه بالمعنى المصدري بدلالة أحد الامور الثلاث عليه : من عدم تبادرهما عن المصدر ، أو تقييده بهما القاضي بكونه وضعا للأعمّ منهما ، أو الاتّفاق المنقول عن السكّاكي في المفتاح على أنّ المصادر

ص: 188


1- في الأصل : « عنها » والصواب ما أثبتناه كما يقتضيه السياق.

المعنى المصدري ؛ فيكون معنى « اضرب » مثلا طلب ضرب مّا * ، فلا يدلّ على صفة الضرب ، من تكرار أو مرّة أو نحو ذلك.

وما يقال : من أنّ هذا إنّما يدلّ على عدم إفادة الأمر الوحدة أو التكرار بالمادّة ، فلم لا يدلّ عليهما بالصيغة؟ **

__________________

الخالية عن اللام والتنوين موضوعة للطبائع من حيث هي - كما استند إليه جماعة - وربّما يجعل ذهاب ابن الحاجب هنا إلى كون المطلوب بالصيغة هو الحقيقة من حيث هي - مع ذهابه في الإيضاح إلى خلاف التحقيق من كون اسم الجنس موضوعا للطبيعة المقيّدة بالوحدة - شاهدا بذلك الاتّفاق.

* قيل : أراد به مطلق الضرب المبهم الشامل للوحدة والكثرة لا فرد مّا من الضرب ، إذ لا يتبادر من المصدر إلاّ مطلق الطبيعة دون الفرد المنتشر حسبما قرّره.

أقول : إنّما يصحّ ذلك على مذاق من يرى أسماء الأجناس موضوعة بإزاء.

الطبائع المطلقة ، ولعلّ المصنّف لا يقول به بل يراها موضوعة للطبيعة المقيّدة بوجودها في ضمن فرد مّا ، فلابدّ حينئذ من أن يراد بذلك مفهوم الفرد المنتشر المقابل للوحدة والكثرة ، وليس في كلامه ما ينافي ذلك ولا ما يؤيّد الوجه المذكور ، بل يؤيّد ما ذكرناه مذهبه المعروف له في متعلّق الأحكام من كونه الفرد دون الطبيعة ، كما نقله عنه ابنه في الحاشية وقال : « بكون ذلك يظهر منه في مواضع من مصنّفاته ، بل صرّح في المنتقى عند ذكر استدلال العلاّمة بما ورد في الموجبات من قوله عليه السلام : « لا ينقض الوضوء إلاّ حدث » قائلا : بأنّ المراد بالحدث نفس الماهيّة ، فردّ عليه الوالد بأنّ الأحكام الشرعيّة لا يتعلّق بالماهيّة ».

اللّهمّ إلاّ أن يدفع ذلك بالاتّفاق المشار إليه في خصوص المصادر ، فلابدّ حينئذ من أن يكون مذهبه في متعلّق الأحكام ناشئا عن قرينة خارجة ممّا هو مذكور في محلّه ، دفعا للمنافاة بينه وبين قوليه بوضع المصادر للطبائع من حيث هي ووضع الصيغة لطلب المعاني المصدريّة ، أو يقال : بمنع هذا المذهب منه وإن كان معروفا نسبته إليه ، بدعوى : أنّ مراده بالماهيّة الّتي ينفى تعلّق الأحكام الشرعيّة بها إنّما هي الماهيّة بشرط لا ، لا مطلقا كما احتمل في كلامه ابنه ، فهو حينئذ لا يخالف القائلين بتعلّق الأحكام بالطبائع ، لأنّ مرادهم بالطبيعة إنّما هي الماهيّة الملحوظة لا بشرط كما لا يخفى.

** وقد يعترض ها هنا تارة على المصنّف : بأنّ الحكم بانحصار مدلول الأمر في طلب

ص: 189

المرّة والتكرار ، إقامة الأدلّة على المختار

فجوابه : أنّا قد بيّنا انحصار مدلول الصيغة * بمقتضى حكم التبادر في طلب إيجاد الفعل. وأين هذا عن الدلالة على الوحدة أو التكرار؟

__________________

المعنى المصدري يدفع هذا الإيراد ، تعليلا : بأنّ ما ذكره في الجواب ممّا تضمّنه ، أصل الدليل بلا زيادة عليه وهو سياق غير مستحسن ، وإنّما الأولى تقرير الدليل على وجه يتوجّه إليه الإيراد ليحتاج إلى التعرّض بجوابه.

واخرى على المورد : بأنّه غفل عن اعتبار التبادر من الهيئة في طلب إيجاد المادّة حسبما أخذ في الاحتجاج.

أقول : ويمكن توجيهه على طريق يندفع معه الاعتراض ، فإنّ المصنّف قد ادّعى التبادر عند الاحتجاج في الأمر وهو - بناء على تفسيره بالقول أو الصيغة حسبما تقدّم بيانه في محلّه - مركّب له جزءان مادّي وصوري ، والمرّة والتكرار على القول بهما يمكن استنادهما إلى المجموع أو المادّة فقط أو الصورة وحدها ، والّذي نفاه احتجاج المصنّف بالتبادر إنّما هو الاحتمال الأوّل لظهوره في المجموع ، ثمّ تعرّض لنفي الاحتمال الثاني بما ذكره في المقدّمة الثانية الّتي قد ذكرنا كونها دفعا لسؤال مقدّر ، فتبقى الاحتمال الثالث بلا وجه ناف له أيضا ، نظرا إلى عدم منافاة عدم إفادة المجموع المركّب للمرّة والتكرار مع إفادة بعض أجزائه إيّاهما ، كعدم منافاة تبادر النسبة عن المجموع المركّب من « زيد » و « قائم » للمعاني المتبادرة عن أجزائه ، فتصدّى لإيراد هذا السؤال للتعرّض بجوابه ليستقيم الاحتجاج ، ويتمّ المدّعى بحذافيره.

* وهذه العبارة وإن كانت قاصرة عن إفادة ما قرّرناه من الاحتمال ، إلاّ أنّه ينبغي حملها عليه دفعا للاعتراض.

ومحصّلها : أنّ التبادر الّذي ادّعيناه في المقام تبادر في الصيغة ، فإنّ المتبادر منها هو الطلب المذكور لا من المجموع ، حيث إنّه لا وضع له سوى وضعي الجزءين بناء على التحقيق.

[ إقامة الأدلّة على المختار ]

هذا كلّه في شرح كلام المصنّف ، ولمّا كان الراجح في النظر القاصر ما اختاره المصنّف وفاقا له وللمحقّقين ، فينبغي إيراد الأدلّة القاضية بذلك مفصّلة ليزيل احتمال الخلاف بالمرّة ، ويبلغ المختار في غاية وضوحه إلى حدّ الضرورة ، فعمدة ما يقضي بذلك تبادر

ص: 190

طلب الماهيّة عن الصيغة المجرّدة وعدم تبادر شيء من التكرار والمرّة ، وهما من أقوى شواهد الوضع في طرفي الإثبات والنفي ، وقد تكرّر منّا في مواضع كثيرة أنّ الأصل فيهما الوضعي بالمعنى الّذي تقرّر في محلّه ، بعد الغضّ عن الجزم بعدم مدخليّة ما سوى اللفظ من داخل أو خارج في ذلك أصلا ، مضافا إلى أصالة عدم تعلّق الوضع بما يزيد على طلب الماهيّة إن أفادت الوصف بمجرّدها.

والمناقشة (1) فيها : بأنّ الأصل لا مسرح له في نحو هذه المقامات ، تعليلا بوضوح أنّ الامور التوقيفيّة إنّما تتبيّن من توقيف الواضع ، يدفعها :

أوّلا : النقض بالتبادرات والاصول المنضمّة إليها لتأدية تعدّي الحكم إلى ما عدا العرف من الشرع واللغة في جميع المقامات ، وكذلك غيرها من الأمارات الّتي لا تكون من توقيف الواضع في شيء ، ولو فرّق بينها وبين الأصل بأنّها إنّما يؤخذ بموجبها لكشفها عن توقيف الواضع.

لمنعناه : بأنّ الأصل أيضا بملاحظة انتفاء ما يقضي بالخلاف - كما هو المعتبر في مجاريه - يكشف كشفا ظنّيا عن توقيفه بما هو مطلوب في كلّ مقام.

ولو قيل : بأنّ المقصود قيام الأصل من حيث هو حجّة ، والضميمة خارجة عنه.

لقلنا : بعدم خلوص شيء من الأمارات عن ضميمة كما لا يخفى على المحيط بحقائقها.

وثانيا : بالحلّ بأنّ نفي المسرحيّة عن الأصل في أمثال هذه المقامات إن كان من جهة التعبّد بدعوى : أنّ الأصل لا يؤخذ به هنا تعبّدا ، فهو حقّ متين لعدم انصراف أدلّة التعبّد إلى أمثال المقام ، ولكن النظر إليه فيها ليس من تلك الجهة وإنّما هو لأجل إفادته الوصف ، وإن كان من جميع الجهات حتّى فيما كان قد أفاد وصفا ولو مع ملاحظة الضميمة فهو بمكان من المنع ، كيف وجواز التعويل على الاصول العدميّة بل الوجوديّة في المطالب اللغويّة ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، لانعقاد الإجماع عليه كما في أصالة عدم النقل ، وأصالة عدم تعدّد الوضع ، وأصالة عدم القرينة ، أو الالتفات إليها في التبادرات ونحوها ، وإنّما خصّصنا الاعتبار بصورة إفادة الوصف لأنّه المعلوم من بنائهم أو هو القدر المتيقّن من طريقتهم.

ولا ينافيه ما قد يرى من التأمّل في بعض العبارات بالنسبة إلى بعض المقامات ، لكونه ناشئا إمّا عن انتفاء الصغرى بانتفاء ما هو مناط الاعتبار وهو الوصف ، أو عدم تحقّق حال العرف وبنائهم فيه بالنسبة إلى هذا المقام ، غفلة عن عدم انحصار طريق اعتباره في بنائهم

ص: 191


1- كما في الهداية. ( منه ).

على العمل وإنّ له طريقا آخر وهو إجماع أهل العلم الثابت هنا جزما ، بملاحظة ما قرّرناه من الاصول الّتي يرسلونها إرسال المسلّمات ، فإنّه في الحقيقة إجماع على اعتبار الظنّ المستفاد عن الأصل ولو بملاحظة المقام ، كإجماعهم على اعتبار الظنّ الحاصل عن سائر الأمارات ، والفرق بين ما ذكر من الاصول ومحلّ البحث تحكّم كما أنّ الفارق مكابر ، للجزم بأنّ مجرّد كون المعنى مركّبا لا يصلح مانعا عن جريان الأصل بالنسبة إلى بعض أجزائه.

نعم لو فرّق بقصور الأصل بالنسبة إلى الأجزاء عن إفادة الوصف بخلاف سائر الاصول كما لا يخفى ، أو بعدم قوّته في إفادة ذلك كغيرها فلا حجر ، إلاّ أنّه لا ينهض ردّا علينا كما لا يخفى ، كما أنّه لا وجه لإطلاق المناقشة في اعتباره.

وممّا يدلّ على المدّعى : ما قرّرناه في محلّه من القاعدة القاضية بوضع اللفظ لما غلب استعماله فيه ، ممّا هو جامع بين معنيين آخرين استعمل فيهما بالخصوص أيضا.

وأمّا الاستدلال عليه أيضا : بأنّه يستعمل تارة في المرّة واخرى في التكرار والأصل فيما استعمل في الأمرين أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والمجاز ، فإن كان مرجعه إلى تلك القاعدة فلا ضير فيه ، وإلاّ لكان بمكان من الوهن عندنا ، لا لما قيل : بأنّه مع البناء على كونه حقيقة في القدر المشترك يلزم المجاز أيضا حيثما استعمل في كلّ من المعنيين بخصوصه ، لوضوح الفرق بين ما يترتّب على فعل الواضع وما يترتّب على استعمال المتكلّم.

والّذي يعدّ مرجوحا في نظرهم - ما هو بالنسبة إلى الواضع ، كما عليه مبنى القاعدة (1) - إنّما هو الأوّل كما لا يخفى ، وهو يتحقّق على تقدير الوضع لأحد المعنيين ، لأنّه إرسال للمعنى الآخر مجازا دون الوضع للقدر المشترك ، لعدم انحصار الاستعمال حينئذ فيما يستلزم التجوّز ، بل لابتنائه حينئذ إلى بعض الاعتبارات الّتي لا عبرة بها عندنا كما بيّنّاه في محلّه ، إلاّ أن يكون مرجعه إلى ما ينفي الاشتراك ولوازم المجاز عن الاصول العدميّة ، فيرجع هذا الوجه حينئذ إلى ما قرّرناه من الأصل.

والعجب من بعض الأفاضل أنّه ناقش في الأصل مذيّلا له بالاعتماد على هذا الوجه ، مع أنّه لا وجه له من الصحّة إلاّ على تقدير استفادته من الأصل.

وممّا يدلّ عليه أيضا : ما تقدّم الإشارة إليه في كلام المصنّف من تقييد الأمر تارة بالمرّة

ص: 192


1- كذا في الأصل ، والظاهر أنّ ما بين الشارحتين زيادة.

واُخرى بالتكرار من دون انفهام تناقض ولو ظاهرا ، ولا تأكيد ولو إجمالا ، وقضيّة الأصل المستفاد عن العرف والعادة في مثل ذلك كونه حقيقة في القدر المشترك بينهما.

ودعوى : أنّه ينفي الوضع للمرّة إذا لو حظت بشرط لا دونها إذا لوحظت لا بشرط ، تعليلا : بأنّ اللا بشرط أيضا قدر مشترك بين الملحوظة بشرط لا والتكرار.

يدفعها : أنّ الأصل جار ولو اعتبر التقييد بالمرّة الملحوظة لا بشرط ، والمنع عن عدم حصول التأكيد حينئذ ، يندفع : بأنّه فرع انفهام المرّة عن الصيغة بمجرّدها ، ضرورة كونه من الامور النسبيّة الغير المتحقّقة بدون تحقّق المضاف إليه ، وهو محلّ منع.

وبذلك يندفع القول بأنّه لو تمّ فإنّما ينفي القول بوضعه لخصوص المرّة والتكرار دون القول بالاشتراك اللفظي بينهما ، فلا ينهض حجّة على المطلوب ، فإنّ الاشتراك اللفظي أيضا يستلزم انفهام تأكيد في الجملة ، نظرا إلى أنّ القرينة المعيّنة لها جهة تأكيد بالنظر إلى ما انفهم من اللفظ أوّلا على طريق الإجمال ، لما هو المحقّق من أنّ المشترك عند تجرّده عن القرائن يتبادر منه معانيه بأجمعها إجمالا ، وجهة تأسيس بالقياس إلى المراد ولقد نفيناه في تقرير الدليل ودفع الاعتراض أصلا ورأسا.

وممّا يدلّ على المدّعى أيضا : الاستقراء التامّ في سائر أنواع صيغ الأفعال وغيرها من صيغ سائر المشتقّات عدا صيغة النهي القاضي بأنّه لا يتبادر ولا يراد من شيء منها مرّة ولا تكرارا ، فتكون بشهادة الاستعمالات وتبادر الماهيّات حقيقة في نفس الطبيعة بل لا نرى مخالفا في ذلك ، ضرورة أنّ « فعل » و « يفعل » و « فاعل » و « مفعول » ونحوها لا يطلق على مرّة ولا تكرار إلاّ في ضمن بعض الموادّ كمادّتي « القتل » و « الحفظ » وما شابههما.

بل يمكن أن يقال : بأنّ المراد بهما أيضا إنّما هو الطبيعة وما يرى فيهما من المرّة والتكرار فإنّما هو من لوازم وجودها الخارجي ، وظاهر أنّه لا تلازم بين لزوم شيء لشيء واعتباره في الوضع والإرادة ، بل نقول بمثل ذلك أيضا في صيغة النهي ، فإنّها وإن أفادت الدوام والاستمرار - بناء على التحقيق - إلاّ أنّهما ليسا من مقتضيات الوضع ودلالة الصيغة بنفسها ، وإنّما هي تقضي باعتبار الوضع بطلب ترك الماهيّة ، وترك الماهيّة بما هي ماهيّة لا يتحقّق عقلا في الخارج إلاّ بالاستمرار على الترك ، أو بترك جميع الأفراد ولو أحيانا ، فالمظنون في محلّ البحث الّذي صار مشكوكا فيه كونه كذلك أيضا إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

وهذا الاستقراء وإن كان نوعيّا إلاّ أنّه في المقام لا يقصر عن إيراث الظنّ بالمطلوب ،

ص: 193

لفقد ما يعارضه من الغلبة الفرديّة أو الصنفيّة كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : أيضا في الاستدلال بأنّه قد نصّ أهل اللغة بأنّه لا فرق بين « افعل » و « يفعل » إلاّ كون الأوّل إنشاء والثاني خبرا.

ومن البيّن صدق الثاني مع كلّ من الوحدة والتكرار فيكون للأعمّ فكذلك الأوّل ، وإلاّ لثبت بينهما فرق آخر ، فهو متّضح الوهن بمنع ثبوت النقل أوّلا ، ومنع اعتباره ثانيا ، بعد ظهور خلافه الّذي يدّعيه أصحاب القولين ، ومنع كون « يفعل » للأعمّ على حدّ الاشتراك المعنوي ، لجواز كون الصدق مع كلّ من المعنيين من جهة الاشتراك اللفظي ثالثا ، ومنع منافاة الصدق مع كلّ منها لاختصاص الوضع بأحدهما لجواز كونه في أحد الجانبين صدقا مجازيّا والمخالف لا ينكره جزما رابعا.

وربّما يستدلّ عليه أيضا : بعدم فهم التناقض عرفا من كثرة الأوامر من المولى إذا أمكن إيجاد كلّ مرّة ، وعلى بطلان التكرار خاصّة بقبح العقاب من المولى على تركه معلّلا : « بأنّي أمرتك » والأوّل محلّ تأمّل والثاني وجيه.

واستدلّ عليه أيضا : بحسن الاستفهام ، وفساده في غاية الوضوح ، فإنّه على القول بالاشتراك أوضح تقريبا ، كما أنّه لا ينافي اختصاص الوضع بالمرّة أو التكرار لأنّه قضيّة يؤتى بها في مظانّ الاحتمال ولو مرجوحا.

واستدلّ عليه العلاّمة في التهذيب : باستلزام كون كلّ عبادة ناسخة لما تقدّمهما ، التفاتا إلى اقتضاء التكرار استيعاب الأوقات ، وهو مع تعدّد العبادات وورودها متعاقبة غير ممكن ، فلا جرم يكون اللاحق ناسخا للسابق وهو باطل ، للعلم الضروري بعدم اعتبار الحجّ نسخا للصلاة ، ولا غسل اليد لغسل الوجه ، ولا الصلاة للوضوء.

وأورد عليه تارة - كما في المنية - : بأنّه لا يوجب المطلوب ، لجواز الوضع للمرّة خاصّة فيكون أعمّ.

واخرى : بما حكاه بعض الأجلّة (1) من أنّ جعل الأمر بالعبادة الثانية قرينة على عدم إرادة التكرار أولى من جعلها ناسخة.

وثالثة : بما في كلام بعض الفضلاء من أنّ القائل بالتكرار إنّما يقول به إذا تمكّن المكلّف منه عقلا أو شرعا كما عزاه [ إلى ] بعضهم ، وهو الظاهر من إطلاق الإمكان الّذي اعتبر في

ص: 194


1- صاحب الكواكب الضيائيّة. ( منه ).

أدلّة القول بالتكرار

احتجّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : أنّه لو لم تكن للتكرار ، لما تكرّر الصوم والصلاة *. وقد تكرّرا قطعا.

والثاني : أنّ النهي يقتضي التكرار ، فكذلك الأمر ** ، قياسا عليه ، يجامع اشتراكهما في الدلالة على الطلب.

والثالث : أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، والنهي يمنع عن المنهيّ عنه دائما ؛ فيلزم التكرار في المأمور به ***

__________________

تحرير العنوان ، وظاهر أنّ الأمر الثاني إنّما يرفع تمكّن المكلّف في الزمن المتأخّر ، ولا يرفع الحكم إذ لا ثبوت له مع عدم التمكّن.

* وبملاحظة ما سبق في تحرير موضع النزاع يتبيّن أنّ مراده كون الأمر للتكرار بحسب الوضع اللغوي ، كما يومئ إليه هنا التصدير ب- « اللام » فمحصّل الاستدلال حينئذ : أنّه لو لم يكن الأمر المطلق موضوعا للتكرار لما أفاد الأمر بالصوم والصلاة التكرار فيهما ، والتالي باطل بالعيان لما يرى من أنّ الصلاة تتكرّر في كلّ يوم ، والصوم يتكرّر في شهر من كلّ سنة أو في كلّ يوم من الشهر ، والملازمة بيّنة ، فيستقيم حينئذ ما أجاب به المصنّف وغيره من إبداء احتمال كون ذلك مستفادا عن دليل خارج.

** يرد عليه : ما أشرنا إليه سابقا في الاحتجاج على المختار بالاستقراء من أنّ تكرار النهي ليس من مقتضيات الوضع ودلالة اللفظ عليه من حيث هو ، وإنّما هو من لوازم نفي الماهيّة الّذي هو من مقتضيات اللفظ ، وأين هذا من مطلوبكم.

*** وقد يعترض (1) عليه : بعدم اقتضاء دوام ترك الضدّ دوام فعل المأمور به ، لجواز الواسطة ، إلاّ أن يفرض في ضدّين لا ثالث لهما ، وهو لا يفيد ثبوت كلّيّة الدعوى.

أو يقال : بإرادة النهي عن جميع الأضداد ، وترك جميع الأضداد لا يحصل إلاّ بفعل المأمور به كما توهّم الكعبي ، ولا يخفى بطلان ذلك التوهّم فلابدّ من حمل الضدّ على الضدّ العامّ بمعنى الترك.

ص: 195


1- المعترض سلطان العلماء ( منه ).

والجواب عن الأوّل : المنع من الملازمة ؛ إذ لعلّ التكرار إنّما فهم من دليل آخر *. سلّمنا ، لكنه معارض بالحجّ ** ؛ فإنّه قد امر به ، ولا تكرار.

__________________

ويردّه : أنّ الضدّ على تقدير حمله على الخاصّ ليس المراد به - عند القائل بالنهي عنه في دلالة الأمر - أمرا معيّنا لئلاّ يلزم من دوام تركه دوام فعل المأمور به ، لجواز الانتقال إلى الواسطة المفروض ثبوتها في المقام ، بل المراد على ما يستفاد من استدلالاتهم - مضافا إلى التصريحات الواقعة عنهم - أحد الأضداد الوجوديّة بمعنى ما ينافي المأمور به في الوجود على البدليّة ، وهو الّذي يختار فعله المكلّف بدلا عن الإتيان بالمأمور به عمّا بين الأضداد الوجوديّة ، وظاهر أنّ الواسطة الّتي فرض الانتقال إليها بعد ترك الضدّ الآخر داخل في هذا المفهوم ، فتكون هي الضدّ الّذي نهى عنه على طريق البدليّة فيلزم تركها مقدّمة للإتيان بالمأمور به.

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد بالفرض أنّ الأمر إنّما دلّ على النهي عن ضدّ مّا من الأضداد الوجوديّة ، فبدوام ترك بعضها يحصل امتثال ذلك النهي فلم يبق بالنسبة إلى الضدّ الآخر - وهو الواسطة - نهي بعد حتّى يستلزم دوام تركه أيضا دوام فعل المأمور به ، وإلاّ للزم خلاف الفرض وهو حمل الضدّ على العامّ بمعنى جميع الأضداد الوجوديّة.

وأمّا ما ذكره من إسناد التوهّم على الفرض الآخر إلى الكعبي فلا ينبغي في فساده ، فإنّ الكعبي - على ما سيأتي بيان مذهبه - لا يجعل ترك الأضداد الوجوديّة مقدّمة لفعل المأمور به حتّى يلزم منه حرمة الجميع كما يقول به الآخرون ، وإنّما يجعل الأضداد الوجوديّة مقدّمة لترك الحرام أو مستلزما له ، فلذا أنكر وجود المباح ، وبين المعنيين بون بعيد كما لا يخفى.

* بل مقطوع بانفهامه من دليل آخر خارج عن الأمر كالإجماع والأخبار ونحوها ، مع أنّه لو كان من مقتضى الأمر لوجب أن لا ينضبط بما هو المقرّر فيهما من الكيفيّة والكمّيّة ولا يتقيّد بأوقات مخصوصة ، بل الإمكان الّذي اخذ في مفهومه يقتضيه أزيد ممّا هو المقرّر بكثير كما لا يخفى ، فانضباطه بتلك الكيفيّة المخصوصة وعدم انطباقه على ما يقتضيه الإمكان شاهد قطعي بكونه من دليل خارج لا من مقتضى الأمر وإن فرضناه للتكرار بحسب الوضع.

** بيان المعارضة : أنّه لو كان الأمر للتكرار لتكرّر الحجّ في كلّ عام لمكان الأمر به ، ولكنّه لم يتكرّر فلم يكن الأمر للتكرار ، ولا يخفى أنّ الخصم يتمكّن عن دفع ذلك بما دفع

ص: 196

وعن الثاني من وجهين : أحدهما - أنّه قياس في اللغة ، وهو باطل ، وإن قلنا بجوازه في الأحكام. وثانيهما - بيان الفارق ، فإنّ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، وهو إنّما يكون بانتفائها في جميع الأوقات * ، والأمر يقتضي إثباتها

__________________

به الاستدلال أوّلا من إبداء احتمال استناد انفهام عدم التكرار من دليل آخر خارج عن الأمر ، فيبقى الدليل سليما عن المعارض.

ويمكن دفعه : بأنّه لو صحّ ذلك لكان المنساق عن الأمر الملحوظ مجرّدا عن هذا الدليل هو التكرار ، والتالي باطل بقرينة سؤال سراقة بن مالك أو عكاشة عن تكرار الحجّ بعد الاطّلاع على الأمر ، بقوله : « أفي كلّ عام يا رسول اللّه »؟ (1) إذ لو كان الأمر بحسب الوضع للتكرار لما احتاج إلى السؤال ، كما هو الحال في جميع الحقائق المجرّد ألفاظها عن القرائن المنافية لها.

* هذا وما قبله مع ما بعده هو الواقع في كلام كلّ من تعرّض لردّ الاستدلال.

ومحصّله : أنّه قياس أوّلا ، وفي اللغة ثانيا ، ومع الفارق ثالثا ، وبيان الفارق من وجهين :

الأوّل : أنّ النهي طلب لترك الطبيعة ، وتركها لا يتحقّق ، إلاّ بالدوام والتكرار ، والأمر طلب لإيجاد الطبيعة وإيجادها يحصل بالمرّة ، ومبنى ذلك على قاعدة كلّيّة يترتّب عليها فوائد لطيفة وفروع شريفة في أبواب كثيرة أصوليّة وفقهيّة ، وهي إنّ الطبائع الّتي تعلّق بها الأحكام - خبريّة أو إنشائيّة - وإن كانت لطبعها تقتضي السراية إلى جميع أفرادها ، إلاّ أنّ الأحكام المتعلّقة بها من حيث اقتضاء السراية والعدم تختلف باعتبار كونها حكما بالوجود أو العدم ، فقولك : « أوجدت الماء أو الضرب » أو « الماء أو الضرب قد وجد » لا يقتضي إلاّ تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن فرد من أفرادها ، من غير فرق في ذلك باعتبار الزمان بين المضيّ وغيره ، ولا من حيث الأداء بين الخبر والإنشاء ، فقولك : « سأوجد الضرب » أو « أوجد الضرب » انشاء مندرج في ذلك ، كما أنّ قولك : « أعدمت الماء » و « إنّ الماء قد عدم » يقتضي تعلّق الحكم بالطبيعة في ضمن جميع الأفراد من غير فرق أيضا بين الأزمنة ولا بين الأداءين ، ولا فرق في ذلك كلّه بين كون الوجود والعدم مدلولا عليهما بالمطابقة كما ذكر من الأمثلة ، مضافا إلى « ثبت » و « وجب » و « تحقّق » و « حقّق » و « تقرّر » و « نفى » و « انعدم »

ص: 197


1- مشكل الآثار - للطحاوي - 2 : 202.

وهو يحصل بمرّة ، وأيضا التكرار في الأمر مانع من فعل غير المأمور به *. بخلافه في النهي ، إذ التروك تجتمع وتجامع كلّ فعل.

__________________

و « انتفى » أو مدلولا عليهما بالتضمّن أو الالتزام ، فقولك : « أكلت الخبز » و « شربت الماء » و « بعت العبد » و « اشتريت الجارية » داخل في القسم الأوّل ، كما أنّ قولك : « امتنعت عن الشرك » و « أبيت الكفر » و « أنكرت النفاق » و « تركت الظلم » و « كففت عن الإساءة » مندرج في الثاني.

فبهذا الاعتبار يدخل الأوامر بأسرها في القسم الأوّل ويندرج النواهي بأجمعها في القسم الثاني ، ضرورة أنّ قولك : « اضرب » ونحوه في معنى قولك : « أوجد الضرب » أو « أطلب منك إيجاد الضرب » كما أنّ قولك : « لا تضرب » ومثله في معنى قولك : « اتركه » أو « كفّ نفسك عنه » أو « أطلب منك تركه » أو « كفّ النفس عنه » ومدرك تلك القاعدة إمّا فهم العرف وشهادة الاستعمالات ، أو حكم العقل ومساعدة الاعتبارات ، لقضاء القوّة العاقلة بأنّ الطبيعة في تحقّقها تكتفي بفرد من أفرادها وفي انعدامها تتوقّف على انعدام جميع أفرادها ، فلا حاجة لها على الأوّل إلى انضمام فرد آخر إلى الفرد الّذي تحقّقت في ضمنه ، كما أنّه لا تتصوّر انعدامها مع وجود بعض أفرادها.

وبما قرّرناه ينقدح جواب آخر عن الاستدلال وهو منع الحكم في المقيس عليه ، فإنّ دوام النهي وتكراره ليس من مقتضيات الصيغة ، مع أنّ المطلوب إثبات كونه من مقتضيات الصيغة بحسب الوضع واللغة كما مرّ مرارا ، ولعلّه أسدّ وأقوم من الأجوبة الاخر ، إلاّ أنّه لم نجد في كتب القوم إشارة إليه.

* وهذا هو الثاني من وجهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه اللذين أشرنا إليهما ، إلاّ أنّه اعترض عليه : (1) بأنّ من قال بالتكرار قال بأنّه للتكرار الممكن عقلا وشرعا كما صرّح به الآمدي في الإحكام ، فلا يكون التكرار في زمان يمنع من فعل غير المأمور به ممّا يلزم فعله شرعا أو عقلا ممّا يجب عليه ، لأنّه تكرار غير ممكن ، فلا يكون التكرار على مذهبه مانعا من فعل غيره ممّا يجب فعله.

والظاهر في النظر القاصر ورود ذلك الكلام في هذا المقام على خلاف التحقيق ، لأنّ

ص: 198


1- المعترض هو السلطان.

وعن الثالث : بعد تسليم كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، أو تخصيصه بالضدّ العامّ * وإرادة الترك منه ، منع كون النهي الّذي في ضمن الأمر مانعا عن المنهيّ

__________________

غرض الأصحاب فيما ذكر من الجواب إنّما هو إبداء الفرق بأنّ مورد التكرار في النهي إنّما هو التروك ، وهي في حدّ ذواتها لا تمانع بينها بل يجتمع الجميع في زمان كترك الزنا مثلا ، فإنّ له باعتبار تعدّد المزنيّ بها أفرادا متعدّدة تحصله الجميع في زمان واحد كما لا يخفى ، بخلاف فعل المأمور به فإنّ أفراده لا تجتمع في زمان واحد إلاّ في بعض الفروض النادرة بالنسبة إلى بعض الامور.

وأيضا ترك المنهيّ عنه يجامع كلّ فعل وجودي ممّا يتصوّر مباحا أو غيره ، بل ويجامع ترك سائر الأفعال الوجوديّة ، بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا يجامع فعلا آخر مضادّا له في زمان واحد ، إمّا لما بين الأفعال الوجوديّة المضادّة من التمانع كما توهّم ، أو لعدم قابليّة المحلّ باشتماله على الشاغل بناء على التحقيق - ولتفصيل ذلك محلّ آخر يأتي إن شاء اللّه - ولا ريب أنّ هذا المعنى لا ربط له بما يقول به أصحاب القول بالتكرار من تقييده بالإمكان عقلا وشرعا ، فإنّ مراد المجيب إحراز المانعيّة لفعل المأمور به عن فعل غيره في موارد الإمكان الّذي عليه مدار وجوب التكرار ، ونظر المعترض إلى ثبوت المانعيّة لما يجب فعله عقلا أو شرعا ممّا يوجب سقوط التكرار لفوات ما عليه مدار وجوبه من الإمكان ، وهذا مقام أجنبيّ عن المقام الأوّل بالمرّة فلا ورود له عليه.

نعم ، لو كان نظر المجيب في إبداء الفرق إلى أنّ التكرار الّذي في الأمر قد يعرضه الامتناع إذا عارضه فعل ما يجب فعله عقلا أو شرعا لما بينهما من التمانع أو عدم قابليّة المحلّ فيقبح على الآمر الحكيم إرادته بخلاف التكرار الّذي في النهي ، فإنّ ترك المنهيّ عنه دائما لا يعرضه الامتناع ، فإنّه لا يعارضه فعل ما يجب فعله عقلا أو شرعا بل ولا ترك ما يجب تركه عقلا أو شرعا فلا يقبح على الحكيم إرادته ، لكان الاعتراض متوجّها ولكنّه مضافا إلى اعتراض آخر : بأنّه قبح عقلي وهو لا ينافي الجواز اللغوي الناشئ عن الوضع كما لا يخفى ومحلّ البحث هو الأخير ، بعيد عن معقد كلامه بمراحل.

* وأنت خبير بقصور تلك العبارة عن تأدية المراد ، لأنّ المصنّف في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه مثبت في الضدّ العامّ - بمعنى الترك - وناف في الضدّ الخاصّ ، وقضيّة

ص: 199

انطباق عبارته على مذهبه أن يكون مراده بالضدّ في الشقّ الأوّل المتضمّن لمنع كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه أعمّ من الضدّ العامّ ، نظرا إلى أنّ نفي المطلق غير مناف لاثبات المقيّد ، لا الضدّ العامّ خاصّة لمنافاته لمذهبه ، فسياق العبارة حينئذ تقييد الضدّ فيها بالإطلاق بزيادته مضافا إلى المصدر ، أو زيادة المطلق وصفا للضدّ ، فإرسالها خالية عن ذلك سياق غير مستحسن.

ولو اريد بالضدّ الخاصّ لارتفع هذه الحزازة مع عدم لزوم التنافي لمذهبه ، ولكنّه يوجب خروج قوله : « أو تخصيصه بالضدّ العامّ » عطفا على التسليم غير مرتبط بما قبله كما لا يخفى ، لأنّه إنّما يحسن على تقدير إرادة الإطلاق من الضدّ في الشقّ الأوّل.

وكيف كان فالعبارة في أحد شقّيها لا تخلو عن حزازة ، إلاّ أنّ مقصوده على كلّ تقدير واضح ، بعد ملاحظة أنّه يريد الترديد في الضدّ بين كون المراد منه المطلق أو العامّ بمعنى الترك خاصّة.

فعلى الأوّل يتوجّه إليه أوّلا : المنع عن كون الأمر نهيا عنه.

وثانيا : المنع من كون ذلك النهي - على فرض تسليمه - للدوام.

وعلى الثاني يختصّ الجواب بالمنع الثاني ، والوجه في ذلك : أنّ الدوام الّذي يستفاد من النهي ما كان مدلولا عليه بالصيغة ، نظرا إلى وضعها له - كما قد يتوهّم - أو لكونها لنفي الطبيعة المستلزمة له - كما هو التحقيق بالتقريب المتقدّم - والنهي الّذي في ضمن الأمر لا يكون مستفادا عن الصيغة حتّى يلزم منه دوام الترك بأحد الوجهين ، بل هو مستفاد عن الأمر بأحد الوجوه الآتية في محلّه.

ومن البيّن أنّ كون المطلوب منه دوام الترك فرع كون المطلوب بالأمر دوام الفعل ، كما أنّ كون المطلوب بالأمر فعل المأمور به في ساعة مثلا يستلزم كون المطلوب به ترك الضدّ في تلك الساعة ، فإذا لم يثبت كون الأمر للدوام فكيف يستدلّ على كونه للدوام بكون النهي الّذي في ضمنه للدوام.

ومن هنا يتبيّن جواب آخر عن الاستدلال من جهة كونه دوريّا كما لا يخفى.

لا يقال : لو كان ذلك النهي لطلب ترك الطبيعة ، كما هو لازم قولكم : « بأنّ الأمر لطلبها » لكان مقتضيا للدوام ، لأنّ ترك الطبيعة لا يتحقّق إلاّ به كما اعترفت به مرارا ، إذ النهي المذكور في ذلك أيضا يتبع الأمر لكونه مستفادا منه ، ولمّا كان الأمر لا يقتضي أزيد من

ص: 200

إيجاد الطبيعة في الجملة - ولو في ضمن المرّة - فكذلك النهي لا يقتضي من ترك الطبيعة أزيد من ذلك ، مع أنّه لو اكتفى بمثل ذلك التكرار لكان عدولا عن القول به ، لعدم كونه بهذا المعنى ممّا وضع له الصيغة ، وإنّما يناسب ذلك مذهب من يقول من أصحاب القول بالماهيّة بكون ما زاد على المرّة من المرّة الآخر أيضا امتثالا.

ثمّ ، إنّه نقل الاستدلال على هذا القول بوجوه اخر ، أوضح فسادا من الوجوه المذكورة :

منها : احتجاج الصحابة.

وفيه : أنّ الاحتجاج إنّما هو على أصل الوجوب من دون نظر فيه إلى التكرار.

ولو سلّم فإنّما نشأ ذلك عن دلالة خارجة وهو خارج عن المتنازع فيه ، وأصالة عدمها لا توجب إلاّ ثبوت تبادر في عرفهم ، وهو معارض بالتبادر الثابت في عرفنا القاضي بخلاف مقتضاه كما قرّرناه عند الاستدلال على المختار ، ولعلّ الرجحان معه لأصالة عدم النقل ، أو أنّ التبادر الوجداني أقوى ظنّا من التبادر النقلي ، بل ومع حصول الظنّ به لا يكاد يحصل بغيره ، مع أنّه كثيرا ما يفيد العلم كما في محلّ البحث بخلاف معارضه.

ومنها : فهم لذلك في قوله : « أحسن عشيرة فلان » وتبادره عن قولك : « أكرم أباك » و « أحسن إلى صديقك » و « احذر من عدوّك » إذ لا يفهم منها عرفا إلاّ التكرار.

وفيه : القطع باستناد ذلك إلى خارج من اللفظ ، نظير ما في قولك : « احفظ دابّتي » و « أطع زوجتي » و « اخدم ولدي » فإنّ العادة وقرينة الحال والاعتبار قاضية بإرادة التكرار في أمثال تلك المقامات ، ولو سلّم عدمها - ولو بحكم الأصل - لوقع التعارض بينه وبين ما ادّعيناه ولازمه التساقط بعد تسليم التكافؤ ، فلا يبقى بعد دليل على مطلوبكم ، مع بقاء سائر أدلّتنا المتقدّمة سليمة عن المعارض.

ومنها : ما عن عمر لمّا سأل النبيّ صلى اللّه عليه وآله - وقد جمع بين صلاتين بوضوء واحد عام الفتح - : « أعمدا فعلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله؟ فقال : نعم » فلولا فهمه التكرار عن آية الوضوء لما كان لسؤاله محلّ.

وفيه : نظير ما تقدّم.

مضافا إلى احتمال كون السؤال لأجل توهّم وجوب التكرار على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في خصوص الوضوء لمّا رآه أنّه صلى اللّه عليه وآله لم يجمع بين صلاتين بوضوء واحد إلاّ نادرا كما قيل ، أو كون فهمه التكرار في الآية ناشئا عن تعليق الأمر فيها على الشرط ، ولا يخفى إنّ مثل هذا

ص: 201

التكرار لا ينافي وضع الصيغة من حيث هي للماهيّة كما ستعرفه.

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » بالتقريب المتقدّم.

وفيه : ما سبق أيضا في ردّ الاستدلال بها على جواز تعدّد الامتثال على القول بالماهيّة ، مضافا إلى أنّها لو تمّت دلالتها وسلم سندها لكان قاضيا بندبيّة التكرار كما تنبّه عليه بعض الفضلاء ، نظرا إلى ما في صدرها من التحذير عن السؤال عن وجوب التكرار ، فتنتفي فائدة التحذير لو كان التكرار واجبا كما لا يخفى.

ولو سلّم فهو من مقتضي التعليق وهو مقام آخر يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : أنّ الأمر قد اقتضى التكليف قطعا وبالمرّة لا يحصل اليقين بالبراءة ولا كذلك بالتكرار فيجب ، وإنّما كان التكليف قطعيّا إذ لا كلام عندهم في ذلك إلاّ على القول بالوقف ، إن كان يجعله القائل من باب المجمل الذاتي الّذي لا قضاء له بالتكليف إلاّ بعد البيان فلا تكليف قبله.

وفيه : ما مرّ أيضا من أنّ المقام من مجاري أصل البراءة سواء فرضنا التكرار المحتمل تقييديّا أو تعدّديّا ، ومعه لا يبقى للأصل المذكور محلّ ليكون قاضيا بوجوب التكرار ، مع أنّ الاصول أدلّة تعليقيّة فلا حكم لها عند وجود ما يقضي بخلافها ، ولقد أقمناه في المقام من جهات عديدة.

ومنها : أنّ اللفظ لا إشعار له بوقت معيّن ، فإمّا أن لا يجب أصلا أو يجب في وقت معيّن أو يجب دائما.

والأوّل : باطل للإجماع.

والثاني : ترجيح بلا مرجّح. فتعيّن الثالث وهو المطلوب.

وفيه : انّه واجب في جميع الأوقات على البدل ، بحيث لو أتى به في أيّ جزء منها لكان آتيا بالواجب فسقط به الأمر ، نظرا إلى أنّ ثبوته فيما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل ولا إشعار للّفظ بذلك ، كما لا إشعار له بوقت معيّن.

ومنها : أنّه لولا التكرار لافتقر وجوب فعله في الزمان الثاني إلى دليل ، ولكان ذلك واقعا على وجه القضاء لا الأداء.

وفيه : أنّه كذلك لو اريد به فعله في الزمان الثاني بعد الإتيان به في الزمان الأوّل ولا ضير فيه أصلا ، وليس كذلك لو اريد به فعله قبل الإتيان به أوّلا لدلالة اللفظ على وجوبه مطلقا ، ففي أيّ جزء من الوقت وقع كان واجبا قد وقع في وقته ، فيلزم كونه أداء لا قضاء ، نظرا إلى عدم دلالة اللفظ على الفور و [ عدم ] خروج الزمان الثاني عن الوقت.

ص: 202

أدلّة القول بالمرّة

عنه دائما ، بل يتفرّع على الأمر الّذي هو في ضمنه ؛ فإن كان ذلك دائما فدائما ، وإن كان في وقت ، ففي وقت. مثلا الأمر بالحركة دائما يقتضي المنع من السكون دائما ، والأمر بالحركة في ساعة يقتضي المنع من السكون فيها ، لا دائما.

واحتجّ من قال بالمرّة * بأنّه إذا قال السيّد لعبده : ادخل الدار ، فدخلها مرّة عدّ ممتثلا عرفا ، ولو كان للتكرار لما عدّ.

__________________

ومنها : أنّه لو لم يكن للتكرار لما صحّ نسخه واستثناء بعض الأزمان منه ، مع وضوح جواز الأمرين.

وفيه : منع تطرّق النسخ والاستثناء إلى جميع الأوامر ، مع صلوحهما قرينة على إرادة التكرار فيما تطرّقا إليه ، والإرادة لا ينكر جوازها أحد.

ومنها : أنّ الأمر بالصوم يعمّ جميع الأزمان ، كما أنّ ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(1) يعمّ كلّ مشرك ، فإنّ نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.

وفيه : منع واضح ، مع ابتنائه على القياس مع الفارق ، لوضوح الفرق بين الصوم والمشركين.

* حجّة القول بالمرّة وجوه :

أوّلها : ما أشار إليه المصنّف من أنّه إذا قال السيّد لعبده : « ادخل الدار » فدخلها مرّة عدّ ممتثلا ، ولو كان للتكرار لما عدّ ممتثلا.

وجوابه : مضافا إلى ما يذكره المصنّف ، أنّ أقصى ما يفيده ذلك بطلان التكرار التقييدي ، ولعلّ القائل به يقول بكونه تعدّديّا ولا ينافيه الدليل ، لاستلزامه حصول الامتثال بالمرّة الاولى بالنسبة إلى الطلب المتعلّق بها وإن بقي الطلب بالنسبة إلى المرّات الاخر في العهدة.

نعم لو قرّر الدليل بحصول فراغ الذمّة عرفا عن التكليف بالمرّة لما توجّه ذلك ، إلاّ أنّه يبقى المنع عن حصول الفراغ بهذا المعنى عرفا ، لجواز القيام به لمن يقول بالتكرار.

وثانيها : أنّ الأمر ليس إلاّ كسائر المشتقّات من الماضي والمضارع واسمي الفاعل والمفعول وغيرها ، ولا دلالة في شيء منها على الدوام والتكرار وكذا الأمر.

وجوابه : ما أشار إليه بعض الأفاضل من أنّه إن اريد به قياس الأمر بغيره من المشتقّات فوهنه واضح ، وإن اريد به الاستناد إلى الاستقراء فإفادته الظنّ في مثل المقام غير

ص: 203


1- التوبة : ٥.

والجواب : أنّه إنّما صار ممتثلا ، لأنّ المأمور به - وهو الحقيقة - حصل بالمرّة ، لا لأنّ الأمر ظاهر في المرّة بخصوصها ، إذ لو كان كذلك لم يصدق الامتثال فيما بعدها *.

__________________

واضح ، [ حتّى ] يصلح للاستناد إليه ، ولو سلّم فأقصى ما يفيده عدم الدلالة على التكرار وأمّا دلالته على المرّة فلا ، وإنّما يفيد مطلق الطبيعة فينبغي أن يكون الأمر أيضا كذلك ، فهو بالحقيقة من شواهد القول بالطبيعة.

وثالثها : أنّ صيغة الأمر إنشاء كسائر الإنشاءآت من العقود والإيقاعات ، وكما أنّ الحاصل من قولك : « بعت » و « أجرت » و « أنت طالق » ليس إلاّ بيع واحد ، وإجارة واحدة ، وطلاق واحد ، فكذا الحاصل من قولك : « اضرب » ليس إلاّ طلب ضرب واحد.

وجوابه : - مع أنّه قياس ومع الفارق من وجوه شتّى (1) كما لا يخفى على المتأمّل - واضح بعد ملاحظة الفرق بين المنشأ وما يتعلّق بالمنشأ ، ومعلوم أنّ الوحدة في « اضرب » ونحوه وصف في المنشأ وهو الطلب ، ضرورة أنّه لا يقصد منه إلاّ طلب واحد ، كما أنّها في الأمثلة المذكورة وصف للمنشأ وهو البيع وغيره من المعاني المادّية ، ووحدة الطلب لا تلازم وحدة المطلوب ، كما أنّ وحدة البيع لا تلازم وحدة المبيع ، وموضع النزاع هو الثاني والدليل لا يوجبه ، وكأنّ الاستدلال به إشتباه في موضع الخلاف أو خلط بين المنشأ ومتعلّقة.

ورابعها : لو حلف ليصلّينّ أو يصومنّ عدّ ممتثلا بالمرّة.

وفيه : قضاؤه بانتفاء التكرار ، وهو أعمّ من ثبوت المرّة ، ولعلّ الاكتفاء بها من جهة اكتفاء الطبيعة الّتي تعلّق بها الحكم بها في وجودها الخارجي لا من جهة ظهور الصيغة فيها ، مع أنّه لا ربط له بمحلّ البحث لكونه حكما في غير صيغة الأمر كما لا يخفى ، وقياسها عليه باطل بما تقدّم مرارا.

* والأوّل منع لما تضمّنه الاستدلال من ظهور الأمر في المرّة الّتي يكشف عنها حصول الامتثال بها.

ص: 204


1- عمدة وجوه الفرق : أنّ الانشائيّة في المقيس عليه إنّما نشأت عن وضع جديد شرعي ، فلذا يعتبر فيها من الشرائط ما لا يعتبر في المقيس أصلا ، ولعلّ اعتبار الوحدة فيها نشأ عن ذلك الوضع باعتبار الشارع وهو ليس من المتنازع فيه في شيء كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

حجّة القول بالاشتراك بين المرّة والتكرار

ولا ريب في شهادة العرف * بأنّه لو أتى بالفعل مرّة ثانية وثالثة لعدّ ممتثلا وآتيا بالمأمور به. وما ذاك إلاّ لكونه موضوعا للقدر المشترك بين الوحدة والتكرار ، وهو طلب إيجاد الحقيقة ، وذلك يحصل بأيّهما وقع.

__________________

والثاني سند للمنع ، ولا يخفى أنّ ذلك سياق مستحسن فيما بين أهل المناظرة ، فما يقال عليه : من أنّه لا حاجة في دفع الاحتجاج إلى هذه الضميمة لاندفاعه بمجرّد قيام الاحتمال المذكور ليس ممّا يلتفت إليه ، ولو اريد بالضميمة مجموع المقدّمتين المستلزم لكون المراد بالاحتمال ما في قوله : « إنّما صار ممتثلا لأنّ المأمور به وهو الحقيقة حصل بالمرّة » لكان المراد بالضميمة تكميل الإيراد وتكثيرا في إيضاح ما في الاستدلال من الفساد كما فهمه الفاضل المعترض.

* ولا يخفى أنّ بناء هذا الكلام على ما حرّرنا الخلاف فيه على القول بالماهيّة من كون ما زاد على المرّة الاولى امتثالا ، وقد قدّمنا ما عندنا من التحقيق في ذلك فلا حاجة إلى إعادته هنا ، وقد يعتذر عنه بحمله على ما لا يخالف مذهب المانع عمّا ذكر - كما اخترناه في الجملة - من إرادة الامتثال بالنسبة إلى المرّة الاولى ، بدعوى : أنّ المصنّف إنّما فهم من أصحاب القول بالمرّة المرّة التقييديّة فيكون ما ذكره ردّا عليه ، ولكنّه بعيد ولا سيّما بملاحظة لفظة « فيه » في قوله قبل ذلك : « لم يصدق الامتثال فيما بعدها » لظهورها في كون كلّ من الثانية والثالثة محقّقا للامتثال ، لا أنّه مؤكّدا للامتثال بالأوّل فقط.

حجّة القول بالاشتراك بينهما لفظا - على ما حكاه بعض الأجلّة - : استعماله فيهما والأصل فيه الحقيقة ، وصحّة التقييد بكلّ منهما ، وحسن الاستفهام بأنّه هل تريد منه المرّة أو التكرار؟

والجواب عن الأوّل : ما مرّ مرارا من أنّ الاستعمال بمجرّده لا يصلح دليلا لكونه أعمّ ، ولو انضمّ إليه مقدّمة الغلبة لكان لنا لا علينا ، لثبوتها في جانب الماهيّة كما يتّضح لمن لاحظ موارد الاستعمالات العرفيّة جيّدا.

وعن الثاني : ما أشرنا إليه إجمالا عند تقرير أدلّتنا من أنّ قضاء صحّة التقييد بالاشتراك فرع انفهام التأكيد عن القضيّة في الجملة ، ولو كانت لها جهة تأسيس أيضا كما يظهر بالتأمّل في قولنا : « العين الجارية » و « العين الباكية » وهذا محلّ منع هنا كما تقدّم.

ص: 205

الأمر المعلّق على شرط أو وصف

واحتجّ المتوقّفون * : بمثل ما مرّ ، من أنّه لو ثبت ، لثبت بدليل ، والعقل لا مدخل له ، والآحاد لا تفيد ، والتواتر يمنع الخلاف.

والجواب : على سنن ما سبق بمنع حصر الدليل فيما ذكر ؛ فإنّ سبق المعنى إلى الفهم من اللفظ أمارة وضعه له ، وعدمه دليل على عدمه. وقد بيّنا أنّه لا يتبادر من الأمر إلاّ طلب إيجاد الفعل ، وذلك كاف في إثبات مثله.

__________________

وعن الثالث : بأنّه أعمّ من جميع الأقوال فلا يصلح دليلا على الأخصّ ، فإنّ الاستفهام إنّما يحسن عند قيام الاحتمال راجحا أو مرجوحا أو مساويا بل يجامع القول بالماهيّة أيضا ، فلذا ترى بعض أصحابه مستدلاّ به أيضا كما تقدّم نقله.

* وربّما يذكر لهم الحجّة بعدم ثبوت واحد من الأقوال الثلاثة عندهم.

وجوابه : واضح ممّا ذكره المصنّف في ردّ ما قرّره من الحجّة.

« تذنيب »

اختلفوا في الأمر المعلّق على شرط أو صفة نحو ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (1) و ( إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (2) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (3) و ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (4) هل يفيد التكرار بتكرّر الشرط والصفة أو لا؟ على أقوال :

أحدها : ما نسب إلى جماعة من أنّه يفيده مطلقا.

وثانيها : ما عن السيّد المرتضى على ما في إحدى النسبتين - كما في المنية - من أنّه لا يفيده مطلقا ، ولعلّه مأخوذ من إطلاق قوله بعدم الافادة ، وإلاّ فهو من أصحاب القول بإفادته في العلّة خاصّة كما في النسبة الاخرى.

قال في الهداية : بأنّه نصّ في أثناء الكلام في الأدلّة بأنّ الشرط قد يصير مع كونه شرطا علّة فيتكرّر من حيث [ إنّه ] كان علّة لا من حيث كان شرطا.

وفيها أيضا : ويعزى إلى الآمدي مع حكايته الاتّفاق والإجماع على إفادته التكرار في العلّة انّه قال : والاصوليّون من الحنفيّة قالوا : إنّ الأمر المطلق يفيد المرّة ولا يدلّ على

ص: 206


1- المائدة : 6.
2- المائدة : 6.
3- النور : 2.
4- المائدة : 38.

التكرار ، وإذا علّق لم يجب تكرّر الفعل بتكرّر العلّة ، بل ولو وجب تكرّره كان مستفادا من دليل آخر.

والعضدي مع حكايته الاتّفاق فيها أيضا ذكر احتجاج المنكرين للتكرار في العلّة ، فظهر بذلك أنّ هناك جماعة ينكرون إفادته التكرار في المعلّق على العلّة أيضا. انتهى.

وثالثها : ما اختاره الفحول والمحقّقون وعليه العلاّمة والبهائي في التهذيب والزبدة من التفصيل بين العلّة وغيرها ، فيفيد فيها دون غيرها.

ويحكى عن الشيخ ، والسيّدين المرتضى وابن زهرة ، والديلمي ، والفاضلين أحدهما العلاّمة كما عرفت ، وفخر المحقّقين ، والآمدي ، والحاجبي ، والرازي والبيضاوي ، وربّما يعزى إلى أكثر الفقهاء والمتكلّمين.

وهاهنا قول رابع حكاه بعض الأعاظم وهو التفصيل بين اشتماله على سور العموم أو العلّيّة وعدمه ، وقول رابع نقله السيّد في المنية عن فخر الدين وجماعة من المتأخّرين من أنّه لا يفيد التكرار من حيث اللفظ ويفيده من حيث العمل بالقياس.

ثمّ إنّ أصحابنا رضوان اللّه عليهم اختلفوا في تخصيص هذا النزاع بغير أصحاب القول بكون الصيغة المجرّدة للتكرار ، فمنهم من أطلق في العنوان من غير تعرّض لنقل الخلاف كالعلاّمة ، ومنهم من خصّ الخلاف بأصحاب القول بعدم إفادة الأمر للتكرار من دون تعرّض للتصريح بمذهب من عداهم ، كما في الهداية والكواكب الضيائيّة.

ومنهم من خصّه أيضا مع التصريح بإطباق القائلين باقتضاء الأمر المطلق التكرار على القول بتكرّر الأمر بتكرّر الشرط أو الصفة كما في المنية وكلام بعض الأعلام.

ومنهم من صرّح بالتعميم حتّى على القول بكون الأمر المطلق للتكرار كبعض الأعاظم ، حيث ناقش فيما توهّمه السابقون بأنّ تخصيص النزاع على القول بعدم إفادة الأمر للتكرار ممّا لا ينبغي ، تعليلا : بأنّ إفادة الأمر للتكرار غير إفادته التعليق فيمكن أن يتنازع فيه مطلقا.

ويظهر ثمرته في الترجيحات ، فإنّه على القول بالتكرار - لو قيل به - يتعدّد الدليل عليه ، كما أنّه على التقدير الآخر ينحصر في أمر واحد كما لو قيل بعدم إفادة الأمر للتكرار وإفادته التعليق.

والّذي يعطيه ظاهر النظر خروجهم عن النزاع ، لأنّ التكرار إذا أفاده الأمر المطلق

ص: 207

فإفادته الأمر المعلّق بطريق أولى ، لما في التعليق من مظنّة التكرار ما ليس في انتفائه ، وكأنّه مستند المصرّحين باختصاص النزاع بغيرهم ، إلاّ أنّ دقيق النظر قاض بجواز دخولهم في النزاع أيضا ، لوضوح الفرق في التكرار بين ما يفيده الأمر المطلق وما يفيده الأمر المعلّق ، فإنّ المراد بالأوّل - على ما تكرّر بيانه سابقا - الاستمرار بفعل المأمور به حسب ما يسعه الإمكان عقلا وشرعا ، وبالثاني - على ما يستفاد عن مطاوي عباراتهم المصرّحة والمطلقة - تعدّد فعل المأمور به حسبما يتعدّد الشرط والصفة ، وهذا المعنى كما ترى أعمّ من الأوّل ، لأنّ الشرط والصفة قد يستمرّان في حصولهما ، وقد يتحقّقان في زمان دون آخر ، ومكان دون غيره ، وحالة دون اخرى ، وهذا ليس من التكرار الّذي يفيده الصيغة بحسب اللغة في شيء لخلوصه عن التقييد بما ذكر ، فالتعليق في الحقيقة مخرج لها عن إفادة معناها اللغوي.

فيأتي النزاع حينئذ في أنّه هل يوجب إفادتها التكرار على حسب ما يتكرّر الشرط أو الصفة إن دائما فدائم وإن أحيانيّا فأحياني أولا؟ فيرجع النزاع عند هؤلاء إلى تعيين المعنى المجازي للصيغة الدائر بين التكرار بهذا المعنى والمرّة والماهيّة إن لم نجعله في وضع الصيغة أو وضع الهيئة التركيبيّة ، بل في صلوح التعليق قرينة صارفة لها عن موضوعها الأصلي.

فمن هنا يتبيّن فساد ما نقلناه عن بعض الأعاظم من توهّم ظهور الثمرة في الترجيحات بتعدّد دليل التكرار على القول به في المقامين ، واتّحاده على القول به في أحدهما ، كفساد (1) ما ذكره بعض الأعلام في العنوان على ما أشرنا إليه إجمالا من أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة يتكرّر بتكرّر الشرط أو الصفة عند القائلين بدلالته على التكرار قولا واحدا لوجود المقتضي وعدم المانع ، غاية الأمر تقليل التكرار بالنسبة إلى الأمر المطلق.

كما ينقدح ممّا أشرنا إليه أنّ في كون النزاع في وضع الصيغة عند وقوعها في حيّز التعليق ، أو في الهيئة التركيبيّة المشتملة على التعليق ، أو في ظهور التعليق في إرادة التكرار بتكرّر المعلّق عليه ، إحتمالات لم يصرّح بشيء منها في كلامهم ، مع عدم ظهور الأدلّة في شيء منها ، إلاّ أنّ الأوّل يبعّده الجزم بأنّ اللفظ لا يختلف وضعه باختلاف محالّه في الاستعمال ، إلاّ أن يرجع ذلك إلى احتمال طروّ وضع جديد لها عرفا ، حيثما علّقت على شرط أو صفة تعيينا أم تعيّنا ، فيدفعه : حينئذ الأصل السليم عن المعارض المعمول به عند

ص: 208


1- وجه الفساد ما في آخر كلامه من التعليل بوجود المقتضي وانتفاء المانع ، فإنّ ذلك لا ينطبق على ما ذكرناه بل مناف له. ( منه ).

الكلّ ، كما أنّ الاحتمال الثاني يدفعه الأصل.

ثمّ إنّ في كون النزاع صغرويّا راجعا إلى إفادة التعليق علّية المعلّق عليه وعدمها مع الاتّفاق على الكبرى وهي استلزام العلّية لوجوب التكرار بتكرّر العلّة احتمالا قويّا ، لو لا القول بإنكاره مطلقا ولو كان علّة ، كما عرفت حكاية نقله عن الاصوليّين من الحنفيّة.

ويرشدك إلى ذلك دعاوي الاتّفاق على إفادته في العلّة مع تصريح جماعة بخروج التعليق عليها عن المتنازع فيه ، مضافا إلى ما في كلام بعض الأفاضل من تقرير حجّة القول بإفادة التكرار بأنّ الغالب في التعليق على الشرط إفادة التسبيب ، وكون الأوّل قاضيا بترتّب الثاني عليه ، إلى أن قال :

« فإذا كان المعلّق عليه علّة لحصول المعلّق فقضى تكرّره بتكرّره قضاء لحقّ العلّية » فإنّ ذلك ينبئ عن تسالم التكرار عند تكرّر العلّة على فرض ثبوت العلّية حذرا عن المصادرة بالمطلوب ، فلا يبقى للنزاع محلّ إلاّ إحراز العلّية ومنعها ، وأقوى من ذلك شاهدا ما سيأتي من حجّة القول بالتفصيل بين جهة اللفظ وجهة القياس الصريحة فيما ذكر ، إلاّ أنّ ما عرفته من حكاية إنكاره في العلّة أيضا يمنعنا عن دعوى القطع بذلك.

ثمّ ، إنّ ظاهرهم كون المراد بالعلّة على ما يشهد به الأمثلة المذكورة لها - مضافا إلى الاستقراء القاضي بانتفاء العلّة التامّة عمّا بين أفعال المكلّفين - هو السبب لا العلّة التامّة ، كما أنّ ظاهرهم - بل صريح بعضهم - (1) كون المراد بها ما ثبت علّيته بدليل خارج من عقل أو شرع لا بأصل القضيّة ، وإلاّ لتدافع قول جماعة منهم هنا بنفي إفادة التعليق تكرّر المعلّق بتكرّر المعلّق عليه لقولهم في حجّيّة مفهوم الشرط بتبادر السببيّة عن القضيّة الشرطيّة.

فبذلك يتّضح خروج الأمر المعلّق على العلّة عن معقد كلامهم ، ضرورة اقتضاء العلّة تكرّر المعلّل عليها بتكرّرها وإن لم يكن هناك أمر لفظي ، فلذا ترى التكرار مستفادا عن القضيّة المشتملة على العلّة إذا كانت غير إنشائيّة كقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » مع أنّ ظاهرهم بل صريحهم انحصار دليل التكرار على القول به في الأمر المعلّق.

ويبقى الإشكال في وجه الفرق بين ما ثبت علّيته بدليل خارج وما ثبتت العلّية له بظهور أصل القضيّة في السببيّة عند من يمنع اقتضاء التعليق التكرار إلاّ في العلّة ، مع إذعانه بظهور القضيّة في العلّية في موضع آخر كما عرفته عن جماعة منهم بعض الأعلام ، فإنّ

ص: 209


1- كما في الكواكب الضيائيّة ( منه ).

الحكم إذا كان منوطا بالعليّة فهي ثابتة في كلا المقامين وكونها مستفادة في أحدهما عن اللفظ وفي الآخر عن الخارج لا يوجب ذلك الفرق بينهما.

غاية الأمر دلالة اللفظ في الأوّل على علّية المعلّق عليه وهي تستلزم التكرار كما أنّها في الثاني تستلزمها ، فهذان الكلامان على ظاهرهما متناقضان.

إلاّ أن يدفع :

بأنّ ما ثبت علّيته بدليل خارج فهو علّة مطلقة فيفيد عمومها عموم الحكم وتكرّرها تكرّر المحكوم به ، بخلاف ما ثبت علّيته بأصل القضيّة فإنّه علّة في الجملة غير قاضية بترتّب الحكم عليها في أزيد من مرّة ، وقضاؤها بما زاد على المرّة مبنيّ على إطلاق علّيته واللفظ قاصر عن إفادته.

وبذلك يقوى ما نبّهناك عليه من خروج التعليق على العلّة الثابتة عن المتنازع فيه ، فإنّ التكرار حينئذ من مقتضى عموم العلّة وإطلاقها لا من مقتضى التعليق أو الأمر المعلّق من حيث هما ، كما هو موضع النزاع ، ويمكن دعوى عدم مخالفة الاصوليّين من الحنفيّة أيضا في ذلك ، لجواز كون مرادهم بالعلّة المصرّح بنفي التعليق بها مفيدا للتكرار في كلامهم ما ثبت علّيته بأصل القضيّة الّذي يوافقهم غيرهم بالنسبة إليه في ذلك النفي.

فبذلك يتّضح ضعف ما نقلناه عن بعض الأفاضل من توهّم أنّ هناك جماعة ينكرون إفادته التكرار في المعلّق على العلّة أيضا ، كما يتّضح بذلك إنّ ما نقل من القول بالتفصيل بين العلّة وغيرها ليس منافيا لقول النافي مطلقا لرجوع كلّ إلى الآخر ، نظرا إلى أنّ انكار التكرار فيما علّق على العلّة المطلقة ممّا لا يعقل عن جاهل فضلا عن أهل العلم إلاّ ممّن أنكر حجّيّة العلّة ، فيعود الكلام معه حينئذ إلى الصغرى لا أنّه منكر للكبرى كما لا يخفى.

وبهذا التقريب نقول بخروج المعلّق على شرط عامّ عن المتنازع فيه ، ك- « كلّما » و « مهما » وما يؤدّي مؤدّاهما ، فإنّ التكرار في مثل ذلك أيضا غير قابل للإنكار إلاّ ممّن ينكر العموم فيما ادّعى كونه عامّا ، فلا وجه لعدّ ما عدا القولين الأوّلين قولا في المسألة مقابلا لهما ، ولعلّه توهّم نشا عن إطلاق جماعة من الفريقين في النفي والإثبات مع تصريح الآخرين بالتفصيل غفلة عن أنّ ما في كلام الآخرين تفصيل لما أجمله الأوّلون وتوضيح لما أبهموه.

ثمّ ، إنّ النزاع غير مختصّ بأصحاب القول بحجّيّة مفهومي الشرط والصفة ، لأنّ إنكار

ص: 210

الحجّية معناه منع اقتضاء انتفاء المعلّق عليه لانتفاء المعلّق ، وإلاّ فاقتضاء وجوده لوجوده في الجملة كما هو منطوق القضيّة ليس ممّا ينكره أحد.

والمفروض أنّ النزاع متفرّع على ذلك ، لرجوعه إلى أنّ هذا الاقتضاء هل هو على نحو الإطلاق والعموم أو لا؟

ولا بأصحاب القول بكون العلل الشرعيّة علل واقعيّة فيما علّق على العلّة - على فرض اندراجه في المتنازع فيه - كما تنبّه عليه بعض الأجلّة ، فإنّ المعرّف والعلامة على القول بهما في العلل يفيد تكرّرهما تكرّر ذيهما في موضع يفيد تكرّر العلّة تكرّر المعلول ، وإلاّ لخرج ما جعله الشارع معرّفا وعلامة على الإطلاق عن كونه كذلك وهذا خلف ، كما لا يفيده له في كلّ موضع لا يفيده العلّة ، وإنّما الثمر [ ة ] في هذا الخلاف يظهر في جواز اجتماع العلل على معلول واحد وعدمه كما هو المصرّح به لا في محلّ البحث.

فإذا تمهّد جميع ما قرّر ، نقول : الّذي يقتضيه التحقيق والنظر الدقيق أنّ الأمر المعلّق بمجرّده لا يفيد أزيد من طلب الماهيّة.

لنا : ما تقدّم من وضع الصيغة لغة وعرفا لطلبها من غير إفادتها تكرارا ، والتعليق بمجرّده لا يوجب خروجها عن وضعها الأصلي ، لوضوح الفرق بين قولنا : « كلّما أو مهما جاءك زيد فأكرمه » وقولنا : « إن جاءك أو إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّهما في التعليقيّات نظير قولنا : « أكرم زيدا دائما » و « أكرم زيدا » في التنجيزيّات ، فلذا يعاقب المأمور التارك لما زاد على المرّة في الأوّل ويستحقّ ذمّ العقلاء ولا يعاقب و [ لا ] يستحقّ ذمّهم في الثاني ، وليس ذلك إلاّ من جهة استفادة التكرار في الأوّل دون الثاني ، مع صحّة تقييده عرفا بكلّ من المرّة والدوام من دون انفهام تناقض ولا تكرار.

ولا ينافي ظهوره في علّيّة وجود الشرط لوجود الجزاء ، لأنّ التكرار ممّا يقتضيه عموم العلّيّة وهو غير مستفاد من القضيّة عرفا بشيء من وجوه الدلالة ، كما لا ينافي ما نصّ عليه أهل الميزان من أنّ وضع المقدّم ينتج وضع التالي ، ورفع التالي ينتج رفع المقدّم ، تعليلا : بأنّ وجود العلّة يستلزم وجود المعلول ورفع المعلول يستلزم رفع العلّة من دون عكس في المقامين ، لعدم إفادة ذلك أيضا أزيد ممّا يفهمه العرف من أصل القضيّة ، ولو سلّم فهو ليس من الحجج التعبّديّة الصرفة ، وإنّما الحجّة في أمثال المقام هو العرف وهو مخالف له ، وأمّا الاحتجاج بقوله : « إذا دخلت السوق فاشتر اللحم » فلعلّه ليس على ما ينبغي ، لكون ذلك

ص: 211

في المثال من جهة قرينة المقام وشهادة الحال والخصم لا ينكره.

حجّة القول بالتكرار : غلبة وروده للتكرار في الشرع ، كقوله (1) تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (2) و ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) و ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (3) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (4) و ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ) (5) إلى غير ذلك من الآيات والروايات ، فإنّ الأمر يتكرّر فيها بتكرّر الشرط ، فكذا فيما يحصل فيه الشكّ إلحاقا بالغالب.

وقد يقرّر : بأنّ كلّ أمر ورد في الكتاب والسنّة معلّقا عليهما يفيد التكرار ، وليس ذلك إلاّ لكونه لغة كذلك ، وإلاّ لزم المجاز والنقل المخالفان للأصل.

ويقرّر أيضا : بأنّ الغالب في التعليق على الشرط إفادة التسبيب وكون الأوّل قاضيا بترتّب الثاني عليه ، ألا ترى أنّ قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن ضربك فاضربه » و « إن قاتلك فاقتله » و « إن جاءك فأعنه » و « إن زارك فزره » إلى غير ذلك من الأمثلة إنّما يفيد ترتّب الثاني على الأوّل وتسبّبه عنه ، ثمّ يستشهد له بما تقدّم من تنصيص أهل المنطق.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ التكرار فيما ذكر إنّما هو من جهة فهم العلّيّة ، ولا إشكال فيه ، ولا يخفى وهنه.

بل الأولى أن يجاب : بأنّ الاستقراء في الشرعيّات - إن تمّ أركانه مفيدا للظنّ باللحوق - يصلح دليلا على الحمل على التكرار في موضع الشكّ والاشتباه ، وحمله عليه لقيام دليل عليه ليس ممّا ينكره أحد ، وهو لا يقضي بكون التعليق من حيث هو ممّا يفيد التكرار عرفا كما هو محلّ البحث.

وعن الثاني : بمنع الكلّية ، فإنّ الحجّ معلّق على الاستطاعة مع عدم تكرّره بتكرّرها.

نعم أغلب العبادات كذلك ، وبأغلبيّتها لا يثبت الغلبة مطلقا ، مع أنّ الغلبة لا تكون دليلا شرعيّا ، وهو أيضا كسابقه في الوهن.

والأولى أن يقال : أنّ كون كلّ أمر معلّق في الكتاب والسنّة كذلك - على فرض تسليمه - لا يلازم كونه في العرف واللغة أيضا كذلك ، ولا يلزم من ذلك مجاز فيما ذكر ليكون مخالفا للأصل ، لجواز كون الاستعمال في ذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد بإرادة الماهيّة من اللفظ والتكرار من الخارج ، نظرا إلى ما تقرّر من أنّه في اللغة والعرف لطلب

ص: 212


1- في الأصل : « فإنّ قوله الخ » والصواب ما أثبتناه في المتن.
2- المائدة : 6.
3- المائدة : 6.
4- النور : 2.
5- المائدة : 38.

الماهيّة ، مع أنّ المجاز على تقديره أولى من الاشتراك إلاّ أن يدفع الوضع لغير التكرار لغة وعرفا ، ولكنّه مناف لما نصّوا عليه من كون النزاع واقعا بين غير أصحاب القول بالتكرار ، إلاّ أن يرجع إلى دعوى الوضع في الهيئة التركيبيّة ، فيدفعه : الأصل النافي لطروّ الوضع لها بإزاء التكرار من غير لزوم نقل فيها ولا مجاز ، وكلّ هيئة لا يستعمل في معنى مغائر لمعاني مفرداتها ليردّد بين امور ثلاث منفيّ غير واحد منها بالأصل ، والقضيّة لا يستفاد منها إلاّ التعليق وهو مدلول للأداة لا الهيئة ، مع أنّه لا يستلزم التكرار كما عرفت ، فيبقى التكرار في الأمثلة المذكورة مراد من الصيغة فيلزم المجاز ولا معنى للأصل حينئذ ، أو من الخارج فلا يلزم فلا حاجة إلى الأصل.

والجواب عن الثالث (1) : بأنّ مضمون الدليل مسلّم والمدّعى مع ذلك غير ثابت ، لما ذكرنا مرارا من أنّ ترتّب الجزاء على الشرط في الجملة لا يوجب التكرار المبنيّ على دوام السببيّة ، ومجرّد التعليق قاصر عن إفادته ، وقد ذكرنا أنّ كلام أهل المنطق لا يقضي بما زاد على ذلك.

واستدلّ أيضا : بأنّه لو تكرّر الفعل بتكرّر العلّة لتكرّر الشرط أيضا بطريق أولى ، لأنّ الشرط ما يعدم بعدمه المشروط بخلاف العلّة لجواز تخلّف علّة اخرى عنها.

واجيب عنه : بعد النقض باشتراكهما في جواز الخلافة لو سلّم في العلّة ، بثبوت الفارق بينهما ، فإنّ التكرار في العلّة إنّما هو لاستلزام وجودها وجود المعلول وذلك منتف في الشرط وأمّا التلازم بين العدمين فهو لا يوجب التكرار ومع ذلك فهو مشترك بينهما ، فالأولويّة في الشرط ممنوعة بل الأمر بالعكس قطعا.

حجّة القول بالتفصيل بين ما علّق على العلّة وغيره - على ما قرّره بعض الأجلّة - فعلى الشقّ الثاني : وضع الصيغة للماهيّة من حيث هي من دون إفادة للتكرار ، ومجرّد التعليق لا يستلزمه عقلا ولا عرفا ، ولم يثبت كونه مخرجا لها عن الوضع اللغوي فالأصل بقاؤها عليه حتّى يثبت خلافه ، بل يقيّد بقيدي المرّة والتكرار معا فيقال : « إن جاءك زيد فأكرمه مرّة أو مرارا ».

وعلى الأوّل : بعد الإجماع المدّعى من الحاجبي والعضدي والبهائي وغيرهم ، استحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، ولزوم تحقّقه كلّما تحقّقت ، وكلّ من الوجهين متين لا ننكره إلاّ كون الثاني ممّا تعلّق به النزاع كما عرفت سابقاً.

ص: 213


1- وفي الأصل : « والجواب عن الثاني » والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

وحجّة القول بإفادته من جهة القياس دون اللفظ :

فعلى الجزء الثاني : أنّ المعلّق على الشرط أو الصفة لا يفيد التكرار بتكرّرهما عرفا ، فكذا لغة وشرعا.

أمّا الأوّل : فلأنّ من قال لغلامه : « إن دخلت السوق فاشتر اللحم » و « أعط هذا درهما إن دخل الدار » لم يحسن منه شراء اللحم كلّما دخل السوق ، وإعطاء المذكور كلّما دخل الدار ، ولو فعل ذلك لذمّه العقلاء وذلك دليل على عدم إفادة التكرار.

وأمّا الثاني : فإنّه لولاه لزم النقل وهو خلاف الأصل.

وأورد عليه : بأنّ ذلك مستفاد من القرينة ولهذا لم يطّرد في غيره من الصور ، فإنّ من قال لعبده : « إذا شبعت فاحمد اللّه » فهم منه التكرار.

وعلى الجزء الأوّل : بأنّ ترتّب الحكم على الشرط أو الصفة يشعر بكون ذلك الشرط أو الصفة علّة لذلك الحكم ، وإذا كان علّة تحقّق الحكم حيث تحقّقت.

أمّا الثاني : فظاهر ، وأمّا الأوّل : فلأنّ من قال : « إن كان هذا عالما فاقتله ونكّل به ، وإن كان جاهلا فأكرمه وأحسن إليه » ذمّه العقلاء واستقبحوا منه ذلك ، وكذا إذا قال : « استخفّ بالعلماء وأعظم الجهلاء » فهذا الاستقباح إمّا أن يكون من حيث جعل العلم علّة للقتل والتنكيل والاستخفاف والجهل علّة للإكرام والإحسان والتعظيم ، أو من جهة كون العلم ينافي الاستخفاف والجهل ينافي التعظيم ، والثاني باطل ، فإنّه لا امتناع في استحقاق العالم للقتل والاستخفاف بسبب ارتداد أو زنا أو غير ذلك من الامور الموجبة لاستحقاق ذلك ، ولا في استحقاق الجاهل للإكرام والتعظيم بسخاوته وشجاعته ، ولا يجوز إسناد الاستقباح إلى وجه آخر لتحقّق الحكم مع الذهول عن سائر الصفات بل ومع فرض عدمها ، فتعيّن الأوّل وحينئذ يتكرّر الحكم بتكرّره ضرورة وجود المعلول في جميع صور وجود علّته.

أقول : وكأنّ محصّل المراد أنّ اللفظ في الأمر المعلّق لا يدلّ على التكرار عرفا ولغة وشرعا ، وإنّما يدلّ على علّية المعلّق عليه شرطا أو صفة وهي مقتضية لتعدية الحكم إلى ما يحصل معه التكرار من باب القياس للعلّة المستنبطة.

والجواب : أنّ العلّيّة إن اريد بها المطلقة الدائمة فاستفادتها في القضيّة الشخصيّة ممنوعة ، وإن اريد بها الجزئيّة فاقتضاؤها تعدّي الحكم إلى ما يحصل معه التكرار ممنوع ، كيف وأنّ الحكم لابدّ وأن يتعلّل بعلّته وهي في غير المرّة الاولى غير ثابت العلّيّة.

ص: 214

الفور والتراخي

أصل

ذهب الشيخ رحمه اللّه وجماعة إلى أنّ الأمر المطلق يقتضي الفور والتعجيل * ؛ فلو أخّر المكلّف عصى ، وقال السيّد - رضي اللّه - هو مشترك بين الفور والتراخي ؛ فيتوقّف في تعيين المراد منه على دلالة تدلّ على ذلك.

__________________

* تنقيح المسألة يستدعي رسم امور :

الأوّل : في الإشارة إلى ما عثرنا عليه من الأقوال محصّلا ومنقولا وهي كثيرة :

منها : قول بالفور ، حكاه جماعة منهم المصنّف عن الشيخ منّا - كما في الهداية ، والكواكب الضيائيّة ، والفصول - وعليه المحقّق في موضع من المعتبر - على ما حكاه في الكواكب - وهو المحكيّ عن أصحاب القول بأنّ مطلق الأمر مفيد للتكرار كما في المنية.

وعن الحنفيّة - كما فيها والهداية والكواكب - وعن الحنابلة - كما في الأوّلين - والسكّاكي وأبي بكر الصيرفي وأبي الحسين البصري والكرخي والمالكيّة وجمع من الفقهاء والمتكلّمين - كما في الثالث - والقاضي وجماعة من الاصوليّين من العامّة واختاره جماعة من المتأخّرين أيضا - كما في الثاني - ولكنّ القاضي عدّه في الأوّل في أصحاب القول بالتراخي وخالفهما ما في الثالث من أنّه نقل عن القاضي أنّه قال : يجب في الحال إمّا الفعل أو العزم عليه مسندا له أيضا إلى ظاهر السيّد وكلّ من ذهب إلى بدليّة العزم.

فمن هنا تبيّن إنّ أصحاب القول بالفور بين قائل بعينيّة الفور وقائل بالتخيير بينه وبين العزم ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل بعد ما صرّح بأنّ هذا القول ينحلّ إلى أقوال عديدة ، لأنّ منهم من فسّر الفور بأوّل أزمنة الإمكان.

وبعضهم بالفوريّة العرفيّة فلا ينافيه تخلّل نفس أو شرب ماء أو نحو ذلك.

وبعضهم بالعرفيّة المختلفة باختلاف الأفعال كطلب شرب الماء ، وشراء اللحم ، والذهاب إلى البلاد القريبة أو البلاد البعيدة على اختلافها في البعد وتهيّؤ الأسباب.

وبعضهم بما لا يصل إلى حدّ التهاون ، وأطلق بعضهم فيحتمل كلاّ من الوجوه الأربعة ، وربّما يحمل على الفوريّة العرفيّة بأحد التقريرين.

أقول : ويمكن القول بتفسيره بثاني زمان الأمر أيضا كما احتمله بعضهم ، ثمّ إنّه جعلهم من جهة اخرى بين ثلاثة مذاهب ، لأنّ الظاهر من بعضهم كما يظهر من بعض الأدلّة الآتية

ص: 215

دلالة الأمر عليه بالوضع.

وذهب بعضهم إلى دلالته عليه من جهة انصراف الإطلاق إليه.

وبعضهم إليه من جهة قيام القرائن العامّة عليه.

أقول : ويمكن إرجاع الجميع إلى الدلالة بحسب الوضع ، كما سنقرّره إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّهم بين قائل بوجوب الفور ، فإذا أخّر وعصى سقط الفور وبقى وجوب الفعل على إطلاقه من غير لزوم التعجيل ، فلا يعصى بالتأخير حينئذ إلى الثالث وما بعده.

وقائل بوجوب التعجيل أيضا ، فيعصى بالتأخير إلى الثالث ومنه إلى الرابع وهكذا.

وقائل بسقوط الفعل بالتأخير عن أوّل الأمر ، فإنّ كلّ ذلك محكيّ عنهم كما صرّح به الفاضل المذكور.

ومنها : قول بالتراخي وهو المحكيّ عن الجبائيّين وأبي الحسين البصري والقاضي أبي بكر ، وجماعة من الشافعيّة والأشعريّة كما في المنية ، لا بمعنى وجوبه بل جواز تأخير الفعل عن أوّل أوقات الإمكان.

وفي الكواكب : أنّهم اختلفوا في تفسيره فعند جماعة بمعنى أنّه لو بادر لم يكن ممتثلا وهو المنسوب إلى الجبائيّين وبعض الأشاعرة.

وفسّره بعضهم بجواز التراخي لا وجوبه ، بل نقل عن بعض إنكار القائل به فحينئذ يكون ثمرته ثمرة القول بالماهيّة.

وفي الهداية : المقصود به جواز التراخي دون وجوبه ، إذ لا قائل ظاهرا بدلالته على الوجوب.

نعم ربّما يحكى هناك قول بالوجوب حكاه شارح الزبدة عن بعض شرّاح المنهاج قولا للجبائيّين وبعض الأشاعرة ، لكنّ المعروف عن الجبائيّين القول بالجواز ، إلى أنّ قال : « فالقول المذكور مع وهنه جدّا - حيث لا يظنّ أنّ عاقلا يذهب إليه - غير ثابت الانتساب إلى أحد من أهل الاصول ».

نعم ربّما يقرّب وجود القائل به ويرفع الاستبعاد المذكور ما عزاه جماعة منهم الإمام والآمدي والعلاّمة إلى غلاة الواقفيّة من توقّفهم في الحكم بالامتثال مع المبادرة أيضا ، لجواز أن يكون غرض الآمر هو التأخير ، فإذا جاء التوهّم المذكور لا استبعاد في ذهاب أحد إلى وجوبه ، إلى أن قال : « لكن نصّ في الإحكام والنهاية بأنّ التوقّف المذكور خلاف إجماع السلف ».

ص: 216

وكيف كان فلو ثبت القول المذكور فهو مقطوع الفساد ، إذ كون أداء المأمور به على وجه الفور قاضيا بأداء الواجب ممّا يشهد به الضرورة بعد الرجوع إلى العرف.

فقد تبيّن ممّا قرّرنا أنّ أصحاب القول بالتراخي على تقدير ثبوت القول المذكور بين قائل بالجواز وقائل بالوجوب.

ومنها : قول بالاشتراك بين الفور والتراخي ، حكاه في المنية عن الواقفيّة وعزاه المصنّف وغيره إلى السيّد.

وفي الكواكب حكى ذلك عن السيّدين المرتضى وابن زهرة وإن نسب إلى الذريعة والشافي القول بوضعه للماهيّة أيضا.

وفي الهداية : احتجاجه في الذريعة باستعماله في الفور والتراخي وظهور الاستعمال في الحقيقة يشير إليه ، إلاّ أنّ كلامه في تحرير المذهب صريح في اختياره القول بالطبيعة.

ويمكن حمل احتجاجه بما ذكر على أنّ طلب ترك الطبيعة على سبيل الفور أو التراخي نحو من الطلب ، وعلى القول بوضعه لمطلق الطلب يكون كلّ من الإطلاقين حقيقة فيوافق أصالة الحقيقة ، بخلاف ما لو قيل بوضعه لخصوص أحدهما ، فالمقصود إذن بيان أصالة الحقيقة في كلّ من الإطلاقين لا فيما إذا استعمل في خصوص كلّ منهما ، فإنّ ذلك غير معلوم ولا مفهوم من كلامه فلا يكون ما ذهب إليه قولا بالاشتراك ، إلاّ أنّه ذهب إلى حمل الأوامر على الفور كحملها على الوجوب ، نصّ عليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب أو غيره وظاهره كونه حقيقة شرعا في خصوص الفور ، فيكون إذن مذهبا آخر إلاّ أنّه يندرج في جملة أقوال القائلين بالفور.

أقول : ولعلّ ما نقله بعض الأعاظم من القول بالفور شرعا بحسب الوضع إشارة إلى ما أفاده ذلك الفاضل.

ومنها : القول بوضعه لطلب الماهيّة من دون دلالة على فور ولا تراخ ، ذهب إليه كافّة أجلّة المتأخّرين وفاقا للعلاّمة وشيخنا البهائي في التهذيب والزبدة ونسبه في الزبدة إلى المحقّق أيضا ، والكواكب - شرحها - (1) إلى شارحيها (2) والفاضلين وثاني الشهيدين ،

ص: 217


1- الكواكب الضيائيّة في شرح زبدة البهائيّة - للسيّد يوسف بن محمّد الحسينى الجنابذي القائني الخراساني الاصفهاني ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة 18 : 180 ).
2- وللزبدة البهائيّة شروح وحواش كثيرة ، ذكر بعضها في الذريعة ( 13 : 298 ).

والحاجبي ، والعضدي ، والبيضاوي ، والرازي ، والآمدي ، والتفتازاني ، وغيرهم.

وفي الهداية : أطبق عليه المتأخّرون كالشهيدين والمصنّف إلى آخره ، كما في المنية : من أنّه اتّفق عليه المتأخّرون.

ومنها : قول بالوقف ، ذهب إليه جماعة من العامّة فلا يدرون أهو للفور أو لا؟ كما في الهداية.

وفي الفصول : إنّهم بين من يقول : إنّه إذا بادر لم يقطع بكونه ممتثلا لجواز أن يكون المقصود هو التأخير ، وبين من يقول : إنّه إذا بادر كان ممتثلا قطعا وإن أخّر لم يقطع بخروجه عن العهدة ، حكاه في الهداية أيضا.

ومن أقوال المسألة ما في الكواكب عن الفاضل التوني في الوافية من أنّه لا يدلّ على شيء منها لغة ، لكنّ الدليل الخارج دلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأوامر المطلقة بحيث يعدّ عرفا مبادرا ، وهو أمر يختلف بحسب اختلاف المأمور والمأمور به.

ولعلّ الإجماع المنقول عن السيّدين المرتضى وابن زهرة على فوريّة الأوامر شرعا ناظر إلى هذا المعنى ، مع احتمال كون المراد به الدلالة على الوضع الشرعي الّذي عدّه بعض الأعاظم من الأقوال ، وكيف كان فلا ينبغي عدّ القول المذكور منها لما سيظهر في طيّ الأمر الثاني.

الأمر الثاني : لا يخفى أنّ في كون النزاع في دلالة الصيغة باعتبار الوضع ، أو انصراف إطلاقها مع الإطباق على كونها لمطلق الطلب ، أو قيام دلالة خارجيّة من باب الصرف أو الإفهام مع الإطباق على انتفاء الانصراف أيضا أوجه أوجهها الأوّل ، وإن كان قد يحصل لبعضهم التردّد في ذلك ، بل ربّما ينشأ عن اختلاف مقتضى أدلّة القول بالفور - على حسب الظاهر - توهّم كون أصحابه على مذاهب كما تقدّم الإشارة إليه.

لنا - على ذلك - تصريح جماعة من الأجلّة (1) وقاطبة المحشّين للكتاب منهم ابن المصنّف في طيّ البحث وردّهم لأدلّة القول بالفور الغير الصالحة لإثبات الوضع بها ، وصريح أدلّة القول بالماهيّة مع تصريح أهله به عند تقرير الاستدلال بها ، فلولا كلامهم في الوضع لما تحقّقت بينها وبين أدلّة سائر الأقوال منافاة ، مع أنّ القول بالاشتراك لفظا فيما بين

ص: 218


1- منهم السيّد والعلاّمة في التهذيب والمنية وبعض الأعلام وبعض الأعاظم والسيّد الخراساني وابن عمنّا السيّد القزويني والمرحوم الشيخ محمّد حسين مؤلّف الفصول ( منه ).

الفور والتراخي لو ثبت فيما بين الأقوال لا معنى له إلاّ دعوى الوضع لذلك ، فلا يصحّ حينئذ عدّه مقابلا لسائرها إلاّ على فرض رجوعها إلى دعوى الوضع ، مع أنّ القول بالتراخي لا يتغاير القول بالماهيّة إلاّ على تقدير رجوعه إلى دعوى الوضع لذلك بالخصوص لاشتراكهما في تجويز التراخي الغير المنافي لحصول الامتثال بالبدار أيضا.

نعم ربّما يحصل الفرق بينهما لو اتّفقا في الوضع للماهيّة لو فسّرناه بوجوب التراخي ، إلاّ أنّه مبنيّ على ثبوت القول به.

وقد تقدّم حكاية المناقشة فيه وإنكار جماعة له ، ومع ذلك غير مناف لما ادّعيناه على فرض ثبوته ، مع أنّه لولاه لخرج النزاع فيما بين القول بالماهيّة والقول بالفور لفظيّا لاعتراف كلّ على هذا التقدير بما يقول به الآخر ، لأنّ الفور حينئذ لا ينكر الوضع للماهيّة كما أنّها لا تنكر وجوب الفور لو دلّتها قرينة خارجة على إرادتها في ضمن الفور ، فيعود النزاع حينئذ إلى أنّ الصيغة موضوعة لمطلق الطلب وأنّ الخارج قد دلّ على إرادة الفور.

ولا يخفى أنّ القضيّتين لا تناقض بينهما لتكونا قولين متقابلين ، حيث لا اتّحاد بين موضوعيهما.

نعم لو قدّر الخلاف في صلاحيّة ما ادّعى من الخارج دليلا على إرادة الفور لكونه قرينة على ذلك وعدمه لعاد النزاع إلى أمر معنوي ، إلاّ أنّه أيضا في كمال البعد لظهور كلامهم في تحرير العنوانات وتقرير الاستدلالات في كون النزاع في كبرى القياس والتوجيه فرض له في صغراه.

ولا منافاة لأدلّة القول المذكور لما ذكر من كونه دعوى للوضع لظهور جملة منها في تلك الدعوى ، كمثال السقي وآية الذمّ لإبليس لابتناء نهوضيهما دليلا على مطلوبهم على فهم الفور المفيد للوضع لأصالة عدم غيره حدوثا أو التفاتا إلى الحادث ولو من جانب واحد كما في سائر التبادرات لو توهّم استناده إلى غير اللفظ الموضوع ، مع عدم منافاة بواقيها لذلك أيضا لصلوح آيتي المسارعة والاستباق لكونهما من باب القرائن المنفصلة تؤكّد مقتضى الوضع.

فيرد على المستدلّين بهما حينئذ أنّ كونهما من باب الإفهام أو الصرف أولى ، لأصالة التأسيس فيما بين القرائن بالقياس إلى التأكيد.

وأمّا ما اعتمدوا عليه من البرهان العقلي أيضا وإن كان ظاهرا في الكشف عن المراد ،

ص: 219

إلاّ أنّه لا مانع عن كون نظرهم في الاستدلال به إلى توهّم كونه العلّة الباعثة للواضع على وضع الصيغة للفور.

فيرد عليهم : حينئذ أنّ ترجيح اللغة بالعقل غير سائغ ، مع أنّ القول بالوقف لا يصحّ توجيهه إلاّ إلى كونه وقفا في وضع الصيغة ، وإلاّ فالوقف من جهة المراد قد يتّفق حصوله لأصحاب القول بالماهيّة بل الفور والتراخي أيضا كما لا يخفى ، فيفوت المقابلة بينه وبينها وهو كما ترى.

الأمر الثالث : قد يتخيّل في بادئ النظر خروج القائلين بالتكرار عن هذا النزاع ، نظرا إلى أنّ محصّل المراد بالتكرار - على ما تقدّم تفصيل بيانه - الإتيان بالمأمور به في جميع أزمنة الإمكان فيندرج فيها زمان الفور أيضا في بعض تفاسيره ، ولعلّه الباعث على تخصيص الخلاف عند تحرير العنوان بغيرهم كما في الكواكب ، وعدّهم من القائلين بالفور كما في المنية.

وربّما يعلّل ذلك أيضا - مضافا إلى ما قرّرناه - بأنّه لو كان الفور مدلولا آخر للصيغة عندهم غير الدوام - على حسبما يجعله القائل بالمرّة - لزم اعتبار الدوام حينئذ بالنسبة إلى مصداق الفور لا إلى آخر أزمنة الإمكان ولا يقول به القائل بكونه للدوام ، واللازم حينئذ عدم كون الفوريّة مدلولا آخر للصيغة بل ليس مفاد الصيغة عنده إلاّ طلب طبيعة الفعل على وجه الدوام ويتبعه لزوم الفور.

ولكن الّذي يعطيه التأمّل - نظرا إلى ما قدّمنا تحقيقه من كون النزاع في دلالة الصيغة باعتبار الوضع - جواز دخولهم في النزاع أيضا ، لوضوح الفرق بين كون الشيء مدلولا التزاميّا خارجا عن الموضوع له أو تضمّنيا داخلا فيه ، فيرجع النزاع حينئذ إلى أنّ استفادة الفور عن الصيغة هل هي بطريق الدلالة بالالتزام ولو من جهة العقل المستلزمة لعدم كونه ملحوظا في نظر الواضع أصالة ، أو هي بطريق الوضع الموجب لكونه ملحوظا عند الوضع بالخصوص ، إلاّ أنّه على هذا التقدير يفوت (1) عليهم بلا فائدة كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّ القائل المذكور كما يقول بوجوب الفور كذا يقول بالتراخي أيضا بل بوجوبه ، تعليلا : بأنّه كما يحكم بوجوب الفعل في أوّل الأزمنة كذا يقول بوجوبه في آخرها فيتساوى نسبته إلى القولين ويكون قائلا بوجوب الفور والتراخي معا ، فواضح الفساد جدّا.

ص: 220


1- كذا في الأصل.

فإنّ وجوب الفعل عنده في آخر الأزمنة ليس من جهة أنّه إتيان به على وجه التراخي كما هو معنى القول بالتراخي ، بل هو إتيان به في زمان وجوبه بعينه ، نظرا إلى زعمه انحلال الأمر الواحد إلى أوامر عديدة على حسب عدد أوقات الإمكان ، فالفعل في كلّ وقت يؤتى به فيه امتثال للأمر الثابت في ذلك الوقت ، فيكون واقعا في زمان الفور بالنسبة إلى ذلك الأمر ، فالقول بالفوريّة على القول بالتكرار لا ينفكّ في الحقيقة عن شيء من أزمنة إمكان الفعل ، فهذا القائل قائل بوجوب الفور دائما ولا يعقل عنه القول بالتراخي فضلا عن وجوبه ، لمنافاته دوام الوجوب المقتضي لانحلال الأمر إلى أوامر متعدّدة حسبما عرفت.

الأمر الرابع : لا يخفى أنّ من الواجبات ما كان مضيّقا ومنها ما كان موسّعا ، والأوّل يطلق تارة على ما هو بالمعنى الأخصّ وهو ما كان مضيّقا من جهة الرخصة والإجزاء ، كصيام شهر رمضان حيث لا يجوز تأخيره عن وقته ولا يكون مجزيا عن الأمر الأوّل في غير وقته ، واخرى على ما هو بمعناه الأعمّ وهو ما كان مضيّقا من جهة الرخصة ، سواء كان كذلك من جهة الإجزاء أيضا كالمثال المذكور أو لا ، كالحجّ الّذي لا يجوز تأخيره عن عام الاستطاعة مع كونه مجزيا عن الأمر الأوّل لو أخّر إلى غير العام الأوّل وإن ترتّب عليه الإثم.

كما أنّ الثاني أيضا يطلق تارة على ما هو الموسّع رخصة وإجزاء وهو الموسّع بالمعنى الأخصّ ، مع كونه موقّتا كالفرائض اليوميّة أو لا كفريضة الزلزلة وغيرها من الآيات عدا الكسوفين ، واخرى على ما هو بمعناه الأعمّ وهو الموسّع إجزاء سواء كان موسّعا من حيث الرخصة أيضا كما ذكر أو لا كالحجّ ، وأمّا عكس ذلك فغير معقول عن العدل الحكيم.

والنسبة بين الأعمّ والأخصّ من كلّ منهما عموم مطلق ، وبين الأعميّن عموم من وجه ، وبين الأخصيّن تبائن كلّي ، كما أنّ بين أعمّ كلّ وأخصّ الآخر تبائن كلّي ، والوجه واضح.

والظاهر عدم كون شيء من تلك المذكورات مرادا بالفور والتراخي لأنّها من أقسام الموقّت وهما عندهم ليسا من قبيل الموقّت ، فلذلك ترى الأمر في بعض العناوين مقيّدا بالإطلاق كما في كلام المصنّف على أحد احتماليه (1) وإن كان الفور قد يطلق على ما يعمّ القسم الأوّل من المضيّق ، فإنّه يطلق تارة على ما هو لازم التعجيل مع عدم كونه محدودا بوقت كردّ السلام ، وردّي الوديعة والدين عند المطالبة.

ص: 221


1- أوّل الاحتمالين : أن يكون المراد بالأمر المطلق ما تجرّد عن القرائن الخارجة القاضية بإرادة الفور أو التراخي أو غيرهما.

واخرى على ما هو لازم التعجيل سواء كان محدودا بوقت كالمضيّق بالمعنى الأخصّ أو عدمه كما ذكر من الأمثلة ، فالأوّل فور بالمعنى الأخصّ كما أنّ الثاني فور بالمعنى الأعمّ ، فلا جرم يكون المراد بالفور في المقام هو المعنى الأوّل إذ الكلام في دلالة الصيغة عليه وهي غير مفيدة لشيء من التوقيت والتحديد لا أوّلا ولا آخرا.

فممّا قرّرنا تبيّن أنّ موضع النزاع ما لم يثبت توقيته من التوسعة أو التضييق ولا فوريّته وتراخيه من الخارج لكون الكلّ واضح الخروج عنه.

وهل المراد بالفور على المعنى المذكور هو الفور العقلي الّذي يعبّر عنه بثاني زمان الخطاب كما في إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ، أو العرفي الغير المنافي له تخلّل نفس ولا عطاس وسعال ولا شرب ماء كما في ردّ الدين والوديعة ، أو أوّل أزمنة الإمكان ، وجوه خيرها أخيرها اعتبارا وأوسطها ظاهرا.

وربّما يفسر الفوريّة العرفيّة بما يختلف على حسب اختلاف الأفعال في الاحتياج إلى التهيّؤ للأسباب وتحصيل الاستعداد المتفاوتان أيضا قلّة وكثرة بتفاوت طول زمان المأمور به قلّة وكثرة كالسفر إلى القرية أو البلاد القريبة أو النائية وعدمه (1).

وربّما يذكر للفور معنى آخر وهو ما لا يصل إلى حدّ التهاون كما عن بعض المتأخّرين ، وفي كونه تحديدا للفور نظر ، وإنّما هو حدّ لجواز التراخي دلّ عليه القوّة العاقلة ، فإنّ التهاون بأوامر الشرع محرّم بحكم

العقل القاطع فيحرم التأخير إليه من باب المقدّمة ، والظاهر أنّه ليس ممّا ينكره أحد فكيف يجعل حدّا للفور الّذي ينكره الأكثرون.

الأمر الخامس : ربّما يتوهّم بين الفور وزمان الحال المأخوذ في مداليل الأفعال ملازمة ، فمن هنا يورد على المصنّف في احتجاجه الآتي بأنّ : « مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل والفور والتراخي خارجان عنها » بأنّ ذلك لا يوافق ما تقرّر عند النحاة من دلالة الفعل على أحد الأزمنة الثلاثة جاعلين لها مائزا بين الأسماء والأفعال ، بل ربّما يؤخذ قول النحاة بأنّ الأمر للحال دليلا على كونه للفور كما سيأتي تقريره.

ص: 222


1- ويظهر عن بعض الأعاظم القطع بذلك ، حيث قال : المراد بالفور عند القائلين به ما يعدّ في العرف فورا وهو يختلف بحسب اختلاف الآمر والمأمور به ، كأن يكون الآمر شخصا وقورا وأمر بما يتعلّق بركوبه أو خروجه ، بخلاف من كان عجولا أو يكون المأمور ضعيفا أو قويّا أو ذا حشمة أو يكون المأمور به سقيا أو سفرا بعيدا أو قريبا أو غير ذلك وهو ظاهر ، ويتفرّع عليه جواز التأخير فى ردّ السلام باتمام آية أو نحوها إذا لم يوجب فصلا طويلا ، سواء كان في الصلاة أو غيرها ( منه ).

والحقّ : أنّه لا ملازمة بينهما أصلا ، لا لما قيل (1) في دفع الإيراد المذكور من أنّ ما ذكر في حدّ الفعل إنّما هو بالنسبة إلى أصل وضع الأفعال ، وإلاّ فقد يكون الفعل منسلخا عن الدلالة على الزمان كما هو الحال في الأفعال المنسلخة عن الزمان ، فلا مانع من أن يكون فعل الأمر أيضا من ذلك.

أو أنّ المقصود بما ذكر في الاحتجاج عدم دلالة « الأمر » على خصوص الحال والاستقبال وذلك لا ينافي دلالته على القدر الجامع بينهما ، فيفيد طلب إيقاع الفعل في أحد الزمانين ومعه يحصل دلالته على الزمان ليتمّ به مدلول الفعل ، ولا يفيد خصوص شيء من الفور والتراخي - كما هو المدّعى - كما قرّره بعض الأفاضل ، لأنّ كلّ ذلك كلام قد وقع على خلاف التحقيق.

أمّا الأوّل : فلاتّفاقهم على حصر الأفعال المنسلخة فيما لا يكون المقام داخلا فيه ، كيف وأنّه لم يتعرّض لذكره معها أحد من علماء العربيّة ، بل المصرّح به في كلامهم خلاف ذلك كما عرفت في تقرير الاستدلال بما ذكروه.

والمفروض أنّ مجرّد الاحتمال غير كاف في الالتزام بما يخالف الأصل ، ولا سيّما إذا عارضه ما يصلح دليلا على الخلاف.

وأمّا الثاني : فلأنّ كون مدلول الفعل من الزمان هو القدر الجامع بين الزمانين غير منطبق على ما ذكره النحاة.

فإنّ ظاهرهم إعتبار الخصوصيّة في مدلول الفعل ، فلذا تراهم في حدّ الفعل يذكرون : « أنّه يدّل على أحد الأزمنة » وأنّهم اختلفوا في الفعل المضارع الواقع تارة على الحال واخرى على الاستقبال ، وصاروا على مذاهب ثلاث من اشتراكه بينهما لفظا وكونه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، فكأنّ احتمال كون مدلول الفعل هو القدر الجامع بين الزمانين ساقط عندهم حيث لم يتفوّه به أحد منهم ، فكيف يؤخذ ذلك وجها للجمع بين قولهم وكلام المصنّف ، فإنّه عذر عمّن لا يرضى بالاعتذار به.

بل (2) لأنّ الزمان المأخوذ في مدلول الأمر ظرف للطلب بل قيد له مخرج لما لا تنجّز له في حال الخطاب ، كما في الطلبات التعليقيّة الّتي يكون استعمال الأمر فيها مجازا ، والفور على فرض ثبوته في مدلوله قيد للحدث فلا يلزم من اعتبار الأوّل في مدلوله بحسب الوضع اعتبار الثاني فيه ، كما لا يلزم من انتفاء الثاني انتفاء الأوّل.

ص: 223


1- كما في كلام بعض الأفاضل. ( منه ).
2- متعلّق بقوله : « لا لما قيل الخ ».

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة المأخوذة في مداليل الأفعال باعتبار أوضاعها النوعيّة المتعلّقة بهيئآتها إمّا إخباريّة أو إنشائيّة.

والمراد بالأوّل : ما يراد من الأفعال الماضويّة والمضارعيّة ويقصد بها الحكاية عمّا هو في الواقع بين الحدث والذات المدلول عليهما بها الّتي هي مناط الصدق والكذب في الأخبار ، فلذا يعرّف الخبر : « بكلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ».

ومن البيّن أنّ احتمالي المطابقة والعدم وصفان لتلك النسبة الملحوظة حكاية لا لما هو في الواقع الملحوظ محكيّا عنه ، الخارج عن مدلول اللفظ وضعا وإن دخل فيه التزاما ، واحتمالا المطابقة والعدم قد ينشأان من جهة الذات المنسوب إليها الحدث كأن يسند « الضرب » إلى « زيد » في الزمن الماضي واحتمل صدوره عن غيره في ذلك الزمان ، وقد ينشأان عن الحدث المنسوب إلى الذات كما لو اسند « القتل » إلى « زيد » واحتمل كون ما صدر عنه هو « الضرب ».

وقد ينشأان عن الزمان المنسوب فيه الحدث إلى الذات ، كما لو اسند إليها « الضرب » في الزمن الماضي واحتمل كونه صادرا منه في الحال أو الاستقبال أو بالعكس.

وقضيّة ذلك كون كلّ من الماضي والحال والاستقبال قيدا لتلك النسبة لأنّها تقع حكاية في تلك الأزمنة (1) موجبة لاتّصافها بوصفي المطابقة والعدم.

ص: 224


1- قوله : ( لأنّها تقع حكاية في تلك الأزمنة ... الخ ) ومحصّل ذلك : أنّه لو لا الأزمنة قيودا للنسبة الواقعة حكاية عمّا هو في الواقع لما اعتبرت المطابقة والعدم فيها باعتبار الزمان. وقد عرفت أنّ المطابقة والعدم يعتبران فيها باعتبار الزمان أيضا ، فإنّ جهات المطابقة على ما عرفت متعدّدة ، فقد يتّفق المطابقة بالنسبة إلى الجميع ، وقد يتّفق المطابقة بالنسبة إلى الزمان دون الحدث والذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الزمان والحدث دون الذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الزمان والذات دون الحدث ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الحدث دون الزمان والذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الذات دون الحدث والزمان ، والكلّ موجبة للكذب لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ مقدّماتها ، ومعنى كون الزمان قيدا للنسبة أنّ انتساب الحدث إلى الذات في الفعل الماضي إنّما هو في زمان الماضي ، بمعنى أنّ زمان الانتساب زمان الماضي ، وأمّا الحدث فهو مطلق من جميع الجهات فيمكن عدم كونه صادرا عن الذات عن أصله ، ويمكن صدوره في ذلك الزمان فيكون الكلام صدقا ، ويمكن صدوره عنه في الحال أو الاستقبال فيكون كذبا كالصورة الاولى ، ومن هذا الباب النسبة الإنشائيّة الطلبيّة فإنّ زمن الحال قيد لها ، وبهذا الاعتبار يكون قيدا للطلب لأنّ قيد المقيّد قيد لقيده كما لا يخفى. وأمّا الحدث المطلوب فهو بالنسبة إلى الزمان مطلق فيمكن وقوعه في الحال كما يمكن وقوعه في الاستقبال. وظنّي أنّ كلّ ذلك واضح لمن له أدنى تأمّل في المطالب الدقيقة. ( منه عفي عنه ).

والمراد بالثاني : ما يراد من فعلي الأمر والنهي ، ويقصد بها إنشاء الطلب الّذي يعبّر عنه ب- « النسبة الطلبيّة » وقرينة المقابلة قاضية بكون الزمان المأخوذ في مفهوميهما قيدا لتلك النسبة لا النسبة الفاعليّة ، مع كونه ممّا يساعده الفهم العرفي أيضا ، فإنّ الزمان الّذي يقع فيه الحدث لا يكاد ينفهم من اللفظ سواء فرضناه الحال أو الاستقبال ، وإنّما المنساق منه عرفا كون الشيء مطلوبا في الحال فعله أو تركه على الإطلاق.

وإلى ذلك ينظر ما عن السيّد الشريف من أنّ مفاد « أكرم زيدا » طلب في الحال لإكرام زيد في الاستقبال ، فإنّه في الجزء الأوّل من مدّعاه صواب وإن أخطأ في الجزء الثاني ، نظرا إلى أنّ الحدث لا يتبادر معه زمان وإنّما المتبادر ماهيّته القابلة لكلّ زمان.

فما يقال في الجواب - عن الاستدلال بما تقدّم - : بمنع ثبوت اتّفاق النحاة على ما ذكر تارة ، وضعف قولهم بمخالفة علماء الاصول والبيان ثانية مبنيّ على الملازمة الموهومة وقد عرفت منعها.

الأمر السادس : في تأسيس الأصل الموجب للتفصّي عن الإشكال في كلّ موضع خال على حكمه عن دليل دالّ ، ولمّا كان الأصل قد ينظر إليه في مقام الاجتهاد والنظر في متعلّق الوضع ، وقد ينظر في مقام العمل والنظر في متعلّق التكليف فلابدّ من تأسيسه في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب أنّ مقتضى الأصل فيه كون الأمر لطلب الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن الفور أو التراخي ، فإنّ الوضع لا شكّ في عدم تعلّقه بشيء قبل تأسيس أساسه لكونه مسبوقا بالعدم الأزلي ، وإنّما انتقض ذلك بعد حدوثه على سبيل الجزم واليقين بالنسبة إلى أصل الماهيّة ، لتيقّن تعلّقه بها على كلّ تقدير ، وإنّما الشبهة حاصلة بالنسبة إلى تعلّقه بما زاد عليها معها ، والأصل عدمه أخذا بموجب اليقين السابق ، إلاّ أنّ اعتباره في أمثاله مبنيّ على إفادته الوصف وهو محلّ تأمّل ، وتحقيق الحال فيه نفيا وإثباتا يحتاج إلى إمعان النظر بالتخلية التامّة.

وأمّا المقام الثاني : فلا ريب أنّ الأصل في ذلك إنّما يثمر للقول بالاشتراك لفظا بين الفور والتراخي مع انتفاء ما يوجب تعيّن أحد الأمرين في الإرادة من القرائن وللقول بالوقف أيضا.

وقد يثمر للقائل بالفور إذا لم يتحقّق عنده كونه بأيّ من المعاني المحتملة فيه ممّا سنقرّرها ، وللقائل بالتراخي أيضا إذا اشتبه بين جوازه ووجوبه ولم يعلم حقيقة الحال.

ص: 225

فنقول : إنّ الفور على القول به يحتمل كونه من قبيل المضيّق بالمعنى الأخصّ الموجب لسقوط الأمر بمجرّد التأخير عن وقته مع ترتّب الإثم عليه ، كما يحتمل كونه من باب المضيّق بالمعنى الأعمّ المستلزم لبقاء الأمر مع التأخير وإن ترتّب عليه الإثم ، وعليه فإمّا أن يكون الباقي هو الأمر بالماهيّة من دون اعتبار التعجيل معها المستلزم لعدم العصيان بالتأخير عن الثاني إلى الثالث وعنه إلى الرابع وهكذا ، أو الأمر بها مع اعتبار التعجيل معها في جميع المراتب الموجب للعصيان بكلّ تأخير في كلّ مرتبة ، فقد يلاحظ فيما بين التراخي بكلّ من احتماليه وبين الفور بكلّ من محتملاته ، وقد يلاحظ فيما بين محتملات الفور ، وقد يلاحظ بين احتمالي التراخي.

فإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأوّل فالأصل هو الأوّل ، لأنّ الفور بذلك المعنى يستلزم العقاب على التأخير مع ارتفاع الأمر بعده ، والأوّل ينفيه أصالة البراءة والثاني ينفيه الاستصحاب.

وتوهّم معارضة الأوّل بمثله ، نظرا إلى أنّه كما أنّ الأصل براءة الذمّة عن العقاب بالتأخير عن الزمان الأوّل فكذلك الأصل براءة الذمّة عن التكليف في الزمان الثاني وغيره ممّا تعقّبه.

يندفع : بأنّه لو صحّ ذلك لكان في مقابلة الاستصحاب الوارد عليه في أمثال المقام فلا أثر له حينئذ.

كما أنّ توهّم معارضة الثاني بأصل الشغل ، نظرا إلى أنّ اليقين بالامتثال بعد تيقّن الاشتغال إنّما يحصل بعدم التأخير لا معه ، يندفع : بعدم صلوح ذلك للمعارضة مع الاستصحاب.

وإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثاني فأصالة البراءة عن العقاب بالتأخير قاضية بتعيّن الأوّل ، ولا يعارضها أصل الشغل لأنّه لو تمّ لقضى بعدم الصحّة فيما عدا الزمان الأوّل والفور بالمعنى المفروض ينافيه ، فهو لا يوافق الفور أيضا كما لا يوافق التراخي ليكون معارضا لما ذكرناه من الأصل القاضي بالتراخي.

وإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثالث فأصالة البراءة عن العقاب في كلّ من أجزاء الزمان أيضا قاضية بتعيّن الأوّل ولا معارض لها أيضا.

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأوّل فأصالة البراءة عن

ص: 226

العقاب بالتأخير معارضة بأصالة البراءة عن العقاب بالفور ، فيبقى إستصحاب الأمر مقتضيا للتراخي ، لاستلزام الفور بذلك المعنى إرتفاع الأمر والأصل عدمه ، وأصل الشغل غير جار هنا لدوران الأمر بين المحذورين الموجب لفقد القدر المتيقّن.

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثاني فلا أصل في البين ، فلا مفرّ من التخيير لعدم إمكان الاحتياط ، ويمكن الجمع بين التأخير وعدمه القاضي بوجوب الإتيان مكرّرا تحصيلا للبراءة اليقينيّة وهو الأقرب كما لا يخفى فتأمّل (1).

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأخير فأصالة البراءة عن العقاب على التأخير في غير الزمان الأوّل إلى ما بعده ترجّح الأوّل ، بعد تصادم الأصلين بالنسبة إلى التأخير عن الزمان الأوّل معا وتساقطهما.

وإذا دار الأمر بين قسمي التراخي فالمتعيّن هو الأوّل ، لأصالة البراءة عن العقاب على التعجيل إلاّ أن يعارضهما أصل الشغل القاضي بتعيّن التأخير ، لأنّه الّذي يوجب اليقين بالبراءة دون عدمه إن لم يكن في موضع الشكّ في الشرطيّة ، وإلاّ فيقدّم عليه أصالة البراءة لما هو المقرّر في أمثال المقام.

وإذا دار الأمر بين الأوّل والثاني من معاني الفور فأصالة البراءة عن تعدّد التكليف ترجّح الأوّل ، ولا يعارضها استصحاب الأمر المرجّح للثاني ، لكونه في موضع انتفاء أحد ركنيه من الشكّ اللاحق أو اليقين السابق ، إذ لو اريد من المستصحب الأمر بالفرد فهو مرتفع جزما بفوات وقته وهو زمان الفور.

ولو اريد به الأمر بالطبيعة أيضا فهو عن أوّل الأمر كان مشكوكا فيه.

اللّهمّ إلاّ أن يراد بالطبيعة ما هي متحقّقة في ضمن الفرد ، فغاية ما علم بارتفاعه إنّما هو الأمر بالخصوصيّة دون الطبيعة الّتي في ضمنها.

وفيه : مع ابتنائه على بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو محلّ تأمّل ، أنّ الأمر لا يتبعّض حتّى يرتفع بعضه بارتفاع الخصوصيّة ويبقى بعضه الآخر ببقاء الطبيعة.

وإذا دار الأمر بين الأوّل والثالث من معاني الفور فالكلام فيه نظير ما تقدّم ، لأصالة

ص: 227


1- وجهه : عدم منافاة التأخير لحصول البراءة ، إذ المفروض كون الفور ممّا يجزي معه الإتيان مؤخّرا ، غايته ترتّب الإثم على نفس التأخير ، فقضيّة لزوم القطع بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال هو الإتيان مؤخّرا ، إذ مع التقديم لا يحصل ذلك القطع كما لا يخفى ( منه ).

البراءة عن تعدّد التكليف وتعدّد العقاب بالتأخير في كلّ مرتبة.

وإذا دار الأمر بين الثاني والثالث من معانيه فالأصل هو الأوّل ، لاستلزام الثاني ترتّب العقاب على التأخير عمّا بعد الزمان الأوّل إلى غيره في كلّ مرتبة.

وممّا قرّرنا يعلم الحكم فيما لو داربين ثلاثيّات الصور ورباعيّاتها فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

الأمر السابع : في ثمرات أقوال المسألة.

فثمرة القول بالماهيّة جواز أداء المأمور به فورا وتراخيا أخذا بموجب إطلاق اللفظ ، المعتضد بجملة من الاصول المتقدّمة كما لا يخفى.

ويشكل الفرق بينه وبين القول بجواز التراخي حينئذ في تلك الثمرة لترتّبها عليهما معا كما لا يخفى.

ويمكن الفرق بينهما بوجود ما يقضي من الخارج بإرادة الفور ، فعلى الماهيّة لا معارض له لكون الإطلاق القاضي بجواز التراخي من باب السكوت في معرض البيان فلا يعارض البيان ، وعلى جواز التراخي يعارضه ظاهر الأمر لأنّه ظهور وضعيّ فلابدّ من المراجعة إلى المرجّحات.

وربّما يحكى (1) الفرق بينهما عن الحاجبي فيما لو أخّر الأداء عن زمان الفور فمات فجأة أو فاجاه العذر القاضي بعدم تمكّنه عن الإتيان به ، فعلى القول بالتراخي لا عقاب عليه لترتّب الترك حينئذ على إذن الآمر ، بخلافه على القول بالماهيّة فيستحقّ العقوبة لتفويته المأمور به عملا ، وإن كان ذلك من جهة ظنّه بتمكّن الأداء في الآخر ، فإنّ ذلك الظنّ إنّما يثمر مع أداء الواجب وأمّا مع عدمه فهو تارك للمأمور به ، وقضيّة وجوبه استحقاق العقاب بتركه.

وأورد عليه : بأنّ جواز التأخير حينئذ وإن كان بحكم العقل إلاّ أنّه يطابق حكم الشرع فيثبت جواز التأخير في الشرع أيضا ، فلا فرق بين الوجهين حينئذ إلاّ في كون جواز التأخير شرعا بلسان الشرع أو العقل ، وهو لا يوجب فرقا في الحكم بعد قيام العقل دليلا على الشرع.

أقول : والّذي يترجّح في نظري القاصر ، أنّ تجويز التأخير سواء كان من مدلول اللفظ

ص: 228


1- حكاه في الهداية ( منه ).

أو من مقتضى العقل لا يثمر في عدم استحقاق العقاب بالترك ، وإنّما يثمر بعدم العقاب على التأخير ، وأمّا الترك بعد التأخير فهو موجب للعقاب لعدم ثبوت جواز على الإطلاق بشيء من العقل واللفظ ، بل غايته الجواز إلى ظنّ الفوات.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وعلى الثاني : فلتقيّد إطلاق اللفظ على فرضه بضرورة العقل.

فقضيّة ذلك ترتّب استحقاق العقوبة لو فاته بعد التأخير عن ظنّ الفوات ، كيف وخروج الواجب عن الوجوب غير معقول إلاّ في مواضع الامتثال أو قيام المسقط والمقام خال عنهما ، ولا يلزم ذلك لو فاته لا مع ظنّ الفوات سواء فيه ظنّ الأداء وعدمه ، لعدم استناده حينئذ إلى العصيان الموجب للاستحقاق ، بل إلى مفاجاة العذر الذي هو بنفسه من المسقطات الرافعة للأمر والوجوب ، نظير السهو والنسيان وغيرهما الرافعة لهما فلا وجه لما ذكر من الفرق ، كما لا وجه لفرق آخر مذكور في المقام وهو أنّه على القول بالتراخي يجوز التأخير ما لم يظنّ الفوات به ، وأمّا على القول بالطبيعة فإنّما يجوز التأخير مع الظنّ بتمكّن الأداء ، وأمّا مع الشكّ فيه فلا ، إذ المفروض إيجاب الطبيعة ، فإذا حصل الشكّ في فراغ الذمّة مع التأخير لم يجز الإقدام عليه ، لوجوب تحصيل الفراغ عند حصول الاشتغال ، فلا يجوز له إلاّ الاشتغال به ، إذ لا أقلّ في حكم العقل بجواز التأخير من الظنّ بأداء الواجب معه ، فإنّ وجوب تحصيل الفراغ مع حصول الاشتغال لا ينافيه التأخير لإمكانه معه أيضا إذا لم يتطرّق عليه العذر ، ولو اتّفق الفوات حينئذ فهو مرفوع الحكم بوجود المسقط بقضاء من العقل ، ومعه لا يتصوّر قضاؤه باعتبار الظنّ بالتمكّن في التأخير ، فمجرّد احتمال تطرّقه غير كاف في كون المقام من مجاري القاعدة ، وإلاّ لكانت مطرّدة حتّى في صورة الظنّ بالتمكّن ، ضرورة أنّ مجرّد رجحان احتمال التمكّن لا يوجب عدم اقتضاء حصول الاشتغال وجوب تحصيل الفراغ ، فإنّه حكم عقلي سار في جميع الصور ، غاية الأمر أنّه قد يتّسع زمان تحصيل الفراغ بحكم العقل أو اللفظ ، فإذا كان العقل يحكم بالتوسعة مع ظنّ التمكّن فكذلك يحكم بها مع عدم الظنّ بعدم التمكّن من غير وجود فارق بينهما في نظر العقل كما لا يخفى.

وثمرة القول بالفور ظاهرة في جميع محتملاته ، كظهور ثمرة القول بالتراخي بكلّ احتماليه ، كما أنّ ثمرة القول بالاشتراك اللفظي ظاهرة ، فإنّه مع قيام القرينة الكاشفة عن

ص: 229

وذهب جماعة ، منهم المحقّق أبو القاسم ابن سعيد ، والعلاّمة - رحمهما اللّه تعالى - إلى أنّه لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، بل على مطلق الفعل ، وأيّهما حصل كان مجزيا. وهذا هو الأقوى.

لنا : نظير ما تقدّم في التكرار * ، من أنّ مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل ،

__________________

المراد يبنى على مقتضاها فلا يخلو حاله عن ثمرتي الفور والتراخي.

وأمّا مع فقدها فلا مقرّ له من التوقّف في مقام الاجتهاد والأخذ بمقتضى الأصول العمليّة الّتي تقدّم تقريرها ، فإنّ حاله لا يخلو عن إحدى صور الدوران بين الفور والتراخي فيبنى على ما يساعده الأصل المقرّر في تلك الصورة.

وأمّا القول بالوقف فثمرته كثمرة القول بالاشتراك مع فقد البيان إن كان وقفا بين الفور والتراخي ، وإلاّ فإن كان وقفا بين الفور والماهيّة فثمرته كثمرة الفور والتراخي باحتماله الأوّل عند دوران الأمر بينهما ، وإن كان وقفا بين التكرار والماهيّة فلا ثمرة له إلاّ ما أشرنا إليه ممّا يظهر في مقام وجود ما يقضي بخلاف مقتضى اللفظ من إرادة الفور كما لا يخفى.

* وبالتأمّل فيما قرّرناه في شرح كلامه في الاستدلال على مختاره في بحث التكرار تعرف مفاد الاستدلال هنا ، مع فائدة قوله : « والفور والتراخي خارجان عنها » ومحصّله : أنّه استدلال بالتبادر وهو في محلّه ، فإنّه لا يشكّ أحد ممّن تأمّل في طريقة العرف والاستعمالات الجارية على لسانهم في أنّ صيغة « افعل » لو خلّيت وطبعها لا ينساق عنها إلاّ طلب ماهيّة الفعل المعرّاة عن الخصوصيّات المتعاورة عليها حسبما يقتضيه المقامات ، وأنّ الفور أو التراخي لا ينساق إلاّ بملاحظة امور خارجة عنها من مجاري العادات وغيرها من القرائن العامّة أو الخاصّة ، فلذلك ترى العرف كافّة لا يلتزمون في جلّ الأوامر بشيء من الفور والتراخي.

ومن هنا يتّفق الإختلاف في الإتيان بشيء واحد امتثالا عند تكرّر الأمر به ، فتارة يؤتى به فورا ، واخرى يؤتى به فيما بعد زمان الفور بفاصل قليل ، وثالثة في أواسط زمان التراخي ، ورابعة في أواخره ، وهكذا من غير ترتّب ذمّ ولا استحقاق عقاب ولا مخالفة غرض في شيء من تلك الإتيانات ، وليس ذلك إلاّ لصلاحيّة المدلول جميع تلك الوجوه ، فإنّ الفور أمر منضبط لا يقبل تلك الاختلافات ، والتراخي أمر خارج لا يلاحظ في شيء

ص: 230

من الجهات حتّى يستند إليه الاختلاف في الإتيانات.

وأقوى شواهد المقام ترديد كلّ من ألقى إليه الصيغة من الخواصّ والعوامّ في الالتزام بالفور أو التراخي مع القرائن وخصوصيّات المقام من مجاري العادات وغيرها ، فإن وجد ما يقضي بكون المقام من مواضع الفور أثّر في الالتزام به فيؤتى بالمأمور به فورا ، وإن وجد ما يشهد بأنّه من محالّ التراخي أثّر في عدم تجويز المبادرة فيؤتى به تراخيا ، وإن فقد كلّ من ذلك أثّر في عدم الالتزام بشيء فيؤتى به حيثما اتّفق ، وليس ذلك إلاّ من جهة عدم مدخليّة شيء منهما في مفهوم الصيغة وإلاّ لما حصل الافتقار إلى النظر في الامور الخارجة عنها كما لا يخفى.

مع أنّ البناء مستقرّ على التصريح بما يفيد إرادة الفور أو التراخي في مظانّ إرادتهما ، كما يقال بعد الأمر : « عجّل » أو « اريده معجّلا » أو « أسرع » أو غيره ممّا يؤدّي مؤدّى الفور.

أو يقال : « أخّر الإتيان » أو « ما اريده معجّلا » أو « لا تسرع » ونحو ذلك ممّا يفيد مفاد التراخي ، فلو لا الصيغة قاصرة عن إفادتهما لما حصل الاحتياج إلى ما ذكر.

واحتمال إرادة التأكيد ، يدفعه : فهم التأسيس والتنبّه على ما لا أفادته الصيغة قبل التصريح بذلك ، مع أنّ الأصل فيما يتقيّد بالمتقابلين مع عدم انفهام تكرار ولا تناقض كونه بإزاء القدر الجامع بينهما والمقام من أفراد تلك القاعدة كما لا يخفى ، مضافا إلى ما استدلّ به من أنّ استعمال الصيغة في القدر المشترك ثابت ، وفي كلّ من الخصوصيّتين غير ثابت وإنّما الثابت إطلاقه على المقيّد بهما ، وقضيّة الأصل كونه حقيقة فيما ثبت استعماله فيه ، فإنّها قاعدة مسلّمة عندنا وقد بسطنا الكلام في إقعادها عند البحث عن أمارات الوضع فارجع إليها.

وربّما يقرّر الوجه الأوّل (1) ممّا تمسّكنا به بأنّه : لو اقتضاه فإمّا أن يقتضيه لفظا أو معنى والتالي باطل بقسميه مطلقا.

أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان القسم الأوّل من التالي فلانتفائه بأقسامه الثلاث ، أمّا المطابقة والتضمّن فلأنّ المتبادر من الصيغة ليس إلاّ طلب الحقيقة والفور والتراخي خارجان عنه ، وأمّا الالتزام فلأنّه لا ملازمة بين طلب الفعل وبين إيقاعه فورا أو متراخيا لا عقلا ولا عرفا ، بدليل تقييده بكلّ منهما من غير تناقض - ولو في الظاهر - ولا تكرار - ولو على

ص: 231


1- كما في كلام بعض الفضلاء ( منه ).

والفور والتراخي خارجان عنها ، وأنّ الفور والتراخي من صفات الفعل ، فلا دلالة له عليهما.

أدلّة القول بالفور

حجّة القول بالفور امور ستّة * :

__________________

سبيل التأكيد - وأمّا انتفاؤه معنى فلبطلان ما تمسّك به الخصم وعدم ما يصلح له سواه.

وربّما يستدلّ أيضا : بأنّه لو كان موضوعا للقدر المشترك كان إطلاقه على كلّ من الفور والتراخي على الحقيقة من غير اشتراك ، ولو كان موضوعا لأحدهما أو كليهما لزم المجاز أو الاشتراك المخالفان للأصل كما في كلام بعض الفضلاء.

وبأنّ أهل اللغة قالوا لا فارق بين « تفعل » و « افعل » إلاّ أنّ الأوّل خبر والثاني انشاء ، وذلك يقتضي تساويهما فيما عدا ذلك لظهور كلامهم في انحصار الفرق ، ولمّا كان مدلول الأوّل إدخال الماهيّة في الوجود من غير فهم الفور والتراخي فكذلك مدلول الثاني - كما نقله بعض الأجلّة - وهما صالحان للتأييد كما لا يخفى.

وأمّا الاستدلال باستعماله فيهما شرعا كالحجّ والصوم والطهارة والصلاة وتقييده بهما والأصل يقتضي وضعه للقدر المشترك بينهما ، ففساده واضح.

* حكى الاحتجاج على الفور بوجوه كثيرة ، منها : الوجوه الستّ الّتي نقلها المصنّف.

منها : ما نقلها بعض الأعاظم زيادة عليها من قول النحاة : بأنّ الأمر للحال.

والاحتياط لخوف عروض التعذّر أو التعسّر.

ووجوب اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع فيجب الفعل قياسا ، لأنّه أحد موجبي الأمر ، والجامع تحصيل مصلحة المسارعة إلى الامتثال ، بل فوريّة الفعل أولى لأنّ الأمر يتناوله دون الآخر.

والنبوي صلى اللّه عليه وآله « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ».

ولأنّه لو جاز التأخير لجاز إلى بدل أو لا إلى بدل وكلاهما باطل ، فإنّ الأوّل مفقود ، فإنّ البدل ما يلزم من وجوده سقوط المبدل وهو غير متحقّق هنا إجماعا ، والثاني يستلزم رفع وجوبه وفساده ظاهر.

ولخرج الواجب عن كونه واجبا.

ولجاز إلى بدل ، فإنّه لولاه لما افترق من الندب مع أنّ الأمر لا يدلّ عليه.

ص: 232

واُجيب عن الأوّل (1) بأنّ كلام النحاة معارض بما اشتهر بين الاصوليّين من كونه موضوعا للأعمّ مع كونهم أدقّ نظرا وأشدّ فحصا ، وممّا يشهد على وهنه عدم تشبّث الفحول به مع أنّهم استندوا له بامور واهية جدّا ، وتعلّقوا بما يمكن التعلّق به ولو كان ظاهر الفساد ، مع أنّ منهم من كان من فضلاء العربيّة ، ومع ذلك يحتمل إرادتهم تعلّق الخطاب في الحال وإن كان ممتدّا وثابتا بعده أيضا ، ولا يخفى ضعف ما عدا الأخير الّذي مطابق لما حقّقناه ، فهو الجواب الحاسم لمادّة الاحتجاج.

وعن الثاني (2) : بأنّ الاحتياط من الأدلّة العمليّة ولا ربط له بالوضع ، مع عدم لزومه في نحو المقام ، فإنّه لازم فيما شكّ في المكلّف به بعد ثبوت أصل التكليف لا في التكليف وهنا من قبيل الثاني ، فإنّ إطلاق الأمر يقتضي عدم التوقيت فيدفع احتمال المسارعة بالأصل ، مع أنّه معارض بمثله من لزوم التراخي ، إلاّ أنّه قال في النهاية : « من توقّف في الامتثال بالمسارعة خالف إجماع السلف ».

والأوّل والأخير حقّ متين والأوسط فاسد بالجزم واليقين ، فإنّه كلام لا يصلح ناقضا لما رامه المستدلّ ، لظهور عبارته في أنّ الموجب للاحتياط أمر خارج عن مجرّد احتمال التكليف بالفور ، فلا يرد عليه أنّه لا يجري في موضع الشكّ في التكليف ، مع أنّ له أن يدرجه في عنوان الشكّ في المكلّف به بإرجاعه إلى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، كما يقتضيه أحد محتملات الفور القاضي بكون الفوريّة شرطا في الصحّة.

والأولى أن يقال - في ردّ الاستدلال - : بأنّ الموجب للاحتياط إن كان تيقّن الاشتغال بالفعل المستدعي لوجوب اليقين بالامتثال ، فيدفعه : عدم توقّف ذلك على المبادرة والاستعجال ، لعدم منافاة التأخير لحصول الامتثال فيكون مخيّرا بينهما بحكم العقل الناشئ عن إطلاق اللفظ ، وإن كان خوف الفوات بالتعذّر أو التعسّر عند التأخير - كما هو عبارة الدليل - فيجب الفور احتياطا من باب وجوب دفع احتمال الضرر.

ففيه : أنّ الاحتمال ما لم يكن عقلائيّا لا يجب دفعه جزما من العقل والعرف والعادة وإلاّ لتضيّق جميع الموسّعات وانسدّ أبواب جميع المعايشات ، وما ذكر من الخوف احتمال لا يعتني به العقلاء أصلا ما لم يبلغ حدّ الرجحان ، كما يظهر بملاحظة طريقتهم في مطلقات الأوامر العرفيّة.

وقد تقدّم في تقرير الدليل على المختار الإشارة إلى بعض ما يشهد بذلك.

ص: 233


1- والمراد به قول النحاة : « بأنّ الأمر للحال ».
2- أي قوله : « والاحتياط لخوف عروض التعذّر أو التعسّر ».

والجواب عن الثالث (1) : أنّ القياس لا تعويل عليه ولا سيّما مع الفارق ، فإنّ وجوب اعتقاد الوجوب إنّما هو لوجوب تصديق ما أتى به النبيّ ، ووجوبه فورا ضروريّ عند الأبرار للارتفاع عن حضيض الجحود والإنكار ، وليس كذلك الأمر في الفعل ، فإنّ تأخيره لا يوجب كفرا ولا إثما.

وعن الرابع (2) : عدم صلوحه شاهدا على الوضع كما هو المطلوب ، مع ضعفه سندا وقصوره دلالة من جهة ابتنائها على كون لفظة « إذا » للتوقيت المستلزم لخروج كلمة « الفاء » للتعقيب بلا تراخ ، وهو في حيّز المنع لجواز كونها شرطيّة قاضية بكون « الفاء » جزائيّة خارجة عن الدلالة على نفي التراخي.

ولو سلّم فوفاؤها بتمام المطلوب مبنيّ على كونها من أدوات العموم وهو خلاف التحقيق ، بل الثابت المحقّق كونها من أدوات الإهمال على ما يساعده قواعد العرف والاستعمال ، فلا تفيد إلاّ قضيّة جزئيّة.

ولو قيل : إنّ المطلوب إنّما يتمّ على تقدير إفادتها التكرار - كما تقدّم الاستدلال بها عليه - وهو يستلزم الفور.

لقلنا : بمثل ما ذكر من أنّها لا تفيد إلاّ الإهمال ، مضافا إلى ما سبق من منع الدلالة على التكرار أيضا.

وعن الخامس (3) : أنّه أيضا لا يفيد الوضع للفور بل غايته نهوضه قرينة لإفهام المراد ، مضافا إلى كونه فاسد الوضع ، فإنّ التأخير بلا بدل جائز بحكم العقل والشرع ، والواجب إنّما يخرج عن كونه واجبا بالترك لا مع العذر رأسا ، والتأخير الّذي يلحقه الفعل ليس منه.

وبذلك يظهر الجواب عن السادس (4) والسابع (5) مع انتفاء الفرق لو لم يعتبر قيام البدل في تأخير الواجب بينه وبين المندوب ، فإنّ امتياز الندب عن الوجوب بجواز الترك عن رأس كاف في الفرق بينهما ومعه لا حاجة إلى فرق آخر ، فلا ضير في اشتراكهما في جواز التأخير لا إلى بدل.

ص: 234


1- أي قوله : « ووجوب اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع الخ ».
2- أي قوله : « والنبويّ : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ».
3- أي قوله : « وكأنّه لو جاز التأخير لجاز إلى بدل أو لا إلى بدل الخ ».
4- أي قوله : « ولخرج الواجب عن كونه واجبا ».
5- أي قوله : « ولجاز إلى بدل الخ ».

الأوّل : أنّ السيّد إذا قال لعبده : اسقني * ؛ فأخّر العبد السقي من غير عذر ، عدّ عاصيا ، وذلك معلوم من العرف. ولو لا إفادته الفور ، لم يعدّ عاصيا.

وأجيب عنه : بأنّ ذلك إنّما يفهم بالقرينة ؛ لأنّ العادة قاضية بأنّ طلب السّقي إنّما يكون عند الحاجة إليه عاجلا ** ، ومحلّ النزاع ما تكون الصيغة فيه مجرّدة.

الثاني : أنّه تعالى ذمّ إبليس لعنه اللّه ، على ترك السجود لآدم عليه السلام ، بقوله

__________________

* وربّما يضاف إلى الوجه المذكور في تقرير التبادر ما عن السكّاكي من أنّه قال : « حقّ الأمر الفور ، لأنّه المتبادر الظاهر من الطلب عند الإطلاق كما في الاستفهام والنداء ، فلو أمر بالقيام بعد الأمر بالاضطجاع لكان المفهوم منه نسخ الأمر الأوّل ، ولو كان للماهيّة لما كان كذلك ».

والجواب عن الأوّل : ما ذكره المصنّف.

وأمّا عن الثاني فاجيب : بأنّ فهم النسخ - لو سلّم - لا يستلزم الفوريّة وهو ظاهر ، لأنّ الأمر الصادر عقيب أمر آخر مناقض له مع ظهوره في الدوام ، وتمكّن المكلّف من الامتثال بالأمر الأوّل ظاهر في كونه ناسخا للأوّل ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أو التراخي ، مع أنّه يمكن أن يقال : بعدم تحقّق النسخ في الواجبات الفوريّة المطلقة لأنّها - على التحقيق - يرجع إلى الموقّتات المضيّقة ، وبعد انقضاء الوقت لا يعقل النسخ ، وكذلك قبل انقضائه إذا كان وقت الفعل مساويا لأدائه كموضع النزاع على الفرض.

ولا يخفى وهن الوجه الثاني ، فإنّ كون المقام من قبيل الموقّت الّذي يفوت بفوات وقته فلا يعقل فيه النسخ إنّما يستقيم على الأوّل من معاني الفور المتقدّم ذكرها ، وأمّا على البواقي فالنسخ معقول جدّا.

وإنّما الحاسم لمادّة هذا الكلام هو الوجه الأوّل ، فإنّ فهم النسخ فيما ذكر من المثال لا ينافي شيئا من الماهيّة والتراخي ، بل هو فيهما أظهر منه على الفور ، لاحتمال كون الأمر الثاني على هذا التقدير لاحقا بالأمر الأوّل بعد فوات وقته ، نظرا إلى جواز كونه تقييديّا كما في الأوّل من معانيه.

** واورد عليه : بأنّ وجود القرينة - على فرض تسليمه - لا يكفي بمجرّده في

ص: 235

سبحانه : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) ولو لم يكن الأمر للفور لم يتوجّه عليه الذمّ ، ولكان له أن يقول : إنّك لم تأمرني بالبدار ، وسوف أسجد.

والجواب : أنّ الذمّ باعتبار كون الأمر مقيّدا بوقت معيّن * ولم يأت بالفعل فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى : ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) .

__________________

كون الفهم ناشئا عنها ، والحاسم للاستدلال ما لو استند الفهم والتبادر إلى ملاحظتها.

ويدفعه : قضاء الوجدان بأنّه لو لا ملاحظتها ولو إجمالا لما حصل التبادر ، فلذلك تراه في غير المثال المذكور مفقودا ، وإن شئت فانظر إلى قول السيّد وغيره : « أعط الفقير درهما » و « اشتر اللحم » ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

* قيل ذلك الوقت إمّا زمان التسوية بناء على أنّ « إذا » ظرف زمان للجزاء فيكون للتوقيت ، فيفيد أنّ الجزاء لابدّ من حصوله في ذلك الوقت ، أو زمان متآخم لزمان التسوية على ما يقتضيه « الفاء » فإنّها للتعقيب من غير تراخ ، فيدلّ على ترتّب الجزاء على الشرط من غير فصل.

واعترض : بأنّ الذمّ لو كان باعتبار مخالفة الأمر المقيّد وجب أن يذكر في مقام الذمّ ما هو مناطه وهو التقييد ، من غير أن يذمّ على مجرّد مخالفة الأمر كما هو ظاهر الآية.

واجيب : بأنّ قوله تعالى : ( إِذْ أَمَرْتُكَ ) (1) محتمل لوجهين :

الأوّل : حين صدور الأمر منّي.

والثاني : حين أمرت بايقاع الفعل فيه.

وعلى الأوّل يكون كلمة « إذ » ظرفا لنفس الأمر وعلى الثاني ظرفا للمأمور به ، والاستعمال بكلا قسميه شائع ورجحان أحدهما على الآخر ممنوع.

والاستدلال إنّما يستقيم لو كان المراد هو الأوّل ، وأمّا على الثاني فالمذكور في مقام الذمّ مخالفة الأمر المقيّد لا المطلق.

وربّما يجاب عن الاستدلال أيضا : بمنع ترتّب الذمّ على مجرّد التأخير بل على تركه

ص: 236


1- الأعراف : 12.

الثالث : أنّه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معيّن ، واللاّزم منتف. أمّا الملازمة ، فلأنّه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان اتفاقا ، ولا يستقيم ؛ لأنّه غير معلوم ، والجهل به يستلزم التكليف بالمحال ؛ إذ يجب على المكلّف حينئذ أن لا يؤخّر الفعل عن وقته ، مع أنّه لا يعلم ذلك الوقت الّذي كلّف بالمنع عن التأخير * عنه. وأمّا انتفاء اللاّزم فلأنّه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت ، ولا عليه دليل من خارج.

__________________

السجود وعدم عزمه عليه ، بل عزمه على الترك والمخالفة استكبارا وافتخارا ، كما يشهد به قوله تعالى حكاية عنه : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (1).

واجيب أيضا تارة : بأنّ الذمّ كما يحتمل أن يكون باعتبار ما ذكر ، كذا يحتمل أن يكون لرفعه عن امتثال الأمر واستكباره كما يشهد به قوله سبحانه : ( إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) (2).

واخرى : بمنع كون الاستفهام ذمّا ، وإنّما يتمّ ذلك لو كان للتوبيخ وهو غير متعيّن ، لجواز أن يكون تقريرا على الباعث ليقوم عليه الحجّة في الطرد والإبعاد.

وثالثة : بمنع كون الفوريّة قد استفيدت من الصيغة لجواز كونها قد استفيدت من قرينة حاليّة أو مقاليّة.

قيل : ولو دفع هذا الاحتمال بأصالة عدمها ، فعورض بأصالة عدمها أيضا في الأوامر الموسّعة كما ادّعاها الخصم فيها مع أنّها أغلب.

ويمكن الجواب أيضا : بأنّ التعبير بقوله تعالى : ( أَلاَّ تَسْجُدَ ) (3) دون « أن لا تبادر أو تسارع » ظاهر في تركه أصل السجود ، وهو يجامع الفور التقييدي والموقّت مع فوات وقته ، والموسّع مع العزم على المعصية فيكون أعمّ وهو لا ينهض دليلا على الأخصّ.

* وقد يقرّر تلك المقدّمة : بأنّه حيث يجب على المكلّف أن يؤخّر الفعل إلى وقت لا يعلمه والفرق بينهما واضح.

وما أورده المصنّف في دفع الاستدلال يستقيم على التقرير الثاني دون الأوّل كما ستعرفه.

ص: 237


1- الأعراف : 12.
2- البقرة : 34.
3- الأعراف : 12.

والجواب : من وجهين : أحدهما - النقض بما لو صرّح * بجواز التأخير ؛ إذ لا نزاع في إمكانه. وثانيهما - أنّه إنّما يلزم تكليف المحال لو كان التأخير متعيّنا ** ،

__________________

وربّما يقرّر الاستدلال - كما في الهداية (1) - : بأنّه لو لم يكن الأمر للفور لجاز التأخير ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّه لو جاز التأخير فإمّا أن يجوز إلى غاية معيّنة أو غير معيّنة ، أو يجوز التأخير دائما ، والوجوه الثلاث باطلة فالمقدّم مثلها ، والملازمة ظاهرة ، إذ جواز التأخير لا يخلو عن أحد الوجوه المذكورة.

ويدلّ على بطلان الأوّل : أنّه لا بيان في المقام وليس في نفس اللفظ ما يفيد تعيين الوقت ولا من الخارج ما يفيد ذلك ، ولو كان فهو خارج عن محلّ الكلام ، والثاني يستلزم التكليف بالمحال ، إذ مفاده المنع من تأخير الفعل عن وقت لا يعلمه المكلّف ، والثالث قاض بخروج الواجب عن كونه واجبا ، لجواز تركه إذن في كلّ زمان ، وما يجوز تركه كذلك فلا يجب فعله قطعا.

وها هنا تقرير ثالث احتمله بعض الفضلاء وهو : أنّه إذا أخّر المكلّف والحال هذه فصادف ما يوجب الفوات ، فلا يخلو إمّا أن يعاقب على ترك الواجب أو لا ، ولا سبيل إلى الأوّل لقبح العقاب على ترك المأمور به في وقت لا يعلمه أو مع الرخصة في التأخير ، ولا إلى الثاني للزوم خروج الواجب عن كونه واجبا ، إذ ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه هو المندوب.

(1) * وربّما يذكر النقض أيضا بالواجبات الموسّعة الممتدّة بامتداد العمر ، فإنّ ثبوتها في الجملة - ولو في النذر وشبهه - ليس ممّا ينكر وعلى تقديره يلزم الإشكال المذكور بعينه ، بل يتّجه النقض أيضا بالواجبات الموسّعة إلى وقت معيّن إذا صادف المكلّف في أثناء الوقت ما يوجب فواتها ، فيلزم فيه ما ذكر من لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا أو التكليف بالمحال ، فصار النقض على الاستدلال من وجوه ثلاث كلّ واحد يصلح جوابا على الاستقلال.

** قيل : بأنّه ما أجاب به العضدي تبعا للحاجبي فتبعهما المصنّف ، وعلى أيّ حال

ص: 238


1- وكأنّه أخذه عن التهذيب والمنية. ( منه ).

إذ يجب حينئذ تعريف الوقت الّذي يؤخّر إليه. وأمّا إذا كان ذلك جائزا فلا ، لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة ، فلا يلزم التكليف بالمحال.

__________________

كان فلا ريب أنّ جواز تأخير أداء المأمور به إلى آخر أزمنة الإمكان - المقابل لوجوبه فورا - إمّا أن يراد به الرخصة في التأخير إلى ذلك الوقت كما هو الظاهر المتبادر منه عند الإطلاق ، أو يراد به الجواز في ضمن الوجوب ، وعلى كلا التقديرين فلهذه القضيّة منطوق ومفهوم من باب مفهوم الغاية ، غير أنّ توهّم إشكال تكليف المحال في الأوّل إنّما يلزم في جانب المفهوم الّذي هو منع التأخير عن آخر أزمنة الإمكان ، ضرورة استلزام المفهوم رفع حكم المنطوق ورفع الجواز بالمعنى الأوّل إنّما هو المنع والتحريم ، ولمّا كان الموضوع في المفهوم مقيّدا وجهالة القيد تستلزم جهالة المقيّد فمن هنا ينشأ توهّم الإشكال من جهة أنّ منع المكلّف عمّا لا يعلمه تكليف له بالمحال على حسب الظاهر.

وفي الثاني إنّما يلزم في جانب المنطوق ، ضرورة أنّ التأخير الواجب مقيّد بغاية مجهولة ، وجهالة الغاية يوجب جهالة المغيّى ، فيكون من باب إلزام المكلّف على ما لا يعلمه وهو تكليف بالمحال.

وأمّا لزومه في جانب المفهوم حينئذ فيه وجهان مبنيّان على كون المراد بالمفهوم هاهنا رفع الإيجاب أو المنع.

وما ذكروه في دفع الاستدلال إنّما يجدي على التقدير الثاني ، وما قرّره المصنّف وغيره من الإشكال عند تقرير الاستدلال إنّما يقتضي ما يدفع الإشكال على التقدير الأوّل كما لا يخفى.

ولقد نبّهناك على تقرير آخر لبيان ذلك الإشكال واقع في كلام بعض الفضلاء ، فما ذكره الجماعة في الجواب إنّما يناسب هذا التقرير كما أشرنا إليه ، لا ما وقع في كلامهم.

وعلى كلّ تقدير فما ذكره المصنّف بقوله : « وأمّا إذا كان جائزا فلا ، لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة فلا يلزم التكليف بالمحال » ليس حصرا لطريق الامتثال في المبادرة حتّى يكون التزاما بضدّ المطلوب ، بل هو بيان لما هو لمّ المسألة ولبّ مفاد الصيغة.

ومحصّله : أنّ قضيّة إطلاق الصيغة الكاشف عن وقوع المأمور به على جميع الوجوه وصلوحه لجميع الجهات والفروض كون المكلّف بالنسبة إليه وإلى جميع جهاته ووجوهه مطلق العنان فله أن يبادر في الامتثال وله أن يؤخّر ، وفي تأخيره أيضا له أن يقلّ في

ص: 239

التأخير وأن يكثر فيه وليس عليه إثم في شيء من ذلك ، ولا بالنسبة إليه ضيق ولا حجر ، فإن بادر في الامتثال أتى بالفعل في أفضل أفراده ، وإن أخّر فيه فإن تيسّر له بعد ذلك وأتى به خرج عن عهدة التكليف وفرّغ ذمّته عن الاشتغال ، سواء سبقه العلم أو الظنّ بالتيسّر أو لا ، وإن أصابه ما يوجب فواته لا شيء عليه من إثم ولا عقاب ، سواء كان مع العلم أو الظنّ بالتيسّر فانكشف الخلاف أولا معهما ، غير أنّهما على التقدير الأوّل يؤكّدان عدم ترتّب الاثم والعقاب ، ولا يلزم من ذلك خروج الواجب عن كونه واجبا ، إمّا لأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه العقاب في الجملة ، وهو ما لو تركه لا إلى بدل ولا عن عذر ، والجهل بآخر أزمنة الإمكان يصلح عذرا كما لا يخفى ، والعلم والظنّ المفروضين في الصورة الاولى يؤكّدان ذلك الجهل ، أو لأنّ الموجب لاستحقاق العقاب في الواجب إنّما هو تركه على جهة العصيان والخروج عن طاعة السلطان ، كما أنّ الموجب له في الحرام إنّما هو فعل الحرام على تلك الجهة.

ومن البيّن انتفاء تلك الجهة في مفروض المقام.

نعم لو علم أو ظنّ بعدم التيسّر فاتّفقت المطابقة أثم بالتأخير واستحقّ العقاب بالترك ، لتحقّق ما هو مناط الاستحقاق بكلا وجهيه كما لا يخفى.

وإن اتّفق عدم المطابقة بمصادفة التيسّر بعدهما تعيّن عليه الفعل وخرج عن العهدة بأدائه وإن أثم بالتأخير ، أمّا الإثم فلمخالفته الحكم الظاهري وهو وجوب العمل بالعلم أو الظنّ حيثما حصلا بآخر أزمنة الإمكان الثابت بضرورة العقل وبناء العقلاء في الأوامر العرفيّة - بل الشرعيّة أيضا - وإجماع العلماء في خصوص الشرعيّة.

وأمّا الخروج عن العهدة فلعدم سقوط التكليف بمجرّد العلم أو الظنّ بعدم التيسّر ، لأنّهما في أمثال المقام ليسا بعين الواقع بل هما مرآة للواقع.

ومن البيّن أنّ الواقع لا يختلف بتخلّف المرآة عنه ولتفصيل أحكام صور المسألة موضع آخر يأتى إن شاء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ بهذا التحقيق يرفع الإشكال بحذافيره ، ولا يلزم التكليف بالمحال على تقدير جواز التأخير في شيء من صوره حتّى على التقدير الأوّل من تقرير الإشكال ، فإنّ المنع عن التأخير عن آخر أزمنة الإمكان إنّما هو مع العلم أو الظنّ بالآخر لا مطلقا ، والمحذور إنّما يلزم في صورة الجهل لا مطلقا.

ص: 240

فممّا قرّرنا تبيّن فساد ما لو اريد استناد الحكم بوجوب الفور إلى قاعدة وجوب الخروج عن العهدة يقينا فيما يحصل التكليف به يقينا كما سبق إلى بعض الأوهام ، فإنّ الاستناد بمثل ذلك مع وجود الإطلاق في لفظ الأمر الكاشف عن قابليّة المأمور به لجميع الوجوه كما ترى خروج عن قانون أهل العلم ، مع أنّه على تقدير جريانه لا يقضي إلاّ بالحكم الظاهري ومحلّ النزاع إنّما هو وجوب الفور في الواقع ، مع أنّ الشغل اليقيني إنّما يستدعي الفراغ اليقيني وأمّا وجوب تحصيله فورا فهو أمر آخر يحتاج إلى الدليل ، وأصل البراءة يدفعه لانتفاء الدليل عليه بخصوصه ، من غير فرق في ذلك بين فرض الفور قيدا للصحّة شرطا في المأمور به أو تكليفا آخر مستقلاّ برأسه ، كما هو المقرّر في محلّ آخر يأتي إن شاء ا.

فلا وجه لما قد يورد على عبارة المصنّف في دفع الإشكال من أنّه على هذا وإن لم يلزم التكليف بالمحال إلاّ أنّه إلتزام بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ، وإن لم يثبت كونه مدلول الصيغة لغة إذ جواز التأخير حينئذ مشروط بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة فينحصر الامتثال في المبادرة ، حتّى يضطرّ إلى الجواب عن الإشكال بما لا يساعده التحقيق المتقدّم المنطبق على جميع القواعد ، وهو جعل جواز التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان منوطا بظنّ المكلّف وهو غير مجهول له حتّى يلزم التكليف بالمحال ، فيستمرّ جواز التأخير باستمرار ظنّ المكلّف بقاء زمان الإمكان ويتضيّق عند ظنّه بعدم إمكانه بعد ذلك ، وليس الجواز مشروطا بآخر أزمنة الإمكان في الواقع حتّى لا يكون معلوما للمكلّف.

فإنّ ذلك لا يرفع الإشكال بتمامه ، بل هو بالنسبة إلى عمدة الصور وهو ما إذا انتفى العلم أو الظنّ بكلّ من الطرفين.

لا (1) لما اعترض عليه بعض المحقّقين بأنّ جواز التأخير غير مشروط بمعرفة ممتنعة ، بدعوى : أنّ العلم بالجواز مشروط بمعرفة ممتنعة ، واللازم منه عدم حصول العلم بالجواز لا عدم الجواز في الواقع ، وتوقّف الجواز على العلم به ممنوع ، إلى أن قال : « فعلى هذا لو أخّر المكلّف الفعل المكلّف به ثمّ تيسّر له فعله لم يكن آثما وإلاّ أثم (2) ولا امتناع في مثل هذا التكليف » فإنّه كلام قد وقع على خلاف التحقيق ، ضرورة أنّ إناطة الإثم وعدمه بتيسّر الفعل بعد التأخير وعدمه حتّى يلزم منه الإثم في صورتي العلم أو الظنّ ببقاء التيسّر

ص: 241


1- متعلّق بقوله : « فلا وجه لما قد يورد على عبارة المصنّف الخ ».
2- وفي بعض النسخ هكذا : « وإن لم يوفّق له أصلا أثم الخ ».

والجهل به لا توافق الاصول الشرعيّة ولا القواعد العدليّة ، ولا ينطبق عليها شيء ممّا مرّ في توجيه الاستحقاق للعقاب بترك الواجب المأخوذ في تعريفه.

بل لما أشرنا إليه من أنّ ما ذكره المصنّف وغيره في دفع الإشكال ليس حصرا لطريق الامتثال في المبادرة ، حتّى يرد عليه : أنّه التزام بوجوب الفور لتحصيل البراءة للذمّة في مقام العمل ، وإنّما هو أخذ بموجب إطلاق اللفظ ، ولا يكون جواز التأخير مشروطا بمعرفة لا يمكن تلك المعرفة كما توهّمه وإنّما هو مشروط بإطلاق الأمر وهو حاصل في المقام ، بل العلم بجواز التأخير أيضا غير مشروط بتلك المعرفة كما زعمه المعترض ، بل هو موقوف على التفطّن بذلك الإطلاق وثبوته.

بل لنا أن نقول : إنّ جواز التأخير عن زمان لا يتوقّف على عدم كونه آخر أزمنة الإمكان كما ذكره بعض الأعلام في توجيه كلام المعترض ، حيث نقل بالمعنى بعد إيراد كلام المورد كذلك ، بل هو موقوف على ما ذكر من الإطلاق.

غاية الأمر أنّ التأخير قد يتّفق في غير آخر أزمنة الإمكان ، وقد يتّفق في آخرها ، والجواز ثابت في الجميع حسبما فصّلناه في المقام.

وممّا قرّرنا ينقدح أيضا : أنّ ما ذكره ذلك الفاضل في آخر كلامه في توجيه كلام المعترض من أنّ الجواز في نفس الأمر لا يتوقّف على العلم بالجواز بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع على ما يقتضيه أصالة الإباحة ، ليس على ما ينبغي.

فإنّ التعويل على أصالة الإباحة في نفي المنع الشرعي إنّما يسوغ في موضع فقدان الدليل من إطلاق أو عموم أو نحوهما والمقام ليس منه ، مع أنّ الأصل المذكور لا يوجب إلاّ الجواز الظاهري ، وكلام القوم إنّما هو في الجواز بحسب الواقع.

ويرد على الاستدلال أيضا - على فرض صحّته - : كونه أخصّ من المدّعى ، إذ لا يقضي بثبوت الفوريّة إلاّ فيما إذا لم يكن المكلّف عالما بآخر أزمنة الإمكان ، وأمّا مع العلم به بالإلهام أو الإخبار من مخبر صادق وغيره فلا ، مع أنّ المدّعى إثبات الفور مطلقا بالنسبة إلى جميع آحاد المكلّفين ، إلاّ أن يتشبّث بعدم القول بالفصل ، فتأمّل (1).

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر نقول : بأنّ الوجه المذكور إنّما ينهض قرينة كاشفة عن

ص: 242


1- وجهه : إمكان القلب مع كون الإجماع تقييديّا من جهة أن الفوريّة في غير العالم حينئذ غيريّة وفي العالم نفسيّة كذا قيل فتأمّل. ( منه عفي عنه ).

الرابع : قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) فإنّ المراد بالمغفرة سببها ، وهو فعل المأمور به * ، لا حقيقتها ، لأنّها فعل اللّه سبحانه ، فيستحيل مسارعة العبد إليها ** ،

__________________

المراد ، فلا ينافي إطلاق الأمر بحسب الوضع ولا يصلح دليلا على الوضع جدّا ، فالمطلوب غير ثابت به وما ثبت غير مطلوب كما لا يخفى.

وبجميع ما ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير الآخر من الاستدلال المتقدّم ذكره ، بل عن التقرير الثالث المتقدّم ذكره عن بعض الفضلاء.

وأمّا ما عن بعضهم أيضا من الاستدلال على وجوب الفور بأنّ ظاهر تخصيص الزمان الأوّل بإلقاء صيغة الخطاب أنّه لا ميدان يتّسع لها وإلاّ أخّرها ، وأنّ الأزمنة متساوية في حسن الترك فيها مع عدمه فيلزم الاهمال ، وأنّ المريد للشيء يتأكّد داعيه ويكثر حرصه على المبادرة إليه قضاء لحقّ الحبّ وامتثالا لأمر سلطان الهوى ، وإنّ أكثر أفراد المطلق وأشهرها وأكملها وأظهرها إرادة المبادرة ، فلا ينبغي الالتفات إليه في شيء من وجوهه.

* ومحصّل الاستدلال : أنّ هيئة « سارعوا » تدلّ على الوجوب ومادّته على الفور والتعجيل ، والهيئة إذا عرضت للمادّة يكون مفاد المجموع وجوب الفور والمسارعة إلى المغفرة ، إلاّ أنّ المغفرة لمّا كانت فعل الربّ والمسارعة من فعل العبد ولا ارتباط بينهما فالقرينة العقليّة قائمة على عدم إرادة ظاهر الآية حذرا عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، فلابدّ من تأويل فيها بحمل المسارعة إلى المغفرة على المسارعة إلى سببها وهو فعل المأمور به من باب الإضمار ، بتقدير لفظ « السبب » مضافا إلى المغفرة ، أو التجوّز بإطلاق المسبّب على السبب وتسمية السبب باسم المسبّب.

وعلى كلّ تقدير يحصل من الآية كبرى كلّيّة منضمّة إلى صغرى نظريّة مستفادة ممّا دلّ على أنّ الطاعات أسباب لزوال الذنوب كما أنّ التوبة سبب له فيقال : فعل المأمور به سبب من أسباب المغفرة ، وكلّ سبب من أسباب المغفرة يجب المسارعة إليه ، فينتج بأنّ فعل المأمور به يجب المسارعة إليه ، وهو المطلوب.

** وقد يناقش في ذلك : بأنّ مجرّد كون المغفرة فعل اللّه لا يقضي بامتناع المسارعة إليها ، إذ لا مانع من المسارعة إلى فعل الغير بأن يجعل نفسه مشمولا لفعله ، كما تقول : « سارعوا إلى ضيافة السلطان وإلى إكرامه وإلى إنعامه » ونحوها.

ص: 243

وحينئذ فتجب المسارعة إلى فعل المأمور به *.

__________________

نعم يمتنع المسارعة إلى أداء فعل الغير ولا قاضي بأدائه في المقام ، وحينئذ يكون المسارعة إليه حاصلة بالمسارعة إلى أسباب شموله من غير أن يراد بالمغفرة سببها ، بل من جهة كون المقدور بالواسطة مقدورا للمكلّف.

فظهر بذلك أنّ الوجه المذكور ظاهر فيما هو المدّعى من غير التزام التجوّز في المغفرة.

وملخّص هذا : أنّ فعل الغير إذا كان له جهة تعلّق بغيره بأن يكون من الأفعال المتعدّية إلى الغير - كالأمثلة المذكورة - فالمسارعة إليه من تلك الجهة ممكنة ، وإن لم يمكن المسارعة إليه من جهة صدوره عنه ، فلا حاجة حينئذ إلى ارتكاب خلاف ظاهر في الآية.

وأنت خبير بأنّ أقصى ما يلزم من ذلك إنّما هو فساد العلّة المذكورة للتجوّز وأمّا أصل التجوّز فلا مناص عنه في المقام ، ضرورة أنّ المغفرة لا يمكن الوصول إليها إلاّ بأسبابها وفعل المأمور من جملة أسبابها ، فلابدّ من حمل المسارعة إليها على المسارعة إلى أسبابها.

غاية الأمر أنّ القرينة العقليّة تنقلب إلى القرينة الشرعيّة وهو ما يقضي من الشرع بأنّ المغفرة لا يستحقّها المكلّف إلاّ بأسبابها ، ومجرّد كون المقدور بالواسطة مقدورا له لا يمنع عن ارتكاب خلاف الظاهر ، كيف ولو لا ذلك لفسد الاستدلال رأسا ، ولا ينطبق الدليل على مطلوب المستدلّ لأنّه في صدد إثبات الوجوب الأصلي للفور كما هو المتنازع ، ووجوب المسارعة إلى فعل المأمور به على الوجه المذكور مقدّمي فيكون تبعيّا ، إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة إذا كانت من قبيل الأسباب فالأمر بالمسبّب أمر بها فيكون المستفاد أصليّا وإن كانت الاستفادة تبعيّة ، ويبقى الكلام حينئذ في خلوص ذلك عن التجوّز أو خلاف ظاهر آخر.

وبالجملة ارتكاب ما ذكر من خلاف الظاهر في الآية أقرب في نظر العرف في أمثال المقام ، فلا ينبغي منعه.

نعم فيه المناقشة بعد انحصار ذلك في التزام التجوّز ، لإمكان الإضمار حسبما قرّرناه في تقرير الاستدلال ، إلاّ أنّ الخطب في ذلك سهل.

* قد يتوهّم في المقام ابتناء الاستدلال بالآية على القول بالإحباط والتكفير ، وتفسير الأوّل بإبطال السيّئآت الحسنات بسبب ثمراتها الاخرويّة دون آثارها الدنيويّة من القضاء وغيره ، والثاني بإبطال الحسنات السيّئات ، ويقال : بأنّ ذلك مسألة خلافيّة والأقوال فيها ثلاثة :

أحدها : ما ذهب إليه العامّة من الحبط والتكفير مطلقا ، وقد ينسب إلى بعض أصحابنا

ص: 244

صاحب تفسير مجمع البيان.

وثانيها : النفي مطلقا ، وهو الحقّ المعروف من المذهب الموافق للأصل.

وثالثها : التفصيل ، فالإثبات في الثاني والنفي في الأوّل وهو أيضا للعامّة وقد ينسب إلى بعض علمائنا ، ويدّعى أنّ النزاع إنّما هو في الإيجاب الكلّي والسلب الجزئي ، فالمثبت مدّع للموجبة الكلّيّة والنافي يدّعي سلب هذا الكلّي لا كلّي السلب ، إذ الإيجاب الجزئي في كلّ منهما ممّا لا خلاف فيه ، لاتّفاقهم على أنّ التوبة مكفّرة للذنوب وكذلك غيرها من الطاعات في الجملة ، كما يشهد به قوله تعالى : ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (1) المفسّرة بالصلاة الخمس في النصّ.

وعلى أنّ الشرك موجب لحبط الأعمال كلّها ، مع ما يقال : من أنّ الندم عن الحسنة أيضا محبط لها وليس ببعيد.

ثمّ ينقل الاستدلال على التكفير بالآية المذكورة ، بتقريب : ظهور الجمع المحلّى باللام في العموم ، وعلى الإحباط بما ورد في قضيّة امّ إسماعيل زوجة الصادق عليه السلام وكان عليه السلام يمشي إلى الكعبة وكان في خدمته امّ إسماعيل وجاريته ، فنزل عليه السلام في منزل من المنازل وقارب مع جاريته فاطّلعت امّ إسماعيل فقطعت شعر رأس الجارية ، فسكت عليه السلام حتّى رجع إلى هذا المنزل ، فقال لامّ إسماعيل : هذا المنزل الّذي قد أحبط ا فيه عملك (2).

فيقال : إنّ ذلك خلاف التحقيق ويستدلّ بعد الأصل وبناء الطائفة بقوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (3) بتقريب : أنّ لها باعتبار المعنى احتمالات أربع :

الأوّل : من يعمل مثقال ذرّة خيرا يرى أجره في الآخرة وهو الثواب ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يرى أجره فيها وهو العقاب ، فيكون مفادها مفاد قوله صلى اللّه عليه وآله : إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (4).

والثاني : من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره في الدنيا لو كان كافرا حتّى يتمّ عليه الحجّة ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره في الدنيا لو كان مؤمنا حتّى لا يعاقب في الآخرة.

والثالث : من يعمل مثقال ذرّة خيرا أو شرّا يرى عمله مكتوبا في صحيفة أعماله ، فيسرّ إذا نظر إليها إن كان العمل خيرا ويغمّ إن كان شرّا.

ص: 245


1- هود : 114.
2- الوسائل 1 : 507 ، الباب 28 من أبواب الجنابة - ح 4.
3- الزلزلة : 7 و 8.
4- الوسائل 1 : 41 ، الباب 7 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 1.

والرابع : من يعمل مثقال ذرّة خيرا أو شرّا يرى عمله في الآخرة ، أي يصل إليه صورة عمله ، فلو كان قد أعطى دينارا يعطى دينارا ، ولو كان قد لطم اليتيم فيلطم وهكذا.

ولا ريب أنّ أظهر الاحتمالات عرفا وأقربها ذوقا واعتبارا هو الاحتمال الأوّل ، فعليه تكون الآية بفقرتيها منافية لكلّ من الإحباط والتكفير ، فترجّح على ما يدلّ عليها لموافقتها الأصل وبناء الطائفة وأقلّه الشهرة.

مضافا إلى قصور ما دلّ على التكفير دلالة ، لما أشرنا إليه من كون الحسنات في الآية مفسّرة بالفرائض اليوميّة بحكم النصّ ، فإنّه إن لم يصلح قرينة مستقلّة على إرادة العهد من « اللام » فلا أقلّ من ايجابه الوهن في الدلالة.

وضعف ما دلّ على الإحباط سندا ودلالة ، لاحتمال أن يراد من العمل فيها عملا خاصّا كالحجّ الّذي رجعت منه ، مع ملاحظة ما وقع من التشاجر في تعارض الخبر الواحد مع الكتاب مع موافقتها لمذهب العامّة.

ولو سلّم التكافؤ من جميع الجهات فغايته التساقط ، ومعه يرجع إلى الأصل السليم عن المعارض.

فيجاب عن الاستدلال بالآية على وجوب بمنع الصغرى ، نظرا إلى بطلان مبناها وهو القول بالإحباط والتكفير ، لأنّ ما بني على الباطل باطل.

وأنت خبير بما في هذا التحقيق من أوّله إلى آخره من وجوه الفساد ، فإنّ المنقول من مذهب العامّة في الحبط والتكفير غير ما فسّرا به هنا.

قال بعض الفضلاء : « الحبط والتكفير بالمعنى الّذي قال به بعض المعتزلة وقام النصّ والإجماع على بطلانه هو إذهاب كلّ من الحسنة والسيّئة على قدر ما لها من المرتبة ضعفا وقوّة للاخرى مع ذهابها قدر إذهابها ، وهو غير المغفرة الّتي هي عبارة عن تجاوزه تعالى عن ذنوب العبد تفضّلا عليه بسبب إقدامه على الطاعة من غير حبط شيء من أعماله ، وغير الحبط الّذي هو إذهاب بعض الذنوب لجميع الحسنات أو بعضها من غير أن يذهب بذلك شيء من الذنب كالكفر والحسد ، فإنّ هذا لا يعتريه أثر الشكّ لدلالة الكتاب والسنّة عليه ».

ومثله ما في الهداية ، وفي كلام بعض الأفاضل بعد تحقيق أنّ فعل المأمور به سبب للمغفرة قال : « وذلك أيضا غير مقالة القائلين بالحبط والتكفير ، فإنّهم يقولون بموازنة الحسنات والسيّئات في الدنيا ويثبت للعامل أو عليه الفضل بينهما ، فعلى هذا يكون ميزان الأعمال

ص: 246

في الدنيا دون الآخرة ، وهذا ليس بمرضيّ وسببيّة الطاعة للغفران لا دخل له بهذا المذهب ».

وفي المجمع (1) عن بعض المحقّقين - بعد نقل كلام له طويل - : « وبما قرّرناه يتبيّن أنّ الإحباط والموازنة باطلان ، وذلك الوعيديّة وهم الّذين لا يجوّزون العفو عن الكبيرة اختلفوا على قولين :

أحدهما : قول أبي عليّ ، وهو أنّ الاستحقاق الزائد يسقط الناقص ويبقى بكماله ، كما لو كان أحد الإستحقاقين خمسة والآخر عشرة ، فإنّ الخمسة تسقط وتبقى العشرة ويسمّى الإحباط.

وثانيهما : قول أبي هاشم ابنه ، وهو أن يسقط من الزائد ما قابل الناقص ويبقى الباقي ، ففي المثال المذكور يسقط خمسة ويبقى خمسة ويسمّى بالموازنة ، وقد أبطلهما المحقّقون من المتكلّمين بأنّ ذلك موقوف على بيان وجود الإضافات في الخارج كالاخوّة والبنوّة وعدمها ، فقال المتكلّمون بالعدم لأنّها لو كانت موجودة في الخارج - مع أنّه عرض مفتقر إلى محلّ - يكون لها إضافة إلى ذلك المحلّ ، فنقول فيهما كما قلنا في الأوّل ، ويلزم التسلسل وهو باطل ، ويلزم منه بطلانها في الخارج ، لأنّ ما بني على الباطل باطل ، وقول الحكماء بوجودها لا يلزم الوجود الخارجي بل الذهني ، وتحقيق البحث في محلّه ، ولو قيل ببطلان الإحباط والموازنة والقول بالتكفير من باب العفو والتفضّل لم يكن بعيدا وظواهر الأدلّة تؤيّده ».

وبما ذكر من العبارات تبيّن فساد توهّم الابتناء ، فلذا لم يذكره أحد من أصحابنا الاصوليّين ولا غيرهم القائلين ببطلان هذا المذهب بجعلهم بطلانه المستلزم لبطلان الإبتناء من عمدة أجوبة الاستدلال بالآية ، وإنّما هو مبنيّ على ثبوت التكفير بمعنى محو الذنوب الّذي منه الكفّارة - بمعنى التغطية - لأنّها تكفر الذنب عن الإنسان ، أي تمحوه وتستره وتغطّيه ويعبّر عنه في لسان الشرع ب- « المغفرة » الّتي ثبوتها في الجملة - بل في جلّ الذنوب - داخل في عداد الضروريّات والأدعية مشحونة بسؤالها ، والآيات مع ما تواتر من الأخبار ناطقة به ، قال تعالى : ( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (2) وقال أيضا ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (3) وقال أيضا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) (4).

ص: 247


1- مجمع البحرين : مادّة ( حبط ).
2- المائدة : 12.
3- البقرة : 271.
4- النساء : 31.

وفي بعض الروايات عن أبي جعفر عليه السلام « قال : كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل ا عزّ وجلّ إلاّ الدين ، فإنّه لا كفّارة له إلاّ أدائه ، أو يقضى صاحبه ، أو يعفو الّذي له الحقّ » (1).

وبالجملة ثبوت المغفرة بفعل الطاعة يقيني في الجملة لا إشكال فيه ، بل هو اتّفاقي لا خلاف فيه ، وكذلك الحبط بمعنى ذهاب الحسنات ببعض السيّئات من دون أن يذهب من السيّئة شيء ، فإنّ الشرك موجب لذلك إجماعا ولا يقدح فيه ظهور قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (2) لخروج الآيات الصريحة والأخبار المتواترة والإجماع الضروري مخصّصة ، فلا وجه لمنع الصغرى بالمرّة.

نعم يتّجه المنع عن كلّية هذه الدعوى - كما في كلام فحول الأجلّة - ومعه لا يتمّ الاستدلال ، ولا يجديه ضمّ عدم القول بالفصل لثبوت القول به جزما ، فإنّ من الأصحاب جماعة يخصّصون المكفّرية بالتوبة وغيرها من الطاعات في الجملة.

فما قيل : من أنّ الظاهر من سبب المغفرة هو التوبة لا فعل المأمور به فإنّه سبب للثواب لا للمغفرة ، فإن اريد به سلب العموم فمرحبا بالوفاق ، وإن اريد به عموم السلب فيكفي في ردّه ما أشرنا إليه من النصوص.

وربّما يورد أيضا : بمنع عموم الآية بالقياس إلى كلّ مأمور إذ ربّ مأمور لا ذنب له ، وأقلّ مراتبه من كان في أوّل بلوغه ، وليس في الآية ما يقضي بعموم الأسباب حتّى تفيد وجوب المسارعة في كلّ أمر يكون.

وقد يجاب عنه : بعدم القول بالفصل ، وقد يقال : بأنّه لو قرّر الاستدلال بقوله تعالى : ( وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (3) لاندفع الإشكالان معا ، لأنّ كلّ واجب سبب للدخول في الجنّة كما أنّ كلّ مأمور يصلح لذلك ، فيعمّ الآية جميع الأسباب وكلّ المأمورين.

وربّما يقال في دفع الإشكال الأوّل أيضا : بأنّ المغفرة في الآية نكرة قد وصفت بصفة جنسها وهو من موجبات العموم ، كما نصّوا عليه في قوله تعالى : ( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (4) فتشمل جميع الأسباب. وبه يندفع ما قيل أيضا : من أنّه لا يفيد إلاّ وجوب المسارعة إلى السبب في الجملة ، فإذا تعدّد الأسباب - كما في محلّ البحث نظرا

ص: 248


1- الوسائل 13 : 83 ، الباب 4 من أبواب الدين والقرض ، ح 1.
2- الزلزلة : 6 و 7.
3- الحديد : 21.
4- الأنعام : 38.

إلى أنّ أحد الأسباب فيه التوبة الّتي فوريّتها مجمع عليها - فلا يفيد إلاّ فوريّة أحدها ، وهو لا يستلزم المطلوب.

وفيه : منع أصل القاعدة أوّلا ، لعدم انحصار فائدة وصف النكرة بصفة الجنس في إفادة العموم ، بل قد تكون لغيرها كإفادة التعظيم والترغيب وغيرها ، ولعلّ المقام منه ، ومنع كون المقام من باب التوصيف بصفة الجنس ثانيا ، فإنّ المغفرة قد تكون من فعل غيره سبحانه كما قيل ، مع أنّه يلزم من إرادة العموم شمول الحكم لما لا يعقل فيه وجوب الفور كالمستحبّات ، ولما لا يجب فيه الفور إجماعا كالموسّعات الموقّتة وغيرها ، فلابدّ من حمل الأمر على الندب ليندفع به المحذور.

وحمله على القدر الجامع من باب عموم المجاز لدفع ذلك المحذور كما في « اغتسل للجمعة وللزيارة وللجنابة ولمسّ الميّت » وغير ذلك وإن كان صحيحا إلاّ أنّه مرجوح بالقياس إلى الندب ، لشيوع إطلاقه عليه شرعا - بل عرفا - بحيث بلغ في الشيوع حدّا زعمه المصنّف وغيره من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة.

ويؤيّده الذوق والاعتبار القاضيين بإرادة الندب والإرشاد في أمثال المقام ، كما في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (1) ولدفع المحذور وإن كان ارتكاب التخصيص مجديا إلاّ أنّه لا مسرح له في المقام ، لكونه بمرجوحيّة تخصيص الأكثر جدّا مرجوحا في مقابلة ما ذكر من التجوّز ، فلا يرد أنّه في مقام المعارضة مقدّم على المجاز كما قرّر في محلّه.

وبما ذكرنا ينقدح الجواب عن العموم لو اريد إثباته بدليل الحكمة ، التفاتا إلى أنّ سبب المغفرة لا يحمل على المعيّن حيث لا عهد ولا تعيين ، ولا على غيره لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، فيحمل على الجميع وهو المطلوب.

مضافا إلى أنّ قاعدة الحكمة إنّما تجري في موضع التواطي ، لأنّ من مقدّماتها إنتفاء العهد وفقدان ما يصلح للتعيين فمع التشكيك الموجب لظهور بعض الأفراد لا مجرى لها ، لصلوح الظهور في البعض لكون معيّنا ، فلذلك تراهم ينزّلون المطلقات المشكّكة على أفرادها الشائعة ، والمقام منه ضرورة كون التوبة أظهر الأفراد وأشيعها مع كون سببيّتها للمغفرة وفوريّتها مجمعا عليهما ، فتحمل الآية عليها من دون افتقار إلى إحراز العموم المستلزم لمحاذير اُخر.

ص: 249


1- النساء : 59.

وقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) فإنّ فعل المأمور به من الخيرات ؛ فيجب الاستباق إليه *. وإنّما يتحقّق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور.

__________________

وأمّا ما يقال أيضا - في دفع الاستدلال بتلك الآية والآية الآتية - تارة : بأنّ ظاهرهما معارض بظاهر الأوامر المطلقة ، فإنّها بإطلاقها تدلّ على التوسعة فتقدّم على الآيتين ، لكون كلّ واحدة أخصّ من كلّ واحدة ، والخاصّ مقدّم في مقام المعارضة على العامّ.

واخرى : بأنّ الأمر إن كان للفور يلزم أن يكون الآية - بناء على دلالتها على الفور - تأكيدا ، وإن كان للماهيّة يلزم التأسيس ، ولا ريب في تقدّم التأسيس على التأكيد.

وثالثة : بأنّ الآيتين لو سلّم ظهورهما في الوجوب فهو ظهور ، وما ذكرنا من التبادر وغيره في الماهيّة في الأوامر المطلقة ظهور ، ولا ريب أنّ هذا أقوى منه فيحمل الآيتان على الأستحباب ، فكلّها مدخولة لا ينبغي الالتفات إليها.

نعم يرد عليهما : أنّه لو اريد بهما إثبات الوضع لغة أو شرعا فهما قاصرتان عن إفادته ، بل ربّما قيل : بأنّ فيهما إشعارا بعدم دلالته لغة على الفور وإلاّ لما احتاج إلى البيان ، وإن اريد ما وراء ذلك فليس من المتنازع فيه كما تقدّم ، وصرّح به غير واحد من الأجلّة.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر نقول : إنّهما على ما يساعده الانسباق العرفي والفهم الصافي كنايتان عن فعل الطاعات ، ومراد بهما الحثّ والتحريص على إكثارها وممارستها والمبالغة على الاعتبار بشأنها من غير نظر فيهما إلى فور ولا مبادرة ، وإن كان موضوعهما اللغوي هو المبادرة على ما نصّ عليه غير واحد من أهل اللغة ، كما يقال : « سارع إلى إصلاح أمرك ، أو إهلاك عدوّك » أي لا تقصر ولا تهمل.

* يرد عليه : كثير ممّا تقدّم ، مضافا إلى ما قيل : من أنّ مفاد الاستباق هو مسابقة البعض لآخر في أداء الخيرات والتسابق عليها ، دون مطلق الإسراع إلى الفعل ليراد منه الفور فلا يوافق المدّعى ، فلابدّ حينئذ من حملها على الندب ، إذ لا قائل بوجوب المسابقة على الطاعات على الوجه المذكور.

وأمّا ما قيل في الذبّ عنه : من أنّه لمّا كان ظاهر الآية الوجوب ولم يكن الاستباق على هذا الوجه واجبا قطعا ، فيصير ذلك قرينة على حمل الاستباق على مطلق المسارعة.

ففيه : أنّ الأمر في الندب أظهر عرفا من الاستباق في مطلق المسارعة ، فتعيّن المصير إليه جزماً.

ص: 250

واجيب : بأنّ ذلك محمول على أفضليّة المسارعة والاستباق ، لا على وجوبهما ، وإلاّ لوجب الفور ، فلا يتحقّق المسارعة والاستباق ؛ لأنّهما إنّما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق ، ألا ترى أنّه لا يقال لمن قيل له « صم غدا » فصام : « إنّه سارع إليه واستبق ». والحاصل : أنّ العرف قاض بأنّ الإتيان بالمأمور به في الوقت الّذي لا يجوز تأخيره عنه لا يسمّى مسارعة واستباقا ؛ فلابدّ من حمل الأمر في الآيتين على الندب ، وإلاّ لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادّة *.

__________________

* وتوضيح ذلك : أنّ الصيغة على تقدير إرادة الوجوب عنها مقتضية للتضييق ، والمادّة بشهادة العرف والاستعمال مقتضية للتوسعة ، وهما متنافيان وحمل الآيتين عليهما غير جائز ، فلابدّ من حملهما على الندب.

واورد عليه : بأنّ الأمر على تقدير كونه لوجوب الفور كان مفاده حصول العصيان والإثم بالتأخير لا عدم الصحّة في الزمان المتأخّر ، ومقتضى المسارعة ليس إلاّ الصحّة في الزمان المتأخّر لا عدم الإثم ، فلا منافاة بين المادّة والصيغة حينئذ ، لجواز الصحّة مع الإثم على التأخير كما في الحجّ ، فيكون معنى الآية : أنّ ما يصحّ فعله في الزمان المتأخّر يجب فعله على الفور.

وأوضح منه ما في كلام بعض الأفاضل : « من أنّ الزمان قد يؤخذ في الفعل على وجه لا يتصوّر الإتيان به في غير ذلك الزمان ، كما في « صم يوم الجمعة » نظرا إلى أنّه لا يعقل إيقاع ذلك الواجب في غير ذلك الزمان.

وقد يؤخذ شرطا لصحّته من غير أن يؤخذ جزء لمفهومه ، فيمكن تأخير الفعل عن ذلك الزمان إلاّ أنّه لا يتّصف حينئذ بالصحّة.

وقد يكون إيقاعه فيه واجبا موجبا لحرمة تأخيره عنه إلاّ أنّه لا يفوت الواجب بفواته ، فيكون نفس الفعل واجبا مطلقا [ وخصّ إيقاعه في ذلك الوقت واجبا ](1) وقد يكون على وجه الرجحان.

ص: 251


1- أضفناه من هداية المسترشدين.

وذلك ليس بجائز فتأمّل! *.

الخامس : أنّ كلّ مخبر كالقائل : « زيد قائم ، وعمرو عالم » وكلّ منشىء كالقائل : « هي طالق ، وأنت حرّ » إنّما يقصد الزمان الحاضر **. فكذلك الأمر ، إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

__________________

وقد لا يكون خصوص الزمان مأخوذا فيه فيتساوى نسبته إلى جميع الأزمنة ، وما لا يتصوّر فيه المسارعة والاستباق إنّما هو القسم الأوّل خاصّة ، وأمّا الأقسام الأربعة الباقية فلا مانع من صدق المسارعة بالنسبة إليها ».

فلا وجه لتوهّم التنافي حينئذ بين مقتضى الصيغة والمادّة ، إذ لا يلزم من دلالة الصيغة على وجوب الفور كون المأمور به من قبيل القسم الأوّل الّذي لا يتحقّق فيه المسارعة والاستباق.

ولو سلّم فإنّما يستقيم لو قلنا بدلالة نفس الأمر على وجوب الفور ، وأمّا إذا قلنا باستفادة الفور من الآيتين فأيّ منافاة تتحقّق بين مفادي الصيغة والمادّة ، إذ لو لا الأمر المذكور لصحّ تأخير الفعل وتعجيله بالنظر إلى الأمر المتعلّق به ، وإنّما يجب المسارعة والتعجيل من جهة الأمر المذكور ، فما يقتضيه المادّة هو جواز تأخير الفعل في نفسه مع قطع النظر عن إيجاب الفور بالأمر المذكور ، وما يقتضيه الصيغة هو المنع منه ولا منافاة بينهما.

والحاصل : أنّ هنا فرقا بين وجوب التعجيل مع قطع النظر عن الأمر بالتعجيل ووجوبه بهذا الأمر ، والمنافاة المدّعاة - لو تمّت - فإنّما تتمّ في الصورة [ الاولى ] خاصّة ، والقول باعتبار جواز التأخير مطلقا في صدق « المسارعة » ممنوع بل فاسد جدّا.

* ذكر وجهه في الحاشية : أنّ حمل « سارعوا » على الندب مجاز ، ويمكن أيضا أن يكون بمعنى « بادروا » ويكون دليلا على الفوريّة فيتعارض المجازان ، ولعلّ الأوّل راجح لأصالة عدم الفوريّة.

ويشكل ذلك : بعدم الفرق بين « سارعوا » و « بادروا » في ظاهر العرف بل هما مترادفان على ما يستفاد من أهل اللغة ، حيث [ فسر ] الأوّل غير واحد منهم بالثاني كما أشرنا إليه سابقا ، فلا مجاز هنا ليكون معارضا مع مجازيّة الأمر في الندب حتّى يراجع إلى المرجّح.

** ويرد عليه : أنّه إن اريد أنّ كلّ مخبر يقصد الزمان الحاضر لإيقاع النسبة واعتبار كونها حكاية عمّا هو في الواقع فهو أمر واضح لا خفاء فيه ، وفعل الأمر أيضا من هذا

ص: 252

وجوابه : أمّا أوّلا فبأنّه قياس في اللغة * ، لأنّك قست الأمر في إفادته

__________________

الباب حيث يقصد القائل فيه الزمان الحاضر لإيقاع الطلب كما سبق تحقيقه ، ولكنّه لا يجدي في إثبات المطلوب نفعا.

وإن اريد به قصد الزمان الحاضر لوقوع النسبة في الواقع وتحقّق الحدث فيه فهو في حيّز المنع ، كيف وهي محتملة لجميع الأزمنة ، كما أنّ الحدث بحسب الوقوع الخارجي قابل لكلّ واحد منها على سبيل البدليّة من أنّ من جملة الأخبار ما لا يقصد إلاّ المضيّ من الزمان ك- « زيد قام » و « عمرو علم » وما لا يقصد إلاّ الاستقبال من الزمان ك- « زيد يقوم » و « عمرو يعلم » والإنشاءآت من العقود والإيقاعات لا يقصد بها زمان أصلا - بناء على ما يساعده التحقيق - وإنّما يقصد بها إيجاد الأسباب ليترتّب عليها المسبّبات من دون اعتبار زمان فيها ، فإذا كان الأفراد المستقرأ فيها أو المقيس عليها في اختلاف الحكم بهذه المثابة مع عدم الغلبة في شيء منها فكيف يعلم حال المشكوك فيه ، وبم يلحق حتّى لا يلزم الترجيح من غير مرجّح ، أو اعتبار الحكم المخالف للأصل من غير دليل.

* أجاب به المصنّف تبعا للحاجبي والعضدي - على ما حكي عنهما - وفيه نظر بل واقع على خلاف التحقيق ، فإنّ المستدلّ إنّما رام بما قرّره التمسّك بالاستقراء بقرينة قوله : « فكذا الأمر إلحاقا له بالأعمّ الأغلب » ضرورة أنّ القياس لا يعتبر فيه غلبة ولا ينظر معه إلى الغالب كما هو معلوم عن حدّه المذكور في محلّه ، وإنّما ينظر فيه إلى الجامع بين الأصل والفرع والاستدلال خال عن التعرّض لذكره فهو قرينة اخرى على بطلان ما فهموه ، فلذا أطبق المحقّقون وفحول أئمّة الاصول على تخطئتهم والإيراد عليهم بما ذكر ، وهو طريق معهود إلى إثبات الأوضاع في جميع اللغات ولا سيّما في الأوضاع النوعيّة الثابتة في الألفاظ المفردة والمركبّة ، ولا سيّما المشتقّات اسميّة وفعليّة.

ومن هنا تبيّن فساد الجواب الآخر ، فإنّ إبداء الفارق إنّما يصلح ردّا على المستدلّ لو كان نظره إلى القياس ، ولقد عرفت بطلانه.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ أوّل ما يرد على الاستدلال أنّ الاستقراء وإن كان معتبرا في حدّ نفسه إلاّ أنّه في مقام المعارضة غير مقاوم للأدلّة المتقدّمة القاضية بالوضع للماهيّة من التبادر وغيره ، نظرا إلى أنّ اعتباره إنّما هو من باب الوصف الّذي لا يحصل مع وجود تلك الأدلّة إلاّ عنها.

ص: 253

والسرّ في ذلك أنّها في مقابلة الاستقراء بمنزلة الخاصّ في مقابلة العام لانحصار موردها في الواحد واشتراك الحكم في الاستقراء بين المتعدّد.

ومن الظاهر أنّ العام لا يعارض الخاصّ ، والظاهر لا يقدّم على النصّ لكون مناط الاعتبار في جانبهما دون ما يقابلهما.

وثاني ما يرد عليه : أنّ التمسّك بالاستقراء لا يستقيم إلاّ مع ثبوت الغلبة فيما يلحق به المشكوك فيه ممّا يستقرأ فيه ، كما هو معلوم من قضيّة أنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وهي منتفية فيما نحن فيه.

وتوضيح ذلك : أنّ مورد الشكّ إمّا فرد من صنف معلوم أو نوع معلوم أو جنس معلوم ، أو صنف من نوع معلوم أو جنس معلوم ، أو نوع من جنس معلوم ، وهو في كلّ من الصور إمّا سافل أو متوسّط أو عال ، فإن كان فردا من صنف لابدّ من إلحاقه بما هو الغالب من أفراد ذلك الصنف إن كان ، وإلاّ فيما هو الغالب في أفراد النوع إن كان ، وإلاّ فيما هو الغالب في أفراد الجنس ، فإن كانت سافلا لابدّ من تحقّق الغلبة في أفراده وإلاّ ففي أفراد المتوسّط وإلاّ ففي أفراد العالي.

وإن كان صنفا من نوع لابدّ من إلحاقه بما هو الغالب في أصناف ذلك النوع ، وإلاّ فيما هو الغالب في أصناف جنسه في كلّ من مراتبه الثلاث.

وإن كان نوعا من جنس لابدّ من إلحاقه بما هو الغالب في أنواع ذلك الجنس في كلّ من مراتبه ، ولمّا كان محلّ البحث صيغة « افعل » الّتي يقال : فعل الأمر ، فهو صنف من المشتقّ الفعلي ، وهو نوع من المشتقّ المطلق ، وهو نوع إضافي للموضوع بالوضع النوعي ، وهو نوع إضافي للّفظ الموضوع ، فهو جنس عال لانقسامه إلى ما كان موضوعا بالوضع النوعي وما كان موضوعا بالوضع الشخصي ، والموضوع بالوضع النوعي جنس متوسّط لانقسامه إلى المفرد - وهو المشتقّ - والمركّب ، والمشتقّ جنس سافل لانقسامه إلى الفعلي والاسمي ، وكلّ منهما نوع حقيقي تحته أصناف لانقسام الأوّل إلى الماضي والمضارع والأمر ، وانقسام الثاني إلى اسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة والصفة المشبهة واسم التفضيل وصيغة المبالغة والمصدر أيضا في وجه قويّ.

ففعل الأمر إن لوحظ في أصناف النوع فلا غلبة في البين توجب الظنّ باللحوق ، لأنّ الماضي من تلك الأصناف مقطوع بعدم لحوقه به ، وأمّا المضارع وإن كان التحقيق عندنا

ص: 254

كونه حقيقة في الحال إلاّ أنّه صنف واحد فلا موجب للظنّ بلحوق الأمر به ، لجواز تجرّده عن الزمان أو اقترانه بالاستقبال.

وإن لوحظ في أصناف الجنس السافل فالغلبة في جانب خلاف المطلوب ، لأنّ أغلب الأصناف حينئذ المشتقّات الاسميّة وهي مجرّدة عن الزمان ، ولو سلّم انتفاء الغلبة فيها يبقى المقام بلا موجب للظنّ باللحوق ، لانقسام الأصناف حينئذ إلى ما كان مجرّدا عن الزمان وما كان حقيقة في الماضي وما كان حقيقة في الحال ، والإلحاق ببعض دون آخر ترجيح بلا مرجّح وهو باطل.

وإن لوحظ في أصناف الجنس المتوسّط فلا غلبة موجبة للإلحاق ، لأنّ من المركّبات ما كان من قبيل « زيد قائم » و « زيد إنسان » وما كان من قبيل « زيد قام » أو « قام زيد » وما كان من قبيل « زيد يقوم » أو « يقوم زيد » وما كان من قبيل « هي طالق » و « أنت حرّ » وما كان من قبيل « غلام زيد » و « رجل فاضل » و « في الدار » ومن المفردات ما كان من قبيل المشتقّات الاسميّة على اختلاف أصنافها وما كان من قبيل المشتقّات الفعليّة كذلك ، وهذه كما ترى أصناف متبائنة في الوصف ، لاختلافها بالتجرّد عن الزمان بالمرّة أو الدلالة على

الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال ، فحيث لا غلبة لا مفرّ من الوقف.

ولو سلّم الغلبة فهي في جانب التجرّد عن الزمان بالمرّة كما لا يخفى ، فالإلحاق به التزام بضدّ المطلوب ، ومثله الكلام إن لوحظ في أصناف الجنس العالي فإمّا لا غلبة في البين أصلا أو هي ثابتة في جانب الخلاف ، ومع ذلك لا معنى للاستقراء ولا وجه للتعويل عليه في المقام.

وثالث ما يرد عليه : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الزمان الحاضر الّذي يقصده كلّ مخبر على تسليم كونه الغالب - بناء على الغضّ عمّا ذكر - ظرف للإخبار وإيقاع النسبة واعتبار كونها حكاية بناء على ما يساعده التحقيق الموافق لفهم فحول المحقّقين ، وثبوت مثل هذا الزمان في فعل الأمر واضح بديهي لا حاجة إلى التشبّث بالاستقراء ، فإنّ كلّ آمر إنّما يقصد إنشاء الطلب في الزمان الحاضر فهو في فعل الأمر ظرف للإنشاء وقيد للطلب - على ما حقّقناه سابقا - ولا يلزم منه كونه ظرفا أو قيدا للمطلوب أيضا كما هو المدّعى ، فيبقى محلّ النزاع غير ثابت بذلك الوجه بل على إطلاقه الموجب لقبوله كلاّ من وصفي الفور والتراخي ، وقضيّة ذلك كون صيغة الأمر لطلب في الحال الحاضر للماهيّة المطلقة وهو المطلوب.

ص: 255

الفور على غيره من الخبر والإنشاء ، وبطلانه بخصوصه ظاهر. وأمّا ثانيا فبالفرق بينهما بأنّ الأمر لا يمكن توجّهه إلى الحال ، إذ الحاصل لا يطلب ، بل الاستقبال ، إمّا مطلقا ، وإمّا الأقرب إلى الحال الّذي هو عبارة عن الفور ، وكلاهما محتمل ؛ فلا يصار إلى الحمل على الثاني إلاّ لدليل.

السادس : أنّ النهي يفيد الفور ، فيفيده الأمر ؛ لأنّه طلب مثله. وأيضا الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، وهو يقتضي الفور بنحو ما مرّ في التكرار آنفا.

وجوابه : يعلم من الجواب السابق * ؛ فلا يحتاج إلى تقريره.

احتجّ السيّد رحمه اللّه بأنّ الأمر قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللّغة ويراد به الفور ، وقد يرد ويراد به التراخي. وظاهر استعمال اللّفظة في شيئين يقتضي أنّها حقيقة فيهما ومشتركة بينهما. وأيضا فإنّه يحسن بلا شبهة أن يستفهم المأمور - مع فقد العادات والأمارات - : هل اريد منه التعجيل أو التأخير؟

والاستفهام لا يحسن إلاّ مع الاحتمال في اللفظ.

__________________

* والظاهر أنّ المراد بالجواب السابق ما ذكره جوابا عن الوجه الخامس من أنّه قياس في اللغة وبطلانه بخصوصه ظاهر.

ويشكل : بأنّه يصلح جوابا عن الوجه الأوّل فيبقى الوجه الثاني بلا جواب يردّه ، ولو اريد بالجواب السابق ما تقدّم عن الوجهين في البحث السابق ارتفع هذه الحزازة ، غير أنّه خلاف ظاهر العبارة بالضرورة ، وكيف كان فيرد على الوجه الأوّل :

أوّلا : كونه قياسا في اللغة وهو باطل اتّفاقا منّا ومن جمهور العامّة.

وثانيا : كونه مع الفارق ، فإنّ النهي إنّما يقتضي الفور لكونه لطلب ترك الطبيعة الّذي لا يتحقّق إلاّ بدوام الترك المستلزم لفوريّة الترك ، نظرا إلى شمول الدوام لزمان الفور أيضا ، وانتفاء هذا المعنى في الأمر واضح من انتفاء الدوام في مدلوله كما سبق في البحث السابق.

مع أنّ الثابت في مدلول النهي إنّما هو وجوب الدوام في الترك وهذا المعنى كما ترى لا دخل له في وجوب الفور ، فإنّ بينهما بونا بعيدا إلاّ أن يقول المستدلّ بوجوب التكرار في

ص: 256

والجواب : أنّ الّذي يتبادر من إطلاق الأمر ليس إلاّ طلب الفعل *. وأمّا

__________________

الأمر أيضا ، فيرد عليه : ما تقدّم في أوائل المبحث من أنّ الفور الّذي يلزمه التكرار غير ما يقول به أصحاب القول بالفور.

مع أنّ الفور الّذي في مدلول النهي عبارة عن التزام الترك عن ثاني زمن الخطاب إلى ما شاء اللّه ، وهذا المعنى لا يكاد يراد من الفور في باب الأمر وإن تقدّم ذكره في جملة محتملاته لأدائه إلى التكليف بما لا يطاق في غالب الموارد كما لا يخفى ، فلذا فسّره جماعة من الفحول بالفور العرفي أو أوّل أزمنة الإمكان.

وبالجملة وجوه الفرق بين الأصل والفرع كثيرة ومعه لا يستقيم القياس ، مضافا إلى توجّه منع الحكم في الأصل أيضا ، فإنّ النهي على ما يقتضيه التحقيق وسيأتي في محلّه لا يدلّ إلاّ على طلب ترك الماهيّة.

غاية الأمر أنّه يستلزم دوام الترك المستلزم للفور فلا يكون دلالته على الفور بالوضع كما يدّعيه الخصم في الأمر ، فلو أراد إثبات نظيره في الأمر يردّه الخروج عن المتنازع فيه مع ابتنائه على كونه للتكرار وهو خلاف التحقيق كما تقدّم.

وعن الثاني : منع اقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه أوّلا إن اريد به الخاصّ ، ومنع إفادة هذا النهي للفور ثانيا إن اريد به العامّ ، بل هو تابع للأمر فإن فوريّا ففوريّ وإن مطلقا فمطلق ، ولو سلّم فيه فهو مدلول التزامي ومحلّ النزاع ما كان وضعيّا ، فالمطلوب غير ثابت والثابت غير مطلوب.

مضافا إلى أداء الاستدلال إلى الدور المصرّح من جهة [ توقّف ] كون الأمر للفور على إفادته النهي عن الضدّ الخاصّ ، والمفروض أنّها تتوقّف على كون الأمر للفور إذ الأمر الّذي يفيده إنّما هو الأمر المضيّق ، فلذا أطبقوا على تخصيص محلّ النزاع في بحث الأمر بالشيء بما لو كان الأمر مضيّقا والضدّ موسّعا ، كما سيأتي ذكره مفصّلا.

* محصّله يرجع إلى منع وقوع الاستعمال في كلّ منهما بقيد الخصوصيّة ليلزم منه الدلالة على الحقيقة فيهما ، بل غايته كونه من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، وسند المنع الّذي ينهض دليلا على هذه الدعوى إبداء تبادرين في المقام كما هو الشأن في كلّ كلّي يطلق على أفراده ، أحدهما : أوّلي يحصل بملاحظة اللفظ بنفسه بالنسبة إلى طلب الفعل من حيث هو ، والآخر : ثانويّ يحصل بملاحظة القرينة الخارجة بالنسبة إلى الخصوصيّتين.

ص: 257

الفور والتراخي فإنّهما يفهمان من لفظه بالقرينة. ويكفي في حسن الاستفهام كونه موضوعا للمعنى الأعمّ ، إذ قد يستفهم عن أفراد المتواطي * لشيوع

__________________

وتوضيح ذلك : أنّ اللفظ عند إطلاقه على الفرد لا يتبادر منه بمجرّد سماعه إلاّ معناه الحقيقي الّذي هو نفس الطبيعة ، ثمّ بملاحظة القرائن الخارجة عنه يحصل الانتقال للذهن إلى الفرد ، وإرادة الفور والتراخي من الأمر إنّما هو من هذا الباب لانفهامهما بعد انفهام طلب الماهيّة عن نفس اللفظ بملاحظة الخارج لا عن نفس اللفظ ، فلم يتحقّق له بالنسبة إليهما استعمال حتّى يكون دليلا على الحقيقة فيهما من باب الاشتراك اللفظي.

ودعوى : أنّ هذا المعنى لا يلائمه قوله : « فإنّهما يفهمان من لفظه بالقرينة » تعليلا : بأنّ المناسب على هذا أن يقول : « فإنّهما يفهمان من القرينة » كما في كلام المدقّق الشيرواني في مقام الاعتراض على بعض المحقّقين الحامل للعبارة على ما فهمناه بقوله : « حاصله : منع أنّ الأمر بمجرّده مستعمل في خصوص الفور والتراخي حتّى يقتضي كونه حقيقة فيهما ، بل مستعمل فيما هو أعمّ منهما والخصوصيّة يفهم من شيء آخر ممّا ينضمّ إلى الصيغة ».

يدفعها : أنّ حمل هذا الجزء من العبارة على المسامحة في التعبير أولى من حمل تمامها على ما يساعده الذوق ، بل يبعّده السليقة (1) من أنّ حاصلها : أنّ الاستعمال وإن دلّ على الحقيقة إلاّ أنّ التبادر الّذي هو أقوى منه يعارضه ، بدعوى : أنّ الاستعمال الّذي يدلّ على حقيقيّة المستعمل فيه إنّما هو الاستعمال الّذي لا يعلم كونه بسبب القرينة ومعونتها ، وهو فيما نحن فيه معلوم كونه بمعونة القرينة ، وأمّا مع عدمها فلكونه ممّا يتبادر منه المطلق دون الفور والتراخي لا يصحّ استعماله في أحدهما ، فقد سلّم المجيب استعمال اللفظ في كلّ منهما ومنع الدلالة للعلم بمدخليّة القرينة وتبادر غيرهما مع تجرّد اللفظ.

وأنت خبير بأنّ ذلك بعيد عن العبارة غاية البعد ، كيف وأنّ صحّة الاستعمال في الخصوص بلا قرينة لا إشكال فيها ، غايته لزوم التجوّز ووجود القرينة غير شرط في صحّته عند القوم ، فحمل عبارة المصنّف على دعوى : أنّ اللفظ مع عدم القرينة لا يصحّ في استعماله في أحدهما ليس ممّا ينبغي ، بل توجيه بما لا يرضى به المصنّف جزما.

* تعليل لما ادّعاه من حسن الاستفهام مع الوضع للمعنى الأعمّ ، فإنّ المتواطي إذا جاز

ص: 258


1- أي ويبعّد السليقة أن تكون محصّل مراد المجيب هكذا : الخ ، ولا يخفى أنّ ما ذكره بقوله : « وحاصلها أنّ الاستعمال الخ » مأخوذ أيضا من كلام المدقّق الشيرواني في الحاشية فلا تغفل.

التجوّز به عن أحدها ، فيقصد بالاستفهام رفع الاحتمال. ولهذا يحسن فيما نحن فيه أن يجاب بالتخيير بين الأمرين ، حيث يراد المفهوم من حيث هو ، من دون أن يكون فيه خروج عن مدلول اللفظ. ولو كان موضوعا لكلّ واحد منهما بخصوصه ، لكان في إرادة التخيير بينهما منه خروج عن ظاهر اللّفظ وارتكاب للتجوّز ، ومن المعلوم خلافه.

__________________

استعماله في كلّ واحد من أفراده ولو مجازا بحكم الضرورة والعرف والعادة فاحتمل عند المخاطب تعلّق الإرادة بخصوص بعضها مجازا ، وقد أخفى المتكلّم قرينة التجوّز لحكمة ، فيحسن له الاستفهام عقلا وعرفا لرفع ذلك الاحتمال والتفصّي عن الأخذ بما يخالف المراد ، بل هو موافق للاحتياط في مواضع التكليف فيحسن شرعا أيضا.

لا يقال : إذا علم المخاطب بوضع اللفظ للأعمّ يعلم لا محالة بحصول البراءة للذمّة بأداء أيّ فرد شاء ، ومعه لا حاجة له إلى الاستفهام بل ربّما يعدّ غير مستحسن ، فلابدّ أن يكون الاستفهام لنكتة ولا تكون إلاّ تردّد اللفظ وإجماله كما هو شأن المشتركات اللفظيّة ، لأنّ ما يقتضيه الوضع للأعمّ عند فقد القرينة إنّما هو التخيير والتجوّز بإرادة الفرد يوجب التعيين ، وبينهما فرق واضح من حيث الأحكام والآثار ، فقد تمسّ الحاجة إلى الاستفهام لقيام احتمال قصد التعيين بإرادة الفرد مجازا تخلّصا عن الخطأ والوقوع في الاشتباه.

وفي كلام بعض الأعاظم حكاية الاستدلال لهذا القول بالتقييد بأحدهما كأن يقول : « افعل الساعة » أو « متى شئت » وجوابه : أنّه غير مناف لما اخترناه ، بل هو في نظر العرف من أمارات التواطي فلذا احتجّ به موافقونا أيضا.

ثمّ إنّ القوم لم يتعرّضوا لذكر حجج القول بالتراخي إلاّ بعض الأعاظم فنقل له وجوها :

أوّلها : أنّ المطلق لا توقيت فيه فلو أراد به وقتا معيّنا لبيّنه ، فإذا فقدنا البيان علمنا أنّ الأوقات متساوية في إيقاعه.

وثانيها : أنّ قول القائل : « اضرب زيدا » إنّما يقتضي أمره له بأن يصير ضاربا من غير تعيين ، فليس بعض الأوقات أولى من اخر.

وثالثها : القياس بالخبر المنبئ عن الاستقبال ، فإذا قيل : « فلان سيفعل » لا ينبئ عن أقرب الأوقات ، فكذلك الأمر.

ص: 259

أدلّة القول بالوقف

ورابعها : أنّ الأمر يجري مجرى أن يقول : « هذا الفعل مراد متكلّم في المستقبل » أو « واجب عليكم » ومعلوم أنّه ليس في ذلك تعيين الوقت.

والجواب عن الأوّل : إنّ المطلق إذا كان وصفا للفور لا حاجة له إلى بيان الوقت اتّكالا على الوضع والعلم ، فلعلّ فقدان البيان من أجل ذلك فمن أين يحكم بتساوي الأوقات في إيقاعه ، مع أنّه لو استقام لقضى بكونه بإزاء الماهيّة فمن أين يعلم بدخول خصوص التراخي في الوضع واعتباره في نظر الواضع بخصوصه كما هو المدّعى ، ولو سلّم فهو أعمّ فكيف يؤخذ دليلا على الأخصّ ، ولو سلّم فإنّما يكشف عن الإرادة لا الوضع.

وعن الثاني : كونه مصادرة إلاّ أن يرجع إلى دعوى تبادر طلب الفعل وعدم تبادر الفور فيصير دليلا على المختار ، ولو سلّم أنّه لا يدلّ عليه فهو أعمّ فلا يصلح دليلا على الأخصّ.

وعن الثالث : كونه قياسا في اللغة وهو باطل بخصوصه ، وهو مع ذلك في المقام مع الفارق ، فإنّ الحكم في المقيس عليه إنّما هو بمعونة الخارج وهو حرف التنفيس المقرون باللفظة ، كيف ولولاه لدلّ على الحال - بناء على التحقيق - أو أقرب الاستقبال ، ولا ريب أنّ النزاع في دلالة الصيغة عند التجرّد فلذا يخصّص موضعه بالوضع ، وكونها مجرّدة نظير الخبر المنبئ عن الاستقبال أوّل الدعوى ، مع انتفاء الجامع بين الأصل والفرع فلا وجه للقياس من هذه الجهة ، ولو أراد التنظير لورد عليه الاستدلال من باب المصادرة.

وعن الرابع : منع دخول خصوص الاستقبال في مدلول الأمر وبدونه لا يتمّ الدليل ، على أنّه أيضا مصادرة ، مع أنّه لو تمّ واستقام لدلّ على تعيين التراخي وهو وإن حكي القول به إلاّ أنّه في حدّ نفسه ضعيف مخالف للعرف والاعتبار وإجماع العلماء الأبرار ، وقد تقدّم عن العلاّمة في النهاية - على ما حكي - دعوى أنّ من توقّف في الامتثال بالمبادرة خالف في ذلك إجماع السلف ، إلاّ أن يراد بالمستقبل ما يشمل زمان الفور أيضا بجعله أعمّ من القريب من حال النطق وبعيده ، ويؤيّده ذيل الدليل حيث قال : « ومعلوم أنّه ليس في ذلك تعيين الوقت ».

وحجّة المتوقّف لا يخلو من دعوى عدم الظهور بعدم دليل يوجبه ويرجّح بعض الأقوال على بعض ، أو اعتبار العلم في المقام الخالي لما يوجبه ، وأيّا ما كان فجوابه واضح.

فإنّ ما قدّمناه من التبادر وغيره كاف في إفادة الظهور ، وخصوص العلم غير معتبر في أمثال المقام ، مع إمكان دعوى كون التبادر ممّا يفيده كما لا يخفى على من لاحظ بناء العرف وموارد الاستعمالات جيّدا.

ص: 260

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ من جملة أقوال المسألة قول بالوضع (1) للفور شرعا وإن كان لمطلق طلب الطبيعة لغة ، حكاه بعض الأعاظم مع حكايته الاحتجاج له بإجماع السيّدين في الذريعة والغنية ، فأجاب عنه : بأنّه مردود لا لأنّ المسألة ما يطلب فيها العلم بل لوهنه بمخالفة المعظم ، مع أنّ الوجدان يحكم بأنّها ليست محلّ الإجماع ، ثمّ استعجب عن الفاضل التوني في استظهاره بعد نقل الإجماع عن الذريعة كون أخباره هنا مفيدا للقطع.

ثمّ قال : « ونزيد على بطلانه أنّ المطلوب ما يعمّ به البلوى جدّا مع عدم مانع من اشتهاره ، فلو كان كما ذكراه لشاع وذاع » انتهى.

وظاهر ما ذكر كون ذلك خيرة الفاضل التوني ، مع أنّ ما صرّح به بعض الأجلّة خلاف ذلك كما عرفت في نقل الأقوال ، حيث اسند إليه القول بقيام الدلالة الخارجيّة على إرادة الفور شرعا.

وكيف كان فحكى له الاحتجاج بأنّه : لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معيّن واللازم منتف ، أمّا الملازمة : فللزوم التكليف بما لا يطاق لولاه ، فإنّه يجب حينئذ أن لا يؤخّر الفعل عن وقته مع أنّه غير معلوم.

وأمّا انتفاء اللازم فلعدم إشعار في الأمر بتعيين الوقت.

وبإجماعي الذريعة والغنية.

والأمر بالمسارعة والاستباق.

وإنّ التأخير بما ينافي الفوريّة يعدّ في العرف تهاونا ومعصية فيكون حراما ، فيكون واجبا إذا كان الأمر ممّن يثبت وجوب امتثاله.

والجواب عن الأوّل والثالث : قد تقدّم في ردّ أدلّة القول بالفور.

وأمّا عن الثاني : فأجاب عنه بما مرّ في ردّ الاستدلال به على الوضع الشرعي ، وبأنّه ينافي ما ادّعاه المستدلّ لأنّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الأمر للفور ، وما بنى عليه هنا هو المبادرة في الأوامر ومغايرتهما في نهاية الوضوح ، وإنكار ظهور كلام المرتضى فيما ذكر من دعوى الحقيقة الشرعيّة ظاهر الفساد.

وعن الرابع : أجاب بأنّه مخالف للعرف لو أراد ثبوت التهاون بترك الفور كما أنّ غيره لا يجدي ، مع أنّ ذلك لو ثبت لدلّ على كونه موضوعا له وهو ظاهر ، مع أنّه لا يقول به.

ثمّ ذكر أنّ فروعه لا تحصى ، منها : جواز الاستيجار بعد الاستيجار المطلق بالصلاة

ص: 261


1- والظاهر أنّه مذهب الفاضل التوني. ( منه عفي عنه ).

ما يتفرّع على القول بالفور

فائدة *

إذا قلنا : بأنّ الأمر للفور ، ولم يأت المكلّف بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان ؛ فهل يجب عليه الإتيان به في الثاني أم لا؟ ذهب إلى كلّ فريق.

احتجّوا للأوّل : بأنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق * ، وذلك

__________________

ونحوها وعدمه ، والضمان على التأخير لو وكّله في بيع شيء ولو لقبضه فأخّر مع القدرة عليه فتلف ، ونحوه في الوصاية.

وأنت خبير بأنّ الكلّ محلّ نظر لا يخفى وجهه على المتأمّل.

* بعد الفراغ عن أصل المسألة ينبغي التنبيه على بعض ما يرتبط بها ، ويتفرّع على بعض أقوالها ، وهو أمران :

- أحدهما -

ما أشار إليه المصنّف من الخلاف المبنيّ على القول بأنّ الأمر للفور في أنّه هل يجب على المكلّف إذا لم يأت بالفعل في الوقت الأوّل أن يأتي به في الوقت الثاني وهكذا أم لا؟

والمعروف عندهم في محلّ الخلاف قولان ، صرّح به المصنّف ووافقه بعض الفضلاء ، وهو الظاهر عن بعض الأجلّة أيضا ، إلاّ أنّ بعض الأعاظم جعله رباعي الأقوال ، ثالثها : التفصيل بين أن يقول بدلالة الأمر عليه بنفسه فلا ، وأن يقول بدلالته لما دلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأوامر - كما في الآيتين - فنعم ، ورابعها : التوقّف ، وهو الأنسب فإنّ من الأصحاب من صرّح بالتفصيل المذكور كالمصنّف ووافقه على ذلك بعض الأعاظم ، ومنهم من يظهر منه الخلاف كالفاضلين لنقلهما الوجهين فيما يبنى عليه الخلاف من دون ترجيح شيء ، ومثلهما الفخر على ما حكاه بعض الأجلّة.

وأمّا القولان الأوّلان ، فالأوّل منهما محكيّ عن أبي بكر الرازي وأبي الحسين البصري والقاضي عبد الجبّار ، والثاني منهما عن الكرخي وأبي عبدا البصري على ما في كلام بعض الأفاضل.

* ويرد عليه : لو تمّ لدلّ على عدم وجوب الفور (1) رأسا ، وهو كما ترى.

ص: 262


1- لأنّ أصحاب القول به يدّعون أنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على سبيل الفور لا على سبيل الإطلاق ، فيكون الدليل منافيا لمذهب المستدلّ كما تنبّه عليه بعض الأفاضل. ( منه عفي عنه ).

يوجب استمرار الأمر. وللثاني : بأنّ قوله : إفعل يجري مجرى قوله : إفعل في الآن الثاني من الأمر * ، ولو صرّح بذلك ، لما وجب الإتيان به فيما بعد. هكذا نقل المحقّق والعلاّمة الاحتجاج ، ولم يرجّحا شيئا.

__________________

ويمكن دفعه : بأنّ المراد بالإطلاق ما يقابل التقييد بالفور الّذي يدّعيه أصحاب القول الثاني ، تعليلا بظهور الأمر في التقييد القاضي بارتفاع الحكم عند ارتفاع القيد كما هو من مقتضى القاعدة.

فصار حاصل الاستدلال - بناء على هذا التوجيه - : أنّ الأمر وإنّ دلّ على وجوب الفور ولكنّه لا يوجب خروج المأمور عن إطلاقه بحيث لم يكن له الإتيان بالمأمور به فيما بعد زمان الفور ، وذلك لأنّه لا يقتضي كون المأمور به مقيّدا بزمان الفور حتّى يلزم منه فواته بفوات الفور ، وإنّما يقتضي وجوب الفعل مع وجوب المبادرة إليه ، فإذا انتفى الثاني بقى الأوّل في كونه مطلوبا باقتضاء أصل الأمر.

نعم يمكن المناقشة فيه بكونه من باب المصادرة على المطلوب ، إلاّ أن يرجع قوله : « باقتضاء الأمر لإطلاق كون المأمور فاعلا » إلى دعوى تبادر الإطلاق من الأمر وليس ببعيد.

* ولا يخفى كون ذلك مصادرة ، إذ كون « افعل » جاريا مجرى « افعل في الآن الثاني » أوّل الكلام بل عين المتنازع فيه ، مع أنّ كونه من هذا الباب لا يقضي بالمطلوب لمنع الحكم في المثال ، بدعوى : كون الآن الثاني المصرّح به في العبارة مطلوبا برأسه للآمر لا قيدا للمأمور به حتّى لا يجب الإتيان به فيما بعده.

وبما قرّرنا مع ملاحظة ما قدّمنا تحقيقه من كون النزاع في وضع الصيغة يظهر ما هو منشأ للخلاف وهو الاشتباه في جهة جزئيّة الفور لما وضع له الصيغة على تقدير كونه جزءا كما يدّعيه القائل بالفور ، لجواز كون جزئيّته بعنوان كونه ممّا أخذه الواضع قيدا للطلب المأخوذ فيه أو للمطلوب المستلزم لئلاّ يتحقّق في المقام إلاّ طلب واحد مقيّد أو طلب واحد متعلّق بشيء مقيّد.

والفرق بين الوجهين اعتباري والمعنى واحد.

أو كونها بعنوان أنّه مطلوب آخر مستقلّ في حدّ نفسه مستلزم لأن يكون هناك طلبان متعلّق أحدهما بأصل الفعل الملحوظ مطلقا والآخر بإيجاده فورا ، بدعوى : وضع الصيغة

ص: 263

لنسبة الحدث إلى الفاعل من حيث كونه مطلوبا في نفسه مع مطلوبيّة المبادرة إلى إيجاده برأسه ، وهذا هو الظاهر من الأوامر عرفا حيثما يراد منها الفور.

ألا ترى أنّك إذا أمرت بالسقي ونحوه ممّا جرت العادة بإرادة الفور فيه فأنت قاصد للإتيان به والتعجيل في إتيانه ، بحيث لو لا أنّه عجّل فيه لما كنت معرضا عنه فاسخا لطلبك إيّاه ، وهو آية كون الفور مطلوبا آخر غير مأخوذ قيدا لما هو المطلوب الأصلي ، فبناء على ذلك لا يفرق بين كون دليل الفور نفس الصيغة أو أمر خارج عنها كالآيتين ونحوهما ، فإنّ الأمر الخارج لا يخلو كاشفا إمّا عن الوضع أو عن الإرادة ، فإذا كان اعتبار الفور في الأمر لا بعنوان القيديّة للطلب أو المطلوب لا يتفاوت الحال بين كونه مدلولا عليه بالصيغة أو بالخارج ، بل ولو كان اعتباره بهذا العنوان أيضا لا يتفاوت الحال بين الوجهين.

فمن هنا ينقدح ضعف ما تقدّم من التفصيل في المقام بنحو ما مرّ ، فلا وجه لما احتجّ به بعض الأعاظم على الطرف الأوّل من التفصيل بأنّ الظاهر من الأمر لو استعمل في الفور التقييد بأوّل الوقت فبرفع القيد يرتفع الحكم ، وعلى الطرف الثاني من أنّ الأمر اقتضى كون المأمور فاعلا على الإطلاق وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيّره موقّتا وإنّما اقتضى وجوب المبادرة ، فحيث يعصى بمخالفته يبقى مفاد الأوّل بحاله ، فإنّ ظهور الاستعمال في الفور في التقييد ممّا يكذّبه طريقة العرف في الأوامر الّتي يراد منها الفور كما عرفت في المثال.

فإنّ قضيّة ذلك عدم كون السقي بعد فوات زمان الفور مطلوبا للآمر وهو خلاف البديهة ، ولو سلّم فأيّ وجه دعا إلى الفرق بينه وبين ما لو ثبت الفور من الخارج ، فإنّ ما اقتضاه الأمر من الإطلاق إنّما كان ابتدائيّا ولا عبرة به لكون الدليل بعد قيامه ممّا كشف عن انتفاء الإطلاق في الواقع ، وتقيّد الطلب أو المطلوب بزمان الفور في إرادة المتكلّم نظير القرائن المنفصلة الموجبة لتقييد المطلقات الظاهرة بدونها في الإطلاق ، كما لو قال : « أعتق رقبة » ثمّ قال - بعد فاصلة زمان - : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرا ».

وأعجب من ذلك ما أفاده بعض الأجلّة في الاستدلال على ما اختاره من القول الثاني المصرّح بعدم الفرق في ذلك بين كون دليل الفوريّة هو الآيتان أو غيرهما ، من أنّ الأمر حينئذ يصير من قبيل الموقّت ولا فرق في الموقت بين أن يستفاد الوقت من نفس الخطاب أو من دليل خارج ، فإنّ قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) مطلق وقتها يستفاد من خطاب آخر ،

ص: 264


1- الأنعام : 72.

وبنى العلاّمة الخلاف على أنّ قول القائل : إفعل * ، هل معناه : إفعل في الوقت الثاني ، فإن عصيت ففي الثالث؟ ، وهكذا. أو معناه : إفعل في الزمن

__________________

فإذا انقضى أوّل أوقات الإمكان في كلّ شيء بحسبه فات الأمر فلا يبقى الخطاب ، ولا أقلّ من الشكّ في بقائه وعدمه ويؤول إلى الشكّ في التكليف فيدفع بالأصل ، مع أنّه لا يجوز الإتيان بالمكلّف به بقصد التشريع - ولا سيّما إذا كان عبادة - إذ الأصل فيها الحرمة.

فإنّ التمسّك بالأصل مع كون المقام من مجاري الاستصحاب وأصالة الاشتغال كما ترى خروج عن طريقة أهل العلم ، كما أنّ جعله بعد الشكّ في بقاء الأمر وارتفاعه من أفراد قاعدة التشريع ممّا يومئ إلى عدم الخبرة بسرية أهل الفهم ، ضرورة أنّ استصحاب بقاء الأمر والاشتغال في موارده كاف في إثبات مشروعيّة العبادة ومعه لا يتصوّر التشريع المحرّم.

ثمّ أنّ دعوى كون الأمر على تقدير كونه للفور من قبيل الموقّت أوّل الكلام مع شهادة العرف بخلافه ، فإنّ ما ذكر لا يتمّ إلاّ على تقدير كون الفور مأخوذا في مدلول الأمر على طريق القيديّة ، وهو خلاف ما يساعده الشواهد العرفيّة.

* وأورد عليه (1) : بأنّ ابتناء المسألة على الأمرين غير ظاهر ، أمّا الأول : فلأنّ القول الأوّل محتمل في المعنى الثاني ، إذ لا خفاء في كونه ممّا يتصوّر فيه النزاع المذكور.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من كونه قابلا للقول الأوّل ، فالقول الأوّل لا يتوقّف على المعنى الأوّل والمعنى الثاني لا يستلزم القول الثاني.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بأنّ مقصود العلاّمة كون الخلاف في المقام في مدلول الصيغة بحسب اللغة من جهة أنّها هل تفيد لفظا بقاء المطلوب بعد فوات الفور أو أنّها لا تفيد إلاّ وجوب الفعل فورا ولا دلالة فيها كذلك على وجوب الفعل بعد ذلك ، ولذا قال : « إنّ المسألة لغويّة » وحينئذ فالقول ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب كما هو مقتضى الاحتمال المذكور ممّا لا ربط له بمدلول الصيغة حسبما جعله محلّ الكلام.

وأنت خبير بأنّ المورد ليس غرضه الحكم ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب حتّى يتوجّه إليه كونه ممّا لا ربط له بمدلول الصيغة ، بل مقصوده : أنّ المعنى الثاني المتضمّن لوجوب الفور واعتباره في مدلول الصيغة الساكت عن بيان حكم ما بعده من حيث بقاء

ص: 265


1- المورد المحقّق الشيرواني ( منه ).

الثاني ، من غير بيان حال الزمن الثالث وما بعده؟ فإن قلنا بالأوّل اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان ، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة. وقد سبقه إلى مثل هذا الكلام بعض العامّة *.

وهو وإن كان صحيحا ، إلاّ أنّه قليل الجدوى ** ، إذ الإشكال إنّما هو في مدرك الوجهين *** اللذين بنى عليهما الحكم ، لا فيهما. فكان الواجب أن يبحث عنه.

__________________

الأمر فيه وعدمه قابل لكونه موردا لكلّ من القولين ، من جهة تردّد الفور المعتبر فيه بين كونه قيدا للطلب أو المطلوب أو جزءا مستقلاّ في مدلول الصيغة غير مرتبط بطلب أصل الفعل.

* وكأنّ مراده ببعض العامّة فخر الدين الرازي على ما حكى بعض الأجلّة عنه من أنّه قال : منشأ الخلاف أنّ قول القائل « افعل » هل معناه : افعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث وإلاّ ففي الرابع وهكذا أبدا ، أو معناه : افعل في الزمان الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث وما بعده؟

فإن قلنا : بالأوّل اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان ، وإن قلنا : بالثاني لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة.

** وأورد عليه بعض الأفاضل : بمنع قلّة الجدوى بهذا الكلام ، فإنّ مقصود العلاّمة بذلك بيان كون النزاع في ذلك مبنيّا على تعيين معناه اللغوي من الوجهين المذكورين ، فيرجع في التعيين إلى العرف واللغة كما نصّ بقوله : « فالمسألة لغويّة » مريدا بذلك بيان أنّ المرجع فيه العرف واللغة دون غيرهما من الوجوه العقليّة ، وليس مقصوده بذلك بيان الحقّ في المقام ، ليرد عليه : أنّه لا يتمّ بمجرّد ما ذكره بل لابدّ من بيان المدرك.

وأنت خبير بأنّ ذلك مناقشة في غير محلّها ، فإنّ غرض المصنّف لا ينافي ما ذكره في توجيه كلام العلاّمة ، وإنّما يعترض عليه من جهة أنّ رجوع القولين إلى المعنيين أمر واضح يعرفه كلّ أحد ، فلا حاجة إلى بيانه والتنبيه عليه ، وإنّما المهمّ المحتاج إليه في المقام بيان ما يقتضي أحد هذين الوجهين ليتمّ به القول الراجع إليه خروجا عن القول بما لا شاهد عليه.

*** قيل : مراده أنّ ابتناء طرفي الخلاف على معنيين أحدهما ملزوم لأحد طرفي

ص: 266

والتحقيق في ذلك : أنّ الأدلّة الّتي استدلّوا بها على أنّ الأمر للفور ليس مفادها ، على تقدير تسليمها ، متّحدا. بل منها ما يدلّ على أنّ الصيغة بنفسها تقتضيه ، وهو أكثرها. ومنها ما لا يدلّ على ذلك ، وإنّما يدلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر ، وهو الآيات المأمور فيها بالمسارعة والاستباق.

فمن اعتمد في استدلاله على الاولى ، ليس له عن القول بسقوط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان مفرّ ، لأنّ إرادة الوقت الأوّل على ذلك التقدير بعض مدلول صيغة الأمر * ، فكان بمنزلة أن يقول : « أوجبت عليك الأمر الفلانيّ في أوّل أوقات الإمكان » ويصير من قبيل الموقت. ولا ريب في فواته بفوات وقته.

__________________

الخلاف والآخر للآخر واضح لا فائدة في التعرّض له ، وإنّما الفائدة في بيان ما يثبت به الملزومان ، وإلاّ ففي كلّ خلاف يمكن تحصيل مفهومين يكونان ملزومين لطرفي الخلاف باللزوم البيّن ، وهو كما ترى مطابق لما ذكرناه في دفع الاعتراض المذكور ، إلاّ أنّه أورد عليه بعض الفضلاء : « بأنّ ما ذكره العلاّمة بيان لمدرك الوجهين فإنّ القائلين بالفور لمّا تمسّكوا في إثباته بالتبادر تفرّع عليه الترديد المذكور ، وكان المرجع في التعيين إلى أفهامهم ، إذ لا سبيل لمن أنكر تبادر الفور من الأمر إلى تعيين كونه على أحد الوجهين ولو بعد التنزّل والتسليم ».

ثمّ قال : « وكأنّ هذا هو الوجه في عدم ترجيح العلاّمة لأحد الوجهين ، لكن يشكل : بأنّهم تمسّكوا على هذا القول بالتبادر المستند إلى القرائن الحاليّة كما مرّ في الدليل الأوّل ، فيمكن تعيين أحد الوجهين بعد التنزّل والتسليم لكون التبادر ناشئا عن نفس اللفظ أو كون التبادر مع القرينة علامة للحقيقة ، إلاّ أن يعتذر : بأنّ القرائن الحاليّة لمّا لم تكن منضبطة لاختلافها باختلاف الموارد لم توجب الترجيح.

نعم يرد على العلاّمة : أنّ حجج القول بالفور لم تنحصر في التبادر ، فلا وجه لقصر البحث عليه » (1).

* وفيه : ما عرفت من أنّ مجرّد كون ذلك بعض مدلول الصيغة لا يقضي بصيرورة

ص: 267


1- الفصول : 78.

ومن اعتمد على الأخيرة ، فله أن يقول بوجوب الإتيان بالفعل في الثاني ؛ لأنّ الأمر اقتضى بإطلاقه وجوب الإتيان بالمأمور به في أيّ وقت كان * ، وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيّره موقّتا ** وإنّما اقتضى وجوب المبادرة ، فحيث يعصي المكلّف بمخالفته ، يبقى مفاد الأمر الأوّل بحاله. هذا.

والّذي يظهر من مساق كلامهم : إرادة المعنى الأوّل ؛ فينبغي حينئذ القول بسقوط الوجوب.

__________________

الأمر كالموقّت ، وإنّما يتمّ ذلك لو دلّ الصيغة على كونه جزءا من المدلول بعنوان القيديّة ، وهو على القول بالفور ولو بدلالة الصيغة عليه قابل للإنكار ، فالاعتماد في الاستدلال على الصنف الأوّل من الأدلّة لا يستلزم القول بسقوط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان.

وربّما يجاب عنه (1) أيضا بمنع صيرورته كالموقّت ، تعليلا بإمكان أن يقال : إنّه على تقدير دلالة الصيغة على الفور ليس نصّا في طلب خصوصيّة الزمان الأوّل ، بل ربّما كان المقصود تعجيل حصول المأمور به ، فإن فات في الزمان الأوّل بقي حكم التعجيل في الزمان الثاني وهكذا ، بخلاف الموقّت بالوقت المعيّن فإنّه نصّ في كون الزمان المعيّن مطلوبا فيفترقان.

والفرق بين هذا الوجه وما ذكرناه مع ما ذكره المصنّف هو الفرق بين الأقوال الثلاث في معنى الفور الّتي أشرنا إليها في أوائل المبحث.

* ولقائل أن يقول : بأنّ الأمر بعد ملاحظة ما يقضي من الخارج بإيجاب الفور والاستباق يسقط عن إطلاقه ، لصيرورته حينئذ كالمطلق المتعقّب بذكر ما يوجب تقييده بفهم العرف ، كما تقدّم ذكره.

والإطلاق الابتدائي بعد لحوق ما يصلح مقيّدا له غير كاف في المقام لصيرورته حينئذ مشكوكا فيه ، ومعه لا إطلاق يتمسّك به في المقام.

غاية ما يسلّم فيه قصور ذلك الخارج عن إفادة التقييد ، وأمّا مصادمته للإطلاق ممّا [ لا ] سبيل إلى إنكاره.

** واعترض عليه : بأنّ طلب الفوريّة والسرعة إن لم يكن يقتضي خصوصيّة الزمان

ص: 268


1- المجيب المحقّق السلطان ( منه ).

المعيّن فلا يتفاوت الحال في ذلك بين كون الدالّ عليهما نفس الصيغة أو دليل خارج وإن كان يقتضي تخصيص المأمور به بالزمان الأوّل خاصّة ، فلا ينفع كون الدالّ عليهما دليلا خارجا عن نفس الصيغة ، كما لو دلّ دليل خارج على كون الواجب موقّتا بوقت معيّن ، فإنّ الواجب يفوت بفواته أيضا عند من يقول بفوات الواجب الموقّت بفوات وقته من غير فرق بين كون الدليل الدالّ على التوقيت خارجا أو لا.

ما يتفرّع على القول المختار

ثمّ إنّ هذا كلّه على القول بالفور ، وأمّا على القول المختار فقد تصير الأوامر فوريّة بمعونة القرائن الخارجة فيكون مؤدّاها واجبات مضيّقة ، كما هو الغالب في الأوامر العرفيّة الواردة غالبا في موضع الاحتياج القاضي بطلب الماهيّة فورا ، فهل الفور حينئذ تقييديّ فلا يبقى للأمر محلّ بعد انقضاء زمان الفور أو تعدّدي فلا يفوت المحلّ بفوات وقت الفور؟

غاية ما هنالك ترتّب إثم على تفويت الفور ، وأمّا الصحّة والإجزاء فباق على حاله ، وجهان أقربهما الثاني.

أمّا أوّلا : فلأنّه المعلوم من بناء العرف وطريقة العقلاء كما أشرنا إليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه من مقتضى إطلاق اللفظ.

وتوضيح ذلك : إنّ الأمر - بناء على المختار - إنّما يدلّ مع قطع النظر عمّا هو خارج عنه من القرائن العاديّة أو الحاليّة ونحوها على طلب الماهيّة على الإطلاق دلالة وضعيّة وهذا الإطلاق في الطلب يلزمه عرفا بل عقلا باللزوم البيّن أمران.

أحدهما : الرخصة في تأخير أداء المأمور إلى ما شاءه المأمور ممّا يكون الأمر قابلا له من الأزمنة ، من غير أن يترتّب عليه إثم ولا استحقاق عقاب.

وثانيهما : الإجزاء بأدائه في أيّ زمان اتّفق ، بمعنى كونه في كلّ زمان يؤتى به فيه مجزيا عنه وموجبا لفراغ ذمّته عن الأمر والتكليف ، فللأمر حينئذ مداليل ثلاث : أحدها مطابقي ، والآخران التزاميّان ، فإذا حصل من الخارج ما يقضي بإرادة الفور سقط منها الأوسط وبقي الآخران ، لأنّه القدر المتيقّن من انتقاض الإطلاق الثابت في المقام بحكم الوضع ، فهو بالقياس إلى المدلول الآخر التزاما وهو الصحّة والإجزاء باق على حاله كبقاء المدلول المطابقي.

ويؤيّده استصحاب الأمر ، ولا يعارضه أصل البراءة كما تقدّم ، وهذا معنى الفور التعدّدي.

فإن قلت : لعلّ هذا باطل نظرا إلى أنّ الالتزاميّين متلازمان فارتفاع أحدهما يستلزم

ص: 269

ارتفاع الآخر ، ضرورة استحالة انفكاك المتلازمين كما في معلولي علّة واحدة ، من حيث استلزام رفع أحد المعلولين لرفع المعلول الآخر نظرا إلى كشفه عن ارتفاع علّته القاضية بارتفاع معلولها الآخر.

أمّا الأوّل : فلاستحالة ارتفاع المعلول مع وجود العلّة.

وأمّا الثاني : فلامتناع بقاء المعلول مع ارتفاع العلّة.

قلت : لعلّ ذلك اشتباه نشأ عن عدم الامتياز بين التلازم الذهني والتلازم الخارجي ، فإنّ امتناع انفكاك أحد المتلازمين عن الآخر إنّما هو في التلازم الخارجي كما فيما بين المعلولين لعلّة واحدة ، ومعنى ارتفاع أحد المدلولين الالتزاميّين ارتفاع إحدى الدلالتين الالتزاميّتين وهي أمر ذهني ، فالتلازم بينهما ذهني ولا امتناع في ارتفاع أحدهما دون الآخر ، مع أنّهما ليسا من قبيل المتلازمين بل من قبيل اللازم والملزوم ، فإنّ الرخصة في التأخير ملزوم للإجزاء والصحّة كما لا يخفى.

ومن الواضح البديهي عدم استلزام ارتفاع الملزوم ارتفاع لازمه إذا كان أعمّ منه.

نعم ، انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم دون العكس ، مضافا إلى أنّ المقام ليس من باب الرفع حقيقة بل من باب الدفع ، فإنّ القرينة إذا وجدت تمنع عن تأثير الدلالة ، بمعنى أنّها تكشف عن عدم تعلّق الإرادة بهذا اللازم كالقرينة الصارفة في المجازات - بناء على ما يساعده التحقيق من أنّها لا تصادم الدلالة وإنّما تصادم الإرادة - ولا ملازمة بين الدلالة والإرادة كما حقّقناه في محلّه فلا منافاة بين الدلالة وعدم الإرادة ، فلا يلزم من عدم إرادة أحد اللازمين أو إرادة خلافه عدم إرادة اللازم الآخر أو إرادة خلافه ، كما لا يلزم من عدم إرادة الملزوم عدم إرادة لازمه.

فإن قلت : هذا الوجه إنّما ينفع لو فرض الإشكال بين الدلالتين ، والمفروض أنّ الإشكال وارد على التفكيك بين المدلولين.

فإنّا نقول : بأنّ الرخصة في التأخير لمّا كانت ملزومة للإجزاء بعده أو هما متلازمان ، فلا يعقل التفكيك بينهما.

قلت : إنّ دعوى عدم معقوليّة الانفكاك بينهما على كلّ تقدير في حيّز المنع ، كما نراه في الحجّ حيث إنّه ليس مرخّصا في تأخيره عن عام الاستطاعة شرعا ، مع وقوعه صحيحا لو أخّره المكلّف عصيانا ، فإنّ ذلك يكشف عن كون الأوّل ملزوما للثاني ، بل هو ممّا يقضي

ص: 270

به القوّة العاقلة أيضا.

والمفروض أنّ انفكاك اللازم عن ملزومه الخاصّ معقول بل واقع عرفا وشرعا.

فقضيّة ما قرّرناه أنّه كلّما ثبت الفور بدليل خارج في الأوامر العرفيّة لابدّ وأن يحمل على التعدّدي وكذلك لو ثبت في الأوامر الشرعيّة ، لانصباب خطابات الشرع مصبّ طريق العرف (1).

وإذا لم يوجد دليل خاصّ على الفور فهل يحمل عليه الأوامر المطلقة أو لا؟

الموسّع والمؤقّت

قد يقال : بأنّ الأوامر [ العرفيّة ] تحمل عليه نظرا إلى غلبة الفور فيها بخلاف الأوامر الشرعيّة الّتي لا غلبة فيها بالنسبة إلى الفور ، لأنّ بعضها موسّعات والاخر مضيّقات والثالث مطلقات فلا ينزّل الثالث على أحد الأوّلين لعدم غلبة أحدهما على الآخر ، فتحمل على المعنى اللغوي وهو طلب الماهيّة ، إلاّ أنّه ملازم للتوسعة من باب الإطلاق فلا فرق بينهما وبين الموسّعات في ذلك ، إلاّ أنّه فيها ثابت بالدلالة الالتزاميّة وفي الموسّعات بدلالة خارجة زيادة على الدلالة الالتزاميّة ، وقضيّة التوسعة حينئذ جواز التأخير ما لم يصل حدّ التهاون ، وإلاّ لما كان جائزا بالاجماع وضرورة العقل ، هذا تمام الكلام في أحد الأمرين.

- وثانيهما (2) -

تفصيل ما أشرنا إليه في طيّ ردّ الاستدلال على الفور بالبرهان العقلي المتقدّم.

فإذ قد عرفت أنّ الأمر المطلق يحمل على التوسعة من باب الالتزام أخذا بموجب إطلاقه ، فلابدّ من التنبيه على مقدار التوسعة ، وعلى أنّه بل الموقّت الموسّع اللذين مبناهما على التوسعة بالذات هل يتضيّقان بالعرض أو لا؟

فنقول : إنّ الموسّع في الشريعة قد ورد على قسمين :

الأوّل : ما يكون محدودا بما أوجب كونه موقّتا من الوقت المعيّن كالفرائض اليوميّة.

ص: 271


1- لكن يرد على الوجه المذكور : أنّ المقتضي للدلالتين إنّما هو الإطلاق الّذي هو عبارة عن ترك بيان الوقت ، فإنّ العقل بملاحظته إنّما حكم بثبوت الرخصة في التأخير الملزومة للصحّة في الزمان المتأخّر لئلاّ يلزم الاغراء بالجهل المنافي لحكمة الحكيم ، فإذا جاء من الخارج بيان إرادة الفور ينتفي ذلك الإطلاق ومعه لا يبقى لبقاء الصحّة في الزمان المتأخّر مقتض وكون القدر المتيقّن ممّا خرج عن الإطلاق هو الإثم دون غيره غير كاف في ثبوت الإطلاق بالنسبة إلى الصحّة ، لأنّ عدم البيان حينئذ بالنسبة إليها غير معلوم ، على أنّها كانت فرعا على ثبوت الرخصة في التأخير بحكم العقل من جهة منافاة عدمها مع الرخصة في التأخير وعدم كونه معقولا معها ، فاذا انتفى الأصل لا يبقى إلى الحكم ببقاء الفرع داع ، فانحصر دليل المقام في بناء العرف مع الاستصحاب وهو غاية ما يمكن أن يقال به ( منه ).
2- إنّ هذا هو ثاني الأمرين ، تقدّم أولهما في ص 327.

والثاني : ما لا يكون محدودا بذلك ، المعبّر عنه ب- « الغير الموقّت » سواء كانت التوسعة فيه ثابتة بدليل خاصّ كصلاة الزلزلة وغيرها من الآيات غير الكسوفين ، أو بإطلاق الأمر كالنذر المطلق وأداء الدين مع عدم المطالبة.

والأوّل لا إشكال في أنّه يتضيّق بتضيّق الوقت ، كما أنّ الدين من أمثلة الثاني من قسمي الثاني يتضيّق بمطالبة الدائن.

وأمّا الثاني بقسميه وكذا الأوّل قبل ضيق وقته فالاحتمالات العقليّة في كلّ واحد عند إرادة التأخير خمس ، لأنّ المكلّف إمّا أن يعلم ببقاء تمكّنه من أداء المأمور به وعدم مصادفة ما يوجب فواته عنه بعد التأخير ، أو يعلم بعدم بقاء التمكّن بمصادفة ما يوجب فواته عنه ، أو يظنّ ببقاء التمكّن ، أو يظنّ بعدم بقائه ، أو يشكّ في البقاء والعدم.

أمّا الأوّل : فلا ريب في بقاء التوسعة فيه وعدم انقلابها بالمضيّق وإلاّ للزم خلاف الفرض ، إذ المفروض ثبوت التوسعة في المأمور به بأحد الوجهين.

فإن قلنا بالضيق وعدم التوسعة في تلك الصورة ففي غيرها بطريق أولى وهذا خلف ، مضافا إلى بناء العقلاء المنتهي إلى حكم القوّة العاقلة والأولويّة القطعيّة بالقياس إلى صورة الشكّ.

ومثله الثالث لما قرّرناه من لزوم خلاف الفرض لولاه ، نظرا إلى انسداد باب العلم عادة ببقاء التمكّن عند التأخير ، فإنّ أحدا بحسب الطرق البشري لا يكاد يعلم بذلك ، بل غاية ما يحصل له في ذلك إنّما هو الظنّ بالبقاء ، فلولا الحكم بالتوسعة حينئذ ففي الصور الثلاث الباقية بطريق أولى ، فيلزم انقلاب الموسّع بالمضيّق في جميع صوره وهو خلاف الفرض ، مضافا إلى إطلاق الأمر أو اللفظ الدالّ على التوسعة من الخارج المعتضد بأصالة البراءة من العقاب بالتأخير ، والأولويّة القطعيّة أيضا بالنسبة إلى صورة الشكّ.

وأمّا الثاني : فلا إشكال في صيرورته فيه مضيّقا وإلاّ لخرج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ المكلّف إذا علم في أوّل الوقت أو غيره بأنّه إذا تأخّر الإتيان بالمأمور به لما أمكن له الامتثال بعده ومع ذلك كان مرخّصا في التأخير من قبل الشارع ، فكان الأمر بمنزلة أن يقول له : « أوجبت عليك الفعل ورخّصتك في التأخير الموجب لتركه من غير استحقاقك للعقاب بذلك » وهذا معنى خروج الواجب عن وجوبه وأنّه بديهي البطلان ، على أنّ الواجب ما استحقّ تاركه العقاب إذا تركه لا إلى بدل ولا عن عذر أو إذا تركه عصيانا ، وهذا منه مع عدم قيام بدل مقامه ولا طروّ عذر في المقام ، ومثله الرابع لوجوهٍ :

ص: 272

الأوّل : ظهور الإجماع كما ادّعى في المقام ، قال بعض الأفاضل : « وقد نصّ عليه جماعة من الخاصّة والعامّة من دون ظهور خلاف فيه » بل نصّ بالاتّفاق عليه جماعة منهم الفاضل الجواد ، والفاضل الصالح ، والآمدي والحاجبي.

والثاني : بناء العقلاء قاطبة على التضييق حينئذ الموجب لعدّ من أخّره اختيارا عاصيا ومتهاونا.

ألا ترى أنّ المولى إذا قال لعبده : « أكرم زيدا ويجوز لك التأخير إلى الغد » مثلا ، فاتّفق أنّ زيدا أخذ أن يسافر إلى البعيد بحيث أنّ العبد يظنّ أنّه لا يعود في الوقت المضروب على حسب الظاهر مع احتمال مرجوح عنده في عوده ، فإنّه لا يكاد يلتزم بالإكرام ولا يجوّز لنفسه التأخير حينئذ تعويلا على مجرّد احتمال المراجعة في الوقت وإن كان ذلك في أوّل زمان البدار ، بل ولو أخّره معلّلا بذلك الاحتمال لذمّه العقلاء وعدّ عاصيا ، ومثله ما لو أمره المولى بشراء اللحم كذلك واتّفق أنّه ظنّ فوات الشراء مع التأخير فتعمّد في التأخير حتّى لم يتمكّن من الإتيان به فإنّه عدّ عاصيا في نظر العقلاء ، مفوّتا لمطلوب مولاه.

والثالث : وجوب دفع الضرر المظنون عقلا وعرفا وشرعا ، ولا سيّما الضرر الاخروي ولا يتحصّل إلاّ بالمبادرة كما لا يخفى.

والرابع : أنّه لو أخّره مع ظنّه بعدم بقاء تمكّنه عن أدائه بعده فقد أقدم على تركه من حين التأخير فيستحقّ العقاب من حينه ، ولا نعني من الواجب المضيّق إلاّ ما أوجب تأخيره استحقاق العقاب.

وقد يتمسّك في المقام بوجه آخر ، وهو لزوم نقض غرض الشارع الحكيم لولا الضيق ، واللازم باطل وكذا الملزوم.

أمّا الملازمة : فلأنّه لولا هذا القسم موجبا للمبادرة لم يكن غيره أيضا موجبا لها ، أمّا في صورة العلم بالفوات فلعدم وقوعه في الخارج ، أو ندوره من جهة انسداد باب العلم رأسا أو غالبا.

وأمّا في الصور الثلاث الباقية فبطريق أولى ، وذلك مستلزم لعدم حصول المأمور به في الخارج غالبا.

وأمّا بطلان اللازم : فلأنّ غرض الشارع من تشريع الواجبات إنّما هو حصولها في الخارج ، وتجويز عدم حصولها في الغالب مناف لذلك الغرض وهو قبيح على الحكيم ،

ص: 273

ولكن تماميّته محلّ تأمّل عندنا ، لتوجّه المنع إلى بعض مقدّماته وهو منع لزوم عدم حصول المأمور به في الخارج غالبا لو لا عدم جواز التأخير مع الظنّ بالفوات بعده ، فإنّ غالب صور المسألة بحكم العادة إنّما هو الظنّ بعدم الفوات وهو ملزوم لغلبة حصوله في الخارج.

وأمّا الخامس : فهو أيضا كالأوّل ما لم يؤدّ إلى التهاون في الواجبات ، للإطلاق القاضي بالتوسعة المتناول لصورة الشكّ أيضا مع فقد ما يقضي بخروجها عن تحته ، مضافا إلى أصالة البراءة عن الإثم بالتأخير ، من غير فرق في ذلك بين الموسّع الموقّت والموسّع الثابت بحكم العقل في الواجب المطلق.

فلا وجه لما حكى من القول بالتفصيل بينهما حاكما بجواز التأخير في الأوّل نظرا إلى إطلاق الإذن في التأخير بخلاف الثاني ، فإنّ حكم العقل بجواز التأخير إنّما هو من جهة وثوقه بحصول الفعل ولا وثوق مع الشكّ.

وفيه : ما لا يخفى ، من أنّ حكم العقل إنّما هو من جهة إطلاق الأمر وعدم تعرّض الآمر لتقييده بما يوجب خروج زمان الشكّ عن زمان الفعل أو الرخصة.

ومن البيّن أنّ الإطلاق ثابت على كلّ تقدير ، فلا يتفاوت الحال فيه بالنسبة إلى صورة الشكّ وغيره.

غاية الأمر أنّه قد قيّده الدليل الخارج بالنسبة إلى صورتي العلم أو الظنّ بالفوات في الزمان المتأخّر فبقي الباقي تحته حيث لا دليل يوجب تقييده أيضا.

ومن هنا يتبيّن ضعف ما أفاده بعض الأفاضل من أنّ في جواز التأخير وعدمه حينئذ وجهين ، من استصحاب القدرة وبقاء الوقت وثبوت جواز التأخير بحكم الشرع فلا يدفع بمجرّد الاحتمال ، ومن وجوب الفعل وعدم جواز الإقدام على تركه ومع الشكّ المفروض يكون تأخيره في الفعل إقداما على ترك الامتثال لعدم الاطمئنان حينئذ بأداء الواجب.

فإن قلت : قضيّة وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل هو الضيق أيضا ، إذ لا ريب أنّ تأخير المأمور به حينئذ ممّا يحتمل فيه الضرر فيجب دفعه.

لا يقال : إنّا نمنع الكبرى إن كان المراد بالاحتمال هو المساوي أو المرجوح ، إذ لا دليل على وجوب الاحتراز عن مثل ذلك الضرر ، أو كلّيتها (1) إن كان المراد أعمّ منهما ومن الراجح ، فإنّ القدر المسلّم إنّما هو في الاحتمال الراجح كما تقدّم.

ص: 274


1- أي نمنع كلّيّة الكبرى إن كان المراد الخ.

لأنّا نقول : بناء العقلاء قائم على وجوب الاحتراز عن احتمال الضرر حتّى الوهم ، كما لو قال صبيّ أو فاسق كاذب : « أنّ تلك القصعة من الماء مثلا مسموم » من غير أن يحصل من قولهما ظنّ بصدقهما ، بل وإن فرض حصول ظنّ بالكذب ومع ذلك كان معه ماء آخر خال عن الاحتمال المذكور فبناؤهم قاطبة حينئذ على وجوب الاحتراز عنها باختيار الآخر ، ونحوه الطريقان وغيره من الأمثلة.

لا يقال : بناء العقلاء ثابت في جانب العكس ، ويكشف عن ذلك سكناهم في البيوت المحتملة للخراب وعبورهم تحت الجدران المحتملة للوقوع ، ومسافرتهم في البحار لغرض التجارة مع احتمال الغرق إلى غير ذلك ممّا لا يخفى من امورهم المعاشيّة.

لأنّا نقول : عدم اعتنائهم بالاحتمال في الموارد المذكورة وغيرها ممّا يشابهها إنّما هو من جهة وجود معارض أقوى أو مساو ، فإنّ الفرار عن السكنى في البيوت مستلزم للوقوع في محذور أشدّ منه أو يساويه وكذا في غيره من الأمثلة ، ومحلّ الكلام الّذي هو مجرى تلك القاعدة ما إذا خلا عن المعارض كما فيما نحن فيه.

لا يقال : هذا البناء من العقلاء إنّما يسلّم في امورهم المعاشيّة غير أنّه غير مجد ، إذ الكلام إنّما هو في ما كان من قبيل الامور المعاديّة وليس لهم بناء ثابت في ذلك.

لأنّا نقول : إذا تمّ ذلك في الامور المعاشيّة ففي المعاديّة بطريق أولى ، لأنّ بناءهم على شدّة الاهتمام في الامور الخطيرة ، ولا ريب أنّ الأمر الاخروي أشدّ خطرا بالقياس إلى الدنيوي بمراتب شتّى ، فيكون الاحتراز بالنسبة إليه آكد وأهمّ.

قلت : لا دليل على وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل إلاّ بناء العقلاء وثبوته في محل البحث مطلقا في حيّز المنع.

وبيان ذلك : أنّ احتمال الضرر قد يستند إلى شيء ويكون مسبّبا عن سبب ضعيف كقول صبيّ مميّز أو فاسق كاذب ونحوهما ، وقد لا يكون مستندا إلى شيء ولا مسبّبا عن أمر بل هو مجرّد خيال قد حدث في النفس ، والقدر الثابت من بناء العقلاء على الاحتراز إنّما هو في القسم الأوّل دون الثاني ، بل الثابت من بنائهم فيه إنّما هو على العكس.

ألا ترى أنّه لو كان احتمال السمّ في مثال القصعة مستندا إلى مجرّد الخيال والوهم لا يلتزم العقلاء بالاحتراز عنه ، بل ولو التزم أحد عدّ عندهم من السفهاء كما لا يخفى.

واحتمال الضرر في محلّ البحث إنّما هو من هذا القبيل ، ولا سيّما في مقابلة الإطلاق

ص: 275

الكاشف عن الإذن القاضية بارتفاع الضرر ، ومعه لا يبقى لاحتماله محلّ حتّى يصرف النظر في أنّه هل يجب دفعه أو لا؟ ولو احتمل فلا دليل على وجوب دفعه لعدم ثبوت بناء العقلاء بل ثبوته على الخلاف ، بل ولو ثبت بناؤهم على الفرار حينئذ لما كان معتبرا في تلك الصورة ، لأنّه - على ما يساعده التحقيق - إنّما يصلح حجّة إلهيّة إذا انتهى إلى حكم القوّة العاقلة ، ولا ريب أنّ القوّة العاقلة في مثل المقام غير حاكمة بالوجوب.

ثمّ بقى في المقام فوائد قد تقدّم إلى بعضها الإشارة ، ولا بأس بالتنبيه عليها لكثرة ما يترتّب عليها من الفروع.

فوائد ، الفائدة الاولى

« الفائدة الاولى »

لو تضيّق الأمر بأحد الوجهين من العلم أو الظنّ بالفوات ، ثمّ انكشف فساد هذا العلم أو الظنّ بظهور بقاء الوقت أو بقاء التمكّن مع عدم أداء المأمور به في زمن العلم أو الظنّ بعدم البقاء ، فهل يصير قضاء أو لا؟ فيه خلاف.

والقول الأوّل محكيّ عن القاضي أبي بكر ، وعدّ الثاني من المعروف ، بل قيل بأنّ الظاهر إطباق علمائنا عليه ، وهذا هو الحقّ لأنّ الأدلّة الّتي تعبّدتنا بالعمل بالعلم أو الظنّ لم توجب كون المأمور به مقيّدا بوقتيهما أو انتهاء الأمر إلى زمانهما ، وإنّما أوجبت كون الرخصة في التأخير مقيّدة بذلك الزمان فيبقى الإطلاق بالنسبة إلى الصحة فيما بعده بحاله ، ولكن فيه ما تقدّم.

والأولى استناد الحكم في ذلك إلى استصحاب الأمر ، وبناء العرف الثابت في المقام كما علم ممّا تقدّم ، مضافا إلى أنّ العلم والظنّ في أمثال المقام ليسا بعين الواقع وإنّما طريقان إليه ، فإذا ظهر فسادهما بقي الواقع على حاله.

وتوضيحه : أنّ العلم أو الظنّ بعدم بقاء التمكّن في معنى العلم أو الظنّ بعدم التوسعة حينهما ، فإذا انكشف بقاء التمكّن بعدهما انكشف بقاء التوسعة على حالها ، لأنّهما طريقان إلى الحكم بالضيق بحسب ظاهر الشرع لا أنّهما موجبان للضيق في الواقع ، فانكشاف خلافهما انكشاف لعدم التضيّق في الواقع ونفس الأمر.

مع أنّ الواجب في الموسّع الموقّت قد جعله الشارع محدودا بوقت معيّن في الواقع الّذي لا يتبدّل بالعلم والجهل وتبدّل الاعتقادات - كما هو الحال في سائر الواقعيّات - ولا سيّما الأحكام الوضعيّة الّتي منها المقام وهو مجموع أجزاء الوقت المضروب ، وإنّما أوجب

ص: 276

الاعتقاد بعدم القدرة عليه في بعض تلك الأجزاء عدم الرخصة في التأخير من باب حرمة الإقدام على المعصية والخروج عن الطاعة ، فإذا انكشف بقاء القدرة بظهور فساد الاعتقاد بقي الوقت الواقعي على حكمه المجعول له ، وهو وجوب الإتيان بالفعل فيه.

لا يقال : إذا اتّصف المكلّف في بعض أجزاء الوقت المضروب بعدم القدرة على الفعل ارتفع عنه التكليف ، ضرورة اشتراطه على القدرة ومعه لا معنى لبقاء الوجوب والأمر ، وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور وأنّه ضروريّ الفساد.

لأنّ اعتقاد عدم القدرة لا يوجب سلب القدرة في الواقع ، ومناط التكليف إنّما هو القدرة الواقعيّة وهي حاصلة في المقام بعد كشف الفساد.

غاية الأمر أنّ الاعتقاد بعدم القدرة أوجب حكما بعدم جواز التأخير من حينه في مرحلة الظاهر ، فإذا انكشف فساده ظهر عدم مصادفة الظاهر للواقع وهو لا يوجب ارتفاع الواقع ، ضرورة عدم تبدّل الأحكام الواقعيّة بتبدّل الأحكام الظاهريّة ، وعدم إناطة التكليف الواقعي بالعلم والجهل على مذهب العدليّة ، كما هو الشأن في سائر الأحكام الظاهريّة إذا ظهر خلافها في الواقع.

ألا ترى إنّ المكلّف إذا اعتقد بنجاسة ثوبه ، أو عدم كونه متطهّرا ، أو كونه محدثا بالأكبر ، أو مغصوبيّة داره ، أو خمريّة مائع عنده ، أو أجنبيّة زوجه لم يجز له الدخول في الصلاة ، ولا الجواز في المسجدين ، أو اللبث في المساجد ، ولا التصرّف ولا الشرب والاستعمال ولا الوطء والاستمتاع ما دام معتقدا ، فإذا تبيّن فساد ذلك الاعتقاد بقي الجواز في الجميع إجماعا.

وبما قرّرنا تبيّن ضعف حجّة على كونه قضاء بتعيين ذلك الوقت للفعل عند حصول الظنّ المفروض ، وعدم جواز التأخير عنه فلا توسعة في الوجوب بالنسبة إلى ما بعد ذلك فإذا أخّر عنه كان قضاء ، إذ ليس مفاده إلاّ إيقاع الفعل خارجا عن الوقت المعيّن له شرعا.

ووهنه في غاية الوضوح ، فإنّ مجرّد تضيّق الوجوب بالعارض لمجرّد الظنّ الفاسد لا يوجب خروج الوقت المضروب شرعا عن كونه وقتا ، ولا سيّما بعد ظهور خطئه في ظنّه ، مع إطلاق ما دلّ على كونه وقتا والأصل عدم التقييد ، وكون ذلك الظنّ موجبا له أوّل المسألة ، بل مع مطابقته للواقع لا يفسد التوقيت.

غاية الأمر أنّه لا يقدر على الامتثال وهو أمر آخر لا يوجب خروج الوقت الموظّف

ص: 277

عن كونه وقتاً.

ثمّ إنّ المنقول في ثمرة هذا الخلاف وجهان أو وجوه :

أحدها : نيّة الأداء والقضاء على القول بوجوب التعيين.

وثانيها : جواز نيّة الأداء وجواز نيّة القضاء على المشهور ، إذ لا يحرز قصد الخلاف.

وثالثها : توقّفه على أمر جديد بناء على كونه قضاء ، وقد يناقش فيه بظهور عدم قائل بتوقّفه على ذلك وسقوط الأمر الأوّل ، بدعوى : أنّ القاضي لعلّ يقول بكون القضاء بالأمر الأوّل مطلقا ، أو يفصّل بين هذا النحو من القضاء وغيره ويكتفي في ذلك الأمر الأوّل ، وقد يناقش في الوجه الأوّل أيضا بضعف القول بوجوب التعيين في النيّة.

فوائد ، الفائدة الثانية

« الفائدة الثانية »

قضيّة ما تقرّر في المباحث السابقة ترتّب العصيان واستحقاق العقوبة على التأخير عند الظنّ بعدم التمكّن مع اتّفاق مصادفته للواقع ، فإنّه ممّا لا إشكال فيه كما نصّ عليه بعض الأفاضل ، لأنّه حينئذ كمتعمّد الترك بل هو تارك للمأمور به حقيقة على جهة غير مأذون فيها وهو ممّا لا يقبل الخلاف جدّا.

وأمّا لو أخّره مع ذلك الظنّ فظهر خطأ ظنّه فأتى به بعد ذلك كان آتيا بالمأمور به على وجهه وليس عليه إثم من تلك الجهة جزما ، وأمّا كونه عاصيا حينئذ من جهة التأخير فقط ، ففيه خلاف على أقوال :

أوّلها : العصيان ، نصّ عليه بعض الأفاضل قائلا : بأنّه ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لما تقرّر من وجوب إقدامه على الفعل حينئذ فيكون مخالفته عصيانا ، إذ بعد تسليم تحقّق التضيّق وتعيّن الإتيان بالفعل حينئذ كيف يعقل انتفاء العصيان مع المخالفة.

وعن جماعة التنصيص بذلك ، بل عن القاضي في المسألة المتقدّمة دعوى الإجماع عليه.

وثانيها : ما عن بعض أفاضل المتأخّرين من اختيار عدم العصيان ، وعن العلاّمة أنّه قد يستفاد منه في النهاية ذلك أيضا في دفع حجّة القاضي في المسألة المتقدّمة ، بعد ما نقل عنه حكاية الإجماع على العصيان حيث منع من تحقّقه.

وربّما يوجّه ذلك بإرادة عدم حصول العصيان بالنسبة إلى أصل الفعل أو عدم ترتّب العقوبة على تلك المعصية ، أو كونه إيرادا في مقام الردّ لا اعتقادا وإلاّ فالمنصوص به في كلامه في موضع آخر تحقّق العصيان.

ص: 278

وثالثها : ما عن شيخنا البهائي من التوقّف في ذلك.

والحقّ عندنا هو الأوّل لضرورة قبح التجرّي وإبراز النفس على شرف المعصية عقلا ، وكونه موجبا لاستحقاق الذمّ والعقوبة بحكم الوجدان السليم والعقل المستقيم ، ومحلّ الكلام من موارده.

لا يقال : إنّ التجرّي ليس من العنوانات المحرّمة في الشريعة فكيف يلتزم بإيجابه العصيان والعقوبة ، لأنّه لو اريد بذلك أنّه ليس ممّا نصّ الشارع بمنعه بالخصوص فمسلّم ولكنّه لا يقضي بانتفاء التحريم عنه ، لعدم انحصار طريق ثبوت التحريم في النصّ عليه بخصوصه ، وإن اريد أنّه ليس ممّا يتّصف بحكم التحريم أصلا فممنوع ، كيف وهو ممّا استقلّ العقل بقبحه وعدم إبائه عن عقوبة القادم عليه وهو من أدلّة الشرع ، وهو مع ذلك ممّا استقرّ عليه بناء العقلاء كما لا يخفى على من لاحظ مظانّ بنائهم.

حجّة القول الآخر - على ما حكي عن قائله المذكور - : أنّ وجوب العمل بالظنّ ليس وجوبا أصليّا كوجوب الصلاة بل هو وجوب توصّلي من باب المقدّمة كالصلاة إلى الجوانب الأربعة ، وترك وطء الزوجة عند اشتباهها بالأجنبيّة ، ولا عقاب على ترك المقدّمات وإنّما يترتّب العقاب على ترك نفس الواجب.

وفيه : منع كون العمل بالظنّ في المقام من باب المقدّمة ، فإنّه مفهوم اعتباري ومفاده وجوب الإتيان بالواجب عينا في الوقت المظنون كونه آخر أزمنة الإمكان.

ومن البيّن أنّه إتيان بنفس ذي المقدّمة لا بمقدّمته ، والعصيان لا يترتّب على ترك الإتيان به لانكشاف بقاء وقته مع حصول الإتيان به فيما بعد ذلك ، وإنّما يترتّب على تأخيره عن زمان الظنّ من جهة كونه تجرّيا على المعصية ، وإقداما على إيقاع النفس في التهلكة ، وهو عنوان آخر محرّم في نفسه بحكم العقل الكاشف عن الشرع ، ومقايسته على مقدّمات الواجب الّتي ليس لها إلاّ وجوب توصّلي واضح الفساد.

كما أنّ دعوى عدم العصيان في مسألة الصلاة إلى الجوانب الأربع وترك وطء الزوجة المشتبهة واضح المنع ، فإنّ المقدّمات العلميّة ليس وجوبها من باب المقدّميّة حتّى لا يترتّب عليه العصيان الموجب لاستحقاق العقاب ، بل إنّما هو من جهة قيام الحجّة عليه بخصوصه ، وهي الّتي قضت بحجّيّة العلم الإجمالي فيكون الوجوب شرعيّا.

ومن الواضح البديهي حرمة مخالفة الحجّة والقيام بما يخالف الواجب الشرعي ، مع

ص: 279

توجّه المنع إلى منع ترتّب العصيان والعقاب على ترك سائر المقدّمات مطلقا ولو من باب التجرّي ، فإنّ غاية ما يسلّم من ذلك - على فرض عدم كون وجوبها شرعيّا - إنّما هو عدم حصول العصيان واستحقاق من باب المقدّميّة ، وذلك لا يقضي بعدمهما من جهة عنوان آخر.

وقد يجاب عنه أيضا : بأنّه لو أراد بذلك المنع من وجوب التعجيل لمنعه وجوب المقدّمة فلا عصيان من جهتها وهو فاسد ، إذ المفروض أنّه يسلّم الوجوب في المقام وتضيّق الواجب عنده من جهة الظنّ المفروض ، وإن أراد به عدم تحقّق العقوبة على ترك المقدّمة نفسها.

ففيه : أنّ حصول العصيان غير متقوّم بترتّب العقوبة ، ولو سلّم تلازمه للاستحقاق فليس استحقاق العقوبة المترتّبة على ترك المقدّمة إلاّ من جهة ترك نفس الواجب ، نظرا إلى إفضاء تركها إلى تركه وهو كاف في حصول العصيان في المقام.

فإن قلت : المفروض في المقام عدم إفضاء تركها إلى ترك الواجب نظرا إلى انكشاف الخلاف ، فلا يترتّب عليه العقوبة من جهة الإفضاء.

قلت : من البيّن أنّ وجوب التعجيل في الفعل حينئذ ليس من جهة توقّف الفعل عليه واقعا وإلاّ لما أمكن حصوله من دونه ، ضرورة عدم إمكان حصول الواجب من دون مقدّمته وإلاّ لم يكن مقدّمة له ، بل إنّما يجب ذلك من جهة كونه مقدّمة للعلم بالخروج عن عهدة التكليف حينئذ ، حيث إنّ الواجب عليه العلم بعدم الإقدام على ترك الواجب المتوقّف على الإقدام على الفعل ، فالعصيان من الجهة المذكورة حاصلة في المقام سواء انكشف الخلاف أو لا ، وترك الإتيان بالفعل مؤّد إلى ترك هذا الواجب يقينا.

فقضيّة ما ذكر عدم تحقّق العصيان بالنسبة إلى التكليف بنفس الفعل ، وأمّا بالنسبة إلى تكليفه بتحصيل اليقين بتفريغ الذمّة بعد تيقّن الاشتغال - كما في مسألة اشتباه القبلة ، ووجوب تحصيل الاطمئنان بعدم الإقدام على ترك الواجب وفعل الحرام - فلا ، إذ من البيّن عدم حصول الواجب المذكور ، فاستحقاق العقوبة إنّما هو من تلك الجهة لا من جهة ترك المقدّمة نفسها ... إلى آخره.

وأنت خبير بما فيه من التعسّف وظهور الوهن ، فإنّ وجوب تحصيل العلم بالفراغ عند العلم بالاشتغال ليس وجوبا شرعيّا يعدّ مخالفته عصيانا موجبا لاستحقاق العقوبة ، وإنّما هو وجوب عقليّ قضى به العقل من باب الإرشاد خوفا عن الوقوع في مخالفة الواجب أو ارتكاب المحرّم ، ومخالفة مثل هذا الواجب من حيث هو بعد مصادفة ما هو واجب في

ص: 280

الواقع فعلا أو محرّم كذلك تركا لا تعدّ من العصيان بالضرورة ، ولا مخالفه عاصيا مستوجبا للعقوبة وهو واضح ، مع أنّه لو سلّم فإنّما يتمشّى في الأمثلة المذكورة لا في المقام ونظائره.

والسرّ في ذلك أنّ الدليل الدالّ على وجوب تحصيل العلم بالفراغ والخروج عن عهدة الواجب إنّما دلّ عليه على الإطلاق لا في زمان خاصّ ما دام الإمكان باقيا عقلا وشرعا.

ومن البيّن حصول الامتثال به بأداء الفعل الواجب بعد ظهور الفساد في الظنّ ، لأنّه فعل يقع حينئذ في حال إمكانه عقلا وشرعا من حيث وقوعه في الوقت المضروب له شرعا ، فالمكلّف بتأخيره لم يقدم على تفويت العلم الواجب عن نفسه ليكون مستحقّا للعقاب أو عاصيا.

غاية الأمر أنّه حين تأخيره ما دام ظانّا كان محكوما بالعصيان ، ومجرّد الحكم به مع ظهور فساد منشأ الحكم لا يوجب العصيان في متن الواقع ليترتّب عليه استحقاق العقوبة.

نعم في مسألة اشتباه القبلة يكون هذا الكلام متّجها لو لم يوجد ما يقضي بالخروج عن الشبهة في تمام الوقت.

وأمّا لو حصل الاشتباه أوّلا فأتى بالصلاة إلى بعض الجهات تاركا لمقدّمة العلم الواجب فحصل له بعد ذلك ما أوجب تبيّن جهة القبلة فصلّى إليها أيضا لم يكن مفوّتا لواجب جزما ولو فرضناه العلم بالفراغ ، لمكان حصوله حينئذ فلا عصيان ولا عقوبة من تلك الجهة جدّا ، ومحلّ الكلام أيضا من هذا الباب كما لا يخفى.

فوائد ، الفائدة الثالثة

« الفائدة الثالثة »

إذا تضيّق الواجب بظنّ الفوات وعدم القدرة عليه في الزمن المتأخّر فأخّره إلى أن تبيّن فساد الظنّ ، فهل الوجوب الثابت له حينئذ - بمقتضى التحقيق المتقدّم - باق على التوسعة السابقة على الظنّ ، فلا يجب التعجيل في أدائه ما دام الوقت متّسعا ، أو على الضيق الثابت له حين الظنّ القاضي بوجوب المبادرة إليه فيجب التعجيل في أدائه ، القاضي بعدم جواز التأخير أيضا؟

فالّذي يتراءى في بادئ النظر هو الثاني لاستصحاب ما ثبت له في آن الظنّ وانتقاض التوسعة السابقة عليه به ، وهو وإن كان حكما ظاهريّا - كما هو قضيّة ظهور الظنّ فاسدا - قد أوجب ثبوته ذلك الظنّ إلاّ أنّه من مجاري الاستصحاب - بناء على ما يساعده التحقيق من جريانه في الأحكام الظاهريّة أيضا جريانه في الأحكام الواقعيّة - لشمول الأخبار الواردة في الاستصحاب مع ما عليه من بناء العقلاء وسيرة الأصحاب.

ص: 281

فإن قلت : كيف يدّعى شمول الأخبار الواردة في الباب ، مع أنّ اليقين الواقع فيها ظاهر في اليقين الواقعي على ما يساعده الفهم والعرف.

قلت : الواقع المعتبر وصفا لليقين إمّا أن يرجع إلى نفس اليقين أو إلى متعلّقه ، فإن اريد الأوّل فهو أمر بيّن لا حاجة له إلى التنبيه ، لأنّ اليقين لا يشمل إلاّ ما هو يقين في الواقع كما هو الشأن في سائر الموضوعات ، فما ليس بيقين في الواقع غير مشمول للأخبار جزما ، ولكنّه غير مناف لما ادّعيناه في المقام ، لأنّ الغرض استصحاب الحكم الظاهري في موضع اليقين به في الآن السابق ، كما لو ثبت طهارة شيء أو نجاسته بإخبار العدلين أو إخبار ذي اليد في آن ثمّ صارتا مشكوكتين في بقائهما بعد ذلك الآن لعارض ، ومثله حكم الحاكم أخذا بموجب البيّنة في آن مع الشكّ في بقاء ذلك الحكم في آن آخر ، وغيره ممّا لا يحصى.

وإن اريد الثاني فهو أمر لا يصغى إلى قبوله ، لوضوح المنع عن ظهور اليقين في كون متعلّقه أمرا واقعيّا ، فإنّه ممّا ينكره العقل والعرف بل الشرع أيضا ، فلذا يحكم بصحّة صلاة من تبيّن في ثوبه نجاسة بعد الصلاة غير معلومة له قبلها ولا أثناءها تعويلا على اعتقاده بالطهارة قبلها وأثناءها ، بناء على وجوب إحراز شروطها قبل القيام بها إحرازا علميّا.

فإن قلت : إنّ الاستصحاب إنّما يعتبر إذا كان متيقّنا في زمان الشكّ ثبوته في آن اليقين ، فلذا لا يعتبر استصحاب عدالة من شكّ في عدالته يوم الجمعة مثلا مع الشكّ في ثبوتها له يوم الخميس ، وإن كانت في يوم الخميس ممّا تيقّن بثبوتها له ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بعضهم بما كان شكّه ساريا مصرّحا بعدم اعتباره ، وهو في محلّ البحث من هذا الباب ، لمكان الشكّ بعد ظهور فساد الظنّ في كون الضيق القاضي بوجوب التعجيل والمبادرة هل كان ثابتا له حين الظنّ أو لا؟

قلت : هذا بالنظر إلى الواقع ونفس الأمر وأمّا بالنظر إلى الظاهر فلا ، للجزم بأنّ المكلّف ما دام ظانّا لم يكن له في مرحلة الظاهر حكم إلاّ وجوب المبادرة إلى أداء الواجب ، ولمّا كان ذلك الحكم متعقّبا بظهور فساد الظنّ في الواقع فهو حكم ظاهري قد أثبته عليه ذلك الظنّ.

ولكن الّذي يساعده التأمّل ودقيق النظر هو الأوّل ، بناء على ما حقّقناه سابقا من أنّ الواجب قد قرّر له الشارع وقتا محدودا في الواقع مقتضيا للتوسعة ما دام متّسعا ، وهو باق في اتّساعه - على ما هو مفروض المسألة - فيتبعه التوسعة في الفعل ، والظنّ بالتضييق لعارض لم يوجب انقلاب زمانه آخر الوقت في الواقع ، فإذا انكشف فساده بقى الوقت

ص: 282

المحدود مقتضيا للتوسعة كما كان عليه قبل حدوثه.

ولا يعارضه الاستصحاب المقرّر بالوجه المذكور ، لأنّ الاستصحاب إنّما يصلح مستندا حيث لا دليل اجتهادي يقضي بخلافه وهو ثابت في المقام ، لأنّ ما دلّ على التوقيت مقتضى للتوسعة ما دام الوقت متّسعا ، ولا يعارضه الاستصحاب بل لا استصحاب هنا في الحقيقة ، لأنّه إنّما يجري ما دام منشأ اليقين باقيا والمقام ليس منه ، لأنّ منشأ اليقين بالضيق إنّما هو الظنّ بعدم القدرة على الفعل في الزمان المتأخّر ، والمفروض أنّه بظهور فساده قد ارتفع فانتقض اليقين بيقين مثله ، ويكون ذلك نظير ما لو ثبتت الطهارة أو النجاسة بشهادة العدلين ، أو حكم الحاكم بقيام البيّنة العادلة ثمّ تبيّن له فيما بعد ذلك خلافه بالعدول عن الشهادة بل الشهادة بالخلاف أو بظهور الخطأ أو الكذب في الشهادة.

ولكن يشكل ذلك في غير الموسّع الموقّت أعني الموسّعات المطلقة ، سواء كانت التوسعة من مقتضى الدليل الخارج أو إطلاق الأمر بل الإشكال في ذلك أوضح منه في الأوّل ، وذلك لأنّه لا توقيت فيهما يكون قاضيا بالتوسعة ما دام الوقت متّسعا أخذا بموجب ما دلّ عليه من الشرع ، والمفروض أنّ ما دلّ على اعتبار الظنّ في المقام قد أوجب تقيّد دليليهما القاضي بارتفاع التوسعة وقيام التضيّق مقامها ، المقتضي لوجوب التعجيل والمبادرة إلى الفعل ، فيستصحب ذلك بعد انكشاف الفساد في الظنّ بلا معارض.

ويمكن دفعه في الأوّل : بأنّ ما دلّ على التوسعة من الشرع قد اقتضى بقاء الوقت ما دام العمر ، فيكون كالموقّت في اقتضاء التوسعة ما دام الإمكان.

غاية الفرق بينهما أنّ الوقت في الموقّت محدود آخره بزمان معيّن من أزمنة العمر ، وفي الموسّع محدود آخره بآخر أوقات العمر.

وقضيّة ذلك أن يكون الوقت الباقي بعد انكشاف فساد الظنّ باقيا في اقتضائه للتوسعة ما دام زمان العمر متّسعا ، فلا يعارضه الإستصحاب بل لا استصحاب في الحقيقة - بالتقريب المتقدّم -.

كما يمكن دفعه في الثاني أيضا : بأنّ التوسعة فيه كانت منوطة بحكم العقل ، نظرا إلى ملاحظة إطلاق الأمر وعدم اشتماله على ما يوجب تقييده ، لأنّ مرجعها إلى التخيير بين الأفراد المتّفقة في الحقيقة المتميّزة بخصوصيّات أجزاء الزمان وهو منوط بحكم العقل الكاشف عن الشرع جزما ، وثبوت التضييق عند ظنّ عدم التمكّن المستلزم لوجوب التعجيل أيضاً

ص: 283

كان منوطا بحكمه ، لأجل الفرار عن التجرّي عن المعصية والوقوع في مخالفة الأمر وترك المأمور به لا عن عذر ، فإذا تبيّن عنده فساد منشأ حكمه - وهو الظنّ - تبيّن عنده مخالفة حكمه للواقع ، فيجزم بأنّه لا حكم في المقام سابقا ولاحقا إلاّ التخيير الّذي هو مفاد التوسعة الّتي اقتضاها إطلاق الدليل ، ومعه لا تأثير للاستصحاب بل لا مجرى له بما تقدّم من التقريب.

ويمكن دعوى قيام بناء العقلاء أيضا على ذلك في الأوامر العرفيّة كما لا يخفى.

ويؤيّده أصالة البراءة عن العقاب المترتّب على التأخير حينئذ ، ولا يعارضها أصالة الاشتغال على تقدير كون المقام من باب الشبهة في المكلّف به بعد موافقة ما ذكر من قضاء العقل وبناء العقلاء لها جدّا.

فوائد ، الفائدة الرابعة

« الفائدة الرابعة »

إذا أخّر المكلّف أداء المأمور به مع ظنّ السلامة في الواجب الموسّع أو ما هو بحكمه موقّتا كان أو غيره ، فأتى به في الزمان المتأخّر فرغ ذمّته ولا شيء عليه أصلا ، كما هو من مقتضى التوسعة الثابتة في المقام شرعا أو عقلا ، وأمّا لو أخّره والحال هذه ففاجأه الموت أو أصابه مانع آخر عقلي أو شرعي - كالمرأة إذا طرءها الحيض ونحوه - فهل عليه شيء أو لا؟ والنظر في ذلك في مقامين :

الأوّل : في أنّه هل عليه إثم بفوات المأمور به عنه أو لا؟

والثاني : في أنّه هل عليه أو على وليّه قضاء أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فقد اختلف فيه على قولين أو أقوال ، فمنهم من قال بعدم العصيان مطلقا صرّح به غير واحد من الأصحاب ، والظاهر أنّه وفاقيّ عندهم.

ومنهم من فصّل في ذلك فذهب إلى أنّه يعصى فيما وقته العمر دون الموسّع ، حكاه بعض الفضلاء عن الحاجبي ، ثمّ قال : ووافقه العضدي في ظاهر كلامه.

وربّما يستفاد من مطاوي عبائرهم قول ثالث بالعصيان مطلقا ، وهو وإن لم يكن ممّا حكاه أحد ولا وقع التصريح به في كلام أحد ، إلاّ أنّه يظهر عمّن أورد على حجّة أصحاب القول الأوّل في احتجاجهم بقبح العقاب على تقدير التجويز - بناء على جواز التأخير الّذي عليه يترتّب التأخير المؤدّي إلى الترك - : بأنّ الجائز هو التأخير بشرط سلامة العاقبة فلا جواز مع عدمه.

ويستفاد ذلك عن المدقّق الشيرواني في إيراده على المحقّق السلطان فيما اعترض به على من أجاب عن استدلال القول بالفور بلزوم التكليف بالمحال أو خروج الواجب عن

ص: 284

الوجوب لو لا الفور ، بأنّه يلزم التكليف بالمحال لو تعيّن التراخي وأمّا لو جاز فلا لإمكان الامتثال بالمبادرة - من أنّه التزام بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ... إلى آخره ، بما ينتهي إلى ما اطلق في قوله بأنّه : « فعلي هذا لو أخّر وتيسّر له فعله لم يأثم وإلاّ أثم ، ولا امتناع في مثل هذا التكليف ».

وصحّحه بعض الفضلاء بأنّه مبنيّ على جواز خلوّ مثل تلك الواقعة عن حكم ظاهريّ والتزامه غير بعيد ، بناء على عدم الملازمة بين العقل والشرع إذ اشتراط التكليف بالعلم على إطلاقه ممنوع ، وإنّما المسلّم منه ما أدّى إلى تكليف بما لا يطاق ، وحصوله في المقام في محلّ المنع لامكان الامتثال بالمسارعة.

وهذا كلام منه قد وقع في بحث الفور كما أنّ كلام المورد واقع هنا ، ثمّ تصدّى بتنقيح ذلك في مبحث الواجب الموسّع وقال : « بأنّ قضيّة التوسعة الواقعيّة جواز التأخير الواقعي وكلاهما مشروط ببقاء التمكّن واقعا ، ثمّ عند جهل المكلّف بالشرط لا يخلو إمّا أن يجعل له حكم في الظاهر من وجوب التعجيل مطلقا فيعصى بالتأخير [ مطلقا ](1) أو جواز التأخير مطلقا فلا يعصى به مطلقا ، أو لا يجعل له حكم في الظاهر فيناط حاله بالواقع ، فإن صادف تركه عدم التمكّن عصى وإلاّ لم يعص ، وهذا القسم في الحقيقة واسطة بين القسمين الأوّلين ، إذ ليس فيه عصيان على الإطلاق ولا عدم عصيان على الإطلاق ، بل عصيان على تقدير وعدم عصيان على تقدير.

وقضيّة جواز وقوع كلّ من المطلقين جواز وقوع كلّ من المقيّدين ، إذ لا يعقل للانضمام مدخل للجواز.

نعم يحكم العقل بوجوب المسارعة إلى الفعل حينئذ عند ظنّ الفوات أو خوفه وجوبا ظاهريّا وإن لم يتحقّق الفوات واقعا دفعا للضرر المخوف ، كما أنّه يحكم بعدم وجوبها عند ظنّ السلامة أو العلم بها ، فلا يتمّ القول بنفي الوجوب الشرعي في الأوّل والجواز الشرعي في الثاني عند من يلتزم بالملازمة بين حكم العقل والشرع مطلقا وذلك واضح ».

ثمّ قال : « ثمّ اعلم أنّ الوجوه المذكورة لا تختصّ بالمقام بل يجري في غيره أيضا ، كما لو اشتبه المحرّم بالجائز فيجوز أن يكلّف في الظاهر بتحصيل العلم بترك الحرام ، فيعصى بارتكاب الجميع والبعض وإن لم يصادف الحرام ، وإن تأكّدت الحرمة مع مصادفة المحرّم

ص: 285


1- أثبتناه من الفصول : 106.

وإن يكلّف [ به ] مع الرخصة في ارتكاب بعض لا يقطع فيه بارتكاب المحرّم فلا يعصى به وإن صادف المحرّم ، وعدم العصيان بفعل المحرّم لعذر لا ينافي التحريم كما مرّ في الوجوب ، وأن لا يجعل له في الظاهر حكما بل يحال حاله إلى الواقع فيعصى إن صادف المحرّم ولا يعصى إن لم يصادفه على حسب ما مرّ ». انتهى.

ولنشرح ذلك المقال لينجلي به حقيقة الحال.

فنقول : لا ريب أنّ خطابات الشارع تكليفا ووضعا لا تتعلّق إلاّ بالامور الواقعيّة ، ضرورة خطأ من يزعم تعلّقها بالامور المعلومة إمّا بدعوى وضع الألفاظ بأسرها لها ، أو بدعوى انصرافها في حيّز الخطابات إليها - وقد حقّقناه في محلّه - فالمكلّف إذا حصل عنده ما يوصله إلى ما هو عليه في الواقع تكليفا ومتعلّقا له ويوجب رفع الجهالة عنه بالنسبة إليهما فهو في سمح وسهولة من أمره في مقام العمل وترتيب الآثار ، وإذا لم يحصل له ذلك في مواضع حتّى تحقّق عنده وقايع مجهولة الحال من جهة الحكم أو مورده يشكل الأمر عليه حينئذ بالنسبة إلى مقام العمل عند الحاجة ، باعتبار الجزم بأنّ شيئا من تلك الوقائع لا يخلو عن حكم مقرّر فيه بحسب الواقع ، فلابدّ حينئذ من أن ينظر فيها باعتبار هذا المقام الّذي يعبّر عنه بمرحلة الظاهر بعنوان أنّها وقائع مجهولة الحال ، فإمّا أن يكون لها من هذه الحيثيّة حكم معيّن جعله الشارع لها ويعبّر عنه بالحكم الظاهري أو لا ، بل يقال : بأنّ المكلّف منوط أمره بالواقع فإن صادفه فعلا أو تركا من باب المقارنات الاتّفاقية امتثل فيثاب ، وإن لم يصادفه فعلا أو تركا حتّى ترك واجبا أو ارتكب محرّما من باب البغت والاتّفاق لم يمتثل فيستوجب العقاب.

وعلى الأوّل فهذا الحكم المجعول إمّا أن يكون هو الوجوب في الشبهات الوجوبيّة والحرمة في الشبهات التحريميّة ، أو غير الوجوب والإباحة فيهما ، وهذه الصور بحسب الإمكان والتصوير لا يأبى عنها العقل ولا كلام فيها من حيث الإمكان.

وإنّما الكلام من حيث الوقوع فاختلف فيه بما هو مقرّر في بحث أصلي البراءة والإشتغال ، والأخيرتان من الصور قد صارتا موردا للقول فيما بينهم محقّقا ، فإنّ مآل مذهب البراءتيّين منهم في البحث المذكور إلى الصورة الثالثة ، كما أنّ مرجع قول الاحتياطيّين منهم إلى الصورة الثانية.

وأمّا الصورة الاولى وإن احتمله الفاضل المذكور في ظاهر كلامه المتقدّم إلاّ أنّه لم

ص: 286

يثبت لها قائل حسبما يظهر ، وإن كان يمكن إرجاع القول بالتوقّف المنسوب إلى الأخباريّة في الشبهات التحريميّة المنقول فيما بين مذاهبهم الأربعة المعروفة إلى تلك الصورة ، لاحتمال كونه توقّفا بالنظر إلى الواقع مع نفيه الحكم الشرعي في مرحلة الظاهر ، ولكن الأظهر كونه توقّفا في مرحلة الظاهر بمعنى أنّه يعترف بأنّ هذه الوقائع لها في مقام العمل حكما ظاهريّا مجعولا من الشارع ولكنّه لا يدري بأنّه ماذا؟ من جهة قصور أدلّة كلّ من البراءة والاحتياط الّتي اعتمد عليها أصحاب المذهبين عن إفادة المطلوب ، فمن هنا ساق الفاضل المذكور تلك الصور في محلّ الكلام ، حسبما مرّ في عين عبارته.

ويمكن أن يقال : بأنّ لكلّ واحدة قائلا في المقام كما يومئ النظر في كلام المدقّق الشيرواني الظاهر في الصورة الاولى ، مع ملاحظة طريقة من يذهب إلى الفور في الأوامر تمسّكا بأصل الاشتغال الصريحة في الاحتمال الثاني ، وطريقة من يعارضه من أصحاب التراخي أو الماهيّة بأصالة البراءة ، قائلا : « بأنّ أصل الشغل إنّما يستند إليه فيما لو كانت الشبهة في المكلّف به لا في التكليف كما في المقام ، لكونها حينئذ من مجرى أصل البراءة » فإنّها محتملة للصورة الأخيرة وإن لم يكن صريحة ولا ظاهرة ، ولكنّ الكلّ - كما صرّح به الفاضل المذكور - مبنيّ على جعل التوسعة الواقعيّة المقتضية لجواز التأخير الواقعي مشروطا ببقاء التمكّن في الواقع ، ونحن ننفيه وننكر الاشتراط ونقول : بأنّ النصّ في تشريع كلّ من الواجب الموسّع والواجب المطلق قد ورد مطلقا من غير تقييد لجواز التأخير - المستفاد منه صراحة أو إطلاقا - بغاية من الغايات كما في المؤقّت ، سواء فرضتها بقاء التمكّن أو غيره من الأوقات معيّنا أو غيره ، ومثل ذلك غير عزيز في الخطابات عرفيّة وشرعيّة كما لو قال : « أجبت عليك الشيء الفلاني وأجزتك بالتأخير ، أو جوّزت لك التأخير فأت به مهما شئت » من غير تعلّق نظره في تجويزه التأخير بغاية من الغايات ، بل ومع عدم التفاته إلى شيء منها كما لا يخفى.

وقضيّة ذلك جواز التأخير في الواقع على الإطلاق من دون اشتراطه ببقاء التمكّن ، لأنّه يوجب تقييدا في النصّ والأصل عدمه.

كما أنّ قضيّة جواز التأخير أن لا يترتّب على فواته في الزمن المتأخّر إثم ولا عصيان إذا كان مع ظنّ سلامة العاقبة بل ومع الشكّ أيضا ، إذ هما بعد كون الجواز مستفادا عن النصّ الّذي هو دليل اجتهادي متلازمان ، إذ لا يستفاد منه إلاّ الجواز الواقعي فلا يعقل معه

ص: 287

العصيان بالفوات لو نشأ عن التأخير الجائز بحسب الشرع.

فليس ذلك ممّا يقضي به العقل نظير ما يقضى به في موارد الأخذ بأصل البراءة ، حتّى يقال : بأنّه لا ينافيه العصيان مع الفوات لأنّه حكم عقلي قد قضى به العقل والعصيان وعدمه من لوازم الشرع ولا ملازمة بينه وبين العقل ، لعدم كون مستنده كما عرفت هو الأصل ليكون لذلك الكلام فيه مجال.

ولو سلّم فإنّما يتّجه ذلك لو جعل مستند الأصل هو مجرّد حكم العقل نظرا إلى قبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، وهو في حيّز المنع ، لأنّ عمدة طرقه عمومات الأخبار الواردة في الباب النافية لاحتمال الاشتراط ، أو ترتّب العقاب على الفوات المتفرّع على التأخير مع ظنّ السلامة أو الشكّ فيها ، نظرا إلى رجوع الشكّ في جواز التأخير وعدمه المسبّب عن الشكّ في سلامة العاقبة أو احتمال عدمها - ولو مرجوحا - إلى كونه في التكليف وهو من مجاري أصل البراءة كما هو المقرّر في محلّه.

ولا ينافي شيئا ممّا ذكر ما صرنا إليه سابقا من عدم جواز التأخير عند ظنّ عدم السلامة ، فإنّه ليس من جهة اشتراط الجواز بالتمكّن القاضي بانتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، بل إنّما هو حكم ظاهري أثبته العقل من باب قبح التجرّي على المعصية وإخراج النفس على شرف الخروج عن الطاعة.

ولا يرد عليه : أنّه لا يستلزم عقابا على ما التزمنا به لمكان منع الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، لموافقة الشرع لها في الحكم بعدم الجواز كما يرشد إليه الإجماع المتحقّق في المقام المتقدّم ذكره ، وقد استفاض نقله في كلام الأعيان من الأعلام ولا ريب أنّه من أدلّة الشرع.

كما لا ينافي العصيان الموجب لاستحقاق العقاب لو أخّره والحال هذه فصادف فواته بعدم التمكّن عنه - على ما قرّرناه سابقا - لأنّه من لوازم طبيعة الوجوب ، فلولاه حينئذ لخرج الواجب المطلق عن إطلاقه ، ولا يلزم ذلك في الصور الاخر ، لما تقدّم من أنّ الواجب ما يستحقّ العقاب بتركه لا إلى بدل ولا عذر ، والجهل بعدم التمكّن أو إصابة المانع أو فجأة الموت بغتة يصلح عذرا ، أو أنّ الواجب ما يستحقّ العقاب بتركه على جهة المعصية وهي منتفية في تلك الصور ، كما أنّها متحقّقة في صورة العلم أو الظنّ بعدم التمكّن ، فإنّه بمجرّد التأخير مع أنّ الحال هذه قد أقدم عليها وتوطّن نفسه لترك الواجب.

فممّا قرّرنا تبيّن ما هو الحقّ في المسألة ، وانقدح ضعف ما عدا ذلك من القولين

ص: 288

الآخرين ، ولا بأس بأن نشير إلى ما عليهما من الحجّة حسبما هو واقع في كلام القوم.

فأمّا حجّة القول الثالث : وإن لم تكن مذكورة في كتبهم كما أنّ أصل القول لم يصرّح به في عبائرهم ، غير أنّه على تقدير ثبوته في المقام لا مستند له إلاّ ما يستخرج من كلماتنا بالتأمّل ممّا يتركّب من ثلاث مقدّمات :

اولاها : اشتراط جواز التأخير الواقعي ببقاء التمكّن الواقعي.

والاخرى : خلوّ تلك الواقعة عن حكم ظاهري شرعي.

والثالثة : منع الملازمة بين العقل والشرع في الحكم بجواز التأخير.

وأنت خبير بأنّ الكلّ - مع كونها مصادرة - ممنوعة على مدّعيها ، وقد عرفت التفصيل فيه.

وأمّا حجّة القول الثاني : على ما حكى فعلى الأوّل من شقّيه وهو العصيان فيما وقته العمر ، أنّه : لو لم يعص لخرج الواجب عن كونه واجبا.

وعلى الثاني منهما وهو عدم العصيان في الموقّت إنّ التأخير كان جائزا له فلا يعصي بالتأخير.

لا يقال : شرط الجواز سلامة العاقبة ، إذ لا يمكن العلم بها فيؤدّي إلى التكليف بالمحال.

وعن شيخنا البهائي الإيراد عليه : بكونه تحكّما لكونهما من باب واحد واستجوده بعض الأعاظم ، وفصّل الفاضل المذكور سابقا هذا الإجمال بأنّ قضيّة كلّ من تعليليه فساد حكمه الآخر ، فإنّ لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا لو صلح دليلا على العصيان في الأوّل لقضى به في الثاني أيضا ، وجواز التأخير لو نهض دليلا على عدم العصيان في الثاني لاقتضاه في الأوّل أيضا ، فالفرق تحكّم منه.

مضافا إلى ما يرد على ظاهر الأوّل من انّ عدم العصيان بتركه لعذر لا يقدح في الوجوب.

وعلى الثاني بأنّ جواز التأخير ليس تكليفا حتّى يلزم من تعليقه على ما لا يمكن العلم به التكليف بالمحال.

ولو تعلّق بأنّ تعليق الجواز على ما لا يمكن العلم به يوجب تعليق عدم الجواز أيضا على ما لا يمكن العلم به وهو تكليف قطعا.

لتوجّه عليه : أنّ ذلك إنّما يوجب التكليف بالمحال إذا تعيّن عليه التأخير ، وأمّا إذا جاز فلا لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة ، والتكليف بالمحال إنّما يصدق حيث يستحيل الإمتثال ، ولو نزّل تعليله الأوّل على ما يراه الأشاعرة من جواز التكليف بالمحال ناقضة ما أجاب به عمّا أورد على تعليله الثاني.

ص: 289

ثمّ قال : هذا مناقشة معه في الدليل ، وأمّا أصل الدعوى فلا إشكال فيما ذكره في الموقّت إمكانا ووقوعا ، وقد اتّضح وجهه ممّا ذكرناه.

وأمّا ما ذكره في غير الموقّت فممّا لا دليل على وقوعه قطعا.

وأمّا إمكانه فيتّجه على مذهب الأشاعرة ، وربّما يتّجه بناء على اصول العدليّة كما أشرنا إليه في مبحث الفور - يعني به ما نقلنا عنه في تصحيح كلام المدقّق الشيرواني المشار إليه - ثمّ ساق الكلام إلى ما حكينا عنه من التفصيل وتصوير المقام فى صور ثلاث ، ولا يخفى أنّ فيما ذكره في جواب الاحتجاج المذكور غنية في حسمه فلا ضير في الاكتفاء به.

واحتجّ على القول المختار - كما في كلام بعض الأفاضل - : بأنّ المفروض جواز التأخير شرعا كما هو مفاد توسعة الوقت ، فإذا كان جائزا وتفرّع عليه ترك الفعل لم يعقل منه صدور العصيان ، ولم يصحّ عقوبته إذ لا عقاب على ترك الجائز ، وهو كما ترى مبنيّ على ما حقّقناه من كون جواز التأخير حكما في الواقعة واقعا وظاهرا مستفادا عن النصّ والدليل الاجتهادي.

وكيف كان فنقل بعد الاحتجاج به عليه الإيراد : « بأنّ الجائز شرعا هو التأخير والإتيان بالفعل في الوقت الآخر دون الترك ، وحيث كان المظنون هو الإتيان به فيما بعد الأوّل جوّز الشارع له التأخير والإتيان به بعد ذلك ، وليس المجوّز له شرعا ترك الفعل وإلاّ لخرج الواجب عن الوجوب ».

ومحصّل ذلك : أنّ الجائز هو التأخير بشرط سلامة العاقبة ، فلا جواز مع عدمه.

وبما حقّقناه ظهر ما فيه من الفساد ، إلاّ أنّه نقل الإيراد عليه أيضا : « بأنّ سلامة العاقبة ممّا لا يمكن العلم بها ، ولو كانت شرطا في المقام لأدّى إلى التكليف بالمحال لإحالة التأخير حينئذ على أمر مجهول يمتنع العلم به ».

ثمّ قال : « ودفع ذلك : بأنّه إنّما يلزم التكليف بالمحال لو كان التأخير واجبا وأمّا لو كان جائزا فلا ، لجواز التقديم أيضا ، فيكون المكلّف به هو القدر الجامع بين الأمرين من التقديم والتأخير المشروط بالشرط المحال ، ولا استحالة فيه إذ القدر الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ».

ثمّ قال : « واجيب عنه : بأنّ الواجب هو التقديم إذ يتعيّن في مقام الامتثال إختيار المقدور ، فلا يجوز التأخير من أوّل الأزمنة فيكون واجبا مضيّقا لا موسّعا هذا خلف ، وأيضا يكون الحكم بجواز التأخير لغوا غير جائز على الحكيم ، نظرا إلى عدم إمكانه لتوقّفه على الشرط المحال.

ص: 290

ويمكن أن يقال : انّ توقّف التأخير على سلامة العاقبة لا يقضي بتوقّفه على العلم بها ليرد ما ذكره ، بل يكتفي في ذلك الظنّ نظرا إلى انسداد باب العلم فيه ، وهو ممكن الحصول في العادة.

فإن قلت : إنّ الاكتفاء فيه بالظنّ قاض بانتفاء الإثم ، والمفروض حصول الظنّ المفروض وطروّ المانع بغتة ، فلا عقاب على الجائز.

قلت : ليس الظنّ المفروض شرطا في الجواز ليجوز التأخير في الواقع مع حصوله ، وإنّما الشرط في المقام هو السلامة لكن لمّا [ لم ] يتمكّن المكلّف من العلم بها اكتفى فيه بالظنّ ، فهو إنّما يكون طريقا إلى حصول الشرط لا عينه ، فإذا تخلّف الطريق من الواقع تفرّع على الواقع ما يتفرّع عليه من الإثم والعقوبة ، فالعقوبة المتفرّعة على ترك الواجب الحاصل بالتأخير لا تتخلّف عنه في المقام ، إلاّ أنّه لمّا كان المكلّف مطمئنّا من أدائه الواجب وعدم حصول الترك منه جاز له التأخير من تلك الجهة ، ولو كان معتقدا حصول العقوبة على فرض التخلّف وحصول الترك فلا ينافي ذلك تفرّعه عليه ، ولا تجويز الشرع أو العقل الإقدام عليه في هذا الحال.

ألا ترى أنّه لو ظنّ سلامة الطريق جاز له السفر بل وجب عليه مع وجوبه ، ولا يقضي بعدم تفرّع ما يترتّب على السفر من المفاسد المحتملة فيه ، والعقل والشرع إنّما يجوّزان الإقدام من جهة الظنّ بعد ذلك الاحتمال وإن تفرّع ذلك عليه على فرض خطأ الظنّ المفروض ، فأيّ مانع في المقام من تفرّعه عليه مع ظهور الخطأ.

ثمّ قال : « ويدفعه : أنّ الآثار المتفرّعة هناك إنّما تترتّب على نفس الأفعال ، والأمر المترتّب هنا إنّما يتفرّع على حصول العصيان والإقدام على المخالفة ، وحيث يتحقّق منه الإذن في التأخير مع ظنّ السلامة فلا إقدام على المعصية ضرورة ، وإن تخلّف الظنّ عن الواقع وحصل ترك المطلوب لتحقّق الترك حينئذ على الوجه المشروع السائغ المأذون فيه من الآمر ، فلا يتعقّل ترتّب العقوبة عليه من تلك الجهة مع عدم مخالفته لمولاه وجريانه على مقتضى إرادته وإذنه ، فليس ما نقوله من انتفاء العقوبة مبنيّا على الملازمة بين الاكتفاء بظنّ سلامة العاقبة وحصول السلامة ، ضرورة حصول التخلّف في المثال المفروض وغيره ، وإنّما المقصود عدم إمكان حصول الإقدام على العصيان مع تجويز التأخير إذا اتّفق معه حصول الترك من غير اختيار.

ومن هنا قد يتخيّل الفرق بين الواجبات الموسّعة في حكم الشرع وما حكم بتوسعته العقل ، إذ مع تجويز الشرع للتأخير لا يعقل التأثيم والعقوبة على الترك المتفرّع على تجويزه.

ص: 291

وأمّا لو كان ذلك بحكم العقل من دون حكم الشرع بجواز التأخير فلا يتّجه ذلك ، إلى أن قال :

وأنت خبير بأنّ ذلك لا يصحّح تفرّع العقوبة ولا تحقّق العصيان ، إذ ليس العصيان مجرّد ترك المأمور به لحصوله من الساهي والناسي ونحوهما ممّن لا كلام في عدم عصيانه ، وإنّما العصيان ترك المأمور به على وجه غير مأذون فيه ، والمفروض حصول الإذن في التأخير اللازم للترك بحسب الواقع وإن لم يعلم به المأمور ، فلا يعقل حصول العصيان سواء حصل ذلك الإذن من الشرع على الوجه المذكور أو غيره ، أو من العقل الّذي أمر الشارع باتّباعه وقضى البرهان بموافقته لحكم الشرع وكونه من أدلّته » إلى آخر ما ذكره.

وأنت خبير بأنّ التزام كون ذلك حكما من العقل ليوجب الافتقار إلى إثبات الملازمة بينه وبين الشرع ممّا لا داعي إليه ولا يتوقّف تتميم المطلوب عليه ، لما قدّمناه من كفاية إطلاق الدليل في الواجبات المطلقة في إثبات جواز التأخير فيها على الإطلاق ، وهو كما ترى مفاد لما لا ريب في كونه دليلا شرعيّا مثبتا لحكم الشرع.

غاية الأمر أنّ استفادة ذلك الحكم من الإطلاق إنّما هو من فعل العقل ، وهو لا يقضي بكونه حكما من العقل كما لا يخفى.

فالأنسب بطريق النظر والتدقيق أن يدفع الفرق بين القسمين بعدم الفرق بينهما في كون الجواز المفروض حكما من الشرع.

غاية الأمر أنّه في القسم الأوّل ثابت من الشرع بقيام النصّ وفي القسم الثاني بقيام الظاهر ، نظرا إلى أنّ الإطلاق في المطلقات نوع من الظواهر ، ومن المعلوم أنّ الأحكام المستفادة عن ظواهر الأدلّة كتابا وسنّة أحكام شرعيّة كالأحكام المستفادة عن نصوصها ، فالفارق مفقود ليوجب الفرق بينهما في الحكم.

فبما قرّرناه تبيّن أنّه لا فرق في عدم العصيان بين ما لو أخّره مع ظنّ السلامة أو مع الشكّ فيها ما لم يكن متهاونا في أداء الواجبات ، إذ الجواز في التأخير ثابت في كليهما حسبما تقدّم في محلّه.

وأمّا المقام الثاني : فقضيّة ما قرّرناه من القاعدة في نفي العصيان سقوط القضاء أيضا ، وعدم وجوبه عليه ولا على وليّه لو صادفه الموت ، إذ المفروض استناد الفوات إلى الإذن في التأخير المؤدّي إليه شرعا لا إلى تقصيره وتفويته ، ولا سيّما إذا قارن تأخيره العزم على

ص: 292

الفعل في الزمان المتأخّر ، فلا معنى لإيجاب القضاء حينئذ.

وبالجملة : الإذن في التأخير المؤدّي إلى فوات الواجب بغتة مستلزم لنفي لوازمه منها : ترتّب الإثم واستحقاق العقاب كما تقدّم.

ومنها : بقاء الأمر.

ومنها : تفرّع القضاء ، إلاّ أنّ ظاهر الأصحاب عملا وفتوى يقضي بخلاف ذلك ، حيث يوجبون القضاء على ذوي الأعذار كالنائم والغافل والحائض في الجملة أو على أوليائهم ، مع كون العذر في المقام هو الموت فينهض ذلك حينئذ قاعدة ثانويّة واردة على القاعدة الأوّلية ، فلذا قال بعض الأجلّة في هذا المقام : « بأنّه يجب عليه الوصيّة بقضائه بدنيّا كان أو ماليّا إن كان متمكّنا من أدائه ، وإن لم يوص أو لم يتمكّن منها فالقضاء على وليّه إن كان بدنيّا ، وإن كان ماليّا وجب إخراجه من صلب المال بالتفصيل المذكور في محلّه ».

فوائد ، الفائدة الخامسة

« الفائدة الخامسة »

لو علم أو ظنّ بعدم تمكّنه عن بعض شروط الواجب أو أجزائه لو أخّره - كما لو علم أو ظنّ بأنّه لا يتمكّن عن الطهارة المائيّة ، أو عن ستر العورة أو يصيبه ما يوجب تنجّس بدنه أو ساتر عورته ، أو يصادفه ما يقضي بفوات القيام عن صلاته من مرض ونحوه - فهل يتضيّق عليه الواجب حينئذ ، فلا يجوز التأخير أو لا؟ بل هو باق على توسعته الواقعيّة الثابتة له بصريح النصّ أو إطلاقه.

ويرجع صورة المسألة إلى أنّه لو دار الأمر في أداء الواجب بين الفرد الاختياري والفرد الاضطراري فهل يجوز اختيار الاضطراري مكان الاختياري حتّى يلزم منه جواز التأخير أو لا؟ فيه إشكال مبنيّ على أنّ التخيير الّذي اقتضته توسعة الوقت هل هو تخيير بين الأفراد الواقعة في درجة واحدة خاصّة أو تخيير بينها مطلقا ولو مع تفاوت درجاتها ، بل خلاف وقع في المقام.

فالّذي صرّح به بعض الفضلاء وفاقا لأخيه هو الأوّل حيث قال : « واعلم أنّه قد يختلف كيفيّة الواجب الموسّع بحسب اختلاف أحوال المكلّف ، فإن كان مرجعه إلى اختلاف حال العجز والقدرة تضيّق عليه بحسب تضيّق زمن أداء كيفيّة الواجب المنوطة بالقدرة ، كما إذا علم المكلّف بأنّه لا يتمكّن بعد تأخير الصلاة عن بعض الوقت من أدائها بالطهارة المائيّة أو الطهارة الخبثيّة أو القيام أو غير ذلك فإنّها تتضيّق عليه قبل مقدار أدائها بالكيفيّة

ص: 293

الواجبة ، وإن بقى زمن الأداء إلى آخر الوقت مع بقاء التمكّن ، كما يظهر أثره في النيّة عند التأخير ، وفي عدم جواز التأخير عن الوقت.

وإن رجع إلى غير ذلك كالقصر والإتمام المستندين إلى حال السفر والحضر لم يتعيّن عليه أحدهما بخصوصه بمجرّد دخول الوقت ، بل يراعى فيه حال الفعل جريا على ظاهر الخطاب ، وما يقال : من أنّه يستصحب ما وجب عليه أوّل الوقت من قصر وإتمام وإن انتقل إلى حالة اخرى فضعيف » انتهى.

وعن بعض الأفاضل (1) - كما في الهداية - الثاني ، حيث حكى فيها أنّه قال : وممّا يتفرّع على توسيع الوقت وحصول التخيير بين جزئيّات الأفعال المتميّزة بحسب أجزاء الوقت ، التخيير بين لوازم تلك الأفعال بحسب تلك الأوقات ، كما إذا كان مقيما في بعض أجزاء الوقت مسافرا في بعضها ، وكونه صحيحا في بعضها مريضا في البعض الآخر ، واجدا للماء في بعضها وفاقدا له في آخر ، فيتخيّر بين تلك الخصوصيّات واللوازم كما أنّه متخيّر بين نفس الأفعال إذ التخيير بين الأفعال يستتبع التخيير في لوازمها.

قال رحمه اللّه : فلا يمكن التمسّك باستصحاب ما يلزم المكلّف في أوّل الوقت في جزء آخر ، فالمكلّف في أوّل الظهر إنّما هو مكلّف بمطلق صلاة الظهر فعلى القول باعتبار حال الوجوب في مسألة القصر في السفر لا يمكن التمسّك باستصحاب وجوب التمام في أوّل الوقت.

وقال الفاضل الحاكي للعبارة : « قضيّة ما ذكره جواز أداء الواجب لأصحاب الأعذار في أوّل الوقت من غير حاجة إلى التأخير مع رجاء زوال العذر وعدمه ، بل ومع الظنّ أو القطع بارتفاعه ، بل الظاهر ممّا ذكره قضاء ذلك بجواز التأخير مع عدم حصول العذر في الأوّل إذا ظنّ أو علم بحصوله مع التأخير ، بل ويجوز إذا إيجاده العذر المسقط للخصوصيّة الاختياريّة نظرا إلى ما زعمه من التخيير ، وهذا الكلام على إطلاقه ممّا لا وجه له أصلا.

وتوضيح الكلام في المرام : أنّ الخصوصيّات التابعة لكلّ من تلك الأفعال الخاصّة إمّا

ص: 294


1- وهو ممّا صرّح به بعض الأعلام حيث قال : « وممّا يتفرّع على توسيع الوقت والتخيير فيه التخيير في لوازمه بدلالة الإشارة ، فلا يمكن التمسّك باستصحاب ما يلزم المكلّف في أوّل الوقت في جزء آخر ، فالمكلّف في أوّل الظهر إنّما هو مكلّف بمطلق صلاة الظهر فعلى القول باعتبار حال الوجوب في مسألة القصر في السفر لا يمكن التمسّك باستصحاب وجوب التمام أوّل الوقت ، لأنّ المكلّف مخيّر في أوّل الوقت بأداء مطلق الصلاة في أيّ جزء من الأجزاء ويمكن المخالفة في الأجزاء في نفس الأمر بالقصر والإتمام والصلاة بالتيمّم والغسل والوضوء وصلاة الخوف وصلاة المريض وغير ذلك فتخيير المكلّف في إيقاعها في هذه الأجزاء تخيير في لوازمها ، فافهم ». ( منه ).

أن يكون ثابتة للطبيعة المطلقة في حال الاختيار فتكون متساوية الثبوت بالنسبة إليها ، أو يكون مختلفة في ذلك فيثبت بعضها في حال الاختيار وبعضها في حال الاضطرار ، ثمّ إنّ تلك الخصوصيّة إمّا أن تكون معلوم الثبوت للجزء في الواقع في الزمان الخاصّ أو يكون مشكوك الثبوت له فيفتقر الحكم بثبوتها له إلى إقامة الدليل عليه ، فإذا كانت تلك الخصوصيّات في درجة واحدة فلا ريب في تخيير المكلّف بينها كالصلاة التامّة والمقصورة ، والصلاة مع الوضوء أو الغسل الرافع.

وإن كان ثبوت أحدهما في حال الضرورة لم يجز له تأخير الواجب إليه مع تمكّنه أوّلا من الخصوصيّات الاختياريّة لتعيّن ذلك عليه حينئذ ، فلا يجوز تركه مع الاختيار والتخيير الحاصل من التوسعة لا يفيد ذلك ، إذ أقصى الأمر أن يفيد التخيير بين الخصوصيّات الاختياريّة وأمّا التخيير بين الاختياري والاضطراري فلا يكون إلاّ على وجه الترتيب ، فلا يجوز ترك الأوّل مع الإمكان واختيار الثاني ، فتفريع ذلك على التخيير المفروض غير متّجه.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان في الأوّل على صفة الاضطرار لكن كان متمكّنا من الصفة الاختياريّة في التأخير ، فإنّ قضيّة الأصل في ذلك أيضا وجوب التأخير أخذا بمقتضى الترتيب ، لصدق حصول التمكّن معه حينئذ ، فلا يتعلّق التكليف بالأوّل مع إمكان أداء الواجب على وجهه.

والقول بتعلّق الأمر به في كلّ جزء من أجزاء الزمان على وجه التخيير فيعتبر حاله في كلّ جزء من الزمان من القدرة والعجز فيأخذ بمقتضاه غير متّجه ، لأنّ المطلوب في المقام هو حقيقة الفعل الواقع بين الحدّين ، والتخيير الواقع بين أجزاء الوقت تخيير عقليّ تبعي ، فمع صدق التمكّن من الواجبات الاختياريّة لا وجه للتنزيل إلى ما تجب حال الاضطرار مع عدم قيام الضرورة عليه.

إلى أن قال : فلا يتّجه لأصحاب الأعذار تقديم الصلاة في أوّل الوقت مع علمهم بزوال العذر في الآخر أو ظنّهم به ، على حسبما يقتضيه الأصل المذكور.

نعم لو قام دليل عليه في خصوص المقام فهو خارج عن محطّ الكلام » انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره مناقشة وردّا وتحقيقا دعوى تحتاج إلى شاهد ، وصاحب ما ذكر من القول مستظهر ، فإنّ معنى التخيير بين أجزاء الوقت جواز الإتيان بحقيقة الفعل

ص: 295

المأمور بها في أيّ جزء من تلك الأجزاء اتّفق ، ولا يعنى من توسعة الوقت إلاّ هذا.

وقضيّة ذلك أن يلاحظ في كلّ وقت أراد المكلّف أداءها فيه ما يساعد عليه الحالة العارضة له في ذلك الجزء من الوقت ، سواء كانت حالة اختيار أو حالة اضطرار ، حالة سفر أو حالة حضر ، والعلم أو الظنّ بتبدّل حالة إلى اخرى في جزء منها لا يوجبان خروج هذا الجزء من مفهوم التوسعة المدلول عليها بالنصّ أو الإطلاق ، وإلاّ لكان تقييدا بلا دليل.

فالقول بأنّ المختار أوّل الوقت لا يسوغ له التأخير إلى ما يطرأه حالة اضطرار فيه من أجزاء الوقت مخالف للقاعدة ، فلا بدّ له من دليل يعتمد عليه ، كما أنّ وجوب التأخير على ذوي الأعذار مع رجاء زوال العذر إلى ما يزول فيه العذر دعوى لا شاهد عليها ، ولو فرض هناك دليل على كلا الدعويين فهو خارج عن محطّ النظر ، لأنّ نظر الأصولي إنّما يتعلّق بما يقتضيه القواعد الاصوليّة لا ما يساعد عليه الأدلّة الخاصّة ، فإنّ لإعمالها محلا آخر لا يرتبط بفنّ الاصول.

فتحقيق المقام أن يساق الكلام في ذلك المرام إلى النظر في أنّ الخصوصيّات المختلفة بالقياس إلى حالتي الاختيار والاضطرار الحاصلة عن شتات أحوال المكلّف هل هي أفراد حقيقيّة للماهيّة المجعولة المأمور بها بدعوى : أنّ ما جعلها الشارع من الماهيّة هو القدر الجامع بين تلك الخصوصيّات القابل لأن يطرأه كلّ واحدة منها على سبيل البدليّة ويتعاور عليه كلّ على طريق التناوب.

أو كلّ واحدة منها ماهيّة على حدة جعلها الشارع لمن يناسبها حاله من شتات المكلّفين ، حتّى أنّه جعل هناك ماهيّات متعدّدة على حسب تعدّد أحوال المكلّف وتشتّتها ، فلجامع جميع جهات الاختيار ماهيّة ، ولفاقد الطهارة المائيّة ماهيّة ، ولفاقد الطهارة الخبثيّة ماهيّة ، ولمن لا يقدر على الصيام ماهيّة ، ولمن يعجز عن القراءة ماهيّة ، وللمزمن ماهيّة ، وللمحبوس ماهيّة ، وللغرقى ماهيّة ، وللحرقى ماهيّة وهكذا إلى ما لا يحصى.

أو أنّ ما جعلها الشارع ليست إلاّ ماهيّة واحدة وهي جامعة لجميع جهات الاختيار ، وأنّ ما عداها من الاضطراريّات ليست من المجعولة في شيء لا فردا ولا عينا ، وإنّما هي امور خارجة نزّلها الشارع في مقام الامتثال منزلة مجعوله الّذي يتعلّق به الأمر ، واكتفى به عنه في غير حالة الاختيار فتكون مسقطة عن المأمور به لا نفسه.

أو أنّها وإن كانت خارجة عن الحقيقة إلاّ أنّها مرادة من الأمر بها مجازا من باب الإطلاق على عموم المجاز.

ص: 296

ومن البيّن أنّ ما عدا الاحتمال الأوّل عار عن التحقيق ، فلا يصغى إليه عند إرادة التدقيق ، مع أنّ ما ذكر من الدعويين لا يستقيم إلاّ على الأوسط من ذلك والتزامه في المقام أصعب من خرط القتاد ، حيث لم يتفوّه به أحد من الأصحاب كما يظهر من بعض الأعلام ، على أنّ الخصوصيّات المذكورة ليست عندهم إلاّ أفرادا حقيقيّة للمأمور به ، لوجود أغلب أمارات الحقيقة وانتفاء علامات المجاز وبذلك يسقط الأخير ، مضافا إلى أنّ احتمال التجوّز في جميع الأوامر ممّا لا ينبغي الإلتفات إليه ، مع أنّه لا يجدي نفعا في المقام ، إذ قضيّة ذلك كون المأمور به أوّل الوقت هو الماهيّة المطلقة القابلة لأن يطرأها كلّ من وصفي حالة الاختيار والاضطرار فيلزم جواز الاجتزاء بكلّ من فرديها الحقيقي والمجازي ، إلاّ أن يقال : بأنّها تنصرف إلى الفرد الحقيقي فلا يخرج عنه إلاّ بدليل ولا دليل في المقام وقضيّة ذلك ثبوت الدعويين بكلتيهما.

وأمّا الأوّل من ذلك (1) فأوضح فسادا ، فإنّه - مع كونه في نفسه ممّا يكذّبه الوجدان - مستلزم في الأوامر بأسرها للاستعمال في أكثر من معنى ، أو التجوّز بإرادة القدر الجامع.

ولا يصغى إلى شيء منهما مع أنّه لا يجدي أيضا ، لأنّ المكلّف إذا طرأه في الوقت حالتان تقتضي إحداهما ماهيّة والاخرى ماهيّة اخرى فالحمل على إحداهما دون الاخرى تحكّم ، بل المناسب حينئذ إنّما هو القول بالتخيير بين اللوازم والخصوصيّات ، بأن يلتزم في كلّ جزء من الوقت ما يناسبه ذلك الجزء من الماهيّات المجعولة من دون أن يتعيّن عليه بعض دون آخر ، إلاّ على دعوى الانصراف أيضا أو نحو ذلك.

وأمّا على ما هو الحقّ من الاحتمالات فالمتّجه حينئذ هو هذا القول أيضا بناء على ظاهر النظر ، لأنّ المأمور به حينئذ هو الماهيّة القابلة لجميع شتات الخصوصيّات ، فيكون دعوى تعيّنها في ضمن بعض أفرادها دون الآخر ممّا لا شاهد لها.

وقضيّة ذلك ثبوت التخيير على الوجه المذكور كالتخيير فيما بين القصر والإتمام لمن كان حاضرا فسافر ، أو مسافرا فحضر ، الّذي يسلّمه الفاضلان.

ولا يرد : أنّ قضيّة ذلك ثبوت التخيير في آن واحد ولو كان المكلّف مختارا وهو بديهيّ البطلان ، لأنّ الخصوصيّات المنوطة بغير حالة الاختيار لا يتشخّص بعنوان كونها أفرادا

ص: 297


1- والمقصود منه هو الاحتمال الثاني من الاحتمالات الأربعة الّتي ذكرها قدس سره بقوله : « أو كلّ واحدة منها ماهيّة على حدّه ... الخ ».

للماهيّة المجعولة المأمور بها إلاّ بطريان حالة الاضطرار ، بمعنى أنّ الصلاة عن قعود لا تعدّ فردا من المأمور به إلاّ إذا صدرت عمّن يعجز عن القيام ، والصلاة مع الطهارة الترابيّة لا تعدّ من أفراد الماهيّة المجعولة إلاّ في حقّ فاقد الماء ، فلو أتى القادر على القيام أو الطهارة المائيّة بالصلاة عن قعود أو مع الطهارة الترابيّة لم يكن آتيا بالطبيعة المأمور بها في ضمن فردها.

والسرّ في ذلك أنّ الشارع إنّما لاحظ الماهيّة عند الجعل والأمر بها بحيث يطرأها حالة الطهارة المائيّة ممّن يقدر عليها ، والطهارة الترابيّة مّمن يعجز عن الأوّل ، وحالة القيام من المتمكّن عن القيام ، وحالة القعود ممّن يعجز عن الأوّل ، وقراءة السورتين ممّن يقدر عليها وما ينوب عنها ممّن لا يتمكّن عنها وهكذا ، فالماهيّة المجعولة في إطلاقها - على حسبما ما قرّرناه - ليس على الإطلاق ليلزم ما ذكر من المحذور.

نعم لو قيل في المقام لإثبات الدعويين بانصراف تلك الماهيّة إلى فردها الكامل لا لقرينة الكمال الّتي لا يعبأ بها عندنا ، بل لقرينة الشيوع وغلبة الإطلاق غلبة معتدّة بها - كما لا يخفى - لكان له وجه ، مضافا إلى قضاء قاعدة الاشتغال بذلك أيضا ، فإنّ الشبهة في الصورتين المفروضتين واقعة في المكلّف به ، لدوران الأمر في أوّل الوقت بين جواز الاكتفاء بالفرد الاضطراري أو تعيين الاختياري ، ولا شكّ أنّ القطع بالامتثال الّذي يستدعيه القطع بالاشتغال بحكم القوّة العاقلة لا يحصل إلاّ باختيار الاختياري.

فتقرّر : أنّ الأقرب في المسألة ما صار إليه الفاضلان ، لا لمجرّد الدعوى كما عرفت منهما ، بل لما قرّرناه من الحجّة ، ولا يفرق فيما ذكر بين كون الواجب أصليّا واجبا بأصل الشرع ، أو عرضيّا باختيار المكلّف كالمنذورة والاستيجار ونحوهما ، أو من جانب الشارع كقضاء الميّت على الوليّ.

أمّا الأوّل والأخير فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلعدم انصراف إطلاق النذر وإطلاق العقد إلى العبادة الاضطراريّة إلاّ أن يقوم في ذلك إذن صريح أو شاهد حال يفيد القطع بالاجتزاء.

فمن زعم التخيير فيما ذكر من اللوازم إن أراد به التخيير الشرعي كما في خصال الكفّارة.

فيردّه : ما ذكر من أنّ قضيّة انصراف اللفظ إلى الاختياري إنّما هو التعيين مضافا إلى أصل الاشتغال.

وإن أراد به التخيير العقلي الّذي يثبت في موارد البيان بحكم العقل كما بين أفراد الواجب في المطلقات.

ص: 298

فيردّه : أنّ العقل في خصوص المقام قاض بالتعيين تحصيلا للقطع بالبراءة لدفع الضرر المحتمل.

وإن أراد به التخيير العقلي الثابت في مواضع الاشتباه كما في اشتباه المطلّقة بالمنذورة وطؤها.

فيردّه : أنّه مبنيّ على الدوران بين المحذورين ، بأن لا يكون في المقام قدر متيقّن ممّا يحصل به الامتثال كما في المثال ، وهو هنا موجود لكون الفرد الاختياري ممّا يفيد القطع بالامتثال.

وبالجملة العقل لا يقضي بالتخيير إلاّ إذا انحصر المناص فيه ، والمقام ليس منه جزما.

في الفروع المتعلّقة بالمقام

ثمّ بقي في المقام فروع :

أحدها : ما لو كان المكلّف في أوّل الوقت مريضا مأمورا بالعبادة غير قادر على الاختياريّة ، وكان عالما أو ظانّا بأنّه لو بادر إلى المعالجة لارتفع المرض ويكون عبادته اختياريّة ، فهل يجب عليه المبادرة إليها أو لا؟ مقتضى الإطلاق وأصالة البراءة عن التكليف الزائد هو العدم ، ولا يجري هنا قاعدة الاشتغال لعدم القطع بثبوته في تلك الحال إلاّ بالنسبة إلى الاضطراريّة ، ولا تأثير لانصراف الإطلاق إلى الاختياريّة ، بل لا انصراف مع كون الحال عن أوّل الوقت هذا ، ولا يجري قاعدة وجوب المقدّمة أيضا - على فرض تسليمه في غير المقام - لأنّه فرع وجوب ذيها وهو غير ثابت ، بل الثابت خلافه.

نعم لو كان الوجوب بالنسبة إلى الاختياريّة ثابتا لكان الاحتمال الأوّل التفاتا إلى وجوب مقدّمة الواجب متجّها.

وثانيها : لو علم أو ظنّ بتبدّل حالة الاختيار إلى الاضطرار قبل الوقت ، أو قبل تعلّق الوجوب بالذمّة ، كما إذا علم قبل الوقت بأنّه إن لم يتطهّر بالماء حينئذ لا يمكنه ذلك بعد دخول الوقت ، سواء علم أو ظنّ بتضيّق المأمور به بالعرض في أوّل تعلّق الخطاب أو لم يعلم ، أو علم ببقائه على التوسعة الأصليّة - وأمّا المضيّق بالأصالة كصوم نهار رمضان فهو خارج عن عنوان المسألة لكون الكلام في الواجبات الموسّعة - فهل يجب عليه في الصورة المفروضة تحصيل ما له مدخل في حالة الاختيار مقدّمة لكون عبادته بعد دخول الوقت اختياريّة أو لا؟

عدم الوجوب فيه أوضح منه في سابقه كما يظهر بأدنى تأمّل ، وأصالة البراءة سليمة

ص: 299

عن جميع المعارضات ، وجريان قاعدة الاشتغال قبل الاشتغال غير معقول.

وثالثها : قال بعض الأفاضل : لو أتى بما يرفع التمكّن من الفعل ، فإن كان ذلك قبل دخول الوقت وتعلّق الوجوب بالمكلّف فيما يكون الوقت شرطا للوجوب فالظاهر أنّه ممّا لا مانع منه في المضيّق والموسّع ، وإن كان بعد دخول وقت الموسّع فإن كان مانعا من الإتيان به فالظاهر أنّه في حكم تعمّد الترك.

والظاهر أنّه لا فرق بين ما إذا كان متمكّنا من الفعل حين الإتيان بذلك المانع أو غير متمكّن منه بجهة اخرى إذا لم يكن مانعا فيه في جميع الوقت علما أو ظنّا. ولو علم ببقائه فلا مانع من تعرّضه للآخر ، وكذا الحال لو أتى بذلك قبل دخول الوقت فيما لا يكون الوقت شرطا في وجوبه إذا علم كونه مانعا في جميع الوقت ، ولو شكّ في ارتفاع المانع الحاصل قوي المنع من التعرّض لمانع آخر يمنع من الفعل مطلقا علما أو ظنّا ، ولو ظنّ معه بالمنع ففيه وجهان ، ولو كان شاكّا في كون ما يقدم عليه مانعا من الإتيان بالواجب في جميع الوقت ففي جواز الإقدام عليه وجهان ، وذلك كما إذا أراد النوم بعد دخول الوقت وكان شاكّا في تيقّظه قبل انقضاء الوقت ، وأمّا إذا كان ظانّا بالانتباه فلا يبعد الجواز ، وحينئذ فإن اتّفق استمراره على النوم لم يكن عاصيا.

ورابعها : لو كان سلب الاختيار بالنسبة إلى العبادة الاختياريّة من جانبه ، كما إذا كان له ماء فأتلفه مع العلم أو الظنّ بأنّ تحصيله في الوقت على وجه يسعه زمان الاستعمال والإتيان بالعبادة غير ممكن ، فإن كان ذلك قبل دخول الوقت فلا بأس به جزما ، وإن كان بعده ففيه وجهان : من أصالة الإباحة وكون الترك مقدّمة للاتيان بالفرد الاختياري الّذي ينصرف إليه الإطلاق ، ومثله ما لو كان متطهّرا ونقضها اختيارا مع العلم أو الظنّ بعدم إمكان التحصيل ، ويرشد إلى أوّل الوجهين قيام الفتوى بجواز ارتكاب الجنابة في الوقت أو قبله مع العلم بعدم إمكان تحصيل الطهارة المائيّة في الوقت ، ولعلّه لدليل خاص وإلاّ فلا يساعد إطلاقه القواعد المقرّرة الشرعيّة كما لا يخفى.

ثمّ اعلم أنّ القوم كانت عادتهم جارية على إيراد ما أوردناه من الفوائد هنا في بحث الواجب الموسّع ، وإنّما خالفناهم بإيرادها في ذيل مبحث الفور لاشتراك الواجب المطلق - الّذي هو مفاد الأمر المطلق - مع الواجب الموسّع فيما يلحقه من الأحكام المذكورة كما عرفت ، فلم يكن ما فعلناه خاليا عن وجه مناسبة كما لا يخفى.

ص: 300

في تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد

- تعليقة -

بعد ما اتّفقوا على أنّ الأمر له مدلول باعتبار الهيئة الموضوعة له بالنوع وهو الوجوب على المختار ، ومدلول باعتبار المادّة الموضوعة له بالشخص وهو الحدث ، إختلفوا في أنّ ذلك المدلول باعتبار تعلّق المدلول الأوّل به هل هو طبيعة الحدث أو فرد منها وقد يعبّر بالجزئي المطابق لها ، وربّما يوصف بالحقيقي؟ على قولين فعن الأكثر مصيرهم إلى الأوّل.

وعن جماعة منهم التوني والحاجبي ذهابهم إلى الثاني ، وعليه المصنّف على ما يوهمه كلامه في بحثي اجتماع الأمر والنهي والمفرد المعرّف باللام.

وعن القطب الشيرازي كونه المشتهر بين العامّة.

وربّما يوجّه الخلاف بما يقضي بخروجه لفظيّا من حمل القول الأوّل على إرادة كون المتعلّق أوّلا وبالذات هو الطبيعة لا بشرط.

والقول الثاني على إرادة كونه ثانيا وبالعرض هو الفرد.

وربّما يقال بتفرّع النزاع على وجود الكلّي الطبيعي في الخارج وعدمه ، وقيل أيضا بأنّ النزاع إنّما نشأ عن عدم التميّز بين الماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط لا ، على ما فهمه شارح الشرح من عبارة العضدي وقرّره.

والظاهر رجوع النزاع إلى متعلّق الأمر في المراد لا في الوضع واللغة ، كما تنبّه عليه بعض الأعلام مصرّحا : « بأنّ القائل بكون المطلوب هو الفرد لا ينكر كون المطلوب هو الماهيّة لا بشرط بحسب اللغة والعرف ، إلاّ أنّه يزعم قيام القرينة على خلاف ذلك من جهة العقل » لا لما استشهد به - وقررّه بعض الأجلّة - من أنّهم لا ينكرون ذلك في شيء من الموارد ، مثل قولهم في بحث المرّة والتكرار والفور والتراخي : « بأنّ الأمر لا يقتضي إلاّ طلب الماهيّة » فإنّ ذلك قابل للتوجيه بما لا ينافي إرادة الفرديّة ، كما تقدّم في بحث المرّة

ص: 301

من جواز حمل الماهيّة على ذات الشيء وحقيقته ، فيشمل الحقيقة الشخصيّة أيضا ، وإنّما اطلقت عليها لقبولها كلاّ من وصفي المرّة والتكرار ووصفي الفور والتراخي كالكلّيّة.

بل لاحتجاجهم على هذا القول باستحالة الطلب لولا تعلّقه بالفرد - على ما سيأتي تقريره مفصّلا - ولا ريب أنّه يوجب تعيّن المراد لا الموضوع له كما لا يخفى.

مضافا إلى اتّفاقهم على كون موادّ الأفعال وغيرها من المشتقّات وضعا للطبائع على ما ادّعاه السكّاكي في كلام محكيّ عنه - من أنّ الخلاف في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للماهيّة أو للفرد المنتشر في غير المصادر الغير المنوّنة ، وأمّا فيها فالإجماع واقع على أنّها الطبيعة من حيث هي ، والوضع الطارئ للصيغة لا يوجب تبدّل المعنى المادّي وإلاّ لعرى وضع المادّة عن الفائدة ، ولو فرض ذلك راجعا إلى المادّة مع قطع النظر عن الهيئة العارضة لها للزم النقل أو الاشتراك ، بدعوى وضعها تارة للطبيعة إذا تحقّقت في ضمن صيغ سائر الأفعال ، وللمفرد منها إذا تحقّقت في ضمن فعل الأمر والكلّ بعيد لا يصغى إليها مع مخالفتها الاصول.

فعلى هذا يتناول النزاع لمثل « يجب كذا » و « أمرتك بكذا » و « أنت تفعل كذا » بل لما ثبت الحكم الشرعي لموضوعه بالإجماع ونحوه ، فلذا يعبّر عن العنوان في كثير من المواضع بتعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد.

فاحتجاج الأكثر لمختارهم بالتبادر ونحوه ، وما حكى عن السكّاكي من الاتفاق على وضع المصادر ليس على ما ينبغي كما لا يخفى.

وعلى أيّ حال كان فمرادهم بالماهيّة هي الأمر المشترك بين الأفراد وبالجزئي المقابل لها فردّ مّا من الأفراد الممكنة لها على ما فسّره شارح الشرح ، فيرجع العنوان حسبما قرّرناه إلى أنّ الأمر بأيّ صيغة أطلق فهل يراد منه نفس الماهيّة أو فرد مّا منها؟

وتحقيق القول في المسألة مبنيّ على النظر في وجود الكلّي الطبيعي وعدمه ، لما عرفت من القول بتفرّع النزاع على الخلاف في تلك المسألة.

قال الشيخ البهائي : ومنشأ النزاع الاختلاف في وجودها لا بشرط ، وقضيّة ذلك أنّ من قال بوجودها في الأعيان قال بالأوّل ، ومن قال بالعدم قال بالثاني.

فنقول : لا خلاف في عدم وجود الماهيّة بنفسها وهي الّتي يعرضها الكلّي المنطقي - وهو عدم امتناع فرض صدق الشيء على الكثيرين - المعبّر عنها مجرّدة بالكلّي الطبيعي

ص: 302

ومقيّدة بالكلّي العقلي (1).

وأمّا وجودها بعين وجود الأفراد بحيث يكون الفرد الموجود الخارجي عين الماهيّة الكلّية ، أو في ضمن وجود الأفراد بحيث يكون جزءا من الأفراد الخارجيّة ، وعدم وجودها مطلقا ، ففيه خلاف ، يظهر الأوّل عن المصنّف في كلام محكيّ عنه (2) في الحاشية على حكمه بكون الاستعمال في اللفظ الموضوع للمعنى الكلّي في خصوص الجزئي مجازا ، عند ردّ احتجاج من يزعم صيغة « افعل » للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، فقال : « هذا الحكم واضح عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده ، وأمّا على هذا القول - وهو الأظهر - فوجه المجازيّة » ... إلى آخره.

ويستفاد ذلك عن شارح الشرح أيضا حيث قال : « والحقّ وجودها في الأعيان لكن لا من حيث كونها جزءا من الجزئيّات المحقّقة على ما هو رأي الأكثرين ، بل من حيث إنّه يوجد شيء يصدق هي عليه ، وقد تكون عينه بحسب الخارج وإن تغايرا بحسب المفهوم ».

والثاني منسوب إلى المحقّقين ويستفاد عن كلام محكيّ عن الشيخ في الشفاء ، وهو - على ما في حاشية الزبدة من مؤلّفها - قوله : « والحيوان بشرط أن لا يكون معه شيء آخر لا وجود له في الخارج ، وأمّا الحيوان لا بشرط فله وجود في الأعيان ، فإنّه في حقيقته بلا شرط وإن كان معه ألف شرط يقارنه من الخارج ، فالحيوان بمجرّد الحيوانيّة موجود في الأعيان وليس ذلك يوجب عليه أن يكون مفارقا ، بل الّذي هو في نفسه خال عن الشرائط اللاحقة موجود في الأعيان وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال ، فهو في حدّ وحدته الّتي هو بها واحد من تلك الجهة هو حيوان مجرّد بلا شرط شيء آخر » انتهى.

والثالث معروف ، وأوسط الأقوال أوسطها ، فإنّ الكلّي الطبيعي - على ما يساعده التحقيق - موجود في الأعيان وفي ضمن الجزئيّات.

لنا على ذلك : قضاء الوجدان بأنّ كلّ شخص فيه من الماهيّة ما لو قطع (3) النظر عن

ص: 303


1- وإن شئت تصوير هذه الأقسام فقسها على مفهوم لفظة « قائم » مثلا فإنّ هنا وصفا وذاتا ، والذات قد تلاحظ مجرّدة عن عروض ذلك الوصف وقد تلاحظ معروضة لذلك الوصف بحيث يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ( منه ).
2- حكاه ابنه والمدقّق الشيرواني ( منه ).
3- وبعبارة اخرى : قضاء الحسّ والعيان بوجود حصّة من الماهيّة الكلّيّة في ضمن الشخص الّذي لو قطع النظر عن جميع مشخّصاته لكانت تلك الحصّة مطابقة لتلك الماهيّة ولا نعني من وجود الكلّي الطبيعي إلاّ هذا ( منه عفى عنه ).

جميع مشخّصاته وعوارضه لكان منطبقا على الماهيّة الكلّية القابلة لصدقها عليه وعلى غيره بالسويّة.

وبذلك يندفع ما عساه يورد من أنّ الماهيّة لكونها معروضة للكلّي المنطقي فيجب أن لا يمتنع فرض صدقها على كثيرين ، والموجود الخارجي كيف يعقل صدقه على الكثيرين ، فإنّ الممتنع صدقه على الكثيرين إنّما هو الماهيّة المقيّدة بالتشخّصات وأمّا هي مع قطع النظر عنها فقابلة للصدق على الكثيرين.

لا يقال : فيلزم سقوط الجزئي الّذي أطبق على وجوده - قبالا للكلّي - جميع أهل الملل والأديان عمّا في البين ، لتضمّن كلّ شخص يقال لها الجزئي لتلك الماهيّة الّتي تكون كلّيّا ، إذ الفرق بين الكلّي والجزئي اعتباري منوط باعتباري التجرّد والتقيّد في الماهيّة المذكورة ، فإنّها لو اخذت مقيّدة يقال لها : « الجزئي » لامتناع فرض صدقها حينئذ على الكثيرين ، ولو اخذت مطلقة يقال لها : « الكلّي » لعدم امتناع فرض صدقها حينئذ على كثيرين.

وبالجملة : قضيّة ما ذكرنا من حكم الضرورة والوجدان كون كلّ شخص مركّبا عن الماهيّة والتشخّصات العارضة لها ، فلذا قيل في وجه تسمية الكلّي والجزئي بهما : أنّ الكلّي منسوب إلى الكلّ الّذي هو الجزئي ، لاشتماله عليه مع شيء زائد وهو التشخّص والمنسوب إلى الكلّ كلّي ، والجزئي منسوب إلى الجزء الّذي هو الكلّي والمنسوب إلى الجزء جزئي ، وظاهر أنّ المعدوم ممّا لا يعقل تركّب الموجود معه.

مع أنّ الضرورة قد قضت باشتمال كلّ جزئي على ما يمتاز به عمّا عداه وما يشاركه فيه ما عداه ، والمشاركة مع عدم وجود ما به الاشتراك غير معقولة.

مع انّه لا يستريب أحد في تعقّل الماهيّات وتصوّرها ووجودها في الذهن ، وتعقّل الشيء مع عدم وجود ذلك الشيء ممّا لا يتعقّل ، فلذا لا نتعقّل في مفهوم « العنقاء » شيئا.

لا يقال : إنّ ذلك من جهة أنّ العقل ينتزع من الأفراد صورا كلّيّة وهو لا يستلزم الوجود كمفهوم فرد مّا ونحوه ، لأنّه إمّا ينتزعها عمّا به الامتياز أو ما به الاشتراك ، والأوّل محال والثاني غير المطلوب ، ضرورة امتناع الانتزاع عمّا لا وجود له.

مع أنّ الجزئي ممّا لا يوجد في الخارج إلاّ بعد تحقّق جميع مشخّصاته ، لأنّ الشيء ما لم يتشخّص بجميع مشخّصاته لم يوجد ، وهي امور خارجة عن ذاته فلابدّ له من ذاتي وإلاّ لانحصر في المشخّصات ، ولا يعقل له ذات سوى الماهيّة الكلّية فلابدّ من وجودها ، وإلاّ

ص: 304

لكان المعدوم ذاتا للموجود وهو كما ترى.

مع أنّ المشخّصات بأسرها أعراض له فلابدّ لها من موضوع يقوّمها ولا يصلح له إلاّ الماهيّة الكلّيّة فلابدّ من وجودها ، وإلاّ للزم قيام العرض بالعرض أو بالمعدوم.

مع أنّا نجد فرقا بيّنا بين قولنا : « هذا زيد » و « هذا إنسان » ولا يتصوّر ذلك إلاّ بكون محمول الثاني أعمّ من موضوعه وموضوع الأوّل مساويا لمحموله ، وقضيّة عموم المحمول كون الأعمّ جزءا من الموضوع ، إذ لا يراد منه إلاّ تحقّقه في ضمنه وضمن كلّ ما هو واقع في عداده.

لا يقال : لو اريد بكون الأعمّ جزءا للأخصّ أنّه جزؤه الخارجي فممنوع ، ولو اريد أنّه جزؤه الذهني فمسلّم ولكنّه غير مجد ، لأنّ الأخصّ إذا كان موجودا في الخارج فيجب أن يكون جزؤه أيضا كذلك ، وإلاّ للزم تركّب الشيء من موجود ومعدوم ، أو تركّبه ممّا هو موجود في الذهن وما هو موجود في الخارج.

مع أنّ الكلّي ممّا لا ريب في صحّة حمله على الجزئي وهو ممّا يقتضي الاتّحاد بين الموضوع والمحمول في الوجود الخارجي ، لا بمعنى كونهما موجودا واحدا كما في « هذا زيد » وغيره ممّا كان حمله بطريق المواطاة ، بل بمعنى كونهما موجودين بوجود واحد ، وظاهر أنّ الاتّحاد بين الموجود والمعدوم بهذا المعنى ممّا لا يكاد يعقل وإلاّ للزم التناقض.

مع أنّ الموضوع والمحمول في قولنا : « زيد إنسان » إمّا متّحدان ذهنا وخارجا أو متغايران ذهنا وخارجا ، أو متّحدان ذهنا ومتغايران خارجا ، أو متغايران ذهنا ومتّحدان خارجا.

والأوّل باطل وإلاّ لكان مثل قولنا : « زيد زيد » في عراه عن الفائدة الموجب لتوجّه التقبيح والاستهجان ، وكذلك الثاني وإلاّ لكان نظير قولنا : « زيد عمرو أو حجر » والثالث غير معقول ، والرابع صحيح باتّفاق جميع العقول ، وعليه لابدّ من وجود المحمول وإلاّ لعاد إلى القسم الثاني في لزوم حمل المغائر بمثله ، ضرورة مغايرة المعدوم للموجود.

لا يقال : إنّ الوجود الذهني في المحمول كاف في صحّة الحمل ولا يقدح الانعدام الخارجي ، وإنّما القادح المغايرة بين الموجودين كما في « زيد » و « عمرو » لا ما كان بين موجود ومعدوم ، إذ لو صحّ ذلك لصحّ حمل « الحجر » على « زيد » لاشتراكه مع الإنسان في الانعدام الخارجي على ما هو المفروض والوجود الذهني.

ص: 305

وبالجملة لا إشكال في وجود الماهيّة الكلّيّة في ضمن الفرد وكونها جزءا منه في ظرف الخارج وإنكاره مكابرة ، فهي إن لوحظت مجرّدة فكلّي وإن لوحظت مقيّدة فجزئي ، فالفرق بينهما اعتباري من هذه الجهة.

وأمّا ما يقال أيضا : من أنّ (1) الشيء إذا لوحظ بلحاظ الذهن فهو كلّي وإذا لوحظ بلحاظ الخارج فهو جزئي فلا يساعده النظر ، ضرورة أنّ الملحوظ في الذهن غير ما هو ملحوظ في الخارج ، فإنّ الأوّل ماهيّة لا تشخّص معها أصلا والثاني ماهيّة مع التشخّص ، فكيف يعقل جعلهما أمرا واحدا يتعدّد باعتبار الذهن والخارج ، وإنّما هما أمر واحد خارجي يتعدّد باعتبار الإطلاق والتقييد.

فإن قلت : هذا خلاف ما صرّحوا به من أنّ الكلّية وصف للمفهوم والجزئيّة وصف للمصداق الّذي يعبّر عنه تارة بالفرد واخرى بالشخص ، فكلّ كلّي لا بدّ وأن يكون مفهوما وكلّ جزئي لابدّ وأن يكون مصداقا خارجيّا ، وهذا كما ترى ينادي بالتغاير بينهما مع أنّك جعلتهما أمرا واحدا خارجيّا.

قلت : المفهوميّة والمصداقيّة أيضا أمران اعتباريّان ، إذ الماهيّة إذا لو حظت في ظرف الذهن تسمّى بالمفهوم وإذا لوحظت في ظرف الخارج تسمّى بالمصداق وإلاّ فمع قطع النظر عن الاعتبار لا تغاير بينهما ، ويرشد إلى ذلك جعلهم المفهوم مقسما للكلّي والجزئي مع تصريحهم بكون الجزئي مصداقا خارجيّا ، فلو كان المفهوم مغايرا بالذات للمصداق لامتنع جعله مقسما له ، ضرورة استحالة كون الشيء مقسما لقسيمه.

فإن قلت : مرادهم بالمفهوم المأخوذ مقسما ما حصل عند العقل - على ما هو المصرّح به في كلامهم - وهو يغاير المصداق الخارجي.

قلت : مع أنّه يستلزم أن لا يكون الجزئي مصداقا ، لامتناع اتّصاف شيء واحد بالمتغايرين.

يدفعه : أنّ ما حصل عند العقل ليس إلاّ الماهيّة ، وهي قد تلاحظ في الذهن معرّاة عن الخصوصيّات العارضة لها في الخارج ، وقد تلاحظ مقيّدة بتلك الخصوصيّات ، غير أنّه قد جرت العادة بتسميتها بالاعتبار الثاني بملاحظة وجودها في ظرف الخارج ب- « المصداق » فلا منافاة.

ص: 306


1- والظاهر كون معنى هذا الكلام أنّ الشيء باعتبار وجوده الذهني يسمّى كلّيّا وباعتبار وجوده الخارجي يسمّى جزئيّا. ويشكل أنّ الموجود في الذهن أيضا جزئي ذهني والموجود في الخارج أيضا يوجد في الذهن مع أنّه ليس بكلّي جدّا. ( منه عفي عنه ).

فإن قلت : قضيّة ما قرّرت سابقا من كون الكلّي أمرا موجودا في الخارج في ضمن الأشخاص أن يكون الكلّي متعدّدا بتعدّدها ، وهو مناف لما صرّحوا به من كونه أمرا واحدا بل هو خلاف البديهة ، ضرورة أنّ ماهيّة « الإنسان » أمر واحد ، وذلك لا ينطبق إلاّ على جعل الكلّي عبارة عن المفهوم المغاير للمصداق ، إذ لا يصلح للوحدة إلاّ المفهوم ، ومعه لا يمكن القول بعدم كونه مغايرا للمصداق لكونه متعدّدا.

قلت : يردّه أوّلا : النقض بذلك المفهوم الّذي جعلته كلّيّا مغايرا للمصداق ، لعدم انفكاكه عن التعدّد الناشي عن تعدّد العقول والأذهان ، نظرا إلى ما فسّرته بما حصل عند العقل.

وثانيا : المنع عن اعتبار قولهم إذا خالف الحسّ والعيان ، فإنّه ليس بحجّة إلهيّة ولا نزل لبيانه آية كتابيّة ولا سنّة نبويّة.

وثالثا : مرادهم بالوحدة هنا إنّما هي الوحدة الذهنيّة بمعنى كونه واحدا في الذهن ولا ينافيها عروض التعدّد باعتبار الخارج ، إذ لا استحالة في وجود الكلّي بتمامه في ضمن كلّ فرد كما نشاهده في المتماثلين كالبياضين ، فإنّهما متعدّدان في الخارج باعتبار التشخّص وفي الذهن بعد إلقاء الخصوصيّة يصيران واحدا ، ولذا قالوا بامتناع اجتماع المثلين تعليلا بعدم إمكان اتّحادهما مع التشخّص ومع عدمه يرتفع التعدّد ويزول الإثنينيّة.

أو أنّ المراد بها الوحدة النوعيّة أو الجنسيّة فلا ينافيها التعدّد باعتبار الأشخاص كما هو المصرّح به في كلامهم ، ويرشد إلى ذلك ما ذكروه في ردّ الاستدلال على عدم وجود الكلّي الطبيعي بلزوم اتّصاف شيء واحد بصفات متضادّة ، ووجوده في أمكنة متعدّدة وهو محال ، بأنّ ذلك إنّما يستحيل في أمر واحد شخصي كالجزئي الحقيقي ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لكونه واحدا بالنوع الغير المنافي لتعدّد أشخاصه ، فلا استحالة في اتّصافه بالصفات المتضادّة ووجوده في الأمكنة المتغايرة باعتبار ما يتضمّنه من تعدّد الأشخاص.

وبما قرّرنا تبيّن حجّة القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي مع دفعها ، وأمّا القول بالعينيّة فلم نعثر له على حجّة وهو لوضوح فساده أحرى بالإعراض عن التعرّض لإبطاله.

وإذا تمهّدت تلك المقدّمة ، فاعلم : أنّه احتجّ أصحاب القول بتعلّق الأحكام بالأفراد دون الطبائع بأنّ الماهيّة يستحيل وجودها في الأعيان فيستحيل تعلّق الحكم بها.

أمّا الأوّل : فلاستلزام وجودها كونها كلّيّا وجزئيّا ، فإنّها من حيث هي كلّي ومن حيث تشخّصها بالمشخّصات الخارجيّة - كما هو شأن كلّ موجود في الخارج - تصير جزئيّا ، ويستحيل كون الشيء الواحد في حالة واحدة كلّيّا وجزئيّا لمكان التناقض.

ص: 307

وأمّا الثاني : فلأنّ التكليف لابدّ وأن يتعلّق بالمقدور لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، والماهيّة إذا امتنع وجودها غير مقدورة فلا تصلح لأنّ يتعلّق التكليف بها.

واجيب : بأنّ الماهيّة قد تؤخذ بشرط أن يكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة فلا يصدق على المتعدّد ، وبقيد هذا الشخص فلا يصدق على فرد آخر ويسمّى الماهيّة المحلوظة والماهيّة بشرط شيء ولا ريب في وجودها في الأعيان ، وقد تؤخذ بشرط التجرّد عن جميع العوارض وتسمّى الماهيّة بشرط لا ، ولا خفاء في أنّها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجرّدة بل مع تجويز أن يقارنها العوارض وأن لا يقارنها ويسمّى بالماهيّة من حيث هي والماهيّة لا بشرط ، وهي بهذا المعنى ممّا يمكن وجودها في الأعيان ، فيجوز أن يكون المطلوب هو الماهيّة من حيث هي لا بقيد الكلّيّة ولا بقيد الجزئيّة ، وإن كانت لا تنفكّ في الوجود عن أحدهما وهذه لا يستحيل وجودها ، لأنّ الكلّيّة المنافية للوجود العيني ليست قيدا فيها وشرطا لها ، فلا يلزم أن يكون المطلوب هو الجزئي من حيث هو جزئي كما ذكروه.

فإن قيل : الكلّيّة والجزئيّة متنافيان ، فعدم اعتبار أحدهما يوجب اعتبار الآخر لئلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

قلنا : عدم اعتبار النقيضين غير ارتفاعهما واللازم هو الأوّل ، والمحال هو الثاني.

أقول : الأولى في الجواب منع المقدّمة الاولى - لأنّها الّتي أوجبت الشبهة - بمنع لزوم التناقض لو اتّصفت الماهيّة بالكلّيّة والجزئيّة ، فإنّ الحيثيّة إذا تعدّدت وكانت تقييديّة أوجبت تعدّد الموضوع ، فالمتّصف بالكلّيّة إنّما هي الماهيّة المجرّدة والمتّصف بالجزئيّة هي الماهيّة المقيّدة فلا يلزم التناقض ، كما لا يلزم تعلّق الحكم بغير المقدور ، لإمكان الامتثال بإيجاد الفرد المحصّل لها ، كما لا يلزم اعتبار الوجود في متعلّقه ليكون جزئيّا.

وقد يجاب أيضا : بأنّهم لو أرادوا بالجزئي فردا معيّنا فهو باطل قطعا ، لعدم دلالة اللفظ عليه رأسا ، وإن أرادوا جزئيّا غير معيّن فوقعوا في المحذور الّذي فرّوا عنه فإنّه أيضا كلّي ، وأيضا يلزم المجاز في كلّ الأوامر بل النواهي وغيرهما أيضا وفيهما ما لا يخفى من الوهن (1) كوهن ما لو أورد عليهم : بأنّ الفعل قبل الأمر إمّا حاصل من المكلّف وموجود في

ص: 308


1- ذكرها بعض الأعاظم تبعا لبعض الأعلام ، والوجه في وهن الأوّل : أنّ لزوم المحذور على إرادة احتماله الثاني إن كان من جهة عدم تعيين الفرد ، فيدفعه : أنّه يلزم إذ اعتبر عدم التعيين قيدا في الامتثال لعدم تحقّقه إلاّ في المعيّن الّذي ينشأ تعيينه عن اختيار المكلّف. وأمّا إذا اعتبر قيدا في الطلب فلا. وفي وهن الثانى : اندفاعه بإرادة الفرد من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، بأن يراد من اللفظ نفس الطبيعة واحيل فهم الخصوصيّة الّتي تعلّق بها الطلب إلى الخارج ، وهو الطلب الّذي لا يتعلّق إلاّ بالممكن. وأمّا ما يقال في دفع ذلك _ كما في كلام بعض الفضلاء _ من أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بوجود الطبايع في الخارج ، وأمّا على القول بعدمه كما يراه الخصم فلا ، إذ لا تحقّق للطبيعة حينئذ في ضمن الأفراد حتّى يطلق عليه اللفظ باعتباره. فيدفعه : أنّ مبنى كلام الخصم على أنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بالمقدور ولا قدرة إلاّ مع الوجود ولا وجود إلاّ للفرد ، ومن البيّن أنّ القدرة من شرايط التكليف فيلزمه اشتراط الوجود في المكلّف به لا من شرايط مطلق الإطلاق والاستعمال ، إذ لم يقل أحد بأنّ الاستعمال في معنى مشروط بوجود ذلك المعنى ، فلذا لا يجري الخلاف في الكليّات الواقعة في غير مقام الطلب ، فلا ضير في أنّ يتعلق الاستعمال بغير الموجود واريد معه تعلّق الطلب بالموجود ولا يستلزم ذلك إرادة ذلك الموجود من اللفظ بالخصوص كما لا يخفى ( منه عفي عنه ).

الخارج أو لا ، والأوّل محال لكونه طلبا للحاصل ، وكذلك الثاني لكونه طلبا للمعدوم فيعود المحذور ، فلا يجديهم التزام تعلّق الحكم بالفرد.

لأنّهم زعموا أنّ وجود المتعلّق مصحّح لتعلّق الحكم به ، وهو أعمّ من الفعلي كما في أفراد الأعيان الخارجيّة ، والشأني كما في أفراد الأفعال الّتي تصدر عن المكلّف ، فالفرد من شأنه أن يوجد وإن لم يكن موجودا بالفعل ، فيصحّ تعلّق الحكم به بخلاف الكلّي ، على ما زعموه من امتناع وجود الكلّي الطبيعي.

وأجاب عنه بعض الأعلام - بعد تسليم أنّ الكلّي الطبيعي غير موجود - بما يرجع محصّله إلى : أنّ خطابات الشرع إنّما تجري على متفاهمات العرف ، والعقل ينتزع من الأفراد صورا كلّيّة والعرف يزعمها موجودة ، وعدم وجودها إنّما يظهر على حسب الدقّة الفلسفيّة الّتي لا تنوط بها الخطابات ، فيصحّ تعلّقها بها بهذا الاعتبار ، ولا يضرّ في ذلك عدم مطابقة الاعتقاد للواقع.

واعترض عليه بعض الأعاظم : « بأنّ الامتثال إمّا بالطبيعة وهو مفروض العدم ، وإمّا بالفرد والمفروض عدم تعلّق الأمر به ، مع أنّ الطبيعة على هذا لا تحقّق لها إلاّ بالوهم فكيف يصحّ من الحكيم الأمر بإيجادها ، ففي الحقيقة يبقى الأمر بلا متعلّق ، وأيضا فهم العرف لا يجعل ما لا يصحّ تعلّق الحكم به متعلّقه وهو ظاهر.

ص: 309

وفيه أيضا تقرير على الباطل ، وهو اعتقادهم الفاسد وقبحه ظاهر ».

وفي كلام بعض الفضلاء أيضا : « لا خفاء عند اولي الأنظار المستقيمة أنّ تكاليف الشرع إنّما تتعلّق بما يصحّ تعلّقها به في زعم أهل العرف ، فالطبيعة من حيث هي إذا امتنع في الواقع تحقّقها في الخارج امتنع تعلّق التكليف بها ، لأنّه تكليف بالممتنع وهو ممّا يقبح صدوره عن الحكيم العالم.

وزعم أهل العرف إمكان حصولها في ضمن الفرد لا يؤثّر في رفع الاستحالة والقبح بعد علم الآمر بخلافه ، وهل ذلك إلاّ كطلب إبصار الجسم حقيقة إذا زعم أهل العرف أنّه ممّا يمكن إبصاره مع أنّه قد تقرّر في محلّه أنّه محال.

نعم يجوز أن يكلّف بإيجاد ما يزعم أنّ الطبيعة موجودة فيه ، أو يزعم أنّه إبصار للجسم ، لكنّه لا يرجع في الحقيقة إلى الأمر بالفرد لا بالطبيعة ، وبإبصار اللون والشكل لا الجسم » (1).

ثمّ إنّه يمكن تقرير الاستدلال على هذا القول بطريق يجامع القول بوجود الكلّي الطبيعي أيضا ، وذلك من وجوه ثلاث :

الأوّل : أنّ التكليف بالمسبّبات تكليف بأسبابها ، لئلاّ يلزم طلب الحاصل إن توجّه الخطاب حال وجود الأسباب ، أو التكليف بغير المقدور إن توجّه حال انعدامها.

الثاني : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للحسن والقبح النفس الأمرييّن كما عليه العدليّة ، خلافا للأشاعرة المنكرين لذلك ، وحسن الأشياء وقبحها إنّما هما بالوجوه والاعتبارات ، خلافا لمن توهّم كونهما بالذات أو بالوصف اللازم كما عليه جماعة ، فالصدق حسن لا لكونه كلاما مطابقا للواقع على طريق دخول التقييد وخروج القيد ، ولا لأجل المطابقة للواقع ، بل إذا كان نافعا ، فيكون قبيحا إذا كان ضارّا ، وكذلك الكذب فيتّصف بالحسن باعتبار النفع والقبح باعتبار الضرر.

وقضيّة ذلك تعلّق الأحكام بالأفراد ، لأنّها الّتي تعرضها الوجوه والاعتبارات الموجبة لتشخّص الماهيّات بعروضها.

والثالث : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بأفعال المكلّفين ، فلذا عرّف الحكم : « بخطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين » وهي ظاهرة فيها إذا صدرت من المكلّف بلا واسطة ، والّتي

ص: 310


1- الفصول : 108.

تصدر بلا واسطة إنّما هي الأفراد فهي الّتي تتعلّق بها الأحكام.

والجواب عن الأوّل : منع كون الكلّي وفرده من باب المسبّب وسببه وإلاّ لامتنع الحمل فيما بينهما امتناعه فيما بين السبب والمسبّب ، لتغايرهما ذهنا وخارجا بخلاف الكلّي وفرده ، مع أنّ المسبّب مرتّب في وجوده الخارجي على سببه ولا ترتّب فيما بين الفرد والكلّي بل يتّحدان معا بحسب الخارج ويوجدان بوجود واحد ، وكون الفرد مقدّمة للكلّي وإن كان ممّا يتكرّر ذكره في كلام الاصوليّين ولكنّه يأباه النظر ويكذبه الوجدان ، كيف والمعهود عندهم كون الجزء مقدّمة للكلّ ففرض الكلّ أيضا مقدّمة للجزء - كما عليه مبنى كلامهم - يؤدّي إلى الدور الصريح.

إلاّ أن يفرّق في ذلك بين الأجزاء العقليّة والأجزاء الخارجيّة ، بدعوى : تخصيص مقدميّة الجزء بما لو كان الكلّ مركّبا خارجيّا ، نظرا إلى الترتّب الطبيعي فيما بين الأجزاء حينئذ بحسب الوجدان الخارجي ، فلا يوجد الكلّ إلاّ مؤخّرا عن إيجاد كلّ جزء منه ، فيكون ذلك حينئذ اعترافا بما قرّرناه من انتفاء السببيّة عمّا بين الكلّي وفرده للزومها الترتّب فيما بين طرفيها بحسب الوجود ، وهو منتف فيما بين الكلّي وفرده لكون تركّب الفرد من الماهيّة والتشخّص عقليّا كما لا يخفى.

فتحقيق القول فيهما : أنّهما من باب المتلازمين في الوجود ، فلا يوجد أحدهما في الخارج إلاّ مع انضمام الآخر إليه ، فهما معلولان لعلّة ثالثة من غير أن يكون بينهما ترتّب بحسب الزمان ولا توقّف بحسب الذات ، فإيجاد الماهيّة يلازم انضمام التشخّصات الناشئة عن خصوصيّة الموجد وزمان الإيجاد ومكانه وغير ذلك من لوازم الوجود إليها ، كما أنّ تحقّق تلك التشخّصات يلازم تحقّق الطبيعة ، ومن المعلوم أنّ الأمر بأحد المتلازمين لا يلازم الأمر بالمتلازم الآخر ولا طلب المجموع من حيث المجموع.

ولو سلّم التوقّف والسببيّة يختار الشقّ الثاني من طرفي الترديد ، ويمنع لزوم التكليف بغير المقدور ، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور كما في الأفعال التوليديّة والقدرة على السبب كافية في القدرة المصحّحة للتكليف بالمسبّب ، والمحذور إنّما يلزم لو كان الأمر بشرط عدم السبب وليس كذلك الأمر في محلّ البحث ونظائره ، لكون الأمر في حال عدم السبب لا بشرط عدمه.

وعن الثاني : منع كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، على ما سنحقّقه في محلّه إن شاء اللّه.

ص: 311

ولو سلّم فلا يجدي نفعا في ثبوت المطلوب ، لأنّ الصدق النافع أيضا أمر كلّي بل الحسن حينئذ إنّما هو في النافع وهو أعمّ من الصدق ، فلذا يتّصف به كلّ ما قام به النفع وهو موافقة الغرض وإن لم يكن صدقا ولا من مقولة الكلام.

لا يقال : إنّ مرجع هذا القول إلى أنّ الكلام الصادق لا يترتّب عليه حسن إلاّ بعد تلبّسه بالفرديّة والوجود الخارجي ، كما لو كان موجبا لإحياء نفس محترمة ولا سيّما إذا كانت مؤمنة ، فلا حسن في نفس الكلام الصادق ولا في الإحياء في نفسه بل الحسن إنّما هو في هذا الجزئي الخارجي ، فيكون متعلّق الحكم أيضا هذا الجزئي.

لأنّا نقول : كما يتّصف هذا الجزئي بالحسن فكذلك يتّصف به الجزئي الآخر مثله ، واتّصافهما به حينئذ إمّا لأمر مشترك بينهما وهو الوجه العارض لهما معا ، أو لأمر مختصّ بكلّ منهما ، والثاني خلاف الفرض والأوّل موجب لفساد الدعوى ، لأنّ الحسن حينئذ صفة كامنة في ذلك الأمر المشترك لأنّه الّذي أوجب فيهما الاتّصاف بالحسن وهو أمر كلّي ، واتّصاف الفرد به تبعي لا عبرة به.

وعن الثالث : منع كون ايجاد الماهيّة فعلا للمكلّف مع الواسطة ، لما عرفت من التلازم بينها وبين التشخّصات المعتبرة في الفرد ، فإيجاده إيجاد لها بلا واسطة.

غاية الأمر أنّها في تعلّق الأمر بها لوحظت لا بشرط وفي تحقّقها في الخارج ينضمّ إليها شروط خارجة عنها.

ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى اعتبار كون المراد بالأفعال في تعريف الحكم ما كان فعلا للمكلّف بلا واسطة ، وإلاّ لخرجت الأفعال التوليديّة عن الحدّ ، والواسطة المعتبر انتفاؤها في تعريف الفقه وموضوعه إنّما هي الواسطة في الإثبات لا الواسطة في الإيجاد كما لا يخفى.

واعلم : أنّ المعروف من المصنّف في الألسنة والكتب الاصوليّة أنّه ممّن يقول بتعلّق الأحكام بالأفراد دون الطبائع.

وقضيّة ما نقلنا عنه في الحاشية - على ما حكاه إبنه وجمع من المحشّين - من القول بوجود الكلّي الطبيعي بعين وجوده أن لا يجري شيء من الوجوه المتقدّمة في سند القول بتعلّق الأحكام بالأفراد عنده ، حتّى السند المشهور من عدم وجود الكلّي الطبيعي ، بل لا يصحّ حينئذ منه القول المذكور إلاّ إذا أراد بالطبائع ما تلاحظ بشرط لا ، ضرورة أنّ ما يتعلّق بالفرد على هذا المذهب متعلّق بعين الطبيعة الكلّيّة لأنّه عينها.

ص: 312

نعم يصحّ منه القول بذلك على ما يتوهّم من كلامه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي على ما في بعض الحواشي.

وأنت خبير بعدم منافاة كلامه ثمّة لما ذكره في الحاشية ممّا أشرنا إليه ، بل بعد التأمّل في أطراف هذا الكلام لا يستفاد منه إلاّ اختيار هذا القول.

وإن شئت فلاحظ ما ذكره في المبحث المذكور عند الجواب عن ثاني حجّتي القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من قوله : « ضرورة أنّ الأحكام إنّما يتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجودها ، فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم حقيقة ، وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فإنّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيّا لكنّه إنّما يراد باعتبار الوجود ، فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّيّة على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي » انتهى.

ولا يخفى أنّ قوله : « ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجوده » وكذلك قوله : « فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم » صريح في خلاف القول بعدم وجود الكلّي الطبيعي.

وبمثل ذلك صرّح في بحث المفرد المعرّف باللام بقوله : « إذ الأحكام الشرعيّة إنّما تجري على الكلّيّات باعتبار وجودها ».

فدعوى : أنّ قوله - في آخر كلامه المذكور - : « على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي » يدلّ على أنّ مذهب المصنّف عدم وجود الكلّي في الخارج بل أفراده موجودة ، فاسدة جزما بل مذهبه بقرينة ما ذكر إنّما هو وجود الكلّي في الخارج جدّا.

ولكن يبقى الكلام في أنّ مذهبه هذا هل هو الوجود الضمني أو العيني وظاهر عبارته المذكورة هو الثاني ، حيث جعل القول بوجود الحقيقة الكلّيّة باعتبار الحصّة الموجودة منها في ضمن الفرد أبعد الرأيين ، ولا يجوز أن يكون مراده بالرأي الآخر إنكار وجود الكلّي الطبيعي لما تقدّم ، مضافا إلى أنّه قال : « أبعد الرأيين في وجود الكلّي ».

ومن البيّن أنّ الرأيين في وجود الكلّي أحدهما : كونه في ضمن الفرد الموجود منه.

وثانيهما : كونه عينه.

فإذا كان الأوّل عنده أبعد يتعيّن كون الثاني هو الأقرب والمختار.

ويشهد به أيضا قوله : « فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو

ص: 313

باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّيّة » فإنّ لفظة « لو » إذا كانت للوصل إنّما هي للترقّي عن الفرد الظاهر القويّ إلى الفرد النادر الخفيّ على ما هو الغالب فيها ، فإذا كان القول بوجود الحصّة خفيا عنده بقي كون القول بالعينيّة قويّا في نظره ، لأنّ القول بعدم الوجود بالمرّة إنّما ينفيه كلماته السابقة ، فعلى هذا يقع تهافت في قوله : « بأنّ متعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه » لأنّ قضيّة ذلك أن لا يكون الكلّي متعلّقا للأمر مع أنّه عين الفرد الموجود عنده.

نعم لو أراد بالكلّي الّذي لا يتعلّق به الحكم الطبيعة الملحوظة بشرط لا ارتفع تلك الحزازة ، فيكون حينئذ لما أشرنا إليه في مفتتح العنوان من القول بأنّ الخلاف في تلك المسألة إنّما نشأ من عدم التمييز بين الماهيّة لا بشرط وبينها بشرط لا وجه في الجملة ، فلا يرد عليه : أنّه مع حمل كلام النافي على إرادة الثاني بعيد عن أنظار العلماء.

فمن هنا تبيّن أنّ تفريع هذا الخلاف على الخلاف في الكلّي الطبيعي على الإطلاق ممّا لا وجه له.

ثمّ إنّه بناء على ما حقّقناه من تعلّق الأحكام بالطبائع لا فرق بين القضايا التكليفيّة والقضايا الوضعيّة ، فيدخل طهارة الماء ونجاسة الكلب وغيرها ممّا لا يحصى ، ولا بين ما تعلّق به الحكم في حيّز الإنشاء أو الإخبار فيدخل مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) ولا بين ما اريدت الطبيعة من مادّة الصيغة أو لفظها المستقلّ فيدخل مثل ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (2) ولا بين أن يتعلّق الحكم بنفس الطبيعة أو بما تعلّق بها فيدخل مثل « أعتق رقبة » و « لا تزوّج كافرة » ولا بين الإيجاب والتحريم وغيرهما من الخمسة التكليفيّة فيدخل الندب والكراهة والإباحة.

ثمّ إنّه قد يقال : بأنّ ممّا يتفرّع على الخلاف جواز اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد ، وكون الفرد مقدّمة على تقدير دون آخر إلى غير ذلك.

وتحقيق ذلك : أنّ المكلّف إذا أتى بالصلاة في مكان مغصوب فقد أوجد فردا محصّلا لطبيعتي الصلاة والغصب ، فيمتثل ويعاقب لجهتين على القول المختار دون القول الآخر ، إذ لا يعقل كون الأمر الواحد الشخصي محبوبا ومبغوضا.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ متعلّق الأمر على هذا التقدير أحد الأفراد لا بعينه الموكول

ص: 314


1- البقرة : 275.
2- الحجّ : 78.

تعيينه إلى اختيار المكلّف ، فإذا أتى بالصلاة في المكان المذكور فقد اختار التعيين الموكول إليه في ذلك ولازمه الامتثال.

ويدفعها : أنّ ذلك - لو سلّم - إنّما يستقيم لو لم يكن متعلّق النهي على هذا القول جميع الأفراد وأمّا معه فلا ، لقضاء عموم النهي بخروج الفرد المفروض من الصلاة مبغوضا فلا يمكن مع ذلك كونه محبوبا أيضا ، ولازمه إفادة النهي تقييدا في الأمر وهذا معنى عدم اجتماعهما في محلّ واحد ، وأمّا تفريع كون الفرد مقدّمة ، ففيه : ما تقدّم.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ متعلّق الأمر إذا كان هو الطبيعة الكلّيّة لا بشرط شيء فوجودها في الخارج موقوف على إيجاد الفرد ، وهذا معنى كون الفرد مقدّمة والتلازم المذكور سابقا ليس واقعا بينها وبين الفرد ، بل بينها وبين التشخّصات اللاحقة لها المعتبرة في فرديّة الفرد بعد دخوله في حيّز الوجود ، وهذا المعنى كما ترى إنّما يتمّ على القول المختار ، إذ إيجاد الفرد على القول الآخر إتيان بنفس الواجب لا مقدّمته.

وأظهر ما يترتّب على المسألة اعتبار لوازم الوجود - ممّا يتبيّن في البحث الآتي - في المأمور به الزائدة على أصل الطبيعة على القول الغير المختار ، وعدمه على المختار وستعرف وجهه.

ص: 315

اشتراط قصد العنوان وعدمه

- تعليقة -

لا يخفى أنّ قضيّة ما حقّقناه من تعلّق الأحكام بالطبائع عدم اعتبار شيء من لوازم الوجود كالقدرة والقصد والاختيار ونيّة القربة وقصد الوجه ونحو ذلك في المأمور به بحسب الوضع المتعلّق بالأمر مادّة وهيئة.

أمّا الأوّل : فلما قرّرناه في محلّه من عدم مدخليّة الوجود في مداليل الألفاظ باعتبار الوضع.

وقضيّة ذلك عدم اعتبار شيء من لوازمه فيها حين الوضع ، مضافا إلى ما سنحقّقه من وضع أسماء الأجناس للماهيّات الملحوظة لا بشرط ، ولا يراد من ذلك إلاّ تعريتها عن الشروط الزائدة عليها ، وظاهر أنّ الوجود ولوازمه من الامور المذكورة امور زائدة عليها ، فلا ينبغي التأمّل في عدم اعتبار شيء منها في الوضع ولو بحكم الأصل الجاري هنا بلا إشكال.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ الهيئة إنّما تلحق المادّة على حسب ما هي عليه من إطلاق أو تقييد ، فإذا فرضناها مطلقة فلابدّ من فرض الوضع للهيئة اللاحقة لها بهذا الاعتبار ، ضرورة أنّه لا يغيّر ما لها من مقتضيات الوضع الشخصي العارض لها ، فلا يوجب خروج المطلق مشروطا ولا انقلاب المشروط مطلقا ، فمقتضى الأصل اللفظي الناشئ عن الوضع بكلا اعتباريه أن لا يكون شيء من الامور المذكورة معتبرا في مداليل الأوامر حتّى يكون المأمور به مقيّدا.

ويرشدك إلى ذلك عدم خروج قول القائل : « طر إلى السماء » مخالفا لما يقتضيه الوضع واللغة ، وما يرى من عدم الصحّة الباعث على توجّه الذمّ والتقبيح فإنّما ينشأ عن حكم العقل بملاحظة حكمة القائل ، فهذا هو الأصل الأوّلي الثابت في جميع الأوامر المفيد في موارد الشكوك والشبهات بالنظر إلى الإطلاقات والأحوال الطارئة للمخاطبات.

ص: 316

ويبقى الكلام في أنّه هل يعتبر شيء من ذلك في الاستعمالات وإرادات المستعملين لتلك الأوامر أو لا؟

فلابدّ في استعلام ذلك من النظر في الأدلّة الخارجة الكاشفة عن المرادات والمقاصد فإن ثبت من الخارج دلالة من العقل أو العرف أو الشرع قاضية باعتبار شيء من ذلك كلاّ أم بعضا يؤخذ بها ، فينهض ذلك حينئذ أصلا ثانويّا واردا على الأصل الأوّلي ، وتلك الدلالة الخارجيّة حاكمة على الأوامر المطلقة ، كما أنّ الأدلّة القاضية بوجوب المبادرة والاستباق ومطلوبيّة الفور في فعل المأمور به - على فرض تماميّتها - حاكمة على صيغة الأمر القاضية بإطلاقها بعدم اعتبار ذلك على حسب الوضع.

ولمّا كانت الامور المذكورة في كونها لوازم للوجود ممّا يثبت لزوم بعضها بحكم العقل ، وبعضها بحكم العرف ، وبعضها بحكم الشرع ، فلابدّ في معرفة اعتبار كلّ واحد في المأمور به من المراجعة إلى العقل ومجاري العادات والأدلّة الشرعيّة ، فيقع الكلام لتحقيق ذلك من جهة تعدّد تلك الامور وترتّبها في

المرحلة الاولى

في القدرة

واعتبارها في المأمور به ثابت بضرورة العقل والعرف والشرع ، والإجماع عليه محصّل ، والمنقول منه متواتر ، والضرورة به قائمة ، فالأوامر المطلقة مقيّدة بها جزما غير أنّها بالنسبة إلى المأمور به قيد توضيحيّ وبالنسبة إلى الأمر قيد احترازي ، ولعلّه يأتي عند البحث عن شرائط التكليف فيها زيادة تحقيق ، فهي بالحقيقة خارجة عن معقد كلامنا هنا وإنّما ذكرناها استطرادا.

المرحلة الثانية

في اشتراط قصد العنوان وعدمه

واعلم ، أنّ قصد أصل الفعل من لوازم وجوده عادة لا عقلا ، لإمكان صدوره عن الغافل والساهي والنائم وغيره ممّن لا قصد له إلى الفعل ، وهل هو معتبر في امتثال الأمر والإتيان بالمأمور به؟ فلو أتى به على سبيل السهو والغفلة أو في حال النوم ونحوها لم يكن أداء للمأمور به ، ولا أنّ المأتيّ به متّصف بالوجوب أو لا؟ بل العبرة في صدق الامتثال ، بتحقّق

ص: 317

الفعل كيفما اتّفق ولو على الوجوه المذكورة ، فيه خلاف على قولين ، ذهب إلى أوّلهما بعض الأفاضل.

وحكى القول الآخر عن بعض الأفاضل تعليلا : بأنّ القدر المسلّم من عدم تعلّق التكليف بالغافل هو ما كان من أوّل الأمر ، وأمّا بعد تفطّنه بالتكليف وغفلته بعد ذلك وصدور الفعل منه حينئذ على سبيل الذهول والغفلة فلا مانع من اندراجه في المكلّف به.

وأورد عليه الفاضل المذكور : بأنّ السبب الباعث على عدم تعلّق التكليف به من أوّل الأمر قاض بعدم تعلّقه به بعد ذلك من غير فرق أصلا ، فلا داعي هناك إلى التفصيل ، واعتمد فيما اختاره على ما حكاه من الاحتجاج بوجهين :

الأوّل : أنّ متعلّق الطلب وإن كان مطلق الطبيعة من غير تقييدها بشيء بمقتضى ظاهر الأمر ، لكن تعلّق الطلب بها إنّما يكون مع تفطّن الفاعل به وعدم غفلته عنه ، لوضوح استحالة التكليف بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل ، وحينئذ فقضيّة تعلّق الطلب بالطبيعة هو الإتيان بالفعل على وجه القصد إليه فلا يكون الصادر على سبيل الغفلة مندرجا في المأمور به.

الثاني : أنّ ظاهر ما يستفاد من الأمر في فهم العرف أنّ ما يتعلّق الطلب به هو ما يكون صادرا على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات ، فلا يندرج فيه الأفعال الصادرة على غير ذلك الوجه وإن شملها الطبيعة المطلقة.

وفي الأوّل منهما نظر لا يخفى وجهه على الفطن العارف ، فإنّ حالة التفطّن من حيث هي لا تصلح مخصّصة للمأمور به ، ولا تفيد اعتبار القصد والإرادة في الامتثال وإلاّ للزم اعتبار امور كثيرة فيه كما لا يخفى ، وفساده غنيّ عن البيان.

وأمّا الثاني : فمتّجه جزما ، فإنّ الفعل الصادر لا عن قصد وإرادة ليس بواجب والواجب ليس بصادر ، لا لأنّ القصد معتبر في مفهومه كما توهّم لأنّه مقطوع بفساده بما تقدّم تحقيقه ، ولعلّه نشأ عن توهّم كون ما هو من لوازم الوجود دخيلا في الموضوع له ، بل لأنّ صدق الامتثال عرفا يدور مدار القصد فمع عدمه لا امتثال للأمر ، لا لأنّ الفعل غير صادق على الصادر ، ولا نقول بأنّ الغفلة حينئذ رافعة للتكليف ، حتّى يقال : بأنّ القدر المسلّم من عدم تعلّق التكليف بالغافل هو ما كان من أوّل الأمر - كما في الاستدلال - بل نقول : إنّ الإتيان بالفعل بعد تعلّق التكليف به مع الغفلة عنه بالمرّة موجب لعدم كونه ممتثلا ولا آتيا بالمأمور به.

ص: 318

والفرق بين المقامين واضح ، فظهر أنّ الاستدلال بما ذكر لا ينطبق على محلّ الكلام ، وما يلزم منه أمر لا دخل له في المقام.

ومن البيّن أنّ التفطّن بالتكليف عند تعلّقه لا يوجب التفطّن بالفعل عند صدوره ، كما أنّ الغفلة عن الفعل في بعض الأحوال لا تستلزم الغفلة عن التكليف في أوّل الحال ، والمدار في الامتثال على صدور الفعل عن قصد ورويّة وإن طرأه الغفلة عن التكليف الثابت حال التفطّن في أثناء العمل ، بل لا يقدح في ذلك عروض النوم أيضا كما في الصوم ونحوه لكفاية القصد إلى الفعل في أوّل الأمر في صدق الامتثال عرفا ، ولا يعتبر فيه استمرار القصد جزما ، ولا يوجب عروض الغفلة ونحوها في الأثناء خروج الفعل عن اتّصافه بالوجوب ، لأنّه قد تعلّق به عند تحقّق شرطه فيستمرّ بقاؤه حتّى لحقه الامتثال أو نحوه من المسقطات ، والغفلة الأثنائيّة ليست منها إجماعا ، وكونها منافية للتكليف بحكم العقل ما كانت ثابتة عن أوّل الأمر لا مطلقا ، فلا يلزم التخصيص في حكم العقل ، فلا وجه لما ذكر في ذلك المقام من أنّ التكليف يتوقّف على العلم فلا تكليف مع الغفلة ، ضرورة أنّ العلم شرط في حدوث التكليف وقد حصل.

غاية الأمر أنّه لا يحكم عليه بالوجوب مع طروّ الغفلة بحسب الظاهر ، ولا ينافيه ثبوت الوجوب بحسب الواقع.

وبالجملة : لا إشكال في اعتبار قصد أصل الفعل في الامتثال بشهادة العرف والعادة مع قضاء الاعتبار به أيضا ، وهل يعتبر فيه مع ذلك قصد العنوان الّذي أمر به على هذا العنوان ، فلو صدر عنه الفعل لا بقصد عنوانه المأمور به لا يعدّ امتثالا للأمر ولا إتيانا بالمأمور به ، ولو كان مقصودا بحسب جنسه أو نوعه؟ كما لو أمره السيّد بإكرام زيد بن عمرو فأتى بما يعدّ إكراما في نظر العرف ، ولكن لا بقصد أنّه إكرام أو أنّه إكرام لزيد أو أنّه إكرام لابن عمرو ، وإن كان قاصدا لكونه إكراما أو إكراما لزيد أو لا؟ بل المعتبر تعلّق القصد بأصل الفعل جنسا أو نوعا فالامتثال حاصل به وإن لم يكن عنوانه المأمور به مقصودا.

وبالجملة : فهل يشترط في صدق الامتثال قصد الوصف العنواني المعتبر في المأمور به أو لا؟ فيه أيضا خلاف على قولين ، أقواهما الثاني ، واحتجّوا للأوّل بوجوه :

أحدها : أنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالمقدور ، والفعل بدون القصد غير مقدور ، وكما أنّه لا يصحّ طلب غير المقدور فكذلك لا يصحّ طلب القدر المشترك بينه وبين المقدور ، إذ القدر

ص: 319

المشترك لا يصير مقدورا إلاّ بمقدوريّة جميع أفراده ، ومفروض المقام خلافه لعدم مقدوريّة أحد فرديه هنا فيستحيل طلبه.

وقضيّة ذلك توجّهه إلى المقدور ، ولمّا كان المقدور في المقام هو الفعل مع النيّة فيكون هو المطلوب دون غيره ، فلا يحصل الإمتثال بغيره لأنّه ليس بمطلوب.

والجواب : منع اعتبار القصد إلى الفعل في القدرة عليه كما عرفت ، ولو سلّم فلا يجديه نفعا في المقام ، إذ لو أراد به القصد إلى أصل الفعل فانتفاؤه هنا خلاف الفرض ، ولو أراد به القصد إلى خصوصيّة العنوان فلا ينوط به القدرة على أصل الفعل كما لا يخفى ، والتكليف إنّما تعلّق بالمقدور لا بالمقصود ، ولو سلّم أنّ الطلب لم يتعلّق إلاّ بالمقصود فهو ليس من جهة اعتبار القصد في مقصود الآمر ، بل إنّما هو لأجل قصور نفس الطلب في تعلّقه به ، فلا ينافيه كون مقصود الطالب عند قصور الفعل أعمّ من المقصود وغيره ، فيكون المطلوب أخصّ من المقصود ولا ملازمة بينهما من حيث العموم والخصوص.

وبالجملة : نحن نعلم بالوجدان أنّ مقصود الآمر إنّما هو حصول أصل الفعل في الخارج كيفما اتّفق ، فيكفي في الامتثال تحقّق المصداق في الخارج مع كونه مقصودا ببعض عنواناته وإن لم يكن ذلك العنوان هو الوصف المعتبر في المأمور به ، لأنّه كاشف عن علّة الحكم لا أنّه علّة لاعتبار أمر زائد في موضوعه.

وبالجملة : نحن لا ننكر اشتراط التكليف بالقدرة ، وأنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالمقدور.

ثمّ لو سلّم مدخليّة القصد في القدرة ، نقول : إنّ العبرة في الامتثال إنّما هو بالإطلاق والتقييد اللذين تصوّرهما الآمر عند إرادة الطلب ، فلو ظهر من دلالة خارجة إنّ ما تصوّره الآمر كان أمرا مطلقا يحصل الامتثال بما يقع من مصاديق ذلك المطلق وإن لم يكن بالعنوان الّذي تعلّق به الطلب بذلك العنوان ، كما لو ظهر أنّه إنّما تصوّر أمرا مقيّدا فطلبه ، فلا يحصل الامتثال إلاّ بذلك المقيّد ، فلذا لو ظهر أنّ طالب الماء إنّما تصوّر ماء باردا أو حلوا لا يحصل الامتثال بالحارّ أو الماء الملح.

ومن المعلوم في المقام بحكم البديهة والعرف والعادة أنّ ما يتصوّره الآمر إنّما هو حقيقة الفعل من غير ملاحظة شيء آخر معها من القيود الخارجة عنها كالقدرة والقصد ونحوهما ، إلاّ أنّ الطلب لقصوره في حدّ ذاته لا يتعلّق بحكم العقل إلاّ بما كان مقدورا (1) لئلاّ

ص: 320


1- وحاصل هذا الكلام : أنّ القدرة إنّما تقيّد الطلب لا المطلوب ، فلذا تعدّ من شرائط التكليف لا المكلّف به ، فهو باق على إطلاقه ، وقضيّة الإطلاق حصول الامتثال بالفعل بأيّ نحو اتّفق ، غاية الأمر أنّ ما لم يقصد بشيء من العنوانات كالصادر عن الغافل خرج عن موضوع الامتثال بالدليل فيبقى الباقي تحت الإطلاق لعدم ثبوت دليل آخر. ( منه عفي عنه ).

يلزم التكليف بما لا يطاق القبيح على العدل الحكيم ، ولكنّه لا يوجب انحصار ما يحصل به الامتثال فيما كان مقدورا حين الطلب ، بحيث لو أتى المكلّف بما يكون من مصاديق ما تصوّره الآمر ممّا هو خارج عن مقدوره لم يكن ممتثلا ، بل لو أتى بالفعل حينئذ لا بقصد العنوان قاصدا فيه عنوانا آخر وإن كان ممّا لم يتعلّق به الطلب كان مجزيا وموجبا للامتثال ، لانطباقه على ما تعلّق به الطلب وكونه من مصاديق ما تصوّره الآمر من المعنى الكلّي ، فيسقط به الطلب قطعا ، نظير سقوطه فيما إذا تعلّق بالكلّي بسبب الإتيان بفرد منه مع أنّه ليس بعين المطلوب وما تعلّق به الأمر على التحقيق السابق ، وإلاّ لكان واجبا عينيّا وهو باطل لكونه أحد الأفراد الّتي حكم العقل فيها بالتخيير ، فلا وجه لكونه مفيدا للإجزاء إلاّ كونه منطبقا على ذلك الكلّي المأمور به.

وإن شئت توضيح ذلك في محلّ البحث فلاحظ نفسك عند إرادتك طلب الماء عن عبدك ، حيث إنّك لم تزل تتصوّر مطلق الماء من غير اعتبار شيء معه من القدرة وغيرها ، إلاّ أنّك عند إلقاء الصيغة إنّما تطلب ما هو مقدور له ، وهو الموجود في بلدك الحاضر لئلاّ يتوجّه إليك التقبيح وغيره ممّا ينافي حكمتك ، فلم يتعلّق طلبك بما هو موجود في البلد النائي كالهند ونحوه لأجل ذلك ، وأمّا لو اتّفق بعد ذلك وجود ذلك الغير المقدور في بلدك بشيء من الأسباب الخارقة للعادات فأتى به العبد لاجتزيت به عنه وليس لك أن تؤاخذه أصلا ، وهل هذا إلاّ لأجل انطباقه على مطلوبك واندراجه فيما تصوّرته.

فإن قلت : قياس ما كنّا بصدده على هذا المثال لعلّه مع الفارق ، لأنّ الماء المفروض في البلد النائي إذا وجد في البلد الحاضر يدخل تحت قدرة العبد ، وإذا أتى به فقد أتى بما هو مقدور له فلم يكن خارجا عمّا تعلّق به الطلب.

قلت : إذا أتى المكلّف بالفعل لا بقصد عنوانه المعتبر في المأمور به كان آتيا بما هو مقدور له ، فلم يكن ذلك خارجا عمّا تعلّق به الطلب ، إذ قصد العنوان على فرض مدخليّته في القدرة إنّما يعتبر طريقا إلى القدرة لا محقّقا لها ، فلا ضير بأن يتحقّق القدرة بغير هذا الطريق وهو قصد سائر العنوانات ، فلولا الفعل المأتيّ به المفروض مقدورا لامتنع الإتيان

ص: 321

به والمفروض خلافه.

فإن قلت : فأيّ فائدة في اشتراط القدرة وعدم تعلّق الطلب إلاّ بما هو مقدور حينه ، فإنّ الامتثال على ما فرضته حاصل بغير ذلك أيضا إذا تجدّد عليه القدرة.

قلت : إنّما تظهر الفائدة فيما لم يتجدّد له قدرة على بعض مصاديق ما تصوّره الآمر ، فليس له حينئذ أن يؤاخذ المأمور بعدم إتيانه بذلك الغير المقدور ، لما فيه من القبح المنافي لحكمته.

ولمّ المسألة : أنّ الأحكام - على ما عليه بناء المذهب - تتبع الصفات الكامنة من حسن أو قبح ، فإن ظهر من الخارج أنّ ما تصوّره الآمر ليس إلاّ الطبيعة المطلقة يتبيّن أنّ الحسن كامن في نفس الطبيعة ، كما أنّه لو ظهر أنّه إنّما تصوّرها مقيّدة ببعض الاعتبارات يتبيّن أنّ الحسن ثابت في ذلك المقيّد دون غيره من أفراد الطبيعة ، والقدرة وعدمها ليسا ممّا يوجب اختلافا في حسن الشيء في الواقع ولا في قبحه ، بل عدم القدرة من قبيل موانع الطلب لا أنّه من روافع صفة الشيء ، فعدم القدرة على بعض أفراد الطبيعة إذا كان الحسن في نفسها لا ينافي كون ذلك الفرد ذا حصّة من الحسن ، وإنّما يمنع عن تعلّق الطلب به فعلا عينا أو تخييرا.

وقضيّة ذلك كون الإتيان به إذا حصل القدرة عليه مجزيا لوجود المقتضي وفقد المانع ، ومثله الكلام في القصد وعدمه ، فإنّ قصد العنوان على تقدير مدخليّته في القدرة ليس من مقتضيات حسن المأمور به ، بل عدمه مانع عن تعلّق الطلب فعلا ، فإذا حصل الإتيان بالفعل لا بقصد العنوان فقد حصل الإتيان بما هو من أفراد الفعل الّذي كان الحسن في طبيعته الكلّية.

وثانيها : أنّ المتبادر من قول القائل : « اضرب » إنّما هو الضرب المقصود ، فيكون القصد مأخوذا في مفهوم المادّة.

ومن البيّن أنّ الهيئة ترد على المادّة مع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط ، والقصد منها ، فيكون معتبرا في المأمور به.

والجواب : منع كون القصد مأخوذا في مفهوم المادّة بما تقدّم بيانه ، والتبادر المدّعى على فرض تسليمه إطلاقي ناش عن قرينة الطلب بملاحظة قضاء العقل باعتبار القدرة في متعلّقه ، أو عن قرينة الغلبة والشيوع نظرا إلى أنّ ما غلب وجوده في الخارج إنّما هو الضرب المقصود ، فلذا جعلنا القصد من لوازم وجود الأفعال عادة ، وظاهر أنّ مثل هذا

ص: 322

التبادر لا عبرة به في شيء.

لا يقال : إنّما لا عبرة بذلك التبادر في إثبات الوضع ، فلم لا يجوز أن يعتبر كاشفا عن المراد وهو كاف في اعتبار القصد في المأمور به ، لأنّ الكشف عن الإرادة مبنيّ على تبيّن كون القرينة ممّا لاحظها المتكلّم وهو في المقام مقطوع بعدمها ، لما قرّرناه من العلم الوجداني بأنّ الملحوظ في نظر الآمرين ليس في أمثال المقام إلاّ الطبيعة ، ولازمه الاجتزاء بما صدق عليه تلك الطبيعة ، ولو لاحظها مقيّدة ببعض الاعتبارات فالقصد ليس منها ، ولو سلّم عدم القطع فلا أقلّ من الشكّ والأصل سليم عن المعارض.

فإن قلت : قضيّة ذلك هدم قاعدتهم المقرّرة في محلّه من اشتراط العمل بالمطلقات بتواطئ الأفراد وعدم انصرافها ، إذ ما من مطلق منصرف إلى بعض الأفراد إلاّ وهذا الكلام جار فيه وهو كما ترى.

قلت : الانصراف إنّما يؤثّر إذا نشأ عن غلبة الإطلاق ، وهو في المقام ناش عن غلبة الوجود ، وإلاّ فالغالب من حيث الإطلاق إنّما هو إرادة نفس الطبيعة معرّاة عن وصف القصد.

وثالثها : أنّ المقصود بالتكليف إنّما هو تأثير المكلّف في المكلّف به وهو إنّما يحصل إمّا يبعث المكلّف غيره على التأثير وأمره إيّاه بإيجاد المكلّف به ، كأمر السلطان بعض أمرائه بفتح بلد ، حيث إنّ تأثيره إنّما هو بإرسال العسكر لفتحه ، أو بالمباشرة النفسيّة كما في أمر السيّد عبده بالسقي ، ولمّا كانت التكاليف الشرعيّة متوجّهة إلى الإنسان الّذي يعبّر عنه بالنفس - أي النفس الناطقة - الّتي لكونها من المجرّدات الّتي لا يصدر منها ما هو من لوازم المادّيّات لا يعقل منها تأثير إلاّ بالبعث ، وظاهر أنّ المبعوث عن قبل النفس لا يكون إلاّ الأعضاء والجوارح ، فلابدّ في تأثيرها كونها باعثة لها آمرة إيّاها بإتيان المكلّف به ، ومن المعلوم أنّ البعث لا يمكن من الباعث إلاّ مع قصد ما يبعث لأن يؤتى به ، كما أنّ الأمر من الآمر لا يعقل إلاّ مع قصد المأمور به.

والجواب : أنّ خطابات الشارع المتضمّنة لأوامره ونواهيه مبنيّة على ما يساعده العرف ويقتضيه العادة لا على ما ذكر من الشبهات السوفسطائيّة ، ولقد تقدّم أنّ المنساق من الأمر عرفا ليس إلاّ طلب ذات الفعل ، وانفهام ما زاد عليها مقصور على الدلالة الخارجيّة ، مع أنّ ما ذكر في الاستدلال من كون المكلّف في الشرعيّات هو النفس الإنسانيّة الّتي تأثيرها ليس إلاّ بالبعث ليكون من باب التسبيب بمكان من المنع ، نظرا إلى حكم العرف والعادة

ص: 323

ضرورة صحّة إسناد الفعل إليها إسنادا حقيقيّا لا يشوبه شكّ ولا ريب.

ودعوى : كون الفاعل هو الجوارح اشتباه صرف نشأ عن عدم التفطّن بكونها فيما بين الفاعل ومنفعله من باب الآلة ، وقياس ذلك على أمر السلطان بعض امرائه بفتح البلد مع الفارق ، للقطع بكونه هنا من باب التسبيب ، ضرورة أنّ الأمير المأمور بذلك سبب للفتح والمباشر هو العسكر ، والفعل إنّما يسند حقيقة إلى المباشر وإسناده إلى السبب مجازي ، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب لكون إسناد الفعل إلى النفس إسنادا له إلى مباشره كما لا يخفى.

المرحلة الثالثة

في اشتراط الاختيار

فلو صدر عنه الفعل بإكراه الغير ففي كونه موجبا للامتثال نظر ، من أنّه حينئذ إنّما هو بمنزلة الآلة ، والمباشر للفعل هو المكره ، كما لو حرّك الغير يده بلا اختيار منه ، ومن صحّة إسناده إليه في العرف والعادة حقيقة ، كما في الآكل إذا اكره عليه.

ولا يبعد أن يقال : بأنّ بناء العرف - على ما يستفاد من تتبّع أوامرهم الجارية ، واستقراء خطاباتهم الدائرة - على اعتبار الاختيار ، حيث إنّه لا يزال الآمر عند تصوّر أطراف القضيّة لإرادة الطلب لا يتصوّر إلاّ المختار ، ولا يلقي الخطاب إلاّ إليه ، بل نرى أنّ النفوس السليمة لم تزل مشمئزّة عن فعل يؤتى به لأجلها عن إكراه ، بل العقلاء عند إرادة الطلب لو علموا بأنّ فلانا لا يأتي بمطلوبهم إلاّ بإكراه الغير لا يطلبونه منه ، وإنّما يطلبونه عمّن يأتي به مع ميله النفساني ورضائه واختياره ، فيكون ذلك ممّا يكشف عن أنّ الأمر والطلب إنّما يتعلّقان بالفعل الاختياري.

التعبّدي والتوصّلي

المرحلة الرابعة

في اشتراط نيّة القربة وقصد الاخلاص

في الامتثال بالمأمور به وعدمه

والأولى نظرا إلى وحدة الطريق جعل الواجب مطلقا موضوعا للبحث.

فاعلم أنّ الواجب عندهم ينقسم إلى التعبّدي والتوصّلي ، والمراد بالأوّل ما أمر به لأجل التعبّد ، بمعنى كون الباعث على إيجابه التعبّد به وإظهار العبوديّة ، وأمّا تعريفه : « بما أمر به للتقرّب والزلفى » فتعريف باللازم ولا بأس به ، غير أنّ الأوّل أنسب بلفظ المعرّف ،

ص: 324

ولا يرد : أنّه تعريف بما يوجب الدور ، بعد ملاحظة أنّ التعبّد في المعرّف محمول على مفهومه اللغوي أو العرفي.

والمراد بالثاني ما أمر به لأجل حصوله في الخارج ، بمعنى كون الداعي إلى إيجابه مجرّد حصوله لا غير.

ومن خواصّ الأوّل اشتراطه بكون الإتيان به مقرونا بقصد الامتثال ، فبدونه لا يسقط الطلب ولا يخرج عن العهدة ولو بلغ في حصوله الخارجي ما بلغ ، لا لأنّ المطلوب حاصل ومعه لا يسقط الطلب وإلاّ يلزم طلب الحاصل وأنّه محال ، بل لأنّ المطلوب هو العمل المقرون بقصد الامتثال ، فالمطلوب فيما تجرّد عن القصد المذكور ليس بحاصل والحاصل ليس بمطلوب.

وقضيّة ذلك بقاء الطلب حتّى يحصل المطلوب.

ومن لوازم الثاني عدم افتقاره إلى مقارنته للقصد المذكور فبمجرّد حصوله في الخارج على أيّ نحو اتّفق ولو مجرّدا عن القصد يترتّب عليه الأثر المقصود منه ، وهو الّذي يعبّر عنه بالصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، ولازمه فراغ الذمّة وسقوط الطلب وعدم استحقاق العقوبة ، وإن لم يترتّب عليه استحقاق المثوبة عليه في بعض صوره كما لا يخفى.

والحاصل أنّ مجرّد حصوله في الخارج كائنا ما كان يسقط معه الطلب ، ضرورة استحالة طلب الحاصل.

غاية الأمر أنّه لا يترتّب عليه حينئذ ثواب لتوقّفه على قصد الامتثال ، فالفرق بين القسمين منحصر فيما ذكر.

وقد يقال بينهما مع ذلك فرق آخر من وجهين :

أحدهما : جواز اجتماع الثاني مع الحرام دون الأوّل.

وثانيهما : اشتراط الأوّل بالمباشرة النفسيّة دون الثاني ، وقد يقيّد الجميع بالغالب ، وكيف كان فهو ضعيف بما سنقرّره.

فإذا ورد أمر في الشريعة لطلب شيء فلو علم من دلالة خارجيّة بأنّ المراد به التعبّدي خاصّة أو التوصّلي كذلك أخذ به وعمل بموجبه ، ولو لم يعلم بذلك من جهة فقد الدلالة الموجب لحصول الاشتباه من جهة دوران الأمر بينهما ، فهل الأصل أن يحكم بالتعبّد أو التوصّل أو يجب التوقّف؟

ص: 325

ومن البيّن بملاحظة ما قرّرناه في صدر المسألة أنّ النظر هنا إنّما هو في الأصل الثانوي ، وإلاّ فالأصل الأوّلي لا ينبغي الإرتياب في كونه مقتضيا للتوصّل ، سواء استفيد الطلب من الدليل اللفظي أو الدليل اللبّي ، لرجوع الاشتباه إلى الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة فأصل البراءة - مضافا إلى أصالة العدم على الثاني - وأصل الإطلاق المعتضد بالأصلين على الأوّل ينفيانه.

فما قيل في الاستدلال بأنّه لو لا البناء على التوصّل للزم الالتزام بأمر زائد ، لاشتراط التعبّدي بقصد الامتثال ، فحينئذ لو كان الطلب ثابتا بالأدلّة اللبّية لكان ذلك مندفعا بالأصل الّذي يجوز إجراؤه فيما يشكّ في كونه شرطا أو جزءا ، ولو كان ثابتا باللفظ لكان مندفعا بأصالة الإطلاق ، فالحكم بالتوصّلي إنّما هو من مقتضى هذين الأصلين إن اريد به تأسيس الأصل الأوّلي ، فليس به بأس وإلاّ فغير مجد لجواز انقلاب ذلك الأصل بدليل خارجي من عقل أو نقل إلى أصل آخر ثانوي كما توهّم ، فيجب الخروج منه حينئذ إلى موجب ذلك الأصل.

نعم لولا ثبوت ذلك الأصل لكان المصير إلى موجب الأصل الأوّلي متّجها ، فيؤول الأمر حينئذ إلى أنّه هل هنا قاعدة ثانويّة تقتضي كون الأصل في كلّ واجب هو التعبّد إلاّ ما أخرجه الدليل أو لا؟ بل الأصل الأوّلي باق على حاله فيحكم في كلّ واجب بالتوصّل إلاّ ما أخرجه الدليل.

ففيه خلاف بين الأصحاب ، والّذي يستفاد من بعض الأعلام هو الأوّل ، ووافقه على ذلك بعض الأعاظم وهو محكيّ عن الفاضلين العلاّمة والمحقّق في باب الوضوء من المنتهى والمعتبر تمسّكا بجملة من الآيات والروايات ، بل صرّح به العلاّمة في التهذيب ، وهو المستفاد من السيّد في شرحه.

وقد صار المحقّقون إلى خلافه فقالوا : ببقاء الأصل الأوّلي على حاله ، واختاره بعض الفضلاء وفاقا لأخيه في الهداية ، وهذا هو الراجح في النظر القاصر.

وقد عرفت سابقا ، أنّ النظر في ذلك تارة إلى حكم العقل ، واخرى إلى بناء العرف ، وثالثة إلى قضاء الشرع.

ومن البيّن أنّ العقل نفيا وإثباتا ساكت في المقام ، إذ لا مدخل له في الامور التوقيفيّة.

وأمّا العرف : فهو قاض بما رجّحناه للقطع بأنّ العبد المأمور بشراء اللحم متلا إذا أتى به مطلقا وإن لم يكن بعنوان أنّه ممّا أمر به المولى لم يعدّ عاصيا لمخالفته الأمر ، ولا يجب

ص: 326

عليه الإتيان به ثانيا ، بل كان ما أتى به [ فهو ] نفس الواجب وعين المطلوب ، ولا ينافيه عدم ترتّب المدح والثواب على فعله إلاّ مع قصده الامتثال به ، إذ لا ملازمة بين فعل الواجب وترتّب الثواب عليه ، وإنّما يثمر في عدم لزوم المخالفة وعدم ترتّب العقاب على الإخلال بقصد الامتثال وهو كاف في ثبوت المطلوب ، إذ لا نعني بالامتثال إلاّ هذا.

لا يقال : لعلّه من باب الإسقاط لئلاّ يلزم طلب الحاصل ، فلا ملازمة بين سقوط الطلب وحصول الامتثال كما هو المطلوب ، للقطع بأنّه ليس إلاّ من جهة صدق الامتثال عرفا صدقا حقيقيّا وكونه إتيانا بعين المطلوب كما عرفت في تقرير الدليل.

فان قلت : كيف يصحّ ذلك مع أنّه لا يقال عرفا : إنّه أتى بالمأمور به من حيث إنّه مأمور به.

قلت : إن اعتبرت الحيثيّة قيدا للإتيان فكذلك ، إلاّ أنّه أعمّ من عدم كون المأتيّ به هو المأمور به ، وإن اعتبرت قيدا للمأمور به من باب التأكيد فواضح المنع ، ضرورة أنّ عدم كونه هو المأمور به فرع اعتبار القصد فيه وهو غير ثابت بل الثابت خلافه ، لما عرفت من أنّ الآمر لا يلاحظ ولا يطلب إلاّ أصل الفعل من دون التفات منه إلى القصد المذكور.

احتجّوا - كما في كلام بعض الأعاظم - بوجوه.

الأوّل : أنّ صدق الامتثال في الأوامر عرفا لا يحصل إلاّ بقصد الامتثال ، فلو أمر المولى عبده بشيء فأتى به من باب تشهّي نفسه من دون ملاحظة أمر مولاه ، أو أتى به بقصد أن يقتل مولاه ، أو بنى على مخالفته ثمّ نسي أمر مولاه وأتى به من دون أن يخطر بباله أمره ، أو طلب منه ذلك الشيء عدوّ مولاه فأتى به لذلك لا من جهة أنّ مولاه أمره به ، لا يعدّ في شيء منها ممتثلا قطعا.

والجواب : بأنّه إن اريد أنّ ما يأتي به العبد في تلك الموارد ليس بما طلبه المولى ولا مندرجا في مطلوبه وهو موجب لئلاّ يكون ممتثلا ، فهو ممّا يكذّبه الوجدان ، لأنّا نجد المولى في بناء العرف أنّه عند التصوّر لا يلاحظ إلاّ ذات الشيء ولا يطلب إلاّ حقيقته من حيث هي.

نعم قصد امتثال أمره عند الإتيان بمطلوبه محبوب آخر عنده ، ولكن لم يكن حسنه بالغا إلى حدّ يقضي بإيجابه ليكون واجبا برأسه ، وهذا هو الّذي ينشأ منه المدح والثواب على العمل لو قارنه القصد غير أنّه لا يوجب دخوله في مطلوبه الّذي لاحظه بعنوانه الخاصّ حتّى لا يكون الإتيان بما خلا منه امتثالا للأمر وإتيانا للمأمور به.

وإن اريد به أنّه لو كان ذلك امتثالا في تلك الموارد لما ترتّب عليه ذمّ ولا استحقاق

ص: 327

عقاب ، والتالي باطل والملازمة بيّنة ، فيكون ذلك كاشفا عن عدم حصول الامتثال.

فيردّه : منع الملازمة ، ضرورة أنّ ما ذكر من الذمّ واستحقاق العقاب لا يكون مترتّبا على مخالفة الأمر - كما هو الغرض الأصلي على تقدير شرطيّة القصد - وإنّما هو مترتّب على العزم على المعصية من قصد القتل ، أو البناء على المخالفة ، أو على ما هو محرّم في نفسه ولو بمنع شأني ، فإنّ الإتيان بما طلبه عدوّ المولى لأجل ذلك ممّا هو منهيّ عند المولى ولو شأنا لكونه إهانة عليه ، فالذمّ والعقاب إنّما يترتّبان على عنوان آخر من المخالفة لا على مخالفة الأمر.

ولو سلّم فقضيّة ذلك تقيّد المأمور به بعدم اجتماعه مع الحرام ، فيكشف ذلك عن أنّ مطلوب المولى بالأمر ليس بما هو مطلوب تركه ، ولا القدر الجامع بينه وبين غيره وهو أمر آخر لا ربط له بالمدّعى ، ولا ننكره كما يأتي تفصيل القول فيه عند دفع توهّم ما قيل في الواجب التوصّلي من اجتماعه مع الحرام ، فلذلك ترى أنّه لا ذمّ ولا عقاب فيما لو خلا العمل عن العنوانات الاخر ممّا نهى عنها وعن قصدها مع خلوّه عن قصد امتثال الأمر.

الثاني : أنّ الناسي والغافل لا يكونان مأمورين ، والشاعر للأمر لو لم يعتبر في امتثاله القصد كفاه إيقاع الفعل مطلقا ولو كان مستهزئ ولا ريب في بطلانه.

بيان الملازمة : أنّ مجرّد إيقاع الفعل لو كان يكفي لما يفترق بين فرد من أفراده وهو ظاهر.

والجواب : أنّ المقصود إطلاق المأمور به بالنسبة إلى قصد الامتثال وهو غير مناف لتقيّده من جهات اخر كما عرفت ، وإيقاع الفعل استهزاء قبيح في نفسه ومطلوب تركه فلا يعقل كونه مطلوبا فعله ، فالمأمور به مقيّد بعدم ذلك كتقيّده بعدم الإهانة ولا قصد المعصية من جهة اخرى ، وهو أعمّ من تقيّده بقصد الامتثال.

الثالث : أنّ المطلوب وإن كان هو الطبيعة لكن لم يظهر كفاية الإتيان به مطلقا بل ما دام الوصف وفي تلك الحال ، ومقتضى التوقيفيّة الاكتفاء فيه بمورد اليقين ، للزوم تحصيل البراءة بعد ثبوت الاشتغال ، أو ما ذكرناه أظهر الأفراد ومتبادرها عند الإطلاق ، كتبادر النقد الرائج من إطلاق لفظ « النقد » فيلزم حمل اللفظ عليه ، وبدونه يشكّ في الامتثال.

والجواب : أنّه بعد تسليم كون المطلوب هو الطبيعة ، فدعوى عدم ظهور كفاية الإتيان به مطلقا أعجب شيء في المقام ، كيف وأصالة الإطلاق كافية في ظهور كفاية الإتيان مطلقا ، ومعها لا مجال للتمسّك بقاعدة الاشتغال كما لا يخفى.

ص: 328

ولو سلّم أنّ المقام من مجاري القواعد العامّة العمليّة فإنّما هو من مجاري أصل البراءة - لما هو المقرّر في محلّه - ومعه يحصل العلم الشرعي بالامتثال.

أو يقال : إنّ الاشتغال لم يثبت إلاّ بأصل الطبيعة وهي حاصلة كما هو المفروض.

وأمّا دعوى : أنّ ما ذكر أظهر الأفراد ومتبادرها فكلام ظاهري لا يجدي ، إذ لو اريد بالظهور ما نشأ عن كمال الفرد.

ففيه : أنّه ممّا لا اعتداد به ، ولو اريد به ما نشأ عن غلبة وجوده في الشرعيّات ، فيردّه : منع الغلبة في هذا الطرف إن لم تكن في الطرف الأخير ، نظرا إلى أنّ الأمر في الشريعة قد ورد على نوعين ، فمن نوع التعبّدي الصلاة والصوم والحجّ وغيره من العبادات ، ومن نوع التوصّلي إزالة النجس عن المسجد ، وتطهير الثوب أو البدن عن النجاسة ، وأداء الدين ، وردّ الوديعة ، وردّ السلام ، وغير ذلك ممّا لا يخفى. وظاهر أنّ الغلبة لو لم تكن متحقّقة في الثاني فليست بمتحقّقة في الأوّل جزما.

أو في العرفيّات ، فيدفعه : عدم وجود مورد فيها يكون قصد الامتثال معتبرا في أداء المأمور به فضلا عن كونه الغالب.

ولو اريد به ما نشأ عن غلبة الإطلاق عليه في الشرع أو العرف.

ففيه أيضا : منع واضح بل أظهر منعا عمّا سبق كما لا يخفى ، وقياس ما نحن فيه على « النقد » المنصرف عند الإطلاق إلى الرائج مع الفارق من وجوه شتّى.

الرابع : طبائع الأفعال وإن كانت غير متوقّفة على حصول النيّة ، بل الأفعال أفعال لغة وعرفا إلاّ أنّ امتثال الأوامر يتوقّف عليه ، وإلاّ لزم عدم الفرق في الامتثال بين ما صدر من الغافل والناسي وغيرهما والكلّ واضح البطلان.

والجواب : أنّ الأفعال إذا سلّم عدم توقّفها لغة وعرفا على حصول النيّة فأيّ دليل قضى بتوقّف امتثال الأوامر على حصولها ، مع أنّ ظاهر اللفظ لغة وعرفا تعلّقها بها على طبائعها الكلّيّة.

والنقض بلزوم عدم الفرق في الامتثال بين ما صدر من الغافل والناسي وغيرهما ليس في محلّه ، إذ لو اريد بالغافل ما هو كذلك ابتداء فهو خارج عن موضع البحث ، إذ لا يتوجّه إليه خطاب حتّى ينظر في حاله.

ولو اريد به ما طرأه الغفلة بعد ما تفطّن بالتكليف.

ففيه : ما تقدّم في المرحلة الاولى من أنّ هذه الغفلة غير قادحة في صدق الامتثال ، فما

ص: 329

صدر عن ذلك ليس بخارج عمّا تعلّق به الطلب حتّى يؤخذ موردا للنقض ، كما أنّ ما صدر عن الغافل الابتدائي ليس بداخل في العنوان حتّى ينتقل من بطلان كونه امتثالا إلى بطلان المدّعى.

ومحصّل الجواب : منع الملازمة على تقدير وبطلان اللازم على تقدير آخر ، ومثله النقض بالناسي ، فإنّ ما يصدر منه مطلوب للآمر بل عينه ، وإن كان هو ناسيا لأمره.

وأمّا الشرع : فقد استدلّوا منه على اعتبار النيّة في كلّ واجب إلاّ ما أخرجه الدليل بوجوه واهية غير ناهضة على مطلوبهم.

منها : قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) حكى الاستدلال به عن العلاّمة في المنتهى ، وعن المحقّق في المعتبر ، مضافا إلى قوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) (2) وتمسّك به العلاّمة والسيّد في التهذيب والمنية على ما رأيناه.

وكان وجه الاستدلال به : أنّه بقرينة النفي والاستثناء قصر للمأمور به العامّ المقدّر بالعبادة على وجه الإخلاص ، إمّا بزعم أنّ العبادة ما اعتبر في مفهومها عرفا ذلك ، أو جعل الدين الّذي هو الطريقة عبارة عن مجموع العقائد وفعل الواجبات ، نظرا إلى أنّ الإخلاص به لا يتأتّى إلاّ بقصد الامتثال.

والظاهر عدم الفرق بين جعل مدخول « اللام » غاية لمضمون الأمر ، بدعوى : كون « اللام » للعلّة ، ليكون التقدير : « وما أمروا بشيء ممّا أمروا به إلاّ لأجل أن يعبدوا اللّه » أو جعله نفس المأمور به ، بدعوى : كون « اللام » للتقوّي نظير ما في قوله تعالى : ( وَأُمِرْتُ ) لأعبد ( الَّذِي فَطَرَنِي ) (3) وقوله أيضا ( وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (4) وغير ذلك ممّا وقع « اللام » عقيب الأمر أو الإرادة كقوله : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (5) كما توهّم ، ولا بين أن يقدّر المأمور به على الأوّل من جنس المستثنى ليكون التقدير : « وما امروا بالعبادة » على ما حكى عن ابن هشام في المغني من القول بأنّ هذه « اللام » لو كانت للغاية فلابدّ من كون مدخولها مفعولا للفعل المتقدّم عليه ، بمعنى لزوم أن يقدّر مفعول ذلك الفعل من جنس مدخولها ، أو غيره كما يتوهّم أيضا.

ص: 330


1- البيّنة : 5.
2- الزمر : 2.
3- كذا في الأصل ، والآية المباركة هكذا : ( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) ( يس : 36 ).
4- الأنعام : 71.
5- الأحزاب : 33 ، وقوله أيضا : ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) ( منه ). ( النساء : 4 ).

نعم لمّا كان الآية واردة في شأن أهل الكتاب فلم تدلّ إلاّ على كون الأصل في كلّ واجب على أهل الكتاب أن يكون مع نيّة الإخلاص ، فلابدّ من انضمام الاستصحاب وأصالة عدم النسخ إليها ، أو إنضمام قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) أي الثابتة ، وصفا لمقدّر اضيف إليه « الدين » كالملّة أو الشريعة ، على ما حكى عن الشيخ أبي علي في تفسير الآية ، نظرا إلى كون الاسم إشارة إلى ما وصف لأهل الكتاب ، والدّين القيّم إشارة إلى هذا الدين.

وأمّا ما يورد على الاستصحاب من أنّ جريانه فرع بقاء الموضوع وقد تغيّر جزما ، لأنّ ما أمر به أهل الكتاب من الصلاة وغيرها من عباداتهم غير ما هو ثابت في هذه الأمّة ، والمفروض أنّ المأمور به لم يكن مشتركا بين النوعين للجزم بكون ما هو ثابت لهم فاسدا ، فواضح الفساد بأنّ المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه في مجرى الاستصحاب إنّما هو معروض الحكم الّذي اريد استصحابه ، وهو بالنسبة إلى وجوب النيّة ليس إلاّ النيّة ، وهو أمر واحد لا يختلف باختلاف الامم في عباداتهم ، والاختلاف في العبادات لا يقضي بتغيّرها جزما ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الاستدلال.

ولكن يردّه - على تقدير كون « اللام » للأجل والغاية - : أنّه لا يلائمه عطف قوله : « ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » على مدخول « اللام » بهذا المعنى كما يشهد به الذوق السليم ، نظرا إلى وجوب كون المعطوف في حكم المعطوف عليه ، فلو كان مدخول « اللام » غاية للأوامر للزم أن يكون المعطوفان أيضا من هذا القبيل ، بأن يكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة غاية للأوامر وهو متّضح الفساد ، لعدم انحصار الغرض من الأوامر فيهما جزما ، وهو قرينة ترجّح حمل « اللام » على المعنى الآخر وهو التقوّي.

ولو حمل « اللام » في قوله : « ليعبدوا » على الغاية كما هو المفروض ، وفيهما على التقوّي الملازم لكون المأمور به هو المدخول ، للزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بعنوان الحقيقة على فرض الاشتراك أو الحقيقة والمجاز على فرضيهما ، وهو كما ترى معركة للآراء مخالف لمذهب المحقّقين ، فهو إمّا غير جائز أو مرجوح ولا يصار إلى شيء منهما.

مع أنّه على تقدير كونه للغاية مطلقا - بعد الغضّ عمّا ذكر - أيضا لا يوجب المطلوب ، لكون المعنى المراد حينئذ : أنّ الغرض من الأوامر إنّما هو حصول العبادات المأمور بها عنهم ووقوعها في الخارج ليتقرّبوا به إلى اللّه تعالى ، فيكون مفاد الآية حينئذ : أنّ صدور

ص: 331


1- البيّنة : 5.

هذه الأوامر منه تعالى إنّما هو من مقتضى اللطف الواجب عليه الّذي هو عبارة عمّا يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ، وكذلك الغرض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإنّهما أيضا لأجل حصول القرب والزلفى كما يستفاد من قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1).

مضافا إلى أنّ المعنى الّذي ذكروه لا يساعده عليه شيء من العرف واللغة ، إذ العبادة على ما يقتضيه الاستعمالات العرفيّة وتنصيص أهل اللغة هو التذلّل والانقياد وغاية الخضوع ، ويشهد بذلك أيضا أنّ المشركين كانوا يعبدون من دون اللّه ولم يكن العبادة منهم عبارة عن الإتيان بالمأمور به ، حيث لا أمر لهم في معبوداتهم ، وإنّما المراد بعبادتهم تذلّلهم لأصنامهم ، وهو المراد بقولهم : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى ) (2) فلا مدخل للعبادة بهذا المعنى في الأعمال الّتي هي مناط الاستدلال من حيث اشتراطها واقترانها بقصد الإخلاص ، وإنّما المراد أنّهم امروا بما امروا ليحصل لهم التذلّل لله تعالى حال كونهم مخلصين له ما به التذلّل وهو الدين ، على أنّ التذلّل له قسمان :

أحدهما : كونه خالصا لوجهه الكريم من غير تشريك لغيره معه.

وثانيهما : كونه له مع تشريك غيره معه على ما هو دأب المشركين كما يدلّ عليه الآية المتقدّمة ، فيقام الآية للدلالة على أنّ مطلوبه تعالى هو القسم الأوّل خاصّة ، فيكون مفادها إرادة التوحيد في مقابلة الشرك ، على أنّ الإخلاص يكثر استعماله في التوحيد فقوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (3) أي موحّدين إيّاه في دينهم ، ومن هنا سمّيت سورة التوحيد بكلمة الإخلاص كما لا يخفى.

ويشهد بما ذكرنا أيضا ما عن ابن عبّاس : من أنّ العبادة كلّما اطلقت في الكتاب العزيز يراد بها ما يقابل الكفر والشرك ، كما في قوله تعالى ( قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ) (4) و ( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) (5) ومنه قوله تعالى : ( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) (6) الآية ، ولذلك ترى إقترانها كثيرا بذكر ما هو من أهمّ اصول الدين وفروعه ، كاقترانها في الآية المستدلّ بها بما هو من مهمّ آثار الموحّدين وهو الصلاة والزكاة ، ومن هذا الباب ما في قوله تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ

ص: 332


1- العنكبوت : 45.
2- الزمر : 2.
3- الأعراف : 29.
4- الزمر : 14.
5- الزمر : 15.
6- الكافرون : 1 - 3.

إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (1) الآية.

فإن قلت : حمل « العبادة » في الآية على التذلّل والانقياد لا ينافي مطلوبهم ، إذ التذلّل الّذي هو الغاية المطلوبة من الأوامر لا يتأتّى على وجه مشروع إلاّ بأن يؤتى بالأعمال المأمور بها بقصد الامتثال ، ضرورة أنّ الإتيان بما لم يؤمر به تشريع محرّم ، والمفروض أنّ الإتيان بما أمر من الأعمال أيضا لا يعدّ من التذلّل إلاّ مع اقترانها بهذا القصد ، وهو المطلوب.

قلت : مع أنّه لا ينحصر في الإتيان بالواجبات ، ضرورة حصوله بالمندوبات الّتي لا إشكال في اعتبار القصد المذكور في الامتثال بها كما سنقرّره ، يدفعه : أنّ كون الغاية المطلوبة من الأوامر التذلّل لله غير كون المراد بكلّ أمر حصول التذلّل ، فإن القصر على ما عرفته إضافي بالقياس إلى التذلّل لغيره تعالى من المعبودات الباطلة ، فيكون بالنسبة إلى مناط الاستدلال قضيّة مهملة ، وهي لا توجب المحصورة الكلّيّة جزما.

وأمّا على تقدير جعل « اللام » لغير الغاية وهو التقوّي ، فاورد عليه أيضا : بأنّ النفي والاستثناء لابدّ وأن يرجعا إلى القيد الأخير من الكلام ، فيكون المعنى : « وما امروا بالعبادة إلاّ على وجه الإخلاص » وهو مع عدم دلالته على أنّ كلّ مأمور لابدّ وأن يأتي بالعبادة على هذا الوجه - كما هو المدّعى - لا يقضي بما هو مطلوب إثباته من وجوب قصد الامتثال في كلّ ما امروا به ، بل إنّما يدلّ على نفي الشرك وإثبات الإخلاص في مقابلته ، فإنّ إخلاص الدين تجريده عن شوائب الشرك ، فيكون المعنى : « أنّهم امروا بأن لا يشركوا ولا يتّخذوا في عباداتهم شركاء لله سبحانه كما هو من دأب المشركين » فعلى هذا لا ربط بين مفاد الآية والمدّعى أصلا.

ويمكن دفعه : بأنّ النفي والاستثناء يرجعان إلى مجموع المقيّد والقيد ، فإذا كان المستثنى هو العبادة المقيّدة يتمّ المطلوب ، لا باعتبار قيده حتّى يقال : بأنّ المراد به الإخلاص في مقابلة الشرك ، بل باعتبار نفس المستثنى وهو العبادة ، لا من جهة أنّ العبادة ما يعتبر في صحّته قصد القربة حتّى يقال : بأنّه أمر اصطلاحي قد ذكر في مقابلة المعاملة ولا ينوط به الخطاب الشرعي ، بل لدوران صدقها في عرف عامّة المتشرّعة - على ما يساعده الاستقراء في موارد الاستعمالات - على مواظبة فعل الواجبات والقيام بالمندوبات لا مطلقا بل إذا كانت مقرونة بنيّة الإخلاص وقصد التقرّب ، مع أنّها على ما

ص: 333


1- البقرة : 83.

تقدّم من شهادة كلام أهل اللغة هي التذلّل وغاية الخضوع وقد عرفت أنّه لا يتحصّل إلاّ بالأعمال المأمور بها مع قصد الامتثال ، لعدم اندراج ما عدا ذلك عرفا في التذلّل ، فإذا كان المأمور به هو التذلّل بهذا المعنى يصير عبادة بالمعنى المتنازع فيه.

نعم يرد عليه ابتناء ثبوت المطلوب على هذا التقدير على كون المستثنى منه المقدّر هو الأمر العامّ ، حتّى يكون التقدير : « وما امروا بشيء ممّا امروا به إلاّ العبادة على وجه الإخلاص » ليلزم منه الدلالة على كون كلّ مأمور به هو العبادة وهو غير ظاهر من الآية ، بل الظاهر خلافه على ما يدركه الذوق السليم من ركاكة هذا المعنى وعدم ملائمة المستثنى للمستثنى منه ، وإنّما المناسب أن يقدّر المستثنى منه من جنس المستثنى كما عرفت حكايته عن ابن هشام ، فيكون المعنى : « وما امروا بالعبادة إلاّ العبادة الخالصة لله تعالى » وهذا المعنى لا ملازمة بينه وبين كون كلّ ما امروا به عبادة كما هو المطلوب.

نعم تدلّ على أنّ العبادة لابدّ وأن تقع على وجه الإخلاص وهو أمر لا ينكره أحد حتّى يحتجّ عليه بالآية.

وإن حاولوا الاستدلال على مطلوبهم بقوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) لا يتمّ أيضا ، لا لما قيل من أنّ « الدين » على ما صرّح به أهل اللغة والمفسّرون هو الطريقة الثابتة من اللّه سبحانه ، وهي عبارة عن أوامره تعالى وأحكامه خاصّة ، وهذا المعنى بظاهره مخالف لمطلوبهم لأنّه حينئذ لابدّ وأن يراد من « الدين » التديّن الّذي هو من مقولة الأفعال ، إذ المشار إليه حينئذ هو العبادة المفهومة عن قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) (2) ولمّا كانت العبادة من مقولة الأفعال فلا يلائمها حمل « الدين » عليها بالمعنى المذكور من أهل اللغة ، للزوم البينونة حينئذ فيما بين الموضوع والمحمول ، نظرا إلى أنّه لا ملائمة بين الأوامر والأحكام الّتي هي الطريقة الثابتة وبين ما هو من مقولة الأفعال ، وظاهر أنّ الحمل ممّا يقتضي الاتّحاد الخارجي فلابدّ من حمله على ما كان من مقولة الأفعال وهو التديّن ، وهو كما ترى بعيد مخالف للظاهر ، فلا يصار إليه إلاّ مع دلالة معتبرة ليست موجودة في المقام.

لأنّ ذلك يندفع : بأنّ « الدين » ممّا ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة - على ما يساعده التحقيق - والمتبادر منه عند المتشرّعة إنّما هو المعنى المصدري كما لا يخفى على المتأمّل ، فلا بعد حينئذ في حمله عليه ، بل هو ممّا يقتضيه الأصل والظاهر.

ص: 334


1- البيّنة : 5.
2- البيّنة : 5.

بل لأنّه إنّما يتمّ إذا كان الحمل في قضيّة قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) على طريق المواطاة ليفيد انحصار « الدين » في العبادة وهو خلاف ظاهر الحمل ، بل الظاهر منه في العرف والعادة - كما هو المصرّح به في كلام بعض الأعلام - هو الحمل المتعارفي ، مضافا إلى أنّ أكثر أوامر الشرع هو التوصّليّات فكيف يعقل مع ذلك إرادة حصر « الدين » في التعبّديّات ، فيكون المعنى حينئذ : « أنّ العبادة على وجه الإخلاص من جملة أفراد الدين » وهو أيضا ممّا لا ينكره أحد ، ولا يلزم منه الدلالة على أنّ كلّ ما ثبت في الدين من أنواع المأمور به فهو عبادة إلاّ ما خرج بالدليل كما هو مطلوبهم.

وأمّا ما يقال في ردّ ذلك أيضا : بأنّه ممّا يفضي إلى ارتكاب تخصيص الأكثر في الآية تعليلا بما ذكرناه من كون أكثر الأوامر التوصّليات ، فمّما لا ينبغي الالتفات إليه ، كما لا ينبغي الالتفات إلى تقريره الآخر من أنّ المأمور به في الشريعة على أقسام ثلاث :

الأوّل : ما اعتبر فيه جهة التعبّد محضا كالصلاة ونحوها.

والثاني : ما اعتبر فيه جهة التوصّل محضا.

والثالث : ما اعتبر فيه الجهتان معا ، فيخرج الأخيران عن عموم الآية والباقي بالنسبة إليهما ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء.

ولا ريب أنّ تخصيص الأكثر إمّا باطل أو مرجوح مضعّف ، فإنّ تخصيص الأكثر بناء على التحقيق جائز ، وكونه مرجوحا إنّما يسلّم إذا لم يكن الباقي في حدّ نفسه كثيرا والمقام ليس منه.

ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) لا كلام عندهم في حجّيّته وتقدّمه على الأصل الأوّلي المستفاد عن العمومات الأوّليّة ، مع أنّ خارجه من الأفراد أغلب من باقيه بمراتب شتّى ، ضرورة كثرة العقود الفاسدة نوعا بحسب الشرع ، مضافة إلى العقود الّتي تخرج فاسدة بسبب الاختلال في بعض شروط الصحّة.

ومنها : قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3) بتقريب : أنّ الأمر بالإطاعة - وهو الانقياد والإتيان بالمأمور به - وارد على الأوامر الشخصيّة الواردة في الشريعة الّتي يثبت بها الواجبات ، فيدلّ على أنّ تلك الأوامر الواردة مطلقة لابدّ وأن يمتثل

ص: 335


1- البيّنة : 5.
2- المائدة : 1.
3- النساء : 59.

بها بقصد الإطاعة والانقياد ، للقطع بأنّ العبد المأمور باشتراء اللحم - مثلا - إذا أتى به لا لداعي الأمر بل لأمر آخر غيره من احتياج نفسه إليه أو غير ذلك لا يقال : إنّه مطيع ، ولا يسمّى فعله إطاعة ، ولا نعني بالتعبّد إلاّ هذا.

واجيب عنه : بأنّ الأمر بالإطاعة مطلق فلا يتناول كلّ أمر ، والقطع بعدم (1) إرادة إيجاد الإطاعة في الجملة ولو في ضمن أمر لا يقتضي القطع بإيجادها في ضمن كلّ أمر كما هو المطلوب ، ولكنّه ليس بسديد لوروده على ما يساعده العرف في سياق العموم ، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة قوله : « يجب على العبد إطاعة مولاه ».

وقد يجاب أيضا : بأنّ ما دلّ على وجوب الطاعة يعمّ امتثال الأوامر والنواهي ». ومن البيّن أنّ جلّ النواهي بل كلّها إنّما يقصد منها ترك المنهيّ عنه من غير تقييد شيء منها بملاحظة قصد الامتثال والإطاعة ، وكذا الحال في الأوامر المتعلّقة بغير العبادات ، فلو بنى على إرادة ظاهر معنى « الطاعة » لزم تقييدها بالأكثر وهو - مع مرجوحيّته في ذاته - بعيد عن سياق تلك الأدلّة ، فإنّ المقصود وجوب طاعتهم في جميع ما يأمرون به وينهون عنه ، وكذا وجوب اعتبار ملاحظة طاعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله والإمام عليه السلام في الإتيان بما يأمرون به ، كأنّه ممّا لم يقل به أحد.

ومن البيّن ورود الجميع على سياق واحد ، وقد ورد نحوه في إطاعة الزوجة والعبد للزوج والسيّد مع عدم وجوب اعتبار الملاحظة المذكورة ، فالأولى إذن حمل « الطاعة » على ترك المخالفة والعصيان فيما يأمرون به وينهون عنه ... إلى آخره.

والأولى أن يقال : بأنّه إن اريد أنّ أوامر الإطاعة ممّا توجب تكليفا آخر على المكلّف بالنسبة إلى قصد الامتثال مستقلاّ ، بحيث يبقى الأوامر الخاصّة على إطلاقها ، ليلزم منه حصول الامتثال بها لو أتى بمتعلّقاتها لا بقصد الامتثال مع ترتّب الإثم والعقاب على مخالفة أوامر الطاعة ، كحصول الامتثال بهما معا لو أتى بها مقرونة بالقصد المذكور كما هو الشأن في سائر الواجبات المتعدّدة.

ففيه : مع أنّه خروج عن المتنازع فيه كما لا يخفى ، أنّه ممّا لا يساعده طريقة العرف الموافقة لحكم العقل بلزوم تحصيل مطلوب الآمر على وجهه ، من حيث إنّها لا يراد منها إلاّ الإرشاد وتحذير المكلّف عمّا يوقعه في الندامة باستحقاق العقاب ، نظير ما ورد في الشرع

ص: 336


1- كذا في الأصل ، وينبغي أن تكون العبارة هكذا : « والقطع بإرادة ... إلخ » - واللّه العالم -.

من نواهي المعصية ، فلا يكون سياقها سياق إرادة الطلب فضلا عن الوجوب المستلزم لما ذكر ، فلذا تراهم غير ملتزمين في شيء منهما بتعدّد العقاب فيما لو ترك شيئا من العناوين الخاصّة المأمور بها نظرا إلى إفضائه إلى ترك « الإطاعة » المأمور بها ، بل في بعض الأخبار ما يشهد بذلك ممّا ورد في عقد المملوك إذا كان بغير إذن مولاه الحاكم بصحّته تعليلا بأنّه : « لم يعص اللّه بل عصى سيّده ».

فلا وجه لما التزم به بعض الأفاضل في هدم الاستدلال بتلك الأوامر من أنّها لا تقضي بتقييد المطلوب في سائر الأوامر ، تعليلا : « بأنّ غاية ما يفيده هذه الأوامر وجوب تحصيل معنى الامتثال والانقياد ، وهو أمر آخر وراء وجوب الإتيان بالمأمور به الّذي هو مدلول الأمر على الوجه المذكور ، فأقصى ما يلزم حينئذ أنّه مع إتيانه بالمأمور به لا على وجه الامتثال أن لا يكون آتيا بالمأمور به بهذه الأوامر ، ولا يستلزم ذلك عدم إتيانه بما أمر به في تلك الأوامر مع إطلاقها وعدم قيام دليل على تقييدها ... إلى آخره.

مع أنّه لو سلّم أنّ المقصود منها هو الوجوب فهو توصّلي ، وليس الغرض منه إلاّ تحصيل العنوانات الخاصّة المأمور بها بالأوامر الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة على أيّ نحو اتّفق فيكون مسقطا لأوامر الإطاعة ، لما نرى بالوجدان أنّ غرض الآمر لم يتعلّق إلاّ بمجرّد الحصول الخارجي نظير سائر التوصّليّات كغسل الثوب الواجب على المكلّف نفسه الّذي يسقط عنه بفعل الغير ، فيكون أوامر الإطاعة ثابتة ما دامت الأوامر الواردة في العنوانات الخاصّة باقية ، والمفروض أنّ الإتيان بكلّ واحد منها كيفما اتّفق يوجب سقوط الأمر به لما ذكرنا من أنّ الأمر به لا يقتضي إلاّ إيجاده في الخارج مطلقا ، وسقوط الأمر به يوجب سقوط الأمر بالإطاعة فيها ، فلا وجه للقول بأنّ أوامر الإطاعة حاكمة على الأوامر الخاصّة كما هو مناط الاستدلال ، لما عرفت من أنّ بقاءها يدور مدار بقاء تلك الأوامر فتسقط بسقوطها على ما هو من مقتضى الدوران.

وإن اريد أنّ تلك الأوامر ممّا يوجب تقييد الأوامر المطلقة كما هو المتنازع فيه.

ففيه : أنّ « الإطاعة » لا ينساق منها عرفا إلاّ موافقة المتفوّق فيما يأمر به أو ينهى عنه وملازمة مطلوبه فعلا وتركا ، ويوافقه « الانقياد » المصرّح به في كلام أهل اللغة عند شرح هذه اللفظة ، وهو المراد شرعا من إطاعة الابن والعبد والزوجة لأبيه وسيّده وزوجها ، وظاهر أنّ الهيئة إذا وردت على المادّة لا تقتضي إلاّ مطلوبيّة مدلول المادّة ، ولمّا كانت المادّة

ص: 337

لا إشعار لها بلزوم مراعاة القصد عند القيام بالامتثال فالهيئة الواردة عليها أيضا لا توجبه جزما.

ودعوى : أنّ مجرّد الإتيان بالمأمور به لا يسمّى إطاعة بل لابدّ - مضافا إلى ذلك - من قصد الانقياد غير مسموعة ، بعد مخالفته لما نشاهده من عدم توقّف صدق « الإطاعة » على حصول هذا القصد ، وإنّما يدور وجودا وعدما على إيجاد المأمور به في الخارج ولو مع عدم حصول القصد وترك إيجاده ، فالعبد الآتي بمطلوب مولاه كيفما اتّفق مطيع والتارك له عاص ، مع أنّ المنساق عن الأوامر المتعلّقة بالإطاعة عرفا ليس إلاّ تأكيد مدلول الأوامر الخاصّة المتعلّقة بالعناوين المخصوصة مطلقة كانت أو مقيّدة ، من دون قضائها بزوال ما فيها من الإطلاق ولا إيجابها زيادة في تقييدها.

ولا يقابل ذلك بأولويّة التأسيس - على فرض تماميّة أصل القاعدة - بعد ما قام الدليل على تعيّن التأكيد الموجب لانتفاء موضوع تلك القاعدة وهو الدوران ، فيكون مفاد تلك الأوامر مفاد حكم العقل بلزوم الإتيان بكلّ عنوان مأمور به والمنع عن العصيان بتركه من غير أن يوجب زيادة فيما تضمّنه الأمر الوارد على ذلك العنوان ، فكما أنّ العقل بعد ما ظفر بتلك الأوامر ولاحظها بعناوينها المخصوصة ينتزع عنها باعتبار ما بينها وبين الآمر والمأمور من الإرتباط الراجع إلى مقام الامتثال مفهوما اعتباريّا يكون مشتركا بين جميع تلك العناوين والأوامر المتعلّقة بها ، فيلزمه على ذلك الأمر المشترك مخافة أن يصيبه بسبب العصيان والإقدام على المخالفة فتنة في الآجل والعاجل من غير أن يداخل في مداليلها بزيادة أو نقيصة ، فكذلك الشارع لكمال رأفته على المكلّف أو شدّة اهتمامه بمطلوباته بعد توجيه الأوامر الخاصّة إليه يلاحظ ذلك الأمر المشترك فيخاطبه بما يوجب إلزامه عليه تأكيدا لما اقتضاه كلّ أمر في مورده الخاصّ من دون أن يتصرّف فيه ثانيا بزيادة أو نقيصة ، فيعبّر عنه بقوله : « أطع » تنزيلا للإتيان به مطلقا منزلة التذلّل والانقياد في عدم تعقّبه الفتنة والعصيان واستحقاق الذمّ والخذلان لو سلّم مدخليّة القصد المذكور فيهما عرفا ولغة ، وإلاّ فهو جرى على حقيقة اللفظ وإطلاق له على حقيقة معناه وهو الإتيان بالمأمور به على وجهه والاجتناب عن المنهيّ عنه كذلك.

وإلى ذلك ينظر أمر الولد والعبد والزوجة بإطاعة أبيه وسيّده وزوجها ، ويرشدك إلى ذلك أيضا ملاحظة عدم الفرق إجماعا في لزوم الإطاعة بين الأوامر والنواهي ، مع أنّها لا مدخليّة في الامتثال بها لغير ترك العصيان الّذي ألزم عليه العقل من باب اللطف جزما.

ص: 338

وإن شئت زيادة توضيح فلاحظ طريقة السلطان إذا أصدر إلى بعض خدّامه أوامر وأحكاما ، فيخاطبه عقيب ذلك أو قبله بقوله : « أطعني وأطع وزيري وولاة أمري ».

وممّا يؤيّد ما ذكرناه لزوم تخصيص الأكثر المرجوح بالقياس إلى النواهي لو كانت الأوامر المذكورة في مصبّ إفادة اشتراط القصد المذكور في متعلّق الأوامر ، الّتي ليست في مقابلة النواهي إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، ولا سيّما مع ملاحظة خروج التوصّليّات الّتي هي أكثر بمراتب ممّا هو معقد هذا الباب.

وممّا يؤيّده أيضا عطف النبيّ صلى اللّه عليه وآله واولي الأمر في الآية على اللّه تعالى ، اللذين لم أظنّ القول بوجوب قصد الامتثال في طاعتهما الواجبة بموجب الآية ، بل ربّما يصرّح بما يومئ إلى دعوى الإجماع.

وبالجملة : لا إشكال في عدم ورود تلك الأوامر في سياق إفادة تقييد الأوامر المطلقة واعتبار قصد الامتثال في المطلوب بها كما يزعمونه ، لكونه ممّا لا يساعده العرف واللغة ولا سياق الكلام وأجزاؤه ، مع مخالفته لبعض القواعد حسبما قرّرناه.

مضافا إلى أنّ استفادة ذلك منها ممّا يفضي إلى الدور الواضح ، ضرورة أنّ الإطاعة إذا كانت عبارة عن الإتيان بالمأمور به على وجهه - بناء على ما يساعده العرف واللغة - فدلالة الأمر المتعلّق بها على وجوب قصد الامتثال في الإتيان بالمأمور به موقوفة على كون ذلك وجها من وجوهه ، والمفروض توقّف ثبوت ذلك على الدلالة المذكورة.

ومنها : ما ورد في الأخبار كالنبوي المعروف المدّعى تواتره من قوله عليه السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » ومثله : « إنّما الأعمال بالنيّات » ومثلهما : « ولكلّ امرء ما نوى » (1).

وفيه : أيضا عدم قضاء شيء من ذلك بما حاولوه في المقام.

أمّا الأوّل : فلابتناء نهوضه على تصرّف في لفظة « لا » بحملها على نفي الآثار الشرعيّة ، وتصرّف في لفظ « العمل » بحمله على ما هو المصطلح عند المتشرّعة الّذي يعبّر عنه بالخيرات والمبرّات واجبة كانت أو مندوبة ، وهو المراد بقولهم : « العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر » وتصرّف في لفظ « النيّة » بحمله على المعنى الخاصّ المصطلح المعبّر عنه بقصد الامتثال ، وكلّ ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل مفقود في المقام.

وتوضيح ذلك : أنّ [ لا ] النافية محتملة لإرادة نفي الحقيقة ، أو نفي الآثار المترتّبة على

ص: 339


1- راجع الوسائل 1 : 33 ، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات.

العمل ، وهو محتمل لمحامل ثلاث :

أحدها : سنخ العمل الاختياري بجميع اعتباراته وعنواناته ، منويّة كانت أو غير منويّة أو مختلفة.

وثانيها : العمل الاختياري بالجهة الّتي وقع بلا نيّة بالنسبة إلى تلك الجهة ، وإن اشتمل عليها في الجهة الاخرى ، كإكرام زيد مثلا أو ضربه إهانة أو أذيّة إذا استلزم إهانة عمرو أو تأديبه ، فهو بالنسبة إلى الإهانة والتأديب غير منويّ فلا يكون عملا اختياريّا وإن كان من جهة الإكرام والإهانة عملا اختياريّا لكونه منويّا من تلك الجهة.

وثالثها : المعنى الخاصّ المصطلح في لسان المتشرّعة واجبا كان أو مندوبا. والنيّة أيضا محتملة لأن يراد بها المعنى اللغوي المتداول في العرف وهو مطلق القصد ، أو المعنى الخاصّ المتعارف في عرف المتشرّعة المعبّر عنه بقصد القربة ، والحاصل من ضرب الأوّلين في الثلاث المتوسّطة ثمّ المرتفع في الأخيرين اثنا عشر احتمالا ، وظاهر أنّ الاستدلال لا يتمّ إلاّ بانضمام الثاني من الأوّلين إلى ثالث الثاني مع ثاني الثالث وهو كما ترى مخالف للأصل والظاهر من جهات عديدة ، والالتزام به بحمل الرواية عليه دونه أصعب من خرط القتاد ، مع عدم دلالة معتبرة.

والّذي يظهر بملاحظة أنّ الشارع ليس من شأنه إلاّ بيان ما يتعلّق بشرعه مع مراعاة سائر القواعد (1) على قدر الإمكان إنّما هو التصرّف في النافية مع إبقاء الباقيين على ما عليه بحسب الأصل ، فيكون مفاد الرواية حينئذ عدم الاعتداد بعمل الغافل والهازل والساهي والمكره في عقودهم وإيقاعاتهم بل مطلق معاملاتهم وعباداتهم ، فلا يبقى فيها دلالة حينئذ على أنّه لا يكون عملا إلاّ بنيّة التقرّب حيث لا شاهد فيها على هذا القصد ، فيبقى المتنازع فيه غير ثابت بتلك الرواية.

ص: 340


1- منها : لزوم الكذب لو حمل النفي على نفي الحقيقة و « النيّة » على أحد المعنين. ومنها : لزوم تخصيص الأكثر لو حمل النفي على نفي الآثار و « النيّة » على معناها الخاصّ ، ضرورة خروج المحرّمات والمكروهات والمباحات بل سائر العقود والإيقاعات ، لعدم اشتراط شيء من ذلك بنيّة التقرّب وليست الواجبات والمندوبات بالنسبة إليها إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، ولزوم التجوّز في لفظ « العمل » لو حمل على مصطلح المتشرّعة مع التجوّز في « النيّة » أيضا على بعض التقادير كما عرفت ، فيترجّح ما ذكرنا من جهة عدم استلزامه شيئا من ذلك ، ولزوم التجوّز في كلمة « لا » لا بأس به بعد قيام القرينة الدالّة على ذلك ، وهو صون كلام الحكيم عن الكذب واشتماله على ما لا شبهة في مرجوحيّته ولو في مقابلة المجاز النادر فضلا عن المجاز الشائع. ( منه عفي عنه ).

ومثله الكلام بعينه في الرواية الثانية ، نظرا إلى أنّ كلمة « إنّما » أداة حصر فتكون بمنزلة النفي والاستثناء على ما هو المصرّح به ، فتفيد حصر الأعمال بجميع أنواعها فيما تلبّس بالنيّة دون غيره ، فيأتي الاحتمالات المتقدّمة بأسرها ، والجواب الجواب.

وأمّا الرواية الثالثة فعدم صلوحها دليلا على مطلوبهم أوضح ممّا سبق ، فإنّ أقصى ما تقضي به في المقام أنّ المرء إنّما يثاب بما نوى في عمله ، فما لم ينو فيه أصلا فليس بمثاب ، وهو كما ترى ليس من محلّ الكلام في شيء لأنّه ليس بما ينكره أحد ، فهي في الدلالة على هذا المعنى لا توجب أصلا كلّيّا يكون هو المرجع والمعوّل في أوامر الشارع من حيث الحكم بكونها في الموارد المشتبهة تعبّديّات.

وبالجملة لا دليل من الكتاب والسنّة ولا غيرهما على كون الأصل في كلّ واجب هو التعبّدي إلاّ ما أخرجه الدليل.

وقضيّة ذلك انعكاس القضيّة بكون الأصل في كلّ ذلك هو التوصّلي إلاّ ما أثبته الدليل أخذا بموجب ما تقدّم من إطلاق الأوامر الواردة ، ويتمّ فيما عدا ذلك ممّا ليس بأمر لفظيّ بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، مضافا إلى أصالة البراءة النافية لاحتمال مدخليّة ما زاد على أصل الأفعال ممّا لم يقم عليه من الشرع دليل واضح ، من دون معارضة استصحاب الأمر وأصل الشغل له في أمثال المقام كما عرفت مرارا ، وستعرف تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء اللّه.

هذا كلّه في الأوامر الإيجابيّة ، وأمّا الندبيّة بل المندوبات مطلقا ، فقضيّة الأصل الأوّلي عدم إناطتها بنيّة القربة وقصد الامتثال عرفا ولغة ، إذ لا فرق في جريان الإطلاق في الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها ، ولكنّ الّذي يظهر من طريقة الشارع وسيرة المتشرّعة مع قضاء القوّة العاقلة انقلاب الأصل فيها بورودها شرعا مورد التعبّد ، وكأنّ وجه الفرق أن لا غرض فيها أصالة إلاّ ترتّب استحقاق المثوبات ورفع الدرجات.

ومن البيّن دوران ذلك مع النيّة وجودا وعدما ، بخلاف الإيجابيّة الّتي يقصد بها أصالة التحرّز عن المعصية واستحقاق العقاب ، وظاهر أنّ ذلك يتأتّى بمجرّد الايجاد وحصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق.

المرحلة الخامسة

حيث يعتبر القربة ونيّة الامتثال ، فهل يشترط مع ذلك قصد الوجه من وجوب أو ندب

ص: 341

في الامتثال بالواجب والمندوب أو لا؟ والأقرب عدم الشرطيّة وفاقا للمشهور مع فقد الدلالة عليه من حيث اللفظ ، لسكوته عنه نفيا وإثباتا ، وعدم نهوض دلالة خارجيّة عليه أيضا ، فيبقى الاصول المعتضد بعضها ببعض سليمة عن المعارض.

بعض الفوائد المتعلّقة بالمقام

بقى في المقام فوائد

الاولى : إذا ثبت من الخارج أنّ قصد الامتثال شرط في المأمور به ، فهل يكفي في ذلك العلم الإجمالي بالامتثال أو لابدّ من العلم التفصيلي؟

وهو علمه بأنّ ما يأتي به من العمل هو الّذي أمره الشارع به علما تفصيليّا ، كالصلاة إلى جهة القبلة مع العلم التفصيلي بكونها جهة القبلة.

قيل : وقد يتوهّم أنّ أدلّة الإطاعة تقضي بالثاني ، فاورد عليه : بأنّه غلط تعليلا بأنّها مطلقة ، إلاّ أنّ المشهور استشكلوا في الاكتفاء بالإجمال مع إمكان التفصيل بل صرّحوا بعدم جوازه ، فلذا حكموا في مثل الصلاة إلى القبلة بتعيّن الصلاة إلى ما يعلم كونها قبلة من الجهات تفصيلا ، فلا يكتفى مع إمكانه بإتيانها إلى الجوانب الأربع ، ومثله ما لو كان له ثوبان أحدهما طاهر بالعلم التفصيلي والآخر بالعلم الإجمالي فيتعيّن الأوّل ، وهكذا غير ذلك من موارد المسألة ، ولا يبعد المصير إليه إن لم يمنعنا صارف ، إلاّ أنّ المسألة لابدّ فيها من التأمّل فيما بعد ذلك.

الثانية : قد أشرنا سابقا إلى ما توهّمه بعضهم من الفرق بين التعبّديّات والتوصّليّات باشتراط الأوّل بالمباشرة النفسيّة دون الثاني.

وأورد عليه بعض مشايخنا : بأنّ المباشرة النفسيّة إن اريد بها استفادتها عن ظاهر اللفظ فلا وجه للفرق بين المقامين لوضوح كونها مستفادة في كليهما ، فإنّ قوله : « اضرب زيدا » ظاهر في المباشرة سواء اريد به التعبّدي أو التوصّلي.

والسرّ في ذلك : كونه طلبا للفعل عن فاعله الّذي هو المخاطب ، ومعنى كونه مطلوبا عن المخاطب مطلوبيّة صدوره عنه بنفسه وهو معنى المباشرة ، فإرادة حصوله في الخارج كيفما اتّفق ولو عن غير المخاطب مجاز ، لاتّفاق علماء العربيّة على مجازيّة قوله تعالى : ( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) (1) لكونه من باب الإسناد إلى السبب وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وأصالة الحقيقة تمنعه لقضائها بلزوم المباشرة في كلا المقامين إلى أن يثبت دلالة خارجيّة على أنّ المراد مجرّد الحصول من أيّ فاعل كان ، فيكون ذلك حاكما على اللفظ

ص: 342


1- المؤمن : 36.

الدالّ على الطلب مع المباشرة.

وإن اريد استفادتها من الخارج ، فقضاؤه بذلك الفرق على وجه يكون ضابطا كلّيّا فيهما ممنوع ، كيف وفي التعبّديّات أيضا ما سقط عنه اعتبار المباشرة شرعا.

وتحقيق المقام يستدعي بسطا في الكلام ، المقتضي للنظر في أنّ الواجبات مطلقا ، بل العبادات بالمعنى العامّ الشامل للمندوبات أيضا ، هل الأصل فيها لزوم المباشرة أو جواز عدم المباشرة أيضا؟

ويظهر الثمرة في النيابة والاستنابة ، وجواز أخذ الاجرة بالنسبة إلى مورد الشكّ الّذي لم يرد من الشرع ما يوجب جواز ذلك فيها ، ولا ما يدلّ على عدم الجواز.

فنقول : لا خفاء أنّ الواجبات وغيرها من العبادات وغيرها بحكم الاستقراء على أنواع.

منها : ما لا يقبل النيابة والاستنابة قطعا ، كالفرائض اليوميّة ونوافلها ، والحجّ الواجب على غير العاجز ، والصوم الواجب ، وواجبات الزوجة على الزوج من المضاجعة معها والوطء بها في موضع الوجوب.

ومنها : ما يقبلها قطعا كالحجّ الواجب على العاجز ، وتطهير الثوب وتحصيل الساتر للصلاة ، وتغسيل الأموات وتكفينهم ، والصلاة عليهم ومواراتهم وحفر قبورهم والحجّ المندوب ونحو ذلك ، وهذان النوعان خارجان عن محلّ الكلام جزما.

ومنها : ما يشكّ في قبوله لها وعدمه كغسل الجمعة والزيارات والصدقات ونحوها ، ومنشأه الشكّ في اعتبار المباشرة وعدمه ، فحينئذ ربّما يمكن أن يقال بالمنع عن ذلك ، القاضي باعتبار المباشرة أخذا بموجب قوله عزّ من قائل : ( أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (1) و ( أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى ) (2) بتقريب : أنّ الحصر يفيد أنّ الإنسان لا يثبت له عدا ما يسعى فيه.

وقضيّة ذلك توقّف ما يثبت له من الأعمال والخيرات على المباشرة النفسيّة.

ولو قيل : إنّ الاستنابة وبذل الاجرة أيضا نوع من السعي ، لدفعناه : بظهور السعي المسند إليه في المباشرة ، مضافا إلى أنّ العبادات وغيرها إن ثبتت مشروعيتّها بالأدلّة اللفظيّة فظاهرها العينيّة والمباشرة النفسيّة ، وإن ثبتت بالأدلّة اللبّيّة فقضيّة الاقتصار على القدر المتيقّن هو المباشرة أيضا لأنّه مورد اليقين ممّا أثبته اللبّ جزما.

ولو قيل : بمنع ذلك ، بدعوى : أنّ الأصل في كلّ عبادة قبول النيابة وعدم اعتبار

ص: 343


1- النجم : 38 و 39.
2- النجم : 38 و 39.

المباشرة إلاّ ما خرج بالدليل ، لما ورد من أنّ المؤمن كلّ ما يعمل لنفسه من الأعمال الصالحة فيجوز أن يعمل عن الميّت ، وبه روايات كثيرة أوردها المجلسي في باب أحكام الأموات من طهارة البحار (1).

ليردّه : أنّ مورد تلك الروايات إنّما هو الأموات ، والكلام في قبول النيابة عن الأحياء ولا يشملهم الروايات ، ولا مناط منقّحا حتّى يؤخذ به ، لجواز كون الحياة مانعة عن ذلك أو الممات شرطا فيه.

ولا يرد : أنّه لو صحّ ذلك لما قبلها الحجّ الواجب عن العاجز ، لجواز كون العجز كالموت من المقتضيات مع أنّه لم يثبت إلاّ فيه ، كيف ولم يقل به أحد على الإطلاق عدا ما عزاه السيّد في مفتاح الكرامة (2) إلى الشهيد في حاشية القواعد من جواز النيابة في النوافل والرواتب اليوميّة على الإطلاق ، وما يستفاد عن الشهيد الثاني في الروضة من جوازها في بعض النوافل ، وصرّح بعض المحقّقين بالمنع عنه مطلقا ، وهو الحقّ حيث لا دليل على ذلك على نحو الإطلاق.

نعم قد ورد الدليل في موارد كقراءة القرآن ، والزيارات والحجّ المندوب والصدقة والدين الواجب وما أشبه ذلك ، وأمّا غيرها فالأصل فيه عدم قبول النيابة لعدم تناول أدلّتها له ، ولم يكن المناط منقّحا ، ولا إجماع في البين على الإطلاق ليتمسّك بهما ، هذا كلّه بالنسبة إلى الأحياء.

وأمّا الأموات فقد انقلب الأصل فيهم لما أشرنا إليه من الروايات القاضية بصحّة النيابة عن الميّت في كلّ عمل صالح ، فقد تقرّر بأنّ الأصل في الأحياء إنّما هو لزوم المباشرة إلاّ ما خرج بالدليل.

الثالثة : قد أشرنا أيضا إلى أنّ من جملة ما توهّم فرقا في المقام اجتماع التوصّليّات مع الحرام دون التعبّديّات.

وأورد عليه بعض مشايخنا : بأنّ التوصّلي أيضا غير ممكن الاجتماع معه ، تعليلا : بأنّ ذلك أمر راجع إلى الآمر ، ومعنى اجتماع الواجب مع الحرام أنّه تصوّر الحرام أو القدر المشترك بينه وبين غيره ثمّ طلبه وأمر به ، وهو ممّا لا يمكن في المقام ، إذ الحرام ممّا طلب تركه ، ومعه لا يعقل طلب فعله ضرورة استحالة طلب النقيضين وقضيّة ذلك أنّه لا يتصوّر إلاّ غير الحرام.

ص: 344


1- البحار ج 82 باب 14 ص 62.
2- مفتاح الكرامة 7 : 559.

أقول : اجتماع الواجب مع الحرام إن اريد به كون الحرام نفس الواجب أو فردا منه فهو ممّا لا يتعقّل ، ضرورة أنّ القبيح لا يحسن ومطلوب الترك لا يطلب فعله ، وإن اريد به كونه ممّا يوجب سقوط الواجب عن الذمّة والخروج عن العهدة كما في تطهير الثوب عند الوجوب بالماء المغصوب.

ففيه : وضوح منع كونه من باب الإجتماع ، فإنّ الإتيان بالحرام ليس إتيانا بالواجب ، غايته أنّ الغير الّذي قصد التوصّل إليه بإيجاب الواجب قد يتوصّل إليه بالحرام أيضا.

وقضيّة ذلك سقوط الأمر حذرا عن لزوم تحصيل الحاصل ، إلاّ أن يراد بالاجتماع هذا المعنى تسامحا.

ولكن يبقى الإشكال في جعل عدم الاجتماع معه في الواجب التعبّدي فرقا آخر في مقابلة ما تقدّم فيه من الفرق باعتبار قصد الامتثال ونيّة القربة فيه من حيث إنّه من لوازم الامتثال ، ضرورة تنافي المخالفة الحاصلة بفعل الحرام لذلك ، كما أنّ الاجتماع معه من لوازم عدم الامتثال ، فتأمّل جيّدا.

ص: 345

في استلزام تعدّد الأمر تعدّد التكليف وعدمه

- تعليقة -

لا خفاء في أنّ الأمر مطلقا من حيث الإنشاء قد يتّحد وقد يتعدّد وأقلّه الاثنان ، كما أنّ متعلّقه قد يتّحد وقد يتعدّد وأقلّه الاثنان ، والأوّل خارج عن محلّ البحث هنا ، وأمّا على الثاني فيقال : إذا ورد أمران فهما باعتبار المتعلّق إمّا أن يكونا متخالفين أو متماثلين ، وعلى الثاني فإمّا أن يكونا متقارنين أو متعاقبين.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون المطلوب بهما من حيث الامتثال غير قابل للتعدّد والتكرار أو يكون قابلا لهما.

وعلى الثاني فإمّا أن يكونا بعطف أو بدونه ، وعلى كلّ منهما فإمّا أن يكونا معرّفين أو منكّرين أو مختلفين بكون الأوّل معرّفا والثاني منكّرا أو بالعكس.

فالحاصل من انضمام مضروب الاثنين في الأربع إلى الثلاث الاولى أحد عشر قسما.

ثمّ إنّه قد يدخل في بعض تلك الأقسام الانقسام إلى كونهما عامّين أو خاصّين أو مختلفين بكون الأوّل عامّا والثاني خاصّا أو بالعكس ، مع العطف في الجميع أو بدونه ، ولكن تحقيق القول في أحكامها يتأتّى في أربعة مراحل :

المرحلة الاولى : فيما لو كانا متخالفين ، بكون موردهما مفهومين متغايرين بالتباين ، أو التساوي ، أو العموم مطلقا ، أو العموم من وجه ، فالصور أربع :

أمّا الصورة الاولى : فيما لو تباين المفهومان ، فإن كان بالتنافي والتضادّ (1) بينهما عقلا

ص: 346


1- والمراد بما لو كان بينهما تضادّ ما لم يمكن الإتيان بهما معا لا بالجمع ولا بالتفريق ، كما في موضع العلم بوحدة التكليف والمكلّف به ، فلا يتوهّم أحد عدم الفرق بينه وبين ما ذكرناه أخيرا من فرض عدم إمكان الجمع بينهما الموجب لتعيّن التفريق. ( منه ).

- كالأمر بالتوجّه إلى الكعبة في الصلاة والأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس فيها أيضا أو شرعا - كالأمر بالصلاة في وقت معيّن والأمر بالصدقة بما يوجب الفعل الكثير الماحي لصورة الصلاة في ذلك الوقت - وكان المقام ممّا اجتمع فيه شرائط النسخ يحمل عليه لشهادة القوّة العاقلة به مع بناء العرف عليه وقضاء العادة ، وإلاّ فلا مناص من كونه مخيّرا في الإتيان بأيّهما شاء ، هذا مضافا إلى أنّه المفهوم منهما في العرف والعادة.

وإن كان بالاختلاف الغير المنافي ، لإمكان الإتيان بهما معا وأمكن الجمع بينهما في آن واحد ، كالأمر بالصلاة والأمر بالصوم ، يجوز الإتيان بهما بالجمع أو التفريق لأصالة البراءة عن التعيين ، مضافا إلى ظهور اللفظ وبناء العرف والعادة من غير فرق في ذلك بين تخلّل العطف وعدمه ، ولا بين اتّصال الأمر [ ين ] وانفصالهما إلاّ أن يقضي خارج بتعيين أحدهما كالأمر بإجزاء الوضوء (1) ونحوه الأمر بإجزاء الصلاة في مثال الجمع ، والأمر بالصوم مع الأمر بالصلاة ليلا في مثال التفريق ، وإن لم يمكن الجمع بينهما كالأمر بالصلاة والوقاع تعيّن التفريق في الإتيان بهما ، والوجه في الكلّ واضح بعد ملاحظة بناء العرف ومجاري العادات مع قضاء القوّة العاقلة.

وأمّا الصورة الثانية : فيما لو تساوى المفهومان كالأمر بإكرام الحاجّ مع الأمر بإكرام المعتمر ، فإن كان ذلك بتوسّط العطف كان ظاهرا في تعدّد التكليف كاشفا عن الاستحقاق من جهتين وإن اتّحد المورد بحسب المصداق والوجود الخارجي ، قضيّة لظهور « الواو » في المغايرة فلا ينافيها أصالة البراءة ، وإلاّ فالأقرب إرادة التأكيد لمكان ما هو الغالب في نظائر المقام ، إلاّ مع العلم بتعدّد السبب القاضي بتعدّد التكليف ، أو العلم بتعدّد أصل التكليف من خارج ، وهل يتداخل التكليفان عند الامتثال أو لا؟ وجهان مبنيّان على الأصل الآتي.

وأمّا الصورة الثالثة : فيما لو كان أحد الأمرين أخصّ مطلقا من الآخر ، تقدّم أو تأخّر أو تقارنا كقوله : « أعتق رقبة » مع قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » ولا إشكال فيهما مع العلم بوحدة التكليف أو تعدّده أو العلم بتعدّد السبب ، بل الإشكال إنّما هو في موضع الاحتمال.

واحتمال أنّه يندفع بإطلاق قولهم بوجوب حمل المطلق على المقيّد.

يدفعه : تعليل تلك القاعدة في كلام الأكثر بكونها طريق يجمع بين المطلق والمقيّد ، فإنّه - مضافا إلى تصريح بعضهم - ممّا يشهد بكونها إنّما تجري في موضع العلم بوحدة

ص: 347


1- كذا في الأصل ، والصواب « الصوم » بدل « الوضوء » تطرأ إلى السياق واللّه العالم.

التكليف مضافة إلى وحدات اخر مذكورة في محلّه ، ويؤذن به أيضا اعتبارهم التنافي بين مدلوليهما في مجراها ، ضرورة عدمه مع العلم بتعدّد التكليف ، فالوحدة لابدّ من إحرازها حتّى يصحّ إجراء تلك القاعدة لا أنّها ممّا يثبت بها.

نعم لو استند في ذلك بظهور الثاني مع انتفاء العطف في كونه بيانا للأوّل سواء كانا منكّرين أو معرّفين - كظهور « الواو » معه فيهما في المغايرة - لكان له وجه في التوصّل إلى الوحدة على الأوّل والتعدّد على الثاني.

ولكن يبقى الإشكال في باقي الصور ، ولا يبعد اندفاعه أيضا فيما لو كان أحدهما معرّفا مع تأخّره وانتفاء العطف ، بدعوى : ظهور « اللام » في العهد الملازم للاتّحاد سواء كان ذلك هو المطلق أو المقيّد.

فالمتّجه في غير ذلك وهو اثنان من صور انتفاء العطف وأربعة من صور وجوده ك- « أعتق الرقبة ، أعتق رقبة مؤمنة » و « أعتق الرقبة المؤمنة ، أعتق رقبة » و « أعتق رقبة أو رقبة مؤمنة » و « أعتق الرقبة المؤمنة أو الرقبة » و « أعتق الرقبة أو الرقبة المؤمنة » و « أعتق رقبة مؤمنة أو رقبة » إنّما هو التوقّف.

وأمّا الصورة الرابعة : فما لو كان بينهما عموم من وجه « كأكرم الهاشمي وأكرم المسكين » ومثله « أكرم العلماء والفقراء » ولا ريب في تعدّد التكليف حينئذ ما لم يعلم بدلالة خارجة بوحدته ، وهل يتقيّد حينئذ أحدهما بالآخر فلابدّ من شاهد التعيين ، أو يتقيّد كلّ منهما بالآخر فيؤخذ بمورد الاجتماع وجهان ، بل وجوه.

ويظهر الفائدة في التعيين والتخيير بين أفضل الفردين وغيره كما لا يخفى ، والثاني هو الأظهر بملاحظة فهم العرف ، فإنّ المنساق منهما في كلّ من المثالين كون كلّ بيانا للآخر ، غير أنّ الوصف يتحقّق في أحدهما فيتخيّر في اعتباره للثاني أو الأوّل ، إذ لا يختلف الحكم وإن كان طريقة العرف إيراد الثاني بيانا للأوّل ، والظاهر عدم الفرق فيما ذكر بين تخلّل العطف وعدمه ، ولا بين ورودهما معرّفين أو منكرين أو مختلفين ، إلاّ بالاعتبار في أوّل المثالين وبالاختلاف في عموم الأفراد والاكتفاء بجماعة واحدة في ثانيهما.

ففي مثل « العلماء والفقراء » مع عدم العلم بوحدة التكليف لابدّ من الاحاطة في كلّ منهما لظهور « لام » الجمع في العموم ، ومع العلم بها لابدّ من الإحاطة في أفراد مورد الاجتماع ، وفي مثل « العلماء وفقراء » مع عدم العلم بها لابدّ من الإحاطة في الأوّل

ص: 348

والاقتصار على جماعة واحدة في الثاني ، ومع العلم بها ينتهض الثاني قرينة على إرادة العهد الذهني من الأوّل ، ولا ينبغي حمله حينئذ على جماعة من مطلق الفقراء لأدائه إلى خروج الأوّل لغوا ، وفي مثل « العلماء والفقراء » مع عدم العلم بها يحمل الأوّل على جماعة لا بعينها والثاني على العموم ، ومع العلم بها يجعل « اللام » للإشارة إلى ما سبق من باب العهد الذكري ، وهل يتداخل الحكمان مع التعدّد في مورد الاجتماع من كلّ من المثالين في جميع صورهما ، مبنيّ تحقيقه على الأصل الآتي.

المرحلة الثانية : فيما لو كانا متماثلين مع ورودهما متقارنين ، ولا يعقل إلاّ في متكلّمين لمخاطب واحد أو متعدّد ، ولا إشكال في وحدة التكليف في الأوّل وكذلك الثاني مع وحدة السبب ، كما لا إشكال في تعدّده فيه مع تعدّد السبّب ، وأمّا إذا تعدّد المخاطب ولم يعلم باتّحاد السبب فهل الأصل كونه متّحدا أو لا؟

وجهان من غلبة الاتّحاد في الأوامر المتعلّقة بمفهوم واحد ولا سيّما في الخطابات المتوجّهة إلى أكثر من مخاطب واحد ، وظهور الأمرين في التعدّد مع أولويّة التأسيس ، ولعلّ الأوّل أرجح ، للأصل مع ظهوره في الأوامر العرفيّة كما في عبدين بين شريكين ، ولا ينافيه أولويّة التأسيس لكون كلّ منهما حينئذ تأسيسا وبيانا للحكم بالنسبة إلى كلّ واحد.

المرحلة الثالثة : فيما لو كان متماثلين مع ورودهما على سبيل التعاقب من دون قابليّة المطلوب بهما للتعدّد والتكرار ، كما لو قال : « اقتل زيدا اقتل زيدا » وينبغي القطع بوحدة التكليف حينئذ الموجبة لورود الثاني مؤكّدا ، حذرا عن لزوم التكليف بغير المقدور ، ضرورة امتناع الامتثال لو اريد بهما التعدّد ، والظاهر عدم الفرق في ذلك ما لو اتّحد السبب أو تعدّد كما لو قال : « اقتل زيدا لارتداده » و « اقتل زيدا لقتله النفس المحترمة » خلافا لبعض الأفاضل المصرّح بحمل الثاني على التأسيس حينئذ ، فيفيد تأكّد الوجوب واجتماع جهتين موجبتين للفعل بكونه واجبا بملاحظة كلّ منهما ، فهنا واجبان اجتمعا في مصداق واحد.

وفيه : أنّه إن كان المراد أنّ الثاني يفيد وجوبا واردا على ما أفاده الأوّل كما هو صريح.

فيردّه : لزوم التكليف بغير المقدور إن اريد بكلّ منهما الامتثال ، وخروج الخطاب عن الحكيم لغوا وعبثا مع عدم إرادة الامتثال.

وإن كان المراد أنّه يفيد تأكّد الوجوب الأوّل.

فيدفعه : أنّ تأكّد بعض الواجبات وتضاعفها واختلاف وجوبها في الشدّة والضعف

ص: 349

بتفاوت صفاتها الكامنة فيها في مراتبها وإن كان أمرا مسلّما - فلذا يرجّح بعضها على بعض عند التزاحم ، ويقدّم ما هو الأرجح في نظر الشارع لجهات قد علمت عن طريقته - إلاّ أنّ الالتزام به في محلّ [ البحث ] إخراج للخطاب عن ظاهره ، حيث إنّ الأمر لم يوضع لإفادة التأكيد لوجوب آخر ، وإنّما لإيجاد طلب مستقلّ برأسه ، مع أنّ كلاّ من الشدّة والضعف وصف في ماهيّة واحدة ينشأ ممّا في الجهة الموجبة لها من الشدّة والضعف ، وكلّ من الجهتين مقتضية لماهيّة غير ما اقتضته الأخرى ، ومآل الكلام المذكور إلى جعل ماهيّة تأكيدا لاخرى وهو ممّا لا يتعقّل.

والّذي يساعده النظر خروج ذكر السبب معهما في المثال قرينة على وقوعهما موقع الإرشاد والتعليم ، وبيان أنّ كلاّ من الجهتين ممّا يوجب استحقاق القتل ، فلو اجتمعتا في أمر واحد شخصي يكون هناك استحقاقان لا أنّه مطلوب قتله مرّتان ، ولو جعل أحدهما للطلب والآخر للإرشاد لكان تقليلا في مخالفة الأصل فيكون أولى ، ولعلّ الأوّل أولى بالحمل على الطلب من الثاني لتقدّمه وتوجّه المحذور من قبل الثاني ، فالقدر المتيقّن ممّا أوجب الخروج عن أصل الحقيقة إنّما هو هذا فيقتصر عليه ويبقى الأصل بالنسبة إلى الأوّل سليما عن المعارض.

ولا يرد عليه : معارضة ما ذكر من الحمل على إرادة التأكيد ، لتقدّم المجاز الشائع عند التعارض ، ولا سيّما إذا كان الآخر غير معهود في التعارف والاستعمال ، بل غير صحيح بالنظر إلى ما ذكرنا من قضيّة عدم المعقوليّة ، فلا معارض لما رجّحناه في الحقيقة.

وفرض المقام من قبيل اجتماع الواجبين في مصداق واحد مع أنّه غير معقول لما عرفت ، إنّما يصحّ فيما لو كان الأمر الواحد موردا للاجتماع فيما لو تعلّق الأمران بمفهومين بينهما عموم من وجه ، كما لو قيل « اقتل المرتدّ » و « اقتل شارب الخمر » لا فيما لو كان بنفسه موردا للأمرين كما في محلّ البحث.

لا يقال : ما قرّرته من عدم معقوليّة الاجتماع في مصداق واحد - على فرض ورود الأمرين على مفهومين - هو مادّة اجتماعهما وارد عليك في ما ذكرته في الصورة الرابعة من المرحلة الاولى.

لأنّا فرضنا الكلام ثمّة فيما كان قابلا للتكرار بحسب الامتثال ، فلذا نبّهنا على جريان احتمالي التداخل وعدمه بخلاف محلّ البحث الّذي لا يكون قابلا لذلك.

فلابدّ حينئذ من صرف أحد الأمرين عن ظاهره فيما لو تعلّقا بمفهومين بينهما عموم

ص: 350

من وجه بارتكاب تقييد يوجب خروج مادّة الاجتماع ، القاضي بكونها متعلّقا لأحد الوجوبين لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق لو اريد الامتثال مطلقا ، أو خروج الخطاب لغوا لو جعل أحد الأمرين لغير إرادة الامتثال مطلقا ، أو استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي وغيره لو جعل أحد الأمرين لإرادة الامتثال في مادّة الافتراق ولغير إرادته بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ، والتقييد وإن كان في حدّ ذاته مخالفا للأصل إلاّ أنّه أرجح من الجميع ، ولا سيّما مع ملاحظة أنّ شيئا من ذلك غير صحيح إمّا عقلا أو لغة كما لا يخفى.

المرحلة الرابعة : فيما لو كانت الصورة بحالها مع قابليّة المأمور به للتعدّد والتكرار ، ولها باعتبار التنكير والتعريف مع تخلّل العطف وعدمه أقسام قد وقع الخلاف في بعضها.

القسم الأوّل : أن يكون الأمران منكرين أو ما هو بمنزلته مع عدم كونهما متعاطفين ، كقوله : « صلّ ركعتين ، صلّ ركعتين » وقوله : « صم ، صم ».

فقد ذهب العلاّمة في التهذيب إلى أنّ الثاني يفيد غير ما أفاده الأوّل ، وعزاه السيّد في المنيّة إلى القاضي عبد الجبّار وفخر الدين ، وعن قوم - على ما في كلام بعض الأفاضل - المصير إلى اتّحاد مفاديهما ، وعليه الفاضل المذكور وبعض الأعاظم وهو الأقوى. ويظهر من السيّد أيضا.

وربّما يعزى إلى أبي الحسين القول بالتوقّف كما في المنية.

حجّة القول الثاني - على ما في كلام بعض الأعاظم - : الغلبة وظهور التأكيد في مثله ، واعتمد عليهما الفاضل المذكور وأضاف إليهما قوله : « ولا يعارضه رجحان التأسيس على التأكيد لظهور العبارة في ذلك ، بعد ملاحظة مرجوحيّة التأكيد في نفسه بالنسبة إلى التأسيس ، وعلى فرض تكافؤ الاحتمالين فقضيّة الأصل عدم تعدّد التكليف ».

وحجّة القول الأوّل : وجوه :

الأوّل : ما قرّره السيّد عن العلاّمة في تفصيل ما أجمله في التهذيب ، وهو : أنّ الأمر يقتضي الوجوب - على ما تقدّم - فالأمر الثاني لو لم يجب به شيء أصلا لزم تخلّف المعلول عن العلّة وهو محال ، وإن وجب به الفعل المأمور به أوّلا لزم تحصيل الحاصل لكونه واجبا بالأمر الأوّل ، فتعيّن وجوب غيره وهو المطلوب.

الثاني : ما أشار إليه العلاّمة أيضا ممّا فصّله السيّد ، من أنّ صرف الأمر الثاني إلى الفعل المأمور به أوّلا يوجب كونه للتأكيد ، وصرفه إلى فعل آخر غيره يوجب كونه للتأسيس ، وفائدة التأسيس أولى من فائدة التأكيد.

ص: 351

وربّما يقرّر ذلك : بأنّ الغالب في الاستعمالات إرادة التأسيس والحمل على التأكيد نادر ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وبأنّ المقصود الأصلي في المخاطبات إعلام السامع بما في ضمير المتكلّم وهو إنّما يكون في التأسيس ، وأمّا التأكيد فإنّما يراد به تثبيت الحكم المدلول عليه بالكلام وهو خارج عمّا هو المقصد الأصلي عن وضع الألفاظ.

الثالث : أنّ اللفظ ليس موضوعا للتأكيد فاستعماله فيه يكون مجازا ، حكاه السيّد.

الرابع : ما حكاه بعض الأعاظم من أنّ الأمر الثاني قبل تعقّبه بالأمر الأوّل كان للوجوب ، فكذا بعده للاستصحاب.

والجواب عن الأوّل : منع العلّيّة إن اريد بها التأثير ، كيف وقد اتّفق الكلّ على أنّ اللفظ كاشف عن الوجوب حتّى الأشاعرة القائلة بالكلام النفسي.

وقد نصّ به غير واحد ، وأضاف إليه بعض الأعاظم أنّ العلل الشرعيّة - على تسليم العلّيّة - معرّفات فلا يمتنع اجتماعها على معلول واحد.

أقول : ويتوجّه إليه أيضا منع امتناع تحصيل الحاصل على تقدير العلّيّة الحقيقيّة لو وجب به الفعل المأمور به أوّلا إذا كان الغرض الأصلي رفع ذهول السامع ، أو توهّمه إرادة التجوّز من الأمر أو متعلّقه ، وهو أمر يهتمّ بشأنه الحكماء من المتكلّمين وبلغاؤهم لئلاّ يفوت ما هو الغرض الأصلي من الكلام ، فلو امتنع تحصيل الحاصل في مثل ذلك لانسدّ باب التأكيد في المخاطبات وهو كما ترى. مع أنّ الحاصل لو اريد به حصوله في الواقع والظاهر ، نمنع كونه كذلك في محلّ البحث وغيره من مواضع التأكيد ، لجواز كون الأمر الأوّل أثّر الوجوب في الواقع وذهل عنه السامع ، ولو اريد به حصوله في الواقع فقط نمنع كون حصوله أيضا في الظاهر بالأمر الثاني تحصيلا له.

ومنع استحالة التخلّف لو اريد بها الدلالة ، كيف ومنع جواز تخلّف المدلول عن الدالّ ممّا لم يتفوّه به أحد ، ومنع التخلّف على تقدير الاستحالة ، فإنّ الدلالة بالأمر الثاني أيضا حاصلة كما هو الحال في سائر أنواع التأكيد.

غاية الأمر قيام هذا المدلول مؤكّدا لما دلّ عليه اللفظ أوّلا وهو أمر جائز مرغوب فيه ، بل راجح في أغلب المواضع كما عرفت.

والجواب عن الثاني : منع أولويّة فائدة التأسيس بالقياس إلى التأكيد إن استند في ذلك إلى ما ذكره أهل المعاني من أنّ في التأسيس إفادة والتأكيد إعادة والإفادة أولى ، لأنّ

ص: 352

التأكيد أيضا في مواضع الغفلة أو الاشتباه أو احتمال التجوّز في المسند أو المسند إليه أو متعلّقات المسند نوع من الإفادة ، بل هي فيها أولى بالمراعاة حيث يصان به خروج الكلام لغوا ولزوم فوات غرض المتكلّم.

ولو استند إلى ظهور الكلام بنفسه في [ التأسيس ](1) ففيه : أنّ الظاهر من الكلام في خصوص المقام إنّما هو التأكيد.

ولو استند إلى غلبة وقوع التأسيس في المخاطبات ، ففيه : أنّها في النوع مسلّمة ، والقضيّة في الصنف منعكسة ، بل لا يكاد يعهد في الاستعمالات ورود الأمرين كالصورة المفروضة واريد بهما التأسيس ، وظاهر أنّ غلبة النوع لا تقاوم غلبة الصنف في المعارضة ، لكون الظنّ المعتبر في أمثال المقام في جانبها.

وبذلك نجيب عن التقرير الآخر للدليل ، فإنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب في جنسه أو نوعه إذا لم يكن في صنفه ما يقتضي بلحوقه بذلك الصنف وقد عرفت خلافه.

ولو سلّم فالتشبّث بقاعدة الإلحاق إنّما يستقيم إذا لم يكن الشيء مظنونا في وصفه ، وقد عرفت أنّ المظنون في خصوص المقام على ما هو ظاهر المحاورة ورود الأمر الثاني تأكيدا للأوّل.

والجواب عن التقرير الثالث : منع خروج التأكيد عمّا هو الغرض الأصلي من وضع الألفاظ ، فإنّ الألفاظ إنّما وضعت لغرض الإفادة والاستفادة ، والتأكيد في مظانّ فواته متمّم له بل محصّل له في أغلب موارده كما عرفت.

سلّمنا ولكن حكمة الوضع إنّما توجب رجحانا في مواضع الاحتمال إذا لم ينهض في المقام ما يقضي بالخروج عنها ، كما في المجازات وغيرها من الامور المتخالفة لها عند قيام قرائنها الدالّة ، وغلبة التأكيد في الصنف مع ظهوره بنفسه في خصوص المقام توجب الانصراف عنها ، وإلاّ لانسدّ باب ما لا شبهة في كونه أولى بمخالفة الحكمة وهو كما ترى.

وربّما يجاب عن هذا الوجه - كما في المنية - : بأنّا لا نسلّم لزوم كونه للتأكيد على تقدير صرفه إلى الفعل المأمور به أوّلا ، وإنّما يلزم ذلك لو لم يدلّ الأمر على طلب الفعل حال إيجاد الأمر.

وأمّا على هذا التقدير فلا ، لأنّ الأمر الثاني دالّ على طلب الشارع في زمانه لذلك الفعل المأمور به أوّلا.

ص: 353


1- في الأصل : « التأكيد » بدل « التأسيس » والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

والأمر الأوّل لم يدلّ على ذلك ، بل يدلّ على طلب الفعل في زمانه المغاير لزمان الأمر الثاني.

وضعفه ظاهر لمن تأمّل قليلا ، فإنّ الزمانين لو اريد بهما ما يشخّص الفعل المأمور به أوّلا وثانيا.

ففيه : مع أنّه مصير إلى الفور الّذي لا يراه المجيب حقّا ، إنّه التزام بمذهب الخصم ، إذ لا تمايز بين الفعلين على هذا المذهب إلاّ باعتبار الزمان.

وإن اريد بهما ما يقع ظرفا للطلب.

ففيه : أنّه غير مناف للتأكيد ، كيف ولا فارق بين التأكيد والتأسيس إلاّ وحدة المطلوب وتعدّده ، وإلاّ فتعدّد زماني الطلب لازم لهما معا ، مع أنّ كلّ تأكيد لابدّ له من زمان وقع فيه ما يوجبه مغاير لزمان المؤكّد ، ولو بنى على اعتبار الاتّحاد في زمان المؤكّد والمؤكّد لانسدّ باب التأكيد بل يدخل في عداد الممتنعات وهو كما ترى.

والجواب عن الثالث : في غاية الوضوح ، فإنّ التأكيد ليس معنى استعمل فيه اللفظ حتّى يلزم منه التجوّز ، بل هو عبارة عن تكرير استعمال اللفظ في معنى واحد ، بأن يراد منه ثانيا ما أفاده أوّلا ، فلذا يقال : بأنّه إعادة والتأسيس إفادة.

وعن الرابع : بأنّ التشبّث بالاستصحاب في غير محلّ الاحتمال كما ترى ، فإنّ التأكيد ليس إخراجا للأمر عن كونه للوجوب.

غاية الأمر أنّه وجوب في محلّ الوجوب ، مع أنّ الموضوع متعدّد فما كان للوجوب قبل تعقّب الأمر الأوّل إنّما هو نوع اللفظ ، والّذي تعقّب بالأمر الأوّل إنّما هو الواقع في استعمال شخصي ومعه لا يعقل الاستصحاب.

ومع الغضّ عن الجميع فهو لا يفيد إلاّ حكما في مرحلة [ الظاهر ] مع أنّ النظر بالنسبة إلى محلّ البحث إنّما هو إلى مفاد الأمرين بالنظر إلى الواقع.

فتحقيق المقام : أنّ المعلوم من طريقة العرف وبناء أهل المحاورة أنّ تكرير الأمر بالنظر إلى مفهوم واحد إنّما يرد لغرض التأكيد والتنبيه على شدّة الاهتمام بشأن المأمور به ، بل الغالب فيما يتكرّر من لفظ واحد أو لفظين لمفهوم واحد إنّما هو التأكيد من غير اختصاص له بمحلّ البحث ، فيجب المصير إليه في كلّ مقام يكون من هذا الباب إلى أن يظهر خلافه بالدلالة الخارجة.

ثمّ إنّ ظاهر المنية كون العبرة في المبحوث عنه بنكارة الأمر الثاني من غير نظر إلى الأمر الأوّل ، حتّى أنّه لو كان معرّفا أيضا لكان من محلّ الخلاف ، بل هو ظاهر بعض

ص: 354

الأعاظم أيضا وهو كذلك ، فلو قال : « صلّ الركعتين ، صلّ ركعتين » كان الثاني تأكيدا ، لقضيّة الغلبة مع فقد الدلالة المخرجة عنهما ، وكذا الكلام فيما لو كان الثاني معرّفا سواء كان الأوّل معرّفا أو لا ، كما هو ظاهر بعض الأفاضل النافي للإشكال عن التأكيد حينئذ ، بل صريح بعض الأعاظم فإنّ ظاهرهما الوفاق على ذلك ، حيث تعرّضا لبيان حكم ذلك من غير تنبيه على الخلاف ، مضافا في ثانيهما إلى ظهور « اللام » في العهد.

وبالتأمّل فيما ذكرنا تبيّن حكم أقسام ثلاث مضافة إلى القسم الأوّل ، فهذه أربعة أقسام قد علم حكمها.

القسم الخامس : أن يكون الثاني منكرا مع العطف مع كون الأوّل منكرا أو معرّفا ، وظاهره التعدّد - لما سيتبيّن - وفاقا لبعض الأعاظم تعليلا بظهور المغايرة في العطف السالم عن المعارض ، مع أولويّة التأسيس وامتناع عطف الشيء على نفسه مصرّحا بالنظر في ذلك.

والقسم السادس : أن يكون الثاني معرّفا مع العطف والأوّل منكرا ، كقوله : « صلّ ركعتين ، وصلّ الركعتين » وقد وقع فيه خلاف دائر بين التعدّد والاتّحاد والتوقّف ، والأوّل محكيّ في المنية عن فخر الدين وعليه العلاّمة في التهذيب ، والثاني مرسل في كلام بعض الأعاظم مع ميله إليه ، والثالث منسوب في المنية أيضا إلى أبي الحسين البصري تعليلا بكون العطف مقتضيا للمغائرة والتعريف مقتضيا للاتّحاد ولا أولويّة لأحدهما ، وسيظهر ضعفه.

والأقرب هو القول الأوّل ، لأصالة العطف في « الواو » وأصالة المغايرة في العطف فلا يعدل عنهما إلى غيرهما ، - كجعل الأوّل للاستئناف أو الابتداء أو زائدة ، والثاني تفسيريّا ، لقلّة الأوّل وشذوذ الثالث وافتقار الثاني إلى ما لا يقبله الطبع ممّا سنبيّنه ، وامتناع كون الشيء تفسيرا لنفسه وإنّما يصحّحه إبهام المفسّر وبيان المفسّر والمقام ليس منه - إلاّ مع دليل وهو منتف ، وكون « اللام » للعهد وإن كان يقرّبه سبق ذكر مدخوله ولكن يبعّده تعقّبه بالواو حيث لم يعهد في كلامهم تعقّب التأكيد لفظا به.

وعن فخر الدين الاحتجاج بأنّ « اللام » كما يكون لتعريف المعهود قد يكون لتعريف الماهيّة ، مضافا إلى أنّه كما يحتمل كون المعهود هو المذكور أوّلا فيحتمل كونه غيره ممّا تقدّم ، فيبقى دلالة العطف على المغايرة سليمة عن المعارض ، وفيهما نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون « اللام » هنا لتعريف الماهيّة كما هو الأصل فيه لا ينافي ظهوره بملاحظة قرينة المقام في العهد ، والظاهر هو الحجّة.

ص: 355

وأمّا الثاني : فلكونه خروجا عن الفرض لانحصار المفروض في أمرين ، ولو سلّم أمر آخر متقدّم على الأمر الأوّل فلا يجدي في استقامة هذا الكلام ، كيف واحتمال التأكيد حينئذ جار في الجميع.

وربّما يعترض على الأوّل : بأنّ « الواو » يحتمل كونه للابتداء كما يحتمل كونه للعطف ، ولو عطف بغير « الواو » احتمل التأكيد أيضا.

وأورد عليه أيضا - على ما في كلام بعض الأعاظم - : برجحان كون « اللام » للعهد لسبق فهمه من مثله ، ولكونه فيه أشيع ، ولعدم الفائدة في ذكره على تقدير كونه لتعريف الماهيّة مع عدم إرادة العموم ، وفيهما أيضا نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ « واو » الابتداء لا معنى له إلاّ ما يسمّونه بالحاليّة كما نصّ عليه ابن هشام ، ليكون الكلام على حدّ قولك : « جاء زيد والشمس طالعة » وقولك : « جاء زيد ويسرع » وهو في محلّ البحث لا يستقيم إلاّ بتأويل ركيك مؤدّ إلى ارتكاب مخالفة الإضمار والتقدير ، من حيث إنّ الفعل الإنشائي لا يصحّ لأن يقع موقع الخبر إلاّ بذلك والحال وارد مورده ، وكون غير « الواو » للتأكيد غير معهود وعلى تقديره فغير مناف لظهور غير التأكيد عنه.

وأمّا الثاني : فلأنّ رجحان العهد في « اللام » بملاحظة سبق ذكره إنّما ينتفع لولا معارضة بعد وقوع التأكيد عقيب « الواو » كما لا يخفى ، وشيوع العهد في « اللام » إن اريد به الشيوع فيما سبق ذكر مدخوله فغير مجد ، وإن اريد الشيوع مطلقا فغير مسلّم ، كيف وإنّ الأصل في « اللام » كونه لتعريف الماهيّة.

ودعوى : عدم الفائدة حينئذ مع عدم إرادة العموم ، إن اريد بها عدم الفائدة بحسب المعنى حتّى لا يكون بين وجوده وعدمه فرق معنويّ في قوله : « صلّ ركعتين ، وصلّ الركعتين » فيدفعه : وضوح فساده ، ضرورة الفرق بينهما بكون مفاد الأوّل في المثال إحدى الاثنينيّات لا بعينها على سبيل البدليّة ، ومفاد الثانية ماهيّة الإثنينيّة ، وهو ربّما يؤدّي ثمرة في الأحكام كما لا يخفى.

وإن اريد بها عدم فائدة يعتّد بها.

ففيه : أنّه لم لا يجوز أن يكون فائدته التنبيه على أنّ المراد بالأوّل أيضا هو الماهيّة دون أحد الأفراد لا بعينه ، كما هو ظاهر ما يذكر مجرّدا عن « اللام » وممّا ذكر تبيّن حكم القسم السابع وهو عكس القسم السادس.

ص: 356

مقدّمة الواجب

أصل

الأكثرون على أنّ الأمر بالشيء *

__________________

في مقدّمة الواجب

* اختلف مشاربهم في عنوان تلك المسألة فجماعة منهم المصنّف جعلوه في مباحث الأمر الّذي هو من مقولة الألفاظ هنا ، القاضية بكون البحث فيها راجعا إلى الدلالات اللفظيّة وجماعة منهم البهائي رحمه اللّه والحاجبي - على ما حكي عنه - ذكروه في المبادئ الأحكاميّة ، وكأنّ العلاّمة في التهذيب وافقهم حيث أورد في مباحث الوجوب عقيب البحث عن الأوامر ، وبعضهم (1) على ما حكاه بعض مشايخنا وبعض الأفاضل أدرجه في الأدلّة العقليّة.

وربّما يرجّح (2) ذلك وسابقه بأنّ لهما مناسبة ووجها ، فإنّ من الأحكام الوجوب الّذي يقع فيه بحثان أحدهما : البحث عن حقيقة الوجوب وأقسامه من العيني والكفائي والتعييني والتخييري والموسّع والمضيّق ، والآخر : البحث عن لوازمه من وجوب مقدّمة متعلّقه وحرمة ضدّ ذلك المتعلّق الّذي يبحث عنهما في بحث مقدّمة الواجب وكون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، فلأجل ذلك يناسب إيراده في مباحث الأحكام ومبادئها.

وأمّا مناسبة ذكره في الأدلّة العقليّة فلأنّ الدليل العقلي عبارة عن حكم عقلي يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي ، وهو على قسمين أحدهما : أن يحكم بلا توسّط خطاب الشرع وملاحظته ، كحكمه بحسن الصدق والإحسان وقبح الكذب والعدوان وغير ذلك ممّا يرجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، إذ لا شبهة في أنّ العقل في حكمه

ص: 357


1- ولعلّه : الفاضل التوني على ما حكي. ( منه ).
2- صرّح بذلك الاستاذ في مجلس الدرس. ( منه عفي عنه ).

بهما لا يتوقّف على شيء من خطاب الشرع.

والآخر : أن يحكم بتوسّطه كحكمه بحجّيّة المفاهيم إن جعلناها من باب الملازمة العقليّة بين المدلولين ، وغيرها من الاستلزامات العقليّة كوجوب التوجّه إلى جميع ما حاذى الكعبة عند الأمر باستقبالها ، ومثله كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه ، ومن هذا الباب وجوب المقدّمة ، فإنّه حكم عقلي ينشأ بملاحظة خطاب الشرع بوجوب ذيها ويتوصّل به إلى أحكام شرعيّة متعلّقة بمقدّمات الواجبات.

وأمّا ذكره في باب الألفاظ فلا يكاد يوجد له مناسبة إلاّ أن يرجع إلى مدلولها الّذي هو الوجوب هنا ، ويقال : بأنّه إذا تعلّق بشيء هل يستلزم وجوب مقدّمة ذلك الشيء أو لا؟

ولو لا ذلك لما كان له تعلّق بالدلالات اللفظيّة ، لأنّ البحث فيها راجع إلى الوضع والحقيقة والمجاز وما يتعلّق بهما من المباحث ، والكلام في تلك المسألة ليس راجعا إلى شيء من ذلك ، وإنّما المناسب لذلك البحث عن حجّية المفاهيم وهو لزوم الانتفاء عند الانتفاء ، وعن دلالة الأمر على الوجوب ، ضرورة عدم كون البحث عنهما في الملازمة بين الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء ، ولا فيها بين الطلب وعدم الرضا بالترك لكونها فيهما مفروغا عنها من جهة القطع بعدم ملازمة بين طرفي المسألتين ، بل الكلام فيهما راجع إلى الوضع والنظر إلى أنّ الجملة الشرطيّة مثلا هل وضعها الواضع للدلالة على الثبوت عند الثبوت على نحو التعليق ليؤدّي إلى الانتفاء عند الانتفاء ، وأنّ الأمر هل وضعه للطلب مع عدم الرضا بالترك أولا فيهما؟

وبعبارة اخرى : هل التعليق وعدم الرضا بالترك أخذهما الواضع جزءين من الموضوع له في الجملة الشرطيّة والأمر أو لا؟ بخلاف الكلام في بحث مقدّمة الواجب ، فإنّه راجع إلى ثبوت الملازمة بين معنيين يكون كلّ منهما مفروغا عنه ، والملازمة لا مدخل لها في الدلالة اللفظيّة بل هي أمر يجيء من جانب العقل ، فحاصل الفرق بين هذه المسألة والمسألتين المشار إليهما : أنّ المعنى في هذه المسألة وهو وجوب المقدّمة مفروغ عنه والكلام إنّما هو في الملازمة بينه وبين معنى آخر وهو وجوب ذيها الثابت بالخطاب الشرعي ، فلا كلام في الوضع ولا الموضوع له ، بخلافهما فإنّ الملازمة فيهما كما عرفت مفروغ عنها من جهة القطع بالعدم ، وإنّما الكلام في مدخليّة معنى في الموضوع له وعدمها ، فالوجه في المقام إيراد هذه المسألة في بحث الأحكام أو الأدلّة العقليّة.

ص: 358

وفيه نظر : فإنّ الملازمة إذا كانت ملحوظة بين الموضوع له ومعنى آخر يصحّ عدّ البحث عنها من مباحث الدلالات اللفظيّة ، على أنّها غير منحصرة في المطابقة والتضمّن.

ومن أدلّتهم هنا ما يقضي بكون الوجوب من مفاهيم اللفظ - كما في كلام البهائي - من الاحتجاج بذمّ السيّد العبد المأمور بالكتابة القادر على تحصيل القلم المعتذر بفقده على عدم تحصيله ، إذ لو قال العبد : « إنّك لم تأمرني بتحصيل القلم وإنّما أمرتني بالكتابة » صحّ له أن يقول : « إنّ أمري بالكتابة كان متضمّنا للأمر بتحصيل القلم » كما أنّ من أدلّة مسألة المفاهيم ما يقضي بإرادة إثبات الملازمة العقليّة بين التعليق والانتفاء عند الانتفاء ، كما في احتجاجهم بلزوم عراء كلام الحكيم عن الفائدة لولاه.

نعم يتوجّه إلى أهل هذا العنوان أن لا اختصاص للحكم بما يستفاد عن الأوامر اللفظيّة ، فإنّها وغيرها في ذلك على نهج سواء ، فالّذي يناسبه عموم النظر أخذ الوجوب موضوعا في العنوان.

ولكن يمكنهم الذبّ عنه بدعوى : إرادة المثال أو قيام النكتة الداعية إلى تخصيص الأمر بالذكر دون غيره ، من حيث كونه غالب أفراد الموضوع.

وكيف كان ففي كون المسألة فرعيّة أو اصوليّة قد يذكر جواز الوجهين ، من صحّة عدّها من المسائل الفرعيّة باعتبار كون البحث فيها بحثا في الوجوب الّذي هو حكم فرعي ، وصحّة عدّها من المسائل الاصوليّة نظرا إلى أنّ الكلام في إثبات هذا الحكم من العقل ، فإنّ حكم العقل بالوجوب دليل عقلي والبحث في إثباته بحث عن حال الدليل وهو من المسائل الاصوليّة ، مع إمكان إرجاعها إلى مبادئ المسألة الاصوليّة بإرجاع الكلام إلى الصغرى ، بأن يقال : إنّ العقل هل له حكم هاهنا أو لا؟

وفيه أيضا نظر : فإنّ الحكم الفرعي ما يتعلّق بكيفيّة عمل المكلّف بلا واسطة والّذي يتصوّر فيه ذلك إنّما هو جزئيّات الوجوب الثابت هنا لا نفسه ، فلذا يؤخذ ذلك كبرى في دليل كبرى القياس الّذي يرتّب في الكتب الفقهيّة للاستدلال على حكم أشخاص المقدّمات الّتي هي أفعال للمكلّفين لا ما هو موضوع لتلك المسألة ، ضرورة تخلّل الواسطة بينهما في تعلّق حكمها بما هو من أفعال المكلّفين تخلّلها بين سائر المسائل الاصوليّة وتلك الأفعال كما لا يخفى.

وأعجب من ذلك عدم إمكان الجمع بين تجويز كونها من المسائل الفرعيّة وما تقدّم

ص: 359

من التصريح بمناسبة ذكرها في الأدلّة العقليّة الموجب لكون البحث عنها بحثا عن أحوال الدليل لا في فعل المكلّف ، وفي باب الأحكام الموجب لكونها من مبادئ المسائل الاصوليّة ، فإنّها على الأوّل تندرج في المسائل الاصوليّة وعلى الثاني في مبادئها الأحكاميّة ، وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في عدم كونها من المسائل الفرعيّة.

وإذا تمهّد ذلك ، فقبل الشروع في البحث ينبغي إيراد مباحث يتحرّر بها مواضع الخلاف ، ويبيّن فيها معاني مفردات (1) قضيّة قولهم : « مقدّمة الواجب واجبة أو ليست بواجبة ».

المبحث الأوّل : في شرح ماهيّة المقدّمة وأقسامها

المبحث الأوّل

في شرح ماهيّة المقدّمة وبيان أقسامها

والأصحّ أنّها مكسورة من مقدّمة الجيش بالكسر - على ما نصّ عليه جماعة من أئمّة اللغة - من قدم بمعنى تقدّم ، كما في قدّم بين يديه أي تقدّم ، ومنه قوله عزّ من قائل : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) أي لا تتقدّموا ، مع جواز كونها من التفعيل لا للتعدية بل للتكثير في الفاعل أو المفعول كما في « مؤتت الإبل » و « غلّقت الأبواب » أوّلها بالنظر إلى أنّها تقدّم الشارع فيها وطالبها على غيره ممّن لا يطلبها ، غير أنّها بهذا المعنى إنّما تناسب مقدّمتي العلم والكتاب ، ويمكن الفتح أيضا ليكون من المقدّم ضدّ المؤخّر ، والوجه واضح كوضوح المناسبة في جميع موارد إطلاقها.

وأمّا لفظة « التاء » يمكن كونها للتأنيث من مقدّمة الجيش التفاتا إلى أنّها فيها باعتبار وقوعها صفة لموصوف محذوف نسيا منسيّا وهو « الطائفة » أي طائفة مقدّمة من الجيش ، كما يمكن كونها للمبالغة على حدّ تاء « العلاّمة » أو الوحدة على حدّ تاء « سارية » لمن يسير في الليل منفردا.

وعلى أيّ حال فهي في عرفهم عبارة عمّا كان في ذاته وطبيعته صفة أوجبت تقدّمه على غيره ، فلذا عرّفوها : « بما يتوقّف عليه الشيء » وإنّما يصلح لذلك إذا كانت بمثابة ما

ص: 360


1- والمقصود أنّ الكلام في تحرير محلّ الكلام في ثلاث : الكلمة الاولى : في نفس المقدّمة وبيان أنواعها ، والكلمة الثانية : في الواجب الّذي يضاف إليه المقدّمة في قول مقدّمة الواجب ، والكلمة الثالثة : في الوجوب الّذي يثبت للمقدّمة. وبالجملة محلّ النزاع يحرّر بالتكلّم في كلمات ثلاث ، وهي مبتدأ القضيّة وما اضيف إليه المبتدأ وخبر ذلك المبتدأ. ( منه عفي عنه ).
2- الحجرات : 1.

ذكرناه فيكون نقلها إلى هذا المعنى نقلا من العامّ إلى الخاصّ ، ضرورة أنّها لغة لما تقدّم مطلقا استحقّه أو لم يستحقّه ، بل كان قد تقدّم من باب المقارنات الاتّفاقيّة كتقدّم زيد على عمرو في الوجود مثلا ، وهذا بالقياس إلى المعنى العرفي أعمّ لشموله المتقدّم لا عن استحقاق دون العرفي الّذي لا يتناول سوى المتقدّم عن الاستحقاق.

ثمّ إنّها باعتبار ما يتوقّف عليها تنقسم إلى كونها مقدّمة للوجوب كالاستطاعة في وجوب الحجّ ، والنصاب في وجوب الزكاة ، أو مقدّمة للوجود كنصب السلّم للصعود على السطح ، وقد تكون مقدّمة للوجوب والوجود معا كالقدرة على الفعل ، فلذا قيل : بأنّ النسبة بينهما باعتبار المورد عموم من وجه وإن كان بينهما بحسب المفهوم تبائن.

وأمّا ما يضاف إليهما أيضا في هذا التقسيم من مقدّمتي العلم والصحّة والعلم - كما هو واقع في كلام الأكثرين - فكأنّه مبنيّ على الاعتبار أو لملاحظة جهة التوقّف ، وإلاّ فهما في الحقيقة راجعان إلى مقدّمة الوجود.

أمّا في الاولى : فلتوقّف حصول العلم الواجب على المكلّف ولو بإلزام من العقل تحصيلا للموافقة القطعيّة الّتي هي من مقتضيات حجّيّة العلم الإجمالي - بناء على ما هو التحقيق - عليه ، فإنّ الواجب أعمّ من الاعتقاد والعمل ، فلذا يعدّ النظر في معجزة المتنبّي من مقدّمات الواجب.

وأمّا في الثانية : فلتوقّف المأمور به في وجوده عليها كالطهارة للصلاة المأمور بها ، فإنّ الصحّة لا معنى له إلاّ موافقة الأمر ، فالمتوقّف حقيقة حصول العمل الموافق للأمر من غير فرق في ذلك بين القول بالصحيحة أو الأعمّ كما توهّم.

غاية الأمر أنّ جهة التوقّف على الأوّل تحقّق العمل باعتبار ذاته.

وعلى الثاني تحقّقه باعتبار وصفه.

وبالجملة : فرق واضح بين الذات المطلقة والذات الموصوفة ، والموقوف على المقدّمة في كليهما هو الوجود دون غيره.

فالحقّ أنّه لا ثالث لأقسام المقدّمة في تقسيمها من هذه الجهة.

نعم هي باعتبار أخذ التوقّف في مفهومها تنقسم إلى أقسام اخر ذكروها في كتبهم المدوّنة ، ولكنّهم اختلفوا في عددها ، فمنهم من اقتصر منها على ذكر السبب والشرط ، ومنهم من أضاف إليهما الجزء أيضا ، ومنهم من أسقطه وأضاف إليهما المعدّ والمانع ، مصرّحا بأنّ الأوّلين مأخوذان في حصول الواجب وجودا والأخير عدما وما قبله وجودا وعدما ، يعني

ص: 361

أنّ المعتبر فيه من السبب والشرط وجودهما ومن المانع عدمه ومن المعدّ وجوده وعدمه.

وفسّره بعض الفضلاء بما يعتبر وجوده وعدمه في حصول المطلوب مع بقاء الاختيار معه على الفعل ، كنقل الأقدام في الوصول إلى الحجّ ، ثمّ قال : « واحترزنا بالقيد الأخير عن الأسباب (1) الإعداديّة ، فإنّها داخلة في السبب » (2) وليت شعري بما دعاه إلى عدم عدّه المعدّات من الشرط أيضا ، بل هو الأوفق إلى الذوق والوجدان فإنّ كلّ معدّ جزء للشرط من حيث كونه من الامور السيّالة ، وينطبق عليه ما سيأتي من تعريفه ، واعتبار انعدامه ليس من مقدّمات الفعل المشروط به وإنّما هو من لوازم وجود الجزء اللاحق حيث لا يمكن اجتماعهما في الوجود ، فيكون كلّ ممّا يلزم من عدمه المطلق عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ، فإدراجها في الشرط تقليلا للأقسام أولى ، وأمّا عدم المانع فقد أسقطه أيضا بعض مشايخنا معتذرا برجوعه إلى الشرط فلا يكون قسما برأسه.

وفيه : أنّه إن كان المراد أنّه يرجع إليه بحسب المفهوم ، فيردّه : أنّ الشرط عندهم اصطلاح في الأمر الوجودي فكيف يدخل فيه ما هو أمر عدمي ، وإن كان المراد أنّه يرجع إليه بحسب الحكم ، فيوهنه : أنّه لا يقضي بتداخل الموضوعين.

ولكن ظاهر الأكثرين الإطباق على دخوله في الشرط حيث أسقطوه عن تقاسيمهم ، وكأنّه نشأ عن ملاحظة ما يغلب في الموانع من ثبوت ضدّ وجوديّ لها يقوم مقام عدمها فيجري عليه اسم الشرط وحكمه.

ألا ترى أنّ نجاسة الثوب أو البدن مانع في الصلاة ويقابله إزالة النجاسة ، والحدث مانع فيها ويقابله الطهارة ، والجنون والسفه ونحوها مانعة في العتق ويقابلها الكمال.

فالأولى إدراج ذلك أيضا في الشرط تبعا للقوم وتقليلا للأقسام ، فبقي من الأقسام ما كان جزءا وسببا وشرطا ، ووجه الانقسام إليها أنّ ما يتوقّف عليه الشيء إمّا داخل فيه فهو الجزء ، وإمّا خارج عنه فإن كان ممّا يلزم من وجوده الوجود فهو السبب ، أو ممّا يلزم من

ص: 362


1- والظاهر أنّ مراده بالأسباب الإعداديّة أجزاء مرتّبة في الوجود يلتئم منها السبب ، كتحريكات المدّيّة لقطع الأوداج الأربعة في القتل الّذي هو من الأفعال التوليديّة ، فإنّ المعتبر في كلّ إنّما هو الوجود والعدم معا مع عدم بقاء الاختيار على الفعل لصيرورته واجبا ، كما أنّ المراد بالمعدّ ما يكون كذلك بالنسبة إلى الشرط إذا كان من المبادئ السيّالة كالمشي في قطع مسافة الحجّ ، فإنّ كلّ قدم وتخطّي منه معدّ لاعتبار وجوده وعدمه معا مع بقاء الاختيار على الفعل المشروط ولو بعد تمامها ، فإنّه لا يجب معه وإلاّ انقلب الشرط سببا وهو خلاف الفرض. ( منه ).
2- الفصول : 83.

عدمه العدم فهو الشرط.

ولو أردنا إدراج عدم المانع أيضا في التقسيم نقول : بأنّ ما يتوقّف عليه الشيء إمّا أمر عدمي أو وجودي ، والأوّل عدم المانع ، والثاني إمّا داخل في ذلك الشيء فهو الجزء ، وإمّا خارج عنه ، فإن كان مع ذلك بحيث يلزم من وجوده الوجود فهو السبب ، وإن كان بحيث يلزم من عدمه العدم فهو الشرط ، فالجزء على هذا التقسيم أيضا من المقدّمات ، وهو الداخل الّذي يتوقّف عليه وجود الكلّ ، ولكن كلام القوم خال عن إدراجه في التقسيم ، ولعلّه لبنائهم على خروجه عن محلّ النزاع فتأمّل (1).

وربّما يتأمّل في إطلاق المقدّمة عليه من حيث لزومها التقدّم على الموقوف وليس الجزء في شيء من تلك المثابة ، لعدم تأخّر الكلّ عن جزئه بحسب الوجود ، إلاّ أن يقال : بتعميم التقدّم ليشمل التقدّم الطبعي أيضا ، نظرا إلى أنّ الجزء وإن لم يتقدّم في الخارج غير أنّه متقدّم بالطبع الّذي هو عبارة عمّا لا وجود للمتأخّر إلاّ وهو معه من غير كونه علّة له ، وهو كما ترى ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ولعلّه شبهة ناشئة عن ملاحظة المركّبات العقليّة ، وإلاّ فالمركّبات الحسّيّة الاعتباريّة - ولا سيّما إذا كانت من مقولة الأفعال الّتي يناط بها نظر الاصولي ويتعلّق بها الأحكام الشرعيّة - إنّما يتحصّل في الخارج عقيب تحصّل أجزائها ، ولا سيّما الأفعال الّتي تلتئم عن أجزاء حاصلة على سبيل التدريج والترتّب.

ولا ريب أنّ الكلّ عبارة عن مجموعها من حيث هو كذلك ، فيكون كلّ جزء متقدّمة على الكلّ في الوجود.

وأمّا السبب : فهو لغة - على ما نصّ عليه أئمّة اللغة - عبارة عمّا يتوصّل به إلى غيره.

وفي عرف العلماء يطلق على معان ، فعند أهل المعقول على العلّة التامّة ، أعني المركّب من وجود المقتضي وفقد المانع ، وعند الفقهاء والاصوليّين (2) على المقتضي ، والظاهر أنّ

ص: 363


1- وجهه : لو صحّ ذلك لكان عليهم أن لا يذكروا السبب أيضا في ذلك المقام لجريان العلّة المذكورة فيه أيضا. ( منه ).
2- ويطلق السبب عند الاصوليّين أيضا على العلامة كالدلوك والغروب والفجر الّتي هي علامات لوجوب الصلاة عندها ، إذ الضرورة قاضية بأنّ نفس الدلوك وغيره ليست مقتضية لوجوب الصلاة بل المقتضي لوجوبها شيء آخر من المصالح الكامنة المؤثّرة في تلك الأوقات ، وإنّما الامور المذكورة علامات لعروض الوجوب وحدوثه بتحقّق سببه ، والسبب حقيقة في اصطلاح المتكلّمين في العلّة التامّة خاصّة وفي عرف الاصوليّين مجاز فيها جزما ، وهل هو بين المقتضي والعلامة حقيقة ومجازا أو مشترك لفظا أو معنى وجوه وربّما يرجّح كما في الضوابط الاحتمال الأخير وليس ببعيد. ( منه عفي عنه ).

تحديده بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ناظر إلى الأوّل ، كما أنّ تحديده بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته منطبق على الثاني وهو أعمّ من الأوّل.

وفائدة كلمة « من » الاحتراز عن المتلازمين ، فإنّ وجود كلّ وإن استلزم وجود الآخر إلاّ أنّه ليس من لوازمه بحيث يكون ناشئا منه مستندا إليه وإنّما يلزم وجود كلّ عند وجود الآخر بخلاف المسبّب الّذي وجوده لم ينشأ إلاّ عن السبب.

وبذلك يندفع ما أورد بعض الفضلاء (1) على طرد الحدّ بدخول اللوازم والجزء الأخير من المركّب والجزء الأخير من العلّة ، فإنّ شيئا من ذلك ليس ممّا ينشأ المسبّب عن وجوده خاصّة.

وفائدة القيدين خروج الشرط والمانع - على ما أفاده بعض الأعلام - إذ ليس الأوّل ممّا يلزم من وجوده الوجود ولا الثاني من عدمه العدم.

ويرد عليه : خروج الثاني مستدركا لحصول الاحتراز عن المانع بالأوّل ، إذ ليس شيء من الشرط والمانع ممّا يلزم من وجوده الوجود ، ولو قدّر القيد لبيان تمام الحقيقة لدفعناه بكفاية اعتبار الاستلزام من جانب الوجود عن ذلك ، ضرورة أنّ ما يلزم من وجوده الوجود يستلزم أن يلزم من عدمه العدم.

وما يقال في توجيهه : من أنّ الثاني بمنزلة الجنس لشموله كلاّ من السبب والشرط ، والأوّل بمنزلة الفصل لكونه مخرجا للشرط غير سديد ، لوروده على خلاف قانون الترتيب المعتبر فيما بين الجنس والفصل ، والاعتذار له بأنّ تقديم الفصل هاهنا على الجنس إنّما هو لمراعاة جانب الوجود الّذي يترجّح تقديمه على جانب العدم ، تعسّف غير خفيّ.

وفائدة القيد الأخير - على ما في كلام جماعة - صون عكس الحدّ بإدخال السبب الّذي لم يستلزم وجوده وجود المسبّب لمانع ، لفقدان شرط أو وجود مانع ، والسبب الّذي لم يستلزم عدمه عدم المسبّب لقيام سبب آخر مقامه ، فإنّ الاستلزام حاصل في كلّ من الطرفين حسبما يقتضيه الذات ، بمعنى أنّها لو خلّيت وطبعها لكان وجودها مقتضيا للوجود وعدمها مقتضيا للعدم ، وانتفاء الأمرين في الصور المفروضة إنّما هو لعارض ، فلا ينافي وجوده لاقتضاء الذات أثرها لولاه.

ومن هنا يتبيّن أنّ تفسير السبب بهذا المعنى المعتبر فيه القيد المذكور أعمّ منه على المعنى الأوّل المنطبق على اصطلاح أرباب المعقول ، فلا وقع لما ذكره بعض الأفاضل من

ص: 364


1- الفصول : 83.

أنّ الحدّ يشمل العلّة التامّة الجامعة للمقتضي والشرائط وانتفاء الموانع ، إذ لا مانع عن كون السبب على أحد الاصطلاحين أخصّ منه على الاصطلاح الآخر.

وقد عرفت أنّ القيد معتبر في كلا المقامين على ما صرّح به بعض الأعلام.

ومن الفضلاء من ذكر أنّ ذلك صريح في أنّ المراد بالسبب ما يتناول السبب الناقص أيضا ، فقال : « وفيه نظر ، لأنّ الظاهر أنّ من قال بالاقتضاء في السبب لم يقصد به السبب الناقص ، أعني ما يصادف وجود المانع ولو مع العلم به ، إذ لا غرض للآمر في فعله ، وكذا من يجعل الأمر بالمسبّب راجعا إلى الأمر بالسبب لم يقصد به السبب الناقص كما يفصح عنه دليله ، مع أنّ إطلاق السبب على السبب الناقص مجاز ولا قرينة عليه في كلامه ، فلا يصحّ حمله عليه ».

ومن الأعاظم من أورد عليه أيضا : بأنّه غير مجد فيما أرادوه تعليلا بأنّ اللزوم إذا كان معلولا للذات فلا يختلف ، ولا يتخلّف فيكون مفاده عدم الانفكاك مطلقا ، فبذلك ينطبق على اصطلاح المتكلّمين وهو كون السبب عبارة عن العلّة التامّة.

ومن الأفاضل من أورد عليه أيضا : بأنّ أقصى ما يستفاد من القيد المذكور التحرّز عن التخلّف الحاصل من وجود المانع.

وأمّا ما يكون لفقدان الشرط فالاستلزام غير حاصل مع عدمه ، إذ ذات المقتضى مع قطع النظر عن وجود الشرط غير كاف في الوجود ، وأيضا فالتحرّز به عن قيام سبب مقام آخر غير ظاهر أيضا ، إذ لا اقتضاء لانتفاء السبب الخاصّ في انتفاء المسبّب حتّى يكون قيام السبب الآخر خروجا عن مقتضى ذلك السبب ، لوضوح أنّ اللازم قد يكون أعمّ. ومن المقرّر عدم اقتضاء انتفاء الملزوم انتفاء اللازم.

وبمثل ذلك أورد عليه بعض مشايخنا دام ظلّه - على ما سمعناه في مجلس الدرس - فقال : إنّ ذلك القيد بالنظر إلى القضيّة الاولى وإن كان له فائدة حينئذ على تقدير مصادفة السبب لوجود المانع ، ضرورة أنّ المقتضي أمر له أن يقتضي مقتضاه ، بمعنى أنّه لو خلّى وطبعه له ذلك ، ولكن عدم فعليّة حصول مقتضاه في الصورة المفروضة إنّما هو لوجود المانع وهو لا ينافي فعليّة الاقتضاء ، ولكن لا فائدة له أصلا على تقدير مصادفة عدم الشرط ، ضرورة أنّ المقتضي إنّما يقتضي عند مصادفة وجود الشرط وأمّا مع انتفائه فليس بحيث لو خلّي وطبعه لكان مقتضيا لذاته ، مع أنّه بالنسبة إلى القضيّة الثانية أيضا غير

ص: 365

مستقيم ، إذ السبب إذا انتفى وخلّفه سبب آخر لا اقتضاء له في انتفاء المقتضى ، وإنّما يقتضي ذلك لذاته إذا لم يخلّفه سبب آخر.

ومحصّل كلامه - دام ظلّه - : أنّ هذا القيد لا يترتّب على اعتباره فائدة ، لعدم شمول الحدّ فاقد الشرط من الأسباب ولا الأسباب المتعدّدة المتعاقبة ، إذ معنى كون الشيء بحيث يلزم لذاته من وجوده الوجود أنّه لو خلّي وطبعه - مع قطع النظر عن الموجودات الاخر - يلزم من وجوده الوجود من غير مدخليّة لوجود شيء آخر فيه ، وظاهر أنّ فاقد الشرط من الأسباب ليس بهذه المثابة ، إذ لا يلزم من وجوده الوجود إلاّ بعد تحقّق أمر آخر وجوديّ معه ، فلا اقتضاء ولا تأثير له بدونه لكونه شرطا للتأثير ، والمشروط ينتفي عند انتفاء شرطه.

نعم هذا القيد له وجه في إدخال السبب المصادف لوجود المانع في الحدّ ، لأنّه على هذا التقدير لا توقّف له على تحقّق أمر وجوديّ آخر غيره ، لفرض وجود كلّ ما له مدخليّة في تأثيره واقتضائه معه ، وعدم فعليّة اقتضائه إنّما هو لأجل عروض عارض لولاه لكان اقتضاؤه حاصلا بالفعل فيصدق عليه : أنّه يلزم من وجوده الوجود لذاته.

وأيضا معنى كون الشيء بحيث يلزم من عدمه العدم لذاته : أنّه بحيث لو خلّي وطبعه لكان يلزم من عدمها العدم من دون توقّفه على عدم أمر آخر ، ومعدوم السبب مع قيام سبب آخر مقامه لا يكون من هذا القبيل ، إذ المفروض أنّ سبب الحكم عند تعدّد الأسباب ليس خصوص كلّ واحد بل القدر المشترك بينها الأعمّ من كلّ واحد ، وواضح أنّ انتفاء بعض تلك الخصوصيّات لا يستلزم انتفاء ذلك القدر المشترك الأعمّ ، بل الّذي ينتفي معه هو الحصّة المساوية له من ذلك وأمّا هو بنفسه فباق على حاله ، وغايته تقوّمه بما بقي من الأسباب نظير ما يقال : من أنّ العامّ لا ينتفي بانتفاء الخاصّ ، فإنّ معناه أنّه لا ينتفي بانتفائه بالمرّة بل غايته أن ينتفي معه منه ما يساويه ، وهو لا يوجب انتفاء أصل العامّ لجواز تقوّمه بخاصّ آخر ، ونظيره الحرارة الّتي لها أسباب متعدّدة كالحركة والنار والشمس ، حيث إنّ من انتفاء بعض تلك الأسباب - كالحركة مثلا - لا يلزم انتفاء أصل الحرارة لإمكان تحقّقها بعده في ضمن أحد الأخيرين ، فالحركة حينئذ ليست بما يلزم من عدمه لذاته عدم المسبّب ، لعدم كونها هي السبب خاصّة وإنّما السبب هو الجنس الأعمّ وهو غير منتف ، فلا يدخل في الحدّ بذلك القيد أيضا كما لا يدخل فاقد الشرط.

إلاّ أن يدّعى أنّ فاقد الشرط ليس عندهم من أفراد المحدود ليجب دخوله في الحدّ

ص: 366

فلا خير في خروجه ، ولكنّه دعوى يشكل إثباتها.

وأنت خبير بورود كلّ ذلك على خلاف التحقيق ، فإنّ الغرض من اعتبار هذا القيد إفادة أنّ المعتبر في مفهوم السبب المرادف للمقتضي إنّما هو شأنيّة الاقتضاء لا فعليّته ليكون مرادفا للعلّة التامّة.

فحاصل الفرق بينهما أنّ العلّة التامّة ما يلزم من وجوده الوجود فعلا ومن عدمه العدم فعلا ، والسبب ما من شأنه أن يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ومعلوم صدق هذه القضيّة على كلّ واحد من الأسباب المتعدّدة ، فإنّ له ذلك بمعنى أنّه بحيث لو لا قيام سبب آخر مقامه للزم من انتفائه انتفاء المسبّب.

غاية الأمر أنّ الفرض غير متحقّق ، وقد قرّر في محلّه أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة.

والمناقشة إنّما يتّجه لو اريد بالاقتضاء حصوله فعلا.

وأمّا مناقشة فاقد الشرط فيدفعها : عدم الفرق بينه (1) وبين مصادف وجود المانع ، فإنّ مصادفة وجود المانع إذا لم تكن قادحة في صدق السببيّة فكذلك مصادفة عدم الشرط أيضا غير قادحة ، ولو فرض الثاني قادحا فلابدّ من كون الأوّل أيضا قادحا ، ولا سيّما على مذهبه - دام ظلّه - من إرجاع عدم المانع إلى الشرط ، المستلزم لفرضه وصفا وجوديّا ليصدق عليه عنوان الشرطيّة.

ألا ترى أنّ العلم بالمقدّمتين سبب عقلي للعلم بالمطلوب ، ولكنّه مشروط بكلّية الكبرى منهما فتكون الجزئيّة مانعة ، والنار سبب عادي لإحراق الخشب ولها شرط وهو يبوسة الخشب فتكون الرطوبة مانعة عنها ، والصيغة سبب شرعيّ لحصول الانتقال ولكنّها مشروطة بالتنجيز فيكون التعليق مانعا لها ، فإذا جاز دخول كلّ من ذلك مع مصادفة وجود المانع في حدّ « السبب » ولم يكن وجوده منافيا لما اعتبر فيه من لزوم الوجود بالوجود بحسب الذات لجاز ذلك بعينه في مصادفة عدم الشرط ، إذ لا معنى له إلاّ وجود المانع الغير القادح والفرق تحكّم صرف ، كما أنّه إذا لم يجز ذلك عند مصادفة عدم الشرط لكان الحال كذلك في مصادفة وجود المانع ، إذ [ المانع ] لا يكون إلاّ عبارة عن فقد الشرط والتفرقة بينهما مكابرة واضحة ، وكأنّه وهم (2) نشأ عن الخلط بين ما يرجع من الشروط إلى نفس

ص: 367


1- هذا جواب نقضي ( منه ).
2- هذا جواب حلّي ( منه ).

السبب وما يرجع منها إلى تأثيره واقتضائه ، والقوم إنّما فرضوا عدم قدح مصادفة فقدان الشرط في صدق السببيّة في شروط التأثير وحصول الأثر لا في شروط السبب والمؤثّر ، كما أنّ فرض عدم قدح مصادفة وجود المانع في ذلك إنّما هو في موانع حصول الأثر لا في موانع تحقّق السبب والمؤثّر ، ولا يتمّ ذلك إلاّ عند تمام السبب بتحقّق جميع شرائطه وفقد جميع موانعه ، فحينئذ يصدق عليه أنّه ما يلزم من وجوده الوجود لذاته ، سواء صادف انتفاء بعض شرائط تأثيره أو وجود بعض موانعه أو لم يصادف.

وضابط ما قرّرناه من الفرق : أنّ كلّ شرط يرجع اعتباره إلى نفس السبب فهو من شرائط المؤثّر ، وكلّ شرط يرجع اعتباره إلى محلّ تأثير أو إلى من يباشر إيجاده فهو من شرائط التأثير وحصول الأثر.

وعلى هذا القياس الموانع عند إضافتها إلى السبب أو إلى تأثيره ، فالعربيّة في الصيغة والصراحة والتنجيز وغيرها من الخصوصيّات المقرّرة في محلّه شروط لنفس السبب ، كما أنّ مقابلات تلك الامور موانع في نفس السبب ، فلا يتمّ السبب بانتفاء بعض منها ، كما أنّه لا يتمّ عند وجود بعض مقابلاتها بل يكون سببا ناقصا ، فلا يصدق عليه حينئذ : أنّه ممّا يلزم من وجوده الوجود لذاته من غير فرق في ذلك بين صورتي انتفاء الشرط أو وجود المانع ، ومملوكيّة المحلّ وكمال المباشر بالبلوغ والعقل ونحوه شروط لتأثير السبب لا نفسه ، كما أنّ مقابلات هذه الامور موانع في التأثير وحصول الأثر لا في المؤثّر.

ومن البيّن أنّ مصادفة السبب لانتفاء بعض تلك الشروط أو وجود بعض هذه الموانع لا تنافي تماميّته بتحقّق الشرائط الراجعة إليه وانتفاء الموانع المضافة إليه بأسرهما ، وغرض المعرّف باعتبار القيد المذكور إنّما هو إدخال مثل ذلك في الحدّ.

ومن المعلوم أنّ السبب التامّ قد يجامع انتفاء شرط تأثيره أو وجود مانع تأثيره ، فيصدق عليه : أنّه بحيث لو خلّي وطبعه لكان مقتضيا للتأثير ، وإنّما عدم فعليّة اقتضائه لأجل عارض لولاه لكان التأثير حاصلا بالفعل ، من غير فرق بين أن يكون العارض عدم شرط ممّا ذكر أو وجود مانع كما عرفت ، وإلاّ فلا يستريب أحد في أنّ السبب إذا كان فاقدا لبعض الامور المعتبرة في تحقّقه وانعقاد نفسه من وجود شرط أو فقد مانع لم يكن سببا ، وإلاّ لما كان ذلك المفقود شرطا ولا هذا الموجود مانعا فيه وهذا خلف ، فلم يكن يتوهّم أحد أنّ هذا ممّا يصدق عليه عنوان السببيّة حتّى يطلب إدراجه في حدّه بالقيد المذكور.

ص: 368

وبما قرّرنا ظهر وجه الخلط والاشتباه ، فإنّ نظره - دام ظلّه - بالنسبة إلى مصادفة وجود المانع إلى موانع التأثير وحصول الأثر ، وبالنسبة إلى مصادفة عدم الشرط إلى شروط نفس المؤثّر ، فأبدى الفرق في فائدة القيد بحصولها على الأوّل وعدم حصولها على الثاني غفلة عن عدم الفرق في حصول الفائدة على الأوّل بينه وبين عدم الشرط لو كان من شروط التأثير ، وفي عدم حصولها على الثاني بينه وبين وجود المانع لو كان من موانع نفس المؤثّر.

كما ظهر اشتباه بعض الأفاضل أيضا فيما نقلناه عنه ، فإنّه أيضا مبنيّ على الخلط المذكور.

كما ظهر اندفاع ما نقلناه عن بعض الأعاظم فإنّ المراد بقيد « لذاته » ليس إفادة كون الذات علّة تامّة ليتوجّه إليه : أنّ ما كان معلولا للذات لا يختلف ولا يتخلّف ، بل إفادة أنّ الكلام في التحديد إنّما هو في تامّ السببيّة ، والسبب التامّ في مصطلحهم أعمّ من العلّة التامّة ، فلذلك نراهم يطلقون السبب التامّ في باب العقود وغيرها من الإيقاعات على ما جامع جميع الشرائط الراجعة إلى الصيغة وتجرّد عن الموانع الراجعة إليها ، سواء جامع المحلّ أو المباشر معه لشرائط التأثير وفقد موانعه أو لا؟ بل يحكمون بنفي مدخليّة ما يشكّ في مدخليّته في التأثير ولم يقم عليها من الشرع ما يوجب الاطمئنان بمجرّد تحقّق السبب التامّ الموجب لتناول عمومات الصحّة وإطلاقاتها ، ويقولون : إنّه سبب تامّ وقع عن أهله في محلّه فيؤثّر.

أمّا الأوّل : فلاجتماع شرائطه وفقد موانعه.

وأمّا الثاني : فلقضاء العمومات والإطلاقات بذلك ، إذ المفروض فقد ما ينافي مقتضاها.

ومن هنا تبيّن فساد إيراد بعض الفضلاء أيضا ، فإنّ كلام بعض الأعلام غير مشعر بما نسب إليه من إرادة السبب الناقص فضلا عن كونه صريحا ، إلاّ إذا اريد بالسبب ما هو من مصطلح أرباب المعقول وكلامه خال عمّا يرشد إلى ذلك ، بل ظاهره بقرينة الأمثلة الّتي ذكرها - من الصيغة في العتق الواجب والوضوء والغسل للطهارة من الحدث والغسل بالنسبة إلى إزالة الخبث في السبب الشرعي ، والنظر المحصّل للعلم الواجب في السبب العقلي وجزّ الرقبة للقتل الواجب في السبب العادي - الجري على مصطلح القوم ، ضرورة أنّ الامور المذكورة بمجرّدها ليست علل تامّة وإنّما هي أسباب لما يطلب منها من الآثار ، ولا ملازمة بينها وبين نقصانها حتّى يستظهر من كلامه أنّه أراد من السبب باعتبار القيد المذكور ما يتناول السبب الناقص.

ص: 369

فلو سلّم فالمناقشة المذكورة مناقشة في المراد من السبب في محلّ النزاع لا المراد منه في التحديد وبينهما بون بعيد ، فلا تعلّق لها بما اعتبر في الحدّ أصلا لجواز أن يكون حدّ السبب مأخوذا فيه ذلك ، ولكن لم يكن هذا المعنى من السبب محلاّ لكلامهم.

والمفروض أنّ ما ذكر من الحدّ تحديد له من حيث كونه سببا مصطلحا عند القوم ، لا من حيث كونه محلاّ لكلامهم في تلك المسألة كما لا يخفى (1).

ومن هنا يندفع أيضا ما أورده عليه في آخر هذا الكلام من أنّه إن أراد بالاستلزام دوام الاستلزام لم يتناول السبب الناقص ، وكذا إن أراد الاستلزام من حيث الذات كما هو الظاهر من لفظ الحدّ ، لامتناع تخلّف ما بالذات عن الذات على ما حقّق في محلّه.

وإن أراد الاستلزام في الجملة دخل الشرائط أيضا ، لأنّها قد تستلزم ذلك إذا اخذت بشرط المقارنة لغيرها من تتمّة العلّة.

فإنّ المراد من الاستلزام دوامه شأنا لا فعلا ، فيشمل ما رامه من السبب - وهو الناقض على مصطلح أرباب المعقول والتامّ على مصطلح الأصحاب - مع أنّه لو أراد الاستلزام في الجملة لما دخل الشرائط أيضا بقرينة لفظة « من » الواقعة في الحدّ ، فإنّها ظاهرة في الاستناد على سبيل الاستبداد ولا شيء من الشروط بهذه المثابة ولو كان هو الشرط الأخير ، وإنّما يستند لزوم الوجود إلى وجود المجموع من حيث المجموع.

فالأولى في تحديد السبب - على مصطلحهم - الاقتصار على القضيّة الاولى مع اعتبار قيد « لذاته » فيها ، ولو ابدل ذلك بالشأن واعتبر في جنس الحدّ فيقال : « ما من شأنه أن يلزم من وجوده الوجود » لكان أسدّ ، هذا كلّه في تحديد السبب بحسب عموم اصطلاحهم.

وبقى الكلام في بيان مرادهم منه في ذلك المقام ، ومراد من فصّل بينه وبين غيره من المقدّمات في اقتضاء الوجوب أو جعل الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المراد به ليس إلاّ المقتضي وهو السبب التامّ الصالح لمجامعته مع الموانع ، ضرورة أنّ من قال بالوجوب في السبب دون غيره من المقدّمات لا يقصد به مجموع المقدّمات من حيث المجموع ، فلا يناسب إرادتها منه لمقابلته للشرط والجزء وكذلك عدم المانع ، لدخول الجميع على هذا التقدير في العلّة التامّة فلا معنى لجعله قسيما لها ، بل يكون ذلك قولا

ص: 370


1- واعلم أنّ المراد بالسبب التامّ على مصطلح الأصحاب إنّما هو المقتضي التامّ ، ومن البيّن أنّه يجامع وجود المانع عن التأثير من انتفاء شرط من شروطهما ووجود مانع من موانعه كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

بالوجوب على الإطلاق فلا وجه لعدّه تفصيلا في المسألة ، هذا إذا اريد بالعلّة التامّة ما يكون مركّبا من الأجزاء والشروط وارتفاع الموانع ، وأمّا لو اريد بها ما يكون أمرا واحدا بسيطا فيردّه :

أنّه ليس في أفعال المكلّفين ما يكون علّة تامّة للحكم أو موضوعه ، لكثرة ما له من الشروط والموانع ، بحيث يخرج بانتفاء واحد من الاولى أو وجود شيء من الثاني عن كونه علّة تامّة مع أنّه مقدّمة عندهم وسبب في عرفهم ، كالبول في مقابلة وجوب الطهارة فإنّه سبب مع أنّه ربّما لا يوجب وجوب الوضوء إذا اقترن بوجود مانع كالسلس (1) ونحوه.

وممّا تقرّر تبيّن أن ليس المراد بالسبب هاهنا ما كان سببا لحكم شرعي كالملك ، والإتلاف ، واليد ، والزنا ، والدلوك ، والغروب ، والفجر ، والبلوغ ، والحدث والالتقاط ، والحيازة ، وإحياء الموات ، ونحو ذلك في سبب جواز الانتفاع ، ووجوب الضمان ، ووجوب الحدّ ، ووجوب الفريضة ، ووجوب الطهارة ، وحصول الملك ، بل المراد به ما كان سببا لموضوع الحكم الشرعي فلذا يعبّر عنه بمقدّمة الوجود كالصيغة والوضوء والغسل والتيمّم للعتق والطهارة الواجبين ، ومثله التدرّج من السلّم للكون على السطح إذا صار واجبا ، والنظر في المقدّمتين للعلم الواجب.

والفرق أنّ الامور الثلاث الاول أسباب شرعيّة والرابع سبب عاديّ والخامس سبب عقليّ.

ومن هنا تبيّن أنّ ما عن قواعد الشهيد من تحديد السبب بكلّ وصف ظاهر منضبط يناط به الحكم الشرعي وجودا وعدما ، أو كلّ وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل على كونه معرّفا لإثبات حكم شرعي بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم - على ما حكاه بعض الأعاظم - لا ينطبق على ما هو من موضوع بحث تلك المسألة.

ولو رام به تحديد مطلق السبب.

يرد عليه : مع اشتماله على قيد زائد وتطويل بلا طائل ، انتقاض عكسه بخروج ما هو سبب لموضوع الحكم بجميع أنواعه الثلاث ، كما تبيّن أنّه لا وقع لما عساه يورد من أنّ العلل الشرعيّة معرّفات - أي علل لحصول العلم بالشيء لا وجوده ، وبعبارة اخرى علل للإثبات والتصديق لا الثبوت والوجود فلا يصحّ أن يقال : هو ما يلزم من وجوده الوجود ، وإنّما يصحّ أن يقال : ما يلزم من وجوده العلم بالوجود ، لأنّ ذلك لو صحّ لتمّ في أسباب

ص: 371


1- وفي الأصل : « كالسلل » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه - واللّه العالم.

الأحكام وأمّا الموضوعات فأسبابها ما يلزم من وجودها وجود المسبّبات.

نعم لو رام المعرّف بيان مطلق السبب لاتّجه إليه أنّه أخصّ من المعرّف لعدم تناوله ما يكون سببا لنفس الحكم كما لا يخفى.

وأمّا الشرط : فهو في اللغة متحرّكا العلامة وساكنا مجرّد الإلزام والالتزام ، نصّ عليه الجوهري على ما حكاه بعض الأعاظم.

وفي القاموس : إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه ، وكأنّه خصّه بالذكر توضيحا ومثالا وإلاّ فهو لا يختصّ بالبيع وأمثاله على ما يساعده فهم العرف وتبادر أهل اللسان ، ويشهد به الاستعمالات الواردة مورد إفادة المعنى الحقيقي من غير تأمّل ، فلذا جعله في المجمع معروفا.

وفي الاصطلاح فالمعروف من معناه : ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده ، وكأنّهما فصلان لجنس مقدّر مشترك بينه وبين السبب - المتقدّم ذكره - وهو « الخارج » ، على ما هو المعلوم من طريقتهم من جعلهم الفارق بينها وبين الجزء دخوله وخروجهما ، وإنّما لم يصرّحوا بذكره عند التحديد إحالة للأمر إلى وضوحه أو معلوميّته من اصطلاحهم مع كون الغرض في هذا المقام التفسير الإجمالي

المفيد لتصوّره إجمالا ، أو لأنّ الغرض بيان ما يتميّز به الشرط عن مشاركه في الجنس القريب وهو السبب ، لا كلّ مشاركاته ليعتبر فيه ما يعتبر في ماهيّته.

والمفروض أنّه حاصل بما ذكر كما يشهد به اكتفاؤهم في حدّ السبب أيضا بما يوجب امتيازه عن الشرط أو هو والمانع أيضا ، لا عن كلّ ما يشاركه ولو في الجنس البعيد كالجزء.

فلا يرد عليه : انتقاضه طردا ببعض أجزاء المقتضي ولا بعض أجزاء المشروط إن كان مركّبا ، فإنّ الجزء مطلقا وإن كان ممّا يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، إلاّ أنّه خارج بالجنس المطويّ في الكلام وهو « الخارج » الموصوف بالموصول المذكور صريحا.

وأمّا ما يورد أيضا على طرده بالمقتضي الجامع لعدم الشرط ولوجود المانع ، فلعلّه كلام ظاهريّ ناش عن قلّة التدبّر في مفهوم التعريف ، فإنّ كلمة « من » - على ما تقدّم الإشارة إليه - نشويّة قاضية بكون عدم المشروط ناشيا عمّا فرض انعدامه أوّلا من الشرط ، فإذا فرض الشرط في المقتضي معدوما فانعدام المشروط يستند إليه سواء فرض معه المقتضي منعدما أيضا أو لا ، ضرورة أنّ الأثر الواحد الشخصي لا يستند إلى علّتين

ص: 372

ولا سيّما إذا كان عدميّا ، فإنّ الشيء ينعدم بمجرّد انتفاء بعض مقدّمات وجوده ، وليس العدم كالوجود حتّى يتوقّف على تحقّق جميع المقدّمات ، فإذا اختصّ الانتفاء ببعض فهو العلّة وإن فرض الجميع منتفيا ، فالعلّة انتفاء ما سبق انتفاؤه منها إن كان في البين ترتّب ، وإلاّ فالعلّة انتفاء علّة الوجود بجميع ما له مدخل فيها ، والمقتضي الجامع لعدم الشرط لا أثر لعدمه في العدم بعد فرض استناده إلى عدم الشرط ، بل هو حينئذ نظير الحجر في جنب الإنسان فلا يصلح موردا للنقض ، لعدم كونه ممّا يصدق عليه قولنا : « ما يلزم من عدمه العدم » وإنّما يصدق ذلك على الشرط المفروض عدمه معه وهو من المعرّف. ومثله الكلام في المقتضي الجامع لوجود المانع ، فإنّ العدم يستند حينئذ إلى وجود المانع لأنّه ما يلزم من وجوده العدم ، ولا فائدة معه لفرض المقتضي معدوما.

ومن هنا ينقدح فساد النقض بلوازم الشرط أو لوازم المشروط ، فإنّ عدم المشروط لا يستند إلى عدمها أصلا حتّى يكون مشمولا للحدّ.

وأمّا النقض بالشرط المتأخّر عن المقتضي كالإجازة في الفضولي - على القول بحصول الانتقال حين الإجازة - فغير مفهوم المراد.

فإن اريد به النقض على الاولى من قضيّتي الحدّ فلا وجه له.

وإن اريد به النقض على القضيّة الثانية من جهة أنّه شرط وقد استلزم وجوده الوجود.

ففيه : أنّه ليس من لوازم الشرط بل من لوازم تمام السبب ، والشرط متمّم له ، فالاستلزام واقع في الحقيقة بين المسبّب وسببه لا بين المشروط وشرطه.

والعجب عن بعض الفضلاء كيف أعرض عن هذا الحدّ - وفسّر الشرط بالخارج الّذي يقتضي عدمه عدم المشروط مع عدم قيام البدل (1) ولا يقتضي وجوده وجوده ، فصرّح بخروج الجزء لدخوله ، ولوازم الشرط لعدم اقتضاء لها حقيقة ، والمعدّ لأنّ عدمه المقارن لا يقتضي العدم ، كيف وقد اعتبر في المقتضي! نعم عدمه مطلقا يقتضي ذلك ، لكن ظاهر لفظ الحدّ هو الأوّل - معترضا على الحدّ الأوّل بكونه منقوضا بالوجوه المذكورة ، مع وضوح سخافتها غفلة عن انتقاض ما اختاره أيضا في طرده بجزء ما يكون سببا محصّلا للشرط كأجزاء الوضوء أو الغسل أو التيمّم في أسباب ما هو شرط للصلاة.

ص: 373


1- والظاهر أنّ فائدة قوله : « مع عدم قيام البدل » الاحتراز عن تخلّف شرط لشرط آخر فيما لو كان له شروط متعدّدة ، من جهة أنّ عدم الشرط الأوّل لم يستلزم العدم. ( منه ).

ولا ينبغي دفعه بإبداء الفرق بين ما يترتّب من العدم على العدم بواسطة أو بلا واسطة. والمقصود من الحدّ هو الثاني والمفروض في مورد النقض هو الأوّل ، نظرا إلى أنّ اللازم أوّلا إنّما هو عدم الشرط وعدم المشروط مترتّب عليه لا على عدم جزء السبب لكونه تكلّفا.

وربّما يحكى عن القواعد الشهيديّة تعريف الشرط : بما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، ولا يشتمل على شيء من المناسبة في ذاته بل في غيره.

فأخرج بالأوّل المانع ، وبالثاني السبب ، كما احترز بالثالث عن مقارنة وجوده لوجود السبب أو قيام المانع فيلزم الوجود أو العدم لكن لا لذاته بل لأمر آخر ، وبالرابع عن جزء العلّة فإنّه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، إلاّ أنّه اشتمل على جزء المناسب فإنّ جزء المناسب مناسب هكذا نقل بعض الأعاظم فعقّبه بإيرادات بعضها غير وارد ، وورود بعضها الآخر والعدم مبنيّ على ملاحظة عبارة القواعد بنفسها ولم تكن تحضرنا وما تيسّر لنا الوصول إليها بعد الفحص التامّ لنستعلم ما هو حقيقة المرام.

ثمّ إنّ المقدّمة سببا كانت أو شرطا لابدّ لها من حاكم بمقدّميتها ، فهي بهذا الاعتبار إمّا عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة.

والاولى مقدمة يكون وجود ذيها بدونها محالا عند العقل ، كالنظر المحصّل للعلم الواجب في السبب ، وترك الضدّ الّذي يستحيل فعل الضدّ بدونه عقلا في الشرط.

والثانية مقدّمة يكون وجود ذيها بدونها محالا عادة ، كجزّ الرقبة للقتل الواجب في السبب ، ونصب السلّم للصعود على السطح في الشرط.

وأمّا التدرّج على درجات السلم فهو من السبب العادي ، فإنّ العادة في كلّ ذلك قاضية باستحالة القتل والصعود بدون الجزّ والنصب والتدرّج وإلاّ فالعقل لا يأبى عن ذلك ، لإمكانه بالخنق والطيران ونحوهما.

والثالثة مقدّمة بكون وجود ذيها بدونها محالا عند الشرع وفي نظر الشارع ، وهي في الأسباب كالصيغة للعتق ، والوضوء والغسل والتيمّم للطهارة ، وفي الشروط كالطهارة للصلاة.

وربّما يقال : بأنّ مرجع ذلك أيضا إلى المقدّمة العقليّة ، لأنّ الموقوف على الطهارة ليس ذات الصلاة بل الصلاة المصحوبة للطهارة ، ووجودها بدون الطهارة أو بدون الوضوء محال عقلا ، فإنّ العقل يحكم بتوقّف وجود الصلاة مع الطهارة على الطهارة والوضوء ، إلاّ أنّ منشأ ذلك التوقّف هو الشرع حيث جعل الواجب الصلاة مع الطهارة ، ولعلّه أوجب تسمية الطهارة والوضوء

ص: 374

بالمقدّمة الشرعيّة لما في النسبة من كفاية أدنى الملابسة ككفاية أدنى المناسبة في التسمية.

وهو على التحقيق مبنيّ على ما هو الراجح في النظر من عدم كون الشرطيّة والسببيّة ونحوها من الوضعيّات مجعولة من الشارع بخصوصها ، وإنّما هي مفاهيم ينتزعها العقل عن الخطابات التكليفيّة المتعلّقة بالموضوعات الملحوظة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة شرعيّة وغيرها ، وإلاّ فعلى القول الآخر لابدّ من كون التوقّف فيما بين السبب ومسبّبه والشرط ومشروطه حكما من الشارع ، لأنّ جعل السببيّة والشرطيّة في معنى الحكم بكون محلّهما ممّا يتوقّف عليه الغير الّذي يضاف إليه هذان الوصفان ، وحكم العقل حينئذ متأخّر تبعي لا يورث أثرا في المقام ، فإنّ حكمه بالتوقّف بملاحظة حكم الشرع بالسببيّة والشرطيّة لا يقضي برجوع هذه الامور إلى المقدّمات العقليّة ، كما أنّ حكمه بذلك بملاحظة قضاء العادة في العاديات لا يقضي بذلك ، وإلاّ لبطل التقسيم وانحصرت المقدّمة في العقليّة ، وكأنّ التسمية بالشرعيّة فيما ذكر نشأت عن أصحاب هذا القول فوافقهم الآخرون.

في تحرير محلّ النزاع

[ في تشخيص محلّ النزاع من أقسام المقدّمة ]

ثمّ إنّه بقي الكلام في تحرير موضع النزاع من أنواع المقدّمة ، فقد أشرنا سابقا إلى أنّها تنقسم إلى مقدّمة الوجوب ، ومقدّمة الوجود ، ومقدّمة الصحّة ، ومقدّمة العلم ، وإلى أنّ الأخيرين راجعان إلى الثاني من حيث المقدّمية ، ولكنّ النظر هنا إنّما هو في جريان النزاع الآتي في الكلّ وعدمه.

فنقول : لا ينبغي التأمّل في خروج المقدّمات الوجوبيّة عن هذا النزاع ، وعدم كون الأمر بالشيء أمرا بمقدّمات وجوبه ، من غير فرق بين ما كان منها مقدورا للمكلّف كتحصيل الاستطاعة في وجوب الحجّ وتحصيل النصاب في وجوب الزكاة ، وما لم يكن مقدورا كالقدرة والعقل والبلوغ ونحوه ، فإنّه ممّا لا يستريب فيه ذو مسكة وتصريحاتهم بذلك مملوّة في كتبهم الاصوليّة ، ونقل الاتّفاق عليه بالغ حدّ الاستفاضة.

وفي كلام المحقّق نفي الخلاف عن ذلك ، إلى أن قال : « فالتكليف بالحجّ مثلا ليس تكليفا بتحصيل الاستطاعة ، والتكليف بالزكاة ليس تكليفا بتحصيل للنصاب ... إلى آخره » وهو ظاهر أكثر عناوينهم حيث يعبّرون عن العنوان : « بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ الواجب إلاّ به أو لا؟ » ولا يقولون : « أمر بما لا يتمّ الوجوب إلاّ به ».

وصريح العمدة من أدلة القائلين بالوجوب - الّتي اعتمد عليها كلّهم أو جلّهم - وهي

ص: 375

لزوم أحد الأمرين من التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا لولاه ، لوضوح أنّ الشيء قبل حصول مقدّمة وجوبه لم يتعلّق به وجوب بعد حتّى يخرج عن كونه واجبا على تقدير عدم وجوب مقدّمته ، كيف والقول بوجوب مقدّمة الوجوب ممّا لا يكاد يتعقّل عن أحد ، فإنّ النظر في تلك المسألة في أنّ مقدّمات الواجب هل تصير واجبة بوجوب ذيها ، وبعبارة اخرى : وجوب الشيء هل يستلزم وجوب مقدّماته أو لا؟ وظاهر أنّ ذلك فرع تعلّق الوجوب بذي المقدّمة ، وهو فرع تحقّق مقدّمات الوجوب فيمتنع تعلّق الوجوب بها بدون وجوب ذيها.

وإلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الفضلاء من الاحتجاج بأنّ : وجوب المقدّمة - على القول به - يتوقّف على وجوب ذي المقدّمة فيمتنع بدونه ، كما ينظر إليه ما في الهداية من التعليل بأنّه : « لا يتعلّق الوجوب بذيها قبل حصولها وبعد حصولها لا يمكن تعلّق الوجوب بها ».

وأمّا ما يكون من المقدّمات الوجوبيّة مقدّمة للوجود أيضا فهي من تلك الجهة وإن كانت صالحة لجريان النزاع فيها ، غير أنّها باعتبار الجهة الاولى خارجة أيضا ، وإطلاق العنوانات ينصرف إلى الوجوديّة الصرفة ، بل هي من وجه آخر ممّا لا يتأمّل في عدم دخولها في النزاع ، حيث إنّها من المقدّمات الغير المقدورة واتّفاقهم قائم بخروجها عن المتنازع فيه وإن كانت وجوديّة صرفة ، على ما سيجيء تحقيقه.

وأمّا مقدّمة الصحّة : فقد عرفت أنّها راجعة إلى مقدّمة الوجود بل لا فرق بينهما بحسب الحقيقة إلاّ بالاعتبار ، فإنّ المأمور به إذا لوحظ بوصفه العنواني وهو كونه مأمورا به سمّي مقدّمته بمقدّمة الصحّة ، وإذا لوحظ بذاته وحقيقته سمّي مقدّمته بمقدّمة الوجود.

وهذان عبارتان مفادهما واحد ، ضرورة أنّ مقدّمة الصحّة لا يراد بها إلاّ ما يوجب حصول المأمور به في الخارج ، وكون ما يؤتى به موافقا لما امر به وهو ليس إلاّ معنى الوجود.

فقضيّة ذلك جريان الأقوال الآتية فيما يسمّونه بمقدّمة الصحّة جريانها فيما يسمّونه بمقدّمة الوجود.

وأمّا مقدّمة العلم : فعليّة كانت كالصلاة (1) إلى الجهات الأربع للعلم بإتيان الصلاة إلى جهة القبلة الواقعيّة عند الاشتباه ، أو تركيّة كالشبهة المحصورة التحريميّة الّتي يجب فيها

ص: 376


1- ومثله غسل جزء من الرأس لحصول العلم بغسل الوجه ، وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ونحو ذلك ممّا لا يكاد يحصى. ( منه ).

ترك جميع أطراف الشبهة لحصول العلم بترك المحرّم أو النجس الواقعيّين ، كما في الإنائين المشتبهين ونحوهما ، فهي أيضا ممّا ينبغي القطع بخروجها عن محلّ النزاع للقطع بعدم وجوبها على تقدير أو القطع بوجوبها على تقدير آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب الّذي يضاف إلى المقدّمة هاهنا إمّا أن يراد به الوجوب الشرعي وهو كون الشيء بحيث يستحقّ تاركه العقاب كما في سائر الواجبات التعبّديّة ، أو الوجوب العقلي الّذي هو مجرّد إلزام عقل وحكم منه بلا بدّية العمل.

فإن كان الأوّل فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في عدم الوجوب ، نظرا إلى أنّ العلم الّذي هو أصل وذو مقدّمة ليس في الوجوب بهذه المثابة بحيث أوجب تركه استحقاق العقاب فضلا عن مقدّمته ، فإنّ العلم بإتيان المأمور به ليس بنفسه واجبا شرعيّا يستلزم مخالفته استحقاق العقاب ، بل هو ممّا يلزمنا العقل عليه لحصول الاطمئنان عن العقاب بترك المأمور به الّذي هو من فروع الإطاعة الّتي ليست مطلوبة لذاتها ، وإنّما الأمر بها ولو من الشرع - كقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (1) - إرشادي ، وكذلك النواهي عن المعصية عقلا أو شرعا كقوله : « لا تعص » ونحوه نظير أوامر الطبيب ونواهيه.

خلافا لبعض من توهّم كونها مؤكّدات للأوامر الحقيقيّة المتعلّقة بالعناوين المخصوصة فقوله : « أطع » مثلا مؤكّد للأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحجّ ونحو ذلك ، وضعفه ظاهر بعد ملاحظة أنّ المؤكّد والمؤكّد لابدّ فيهما من اتّحاد الموضوع ولو معنى ، كما في « اضرب زيدا اضرب زيدا » أو « اضرب زيدا نفسه » وهو في أوامر الإطاعة والأوامر الحقيقيّة متعدّد بدليل ما بين الموضوعين من الترتّب ، لتأخّر موضوع الأوّل وهو الإطاعة عن موضوع الثاني وهو الصلاة وغيرها ، ضرورة أنّ محقّق موضوع الإطاعة إنّما هو العقل فإنّه بعد ما التفت إلى جانب الأوامر الحقيقيّة ينتزع عن متعلّقاتها باعتبار إيجادها في الخارج مفهوما كلّيا يسمّيه بالإطاعة فيرتّب عند نفسه مقدّمة معقولة وهي أنّ الإتيان بالمأمور به إطاعة.

ثمّ يلزم المكلّف بها إرشادا له إلى ما يدفع عنه المضرّة والندامة والوقوع في التهلكة ، فيتلوه أمر الشارع أيضا بقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ ) (2).

ومن البيّن أنّ مخالفة الأمر بالإطاعة لا تترتّب عليها ما تترتّب على مخالفة الأمر بالصلاة وغيرها من العناوين الخاصّة من استحقاق العقاب ، وإلاّ لكان اللازم استحقاق

ص: 377


1- النساء : 59.
2- النساء : 59.

عقابين بل ثلاث عقابات إذا انضمّ إليهما مخالفة النهي عن المعصية ، فعلى هذا لو أنّ المكلّف أتى بالزنا بعد ما نهي عنه بالخصوص لاستحقّ عقابا بسبب مخالفته النهي المستفاد عن قوله : « لا تزن » وعقابا آخر بسبب مخالفته النهي عن المعصية في قوله : « لا تعص » وعقابا ثالثا بسبب مخالفته الأمر بالإطاعة وهو ضروريّ البطلان بل لم يقل به أحد ، بل غاية ما يترتّب على ترك الإطاعة إنّما هو فوات الخاصيّة الّتي كانت من شأنها أن تترتّب على فعلها وهي استحقاق الثواب ورفع العقاب المترتّبين على نفس الإطاعة لا الأمر بها بدليل ترتّبهما عليها بدون الأمر أيضا ، نظير ما يترتّب على أوامر الطبيب من الخواصّ والفوائد ، فإنّ ما يترتّب على أمر الطبيب بقوله : « برّد » مثلا من الخاصيّة وهي دفع الحرارة فإنّما يترتّب على نفس التبريد لا الأمر به وإلاّ للزم أن لا تترتّب عليه بدون الأمر ولو حصل في الخارج ، وهو ممّا يكذّبه الحسّ والوجدان.

الفرق بين الأمر الحقيقي والإرشادي

فبما قرّرناه ينقدح الفرق بين الأمر الإرشادي والأمر الحقيقي ، فإنّ استحقاق الثواب بفعل المأمور به من خواصّ الإطاعة ، فهو جزاء يترتّب على المأمور به في الأوّل لا على الأمر بدليل حصوله بدونه أيضا ، وعلى الأمر دون المأمور به في الثاني بدليل عدم ترتّبه بفعل المأمور به بدون الأمر ، فإنّ حصول الثواب ليس خاصيّة للصلاة المأمور بها كما أنّها خاصيّة للإطاعة ، لأنّه إنّما يحصل ولو فرض الصلاة خالية عن جميع الخواصّ الكامنة كما زعمه الأشاعرة.

وقضيّة ذلك أن لا يترتّب على ترك الإطاعة إلاّ فوات تلك الخاصيّة ، كما أنّه لا يترتّب على ترك التبريد في أمر الطبيب به إلاّ فوات خاصيّة التبريد وهو دفع الحرارة ، وهو كما ترى ليس من استحقاق العقاب في شيء لا مفهوما ولا مصداقا ، فإذا كان الإطاعة ممّا لا يترتّب على تركها استحقاق عقاب فترك الاطمئنان بها المسبّب عن ترك تحصيل العلم بإتيان المأمور به أولى بذلك ، فإذا اتّفق ترك المأمور به بترك تحصيل العلم به لا يلزم عقاب إلاّ على ترك المأمور به من دون عقاب على ترك الاطمئنان.

وإن كان الثاني (1) فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في الوجوب بهذا المعنى ، لا من جهة أنّه مقدّمة فتجب حتّى يكون ذلك ممّا يتفرّع على القول بوجوب المقدّمة ، بل من جهة أنّه لا مغايرة بينه وبين ذي المقدّمة حقيقة بل هو عينه في الحقيقة وإنّما الاختلاف يحصل في التعبير.

ص: 378


1- هذا ثاني شقّي الترديد ، وقد مرّ أوّلهما في ص 31 بقوله : « فإن كان الأوّل فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في عدم الوجوب ».

وبيان ذلك : أنّ مقدّمة العلم ما كان سببا لحصول العلم بإتيان المأمور به ، كتكرّر الصلاة في الجوانب الأربع أو في الثوبين المشتبهين ، وهو ليس كسائر الأسباب الّتي بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي وتغاير بحسب المفهوم والمصداق - كنصب السلّم والتدرّج بدرجاته للصعود ، وتحصيل الدابّة للزيارة والحجّ ، نظرا إلى أنّ لكلّ منهما وجودا غير وجود الصعود والزيارة والحجّ بالمغايرة الحسّيّة الموجبة للتفكيك بينهما وبين ما يتوقّف عليهما ممّا ذكر - حتّى يمكن التفكيك بينه وبين العلم الّذي هو مسبّب عنه بتجويز كون العلم ممّا يلزمنا العقل عليه للتوصّل بحصول الاطمئنان بالإطاعة مع عدم إلزام على مقدّمته كما هو جائز في سائر المسبّبات بالقياس إلى أسبابها ، بل هو نظير الأسباب الّتي وجودها في الخارج عين وجود مسبّباتها ، بحيث لا تغاير بينها وبين المسبّبات إلاّ بحسب العنوان والمفهوم من دون ترتّب بينهما في الوجود الخارجي بالتقدّم والتأخّر ، كتواضع زيد لإكرامه أو ضيافته له أيضا ، فإنّ الأوّل سبب للثاني وهما بحسب المفهوم والعنوان وإن كانا أمرين متغايرين إلاّ أنّهما بحسب الوجود الخارجي أمر واحد ، ضرورة أنّ مجرّد تواضع زيد أو ضيافته إكرام له ، فإلزام السيّد عبده على إكرام زيد إلزام له على تواضعه وضيافته ، وقوله : « أكرم زيدا » بمنزلة قوله : « تواضع لزيد أو أضفه » بل هو عينه في الحقيقة.

فحينئذ لا يمكن التفكيك بينهما بإبداء القول بجواز الإلزام على الإكرام دون التواضع والضيافة ، كيف وأنّ الإلزام على الأوّل عين الإلزام على الثاني.

ومن هذا الباب مقدّمة العلم بعينها ، فإنّ (1) إلزام العقل على العلم بأداء المأمور به - كالصلاة إلى القبلة عند الاشتباه - عين الإلزام بمقدّمته الّتي هي عبارة عن تكرّر الصلاة إلى أكثر من جهة واحدة ممّا يحتمل في موضع الشبهة ، إذ لا تغاير بينهما في الوجود الخارجي ، ضرورة أنّ العلم بإتيان المأمور به في الواقع عين الإتيان بالصلاة في الجهات الأربع ، ومع ذلك كيف يتصوّر التفكيك بينهما بدعوى : أنّ الأوّل واجب بحكم العقل دون الثاني ، وكيف يمكن إنكار أنّ الأمر بتحصيل العلم أمر بتكرّر الصلاة ، وإبداء القول بأنّ الأوّل لا يستلزم الثاني. هذا على ما استفدناه عن الشيخ الاستاذ - دام ظلّه - ولكنّه عندي محلّ نظر يظهر

ص: 379


1- وبعبارة اخرى : أنّ ذا المقدّمة هنا دفع الضرر المترتّب على ترك المأمور به ، ومقدّمته تكرير الصلاة في الجهات الأربع ومن المعلوم أنّ إلزام العقل على دفع الضرر عين إلزامه على تكرير الصلاة إذ لا تغاير بينهما بحسب الوجود الخارج أصلا ولو فرضت متغايرة فهي بحسب العنوان والحيثيّة كما لا يخفى. ( منه ).

وجهه في ذيل المسألة.

انقسام المقدّمة إلى الداخليّة والخارجيّة

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ المقدّمة إمّا داخليّة أو خارجيّة ، والأوّل هو الجزء لتوقّف الكلّ عليه ، وفي وقوعه محلاّ للخلاف كغيره من سائر مقدّمات الوجود وعدمه خلاف بين الاصوليّين.

فعن بعضهم نفي الخلاف عن الوجوب في الجزء لدلالة الواجب عليه تضمّنا.

ومن الأعلام من صرّح بكون الكلام فيه كالكلام في سائر المقدّمات ، مصرّحا بأنّ القدر المسلّم من الدلالة على وجوبه هو التبعي إلاّ أن ينصّ عليه بالخصوص بعنوان الوجوب ، ومعترضا على القول الأوّل بمنع دلالة الواجب على وجوب الجزء تضمّنا.

ومن الفضلاء من صرّح بأنّ كلّ جزء من الأجزاء واجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن المركّب واجب نفسي ، فإنّ المركّب عبارة عن نفس الأجزاء وإلاّ لم يكن مركّبا ، فوجوبه عبارة عن وجوبها ، لكن تعلّق الوجوب بكلّ جزء حينئذ ليس مستقلاّ بل في ضمن الكلّ ، فالدالّ على طلب الكلّ بالمطابقة دالّ على طلب الجزء بهذا الاعتبار أيضا بالمطابقة ، وإن كان الدالّ على متعلّقه الأوّل - وهو الكلّ - بالمطابقة دالاّ على متعلّقه الثاني - وهو الجزء - بالتضمّن ، وباعتبار كونه ممّا يتوصّل به إلى الكلّ واجب غيري لتوقّفه عليه ، ضرورة أنّ وجود المركّب مسبوق بوجود أجزائه فيدلّ الأمر به على الأمر بها بالاستلزام ، فيتعلّق الوجوب بها على الاستقلال وليس بالتضمّن لأنّ الوجوب النفسي بسيط وإن تعلّق بمركّب فلا يتركّب من وجوبات غيريّة.

وأفادنا بعض مشايخنا : دام ظلّه أنّ الجزء إذا لا حظناه في حدّ نفسه مع قطع النظر عن وجوده في ضمن الكلّ كان قابلا لوقوعه محلاّ للخلاف ، إلاّ أنّه مجرّد فرض لا يكاد يتعقّل ، لأنّ المراد بالجزء هاهنا ليس ذات الجزء حتّى يعقل انفكاكه عن الكلّ فيجري فيه الخلاف ، بل الجزء بعنوان الجزئيّة - أي مع اتّصاف كونه جزءا - وهو بهذا المعنى لا ينفكّ عن الكلّ ، لأنّ وجوده عين وجود الكلّ كما أنّ وجود الكلّ نفس وجوده ، فلا يعقل حينئذ عدم كونه واجبا مع وجوب الكلّ بل يصير واجبا بوجوبه في ضمنه ، فلا معنى للثمرة الّتي ذكرها بعض الأعلام عن العلاّمة من جواز الصلاة في الدار المغصوبة ، من جهة أنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة واجب بسبب وجوب الواجب وهو الصلاة ، فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصي ، لضرورة أنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة يستحيل وقوعه منهيّا عنه على القول بعدم وجوب المقدّمة أيضا ، لما هو المفروض من أنّ الأجزاء

ص: 380

من أنّ الأجزاء لا وجود لها إلاّ عين وجود الصلاة فإذا فرض وقوعها منهيّا عنها لزم أن يقع الصلاة أيضا منهيّا عنها ، إذ ليس لها وجود سوى وجود الأجزاء وهو على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي محال كما لا يخفى.

وبقيّة ما يتعلّق من الكلام بهذا المراد ستأتي في ذيل المسألة إن شاء اللّه تعالى.

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بكلمة « الواجب »

المبحث الثاني

فيما يتعلّق بالكلمة الثانية من أجزاء القضيّة ، أعني « الواجب » الّذي أضيف إليه المقدّمة.

فالواجب لغة : اللازم ، والساقط ، ومن موارد استعمال الأوّل « وجب البيع وأوجبه » ومن الثاني « وجب الحائط » ومنه قوله تعالى : ( وَجَبَتْ جُنُوبُها ) (1) أي سقطت إلى الأرض على ما قيل.

واصطلاحا يطلق على ما يطلب فعله بمتأكّد الطلب ، أو يطلب فعله ويمنع عن تركه ، وعلى ما أوجب تركه استحقاق ذمّ أو عقوبة في الجملة ، واختلفت كلمتهم في تحديد هذا المعنى ، فالعلاّمة في التهذيب : ما يذمّ تاركه مذيّلا له بقوله : ولا يرد المخيّر والموسّع والكفاية لأنّ الواجب في المخيّر والموسّع الأمر الكلّي ، وفي الكفاية فعل كلّ واحد يقوم مقام الآخر فكان التارك فاعل ، أو يراد في الحدّ لا إلى بدل ، يعني : أنّ الواجب في المخيّر ما يتناول الخصال المتعدّدة لا أنّ كلّ واحد بالخصوص هو الواجب حتّى يخرج به الحدّ غير منعكس ، وفي الموسّع إيقاع العبادة في تمام الوقت وهذا أمر كلّي صادق على إيقاعها في أوّل الوقت ووسطه وآخره. وفي الكفاية يقوم كلّ واحد من المكلّفين مقام الباقين في الفعل فتاركهم فاعل لوجود من قام مقامه.

ولمّا كان ذلك يحتاج إلى نوع تكلّف فذكر وجها آخر ليندفع به النقض بالواجب على الكفاية بلا تكلّف وهو انضمام قيد « لا إلى بدل » إلى ما ذكر فيقال : ما يذمّ تاركه لا إلى بدل ، ولا يخفى أنّه يدفع النقض بالمخيّر والموسّع أيضا من غير حاجة إلى اعتبار كون الواجب فيهما أمرا كلّيّا.

وقيل : المراد بالتارك والفاعل من هو مخاطب بالترك والفعل ، ولا يتوهّم صدق التعريف على تروك البهائم وأفعالهنّ.

وبعضهم - على ما حكي عنه - ما يعاقب تاركه.

ص: 381


1- الحج : 26.

واعترض عليه : بجواز العفو فاعتبر فيه الاستحقاق ، فقيل : ما يستحقّ تاركه العقاب. واعترض أيضا بالواجب التخييري فاضيف إليه « لا إلى بدل » واعترض عليه أيضا بأنّ العقاب لا يشمل بعض الأفراد فعدل عنه إلى « الذمّ » ليفيد العموم.

وإلى ذلك ينظر ما ذكره البهائي من أنّه ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل ذمّا ، مذيّلا له بأنّه لا نقض بأخيرتي الأربع في الأربع لاعتبارها في الاوليين إذا تركتا ، وقس عليه الزائد على إحدى الثلاث في المسح والتسبيح الأربع ، يعني به دفع النقض بالركعتين الأخيرتين من الرباعيّات حيث تتركان في الأماكن الأربع من غير استحقاق تاركهما الذمّ.

وحاصل الدفع : قيام بدل عنهما فيهما وهو الركعتان الاوليان حيث تترك الأخيرتان ، نظرا إلى التخيير الثابت فيها بين القصر والإتمام ، ومثله الكلام فيما زاد على إصبع واحد في مسح الوضوء وتسبيحة واحدة في التسبيحات الأربع نقضا ، ودفعا لمكان التخيير فيهما أيضا بين الزائد والناقص.

وقال في الحاشية : وهذا الحدّ أولى من حدّ القاضي بما يذمّ تاركه بوجه مّا ، لأنّه وإن سلم عكسه من خروج الكفائي والموسّع لم يسلم طرده من دخول صلاة النائم وركعتي المسافر لذمّ تاركهما حال اليقطة والحضر كما قال الحاجبي.

وقد يذبّ عنه : بأنّ المراد ما يذمّ تاركه بسبب ذلك الترك الّذي هو تارك له بحيث لا يتغيّر ذلك الترك ، وترك النائم والمسافر حال النوم والسفر مغاير لتركهما حال اليقظة والحضر ولا يذمّ بالترك الأوّل وإنّما يذمّ بالثاني ، بخلاف ترك الكفائي فإنّه ترك واحد لا يتغيّر في نفسه بالأمر الخارجي أعني إتيان الغير به وعدمه ، بل له وجهان يجتمع مع كلّ منهما ويلحق الذمّ بسبب أحدهما دون الآخر.

وأمّا ترك الصلاة حال النوم والسفر فليس له هذان الوجهان هذا حاصل ما ذكره العضدي وحققّه السيّد الشريف في الحاشية ، ولي فيه نظر فإنّ ترك الكفائي حال ظنّ المكلّف قيام الغير به مغاير لتركه حال ظنّه عدمه ، ولا يذمّ بالترك الأوّل وإنّما يذمّ بالثاني ، فتأمّل.

وأيضا فمن نذر صلاة ركعتين في هذا اليوم إن قدم زيد فيه فإنّ تركهما قبل قدوم زيد وبعده ترك واحد لا يتغيّر بالأمر الخارجي أعني قدوم زيد وعدمه ، فيصدق عليهما قبل قدومه أنّهما يذمّ تاركهما بسبب تركه الّذي هو تارك له بوجه مّا ، فتدبّر انتهى.

وقال السيّد في المنية - شرح التهذيب - : وأجود رسوم الواجب ما نقل عن القاضي

ص: 382

أبي بكر وهو قوله : « الواجب ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فقولنا : « ما يذمّ » أجود من قولنا : « ما يعاقب » لأنّ اللّه تعالى قد يعفو عن تارك الواجب ولا يقدح ذلك في وجوبه ، وخير من قولنا : « ما يخاف العقاب على تركه » لأنّ ما ليس بواجب قد يخاف على تركه عند الشكّ في وجوبه ، وقوله : « شرعا » ليخرج به الواجب العقلي الّذي يذمّ تاركه عقلا عند من يقول به ، وقوله : « على بعض الوجوه » ليتناول التعريف الواجب الموسّع والمخيّر والكفاية ، فإنّ الموسّع يذمّ تاركه على بعض الوجوه وهو ما إذا تركه في جميع وقته ، والواجب المخيّر إذا أخلّ جميع الخصال ، والكفاية إذا تركه المكلّفون بأسرهم.

وهذا الرسم ارتضاه فخر الدين الرازي وأكثر المتأخّرين من الأشاعرة.

واعترض : بأنّه غير مطّرد ، فإنّ الساهي والنائم والمسافر وغيرهم من ذوي الأعذار لا يجب عليهم الصوم مثلا ويذمّون على تركه شرعا على بعض الوجوه ، وهو تقدير انتفاء أعذارهم.

فإن اجيب : بأنّ الوجوب ثابت على ذلك وإنّما يسقط بالنوم والسهو والسفر.

قلنا : فالواجب على الكفاية والموسّع والمخيّر يسقط بفعل البعض وبفعله في آخر الوقت ، وبفعل بدله ، فلا حاجة إلى القيد فيها كما لا حاجة إلى القيد في النائم والساهي والمسافر.

والمصنّف - قدّس اللّه روحه - حذف من الحدّ المذكور هذا القيد ، أعني قوله : « على بعض الوجوه » لذلك ، واقتصر على ما قبله مع حذف قوله : « شرعا » لأنّ الوجوب عنده قد يكون عقليّا كما يكون شرعيّا فيذمّ تاركه عقلا.

ولا يرد عليه النقض في عكسه بالواجب المخيّر والموسّع والكفاية لتحقّق الوجوب فيها مع أنّ تاركها لا يذمّ ، لأنّ الواجب في المخيّر الأمر الكلّي ، إلى آخر ما قال.

ولا يذهب عليك انتقاض هذه الرسوم بأسرها عكسا بمقدّمة الواجب على القول بوجوبها ، إذ لا يستحقّ تاركها الذمّ ولا العقاب على تركها عند القائل بالوجوب ، وطردا بترك المندوبات إذا نشأ على جهة الاستكبار أو الاستخفاف مع عدم وجوبها جزما ، وكذلك بترك جميعها بحيث يؤدّي إلى التجرّي على ترك الواجبات بل بترك الجماعة لثبوت الذمّ في الشريعة على ما يشهد به الأخبار الواردة على تاركها مع كونها مندوبة ، بل بترك بعض المباحات أيضا حيث ورد الذمّ على تارك أكل اللحوم بالمرّة.

وقد يذبّ عن الأوّل : بأنّ المأخوذ في الحدّ هو استحقاق الذمّ أو العقوبة وهو يعمّ ما لو كان الاستحقاق المذكور على تركه أو ترك غيره وذلك حاصل في المقدّمة أيضا.

ص: 383

ويدفعه : إنّ المأخوذ في الحدّ تعليق الذمّ على الترك الّذي هو مبدأ الاشتقاق في لفظ « التارك » وهو يفيد العليّة في محلّه الّذي هو المتروك بعينه دون غيره ، فتعميمه بالنسبة إلى غيره خلاف ظاهر يعيب ارتكابه في التعاريف الّتي مبناها على الوضوح والظهور ، فلذا لا يجوّزون أخذ المجازات أو المشتركات فيها بلا قرينة التعيين ، فيشترطون كون المعرّف أجلى من المعرّف.

والأولى أن يزاد على ما ذكر قولنا : « ولو من جهة غيره ».

ويمكن الذبّ عن البواقي : بأنّ الفرق بين ما يوجب تركه استحقاق الذمّ أو العقاب لذاته أو لعارض.

وظاهر الحدّ هو الأوّل واللازم في المذكورات هو الثاني ، فلا يندرج أحدهما في الآخر.

ولا يرد النقض بمقدّمة الواجب نظرا إلى أنّ مفاد القيد المذكور إنّما لزوم الذمّ بالعارض ، إذ المقدّمة لذاتها لا يوجب تركها استحقاق ذمّ لأنّ ذلك إنّما يصير بالعارض إذا اضيف الذمّ إلى ترك المقدّمة ، وأمّا إذا اضيف إلى غيره وهو ترك ذي المقدّمة فهو ذاتيّ ، والمقصود من القيد إفادة الثاني دون الأوّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ الواجب بهذا المعنى يرادفه « الفرض » و « اللازم » و « المحتوم » خلافا للحنفيّة ، حيث إنّهم خصّوا « الفرض » بما يثبت بدليل قطعي كالصلوات الخمس الثابتة بالتواتر ، و « الواجب » ما ثبت بدليل ظنّي كالوتر ثبت بخبر الواحد العاص أبو زيد ، وقالوا : إنّ « الفرض » التقدير ومنه قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) لهنّ (1) إلى قدّرتم ، فما كان دليله قطعيّا علم أنّه يقدّر في الأزل علينا ، وما ثبت بظنّي لم يعلم أنّه مقدّر فكأنّه ساقط علينا فنخصّه باسم الوجوب وهو السقوط.

قال السيّد في المنية : وهذا الكلام لا يخفى على المتأمّل ضعفه ، فإنّ « الفرض » التقدير سواء كان طريق معرفته علميّا أو ظنّيا ، كما أنّ الساقط « الواجب » من غير اعتبار طريق ثبوته ، ولكن لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّ التحقيق - على ما تقدّم في بحث صيغة « افعل » - أنّ الوجوب والإيجاب متغايران بالذات مفهوما ومصداقا ، فإنّ الثاني تأثير والأوّل أثر أو تأثّر ، والأوّل من مقولة الفعل والثاني من مقولة الكيف والانفعال وهما متقابلان فكيف يتّحدان بالذات ، خلافا

ص: 384


1- البقرة : 237.

لبعض الفضلاء المصرّح بأنّ الفرق بينهما اعتباريّ ، فإنّ الصادر من الآمر واحد ، فإن قيس إليه باعتبار صدوره عنه كان إيجابا وإن قيس إلى الفعل باعتبار قيامه به كان وجوبا ، فهما متّحدان ذاتا متغايران اعتبارا.

وإلى ذلك ينظر ما في المجمع عن بعض الأفاضل - بعد تصريحه بأنّ الإيجاب والوجوب متقاربان في المعنى - من أنّ الفرق بينهما كالفرق بين الضارب والمضروب ، فالضارب هو المؤثّر للضرب والمضروب هو المؤثّر فيه ، فالضارب اسم اشتقّ لذات والمعنى قائم بغيرها ، والإيجاب معناه التأثير والوجوب هو حصول الأثر ، وكأنّ اللّه تعالى لمّا أوجب علينا شيئا وجب ، فالأوّل يقال له الإيجاب والثاني الوجوب.

ولا يخفى ضعف هذا الكلام ، ويكفي في ثبوت بطلانه قضاء الوجدان بضرورة الفرق بين الكسر والانكسار ، وأنّه يدركه جميع العقول والأذهان في جميع الملل والأديان.

غاية الأمر أنّهما متلازمان حيث لا كسر حقيقة إلاّ مع الانكسار ولا انكسار كذلك إلاّ مع الكسر ، ومجرّد التلازم بين الشيئين لا يقضي باتّحادهما ذاتا ، فإنّ الصادر من الآمر إيجاب وهو علّة لحصول الأثر في الواجب وهو الوجوب ، ومثله الكلام في الضارب والمضروب ، ومن البيّن تغاير المعلول لعلّته ذاتا واعتبارا.

والأقرب بالاعتبار كون الاتّحاد بينهما اعتباريّا من حيث إنّه ينظر في الصادر عن الفاعل وهو حدث واحد ، وكأنّ منشأ هذا التوهّم التلازم الّذي نبّهنا عليه الموجب لشبهة الاتّحاد وفيه ما عرفت.

ثمّ إنّ الواجب ينقسم عندهم تارة إلى المطلق والمقيّد ، وقد يعبّر عنهما بالمنجّز والمشروط ، واخرى إلى النفسي والغيري ، وثالثة إلى التعبّدي والتوصّلي - وقد تقدّم البحث عنهما ولا نعيده هنا - ، ورابعة إلى الأصلي والتبعي ، وقيل : خامسة إلى الشرطي وغيره ، وربّما يقال : بأنّ فيه وجهين ، فلنا في هذا المبحث مطالب ينبغي التكلّم في كلّ واحد بالخصوص مستوفى.

المطلب الأوّل : في انقسام الواجب إلى المطلق والمشروط

المطلب الأوّل

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى المطلق والمشروط

فاعلم ، أنّ لأهل الاصول في تعريف هذين القسمين عبارات مختلفة.

منها : ما يستفاد عن العميدي في المنية : من أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف وهي البلوغ والعقل والعلم والقدرة ، كالصلاة الواجبة

ص: 385

في حالتي الطهارة والحدث إلاّ أنّ وقوعها موقوف على الطهارة ، والمشروط ما يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف ، كالزكاة المتوقّف وجوبها على حصول المال ، والحجّ المتوقّف وجوبه على الاستطاعة.

منها : ما في كلام بعض الفضلاء من أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء كالمعرفة.

ثمّ قال : وإنّما اعتبرنا الإطلاق بعد التقييد بتلك الامور لامتناع الإطلاق بالنسبة إليها عقلا أو شرعا ، ويقابله المشروط وهو ما يتوقّف وجوبه على غيره كالحجّ.

والنسبة بينه وبين الأوّل - على ما يساعده التحقيق - الترادف وإن كان يتخيّل في بادئ النظر كونها عموما مطلق نظرا إلى أنّ المعتبر في الثاني ملاحظة الإطلاق والتقييد بعد حصول شرائط التكليف الأربع فيكون أخصّ من الأوّل إذ لم يعتبر فيه ذلك ، لأنّ مفروض الأوّل أيضا ملاحظتهما بعد حصول الشرائط الأربع لأنّهما وصفان للوجوب وهو فرع توجّه الخطاب مطلقا أو مشروطا ، وهو قبل اجتماع تلك الشرائط محال عقلا أو شرعا فلا إطلاق ولا تقييد إلاّ بعد حصولها.

ومنها : ما حكاه ذلك الفاضل من أنّ الواجب المطلق قد يطلق ويراد به ما لا يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل ، سواء توقّف على غير ما مرّ وحصل كما في الحجّ بعد الاستطاعة أو لم يتوقّف كما مرّ ، ويقابله المشروط وهو ما يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل.

ثمّ قال (1) : والنسبة بين كلّ من المطلقين ومشروطه التبائن ، وبين كلّ منهما وكلّ من الآخر عموم من وجه.

ص: 386


1- وقال في الحاشية مفصّلا لما ذكره في المتن إجمالا : النسبة بين المطلقين عموم من وجه لاجتماعهما في المعرفة في [ حقّ ] واجد الشرط وافتراق الأوّل عن الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة وافتراق الثاني عن الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ، وكذلك النسبة بين المشروطين فإنّه يصدق الأوّل بدون الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ويصدق الثاني بدون الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ويتصادقان في الحجّ قبل الاستطاعة وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الأوّل والمشروط بالمعنى الثاني لتصادقهما في المعرفة قبل استكمال الشروط وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الثاني والمشروط بالمعنى الأوّل لتصادقهما في الحجّ بعد الاستطاعة وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة. ( منه عفي عنه ). راجع الفصول : 79.

وغرضه فرض النسبة بين ما اختاره أوّلا وما حكاه ثانيا من الإطلاق والتقييد ، فزعم أنّ النسبة في كلّ من المطلق والمشروط بين مختاره وما حكاه عموم من وجه ، فيجتمعان في مادّة ويفترقان في آخرين.

أمّا الاجتماع ففي شيء غير حاصل لم يكن ممّا مرّ من الامور المعتبرة في التكليف ، فإنّه على كلا التعريفين مطلق إن لم يتوقّف وجوبه عليه ومقيّد إن توقّف وجوبه عليه.

وأمّا الافتراق في مطلق الأوّل عن مطلق الثاني ومشروط الثاني عن مشروط الأوّل ففي شيء حاصل غير الامور المعتبرة في التكليف يتوقّف عليه وجوب الواجب ، فإنّه مطلق على الثاني لما يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على أمر غير حاصل دون الأوّل ، إذ لا يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، وفي مطلق الثاني عن مطلق الأوّل ومشروط الأوّل عن مشروط الثاني ففي شيء غير حاصل من الشرائط المعتبرة في التكليف كالبلوغ مثلا ، فإنّه مطلق على الأوّل لأنّه وإن كان ممّا يتوقّف عليه وجوب الواجب ولكنّه ليس شيئا غير الشرائط الأربع ، فيصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على شيء بعد حصول شرائط التكليف دون الثاني إذ لا يصدق عليه أنّه ما لا يتوقّف وجوبه على شيء غير حاصل ، بل هو ممّا يتوقّف وجوبه على ذلك.

ولا يخفى أنّ هذا التقرير من النسبة يجري بين هذا التعريف وتعريف العميدي أيضا ، فيكون مفاد هذا التعريف : « أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على أمر حاصل أو لا ».

ومفاد تعريف العميدي : « أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف ، سواء توقّف على الامور المعتبرة أو لا » وهذا معنى العموم من وجه.

وفيه ما لا يخفى من المنع عن مادّتي الافتراق ، أمّا عن افتراق الأوّل : فلمنع عدم صدق الأوّل على ما صدق عليه الثاني من الفرض ، أعني ما حصل من مقدّمات الوجوب الّذي يكون غير الشرائط الأربع ، بل يصدق عليه مع هذا الفرض أنّه ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، والّذي فرض حصوله ممّا عدا شرائط التكليف لا يصدق عليه بعد حصوله أنّه ممّا يتوقّف عليه وجوب الواجب ، ضرورة أنّ التوقّف إنّما تصدق قضيّته قبل حصول ما يتوقّف عليه ، فلذا يقال : إنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه مطلق.

وأمّا عن افتراق الثاني : فلمنع صدق الأوّل أيضا على ما ذكر من الفرض ، فإنّ الكلام

ص: 387

إنّما هو في الواجب بعد إحراز وجوبه ، ولا يجب إلاّ بعد تحقّق الامور الأربع المعتبرة في التكليف وتوجّه الخطاب ، فمع فرض انتفاء بعضها لا وجوب حتّى ينظر إلى إطلاقه أو تقييده بالنظر إلى شيء.

والمفروض أنّ المطلق على الأوّل ما لا يتوقّف وجوبه بعد حصول شرائط التكليف على شيء ، وهذا المعنى ينافيه فرض بعض تلك الشرائط غير حاصل ، فما فرض من مادّة افتراق الثاني مبائن للأوّل أيضا ، فكيف يكون من مصاديقه حتّى يكون مادّة الافتراق بالقياس إلى الثاني ، وإنّما هو مبائن لهما معا.

فالّذي يقتضيه النظر الجليّ أنّ النسبة بين التعريفين هو الترادف أيضا ، فهذه التعاريف الثلاث مترادفة جزما.

ومنها : ما نسب إلى العضدي والتفتازاني والسيّد الشريف والسيّد صدر الدين من : أنّ الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده من حيث هو كذلك ، ويقابله المقيّد وهو ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده من حيث هو كذلك ، وقد يقال : « على مقدّمة وجوده » بدلا عن قولهم : « على ما يتوقّف عليه وجوده ».

وفائدة الحيثيّة على ما ذكروه الاحتراز عن الواجب بالإضافة إلى جهته الّتي تبائن الجهة الّتي قد لوحظ ما فيه من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تلك الجهة.

وبيان ذلك : أنّ الإطلاق والتقييد في كلّ واجب من الامور الإضافيّة الّتي يمكن اجتماعها في شيء واحد باعتبارات مختلفة وحيثيّات متعدّدة ، ككون الشيء فوقا وتحتا مثلا ، فإنّه قد يتّصف بهما شيء واحد باعتبار اجتماعهما فيه كالسقف والسماء الاولى ، فإنّ الأوّل فوق بالنسبة إلى أرض البيت وتحت بالنسبة إلى سطحه ، كما أنّ الثاني فوق بالإضافة إلى الأرض وتحت بالإضافة إلى السماء الثانية ، والواجب أيضا قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شيء ومقيّدا بالإضافة إلى شيء آخر ، كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة وشراء الزاد والراحلة.

بل قد يقال : إنّه لا يوجد واجب مطلق إلاّ وهو مقيّد من وجه آخر ، كما لا يوجد واجب مقيّد إلاّ وهو مطلق من وجه آخر.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ واجب مقيّد بالبلوغ والعقل والقدرة والعلم ، وأمّا الثاني : فلأنّ كلّ واجب مطلق بالنسبة إلى السعي في تحصيله ، فلا يكون واجب حينئذ إلاّ ويصدق عليه التعريفان معا ، ولا يحصل الاحتراز عند صدق أحدهما عليه عن الآخر إلاّ بقيد الحيثيّة

ص: 388

فلابدّ من اعتباره ليطّرد التعريفان.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وارد على خلاف التحقيق ، فإنّ الحيثيّة إنّما تصلح قيدا للاحتراز إذا كانت مغايرة لجنس التعريف منوّعة له ، واردة مورد فصل من فصوله ، كما في تعريف الدلالات الثلاث من الحيثيّة الموجبة لعدم انتقاض بعضها ببعض بالنسبة إلى ما يكون مشتركا بين الكلّ وجزئه والملزوم ولازمه وهي في محلّ البحث ليست بهذه المثابة ، ضرورة عدم تغاير مفهومها لمفهوم التعريف ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده مقيّد بما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، لاتّحاد مفهوميهما ذهنا وخارجا فلا وجه لأخذها هنا من جملة أجزاء الحدّ لصدقه بدونها أيضا ، فتكون من باب القيود التوضيحيّة فيما لا حاجة إلى التوضيح (1).

نعم هي معتبرة فيما يضاف إليه الإطلاق والتقييد من المقدّمتين ، فيقال : إنّ الحجّ مثلا مقيّد من حيث كون الاستطاعة من مقدماته ممّا يتوقّف عليه وجوبه ، فالأولى إسقاطها عن الحدّ الّذي راجع إلى بيان الماهيّة وتوضيح المفهوم واعتبارها في المصداق ليصحّ الإطلاق عليه من باب الحمل المتعارف.

وبالجملة : هذا القيد معتبر فيما يطلق عليه الواجب المطلق أو المقيّد من المصاديق الخارجيّة كالحجّ الّذي يطلق عليه المطلق والمقيّد بالاعتبارين الراجعين إلى مقدّمتيه الوجوديّة والوجوبيّة إذ بدونه لا يصحّ الإطلاق ، لا فيما يفهم من الواجب المطلق أو المقيّد من المفهوم الكلّي الّذي يرجع إليه التعريف خاصّة لا إلى إطلاقه على مصاديقه الخارجيّة.

ص: 389


1- هذا محصّل ما استفدناه عن الاستاذ مع تحقيق منّا في بيانه ، ولكنّه عند التحقيق محلّ نظر ، لأنّ الاعتراض المذكور إنّما يتوجّه لو أرجعنا الحيثيّة إلى جنس الحدّين وهو الموصول ، وأمّا لو أرجعناها إلى النفي والإثبات المعتبرين في الصلة الّتي هي بمنزلة الفصل فلا ، إذ يكون مفاد التعريفين حينئذ أنّ المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده من حيث عدم توقّف وجوبه عليها ، والمقيّد ما يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده من حيث توقّف وجوبه عليها ، فيكون فائدة القيد في الحدّ ، الأوّل عدم انتقاضه بالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة في طرده ، لأنّه وإن كان مطلقا لكن لا من حيث عدم توقّف وجوبه عليها بل من حيث عدم توقّف وجوبه على شراء الزاد والراحلة وفائدته في الحدّ الثاني عدم انتقاضه طردا بالحجّ بالنسبة إلى شراء الزاد والراحلة ، فإنّه وإن كان مقيّدا لكن لا من حيث توقّف وجوبه عليه بل من حيث توقّف وجوبه على الاستطاعة ، فيقال : الحجّ بالنسبة إلى الشراء مطلق من حيث عدم توقّف وجوبه ، وبالنسبة إلى الاستطاعة مقيّد من حيث توقّف وجوبه ، فالقيد ممّا لابدّ منه ومفاده في الحدّين ليس إلاّ ما هو مفاده في حدود الدلالات من غير فرق وإيراد الاستاد غير وارد. ( منه ).

ثمّ إنّ جعل مقدّمات الوجود مناطا للإطلاق والتقييد يشعر بخروج الإطلاق والتقييد بالنظر إلى ما ليس بمقدّمة أصلا ، أو ليس بمقدّمة وجوديّة وإن كانت مقدّمة وجوبيّة وهو كما ترى ممّا لا دليل عليه ، إذ لم يظهر إلى الآن كون ذلك إصطلاحا بالقياس إلى هذه المقدّمات ، بل نقول : إنّ المعلوم من طريقتهم والمعهود من اصطلاحهم أنّ الواجب المطلق ما يكون الوجوب ثابتا له بالفعل من غير اشتراط وجوبه بشيء يفرض في عالم الإمكان ، سواء كان ذلك ممّا يتوقّف عليه وجوده كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة أو لا ، كحركة اليد أو الأصبع ونحوها بالنسبة إليها أيضا ، والمقيّد ما لا يكون الوجوب ثابتا له بالفعل بل كان مشروطا بشيء غير حاصل ، سواء كان ذلك الشيء ممّا يتوقّف عليه وجوده - كقدوم زيد عن الحجّ إن علّق وجوب إكرامه عليه ، وكيوم الخميس في الصوم المأمور به مقيّدا بكونه فيه - أو لا كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة وانعقاد العدد في صلاة الجمعة إن لم نجعله شرطا لصحّته وإلاّ فيرجع إلى مقدّمة الوجود أيضا ، فعلى هذا يرد على هذا التعريف من جهة اشتماله على القيد المذكور اشكالان :

أحدهما : خروج الواجب بالنسبة إلى جملة من مقدّمات التكليف كالعقل والبلوغ عن كونه مطلقا ومقيّدا ، لعدم كونهما ممّا يتوقّف عليه وجوده فلا يكون مطلقا لمكان توقّف وجوبه عليهما ولا مقيّدا لعدم كونهما من مقدّمات الوجود وهو باطل ، لأنّ الإطلاق والتقييد قد يلاحظان بالنسبة إلى تلك المقدّمات فيتّصف بكلّ واحد من الوصفين بملاحظتها (1) وجودا وعدما ، إلاّ أن يلتزم بارتكاب تأويل في التعريف ليرتفع ذلك الإشكال.

ص: 390


1- وفيه نظر من جهة كون العقل والبلوغ كالعلم والقدرة ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب من غير فرق. وبيان ذلك : أنّ الواجب قد يتوقّف وجوده على شيء مع قطع النظر عن وصفه العنواني وباعتبار ذاته مع قطع النظر عن الأمر به كما في العلم والقدرة وكذلك الإرادة والسعي في تحصيله إلاّ أنّهما ليسا كالأوّلين من جهة عدم توقّف الوجوب عليهما ، وقد يتوقّف على شيء باعتبار وصفه العنواني وكونه متعلّقا للأمر إمّا من جهة أنّه لا أمر بدونه أصلا ورأسا كما في العقل والبلوغ أو من جهة أنّ ما خلا عنه ليس موردا للأمر ومتعلّقا له كما في الطهارة وغيرها ممّا يعدّ عندهم من شرائط الصحّة فيكون العقل والبلوغ أيضا ممّا يتوقّف عليه وجود الواجب من حيث إنّه واجب ، إذ بدونهما لا وجوب فما يصدر عن الصبيّ والمجنون ليس بواجب لامتناع صدوره عنهما باعتبار فقدهما لوصف الوجوب الّذي هو وصف عنواني في الواجب فعلى هذا القول أنّ الصلاة بالنسبة إلى العقل والبلوغ واجب مقيّد كما أنّها بالنسبة إلى القدرة والعلم واجب مقيّد لتوقّف وجوبها بالنسبة اليهما على ما يتوقّف عليه وجودها متّصفة بوصف الوجوب فالإشكال مندفع بذلك جزما ولا حاجة إلى شيء من التكلّفات المذكورة في المتن. ( منه ).

وهو أن يقال : ليس المراد بالمعرّف ذات الواجب مع قطع النظر عن الامور المذكورة ليلزم المحذور ، بل الواجب مع اعتبار وصف الوجوب فيه فلا يلزم الإهمال بالنسبة إلى تلك الامور من جهة جهالة حالها ، لأنّ الواجب لا يصلح متّصفا بذلك الوصف إلاّ بعد إحراز هذه الامور بأجمعها ، فجنس التعريف حينئذ ما اعتبر فيه تلك الامور ، وما لم يعتبر فيه ذلك كلاّ أم بعضا لم يكن واجبا حتّى يصحّ انقسامه إلى المطلق والمقيّد ، ضرورة أنّهما وصفان لما اعتبر فيه الوصف العنواني ، وهو كما ترى تأويل لا ينطبق عليه اصطلاحهم حيث نراهم يطلقون المطلق والمقيّد على ما يلاحظ معه هذه الامور أيضا وجودا وعدما ، إلاّ أن يلتزم بورود ذلك الإطلاق على سبيل المسامحة والتوسّع ، بدعوى : أنّ هذا التقسيم إنّما حصل على تقدير توجّه الخطاب ، ولا خطاب مع انتفاء هذه الامور كلاّ أم بعضا أصلا حتّى يصحّ اندراجه في أحد القسمين ، والمفروض أنّهما وصفان للخطاب والواجب يتّصف بهما باعتبار كونه مدلولا له.

وهو أيضا في غاية الإشكال لما نراهم يصفون الواجب بهما على سبيل الاستقلال دون التبع ، فلذا يأخذون المقسم فيهما نفس الواجب دون الخطاب ، إلاّ أن يلتزم بتعدّد اصطلاحهم في ذلك فحيث يلاحظ الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى هذه الامور فإنّما يلاحظان في الخطاب ، فالمطلق حينئذ خطاب ورد مطلقا والمقيّد خطاب ورد مشروطا ، وحيث يلاحظان بالنسبة إلى ما عدا تلك الامور فإنّما يلاحظان في الواجب ، فالمطلق حينئذ واجب لم يعتبر لوجوبه قيد والمقيّد واجب اعتبر لوجوبه قيد ، وهو أيضا مشكل من جهة عدم دليل على ذلك والأصل عدم التعدّد.

وثانيهما : خروج حدّ المطلق غير منعكس على تقدير وغير مطّرد على آخر ، وحدّ المقيّد غير منعكس على التقديرين ، إذ لو جعل العبرة في النفي والإثبات في قولهم : « ما لا يتوقّف وجوبه وما يتوقّف وجوبه » بمقدّمة الوجود في قولهم : « على ما يتوقّف عليه وجوده » لا بالتوقّف على مقدّمة الوجود لانتقض التعريفان عكسا.

فالمطلق بما لا يكون وجوبه متوقّفا على ما لا يكون ممّا يتوقّف عليه وجوده كقدوم زيد بالنظر إلى وجوب الصلاة على عمرو بعد الزوال ، والتمكّن عن السير في المسير لوجوب الحجّ ، والمقيّد بما يكون وجوبه متوقّفا على ما ليس بما يتوقّف عليه وجوده كالحجّ والزكاة بالنظر إلى بلوغ المال حدّ الاستطاعة أو النصاب ، مع أنّ الأوّل مطلق والثاني

ص: 391

مقيّد باتّفاقهم نصّا وعملا.

وقضيّة ذلك انتقاض الأوّل طردا بالفرض الثاني وانتقاض الثاني كذلك بالفرض الأوّل وهو باطل بضرورة من اصطلاحهم ، ولو جعل العبرة فيهما بالتوقّف على مقدّمة الوجود حتّى يكون المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على مقدّمة الوجود خاصّة سواء توقّف على ما ليس بمقدّمة الوجود أو لم يتوقّف ، ويكون المقيّد ما يتوقّف وجوبه على مقدّمة وجوده خاصّة ، لانتقض تعريف الأوّل طردا وتعريف الثاني عكسا بالحجّ والزكاة ونحوهما ، لخروجهما عن المقيّد ودخولهما في المطلق ، بل ينتقض الأوّل عكسا والثاني طردا بما لا يتوقّف وجوبه على ما ليس بمقدّمة الوجود ولا مقدّمة الوجوب كما مرّ ، واللوازم (1) كلّها باطلة بالضرورة ، فلابدّ وأن يجعل العبرة فيهما بمجرّد التوقّف من غير إضافته إلى مقدّمة الوجود ولا غيرها.

ويقال : الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء غير مقدّمات التكليف ، والمقيّد ما يتوقّف وجوبه على شيء.

فمن جميع ما قرّرناه ظهر أنّ التعريف الّذي نقلناه عن العميدي أجود من هذا التعريف وأوفق باصطلاحهم.

وبالجملة : الواجب إمّا مطلق بالإضافة إلى كلّ شيء يفرض تقيّد وجوبه به ، بمعنى عدم توقّف وجوبه على شيء سواء كان ذلك الشيء مقدّمة لوجوبه أو مقدّمة لوجوده أو

ص: 392


1- وفيه نظر واضح يظهر وجهه ممّا تقدّم في الحاشية السابقة ، فإنّ ما يتوقّف عليه الوجوب على ما قرّرناه لا يكون إلاّ ما يتوقّف عليه الوجود كائنا ما كان ، وليس ممّا يتوقّف عليه الوجوب ما لا يكون ممّا يتوقّف عليه الوجود ، فالاستطاعة أيضا ما يتوقّف عليه وجود الواجب باعتبار وصفه العنواني. غاية الأمر أنّ توقّف الوجوب مع توقّف الوجود بالنسبة إليها متلازمان ، ضرورة أنّ فرض التوقّف للوجوب عليها يستلزم كونها ممّا يتوقّف عليها الوجود أيضا بعنوان الوجوب فيسلّم حدّ المقيّد طردا وعكسا ، وكذلك حدّ المطلق أيضا إذ يصدق على الصلاة بالنسبة إلى حركة اليد مثلا أنّها ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، ضرورة أنّ توقّف وجوبها عليها فرضا يستلزم كونها ممّا يتوقّف عليه وجودها ، فهي ما يتوقّف عليه وجود الصلاة على تقدير كون وجوبها متوقّف عليها. وبالجملة : المراد بما يتوقّف عليه الوجود في تعريف المطلق أعمّ ممّا كان كذلك محقّقا كالطهارة للمصلّي أو مقدّرا كحركة اليد فيها ، فإنّها على تقدير توقّف الوجوب عليها كان ما يتوقّف عليه الوجود فيصدق على الصلاة إنّما مطلق بالنسبة إليها أى لا يتوقّف وجوبها على الحركة الّتي هي مقدّمة لوجودها بعنوان أنّها واجبة على تقدير توقّف وجوبها عليها ، فليتدبّر فإنّه دقيق هدانا اللّه سبحانه إلى التفطّن به. ( منه عفي عنه ).

لم يكن بشيء من المقدّمتين كما هو الراجح في النظر ، أو مطلق بالإضافة إلى ما عدا مقدّمة الوجوب سواء كان مقدّمة للوجود أو لا - كما اختاره العميدي - أو مطلق بالإضافة إلى مقدّمة الوجود خاصّة - كما عليه العضدي وغيره ممّن ذكروا - وهو أخصّ من الأوّلين كما أنّ الثاني أخصّ من الأوّل ، ولمّا كان من عرّفه بأحد الأخيرين يدّعي تخصيص الاصطلاح بما عدا الأمر الخارج عن المقدّمتين لظهور التعريفين فيه فلا يسمع منه ذلك إلاّ مع الدليل ، والمفروض فقده في المقام بل الدليل على خلافه كما عرفت.

فيترجّح في النظر القاصر كون الأوّل أنسب بمذاق القوم وأوفق باصطلاحهم ، وبمقايسته يعرف المقيّد أيضا وهو ما كان وجوبه موقوفا على شيء مّا سواء كان بواحدة من المقدّمتين أو لم تكن بشيء منهما ، فما يضاف إليه الواجب المقيّد ويعتبر تقييده بالنسبة إليه أعمّ من الأقسام الثلاث ، كما أنّ ما يضاف إليه الواجب المطلق ويعتبر إطلاقه بالنسبة إليه أعمّ من الجميع هذا.

ثمّ إنّه تراهم في أكثر عنوانات المسألة أنّهم يعتبرون فيها قيد الإطلاق راجعا إلى الأمر أو الإيجاب أو الوجوب وقيد المقدوريّة راجعا إلى المقدّمة ، حتّى ذكر جماعة في توجيه الأوّل إنّه لإخراج الواجب المشروط عن العنوان إذ لا نزاع في مقدّماته ، وفي توجيه الثاني إنّه لإخراج المقدّمات الغير المقدورة لخروجها عن المتنازع فيه ، وربّما يرجع ذلك إلى الأوّل ويعلّل الخروج بأنّ النزاع إنّما هو في مقدّمات الواجب المطلق والواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة مشروط ، بل ربّما يؤخذ ذلك التعليل اعتراضا على من اعتبر هذا القيد بعد ما اعتبر القيد الأوّل المخرج للواجب المشروط ، لعدم الحاجة إليه حينئذ.

ولنا على اعتبار كلّ من القيدين كلام يأتي تفصيله عند شرح عبارة المصنّف المشتملة عليهما.

ولا يذهب عليك أنّ انقسام الواجب إلى المطلق والمقيّد إنّما هو بحسب الاصطلاح وإلاّ فهو بحسب العرف واللغة - وفاقا لغير واحد من الأجلّة - حقيقة في المطلقة خاصّة.

لنا : ما تقدّم تحقيقه في بحث المشتقّ من كونه حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ حال حصول النسبة بينه وبين الذات كائنا ما كان ، ومجازا فيما لم تلبّس به بعد اتّفاقا محقّقا ومحكيّا على حدّ الاستفاضة ، فيكون إطلاق الواجب على المقيّد قبل حصول شرطه مجازا بعلاقة ما يؤول لكونه ممّا سيصير واجبا.

ودعوى أنّ إطلاق الواجب على الحجّ ونحوه في مقام عدّ الواجبات حقيقة لعدم صحّة

ص: 393

السلب متّضح الفساد ، لأنّ المراد به هنا أيضا ما تلبّس بالمبدأ بحسب النوع ، لأنّ في النوع من حصل له شرط الوجوب فعلا لا محالة وإن لم يعلم بالتفصيل ، فإطلاق الواجب عليه إنّما هو من جهة كونه ما تلبّس بالمبدأ نوعا ، فلذلك لو أضافه الغير الواجد للشرط إلى نفسه يصحّ له السلب.

أو يقال : إنّ هذا الإطلاق إنّما يرد على الاصطلاح ، ولا ملازمة بينه وبين العرف واللغة.

والعجب عن بعض مشايخنا - دام ظلّه العالي - في تصريحه بما قرّرناه مع ذهابه في الأمر إلى كونه حقيقة في الأعمّ من المطلق والمقيّد وهو الأمر المردّد بينهما القابل لكلّ من اعتباري الإطلاق والتقييد ، فإنّ الجمع بين هذين الكلامين ممّا لا يكاد يمكن ، إذ الواجب ليس له مبدأ إلاّ الوجوب وهو في كونه مفادا للأمر إذا كان أعمّ من المطلق والمقيّد - المعبّر عنهما بالمنجّز والمشروط - فكان في وقوعه مبدأ للواجب أيضا أعمّ ، ضرورة أنّه أثر من الأمر متعلّق بذات الواجب.

وقضيّة ذلك ورود الواجب تارة لما تلبّس بالوجوب المنجّز واخرى لما تلبّس بالوجوب المشروط.

والمفروض أنّهما فردان على طريق الحقيقة ، فلابدّ أن يكون المشتقّ منهما أيضا واردا على طريق الحقيقة في معنييه المستعمل فيهما ، إذ لا يراد بالواجب ما لم يتعلّق به وجوب أصلا حتّى يكون من باب ما لم يتلبّس بعد بالمبدأ.

نعم يتّجه المنع عن الحقيقيّة في الثاني إذا توجّه المنع عن كون الوجوب المشروط فردا حقيقيّا لما يستفاد عن الأمر كما سنحقّقه.

هل الأصل في الواجب أن يكون مطلقا أو مقيّدا؟

وهل الأصل في الوجوب هو الإطلاق أو لا؟ ولمّا كان الوجوب يستفاد تارة من دليل لفظي ، واخرى من دليل لبّي فلابدّ من النظر إلى ما هو من مقتضى الأصل فيهما معا فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : فيما يستفاد من الوجوب من الأدلّة اللفظيّة من مادّتي الأمر والوجوب كانت أو من الصيغة ، فهل الأصل فيه حيثما كان عاريا عن الاقتران بقيد كونه مطلقا أو لا؟ ووهاهنا عنوان آخر ، وهو أنّ الأمر إذا قيّد بشيء فهل الأصل كونه قيدا للواجب أو الوجوب؟ وعنوان ثالث وهو أنّ الأمر إذا اشتمل بحسب اللفظ على ما علم أنّه ليس بمقدّمة وجوده بالمعنى المعروف ، فهل يتقيّد به الوجوب المستفاد منه فيثبت مع حصوله

ص: 394

وينتفي بانتفائه أو لا؟

والظاهر وقوع الكلام في كلّ من الوجوه الثلاث أمّا الأخير فلما يرشد إليه عنوانهم المعروف المعبّر عنه بالأمر المعلّق على كلمة « إن » وسيأتي تقرير الخلاف فيه عند إيراد المصنّف البحث عنه.

وأمّا الثاني فهو الّذي صار السيّد فيه - على ما يساعده ظاهر عبارته الّتي نقلها المصنّف - إلى التوقّف التفاتا إلى ورود أوامر الشريعة على قسمين الموجب لدورانه في محلّ الاشتباه بين تقييدين ، والباقون يظهر منهم المخالفة والبناء على ترجيح أحدهما على الآخر ، وسيأتي الإشارة إلى تحقيق الحال فيه أيضا.

وأمّا الأوّل : فهو النزاع المعروف المبنيّ على كون الأمر المطلق حقيقة في الواجب المطلق خاصّة أو فيه وفي المقيّد على طريق الاشتراك لفظا أو معنى؟ وعليه فانفهام المطلق منه هل هو من باب الانصراف أو الإطلاق وعدم التقييد بترك ذكر القيد معه؟ وجوه بل أقوال ، أظهرها وفاقا لجماعة من فحول الأعلام الأوّل ولعلّه المشهور فيما بينهم.

لنا على ذلك : تبادر الإطلاق عند الإطلاق ، وهو أمارة الحقيقة والأصل فيه كونه وضعيّا ، مضافا إلى عدم استحقاق العبد المبادر إلى امتثال الأمر للذمّ مع قيام احتمال توقّف وجوبه على شيء غير حاصل ، وإلى استحقاقه الذمّ لو أخّر الامتثال معتذرا بقيام الاحتمال المذكور.

والفرق بينه وبين الأوّل - مع رجوعه إليه - واضح يلتفت إليه المتأمّل ، فلا يرد أنّه تكرار في دليل واحد.

ويدلّ عليه أيضا صحّة السلب عمّا قيّد وجوبه قبل حصول شرطه ، فيصحّ أن يقال : « إنّه ليس بواجب الآن ، ولا بلازم ، ولا بمأمور به » وهو من أقوى علائم الوضع.

لا يقال : إنّه لا ملازمة بين الموادّ والصيغة كما في السؤال وكذلك الالتماس فإنّه ليس بمأمور به مع أنّ الصيغة تستعمل فيهما حقيقة.

لأنّا نقول : فرق واضح بين ما ذكر وبين محلّ البحث ، فإنّ صحّة السلب ثمّة من جهة انتفاء قيد « العلوّ » عن السؤال والالتماس المعتبر في مفهوم الأمر ، وصدق الصيغة عليهما حقيقة إنّما من جهة عدم اعتبار ذلك القيد في مفهومها.

وأمّا هنا فيصحّ السلب وإن صدرت الصيغة عن العالي على جهة الاستعلاء وليس ذلك إلاّ من جهة انتفاء مفهوم الوجوب الّذي هو الموضوع له في الصيغة.

ص: 395

والسرّ في ذلك أنّ الوجوب عبارة إمّا عن الطلب المتأكّد أو عن الطلب المتفصّل بالمنع عن النقيض ، وظاهر أنّ الطلب والمنع مفهومان فعليّان (1) والمقيّد قبل حصول الشرط خال عنهما ، فيكون استعمال الصيغة فيما لا وجوب له بهذا المعنى مرادا بها الطلب التقديري المشروط بحصول ما يوجب عدم حصوله عدم تحقّق الطلب الفعلي مجازا ، لأنّه حينئذ خلاف ما وضع له الصيغة.

فالاعتراض على ما ذكرناه من التبادر - بما في الهداية - من أنّه تبادر إطلاقيّ حاصل من ظهور الإطلاق لكون التقييد على خلاف الأصل كما هو الحال في سائر الإطلاقات ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، من جهة ابتنائه على قلّة التدبّر لوضوح الفرق بين محلّ البحث وسائر الإطلاقات ، فإنّ المطلق والمقيّد ثمّة وصفان للّفظ ويفارقان بحسب المعنى مفارقة اللابشرط وبشرط شيء ، وهنا وصفان للمعنى ويفارقان مفارقة بشرط شيء ، وبشرط شيء مناقض للشيء الأوّل ، لما اعتبر في مفهوم الأوّل من الطلب الفعلي وفي مفهوم الثاني من الطلب التقديري وهو ليس بفرد من الأوّل ، وكونه فردا من الطلب المطلق لا يجدي لكونه قدرا مشتركا بين المفهوم الحقيقي والمفهوم المجازي ، فلذا يصحّ لفاقد الشرط القول بأنّ الحجّ ليس بواجب عليّ ، أي ليس بمطلوب منّي طلبا حتميّا مع ثبوت الطلب التقديري في حقّه جزما ، فلولا عدم كفاية الطلب التقديري في الصدق الحقيقي لما صحّ ذلك.

ومن البيّن أنّ المأخوذ في مفهوم الأمر ما هو من ماهيّة الطلب حقيقة والتقديري ليس منها فليس بداخل في مفهومها ، فالمطلق والمقيّد هنا متناقضان وفي المقيس عليه متصادقان ، لكون الأوّل كلّيّا صادقا على الثاني الّذي هو من جزئيّاته ولو إضافيّا ، وإطلاق ثبوت الطلب في الأوّل من قسمي المقيس بالنسبة إلى حالتي وجود ما يظنّ كونه شرطا وعدم وجوده إنّما هو من لوازم فعليّته حين الخطاب لا أنّ الملحوظ حين الوضع هو الطلب المطلق ، كما أنّ تقيّد ثبوته بحالة وجوده في قسمه الثاني من لوازم تقديريّة الطلب بخلاف المقيس عليه ، فإنّ الإطلاق فيه من جهة كون المسمىّ بالوضع هو الماهيّة المطلقة والتقييد من جهة ما ينضمّ إليها ممّا يوجب تشخّصها وكون ما يحصل منهما فردا لها والمقيّد

ص: 396


1- ولنا في تحقيق هذا المطلب كلام أوضح ممّا ذكر هنا أوردنا في البحث في حكم الواجب بالنسبة إلى النفسي والغيري وإن شئت فارجع إليه ، لتنتقل إلى ما حقيقة المقصود ولقد ذكرناه بعد ما أجبنا عن دليل من يخاصمنا ثمّة في دعوى كون الواجب مطلقا مجازا في الغير أيضا. ( منه عفي عنه ).

في المقيس ليس بهذه المثابة ، مع أنّ تبادر الإطلاق في المقيس عليه إن اريد به تبادر الماهيّة المطلقة فهو تبادر لعين الموضوع له فكيف يقال : بأنّه تبادر إطلاقي.

وإن اريد به تبادر الشمول البدلي بالنسبة إلى أفراد تلك الماهيّة نظرا إلى حكم العقل به لئلاّ يلزم تأخير البيان الموجب للإغراء بالجهل ، فهو ليس مناط الاستدلال لأنّه تبادر ثانويّ يحصل عقيب تبادر الماهيّة المطلقة فلا يصحّ موردا للمناقشة ، مع أنّ المقيّد هنا بما هو مقيّد لا كلام لأحد في كونه معنى مجازيّا للمطلق بما هو مطلق.

نعم لهم كلام في أنّ المراد به في مقام التقييد هل هو المقيّد بما هو مقيّد ليلزم المجاز ، أو الماهيّة المطلقة والخصوصيّة إنّما تفهم من الخارج ليكون الاستعمال حقيقة؟

وهذا الكلام كما ترى لا يجري في محلّ الكلام ، لأنّ المقيّد ليس فردا من المطلق لينوط حقيقيّة الاستعمال ومجازيّته بإرادة الخصوصيّة من اللفظ وعدمها.

والعجب عن بعض الأفاضل كيف يتعلّق بما مرّ من الاعتراض الّذي لا يليق صدوره عمّن دونه بمراتب فضلا عنه.

وأعجب منه قوله - عقيب ما تقدم - : « ومن البيّن أنّ تقييد الأمر بشرط أو شرائط لا يزيد على تقييد المأمور به بذلك مع إطلاق الأمر ، فكما أنّ الثاني يكون على وجه الحقيقة فكذا الأوّل من غير فرق أصلا ، فإنّ المأمور به مفهوم لا بشرط فلا ينافيه ألف شرط والواجب المطلق مفهوم بشرط شيء فينافيه ما بشرط شيء آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ « الرقبة » في « أعتق رقبة » إنّما وضعت للماهيّة اللابشرط ، لا بمعنى كونه قيدا لها بل بمعنى العراء عن جميع الشروط والقيود المعتبرة في أفرادها ، فإذا قيل « رقبة مؤمنة » لم يكن التقييد المذكور يستلزم تجوّزا فيها لأنّ المراد بها حينئذ هو الماهيّة حال وجودها في ضمن فردها المؤمنة ، والحالة مفهومة عن تركيبها مع القيد ، كما أنّ الخصوصيّة مرادة من القيد فلا يدخل في الموضوع له شيء ولا يخرج عنه شيء.

نعم ربّما نتردّد فيما لو كان القيد قد ورد بمقيّد منفصل مؤخّر وروده عن المطلق ، بناءا على جعله بيانا له إذا لم نتحقّق عن بناء العرف أنّهم يريدون من اللفظ حين إطلاقه مع البناء على إيراد قيده في الزمن المتأخّر الماهيّة مع وصفها بما يقتضيه ذلك القيد من أوصاف أفرادها ، فيكون يلزم أن يتجوّز فيه لا محالة أو الماهيّة المطلقة حال وصفها بالوصف المذكور فيكون يلزم كونه على وجه الحقيقة ، بخلاف ما لو كان التقييد بمقيّد

ص: 397

متّصل ، فإنّ فهم العرف وبناءهم قائم فيه قاض بعدم تعلّق الإرادة من اللفظ إلاّ بالماهيّة المطلقة.

وأمّا في محلّ البحث ، فمن البيّن أنّ تقييد المطلق بما فرض مع الأمر من الشرط يوجب أن يخرج عنه شيء ممّا اعتبر في مفهومه ويدخل مكان ذلك شيء آخر مناقض له ، وهو على تقدير كونه الموضوع له خاصّة يستلزم التجوّز جزما ، ولو فرض معه الوضع له مع ذلك القيد أيضا لكان قولا بالاشتراك لفظا وهو لا يرضى به ، وكونه من باب الاشتراك المعنوي ممّا لا يكاد يعقل للقطع بانتفاء ما يصلح قدرا مشتركا بين القسمين وفقد ثالث يكون جامعا لهما ، لأنّ الطلب إمّا تنجيزي أو تعليقي ولا ثالث بينهما.

وعلى فرض ثبوته فالوضع له مقطوع بعدمه لعدم وقوع استعمال الأمر إلاّ في أحدهما بالخصوص ، فلو صحّ الفرض يلزم المجاز بلا حقيقة في غاية الكثرة وهو كما ترى.

فمن هنا تبيّن أنّ ما في كلام بعض الفضلاء من « أنّ مطلق الأمر موضوع للأعمّ من القسمين وأنّه حقيقة مع كلّ من الاعتبارين » وارد على خلاف التحقيق إن كان غرضه دعوى الوضع للقدر المشترك ، وإن كان غرضه دعوى الوضع للمطلق بتوهّم أنّه أعمّ من المقيّد فيكون اللفظ حقيقة مع كلّ من الإطلاق والتقييد كما في سائر المطلقات بالقياس إلى مقيّداتها فقد اتّضح ضعفه ، بأنّ المطلق هنا مبائن للمقيّد لا أنّه أعمّ منه جتّى يندرج فيما ذكر.

كما يتّضح أيضا أنّ ما أفادنا بعض مشايخنا - دام ظلّه - من أنّ الحقّ في صيغة الأمر كونها موضوعة للقدر المشترك بين المطلق والمقيّد وهو الماهيّة المهملة القابلة لكلّ من الإطلاق والتقييد من باب الاشتراك ، مع كون انفهام المطلق منها حيثما اطلقت مجرّدة عن القيد إنّما هو من باب الإطلاق وترك ذكر البيان في مقام الحاجة ، موردا على من توهّم كونه من باب الانصراف كما في المطلقات المنصرفة إلى بعض أفرادها بأنّ الانصراف لابدّ وأن ينشأ من غلبة الوجود أو غلبة الإطلاق والاستعمال.

ولا ريب أنّ الغلبة بكلا معنييها منتفية هنا لعدم غلبة بالنسبة إلى المطلق الّذي هو أحد فردي مدلول الأمر لا من حيث الوجود ولا من حيث الاستعمال ، ليس بسديد لابتنائه على أصل فاسد علم فساده ، ولعلّ الاشتباه نشأ عن الانس في المطلق والمقيّد في باب المطلقات إسما وحكما غفلة عن أنّ ذلك اصطلاح مبائن للاصطلاح الآخر المعروف ، فالقول بالاشتراك المعنوي بكلّ من وجهيه بالنظر إلى انفهام المطلق ساقط.

ص: 398

وأمّا القول بالاشتراك اللفظي فعزاه كثير منهم إلى السيّد ودليله - على ما في كلام جماعة منهم - الاستعمال ، فإنّ الأمر يستعمل تارة في الإطلاق واخرى في التقييد فيشترك بينهما ويتوقّف في التعيين إلى أن يجد دلالة ، وجوابه بعد ملاحظة عموم الاستعمال واضح.

مضافا إلى أولويّة المجاز من الاشتراك مع وجود بعض خواصّه كما لا يخفى.

والاعتراض عليه : بأنّه لو صحّ ذلك لكان جميع الأوامر الواردة في الشريعة مجازات ، لوضوح كونها مقيّدة بشرائط عديدة كما في كلام بعض الأفاضل.

يدفعه : أنّ المراد بالشرائط العديدة إن كان شرائط التكليف الأربع ، ففيه : أنّ الأوامر المقيّدة بها لا تتعلّق إلاّ بواجدي تلك الشرائط ، فلا ترد في الخطابات إلاّ مطلقة ضرورة انقلاب المقيّد عند وجود شرطه مطلقا ، وإن كان ما عدا تلك الشرائط.

ففيه : أنّ الأوامر المقيّدة بذلك ليس في الكثرة على حدّ يوجب ما ذكر ، وعلى تقديره نقول إنّها أيضا لا تتوجّه إلاّ إلى واجديه كما صرّح به المحقّقون.

ثمّ يبقى الكلام في نسبة هذا القول إلى السيّد ، فإن كانوا قد استفادوه عن تصريح منه أو كلام له ظاهر فيه فلا كلام.

وإن كانوا استفادوه عن عبارته في الذريعة والشافي الّتي نقلها المصنّف ، ففيه : أنّ غاية ما يستفاد من تلك العبارة إنّما هو التوقّف فيما لو ثبت مع الأمر شرط واشتبه فدار بين كونه قيدا لنفس الأمر أو للمأمور به دورانه بين التقييدين.

ومن البيّن أنّ التوقّف بهذا المعنى غير ملزوم للاشتراك ، بل القول به يجامع سائر الأقوال أيضا ، وذلك أنّه في تلك العبارة بعد ما قسّم الأوامر الواردة في الشريعة على قسمين :

أحدهما : ما لا يقتضي الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته ، كالأمر بالزكاة والحجّ الّذي لا يقتضي وجوب تحصيل النصاب ولا تحصيل الاستطاعة علينا من جهة كونه مشروطا ، والواجب المشروط لا وجوب في مقدّمات وجوبه اتّفاقا.

والآخر : ما يقتضي إيجاب الشيء إيجاب مقدّماته كالأمر بالصلاة ونحوها بالنسبة إلى الوضوء ، فرّق في مقدّمات القسم الثاني بين السبب فقال فيه بالوجوب وبين غيره فلم يقل فيه بالوجوب ، لا من جهة أنّه مفصّل في المسألة بين السبب وغيره كما هو المعروف منه ، بل من جهة أنّ غير السبب من المقدّمات متردّد بين كونه مقيّدا للأمر شرطا للوجوب أو مقيّدا للمأمور به شرطا للواجب ، وجعل سببيّة بعض المقدّمات قرينة على كونه قيدا

ص: 399

للمأمور به ودليلا على تعيين تقييد الواجب بخلاف غيره كالطهارة للصلاة ، فإنّها مع كونها مقدّمة لوجود الصلاة محتملة لكونها مقدّمة لوجوبها أيضا كالزكاة والحجّ ، فلا يجب علينا الصلاة إلاّ إذا تكلّفنا بتحصيل الطهارة ، وعدم كونها شرطا للوجوب فتكون واجبة علينا بوجوب الصلاة ، والقاعدة في مثل ذلك يقتضي الرجوع إلى الخارج فإن وجد منه شيء يقضي بأحد الأمرين يؤخذ به جزما ، وإلاّ يتوقّف لدوران شرط الوجود بين كونه شرطا للوجوب وعدمه ، من جهة فقد القرينة الدالّة على كون الشيء مع كونه شرطا للوجود شرطا للوجوب أيضا أو شرطا للوجود الصرف وهو موضع التوقّف من حيث الاجتهاد ، والرجوع إلى الاصول العمليّة من حيث الفقاهة ، من غير فرق في ذلك بين القول بالاشتراك ولا غيره حتّى القول بالحقيقة والمجاز ، فمجرّد التوقّف لا يقضي بالاشتراك كما زعموه لكونه أعمّ.

لا يقال : قضيّة ما ذكر في تقرير الاشتباه كون الكلام في مقدّمة كونها شرطا للوجود محرز وإنّما الشبهة في اعتبار أمر زائد وهو كونها مع ذلك شرطا للوجوب أيضا ، ومثل ذلك ليس من مواضع التوقّف لاندفاع الشكّ من جهة كونه في الحدوث بالأصل ، فيبقى احتمال كون الواجب مطلقا والمقدّمة شرطا للوجود سليما عن المعارض.

لأنّا نقول : ليس المراد بشرط الوجود هاهنا ما هو المعهود منه أعني كونه شرطا للوجود الصرف ، حتّى يقال : إنّ كونه شرطا للوجود ثابت وإنّما الشكّ في كونه شرطا للوجوب أيضا فيدفع بالأصل ، ضرورة استحالة كون شرط الوجود الصرف شرطا للوجوب أيضا ، لاستلزامه كون الشيء واجبا وغير واجب ، فإنّ ذلك من جهة كونه شرطا للوجود الصرف يستدعي كون المشروط به بمجرّد الأمر به واجبا وإن لم يكن حاصلا ، ومن حيث كونه شرطا للوجوب يستلزم عدم كونه واجبا بمجرّد الأمر ما دام غير حاصل ، ويلزم ذلك بالنسبة إلى الشرط أيضا على القول بوجوب المقدّمة وهو كما ترى ممّا لا يتعقّل إلاّ على تجويز الجمع بين النقيضين ، بل المراد به الأمر المجمل الدائر بين شرط الوجود بهذا المعنى وشرط الوجوب المقابل له الّذي يعبّر عنه بالقدر المشترك وهو شرط الصحّة ، فإنّ كون الشيء شرطا لصحّة المأمور به إمّا باعتبار أنّه قيد فيه كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، أو قيد في الأمر كاستطاعة الحجّ.

وعلى كلا التقديرين يلزم من انتفائه انتفاء الصحّة ، ضرورة أنّها عبارة عن موافقة الأمر فهو على فرض كونه قيدا في المأمور به لا موافقة للأمر بدونه.

ص: 400

وعلى الفرض الآخر لا أمر بدونه فلا صحّة على الفرضين ، فهو من جهة كونه أمرا مجملا مردّدا بين كونه شرطا للوجود الصرف أو شرطا للوجوب الصرف لابدّ فيه من التوقّف ، لكون الشبهة من باب الشكّ في الحادث لا الحدوث حتّى يكون للأصل فيه مجال ، ونظير ذلك الإقامة في السفر للصوم الفائت المضيّق وقته ، فإنّهم بعد ما اتّفقوا على كونها شرطا للصحّة اختلفوا في كونها قيدا للمأمور به أو للأمر ، فعلى الأوّل يكون المأمور به هو الصوم الصادر عن المقيم ، وعلى الثاني لا يصير الصوم واجبا إلاّ على المقيم.

وبعبارة اخرى : وقع الخلاف في كون الإقامة قيدا لمادّة الأمر في قوله : « صم » أو هيئته وعن المدارك ذهابه إلى الأوّل ، ومن هذا الباب نصب الإمام لإقامة الحدود الّذي بنى المعتزلة من العامّة على وجوبه على الرعيّة لكونه مقدّمة للواجب الّذي هو إقامة الحدود ، فإنّه شرط لصحّة الإقامة بلا إشكال ، وإنّما الإشكال في كونه مع ذلك قيدا للمأمور به فيكون الواجب حينئذ الإقامة الصادرة عن الإمام المنصوب ، أو قيدا للأمر فلا تصير الإقامة واجبة إلاّ بعد نصب الإمام.

ولذا أجاب السيّد عن الاستدلال المعتزلة على وجوب نصب الإمام على الرعيّة بكونه مقدّمة للواجب.

وحاصل الجواب : أنّ الاستدلال إنّما يستقيم لو ثبت أنّ الأمر بإقامة الحدود مطلقا ، بدعوى كون نصب الإمام مقدّمة لوجودها الصرف وهو في حيّز المنع ، لجواز كون الأمر بها مشروطا بوجود الإمام فلا تجب إلاّ عند وجوده ، فلا يكون نصبه واجبا على الرعيّة من جهة كونه شرطا للوجوب.

فمحصّل ما قرّرناه من البداية إلى النهاية : أنّ توهّم التوقّف إنّما ينشأ عن دوران الأمر بين التقييدين ، للقطع بأنّ في الأمر بشيء له شرط صحّة تقييدا مّا ولكنّه مردّد بين كونه في جانب المأمور به أو في جانب الأمر ، فيكون كلّ فيه على نهج سواء من دون اختصاص له بجهة الاشتراك حتّى يقال : بأنّ السيّد القائل به قائل بالاشتراك ، فلا وجه لما في كلام المشهور من إسناد هذا القول إلى السيّد.

نعم هاهنا شيء يكون الأخذ به انتصارا للمشهور ، وهو أنّ السيّد ذكر في جملة كلامه الّذي نقله المصنّف أمثلة - كنصاب الزكاة واستطاعة الحجّ - يمكن أن يستفاد منها كون توقّفه فيما إذا دار الأمر بين تقييد الأمر وعدمه بما علم بكونه ليس من مقدّمات الوجود

ص: 401

الصرف لا بين التقييدين.

والفرق بأنّ الشكّ على الأوّل إنّما هو في حدوث التقييد وعدمه ، وعلى الثاني في تعيين الحادث مع القطع بالحدوث ، ووجه استفادة ذلك عدم كون النصاب والاستطاعة من مقدّمات الوجود ، لعدم توقّف حصول الحجّ والزكاة في الخارج عليهما ، بل هما من مقدّمات الوجوب فيكون مورد التوقّف من هذا الباب ، بأن يكون الشكّ في شرطيّة شيء للوجوب مع العلم بعدم كونه شرطا للوجود أصلا ، فيدور الأمر حينئذ بين إطلاق الأمر وتقييده ، ولا يجوز التوقّف إلاّ من القائل بالاشتراك ، ولا ينفعه أصل عدم التقيّد وإنّما ينفع غيره من أصحاب سائر الأقوال.

والفرق أنّه من جهة الاشتراك يرى اللفظ مجملا بالنسبة إلى احتمالي الإطلاق والتقييد ، لثبوت الوضع لكلّ منهما فلا ظهور لأحدهما بالنسبة إلى الآخر ، بخلاف غيره لظهور الإطلاق عنده ولا سيّما على المختار ، وأنّ التقييد احتمال ينفيه الأصل.

ولكن يدفعه : أنّ ذلك احتمال يأباه كلامه مفادا ومساقا ، كيف وقد قسّم الأمر بالنسبة إلى المقدّمات المحرز كونها مقدّمات على كونه مشروطا مقيّدا وجوبه بوجود تلك المقدّمات ، ومطلقا مقيّدا وجود متعلّقه بحصول تلك المقدّمات.

وظاهر أنّ مورد الاشتباه مردّد بين القسمين ، فيكون الأمر فيه دائرا بين تقييدين لثبوت التقييد في كلّ من القسمين ، ولا ينافيه ما ذكر من الأمثلة لأنّها أمثلة ذكرها للقسم الأوّل ، وإلاّ فيعارضه ما ذكره أيضا من جملة أمثلة ما يكون شرطا للوجود الصرف كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

وعلى أيّ تقدير كان فمنشأ التوقّف إن كان هو الاشتراك بالنظر إلى الإطلاق والتقييد فقد اتّضح فساده بفساد مبناه كما تقدّم ، وإن كان هو الدوران بين التقييدين ولا مرجّح لأحدهما ، فيدفعه : رجحان تقييد الواجب لغلبة وقوعه في الشرعيّات وغيرها ، مضافا إلى أنّه أهون من تقييد الوجوب ، لأنّ إطلاق الأمر على تقديره شمولي لكونه إطلاقا في الأحوال فيشمل جميع الأحوال ، وإطلاق الواجب على تقديره بدليّ في الأفراد فلا يشمل إلاّ الواحد على سبيل البدليّة ، فيدور الأمر بين تقييد المطلق الشمولي وتقييد المطلق البدلي والثاني أهون فيقدّم ، مع أنّه على المختار راجع إلى المجاز والتقييد ، بناءا على ما قرّرناه من عدم استلزام نفي التقييد في المطلقات تجوّزا بخلافه في الأمر ، فإنّه إخراج للّفظ عن

ص: 402

حقيقته إلى مجازه فيرجّح تقييد المأمور به حذرا عن المجاز ، وقد قرّر في محلّه أنّ التقييد أولى من المجاز.

وقد يذكر هنا وجه آخر لترجيح هذا التقييد وهو أنّ حمل المطلق على الإطلاق إنّما هو من جهة السكوت في مقام البيان ، حذرا عن تأخير البيان عن وقت الحاجة المستلزم للإغراء بالجهل ، وإنّما يستقيم ذلك في جانب الوجوب بعد تقييد الواجب بما هو محلّ الشبهة من الشرط ، إذ لو لم نقل بكون المراد بالأمر المطلق الشامل لكلّ من حالتي وجود الشرط وعدمه الإطلاق لمجرّد كون المراد به المقيّد الغير الشامل إلاّ لحالة وجود الشرط للزم الإغراء بالجهل وهو قبيح على الحكيم ، فيكون سكوته عن البيان في مقام البيان دليلا على إرادة الإطلاق ، فتعيّن كون الشرط قيدا للواجب بخلاف ما لو قيّدنا الوجوب بذلك الشرط فلا يجب الحكم بكون المراد بالمأمور به الّذي ظاهره الإطلاق هو الإطلاق ، إذ لولاه مرادا لما يلزم شيء ولا ينافي حكمة الحكيم ، لأنّ السكوت عن البيان إنّما ينافي الحكمة إذا استلزم الإغراء بالجهل وهو غير لازم منه إلاّ في وقت الحاجة ، والواجب إذا كان وجوبه مشروطا ليس له وقت حاجة ما دام مشروطا لعدم كونه واجبا بالفعل ، وإنّما يصير واجبا بعد وجود شرط الوجوب والمفروض في المقام عدمه.

فالسكوت عن البيان بالنسبة إلى الواجب لا يقضي بإرادة الإطلاق بخلافه بالنسبة إلى الوجوب ، فلابدّ حينئذ من تقييد الواجب حملا للأمر على الإطلاق لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الكلام لا يجري في مثل إقامة الحدود بالنسبة إلى نصب الإمام ، فإنّه لو كان شرطا للوجوب لكان حدوثه شرطا له ، ولو كان شرطا للواجب لكان الشرط بقاءه دون حدوثه خاصّة ، فيدور الأمر حينئذ بين شرطين لمشروطين لا بين مشروطين في شرط واحد ، فحينئذ لا مجال من التوقّف للزوم الإغراء بالجهل لو لا الحمل على الإطلاق في كلّ من جانبي الوجوب والواجب لو اريد بهما خلاف ما يظهر منهما.

أمّا في جانب الوجوب فظاهر ، وأمّا في جانب الواجب فلعدم كفاية تقييد الوجوب بحدوث الإمام في إفادة كون الواجب مشروطا بوجود الإمام وبقائه.

ويظهر الثمرة فيما لو تحقّق شرط الوجوب فقط بفرض حدوث الإمام المتعقّب بانعدامه ، فلابدّ من بيان ذلك الشرط أيضا لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، وسكوته عنه دليل على عدم كونه شرطا بخلاف ما لا يكون من هذا القبيل ، فإنّ تقييد الوجوب بالشرط

ص: 403

المردّد في غير هذا المثال كاف في إفادة كونه شرطا للواجب ، إذ مع وجوده يتحقّق ما هو شرط لكليهما ومع عدمه لا وجوب حتّى يحتاج الواجب إلى بيان ما هو شرط له.

ولا يخفى ما فيه من الوهن ، فإنّ احتمال كون الواجب بعد تقييد الوجوب بذلك الشرط مقيّدا غير مناف للحكمة إن كان بالنسبة إلى هذا الشرط أيضا ، حتّى يكون مع وقوعه شرطا للوجوب شرطا للوجود أيضا ، فهو - مع أنّه مستحيل عقلا لاستلزامه اجتماع النقيضين كما تقدّم - خلاف الفرض ، لأنّ المفروض دورانه بين كونه في الواقع شرطا للوجود الصرف أو الوجوب الصرف ، إذ المقطوع به تقييد أحدهما مع بقاء الآخر على إطلاقه ، فلو فرض رجوعه إلى الوجوب تعيّن الواجب مطلقا ، كما لو فرض رجوعه إلى الواجب بقي الوجوب مطلقا فلا إغراء بالجهل على كلا التقديرين ، وإن كان بالنسبة إلى شرط آخر محتمل ثبوته فهو أيضا خلاف الفرض ، وعلى تقدير تسليمه فهو غير مطّرد في جميع صور المسألة ، فيبقى الإشكال غير مندفع بالنسبة إلى ما لا يحتمل فيه ذلك.

المقام الثاني : في الوجوب المستفاد من الأدلّة اللبيّة كالإجماع ونحوه ، كما لو انعقد الاجماع على وجوب صلاة الجمعة وشكّ في اشتراط وجوبه بوجود الإمام حتّى تكون الصلاة واجبا مقيّدا على تقدير ومطلقا على تقدير آخر ، فهل الأصل فيه كونه مطلقا أو مقيّدا أو لا أصل في البين؟

وظاهر أنّه لا مرجع حينئذ إلاّ الاصول العمليّة من أصلي البراءة والاشتغال والاستصحاب ، والمقامات تختلف باختلاف جريانها فيجري في بعضها ما يقضي من الاصول باشتراط الوجوب ، وفي بعضها ما يقضي منها بإطلاقه.

وضابطه أنّ الشكّ في الإطلاق والتقييد راجع لا محالة إمّا إلى الشكّ في المكلّف به أو في التكليف.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون في حدوث التكليف أو بقائه ، فإن كان الأوّل فهو من مجاري أصالة الاشتغال ، ومقتضاها كون الشيء شرطا للوجود فيكون الواجب مطلقا.

وإن كان الثاني فهو من مجاري أصالة البراءة ومقتضاها كون الشيء شرطا للوجوب فيكون الواجب مقيّدا.

وإن كان الثالث فهو من مجاري الاستصحاب ومقتضاه عدم اشتراط الوجوب والوجود بشيء فيكون الواجب مطلقا أيضا.

ص: 404

وتفصيل ذلك : أنّ الشكّ إن كان في اشتراط الوجوب بحدوث شيء غير حاصل فهو من مجرى أصل البراءة وهو يقضي بالاشتراط ، لأنّ الشكّ في شرطيّة شيء غير حاصل للوجوب يرجع إلى الشكّ في التكليف حينما لم يكن ذلك الشيء موجودا ، وقضيّة الأصل براءة الذمّة عن التكليف وهو ملزوم لكون

الواجب مشروطا.

فإن قلت : الاشتراط قيد زائد وجوديّ ينفيه أصالة العدم ، فلا معنى للتمسّك بأصل البراءة في إثباته.

قلت : الاشتراط وإن كان بظاهره قيدا وجوديّا ولكنّه بحسب الواقع قيد عدمي وهو عدم الوجوب ، لأنّ الشكّ في اشتراط شيء في الوجوب كوجود الإمام لوجوب صلاة الجمعة ملزوم للشكّ في الوجوب والأصل عدمه ، وهو ملزوم للاشتراط وهو المراد بقولنا : « إنّ مقتضى أصل البراءة هو الاشتراط » ، على أنّ المراد بالأصل العملي ما يجب أن يكون العمل على طبقه ، وأصالة الاشتراط ما يطابقه بناء العمل وهو الحكم بعدم الوجوب ، فلا يرد توهّم كون الأصل مثبتا ، فليتدبّر.

وإن كان الشكّ في بقاء الوجوب بعد حدوثه بحدوث ما هو شرط له مع تعقّبه بانعدامه فورا ، كأن يكون مرجع الشكّ في بقاء الوجوب إلى الشكّ في أنّ هذا الشيء كما كان حدوثه شرطا للوجوب فهل بقاؤه أيضا شرط لبقاء الوجوب ، حتّى يلزم منه الحكم بعدم البقاء لانتفاء شرطه ، نظرا إلى أنّ الشكّ إنّما حدث بعد انعدام ما يصلح بقاؤه شرطا للبقاء ممّا كان حدوثه شرطا لحدوث الوجوب أو لا يكون بقاؤه شرطا ، حتّى يتّجه الحكم بالبقاء نظير التغيّر بعد زواله بنفسه في الماء المتغيّر بالنجاسة عند الشكّ في بقاء النجاسة وارتفاعها ، المسبّب عن الشكّ في أنّ بقاء التغيّر أيضا شرط للبقاء كما كان الحدوث شرطا للحدوث أو لا؟

وظاهر أنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب ، وهو يلازم كون الواجب مطلقا.

وإن كان الشكّ في وجوب إبقاء شرط الوجوب بعد وجوده ، كالإقامة في السفر على تقدير كونها [ شرطا ] لوجوب الصوم الفائت أو المنذور ، فمقتضى الاشتغال بالصوم الثابت بوجودها المستدعي للقطع بالامتثال لزوم الإبقاء ، إذ القطع لا يحصل إلاّ مع الإتيان بالصوم مشتملا عليها ، فيجب كون الصوم في المثال المذكور حاصلا في حال الإقامة ، إذ بدونها لا يتأتّى ذلك جزما وهو يلازم كون الواجب أيضا مطلقا.

هذا كلّه إذا دار الأمر بين الإطلاق والتقييد ، وأمّا إذا دار بين التقييدين أعني تقييد

ص: 405

الوجوب أو الواجب فلابدّ حينئذ من إعمال واحد من أصلي البراءة والاشتغال ، إذ الشكّ المفروض إن حدث قبل حصول الشرط يحكم بكونه شرطا للوجوب ، أخذا بموجب أصل البراءة النافي لاحتمال الوجوب اللازم للاشتراط ، وإن كان بعد حصوله يحكم بكونه شرطا للوجود حينئذ عملا بمقتضى أصل الاشتغال ، فالقطع بالامتثال بعد ثبوته بالاشتغال لا يحصل إلاّ به.

المطلب الثاني : في انقسام الواجب إلى النفسي والغيري

المطلب الثاني

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى النفسي والغيري

واعلم أنّ الواجب قد يؤمر به للتوصّل إلى غاية مأمور بها ، كالصلاة بالقياس إلى التقرّب الّذي يعدّ غاية الغايات المأمور به كتابا وسنّة بل إجماعا وعقلا.

وقد يؤمر به لأجل غاية غير مأمور بها ، كالصوم بالإضافة إلى تصفية الباطن الّتي لم تؤمر بها إلاّ أنّها غاية مطلوبه من الأمر بالصوم.

وقد يؤمر به لأجل التوصّل إلى واجب آخر بالوجوب الفعلي كالوضوء بالنظر إلى الصلاة المأمور بها بعد دخول الوقت.

وقد يؤمر به لأجل التوصّل إلى ما سيصير واجبا كالأمر بالمقدّمات قبل الأمر بذي المقدّمات لعدم دخول وقته ، على القول بجواز تقدّم وجوبها على وجوب ذيها ومنه الغسل عن الجنابة في ليلة الصيام ، فهذه أربعة صور :

أوّلها وثانيها من الواجب النفسي ، وثالثها من الغيري ، وأمّا الأخير وإن كان قد يتخيّل في بادئ النظر خروجه عن القسمين ، ولكن تعمّق النظر يقضي باندراجه في القسم الثاني ، إذ لا يرتاب في أنّ الأمر لم ينشأ إلاّ عن الأمر بذي المقدّمة وإن لم يكن فعليّا ، بناء على كفاية التأخّر الرتبي في الترتّب فلا ينافيه التقدّم الزماني.

فقد تقرّر ممّا ذكر : أنّ الواجب النفسي ما امر به لمطلوبيّة نفسه ، والغيري ما امر به لمطلوبيّة غيره.

وإن شئت فقل في الأوّل : ما امر به لأجل نفسه أو ما وجب لنفسه.

وفي الثاني : ما امر به لأجل الأمر بغيره ، أو ما وجب لوجوب غيره ، أو لواجب غيره.

ولا ينتقض الثاني في طرده بالصورة الاولى ممّا ذكر لأنّ الأمر فيها ليس من جهة الأمر بالغاية وإن كان الحامل على الأمر هو ذات الغاية ومثل ذلك لا ينافي نفسيّة الواجب والاّ لأنتفى الواجب النفسي بالمرّة ، إذ ما من واجب إلاّ وله غاية داعية إلى إيجابه كما لا يخفى.

ص: 406

وأمّا تعريف الثاني « بما كان الأمر به مسبّبا عن الأمر بشيء آخر » ويقابله الأوّل ، كتعريف الأوّل « بما لا يكون الأمر به من جهة الأمر بغيره فلعلّه غير خال عن نوع اختلال ، لانتقاضهما بجميع الواجبات لتسبّب الأمر بها عن الأمر بالإسلام وبما لم يكن أمر به ، لعموم ما لا يكون الأمر به من جهة الأمر بغيره بحسب المفهوم ، باعتبار احتمال رجوع النفي إلى كلّ من القيد والمقيّد فيكون شاملا لما ذكر.

وقد يعرّفان أيضا : بأنّ النفسي : ما تعلّق الطلب له لنفسه والغيري ما تعلّق الطلب به للوصلة إلى غيره ، وهو أيضا غير مستقيم لانتقاض الثاني ببعض الصور المتقدّمة بل بمطلق الواجبات النفسيّة ، لكون الوصلة إلى الغير مطلوبة في الجميع ولو بواسطة ، فإنّ الأمر بالصلاة مثلا وإن كان لإيجادها بنفسها ولكن المطلوب من إيجادها أيضا الوصلة إلى غاية التقرّب.

وما يقال في تصحيحه : من أنّ « اللام » هنا للتعليل على وجه مخصوص لا لمطلق التعليل لئلاّ ينتقض الحدّان بكثير من الواجبات النفسيّة غير مجد ، لأنّ النظر في الحدود بالقياس إلى الطرد والعكس وعدمهما إنّما هو إلى ظاهر ما يقتضيه الألفاظ المأخوذة فيها لا إلى ما هو المراد منها في الواقع ، وإلاّ فكلّ حدّ سالم عن جميع ما يرد من النقوض.

ولا ريب أنّ الوجه المخصوص غير ظاهر عن « اللام » بل هي بظاهرها تتناول الغايات الحاملة على الإيجاب.

فالقول في توضيح ما ذكر - بأنّ المطلوب من المكلّف في الواجب الغيري إنّما هو إيجاده للتوصّل به إلى غيره ، على أن يكون التوصّل به إليه مطلوبا منه وإن كان حاصلا عن الطلب أيضا ، والمطلوب منه في الواجب النفسي إيجاده فقط والتوصّل به إلى أمر آخر أو حصوله وإن كان خارجا فهو أمر خارج عن كونه مطلوبا منه ، وإنّما هو حامل على الطلب.

فالواجب النفسي ما يكون المطلوب من المكلّف في إيجابه نفسه دون التوصّل به إلى غيره.

والواجب الغيري ما يكون التوصّل به إلى غيره مطلوبا من المكلّف ، فاتّضح وجه الخصوصيّة أيضا - كلام ظاهريّ وارد على خلاف التحقيق ، إذ لو أنيط الفرق بأنّ التوصّل إلى الغير في الواجب النفسي إنّما يحصل بواسطة إيجاد الواجب فلا يكون ذلك هو المطلوب من الأمر به بل المطلوب به نفس الواجب ، فالأمر في الواجب الغيري أيضا كذلك ، إذ التوصّل إلى الغير فيه أيضا لا يحصل بمجرّد الأمر بل إنّما يحصل بواسطة إيجاد الواجب ، ولو انيط بأنّ متعلّق الطلب حقيقة في الغيري هو نفس التوصّل إلى الغير بخلاف

ص: 407

النفسي فهو كذب وافتراء.

غاية الأمر أنّ إيجاد الواجب في الغيري مقصود تبعي وفي النفسي مقصود أصلي ، ومجرّد الفرق بينهما في الواقع لا يوجب اختصاص الحدّ بأحدهما دون الآخر في الظاهر ، مع قيام ما يوجب بظاهره التناول للجميع.

ولو قيل : بورود مثله على ما اخترناه من حدّ الغيري بما أمر به لمطلوبيّة غيره أو لأجل الأمر بغيره ، أو ما وجب لوجوب غيره ، أو لواجب غيره.

لدفعناه : بالفرق بين كون علّة الأمر بالواجب طلب الغير أو الأمر به أو وجوبه ، وبين غيره ، والأوّل هو الحال في الواجب الغيري ، ضرورة أنّه لو لا الامور المذكورة لما تعلّق الأمر به ، و « اللام » ظاهرة فيه دون الثاني لدخولها [ على ] تلك الأمور وهي تفيد العلّيّة في مدخولها بخلاف الواجب النفسي ، فإنّ الأمر به لا يكون معلولا للأمر بشيء آخر. وإن فرض له شيء من الغايات ، كالتقرّب ونحوه إذ لو لا تلك الغاية ملحوظة لتعلّق الأمر أيضا على ما يقتضيه اصول المذهب من اشتمال محلّه على الصفات الكامنة من المصالح والمفاسد النفس الأمريّة.

ثمّ إنّ الواجب قد يكون نفسيّا لا غير ، وقد يكون غيريّا لا غير ، وقد يكون نفسيّا وغيريّا باعتبارين ، وقد يكون نفسيّا ويشكّ في كونه غيريّا أيضا أو لا ، وقد يكون غيريّا ويشكّ في كونه نفسيّا أيضا أو لا ، وقد يثبت وجوبه ويتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا.

وعلى كلّ تقدير فالدليل الدالّ على وجوبه إمّا لفظي أو لبّي ، فهذه ستّة صور في اثنتين ، والمرتفع اثنتا عشرة صورة ، ولا بحث هنا في ستّة منها وأمّا البواقي فيقع البحث عنها في مراحل :

المرحلة الاولى

فيما علم بكونه واجبا نفسيّا وشكّ مع ذلك في كونه غيريّا بالإضافة إلى واجب غيره ،كستر العورة الثابت وجوبه نفسيّا المشكوك في وجوبه للغير الّذي هو الصلاة ، فإن كان دليل ذلك الغير لفظيّا يرجع الشكّ إلى إطلاق ذلك الدليل وتقييده ، لكونه على تقدير الغيريّة أيضا شرطا لصحّة ذلك الغير فيخرج دليله عن الإطلاق.

ومن البيّن أنّ أصالة الإطلاق محكّمة والتقييد لا يلتزم به إلاّ في مورد الدليل وهو مفروض الانتفاء ، ويبقى أصل البراءة مؤيّدا له.

وإن كان لبّيا يرجع الشكّ إلى شرطيّة شيء للواجب فينبى على ما هو المختار في ذلك.

ص: 408

ولمّا كان الراجح في النظر البناء على البراءة فهو قاض ببراءة الذمّة عن ذلك الشرط.

لا يقال : بعد ثبوت أصل الوجوب - كما هو المفروض - ما معنى أصل البراءة الّذي شأنه نفي الوجوب ، إذ لا يراد بذلك نفي وجوب ما يشكّ في كونه غيريّا بل نفي شرطيّته للغير ، وهو أمر قابل لنفيه بالأصل ، لأنّه على تقدير الشرطيّة يستلزم ضيقا على المكلّف في المشروط ويزيد عليه كلفة اخرى.

وقضيّة الأصل كونه في سعة بالنسبة إلى ذلك ، نظير ما يجري فيما بين الواجب العيني والتخييري فيقضي بتعيّن الثاني ، ولا فرق فيما ذكر بين كون دليل وجوب الواجب لفظيّا أو لبّيا.

المرحلة الثانية

فيما علم بكونه واجبا غيريّا وشكّ مع ذلك في كونه نفسيّا أيضا ، كالوضوء الّذي يثبت وجوبه الغيري بقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (1) مع الشكّ في وجوبه النفسي من جهة الخلاف فيه بين الاصحاب.

وقضيّة الأصل فيه عدم الوجوب أيضا ، لكون الشكّ فيه واقعا في التكليف الصرف الموجب للعقاب ، وأصحابنا المجتهدون بل الأخباريّون مطبقون على إجراء الأصل هنا من غير خلاف ، ولا يفرق في ذلك أيضا بين قسمي الدليل.

المرحلة الثالثة

فيما لو ثبت الوجوب بلفظيّ وتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، ولا إشكال بل لا خلاف - إلاّ ممّن سيظهر - في ظهور الأمر المجرّد في الوجوب النفسي ، كما يرشد إليه ملاحظة الاستعمالات الدائرة في العرف من غير فرق في ذلك بين الهيئة ومادّتي الأمر والوجوب.

وإنّما الإشكال بل الخلاف في أنّه ظهور وضعي أو إطلاقي من جهة الانصراف أو الإطلاق والسكوت في معرض البيان ، ففيه وجوه بل أقوال ، إلاّ أنّ إطلاق القول بكونه وضعيّا غير ثابت ، بل الثابت إطلاق القول بكونه إطلاقيّا كما عليه جماعة من الأواخر واختاره بعض مشايخنا - دام ظلّه - والتفصيل بين الصيغة والموادّ كلفظ « الأمر » و « الوجوب » و « اللزوم » ونحوها فالتبادر في الأوّل وضعيّ وفي غيره إطلاقي.

نعم ما حكاه بعض الأفاضل عن الشهيد من بلوغ الأمر في الوجوب الغيري بسبب

ص: 409


1- المائدة : 6.

كثرة الاستعمالات إلى حدّ الحقيقة العرفيّة يومئ إلى إطلاق القول بالحقيقيّة بحسب اللغة في الوجوب النفسي.

ويمكن دفعه : بعدم منافاة ذلك للاشتراك المعنوي بحسب اللغة كما عليه الجماعة ، لجواز كون الحقيقيّة المدّعاة من باب ما يحصل في بعض أفراد المسمّى كما في « الدابّة » ونحوها ، فلا يلائمه حينئذ ما ذكره الفاضل المومئ إليه في توجيهه من أنّ الظاهر أنّه لم يرد به هجر الأوّل لظهور دوران الوجوب النفسي في الاستعمالات أيضا ، بل مقصوده على فرض حمل كلامه على ذلك مكافأة الأوّل لا ترجيحه عليه ، إذ ليس المعنى الأوّل على التقدير المذكور هو الوجوب النفسي خاصّة لئلاّ يلزم من دعوى حصول الحقيقة العرفيّة في الغيري إرادة هجر الأوّل ، ففرض الحقيقيّة في الفرد يستلزم هجر القدر المشترك إلاّ على احتمال كونه من باب تحقّق الاشتراك اللفظي بين الكلّي وفرده ، وهو بعيد ولا سيّما مع ملاحظة كون هذه الدعوى منه في مقابلة من توهّم ظهور الأمر في النفسي.

فالأولى جعل بناء كلامه على الوجه الأوّل ، ولا سيّما مع ملاحظة كون ورود الأمر في الاستعمالات بالنسبة إلى النفسي إلى حدّ في الكثرة لا يكاد ينكرها جاهل فضلا عن العالم.

وربّما يستظهر عنه والشهيد الثاني والمحقّق الكركي إنكار ظهور الأمر في الوجوب النفسي ، التفاتا إلى كثرة استعماله في الوجوب الغيري بحيث يكافأ ذلك ما ذكر من الظهور.

ومن هنا تعدّى إلى ما عرفت حكايته عنه وهو بمعزل عن التحقيق ، كيف وظهور الأمر في النفسي نظرا إلى غلبة استعماله فيه أو إطلاقه عليه ممّا لا ينبغي أن يستريب فيه ذو مسكة.

وعلى أيّ حال كان فالّذي يقوى في النظر القاصر كون الظهور وضعيّا مطلقا فيكون الأمر مطلقا مجازا في الغيري.

لنا : أنّه قسم من الواجب المقيّد ، لأنّه ما يتوقّف وجوبه على شيء غير حاصل - كما تقدّم - فيندرج فيه الغيري ، لأنّه ما يتوقّف وجوبه على وجوب الغير ، والمتوقّف عليه في مفهوم المقيّد أعمّ من وجود شيء أو وجوبه.

ولقد تقرّر أنّ الأمر مجاز في الوجوب المقيّد فكذلك ما هو قسم منه ، فيأتي جميع الوجوه المتقدّمة ثمّة ، فالمتبادر من الأمر المطلق مطلقا هو الوجوب النفسي وعدم تبادر الغيري علامة المجاز فيه والأصل فيه كونه وضعيّا ، فدعوى كونه إطلاقيّا من باب الانصراف أو غيره غير مسموعة ، والّذي يبادر في إتيان المأمور به مع قيام احتمال توقّف وجوبه على

ص: 410

وجوب ما لم يصر واجبا بعد لا يستحقّ ذمّا ولا عقابا ، ولو عاقبة الآمر لاستحقّ الذمّ العقلائي ، وإنّه لو أخّر الفعل معتذرا بالاحتمال المذكور لاستحقّ الذمّ والعقاب بلا إشكال.

وأنّه يصحّ أن يقال قبل وجوب الغير : أنّه ليس بواجب ولا بلازم ولا بمأمور به ، فيتمّ حكم الصيغة أيضا بما تقدّم من أنّ صحّة السلب لم تكن إلاّ لأجل انتفاء الطلب فعلا ، والّذي يستعمل فيه الصيغة من الوجوب الغيري ليس بطلب فعلي وإنّما هو تقديريّ مغاير للفعلي ، وإلاّ لم يكن السلب فيما ذكر صحيحا.

واحتجّ شيخنا - دام ظلّه - على ما اختاره من أنّ ظهور الأمر في النفسي ليس وضعيّا ليكون حقيقة خاصّة فيه ، بعدم سلبه عن الغيري وهو دليل على عدم المجازيّة ، وليس مشتركا لفظيّا بينهما لأصالة عدم تعدّد الوضع بل هو مشترك معنويّ لأنّه الأصل.

وعلى أنّ هذا الظهور على التقدير المذكور ليس من جهة الانصراف - كما توهّمه بعض الأفاضل - بعدم غلبة بالنسبة إلى النفسي في الوجود ولا في الاستعمال فلا يكون مشكّكا لانتفاء الأمرين اللذين هما من شرائط التشكيك ، بل هو ظهور من جهة الإطلاق ، بمعنى أنّ عدم تقييد اللفظ بوجوب الغير قاض بكون المراد به هو النفسي بحكم العقل ، إذ لو لا ذلك لوجب تقييده بوجوب الغير لئلاّ يلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه القبيح على الحكيم على الإطلاق ، من غير فرق فيما ذكر بين كون اللفظ الدالّ عليه دالاّ بهيئته كصيغة « افعل » أو بمادّته كلفظة « يجب » ونحوها من مشتقّات تلك المادّة.

وفيه : مع أنّ عدم صحّة السلب ممّا لا يمكن جريانه في الهيئة الّتي هي العمدة في الباب كما لا يخفى ، أنّ عدم صحّة السلب إن اريد به عدم صحّة سلب الوجوب أو الأمر عن الغيري قبل وجوب الغير فهو إنكار للبديهة ، لما قرّرناه من وضوح صحّته ، وإن اريد به عدمها بعده فغير مجد لصيرورة الوجوب على هذا التقدير مطلقا وخروجه عن كونه مشروطا وهو معنى حقيقي للّفظ جزما ، أمّا إنكار غلبة النفسي من حيث الاستعمال فهو أيضا مكابرة والوجه ما تقدّم.

وأمّا قاعدة قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه المنوطة بحكم العقل فهي أيضا لا تكاد تنفع في إثبات المطلوب ، لأنّها قاعدة عامّة تجري بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة لنفي احتمال المجازات في موضع تجرّد اللفظ عن القرينة.

واحتجّ المفصّل على كون الصيغة حقيقة في النفسي ، بالتبادر الّذي الأصل فيه كونه

ص: 411

وضعيّا لسلامته فيها عن المعارض ، وعلى كون تبادر النفسي في الموادّ إطلاقيّا بعدم صحّة سلبها عن الغيري ، فلا يصح أن يقال : إنّ الوضوء ليس بواجب أو بلازم أو بمأمور به ، فهو دليل على كون التبادر إطلاقيّا ، ولا يجري ذلك في الهيئة فيبقى التبادر سليما عن المعارض.

والجواب : أنّ التبادر وسلامته عن المعارض في الصيغة حقّ ، وعدم صحّة السلب في الموادّ غير مسلّم على تقدير ، وغير مجد على تقدير آخر.

والعجب عن هذا القائل إنّه بالنسبة إلى المطلق والمقيّد أطلق القول في كون الأمر حقيقة في المطلق خاصّة ومجازا في المقيّد ، فكيف يفصّل هنا مع أنّ الغيري قسم من المقيّد كما عرفت.

فبالجملة : نحن نقول بكون الأمر مطلقا مجازا في المقيّد ومنه الغيري ، ومن يدّعي خلاف ذلك فعليه بالإثبات وأنّى له بذلك.

فإن قلت : ما يدعوك إلى هذه الدعوى مع أنّ الأقرب بالذوق والأنسب بالاعتبار كونه لمطلق الطلب ، وهو المعرّى عن قيدي الإطلاق والتقييد الّذي هو القدر المشترك بين التنجيزي والتعليقي فيكون إطلاقه على كلّ منهما على وجه الحقيقة.

قلت : يدعونا إلى ذلك وضوح الفرق بين قول القائل : « أمرتك بكذا ، أو أوجبت عليك كذا ، أو ألزمت عليك كذا » وبين قوله : « أمرتك بكذا على تقدير كذا ، وأوجبت عليك كذا على تقدير كذا ، وألزمت عليك كذا على تقدير كذا » حيث إنّ المخاطب لو سئل على الأوّل عن ذلك الشيء لا يصحّ له أن يقول : إنّه ليس بمأمور به ، ولا بواجب عليّ ولا بلازم عليّ ، وعلى الثاني يصحّ له ذلك في الجميع ما لم يتحقّق المقدّر ويحصل الشرط ، وهو أقوى أمارة على كون استعمال الألفاظ المذكورة مجازا في المعلّق وحقيقة في المنجّز.

ويرشدك إلى ذلك عدم صحّته أيضا بعد تحقّق التقدير وحصول الشرط المعلّق عليه ، وليس ذلك إلاّ من جهة تنجّز الطلب وزوال التعليق ، فيلزم أن يكون المانع عن الصدق الحقيقي هو التعليق ، وقضيّة ذلك اعتبار التنجيز في الموضوع له.

فإن قلت : لو سألت المخاطب في المثال المذكور لا يصحّ له أن يقول : « إنّه ليس بمأمور به على تقدير كذا ، ولا بواجب على تقدير كذا ، ولا بلازم على تقدير كذا ».

قلت : مع أنّ عدم صحّة السلب يشترط أن يؤخذ اللفظ في محمول القضيّة مجرّدا عن القيود والقرائن ، فلذا لا يعدّ عدم صحّة السلب في قولنا : « الرجل الشجاع ليس بأسد يرمي » علامة للحقيقة ، أنّ الغرض الأصلي في المقام تحقيق كون الوجوب والطلب

ص: 412

التعليقيّين مناطا لصدق الألفاظ المذكورة حقيقة مع الإطلاق والتجرّد عن القيود والقرائن ، فنقول : يكشف عن عدم ذلك صحّة سلب كلّ من الألفاظ عمّا يثبت له ذلك الأمر المعلّق ، فلو كان ذلك فردا من المعنى الحقيقي على الوجه المقرّر وكافيا في الصدق الحقيقي لما صحّ السلب جزما.

فإن قلت : لعلّ الصحّة نشأت عن ظهور تلك الألفاظ في المنجّز ظهورا إطلاقيّا فلا تنهض دليلا.

قلت : بل نشأت عن ظهورها الوضعي ، للقطع بأنّ النفي إنّما يرجع إلى الطبيعة دون العوارض واللواحق الاعتباريّة ، فلذا لا يصحّ سلب « الإنسان » عن ذي رأسين مع أنّه في ظهوره في ذي رأس واحد بمثابة لا يقابله عديل من الألفاظ كما لا يخفى.

فإن قلت : أقصى ما يترتّب على ذلك مجازيّة تلك الألفاظ في غير المنجّز.

وأمّا الصيغة فأيّ وجه دعاك إلى الحكم بالمجازيّة فيها أيضا؟

قلت : دعانا إلى ذلك ما تقدّم إليه الإشارة إجمالا ، وتوضيحه : أنّ الواجب كما يصدق على ما تعلّق به مدلول تلك الألفاظ صدقا حقيقيّا فكذلك يصدق على ما تعلّق به مدلول الصيغة صدقا حقيقيّا.

ومن البيّن وضوح الفرق بين قولنا : « افعل كذا » وقولنا : « افعل كذا على تقدير كذا » فلذا يصحّ على الثاني أن يقال : ما لم يتحقّق التقدير أنّه ليس بواجب ولا بلازم بخلافه على الأوّل ، فلو لا مدلول الصيغة حقيقة هو الوجوب المطلق المنجّز خاصّة لما كان لذلك الفرق الواضح وجه ، ولا فرق فيما ذكر بين صدور الخطاب عن العالم بالعواقب أو غيره لكون العبرة بتنجّز الوجوب وتعلّقه.

غاية ما هنالك انّ الأوّل يعلم حين الخطاب أنّه يتنجّز أو لا يتنجّز لعلمه بعاقبة الأمر من جهة تحقّق التقدير وعدمه بخلاف الثاني ، وهو لا يوجب الفرق بينهما فيما ذكر من صحّة السلب كما لا يخفى.

نعم ربّما لا يصحّ السلب لو كان المقدّر زمانا من الأزمنة المستقبلة ، واخذ ذلك الزمان ظرفا للمطلوب لا قيدا للطلب ، حتّى يكون المراد من اللفظ الطلب فعلا لإيقاع الفعل مستقبلا ، ومثله ما لو كان المعلّق عليه أمرا غير زماني كقدوم الحاجّ مع العلم بتحقّقه مستقبلا ، وأخذه باعتبار زمان تحقّقه ظرفا للمطلوب بحيث كان الطلب فعليّا ، فحينئذ

ص: 413

لا يصحّ السلب ولو قبل تحقّق الشرط ، ولكنّه لا يقدح فيما قدّمناه لخروجه عن محلّ البحث بورود الطلب حينئذ مطلقا لا مقيّدا.

ثمّ إنّه لو ورد في شيء واحد خطابان أحدهما قاض بوجوبه النفسي والآخر بوجوبه الغيري كقوله : « تطهّر » مع قوله : « تطهّر للصلاة » فهل يوجب ذلك تقييد الأوّل بالثاني ، والحكم بكون المراد به أيضا هو الوجوب الغيري أو لا؟ بل لابدّ من إعمالهما معا والحكم بكون ذلك الشيء واجبا نفسيّا وغيريّا باعتبارين ، أو لابدّ من الوقف أوجه ، أوجهها الفرق بين صورتي العلم بوحدة التكليف وعدمه.

فعلى الأوّل ينتهض المقيّد قرينة على التجوّز في المطلق بإرادة الغيري لفهم العرف ، كما في قوله : « أطعم أسدا » مع قوله : « أطعم أسدا يرمي » في موضع العلم بأنّ لا تكليف إلاّ واحدا.

ويؤيّده أصالة البراءة عن العقاب وتعدّد التكليف ، بل تعدّد العقاب إذا لوحظ ذلك الشيء مع الغير الّذي امر به لأجل وجوبه ، وإن قلنا بترتّب العقاب على ترك الواجبات الغيريّة.

وعلى الثاني يبنى عليهما معا لأصالة الحقيقة وعدم المنافاة بينهما مع عدم تعذّر الحقيقة ، ولا يعارضها ندرة ما كان واجبا بكلا الاعتبارين لعدم غلبة في الغيري ، وكونها حاصلة فيما بينه وبين النفسي لا يجدي في الحمل عليه ، ولا سيّما مع ملاحظة كون النفسي أغلب منه كما تقدّم ، فلا أثر للندرة المذكورة ولا لتلك الغلبة ، ولو سلّم فلا نسلّم اعتبارها في خصوص المقام إذ لم يقم عليه دليل ، ولا فرق فيما ذكر من الفرق بين العلم بتاريخي الخطابين بأقسامه الثلاث وبين الجهل بهما أو بأحدهما.

ومن هنا يتبيّن الكلام فيما لو علم بوجوب شيء للغير بدليل غير لفظي كالإجماع ونحوه ، ثمّ ورد في ذلك الشيء خطاب لفظي قاض بوجوبه لنفسه ، فكون الأوّل موجبا لتقيّد الثاني وانصرافه إلى الوجوب الغيري مبنيّ على ما ذكر ، ومع عدمه يبنى على الظاهر فيلتزم بقسمي الوجوب لعين ما تقدّم.

المرحلة الرابعة

فيما لو ثبت الوجوب بدليل غير لفظيّ وتردّد بين كونه نفسيّا أو غيريّا ، ومعلوم أنّ الفرض إنّما يصحّ فيما لوحظ معه غيره الّذي علم بكونه نفسيّا فشكّ في أنّه بالإضافة إليه هل هو واجب غيريّ أو لا؟ ولا يفرق في ذلك بين كون وجوب ذلك الغير بدليل لفظيّ أو لبّيّ ، فحينئذ لا مناص من المراجعة إلى الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال ، ويختلف الحكم حينئذ.

ص: 414

فإن كان ذلك الشكّ حاصلا قبل وجوب ذلك الغير بدخول وقته رجع إلى أنّه هل هو مكلّف به أو لا؟ وهو شكّ في التكليف فيكون من مجاري أصالة البراءة ، إذ الأصل براءة الذمّة عن هذا التكليف بل عن تعدّد العقاب المترتّب على تركه مع ترك ذلك الغير بعد وجوبه ، فقضيّة ذلك كون وجوبه غيريّا وليس ذلك من باب الأصل المثبت ، لأنّ أصل الوجوب الدائر بين القسمين ثابت بالدليل ، فإذا نفى احتمال النفسيّة بالأصل تعيّن القسم الآخر في كونه مفادا للدليل فلا يكون ثابتا (1) بالأصل.

وإن كان حاصلا بعد وجوب الغير رجع إلى شرطيّته لذلك الغير ، فإن بني في تلك المسألة على العمل بالاشتغال فيحكم فيما نحن فيه بكونه شرطا ، لأنّه الموجب لحصول اليقين بالامتثال بعد اليقين بالاشتغال ، ويوافقه إستصحاب الأمر إن لم يكن يرجع إليه ، فيتّجه الحكم بالغيريّة من دون لزوم العمل بالأصل المثبت كما عرفت ، فيوافقه أصل البراءة الّذي كان جاريا قبل الوجوب ، وإن بني على العمل بالبراءة - كما هو الأقوى - يتوجّه الحكم بعدم الشرطيّة فيعارضها استصحاب الأمر إن غاير أصل الاشتغال ، ولكنّها واردة عليه هنا لما قرّر في محلّه وتقدّم منّا الإشارة إلى ذكر سرّه إجمالا في جملة من المباحث المتقدّمة.

نعم يبقى التعارض بينه وبين المجانس له الجاري قبل الوجوب من جهة أنّهما أصلان من جنس واحد ينفي أحدهما احتمال النفسيّة والآخر احتمال الغيريّة ، مع أنّ الواقع غير خال عن أحدهما ، ويمكن ترجيح ما يجري فيما بعد الوجوب على ما يجري فيما قبله لما يقتضي رجحانه على الاستصحاب وقاعدة الشغل ، نظرا إلى أنّ الشكّ معه سببي فإذا ارتفع بإجرائه يرتفع ما هو مسبّب عنه فيبقى الأصل الآخر بلا مورد كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الواجب الغيري أخصّ مطلقا من واجب المقدّمة على القول بوجوبها ، لأنّ الواجب من المقدّمة ما أوجبه العقل لوجوب غيره ، وهو قد يكون ممّا أوجبه الشرع لوجوب الغير ، فكلّ ما أوجبه الشرع لوجوب غيره فهو ما أوجبه العقل أيضا لوجوب ذلك الغير ولا عكس.

ص: 415


1- والأصل إنّما يصير مثبتا إذا لم يدلّ على ما يترتّب عليه من الحكم دليل لا تفصيلا ولا إجمالا كما لو خرج المذي عن المكلّف فيشكّ في كونه موجبا للغسل أو الوضوء ، فإنّه إذا حكم بعدم وجوب شيء منهما عليه للأصل لا يجوز له الحكم بأنّ المذي ليس بناقض للطهارة شرعا ، ولا أنّه ليس من موجبات الغسل كالجنابة ونحوها لأنّه حكم لم يكن الأصل مسوقا لبيانه ولا أنّه ثابت بدليل وراءه ولو إجمالا فإثباته حينئذ لا وجه له إلاّ من باب العمل بالأصل المثبت ( منه عفي عنه ).

في بعض الامور المتعلّقة بالواجب الغيري

ولنختم الكلام بعد الفراغ عن أصل المطلب بذكر امور تتعلّق به :

الأمر الأوّل : في أنّ الواجب الغيري هل يعقل تعلّق الوجوب به قبل وجوب ذلك الغير الّذي في مقابله ، أو انّه لا يجب إلاّ بعد تعلّق الوجوب بذلك الغير؟ فيه قولان بل أقوال ، ثالثها : تفصيل بين ما لو كان ذلك الغير واجبا مضيّقا فيقدّم الوجوب على وجوبه ، وبين ما لو كان موسّعا فلا يقدّم.

وهذا الكلام كما ترى جار بل الخلاف واقع في سائر المقدّمات على القول بوجوبها ، وضابطه : أنّ ما وجب لوجوب غيره بخطاب تبعي عقلي كمقدّمة الواجب - على القول بالوجوب - أو بخطاب أصلي شرعي كالوضوء ونحوه من الواجبات الغيريّة بالأصالة فهل يتصوّر أن يتقدّم وجوبه على وجوب ذلك الغير أو لا؟

واختار بعض مشايخنا - مدّت إفاداته - القول الأوّل ، مصرّحا بأنّه إذا ثبت وجوب شيء في وقت وكان له مقدّمة - ولو شرعيّة - وعلم بأنّه سيصير واجبا بلا تخلّف فالعقل قاض بجواز اتّصافها بالوجوب مقدّما على وجوب ذيها ، بمعنى كونها ممّا لا يرضى اللّه عزّ وجلّ بتركها ولو قبل أن يطلب ذاها ، وهذا ممّا لا غائلة فيه ولتحقيق القول في ذلك وتفصيل الكلام فيه محلّ آخر أليق من المقام سيأتي إن شاء الملك العلاّم.

الأمر الثاني : لا يعتبر في تعلّق الوجوب بما يجب لغيره إرادة الإتيان بذلك الغير ، لأنّه في وجوبه متفرّع على ذلك الغير ، فكما أنّ الإرادة لا مدخل لها في وجوبه فكذا في وجوب ما هو فرع له.

نعم على القول بكونها من مقدّمات الوجوب - كما عليه أكثر العامّة - يتوجّه توقّف وجوبه على إرادة الإتيان بما هو أصل له ، ولكنّه في البطلان بمكان لا حاجة معه إلى البيان.

الأمر الثالث : هل الواجب الغيري يعتبر في الامتثال به قصد الامتثال بذلك الغير ، بحيث لولاه حين الإتيان به لكان المأتيّ به شيئا لا مدخل له بالمأمور به ولا يحصل به امتثال الأمر الغيري أو لا ، بل الامتثال حاصل بمجرّد الإتيان به ولو لم يكن عازما على الإتيان بذلك الغير؟ وجهان.

وربّما يستظهر ثانيهما عن جماعة ، واستشكل فيه شيخنا - زيد فضله - مرجّحا للوجه الأوّل وجعله لازما لقول من يرى نيّة الاستباحة شرطا في الوضوء ، بل وقصد رفع الحدث أيضا كذلك ، إذ لا معنى لقصد رفع الحدث إلاّ رفعه لأجل الصلاة فهو مستلزم لقصد الإتيان

ص: 416

بالصلاة ، بل الوضوء لأجل الاستباحة لا يعقل انفكاكه عن قصد الامتثال بالصلاة.

واستدلّ عليه : بأنّ القصد الّذي يعتبر في المأمور به حينما يتصوّر مقيّدا بكون الإتيان به مقرونا بقصد الامتثال إنّما يعتبر فيه بالعنوان الّذي امر به بذلك العنوان ، ومن المعلوم أنّ عنوان المأمور به في الواجب الغيري عنوان مقدّمي لا يتعلّق به غرض إلاّ التوصّل به إلى الغير ، فقصده عند الإتيان به بهذا العنوان لا ينفكّ عن قصد الامتثال بذلك الغير ، فالتفكيك بينهما غير معقول كما لا يخفى.

وبعبارة اخرى : الواجب الغيري مقدّمة شرعيّة للواجب النفسي ، والأمر بالمقدّمة لا يقصد به إلاّ الوصول إلى ذيها ، فامتثال الأمر بها لا يحصل إلاّ بقصد إمتثال الأمر بذيها فلو أتى بها لا بقصد امتثال هذا الأمر لا يعدّ ممتثلا في نظر العرف.

ألا ترى أنّ المولى لو أمر العبد بتحصيل درهم لاشتراء شيء مأمور به فحصّله العبد لا لأجل اشتراء ذلك الشيء بل لأجل اشتراء شيء آخر غير مأمور به أو مأمور به بأمر آخر لا يقال : إنّه امتثل الأمر ، وكذلك لو أمره بأن يعد من له عبد للضيافة وأمره أيضا بوعد عبده من جهة توقّف مجيئه على مصاحبة العبد معه ، فبنى على أن لا يعد المولى فوعد العبد لغرض نفسه لا يعدّ ممتثلا بل يستحقّ العقاب والمؤاخذة جدّا ، فعلى هذا لو أتى بالوضوء بعد التكليف بالصلاة بانيا على عدم الإتيان بها لا يكون ممتثلا بالوضوء الواجب الّذي هو مقدّمة قطعا.

ولا يخفى أنّ من الواجبات الغيريّة ما لا يعتبر في صحّته والامتثال به قصد الامتثال بالنسبة إلى أمره الغيري فضلا عن اشتراط قصد امتثال الأمر بما يقابله من الواجب النفسي ، كغسل الثوب وإزالة النجاسة عنه وعن البدن للصلاة ، فلابدّ وأن يخصّ محلّ الإشكال بما دلّ الدليل فيه على اشتراط قصد الامتثال ونيّة القربة ، بأن يكون له جهة تعبديّة مع جهته التوصّليّة كالوضوء وغيره من الطهارات الثلاث للصلاة ، وعلى هذا التقدير فالاعتبار وإن كان يقضي في بادئ النظر بكون القصد المذكور شرطا في امتثال الأمر - بل ربّما يقتضيه على التقدير (1) الآخر أيضا - ولكن قيام ذلك دليلا على تقييد المأمور به بذلك القصد - بحيث لو انتفى لم يكن المأتيّ به صحيحا ولا موافقا للمأمور به في نظر الآمر وإن اشتمل على قصد امتثال الأمر المتعلّق به - في غاية الإشكال ، كما أنّ إثبات كون ذلك شرطا للصحّة في غاية الصعوبة.

ص: 417


1- وهو قضاؤه بالاشتراط حتّى في مثل غسل الثوب وإزالة النجاسة عنه وعن البدن للصلاة. ( منه عفي عنه ).

وتوضيح ذلك : أنّ الشارع - على ما يشهد به الوجدان السليم - إذا أراد أن يأمر بذي المقدّمة اعتبر هنا تركيبا بين امور متبائنة ، فلاحظه بجميع أجزائه الاعتباريّة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة ، راجع بعضها إلى ما هو من أحوال المكلّف مقدورة للمكلّف أوّلا وبالذات كاستقبال القبلة وستر العورة أو ثانيا وبالعرض كالطهارة وتطهير الثياب والبدن ، وبعضها إلى ما هو من لوازم الفعل من زمان ومكان ونحوه ، ولمّا كان ما هو راجع إلى أحوال المكلّف من الامور المعتبرة مقدورا له بأحد الاعتبارين ، فلغاية لطفه ورأفته عليه وشدّة اهتمامه وعنايته بتلك الأحوال لاحظها بعنوان أنّها ممّا يتوقّف عليها وجود مطلوبه وما امر به ، فأمر بتحصيلها بقوله : « استقبل للصلاة » و « استر عورتك للصلاة » أو بإيجاد الأسباب الموجبة لحصولها بقوله : « توضّأ للصلاة » و « اغسل ثيابك وبدنك لها » ومعلوم أنّ امتثال الأمر بها بهذا العنوان يستلزم قصد امتثال الأمر بذيها لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، كيف لا وهو الداعي إلى الأمر بها ، فيكون الداعي إلى امتثال الأمر بها قصد الامتثال بذلك الأمر بحيث لو لا ذلك القصد لاستحال الإتيان بها بعنوان أنّها ممّا يتوقّف عليها وجود ذيها ، ولا سيّما مع ملاحظة لزوم قصد الوجه على القول به ، فالتفكيك بينهما على هذا الاعتبار غير معقول.

فإن قلت : لا ملازمة بين امتثال الأمر بها وقصد امتثال الأمر بذيها ، لأنّ الامتثال عبارة عن موافقة الأمر وهي حاصلة ولو بدون القصد المذكور.

قلت : الامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجهه ، والإتيان بالمقدّمة على جهة المقدّمية لا ينفكّ عن قصد الإتيان بذيها امتثالا للأمر به.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ فاعل لابدّ له من علّة محرّكة له إلى الفعل ، ولا يعقل لفاعل المقدّمات بعنوان أنّها مقدّمات علّة محرّكة إليها إلاّ قصد الامتثال بذيها ، مع أنّ امتثال الأمر بها يتوقّف على قصد ذلك الامتثال فيما هو شرط في صحّته والأمر بها مسبّب عن الأمر بذيها ، وقصد امتثال الأمر المسبّب من حيث إنّه مسبّب يستلزم قصد امتثال الأمر السببي.

وأنت خبير بما في ذلك من ضعف مستند حكم العقل ، فإنّه مبنيّ على ثبوت اعتبار قصد العنوان في حصول الامتثال ، وهو بمكان من المنع حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل.

وبالتأمّل فيما قرّرناه في المباحث المتقدّمة المتضمّنة لبيان عدم اشتراط الامتثال بالمأمور به بقصد العنوان يعرف ما هو حقيقة الحال في هذا المقال ، ولا قضاء للعقل ولا للشرع فيما لو كان المأمور به من المقدّمات الّتي أمرها غيري بدخول قصد عنوان المقدّمية

ص: 418

في المأمور به ، بحيث لولاه لكان المأتيّ به أمرا لا دخل له في المأمور به.

وكون عنوان المقدّمية ممّا تصوّره الآمر فأمر بما له ذلك العنوان كالوضوء ضرورة أنّه لم يتصوّره في حدّ ذاته ولا أمر به لنفسه وإلاّ لخرج عن كونه واجبا غيريّا ، لا يقضي بتقييد المأمور به بما قصد فيه ذلك العنوان في مقام الامتثال وإنّما هو مصلحة داعية إلى الأمر ، فيكون من باب العلل التعليليّة وعلى تقدير تسليم كونه علّة تقييديّة فهو قيد في المأمور به يترتّب عليه اشتراط ترتّب الإتيان بذي المقدّمة ، وامتثال الأمر به على الامتثال بالمأمور به ، بمعنى أنّه يوجب كون متعلّق الوجوب ما يحصل فيه وصف المقدّمية ويتوصّل مع الإتيان به إلى ذي المقدّمة فعلا ، فما يؤتى به ولم يترتّب عليه التوصّل لم يكن بما هو واجب من المقدّمة ، وهو لو تمّ كلام آخر يأتي إلى تحقيقه الإشارة ، فلا ملازمة بينه وبين قصد عنوان المقدّمية كما لا يخفى.

ولو سلّم الملازمة أيضا يتوجّه المنع إلى استلزام ذلك القصد لقصد امتثال الأمر بذي المقدّمة كما هو المطلوب ، ضرورة أنّ الأمر بشيء لغاية مطلوبة والإتيان به امتثالا لذلك الأمر لا يقضي بلزوم قصد ترتّب تلك الغاية حين الفعل لجواز الذهول والغفلة.

ولو سلّم ذلك أيضا نظرا إلى أنّ قصد الإتيان بما يتوصّل به إلى شيء امتثالا للأمر به لا ينفكّ عقلا عن قصد التوصّل إلى ذلك الشيء ، ولا نعني من قصد امتثال الأمر به إلاّ هذا ، فهو من اللوازم العقليّة وفرق واضح بين ما هو لازم للشيء عقلا وكونه معتبرا في الأمر به.

ألا ترى أنّ المكان من لوازم فعل المأمور به مطلقا ، وليس بمعتبر فيه بحيث لو فرض إمكان الفعل بلا مكان لكان المأتيّ به غير ما هو مأمور به ، وعمدة المطلوب في المقام والمهمّ إثباته لإنهاض المرام هو الثاني دون الأوّل.

والدليل العقلي المتقدّم لا يوجبه ولا دلالة سواه عقلا ونقلا ، فلذا تراهم يعتبرون في امتثال الأمر ببعض الواجبات الغيريّة - كالطهارات الثلاث - امورا ليس المبحوث عنه بشيء منها.

ودعوى : أنّ القول باشتراط قصد الاستباحة بل واشتراط قصد رفع الحدث يستلزم القول بذلك لا يكاد تستقيم ، بمنع الملازمة بين الأمرين عقلا ولا عرفا ، لجواز أن يكون المراد باستباحة الدخول في الصلاة أن يحصل به حالة هي قابليّة الدخول فيها لو أراد الدخول بعده ، من دون أن يكون إرادة الدخول غاية لفعله ، وكذا القول في رفع الحدث بأن يكون المقصود حصول تلك الحالة بحيث لو أراد الدخول معها فيها لجاز من دون أن يؤخذ إرادة

ص: 419

ذلك فعلا قيدا فيه.

ودعوى : أنّ ذلك خلاف ظاهرهم ، بل الظاهر عدم إرادتهم بهما هذا المعنى ، لأنّهم يستدلّون على اشتراط ذلك في الوضوء بأنّ المتبادر من قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (1) - الآية - هو كون الوضوء لأجل الصلاة ، أي « اغسلوا وجوهكم لأجل الصلاة » كما يقال في العرف : « إذا لاقيت الأسد فخذ سلاحك » أي خذه لأجل لقائك الأسد ، فلا وجه للتوجيه المذكور في كلامهم ، فيلزم أن يحصل الامتثال بمقدّمة الصلاة لو لم يقصد الامتثال بها أو قصد الإتيان بغيرها ، فلذا ذهب جماعة كابن إدريس والشيخ إلى أنّه لو اغتسل الجنب للجنابة لأجل الدخول في المسجدين لا يجوز له اللبث فيهما ، لأنّ جوازه مشروط بالغسل لوجوبه عنده ، والمفروض عدم كون الغسل المأتيّ به لأجله.

يدفعها : منع تبادر هذا المعنى من الآية ، بل المتبادر منها أنّ وجوب الوضوء إنّما هو لأجل القيام إلى الصلاة ، وهو أعمّ من لزوم قصد الإتيان بالصلاة عند الإتيان بالوضوء الواجب.

واستدلالهم بالآية لاعتبار الأمرين - مع أنّه قابل لردّه بمنع الدلالة في الآية على اعتبارهما كما لا يخفى - لا يقتضي أزيد من إرادة إثبات ما ذكرناه من حصول القابليّة وهو أعمّ من فعليّة إرادة الدخول كما عرفت.

والمثال العرفي معارض بمثله فيما لو قال : « إذا جاءك زيد فأكرمه » حيث لا يتبادر منه إلاّ كون علّة وجوب الإكرام هو المجيء ، وأمّا كون الإكرام مقرونا بقصد كونه لأجل المجيء لا ينساق منه عرفا ، كما أنّ قول الجماعة معارض بما لو اغتسل الجنب عن الجنابة للصلاة فإنّه يجوز معه الدخول في المسجدين واللبث فيهما إجماعا ، مع أنّه لم يأت به لأجل ذلك.

وأمّا الاستشهاد على عدم الامتثال عرفا لو أتى بالمقدّمة خالية عن قصد الامتثال بذي المقدّمة بما تقدّم من المثالين المتقدّمين في تقرير الاستدلال على اعتبار القصد المذكور ، فهو أيضا في غاية الوهن.

أمّا المثال الأوّل : فلمنع عدم الامتثال عرفا لو حصل الدرهم لا بقصد كونه لأجل الاشتراء إن اريد بالامتثال الإتيان بالمأمور به ، لوضوح أنّه يصدق عليه أنّه آت بالمأمور به وهو الدرهم ، ولو اريد به معنى آخر فلا دخل له في ما هو مفروض المقام.

فإن قلت : المراد به الإتيان بالمأمور به على وجهه ، وهو ليس بحاصل في المقام.

ص: 420


1- المائدة : 6.

قلت : عدم حصول ذلك فرع لثبوت كون القصد المذكور وجها من وجوه المأمور وهو ليس بثابت ، فلذا يقال : إنّه أتى بالمأمور به.

وأمّا المثال الثاني : فلأنّ استحقاق العقاب والمؤاخذة إنّما هو من جهة البناء على عدم الإتيان بذي المقدّمة لا من جهة عدم الامتثال بالمقدّمة ، وبينهما بون بعيد.

وبما تقدّم في تقرير ما ذكرناه من الاعتبار تبيّن أنّ الغرض الأصلي من الخطابات الغيريّة إنّما هو بعث المكلّف على تحصيل حالة من أحواله ليتوصّل بها إلى ما هو الغرض الأصلي من الخطابات النفسيّة ، وهذه الخطابات فيما لم تكن الحالة مقدورة له أوّلا وبالذات كالطهارة المطلوبة بقوله : « توضّأ أو اغتسل عن الجنابة للصلاة » مثلا تحتمل وجهين :

إحداهما : كون المراد بها إيجاب تحصيل تلك الحالة حتّى يكون قوله : « توضّأ واغتسل » بمنزلة قوله : « تطهّر بالوضوء أو الغسل » من باب تسمية المسبّب باسم السبب.

وثانيهما : أن يراد بها طلب إيجاد نفس الوضوء والغسل ليترتّب عليه حصول ما هو مسبّب عنه من الحالة المقصودة بالذات ، كما أنّها فيما لو كانت الحالة مقدورة له أوّلا وبالذات كالاستقبال وستر العورة محتملة لوجه واحد كما لا يخفى.

وعلى أيّ تقدير كانت فإنّما تشمل إذا لم يسبق على المكلّف حصول هذه الحالة فيما قبل الوقت ولو بسبب استحبابي لنفسه ، كالوضوء إذا قصد به الكون على الطهارة الّذي هو مستحّب لنفسه ، أو لغيره كالوضوء إذا قصد به امتثال الأمر الاستحبابي الثابت لأجل قراءة القرآن ونحوها ، ضرورة استحالة طلب الحاصل فمن هنا ظهر أنّ المتطهّر لا يسوغ له التوضّي إلاّ على جهة التجديد.

ثمّ إنّ ما قرّرناه سابقا في منع لزوم قصد العنوان راجع إلى منع كون قصد العنوان شرطا للصحّة وحصول الامتثال ، وهو لا ينافي لكون قصد الخلاف مانعا ، فحينئذ لو أتى بالوضوء قبل دخول وقت الصلاة فإن قصد به الندب أو القربة المطلقة فلا إشكال ، وإن قصد به الوجوب فجوازه والاجتزاء به مبنيّ على جواز تقدّم المقدّمة على ذيها في وصف الوجوب ، وسيأتي تحقيق القول فيه إن شاء اللّه.

ولو أتى به بعد دخول الوقت فإن قصد به الوجوب أو القربة المطلقة أيضا فلا إشكال بناء على عدم وجوب قصد الوجه ، وإن قصد به الندب نظرا إلى الأمر الاستحبابي النفسي أو الغيري فلا إشكال في أنّه حينئذ ليس امتثال للأمر الإيجابي لقيام المانع فيشكل الأمر

ص: 421

بالنظر إلى الدخول معه في الصلاة ، من جهة عدم كون الإتيان به إتيانا بمقدّمتها.

وتوهّم كونه المندوب من الوضوء لاستحبابه لنفسه أو للقراءة ونحوها ، فالإتيان به من هذه الجهة كان امتثالا للأمر الاستحبابي فيكون وضوء شرعيّا ومعه يجوز الدخول في الصلاة ، مدفوع : بأنّ ذلك مبنيّ على جواز اجتماع الاستحباب والوجوب في الشيء الواحد ، بأن يكون مع كونه واجبا مستحبّا أيضا وهو في حيّز المنع لاستحالة اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، فإنّ ماهيّة الوضوء بدخول وقت الصلاة قد صارت واجبة ومع ذلك كيف يعقل كونها مستحبّة ، وهما ضدّان لا يجتمعان.

وقضيّة ذلك أن لا يحصل الامتثال بالصلاة لو أتى بها مع ذلك الوضوء ، لأنّه ليس بوضوء واجب لقصد خلافه ، ولا وضوء مندوب لعدم الأمر الندبي مع فرض الأمر الإيجابي به لئلاّ يلزم واجبا مندوبا.

فالإشكال وارد بالنسبة إلى كونه امتثالا للأمر الندبي وإلاّ فبالنسبة إلى الأمر الإيجابي لا إشكال في عدم كونه امتثالا له.

ويمكن التفصّي عن الإشكال بتجويز اجتماع الوجوب والاستحباب معا ، ولكنّه مبنيّ على إحراز أحد الوجهين :

أحدهما : اعتبار تعدّد الجهة فيه بالنظر إلى كونه مقدّمة للصلاة ومقدّمة للقراءة المندوبة مثلا ، فيصير واجبا من جهة ومندوبا من اخرى.

وتحقيق القول في أنّ تعدّد الجهة في الأمر الواحد - ولو شخصيّا - هل يوجب تعدّد الحكم واجتماع المتضادّين في ذلك الشيء أو لا؟ يأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وإن كان قد يقال هنا بأنّه لا يوجب جواز اجتماعهما كما لا يوجب جواز اجتماع المثلين في شيء واحد كالوجوبين في قتل زيد إذا [ وجب ] بأكثر من جهة واحدة ، وفيه نظر يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

وثانيهما : التزام تعدّد العنوان المستلزم لتعدّد الحكم ، نظرا إلى أنّ الشيء الواحد - وإن كان شخصيّا - قد يكون مصداقا لعنوانين كلّ منهما مورد لحكم غير حكم الآخر ، كضرب اليتيم الّذي هو بقصد التأديب حسن فواجب ، وبقصد التعذيب قبيح فحرام ، فهو واجب وحرام بالفعل ومورد لحكمين متضادّين.

والسرّ في ذلك : أنّ كلاّ من العنوانين مفهوم متغاير لمفهوم الآخر ، موضوع لحكم غير حكم الآخر ، وإذا تعدّد الموضوع لا ضير في تعدّد الحكم ، فالوضوء المأتيّ به بقصد

ص: 422

الاستحباب مصداق لعنوانين أحدهما كونه مقدّمة للصلاة الواجبة والآخر كونه مقدّمة للقراءة المندوبة ، فلا ضير في كونه قبل الإتيان به في ذلك الوقت واجبا ومندوبا ، فإذا انتفى عنه بعد الإتيان به أحد العنوانين من جهة عدم قصد الامتثال به لا يلزم منه انتفاء العنوان الآخر ، فإذا صحّ وقوعه مصداقا لذلك العنوان نظرا إلى اختصاص القصد به جاز اتّصافه بحكم ذلك العنوان لانتفاء المانع كما عرفت.

ويمكن الاعتراض عليه : بأنّ العنوانين قد يكونان متلازمين في الوجود الخارجي فيقع الشيء الواحد الشخصي مصداقا لهما معا ، كضيافة زيد بالإضافة إليه وإلى عدوّه ، فإنّها إحسان له وإهانة لعدوّه وهما متلازمان معا ، سواء اختصّ القصد بأحدهما أو لا ، فحينئذ لا إشكال في عدم جواز اتّصافه بحكمين متضادّين لما سيأتي في بحث اجتماع الأمر والنهي.

وقد يكونان متباينين على نحو يكون بينهما عموم من وجه ، سواء كان المكثّر والموجب للتعدّد فيهما غير القصد كإكرام زيد مع إكرام عمرو ، فإنّهما يجتمعان في إعطاء ولد هو ابن لأحدهما من ابنه وللآخر من بنته ، ويفترقان في إعطاء غلام كلّ منهما ، أو القصد كلطم اليتيم بقصد التأديب ولطمه بقصد التعذيب ، فإنّهما يجتمعان فيما لو حصل بقصد العنوانين معا ، ويفترق كلّ منهما عن الآخر بما لو اختصّ القصد به ، ومثله دخول دار الغرقى والمهدوم عليه بقصد إنقاذه أو بقصد شيء آخر كسرقة ماله مثلا ، فإنّهما يجتمعان عند اجتماع القصدين ويفترقان بافتراق القصدين ، فحينئذ لا إشكال في جواز الاتّصاف بحكمين متغائرين في مادّتي الافتراق في كلّ من القسمين ، كما لا إشكال في عدم جوازه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع لما تقدّم.

ومحلّ البحث إن ثبت كونه من قبيل القسم الثاني يتمّ فيه الوجه المذكور لتجويز اتّصاف الوضوء بالاستحباب مع اتّصافه بالوجوب ، ولكنّ الظاهر أنّه ليس من هذا الباب بل هو من باب القسم الأوّل ، وهو كون العنوانين متلازمين في الوجود الخارجي ، فإنّ الوضوء قبل الإتيان به كما أنّه مصداق لمقدّمة الواجب فكذا مصداق لمقدّمة المندوب ، واختصاص القصد بأحدهما لا يوجب اختصاصه به بالنظر إلى الخارج لعدم مدخليّة القصد في المقدّمية ، فإنّه بالنسبة إلى المقدّمة ليس كالقصد بالنسبة إلى لطم اليتيم تأديبا وتعذيبا ، ودخول دار الغير للإنقاذ وغيره ليكون مغيّرا للعنوان ومحصّلا للتعدّد ، فلا يصحّ فيهما اجتماع الوجوب والاستحباب ، فالوضوء المأتيّ به بقصد قراءة القرآن مثلا بعد دخول

ص: 423

الوقت ليس مصداقا للواجب لعدم قصد الامتثال به ، ولا للمندوب لعدم الأمر به من جهة عدم جواز اجتماعه مع الوجوب.

وأنت خبير بأنّ الاعتراض على تقدير صحّته إنّما يتوجّه على ما اخترناه من عدم اعتبار قصد الامتثال بذي المقدّمة في حصول امتثال الأمر بالمقدّمة.

وأمّا على ضابطة من يراه معتبرا فلا ، لكون النسبة حينئذ بين المقدّمتين عموم من وجه فيجتمعان فيما لو قصد بالمقدّمة امتثال الأمر بالصلاة الواجبة وامتثال الأمر بالقراءة المندوبة ويفترقان فيما لو قصد بها الامتثال بأحدهما خاصّة.

والعجب عن الشيخ الاستاد - دام ظلّه - كيف غفل عن ذلك فالتزم بورود الاعتراض ، مع ذهابه فيما تقدّم إلى اعتبار القصد المذكور في امتثال الأمر بالمقدّمة ، فإنّ هذا القصد على ذلك التقدير منوّع للموضوع ، ومعه يرتفع التلازم كما لا يخفى.

ويمكن الذبّ عن الاعتراض - على ما اخترناه أيضا - : بمنع حصر تعدّد العنوان الموجب لتعدّد الحكم فيما ذكر من القسمين ، فإنّ العنوانين قد يكونان متبائنين بالتبائن الكلّي مع اشتراكهما في خاصّة واحدة يعبّر عنها باللازم الواحد كالوضوء ، فإنّه مصداق للمقدّمة الواجبة إذا قصد به امتثال الأمر الإيجابي المتعلّق به ومصداق للمقدّمة المندوبة إذا قصد به امتثال الأمر الاستحبابي المتعلّق به ، وهما وإن كانا متبائنين إلاّ أنّهما يشتركان في لازم واحد وهو كونهما محصّلين للطهارة المبيحة للصلاة ، بل مقدّمة الصلاة في الحقيقة هي الطهارة كما عرفت.

والوضوء على أحد الوجهين مقدّمة للمقدّمة ، فالمكلّف إذا أتى بالوضوء المندوب لأجل القراءة بقصد الاستحباب فقد أتى بما يحصل معه مقدّمة الصلاة أيضا وهي الطهارة ، كما أنّه لو أتى بالوضوء الواجب بقصد الوجوب وأتى بما يحصل به المقدّمة فلا يلزم من فرض كون الإتيان بالوضوء للقراءة امتثالا للأمر الاستحبابي اجتماع حكمين متضادّين ، ولا يكون ذلك مبنيّا على جواز اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد ، كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن ينقل الكلام إلى الطهارة الّتي هي لازم لقسمي الوضوء ، ويقال : إنّها واجبة ومندوبة بالإضافة إلى الصلاة والقراءة ، والمحذور لازم على هذا التوجيه أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّ الطهارة بنفسها حكم وضعي متولّد عن الحكم التكليفي فلا يصلح معروضا للحكم التكليفي ، ولا ينافيه تعلّق الأمر به في بعض الأحيان كما في قوله : « تطهّر للصلاة » مثلا لأنّه راجع - على التحقيق - إلى إيجاد سببها ، كيف وهي من الأحوال الصرفة

ص: 424

العارضة لذات المكلّف فلا تصلح موردا لما يختصّ بأفعاله أو ما هو بمنزلتها ، فلذا جعلت موضوعا لفنّ الفقه.

في المقدّمة الموصلة

وربّما يقال - في دفع الإشكال بما لا محصّل له عند التحقيق ، وهو : - أنّ جهة الاستحباب لا تنافي جهة الوجوب ، لأنّ الأوّل طلب فعل مع الرجحان والثاني طلب لذلك الفعل مع شيء زائد ، فحصول ذلك الطلب لا يوجب سقوط الأوّل بل يؤكّده مع إيراثه شيئا زائدا عليه ، فلا ينافيه لئلاّ يمكن اجتماعهما.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كان الطلب الأوّل ثابتا لا بشرط شيء لئلاّ ينافيه الطلب الإيجابي الّذي هو طلب بشرط شيء ، وهو ضروريّ البطلان لأنّ الأوّل طلب مع الرجحان بشرط لا ، والثاني طلب معه بشرط شيء فهما يشاركان في الجنس ويتمايزان في الفصل فيحصل التنافي بينهما من هذه الجهة.

نعم على القول بأنّ الوجوب أمر بسيط عبارة عن الطلب المتأكّد فلا فصل له يستقيم ذلك أيضا ، ولكنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها مع مخالفتها للمذهب المشهور.

وقد يقال في دفع الإشكال أيضا - على تقدير عدم اجتماع طلبين في محلّ واحد ، وعدم جواز وقوع شيء واحد مطلوبا من وجهين - : بمنع كون الامتثال فرعا للمطلوبيّة بل هو فرع المحبوبيّة والفرق بينهما واضح ، وهو أيضا بعيد عن السداد كما لا يخفى.

الأمر الرابع : هل يعتبر في الواجب الغيري - سواء كان وجوبه بحكم العقل من باب المقدّميّة أو بحكم الشرع - حصول التوصّل فعلا إلى ذي المقدّمة ، بحيث لو لم يحصل التوصّل إليه بعد الإتيان بها لكشف ذلك عن عدم كون المأتيّ بها من المقدّمة الواجبة ، فلو أتى بالوضوء وترك الصلاة أو قطع مسافة الحجّ وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة ، فلازمه انقسام المقدّمة إلى ما هي واجبة وهي الموصلة إلى ذيها ، وما ليست بواجبة وهي الّتي لا توصل إلى ذيها ، أو لا يعتبر ذلك بل الواجب الغيري ما من شأنه أن يتوصّل به إلى ذي المقدّمة سواء حصل التوصّل فعلا أو لا؟ فما فرض من المثالين إنّما هو مقدّمة واجبة قد حصل الامتثال الأمر بها من جهة الإتيان بها ، فالمقدّمة على هذا تنحصر في قسم واحد ، وجهان بل قولان اختار أوّلهما بعض الفضلاء.

وقد يستظهر ذلك ممّن يقول ببطلان الوضوء الّذي يؤتى به لأجل قضاء الفائتة من دون تعقّبه بإتيانها.

ص: 425

ونسبه في الهداية إلى كونه ممّا قد يتخيّل وصار إلى الثاني.

ويستفاد منه كونه مذهب الجمهور ، بل استظهر هذا الفاضل كون الأوّل مستفادا من المصنّف أيضا لأنّه قال : « وقد يستفاد من المصنّف في ذيل المسألة الآتية ، حيث قال : إنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة - على تقدير تسليمها - إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر ، وكأنّه إنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحال من جهة حصول التوصّل بها عند إرادة ما يتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن مريدا له إذ لا يتوصّل بها حينئذ إلى فعله » انتهى.

وأنت خبير بفساد هذا التوهّم من تلك العبارة ، فإنّها مسوقة لبيان أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة مقتضية لكون وجوبها مشروطا بإرادة الإتيان بذيها ، فهو ناظر - على تقدير القول به - إلى دعوى كون إرادة الإتيان بذي المقدّمة من شرائط وجوب المقدّمة بحيث لولاها لا وجوب أصلا كالقدرة ونحوها من شرائط الوجوب.

ومحلّ الكلام ما كان التوصّل إلى ذي المقدّمة من شرائط الواجب من المقدّمة - غاية الأمر كون إرادة الإتيان به مقدّمة لوجود ذلك بحيث لو انتفت انتفى التوصّل فانتفى الواجب - لا الوجوب وبينهما بون بعيد ، فهو ليس بصدد تقسيم المقدّمة إلى ما هي واجبة وما ليست بواجبة ، بل بصدد منع أصل الوجوب ، كيف ولو كان بصدد ذلك لكان عليه فرض كلامه فيما إذا وجدت المقدّمة بدون ذيها كما هو محلّ البحث ، ومحلّ كلامه خلاف ذلك الفرض إذ لم يتحقّق المقدّمة فيما فرضه وهو ترك الضدّ في الخارج حتّى لا يكون هو الواجب من المقدّمة بسبب عدم اقترانها بوجوب ذيها.

فاستفادة ذلك القول من عبارة المصنّف إن كانت ولا بدّ منها فما ذكره قبل العبارة المذكورة أولى بكونه موهما لذلك ، حيث قال : « ولا ريب أنّه مع وجود الصارف عن فعل الواجب وعدم الداعي لا يمكن التوصّل فلا معنى لوجوب المقدّمة » وهو أيضا عند التحقيق ليس مسوقا لبيان هذا المعنى ، بل المراد به إبداء أنّ المقدّمة لمّا كان وجوبها للتوصّل إلى ذيها - حتّى قيل : إنّ الواجب حقيقة إنّما هو التوصّل - فوجوبها فعلا مشروطا بإمكان التوصّل إلى ذيها ، نظرا إلى أنّ القدرة والتمكّن من شرائط التكليف مطلقا ، ومحلّ البحث جعل فعليّة التوصّل بعد إحراز إمكانه قيدا في الواجب بحيث لو انتفت لكان المأتيّ به غير واجب ، وبين المقامين فرق واضح.

ص: 426

ثمّ إنّ القول باشتراط فعليّة التوصّل في المقدّمة الواجبة لا اختصاص له بمن يرى قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة شرطا في حصول الامتثال بالمقدّمة ، لأنّ ممّن ينفي الاشتراط ثمّة من يقول بالاشتراط هنا كبعض الفضلاء ، وممّن يثبت الاشتراط ثمّة من ينفي الاشتراط هنا كشيخنا الاستاد - دام ظلّه - فلا ملازمة بين القولين.

وكيف كان فأنت بالتأمّل في كلامهم ودليل الطرفين تعرف أنّ النزاع الواقع فيما بينهم صغروي راجع إلى اشتباه الموضوع ، لتردّد الوجوب الغيري بين مطلوبيّة شيء للتوصّل إلى الغير ، ومطلوبيّة التوصّل إلى الغير بذلك الشيء.

والفرق بين التعبيرين واضح.

فإنّ التوصّل إلى الغير على الأوّل من باب الغايات الّتي لا يجب ترتّبها فعلا على ما لوحظ وسيلة إليها ، بل قد تترتّب فعلا من باب المقارنات الاتّفاقيّة كما هو الغالب ، وقد لا تترتّب والدواعي الّتي دعت إلى إيجاب ما من شأنه أن يوصل إليها سواء حصل التوصّل فعلا أو لم يحصل لمانع عقلي اضطراري أو اختياري ، ولو كان من باب صرف الإرادة وزوال الميل النفساني.

وعلى الثاني يكون هو المطلوب بالأمر الّذي سبق إلى إفادته الخطاب من باب ذكر السبب وإرادة المسبّب ، فلذا ترى بعض من يذهب إلى القول الأوّل يفرّع مختاره على ما ذكره في تفسير الواجب الغيري من أنّه ما يكون التوصّل به إلى غيره مطلوبا من المكلّف في مقابلة الواجب النفسي الّذي فسّره بما يكون المطلوب من المكلّف في إيجابه نفسه دون توصّله به إلى غيره.

فاحتجّ عليه : بأنّ مطلوبيّة (1) شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره ، لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا وهذا لا يتحقّق بدون القيد الّذي هو فعل الغير.

فعلى الأوّل يتنوّع المقدّمة باعتبار فعليّة الترتّب وعدمها على نوعين ، كما هو وظيفة كلّ ما اعتبر في مفهومه قيد « شأني ».

وعلى الثاني ليس لها إلاّ نوع واحد كما هو شأن كلّ ما اعتبر في مفهومه قيد « فعلي ».

ص: 427


1- وقد يقرّر بأنّ المقدّمة ليست مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لأجل كونها موصلة إلى ذيها فالمطلوب الحقيقي هو الإيصال فيكون الواجب في الحقيقة هو المقدّمة الموصلة والمقدّمة الّتي لا يوجد معها ذوها لم يكن من المقدّمة الواجبة. ( منه ).

والّذي يترجّح في النظر القاصر هو الوجه الأوّل ، لأنّه المنساق عرفا من الخطابات الواردة في هذا الباب ، كقوله : « توضّأ للصلاة » و « اغتسل للزيارة » و « سافر عند خروج الرفقة للحجّ ».

ألا ترى أنّه لو قال الأمير لبعض امنائه : « اجمع العسكر لفتح البلد الفلاني » فامتثل وصادف عدم حصول الغرض لقصورهم عنه مثلا خرج عن العهدة جزما ، وليس للأمير أن يؤاخذه بعدم الإتيان بما أمره به وهو المقدّمة الموصلة ، فلو أخذه والحال هذه لذمّه العقول ، بخلاف ما لو كان ذلك من تقصيره بأن لم يأت بكمال المأمور به فإنّه حينئذ يستحقّ الذمّ والمؤاخذة والعقاب مع اشتراكه مع الصورة الاولى في عدم الإيصال ، فلا يعقل بينهما فرق إلاّ أنّ المعتبر في المأمور به حينئذ إنّما هو شأنيّة الإيصال لا فعليّته ، وهي منتفية في الصورة الثانية دون الاولى وإلاّ لاشتركتا في استلزام توجّه الذمّ واستحقاق المؤاخذة كما لا يخفى.

فمن هنا يتبيّن فساد احتجاج الخصم بما تقدّم ذكره ، فإنّ قوله : « مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما يترتّب ذلك الغير عليه دون غيره » ممنوع بأنّ مطلوبيّة شيء للغير تقتضي مطلوبيّة ما من شأنه أن يترتّب عليه ذلك الغير ، سواء حصل الترتّب فعلا أو لم يحصل لأنّه المنساق عند العرف كما عرفت ، وقوله : « لما عرفت من أنّ المطلوب فيه المقيّد من حيث كونه مقيّدا » إلى آخره.

يدفعه : أنّ كون المطلوب فيه هو المقيّد ، أعني المقدّمة الموصلة من حيث إنّها موصلة أوّل الدعوى ولا دليل عليها ، بل الدليل قاض بكون المطلوب هو المقدّمة دون غيرها ، فخرج ما لا يعدّ مقدّمة في نظر العرف لنقض فيه ببعض الشرائط أو الأجزاء أو نحو ذلك.

ومن جملة الشرائط إعدام المانع ، فلذا لا نقول بامتثال من كان له صارف اختياري عن الفعل لأنّه لم يكمل الشرائط الّتي منها إعدام ذلك الصارف ، فيرجع المحصّل إلى إبداء الدليل على أنّ المطلوب في الواجب الغيري ما من شأنه الإيصال إلى المطلوب ، وهو الّذي أشرنا إليه.

وربّما يقرّر الدليل المذكور : بأنّ المقدّمة ليست مطلوبة لنفسها بل هي مطلوبة لمطلوبيّة ذيها ، فإذا أتى بها المكلّف من دون ذيها فلا يخلو إمّا أن تكون هي المقدّمة المطلوبة أو غيرها ، والأوّل يوجب أن تكون المقدّمة مطلوبة لنفسها وهو خلاف الفرض ، فتعيّن الثاني إذ لا ثالث لهما.

والجواب : أنّ معنى كون المقدّمة مطلوبة لمطلوبيّة غيرها أنّ الداعي إلى طلبها التوصّل إلى الغير المطلوب من باب الغايات المطلوبة ، وهو لا يقتضي فيها أزيد من كونها صالحة

ص: 428

ليتوصّل بها إلى ذلك الغير.

ولو اريد به صلاحيّة الإيصال فعلا ، ففيه : منع اعتبار وصف الإيصال فعلا في المقدّمة الواجبة ، فإنّ الحاكم بوجوبها إن كان هو العقل فهو لا يلاحظ فيها وصف الإيصال أبدا ، بل إنّما يحكم بوجوبها لمحض أنّ لها دخلا في وجود ذيها ، وملاحظة مجرّد المدخليّة ليست من ملاحظة وصف الإيصال في شيء.

وإن كان هو الشرع فكذلك لأنّ الشارع أيضا لا يلاحظ معها إلاّ مجرّد المدخليّة فيطلبها بواسطة طلب ذيها ، هذا كلام مع الخصم في دليله.

وأمّا الكلام معه في إبطال أصل مذهبه فبأنّا نرى أنّ الّذي يترتّب عليه وجود الغير فعلا من المقدّمات إنّما هو الإرادة ، فلو اريد أنّ ما عدا الإرادة من المقدّمات ليست بواجبة وإنّما الواجب هو الإرادة لأنّها الّتي لابدّ معها من وجود ذيها ، فهو في بداهة البطلان بمثابة لا حاجة معها إلى البيان ، لاستلزامه عدم اتّصاف غيرها من الشرط ونحوه بالوجوب ، وهو ممّا لم يقل به أحد بل الخصم أيضا لا يرضى بذلك.

ولو اريد أنّ المقدّمة مقيّدة بقيدين هي واجبة مع أحدهما وهو الإيصال المستلزم للوصول المستلزم لحصول ذي المقدّمة في الخارج ، وليست بواجبة مع الآخر وهو وصف عدم الإيصال.

ففيه : أنّ المقدّمة الموصلة مقيّد ، وكلّ مقيد لابدّ له من مطلق والمطلق جزء للمقيّد ، وجزء الشيء مقدّمة للشيء ، فالمقدّمة المطلقة مقدّمة للمقدّمة الموصلة.

فإمّا أن يقال بوجوب تلك المقدّمة أو لا ، والثاني عدول عن القول بوجوب المقدّمة أو تفصيل بما لا يرضى به القائل ، والثاني اعتراف بضدّ المطلوب.

ولو فرض نقل الكلام إلى وصف الإيصال الّذي هو ذو مقدّمة لما فرضناه مقدّمة ، ويقال بأنّه الواجب من المقدّمة فهو معارض بنقل الكلام إليه أيضا ، لأنّ الإيصال إلى ذي المقدّمة مقيّد له مطلق هو كالجزء منه ، فيكون الإيصال المطلق مقدّمة للإيصال المستلزم لحصول ذي المقدّمة الأصلي ، وهكذا إلى أن يتسلسل وهو محال.

فقضيّة ذلك كون مطلق المقدّمة واجبا ، وإن كان من باب مقدّمة الإيصال الّذي هو مقدّمة للوصول.

وبالجملة المقيّد الّذي هو المقدّمة الموصلة لا يتحصّل في الخارج إلاّ بتحصّل المطلق الّذي هو ذات المقدّمة ، فيكون الذات حينئذ مقدّمة لما له القيد ، فلابدّ للمستدلّ إمّا من القول

ص: 429

بعدم وجوب المقدّمة أصلا ولا يقول به ، أو بوجوبها لا بقيد الإيصال.

ولو فرض الكلام في ذات المقدّمة ويقال : بأنّ المقدّمة من الذات إنّما هي الموصلة فيها لا مطلقا ، فننقل الكلام إليه أيضا ونقول فيه بمثل ما ذكر ، نظرا إلى أنّ الوصف مع الموصوف بدون ذات الموصوف محال تحقّقه ، فيكون كلّ ذات مجرّدة مقدّمة لها موصوفة ، فلابدّ من الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة أو العدول عن القول بوجوبها مطلقا ، وهكذا لو فرض في الثالثة إلى أن يتسلسل وهو باطل.

فلا يبقى مناص من القول بوجوب المقدّمة مع قطع النظر عن وصف الإيصال ، وفيه تأمّل يظهر وجهه فيما نورده في ذيل المسألة من الامور.

مع أنّ بديهة الوجدان وضرورة الحسّ والعيان قاضية في المقدّمات المرتّبة في الوجود الخارجي بوضوح الفرق من جهة سقوط الطلب وعدمه بين ما يحصل منها وما لم يحصل ، فكلّ ما يحصل منها سقط طلبه وبقي الباقي بالنسبة إلى الباقي على العهدة ، فإنّ من تدرّج بعض درجات السلّم لابدّ وأن يكون ممتثلا بالنسبة إلى ذلك البعض بحكم الوجدان الّذي إنكاره إنكار لبديهة العقل ، وإن كان بانيا على عدم الإتيان بالبعض الآخر ليتوصّل إلى الصعود الّذي هو المطلوب لنفسه ، وشبهة القائل تدعوه إلى أن يجعل سقوط الطلب عن الحاصل من المقدّمات مراعى بحصول سائر المقدّمات حتّى المقدّمة الأخيرة الّتي قام بها وصف الإيصال.

وقضيّة ذلك عدم الفرق بين الحاصلة منها وغيرها ، وهو خلاف ما يحكم به الضرورة وبداهة العقل.

وبقي الكلام في الإشارة إلى ثمرات هذا الخلاف.

ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة

فإنّها على ما ذكروه كثيرة :

منها : ما أشار إليه بعض الأفاضل من أنّ المكلّف إذا صادفه صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدم عليه من ترك المقدّمات المرتبطة بذلك الواجب ممنوعا عنه على القول الأوّل ، لعدم كون تلك المقدّمات مع وجود الصارف موصلة فلا تكون واجبة ليلزم حرمة تركها.

ثمّ فرّع عليه صحّة أداء الواجب الموسّع عند مزاحمته للواجب المضيّق مع وجود صارف عنه ، فحينئذ لا يكون ما يأتي به من الموسّع منهيّا عنه ليقضي النهي بفساده ، بخلاف ما لو قيل بالثاني لتعلّق النهي به حينئذ لكون تركه مقدّمة للواجب فيكون واجبا من حيث كونه موصلا إلى الواجب.

ص: 430

وفيه ما لا يخفى : فإنّ الصارف المفروض لو كان أمرا اضطراريّا من مانع عقلي أو شرعي فلا إشكال في أنّه يوجب رفع التكليف عن الواجب ، ومعه لا فرق بين القولين في عدم ممنوعيّة ترك مقدّماته ، نظرا إلى أنّ المنع عن تركها فرع لوجوب فعلها ، ولا وجوب لها مع عدم وجوب ذيها لأنّه مبنيّ عليه فحيث انتفى انتفى ، ولو كان أمرا اختياريّا كعدم إرادة الإتيان به اختيارا فلا ريب في خروجه عن فرض وجود المقدّمة الغير الموصلة ليظهر فيه فائدة القولين ، لأنّ المقدّمة كما أنّها قد تكون عبارة عن إيجاد أمر وجودي يتوقّف على وجوده وجود الواجب كالشرط ونحوه ، فكذلك قد تكون عبارة عن رفع أمر وجودي يتوقّف على عدمه وجود الواجب كالمانع.

ومن البيّن أنّ الصارف الاختياري مانع ورفعه مقدّمة موصلة إلى الواجب بلا تأمّل فيكون واجبا ، ويترتّب عليه وجوب سائر المقدّمات أيضا إن كان هناك توقّف. وقضيّة ذلك حرمة تركها على القولين.

ومن هنا يتبيّن فساد ما فرّع على الثمرة المذكورة من مسألة دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ في قسمي الواجب الموسّع والمضيّق ، فلزوم الصحّة مشترك بين القولين على تقدير ، كما أنّ لزوم عدمها مشترك بينهما على تقدير آخر ، فلا يظهر في ذلك فائدتهما جزما.

ومنها : ما أشار إليه الفاضل المذكور أيضا من أنّه لو أتى بالوضوء بقصد الوجوب لغاية مندوبة عند اشتغال الذمّة بالغاية الواجبة فإنّه يقع صحيحا على الثاني دون الأوّل ، إذ لا يجوز حينئذ قصد الوجوب إلاّ إذا أتى به لأداء الغاية الواجبة ، ولا أقلّ من ظنّه بأدائه إليها إذا لم يلاحظ الغاية الواجبة حال أداء الفعل.

وفيه أيضا : أنّه من فروع ما تقدّم في المسألة السابقة من اشتراط حصول الامتثال بالواجب الغيري بقصد امتثال الأمر بذلك الغير حال أداء الفعل وعدمه.

بل الّذي يناسب فرضه من فروع محلّ الكلام هو أنّه لو أتى بالوضوء بقصد الوجوب لغاية واجبة فبدا له فلم يأت بتلك الغاية فعلى الأوّل لا يجوز معه الاشتغال بغاية اخرى مشروطة بالوضوء كالطواف ومسّ كتابة القرآن ونحوه ، لعدم وقوعه على الوجه الصحيح من جهة عدم كونه المقدّمة الواجبة بخلاف الثاني ، للزومه كون المأتيّ به على كلّ تقدير من الوضوء الواجب الّذي يصحّ معه الاشتغال بكلّ مشروط به ، كما هو لازم القول الأوّل على تقدير أداء الغاية الواجبة سابقا أو لاحقا.

ص: 431

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور من جواز أخذ الاجرة على فعل المقدّمة إذا لم يترتّب عليها ذوها وعدم جوازه على القولين ، بناء على ما تقرّر من عدم جواز أخذ الاجرة على فعل الواجبات ، مع عدم الفرق في ذلك بين الواجبات النفسيّة والغيريّة.

ومنها : ما ذكره ذلك الفاضل أيضا من برء النذر بفعلها في الصورة المتقدّمة لو تعلّق بفعل واجب على الثاني ، إذا قلنا بشمول الواجب عند الإطلاق للواجبات الغيريّة ، أو صرّح الناذر بالتعميم بخلاف الأوّل.

ومنها : ما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّه لو نذر أن يغتسل غسل الزيارة فاغتسل لها ثمّ بدا له فلم يزر أو منعه مانع منها لم تبرأ ذمّته على الأوّل دون الثاني.

ومنها : ما أفاده ذلك الفاضل من مسألة التيمّم في سعة وقت الفريضة لغاية غيرها بناء على مراعاة الضيق ، فإنّه إذا لم يترتّب عليه الغاية كشف عن بطلانه فيبطل الفريضة إن صلاّها به ولو في آخر وقتها ، وكذا لو تيمّم للفريضة عند ضيق وقتها ففاتته. نعم لو ترتّب على تيمّمه في المقامين غايته كان تيمّمه حين وقوعه مطلوبا لها أيضا صحّ وجاز الدخول به في غاياته المتأخّرة ، إذ قصد الغاية بالمقدّمة غير معتبر في مطلوبيّتها.

هذا كلّه على الأوّل وأمّا الثاني فيعرف حكمه بما علم.

في ترتّب الثواب على فعل الواجب الغيري وعدمه

الأمر الخامس : هل الواجب الغيري يوجب لفاعله استحقاق الثواب غير ما يوجبه له الغير المشروط به ، ولتاركه استحقاق العقاب غير ما يوجبه له الغير المشروط به أو لا؟ بل لا استحقاق في ثواب ولا عقاب إلاّ من جهة الغير المشروط به فعلا وتركا ، وجوه بل أقوال.

ثالثها : الفرق بين الاستحقاقين ففعل الواجب الغيري - بل كلّ مقدّمة للواجب - يوجب الاستحقاق للثواب وتركه لا يوجب استحقاق عقاب غير ما يترتّب على ترك الغير ، عزاه بعض الأعلام إلى بعض المحقّقين وحكى نقله عن الغزالي.

ثمّ قال : و « لا غائلة فيه ظاهرا إلاّ أنّه قول بالاستحباب وفيه إشكال ، إلاّ أن يقال : باندراجه تحت الخبر العامّ في « من بلغه ثواب على عمل ، وفعله التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن كما بلغه » فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه. فتأمّل ».

وستعرف ما في كلامه من الاستدراك بكلمة « إلاّ » فهو مع تسليمه هنا جواز ترتّب المدح والثواب على الفعل يصرّح في ذيل المسألة بما يقضي بتجويزه ترتّب الذمّ والعقاب على الترك أيضا ، حيث قال : « بل لا نضائق في ترتّب العقاب على ترك الوضوء من جهة

ص: 432

خصوص الأمر به وإن كان وجوبه للغير ، كما هو مدلول أصل لفظ الأمر ومصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين » ولكن يظهر منه تخصيص ذلك بما ثبت له وجوب أصلي كالوضوء ونحوه فخرج سائر المقدّمات فلا يترتّب على تركها عقاب.

وربّما يسند القول بترتّب استحقاق العقاب على الترك إلى ظاهر كلام السيّد الطباطبائي في المناهل حيث حكم في بحث الوضوء بوجوبه لمشروط به ، ثمّ رتّب امورا.

منها : بيان أنّ المراد بالوجوب هنا ما يوجب استحقاق الذمّ بالترك ، ووجه كونه ظهورا احتمال اعتقاد التعميم في معنى القضيّة بحيث يمكن كونه في الوضوء من جهة إفضاء تركه إلى ترك ما يوجب تركه ذلك.

وقضيّة ذلك الظهور القول بترتّب استحقاق المدح على الفعل بطريق أولى كما لا يخفى.

والقول بالفرق صرّح به أيضا بعض الأفاضل وتبعه أخوه في ذلك.

وأمّا القول بالمنع مطلقا فاختاره شيخنا - دام ظلّه -.

وأمّا القول بالإثبات مطلقا فلم يعهد إلاّ ما أشرنا إليه عن بعض الأعلام.

وكيف كان فالمسألة خلافيّة ، وظاهر أنّ الخلاف لا يرجع إلى مفاد الأمر ولا مفهوم الوجوب أو الواجب ، لأنّ الاستحقاق للثواب والعقاب أمر خارج عن هذه الامور بحسب العرف واللغة ، وإنّما هو لازم شرعي للواجب يثبت فيما قام عليه دليل شرعي فيه وينتفي فيما ينتفي الدليل الشرعي ، وظاهر أيضا أنّ الّذي يليق بأن ينازع فيه نفيا وإثباتا إنّما هو ترتّب الثواب والعقاب على الفعل والترك على جهة الاستحقاق وإن كان ذلك قد خفي على كثير منهم فلذا وقع الخلط في كلامهم ، وإلاّ فترتّب الثواب على الفعل أحيانا في بعض المقدّمات على ما ورد عليه الروايات من جهة كونه ممّا فضّله اللّه سبحانه ليس ممّا ينبغي لأحد إنكاره ، كيف وأخبار فضل الوضوء والخروج إلى المسجد للصلاة والمسير إلى الحجّ والمسافرة لزيارة قبور الأئمّة والحجج - سلام اللّه عليهم - لا يكاد يخفى أمرها على أحد ، والظاهر أنّه لا خلاف لأحد في أنّ فعل المقدّمة بنفسها مجرّدة عن ذيها لا يترتّب عليه استحقاق مدح ولا ثواب.

ووجهه : أنّ إيجاب المقدّمة لم يتعلّق به غرض ولا اقتضته حكمة إلاّ التوصّل إلى ذيها ، بحيث لو لا ذلك لكان وجودها مع عدمها في نظر الآمر على نهج سواء ، فما يكون حاله هذا فكيف يعقل استحقاق مدح أو ثواب بفعله المجرّد عن جهة التوصّل ، ولا ينافيه كونها

ص: 433

أحد فردي الواجب على هذا التقدير - بناء على ما حقّقناه - إذ لا ملازمة بين الإيجاب وترتّب الاستحقاق ، فإنّ الاقتضاء دائما على ما عليه بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار ينوط بشأنيّة الحصول ، بخلاف الأجر والثواب لاناطة الاستحقاق لهما دائما على فعليّة الحصول ، فالتوصّل هو الداعي إلى الإيجاب أثّر في مقام الاقتضاء في تعلّق الوجوب بما من شأنه ترتّب الحصول ، وفي مقام الإعطاء لا تأثير له إلاّ في ترتّب الأجر على ما حصل منه فعلا.

فيعود النزاع إلى أنّ حكمة التوصّل إلى شيء كما أنّها أوجبت إلى إيجاب المقدّمة فهل توجب ترتّب استحقاق الثواب على فعلها زيادة على ما يترتّب على فعل ذيها أو لا؟ وعلى كلّ تقدير فهل توجب ترتّب استحقاق العقاب على تركها زيادة على ما يترتّب على ترك ذيها أو لا؟

فنقول : إن كان نزاعهم في الإمكان فالحقّ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على العدم ، وإن كان في الوقوع فلا دليل أيضا على شيء من الاستحقاقين عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل : فلاستقلال عقولنا بأنّ العقاب عند ترك المقدّمة المؤدّي إلى ترك ذيها واحد ، وهو الّذي يترتّب على ترك ذيها عند ترك المقدّمة كما عليه المحقّق السبزواري على ما حكي عنه ، وكذلك الثواب عند الإتيان بهما معا فإنّه واحد وهو الّذي يترتّب على فعل ذي المقدّمة خاصّة.

ألا ترى أنّ العبد التارك لاشتراء اللحم المأمور به لا يعاقب إلاّ على ترك الاشتراء ، كما أنّه لا يستحقّ المدح عند الإتيان به إلاّ على أصل الاشتراء دون مقدّماته.

وأمّا النقل : فلفقد ما يصلح دليلا على استحقاق العقاب بترك المقدّمات إلاّ ما تمسّك به من إطلاق قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (1) وانتفاء ما يصلح دليلا على استحقاق الثواب إلاّ قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (2) ( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (3).

وجملة من الأخبار الدالّة على ترتّب الثواب على مقدّمات بعض العبادات مثل ما ورد

ص: 434


1- الجن : 23.
2- التوبة : 120.
3- النحل : 121.

في كلّ خطوة من خطوات المشي إلى المسجد.

وما في الفقيه قال الصادق عليه السلام : « من مشى إلى المسجد لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلاّ يسبّح له إلى الأرضين السابعة ».

وما ورد في المسافرة لحجّ بيت اللّه الحرام مثل ما عن أبي جعفر عليه السلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله انّه قال - في رواية طويلة لأنصاري - : « فاعلم أنّك إذا توجّهت إلى سبيل الحجّ ثمّ ركبت راحلتك وقلت : بسم اللّه ومضت بك راحلتك لم تضع راحلتك خفّا ولم ترفع خفّا إلاّ كتب اللّه عزّ وجلّ لك حسنة ومحا عنك سيّئة (1) » إلى آخره.

وما في مسافرة الزيارات ونحوها ممّا لا يكاد يخفى.

وهي كما ترى لا دلالة في شيء منها على ما هو المطلوب في المقام ، أمّا آية العصيان فلخروج محلّ البحث عن مورد الإطلاق أو العموم من جهة عدم العصيان على ترك المقدّمات عرفا ، بل الّذي يعدّ منه إنّما هو ترك ذيها من غير نظر معه إلى ما تحقّق معه من تركها أصلا.

وأمّا الآية الاخرى مع الأخبار فلأنّ أقصى ما يستفاد منها كون ما يترتّب على المقدّمات من المثوبات ممّا فضله اللّه عزّ وجلّ وهذا ليس من المدّعى في شيء ، بل لا ينكره أحد.

أو يقال : إنّ ذلك وإن اسند إلى المقدّمات إلاّ أنّه ليس لأجل المقدّمات بل هو ممّا يترتّب على ذيها وإنّما اسند إليها توزيعا ، وذلك لما فيها من المدخليّة في حصوله من باب السببيّة في الجملة فيوزع عليها ما قرّر له من الأجر والثواب.

ويشهد بما ذكرنا من التوجيهين امور :

منها : ما في رواية الحجّ من أنّه عليه السلام بيّن ذلك ثوابا للحجّ كما ينبّه عليه قوله عليه السلام - قبل ما تقدّم - : وأمّا أنت يا أخ الأنصاري فإنّك جئت لتسألني عن حجّك وعمرتك وما لك فيهما من الثواب.

ومنها : ما ورد في النظر إلى الكعبة الّذي ليس من المقدّمات ولا من ذيها من قول الصادق عليه السلام : « من نظر إلى الكعبة فعرف من حقّنا وحرمتنا مثل الّذي عرف من حقّها وحرمتها غفر اللّه له ذنوبه كلّها ، وكفاه همّ الدنيا والآخرة كلّها ».

وفي رواية اخرى : « إنّ من نظر إلى الكعبة لم يزل يكتب له حسنة ويمحى عنه سيّئة حتّى يصرف ببصره عنها » إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 435


1- الفقيه 2 : 203 ، ح 2138.

ومنها : ما ورد في بعض الأخبار لبيان فضيلة زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ممّا يقضي بأنّ كلّ خطوة من ذهابه حجّ ، وكلّ خطوة من إيابه حجّان ، مع أنّ الإياب وخطواته ليس من المقدّمات ، فلا يكون ذلك إلاّ من جهة التوزيع أو حاصلا على جهة الفضل والإحسان ، فإذا لم يكن هناك دليل على شيء من الاستحقاقين كان عدمهما هو الّذي يقتضيه القاعدة.

ولكن يشكل ذلك بما ورد في الروايات من ترتّب الثواب على الوضوء وغيره من الطهارات ، وعلى أنّه لكلّ قطرة من الماء الّذي يقطر كذا ، ولغسل كلّ عضو يغسل كذا ، بل وفي رواية : « أنّ الوضوء حدّ من حدود اللّه ليعلم من يطيعه ومن يعصيه ».

وفي اخرى قال الصادق عليه السلام : « بينا أمير المؤمنين ذات يوم جالس مع محمّد ابن الحنفية ، إذ قال : يا محمّد ائتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة ، فأتاه محمّد بالماء - إلى قوله - : ثمّ رفع رأسه فنظر إلى محمّد فقال : يا محمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولى خلق اللّه تبارك وتعالى من كلّ قطرة ملكا يقدّسه ويسبّحه ويكبّره ، فيكتب اللّه عزّ وجلّ ثواب ذلك له إلى يوم القيامة ».

مع أنّ الأمر فيها غيري وليس ذلك لأجل ما ثبت فيها من الاستحباب النفسي.

أمّا أوّلا : فلأنّ الثواب على هذا التقدير مترتّب على الاستحباب الفعلي والطهارات إذا أتى بها لأجل الأمر الإيجابي الغيري - كما هو المفروض - ليس فيها استحباب فعلي ليكون الثواب المدلول عليه بالروايات مترتّبا عليه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الثواب لو كان لأجل الاستحباب النفسي لكان خارجا عن الفرض ، إذ المفروض أنّ ما يترتّب عليها من الثواب إنّما هو لأجل الأمر الغيري كما لا يخفى على من تأمّل في صدر الرواية المذكورة حيث قال عليه السلام : « يا محمّد ائتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة » والأمر في إطلاق ما ورد منها مطلقا سهل بعد إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد.

نعم ربّما يشهد بما ذكر من احتمال ترتّب الثواب على الأمر الاستحبابي الثابت فيها عدّهم إيّاها من التعبديّات المحتاجة إلى قصد التقرّب وصريح حكمهم بلزومه ، فلو كان الأمر لمجرّد الغيريّة - على ما هو مفروض البحث - لما كان لذلك وجه لعدم افتقار الواجب الغيري إلى قصد الامتثال ، إلاّ أن يراد بذلك الامتثال بالأمر الغيري الثابت فيها.

وفيه : أنّ امتثال الأمر الغيري مع ملاحظة ذلك الغير لا يرجع إلى محصّل إلاّ إذا اريد به الامتثال بذلك الغير ولازمه أن يكون الثواب لأجله ، وهو خلاف ما يستفاد من الأخبار من

ص: 436

كون الثواب مترتّبا على نفس تلك الأفعال.

ولكن يدفعه : أنّ كونها من الغيريّات لا شبهة فيه لأنّه المفروض مع شهادة بعض الأخبار ، مضافا إلى ما مرّ بذلك ، كما روي من : أنّه كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا توضّأ لم يدع أحدا يصبّ عليه الماء ، فقيل له يا أمير المؤمنين لم لا تدعهم يصبّون عليك الماء؟ فقال : لا احبّ أن اشرك في صلاتي أحدا ، وقال اللّه تبارك وتعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (1).

ومثله ما عن الصادق عليه السلام : « من أنّ الوضوء لأجل الصلاة وهي عبادة ولا احبّ أن اشرك في عبادتي » إلى غير ذلك ممّا يدلّ على غيريّة الوضوء وغيره ، فالأمر حينئذ مشكل والتفصّي عن الإشكال أشكل ، ومع عدمه ينتقض ما أسّسناه من القاعدة.

اللّهمّ أن يقال في محلّ الإشكال بنحو ما سبق من قضيّة التوزيع ، بدعوى : أنّ الثواب المدلول عليه بالأخبار إنّما هو لأجل ذي المقدّمة ولكنّه يوزّع على حسب أجزاء المقدّمات ، وهو بعيد مخالف لما يظهر من الأخبار من كون الثواب لأجل مجرّد هذه الأعمال.

نعم يمكن التفصّي عنه بحمله على جهة التفضّل والإشفاق ، فلا ينافيه عدم ثبوت الثواب على جهة الاستحقاق كما هو محلّ الكلام.

ويرشد إلى ذلك ما ورد في علّة الوضوء في الفقيه ، وكتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله : « إنّ علّة الوضوء الّتي من أجلها صار على العبد غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والقدمين فلقيامه بين يدي اللّه تعالى ، واستقباله إيّاه بجوارحه الظاهرة وملاقاته بها الكرام الكاتبين ، فيغسل الوجه للسجود والخضوع ، ويغسل اليدين ليقلبهما ويرغب بهما ويرهب ويتبتّل ، ويمسح الرأس والقدمين لأنّهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما كلّ حالاته وليس فيهما من الخضوع والتبتّل ما في الوجه والذراعين ».

فإنّ ظاهره أنّ الوضوء من حيث هو لا يوجب استحقاقا وليس مبناه على إيراث الأجر والثواب ، فيبقى ما في الروايات الاخر من ترتّب المثوبات عليه لأجل كونه من باب التفضّل.

أو يقال : بمنع ظهور ما أشرنا إليه من الروايات في كون ذلك لأجل الوضوء بما هو وضوء ، بل ظاهر ما تقدّم في قضيّة محمّد بن الحنفيّة - حيث قال عليه السلام : « يا محمّد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق اللّه » - خلاف ذلك ، ووجه الظهور : أنّ قوله عليه السلام : « وقال

ص: 437


1- الكهف : 110.

مثل قولي » إشارة إلى ما قرأه عليه السلام من الأدعية والأذكار عند إيجاد كلّ من جزء من أجزاء الوضوء ، وهو عطف على سابقه.

وقضيّة العطف في مثل ذلك مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في السببيّة لترتّب الجزاء ، فإنّه المنساق عرفا فيما عطف على الشرط قبل ذكر الجزاء كما يقال : « إن دخل زيد داري وجلس فأعطه درهما ».

بل يمكن أن يقال : بكون المعطوف عين المعطوف عليه في مثل ذلك ، ويكون ذكره للتفسير كما في قوله : « من خرج عن دينه وقتل إمامه فله كذا » وقضيّة ذلك كون الثواب المذكور مترتّبا على المجموع أو على الدعاء في ضمن الوضوء ، فلم يظهر أنّ الوضوء بما هو وضوء يوجب الاستحقاق.

أو يقال : إنّ الكلام في الأمر الغيري الّذي لا يقصد منه إلاّ التوصّل ، والوضوء وغيره من الطهارات الثلاث ممّا ثبت فيها جهة تعبّديّة أيضا فلذا يتوقّف صحّتها على نيّة التقرّب ، فلم لا يجوز أن يكون الثواب المدلول عليه بالأخبار تابعا لتلك الجهة ، على أنّ قصد التقرّب في كلّ شيء يوجب استحقاق المثوبات وارتفاع الدرجات ولو كان ذلك من المباحات - كما يشهد به روايات اخر - قاضية بمطلوبيّة القصد في كلّما يفعله العبد ، فلا إشكال ولا نقض لعدم كون الطهارات باعتبار جهتها التوصّليّة من حيث إنّها توصّليّة ممّا اعتبر فيها قصد الامتثال ولا التقرّب على ما هو الأصل فيها ، بل في كلّ واجب - كما تقدّم تحقيقه - ولا ممّا يترتّب عليها ثواب ، فلا منافاة أصلا.

ودعوى : أنّ فرض الكلام فيما لو كان الأمر غيريّا لا غير ، مدفوعة : بأنّ محلّ النقض والإشكال إنّما هو الطهارات ، وهي على ما صرّحوا به فيما بين الواجبات ممّا اجتمعت فيها جهة التعبّديّة مع التوصّليّة في مقابلة التوصّليّة الصرفة والتعبّديّة الصرفة.

أو يقال : إنّ ما ذكر في الواجبات الغيريّة من عدم استلزامها الاستحقاق إنّما هو من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، وروايات الطهارات صالحة لكونها مخصّصة فيخصّص بها القاعدة ولا بأس به ، لأنّه ليس بأوّل قارورة كسرت في الإسلام ، فتأمّل.

المطلب الثالث : في انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي

المطلب الثالث

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى الأصلي والتبعي

فاعلم أنّ الشيء قد يكون مستقلاّ بالخطاب ومسوقا لبيانه الكلام وقد لا يكون كذلك ،

ص: 438

والأوّل ينقسم إلى كونه مستقلاّ من جهة الاستفادة والمستفاد معا ، أو من جهة الاستفادة فقط ، أو المستفاد فقط.

والمراد بالأوّل ما يستفاد عن الخطاب المختصّ به وهو في حدّ ذاته أصيل ، وبالثاني ما يستفاد من الخطاب المختصّ به وهو في حدّ ذاته تابع للغير ، وبالثالث ما يستفاد من الخطاب المختصّ بغيره وهو في حدّ ذاته أصيل.

وأمّا القسم الآخر المقابل لتلك الأقسام فهو الّذي لا يكون مستقلاّ من جهة الاستفادة ولا المستفاد ، والمراد به ما يستفاد من الخطاب المختصّ بغيره وهو في ذاته تابع لذلك الغير ، فهذه أقسام أربع بني عليها اصطلاحهم في الواجب الأصلي والتبعي.

فالواجب الأصلي ما يكون من أحد الثلاث الاول على طريق منع الخلوّ والتبعي لا يكون إلاّ من الرابع.

والأولى في تحديد الأصلي أن يقال : « ما تعلّق به الطلب بالأصالة » ولا يكون إلاّ إذا تصوّره الشارع بالخصوص فطلبه ، ويلزمه أن يكون مقصودا بالخطاب أصالة ، ولا يفرق حينئذ بين كونه مطلوبا لنفسه كالواجب النفسي أو لغيره كالواجب الغيري ، فهو أعمّ منهما كما أنّه لا يفرق بين كونه مستقلاّ من جهة الاستفادة والمستفاد معا كما إذا استفيد طلبه عن خطابه المختصّ به كالمنطوق في مقابلة المفهوم بكلا قسميه من المخالفة والموافقة ، ومنه حرمة التأفيف المستفاد عن قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (1) أو من جهة المستفاد فقط فهو من جهة الاستفادة تبعيّ ، والمراد به استفادة طلبه المقصود بالأصالة عن الخطاب المختصّ بغيره كالمفهوم بكلا قسميه ، ومنه حرمة الضرب والقتل المستفاد من خطاب حرمة التأفيف ، فإنّ المستفاد أصلي وإن كانت الاستفادة تبعيّة ، ومن هذا الباب وجوب المقدّمة - على القول بكونه أصليّا - ويقابله التبعي وهو ما لم يتعلّق به الطلب بالأصالة ، ويلزمه عدم كونه مقصودا بالخطاب من جهة الاستفادة ولا المستفاد ، ولا يكون إلاّ أن يكون طلبه لازما لطلب آخر كوجوب المقدّمة على القول بعدم كونه أصليّا.

وأمّا النسبة بينه وبين الواجب الغيري فعموم مطلق ، لأنّ كلّ واجب تبعي فهو غيريّ ، لما عرفت من عدم انفكاكه عن المقدّمة الّتي وجوبها على القول به غيريّ ولا عكس ، لجواز كون الغيري أصليّا كالوضوء مثلا أو المقدّمة على القول الآخر بوجوبها ، فما يقال

ص: 439


1- الإسراء : 23.

في تحديدهما : بأنّ الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ - أي غير لازم لخطاب آخر وإن كان تابعا لوجوب غيره - والتبعي بخلافه ، وهو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلاّ كما في المفاهيم ، ليس على (1) ما ينبغي إلاّ أن يكون الغرض إحداث اصطلاح جديد فلا مشاحّة.

فبما ذكر تقرّر أنّ العبرة في الأصلي بما كان مقصودا بالإفادة من الخطاب سواء كان مدلولا مطابقيّا حقيقيّا أو مجازيّا ، أو التزاميّا بيّنا بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، وسواء كانت الدلالة ناشئة عن اللفظ أو عن العقل بملاحظة اللفظ ، فيندرج فيه المفهوم بقسميه والمنطوق الصريح والغير الصريح إذا كان من باب دلالة الاقتضاء أو التنبيه والإيماء ، لأنّ الكلّ مقصود بالإفادة من الخطاب وإن استقلّ بإفادة بعضها الخطاب واحتاج في إفادة البعض الآخر إلى انضمام العقل إليه ، والمراد بالخطاب ما يعمّ اللفظي واللبّي ليشمل في الأقسام ما أثبته الإجماع أو أدركه العقل على نحو الاستقلال.

والعبرة في التبعي بما لم يكن مقصودا بالإفادة بل كان لازما للمقصود بتصرّف من العقل كما في دلالة الإشارة ، سواء كان في محلّ له مدخليّة في وجود محلّ ما هو المقصود كما لو كان موقوفا عليه كوجوب المقدّمات على القول بكونه غير أصلي ، أو لم يكن له مدخليّة بل كان من لوازمه بأن يكون بحيث لا ينفكّ وجود المأمور به عنه وإن لم يكن موقوفا عليه كالاستقبال إلى الامور الواقعة في جهة القبلة اللازم لاستقبال نفس القبلة حيثما وقع مأمورا به.

فالقول بأنّ الوجوب التبعي لا ينفكّ عن المقدّمة فعلى القول بعدم وجوبها مطلقا يلزم سقوط الواجب التبعي عمّا بين الواجبات - كما استفدنا عن الشيخ الاستاد دام ظلّه - ليس بسديد.

المطلب الرابع : في انقسام الواجب إلى الشرطي وغيره

المطلب الرابع

فيما يتعلّق بالواجب باعتبار انقسامه إلى الشرطي وغيره

فاعلم أنّ هذا التقسيم تعرّض لذكره بعض الأجلّة ولكن لم نجده في سائر الكتب الاصوليّة ، وربّما يحكى توهّم أنّ هذا اصطلاح مستحدث من متأخّر المتأخّرين.

ويجاب : بأنّه ليس كذلك ، تعليلا بأنّه حكي عن الشهيد وصاحب المدارك تسمية

ص: 440


1- وجهه : أنّه أدرج ما لو كان مستقلاّ من جهة المستفاد فقط في التبعي وهو خلاف ما يظهر من اصطلاحهم. ( منه عفي عنه ).

بعض الواجب بالشرطي فليس من مستحدثات متأخّر المتأخّرين ، ثمّ يذكر لإطلاق الواجب الشرطي موردان :

أحدهما ما في مسألة نزح البئر عند وقوع النجاسة فيها على القول بعدم الانفعال عن الشيخ من أنّه لا ينفعل ويجب النزح تعبّدا للأمر به ، ولكنّه شرط جواز الاستعمال فلو استعمله قبل النزح وصلّى أثم إذا كان الاستعمال عمدا ولا شيء عليه في السهو وصلاته صحيحة على التقديرين.

وثانيهما : ما في مسألة الوضوء للصلاة المندوبة ، وكذلك الأذان والإقامة من قولهم : « الوضوء واجب شرطي لها » فأورد عليهم : بأنّ المشروط إذا لم يكن واجبا فكيف يكون شرطه واجبا؟

واجيب : بأنّ الوضوء ليس واجبا لكن جواز فعل المشروط مشروط بالوضوء ، فإذا لم يتوضّأ حرم عليه فعل المشروط ، فالعقاب إنّما هو لفعل الحرام لا لترك الواجب الّذي هو الوضوء ، ثمّ يذكر لمعناه المراد منه وجهان :

الأوّل : كون النزح والوضوء واجبين بشرط إرادة الاستعمال والدخول في الصلاة ، بحيث يكون العقاب على تركهما لا على الاستعمال وفعل الصلاة.

والثاني : أن يكون النزح والوضوء شرطين لجواز المذكورات لا واجبين بحيث يكون العقاب على تقدير الترك على فعل الحرام وهو فعل المشروط بدون شرطه ، ومرجع الأمرين إلى أنّ الوضوء والنزح هل هما واجبان مشروطان بإرادة الفعل الآخر أم ليسا بواجبين أصلا ، بل شرطين لجواز الفعل الآخر فإنّه يحرم بدون الشرط.

أقول : وعلى هذا المعنى يصحّ إطلاق الواجب على الوضوء لمسّ كتابة القرآن ونحوه ، وعلى الغسل لدخول المسجدين ، وعلى طبخ اللحم ونحوه ممّا لا يجوز أكله إلاّ بعد الطبخ ونحو ذلك ممّا لا يخفى ، وهذا هو الأقرب بالاعتبار وإن كان الأوّل هو الأقرب بلفظ « الوجوب » وكلّ منهما كان فالإطلاق مجازيّ أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلرجوعه حينئذ إلى الواجب المشروط وكونه نوعا منه ، لتوقّف وجوبه على شيء وهو الإرادة.

ثمّ إنّ الواجب قد ينقسم إلى التعبّدي والتوصّلي وقد تقدّم البحث عنهما ، وقد ينقسم باعتبار الزمان إلى الموقّت وغيره والأوّل إلى الموسّع والمضيّق والثاني إلى الفوري وغيره ، وباعتبار المكلّف إلى العيني والكفائي وباعتبار المكلّف به إلى التعييني والتخييري ، والكلام

ص: 441

في بعض منها قد تقدّم في المباحث السابقة وفي البعض الآخر سيأتي في المباحث اللاحقة.

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالكلمة الثالثة من أجزاء القضيّة

المبحث الثالث (1)

فيما يتعلّق بالكلمة الثالثة من أجزاء القضيّة

وهو الجزء الأخير الّذي وقع خبرا للمبتدأ ، محمولا لموضوع القضيّة ، أعني قولنا : « واجبة » وليس في ذلك بعد ما تقرّر من المسائل المتقدّمة المتعلّقة بالواجب كلام إلاّ ما يرجع إلى تشخيص موضع النزاع من معنى الوجوب والواجب.

فللوجوب معان يطلق عليها في هذا المقام لابدّ من معرفتها لتوقّف معرفة موضع النزاع عليها ، وسيأتي ذكرها. والإشارة إلى ما هو موضع النزاع منها.

تحرير إجمالى لمحلّ النزاع

وأمّا الواجب فقد عرفت أنّ له أقساما حاصلة عن تقسيمات كثيرة ، ولكن موضع النزاع هنا يحرّر بالنسبة إلى أربع من تقسيماته ، وهي تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، وإلى التعبّدي والتوصّلي ، وإلى النفسي والغيري ، وإلى الأصلي والتبعي.

فأمّا بالنسبة إلى الأوّل منها وهو انقسامه إلى المطلق والمشروط ، فالحقّ أنّ محلّ النزاع هنا أعمّ من القسمين إذ معنى قولنا : « مقدّمة الواجب هل هي واجبة أولا؟ » أنّ المقدّمة هل لها وجوب من نحو وجوب ذيها - مطلقا كان أو مشروطا - أو لا؟ فالواجب إن كان مطلقا يكون [ النزاع ] في وجوب مقدّمته المطلق ، وإن كان مشروطا يكون النزاع في وجوب مقدّمته المشروط ، فعلى هذا كما أنّ الحجّ واجب مشروط فكذلك مقدّمته الّتي هي عبارة عن طيّ المسافة ونحوه - على القول بوجوبها - واجبة مشروطة ، وسيأتي زيادة بحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني وهو انقسامه إلى التعبّدي والتوصّلي فالنزاع إنّما هو في الوجوب التوصّلي ، فإنّ الواجب التوصّلي - على ما سبق شرحه - هو الّذي أمر به لأجل حصوله في الخارج ، والمقدّمة لمّا كانت بحيث يصير المكلّف بحصولها في الخارج أقرب إلى الإتيان بالمأمور به فصارت واجبة على القول به لأجل ذلك ، ولا ينافيه طروّ جهة التعبّد لها في بعض الأحيان بدليل خارجي كما في الطهارات الثلاث بالنظر إلى الصلاة ، لأنّ ذلك زيادة أثبتها الشارع لخصوصيّة فيها.

ص: 442


1- تقدّم المبحث الثاني في ص 381.

ولكن يشكل الأمر في ذلك من جهة أنّ المقدّمة لو اعتبر فيها قصد فإنّما هو قصد التوصّل إلى الغير الّذي هو ذو المقدّمة ، فكيف يجتمع ذلك مع جهة التعبّد الّتي يلزمها قصد امتثال الأمر بالمقدّمة من حيث كونه أمرا بها.

ويمكن دفعه : بتعميم الواجب التعبّدي بحيث يشمل المقدّمة الّتي لها جهة تعبّديّة ، بأن يقال في تعريفه : « إنّه ما كان الغرض الأصلي من الأمر به الامتثال وحصول التقرّب ، سواء كان ذلك الامتثال مطلوبا لنفسه بأن يكون غاية الغايات فهو ذو المقدّمة الواجب كالصلاة مثلا ، أو مطلوبا لأجل الامتثال بالغير والوصلة إليه فهو المقدّمة الواجبة كالوضوء مثلا.

وأمّا بالنسبة إلى الثالث وهو انقسامه إلى النفسي والغيري ، فالظاهر أنّ محلّ النزاع هو الوجوب الغيري ، بل هو المقطوع به إذا لم يقل أحد بالوجوب النفسي في المقدّمة ، بل ولو قاله أحد لبادرنا بتخطئته بعنوان الجزم ، لخروجه عن الاصطلاح واشتباهه لمحلّ النزاع بالغير.

وأمّا بالنسبة إلى الرابع وهو انقسامه إلى الأصلي والتبعي فلا إشكال في أنّ النزاع في وجوبها بالمعنى الثاني ، فلا ينبغي أن يكون في الوجوب الأصلي بالمعنى الّذي قدّمنا ذكره ، وهو أن يكون طلبه مقصودا بالخطاب بالأصل ، سواء سيق الخطاب لإفادته أو لإفادة طلب آخر يستفاد منه طلبه أيضا على سبيل الاستقلال.

والوجه في ذلك : أنّ كثيرا مّا نطلب شيئا مع الغفلة عن ذات مقدّمته فضلا عن طلبها فما يكون قابلا لهذا المعنى فلا معنى لوجوبه أصالة أصلا.

فما صرّح به بعض الأعلام من أنّ النزاع في الوجوب الأصلي تعليلا بخروج الوجوب التبعي من جهة الاتّفاق على الوجوب حينئذ عن محلّ النزاع ، اشتباه في محلّ النزاع فلا يعبأ به.

فعلى ما ذكرناه من أنّ النزاع في الوجوب التبعي يكون معنى العنوان : أنّ مقدّمة الواجب وإن لم يكن الشارع قصد طلبها عند طلب ذيها إلاّ أنّها مطلوبة له بالتبع بحيث لا يرضى بتركها لو التفت إليها لأجل أنّ تركها مفض إلى ترك ذيها.

فصار حاصل الفرق بين الواجب الأصلي والواجب التبعي هو الطلب التفصيلي والإجمالي ، أو الطلب الفعلي والشأني ، فالواجب الأصلي ما كان مطلوبا بالتفصيل أو بالفعل ، والتبعي ما كان مطلوبا بالإجمال أو بالشأن والقوّة ، وإن شئت تسمّيه بالأصلي.

ولعلّ توهّم من جعله في محلّ النزاع أصليّا يرجع إلى هذا المعنى ، فيكون النزاع بينه وبين غيره لفظيّا ولكنّه خلاف ما يقتضيه صريح كلامه.

ص: 443

مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به شرطا كان أو مسببا أو غيرهما *

__________________

فعلى ما ذكرناه لابدّ من التصرّف في الواجب التبعي بحمله على وجوب لوازم الواجب ، بدعوى انحصاره فيما لو لم يكن اللوازم مقدّمات لوجود الملزوم ، فإنّها أيضا واجبة بمعنى أنّها محبوبة لا لأجل ذاتها ولا لأجل كونها مقدّمات للواجب ، بل لأجل أنّ وجوداتها تقارن وجود الواجب من جهة عدم انفكاك الواجب عنها في الوجود الخارجي ، فلا يحبّ المولى تركها بل يبغضه لأجل ملازمة تركها لترك ملزوماتها الّتي هي المطلوبة أصالة والمقصودة بالطلب ذاتا.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجوب له معان عديدة ليس من محلّ النزاع إلاّ بعضها وسيأتي ذكرها ليتبيّن به ما هو حقيقة المقام.

* واعلم أنّ تقييد « الواجب » في العنوان بالإطلاق هو الواقع في كلام جماعة ، وصرّح غير واحد في بيان فائدته بأنّه لاخراج الواجب المشروط الّذي يتوقّف وجوبه على شرط كالحجّ والزكاة بالقياس إلى الاستطاعة وملكيّة النصاب ، إذ لا نزاع في عدم وجوب ما يتوقّف عليه ذلك الوجوب.

وقد يعلّلها : بأنّه لولا ذلك للزم وجوب الشيء بشرط وجوده أو على تقدير وجوده وهو محال.

وقد يعترض عليه : بأنّ « الأمر » حقيقة في المطلق ومجاز في المشروط ، فلا حاجة إلى تقييده بالمطلق لظهور اللفظ في معناه الحقيقي ، فالاحتراز حاصل بذلك الظهور ، أو يقال : إنّ الخروج فرع الدخول ، والواجب المشروط لا يدخل في مفهوم « الأمر » الّذي هو حقيقة في المطلق ليحتاج إلى الإخراج.

والظاهر أنّ أوّل من سبق بهذا الاعتراض إنّما هو شيخنا البهائي في الزبدة حيث قال : « وتقييدهم الواجب بالمطلق لإخراج الاستطاعة وتحصيل النصاب مستغنى عنه إذ الكلام بعد الوجوب لا قبله ».

وقال في الحاشية : اعلم أنّ قدماء الاصوليين عبّروا عن وجوب مقدّمة الواجب بقولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب » ولم يقيّدوا الواجب بالمطلق.

واعترض عليهم بعض المتأخّرين : بأنّه لابدّ من تقييده به ليخرج الواجب المشروط كالحجّ والزكاة مثلا ، فإنّ وجوبهما لا يتمّ إلاّ بعد الاستطاعة وملكيّة النصاب وليس شيء

ص: 444

منهما بواجب ، فلا يصحّ أخذ العنوان مطلقا بل لابدّ من تقييده بالمطلق.

وغرضنا دفع كلام هذا المعترض لأنّ القدماء [ يريدون ] بالواجب ما هو واجب بالفعل وهو الواجب حقيقة ، لأنّ إطلاق الواجب على ما يجب في المستقبل مجاز اتّفاقا كما تقرّر في المبادئ اللغويّة من أنّه لا خلاف في أنّ إطلاق [ المشتقّ ] على ما سيتّصف بالمبدأ في الاستقبال مجاز.

فهذا المعترض حمل « الواجب » في كلامهم على ما يعمّ الواجب حقيقة ومجازا ثمّ اعترض عليهم ، فلو أبقاه على حقيقته لم يرد عليه شيء إذ معناه : كلّما وجب فعله وجبت مقدّمته.

أقول : ومع الغضّ عمّا ذكر يحصل الاحتراز عن شرائط الوجوب في الواجب المشروط بقولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » حيثما وقعت لفظة « الواجب » فاعلا ل- « يتمّ » أو الضمير الراجع إليها.

وعبارة المصنّف يحتمله بناء على عود الضمير إلى « الشيء » كما هو الظاهر لا « الأمر ».

والوجه في ذلك : أنّ شرائط الوجوب ليست ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به بل ممّا لا يتمّ الوجوب إلاّ به ، وفائدة هذا الاعتبار حصول الاحتراز عنها على جميع الأقوال في الأمر حتّى القول باشتراكه بين الإطلاق والتقييد لفظا أو معنى ، فإنّ التعويل على الوجه الأوّل في الإخراج ربّما يمكن المناقشة فيه بعدم اطّراده بالنسبة إلى جميع المذاهب.

فمن يرى « الأمر » أو « الواجب » مجازا في المشروط فله التعويل في الإخراج على ظهور اللفظ في معناه الحقيقي المجرّد عمّا يصرفه عن ذلك ، كما أنّ له التعويل على ما ذكرناه.

ومن لا يراه كذلك يقول على ذلك خاصّة.

وعلى كلّ تقدير يخرج قيد « الإطلاق » في كلامهم بلا فائدة.

ويمكن أن يقال : بكونه لتعميم العنوان بحيث يشمل قسمي الأمر أو الإيجاب اللفظي واللبّي.

فإنّ محلّ النزاع لا يخصّ بما ثبت وجوبه بالأوامر اللفظيّة ، بل الظاهر أنّ ذلك هو الداعي إلى التقييد لا ما ذكروه.

وربّما يوجّه القيد بكونه لتعميم أفراد المقدّمة من السبب والشرط إجمالا وقوله : « شرطا كان أو سببا أو غيرهما » تفصيل لذلك الإجمال.

وأنت خبير بأنّ ذلك إن صحّ فإنّما يتمشّى في كلام من عبّر عن العنوان بقوله : « مقدّمة الواجب واجبة » وأمّا من يعبّر عنه : « بالأمر بالشيء » كالمصنّف ، أو « بأنّ إيجاب الشيء

ص: 445

يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به » مع ذكر القيد مقدّما على ذكر « ما لا يتمّ إلاّ به » فلا يجري في كلامه هذا التوجيه أصلا ، والوجه واضح بعد التأمّل.

والعجب من بعض الأفاضل كيف غفل عمّا ذكرناه ، فأجاب عن التوجيه : بأنّه يلزم حينئذ اندراج غير القدرة من مقدّمات الواجب المشروط في العنوان مع خروجها عن محلّ النزاع.

ثمّ استشعر اعتراضا بقوله : ولو اجيب بأنّ إطلاق الأمر بالشيء إنّما ينصرف إلى المطلق دون المشروط لعدم تعلّق الأمر به قبل وجود شرطه.

فدفعه : بأنّ ذلك إن تمّ لجرى بالنسبة إلى ما صار من مقدّمات الواجب المطلق غير مقدورة فلا حاجة إلى قيد « المقدوريّة » في العنوان ، إذ لا فرق بين المقدّمة المذكورة وسائر مقدّمات الواجب المشروط.

وغرضه بذلك الردّ على من ذكر من المحقّقين التوجيه المذكور في كلام المصنّف لتصحيح ما اعتبره من قيد « المقدوريّة » حيث قال - بعد ما ذكر من التوجيه - : وحينئذ يحتاج إلى قوله : « مقدورا ».

وإنّما ذكر ذلك لدفع ما أورده أوّلا على ما اعتبره من قيد الإطلاق على تقدير كونه لإخراج مقدّمات الواجب المشروط من قوله : « وحينئذ لا احتياج - إلى قوله - مع كونه مقدورا لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة واجب مقيّد ، إلاّ أن يقال : إنّه للتوضيح.

وأنت خبير بأنّ كلّ ذلك تكلّف ركيك ناش عن عدم فهم ما هو حقيقة المراد من العبارة وما هو فائدة القيدين.

فتحقيق المقام : ما أشرنا إليه من أنّ قيد الإطلاق لتعميم الأمر والإيجاب بالنسبة إلى ما يستفاد من الأدلّة اللفظيّة وما يستفاد من الأدلّة اللبّية وقيد « المقدوريّة » لاخراج ما يصير من مقدّمات الواجب المطلق غير مقدور ، إذ لا معنى لوجوبه ما دام عدم القدرة عليه.

وأمّا مقدّمات الوجوب في الواجب المشروط فتخرج بأحد الأمرين من انصراف الأمر والإيجاب إلى المطلق ، وظهور ما لا يتمّ الواجب إلاّ به في مقدّمات وجود الواجب وعدم شموله لمقدّمات وجوبه كما عرفت.

ولو أورد عليه : بأنّ ذلك لو صلح لإخراج مقدّمات الواجب المشروط لحصل الغناء عن اعتبار قيد « المقدوريّة » فيما بعد ، لكون الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة أيضا واجبا مشروطا ، والمفروض خروجه بما ذكر كما عرفت التعرّض لذكره عن بعض الأفاضل.

ص: 446

لدفعناه : بأنّ خروج الواجب المشروط عن العنوان إمّا من جهة كون الواجب حقيقة في المطلق وكذلك « الأمر » فلا يشملان مجرّدين عن القرينة لغيره لكونه معنى مجازيّا ، أو من جهة ظهور ما لا يتمّ الواجب إلاّ به في مقدّمات الوجود ، والأوّل لا يحسم مادّة الإشكال بتمامه حتّى على القول بالاشتراك بين المطلق والمشروط لفظا أو معنى.

والثاني لا ينافي ما صار غير مقدور من مقدّمات الواجب المطلق ، كطيّ مسافة الحجّ بعد حصول الاستطاعة إذا لم يقدر عليه المكلّف ، لأنّه أيضا ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

غاية الأمر حينئذ يصير مشروطا بالنسبة إلى القدرة عليه لا بالنسبة إلى وجوده ، لأنّ وجوده بعد القدرة مقدّمة لوجود الواجب لا لوجوبه ، فمن يعتمد في الاحتراز عن مقدّمات المشروط على ظهور ما لا يتمّ إلاّ به فلابدّ له من اعتبار قيد « المقدوريّة » ليحترز به عن المقدّمة المذكورة جزما.

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما ذكره من التوجيه المذكور وتصحيح قيد « المقدوريّة » في كلام المصنّف من قوله : « لكن لابدّ لقيد آخر لإخراج المقدّمات المقدورة بالنسبة إلى الواجب المقيّد » فيشبه لما في مناهج النراقي من قوله : « واعلم أنّ الواجب الّذي وقع الخلاف في مقدّمته هو الواجب المطلق ، وأمّا مقدّمة المقيّد فلا خلاف في عدم وجوبها بل ادّعى بعضهم كونه بديهيّا » ويشبههما في إطلاق القول بالخروج كلام غيرهما.

وأنت خبير بما في تلك العبارات من الإهمال الموجب للإخلال ، ومع ذلك فإن أرادوا بمقدّمات الواجب المقيّد ما هي شرائط لوجوبه فلا كلام ، لأنّها الّتي ادّعي الاتّفاق على خروجها في حدّ الاستفاضة وقضت الضرورة بعدم وجوبها نظرا إلى عدم معقوليّة الوجوب حينئذ.

ولكن يرد على الأوّل : عدم الحاجة إلى قيد آخر لإخراج تلك المقدّمات لكفاية ما ذكرناه من أحد الأمرين في إخراجها.

وإن أرادوا بها ما هي من مقدّمات وجوده ففي توهّم خروجها عن محلّ النزاع فساد واضح ، وتنزيل دعوى الاتّفاق والبداهة على خروجها أفسد منه ، كيف وأنّ التفكيك بين المطلق والمقيّد بالنظر إلى الخلاف في وجوب مقدّماتهما الوجوديّة غير معقول ، فإنّ وجوب المقدّمة على القول به يتبع وجوب ذيها إن مطلقا فمطلق وإن مشروطا فمشروط ، فيجيء النزاع حينئذ في وجوبها بالقياس إلى كلا قسمي الوجوب الثابت في ذيها ، فإن كان واجبا [ مشروطا ] يتبعه مقدّمة وجوده فتصير واجبة مشروطة ، وإن كان واجبا مطلقا يتبعه

ص: 447

مع كونه مقدورا * ، وفصّل بعضهم فوافق في السبب وخالف في غيره ، فقال :

__________________

مقدّمة وجوده فتصير واجبة مطلقة.

فعلى هذا يدخل طيّ المسافة وغيره من مقدّمات وجود الحجّ الّذي هو واجب مقيّد قبل تحقّق شرط وجوبه في موضع النزاع ، فكما أنّه بعد تحقّق الشرط يجري النزاع في وجوبه وعدم وجوبه فكذلك قبل تحقّق الشرط ، ولا يعقل التفكيك بينهما.

غاية الفرق أنّ الوجوب المتنازع فيه على الأوّل مطلق وعلى الثاني مقيّد.

نعم لابدّ من تقييدها في الواجب المقيّد بكونها مقدّمة وجوديّة صرفة ليحترز به عمّا تكون مقدّمة للوجوب أيضا مع كونها مقدّمة للوجود (1) لما عرفت من خروج ما يكون مقدّمة للوجوب عن موضع النزاع ، وفي حكمها ما يكون مقدّمة للوجوب والوجود معا ، إذ لا يعقل القول بوجوبها سواء اريد به الوجوب المشروط أو المطلق قبل وجودها أو بعده.

أمّا الأوّل : فلأنّه وجوب شيء بشرط وجوده.

وأمّا الثاني : فلأنّه وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها.

وأمّا الثالث : فلأنّه وجوب شيء بعد وجوده وهو تحصيل للحاصل.

وبما قرّرناه تبيّن فساد ما أفاده بعض الفضلاء بعد ما أخذ قيد « الإطلاق » في عنوان المسألة بقوله : « وإنّما قيّدنا الأمر بكونه مطلقا احترازا عن مقدّمات الأمر المشروط قبل حصول الشرط ، فإنّها لا تجب من حيث كونها مقدّمة له إجماعا ، لظهور أنّ وجوب المقدّمة على القول به يتوقّف على وجوب ذي المقدّمة فيمتنع بدونه ».

ولا يخفى أنّ ذلك صريح في خروج المقدّمات الوجوديّة فإن أراد بعدم وجوبها الّذي قام الإجماع عليه عدم وجوبها المطلق فهو كذلك ، ولكنّه لا وجه لإخراجها عن المتنازع فيه بالمرّة ، إذ النزاع في وجوبها المشروط جار.

وإن أراد به عدم وجوبها مطلقا حتّى الوجوب المشروط

ففيه : ما مرّ ، مضافا إلى أنّه يناقضه قوله _ في ذيل المسألة _ : « بأنّ الكلام في مقدّمات الواجب المشروط كالكلام في مقدّمات الواجب المطلق فيجب مقدّماته بالوجوب الشرطي ، حيث يجب مقدّمات الواجب المطلق بالوجوب المطلق ».

* وهذا القيد أيضا واقع في كلام جماعة منهم البهائي رحمه اللّه إلاّ أنّه قال في الحاشية : إنّ

ص: 448


1- وفي الأصل « مع كونها مقدّمة للوجوب » وهو سهو ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

التقييد بقولنا : « مقدورا » مبنيّ على الإغماض عمّا سنذكره فيما بعد من أنّ الكلام بعد الوجوب لا قبله ، إذ كلّ ما وجب فمقدّمته مقدورة البتة وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق ».

ولقد نقلنا ما ذكره فيما بعد بعين عبارته ، وغرضه بذلك الاعتراض على القيد بنحو ما مرّ من أنّ الكلام في مقدّمات ما وجب بالفعل لا ما يجب فيما بعد ، والواجب بالنسبة إلى مقدّمته الغير المقدورة مشروط ، ومعه لا حاجة إلى اعتبار هذا القيد إمّا لخروج الواجب المشروط بكون الواجب حقيقة في المطلق ومجازا في المشروط ، أو لكفاية ما اعتبرتم من قيد « الإطلاق » في إخراج ذلك.

ووافقه في ذلك الاعتراض جماعة فقالوا : بأنّ قيد « الإطلاق » يقضي بخروج الواجب المشروط مطلقا ، إذ لا ريب في أنّ التكاليف كلّها مقيّدة بالنسبة إلى القدرة على نفس الواجب وعلى مقدّماته ، فلا يكون الأمر بالشيء مع عدم القدرة على مقدّمته مطلقا ليحتاج في إخراجه إلى التقييد بكونها مقدورة.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري رحمه اللّه : بأنّ الواجب المطلق ليس بالنسبة إلى مقدّماته الغير المقدورة من قبيل الواجب المشروط الّذي هو عبارة عندهم عمّا توقّف وجوبه على وجود المقدّمة ، إذ ليس وجوبه مشروطا بوجود تلك المقدّمات بل مشروط بمقدوريّتها فيكون الواجب بالنسبة إليها من قبيل المطلق.

ثمّ قال : نعم يرد على هذا أيضا أنّه لا حاجة إلى القيد المذكور ، لأنّ المقدّمة حينئذ أيضا واجبة على القول بوجوبها لكن وجوبها مشروط بمقدوريّة المقدّمة فلا حاجة إلى القيد ، إذ لا شكّ أنّ ما يقال وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدّمته ليس معناه أنّه يستلزم وجوب مقدّمته مطلقا من دون اشتراطه بشيء أصلا ، بل ظاهر أنّ المراد وجوبها مثل وجوب ذي المقدّمة ، فإن كان وجوبه مشروطا بشيء كان وجوبها أيضا كذلك وإلاّ فلا.

ووافقه على هذا الإيراد مع الجواب عمّا ذكره الجماعة في وجه القيد شيخنا الاستاد - زيد فضلا - فقال : بمنع اختصاص النزاع بما عدا الواجب المشروط ، مع منع كون الواجب موقوفا وجوبه على غير المقدورة من المقدّمة بل هو موقوف على القدرة على نفسه ، فكونه مشروطا إنّما هو بالإضافة إلى القدرة لا الغير المقدور ، فهو بالإضافة إليه مطلق كالمسافة بالنسبة إلى الحجّ إذا فرض كونها غير مقدورة ، فإنّ الحجّ بالنسبة إليها مطلق لعدم توقّف وجوبه على وجودها ، ولا منافاة بين كونه مشروطا من جهة ومطلقا من اخرى ، لما

ص: 449

بعدم وجوبه. واشتهرت حكاية هذا القول عن المرتضى رضى اللّه عنه وكلامه في الذريعة والشافي غير مطابق للحكاية. ولكنّه يوهم ذلك في بادئ الرأي ، حيث حكى فيهما عن بعض العامّة إطلاق القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به. وقال : « إنّ الصحيح في ذلك التفصيل بأنّه إن كان الّذي لا يتمّ الشيء إلاّ به سببا ، فالأمر بالمسبّب يجب أن يكون أمرا به. وإن كان غير سبب ، وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط فيه ، لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به ».

__________________

هو المقرّر من أنّ الإضافات تختلف باختلاف الجهات.

وربّما يوجّه ذلك القيد أيضا : بأنّ المراد بالقيد الأوّل إنّما هو الإطلاق بحسب اللفظ ، أي ما لم يقيّد وهو لا يستلزم الإطلاق بالمعنى المصطلح في ذلك المقام ، فهو مخرج لما يكون مقيّدا بحسب اللفظ فيبقى ما يكون مقيّدا بحسب المعنى من غير أن يذكر القيد في اللفظ محتاجا إلى قيد آخر فاحتيج إلى اعتبار قيد « المقدوريّة ».

وأنت خبير بوهن كلّ هذه الكلمات وكونها ناشئة عن اشتباه المراد من القيد ، فإنّ الاعتراضات مع ما ذكر من التوجيهات إنّما تستقيم إذا كان مرادهم من المقدّمة الغير المقدورة ما صارت غير مقدورة بالعرض ، كمسافة الحجّ ونظائرها إذا طرأها عدم القدرة عليها وهو ظاهر الفساد ، بل المراد بها ما تنبّه عليه غير واحد من شرّاح المختصر ما كانت غير مقدورة للمكلّف بالذات ، كالقدرة على الفعل واليد في الكتابة ، والرجل في المشي ، وحضور الإمام وتمام العدد في الجمعة ، فإنّها لا تكون واجبة بل عدمها تمنع الوجوب على أنّها قبل الوجود ممتنعة وبعده واجبة.

وعلى التقديرين خارجة عن قدرة المكلّف فلا تصلح موردا للتكليف ، مضافا إلى أداء إيجابها بعد الوجود إلى طلب الحاصل وهو محال ، وإلى أنّها مع الغضّ عن ذلك لا تصلح بالذات لأن يتعلّق بها الوجوب الّذي هو من عوارض فعل المكلّف وهي ليست منه ، فلابدّ من اعتبار قيد يوجب خروجها عن المتنازع فيه ، لما يصدق على كلّ واحد من أنّه ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فيشملها العنوان لولا القيد المذكور.

ولكنّه مع الإغماض عمّا ذكرنا من خروج الواجب المشروط بجميع أنواعه بظهور

ص: 450

اللفظ في معناه الحقيقي الّذي هو المطلق ، وعمّا اعتبروه من قيد « الإطلاق » الكافي عن قيد آخر. نعم على رأي من لا يراه حقيقة خاصّة في المطلق ولا يأخذ « الإطلاق » قيدا في العنوان لا إشكال فيه أصلا ، إلاّ من جهة عدم وفائه بإخراج جميع مقدّمات الوجوب حتّى ما كانت مقدورة للمكلّف كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة.

وعلى ما اخترنا أيضا يستقيم القيد لو اعتبرنا الامور المذكورة بعد وجودها لما ذكرناه من الوجوه.

وأمّا ما يقال عليه : من أنّ الإخراج فرع الدخول ، والمقدّمة المذكورة لا مدخل لها في العنوان حتّى يحتاج إلى الإخراج ، لأنّ الكلام في وجوب المقدّمة وهو من عوارض فعل المكلّف ، فالمراد بالمقدّمة المتنازع في وجوبها ما يكون من مقولة أفعال المكلّف ، وما فرض من المقدّمات ليس منها حتّى يشملها الجنس وهو الموصول في قولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » فوهنه أوضح ممّا تقدّم.

فإنّ العبرة في شمول الجنس إن كان بما هو المراد في نفس الأمر ، ففيه : أنّه نقض لقاعدتهم المقرّرة في جميع التعاريف بالنسبة إلى اعتبار قيود يتمّ بها الانعكاس والاطّراد المعتبران فيها.

وإن كان العبرة بما هو من مقتضى وضع اللفظ بحسب العرف واللغة.

فلا ريب أنّ الموصول بحسب ما له من الوضع شامل لما ليس من أفعال المكلّف شموله لما هو من أفعاله ، مع أنّه يمكن اعتبار ما يكون من مقولة الأفعال مضافا إلى تلك الامور حتّى يصلح لكونه موردا للوجوب من نحو تحصيل وما يؤدّي مؤدّاه.

فالحقّ : أنّ القيد محتاج إليه في المقام في الجملة حتّى على المختار واعتبار قيد « الإطلاق » لما قدّمناه.

فما أفاده الاستاد أيضا من أنّ الإنصاف عدم الحاجة إلى ذلك القيد ، لأنّ الكلام في وجوب مقدّمة وجود الواجب بعد الفراغ عن تحقّق الامور الأربع المعتبرة في وجوب ذلك الواجب وبعد إحراز الوجوب فيه.

ومن المعلوم أنّ الواجب لا يحرز له الوجوب إلاّ بعد تحقّق الامور الأربع ، فإذا كان إحدى مقدّمات وجوده غير مقدورة لم يكن الوجوب محرزا له لسراية عدم القدرة من مقدّمته إليه ، وكلّما يحرز الوجوب في الواجب ولم يحصل الفراغ عن تحقق الامور الأربع

ص: 451

لم يكن من محلّ النزاع في شيء ، فإذا كان بنفسه خارجا لا حاجة إلى قيد يخرجه.

ليس بسديد ، لما ذكرناه من أنّ العبرة في العنوان بظاهر اللفظ كما في التعاريف ، ومعلوم أنّ الموصول شامل للقدرة أيضا.

نعم يبقى الإشكال فيه من جهة أنّ خروج هذه الامور من جملة الواضحات الّتي لم تكد تخفى على أحد فلا داعي إلى اعتباره ، ولكن الخطب في ذلك سهل.

ثمّ اعلم أنّ المقدّمة إمّا أن يكون مقدورة للمكلّف بالذات أو غير مقدورة له بالذات.

وعلى الأوّل إمّا أن يطرؤها امتناع بالعارض أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون المانع عقليّا أو خارجيّا أو شرعيّا فهذه خمسة أنواع ، لا يدخل في العنوان المتنازع فيه إلاّ واحد منها وهو الثاني ، لخروج البواقي من غير إشكال.

أمّا الأوّل : فلضرورة استحالة تعلّق الوجوب بما يكون غير مقدور بالذات ، كدخول وقت الفريضة وحضور إمام الجمعة وتمام العدد المعتبر فيها ، من غير فرق في ذلك بين الوجوب المطلق والوجوب المشروط ، مع أنّ تعلّق الحكم التكليفي بما لا يكون فعلا للمكلّف أو يكون فعلا لمكلّف غيره متّضح الفساد.

وأمّا الثالث والرابع : فلانتفاء القدرة المعتبرة في التكليف أيضا فلا تتّصف المقدّمة بالوجوب المطلق إذا طرأها مانع عقلي كالزمن بالنسبة إلى قطع مسافة الحجّ للمزمن ، أو مانع خارجي كالخوف على المال أو النفس بالنسبة إلى طريق الحجّ أيضا عند قيام اللصّ أو العدوّ فيه.

وأمّا الوجوب المشروط فهو ثابت ولكن الشرط هو القدرة على المقدّمة لا وجودها لئلاّ يلزم وجوب الشيء بشرط وجوده ، بل الاشتراط في الحقيقة هو الّذي كان ثابتا بالقياس إلى الاستطاعة ، فإنّها مع قيام ما ذكر غير تامّة فلذا صرّحوا بكون التمكّن عن المسير ممّا له مدخليّة في حصولها.

وأمّا الخامس : فهو أيضا كسابقيه فلا تجب المقدّمة مع قيام المنع الشرعي عنها من ترك واجب أو فعل محرّم ، كترك الواجب المضيّق لفعل الموسّع بناء على كونه مقدّمة ، والركوب على الدابّة المغصوبة في الذهاب إلى الحجّ ، والاغتراف بالآنية المغصوبة في الطهارة الحدثيّة مع الانحصار ، وكذلك استعمال آنية الذهب أو الفضّة للتطهير معه ، لاستحالة تعلّق الوجوب والحرمة بشيء واحد لأدائه إلى التكليف بالمحال من جهة امتناع الامتثال لهما ، مع قبح طلب القبيح على الحكيم الّذي يمتنع عليه فعل القبيح.

ص: 452

بل هو على التحقيق راجع إلى النوع الأوّل ، حيث لا يعقل فيه وجوب مشروط أيضا ، نظرا إلى أنّه ليس له تقدير يصحّ معه تعلّق الوجوب به كالقدرة في النوعين السابقين ، إلاّ أن يفرض الاشتراط بالنسبة إلى رفع المنع الشرعي عنه وهو كما ترى فرض لا تحقّق له إلاّ في موارد النسخ الّذي هو في نظائر المقام عادم النظير.

وتجويز الدخول في الأرض المغصوبة لإنقاذ النفس المحترمة لا مدخل له في ذلك الفرض ، لأنّه وجوب مطلق غلّب على المنع منه من باب تقديم الأهمّ على غيره واختيار أقلّ القبيحين على أكثرهما ، وإذا كانت المقدّمة في امتناع الوجوب بهذه المثابة فذو المقدّمة أولى بذلك ، فيستحيل فرض الوجوب فيه بشرط لا حذرا عن التكليف بالمحال إذ الكلام في صورة الانحصار ، ولا فرضه بشرط شيء وإلاّ لعاد المحذور السابق من تعلّق الوجوب والحرمة بشيء واحد والأمر بالقبيح ، وفرضه لا بشرط وإن أمكن لعدم أدائه إلى شيء من المحاذير إلاّ أنّه عدول عن القول بوجوب المقدّمة ، إذ الكلام إنّما هو على هذا التقدير ، هذا بناء على الإغماض وإلاّ فالأمر بالشيء مع امتناع مقدّمته شرعا تكليف بالمحال.

نعم لو بنى المكلّف على عدم الاعتناء بمنع الشرع وارتكب الممنوع عصيانا أو سها أو نسي فارتكبه يجب عليه الإتيان به لارتفاع المانع حينئذ عن جميع الجهات.

وإلى ذلك ينظر ما ذهب إليه بعض المشايخ - على ما حكي عنه في كشف الغطاء - من صحّة المأتيّ في الصور المفروضة مع انحصار مقدّمته في الحرمة ، تعليلا بأنّه لا مانع من أن يقول المولى : « إن عزمت على المعصية بترك كذا فافعل كذا ».

وكأنّ منه ينشأ أيضا ما عن المحقّق الثاني في شرحه للقواعد من ذهابه إلى الصحّة أيضا خلافا للمشهور على ما حكي ، لذهابهم إلى عدم الصحّة تعليلا بأنّها فرع الأمر والوجوب فلو وجب الفعل مع انحصار مقدّمته في المحرّمة لأدّى إلى وجوب الحرام قضيّة لوجوب المقدّمة وهو محال ، لأنّ القبيح لا يؤمر به والتكليف بالمحال محال ، فحيث بنينا على الصحّة والوجوب بعد الإتيان بالمقدّمة المحرّمة فهل هو قبل ذلك كان وجوبا مشروطا فصار مطلقا بعد حصول المقدّمة المحرّمة ، أو وجوبا مطلقا كشف عن سبق ثبوته حصول تلك المقدّمة؟ وجهان.

ظاهر ما حكي عن كشف الغطاء من التعليل المذكور هو الأوّل ، إلاّ أنّه ظاهر في اشتراط الوجوب بالعزم على المعصية.

ص: 453

وجزم بعض الفضلاء بالثاني ، حيث قال - بعد ما جعل وجوب الحجّ من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة مع توقّف فعله على مجيء وقته ، من باب ما تعلّق وجوبه بالمكلّف وتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، في مقابلة ما تعلّق وجوبه به ولم يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وفرّق بينه وبين المشروط بكون التوقّف في المشروط للوجوب وفيه للواجب. وبعبارة اخرى : كون الزمان الّذي هو غير مقدور للمكلّف في المشروط قيدا للطلب والوجوب ، وفيه قيدا للمطلوب والواجب - : بأنّه « كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه ، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابّة المغصوبة.

فالتحقيق : أنّ وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدّمة وليس مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار.

والفرق أنّ الوجوب على التقدير الأوّل يثبت قبل حصولها.

وعلى الثاني إنّما يثبت بعد تحقّقها لامتناع المشروط بدون الشرط.

وبعبارة اخرى : حصول المقدّمة على الأوّل كاشف عن سبق الوجوب وعلى الثاني مثبت له » إلى آخر ما ذكره.

ولا يذهب عليك أنّه أيضا قائل بالاشتراط كالمشهور ، إلاّ أنّ المشهور يجعلونه مشروطا بحصول المقدّمة المحرّمة وهو يجعله مشروطا بما يرجع إلى المكلّف من الأحوال اللاحقة به باعتبار بعض الاعتبارات ، ككونه بحيث يأتي بالمحرّم ولكنّه شرط تقديري لا يعلم بتحقّقه وعدمه إلاّ بحصول الإتيان منه فعلا وعدم حصوله ، فعلى الأوّل يكشف عن تحقّق شرط الوجوب قبله ويلزمه سبق الوجوب على الحصول.

وعلى الثاني يكشف عن انتفاء شرط الوجوب عنه ، ويلزمه عدم وجوب أصلا. وربّما ينزّل ما عن كشف الغطاء من التعليل إلى هذا المذهب ، وهو - على تقدير كون عبارته ما ذكر - بعيد ، إلاّ أن يرجع العزم الّذي في العبارة المحكيّة إلى ما ذكره الفاضل المذكور من الاعتبار اللاحق بالمكلّف.

وعلى أيّ تقدير كان فهو دعوى لا شاهد عليها ، والاشتراط بأصل الحصول - كما

ص: 454

عليه المشهور - أقرب بالاعتبار ، كما أنّه أظهر من العبارة الصادرة في مقام الخطاب من غير فرق بين صورتي تقديم الأمر على الشرط وتأخيره عنه ، بأن يقال : « افعل كذا إن أقدمت على المعصية » أو « إن أقدمت على المعصية فافعل كذا » فإنّ المنساق منهما في العرف واحد وهو اشتراط حدوث الوجوب بحصول المعصية في الخارج ، كما هو الحال في قولك : « أكرم زيدا إن جاءك » و « إن جاءك زيد فأكرمه » وكأنّ توهّم الاشتراط بذلك دون الحصول نشأ عن أصل فاسد يأتي في بحث الضدّ بيانه وبيان فساده ، إن شاء اللّه تعالى.

فالأقوى إذن بالنسبة إلى الأمثلة المذكورة هو اشتراط الوجوب بحصول فعل الحرام ولا يكفي فيه مجرّد العزم على المعصية ، كما يلوح عمّا حكى عن كشف الغطاء.

هذا كلّه بناء على المماشاة مع القوم ، وإلاّ فلنا في أصل اشتراط الوجوب بشيء كائنا ما كان كلام يأتي في ذيل البحث.

والتحقيق : أنّ الحرام في كونه مقدّمة يكون نظير الوقت وغيره ممّا يكون خارجا عن قدرة المكلّف ، ضرورة أنّ المنع الشرعي يوجب سلب القدرة كالمنع العقلي فيكون حال ذي المقدّمة في اتّصافه بالوجوب نظير حال سائر الواجبات بالقياس إلى مقدّماتها الغير المقدورة - على ما يأتي تحقيقه في ذيل المبحث - ولا يلزم من ذلك اتّصاف المقدّمة بالوجوب حتّى يكون منشأ للإشكال كسائر المقدّمات الغير المقدورة.

فبما تقرّر تبيّن أنّ ما اعتبره الفاضل المذكور في عنوان المسألة زيادة على قيد « الإطلاق » بالنسبة إلى الأمر من كون المقدّمة جائزا ليحترز به عن أمرين : أحدهما : المقدّمة المحرّمة سواء انحصرت فيه أو لا.

وثانيهما : المقدّمة الغير المقدورة سواء انحصرت فيه أيضا كحضور أيّام الحجّ بالنسبة إلى أفعاله ، أو لم تنحصر كسير المزمن ماشيا مع تمكّنه منه راكبا.

أمّا الأوّل منهما : فلأنّ الأمر بالنسبة إلى المقدّمتين - المقدّمة المحرّمة ، وغير المقدورة في صورة الانحصار - مطلق وليس مشروطا بحصولهما ، وإن كان مشروطا بالنسبة إلى الاعتبار اللاحق بالمكلّف من كونه في الأوّل ممّن يأتي بالحرام. وفي الثاني ممّن يبلغ الزمن اللاحق.

وأمّا الثاني : ففي الأوّل لاستحالة تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد وفي الثاني لاستحالة الأمر بغير المقدور ولو على وجه التخيير ، قائلا : « بأنّ وجه الاحتراز عن ذلك أنّ الجواز حكم شرعي لأنّه جنس للأحكام الأربعة ، والحكم الشرعي لا يتعلّق بغير المقدور » ليس

ص: 455

على ما ينبغي ، لأنّ الوجوب في الجميع مشروط فيكفي في إخراجها ما اعتبره أوّلا في الأمر من قيد « الإطلاق » بعد الإغماض عمّا قدّمنا ذكره من عدم الحاجة إلى هذا القيد أيضا.

وممّا قرّرناه أيضا من امتناع تعلّق الوجوب بغير المقدور مطلقا تبيّن فساد ما أفاده بعض الأعلام من « أنّ المقدّمة لا تنحصر فيما كان مقدورا للمكلّف ، بل الغير المقدور قد يكون مسقطا عن المقدور وفعل الغير نائبا عن فعل المكلّف ، فإنّ من وجب عليه السعي في تحصيل الماء للوضوء إن فاجأه من أعطاه الماء فسقط عنه ذلك السعي ويكون فعل الغير نائبا عن فعله ، فالمقدّمة هو القدر المشترك بين المقدور وغير المقدور والقدر المشترك بينهما مقدور ، فالقائل بوجوب المقدّمة إنّما يقول بوجوب القدر المشترك » فإنّ القدر المشترك بما هو قدر مشترك غير مقدور ولا يعقل تعلّق الوجوب بغير المقدور ، سواء أراد بذلك القدر المشترك الأمر الانتزاعي كمفهوم أحدهما ، أو الأمر المعنوي وهو ما أسقط وجوب الامتثال سواء كان فعل المكلّف نفسه أو فعل الغير نائبا عن فعله ، بل الواجب على التقديرين هو الفرد المقدور بالضرورة والقائل بوجوب المقدّمة لا يدّعي أزيد من ذلك.

كيف وقد أطبقوا في العنوان على أخذ ما يوجب خروج غير المقدور مصرّحين بعدم كونه من محلّ الخلاف ، ومجرّد كونه مسقطا عن المقدور ورافعا لوجوبه لا يقضي بالوجوب فيه ، حيث لا ملازمة بين الإسقاط والوجوب كسقوط ما في الذمّة بأداء الغير وسقوط إزالة النجس عن المسجد بسبق السيل أو المطر إليه ، مع أنّ الوجوب في الصورتين ثابت بعنوان الجزم واليقين.

وإذ قد عرفت سابقا أنّ المقدّمة تنقسم إلى داخليّة وخارجيّة ، والخارجيّة إلى السبب والشرط.

فاعلم أنّ الداخليّة وهو الجزء له أجزاء وأسباب وشروط ، وكلّ سبب أيضا له أسباب وشروط وأجزاء ، وكلّ شرط أيضا له شروط وأجزاء وأسباب ، وكذلك قد يكون لكلّ جزء من أجزاء كلّ ولكلّ سبب من أسباب كلّ ولكلّ شرط من شروط كلّ أجزاء وأسباب وشروط.

فلا يذهب إليك توهّم لزوم التكرار في الوجوب والطلب بناء على وجوب مقدّمة الواجب ، نظرا إلى أنّ كلّما ذكر مقدّمة لكلّ مقدّمة وهي إذا صارت واجبة فيتعلّق الوجوب بتوسّطها بإيجاد مقدّماتها المندرجة تحتها ، والمفروض أنّ مقدّمة الواجب واجبة فتصير كلّ واحدة من تلك الآحاد واجبة من هذه الجهة أيضا وهو تكرار في الوجوب ، بل ربّما يتّفق

ص: 456

تعلّق الوجوب بشيء واحد مرّات عديدة إذا كان مقدّمة لمقدّمة مقدّمة الواجب وهكذا ، وهو كما ترى ممّا لا يصغى إليه ، لأنّ التكرار إنّما يلزم إذا كان بين كلّ ومقدّماته ترتّب بحسب الواقع في نظر الآمر ، بأن يكون بحيث قد حدث منه بالنسبة إلى كلّ واحدة ملاحظة والتفات بانفرادها على سبيل الترتّب وذلك في حيّز المنع ، بل الترتّب لو كان ولابدّ منه فهو اعتباري لم يجعله الآمر معتبرا أصلا ، فإنّ الامور المذكورة الّتي بعضها شرائط للواجب وبعضها لأجزائه وبعضها لأسبابه وبعضها لشرائطه وهكذا كلّها في درجة واحدة في نظره ، لما في الجميع من كفاية التفات واحد موجب لكفاية طلب واحد ، وإيجاب واحد ، من دون أن يفتقر كلّ واحدة إلى التفات مستقلّ ليحتاج إلى طلب منفرد حتّى يلزم ما ذكر من التكرار ، لا بمعنى أنّ المقدّمة مطلوبة بنفسها فيكفي طلبها عن طلب مقدّماتها فإنّه ضروريّ الفساد ، بل بمعنى أنّ قولنا : « مقدّمة الواجب واجبة » معناه أنّ الشارع لاحظ الواجب الّذي هو ذو مقدّمة مكيّفا بجميع كيفيّاته فطلبه بإنشاء واحد وهو طلب واحد يستلزم مطلوبيّة مقدّماته ومقدّمات مقدّماته ، فلا تعدّد في شيء من الالتفات والطلب فلا تكرار أصلا وذلك واضح.

ثمّ إنّه قد أشرنا سابقا إلى أنّ الوجوب له معان ليس من محلّ النزاع إلاّ بعضها :

منها : الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّية ، وكون الشيء من ضروريّات شيء آخر ، وهو بهذا المعنى ممّا لا إشكال في ثبوته بل لا خلاف فيه أيضا كما صرّح به غير واحد ، وفي كلام جماعة دعوى الاتّفاق عليه ، وكيف يعقل فيه الخلاف مع أنّ كون المقدّمة من ضروريّات وجود ذي المقدّمة معنى كونها مقدّمة ، فإنكار وجوبها بهذا المعنى في معنى إنكار كونها مقدّمة ، فيعود النزاع على هذا التقدير إلى كونه صغرويّا وهو ليس ممّا عقد له الباب ، بل هو بهذا المعنى لا يختصّ بمقدّمة الواجب ليكون من محلّ النزاع بل يعمّها ومقدّمة المندوب والمباح والمكروه والمحرّم ، فمعنى وجوب الوضوء لصلاة النافلة أنّه من لوازمها وضروريّات وجودها ، وممّا لابدّ منه فيها.

والضابط الكلّي أنّ كلّ شيء يكون ممّا يتوقّف عليه شيء آخر في وجوده الخارجي فهو واجب بالقياس إليه ، أي ممّا لابدّ منه في وجود ذلك الشيء.

ومنها : ما ينضاف إلى الشيء بالعرض بواسطة إضافته إلى ما هو ملزوم له من دون توقّفه عليه في وجوده الخارجي ، ويعبّر عنه بوجوب لوازم المأمور به الّتي ليست بمقدّمات له بل تكون بحيث لا ينفكّ وجود المأمور به عنها ، كالاستقبال إلى الامور الواقعة في جهة

ص: 457

القبلة ، اللازم لاستقبال نفس القبلة لعدم انفكاكه عن استقبالها ، فيكون ذلك أيضا محبوبا للآمر بالاستقبال لأجل كونه لازما للمأمور به ومبغوضا تركه عنده من جهة أنّه يلزم من تركه ترك المأمور به.

والفرق بينه وبين المعنى الأوّل ممّا بين السماء والأرض ، إذ المعنى الأوّل كما عرفت عبارة عن مجرّد اللابدّية من دون محبوبيّة ولا مبغوضيّة ولذا عمّمناه بالنسبة إلى المباح والمكروه والمحرّم بخلافه الثاني ، فإنّه مرتبة بعد الاولى تستلزم المحبوبيّة في الفعل والمبغوضيّة في الترك كما هو واضح ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي التأمّل في عدم كونه محلاّ للنزاع ، لصلوحه للاتّفاق على ثبوته كما لا يخفى.

هذا على ما يتخيّل في بادئ النظر ، ولكن في الفرق بينه وبين الوجوب التبعي في المقدّمة بالمعنى الآتي نظرا قد تقدّم إليه الإشارة إجمالا.

بل الّذي يقتضيه دقيق النظر عدم الفرق بينهما ، وإن توهّمه بعض الأفاضل ووافقه شيخنا - دام ظلّه - فإنّ مناط ثبوت الوجوب بهذا المعنى في المقدّمات جار بعينه في اللوازم الّتي ليست بمقدّمات.

وقضيّة ذلك أن يقال : إنّ الوجوب التبعي ما كان ثابتا في اللوازم تبعا لوجوب الملزومات ، سواء كانت اللوازم بحيث يتوقّف عليها الملزومات في وجودها الخارجي أو لا.

ومنها : الطلب الإرشادي الّذي هو عبارة عن مجرّد إبراز المصلحة وبيان الواقع ، ويلقى إلى المخاطب بصورة الاقتضاء وليس باقتضاء حقيقة ، نظير طلب الإطاعة وترك المعصية بالنظر إلى المأمور به.

وهو أيضا ليس من محلّ النزاع ، بل لا ينبغي النزاع فيه إذ الطلب الإرشادي للمقدّمة طلب لا دخل له في طلب ذي المقدّمة ، لأنّه إنّما يأتي من جانب العقل بعد ملاحظة تعلّقه بذي المقدّمة ، وذلك لأنّ ترك المقدّمة لمّا كان مؤدّيا إلى الوقوع في المهلكة - وهو ترك ذي المقدّمة المستلزم لاستحقاق العقاب - فالعقل يلزمنا بالإتيان بها تحفّظا عن الوقوع في المهلكة المذكورة ، كما هو دأبه في فعل كلّ ما أمر به وترك كلّ ما نهى عنه.

والمراد بوجوب المقدّمة في محلّ النزاع هو الّذي يستفاد عن وجوب ذيها تبعا ، لا ما يتعلّق بها بحكم العقل إرشادا بعد وجوب ذيها.

فحاصل ما قرّرناه - مضافا إلى ما تقدّم سابقا - عدم كون النزاع في الوجوب النفسي

ص: 458

ولا الأصلي كما توهّمه بعض الأعلام (1)منهم الفاضل النراقي ومصنّفي الهداية والفصول وحكاء النراقي عن أبيه والفاضل الباغنوي والمحقّق الخوانساري وغيرهم وصرّ ح به في الظوابط وغيره (منه ).(2) ولا فيه بمعنى اللابدّية ، ولا بمعنى وجوب اللوازم ،

ص: 459


1- قوله : ( كما توهّمه بعض الأعلام ... الخ ) واعلم أنّ من الأعلام من يستفاد منه كون النزاع في الوجوب النفسي الأصلي دون الغيري التبعي ، بل هو صريح كلامه حيث قال : « وأمّا القائل بوجوب المقدّمة فلابدّ أن يقول بوجوب آخر غير الوجوب التوصّلي ، ويقول بكونه مستفادا من الخطاب الأصلي ، وإلاّ فلا معنى للثمرات الّتي أخذوها لمحلّ النزاع ، فلابدّ لهم من القول بأنّها واجبة في حدّ ذاتها أيضا كما أنّها واجبة للوصول إلى الغير ، ليترتّب عليه عدم الاجتماع مع الحرام ، وأن يكون بالخطاب الأصلي ليترتّب العقاب عليه ، وأنّى لهم بإثباتها ، انتهى ». [ القوانين ١ : ١٠٣ ] ويستفاد ذلك منه أيضا في مواضع اخر ممّا سبق على تلك العبارة وما لحقها كما لا يخفى على الخبير. بل يستفاد من بعض الأعاظم أيضا ، وربّما يعزى إلى المحقّق السبزواري ، وجعله المحقّق الخوانساري من جملة المحتملات الجارية في محلّ النزاع ، ولعلّ ذلك التوهّم لكلّ من صار إليه نشأ عن ظهور الوجوب حيثما أطلق في النفسي الأصلي ، فلا ينصرف إلى الغير التبعي ، أو أنّ ذلك الوجوب التبعي لا يعدّ وجوبا في الاصطلاح ولا يصدق عليه مصطلحهم في الوجوب. أو أنّ الثمرات الّتي ذكروها لمحلّ النزاع من عدم اجتماع المقدّمة مع الحرام واستحقاق العقاب عليها لا يصلح لها إلاّ الوجوب النفسي الأصلي ، إذ الواجب التوصّلي ممّا يجتمع مع الحرام كما صرّحوا به والواجب التبعي لا يستحقّ على تركه العقاب وهذا هو الّذي أوجب ذلك التوهّم في بعض الأعلام ، كما يشهد به عبارته المتقدّمة. أو أنّ محطّ نظر الاصولي في تلك المسألة وغيرها من المسائل الاصوليّة إنّما هو الخطاب الصادر من الشارع والوجوب التبعي بالمعنى المذكور في المتن لا يلائمه من جهة كونه حكيما عالما شاعرا ، لابتنائه على الغفلة والذهول وعدم الالتفات إلى المقدّمة وكونها ممّا لابدّ منها ، نعم في خطابات غيره يتعقّل ذلك بل يكثر وقوعه ولكنّه خارج عن موضوع بحث الاصولي. أو أنّ الوجوب التبعي لشدّة بداهة ثبوته ممّا لا يقبل الخلاف ولا يصير إليه أيادي الإنكار ، فلا ينبغي تنزيل المسألة الّتي صارت معركة للآراء ومطرحا للأقوال على إثبات ذلك المعنى ونفيه ، فلابدّ وأن يكون معقدها معنى آخر وراء ذلك زائدا عليه ، وليس ذلك إلاّ الوجوب الأصلي الّذي يقصد من الخطاب مستقلاّ. وأنت خبير بوهن تلك الوجوه ، وعدم قضاء شيء منها بصحّة ما ذكر من التوهّم. أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة الظهور إنّما يؤخذ بها مع عدم قيام صارف عنها ، وقد ثبت الصارف في المقام من جهات شتّى ، فإنّ دعوى الضرورة كما عن غير واحد من أصحاب القول بوجوب المقدّمة لا يمكن صرفها إلاّ إلى إرادة الوجوب التبعي مع ملاحظة عدم اعتراض أحد عليهم بكونه خروجا عن محلّ النزاع وقولا بما لا خلاف في ثبوته ، وكذلك نفي الخلاف عن الوجوب كما عن بعضهم ، ودعوى الوفاق على الوجوب كما عن آخر لا يناسبه الوجوب النفسي الأصلي ، لعدم كون شيء منهما مظنّة للوفاق ولا مظنّة المصير إليه عن أحد ، وكذلك ضعف القول بالنفي وعدم قائل به مطلقا على سبيل التحقيق وانحصار القول به في الواقفيّة كما في معزى العلاّمة على ما سيجيء حكايته عنه في نقل الأقوال لا يلائم إلاّ الوجوب التبعي ، إذ الوجوب الأصلي قابل لأن ينكره الجلّ ومعظم المحقّقين فينافيه المصير منهم ومن جمهور أهل العلم إلى ثبوته كما لا يخفى. وأيضا قد اتّفقت كلمتهم في العنوان على التصريح بثبوت الوجوب أو نفيه أو الترديد بينهما على نحو الإطلاق ، فلا يناسبه كون المراد بالوجوب نفيا وإثباتا هو النفسي الأصلي مع الاعتراف بثبوت الغيري التبعي ، بل اللازم حينئذ أن يقال في العنوانات هل يعقل في المقدّمة زيادة على ما فيها من الوجوب الغيري التبعي وجوب آخر ، وهو كونها مطلوبة بالذات ومتعلّقة للخطاب بالأصالة أو لا يعقل ذلك؟ وهذا كما ترى معنى ينافيه النفي والإثبات المطلقين ، ولا يلائمه الأدلّة الّتي أقاموها على إطلاقي النفي والإثبات كما لا يخفى. ويؤيّد جميع ما ذكرناه أيضا فهم جماعة من فحول العلماء
2- وتصريحهم بما ذكرناه وإطباقهم على تخطئة المتوهّم ، وما قيل أيضا من أنّ غرض المجتهد إنّما يتعلّق بكون الشيء واجبا سواء تعلّق الخطاب به أصالة أم لا ، لأنّ مقصوده استنباط حكم الوجوب ولا تختلف الحكم بكونه أصليّا أو تبعيّا لوجوب الإتيان على التقديرين. وأمّا الثاني : فلما سيأتي في المتن من عدم الفرق في الوجوب اصطلاحا بين الأصلي والتبعي وصدق المصطلح على التبعي صدقه على الأصلي وأنّه يترتّب عليه بالنسبة إلى المقدّمة جميع ما يترتّب على الأصلي. وأمّا الثالث : فلأنّ الواجب ما دام واجبا لا يجتمع مع الحرام ولو كان توصّليا وقد سبق الكلام في تحقيقه ، فلا ملازمة بين تلك الثمرة على فرض صحّته والوجوب النفسي ، والواجب الغيري لا يترتّب على تركه من حيث هو استحقاق عقاب ولو كان أصليّا كما تقدّم تفصيل القول في ذلك. ومع الغضّ عن ذلك وتسليم صحّة تلك الثمرة فهي من لوازم الوجوب ولو كان تبعا ، لما سيجيء تحقيقه من أنّ الواجبات التبعيّة يعامل معها معاملة الواجبات الأصليّة سواء بسواء عقلا وعرفا ، فلا منافاة بين تلك الثمرة _ على فرض استقامتها _ والوجوب التبعي لئلاّ يكون للقائل بوجوب المقدّمة بدّ من القول بالوجوب الأصلي حيث لا ملازمة بينهما. وأمّا الرابع : فلأنّ الوجوب التبعي ترجع حقيقته هنا _ على ما مرّ مرارا وسيجييء أيضا _ إلى شأنيّة الطلب المجامعة لعدم فعليّة الإرادة ، وعدم قصد طلب المقدّمة عند طلب ذيها فعلا وهو لا ينافي حكمة الحكيم ، ولا أنّ علمه بوجوب المقدّمة بمعنى التصديق به أو تصوّر ذاتها عند تصوّر ذيها لإرادة الطلب يلازم طلبها فعلا أو قصد إيجابها تفصيلا ، كما أنّ الشعور بكونها مقدّمة وأنّها لابدّ منها لوجود ذيها يقتضي قصد إيجابها في الخطاب المتعلّق بذيها اكتفاءا بما يدركه العقل بملاحظة ذلك الخطاب من كون وجوبها لازما لما قصد به من إيجاب ذيها ، وتعويلا على ما عليه بناء العرف والعادة من أنّ ما من شأنه الإيجاب في حكم ما أوجب فعلا في جميع الآثار المترتّبة عليه ، كيف ولو لا ذلك لما كان لدلالة الإشارة مورد في الخطاب الشرعي ، وهو كما ترى ينافي اتّفاقهم على جوازها ووقوعها في آيتي الحمل الدالّتين على أنّ أقلّه ستّة أشهر ، وفي قوله صلى اللّه عليه وآله _ في النساء _ : « أنّها ناقصات عقل ودين ، قيل ما نقصان عقلهنّ؟ فقال : تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلّي » أي نصف دهرها الدالّ على أنّ أكثر الحيض خمسة عشر يوما ، وكذا أقلّ الطهر ، إذ لا شكّ أنّ بيان ذلك غير مقصود ولكن لزم من حيث إنّه قصد به المبالغة في نقصان دينهنّ والمبالغة يقتضي أكثر ما يتعلّق به الغرض هكذا قيل ، وإن شئت تفصيل الكلام في هذه المراتب فانتظر ، فإنّ له محلّ مناسب سيجيء في المتن. وأمّا الخامس : فلأنّ ضعف القول بالنفي وندرة القائل به بل وعدمه كما نفاه بعضهم أو عدم تعيّنه وعدم الاعتناء بشأن ما تعيّن في المقام في كلام العلاّمة دليل واضح على أنّ الوجوب التبعي هو المقصود بالعنوان وأنّه محلّ البحث فإنّ الضروري لشدّة بداهته قد يصير نظريّا لضعفاء العقول ويلحقه الإنكار منهم لشبهة عرضت لهم فلو لا ذلك هو محلّ البحث لكان ينبغي أن يكون النفي مذهبا للجمهور والمحقّقين ، فكيف يجامعه مصيرهم إلى خلافه ، فلا وجه لما أفاده المحقّق الخوانساري عند تحريره لمحلّ الخلاف بقوله : « وإنّما النزاع في تعلّق الخطاب الشرعي بها حتّى يكون الخطاب بالكون على السطح مثلا خطابا بأمرين ، أحدهما : الكون على السطح والآخر : سببه أو شرطه أم لا؟ أو في ترتّب استحقاق الذمّ على تركهما حين تركها دون ترك مشروطها هو ترتّب استحقاق ذمّين على تركهما معا أو تعلّق الإرادة الحتميّة أو الطلب بايجادها أو اشتمال تركهما على مفسدة ». أمّا في الأوّل فلما عرفت مفصّلا ، وأمّا في الثاني والثالث فلأنّه خلاف في الثمرة لا في أصل المسألة كما نبّه عليه بعض الفضلاء. وأمّا في الرابع : فلأنّ المراد بالإرادة الحتميّة أو الطلب بإيجاد المقدّمة إن كان الإرادة والطلب شأنا لا فعلا فهو وإلاّ رجع إلى الأوّل ، فليس احتمالا آخر مقابلا له. وأمّا في الخامس : فلأنّ المفسدة المترتّبة على ترك المقدّمة إن اريد بها إدّاءه إلى ترك ذى المقدّمة فهو ممّا لا يقبل النزاع فيه أصلا ، فلا وجه لتنزيل الخلاف الكذائي الّذي صار من مهمّات مسائل الاصول إلى هذا المعنى ، وإن اريد بها استحقاق الذمّ والعقاب على ترك المقدّمة فهو راجع إلى الثاني والثالث وكأنّ محلّ النزاع [ صار ] مشتبها له رحمه اللّه وغيره. ( منه عفى عنه ).

ص: 460

ولا الوجوب الإرشادي ، بل إنّما هو في الوجوب الغيري لا مطلقا بل إذا كان تبعيّا ، وهو برزخ بين اللابدّية والوجوب الأصلي.

والمراد بالواجب التبعي - على ما تقدّم بيانه مفصّلا - ما من شأنه أن يطلبه المولى فعلا طلبا تفصيليّا لو التفت إليه ، فانتفاء الطلب التفصيلي فعلا إنّما هو مسبّب عن عدم التفاته إليه ، نظرا إلى أنّ الطلب أمر نسبيّ إضافيّ لا يتحقّق في الخارج إلاّ بعد تحقّق شرائط الإضافة.

ومنها وجود المنتسبين ، الطالب والمطلوب عنه.

ومنها تصوّر المطلوب والالتفات إليه ، وبهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه بالمدلول الالتزامي التبعي ، وله نظائر كثيرة من الطلبيّات وغيرها.

أمّا الثاني : فكما في الوكالة لو وكّله على بيع شيء له ، فإنّه يتضمّن إقرارا بأن لا يكون على الوكيل حقّ للموكّل لو خرج المبيع مستحقّا للغير ، فحينئذ لو اتّفق خروجه كذلك

ص: 461

لا يكون له عليه حقّ اعتبارا بإقراره المدلول عليه بالتبع ، وإن لم يكن صرّح به من جهة عدم التفاته إلى موضوعه وهو خروج المبيع مستحقّا للغير ، فإنّه مع هذا الوصف نافذ لأنّه في حكم التصريح به ، إذ لو كان الموكّل بحيث لو التفت إلى الموضوع لكان مصرّحا بالإقرار بعدم ثبوت حقّ عليه عند تحقّق موضوعه.

وأمّا الأوّل : فكطلب ترك قتل الولد الّذي يستفيده العبد عن حال المولى مع عدم صدوره عنه أصلا ، فإنّه يعدّ في العرف طلبا لأجل أنّه لو التفت المولى إلى الولد وقتله لحصل منه طلب تركه فعلا على نحو التفصيل.

وإنّما يستفيده العبد لحكم عقله بكون القتل مبغوضا للسيّد قائما بنفسه إرادة طلب تركه شأنا ، بحيث لو كان قد التفت إليه لأوجده فعلا.

فإذا ثبت أنّ محلّ النزاع في المسألة هو الوجوب التبعي بالمعنى المذكور الّذي هو برزخ بين اللابديّة والوجوب الأصلي ، انكشف أنّ النزاع في ثبوت هذا المعنى وعدمه يقرّر بوجهين :

أحدهما : أن يكون معنى النزاع أنّ الّذي يطلب شيئا له مقدّمة بالطلب التفصيلي الأصلي هل يعقل في ضميره أمر زائد على اللابدّية بالنسبة إلى المقدّمة ، يعبّر عنه بالإرادة الإجماليّة المتعلّقة بتلك المقدّمة الّتي لو التفت إلى كونها لابدّ منها لأرادها فعلا وطلبها تفصيلا أو لا؟ بل الموجود في ضميره إنّما هو مجرّد اللابدّية ، وما يتخيّل في المقام من الطلب والوجوب فهو طلب تفصيلي ووجوب فعلي إنّما يحصل بعد الالتفات إلى تلك اللابدّية وبدونه لا طلب أصلا لا تفصيلا ولا إجمالا.

وثانيهما : أن يكون معنى النزاع أنّ الأمر الزائد الّذي يعبّر عنه بالإرادة الإجماليّة هل يعدّ طلبا وإيجابا ليلزم منه وجوب المقدّمة - نظرا إلى أنّ الطلب أعمّ من الإجمالي والتفصيلي - أو لا يعدّ طلبا فلا يكون المقدّمة واجبة - نظرا إلى اشتراط التفصيل في الطلب والوجوب -؟ ولكنّ الأظهر من كلماتهم واستدلالاتهم هو المعنى الأوّل.

وإن كان المعنى الثاني أيضا ممّا وقع فيه الخلاف ، حيث يستفاد عن بعضهم إنكار كونه كافيا في الإيجاب وثبوت الوجوب بالمعنى المتنازع فيه ، ولكنّه نزاع آخر لا مدخل له في معقد المسألة ، وسيأتي الإشارة إلى بطلانه وتحقيق أنّ هذا الطلب التقديري كاف في ثبوت الوجوب وجميع ما يطلب منه في المقام من الثمرات والفروع.

وأمّا النزاع في أنّ الاقتضاء المتنازع فيه في قولهم : إيجاب الشيء مطلقا هل يقتضي

ص: 462

إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به أو لا؟ هل هو اقتضاء لفظي أو عقلي.

وعلى الثاني فهل هو بيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو غير بيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ؟ فليس على ما ينبغي ، إذ النزاع ليس في الاقتضاء اللفظي لما تقدّم الإشارة إليه في صدر المسألة من أنّ المسألة عقليّة والنزاع إنّما هو في الملازمة العقليّة ولا مدخل فيها للفظ أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ النزاع كما يجري فيما ثبت وجوبه بدليل لفظي فكذلك يجري فيما ثبت وجوبه بدليل غير لفظي ، فلو فرض وقوعه في الاقتضاء اللفظي لخرج مقدّمة هذا القسم من الواجب عن مورده وهو خلاف حكم البديهة.

وأمّا ثانيا : فلقضاء أصل العنوان بذلك ، فإنّ العنوان ليس هو الوجوب الّذي هو مدلول « الأمر » اللفظي وهو الوجوب المطلق الّذي لم يعتبر فيه قيد ولا إضافة ليكون النزاع من باب النزاع في الملازمة بين مدلول اللفظ وبين شيء آخر ، ليرجع النزاع بالآخرة إلى أنّ هذا شيء هل هو لازم للموضوع له أو لا؟ بل في الوجوب المضاف إلى شيء له مقدّمة فلذا يعبّر عنه بأنّ : « إيجاب الشيء مطلقا هل هو إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به أو لا »؟

ومن البيّن أنّ الوجوب مع وصف إضافته إلى ما له مقدّمة ليس بعين ما وضع له اللفظ بل هو فرد منه ، فيكون النزاع في أنّ هذا الفرد من الوجوب هل ملازمة عقلا بينه وبين وجوب مقدّمته أو لا؟

وهو كما أنّه يصلح فردا لما يقتضيه اللفظ فكذلك يصلح فردا لما يقتضيه اللبّ ، فلا تعلّق لاقتضاء اللفظ بما هو هو بذلك أصلا ولا ينافي ما ذكرناه لما قدّمناه من المناقشة في ما تقدّم من دعوى كون النزاع في الملازمة العقليّة دون الدلالة اللفظيّة تعليلا بما تقدّم ، لأنّها مناقشة في تعليله لا في مدّعاه كما لا يخفى.

ثمّ لا ريب أنّ اللزوم غير بيّن بالمعنى الأعمّ ، لأنّ المقدّمة بنفسها لازم غير بيّن لذيها إذ لا يلزم من تصوّرهما معا وتصور النسبة بينهما الجزم باللزوم ، فيكون طلبها أيضا لازما غير بيّن لطلبه.

وتوضيح ذلك : أنّ اللازم الغير البيّن يمتاز عن البيّن بافتقار معرفة لزومه وحصول تصوّره إلى وسط كالحدوث للعالم ، إذ لا يلزم تصوّره من تصوّره ، ولا من تصوّرهما مع تصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم ، إلاّ بتوسّط تصوّر التغيّر بخلاف البصر للعمى في البيّن بالمعنى الأخصّ والزوجيّة للأربعة في البيّن بالمعنى الأعمّ ، وظاهر أنّ ذات المقدّمة أيضا

ص: 463

سببا كانت أو شرطا أو غيرهما ممّا لا يلزم تصوّرها من تصوّر ذيها ، ولا من تصوّرهما معا وتصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم إلاّ بتوسّط ملاحظة كونها ممّا لابدّ منها لذيها عقلا أو شرعا أو عادة ، فتكون بالنسبة إليه حينئذ لازما غير بيّن بالمعنى الأعمّ ، فإذا كانت الحال في نفس المقدّمة هذه فطلبها بالقياس إلى طلب ذيها أولى بذلك ، لأنّا نجزم بأنّ الجزم باللزوم بين الطلبين لا يحصل إلاّ بعد ملاحظة ما ذكر من الوسط ، فمن يدّعي وجوب المقدّمة يدّعي كونه لازما غير بيّن بالمعنى الأعمّ والمنكر ينفي ذلك.

ثمرات النزاع في مسألة مقدّمة الواجب

ثمّ إنّهم ذكروا للمسألة ثمرات ليس شيء منها بشيء

منها : ما يظهر في باب النذور والأيمان ونحوها ، فإنّ من نذر أن يأتي بواجب فأتى بمقدّمة واجب يكفيه في حصول الوفاء على القول بوجوب المقدّمة وإلاّ فلا وفاء.

ومن هذا الباب لو نذر الإتيان بواجبات عديدة فأتى بواجب مع مقدّماته ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يحصل الوفاء بالنسبة إلى الجميع إن وافق المأتيّ به للمنذور في العدد وعلى القول الآخر لا وفاء إلاّ بالنسبة إلى واحد وهو الّذي يحصل بإتيان نفس الواجب.

وربّما يناقش فيه : بدعوى انصراف الواجب في النذر وغيره إلى الأصلي المستقلّ دون الغيري التابع لوجوب الغير.

ولا يخفى أنّها مناقشة في محلّها كما يظهر بأدنى تأمّل في بناء العرف ، مضافا إلى أنّ فائدة النذر وشبهه لا تعدّ من ثمرات المسائل الاصوليّة ، فإنّها فائدة تترتّب على المسألة ، ومن شأنها أن يذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة عند التفريع وتعداد الفروع ولا مدخل لها في ثمرة المسألة الاصوليّة ، لأنّ ثمرة كلّ مسألة ما كان غاية مطلوبة من عنوان البحث عن تلك المسألة وهي الّتي تكون جزئيّا ممّا يقع مدلولا « للام » الغاية في قولهم : « اصول الفقه هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » ومعلوم أنّ مسألة النذر وشبهه ليست بهذه المثابة ، بل هي من الفوائد الغير المقصودة الّتي تترتّب على المسألة بعد استنباط الحكم الفرعي الّذي هو الغاية المطلوبة.

ألا ترى أنّ ثمرة القول بكون صيغة « افعل » حقيقة في الوجوب يظهر في أوامر الكتاب وفي السنّة الواردة مجرّدة عن القرينة ، لوجوب حملها حينئذ على الوجوب ثمّ تترتّب بعد ذلك عليه فائدة النذر فيما لو نذر الإتيان بواجب فأتى بما تعلّق به الأمر بالصيغة.

ولا ريب أنّها لا تعدّ من ثمرات خلافهم في الصيغة ، بل هي من فوائد القول بكونها للوجوب.

ص: 464

ومنها : استحقاق الثواب بفعل المقدّمة واستحقاق العقاب بتركها على القول بالوجوب وليس كذلك الأمر على القول الآخر.

وأنت خبير بضعف هذه الدعوى أيضا ، فإنّا لا نقول باستحقاق الثواب والعقاب على المقدّمة فعلا وتركا إذا كان وجوبها أصليّا مستفادا من الخطاب بالأصالة ، من جهة كونه وجوبا توصّليّا لا يترتّب عليه شيء من ذلك فكيف بوجوبها إذا كان تبعيّا.

وقد تقرّر أنّ الوجوب المتنازع فيه تبعيّ فهو أولى بعدم ترتّب استحقاق الثواب والعقاب من جهته على الفعل والترك.

ولا بأس بأن نشير إلى بعض ما صدر عنهم في ذلك المقام ، فمن جملة ذلك ما عن بعض المحقّقين - ممّا حكى نقله عن الغزالي أيضا - من ترتّب المدح والثواب على فعل المقدّمة ونفى عنه الغائلة بعض الأعلام بعد ما صرّح بعدم الذمّ والعقاب على تركها.

ثمّ استشكل فيه : بأنّه قول بالاستحباب الّذي هو منفيّ فيما بين الأقوال ، ولعلّ وجهه على ما رامه رحمه اللّه أنّ الاستحباب هنا ممّا لا معنى له لعدم صدق حدّه عليه ، إمّا من جهة انتفاء جنسه ، أو من جهة انتفاء فصله ، فإنّ استحقاق الثواب لو فرض مع عدم طلب في البين فيلزم الاستحباب من دون جنس الاستحباب وهو الطلب ، إذ المفروض انتفاؤه ، ولو فرض مع الموجود من الطلب المتّفق عليه عند الفريقين ، فيلزم الاستحباب مع عدم فصل له إذ ليس في المقام إلاّ الطلب الحتمي الّذي لا يرضي اللّه تعالى معه بالترك ، والاستحباب ينافيه لاستلزامه الرضاء بالترك وكلاهما غير معقول.

ثمّ صحّحه بجواز القول بإدراجه في عموم « من بلغه ثواب على عمل وفعله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه » فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه.

وتفصيل ما أجمله في وجه الاندراج : أنّ الثواب على فعل المقدّمة ثواب قد بلغ بذهاب بعض المحقّقين إليه ونقله الغزالي ، فبلوغ ذلك القول بلوغ ثواب ، فمن فعل المقدّمة لأجل إدراك ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن في الواقع كما بلغه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا الاحتمال عقّبه بقوله : « فتأمّل » وهو إشارة إلى ما ذكره في حواشيه - على ما حكي عنه - من أنّ ذلك خارج عن الاستحباب المصطلح الّذي يتسامح في أدلّته.

ولعلّ وجه الخروج - على ما رامه - أنّ الاستحباب المصطلح المذكور ما له طلب استحبابي واقعي كما في الاستحباب المحقّق ، أو طلب استحبابي ظاهري كالاستحباب

ص: 465

البالغ إلينا عن فتوى فقيه واحد ، فإنّه فهمه عن دليل لا دلالة له عليه عندنا فيصير استحبابا ظاهريّا بمقتضى أخبار من بلغ.

ومحلّ الكلام ليس من هذا الباب ، إذ المقدّمة ليس فيها طلب استحبابي أصلا لا في الواقع ولا في الظاهر.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الطلب الموجود فيها طلب حتمي وهو ينافي الطلب الاستحبابي.

وأمّا الثاني : فلأنّ القائل بترتّب الثواب على فعل المقدّمة لا يدّعي الاستحباب ، بل يقول بأنّه يترتّب على الطلب الحتمي الّذي هو ثابت باتّفاق منّي ومنك ، فلم يبلغ إلينا استحباب لنتسامح في دليله ، بل الّذي بلغ [ هو ] ترتّب الثواب على الطلب الحتمي وهو ليس من الاستحباب المصطلح في شيء.

ثمّ ذكر أنّ هذا الاستحباب مع خروجه عن المصطلح لا مانع من الالتزام به إلاّ لزوم تسديس الأحكام أو تسبيعه.

والوجه في ذلك : أنّ المقدّمة إمّا فعل شيء أو ترك شيء والطلب الحتمي الّذي لا يترتّب على مخالفته عقاب مع ترتّب الثواب على موافقته ليس بشيء من الأحكام الخمس المعروفة ، فإن اضيف إلى القسم الأوّل من المقدّمة يكون قسما سادسا من الأحكام ، وإن اضيف إلى ثانيهما يكون قسما سابعا من الأحكام.

والفرق بين الصورتين أنّ الاولى تشبه الاستحباب وليس باستحباب كما أنّها ليست بوجوب.

والثانية تشبه الكراهة وليست بكراهة كما أنّها ليست بحرمة ، والوجه في عدم كونهما من الإباحة واضح من جهة تسوية طرفي المباح مع عدم ترتّب الثواب على الفعل والمقدّمة مطلوبة بالطلب الحتمي.

ثمّ صحّح ذلك أيضا بأنّ لزوم ذلك إنّما يقدح في الأحكام الأصليّة دون التبعيّات ، والمقدّمة فعليّة كانت أو تركيّة طلبها تبعي فلا ضير في لزوم التسديس والتسبيع حينئذ.

ولا يخفى عليك ما في جميع هذه الكلمات من الوهن والمناقشة.

فأمّا ما عن الغزالي وعن بعض المحقّقين فيردّه : أنّ ترتّب الثواب على أصل المقدّمة متفرّع على مسألة كلاميّة لم يقع عليها برهان عندنا ، وهي كون وسيلة الطاعة طاعة ككون وسيلة المعصية معصية ، فيقال حينئذ : إنّ الإتيان بالمقدّمة وسيلة إلى الطاعة وهي الإتيان

ص: 466

بذيها فتكون طاعة ، فيترتّب عليه الثواب الّذي هو من لوازم الطاعة.

وهو كما ترى دعوى لا شاهد عليها إذ لا يستقلّ عقولنا بكون وسيلة الطاعة طاعة ، فلا معنى لالتزام الثواب على الفعل إن اريد به ترتّبه على جهة الاستحقاق ، وإن اريد به ترتّبه مطلقا ولو على جهة الفضل والإحسان.

ففيه : مع أنّه غير مطّرد لتوقّفه على الإتيان بها على وجه خاصّ لا عند كلّ إتيان ، أنّه غير مخصوص بمقدّمة الواجب بل كلّ مباح إذا اتي به على هذا الوجه يترتّب عليه الثواب كما ورد به الأخبار ، بل لا يكون ذلك حينئذ متفرّعا على القول بوجوب المقدّمة كما هو الغرض الأصلي في المقام لحصوله على القول الآخر أيضا كما لا يخفى على المنصف.

وأمّا ما ذكره من ترتّب المدح على فعلها فلا نضائقه ، لأنّه يقال في حقّ الآتي بالمقدّمة : « أنّه رجل حسن » لعزمه على الإتيان بالواجب بسبب إتيانه بمقدّمته ولكنّه ليس من استحقاق الثواب في شيء ، بل هو مجرّد مدح دنيوي والثواب أمر اخرويّ زائد على المدح الدنيوي ولا ملازمة بينهما.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام أوّلا في تصحيح ما التزمه من لزوم الاستحباب من اندراجه تحت الخبر العامّ المذكور الموجب لترتّب الثواب على الفعل.

ففيه : أنّ محلّ الكلام خارج عن مورد ذلك الخبر ونظائره ، فإنّ مورده إنّما هو التوقيفيّات الّتي لا طريق إليها إلاّ البلوغ ، ووجوب المقدّمة من النظريّات لتوقّف ثبوته على النظر.

وأمّا ما ذكره ثانيا من الالتزام بلزوم التسديس والتسبيع في التبعيّات.

ففيه : منع الفرق بينها وبين الأصليّات ، فإنّ الأحكام الشرعيّة منحصرة في الخمس بضرورة من الدين ، بل في جميع الملل والأديان من غير فرق فيها بين الأصليّة والتبعيّة ، ودعوى جوازه في التبعيّات خاصّة لا تتمّ إلاّ بإحراز إحدى المقدّمتين ، من منع كون التبعيّات من الأحكام الشرعيّة ، أو منع انحصار الأحكام الشرعيّة في الخمس المعروفة.

والكلّ مخالف لحكم القوّة العاقلة وإنكار للبديهة ولا يصغى إلى شيء منهما عند أهل النظر.

فالوجه في المقام منع دعوى ترتّب الثواب على فعل المقدّمة فرارا عن تلك المحاذير ، مع ابتنائها على التكلّفات الركيكة الواهية.

ومنها : كون ترك المقدّمة موجبا للفسق على القول بوجوبها بخلافه على القول الآخر.

ولا يخفى أنّ ذلك أيضا لا يرجع إلى محصّل ، فإنّ موجب الفسق - على ما تقرّر في

ص: 467

محلّه - قد يكون فعل الكبيرة ولو مع عدم الإصرار ، وقد يكون الإصرار على الصغيرة ولو لم تكن من نوع واحد بل من أنواع متعدّدة.

فلو اريد أنّ ترك المقدّمة بنفسه كبيرة ولو واحدة ، أو أنّ الواجب كثيرا مّا يكون له مقدّمات عديدة فتركها جميعا إصرار على الصغيرة وإن لم يكن ترك الواجب بنفسه كبيرة ، أو أنّ الواجب وإن كان تركه بنفسه صغيرة ولكن ترك مقدّمته ولو واحدة المفضي إلى تركه يوجب الإصرار على الصغيرة ، نظرا إلى عدم اعتبار وحدة النوع في موضوع الإصرار فيلزم الفسق على جميع التقادير ، فيترتّب عليه حينئذ جميع أحكام الفسق من عدم نفوذ الشهادة وعدم جواز القدوة ونحوه.

ففيه : منع واضح من جهة أنّ الفسق ممّا يتفرّع على المعصية لا على ترك الواجب بما هو واجب.

ولقد تقدّم أنّ ترك المقدّمة من حيث هو لا يعدّ عصيانا ، وإنّما العصيان يحصل بترك الواجبات النفسيّة ، والمقدّمة على تقدير وجوبها ليست منها.

فالنسبة بين حصول العصيان وترك الواجب عموم مطلق ، كما أنّ بينه وبين الفسق عموم من وجه ، إذ قد يحصل الفسق من غير ترك واجب ولا حصول معصية كما في منافيات المروّة على القول باعتبارها فيه ، فلا ملازمة بين الوجوب والفسق ليكون لزومه من ثمرات القول بالوجوب.

ولو اريد أنّ ترك المقدّمة ممّا يوجب الفسق ولو كان من جهة إفضائه إلى ترك ذيها إذا كان ذلك من جملة الكبائر.

ففيه : أنّه إذن لا اختصاص له بالقول بالوجوب ، بل هو لازم حتّى على القول بعدم الوجوب.

والسرّ في ذلك : أنّ الفسق حينئذ يستند إلى ترك ذي المقدّمة وهو إذا كان من جملة الكبائر لا يتفاوت الحال في استلزامه الفسق بين كون مقدّمته المتروكة واجبة أو لا ، ولا ينافيه حصوله من حين ترك المقدّمة وإن لم يبلغ وقت ذيها ، لأنّ ترك الواجب أعمّ من الحقيقي والحكمي فتارك المقدّمة في حكم تارك ذي المقدّمة لأنّه جعله بترك مقدّمته ممتنعا على نفسه حين الترك ، فكما أنّ المعصية حاصلة من هذا الحين عرفا فليحصل لوازمها أيضا من ذلك الحين.

والمفروض أنّ الفسق من لوازمها كما أنّ استحقاق العقاب من لوازمها ، فلذا تجوّز

ص: 468

ترتّب الاستحقاق على الترك من حينه ، فمن ترك الخروج مع الرفقة مع العلم بعدم تيسّره له بعد ذلك أو الظنّ به يستحقّ العقاب على ترك الحجّ الواجب عليه من حين ذلك الترك وإن طال زمان البلوغ إلى أوقاته.

وقضيّة ذلك ترتيب آثار الفسق عليه بعد الحكم بفسقه وإن لم نقل بوجوب المقدّمة ، لما يصدق عليه حينئذ أنّه تارك للحجّ وباعث على سقوط الأمر عنه بصيرورته ممتنعا باختياره.

ومنها : أخذ الاجرة على المقدّمة كالحفر الّذي هو مقدّمة لدفن الميّت ومواراته وتعلّق عقد الاجارة بها ، فعلى القول بالوجوب لا يجوز ذلك كغيرها من الواجبات الّتي ادّعي الإجماع على ذلك فيها.

وأمّا على القول بعدم الوجوب فلا مانع عن شيء من ذلك ، فيصحّ العقد ويستحقّ به الاجرة عليها.

ومن فروعه ما لو وجب على الإنسان حجّ مثلا فلا يجوز له أن يأخذ الاجرة على ما يرفعه في ميسره الواجب عليه من باب المقدّمة من مراسلة أو هديّة أو نحوها لأن يوصله في الميقات أو الكعبة إلى أهلها.

ومثله ما لو وجب عليه ردّ أمانة أو مال مغصوب إلى أهله في مكان ، فلا يجوز له أن يوجر نفسه لأن يرفع خطّا أو شيئا آخر في مسيره إلى هذا المكان ، لوجوبه عليه من باب المقدّمة على القول به.

واجيب عنه تارة : بأنّ أقصى ما دلّ عليه الدليل عدم جواز وقوع الإجارة على الواجبات النفسيّة دون غيرها (1).

وفيه : أنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ صفة الوجوب من حيث هي مانعة عن التكسّب بالواجبات كما أنّه دلّ على أنّ صفة الحرمة مانعة عن التكسّب بالمحرّمات ، فإبداء الفرق حينئذ بين الواجبات النفسيّة والغيريّة خروج عن مقتضى الدليل ، لاشتراك الجميع في صفة الوجوب وإن كان لبعضها مزيّة على الآخر من جهات اخرى ، وكأنّه إلى ذلك يشير ما ذكره المجيب عقيب الجواب بقوله : « وفيه تأمّل ».

واخرى : بأنّه لا ابتناء لعدم أخذ الاجرة على المقدّمة على القول بوجوبها ولا لجواز أخذها على القول بعدم وجوبها ، بل النسبة بين جواز أخذ الاجرة ووجوب المقدّمة عموم

ص: 469


1- ذكره بعض الأفاضل ( منه ).

من وجه ، فلذا تراهم أطلقوا في الحكم بعدم جواز أخذها على تجهيز الميّت الّذي هو عبارة عن الأعمّ من الواجبات ومقدّماتها حتّى أنّه يشمل لمثل الحفر الّذي لا إشكال في كونه مقدّمة من غير تعرّض للفرق بين القولين في المقدّمة.

وأقوى ما يشهد بذلك استثناؤهم القدر الزائد على القدر الواجب من الحفر من الحكم بالحرمة فحكموا فيه بجواز الاجرة عليه ، فلولا المراد بالحكم ما يشمل المقدّمات أيضا لما كان للاستثناء وجه ، نظرا إلى أنّ الاخراج فرع الدخول بل الّذي ينوط به عدم جواز أخذ الاجرة على المقدّمة مطلقا أو جوازه كذلك شيء آخر لا دخل للوجوب فيه ، وهو الّذي يناط به الحكم في الواجبات الأصليّة النفسيّة وجودا وعدما.

وتحقيقه : أنّ الواجب إن كان من باب الحقوق المتعلّقة بالذمّة كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ونحوهما ممّا هو من حقوق المؤمن فلا يجوز أخذ الاجرة عليه ، ويعلم كونه من هذا القبيل بما دلّ على وجوبه من الأدلّة القاضية بوجوب أدائه وقبوله لإبراء الذمّة وصلوحه للمصالحة والتوكيل والوصيّة وغير ذلك ممّا يتعلّق بالحقوق خاصّة ، وإن لم يكن من هذا الباب فلا منع من جواز أخذ الاجرة كالنيابة للميّت في قضاء فرائضه الفائتة إلاّ ما دلّ دليل بخلافه ، فالمقدّمة أيضا إن كانت من الحقوق المتعلّقة بالذمّة للمؤمن فلا يجوز أخذ الاجرة عليها سواء قلنا بوجوبها أو لا ، وإن لم تكن من تلك الحقوق فلا دليل على عدم جواز أخذ الاجرة عليها ولو قلنا بوجوبها إلاّ ما أخرجه الدليل ، فلا مدخل لهذا الفرع في وجوب المقدّمة ليجعل من ثمرات المسألة.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من الوهن ، ومنافاته لما يقضي بأنّ صفة الوجوب مانعة عن الاجرة وإجراء العقد ، مع أنّ معقد كلامهم في عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب ما وجب على الإنسان بالأصل أو بالعارض عينا أو كفاية تعيينا أو تخييرا ، فلا يعقل واجب على المكلّف لا يكون متعلّقا بذمّته ، وما فرض من مسألة النيابة للميّت في قضاء ما فات عنه من الفرائض خارج عن هذا العنوان لاتّفاقهم على جواز أخذ الاجرة هنا.

والوجه في ذلك : أنّ الوجوب السابق مطلقا مانع عن لحوق إجراء العقد واستحقاق الاجرة بالواجب على فعله ، ولا وجوب في مسألة النيابة قبل عقد الإجارة بل الوجوب واستحقاق الاجرة ينشآن عن العقد ، فالاجرة ليست على الواجب بل على العمل المباح المملوك له قبل العقد.

نعم لا يسوغ له بعد ما وجب عليه العمل بعقد الإجارة أن يوجر نفسه ثانيا من غيره

ص: 470

لهذا العمل الواجب ، ولا أن يأخذ اجرة اخرى عليه من غير المستأجر الأوّل كما هو الحال في سائر الواجبات.

وبالجملة لا وقع لما ذكر من الجواب مع كونه فاسد الوضع.

نعم يرد على الثمرة المذكورة ما تقدّم في الثمرة الاولى ، فإنّ المقدّمة على تقدير وجوبها وإن حرم أخذ الاجرة عليها لمانعيّة الوجوب نظرا إلى عدم الفرق في ذلك بين ما كان وجوبه أصليّا أو تبعيّا ولكنّه ليس من الغايات المطلوبة الباعثة على عنوان المسألة الاصوليّة كما يرد ذلك على الثمرتين الاخريين على تقدير تماميّتهما.

ومنها : اجتماع المقدّمة مع الحرام ، فعلى القول بوجوبها لا يجوز ذلك بناء على ما هو التحقيق من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعلى القول بعدم الوجوب لا ضير فيه لحصول الإجزاء حينئذ بالإتيان بها في ضمن الحرام.

وفيه : أنّ ذلك أيضا ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يوجب فرقا بين القولين ، فإن اريد بعدم جواز اجتماع المقدّمة مع الحرام أنّ الحرمة في المقدّمة ممّا توجب خروجها عن كونها واجبة وتمنع عن تعلّق الوجوب بها لئلاّ يلزم الجمع بين المتضادّين في شيء واحد ، ولا كونه محبوبا ومبغوضا ، ولا كونه مطلوبا فعله وتركه معا.

فهو مسلّم ، ولكنّه لا يوجب فرقا بين القولين من جهة كونها مقدّمة محرّمة فيتوصّل بها إلى ذيها على القولين ، ويترتّب على أدائها من جهة الحرمة على القولين.

والّذي يثمره القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي وهو عدم حصول الإجزاء بالفرد المحرّم وعدم الخروج عن عهدة المأمور به لو اوتي به في ضمن الحرام غير جار هنا ، لحصول ما هو الغرض الأصلي من المقدّميّة وهو التوصّل على القولين.

غاية الأمر أنّ المأتيّ به على القول بالوجوب مسقط عن الذمّة وعلى القول الآخر لا إسقاط.

وهذا ليس من الفرق الّذي يعدّ ثمرة بين القولين ، ولو فرض الكلام في المقدّمة المنحصرة في الحرام فلا فرق أيضا بينهما ، لأنّ المقدّمة لابدّ وأن تكون مقدورة على القولين والمانع الموجب لخروجها عن كونها مقدورة أعمّ من الشرعي والحرمة مانع شرعي ، فلا قدرة على المقدّمة ما دام هذا المانع قائما وكذلك على ذيها.

وقضيّة ذلك كون الوجوب الّذي يضاف إليه مشروطا على القولين.

نعم على القول بوجوب المقدّمة يفرض الوجوب بالإضافة إليها أيضا مشروطا وهذا

ص: 471

فرق بينه وبين القول الآخر بحسب الذات لا أنّه ثمرة بينهما.

وإن اريد به أنّها توجب خروجها عن كونها مقدّمة أيضا فهو في حيّز المنع ، إذ المقدّمية بمعنى كون الشيء ممّا لابدّ منه وممّا يتوقّف عليه غيره في الوجود الخارجي حكم عقلي ثابت للفرد المحرّم على كلا التقديرين ، والحرمة وصف عرضي أثبته الشارع في ذلك الفرد موجب لترتّب الإثم عليه لو اختاره المكلّف على غيره من الأفراد المباحة وهو لا ينافي كون ذلك الفرد مقدّمة بهذا المعنى جزما ، مع أنّ مآل كلامهم في مسألة اجتماع الأمر والنهي إلى جواز وقوع شيء واحد موجود في الخارج مصداقا لمفهومين أحدهما مأمور به والآخر منهيّ عنه وعدمه ، فمن يجوّز الاجتماع يقول بجواز الوقوع ومن لا يجوّزه ينكر ذلك.

فلو فرض المقدّمة ممّا يتّحد مع ذيها في الوجود الخارجي بأن يكونا بحيث يكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر في نظر الحسّ كالجزء بالقياس إلى الكلّ في المركّبات العقليّة كالكون في المكان لأداء المأمور به الّذي هو جزء جنسيّ له لكان الموجود في الخارج واحدا ، فيكون ممّا يجري فيه الخلاف المذكور من جواز وقوعه مصداقا لشيئين أحدهما منهيّ عنه - وهو المقدّمة على تقدير اجتماعها مع الحرام - والآخر مأمور به وهو ذو المقدّمة ، من غير فرق بين كونها واجبة أيضا على القول به وعدمه ، إذ لو قلنا بجواز الوقوع يتّجه جواز الاجتماع مع الحرام ولا يضرّ فيه القول بالوجوب ، وإن لم نقل بجواز الوقوع يتّجه عدم جواز الاجتماع مع الحرام ولا ينفعه القول بعدم الوجوب ، لأنّه يلاحظ ذلك حينئذ مع ذي المقدّمة الّذي هو واجب على كلا التقديرين.

والمفروض اتّحاده مع مقدّمته في الوجود الخارجي فيلزم من اجتماعهما مع الحرام اجتماعه معه.

وبذلك يظهر ما في صريح كلام العلاّمة - على ما حكاه بعض الأعلام وتقدّم إليه الإشارة ، من تجويزه اجتماع الحرام مع الكون الّذي هو جزء للصلاة ومقدّمة له كما إذا كان في الدار المغصوبة على تقدير القول بعدم وجوبها ، حيث ذكر ذلك ثمرة للقول بعدم وجوب الجزء الّذي هو مقدّمة للكلّ - من الفساد فإنّ الجزء لا يتصوّر اجتماعه مع الحرام ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة ، لأنّه لو اجتمع معه لما يحصل الامتثال به فلا يحصل الامتثال بالكلّ أيضا ، لأنّه عبارة عن مجموع الأجزاء والكلّ ينتفي بانتفاء الجزء.

كما يظهر فساد ما في ظاهر كلام بعض الأعلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي من

ص: 472

جواز اجتماع الحرام مع الفرد الّذي هو مقدّمة للكلّي المأمور به على القول بعدم وجوب المقدّمة ، فإنّ الفرد على تقدير كونه مقدّمة للكلّي متّحد معه في الوجود الخارجي فكيف يجوز اجتماعه مع الحرام ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة ، مع أنّ اجتماعه معه يستلزم اجتماع ذي المقدّمة الّذي هو واجب لا محالة ، إذ المفروض أنّه لا تميّز بينهما بحسب الوجود الخارجي أصلا ، فعروض الحرمة لأحدهما عروض للآخر لما بينهما من الاتّحاد ، فلأجل عدم الامتثال بأحدهما لا يحصل الامتثال بالآخر وإلاّ للزم حصول الامتثال وعدمه وهو كما ترى.

هذا على الغضّ عن منع كون الفرد مقدّمة للكلّي وإلاّ فعلى التحقيق المتقدّم في بعض المباحث السابقة يتضاعف فساد هذا الكلام جزما.

ومنها : ما قيل أيضا في المقدّمة إذا كانت من العبادات الموقوفة صحّتها على الأمر ، كالوضوء لمسّ كتابة القرآن مثلا إذا وجب بالنذر وشبهه ، بناء على أنّه لا يتعلّق بما هو محرّم منه والمباح منه مشروط وجوده بالطهارة فيكون الوضوء بالنظر إليه مقدّمة لوجود الواجب ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يقع الإتيان به صحيحا لو حصل لأجل المسّ ، لأنّ الأمر الّذي ينوط به صحّة العبادة أعمّ من النفسي والتبعي والأصلي والغيري.

وقضيّة ذلك حصول الوفاء بالنذر أيضا لو أتى بالمنذور ، بخلافه على القول بعدم الوجوب فلا يقع الوضوء صحيحا لانتفاء ما هو مناط الصحّة ، بل يقع محرّما من جهة البدعة.

وقضيّة ذلك عدم حصول الوفاء بالنذر لعدم إمكانه مع عدم صحّة مقدّمة مورده ، فحينئذ لا مناص من القول بعدم انعقاد النذر عن أصله فلا وجوب للمسّ بل يحرم على التقدير المذكور ، أو دعوى انعقاده مشروطا بتمكّنه عن الطهارة الحاصلة بسبب صحيح من أسبابه إن كان في وقت موسّع ، وإلاّ فلابدّ من الالتزام بكون الناذر معذورا في عدم إتيانه بالمنذور حيث لم يتمكّن عنه من جهة حرمته بدون مقدّمته ، والمفروض عدم صحّة المقدّمة.

وفيه : أيضا ما لا يخفى من خروجه عن قانون الثمرات ، لأنّ المقدّمة إذا كانت من مقولة العبادات إن كان لها بنفسها رجحان ذاتي يقضي بطلبها الندبي الغير المانع عن النقيض ، فلا إشكال حينئذ في حصول الامتثال بها ووقوعها على وجه الصحّة لو قصد الإتيان بها لأجل الطلب الندبي الغير المانع ، فيترتّب عليه جواز المسّ سواء قيل بوجوب المقدّمة الزائد على ذلك الطلب الندبي النفسي أو قيل بعدمه ، فلا يتفاوت الحال أصلا.

وإن لم يكن لها رجحان ذاتي يوجب الطلب الندبي الغير المانع ، فلا يجدي وجوبه

ص: 473

المقدّمي في حصول الامتثال بها من جهة كونها عبادة وهو وجوب ليس بتعبّدي حتّى يوجب الصحّة ، بل هو توصّلي صرف غيري فلا يحصل الامتثال بها مطلقا ولو على القول بالوجوب ، لأنّه فرع ترتّب الثواب والعقاب وقد نفينا استحقاق الثواب والعقاب بالنسبة إلى المقدّمة في حدّ نفسها.

ولعلّه إلى ما ذكرنا في الشقّ الأوّل ينظر ما عن ابن إدريس القائل بوجوب المقدّمة في غسل الجنابة لصيام نهار رمضان قبل دخول وقت الوجوب من القول بعدم وجوب الغسل الّذي هو مقدّمة لعدم وجوب ذيها مع كونها ممّا لابدّ منها حينئذ لأدّاء تركها إلى ترك ذيها ، قائلا :« بحصول الامتثال بالغسل لكونه مندوبا نفسيّا فالامتثال إنّما يحصل من جهة الطلب الندبي ».

فإنّ الالتزام بالطلب الندبي إنّما يصحّ لزعم الرجحان الذاتي الداعي إلى الطلب الندبي الغير المانع ، ولا ينافي ذلك لعدم وجوبها من باب المقدّمة كما أنّه لا ينافي لكونها ممّا لابدّ منها ، فلا يجوز تركها بحكم العقل من هذه الجهة الّتي يلاحظها فيخبر عن المولى بعدم الرضا بالترك المؤدّي إلى ترك مطلوبه فيما بعد وإن لم يكن طلبها طلبا فعليّا.

فلا يرد عليه ما أورده العلاّمة رحمه اللّه عليه : من أنّ قوله : بكون المقدّمة مندوبة مع قوله بوجوب مقدّمة الواجب من أعجب العجاب ، تعليلا بأنّ الإتيان بالمقدّمة حينئذ إن كان واجبا بوجوب مانع عن نقيض فلا معنى لدعوى كونها مندوبة ، وإلاّ كان رجوعا عن القول بوجوب المقدّمة.

فإنّ القول بعدم وجوب تلك المقدّمة فعلا من جهة عدم دخول وقت وجوب ذيها لا ينافي القول بوجوبها الفعلي الّذي يلزم من وجوب ذيها فعلا ، فلا يكون عدولا عن القول بوجوب مقدّمة الواجب.

وأمّا عدم جواز تركها فليس من جهة ما فيها من الطلب ، لأنّه على فرض وجوده طلب ندبي غير بالغ حدّ المنع عن النقيض ، بل هو من جهة اللابدّية الّتي هو من أحكام العقل ، بل ربّما ينشأ من العقل بملاحظة ذلك طلب إرشادي كما تقدّم في تحرير محلّ النزاع ، فلا ينافي القول بالندب الذاتي الموجب للصحّة للابديّة القاضية بعدم جواز الترك ، كما أنّه لا ينافي القول بوجوب المقدّمة إذا تحقّق شرطه وهو وجوب ذيها فعلا ، وكيف ما كان فالثمرة المذكورة لا تكاد تثمر شيئا في المقام.

ومنها : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ لو كان عبادة وقلنا بوجوب

ص: 474

المقدّمة ، فإنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به فيكون على القول بوجوب المقدّمة واجبا وهو يستلزم كون الفعل حراما ولا نعني بالنهي عن الضدّ إلاّ هذا.

بخلاف ما لو قلنا بعدم وجوب المقدّمة فلا يكون الترك حينئذ واجبا فلا يكون الفعل حراما ولا نعني بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ إلاّ ذلك ، وهو أيضا ممّا لا يفهم معناه.

وإن اريد به مجرّد حرمة فعل الضدّ كما هو مقتضى النهي.

ففيه : أنّ حرمة فعل الضدّ لا تتوقّف على وجوب تركه ، لكفاية مجرّد لابدّية الترك في إفادة الحرمة لإفضاء الفعل إلى ترك المأمور به فيكون حراما لأجله ، سواء قلنا بوجوب الترك أو لا.

وإن اريد به ما يلزم منه من الفساد.

ففيه : أنّ النهي على تقدير اقتضائه فساد المنهيّ عنه إنّما يسلّم إذا كان صريحا ، لا في النهي الّذي هو من مقتضى الأمر لما هو المقرّر عندهم.

وإن اريد به ترتّب استحقاق العقاب على المخالفة بالفعل.

ففيه : ما تقدّم من منع ترتّبه على وجوب المقدّمة ، لكونه غيريّا.

وإن اريد لزوم المعصية على تقدير فعل الضدّ.

ففيه : أنّ أمر المعصية سهل ولكنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّها ممّا يترتّب على الشيء سواء كان نفسه معصية أو مستلزما للمعصية.

ألا ترى أنّ السفر الحرام الموجب لحرمة التقصير أعمّ من كونه بنفسه حراما أو مستلزما للحرام - كما قرّر في محلّه - ومحلّ البحث أيضا من هذا الباب ، فإنّ ترتّب المعصية على فعل الضدّ لا يتوقّف على كونه حراما بل يكفي فيه كونه مستلزما للحرام وهو ترك المأمور به.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه فلا إشكال في أنّه كسابقه خارج عن ضابطة الثمرات ، لما مرّ مرارا.

فصار المحصّل : أنّ شيئا ممّا ذكر لا يصلح عدّه ثمرة لتلك المسألة ، ولكن لا يلزم من ذلك خروجها بلا ثمرة ظاهرة فقهيّة كما توهّم وادّعى انحصارها في كونها علميّة ، بل لها ثمرة ظاهرة وهي الّتي لغاية وضوحها لم تلتفت إليها الأذهان ولشدّة بداهتها ذهل عنها الأنظار.

وبيان ذلك : أنّ المسائل الاصوليّة ممهّدة لأجل الاستنباط كما ينبّه عليه تعريف اصول الفقه ، وإنّما يتأتّى ذلك بأن يأخذها الفقهاء مبادئ في استنباطاتهم ، وهي عبارة عن المقدّمات الّتي تؤخذ في استدلالات الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الّتي يعدّ البحث عنها من المسائل الفقهيّة ، والمسألة الفقهيّة ما يكون البحث عنها من وظيفة الفقيه.

ص: 475

ومن البيّن أنّ الفقيه ليس من وظيفته إلاّ البحث عن فعل المكلّف من حيث الحلّ والحرمة ونحوها.

والغاية المطلوبة من هذا البحث - نظرا إلى أنّ مسألة كلّ علم لابدّ فيها من ثمرة تعدّ من الغايات المطلوبة في ذلك العلم - إنّما هو الانتقال إلى استحقاقي الثواب والعقاب وعدمهما المترتّبين على الأفعال والتروك.

وأمّا ما عدا ذلك ممّا قد يذكره الفقهاء كبرّ النذر وحنث الحلف ووفاء العهد وحرمة أخذ الاجرة على واجب أو محرّم وحرمة إجراء العقد عليهما وعدمهما في غيرهما وخروج الفاعل أو التارك فاسقا مع الإصرار أو لا معه ، فإنّما هو من اللوازم الغير المقصودة أصالة فيذكر تبعا من باب التفريع.

نعم قد يؤخذ بعض ما ذكر ثمرة أيضا في كلّ مقام ثبت عندهم وجوبه توصّلا أو حرمته للغير ، نظرا إلى عدم ترتّب الاستحقاقين عليهما حينئذ فيرتّب ما هو من اللوازم الغير المقصودة أصالة على تقدير ترتّبهما ولا ضير في كون ذلك على غير هذا التقدير مقصودا بالأصالة ، كما لا ينافي كونه كذلك حينئذ كونه غير مقصود بالأصالة على هذا التقدير.

ولا ريب أنّ ما يرجع إلى المسائل الاصوليّة من البحث في تلك المسألة إنّما هو إثبات الملازمة بين الوجوب ووجوب المقدّمات ونفي تلك الملازمة ، وليس ذلك بحثا عن أحوال فعل المكلّف ، ضرورة أنّ الملازمة أمر عقليّ يضاف إلى ما هو من العوارض لا أنّها بنفسها من العوارض ، فإذا أخذت هذه وجودا أو عدما من مبادئ الاستنباط يكون ثمرتها المقصودة بالذات إثبات الوجوب أو نفيه في أفعال أو تروك للمكلّف تكون مقدّمات داخليّة أو خارجيّة - سببا أو شرطا - لأفعاله الاخر الّتي صارت واجبة عليه أصالة بالوجوب النفسي أو الغيري.

فإنّ البحث عن وجوب قطع مسافة الحجّ وعدمه ، ووجوب السعي في تحصيل الماء للطهارة الواجبة وعدمه ، ووجوب إجراء الصيغة في العتق الواجب وعدمه وغير ذلك ممّا لا يحصى ليس إلاّ من وظيفة الفقهاء ، وليس ذلك بغين ما عنونه الاصوليّون في تلك المسألة جدّا كما يظهر بأدنى تأمّل ، فلذا لا يورد إلاّ في الكتب الفقهيّة ويجعل ما هو كلّيّة المسألة الاصوليّة دليلا على ذلك على حدّ كلّيّة الكبرى المعتبرة في جميع الاستدلالات.

فيقال : إنّ الشيء الفلاني الّذي هو شرط أو سبب لذلك الواجب الخاصّ واجب

ص: 476

لوجوب مقدّمة الواجب ، أو ليس بواجب لعدم وجوب مقدّمة الواجب ، فيكون إثبات الوجوب لخصوصيّات الأفعال المندرجة في مفهوم « المقدّمة » ثمرة للقول بوجوب المقدّمة ونفي ذلك الوجوب عنها ثمرة للقول الآخر.

كما أنّ إثبات الوجوب لفعل خاصّ للمكلّف بالأمر الوارد فيه كتابا أو سنّة ثمرة للقول بكون الأمر للوجوب ، فكما أنّ النظر في ترتيب تلك الثمرة وعدمه يعدّ من المسائل الفقهيّة ولا ينافي كونه من ثمرات المسألة الاصوليّة ، فكذلك النظر في ترتيب الوجوب على الفعل الخاصّ المندرج تحت كلّيّ « المقدّمة » يكون من المسائل الفقهيّة ولا ينافي كونه ثمرة للمسألة الاصوليّة.

غاية ما في الباب أنّ هذا الوجوب الّذي ينظر في إثباته الفقيه ممّا لا يترتّب على ثبوته ما هو غاية مطلوبة في البحث عن الوجوب الّذي هو من المسائل الفقهيّة وهو استحقاق الثواب والعقاب المترتّب على الفعل أو الترك ، ولا يخفى أنّ ذلك لو صلح مناقشة فهو مناقشة على الفقيه في المسألة الفقهيّة ، حيث تصدّى لإثبات وجوب في فعل المكلّف لا يترتّب عليه ما هو مقصوده الأصلي في مباحث فنّه لا على الاصولي في المسألة الاصوليّة.

مع أنّ الفقيه أيضا يتمكّن عن دفعها بأنّي إنّما أتصدّى في إثبات ذلك الوجوب لترتيب غرض آخر ممّا هو من لوازم الوجوب ، من برء النذور وشبهه وحرمة أخذ الاجرة وغيره على تقدير انتفاء ما هو الغرض الأصلي.

وقد عرفت أنّ هذه الامور قد تصلح ثمرات للمسألة الفقهيّة وإن لم تصلح لها في المسألة الاصوليّة كما تقدّم.

والعجب عن بعض المشايخ - دام ظلّه - كيف غفل عمّا ذكرناه فنفى الثمرة عن المسألة وحصرها في العلميّة.

وعن بعض أفاضل العصر كيف أخذه عنه تقليدا فأشاعه بين تلامذته من غير تدبّر وتأمّل ، فإنّ اللّه وليّ التوفيق وهادي الّذين يجاهدون فيه إلى سبله.

في تأسيس الأصل في المسألة

وأمّا الأصل في المسألة :

فقد يقال : بأنّه عدم الوجوب وهو كذلك.

ولكن ليس المراد به أصالة البراءة حتّى يرد عليه : بأنّ القطع باشتغال الذمّة حاصل ، نظرا إلى أنّه لا ينوط بالطلب الحاصل حتّى يقال : بأنّه مع عدم الوجوب لا طلب فلا

ص: 477

اشتغال ، لأنّه حكم من جانب العقل قد ينشأ بملاحظة طلب الشرع وقد ينشأ بملاحظة اللابدّية ولا سيّما إذا كان الحاكم بها أيضا هو العقل ، فكما أنّه يحكم بلابدّية المقدّمة لوجود ذيها فكذلك يحكم من باب الإرشاد باشتغال الذمّة بها.

بل المراد به أصالة العدم الّتي يعبّر عنها بالاستصحاب العدمي ، فإنّ الطلب مطلقا أمر حادث مسبوق حدوثه بالعدم الأزلي ، ومن خواصّه نفيه بالأصل حيثما وقع مشكوكا في حدوثه.

غاية الأمر أنّه بالنسبة إلى ذي المقدّمة ينقطع بالقطع فبقي الباقي وهو طلب المقدّمات تحته.

وما عساه يناقش به من أنّ المستصحب في آن اليقين إنّما هو عدم لا في الموضوع ، والّذي اريد استصحابه في المقام إنّما هو عدم في الموضوع وهو المقدّمة ، ولا ربط بينهما.

يندفع : بأنّ مآل هذه المناقشة إلى دعوى اقتضاء المستصحب موضوعا محرزا كما قرّر في محلّه ، وهو - على تقدير تسليمه - كذلك فيما لو كان المستصحب أمرا وجوديّا اريد إثباته في آن الشكّ ، فحينئذ لابدّ له من موضوع وجوديّ محرز عن آن اليقين إلى آن الشكّ.

وأمّا إذا كان عدميّا فلا يقتضي موضوعا موجودا في آن اليقين إلى آن الشكّ ، بل يكفي فيه تحقّق مجرّد العدم في ذلك الآن وإن كان لا في الموضوع ، فاريد إثباته في الموضوع بحكم الاستصحاب ووجه الفرق : أنّ المستصحب إذا كان أمرا وجوديّا لابدّ له في جميع آنات وجوده من موضوع يتقوّم به لكونه عرضا ، وهو الّذي لا يوجد إلاّ في الموضوع فلا يعقل إثباته في آن لم يعلم ببقاء موضوعه المقوّم له ، بخلاف الأمر العدمي فإنّه لا يتقوّم بالموضوع بل هو مفهوم اعتباري يعتبره العقل عند انتفاء الوجود ، فليس من الامور الواقعيّة الحقيقيّة حتّى يفتقر في جميع آناته إلى الموضوع مقوّم له.

غاية الأمر أنّه قد يتحقّق من باب المقارنات الاتّفاقيّة في أمر موجود محقّق ، وقد يتحقّق في أمر معدوم صرف ، فالمقصود بالمستصحب هنا إنّما هو العدم الثابت في آن لم يكن هنالك مقدّمة ولا ذوها ولا مكلّف ، مع انقطاع العدم بالنسبة إلى وجود المكلّف وحدوث طلب ذي المقدّمة باليقين ، لبقاء الباقي وهو العدم بالنسبة إلى وجود المكلّف بحالته الأوليّة بحكم الأصل ، نظير استصحاب عدم التكليف فيمن شكّ في أوّل زمان بلوغه في تعلّق التكليف به الثابت في آن لم يكن هو ولا غيره موجودا مثلا.

ولو سلّم عدم الفرق بين الأمر الوجودي والأمر العدمي في اعتبار الموضوع وبقائه في جميع آنات المستصحب حتّى آن الشكّ نمنع عن كون المستصحب في آن اليقين هو العدم

ص: 478

لا في الموضوع ، فإنّ ذلك بالنسبة إلى كونه في الموضوع أو لا في الموضوع مبنيّ على فرض الفارض ، فليفرض عدم وجوب المقدّمة الّذي اريد استصحابه في آن وجود المكلّف قبل توجّه الخطاب بذي المقدّمة إليه كقطع مسافة الحجّ قبل زمن الاستطاعة ، فإذا حصلت الاستطاعة مع الشكّ في وجوب القطع فلا ريب في أنّه حينئذ يندفع بالأصل ، فالمستصحب إنّما هو العدم الثابت لموضوع محرز إذ المفروض كونه أمرا محقّقا قبل زمن الاستطاعة مع خلوّه عن حكم الوجوب فيستصحب.

وبالجملة : فالغرض الأصلي في المقام نفي الوجوب عمّا من شأنه أن يكون واجبا.

وظاهر أنّه يتأتّى بأصالة العدم ، فالمراد بالعدم ها هنا إنّما هو العدم الملكي فالأصل المذكور من هذه الجهة جار ولا وجه للمناقشة فيه.

وأمّا الإشكال فيه أيضا من جهة أنّ من أركان الاستصحاب طروّ الشكّ اللاحق وهو غير معقول هنا ، لأنّ وجوب المقدّمة - على ما تقدّم من أنّ الكلام إنّما هو في الملازمة العقليّة وسيأتي بيانه مفصّلا عند الاستدلال - إنّما يثبت بحكم العقل فلابدّ من المراجعة إليه ، فإمّا أن يحكم بالوجوب أولا.

فعلى الأوّل لا معنى لاستصحاب العدم لانتفاء الشكّ اللاحق.

وعلى الثاني فإمّا أن يحكم بعدم الوجوب أو لا يحكم بشيء.

فعلى الأوّل لا حاجة إلى الاستصحاب لعدم الشكّ أيضا في العدم.

وعلى الثاني لا يفيد الاستصحاب في إثباته لأنّه منوط بالعقل خاصّة.

ففيه : أنّ حكم العقل بالملازمة إنّما هو من باب الكشف عمّا هو في نظر المولى في الواقع ونفس الأمر فهو واسطة في الإثبات لا الثبوت.

ومن البيّن أنّ فرض جريان الأصل في أمثال المقام ونظائره ممّا فيه دليل إجتهادي على طبق الأصل أو على خلافه رافع للشكّ إنّما هو على فرض تطرّق الشكّ ، فإذا صحّ فرض العقل متردّدا في الحكم بالملازمة والعدم لا ضير في التمسّك بالاستصحاب بالنظر إلى ما هو في الواقع ونفس الأمر ، وعلى تقدير عدم التردّد أيضا يصحّ الاستصحاب لما عرفت من صحّة الفرض ، فإنّ فرض المحال ليس بمحال.

وأمّا ما يورد عليه أيضا - من أنّ الأصل إنّما يتمسّك به لأن يترتّب عليه الأحكام الفرعيّة والأصل المذكور وإن كان جاريا وسليما عن المناقشة من جهة الجريان إلاّ أنّه لا يترتّب

ص: 479

عليه حكم فرعي أصلا ، فلا فائدة في التمسّك به - فليس ممّا ينبغي الالتفات إليه ، كيف وعدم ترتّب الفائدة عليه من جهة وجود [ دليل ] اجتهادي رافع للاحتياج إليه وإلاّ فعلى فرض عدمه يترتّب عليه كلّ ما هو من لوازم القول بعدم وجوب المقدّمة ، وكأنّ منشأ هذا الكلام ما تقدّم من توهّم نفي الثمرة في المسألة وانحصارها في العلميّة وقد عرفت وهنه على ما ينبغي.

الأقوال في مسألة مقدّمة الواجب

ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في عدد أقوال المسألة ، فالأكثرون جعلوها رباعيّة والسيّد في المنية - كالمصنّف هنا - جعلها ثنائيّة ، القول بالوجوب مطلقا ، والتفصيل بين السبب والشرط.

وبعضهم أضاف إلى ما ذكره الأوّلون قولا خامسا ولكن احتمالا ، وبعض آخر جعل الخامس قولا آخر محقّقا ولكن نسبه إلى الحكاية.

وتفصيل القول في ذلك أنّ ها هنا أقوالا محكيّة مع كون بعضها محقّقا :

أوّلها : القول بالوجوب مطلقا ، عزاه المصنّف إلى الأكثرين وغير واحد إلى الأكثر ، والسيّد في المنية إلى أكثر الأشاعرة والمعتزلة ، وبعض الفضلاء إلى أكثر المحقّقين.

وعن الآمدي دعوى الإجماع عليه ، على ما حكاه الفاضل النراقي نسبته إليه ناسبا إلى المحقّق الطوسي رحمه اللّه في نقد المحصّل دعوى الضرورة فيه ، وعن العلاّمة الدواني في شرح العقائد أيضا ، وعن العلاّمة في النهاية نسبة الخلاف إلى الواقفيّة والسيّد ، وهو المختار أيضا.

وثانيها : القول بعدمه مطلقا صرّح غير واحد بعدم ظهور قائل به ، ونسبه بعض الفضلاء إلى قوم.

قال المحقّق الخوانساري - بعد ما صرّح بعدم ظهور القائل - : « لكن كلام المنهاج يدلّ على وجود القول به » ويحتمل عبارة المختصر أيضا ولكن ادّعى بعضهم الإجماع على وجوب السبب وكأنّه ليس بمعتمد.

وثالثها : الوجوب إذا كان سببا دون ما إذا كان شرطا مطلقا ، ذهب إليه المصنّف ونسبه في المنية إلى السيّد وفيه إشكال يأتي في كلام المصنّف ، وإلى الواقفيّة والمحقّق إلى بعض المتأخّرين ، وكأنّ مراده به المصنّف.

وعن السيّد المرتضى وقطب المحقّقين في شرحه على مختصر الحاجبي والمحقّق التفتازاني دعوى الإجماع في وجوب السبب.

ورابعها : الوجوب في الشرط الشرعي دون غيره ، وهو محكيّ عن ابن الحاجب ، وفي كلام المحقّق والنراقي أنّه نسب إلى إمام الحرمين أيضا ، وأضاف إليه الأوّل قوله : « قال السيّد

ص: 480

ثمّ أخذ في الاحتجاج لما صار إليه ، وقال في جملته : « إنّ الأمر ورد في الشريعة على ضربين : أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون مقدّماته * ، كالزكاة والحجّ ، فإنّه لا يجب علينا أن نكتسب المال ، ونحصّل النصاب ، ونتمكّن من الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدّمات الفعل ** كما يجب هو في نفسه ، وهو الصلاة وما جرى مجراها بالنسبة إلى الوضوء.

__________________

البحث حول مقالة السيّد المرتضى رحمه اللّه

الفاضل البحراني - في رسالته المعمولة في هذا الباب بعد نقل هذا القول - : وربّما لاح منه بعد تسليم الإجماع على وجوب الأسباب وجه خامس هو القول بوجوب السبب والشرط الشرعي.

واعترض عليه : بأنّه لا يخفى ما في هذه العبارة من الخفاء ، والأولى أن يقال : إنّه إن سلّم الإجماع على وجوب الأسباب فيكون هذا القول قولا بوجوب الشرط الشرعي والسبب دون غيرهما ويكون الأقوال ثلاثة ، وإن لم يسلّم الإجماع فيحتمل وجهين وجوب الشرط خاصّة دون غيره مطلقا ، ووجوب الشرط والسبب معا دون غيرهما ، وحينئذ يمكن ارتقاء الأقوال إلى خمسة » انتهى.

وذكر بعض الأجلّة مكان ذلك قولا آخر وهو - على ما حكي - كون الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب ، مذيّلا له : بأنّ هذا في الحقيقة خارج عن المبحث.

وهذا ممّا يظهر حكايته عن المصنّف أيضا ، وكأنّ وجه خروجه أنّ النزاع في وجوب المقدّمة تبعا لوجوب ذيها ، والقول بأنّ وجوب المقدّمة هو المقصود بالأصالة من الأمر بذيها إذا كان مسببا لا مدخل له في هذا العنوان كما لا يخفى.

نعم ، القول الخامس المحقّق ما عثرنا عليه في كلام ابن إدريس في سرائره وإن لم نقف على من عدّه هنا من أقوال المسألة ، وهو التفصيل فيما لا يتمّ الواجب إلاّ به بين الغسل لصوم شهر رمضان الواقع قبل الفجر فيكون مندوبا ، وبين غيره مطلقا فيكون واجبا.

* بيان لما يكون من أوامر الشريعة مشروطا ، فإنّ الأمر المشروط ليس أمرا بمقدّماته إجماعا مقدورة كانت أو غيرها.

ولا يذهب عليك أنّ مراده بالمقدّمات ما يرجع إلى الوجوب فقط بقرينة قوله : « لا يجب علينا أن نكتسب المال ونحصّل النصاب » وفي حكمها ما يرجع إليه وإلى الوجود معا كما تقدّم.

** مراده بمقدّمات الفعل بقرينة المقابلة للضرب الأوّل ما يرجع إلى الوجود فقط ،

ص: 481

فإذا انقسم الأمر في الشرع إلى قسمين ، فكيف نجعلهما قسما واحدا »؟ *

__________________

وهي الّتي لا يتوقّف عليها وجوب الفعل أصلا ، فهو صريح في إطلاق القول بوجوب مقدّمات الواجب المطلق كما عليه الأكثر ، فيفسد به ما هو المعروف منه في القول بالوجوب من مصيره إلى الفرق بين السبب وغيره.

نعم ربّما يتدافع كلامه هذا لما سبق حكايته في كلام المصنّف أوّلا من قوله : « وإن كان غير سبب وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط له لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به ».

ووجه التدافع : إنّ الّذي لا يتمّ الشيء إلاّ به إذا كان مقدّمة للفعل وشرطا له هو الّذي يعبّر عنه بمقدّمة الوجود ، فالحكم بعدم تعقّل وجوبه مع تعقّبه بعد ذلك بالحكم بوجوب مقدّمات الفعل فيما ذكره من الضرب الثاني من أوامر الشريعة تدافع ظاهر.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد بمقدّمات الفعل هنا ما يكون مقدّمة للوجود الصرف وهو المقابل لما يكون مقدّمة للوجوب الصرف ، وبمقدّمة الفعل فيما سبق ما احتمل مع كونه مقدّمة للوجود كونه شرطا للوجوب أيضا وهو الأمر المجمل المردّد بين كونه ممّا يجب من المقدّمات وما لا يجب منها ، فإذا كان الشأن فيه هذا فلا يعقل من مجرّد الأمر الحكم بوجوبه من غير دلالة على عدم كونه مقدّمة للوجوب ، مع احتمال كونه في الواقع مقدّمة للوجوب أيضا الّذي لا يعقل وجوب مقدّمته.

فصار المحصّل : أنّ المقدّمة إمّا مقدّمة للوجود فقط ، أو مقدّمة للوجوب فقط ، أو مقدّمة لهما معا ، أو مردّدة بين كونها من الأوّل أو من الثالث ، وهاهنا احتمالات اخر تظهر بأدنى تأمّل.

والّذي يحكم عليه بكونه واجبا هو الأوّل ، والّذي يحكم عليه بعدم تعقّل وجوبه بمجرّد الأمر هو الرابع ، لدورانه بين ما هو واجب جزما وما ليس بواجب جزما وهو الثالث فلا تدافع بينهما لتعدّد موضوعيهما.

* اعتراض على بعض العامّة في إطلاق قوله : « بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به ».

وحاصله : أنّ الأمر الوارد في الشرع إنّما احتمل كونه من القسم الأوّل الّذي لا يجب مقدّمته جزما والقسم الثاني الّذي يجب مقدّمته جزما ، فكيف يحكم بمجرّده إنّه أمر بمقدّمته مع قيام احتمال كونه من القسم الأوّل.

وأنت خبير بأنّه اعتراض في غير محلّه.

ص: 482

وفرّق في ذلك بين السبب وغيره ، بأنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ؛ إذ مع وجود السبب لابدّ من وجود المسبّب ، إلاّ أن يمنع مانع *. ومحال أن يكلّفنا الفعل بشرط وجود الفعل ، بخلاف مقدّمات

__________________

أمّا أوّلا : فلأنّه إشكال يرد في موضع الاشتباه ، والعنوان المشتمل على إطلاق القول بوجوب المقدّمة مخصوص بما كان من القسم الثاني الّذي اعترف المعترض بوجوب المقدّمة فيه ، نظرا إلى عود ضمير « ما لا يتمّ إلاّ به » إلى الشيء.

فالعنوان صريح في أنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلاّ به ، ولا يكون ذلك إلاّ مقدّمة للفعل لا لوجوبه ، إلاّ أن يعتبر في الشيء وصفه العنواني الحاصل فيه باعتبار تعلّق الأمر به ، ويرجع ذلك الشيء إلى ما ذكرناه من الأمر المردّد.

بأن يقال : إنّ ما لا يتمّ الشيء المأمور به بعنوان أنّه مأمور به إلاّ به ما يعمّ كلاّ من مقدّمات الفعل ومقدّمات وجوبه ، بدعوى : أن يكون المراد « بما لا يتمّ المأمور به إلاّ به » ما لا يتمّ إلاّ به من جهة الأمر المتعلّق به ، أو من جهة حصوله في الخارج فيكون الوصف المعتبر فيه واردا بحال الموصوف وبحال متعلّقه معا ولكنّه بعيد عن العنوان ولا يساعده سوق العبارة بحسب ظاهر الفهم ، ولا سيّما مع ملاحظة استلزامه الاستعمال في أكثر من معنى من باب الاشتراك أو الحقيقة والمجاز.

فصار محصّل كلام السيّد دعوى : أنّ سببيّة ما كان من المقدّمات سببا قرينة على كون الأمر الوارد على المسبّب مطلقا فيكون أمرا بالسبب أيضا.

وأمّا غيره فلا يحكم من مجرّد ذلك الأمر بكونه أمرا به أيضا ، لا لأنّ المقدّمة حينئذ ليست بواجبة كما زعموه بل لعدم تعيّن كون الأمر حينئذ مطلقا ، فهو توقّف منه في الأمر لتردّده في نظره بين المطلق والمشروط لا في المقدّمة بتردّدها بين الوجوب والعدم بعد الفراغ في الأمر بفرض كونه مطلقا.

والفرق بينه وبين المشهور أنّهم يجعلون الأمر في موضع الاشتباه مطلقا للأصل من جهة الانصراف أو الحقيقيّة دونه لبنائه على الاشتراك فيتوقّف وإلاّ فهو على تقدير زوال هذا الاشتباه موافق لهم نعلا بنعل من جهة المقدّمة.

* وربّما يستظهر عن السيّد في تلك العبارة إطلاق السبب على العلّة التامّة فيورد عليه :

ص: 483

الأفعال. فإنّه يجوز أن يكلّفنا الصلاة بشرط أن يكون قد تكلّفنا الطهارة ، كما في الزكاة والحجّ *.

__________________

بأنّه مع خروجه عن المصطلح خال عن الوجه ، تعليلا بأنّ المراد بالمقدّمة هاهنا ما يكون من مقولة فعل المكلّف ، وليس شيء منه يكون علّة تامّة للخطاب لكثرة ما في كلّ فعل يكون سببا عندهم من القيود والشرائط الّتي لا يكون الشيء علّة تامّة إلاّ مع انضمامها إليه.

وهو كما ترى بعد ملاحظة قوله : « إلاّ أن يمنع مانع » وارد على خلاف التحقيق ، إذ العلّة التامّة ما لا يجامع منع المانع والّذي يجامعه إنّما هو السبب بالمعنى المصطلح.

ولو اريد بإطلاقه عليها اندراجها فيما اطلق عليه فلا خروج فيه عن المصطلح ، لأنّ السبب عندهم عبارة عمّا يعمّها والمقتضي كما يفصح عنه تعريفه بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.

نعم يبقى الكلام معه حينئذ في أنّ هذا المعنى العامّ باعتبار أحد فرديه لا مصداق له في أفعال المكلّف ، وهو مع أنّه مشترك الورود عليه وعلى غيره ممّن عممّ المقدّمة في المقام بالنسبة إلى السبب وغيره مناقشة في غير محلّها ، إذ الكلام مبنيّ على الفرض وفرض المحال على تقدير تسليمه ليس بمحال ، فلو فرض في أفعال المكلّف ما يكون بنفسه علّة تامّة للحكم أو موضوعه فلا إشكال في اندراجه في العنوان ودخوله في التعريف ، فتكون من موضع النزاع في أحد تقديريها وخارجا عنها في تقديرها الآخر كما لا يخفى.

* وأنت خبير بوهن هذا الكلام ، فإنّ مجرّد الجواز العقلي لا يوجب اشتباه المقدّمة بين كونها وجوديّة أو وجوبيّة ، ولا تردّد الأمر بين كونه مطلقا أو مشروطا ، إذ ما يكون من المقدّمات مقدورا للمكلّف فهو بحسب الشرع إمّا مقدّمة وجوديّة صرفة كالطهارة للصلاة ، أو وجوبيّة صرفة كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، وما يكون متردّدا بينهما لا مورد له إلاّ في فرض نادر ، كما لو فرض في إقامة المسافر للصوم الواجب بدعوى تردّدها بين كونها شرطا للوجود أو شرطا للوجوب والفروض النادرة لا تزاحم القواعد الكلّيّة المبنيّة على الغالب.

ولا ريب أنّ كلام من أطلق في العنوان بوجوب ما لا يتمّ الشيء إلاّ به ناظرا إلى الغالب ، مع أنّ له طريقا في الفروض النادرة أيضا إلى رفع الاشتباه وإلحاق المشتبه بما لا اشتباه فيه أصلا كما عرفت مرارا ، فلا وجه للتوقّف من هذه الجهة أصلا.

ص: 484

وبنى على هذا في الشافي نقض استدلال المعتزلة لوجوب نصب الإمام على الرعيّة ، بأنّ إقامة الحدود واجبة ، ولا يتمّ إلاّ به *.

__________________

* قيل في بعض الحواشي : « وليعلم أنّ صاحب المغني في الإمامة احتجّ على وجوب نصب الإمام على الرعيّة بما حاصله :

أنّ إقامة الحدود واجبة ، وقد ثبت أنّ ذلك من واجبات الإمام ، وتعيين الإمام إمّا بالنصّ وهو مفقود ، وإمّا بنصب الامّة فهو واجب ، لأنّه ممّا لا يتمّ إقامة الحدود الواجبة إلاّ به ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

ثمّ اعترض على نفسه بما حاصله : أنّه كما يحتمل أن يكون النصب من مقدّمات الوجود فيكون الإقامة واجبة مطلقة ، كذلك يحتمل أن يكون من مقدّمات الوجوب فيكون وجوب الإقامة مقيّدا به فلم يجب الإقامة إلاّ بعد حصول الإمام ونصبه ، كما لم يجب إخراج الزكاة إلاّ بعد حصول النصاب.

فأجاب : بأنّ الأصل أن يكون الواجب مطلقا ، ولم يك وجوبه مشروطا بشيء من مقدّماته ، فإذا أمر به يجب تحصيل ما لابدّ في وجوده منه » انتهى.

وبما ذكر علم محصّل مراد السيّد في نقض الاستدلال مع جوابه - وهو الّذي أجاب به كلّ من لا يرى التوقّف في الأمر الدائر بين كونه مطلقا أو مشروطا - جيّدا فلا حاجة إلى إعادة الكلام في بيان النقض وجوابه.

وربّما يجاب عن الاستدلال أيضا بمنع المقدّمة الثانية وهو كون إقامة الحدود من واجبات الإمام أوّلا ، إذ لا دليل على انحصار صلاحيّة إقامة الحدود في الإمام وعدم صلاحيّة غيره ، سواء اريد بها خصوص السياسات الشرعيّة أو ما يعمّها وإجراء سائر الأحكام أيضا ، فإنّ التوقّف عليه إن كان عقليّا أو عاديّا فهما لا يقضيان به أصلا ، وإن كان شرعيّا فالدلالة الشرعيّة عليه أيضا مفقود والأصل عدم الاشتراط.

مضافا إلى إطلاق قوله تعالى : ( وأقيموا حدود اللّه ) (1) الّذي هو دليل وجوب الإقامة ، ولا ينافيه قوله تعالى ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ ) (2) لأنّ كون قيام الغير بإقامة الحدود إن كان أهلا

ص: 485


1- لا توجد العبارة في المصحف الشريف ، وهو قدس سره اعتمد على الذهن.
2- البقرة : 229.

وهذا كما تراه ، ينادي بالمغايرة للمعنى المعروف في كتب الاصول المشهورة لهذا الأصل *. وما اختاره السيّد فيه محلّ تأمّل ، وليس التعرّض لتحقيق حاله هنا بمهمّ.

__________________

له تعدّيّا أوّل الكلام ، وينفيه الإطلاق المقتضي لصلاحية كلّ من له أهليّة لذلك.

وبمنع المقدّمة الثالثة - وهو كون مقدّمة الواجب واجبة على الإطلاق - ثانيا ، فإنّ مقدّمة الواجب واجبة إذا كانت مقدورة وأمّا إذا لم يعلم كونها مقدورة فلا ، كما أنّ تحصيل الطهارة بالماء المطلق مقدور قطعا وبالمضاف مشكوك فيه لاحتمال كونه حراما ، فلا يقال حينئذ : إنّه يجب الوضوء بالماء المضاف تحصيلا للطهارة.

ومحلّ البحث أيضا من هذا الباب إذ لا يعلم أنّ نصب الإمام هل هو من وظيفة الشارع لا غير حتّى لا يكون مقدورا لنا لقيام المنع الشرعي الّذي هو كالمنع العقلي وهو الحرمة ، أو من وظيفة الرعيّة حتّى يكون مقدورا لهم ، فلا يقال حينئذ : إنّه يجب عليهم النصب لاحتمال كونه مقدورا كما في الوضوء ، كيف وأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ إقامة الحدود إذا كان - باعترافكم - من واجبات الإمام خاصّة فكيف يعقل وجوب مقدّمتها على الرعيّة ، مع أنّ الكلام في وجوب المقدّمة إنّما هو فيما لو كانت المقدّمة من فعل المكلّف بذي المقدّمة بأن يكون المخاطب بفعل المقدّمة هو الّذي خوطب بفعل ذيها لا غيره.

فإذا ثبت وجوب شيء على أحد لا يقال : إنّ مقدّمته واجبة على غيره ، كيف والمراد بوجوب المقدّمة عند قائليه ما نشأ عن وجوب ذيها تبعا له ، فلا يعقل تعلّق وجوب المقدّمة بغير من تعلّق به وجوب ذيها.

نعم ربّما يصلح فعل الغير مسقطا للمقدّمة الواجبة على المكلّف كما في الطهارة الخبثيّة.

ولا ريب أنّ الإسقاط لا يلازم الإيجاب ، مع أنّ المطلوب بالاستدلال إحراز الإيجاب لا مجرّد الإسقاط.

* وجه المغايرة ما عرفته إجمالا ، وتفصيله : أنّ في المقام نزاعين :

أحدهما : صغروي واقع بين السيّد وغيره ، وهو أنّه إذا ثبت مع الأمر مقدّمة ودارت بين كونها شرطا لنفس الأمر أيضا حتّى يكون المأمور به واجبا مشروطا أو لا حتّى يكون

ص: 486

فلنعد إلى البحث في المعنى المعروف ، والحجّة لحكم السبب فيه : أنّه ليس محلّ خلاف يعرف * ، بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع ، وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها.

__________________

الأمر به مطلقا ، فهل الأصل فيه كون الأمر مطلقا والمقدّمة قيدا في المأمور به أو لا؟ فغير السيّد على الأوّل ، وهو على الثاني حيث بنى على الوقف.

المقدّمة السببيّة

وثانيهما : كبروي واقع بين أصحاب الأقوال في تلك المسألة ، وهو أنّ مقدّمات الواجب المطلق هل تجب بوجوبه مطلقا أو لا مطلقا أو يفصّل ، والمعنى المعروف في الكتب المشهورة قول في النزاع الكبروي ، وما اختاره السيّد في العبارة المزبورة قول في النزاع الصغروي وبينهما بون بعيد ، فهو في الحقيقة موافق للمشهور في الكبرى ، وهو إطلاق القول بوجوب المقدّمة إذا ثبت كونها مقدّمة وجوديّة ، والأمر بالنسبة إليها مطلقا.

ولا ينافيه مصيره إلى التوقّف في الصغرى لشبهة عرضت له فلا وجه لإسناد القول بالفرق بين السبب وغيره في الوجوب إليه كما هو المعنى المعروف في الكتب.

* والمراد بالمعنى المعروف ما عرفت من وجوب المقدّمة إذا كانت سببا دون غيره ، والضميران عائدان إلى الحكم وهو وجوب السبب ، والعبارة تتضمّن وجهين بل وجوها من الأدلّة على وجوب السبب.

الأوّل : عدم معروفيّة الخلاف في وجوبه.

الثاني : الإجماع الّذي نقله جماعة منهم الآمدي.

الثالث : أنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها.

وفي كلام الأكثر تقرير هذا الدليل : بأنّ وجود المسبّب عند وجود السبب ضروري وعند عدمه ممتنع ، فلا يمكن تعلّق التكليف به لكونه غير مقدور ، وقيل : بأنّ ذلك هو العمدة فيما بينهم وعليه تعويل الأكثر.

وربّما يستدلّ له بوجه رابع وهو : أنّ التوصّل إلى الواجب واجب إجماعا وليس بشرط لما دلّ على عدم وجوبه ، فتعيّن السبب فيكون واجبا.

ووجه خامس : وهو أنّ الطلب إنّما يتعلّق بفعل المكلّف وهو الحركة الإراديّة الصادرة عنه التابعة لتحريك القوى المنبثّة في العضلات.

وأمّا الامور التابعة لتلك الحركات المعلولة لها فليست فعلا للمكلّف ، بل فعل المكلّف

ص: 487

مستتبع لها استتباع العلل للمعلول واستتباع الأشياء للامور المقارنة لها اقترانا عاديّا فلا يمكن تعلّق التكليف به.

والظاهر أنّ مراد هذا القائل بالسبب ما يعمّ العلّة التامّة والمقتضي معا ، كما يساعده قضيّة الاصطلاح.

نعم من جملة أدلّته المذكورة ما لا ينطبق إلاّ على العلّة التامّة كما لا يخفى.

فيرد عليه : عند الاستناد إلى عدم وفائه بتمام مطلوبه.

وأمّا ما يقال - في نفي احتمال إرادة العلّة التامّة - : من أنّ المراد بالمقدّمة الّتي يبحث في وجوبها ما كان فعلا من أفعال المكلّف ليصحّ وقوعه متعلّقا للحكم الشرعي الّذي هو من عوارض الفعل ، فالّذي يكون علّة تامّة لآخر ساقط عمّا بين الأفعال لكثرة ما في كلّ فعل من الشروط والأجزاء.

ففيه : ما أشرنا إليه سابقا ، مضافا إلى أنّه يوجب سقوط السبب والشرط أيضا عمّا بين الأفعال ، لما في كلّما يعدّ عندهم من الأسباب والشروط من الشروط والأجزاء ونحوها وهو كما ترى.

وربّما يحتمل أن يراد بالسبب هنا مجموع الأفعال الوجوديّة الّتي تدخل تحت قدرة المكلّف ، ووهنه أيضا واضح إذ لو اريد بمجموع الأفعال الوجوديّة ما يتركّب عن الأسباب والشروط وغيرها ممّا له مدخل في التوصّل إلى الواجب ، ففيه : أنّه توجيه بما لم يرض صاحبه لابتنائه على العدول عن تخصيص الوجوب بالمقدّمة السببيّة.

ولو اريد به جميع ما له دخل في سببيّة السبب ولو على تقدير إرادة العلّة التامّة منه فلا كلام ، ولكن مقابلة هذا الاحتمال حينئذ لاحتمال أن يراد بالسبب المقتضي الّذي ينطبق عليه تفسيره بكونه ممّا يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ممّا لا وجه له كما لا يخفى.

وكيف كان فالجواب عن الوجه الأوّل : بأنّ دعوى عدم معروفيّة الخلاف في وجوب السبب مع معروفيّة إطلاق القول بنفي وجوب المقدّمة كما ترى.

ومع الغضّ عن ذلك فالعبرة به في المسائل العقليّة محلّ نظر ، ولا سيّما على مذهب من لا يراه حجّة أصلا كالمصنّف.

وعن الثاني : بأنّ الإجماع غير ثابت ونقله مع ملاحظة حكاية القول بعدم وجوب المقدّمة مطلقا مستراب فيه.

ولو سلّم فهو إجماع منقول لا اعتداد عليه في خصوص المقام لعدم كون مورده من

ص: 488

التوفيقيّات ، للجزم بأنّ مستنده ليس هو السماع من المعصوم ، بل هو من النظريّات المبنيّة هنا على بعض الامور المذكورة الّتي ستعرف ضعفها ، فلا يندرج تحت ما دلّ الشرع على وجوب التعبّد به ولا سيّما مع ملاحظة فساد مدركه ، بل وفساد أصله ومبناه حيث إنّ ناقله الآمدي من العامّة فلا ينقل إلاّ ما هو على طريقتهم الفاسدة عندنا.

ولو سلّم أنّ السيّد أيضا من جملة النقلة فالاعتماد عليه في المسائل العقليّة والمطالب النظريّة غير ثابت الوجه ، وكونه مفيدا للظنّ غير مجد بعد تطرّق القدح في اعتبار الظنون بالنسبة إلى أمثال المقام.

وعن الثالث : بأنّ قوله : « وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات » ، يفسده : أنّ الّذي لا يحصل عليه القدرة ما إذا لوحظ المسبّب بشرط عدم السبب وأمّا إذا لوحظ لا بشرط فلا ، ضرورة كونه حينئذ مقدورا بواسطة القدرة على السبب ، فالمكلّف فيه بحيث إن شاء فعل بإيجاد سببه وإن شاء ترك بترك سببه.

ودعوى : أنّ القدرة لابدّ وأن تكون بغير واسطة ممّا يكذّبه العقل والنقل ، كيف ولو صحّ ذلك لجرى في الشروط أيضا ضرورة عدم القدرة على المشروط بلا واسطة الشرط فبطل الفرق جدّا.

وأمّا قوله : « فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها » إن اريد به مجرّد الاستبعاد العقلي ، ففيه : مع أنّه ضروري المنع ، أنّه لا يصحّ الاستناد إليه أصلا ولا سيّما في نظائر المقام.

وإن اريد به الامتناع العقلي فقد اتّضح فساده ، فإنّ الامتناع إنّما يلزم إذا اعتبر الوحدة قيدا في المكلّف به حتّى يكون مفاده عدم تجويز الإتيان بغير المسبّبات ولو كان أسبابا لها ، وأمّا لو اعتبرت حالة لتعلّق التكليف فلا.

وعن التقرير الآخر : يظهر ممّا مرّ ، ونزيد هنا أيضا أنّه إن اريد به أنّ القدرة المعتبرة في التكليف لابدّ وأن تكون بلا واسطة ، فيردّه : أنّه خلاف بديهة العقل والنقل.

وإن اريد أنّ القدرة مع المسبّب منتفية بالمرّة حتّى ما كانت منها مع الواسطة ، ففيه : أنّ الوجوب والامتناع إنّما ينشآن عن اعتبار المسبّب بشرط شيء أو بشرط لا ، وأمّا إذا اعتبر لا بشرط فهو ممكن لتساوي طرفيه بالنسبة إلى الاختيار.

غاية الأمر أنّه في كلّ من طرفي وجوده وعدمه يفتقر إلى وسط ، ومعه يجب أو يمتنع ، وهو لا يوجب خروجه عن حيّز الاختيار ، لما قرّر في محلّه من أنّ الوجوب والامتناع بالاختيار لا ينافيان الاختيار ، مع أنّ المشروط أيضا ممّا يمتنع بدون شرطه فلا يكون مقدورا.

والفرق بينه وبين المسبّب بعدم وجوبه بوجود الشرط ممّا لا يلتفت إليه ، كيف وأنّ

ص: 489

القدرة المعتبرة في تعلّق التكليف لا تتأتّى إلاّ بتساوي الطرفين في الاختيار ، ولو سلّم فالشرط إذا وقع جزء الأخير من العلّة يعامل معاملة السبب فينبغي أن يكون واجبا ، مع أنّه لو تمّ لقضى بوجوب السبب خاصّة ، ضرورة أنّ إيجاب السبب لا يؤثّر في القدرة على المسبّب ، فلو فرض أنّه مع عدم وجوب السبب غير مقدور فكذلك مع وجوبه ، وهو مع فساده بنفسه ممّا لا يرضى به هذا القائل.

وعن الرابع : بأنّه متشابه المقصود فإن اريد بوجوب التوصّل إلى الواجب وجوب إيجاد ما يتوصّل به إليه فهو أوّل الدعوى ، والإجماع عليه واضح المنع.

وعلى تقديره فتخصيص الحكم بالسبب تحكّم وإخراج الشرط استنادا إلى ما دلّ على عدم الوجوب تعسّف ، لأنّ ما دلّ على ذلك فقد دلّ في المقدّمة مطلقا لا في الشرط خاصّة إلاّ أن يكون المقصود بذلك الجمع بين المتعارضين ، وما ذكر من التفصيل طريق جمع.

وفيه : أنّ ذلك قاعدة تجري في التعبّديّات خاصّة ومحلّ البحث من النظريّات ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ بارتكاب تخصيص في كلا المتعارضين والمقام غير قابل له في شيء من الطرفين ، ولو سلّم فالعكس أيضا ممكن.

ولذا تنبّه المحقّق على تعكيس الدليل : بأنّ الإجماع حاصل على وجوب التوصّل وليس بالسبب لما ذكر فيكون بالشرط.

وإن اريد به وجوب تحصيله وإيجاده في الخارج فهو مسلّم والإجماع عليه ثابت ، ولكنّه بالنسبة إلى محلّ البحث لا يجدي نفعا لبقاء الواسطة غير معلوم الحكم كما لا يخفى.

وعن الخامس : بأنّه لو تمّ لقضى بكون السبب هو المقصود بالطلب وإن تعلّق الأمر ظاهرا بالمسبّب وهو عدول عمّا هو من محلّ البحث إلى ما هو خارج عنه.

ومع الغضّ عن ذلك فمقتضاه التفصيل في الأسباب أيضا لا إطلاق القول بوجوبها ، لأنّ من المسبّبات ما يعدّ فعلا للمكلّف ويدخل في جملة حركاته الإراديّة كالكون على السطح المترتّب على الصعود من درجات السلّم ونحوه.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فمورد الدليل خارج عن أصل عنوان المسألة ، وذلك لأنّ الكلام في وجوب مقدّمة الواجب ولا يكون واجبا إلاّ ما كان من مقولة فعل المكلّف ، واللوازم التابعة له الخارجة عن اختياره ليست منها وإن كانت تسند إليه في بعض الأحيان ، فإنّه إسناد مجازيّ لا عبرة به في الخطابات الشرعيّة ، كيف ولا يعقل تعلّقها بما لا يكون فعلا.

بل الّذي يساعده النظر الصحيح أنّ المقصود بالذات من الطلب إنّما هو إيجاد الأسباب ،

ص: 490

بل قد قيل إنّ الوجوب في الحقيقة لا يتعلّق بالمسبّبات * ، لعدم تعلّق القدرة بها. أمّا بدون الأسباب فلامتناعها ، وأمّا معها فلكونها حينئذ لازمة لا يمكن تركها **. فحيث ما يرد أمر متعلّق ظاهرا بمسبّب فهو بحسب الحقيقة متعلّق بالسبب *** ؛ فالواجب حقيقة هو ، وإن كان في الظاهر وسيلة له.

وهذا الكلام عندي منظور فيه ؛ لأنّ المسبّبات وإن كانت القدرة لا تتعلّق بها ابتداء ، لكنّها تتعلّق بها بتوسّط الأسباب ، وهذا القدر كاف في جواز التكليف بها.

__________________

لأنّه الّذي يتصوّره الآمر عند إرادة الطلب دون ما يتولّد منها على ما يشهد به الوجدان السليم والذوق المستقيم ، كما في الإحراق والقتل والعتق والطهارة ونحوها ، ولا ينافيه تعلّق الخطاب بالمسبّبات لأنّه تعلّق ظاهريّ وارد على سبيل التجوّز من باب تسمية السبب باسم المسبّب ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك بعد كونه ممّا يحكم به الوجدان وضرورة العقل المغنية عن إقامة البرهان ، وسيأتي لذلك في ردّ مقالة من ينزّل الأمر بالمسبّب إلى السبب مزيد بيان.

* وهذا القول قد أشرنا إلى حكايته عن بعضهم ، وكلام الأكثر خال عن نقله وكأنّه وهم نشأ عن ملاحظة ما ذكرناه من أدلّة القول المتقدّم من التقرير الآخر للدليل الثالث ، لما أشرنا إليه من انطباقه على تلك المقالة ، وعلى تقدير ثبوته فيرد عليه أكثر ما سبق في جواب أدلّة القول المتقدّم ولا حاجة إلى إعادتها هنا.

** وقد عرفت أنّ المسبّب إذا لوحظ لا بشرط لا يخرج عن كونه مقدورا.

غاية الأمر أنّه قدرة مع الواسطة وهي كافية في تعلّق التكليف بالضرورة لو كان من مقولة الأفعال ، وأمّا ما كان من غيرها فعدم تعلّق التكليف به ليس من جهة عدم كفاية القدرة مع الواسطة بل لامتناع تعلّقه بما ليس من فعل المكلّف ، مع أنّه لو تمّ لجرى في الشرط أيضا إذا وقع آخر أجزاء العلّة التامّة فلا وجه لدعوى اختصاص الحكم بما دون الشرط مطلقا.

*** وفيه : أنّه لو كان الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب بحسب الحقيقة لامتنع الذهول عنه حين الطلب ، والتالي باطل.

ص: 491

ثمّ إنّ انضمام الأسباب إليها في التكليف يرفع ذلك الاستبعاد المدّعى في حال الانفراد.

ومن ثمّ حكى بعض الاصوليّين القول بعدم الوجوب فيه أيضا عن بعض. ولكنّه غير معروف.

وعلى كلّ حال ، فالذي أراه : أنّ البحث في السبب قليل الجدوى ، لأنّ تعلّق الأمر بالمسبّب نادر * ، وأثر الشكّ في وجوبه هيّن.

__________________

أمّا الملازمة : فلأنّ المأمور به بحسب الحقيقة لا يعني به إلاّ ما كان مشعورا به للآمر على سبيل الاستقلال ، بل لا يعقل الأمر الحقيقي بما لا يشعر.

وأمّا بطلان التالي : فبحكم البديهة والعيان المغني عن إقامة البرهان ، إذ كثيرا ممّا يأمر الآمر بشيء له أسباب وهو غافل عنها وغير شاعر بها ومع ذلك فكيف يقال بأنّ الأمر به أمر بها.

وأمّا ما قد يرى من كون الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب في بعض الأفعال المباشريّة كالقتل وبعض الأفعال التوليديّة كالإحراق ، حيث إنّ الأمر بهما أمر بجزّ الرقبة وإلقاء الشيء في النار أو إلقائها فيه ، فإنّما هو لأجل أنّ الآمر لا يتصوّر عند إرادة الأمر إلاّ السبب ، فلا يريد بالقتل والإحراق اللذين أمر بهما بقوله : « اقتل فلانا ، وأحرق الخشب » مثلا إلاّ الجزّ والإلقاء كما يشهد به طريقة العرف ومجرى العادة.

وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك لا يوجب ثبوت كلّيّة المدّعى ، لما عرفت من قضيّة الذهول عن الأسباب كثيرا عند الأمر بالمسبّبات ، وكأنّ الذاهب إلى هذا القول اختلط عليه الأمر حيث لاحظ بعض الموارد الّذي أشرنا إليه ووجد أنّ متعلّق الأمر فيه حقيقة هو الأسباب فساق الكلام إلى غيره وتوهّم أنّ جميع الأسباب من هذا الباب ، ولقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

* وأورد عليه : بأنّ التعليق بالمسبّبات أيضا كثير إن لم نقل بكونه أكثر ، كالأمر بالكفّارة والأمر بالعتق ونحوهما ، فإنّ الصيغة سبب للعتق والعتق سبب للكفّارة ، ولا حظ تعلّق التكليف بالكليّات مع أنّ الفرد إنّما هو السبب لوجود الكلّي.

ولا يخفى أنّ توهّم كون الفرد مقدّمة سببيّة للكلّي من جملة ما شاع غلطا بين الناس ،

ص: 492

وترى أنّهم يرسلونه إرسال المسلّمات وقد أشرنا في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع إلى ما يقضي بفساد هذا الكلام.

وقد تنبّه عليه جماعة من الأجلّة منهم بعض الفضلاء ولا بأس بأن نجدّد النظر في ذلك ونفصّل في تحقيق ما سبق.

فنقول : أنّ المقدّمة حسبما مرّت الإشارة إلى تفسيرها عبارة عمّا يتوقّف عليه الغير في الوجود الخارجي الّذي جرت العادة على تسميته بذي المقدّمة ، فلابدّ فيها من سبق زماني بحسب الوجود كالشروط أو تقدّم ذاتي ولو تقارنا زمانا ، كالأجزاء والأسباب ولو في ضمن أحد فرديها المعبّر عنه بالعلّة ، بل الشروط أيضا مع وصف الشرطيّة يعتبر فيها المقارنة مع المشروط بها بحسب الوجود إذ لا يعقل التأثير فيها مع عدم المقارنة والّذي يتراءى من تقدمّها في غالب الأحيان زمانا فإنّما هو بحسب الذات وإلاّ فوصف الشرطيّة الّتي هي مناط توقّف المشروط مقارن حصوله لحصول المشروط ، فالشرط على هذا التحقيق لابدّ وأن يكون آنيّ الحصول أو استمراري الوجود إلى آن وجود المشروط كالطهارة للصلاة.

وعلى أيّ تقدير كان فلابدّ في المقدّمة وذيها من وجودين مترتّب أحدهما على الآخر ، ويستحيل عند العقل اتّحادهما في الوجود الخارجي وإلاّ ارتفعت جهة التوقّف ، ضرورة استحالة توقّف الشيء على نفسه ، والكلّي الطبيعي إمّا أن يكون له وجود في الخارج أو لا.

وعلى الأوّل فهو إمّا عين فرده الموجود في الخارج أو في ضمنه.

وعلى جميع التقادير لا يعقل فيه كون الفرد مقدّمة له ، أمّا على الأوّلين فواضح وأمّا على الأخير فلأنّ الكلّي حينئذ جزء للفرد الّذي هو عبارة عن الماهيّة مع الخصوصيّات المشخّصة لها ، وظاهر أنّ الجزء لا وجود له يغاير وجود الكلّ بل ليس لهما إلاّ وجود واحد فكيف يعقل توقّف الأوّل على الثاني ، والمفروض أنّ موضع التوقّف في كلّ من الجانبين إنّما هو الوجود.

ومع الغضّ عن ذلك فالعكس أولى بالإذعان ، مع أنّ الفرد إذا كان هو المجموع من الكلّي والخصوصيّات المكتنفة به فتوقّف الكلّي عليه في الوجود الخارجي توقّف على نفسه ، وهو كما ترى.

والعجب عن بعض الأعلام مع تصريحه باتّحاد الكلّي مع الفرد في الوجود - في غير واحد من مواضع كتابه - وإذعانه بكونه جزءا من الفرد كيف يصرّح بكون الفرد مقدّمة له ، وكأنّه اشتباه منه وممّن يزعم ذلك نشأ عن ملاحظة استحالة الوجود للكلّي بدون الفرد ، غفلة عن أنّ استحالة الانفكاك قد تكون بين المتلازمين وأنّه لا ملازمة بين التلازم والتوقّف ، بل

ص: 493

التلازم ها هنا في الحقيقة إنّما هو بين الكلّي والخصوصيّات لا بينه وبين الفرد لئلاّ يلزم اللزوم بين الشيء ونفسه.

ويمكن توجيه كلامهم بحمله على إرادة كون الفرد مقدّمة علميّة للكلّي نظرا إلى أنّ العلم بحصوله في الخارج الّذي هو مناط الامتثال لا يحصل إلاّ بإيجاد الفرد المتضمّن له.

ولكن يزيّفه : خروج ذلك عن قانون المقدّمات العلميّة أيضا كيف والمقدّمة العلميّة اصطلاح لهم فيما أمكن لذي المقدّمة وجود في الواقع مع عدم انضمام وجود المقدّمة إليه كالصلاة إلى جهة القبلة عند الاشتباه الموجب لتردّدها بين الجوانب الأربع ، فإنّ الإتيان بها في جميع تلك الجوانب وإن كان مقدّمة علميّة إلاّ أنّها في الواقع ونفس الأمر يمكن تحقّقها في الجهة الاولى.

ويظهر الثمرة فيما لو لم ينضمّ إليها الجهات الاخر ثمّ انكشف بعد ذلك بأمارة حصلت من باب الاتّفاق ما هو حقيقة الحال ، بخلاف الكلّي بالنسبة إلى أفراده ، إذ لا يعقل له وجود بدون الفرد حتّى يجعل الفرد مقدّمة علميّة له ، إلاّ أن يفرض الواجب حينئذ تحصيل العلم بإتيان الواجب النفس الأمري ، ويقال : بأنّه موقوف على إيجاد المقدّمة المذكورة.

ولا ينافيه إمكانه بما فرضناه من الأمارة الاتّفاقيّة الحاصلة بعد ذلك ، لأنّها تصير حينئذ إحدى المقدّمتين فيثبت الوجوب لها على سبيل التخيير كما في سائر المقدّمات إذا تعدّدت ، أو يقال : إنّ الواجب إنّما هو هذه المقدّمة لكونها مقدورة.

وإلاّ الأمارة المفروضة حيثما حصلت مقدّمة غير مقدورة غير صالحة لأن يتعلّق بها وجوب غايتها كونها مسقطة عمّا هو الواجب من المقدّمة.

ولكن في النفس بالنسبة إلى ذلك أيضا شيء ، وهو أنّ هذا الواجب ليس من سنخ الواجبات الّتي يبحث في وجوب مقدّماتها وإنّما هو مجرّد إلزام عقلي يثبت من باب إرشاد العقل ، وكون مراد الجماعة في محلّ البحث هذا المعنى من الوجوب بعيد بل لا ينطبق عليه كلماتهم أصلا حيث يجعلون الفرد مقدّمة لوجود الكلّي في وجوبه الأصلي الثابت له بنفسه بأصل الشرع.

وبالجملة تصحيح كلامهم في دعوى كون الفرد مقدّمة للكلّي يحتاج إلى تكلّف واضح لا يصفى إليه النظر.

فالأولى إسقاط هذا الكلام عن درجة الاعتناء والإذعان بمنع مقدّميّة الفرد للكلّي بالمعنى المتقدّم المصطلح عليه وفاقا لغير واحد من الفحول.

ص: 494

البحث حول ما اختاره الماتن رحمه اللّه

وأمّا غير السبب ، فالأقرب عندي فيه قول المفصّل. لنا : أنّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث * ، وهو ظاهر.

__________________

* وقد سبق منّا عند الكلام في تحرير موضع النزاع ما يكفيك في دفع هذا الكلام.

وإن شئت نزيدك هنا بيانا ونقول : هذا النزاع لا يمكن فرضه في دلالة الصيغة حتّى يستدلّ على عدم الوجوب بعدم دلالتها بشيء من الثلاث.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار وجوب الواجب فيما ثبت بالدلالة اللفظيّة ، فنفي دلالة الصيغة لا يوجب انتفاء الوجوب مطلقا فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم كون وجوب المقدّمة مدلولا مطابقيّا ولا مدلولا تضمّنيا للصيغة ممّا لا كلام لأحد فيه.

وأمّا كونه مدلولا التزاميّا فلا ينبغي التأمّل في عدمه أيضا إذ لا لزوم بينه وبين مدلول الصيغة مطابقة وهو الطلب الإلزامي المقرون بعدم الرضاء بالترك بشيء من معانيه حتّى الغير البيّن منها ، وذلك لعدم استلزام كلّ واجب لأن يكون له مقدّمة ، فمدلول الصيغة إنّما هو طبيعة الوجوب الوارد بحسب متعلّقه على قسمين ، ووجوب المقدّمة على تقديره من لوازم أحد القسمين.

ومن البيّن أنّ لازم الأخصّ من شيء لا يعدّ لازما لذلك الشيء وإلاّ للزم أن يكون الأخصّ لازما للأعمّ وهو محال ، فلا يعقل في الصيغة دلالة عليه بشيء من الوجوه ضرورة عدم دلالة الأعمّ على الأخصّ.

ألا ترى أنّ أصحاب القول بكون الصيغة حقيقة في الوجوب يذعنون بدلالتها مع التجرّد عن القرائن أو مع قطع النظر عنها عليه مطلقا حتّى فيما لو صدرت عن الداني أو المساوي ، ولا يجعل أحد منهم ولا غيرهم ممّن لا يرتضي بهذا المذهب ترتّب استحقاق الذمّ والعقاب على المخالفة مدلولا لها بحسب الوضع ولا العرف بشيء من أقسامه ، وذلك لعدم كونه جزء من مدلولها المطابقي ولا لازما له بشيء من الوجوه ، وإنّما هو لازم لأحد أقسامه وهو الإلزام الصادر من العالي ولزومه غير بيّن لافتقار الانتقال إليه إلى النظر في وسط.

وظاهر أنّ اللوازم الغير البيّنة لا يلزم كونها مقصودة لقاصد ملزوماتها ولا سيّما إذا كان اللزوم من جهة خصوصيّة المقام لا من جهة مدلول اللفظ بما هو مدلول ، بل إنّما هي لوازم

ص: 495

ولا يمتنع عند العقل تصريح الآمر بأنّه غير واجب * ، والاعتبار الصحيح بذلك شاهد. ولو كان الأمر مقتضيا لوجوبه لامتنع التصريح بنفيه.

__________________

يعتبرها العقل بعد ملاحظة الطرفين مع ملاحظة حدّ الوسط ويرتّبها على ما هو ملزوم لها ، وإن لم تكن مقصودة لقاصد ذلك الملزوم ومثل ذلك يسمّونه ب- « الدلالة الالتزاميّة العقليّة » وحكمها في الاعتبار مثل ما هو في الدلالات اللفظيّة من غير فرق بينهما ولا تأمّل لأحد في ذلك ، وعباراتهم مشحونة على التصريح بذلك من غير حكاية إشكال عن أحد.

فالّذي يقول بوجوب المقدّمة يدّعي كونه مدلولا التزاميّا بهذا المعنى (1) كما مرّ مرارا ويزعم كونه لازما غير بيّن ثابتا بحكم العقل مترتّبا على خصوصيّة المقام ، لا على الصيغة ولا مدلولها ولا على الوجوب المطلق كائنا ما كان حتّى ما لو لم يكن لمتعلّقه مقدّمة وإن ثبت بغير دليل اللفظ ، فالمصنّف وغيره ممّن تشبّت بهذا الدليل لنفي وجوب المقدّمة مطلقا أو إذا كانت شرطا إن أرادوا بالدلالة المنفيّة ما عدا الدلالة المذكورة فهو مسلّم ، بل ولا ينبغي لذي مسكة سليمة أن ينكره ، ولكنّه لا يجديهم نفعا ، إذ لا منافاة بين انتفاء هذا النوع من الدلالة وثبوت غيره ممّا هو معتبر جدّا.

وإن أرادوا بها مطلق الدلالة حتّى ما لو كانت التزاميّة عقليّة باللزوم الغير البيّن فهو ممنوع بما سيأتي من الأدلّة على الوجوب من باب الدلالة المذكورة.

* وهذه العبارة أو ما يقرب منها في كلام القوم دليل آخر على عدم [ كون ] وجوب المقدّمة مستقلاّ برأسه ، وأمّا في كلام المصنّف يحتمل كونها من تتمّة ما تمسّك به أوّلا من نفي دلالة الصيغة على الوجوب كما توهّمه بعض الأفاضل ، بدعوى : أنّه رام بها نفي ما عدا الدلالات اللفظيّة ممّا ذكرناه من الدلالة العقليّة التبعيّة بعد ما رام بالعبارة الاولى نفي الدلالات اللفظيّة وهو الأوفق بطريقة العبارة وظاهرها.

ص: 496


1- قوله « يدّعى كونه مدلولا التزاميّا بهذا المعنى الخ » : والوجه في ذلك : أنّ إثبات الملازمة بين إيجاب الشيء وإيجاب مقدّماته يحتاج إلى وسط وكلّ ما كان كذلك فالملازمة عقليّة غير بيّنة وذلك كما يقال في إثبات لزوم الحدوث للعالم : بأنّ العالم مستلزم للحدوث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فيقال في محلّ الكلام : إنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدّماته لأنّها بحيث بينها وبين الآمر نسبة لو التفت إليها لطلبها حتما ، وأنّها بحيث لا يرضى الآمر بتركها ، ولا يجوز له التصريح بعدم وجوبها ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب ( منه ).

ويحتمل كونها مرادا بها الاستدلال بوجه آخر غير ما ذكره أوّلا فيلزم أن يكون ذلك قاصرا عن إفادة تمام المدّعى.

وكيف كان فعن المصنّف في الحاشية « منه » أنّه مثّل لما ذكره من عدم امتناع تصريح الآمر بعدم وجوب غير السبب بأن يقول : « أوجبت عليك الحجّ فإن تركته استوجبت العقاب عليه لا على عدم قطع المسافة » و « كن على السطح فإن خالفت عوقبت على ترك الكون لا على عدم نصب السلّم ».

وأنت خبير بعدم انطباق المثال على الممثّل ، فإنّ ذلك تصريح بما هو من لوازم وجوب المقدّمة ، لما تقدّم من أنّ المقدّمة على تقدير وجوبها لا يترتّب على تركها استحقاق ذمّ ولا عقاب ، فالتصريح بذلك لا ينافي وجوبها.

نعم لو قال - في المثال المذكور - : « أوجبت عليك الحجّ وأرضى بترك قطع المسافة » و « كن على السطح ورخّصتك في ترك نصب السلّم » وصحّ ذلك عرفا وعقلا تمّ الاستدلال وانتهض الدليل ، ولكنّه بمكان من الفساد.

فإنّ ذلك التصريح بعد إيجاب ذي المقدّمة لا يعدّ في العرف والعادة إلاّ ناشئا عن السفاهة وسخافة الرأي ولا يعدّه العقل إلاّ تناقضا ، لإفضائه بالأخرة إلى الرضا بترك ذي المقدّمة والترخيص في مخالفة إيجابه وسيأتي عند ذكر الأدلّة على الوجوب زيادة بيان لذلك الوجوب.

وربّما يعترض على ما ذكره المصنّف أيضا بأنّ صحّة التصريح بعدم وجوب المقدّمة لا تنافي ظهور وجوبها عند عدم التصريح ، إذ يجوز التصريح بخلاف ما هو الظاهر كما في القرائن الصارفة في المجازات عن المعاني الحقيقيّة والخصم لا يدّعي إلاّ ظهور وجوب المقدّمة عند إيجاب ذي المقدّمة مع عدم دليل وقرينة انتهى.

وأنت خبير بأنّ ذلك أيضا بمكان من الوهن ، فإنّ الخصم يدّعي الضرورة والوجدان ويقيم عليه البرهان ، وظهور الوجوب لا يلائم شيئا من ذلك مع أنّ اللزوم بين طلب الشيء وطلب مقدّماته إذا كان عقليّا - على ما ادّعاه الخصم فكيف يمكن التفكيك بينهما بالدلالة على الملزوم مع انتفاء اللازم ، فإنّ اللازم لا يعقل انفكاكه عن الملزوم ، وقياس محلّ الفرض على قرائن المجازات الصارفة عن الحقيقة مع الفارق ، إذ لا يوجب فيها التصريح بخلاف الحقيقة ما يمتنع عقلا وينافي الحكمة اعتبارا بخلافه ، فإنّ انفكاك اللازم عن الملزوم ممتنع عقلا والتصريح بتحقّق الملزوم بدون اللازم ، كالإخبار بوجود النار من غير حرارة ، والأربعة

ص: 497

من غير زوجيّة يجوّز تقبيح الحكيم وتسفيهه.

فإن قلت : الطلب أمر إرادي منوط بالاختيار ، فللمختار أن يريده في موضع وأن لا يريده في آخر ، فليس ذلك نظير ما ذكر من اللوازم.

قلت : بعد قيام الدليل على أنّ طلب المقدّمة لازم لطلب ذيها ولا ينفكّ عنه ما دام ثابتا فالتصريح بنفيه مع ثبوت ملزومه ينافي الحكمة ، لأنّه بضابطة أنّ انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم يؤدّي إلى نفي الملزوم أيضا وهو مع التصريح بثبوته أوّلا لا ينشأ إلاّ عن قلّة العقل وسفاهة الرأي.

أدلّة القول بعدم وجوب المقدّمة

ثمّ إنّ هذا الوجه وسابقه وإن ذكرهما المصنّف لنفي وجوب المقدّمة الشرطيّة إلاّ أنّ غيره من نفاة الوجوب مطلقا تمسّكوا بهما للنفي المطلق.

وقد حكي عنهم في المقام وجوه اخر لا بأس بأن نشير إليها وإلى ما يرد عليها فمنها : الأصل.

وفيه : إن اريد به أصالة البراءة فقد تقدّم أنّها غير جارية حتّى على القول بعدم الوجوب ، فإنّ الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّية ثابت للمقدّمة على التقديرين ، فالذمّة مشغولة بايجادها كائنا ما كان للوصلة إلى امتثال الأمر بإتيان المأمور به. نعم لو فرض أنّ الوجوب الشرعي فيها ملزوم لاستحقاق العقاب على المخالفة لصحّ تقرير الأصل بحيث ينفي ذلك اللازم فيلزم منه نفي الوجوب أيضا ، ولكنّه بعد قيام البرهان على الملزوم نظرا إلى الأدلّة على الوجوب مع فرض استلزامه الاستحقاق المذكور في غير مجراه فلا تأثير له أصلا.

وإن اريد به أصالة عدم تعلّق الخطاب بها أو أصالة عدم حدوث الطلب بالنسبة إليها أو عدم الإرادة الحتميّة المتعلّقة بها فهو وإن كان في مجراه على فرض عروض الشكّ إلاّ أنّه بعد الأدلّة على الوجوب لا تأثير له أيضا.

ومنها : أنّ المسألة ممّا تعمّ به البلوى وتشتدّ إليه الحاجة ، فلو أنّ الحكم فيها كان هو الوجوب لقضت العطوفة والشفقة ببيانه والتنبيه عليه ، كما أنّ العادة اقتضت كثرة السؤال عنه والفحص عن تفاصيله ، والتالي باطل حيث لم يوجد لذلك في الأخبار ولا غيرها شيء من الآثار.

وفيه أوّلا : المعارضة بالمثل ، فإنّ الّذي تعمّ به البلوى إنّما هو ذات المقدّمة لا وجوبها ، فكما أنّ العادة تقضي في مثله بكثرة السؤال عن وجوبها فكذلك تقضي بكثرة السؤال عن عدم وجوبها ، كيف واحتمال الوجوب للجاهل به ملازم لاحتمال عدمه ، فالسؤال لو كان ولابدّ منه وكان كثرته من مقتضيات العادة لكان واقعا لتحقيق أحد الاحتمالين.

ص: 498

فلو قيل : إنّ انتفاء السؤال عن عدم الوجوب لعلّه من جهة البناء على أصالة النفي كما هو الأصل في كلّ شيء.

ليدفعه : مضافا إلى أنّ أصالة النفي قد لا يعبأ بها في مظانّ الاحتياط ، أنّه لو صحّ لكان متساوي النسبة إلى طرفي المسألة ، فلعلّ عدم السؤال عن الوجوب من جهة التعويل على الأصل المذكور وهو لا يلازم مصادفة الواقع.

ولو قيل : إنّه لو لا المصادفة للواقع لاقتضت قاعدة [ اللطف ] الردع عنه والتنبيه على خلافه ، فحيث ليس فليس.

لقلنا : قاعدة اللطف على تسليم صحّتها إنّما تجري في مظانّ العصيان الموجب للخذلان واستحقاق النيران ، وقد مرّ مرارا أنّ ترك المقدّمة من حيث هو كذلك لا يوجب استحقاق العقاب عليه مع قطع النظر عن ترك ذيها حتّى على تقدير وجوبها ، فتكون القاعدة أيضا متساوي النسبة إلى مصادفة الأصل وعدمها.

وثانيا : أنّ الحكم إذا كان من الواضحات الّتي يدركها العقول السليمة فلا قضاء للعادة بالسؤال عنه فضلا عن كثرته ، كما أنّ العطوفة لا تقتضي بيانه بخطاب مستقلّ اكتفاء منه بتبيّنه بلسان العقل.

ألا ترى أنّ المستقلاّت العقليّة ممّا لم يلتزم فيها أحد بلزوم وصول بيانها من الشارع بالخصوص ، فخلوّ الأخبار وغيرها عن التنبيه على الحكم في محلّ البحث لعلّه من جهة إحالة تبيّنه إلى حكم العقل.

وبالجملة : عدم البيان لو اريد به عدم وروده بلسان الشرع فهو مسلّم ، ولكنّه لا يوجب انتفاء الوجوب بالمرّة ، ولو اريد به العدم مطلقا فبطلان التالي ممنوع.

ومنها : أنّه لو استلزم إيجاب شيء إيجاب مقدّمته للزم تعقّل الموجب لها وإلاّ للزم الأمر بشيء وإيجابه مع عدم شعور الآمر به وهو بديهيّ الاستحالة ، واللازم باطل للقطع بإيجاب الفعل مع الذهول عمّا يلزمه.

وفيه : أنّ تعقّل الملزوم الّذي هو المقصود أصالة يغني عن تعقّل لازمه الّذي يستحيل بدونه الوجود في الخارج ، فيكون إيجابه كافيا في إفادة إيجابه وإن لم يكن مشعورا به وذهل عنه الموجب بالمرّة.

غاية الأمر خروجه مخرج التبعيّات وهو غير قادح في تحقّق أصل الحكم ، إذ ليس

ص: 499

مدار البحث على الإيجاب الأصلي لينافيه الذهول وعدم شعور الآمر به فيترتّب عليه بداهة الاستحالة لما سبق تحقيقه في تحرير موضع النزاع ، والوجوب التبعي الّذي ينوط به البحث لا ينافيه عدم الشعور بموضوعه أو عدم قصد إيجابه لما سيأتي تحقيقه عند ذكر الأدلّة على الوجوب ، وكأنّ الاستناد إلى ذلك الوجه نشأ عن توهّم [ وقوع ] الوجوب الأصلي محلاّ للنزاع ، فعليه يتّضح فساده لما اتّضح آنفا من فساد مبناه.

فبالجملة لو اريد بإيجاب المقدّمة ما يلزم منه الوجوب الأصلي فالملازمة مسلّمة ، فيترتّب عليه صحّة الدليل على هذا التقدير لكون بطلان اللازم بديهيّا.

ولكن يبقى الكلام معهم في صحّة ذلك التقدير ولقد أفسدناه سابقا ، فيترتّب عليه فساد الدليل ، ولو اريد به ما يعمّ الوجوب التبعي أيضا فجوابه منع الملازمة.

وربما اجيب عنه أيضا : بأنّ عدم التعقّل فيما هو الغرض الأصلي من وضع المسألة من أوامر اللّه تعالى ممنوع.

وقد يقرّر ذلك : بأنّا لا ندّعي أنّ إيجاب المشروط إذا صدر عن أيّ آمر كان يستلزم إيجاب الشرط ، بل إنّه إذا صدر من الحكيم العالم الشاعر كان مستلزما للإرادة الحتميّة المتعلّقة بمقدّماته عند الشعور بكونها مقدّمة له ، وهذا نظير ما يقال إنّ إرادة الشيء تستلزم كراهة ضدّه عند ملاحظة كونه ضدّا وعلى هذا يندفع الاحتجاج.

وفيه : مع أنّه عدول عن إطلاق القول بوجوب المقدّمة وإحداث تفصيل لم يتفوّه به أحد ولا هو مذكور في عداد أقوال المسألة ، أنّ المراد بالإرادة الحتميّة المتعلّقة بالمقدّمات إن كان هو الإرادة الإجماليّة الغير المنافية لعدم استحضار شخص المقدّمة عند طلب ذيها تنزيلا للطلب والإرادة الإجماليّين منزلة التفصيليّين في الآثار المطلوبة منهما فهو صحيح لأنّ مرجعه إلى ما قرّرناه ، ولكن تخصيص ذلك بما صدر من الحكيم العالم الشاعر غير جيّد ، لاطّراد الحكم حينئذ في أوامر من لم يجامع تلك الصفات أيضا ، وإن كان خصوص الإرادة التفصيليّة المستلزمة لاستحضار الشخص المقدّمة الّذي هو من لوازم الوجوب الأصلي فهو سقيم مردود على مدّعيه ، لعدم اطّراد الحكم حينئذ حتّى في أوامر من جامع الصفات المذكورة.

وتوضيح ذلك : أنّ تعلّق الإرادة حتما بالمقدّمات فعلا إذا صدر الأمر بذي المقدّمة من الحكيم العالم الشاعر إمّا من لوازم الحكمة بحيث لولاه لخرج عن كونه حكيما ، أو من لوازم العلم بحيث لولاه لانقلب جهلا ، أو من لوازم الشعور بالمقدّمة أو وجوبها بحيث لولاه

ص: 500

لكان خلاف الفرض والتقادير كلّها باطلة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي ينافي الحكمة إنّما هو إرادة ترك المقدّمات حتما بالفعل أو الرضاء بتركها - لإفضاء الأوّل بالنسبة إلى ذي المقدّمة إلى التكليف بما لا يطاق ، فلذا صار المحقّقون إلى عدم جواز اجتماع المقدّمة مع الحرام ، وإفضاء الثاني بالنسبة إليه أيضا إلى نقض الغرض ، أو الجمع بين النقيضين لأنّ الرضاء بترك المقدّمة في معنى الرضاء بترك ذيها وهو يناقض المنع عن تركه - لا عدم إرادة فعل المقدّمات حتما بالفعل وإلاّ لانسدّ باب الدلالة بالإشارة في خطابات الحكيم ، بناء على أنّها لم يخصّصها أحد بغير الاقتضائيّات مع أنّ المناط واحد ، فالّذي يسوّغها في غيرها - كما في دلالة الآيتين على أقلّ الحمل - يسوّغها فيها من غير فرق ، فإبداء الفرق عن كلّ من يبادر إليه تحكّم.

وأمّا الثاني : فلأنّ المراد بالعلم إمّا التصديق بمقدّمية المقدّمة أو الإذعان بوجوبها.

وأيّا مّا كان فلا يستلزم المطلوب ، إذ الأوّل لا يلازم إرادة فعلها حتما بالفعل ولا يوجب انتفاؤها فعلا انقلابه جهلا ، لتعدّد موضوعيهما.

ولو سلّم الملازمة فهي بين الإرادة الحتميّة والعلم بالعلم لا بينها وبين نفس العلم ، والذهول عن العلم ممكن عقلا بل شائع وقوعه خارجا ، وهو قد يوجب عدم تحقّق الإرادة الحتميّة فعلا.

والثاني مسبوق بتحقّق الإرادة فعلا (1) فكيف يجعل تحقّقها فعلا متفرّعا عليه إلاّ على تقدير جواز الدور ، ولو دفع ذلك بأنّ العلم سابق على تحقّق الإرادة ، لأنّ المراد به العلم بأنّ مقدّمات كلّ مأمور به من شأنها أن يريدها الآمر حتما عند إصدار الأمر فعلا ، وهو لا يتوقّف على صدور الأمر فعلا فضلا عن الإرادة الفعليّة ، لأنّه حاصل لكلّ أحد ولو لم يصدر منه أمر قطّ ، فلم لا يكتفى به بعد صدور الأمر أيضا؟ لأنّ مبناه على جعل الإرادة والطلب المعتبرين في الوجوب أعمّ من الشأني ، فإذا صدق الوجوب معهما شأنا لا يتفاوت الحال حينئذ بالنسبة إلى ما قبل الأمر أو ما بعده ، فلا وجه لالتزام أنّ العالم بوجوب المقدّمة يلزمه تحقّق الإرادة الفعليّة حتما بالنسبة إليها ، لجواز أن يستمرّ على العدم الأصلي اكتفاء في إيجابها بالطلب الشأني ، وعليه لا يتفاوت الحال أيضا بين العالم والجاهل لتساوي نسبة القضيّة الشأنيّة إليهما معا ، فلا وجه لصرف دعوى وجوب المقدّمة عمّا صدر من غير العالم.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالملازمة - على فرض تسليمها - إنّما هي بين الإرادة

ص: 501


1- لأنّ الآمر بعد ما أراد فعل المقدّمة حتما حصل له العلم بوجوبها فهو موقوف على تحقّق الإرادة فعلا وبدونه لا علم ( منه ).

الفعليّة والتفطّن بالعلم بالوجوب ، لا بينها وبين نفس العلم بالوجوب ، إذ الغفلة عن العلم ممكن ومنه ينشأ انتفاء الإرادة فعلا.

وأمّا الثالث : فلأنّ البناء على كفاية الإرادة والطلب الشأنيّين في ثبوت الوجوب يوجب عدم لزوم المحافظة على إيجاد الفعليّين منهما ولو مع الشعور بالمقدّمة وعليه يبطل دعوى الاختصاص أيضا ، فإنّ القضيّة الشأنيّة ثابتة مع عدمه أيضا على نهج سواء ، إلاّ أن يدفع ذلك ويقال : بأنّ المعتبر في حقيقة الوجوب الفعليّ منهما ، فيبطله ما سنحقّقه من قضاء القوّة العاقلة وطريقة العقلاء بخلافه.

ومنها : أنّ الواجب متعلّق الخطاب ، لأنّ تعلّق الخطاب داخل في حقيقة الواجب لأنّه أحد أقسام الحكم ، فكلّ واجب متعلّق الخطاب وما ليس بمتعلّقه فليس بواجب بحكم عكس النقيض ، فالمقدّمة ليست بمتعلّقة الخطاب ، ضرورة أنّ الأمر الوارد لوجوب الفعل ليس له تعلّق بمقدّمته.

وفيه : نظير ما مرّ في الوجه السابق.

وتوضيحه : أنّ تعلّق الخطاب بشيء قد يكون مقصودا لمخاطبه مطابقة أو تضمّنا أو التزاما من باب الاقتضاء أو التنبيه والإيماء ، وقد يكون لازما لمقصوده وإن لم يكن مقصودا بالخصوص ، تابعا لمراده ولو بحكم العقل كما في الالتزام من باب الإشارة ، فالمقدّمة وإن لم تكن متعلّقة للخطاب من الجهة الاولى غير أنّها متعلّقة له من الجهة الثانية وهو كاف في اتّصافها بالوجوب لما مرّ إجماله ويأتي تفصيله ، ولا يفترق الحال في ذلك بين اصول الأشاعرة واصول العدليّة في خطاب اللّه تعالى ، إذ غاية ما هنالك أنّ الأوّلين يجعلون الخطاب المأخوذ في تعريف الحكم مدلول الكلام اللفظي القائم بنفسه تعالى ويعبّرون عنه بالكلام النفسي الّذي فسّره بعض المحقّقين (1) بالطلب المغاير عندهم للإرادة والكراهة ، والآخرين يجعلونه نفس الكلام اللفظي - كما هو الأصل - بدعوى أنّ الكلام النفسي ، بالمعنى الّذي ذكروه غير معقول ، وإلاّ فالّذي يتعلّق بفعل المكلّف حقيقة عندهم أيضا هو مدلول الخطاب لا نفسه.

غاية الأمر أنّهم يخالفونهم في ذلك المدلول ويزعمون أنّه الإرادة الحتميّة ولا مغايرة بينها وبين الطلب كما زعموه ، وهو كما ترى نزاع بين الفريقين في الموضوع لا في الحكم ، لأنّهما مطبقان على أنّ المتعلّق للفعل هو المدلول ، والمدلول قد يكون مقصودا للمتكلّم

ص: 502


1- وهو المحقّق السبزواري ( منه ).

بالأصالة وقد يكون مقصودا له بالتبع وهو أن يكون لازما لمقصوده.

فحاصل الجواب : أنّ المراد بالخطاب إن كان هو الخطاب الأصلي خاصّة فصغرى القياس مسلّمة ولكن كلّية الكبرى ممنوعة ، وإن كان ما يعمّه والخطاب التبعي فكلّية الكبرى مسلّمة ولكنّ الصغرى ممنوعة والوجه في الكلّ ما تقدّم (1).

ومنها : أنّه لو وجبت المقدّمة لعصي بتركها والتالي باطل ، لأنّ تارك نصب السلّم عند الأمر بالصعود إنّما يعصي بترك الصعود لا بترك النصب.

والجواب : إمّا بمنع الملازمة إن اريد بالعصيان ما يوجب استحقاق الذمّ والعقاب ، أو منع بطلان التالي إن اريد به مجرّد مخالفة الأمر ، فإنّ حصول العصيان حينئذ ضروري كما أنّ عدمه على التقدير الأوّل كذلك ولكنّه لا ينافي الوجوب كما مرّ مرارا.

ومنها : أنّه لو وجبت المقدّمة لصحّ قول الكعبي بانتفاء المباح ، وادّعاؤه أنّ كلّ مباح واجب ، لأنّ ترك الزنا مثلا لا يمكن إلاّ بفعل آخر ضدّه فيكون أحد هذه الأفعال واجبة تخييرا.

وجوابه : أنّ هذه شبهة معروفة لا يتوقّف اندفاعها على نفي الوجوب عن المقدّمة ، لما سنحقّقه في المسألة الآتية من عدم تمانع الأضداد كما عليه بعض المحقّقين ، فلا يكون فعل الضدّ علّة لترك الآخر كما توهّم ، ولا تركه شرطا لفعل الآخر كما عليه غير واحد ، بل هما متلازمان في الوجود معلولان لعلّة ثالثة كما في الأوّل ، أو يجتمعان من باب المقارنات الاتّفاقيّة كما في الثاني إن أردنا بالضدّ الوجودي ضدّا خاصّا ، أو متلازمان في الوجود أيضا إن قدّرناه ضدّا مّا بناءا على عدم جواز الخلاء عن فعل وجودي.

وبذلك يندفع إشكال الدور أيضا لابتنائه على ثبوت التوقّف من الطرفين وهو

ص: 503


1- وملخّص الاستدلال : أنّه استدلال بالقياس الاقتراني على طريقة الشكل الأوّل ، وصورته : أنّ المقدّمة ليست بمتعلّقة الخطاب وكلّما كان كذلك فليس بواجب ، فالمقدّمة ليست بواجبة. أمّا الصغرى : فلما ذكره بقوله : « ضرورة أنّ الأمر الوارد لوجوب الفعل ليس له تعلّق بمقدّمته ». وأمّا الكبرى : فلأنّها عكس قوله : « فكلّ واجب متعلّق الخطاب على طريقة عكس النقيض » ودليل الأصل ما أشار إليه في أنّ تعلّق الخطاب داخل في حقيقة الواجب لأنّه أحد أقسام الحكم ومستند هذه الدعوى ما ذكروه في تعريف الحكم المنقسم إلى الخمس المعروفة من أنّه خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ، فيرتّب قياس آخر بتلك الصورة : الواجب قسم من الأحكام ، وكلّ قسم منها ما كان تعلّق الخطاب داخلا في حقيقته ، فالواجب ما كان تعلّق الخطاب داخلا في حقيقته ، أمّا الصغرى فواضح ، وأمّا الكبرى فلما ذكر في تعريف الحكم. ( منه عفي عنه ).

مفروض الانتفاء ، ولا يفرق في عدم كون الترك شرطا بين الدفع الّذي هو عبارة عن استمرار الترك والرفع الّذي هو عبارة عن الترك المسبوق بالفعل كما عليه المحقّق الخوانساري ، حيث خصّ الشرطيّة بارتفاع الضدّ دون عدمه المطلق حتّى العدم المسبوق بالعدم.

وتوضيح الكلام في هذا المرام بالنسبة إلى خصوص المقام : أنّ فعل الزنا مثلا على ما يساعده الوجدان ويشهد به الضرورة والعيان له مقتض وهو العزوبة وغلبة الشهوة الّتي توجب في الإنسان تصوّره والشوق إليه وإرادته والعزم عليه ، فهذه الامور من لوازمه المترتّبة على ما ذكر لا أنّها من شرائطه كما توهّم ، وموانع كالتقوى والخوف والخشية من اللّه أو خوف دنيويّ على المال أو النفس أو العرض ، فإن غلب في الإنسان ما ذكر من المقتضي ضعف الموانع وصار وجودها على تقديره بمنزلة عدمها فيترتّب عليه الإجماع والوقوع في الفعل إن اجتمع سائر شرائطه من وجود الزانية فكونه عندها والخلوة بينه وبينها ونحو ذلك ، وإن غلب فيه شيء من الموانع ضعف المقتضي وصار وجوده على تقديره بمنزلة عدمه فيترتّب عليه الترك من غير توقّف له على الاشتغال بضدّ وجودي.

غاية الأمر أنّه قد يجتمع معه ذلك ويأتي المكلّف عند صرف نفسه عن المحرّم بشيء من ذلك ، واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه من باب الاتّفاق ، ولمّا كان ذلك مقارنا له بحسب الزمان والوجود فيذهب الوهم إلى أنّه علّة للترك ويترتّب عليه شبهة كون فعل الضدّ مقدّمة لترك المحرّم ، كما يتفرّع عليه شبهة تمانع الأضداد غفلة عن أنّهما معا معلولان لعلّة ثالثة وهي ما ذكر ، وقس على ذلك غيره من المعاصي أيضا فإنّ الطريق واحد.

لا يقال : فعلى ما ذكرت يلزم خروج الزنا وغيره من المعاصي عن كونه فعلا اختياريّا فكيف يصلح متعلّقا للتكليف ، أو لابدّ من الالتزام بمذهب الأشاعرة ، لأنّ العزم على المعصية ثمّ بعده الإقدام عليها اختياري منوط بمشيّة المكلّف ، فله أن يوقع وله أن يعرض عنه ، لقضاء البداهة والوجدان بوضوح الفرق بين ما يصدر منه عن تشهّي نفسه وما يصدر منه عن جبر وإكراه.

وقد أجيب عنه أيضا : بأنّ كلاّ من المباحات والواجبات والمندوبات والمكروهات موانع من حصول الضدّ الحرام ، ولحصول الضدّ الحرام شرائط وأسباب كالتصوّر والشوق والإرادة ، وكما أنّ حصول الشيء يحتاج إلى تحقّق جميع أجزاء العلل فانتفاؤه يتحقّق بانتفاء بعض العلل ، فترك الحرام يحصل بحصول أحد الموانع المذكورة أو بانتفاء شيء من العلل والأسباب المذكورة ، فإذا انتفى شيء من تلك الأشياء انتفى بانتفائه من غير توقّف

ص: 504

على حصول المانع ، وحينئذ كان وجود تلك الأشياء على ما هي عليه من الوجوب أو الإباحة.

نعم إن فرض في بعض تلك الصور أنّ ترك الحرام لا يتصوّر إلاّ بارتكاب شيء منها ، وذلك عند تصوّر الحرام ونزوغ النفس إليه أمكن القول بصيرورة المباح حينئذ واجبا ولا ضير فيه ، إنّما الكلام في انتفاء المباح رأسا وصيرورته واجبا لا في اتّصافه بالوجوب بسبب عروض بعض العوارض.

وهو كما ترى كلام ظاهري وارد على خلاف التحقيق ، وإن ذكره من العامّة والخاصّة جمع من فحول أهل الاصول ، فإنّ قولهم : « من غير توقّف على حصول المانع » إن اريد به نفي التوقّف مطلقا فهو إعراض عن جعل تلك الأشياء موانع عن حصول الحرام ، لأنّ المانع عندهم ما كان فقده شرطا والشرط ممّا يتوقّف عليه المشروط ، فترك الزنا كما أنّه يتوقّف على إعدام بعض شرائطه فكذلك يتوقّف على إيجاد بعض موانعه.

غاية الأمر كون التوقّف بينهما على سبيل البدليّة على ما هو الحال في كلّ ما له مقدّمات عديدة يحصل التوصّل إليه بإيجاد بعضها الموجب لسقوط التوقّف عن البعض الباقي ، فقضيّة ذلك حصول الامتثال بالواجب بسبب الإتيان ببعض مقدّماته وهو لا يوجب عدم اتّصاف البعض الباقي بالوجوب تخييرا ، وهذا المقدار كاف في ثبوت شبهة الكعبي بل لم يظهر منه في الكلمات المنسوبة إليه إرادة ما عدا الوجوب التخييري في المباحات ، بل الظاهر خلافه كما يومئ إليه ما في ذيل الاستدلال.

وإن اريد به نفي التوقّف عينا ليتفرّع عليه نفي الوجوب العيني ، فهو وإن كان مسلّما ولكنّه لا يجديهم في المقام نفعا ، لبقاء كونه أحد الأفراد على سبيل البدليّة فيتّصف بالوجوب تخييرا ، فقد عرفت أنّه كاف في ثبوت الشبهة.

فلو قيل : كون حصول المانع أحد أفراد المقدّمة بعد حصول الفرد الآخر وهو إعدام بعض الشرائط غير مجد في إثبات وجوب المباحات ، ضرورة سقوط الوجوب في الواجب المخيّر بسبب الإتيان ببعض أفراده ، فيبقى الأفراد الاخر على ما هي عليه من الأحكام كما في الخصال الثلاث ونحوها.

قلنا : هذا الكلام إنّما يستقيم في وجوب الأفعال دون الترك ، لأنّ وجوبها منتزع عن منع ما يقابلها من الأفعال الّذي يعبّر عنه بالتحريم ، والمحرّمات ليست بمثابة الواجبات حتّى يسقط التكليف بسبب الامتثال ببعض الأفراد على سبيل البدليّة والتخيير ، بناءا على

ص: 505

أنّ النهي ممّا يفيد الدوام والتكرار وضعا أو عقلا ، فالتكليف بعد الامتثال بالترك السابق باق بالنظر إلى التروك اللاحقة.

وقضيّة ذلك بقاء الوجوب التخييري الموجب لبقاء الشبهة على حالها.

ولو سلّم فالعبرة في انعقاد الشبهة إنّما هي بحدوث الوجوب لا ببقائه وهو حاصل قبل الامتثال بالفرد جزما ، هذا مع ما فيه من منع كون المباحات والواجبات والمندوبات والمكروهات موانع عن حصول الضدّ الحرام ، لما عرفت إجمالا من عدم تمانع الأضداد - بناءا على التحقيق - ومنع كون التصوّر والشوق والإرادة شروطا لحصوله ، لما قرّرنا من كونها من لوازمه المترتّبة على وجود المقتضي ، ومنع اندراج جميع هذه الامور - على تسليم المقدّمية - في وجوب المقدّمات لاتّفاقهم على خروج المقدّمات الغير المقدورة عن عنوان النزاع كما تقدّم مشروحا في مقدّمات المسألة ، فيبقى لمحلّ الوجوب حصول الموانع عينا مع الشروط المذكورة.

غاية الأمر خروج الغير المقدورة في بعض الأحيان مسقطا عن المقدورة المتّصفة بالوجوب.

ومن جميع ما تقرّر تبيّن ما في الاستدراك بقولهم : « نعم إن فرض في بعض الصور أنّ ترك الحرام لا يتصوّر إلاّ بارتكاب شيء منها » إلى آخره.

وإلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الأعلام ردّا على من منع مدخليّة المباح في ترك الحرام أصلا ، بدعوى : أنّه من مقارناته الاتّفاقيّة من قوله : « فيه ما فيه إذ كثيرا مّا نجد من أنفسنا توقّف ترك الحرام على فعل وجودي بحيث لو لم نشتغل به لفعلنا الحرام ولا يمكن إنكاره » انتهى.

ومثال ذلك - على ما راموه - أنّه إذا كان شابّ عزب عند امرأة زانية جميلة وهو غير مريد الآن أن يزني بها ، ولكنّه يعلم أنّه لو بقي معها لقوي شوقه وأراد الزنا فوقع فيها بحيث لا مدفع عنه إلاّ الخروج في الآن الّذي هو ضدّ وجودي فيجب عليه ذلك الخروج مقدّمة.

وجوابه : مضافا إلى ما مرّ ، أنّه لو اريد بالترك المتوقّف على الخروج تركه الآن فهو عدول عن الفرض ، إذ المفروض استناد ذلك الترك إلى وجود الصارف وهو عدم الإرادة من غير توقّف له على الضدّ الوجودي.

وإن اريد به الترك في الزمان اللاحق فهو خروج عن محلّ الشبهة ، لعدم وجوب ذلك الترك في ذلك الآن ، بل الواجب عليه - لو كان - إنّما هو دفع الضرر المعلوم أو المظنون

ص: 506

ولا يتأتّى ذلك إلاّ بالخروج الآن فيجب من باب المقدّمة ، وهو كما ترى أمر لا ينكر ولا ربط له بموضع الشبهة ، إذ لا ينكر أحد وجوب بعض المباحات بالعارض من جهة كونه مقدّمة لواجب أو من جهة النذر وشبهه ، أو من جهة إجارة ونحوها.

ولو سلّم كونه من جزئيّات الشبهة.

فيدفعه : منع استناد الترك حينئذ إلى فعل الضدّ أيضا ، بل هو مستند إلى انتفاء شرط من شروطه كما تنبّه عليه المحقّق الخوانساري ، وقال : « بأنّا نفرض أنّ في وقت مثلا وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حدّ الإجماع ، فحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم الإجماع الّذي هو علّته التامّة من دون توقّف على وجود المانع ، ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة مثلا يقوي ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الإجماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق فيشتغل بالصلاة في الوقت السابق ، لأنّ الاشتغال به ممكن إذ المفروض أنّ عدم مانعه متحقّق ، بناءا على عدم الإجماع وبعد الاشتغال بالصلاة يغيّر الشوق ولم يصل إلى حدّ الإجماع ، فيتحقّق عدم الزنا في الزمان اللاحق أيضا بناءا على عدم شرطه. ولا وجود مانعه » انتهى.

وبما قرّرنا في ردّ الجواب المذكور يظهر فساد جواب آخر ذكروه عن الاستدلال ، وهو أنّ فعل المباح غير متعيّن لكونه يحصل به ترك الحرام ، وذلك لأنّه كما يحصل ترك الحرام بالمباح كذلك يحصل بالواجب والمندوب ، فيكون الواجب أحد ما يحصل به ترك الحرام فلا يكون المباح على التعيين واجبا.

كما يظهر فساد جواب ثالث ذكره جماعة من الأعلام ، وهو : أنّ ذلك ليس بمقدّمة مطلقا إذ الصارف يكفي في ترك الحرام.

ووجه الفساد : أنّ ذلك لا ينافي اتّصاف المباح بالوجوب تخييرا.

وإلى ذلك أشار بعض شرّاح المختصر بقوله : إنّا نسلّم أنّ الواجب أحد ما يحصل به ترك الحرام ، فما فعله أعني المباح واجب لأنّه أحد ما يحصل به ترك الحرام.

ومنها : لو وجبت لوجبت نيّتها ، والتالي باطل للإجماع على عدم وجوب نيّة المتوضّي غسل جزء من الرأس مثلا.

والجواب : منع الملازمة بين الوجوب والنيّة المذكورة ، سواء اريد بها قصد أصل الفعل أو عنوانه.

أمّا الثاني : فلما قرّرناه في محلّه من أنّ الأصل عدم وجوب قصد الوجوب في

ص: 507

الواجبات ، ولا سيّما التوصّليّات ما لم ينهض عليه دليل بالخصوص.

وأمّا الأوّل : فلأنّ القدر المسلّم منه إنّما هو في الواجبات النفسيّة دون الغيريّة للإجماع على أنّ التوصّليات لا يعتبر فيها قصد ما لم يدلّ عليه دليل ، كما في أداء الدين وردّ الوديعة وإزالة النجاسة ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، والمقدّمة منها إجماعا ولو سلّمنا الملازمة نمنع بطلان التالي.

وما ادّعي من الإجماع كلام في غير محلّه ، لعدم كون جزء من الرأس مقدّمة للواجب وهو الوضوء أو غسل الوجه ، وإنّما هو مقدّمة علميّة.

إلاّ أن يفرض الواجب تحصيل العلم ، فيرد على الاستدلال حينئذ : أنّ الإجماع هو الفارق بين هذا النوع من المقدّمة وغيره ، على أنّ تسليم الملازمة وثبوتها - على فرضه - إنّما هو من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، فلذا ترى في أداء الدين وردّ الوديعة ونحوهما أنّ النيّة غير معتبرة إجماعا ، ولو ادّعي الإجماع في سائر الأنواع أيضا لكان ذلك هو الجواب ، لصلاحيّة الإجماع لكونه مخصّصا كصلاحيّة القاعدة لوروده عليها ، ولزوم تخصيص الأكثر على تقدير تسليمه غير قادح بناء على ما يساعده التحقيق من جوازه كما يأتي تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : لو وجبت لكانت مقدّرة شرعا وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق ، لكن لا تقدير لها.

وجوابه : إمّا منع الملازمة أو منع بطلان التالي ، إذ المراد إن كانت العقليّة أو العاديّة فالملازمة [ ممنوعة ] لأنّ التقدير حينئذ موكول إلى ما ينبّه العقل أو يقتضيه العادة فلا يتوقّف على الدلالة من الشارع والمفروض أنّه حاصل بهما.

وإن كانت الشرعيّة فبطلان التالي ممنوع ، لثبوت التقدير الشرعي في جميع المقدّمات الشرعيّة أسبابا كانت أو شروطا ، مع أنّ المقدّمة حدّها الإيصال إلى ذيها فعلا كما عليه بعضهم أو شأنا كما يقتضيه النظر.

وأيّا مّا كان فهو ممّا يثبت بحكم العقل مطلقا فما لا إيصال به فعلا أو شأنا ليس من المقدّمة بحكم العقل أيضا ، وهو كاف على كلّ تقدير ومعه لا حاجة إلى بيان الشرع بالخصوص.

ومنها : لو وجبت المقدّمة لكانت زيادة على النصّ ، والزيادة على النصّ نسخ باطل (1).

والجواب أوّلا : منع المقدّمة الاولى ، إذ القائل بوجوب المقدّمة يقول بكونه من

ص: 508


1- راجع إشارات الاصول : 70.

احتجّوا * : بأنّه لو لم يقتض الوجوب في غير السبب أيضا ، للزم إمّا تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا. والتالي بقسميه باطل. بيان

__________________

مقتضيات النصّ.

غاية الأمر كونه تبعيّا بالمعنى المتقدّم وهو لا يوجب خروجه عن مدلوله ليكون زيادة عليه.

أدلّة القول بوجوب المقدّمة

وثانيا : منع المقدّمة الثانية ، لأنّ حكم النصّ وهو وجوب [ ذي ] المقدّمة لم يتغيّر بثبوت الوجوب للمقدّمة لتغايرهما مفهوما وتعدّدهما موضوعا.

فإنّ الأوّل ثابت بالنصّ في محلّ والثاني بغيره في محلّ غير الأوّل ، فلا ربط بينهما ليكون الثاني نسخا للأوّل.

ولو سلّم كونه نسخا فبطلانه في حيّز المنع ، كيف وهو فرع الدلالة المعتبرة فبعد نهوضها لابدّ من اتّباعها كما في سائر موارده.

ومنها : لو وجبت لترتّب عليها [ الثواب ] والتالي باطل.

وجوابه : أنّ المراد بترتّب الثواب عليها إن كان على جهة الاستحقاق فالملازمة ممنوعة لما تقدّم في مقدّمات المسألة ، وإن كان على جهة الفضل والإشفاق فبطلان التالي ممنوع ، كيف وهو غير مستحيل عقلا ولا عرفا ولا شرعا بل واقع على الجميع حسبما تقدّم القول فيه مفصّلا.

ومنها : لو وجبت المقدّمة لزم أن يكون التارك للوضوء إذا كان على شاطئ النهر مستحقّا لعقاب واحد ، وإذا كان بعيدا من الماء مستحقّا لعقوبات كثيرة ، مع أنّ الاعتبار يقتضي عكس ذلك.

وجوابه : ما مرّ مرارا ، فإنّه مبنيّ على كون وجوب المقدّمة عند قائليه ما يترتّب عليه استحقاق العقاب ، ولقد تبيّن فساد توهّمه بما لا مزيد عليه.

وربما يجاب عنه أيضا : بإمكان القلب بأن يقال : لو لم يجب المقدّمة لزم أن يكون المأمور بالوضوء إذا كان على شاطئ النهر مثابا بثواب واحد ، وإذا كان بعيدا من النهر أيضا كذلك مع أنّ العقل يحكم بزيادة الثواب في الثانية.

وفيه ما فيه ، وقد تقدّم وجهه.

* شروع في ذكر احتجاج القول بوجوب المقدّمة ولأصحابه وجوه من الأدلّة منها ما

ص: 509

الملازمة : أنّه مع انتفاء الوجوب - كما هو المفروض - يجوز تركه. وحينئذ فإن بقي ذلك الواجب واجبا لزم تكليف ما لا يطاق ؛ إذ حصوله حال عدم ما يتوقّف عليه ممتنع. وإن لم يبق واجبا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبيان بطلان كلّ من قسمي اللاّزم ظاهر.

__________________

هو صحيح ، ومنها ما هو مزيّف ، ولنقدّم الصحيح منها ، وهو على ما ذكره جمع من الفحول مع ما وصل إليه بالنا الفاتر وجوه :

الأوّل : الجزم الضروري بأنّ من خاطب عبذه أو غيره ممّن له صلاحيّة التكليف ، وقال : « بأنّي أطلب منك شراء اللحم مثلا طلبا حتميّا ولكنّي أرضى بأن تمشي إلى السوق أو لا تمشي » لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي ورموه بقلّة العقل ، والسرّ في ذلك أنّ الرضاء بترك المقدّمة وفعلها معا مع العلم بكونها ممّا لابدّ منها وأنّه لا طريق إلى ذيها سواها في معنى الرضاء بترك ذيها وفعله ، وهو ممّا لا يكاد يجتمع مع طلب فعله الحتمي عقلا ، فإظهاره بعد الطلب المذكور لا يصدر إلاّ ممّن لا رأي له ولا عقل ، وهو آية الوجوب إذ لا نعني بالوجوب إلاّ ما لا يصحّ الرضاء بتركه ممّن يوجبه.

الثاني : قضاء الوجدان في إيجاب كلّ شيء بأنّ بين الآمر ومقدّمة مطلوبه نسبة وارتباطا لو التفت إليها وإلى تلك النسبة - وهي كونها ممّا لابدّ منها لأداء مطلوبه وطريقا إلى الوصول إليه - لأرادها فعلا وطلبها تفصيلا على حسب إرادته وطلبه لمطلوبه ، فانتفاء الإرادة الفعليّة والطلب التفصيلي إنّما هو لانتفاء الالتفات التفصيلي إلى تلك النسبة ، لا لملازمة عدم الوجوب للمقدّمة - فلذا تراه عند الالتفات مصرّحا بطلبها تصريحه بطلب ذيها جامعا بينهما في الطلب والإلزام ، قائلا عند الأمر باشتراء اللحم أو الكون على السطح : « ادخل السوق واشتر اللحم ، وانصب السلّم وكن على السطح » فنجد أنّ النسبة بينه وبين المقدّمة عند التصريح بطلبها هي النسبة بينه وبينها عند عدمه من غير فرق بينهما إلاّ في الالتفات وعدمه.

لا يقال : إنّ ذلك تفصيل في وجوب المقدّمة مبنيّ على الالتفات وعدمه وهو خارج عمّا بين أقوال المسألة منفيّ باتّفاق أصحابها.

لأنّا نقول : إنّ الوجوب الشأني والطلب الإجمالي ثابت على جميع التقادير وهو كاف في ثبوت وجوب المقدّمة بالمعنى المتنازع فيه على ما سنقرّره.

ص: 510

ومن هنا تبيّن فساد ما قد يتمسّك به على نفي وجوب المقدّمة من أنّ الآمر كثيرا مّا يأمر وهو غافل وذاهل عن المقدّمة فضلا عن طلبها ، فإنّ الغفلة والذهول عن طلبها التفصيلي لا ينافي كونها مطلوبة عنده بالطلب الشأني الّذي هو لازم لطلب ذيها من باب الإشارة الّتي هي لازمة للمقصود ، لا أنّها مقصودة كما في أقلّ الحمل المدلول عليه بالآيتين.

ومن البيّن أنّ ذلك من الدلالات المعتبرة عرفا المتّبعة شرعا كما صرّح به غير واحد من فحول علماء الاصول.

والثالث : طريقة العرف وبناء العقلاء على الالتزام بإيجاد مقدّمات الواجب وتنزيل ما لم يصرّح منها بطلبه منزلة ما صرّح بطلبه تفصيلا ، وليس ذلك إلاّ من جهة ما صحّ عندهم ببداهة عقولهم من أنّ إيجاب الشيء ملزوم لإيجاب ما لا يتمّ إلاّ به باللزوم الغير البيّن ، بمعنى كونه لازما للمقصود وإن لم يكن مقصودا بالفعل.

ألا ترى أنّه لو سئل أحدهم عند الإتيان بمقدّمة عن وجه الإتيان بها فهو لا يزال مجيبا بأنّه لإلزام المولى أو من هو بمنزلته وأمره به.

وأقوى من ذلك أنّ المأمور المتقاعد عن الامتثال لو اعتذر لمن سأله عن تقاعده بأنّ الآمر لم يكن أوجب عليه مقدّمة المأمور به ولا صرّح بطلبها تفصيلا لخطّأه الحاضرون وأدرجوا عبارته في الهذيانات وعبارات المجانين والسفهيّات ، ونبّهوه على أنّ ذلك حاصل بحصول الأمر ولازم لمضمونه المتعلّق بما هو مطلوب به أصالة ولا يحتاج معه إلى تصريح ولا خطاب آخر.

والرابع : ما صحّ عند العدليّة من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والحكم النفس الأمريّة.

ومن البيّن أنّ المصلحة في كلّ شيء بحسبه ، وكما أنّ ذا المقدّمة فيه مصلحة أصليّة كامنة فيه لنفسه فكذلك المقدّمة فيها مصلحة تبعيّة حاصلة فيها لغيرها وهي كونها ممّا يوصل إلى الغير وتركها يفضي إلى ترك ذلك الغير ، وكما أنّ المصلحة النفسيّة توجب في محلّها الطلب النفسي ولو شأنا فليكن المصلحة الغيريّة أيضا موجبة للطلب الغيري في محلّها وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة ، أو اللازم عن الملزوم ، وليس لأحد أن يعترض بأنّه لو كان لصرّح به والتالي [ باطل ] لأنّ التصريح غير لازم والطلب الشأني غير منوط به ، والكلام في جواز الاكتفاء به وسنقرّره.

والخامس : الاستقراء فيما أمر به من المقدّمات في الشريعة وما يؤمر به منها في العرف والعادة ، فإنّه ممّا يورث القطع بأنّ المقدّمة بطبعها ملزومة للطلب وأنّه من لوازمها الّتي

ص: 511

يستحيل انفكاكها عنها في نظر العقل والعادة ، وأنّ ما يسامح في طلبها بعدم التصريح به فعلا فإنّما هو للتعويل على طلبها الثابت لها شأنا على كلّ حال ، وأنّ الطلب الشأني قائم مقام الفعلي في جميع الأحكام والأحوال.

وكأنّ هذا المعنى مراد من تمسّك في هذا المقام بالاستقراء ، فلا يرد عليه ما في كلام بعض الأفاضل وغيره من منع الغلبة أوّلا ، ومنع اعتبار ما يحصل منها في أمثال المقام ثانيا ، فإنّ أقصاه ظنّ غير كاف في الأحكام العقليّة ، فإنّ مبنى الاستدلال ليس على التمسّك بالغلبة بل بما يورث الحدس بالمطلوب كائنا ما كان.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ أقصى ما يلزم من الوجوه المذكورة بالنسبة إلى المقدّمة إنّما هو الوجوب الشأني ، وهو ربّما يوجب التشكيك في انطباق مصطلحهم في الوجوب وصدقه عليه ، إذ التفاسير الّتي ذكروها له اصطلاحا لا ينساق منها إلاّ الطلب الفعلي ، بل بمقتضى أنّ الخمس المعهودة بأسرها مجعولة لا يندرج في المجعول إلاّ ما هو مراد فعلا مطلوب تفصيلا ، فإثبات الأمر الشأني ممّا لا يكاد ينفع في المقام.

ولعلّ ذلك دعا غير واحد من الأعلام إلى توهّم كون موضع النزاع من الوجوب هو الأصلي المقصود بالخطاب أصالة ، وهذا إشكال قد أشرنا إليه في غير موضع ممّا تقدّم ، ولا سيّما في تقرير الأدلّة مع الإشارة إلى دفعه إجمالا ، بل هو أحد احتمالي أصل النزاع في المسألة كما أشرنا إليه عند تحرير محلّ النزاع ، وإن كان خلاف الظاهر بل الظاهر أنّه محلّ لنزاع آخر بينهم ، حيث نفى الوجوب عن هذا المعنى بعضهم وأثبته الآخرون ، ولا بأس بأن نفصّل الكلام فيه ونقرّر ما يقضي بكون ذلك كافيا في تحقّق مصداق الوجوب عرفا واصطلاحا على وجه ينكشف به الحجاب ويرتفع بملاحظته الإشكال ، مع عدم كونه خروجا عن أصل المطلب لكونه بحثا في صغرى المسألة ، كما أنّ المقصود بالعنوان بحث عن كبراها.

فنقول : إنّ التفاسير الّتي ذكروها للوجوب وقيّدوها بالاصطلاح ليست كسائر الامور الاصطلاحيّة الحادثة الّتي لا عبرة فيها إلاّ بما يساعده ظواهر أهل الاصطلاح ، ولا طريق إلى معرفتها إلاّ ما يقتضيه القواعد الجارية في لسانهم ، بل هي تحديدات استفادوها عمّا عليه طريقة العرف والعادة ، ورسوم أخذوها عمّا يقضي به القوّة العاقلة ، وغرضهم بها بيان ما هو حقيقة الوجوب عند العقلاء وما عليه مدار المدح والثواب أو الذمّ والعقاب عقلا وشرعا ، وينوط به جميع الالزامات والالتزامات ممّا يرجع إلى المعاد أو المعاش.

ص: 512

ألا ترى أنّهم في تفسير « الأمر » بكونه طلب الفعل بالقول أو مطلقا استعلاء من العالي أو لا معه ، أو لا معهما أو مع العلوّ فقط أو غير ذلك من الخلافات المتقدّمة في مفتتح الكتاب قيّدوه بالاصطلاح ، مع أنّهم لا يريدون به إلاّ تعريف المعنى العرفي الّذي ينساق منه عند الإطلاق ، وإنّما قيّدوه بذلك لأنّه تفصيل لما يفهمه العرف إجمالا ولا يقدر على التعبير عن تفاصيله بما عبّروا به من العبارات ، ولكون ذلك من خصائصهم فكأنّه أمر مستحدث لم يكن معهودا في العرف.

وبالتأمّل في بناء العرف وقضاء القوّة العاقلة يقطع بأنّ الإرادة والطلب المعتبرين في مفهوم « الوجوب » بل الكراهة والطلب المأخوذين في مفهوم « الحرمة » أعمّ من الفعلي والشأني ، والمراد به كون الشيء باعتبار ما في ذاته من المصلحة الكامنة بحيث لا ينبغي لكلّ من التفت إليه وإلى مصلحته إلاّ إرادته فعلا وطلبه حتما بعبارة مصرّحة به ، إلاّ إذا علم بكون القضيّة الشأنيّة معلومة لكلّ من لا يصرّح له بالطلب ولا يريده منه تفصيلا ، حيث نراهم لا يزالون يعاملون مع الطلبات الشأنيّة معاملة الفعليّات وينزّلون الإرادات الإجماليّة منزلة التفصيليّات ، كما نرى القوّة العاقلة لا تأبى عن عقاب من يخالفها في مظانّها مع علمه بالقضيّة الشأنيّة ، فلذا يذمّ ويعاقب العبد التارك لإنقاذ ولد سيّده عن الغرق أو الحرق ، ولإنجاء سيّده عن أيادي أعدائه مع قدرته عليه ، ولحفظ مال سيّده عن اللصّ والإغارة مع تمكّنه منه ، ولدفع السبع عن بهيمته ولرفع المضارّ عنه ، وعن كلّ من يتعلّق به مع عدم أمر منه بشيء من ذلك فعلا ولا إيجاب تفصيلا ، وكذلك العبد إذا قتل ابن مولاه أو أخرب بيته أو خانه في بنته أو زوجته أو سائر محارمه ومتعلّقاته ونحو ذلك ممّا لا يحصى ، مع عدم نهي منه عن شيء من ذلك فعلا ولا منع تفصيلا ، فلولا كفاية القضايا الشأنيّة في انعقاد الإلزاميّات لما كان لذلك وجه ، ضرورة أنّ الذمّ والعقاب لا يستحقّهما إلاّ العاصي ولا عصيان إلاّ مع الوجوب أو التحريم.

فانتفاء الطلب الفعلي والإرادة أو الكراهة التفصيليّة ينشأ إمّا عن عدم الالتفات إلى الموضوع أو صفته فعلا ، أو الاعتماد على معلوميّة القضيّة الشأنيّة للمكلّف بحكم عقله ، وهذا أحد المحتملات الجارية عندنا فيما حكم به العقل في مستقلاّته وإن لم نر من القوم التعرّض لذكره ، بناءا على أنّ معنى حكم العقل إدراكه للحكم الشرعي كما هو الأظهر في النظر القاصر لا كونه مثبتا له.

ص: 513

وممّا ذكرنا من الوجهين في توجيه انتفاء الطلب التفصيلي في القضايا الشأنيّة ينقدح أنّه لا حجر في التزام الطلب الشأني بالنسبة إليه تعالى حتّى يتوجّه : أنّ وجوب المقدّمة على تقديره لا يمكن أن يكون من هذا الباب لكونه من قبل اللّه عزّ وجلّ ، لأنّ ذلك إنّما يتوجّه لو حصرنا منشأ الانتفاء في عدم الالتفات وقد علمت خلافه.

وظاهر أنّ الوجه الآخر أيضا ممّا يوجبه ولا يستلزم محذورا وبهذا الاعتبار سوّغنا كون المستقلاّت العقليّة من هذا الباب كما هو الآن أرجح الاحتمالات.

نعم يرد المحذور على من جعل المنشأ في المقام عدم الالتفات فقط ضرورة امتناعه عليه سبحانه.

وملخّص ما ذكرناه : أنّ الوجوب الشأني يرجع دعواه في العرفيّات إلى دعوى العلم بانتفاء [ الطلب ] الفعلي التفصيلي للعلم بعدم الالتفات ، وفي الشرعيّات إلى دعوى عدم العلم بتحقّقهما وهو كاف في الالتزام بوجوب المقدّمة شأنا أخذا بموجب الأدلّة المتقدّمة ، فهذا مرادنا من وجوب المقدّمة.

والمثبتون له إن أرادوا به أيضا هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإن أرادوا أزيد من ذلك فعليهم بالإثبات وأنّى لهم بذلك ، مع أنّ ما ذكروه في المقام من الاحتجاجات إمّا فاسد الوضع أو غير قاض بأزيد ممّا ذكرنا.

وأمّا النافون لذلك فإن كان نظرهم إلى ما قرّرناه فنلزمهم بما قرّرناه ، وإن كان إلى أزيد من ذلك فنحن أيضا وافقناهم عليه.

وبما ذكرناه تبيّن أنّ الوجوب الشأني لا مجرى له إلاّ فيما لا نصّ فيه ، وأمّا ما فيه نصّ فإن كان نصّه من باب الصيغ الموضوعة للإنشاء فيمتنع فيه ذلك ، لأنّ الإنشاء يلازم الفعليّة كما لا يخفى ، ومثلها الصيغ المستعملة في الإنشاء مجازا كالجمل الخبريّة.

وإن كان من باب الصيغ الموضوعة للإخبار المفيدة للحتم والإلزام وضعا ك- « أوجبت ، وأمرت ، وطلبت » ونحو ذلك فهو الظاهر بل النصّ أيضا.

فقضيّة ما حقّقناه وجوب حمل الطلب الّذي أخذوه في تفاسيرهم للوجوب على ما يعمّ الشأني أيضا لينطبق التعريف الاصطلاحي على معناه العرفي ، وإن كان في بادئ الأمر ظاهرا في الفعلي خاصّة ، إلاّ أنّه ظهور بعد قيام الصارف لا عبرة به أصلا.

وممّا يرشد إلى إرادتهم الأعمّ ما ذكروه في تعريف الواجب من : أنّه ما يذمّ تاركه أو

ص: 514

يستحقّ تاركه الذمّ » وغير ذلك ممّا تقدّم الإشارة إلى جملة منه في أوائل المسألة ، ضرورة عدم ظهور ذلك في القضايا الفعليّة.

فإن قلت : ما ذكرته من الأمثلة العرفيّة غير مطابق للممثّل والطلب المفروض فيها فعلي ثابت من العقل.

وبيان ذلك : كما أنّ الحكم الشرعي قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي - وهو حكم عقليّ يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي لضابطة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » - فكذلك العرفيّات فمنها ما يكون من المستقلاّت العقليّة فيثبت الحكم فيها بإلزام عقل العبد ، فيكون ذلك دليلا على إلزام المولى بالكلّيّة الجارية في الشرعيّات.

قلت : أوّلا قد أشرنا إلى أنّ حكم العقل في مستقلاّته إنّما يكون من باب الكشف ، والإدراك والنظر في المقام إنّما هو إلى المدرك والمكشوف عنه وهو ليس إلاّ حكما شأنيّا ، ضرورة عدم فعليّة الحكم من المولى لا سابقا ولا لاحقا والّذي ينوط به الثواب والعقاب هو هذا.

وثانيا : نقول بمثل ذلك في مقدّمة الواجب ، فإنّ لزوم الإتيان بها للتوصّل إلى الواجب ممّا يحكم به العقل ، وهو من أدلّة الشرع فيثبت الوجوب الشرعي أيضا بالملازمة المذكورة على نحو ما ذكرته في الأمثلة العرفيّة.

فإن قلت : بأنّ المكشوف عنه هنا حكم شأني نقول به في الأمثلة العرفيّة أيضا كما عرفت.

وإن قلت : بأنّه فيها فعليّ فقد كابرت وخرجت عن الإنصاف.

وبالجملة لا سبيل إلى إنكار الطلبات الشأنيّة وأنّها مندرجة في الأحكام اندراج الطلبات الفعليّة ، وبذلك ينقدح وجه التفكيك بين الأحكام الواقعيّة والأحكام الظاهريّة كما عليه المخطّئة ، وأنّ الحكم الظاهري يتخلّف عن الحكم الواقعي كثيرا ، وأنّ المدار في التكاليف على الأحكام الظاهريّة صادفت الواقعيّة أو لا ، وأنّ العلم والجهل لا يغيّران الواقع بل الواقع واقع في حقّ العالم والجاهل معا ، والّذي يتغيّر ويختلف إنّما هو الظاهري ، فإنّ الطلب المعتبر في مفهوم « الحكم » لابدّ وأن يؤخذ أعمّ من الشأني والفعلي حتّى يتمّ هذه الامور ، ضرورة أنّ الطلب الفعلي لا يتصوّر عنه التخلّف ولا يقوم مقامه غيره ، ولا يعقل التسوية فيه بين العالم والجاهل وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق.

وما يذكره المخطّئة من أنّ الحكم الواقعي في كلّ شيء واحد لا يتعدّد ، وأنّ المتعدّد هو الحكم الظاهري ، وأنّ اللّه سبحانه في كلّ شيء قبل اجتهاد المجتهد جعل حكما معيّنا في

ص: 515

الواقع لا ينطبق إلاّ على القضيّة الشأنيّة.

بدعوى : أنّه سبحانه في كلّ واقعة جعل مصلحة مقتضية لشيء معيّن من الأحكام ، فهي باعتبار تلك المصلحة بحيث لو جامعت شرائط التكليف وفقدت موانعه لأرادها اللّه فعلا وطلبها تفصيلا ، ولا ينافيه كونه بالنسبة إلى المشافهين فعليّا ، لأنّ الكلام في غيرهم ولا يعقل فيهم الطلب الفعلي ما لم تجتمع الشرائط وانتفت الموانع.

وأمّا المصوّبة القائلة بأنّه ليس في الواقعة حكما معيّنا في الواقع قبل اجتهاد المجتهد وأنّه تابع لرأي المجتهد فيتعدّد بتعدّد الآراء ، فلابدّ من أن يرجع كلامهم إمّا إلى إنكار الصغرى وهي اشتمال الوقائع على المصالح المقتضية للطلبات الشأنيّة ، أو إلى إنكار الكبرى وهي كفاية القضايا الشأنيّة في انعقاد الأحكام الواقعيّة ، أو إلى دعوى مدخليّة العلم والجهل في تلك المصالح بزعم أنّها بالوجوه والاعتبارات وأنّ العلم والجهل من جملتها.

فإن قلت : الأحكام الواقعيّة في حقّ الجاهل وغيره من ذوي الأعذار مشروطة بزوال العذر ، فما معنى قولك : أنّها على التخطئة لا تنطبق إلاّ على القضيّة الشأنيّة؟

قلت : إن اريد به أنّ المشروط بزوال العذر فعليّة تلك الأحكام الّتي يعبّر عنها بالتكليف ، فهو لا ينافي لكون الثابت قبل حصول الشرط هو القضيّة الشأنيّة ، إذ المفروض تحقّق جميع مقتضيات الطلب الفعلي إلاّ الشرط المفروض فقدانه ، وإن اريد بأنّ المشروط به كلّ من الفعل والشأن فهو مقطوع بفساده لاستلزامه التصويب الباطل.

الأدلّة المزيّفة لإثبات وجوب المقدّمة

وأمّا المزيّف من الأدلّة فوجوه أيضا :

أوّلها : الإجماع ويقرّر بوجهين :

أحدهما : معناه اللغوي المعبّر عنه بالاتّفاق ، فإنّ من ملاحظة اتّفاق المثبتين لوجوب المقدّمة - وهم جماعة كثيرون جدّا - يحصل القطع بحقّيّة المورد.

والسرّ في ذلك : أنّه كما يحصل من الخبر المتواتر بملاحظة أنّ العادة تقضي بامتناع تواطؤ المخبرين مع كثرتهم على الكذب القطع العادي بصدقهم القاضي بحقّيّة المخبر به ، فكذلك يحصل من الاتّفاق بملاحظة أنّ العادة تقضي بامتناع تواطؤ القائلين مع كونهم جماعة كثيرة على الخطأ القطع العادي بإصابتهم الموجبة لحقيّة المتّفق عليه من غير فرق بينهما أصلا ، غير أنّ المقطوع به في الأوّل من الحسّيّات فلذا عبّرنا فيه بامتناع التواطئ على الكذب. وفي الثاني من الحدسيّات فلذا عبّرنا فيه بامتناع التواطئ على الخطأ ، نظرا

ص: 516

إلى أنّ المسألة من العقليّات فاحتمال الكذب فيها ساقط بعدالة القائلين وبقي احتمال الخطأ فينفيه حكم العادة بملاحظة الكثرة.

ويؤيّده في إفادة القطع ملاحظة أنّ كلاّ من المثبتين من أهل الاجتهاد والنظر والدقّة والفضل ، مع كون المسألة ممّا يحكم به الوجدان فيبعد عنهم احتمال الخطأ غاية البعد ، مضافا إلى وضوح ضعف القول الآخر وشذوذ القائل به ، وما ادّعي على الحكم من الضرورة والإجماعات ونحو ذلك ممّا يوجب وضوح الأمر.

وثانيهما : الإجماع المصطلح عند الاصولييّن الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام ، فإنّ الإجماع بهذا المعنى ممّا لا يعتبر فيه اتّفاق الكلّ ، بل المعتبر فيه هو الكشف عن رأي المعصوم سواء حصل ذلك عن اتّفاق الكلّ أو جماعة علم بدخول قول المعصوم في أقوالهم ، سواء دخل شخصه أيضا في المجمعين أو لم يدخل ، فإذا كشف الإجماع عن قول المعصوم عليه السلام يترتّب عليه حقّيّة المورد لأنّه ملزوم لها بملاحظة العصمة.

وهذان التقريران للإجماع يشاركان في إفادة القطع وهو حجّة من أيّ شيء حصل ، فالتقرير الأوّل بمنزلة الثاني في الحجّيّة ، كما أنّه في العلميّات ليس بعادم النظير ، بل غالب الإجماعات في المسائل الاصوليّة وأكثرها في الفروعيّة من هذا الباب ، بمعنى كونها اتّفاقات مفيدة للقطع بحقيّة مواردها بالتقريب المتقدّم من دون كونها كاشفة عن قول المعصوم بخصوصه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الإجماع ، ولكنّ الانصاف أنّه بشيء من التقريرين لا يفيد المدّعى ولا يوجب القطع بالحقيقة.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّ العادة إنّما تقضي بامتناع التواطئ على الخطأ إذا لم يعلم بمستند القائلين وضعف ذلك المستند ، وقد علمنا بأنّهم إنّما صاروا إلى وجوب المقدّمة تعويلا على الوجوه الآتية الّتي لا ينبغي الاسترابة في ضعفها ، وعدم قضائها بما قالوه ، فلولا حقّيّة ذلك القول ثابتا لنا من الخارج لحكمنا بأنّهم لاستنادهم إلى الأدلّة الفاسدة متّفقون على الخطأ.

نعم من متأخّريهم من تمسّك ببعض الوجوه الصحيحة المتقدّم ذكرها ولكنّه غير مجد لانتفاء الكثرة الّتي هي مناط حكم العادة بامتناع التواطئ على الخطأ وعلى تقديرها فغير مجدية أيضا ، لأنّ هذا المستند الصحيح ممّا يغني الناظر العالم به عن النظر في الاتّفاق.

نعم إنّما يصلح ذلك دليلا لو فرض المستند غير معلوم.

ص: 517

وأمّا على التقرير الثاني : فلمنع كشفه عن قول المعصوم عليه السلام تضمّنا إن اريد به ما هو بطريقة القدماء ، لانتفاء ما هو من عمدة شرائطه عندهم وهو عدم خروج مجهول النسب.

وقد عرفت أنّ القول بالنفي محكيّ وقائله ليس بمعلوم كما صرّح به غير واحد ، وكونه ممّا نسبه العلاّمة إلى الواقفيّة لا يوجب أن لا يكون له قائل آخر غير معروف.

ولا التزاما عقليّا إن اريد به ما هو بطريقة الشيخ وغيره لابتنائه على ملازمة فاسدة عندنا ، ولو صحّت الملازمة بفرض تماميّة دليلها فالاكتفاء بوجود المخالف ممّا يرفع وجوب الردع كما عن أهل هذه الطريقة من الاكتفاء بمجرّد إلقاء الخلاف.

ولو سلّم عدم الاكتفاء به فأصل الوجوب محلّ المنع ، لما تقدّم سابقا من أنّ قاعدة اللطف إنّما تجري في مظانّ العقاب والمقام ليس منها.

ولا عرفا إن اريد به ما هو بالطريقة الحادثة ، لأنّه على تلك الطريقة إنّما يكشف عن رضا المعصوم عليه السلام وكون المجمع عليه مأخوذا منه إذا كان من التوقيفيّات المنوطة بالسماع منه عليه السلام بأن يكون إجماع المجمعين ناشئا عن سماع منه ولو بواسطة ، واستدلالهم بالبرهان العقلي الآتي وغيره من الوجوه الآتية ممّا يأبى عن ذلك ، وينادي بأنّه اتّفاق منهم ناش عن غير جهة التوقيف فكيف يعقل منه الكشف عن كونه مأخوذا عن المعصوم عليه السلام ومطابقا لرأيه.

فإن قلت : وضوح الحكم على حدّ سائر الضروريّات يوجب امتناع اعتقاد المعصوم عليه السلام بخلافه.

قلنا : هذا أمر خارجي يوجب القطع بمطابقة رأي المعصوم عليه السلام واعتقاده ، والكلام في كون الإجماع موجبا له لا كلّ ما هو خارج عنه.

ولو قيل : إذا انضمّ إلى الاتّفاق قضاء العادة بامتناع التواطئ من هؤلاء على ما ليس بحقّ يصير إجماعا كاشفا عن رأي المعصوم لامتناع تعلّقه بما ليس بحقّ لكان ذلك إرجاعا له إلى التقرير الأوّل وقد عرفت ضعفه أيضا.

فالإنصاف : أنّ التمسّك بالإجماع هنا ليس في محلّه سواء اريد به معناه اللغوي أو العرفي.

والعجب من الشيخ الاستاد كيف اعتمد عليه في تقريره الأوّل واكتفى به مع أنّه أضعف منه على التقرير الثاني.

وثانيها : ما تمسّك به الأكثرون وهو الّذي أشار إليه المصنّف بقوله : « احتجّوا بأنّه لو لم يقتض الوجوب » إلى آخره.

ومحصّله : أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها وحينئذ فإمّا أن يكون التكليف بذي

ص: 518

المقدّمة باقيا أو مرتفعا فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق ، وعلى الثاني خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، واللازم بكلا قسميه باطل.

وتوضيح تقرير الاستدلال : أنّ المراد بقولهم : « لو لم يجب المقدّمة » أنّه لو لم يمنع عن ترك المقدّمة لجاز تركها ، أي لما كان في تركها حرج وضيق ، إذ الوجوب إنّما يرتفع إمّا بارتفاع فصله ، أو ارتفاع جنسه ، أو ارتفاع فصله وجنسه معا ، وأيّ تقدير كان فلازمه جواز الترك بالمعنى المذكور.

وقولهم : « وحينئذ » محتمل لوجوه ثلاث ، وهي : حين إذ جاز ترك المقدّمة ، أو حين إذ ترك المقدّمة ، أو حين إذ جاز الترك وترك ، ولك أن تعبّر عن ذلك بقولك : « حين إذ ترك المقدّمة الجائز تركها » والفرق بين التعبيرين لفظي والمقصود بهما أنّ الوجه الثالث جمع بين الجزئين اللذين اكتفى بواحد منهما في الوجهين ، وطريق الجمع إمّا تركيب أو تقييد.

وهذه الاحتمالات ممّا فهم الأوّل منها المصنّف.

فردّه : بأنّ جواز الترك لا دخل له في لزوم التكليف بما لا يطاق ، ضرورة ترتّبه على نفس الترك وجوازه لا يستلزمه ، فلذا قال : « بأنّ البحث إنّما هو في المقدور وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول » يعني أنّ الواجب إنّما يصير غير مقدور بسبب ترك مقدّمته ، وإيجاب المقدّمة لا يصيّر غير المقدور مقدورا أو أنّ البحث في مقدّمة الواجب إنّما هو في المقدّمات المقدورة ، والقدرة عليها لا تنوط بإيجابها فجواز تركها لا يوجب زوال القدرة عنها ، فلا يستلزم التكليف بما لا يطاق لاستلزام القدرة عليها القدرة على الواجب ، وهي في اشتراط التكليف بها أعمّ ممّا كان بواسطة.

أو أنّ التكليف بما لا يطاق منوط عدم لزومه بالقدرة على الواجب ، وهي حاصل بسبب القدرة على مقدّمته والقدرة على المقدّمة غير منوطة بإيجابها ، بل هي حاصلة على تقدير عدم الوجوب أيضا ، نظرا إلى أنّ النزاع في المسألة والبحث عنها في المقدّمات المقدورة وكلّ من المثبت والنافي يتكلّم فيها بعد إحراز كونها مقدورة كما سبق تحقيق القول في ذلك.

وحاصله اختيار الشق الأوّل ومنع لزوم التكليف بما لا يطاق.

ولكن ظاهر تقرير الاستدلال بقرينة قوله : « فإن بقى الوجوب لزم التكليف » هو الاحتمال الثاني ، لأنّ ذلك ترديد يرتبط بالترك لا بجوازه.

وعلى أيّ حال كان فتحقيق الجواب أن يقال : بأنّا نختار كلاّ من الشقّين ، فإن اخترنا

ص: 519

الأوّل دفعنا الاستدلال تارة بمنع الملازمة ، أو إنتاجها أمرا محالا في المقام ، أو إنتاجها ما لا يعيّن المطلوب بل يجامع خلافه أيضا فيكون أعمّ.

واخرى : بمنع بطلان التالي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لو اريد ترتيب المحذور على الجواز فالملازمة ممنوعة ، لوضوح ترتّبه على نفس الترك والجواز لا يستلزمه - كما أنّ الوجوب لا يستلزم الوجود - بل بينهما بون بعيد ، إذ الترك من فعل المكلّف وجوازه من قبل اللّه تعالى ، فلا مدخل له في لزوم التكليف بما لا يطاق.

فإن قلت : كيف تقول بذلك مع أنّ المكلّف ربّما يتركها تعويلا على عدم الوجوب.

قلنا : يعارضه على تقدير الوجوب أنّه ربّما يتركها تعويلا على عدم كونه ممّا يترتّب على مخالفته العقاب ولا استحقاقه نظرا إلى ما تقدّم تحقيقه.

ولو اريد ترتيبه على الترك فالملازمة وإن كانت مسلّمة غير أنّها تفضي إلى أمر محال ، وذلك لأنّه إذا كان أمر لازما لملزوم مشترك بين شيئين فبطلانه على تقدير ترتيبه على أحدهما لا يقضي ببطلان ذلك وصحّة الآخر لقبح الترجيح أو الترجّح بلا مرجّح ، بل لو صحّ بطلانه في نفس الأمر لقضى ببطلان كليهما ، كما لو قيل عند تردّد الشيء بين كونه إنسانا أو حمارا مثلا : « بأنّه لو لم يكن هذا إنسانا لكان حيوانا ولكن التالي باطل » فإنّه بطلان على تقدير صحّته يقضي بعدم كون ذلك الشيء إنسانا ولا حمارا ، إذ على تقدير كونه إنسانا أيضا يصحّ أن يقال : « بأنّه لو كان إنسانا لكان حيوانا ولكن التالي باطل » ومحلّ الكلام من هذا الباب ، لأنّ لزوم التكليف بما لا يطاق من لوازم الترك وهو يجامع الوجوب كما أنّه يجامع الجواز ، فبطلانه لا يقضي ببطلان الجواز لاشتراكه بينه وبين الوجوب بل لو صحّ البطلان لزم أن يكون كلّ منهما باطلا وهو محال لأدائه إلى ارتفاع النقيضين.

والدليل إذا كان مؤدّاه أمرا محالا يكون باطلا بالضرورة.

ولو اريد ترتيبه على الترك الجائز ، بأن يكون معنى قوله : « وحينئذ » حين إذ تركها المكلّف تعويلا على جواز تركها فالملازمة أيضا مسلّمة ولكن الحاصل منها أمر أعمّ من المطلوب ، وذلك لأنّ النتيجة حينئذ ليست إلاّ بطلان الترك الجائز لأنّه المقدّم ، وبطلانه إمّا من جهة بطلان قيده بمعنى أنّ الآمر لا يجوّز ترك المقدّمة لئلاّ يفضي إلى التكليف بما لا يطاق ، أو من جهة بطلان المقيّد وهو نفس الترك بمعنى أنّ المكلّف لا يترك المقدّمة لئلاّ

ص: 520

يوقع نفسه في التكليف بما لا يطاق ، والمطلوب لا يثبت إلاّ على التقدير الأوّل ، والنتيجة أعمّ منه والأعمّ لا يدلّ على الأخصّ.

وأمّا الثاني : فلمنع بطلان التكليف بما لا يطاق على إطلاقه إن اريد به التكليف بالممتنع ، لما سنقرّره من جوازه في الجملة بالنسبة على بعض الصور.

ومنع لزومه على إطلاقه لو اريد به التكليف بغير المقدور ، بل ربّما لا يلزم ذلك مع بقاء الوجوب وترك المقدّمة كما سنقرّره أيضا ، فيرجع ذلك أيضا إلى منع الملازمة كما لا يخفى.

وإن اخترنا الثاني دفعنا الاستدلال أيضا تارة بمنع الملازمة واخرى بمنع بطلان اللازم.

وسنده على الأوّل أوّلا : النقض بما لو انقضى وقت الواجب وقد تركه المكلّف مع إتيانه بجميع مقدّماته ، فإنّه يوجب خروج الواجب عن كونه واجبا.

وثانيا : الحلّ بأنّه بعد عروض عدم التمكّن بانتفاء مقدّمة وجوده لا وجوب حتّى يلزم من فرض عدم بقائه خروج الواجب عن وجوبه ، كما أنّه فيما بعد انقضاء وقته لا وجوب له حتّى يلزم المحذور من الفرض المذكور ، وذلك لأنّ التكليف كما أنّه مشروط في حدوثه بالقدرة فكذلك في بقائه أيضا بحكم العقل وبناء العرف ، فعروض عدم التمكّن يوجب ارتفاعه ومعه لا وجوب حتّى يلزم المحذور.

وعلى الثاني : أنّه لا داعي إلى دعوى بطلان اللازم إلاّ توهّم انحصار ما يوجب خروج الواجب عن الوجوب في الامتثال أو قيام المسقط مقامه ، ومحلّ البحث خال عنهما ، وهو في حيّز المنع لثبوت سبب آخر وهو انقضاء الوقت كما أشرنا إليه لئلاّ يلزم خلاف قضيّة التوقيت ، فلم لا يجوز أن يكون عروض عدم التمكّن عن الامتثال أيضا من جملة الأسباب ، كما هو من مقتضى التحقيق من اشتراط التكليف بالقدرة حدوثا وبقاءا.

هذا بناءا على كون المراد من اللازم خروج الواجب المطلق عن وجوبه.

وأمّا لو كان المراد خروجه عن إطلاقه وانقلابه مقيّدا كما فهمه بعضهم ، حيث علّل بطلان اللازم على هذا التقدير : « بأنّ وجوبه إذا زال بزوال مقدّمته لزم أن يكون مقيّدا بالنسبة إليها ، والمفروض أنّه مطلق ».

فدفعه أوضح ، لأنّ إطلاق الوجوب على كلّ حال مشروط بالقدرة ، وانتفاء المقدّمة يوجب زوال القدرة وهو قاض بزوال الوجوب فهو مقيّد بالنسبة إلى القدرة لا إلى تلك المقدّمة.

ص: 521

وأيضا ، فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ تارك المقدّمة مطلقا. وهو دليل الوجوب *.

والجواب عن الأوّل ، بعد القطع ببقاء الوجوب : أنّ المقدور كيف يكون ممتنعا **؟ والبحث إنّما هو في المقدور ، وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول. والحكم بجواز الترك هنا عقليّ لا شرعيّ ؛ لأنّ الخطاب به عبث ، فلا يقع من الحكيم. وإطلاق القول فيه يوهم إرادة المعنى الشرعيّ فينكر. وجواز تحقّق الحكم العقليّ هنا دون الشرعيّ يظهر بالتأمّل.

وعن الثاني : منع كون الذمّ على ترك المقدّمة ، وإنّما هو على ترك الفعل المأمور به ، حيث لا ينفك عن تركها.

__________________

* ولمّا كان المصلحة الكامنة في المقدّمة غيريّة ناشئة عن كونها موصلة إلى الغير ومفضيا تركها إلى ترك ذلك الغير فلا جرم يكون الذمّ الوارد على ذلك الترك وارد عليه من حيث إفضائه لا لذاته ، وهذا هو المقصود من الاستدلال وإن قصرت عبارته عن إفادته.

فالاعتراض عليه : بأنّه لو صحّ ذلك لقضى بالوجوب النفسي دون الغيري ليس في محلّه ، كما أنّ ما في كلام المصنّف من منع كون الذمّ على ترك المقدّمة وإنّما هو على ترك الفعل المأمور به ليس على ما ينبغي ، كيف ولا يستريب ذو مسكة أنّ الذمّ إنّما يتعلّق بترك المقدّمة نفسها ، تقدّم زمان فعلها على زمان الفعل المأمور به أو قارنه.

وممّا يفصح عن ذلك أنّه لو اعتذر التارك للمقدّمة عند توجّه الذمّ إليه بعدم تمكّنه من الفعل بدون مقدّمته لاعترضوا عليه بقولهم : « لم تركت المقدّمة حتّى لا تتمكّن من الفعل؟ » وهو توبيخ لا موقع له إلاّ مواضع الذمّ ، مع أنّ القوّة العاقلة مستقلّة باستحقاق التارك للمقدّمة للذمّ كاستقلالها باستحقاق الآتي بها للمدح ومعه لا مجال إلى إنكار ذلك.

نعم يرد عليه : أنّ الذمّ ربّما يترتّب على الشيء من جهة تفويت ما له من الخاصيّة وإن لم يكن واجبا ، كما أنّ ترتّب المدح ربّما يتعلّق به من جهة تحصيل الخاصيّة وإن كان مباحا كما لا يخفى على المتدبّر ، فليس في كلّ ذمّ دلالة على الوجوب.

نعم الذمّ البالغ إلى حدّ يكشف عن استحقاق العقاب ملزوم للوجوب ، وهو في المقام ليس بهذه المثابة ولا سيّما بملاحظة ما قدّمنا تحقيقه مرارا.

** قد عرفت بما ذكرناه من الوجوه الثلاث في توجيه تلك العبارة أنّها مسوقة لمنع الملازمة.

ص: 522

وبالتأمّل فيما قرّرناه من الجواب مع ملاحظة ما ذكرناه من أنّ المصنّف فهم من الاحتمالات الثلاث الجارية في لفظة « حينئذ » الاحتمال الأوّل تعرف أنّه على هذا التقدير كلام جيّد ، ضرورة أنّ جواز الترك لا يستلزم الترك حتّى يترتّب عليه لزوم التكليف ، كما أنّه لا يستلزم سلب القدرة عن المقدّمة أو عن الواجب ، لأنّ تأثير إيجابها في القدرة عليها أو على الواجب غير معقول ، فعلى هذا يكون قوله : « وتأثير الإيجاب » إلى آخره ، من تتمّة الجواب لا أنّه جواب آخر نقضي كما توهّمه بعضهم ، بدعوى : أنّه نقض بصورة الوجوب لو تركها عصيانا ، إذ لو عصى بتركها فإمّا أن يكون الوجوب باقيا فيلزم التكليف بما لا يطاق ، أو مرتفعا فيلزم خروج الواجب عن الوجوب.

وإنّما يستقيم ذلك النقض ممّن يجعل الجواب على تقدير الاحتمال الثاني من الاحتمالات المذكورة كما هو ظاهر الاستدلال على ما عرفت آنفا ، ولكن ذلك حينئذ من جهة أنّه على هذا التقدير يصير جوابا ثانيا فيبقى الجواب الأوّل وهو منع لزوم التكليف بما لا يطاق بمجرّد ترك المقدّمة محلاّ للمناقشة ، لأنّ لزوم ذلك في بعض الصور ممّا لا مجال لإنكاره كما يتّفق ذلك في ترك الخروج مع القافلة الأخيرة بالنسبة إلى الحجّ.

وربّما يقال في توجيه العبارة المسوقة لبيان منع الملازمة : « بأنّ المقدور لا يخرج عن المقدوريّة الأصليّة بسبب ترك اختياري ، وإن عرض له الامتناع بالغير بسبب اختياره ، فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، كما يقال : إنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والكلام إنّما هو فيما هو مقدور بالنظر إلى ذات المكلّف والزمان والمكان وسائر الامور الخارجة سواء أراده المكلّف واختاره أو لا ، فكيف يصير ممتنعا امتناعا مانعا عن تعلّق التكليف بمجرّد إرادته واختياره ، كيف ولو كان كذلك لم يتحقّق عاص بترك الواجبات مثلا ، إذ الفعل ممتنع عنه بالنظر إلى إرادته واختياره عدمه » انتهى.

وأنت خبير ببعد هذا المعنى عن العبارة كمال البعد ، وإنّما يلائم ذلك لو اريد الجواب بمنع بطلان اللازم ، فلذا ترى جماعة أنّهم استشهدوا بالقضيّة المذكورة المشهورة عند منع بطلان اللازم بعد تسليم الملازمة ، فقالوا : « بأنّ التكليف بما لا يطاق إنّما يقبح على الحكيم إذا لم يكن الامتناع ناشئا عن اختيار المكلّف ، وأمّا معه فلا قبح فيه ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

ويشكل ذلك : بأنّ امتناع التكليف بالممتنع إنّما هو من جهة أمر راجع إلى المكلّف

ص: 523

الحكيم وهو القبح العقلي الغير الجائز عليه لدلالة الأدلّة القاطعة من العقل والنقل عليه على ما هو من مقتضى القواعد العدليّة الخارجة في ردّ الأشاعرة القائلة بجواز التكليف بالممتنع.

فإنّ أدلّتهم الناهضة على ذلك عامّة تشمل كلاّ من الامتناع الذاتي والامتناع العرضي الناشئ عن اختيار المكلّف أو غيره ، كما لا يخفى على من لاحظ وتأمّل فيها جيّدا.

وإن شئت حقيقة ذلك فلاحظ العقلاء في ذمّهم من يخاطب المشلول ويأمره بالقيام أو المشي فيضربه لأجل عدم امتثاله ، فإنّهم لا يزالون يذمّونه على كلّ من الخطاب والضرب ، ولا يتأمّلون في توبيخه حتّى يستفصلوا عن سبب صيرورته مشلولا فيتركوه على شأنه إن كان ذلك بسبب من قبله اختيارا ، وإلاّ فبادروا على ذمّه وتوبيخه إن كان بسبب من اللّه أو من غيره اضطرارا ، بل يبادرون ابتداء على ذمّه ورميه بالسفاهة وقلّة العقل من غير استفصال.

فلذلك ترى بعض المحقّقين (1) حيث التزم في توجيه عبارة المصنّف بما ذكر مستشهدا بالقضيّة المذكورة - حسبما تقدّم كلامه - تنبّه على ذلك في قوله : « لا يقال : بعد تحقّق الامتناع عليه بأيّ جهة كانت يقبح على الحكيم طلب حصول الفعل وإيجاده منه » فأشكل عليه الأمر ولكنّه تفصّى عنه بما لا يكاد ينضبط حيث قال : « بأنّ أوامر الشارع للمكلّفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكّام الذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه عبثا وسفها ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض بأنّ اللائق بحاله كذا ، وإن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل خلافه كان أثره خلافه ، وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ أن يقال : إنّه فات عنه ما هو اللائق بحاله ويترتّب على ذلك الفوت فوت الأثر الّذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا حينئذ إلاّ هذا » انتهى. ولا يخفى ما فيه من الوهن.

أمّا أوّلا : فلبطلان قياس أوامر الشارع على أوامر الطبيب ، لما هو المحقّق في محلّه من أنّ أوامره ليست من باب أوامر الطبيب لتكون إرشاديّة صرفة وبيانا لمصلحة المأمور وخاصيّة المأمور به الّتي هي مصلحة للمأمور ولا من باب أوامر الملوك والموالي بالنسبة إلى خدّامهم وعبيدهم لتكون مولويّة صرفة وطلبا لتحصيل المصلحة العائدة إليهم خاصّة دون المأمورين ، بل هي مشتملة على كلّ من تلك الجهتين معا ، وعلى ذلك فلا وجه

ص: 524


1- سلطان العلماء.

لدعوى كون غرض الشارع من الأمر بذي المقدّمة بيانا لفوات خاصيّة المأمور به عن المأمور غير مقصود به حصول الفعل نظرا إلى امتناعه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ كون غرض الشارع من الأمر بذي المقدّمة بيان خاصيّة المأمور به الفائتة عن المكلّف إن كان مع الطلب والإرادة الحتميّين فهو كرّ على ما فرّ.

وإن كان بلا طلب وإرادة بأن يكون لمجرّد الإخبار بتلك الخاصيّة فهو خروج عن موضع البحث ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو على تقدير بقاء وجوب ذي المقدّمة على تقدير ترك المقدّمة الّذي لا يراد منه إلاّ الطلب الحتمي الإلزامي ، وإلاّ فينقلب المقدّمة الاولى المذكورة في تقرير الاستدلال بالمقدّمة الثانية وهي خروج الواجب عن وجوبه ، ضرورة أنّ مفاد أمر الطبيب ليس هو الواجب المصطلح الّذي يستحقّ العقاب بمخالفته ، والكلام إنّما هو في ذلك دون غيره.

وأمّا التمسّك على جواز التكليف بالممتنع العرضي الناشئ امتناعه عن اختيار المكلّف بالقضيّة المتقدّمة ، فمبنيّ إمّا على كون المراد بثاني الاختيارين كون الفعل اختياريّا في ثاني حال الامتناع أو كونه في حكم الاختياري في تعلّق الخطاب به وترتّب العقاب على مخالفته ، والأوّل بإطلاقه غير صحيح لما سنقرّره والثاني أيضا غير سديد لما عرفت.

وربّما يعترض عليه أيضا : بأنّ ذلك مبنيّ على توهّم كون المراد بالاختيار الثاني هو الاختيار في ثاني زمان الامتناع ، بمعنى كونه مختارا في الفعل فعلا بعد ما صار ممتنعا ، فحينئذ يجوز التكليف به فعلا لأنّه تكليف بالفعل الّذي فاعله مختار فيه وإن كان هو بنفسه ممتنعا.

وهو كما ترى توهّم فاسد واشتباه فاحش ناش عن عدم التدبّر في فهم تلك القضيّة وعدم فهم المراد منها ، فإنّها قضيّة كلاميّة ذكرها علماء الكلام قبالا للجبر الّذي صار إليه الأشاعرة - بدعوى : أنّ العباد مجبورون في أفعالهم غير مختارين ، لأنّ المختار كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك ، فالعبد إذا أراد ترك فعل من أفعاله إرادة جزميّة فهو بعد الترك لا يقدر على فعله فكيف يقال بأنّه بحيث إن شاء فعل ، فيكون مختارا - لتكون ردّا عليهم في ذلك المذهب الفاسد والاعتقاد الكاسد.

ومحصّل مرادهم بها : أنّ الامتناع صفة للفعل والاختيار صفة للفاعل ، ومعنى ذلك أنّ صيرورة الفعل ممتنعا بسبب اختيار المكلّف امتناعه باعتبار إرادته لتركه لا ينافي اختياره فيه وكونه مختارا بالنسبة إليه في آن اختيار الترك وحصول الامتناع ، من جهة أنّه إنّما امتنع لأجل تركه الاختياري.

ص: 525

وهذا بعينه نظير ما يقولون في القضيّة الاخرى من أنّ الوجوب بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ردّا على الأشاعرة أيضا القائلة بالجبر ، لأنّ العبد إذا أراد إيجاد فعل بإرادة جزميّة يوجده ويصير ذلك الفعل واجبا عليه غير ممكن تركه فكيف يقال : إنّه مختار بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك ، وإنّما راموا بذلك أنّ وجوب الفعل حينئذ مسبّب عن اختيار الفاعل وإرادته الاختياريّة ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بمعنى أنّه حين صيّره واجبا كان مختارا في فعله وتركه ، فإذا اختار الفعل صار واجبا فهو لا ينافي كونه مختارا بل يؤكّده ويحقّقه ، وكذا الحال في صورة الامتناع فإنّه لكونه ناشئا عن الاختيار لا ينافيه بل يؤكّده ويحقّقه.

وممّا يشهد بأنّ ذلك هو المراد من القضيّة لا الاختيار بعد الامتناع إطلاقهم إيّاها في حقّ الكافر في ردّ من أنكر كونه مكلّفا بالفروع ، تعليلا بعدم تمكّنه في حال الكفر منها وامتناعها عليه حينئذ ، ضرورة أنّه ليس المراد بالاختيار الثاني هنا هو الاختيار في ثاني زمان الامتناع لعدم صيرورته بالنسبة إلى ذلك ممتنعا ، بل المراد به الاختيار حين الامتناع بمعنى أنّ ما امتنع عليه من العمل الصحيح كان مقدورا له باعتبار قدرته على إزالة الكفر ، فهو من جهة اختياره ترك الإزالة صيّره غير مقدور في حقّه.

فالحاصل الامتناع بالاختيار بالمعنى الّذي فهمه المشهور ينافي الاختيار ، ومعه يقبح التكليف لكونه تكليفا بالممتنع.

فمن هنا ظهر فساد القول بعدم المنافاة مطلقا ، كما يظهر فساد القول بالتفصيل فيما بين الخطاب والعقاب فينافي على الأوّل دون الثاني ، لأنّه إذا كان الخطاب بغير المقدور محالا فالعقاب عليه أيضا قبيح ، كما يشهد به المثال العرفي المتضمّن لذمّ العقلاء آمر المشلول بالقيام وضاربه ، مع أنّ العقاب فرع الخطاب والمفروض انتفاؤه فكذلك العقاب.

نعم لو اريد بالعقاب ما يترتّب على التكليف السابق الّذي سقط عنه لأجل الامتناع فلا ضير فيه ، وأمّا العقاب على ما بعد الامتناع الّذي لا تكليف بالنسبة إليه أصلا فمحال ، إلاّ أن يراد به العقاب المترتّب على تفويت التكاليف عن نفسه ، ولكنّه ليس من العقاب على ما لا خطاب فيه أصلا بل هو أيضا عقاب على ما تعلّق به الخطاب سابقا على التفويت ، وهو تكليفه بأن لا يفوّت التكاليف الآتية عن نفسه عقلا والمفروض تفويته فصار معاقبا.

وأمّا التفصيل الآخر في القضيّة فيما بين بقاء الاختيار وسلبه فلا منافاة على الأوّل خاصّة ، ففاسد أيضا لأنّ عدم المنافاة في الصورة الاولى لو اريد به عدمها في حال امتناع

ص: 526

الفعل فلا شكّ في أنّه ينافي الاختيار ، لعدم اختياره على الفعل في تلك الحالة كامتناع العبادة الصحيحة من الكافر في حال الكفر ، وإن اريد به عدمها بالنسبة إلى ما بعد حال الامتناع فالسالبة بانتفاء الموضوع لعدم صيرورته ممتنعا حينئذ. انتهى.

تحقيق القول في الامتناع بالاختيار

وأنت خبير بضعف هذه الكلمات من البداية إلى النهاية ، ومنع إطلاق القول بالمنافاة لما ستعرفه ، ومنع منافاة كون القضيّة كلاميّة واردة في ردّ الأشاعرة القائلة بالجبر ، لكون المراد بالاختيار الثاني هو الاختيار فيما بعد الامتناع نظرا إلى أنّه امتناع نشأ عن إرادة الترك ، وهو مع ذلك فعل اختياري لقدرته على صرف الإرادة عن الترك إلى الفعل ، فلكون صرف الإرادة اختياريّا يكون الفعل في ثاني زمان الامتناع أيضا اختياريّا.

هذا كلّه كلام في القضيّة المذكورة بالنسبة إلى الاستدلال المتقدّم ودفعه.

وقد عرفت ممّا ذكر إجمالا أنّ الأقوال فيها أربع ، ولمّا صارت من مزالّ الأقدام حيث اختلفت فيها آراء الأعلام فلا بأس بأن نشير إلى ما يجري فيها من المعاني المحتملة.

ثمّ النظر إلى ما ينطبق عليه الأقوال المذكورة من تلك المعاني ، ثمّ صرف الهمّة إلى تحقيق القول في حكمها على حسبما يساعده النظر.

فنقول : لا ريب أنّ الامتناع وصف للفعل ككون أوّل الاختيارين وصفا للفاعل ، وأمّا ثانيهما فيجوز كونه وصفا للفاعل أيضا على معنى كونه مختارا في ذلك الفعل ، كما يجوز كونه وصفا للفعل على معنى كونه فعلا اختياريّا والفرق بينهما بعد وحدة المعنى لفظي.

وعلى التقديرين فإمّا أن يراد به الاختيار بعنوان الحقيقة مطلقا ، فيكون المعنى : أنّ امتناع الفعل باختيار الفاعل لا ينافي كونه اختياريّا حقيقة ، فهو بعد الامتناع أيضا اختياري بعنوان الحقيقة مطلقا ، أو يراد به الاختيار بعنوان الحقيقة بالذات لئلاّ ينافيه الامتناع بالعرض ، فيكون المعنى : أنّ صيرورة الفعل ممتنعا لعارض الاختيار لا تنافي كونه اختياريّا لذاته.

والفرق بين المعنيين يظهر بأدنى تأمّل (1).

أو يراد به الاختيار بعنوان المجاز على معنى الاختيار الحكمي وهو كون الفعل بحيث يترتّب عليه خواصّ الاختيار ، من تعلّق الخطاب به وتحقّق استحقاق العقاب بالنسبة إليه

ص: 527


1- فإنّ الأوّل لا يصحّ فرضه إلاّ بالقياس إلى ثاني زمان الامتناع لئلاّ يلزم اجتماع النقيضين ، كما أنّ الثاني لا يمكن فرضه إلاّ بالنسبة إلى حال الامتناع لئلاّ يلزم خلاف الفرض ، لعدم عروض الامتناع لما بعد تلك الحال بعد والمقصود من المعنى كون الفعل بحيث يتّصف بالاختيار والامتناع في آن واحد باعتبار اختلاف الجهتين. ( منه عفي عنه ).

وإن لم يكن فعلا اختياريّا فعلا اختياريّا بعنوان الحقيقة.

فالّذي يزعم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بقول مطلق إن كان ممّن تمسّك به لمنع الملازمة في الدليل المتقدّم أو غيره من موارد الامتناع الاختياري الّتي يمنع فيها التكليف بما لا يطاق موضوعا لا يناسبه إلاّ إرادة المعنى الأوّل ، كما هو مرادنا فيما سيأتي من إطلاق القول بالقضيّة بالنسبة إليه من الصور الآتية ، أو إرادة المعنى الثاني - كما فهمه المحقّق السابق ذكره في عبارته الّتي حكيناها آنفا ، وإن كان ممّن تمسّك به لمنع بطلان اللازم في الدليل المذكور كما في كلام الأكثر - فلا يلائمه إلاّ المعنى الأخير.

كما أنّ الذاهب إلى المنافاة بقول مطلق ليس نظره إلاّ إلى هذا المعنى على ما يشهد به تعليله في تلك الدعوى ، كما أنّ أوّل القولين المفصّلين لا يرتبط إلاّ بهذا المعنى ، وأمّا ثانيهما فهو من حيث الشرط فرض لكلّ من المعنيين الأوّل والثالث ومن حيث المشروط مصيرا إلى كلّ من القولين في الجملة الأوّل والثاني.

ثمّ إنّ الامتناع الناشئ عن الاختيار إمّا أن يكون مسبّبا عن اختيار العدم ، أو اختيار سبب العدم بإعدام مقدّمة الوجود ، أو ايجاد مانعه ، أو عدم الإتيان بمقدّمته ، وعلى جميع التقادير فإمّا أن يكون الامتناع مقدورا على رفعه أو لا ، فهذه ثمانية صور.

وإن شئت تصويرها جيّدا فلاحظ الأمثلة من إرادة ترك المأمور به الموسّع وتركه الموجب لامتناع حصوله ما دامت الإرادة باقية ، وتعمّد الإفطار في نهار رمضان من غير عذر ، ونقض طهارته الحدثيّة الموجبة لامتناع المشروط بها مع تمكّنه من تحصيلها ثانيا ، وقطع اليدين وغيرهما من أعضاء الوضوء الموجب لامتناع حصوله ، وإحداث الجنابة الموجب لامتناع حصول المشروط بالطهارة ما دامت الجنابة باقية في غير الصيام لنهار رمضان ، ومنه اختيار الكفر على الإيمان الموجب لعدم صحّة الفروع ما دام الكفر باقيا في غير المرتدّ الفطري ، وإحداث الجنابة في نهار الصيام مقارنا لطلوع الفجر أو قبله بلا فاصلة زمان.

ومنه الكفر في المرتدّ عن فطرة ، وعدم الخروج مع القافلة الاولى في سفر الحجّ ، فإنّه يوجب الامتناع ما دام باقيا على تلك الحال إلى زمان خروج القافلة الاخرى ، ومنه ترك السعي في تحصيل الماء عند وجوب الوضوء مع تمكّنه منه ما دام الوقت باقيا ، كما أنّ منه ترك الجاهل بالعبادات السعي في تحصيل العلم مع علمه الإجمالي أو لا معه أيضا مع تقصيره ، وترك الخروج مع القافلة الأخيرة في سفر الحجّ ، فإنّه يوجب الامتناع الغير المقدور

ص: 528

على رفعه ، ومنه عدم الإتيان بالغسل للجنابة الحاصلة ليلا في ليلة الصيام حتّى مطلع الفجر.

في تكليف الكفّار بالفروع وعدمه

وأمّا أحكام تلك الصور فالامتناع في بعضها لا ينافي الاختيار في الفعل فلا ينافيه توجّه الخطاب وترتّب العقاب ، وفي بعضها ينافيه في الجميع بالنسبة إلى ما بعد الامتناع ، وأمّا العقاب على ما قبله فلا ينافيه على تقدير وينافيه على آخر.

والضابط : أنّ الامتناع إن كان مقدورا على رفعه فلا ينافي الاختيار في الفعل ، لأنّ القدرة على رفع الامتناع الحاصل قدرة على الفعل ، فيترتّب عليه لوازم الاختيار من تعلّق الخطاب واستحقاق العقاب ونحوه.

وإن لم يكن مقدورا على رفعه فينافي الاختيار في الفعل بالنظر إلى ما بعد الامتناع ، ولازمه عدم تعلّق الخطاب لامتناع التكليف بالممتنع ولو كان امتناعه عرضيّا ناشئا عن الاختيار ، الموجب لاشتراطه بالقدرة حدوثا وبقاءا ، ولا ترتّب العقاب لقبحه عقلا مضافا إلى كونه فرعا للخطاب.

وأمّا قبله فصحّة العقاب تدور على سبق دخول الوقت أو تعلّق التكليف قبل مجيء الوقت وجودا وعدما.

فعلى الأوّل يصحّ ذلك لأنّه فرع الخطاب وهو سابق على الامتناع ، وهو لاحق بالقدرة.

وعلى الثاني يقبح ذلك إذ لا عصيان حيث لا خطاب.

نعم لا نضائق استحقاق العقاب على تفويت القدرة ولوازمها وسلب الاختيار وفروعه ، والّذي أطلق في القول بالمنافاة أو عدمها أو فصّل بأحد ما تقدّم من الوجهين إن كان نظره في كلّ منهما إلى ما ذكرناه فمرحبا بالوفاق ، فيلزم أن يكون النزاع لفظيّا وإلاّ فكلامه واه فاسد مردود عليه لكونه مخالفا للقواعد المتقنة. هذا كلّه في كبرى القضيّة.

وبقي الكلام في بعض صغرياتها بالنظر إلى الصور المتقدّمة.

فمن جملة ذلك : الفروع من الكافر في حال الكفر فهل هي ممتنعة عليه أو لا؟ ويظهر الثمرة في تكليفه بها فإنّه ممّا اختلف فيه كلمتهم ، والمحكيّ عن أصحابنا اتّفاقهم على ذلك والخلاف منسوب إلى بعض أهل الخلاف.

قال في المنية : « اتّفق أصحابنا وأكثر المعتزلة والأشاعرة على أنّ الكفّار مأمورون بفروع الشريعة كالصلاة والزكاة والحجّ ، كما أنّهم مأمورون بالإيمان وخالف في ذلك جمهور الحنفيّة وأبو حامد الإسفرائني من فقهاء الشافعيّة ومن الناس من يقول بتناول النهي

ص: 529

لهم دون الأمر » انتهى.

فتبيّن أنّ أقوالهم في ذلك ثلاث ، وظاهر أنّ شبهة المنكر لابدّ وأن تكون ناشئة من توهّم فقد المقتضي أو زعم وجود مانع عقلي أو شرعي بحيث أوجب تخصيصا في عمومات المقتضي على تقديره ، أو تقييدا في مطلقاته ، أو تأويلا في نصوصه على حسبما يساعد عليه أدلّتهم الآتية.

والّذي يظهر من أكثر العناوين بل هو صريح جماعة من العامّة وبعض الأعاظم ، أنّ هذه المسألة وإن كانت مفروضة في تكليف الكفّار بفروع الإسلام إلاّ أنّها أعمّ موضوعا من ذلك ، لبنائها على أنّ الشروط المعتبرة في الصحّة شرعا الّتي منها الإسلام هل هي شروط في التكليف فبدونها لا تكليف حتّى الطهارة بالقياس إلى الصلاة ، أو شروط في صحّة الفعل خاصّة وإن ثبت التكليف بدونها؟

وقد يقال : إنّ ذلك بالنسبة إلى تكليف الكفّار اختلاف لا ثمرة له في أحكام الدنيا للاتفاق على أنّهم ما دام الكفر يمتنع منهم الإقدام على الصلاة وإذا أسلموا لم يجب عليهم قضاؤها.

بل يظهر ثمرته في الآخرة وهي أنّهم يعذّبون على ترك هذه الفروع كما يعذّبون على ترك الإيمان أو لا؟

ثمّ إنّ الّذي يظهر عن بعضهم أنّ معنى كونهم مكلّفين بالفروع أنّهم يخاطبون بها كما يخاطب المؤمنون فيعاقبون على المخالفة.

ويظهر من غير واحد من العامّة أنّ معنى ذلك : أنّهم يعاقبون عقاب المخاطب وإن لم يكونوا مخاطبين ، والأوّل أسدّ وأنسب بالأدلّة المقامة من الطرفين لقضاء الجميع بتعلّق الخطاب على طريق المطابقة أو الالتزام كما يظهر بأدنى تأمّل فيها ، مضافا إلى أنّ العقاب فرع المعصية وهي تابعة للخطاب فلا ينبغي لعاقل تجويز تحقّق الفرع بدون تعلّق الأصل أو تخيّل تعلّق التابع من دون تحقّق المتبوع.

ثمّ إنّ محصّل النزاع بالنظر إلى الصور المتقدّمة في الامتناع بالاختيار يرجع إلى أنّ الكفّار بعد اختيار عدم الإيمان الموجب لامتناع الفروع منهم صحيحة قادرون على إزالة الكفر حتّى يكون الإيمان من شرائط الصحّة المحضة ، أو غير قادرين عليها حتّى يكون من شرائط التكليف؟

فعلى الأوّل يتعيّن تكليفهم كما أنّه على الثاني يتعيّن عدمه إلاّ على مذهب من يجوّز التكليف بالمحال كالأشاعرة ، وكأنّهم يخالفون أصحابنا في المسألة من هذه الجهة ، فإنّ

ص: 530

أصحابنا على ثبوت التكليف لبقاء القدرة وهم يقولون به مع عدم بقائها ، بل هو مبنى كلامهم حيث نراهم في البحث عن أحكام التكليف يجوّزون التكليف بغير المقدور معلّلين بوجوه ، منها تكليف الكفّار بالفروع الثابت بالإجماع ، وأيضا قد أسلفنا في مباحث الأمر عند الكلام في مغايرة الطلب للإرادة عنهم ما يكفيك شاهدا بذلك ، فارجع ولا حظ.

وإذا تمهّد هذا كلّه فالّذي نراه الآن حقّا هو مذهب أصحابنا المدّعى عليه الإجماع متكرّرا ، وإن كنّا قدّمنا في المباحث المتقدّمة ما يقضي بخلافه ، إلاّ أنّه ما ترجّح عندنا ثمّة بحسب بادئ النظر.

والّذي نختاره هنا مبنيّ على العدول ، لظهور بطلان المعدول عنه على حسب دقّة النظر.

ولنا على ذلك ، أوّلا : الأصل المتقدّم تقريره في مباحث الواجب المطلق والمقيّد عند البحث عن دوران الأمر بين تقييد الوجوب أو تقييد الواجب ، غير أنّه مخصوص بما ثبت وجوبه باللفظ على ما قدّمنا تفصيل القول فيه ، فمن أطلق في التمسّك به - كبعض الأعاظم - إن أراد به هذا المعنى فلا بحث ، وإلاّ يردّه : أنّ الأصل فيما ثبت باللبّ قاض بخلاف المطلوب ، فإنّ مرجع الدوران حينئذ إلى ثبوت التكليف بدون الإيمان وعدمه ، وهو من مجاري أصالة البراءة ومقتضاها كونه شرطا للتكليف لا للمكلّف به.

وثانيا : وجود المقتضي وفقد المانع فوجب المصير إليه ، أمّا الثاني فلعدم صلاحيّة ما توهّمه الخصم مانعا للمنع على ما نقرّره.

وأمّا الأوّل : فمنه ما يقتضي الحكم لكون الكافر أحد أفراد موضوعه ، ومنه ما يقتضيه لكونه موردا له بالخصوص.

أمّا الأوّل : فقوله عزّ من قائل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (1) ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (2) و ( وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) (3)

والمناقشة في الأولى : باحتمال كون « العبادة » المأمور بها عبارة عن الإيمان ، لصدقها عليه من جهة كونها مأخوذة من التعبّد وهو التذلّل والخضوع الموجودين فيه ، وفي الأخيرين بعدم بقائهما في عمومهما لخروج العبد والصبيّ المتمكّنين من الحجّ ومن لم يتحقّق فيه شرائط الزكاة عنهما ، فلا يبقى فيهما حجّة على المطلوب. يدفعها : أنّ الاحتمال

ص: 531


1- البقرة : 21.
2- آل عمران : 97.
3- فصلّت : 6 ، 7.

في الأدلّة اللفظيّة غير قادح ، والأصل حمل « العبادة » على ما يعمّ الإيمان وفروعه ، أو على ما يخصّ الفروع على ما هو المتبادر منها في عرف المتشرّعة كما يظهر بأدنى تأمّل في إطلاقاتها بجميع ما يشتقّ منها من الصيغ المعهودة على ما هو الأصل في الحقائق الشرعيّة ، بناء على ثبوتها كما هو الحقّ حتّى في تلك اللفظة كما هو الظاهر.

ولو سلّم فالتذلّل والخضوع إذا كانا جهتين جامعتين بين الإيمان وفروعه وهما الموضوع لهما فأيّ شيء يدعو إلى توهّم الاختصاص ، فهل هو تخصيص بلا دليل أو تقييد بلا شاهد؟ مع ظهورها عرفا في غير الإيمان وإن كان إطلاقيّا من جهة الانصراف ونحوه.

وأقصى ما في خروج من ذكر من الآيتين ورود تخصيص عليهما وهو لا يوجب القدح فيهما بالقياس إلى الباقي ، لظهور حجّية العامّ المخصّص - على ما يأتي تحقيقه في محلّه - كيف ولو بنى على ما ذكر يلزم سقوط التمسّك بهما حتّى في حقّ غير الكفّار ، وهو كما ترى مخالف للإجماع والضرورة.

وأمّا الثاني : فقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) وما فيها من الاختصاص من وجهين لا يوجب القدح في تمام المدّعى بعد ما انضمّ إليها الإجماع المركّب مع القول بعدم الفصل ، ولا يضرّ كونها في شأن أهل الكتاب لأنّه على تقدير كونها في مقام الحكاية عنهم في دينهم وهو في حيّز المنع.

ولو سلّم فقوله : « وذلك دين القيّمة » إشارة إلى جميع ما تقدّم ، فيكون الجميع هو الإسلام المأمور به نصّا وفتوى وضرورة من الدين والمذهب لقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ ) (2).

واستدلّ أيضا : بأنّه لولا الفروع واجبة عليهم لما عاقبهم اللّه تعالى على تركها والتالي باطل وكذا المقدّم.

وبيان الشرطيّة : أنّه لا معنى للواجب إلاّ ما يعاقب أو يذمّ على تركه.

وأمّا بطلان التالي : فلقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (3) وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ ) (4) وقوله تعالى : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ

ص: 532


1- البيّنة : 5.
2- آل عمران : 19.
3- المدّثّر : 42 - 46.
4- الفرقان : 68 ، 69.

وَتَوَلَّى ) (1) فإنّهم علّلوا كونهم في سقر - في الآية الاولى - بالأشياء المذكورة الّتي من جملتها ترك الصلاة وإطعام المسكين الّذي لا يراد منه هنا إلاّ الزكاة إذ لا واجب سواها.

وأنّه تعالى في الآية الثانية جعل العذاب المضاعف جزاء لهم على الأفعال المذكورة فيها الّتي من جملتها قتل النفس والزنا.

وأنّه تعالى في الآية الثالثة ذمّة على ترك الجميع ومن جملته الصدقة والصلاة فيكون مذموما على تركهما.

واعترض على الأولى أوّلا : بأنّه حكاية حال عن قول الكفّار وليس بحجّة لجواز كذبهم في ذلك القول ، كما ثبت في قوله تعالى حكاية عنهم ( ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (2) ( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) (3) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً ) (4) ( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (5).

وثانيا : بجواز كون المراد من « المصلّين » المسلمين ، نظرا إلى أنّه قد يطلق المصلّي على المسلم كما جاء في الحديث : « نهيت عن قتل المصلّين أي المسلمين ».

وثالثا : بأنّهم علّلوا بالجميع الّذي من جملته تكذيبهم بيوم الدين ، ولا يلزم من كون الجميع علّة كون كلّ واحد من أفراده علّة.

وعلى الثانية أوّلا : بمنع رجوع « اللام » إلى الجميع بل إلى الشرك وحده ، نظرا إلى أنّ « ذلك » إنّما يشار به إلى البعيد فيكون كناية عن الأوّل دون المجموع.

وثانيا : بمنع الملازمة بين علّيّة الجميع وعلّيّة كلّ واحد من أفراده.

وعلى الثالثة : بمنع الملازمة أيضا كما تقدّم. وفي المنية : والظاهر أنّ اللّه تعالى أخبر عنه بنفي الإيمان ظاهرا وباطنا فعبّر عن الأوّل بقوله : « فلا صدّق » وعن الثاني بقوله : « ولا صلّى » وأخبر عن كفره باطنا وظاهرا وعبّر عن الأوّل بقوله : « ولكن كذّب » وعن الثاني « وتولّى ».

وأنت خبير بأنّه لا وقع لشيء من هذه الاعتراضات ، فإنّ احتمال الكذب منفيّ بالقطع بمطابقة قولهم لما هو في نفس الأمر ، لوضوح أنّهم ما كانوا يصلّون ولا يطعمون المسكين ، واحتمال إرادة المسلم من المصلّي لا يعارض الظاهر وأنّ الحجّة هو الظاهر ، مع منع كون المراد بالمصلّين في الحديث المسلمين بل هو إعطاء للحكم ببيّنة وبرهان ، نظرا إلى أنّ

ص: 533


1- القيامة : 31 ، 32.
2- الأنعام : 23.
3- النحل : 28.
4- المجادلة : 18.
5- المجادلة : 18.

التعليق على المشتقّ ممّا يشعر بعلّيّة مأخذ الاشتقاق ، فإنّ الصلاة من فوائدها محقونيّة الدم ، نعم هي ملزومة للإسلام ولا يلزم منه كونه مرادا من اللفظ.

ولولا كلّ واحد له مدخليّة في العلّيّة لما كان لذكره فائدة ولا يترتّب على ضمّه إلى العلّة أثر ، بل كان من باب الحجر الموضوع على جنب الإنسان ، للجزم بكفاية التكذيب بيوم الدين في العلّيّة وترتّب العقاب عليه خاصّة ، فيجب أن يكون لما عدا ذلك خاصيّة اخرى غير ما يترتّب عليه.

وكون « ذلك » ممّا يشار به إلى البعيد إنّما يثمر في الامور الخارجيّة ، وأمّا المذكورة في العبارة فجميعها في حكم الواحد بحكم العرف فلا يعتبر فيها قرب ولا بعد ، مضافا إلى أنّ دعوى الاختصاص ينافيها قوله : « يضاعف له العذاب » إذ لولا انضمام قتل النفس والزنا إلى الشرك في العلّيّة والتأثير لما كان العذاب مضاعفا كما لا يخفى ، ومنع الملازمة بين علّية الجميع وعلّية كلّ واحد قد ظهر فساده.

ومن هنا يظهر فساد ذلك المنع في الأخيرة من الآيات.

نعم ربما يرد على الآية الاولى ما قدّمنا ذكره في البحث عن صيغة الأمر ، وهو أنّ السؤال إنّما وقع على المجرمين وهم المذنبين ، والذنب أعمّ ممّا يرجع إلى مخالفة الاصول أو مخالفة الفروع ، فلم لا يجوز كونهم فرقا مختلفة بأن يكون منهم من عصى في مخالفة الاصول ، ومنهم من عصى في مخالفة الفروع ، فيرجع ما عدا الفقرة الأخيرة أو هي وما قبلها جوابا من الفرقة الثانية ولا يلزمهم الكفر ، كما أنّها أو هي وما قبلها ترجع جوابا من الفرقة الاولى ولا يلزمهم التكليف بالفروع.

وقضيّة ذلك عدم نهوض الآية دليلا على المطلوب.

وعلى الثانية : أنّ أقصى ما هي دالّة عليه كون كلّ واحد من الامور المذكورة علّة مستقلّة لترتّب العقوبة والعذاب ، ولا يلزم من ذلك اعتبار الاجتماع جزما فيجوز أن يكون كلّ واحد شأنا لواحد ، فأوجب العقوبة في صاحبه ولا يلزم منه اعتبار الكلّ في واحد حتّى يترتّب عليه كون المشرك مع استحقاقه العقوبة لشركه مستحقّا لها لقتله النفس وإقدامه على الزنا كما لا يخفى.

ولا ينافيه قوله : « يضاعف له العذاب » لأنّه بيان لشدّة مبغوضيّة كلّ واحد من تلك الامور في نظره تعالى بالقياس إلى سائر المعاصي ، فيترتّب لذلك على كلّ واحد ضعف ما

ص: 534

يترتّب على سائر المعاصي من العذاب والعقوبة وذلك واضح.

وعلى الثالثة : أنّها لا تدلّ على أنّ الكافر بوصفه العنواني كان مكلّفا بالصدقة والصلاة ، بل أقصى ما تدلّ عليه أنّ مرجع الضمائر من يتّصف بهذه الأمور ، فلم لا يجوز أن يكون ممّن سبقه الإيمان فأقدم على ترك الصدقة والصلاة ثمّ صدر منه التكذيب والتولّي ، فالذمّ حينئذ إنّما هو على مخالفة التكليف السابق على صدور الكفر منه لا على التكليف الثابت له في حال الكفر كما يقتضيه الترتيب المعتبر في الآية والاستدراك ب- « لكن » فلم يلزم منه المطلوب.

وممّا يستدلّ به أيضا : أنّ الكفّار يتناولهم النهي عن الفروع ، فوجب أن يتناولهم الأمر.

أمّا الأوّل : فللإجماع على أنّهم يحدّون على الزنا ويقطعون على السرقة ، فلو لا تناول النهي لهم لما كان لذلك وجه.

وأمّا الثاني : فلأنّ تناول النهي لهم إنّما هو ليتمكّنوا عن استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الاحتراز عن المنهيّ عنه وهذا المعنى بعينه حاصل في الأمر ، فإنّهم على تقدير تناول الأمر لهم يتمكّنون من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الإتيان بالمأمور به.

وفيه : ما لا يخفى من منع المقدّمة الاولى ، وثبوت الحدّ والقطع بالنسبة إليهم في السرقة والزنا لعلّه من جهة التسبيب ، كما في إتلافاتهم الموجبة للضمان وتصرّفاتهم الموجبة للتمليك والتملّك ولا يلزم من ذلك تعلّق النهي بهم بحيث يترتّب على مخالفته العقوبة الاخرويّة (1).

مضافا إلى بطلان القياس ومنع المساواة بين المقيس والمقيس عليه ، ولعلّ بين النهي والأمر فرقا أوجب ذلك الفرق في الحكم ، كما زعمه أصحاب القول بالتفصيل وثبوت المساواة بينهما فيما ذكر لا يقضي بالمساواة في سائر الجهات.

واحتجّ النافون لتكليف الكفّار بوجوه :

أوّلها : لو كلّف الكافر لصحّ منه والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

وفيه أوّلا : النقض بالمحدث إذ لو كلّف بالصلاة لصحّت منه ، والتالي باطل فكذا المقدّم.

وثانيا : أنّ الصحّة كما أنّها قد تنتفي بانتفاء الأمر ، فكذلك قد تنتفي بانتفاء ما هو من شرائط المأمور به.

ص: 535


1- إلاّ أن يتشبّث بعدم القول بالفصل بين القضايا الوضعيّة والتكليفيّة ولكنّه غير ثابت كيف ولم يظهر من أصحاب القول ينفي تكليف الكفّار إنكار تعلّق الوضعيّات بهم. ( منه عفي عنه ).

ومفروض المسألة من هذا الباب ، لأنّ الكلام في كون الإيمان من شرائط صحّة الفعل وهو منتف.

وثانيها : أنّه لو كلّف بالعبادات لوجب قضاؤها ، والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم.

والجواب أوّلا : النقض بصلاتي الجمعة والعيدين.

وثانيا : بمنع الملازمة ، فإنّ القضاء - بناءا على التحقيق - إنّما هو بالفرض الجديد فلذا ترى ما فيه من الاختلاف والتخلّف ، فقد يثبت مع عدم ثبوت التكليف كما في صلاة النائم وصوم الحائض ، وقد لا يثبت مع ثبوت التكليف كما في الجمعة والعيدين ، فتأمّل (1).

ولو فرض كونه بالأمر الأوّل أيضا لمنعت الملازمة بقيام الإجماع على سقوطه هنا ، كسقوطه فيما ذكر من المثالين ، فإنّ اللّه تبارك وتعالى من جهة خروجه عن حضيض الكفر بملازمة الإسلام الّذي هو الغاية الأصليّة يسقط عنه كلفة القضاء جريا على رحمته الربّانيّة ورأفته الصمدانيّة.

وثالثها : لو كان الكافر مكلّفا بالفروع فإمّا حال الكفر فيمتنع ، أو بعده فيسقط.

وجوابه : اختيار الشقّ الأوّل ودفع الإشكال أوّلا : بالنقض بتكليف العصاة بالفروع مع امتناعها في حال المعصية ، وتكليف المحدث بالجنابة ونحوها مع امتناعه في حال الحدث ، إذ لا فرق بينه وبين الثاني من حيث إنّ سبب الامتناع في كلّ منهما إنّما هو إيجاد المانع اختيارا ، ولا بينه وبين الأوّل إلاّ في أنّ السبب فيه إيجاد المانع وفي الأوّل البناء على المعصية وترك المأمور به اختيارا ، وقد تقدّم أنّه فرق لا يوجب فرقا في الحكم.

فإن قلت : بأنّ المانع هنا علمه تعالى بأنّه لا يؤمن فيمتنع الفروع لئلاّ ينقلب علمه تعالى جهلا فهو الفارق.

قلنا : إنّه بعينه موجود في العصاة لعلمه تعالى بأنّهم لا يطيعون.

فإن قلت : بأنّ التكليف هنا لو صحّ لكان عبثا وفعلا سفهيّا لعلمه تعالى بعدم الامتثال.

قلنا أوّلا : بالنقض بتكليفه بالإيمان مع علمه تعالى بعدم الامتثال.

وثانيا : بمثله ثمّة بلا فرق.

ص: 536


1- وجهه : أنّ هذا المنع بالنسبة إلى الكافر في مواضع ثبوت القضاء لغيره غير وجيه لكفاية ما ورد فيه من العموم في إثبات القضاء في حقّه ، فإنّكم كما تتمسّكون في إثبات تكليفهم بالأداء بعمومات الأداء فتمسّكوا في إثبات تكليفهم بالقضاء أيضا بعمومات القضاء والفرق تحكّم. ( منه عفي عنه ).

فإن قلت : التكليف ثمّة ابتلائي ، والمقصود به قطع العذر وإتمام الحجّة لصحّة توجيه العقوبة.

قلنا : بمثله هنا ، إذ لا فرق بين التكليف الحقيقي والتكليف الابتلائي ، إلاّ في أنّ المقصود بالأصالة في الأوّل إنّما هو الامتثال وتوجيه العقوبة على تقدير المخالفة مقصود بالتبع وفي الثاني إنّما هو توجيه العقوبة من غير قصد للامتثال لامتناعه من العالم بالعواقب ، والّذي يرى التكليف ثابتا للكفّار يراه بهذا المعنى لامتناع القسم الآخر من العالم بالعواقب في حقّهم.

فإن قلت : فعلى هذا يحصل الفرق بينه وبين المحدث لكون التكليف ثمّة حقيقيّا فبطل النقض.

قلنا : مناط التكليف إنّما هو تعلّق الخطاب وهو موجود في كلا المقامين وما ذكر من الفرق اختلاف بينهما في الغاية المطلوبة من الخطاب وهو لا يوجب فرقا في الحكم الّذي نحن بصدده ، لأنّ الّذي يراه غير ثابت في حقّهم يزعم عدم تعلّق الخطاب بهم لا أنّه ينكر كون المقصود منه الامتثال مع اعترافه بتعلّقه.

وثانيا : بالحلّ بمنع امتناع الفروع بمجرّد الكفر ، لأنّ منشأه إمّا إرادة عدم الإيمان أو علمه تعالى بعدم وقوع الإيمان منه ، وأيّا مّا كان فلا يصلح للمنع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الامتناع إنّما هو ما دامت الإرادة باقية وهي اختياريّة جزما والانصراف عنها إلى إرادة الخلاف مقدور قطعا ، كما في العصاة بالقياس إلى الطاعات ، فيكون الفروع مقدورة إذ المقدور بالواسطة كالمقدور بلا واسطة ضرورة ، كما في المحدث ما دام محدثا.

وأمّا الثاني : فلأنّ العلم تابع للمعلوم تعلّقا ومطابق له كمّا ولا تأثير له في ذلك الامتناع ، بل هو معه من المقارنات الاتّفاقيّة ناشئان عن الاختيار ، فلا ينافيانه بل يؤكّدانه ويحقّقانه ، إذ لو لا وقوع المعلوم لما تعلّق به العلم ولما امتنع العمل الصحيح.

فإن قلت : المقصود استناد استحالة وقوع خلاف الكفر إلى علمه تعالى لئلاّ ينقلب جهلا لا استناد وقوع الكفر إليه ، ومعه يمتنع الفروع امتناعا غير مقدور على إزالته.

قلت : ليس كذلك ، إذ كما أنّ العلم تابع للمعلوم في أصل تعلّقه فكذا مطابق له في جميع جهاته وموافق له في سائر خصوصيّاته ، فإن كان المعلوم أبديّا في وقوعه (1) فكذلك العلم في تعلّقه ، وإن كان المعلوم أحيانيّا فكذلك العلم ، فليس العلم بحيث قد تعلّق به على جهة

ص: 537


1- تحقّقه. ( خ ل ).

الدوام وهو ليس كذلك ، والمحذور يلزم على هذا التقدير ، بل تحقّق الكفر منه ما دام العمر كشف عن تعلّق العلم به كذلك ، ولو تحقّق منه إلى غاية منقضية كشف عن تعلّق العلم به كذلك ، فلا يكون بحيث لو انصرف عن الكفر انقلب العلم جهلا مركّبا ، كيف وعلمه تعالى ليس إلاّ على حدّ علمنا بمعلوماتنا كما أنّه منّا لا مدخل له في تحقّق المعلومات أصلا كذلك علمه تعالى.

نعم بينهما فرق في التقدّم والمقارنة أو التأخّر ولكنّه لا ينافي التبعيّة ، إذ ليس المراد بها ما يلزمه التأخّر ، بل المراد بها أنّه لولا تحقّق المعلوم ولو لاحقا لما تعلّق به العلم ولو سابقا ، نظير علمنا سابقا بما يقع لاحقا.

نعم ربّما يتخيّل في بادئ النظر كون امتناع تكليف الكافر بالفروع من جهة كونه سفهيّا من جهة علمه بعدم الامتثال.

ولكن يدفعه : منع انحصار فائدة التكليف في إرادة الامتثال ، بل ربّما يصحّ التكليف من الحكيم لترتّب فائدة قطع العذر وإتمام الحجّة ، فإنّه ممّا يشهد بجوازه القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء في جميع الأعصار الحديثة والقديمة ، وهذا كلّه هو مرادنا في الاستدلال من دعوى فقد المانع عن التكليف بعد وجود المقتضي.

نعم ربّما يشكل ذلك في المرتدّ الفطري من حيث إنّ الامتناع الناشئ عن اختياره في حقّه غير مقدور على إزالته لعدم مقبوليّة توبته ، فيمتنع حينئذ خطابه وعقابه لمكان القبح العقلي على ما تقدّم تفصيله ، فلا جرم حينئذ لابدّ من نفي التكليف بالفروع عنه كما أنّه لا تكليف له بالإيمان على ما هو مفاد عدم مقبوليّة توبته.

إلاّ أن يقال : بمنع الملازمة بين عدم التكليف وعدم المقبوليّة كما قيل في منع الملازمة بين الصحّة والمقبوليّة ، ولكن لا نضائق عقابه على سدّ باب التكاليف على نفسه وسلب الاختيار عن نفسه باختياره ، فإنّه ممّا لا قبح فيه عقلا ولا عرفا كما عرفت مرارا.

وللقول الثالث : أنّ الامتثال بالمأمور به غير ممكن في حال الكفر لافتقاره إلى النيّة الممتنع حصولها من الكافر بخلاف المنهيّات ، فإنّ الاجتناب عنها ممكن لعدم افتقارها إلى النيّة.

والجواب : إن اريد بالنيّة قصد أصل الفعل أو عنوانه فامتناعها من الكافر واضح المنع.

وإن اريد به قصد الامتثال فإن كان اعتباره لأجل إدراك الثواب فهو غير مختصّ بالأوامر.

وإن كان لأجل توقّف الصحّة فهو في الأوامر غير مطّرد بل الأصل فيها عدم الاعتبار

ص: 538

كما قرّرناه آنفا ، مع أنّ امتناع النيّة منهم لا يزيد على امتناع أصل الفعل فإن صحّ التكليف به صحّ بها وإلاّ فلا ، والمانع ليس من جهتها.

وعن المرتضى رحمه اللّه دفعه : بكونه خرقا للإجماع المركّب لافتراق الناس على القولين الأوّلين فيكون باطلا.

والأكثرون دفعوه : بأنّ هذا الفرق باطل لإمكان الإتيان بالمأمور به إن أريد من امكان اجتناب المنهيّات الاجتناب عنها من غير اعتبار امتثال خطاب الشرع ، وعدم إمكانه في المنهيّات أيضا إن اريد الاجتناب عنها على جهة الامتثال ، وفيه نظر يظهر بأدنى تأمّل.

وثالثها بل رابعها : ما تمسّك به الفاضل الأسترابادي في رسالته - على ما حكي - من أنّ مقدّمة الواجب لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكنّ التالي باطل فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة : فلأنّا نقول : إذا كلّف الشارع بالحجّ مثلا ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فرضا ، فتارك الحجّ بترك قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكّة عند التضيّق أو في زمان ترك الحجّ في موسمه أو لا ، لا سبيل إلى الأوّل لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة والمفروض أنّه غير واجب عليه فلا يكون مرتكبا للقبيح ، فلا يكون مستحقّا للعقاب.

ولا إلى الثاني لأنّ إتيان أفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقّا للعقاب بترك ما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلاّ المقدور وأفعال الحجّ في ذي الحجّة للجالس في البلد النائي عن مكّة غير مقدورة.

ألا يرى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحقّ به التعذيب لكن القبيح أنّه لا يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلاّ على الاستحقاق السابق قطعا.

ثمّ نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أم لا ، لا وجه للثاني لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا فيثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أم حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل لأنّ

ص: 539

استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، ولا وجه للثاني لأنّ السابق على النوم لم يكن إلاّ ترك المقدّمات للفعل مع أنّ المفروض عدم وجوبها.

عود الكلام إلى الأدلّة المزيّفة لإثبات وجوب المقدّمة

إلى أن قال : بقي ها هنا إشكالان آخران :

أحدهما : أنّ هذا الدليل لو تمّ لدلّ على أنّ تارك الحجّ بترك المقدّمات لا يكون معاقبا بترك الحجّ ، بل بترك مقدّماته فلم يكن الحجّ واجبا مطلقا مع أنّ المفروض خلاف ذلك.

وثانيهما : أنّ بطلان التالي ممنوع ، كيف وقد ذهب السيّد المرتضى إلى خلاف ذلك كلّه كما حكى عنه سابقا ، فإثباته يحتاج إلى دليل.

والجواب عن الأوّل ، أنّا نقول : تارك الحجّ بترك الحركة إلى مكّة إنّما يستحقّ العقاب بسبب ما يفضي إلى ترك الحجّ من حيث إنّه يفضي إليه ، لا أنّه يستحقّ بعد الاستحقاق المذكور استحقاقا ثانيا في زمان الحجّ ولم يثبت ذلك ليحتاج بيانه إلى دليل.

وبالجملة كونه واجبا مطلقا يقتضي أن يكون استحقاق العقاب ناشئا من جهة تركه ، سواء كان العلّة في حصوله نفس الترك أم سببه من حيث إنّه يفضي إليه. تدبّر.

وعن الثاني : أنّا نعلم أنّ السيّد إذا قال لعبده : « اسقني الماء » إذا كان الماء على مسافة بعيدة فترك العبد قطع المسافة والسعي كان عاصيا مستحقّا للّوم. انتهى.

وجوابه أوّلا : اختيار الشقّ الأوّل من الفرض الأوّل ، قوله : « لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة ».

قلنا : الإقدام على ترك المقدّمات مع العلم بإفضائه إلى ترك الحجّ في موسمه بناء على تركه في ذلك الموسم فيستحقّ العقاب من ذلك الحين لثبوت التكليف عنده ، وارتفاعه بعده بسبب امتناع الفعل المنافي للاختيار خطابا وعقابا حسبما قرّرناه ، فيكون ذلك هو زمان المعصية حقيقة تنزيلا للترك الحكمي منزلة الحقيقي ، كيف ولولا لارتفع استحقاق العقاب لأنّه فرع المعصية وهي فرع الخطاب وحيث لا خطاب لا معصية والمفروض ارتفاعه بمجرّد طروّ الامتناع ، فإذا كانت الحال في ترتّب الاستحقاق هذه فلا يفترق الحال بين فرض المقدّمة واجبة أو غير واجبة ، إذ المفروض - بناءا على التحقيق السابق - أنّ وجوبها فرضا غير مؤثّر في ذلك الاستحقاق ، كيف ولا يتوهّم عاقل أنّ تركها على تقدير الوجوب يوجب استحقاق العقاب على ترك الواجب من حينه ، وعلى تقدير عدمه لا يوجبه مع كونه

ص: 540

منوطا بتركه لا بتركها كما يعترف به في ذيل كلامه عند تقرير الإشكالين.

وثانيا : أنّ فرض الكلام في النائم لا يكاد يجديه في المقام أصلا ، إذ استحقاق العقاب قد حصل عند ترك الذهاب سواء كان نائما بعد ذلك في زمان الفعل أو لا ، مع أنّ النوم في حدّ نفسه غير مناف لحصول الاستحقاق من حينه الّذي هو زمان الفعل ، وما ذكره من أنّ أفعال النائم لا تتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق إنّما يسلّم إذا استندت الأفعال إلى نومه ليس إلاّ ، وأمّا إذا استندت إلى إرادته الاختياريّة السابقة على النوم فلا ، لكونها اختياريّة على هذا التقدير نظير سائر التوليديّات المستندة إلى الأفعال الاختياريّة المتّصفة بالحسن والقبح لأجل ذلك.

ومحلّ البحث من هذا الباب لكون النوم لاحقا بترك المقدّمات ، وترك الحجّ مستند إليه وهو اختياريّ جدّا.

ثمّ إنّ ما ذكره في دفع الإشكال الأوّل أيضا لا يترتّب عليه إلاّ بقاء مدّعاه غير ثابت بما قرّره من الدليل ، أو بقاء الإشكال غير مندفع ، وذلك لأنّ الإفضاء إلى ترك الحجّ الّذي اعتبره مع ترك المقدمات إمّا أن يكون هو ملاك استحقاق العقاب فهو حدّ مشترك بين تقديري وجوب المقدّمات وعدم وجوبها ، وليس لذلك مزيد اختصاص بالوجوب حتّى يكون منتفيا بفرض عدمه ، بل القائل بنفيه أيضا يقول باستحقاق العقاب على ترك المقدّمات من هذه الجهة ، أو يكون ترك المقدّمات ملاكا في ذلك فيبقى اعتبار الإفضاء معه خاليا عن الفائدة مع بقاء الإشكال بحاله ، وإن كان المجموع من حيث المجموع فهو أيضا لا ينوط بفرض الوجوب في المقدّمات ، لأنّ ذلك إنّما هو من باب العلّيّة وتأثير الإيجاب فيها غير معقول ، ضرورة أنّها من مقتضيات ترك المقدّمات مع وصفها العنواني الثابت لها على كلّ تقدير ، ففرض الوجوب وصف زائد لا يورث عدمه أثرا.

وأمّا ما أفاده عقيب قوله : « وبالجملة » فهو اعتراف منه بضدّ مطلوبه من غير شعور ، لأنّه إذا كان استحقاق العقاب من مقتضيات ترك الواجب سواء كان ناشئا عن اختيار نفس الترك أو اختيار سببه من دون مدخليّة لشيء آخر فيه ، فأيّ شيء يدعو إلى اعتبار الوجوب في مقدّماته ، إذ السببيّة ثابتة لتركها سواء فرضتها واجبة أو لا ، بل الوجوب حينئذ مؤنة زائدة يحتاج إلى دليل ، وما تصدّى بإنهاضه - مع تطويل في تقريره بلا طائل - لا يوجبه ، لأنّ أقصى ما يلزم من ذلك اعترافه ترتّب استحقاق العقاب على ترك المقدّمات وقد أعرض

ص: 541

عنه واعتبره في نفس الواجب ، فيكون مفاد دليله - بناءا على تصحيحه له - وجوب نفس الواجب ونفيه عن مقدّماته ، والأوّل غير مطلوب ولا محتاج إليه والثاني خلاف المطلوب.

وخامسها : ما تمسّك به الفاضل المشار إليه أيضا بقوله : لو لم يجب مقدّمة الواجب المطلق لزم أن لا يستحقّ تارك الفعل العقاب أصلا ، لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة يستدعي تمهيد مقدّمة هي : أنّ الآمر الطالب للشيء في زمان معيّن إذا لاحظ أنّ في ذلك الزمان يتصوّر أحوال مختلفة يمكن وقوع كلّ منها فإمّا أن يريد الإتيان بذلك الشيء في ذلك الزمان على أيّ تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به على بعض التقادير ، وهذه المقدّمة ظاهرة بعد التأمّل التامّ وإن أمكن المناقشة والتشكيك في بادئ النظر ، لأنّه ينتقض بالجزء والكلّ حيث لا يمكن تقييد وجوب الكلّ بوجود الجزء ، ولا تعميم وجوبه بالنسبة إلى حالتي وجود الجزء أو عدمه ، لأنّ مرادنا بالحالات ما كان خارجا عن أحوال المراد مغايرا له.

وإذا تمهّد هذا فنقول : إذا أمر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدّمات ويمكن عدمها ، فإمّا أن يريد الإتيان به على أيّ تقديري الوجود والعدم فيكون في قوّة قولنا : « إن وجد المقدّمة فافعل وإن عدم فافعل » وإمّا أن يريد الإتيان به على تقدير الوجود ، والأوّل محال لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيّدا بحضور المقدّمة فلا يكون تاركه بترك المقدّمة مستحقّا للعقاب لفقدان شرط الوجوب ، والفرض عدم وجوب المقدّمة فانتفى استحقاق العقاب رأسا إلى آخره.

ولا يخفى قصور عبارة الدليل عن إفادة أصل المراد ، مع عدم الإحاطة فيها بجميع الاحتمالات والشقوق الجارية في المقام الّتي لا تقم الملازمة مع بقاء بعضها ، فكأنّ المستدلّ يريد تقرير الدليل بأنّ : الآمر الطالب للشيء إمّا أن يريد به الإتيان بذلك الشيء فقط على تقدير عدم وجود مقدّمته ، أو يريده على تقديري الوجود والعدم ، أو يريده على تقدير الوجود ، أو يريده والإتيان بمقدّمته معا ، لا سبيل إلى الاحتمال الأوّل لأدائه إلى التكليف بما لا يطاق ، ولا إلى الثاني لاشتماله على ما يستلزم التكليف بما لا يطاق باعتبار أحد فرديه ، ولا إلى الثالث لانقلاب الواجب المطلق مقيّدا فيلزم عدم استحقاق العقاب أصلا لا على المقدّمة ولا على ذيها.

وأمّا الأوّل : فلأنّ المفروض عدم وجوب المقدّمة.

ص: 542

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض اشتراط وجوب ذي المقدّمة بوجود المقدّمة ، فمع عدمها لم يكن واجبا حتّى يستحقّ تاركه العقاب ، كما هو الحال في كلّ واجب مشروط.

فتعيّن الرابع وهو المراد بقوله : « فالمقدّم مثله ».

ثمّ أورد على نفسه بقوله : إنّ هذا الوجه لو تمّ لدلّ على انتفاء الواجب المطلق ورجوعه إلى المقيّد ، لأنّ عدم المقدّمة إذا كان من جملة الأحوال الّتي امتنع صدور ذي المقدّمة على تقديرها لم يصحّ تعميم وجوبه بالنسبة إليه ، ووجوب المقدّمة وعدم وجوبها ممّا لا يؤثّر في الفرق كما لا يخفى.

وحاصل الإيراد : أنّه نقض بصورة وجوب المقدّمة بتقرير : أنّ الآمر إذا أراد الإتيان بالمقدّمة مع الإتيان بذيها فبالنسبة إليه إمّا أن يريده على تقدير عدم المقدّمة ، أو على تقديري الوجود والعدم ، أو على تقدير الوجود والأوّلان باطلان لما ذكر فيتعيّن الثالث.

وقضيّة ذلك سقوط الواجب المطلق عمّا بين الواجبات رأسا من غير فرق في ذلك بين وجوب المقدّمات وبين عدم وجوبها ، إذ على تقدير الوجوب أيضا يكون وجوب ذيها مقيّدا بوجودها.

فأجاب عنه بقوله : تعلّق التكليف بالشيء وبمقدّماته تعلّق واحد ينتسب إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ، ولا يوجد إرادة متعلّقة بذي المقدّمة حتّى يستفسر من إطلاقها وتقييدها.

وحاصله : أنّ وجوب ذي المقدّمة على تقدير وجوب المقدّمة ليس أمرا يغاير وجوب المقدّمة حتّى يستفسر عن كونه مطلقا أو مقيّدا ، إذ لا تعدّد في الوجوب والطلب بل الصادر عن الآمر الطالب طلب واحد وإيجاب واحد له نسبة إلى ذي المقدّمة ونسبة إلى المقدّمة ، بمعنى تعلّقه بذي المقدّمة بالذات وبالمقدّمة بالعرض ، فلا يصحّ أن يقال : بأنّ ذلك الطلب بالنسبة إلى ذي المقدّمة مقيّد بوجود المقدّمة ، إذ لو صحّ ذلك بالنسبة إليه لصحّ بالنسبة إلى المقدّمة أيضا بمعنى كون وجوبها مقيّدا بوجودها لأنّه طلب واحد ، فإذا كان بالنسبة إلى ذي المقدّمة مقيّدا فلابدّ أن يكون بالنسبة إلى المقدّمة أيضا مقيّدا ، لكنّه لا يصحّ أن يقال به في المقدّمة فلا يصحّ أيضا في ذيها فلا نقض بصورة الوجوب.

وأنت خبير بما في ذلك الجواب ، فإنّ مبناه على تعلّق طلب واحد شخصي بأمرين متغايرين لم يكن أحدهما جزءا للآخر ، ولا هو مع الآخر جزءان يكون المجموع منهما هو المطلوب ، وذلك غير معقول كما أنّه على تقدير القول بوجوب المقدّمة خلاف البديهة

ص: 543

والوجدان ، ضرورة أنّ الموجود في نفس الآمر على هذا التقدير طلبان مستقلاّن أحدهما تفصيلي والآخر إجمالي لا دخل له بالأوّل أصلا وإلاّ للزم كونه إجماليّا ، مع انقلابه عن كونه أصليّا إلى كونه غيريّا نظرا إلى أنّ طلب المقدّمة غيري كما عرفت ، وهو كأنّه تفطّن به وأشار إليه بقوله عقيب ما ذكر : « وفيه نظر يظهر بالتأمّل التامّ ».

ثمّ قال : والصواب أن يقال : إنّ القدر الثابت من إطلاق الوجوب أنّ المأمور إذا تركه كان مستحقّا للعقاب بسبب تركه أو بسبب ترك ما كان واجبا لأجله ، وما ذكرت لا يدفع ذلك ، وأمّا تعلّق الإرادة به على سبيل التعميم فغير ثابت فالتزام خلافه غير قادح في المطلوب. انتهى.

وفيه : أيضا ما لا يخفى ، فإنّ المقرّر في جميع الديانات عند سائر الامم كما أنّه من جملة ضروريّات العقول أنّ استحقاق العقاب تابع لتعلّق الخطاب وثبوت الإرادة ، فإذا فرضت الإرادة في صورة عدم المقدّمة غير ثابتة فأيّ شيء يوجب استحقاق العقاب على ذي المقدّمة عند ترك المقدّمة ، مع أنّ الواجب - على ما يظهر عن مصطلحهم - باعتبار تعلّق الخطاب والإرادة ينقسم إلى المطلق والمقيّد ، واستحقاق العقاب لازم لهما واللازم بدون الملزوم لا تحقّق له ، فيكون التزام خلاف تعلّق الإرادة على سبيل التعميم قادحا لكونه خروجا عن المصطلح وبناءا على ما يخالف الضرورة والوجدان ، كيف وهو ممّا يكذّبه الوجدان لكونه نظير أن يقول الآمر : « إنّي لا اريد منك بالفعل ولكنّك تستحقّ العقاب على الترك » فهل يعقل صدور مثل ذلك عن الحكيم؟

وبالجملة في إحراز إطلاق الوجوب لابدّ من تعميم ثبوت الإرادة ، وهو مستلزم للتكليف بما لا يطاق على زعمه ، ومع عدمه يثبت التقييد وهو يستلزم المحذور المذكور ، فالنقض المشار إليه بحاله فينتهض ردّا على أصل الاستدلال ، مضافا إلى ما في نظمه وتقريره من الاختلال مع وضوح وهنه وبطلانه من غير إشكال.

فإنّ ما ذكره من تقديري الوجود والعدم أو تقدير الوجود فقط وجها في الشقّين ، إن أراد به ما يرجع قيدا إلى الإرادة فاخترنا الشقّ الأوّل ونمنع لزوم التكليف بما لا يطاق ، إذ المعنى يصير حينئذ : « إنّ إرادتي للإتيان بالفعل ثابتة سواء وجدت المقدّمة أو عدمت ، أو سواء أتيت بمقدّمته أو لم تأت » وهو كما ترى تكليف بما يكون مقدورا للمكلّف بسبب القدرة على إيجاد مقدّمته والإتيان بها لا بما يكون خارجا عن قدرته حتّى يستلزم

ص: 544

المحذور ، ولا ينافيه طروّ الامتناع بعد حضور وقته مع ترك مقدّمته لأنّه يوجب سقوط التكليف لما تقدّم مفصّلا.

والكلام إنّما هو فيما قبل ذلك ولا مانع فيه من ثبوت التكليف لإمكان الفعل والقدرة على مقدّمته.

وإن أراد به ما يرجع قيدا إلى الإتيان فاخترنا الشقّ الثاني ونمنع عدم استحقاق العقاب بترك الفعل ، لابتنائه على اشتراط الإرادة بوجود المقدّمة - كما هو صريح التقرير - والمفروض خلافه لبقاء الإرادة في إطلاقها.

لا يقال : وبذلك يتمّ غرض المستدلّ ، لأنّ المعنى يصير حينئذ : « إنّي اريد منك الفعل مشتملا على وجود مقدّمته » وهو إيجاب للفعل ومقدّمته معا.

لأنّ المراد بكون ذلك إيجابا لهما معا إن كان فرض الطلب واحدا مع انتسابه إلى كلّ منهما فبالنسبة إلى الفعل بالذات وإلى مقدّمته بالعرض فهو مسلّم ، ولكنّه بالنسبة إلى المقدّمة شيء لا تعلّق له بما هو محلّ الخلاف ، فإنّ ثبوت الوجوب العرضي ممّا لا ينبغي الخلاف فيه بل الّذي يتنازع فيه ثبوت الطلب المستقلّ للمقدّمة زيادة على ما ثبت لذيها.

وإن كان فرضه متعدّدا فهو في حيّز المنع ، كيف وهو خلاف ما يساعده الوجدان وفهم أهل اللسان ، إذ الطلب لم يتعلّق إلاّ بالفعل والقيد لا يفيد إلاّ مقدّمية المقدّمة فيبقى وجوبها غير ثابت.

هذا مضافا إلى أنّ ما ذكره بالنسبة إلى الجزء فمناقشة في غير محلّها ، إذ لا فرق من جهة ما قرّرناه من اختيار كلّ من الشقّين بين الأجزاء وغيرها من المقدّمات ، فيجري بالنسبة إلى الكلّ والجزء كلّ من الشقّين ، فلنا اختيار أوّلهما على أحد التقديرين ، وثانيهما على التقدير الآخر.

ولو صحّت المناقشة فما ذكره جوابا عنها غير سديد ، كيف وهو موجب لخروج الدليل أخصّ من المدّعى ، لكون الأجزاء أيضا من جملة المقدّمات كما تقدّم ، إلاّ أن يكون بناؤه في ذلك على خروج الجزء عن المتنازع فيه كما توهّم فيبطله ما سنقرّره في ذيل المسألة.

مع أنّ المقدّمة الّتي مهّدها في أوّل الاحتجاج وإن كانت مسلّمة في الجملة غير أنّ محلّ البحث ليس من جزئيّات موضوعها ، فإنّ الاستفسار عن الإطلاق والتقييد وعموم الطلب وخصوصه إنّما يصحّ في الأحوال الّتي تكون من عوارض الواجب بحيث يمكن تحقّقه في الخارج مع كلّ واحدة منها وانفكاك كلّ واحدة عنه كالاستطاعة بالقياس إلى

ص: 545

الحجّ ، فإنّ كلاّ من وجود الاستطاعة وعدمها حالة له بحيث يمكن حصوله في ضمن كلّ منها فيصح ، حينئذ الاستفسار عن إطلاق وجوبه بالنظر إلى كلتا الحالتين ، وعن تقييده بإحداهما دون الاخرى.

وأمّا إذا كانت الأحوال من لوازم الواجب الّتي لا ينفكّ وجوده عنها فلا معنى للاستفسار عن إطلاق وجوبه وتقييده بالنسبة إليها ، ضرورة أنّ عدم اللازم ليس حالة لوجود الملزوم حتّى يكون بالنسبة إليه وإلى وجوده مطلقا أو مقيّدا بالوجود ، إذ لا وجود له بدونه فكيف يكون حالة لوجوده ، وكما أنّ عدم الشيء لا يكون حالة لوجوده فكذلك عدم لازمه ، فلا يعقل كونه حالة لوجوده.

وما نحن فيه من هذا الباب ، ضرورة أنّ مقدّمات الشيء لوازم لوجوده بحيث لا وجود له بدونها ، فلا يعقل كون عدمها حالة لوجوده كالمشي في قطع مسافة الحجّ ، مع أنّه لو صحّ ذلك فالحالة إنّما هي وجود المقدّمة أو عدمها وليس لعدم وجوبها مزيد تعلق بذلك ، فإذا صحّ الاستفسار عن الإطلاق والتقييد على هذا التقدير صحّ على تقدير الوجوب أيضا فالجواب ما يجاب.

مع أنّه لو وقع الاستفسار على تقدير عدم الوجوب عنهما فلنا أن نجيب : بأنّه ليس بمطلق بالنسبة إلى حالتي وجود المقدّمة وعدمها ، ولا مقيّد بوجودها ، بل هو متقيّد بوجودها كما أنّ وجوبه متقيّد بوجود نفسه ، بمعنى أنّ وجوبه بالنسبة إلى نفسه كما لا يتعلّق إلاّ بإيجاده لأنّه الّذي تصوّره الآمر فلا يتصوّر هناك إطلاق ولا تقييد ، فكذلك بالنسبة إلى مقدّمته فلا يتعلّق به الوجوب إلاّ وهو ملزوم لوجود المقدّمة ، فلا يعقل فيه إطلاق ولا تقييد لأنّ الطلب لقصور فيه لا يتعلّق إلاّ بما يكون مقدورا لأنّه الّذي تصوّره الآمر ، ولا مقدور إلاّ الفعل على تقدير وجود مقدّمته ، كيف ولا فرق في مقدّمات الشيء بين الداخليّة منها وبين الخارجيّة وكما أنّه لا يمكن الاستفسار عن إطلاق وجوبه وتقييده بالنسبة إلى الداخليّة - على ما اعترف به المستدلّ - فكذلك بالنسبة إلى الخارجيّة لكونها من لوازم وجوده.

وقد ذكر بعض المحقّقين بعد ما قرّر الجواب عن الاستدلال على طريق الإجمال : أنّ هذه الشبهة نظيرها أن يقال : إنّه إذا قال أحد : « أشتري اللحم غدا من السوق » لزم أن لا يكذب بعدم الاشتراء في الغد إذا لم يدخل السوق ، لأنّه إمّا أن يشتريه على أيّ تقدير دخل السوق أو لا ، أو يشتريه على تقدير الدخول ، والأوّل محال فلا يكون هو معنى الكلام

ص: 546

لظهور أنّ العقلاء لم يخطّئوا مثل هذا الكلام ولم ينسبوه إلى الاستحالة فتعيّن الثاني ، فصار الكلام بمنزلة « أشتري اللحم إن أدخل السوق » فيلزم أن لا يكذب بعدم الاشتراء إن لم يدخل السوق وهو ظاهر. وكذا إذا قال المسافر : « أدخل البلد غدا » فيقال : أيدخله على تقدير قطع الطريق وعدمه ، أو على تقدير القطع ، أو قال أحد : « النهار موجود » فيقال أهو موجود على تقدير طلوع الشمس وعدمه ، أو على تقدير طلوعه ، إلى آخر ما ذكره. انتهى.

وهو كما ترى ، فإنّ الإخبار بالشراء متضمّن للإخبار بالدخول أيضا ، فتارك الدخول كاذب بسبب مخالفته الخبر الضمني ، ومثله الكلام في باقي الأمثلة.

وسادسها : ما قرّره الفاضل المذكور أيضا بقوله : « حقيقة التكليف عند العدليّة هي إرادة الفعل على جهة الابتداء بشرط الإعلام ، فالّذي عليه مدار الإطاعة والعصيان هي الإرادة المتعلّقة بالشيء والألفاظ إنّما هي أعلام دالّة عليها ، والعلامة قد يكون شيئا آخر من دلالة عقل أو نصب قرينة اخرى.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكليف لا يستلزم الإرادة ولا الدلالة عليها ، بل الطلب الّذي هو مدلول صيغة الأمر شيء آخر وراء الإرادة يسمّونه كلاما نفسيّا.

وعند المعتزلة أن ليس ها هنا معنى يصلح لأن يكون مدلول لصيغة الأمر إلاّ الإرادة.

وقد طال التشاجر وامتدّ النزاع بينهما والصواب مختار العدليّة ، وتمام الكلام في ذلك متعلّق بفنّ الكلام ولا يسعه المقام.

وظنّي أنّه يكفيك مؤنة التشاجر إن نراجع وجدانك عند حصول الأمر هل تجد في نفسك كيفيّة اخرى يصلح لأن يكون مدلول الصيغة أم لا؟

فإنّك عند التأمّل في النفس والكيفيّات والهيئآت العارضة لها لم تجد شيئا كذلك ، فإذا تأمّلت وجدت العلم والقدرة والإرادة والكراهة والشهوة والنفرة والهمّ والغمّ والفرح إلى غير ذلك من المعاني المعلومة ولم تجد المعنى الّذي يجعلونه مدلول الأمر.

نعم إذا تحقّق الإرادة وتخلّف إطلاق الصيغة لمانع ، فعند حدوث الصيغة يتوهّم الأوهام اقتضاء أو حالة اخرى.

والتحقيق : أنّه لم يحدث في هذه الحالة للنفس كيفيّة اخرى إلاّ العلم بالإعلام والعلم بعلم المأمور بالإرادة أو غير ذلك ممّا يتبع الإعلام التابع لإطلاق اللفظ ، فانظر هل تقدر أن تحدث تلك الكيفيّة في نفسك من غير إيجاد اللفظ وإطلاق الصيغة ، فإن أجرأت على القول

ص: 547

بالأوّل وادّعيت لنفسك ما ليس لك إليه سبيل وكيف تقول بالثاني ، مع أنّك تعترف أنّه ليس علاقة عقليّة بين وجود هذا اللفظ ووجود تلك الهيئة ، بل اللفظ كاشف عنه ومتأخّر عنه في الوجود ، فيلزم أن يوجد أوّلا حتّى يكشف اللفظ عنه ويدلّ عليه ، فلو كان شيئا موجودا لكان موجودا قبل اللفظ من غير توقّف عليه ولا استلزام له.

وبالجملة : كيف يسوّغ أن يكون مدلول الصيغة المتداولة عند الخاصّة والعامّة معنى نفسانيّا ولا يجده العقلاء من أنفسهم ، ولا يميّزونه بقولهم وأفكارهم ، وهل هذا إلاّ مكابرة واضحة يحكم الحدس الصحيح ببطلانه؟

وإذا أثبتنا أنّ إيجاب الشيء يستلزم إرادته ونحن نعلم قطعا أنّه إذا تعلّق إرادتنا الحتميّة بوجود الشيء ونعلم أنّه لا طريق إلى إيجاده إلاّ بإيجاد شيء معيّن لا يمكن أن يحصل إلاّ به لتعلّق إرادتنا الحتميّة بإيجاد ذلك الشيء البتّة ، وهذا بديهيّ بعد ملاحظة الطرفين وتجريدها عن العوارض وإن حصل التوقّف في بادئ النظر ، فإذن ثبت أنّ إيجاب الشيء يستلزم الإرادة الحتميّة المتعلّقة بمقدّماته ، فيكون المقدّمة واجبة إذ ليس الواجب عند أصحابنا إلاّ هذا. انتهى.

وملخّصه : أنّ حقيقة التكليف هي الإرادة والألفاظ كاشفة عنها ، وكما أنّ اللفظ يصلح لكونه كاشفا فكذلك العقل يصلح لذلك.

ومن المعلوم بالوجدان أنّ العقل حاكم بأنّ من كان مريدا لشيء له مقدّمات فهو مريد لمقدّماته أيضا ، ولا نعني بالوجوب إلاّ هذا.

وجوابه : منع الدعوى على تقدير ، وفساد الابتناء - مع تسليم صحّتها - على آخر ، وبطلان المبنى على فرض صحّة الابتناء على ثالث.

وتوضيح ذلك : أنّ الإرادة الّتي يدّعى كونها حقيقة التكليف إن أريد بها الإرادة التفصيليّة بالنسبة إلى المقدّمة على حدّ ما تعلّق بذيها.

ففيه : أنّه خلاف ما وجدناه حسبما قرّرناه عند الاحتجاج بالأدلّة الصحيحة ، كيف وإنّ كثيرا مّا نرى الآمر يأمر بالشيء ولا التفات له إلى مقدّماته فضلا عن كونه مريدا لها بالتفصيل ، وما عساه يناقش بأنّ الكلام في الأوامر الإلهيّة الّتي يمتنع صدورها على وجه الغفلة فلا وقع لهذا الكلام قد ظهر دفعه ثمّة.

وإن اريد بها الإرادة الإجماليّة حسبما اخترناه ، فهو وإن كان مسلّما غير أنّ بناء ثبوته

ص: 548

على ما يذهب إليه العدليّة واضح الفساد ، إذ لا فرق بين المذهبين بعد الاتّفاق على ثبوت الإرادة في موقع التكليف إلاّ في كونها عين الطلب أو غيره ، فالطلب ثابت عند الفريقين.

غاية الأمر أنّ الأشاعرة يجعلونه وصفا زائدا على الإرادة مغايرا لها خلافا للعدليّة ، فالاعتراف بكون حقيقة التكليف هي الإرادة اعتراف بكونها الطلب ، وكون حقيقة التكليف هو الطلب ممّا لا ينكره الأشاعرة أيضا ، فإن كان الطلب ممّا لا سبيل إلى إثباته في المقدّمات على مذهب الأشاعرة فكذلك الإرادة على مذهب العدليّة لعدم المغايرة بينهما عندهم ، وإن كانت الإرادة ثبوتها بديهيّا على العدليّة فكذلك الطلب على الأشاعرة لأنّه عين الإرادة على الأوّل ، فالفرق تحكّم.

ولو سلّم الفرق فنقول بفساد المبنى من دعوى عدم مغايرة الطلب للإرادة ، والوجه في ذلك أنّ الفعل على ما يشهد به البديهة والوجدان المغني عن إقامة البرهان ما لم يظهر فيه رجحان أو مرجوحيّة امتنع أن يتعلّق به إرادة أو كراهة ، ضرورة استحالة الترجيح من غير مرجّح ، كما أنّه لولا مصلحة أو مفسدة كامنتين فيه لما ظهر فيه ذلك الرجحان ولا المرجوحيّة ، ضرورة امتناع الترجّح بلا مرجّح فلذا ترى العدليّة أطبقوا على أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، وتلك المصلحة بالقياس إلى الأفعال قد تكون ثابتة في طبيعة واحدة معيّنة بحيث لا تتأدّى إلاّ بإيجاد تلك الطبيعة بعينها في الخارج ، وقد تكون ثابتة في طبيعتين فما زاد فتتأدّى بحصول أيّ منها في الخارج على البدل.

ومن هنا نشأ انقسام الواجب إلى التعييني والتخييري.

وعلى كلا التقديرين فهي قد لا تقتضي إلاّ حصول الفعل في الخارج كائنا ما كان ولو من البعض فيسقط عن الباقين ، وقد تقتضي حصوله من كلّ واحد على الانفراد من غير قيام حصوله عن بعض مقام حصوله عن آخر. ومن هنا جاء الانقسام إلى الكفائي والعيني.

وعلى جميع التقادير فأوّل ما ينشأ منها في النفس - على ما يرشد إليه الفطرة السليمة - إنّما هو ظهور رجحان جانب الفعل على جانب الترك ، ثمّ عقيبه الحبّ النفساني الّذي قد يعبّر عنه بالميل القلبي ، ثمّ عقيبه إرادة حصوله في الخارج من دون إعمال علاج ولا جارحة ، ثمّ عقيبها طلب تحصيله المقارن لاعتبار النسبة بينه وبين فاعله الّذي يخاطب به ويلزمه حينئذ القيام بإيجاد ما يكشف عنه من الألفاظ الدالّة عليه بالوضع أو القرينة أو غيرها ممّا يجري مجرى ذلك ، فلذلك تراهم يعبّرون عنها بالكلام الإنشائي ويعرّفونه بأنّه

ص: 549

كلام لا يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، في مقابلة الكلام الخبري المعرّف بأنّه كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، فإنّ المراد بالخارج هنا على ما هو المصرّح به في كلامهم ما يرادف الواقع ونفس الأمر لا ما يقابل الذهن كما سبق إلى بعض الأوهام ، والمراد به أن يكون بين المنسوب والمنسوب إليه مع قطع النظر عن وعائي الذهن والخارج نسبة غير متوقّف حصولها على أن يتصوّرها متصوّر ولا يعتبرها معتبر ، وظاهر أنّ النسبة الإنشائيّة المقرونة بالطلب في جملة الطلبيّات لا تتحصّل بين طرفيها إلاّ بسبب اعتبار معتبر وهو المتكلّم الآمر بالفعل ، فإنّه الّذي يطلبه ذلك الفعل عن مخاطبه المعيّن يعتبر تلك النسبة بينهما بحيث لولاه لما كانت حاصلة قطّ.

ومن هنا يقال : إنّ النسبة الإنشائيّة ما يوجد بمجرّد إيجاد اللفظ ويتبعه تبعيّة المعلول للعلّة ، بخلاف النسبة الخبريّة الّتي لا تدور حصولها على وجود لفظ ولا غيره ممّا يفيد الاعتبار ، ولا ينافي ما ذكرناه ثبوت نسبة بينهما إيجابيّة أو سلبيّة بحسب الواقع مع قطع النظر عن ذلك الطلب وإنشائه ، لضرورة أنّه بحسب نفس الأمر إمّا أن يكون ممّن يصدر عنه ذلك الفعل الّذي طلب منه بالكلام الإنشائي أو لا.

وأيّا مّا كان فهو نسبة بينه وبين ذلك حاصلة من غير توقّف على اعتبار معتبر ولا إيجاد ذلك الكلام ، فيصدق عليه حينئذ أنّه كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، لأنّ المراد بالنسبة الإنشائيّة حسبما عرفت ما يكون مقرونا بالطلب ومقيّدا به ، والّذي هو ثابت بين الطرفين مع قطع النظر عن الإنشاء إنّما هو النسبة المطلقة وهي ممّا لا مدخل له في مدلول الإنشاء في شيء ، كما أنّ مدلوله لم يكن حاصلا مع قطع النظر عنه.

فبذلك يندفع ما عساه يورد من انتقاض طرد حدّ الخبر وعكس حدّ الإنشاء ، كما أنّه تبيّن أنّ الطلب في مدلول الإنشاء شيء يربط به بين طرفيه بحيث لولاه لما كان غيره كافيا في ذلك إرادة كانت من المعاني النفسيّة أو غيرها ، فقد أصابت الأشاعرة الّذين صاروا إلى ثبوته زائدا على الطلب مغايرا له وإن كانوا قد أخطأوا في زعم كونه كلاما نفسيّا على ما عزاه إليهم المستدلّ إن كان بناؤهم فيه بالنسبة إليه تعالى على كونه قديما لما تبيّن من كونه ملزوما للحدوث ، كما أنّه قد أخطأ العدليّة في توهّم كونهما متّحدين غير متغايرين ، إذ لو أريد بذلك كونهما متّحدين بحسب المفهوم حتّى يكونا جاريين مجرى المترادفين ، فيبطله : أنّه لو صحّ ذلك لا طّرد كلّ في موارد إطلاق الآخر ، ولما تخلّف كلّ عن الآخر في مواضع

ص: 550

صدقه وصحّة استعماله ، والتالي باطل والملازمة بيّنة من جهة أنّهما من لوازم المترادفين ، وبطلان التالي لقضاء الاستعمالات الواردة في العرف بذلك ، فإنّ الإرادة بحسب التعدية إنّما تتعلّق بما لا يضاف إلاّ إلى من هي قائمة بنفسه ، فيقال : « أردت أن أقوم أو أكتب أو أحجّ » و « فلان يريد أن يزور أو يصلّي أو يصوم » ولا يقال : « طلبت أو يطلب » والطلب يتعلّق بما يضاف إلى غير من هو قائم بنفسه فيقال : « طلبت منك الشيء الفلاني » أو « فلان طلب منّي كذا » ولا يقال : « أردت أو أرادوا ».

وإنّ الطلب يكثر إضافته إلى الأعيان والجثث فيقال : « طلب الرزق » و « طلب المال » و « طلب الماء » ونحو ذلك ، بخلاف الإرادة فإنّها لا تضاف إلاّ إلى المعاني والأحداث ، وأيضا يصحّ أن يقال في تفسير قولك : « استخرجت واستعملت واستفهمت » ونحو ذلك « طلبت » ولا يصحّ أن يقال : « أردت » وإنّها كثيرا مّا تنسب إلى غير ذوي العقول فيقال : « السماء تريد أن تمطر » و « الأرض تريد أن تنفجر » و « الماء يريد أن يجري » و « الفرس يريد أن يعدو » ومنه « الجدار يريد أن ينقضّ » في الآية الشريفة ، بخلاف الطلب حيث لم يجئ لغير ذوي العقول.

ولو اريد به اتّحادهما بحسب ما اعتبر في مفهوم الأمر صيغة ومادّة بدعوى كونهما متصادفين في هذا المورد وإن تغايرا في سائر الموارد ، فيدفعه :

أوّلا : كونه ممّا يكذّبه الوجدان السليم والفهم المستقيم حسبما قرّرناه سابقا.

وثانيا : صحّة قولنا : « أردت الشيء الفلاني فطلبته منك » من غير استهجان ولا انفهام تكرار ، وهو كما أنّه يكشف عن تغايرهما فكذلك يرشد إلى تأخّر رتبة الطلب عن رتبة الإرادة حسبما تقدّم تقريره ، لمكان « الفاء » الظاهر في الترتيب ، فلذا لو قيل « طلبت منك الشيء الفلاني فأردته » كان مستنكرا.

وثالثا : أنّ الطلب هنا من الامور الإضافيّة الّتي لا تحقّق لها مع انتفاء شرائط الإضافة ، ولذلك ترى - نظرا إلى قضاء الوجدان وتنصيص محقّقي الأعلام - أنّه لا ينعقد بدون طرفيه الطالب والمطلوب منه أصلا ، لقبح عقلي واستقباح عرفي بخلاف الإرادة الّتي تتحقّق في شخص واحد جزما ولا يعتبر فيها إضافة إلى الغير أصلا.

ومن هنا ظهر أنّ الطلب إذا اضيف إليه تعالى كان حادثا لكون أحد طرفيه ملزوما للحدوث ، والقول بأنّ الحادث تعلّق الطلب لا نفسه ليس على ما ينبغي ، إذ لا يعقل له بدون التعلّق تحقّق نظرا إلى انتفاء المركّب بانتفاء أحد جزئيه ، بخلاف الإرادة لعدم استلزامها

ص: 551

الحدوث حيث لم يعتبر فيها ما يلزمه الحدوث ، فلأجل ذلك تصحّ أن تكون من اللّه سبحانه قديمة.

فضابط الفرق بينهما حسبما يساعده النظر في اختلاف موارد إطلاقاتهما بحيث يكون جامعا بين تلك الشتات وخصوصيّات تلك الموارد ، أنّ الطلب حالة نفسانيّة إذا حدثت في النفس تبعث بلا مهلة على استعمال علاج ينبئ عن الالتزام بشيء أو إلزام الغير بذلك الشيء ، ومن موارد إطلاق الأوّل طلب العلم ومنه قوله عليه السلام : « طلب العلم فريضة لكلّ مؤمن ومؤمنة » وما يضاف إلى الجثث والأعيان حسبما تقدّم بيانه ومن موارد إطلاق الثاني « طلبت منك كذا » وما اعتبر في مفهومي الأمر والصيغة ، فلذا صار هنا من الامور الإضافيّة كما عرفت ، والإرادة حالة نفسانيّة إذا حدثت في النفس توجب حصول القابليّة والاستعداد لطروّ الحالة الاولى.

وإن شئت فسّرها بالتهيّؤ كما قد يذكر في كلام بعض أهل اللغة في تفسير قوله : « الجدار يريد أن ينقضّ ».

ومن موارد إطلاقها على هذا المعنى ما تقدّم من الأمثلة بأسرها.

ومن هنا تبيّن أيضا - زيادة على ما سبق - تقدّم رتبة الإرادة بحسب الوجود على رتبة الطلب ، وأنّه ربّما ينفكّ عن الإرادة لمانع من انتفاء أحد طرفيه المطلوب منه أو فقد شرائط تعلّقه كلاّ أم بعضا حسبما أثبته العقل أو العرف أو الشرع ، كما تبيّن سرّ أنّ الطلب قد يصحّ سلبه في موضع تحقّق الإرادة لعدم كونه من لوازمها والإرادة لا يصحّ سلبها في مواضع ثبوت الطلب لكونه ملزوما لها والملزوم لا وجود له بدون اللازم.

وبالجملة بملاحظة ما ذكرنا من شواهد المغايرة بين الطلب والإرادة وكونه حالة اخرى زائدة على الإرادة يحصل القطع الضروري ببطلان مذهب العدليّة إلاّ لمن خرج عن الإنصاف وتمسّك بذريعة المكابرة والاعتساف ، والمسألة وإن كانت قليلة الجدوى مع دخولها في فنّ الكلام غير أنّه أطلنا البحث فيها لكونها من مزالّ الأقدام مع جواز اندراجها في جملة مبادئ الأحكام.

فمن جميع ما قرّرنا تبيّن فساد ما قرّره المستدلّ في تحقيقه وردّه حرفا بحرف فقوله : « هل تجد في نفسك كيفيّة اخرى ... » إلى آخره ، جوابه : نعم نجد في أنفسنا كيفيّة اخرى هي لا غير مدلول للصيغة مغايرة للإرادة ، وهي الّتي يجدها جميع العقول السليمة على طريق الضرورة والبداهة وما يرى من التخلّف فإنّما هو من جهة سبق الشبهة أو عدم التخلية التامّة.

وقوله : « نعم إذا تحقّق الإرادة وتخلّف إطلاق الصيغة لمانع ... » إلى آخره ، فجوابه : أنّ

ص: 552

حدوث الاقتضاء وحالة اخرى عند حدوث الصيغة ليس ممّا يتوهّمه الأوهام بل هو ممّا يدركه العقول والأذهان على جهة التحقيق والإتقان.

وقوله : « والتحقيق أنّه لم يحدث في هذه الحالة للنفس كيفيّة اخرى إلاّ العلم بالإعلام والعلم بعلم المأمور بالإرادة » إلى آخره.

جوابه : أنّ هذه الامور من لوازم حصول النسبة الإنشائيّة وهو معلول لإطلاق الصيغة ، وهي كاشفة عن حدوث حالة اخرى وراء الإرادة.

وقوله : « فإن اجترأت على القول الأوّل ادّعيت لنفسك ما ليس لك إليه سبيل » جوابه : أنّا اخترنا لأنفسنا ما لا سبيل إلى خلافه ، كيف وإطلاق الصيغة إنّما ينشأ بحكم الضرورة عن حدوث حالة وراء الإرادة ، وغيرها من الامور المذكورة فهو متأخّر عنها ذاتا وإن قارنها زمانا.

قوله : « وبالجملة ... إلى آخره » جوابه : أنّ الضروري لغاية بداهته قد يكون نظريّا ، والواضح لشدّة وضوحه قد يعرضه الخفاء ، والعقلاء إنّما يميّزون الأشياء بصفاء عقولهم فلا ينافيه عدمه إذا سترتها غشاوة الشبهة الراسخة ، وإلاّ لما حدث مذهب فاسد في فروع ولا اصول ، ولا رأي باطل في معقول ولا منقول.

وسابعها : ما قرّره الفاضل المذكور أيضا من أنّه : إذا أمر المولى عبده بالصعود على سطح في ساعة معيّنة فأخذ العبد في هدم البناء يذمّه العقلاء ويعيّرونه على الهدم المذكور من غير توقّف ، وهذه علامة الإيجاب.

لا يقال : ذمّه على الهدم ليس لذاته بل لكونه موصلا إلى ترك الصعود.

لأنّا نقول : إذا ثبت الذمّ عليه ثبت إيجاب نقيضه ، وأمّا كون الذمّ عليه معلّلا باتّصافه بصفة الإيصال إلى شيء مّا لا يقدح في ذلك كما لا يخفى.

وثامنها : ما قرّره أيضا من أنّه في الصورة المذكورة ينهي العاقل الخالص من الأغراض عن الهدم المذكور نهيا إلزاميّا والنهي الإلزامي عن العاقل الخالص من دواعي الشهوة لا يكون إلاّ لداعي الحكمة ، فلا يكون إلاّ لقبح شيء في نفسه كما تقرّر في غير هذا المحلّ ، فيكون الهدم المذكور قبيحا فيكون نقيضه واجبا.

والجواب عن الأوّل : أنّ الذمّ على الهدم إنّما هو لقبحه لذاته وكونه محرّما في حدّ نفسه ولو مع قطع النظر عن إيصاله إلى ترك الصعود ، فلذا تراه لازما عليه حيث لم يكن أمره المولى بالصعود أصلا ، وثبوت التحريم كالإيجاب لا ينحصر في النهي الصريح الفعلي

ص: 553

التفصيلي لما تقدّم ممّا لا مزيد عليه من كفاية الخطاب الشأني الإجمالي في ثبوت التكليف ولوازمه كما في الأمثلة المتقدّمة الّتي منها قتل العبد ولد سيّده فإنّه يذمّ به ويعاقب جزما مع عدم ثبوت النهي ولا الخطاب الفعلي التفصيلي.

ومن هنا تبيّن ما في الثاني ، فإنّ النهي المذكور من العاقل الخالص عن الغرض ودواعي الشهوة الكاشف عن قبح في المنهيّ عنه الموجب لوجوب مقدّمته ممّا لا يكاد يجدي في ثبوت المدّعى ، كيف وهذا النهي صحيح من غير إشكال ولو مع عدم أمر بالصعود كما عرفت ، فيبقى وجوب المقدّمة من حيث المقدّمية غير ثابت.

وتاسعها : ما قرّره أيضا بقوله : سنبيّن أنّ إيجاب المسبّب يستلزم إيجاب السبب ، ويلزم من ذلك أن يكون إيجاب المشروط مستلزما لإيجاب الشرط ، لأنّ ترك الواجب قبيح وترك الشرط مستلزم لترك الواجب ، والسبب المستلزم للقبيح قبيح على ما ذكرناه ، فيكون ترك الشرط قبيحا فيكون إيجاده واجبا ، انتهى.

وإن شئت حقيقة المراد من هذا الدليل ومعرفة الملازمة بين استلزام إيجاب المسبّب إيجاب السبب ، واستلزام إيجاب المشروط إيجاب الشرط الّتي أشار إليه بقوله : « ويلزم من ذلك » فانظر إلى ما ذكره في ذيل الكلام على أدلّة القول بالتفصيل في وجوب المقدّمات بين الأسباب وغيرها بقوله :

واعلم أنّ القائلين بأنّ إيجاب المسبّب يستلزم إيجاب السبب دون الشرط طرّدوا الحكم في التحريم فقالوا : إنّ تحريم المسبّب يستلزم تحريم السبب.

والدليل الّذي ذكره الأكثر من أنّ وجود المسبّب عند وجود السبب ضروري جار في التحريم ، والدليل الّذي ذكرناه أيضا جار فيه.

وإذا عرفت هذا فاعلم ، أنّه يلزم من ذلك وجوب الشرط أيضا كما أشرنا إليه سابقا ، فالقول بالفصل تحكّم.

فإن قلت : لعلّ أنّ تحريم المسبّب الوجودي يستلزم تحريم سببه الوجودي لا مطلقا ، فلا يجري في عدم الشرط والمشروط.

قلت : هذا التخصيص غير موجود في كلامهم ، ولا يساعده دليلهم لاشتراكه ، ومع ذلك يدفعه التحقيق ، لأنّ خلاصة التحقيق الّذي ذكرناه أنّ متعلّق القدرة حقيقة الأمر الّذي يباشره المكلّف دون الأمر التوليدي ، فإذا كان حصول الأمر منحصرا في التوليدي كان

ص: 554

التكليف متعلّقا بسببه إيجابا وتحريما ، وإذا كان حصوله بالتوليد تارة وبالمباشرة اخرى كان التكليف متعلّقا بأحد الأمرين تخييرا في الإيجاب وانتفائهما جميعا في التحريم ، سواء كان وجوديّا أو عدميّا ، ولمّا كان تحصيل السبب عين تحصيل المسبّب توليدا لا جرم يسري القبح من المسبّب إليه ، فعدم المشروط لمّا كان قبيحا وحصوله قد يكون بطريق التوليد من عدم الشرط لا جرم يسري القبح من عدم المشروط إلى عدم الشرط لا محالة. انتهى.

وجوابه أوّلا : منع إطلاق المقدّمة الثانية ، وهو كون ترك الشرط مستلزما لترك المشروط ، فإنّ الاستلزام إنّما يسلّم في صورة الاستناد وهو غير لازم في جميع الصور ، لأنّ المكلّف كثيرا مّا يعزم على مخالفة التكليف بترك المكلّف به عن أوّل الأمر فيقدم على ترك المقدّمات حينئذ ، إذ لا داعي له إلى إيجادها فيكون ترك الشرط على هذا التقدير مع ترك المشروط من باب المقارنات الاتّفاقيّة ، لكونهما معلولين لعلّة ثالثة وهي الإقدام على المعصية بالنسبة إلى المشروط ، بمعنى أنّه لمّا بنى على عدم الإتيان بالمشروط فترتّب عليه ترك الشرط كما ترتّب عليه ترك المشروط ، فهما متلازمان في الوجود لا أنّ الأوّل سبب للثاني ليلزم من قبحه قبحه.

نعم لو فرض صورة لم يكن لعدم المشروط استنادا إلاّ إلى عدم الشرط كأن يكون قد ترك الشرط اختيارا من غير بناء منه على المعصية بالنسبة إلى المشروط فاتّفق حينئذ تعذّر الشرط فترتّب عليه تعذّر المشروط ، ثمّ المقدّمة الاولى ، ولكنّه فرض نادر بل لا يكاد يتحقّق كما لا يخفى على المتدبّر.

ولو سلّم فلا ينضمّ إليها المقدّمة الاولى حينئذ ، وهو كون ترك المشروط قبيحا فإنّ ذلك يسلّم في الترك الاختياري وما ذكر في الفرض ترك غير اختياري فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، فكيف يقال : إنّ قبحه يسري إلى ترك الشرط والمفروض أنّه عند تركه الشرط لم يكن تركه بقصد الوصول إلى ترك المشروط حتّى يقال بأنّه في ذلك الحين كان اختياريّا ، لعدم صيرورة الشرط متعذّرا بعد ، وعدم كونه اختياريّا لاحق فلا ينافي اتّصافه بالقبح حينما كان اختياريّا.

ولو سلّم ذلك فالدليل غير جار في جميع الشروط بل أكثرها كما عرفت.

وثانيا : منع المقدّمة الثالثة ، وهو كون السبب المستلزم للقبيح قبيحا في الشروط ، لأنّ ذلك تقرير لعين المدّعى بتغيير في العبارة ، ضرورة رجوع النزاع في أنّ إيجاب الشيء هل

ص: 555

يستلزم إيجاب مقدّماته بحسب المعنى إلى أنّ كون ترك الشيء محرّما هل تستلزم تحريم ترك مقدّماته مع كونه مفضيا إلى تركه المحرّم أو لا؟ والّذي ينكر عدم استلزام الإيجاب للإيجاب ينكر عدم استلزام التحريم للتحريم لكونهما متلازمين ، واستلزام القبح للقبح عبارة اخرى لذلك فيكون ممّا ينكره الخصم.

وواضح أنّ دعوى أحد المتخاصمين لا يصلح دليلا على بطلان دعوى الآخر ، كما لا يعقل كونها دليلا على صحّة نفسها ، وما أشار إليه في عبارته الاخرى الّتي نقلناها من أنّ ما ذكره دليلا على إيجاب المسبّب يستلزم إيجاب السبب جار في المسبّب المحرّم ، فغير مجد في دفع ما أوردناه ، لكون أصل هذا الدليل الّذي أشار إليه فاسد الوضع على ما قدّمنا ذكره مع نقل عبارة الدليل (1) عند ذكر أدلّة القول باختصاص الوجوب بالمقدّمات السببيّة ، فراجع واعرف.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكرناه فما أخذه نتيجة بقوله : « فيكون إيجاده واجبا » إن أراد بكونه واجبا وجوبه صريحا مقصودا من الخطاب مفصّلا.

ففيه : ما تقدّم مرارا من كونه خلاف ما يساعده الوجدان ، ولا يقتضيه ذلك البرهان ولا غيره ممّا تقدّم إلى تقريرها البيان ، وإن أراد به وجوبه بالطلب الشأني الإجمالي حسبما قرّرناه فهو وإن كان مسلّما إلاّ أنّ إثباته لا ينوط بما ذكر من المقدّمات ، ولا حاجة له إلى ما صنعه من الإطناب في تقرير الاحتجاج.

وعاشرها : ما قرّره أيضا من أنّه إذا أمر المولى عبدين من عبيده بفعل معيّن في بلد واحد بعيد في وقت معيّن وأتمّ حجّة التكليف عليهما على نهج واحد ، فتركا المشي إلى ذلك البلد عند التضيّق ثمّ اتّفق موت أحدهما قبل حضور وقت الفعل وبقي الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب أو لم يستحقّا ، أو استحقّ الحيّ دون الميّت أو بالعكس ، لا وجه للثاني لمنافاته لإطلاق الوجوب ، ولا إلى الثالث لمساواتهما في التقصيرات الاختياريّة ، إذ نحن نعلم استواءهما في الإطاعة والعصيان وليس بينهما تفاوت إلاّ بموت أحدهما وبقاء الآخر ، وهو بمعزل عن التأثّر في الاستحقاق بمقتضى قاعدة العدل ، ولا إلى الرابع وهو ظاهر فثبت الأوّل وبذلك يثبت وجوب مقدّمة الواجب. انتهى.

وجوابه : واضح بعد التأمّل فيما قرّرنا في أجوبة الوجوه المتقدّمة ، فإنّ استحقاق العبدين معا للعقاب لا يكاد يجديه فيما هو بصدد إثباته ، إذ الحيّ بتركه المشي إلى ذلك

ص: 556


1- وهو الوجه الخامس الّذي قدّمنا تقريره. ( منه ). تقدّم في 511.

البلد مع علمه بكونه يؤدّي إلى ترك الفعل المكلّف به في وقته المضروب له قد أقدم على ذلك الترك من حين ترك المشي فيستحقّ العقاب عليه من ذلك الحين تنزيلا للترك الحكمي منزلة الحقيقي ، إذ المفروض تعلّق الوجوب وتنجّز التكليف قبل حضور الوقت وأمّا الميّت فكذلك إن بنينا في مسألة أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط على الجواز ، لأنّه مثل الحيّ قد أقدم على مخالفة التكليف الثابت في حقّه منجّزا وإن لم يصدق عليه الترك حقيقة ، وإلاّ فلا يستحقّ العقاب على أصل الفعل لأنّه فرع العصيان وهو فرع تعلّق التكليف ، واتّفاق موته قبل حضور وقت الفعل يكشف عن انتفاء شرط التكليف عنه ، فيكشف عن عدم تعلّقه به.

نعم يستحقّ العقاب من جهة إقدامه على التجرّي المحرّم ، أو على مخالفة اعتقاده بتعلّق التكليف وإن كان قبل اتّفاق موته معتقدا ببقائه إلى حضور الوقت وتمكّنه عن الفعل ، وليت شعري أنّ الالتزام باستحقاق العقاب في الصورة المفروضة وغيرها ممّا تقدّم أيّ شيء ينفع المستدلّ في ثبوت مطلوبه بعد قيام احتمال ترتّبه على ترك ذي المقدّمة ولو حكما ، كيف ولا يثبت له ذلك المطلوب إلاّ بأن يثبت استحقاق عقابين عند ترك المقدّمة أو كون استحقاق الثابت على ترك المقدّمة دون ذيها ، والأوّل ممّا لا سبيل له إلى إثباته والثاني عدول عن وجوب ذي المقدّمة واعتراف بما يخالف إطلاق ذلك الوجوب على ما هو المفروض.

وحادي عشرها : ما قرّره أيضا بقوله : خلاصة ما استدلّ العدليّة على استحقاق الثواب من أنّ إلزام المشقّة من غير عوض قبيح عقلا جار هاهنا ، دالّ على حصول الثواب على المقدّمة ، والمنكرون لوجوب المقدّمة ينكرون استحقاق الثواب عليها وبهذا الوجه يلزم مجرّد الرجحان وإلزام الوجوب يحتاج إلى انضمام مقدّمة اخرى يمكن تحصيلها بأدنى تأمّل ، انتهى.

وكأنّ الوجه في تحصيل تلك المقدّمة ما في بعض العبائر من دعوى الإجماع المركّب على ذلك ، فإنّ كلّ من قال بالرجحان قال بالوجوب وكلّ من ينكر الوجوب ينكر الرجحان أيضا.

وعلى أيّ تقدير كان فجوابه : أنّ هذا الوجه على فرض صحّته إنّما يصلح للاستناد إليه لو كان التشكيك في جريان مقدّمة الواجب مجرى سائر الواجبات في استحقاق الثواب عليها حذرا عن قبح إلزام المشقّة من غير عوض ، وهو كما ترى كلام يتوجّه بعد الفراغ عن إثبات الوجوب وهو أوّل المسألة ، كيف وموضوع القاعدة إنّما هو إلزام المشقّة وهو بالنسبة إلى المقدّمات بمعنى كونها كذيها ممّا ألزم بها الشارع أو الآمر الحكيم مطلقا عين المتنازع

ص: 557

فيه إن اريد به ما يلزم على سبيل القصد منه إيّاه عن خطاب مختصّ به أو خطاب الغير ، إلاّ أن يفرض الاستدلال إنّيّا كما يومئ إليه قوله : « وبهذا الوجه يلزم مجرّد الرجحان » بدعوى أنّ مقتضى القاعدة المذكورة ترتّب الثواب على فعل المقدّمات على جهة الاستحقاق ، وهو من لوازم الوجوب فيكشف ذلك عن وجوبها كشف وجود اللازم عن وجود ملزومه.

ولكنّه يرد عليه حينئذ : أنّ موضوع القاعدة إنّما هو إلزام المشقّة فلا تجري إلاّ بعد إحرازه ، فلا يلزم ثبوت اللازم على فرض عدم جريانها والمقام منه ، لأنّ فرض الاستدلال إنّيّا بالتقريب المذكور لا مصحّح له إلاّ على فرض كون الإلزام غير ثابت على حدّ ثبوته في سائر الواجبات ، فيلزم خروج الاستدلال حينئذ دوريّا.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول : إنّ المشقّة إذا كانت من التوابع واللوازم المترتّبة على مشقّة اخرى مقصودة بالأصالة لا دليل على كونها ممّا يستحقّ بها الثواب أيضا ، بعد فرض ثبوت الاستحقاق بالنسبة إلى الأصل ، إذ لا قبح عقلا في إلزامها على هذا التقدير أصلا بل الدليل على خلافه ، كما لا يخفى على من تأمّل في مواقع بناء العقلاء ومجاري عملهم ، حيث نراهم لا يلتزمون بأخذ العوض ولا بإعطائه على اللوازم الغير المقصودة إلاّ بالتبع ، فلاحظ جيّدا واعرف جدّا.

وثاني عشرها : ما قرّره أيضا بقوله : من تأمّل في القواعد العمليّة ومارس المصالح الحكميّة وجرّب التدبيرات الكلّية وعرف مجاري أحكام العقلاء وحكمهم ، عرف أنّ ما يجب رعايته والأمر به والإلزام عليه قد يكون مطلوبا بالذات وقد يكون مطلوبا بالعرض من حيث إنّه نافع في حصول الغرض الأصلي والمطلوب الذاتي ، فمن أراد تدبير عسكر أو بلد كما أنّه يأمر بالامور النافعة لهم المشتمل على خيراتهم وينهى عن الامور الضارّة لهم كذلك يأمر بالامور المؤدّية إلى خيراتهم ومعدّاتها وشرائطها والطريق الموصل إليها ، وينهى عن الامور المستلزمة لمضارّهم المؤدّية إليها والمستلزمة لإخلال مصالحهم المؤدّية إليه ويريد ويكره على نسبة واحدة ، وأيّ مصلحة أشدّ من توقّف المصلحة الذاتيّة عليه ، ولمّا كانت المصالح مستلزمة للتكاليف الشرعيّة كما أنّ التكاليف الشرعيّة مستلزمة للمصالح عند العدليّة - كما ثبت في محلّه - يلزم وجوب مقدّمة الواجب ، وممّا يؤيّد وجوب المقدّمة أنّ الندامة الّتي تحصل لتارك الحجّ عند ترك الحجّ قد تحصل له عند ترك المقدّمات قبل حضور وقت الحجّ وهذا علامة الوجوب ، انتهى.

ص: 558

وهو جيّد إن كان مرجعه إلى ما قرّرناه في جملة أدلّتنا المتقدّمة من الاستقراء الكاشف عن أنّ المقدّمة ليس من شأنها إلاّ الإيجاب والإلزام بها سواء وقع التصريح به أو قصد من الخطاب ولو سيق لبيان غيره أوّلا ، وأنّ بين وجوبها ووجوب ذيها ملازمة عقليّة دائميّة قاضية باستحالة تخلّفه عنه ، فيلزم أن يعامل مع ما لم يصرّح بوجوبها أو لم يقصد من خطاب غيره أصالة معاملة ما صرّح بوجوبها أو قصد الإلزام بها من خطاب آخر.

ولكن في المثال الّذي ذكره شاهدا بتلك الدعوى نظر واضح ، من جهة أنّ ما فرض فيه من الأمر والنهي بالنسبة إلى كلّ من المطلوب بالذات والمطلوب بالعرض لم يخرج إلاّ مخرج الإرشاد ، وهو كما أنّه بالنسبة إلى الأوّل لا يفيد إلاّ بيان اشتمال الواقعة على مصلحة أو مفسدة كامنة فيها بالذات ، فكذلك بالنسبة إلى الثاني لا يجدي إلاّ التنبيه على قيام المصلحة أو المفسدة الكامنة في الواقعة بالعرض ، ومآله بالأخرة إلى بيان المقدميّة والمانعيّة وهو كما ترى أمر لا تعلّق له بما هو متنازع فيه ، لأنّ الكلام إنّما هو في وجوب المقدّمة بعد إحراز مقدّميته بحكم العقل أو العادة أو الشرع.

نعم لو مثّل لما ذكر من الاستقراء بأوامر الموالي والملوك بالنسبة الى عبيدهم ورعاياهم لكان مستقيما ، ولا يبعد انطباق ما ذكر أيضا بذلك فلا ضير فيه حينئذ.

نعم ما ذكره ما في ذيل كلامه تأييدا ليس على ما ينبغي جزما ، إذ الندامة الحاصلة عند ترك المقدّمات ليست من جهة وجوبها بل لأجل كون تركها تعريضا للنفس على استحقاق العقاب على ما سيقع من ترك الحجّ ، وتفويتا لغرض الشارع والمثوبات الاخرويّة مع الخواصّ الدنيويّة المترتّبة على فعل الحجّ المقرّرة لفاعله والآتي به في اللوح المحفوظ كما لا يخفى ، وإنّما تحصل تلك الندامة من حين ترك المقدّمات لأنّه الّذي يترتّب فيه تلك المفاسد على ما صنع في نفسه.

وثالث عشرها : ما عن الغزالي - بل عن الآمدي أنّه تبعه - من الإجماع على وجوب تحصيل الواجب ، وتحصيله أنّما هو بتعاطي ما يتوقّف عليه ، ووجوب تحصيله بما ليس بواجب تناقض ، انتهى.

وفيه : ما لا يخفى من وضوح الفساد ، فإنّ التناقض إنّما يلزم لو كان تعاطي المقدّمات عين تحصيل الواجب وهو بوضوح من المنع ، ضرورة أنّهما مفهومان متغايرين ولكلّ وجود غير وجود الآخر ، فيلزم تعدّدهما مفهوما ومصداقا ومعه كيف يتوهّم التناقض لو اختلف

ص: 559

حكمهما بالإثبات والنفي ، إلاّ أن يرجع ذلك إلى ما نبّهنا عليه عند تقرير الأدلّة من أنّ الرضاء بترك المقدّمة مع العلم بالمقدّمية في معنى الرضا بترك ذيها بل يستلزمه ، وهو يناقض عدم الرضا بتركه على ما هو من لوازم وجوبه ، ولمّا كان ذلك محالا فلا جرم يكون شأن المقدّمة أيضا عدم الرضا بتركها وان لم يلتفت إليها على جهة التفصيل ، ولكنّه إرجاع بعيد عن سوق العبارة كما لا يخفى.

ورابع عشرها : ما حكاه المحقّق الخوانساري من أنّه لو لم يجب لصحّ الفعل بدونها وهو محال ، لامتناع وجود الموقوف بدون الموقوف عليه.

وفيه : أنّ المراد بالوجوب إمّا الوجوب العقلي الثابت للمقدّمة على كلّ تقدير وهو كونه من لوازم وجود ذيها ، أو الوجوب الشرعي بالمعنى الّذي وقع النزاع فيه ، فإن كان الأوّل فكلّ من الملازمة وبطلان اللازم مسلّم ولكنّه لا ربط له بمحلّ البحث ، حيث لا تلازم بين الوجوبين.

وإن كان الثاني فالملازمة ممنوعة ، كيف وصحّة الفعل بمعنى إمكانه العقلي لا يتوقّف على وجوب ما يتوقّف عليه ، بل يتوقّف على وجوده وهو ليس لازما للوجوب حتّى يلزم انتفاؤه على فرض عدمه ، كما أنّ صحّتها الشرعيّة بالنسبة إلى المقدّمات الشرعيّة لا تتوقّف على وجوب تلك المقدّمات بل على وجودها ، وهو لا يستلزم الوجوب.

وخامس عشرها : ما حكاه المحقّق المذكور أيضا من أنّ المقدّمة لابدّ منها في الفعل فيمتنع تركها ، وممتنع الترك واجب ، والواجب مأمور به ، فالمقدّمة مأمور لها.

وجوابه : يظهر ممّا مرّ بأنّ ممتنع الترك في إيجاد الفعل يستلزم الوجوب العقلي ، ولا ملازمة بينه وبين كونه مأمورا به.

وسادس عشرها : ما نقله أيضا عن بعض محقّقي المتأخّرين من القطع بذمّ السيّد الآمر بالكتابة العبد القادر على تحصيل القلم التارك لها المعتذر بفقد القلم ، أو عدم إيجاب تحصيله على ترك تحصيله ، ولولا فهم وجوبه من الأمر لما ذمّ ويقبل عذره.

واجيب عنه : بأنّ لحوق الذمّ له باعتبار ترك الواجب مع قدرته عليه ، وعدم قبول العذر بعدم إيجابه من جهة أنّ عدم إيجاب الآمر له لم يدفع قدرته على الفعل الّتي تصحّح ذمّ التارك.

وسابع عشرها : ما حكاه أيضا عن السيّد البحراني من أنّ الأحكام منوطة بالمصالح لزوما عند العدليّة وعادة عند غيرهم ، والمقدّمة لكونها وسيلة إلى الواجب المشتمل على

ص: 560

مصلحة الوجوب مشتملة على تلك المصلحة بعينها ، فيجب تعلّق الوجوب بها ، وهذا الاشتمال مفهوم من تعلّق الخطاب بالواجب المطلق فيكون وجوبها مفهوما منه بالتبع.

القول بالتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره

وفيه : إن أراد باشتمال المقدّمة على مصلحة الوجوب الكامنة في الواجب اشتمالها بالعرض ، بمعنى انتساب تلك المصلحة إلى الواجب بالذات وإلى مقدّمته بالعرض ، فهو غير مجد لأنّ غاية ما يلزم من ذلك ثبوت الوجوب للمقدّمة بالعرض ، وهو ليس من المتنازع فيه في شيء ، وإن أراد اشتمالها بالذات فهو كذب وافتراء فيلزم منه كذب المطلوب.

وثامن عشرها : ما حكاه عنه أيضا من أنّ ترك المقدّمة يشتمل على وجه قبيح لاقتضائه ترك الواجب وهو قبيح ، ومقتضي القبيح قبيح ، فتركها قبيح فيحرم ، فيجب الفعل ، وهو مفهوم من الأمر بالفعل ، فالأمر يدلّ على وجوبها.

وجوابه : يظهر بالتأمّل في جواب ما تقدّم من الوجه التاسع.

وتاسع عشرها : ما حكاه عنه أيضا من أنّ نكاح المشتبهة بالحرام ، ولبس أحد الثوبين المشتبهين في الصلاة مع وجود متيقّن الطهارة ، واستعمال أحد الإنائين ونحو ذلك حرام ، وليس ذلك إلاّ لوجوب اجتناب المحرّم والنجس وتوقّف اجتنابهما على اجتناب الآخر ، وإذا حرم الشيء من جهة أنّ تركه وسيلة للواجب كان تركه موصوفا بالوجوب من تلك الجهة.

وفيه : أيضا ما أشرنا إليه سابقا من منع كون ذلك مقدّمة للترك الواجب بالمعنى المصطلح ، وإنّما هو مقدّمة للعلم بحصوله.

نعم لو فرض العلم بحصوله واجبا اندرج ما ذكر من الأمثلة في موضوع البحث وليس ببعيد كما هو من مقتضى حجّية العلم الإجمالي ، لأنّ معنى كونه حجّة وجوب تحصيل الموافقة القطعيّة بمعنى القطع بالموافقة لا تحريم المخالفة القطعيّة فقط كما قد يتوهّم.

ولكن يبقى الكلام حينئذ في نهوض ذلك دليلا على الحكم الكلّي الّذي هو المتنازع فيه ، لأنّ ثبوت وجوب المقدّمة في الجملة بخطاب مستقلّ أصلي ليس ممّا ينكره أحد ، غير أنّه لا يجدي في ثبوت الوجوب بالنسبة إلى ما لم يرد فيه خطاب مستقلّ بالخصوص ، إلاّ على تقدير رجوعه إلى ما قرّرناه من الاستقراء في الشرعيّات أو كونه ممّا يحصل منه مناط مطّرد في جميع الموارد ، فيكون مرجعه حينئذ إلى الاحتجاج بتنقيح المناط.

ثمّ إنّه بقي من أقوال المسألة رابعها الّذي صار إليه ابن الحاجب ، وهو الفرق في المقدّمات بين الشرط الشرعي فيجب وغيره فلا يجب ، فينبغي قبل الشروع في ذكر

ص: 561

احتجاج هذا القول الإشارة إلى دقيقة تفطّن بها بعض مشايخنا - دام ظلّه - وهي أنّ هذا القول من أيّ قائل كان يستلزم القول بوجوب الأسباب أيضا ، وذلك بثلاث مقدّمات :

الاولى : وضوح أنّ الوجوب المتنازع فيه الّذي هو من جملة الأحكام الشرعيّة لا بدّ وأن يكون من عوارض أفعال المكلّف لا من عوارض أحواله.

والثانية : وضوح أن شرح الشيء لا بدّ وأن يكون معه على سبيل الاستمرار بمعنى كونه مقارنا له بجميع أجزائه وموجودا (1) معه من بدايته إلى نهايته.

والثالثة : أنّ بعضا من الشروط ما يكون من مقولة الأفعال كالاستقبال ونحوه ، وبعضا منها ما يكون من مقولة الأحوال كالطهارة الّتي هي أثر حاصل من الوضوء أو الغسل بالضمّ والفتح.

والرابعة : أنّ الوضوء والغسل بالضمّ والفتح ليست شروطا للصلاة من جهة عدم استمرارها ولا مقارنتها لها ، بل هي أسباب لما هو شرط وهو الطهارة التّي هي حالة في المكلّف أو بدنه أو لباسه ، فالقائل بوجوب المقدّمة إذا كانت شرطا لا يستقيم منه ذلك القول إلاّ مع القول بوجوب الأسباب أيضا ، أو تخصيص قوله بما يكون من مقولة الأفعال ، وإلاّ لزم أن يقول بوجوب الشرط حتّى ما كان من مقولة الأحوال.

وقد عرفت أنّ الحكم الفرعي لا يتعلّق بالأحوال ، ولمّا كان التخصيص المذكور غير معهود من هذا القائل حيث لم يصرّح به في كلامه ولا في كلام غيره ، فلا جرم يتعيّن التزام التعميم بالنسبة إلى الأسباب أيضا من غير فرق بين الشرعيّة منها كالوضوء والغسل بالضمّ لطهارة المكلّف عن الحدث أو بالفتح لطهارة بدنه أو ثوبه عن الخبث ، وبين العقليّة منها كإحراق موضع النجاسة من الثوب أو قطعه بالمقراض ونحوه تحصيلا للطهارة ، فيندفع بذلك المحذور المشار إليه ، إذ معنى وجوب الشرط الّذي هو من مقولة الأحوال حينئذ وجوب أسبابه الّتي هي من مقولة الأفعال ، كما ظهر منه أنّ النسبة بين هذا القول على التقدير المذكور وما تقدّم من القول بالفرق بين الأسباب وغيرها عموم مطلق ، لأنّ هذا القائل يقول بوجوب الأسباب مع شيء زائد وهو الشرط الشرعي ، فيكون ذلك القول أخصّ ممّا تقدّم.

ص: 562


1- والوجه في ذلك : أنّ ذلك مفهوم من الشرطيّة الثابتة له لا أنّه أمر زائد ثابت بدليل خارج ، فإنّ شرط الشيء ما يكون قيدا له ، ومن البيّن أنّه ليس عبارة عن بعض أجزائه ليعتبر المقارنة لذلك البعض ، بل هو عبارة عن المجموع فلابدّ وأن يكون القيد ثابتا للمجموع وهو معنى المقارنة وليس كذلك الجزء على ما هو من مقتضي الجزئيّة لأنّ الجزء عبارة عن بعض الشيء فلا يجري فيه اعتبار المقارنة كما لا يخفى. ( منه عفي عنه ).

ويشكل ذلك (1) : من جهة أنّه كما أنّ تخصيص الوجوب بما يكون من الشرائط من مقولة الأفعال غير معهود من هذا القائل فكذلك تعميمه بالنسبة إلى الأسباب على الإطلاق غير معهود منه ، وكون الأحكام الفرعيّة لا يتعلّق بما يكون من مقولة الأحوال مسلّم.

ولكنّ الأفعال عندهم أعمّ من المباشريّة والتوليديّة ، والأثر الحاصل من التوليديّات كما أنّ أسبابه من المباشريّات ، وكما أنّ ما يباشره المكلّف ينتسب إليه في العرف انتسابا حقيقيّا فكذلك ما يتولّد ممّا يباشره ، فلذا ترى أنّ القتل والإحراق ينسب إليه دون السيف والنار ، فمن هذه الجهة يصحّ أن يتعلّق به الحكم الفرعي تعلّقه بما يباشره.

وإن شئت فلاحظ العرف في الأمر الوارد بالقتل والإحراق ، بل الشرع في الأمر الوارد بالعتق والطهارة ، مع أنّ المراد بوجوب الطهارة على المكلّف وجوب تحصيلها ، وهو مفهوم مغاير لإيجاد سببها ولا يكون وجوبه عين وجوبه ، ولا ينافي ذلك اعتبار الاستمرار فيه ، لأنّ المراد به ما يعمّ الإيجاد ابتداءا وابقاء الموجود كما في الاستقبال ونحوه ، فلا وجه لالتزام صرف الوجوب إلى الأسباب.

ولو سلّم فهو ليس من القول بوجوب الشرط الشرعي مع السبب ، لأنّ الوضوء وغيره ممّا ذكر أسباب للشرط لا للمشروط ، لعدم اندراجها بالنسبة إليه في حدّ السبب كما لا يخفى ، بل هي بالقياس إليه أنسب بضابطة الشرط كما يرشد إليه حدّه المتقدّم.

ويشهد به الأمثلة الواردة في كلامهم للشرط الشرعي ، حيث يمثّل تارة بالطهارة واخرى بالوضوء ، ولا ينافي ذلك ما اعتبر في الشرط من الاستمرار والمقارنة للمشروط بجميع أجزائه ، حتّى يكون ذلك منشأ للإشكال بعد ما حصل الوصف في الأثر المترتّب عليها ، فالوضوء الّذي يترتّب عليه أثر الطهارة شرط شرعي للصلاة ، فباعتبار نفسه يتعلّق به الحكم الفرعي وباعتبار أثره يحصل فيه وصف المقارنة ، من [ دون ] أن يكون ذلك قولا بوجوب السبب ، نظرا إلى أنّ المراد به عند القائل بوجوبه خاصّة ما كان سببا لوجود ذات المشروط لا لوجود شرطه ، لأنّ الدليل الّذي أقامه على الإثبات لا يتناول إلاّ ذلك والّذي أقامه على النفي يعمّ الشروط وأسبابها ، كما لا يخفى [ على ] من يتأمّل فيها.

ولو سلّم فيلزم أن يكون بين القولين عموم من وجه ، لا ما أفاده - دام ظلّه - فيجتمعان في أسباب الشروط ويفترقان في أسباب المشروط ، والشروط الّتي هي من مقولة الأفعال.

ص: 563


1- إيراد على ما أفاده الشيخ. ( كذا في هامش الأصل بخطّ مؤلّفه )

نعم ربّما يستقيم هذه المقالة على بعض التقادير الّتي تقدّم الإشارة إليها عند ذكر الأقوال وإلاّ فعلى التقدير الآخر أيضا يكون بينهما من حيث القائل عموم من وجه لاجتماعهما في الأسباب والشروط معا ، وافتراقهما في الأسباب المحضة والشروط الصرفة ، فراجع وتأمّل واعرف كي تعرف أنّه شيء لا تعلّق له بما أوجب له - دام ظلّه - الوهم هنا.

وعلى أيّ حال كان فاحتجّ ابن الحاجب في مختصره - على ما حكاه بعض شارحيه في بيان المختصر - على كلا جزئي مدّعاه بما عبارته هكذا :

لنا : [ لو ] لم يجب الشرط لم يكن شرطا ، وفي غيره لو استلزم الواجب وجوبه لزم تعقّل الموجب ، ولم يكن تعلّق الوجوب لنفسه ، ولا ينبغي التصريح بغيره ، ولعصى بتركه ، ولصحّ قول الكعبي في نفي المباح ، ولوجبت نيّته ، انتهى.

وقرّر الأكثرون احتجاجه على وجوب الشرط بأنّه : لو لم يكن الشرط واجبا لخرج عن كونه شرطا ، والتالي باطل بفرض الشرطيّة.

أمّا الملازمة : فلأنّه لو لم يكن واجبا لجاز تركه ، وحينئذ فإذا تركه وأتى بالمشروط فإمّا أن يكون آتيا بتمام المأمور به أو ببعضه ، لا سبيل إلى الثاني إذ المفروض عدم وجوب شيء آخر عليه كما هو مفاد عدم وجوب الشرط ، فتعيّن الأوّل ، وعليه يلزم ما ذكر في التالي.

وقرّره بعض شرّاحه في كتابه الموسوم ببيان المختصر بأنّه : لو لم يكن الشرط واجبا لم يكن هو شرطا ، والتالي باطل لأنّه خلاف المفروض ، فيلزم بطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّ الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه ، فإذا تركه لا يخلو إمّا أن يكون الفعل حينئذ مأمورا به أو لا ، والتالي باطل وإلاّ يلزم أن يكون وجوب الشيء مقيّدا بوقت وجود الشرط وهو خلاف المفروض ، والأوّل لا يخلو إمّا أن يكون الفعل ممكن الحصول عند عدم الشرط أو لا ، والثاني باطل وإلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق فيتحقّق الأوّل فلا يكون شرطا.

والجواب عن ذلك : منع لزوم التكليف بما لا يطاق على تقدير عدم إمكان حصول الفعل بدون الشرط ، فإنّه إنّما يلزم لو كلّف به بشرط عدم الشرط الّذي مفاده المنع عنه ، وهو ليس بلازم من عدم الإيجاب بل غايته جواز الترك وهو ليس بملزوم للترك ، فيجوز الإتيان به الموجب لإمكان الإتيان بالمشروط بعنوان أنّه المأمور به من غير محذور.

مع أنّه منقوض بغير الشرط أيضا ، فيقال : لو لم يجب غيره لجاز تركه وحينئذ لو تركه ، فلا يخلو إمّا أن يكون الفعل مأمورا به أو لا ، والثاني باطل لعين ما ذكر.

ص: 564

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الفعل ممكن الحصول أو لا ، والثاني باطل وإلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق فيتحقّق الأوّل ، وهو أيضا باطل لكونه خلاف فرض الشرطيّة أو السببيّة ولو بحكم العقل أو العادة ، فما يجاب هو الجواب.

وأمّا عن التقرير الأوّل : فيستدعي رسم مقدّمة وهي : أنّ امتياز الشرط الشرعي عن غيره عند هذا القائل وغيره على ما يستفاد منهم تصريحا وتلويحا إنّما هو بكون شرطيّته ثابتة بحكم الشارع وجعله ، بحيث لولاه لما صدق عليه عنوان الشرطيّة الّتي هي عبارة عن توقّف الوجود على الوجود واستلزام العدم للعدم ، كما أنّ الشرط العقلي ما كان شرطيّته ثابتة بحكم العقل ، والعادي ما كان شرطيّته ثابتة بحكم العادة.

وهو بمعزل عن التحقيق كما أشرنا إليه عند تقسيم المقدّمة إلى أقسامها ، فإنّ معنى الشرطيّة كما عرفت هو توقّف وجود المشروط على وجود الشرط والحاكم به في الجميع إنّما هو العقل ، فالّذي يعبّر عنه بالشرط الشرعي شرط عقلي لأمر شرعي ، بمعنى أنّ الشارع عند تصوّر المشروط اعتبر فيه نحو وجود يتوقّف عقلا على وجود الشرط ، فكون الطهارة أو الاستقبال شرطا للصلاة إنّما هو بحكم العقل ، كما أنّ كون حركة اللسان للقراءة فيها شرطا إنّما هو بحكم العقل ، فالكلّ شروط عقليّة لأمر شرعي وهو الصلاة ، لأنّ الشارع اعتبر فيها ذلك للوجود الّذي يحكم العقل بتوقّفه على وجود الشروط.

بل لنا أن نمنع عن كون المشروط أيضا أمرا شرعيّا فهو أيضا ليس بشرعيّ كما أنّ الشرط ليس بشرعيّ ، وذلك لأنّ الصلاة من حيث إنّها ملتئمة عن امور متبائنة طبيعة من الطبائع ، ومع قطع النظر عن ملاحظة الشارع كانت محقّقة في الخارج من غير أن يكون للشارع فيها تصرّف نظير سائر الطبائع الخارجيّة.

غاية الأمر أنّ الشارع لاحظها وباعتبار ما فيها من الحكمة أمر بحصّة منها وهي الّتي تتشخّص بما ذكر من الشروط وغيرها ، كما أنّ المولى يتصوّر طبيعة الماء ويأمر بحصّة منها من غير أن يكون متصرّف فيها ، وكما أنّ الشرط ليس بمجعول من الشارع فكذلك المشروط ليس مجعولا له ، وظاهر أنّ العقل إذا لاحظ تلك الحصّة من الطبيعة وأحاط بجميع مشخّصاتها حكم بتوقّف وجودها في الخارج على وجود الشروط المعهودة لها المعبّر عنها بالشروط الشرعيّة ، فإذا كان التوقّف عقليّا كان الشرط أيضا عقليّا كما في سائر الشروط العقليّة.

بل هذا الكلام جار في الشروط العاديّة أيضا ، إذ العقل بملاحظة أنّ العادة قد جرت

ص: 565

على عدم انفكاك الشرط عن المشروط وعدم تحقّق المشروط في الخارج إلاّ والشرط معه يحكم بتوقّف وجوده على وجوده.

وإذا عرفت ذلك فاعرف الجواب عن الاستدلال وهو من وجهين نقضي وحلّي.

أمّا الأوّل : فنقضه بصورة كون الشرط واجبا وتركه المكلّف فأتى بالمشروط بدونه ، فحينئذ لا يخلو من أن يكون آتيا بتمام المأمور به أو ببعضه ، لا سبيل إلى الثاني إذ المفروض أنّ الشرط الّذي لم يأت به ليس جزءا من المأمور به على اعتراف الخصم به كما يشهد به تقرير الاستدلال ، فتعيّن الأوّل وعليه يخرج الشرط عن كونه شرطا وهذا خلاف الفرض.

فإن قلت : بأنّه إنّما أتى بغير المأمور به من جهة انتفاء قيده المعتبر معه ، إذ المفروض كونه مقيّدا وهو لم يأت بالقيد ، فلم يأت بالمأمور به.

لقلنا : بمثله على تقدير عدم وجوب الشرط وأتى المكلّف بالمشروط بدونه ، فإنّه لم يأت حينئذ بالمأمور به لكونه مقيّدا وهو لم يأت بالقيد ، بل أتى بغير المأمور فيكون معاقبا بترك المقيّد ، ولا منافاة بين كون المأمور به مقيّدا مع عدم وجوب القيد برأسه.

وأمّا الثاني : فيظهر بملاحظة ما قرّرناه في المقدّمة ، وحاصله : أنّه بعد ما عرفت أنّه لا فرق في الشرائط بين الشرعيّة وغيرها في كون التوقّف في الجميع عقليّا والشرطيّة ثابتة بحكم العقل ، علمت أنّه لا وجه لإبداء الفرق بينهما من حيث الوجوب وعدمه ، فإن كان الأوّل لابدّ وأن يكون واجبا فكذلك الثاني ، وإن كان الثاني لابدّ وأن يكون غير واجب فكذلك الأوّل لاتّحاد الموجب ووحدة المناط وهو توقّف المأمور به عليهما عقلا في وجوده الخارجي ، كيف وأنّ وجود الصلاة المأمور بها كما أنّه يتوقّف عقلا على تحريك اللسان للقراءة فكذلك يتوقّف عقلا على تحصيل الطهارة والساتر والاستقبال وغيرها من الشروط المقرّرة في الشريعة ، فإذا كان التوقّف في الجميع عقليّا بطلت التفرقة جزما ، بل لابدّ من المصير إلى الوجوب في الكلّ أو إلى عدمه في الجميع.

نعم بين النوعين من الشرط فرق يمكن أن يقال بأنّه دعا هذا القائل إلى الفرق بينهما في الحكم ، وهو : أنّ الشرائط العقليّة ربّما يمكن الذهول عنها عند الأمر بالمشروط بها بخلاف الشرائط الشرعيّة ، فإنّ الذهول عنها حين الأمر غير ممكن ضرورة استحالة الأمر بالمقيّد من دون الشعور بقيده.

ولكن يرد عليه حينئذ : أنّ حكم الشرائط الشرعيّة يصير كحكم الأجزاء ، لكون الآمر

ص: 566

شاعرا بها أيضا عند الأمر ، فإن بنى في الأجزاء بخروجها عن محلّ النزاع لكون وجوبها ممّا لا ينبغي النزاع فيه كما توهّم فلا جرم يكون الشرائط أيضا كذلك ، فالمصير إلى الفرق المذكور حينئذ ليس قولا بما هو من محلّ النزاع ، وإن بنى على دخولها في محلّ النزاع مع القول بعدم الوجوب فيها فلا جرم يكون الشرائط أيضا كذلك ، إذ ليس لها مزيّة على الأجزاء بالنسبة إلى المشروط إن لم يكن الأمر بالعكس.

نعم يتمّ ذلك لو قيل بالدخول مع الوجوب ، فحينئذ يتوجّه وجوب الشرائط الشرعيّة اطّرادا لحكم الأجزاء.

ولكن يدفعه : أنّ مجرّد الشعور وعدم الذهول لو صلح منشأ للإيجاب لاطّراد الحكم بالقياس إلى سائر الشرائط ، لامتناع الذهول عنها أيضا من الشارع ، فهو حين الأمر شاعر بجميع الشرائط شرعيّة كانت أو عقليّة أو عرفيّة فلا وجه للفرق أيضا.

إلاّ أن يقال : بأنّ الفارق إنّما هو شدّة اهتمام الشارع بالشرائط الشرعيّة وكثرة اعتنائه بها من جهة دخول التقيّد بها في الماهيّة المأمور بها وإن كانت هي بأنفسها خارجة عن الماهيّة بخلاف غيرها.

ويدفعه : حينئذ أنّ دخول التقييد في الماهيّة لم يوجب فيها إلاّ خصوصيّة متوقّفة على حصول القيد فكثرة الاعتناء حينئذ ان كان لأجل توقّف تلك الخصوصيّة فسائر الشرائط أولى بذلك جزما ، لكون التوقّف هناك لأصل الماهيّة كما لا يخفى ، وإن كان لأجل غير ذلك فلا نسلّم أصل الدعوى ، كيف ولو كان هاهنا جهة اخرى في الشرائط الشرعيّة أوجبت هذه المزيّة فيها لابدّ من بيانها لينظر في صحّتها وسقمها.

وربّما ينتصر هذا المذهب ويقال في دفع ما يورد على دليله : بأنّه قد ثبت أنّ التكليف بالمسبّب تكليف بالسبب ، ولا شكّ أنّ الصلاة المخصوصة بكونها صادرة عن المتطهّر عبارة عن أفعال معيّنة مع هيئة اعتباريّة لا يمكن تحصيلها إلاّ بإيجاد سببها ، فيكون التكليف بالصلاة المخصوصة بتلك الهيئة تكليفا بأسبابها ، وسببها الأركان المخصوصة مع الطهارة فيلزم تعلّق التكليف بالطهارة كتعلّقه بالصلاة.

وهو كما ترى ، فإنّ فرض السببيّة والمسبّبيّة هنا لا يكاد يعقل إلاّ بجعل الأفعال المعيّنة مع الهيئة الاعتباريّة الّتي جعلت مسبّبة عبارة عن الماهيّة الكلّيّة ، والأركان المخصوصة مع الطهارة الّتي فرضت سببا عبارة عن الفرد ، بدعوى : أنّ إيجاد الفرد الّذي هو الأركان

ص: 567

المخصوصة مع الطهارة سبب لإيجاد الماهيّة الكلّيّة الّتي هي الأفعال المعيّنة في الواقع مع الهيئة الاعتباريّة ، فيكون التكليف بها تكليف بإيجاده.

وقد اتّضح فساد هذه الدعوى فيما سبق ، ومرجعه هنا إلى منع الصغرى وهو كون الفرد سببا.

ولو سلّم فيتوجّه إليه حينئذ منع الكبرى ، وهو كون التكليف بالمسبّب تكليفا بالسبب ، وقد اتّضح وجهه أيضا في دفع كلام من يقول بتلك المقالة.

ولو سلّم فيتوجّه إليه منع ارتباط النتيجة الحاصلة من ذلك بما هو مطلوب المستدلّ ، لكون الطهارة حينئذ جزء للسبب والتكليف به تكليف بمجموع أجزائه من حيث المجموع ، وكون ذلك يستلزم التكليف بكلّ جزء جزء على حدة عين المتنازع فيه ، بناء على ما هو الحقّ من دخول الأجزاء أيضا في محلّ النزاع كما سنقرّره.

نعم إنّما يستقيم ذلك على القول بخروجها عن المتنازع فيه وسيتّضح بطلانه.

هذا كلّه في احتجاج هذا القائل على الجزء الإيجابي من مدّعاه ، وأمّا جزؤه السلبي فقد عرفت أنّه احتجّ عليه بوجوه ستّ ، وتقرير ما عدا الوجه الثاني واضح بملاحظة ما تقدّم في أدلّة المانع مطلقا ، والجواب الجواب أيضا فلا نطيل الكلام بإعادة ذلك.

وأمّا الوجه الثاني فقد قرّره العضدي وغيره : بأنّ وجوب الشيء لو استلزم وجوب غير شرطه لم يكن تعلّق الوجوب به لنفس الوجوب (1) أو لنفس ذلك الغير لتوقّفه حينئذ على التعلّق بملزومه ، والتالي باطل لأنّ الطلب لا يعقل تعلّقه بشيء غير المطلوب.

وأجاب عنه في بيان المختصر بقوله : إن أراد بالتعلّق لنفسه التعلّق بالأصالة لا نسلّم انتفاء التالي ، فإنّ تعلّق الوجوب بالمقدّمات ليس بالأصالة بل بالفرعيّة لتعلّق الوجوب بملزومها أوّلا وبواسطة الملزوم يتعلّق بها.

وإن أراد به أنّ تعلّق الوجوب الفرعي بالمقدّمات ليس من مقتضاه ، فمنعه ظاهر فإنّ الوجوب الأوّل يتعلّق بالشيء ثمّ نشأ منه الوجوب الثاني ، فتعلّق الوجوب الثاني الفرعي بالمقدّمات لذاته ، وأيضا فمنقوض بوجوب الشرط. انتهى.

ص: 568


1- والظاهر أنّ الترديد بين الوجهين من جهة احتمال ضمير « نفسه » في كلام المستدلّ بهما ، لجواز رجوعه إلى الوجوب أو إلى الغير ، فإنّ كلاّ منهما مذكور في كلامه وما استظهرناه هو الّذي تنبّه عليه شارح المختصر في بيان المختصر وصرّح به. ( منه عفي عنه ).

ومنشأ الترديد في الجواب ما وقع في تقرير الاستدلال من الترديد في ضمير « لنفسه » الواقع في كلام المستدلّ باعتبار احتمالي عوده إلى الغير أو إلى الوجوب ، فعلى الأوّل يكون مفاد الدليل : أنّ الوجوب المتعلّق بالمقدّمات لتوقّف تعلّقه بها على تعلّقه بذيها لم يكن نفسيّا بل هو غيري ، فجوابه حينئذ تسليم الملازمة ومنع بطلان التالي على نحو ما قرّره المجيب.

المقدّمات الداخليّة

وحاصله : أنّ الوجوب المتنازع فيه بالنسبة إلى المقدّمات إنّما هو الوجوب الغيري المتوقّف على وجوب الغير دون الوجوب النفسي.

وعلى الثاني يكون مفاد الدليل : أنّ الوجوب المتعلّق بمقدّمات الشيء على تقدير تعلّقه ليس من مقتضيات وجوب ذلك الشيء بمعنى أنّه لم ينشأ منه ، وهو باطل لأنّ المقدّمات حينئذ مطلوبة بذلك الوجوب المتعلّق بذيها.

ومن البيّن امتناع تعلّق الوجوب بشيء هو غير المطلوب.

فجوابه : حينئذ على ما قرّره المجيب تسليم بطلان التالي مع منع الملازمة ، ولكن لا يخفى ما فيه من نوع إجمال.

والأولى أن يستفصل أيضا على التقدير المذكور فيقال : إن اريد أنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمات حينئذ ليس بعين ما تعلّق بذيها ، فالملازمة مسلّمة أيضا ولكن بطلان التالي ممنوع ، لأنّ الّذي يقول بوجوب المقدّمات يزعم تعلّق طلب غيري بها غير ما تعلّق بذيها مسبّب عن ذلك ، وإن اريد أنّه غير مسبّب عنه فالملازمة ممنوعة ودليله الوجدان المغني عن إقامة البرهان ، ولكنّ الّذي ينشأ منه حينئذ إنّما هو الطلب الشأني حسبما قرّرناه سابقا.

فانقدح بما ذكر أنّ ما في عبارة المجيب من منع الملازمة على جميع التقادير غير سديد ، وإنّما يستقيم على التقدير الثاني الّذي أشرنا إليه.

وأمّا قوله : « وأيضا جواب آخر نقضي » وتقريره بالنسبة إلى الشرط الشرعي واضح ممّا مرّ في تقرير الدليل ، فإنّه يجري فيه حرفا بحرف وعليك بالاستخراج.

ثمّ إنّ ها هنا امورا لا بأس بإيرادها وإن سبق إلى بعضها الإشارة إجمالا :

الأمر الأوّل

قد أشرنا سابقا إلى أنّ بين الأصحاب بالنسبة إلى أجزاء الواجب خلافا بالقياس إلى دخولها في محلّ الخلاف وخروجها عنه ، فعن بعضهم دعوى الوفاق على وجوبها ، وعن

ص: 569

آخر دعوى نفي الخلاف عنه ، تعليلا - على ما في كلام بعض الأعاظم - بأنّ الأمر بالكلّ أمر بالأجزاء من حيث إنّها في ضمنه ، لأنّ إيجاد الكلّ هو إيجادها كذلك وليس لإيجاد الكلّ أمرا آخر غير إيجاد أجزائه.

واعترض عليه بما تقدّم عن العلاّمة من جعله الصلاة في الدار المغصوبة من فروع المسألة ، تعليلا بأنّ الكون الّذي هو جزء الصلاة واجب بوجوبها فلا يجوز أن يكون منهيّا عنه ، مع سكوت العميدي عنه لظهور ذلك في أنّ محلّ الخلاف أعمّ - إلى أن قال - : فالأمر بالكلّ ليس أمرا بالأجزاء إلاّ تبعا لا أصالة فيأتي فيها من الخلاف ما كان في غيرها حرفا بحرف.

وصرّح بمثل ذلك بعض الأعلام ، ومن مشايخنا من أفاد أنّ الجزء بعنوان كونه جزءا لا ينفكّ عن الكلّ لأنّ وجوده عين وجود الكلّ ، كما أنّ وجود الكلّ عين وجوده ، فلا يعقل حينئذ عدم كونه واجبا بل يصير واجبا بوجوبه في ضمنه.

ومن الفضلاء من ذكر أنّ الجزء يجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن المركّب واجب نفسي وباعتبار كونه ممّا يتوصّل به إلى الكلّ واجب غيري لتوقّفه عليه ، ضرورة أنّ وجود المركّب مسبوق بوجود أجزائه.

ومن الأفاضل من قال : بأنّه يجري الكلام في وجوب المقدّمة وعدمه بالنسبة إلى أجزاء الواجب أيضا ، نظرا إلى توقّف وجود الكلّ على وجودها ، فلابدّ من الإتيان بها لأجل أداء الكلّ فحينئذ يجب الإتيان بها لأجل أدائه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ، ولا يجب بناءا على عدم وجوبها فالحال فيها كالحال في المقدّمات من غير فرق.

ثمّ ساق الكلام إلى نقل الفرق عن بعضهم بين الأمرين بأنّ دلالته على وجوب أجزائه على سبيل التضمّن لاندراجها فيه دون المقدّمات الخارجة ، لأنّه لا يعقل إفادته لوجوبها إلاّ على سبيل الاستلزام ، فلا وجه لجعل الدلالة في المقامين على نحو واحد.

ومن هنا يظهر أنّ دلالة وجوب الكلّ على وجوب أجزائه ممّا لا مجال للتأمّل فيها.

إلى أن قال : ويدفعه : أنّ هناك فرقا [ بيّنا ] بين وجوب الجزء بوجوب الكلّ وفي ضمنه ووجوب الجزء بسبب وجوب الكلّ ولأجله ، والقدر المسلّم في المقام هو الوجه الأوّل ولا ريب حينئذ أنّ المتّصف بالوجوب على الحقيقة إنّما هو الكلّ وأنّ الجزء إنّما يتّصف به من جهة اتّصاف الكلّ به ، فذلك الاتّصاف منسوب إلى الكلّ بالذات وإلى أجزائه بالعرض.

وأمّا الوجه الثاني فيتوقّف القول به على وجوب المقدّمة فهو وجوب غيريّ متعلّق

ص: 570

بذات الجزء من حيث توقّف الكلّ عليه ، وكون إيجاده مؤدّيا إلى إيجاد الكلّ ، وهذه الدلالة على سبيل الاستلزام في المقامين من غير فرق بين الأمرين.

أقول : وتحقيق المقام على وجه ينكشف حقيقة المرام ، أنّ الكلّ باعتبار أجزائه المعتبرة فيه إمّا عينيّ « كسكنجبين » و « سقمونيا » وما أشبه ذلك ، أو حدثي كالصلاة وصيام شهر رمضان ، أو عقلي كالجسم المركّب عن الهيولى والصورة والإنسان المركّب عن الحيوان والناطق.

وعلى الأوّلين فإمّا أن يكون لانضمام بعض الأجزاء إلى بعض مدخليّة في المطلوبيّة والرجحان بحيث لو لا وجود البعض مع الباقي لما حصل الامتثال أصلا حتّى بالإضافة إلى المأتيّ به ، كالصلاة وسبعة أشواط الطواف وسبعة أحجار رمي الجمرة أو لا مدخليّة له في ذلك ، بل كلّ واحد متّصف بالرجحان في حدّ ذاته والاتيان به موجب للامتثال بحسبه ، كإطعام ستّين مسكينا في الكفّارة ونزح سبعين دلوا في منزوحات البئر على القول بالوجوب ، وصيام ثلاثين يوما من رمضان وإخراج القدر المعيّن من المال في أنعام الزكاة وغلاّتها فهذه خمسة أنواع :

أوّلها : ما كانت الأجزاء عقليّة فحينئذ لا خفاء في صحّة دعوى كون وجود الكلّ عين وجود الجزء ، بل كون الوجود واحدا فيهما ، ولكن دعوى صيرورة الجزء واجبا بوجوب الكلّ في ضمنه محلّ نظر إن اريد به الوجوب الذاتي ، بل لا وجه له أصلا ، كيف وإنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ الأجزاء العقليّة في الأعيان الخارجيّة لا ينوط بها الحكم التكليفي ولا يتصوّرها الموجب أصلا ولو إجمالا ، بل الّذي يتصوّره حين إرادة الإيجاب إنّما هو المفهوم البسيط الّذي ينحلّ عند العقل إلى تلك الأجزاء فيطلبه من دون أن يتعلّق طلبه بها أصلا ولو ضمنا.

نعم لا نضائق اتّصافه بالمطلوبيّة بالعرض عند العقل ، بمعنى أنّ العقل يصحّ له بعد ما التفت إلى الانحلال المذكور أن ينسب الطلب المتعلّق بما ذكر من المفهوم البسيط إلى كلّ من تلك الأجزاء بالغرض ، ولكنّه لا ينفع شيئا في المقام لكونه على سبيل المجاز ، والوجوب المتنازع فيه بالنسبة إلى الأجزاء الّذي ادّعي الوفاق على خروجه عن محلّ الخلاف إنّما هو الوجوب الحقيقي ، وإلاّ فالوجوب العرضي غير خاصّ بها لكونه حدّا مشتركا بينها وبين سائر المقدّمات كما عرفت مرارا ، بل الإنصاف أنّ تعلّق الوجوب بما ذكر ليس من باب تعلّقه بالكلّ بعنوان أنّه كلّ ، فالأولى إخراج الصورة المفروضة عن محلّ

ص: 571

كلام الأصحاب ومجرى عباراتهم المتقدّمة.

وثانيها : ما كانت أجزاؤه عينيّة مع اعتبار الهيئة الاجتماعيّة في المطلوبيّة وهو في الشرعيّات قليل المثال بل عديمه ، وأمثلته في العرف فوق حدّ الإحصاء كما لا يخفى.

وربّما يتخيّل كون رمي الجمار من هذا الباب ، ولكنّه ليس بسديد إذ الغرض كون المركّب من الأجزاء العينيّة مأمورا به وهو في ذلك المثال متعلّق للمأمور به وهو الرمي ، فيرجع ذلك إلى النوع الرابع الّذي سنذكره.

ولك أن تقول : إنّ الأمثلة العرفيّة أيضا من هذا الباب كما لا يخفى ، ويرشد إليه أنّ الوجوب حكم تكليفي ولا يتعلّق إلاّ بالعمل ، والمركّب من الأجزاء العينيّة عين فلا يقع مأمورا به ، وإذا كان رجوع هذا النوع إلى النوع الآتي فيظهر حكمه فيما يأتي.

وثالثها : ما كانت أجزاؤه عينيّة مع عدم اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة ، وهو أيضا كسابقه من كونه فرضا خارجا عن محلّ الكلام ، بل لا مصداق له فيما هو غرض أصلي من تعلّق حكم تكليفي ، وما يتخيّل من أموال الزكاة ومنزوحات البئر كونه من هذا الباب غير سديد لعين ما سبق ، فهو أيضا راجع إلى ما يأتي.

ورابعها : ما كانت أجزاؤه حدثيّة مع اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة ومدخليّتها في الرجحان ، وأمثلته في الشرعيّات وغيرها كثيرة منها الصلاة والطواف ورمي الجمرات ، ومنه صيام النهار لتركّبه عن أجزاء على حسب تعدّد أجزاء الزمان ، فالّذي يدّعي حينئذ أنّ وجوب الجزء عين وجود الكلّ إن أراد به أنّه لا تغاير بين وجوديهما بالذات فكلّ ما صدق عليه أنّه وجود الجزء يصدق عليه وجود الكلّ بعنوان أنّه كلّ فهو خلاف البديهة ، كيف ووجود كلّ جزء ما يحصل له في زمانه الّذي يقع فيه وهو يغاير بالذات وجود الكلّ بعنوان الكلّيّة ، لأنّه عبارة عن مجموع تلك الوجودات المجتمعة من حيث المجموع ومن البيّن مغايرة المجموع لكلّ واحد.

وإن أراد به أنّ الكلّ ليس له وراء وجودات أجزائه وجود آخر بحيث يقع عليه الإشارة الحسّيّة غير ما يقع على ما في كلّ من أجزائه ، فهو مسلّم ولكنّه لا يلزم من ذلك اتّصاف كلّ جزء بالوجوب الّذي يتّصف به الكلّ ، فإنّ الواجب في الحقيقة حينئذ إنّما هو الهيئة الاجتماعيّة لأنّها الّتي يتصوّرها المولى ويطلبها ، وهي الّتي ينوط بها الرجحان الموجب للمطلوبيّة وجودا وعدما ، وهي الّتي ينشأ منها المصلحة الموجبة لذلك الرجحان

ص: 572

ولكنّها كانت قائمة بالأجزاء المتبائنة بحسب الخارج ، فكان كلّ جزء مقدّمة لحصولها وموقوفا عليه لتحقّقها ، فليس في كلّ جزء من حيث هو مصلحة سوى مصلحة المقدّميّة كما في سائر المركّبات الّتي تعتبر فيها خاصيّة قائمة بالمجموع من أجزائها من حيث المجموع ، لضرورة أنّ كلّ جزء منها ليس له تلك الخاصيّة وإلاّ لما كان للهيئة التركيبيّة مدخليّة ، وكان التصدّي باعتبارها واعتبار التأليف بين أجزائها المتبائنة لغوا وعبثا وهو محال من الحكيم ، فحينئذ لا يكون بين أجزاء الواجب وسائر مقدّماته فرق أصلا ، كما أنّه مع قطع النظر عن الوجوب المقدّمي لا وجوب لسائر المقدّمات إلاّ الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّيّة أو الوجوب العرضي المجازي بالمعنى المتقدّم فكذلك الأجزاء حرفا بحرف ، فليس لها إلاّ الوجوب بهذين المعنيين كما تنبّه عليه بعض الأفاضل.

فدعوى : أنّ الجزء باعتبار كونه في ضمن الكلّ واجب نفسي والدالّ على وجوب الكلّ بالمطابقة دالّ على وجوب الجزء بالمطابقة ، وإن كان الدالّ على نفس الكلّ بالمطابقة دالاّ على الجزء بالتضمّن كما عرفته عن بعض الفضلاء ، متّضح الفساد كيف وأنّ الضرورة قاضية بأنّ الطلب في تعلّقه بمتعلّقه تابع لرجحان ذلك المتعلّق ، ورجحانه تابع للمصلحة الكامنة فيه ، كما أنّها مع الوجدان بل الحسّ والعيان قاضية بأنّ المصلحة القائمة بالمجموع باعتبار الهيئة الاجتماعيّة لم تكن قائمة بكلّ جزء من ذلك المجموع وإلاّ لزم أن يؤثّر الجزء أثر الكلّ ولو بحسبه وهذا خلف.

فقضيّة ذلك جريان النزاع في الأجزاء جريانه في سائر المقدّمات حرفا بحرف كما تنبّه عليه بعض الأعاظم وفاقا لبعض الأعلام ، وانحصار وجوبها مع قطع النظر عن الوجوب العقلي والعرضي في الوجوب الغيري المقدّمي بالمعنى الّذي هو ثابت في سائر المقدّمات عند القائل بوجوبها ، أو فيهما حسبما بيّنّاه عند القائل بمنع الوجوب في المقدّمة ، ولمّا كان المختار في المسألة القول الأوّل فلا جرم يكون أجزاء الواجب كسائر مقدّماته واجبة بالوجوب التبعي بالمعنى المتقدّم بعين ما تقدّم من الأدلّة حرفا بحرف من غير فرق ولا تفاوت.

نعم بين أجزاء الواجب وسائر مقدّماته فرق من جهة اخرى لا من جهة الوجوب وعدمه وهي الّتي تنبّه عليها بعض الأفاضل من أنّ الواجب عند انحصار جزئه في المحرّم لا يقع صحيحا ، لأنّ الصحّة فرع الأمر وهو فرع القدرة عليه والمنع الشرعي كالمانع العقلي يوجب سلب القدرة عن الجزء ، فيلزم انتفاء القدرة عن الكلّ أيضا ، ومعه لا وجوب له حتّى

ص: 573

يقع الإتيان به على وجه الصحّة لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، بخلاف سائر المقدّمات فإنّ الواجب مع انحصارها في المحرّمة ربّما يقع صحيحا ، فكما في غير ما لو كانت بحسب الوجود الخارجي مقارنة له كالعلّة أو الجزء الأخير منها ، لما تقدّم تحقيقه من أنّ الواجب حينئذ مشروط وجوبه بحصول تلك المقدّمة فلا وجوب له ما لم تكن حاصلة لعين ما ذكر ، وأمّا إذا حصلت عصيانا أو نسيانا تعلّق به الوجوب إذ لا مانع عنه حينئذ أصلا والمفروض أنّ المانع الأوّل قد ارتفع.

وقضيّة ذلك كون الإتيان به على وجهه موجبا للصحّة لتحقّق جميع مقتضياته وفقد موانعه.

وإنّما فرقنا في ذلك بين الأجزاء وسائر المقدّمات لأنّ جزء الشيء في الحصول الخارجي لا ينفكّ عنه فلا يعقل اشتراط وجوبه بحصوله ، لأنّه إذا حصل على غير جهة المأمور به فالّذي يتعلّق به الوجوب بعد حصوله إمّا هو مع انضمام الباقي إليه أو الباقي فقط ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه المحذور السابق من لزوم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا الثاني : فلمنافاته جزئيّة ذلك الحاصل ، مع أنّ فرض الحصول للجزء مقدّما على حصول الباقي إنّما يصحّ فيما لو كان بين الأجزاء ترتيب بحسب الوجود الخارجي ، كأجزاء الصلاة والطواف وكان ذلك الحاصل أوّل مرتبة الأجزاء وإلاّ ففي غير ذلك لا يعقل فيه سبق الحصول مطلقا كما لا يخفى.

فالمانع حينئذ هو المحذور الأوّل ، كما هو المانع فيما له مقدّمة مقارنة له في الوجود الخارجي وكانت محرّمة ، إذ لا يعقل فيها سبق الحصول على حصوله حتّى يكون بعد حصولها عصيانا أو نسيانا مقدورا على تحصيله.

وخامسها : ما كانت أجزاؤه حدثيّة مع عدم اعتبار الهيئة التركيبيّة في المطلوبيّة كصيام شهر رمضان وإطعام ستّين مسكينا ونزح سبعين دلوا وإخراج المقدار المعيّن من مال الزكاة ، فإنّ الامتثال في كلّ ذلك كما أنّه يتأتّى بالمجموع فكذلك بالبعض ولكن بحسبه.

والوجه في ذلك : أنّ الهيئة الاجتماعيّة حين إرادة الأمر قد تلاحظ موضوعا للحكم فلا يتعلّق الطلب إلاّ بها ، ولا يخرج الأبعاض إلاّ مخرج المقدّمات لحصولها كما في النوع السابق ، وقد تلاحظ عنوانا لما هو موضوع الحكم - وهو الأبعاض فيتعلّق الطلب بكلّ

ص: 574

واحد من تلك الأبعاض على سبيل الاستقلال - حتّى يتحقّق بعبارة واحدة طلبات متعدّدة على حسب تعدّد تلك الأبعاض ، وإنّما أوتيت بتلك العبارة مع إمكان غيرها للتمكّن عن إعطاء الحكم بأخصر عبارتيه ، نظير ما قيل في الكلام الاستثنائي من أنّه جيء به لإعطاء الحكمين بأخصر العبارتين.

في مقدّمة العلم

وممّا قرّرنا ينقدح خروج هذا النوع أيضا عمّا نحن بصدده ، إذ ليس وراء الأجزاء هنا واجب آخر ليكون كلّ واحد منها مقدّمة له ، بل الواجب نفس تلك [ الأجزاء ] وهو في الكلّ وجوب نفسي بل أصلي ولا يعقل لها عنوان آخر ليصلح موضوعا لبحثنا هنا.

وبقي الكلام فيما عرفته عن العلاّمة من الفرع المشتمل على توهّم كون الكون جزءا للصلاة المأمور (1) فعلى القول بوجوب المقدّمة لا يجوز أن يقع منهيّا عنه ، فإنّه كما ترى كلام بظاهره خال عن المحصّل ، لأنّ الصلاة ليست عبارة إلاّ عن الأكوان المجتمعة سواء اعتبرها بحسب المفهوم أو المصداق ، فكلّ كون جزء لها ولا يعقل لها سوى الكون جزء آخر مبائن له حتّى يكون ذلك الكون على تقدير وجوبه - بناءا على وجوب المقدّمة - ممّا لا يجوز أن يتعلّق به النهي ، إلاّ أن يراد بالكون المفهوم المردّد بين الحركة والسكون ، وبالجزء الآخر المقابل له ما يمتاز به الحركة عن السكون وهو عن الحركة ، بناءا على أنّ جزء الجزء جزء ، أو بالكون القدر المشترك بينهما وهو الفعل ، وبالجزء الآخر الماهيّات المخصوصة المعتبرة فيه شرعا ، أو بالكون ما يكون جنسا للحركة وبالجزء الآخر ما يكون فصلا لها.

ولكن يرد عليه حينئذ : ما قرّرناه من أنّ الأمر بالشيء باعتبار أجزائه العقليّة لا يعدّ عندهم من الأمر بالكلّ ليندرج في محلّ بحثهم هنا ، وكون الأمر بالصلاة من باب الأمر بالكلّ إنّما هو باعتبار أجزائها الخارجيّة وليس لها في الخارج أجزاء إلاّ الأكوان المخصوصة والحركات المعهودة ، فكلّ كون جزء وليس لها جزء يغايره ليترتّب عليه الفرع المذكور خاصّة كما عرفت ، فيكون ذلك من فروع وجوب نفس الصلاة لا من فروع وجوب مقدّمتها.

الأمر الثاني

وممّا اختلفت كلمتهم في وجوبه من باب المقدّمة وعدمه الإتيان بأمور يوجب العلم

ص: 575


1- قيل الكون جزء الحركة والسكون ، لأنّ الحركة كون الشيء في مكان عقيب حصوله في مكان ، بمعنى : أنّه عبارة عن مجموع الكونين والسكون عبارة عن كونه في مكان بعد كونه في ذلك المكان ، فيكون هذا الكون مأمورا به لكونه جزءا للمأمور به. ( منه عفي عنه ).

بأداء ما هو واجب في الواقع المعبّر عنه ب- « مقدّمة العلم ».

فعن التوني في الوافية : وكأنّه لا خلاف في وجوب هذا القسم لأنّه عين الإتيان بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، والصلاة في كلّ من الثوبين عند اشتباه الطاهر بالنجس وغير ذلك.

واعترض عليه بعض الأعاظم : « بأنّ الكلام فيه هو الكلام في سائر أصناف المقدّمة لو قلنا بوجوب تحصيل العلم في مثله كما هو الأظهر ، للزوم تحصيل اليقين فيما لو اشتبه البراءة عن التكليف اليقيني وإلاّ فلا وجوب ولا مقدّمة ، وأمّا كون الإتيان بها عين الإتيان بالواجب ففاسد قطعا ، فإنّ الصلاة إلى أربع جهات أحدهما مأمور بها في الواقع وغيرها ليست مأمور بها ، فإنّ الصلاة إلى غير القبلة ليست مأمورا بها وإنّما وجبت بالنصّ أو به وبالقاعدة لتحصيل المأمور به ... إلى آخره.

وقد قدّمنا عن بعض المشائخ التصريح بوجوب هذا النوع مع نفي كونه من باب المقدّمة حتّى يكون متفرّعا على القول بوجوبها ، بل من جهة أنّه لا تغاير بينه وبين ذي المقدّمة في الحقيقة بل هو عينه ، وإنّما الاختلاف يحصل بينهما في التعبير فيكون الإلزام به من العقل عين الإلزام بمقدّمته بالتفصيل المتقدّم في صدر المسألة.

قال بعض الأفاضل - بعد ما أورد على كلام التوني رحمه اللّه - : وحيث كان التكرار المفروض مقدّمة بالنسبة إلى وجود العلم الواجب كان الحال فيه كسائر المقدّمات من غير فرق.

نعم يندرج ذلك في المقدّمة السببيّة لكون التكرار سببا لحصول العلم فالحال فيه كسائر أسباب الواجبات.

وقال بعض الفضلاء : المقدّمة كما تكون مقدّمة وجوب ومقدّمة وجود كذلك قد تكون مقدّمة علم كغسل جزء من الرأس لتحصيل العلم بغسل تمام الوجه ، فيجب حيثما يجب ، ومرجع هذه المقدّمة عند التحقيق إلى مقدّمة الوجود حيث يتوقّف حصول العلم عليها ، فوجوبها إنّما يستفاد من الخطاب بتحصيل العلم الثابت في موارده بالعقل أو السمع لا من الخطاب بالفعل إذ لا توقّف له عليها ، - إلى أن قال - : فمن فروعه ما لو اشتبه الواجب بالجائز فعلى ما حقّقناه يجب الإتيان بما يعلم معه الإتيان بالواجب.

فتبيّن من تلك العبارات أنّه لا خلاف في أنّ وجوب المقدّمة العلميّة بعنوان المقدّميّة متفرّع على وجوب تحصيل العلم بأداء المكلّف به الواقعي لا أنّه من مقتضيات وجوب

ص: 576

نفس المكلّف به ، إلاّ على ما يوهمه عبارة الوافية على أحد احتماليها الّذي فهمه الجماعة على ما عرفت.

وأمّا وجوب تحصيل العلم فعمدة دليله العقل ، القاضي باستدعاء الشغل اليقيني الفراغ اليقيني إرشادا منه إلى تحصيل الاطمئنان عن الوقوع في المهلكة واستحقاق العقوبة.

ومن البيّن أنّه في مواضع الاشتباه فرع ثبوت التكليف بالواقع وهو ممّا اختلفت فيه الأنظار.

ومن الأعلام من أنكره ، والجمهور على خلافه وهو الحقّ لحجّية العلم الإجمالي من جهة حكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء بناءا على أنّ معنى حجّيته وجوب الموافقة القطعيّة لا مجرّد حرمة المخالفة القطعيّة كما توهّم ، وذلك لأنّ مقتضاه على تقدير الحجّية ثبوت التكليف بالواقع ولازمه وجوب الامتثال بما هو مكلّف به في الواقع ، وهو وإن كان لا يتوقّف على الإتيان بجميع أطراف الشبهة ولكن العلم به متوقّف عليه توقّفا عاديّا ، كتوقّف العلم بغسل تمام الوجه على غسل جزء من الرأس ، فينضمّ إلى ما ذكر حينئذ قضاء العقل بوجوب القطع بالامتثال عند القطع بالاشتغال ، ويصير العلم بذلك واجبا ولو كان وجوبه غيريّا ، لأنّ العقل من أدلّة الشرع فيخرج الإتيان بأطراف المشتبه مخرج مقدّمة الواجب.

فمن قال من أصحاب القول بوجوب المقدّمة بعدم الوجوب هنا - إن كان ثابتا - فلابدّ وأن يبني كلامه على إنكار حجّية العلم الإجمالي كما عليه بعض الأعلام ، بدعوى انصراف الألفاظ في حيّز الخطابات إلى المعلومات بالتفصيل ، أو على دعوى أنّ معنى حجّيته حرمة القطع بالمخالفة لا وجوب القطع بالموافقة تحكيما لأدلّة أصل البراءة على أدلّة أصل الاشتغال ، حتّى فيما لو كانت الشبهة حاصلة في المكلّف به مع وجود القدر المتيقّن في البين ، ولكنّ المقدّمة هنا سببيّة كما تنبّه عليه بعض الأفاضل ووجوبها مع قطع النظر عن النصّ الوارد في بعض الموارد مردّد بين كونه نفسيّا أو مقدّميّا ومنشؤه اختلاف الأنظار هنا في كون الأمر بالمسبّب عين الأمر بالسبب وعدمه.

وقد عرفت أنّ بعض مشايخنا رجّح الأوّل وهو أحد احتمالي كلام التوني والباقون على خلافه.

ويرد على الأوّل : أنّه خلاف ما بنى عليه في الأمر بالمسبّبات من منع رجوعه إلى الأسباب ردّا على من توهّمه ، مضافا إلى أنّه ممّا ينكره الوجدان ، كيف وأنّه حكم من العقل وهو لا يتصوّر عند إنشائه ذلك الحكم إلاّ العلم الّذي هو نفس المسبّب كما يرشد إليه المقدّمة الّتي

ص: 577

يرتّبها لبيان ذلك الحكم من أنّ القطع بالاشتغال يستدعي القطع بالامتثال ، ومجرّد عدم تغايره سببه في الوجود الخارجي وعدم إمكان التفكيك بينهما بل كونهما متّحدين بحسب المصداق لا يوجب ثبوت هذه الدعوى بعد ما علم من أنّ المنشئ لذلك الحكم أنشأه على خلافها وأثبته في نفس المسبّب دون سببه ، فلابدّ بالنسبة إلى السبب من إنشاء آخر ليتمّ به القول بوجوبه ، وهو بناءا على ما اخترناه من وجوب المقدّمة تبعا واضح الثبوت ، فلا فرق حينئذ من هذه الجهة بين هذه المقدّمة وغيرها سببيّة كانت أو غيرها.

نعم يمكن الفرق من وجه آخر وهو : أنّ الوجوب بالنسبة إلى ذي المقدّمة هنا يثبت بحكم العقل من باب الإرشاد ، وهو كما أنّه يرشد إليه تحصيلا للاطمئنان بأداء الواجب وعدم الوقوع في المهلكة كذلك يرشد إلى ما هو مقدّمة له وطريق موصل إليه ، فيكون وجوبها ثابتا من العقل على جهة التفصيل بخلاف الوجوب في سائر المقدّمات حسبما قرّرناه من كونه إجماليّا ، بل ربّما يخرج ذلك منشأ للإشكال بالنظر إلى ما سبق في تحرير موضع النزاع من وجهين :

أحدهما : ما ذكرناه مرارا من أنّ وجوب المقدّمة بالمعنى المتنازع فيه الّذي يساعده أدلّة الباب إنّما هو الوجوب التبعي ، بمعنى كونه إجماليّا شأنيّا والّذي يثبت هنا وجوب فعليّ تفصيلي.

والآخر : ما أشرنا إليه أيضا من أنّ الوجوب المتنازع فيه إنّما هو ما زاد على الوجوب الإرشادي الثابت من جانب العقل في جميع المقدّمات ، لأنّه ممّا لا ينبغي الخلاف فيه وهو في المقام إنّما هو الوجوب بهذا المعنى فليس من المتنازع فيه في شيء ، بل ربّما يمكن تقرير هذا الإشكال في سائر المستقلاّت العقليّة الّتي منها وجوب ردّ الوديعة ونحوه ، فإنّ العقل كما يلزم المكلّف على الردّ فكذلك يلزمه على مقدّمات وجوده إلزاما فعليّا تفصيليّا كما لا يخفى ، فيكون ذلك جاريا على خلاف ما هو الحال في مقدّمات سائر الواجبات.

ويمكن دفعه : بأنّ العقل بعد ما حكم بوجوب تحصيل العلم ولو إرشادا كشف عن كونه ممّا حكم به الشرع أيضا قضيّة للتطابق بينهما.

ثمّ في جانب المقدّمة زيادة على حكمه الإرشادي بوجوبها أدرك كونها بحيث من شأنها أن يطلبها الشارع وألزم بها على نحو ما في سائر المقدّمات ، ومثل ذلك في

ص: 578

المستقلاّت العقليّة ، فإنّ حكم العقل بوجوب مقدّماتها ولو إرشادا لا ينافي إدراكه كونها بحيث يطلبها الشارع ولو شأنا ، ولا سيّما بملاحظة ما هو التحقيق من كون حكمه فيها من باب الإدراك لا غير ، بل وبملاحظة ما قدّمنا احتماله من كون ذلك المدرك طلبا شأنيّا قائما مقام الطلب الفعلي في جميع الآثار واللوازم.

وبذلك بطل الفرق الّذي أشرنا إليه بين مقدّمة العلم وغيرها في الوجوب الثابت فيهما ، فإنّ الكلّ على نهج سواء وصفا ونوعا.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب المقدّمة العلميّة لا يفترق الحال بين كونها فعليّة كما عرفت أو تركيّة كما في الحرام المشتبه بغيره مع كون الشبهة محصورة ، فيجب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة مقدّمة ، لتوقّف العلم بما وجب عليه من ترك الحرام عليه على ما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم العلاّمة ، خلافا لبعض الأعلام فقال : بمنع الوجوب حينئذ ولو على القول بوجوب المقدّمة ، وعلّله بأنّ الواجب إنّما هو الاجتناب عمّا علم حرمته لا عن الحرام النفس الأمري لعدم الدليل على ذلك ، والأصل والأخبار المعتبرة يساعدنا. ولنا معه كلام يطول البحث بذكره مع أنّ له محلاّ أليق به من المقام يأتي إن شاء اللّه.

زيادة إيضاح في المقدّمة الموصلة

الأمر الثالث

ومن جملة ما تقدّم البحث عنه سابقا ما أوردناه في مباحث الواجب الغيري من الخلاف في اعتبار وصف الإيصال فيما وجب بالغير إلى ذلك الغير بحيث لولاه كشف أنّ المأتيّ به لم يكن واجبا.

ولقد عرفت أنّ بعض الفضلاء ذهب إليه ، وبسطنا الكلام في دفع توهّمه ونبّهنا على أنّ هذا الكلام غير مختصّ بما ورد به نصّ بالخصوص بل يعمّه والمقدّمة الّتي وجوبها على القول به غيري ، فلذا أوردنا البحث ثمّة على وجه يشمل المقدّمة أيضا ونزيد هنا أنّه ربّما يتخيّل - على ما حكاه بعض الأفاضل - أنّ الواجب من المقدّمة ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره ، فإذا أوجب الشارع علينا الحجّ كان قطع المسافة الموصل إلى الحجّ واجبا علينا لا مطلقا ، فلو قطع المسافة إلى مكّة وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة.

وممّن اختار هذا المذهب بعض الفضلاء على نحو ما اختاره في الواجب الغيري ، فقال : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة. - إلى أن قال - : بمعنى أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط

ص: 579

بحصول الواجب حتّى أنّها إذا وقعت مجرّدة عنه تجرّدت عن وصف الوجوب والمطلوبيّة ، لعدم وقوعها على الوجه المعتبر ، فالتوصّل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، ثمّ استدلّ على ذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ وجوب المقدّمة لمّا كان من باب الملازمة العقليّة فالعقل لا يدلّ عليه زائدا على القدر المذكور.

والثاني : أنّه لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : « اريد الحجّ واريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ دون ما لا يتوصّل به إليه وإن كان من شأنه أن يتوصّل به إليه » بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك ، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيّتها مطلقا أو على تقدير التوصّل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدّمته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

والثالث : أنّه حيث أنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيّتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكّت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله.

وبالتأمّل فيما قدّمناه يظهر بطلان ذلك وفساد أدلّته المذكورة.

وإن شئت زيادة توضيح في ذلك فنقول : إنّ القول بكون الواجب من المقدّمة هي المقدّمة الموصلة ليس له عند التحقيق مفهوم محصّل إلاّ دعوى اختصاص الوجوب فيما بين المقدّمات بما يكون علّة تامّة أو الجزء الأخير منها ، إذ لا يكون ما عداهما من المقدّمات إلاّ الشرط وعدم المانع الراجع إليه والسبب المصادف لانتفاء الشرط والسبب المقارن لوجود المانع.

ولا ريب أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لاتّصافه بوصف الإيصال وإلاّ لكان خلاف الفرض ، وهو كما ترى قول مستحدث يبطله الآراء.

فإن قلت : إنّما يصحّ لو اعتبرنا تلك الامور بشرط لا دون ما لو اعتبرناها بشرط شيء.

وبعبارة اخرى : لو أخذنا الشرط وغيره ممّا ذكر منفردا فالأمر كما ذكرت من عدم الاتّصاف بوصف الإيصال ، بخلاف ما لو أخذناه منضمّا إليه غيره ممّا له دخل في وجود الواجب فإنّه يستلزم الإيصال جزما فلا يلزم المحذور.

ص: 580

قلت : ما اعتبرت من الانضمام إن كان له مدخليّة في متعلّق الوجوب بحيث لو انتفى انتفى الوجوب فالمحذور باق على حاله ، لكون مفاده بالأخرة دعوى وجوب العلّة التامّة خاصّة دون الشرط بما هو شرط وإن لم يكن له مدخليّة فاعتبار الانضمام حينئذ غير مجد فيما هو مطلوبك بعد فرض كون الواجب هو الشرط من غير مدخليّة لانضمام الغير إليه في اتّصافه بالوجوب.

فإن قلت : إنّما نأخذ الشرط في محلّ الوجوب لا بشرط وهو لا ينافي شرط الانضمام إليه فيكون معه موصلا فحصل المطلوب.

قلت : إنّ الشرط لا بشرط الانضمام كما أنّه لا ينافيه الانضمام فكذلك لا ينافيه عدم الانضمام أيضا ، فمتعلّق الوجوب إمّا أن يكون الشرط على كلا تقديري الانضمام وعدمه فهو اعتراف بضدّ المطلوب ، أو الشرط على تقدير الانضمام خاصّة فهو التزام بالمحذور ، لكون مفاد العبارة حينئذ تقييد الواجب من الشرط بانضمام سائر الشروط إليه وهو تخصيص للوجوب بالعلّة التامّة ، مع أنّا نرى أنّه ليس في المقام إلاّ المقدّمة ووجوبها والوصول بها إلى الواجب ، فإمّا أن يقال حينئذ : يجب المقدّمة للوصول ، أو يقال : يجب الوصول بالمقدّمة ، أو يجب المقدّمة والوصول أو يجب المقدّمة بشرط الوصول. وعليه فإمّا أن يؤخذ اشتراط الوصول قيدا للوجوب أو قيدا للواجب.

والأوّل ما نذهب إليه ممّا هو تحقيق المقام من كون الوصول إلى الواجب علّة غائيّة لإيجاب المقدّمة وحكمة باعثة على طلبها حتما كما هو من مقتضى ضرورة الوجدان مع بداهة العقول والأذهان ، وظاهر أنّ العلّة الغائيّة ما يلاحظ لتصحيح الفعل لئلاّ يخرج على الفاعل لغوا وعبثا من غير أن يعتبر فيها ترتّبها عليه فعلا ، فهي بحيث قد تترتّب عليه في الخارج وقد لا تترتّب ولا يقدح في صحّته إذا كانت ملحوظة عنده ، فالوصول إلى الواجب بالنسبة إلى الإيجاب المقدّمة من هذا الباب ، إذ غاية ما في الباب كون وجوبها معلّلا به حاصلا لأجله وأمّا اعتبار ترتّبها فعلا فلا.

وأمّا الاحتمالات الاخر فكلّها جار فيما ذهب إليه الفاضل المذكور على سبيل البدليّة وإن كان بعضها خلاف ظاهر عبارته.

وعلى أيّ تقدير فلا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل منها : فلأنّه مفاد إيجاب أصل الفعل فيبقى مقدّمته غير ثابت الحكم فإن كان

ص: 581

ذلك هو المراد من وجوب المقدّمة لكان قولا بنفي الوجوب لا إثباته كما لا يخفى على المتدبّر.

وأمّا الثاني : فلأنّه ما لا ينكره القائل بعدم اعتبار وصف الإيصال في المقدّمة ، فإنّ الجزء الأوّل مفاد وجوب المقدّمة على الإطلاق.

وأمّا الجزء الثاني فلأنّه مفاد وجوب أصل الفعل كما عرفت ، ولكن أخذه في مفهوم وجوب المقدّمة كما ترى ممّا يكذّبه السليقة ويرمى زاعمه باعوجاج الذوق والفطنة.

وأمّا الثالث : فلاستحالته من جهة أدائه إلى اشتراط إيجاب الشيء بحصوله نظرا إلى أنّ الوصول إلى الواجب يستلزم حصول المقدّمة واشتراط الوجوب به اشتراط له بحصولها ، مضافا إلى كونه من باب الإقدام على الفعل بعد حصول الغاية المطلوبة فيكون تحصيلا للحاصل.

وأمّا الرابع : فلاستلزامه انقلاب العلّة التعليليّة علّة تقييديّة أو كون الشيء علّة تعليليّة وتقييديّة معا ، والأوّل خلاف الفرض لما عرفت من أنّ المفروض كون الوصول علّة غائيّة للطلب فكيف ينقلب قيدا في المطلوب ، والثاني محال لأدائه إلى اجتماع النقيضين ، فإنّ مقتضى تعليليّة العلّة إطلاق المطلوب ومقتضى تقييديّتها كونه مقيّدا وهما نقيضان.

وأمّا الأدلّة الّتي تمسّك بها الفاضل المذكور ففسادها أوضح من فساد أصل دعواه.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ كون وجوب المقدّمة من جهة الملازمة العقليّة مسلّم غير أنّها ملازمة بين الوجوبين لا الوجودين ، فإنّ وجود الواجب لما كان متوقّفا على وجود مقدّمته فالعقل يحكم بأنّ إيجابه يستلزم إيجابها ولكن دخول وصف الإيصال إليه فيها يتبع ثبوت الملازمة بين الوجودين ، فإن كانت بحيث يستلزم وجودها لوجوده كما أنّ وجوده يستلزم وجودها كالعلّة والجزء الأخير منها كان متعلّق الوجوب هو المقدّمة مع وصف الإيصال ، فعدم ترتّبه معه يكشف عن أنّ المأتيّ به من المقدّمة ليس بهذا النوع من المقدّمة الواجبة لا أنّه ليس من مطلق المقدّمة الواجبة ، وإن كانت بحيث لا يستلزم وجودها لوجوده كالشرط ونحوه لكون الاستلزام من طرف واحد كان متعلّق الوجوب هو هذه المقدّمة لا مع وصف الإيصال ، كيف (1) ولو لا ذلك لزم أن لا يجب شرط أصلا ، أو يعتبر فيه عند الوجوب انضمامه

ص: 582


1- مع أنّا نقول : إنّ وجه مناط وجوب المقدّمة إنّما هو كون تركها مفضيا إلى ترك ذيها كما تبيّن عمّا قدّمناه من تقرير الاستدلال ، وهذا معنى يشمل المقدّمات الغير الموصلة في حدّ ذاتها بحسب الوجود إليه كالشروط وما هو بحكمها والمقدّمات الموصلة كالعلل والجزء الأخير منها. ( منه عفي عنه ).

إلى سائر أجزاء العلّة التامّة وهو مع أنّه خروج عن إطلاق القول بوجوب المقدّمة إلى ما اتّفق الآراء على نفيه ممّا ينكره الوجدان كيف ونحن نجد من أنفسنا أنّ الطلب بالنسبة إلى المقدّمة ولو شأنا يتعدّد بحسب تعدّد أجزاء العلّة من جهة كون كلّ جزء منها مقدّمة مع عدم استلزامه الوصول جزما.

وبناء كلام هذا الفاضل إنّما هو على دعوى اتّحاد الطلب وإن لم يصرّح بها في عبارته ، لكون نفس الإيصال لازما لواحدة من المقدّمات أو الهيئة الاجتماعيّة الحاصلة من انضمام بعض إلى آخر.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ العقل الصريح قاض بأن ليس للآمر الحكيم أن يقول : « اريد الحجّ واريد المسير الّذي يتوصّل به إلى فعل الحجّ دون ما لا يتوصّل به إليه » لأنّ ذلك جمع بين الشيء وبين ما يناقضه ويضادّه ، فإنّ المسير بما هو هو من جملة الشروط والشرط بما هو هو ليس من شأنه التوصّل به إلى المشروط كما يرشد إليه تعريفه : « بما لا يلزم من وجوده الوجود » فتوصيفه بما ذكر من إرادة التوصّل به إليه توصيف له بما يناقضه ، وأنّه نظير أن يقال : « اريد منك الأبيض الّذي يجمع البصر ولا اريد ما لا يجمعه » أو « اريد منك الأسود الّذي يفرّق البصر دون ما لا يفرّقه ».

نعم لو اريد بعبارة الموصول مع صلته بيان اشتراط انضمام هذا الشرط إلى سائر الشروط اللازمة لارتفع الحزازة المذكورة غير أنّه تصريح في إيجاب المقدّمة بعدم وجوب الشرط بما هو شرط ، وأنّ الواجب فيها منحصر في العلّة التامّة أو ما يعامل معاملته وهو كما ترى ، ولا أظنّ أنّ هذا الفاضل يلتزم بذلك وإنّما تمسّك بذلك الوجه غفلة عمّا هو حقيقة مفاده ومقتضاه.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ قوله : « وحيث إنّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب فلا جرم يكون التوصّل بها إليه معتبرا في مطلوبيّتها » مصادرة بالمطلوب.

ومع الغضّ عن ذلك فهو فاسد الوضع من جهة أنّ التوصّل على البيان المذكور علّة غائيّة لطلب المقدّمة وحكمة داعية إلى إيجابها ، والضرورة قاضية بأنّ علّة الحكم لا تؤخذ قيدا في موضوعه ، وإلاّ لخرج عن كونه علّة إلى كونه معروضا للحكم ، وهو محال من جهة أنّ علّة العارض لا يصلح معروضا له.

وقوله : « وصريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا بمجرّد حصول شيء لا يريده إذا

ص: 583

وقع مجرّدا عنه » مسلّم ولكنّه غير مجد له أصلا ، إذ فرق بيّن بين إرادة شيء لحصول شيء آخر على الإطلاق وبين إرادته لذلك بشرط عدمه ، وصريح الوجدان قاض بنفي الثاني وهو ممّا لا يقول به أحد.

وأمّا الأوّل فهو صحيح ولا يلزم منه دخول ما بعد « اللام » الّذي هو علّة للإرادة في المراد على جهة القيديّة ، بل صريح الوجدان قاض بخلافه كما عرفت.

وبالجملة ها هنا صور ثلاث :

إحداها : إيجاب المقدّمة للإيصال لا بشرط الإيصال ، بمعنى عدم كونه قيدا في الواجب.

وثانيتها : إيجابها للإيصال بشرط الإيصال على جهة القيديّة.

وثالثتها : إيجابها للإيصال بشرط عدم الإيصال على جهة القيديّة أيضا.

والّذي نجوّزه هو الأوّل والوجدان غير قاض بنفيه بل يساعده.

والّذي ينفيه الوجدان هو الثالث ولا نقول به بل لا يجوّزه أحد.

وبقي الثاني بلا حكم من الوجدان بنفيه ولا ثبوته إن لم نقل بقضائه بالنفي في بعض التقادير كما عرفت فلا دليل فلا ثبوت للمطلوب.

في تعلّق الوجوب بالمقدّمة قبل وجوب ذيها

الأمر الرابع

اختلفوا في جواز تعلّق الوجوب بالمقدّمة قبل دخول وقت ذيها وعدمه على أقوال.

فعن ظاهر الأكثر كما في كلام بعض الأعاظم ، والمحكّي عن ظاهر الجمهور كما في عبارة بعض الأفاضل البناء على المنع مطلقا ، وهو لازم من يرى الغسل للصوم الواجب على المحدث بالأكبر قبل الفجر واجبا لنفسه ، ومن يراه مندوبا أو مجزيا بنيّة الندب كما حكي عن الحلّي ، ومن رآه واجبا من جهة أنّه إذا بقي لطلوع الفجر بقدر ما يغتسل فيه فهذا الزمان ينزّل منزلة حضور الوقت ، وهو لازم كلّ من يراه مضيّقا كما صار إليه جماعة كالشرائع والقواعد والدروس والتذكرة ونهاية الإحكام وغيرها ، ومن يراه واجبا للتوطين على إدراك الفجر طاهرا إلاّ فيما لو كان الشرط راجعا إلى المكلّف منوّعا له كالاستطاعة.

ومن الأعاظم من صرّح بالجواز مطلقا ، واختاره بعض مشايخنا أيضا كما اختاره البهائي في الحبل المتين.

وهو صريح من جعل وجوب الغسل قبل الفجر غيريّا ، قائلا : بأنّ مقدّمة الواجب يصحّ

ص: 584

أن يتّصف بالوجوب الغيري قبل أن يتّصف ما وجبت له به ، على ما حكاه بعض الفضلاء عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين ، بل هو ظاهر العلاّمة حيث شنّع على الحلّي في حكمه بكون غسل الجنابة قبل الفجر مندوبا في صوم شهر رمضان مع اعترافه بتوقّف الصوم عليه وتصريحه بوجوب المقدّمة على ما حكاه بعض الأعاظم.

ولعلّه وجده في بعض كتبه وإلاّ فالمنقول عنه في أكثر كتبه القول بوجوب الغسل لنفسه وفاقا للمعتبر ، ولذا اعترض عليه جماعة بالتنافي بين قوله هذا وقوله بكون الغسل لصوم رمضان مضيّقا مخصوصا وجوبه بآخر الوقت ، وإن كان قد يحكى عنه الاعتذار بأنّ المراد تضييق الوجوب آخر الوقت لا اختصاص الوجوب به ، قال : ومعناه أنّ الصوم ليس موجبا للغسل بل يتضيّق الوجوب بسببه. وأمّا الموجب له الجنابة.

وهو كما ترى لا يجدي نفعا ، إذ الصوم لو لم يكن له مدخل في وجوب الغسل على ما هو مناط الغيريّة فلا وجه لتضيّقه بسببه إلاّ أن يرجع إلى القول بوجوبه لغيره مع وجوبه لنفسه ، وإن كان لا يساعد عليه ظاهر عبارته في الاعتذار.

وعن جماعة منهم صاحب الذخيرة والمحقّق الخوانساري - على ما عزاه بعض الأفاضل - تخصيص الجواز بما لو كان وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا.

وقضيّة ذلك على حسب ظاهر الحكاية المنع في غير ذلك فيكون تفصيلا غير ما هو المعروف.

وعن بعضهم أنّه خصّ الجواز بمقدّمات الواجب المضيّق أو الموسّع الّذي لم يسع وقته لأدائه وأداء مقدّمته كما في الحجّ.

وربّما يجعل ذلك قولا بالتفصيل فيما بين المضيّق والموسّع على الإطلاق ، ولعلّه لا تنافي بين الحكايتين كما يظهر بأدنى تأمّل ، ولا سيّما بملاحظة أنّ المضيّق أعمّ عندهم ممّا كان كذلك رخصة فقط لا إجزاء فيكون الحجّ حينئذ نوعا من المضيّق وإن كان موسّعا من جهة الإجزاء.

وبعض الفضلاء وفاقا لأخيه بعض الأفاضل خصّ الجواز بما لو كان الوقت المشروط به شرطا للواجب فعبّر عنه بالواجب المعلّق ، دون ما لو كان شرطا للوجوب فعبّر عنه بالواجب المشروط ، بعد ما فرّق بينهما بجعله الثاني طرفا مقابلا للواجب المطلق والأوّل طرفا مقابلا للواجب المنجّز ، حيث صرّح بعد ما قسّم الواجب إلى المطلق والمشروط ،

ص: 585

بانقسام الواجب باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسمّ منجزّا ، وإلى ما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له وليسمّ معلّقا ، كالحجّ نظرا إلى أنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له.

فقال : والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل ، إلى أن قال : ففرق إذن بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وبين قوله : « افعل كذا في وقت كذا » فإنّ الاولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت ، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي.

ثمّ قال : وحاصل الكلام أنّه ينشئ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني ينشئ طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا.

ثمّ إنّ ظاهرهم عنوانا ودليلا وتمثيلا بل صريح بعضهم وقوع هذا النزاع في الواجب المشروط ، غير أنّهم اختلفوا في تحرير العنوان فالأكثرون جعلوه فيما لو كان الشرط من الأوقات والأزمان ، وبعضهم جعله فيما يعمّها والامور الاعتباريّة كقدوم زيد ونحوه.

ثمّ إنّه لا ريب أنّ الأصل عملا واعتبارا في جانب القول بالمنع مطلقا.

أمّا الأوّل : فلأنّ العدم الأزلي لا ينقطع إلاّ مع الجزم ولا جزم إلاّ مع دخول وقت الغاية.

وأمّا الثاني : فلأنّ المقدّمة في وجوبها فرع لذيها فكيف تتّصف به قبل اتّصافه ، ولكن ظنّي أنّ هذا الخلاف أمر نشأ عن الاشتباه في أمر صغروي بحيث لولاه لاتّفقت الآراء بالنسبة إلى الكبرى.

وتوضيح ذلك يتوقّف على رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى :

في أنّه قد عرفت أنّ المقدّمات عندهم تنقسم إلى ما هو مقدّمة الوجوب وما هو مقدّمة الوجود وما هو مقدّمة الصحّة وما هو مقدّمة العلم وهذا كما ترى اصطلاح لهم مبنيّ على الاعتبار وملاحظة أقرب المناسبات ، وإلاّ فقد عرفت أنّ مرجع مقدّمة العلم إلى مقدّمة الوجود كما أنّ مقدّمة الصحّة مرجعها إلى مقدّمة الوجود ، من جهة أنّ التوقّف مأخوذ في وجود الواجب إمّا باعتبار ذاته من حيث هي أو باعتبار وصفه العنواني ، فعلى الموقوف عليه يصدق أنّه مقدّمة الوجود على كلا الاعتبارين.

ص: 586

بل نقول هنا : إنّ مقدّمة الوجوب أيضا ترجع إلى مقدّمة الوجود ، فإنّ توقّف الواجب على شيء باعتبار وصفه العنواني إمّا من جهة كونه ممّا يتوقّف عليه الأمر بذلك الواجب أو موافقة الأمر به ، فمقدّمة الوجود حينئذ ما يتوقّف عليه وجود الواجب في ذاته أو في وصفه باعتبار ذلك الوصف به ، أو حصوله في الخارج موصوفا بذلك الوصف.

وإن شئت فلاحظ امتناع حصول الواجب من الحجّ عن المستطيع التارك لقطع المسافة والخروج مع الرفقة ، وعن الغير المستطيع الغير الملتزم بشيء من موجباته وعن المستطيع الآتي بقطع المسافة المرائي في مناسكه ، فيصدق على كلّ واحد أنّه مقدّمة الوجود كما يصدق على الأوّل خاصّة مقدّمة الوجود ، وعلى الثاني مقدّمة الوجوب ، وعلى الثالث مقدّمة الصحّة.

بل نقول : إنّه يصحّ إرجاع الكلّ إلى مقدّمة الصحّة ، نظرا إلى أنّها عبارة عن موافقة الأمر فلابدّ فيها من أمر وموافقة لذلك الأمر وما قام به تلك الموافقة ، فما يتوقّف عليه الأوّل مقدّمة للوجوب ، وما يتوقّف عليه الثاني مقدّمة للصحّة ، وما يتوقّف عليه الثالث مقدّمة للوجود ، فيصدق على كلّ أنّه مقدّمة للصحّة.

فلذا ترى أنّه يمتنع الحجّ الواجب عن الغير المستطيع إذ لا أمر ، وعن المرائي إذ لا موافقة للأمر ، وعن تارك الخروج مع الرفقة إذ لا موافق للأمر أي لا عمل منه ليوافق الأمر.

بل يصحّ إرجاع الكلّ إلى مقدّمة الوجوب أيضا ، فكما أنّ الاستطاعة مقدّمة للوجوب فكذلك الطهارة للصلاة إذ لا وجوب لما خلت عنها ، وكذلك الإرادة لها وقطع المسافة للحجّ إذ لا وجوب لما يترتّب عليهما من العدم والترك.

وبالجملة يصحّ التعبير عن الكلّ باسم واحد وعن كلّ واحد باسم منفرد ، غير أنّه على الأوّل يعتبر ذلك الاسم بمعناه الأعمّ وعلى الثاني يعتبر بمعناه الأخصّ.

ولو اطلق اسم واحد على كلّ اثنين كمقدّمة الصحّة مثلا على الاستطاعة والطهارة فيعتبر ذلك الاسم بمعناه الأعمّ من الثاني والأخصّ من الأوّل كما لا يخفى.

المقدّمة الثانية :

في أنّه إن شئت ملاك الفرق بين مقدّمة الوجوب ومقدّمة الصحّة بمعناهما الأخصّ بحسب اللبّ والواقع - على ما يساعد عليه النظر - فاعلم :

أنّ كلّ شرط أو سبب ينوط به حسن المأمور به مع قطع النظر عن الأمر به ويتوقّف

ص: 587

عليه رجحانه بالذات بحيث لولاه لما كان فيه حسن ولا رجحان أصلا فهو مقدّمة للصحّة ، ويعبّر عنه بمقدّمة الواجب أيضا ، وكذلك قيد الفعل لأنّه يشخّصه وينوّعه كالطهارة والاستقبال للصلاة وقصد الإخلاص لجميع العبادات ، فإنّ الأمر لا قبح فيه بالذات غير أنّ ما خلا عنها لا حسن فيه في نظر الشارع.

وكلّ شرط أو سبب ينوط به الأمر بذلك المأمور به وإن كان في حدّ ذاته راجحا بحيث لولاه لكان أصل الأمر قبيحا عند العقل [ فهو مقدّمة للوجوب ] كالعلم والقدرة والعقل والبلوغ والاستطاعة وبلوغ النصاب ونحو ذلك ، لاستقلال العقول بقبح أصل الأمر والإلزام بالفعل بالنسبة إلى من لا يعلم أو لا يقدر أو لا يعقل أو لا يبلغ في الجملة ، أو لا يملك الزاد والراحلة أو لا يملك النصاب في الجملة أيضا.

وأمّا أصل الفعل فربّما يمكن رجحانه في الجميع إن أمكن صدوره عن البعض.

ثمّ إنّ من الشروط ما يكون من الأوقات كعشرة أيّام الحجّ وشهر الصيام وأوقات الصلاة ، وما يكون من الأمكنة كمحلّ الطواف والسعي والوقوفين والرمي والذبح ونحو ذلك في مناسك الحجّ ، وما يكون من الامور الاعتباريّة كقدوم الحاجّ ومجيء زيد وما أشبه ذلك فيما علّق عليها ، وقد جرت عادة الجمهور بتسمية الواجب بالنسبة إلى النوع الأوّل والثالث مشروطا والتعبير عنهما بمقدّمة الوجوب ، وهو على ظاهره بضابطة ما قرّرناه من الميزان غير سديد ، لقضاء الوجدان والقوّة العاقلة بكون الزمان كالمكان من مشخّصات الفعل فيكون قيدا له ، كما أنّ الامور الاعتباريّة أيضا كذلك فإنّها كالأوّلين إنّما تلاحظ وجها لرجحان الفعل وحسنه بحيث لولاه لما كان الفعل حسنا لا أنّ الأمر به قبيح بالذات ، وإن كان يقبح بالعرض لفرض عدم الحسن في الفعل.

وقضيّة ذلك كونها من مقدّمات الصحّة كالطهارة ونحوها.

المقدّمة الثالثة :

قد عرفت في مبادئ المبحث أنّهم عرّفوا الواجب المشروط بما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، وسمعت مرارا إطلاقه بهذا المعنى على الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة ، والزكاة بالنسبة إلى النصاب ، وسائر الواجبات بالنسبة إلى الشرائط الأربع المذكورة ، وعلى الحجّ بالإضافة إلى حضور أوقاته ، والصوم بالإضافة إلى الفجر ، والصلاة بالنسبة إلى الزوال وهو في غاية الإشكال ، كما أنّ التحديد بما ذكر لا يخلو عن نوع غموض وإجمال.

ص: 588

وذلك لأنّ الطلب الحتمي المأخوذ في ماهيّة الوجوب له باعتبار الصدور والتعلّق جهتان متلازمان وجودا وعدما فلا يعقل تحقّق إحداهما بدون الاخرى كجهتي الضرب ، ومعنى توقّفه على شيء توقّف ذلك الطلب في كلتا جهتيه ، فلا صدور له مع عدم الموقوف عليه كما لا تعلّق له بل إنّما يصدر ويتعلّق بعد حصوله ، والخطاب المشتمل على مثل ذلك الطلب لا ينشأ إلاّ عن الجهل في الحال بوقوع الموقوف عليه في المستقبل والتشكيك في حصوله فيه ، ضرورة ابتناء الطلب الفعلي الحالي على الجزم بالرجحان وهو فرع الجزم بأنّ ما يوجبه واقع أو سيقع فيكون منافيا للجهل والتشكيك وهما ممتنعان على الحكيم العالم بالعواقب ، بل على غيره فيما لو كان الموقوف عليه من الأوقات المتعيّنة لذاتها كالأمثلة المذكورة ، فلذا صار المحقّقون إلى امتناع التعليق من العالم بالعواقب والتزموا بتأويل القضايا المشتملة على التعليق الصادرة من اللّه عزّ وجلّ إلى ما لا ينافي علمه بالعواقب ، وهو حملها على إرادة حكمين مطلقين يكون أحدهما إيجابيّا والآخر سلبيّا ، فهو لعلمه بالعاقبة إمّا طالب للفعل فعلا ليصدر في زمانه المضروب ولو بالاعتبار ، أو غير طالب أصلا فإنّه يعلم أنّ المكلف إمّا قادر أو غير قادر وإمّا عالم أو غير عالم ، وإمّا عاقل أو غير عاقل ، وإمّا بالغ أو غير بالغ ، وإمّا أنّه مدرك للوقت المعيّن أو غير مدرك ، وإمّا أنّه يستطيع أو لا يستطيع ، وإمّا أنّه يملك النصاب أو لا يملك ، وإمّا أنّه يتّفق له الأمر الاعتباري أو لا يتّفق ، فعلى الأوّل في الكلّ يريد ويطلب مطلقا وعلى الثاني لا يريد ولا يطلب مطلقا.

ألا ترى أنّا لو قلنا لعبدنا إذا دخل الليل : « افعل كذا » أو « افعل كذا في يوم الجمعة » أو « إذا قدم زيد إذبح له شاة » مع علمنا بأنّه يقدم لا نجد من أنفسنا إلاّ إرادة فعليّة وطلبا حاليّا متعلّقا بالفعل الصادر بعد دخول الغاية ، بل لو صدر مثل ذلك الخطاب من كلّ متكلّم حكيم إلى كلّ مخاطب فهو لا يجد في نفسه إلاّ الطلب الفعلي ، ولا أنّ المخاطب يفهم إلاّ الطلب الحالي مع انفهام اشتراط وقوع المطلوب في الغاية المعيّنة.

نعم لو كان الخطاب بلفظة « إن » المنبئة عن الشكّ فمدلوله من غير العالم بالعواقب يصير وجوبا مشروطا وطلبا معلّقا ، وأمّا عن العالم بها فمتنع ذلك ولو فرض صدور مثل ذلك منه فلابدّ من تأويله لئلاّ ينافي الفرض.

فلو كان مرادهم في تحديد الواجب المشروط بما ذكر كونه كذلك في نظر الآمر الموجب ، أو في نظره ونظر المكلّف لزم أن لا يكون له مصداق في الشرعيّات ، وأن

ص: 589

لا يكون إطلاقه بهذا المعنى على الامور المذكورة واردا على وجه الصحّة.

ولو اريد كونه كذلك في نظر المكلّف فقط يندفع به الحزازة المذكورة ، غير أنّه لا يلائم مفهوم الحدّ ، لأنّ الوقت المضروب أو غيره ممّا اعتبر شرطا حينئذ لا يصير مقدّمة للوجوب بل يصير مقدّمة للعلم بتحقّقه وتعلّقه ، والمناسب لذلك أن يقال في التحديد : ما يتوقّف العلم بوجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده.

نعم يتحقّق له في العرفيّات مصاديق ، ولكن تخصيصه بها - مع أنّ محطّ نظر الاصولي ليس إلاّ الشرعيّات ، ولا سيّما منافاته لما يذكرونه من التمثيلات - دونه أصعب من خرط القتاد.

إلاّ أن يقال : بأنّه يعمّ العرفيّات والشرعيّات ، ولكنّ القضيّة بالقياس إلى الشرعيّات فرضيّة وظاهر أنّ فرض المحال ليس بمحال ، كما أنّ المفهوم الّذي يكون التحديد باعتباره لا يستلزم المصداق ، فيبقى الإشكال حينئذ بالنسبة إلى إطلاقه على الأمثلة المذكورة كما عرفت.

أو يقال بكون الخطابات الواردة في تلك المقامات كقوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1) و ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (2) و ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (3) ونحو ذلك وضعيّة مقصودا بها جعل هذه الامور أسبابا وعلامات لانعقاد الوجوب صدورا وتعلّقا عند تحقّقها ، فيستقيم الحدّ حينئذ ويصدق مفهومه على كلّ واحد من الأمثلة ، لأنّ امتناع التعليق في الطلب من العالم بالعواقب إنّما هو في الخطاب التكليفي.

وفيه : مع أنّه تأويل لا يساعد عليه الطبع ، أنّه لا يدفع المحذور لأنّ النظر في حقيقة الأمر بحسب اللبّ ، ومعلوم أنّ مثل هذا الخطاب من العالم بالعواقب يستلزم الطلب الحالي ، والمطلوب أمر جعل ما ذكر علامة لوقوعه عند تحقّقه.

فقد تبيّن ممّا ذكر منشأ ما أشرنا إليه من الاشتباه الموجب للخلاف من حيث إنّ الجمهور لانسهم بما هو مفهوم الحدّ الملازم لعدم جواز تقديم المقدّمة في وصف الوجوب على دخول وقت الغاية وزعمهم اندراج الأمثلة المذكورة تحته أنكروا جواز ذلك ، فأشكل عليهم الأمر في بعضها كالغسل في صيام رمضان وقطع مسافة الحجّ ، والتزموا للتفصّي عنه بتكلّفات ركيكة لا يساعد عليها الطبع السليم.

فتحقيق المقام أن يقال : لو اريد بالواجب المشروط الّذي نوزع في وجوب مقدّماته

ص: 590


1- البقرة : 185.
2- الإسراء : 78.
3- آل عمران : 97.

قبل دخول وقته ما كان الخطاب الوارد به مشتملا على أحد القيود المذكورة من زمان أو مكان أو اعتبار مع ظهور حصوله عنده لا محالة ، فلا ينبغي التأمّل في اتّصاف مقدّماته بالوجوب قبل حصول ما اعتبر معه من القيود.

ولنا على ذلك : ما تقدّم في الاستدلال على وجوب أصل المقدّمة من قضاء الوجدان مع القوّة العاقلة بأنّ إيجاب شيء له مقدّمات يوجب أن يحصل بين الواجب وتلك المقدّمات نسبة باعثة على أن لا يحدث منه بالنسبة إليها لو شعر بها إلاّ إرادتها فعلا وطلبها حتما والمنع عن تركها صريحا.

ولا ريب أنّ إيجاب الشيء بشرط حصول أمر هو في معرض الحصول في المستقبل يوجب في مقدّماته الطلب الحتمي الشأني الّذي يصدق معه الوجوب صدقا حقيقيّا في الحال حسبما تقدّم تحقيقه ، فهو بحيث لو سألته عن حالها واستفسرت منه حكمها لما أجاب إلاّ بكونها مطلوبة له في الحال ، بل لا يسوغ له غير ذلك لا لأنّ ذلك إيجاب للمقدّمة قبل إيجاب ذيها كما هو مفروض العنوان ، بل هو إيجاب لها حين إيجابه حسبما قرّرناه من أنّ اشتراط الطلب من العالم بالعواقب مع كون الشرط في معرض الحصول غير معقول ، من غير فرق في ذلك بين أن يذكر الشرط بعبارة التعليق كما لو قال : « إذا كان وقت كذا فافعل كذا » أو بعبارة التقييد كما لو قال : « افعل كذا في وقت كذا » ولا بين أن يكون ذلك الشرط وقتا معيّنا كالليل ويوم الجمعة أو أمرا اعتباريّا كقدوم زيد ، ولا في المشروط بين كونه مضيّقا بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو موسّعا كذلك ، إتّسع زمانه لأدائه مع أداء مقدّماته فيه أو لم يتسّع ، صادفه العذر عن أدائها فيه على تقدير الاتّساع أو لم يصادف.

ومن هنا يتّضح الوجه في وجوب تقديم غسل الصوم على الفجر ، ووجوب مقدّمات الحجّ قبل حضور أيّامه ، فإنّه ليس إيجابا للمقدّمة قبل وجوب ذيها ليكون منشأ للإشكال.

نعم يبقى الإشكال بالنسبة إلى مقدّمات الحجّ قبل الاستطاعة ، ومقدّمات الصلاة قبل دخول أوقاتها ، لعدم وجوب شيء من ذلك إجماعا ولو علم بمصادفة العذر بعد حصول الشرط مع أنّ مقتضى ما قرّرناه من القاعدة هو الوجوب.

ويمكن دفعه في الأوّل : بأنّ وجوب المقدّمة إنّما هو بحكم العقل ، فإنّه بعد ملاحظة النسبة الحاصلة بينها وبين طالب ذيها الموجبة فيها القضيّة الشأنيّة يحكم به ، بمعنى إدراكه لتلك القضيّة الّتي هي حقيقة الوجوب ، وهو لا يجوز التكليف في شيء من موارده إلاّ مع

ص: 591

القدرة ، فيكون القدرة عنده من شرائط تعلّق التكليف ، وتعلّق التكليف بمقدّمات الواجب كنفس الواجب مشروط بالقدرة ، غير أنّه بالنسبة إلى نفس الواجب لا يعتبر إلاّ القدرة الحاصلة عليه في زمانه المضروب له المتعيّن بالذات أو بالاعتبار.

فلذا لو زالت عند دخول ذلك الزمان أو بعده قبل مضيّ مدّة يتمكّن عن أدائه فيها لا حرج على المكلّف ولا يستحقّ عقابا إن لم يكن زوال القدرة ناشئا عن اختياره وإن كانت حاصلة قبل ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى المقدّمات فلابدّ لمعرفة كيفيّة القدرة المعتبرة فيها عند العقل من المراجعة إليه وملاحظة أنّه أيّ شيء يعتبره ويقسّمه إلى القادر وغيره ، فيجوز التكليف على الأوّل دون الثاني.

فنقول : إنّه قد يأخذ المقسم ذات الموضوع من دون اعتبار وصف عنواني فيه كما في الصوم ونحوه ، حيث إنّه يقسّم الناس اليهما فحينئذ لا شبهة في كون القدرة المعتبرة عنده مطلقة غير مقيّدة بحصولها في زمن الفعل ، كما أنّها بالنسبة إلى الفعل مقيّدة بذلك ، بمعنى أنّه في الإلزام بها يكتفي بالقدرة مطلقا وإن حصلت قبل زمن الفعل وانحصرت فيه أو لم ينحصر ، فلذا لا يأبى عن توجّه الذمّ والعقاب إلى تارك تحصيلها قبل زمن الفعل مع تمكّنه عنه حتّى صادفه العجز عند حضور ذلك الزمان ، من جهة أداء تركه أي ترك الواجب عليه فيكون في حكم تاركه الّذي يستحقّ العقاب لذلك.

ألا ترى أنّه لو اعتذر حينئذ بعدم قدرته عليه بواسطة عدم قدرته على مقدّماته صحّ ردّه بأنّك كنت قادرا عليها قبل ذلك الزمان فلم تركتها أو أخّرتها مع أنّك كنت عالما بمصادفة العجز والعذر؟ وليس له حينئذ أن يعتذر بعدم كونه طالبا لها من جهة عدم تصريحه بطلبها مقدّمة على دخول زمن الفعل ، لجواز ردّه بما هو ملزوم بذلك وهو طلب الفعل بشرط وقوعه في ذلك الزمان ، نظرا إلى أنّ الردّ بالملزوم ردّ باللازم ، فكأنّه في ذلك الردّ يؤاخذه بثبوت الملازمة بين طلب ذي المقدّمة وطلب المقدّمات الّتي لا حاجة معها إلى التصريح بطلبها بالخصوص ، لضرورة ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم.

وقد يأخذ المقسم ذات الموضوع مع اعتبار وصف عنواني فيه ممّا اعتبره الشارع من الشروط الراجعة إلى أحوال المكلّف المنوّعة له كالاستطاعة الّتي اعتبرها الشارع شرطا ، وهي تنوّع الناس إلى المستطيع والغير المستطيع ، بخلاف ما يرجع منها إلى المكلّف به وتشخّصه كالزمان والمكان ونحوهما ، وما لا يرجع إليهما كما لو كان أمرا اعتباريّا ، فإنّ

ص: 592

العقل في مثل ذلك يقسّم المستطيع إلى القادر وغيره ، وحينئذ لا شبهة في أنّ القدرة المعتبرة في التكليف بالمقدّمات ما كانت حاصلة عند الاستطاعة ولا عبرة بما كانت حاصلة قبلها ولو مع العلم بزوالها بعد ذلك ، فلو ترك تحصيل المقدّمات والحال هذه لا يكون آثما ولا يستحقّ ذمّا ولا عقابا ، وكأنّ العقل إنّما استفاد هذا المعنى من الخطاب الوارد في خصوص المقام من حيث إنّه خصّ التكليف به بالمستطيع فلابدّ وأن يكون القادر على المكلّف به ومقدّماته أيضا هو المستطيع بوصف أنّه مستطيع.

نعم لمّا كان قد اعتبر في صحّته أمرا غير حاصل بمجرّد حصول الاستطاعة مع عدم القدرة على تحصيله بالاعتبار فلا جرم يخصّص القدرة بالنسبة إليه بما كان حاصلا عند حصول ذلك الأمر ، فلا عبرة بما كان قبله ولو بعد الاستطاعة ، بخلاف القدرة على المقدّمات من حيث إنّه لا مخصّص لها فيبقى بعد حصول الاستطاعة على إطلاقها إلى مجيء زمان الفعل فيكتفى بها مطلقا ولو مع عدم إصابة العذر في الزمن المتأخّر لو أخّرت عن أوّل زمن الاستطاعة ومع العلم بذلك أيضا.

ومن هنا يندفع الإشكال بالنسبة إلى مقدّمات الصلاة أيضا.

وتوضيحه : ما عرفت من أنّ اعتبار القدرة من جانب العقل ، ولكن حكمه بذلك من باب الكشف عمّا اعتبره المولى فهو في ذلك يراجع الخطاب الصادر عنه ويلاحظه فإن ظهر من ذلك أنّ القدرة المعتبرة في المقدّمة إنّما هي الحاصلة في زمن الفعل يتبعه ولا يرى عبرة بحصولها قبله فلا يحكم بوجوب تحصيلها حينئذ إلاّ في ذلك الزمان ، وإن كانت ممّا يحصل العجز عنها قبله ، وإن لم يظهر ذلك من الخطاب استكشف عن إطلاق القدرة ويكتفى بها مطلقة ولو حاصلة قبل زمن الفعل.

ولا ريب أنّ الطهارة من شرائط الصلاة من القبيل الأوّل ، من جهة أنّ الدليل الدالّ على كونها مقدّمة للصلاة دلّ على اعتبار القدرة عليها بعد دخول وقت الصلاة كتابا وسنّة.

أمّا الأوّل : ففي قوله عزّ من قائل : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) - إلى قوله : - ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) حيث جعل العبرة بوجدان الماء الموجب للطهارة المائيّة وفقدانه المجوّز للطهارة الترابيّة بما بعد دخول وقت الصلاة ، لمكان قوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) ضرورة أنّ القيام إلى الصلاة لا يكون إلاّ بعد

ص: 593


1- المائدة : 6.

دخول الوقت ، فيكون المعتبر من فقدان الماء الموجب لتعذّر الطهارة المائيّة ما يتحقّق في الوقت دون ما قبله ، وهو يستلزم كون القدرة المعتبرة في الطهارة المائيّة ما تحصل في الوقت دون غيره ، فحينئذ لا عقاب على تارك الوضوء أو الغسل قبل الوقت الواجد فيه ماء يكفيه في ذلك الّذي لحقه العذر عنه بعد ذلك لا في الوقت ولا ما قبله.

أمّا الأوّل : فلعدم القدرة على المقدّمة.

وأمّا الثاني : فلعدم اعتبار القدرة الحاصلة فيه ، فإنّ وجود ما لا عبرة به بمنزلة عدمه.

ولا يذهب عليك أنّ ذلك يقضي باختصاص الوجوب في المقدّمة بما بعد الوقت في هذا النوع ، ضرورة قضاء اختصاص اللازم باختصاص الملزوم ولا بأس به ، لأنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة من باب الإدراك فهو بملاحظة القضيّة الشأنيّة يحكم بالوجوب الفعلي على الإطلاق ، إلاّ أن يظهر من أدلّة المقام ما يخالفه فيخصّص الوجوب حينئذ بالقدر الّذي اقتضاه الدليل ، وليس ذلك من باب التخصيص في حكم العقل ليكون من مظانّ الإشكال بل من باب التخصّص كما يظهر بأدنى تأمّل.

وأمّا أدلّة سائر الأقوال :

فاحتجّ الجمهور - على ما حكاه بعض الأفاضل - بما أشرنا إليه إجمالا من أنّ السبب في وجوب ما يجب لغيره إنّما هو وجوب ذلك الغير ، ولذا يسقط وجوبه عند سقوط وجوب ذلك الغير ولا يعقل تقدّم وجوبه على وجوبه ، إذ لا يتقدّم المعلول على علّته.

وقد اتّضح جوابه ممّا قرّرناه في طيّ الاستدلال على المختار ، وحاصله : أنّ ذلك مسلّم لو فرض عدم العلم بالعاقبة ، وهو من الشارع وغيره ممّن يعلم بالعواقب ممتنع ، فوجوب المقدّمة حينئذ قبل حضور العاقبة ليس وجوبا لها قبل وجوب ذيها ، وتوهّم كونه كذلك اشتباه قد تبيّن وجهه.

واجيب عنه أيضا : بمنع انحصار علّة وجوب المقدّمة في وجوب ذيها ، لجواز كون العلّة فيه أحد الأمرين من ذلك ومن العلم أو الظنّ بوجوبه في المستقبل مع مطابقته للواقع ، فلا مانع حينئذ من وجوبها قبل وجوب الغاية ، نظرا إلى حصول العلّة الثانية. وضعفه ظاهر من جهة أنّ العلم أو الظنّ بوجوب ذي المقدّمة في المستقبل إن اريد كونه علّة مثبتة لوجوب المقدّمة كما أنّ وجوب ذيها - على زعم الخصم - علّة مثبتة له ، فيبطله : أنّ الوجوب أمر واقعي يجيء من قبل الشارع ولا ربط بينه وبين علم المكلّف أو ظنّه بوجوب

ص: 594

ذي المقدّمة في المستقبل ليكون أحدهما علّة للآخر ، وإن اريد كونه علّة كاشفة عن وجوبها وكونها مطلوبة للشارع فيعود المحذور ، لأنّه حينئذ لابدّ له من علّة مثبتة وليست على ما هو المفروض إلاّ وجوب ذي المقدّمة وهو غير حاصل قبل دخول الوقت ، فكيف يستكشف عن معلوله مع أنّ المعلول يستحيل انفكاكه عن علّته.

ولو اريد بوجوب المقدّمة الّذي يكشف عنه العلم أو الظنّ المذكور ما يثبت بالطلب الشأني - على حسبما بيّنّاه ، - فيردّه : أنّ ذلك فرع كون شأنيّة الطلب محرزة لها ولا يكون ذلك إلاّ مع إحراز الطلب في ذيها فعلا أو شأنا وهو باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض عدم كون طلبه حاصلا بالفعل.

وأمّا الثاني : فلأنّ شأنيّة الطلب إنّما تحصل له بعد حضور وقته المضروب له لأنّه من موجبات حسنه.

وقضيّة ذلك حصولها للمقدّمة أيضا بعد ذلك لأنّ المعلول لا يفارق العلّة.

وأمّا ما يعترض عليه أيضا : بأنّ المراد من العلم أو الظنّ بوجوب الغير في وقته إمّا أن يكون وجوبه مطلقا ولو مع ترك مقدّمته قبل وجوبه ، فيكون ترك المقدّمة باعثا على ترك الواجب في ذلك الوقت لعدم التمكّن منه ، أو يكون وجوبه على فرض وجود مقدّمته لا مع عدمها.

فعلى الأوّل يتمّ ما ذكر من الوجه لكن تحقّق الوجوب على النحو المذكور غير معقول ، إذ لا يصحّ إيجاب الفعل مع عدم القدرة على مقدّمته.

وعلى الثاني لا وجه لتعلّق الوجوب بالمقدّمة مع أنّ المفروض كون وجودها شرطا لوجوب الغاية ، فمع انتفاء وجودها لا يتحقّق وجوب الغاية في الخارج حتّى يجب المقدّمة لأجله ، فلا يعقل هنا علم أو ظنّ بوجوبها مع ترك مقدّمتها ، فليس (1) ممّا ينبغي الالتفات إليه ، لوضوح دفعه مع أنّه لو استقام لجرى فيما لا يقع مقدّمته إلاّ قبل حضور وقته كصيام رمضان ، أو لا يسع وقته لأدائه وأداء مقدّمته أو كانت المقدّمة ممّا يصادفها عذر بعد ذلك ، فيبقى الجواب في غير تلك الصور سليما عن الاعتراض.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما اختاره من إطلاق القول بجواز وجوب المقدّمة قبل دخول وقت الغاية باستقرار العرف والعادة على لزوم تقديم المقدّمات على الأوقات - إلى أن قال - وهذا أمر مركوز في النفوس لا سيّما إذا كان وجوب الغاية مضيّقا أو موسّعا

ص: 595


1- جواب لقوله : وأمّا ما يعترض عليه الخ.

لا يسع وقته المقدّمة ، فإنّه لا يتعقّل غير التقدّم فإنّه لولاه لزم التناقض ، فإنّه إن أخّر المقدّمة إلى وقت الغاية يفضي إلى ترك الواجب إن قدّمها عليه ، وإن أخّرها عنه يخرج عن كون المقدّمة مقدّمة ، فيتردّد بين عدم كون المقدّمة مقدّمة أو الواجب مضيّقا وكلاهما خلاف الفرض ، انتهى.

وفي أكثر تلك الوجوه نظر ولا سيّما الوجه الأوّل ، فإنّ بناء العرف على تقديم المقدّمات على الأوقات وإن كان مسلّما غير أنّه مجمل لا يجدي الناظر فيه ، وإنّما ينهض ذلك دليلا على المطلوب لو ظهر منهم أنّهم يقدّمون المقدّمات على اعتقاد الوجوب وهو في حيّز المنع ، إذ غايته التقديم ولعلّه لمراعاة الاحتياط الّذي هو حسن في كلّ حال ، لمخافة اتّفاق العذر وعدم التمكّن عنها مع التأخير ، أو لتسهيل الأمر في زمان الفعل ليؤتى به على أكمل وجه وأتمّ غرض ، أو نحو ذلك من الاعتبارات الموجبة لرجحان التقديم نظرا إلى أنّه غير منهيّ عنه ، إذ غاية الأمر تردّده بين الوجوب والجواز وظاهر أنّ مجرّد الرجحان لا يلازم الوجوب لكونه أعمّ.

حجّة القول الثالث : على ما قرّره بعض الأفاضل ، إطلاق ما دلّ على وجوب مقدّمة الواجب ، ولا مانع من كون الفعل واجبا لغيره ومع ذلك يكون واجبا قبل دخول وقت الغير ، إذا كان وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا.

ألا ترى أنّ قطع المسافة ليس واجبا لنفسه بل واجب للحجّ ومع ذلك لم يجب إيقاعه إلاّ قبل زمان الحجّ ، وكذلك صحّة الصوم مشروطة بالاغتسال من الجنابة قبل الفجر عند الأكثر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب فيكون الغسل واجبا للصوم قبل دخول وقته ، وهو أيضا في غاية الوهن ويظهر وجهه ممّا مرّ.

وأمّا القول الرابع : فلم يذكر له مستند ، ولعلّ وجهه : أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو بحكم العقل لا لنفسها بل لإفضاء تركها إلى ترك ذيها ، فمحلّ الوجوب ما يفضي تركه من المقدّمات إلى تركه دون غيره ، ومعلوم أنّ المقدّمة في الواجب المضيّق لو أخّرت إلى دخول وقته لكان تركا لها مفضيا إلى ترك الواجب ، بخلاف ما لو اخرّت مقدّمة الواجب الموسّع إلى دخول وقته فإنّه لا يفضي إلى ترك الواجب لإمكان أدائها بعد دخول الوقت أيضا ، وقضيّة ذلك أن يكون التقديم واجبا في الأوّل وغير واجب في الثاني.

وفيه أوّلا : أنّه لو تمّ لقضى في مقدّمة الواجب الموسّع أيضا بوجوبها في جزء من

ص: 596

الوقت لولا وقوعها فيه لصار الواجب بعده مضيّقا فامتنع أداؤه مع أداء مقدّمته ، لكون المقدّمة الّتي يفضي تركها إلى ترك الواجب هي الّتي تقع في هذا الجزء من الأجزاء المتدرّجة دون ما يقع في الجزء السابق عليه إلى أوّل أجزاء الوقت ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ولا أنّ المستدلّ راض به.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما ينفي الوجوب العيني عمّا يقع في الموسّع من المقدّمة قبل دخول وقته ، وهو ليس مرادا للقائل بجواز التقديم بل غرضه الوجوب التخييري بين الأفراد المتدرّجة من المقدّمة المتعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الزمان ممّا قبل دخول الوقت إلى ما بعده.

ولا ريب أنّ محلّ الوجوب حينئذ هو القدر المشترك بين تلك الأفراد المتدرّجة المتعاقبة لقيام مصلحة الوجوب وهو إفضاء الترك إلى الترك به ، كما هو الحال في الأفراد المتدرّجة المتعاقبة الواقعة في الموسّع عند دخول وقته إلى أن يبقى منه ما لا يسع إلاّ أداء نفس الواجب ، بل وهو الحال فيما لو كانت الأفراد المتعدّدة من المقدّمة مجتمعة غير مرتّبة ولا متدرّجة كما في نصب السلّم للصعود على السطح إذا تعدّد أفراده وتمكّن المكلّف عن الإتيان بكلّ واحد شاء وأراد.

ولا ريب أنّ الواجب حينئذ ليس كلّ واحد بل القدر المشترك بينها لكونه الّذي يفضي تركه إلى الترك ، وقضيّة ذلك كون الوجوب تخييريّا.

وأمّا القول الخامس : فمستنده واضح ممّا قرّرناه في المقدّمات ، وإن كان الذاهب إليه لم يذكر مستندا.

ولكن يرد عليه : أنّ مناط الفرق بين قسمي الواجب إنّما هو بجعل الزمان قيدا للوجوب ، أو الواجب ، فعلى الأوّل يكون مشروطا وعلى الثاني معلّقا ، فيقال على الأوّل : « إذا زالت الشمس يجب الصلاة » وعلى الثاني « يجب الصلاة الواقعة بعد زوال الشمس » وهذان المعنيان كما ترى بحسب التعبير بينهما فرق واضح يدركه جميع الأذهان.

ولا ريب أنّ الاختلاف في التعبير لا يصلح موردا للحكم وإنّما العبرة بما حصل من الاختلاف في اللبّ والمعنى ، فلابدّ من ملاحظة اللبّ الّذي هو عبارة عمّا في ضمير المتكلّم ليستعلم كونه كالعبارة أمرين مختلفين حتّى يترتّب عليهما ما ذكر من الثمرة أو أمر واحد حتّى يبطل الثمرة ، ويكون الحكم إمّا جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت ذيها مطلقا أو عدم جوازه كذلك ، فالّذي يترجّح في النظر ويشهد به الوجدان أنّ

ص: 597

التعبيرين مرجعهما بحسب اللبّ القائم في ضمير المتكلّم إلى أمر واحد.

وبيان ذلك : أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للصفات الكامنة في الفعل.

ومن البيّن أنّ محلّ الصفة الكامنة من الفعل ما لوحظ بجميع مشخّصاته ، كما أنّه من البيّن الّذي ليس لأحد إنكاره كون الزمان كالمكان من جملة المشخصّات فالحسن من الفعل والمحبوب منه في نظر الشارع ما يقع منه في الزمان الّذي لاحظه معه وأخذه مشخّصا له بلا حسن في غير ما يقع في ذلك الزمان ، كصلاة الظهر فإنّها حسن بعد زوال الشمس وما لم تزل الشمس لا حسن فيها أصلا ، ومثله أكل البرد في العرفيّات فإنّه حسن ومطلوب في الصيف دون غيره ، وذلك هو الأمر الواحد اللبّي القائم بضمير الآمر المتكلّم ، ولا يتفاوت فيه الحال حينئذ بين أن يأتي عند الخطاب بعبارة الواجب المعلّق فيطلب الفعل مقيّدا بالزمان الّذي لاحظه معه ، فيقول : « اريد الصلاة الواقعة بعد الزوال » و « أكل البرد في الصيف » أو بعبارة الواجب المشروط فيجعل طلبه مقيّدا بذلك الزمان ويقول : « اريد الصلاة بعد الزوال » و « أكل البرد في الصيف » فإنّ مفادهما أمر واحد ، وهو كون المحبوب والمطلوب من حين الخطاب هو الفعل الواقع في وقته الملحوظ معه.

ونظير ذلك ما في كلام النحاة في الفرق بين الحال والصفة في قولنا : « جاء زيد راكبا » و « جاء زيد الراكب » من أنّ الأوّل قيد للعامل وهو الفعل والثاني قيد للمعمول الّذي هو المفعول وهو كما ترى فرق لفظي وإلاّ فاللبّ والمعنى واحد ، وهو إفادة صدور ذلك الفعل الخاصّ عن زيد في زمن ركوبه ، وذلك واضح لا يشوبه الشكّ.

وقضيّة ذلك بطلان الثمرة المذكورة وكون الحكم في عبارة الواجب المشروط مثل ما في عبارة الواجب المعلّق من جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت ذيها ، لا لأنّه اتّصاف لها قبل اتّصافه به وهو جائز ليكون خلاف البديهة ، بل لأنّه اتّصاف بها حين اتّصافه.

وبالجملة لا إشكال في أنّ الثمرة تابعة لما في الضمير من الأمر اللبّي فإن ظهر من عبارة الواجب المشروط أنّه يغاير ما يفيده عبارة التعليق تكون الثمرة في محلّها وإلاّ فلا.

ومن الظاهر أنّ عبارة الاشتراط وإن كانت توهم في بادئ النظر عدم فعليّة الإرادة وعدم حصول الطلب حتّى يحصل الشرط بخلاف عبارة التعليق الدالّة على فعليّة حصولهما وعدم توقّفهما على حصول الشرط ، إلاّ أنّ القطع الوجداني حاصل بما يخالف ذلك ، لبداهة أنّ الإرادة والطلب كما أنّهما فعليّتان في صورة التعليق فكذلك في صورة

ص: 598

الاشتراط ، إذ يصدق فيمن أراد فعلا مخصوصا في زمان يكون حسنه عنده مخصوصا بذلك الزمان أنّه مريد له وطالبه ممّا قبل ذلك الزمان حينما لاحظه مقيّدا به فعلا بشرط وقوعه في ذلك الزمان.

وقضيّة ذلك بحكم العقل والوجدان أن يكون مريدا لمقدّمات وجوده من ذلك الحين ، غير راض بترك شيء منها ولو لم يصرّح بها أو لم يلتفت إليها ليصرّح بإرادتها وطلبها.

ولا يفترق الحال حينئذ بين الواجب المضيّق والواجب الموسّع ، لأنّ القدرة الّتي هي مناط للتكليف لا يشترط عند العقل كونها بالنسبة إلى المقدّمات حاصلة في زمان الفعل ووقت حسنه ، بل لو كانت حاصلة قبله أيضا لكان كافيا في صحّة التكليف بها من حيث إنّها مطلوبة لا لنفسها بل للتوصّل إلى غيرها ، وافضاء تركها إلى ترك ذلك الغير ، وهذا المطلوب كما أنّه حاصل مع القدرة الحاصلة في زمان الفعل فكذلك يحصل مع القدرة الحاصلة فيما قبله ، إلاّ إذا ظهر من الأدلّة أنّ المعتبر منها عند المولى ما يحصل في زمان الفعل خاصّة كما تقدّم بيانه ، فحينئذ يكشف عن أنّ المقدّمة في نفسها أيضا شيء آخر غير جهة التوصّل إلى الغير هو أوجب أن يكون العبرة فيها بالقدرة الحاصلة في زمان الفعل.

وممّا قرّرنا تبيّن أنّ المقدّمة فيما جاز وجوبها قبل دخول وقت ذيها من الواجبات الموسّعة سواء كان الواجب موسّعا أو مضيّقا ، إذ ليس مناط الحكم بذلك الفرار عن التكليف بما لا يطاق ، كما عرفت خلافا لما يستفاد عن بعض الفضلاء حيث جعل مطلوبيّة الصوم قبل الفجر بحسب الزمان بقدر ما يغتسل فيه وأمّا ما زاد عليه فلا لاندفاع التكليف بالمحال به.

ثمّ إنّ الواجب إذا كان موسّعا بما يسعه ومقدّماته لا يستحقّ المكلّف بتأخير أداء المقدّمات إلى دخول وقته عقابا ولا ذمّا.

نعم يستحقّهما لو أخّرها إلى أن ضاق الوقت فتعذّر الإتيان بها مع الفعل في الوقت عمدا بلا عذر ، وأمّا في الواجب المضيّق فليس له التأخير إلى دخول الوقت ولو أخّرها إليه استحقّ العقاب على نفس الواجب ، لكون ذلك التأخير في حكم تركه ، وإقداما على المعصية بعدم الإتيان به في وقته وإن كان هو بنفسه ممتنعا بسبب امتناع مقدّماته ومرتفعا عنه الخطاب لاشتراطه بالقدرة حدوثا وبقاء ، غير أنّ العقاب يترتّب على الترك الحكمي لكونه بمنزلة الترك الحقيقي في العرف والعادة حسبما تقدّم تحقيقه في بيان صور الامتناع بالاختيار.

فمن هنا ظهر أنّ مسألتنا هذه بالنسبة إلى مقدّمات الواجب لو أخّرت إلى زمان من

ص: 599

جملة أفراد الامتناع بالاختيار ولقد تقدّم حكمه في جميع صوره وأفراده.

ثمّ إنّ الفرق الّذي ذكره الفاضلان المذكوران بالنسبة إلى المسألة المبحوث عنها بين قسمي الواجب ضابطه الكلّي الّذي يستعلم به كون الواجب من أيّ القسمين ، هو أن يراجع أوّلا إلى الأوامر الواردة فيه والأدلّة الآمرة به ، فإن ظهر منها كون الوقت قيدا للطلب أو المطلوب أخذ به ورتّب عليه الثمرة وجودا وعدما ، وإلاّ فلو حصل الاشتباه والدوران يراجع إلى القاعدة المتقدّم إليها الإشارة في مباحث الواجب المطلق والمقيّد ، فيحكم بالإطلاق وكون الوقت قيدا للواجب ظرفا لوقوعه إن ثبت وجوبه من الأدلّة اللفظيّة ، وإلاّ فيؤخذ بمقتضى الاصول العمليّة إن ثبت الوجوب من الأدلّة اللبّية.

هذا كلّه إذا لم يظهر من الشارع إيجاب تقديم المقدّمات على زمان أداء ذيها أو المنع عنه ، وإلاّ فعلى الأوّل يستكشف عن كونه معلّقا كما في صيام نهار رمضان بالنسبة إلى الاغتسال ليلا ، وعلى الثاني يستكشف عن كونه مشروطا كما في الصلوات اليوميّة بالقياس إلى تحصيل الطهارة مثلا.

في مقدّمة الحرام

الأمر الخامس

في مقدّمة الحرام

والنظر تارة فيما يكون مقدّمة لترك الحرام فهل هي واجبة نظرا إلى وجوب ترك الحرام أو لا؟

واخرى فيما يكون مقدّمة لفعل الحرام فهل هي محرّمة نظرا إلى حرمة الفعل أو لا؟ فها هنا مقامان :

المقام الأوّل : والظاهر أنّه لا خلاف بين القائلين بوجوب مقدّمة الواجب في وجوب مقدّمة ترك الحرام ، وإن اختصّ عناوينهم وتمثيلاتهم المذكورة بما يكون الواجب من مقولة الأفعال ، للقطع بعدم إرادتهم الاختصاص مع جريان أدلّتهم الناهضة حرفا بحرف ، بل هو ممّا يجري فيه الوجوه الّتي اعتمدنا عليها ممّا تقدّم ، كيف وأنّ القوّة العاقلة قاضية بأنّ من أوجب ترك شيء وطلبه حتما ليس له تجويز ترك مقدّمته الّتي لا طريق إليه سواها وإلاّ لأدّى إلى التناقض ، وأنّها بحيث ليس من شأنها إلاّ أن يلزم بها ويريدها حتما.

وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا حاجة له إلى تجشّم الاستدلال والإطناب في المقال بعد

ص: 600

ما تبيّن الحكم في مقدّمة الواجب بما لا مزيد عليه ، وإنّما الإشكال في صغرى القياس وهي أنّ ترك الحرام هل له مقدّمة بالمعنى المتقدّم لتكون واجبة بوجوبه أو لا؟

وعلى الأوّل فهذه المقدّمة ماذا؟ فإنّ فيه خلاف بينهم ، فمنهم من زعم أنّ مقدّمته فعل أحد الأضداد الوجوديّة على الإطلاق. ومن هنا نشأ الشبهة المعروفة عن الكعبي في نفي المباح.

ومنهم من توهّم أنّ فعل الضدّ مقدّمة له في الجملة ، كما لو اتّفق توقّفه على فعل المباح بحيث لولاه لما تحقّق الترك ، وإلاّ فالأغلب كون مقدّمته وجود الصارف أو ترك الإرادة ، وعليه جماعة منهم بعض الأعلام ووافقه آخرون.

ومنهم من جزم بانحصار مقدّمته في عدم الإرادة وعدم صلاحيّة فعل المباح أو غيره من الأضداد الوجوديّة لكونه مقدّمة ، بل هو لو اجتمع مع ترك الحرام فهو من باب المقارنات الاتّفاقيّة ، وعليه بعض المحقّقين وهذا هو الأسدّ والموافق للنظر ، لما أشرنا إليه إجمالا ونحقّقه تفصيلا في بحث الضدّ من عدم تمانع الأضداد.

وبيانه الإجمالي هنا : أنّ معنى كون شيء مقدّمة لآخر أنّه من لوازم وجوده ، وأنّه لولا تحقّقه لما اتّفق له الوجود ، وأنّ وجوده لا يستند إلاّ إليه إمّا لكونه علّة تامّة له أو جزء من علّته التامّة شرطا كان أو ما هو بمنزلته ، وكون فعل الضدّ ممّا يترتّب عليه ترك الحرام ترتّبا فعليّا لا يعقل إلاّ على فرض كونه علّة تامّة له أو ما هو بمنزلتها كالجزء الأخير منها ، لأنّ ما عداهما لا يلزم من وجوده الوجود كما لا يخفى ، وكونه علّة تامّة باطل لأنّا نرى بالوجدان الضروري امتناعه مع إرادة فعل الحرام وإلاّ لأدّى إلى تناقض الإرادتين من حيث إنّه يستلزم إرادة اخرى.

وكونه الجزء الأخير منها أيضا باطل ، لأنّا نجد من أنفسنا أنّه لا يستند إلاّ إلى مجرّد عدم الإرادة بحيث لو اتّفق وجوده معه فإمّا من باب المقارنات الاتّفاقيّة إن قلنا بجواز الخلاء ، أو التلازم بين شيئين لم يكن بينهما ترتّب ولا تأثير ، فكما أنّ عدم إرادته مع إرادة ضدّه متلازمان في الوجود ولا ترتّب بينهما فكذلك عدمه مع وجود الضدّ في محلّه متلازمان في الوجود معلولان لعلّة اخرى ، كيف لا وأنّا نقطع بالبديهة أنّ الجزء الأخير من علّة وجوده بعد تحقّق سائر شرائطه مع انتفاء موانعه إنّما هو الإرادة.

ومن البيّن أنّ انتفاء الجزء الأخير من علّة الوجود علّة تامّة للعدم ، فإذا انتفت الإرادة يستند إليه الترك خاصّة ويبقى سائر الأجزاء الّتي كلّ منها شرط في حدّ ذاته على إطلاقها من

ص: 601

غير توقّف للعدم عليها ، ولو فرض تحقّقها معه فهو من باب المقارنات الاتّفاقيّة لا العلّيّة والتأثير.

فمن هنا ظهر فساد ما لو عمّم في الكلام وجعل فعل الضدّ من أحد أجزاء العلّة غير جزئه الأخير ، بناءا على أن لا يكون المراد بمقدّمة ترك الحرام ما يكون مقدّمة موصلة ، فإنّ الترك إذا استند إلى عدم الإرادة الّتي هي جزء أخير من علّة الوجود يبقى ساتر الأجزاء الّتي من جملتها فعل الضدّ - على فرض التسليم - غير موقوف عليها ، وقضيّة ذلك خروجها عن المقدّمية.

لا يقال : إنّ انتفاء كلّ واحد من أجزاء الوجود يصلح علّة للعدم ، ولعلّ فعل الضدّ من هذا القبيل ، فإنّ الّذي جزء لعلّة الوجود إنّما هو ترك الضدّ فيكون انتفاؤه وهو الفعل علّة للعدم فيكون مقدّمة.

لأنا نقول : بأنّ ذلك يستقيم لو كانت أجزاء علّة الوجود في درجة واحدة من دون ترتّب بينها بحسب الوجود ولا تقدّم ولا تأخّر ، والمقام ليس من هذا الباب ، لما بين الإرادة وغيره من الشرائط الاخر ترتّب بحسب التقدّم والتأخّر ، والإرادة متأخّرة عن الجميع ، ولا يعقل لسائر الشرائط انتفاء مع وجودها ، لأنّها إنّما تحدث بعد ما تحقّق غيرها ممّا تقدّم عليها بحسب الوجود ، فكلّما شرط غيرها فرض انتفاؤه فهي منتفية معه جزما.

ولا ريب أنّ أحقّ ما يستند إليه ترك الحرام حينئذ بالقياس إلى فعل الضدّ إنّما هو عدم إرادته ، لسبقه بحسب التحقّق على فعل الضدّ كما أنّ أحقّ ما يستند إليه ترك الضدّ على تقدير فعل الحرام إنّما هو عدم إرادة الضدّ لسبقه على فعل الحرام.

فمحصّل الكلام : أنّ فعل المباح لا يجب لأجل ترك الحرام ، إمّا لعدم حرمة الفعل الموجبة لوجوب الترك من جهة انتفاء بعض شرائطه الغير الاختياريّة ، أو لعدم كون الضدّ مقدّمة له على تقدير وجود الشرائط وانتفاء الموانع ، بل المقدّمة حينئذ عدم الإرادة فيكون هو الواجب دون ما يقارنه من فعل الضدّ ، ولا فرق في ذلك بين ما يتحقّق من الترك في زمان الحال وما يتحقّق في زمان الاستقبال ، فإنّ ترك الحرام في الجميع إنّما يستند إلى عدم الإرادة.

نعم ربّما يتوقّف عدم الإرادة بالنسبة إلى الترك الاستقبالي على فعل وجودي كالخروج عن مكان يعلم أنّه لو بقى فيه لوقع في المحرّم ، من غيبة أو غناء أو زنا أو نحو ذلك ، فيكون مقدّمة للترك بضابطة أنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، ولكنّه لا يجب لأجل ذلك الترك لا لأنّه مقدّمة للواجب ومع ذلك لا يجب ، بل لعدم وجوب ذلك الترك حينئذ ، وذلك لأنّ التروك تتعدّد بحسب تعدّد

ص: 602

أجزاء الزمان ، فيكون كلّ ترك واجبا في زمانه المختصّ به على ما هو من مقتضى دوام النهي ، وظاهر أنّ الترك الاستقبالي على تقدير اجتماع شرائط القدرة الموجبة لجواز التكليف لا يجب على المكلّف قبل مجيء زمانه المختصّ به بل يثبت في زمانه خاصّة ، ففي الصورة المفروضة لا يعقل للترك وجوب في غير زمانه حتّى يجب لأجله الفعل الوجودي الّذي يتوقّف عليه عدم إرادة فعل الحرام في القابل الّذي هو مقدّمة للترك المذكور.

نعم لا نضائق وجوبه من جهة كونه مقدّمة لواجب آخر يثبت وجوبه بحكم العقل وهو دفع الضرر المقطوع أو المظنون ، بناءا على أنّه أعمّ من الدنيوي والاخرويّ ، ولكنّه غير قادح فيما نحن بصدد الفرار عنه من وجوب المباح ، لأجل كونه مقدّمة لترك الحرام الواجب ، فلا يكون ذلك التزاما بشبهة الكعبي في تلك الصورة.

والعجب عن جماعة من فحول الأعلام كيف غفلوا عما قرّرنا فالتزموا بالشبهة في الصورة المفروضة ، ولكن جعلوه غير مضرّ من جهة ندرة الفرض فلا يلزم وجوب كلّ مباح مقدّمة لترك الحرام على ما توهّمه الكعبي. فليتدبّر.

اللّهمّ إلاّ أن نوجّه كلامهم هذا بإدراجه فيما تقدّم في الأمر السابق من جواز اتّصاف المقدّمة بالوجوب قبل دخول وقت الغاية ، ولكنّه إنّما يتمّ على ما قرّرناه من كونه وجوبا للمقدّمة حين وجوب ذي المقدّمة لا قبله حتّى يستنكر ، وليس ببعيد نظرا إلى قضاء الوجدان بأنّ من أراد ترك شيء في زمان فهو مريد وطالب في زمن الخطاب ترك جميع التروك اللاحقة المتحقّقة في أجزاء ذلك الزمان المتعاقبة ، فيكون كلّ جزء من الزمان بالنسبة إلى تركه المتحقّق فيه مقدّمة عقليّة لوجوده كما لا يخفى.

المقام الثاني : فيما يكون مقدّمة لفعل الحرام. وفيه أيضا مقامان :

أحدهما : فيما يكون راجعا إلى نفس المكلّف.

وثانيهما : ما يكون راجعا إلى غيره ممّن يعينه في فعل الحرام.

أمّا المقام الأوّل : فالنظر فيه تارة في الفعل الخالي عن العزم على المعصية ، واخرى في العزم المجرّد عن الفعل ، وثالثة في العزم المقرون بفعل يكون من مقدّمات المعصية ، ورابعة في العزم المقارن لفعل لا يكون من المقدّمات بل إنّما أتى به للتوصّل إلى المعصية بتخيّل أنّه من مقدّماتها فانكشف خلافه ، فها هنا جهات :

أمّا الجهة الاولى : ففيها انتقالان :

ص: 603

أحدهما : الانتقال إلى ما لو أتى المكلّف بما يكون شرطا من شروط فعل الحرام.

وثانيهما : الانتقال إلى ما لو أتى بما يكون علّة له.

أمّا الانتقال الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه حراما وإن ترتّب عليه بالأخرة فعل الحرام ، فإنّ من أصلح سيفا للجهاد أو دفع السبع عن نفسه فاتّفق بعد ذلك أنّه قتل به نفسا محترمة ، أو بنى سطحا أو منارة لا لغرض فاسد فاتّفق أنّه ألقى نفسه عنهما للتهلكة ، أو اشترى جارية لغرض الاستخدام فاتّفق أنّه تغنّى بها إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، لا يعاقب على الإصلاح والبناء والاشتراء ولا يذمّ عليها ولا تعدّ قبيحة وإن ترتّب عليها القبيح بضرورة من العقل والشرع دنيا ومذهبا ، كيف ولا يسلم فعل من الأفعال عن جهة فساد مترتّبة عليه فلو صلح ذلك منشأ للفساد لأدّى إلى تحريم الجميع ، وبطلانه من أبده البديهيّات.

وأمّا الانتقال الثاني : فما يكون علّة تامّة لفعل الحرام مع عدم العزم عليه وكونه حراما لأجله ممّا لا يكاد يتعقّل ، إذ لا يتصوّر له فرض إلاّ في مثل ما لو عصر عنبا لا لغرض الخمريّة فاتّفق أنّه استحال خمرا ثمّ اتّفق الشرب منه ، أو أوقد نارا لا لغرض إحراق نفسه فاتّفق الإحراق ، فحينئذ إن كان ترتّب ذلك قصديّا منوطا بلحوق عزمه على المعصية يكون الصورة راجعا إلى الفرض الأوّل ، ضرورة أنّ القصد المذكور حينئذ جزء أخير من العلّة فالفعل بانفراده ليس هو العلّة ، والمفروض أنّه لم يؤت به لأجل التوصّل إلى الحرام فلا يكون حراما لعين ما ذكر ، وإن لم يكن قصديّا منوطا بالعزم لغفلة أو جهل أو بغتة فلا يعقل فيه حرمة ليحرم لأجله العلّة الموصلة إليه ضرورة استحالة تكليف الغافل والجاهل والغير القادر.

وأمّا الجهة الثانية : فلا إشكال في حرمة العزم على المعصية من باب المقدّمة على ما هو من مقتضى التحقيق السابق من أنّ مقدّمة ترك الحرام الواجب على المكلّف فعلا إنّما هو عدم الإرادة ، وقضيّة وجوبه من باب المقدّمة حرمة خلافه وهو الإرادة كما هو الشأن في كلّ واجب ، إذ لا نعني بالعزم على المعصية إلاّ الإرادة ، ولا يفرق في الحرمة بين الحصّة الأخيرة منها المقرونة بفعل الحرام وغيرها من الحصص المتقدّمة عليها كما توهّم ، لضرورة كون كلّ مقدّمة ولو بوسائط ، كما هو الحال في جميع المقدّمات الّتي بينها ترتّب بحسب الوجود الخارجي ، فتأمّل (1).

ص: 604


1- وجهه : وضوح الفرق بين سائر المقدّمات المترتّبة في الوجود وبين الإرادة المستمرّة عن زمان طويل المنحلّة إلى أجزاء متعدّدة مقدّمية. وجه الفرق : إنّ كلّ مقدّمة في الأوّل لها مدخليّة في وجود الواجب بحيث لو ترك بعض منها لأدّى إلى ترك الواجب سواء كان ذلك البعض مقرونة بالواجب أو مقدّمة عليه بوسائط ، بخلاف ترك الإرادة فإنّ الّذي يفضى تركه منه إلى ترك الواجب - وهو ترك الحرام - إنّما هو القصد الأخيرة منه ، وقضيّة ذلك أن يكون المحرّم من [ جانب ] الإرادة هو الحصّة الأخيرة منها دون ما تقدّم عليها كائنا ما كان إذ الّذي يحصل به فعل الحرام إنّما هو الحصّة الأخيرة لأنّها لو تركت ترك وإلاّ ففعل ، بخلاف الحصص المتقدّمة عليها فتركها لا يستلزم ترك الحرام لجواز حدوث الحصّة الأخيرة ولا وجودها يستلزم وجود الحرام لجواز حصول الحصّة الأخيرة الّذي يستند إليه ترك الحرام. ( منه عفي عنه ).

وهذا في الحقيقة خارج عن معقد الكلام الّذي هو في العزم المجرّد عن جميع الأفعال حتّى الفعل المحرّم ، وإنّما المقصود في المقام استعلام أنّه هل له قبح ذاتي غير قبحه المقدّمي بحيث أوجب فيمن تلبّس به استحقاق الذمّ والعقاب الموجب لحرمته النفسيّة أو لا؟ وعلى الأوّل فهل ورد بالنسبة إليه خطاب مستقلّ من الشرع قاض بالمنع عنه شرعا أو لا؟

فنقول : لا ينبغي لأحد أن يرتاب في قبحه الذاتي نظرا إلى قضاء القوّة العاقلة به ، بل لا يأبى عن العقاب لأجله والذمّ على صاحبه كيف وهو من مقرّ بناء العقلاء حيث نراهم أنّهم لا يضائقون عن معاتبة العبد العازم على قتل مولاه بل لا يزالون يذمّونه عليه ، بل على عزمه على كلّ معصية له لو اطّلعوا عليه مفصّلا ويعاقبه المولى كذلك لو أحاط بما في ضميره كما هو أحاط بنفسه.

نعم لو قارن ذلك العزم للفعل يتداخل العقابان ويصير على أصل الفعل.

وبالجملة قبح نيّة المعصية من جملة ما يستقلّ به العقل قطعا ويكشف عنه لمن لا تدبّر له بناء العقلاء.

فما في كلام بعض الأعاظم من منع حكم العقل بقبحه على وجه القطع ليس على ما ينبغي ، فهذا ممّا لا إشكال فيه بل الإشكال في ورود ما يكشف عن قبحه واستحقاق العقوبة عليه من الأدلّة الشرعيّة.

ويمكن الاستدلال عليه من الآيات والأخبار بوجوه.

منها : قوله تعالى : ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (1) و ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) فإنّه تعالى عمّم في التوعيد على ما في النفس بالنسبة إلى كلا تقديري إظهاره الّذي هو عبارة إمّا عن جعله مقرونا

ص: 605


1- النساء : 170.
2- البقرة : 284.

بالعمل أو إقامة ما يكشف عن ثبوته في النفس ، وإخفائه الّذي هو عبارة عمّا يضادّ الوجهين ، ولا يجوز أن يكون ذلك كناية عن الشرك باللّه وغيره من أنواع الكفر بقرينة ما في ذيله من الوعد بالمغفرة المعلّقة على المشيئة ، ولا عن الحسد ونحوه من الصفات الذميمة الباطنيّة بقرينة تعميم الوعيد بالنسبة إلى إخفائه ، نظرا إلى أنّ الصفات الباطنيّة لكونها من الامور القهريّة الخارجة عن اختيار المكلّف لا تصلح بأنفسها لتعلّق التكليف بها إيجابا أو تحريما ، بل الّذي ينبغي أن يكون متعلّقا له منها ما ينشأ منها أو هي ناشئة منه من الامور الاختياريّة ، فالمحرّم في مثل البخل والحسد إنّما هو إظهارهما في الخارج ، والواجب في محبّة النبي صلى اللّه عليه وآله وخلفائه الائمّة المعصومين عليهم السلام إنّما هو النظر في فواضلهم ومنافعهم الواصلة ، وفي بغض أعاديهم الملعونين إنّما هو النظر في رذائلهم ومضّارهم الواصلة ، لما يشهد به الوجدان السليم من أنّ ملاحظة المنافع الواصلة من شخص والنعم الخارجة منه توجب حبّه ومودّته كما أنّ ملاحظة المضارّ الواصلة والنقم الخارجة منه تورث بغضه وعداوته ، فلا يبقى حينئذ إلاّ ما يكون عملا اختياريّا للنفس من سوء ظنّ إلى المؤمن وقصدا للمعصية وما أشبه ذلك.

وما عساه يتوهّم من منع كون الآية في سياق الوعيد لأنّ المحاسبة تعمّ الخيرات والمبرّات.

يدفعه : وجود الصارف وهو ما في الذيل من المغفرة المعلّقة.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (1) فإنّ « الفاحشة » على ما في كلام أهل اللغة هو القبيح ، وقد عرفت أنّ العزم على المعصية قبيح فيكون مندرجا فيما نهى اللّه سبحانه عن قربه نصّا وظاهرا.

امّا الظهور فلعموم الفواحش الشاملة لما يكون باطنيّا.

وأمّا النصوصيّة فلمكان قوله : « وما بطن » وأصرح منها في الدلالة قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) (2).

وما عساه يحتمل من كون المراد بالفواحش المعاصي الظاهريّة ، وبما بعده ما يؤتى به جهارا وما يؤتى به سرّا.

يبطله : لزوم التخصيص بلا دليل ، مع كون الثاني خلاف ظاهر قوله : « وما بطن » لظهوره

ص: 606


1- الأنعام : 151.
2- الأعراف : 33.

حيثما اطلق في الأعمال الباطنيّة من الظنون والقصود ونحوها.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (1) فإنّ السمع والبصر ظاهران في الحاسّتين المعروفتين والفؤاد في القلب ، ومعنى السؤال عن كلّ السؤال عمّا عمله ، فإنّ لكلّ عملا في كلّ من الطاعة والمعصية ، كما ورد في التفسير - على ما قيل : - « إنّ السمع يسأل عمّا سمعه والبصر عمّا رآه والفؤاد عمّا عقده » والسؤال فرع تعلّق الخطاب ، فلولا عمل القلب من قصده واعتقاده متعلّقا للخطاب لما كان لذكره في جملة ما ذكر وجه.

هذا على تقدير عود الضمير المجرور إلى المذكور ، وأمّا على تقدير عوده إلى غيره وهو نفس المكلّف فيخرج عن محلّ الاستدلال ، لكونه حينئذ من باب الإنطاق الّذي ورد به الأدلّة كتابا وسنّة في سائر الجوارح والأعضاء.

ومنها : قوله تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) (2) فإنّه تعالى خصّ الدار الآخرة بمن لا يريد الأمرين ، وهو وعيد لمن يريدهما ، فلولا مجرّد الإرادة مبغوضا في نظره لما صحّ ذلك.

لا يقال : المراد بالإرادة هنا ما يقارنه الفعل ولا كلام فيه ، لمنافاته لما في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام - على ما في تفسير المحدّث - إنّه قال : « الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية ».

وفي اخرى - كما فيه وفي المجمع - عن عليّ عليه السلام « إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها » فإنّ هذا الرجل إذا دخل تحت الآية فقاصد المعاصي بطريق أولى.

ومنها : قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (3) فإنّ المراد بالمحبّة إمّا معناها الظاهر وهو الصفة النفسانيّة ، أو ما يقرب منه وهو إرادة شيوع الفاحشة ، أو السعي في إشاعة فاحشة الغير ، والأوّل غير صالح للتوعيد لعدم كونه من الاختياريّات ، فتعيّن الثاني لكونه أقرب إلى المحبّة بعد تعذّر الحقيقة ، فإذا كان إرادة شيوع فاحشة الغير محرّمة فإرادة شيوع فاحشة النفس أولى بالتحريم ، غير أنّه مبنيّ على كون المراد بشيوع الفاحشة حدوثها وخروجها عن العدم إلى الوجود ، وهو خلاف ما يتبادر منه

ص: 607


1- الإسراء : 36.
2- القصص : 83.
3- النور : 19.

عرفا وهو الشهرة والجهار.

مضافا إلى أنّه المصرّح به في كلام أهل اللغة - كما في المجمع - من تفسير « شاع » بذاع وظهر ، فالفحوى لو تمّ لقضى بمنع إرادة التجاهر بالفسق ، إلاّ أن يتمّ المدّعى بعدم القول بالفصل من هذه الجهة.

أو يقرّر الاستدلال من وجه آخر وهو : أنّ إشاعة عيوب الغير محرّمة بنفسها ومبغوضة في نظر الشارع ، كما يرشد إليه ما صحّ عن هشام - على ما في المجمع - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « من قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت اذناه كان من الذين قال اللّه تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ) (1) » الآية ، فيكون الآية توعيدا على ما يعمّ إرادة الإشاعة كما يومئ إليه التعبير في الرواية المذكورة بلفظة التبعيض.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ قرب الإرادة من المحبّة اعتباري صرف ، وإلاّ فالأقرب إليه عرفا في مثل تلك العبارة إنّما هو السعي في الإشاعة ، فينهض الآية دليلا على تحريم نفس الإشاعة ولا تلازم بينه وبين تحريم إرادة الإشاعة ، وإنّما عبّر عنه بالمحبّة ليكون من باب التعبير باللازم لإرادة الانتقال إلى ملزومه مراعاة لزيادة بلاغة الكناية فليتدبّر.

ومنها : الرواية الّتي رواها الكليني - على ما في كلام بعض الأعاظم - عن أبي هاشم قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا أن يطيعوا اللّه ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء.

ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (2) قال : على نيّته ».

ومنها : ما سمعناه عن بعض مشايخنا مرسلا من قوله عليه السلام إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه ».

ومنها : مثله من قوله : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول ».

ومنها : كذلك من قوله عليه السلام : « وإنّما يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة ».

ومنها : صريح التعليل الوارد في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ

ص: 608


1- النور : 19.
2- الإسراء : 84.

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) خطابا إلى كفّار قريش وبني أميّة حيث سئل عن علّة إسناد القتل إليهم وليسوا بقاتلين ، وإنّما قتل آباؤهم الأوّلين ، قال : لأنّهم كانوا يرضون بما صدر من آبائهم من قتل الأنبياء.

ومنها : الأخبار الدالّة على العفو عن نيّة السيّئة ، وهي على ما قيل كثيرة.

منها : ما رواه بعض الأعاظم عن الكليني في الصحيح عن جميل بن درّاج عن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السلام أو أبي جعفر عليه السلام فقال : إنّ آدم عليه السلام قال يا ربّ سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم فاجعل لي شيئا ، فقال : يا آدم جعلت لك إنّ من همّ من ذرّيّتك السيّئة لم يكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيّئة ، ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشرا.

وعن فضيل بن عثمان المرادي سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أربع من كنّ فيه لم يهلك على اللّه عزّ وجلّ بعدهنّ إلاّ هالك ، يهمّ العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب اللّه له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب اللّه له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن هو عملها اجّل سبع ساعات ... إلى آخره.

ووجه الدلالة : أنّ نفي الكتابة في نيّة السيّئة المجرّدة عن العمل وإن احتمل كون المراد به نفي الحرمة والخطاب أو نفي المؤاخذة والعقاب ، غير أنّ الظاهر المنساق منه عرفا إنّما هو نفي كتابة أصل النيّة في زبر الأعمال ، نظرا إلى أنّ الّذي يكتبه الملكان إنّما هو أصل العمل من خير أو شرّ من صغيرة أو كبيرة ، وهو يستلزم نفي المؤاخذة والعقاب أيضا فلولا أصل النيّة قبيحة ولا محرّمة مبغوضة عند اللّه سبحانه لما تمّ الامتنان والإنعام الّذي سيق لبيانه الكلام.

وظاهر الروايات اعتبارا ومساقا كون المنفيّ نفس النيّة لا المنويّ وإلاّ لخرجت القضيّة منتفية الموضوع وهو خلاف الأصل ومناف للسياق.

فما قيل : من أنّه لا دلالة فيها على أنّ العزم على المعصية معصية ، بل تدلّ على أنّ من عزم على معصية كشرب الخمر أو الزنا مثلا ولم يعملها لم يكتب عليه تلك المعصية الّتي عزم عليها وإنّ هذا من ذلك ، ليس ممّا يلتفت إليه.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد به رفع المؤاخذة المستلزمة لرفع الحرمة كما في

ص: 609


1- البقرة : 91.

النبوي المعروف « رفع عن أمّتي تسعة ... » إلى آخره.

قلت : الظاهر من النبوي بعد تعذّر الحقيقة إنّما هو ذلك ، مضافا إلى أنّ رفع المؤاخذة من دون رفع الحرمة ممّا لا يتعقّل ، لعدم صلاحيّة الامور التسع المذكورة هنا للتكليف بأنفسها ولا بمواضعها كما لا يخفى على المتأمّل ، بخلاف محلّ البحث فإنّ الحمل فيه على الظاهر ممكن والعدول عنه غير متعيّن.

وقد عرفت أنّ ظاهره نفي كتابة أصل العمل المستلزم لنفي المؤاخذة عليه دون التكليف به ، مضافا إلى أنّه ممّا يقتضيه الحمل على النظائر ، فإنّ الكتابة قد وردت في الروايات نفيا وإثباتا في مواضع كثيرة ، منها : ما في فضيلة يوم الغدير ، وثلاثة أيّام من شهر الربيع من عدم كتابة المعاصي ، ضرورة أنّ الّذي لا يكتب إنّما هو نفس العمل من ترك واجب أو فعل محرّم لا أنّ التكليف غير ثابت وهو واضح.

ثمّ إنّه لا يخفى ما بين هذه الأخبار الدالّة على ثبوت العفو عن نيّة المعصية وغيرها ممّا تقدّم من التعارض على ثبوت الاستحقاق للعقاب على الإطلاق من دون عفو.

وربّما يجمع بينهما بحمل أخبار العفو على من نواها مع القدرة عليها ولكن لم يعملها اختيارا وحمل أخبار الاستحقاق من غير عفو على من نواها ولم يعملها من جهة عدم قدرته على الإعمال ، بمعنى انتفاء العمل عنه قهرا لا اختيارا.

وهذا محلّ نظر ، إذ الكلام إنّما هو في العزم المجرّد عن العمل مطلقا حتّى نفس المعصية ، ولا يعقل تجرّد العزم عن المعصية إلاّ مع انتفاء شرط من شروطها أو وجود مانع من موانعها ، وإلاّ فمع تحقّق جميع الشرائط وانتفاء سائر الموانع يقع العزم جزءا أخيرا من العلّة ، ولازمه ترتّب المعلول أيضا لاستحالة انفكاكه عن علّته التامّة ، كيف وإنّ الترك الاختياري ملزوم لعدم الإرادة لكونه مقدّمة له كما تقدّم ، وهو مع الإرادة غير ممكن الاجتماع ، ومعلوم أنّ ملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء فلا يجتمعان إلاّ أن يفرض حصول الإرادة حين انتفاء بعض الشروط ، فإذا اجتمعت الشروط وحصل جميع جهات الاختيار زالت الإرادة فترتّب عليه ترك العمل اختيارا ، غير أنّه فرض خارج عن محلّ البحث ، إذ الكلام في عدم حصول العمل حين تحقّق الإرادة والفرض ينافيه ، والإرادة الحاصلة قبل اجتماع الشرائط كانت حاصلة حين حصول الترك لا عن اختيار ، وهو مناف لما ذكر في وجه الجمع ، والأولى أن يخصّص أخبار العفو بما عدا نيّة قتل الأنبياء

ص: 610

وأوصيائهم ، ونيّة إيذائهم ونيّة هدم الكعبة وغيرها من المساجد ، وشاهد الجمع ما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ ) (1).

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ قصد المعصية ليس كقصد الطاعة الّذي يكتسب به الطاعة المنويّة كقصد الصلاة الّذي يكتب صلاة على ما يستفاد من الأخبار ، بل هو بنفسه معصية لا أنّه يكتب به المعصية المنويّة ، فنيّة الزنا مثلا لا تكتب زنا بل تكتب معصية اخرى.

فمن هنا ظهر أنّ نيّة الكبيرة ليست بكبيرة كما توهّم.

وممّا يؤيّد المختار من كون العزم على المعصية معصية ، ذهاب جماعة في الإصرار على الصغيرة إلى أنّ الإصرار يتحقّق بفعل المعصية تارة ثمّ القصد إلى فعلها اخرى وان لم يفعلها ، فإنّ العزم محقّق لموضوع الإصرار وإن لم يكن بعين المعصية المأتيّ بها.

وأمّا توهّم كون ترك التوبة بعد الصغيرة إصرارا أيضا نظرا إلى وجوبها فورا فلا حاجة في تحقّق موضوع الإصرار إلى لحوق قصد الإتيان بالمعصية مرّة اخرى ، ففاسد جدّا ، لأنّ وجوب التوبة - إن قلنا به كما عليه المتكلّمون - من كونه لدفع الضرر وتكفير الذنب وجوب إرشادي نظير الوجوب المستفاد من أوامر الطبيب ، فلا يترتّب على مخالفته إلاّ بقاء استحقاق العقاب المترتّب على المعصية ، وإلاّ فمع قطع النظر عنه لا عقاب على ترك التوبة بنفسه ، كما أنّ مخالفة أمر الطبيب لا يترتّب عليه إلاّ بقاء الضرر المترتّب على المرض السابق.

ثمّ إنّ ما اخترناه من كون العزم على المعصية معصية مع ثبوت العفو عنها في الجملة ، هو الّذي نسبه بعض الأعاظم إلى جماعة من الخاصّة والعامّة كعلم الهدى والطبرسي والزمخشري والبيضاوي والبهائي ، حتّى عن الأوّل أنّه قال : وقد تجاوز قوم حتّى قالوا :العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الكفر كفر.

بل عن الأخير : أنّه جعل ممّا لا ريب فيه عندنا وعند العامّة ، وادّعى كونه من ضروريّات الدين ولكن لم ينقل عنهم القول بالعفو عدا ما استظهره عن البهائي من اعترافه بثبوت العفو عنه.

قال المحقّق الطوسي في التجريد : إنّ إرادة القبيح قبيحة.

وعن السيّد الداماد : إنّه نسب إلى فقهائنا وفقهاء العامّة واصولينا واصوليّهم أنّهم قد اتّفقوا على أنّ العزم على المعاصي ونيّتها ممّا لا يترتّب عليه عقاب ومؤاخذة ما لم يتحقّق التلبّس بالمعصية.

ص: 611


1- البقرة : 91.

وظاهر ذلك الاعتراف بأصل المعصية مع دعوى العفو عنها.

وعن جماعة التصريح بالعدم ، وعن المازندراني إنّه نسبه إلى كثير من أصحابنا ، وعن المقدّس إنّه عزاه إلى المشهور إلاّ أنّه احتمل أن يريدوا أنّه لا يعاقب بالمنويّ الحرام.

وعن الشهيد قال : لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه ، وهو كما ترى لا ينافي ما اخترناه.

كما أنّ ما عن الصدوق من أنّه عدّ من اعتقادنا الظاهر في كونه مذهب الإماميّة أنّ من همّ بسيّئة لم يكتب حتّى يعملها ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة ، لا ينافيه فما في كلام بعض الأعاظم من أنّ ذلك ظاهر في العفو وعدم الحرمة غير سديد.

وأمّا الجهة الثالثة : في العزم المقرون بعمل يكون من مقدّمات المعصية.

واعلم أنّ الّذي ينبغي أن ينظر هنا في حكمه إنّما هو أصل العمل ، إذ العزم المقرون له قد علم ممّا سبق حكمه بل بطريق أولى ، فإنّ العزم المجرّد إذا كان محرّما فالعزم المقارن لما يكون من مقدّمات المعصية أولى بالتحريم ربّما يمكن أن يقال هنا بترتّب العقاب وعدم ثبوت العفو عنه.

بل يمكن أن يجعل ذلك وجه جمع آخر بين الأخبار المتعارضة المتقدّمة في الجهة السابقة ، بحمل ما دلّ منها على ثبوت العفو على العزم المجرّد كما يشهد به صريح أخبار نفي كتابة نيّة السيّئة على هذه الأمّة ، وحمل ما دلّ منها على ثبوت العقاب فعلا على العزم المقرون بما يكون من مقدّمات المعصية.

ويشهد به ما تقدّم في رواية القاتل والمقتول ، من حيث إنّ المقتول الّذي يدخل بنيّة قتل صاحبه في النار يكون ناويا له مع التلبّس ببعض مقدّماته.

فما يقال في المقام من الترديد في كون العقاب على العزم المقرون بالعمل أو العمل المتلبّس بالعزم مع دعوى أنّه له وجهين ، ليس على ما ينبغي إذ العزم على كلّ تقدير محرّم وموجب للعقاب ، وإنّما الشأن في معرفة أنّ العمل المقارن له أيضا يتّصف بالحرمة أو لا ، وعلى الأوّل فهل يوجب عقابا آخر عليه غير ما هو على عزم المعصية أو لا؟

فنقول : إنّ مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى الحرام لا إشكال في حرمتها من حيث المقدّمية ، من غير فرق بين كونها شرطا كنصب السلّم بقصد الطلوع على سطح الغير غصبا ، واتّخاذ العنب أو عصره ليعمل خمرا ، وصنع الآلة القتّالة أو الجارحة أو اشتراؤها

ص: 612

ليجني بها على الغير من غير حقّ ونحو ذلك ، ممّا لا يحصى ، أو سببا كالتدرّج من درجات السلّم المنصوب في المثال المذكور ونحو ذلك ، ودليله واضح من حيث الجزم بأنّ من يبغض أصل المحرّم ولا يرضى بفعله (1).

...................................................................

ممّا سبق أيضا فإنّ المتلازمين لا يعقل بينهما توقّف بل هما يتوقّفان معا على ثالث هو علّة لهما ، فيرجع الاستدلال إلى كونه من باب الاستدلال على أحد المتلازمين بالمتلازم الآخر الكاشف عنه باعتبار كشفه عمّا هو علّة لهما من دون أن يكون فيه شائبة دور.

في مبحث الضدّ

وأمّا ما ذكره بعض الأفاضل ، ففيه : منع كون توهّم الاختصاص ناشئا عمّا ذكره لجواز كونه ناشئا عمّا أشرنا إليه من الامور.

ولو سلّم فلا يستقيم بعض ما ذكره اعتراضا على دعوى الاختصاص ، لأنّ الترتيب الّذي اعتبره في المضيّقين إن أراد به ما يحصل في الخطاب بهما بأن يتقدّم أحد الخطابين على الآخر فممّا لا يدفع المحذور ، لأنّ مبناه على لزوم التكليف بما لا يطاق الممتنع من الحكيم على الإطلاق ، وهو لا ينوط بورود الخطابين متقارنين للزوم المحذور أيضا عند ورودهما متعاقبين ، ولو أراد به ما يكون قيدا في المكلّف به بأن يكون المقصود بالخطاب تحصيل الامتثال بأحد المتضادّين عقيب الامتثال بالآخر فهو خروج عن موضع البحث بالمرّة ، لأنّ فرض الكلام فيما لو حصل بين القيدين تعاند وليس بينهما في الصورة المفروضة ، إذ المفروض وقوع كلّ في زمان لا يزاحمه الآخر بل يكون إطلاق الضدّين عليهما حينئذ خروجا عن الاصطلاح.

ثمّ اعلم : أنّه لو ورد أمران موسّعان - بناء على دخولهما في موضع الخلاف - وقلنا باقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ مع ملاحظة ما قدّمنا ذكره من تعلّق النهي حينئذ بالقدر المشترك بين الأفراد التقديريّة كالأمر يرجع مفاد كلّ منهما إلى أن يكون الآمر قد قال في

ص: 613


1- ومن المؤسف عليه ضياع أوراق هاهنا من نسخة الأصل طيلة الأيّام ، التي كانت تشتمل على قليل من أواخر مبحث المقدّمة وقليل من أوائل مبحث الضدّ ، ونحن مع كثرة فحصنا عنها لم نعثر عليها ، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا. وسيأتي بعد ذلك مسألة الضدّ بقوله : « ممّا سبق أيضا » الخ. ولا يخفى أنّه قدس سره شرع في الجزء الثالث من التعليقة _ حسب تجزئته _ من أوّل مسألة الضدّ كما يظهر ذلك ممّا أورده في ص ٦١٨ بقوله : « ... للأصل الّذي قررّناه في ذيل بحث الفور من الجزء الثاني من الكتاب ، ومن أراد الاطّلاع فليرجع إليه ».

خطابه : « أنت مأمور من الفعل الفلاني بما يقع في الوقت الفلاني ومنهيّ عمّا يعانده في ذلك الوقت » ولمّا كان كلّ من المأمور به والمنهيّ عنه كلّيّا له أفراد تقديريّة متعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الوقت فينتزع العقل عن كلّ خطاب خطابا آخر راجعا ، إلى أن يقال : « أنت مخيّر في ذلك الفعل بين إيقاعه في أيّ جزء من ذلك الوقت إلاّ الجزء الّذي تزاحم الفعل الآخر الّذي يقع في ذلك الجزء » وهو تخيير عقلي مستفاد من خطاب الشرع ، والاستثناء في كلّ مفاد النهي في الآخر.

وإن قلنا بعدم الاقتضاء يسقط عن كلّ من الخطابين عقده السلبي المفيد للنهي والاستثناء المذكورين ، وينحصر مفادهما في الأمر بالكلّي المخير فيه المكلّف بين أفراده التقديريّة ، ولكن كلّ كلّي يعاند الآخر في الجزء الّذي يقع فيه من الوقت ، ضرورة عدم صلاحيّة ذلك الجزء لكليهما ، ولمّا كان كلّ صالحا لوقوعه في كلّ جزء فكان التعاند حاصلا فيهما في كلّ جزء.

وإن شئت فقل : إنّ التعاند بينهما من حيث فرض الوقوع لهما يحصل بين كلّ فردين منهما.

فما ذكره بعض الأعاظم من قوله : إنّ الأمرين لو كانا موسّعين لم يتحقّق بينهما تناقض ، ليس على ما ينبغي ، إن كان مراده بالتناقض هو التدافع والتعاند ، كيف وهو مناقض لما قدّمنا منه في دفع توهّم الاختصاص من قوله : مدار النزاع على حصول التعاند في الوجود ، مع دعواه دخول الموسّعين في النزاع.

غاية الأمر أنّ الجمع بينهما في صورة التوسعة ممكن بخلاف المضيّقين ، وهو لا يوجب انحصار التعاند فيهما دون الموسّعين ، كيف ولو كان موجبا لذلك لزم أن لا يكون بين المضيّق والموسّع أيضا تعاند لإمكان الجمع بينهما ، وهو لا يقول بذلك جزما.

وإن أراد به ما هو مصطلح أهل الميزان فهو أجنبيّ عن المقام ، ضرورة عدم حصول التناقض بهذا المعنى فيما بين المضيّقين أيضا ، لأنّهما أمران وجوديّان لا يجتمعان في محلّ واحد ، مع أنّه يسلّمه بينهما بل وبين المضيّق والموسّع على ما يستفاد من كلامه.

ثمّ إنّ قضية ما قرّرناه على القول بالاقتضاء وقوع كلّ من الفعلين المأمور بهما مأمورا به ومنهيّا عنه من باب اجتماع الأمر والنهي ، فكلّ من حيث كونه ما يقع في الوقت تعلّق به الأمر ومن حيث كونه ما يعاند الآخر تعلّق به النهي ، غير أنّه غير قادح على القول بعدم

ص: 614

جواز الاجتماع ، لكون الجهتين كلّيين متضادّين لا يتّفق لهما مورد اجتماع من الجزئيّات الحقيقيّة حتّى يندرجا في موضع نزاعهم في مسألة الاجتماع ، ضرورة أنّ كلاّ من الفعلين عند وقوع الآخر غير ممكن الاجتماع معه ليجتمع في كلّ منهما جهتا الأمر والنهي وإلاّ لما كانا متعاندين ، كالغصب والصلاة فلا يعقل فرد يكون مصداقا لكلتا الجهتين ، حيث لا يعقل فرد يكون مصداقا لكلا الفعلين ، فمورد اجتماع الأمر والنهي حينئذ مجرّد الكلّي من الفعلين نظير الضرب للتأديب والتعذيب ، وإلاّ فكلّ حيثما وقع من أجزاء الوقت نفس المأمور به إلاّ أن يناط ملاك فرض الاجتماع بينهما في أمر واحد شخصي بالقصد والنيّة ، فحينئذ إن وقع الفعل بعنوان أنّه مأمور به يكون امتثالا أو بعنوان أنّه يعاند المأمور به يكون عصيانا أو بكلا العنوانين يكون امتثالا وعصيانا على القول بجواز الاجتماع ، وإلاّ يكون عصيانا محضا كالصورة الثانية غير أنّه خلاف ما يظهر من أصحاب القول بالاقتضاء ، حيث يجعلون المنهيّ عنه نفس الضدّ كيفما اتّفق لا خصوص ما يقع منه بقصد كونه معاندا للمأمور به ، فيشكل عليهم الحال بالنظر إلى ما قرّرناه من تعميم النزاع من جهة أنّ ظاهرهم من اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ أنّ الأمر بالشيء يكشف عن أنّ ضدّ المأمور به ليس بمأمور به بل منهيّ عنه ، فلو اجري هذا الكلام بالنسبة إلى الموسّعين أيضا يلزم من إثبات الأمر لأحدهما نفيه عن الآخر ، فيرجع مفاد الأمرين إلى تحريم الضدّين وهو باطل بالضرورة.

وإن قالوا بأنّ الّذي يكشف عنه الأمر إنّما هو مجرّد النهي عن الضدّ حتّى أنّه لو جمع بين الأمرين يلزم كون كلّ من الضدّين مأمورا به ومنهيّا عنه بضابطة ما ذكرناه.

فيرد عليهم : منع ما تقدّم من عدم إمكان اتّفاق الجهتين في محلّ واحد شخصي ، وإن لم نجعل الأمر منوطا بالقصد.

فإنّ غاية ما في الباب أنّ الضدّين لا يجتمعان معا لما بينهما من التعاند ، وأمّا الجهتان في كلّ منهما فلا تعاند بينهما بل لا يتّفق فعل في الخارج إلاّ وهو مصداق لعنوان ذلك الفعل ولعنوان الضدّية بمعنى كونه معاندا لما يقابله ، فيكون كلّ من الواجبين الموسّعين إذا وقع في كلّ جزء من الوقت مصداقا لعنوان كونه مأمورا به ومعاندا للمأمور به الآخر فيكون منهيّا عنه أيضا فيتوجّه منه إشكالان :

أحدهما : ما يرد منهم على القائلين بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

والآخر : ما يعمّهم والآخرين.

ص: 615

أما الأوّل : فعود المحذور الّذي أشرنا إليه من استلزام ثبوت الأمر في كلّ من الضدّين نفيه في الآخر ، فيكونان محرّمين وهو خلاف الفرض.

وأمّا الثاني : فلزوم كون إثبات النهي لكلّ منهما بدلالة خطاب الآخر مع عدم جعل العبرة بالقصد والنيّة التزاما للنهي عمّا ليس باختياري للمكلّف ، لأنّ عنوان المعانديّة لكلّ من الفعلين بالنسبة إلى الآخر يحصل له عند الإتيان به لقصد الامتثال قهرا ، بل هو من اللوازم الّتي يستحيل التحرّز عنها في حين الامتثال نظير التوليديّات ونهيه عنه لأجل هذا العنوان الغير المقدور له تكليف بما لا يطاق ، وهو عند غير الأشاعرة محال ، مع إشكال آخر على القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي منهم من جهة عدم انطباق ذلك على ما ذكروه في الثمرة من فساد العبادة عند الأمر بالمضيّق ، وإن التزموا هنا باعتبار القصد والنيّة إلى المعاندة لتحقّق الجهة المحرّمة ، فمع أنّه ينافي ظاهر كلامهم كما عرفت ينافي إطلاق القول بالثمرة المذكورة وغيرها ممّا فرضوها من فساد المعاملة ونحوها ، لأنّ قضيّة ذلك حينئذ الفرق في ترتّب الثمرة بين ما لو كان الإتيان بالضدّ الموسّع لأجل أن يكون معاندا للمأمور به المضيّق وبين غيره.

فالمتّجه حينئذ سقوط الموسّعين عن محلّ نزاعهم كما ذكره الجماعة ، وكأنّ ما قرّرناه صار منشأ لذلك فيكون حينئذ كلاما على وفق ما يساعد عليه التحقيق ، ويبطل به ما توهّمه الآخرون من عموم النزاع.

وعلى أيّ حال كان فإذا ورد أمران موسّعان يجب امتثالهما معا لوجود المقتضي وفقد المانع ، إذ المفروض إمكان الجمع بينهما من غير فرق في ذلك بين الموقّتين والغير الموقّتين والمختلفين ، فإن اعتبر بينهما ترتيب بحسب الوجود الخارجي كما في الظهرين والعشاءين في الوقت المشترك يبنى عليه ويؤتى بالوظيفة ، وإلاّ فيقدّم ما هو الأهمّ منهما في نظر الشارع لبناء العقلاء وحكم القوّة العاقلة إن كان ، وإلاّ كصلاة الصبح وما قيّد من المنذورة بما بين الطلوعين يبنى على التخيير في التقديم والتأخير ، لقبح الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا المضيّقان حيثما ورد الأمر بهما فالقطع حاصل بملاحظة عدم إمكان الجمع بينهما ، بأنّ الحكيم العدل لا يحمل المكلّف عليهما مريدا للإتيان بهما معا في آن واحد ، فلابدّ من البناء على ما يقتضيه الإمكان وهو الإتيان بأحدهما تخييرا إن لم يكن أحدهما أهمّ لقبح الترجيح من غير مرجّح ، أو تعيينا إن كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع ، لقضاء

ص: 616

القوّة العاقلة بأنّ الحكيم لا يترك الأهمّ بغيره ، وبناء العقلاء على تقديم الأهمّ.

وربّما يتمسّك بقاعدة الاشتغال واستصحابه تحصيلا للبراءة اليقينيّة الموقوفة على الإتيان بالأهمّ وليس في محلّه كما لا يخفى.

فتقرّر بما قرّرنا أنّ الأصل في كلّ واجبين مضيّقين هو التخيير أو الإتيان بالأهمّ ، وهذا أصل كثير النفع عامّ الفائدة لكون مجراه بابا واسعا في الفقه يتفرّع عليه فروع غير محصورة في أبوابه المتفرّقة ، ويعبّر عنه كثيرا بتزاحم الواجبين ، ومن أفراده قيام ما يقضي عند الحاكم وجوب الإفتاء والقضاء معا في آن واحد وكذلك الإفتاءين والقضاءين.

ومنها : إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق إذا تعدّدا أو اختلفا.

ومنها : إزالة النجاسة عن المسجد وإنقاذ القرآن من يد الكافر إذا تعدّد كلّ منهما أو اجتمعا معا.

ومنها : ردّ الدين وردّ الوديعة مع تعدّد كلّ منهما أو اجتماعهما معا.

ومنها : صوم نهار رمضان والصوم المنذور إذا عيّن له يوما من السنة وصادف ذلك اليوم من رمضان ، ويمكن أن يقال بخروجه عن محلّ الكلام لكشف المصادفة عن عدم انعقاد النذر من جهة تقيّده بالإمكان ، ولا إمكان مع المصادفة المذكورة.

وهل قضيّة ما ذكرنا من التخيير أو تقديم الأهمّ في المضيّقين سقوط الأمر عن الآخر بالمرّة وفراغ ذمّة المكلّف منه ، أو جواز التراخي في الآخر الموجب لبقاء الأمر المقتضي للامتثال فيما بعد ذلك؟ وجهان من كون المراد بالمضيّق ما هو بمعناه الأخصّ أو الأعمّ ، والتحقيق أنّ الحكم يختلف باختلاف الموارد.

وتفصيل ذلك : أنّ الأمر في كثير من المواضع كان باقيا في غير زمان الفور أيضا كما في مسألة الإفتاء والقضاء ، ومسألتي أداء الدين وردّ الوديعة ، ومسألتي إزالة نجاسة المسجد وإنقاذ القرآن من يد الكافر ونحوها ، فلابدّ من ضابط كلّي يعرف به حكم الموارد الجزئيّة.

فنقول : إنّ الأمرين إمّا مضيّقان بالذات أو بالعارض ، كما لو تضيّق وقت الفريضة بظنّ الموت أو قرب انقضائه ، أو مختلفان.

وعلى التقادير فإمّا موقّتان أو غير موقّتين أو مختلفان.

وعلى جميع التقادير فإمّا أن يعلم ببقاء العلّة الداعية إلى الأمر أو يعلم بعدم بقائها ، أو يشكّ في البقاء والعدم بسبب الجهل بأصل العلّة كما في العبادات الصرفة ، فما كان منهما من

ص: 617

قبيل الموقّت - مع ندوره في الشرعيّات - فالحكم فيه سقوط الأمر لفوات الأمر بخروج الوقت وانتفاء المقيّد بانتفاء قيده ، من غير فرق بين ثبوته فيهما أو في أحدهما بالأدلة اللفظيّة أو الأدلّة اللبّية ، ولا مجرى للاصول العمليّة هنا سوى أصل البراءة ، ومقتضاه موافق لما ذكر.

ولا يعارضه أصل الشغل لأنّه في جريانه فرع ثبوت الاشتغال والقطع بالتكليف ، وهما بعد التعارض بالنسبة إلى ما بقي بعد امتثال أحدهما منتفيان ، وإلاّ لخرج عن فرض المسألة.

ولا الاستصحاب لاقتضائه يقينا سابقا بالثبوت وشكّا لاحقا في البقاء ، والأوّل منتف لو اريد استصحاب الأمر الثابت بعد انقضاء الوقت ، كما أنّ الثاني منتف لو اريد استصحاب ما ثبت قبل خروج الوقت للقطع بعدم بقائه ، وما كان منهما من غير هذا القبيل فإن علم فيه ببقاء العلّة يحكم ببقاء الأمر ، لأنّه معلول ويكشف عن كون الفوريّة مطلوبا آخر لرجحان التعجيل في نظر المولى.

ومن هذا الباب مسألة الإفتاء والقضاء وإنقاذ الغريق والحريق إن علم بحياة أحدهما بعد إنقاذ الآخر أو إطفائه وإزالة نجاسة المسجد إن بقيت إحدى النجاستين على حالها بعد ما أزال الاخرى ، لكون العلّة في الأوّلين رفع حاجة الناس وفي تاليهما حفظ النفس المحترمة ، وفي الأخيرين وجود النجاسة وهي باقية في الجميع.

ومنه أداء الدين وردّ الوديعة لكون العلّة فيهما تفريغ الذمّة وإيصال حقّ الغير إلى صاحبه ، وإن علم بانتفاء العلّة كما في الإنقاذ أو الإطفاء إذا علم بموت الباقي ، ومثله الإفتاء والقضاء إذا علم رفع حاجة الباقي ، وأداء الدين إذا علم بقضاء الغير عنه تبرّعا يحكم بزوال الأمر أيضا لعدم المقتضي ، مضافا إلى أصالة البراءة ، ولا يعارضها الأصلان الآخران لعين ما تقدّم.

وإن شكّ في انتفائها والعدم يشكل الحال من احتمال وجود المقتضي وفقده مع عدم العلم بالرافع ، ويمكن الفرق بين ما ثبت بالأدلة اللفظيّة وغيره ، فعلى الأوّل يحكم بالبقاء للأصل الّذي قرّرناه في ذيل بحث الفور من الجزء الثاني من الكتاب ، ومن أراد الاطّلاع فليرجع إليه.

وعلى الثاني يحكم بالعدم للأصل وعدم العلم بالمقتضي.

وربّما يحتمل هنا جريان الاستصحاب ولكن النظر الصحيح يدفعه ، لأنّ أحد الأمرين من أوّل الأمر بسبب المزاحمة الموجبة للقطع بلزوم التكليف بما لا يطاق لو ثبتا معا في آن واحد غير معلوم الثبوت بل مقطوع بعدم ثبوته في ذلك الآن الّذي وقع فيه الآخر وفيما بعد

ص: 618

ذلك الآن لا يقين بثبوته وإلاّ لخرج عن فرض المسألة وارتفع الحاجة إلى الاستصحاب.

وقد يشكل الحال فيما يحكم بالتخيير إذا استفيد الوجوب من الأمر اللفظي من جهة كونه مرادا به العيني في غير مورد التزاحم ، فلو اريد منه التخييري أيضا في مورد التزاحم يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مرجوح أو غير جائز ولعلّنا نشير إلى دفعه فيما بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ قضيّة ما تبيّن في بحث المقدّمة من المذاهب في الأمر المشروط من كونه مجازا فيه ، أو حقيقة بينه وبين المطلق من باب الاشتراك مع ظهوره عند الإطلاق في المطلق من باب الانصراف أو الإطلاق وترك ذكر القيد ، خروج الأمر المشروط عن العنوان بل قضيّة احتجاجهم على القول بالاقتضاء بقاعدة المقدّمية خروجه عن المبحث أيضا ، لما تقرّر ثمّة من خروج مقدّمات الواجب المشروط إذا كانت راجعة إلى الوجوب عن المتنازع فيه بخلاف ما يرجع منها إلى الوجود فقط.

فقضيّة ما قرّرناه أيضا من جواز دخولها في محلّ النزاع. غاية الأمر كون الوجوب الثابت لها بناء على وجوب المقدّمة مشروطا نظير ما ثبت لذيها دخوله في المبحث أيضا ، غايته كون الضدّ منهيّا عنه على القول بالاقتضاء بالنهي المشروط على القول بوجوب المقدّمة إذا كان خاصّا بل مطلقا إذا كان عامّا فمن يرى الفعل واجبا مشروطا فلا جرم يجعل الترك حراما مشروطا هذا على مذهب من يرى ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر.

وأمّا على مذهب غيره فدخوله في المبحث بالنسبة إلى الضدّ العامّ بل الخاصّ أيضا مبنيّ على كون المراد بالأمر ما يعمّ المشروط حقيقة أو مجازا ، فعليه يكون النهي في الضدّ نفيا وإثباتا مشروطا أيضا وذلك واضح ، وأمّا الأمر المطلق فلا ينبغي الشكّ في دخوله بجميع أنواعه في محلّ النزاع نفسيّا كان أو غيريّا ، تعبّديّا كان أو توصّليّا ، أصليّا كان أو تبعيّا.

غاية الأمر عدم ترتّب الثمرة المعروفة من فساد الضدّ المنهيّ عنه في بعض تلك الأنواع كالغيري والتبعي ، بناء على اختصاص اقتضاء الفساد بالنهي الأصلي النفسي.

فقضيّة ما ذكر دخول أضداد مقدّمات الواجبات في المتنازع فيه فتكون محرّمة بالحرمة التبعيّة على المختار في وجوب المقدّمة إن قلنا بالاقتضاء هنا. ويدخل في المتنازع فيه أيضا الواجب الكفائي والتخييري في كلّ من ضدّيهما العامّ والخاصّ.

والمراد بالضدّ العامّ في الأوّل حصول الترك من الجميع أو من كلّ واحد لا إلى بدل.

ص: 619

وفي الثاني ترك الجميع أو كلّ واحد لا إلى بدل.

وبالضدّ الخاصّ في الأوّل ما يمنع كلّ واحد عن الإتيان بالمأمور به من الأفعال الوجوديّة قبل قيام غيره بالعمل.

وفي الثاني ما يضادّ من الأفعال الوجوديّة كلّ واحد من أفراد الواجب التخييري ، وأمّا لو كان فعل يضادّ البعض دون الآخر كالسفر بالقياس إلى خصال الكفّارة حيث يضادّ صيام شهرين متتابعين دون التحرير والإطعام فكونه من محلّ البحث نظر ، من حيث عدم تحقّق الضدّية فيه للواجب بما هو واجب التفاتا إلى عدم انحصاره في واحد معيّن.

ويمكن القول بتعلّق النهي به أيضا على القول بالاقتضاء تخييرا بينه وبين ما يضادّ البعض الآخر من الأفعال الوجوديّة خاصّة كالنوم الّذي يضادّ الإطعام والتحرير دون الصيام ، والكلام الّذي يضادّ التحرير دون الإطعام والصيام ، وإخراج المال عن الملك الّذي يضادّ الاطعام دون التحرير والصيام ، فكما أنّ الأمر بينها تخييريّ فكذلك النهي بين أضدادها.

ومن الفضلاء من أفرط بعد ما اختار اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ من باب المقدّمة ، فصرّح بكون كلّ واحد من آحاد الواجب المخيّر منهيّا عنه بالنهي التخييري من باب المقدّمة إذا تضادّت وتوقّف وجود كلّ واحد منها على عدم الآخر ، تعليلا بأنّ وجوب مقدّمة الواجب المطلق ليس مخصوصا بغير هذه المقدّمة.

ثمّ أورد على نفسه اشكالين :

أحدهما : أنّ قضيّة التخيير تساوي الآحاد في المطلوبيّة بمعنى أنّ مطلوبيّة كلّ واحد هي مطلوبيّة الآخر ، فلا يكون تركه مطلوبا له وإلاّ لساواه في المطلوبيّة على ما مرّ الإشارة إليه في بحث المقدّمة ، فيلزم تساوي فعله وتركه في المطلوبيّة فيرجع إلى الإباحة.

وثانيهما : أنّ طلب شيء لشيء يستدعي رجحانه له وهو يستدعي مرجوحيّة الفعل وهو ينافي رجحانه فضلا عن مساواته للآخر في الرجحان.

فأجاب أوّلا عنهما : بالنقض بما إذا كان الضدّ شرعيّا ، كما لو خيّر بين الجميع ومنع الجمع فإنّه لا ريب في مطلوبيّة كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر مجرّدا عن وصف الاجتماع ، فيتأتّى الإشكال فيه أيضا والفرق بينه وبين الضدّ العادي أو العقلي غير معقول كالفرق بين المقدّمات.

وثانيا عن الأوّل : بأنّ مطلوبيّة الترك للتوصّل إلى الفرد الآخر إنّما يقتضي مطلوبيّته

ص: 620

على تقدير التوصّل إليه لا مطلقا ، فالتخيير بين الفعل وترك خاصّ لا يكون إباحة وإنّما الإباحة هو التخيير بين الفعل ومطلق الترك.

وعن الثاني : بأنّ رجحان الفعل على وجه التخيير لا يستلزم مرجوحيّة تركه مطلقا ، وإنّما يستلزم مرجوحيّة تركه المجرّد عن المعادل فلا ينافي رجحان تركه المتوصّل به إلى المعادل.

ثمّ قال : « وسيأتي لهذا مزيد بيان في مبحث النهي » ، وكأنّه إشارة إلى ما ذكره في مبحث اجتماع الأمر والنهي من قوله : « وأمّا إذا كانا تخييريّين أو كفائيّين فلا إشكال في جواز الاجتماع ، لأنّ المطلوب بالأمر حينئذ وجود الطبيعة المقرون بعدم البدل وبالنهي عدمها المقرون بوجود البدل فلا يتّحد المورد ».

ولا يخفى ما فيه من وجوه الاختلال ، فإنّ الإماميّة وأكثر المعتزلة من العامّة في أفراد الواجب المخيّر على أنّه يجب كلّ واحد على البدل ولا يجب الجميع ، ولا يجوز الإخلال بالجميع ، والظاهر أنّ الأخيرتين من القضيّتين تفصيل لما أجملته القضيّة الاولى.

وحاصل المراد بهما : أنّ الواجب المخيّر ليس بمثابة حتّى يكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على كلا تقديري وجود الآخر وعدمه ، ولا هو بمثابة حتّى لا يكون كلّ واحد مطلوبا على كلا تقديري وجود الآخر وعدمه ، بل كلّ واحد مطلوب على تقدير عدم الآخر وليس بمطلوب على تقدير وجود الآخر وهذا معنى قولهم : « يجب كلّ واحد على البدل ».

وإن شئت تصوير ذلك بأكمل وجه فلاحظ العرف فيمن يعرضه حرارة مزاج لا يطفئها إلاّ أكل الرقى أو شرب السكنجبين فيكون إطفاء الحرارة مصلحة تعلّق بها غرضه الّذي دعاه إلى الطلب الإلزامي قائمة بكلّ من الطبيعتين حاصلة في الخارج بحصول أيّ منهما اتّفق ، فيكون كلّ مطلوبة له على تقدير عدم اتّفاق حصول الاخرى وغير مطلوبة له على تقدير اتّفاق حصول الاخرى ، فيحصل في المقام بملاحظة التقديرين قيدان متغايران كلّ منهما بالقياس إلى كلّ من الطبيعتين بمنزلة الفصل وهي منهما بمنزلة الجنس ، وإذا اعتبرت كلّ واحدة متفصّلة بكلّ من الفصلين يحصل به مفهومان متغايران أحدهما مطلوب وهو ما يصادف من كلّ من الطبيعتين عدم حصول الاخرى ، وثانيهما غير مطلوب وهو ما يصادف منهما حصول الاخرى ، فالأمر المتعلّق بكلّ منهما إن اقتضى نهيا عن الاخرى فإمّا أن يقتضيه في المفهوم الأوّل أو في المفهوم الثاني ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلكون ذلك المفهوم نفس المأمور به والشيء لا يعقل كونه ضدّا لنفسه.

ص: 621

وأمّا الثاني : فلأنّ المضادّة إنّما يتصوّر بين الشيئين في محلّ التعارض وما يصادف من الطبيعتين حصول الاخرى لا يعارض الطبيعة الحاصلة ، لما بين حصوليهما من الترتّب الخارجي بحسب التقدّم والتأخّر ، فإنّه عنوان لا يصدق إلاّ بعد حصول الطبيعة الحاصلة ، فهو في حقيقة الأمر ضدّ لما ارتفع عنه الأمر وحصل به الامتثال ، وفرضه ضدّا حينئذ خارج عن المسألة لأنّ معقد البحث ما كان ضدّا للمأمور به ، وفرض ما ذكر ضدّا يرجع إلى نظير فرض الصلاة ضدّا للإزالة المأمور بها بعد حصولها في الخارج وهو كما ترى.

ولو فرض المضادّة بين الأوّلين من مفهومي الطبيعتين اللذين تعلّق بهما الأمر التخييري ، بأن يقال - فيما ذكر من المثال : - إنّ الرقي المصادف لعدم حصول السكنجبين ضدّ للسكنجبين المصادف لعدم حصول الرقى وبالعكس ، فيكون كلّ منهيّا عنه للأمر بالآخر ، لكان أوضح فسادا لمنافاة فصل كلّ جنس الآخر تنافي السلب والإيجاب كما لا يخفى ، فيلزم المحذور الّذي أشرنا إليه سابقا في الموسّعين من لزوم فرض النهي في كلّ خروجه عن كونه مأمورا به ما دام النهي باقيا ، أو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لا يتصوّر فيه تعدّد جهة منوّعة ، وهو على القول بعدم الجواز محال فيلزم خلاف الفرض أعني فرض الأمر باقيا ، وعلى القول الآخر مناف للثمرة الّتي ذكروها للنهي عن الضدّ من فساده لو كان عبادة بل معاملة على رأي أيضا ، مضافا إلى منافاته لما ذكره في دفع الإشكالين مع ما في مبحث اجتماع الأمر والنهي ممّا نقلناه عنه في وجه ما جوّزه من اجتماعهما إذا كانا تخييرين ، لابتنائه على إبداء تعدّد المورد فيهما ولا ينطبق ذلك إلاّ على المفهومين من كلّ طبيعة متفصّلة بفصلين متغايرين كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده في تقرير الإشكال الأوّل من إرجاع طلبي الفعل والترك إلى الإباحة ، فإن أراد به أنّ الطلبين لتساويهما بحسب الرتبة يتعارضان ويتساقطان فيبقى الفعل والترك كأنّهما لم يتعلّق بهما طلب أصلا ، فهو مع أنّه مقالة لا يوافقها شيء من أقوال المسألة ولم يتفوّه بها أحد هنا متّضح الفساد في نفسه ، لأنّ قصارى ما هنالك اجتماع الأمر والنهي أو تقييد الأمر بالنهي على الخلاف في محلّه أو اجتماعهما فيما ليس من محلّ كلامهم كما زعمه هو على ما عرفت.

كيف ولو بنى على ذلك لكان مطّردا في جميع ما يفرض فيه الأمر والنهي معا وهو كما ترى ، وإن أراد أنّ الطلبين يكشفان عن تصادم مصلحة الفعل مع مفسدته المقتضية

ص: 622

لرجحان الترك وتساقطهما الكاشف عن إباحة المورد على حدّ ما ذكروه من أنّهما إذا اجتمعتا في شيء واحد إن تساويتا كان ذلك الشيء مباحا وإلاّ كان واجبا أو حراما ، ففيه : أنّه كلام ليس المقام من مجاريه لأنّ المفروض تعلّق الطلب بكلّ من الفعل والترك.

وما ذكر كلام في غير ما تعلّق به طلب ، ضرورة أنّه مع تساقط الجهتين المتساويتين غير معقول من حيث إنّه تابع للرجحان أو المرجوحيّة وهما منتفيان مع هذا الفرض ، إلاّ أن يؤوّل في الأمر والنهي المفروض تعلّقهما ويجعلهما لمجرّد الإذن في الفعل والترك وهو أوضح فسادا من جميع ما مرّ.

وأمّا ما قرّره في الإشكال الثاني من منافاة مرجوحيّة الفعل لرجحانه.

ففيه : أنّ رجحان الفعل ذاتي ومرجوحيّته عرضيّة ناشئة عن مرجوحيّة ترك الغير ولا منافاة بينهما ، وإلاّ لكان جاريا في الضدّ الموسّع للمأمور به المضيّق أيضا ، فما وجه تخصيص الإشكال بالمقام.

وأمّا ما ذكره في الجواب النقضي ، فالضدّ الشرعي المذكور فيه غير واضح المراد ، فإن أراد به ما يضادّ الواجب المخيّر ممّا امر به مع الأمر التخييري بالمخيّر فيدفعه : أنّ القائل بالنهي عن الضدّ لا يجعله مطلوبا ما دام النهي باقيا ببقاء الامتثال بالمخيّر مع كونه من المضيّقات ، بل يجعل الأمر به مشروطا بحصول الامتثال بالمضيّق أو حصول المعصية بتركه كما تقدّم في بحث المقدّمة.

ويظهر عن كلامهم هنا كما عرفت ويشهد به ثمرتهم المعروفة من فساد العبادة ضرورة منافاة الفساد للأمر كما يظهر عنهم في بحث كون النهي في العبادات مفسدا ، وإن أراد به ما يكون ضدّا شرعيّا لغير الواجب المخيّر وهو الواجب التعييني كالصلاة بالقياس إلى الإزالة ، فيدفعه : بمثل ما ذكر.

ولا يذهب عليك : أنّ ما احتملناه من الوجهين في ظاهر العبارة لا يساعدهما ما في ذيلها من التشبيه بقوله : « كما لو خيّر بين الجميع ومنع الجمع » فإنّ ظاهره النقض بما لو كان الضدّية بين أفراد الواجب المخيّر بحسب جعل الشرع لا بحسب الذات كما في خصال الكفّارة حيث لا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد ، بل الامتناع نشأ عن فرض كلّ فردا للواجب التخييري ، غير أنّ قوله : « لا ريب في مطلوبيّة كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر مجرّدا عن وصف الاجتماع » غير منطبق على مقصوده ، لكون المناسب له أن يقول :

ص: 623

« لا ريب في مطلوبيّة ترك كلّ واحد للتوصّل إلى الامتثال بفعل الآخر ».

وعلى أيّ حال كان فيرد عليه أيضا : أنّ المنع من الجمع إن اريد به ثبوته بقاعدة التشريع فهو ممّا لا مدخل له في محلّ البحث ، لأنّ المنع من الجمع غير المنع عن كلّ واحد ، لأنّه يرجع إلى المنع عن المجموع من حيث المجموع وهو لا يستلزم منع كلّ فرد من حيث الخصوصيّة ، كما في سلب العموم المغاير لعموم السلب ، والنقض إنّما يتمّ على الوجه الثاني دون الأوّل وإن اريد به ثبوته بنفس الأمر فهو في محلّ المنع ، إذ غاية مفاده نظرا إلى أخذ الترديد في مفهومه عدم كلّ واحد على طريق العامّ الاصولي وهو أعمّ من المنع.

ولو سلّم فهو منع عن الجمع لا عن كلّ واحد فيرجع الكلام إلى سابقه ، هذا مع ما في الجواب الثاني عن أوّل الإشكالين من ابتنائه على أصل فاسد له مبيّن فساده في بحث المقدّمة.

المرحلة الثانية : فيما يتعلّق بكلمة « الاقتضاء »

المرحلة الثانية

فيما يتعلق بكلمة « الاقتضاء »

فاعلم أنّها لغة لمعان كثيرة ، منها : ما هو من محلّ البحث وهو الدلالة والاستلزام ، واستعمالها فيهما في كلام العلماء فوق حدّ الكثرة ولا سيّما الدلالة ، وهي عبارة عن فهم المعنى من اللفظ ، فإن كان ذلك المعنى المفهوم تمام ما وضع له من حيث هو فالدلالة مطابقيّة ، وإن كان جزؤه كذلك فالدلالة تضمّنيّة ، وإن كان خارجة اللازم كذلك فالدلالة التزاميّة.

ثمّ إنّ هذا الخارج إن كان بحيث يحصل تصوّره بمجرّد تصوّر ملزومه فهو لازم بيّن بالمعنى الأخصّ ، وإن كان بحيث يحصل من تصوّره وتصوّر ملزومه وتصوّر النسبة بينهما الجزم بلزومه ، سواء حصل تصوّره بمجرّد تصوّر ملزومه أو لا فهو لازم بيّن بالمعنى الأعمّ ، وإن كان بحيث لا يحصل تصوّره بمجرّد التصوّر ولا الجزم بلزومه بمجرّد التصوّرات الثلاث بل كان يتوقّف العلم بلزومه على النظر في وسط وتوسيط واسطة فهو لازم غير بيّن ، وقد جرت عادتهم بالتعبير عن الأوّلين بالدلالة اللفظيّة وعن الأخير بالدلالة العقليّة.

ولعلّه من جهة أنّ فهم كونه لازما للمراد منوط بحكم العقل باللزوم نظرا منه في الخطاب مع الواسطة المشار إليها بخلاف الأوّلين لثبوت كونهما مرادين أو لازمين للمراد بنفس الخطاب من دون افتقار إلى وسط.

فتبيّن أنّ من خواصّه الافتقار إلى الوسط دونهما ، ومن خواصّه أيضا عدم كونه مقصودا بالخطاب أصالة بل هو لازم للمقصود دونهما ، ولذا يجعل الدلالة عليه تبعيّة وعليهما أصليّة

ص: 624

بالمعنى المتقدّم في بحث الواجب الأصلي والتبعي من مباحث المقدّمة ، هذا على ما يستفاد من كلامهم ولكن لنظر الناظر فيه مجالا واسعا.

ومع الغضّ عن ذلك فلعلّ الوجه فيه أنّ اللازم إذا كان بحيث يحصل تصوّره والجزم بلزومه للسامع فالمخاطب أولى بذلك ، فهو حينما يقصد الملزوم من خطابه قاصد للازم أيضا مع نوع تأمّل في إطلاق هذه الدعوى ، وحيثما يثبت إرادة اللازم مع الملزوم فهو لا يستلزم كونه من باب الاستعمال في أكثر من معنى بعد ملاحظة أنّه يقصد من اللفظ إفادة الملزوم ومن الملزوم إفادة اللازم وكأنّ التعبير عن الأوّل بقولهم : « مقصود من الخطاب » وعن الثاني بقولهم : « مقصود بالخطاب » إشارة إلى ذلك كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الدلالة في الأخير من حيث الاعتبار مثلها في الأوّلين ، فهي أيضا من الدلالات المعتبرة عرفا وشرعا وإن لم تكن مقصودة بالخطاب كما صرّح به غير واحد من الأعلام.

والوجه في ذلك أنّ الغرض الأصلي من فتح باب الألفاظ ووضعها بل مطلق المواضعة إنّما هو التوصّل بها إلى المقاصد وما في الضمائر من معتقدات المخاطبين ، فيكون اعتبار الدلالات من جهة كشفها بواسطة الألفاظ وغيرها عمّا في الضمائر من المقاصد والمعتقدات.

ولا ريب أنّ الدلالة المذكورة ممّا يكشف كغيرها عن الاعتقاد ، غاية الفرق أنّها ليست كغيرها ممّا يقصد بها إفادة الاعتقاد أصالة ، وهو لا يوجب فرقا بينهما في الحكم ، ضرورة دوران الأحكام شرعيّة وعرفيّة مدار المعتقدات في الواقع ونفس الأمر ، والمراد بها ما هو من معتقد الشارع ومن هو بمنزلته في وجوب إطاعته عقلا أو شرعا أو عرفا ، فلو استكشفنا بالخطاب ولو مع انضمام خارج إليه عمّا هو من معتقد المخاطب شارعا كان أو غيره كان متّبعا ويترتّب عليه أحكامه المعلومة في الخارج من طريقة ذلك المخاطب ، سواء كان من جملة الوضعيّات أو غيرها ، ومن هذا الباب أقلّ الحمل المستفاد من الآيتين كونه ستّة أشهر مع عدم كونه مقصودا بهما جزما.

ولذا ترى يحكم عليه بجميع ما قرّر في الشريعة وعلم من طريقة الشارع من الأحكام المحمولة على الحمل.

وربّما يستبعد وجود هذا النوع من الدلالة في كلام الشارع ، وقد أشرنا في بحث المقدّمة إلى ما يقضي بضعفه ، ونقول هنا أيضا : إنّ مبنى تلك الدلالة على عدم القصد من الخطاب بالخصوص والّذي يمتنع في الشارع إنّما هو عدم الالتفات والتصوّر والشعور

ص: 625

لا عدم القصد كما لا يخفى ، ولا ملازمة بين الالتفات والقصد إذ المراد بالقصد في مداليل الألفاظ ما يرادف الإرادة ، وهي في باب الدلالات عبارة عن طلب إفادة الاعتقاد وما في الضمير سواء بواسطة اللفظ أو غيره وهو أمر ينشأ بعد الالتفات والتصوّر فيكون أخصّ.

ومن البيّن عدم استلزام وجود الأعمّ لوجود الأخصّ.

ثمّ ما تقدّم للاّزم من الأقسام الثلاث إنّما هي وفي أصلها من مصطلحات أهل الميزان فجعلوها لتوابع الجثث والأعيان ولوازمها من حيث الوجود أو من حيث هي ، ولكنّ القوم توسّعوا في الاصطلاح فجعلوها لمطلق التوابع سواء قيست إلى الأعيان أو غيرها من الامور الخارجيّة أو الذهنيّة ، فلذا تراهم يجعلون المقدّمة من لوازم ذيها باعتبار وجوده الخارجي ووجوبها من لوازم وجوبه ، ثمّ طرّدوها إلى الدلالات اللفظيّة وجعلوا الالتزاميّة منها منقسمة إلى الأنواع الثلاث.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ تفسير الاقتضاء هنا بالدلالة اللفظيّة وإن توهّمه جماعة لا يلائم ما قدّمنا تحقيقه من كون الخلاف بينهم في الملازمة العقليّة ولا ينافيها القول بالتضمّنيّة والعينيّة فيما بين الأقوال لما ستعرف ، فلابدّ من تفسيره « بالاستلزام ».

ولذا ترى في بعض العنوانات التعبير به دون « الاقتضاء » ولمّا أنّهم مع الخلاف في أصل « الاقتضاء » اختلفوا في كيفيّته من حيث العينيّة والتضمّن والالتزام فلابدّ من أن يراد « بالاستلزام » ما يعمّ الجميع ، وإن كان قد يستبعد إرادة العينيّة من لفظ « الاقتضاء » إلاّ أنّه وارد في غير محلّه ، من جهة أنّ « الاقتضاء » بمعنى الاستلزام على الوجه الأعمّ يراد به عدم الانفكاك أو استحالته ، وكما أنّ اللازم لا ينفكّ عن ملزومه والجزء عن الكلّ فكذلك الشيء عن نفسه ، فقول القائل بالعينيّة « أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه » يراد به أنّه مستحيل الانفكاك عنه لكونه عينه ، ولا بعد فيه أصلا وإن كان الإطلاق عليه قليلا.

المرحلة الثالثة : فيما يتعلّق بكلمة « النهي »

المرحلة الثالثة

فيما يتعلّق بكلمة « النهي »

فاعلم أنّ النهي كالأمر يطلق تارة على ما هو من مقولة الألفاظ. واخرى على ما هو من مقولة المعاني ، إلاّ أنّ المراد به هنا هو الثاني وإن كان القول بالعينيّة قد يومى إلى إرادة الأوّل ، بناءا على بعض محتملاته من إرادة الترادف بين صيغتي الأمر والنهي ، غير أنّه

ص: 626

احتمال لا ينبغي الاعتداد به لوضوح فساد مبناه على ما سنحقّقه.

ثمّ إنّه بالمعنى الثاني كالأمر في انقسامه إلى ما سبق في بحث المقدّمة وغيرها من الأقسام ، فقد يكون مطلقا ، وقد يكون مشروطا ولو بالقياس إلى الشرائط الأربع المعروفة ، وقد يكون تعبّديّا كالصوم الواجب بناءا على تعلّق التكليف فيه بالتروك وإن عبّر عنها بأمر وجوديّ ، وقد يكون توصّليّا وهو الغالب ، وقد يكون نفسيّا وقد يكون غيريّا ، وقد يكون أصليّا وقد يكون تبعيّا ، ويعرف تفاسير الجميع بملاحظة ما سبق فلا حاجة إلى الإعادة.

وإنّما الغرض المهمّ بيان أنّ المراد به هنا أيّ واحد من الأقسام وقد وقع فيه خلاف ، فمن الأعلام من صرّح بكون النزاع في النهي الأصلي في غير موضع - هنا وفي بحث المقدّمة - مع اعترافه بثبوت النهي التبعي بعد ما اختار هنا القول بعدم الاقتضاء ، التفاتا إلى أنّه لا يثمر الثمرات المذكورة في المقام من ترتّب العقاب على فعل الضدّ وفساده لو كان عبادة إلاّ النهي الأصلي.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ الفساد المستفاد من النهي المتعلّق بالعبادة ليس من جهة دلالة اللفظ عليه ابتداء ، بل من جهة منافاة التحريم لصحّة العبادة ، وحينئذ فأيّ فرق بين استفادة التحريم من اللفظ ابتداءا ومن العقل بواسطة اللفظ كما في المقام أو من العقل المستقلّ.

إلى أن قال في آخر كلامه : « فتلخّص ممّا قرّرنا أنّ النزاع في المقام في تعلّق النهي الغيري التبعي بالضدّ ، فالقول بكون الأمر بالشيء مستلزما للنهي عن ضدّه إنّما يعنى به ذلك ، والقائل بعدمه يمنع عن حصول النهي عن الضدّ من أصله » ... إلى آخره.

ولا يخفى أنّ هذا النزاع ممّا لا يعلم له وجه بعد ملاحظة أقوال المسألة الدائرة بين القول بنفي الاقتضاء وإثباته على طريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام اللفظي أو العقلي ، بل الاستدلال عليه من الطرفين يشبه بأن يكون اجتهادا في مقابلة النصّ ، فإنّ الالتزام العقلي غير خال من أن يكون المراد به الغير البيّن كما يظهر من المصنّف عند نقله القول بانحصار الاستلزام في المعنوي عن بعض أهل عصره ، بناء على أن يكون مراده بالمعنوي هو العقلي وأن يكون الغير البيّن مدلولا تبعيّا ، أو ما يعمّ البيّن بالمعنى الأعمّ أو الغير البيّن كما فهمه بعض المحقّقين من كلام المصنّف في مفتتح المسألة ، حيث حمل الاقتضاء المعنوي الّذي نفاه المصنّف عن الضدّ الخاصّ على أن يجزم العقل بعد تصوّرهما باللزوم بمجرّد تصوّرهما أو بالدليل ولم يكن تصوّره فقط مستلزما لتصوّره ، أو المعنى الّذي فهمه بعض

ص: 627

الأعلام وتبعه غيره من أن يحكم العقل بأنّ ذلك مراد المتكلّم أصالة.

وعلى جميع التقادير يلزم أن يكون بعض الأقوال متضمّنا لدعوى الأصلي وبعضها متضمّنا لدعوى التبعي ، ولا سيّما مع ملاحظة احتجاجهم بقاعدة المقدّمية - بناءا على ما استفدنا في بحث المقدّمة من كون النزاع في الوجوب التبعي - فبطل بذلك إطلاق كلّ من الدعويين ، وتنزيل كلامهم على الوجه الأعمّ إلى الأصلي مطلقا أو التبعي مطلقا ، بل الّذي يقتضيه النظر وقوع النزاع فيما بينهم بالنسبة إلى أصل النهي ماهيّة ولو تبعيّا ، فالنافي ينفيه على الوجه الأعمّ كالمصنّف في الضدّ الخاصّ والمثبت يثبته في الجملة.

غاية الأمر أنّ الاختلاف في كيفيّة الاقتضاء خلاف آخر وقع بين القائلين بالاقتضاء بعد إثباته في الجملة ، ولا ينافيه عدم تصريحهم بتعدّد النزاع ولا بحثهم في عنوانين ، نظير ما صنعه الأشاعرة في إدراك العقل لحسن الأشياء وقبحها ، لأنّ ذلك من باب تداخل العنوانين واندماج النزاعين طلبا للاختصار وإثباتا للدعويين على وجه مطلوب مرغوب.

نعم يبقى الكلام في أنّ الثمرات الّتي ذكروها هل تترتّب على النهي على الوجه الأعمّ حتّى ما لو كان تبعيّا أو لا؟ وهو كلام آخر يأتي إلى تحقيقه الإشارة فيما بعد ذلك إن شاء اللّه.

المرحلة الرابعة : فيما يتعلّق بكلمة « الضدّ »

المرحلة الرابعة

فيما يتعلّق بكلمة « الضدّ »

وتفصيل القول في شرح « الضدّ » وبيان معانيه يأتي في شرح عبارة المصنّف إن شاء اللّه.

ولمّا كان بناء المسألة نفيا وإثباتا بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ على مقدّمية ترك الضدّ لفعل المأمور به وعدمها ، أو على جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه ، فالأنسب صرف عنان النظر إلى تحقيق الحال في هاتين المسألتين.

في أنّ ترك الضدّ ليس مقدّمة لفعل الضدّ الآخر

فأمّا المسألة الاولى : فالمشهور فيها إلى كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ ، والكعبي إلى كون فعل الضدّ مقدّمة للترك على عكس الاولى كما هو المعروف من مقالته في نفي المباح.

وربّما يعزى إليه المصير إلى المقدّمية من الطرفين ، غير أنّ الأوّل شرط للوجود والثاني علّة للعدم ، ونسب ذلك إلى مختصر الحاجبي وشرحه للعضدي حيث سلّما المقدّمية في الطرفين ، والمحقّق السلطان إلى منع المقدّمية من الجانبين بدعوى : كون كلّ مع الآخر من المقارنات الاتّفاقيّة من غير توقّف فيهما ، وعليه المحقّق السبزواري أيضا. وعزاه بعض الأعاظم إلى الكاظمي أيضا.

ص: 628

وعليه شيخنا البهائي في زبدته حيث منع التوقّف من الطرفين في دفع شبهة الكعبي ، واستدلال القائلين بكون الأمر مقتضيا للنهي بقاعدة المقدّمية.

فقال في الأوّل : « إنّ استدلال الكعبي على وجوبه - يعني المباح - بأنّ ترك الحرام لا يتمّ إلاّ به أو هو هو ، مع مصادمته للإجماع مدخول [ لا ] لعدم التعيين لثبوت مطلبه بالتخيير ، ولا للزوم وجوب المحرّم لالتزامه باعتبارين ، ولا لمنع وجوب غير الشرعيّة لثبوته كما مرّ ، بل لعدم كون المباح مقدّمة لترك الحرام ولا فردا منه ، إذ هو الكفّ عنه والمباح كاخوته الثلاثة مقارنات لا غير ».

وقال في الثاني : وفيهما كلام ، يعني في الاستدلال بتوقّف الواجب على تركه فيجب ، واستلزام فعله ترك الواجب فتحرم.

هذا على ما في المتن وشرحه في الحاشية بقوله : « يقال على الأوّل : إنّ المراد بمقدّمة الواجب ما يكون وسيلة ووصلة إلى فعله كقطع المسافة في الحجّ ولا نسلّم أنّ ترك أحد الضدّين وسيلة إلى فعل الآخر ، بل هو لازم ومقارن له كما هو مذكور في دفع شبهة الكعبي » إلى آخر ما ذكره ، ووافقه من شرّاحه صاحب الكواكب.

ويظهر ذلك عن العلاّمة في التهذيب حيث قال - بعد ما ذهب إلى النهي في الضدّ العامّ - : « وأمّا الضدّ الوجودي فلازم بالعرض ».

وعلّله بعض محشّيه : بأنّ المنافاة الحقيقيّة بين الشيء وعدمه ، وباعتبار أنّ عدم الشيء يتحقّق مع ضدّه يكون منافيا لذلك الشيء بالعرض ، فالنهي لازم باعتبار منع الاخلال بالمأمور به بالذات وباعتبار الضدّ الوجودي بالعرض ... إلى آخره.

وسيأتي في كلام أهل المعقول ما يفسّر هذا الكلام ، ونفي المقدّمية عن ترك الضدّ لازم لكلّ من قال في بحث المقدّمة بوجوبها وهنا بمنع اقتضاء الأمر للنهي كما لا يخفى ، وهذا هو الحقّ عندي.

ومن المحقّقين من فصّل فجعل ارتفاع الضدّ شرطا دون عدمه الأزلي.

وتحقيق المقام : مبنيّ على النظر في أنّ الضدّين هل يتحقّق بينهما تمانع في الوجود الخارجي ، بمعنى كون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر وعدمه ، فعلى الأوّل يثبت مقدّمية الترك ، بضابطة : أنّ عدم المانع مقدّمة بخلافه على الثاني.

وقد وقع فيه خلاف ، فالقائلون بعدم المقدّمية على الثاني وهو الحقّ ، كما أنّ القائلين

ص: 629

بالمقدّميّة على الأوّل.

ولنا : على ذلك وجوه :

أوّلها : أنّ وجود الضدّ مع عدم الآخر إنّما هو من باب مصادفة ما يكون مانعا على تقدير وجود المقتضي لانتفاء ذلك المقتضي ، فيكون عدم المقتضي مستندا إلى عدم ما يقتضي وجوده ، ووجود الضدّ الآخر معه مقارن له باعتبار مقارنته لعدم المقتضي فلا يكون مانعا ، لأنّ المانع ما يستند إليه العدم لا محالة.

وتوضيح ذلك : أنّ المنع على ما يساعده النظر الصحيح والوجدان الصريح عبارة عمّا لو كان هناك شيء له قابليّة واستعداد فيصادفه شيء آخر ويزاحمه في ترتّب الآثار المعدّة له عليه فالشيء الأوّل هو المقتضي والثاني المانع ، ومزاحمته لترتّب الآثار منع ، وإلى ذلك ينظر ما في كلام أهل اللغة من أنّ المنع خلاف الإعطاء ، فإنّ الإعطاء في مقابلة المنع إنّما يطلق فيما لو كان هناك حقّ فلا يدفعه إلى صاحبه فالمنع المقابل له حبس للحقّ فيقال : « أعطاني زيد حقّي » و « منعني عن حقّي » أو « منع عنّي حقّي ».

فبالجملة المنع لغة وعرفا لابدّ في صدقه من تحقّق ما له قابليّة التأثير والاستعداد القريب لترتّب الأثر عليه حتّى يصدق عنوان « المانعيّة » على ما يقتضي عدم فعليّة الترتّب ممّا يصادفه في الوجود ، وعليه ينطبق اصطلاح العلماء قاطبة في جميع موارده بالقياس إلى الموانع العقليّة والعاديّة والشرعيّة ، فلا يصدق عنوان « المانعيّة » عقلا ولا عادة ولا شرعا إلاّ على ما يتحقّق معه المقتضي التامّ.

ألا ترى أنّ القياس بطريق الشكل الأوّل في اقتضاء النتيجة عقلا يجتمع معه سبق الشبهة إلى الذهن ، ولكن صدق عنوان « المانعيّة » عليه بالقياس إلى النتيجة ينوط بكلّيّة كبرى القياس لأنّه مقتض على هذا التقدير ، وأمّا مع عدمها يكون وجوده بمنزلة عدمه من حيث إنّه لا ينشأ منه أثر حينئذ لاستناد عدم النتيجة إلى انتفاء المقتضي لكونه الجزء المتقدّم من جزئي العلّة ، وظاهر بالوجدان أنّ العلّة مع انتفاء جزئية معا يستند انتفاء المعلول إلى جزئها المتقدّم وهو وجود المقتضي ، ويكون انتفاء الجزء الآخر معه وهو فقد المانع كالحجر في جنب الإنسان.

وكذلك الخبر المتواتر في اقتضاء العلم بالصدق عادة ، ومثله النار في اقتضاء الاحتراق ، وصيغة البيع والصلاة في اقتضاء الصحّة شرعا ، فإنّ الأوّل مقتض لو بلغ عدد

ص: 630

المخبرين في الكثرة حدّا يأبى العادة تواطؤهم على الكذب ، والأخيرتان مقتضيتان لو جامعت الاولى للجهات المعتبرة فيها من كمال المباشر والتنجيز والعربيّة والصراحة ونحوها وصدرت الثانية من المتطهّر بالنسبة إلى حدثي الأكبر والأصغر ، فيصدق على سبق الشبهة إلى الذهن والرطوبة مع وجود النار وجهالة المحلّ أو نجاسته أو مغصوبيّته وقصد الرياء أو الاشتمال على جزء ما لا يؤكل لحمه أو الذهب الغير المسكوك أو الحرير الغير المختلط عنوان « المانعيّة » جزما لغة عرفا عامّا أو خاصّا لاستناد العدم حينئذ إليها استنادا واقعيّا.

وأمّا لو فرض الخبر فاقدا للعدد ، والنار غير موجودة ، والصيغة صادرة من الناقص أو معلّقة أو غير عربيّة ، والصلاة صادرة عن المحدث بالأكبر أو الأصغر لاستند العدم إلى فقد المقتضي استنادا حقيقيّا ، فيكون وجود الامور الاخر الّتي كانت موانع على التقدير الآخر مع عدمها حينئذ على حدّ سواء ، إذ لا ينشأ منها أثر فلا يصدق على شيء منها عنوان « المانعيّة » إلاّ على سبيل المسامحة والتجوّز ، فيكون وجود كلّ مع عدم المقتضي من باب المقارنات الاتّفاقية لمقارنته لفقد المقتضي.

ولا ريب أنّ وجود كلّ واحد من الأفعال الوجوديّة مع عدم الآخر ممّا يفرض له ضدّا من هذا الباب ، لمصادفته دائما لما لا استعداد له للوجود ، لأنّه فرع ميل النفس التابع لاعتقاد النفع ولو ظنّا ، التابع لاشتماله على النفع الّذي هو عبارة عن موافقة الغرض ، وهذه الامور مع حصولها في جانب الضدّ الموجود يمتنع حصولها في جانب الآخر لامتناع اشتمال الضدّين معا على موافقة الغرض كما يشهد به الوجدان ، لأدائه إلى كون كلّ من طرفي النقيض موافقا للغرض من جهة استلزام وجود كلّ لعدم الآخر ، ولذا قال المعتزلة - في تفسيرهم الإرادة « باعتقاد النفع » على ما حكي عنهم : - : أنّ نسبة قدرة القادر إلى طرفي المقدور أعني فعله أو تركه بالسويّة ، فإذا اعتقد نفعا في أحد طرفيه ترجّح ذلك الطرف عنده وصار ذلك الاعتقاد مع القدرة مخصّصا لوقوعه منه.

وقضيّة ذلك خلوّ الطرف الآخر عمّا يقتضي الرجحان وهو اعتقاد النفع ، فيسري ذلك على تقدير كون الطرف الواقع هو الفعل لرجحانه إلى ما يفرض له ضدّا ، لكونه مستلزما للطرف المقابل الّذي لا رجحان فيه أصلا فيكون خاليا عن المقتضي بالمرّة ، فيستند عدمه إلى فقد المقتضي كما يستند وجود الضدّ الآخر إلى وجود مقتضيه ، فيلزم أن لا يصدق عليه عنوان « المانعيّة » لأنّه فرع استعداد الضدّ المعدوم للوجود وهو مع فرض انتفاء المقتضي

ص: 631

مفروض الانتفاء ، ولمّا كان وجود ما فرض وجوده مقارنا لفقد المقتضي لوجود الآخر كان وجوده مقارنا لعدمه من دون أن يؤثّر ذلك الوجود في ذلك العدم.

لا يقال : ننقل الكلام إلى المقتضيين ونفرض التضادّ بينهما ولا يكون إلاّ من جهة ما بينهما من التمانع وإلاّ لأدّى إلى التسلسل ، فيكون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر وهو كاف في ثبوت المطلوب ، إذ ليس المراد بالتمانع المتنازع فيه ما يكون بلا واسطة خاصّة ، فيصدق على كلّ من الضدّين أنّه مانع بالقياس إلى الآخر ولو بالواسطة.

لأنّا نقول : بأنّ المراد بالمقتضي على ما عرفت هو الرجحان ، وهو في الضدّ الموجود مستند إلى اعتقاد النفع أعني موافقة الغرض ، وهو تابع لكونه موافقا للغرض فيكون عدم رجحان الضدّ الآخر مستندا إلى عدم اعتقاد النفع فيه وهو تابع لعدم كون ذلك الضدّ موافقا للغرض وهو لا يحتاج إلى علّة ومؤثّر لأنّ العدم الصرف لا يقتضي علّة ، فلا يرد أنّ عدم موافقته للغرض لعلّه نشأ عن موافقة الضدّ الآخر له فبطل توهّم التمانع بالمرّة.

وثانيها : ما يشهد به العيان المغني عن البيان من جريان ضرورة الأذهان بأنّه كما يتوجّه النفس إلى الفعل مع جميع ما اعتبر فيه من الخصوصيّات عند العزم عليه لمصلحة راجحة فيه توجّها تفصيليّا فكذلك يتوجّه إلى مقدّمات وجوده بأسرها طلبا لإحرازها مع جميع ما يعتبر فيها من الخصوصيّات كمّا وكيفا توجّها تفصيليّا لا يشوبه شكّ ولا ريب ، فمن أراد إنشاء سفر لدخول بلد أو قرية كما أنّه يلاحظ أصل السفر وغايته المطلوبة منه فكذلك جميع ما يتوقّف عليه وجوده من المقدّمات من قطع طريق وتعيينه وما يحتاج إليه فيه من زاد وراحلة وحشم وخدم وغيرها ممّا يصلح له وممّا لا يصلح كمّا وكيفا ملاحظة تفصيليّة فيمهّدها على وفق ما يرفع حاجته ويحصل مقصده ، وكذلك من أراد فتح بلد من الامراء فكما أنّه يلاحظ الفتح وغايته المطلوبة منه كذلك يلاحظ مقدّمات وجوده لتمهيدها من تدبير عسكره وتعيينه عددا وشخصا وما يصلح له من السلاح والآلات والحشم والخدم ملاحظة تفصيليّة ، وكذلك من أراد ضيافة قوم في جميع ما ذكر ، ونرى أنّ ترك الضدّ لا يدخل في جملة ذلك ولا يلتفت إليه النفس أصلا تفصيلا ولا إجمالا فلولا عدم كونه مقدّمة لامتنع ذلك جزما.

فإن قلت : لعلّ ذلك من جهة أنّ العدم لا يفتقر إلى تأثير حتّى يحصل الالتفات لانشاء ذلك التأثير كما في سائر المقدّمات ، بخلاف الوجود فإنّه يفتقر إلى التأثير لا محالة فلابدّ

ص: 632

من الالتفات إليه حتّى يتمكّن من إحرازه.

قلت : مع أنّ الاستمرار على العدم إذا كان قائما بما يكون من مقولة الأفعال ربّما يفتقر إلى التأثير ، أنّ عدم الضدّ عند من يراه مقدّمة أعمّ من العدم الغير المسبوق بالوجود والعدم المسبوق به المعبّر عنه بالارتفاع ، بل الثاني أولى بالمقدّميّة كما لا يخفى ، ولذا خصّ المقدّميّة بعض المحقّقين به ونفاها عن الأوّل.

ولا ريب أنّه يفتقر إلى تأثير وليس من جملة ما يلتفت إليه من المقدّمات طلبا لإحرازها.

وثالثها : طريقة العرف والعادة على التعبير عن شيئين بينهما ترتّب في الوجود الخارجي وتوقّف لأحدهما على الآخر بتوسّط أداة الترتيب ، فيقال : « تطهّر زيد فصلّى » و « نصب السلّم ثمّ صعد » و « قطع الطريق ثمّ حجّ » ولا يصحّ ذلك في ترك الضدّ بالقياس إلى فعل الضدّ الآخر ، فلا يقال : « ترك القيام فقعد » ولا « ترك الأكل فنام » ولا « ترك السفر فحضر » كما لا يقال : « حرّت الشمس فضاءت » فلولا أنّهما متلازمين حصل التلازم بينهما اتّفاقا لما كان الأمر فيهما كذلك.

ورابعها : لو تمانع الضدّان لكانا متنافيين والتالي باطل فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ التمانع لا يثبت إلاّ على تقدير كون كلّ نافيا للآخر لا بمجرّد عدم الاجتماع وإلاّ لكان المثلين أيضا متمانعين لامتناع اجتماعهما في محلّ واحد ، وهو باطل للقطع بأنّه لا توقّف بين وجود أحدهما مع عدم الآخر ، بل هما متلازمان معلولان لعلّة ثالثة وهي فرض الاثنينيّة بينهما فإنّ الاجتماع رافع لها.

وأمّا بطلان التالي : فلما قرّر في المعقول من أنّ المنافاة بين الشيء ورفعه ذاتيّة ، وأمّا بينه وبين شيء آخر مضادّ له عرضيّة ، لكون كلّ مستلزما لرفع الآخر بحيث لولا استلزامه لذلك لما كان منافيا له أصلا.

وإن شئت فلاحظ كلام أهل المعقول ، حيث قالوا : إنّ منافي الشيء إمّا رفعه أو مستلزم رفعه ، لأنّ ما عداهما يجوز اجتماعه مع ذلك الشيء قطعا ، ولا شكّ أنّ منافاة رفع الشيء معه إنّما هي لذاتهما ولذلك إذا لاحظهما العقل مع قطع النظر عمّا عداهما تفصيلا أو إجمالا حكم بالمنافاة بلا توقّف ، وأنّ منافاة مستلزم رفع الشيء معه إنّما هي لاشتماله على رفعه إذ لولا اشتماله عليه لما ينافيه قطعا ، فالمستلزم لرفع الشيء إنّما ينافيه على سبيل التبع لا لذاته ، ولذلك إذا لاحظ العقل مفهوما ولاحظ معه مفهوما آخر مغايرا للمفهوم الأوّل فما لم

ص: 633

يشعر لاستلزامه لرفعه لم يحكم بامتناع الاجتماع بينهما ، لكن قد يكون المفهوم الآخر ظاهر الاستلزام لرفع المفهوم الأوّل ، فمجرّد ملاحظته مشعر بالاستلزام إجمالا ولا يشعر بهذا الشعور الإجمالي فيغلط ويظنّ أنّ الحكم بالمنافاة لذاتي المفهومين. انتهى. (1).

فإن قلت : حصول المنافاة بينهما بالتبع كاف في ثبوت المطلوب.

قلت : إنّما يثبت المطلوب لو استند الرفع المنافي للشيء إلى وجود الشيء الآخر المقابل له ، بأن يكون استلزامه له استلزاما توقّفيا ، وهي في حيّز المنع لجواز كونه استلزاما تقارنيّا كما في معلولي علّة واحدة ، ولا يحكم العقل بأزيد من الاستلزام لو لم ندّع حكمه بعدم الاستناد ، وإلاّ فهو قاض قضاء ضروريّا بأنّ رفع الشيء إنّما يستند إلى انتفاء علّة ثبوته وإنّما الشيء الآخر يتحقّق معه من باب المقارنة معلولا لعلّته المقتضية لتحقّقه من دون استناد لرفع الشيء الأوّل إليه أصلا ، مع أنّ التنافي وعدم الاجتماع في محلّ واحد فيما بين النفي والإثبات أشدّ منه في غيرهما كما قرّر في المعقول أيضا وسيق لبيانه العبارة المتقدّمة ، فيلزم أن يكون عدم كلّ مقدّمة لوجود الآخر ، وأنّه محال لأدائه إلى كون الشيء مقدّمة لنفسه ، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات ، فعدم النفي هو الإثبات كما أنّ عدم الإثبات هو النفي ويسري ذلك إلى ضدّين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فإذا كان ترك الحركة مقدّمة للسكون الّذي هو عينه يلزم أن يكون السكون مقدّمة للسكون وكذا في العكس وانكار العينيّة إنكار للبديهة ، وإخراج الضدّين اللذين لا ثالث لهما عن حكم المقدّمية تخصيص في العقل ، وكلّ ذلك لا يليق بأرباب الفضل ، مع أنّ الوجدان قاض بأنّ المتضادّين في غير ما لا ثالث لهما ربّما يكونان معدومين معا فيتعارضان في نظر القادر عليهما المريد للإتيان المتردّد بينهما لاشتراكهما في المصلحة فينظر في المرجّحات ويرجّح أو يخيّر.

ولا ريب أنّ عدم ما بقي منهما على العدم هو العدم السابق وقد قارنه وجود الآخرين من غير أن يكون له تأثير فيه.

والمحكيّ من حجّة هذا القول وجوه :

الأوّل : الوجدان الّذي قرّره بعض مشايخنا : بأنّ كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ فرع لأن يكون بينهما ترتّب ، ونحن كلّما نلاحظ لا نجد بينهما ترتّبا ولا نراهما إلاّ متلازمين ،

ص: 634


1- ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من العبارة حسبما في النسخة الحاضرة عندنا وظنّي اشتمالها على غلط في بعض الكلمات ، ولكن لا يضرّ في المعنى المراد وليرجع لحقيقة الحال إلى نسخة اخرى فليصحّح العبارة ها هنا طلبا لمرضاة اللّه. ( منه عفي عنه ).

فيكونان معلولين لعلّة ثالثة وإن لم نعلمها بالخصوص.

فأورد عليه : بأنّه معارض بمثله وهو الوجدان الّذي يأتي تقريره في حجّة القول بالمقدّمية ، بل دعوى كون ذلك من مقتضى الوجدان افتراء على الوجدان.

وبالتأمّل فيما قرّرناه من الوجوه يظهر ضعف ذلك.

الثاني : ما قرّره بعض المشايخ أيضا - حكاية - من : أنّ ترك الضدّ لو كان مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ففعل الضدّ أولى بكونه مقدّمة لترك الضدّ لكونه مستلزما له بخلاف الترك فإنّه غير مستلزم للفعل والتالي باطل ، وإلاّ للزم الالتزام بشبهة الكعبي ، فأورد عليه : بمنع الأولويّة وكون التوقّف في جانب العكس في محلّ المنع بل الفعل ليس إلاّ من مقارنات الترك لاستناده إلى وجود الصارف وعدم الإرادة ، إذ الإرادة من أسبق مقدّمات الفعل فيكون تركها علّة لتركه فيخرج فعل الضدّ من المقدّمية ويكون من المقارنات الاتّفاقيّة.

وفيه : أنّه مناف للقول بتمانع الأضداد وذهاب إلى نفي المانعيّة ، إذ المانع لا يراد منه إلاّ ما كان علّة للعدم فجعل ترك الضدّ مستندا إلى الصارف إخراج للضدّ الآخر عن كونه مانعا.

فلا يكون تركه شرطا لابتنائه على فرض المانعيّة وهو كما ترى تناقض في المقالة.

وقرّره بعض الأعلام عن المحقّق السلطان بأنّه : « لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فكون فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه أولى بالإذعان ، ولمّا كان منشأ توهّم التوقّف هو المقارنة الاتّفاقيّة حصل ذلك الاشتباه في المقامين مع أنّه محال » حاملا لقوله : « مع أنّه محال » على إرادة لزوم الدور ، مع حمله ثاني المقامين على شبهة الكعبي في نفي المباح الّتي هي مسألة مستقلّة في الكتب الاصوليّة ، فيكون أوّل المقامين مرادا به دعوى كون الترك مقدّمة للفعل كما في مسألتنا المبحوث عنها.

والظاهر أنّ العبارة المذكورة مأخوذة منه عن حواشيه على شرح المختصر كما قيل ، وإلاّ فلا يوافق عبارته في حواشي الكتاب ، حيث أخذ بدفع الاحتجاج على اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ بقاعدة المقدّمية ، فقال : والتحقيق في الجواب منع كون ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة وموقوفا عليه الواجب ، وإنّما يحصل معه في الوجود بلا توقّف من الطرفين.

والعجب توهّم الكعبي كون فعل أحد الضدّين مقدّمة لترك الضدّ الآخر على عكس المذكور هاهنا.

وأعجب من ذلك توهّم تسليم مصنّف المختصر وشارحه ما ذكر في الموضعين مع

ص: 635

تنافيهما ، وإنّما أجابا في الموضعين بمنع كون مقدّمة الواجب واجبا مطلقا غير أنّ مفاد العبارتين واحد بالنسبة إلى الدعوى وإن خصّ ذكر السند بإحداهما.

وكيف كان فأجاب بعض الأعلام عن دعوى عدم الفرق بين المقامين في كون كلّ من الموضوعين من باب محض الاتّفاق ، بأنّ : « الفرق بينهما في كمال الوضوح فإنّ ترك الحرام قد يتخلّف عن جميع الأفعال مع وجود الصارف ، ومع عدم التخلّف فلا يتوقّف عليه غالبا بخلاف فعل المأمور به فإنّه لا يمكنه التخلّف أبدا ».

ومحصّل مراده : أنّ ترك الضدّ لا يتوقّف على فعل الضدّ الآخر غالبا كما يرشد إليه تخلّفه في بعض الأحيان عن جميع الأفعال ، فلو كان الفعل مقدّمة لاستحال التخلّف ، بخلاف الفعل فإنّه لا يتخلّف عن الترك أبدا فيكون الترك ممّا يتوقّف عليه الفعل ، وهو لو تمّ لقضى بمنع الأولويّة أيضا.

ولكن ضعفه واضح ممّا أشرنا إليه من منافاة التمانع ، ضرورة أنّ عنوان « المانعيّة » لا يصدق إلاّ إذا تحقّق جميع أجزاء العلّة التامّة عدا فقد المانع ، فيكون مؤثّرا في العدم وإلاّ لم يكن مانعا ولا فقده شرطا وجزءا أخيرا من العلّة ، كما يشهد به تعريفه : « بأنّه ما يلزم من وجوده العدم » بناءا على كون كلمة « من » نشويّة نظير ما يقال في الشرط من أنّه : « ما يلزم من عدمه العدم » وفي السبب من أنّه : « ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود » كما أنّ عدمه مؤثّر في الوجود لكونه من أجزاء العلّة ، ولو صلح وجود الصارف المقارن لعدم الإرادة مؤثّرا في الترك موجبا لنفي المقدّميّة عن الفعل بالمرّة فيكون الفعل حيثما يتّفق معه من باب محض الاتّفاق ، فليكن عدم الصارف المقارن للإرادة مؤثّرا في الفعل موجبا لعدم مقدّميّة الترك له ، فيكون حيثما يتّفق معه الفعل من المقارنات.

غاية الأمر أنّ الأوّل على تقدير تسليم جواز خلوّ الإنسان عن جميع الأفعال مقارن اتّفاقي والثاني مقارن دائمي ، ومجرّد ذلك الفرق لا يوجب فرقا بينهما باعتبار المقدّمية والعدم وإلاّ لكان كلّ من معلولي العلّة الثالثة مقدّمة للآخر ، وظنّي أنّ توهّم مقدّمية الترك اشتباه نشأ عن ملاحظة دوام لزومه كما يظهر عن عبارة الجواب.

وبالجملة التفكيك بين الموضوعين مع البناء على التمانع غير معقول ، فلابدّ في المقام إمّا من التزام التوقّف من الطرفين أو القول بعدم التمانع على حدّ الانفصال الحقيقي ، والواسطة مناقضة في المقالة أو مكابرة أو داخلة في مقالة من لا تدبّر له.

ص: 636

ثمّ إنّه رحمه اللّه استغرب عن إيراد الدور بقوله : « وهو أغرب من سابقه لأنّ المقامين متغايران » ولا يخفى ما في ذلك التعليل من الإجمال وعدم اتّضاح المراد فيحتمل أن يكون المراد بتغاير المقامين تغايرهما من حيث القائل ، لأنّ القائل بتوقّف الفعل على الترك غير القائل بتوقّف الترك على الفعل فلا يرد عليهما إشكال الدور لعدم قولهما بالتوقّف من الطرفين ، أو تغايرهما من حيث الموضوع نظرا إلى أنّ موضوع التوقّف في أحدهما الفعل وفي الآخر الترك وهما متغايران فلا يلزم الدور لاشتراط وحدة الموقوف والموقوف عليه فيه ، أو تغايرهما من حيث جهة التوقّف نظرا إلى أنّ أحدهما شرط والآخر علّة ، أو تغايرهما في أصل التوقّف والعدم بمعنى تسليمه في أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ غرض المحقّق بما ذكره من الإيراد إنّما هو إلزام المشهور بما هو لازم مذهبهم من ثبوت التوقّف - بناءا على التمانع - في جانب العكس بطريق أولى المفضي إلى الدور المحال ، مع أنّ المقامين ربّما يتّحد فيهما القائل كما عرفت عن الحاجبي والعضدي فإيراد المحذور ترد عليهما.

وأمّا الثاني : فلأنّ مجرّد هذه المغايرة لا يدفع الدور ما لم يتعدّد الموقوف والموقوف عليه في القضيّة الدوريّة ، كأن يكون أحدهما الوجود الذهني والآخر الوجود الخارجي ، كما قيل في رفع الدور الوارد على من جوّز تحديد العلم بغيره ، ومن عرّف الاجتهاد باستفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، أو يكون على تقدير كونهما الوجود الذهني أحدهما العلم التفصيلي والآخر العلم الإجمالي ، كما قيل في دفع ما أورد على التبادر والقياس بطريق الشكل الأوّل ، أو يكون أحدهما فعليّا والآخر ملكيّا كما قيل في دفع هو ما أورد على تعريف الاجتهاد بما تقدّم أيضا أو غير ذلك من الجهات المغيّرة للموقوف والموقوف عليه ، ولا ريب أنّهما في محلّ البحث واحد.

وأمّا الثالث : فواضح بل التوقّف في جانب العلّة أشدّ فهو آكد بلزوم الدور من فرضه شرطا ، مع احتمال كونه عند من توهّمه مقدّمة شرطا أيضا ، ضرورة افتقار الترك معه إلى مقدّمات اخر.

وأمّا الرابع : فلأنّه مقالة بعد المصير إلى التمانع لا تسمع من أحد ، بل ولا ينبغي الالتفات إليها حيث لا يمكن الجمع بينهما ، مع أنّه يوجب خروج ما بعد هذه العبارة تكرارا إلاّ أن يجعله تفصيلا بعد الإجمال ، إلاّ أنّه بعيد عن سياق التأدية كما لا يخفى ، إذ لا يصلح

ص: 637

قوله : « وإن أراد أنّ ترك الضدّ كما أنّه مقدّمة لفعل الضدّ الآخر على ما قلت ، ففعل الآخر علّة لترك هذا الضدّ إلى آخره » بيانا لما ذكر أوّلا.

وعلى أيّ تقدير فقوله - في جواب ذلك - : « بأنّ في هذا الكلام اشتباه التوقّف بالاستلزام » معارض بالمثل ، إذ كما يجوز كون الترك في هذا الفرض لازما للفعل من غير توقّف له عليه فكذلك يجوز كون ذلك الفعل لازما لما تحقّق معه من الترك من غير توقّف له عليه ، والفرق مكابرة.

والعجب عن بعض الأعاظم حيث بالغ في إثبات التمانع وإحراز المقدّميّة للترك وأطنب الكلام فيه ولم يأت بشيء يكون قابلا للالتفات إليه ، إلاّ أنّه ذكر امورا بعضها مصادرة ، وبعضها غير مرتبط بمحلّ البحث ، وبعضها غير مناف لنفي المقدّميّة ، وبعضها بديهي الفساد ، ولعلّنا نشير إلى كلامه فيما بعد ذلك.

الثالث : ما أشار إليه المحقّق السبزواري في دفع شبهة الكعبي من أنّه لو كان الأضداد مانعا من حصول الحرام كان المانعيّة من الطرفين لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا أيضا مانعا منها ، وحينئذ كان الزنا موقوف على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ، لأنّ دفع مانع الشيء من علل وجوده فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين. هذا خلف ، وكأنّه أراد منه الدور.

وقد يقرّر الدور : بأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، وترك الإزالة مقدّمة للصلاة ، فيكون ترك ترك الصلاة - وهو فعلها - أيضا مقدّمة لترك الإزالة لتوقّفه عليه ، ولازمه أن يكون ترك ترك الإزالة أيضا - وهو فعلها - مقدّمة لترك الصلاة ، فالترك في كلّ من الجانبين مقدّمة وذو مقدّمة أي موقوف وموقوف عليه وكذلك الفعل وهو محال.

واجيب عنه : بمنع كون فعل الضدّ مقدّمة لترك الضدّ الآخر ، إذ الترك لا يستند إلى فعل الضدّ وإنّما يستند إلى عدم وجود علّته ، والعلّة كما أنّها تنعدم بانعدام جميع أجزائها فكذلك تنعدم بانعدام أحد أجزائها الّتي كان كلّ واحد منها مقدّمة للمعلول ، فإن كان تلك الأجزاء بحسب وجودها الخارجي في درجة واحدة فمقدّمة الترك انتفاء واحدة منها تخييرا ، إذ مع انتفائها ينتفي العلّة فينتفي المعلول ، وإن لم تكن في درجة واحدة بأن يكون بينها ترتّب في الوجود الخارجي ، فعلّة الترك انتفاء ما هو أقربها إلى المعلول ، ومن المعلوم أنّ أقرب المقدّمات إليه هو الإرادة فيكون انتفاؤها علّة لتركه ، فليس فعل شيء من الضدّين ممّا

ص: 638

يستند إليه ترك الآخر ، بل يستند إلى ترك إرادته لأنّه مقدّم على الفعل المؤخّر عن إرادته ، فيكون ذلك الفعل من المقارنات الاتّفاقيّة فلا دور ، إذ لا توقّف في جانب الفعل بل التوقّف منحصر في جانب الترك لأنّه الّذي يتوقّف عليه الترك.

وما يقال : من أنّ كثيرا مّا لا يترك الضدّ إلاّ بفعل الضدّ ، كما في الشابّ العزب الحاضر عند امرأة أجنبيّة جميلة الغير المريد للزنا معها ، العالم بأنّه لو استمرّ بقاؤه عندها لحدث منه إرادة الزنا فيقع فيه بحيث لا مدفع له عن ذلك إلاّ الخروج عن محضرها ، فيكون ذلك الخروج واجبا عليه لئلاّ يقع في المحرّم وظاهر أنّ الخروج ضدّ وجوديّ للزنا ومقدّمة لتركه.

يدفعه : منع كون الفعل مقدّمة للترك حتّى في ذلك الفرض ، بل المقدّمة فيه أيضا عدم الإرادة ، والفعل المفروض مقدّمة لعدم الإرادة واستمرار بقائه ، فيكون مقدّمة للمقدّمة.

وتوهّم بقاء الدور بحاله بتقرير : أنّ ذلك الفعل لا يمكن صدوره إلاّ بعدم إرادة الزنا فيكون موقوفا على عدم الإرادة ، وإذا فرضته مقدّمة لعدم الإرادة يكون ممّا يتوقّف عليه عدم الإرادة وهو الدور.

مدفوع : بأنّ مقدّمة ترك الزنا وإن كان عدم الإرادة ، ولكن لا ما هو متحقّق الآن بل الّذي سيتحقّق في الزمان اللاحق.

والّذي هو متحقّق الآن مقدّمة للفعل المفروض ، وهو مقدّمة لما يتحقّق في الزمان اللاحق وهو مقدّمة لترك الزنا ، فلا دور.

وفيه أوّلا : النقض بعدم الإرادة الّذي اخذ مقدّمة للترك ، فإنّ الفعلين كما أنّهما متضادّان فيكونان متمانعين فيكون ترك كلّ مقدّمة لفعل الآخر فكذلك إرادتهما ، فإنّ إرادة كلّ ضدّ تضادّ إرادة الآخر فيكون كلّ مانعة عن الاخرى ، وعدم المانع مقدّمة فعدم كلّ إرادة مقدّمة لوجود الاخرى ، وهو لكونه مانعا عن وجود الاولى فيكون مقدّمة لعدمها وهو دور.

وثانيا : أنّ قضيّة التمانع بين الأضداد - الّذي بنى عليه المذهب - عدم إمكان التفصّي عن الدور ، ضرورة أنّ أحد الضدّين إذا كان وجوده مانعا عن وجود الآخر يكون وجوده علّة لعدم الآخر على ما هو من لوازم المانعيّة ، والمفروض أنّ عدم الآخر أيضا من مقدّمات وجوده ، فيكون كلّ من الوجود في جانب الضدّ الموجود والعدم في جانب الضدّ المعدوم موقوفا وموقوفا عليه وذلك دور ، إلاّ أنّ التوقّف في جانب العدم من باب الشرطيّة وفي جانب الوجود من باب العلّيّة ، ولكنّه لا يوجب اندفاع الدور ، لأنّ مبناه على التوقّف في كلا

ص: 639

الجانبين وهو حاصل في كلّ من الأمرين ، ولا مدفع له إلاّ نفي التمانع.

سلّمنا أنّ الترك قد يستند إلى عدم الإرادة ، ولكن لا يدفع المحذور بحذافيره لعدم انحصار فرضه في الفعل والترك الاختياريّين اللذين يلزمهما القصد والإرادة ، لعدم انحصار الضدّ في الفعل الاختياري ، فنفرض الكلام في الضدّ الاضطراري كما لو اكره عليه ونحوه ، كالصلاة إذا اكره عليها فصدرت اضطرارا فإنّها مانعة من الإزالة قطعا ، فترك الإزالة حينئذ مستند إليها لا إلى عدم إرادتها لعدم صدور الصلاة عن قصد وإرادة حتّى يكون منافيا لقصد الإزالة وإرادتها.

ولو سلّم أنّ الصلاة لا تتوقّف حينئذ على تركها ليلزم الدور بل إنّما تتوقّف على ما طرأها من الإكراه لأنّه علّة ، فنفرض الكلام في الضدّين اللذين ليسا من مقولة الأفعال حتّى يجري فيها الإرادة والإكراه كالسواد والبياض ، فإنّ السواد إذا كان مانعا عن وجود البياض يكون علّة لعدم البياض وإذا فرضنا عدم البياض شرطا لوجود السواد فيلزم الدور ، فلابدّ من المصير إلى عدم التمانع مطلقا [ أ ] وتخصيصه بما عدا الأحوال ، والثاني تحكّم فتعيّن الأوّل.

فإن قلت : هاهنا شقّ ثالث يندفع به الدور وهو المصير إلى ما اختاره المحقّق الخوانساري من كون الشرط ارتفاع الضدّ الموجود لا عدم الضدّ المعدوم فلا يلزم الدور ويثبت به حقّيّة هذا المذهب.

وتوضيح ذلك : أنّ الضدّين لابدّ لوجود كلّ واحد منهما من محلّ قابل ومن المعلوم أنّ قابليّة المحلّ لابدّ وأن تكون فعليّة ، فإذا فرض أحد الضدّين موجودا في محلّ خرج ذلك المحلّ عن كونه قابلا لوجود الضدّ الآخر لكونه مشغولا بالضدّ الموجود ، ومع اشتغاله به يستحيل كونه قابلا لوجود الضدّ الآخر ، فعدم ذلك الضدّ مستند إلى عدم قابليّة المحلّ وهو مستند إلى كون الضدّ الموجود فيه شاغلا له ، فوجود ذلك الضدّ المعدوم موقوف على قابليّة المحلّ وهي موقوفة على ارتفاع الضدّ الموجود في ذلك المحلّ فهو موجود على ذلك الارتفاع ، وأمّا وجود ذلك الضدّ الموجود فلا يتوقّف على عدم الضدّ المعدوم بل يتوقّف على قابليّة المحلّ والمفروض حصولها ، وهي أيضا لا تتوقّف على عدم ذلك الضدّ بل على الارتفاع وهو فرع الوجود وهو مفروض الانتفاء.

قلت : لا يفيد هذا الكلام إلاّ تطويلا بلا طائل ، فإنّ الضدّ بناء على التمانع كما أنّها مانع في حدوثه فكذلك مانع في بقائه ، بمعنى أنّ المانعيّة وصف لوجود الضدّ وهو أعمّ من

ص: 640

الحدوث والبقاء ، فكما أنّ الحدوث مانع عن حدوث الضدّ الآخر كذلك البقاء أيضا مانع عن حدوث ذلك ، وذلك الضدّ أيضا كما أنّ حدوثه مانع عن حدوث الضدّ الموجود فكذلك مانع عن بقائه ، فيكون البقاء مانعا عن الحدوث والحدوث مانعا عن البقاء فعاد المحذور من توقّف البقاء على عدم الحدوث وتوقّف عدم الحدوث على البقاء.

واعتبار واسطة قابليّة المحلّ في المقام لا يفيد إلاّ خروج الدور عن التصريح إلى الإضمار ، إذ يقال حينئذ : إنّ وجود الضدّ المعدوم يتوقّف على قابليّة المحلّ ، وهي تتوقّف على ارتفاع الضدّ الموجود ، وهو يتوقّف على وجود الضدّ المعدوم لأنّه مانع عن بقائه والمانع علّة للعدم.

وبذلك يبطل ما يقال أيضا في تقرير هذا الكلام : من أنّا نفرض ثلاثة امور متضادّة يكون أحدها موجودا في المحلّ والآخران معدومين ولكن اريد إيجاد واحد من هذين في المحلّ الّذي كان مشغولا بما هو موجود فيه ، كما لو كان البياض موجودا والسواد والحمرة معدومين مع إرادة إيجاد الحمرة في محلّ البياض ، وظاهر أنّ وجود الحمرة في ذلك المحلّ لا يمكن إلاّ بعد ارتفاع البياض عنه مع عدم وجود السواد فيه ، فحينئذ إن كان كلّ من الأمرين ممّا يتوقّف عليه وجود الحمرة يبطل مذهب الخوانساري ويثبت التوقّف في كلا الجانبين الموجب للدور.

ولكنّا نقول : إنّ وجود الحمرة في هذا الفرض لا يتوقّف إلاّ على ارتفاع البياض لأنّه شاغل للمحلّ ومع ارتفاعه يحصل للمحلّ قابليّة لوجودها.

غاية الأمر كونه قابلا لوجود السواد أيضا ولكنّه لا يقضي بأنّه أيضا ممّا يتوقّف عليه ، إذ أقصى مراتب المقام أن يحصل التزاحم فيما بين الحمرة والسواد بالقياس إلى المحلّ فوجود كلّ يفتقر إلى مرجّح لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، وإذا حصل المرجّح لأحدهما يتقدّم ويوجد من غير توقّف له على شيء آخر ، فترك الضدّ ليس بمقدّمة بل المقدّمة ارتفاعه ، فيندفع به الدور المتوهّم فيما بين فعل أحد الضدّين وترك الآخر.

وظنّي أنّه لم لا يجعلون المرجّح المفروض علّة للوجود والارتفاع والعدم بكونها امورا ثلاث معلولات لعلة خارجة عنها من غير توقّف للبعض على البعض الآخر ، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّه لولا وجود المرجّح للحمرة في المثال المذكور لامتنع ارتفاع البياض الموجود ، والتزاحم المذكور يحصل بينها وبين السواد قبل ارتفاع البياض بالنسبة إلى محلّ

ص: 641

شأني قابل لكلّ منهما حاصل قابليّته بتفريغه عن البياض بعد ترجيح أحدهما على الآخر ، فكما أنّ وجود ما يترجّح وانعدام ما يترجّح عليه يتوقّف على حصول ذلك المرجّح وتعيّن الرجحان للراجح ، فكذلك ارتفاع البياض يتوقّف عليه على حدّ سواء.

غاية الأمر حصول الجميع في آن واحد من دون ترتّب في البين ، وهو من آيات عدم مقدّمية البعض لغيره وكون تحقّق كلّ مع الآخرين من باب المقارنات والتلازم المحض الناشئ عن أمر خارج عن الجميع.

وأمّا أصحاب القول بالتمانع بين الضدّين القاضي بكون ترك كلّ مقدّمة لفعل الآخر فليس لهم إلاّ بعض المصادرات وغيرها من الوجوه الواهية وأقوى ما يذكر في الباب ما استفدناه عن بعض مشايخنا من حكم الضرورة وقضاء الوجدان بتمانع الأضداد الوجوديّة ، ضرورة أنّه لو فرضنا وجود أحد الضدّين في محلّ استحال معه وجود الضدّ الآخر في ذلك المحلّ ، وليس ذلك إلاّ من جهة كون الأوّل مانعا من دون أن يعقل له مانع آخر من الامور الوجوديّة والعدميّة ، ولو مع غضّ البصر عن كلّ أمر وجودي وكلّ أمر عدمي.

فلو قيل : لعلّ الاستحالة مستندة إلى عدم وجود علّة ذلك الضدّ ، لنقلنا الكلام إلى تلك العلّة فنسأل عن إمكان وجودها ، فلو قيل : بالإمكان ، منعناه بكونه خلاف بديهة العقل ، ولو قيل بالاستحالة سألنا عن مستندها فلابدّ حينئذ إمّا من انتهائه إلى أمر وجودي أو ذهاب الأعدام إلى ما لا نهاية له ، والثاني باطل بحكم العقل فتعيّن الأوّل ويثبت به المدّعى لكون الأمر الوجودي المفروض هو المانع.

فلو قيل : لعلّ مستند الاستحالة عدم بقاء محلّ لوجود ذلك الضدّ وهو من شرائط الوجود وانتفاؤه يفضي إلى انتفاء المشروط ، نقلنا الكلام إليه ونسأل عن مستند عدم بقاء المحلّ ، فإن اجيب : بأنّ المستند وجود الضدّ الموجود لاكتفينا به لكونه هو المانع إذ لا نعني به إلاّ ما يكون منشأ للعدم ، وإن اجيب : بأنّه غير ذلك فلابدّ من بيانه لننظر فيه.

ولو قيل : لعلّ مستند الاستحالة علّة ثالثة لا نعلمها بالخصوص.

لقلنا : بأنّ العلّة إن كان أمرا وجوديّا فهو المانع ، وإن كان أمرا عدميّا فإمّا أن ينتهي إلى أمر وجودي فهو المانع أيضا ، أو يذهب الأعدام إلى ما لا نهاية له وهو باطل ، والأوّل هو المتعيّن وهو المطلوب ، إذ لا نعني بالمانع إلاّ ما كان مستندا لعدم الشيء سواء فرضه ضدّا لذلك الشيء أو غيره من الامور الوجوديّة الّتي هي من لوازم ضدّه.

ص: 642

ولو قيل : بأنّ المستند لعلّه عدم وجود شيء من مقدّمات وجوده.

لقلنا : نفرض الكلام فيما يتحقّق جميع ما له دخل في وجوده من مقدّماته مقرونة مع الضدّ الموجود ، ومعه يستحيل وجوده أيضا ولا يكون إلاّ لأجل مانعيّة ضدّه.

فإن قلت : إنّ هذا الفرض محال.

قلنا : ما الداعي إلى استحالة ذلك فهل هو إلاّ أمر وجودي؟ وإن التزموا به فاعترفت بمطلوبنا ، لأنّ ما فرضته من الأمر الوجودي هو المانع.

فبالجملة لا وجه لانكار التضادّ فيما بين المتضادّين وكونه من مقتضيات ذاتيهما ، فيكون وجود كلّ مانعا عن وجود الآخر إذ أحقّ ما يستند إليه امتناع وجود الطرف المقابل للضدّ الموجود إنّما هو وجود ذلك الضدّ ، وأمّا غيره من لوازمه وخواصّه فهو أيضا وإن كان يضادّ الطرف الآخر ويمنع عن وجوده إلاّ أنّ التضادّ حينئذ ليس من مقتضيات الذات لأنّه مع قطع النظر عن معروضه ومحلّه ربّما يمكن فرض اجتماعه مع ذلك الضدّ ، وإنّما يستحيل اجتماعه بالإضافة إلى موضوعه ، كما أنّ التضادّ فيما بين خاصّة كلّ مع خاصّة الآخر من هذا الباب لعدم كونه قائما بهما لذاتهما ، بل إنّما هو لأجل موضوعيها فإذا ثبت أنّ الضدّ مانع فتبيّن أنّ عدمه شرط لأنّ عدم المانع من جملة الشروط والشرط من المقدّمات.

وبالتأمّل فيما قرّرناه عند ذكر الأدلّة يتبيّن دفع ذلك ، وإن شئت التصريح به فنقول : إنّ المانع على ما يقتضيه الضرورة والوجدان هو الّذي يستند إليه العدم استنادا حقيقيّا ، مضافا إلى أنّه الّذي يقتضيه قانون المشتقّ من كونه لحال التلبّس ولأجل ذلك جعل عدمه شرطا وموقوفا عليه لوجود المشروط ، وقيل في تحديده : « ما يلزم من وجوده العدم » بمعنى كون وجوده لذاته منشأ للعدم ، وإلاّ فعدّه مانعا وجعل عدمه شرطا مع قيام التأثير في الوجود أو العدم بغيره من خواصّه ولوازمه البعيدة يشبه بالأكل من القفاء وهو بعيد من أنظار العلماء مع مخالفته لما يظهر من اصطلاحهم.

ولا ريب أنّ الشيء في وجوده كائنا ما كان يفتقر إلى العلّة التامّة ، وهي أمر يتركّب من وجود المقتضي وفقد المانع ، فلو فرض وجود المقتضي مع وجود المانع كان العدم لازما لذلك الشيء مستندا إلى وجود المانع استنادا حقيقيّا في نظر العرف والعقل ، ولو فقد المقتضي استند إليه العدم كذلك سواء قارنه وجود المانع أو لا ، بحيث لا يستريب ذو مسكة في أنّه على تقدير وجوده حينئذ ليس له مدخليّة في العدم أصلا ، بل ولا يطلق عليه اسم

ص: 643

« المانعيّة » ولو اطلق كان على سبيل المجاز.

ولا ريب أيضا أنّ الضدّين إذا وجد أحدهما في محلّ وانعدم الآخر كان انعدام ذلك المعدوم لا يستند إلاّ إلى فقد مقتضيه ، ويكون وجود الضدّ الموجود مقارنا لفقد ذلك المقتضي المقارن لوجود مقتضيه ، ولا ينبغي حينئذ السؤال عن ذلك المقتضي أو علّة فقده ، ولو كابر أحد وسأل نجيب بأنّ المقتضي للوجود هو الرجحان بمعنى اعتقاد النفع أو نفس النفع الّذي يعبّر عنه ب- « موافقة الغرض » وهو الغاية المطلوبة ، ولا شكّ أنّ الضدّ المعدوم فاقد لهذا المعنى ، إمّا لأنّه لا غرض أصلا ليوافقه أو الغرض شيء قائم بغيره من الضدّ الموجود ، وهذا هو الأمر الوجودي الّذي ينتهي إليه العدم وله في تأثيره نسبة إلى وجود الضدّ الموجود وعدم الضدّ المعدوم على حدّ سواء ، لقضاء الوجدان الضروري بكونه مؤثّرا في ذلك الوجود وهذا العدم في آن واحد ، فيكونان معلولين لعلّة واحدة من دون أن يتحقّق بينهما توقّف لأحدهما على الآخر ، ومجرّد قيام ذلك الغرض بالضدّ الموجود لا يقضي باستناد عدم الآخر إليه استنادا حقيقيّا حتّى يكون مانعا لخروجه عن ماهيّته بالمرّة ، ضرورة خروج غايات الأفعال عن حقائقها شطرا وشرطا ، ولو اطلق عليه اسم « المانعيّة » على المجاز أو جعله إصطلاحا فلا مشاحّة ، غير أنّه لا يترتّب عليه أثر من حيث إنّ الكلام إنّما هو في أمر معنوي ، وهو استناد العدم إلى ما اطلق عليه « المانع » ليكون عدمه شرطا ومقدّمة وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

وبذلك يتبيّن أنّ ما [ في ] كلام بعض الأعلام - من الاستدلال على كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به باستحالة وجود الضدّين في محلّ واحد ، فوجود أحدهما يتوقّف على انتفاء الآخر عقلا فالتوقّف عقلي وإن كان الضدّ شرعيّا - ليس على ما ينبغي ، لعدم خلوصه عن مصادرة ، واشتماله على ما هو أعمّ من مطلوبه ، فإنّ استحالة وجود الضدّين في محلّ واحد مسلّمة ولكنّها غير مجدية في إثبات المطلوب.

لأنّا نقول : بأنّها من جهة استلزام وجود أحدهما لعدم الآخر والاستلزام أعمّ من التوقّف.

ألا ترى أنّه لو كانا متلازمين لملزوم واحد ومعلولين لعلّة ثالثة خارجة عنهما لاستحال الانفكاك بينهما وامتنع الاجتماع أيضا ، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة ومع ذلك فكيف يجعل مجرّد استحالة الاجتماع في محلّ واحد دليلا على التوقّف.

وقريب من ذلك في الضعف ما قرّره في الضوابط عند الاستدلال على مقدّميّة الترك

ص: 644

من : « أنّ الضدّين لا يجتمعان عقلا والحاكم بامتناع الاجتماع هو العقل القاطع ، إذ الضدّ هو الأمر الوجودي المنافي للشيء في الوجود فكيف يجتمع الشيء مع ما ينافيه في الوجود ، فلا محالة يتوقّف وجود أحدهما على انتفاء الآخر توقّفا عقليّا ، وليس من باب الملازمة الاتّفاقيّة بحيث يكون ترك الضدّ ملازما لفعل الآخر من باب الاتّفاق ، وليس أيضا من باب المتلازمين عقلا بالعرض كالمعلولين لعلّة واحدة ، فإنّ امتناع أحدهما نشأ من امتناع الانفكاك عن العلّة بالنسبة إلى كليهما ، فلولا ذلك لم يكونا متلازمين عقلا بخلاف ما نحن فيه فإنّ التلازم فيه ذاتي لا عرضي ». انتهى.

ولا يخفى ما فيه ممّا هو من قبيل إظهار البديهي ثمّ الإتيان بما يكون مصادرة واضحة ثمّ الافتراء الواضح على العقل ، وليس شيء من ذلك ممّا ينبغي الالتفات إليه ، وإنّما نذكرها في المقام إعلاما بأنّ أصحاب هذا القول ليس لهم شيء يشبه بكونه دليلا ، وتوضيحا لفساد مذهبهم لمن كان في المسألة بعد متردّدا.

وأضعف من الجميع ما في كلام بعض الأعاظم حيث قال - في ردّ من أنكر كون ترك الضدّ ممّا يتوقّف عليه فعل المأمور به ، تعليلا بأنّه إنّما يحصل في الوجود بلا توقّف من الطرفين - : ويشكل بأنّهم إن أرادوا أنّ ترك الضد ممّا لا مدخليّة له في وجود الضدّ الآخر أصلا فهو خلاف مقتضى حكم العقل ، فإنّ التأثير من الفاعل في الضدّ لا يمكن إلاّ بعد عدم الضدّ ، فهو ممّا يتوقّف عليه قبول الأثر فيه فيكون من المقدّمة ، كيف لا واجتماع الضدّين محال فلا يمكن وجود أحدهما إلاّ مع عدم الآخر ، فوجود الضدّ من الموانع فعدمه ممّا يتوقّف عليه وشرط.

وإن أرادوا أنّ العلّة في ترك الضدّ عدم الداعي أو الصارف عنه ومع ذلك لا تأثير لفعل الضدّ في الترك فإنّه لو فعله أو تركه لا يؤثّر كما يشهد به الوجدان.

قلنا : هذا غير مضرّ إن أرادوا أنّه الجزء الأخير من العلّة ، وإن أرادوا عدم المدخليّة في الواقع فكلاّ ، فإنّ مدار كون الشيء مقدّمة ليس إلاّ على كون الشيء في الواقع بحيث لا يمكن تحقّق ذي المقدّمة إلاّ بحصوله وهو حاصل قطعا ، وإلاّ لزم إمكان وجود الضدّ مع وجود ضدّه وهو ضروريّ البطلان ، ولو كان الأمر على ما ذكروه لخرج عدم المانع عن كونه مقدّمة مطلقا وهو خلاف المشهور ، فإنّ وجود الصارف أو عدم الداعي مؤثّر في العدم من غير مدخليّة للموانع فيه بل الشرط أيضا ، فإنّ وجود السلّم ونصبه مثلا لا مدخليّة لهما

ص: 645

في تفسير الضدّ العامّ

أصل

الحقّ أنّ الأمر بالشيء على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لفظا ولا معنى.

وأمّا العامّ * ؛ فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، وهو

__________________

في وجود المأمور به كالكون على السطح بعد حصول الصارف أو عدم الداعي ، بل المانع وعدم الشرط في تلك الحال من المقارنات من دون تأثير لهما في العدم وهو في الشرط خلاف ما اتّفقوا إليه.

وبالجملة أقصى ما هناك عدم الشعور لا عدم التوقّف وهو حاصل في المقدّمات البعيدة ولا يضرّ لتوقّف وجود الشيء على وجود شرطه ورفع موانعه قريبا أو بعيدا في الواقع وإن لم يستشعر به.

وبالجملة يجد العقل ترتّبا بين وجود الضدّ وعدم الضدّ الآخر بلا مرية ، إلى آخره.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم تعرف ما في كلّ فقرة من هذا الكلام من وجوه الفساد ولا نطيل الكلام بتوضيحها ، هذا تمام الكلام في منع مقدّمية الترك للفعل ومنه يظهر منع مقدّمية الفعل للترك أيضا ، وأمّا دفع شبهة الكعبي مفصّلا فقد أوردنا بعض الكلام فيه في موضعين في بحث المقدّمة ولعلّنا نتكلّم معه أيضا في الجملة عند شرح عبارة المصنّف فيما بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

* واعلم أنّ « الضدّ » لغة المبائن ، وفي المجمع : ضادّه مضادّة إذا بائنه مخالف ، ومنه ، لا مضادّ له في ملكه ، والمتضادّان اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار وفي اصطلاح أهل المعقول الضدّ الأمر الوجودي المقابل لمثله الّذي لا يجتمع معه بحسب الوجود الخارجي في محلّ واحد كالسواد والبياض في الصفات والقعود والقيام في الأفعال.

وأمّا في لسان الأصوليّين فيحتمل انطباقه على الأوّل فيخرج قيدي « الخاصّ » و « العامّ » حيثما يقيّد بهما مخرج القيود الاحترازيّة القاضية بكون اللفظ مرادا به معناه الحقيقي القدر المشترك بين القسمين ، كما يحتمل انطباقه على الثاني فيكون قيد « الخاصّ » من باب القرائن المؤكّدة وقيد « العامّ » من باب القرائن الصارفة على أحد الوجهين الآتيين.

وأمّا على الوجه الآخر فمن باب القرائن المؤكّدة أيضا على المشهور ، وإن كان مناقشة

ص: 646

راجع إلى الخاصّ ، بل هو عينه في الحقيقة * ، فلا يقتضي النهي عنه أيضا.

__________________

بعض الفضلاء الآتية تقتضي خلافه ، أو يكونان من باب القرائن المفهمة المقرونة بالمجاز الّذي يراد منه القدر المشترك بين معنييه الحقيقي والمجازي المعبّر عنه بعموم المجاز على تقدير كون المراد به حيثما اطلق هو هذا المعنى ولكن بملاحظة هذا الاصطلاح لا اصطلاح أهل اللغة ، فيكون القيدان حيثما قيّد بهما جاريين مجرى القيود الاحترازيّة أيضا ولكن بالقياس إلى المعنى المجازي دون الحقيقي.

وهاهنا احتمال آخر وهو تجدّد اصطلاح آخر للاصوليّين في هذا اللفظ بإزاء ما يبائن المأمور به ولا يجامعه وإن كان تركا له ، أو ثبت مضادّته له بحسب الشرع وإن كان بحسب العقل ممّا لا يضادّه أصلا ويجتمع معه في الوجود الخارجي ، فيلزم أن يكون القيدان من باب القرائن المفهمة في المعنى الحقيقي القاضية بإرادة القسم على حدّ إطلاق الكلّي على الفرد كما في الاحتمال الأوّل ، وهذا المعنى على فرض ثبوته أخصّ من الأوّل حيث لا يتناول ما يبائن غير المأمور به.

وأعمّ من الثاني حيث يتناول ما ليس بأمر وجودي والوجودي الّذي لا يمتنع اجتماعه مع المأمور به عقلا ، فعلى هذا الاحتمال كالاحتمال الأوّل نستريح عمّا تكلّفوا في اعتبار العلاقة بالقياس إلى إطلاقه على الترك من ارتكاب بعض الوجوه الواهية الّتي سيأتي الإشارة إليها ، لابتنائه على الاحتمال الثاني غير أنّ إثبات هذا الاحتمال في غاية الإشكال ، ولا سيّما مع مخالفته الأصل وقاعدة أولويّة المجاز عند الدوران بينه وبين النقل أو الاشتراك ، فهو على أيّ حال ساقط عن البين على سبيل الجزم واليقين.

وأمّا غيره فتصدّى جماعة من الأعلام لاعتبار العلاقة يقضي بتعيينه في الاحتمال الثاني ، ولكن كلام غيرهم ممّن تقدّم خال عن ذلك فيكون الاحتمال الأوّل أقرب بالاعتبار ، ولا يبعد ترجيحه بحمل العنوانات المطلقة عليه فلا يلزم مجاز ولا إخراج القيد الّذي الأصل فيه كونه احترازيّا مخرج القيود التوضيحيّة ، والوجه في ذلك أنّ ورود هذا اللفظ في كلامهم مبنيّ على التبع لا محالة من باب الحقيقة التبعيّة في موضع الحقيقة والمجاز التبعي في موضع التجوّز ، فيدور بين كونه تبعا للعرف العامّ أو العرف الخاصّ والأوّل هو الأولى أخذا بالظاهر وموافقة الأصل والقواعد كما لا يخفى.

* وفي دعوى رجوع العامّ بهذا المعنى إلى الخاصّ وكونه في الحقيقة عينه وجوه :

ص: 647

منها : رجوعه إليه بحسب القائل ، بمعنى أنّ من يجعل الضدّ الخاصّ منهيّا عنه لا يريد به فعلا خاصّا معيّنا في الواقع من حيث عدم تعلّق غرض بنفي الخصوصيّة والتعيين ، بل يريد به أحد الأفعال المضادّة للمأمور به وهو الّذي يزاحمه بوقوعه في محلّه سواء حصل التلبّس به حين الخطاب وقبله فيراد بالنهي عنه الحمل على العدول عنه إلى إيجاد المأمور به ، أو لم يحصل التلبّس بعد فيراد بالمنهيّ عنه المنع عن الإقدام على إيجاده قبل أداء المأمور به.

وظاهر أنّ هذا المعنى لا اختصاص له بفعل معيّن ، فمن يقول بالنهي عن الضدّ الخاصّ يريد به أحد الأضداد الوجوديّة ، ومن يقول بالنهي عن أحد الأضداد يريد به الضدّ الخاصّ.

ويؤيّد هذا المعنى ما في بعض حواشي شرح المختصر للعضدي من توجيه الاعتراض على استدلال الحاجبي على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه بأنّه : لو كان الأمر نهيا عن الضدّ لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه لأنّه مطلوب بالنهي ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

فقال العضدي : « واعترض : بأنّ المراد الضدّ العامّ وتعقّله حاصل ».

وذكر المحشّي في توجيهه : أنّه لا نسلّم انتفاء اللازم وحصول القطع بطلب حصول الفعل مع الذهول عن الضدّ ، وإنّما يصحّ لو اريد الضدّ الخاصّ الّذي هو جزئيّ من جزئيّات ما لا يجامع المأمور به كالقعود بالنسبة إلى القيام.

أمّا لو اريد الضدّ العامّ أعني أحد الأضداد لا على التعيين فلا ، إذ الطالب إنّما يطلب الفعل إذا علم أنّ المأمور متلّبس بضدّه العامّ لا بالفعل نفسه ، والعلم بعدم تلبّسه بالضدّ مستلزم لتعقّل الضدّ » انتهى.

ومنها : رجوعه إليه بحسب الاسم والتسمية ، بمعنى أنّ أحد الأضداد وإن كان يسمّى بالضدّ العامّ لما فيه من الشيوع والانتشار غير أنّ ما اعتبر فيه من الكلّية أمر جعلي منتزع عن الخصوصيّات وليس له حقيقة في الظاهر والواقع سوى الخصوصيّات فالّذي لاحظه الآمر لإرادة النهي عنه إنّما هو ما يقع عليه اسم الضدّ الخاصّ ، غاية الأمر أنّه لمّا لم يكن متعيّنا ولا معتبرا فيه الخصوصيّة فوقع عليه اسم العامّ أيضا وعبّر عنه بأحد الأضداد الوجوديّة ، فالاختلاف بينهما اختلاف في التعبير وإلاّ فاللبّ المنوط بما في ضمير الآمر واحد.

ومنها : رجوعه إليه من حيث الحكم والثمرة ، بمعنى أنّ أحد الأضداد الوجوديّة وإن كان بمفهومه يغاير الضدّ الخاصّ لأنّه كلّي وهو جزئي ، إلاّ أنّ النهي المتعلّق به ظاهرا لابدّ

ص: 648

من صرفه إلى مصاديقه ، لأنّه معدوم صرف والأحكام لا تتعلّق بالمعدومات ، ومصاديقه إنّما هو الأضداد الخاصّة فالنزاع بين من يدّعي النهي عن الضدّ العامّ بهذا المعنى ومن يقول به في الضدّ الخاصّ لفظيّ ، والّذي يدلّ على نفي الاقتضاء في الضدّ الخاصّ يدّعي على نفيه في الضدّ العامّ أيضا.

ومنها : رجوعه إليه بحسب المعنى ، وذلك لأنّ الضدّية للشيء إنّما هي من أوصاف وجوده الخارجي ، نظرا إلى أنّ ضدّ المأمور به عبارة عمّا لا يجامعه في محلّ واحد بحسب الوجود الخارجي ، فلابدّ وأن يكون الموصوف بها ما يصلح لأن يوجد في الخارج.

ولا ريب أنّ أحد الأضداد إن اعتبر مفهومه فهو أمر اعتباري صرف ولا محصّل له في الخارج أصلا فلا يصلح لأن يتّصف بالضدّية ، فلابدّ وأن يراد به مصاديقه.

ولا ريب أنّ مصاديقه هي الأضداد الوجوديّة بعينها وهذا هو الأوجه.

وقد يوجّه العبارة بما لا كرامة فيه وهو : أنّ النهي عن طبيعة الضدّ مستلزم للنهي عن كلّ الأفراد ، فيكون قولنا : « أزل النجاسة » بناء على اقتضائه النهي عن الضدّ العامّ بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة بمنزلة : « لا تصلّ » لأنّ النهي عن طبيعة الضدّ مستلزم للنهي عن أفراده ، كما أنّ « أزل النجاسة » بناء على اقتضائه النهي عن الضدّ الخاصّ أيضا بمنزلة « لا تصلّ » فيكون مرجع النهي عن أحد الأضداد الوجوديّة إلى النهي عن الضدّ الخاصّ.

ثمّ يعترض عليه : بأنّا إن قلنا بأنّ « أزل النجاسة » يقتضي النهي عن الضدّ الخاصّ لكان خصوص الصلاة منهيّا عنه ، فيكون بمنزلة أن يقول الشارع : « أزل النجاسة ولا تصلّ » فلا تصحّ الصلاة حينئذ ، لأنّه نظير قوله : « صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة ».

وبعبارة اخرى : صار بمنزلة أن يقول : « افعل الصلاة ولا تفعل الصلاة حال كونها ضدّا للإزالة » فيكون الجهة تعليليّة والجمع آمريّا والصلاة باطلة.

وإن قلنا بأنّه يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بمعنى أحد الأضداد الوجوديّة كان قول الشارع : « أزل النجاسة » بمنزلة قوله : « لا توجد ضدّا » فيكون صلاة تارك الإزالة صحيحة لأنّ قوله : « أزل النجاسة ولا توجد ضدّا مّا » نظير قوله : « صلّ ولا تغصب » وكما أنّ هذا لا يستلزم البطلان فكذا هذا ، لكون الجمع مأموريّا لرجوع النهي إلى الوصف الخارج أعني الضدّية والغصبيّة.

إلى أن قال : فظهر أنّ النهي عن أحد الأضداد لا يرجع إلى النهي عن الضدّ الخاصّ لما

ص: 649

عرفت من الثمرة العظيمة من اجتماع الأمر والنهي في ذلك.

ولا يخفى ما في كلّ من التوجيه والاعتراض عليه.

أمّا الأوّل : فلأنّ أحد الأضداد الوجوديّة إن اريد به مفهوم ضدّ مّا فهو ليس من جملة الأعيان الخارجيّة ولا يكون من جملة الطبائع المتحصّلة في الخارج فلا وجه للقول بأنّ النهي عن طبيعة الضدّ يستلزم النهي عن كلّ الأفراد ، لا لأنّ هنا نهيا ولا تعلّق له بالأفراد بل لأنّه لا طبيعة هنا تكون صالحة لتعلّق النهي بها فيسري منها إلى أفرادها ، والحكم الشرعي يقتضي موضوعا يكون موجودا في الخارج ولو ضمنا كالطبائع المحقّقة الموجودة في ضمن الأفراد ، ضرورة قيام العرض بالموضوع لا بغيره ، وإن اريد به مصداق ضدّ مّا فهو نفس الضدّ الخاصّ والنهي المفروض متعلّق به بنفسه لا من حيث إنّه أحد أفراد طبيعة اخرى قد تعلّق النهي بها فسرى عنها إلى أفرادها ، كالنهي عن طبيعة الزنا السارية في جميع أفرادها.

وأمّا الثاني : فلأنّ أحد الأضداد الوجوديّة من حيث تعلّق النهي به على فرض صحّته محتمل لوجوه ثلاث :

الأوّل : أن يعتبر فيه من هذه الحيثيّة ترديد فيما بين مصاديقه ، بأن يقال : إنّ الّذي يأمر بشيء فهو يبغض أحد أضداده الوجوديّة ، إمّا هذا أو هذا أو هذا إلى آخر الأفراد ، وحيثما يقصد بخطابه النهي عنه فينهى عنه بهذا المنوال حتّى يكون المنهيّ عنه من أضداد الإزالة إمّا الصلاة أو القعود أو القيام لغرض آخر.

الثاني : أن يعتبر فيه اشتراط المزاحمة لفعل المأمور به دون الترديد ، بأن يقال : أنّ المبغوض في نظر الآمر والمنهيّ عنه عنده إنّما هو أحد الأضداد الوجوديّة بشرط كونه مزاحما للمأمور به.

الثالث : أن لا يعتبر فيه شيء من ذلك ، بأن يكون المبغوض والمنهيّ عنه أحد الأضداد الوجوديّة لا بشرط شيء ولا على نحو الترديد ، وهو أيضا يتصوّر على وجوه لا يخفى على المتأمّل.

ولا ريب أنّ تنظير النهي عنه على النهي عن الغصب في مقابلة الأمر بالصلاة الّذي يكون بالنسبة إلى الصلاة راجعا إلى وصفها الخارج الموجب لصحّة الصلاة في الدار المغصوبة لكون الجمع بينهما مأموريّا لا آمريّا ، إنّما يصحّ بعد فرض صحّة مبنى هذا الكلام على الوجه الأخير لا مطلقا ، بل إذا لوحظ أحد الأضداد اللابشرط غير مقيّد بالإطلاق مع ملاحظة الضدّية بينه وبين المأمور به باعتبار وصفه العنواني لا لذاته ، لوضوح بطلان

ص: 650

الاحتمالين الآخرين بحيث لا يكاد أحد يتوهّمه في المقام.

فحينئذ يكون أحد الأضداد المنهيّ عنه في مقابلة الصلاة المأمور بها من باب الغصب والصلاة فيكون النهي في مادّة الاجتماع راجعا إلى الوصف الخارج والجمع مأموريّا والصلاة صحيحة.

ولعلّ الّذي يجعل المنهيّ عنه أحد الأضداد لا يريد به هذا المعنى حتّى يلتزم بالفرق بينه وبين القول بالنهي عن الضدّ الخاصّ ، بل يريد أحد المعنيين الأوليين وعليه ينتفي الفرق ويصير الجمع أيضا آمريّا والعلّة تعليليّة ومفاد الأمر بالصلاة والنهي الضمني عنها راجعا إلى قوله : « صلّ ولا تصلّ صلاة تزاحم الإزالة المأمور بها ، أو تضادّها في محلّ وقوعها » فيلزم أن يكون الصلاة باطلة لامتناع اجتماع الأمر والنهي في تلك الصورة على مذهب المعترض ، ضرورة أنّ الصلاة في موضع المزاحمة عين ما تعلّق به النهي وهو أحد الأضداد بشرط المزاحمة لكونها مصداقا له وعين ما لوحظ في القضيّة الترديديّة وتعلّق به النهي بنفسه.

مع أنّ هذه الدعوى على فرض جريانها في الضدّ العامّ بهذا المعنى يمكن جريانها في الضدّ الخاصّ أيضا ، لأنّ المراد به إمّا أن يكون كلّ واحد من الأفعال الخاصّة المضادّة للمأمور به على طريق العام الاصولي ، أو بعضا منها معيّنا في الواقع وفي نظر الآمر ، أو بعضا منها لا على التعيين ، أو طبيعة الضدّ بما هي طبيعة وهي الأمر الوجودي الّذي لا يجامع المأمور به مع قطع النظر عن أفراده وهي الأفعال الخاصّة ، فالّذي يصحّ في كلام القائل بالنهي عن الضدّ الخاصّ هو الأوّل والأخير لوضوح فساد كلّ من المتوسّطين ، والفرق المذكور إنّما يتّجه على الأوّل من الصحيحين للزومه كون الصلاة بعينه منهيّا عنها لعلّة تعليليّة.

ولعلّ مراد هذا القائل هو الثاني وهو الوجه الأخير فحينئذ يرجع النهي عنه بالقياس إلى الصلاة المأمور بها إلى كونه نظير النهي عن الغصب في مقابلة الصلاة فيرجع النهي إلى وصفها الخارج ولا يقضي بالفساد على ما توهّمه المعترض ، فإبداء الفرق حينئذ تحكّم ولا ينبغي الالتفات إليه.

وقد يعلّل عبارة المصنّف فيما تقدّم : بأنّه (1) مفهوم كلّي لا يوجد إلاّ في ضمنه بل هو عينه ، لأنّ الكلّي متّحد مع الأفراد في الوجود وهو أيضا بعيد عن الصواب ، لكونه تنزيلا لها إلى ما يراه المصنّف في الكلّيات المحقّقة من وجودها في الخارج وكون وجودها عين

ص: 651


1- أي الضدّ العامّ بذلك المعنى مفهوم كلّي لا يوجد إلاّ في ضمن الضدّ الخاصّ. ( منه عفي عنه ).

وقد يطلق ويراد به الترك *. وهذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن.

وقد كثر الخلاف في هذا الأصل ، واضطرب كلامهم في بيان محلّه من المعاني المذكورة للضدّ ؛ فمنهم : من جعل النزاع في الضدّ العامّ بمعناه المشهور - أعني الترك - وسكت عن الخاصّ. ومنهم : من أطلق لفظ الضدّ ولم يبيّن المراد منه. ومنهم : من قال : إنّ النّزاع إنّما هو في الضدّ الخاصّ. وأمّا العامّ بمعنى الترك فلا خلاف فيه ، إذ لو لم يدلّ الأمر بالشيء على النهي عنه ، لخرج الواجب عن كونه واجبا.

__________________

وجود الأفراد ، مع أنّه قول لا يتفرّع على هذا المذهب بل يقول به أهل جميع المذاهب حتّى القائلين بوجود الكلّي في ضمن الأفراد ، لأنّه كلّي ليس على حدّ سائر الكلّيّات كما عرفت ، فالنهي عنه نهي عمّا هو مصداق له وهو الضدّ الخاصّ لا محالة ، والأسدّ بل الموافق للصواب ما ذكرناه من الوجوه وإن كان مفاد الجميع فيما عدا الأخير واحد.

* وهذا هو الّذي يجعل الضدّ بناءا على اصطلاح أهل المعقول مجازا فيه على أحد وجهيه ، وهو أن يراد بالترك مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به ، واختلفت كلمتهم في اعتبار العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي وهو الأمر الوجودي الّذي لا يجتمع مع المأمور به في محلّ واحد ، وجملة ما ذكروه في الباب لا تزيد على ثلاثة أوجه ، المشابهة والمجاورة والكلّية والجزئيّة.

أمّا الأوّل : فلمشابهة الترك للضدّ الوجودي في وصف المنافاة.

وأمّا الثاني : فلمجاورة ترك الشيء لفعل ضدّه الوجودي.

وأمّا الثالث : فلكون الضدّ الوجودي جزئيّا من جزئيّات ما ينافي المأمور به أو ما لا يجامعه على الإطلاق ، فاستعمل اللفظ الموضوع للجزئي في الكلّي مجازا في موضع إرادة الترك منه من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

ولا يخفى ما في الكلّ من التعسّف الواضح ، وليت شعري بأنّهم لم لم يعتبروا علاقة السببيّة والمسبّبيّة مع كونها من أظهر العلائق وأقربها اعتبارا ، ولا سيّما على مذهب المشهور من تمانع الأضداد الوجوديّة نظرا إلى أنّ كلّ ضدّ وجودي إذا كان مانعا عن الآخر

ص: 652

فهو سبب لتركه وعدم دخوله في حيّز الوجود ، فيكون إطلاق اللفظ الموضوع له على الترك من باب تسمية المسبّب باسم السبب.

وعلى ما قرّرناه من منع التمانع يكون العلاقة الظاهريّة علاقة اللزوم من باب ذكر الملزوم وإرادة لازمه نظير « النطق » في قولهم : « نطقت الحال » للدلالة ، نظرا إلى أنّ ترك الضدّ حينئذ من لوازم فعل الضدّ الآخر بل كونه لازما هو المصرّح به في كلام أهل الاصطلاح ، كما يرشد إليه التأمّل في الوجه الرابع من أدلّتنا الناهضة على نفي التمانع فيما بين الأضداد الوجوديّة المشتمل على كلام من أهل المعقول.

وأمّا إذا اريد بالترك الكفّ عن المأمور به فقد صرّح بعض الأعلام بكون الإطلاق فيه حقيقة لبنائهم في الكفّ - على ما سيأتي في باب النهي - على كونه أمرا وجوديّا كالمعنى الحقيقي فليس اللفظ مستعملا في خلاف ما وضع له.

واعترض عليه بعض الفضلاء : بأنّه يعتبر في الضدّين مع كونهما أمرين وجوديّين تواردهما على محلّ واحد كالسواد والبياض والقعود والقيام ، ولذا لا يطلق الضدّان على العلم والسواد مع كونهما وجوديّين لتعدّد محلّيهما ، ومحلّ البحث ليس من هذا الباب لكون المأمور به كالصلاة - مثلا - محلّه الجوارح والكفّ محلّه النفس فيكون الإطلاق عليه أيضا مجازيّا.

وردّ : بأنّ النفس إن اريد بها النفس الإنسانيّة فلا شكّ أنّ الصلاة أيضا محلّها النفس ، ضرورة كون الفاعل الحقيقي في جميع الأفعال هو النفس وأنّ الجوارح منها بمنزلة الآلات.

وإن اريد بها مورد الكفّ ومصدره ، فلا شكّ أنّ الكفّ أيضا محلّه الجوارح كالفعل لأنّه عبارة عن إمساك الجوارح عن الإتيان بالمأمور به كما لا يخفى.

أقول : ويرد عليه أيضا : أنّه لو كان منشأ الاشتباه إضافة الكفّ إلى النفس حيث يعبّر عنه بكفّ النفس كما هو الظاهر.

فيدفعه : أنّ فعل المأمور به أيضا كذلك لأنّه عبارة عن حمل النفس على إيجاد المأمور به.

غاية الأمر أنّ التعبير عنه بهذه اللفظة غير معهود ، وهو إن صلح فرقا يكون فرقا لفظيّا بين المقامين والفرق اللفظي لا يوجب الفرق المعنوي والمعتبر في أمثال المقام إنّما هو المعنى دون اللفظ.

نعم يقع الإشكال في جهة اخرى وهي أنّ الكفّ إن كان بحسب العنوان والتعبير أمرا وجوديّا غير أنّه متلبّس بالعدم وليس بأمر وجوديّ صرف ، لأنّ إمساك الجوارح عن إيجاد

ص: 653

المأمور به عبارة عن حمل الجوارح على عدم إيجاده كما أنّ الفعل عبارة عن حمل الجوارح على إيجاده ، فلابدّ في معرفة كيفيّة هذا الإطلاق من ملاحظة كيفيّة الاصطلاح الجاري في هذا اللفظ الحاصل لأهله ، والنظر في أنّهم هل يخصّونه بالأمر الوجودي الصرف أو ما يعمّه والوجودي المتشبّث بالعدم.

وظاهر عباراتهم وإن كان يقضي بالأوّل ولكنّ الاصول ترشد إلى الثاني وكيف كان فلابدّ في ذلك من نوع تأمّل.

ثمّ إنّ من الأعاظم من فرّع احتمالي ترك المأمور به أو الكفّ عنه في المراد من الضدّ العام على الخلاف الآتي في باب النهي ، من كون المطلوب بالنهي هو الكفّ أو نفس « أن لا تفعل ».

حيث قال : « الضدّ هنا يراد به ما يعاند المأمور به وينافيه ولا يجتمع معه في الوجود وإن كان عدما كترك المأمور به أو الكفّ عنه على الخلاف الآتي في النهي » وهو كما ترى بظاهره وارد على خلاف التحقيق ، وذلك لأنّ الخلاف الآتي خلاف وقع في مدلول النهي الدائر بين كونه طلب الترك - بمعنى مجرّد عدم الإتيان - أو طلب الكفّ عن المنهيّ عنه ، ومحلّ البحث إنّما هو الترك الّذي هو متعلّق لمدلول النهي ولا مدخل له في الخلاف المذكور ، ضرورة أنّه لو ثبت ثمّة أنّ المطلوب بالنهي هو الكفّ لا يلزم منه أن يكون مراد الاصوليّين بترك المأمور به الّذي أطلقوا عليه اسم « الضدّ » هو الكفّ كما أنّه لو ثبت ثمّة خلاف ذلك لا يلزم منه كون مرادهم هنا أيضا خلاف ذلك.

غاية الأمر أن نقول هنا على المذهب الأوّل : إنّ الأمر بالشيء يدلّ على طلب الكفّ عن ترك المأمور به ، وعلى المذهب الثاني : إنّه يدلّ على طلب ترك ترك المأمور به ، فيبقى ترك المأمور به الّذي هو متعلّق النهي محتملا للوجهين أيضا ولم يتبيّن حاله فكيف يتوهّم تفرّع حاله على الخلاف الآتي ، إلاّ أن يقال : بجريان الدليل القاضي بحمل النهي على الكفّ في مطلق التروك.

وعلى أيّ حال كان فقد عرفت أنّهم يسمّون الترك أو الكفّ بالضدّ العامّ.

ووجهه : عدم اختصاص الترك أو الكفّ بفعل خاصّ من الأفعال المضادّة للمأمور به لتحقّقهما في ضمن خاصّ لا محالة ، فإنّ « الأكل » مكان « الصلاة » كفّ عنها أو ترك لها وكذلك الشرب أيضا وهكذا إلى آخر الأضداد الوجوديّة ، وهذا نظير أفعال العموم في اصطلاح النحاة كالوجود والثبوت والحصول ونحوه ، فإنّ عموم هذه الأفعال من جهة تحقّق

ص: 654

الأقوال في المسألة

وعندي في هذا نظر ؛ لأنّ النزاع ليس بمنحصر في إثبات الاقتضاء ونفيه * ، ليرتفع في الضدّ العامّ باعتبار استلزام نفي الاقتضاء فيه خروج الواجب عن كونه واجبا ، بل الخلاف واقع على القول بالاقتضاء في أنّه هل هو عينه أو مستلزمه كما ستسمعه. وهذا النزاع ليس ببعيد عن الضدّ العامّ ، بل هو إليه أقرب.

ثمّ إنّ محصّل الخلاف هنا ** : أنّه ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالشيء عين

__________________

مفاهيمها في ضمن كلّ واحد من أفعال الخصوص ، فلذا يصير قولك : « ضرب » أو « قعد » أو « قام » في معنى أن يقال : « وجد » أو « ثبت » أو « حصل الضرب » أو « القعود » أو « النوم ».

* ولا يخفى أنّ الاعتراض على دعوى نفي الخلاف في الضدّ العامّ باعتبار الاقتضاء وعدمه إن كان ولابدّ فكان الأولى منعها بدعوى وقوعه في أصل الاقتضاء أيضا بالنسبة إلى الضدّ العامّ كوقوعه فيه بالنسبة إلى الخاصّ ، كما حكي القول بنفي الاقتضاء عن الأشاعرة تعليلا بجواز الأمر بما لا يطاق فلا استبعاد في أن يأمر الشارع بالوجود والعدم.

وعن السيّد استنادا إلى أنّ الآمر قد يكون غافلا فلا يتحقّق منه النهي عن الترك.

ونقل المحقّق السلطان حكاية هذا القول عنه وعن الغزالي وإمام الحرمين وأمثالهم ، مع أنّ معقد البحث وظاهر العنوانات والمصرّح به في كلام غير واحد كون الخلاف في أصل الاقتضاء ، كيف وصرفه إلى كيفيّته خاصّة يوجب خروجه عن وظيفة الاصولي الباحث عن القواعد الكلّية لأجل الاستنباط ، إذ كون الدلالة بطريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام لا يترتّب عليه فرع فقهي أصلا كما تنبّه عليه بعض الأعاظم وفاقا للمحقّق المذكور.

وإن كان النزاع في أصل الدلالة أيضا لا يتفرّع عليه ثمرة ، فإنّ وجوب أصل الفعل مسلّم عند الفريقين والنهي عن تركه على القول به لا يزيد عليه شيئا.

وما ذكره بعض الأعاظم _ من أنّه يثمر في التعليقيّات كحنث من حلف أن لا ينهى زيدا فأمره بشيء ، وظهار زوجة من علّقه على مخالفة نهيه فأمرها بالقيام فقعدت ، فإنّهما يحصلان على القول باقتضاء الأمر النهي عن الضدّ العامّ بخلافه على القول الآخر _ ليس بسديد ، لما ستعرفه فيما بعد ذلك إن شاء اللّه.

** واعلم أنّ لهم في أصل الاقتضاء نفيا وإثباتا وكيفيّته في كلّ من قسمي الضدّ

ص: 655

النهي عن ضدّه في المعنى. وآخرون إلى أنّه يستلزمه ، وهم : بين مطلق للاستلزام ، ومصرّح بثبوته لفظا. وفصّل بعضهم ، فنفى الدلالة لفظا وأثبت اللّزوم معنى ، مع تخصيصه لمحلّ النزاع بالضدّ الخاصّ.

__________________

أقوالا كثيرة جدّا ، وهي على ما ضبطه النراقي في المناهج القول بعدم الاقتضاء مطلقا ، والاقتضاء عينا وتضمّنا والتزاما لفظيّا ومعنويّا في كلّ من الضدّين ، والتفصيل بينهما فالاقتضاء في العامّ وعدمه في الخاصّ ، وعليه المصنّف غير أنّه جعله في العامّ تضمّنا وبعض الأعاظم غير أنّه زعمه في العامّ التزاما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، وهو خيرة بعض الأعلام أيضا غير أنّه مع جعله الاقتضاء في العامّ التزاما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، اعترف بثبوت النهي التبعي من باب دلالة الإشارة في الخاصّ.

ووافقه على جميع ذلك بعض الأجلّة في الضوابط والتفصيل بينهما أيضا ولكن في كيفيّة الاقتضاء ففي العامّ تضمّنا وفي الخاصّ التزاما ، والتفصيل الآخر أيضا في كيفيّة الاقتضاء ففي العامّ التزاما لفظيّا وفي الخاصّ معنويّا.

وعن أبيه تفصيلا آخر بين الموسّع والمضيّق ، ففي الأوّل لا يقتضيه وفي الثاني يقتضيه تضمّنا في العامّ والتزاما في الخاصّ إن لم يكن مثله وإلاّ فالترجيح أو التخيير.

واختار هو تفصيلا آخر في كيفيّة الاقتضاء بعد الاعتراف بثبوته في كلّ من الضدّين بطريق الالتزام ، فجعله في العامّ بيّنا بالمعنى الأعمّ وفي الخاصّ غير بيّن.

وعن البهائي القول بأنّه يقتضي في الضدّ الخاصّ عدم الأمر به ، إلاّ أنّ عبارته في الزبدة لا تقضي بكونه مختارا له على سبيل الجزم ، لأنّه قال - بعد ما زيّف أدلّة القولين باقتضاء النهي وعدمه - : « ولو أبدل النهي عن الضدّ الخاص بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب ».

نعم يظهر الجزم به من السيّد في الرياض في لباس المصلّي في مسألة كون اللباس مغصوبا.

وعن بعضهم - على ما حكاه بعض الأعاظم - التوقّف ، هذه أقوال المسألة حسبما عثرنا عليه محصّلا ومنقولا.

عدم جواز الأمر بالمتضادّين في زمان واحد

وبقي من مبادئ المسألة امور ينبغي الإشارة إليها :

الأوّل :

في أنّه إنّا وإن منعنا التمانع سابقا عمّا بين الأضداد الوجوديّة ولكن لا يذهب عليك

ص: 656

توهّم أنّا نجوّز الأمر بالمتضادّين كالكتابة والنساجة في زمان واحد ، كيف وأنّ تجويز التكليف بالمحال من خواصّ الأشاعرة ونحن بريئون عن هذا المذهب ، والجمع بين المتضادّين محال لا من جهة التمانع - كما توهّم - بل من جهة استلزام وجود كلّ عدم الآخر ، فلو سوّغنا الجمع بينهما في الوجود لسوّغنا الجمع بين وجود كلّ مع عدمه لاستحالة انفكاك اللازم عن ملزومه ، ولمّا كان الجمع بين وجود شيء وعدمه محالا بالذات كان ما يستلزمه وهو الجمع بين وجوده ووجود ضدّه محالا ، ضرورة كون ملزوم المحال محالا ، غايته كون الاستحالة بالقياس إليه بالعرض لا بالذات كما في لازمه ، فيقبح بضرورة العقول من الحكيم العدل أن يلزم العبد بالجمع بينهما ، بأن يأمر بهما معا أمرا عينيّا وأراد الامتثال بهما في زمان واحد.

فلو صدر منه أمران بشيئين متضادّين لابدّ من الالتزام بالتفريق بينهما في الامتثال إن لم يعلم بإرادة الامتثال في زمان واحد ، وإلاّ فلا مناص من حمله على إرادة التخيير وإن كان الأمر بمجرّده ظاهرا في العيني ، لأنّ المصير إلى خلاف الظاهر مع قيام القرينة عليه - وإن كانت عقليّة - ممّا لا حزازة فيه أصلا ، ولذا صرنا سابقا في الواجبين المضيّقين إلى التخيير بينهما أو ترجيح ما هو الأهمّ منهما وفاقا لغير واحد من الأعلام.

ولكن يبقى في المقام إشكالان :

أحدهما : أنّ الجماعة أطلقوا في الحكم بترجيح ما هو الأهمّ منهما ، وهو إنّما يتمّ إذا كان تعلّق الأمر بالمتضادّين على سبيل الإجمال ، كما لو كان كلّ فردا من عامّ مأمور به اصولي كقوله : « أكرم العلماء » أو منطقي مع استفادة التكرار بمعونة الخارج كما في قوله : « أطع والديك » و « أنقذ الغريق » ونحوه ممّا علّق على وصف مستفاد منه العلّية عرفا لما ستعرفه ، وأمّا إذا تعلّق الأمر بهما على سبيل الاستقلال والتفصيل كما لو جمع بين الكتابة والنساجة وأمر بهما معا تفصيلا فلا ، لأنّه لو كان المتعيّن عنده ما هو الأهمّ عندنا لكان عليه الاقتصار به فقط في الخطاب لئلاّ يلغو الخطاب بغيره لعدم تعلّق غرضه به والحكيم منزّه عن ذلك ، فلابدّ حينئذ من إلغاء جهة الترجيح ويقال بالتخيير أيضا ، بدعوى عدم الملازمة بين كون الشيء أهمّ عند اللّه في نظرنا وكونه كذلك في الواقع ، لجواز الخطأ علينا في فهم الأهمّيّة وإنّما يكشف الجمع بين الخطاب به والخطاب بغيره عن تساويهما في الرتبة في نظره ، فلا يكون التخيير حينئذ تسوية بين الراجح وغيره.

ص: 657

ولكن يبقى الإشكال فيما لو كان أحدهما أهمّ في الواقع أيضا وجعل الوجوب في غيره مشروطا بعدم التمكّن عنه ، بدعوى كون الأمر به مطلقا وبغيره مشروطا ، وإن كان يدفع الإشكال غير أنّه مبنيّ على ورودهما في كلام الغير العالم بالعواقب ، أو تجويز وقوع التعليق في خطاب العالم بها أيضا ، والأوّل خارج عن محطّ نظر الاصولي والثاني خلاف التحقيق على ما فصّلنا القول فيه في بحث المقدّمة ، إلاّ أن يحمل الأهميّة على الأفضليّة فيبقى الإشكال بحاله ، لكون الأهمّ حينئذ أفضل فردي الواجب التخييري وهو ينافي التعيين كما يقتضيه إطلاقهم.

ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف : منع لزوم تعيين الأهمّ سواء ورد الخطاب به وبغيره على سبيل الإجمال أو التفصيل ، إذ لا دليل عليه من العقل والنقل وما تقدّم من التمسّك به من بناء العقلاء وقضاء القوّة العاقلة غير ثابت على إطلاقه.

نعم في ابتداء الأمر مع التردّد لا يبعد ثبوتها وأمّا بعد ثبوت الأمرين معا على التفصيل أو الإجمال لا أثر للأهمّيّة إلاّ في إفادة الأفضليّة ، سواء اريد بها ما لو كان المصلحة في أحد الواجبين أقوى منها في الآخر ، أو أنّه ما علم من الشارع الاهتمام في شأنه بتأكّدات كثيرة في حقّه إذ زيادة الثواب أو شدّة العقاب المترتّبتين عليه فعلا وتركا فالمحكّم حينئذ إنّما هو التخيير في الامتثال كما في المتساويين في الرتبة ، لأنّه لولاه لزم التخصيص في خطاب غير الأهمّ وهو ممّا لا داعي إليه في عقل ولا نقل ، وإن قلنا بثبوت التكليف في كلّ منهما على سبيل التعيين.

وثانيهما : ما أشرنا إليه سابقا من تعميم الحكم بالتخيير بالنسبة إلى الواجبين المتزاحمين اللذين استفيد وجوبهما ضمنا عن الخطاب الوارد بالعامّ الاصولي أو المنطقي بالوجه المتقدّم ، سواء كانا فردين من ماهيّة واحدة أو ماهيّتين مختلفتين ومن أمثلته إطاعة الوالدين المأمور بهما شرعا إذا اختلفا في الرأي ، كأن يأمر أحدهما بالكتابة والآخر بالنساجة ، أو يأمر أحدهما بالسفر وينهى عنه الآخر ، فإنّ البناء على التخيير حينئذ يوجب كون الخطاب مستعملا في أكثر من معنى ، إذ المفروض إرادة العيني في غير مورد التعارض وهو مرجوح أو غير جائز ، بخلاف ما لو بنى على التساقط حينئذ وطرحهما معا فإنّ غايته لزوم التخصيص وهو ليس بمنكر في الخطابات فيكون أولى أو المتعيّن ، فيلزم أن لا يكون ما عليه الأعلام في تزاحم الواجبين على ما ينبغي.

ص: 658

ولكن يدفعه : أنّ هذا التخيير ليس كالتخيير في الواجبين المضيّقين المأمور بكلّ منهما صريحا مرادا من الخطاب ، بل هو تخيير يحكم به العقل بعد ملاحظة عدم إمكان الجمع بين المتعارضين ، ولا يلزم من ذلك تخصيص في الخطاب ولا استعماله الأمر في التخييري مع استعماله في العيني ، بل هو مستعمل في العيني فقط حتّى بالنسبة إلى المتعارضين ، ولا يلزم به التكليف بغير المقدور لكون كلّ منهما لو خلّي وطبعه ولا بشرط انضمام الآخر إليه مقدورا ، وإنّما يندرج في غير المقدور إذا لوحظ بشرط الانضمام ، وهو ليس بملحوظ في الخطاب جزما ولا معتبر في الامتثال قطعا ، غير أنّ قضيّة وجوب كلّ بعينه مسيس حاجة المكلّف إلى الجمع بينهما في الامتثال ، ولمّا كان ذلك غير ممكن له فالعقل الّذي يحكم عليه بوجوب الإطاعة بعينه في صورة الامكان يحكم عليه بالتخيير ويلزمه بامتثال الأمر في أحدهما لا بعينه لتمكّنه عنه ، حذرا عن الترجيح بلا مرجّح إن لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع وإلاّ فيلزمه بالأهمّ خاصّة لئلاّ يلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ، وهو من أدلّة الشرع فيكون حكمه بالتخيير ممّا يمضيه الشارع أيضا فإذا حصل التلبّس بذلك الواحد على أحد الوجهين سقط التكليف عن الآخر المعارض له بطروّ الامتناع عليه حينئذ ، لأنّ بقاءه كحدوثه مشروط بالإمكان ، ولا يلزم بذلك خروج الواجب عن كونه واجبا لكونه من جهة انتفاء شرط وجوبه وهو ليس بمحذور ، وإلاّ لانتقض بما لو طرأه الامتناع بعد استقرار التكليف به ومضيّ زمان يسع وقوعه فيه في غير صورة المعارضة ، كما لو طرأه اختيارا أو اضطرارا ما سلب عنه الاختيار بعد كونه جامعا لجميع جهات الاختيار ، هذا إذا كان مضيّقا بالمعنى الأخصّ.

وأمّا لو كان مضيّقا بالمعنى الأعمّ كأداء الدين وردّ الوديعة عند المطالبة ونحوهما ، فلا يمتنع عليه بعد التلبّس بما يعارضه إلاّ التعجيل أو المبادرة فيسقط الأمر به خاصّة دون الأمر بأصل الفعل ، فيقع صحيحا لو أتى به بعد الفراغ عن الأوّل.

وبما قرّرنا بطل ما يقال - في الاستدلال على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ - : بأنّه لولاه وتلبّس به المكلّف كالصلاة بالنسبة إلى أداء الدين مثلا فإن بقى الخطاب بذلك الشيء لزم التكليف بالضدّين وهو محال ، وإلاّ خرج الواجب المضيّق عن كونه واجبا مضيّقا.

فإن قلت : فأيّ فائدة في ثبوت التكليف به مع كونه في معرض السقوط من غير

ص: 659

امتثال ، بل يلزم المحذور الّذي ذكرته في أوّل الإشكالين من خروج الخطاب به لغوا وهو محال من الحكيم.

قلت : إنّما يلزم ذلك لو تعلّق الخطاب به صريحا على نحو التفصيل والمفروض ليس كذلك ، لتعلّق الخطاب به ضمنا من جهة كونه من جملة أفراد ما تعلّق به صريحا.

وقد ذكرنا أنّه في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضه كان ممكنا ومقدورا للمكلّف ولا يلزم خروج الخطاب بلا فائدة ، لحصول الامتثال الّذي هو مقصود بالأصالة من الخطاب في ضمن غير هذا الفرد من أفراد متعلّقه ، ووقوع مثل ذلك غير عزيز في خطابات الحكماء ، ولا أنّه ينافي الحكمة ومقتضى العقل كما يرشد إليه التدبّر وقليل التأمّل.

فتبيّن من جميع ما ذكر : أنّ التخيير الّذي بنينا عليه في المضيّقين يختلف في المعنى بحسب اختلاف موارده من حيث تعلّق الأمر بها صريحا أو ضمنا ، فما عليه الأعلام أيضا إن كان هذا المعنى مع اختلافه فمرحبا بالوفاق وإلاّ لكان للإيراد عليهم مجال واسع.

في تأسيس الأصل

الثاني :

في النظر في أنّ المسألة هل يجري فيها أصل يوافق بعض أقوالها أو لا؟ وظاهر أنّ الأصل لا يجري فيها ولا يجري في نظائرها ، أو لا يظهر له فائدة على فرض الجريان إلاّ إذا لم يكن هنا [ دليل ] اجتهادي رافع للشكّ الّذي هو موضوعه أو أحد أركانه ، والمفروض أنّه قلّما يتّفق مسألة لم يوجد فيها [ دليل ] اجتهادي موافق لأحد أقوالها ، فلابدّ للناظر فيه المتمكّن عن الدليل الاجتهادي من أن يقطع النظر عن كلّ دليل اجتهادي ويفرض المسألة مشكوكا في حكمها ونفسه شاكّا فاقدا للدليل ، فحينئذ يتمكّن عن إجراء كلّ أصل ينوط اعتباره بالشكّ من جهة كونه موضوعا له كأصل البراءة ، أو ركنا من أركانه كالاستصحاب وأصالة عدم التخصيص أو التقييد.

ولا ريب أنّ الكلّ جار على الفرض المذكور في تلك المسألة وموافق للقول بنفي اقتضاء النهي ولكن بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ خاصّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ النهي المتضمّن لطلب ترك الضدّ على تقديره موجب لاشتغال الذمّة بالترك ، وهو موضع شكّ فأصل البراءة ينفيه ، لكون مفاده خلوّ الذمّة عن كلّ أمر وجوديّ أو عدميّ الزم به.

وأمّا الثاني : فلأنّ الطلب كائنا ما كان أمر حادث مسبوق بالعدم الأزلي ، ومن خواصّه

ص: 660

أن يدفع بالأصل حيثما يقع مشكوكا في حدوثه.

غاية الأمر انقطاع ذلك الأصل بالقياس إلى طلب المأمور به لفرض ورود الأمر به ، ويبقى الباقي تحته ومنه طلب ترك ضدّه.

وأمّا الثالث : فلأنّ الضدّ غير خال عن كونه واجبا أو مندوبا أو مكروها أو مباحا ، فهو لا محالة مباح بالمعنى الأعمّ مستفاد إباحته عن عموم الأدلّة أو إطلاقها ، والنهي عنه يوجب التخصيص أو التقييد في تلك الأدلّة والأصل ينفي كلاّ منهما لكونه في موضع الشكّ على الفرض.

وبما قرّرناه يندفع ما عساه يناقش في تلك الاصول تارة : بأنّ النزاع إذا كان في الملازمة العقليّة - بناء على ما سبق تحقيقه - فالعقل إمّا قاض بملازمة إيجاب الشيء لتحريم ضدّه أو قاض بعدمها.

وعلى أيّ تقدير فلا يعقل منه الشكّ في الحكم حتّى يكون المقام من مجاري الاصول المنوطة به.

واخرى : بأنّ الأصل على فرض جريانه موافقا لقول النافي على الإطلاق ليس بمثمر ولا يظهر له فائدة بعد ما كان الحكم معلوما بالدليل ، فيكون وجوده بمنزلة عدمه.

فإنّ العقل إنّما لا يعقل منه الشكّ إذا كان الحكم المطلوب منه من باب الإنشاء وأمّا لو كان من باب الإدراك فربّما يعقل منه الشكّ كما لو كان متردّدا في الحكم الشرعي الثابت للواقعة على حسبما هي عليه في الواقع.

ومن المعلوم أنّ النزاع وإن كان في الملازمة العقليّة إلاّ أنّه نفيا وإثباتا يرجع إلى دعوى إدراك العقل لنهي الشارع عن ضدّ المأمور به بملاحظة ما ورد به من الخطاب ودعوى عدم إدراكه أو إدراك عدمه ، فإذا أمكن فرض المسألة خالية عن الدليل الاجتهادي - حسبما قرّرناه - لا يفرق بين كون ذلك الدليل هو العقل أو غيره من أدلّة الشرع.

وما يرى من عدم ظهور ثمرة للأصل المقرّر على النهج المذكور - على فرض تسليم جريانه - فإنّما ينشأ عن ملاحظة الدليل الاجتهادي الموجود معه لغنائه عنه ، وإلاّ فمع فرض عدمه يترتّب عليه جميع فوائده وثمراته.

وبذلك يوجّه ما يكثر في كلام الفقهاء عند الاستدلال على المطلب من الجمع بين الأصل والدليل ، كيف ولو صلح ذلك مناقشة لكان مطّردا ومتوجّها إلى كلّ من يجمع في مسألة واحدة بين أكثر من دليل واحد كما هو دأبهم وديدنهم قاطبة.

ص: 661

نعم ربّما يمكن المناقشة في أصل البراءة هنا بأنّ : اشتغال الذمّة ليس طريق ثبوته منحصرا في الطلب الشرعي المتعلّق بما يكون شاغلا للذمّة ، لأنّه حكم إرشادي من العقل قد ينشأ بملاحظة الطلب المتعلّق بالشيء ، وقد ينشأ بملاحظة كونه من لوازم وجود ما تعلّق به الطلب لمجرّد كونه ممّا يستلزم تركه تركه ، كما أنّه قد ينشأ بملاحظة كونه من مقدّمات وجوده لمجرّد كونه ممّا لابدّ منه.

وظاهر أنّ العقل كما يحكم باشتغال الذمّة بنفس المأمور به كذلك يحكم باشتغال الذمّة بلوازمه وإن لم يكن من مقدّمات وجوده ، فلذلك تجد نفسك جازما عند كونك مكلّفا بالاستقبال إلى القبلة بكون ذمّتك مشغولة بالتوجّه إلى كلّ ما يحاذي القبلة ممّا بينها وبينك ، وإن لم يدخل في وصف الوجوب إلاّ على سبيل العرض والمجاز ، ومن جملة ذلك ترك أضداده الوجوديّة.

كما يمكن المناقشة في الاستصحاب : بأنّ المستصحب في آن اليقين عدم لا في الموضوع وفي آن الشكّ عدم في الموضوع ، وهو اختلاف بينهما لا يوافق قانون الاستصحاب.

ولكن يمكن دفع الاولى : بأنّ المقصود بالأصل نفي ما يكون محلاّ للنزاع وهو الاشتغال بالترك بعنوان كونه مطلوبا للشارع بالخصوص.

ولا ريب أنّ الأصل المستفاد من عمومات الآيات والروايات ممّا يفيد ذلك فيترتّب عليه جميع الثمرات المطلوبة من القول الموافق له ، ولو تطرّق إليه شبهة كونه من الاصول المثبتة بالنسبة إلى بعض الثمرات كالصحّة فيما لو كان الضدّ من العبادات أو المعاملات ، والإباحة فيما لو كان ممّا عداها ، بدعوى : أنّ أقصى ما يفيده الأصل إنّما هو نفي الفساد والحرمة لا ثبوت الصحّة والإباحة.

لدفعناها : بكون تلك اللوازم بعد نفي مقابلاتها بالأصل ممّا يثبت في كلّ باب بأدلّة ذلك الباب من العمومات والإطلاقات ، لسلامتها على هذا التقدير عمّا يصلح للمعارضة لها ، فالمقصود بالأصل إنّما هو رفع المانع لا إحراز المقتضي.

كما يمكن دفع الثانية : بأنّها مناقشة لا مأخذ لها سوى ما اشتهر فيما بينهم من اقتضاء الاستصحاب موضوعا للمستصحب ، وأنّه لابدّ فيه من بقاء الموضوع ، وهو إنّما يستقيم فيما لو كان المستصحب ، من الامور الوجوديّة دون ما لو كان من الامور العدميّة.

ووجه الفرق : أنّ الأمر العدمي ممّا لا حقيقة له أصلا بل هو شيء يعتبره العقل عند انتفاء

ص: 662

الوجود ، فهو ليس بحيث يقتضي موضوعا في الخارج يتقوّم به لأنّه من خواصّ الموجود ، غايته أنّه من باب المقارنات الاتّفاقيّة قد يصادف شيئا موجودا في الخارج وإلاّ فكثيرا مّا يصادف أمرا معدوما.

وأيّا ما كان فيصلح للاستصحاب حيثما كان متيقّنا فشكّ في بقائه ، بخلاف ما لو كان من الوجوديّات فإنّه لا محالة يكون من مقولة الأعراض فلابدّ له من موضوع يتقوّم به ، ولا ريب أنّ المقصود بالاستصحاب حينئذ إبقاء ما يكون من هذه المقولة الّذي كان متيقّنا في الزمن السابق ، فإمّا أن يراد إبقاؤه لا في الموضوع أو في موضوع كان متقوّما به في آن اليقين أو في موضوع غير ذلك الموضوع ، والأوّل محال والثاني متعيّن لكون الثالث كالأوّل في الاستحالة إن فرضنا الباقي هو العرض المتيقّن في آن اليقين ، لاستلزامه انتقال العرض وهو على ما برهن عليه في محلّه غير جائز ، مع أنّه تابع في الوجود لموضوعه الأوّل فيرتفع بانعدامه ومعه يبقى الاستصحاب بلا مستصحب ، أو مخلاّ بما يكون من أركان الاستصحاب وهو اليقين السابق إن فرضناه عرضا آخر لعدم كونه ممّا تعلّق به اليقين السابق.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى ممّا يقتضيه الأخبار الواردة في باب الاستصحاب الناهية عن نقض اليقين إلاّ بيقين مثله ، بعد ملاحظة أنّ المراد باليقين المنهيّ عن نقضه إنّما هو آثار اليقين وأحكامه المترتّبة عليه في الزمان السابق ، الراجع محصّله إلى النهي عن الاعتناء بالشكّ الطارئ والأمر بتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقّن في جميع الأحكام المحمولة عليه سابقا ، لا نفس اليقين لأدائه إلى التكليف بغير المقدور ، ولا المتيقّن كما توهّم لاشتراكه مع الأوّل في المحذور.

فلا وقع لما يعترض عليه من منع اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب استنادا إلى إطلاق تلك الأخبار ، فإنّها بعد كونها متقيّدة لا يتصوّر لها إطلاق حتّى يستند إليه.

ولو سلّم فهو تقييد يجيء من جانب العقل وهو حجّة ، كما لو جاء من قبل الشرع.

فقد تبيّن ممّا ذكر : أنّ ما عدا القول بنفي الاقتضاء مخالف للاصول من غير فرق في ذلك بين القول باقتضاء النهي التبعي أو الأصلي الغير الشرعي أو الأصلي الشرعي.

فما ذكره بعض من لا تدبّر له - من عدم جريان أصل البراءة على القول بالنهي التبعي أو الأصلي الغير الشرعي ، تعليلا باشتراكهما مع القول بنفي الاقتضاء مطلقا في عدم ترتّب العقاب على المخالفة كما في وجوب المقدّمة - كلام واه ورد على خلاف التحقيق ، لعدم

ص: 663

كون المقصود بأصل البراءة هنا نفي العقاب خاصّة ، وهو كما أنّه ينفي العقاب حيثما يجري كذلك ينفي ما هو ملزوم له وهو الطلب الشرعي المتعلّق بالمكلّف فعلا.

ونظير ذلك الاعتراض في وروده على خلاف التحقيق ما في كلام بعض الأجلّة من الاعتراض على الاستصحاب ، بأنّه : يقتضي يقينا سابقا وعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ ليس له زمان يقين في السابق حتّى يحكم ببقائه في اللاحق بحكم الاستصحاب ، إذ ليس المراد بالمستصحب هنا عدم الاقتضاء الّذي هو من أحوال الأمر حتّى يتوجّه أنّه لم يكن متيقّنا في شيء من الآنات ، بل عدم الطلب الّذي هو سابق على ورود الأمر بل على جميع الامور الوجوديّة المسبوق وجودها على العدم الأزلي.

ولا ريب في كونه متيقّنا إلى زمان وجود المكلّف وبلوغه وورود الأمر المتعلّق به ، فصار مشكوكا في بقائه بالنسبة إلى أضداد المأمور به بعد القطع بانتقاضه بالنسبة إلى نفس المأمور به كما عرفت.

نعم على القول باقتضاء عدم الأمر لا يجري من الاصول إلاّ أصالة عدم التخصيص أو التقييد في العبادات ، لاشتراكه مع القول بنفي الاقتضاء مطلقا في موافقة أصل البراءة والاستصحاب كما لا يخفى.

في ثمرات مسألة الضدّ

الثالث في ثمرات المسألة :

واعلم أنّ ثمرة كلّ مسألة هي الغاية المطلوبة عن عقد تلك المسألة والبحث عنها ، وظاهر أنّ المسائل الاصوليّة قواعد عقدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيكون غايتها المطلوبة عنها من حيث كونها مسائل اصوليّة استنباط الأحكام.

ومن البيّن أنّه من وظيفة الفقيه ومحلّه الفقه ، وكيفيّته على ما أشرنا إليه في صدر المسألة أن يؤخذ المسائل الاصوليّة كبريات في الاستدلالات المسائل الفقهيّة الّتي صغرياتها قضايا فرضيّة لكون موضوعاتها امورا فرضيّة ، نظرا إلى أنّ الفقيه إنّما يبحث عن أحوال موضوع بحثه من حيث كونه أمرا فرضيّا وإن كان له وقوع في الخارج ، لئلاّ يخرج عن موضوع بحثه ما لا وقوع له في الخارج من الفروض أصلا ، فالنتيجة الحاصلة من تلك الاستدلالات مسألة فقهيّة واستنباطها بالكيفيّة المذكورة ثمرة المسائل الاصوليّة ، فلا يلزم الاتّحاد بين ثمرة علم ومسألة علم آخر.

وعلى هذا فثمرة تلك المسألة على القول باقتضاء الأمر للنهي إنّما هو استنباط التحريم

ص: 664

لكلّ فعل للمكلّف مندرج في عنوان « الضدّ » الّذي هو بمفهومه الكلّي موضوع لتلك المسألة ، ولكن القوم لم يتعرّضوا لذكر ذلك إلاّ قليل منهم كبعض الأعاظم حيث أشار إليه في جملة من كلامه بقوله : « نعم يختلف الحكم في الأضداد بين أن يكون من العبادات والمعاملات وغيرهما من وجه آخر ، وهو أنّه إن كان من الأوّلين يترتّب عليهما أو على أحدهما - على الخلاف - حكم الفساد على القول به ، ولكن يشترك الكلّ في الاتّصاف بالحرمة » انتهى.

نعم ذكروا في المقام امورا اخر وهي على ما يتحصّل من عباراتهم المتفرّقة مندرجة في ثلاثة أصناف :

أوّلها : التعليقيّات كالنذور والأيمان والظهار ، فلو حلف أن لا ينهى زيدا عن شيء فأمره بشيء ، أو علّق ظهار زوجته على مخالفة نهيه فأمرها بالقيام فقعدت ، فعلى القول باقتضاء النهي يلزم الحنث ويقع الظهار دون القول بعدم الاقتضاء ، ولو نذر إعطاء درهم لزيد إن لم يفعل حراما فأتى بضدّ المأمور به كالصلاة في موضع الإزالة مثلا ، ومثله ما لو نذر إعطاء الدرهم لمن لم يفعل محرّما فأعطاه لمن أتى بضدّ المأمور به ، فعلى القول الأوّل لا يجب الوفاء في الفرض الأوّل ولا يحصل البراءة في الفرض الثاني بخلاف القول الآخر.

ومثله لو علّق النذر بإعطاء الدرهم على صدور محرّم منه أو علّق ظهار زوجته على صدور محرّم منه أو منها فصلّى أو صلّت عند الأمر بالإزالة ، فعلى القول الأوّل يجب ويقع دون القول الآخر.

ومثله لو علّق النذر على فعل واجب لفاعله فصلّى أحد في سعة الوقت في موضع الإزالة المأمور بها ، فعلى القول باقتضاء النهي أو اقتضاء عدم الأمر لم يكن ذلك بالواجب فلا يبرأ بإعطائه بخلاف القول الآخر.

وثانيها : الأسباب الشرعيّة الموجبة للملك والاستحقاق كالأقارير والوصايا والأوقاف ، فلو أقرّ لمن يأتي بمحرّم ، أو أوصى لمن لا يأتي بمحرّم ، أو وقف على من لا يأتي بمحرّم ، فعلى القول باقتضاء النهي يثبت الإقرار لمن أتى بضدّ المأمور به ولا يندرج ذلك في الموصى له ولا الموقوف عليه دون القول الآخر.

وثالثها : الأحكام الوضعيّة كالصحّة والفساد ، فعلى القول الأوّل يبطل العبادات المأمور بأضدادها كالصلاة عند الأمر بردّ الوديعة وإزالة النجاسة ، والحجّ حال مطالبة الزوجة بالمهر مع الإيسار.

ص: 665

قال البهائي : وممّا فرّعوا على هذا الأصل ما لو أشرف الأعمى على السقوط في بئر مثلا وترك المصلّي تحذيره بالقول مع انحصار المتحذّر فيه وبقى مشتغلا بالقراءة ، فإنّ صلاته تبطل إن قلنا باستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ لتعلّق النهي بجزء الصلاة أعني القراءة. وإن لم نقل بذلك لم تبطل ، لأنّ النهي حينئذ عن أمر خارج عن الصلاة ، أمّا لو كان وقت التحذير ساكتا عن القراءة فإنّ صلاته لا تبطل ، لأنّه ليس في تلك الحالة منهيّا عن جزء الصلاة ولا عن شرطها.

ثمّ قال : ولقائل أن يقول : إنّه في تلك الحالة منهيّ عن شرط الصلاة وهي الاستدامة الحكميّة ، فيجب تخصيص الحكم بما إذا لم نقل ببطلان الصلاة عند التحذير بكلام قليل وبما إذا لم يتوقّف حصول حذره على كلام كثير يخرج به عن كونه مصلّيا. انتهى.

قوله : « لأنّ النهي حينئذ عن أمر خارج عن الصلاة » ظاهره كون المراد بالأمر الخارج المنهيّ عنه ترك التحذير الّذي هو ضدّ عامّ له ، نظرا إلى ذهابه في الضدّ العام إلى اقتضاء النهي عنه.

ولا ريب أنّه أمر خارج عن الصلاة ملازم لها في الوجود ، وإلاّ فعلى القول بعدم اقتضاء النهي عن الضدّ الخاصّ لا يعقل شيء آخر خارج عن الصلاة يكون منهيّا عنه بالأمر بالتحذير حتّى ينطبق عليه التعليل.

وقوله : « أمّا لو كان في وقت التحذير ساكتا عن القراءة » بيان لفائدة قيد « الاشتغال بالقراءة » الّذي اعتبروه في محلّ ظهور الفرع المذكور ، وتنبيه على كونه قيدا إحترازيّا ، فيكون قوله : « فإنّ صلاته لا تبطل » مرادا به أنّها لا تبطل على القولين ، فلا يظهر في تلك الصورة فرق بينهما.

وقوله : « ولقائل أن يقول » اعتراض على ما ذكر في التعليل لعدم بطلان الصلاة في الصورة المفروضة على القولين من عدم كونه حينئذ منهيّا عن جزء الصلاة ولا عن شرطها ، ومحصّله : أنّ النهي عن شرط الصلاة إذا كان مبطلا لها فهو حاصل في تلك الصورة لأنّ الاستدامة الحكميّة عند السكوت عن القراءة من جملة الشروط وهي على القول باقتضاء النهي تكون منهيّا عنها فيظهر الفرق بينه وبين القول الآخر.

وفيه نظر لأنّ الكلام في الضدّ الخاصّ والاستدامة الحكميّة عبارة عندهم عن عدم قصد المنافي فليس بأمر وجوديّ ليكون ضدّا خاصّا ، وإن كان يعبّر عنه بالأمر الوجودي ، وفرض هذا الكون المتحقّق عند السكوت عن القراءة ضدّا خاصّا وإن كان ممكنا إلاّ أنّ

ص: 666

النهي عنه - على القول به - ليس نهيّا عن شرط الصلاة ولا جزئه ، لكونه أمرا مباحا لما قيل من أنّ القيام المتخلّل بين أجزاء القراءة حال السكوت عنها قيام مباح في مقابلة القيام المتحقّق حالها لكونه واجبا.

قوله : « فيجب تخصيص البحث ... الخ » ظاهره بحسب القواعد اللفظيّة كونه تفريعا على الاعتراض مرادا به فرض ما يصحّ معه محلّ الاحتراز ، ولكنّه بحسب المعنى لا يلائم المقام ، مضافا إلى أنّه لا يلائمه العطف بقوله : « وبما إذا لم يتوقّف إلى آخره » لارتباطه بمحلّ ظهور الفرع المذكور فلابدّ من حمل « الفاء » على الاستئناف أو الاستدراك ليرجع إلى محلّ الفرع ، فيكون محصّل المراد به حينئذ : أنّ ما ذكروه من الفرع صحّته مبنيّة على مقدّمتين :

إحداهما : ثبوت أنّ التحذير بالكلام القليل الخارج عن أذكار الصلاة لا يوجب بطلان الصلاة كما يوجبه لو وقع في غير موضع التحذير ، بدعوى اختصاص ما جعله الشارع قاطعا للصلاة بغير محلّ الضرورة ، والتحذير بالكلام القليل موضع ضرورة لمكان الأمر به.

وثانيتهما : عدم كون الكلام المذكور كثيرا ماحيا لصورة الصلاة وإلاّ لبطلت على القولين.

وكيف كان فما ذكروها في الصنفين الأوّلين بدعوى كونها من ثمرات المسألة موضع نظر ، لعدم كونها ممّا عقدت المسألة لأجل استنباطها ، بل هي امور مقرّرة في محالّها تثبت عند تحقّق أسبابها ، ومن أفرادها الإتيان بضدّ المأمور به على القول بكونه منهيّا عنه وعدمه ، إذ يترتّب عليه الامور المذكورة بعد ما استنبط الفقيه بملاحظة مذهبه في تلك المسألة حكمه من الحرمة أو عدمها ، فهي في الحقيقة من فروع بحث الفقيه ، فتكون بالنسبة إلى تلك المسألة من جملة الفوائد.

وفرق واضح بين الفائدة والثمرة في العموم والخصوص ، فإنّ الفائدة قد لا تكون من الثمرات ولا سيّما إذا كانت بعيدة غير ملحوظة في الأنظار كالامور المذكورة ، ومن هذا القبيل أخذ الاجرة على فعل الضدّ في كونه حراما أو مباحا على القولين ، لما قرّر من عدم جوازها على المحرّمات ، وكونه موجبا للفسق وعدمه إذا كان مع ضميمة ترك المأمور به محقّقا لموضوع الإصرار إن لم يكن الترك بنفسه كبيرة ، إذ يتحقّق على القول بكونه منهيّا عنه معصيتان صغيرتان ، بخلاف الثمرة فإنّها دائما من الفوائد.

وبالجملة لو أرادوا بذكر هذه الامور كونها من جملة الفوائد كما يرشد إليه التعبير بالفرع والتفرّع في كلام كثير منهم فلا بأس به ، ولو أرادوا كونها من الغايات المطلوبة كما

ص: 667

يومئ إليه التعبير بلفظة « الثمرة » في كلام بعضهم فلا ريب في بطلانه.

وأمّا الصنف الأخير فبيان صحّته وسقمه يستدعي الإشارة إلى ما لا يكاد يخفى على البصير ، وهو أنّ مذاهب العلماء في صحّة الضدّ وفساده حيثما كان عبادة مأمورا بها أو معاملة ثلاث :

الأوّل : كونه صحيحا وموافقا للأمر إذا كان عبادة موجبا للطاعة من حيث الأمر به مطلقا ، وإن استلزم معصية بترك المأمور به المضيّق أو تأخيره ، وهذا مبنيّ على عدم استلزام تحريم اللازم لتحريم الملزوم مع عدم كون ترك الضدّ مقدّمة كما هو الحقّ ، أو عدم كون المقدّمة واجبة على الإطلاق أو في الجملة كما عليه جماعة.

الثاني : كونه فاسدا وكون الأمر به مقيّدا بما عدا صورة المعارضة ، لا بالمعنى المقابل للواجب المطلق المرادف للمشروط ، بل بالمعنى المقابل للمطلق المتداول في سائر المواضع ، وهذا مبنيّ إمّا على استلزام تحريم أحد المتلازمين لتحريم المتلازم الآخر ، أو على كون ترك الضدّ مقدّمة ومقدّمة الواجب واجبة والنهي عن الشيء مقتضيا للفساد مطلقا أو إذا كان عبادة ، وهو مذهب كلّ من جزم في المسألة بالثمرة المذكورة.

الثالث : كونه صحيحا والأمر به إذا كان من العبادات مشروطا بما لو حصل الشرط حصل الأمر فيقع العمل موافقا له ، وهذا مبنيّ على كون الترك مقدّمة والمقدّمة واجبة ، وإلاّ لما حاجة إلى العدول عن إطلاق الأمر بالضدّ إلى جعله مشروطا وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضدّ لئلاّ ينافي وجوب المقدّمة وعدم كون النهي في العبادات مقتضيا للفساد لئلاّ ينافي المصير إلى صحّتها مع قيام الأمر المضيّق المقتضي للنهي عنها ، وهو مذهب جماعة منهم بعض المشايخ في كشف الغطاء وبعض الأفاضل وأخيه والمحقّق الثاني - على ما حكي عنه - وغيره على ما تقدّم في بحث المقدّمة من أنّهم صحّحوا العبادات الواجبة مع انحصار مقدّماتها في المحرّمة وجعلوا منها ترك الواجب المضيّق لفعل الموسّع خلافا للمشهور حيث أفسدوها استنادا إلى ما ذكرناه ثمّة.

ولكنّهم بعد ما جعلوا الأمر مشروطا اختلفوا في الشرط ، فكثير منهم جعلوه مشروطا بحصول الحرام وهو الّذي رجّحناه ثمّة.

وبعض الفضلاء جعله مشروطا بالاعتبار اللاحق بالمكلّف وهو كونه ممّن يأتي بالمقدّمة وقد ذكرنا الفرق بينه وبين الأوّل ثمّة.

ص: 668

وظاهر العبارة المحكيّة عن كشف الغطاء كونه مشروطا بالعزم على المعصية لأنّه قال - في تلك المسألة من مقدّمات الكتاب - : بأنّ انحصار المقدّمة في الحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية ، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت لمعصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه (1) في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد. انتهى.

ولكن الظاهر أنّه لا يخالف القول الأوّل كما لا يخفى.

وإذا عرفت ذلك ، فإن أرادوا ممّا ذكروه من كون الفساد ثمرة للقول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ كون الفساد ملازما لهذا القول كما هو شأن الثمرات وأنّ من يقول بتلك المقالة فليس له أن يقول بما يخالف الفساد ، فهو في حيّز المنع لجواز القول بالتفكيك بينهما كما عرفته من جماعة فكيف يدّعى الملازمة ، مع أنّ اقتضاء النهي الصريح النفسي للفساد في العبادات أو هي والمعاملات معركة للآراء ولهم فيه أقوال مختلفة - على ما يأتي في محلّه - وقد صار جماعة من أهل النظر إلى المنع فكيف بالنهي الضمني الغيري ، فدعوى الملازمة بين هذا القول وفساد الضدّ عبادة كانت أو معاملة باطلة جدّا.

وإن اريد أنّه ممّا يتفرّع على هذا القول على بعض التقادير فهو مسلّم ، غير أنّ عدّه من الثمرات في موضع المنع لما تقدّم ، بل هو من الفوائد المترتّبة على هذا القول بناء على اتّفاقه مع القول بالفساد في نهي العبادات والمعاملات.

واعترض عليه أيضا بوجوه غير وجيهة.

ص: 669


1- والوجوه على ما حكاه بعضهم ثلاث : أحدها : أنّ الجاهل له في الواقع بالنسبة إلى القصر والإتمام والجهر والإخفات حكمان أحدهما مطلق والآخر مشروط. أمّا الأوّل : فهو القصر في السفر والإتمام في الحضر. وأمّا الثاني : فهو الإتمام في الموضعين ، فإنّه مشروط بالمخالفة في الأوّل ، وكذا الكلام في الجهر والإخفات. وثانيها : ما نسب إلى السيّد المرتضى من أنّ الجاهل المقصّر بنفسه موضوع من الموضوعات جعل الشارع له بخصوصه أحكاما كما أنّه جعل لسائر الموضوعات أحكاما ، فحكمه في نفس الأمر بالنسبة إلى المسألتين التخيير بين الجهر والإخفات والقصر والاتمام. ثالثها : أنّ ما جعله الشارع له في الواقع هو الّذي جعله للعالم ، غير أنّ الفرق بينه وبين العالم أنّه إذا أتى بما يخالف الواقع يسقط عنه الإعادة بخلاف الجاهل لأنّه الّذي دلّ عليه الأدلّة دون المخالفة في الواقع. ( منه ).

منها : ما أورده في المناهج بقوله : ولا يخفى أنّ الحكم ببطلان العبادات الموسّعة والنوافل بطلب أداء الدين وردّ الوديعة ومثلهما على القول بالاستلزام لا وجه له ، لأنّ دليل الواجب الموسّع مخصوص بأجزاء وقته ودليل وجوب أداء الدين فورا مثلا عامّ لإطلاقه بالنسبة إلى أجزاء هذا الوقت وما قبله وما بعده ، أي معناه : أنّ في كلّ وقت طلب الغريم دينه يجب أداؤه فورا ، سواء كان في وقت الموسّع أم لا ، ويلزمه النهي من الموسّع في وقته ، فمعنى العامّ الأوّل جواز الاشتغال بالصلاة مثلا في كلّ جزء من أجزاء الوقت الواقعة فيما بين الدلوك والغروب ، ومقتضى الثاني عدم جواز الاشتغال بما يضادّ أداء الدين في كلّ وقت طلبه ، سواء كان وقت طلبه وقت الموسّع أم لا ، وسواء كان وقت ما يضادّه الصلاة أم لا ، فيتعارضان في خصوص وقت الصلاة والأوّل أخصّ مطلقا فيجب تخصيص الثاني به ، فيكون الأمر بوفاء الدين فورا مخصوصا بغير حال الاشتغال بالصلاة.

هذا إذا فرض اختصاص الخطابين بالمديون ، وإلاّ فيكون دليل الموسّع خاصّا مطلقا من حيث الفعل والوقت ومن وجه من حيث الفاعل ، فيكون المعنى : يجوز خصوص الصلاة لكلّ مكلّف خال من موانع الصلاة في أيّ جزء من الأجزاء الواقعة بين الدلوك والغروب ، ويكون معنى لازم الأمر بوفاء الدين : لا يجوز لكلّ مديون شيء من أضداد أداء دينه في وقت من الأوقات ، فيكونان عامّين بينهما عموم مطلق ، فيجوز الإتيان بكلّ من الفعلين في الوقت المشترك كما يأتي ، أو يكون معنى الأوّل : يجوز لكلّ مكلّف الصلاة في كلّ جزء من الأجزاء الواقعة بين الدلوك والغروب ، سواء اشتغلت ذمّته بدين واجب الأداء أم لا ، ويكون معنى الثاني : لا يجوز لكلّ [ مديون ] فعل ما يضادّ أداء الدين في شيء من أوقات اشتغال ذمّته بأداء الدين سواء كان في وقت الموسّع أم لا ، فيكون بينهما عموم من وجه فيجوز كلّ من الفعلين في وقت التعارض على ما يأتي ، وكذا النوافل وبعض المباحات.

ثمّ قال : وتحقيق المقام : أنّ الأضداد الخاصّة للمأمور به إمّا واجب أو مندوب أو مباح ، وكلّ من الأوّلين إمّا مضيّق أو موسّع إمّا موقّت أو غير موقّت ، والمباح إمّا مباح بنصّ الشارع أو بالعمومات أو بالأصل ، والمباح المنصوص إمّا منصوص بإباحته في وقت معيّن أو مطلقا.

ثمّ المأمور به إمّا موسّع أو مضيّق ، وكلّ منهما إمّا موقّت أو غير موقّت وهو في المضيّق يتصوّر بأن يكون تضييقه باعتبار فوريّته ، فإن كان المأمور به موسّعا لا يبطل ضدّه ولا يحرم الامتثال به قبل تضيّق المأمور به مطلقا ، والوجه ظاهر.

ص: 670

وإن كان مضيّقا والضدّ مضيّقا أيضا فقد سبق حكمه من وجوب الرجوع إلى الترجيح أو التخيير. وكذا إن كان الضدّ مندوبا مضيّقا ، وأمّا في البواقي فيتعيّن الحكم بحرمة المباحات الغير المنصوصة على إباحتها في وقت المأمور به ، لأنّ دليلها يكون هو الأصل وهو يزول بدليل المأمور به.

وأمّا غير المباحات فاللازم الرجوع إلى دليلي المأمور به والضدّ وملاحظة أنّ ما يلزم من دليل المأمور به من النهي عن الضدّ وحرمته يعارض المدلول المطابقي لدليل الضدّ أم لا ، ثمّ ملاحظة كيفيّة التعارض فيحكم بحرمة الضدّ مطلقا وبطلانه إذا كان عبادة لو كان دليل المأمور به أخصّ مطلقا ، وبالجواز والصحّة في سائر صور التعارض إلى آخره.

ويكون محصّل كلامه تسليم الحرمة في المباحات في صورة واحدة وتسليمها مع البطلان في غيرها في صورة واحدة أيضا ، وهو ما كان دليل المأمور به أخصّ مطلقا من دليل الضدّ ، وأمّا في غيرها فقد حكم بعدم حرمة الضدّ مطلقا وعدم بطلانه إذا كان عبادة من غير فرق بين أن يكون بين دليلهما عموم مطلق أو من وجه.

ثمّ أورد بالنسبة إلى الثاني سؤالا بقوله : « فإن قيل : إنّ من صور التعارض ما كان بالعموم من وجه فما السرّ في الجواز والصحّة فيها؟ ».

فأجاب بقوله : « قلنا : السرّ أنّه لمّا لم يعلم المخصّص منهما بخصوصه فلا يحكم بتخصيص شيء منهما قطعا ، ويجوز العمل بعموم كلّ منهما لعدم دليل مخصصّ لهما مع أصالة عدم التخصيص ، نعم لا يمكن العمل بعمومهما معا للقطع بتخصيص واحد منهما ، نظير وجدان المنيّ في الثوب المشترك حيث يحكم بصحّة صلاة كلّ منهما ويجوز دخوله المسجد.

إلى أن قال : هكذا ينبغي أن يحقّق المقام وما سبقني على ذلك أحد. انتهى.

ولا يخفى ما فيه مع كونه تطويلا بلا طائل من خروجه عن السداد والصواب ، فإنّ من يفرّع البطلان على القول بالاقتضاء فإنّما يفرّعه بدعوى الملازمة من وجوه ثلاث ، ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، وملازمة النهي عن الشيء تحريم المنهيّ عنه ، وملازمة تحريم الشيء بطلانه إن كان عبادة.

والّذي يمنع عن هذا التفريع لابدّ له من منع إحدى تلك الملازمات. وما ذكر من التفصيل في مقام المنع إن كان واردا مورد منعها كلاّ أم بعضا فهو فاسد.

أمّا أوّلا : فلكونه منافيا لمذهبه في المقامات الثلاث ، فإنّه يرى الأمر ملازما للنهي كما

ص: 671

تبيّن عند نقل الأقوال ، والنهي ملازما للتحريم على ما عليه المشهور كما اختاره في محلّه ، والتحريم ملازما للفساد في العبادة مطلقا وفي المعاملة إذا كان راجعا إلى العين أو الجزء أو الوصف أو الخارج اللازم أو الشرط إذا كان ممّا يفسد بالنهي أو أمر يوجد مع المشروط بإيجاد واحد.

وأمّا ثانيا : فلمنافاته لتسليم الفرع في بعض الصور من التحريم في بعض المباحات ، والبطلان معه في العبادات على بعض الوجوه.

وأمّا ثالثا : فلمنافاته لسند المنع من مقتضى قواعد التعادل والترجيح ، فإنّهما نوعان من التعارض وهو عبارة عن تنافي الدليلين ، وهو لا يكون إلاّ بتنافي مدلوليهما كما قرّر في محلّه ، وتنافي المدلولين تابع للدلالة وهي في معنى الملازمة في كلّ من المراتب الثلاث.

وأمّا رابعا : فلأنّهم ذكروا الفرع على فرض ثبوت الملازمة على كلّ من الجهات ، فالقضيّة شرطيّة.

ومن البيّن عدم تنافي صدق الشرطيّة لكذب الشروط وما ذكر في التفصيل راجع إلى إنكار الشرط ، فلا يرتبط بدعوى الشرطيّة ليكون واردا عليه ، وإن كان واردا مورد منع الدعوى بعد تسليم الملازمة من جميع الجهات فهو غير معقول أوّلا ، إذ بعد تسليم المقدّمات لابدّ من ترتّب النتيجة قهرا ، وغير صحيح ثانيا لما بيّنّا في صدر المسألة من أنّ النزاع في الملازمة العقليّة بين إيجاب الشيء وتحريم ضدّه ، والملازمة لابدّ من تحقّقها في أمر واقعي وموضوعها وجوب فوري مستفاد من دليل لفظيّ أو لبّي متعلّق بشيء في مقابلة ضدّ له مباح بالمعنى الأعمّ ، فالّذي يراه ملازما للتحريم والفساد يراه كذلك بعد فرضه مضيّقا في مقابلة الموسّع فيكون الدليل الدالّ عليه في مقابلة دليل الموسّع كالدليل في مقابلة الأصل ، والنصّ في مقابلة الظاهر ، كالخاصّ والعامّ ونحوهما.

وقد قرّر في محلّه أنّ الأصل لا يعارض الدليل ، والظاهر لا يعارض النصّ غايته كون دليل المضيّق حاكما على دليل الموسّع مطلقا متعرّضا بمضمونه لمضمون الموسّع كاشفا عن أنّ المراد به غير مورد الاجتماع كما في النصّ والظاهر على بعض التقادير.

فالاعتراض عليه : بأنّ هذا الأمر بقرينة المعارضة ليس مضيّقا ليس على ما ينبغي ، لكونه نزاعا معه في الصغرى والمفروض أنّه أخذ النتيجة بعد إحراز الصغرى ولو فرضا ، كما أنّ إجراء قواعد التعارض هنا مع عدم المعارضة في الواقع على ما عرفت ليس على ما ينبغي ، مع أنّ الأمر المضيّق أخصّ من الأمر الموسّع وإباحة المباح دائما باعتبار الوقت

ص: 672

فيكون مقدّما عليه دائما على ما اعترف به المعترض ، والمفروض أنّ العبرة في موضوع المسألة إنّما هو بالوقت ، إذ كلّ وقت يزاحم الضدّ لفعل المأمور به يكون من محلّ النزاع ، وكلّ وقت لا يزاحمه فيه ليس منه في شيء ، كما أنّ العبرة في الأمر بالمعنى دون اللفظ ومعلوم أنّ وقت الامتثال به متعيّن دائما وإلاّ لا يكون مضيّقا ووقت الامتثال بالموسّع مشترك بين وقته وغيره فيكون أعمّ دائما.

ولو أرجعنا الكلام إلى الدليل ، نقول أيضا : دليل المضيّق يقتضي وجوب شيء على المكلّف في زمان معيّن ، ودليل الموسّع يقتضي وجوبه في زمان مشترك بينه وبين غيره ممّا قبله وما بعده ، فتأمّل.

ومنها : ما أورده في الضوابط بأنّ الأمر بالضدّ الموسّع والأمر بالمضيّق إمّا كلاهما قطعيّان [ لبّا ](1) كأن يدلّ إجماع مثلا على أنّ الصلاة مأمور بها حتّى عند وجود الأمر بالمضيّق ، وإجماع آخر على أنّ المضيّق مأمور به حتّى في صورة الأمر بالموسّع وإمّا كلاهما ظنّيان ، وإمّا أن يكون الأمر بالموسّع حين الأمر بالمضيّق قطعيّا ونفس الأمر بالمضيّق حينئذ ظنّيّا وإمّا أن يكون عكس ذلك.

أمّا الصورة الاولى : فغير معقولة على مذهب من يقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، لأنّه يقول بأنّه يمتنع عقلا صدور الأمر بالموسّع والمضيّق في زمان واحد ، فعند الأمر بأحدهما لابدّ من ارتفاع الآخر.

وأمّا الصورة الثانية : فلا تجري الثمرة المذكورة فيها ، إذ غاية ما ثبت من امتناع اجتماعهما عقلا هو لزوم صرف أحد الأمرين عن ظاهره والأخذ بالآخر ، إمّا أن يقال : إنّ الأمر بالموسّع غير مطلوب في زمان المضيّق.

أو يقال : إنّ أمر المضيّق أمر ندبي أو غير فوري في تلك الحالة ، أي حالة وجود الأمر بالموسّع ولا دليل على تعيين صرف الموسّع عن ظاهره ، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة وإلاّ فالوقف ، والمرجّح الخارجي قد يقتضي طرح الموسّع وقد يقتضي طرح المضيّق.

وأمّا الصورة الثالثة : فلا يجري الثمرة فيها أيضا ، إذ بعد لزوم التأويل في أحد الأمرين لا ريب في أنّ التأويل في الظنّي أولى ، فيطرح الأمر بالمضيّق بحمله على الندب أو على عدم الفور ويحكم بصحّة الموسّع.

ص: 673


1- هكذا في الضوابط.

وأمّا الصورة الرابعة : فالثمرة فيها جارية لا من جهة [ مجرّد ](1) كون الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه ، بل من جهة أنّه بعد لزوم صرف أحد الأمرين عن ظاهره بحكم العقل بامتناع الاجتماع لابدّ من طرح الظنّي وهو الموسّع والأخذ بالمضيّق فيكون الصلاة حينئذ فاسدة.

ثمّ إنّه ذكر عقيب ذلك ما يقتضي تفصيلا في الظنّين بين ما لو كان المضيّق بمعناه الأعمّ فيظهر فيه الثمرة المذكورة ، وما لو كان بمعناه الأخصّ أو كان مشكوكا فيه فلا يظهر الثمرة.

حيث قال - في دفع إيراد (2) أورده على نفسه - : أنّ قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (3) مثلا يدلّ على كون الظهرين موسّعين - إلى أن قال - : فقوله عليه السلام : « متى ذكرت صلاة فاتتك قضيتها » ونحوه معارض للآية الشريفة إن أفاد قوله هذا فوريّة القضاء ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، يتصادقان فيمن عليه قضاء وهو في وقت الأداء الموسّع ، ويصدق الرواية فيمن عليه قضاء قبل وقت الأداء ، ويصدق الآية فيمن هو في الوقت ولا قضاء عليه ، وفي مادّة الاجتماع الآية حاكمة [ ظنّا ](4) بوجوب الأداء والرواية حاكمة بفوريّة القضاء ظنّا والعقل حاكم بزعم الخصم بعدم إمكان اجتماع هذين الخطابين ، وبأنّه لابدّ من طرح أحدهما فلابدّ إمّا من رفع الأمر بالموسّع وإبقاء وجوب القضاء فورا بحاله ، وإمّا من رفع فوريّة القضاء لعدم إمكان رفع [ أصل ] وجوبه فيكونان حينئذ موسّعين ولا يرتفع شيء من الأمرين ، وحينئذ فللمستدلّ أن يقول : إنّ بقاء وجوب القضاء في الجملة قطعي فرضا أو وقوعا والشكّ إنّما هو في بقاء فوريّته الثابتة بدليل ظنّي المعارضة مع الأمر الموسّع بالأداء الثابت بدليل ظنّي أيضا ، وإذا تعارض فوريّة القضاء مع نفس الأمر الموسّع بالأداء الثابتين بالدليل الظنّي فتساقطا كان وجوب أصل القضاء ثابتا ، ويشكّ في أنّ المرتفع لأجل المعارض فوريّة القضاء أم وجوب الأداء ، فأصالة فساد العبادة يقتضي فساد الأداء للشكّ في الأمر به.

ص: 674


1- هكذا في الضوابط.
2- والإيراد ما أشار إليه بقوله : فإن قلت : في الصورة الثانية يحكم بفساد الموسّع إذا لم يكن مرجّح لأحد الطرفين إذ بعد التوقّف يرجع إلى الأصل وهو عدم صحّة الصلاة فيتمّ الثمرة. فأجاب : عنه بقوله : قلنا ذلك مسلّم إن سلّمنا بعد التعارض بقاء الأمر بالضدّ الآخر وشكّ في الفوريّة ولكن نحن نقول بعد التوقّف يحتمل ارتفاع الأمرين معا فلا يتمّ مطلوب فتأمّل. وحاصل الجواب : أنّ قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) إلى آخر ما قال. ( منه عفي عنه ).
3- الإسراء : 78.
4- هكذا في الضوابط.

وأمّا الأمر بالقضاء في الجملة فهو ثابت لاستصحاب الحال وقاعدة الاشتغال ، فثبت في الأمرين الظنّيين وجود الثمرة في مثل تلك الصورة وإن كان بضميمة أصالة الفساد.

نعم لو كان بعد التعارض أصل وجوب القضاء مشكوكا كأصل وجوب الأداء فلا يجري الثمرة. انتهى.

وهذا الإيراد وإن خصّ تقريره بالقول بأنّ الأمر يقتضي عدم الأمر بالضدّ ، غير أنّه جار في القول باقتضائه للنهي أيضا ، بل هو مصرّح به في ذيل كلام المورد حيث قال : « ثمّ إنّ الإيراد المذكور يرد أيضا على جعلهم ثمرة القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ الخاصّ هي فساد الضدّ إن قلنا : إنّ النهي يقتضي الفساد ، انتهى.

وجوابه يظهر بالتأمّل في جواب الإيراد السابق (1) ومحصّله : أنّ إجراء قواعد باب

ص: 675


1- وحاصل كلامنا في هذا الجواب : أنّ القطع والظنّ مرآتان للواقع ، ومحلّ الثمرة ما لو اجتمع الأمر المضيّق مع الأمر الموسّع في الواقع مع قطع النظر عن مرآتي القطع والظنّ ، فمدّعيها يقول بكون الأوّل لدلالته على النهي عن الضدّ مقيّدا للثاني بغير مورد الاجتماع ، فلا يفرق حينئذ بين كونهما بحسب الدليل قطعيّين كما لو قام إجماع على وجوب الإزالة فورا ووجوب الصلاة من الدلوك إلى غسق الليل ، فإنّ الأوّل بزعم مدّعي الثمرة كاشف عن كون المجمع عليه مقيّدا بغير صورة المزاحمة. أو ظنّيين كما لو ورد رواية ظنّي السند على وجوب الإزالة واخرى كذلك على وجوب الصلاة كما ذكر فإنّه يزعم كون الاولى كاشفة عن كون الثانية مقيّدة بغير صورة المزاحمة. أو الأوّل قطعيّا والثاني ظنّيّا كما لو قام إجماع على وجوب الإزالة فورا ورواية على وجوب الصلاة كما ذكر ، فإنّ الإجماع كاشف عن كون الرواية مقيّدة بغير صورة المزاحمة. أو الأوّل ظنّيّا والثاني قطعيّا كعكس المذكورة ، فإنّ الرواية حينئذ تكشف عن كون المجمع عليه مقيّدا بغير صورة المزاحمة ، وليس لأحد أن يقول : إنّ الدليل الظنّي لا مجال له في محلّ وجود الدليل العملي ، لجواز أن يكون مذهب مدّعي الثمرة في الظنّ كونه في درجة العلم في الحجّيّة من غير فرق بينهما ، كما يستفاد ذلك عن بعض الأعلام. وإن شئت بيانا أوضح من ذلك فافرض الكلام فيما لو قال السيّد لعبده : « اسقني ماء » ثمّ قال : « اشتر اللحم » أو عكس الأمر ، نظرا إلى فوريّة الأوّل وتوسعة الثاني بحسب العرف والعادة ، فإنّ الأوّل يكشف عن كون الثاني مقيّدا بغير صورة المزاحمة ، بمعنى عدم شمول الأمر بشراء اللحم للجزء من الزمان الّذي يقع فيه السقي ، ومثله ما لو صدر الأمر بالشراء من السيّد وبلغ أمره بالسقي بواسطة من لا يفيد قوله إلاّ الظنّ ممّن جعل السيّد قوله حجّة عليه ، فإنّ مدّعي الثمرة يجعله كاشفا ظنّيّا عن المراد بالأوّل ، غاية الأمر كون الفساد الّذي يقول به ظنّيّا لا قطعيّا. ومثل ما ذكر ما لو سمع المشافه من المعصوم يقول : « يجب إزالة النجاسة من المسجد » و « يجب الصلاة من الزوال إلى المغرب » فإنّ الأمر بالإزالة المضيّق لكونه نهيا عن الصلاة يكشف عن عدم شمول الأمر بها للزمان الّذي يقع فيها الإزالة ، بمعنى أنّ المعصوم إنّما أراد من هذا الأمر غير ذلك الزمان لئلاّ ينافي الحكمة ولا يلزم اللغو ( منه عفي عنه ).

التعارض في أمثال المقام ليس في محلّه ، فإنّ معقد البحث اتّفاق الأمر المضيّق مع الأمر الموسّع بحسب الواقع كائنا ما كان من غير نظر إلى قطعيّة دليله أو ظنيّته فيهما أو في أحدهما ، والثمرة المذكورة إنّما تترتّب على القول باقتضاء عدم الأمر أو اقتضاء النهي بزعم كون الثاني بحكم العقل مقيّدا بغير صورة الاجتماع وكون الأوّل حاكما عليه ، فلا تعارض بينهما بحسب الواقع حتّى يرجع إلى قواعد التعارض ، ولذا لا يقع التعارض بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من سائر أنواع النصّ والظاهر ، وما يرى بينهما من التنافي في ظاهر اللفظ فإنّما هو تناف بدويّ لا اعتداد به في مجرى تلك القواعد.

ولا فرق فيما ذكر بين العامّ والخاصّ والعامّين من وجه والمتبائنين إلاّ أنّه في الأوّل على طريق السلب الكلّي وفي الأخيرين على طريق السلب الجزئي ، فإنّ العامّين من وجه قد يرتفع التعارض عمّا بينهما بحسب الواقع بشاهد عقلي أو عرفي رافع للافتقار إلى النظر في الترجيح أو التعادل الموجب للتخيير أو التساقط أو التوقّف ، ولذلك ترى أنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على أدلّة سائر الأبواب من العبادات وأدلّة نفي الضرر حاكمة على أدلّة سائر الأبواب في المعاملات ، وأنّ الأدلّة المحظّرة حاكمة على الأدلّة المبيحة مطلقا ، وإن كان بينهما في كلّ من الصور عموم من وجه.

ومن القسم الأخير حكومة أدلّة تحريم الغناء على أدلّة إباحة قراءة القرآن واستحبابها مؤكّدا مع أنّ بينهما عموما من وجه.

والمتبائنين قد يختصّ في حكم العقل أو فهم العرف أحدهما ببعض الأفراد والآخر بالبعض الباقي.

ومن هذا الباب عدم المعارضة بحسب الواقع بين قوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » وبين قوله : « ثمن بول الحيوان سحت » وقوله : « لا بأس بثمن بول الحيوان » ومثله ما لو قال : « ثمن الخمر من السحت » و « لا ضير في ثمن الخمر » فإنّ الذهن بملاحظة الخطابين ينتقل في فهم العرف إلى اختصاص الأوّل بالعدول وغير مأكول اللحم واتّخاذ الخمر للشرب ونحوه من الانتفاعات الاخر ، واختصاص الثاني بالفسّاق ومأكول اللحم واتّخاذ الخمر للتخليل.

وبذلك يبطل ما أفاده بالنسبة إلى الآية والرواية اللتين بينهما عموم من وجه ، فإنّ الرواية على فرض إفادتها الفوريّة إذا كانت حاكمة في حكم العقل على الآية - كما هو المفروض -

ص: 676

فكيف يرجع إلى قواعد الترجيح والتعادل ليكون ردّا على من فرّع الفساد على أحد القولين المذكورين.

والأولى في ردّه منع إحدى الملازمات المذكورة سابقا لابتنائه على ثبوتها كما عرفت ، مع إشكال فيه أيضا ممّا أشرنا إليه في دفع الإيراد الأوّل من أنّ قضيّة التفريع واردة مورد الشرطيّة الّتي صدقها لا ينافي كذب شرطها ، فالاعتراض عليه بتكذيب الشرط غير متوجّه إليه في دعوى الشرطيّة الصادقة.

نعم لو وردت القضيّة مورد القضايا الحمليّة الّتي يراد منها الحكم التنجيزي مثل ما لو ذكرها الفقيه في مقام الفتوى لاتّجه الإيراد عليه كما صدر عن المحقّق الثاني - على ما حكي عنه - حيث أورد على العلاّمة في دعوى فساد العبادة مع مطالبة الدائن : « بأنّ ذلك إنّما يتمّ على القول بكون النهي عن العبادات موجبا للفساد ، وكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه الخاصّ ، والأوّل وإن كان مسلّما غير أنّ الثاني غير مسلّم ، فلا يمكن الحكم بفساد العبادات لعدم تعلّق النهي بها حين الأمر بأضدادها الحقيقيّة ، وإنّما تعلّق النهي بالضدّ العامّ وهو الترك ولا مدخل له في الأضداد الخاصّة حتّى يقال بفساد العبادة » إلى آخره.

فلا وقع لما أورد عليه أيضا : من أنّ النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه ، لأنّ المأمور به هو « الإزالة » مثلا سواء اتّفق الأمر بها في وقت العبادة أو غيره والمنهيّ عنه هو المخالف لها سواء كان عبادة أو غيرها ، فالصلاة مكان الإزالة مصداق له وغاية ما يلزم على تقدير الأمر بها والنهي عنها للأمر بالإزالة اجتماع الأمر والنهي وهو جايز فلا فساد فلا وجه للثمرة المذكورة ، فإنّها مذكورة على فرض جواز الاجتماع ، مضافا إلى فساده في أصله لمنع كون متعلّق النهي ما يخالف المأمور به بمفهومه الكلّي ، بل ولو سلّم كونه ملحوظا حين الأمر فإنّما لوحظ عنوانا وإلاّ فالمنهيّ عنه هو الخصوصيّات المندرجة تحته ، فيكون الصلاة نفس ما تعلّق به النهي لا مصداقه ، فلا يكون المقام من أفراد موضوع اجتماع الأمر والنهي الّذي يزعمه المورد جائزا حسبما يظهر من تقرير إيراده.

ومنها : ما حكاه بعض الأفاضل من أنّا إذا قلنا بدلالة الأمر على النهي عن ضدّه لا يلزمنا القول بفساد الضدّ ، إذ المطلوب هو ترك الضدّ الموصل إلى الواجب دون غيره ، والإتيان بالضدّ إنّما يكون مع حصول الصارف عن المأمور به فلا يكون تركه موصلا حتّى يحرم فعله ويتفرّع عليه فساده.

ص: 677

فأجاب عنه : بما أبطلنا به مأخذ هذا الكلام من كون العبرة في وجوب المقدّمة بالمقدّمة الموصلة ، من حيث إنّ المطلوب في المقام ترك الضدّ من حيث كونه موصلا إلى الواجب لا خصوص ترك الضدّ الموصل ، وفرق ظاهر بين الوجهين وقضيّة الوجه الأوّل هو تحريم فعل الضدّ وإن لم يوصل.

في الترتّب

ومنها : ما أورده ذلك الفاضل : من عدم إفادة النهي المذكور فساد الضدّ ، نظرا إلى عدم اقتضاء النهي الغيري المتعلّق بالعبادات الفساد مطلقا بل فيه تفصيل ، إلى آخره.

ومحصّل ذلك التفصيل - حسبما يستفاد عن ذيل كلامه - : الفرق بين ما لو كان الصارف عن المأمور به إرادة الضدّ وما لو كان الصارف أمرا آخر غير الإرادة.

فعلى الأوّل يتمّ تفريع الفساد على القول باقتضاء النهي ، تعليلا بلزوم اجتماع الوجوب والحرمة حينئذ في الإرادة المتعلّقة بالضدّ ، فإنّها محرّمة من جهة صرفه عن المأمور به الأهمّ وواجبة من جهة توقّف الواجب عليها وهو الضدّ الغير الأهمّ ، ولا يمكن القول بكونها مقدّمة للوجوب لأدائه إلى توقّف وجوب الشيء على وجوده ، فإنّ الإرادة المذكورة من حيث إنّ المراد بها الإجماع على الفعل إمّا سبب قاض بحصول الفعل أو جزء أخير من علّته التامّة ، وكائنا ما كان فاشتراط الوجوب بها يستلزم المحذور.

وعلى الثاني يبطل التفريع ويتّجه القول بالصحّة ، تعليلا بأنّ النهي إنّما يدلّ على الفساد بالالتزام لا من جهة وضعه له حيث إنّه لم يوضع إلاّ للتحريم أو طلب الترك مطلقا ، ودلالته عليه التزاما إمّا من جهة إفادته المرجوحيّة المنافية للرجحان المعتبر في حقيقة العبادة ، أو من جهة امتناع طلب الفعل مع فرض طلب الترك لكونه من التكليف بالمحال ولا يجري في المقام شيء من الوجهين.

أمّا الأوّل : فلأنّ الرجحان المعتبر في حقيقة العبادة هو رجحان الفعل على الترك لا رجحانه على سائر الأفعال ، ورجحان الفعل على الوجه المذكور حاصل في المقام لكونه عبادة راجحة بملاحظة ذاته ، وما تعلّق به من النهي غيريّ لمطلوبيّة تركه لأجل الاشتغال بما هو أهمّ منه ، فيدلّ على مرجوحيّة الفعل بالنسبة إلى فعل آخر لا مرجوحيّته بالنظر إلى تركه.

ومن البيّن أنّه لا منافاة بين رجحان الفعل على تركه ومرجوحيّته بالنسبة إلى فعل آخر غيره.

وأمّا الثاني : فلأنّ النهي المفروض لكونه غيريّا لا مانع من اجتماعه مع الوجوب ، لأنّ حرمة الشيء لتوقّف الواجب الأهمّ على تركه لا ينافي وجوبه - على فرض ترك ذلك

ص: 678

الأهمّ - بكون تركه شرطا في وجوبه ، فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما ، فلا مجال حينئذ لتوهّم دلالة النهي المفروض على الفساد.

وبذلك ظهر أنّه لا مانع من تعلّق التكليف بالمتضادّين على الوجه المذكور وليس من قبيل التكليف بالمحال ، لأنّه إنّما يكون كذلك إذا كانا في مرتبة واحدة بأن يكون المطلوب إيقاعهما معا ، وأمّا إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب بأن يكون المطلوب أوّلا إيقاع الأهمّ ويكون الثاني مطلوبا على فرض عصيانه للأوّل بعدم إيقاعه فلا ، لكون تكليفه بالثاني منوطا بعصيانه للأوّل ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان فلا منافاة بين التكليفين لاختلافهما في الترتيب وعدم اجتماعهما في مرتبة واحدة ، لوضوح عدم تحقّق الثاني في مرتبة الأوّل ، وتحقّق الأوّل في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مبنيّا على عصيان الأوّل ، ولا بين الفعلين إذ وقوع كلّ منهما على فرض إخلاء الزمان عن الآخر.

ومن البيّن أنّه على فرض خلوّ الزمان عن الآخر لا مانع من وقوع ضدّه فيه. هذا محصّل كلامه نقلناه بالمعنى.

وأنت خبير بوضوح وهنه ووروده على خلاف التحقيق ، إذ فرق واضح بين مرجوحيّة الشيء بالإضافة إلى الغير ومرجوحيّته للغير ، فإنّ الأوّل ليس وصفا خارجا عن صفة الشيء طارئا عليه بالعرض بل هو أمر ينتزع عن ضعف صفته الكامنة فيه بالقياس إلى صفة غيره وكونها فيه أقلّ منها في غيره ، وهو لا يقتضي نهيا لعدم كونه مرجوحيّة في الفعل بالقياس إلى تركه وإلاّ لكان جميع العبادات الّتي أقلّ رجحانا بالقياس إلى غيرها محرّمة وهو بديهي البطلان ، بخلاف الثاني فإنّه وصف خارج عن صفة الشيء طار عليه بالعرض موجب لرجحان الترك على الفعل ولو للغير ، كما أنّ رجحان الفعل على الترك للغير يوجب مرجوحيّة الترك بالنسبة إلى الفعل للغير كما في مقدّمات الواجب ، فيكون ممّا يقتضي النهي عن الفعل.

ولا ريب أنّ المرجوحيّة المفروضة في المقام من هذا القبيل وإلاّ لما كان منهيّا عنه وهو خلاف الفرض ، كما لا ريب في أنّ النهي الغيري كالنهي النفسي ممّا يقتضي الامتثال بالترك ، فالأمر المفروض معه المقتضي للصحّة إمّا أمر مطلق فعلي أو أمر مشروط تعليقي ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه أمر نفسي اجتمع مع النهي الغيري وكلّ منهما يقتضي الامتثال مطلقا في زمان واحد وهو ممتنع جزما ، فيقبح في حكم العقل على الحكيم العدل أن يحمل

ص: 679

المكلّف عليه ، فلابدّ من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، فلو فرض الثاني ثابتا كان عدولا عن القول باقتضاء الأمر للنهي ، ولو فرض الأوّل ثابتا كانت الثمرة حاصلة.

ولو قيل : بأنّه امتناع بالاختيار ، قلنا : بأنّه كالامتناع بغير الاختيار ينافي الاختيار عقلا في كلّ من الخطاب والعقاب ، والقول بعدم منافاته للاختيار فيهما أو في أحدهما خلاف التحقيق. كما قدّمنا تحقيقه في بحث المقدّمة ، بل كون ذلك الأمر مطلقا ممّا لا يرضى به الفاضل المعترض أيضا ، كما صرّح به في تعليل انتفاء ثاني الوجهين اللذين ذكرهما في توجيه دلالة النهي على الفساد التزاما.

فإن قلت : إنّما يلزم المحذور على تقدير افتقار الضدّ إلى أمر مخصوص موقوف على تصوّره بالخصوص ، وهو على تقدير كون النزاع في الضدّ الموسّع والمأمور به المضيّق ممنوع ، لأنّ الضدّ المأمور به حينئذ إنّما هو الكلّي والأمر به كاف في الأمر بأفراده بالخصوص. ولا يفتقر كلّ فرد حينئذ إلى أمر بالخصوص.

ولا ريب أنّ الّذي يضادّ المأمور به المضيّق فرد من ذلك الكلّي لا نفس الكلّي وهو لا يفتقر إلى أمر آخر غير الأمر بالكلّي ليلزم المحذور ، نظير ما ذكرته في المضيّقين المتزاحمين إذا كان الأمر بكلّ منهما ضمنيّا.

قلت : إنّما ينفع ذلك إذا كنّا بصدد إحراز المقتضي ، ومقصودنا دعوى المانع عن شمول الأمر بالكلّي لذلك الفرد ، إذ المفروض تعلّق الأمر الصريح به فيجب في حكم العقل على الحكيم العدل أن يريد من خطابه امتثال الأمر بالكلّي في ضمن غير هذا الفرد ليتمكّن عن امتثال النهي المتعلّق به ، وهذا ليس نظير ما ذكرناه في المضيّقين إذ لا نهي هنا ليكون مانعا عن امتثال الأمر بكلّ منهما.

نعم امتثال أمر كلّ وإن كان مانعا عن امتثال أمر الآخر ، غير أنّه لا يوجب إلاّ ثبوت التخيير بينهما حسبما قرّرناه ، وهو غير ممكن في محلّ البحث وإلاّ لزم التخيير بين فعل الواجب وتركه كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلأنّه يقضي بكون الخطاب مستعملا في المشروط والمطلق معا ، إذ المفروض كون الأمر بالقياس إلى غير مورد الاجتماع مطلقا.

سلّمنا أنّ المراد به حينئذ القدر المشترك بينهما والخصوصيّتان تفهمان من الخارج ولا مجاز فيه على ما يراه المعترض من كون الأمر للقدر المشترك بين المطلق والمشروط ،

ص: 680

ولكن نقول : إنّ الأمر بغير الأهمّ إذا كان مشروطا بعصيان الأمر بالأهمّ فلا يخلو إمّا أن يكون الأمر بذلك الأهمّ باقيا عند الإتيان بغير الأهمّ أو مرتفعا ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلاشتراط التكليف في بقائه بالإمكان كحدوثه ولا ريب أنّ الأهمّ يمتنع عند الاشتغال بغيره ، وكونه امتناعا بالاختيار لا يجدي كما عرفت.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن محلّ البحث ، لأنّ الكلام في فساد الضدّ من جهة النهي المتعلّق به وارتفاع الأمر عن الأهمّ يوجب ارتفاع النهي عن الضدّ لكونه تابعا له متفرّعا عليه ، والتابع لا يبقى بدون المتبوع ، وصحّة الضدّ على تقدير عدم النهي عنه ممّا لا ينكره أحد.

مضافا إلى أنّه لا يعقل كون شرط الوجوب هو المعصية بالأهمّ ، لأنّها تقارن الإتيان بغير الأهمّ من حيث الوجود ، نظرا إلى أنّ محلّ البحث ما لو وقع الضدّ في الزمان المضروب للمأمور به حسبما اقتضاه فوريّة الأمر به ، وظاهر أنّ حصول المعصية بترك الواجب فرع انقضاء وقت ذلك الواجب بتمامه أو بما لا يبقى بعده إلاّ ما لا يسعه خاليا عن الإتيان به من غير عذر ، ومجرّد العزم عليها وإن كان بنفسه معصية غير أنّها ليست بتلك المعصية الّتي فرضت شرطا للوجوب ، فيلزم وجوب الشيء بعد وجوده وهو كما ترى.

وكأنّه رحمه اللّه تفطّن بهذا المعنى حيث أورد على نفسه بما محصّله : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ على تقدير كون ترك الأهمّ الّذي هو مقدّمة لفعل غير الأهمّ مقدّما على الفعل ، لتعلّق الوجوب حينئذ بعد تحقّق شرطه.

وأمّا على تقدير مقارنته لحصول الفعل كما هو الحال في محلّ المقال فلا ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه فلا يكون صدوره عن المكلّف على وجه الصحّة.

فأجاب عنه : بأنّ ذلك إنّما يتّجه على القول بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود ، وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط.

وأمّا على القول بجواز ذلك - كما هو الحال في الإجازة المتأخّرة الكاشفة عن صحّة الفضولي ، وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة في الصلاة على الأجزاء المتأخّرة منها - فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ منه الإتيان بالفعل.

ص: 681

ونظير هذا الكلام ما صدر عن المحقّق الثاني في دفع اعتراض من يرى الإجازة ناقلة على القول بالكشف بلزومه حصول المشروط قبل حصول الشرط وتأخّر الشرط عنه وهو محال ، من منع عدم جواز ذلك ووقوعه في الشرعيّات كثيرا ، وكأنّ نظره في ذلك إلى التقابض الّذي هو شرط في الصرف ، والقبض الّذي هو شرط في السلم والهبة ونحو ذلك حيث إنّ الشرط متأخّر فيها عن العقد.

وأنت خبير بفساد ذلك : فإنّ القاضي بامتناع تقدّم المشروط على الشرط إنّما هو العقل ، بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها فكيف يسوّغ أن يحصل في الشرع ما يخالف ذلك ، وما ذكر من الموارد ليس من هذا الباب ، لعدم كون المشروط هو العقد بل صحّته وتأثيره ، وكلّ من الامور المذكورة جزء للسبب من جهة كونه شرطا للمسبّب ، ولا نسلّم أنّ الصحّة تحصل من حين العقد بل تحصل من حين تحقّق الامور المذكورة والعقد متأهّل ، لها فلا يلزم تحقّق المشروط قبل تحقّق الشرط.

ومن هنا تبيّن بطلان ما ذكره الفاضل من تنظير المقام على أجزاء الصلاة ، فإنّ الأجزاء السابقة قبل لحوق الأجزاء اللاحقة ليس لها إلاّ الصحّة التأهّليّة ولحوق الأجزاء المتأخّرة شرط للصحّة الفعليّة وهي تقارن حصول الشرط لا أنّها متقدّمة عليه.

وأمّا عدّ إجازة الفضولي من هذا الباب فهو أوضح فسادا من ذلك ، لأنّ الّذي يراها كاشفة - كما هو الأقوى - لا يجعلها بنفسها شرطا حتّى ينهض شاهدا ، بل يجعل الشرط تعقّب العقد بالإجازة وكونه سيرضى به المالك.

ولا ريب أنّه وصف مقارن للعقد وإن تأخّر الإجازة في حصولها بكثير ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون للإجازة مدخل حتّى لا يترتّب على اعتبارها فائدة ، لابتناء الإضافة المعتبرة في الشرط - نظرا إلى كونه أمرا إضافيّا - على حصولها ، وإلاّ لما صدق على العقد أنّه متعقّب بالإجازة.

فقوله : « إذا تيقّن المكلّف إلى آخره » ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ العلم بحصول الشرط في الزمن المتأخّر لا يوجب تقدّم المشروط عليه بحسب الوجود ، لعدم كونه شرطا ولا دخيلا في التأثير ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرناه من دعوى كون الشرط هو الأمر الإضافي دون المضاف إليه ، وهو كون المكلّف ممّن يحصل منه المعصية أو يقطع بحصولها منه ، فحينئذ يتعلّق به الوجوب قبل حصولها لحصول شرطه ، غير أنّه - مع كونه عدولا عمّا جعله شرطا

ص: 682

في أوّل الوحلة وهو نفس المعصية - تكلّف بلا دليل ودعوى بلا شاهد.

ولا يصلح دليلا عليه ما أفاده بقوله : « ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل ، فإنّ إطلاق كلّ من الأمرين يقضي بمطلوبيّة الفعل على [ سبيل ] الإطلاق ولمّا لم يمكن مطلوبيّة غير الأهمّ في مرتبة الأهمّ - لوضوح تعيّن الإتيان بالأهمّ ، وعدم اجتماعه معه في الوجود - لزم تقييد الأمر المتعلّق بغير الأهمّ بذلك ، فلا يكون غير الأهمّ مطلوبا مع الإتيان بالأهمّ.

وأمّا عدم مطلوبيّته على فرض ترك الأهمّ وعصيان الأمر المتعلّق به فممّا لا دليل عليه ، فلا قاضي بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه أيضا.

والحاصل : أنّه لابدّ من الاقتصار في التقييد على القدر الثابت ، وليس ذلك إلاّ بالتزام ارتفاع الطلب المتعلّق بغير الأهمّ على تقدير إتيانه بالأهمّ.

وأمّا القول بتقييد الطلب المتعلّق به بمجرّد معارضته لطلب الأهمّ مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عن الإتيان به فممّا لا داعي إليه ، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يقتضي ذلك ، فلابدّ فيه من البناء على الإطلاق والاقتصار في الخروج على القدر اللازم. انتهى.

ولا ريب أنّ ذلك لا يتمشّى في محلّ البحث وهو الأمر المضيّق مع الضدّ الموسّع ، إمّا لاختصاص النزاع به أو لاختصاص ظهور الثمرة المذكورة به كما يعترف به كلّ من لا يقول باختصاص النزاع ، فإنّ تقييد الأمر بالضدّ على القول بكونه منهيّا عنه لو لم يكن من جهة النهي المجامع معه الموجب لاندراجه في اجتماع الأمر والنهي الغير الجائز ، فلابدّ وأن يكون من جهة لزوم الأمر بالمتضادّين في زمان واحد ، نظرا إلى عدم إمكان الجمع بينهما في الامتثال ، وهو إنّما يسلّم فيما لا مندوحة للمكلّف ولا مناص له من الجمع بينهما في زمان واحد ، كما لو كان الأمر بهما تعيينيّا بمعنى كونه في كلّ منهما مضيّقا.

وأمّا في غيره كما لو كان الأمر بأحدهما تعيينيّا وفي الآخر تخييريّا فلا ، لتمكّنه عن امتثالهما معا على نحو التفريق ، بأن يأتي أوّلا بما وجب عينا عملا بعينيّة الأمر به ثمّ بالآخر عملا بتخييريّة الأمر به ، ولا يلزم بذلك تقييد في الأمر الثاني بالنسبة إلى الفرد المعارض للأوّل لعدم كونه بعينه مأمورا به ، بل إنّما كان موجبا للامتثال على تقدير الإتيان به من جهة كونه فردا من المأمور به الكلّي ، ولا ريب أنّ شمول الأمر له من هذه الجهة مع الفرد الآخر المأتيّ به الموجب للامتثال أيضا شمول بدلي ، بمعنى عدم كون كلّ منهما

ص: 683

مأمورا به بعينه ولا عدم اندراج شيء منهما في المأمور به بل كلّ منهما مشمول للأمر وموجب لامتثال الأمر بالكلّي على تقدير عدم حصول الآخر ، لئلاّ يلزم لزوم الامتثال عقيب الامتثال ، فعدم إفادة كلّ منهما للامتثال على تقدير حصول الآخر ليس من جهة عدم شمول الأمر له بالمرّة حتّى يكون من باب التقييد ، بل من جهة ارتفاع الأمر بالكلّي بسبب حصول امتثاله في ضمن الفرد المأتيّ به.

فحينئذ لو اختار الامتثال بالكلّي بعد الامتثال بالآخر المعيّن خرج عن عهدة الأمرين معا من دون خلاف ظاهر في الخطاب ، ولو اختار الامتثال به قبل الامتثال بالآخر خرج عن عهدة الأمر به أيضا ، وإن عصى بالنسبة إلى الأمر الآخر ، ولا يلزم في حكم العقل قبح على الآمر الحكيم ليوجب تقييدا في الخطاب على أحد الوجهين ، لعدم حصره مناص المكلّف فيما أتى به ليكون صحّته مشروطة بالعصيان المفروض ، ولا في نظر العرف تصرّف في الخطاب مناف للظاهر ، كما أنّه لا يلزم شيء من ذلك لو عصى بترك المعيّن في زمانه المضروب له ثمّ أتى في الزمان المتأخّر بالكلّي في ضمن غير الفرد الأوّل ، فكما أنّه يوجب الامتثال لكونه فردا من الكلّي المأمور به فكذلك الفرد الأوّل يوجبه لأجل ذلك ، من غير لزوم محذور موجب للتأويل في ظاهر الخطاب بجعل الأمر بالنسبة إليه مشروطا.

نعم هذا الكلام له وجه على بعض الوجوه في الضدّين المأمور بهما تعيينا مع كون أحدهما أهمّ في نظر الشارع بالقياس إلى الآخر ، فحينئذ يقال : لا يمكن الامتثال بهما عينا ولا تخييرا ، إذ لا معنى للأمر بغير الأهمّ في مرتبة الأهمّ ، فلابدّ أن يكون الأمر بالأوّل تعيينيّا مع كونه مطلقا وبالثاني تعيينيّا مع كونه مشروطا معلّقا على عدم حصول الامتثال بالأوّل من جهة العصيان أو عدم الإمكان.

ومن البيّن أنّ بينه وبين محلّ الكلام فرق واضح بيّن كرابعة النهار ، ومع الغضّ عن ذلك نقول : بأنّ المراد باشتراط الأمر إن كان اشتراطه بحسب المعنى وهو توقيف الطلب وتعليقه على العصيان.

ففيه : أنّه لا يعقل إلاّ مع الجهل بحصول المعلّق عليه وهو على العالم بالعواقب ممّا لا يعقل ، فدعوى : أنّ التقييد بهذا المعنى ممّا يحكم به العقل افتراء على العقل ، كيف وأنّ الشرط إمّا أن يكون في معرض الحصول فيعلم به العالم بالعاقبة قطعا فيحسن منه الطلب المطلق الفعلي ولو قبل حصول الشرط حسبما قدّمنا تحقيقه في بحث المقدّمة ، وإمّا أن

ص: 684

يكون في معرض عدم الحصول فيعلم به العالم بالعاقبة ولا يحسن منه الطلب ولو مشروطا ، ومعه فأيّ صورة يبقى في المقام حتّى يحكم العقل فيها بالطلب المشروط ، وإن كان اشتراطه في ظاهر الخطاب فهو وإن كان ممّا لا يقتضي محذورا بعد تأويله إلى ما لا ينافي الإطلاق كما في سائر الخطابات المعلّقة بظاهرها ولكنّه لا يجدي نفعا في حصول غرض الفاضل المعترض.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول أيضا : إنّ الأمر في المقام دائر بين تقييد الأمر حسبما ذكره الفاضل أو تقييد المأمور به حسبما ادّعاه غيره ممّن يفسد العبادات المضادّة للمأمور به المضيّق ، والثاني هو الأولى والموافق للأصل من غير فرق بين كون دليل الضدّ لفظيّا أو لبيّا.

أمّا الأوّل : فلما مرّ تحقيقه في بحث المقدّمة.

وأمّا الثاني : فلكونه من مقتضى أصالة البراءة ، فإنّ بناء كلام الفاضل على ثبوت التكليف بالضدّ في زمان عصيان المأمور به المضيّق وبناء كلام الآخرين على انتفائه ، فيكون الشكّ المفروض في المقام على تقديره شكّا في التكليف ولا ريب أنّه من مجاري أصل البراءة ولا يعارضه شيء آخر من الاصول.

ثمّ إنّ من العجب أنّ هذا الفاضل فرّق بين فعل غير الأهمّ وإرادة فعله ، فجوّز اجتماع الوجوب والحرمة في الأوّل دون الثاني ، ولذا صار في الحكم بفساد الضدّ وعدمه إلى التفصيل حسبما تقدّم ، مع أنّ الثاني أولى بجواز اجتماعهما فيه من جهة عدم استلزام مخالفة شيء منهما عقابا ولا استحقاقا له. لكون كلّ منهما غيريّا ، وقد سبق تحقيقه في بحث المقدّمة أنّ الوجوب الغيري لا يوجب شيئا من ذلك ، ومثله التحريم الغيري من غير فرق كما لا يخفى ، بخلاف الأوّل فإنّ وجوبه نفسي يوجب مخالفته العقاب واستحقاقه فيقبح على الحكيم أن يعاقب عليها إذا حصلت لموافقة التحريم وطلبه للترك مقدّمة وإن لم يحصل معه ذو المقدّمة.

وأعجب من ذلك أنّه فرّق في ذلك أيضا بين ترك الأهمّ وفعل غير الأهمّ فجوّز اجتماعهما فيه ومنعه في الأوّل ، حيث أورد في أثناء كلامه على نفسه بقوله : فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما كما مرّ الكلام فيه ، كيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذن في الحرام ، فيلزم حينئذ أحد أمرين من اجتماع الوجوب

ص: 685

والحرمة في المقدّمة المفروضة ، أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذي المقدّمة ، ولا ريب في فساد الأمرين. فأجاب عنه بقوله : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب بغير الأهمّ على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به.

في ثمرات مسألة الضدّ

ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من توقّف وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها أيضا. انتهى.

ولا يخفى ما في أطراف كلامه من التدافع ، فإنّ المقامين لا فرق بينهما إلاّ في كون الوجوب في الأوّل غيريّا والتحريم نفسيّا وكونهما في الثاني بالعكس ، وهو لا يوجب فرقا في الحكم أصلا.

فإن قلت : لعلّه في الثاني حيثما يثبت الوجوب بحصول شرطه وهو العصيان لا يقول بالتحريم حتّى يتوجّه إليه ما ذكر.

قلت : مع أنّه ينافيه تصريحه سابقا بعدم المانع عن اجتماعهما بقوله : « فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما » ينافيه مذهبه في مقدّمة الواجب من عدم انحصار وجوبها في المقدّمة الموصلة كما صرّح به أيضا هنا فيما نقلنا عنه في دفع الإيراد السابق على إيراده.

وبالجملة كلامه من البداية إلى النهاية مختلّ النظام لاشتماله على تدافعات وحزازات وتكلّفات.

ومنها : ما يستفاد عن كلام بعض الأعلام من أنّ النهي الثابت هنا تبعي وهو ليس ممّا يثمر ، تعليلا بأنّ ترك الضدّ من مقدّمات المأمور به ووجوب تركه تبعي والوجوب التبعي لا يفيد إلاّ أنّ ترك الضدّ مطلوب الآمر تبعا ، بمعنى أنّ المقصود بالذات هو الإتيان بالمأمور به وطلب ترك الضدّ إنّما هو لأجل الوصول إليه ، فلا يثبت بذلك عقاب على ترك الترك - بمعنى فعل - فلا يثبت الفساد.

وجوابه : يظهر ممّا مرّ ، ومحصّله : أنّ النهي كائنا ما كان يقتضي لزوم الامتثال وإلاّ لما كان نهيا ، والوجوب المجامع معه أيضا يقتضي الامتثال ، والجمع بين ترك الشيء وفعله غير ممكن عقلا فيجب في حكمة الحكيم أن يخرج الفرد من المأمور به حيثما ينهى عنه - ولو للغير - عن تحته لئلاّ يكون حاملا للمكلّف على الممتنع بالذات ، وهذا معنى اقتضاء النهي

ص: 686

الاستدلال على نفي اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه الخاصّ

لنا على عدم الاقتضاء في الخاصّ لفظا : أنّه لو دلّ لكانت واحدة من الثلاث ، وكلّها منتفية *.

__________________

للفساد ، ولا ملازمة بينه وبين استحقاق العقاب حتّى يلزم من انتفائه انتفاؤه.

وبالجملة لا مجال إلى إنكار كون فساد الضدّ متفرّعا على نهيه إن كان من العبادات على القول بدلالة النهي فيها على الفساد كما هو الراجح في النظر ، بل ربّما ينفى الإشكال عنه ، بل يقال : بظهور عدم كونه محلاّ للخلاف بين العلماء.

فالمسألة إجماعيّة على طريقة الإجماع المركّب ، فكلّ من قال بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ قال بفساد الضدّ ، وكلّ من لم يقل بفساده لم يقل بالدلالة على النهي ، فلذا ترى أنّ بعض الفقهاء حيث منع عن فساد الضدّ منعه باعتبار إنكار الصغرى وهي الدلالة على النهي وإلاّ فالكبرى مسلّمة عند الكلّ ، بل هو ممّا عزي إلى قاطبة القدماء من الفقهاء ، حيث إنّ في المعتبر نسبه إلى المشايخ الثلاثة الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيّد المرتضى وأتباعهم مثل السلاّر وابن زهرة والحلبي والحلّي وغيرهم إلى يحيى بن سعيد ، فإنّهم في مسألة المضايقة والمواسعة أطبقوا على بطلان الحاضرة في أوّل الوقت ممّن عليه قضاء الفائتة استنادا إلى فوريّة أوامر القضاء بل الأخبار الّتي تمسّكوا بها عليه صريحة في كونه لأجل تضيّق الفائتة فيجب تقديمها على الحاضرة.

ومن هنا ترى أنّ القائلين بعدم البطلان يمنعون عن فوريّة الأوامر تعليلا بأنّه لو صحّ ذلك للزم حرمة اكثر المباحات ، واللازم باطل بالضرورة الواضحة والسيرة القاطعة ، فإنّه كما ترى صريح في مسالمة الملازمة لاختصاص منعهم بالاستناد إلى منع اللازم ، بل كثيرا مّا ترى عن بعضهم ما وقع من دعوى الإجماع على ذلك كابن إدريس في مسألة بطلان الصلاة أوّل الوقت ممّن عليه دين مع مطالبة الغريم أو خمس أو زكاة ، فحكم بالبطلان مستدلاّ بأنّ كلّ شيء يمنع عن الواجب المضيّق فهو قبيح.

والحاصل لم نجد من العلماء من قال بالنهي فيما نحن فيه وهو قائل بعدم الفساد عدا الشيخ في كشف الغطاء. انتهى.

* احتجاج على نفي الدلالة اللفظيّة ردّا على من يزعمها ومعلوم أنّها غير خالية عن الأقسام الثلاث المذكورة.

ص: 687

أمّا المطابقة ، فلأنّ مفاد الأمر لغة وعرفا هو الوجوب * ، على ما سبق تحقيقه.

__________________

وحاصل الدليل : أنّه لو فهم من الأمر بالشيء النهي عن ضدّه فإمّا أن يفهم بعنوان أنّه تمام مدلول الأمر ، أو بعنوان أنّه جزء مدلوله ، أو بعنوان أنّه لازم لمدلوله ، والكلّ باطل.

وقد عرفت سابقا أنّ هذا الخلاف واقع في الملازمة بين إيجاب الشيء وتحريم ضدّه ، وإيجاب الشيء وإن لم يكن منحصرا فيما يستفاد من الأمر اللفظي غير أنّ نفي الملازمة بالنسبة إليه يقضي بنفيها بالنسبة إلى غيره ، وهذه الحجّة وإن كانت لا يجري في جميع موارد الدعوى إلاّ أنّ الحجّة الآتية في نفي الالتزام المعنوي جارية في الموارد.

* وفي التعبير عن مفاد « الأمر » بالوجوب دون الإيجاب مسامحة أو وجه اعتباري لا يساعده التحقيق وقد تقدّم بيان الكلّ في بحث الصيغة ، ولكن جعله مفادا للأمر على وجه المطابقة مع عدم انحصاره فيه مبنيّ إمّا على وضع الصيغة للإيجاب بانفراده زيادة على وضعها للإسناد ، أو على ما أشرنا إليه في بحث الصيغة من احتمال تفسير الإيجاب بإسناد الفعل إلى فاعل معيّن من حيث كونه مطلوبا على وجه الحتم والإلزام ، أو جعل الإيجاب بمعنى طلب الفعل حتما أو مع عدم الرضا بالترك بحيث يتضمّن النسبة الفاعليّة أيضا.

بدعوى : أنّ الواضع وإن لاحظ الطلب الحتمي ووضع الصيغة بإزائه ، غير أنّه لكونه أمرا نسبيّا يقتضي مطلوبا منه وهو المنسوب إليه الحدث المطلوب ، كما أنّه يقتضي طالبا فيكون الموضوع له متضمّنا للنسبة الفاعليّة ، كما أنّه متضمّن للنسبة الطلبيّة ، وذلك يتصوّر على وجهين :

أحدهما : كون الموضوع له هو الطلب المقيّد بهاتين النسبتين على وجه يكون القيد خارجا ، فيكون دلالة الصيغة عليه بيّنا بالمعنى الأخصّ.

وثانيهما : كونه مجموع المقيّد والقيدين معا أو أحدهما مع خروج الآخر ولزومه بيّنا ، وكلام القوم خال عن تنقيح هذا المطلب وإن كان يمكن استفادة الأوّل من كلام الجمهور حيث يصرّحون بكون مدلول الصيغة هو الوجوب أو الإيجاب ، وهو أمر بسيط ليس المنع من الترك جزءا له بل هو ممّا يلزمه بعد التحليل العقلي ، فتأمّل.

وكيف كان فأقرب الوجوه الثلاث هو الوجه الأخير ، وربّما يومئ بعض عبارات بعض الأعلام إلى دعوى الأوّل ، حيث يفرّق بين النسبة الطلبيّة والنسبة الفاعليّة ، بدعوى : كون

ص: 688

وحقيقة الوجوب ليست إلاّ رجحان الفعل مع المنع من الترك *. وليس هذا معنى النهي عن الضدّ الخاصّ ضرورة **.

وأمّا التضمّن ، فلأنّ جزءه هو المنع من الترك. ولا ريب في مغايرته للأضداد الوجوديّة المعبّر عنها بالخاصّ.

وأمّا الالتزام ، فلأنّ شرطها اللّزوم العقليّ أو العرفيّ. ونحن نقطع بأنّ تصوّر معنى صيغة الأمر لا يحصل منه الانتقال إلى تصوّر الضدّ الخاصّ ، فضلا عن النهي عنه.

ولنا على انتفائه معنى : ما سنبيّنه ، من ضعف متمسك مثبتيه *** ، وعدم قيام دليل صالح سواه عليه.

__________________

الاستدلال على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ

الأوّل مدلولا للصيغة من باب الوضع العامّ مع الموضوع له العامّ والثاني مدلولا لها من باب المداليل الحرفيّة ، والوجه في ذلك أنّ الجمع بين هذين الوجهين غير ممكن بوضع واحد ، ولكنّه كما ترى أبعد الاحتمالات ولا أظنّ من الاصوليّين من ظنّه وصار إليه.

* ولا يخفى ما فيه وفيما سيأتي من بيان ماهيّة الوجوب من المسامحة ، فإنّ الوجوب بمعنى الإيجاب وصف للآمر مأخوذ فيه الطلب جنسا له والرجحان وصف في الفعل المأمور به ، وهو من لوازم الطلب والعلل الداعية إليه ، وكذلك لو جعلناه بالمعنى الراجع إلى الفعل فإنّه أيضا وصف آخر للفعل مبائن لوصف الرجحان مبائنة المعلول لعلّته والمسبّب لسببه ، وكأنّه أراد به تفسير الوجوب بما هو لازم له ولكنّه لا يلائمه تصريحه الآتي بكونه كالمنع من الترك جزءا للماهيّة ، وكيف كان فلا يخلو العبارة عن نوع حزازة ولكن الخطب فيه سهل.

** لأنّ معناه طلب ترك الضدّ مع المنع عن فعله ، وهذا يبائن المعنى الأوّل جنسا وفصلا كما يشهد به الضرورة.

*** إذ ليس لهم سوى وجوب المقدّمة واستلزام تحريم اللازم لتحريم الملزوم ، وكلاهما ممنوعان.

وقد يورد عليه : بأنّ ضعف متمسّك القوم وعدم وجدان دليل آخر عليه لا يدلّ على انتفائه.

أقصى الأمر قضاء ذلك بالوقف فكيف يجعل ذلك دليلا على عدم الاستلزام.

ص: 689

ولنا على الاقتضاء في العامّ بمعنى الترك : ما علم من أنّ ماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين * (1) ، أحدهما المنع من الترك. فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي عن الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

__________________

وأنت بالتأمّل فيما قدّمناه في تأسيس الأصل تقدر على دفع ذلك ، فإنّ دليل عدم الاستلزام حقيقة هو الأدلّة القاضية بإباحة الضدّ بالمعنى الأعمّ ، وظاهر أنّ دليل الخصم لو كان إنّما يرد مورد دعوى التخصيص أو التقييد ، والمفروض انحصاره في الوجهين المذكورين على حسب الظاهر ، فإذا تبيّن ضعفه وقصور دلالته تبقى الأدلّة الأوّلية القاضية بالاباحة سليمة عن المعارض ولو بضميمة الأصل.

* واعترض عليه بعض المحقّقين : بأنّ تركّب معنى الوجوب من أمرين - على تقدير تسليمه - لا يستلزم تضمّن الأمر لهما ، فإنّ الوجوب حكم من أحكام المأمور به وليس مفهومه عين مفهوم الأمر ، بل الحقّ استلزام الأمر بالشيء النهي عن تركه لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ.

ومثله ما في كلام بعض الأعاظم من أنّ ذلك لو سلّم لا يستلزم المدّعى ، لكون الأمر حقيقة في الطلب الحتمي ولا تركيب فيه ، وعدّ الوجوب مدلولا للأمر في كلماتهم لو أرادوا منه ذلك مسامحة ، والمنع من الترك كترتّب العقاب خارجان عن مدلول الصيغة لغة وعرفا وشرعا.

وما في كلام بعض الأعلام من أنّ المنع من الترك ليس جزء معنى « افعل » فإنّ معناه هو الطلب الحتمي الجازم ، ويلزمه إذا صدر من الشارع ترتّب العقاب على تركه والممنوعيّة عنه ، فالمنع عن الترك - لو سلّم كونه جزء معنى الوجوب - لا يلزم منه كونه جزء معنى « افعل ».

وما في الضوابط من أنّ الفرق بين التضمّن والالتزام أنّه يتبادر إلى الذهن في الأوّل الهيئة التركيبيّة ويفهم الجزء في ضمن الكلّ وفي الثاني يتبادر إلى الذهن أوّلا الملزوم ثمّ ينتقل بعده إلى اللازم ، والأمر في المقام من هذا القبيل إذ المتبادر من « الأمر » أمر بسيط إجمالي وهو طلب الشيء وإظهار محبوبيّته حتما ، ثمّ بعد ذلك بل بعد تصوّر الطرفين يفهم النهي عن الترك التزاما ، فالقول بأنّ صيغة الأمر دالّة على المنع من الترك بالتضمّن فاسد ، لأنّ دلالة « الأمر » على نفس الوجوب التزامي فكيف يكون دلالته على جزء الوجوب تضمّنيا.

ولا يخفى أنّ هذه العبارات كلّها واردة في سياق تسليم كون « الأمر » حقيقة في الطلب الحتمي ، والتفكيك بينه وبين الوجوب الّذي هو مركّب عن أمرين على الفرض أو الواقع ،

ص: 690

بدعوى : كونه لازما له ، وظاهر أنّ جزء اللازم لا يعدّ جزءا للملزوم ، ويمكن توجيهها بوجوه :

أحدها : كون مرادهم بالطلب الحتمي في معنى « الأمر » الإيجاب القائم بنفس المتكلّم ، وبالوجوب المغاير له الأثر الحاصل منه المتعلّق بالفعل ، ولا ينافيه تفسيره بطلب الفعل مع المنع من تركه ، لكون معناه حينئذ مطلوبيّة الفعل وممنوعيّة تركه ، ولا ريب أنّه أثر حاصل من الإيجاب بمعنى الطلب الحتمي ولازم من لوازمه ، كما أنّ ترتّب العقاب على الترك حيثما صدر من الشارع من لوازمه ، بمعنى أنّ الطلب الحتمي إذا تعلّق بالشيء يتّصف بكونه مطلوب الفعل وممنوع الترك ، ويكون قولهم : « وهو أمر بسيط » في معرض السند لمنع ما عساه يقوله المستدلّ في دفع اعتراضهم المذكور من أنّ الإيجاب المدّعى كونه مدلول « الأمر » أيضا مركّب من الأمرين المذكورين ، غايته كونهما على حدّ البناء للفاعل ، وفي معنى الوجوب على حدّ البناء للمفعول كما عرفت.

في شرح ماهيّة الوجوب

وأظهر العبارات في إفادة هذا المعنى أوليها ، فلا يرد عليها ما أورده بعض الأفاضل من أنّ المقصود بالوجوب في المقام إن كان معناه المصطلح - أعني ما يذمّ تاركه أو ما يستحقّ تاركه العقاب - صحّ ما ذكر ، وان كان هو الطلب الحتمي الحاصل من الأمر بالشيء سواء تفرّع عليه استحقاق ذمّ أو عقوبة فيما إذا كان الآمر ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا فلا مانع من كونه مدلولا وضعيّا للصيغة ، بل هو الّذي وضعت الصيغة لإنشائه.

ودعوى : أنّ الطلب الحتمي عين الوجوب بالمعنى المذكور ومغائر له بالاعتبار واضح الفساد ، لوضوح الفرق بين التأثير والأثر المترتّب عليه كالفرق بين الكسر والانكسار.

وثانيها : أن يكون المراد أنّ « الأمر » لغة وعرفا حقيقة في الطلب الحتمي ، وهو أمر بسيط من غير فرق بين صدوره من الشارع أو غيره ، عاليا كان أو دانيا أو مساويا ، ووجوب الشيء بمعنى كونه مطلوبا فعله وممنوعا تركه وصف واقعي له ، بمعنى كونه كذلك في متن الواقع لا في نظر المتكلّم ، وهو ليس إلاّ من وظيفة الشارع أو العالي مطلقا كما أنّ ترتيب العقاب على المخالفة كذلك ، فلا يكون بعين الطلب الحتمي ولا جزئه وإلاّ لكانت الصيغة من خصائص العالي وهو خلاف الفرض ، بل من لوازمه المترتّبة عليه إذا صدرت الصيغة من العالي ، كما أنّ استحقاق العقاب من اللوازم المترتّبة عليه إذا صدرت من الشارع ، وهذا المعنى أوفق بعبارة بعض الأعاظم وبعض الأعلام كما لا يخفى.

وثالثها : أنّ الصيغة موضوعة للطلب الحتمي وقيد « الحتم » وإن كان يفيد الوجوب بمعنى

ص: 691

طلب الفعل والمنع عن الترك ، غير أنّه خارج عن الموضوع له فيكون وضع الصيغة للطلب المقيّد على طريقة خروج القيد كوضع العمى للعدم المقيّد وهذا المعنى أوفق بعبارة الضوابط.

ورابعها : أنّ الصيغة لغة وعرفا للطلب الحتمي ، وهو أمر بسيط لا جزء له وإنّما ينحلّ عند العقل إلى طلب للفعل ومنع عن الترك ، فيكون من لوازمه العقليّة الثابتة له في ظرف التحليل.

وعبارة بعض الأعلام أظهر من غيرها في إفادة هذا المعنى بقرينة ما ذكره في بحث الصيغة ، وأشار إليه هنا أيضا من أنّ معنى الوجوب وغيره أمر بسيط إجمالي وهو الطلب الحتمي الخاصّ ولكنّه ينحلّ عند العقل بأجزاء كسائر الماهيّات المركّبة كالإنسان والفرس وغيرهما ، وهذا الطلب البسيط الإجمالي الخاصّ إذا تحلّل عند العقل ينحلّ إلى طلب الفعل مع المنع عن الترك.

وعلى ذلك ينطبق ما أورده بعض الأفاضل على الاعتراض بأنّ الوجوب معنى بسيط لا جزء له ، والمنع من الترك ليس جزء من مدلوله وإنّما هو لازم من لوازمه ، من أنّ الوجوب وإن كان معنى بسيطا في الخارج ولكنّه منحلّ في العقل إلى شيئين ، فإنّ البساطة الخارجيّة لا تنافي التركيب العقلي ، فلا مانع من كون الدلالة تضمّنيّة نظرا إلى ذلك إلى آخره.

فتبيّن ممّا ذكر أنّ المتأخّرين لهم خلاف في موضعين :

أحدهما : في أنّ الوجوب هل هو مفهوم مركّب أو بسيط؟

وثانيهما : في أنّ المفهوم من « الأمر » هل هو شيء مركّب أو لا؟

فالمصنّف ومن وافقه في دعوى كون دلالة « الأمر » على النهي عن الضدّ العامّ تضمّنيّة على أنّ الوجوب مفهوم مركّب ، وأنّ الأمر موضوع لذلك المفهوم المركّب ، وغيره ممّن تقدّم ذكرهم على منع الدعوى الاولى ، ثمّ منع الدعوى الثانية بعد التنزّل عن المنع الأوّل والبناء على المماشاة مع الخصم.

ومن البيّن أنّ هذا الخلاف ليس راجعا إلى الوجوب باعتبار لفظه لغة وعرفا ، إذ لا يستريب أحد في أنّ كونه للمعنى الإنشائي وضع جديد محدث من المتشرّعة أو الشارع في وجه ، ولا فيه باعتبار مفهومه الاصطلاحي ، لأنّ كونه مركّبا في لسان القوم حيث نراهم لا يزالون يفسّرونه بالطلب مع المنع [ من الترك ](1) لا مجال للتأمّل فيه ، بل راجع إليه باعتبار

ص: 692


1- أضفناه لاستقامة العبارة.

كونه أحد الخمس المعروفة الثابتة بحسب متن الواقع من غير دورانها إلى اصطلاح ولا تصرّف جديد ، وهو باعتبار العنوان وإن كان خاصّا به إلاّ أنّه من حيث المعنى جار في الجميع ، كما أنّه جار في « الأمر » بكلا اعتباريه الصيغة والمادّة بل يجري أيضا في صيغة النهي ولفظه ، لأنّ الكلّ من باب واحد وظاهر أنّ الوجوب بمعنى طلب الفعل والمنع من الترك باعتبار اندراجه في عداد الأحكام الشرعيّة مفهوم له إضافة إلى فعل المكلّف وإضافة إلى الشارع المكلّف غير أنّه من الحيثيّة الاولى لابدّ من كونه بالبناء للمفعول ومن الحيثيّة الثانية بالبناء للفاعل.

ونحن حيثما نفرّق بينه وبين الإيجاب نريد منه الحيثيّة الاولى ، وحيثما نصرّح بكونه ممّا وضع له صيغة « الأمر » نريد منه الحيثيّة الثانية ، وهما كما ترى حيثيّتان متغايرتان ذاتا ووصفا واعتبارا ، فبطل بذلك ما صار إليه بعض الفضلاء وفاقا لبعض الأفاضل من أنّ الوجوب لا فرق بينه وبين الإيجاب إلاّ بالاعتبار ، فإن قيس إلى الآمر باعتبار صدوره منه كان إيجابا وإن قيس إلى الفعل باعتبار قيامه به كان وجوبا ، والّذي يصلح لكونه محلاّ للخلاف المذكور إنّما هو مفهومه بالحيثيّة الثانية خاصّة ، فيكون مرجعه إلى أنّ ما ينشئه الشارع بالقياس إلى فعل المكلّف هل هو مفهوم مركّب أو لا؟

والقوم على ما عرفت بين من يجعله مفهوما مركّبا ومن يجعله أمرا بسيطا ينحلّ في تحليل العقل إلى مفهوم مركّب.

ولا يخفى أنّ البسيط في لسان العلماء قد يطلق على ما لا جزء له أصلا لا ذهنا ولا خارجا كالجزء الّذي لا يتجّزى على رأي من يزعمه موجودا.

وقد يطلق على ما لا جزء له في الخارج وإن كان له جزء في الذهن كالإنسان الّذي هو عند العقل مركّب من الحيوان والناطق.

وقد يطلق على الشيء بالإضافة إلى ما ادّعي كونه جزءا له مرادا به نفي جزئيّته له كالتصديق على رأي من يجعله بسيطا عبارة عن الحكم فقط دون المجموع منه ومن التصوّرات الثلاث.

وهذا الخلاف لا يمكن إرجاعه إلى المعنى الأوّل إذ تركّب الوجوب ذهنا في نظر العقل ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره ، كيف وله باعتبار كونه من منشآت الشارع مشاركات ، فيجب أن يتحصّل فيه ما به يمتاز عمّا عداه من مشاركاته وإلاّ لاتّحد معها وهو ضروري البطلان والشيء كلّما فرض فيه ما به يشاركه غيره وما به يمتاز عن غيره كان مركّبا عقليّا لا محالة.

ص: 693

مضافا إلى أنّهم يعبّرون عن الأمر البسيط هنا بالطلب الحتمي ، فيكون مركّبا ضرورة تركّب المقيّد عمّا ورد عليه القيد وما حصل له باعتبار ورود القيد عليه من الوصف العنواني وإن لم نجعل القيد داخلا.

كما أنّه لا ينبغي إرجاعه إلى المعنى الثاني أيضا ، إذ لا ينبغي على المصنّف بل ومن دونه أن يزعم الوجوب من المركّبات الخارجيّة ، كيف وأنّ مناط الفرق بينها وبين المركّبات العقليّة بكون التركّب مدركا في نظر الحسّ بإحدى الخمس المعروفة ، أو في نظر العقل من غير مدخل فيه للحسّ ، ولا يستريب جاهل فضلا عن العالم الماهر في أنّ تركّب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن تركه ليس من جملة ما يدركه الحسّ في شيء من آلاته ، فانحصر اللائق بهذا الخلاف في المعنى الثالث ، لأنّه الّذي يقتضيه الاعتبار مع مساعدة كلماتهم ، فيكون محصّله : أنّ المنع من الترك هل هو جزء من مفهوم الوجوب أو لا؟ بل هو مفهوم بسيط وهو الطلب الحتمي والمنع من الترك من جملة لوازمه الخارجة عنه ، فيكون مرادهم من البساطة ما يكون إضافيّا لا البساطة المطلقة جزما.

ولنذكر قاعدة يعرف بها ما هو حقيقة الحال في هذا المقال ، وهي الّتي أشرنا إليها مرارا على سبيل الإجمال وتفصيلها هنا أن يقال : إنّه لا ريب أنّ الحكم الشرعي على ما يشهد به طريقة العرف وضرورة الوجدان - بل كلّ حكم اقتضائي وغيره ، إلزامي وغيره ، إيجابي وتحريمي - لا ينعقد إلاّ بتلاحق أوصاف بعضها ما يرجع إلى المحكوم به من دون إضافة له فيه إلى غيره ، وبعضها ما يرجع إلى الحاكم مع إضافته إلى المحكوم به أيضا ، وبعضها ما يرجع إليه مع إضافته أيضا إلى المحكوم عليه والمحكوم به معا.

أمّا الأوّل : فكالرجحان في الفعل أو الترك والمرجوحيّة كذلك والتساوي فيما بينهما ، والمراد بالرجحان مزيّة في أحد الطرفين منشؤها اشتمال ذلك الطرف على مصلحة كامنة فيه ، وهي عبارة عن خاصيّة تترتّب عليه ممّا يتعلّق بوجوده الغرض الأصلي من جعل الحكم ، وبالمرجوحيّة منقصة فيه منشؤها اشتماله على مفسدة كامنة ، وهي عبارة عن خاصيّة تترتّب عليه ممّا تعلّق بعدمه الغرض الأصلي من الجعل ، وبالتساوي تكافؤهما الّذي ينشأ عن خلّوهما عن الصفتين بالمرّة أو بعد التساقط ، وهو ما يقضي بإنشاء التخيير بينهما المعبّر عنه بالإباحة بالمعنى الأخصّ كما أنّ الرجحان والمرجوحيّة يقضيان بإنشاء الأحكام الأربع الباقية بالتقريب المتقدّم إليه الإشارة في صدر المسألة ، من أنّ مصلحة الفعل إمّا أن

ص: 694

يكون انتفاؤها في جانب الترك موجبا لقيام مفسدة فيه أو لا ، وكذلك مفسدة الفعل إمّا أن يكون انتفاؤها في جانب الترك موجبا لقيام مصلحة فيه أو لا.

وأمّا الثاني : فكاعتقاد الرجحان أو المرجوحيّة أو التساوي على طريقة منع الخلوّ في الأوّلين بالنسبة إلى الطرفين.

ومن البيّن أنّه لا يتأتّى إلاّ بالالتفات إلى الرجحان أو المرجوحيّة وتصوّرهما ، وهما لكونهما إضافيّين فلا يحصل تصوّرهما إلاّ بتصوّر طرفيهما الراجح والمرجوح ، فلا يعقل في حكم العقل تصوّر الرجحان في الفعل أو الترك إلاّ بعد تصوّر الفعل والترك معا ، فبطل بذلك ما يقال في الاستدلال على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ من جواز الغفلة على الآمر عن الترك فضلا عن النهي ، فإنّ تجويز ذلك يوجب تجويز الأمر بدون تصوّر الرجحان أو تجويز تصوّر الأمر الإضافي بدون تصوّر طرفيه ، ولا يكاد يعقل شيء منهما ولا سيّما من الحكيم العدل العالم الّذي يمتنع عليه الغفلة والذهول مطلقا ، بل الضرورة قاضية بأنّ العلم بالرجحان لا يحصل إلاّ بعد تصوّره الّذي هو تابع لتصوّر طرفيه الراجح والمرجوح.

فإذا حصل ذلك العلم يترتّب عليه الإرادة والكراهة بمعنى ميل النفس وانقباضها.

والظاهر أنّهما مرادفان للحبّ والبغض النفسانيّين اللذين يعبّر عنهما في الفارسيّة « بخوش داشتن » و « بد داشتن » وقد يتخيّل في بادئ النظر ترادف الرضا وعدم الرضا لهما أيضا ، ولكن التأمّل يقضي بكون الرضا واقعا على ما يعمّ الإرادة وعدم الكراهة ، فلذا لا يتحقّق بينهما واسطة إلاّ في صورة التردّد بخلاف الإرادة والكراهة ، ومثلهما الحبّ والبغض فإنّ الواسطة بينهما ما لا يكون محبوبا ولا مبغوضا ، ولازمه كونه مرضيّا به كما في طرفي المباح وفعل المكروه وترك المندوب ، فعدم الرضا حينئذ يرادف الكراهة والبغض ، وأمّا الرضا فقد يطلق على ما يرادف الإرادة والحبّ وهو الرضا بالمعنى الأخصّ كما في فعل الواجب والمندوب وترك المحرّم والمكروه ، وقد يطلق على ما يشمل عدم الكراهة أيضا وهو الرضا بالمعنى الأعمّ كما عرفت ، فكلّ واجب يستلزم الرضا بالمعنى الأخصّ في أحد طرفيه ومثله المحرّم ، وكلّ مندوب ومكروه ومباح يستلزم الرضا بالمعنى الأعمّ في كلا الطرفين.

وأمّا الثالث : فكالطلب والتخيير اللذين يتمّ بإنشائهما الحكم ، ولا يتحقّقان إلاّ فيما بين الثلاثة الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه ، ويعبّر عن الأوّل في الفارسيّة « بخواستن » وبه يفرّق بينه وبين الإرادة من حيث إنّها بمعنى « خوش داشتن » لا تقتضي انتسابا إلى الثالث

ص: 695

بخلاف الطلب بمعنى « خواستن » فإنّه أمر نسبي بين الطالب والمطلوب والمطلوب عنه ، كما يرشد إليه المنساق من ترجمته الفارسيّة فهو الّذي يقع جنسا لما عدا الإباحة من الأحكام ، وقد يجعل « الإذن » جنسا لما عدا التحريم فتشمل الإباحة أيضا ، والظاهر أنّها في مقابلة الطلب في هذا القسم كالرضا في مقابلة الحبّ والإرادة من القسم الثاني ، فيكون الإذن بالمعنى الأخصّ أعني ما يتحقّق في ضمن الطلب ملزوما للرضا بالمعنى الأخصّ ، كما أنّ الإذن بالمعنى الأعمّ الشامل للإباحة ملزوم للرضا بالمعنى الأعمّ.

فقد تقرّر بما ذكر أنّ ما يتحقّق في هذا القسم من الأمر الإنشائي المأخوذ جنسا للأحكام متأخّر بحسب الرتبة عمّا يتحقّق في القسم الثاني من الامور المذكورة فيكون كلّ منها من لوازمه ، كما أنّ ما يتحقّق في القسم الأوّل من لوازمه.

فقضيّة ذلك كون الطلب كاشفا عن الرضا بالمعنى الأخصّ الملازم للإرادة والحبّ النفساني الملازم للرجحان والاعتقاد به ، والإذن بالمعنى الأعمّ كاشفا عن الرضا بالمعنى الأعمّ الملازم لعدم الكراهة والبغض النفساني الملازم لعدم المرجوحيّة والاعتقاد به مطلقا.

كما تقرّر أيضا أنّ الطلب ملازم للرجحان ، بمعنى أنّه يتعلّق من طرفي الفعل والترك بما كان راجحا مشتملا على المصلحة النفس الأمريّة ، فهو عند إنشاء الوجوب والندب إنّما يتعلّق بطرف الفعل لأنّه الراجح المشتمل على المصلحة ، كما أنّه عند إنشاء التحريم والكراهة إنّما يتعلّق بطرف الترك لأنّه الراجح المشتمل على المصلحة.

وظاهر عند أهل التحقيق أنّ الطلب أمر وحداني وارد في الجميع على منوال واحد من غير فرق بينها من جهته أصلا لا من حيث الكمّ ولا من حيث الكيف ، وإلاّ امتنع كونه جنسا لها ، فلذا ترى أنّ التحريم والكراهة يمتازان في نظر العقل والوجدان عن الوجوب والندب بتعلّق الطلب المعتبر فيهما بالترك وتعلّقه في الوجوب والندب بالفعل.

وأمّا الامتياز فيما بين الندب والوجوب فإنّما هو بمقارنة الطلب المعتبر فيهما للإذن في الترك بمعنى الإعلام والإشعار بالرضا بالترك في الندب ، ولنفي الإذن فيه بمعنى الإعلام والإشعار بعدم الرضا بالترك الملازم للكراهة في الوجوب ، كما أنّ الامتياز فيما بين الكراهة والتحريم بمقارنة الطلب المعتبر فيهما للإذن في الفعل بمعنى إظهار الرضا بالفعل في الكراهة ، ولنفي الإذن فيه بمعنى إظهار عدم الرضا بالفعل الملازم للكراهة في التحريم.

فالّذي يتحقّق في الضمير عند إنشاء الوجوب شيئان :

ص: 696

أحدهما : الطلب الكاشف عن رجحان الفعل وكونه محبوبا في نظر العقل.

وثانيهما : نفي الإذن في الترك الكاشف عن مرجوحيّته وكونه مبغوضا في نظر العقل ، لقضاء الذوق والوجدان والمراجعة إلى ما يتحقّق في النفس والضمير عند إرادة الإنشاء بأنّ المنشئ لا يقصد بإنشائه إلاّ إفادة هذين المعنيين ، فيكون كلّ جزءا من ماهيّة الوجوب على حدّ الجنس والفصل ، فأمّا المنع من الترك الّذي اختلف في جزئيّته حسبما تقدّم إن فسّرناه بعدم الرضا بالترك فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه فصلا للوجوب ، لما عرفت من اندراجه في مرتبة اللوازم المتقدّمة على مرتبة الإنشاء فيبطل بذلك قول المصنّف ومن وافقه لو أرادوا هذا المعنى ، كما يومئ إليه تفسير الوجوب في بعض العبائر : « بطلب الفعل مع عدم الرضا بالترك » وإن فسرناه بما يقابل الإذن أعني إظهار عدم الرضا والإشعار به من غير اعتبار طلب فيه فعلا - كما أنّ الإذن لا يعتبر في حقيقته الطلب على ما تبيّن سابقا - فلا ينبغي التأمّل في كونه فصلا للوجوب ، وإنكاره دفع للضرورة فيصحّ بذلك قول المصنّف وموافقيه لو أرادوا هذا المعنى.

وأمّا الآخرون فإن أرادوا من الطلب الحتمي ما يقارن هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، غير أنّه يقضي بخروج النزاع فيما بينهم وبين الأوّلين لفظيّا وهو بعيد عن ظاهر عبائرهم ، وإن أرادوا غير ذلك فهو متّضح الفساد ، إذ لا يعقل لحتميّة الطلب الّتي يمتاز بها الوجوب عن الندب معنى حادثا عند الإنشاء إلاّ مقارنته لإظهار كراهة الترك وعدم الرضا به ، وإن فسّرناه بالنهي عن الترك المتضمّن للطلب كما هو ظاهر هذه العبارة وظاهر قولهم : « الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام » فهو لازم له بالمعنى الثاني ، أعني نفي الإذن في الترك إن فرضنا الطلب المأخوذ فيه طلبا شأنيّا ، ضرورة أنّ إظهار عدم الرضا بالترك الكاشف عن كراهته يستلزم الطلب المتعلّق بالترك شأنا ، لضابطة أنّ كلّ مكروه من شأنه أن يطلب تركه وليس بلازم منه ولا جزء للوجوب إن فرضنا الطلب المعتبر فيه طلبا فعليّا زائدا على الطلب المتعلّق بالفعل فعلا ، إذ لا يجد العقل عند إنشاء الوجوب إلاّ طلبا واحدا فعليّا متعلّقا بالفعل فقط كما يظهر بأدنى تأمّل.

فعلى هذا المبنى يبطل قول أحد الفريقين ويصحّ قول الفريق الآخر في أحد تقديريه ويبطل قولهما معا في تقديره الآخر.

فتقرّر بما ذكر : أنّ الوجوب يتضمّن طلب الفعل وإظهار عدم الرضا بالترك ، ويستلزم

ص: 697

عدم الرضا بالترك والنهي عنه المتضمّن للطلب الشأني ، ولمّا كان صيغة الأمر حقيقة في الوجوب فكان كلّ من الأوّلين مدلولا تضمّنيا لها وكلّ من الأخيرين مدلولا التزاميّا لها.

فصار الحق عندنا : أنّ الأمر بالشيء مطلقا يقتضي النهي عن ضدّه العام التزاما ولكن بالطلب الشأني مع إشكال فيه أيضا يأتي الإشارة إليه ، فالّذي يوافقنا على تلك المقالة إن أراد هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ لكان واضح المنع من جهة مخالفته لضرورة العقل والوجدان.

وأمّا الطلب المتأكّد الّذي يجعل الوجوب عبارة عنه في بعض العبائر عند منع مقالة المصنّف وموافقيه ، فإن كان راجعا إلى ما ذكرناه (1) فلا بأس به أيضا ، وإلاّ ففيه أيضا منع واضح ، لأنّه مفهوم لابدّ له من مؤكّد وهو إمّا من جنس الطلب بمعنى أنّ الوجوب طلب يؤكّده طلب مثله ، أو من غير جنسه ممّا يتحقّق عند تحقّقه.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون المؤكّد متّصلا بالمؤكّد أو منفصلا عنه ، كأن يطلب الفعل أوّلا ثمّ يتبعه بطلب آخر نظير ما لو ورد أمران متعلّقان بمفهوم واحد ، ولا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأخير : فلأنّه لا يعقل من الامور الخارجة عن ماهيّة الطلب ما يصلح لكونه مؤكّدا له ممّا ينشئه الآمر عند إنشائه له إلاّ ما ذكرناه من إنشاء نفي الإذن في الترك ، والمفروض عدم كونه مرادا في هذا المقام.

ولو اريد به عدم الرضا النفساني فهو من لوازم الوجوب واللازم لا يعقل كونه مؤكّدا للملزوم ، وإلاّ لما كان لازما لجواز انفكاك المؤكّد عن المؤكّد.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن محلّ الفرض ، لأنّ تأكيد الطلب بالطلب المنفصل لا يعقل إلاّ في صورة تعدّد الأمر وهو خلاف الفرض.

وأمّا الأوّل : فلأنّ الطلب المتّصل المؤكّد للطلب لا يعقل إلاّ إذا كان الطلب من الماهيّات القابلة للتشكيك الّتي يطرأها القوّة والضعف والشدّة والرخاء كالسواد والبياض ، بدعوى أنّه ماهيّة تتفاوت أفرادها في القوّة والضعف (2) فهو في فرده القويّ يكون وجوبا وفي فرده الضعيف يكون ندبا ، كما أنّه في أقوى أفراده يكون من أقوى الواجبات وأهمّها ،

ص: 698


1- بدعوى : أنّ الطلب المتعلّق بالفعل فعلا يؤكّده الطلب الشأني المتعلّق به الّذي يستفاد عن النهي عن الترك المدلول عليه بالالتزام. ( منه عفي عنه ).
2- وفي المصدر : « في القوّة والطلب » والظاهر أنّه سهو ، فلذا صحّحناه بما في المتن.

وهو كما ترى ممّا ينكره الضرورة والوجدان الغنيّ عن البيان حيث إنّ الطلب بما هو طلب لا يرد إلاّ على منوال واحد ، وهو في الندب ليس إلاّ مثله في الوجوب من دون زيادة ونقيصة ، فهو كالموت ليس من الكلّيّات القابلة للتفاضل ولا يطرأه شدّة وضعف أصلا ، ولا يتفاوت أفراده في القوّة وغيرها.

وما يقال : من أنّ الوجوب ممّا يتضاعف ويقبل الاشتداد كما أنّ التحريم ممّا يتضاعف ويشتدّ ومثلهما الندب والكراهة ، فلذا حصل الاختلاف في أقسام الواجب بكون بعضها أهمّ وبعضها غير الأهمّ على اختلاف مراتبهما المقرّرة في فنّ الفقه ، كالاختلاف الحاصل في أنواع المحرّمات بكون بعضها أشدّ حرمة من بعض آخر ، فإنّما هو من جهة اختلاف الصفة الكامنة في الواجب والمحرّم المقتضية لإنشاء الوجوب والتحريم فيهما ، فإنّ مصالح الأفعال والتروك ومفاسدهما الكامنتين - بمعنى الخواصّ المترتّبة عليهما - ممّا يتفاوت ويختلف أفراده في القوّة والضعف ، فكلّ مصلحة الفعل ومفسدة الترك في شيء إذا كانتا أقوى منهما في غيره يكون ذلك الشيء من أهمّ الواجبات ، كما أنّ مصلحة الترك ومفسدة الفعل في شيء إذا كانتا أقوى منهما في غيره يكون ذلك أشدّ حرمة من غيره ، وعلى هذا القياس المندوب والمكروه على حسب اختلاف أنواعهما في المرتبة ، فلا يراد (1) منه أنّ صفة الطلب في بعض الواجبات وبعض المحرّمات أشدّ منها في البعض الآخر كيف وهو غير معقول ، ولا يذهب توهّم ذلك إلى جاهل فضلا عن العالم.

فلا وقع لما يقال : من أنّ الطلب له مراتب منها مرتبة الندب وهو أوّلهما ، ومنها مرتبة الوجوب الّتي تختلف أيضا باعتبار الأهمّيّة وغيرها ، كيف وأنّ الترتّب حسبما ذكر لا يعقل إلاّ في موضوع واحد واختلاف الموضوعات مع تبائنها في محلّ البحث ممّا لا يفتقر إلى البيان واعتباره فيما بين الموضوعات المختلفة على فرض كونه معقولا إن كان من قبل العقل فهو قاض بخلافه ، وإن كان من قبل الشرع فلا دليل عليه إن لم نقل بقيام الدليل على الخلاف ، وإن كان من مقتضى طبائع الأفعال أو الصفات الكامنة فيها فهو تحكّم بحت وقول لمجرّد هوى النفس ، وكيف كان فهذا القول ممّا لا ينبغي الالتفات إليه لكونه من وظيفة غير أهل العلم.

هذا كلّه في القول بالدلالة تضمّنا والقول بها التزاما ، فقد تبيّن ما هو الصحيح منهما

ص: 699


1- جواب لقوله : « وما يقال » الخ.

عمّا هو الفاسد.

قولان آخران في الضدّ العامّ

وبقي من أقوال الضدّ العامّ قولان آخران :

أحدهما : القول بنفي الدلالة رأسا ، وهو محكيّ عن السيّد منّا والأشاعرة من العامّة.

وقد يعترض عليه : بأنّ عدم دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العامّ غير معقول ، وإلاّ لزم خروج الواجب عن كونه واجبا.

وفيه : أنّه استبعاد محض ولا يعتدّ به في أمثال المقام ، لجواز أن يقول أحد في الضدّ العامّ بنحو مقاله النافي للدلالة في الضدّ الخاصّ ، فإنّه يقول بأنّا لا نستفيد عن قوله : « صلّ » ونحوه حكما من الأحكام بالنسبة إلى الأكل والشرب وغيرهما من الأضداد الوجوديّة ، لما يقع كثيرا من الغفلة للآمر عن جميع تلك الأضداد ومعه لا يعقل طلب تركها ، فيجوز أن يقول النافي هنا بأنّا لا نستفيد عن قوله : « صلّ » ونحوه حكما من الأحكام لترك الصلاة لا تضمّنا ولا التزاما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مدلول « الأمر » طلب إلزامي متعلّق بالفعل وليس تحريم الترك جزءا منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ « الأمر » وإن استلزم النهي شأنا إلاّ أنّه لا يفيد التحريم الّذي هو الغرض ، لوجوب كون الطلب المعتبر فيه طلبا فعليّا ، بدعوى عدم كفاية الطلب الشأني في انعقاد الحكم الشرعي ، ولا يلزم بذلك خروج الواجب عن الوجوب وانقلابه مندوبا ، لأنّ الطلب الإلزامي يستلزم عدم الرضا بالترك وكراهته النفسانيّة ومرجوحيّته في حدّ ذاته واشتماله على المفسدة ونحو ذلك من اللوازم ، بخلاف الندب فإنّه يستلزم أضداد هذه المذكورات واختلاف اللوازم دليل على اختلاف الملزومات.

فإن قلت : لعلّ النافي للدلالة ربّما يفسّر الوجوب بطلب الفعل مع المنع عن النقيض كما هو المعروف ، فيتوجّه إليه الاعتراض نظرا إلى أنّ النقيض لا يراد به إلاّ الترك ، كما أنّ المنع عنه لا يراد به إلاّ النهي عن الترك ، ومعه كيف يعقل خلوّ الترك عن الحكم التحريمي.

قلت : لعلّه يريد من المنع ثاني ما تقدّم من المعاني ، وهو إظهار عدم الرضا بالترك المعرّى عن الطلب الفعلي ، والمفروض أنّ المعتبر في انعقاد التحريم إنّما هو الطلب الفعلي.

وكيف كان فالمحكيّ من حجّة هذا القول أنّه لا دلالة للأمر بالشيء على النهي عن ترك المأمور به بشيء من الدلالات الثلاث ، أمّا المطابقة فلضرورة أنّ الأمر بالشيء ليس بعين النهي عن تركه ، وأمّا التضمّن فلأنّ مدلول الأمر طلب بسيط إلزامي متعلّق بالفعل

ص: 700

ولا جزء له حتّى يقال بكونه هو النهي عن تركه ، وأمّا الالتزام بجميع أقسامه فلأنّا نرى كثيرا نأمر بالشيء ولا نلتفت إلى تركه فضلا عن النهي عنه.

وجوابه : ما تبيّن سابقا من أنّ انتفاء الالتفات إلى الترك حين إنشاء الوجوب بالمرّة حتّى إجمالا ممنوع بل غير معقول ، كيف وأنّ الالتفات إلى رجحان الفعل الّذي هو ممّا لابدّ منه تجرّ قهرا إلى الالتفات إلى كلّ من الفعل والترك ولو إجمالا كما هو شأن كلّ أمر نسبي.

ولو سلّم فإنّما ينهض ذلك دليلا على نفي الطلب الفعلي وهو ليس بلازم ، لما تقرّر في بحث المقدّمة من كفاية الطلب الشأني في انعقاد الأحكام شرعيّة كانت أو غيرها وهو ثابت في المقام جزما ، إذ ترك المأمور به في حدّ ذاته بحيث لو حصل إليه الالتفات أو بنى على جعل حكم له لنهى عنه وصرّح بتحريمه ، وإنكاره دفع للضرورة ، بل الظاهر إنّ المستدلّ أيضا لا ينكره فيعود النزاع حينئذ بينه وبين القائل بالدلالة لفظيّا ، حيث أنّ القائل بها يدّعي كون الطلب الشأني الثابت هنا بالنسبة إلى ترك ضدّ المأمور به نهيا ، والنافي ينكر الطلب الفعلي بالنسبة إلى ترك الضدّ ، أو يرجع إلى كونه في أمر صغروي وهو أنّ الطلب الشأني الثابت هنا اتّفاقا هل يعدّ من النهي المقتضي للتحريم أو لا؟ فالمثبت يدّعي الأوّل والنافي ينكره وإنّما يقول باعتبار الطلب الفعلي ، ولقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه فراجع حتّى تتذكّر.

ويمكن أن يقال : إنّ نفي الدلالة رأسا لم ينشأ عن إنكار كفاية الطلب الشأني في انعقاد التحريم ، بل عن عدم انطباقه في خصوص المقام على التحريم الّذي هو أحد الأحكام الخمس المبائن للوجوب ، بل لو فرض ذلك الطلب فعليّا لما كان من التحريم في شيء ، وذلك لما تبيّن في تأسيس القاعدة المتقدّمة من أنّ امتياز التحريم عن الوجوب بتعلّق الطلب المعتبر فيه بالترك الحقيقي المناقض للفعل وتعلّقه في الوجوب بالفعل الّذي هو أمر وجودي مناقض ، وبه يمتاز النهي عن الأمر أيضا كما لا يخفى ، والطلب المفروض في المقام متعلّق بترك الترك وهو إمّا عين الفعل كما توهّم أو مفهوم منتزع عنه ، وكائنا ما كان فطلبه ولو فعلا لا يندرج في ضابط التحريم ، فإذا لم يكن ذلك تحريما لم يكن نهيا أيضا ، فالأمر على فرض دلالته عليه لم يكن دالاّ على ما كان تحريما ولا نهيا عن الضدّ العامّ ، وتسمية ذلك نهيا من باب التجوّز على فرض صحّته خروج عمّا هو محلّ النزاع ، لظهور النهي في عنواناتهم ومطاوي كلماتهم في النهي الحقيقي المقابل للأمر المفيد للتحريم الحقيقي المقابل للإيجاب.

ص: 701

وهذا الكلام وإن لم نجده في كلام أحد ولكنّه في مقام منع الدلالة في غاية الوجاهة ، كما أنّ كونه وجها لإنكار الدلالة من منكريها في غاية البعد بل مقطوع بعدمه ، لعدم كونه ممّا يساعده الحجّة المذكورة ولا غيرها ممّا ذكروه في المقام ، وبذلك يشكل ما قدّمناه من تحقيق كون الأمر بالشيء دالاّ بالالتزام على النهي عن ضدّه العامّ المتضمّن للطلب الشأني ، لوجوب كون اللازم مغايرا لملزومه ذاتا واعتبارا ، وما ذكر من الطلب لا يغاير ملزومه.

فإن قلت : كيف لا يغايره مع أنّه طلب شأني والملزوم طلب فعلي.

قلت : هذه مغايرة بينهما بحسب الوصف ، والمعتبر فيما بين اللازم والملزوم هو المغايرة الذاتيّة وهي في أمثال المقام إنّما تحصل مع تعدّد موضوع الطلبين.

وقد عرفت أنّه في محلّ الكلام متّحد لتعلّقهما معا بالفعل الّذي هو أمر وجودي.

وبالجملة الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن ضدّه العامّ بمعناه الحقيقي ولو بالطلب الشأني.

نعم التعبير عن طلب الفعل « بافعل كذا » من شأنه التعبير عنه ب- « لا تتركه » ولكنّه لا يوجب تحقّق شيئين كون أحدهما ملزوما والآخر لازما له ، بل هو من قبيل طلبين واردين على شيء واحد بعبارتين يكون أحدهما مؤكّدا للآخر ولا ربط له بما هو مقصود في المقام.

فمحصّل الكلام : أنّ النهي عن الضدّ العامّ إن اريد به المنع عن الترك بالمعنى المقابل للإذن حسبما تقدّم فالأمر بالشيء يدلّ عليه تضمّنا ، وإلاّ فلا دلالة له عليه تضمّنا ولا التزاما ولا هو عينه ، ولا يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجبا بالتقريب المتقدّم.

وثانيهما : القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ ، وقيّده بعض الفضلاء بكونه عينه في المعنى.

واحتجّ عليه : بأنّ معنى النهي حينئذ طلب ترك الترك لأنّ معنى النهي طلب الترك وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى وذلك ظاهر ، وإنّما قلنا : إنّه عينه في المعنى ، إذ لا ريب في تغايرهما بحسب المفهوم كالوجود وعدم العدم.

ثمّ نقل اعتراض المصنّف على الحجّة الآتية بقوله : واعترض بأنّ النزاع يرجع حينئذ إلى اللفظ ، حيث سمى طلب الفعل طلبا لترك تركه فعبّر عنه بالنهي عن الضدّ وطريق ثبوته النقل عن أهل اللغة ولم يثبت ، فمرجعه إلى أنّ الأمر بالشيء له عبارة اخرى كالاحجيّة (1)

ص: 702


1- الاحجيّة بتقديم « الحاء » على الجيم وتشديد الياء المثنّاة من تحت ، بمعنى اللغز ، نحو أنت وابن اخت خالتك.

ومثله لا يليق أن يدوّن في الكتب العلميّة.

فأجاب عنه : بأنّ الكلام في عينيّة المفهومين بحسب الصدق لا في التسمية ، إذ لم يدّع أحد أنّ النهي عن الضدّ له معنى غير معناه المتداول أعني طلب الترك حتّى يطلب فيه بالنقل ، وعينيّة المفهومين في الصدق وإن كانت من الامور الواضحة إلاّ أنّ التشاجر في نظائرها غير عزيز في كتب القوم. انتهى.

وفيه : أنّ الفعل والترك المأخوذين في ماهيّة الأمر والنهي هما متقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، فالمراد بالترك هو العدم الحقيقي المقابل للوجود ، وكما أنّ الوجود والعدم لا يصدقان على شيء واحد فكذلك طلباهما ، فترك الترك إذا كان لا يغائر الفعل بحسب الصدق فكذلك لا يغاير طلبه طلبه.

ولا ريب أنّ الأمر والنهي متغايران مفهوما ومصداقا حسبما ذكر ، فطلب الفعل مع طلب ترك الترك وإن كان يصدق عليهما « الأمر » صدقا حقيقيّا إلاّ أنّه لا يصدق على شيء منهما المنهيّ أصلا ، فيرجع الكلام حينئذ إلى دعوى أنّ الترك المأخوذ في ماهيّة النهي أعمّ من الترك الحقيقي والاعتباري ، فيرد عليها بحث المصنّف من أنّ طريق ثبوته النقل ولم يثبت ، بل الثابت خلافه كما لا يخفى.

وظنّي أنّ هذا الاحتجاج اشتباه نشأ عن ملاحظة كون الفعل عين ترك الترك بحسب المصداق ، وكون طلبه عين طلبه في الخارج غفلة عن أنّ مجرّد ذلك لا يوجب صدق عنوان « النهي » على ما صدق عليه « الأمر » حقيقة.

وبذلك تبيّن ما في كلام بعض الأفاضل من الفساد الناشئ عن هذا الاشتباه حيث قال - عند دعوى أنّ النهي عن الترك ليس مدلولا تضمّنيّا ولا التزاميّا - : إنّ حيثيّة [ تحتيم ] أحد النقيضين هي بعينها حيثيّة [ إلزام ] رفع الآخر ، فإنّ كلاّ من النقيضين رفع للآخر فليس هناك طلب آخر متعلّق بالترك ولا تحتيم آخر متوجّه إليه ، بل هناك طلب وتحتيم واحد متعلّق بالفعل وهو بعينه طلب لترك الترك وتحتيم له ، لكون الفعل بعينه تركا للترك ورفعا له ، فطلب ترك الترك هو عين طلب الفعل وحتميّته عين حتميّة ذلك الطلب ، فظهر أنّ دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العامّ ليس على سبيل التضمّن ولا الالتزام ، بل ليس مفاد النهي المفروض إلاّ عين ما يستفاد من الأمر وإنّما يتغايران بحسب الاعتبار - إلى أن قال - : فحرمة الترك مفاد وجوب الفعل كما أنّ وجوب الفعل مفاد حرمة الترك ، وكذا الحال بالنسبة

ص: 703

إلى حرمة الفعل ووجوب الترك ، ولذا كان ترك كلّ حرام واجب وترك كلّ واجب حراما من غير أن يكون هناك تكليفان ، فحيثيّة الأمر بالفعل هي حيثيّة النهي عن الترك ، إذ ترك الترك هو عين الفعل بحسب الخارج ، لكون الفعل والترك نقيضين وكلّ منهما رفع للآخر ، فيكون طلب كلّ منهما طلبا لترك الآخر ، إلى آخره.

فإن قلت : كيف تنكر تصادق الأمر والنهي عن الترك ، مع أنّ صدق المأمور به والمنهيّ عن تركه على شيء واحد من الضروريّات.

قلت : صدق المنهيّ عن تركه على ما صدق عليه المأمور به إنّما يدخل في عداد الضروريّات إذا كان المراد بالنهي المنع المقابل للإذن ، وإلاّ فعلى معناه الحقيقي المقابل للأمر لا صدق له أصلا وإلاّ لزم تصادق المتبائنين ، مضافا إلى لزوم التناقض بين مفهومي « النهي » و « الطرف » (1) كما لا يخفى.

وإن كان المراد بصدقهما على شيء واحد صحّة التعبير عن طلب الفعل « بافعل كذا ولا تتركه ».

ففيه : أنّ غايته كون مفاد العبارتين واحدا وهو غير مجد في المقام ، إذ الكلام في الصدق المعنوي وقد تقدّم في بحث الأمر أنّ « لا تتركه » من حيث المعنى أمر وإن كان من حيث اللفظ نهيا.

نعم هو باعتبار الصيغة نهي جريا على اصطلاح أهل العربيّة ، ولكنّه غير مراد في المقام.

ومن هنا تبيّن فساد ما قد يقال في الاستدلال على هذا المذهب من صحّة وقوع كلّ من الأمر بالشيء والنهي عن تركه تعبيرا عن الآخر ، ولذا ترى أنّ المريد للضرب مثلا يصحّ له الأمر به بقوله : « اضرب » أو النهي عن تركه بقوله : « لا تترك الضرب » فإنّ مفاد كلّ منهما واحد وهو الطلب الحتمي المتعلّق بالضرب.

وقد يقرّر : بأنّا نجد أنّ ما في ضمير المولى عند إرادة الطلب شيء واحد وهو تحتيم حصول الفعل في الخارج ، فله أن يجعل موضوع طلبه الفعل فيقول : « افعله » فيكون أمرا ، وأن يجعله الترك فيقول : « لا تتركه » فيكون نهيا ، فهو معنى واحد وله عبارتان ، فإنّ كون مفاد العبارتين واحد مسلّم وصدق « الأمر » على العبارة الاولى « والنهي » على العبارة الثانية على اصطلاح أهل العربيّة أيضا مسلّم ، غير أنّ النزاع ليس في ذلك الأمر اصطلاحي ،

ص: 704


1- أي المقابل.

احتجّ الذاهب إلى أنّه عين النهي عن الضدّ * :

__________________

بل النزاع في صدقهما بحسب المعنى وتحقّقهما باعتبار الواقع ، وقد عرفت أنّ مفاد العبارتين بحسب المعنى والواقع لا يصدق عليه إلاّ الأمر ، فدعوى كونه عين النهي إن اريد به معناه الحقيقي واضح المنع.

وقد يجاب أيضا : بأنّ صحّة وقوع شيء تعبيرا عن شيء آخر لا يقضي بكونه عينه ، إذ العينيّة لو اريد بها الترادف فانتفاؤها بهذا المعنى ليس ممّا يتأمّل فيه ، لانتفاء ما هو من لوازم المترادفين وهو الاتّحاد في المفهوم والمصداق ، وإن اريد بها التساوي فانتفاؤها بهذا المعنى أيضا واضح ، لأنّ من لوازم المتساويين صحّة حمل كلّ واحد على شيء واحد كالناطق والضاحك ، لصحّة حملهما على « زيد » بخلاف الأمر والنهي لعدم صحّة حملهما على شيء واحد ، فلا يقال : إنّ « اضرب » نهي ، كما يقال إنّه أمر ، وكذلك لا يقال : إنّ « لا تضرب » أمر ، كما يقال : إنّه نهي ، وإن اريد بها التلازم فالقول بها بهذا المعنى قول بالدلالة التزاما فلا يكون مقابلا له ، مع أنّ أصحابه يزعمونه مقابلا له ، ولا يخفى ما فيه من وروده على خلاف التحقيق كما يظهر بأدنى تأمّل.

أدلّة القول على أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه الخاصّ

* هذا القول منسوب إلى القاضي والمحكيّ من حجّته وجهان :

أحدهما : ما قرّره المصنّف ، وقضيّة ما فيه من بطلان التالي بجميع أقسامه تضمّن دعوى العينيّة الّتي تثبت برفع المقدّم لاتّحاد الأمر بالشيء مع النهي عن ضدّه الخاصّ ، وهو كما ترى ممّا لا يكاد يعقل بل الضرورة قاضية ببطلانه ، لوضوح تعدّدهما إنشاء وموضوعا ، كيف وأنّ الاتّحاد إمّا أن يراد به ما هو بحسب المفهوم أو ما هو بحسب المصداق ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مفهوم « الأمر » طلب الفعل حتما وهو مغاير لطلب الترك حتما ، ولا سيّما إذا كان متعلّقهما فعل شيء وترك شيء آخر ضدّه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المصداق لو اريد به ما يرجع إلى المكلّف ، بدعوى : أنّ ما قام بنفس المولى من المعنى الإنشائي أمر واحد.

ففيه : أنّ تغاير الموضوعين ممّا يقتضي عند إرادة الجعل تعدّد الإنشاء والتصوّر قبله وغيره ممّا هو من لوازم الجعل.

ص: 705

بأنّه لو لم يكن نفسه ، لكان إمّا مثله ، أو ضدّه ، أو خلافه * ، واللاّزم بأقسامه باطل.

بيان الملازمة : أنّ كلّ متغايرين إمّا أن يكونا متساويين في الصفات النفسيّة ، أو لا - والمراد بالصفات النفسيّة : ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد ، كالإنسانيّة للإنسان. وتقابلها المعنويّة المفتقرة إلى تعقّل أمر زائد ، كالحدوث والتحيّز له - فإن تساويا فيها ؛ فمثلان ، كسوادين وبياضين.

وإلاّ ، فإمّا أن يتنافيا بأنفسهما ، بأن يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد بالنظر إلى

__________________

فلو قيل : الإنشاء واحد وله إضافة إلى فعل المأمور به وإضافة إلى ترك ضدّه فبالاعتبار الأوّل يصير أمرا وبالاعتبار الثاني يصير نهيا.

قلنا : مع قضاء الوجدان بتعدّد الطلب لتعدّد محلّه ولوازمه كيف يصير إنشاؤه واحدا.

ولو اريد به ما يرجع إلى المكلّف ، ففيه : أنّ فعل المأمور به مع ترك ضدّه لكونهما متلازمين لهما وجودان متغايران ، فيوجب طلب كلّ منهما اشتغالا في ذمّة المكلّف ، ومعه كيف يقال : بأنّ ما يرجع إليه واحد.

ولو اريد به ما يرجع إلى المكلّف به ، بدعوى : أنّ المأمور به والمنهيّ عن ضدّه متصادقان على شيء واحد ، لصحّة أن يقال : إنّه مأمور به ومنهيّ عن ضدّه.

ففيه : مع كونه خروجا عن المتنازع فيه من حيث إنّ كلامهم على ما عرفت إنّما هو في الأمر والنهي على معناهما المصدري المبنيّ للفاعل ، أنّ الوصفين وإن كان يصحّ رجوعهما بحسب التركيب النحوي إلى المأمور به غير أنّ النزاع ليس في أمر لفظي ، ولا ريب أنّهما بحسب المعنى متغايران لتغاير ما يسندان إليه بعنوان الحقيقة ، فلذا يعبّر عن الأوّل بالوصف بحال الموصوف وعن الثاني بالوصف بحال متعلّق الموصوف (1).

* وأجود تقارير هذا الدليل ما في شرح الشرح من أنّه لو لم يكن عينه لكان إمّا ضدّا له أو مثلا له أو خلافا له ، والتالي باطل.

ص: 706


1- قيل الصفات النفسانيّة ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد عليها كالإنسانيّة للإنسان ، ويقابلها المعنويّة وهي ما يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد عليها كالحدوث والتحيّز والشرط. ( منه عفي عنه ).

ذاتيهما ، أو لا. فإن تنافيا كذلك ، فضدّان ، كالسواد والبياض. وإلاّ ، فخلافان ، كالسواد والحلاوة.

ووجه انتفاء اللازم بأقسامه : أنّهما لو كانا ضدّين أو مثلين لم يجتمعا في محلّ واحد ، وهما مجتمعان ، ضرورة أنّه يتحقّق في الحركة الأمر بها والنهي عن السكون الّذي هو ضدّها. ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ، لأنّ ذلك حكم الخلافين ، كاجتماع السواد - وهو خلاف الحلاوة - مع الحموضة ، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن ضدّه ، وهو الأمر بضدّه. لكن ذلك محال ، إمّا لأنّهما نقيضان ، إذ يعدّ « إفعل هذا » و « إفعل

__________________

أمّا الملازمة : فلانحصاره في الثلاثة على تقدير أن يكون غيره ، لأنّه حينئذ إمّا أن يكون مساويا له في صفات نفس الماهيّة أي في تمام ذاتيّاته أو لا ، والأوّل هما المثلان كزيد وخالد.

والثاني إمّا أن يتنافيا لذاتيهما أو لا ، والأوّل هما الضدّان ويندرج فيه النقيضان كالإنسان واللا إنسان والعدم والملكة كالبصر والعمى ، والضدّان الوجوديّان اللذان يكون بينهما غاية الخلاف كالسواد والبياض ، والثاني هما الخلافان كالحركة والسواد. وأمّا بيان بطلان التالي : فلأنّ الأمر بالشيء والنهي لو كانا مثلين أو ضدّين لم يجتمعا ، ضرورة امتناع اجتماع الضدّين والمثلين ، لكن الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه يجتمعان فلا يكون الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه مثلين ولا ضدّين.

ولو كانا خلافين لجاز وجود أحدهما مع ضدّ الآخر ومع خلاف الآخر ، لأنّ حكم الخلافين جواز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ومع خلاف الآخر كالعلم والإرادة ، فإنّهما خلافان وجاز وجود العلم مع الكراهة الّتي هي ضدّ الإرادة والمحبّة الّتي هي خلافها ، وجاز وجود الإرادة مع الجهل الّذي هو ضدّ العلم ومع السخاوة الّتي هي خلاف العلم.

لكن يستحيل اجتماع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن الضدّ ، لأنّ الأمر بالضدّ (1) ضدّ النهي

ص: 707


1- كالأمر بالقعود مع الأمر بالقيام.

ضدّه » أمرا متناقضا ، كما يعدّ « فعله » و « فعل ضدّه » خبرا متناقضا ؛ وإمّا لأنّه تكليف بغير الممكن ، وأنّه محال.

والجواب : إن كان المراد بقولهم : « الأمر بالشيء طلب لترك ضدّه » على ما هو حاصل المعنى : أنّه طلب لفعل ضدّ ضدّه ، الّذي هو نفس الفعل المأمور به ، فالنزاع لفظيّ ، لرجوعه إلى تسمية فعل المأمور به تركا لضدّه ، وتسمية طلبه نهيا عنه. وطريق ثبوته النقل لغة ، ولم يثبت. ولو ثبت فمحصّله : أنّ الأمر

__________________

عن الضدّ فيمتنع (1) اجتماع الأمر بالمتباينين إن لم يكن الضدّان نقيضين ، وهذا تكليف ما لا يطاق فلا يكون الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه خلافين ، وإذا بطل الأقسام الثلاثة بطل التالي.

واجيب عنه - كما في الكتاب المذكور - : بأنّ القاضي إن أراد بطلب ترك الضدّ الّذي هو معنى النهي عن الضدّ طلب الكفّ عن الضدّ نختار أنّهما خلافان ، ونمنع على ذلك التقدير ما جعله القاضي لازما للخلافين وهو جواز اجتماع الخلاف مع ضدّ الخلاف ومع خلاف الخلاف ، وذلك لأنّه قد يتلازم الخلافان كالعلّة ومعلولها المساوي لها فيستحيل جواز اجتماع أحدهما مع ضدّ الآخر وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين لأنّ أحدهما لا ينفكّ عن الآخر ، وكلّما يصدق أحدهما صدق الآخر ، وأيضا قد يكون ضدّ أحد الخلافين ضدّا لخلاف الآخر كالظنّ والشكّ ، فإنّهما خلافان وكلّ منهما ضدّ العلم فيكون كلّ منهما ضدّ الآخر.

وإن أراد بطلب ترك ضدّه طلب عين الفعل المأمور به فلا يبقى نزاع في المعنى ، بل رجع المتنازع لفظيّا في تسمية الفعل بترك الضدّ ثمّ في تسمية طلب ذلك الفعل نهيا.

وثانيهما (2) : أنّ السكون عين ترك الحركة ، فطلب السكون الّذي هو الأمر بالسكون هو بعينه طلب ترك الحركة الّذي هو النهي عن ضدّ السكون.

واجيب عنه : بمثل ما تقدّم من خروج النزاع لفظيّا.

والتحقيق في الجواب منع العينيّة لكمال المبائنة بين الوجود والعدم إلاّ أن يراد بها التلازم ،

ص: 708


1- وهذا كما في النسخة الّتي عندنا وظنّي وقوعه في مكان « فيلزم اجتماع ... إلى آخره » سهوا من الناسخ وإلاّ لما استقامت العبارة. ( منه عفي عنه ).
2- أي ثاني الوجهين اللذين تمسّك بهما القاضي. ( منه عفي عنه ).

بالشيء ، له عبارة اخرى ، كالاحجيّة ، نحو : « أنت وابن أخت خالتك ». ومثله لا يليق أن يدوّن في الكتب العلميّة.

وإن كان المراد : أنّه طلب للكفّ عن ضدّه ، منعنا ما زعموا : أنّه لازم للخلافين - وهو اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر - لأنّ الخلافين : قد يكونان متلازمين ؛ فيستحيل فيهما ذلك ؛ إذ اجتماع أحد المتلازمين مع الشيء يوجب اجتماع الآخر معه ؛ فيلزم اجتماع كلّ مع ضدّه ، وهو محال. وقد يكونان ضدّين لأمر واحد ، كالنوم للعلم والقدرة ، فاجتماع كلّ مع ضدّ الآخر يستلزم اجتماع الضدّين.

حجّة القول بالاستلزام اللفظي في الضدّ الخاصّ

حجّة القائلين بالاستلزام وجهان * :

الأوّل - أنّ حرمة النقيض جزء من ماهيّة الوجوب. فاللفظ الدالّ على الوجوب يدلّ على حرمة النقيض بالتضمّن **.

__________________

فيردّ : منع كون طلب أحد المتلازمين عين طلب المتلازم الآخر والوجه واضح بما تقدّم.

* والظاهر بقرينة المقابلة لما يأتي من حجّة القول بالاستلزام المعنوي كون المراد بالاستلزام هنا اللفظي ، وإذ قد عرفت أنّ القول بالدلالة اللفظيّة بين قائل بالتضمّن وقائل بالالتزام تعرف أنّ حمل الاستلزام هنا على ما يعمّهما ليس ببعيد ، كما يرشد إليه حجّتيه المقتضي أحدهما للأوّل والآخر للثاني.

** قضيّة ما قرّرناه من التوجيه كون المراد من النقيض ما يعمّ الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ولا بعد فيه أيضا وإن كان خروجا عن الاصطلاح ، فيكون الاستدلال متضمّنا لدعوى الدلالة الالتزاميّة في كلّ من الضدّ العامّ والخاصّ.

فالجواب عنه بما نقله المصنّف - : من أنّهم إن أرادوا بالنقيض الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب الترك فليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ لا خلاف في أنّ الدالّ على الوجوب دالّ على المنع من الترك ، وإلاّ خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجوديّة فليس بصحيح ، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع

ص: 709

واعتذر بعضهم - عن أخذ المدّعى الاستلزام ، واقتضاء الدليل التضمّن - بأنّ الكلّ يستلزم الجزء *. وهو كما ترى.

واجيب : بأنّهم إن أرادوا بالنقيض - الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب - الترك ؛ فليس من محلّ النزاع في شيء ؛ إذ لا خلاف في أنّ الدالّ على الوجوب دالّ على المنع من الترك ، وإلاّ ، خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجوديّة ، فليس بصحيح ، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك ، وأين هو من ذاك؟

وأنت إذا أحطت خبرا بما حكيناه في بيان محلّ النزاع ، علمت أنّ هذا الجواب لا يخلو عن نظر ؛ لجواز كون الاحتجاج لاثبات كون الاقتضاء على سبيل الاستلزام في مقابلة من ادّعى أنّه عين النهي ، لا على أصل الاقتضاء.

وما ذكر في الجواب إنّما يتمّ على التقدير الثاني.

__________________

المنع من الترك وأين هو من ذلك - في محلّه بناءا على الإغماض عمّا حقّقناه سابقا ، مع تسليم دعوى خروج الدلالة على النهي عن الضدّ العامّ عن محلّ النزاع ، وإلاّ فجوابه التحقيقي منع كون المنع عن الضدّ الخاصّ مأخوذا في ماهيّة الوجوب ، لما تقدّم تحقيقه من أنّ ماهيّة الوجوب ليست إلاّ طلب الفعل مع المنع عن الترك بالمعنى المقابل للإذن في الترك ، وهو ليس بعين النهي في شيء ولا ملزوما له وإن كان ملزوما لعدم الرضا ، كما أنّ الترك ليس بعين الضدّ الخاصّ في شيء.

نعم هو ملزوم لفعل الضدّ في وجه غير أنّه لم يتحقّق بالنسبة إليه نهي حقيقة.

ولو سلّم فهو لا يستلزم النهي عن لازمه كما يأتي ، هذا إذا اريد بالنقيض الضد الخاصّ ، ولو اريد به الضدّ العامّ فجوابه ما تقدّم مفصّلا وما ظهر هنا إجمالا.

* وهذا الاعتذار بناء على ما ذكرناه من التوجيه في محلّه وإن كان خروجا عن الاصطلاح ، لابتنائه على حمل « الاستلزام » على مجرّد عدم الانفكاك وهذا مفهوم يشمل الجزء واللازم ، ولكنّ المصنّف لم يرض به كما أشار إليه بقوله : « وهو كما ترى ».

ص: 710

فالتحقيق : أن يردّد في الجواب بين الاحتمالين ؛ فيتلقّى بالقبول على الأوّل ، مع حمل الاستلزام على التضمّن ، ويردّ بما ذكر في هذا الجواب على الثاني *.

__________________

وكأنّه استبعاد نشأ عن فهم كونه جاريا على الاصطلاح ، وهو كما ترى مع قيام القرينة على الخلاف وارد في غير محلّه ، فإنّ ذكر التضمّن في الدليل قرينة واضحة على ذلك ولا خفاء فيه أصلا ، كيف وإطلاق « الاستلزام » على المعنى الأعمّ غير عزيز في كلامهم ، كما يشهد به ما في بعض عناوين المسألة من التعبير عن الاقتضاء والدلالة بالاستلزام الشامل لجميع الأقوال حتّى القول بالعينيّة ، فلو كان الإطلاق المذكور محلاّ للمناقشة لكان ما ذكر من التعبير في العنوان أولى بالمناقشة فيه وهو باطل ، إذ لم نر أحدا من أهل الاصطلاح تعرّض لإيرادها.

وأمّا ما اعتذر عنه أيضا بعض الأفاضل : بأنّ القائل المذكور قد يقول بكون دلالة « الأمر » على الوجوب التزاميّة ، فيكون دلالته على المنع من النقيض التزاميّة أيضا لكونه جزءا من معناه الالتزامي ، فليس المراد بالتضمّن في كلامه هو التضمّن بمعناه المصطلح ليكون جزءا من معناه المطابقي ، بل أراد به الجزئيّة بالنسبة إلى معناه الالتزامي ، فلا يكاد ينطبق على سوق الدليل مع كونه تكلّفا باردا.

فإن قلت : بناء تصحيح كلام هذا القائل على التوجيه لا محالة ، وكما أنّه يتأتّى بالتصرّف في « الاستلزام » بحمله على غير معناه المصطلح ، فكذلك يتأتّى بالتصرّف في التضمّن بحمله على غير معناه المصطلح فلا ترجيح ولا أولويّة.

قلت : إطلاق « الاستلزام » في كلامهم على غير المصطلح كثير شائع ولا كذلك إطلاق التضمّن على غير المصطلح ، بل لم نجد له موردا فالحمل على الشائع أولى.

* وفي كون المراد بالاحتمالين احتمالي إرادة الضدّ العامّ من النقيض أو إرادة الضدّ الخاصّ منه ، أو احتمالي كون المراد « بالاستلزام » التضمّن أو معناه المصطلح على تقدير الشقّ الأوّل من احتمالي الوجه الأوّل ، أو احتمالي إرادة إثبات ما يرجع إلى كيفيّة الاقتضاء مع جعل أصل الاقتضاء مفروغا عنه متّفقا عليه أو إرادة إثبات ما يرجع إلى أصل الاقتضاء بزعم كونه محلاّ للخلاف على تقدير الشقّ الأوّل أيضا وجوه ، أظهرها الأوّل كما فهمه بعض المحقّقين.

ولا يلزم رجوعه إلى ما عدل عنه المصنّف من الجواب الّذي نقله ، لاشتماله في شقّه الأوّل

ص: 711

الوجه الثاني - أنّ أمر الايجاب طلب يذمّ تركه اتّفاقا * ،

__________________

على نوع خصوصيّة لم يكن المصنّف ارتضى بها ، وهو ادّعاء كون النهي عن النقيض بمعنى الترك على سبيل التضمّن ليس من محلّ النزاع في شيء ، ومعلوم أنّ المغايرة يكفي فيها إلغاء تلك الخصوصيّة فيكون توجيه قوله : « فيتلقّى بالقبول على الأوّل » أنّه مسلّم لا بعنوان أنّه ليس من محلّ الخلاف ، بل بعنوان أنّه مطابق للواقع قبالا لمن يدّعي كونه على سبيل الالتزام.

وقوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » قرينة واضحة على إرادة هذا المعنى ، إذ لم يذكر فيه ما يناسب المعنيين الآخرين ، إذ الّذي ذكر فيه إنّما هو دعوى أنّ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك.

وأمّا لو حملناه على المعنى الثاني يبقى قوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » بلا محلّ كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : بأنّ « اللام » إشارة إلى ما ذكره سابقا من الحجّة على مدّعاه ، نظرا إلى أنّه كما يصلح حجّة له يصلح جوابا عن خصمه في دعوى الالتزام ، ولكنّه في البعد بمثابة لا يكاد ينتقل إليه الذهن ، مضافا إلى أنّه يوجب خروج الجواب قاصرا عن إفادة ردّ الاستدلال بجميع تقاديره ، لبقاء احتمال كون مراد المستدلّ بالنقيض أحد الأضداد الوجوديّة خاليا عمّا يقضي ببطلانه.

إلاّ أن يقال : بكونه إحالة إلى ما ذكره في الاحتجاج على عدم الاقتضاء في الضدّ الخاصّ وهو أيضا في غاية البعد ، بل بعيد في بعيد.

ونظير ذلك يرد على الاحتمال الأخير ، وإن أمكن تصحيح قوله : « ويردّ بما ذكر في الجواب » بإرجاعه إلى ما ذكره في وجه قوله : « علمت أنّ هذا الجواب لا يخلو عن نظر ».

* وقيد « الاتّفاق » إمّا دليل على التحديد يعني كون أمر الإيجاب عبارة عمّا ذكر محلّ وفاق عندهم ، أو قيد للحدّ راجع إلى الإسناد في « يذمّ » بمعنى أنّ ترك الفعل في موضع الإيجاب ممّا اتّفق العقلاء على الذمّ عليه.

والأوّل باطل لمنع الاتّفاق على ما ذكر إن لم نقل بقيام الاتّفاق على خلافه ، كيف ولا ينبغي الاسترابة في أنّ الذمّ على الترك من عوارض الشخص لا من لوازم الماهيّة ، وإلاّ لزم انحصار الإيجاب في ملزوم الشخص وهو بديهي البطلان ، ولا ينافيه ما في كلامهم من

ص: 712

تحديد الوجوب بما يذمّ تاركه ، لأنّه ليس تحديدا لما يفهم من الأمر لغة وعرفا ، بل لما يقتضيه قرينة المقام الّذي هو أخصّ من الأوّل.

فإذا تعيّن الوجه التالي رجع محصّل الاحتجاج إلى النظر في لازم أخصّ كاشف عن فهم الأعمّ عند العقلاء وتبادره لدى العرف ، فيكون نظير استدلالهم بذمّ العقلاء على كون « افعل » حقيقة في الوجوب بالتوجيه الّذي قدّمنا ذكره في محلّه ، فعلى هذا يكون الدليل وافيا بتمام المدّعى من اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ ، سواء صدر ممّن يوجب مخالفته استحقاق أو غيره.

فلا وقع لما أجاب به عنه العضدي - على ما في شرح الشرح - من أنّ ذلك مبنيّ على كون الذمّ على الترك ممّا يعقله الآمر ويدلّ الأمر على لزومه عقلا لا أنّه يعلم بدليل خارجي وهو في محلّ المنع ، إذ العلم بالذمّ يستفاد من دليل خارجي ، ولهذا جوّز بعض الاصوليّين الإيجاب بدون الذمّ ولو كان الذمّ من معقول الإيجاب لما يمكن من تجويزه ، فإنّ كون الذمّ معقولا من دليل خارجي لا يقضي بكون النهي الّذي هو ملزوم له في موضع الدليل الخارجي معقولا عن دليل خارجي ، لجواز كونه معقولا عن نفس « الأمر » مع كون الذمّ معقولا عمّا قارنه من الدليل الخارجي ، كما أنّ الإيجاب معقول عن « الأمر » والذمّ على مخالفته معقول عن دليل مقارن له ، وهو كون الآمر ممّن يجب طاعته.

فإن قلت : إذا جاز استناد تعقّل الذمّ إلى دليل خارجي فكيف يعقل التفكيك بينه وبين تعقّل الإيجاب وتعقّل النهي عن الضدّ ، إذ الخطاب واحد وما قارنه من الدليل الخارجي مقارن له في جميع معقولاته.

قلت : ليس المراد بتعقّل الذمّ أنّه ينفهم عند الخطاب من الخارج ، لأنّه ممّا يترتّب على المخالفة وهي متأخّرة عن الخطاب ، بل بمعنى أنّ الاستحقاق لتوجّهه عند المخالفة ينشأ عن علوّ رتبة الآمر وتفوّقه على المأمور ، ولمّا كان ذلك فرع العصيان وهو فرع الوجوب يكشف عن فهم العقلاء للوجوب من الخطاب عند صدوره.

غاية ما هنالك احتمال استناد فهمهم إلى ما ذكر وهو مدفوع بالأصل.

فاتّضح بجميع ما ذكر أنّ الاحتجاج لو كان مرادا به ما ذكر كان ناهضا على دعوى الدلالة اللفظيّة الّتي يطالب فيها بالأمارات ، وأمّا كونها على سبيل التضمّن أو الالتزام فالإنصاف أنّه ساكت عن إفادته وصالح لكلّ منهما ، وإن كان الواقع في جملة من الكتب

ص: 713

ولا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّه المقدور * ، وما هو هاهنا إلاّ الكفّ عنه ، أو فعل ضدّه ، وكلاهما ضدّ للفعل.

حجّة القول بالاستلزام المعنوي في الضدّ الخاصّ

والذمّ بأيّهما كان ، يستلزم النهي عنه ، إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه ، لأنّه معناه.

والجواب : المنع من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل ، بل يذمّ على أنّه لم يفعل. سلّمنا ، لكنّا نمنع تعلّق الذمّ بفعل الضدّ ،

__________________

الاصوليّة كالمختصر وشرحه وشروح شرحه حكايته عن القائل بالتضمّن فجوابه حسبما قرّرناه منع انفهام النهي عن الضدّ إن اريد به الخاصّ ، والذمّ على الترك مسلّم ولكنّه من لوازم وجوب الفعل ولا يقتضي ملزوما آخر لينظر في كون متعلّقه مقدورا أو غير مقدور ، والفعل مقدور عندكم على ما يقتضيه دليلكم.

* وهذه مقدّمة اخرى من الدليل. ولا يذهب أنّها تدافع المقدّمة الاولى ، لأنّ المأخوذ فيها كون الذمّ على الترك والثانية تنفيها ، إلاّ أن يوجّه : بأنّ الترك لكونه عدما والعدم ممّا لا تحصّل له في الخارج بل هو أمر يعتبره العقل فلا يتعلّق به قدرة المكلّف بل القدرة إنّما تتعلّق بما كان مبدءا له من الامور الوجوديّة ، وليس له منها مبدأ إلاّ الكفّ الّذي هو عبارة عن إمساك الجوارح عن الفعل أو فعل الضدّ الوجودي ، وكائنا ما كان فالذمّ المتوجّه إليه ظاهرا متوجّه إلى ذلك المبدأ واقعا فلا تدافع بين المقدّمتين إذا اختلفت نسبتاهما بحسب الظاهر والواقع ، ولكن يرد عليه :

أوّلا : المنع عن عدم كون الترك مقدورا ، والشبهة السوفسطائيّة لا تدفع الضرورة الوجدانيّة ، كيف وهو عبارة عن عدم الإقدام على الفعل وهو كالإقدام عليه اختياري للمكلّف ، ضرورة أنّ له حين الالتفات إليهما اختيار هذا أو اختيار ذاك ، فلذا ترى أنّه يسندهما إلى نفسه عند التردّد في شيء ، فيقول في نفسه : « هل أفعل ذلك أو لا أفعل »؟ كيف ولو لا ذلك لزم أن لا يكون الفعل أيضا مقدورا ، لأنّه أحد الطرفين اللذين يضاف إليهما القدرة الّتي هي عبارة عن كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ولا ريب أنّ الأمر الإضافي ينعدم بانعدام أحد منتسبيه.

إلاّ أن يقال : بأنّ الإضافة حينئذ تؤخذ بين الفعل والكفّ أو فعل ضدّه ، فيقال : إنّ القدرة هي كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن شاء كفّ نفسه عن الفعل أو فعل الضدّ.

ص: 714

وثانيا : منع كون مبدأ الترك أحد الأمرين من الكفّ وفعل الضدّ ، لابتنائه على مقدّمة فاسدة عندنا وهو تحقّق التمانع فيما بين الأضداد الوجوديّة ، بل مبدؤه عدم الإرادة أو إرادة العدم كما هو الحال فيمن يعصي بترك الواجبات.

نعم في غيرها كثيرا مّا يستند الترك إلى عدم الإرادة ، ولا ريب أنّ إرادة العدم أمر اختياري للمكلّف ، فالذمّ على الترك من جهة كونه متولّدا عن الأمر الاختياري نظير سائر التوليديّات.

وثالثا : منع قضاء استناد الترك إلى أحد الأمرين - على فرض تسليمه - بتوجّه الذمّ إليهما حقيقة ، كيف وهو أيضا مبتن على أصل قد أفسدناه في بحث المقدّمة وهو كون الحكم المتعلّق بالمسبّب ظاهرا متعلّقا بسببه حقيقة ، فإنّ القدرة على السبب تكفي في تعلّق الحكم من إيجاب أو تحريم بالمسبّب الغير المقدور وترتّب جميع لوازمه عليه من ذمّ وعقاب ونحوه ، ولا داعي معه إلى تعلّق ذلك الحكم ولا مثله بالسبب المقدور إلاّ من باب المقدّمية ، وهو وإن كان مسلّما عندنا على فرض ثبوت المقدّمية إلاّ أنّه لا ينفع المستدلّ لخروجه عن مقصوده من الاستدلال كما لا يخفى.

فقوله : « والذمّ بأيّهما كان يستلزم النهي عنه » متّضح المنع ، لجواز كون الذمّ مسبّبا عن الترك الّذي هو مسبّب عن سبب اختياري ، كما أنّ قوله : « إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه » واضح المنع ، لما تقدّم من أنّه لازم مترتّب على الأمر وإيجاب الفعل ولا يقتضي معه ملزوما آخر ليكون ذلك نهيا متعلّقا بالترك أو الكفّ أو فعل الضدّ.

وأمّا قوله : « لأنّه معناه » فأوضح فسادا من المقدّمات السابقة ، إذ ليس معنى الذمّ لغة ولا عرفا ولا شرعا إلاّ طلب الترك حتما ، والذمّ من أحكامه في بعض الصور وليس من مداليل اللفظ مطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما كما عرفت.

وبذلك تبيّن أنّ مبنى الاستدلال ليس على التوجيه الّذي ذكرناه له تفضّلا ، فحينئذ يكون جواب قوله : « أمر الإيجاب طلب فعل يذمّ على تركه » منع ذلك ، كيف وأنّ الطلب من صفات الآمر والذمّ على الترك متفرّع عليه في بعض الصور ومتأخّر عنه بحسب الوجود ، لتسبّبه عن المعصية المتأخّر زمانها عن زمان الخطاب ، بل أمر الإيجاب هو طلب الفعل على سبيل الحتم والإلزام الّذي هو عبارة عن المنع من الترك ، وليس المنع من الترك عين النهي ولا ملزوما له كما حقّقناه مستوفي.

ص: 715

بل نقول : هو متعلّق بالكفّ ، ولا نزاع لنا في النهي عنه *.

واعلم : أنّ بعض أهل العصر حاول ** جعل القول بالاستلزام منحصرا في المعنوي ؛ فقال : التحقيق أنّ من قال بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه لا يقول بأنّه لازم عقليّ له ، بمعنى أنّه لابدّ عند الأمر من تعقّله وتصوّره. بل المراد باللزوم : العقليّ مقابل الشرعيّ ، يعني : أنّ العقل يحكم بذلك اللزوم ، لا الشرع. قال : « والحاصل : أنّه إذا أمر الآمر بفعل ، فبصدور ذلك الأمر منه يلزم أن يحرم ضدّه ، والقاضي بذلك هو العقل. فالنهي عن الضدّ لازم له بهذا المعنى.

وهذا النهي ليس خطابا أصليّا حتّى يلزم تعقّله ، بل إنّما هو خطاب تبعيّ ، كالأمر بمقدّمة الواجب اللازم من الأمر بالواجب : إذ لا يلزم أن يتصوّره الآمر ».

هذا كلامه. وأنت إذا تأمّلت كلام القوم رأيت أنّ هذا التوجيه إنّما يتمشّى في قليل من العبارات الّتي أطلق فيها الاستلزام. وأمّا الأكثرون فكلامهم صريح في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظيّة. فحكمه على الكلّ بإرادة المعنى الّذي ذكره تعسّف بحت ، بل فرية بيّنة.

واحتجّ المفصّلون على انتفاء الاقتضاء لفظا ، بمثل ما ذكرناه في برهان ما اخترناه ، وعلى ثبوته معنى بوجهين :

أحدهما : أنّ فعل الواجب الّذي هو المأمور به لا يتمّ إلاّ بترك ضدّه ،

__________________

* ولا يخفى أنّ ذلك يناقض ما ذكره سابقا في ردّ الجواب عن الوجه الأوّل ، فيرد عليه حينئذ كيف لا نزاع لكم مع أنّ المستدلّ لعلّه يقول بالنهي التزاما وأنتم تزعمونه تضمّنا.

** قيل : إنّه الفاضل الشيرازي « مولانا ميرزاجان » وكان الّذي دعاه إلى ذلك التنزيل احتجاج بعض القائلين بالاستلزام بقاعدة المقدّمية ، الّتي وجوبها تبعي ينشأ من العقل الصرف تبعا بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وهو كما ترى اشتباه صرف ناش عن عدم الإحاطة بأقوال المسألة وأدلّتها المقامة عليها فاعتراض المصنّف عليه في محلّه.

ص: 716

وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب * ، وحينئذ فيجب ترك فعل الضدّ الخاصّ. وهو معنى النهي عنه.

وجوابه يعلم ممّا سبق آنفا ؛ فإنّا نمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلق ، بل يختصّ ذلك بالسبب ، وقد تقدّم.

__________________

* واعلم أنّ هذا الدليل يتضمّن مقدّمتين :

إحداهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به.

والاخرى : أنّ مقدّمة الواجب واجبة.

فالجواب عنه : إمّا بمنع المقدّمة الاولى كما هو مقتضى تحقيقنا المتقدّم ولا نطيل الكلام بإعادته ، أو بمنع المقدّمة الثانية. ويختلف ذلك باختلاف المذاهب في وجوب المقدّمة.

فمنهم من يمنعه لمنع وجوب المقدّمة مطلقا.

ومنهم من يمنعه لمنع وجوب المقدّمة الغير السببيّة كما عليه المصنّف.

ومنهم من يمنعه لمنع وجوب الغير الشرط الشرعي من المقدّمات كما عليه ابن الحاجب ومن تبعه.

ومنهم من يمنعه لمنع الوجوب الأصلي في المقدّمات وخروج الوجوب التبعي الثابت عن محلّ كلامهم كما عليه بعض الأعلام.

وقد يحكى في المقام وجوه اخر كما في كلام بعض الأفاضل :

منها : منع قضاء وجوب المقدّمة بوجوب ترك الضدّ على إطلاقه ، وإنّما يقضي بوجوب تركه الموصل إلى أداء الواجب ، فإنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما دلّ عليه من حيث إيصالها إلى الواجب لا مطلقا ، فإذا لم يكن المكلّف مريدا لفعل الواجب لم يكن ترك الضدّ موصلا إلى الواجب فلا يجب فلا يحرم ضدّه ليكون منهيّا عنه.

ومنها : أنّ المقدّمة إنّما وجبت للتوصّل إلى ذيها كما يعطيه دليل وجوبها.

وقضيّة ذلك اختصاص الوجوب بحال إمكان التوصّل ، وهو مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه المستمرّان مع الأضداد الخاصّة غير ممكن ومعه لا معنى للوجوب.

ومنها : أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على فرض تسليمها إنّما تنهض دليلا على الوجوب حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن له كما هو الحال عند

ص: 717

والثاني : أنّ فعل الضدّ الخاصّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو محرّم قطعا ؛ فيحرم الضدّ أيضا ؛ لأنّ مستلزم المحرّم محرّم *.

والجواب : إن أردتم بالاستلزام : الاقتضاء والعلّيّة ، منعنا المقدّمة الاولى ، وإن أردتم به مجرّد عدم الانفكاك في الوجود الخارجيّ على سبيل التجوّز ، منعنا الأخيرة.

وتنقيح المبحث : أنّ الملزوم إذا كان علّة للازم لم يبعد كون تحريم اللازم مقتضيا لتحريم الملزوم ** ، لنحو ما ذكر في توجيه اقتضاء إيجاب المسبّب

__________________

اشتغاله بفعل الضدّ ، ولا يخفى ما في الجميع من الوهن.

وقد تقدّم توهين ما قبل الأخيرين في بحث المقدّمة بما لا مزيد عليه.

وأمّا الأخيران فيشير إليهما المصنّف فيما بعد ذلك ، وسنقرّر ما يرد عليهما إن شاء اللّه.

في جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه

* هذا الوجه مع سابقه يمكن كونهما من فريقين : قائل أحدهما بمقدّميّة ترك الضدّ ، والآخر بمنع مقدّميّته ، فأقام كلّ دليلا على اقتضاء النهي على وفق مذهبه ، كما يمكن أن يكون كلاهما من فريق واحد قائل بالمقدّميّة أو بعدمها فجمع بينهما على سبيل التنزيل والمماشاة إلزاما لخصمه في الكبرى الموافق له في الصغرى ، فالمراد « بالاستلزام » في تقرير الوجه الثاني حينئذ إنّما هو مجرّد المقارنة في الوجود الخارجي مع إلغاء جهة المقدّميّة الملزومة للتوقّف ، إمّا لكون المتمسّك به ممّن لا يقول بها أو لكونه إلزاما لمن لا يزعمها في منع النهي عن الضدّ ، وكائنا ما كان فما في جواب المصنّف من الترديد بين الاحتمالين بقوله : « إن أردتم بالاستلزام الاقتضاء والعلّيّة منعنا المقدّمة الاولى ، وإن أردتم به مجرّد عدم الانفكاك في الوجود الخارجي على سبيل التجوّز منعنا الأخيرة » ليس في محلّه وكأنّه اشتبه عليه حقيقة الحال.

وأمّا قوله : « على سبيل التجوّز » فغير واضح الوجه على تقدير كون المراد بالاستلزام استحالة الانفكاك ، كيف وأنّ اللازم عندهم عبارة عمّا امتنع انفكاكه وكأنّه غفل عن هذا المعنى فذكر احتمال مجرّد عدم الانفكاك وكونه على سبيل التجوّز حينئذ بالنظر إلى الاصطلاح كما ذكره.

** ولمّا كان بناء الاحتجاج المذكور على توهّم امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم

ص: 718

وهي مسألة خلافيّة فيما بينهم فرام تنقيحها وتحقيق الحال فيها لابتناء جرح الاحتجاج وتعديله عليهما. ونحن بعد ما أبطلنا جميع طرقهم في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ إلاّ هذا الطريق فلا مناص لنا من النظر في حكم تلك المسألة ليثمر في قبول الاحتجاج أو ردّه ، فنقول : إنّ المحكيّ من أقوالها على ما في الضوابط ثلاثة :

الأوّل : عدم الجواز مطلقا منسوب إلى الكعبي.

والثاني : جوازه مطلقا ، وهو مقتضى إطلاق عبارة البهائي في حاشية الزبدة في دفع الاحتجاج حيث قال : ولا يلزم من وجوب الملزوم وجوب اللازم كتبريد الوجه حال غسله في الوضوء.

وصريح السيّد شارحها حيث قال - في جملة ردوده على الاحتجاج - : سلّمنا أنّ فعل الضدّ علّة لترك المأمور به ، لكن لزوم تحريم العلّة من تحريم المعلول غير مسلّم ، إذ لا استحالة بل لا استبعاد عقلا وشرعا في وجوب المعلول وحرمته من دون وجوب العلّة وحرمتها ، بمعنى ترتّب الثواب والعقاب على الفعل والترك كما حقّق في مقدّمة الواجب.

وأمّا الوجوب العقلي بمعنى اللابدّية فمسلّم إلاّ أنّه لا يجدي. انتهى.

فإنّ تجويز الاختلاف في العلّة والمعلول يقتضي تجويزه في غيرهما بطريق أولى ، بل هو صريح الشيرواني في جملة كلام له حكاه السيّد ، ويظهر ذلك من بعض الأعاظم أيضا.

والثالث : ما ذكره المصنّف من التفصيل ويستفاد عن بعض الأعلام أنّه يوافقه في العلّة والمعلول دون المعلولين لعلّة واحدة.

واختار في الضوابط تفصيلا آخر منوطا بإمكان الامتثال بهما وعدمه ، ففي أربعة من عشرة صور لا يجوز اختلاف المتلازمين في الحكم ، وهي ما لو كان أحدهما واجبا والآخر محرّما أو مكروها ، أو كان أحدهما مندوبا والآخر مكروها ، وفي ستّة اخر يجوز اختلافهما وهي ما لو كان أحدهما واجبا والآخر مندوبا أو مباحا ، أو كان أحدهما محرّما والآخر مكروها أو مباحا ، أو كان أحدهما مندوبا أو مكروها والآخر مباحا.

وهل المراد بالحكم الّذي اختلفوا في جواز اختلاف المتلازمين فيه وعدمه ما يكون أصليّا ناشئا عن الصفة الكامنة المقتضية للرجحان أو المرجوحيّة أو التساوي حتّى يرجع النزاع نفيا وإثباتا إلى اشتراط اشتراك المتلازمين في الصفات الواقعيّة الّتي يتبعها الحكم الشرعي؟

أو ما يكون عرضيّا نظير الوجوب العرضي الثابت في لوازم المأمور به حتّى يرجع

ص: 719

النزاع نفيا وإثباتا إلى صحّة إضافة الحكم الأصلي الثابت لأحد المتلازمين من جهة اشتماله خاصّة على الصفة الكامنة إلى المتلازم الآخر على سبيل العرض والمجاز؟

أو ما يكون تبعيّا ثابتا من قبل العقل نظير وجوب المقدّمة حتّى يرجع النزاع نفيا وإثباتا إلى أنّ ما ينشئه الشارع من الحكم الأصلي التابع للصفة الواقعيّة الثابتة في أحد المتلازمين وإن كان واحدا إلاّ أنّ العقل بملاحظة عدم انفكاك المتلازم الآخر عنه في الوجود يحكم فيه بمثل ذلك الحكم ، بمعنى حكمه بكونه لازما لمراد الشارع شأنا من الخطاب؟ احتمالات منشؤها اغتشاش كلام القوم ، ولكن ظاهرهم على ما يشهد به التتبّع هو الاحتمال الأوّل.

فتحقيق المقام : حينئذ أنّه إن كان نظرهم في الجهة الاولى فلا ينبغي التأمّل في جواز اختلافهما في الحكم ، إذ ليس في حكم العقل ولا الشرع ما يقضي بامتناعه نظرا إلى جواز تعلّق الغرض الأصلي بأحدهما من جهة اشتماله خاصّة على الصفة الكامنة الموجبة للحسن وفي القبح الباعثة على ترتّب الثواب والعقاب بحيث يكون وجود المتلازم الآخر معه كالحجر الموضوع في جنب الإنسان فلا يترتّب عليه شيء من الآثار.

نعم قد يكشف إيجاب العلّة أو تحريمها عن حسن أو قبح في المعلول ، ولكنّه لا يثبت به كلّية المدّعى.

وإن كان نظرهم في الجهة الثانية فلا ينبغي الريب في جواز اتّصاف كلّ على سبيل العرض والمجاز بما اتّصف به الآخر على سبيل الحقيقة ، بل ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك ، بل هو نزاع - على فرض وقوعه - لا يترتّب عليه شيء من الآثار كما لا يخفى ، فيكون بعيدا منهم كمال البعد.

وإن كان نظرهم في الجهة الثالثة فالحقّ أنّه يختلف باختلاف الصور الّتي سنذكرها في المقامات الآتية.

وتفصيل ذلك : أنّ المتلازمين إمّا أن يستحيل الانفكاك بينهما عقلا أو لا ، بل كان تلازمهما لمجرّد عدم الانفكاك.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون استحالة الانفكاك لذاتهما كالعلّة والمعلول ، أو لعارض من جهة اشتراكهما في خارج يكون علّة لهما معا كمعلولي علّة واحدة.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون التلازم بينهما دائميّا كالحركة وعدم السكون أو بالعكس ،

ص: 720

على القول بعدم بقاء الأكوان أو بقائها مع احتياج الباقي إلى المؤثّر على تقدير عدم اشتراك فعل أحد الضدّين وترك الضدّ الآخر في العلّة كما يلوح عن المصنّف ، أو أحيانيّا كالمثال المذكور على القول بالبقاء وعدم الاحتياج إلى المؤثّر ومثله الصلاة والغصب وغيرهما من المفهومين اللذين بينهما عموم من وجه ، فهذه أقسام أربع ينبغي النظر في حال كلّ منها بالخصوص ، فها هنا مقامات :

المقام الأوّل : فيما لو كان أحد المتلازمين علّة للآخر ، ولمّا كان البحث هنا راجعا إلى حال الحكم الشرعي وهو من عوارض فعل المكلّف فلابدّ وأن يكون مرادهم بالعلّة والمعلول هنا ما يكون من أفعال المكلّف ، فعلى هذا يلزم خروج التعرّض لحكم المسألة بالنسبة إلى هذا القسم قليل الجدوى ، إذ لا يكاد يتّفق من أفعال المكلّف ما يكون علّة تامّة لفعله الآخر الاختياري ، فكلّ فعل يفرض للمكلّف له مقدّمات من الشروط والأسباب أقلّها الإرادة والعزم ، وما خلا عنهما بالمرّة ليس بفعل اختياري له ، بل لا يكاد يعقل فعل اختياري غير مسبوق بالقصد والإرادة وإن كان من الغافل والمجنون ، لأنّ الغافل إنّما يغفل عن جهة الفعل لا عن إرادة ذاته وتصوّر إيجاده ، والمجنون بجميع أصنافه له في كلّ فعل يصدر عنه قصود وإرادات غايته عدم تعلّلها بغرض أصلا أو تعلّلها بغرض غير صحيح في نظر العقلاء خارج عن مقاصدهم.

ولو سلّم فهو خارج عن محلّ البحث إذ الكلام فيما يصلح لتعلّق التكليف به وأفعال المجنون ليست منه ، إلاّ أن يراد بالعلّة التامّة المجموع المركّب من الشرائط والأسباب وسائر المقدّمات.

وفيه : مع أنّه خلاف ما يظهر عن تتبّع كلماتهم أنّه خارج عن الفرض ، من حيث إنّ الكلام في علّة تكون بنفسها موردا لحكم أصلي تابع للصفة الكامنة فيها أو قابلة له ، وما فرض من العلّة ليس بتلك المثابة ، بل لا يكاد يوجد في الشرع ولا العرف ما يكون من المجموع المركّب من مقدّمات وجود الشيء موردا لحكم أصلي مشتملا على مصلحة واقعيّة منوطا به الثواب والعقاب أو المدح والذمّ ، بل لا يعقل له من الحكم إلاّ ما يكون تبعيّا ثابتا له من باب المقدّمة ، لكونه ممّا يتوصّل به إلى ما هو موردا لحكم الأصلي ، كيف وكثيرا مّا يكون كثير من أجزائه من المقدّمات الغير المقدورة الّتي لا يتعلّق بها حكم فضلا عن كونه أصليّا.

ص: 721

وربّما يذكر في المقام كون المراد بالعلّة هو السبب أو الجزء الأخير من العلّة التامّة كما في كلام بعض الأفاضل ، حيث قال - في توجيه كلام المصنّف - : « ثمّ إنّ المراد بالعلّة في المقام هو المقتضى لحصول الحرام إذا صادف اجتماع الشرائط ولا يريد به خصوص العلّة التامّة لخروجه عن المصطلح ، كيف ولو أراد به ذلك لزمه القول بوجوب الشرائط فإنّها من أجزاء العلّة التامّة.

ومن البيّن أنّ تحريم الكلّ يستدعي تحريم أجزائه ولا يقول المصنّف به ، ويمكن أن يريد به الجزء الأخير من العلّة التامّة فإنّه الّذي يتفرّع عليه حصول الحرام » إلى آخره.

وهو وإن كان يدفع الإشكال المذكور ويساعده بالنسبة إلى إرادة السبب ظاهر عبارة المصنّف ، حيث قاس اقتضاء تحريم اللازم لتحريم الملزوم على اقتضاء إيجاب المسبّب لإيجاب السبب ، غير أنّه مبنيّ على كون نزاعهم في الحكم التبعي المقدّمي وهو خلاف ما يظهر من الأكثر ، وينافي إنكار ثبوته مطلقا لإطلاق القول بوجوب المقدّمة كما صدر عن جماعة منهم البهائي القائل بوجوب المقدّمة ، المنكر لاقتضاء وجوب الملزوم لوجوب اللازم مطلقا.

وقضيّة ذلك كون من نفاه من وجوب اللازم هو الوجوب الأصلي لئلاّ يلزم التناقض.

وأمّا احتمال إرادة الجزء الأخير من العلّة فبعيد عن الصواب جدّا ، كيف وأنّه عبارة عن العزم المقارن للفعل ، ومن البعيد أن يحرم ذلك بحرمة الملزوم دون غيرها من المقدّمات ، مع أنّ منها ما هو أقوى منه في التأثير كالسبب ولا سيّما إذا قارن إيجاده العزم على الفعل ، ولا أظنّ من يحرم الجزء الأخير الّذي هو من مقولة الشروط دون السبب.

وأمّا ما ذكره من الوجهين في تعليل ما ذكر فغير وجيه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبما قرّرناه في المقام من لزوم كون المراد بالعلّة والمعلول ما يكون من مقولة فعل المكلّف ، يتبيّن وهن ما أورده المدقّق الشيرواني على المصنّف في دعواه اقتضاء تحريم الملزوم لتحريم اللازم ، وتحريم أحد المعلولين لعلّة مشتركة بينهما لتحريم المعلول الآخر ، بقوله : « وأيضا لم يقل أحد بأنّ ما ينشأ من شرب الخمر مثلا من كثرة الأكل والمرّة والتنزّة والمشي وغير ذلك فهو حرام ، وما يترتّب على أكل الطعام المغصوب من شرب الماء وغيره حرام ، وأبعد من ذلك أن يكون رفع ظلم الغير الموجب للقتل حراما ، لكونهما معلولي علّة واحدة هي جزّ الرقبة فيكون القاتل لمثل هذا الشخص فعل أفعالا ثلاثة كلّها حرام ، ولو فرض عدم ترتّب شيء على قتله غير أنّه قتل نفسا معصومة فعل حرامين ، ولو فرض

ص: 722

مباشرته لفعل الحرام من غير ترتّب شيء عليه فعل حراما.

وبالجملة ما ذكره المصنّف في هذا المقام بعيد عن الصواب ». انتهى.

فإنّ ما يترتّب على شرب الخمر ليس هو الأكل ولا كثرته ، بل هو قوّة نفسانيّة تقتضي كثرة الأكل ، وهي ليست من مقولة ما يتعلّق به التكليف ، وشرب الماء يترتّب على العطش لا على أكل الطعام وهو من صفات النفس ، والقتل ليس مغايرا لجزّ الرقبة إن اريد به ما يباشره المكلّف ، وإن اريد به غيره كالموت وزهوق الروح فهو ليس من فعل المكلّف حتّى يكون حراما عليه ، فلا يبقى للتحريم إن قلنا به في موضع رفع الظلم محلّ إلاّ جزّ الرقبة وهو علّة للرفع ، ولا يقول المصنّف باقتضاء تحريم العلّة لتحريم المعلول حتّى يتوجّه إليه الاستبعاد المذكور ، بل ولو قال به أيضا لم ينشأ منه محذور حتّى يكون مردودا عليه ، وكذا الكلام في باقي الأمثلة.

وعلى أيّ حال كان فلا إشكال في انتفاء العلّية فيما بين الأفعال الاختياريّة لو اريد بها كون الفعل الاختياري بانفراده علّة تامّة.

نعم ربّما يترتّب على الفعل الاختياري ما لا يفتقر إلى إرادة ولا يتوقّف على شيء سواه كضياء الوجه المترتّب على الصلاة ، والسكر المترتّب على شرب الخمر ، والقسوة والشقاوة المترتّبتين على سائر المعاصي ترتّب المعلول على علّته التامّة ، ولكنه خارج عن المبحث لعدم اندراج شيء من ذلك في جملة الأفعال حتّى يتعلّق به حكم الوجوب أو الحرمة أو غيرها ، وإن كان هو بنفسه حسنا أو قبيحا محبوبا أو مبغوضا في نظر الشارع ، وكذا الكلام في الألم الحاصل من اللطم بل وسائر التوليديّات الغير المباشريّة ، فإنّ العلّة في الكلّ إنّما هو فعل المكلّف ولكن لا يلزم من وجوبه أو حرمته وجوبها أو حرمتها ، بل ولو تعلّق الوجوب أو الحرمة في ظاهر الخطاب ببعض هذه الامور لوجب صرفه إلى ما هو علّة له حسبما قرّرناه في بحث المقدّمة ، هذا ولكن يبقى المناقشة في كون العلّة التامّة في هذه المذكورات هو الفعل بانفراده من جهة عدم انفكاكه عن المقدّمات الاخر كما لا يخفى.

وكيف كان فكلامنا في هذا المقام إنّما هو في كبرى القياس على فرض ثبوت صغراه ، سواء اريد بالعلّة ما يكون علّة تامّة أو مقتضيا وهو ممّا لا بأس به ، والنظر يقع تارة فيما لو ثبت الحكم الأصلي التابع للصفة الكامنة للمعلول دون علّته ، واخرى فيما لو ثبت الحكم الأصلي للعلّة دون المعلول ، فيبقى البحث في مرحلتين :

ص: 723

أمّا المرحلة الاولى : ففي الملازمة من جانب المعلول ، فإذا كان المعلول بحسب أصل الشرع واجبا أو حراما أو مندوبا أو مكروها لا إشكال في أنّه يقتضي وجوب العلّة أو حرمتها أو ندبها أو كراهتها ، بل هو من أوّليات الوجدان كما تقرّر في بحث المقدّمة ، لا بمعنى أنّه يثبت له الحكم فعلا بالطلب التفصيلي ، بل بمعنى أنّ من شأنه أنّ الشارع لو أراد أن يجعل له حكما من حيث كونه مقدّمة لا يجعل له إلاّ مثل ما جعله للمعلول أصالة ، وليس له التصريح بخلافه لمنافاته المقدّمية ، من غير فرق بين كون المراد بها العلّة التامّة أو السبب.

فما في الضوابط : من جواز وجوب أحد المتلازمين مع إباحة الآخر أو ندبه أو تحريمه مع إباحة الآخر أو كراهته أو ندبه مع إباحة الآخر أو كراهته مع إباحة الآخر إن اريد بهما ما يعمّ العلّة والمعلول بإطلاقه ، ليس على ما ينبغي ، إلاّ أن يراد بإباحة العلّة أو ندبها أو كراهتها ما يكون من مقتضيات الجهة الكامنة في ذات العلّة المسويّة بين الفعل والترك ، أو المرجّحة للفعل أو الترك مع قطع النظر عن جهتها المقدّمية ، بمعنى اشتمالها في حدّ ذاتها على ما لو لا وجود المانع في جانب المعلول فعلا لاقتضى فيها الإباحة أو الندب أو الكراهة فعلا ، فهي مباحة أو مندوبة أو مكروهة بالذات وإن كانت واجبة أو محرّمة بالعرض من جهة عروض جهة التوصّل لها إلى الواجب أو المحرّم.

وإذا كان مباحا لا يستلزم إباحة العلّة لما سنقرّره.

وأمّا المرحلة الثانية : ففي الملازمة من جانب العلّة ، فإذا كانت العلّة واجبة بحسب أصل الشرع لا يلازم وجوبها وجوب المعلول ، بل يجوز كونه مباحا أو مندوبا لعدم افتقاره في الوجود الخارجي إليه وإن كان يمتنع انفكاكه عنها ، ولا يلزم به تكليف ما لا يطاق ولا محذور آخر.

نعم ينافي وجوبها حرمته أو كراهته من جهة اقتضاء الطلب كائنا ما كان الامتثال بالمطلوب ، فيؤدّي إلى تكليف ما لا يطاق لاستحالة الجمع بين فعل العلّة وترك معلولها ، فيقبح في حكمة الحكيم النهي عن المعلول ولو تنزيها مع إيجابه العلّة وإن اشتمل المعلول على قبح ذاتي.

وكذا الكلام فيما لو كانت العلّة محرّمة بحسب أصل الشرع فإنّه لا يلازم تحريم المعلول ، ولا سيّما إذا لم يكن من مقولة الأفعال بل يجوز كونه مباحا أو مكروها.

نعم ينافي تحريمها وجوبه أو ندبه لعين ما ذكر ، فلا يجوز في حكمة الحكيم أن يأمر به - ولو ندبا - مع تحريمها وإن اشتمل على حسن ذاتي ، نظرا إلى أنّ الحسن والقبح في الأشياء من قبيل المقتضيات لا العلل التامّة فيصادفهما ما يمنع عن اقتضائها فعلا.

ص: 724

فإن قلت : كيف تنكر اقتضاء إيجاب العلّة وجوب المعلول وتحريمها حرمته ، مع أنّ ترك المعلول لا يتأتّى إلاّ بترك العلّة وفعله لا يتأتّى إلاّ بفعلها ، فتجويز تركه أو فعله في معنى تجويز ترك العلّة أو فعلها وهو ينافي إيجابها أو تحريمها.

وإن شئت فقل : إنّ فعل العلّة وتركها ملزومان لفعل المعلول وتركه ، وهما ملزومان للرضا ، ففعل العلّة وتركها ملزومان للرضا وهذا خلف.

قلت : أيّ ملازمة بين تجويز ترك المعلول وفعله وتجويز ترك العلّة وفعلها ، فإن اريد أنّ من يجوّز الأوّل لابدّ وأن يجوّز الثاني وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق أو قبح آخر.

ففيه : منع واضح لعدم توقّف العلّة على المعلول ، وامتناع الامتثال بالعلّة فعلا أو تركا يترتّب على فعل المعلول أو تركه المتضمّنين لفعل العلّة أو تركها لا على تجويزهما ، والمكلّف عاقل قادر على إيجاد العلّة ، وتجويز فعل المعلول أو تركه لا يوجب سلب قدرته عليه ، فينبغي أن لا يفعل المعلول ليتمكّن من ترك العلّة ولا أن يترك المعلول ليتمكّن من فعل العلّة ، فلو اختار فعله أو تركه المتضمّنين لفعل العلّة أو تركها لعصى بفعله المحرّم أو تركه الواجب واستحقّ العقاب لأنّه عصيان صدر عنه باختياره ، ولا يعقل في المقام محذور آخر من قبح عقلي ونحوه.

وإن اريد به أنّ الأوّل كاشف في فهم العرف أو إدراك العقل عن الثاني وهو يناقض ما فرض من منع فعلها أو تركها ، فهو أوضح منعا من الأوّل كيف وأنّ الدلالات لا يخلو عن أنواع ثلاث وليس شيء منها موجودا في المقام ، والقياس المذكور مغالطة لابتنائه على اشتباه فاحش في كبراه ، وهو أنّ ترك المعلول أو فعله ملزومان لتجويزهما والرضا بهما بالنسبة إلى المعلول لا مطلقا ، فإذا اخذ هذا المعنى محكوما به في النتيجة لم يلزم المحذور ، لكون الحاصل حينئذ : أنّ ترك العلّة وفعلها ملزومان للرضا بترك المعلول أو فعله ، وهو غير ما نجوّزه فكيف يصلح إيرادا علينا.

فإن قلت : فأيّ فائدة في جعل الإباحة للمعلول والمكلّف لا يقدر أبدا على أحد طرفيه لمكان المانع الشرعي الّذي هو بمنزلة المانع العقلي ، وهو وجوب العلّة أو تحريمها فيكون في معنى الواجب أو الحرام.

قلت : لا يقصد من جعل الإباحة إلاّ رفع الحرج والضيق المعنوي عن المكلّف في كلا طرفي الشيء ولا ريب أنّه حاصل في المقام ، وفرق واضح بين أن يكون له ضيقان أو ضيق واحد.

ص: 725

غاية الأمر أنّه إذا كان من أهل الإطاعة يختار دائما أحد الطرفين ، وإن عصى بترك العلّة فله إثم واحد ، وإن كانت على تقدير وجوبها من العبادات ليس عليه إلاّ قصد واحد للقربة ، وقد يظهر الفائدة أيضا في العدالة والفسق على تقدير كون العلّة تركا وفعلا من المعاصي الصغيرة ، وفي جواز أخذ الاجرة على المعلول ، وفي مواضع النذر وشبهه.

والمقام الثاني : فيما لو كان المتلازمان معلولين لعلّة ثالثة ، والكلام هنا بالقياس إلى محلّ البحث كما سبق في المقام الأوّل ، فلابدّ وأن يكون كلّ من العلّة ومعلوليها من مقولة الأفعال الاختياريّة ، فلو تخلّف العلّة كان راجعا إلى المقام الآتي ، ولو تخلّف أحد المعلولين دون العلّة كان راجعا إلى المقام السابق ، ولو تخلّف كلاهما دون العلّة أو معها كان خارجا عن محلّ البحث بالمرّة ، إذ لا حكم لها حينئذ حتّى ينظر في جواز الاختلاف وعدمه ، كما أنّ الكلام بالنسبة إلى الصغرى أيضا كما تقدّم ، ضرورة أنّه كلّما يفرض من الأفعال الاختياريّة للمكلّف معلولا لفعله الاختياري من متعدّد أو متّحد فهو مسبوق على إرادته الاختياريّة وقصده ، فلا يكون ما يفرض علّة له بعلّة تامّة ، وإلاّ لخرج المعلول عن كونه فعلا اختياريّا منوطا بإرادته الاختياريّة.

ألا ترى أنّ أظهر ما يصلح أن يذكر مثالا لهذا الباب إنّما هو غسل البدن وتبليله المعلولين لصبّ الماء عليه عند وجوب الغسل للجنابة ونحوها ، فإن الجميع فعل اختياري غير أنّ مجرّد الصبّ ليس بعلّة تامّة ، وإلاّ لوجب حصولهما بمجرّد حصوله وإن لم يكن المكلّف مريدا لهما وهو ضروري البطلان ، بل العلّة التامّة في الحقيقة هو الصبّ وإرادتهما الملزمة ، والمجموع سبب شرعي للطهارة بناءا على عدم رجوع قصد القربة فيما بين الشروط وقصد الرياء فيما بين الموانع إلى ماهيّة السبب ، بدعوى ارتباطهما بالتأثير وحصول الأثر وإلاّ كان من أجزاء السبب لا نفسه.

وأمّا الكلام في كبرى القياس فيظهر بالتأمّل فيما سبق ، فإن كان أحد المعلولين واجبا أو محرّما أو مندوبا أو مكروها يقضي بوجوب العلّة وحرمتها وندبها وكراهتها من باب المقدّمة ويبقى المعلول الآخر على إباحته بالمعنى الشامل للندب والكراهة حسبما تقدّم تفصيله.

نعم لا يجوز أن يكون ذلك المعلول محرّما أو مكروها مع وجوب العلّة أو ندبها ولا واجبا أو مندوبا مع حرمة العلّة أو كراهتها لعين ما تقدّم ، فإن كانت العلّة واجبة أو محرّمة فلا قضاء له بوجوب المعلولين ولا حرمتهما ، بل يجوز كونهما مباحين على كلا التقديرين

ص: 726

أو مندوبين على التقدير الأوّل ومكروهين على التقدير الثاني ، أو أحدهما مندوبا والآخر مباحا على أحد التقديرين ، أو أحدهما مكروها والآخر مباحا على التقدير الآخر.

نعم إباحة العلّة تلازم إباحتهما معا كما لا يخفى.

المقام الثالث : في المتلازمين لمجرّد عدم انفكاك كلّ من الآخر على جهة الدوام ، وحكمه باعتبار موضع المنافاة وموضع عدمها كما تقدّم نعلا بنعل ، فمع وجوب أحدهما لا يجوز تحريم الآخر أو كراهته ، كما أنّ مع تحريم أحدهما لا ينبغي وجوب الآخر وندبه ، وكذلك الندب مع الكراهة وهي مع الندب والإباحة ، والكراهة يجتمعان مع الحرمة ، والإباحة والندب يجتمعان مع الوجوب ، والإباحة تجتمع مع الندب والكراهة.

وأمّا صغرى هذا القياس فلا نجد له في أفعال المكلّفين مثالا سوى فعل ضدّ وترك ضدّ آخر في ضدّين لا ثالث لهما كاليقظة والنوم والحركة والسكون ، ولكنّه مبنيّ على عدم كونهما من باب معلولي علّة واحدة كما رجّحناه في ذيل بحث التمانع.

تحقيق إجمالي في نفي الجبر والتفويض

وبيان ذلك هنا إجمالا : أنّ كلّ فاعل مختار إذا عزم إيجاد فعل اختياري يختار من الأفعال ما يوافق غرضه ، فإذا كان له غرض يوافقه أحد الضدّين ويخالفه الآخر أو لا يوافقه فينشأ من موافقة الأوّل ومخالفة الثاني رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني أو عدم رجحانه ، فينشأ منهما الاعتقاد برجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني أو الاعتقاد بعدم رجحانه أو عدم الاعتقاد برجحانه ، فينشأ منهما إرادة الأوّل بمعنى الميل النفساني إليه مع قطع النظر عن إيجاده في الخارج وعدم إرادة الثاني بهذا المعنى.

ثمّ إن كان الأوّل مقدورا له تحقّق تمام مقتضيه ، وهو المجموع المركّب من الامور المذكورة مع القدرة ، وهو مقارن لانتفاء المقتضي لوجود الثاني ، وكلاهما مستندان إلى ما فرض من الغرض الّذي هو أمر وجودي ، بمعنى أنّه علّة لوجود مقتضي وجود الأوّل وفقد مقتضي وجود الثاني ، ولمّا كان كلّ من العلّة والمعلول ليس من مقولة الأفعال ولا هو مقدور للمكلّف لتركّب المعلول عن أجزاء غير مقدورة كما عرفت ، فلا يتعلّق بهما حكم تكليفي بل التكليف يتعلّق بالضدّ الموجود الّذي هو المقتضى ، ولما كان المقتضي قد يصادف عدم شرط من شروط الاقتضاء وقد يصادف وجود مانع عن الاقتضاء فما ذكر من المقتضي بمجرّده لا يكفي في حصول المقتضى ، بل لابدّ معه من تحقّق شرط الاقتضاء وفقد مانعه ، وشرطه هنا إنّما هو إرادة اخرى غير ما ذكر وهي العزم الجازم المقارن للفعل

ص: 727

والتوجّه النفساني المتّصل بالإيجاد.

والفرق بينها وبين الاولى أنّها تتعلّق بالإيجاد الّذي هو مبدأ للوجود والاولى ميل نفساني متعلّق بذات الفعل لرجحانه من دون ملاحظة إيجاده وهي خارجة عن اختيار المكلّف مترتّبة على ما سبق من الامور الغير الاختياريّة ، بخلاف الثانية فإنّها اختياريّة كما يشهد به ضرورة الوجدان غير مرتّبة على شيء من الامور المذكورة الغير الاختياريّة السابقة عليها بدليل مفارقتها عنها جميعا كما في صورة تقديم المرجوح على الراجح ، فإنّه ممكن عقلا بل واقع حسّا وهذه الإرادة هي الّتي تبطل الجبر ، كما أنّ ما سبق عليها من الامور الغير الاختياريّة الّتي منها القدرة تبطل التفويض ، وملاحظة المجموع بعين الإنصاف شاهد عدل بحقيقة ما ذهب إليه العدليّة ، ومحقّق لمصداق الحديث المعروف في نفي الجبر والتفويض.

فالفعل ليس بحيث يكون بجميع مقدّماته راجعا إلى اللّه سبحانه ولا هو بحيث يكون بجميع مقدّماته موكولا إلى المكلّف ، بل هو في بعض مقدّماته راجع إلى اللّه سبحانه وهو القدرة ونحوها بلا تفويض ، وفي بعضها الآخر راجع إلى المكلّف وهو الإرادة المتعلّقة بالإيجاد لكونها إنّما تحدث باختياره ، لقضاء الوجدان بأنّ له أن يعزم الإيجاد ولو مع عدم الرجحان ولا موافقة الغرض وله أن لا يعزمه أو يعزم عدمه ولو مع تحقّق سائر المقدّمات الراجعة إلى تحقّق المقتضي فلا جبر ، ولمّا كانت هذه الإرادة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة وهي اختياريّة فاتّصف الفعل بواسطتها بكونه اختياريّا ، لأنّ المعلول إنّما يستند في حصوله الفعلي إلى الجزء الأخير من العلّة وهو ناش عن الاختيار ، فكان حصول الفعل ناشئا عن الاختيار.

وأمّا المانع عن الاقتضاء فالمراد به ما يوجب تقاعد المكلّف عن الإيجاد من إكراه وخوف ونحوه لا ما قد يتوهّم من إرادة الضدّ ، لأنّ المانع ما ينشأ منه العدم بعد إحراز المقتضي للوجود ، فإرادة الضدّ إن كان المراد بها ما يتبع الرجحان وغيره من الامور الخارجة عن الاختيار فعدم الضدّ الأوّل مستند إلى فقد مقتضيه لا إلى وجود المانع ، إذ لا يعقل وجود المقتضي في كلّ من الضدّين كما عرفت.

وإن كان المراد بها ما يحدث باختيار المكلّف المقارن للوجود فهي وإن كانت لا تنوط بوجود المقتضي ولكن انتفاء الضدّ الآخر حينئذ المشتمل على وجود المقتضي ليس من جهته بل من جهة انتفاء الجزء الأخير من علّة وجوده كما هو قضيّة جواز مصادفة

ص: 728

إيجاب السبب ، فإنّ العقل يستبعد تحريم المعلول من دون تحريم العلّة. وكذا إذا كانا معلولين لعلّة واحدة ؛ فإنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلّة * ، فيختصّ المعلول الآخر الّذي هو المحرّم بالتحريم من دون علّته. وأمّا إذا انتفت العلّيّة بينهما والاشتراك في العلّة ، فلا وجه حينئذ لاقتضاء تحريم اللازم تحريم الملزوم ؛ إذ لا ينكر العقل تحريم أحد أمرين متلازمين اتّفاقا ، مع عدم تحريم الآخر.

وقصارى ما يتخيّل : أنّ تضادّ الأحكام بأسرها يمنع من إجتماع حكمين منها في أمرين متلازمين.

__________________

المقتضي لانتفاء بعض شروط الاقتضاء ، نظرا إلى أنّ الإرادة المنوطة بالاختيار لا تحدث بالنسبة إلى الضدّين ، لا بمعنى أنّ كلاّ مانع عن الاخرى حتّى يتفرّع عليه تمانع الأضداد الوجوديّة الّتي أبطلناه ، بل بمعنى كون انتفاء إحدى الإرادتين مع وجود الاخرى معلولين لعلّة مشتركة بينهما ، فإن كان الداعي إلى انتفاء إرادة ذي المقتضي هو الإكراه الّذي هو المانع عن الاقتضاء فهو الداعي إلى وجود الإرادة الاخرى ، وإن كان الداعي إلى الأوّل هو الخوف فهو الداعي إلى الثاني ، وإن كان الداعي إلى الأوّل التماس الغير فهو الداعي إلى الثاني.

وبالجملة لا تمانع بين الأضداد الوجوديّة ولا مقدّماتها الاختياريّة ولا الغير الاختياريّة ، فكلّ متقابلين من الوجود والعدم في تلك السلسلة من أوّل المقدّمات إلى آخرها متى يتحقّق ذي المقدّمة معلولان لعلّة واحدة ، ولأجل ذلك صار الضدّين ممتنعي الاجتماع.

والمقام الرابع : في المتلازمين لمجرّد عدم الانفكاك أحيانا ، فالكلام فيه بالنسبة إلى جواز اجتماع الوجوب مع غير الحرمة والكراهة واجتماع الحرمة مع غير الوجوب والندب كما تقدّم ، وبالنسبة إلى غيره يأتي تحقيقه في بحث اجتماع الأمر والنهي ، ولعلّنا نكتفي في محلّ البحث بهذا المجمل تحرّزا عن الإطناب.

* وكأنّ وجهه ما أشرنا إليه في تقرير الاعتراض عند ما قرّرناه من جواز تحريم العلّة وإيجابها دون المعلول : من أنّ ترك المعلول وفعله لا يتأتّيان إلاّ بترك العلّة وفعلها ، فتجويز تركه أو فعله تجويز لتركها أو فعلها وهو لا يجامع الإيجاب والتحريم ، وبذلك يندفع

ص: 729

ويدفعه : أنّ المستحيل إنّما هو اجتماع الضدّين في موضوع واحد *. على أنّ ذلك لو أثّر ** ،

__________________

ما أورده عليه بعض الأفاضل من أنّ انتفاء التحريم من العلّة لأجل انتفاء سبب خاصّ لا يقضي بانتفائه لأجل سائر الأسباب ، فإنّ انتفاء السبب لا يقضي بانتفاء المسبّب العامّ ، وغاية ما هنا لك أنّ العلّة لا حرمة فيها من جهة انتفاء الحرمة عن أحد معلولها وهو لا ينافي حرمتها من جهة حرمة المعلول الآخر ، كيف ومن البيّن أنّ شيئا من المحرّمات لا تحريم فيها من جميع الجهات وإنّما يحرم من الجهة المقبّحة وكذا الكلام في المقام ، إلى آخره.

فإنّ الجهة ما لم تكن مقيّدة لا تجدي والقياس على المحرّمات الّتي لا تحريم فيها من جميع الجهات مع الفارق ، إن اريد بها الأعيان الّتي اضيف إليها التحريم في خطاب الشارع كالخمر والميتة والدم والامّهات ونحوها والوجه واضح.

* وفيه : كما أنّ استحالة اجتماع حكمين في موضع واحد تنشأ عن امتناع اجتماع الضدّين فكذلك قد ينشأ عن لزوم تكليف ما لا يطاق لعدم تمكّن الامتثال.

وهذا الوجه كما يجري في موضع واحد إذا اجتمع فيه تحريم وإيجاب ، فكذلك يجري في موضعين متلازمين إذا تعلّق بأحدهما التحريم وبالآخر الإيجاب كما عرفت ، فلا وجه لإطلاق كلام المصنّف في منع الاستحالة بالنسبة إلى الموضعين ولقد تنبّه بعض الأفاضل على ذلك أيضا.

** جواب آخر عن الاحتجاج بما تقدّم ، وكأنّه نقض إجمالي على إحدى مقدّمتيه المتضمّنة لدعوى كون مستلزم المحرّم محرّما.

ومحصّله _ كما قيل (1) وهو ظاهر العبارة _ : أنّ التلازم لو أثّر في امتناع اجتماع حكمين متضادّين في أمرين متلازمين لثبت قول الكعبي وهو الّذي فهمه أيضا بعض الأفاضل ، ويحتمل كون الضمير عائدا إلى تضادّ الأحكام فيكون المعنى : أنّ تضادّ الأحكام لو أثّر في تلازم الأمرين المتلازمين في الحكم وامتناع اختلافهما فيه لاتّجه قول الكعبي ، واستقامت شبهته المعروفة في نفي المباح.

وها هنا احتمال ثالث بعيد ذكره بعض المحقّقين وهو : أنّ كون مطلق التلازم مانعا من

ص: 730


1- القائل هو المدقّق الشيرواني رحمه اللّه. ( منه ).

دفع شبهة الكعبي

لثبت قول الكعبيّ بانتفاء المباح * ،

__________________

اتّصاف كلّ من المتلازمين بحكم من الأحكام الخمسة المعروفة مضادّ لما اتّصف به الآخر لو صحّ وأثّر لثبت قول الكعبي.

* وهذه شبهة معروفة عن أبي القاسم الكعبي وقد تقدّم منّا في بحث المقدّمة ما يدفعها ، واتّفق الجمهور على بطلانها ، وقد يعبّر عنه بعكس عنوان المسألة وهو : أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بضدّه ، ولازم مذهب الكعبي أنّه قائل بالاستلزام.

واختلفت كلمتهم في تقريره وبيان مراده ، فمنهم من يستفاد منه أنّه قائل بوجوب المباح لذاته لكونه عين ترك الحرام وهو واجب لذاته ، كما في المنية عند نقله احتجاج هذا القول بأنّ المباح ترك الحرام وترك الحرام واجب فالمباح واجب.

ويستفاد ذلك عن المدقّق المحشّي أيضا في قوله : وذكروا في تقرير شبهة الكعبي أنّه ما من مباح إلاّ وهو ترك حرام ، فإنّ السكوت ترك للقذف والسكون ترك للقتل ، وترك الحرام واجب.

ومنهم من يستفاد منه _ كما في مختصر الحاجبي وبعض شروحه _ كونه قولا بوجوب المباح بالعرض الغير المنافي لإباحته بالذات ، حتّى أنّ العضدي جعله وجه جمع بين هذا القول وإجماعهم على وجود المباح ، حيث قال _ في عبارته المحكيّة _ : و « نؤوّل الإجماع على ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزمه جمعا بين الأدلّة ».

وذكر في شرح هذا الكلام : « أنّه إشارة إلى جواب سؤال وارد على الكعبي ، وتوجيه السؤال : أنّ الدليل الّذي ذكره الكعبي على أنّ كلّ مباح واجب يقتضي كون أفعال المكلّفين الّتي تعلّق بها الأحكام أربعة ، ضرورة كون المباح حينئذ واجبا وهو خلاف الإجماع ، لأنّ الجمهور أجمعوا على أنّ الأفعال تنقسم إلى خمسة واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرّم ، فيكون الدليل المذكور باطلا.

وتقرير الجواب : أنّ الإجماع يحمل على أنّ الأفعال نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عمّا يستلزمها من كونها تحصل بها ترك الحرام تنقسم إلى الخمسة ، فيكون الفعل المباح نظرا إلى ذاته لم يخرج عن كونه مباحا ، وبالنظر إلى ما يستلزمه من كونه تحصل به ترك الحرام يكون واجبا ، وإنّما أوّل الإجماع على هذا ليكون جمعا بين الدليلين » انتهى.

ص: 731

لما هو مقرّر من أنّ ترك الحرام لابدّ وأن يتحقّق في ضمن فعل من الأفعال * ،

__________________

وهذا المعنى ممّا يقتضيه احتجاجهم عن الكعبي بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، إلاّ أنّ المستفاد من شرح الشرح كون ذلك توجيها في احتجاجه المتقدّم الّذي نقله السيّد في المنية القاضي بكون فعل المباح عين ترك الحرام ، وإنّما وجّهوه بذلك لوضوح بطلانه في الأنظار المستقيمة.

فلأجل تلك الاختلافات في تقرير هذه الشبهة قال بعض الأعلام : « والمنقول عنه مشتبه المقصود ، فقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما هو مباح عند الجمهور فهو واجب عنده ، وقد يقال : إنّ مراده أنّ كلّ ما كان مباحا بالذات فهو واجب بالعرض ».

وأشار إلى التقريرين أيضا في الزبدة بقوله : « المباح موجود إجماعا واستدلال الكعبي على وجوبه بأنّ ترك الحرام لا يتمّ إلاّ به أو هو هو مع مصادمته للإجماع مدخول » مفسّرا لقوله : « هو هو » في الحاشية : بأنّ فعل المباح بعينه ترك الحرام ، كإطباق الفم فإنّه ترك للقذف.

وظنّي أنّ الصحيح من مذهبه على ما يشهد به التتبّع هو دعوى العينيّة القاضية بالوجوب الذاتي ، والصحيح من مستنده ما تقدّم عن المنية وذكره المدقّق أيضا ، وما ذكر من الدليل الآخر فهو توجيه لهذا المستند تصحيحا له على حسب الظاهر ، كما أنّ ما ذكر من إرادة الوجوب بالعرض تأويل في مذهبه جمعا بين دليله والإجماع على وجود المباح كما عرفت.

* وهذا وجه أخذه بعض الأعلام دليلا مستقلاّ على مذهب الكعبي ، ولم نجد من يذكره في جملة احتجاجه أو كلامه المنقول عنه بل المنقول عنه ، صريحا وتأويلا الوجهان المتقدّمان ، ولعلّه وهم أوقعه فيه كلام المصنّف غفلة عن أنّه ليس بصدد نقل الاحتجاج عن الكعبي ، بل غرضه من هذا الكلام إيراد نقض على من جعل الأمر بالشيء نهيا عن الضدّ الخاصّ من جهة قاعدة الاستلزام ، وقضيّة عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

ومحصّل مراده : أنّ المتشبّثين بذلك الوجه هنا يلزمهم الالتزام بشبهة الكعبي لجريان دليلهم المذكور في عكس القضيّة أيضا ، بتقرير أنّ فعل المباح مستلزم لترك الحرام وهو واجب ففعل المباح واجب ، لأنّ مستلزم الواجب واجب.

ص: 732

ولا ريب في وجوب ذلك الترك ، فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقّق في ضمنه مباحا ؛ لأنّه لازم للترك ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم.

وبشاعة هذا القول غير خفيّة *. ولهم في ردّه وجوه **

__________________

* عن الصحاح « البشاعة » بالفتح الكراهة والمرارة وهو مصدر « بشع » بالكسر ، فحاصل المعنى : أنّ كون هذا القول من جهة كونه دفعا للضرورة والإجماع ممّا يكرهه الطباع والأنظار غير خفيّ على أحد من اولي الأفهام والأبصار.

** وقد تقرّر بما تقدّم أنّ الّذي يمكن أن يستند إليه لهذا القول لا يخلو عن وجوه ثلاث ، وإن كان الدليل التحقيقي الصادر عن الكعبي واحدا منها :

أحدها : أنّ فعل المباح بعينه ترك للحرام فيكون واجبا بعينه.

وثانيها : أنّ ترك الحرام واجب ، ولا يتمّ إلاّ بفعل المباح لكونه مانعا عنه ، والمانع من الأسباب المقتضية للعدم ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب.

وثالثها : ما أشار إليه المصنّف من أنّ فعل المباح مستلزم لترك الحرام وهو واجب ، ومستلزم الواجب واجب لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

أمّا الوجه الأوّل : فلم نجد في ردّه من كلام القوم ما يدفعه ويسلم عن المناقشة إلاّ ما في كلام بعض الأفاضل ، حيث قال : « إنّ الإتيان بالضدّ ليس عين رفع الفعل وإنّما يلابسه ويقارنه ، وإنّما الواجب هو الترك المقارن له ، فلا قاضي بوجوب الضدّ المقارن لذلك الواجب » إلى آخره ، وهو في كمال المتانة.

ولكن الأولى في تقرير الدفع أن يقال : إنّ العينيّة إن اريد بها اتّحادهما مفهوما ومصداقا.

ففيه : أنّه دفع للضرورة وإنكار لمقتضى الحسّ والوجدان ، كيف وأنّ الفعل والترك متقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، مضافان إلى متقابلين تقابل التضادّ فكيف يعقل اتّحادهما بحسب المفهوم.

وإن اريد بها اتّحادهما مصداقا وإن تغايرا مفهوما كما في الاثنين ونصف الأربعة ، حيث يتّحدان في الخارج وإن تعدّدا في الذهن.

ففيه : أنّ هذا الاتّحاد ينشأ عن كون أحد المفهومين لازما للمفهوم الآخر ، ولا يلزم من

ص: 733

وجوب اللازم وجوب الملزوم ، ولا من وجوب الملزوم وجوب اللازم ، كما في وجوب إكرام زيد إذا استلزم إهانة عمرو وبالعكس إلاّ إذا كان أحدهما علّة للآخر وثبت الوجوب للمعلول ، وكون محلّ البحث من هذا الباب ممنوع وسنده ما تقدّم من نفي التمانع وإثبات كون وجود أحد الضدّين مع عدم الضدّ الآخر متلازمين في الوجود.

وبما ذكر يتبيّن الجواب عن الوجهين الآخرين ، ولقد تقدّم تفصيله بما لا مزيد عليه.

وأمّا الوجوه الّتي أشار إليها المصنّف ذكروها في دفع الوجه الثاني ، فمنها : ما تقدّم من منع وجوب المقدّمة مطلقا ، أو إذا كانت غير سببيّة أو إذا كانت غير شرط شرعي.

ومنها : منع مقدّميّة فعل الضدّ لترك الضدّ الآخر ، وإنّما يحصل معه في الوجود من باب المقارنة الاتّفاقيّة وعليه بعض المحقّقين.

ومنها : أنّ ترك الحرام قد يحصل بفعل الواجب فلا حاجة له حينئذ إلى فعل المباح ليكون واجبا.

وأورد عليه : بأنّه لا يرفع الإشكال بحذافيره ، لكون المباح حينئذ أحد فردي الواجب المخيّر ، فلم يلزم نفي الوجوب التخييري وهو كاف في ثبوت الشبهة.

وردّ : بأنّ القاعدة في الواجب المخيّر سقوط الوجوب بحصول بعض الأفراد عن البعض الباقي كما في خصال الكفّارة ، فعلى هذا لو حصل ترك الحرام بفعل الواجب يبقى المباح الّذي هو أحد فردي الواجب المخيّر على إباحته ، ولقد أشرنا في بحث المقدّمة إلى ما يدفع ذلك ولا نطيل الكلام بذكره هنا.

ومنها : أنّه لو صحّ ذلك لقضى بوجوب المحرّم فيما لو توقّف ترك حرام على فعل حرام آخر ، كالقذف إذا توقّف على الزنا.

وفيه : أنّ المقدّمة الغير المقدورة لا تجب على القول بوجوب المقدّمة ، والمقدّمة المحرّمة غير مقدورة بالمنع الشرعي فيكون المباح هو الواجب على التعيين.

وأورد عليه : أيضا باعتبار تعدّد الجهة حينئذ ، فلا مانع عن كون شيء حراما من جهة وواجبا من جهة اخرى.

ويدفعه : أنّ الجهتين إذا كانتا تعليليّتين استحال اجتماع الوجوب والحرمة معهما كما اعترف به المورد وهو بعض الأعلام.

ولعلّ ما ذكره مبنيّ على توهّم جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام كما صرّح به

ص: 734

في بعضها تكلّف * ، حيث ضايقهم القول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا ** ؛ لظنّهم أنّ الترك الواجب لا يتمّ إلاّ في ضمن فعل من الأفعال ؛ فيكون واجبا تخييريّا.

__________________

في غير المقام ، وقد ذكرنا وهنه في بحث المقدّمة ويأتي تحقيقه مفصّلا في بحث اجتماع الأمر والنهي.

وأورد عليه أيضا بعض الأفاضل : « بأنّ ذلك مسقطا للواجب وليس الإتيان بالحرام من أفراد الواجب وإن حصل به الأداء إلى ترك حرام آخر ، إذ ليس كلّ موصل إلى الواجب مندرجا في المقدّمة الواجبة » بعد ما دفع الإيراد المذكور : « بأنّ ذلك مبنيّ على جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين ، فلا يتمّ على المشهور المنصور من المنع منه ، وعليه مبنى الجواب » وهذا الإيراد متين وقد أشرنا إلى ما يقضي به في بحث المقدّمة عند الكلام في المقدّمة المحرّمة.

* أشار بذلك إلى ضعف بعض الوجوه المذكورة كالوجهين الأخيرين ، فإنّ فيهما من التكلّف ما لا يخفى على أحد ، بل لا يكاد شيء منهما ينطبق على القواعد المقرّرة ، ولا أنّه يجدي في دفع الشبهة كما عرفت.

** تعليل لقوله : « في بعضها تكلّف » ومفاده : أنّ قولهم بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به على الإطلاق حتّى ما لو لم يكن سببا أدخلهم في الضيق ، فاضطرّوا إلى التشبّث بتلك التكلّفات ، بضابطة قولهم : الغريق يتشبّث بكلّ حشيش.

قال بعض المحقّقين في شرح العبارة : وأشار بذلك إلى اختصاص الضيق بمن قال بهذا الإطلاق ، إذ المصنّف في سعة من ذلك إذ لا يقول بوجوب المقدّمة في غير السبب ، فلا يلزم عليه نفي المباح كما ذكره الكعبي.

واعترض عليه المدقّق : بأنّ جميع ما نقل في المقام يدلّ على أنّ مراد الكعبي أنّ كلّ مباح ضدّ الحرام والضدّ لو كان مقدّما على ترك الضدّ الآخر بالتقدّم الذاتي لكان سببا مستلزما لا شرطا غير مستلزم ، فشبهة الكعبي كما ترد على القائل بوجوب المقدّمة مطلقا ترد على القائل بوجوب السبب فقط أيضا ، إلى آخره.

وردّه بعض الأفاضل : بأنّ ترك الحرام لا يتسبّب عن فعل الضدّ ، وإنّما السبب المؤدّي

ص: 735

والتحقيق في ردّه : أنّه مع وجود الصارف عن الحرام ، لا يحتاج الترك إلى شيء من الأفعال * ،

__________________

إليه هو الصارف عن فعل الحرام _ أعني عدم إرادته من أصله ، أو لإرادة ضدّه المفروض المتقدّمة على فعله _ ولو سلّم كون فعل الضدّ سببا فهو من أحد الأسباب ، إذ كما يستند عدم الشيء إلى وجود المانع فقد يستند إلى عدم المقتضي أو انتفاء الشرط فلا يتوقّف ترك الحرام على خصوص الإتيان بفعل الضدّ ، ولا يقضي ذلك بوجوب كلّ من تلك الأسباب على وجه التخيير ليعود المحذور ، إلى آخره.

ولا يخفى ما فيه من خروجه عن السداد ، والأولى في دفع الاعتراض أن يقال : إنّ من يقول باختصاص وجوب المقدّمة بالسبب ليس مراده بالسبب ما يطلق عليه اسم السبب بل ما اعتبر فيه الاستلزام من

الطرفين ، وفعل المباح الّذي هو مانع عن ارتكاب الحرام ليس بهذه المثابة ، كما يرشد إليه تعريف المانع بأنّه ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود.

غاية الأمر أنّه يرد عليه : أنّ الحجّة المقامة على وجوب السبب بهذا المعنى تقضي بوجوب غيره من المقدّمات أيضا ، إذ كما أنّ القدرة لا تتعلّق على المسبّبات بدون الأسباب فكذلك لا يتعلّق بالمشروط مع عدم الشروط ومنها عدم المانع ، وهذا كلام آخر لا مدخل للاعتراض المذكور فيه وقد نبّهنا عليه في بحث المقدّمة.

ثمّ إنّ من جملة من ضاق عليه الأمر في هذا المقام لإطلاق قوله بوجوب المقدّمة الآمدي على ما حكاه بعض الأفاضل ، حيث قال : « وقد استصعب ذلك على الآمدي فعجز عن حلّ الإشكال لاختياره وجوب المقدّمة ، قائلا : بأنّه لا مناص عنه إلاّ بمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وفيه خرق للقاعدة الممهّدة على اصول الأصحاب.

ثمّ ذكر أنّ ما ذكره الكعبي في غاية الغموض والإشكال ، وعسى أن يكون عند غيري حلّه » انتهى.

وفي ظنّي أنّ هذا إشكال تولّد عن توهّم المقدّمية المبنيّة على تمانع الأضداد الوجوديّة ، فيكون من أقوى الشواهد على بطلان التوهّم وفساد مبناه.

* وتوضيح مقصوده : أنّ ترك الحرام وإن كان واجبا ولكنّه يتوقّف على وجود الصارف ، فيكون الواجب على المكلّف على القول بوجوب المقدّمة مطلقا حتّى في غير

ص: 736

السبب هو الصارف ، والمراد به عندهم - على ما يظهر بالتتبّع - عدم الإرادة ، ولكن لا بالمعنى الّذي ينشأ عن الرجحان والاعتقاد به ، لأنّه كنفس الاعتقاد من الأمور الخارجة عن اختيار المكلّف كالقدرة ونحوها فلا يصلح موردا للتكليف حتّى يكون واجبا ، بل بمعنى العزم على إيجاد الفعل الّذي كان منوطا باختيار المكلّف ومشيّته ، فيجب على المكلّف مقدّمة أن لا يعزم على إيجاد المحرّم ومعه يحصل الترك بلا افتقار له إلى فعل آخر من مباح أو غيره ، بحيث لو حصل في ضمنه فعل آخر لكان من باب المقارنة بلا تأثير له في حصوله ، فكان وجوده وعدمه بالقياس إليه على حدّ سواء ، فلا يكون فعل المباح مقدّمة حتّى يجب ، لا أنّه مقدّمة وليس بواجب لينافي إطلاق القول بوجوب المقدّمة ، وقد تقدّم في ذيل بحث المقدّمة عند البحث عن مقدّمة الحرام ما يوضح ذلك.

وبيانه الإجمالي هنا : أنّ مقدّمة الشيء عبارة عمّا يتوقّف عليه ذلك الشيء ، ومعنى توقّفه عليه كونه مؤثّرا في وجوده وأنّه لا يتّفق له الوجود على تقدير عدمه ، بل ولا يعقل ولو في نظر العرف والعادة ، ولا يصحّ فرض الوجود لذلك الشيء على كلا تقديري وجوده وعدمه كما هو لازم انتفاء المقدّميّة ، كقطع المسافة للحجّ حيث لا يعقل للحجّ وجود على تقدير عدمه ، ولا يصحّ فرض الوجود له على كلا تقديري القطع وعدمه ، بل هو ممكن الوجود على تقدير حصول القطع ويمتنع وجوده على تقدير عدم حصول القطع ، وليس الحال في فعل المباح مع وجود الصارف بالنظر إلى ترك الحرام كذلك ، إذ بمجرّد وجود الصارف يحصل الترك جزما سواء حصل معه مباح أو لم يحصل ، كيف ولو كان مقدّمة لزم أن لا يحصل الترك لو فرض مصادفة عدمه لوجود الصارف ، كما أنّه لا يحصل على تقدير مصادفة عدمه لانتفاء الصارف وهو بديهي البطلان.

وقضيّة ذلك عدم وجوب المباح عند ترك الحرام عينا ولا تخييرا.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجود الصارف من المقدّمات جزما.

وأمّا الثاني : فلأنّ وجوبه التخييري فرع كونه من أفراد المقدّمة وقد فرضنا خلافه.

وبذلك يندفع الاعتراض الّذي حكاه بعض الأفاضل على العبارة ، بأنّ الصارف عن الحرام إن كان خارجا عن قدرة المكلّف واختياره كان الإتيان بالمحرّم ممتنعا بالنسبة إليه ، ومعه يرتفع التكليف فلا تحريم وهو خروج عن الفرض ، وإن كان تحت قدرته فقضيّة التقرير المذكور كون كلّ من الصارف وفعل الضدّ كافيا في أداء الواجب أعني ترك الحرام ،

ص: 737

واللازم من ذلك تخيير المكلّف بين الأمرين فيكون الإتيان بالضدّ المباح أحد قسمي الواجب التخييري بل هو عين مقصود المستدلّ.

ومراده بالتقرير المذكور ما ذكره في شرح العبارة من أنّه إن تحقّق الصارف عن الحرام تفرّع عليه الترك ولم يتوقّف على أمر آخر من الإتيان بالضدّ أو غيره ، وإن لم يتحقّق الصارف عنه وتوقّف الترك على فعل ضدّ من أضداده لزم القول بوجوبه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ولا يلزم منه نفي المباح رأسا.

فإنّ الاعتراض إنّما يتوجّه إلى هذا التقرير لو كان مفاده كون القضيّة فيما بين فعل الضدّ وحصول الصارف على حدّ الانفصال الحقيقي ، أو منع الجمع كما هو الشأن في كلّ واجب مخيّر بالقياس إلى فرديه أو أفراده ، ونظيره في مقدّمات الواجب قطع مسافة الحجّ إذا كان له طريقان أو أكثر ، ونصب السلّم للكون على السطح إذا كان هناك سلّمان أو أكثر ، فلابدّ في وجوده من أحد الأمرين إمّا هذا أو ذاك على نحو لو تحقّق كلّ منهما كان الآخر لازم المفارقة عنه ولا يجتمع معه في ظرف الوجود أو حال التأثير ، وليس كذلك الحال في المقام إذ الصارف بمعنى عدم الإرادة لا يفارق الترك أبدا ، ومعنى كون المباح أحد الفردين من الواجب المخيّر إمكان استناد الترك إليه مفارقا عن الصارف وهو في غير صورة الاكراه غير معقول (1) ومعه يستند الترك إلى الإكراه لا فعل الضدّ الحاصل في ضمنه.

ومعنى قولهم : « مع انتفاء الصارف يتوقّف الترك على فعل المباح فيجب ولا يلزم منه محذور » ليس أنّ فعل المباح قد يتوقّف عليه ترك الحرام بلا توسّط شيء ، بل معناه : أنّه قد يتوقّف عليه من جهة توقّف حصول الصارف الّذي هو من اللوازم المساوية للترك عليه في بعض الصور ، كما لو علم المكلّف أنّه لو لم يفعل المباح لانتفى عنه الصارف فوقع في المحرّم فيكون فعل المباح مقدّمة للمقدّمة في تلك الصورة ، لتوقّف حصول الصارف فيما بعد ذلك على حصوله في ذلك الآن ، فلا يلزم من ذلك كونه ممّا يتوقّف عليه الترك في

ص: 738


1- لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته أبدا وهى مضادّة لإرادة الحرام فيكون وجود الصارف من لوازم إرادة الفعل على مذهبنا ، ومن مقدّمات الفعل على مذهب المصنّف وغيره ، ففعل الضدّ أبدا مسبوق بوجود الصارف الّذي فرض كونه سببا لترك الحرام ، فالترك دائما مستند الى وجود الصارف فيبقى فعل المباح على إباحته. نعم قد يستند وجود الصارف إلى فعل المباح ويتوقّف عليه في بعض الأحيان فيجب هذا الفعل حينئذ من هذه الجهة ولا يلزم منه وجوبه فيما لو لم يتوقّف عليه ترك الحرام ولا سببه الّذي هو الصارف فليتأمّل. ( منه عفي عنه ).

جميع الصور حتّى يتفرّع عليه وجوبه مطلقا حسبما ادّعاه الكعبي.

ونظير ذلك تسخين الماء لاستعماله في الطهارة إذا توقّف حصوله على الماء الحارّ من جهة جراحة في العضو أو برودة أو نحوها ، فيجب حينئذ لكونه مقدّمة المقدّمة ولا يلزم منه وجوبه في غير موضع الحاجة وعدم توقّف الاستعمال عليه.

ومثله قطع مسافة الحجّ إذا افتقر لمرض أو كبر إلى الركوب على السرير فيجب تحصيل السرير حينئذ لمقدّمة المقدّمة ، ولا يلزم ذلك وجوبه في غير هذا الموضع لعدم توقّف للمقدّمة عليه حينئذ.

وأمّا ما يجاب أيضا عن الاعتراض : بأنّه إذا حصل الصارف الّذي هو أحد الأمرين انتفى وجوب الآخر فيبقى سائر الأضداد الخاصّة على إباحتها.

ففيه : ما أشرنا إليه سابقا وذكرناه في بحث المقدّمة.

وأجاب الفاضل المذكور عن الاعتراض بما يقضي بكون المراد بالصارف عدم الإرادة بالمعنى الأوّل الخارجة عن اختيار المكلّف مع اعترافه بذلك ، مفسّرا لها بميل النفس إلى أحد الجانبين من الفعل والترك بعد ملاحظة ما يترتّب عليهما من الثمرات والغايات التابع لما عليه النفس من السعادة والشقاوة وغلبة جهة الحقّ والباطل وغير ذلك من الصفات التابعة للأفعال.

فقال - بعد ما فسّره به - : « إن كان الصارف عن الفعل حاصلا حصل الترك من غير أن يتوقّف حصوله على الإتيان بضدّ من الأضداد ، وإنّما يكون الإتيان به من لوازم وجود المكلّف إن قيل بامتناع خلوّه عن الفعل ، وإن لم يكن حاصلا وتوقّف الترك على الإتيان بالضدّ وجب ذلك من باب المقدّمة ».

وهو ليس بسديد لا لما قيل من أنّ خروج الداعي عن اختيار المكلّف لا ينافي تخييره بين ذلك وما يكون حصوله باختياره ، نظرا إلى قيام الوجوب في المخيّر بأحدهما ، ومن الظاهر أنّه إذا كان واحدا منهما مقدورا كان القدر الجامع بينهما مقدورا فيصحّ التكليف به ، فإن حصل الغير المقدور اكتفى به في سقوط الواجب وإلاّ وجب عليه الإتيان بالآخر.

ليرد عليه : أنّ تعلّق الوجوب بالقدر المشترك هنا غير معقول وإنّما يجب المقدور بعينه ، وغيره حيثما يحصل من باب الاتّفاق مسقط عنه لا أنّه أحد الفردين ، بل لمنافاة تصريحهم بوجوب الصارف من باب المقدّمة دون غيره من الأضداد الوجوديّة ، وفي كلام المصنّف فيما يأتي تصريح بوجوبه إذا كان عن الحرام وبحرمته إذا كان عن الواجب ، وهو لا يستقيم

ص: 739

مسألة بقاء الأكوان وعدمه

وإنّما هي من لوازم الوجود * ، حيث نقول بعدم بقاء الأكوان واحتياج الباقي إلى المؤثّر **.

__________________

إلاّ إذا كان مقدورا والمفروض ليس منه كما اعترف به المجيب.

* بمعنى أنّ الأفعال إذا حصلت مع الترك المستند إلى الصارف تكون من قبيل لوازم وجود المكلّف ، ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يستقيم على المختار من عدم التوقّف من الجانبين ، وعدم كون ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ من غير فرق فيه بين العدم الأزلي أو العدم المسبوق بالوجود المعبّر عنه بالارتفاع ، فإنّ عدم الضدّ إذا كان مؤثّرا في وجود الضدّ الآخر فكيف يعقل عدم كون وجوده مؤثّرا في العدم ، وأنّ المشروط يعدم بانعدام شرطه وانتفاء الشرط يؤثّر في انتفاء المشروط.

وقضيّة اشتراط الوجود بالعدم كون الوجود الّذي هو انعدام للشرط مانعا ، والمانع عندهم هو الّذي يؤثّر في العدم فكيف يعقل عدم إستناد العدم إليه ، فيؤول قضيّة كلامهم إلى أن يقال : إنّ عدم الضدّ وإن كان شرطا ولكن هذا الشرط ليس بما يلزم من عدمه العدم ، بل العدم يلزم من أمر آخر خارج عن ماهيّة الشرط مقارن لعدمه ، وهو ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم ، ولا ندري أنّهم كيف يجمعون بين قولهم : « ترك المباح شرط لفعل الحرام » وقولهم : « إنّ ترك الحرام إنّما يحصل بلا توقّف على فعل المباح » ولا نعقل من ذلك إلاّ تدافعا بيّنا.

** محصّله : أنّ كون حصول الأفعال الوجوديّة عند ترك الحرام من لوازم وجود المكلّف مبنيّ على القول بأحد الأمرين ، من عدم بقاء الأكوان أو احتياج الباقي على تقدير بقائها إلى المؤثّر على طريقة المنفصلة المانعة الخلوّ ، فكلمة « الواو » واقعة موقع « أو » مؤدّية لمؤدّاها.

واعلم : أنّ ما ذكر من الأمرين من جملة المسائل الكلاميّة ، فإنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ كلّ متجدّد يحتاج إلى مؤثّر وبدونه لا يعقل له التجدّد كما هو من أوّليات النظر كيف ولو لا ذلك لانسدّ باب إثبات الصانع ، وعلى أنّ كلّ جسم ملزوم للكون من الحركة أو السكون والاجتماع أو الافتراق ، وأنّ أحد الكونين من كلّ من الصنفين لازم له ولا يعقل انفكاكه عنه ، اختلفوا في أنّ الكون الواحد هل يبقى بعد حدوثه أو لا؟

ويظهر الفائدة في الكون الطويل المستمرّ في مدّة طويلة كالسكون إلى ساعة مثلا ،

ص: 740

فعلى الأوّل يكون ذلك من أوّل حدوثه إلى انتهائه كونا واحدا متحقّقا في تلك المدّة.

وعلى الثاني يكون مركّبا من أكوان متكثّرة متعدّدة على حسب تعدّد الآنات المتخلّلة في تلك المدّة ، ويكون في كلّ آن من تلك الآنات كونا متجدّدا.

وعلى الأوّل اختلفوا في أنّ ذلك الكون الباقي في تلك المدّة هل يحتاج إلى المؤثّر في بقائه كما كان محتاجا إليه في حدوثه أو لا؟ بل هو كون واحد مستمرّ بلا افتقار له إلى تجدّد تأثير من المحلّ.

وبما قرّرناه تبيّن وجه ابتناء ما ذكر على أحد الأمرين ، إذ على القول بعدم البقاء يتجدّد منه في كلّ آن كون ، وهو تأثير والتأثير فعل فلا يمكن فرضه في شيء من آنات الترك خاليا عن الفعل ، وكذلك على القول بالبقاء والاحتياج إلى المؤثّر إذ يتجدّد منه أيضا في كلّ آن تأثير وهو الإبقاء ، فلا يكون خاليا عن الفعل أيضا.

وقد يورد عليه : بأنّ هذا التفصيل مبنيّ على أن يكون الأكوان على تقدير عدم البقاء مستندة إلى المكلّف ، والبقاء على تقدير الحاجة مستندا إلى علّة الحدوث وإن كانت علّة إعداديّة.

وكلاهما في محلّ المنع ، لجواز أن يقال : بعدم بقاء الأكوان ويلتزم بخلوّ المكلّف عن جميع الأفعال ، بأن يكون الكون الأوّل صادرا عنه وبقيّة الأكوان مستندة إلى علّة اخرى كالكون الأوّل من حيث إعداده لحصولها ، أو يكون كلّ كون لاحق مستندا إلى الكون السابق من حيث إعداده لحصوله ، وهذا هو الظاهر على هذا القول بدليل صدورها حال الغفلة وعدم الشعور.

أو يقال : بالبقاء واحتياجه إلى المؤثّر ويلتزم بالخلوّ نظرا إلى استناد البقاء إلى غير المقتضي للحدوث - أعني المكلّف - كما في كثير من الآثار الإعداديّة.

وأنت خبير بما فيه من الغفلة عن محلّ البحث بالمرّة وخروجه عن مقصد كلام الجماعة ، فإنّ مقصودهم بالبناء على أحد هذين القولين تخليص الأفعال اللازمة لترك الحرام عن حكم الوجوب وإبقاؤها على إباحتها الأصليّة ، قبالا للكعبي الذاهب إلى وجوبها جميعا ، وهو لا يستقيم إلاّ إذا كانت الأكوان المتجدّدة على تقدير عدم البقاء ، والتأثير في البقاء على تقدير بقاء الأكوان فعلا للمكلّف مستندا إليه لأنّه محلّ قابل لهما ، ولو فرض صدور ذلك عن غير المكلّف وإنّما هو وصف له مسبّب عن أمر آخر من العلل الإعداديّة فلا يقول

ص: 741

الجماعة بإباحته ولا الكعبي بوجوبه.

فإن قلت : استناد العلّة الاولى إلى المكلّف لصدورها عنه كاف في صحّة استناد الباقي إليه ، وإن لم يكن أثرا حاصلا من تأثيره.

قلت : إن اريد بالاستناد إليه ما يكون حقيقيّا فهو عدول عن الفرض ، إذ لا يكون كذلك إلاّ إذا كان تأثيرا له على سبيل الحقيقة ، وإن اريد به ما يكون مجازيّا باعتبار استناده حقيقة إلى ما يستند إليه حقيقة فيصحّ أن يستند إليه أيضا من جهة السببيّة فهو غير مجد في صحّة تعلّق التكليف به ، لإناطته بما يستند إليه بعنوان الحقيقة ويعدّ من أفعاله باعتبار الواقع ، على أنّه لو صحّ ذلك لزم أن يكون جميع الصفات التوليديّة الحاصلة فيه المستندة إلى فعله الاختياري المعدّ لها - كعلمه الحاصل عن نظره ، وحبّه وبغضه الحاصلين عن النظر في مبادئهما ، ولون يده الحاصل بتلطيخها بالحناء ، والحرارة والبرودة الحاصلتين بجلوسه عند النار والبرد ، ونحو ذلك ممّا لا يحصى عددا - محلاّ للتكليف ومناطا للثواب والعقاب ، فيلزم أن يكون اللون الحاصل بحناء مغصوب والسكر الحاصل من شربه للخمر حراما وهو كما ترى.

فإن قلت : قياس محلّ الكلام على الامور المذكورة مع الفارق لخروجها بالمرّة عن تحت قدرة المكلّف ، فهو بعد إيجاد أسبابها الموجبة لحصولها لا يقدر على رفعها وإزالتها عن نفسه بخلاف المقام ، فإنّ الأكوان المتجدّدة أو الكون الباقي وإن لم يستند إلى المكلّف استنادا تامّا ولكن لقدرته مدخل فيها قطعا ، لظهور أنّ تجدّدها آنا فآنا أو بقاءها في آنات متعدّدة مشروط بعدم إرادته رفعها ، وهذا القدر من الاستناد كاف في صحّة التكليف.

قلت : القدرة على رفع المسبّب فرع القدرة على رفع السبب ، والسبب إذا كان هو الكون أو الكون السابق على الكون اللاحق فهو معدوم والقدرة لا تتعلّق بالمعدوم ، مضافا إلى أنّه مرتفع ، فإنشاء التأثير في رفعه تحصيل للحاصل وهو أيضا محال ، فلابدّ وأن يكون متعلّق القدرة في تأثير الرفع هو الكون الحاصل فعلا أو الّذي هو في معرض الحصول ولا يعقل ذلك إلاّ إذا كان حصوله من تأثير المكلّف وهو خلاف الفرض.

وبالجملة ما ذكره الفاضل المورد احتمال سخيف لا ينبغي الالتفات إليه ، ولا يصلح إيرادا على الجماعة فيما ذكروه من البناء.

وقد سبقه إلى مثله المدقّق الشيرواني حيث قال - في جملة كلام له - : « على أنّ وجوب استناد الأكوان إلى محلّه ممنوع ، لجواز أن يستند الحركة والسكون في الجسم إلى

ص: 742

وإن قلنا بالبقاء والاستغناء ، جاز خلوّ المكلّف من كلّ فعل ؛ فلا يكون هناك إلاّ الترك *.

__________________

غير ذلك الجسم المتحرّك وكذا الأمر في الاجتماع والافتراق ، فعلى هذا لو قلنا بتجدّد الأكوان واحتياجه مع بقائه إلى المؤثّر لا يلزم كون المؤثّر هو ذلك الجسم الّذي هو محلّ الكون ، فيمكن خلوّه عن كلّ فعل في هذه الصورة أيضا » وقد اتّضح وهنه.

وأمّا ما قيل : من أنّ الشبهة المذكورة مبنيّة على أحد هذين المذهبين لقيام ما يصلح لاتّصافه بالوجوب عند الكعبي وإلاّ فعلى المذهب الآخر وهو بقاء الأكوان مع عدم الاحتياج إلى المؤثّر فلا يتمّ تقريب الاستدلال على وجوب المباح كائنا ما كان وإن قلنا بالتوقّف والاستلزام ، لصيرورة الكون الباقي من باب المقدّمات الغير المقدورة الخارجة عن اختيار المكلّف فلا تصلح موردا للتكليف ، فلا وقع فيه أصلا بل هو اشتباه ناش عن قلّة التدبّر ، لما ذكره بعض الفضلاء في دفع ذلك من أنّ ترك الحرام على هذا التقدير يتوقّف على أحد الأمرين من التشاغل بفعل من الأفعال والخلوّ من الجميع أو يستلزمهما ، فإن جعلنا الخلوّ ممّا يصحّ أن يتعلّق به التكليف كان أحد أفراد الواجب المخيّر وإلاّ تعلّق الوجوب بالفرد الآخر على التعيين وإن سقط بحصول الخلوّ.

* بيان لزيادة وضوح فساد مذهب الكعبي لو كان في المسألة من أصحاب هذا القول ، لأنّه تجويز لانفكاك الترك عن كلّ أمر وجودي وفعل مضادّ للحرام ، وهو لا يلائم القول بكون المباح ممّا يتوقّف عليه ترك الحرام أو ملزوما له ، ضرورة امتناع تخلّف الموقوف عليه عن الموقوف والملزوم عن لازمه.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم تقدر على توهين ذلك من جهة أنّ ترك الحرام على هذا القول لازم أعمّ لفعل المباح ، وموقوف على أحد الأمرين : منه ومن الخلوّ عن جميع الأفعال ، فلا يكون المصير إليه إلزاما للمستدلّ ، فإنّ منظوره إثبات الوجوب للمباح حيثما يتحقّق الترك في ضمنه ، مع أنّ حصول الترك بالخلوّ لا يستدعي سقوط التكليف بالمرّة حتّى يبقى المباح الّذي هو أحد فردي المقدّمة أو الملزوم على إباحته ، كما هو قضيّة دوام التكليف في المحرّمات حيثما اجتمع سائر شرائطه كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : بأنّ هذا التقدير تأكيد لما ادّعي في المقام على أحد التقديرين الأوّلين من

ص: 743

وأمّا مع انتفاء الصارف وتوقّف الامتثال * على فعل منها - للعلم بأنّه لا يتحقّق الترك ولا يحصل إلاّ مع فعله - فمن يقول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به

__________________

أنّ ترك الحرام يستند إلى وجود الصارف بلا مدخليّة لفعل الضدّ في ضمنه ، فيكون استشهادا عليه بأنّه في عدم افتقاره إلى فعل الضدّ بحيث إنّه يتحقّق على التقدير الثالث بلا حصول فعل معه ، فيكون ذلك كاشفا عن أنّ الفعل الوجودي حيثما حصل في ضمنه كان من باب المقارنة الاتّفاقيّة والاستلزام الأحياني.

وقد يورد (1) على العبارة : بأنّ الكلام فيما يصحّ وصفه بالإباحة هل يخلو المكلّف عنه أو لا؟ ومن البيّن أنّ الكون الباقي وإن لم يتحقّق فيه التأثير يوصف بالإباحة.

ألا ترى أنّ الساكن في المكان المغصوب سكونا مستمرّا يوصف بفعل الحرام عند القائل باستغناء الباقي عن المؤثّر ، حتّى أنّ عقابه يزيد باستمرار السكون فيتّصف بالإباحة أيضا.

نعم لو لم يتعلّق ببقاء الفعل إباحة وحرمة عند القائل بالاستغناء لكان لما ذكره وجه في الجملة وليس الأمر كذلك.

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه تعرف ما فيه أيضا ، فإنّ صحّة وصف الباقي عند القائل بالاستغناء بالإباحة والحرمة إن اريد به وصفه بعنوان الحقيقة بهما ، ففيه منع واضح ، كيف وأنّ الأحكام لا تتعلّق إلاّ بما يكون للمكلّف فيه تأثير بعنوان الحقيقة والمفروض خلافه ، ولا ينتقض ذلك بتعلّق التكليف في ظاهر الخطاب بالمسبّبات الّتي تكون من مقولة التوليديّات الخارجة عن اختيار المكلّف ، لما تقدّم في بحث المقدّمة من أنّه تعلّق ظاهري ، بدليل أنّ المكلّف لا يتصوّر عند إنشاء التكليف إلاّ الأسباب فيكون متعلّقه في الواقع هو الأسباب ، ولا ينافيه التعبير في الخطاب بالمسبّبات لأنّه حينئذ من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب مجازا ولا ضير فيه بعد قيام القرينة العقليّة.

وإن اريد به وصفه بهما باعتبار المبدأ الّذي هو منشأ له ولو على سبيل التجوّز فهو غير مجد في المقام ، لكون الكلام فيما يصحّ وصفه بهما بعنوان الحقيقة والمفروض خلافه.

* ولا يخفى أنّ الصارف إن اريد به هنا عدم الميل والشوق النفسانيّين التابعين لاعتقاد عدم الرجحان أو عدم اعتقاد الرجحان _ حسبما تقدّم _ أمكن فرض انتفائه في جميع

ص: 744


1- المورد هو المدقّق الشيرواني ( منه ).

مطلقا ، يلتزم بالوجوب في هذا الفرض ، ولا ضير فيه ، كما أشار إليه بعضهم. ومن لا يقول به فهو في سعة من هذا وغيره.

__________________

آنات التكليف مع عدم حصول الفعل ، ولكنّه لا يتمّ معه الفرض لعدم قضاء ذلك بتوقّف الترك على فعل منها ، وإن اريد به عدم الإرادة بمعنى العزم على الفعل المقارن له ، لم يمكن فرض انتفائه في الحال مع عدم حصول الفعل ليلزم توقّف الترك على فعل ، لأنّ انتفاءه جزء أخير من العلّة التامّة مقارن للفعل فلا يعقل مع حصول الفعل للترك محلّ حتّى يتحقّق توقّفه على فعل آخر ، فلابدّ وأن يكون المراد من انتفائه المعلوم معه توقّف الترك على فعل انتفاءه في غير الحال من الآنات المتأخّرة عنه اللاحقة به ، بمعنى أنّ المكلّف له صارف عن الحرام في الحال الحاضر ولكنّه يعلم بأنّه لو لم يتشاغل بفعل مّا لانتفى عنه الصارف في الآن اللاحق فوقع في الحرام ، فيكون ذلك الفعل حينئذ ممّا يتوقّف عليه الترك اللاحق بواسطة توقّفه على بقاء الصارف المتوقّف على ذلك الفعل.

وبذلك يندفع ما أورد عليه من الدور المقرّر : بأنّه سلّم عند الجواب عن الوجه الأوّل من احتجاج الخصم على دلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ توقّف الفعل على ترك الضدّ الخاصّ.

فأجاب عن الاحتجاج بمنع وجوب المقدّمة الغير السببيّة وقد سلّم هاهنا أيضا توقّف أحد الضدّين على فعل الآخر ففيه دور.

وقد بسطنا الكلام في دفعه في بحث التمانع بما لا مزيد عليه حتّى في الصورة النادرة الّتي فرضها المصنّف هنا ولا نطيل الكلام باعادته.

وأورد عليه أيضا : بأنّه على ما ذكره يكون فعل مباح مّا أحد أفراد الواجب المخيّر الّذي هو أعمّ من وجود المانع وعدم الشرط فيكون واجبا مخيّرا ، ولا يندفع به شبهة الكعبي ولو فرض أنّ الصارف أمر غير اختياري لم يضرّ.

وقد أشرنا فيما سبق إلى ما يدفع ذلك ، فإنّ وجوب المباح في بعض الصور من باب مقدّمة المقدّمة لا تقضي بوجوبه في جميع الصور ولو تخييرا حتّى فيما لو لم يتوقّف المقدّمة وهو الصارف عليه وذلك واضح لا خفاء فيه.

نعم إنّما يرد على أصل هذا الكلام منع المقدّميّة حتّى في تلك الصورة ، فإنّ مقدّمة الصارف

ص: 745

- وهو عدم الإرادة - لابدّ وأن يكون نقيض ما هو مقدّمة لنقيض الصارف وهو الإرادة.

ولا ريب أنّ مقدّمة إرادة الحرام في الصورة المفروضة إنّما هو البقاء في المكان المذكور عند الأجنبيّة ، فيكون مقدّمة الصارف ترك هذا البقاء وكون فعل المباح كالخروج مثلا مقدّمة لا يستقيم إلاّ إذا فرض كونه عين ترك البقاء أو مقدّمة سببيّة له ، والكلّ [ كما ترى ] إذ ليس الخروج بالإضافة إلى ترك البقاء إلاّ كالحركة بالإضافة إلى ترك السكون ، وكما أنّ الحركة ليست بعين ترك السكون ولا علّة له إلاّ على القول بالتمانع ، فكذلك الخروج بالقياس إلى البقاء.

فالتحقيق في الصورة المفروضة أنّه يحرم على المكلّف البقاء في المكان المفروض لا أنّه يجب عليه الخروج ، وأنّ أحدهما ليس بعين الآخر.

وقد يجاب عن الشبهة أيضا : بأنّها على تقدير صحّتها لا توجب نفي المباح رأسا ، فإنّ المكلّف قد لا يتمكّن من فعل الحرام فلا يجب عليه تركه ، لأنّ النهي عن الممتنع قبيح كالأمر بالواجب فلا يجب عليه مقدّمة أصلا ، وذلك كالمتشاغل حال الغفلة عن الحرام أو تعذّره منه وهذا ممّا لا حصر له.

واعلم أنّ المصنّف تعرّض هنا لدفع شبهة الكعبي استطرادا ، وإلاّ فهو بصدد إبطال حجّة الخصم المدّعي للنهي عن الضدّ الخاصّ استنادا إلى امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

وقد عرفت أنّ له في تلك الشبهة طرقا ثلاث ، فكان الأولى تعرّضه لدفعها في جميع طرقها ، وكان الاقتصار بدفعها في طريقها المعروف من جهة إحالة دفع طريقها الأوّل إلى وضوح فساده ، والاكتفاء في دفع طريقها الثالث بما ذكره إجمالا ويذكره تفصيلا في دفع احتجاج خصمه لكون مبناهما على أمر واحد ، فلا يرد على المصنّف أنّ إبطال الشبهة في بعض طرقها لا يقضي ببطلانها مطلقا بعد ما كان لها طرق عديدة.

ثمّ إنّ المعروف من مذهب الكعبي أنّه قائل بنفي المباح فقط مع أنّ حجّته تجري في المندوب والمكروه أيضا.

غاية الأمر كون كلّ مع المباح فردا للواجب المخيّر ، وقضيّة ذلك سقوطهما أيضا عمّا بين الأفعال.

وقد يقال : بإمكان إرادة القدر الجامع للامور الثلاث ، ولكن يدفعه : أنّه خلاف ما في كلام كثير منهم ، حتّى أنّهم أوردوا عليه : بأنّه قد خالف الإجماع في انقسام الأفعال إلى

ص: 746

إذا تمهّد هذا فاعلم : أنّه إن كان المراد باستلزام الضدّ الخاصّ لترك المأمور به ، أنّه لا ينفكّ عنه ، وليس بينهما علّيّة ولا مشاركة في علّة ، فقد عرفت : أنّ القول بتحريم الملزوم حينئذ لتحريم اللازم ، لا وجه له *.

المراد من الاستلزام

وإن كان المراد أنّه علّة فيه ومقتض له ، فهو ممنوع ، لما هو بيّن ، من أنّ العلّة في الترك المذكور إنّما هي وجود الصارف عن فعل المأمور به وعدم الداعي إليه ** ، وذلك مستمرّ مع فعل الأضداد الخاصّة ؛

__________________

الخمسة المعروفة فجعلها منقسمة إلى الأربعة ، وكأنّ ذلك ناش عن قصور عبارته في بيان المذهب أو قصور من القوم في نقل مذهبه ، ومع ذلك فالأمر فيه سهل.

* أي حينئذ لم يكن الملزوم علّة للازم ولا مشاركا له في العلّة لا وجه لتوهّم أنّه يحرم بتحريم اللازم ، والتعبير عن الأوّل بالملزوم وعن الثاني باللازم لعلّه جري على ما هو المذكور في الاستدلال من استلزام فعل الضدّ ترك المأمور به المصرّح بكون الفعل ملزوما والترك لازما محرّما ، وإلاّ فاللزوم بالقياس إلى المتلازمين ثابت لكلّ منهما ، فكلّ لازم وملزوم ، فيصحّ أن يقال مكان العبارة : « لا وجه للقول بتحريم اللازم لتحريم الملزوم » كما لا يخفى.

** العطف فيما بين وجود الصارف وعدم الداعي يمكن كونه عطف تفسير ، فيراد بهما عدم الشوق والميل النفساني التابعين لعدم موافقة الغرض أو مخالفته ، ولكن يرد عليه حينئذ : بطلان الحصر المستفاد من كلمة « إنّما » إذ العلّة في الترك كثيرا مّا تكون انتفاء الإرادة بمعنى العزم على الإيجاد المقارن للفعل مع وجود الشوق والميل ، لما عرفت من أنّها الجزء الأخير من العلّة التامّة للوجود لا مجرّد الشوق والميل ، أو يراد بهما عدم الإرادة بهذا المعنى فيصحّ ، ولكن لا يساعده ظهور « الداعي » من حيث إنّه في كلماتهم ظاهر في العلّة الغائيّة الّتي تنشأ منها الرجحان واعتقاده والشوق والميل النفساني ، ويمكن كونه عطف بينونة فإمّا أن يراد « بالواو » حينئذ الجمع أو أحد الأمرين بتنزيله منزلة « أو ».

والأوّل غير مستقيم لعدم مدخليّة الانضمام في العلّيّة وكفاية مجرّد وجود الصارف في ترتّب الترك عليه سواء انتفى معه الداعي أيضا أو لا.

والثاني سليم عمّا ذكر ، ولكن يبقى المناقشة في جعل عدم الداعي قسيما لوجود

ص: 747

فلا يتصوّر صدورها ممّن جمع شرائط التكليف مع انتفاء الصارف * ،

__________________

الصارف ، مع أنّه لا ينفكّ عنه عند ترتّب الترك عليه ، إذ الصارف على كلّ تقدير من تقادير الترك لابدّ وأن يتحقّق معه.

إلاّ أن يقال : بأنّ الترك مع عدم الداعي يستند إليه فقط ، لكون وجود الصارف حينئذ تابعا له.

ويدفعه : أنّ إرادة الإيجاد على تقدير الفعل غير منوطة بالداعي ، بل هي اختياريّة تجامع كلاّ من وجود الداعي وعدمه ، فيستند إليها الفعل وهي مستندة إلى الاختيار.

غاية الأمر أنّ الاختيار قد يتعلّل بوجود الداعي وقد لا يتعلّل به ، وكذلك الترك فإنّه مسبوق بعدم إرادة الإيجاد لا محالة فيستند اليه دائما ، وهي اختياري يستند إلى الاختيار ، غايته كون الاختيار ممّا يتعلّل تارة بانتفاء الداعي واخرى بغيره وثالثة لا يتعلّل بشيء.

وكيف كان ففي كلام بعض الأفاضل : أنّه قد يكون مجرّد وجود الصارف وعدم الداعي إلى الفعل كافيا في ترك المأمور به ، من دون حاجة إلى حصول ضدّ من أضداده ، وقد لا يكون ذلك كافيا ما لم يحصل الضدّ كما إذا نذر البقاء على الطهارة في مدّة معيّنة يمكن البقاء عليها فيها ، فإنّه إذا تطهّر حينئذ لم يكن رفعها إلاّ بايجاد ضدّها ، ومجرّد انتفاء الداعي إلى البقاء عليها لا يكفي في انتفائها ، فيتوقّف رفعها إذن على وجود الضدّ الخاصّ ، فيكون وجود ذلك الضدّ وهو السبب لترك المأمور به وإن كان مسبوقا بالإرادة ، وكذا الحال في الصوم بعد انعقاده إن قلنا بعدم فساده بارتفاع نيّة الصوم إلى آخره.

ويمكن دفعه : بأنّ البقاء على الطهارة عبارة عن الاستمرار على عدم إيجاد سبب الانتقاض ، والصارف عنه عدم إرادته بالمعنى المقارن للإيجاد وهو ملزوم لإيجاد السبب إن لم يكن عينه فلا فرق.

* قرينة على أنّ مراده بالصارف في محلّ البحث هو عدم الإرادة بمعنى العزم المقارن للإيجاد ، لأنّه الّذي لا يتصوّر معه صدور الأضداد الخاصّة دون الإرادة بمعنى الشوق والميل ، وغرضه من هذا الكلام تتميم ردّ الاحتجاج المنحلّ إلى ترديد علّية فعل الضدّ للترك بين وجود الصارف وانتفائه ، فعلى الأوّل يستند الترك إلى الصارف دون الضدّ ، وعلى الثاني يمتنع وجود الضدّ فضلا عن علّته.

ووجهه : إنّه أيضا مسبوق بإرادته المقارنة للإيجاد ، ولا يجتمع الإرادتان المقارنتان

ص: 748

إلاّ على سبيل الإلجاء ، والتكليف معه ساقط *. وهكذا القول بتقدير أن يراد بالاستلزام اشتراكهما في العلّة ، فإنّه ممنوع أيضا ** ؛

__________________

لإيجادي المتضادّين وقد فرضناها حاصلة بالنسبة إلى المأمور به ، فلا يمكن صدورها بالنسبة إلى ضدّه أيضا وإلاّ لزم اجتماع الضدّين.

* استثناء عن المنفيّ ، أي يتصوّر صدور الضدّ مع انتفاء الصارف في صورة الإلجاء وهو إكراه الغير على الترك ، فلا يريد بذلك بيان أنّ الترك يستند في تلك الصورة إلى فعل الضدّ ، حتّى يرد عليه : منع ذلك لاستناده حينئذ إلى الإلجاء المفروض كاستناد فعل الضدّ إليه ، فلا وقع لما في كلام بعض الأفاضل من الإيراد عليه بذلك.

ولكن قوله : « والتكليف معه ساقط » ربّما يوهن إرادة هذا المعنى ، لكفايته على تقدير كونه مرادا في ردّ الخصم ، ولا حاجة معه إلى إبداء كون الفرض خارجا عن محلّ البحث لعدم حرمة في الترك المفروض ليحرم بها الضدّ الحاصل معه.

إلاّ أن يقال : بوروده من باب التنزّل والمجاراة مع الخصم بزعم أنّه لعلّه لا يكتفي بدعوى عدم استناد الترك في تلك الصورة أيضا إلى فعل الضدّ ، أو لا يسلّم استناده كفعل الضدّ إلى ما فرض من الإلجاء.

ولكن يشكل الفرض بما تقدّم من أنّ فعل الضدّ أيضا مسبوق بإرادة إيجاده ، فكيف يعقل صدور مع انتفاء الصارف بالنسبة إلى المأمور به.

ويمكن دفعه : بأنّ إرادة الإيجاد شرط للفعل الاختياري والمفروض صادر إلجاء فليس باختياري حتّى يستلزم إرادة مضادّة لإرادة المأمور به ، والمفروض أنّ إرادة إيجاد المأمور به ليس بنفسه علّة تامّة بل هو شرط ، والشرط إنّما يؤثّر مع عدم وجود المانع والالجاء مانع ، ولا ينافيه ما تكرّر ذكره من كونها جزءا أخيرا للعلّة التامّة ، لأنّ ذلك على تقدير إحراز سائر الأجزاء منها عدم المانع ، فهي مع عدم المانع جزءان يتسابقان في كونهما جزءا أخيرا فقد يسبق تحقّق عدم المانع على الإرادة ، وقد تسبق الإرادة ، فأيّ منهما سبق يكون الآخر جزءا أخيرا غير أنّ الغالب سبق إحراز عدم المانع على حصولها ، فكونها جزءا أخيرا باعتبار الغالب.

** هذا المنع إنّما يتّجه لو اريد بالعلّة المشتركة بينهما العلّة التامّة أو السبب القريب ،

ص: 749

لوضوح أنّ لإرادة الضدّ وعدم إرادة المأمور به أو إرادة تركه مدخليّة في فعل الضدّ وترك المأمور به وهما متقابلان ، فكيف يعقل كون العلّة التامّة فيهما واحدة ، ولا اشتراك لهما أيضا في السبب القريب لتعدّده فيهما غالبا.

نعم قد يتّحدان في السبب القريب كما في صورة الإكراه الموجب لانتفاء إرادة المأمور به وحدوث إرادة ضدّه.

وأمّا لو اريد بها ما يعمّ السبب البعيد أيضا فلا ، لإمكان دعوى انتهائهما بوسائط إلى أمر واحد وهو الغرض المعبّر عنه بالغاية المطلوبة ، فإنّه علّة لحصول ما يوافقه وعدم حصول ما يخالفه ، فإذا كان غرض المكلّف وغايته المطلوبة له في دار التكليف ملازمة التقوى والتقرّب إلى اللّه جلّ شأنه أو إدراك مثوباته والتحرّز عن سخطه وعقوباته حسبما هو من وظيفة الأولياء والمطيعين ، فالصلاة وغيرها من أنواع العبادات توافق غرضه ذلك ، والنوم وغيره من الأفعال المباحة لا يوافقه ، والزناء وغيره من الأفعال المحرّمة يخالفه ، فقضيّة ذلك رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني في نظره واعتقاده بهما ، ثمّ ميله النفساني إلى الأوّل وانقباضه عن الثاني ، ثمّ إرادة إيجاد الأوّل وعدم إرادة إيجاد الثاني أو إرادة عدم إيجاده ، فينتهي كلّ من الفعل والترك بالأخرة إلى أمر واحد.

ومثله الكلام في عكس القضيّة كما لو كان غرض الإنسان والغاية المطلوبة له متابعة الهوى والتعبّد بشهوة النفس وطلب راحتها وتربية البدن بملازمة اللذائذ الجسمانيّة من الأطعمة والأشربة والألبسة والأنكحة ونحوها على ما هو من شأن الأشقياء والعاصين ، فالنوم والاشتغال في تحصيل ما يحصل به غرضه كائنا ما كان يوافقه ، والصلاة ونحوها من أنواع العبادات الشاقّة لا يوافقه بل يخالفه.

فقضيّة ذلك رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني في نظره ، إلى أن آل الأمر بعد الاعتقاد بهما إلى الميل إلى الأوّل فالانقباض عن الثاني ، ثمّ إرادة إيجاد الأوّل وعدم إرادة إيجاد الثاني أو إرادة عدم إيجاده نعوذ باللّه من تلك الرتبة الدنيّة ، وإن كان مكافاتها المثوبات الاخرويّة.

ولا ريب أنّ الترك والفعل وإن تقارنا في الحصول من غير علّية بينهما غير أنّ انتهاءهما إلى شيء واحد هو علّة لهما وإن كانت بعيدة ، فالمنع عن ذلك بإطلاقه ليس في محلّه.

وأورد عليه أيضا : بأنّه إنّما يتوجه في صورة الاختيار وأمّا في صورة الإلجاء فلا ، لأنّه يمكن أن يكونا معلولي علّة واحدة ، نعم يسقط التكليف.

ص: 750

لظهور أنّ الصارف الّذي هو العلّة في الترك ليس علّة لفعل الضدّ *. نعم هو مع إرادة الضدّ من جملة ما يتوقّف عليه فعل الضدّ ** ، فإذا كان واجبا كانا ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

وإذ قد أثبتنا سابقا عدم وجوب غير السبب من مقدّمة الواجب ، فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدّمة له ***

__________________

وكأنّه اريد بالعلّة الواحدة في تلك الصورة السبب القريب ، فيرجع إلى ما أشرنا إليه دون العلّة التامّة ، وإلاّ فيردّه ما أشرنا إليه أيضا ، والإلجاء ليس بنفسه علّة تامّة كما عرفت.

* والوجه في ذلك : أنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادة إيجاده وهو أخصّ من الصارف الّذي هو عدم إرادة إيجاد المأمور به أو إرادة عدم إيجاده ، وظاهر أنّ الأعمّ لا يستلزم الأخصّ ، وكون علّة الشيء أعمّ من علّة شيء آخر لا يقضي بترتّب معلول الأخصّ على العلّة الأعمّ كما لا يخفى.

** اعترض المحقّق السلطان : بأنّ هذا ممنوع في الصارف ، بل لا توقّف لفعل الضدّ على الصارف أصلا ، وإنّما هو المقارنة من الجانبين بلا توقّف من الجانبين ، وهو في محلّه ، ولا مصادمة فيه للاصول المقرّرة كما توهّمه المدقّق.

*** قرينة واضحة على أنّ مراده بالسبب هنا وفي بحث المقدّمة المقتضي الّذي هو أعمّ من العلّة التامّة لا الجزء الأخير منها ، كيف وإرادة الضدّ مع الصارف عندهم جزء أخير من العلّة ، فلو كان مراده بالسبب هنا وفي بحث المقدّمة الجزء الأخير من العلّة لكان قوله : « فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدّمة له » مع فرضه الضدّ واجبا مناقضا لمختاره في مقدّمة الواجب من وجوب السبب الّذي أشار إليه هنا أيضا.

والعجب من المحقّق المشار إليه كيف غفل عن ذلك فاحتمل كون مراده بالسبب في كلا المقامين الجزء الأخير من العلّة.

فقال : لعلّ المراد بالسبب ليس العلّة التامّة إذ تسليم وجوبها يستلزم وجوب كلّ جزء من أجزائها إذ جزء الواجب واجب اتّفاقا ، فلا يتصوّر بعد تسليم وجوب السبب بمعنى العلّة التامّة هنا منع وجوب كلّ واحد ممّا ذكر أنّه من جملة ما يتوقّف عليه فعل الواجب مع كونهما جزئين للعلّة ، فلعلّ المراد بالسبب هاهنا وفي بحث مقدّمة الواجب مطلقا هو الأخير من العلّة التامّة الّذي هو علّة قريبة للفعل عرفا ، كالصعود على السلّم للكون على

ص: 751

لكنّ الصارف باعتبار اقتضائه ترك المأمور به ، يكون منهيّا عنه ، كما قد عرفت *.

__________________

السطح على ما مثّلوا به ، إلى آخره.

ولا يخفى ما في تعليله بتوهّمه الفاسد من فساد آخر لمنع الملازمة بين وجوب الكلّ ووجوب كلّ واحد من أجزائه ، وقرّرنا في بحث المقدّمة جريان الخلاف في الأجزاء أيضا كسائر المقدّمات الخارجة ، والاتّفاق المدّعى على خروج الأجزاء عن موضع النزاع في محلّ المنع ، ولو سلّم فهو اتّفاق على وجوب الجزء بوجوب الكلّ ، ومحلّ الخلاف وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة والفرق بينهما واضح ، من حيث إنّ الوجوب على الأوّل واحد له إضافة إلى الكلّ أصالة وإلى الجزء تبعا ، وعلى الثاني يتعدّد الوجوب أحدهما نفسي أصلي والآخر غيري تبعي ، مع ما في قوله : « كالصعود على السلّم » من بطلان توهّم كونه جزءا أخيرا ، بل الجزء الأخير هو الإرادة المتحقّقة عند الكون على الدرجة الأخيرة من درجات السلّم المقارنة لحصول الكون على السطح ، مع أنّ ما ذكره من اللازم يجري في المثال المذكور من جهة أنّ الصعود على السلّم أيضا له أجزاء وشرائط كالصعود على كلّ درجة درجة وإرادة ذلك الصعود ، ولا ريب أنّ كلّ واحد بانفراده ليس سببا بل السبب هو المجموع ، فلو وجب المجموع لزم وجوب كلّ جزء وهو خلاف ما يقول به المصنّف.

* إشارة إلى ما حقّقه سابقا من أنّ تحريم اللازم يستلزم تحريم الملزوم إذا كان علّة له ، والمفروض أنّ علّة الترك المحرّم هو الصارف بلا مشاركة لغيره له في التأثير ، فلذا لو اجتمع سائر شرائط الوجود كان الصارف بانفراده مؤثّرا في العدم ، فهذا هو المؤثّر أيضا على تقدير انتفاء بعض الشرائط أيضا غير ما هو راجع إلى انتفاء الصارف ، فإنّه إنّما يؤثّر إذا امتنع الفعل ولو مع انتفاء الصارف وهو خلاف البديهة.

ولكن يبقى الكلام معه في جعل ذلك علّة أو سببا بمعناهما المصطلح ، لعدم اندراجه في شيء منهما كما يشهد التأمّل في حدّيهما المعروفين.

ولعلّ المراد بالعلّة والسبب هنا وفي بحث المقدّمة ما يستند إليه خاصّة الفعل أو الترك في نظر العقل أو العرف ، وإن لم يكن علّة تامّة أو سببا بمعناهما المعروف ، فيصحّ عدّ الصارف حينئذ علّة بهذا المعنى لأنّه الّذي يستند إليه الترك عقلا وعرفا ، كما لو صادف اجتماع سائر شرائط الوجود أو عرفا فقط كما لو صادف انتفاء سائر الشرائط كلاّ أم بعضا.

ص: 752

فإذا أتى به المكلّف عوقب عليه من تلك الجهة *. وذلك لا ينافي التوصّل به إلى الواجب ، فيحصل ، ويصحّ الإتيان بالواجب الّذي هو أحد الأضداد الخاصّة **. ويكون النهي متعلّقا بتلك المقدّمة ومعلولها ، لا بالضدّ المصاحب للمعلول.

__________________

* الضمير المجرور بالباء عائد إلى الضدّ الّذي فرضه واجبا لا يتمّ إلاّ بإرادته مع الصارف الّذي فرضه منهيّا عنه لاقتضائه ترك المأمور به ، والتقييد بالجهة بيان لعدم كون العقاب المترتّب على فعل الضدّ حينئذ من جهة نفسه ، حتّى يقال : إنّه فرع النهي ، بل من جهة اشتماله على مقدّمة محرّمة وهو الصارف لمكان النهي عنه باعتبار كونه مقدّمة سببيّة للحرام ، فالعقاب حقيقة مترتّب عليه لا على فعل الضدّ ، وهذا المعنى كما ترى لا يلائم ما ذكره بعد ذلك من قوله : « وذلك لا ينافي التوصّل به إلى الواجب » لكون الضميرين في سياق واحد ، والمفروض أنّه في الثاني لا يعود إلاّ إلى الصارف فليكن الأوّل أيضا عائدا إليه ، فيكون المعنى حينئذ : أنّ الصارف لكونه منهيّا عنه باعتبار اقتضائه ترك المأمور به إذا أوجده المكلّف يعاقب عليه لا من جهة نفسه بل من جهة اقتضائه ترك المأمور به.

وقيل : إنّ هذا الكلام ظاهر في ترتّب العقاب على ترك المقدّمة ، وهو ضعيف لما قرّر في محلّه من أنّ المقدّمة من حيث هي لا توجب ثوابا ولا عقابا ، ولكن قوله : « من تلك الجهة » يأبى عن إرادة [ هذا ] المعنى لقضائه بكون العقاب الّذي يترتّب عليه هو العقاب المترتّب على الحرام لا ما يزيد عليه حتّى يتعدّد العقاب ، فظهور الكلام فيما ذكر ممنوع.

** إشارة إلى دفع توهّم فساد ضدّ المأمور به إذا كان من الواجبات.

وتوضيحه : أنّ فساد الضدّ إمّا من جهة أنّه لولاه لزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو غير جائز ، فلابدّ من ارتكاب خلاف ظاهر في أحد الخطابين وليس إلاّ تقييد الأمر بالضدّ بغير صورة المعارضة لكونه قابلا له من جهة أنّه موسّع ، أو أنّه لولاه لزم الأمر بالمتضادّين وهو محال لقبح تكليف ما لا يطاق ، نظرا إلى امتناع الجمع بينهما في الامتثال على ما يقتضيه الأمر بهما معا ، فلابدّ من التصرّف في الخطاب بالوجه المذكور ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه فرع اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ وقد منعناه بجميع طرقه.

ص: 753

وأمّا الثاني : فلأنّ المحذور إنّما يلزم إذا كان الأمران عينيّين مرادا بهما الامتثال في زمان واحد وليس كذلك لمكان توسعة الأمر بالضدّ ، فليس متعلّقه خصوص ما يعارض المأمور به المضيّق بل الكلّي الّذي شموله له ولغيره من الأفراد المفروضة باعتبار أجزاء الزمان بدلي ، فكونه موجبا للامتثال ليس من جهة أنّه مأمور به بالخصوص ، بل من جهة انطباق المأمور به عليه كما لو كان الامتثال حاصلا في ضمن غير هذا الفرد ، فالأمر بالكلّي الشامل له بدلا مع الأمر بالمضيّق لا يعدّ أمرا بالمتضادّين اللذين لا يمكن الامتثال بهما كما هو مناط المنع ، كما يشهد به طريقة العرف حيث يعدّ العبد الآتي بفرد من الموسّع في مكان المضيّق مطيعا بالنسبة إلى الموسّع عاصيا بالنظر إلى المضيّق حيث تركه عن سوء اختياره.

ولا يذهب إلى أنّه أتى بما ليس من المأمور به ولكن كان مسقطا عن المأمور به ، وقد تقدّم زيادة توضيح في هذا المقام في دفع كلام بعض الأفاضل الوارد في منع الثمرة المعروفة الّتي ذكروها للقول باقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ.

فإن قلت : أنّ الحكم بصحّة الضدّ إنّما يصحّ على ما اختاره المصنّف من تجويز اختلاف المتلازمين في الحكم مطلقا في غير العلّة والمعلول ومعلولي علّة واحدة ، وأمّا على ما اخترته من منع ذلك مطلقا بالنسبة إلى الوجوب والحرمة فلا ، لمكان التلازم بين فعل الضدّ وترك المأمور به ، وصحّة الضدّ فرع الأمر به فيلزم أن يكون أحد المتلازمين واجبا والآخر هو ترك المأمور به حراما ، وهو ممّا صرّحت مرارا بعدم جوازه.

قلت : إنّما حكمنا بعدم جواز ذلك من جهة عدم إمكان الامتثال الّذي كان يقتضيه كلّ من الحرمة والوجوب فهو إنّما يسلّم فيما لو كان الأمر بالضدّ عينيّا كالأمر بالمضيّق ، وليس المقام كذلك لكون وجوب الضدّ على فرض كونه واجبا على سبيل التوسعة والمكلّف متمكّن عن امتثاله مع امتثال الحرمة في ترك المأمور به المضيّق بتقديم الإتيان به أوّلا ثمّ الإتيان بالموسّع عقيبه من دون محذور ، فلا يلزم منافاة لحكمة الحكيم لو عصى المكلّف بترك المضيّق فأتى بالموسّع في وقته الخاصّ به ، لعدم كونه عين المأمور به وصحّته عبارة عن كونه موجبا لامتثال الأمر بالكلّي الّذي لم يكن الحكيم خصّه بذلك الفرد.

فلا وقع لما ذكره بعض الأفاضل في هذا المقام اعتراضا على المصنّف في حكمه بالصحّة ، من أنّ المتلازمين إذا لم يكن بينهما علّية ولا مشاركة في علّة وإن جاز اختلافهما في الحكم حسبما ذكره لكن لا يصحّ الحكم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر ، وإن اختلف

ص: 754

وحيث رجع حاصل البحث هاهنا إلى البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وعدمه * ، فلو رام الخصم التعلّق بما نبّهنا عليه ، بعد تقريبه بنوع من التوجيه ، كأن يقول : « لو لم يكن الضدّ منهيّا عنه ، لصحّ فعله وإن كان واجبا موسّعا. لكنّه لا يصحّ في الواجب الموسّع ** ؛ لأنّ فعل الضدّ يتوقّف على وجود الصارف عن الفعل المأمور به ، وهو محرّم قطعا. فلو صحّ مع ذلك فعل الواجب الموسّع ، لكان هذا الصارف واجبا باعتبار كونه ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

__________________

محلّ الحكمين لعدم إمكان العمل على مقتضى التكليفين لاستحالة الانفكاك بين الأمرين بحسب العقل والعادة ، فإيجاب أحدهما وتحريم الآخر من قبيل التكليف بالمحال ومن الواضح أنّه كما يستحيل التكليف بما يستحيل الإتيان به كذا يستحيل حصول تكليفين أو تكاليف يستحيل الجمع بينهما في الامتثال وخروج المكلّف عن عهدتها ، وحينئذ فلا يصحّ الحكم بحرمة الصارف ووجوب الضدّ المتوقّف عليه. انتهى.

ووجه عدم كونه ممّا لا وقع له : إنّا لا نقول بكون الصارف مقدّمة لفعل الضدّ وإلاّ يكون من باب الأمر بواجب له مقدّمة محرّمة مع الانحصار ، وقد نبّهنا في بحث المقدّمة على عدم جوازه.

نعم هذا الاعتراض على المصنّف وكلّ من يقول بمقالته في محلّه.

* فعلى مذهب المصنّف لا يكون الصارف المحرّم واجبا وإن كان ممّا لا يتمّ الضدّ الواجب إلاّ به لكونه غير السبب ، وعلى مذهب غيره المعمّم في وجوب المقدّمة بالنسبة إلى غير السبب الصارف واجبا مع كونه محرّما ، لكونه سببا للمحرّم وهو ترك المأمور به.

** يمكن كون الصحّة هنا مرادا بها معناها الظاهر أعني موافقة الأمر على وجه يشمل الضدّ بجميع أنواعه من المباح والمكروه والمندوب والواجب بإدخال التقدير في تعلّق الأمر حتّى يكون المعنى : أنّه لو لم يكن منهيّا عنه لوافق فعله الأمر على تقدير كونه مأمورا به وإن كان واجبا موسّعا ، وذكر كلمة « إن » للترقّي من الأدنى إلى الأعلى كما لا يخفى.

وإنّما خصّ الواجب الموسّع في استثناء نقيض التالي بالذكر مع أنّ موضوع المقدّم أعمّ منه ومن غيره لوجود جهة الاستثناء على وجه يلتزم بها الخصم ، وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي في الصارف فيه خاصّة ، فإذا حصل من استثناء نقيض التالي رفع المقدّم بالنسبة إلى

ص: 755

الواجب الموسّع يتمّ المطلوب في الباقي بعدم القول بالفصل ، إذ لم يكن أحد فصّل في إثبات النهي عن الضدّ بين الواجب وغيره.

فعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلّفه بعضهم من حمل « الصحّة » على المعنى المتناول للإباحة موافقة المأمور به ، بأن يكون تحقّقه بالنسبة إلى غير الواجب الموسّع في ضمن الإباحة وبالنسبة إليه في ضمن الموافقة المذكورة ، أو حملها على الجواز المتناول لغير الحرام.

نعم يرد عليه على كلّ تقدير : أنّ غاية ما تقضي به جهة المنع بالنسبة إلى الواجب الموسّع انتفاء الأمر عنه حال كونه ضدّا للمأمور به المضيّق لئلاّ يلزم اجتماع الأمر والنهي في الصارف ، فيلزم أن لا يكون الضدّ مأمورا به في هذه الحالة وهو أعمّ من كونه منهيّا عنه ، فلم يلزم من استثناء نقيض التالي رفع المقدّم.

ولعلّ الأمر بالشيء ملزوم لعدم الأمر بالضدّ - كما يراه بعض المتأخّرين - لا خصوص النهي عنه كما هو المطلوب ، والظاهر أنّه لا خلاف بين المحشّين في توجيه هذا الإيراد إلى عبارة الاستدلال.

ويمكن دفعه : بأنّ مطلوب الخصم في توجيه هذا الاستدلال بالنسبة إلى الضدّ إذا كان واجبا موسّعا متضمّن لجزءين :

أحدهما : عدم كونه مأمورا به حال كونه ضدّا ، ويثبته بأنّه لو كان مأمورا به في تلك الحال لزم اجتماع الوجوب في الحرمة الصارف وهو باطل.

وثانيهما : كونه منهيّا عنه على تقدير عدم كونه مأمورا به ويثبته بمقدّمة اخرى أحرزها أوّلا وهو عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

وبيان ذلك : أنّ فعل الضدّ ملزوم للصارف عن المأمور به مع إرادته ، كما أنّ الصارف عن المأمور به مع إرادة الضدّ ملزوم لفعل الضدّ ، فالتلازم ثابت من الطرفين ولمّا كان اختلاف المتلازمين في الحكم ممتنعا فرفعه يتأتّى تارة بتسرية حكم الملزوم - وهو الوجوب على تقدير كونه مأمورا به - إلى الصارف ، واخرى بتسرية حكم اللازم - وهو الحرمة - إلى الملزوم ، والأوّل وإن كان يثبته مضافا إلى تلك القاعدة قاعدة وجوب المقدّمة على تقدير وجوب ذي المقدّمة ، غير أنّه ممّا لا سبيل إليه لأدائه إلى أمر محال وهو لزوم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد شخصي ، فتعيّن الثاني.

وقضيّة ذلك كون فعل الضدّ كلازمه محرّما ومنهيّا عنه وهو المطلوب ، وليس لأحد أن

ص: 756

فيلزم إجتماع الوجوب والتحريم في أمر واحد شخصيّ * ، ولا ريب في بطلانه » **

عدم اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام

لدفعناه ، بأنّ صحّة البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ، تقتضي تماميّة الوجه الأوّل من الحجّة ، فلا يحتاج إلى هذا الوجه الطويل ***.

__________________

يقول : بأنّ المصنّف دفع تلك المقدّمة سابقا فلا يمكن التثبّت بها في ذلك المقام ، لأنّ المصنّف عدل عمّا ذكره أوّلا ووجّه الاستدلال بنحو ما ذكر من باب التنزيل ومع الإغماض عمّا ذكره أوّلا من منع امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، وهو مبنيّ على فرض تسليمه تلك المقدّمة ، فتأمّل (1).

* والوجه في كون الصارف أمرا واحدا شخصيّا واضح ، من جهة أنّه لا ينفكّ عن فعل الضدّ لكونه ممّا لا يتمّ الضدّ إلاّ به ، فليس أمرا كلّيّا له أفراد يكون واجبا في بعضها وحراما في البعض الآخر.

** مبنيّ على ما يراه المصنّف في باب اجتماع الأمر والنهي عن عدم كون اختلاف الجهة مجديا في الجواز على ما يراه جماعة منهم بعض الأعلام ، وإلاّ أمكن له دفع الاحتجاج بغير ما يذكره فيما بعد ذلك من تجويز اجتماعهما إذا كان الوجوب للتوصّل.

*** محصّله : أنّه لو كان قاعدة وجوب المقدّمة نافعة في إثبات تحريم الضدّ لكان الوجه الأوّل من دليلي المفصّل _ وهو كون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ المأمور به إلاّ به فيكون واجبا ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، فيكون فعل الضدّ محرّما _ كافيا في ذلك ، فلا حاجة معه إلى ذكر هذا الوجه الطويل المتضمّن لبيان أنّ الصارف الّذي هو محرّم ممّا لا يتمّ فعل الضدّ إلاّ به فيكون واجبا على تقدير وجوب الضدّ.

ولكن قد ذكرنا أنّ هذا الوجه ليس بنافع إمّا لعدم وجوب غير السبب من مقدّمات الواجب كما عليه المصنّف ، أو لعدم كون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به كما عليه بعض المحقّقين وهو الموافق للصواب ، فإذا ثبت بطلان هذا الوجه الّذي هو الأصل في الاستدلال

ص: 757


1- قوله : « فتأمّل » إشارة إلى أنّ ما ذكره المصنّف في توجيه الاستدلال عن قبل الخصم فإنّما ذكره بعد إلزامه الخصم في استدلاله بعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فيكون حاصل التوجيه : أنّ الخصم لو رام _ بعد ما صار ملزما _ التمسّك بطريق آخر لإثبات مطلوبه من باب أنّ الغريق يتشبّث بكلّ حشيش لنلزمه بما سيأتي ذكره من منع بطلان اجتماع الوجوب والحرمة في خصوص المقام فليتدبّر. ( منه عفي عنه ).

على أنّ الّذي يقتضيه التدبّر ، في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا ، على القول به ، أنّه ليس على حدّ غيره من الواجبات *. وإلاّ لكان اللاّزم - في نحو ما إذا وجب الحجّ على النائي فقطع المسافة أو بعضها على وجه منهيّ عنه - أن لا يحصل الامتثال حينئذ ؛ فيجب عليه إعادة السعي بوجه سائغ ، لعدم صلاحية الفعل المنهيّ عنه للامتثال ، كما سيأتي بيانه. وهم لا يقولون بوجوب الاعادة قطعا ؛ فعلم أنّ الوجوب فيها إنّما هو للتوصّل بها إلى الواجب. ولا ريب أنّه بعد الإتيان بالفعل المنهيّ عنه يحصل التوصّل ؛ فيسقط الوجوب ، لانتفاء غايته.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الواجب الموسّع كالصلاة مثلا يتوقّف حصوله - بحيث يتحقّق به الامتثال - على إرادته وكراهة ضدّه ؛ فإذا قلنا بوجوب ما يتوقّف عليه الواجب كانت تلك الإرادة وهاتيك الكراهة واجبتين ، فلا يجوز تعلّق الكراهة بالضدّ الواجب ؛ لأنّ كراهته محرّمة ، فيجتمع حينئذ الوجوب والتحريم في شيء واحد شخصيّ. وهو باطل ، كما سيجيء.

__________________

تثبت بطلان ذلك الوجه الطويل لكونهما من باب واحد.

والجواب عنهما يرد على سياق واحد ، فالمصنّف يدفعهما لعدم وجوب المقدّمة الغير السببيّة والصارف ليس بسبب كما أنّ ترك الضدّ ليس بسبب ، وعلى مذهب الحقّ يدفع أصل المقدّميّة ، إذ الصارف ليس بمقدّمة لفعل الضدّ بل يقارن معه في الوجود ، كما أنّ ترك الضدّ ليس بمقدّمة لفعل المأمور به.

* جواب آخر ذكره مع الإغماض والتنزّل عمّا هو الحقّ في الجواب عنده الّذي ذكره أوّلا ، لأنّه مبنيّ على فرض تسليم وجوب غير السبب من مقدّمات الواجب والمصنّف لا يرضى به ، فالجواب بما هو مبنيّ عليه تنزّل ومماشاة مع الخصم ، ولا بأس به لكونه غير عزيز في طريقة العلماء. وغرضه من هذا الجواب إبداء الفرق بين الوجوب الثابت للمقدّمة وما يثبت لغيرها من الواجبات الأصليّة ، فإنّه وجوب يثبت لمجرّد التوصّل إلى واجب آخر وليس بحيث يكون منوطا بالصفة الكامنة في الشيء الموجبة لكونه مطلوبا بالذات مقصودا

ص: 758

لكن قد عرفت : أنّ الوجوب في مثله إنّما هو للتوصّل إلى ما لا يتمّ الواجب إلاّ به. فإذا فرض أنّ المكلّف عصى وكره ضدّا واجبا ، حصل له التوصّل إلى المطلوب ؛ فيسقط ذلك الوجوب ؛ لفوات الغرض منه ، كما علم من مثال الحجّ.

__________________

بالأصالة على ما تقرّر في بحث المقدّمة ، فإذا حصل بينه وبين غيره من وجوب سائر الواجبات ذلك الفرق الواضح فلا مانع من اجتماعه مع الحرمة ، وكأنّه مبنيّ على ما يراه جماعة من جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام وقد أشرنا إلى ضعفه في غير موضع.

وتفصيل القول فيه هنا : أنّه لا فرق في نظر العقل ولا العرف في عدم جواز وصف المحرّم بالوجوب ولا وصف الواجب بالمحرّم بين كون الواجب توصّليّا أو غيره.

فإنّ غاية ما يمكن أن يتمسّك به المجوّز هنا ما ذكره الجماعة من أنّ المناط في اجتماع الوجوب مع الحرمة هو المعاندة بين محبوبيّة الفعل ومطلوبيّته في نفسه لمبغوضيّته ومطلوبيّة تركه فلا يجتمعان في محلّ واحد ، وهذا المعنى غير حاصل في المقدّمة لعدم كونها مطلوبة في حدّ ذاتها ، وإنّما يتعلّق بها الطلب لأجل إيصالها إلى غيرها ، وتلك الجهة تحصل بكلّ من المحلّل والمحرّم ، فلا مانع من طلبها حتما ولو كانت في حدّ ذاتها محرّمة ، وهذا معنى اجتماع الوجوب مع الحرمة.

ولا يخفى وهنه ، فإنّ مجرّد طروّ جهة الإيصال لا يصلح مقتضيا لتعلّق الطلب بما هو مبغوض ذاتا ومطلوب تركه أصالة ، كيف ومعنى وجوب الحرام أنّ الشارع تصوّر ما هو مبغوض في نظره لاشتماله على منقصة ذاتيّة مع اعتقاد مرجوحيّته وكراهة عن حصوله وعدم رضاه به بل ومنعه عنه فطلبه من المكلّف حتما وألزمه به ، وهو ممّا لا يكاد يعقل إلاّ في شيء ذي منقصة ذاتيّة طرءه جهة خارجيّة مقتضية لرجحانه بالعرض رجحانا فائقا على المرجوحيّة الحاصلة فيه من جهة منقصة ذاته بالغا إلى حدّ أوجب لطلبه حتما وإلزام المكلّف به ، كالكذب إذا أوجب إنجاء نبيّ ، وإهلاك النفس إذا أوجب إحياء دين ، والغصب إذا أوجب حفظ نفس محترمة ، وغير ذلك من المحرّمات السائغ استعمالها في مقام الضرورة وموضع الاضطرار لحفظ نفس أو عرض أو دين أو مذهب.

وكون محلّ البحث من هذا الباب لا يسلّم إلاّ إذا انحصر مقدّمة الواجب الذاتي في المحرّمة مع بلوغ رجحانه الذاتي حدّا يغلب معه على ما في المقدّمة من المرجوحيّة الذاتيّة ،

ص: 759

ومن هنا يتّجه أن يقال بعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ ، وإن قلنا بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به ؛ إذ كونه وجوبه للتوصّل يقتضي اختصاصه بحالة إمكانه ، ولا ريب أنّه ، مع وجود الصارف عن الفعل الواجب وعدم الداعي ، لا يمكن التوصّل ؛ فلا معنى لوجوب المقدّمة حينئذ. وقد علمت أنّ وجود الصارف وعدم الداعي مستمرّان مع الأضداد الخاصّة.

__________________

كحفظ بيضة الإسلام ودفاع المعاندين عن ربقة المسلمين إذا توقّف على ركوب دوابّ أو استعمال آلات مغصوبة غير محلّلة ، وهو كما ترى غير مطّرد في جميع جزئيّات المبحث ، وفيما يتّفق ذلك أيضا لا يبقى فيه حرمة وطلب فعلي للترك ، بل هو واجب صرف ومطلوب فعله ولا يبقى فيه مبغوضيّة لطروّ الجهة المحبوبيّة بالعرض.

نعم فيه منقصة ذاتيّة مقهورة في جنب المزيّة الحاصلة فيه لعارض ولا تأثير لها حينئذ في إفادة المرجوحيّة أو المبغوضيّة أو الإلزام بتركه.

فإن اريد باجتماع الوجوب التوصّلي مع الحرمة ما يكون من هذا القبيل ، فهو _ مع أنّه غير سار في جميع أفراد المسألة فلا يلائم إطلاق القول بالجواز _ ليس من الاجتماع في شيء.

وإن اريد به كون ما هو مبغوض ومطلوب تركه فعلا محبوبا ومطلوبا فعله فعلا ، فهو غير معقول ، كيف وأنّ الطلب الفعلي مع قطع النظر عن عدم تعلّقه بالمبغوض أبدا لا يقصد به إلاّ الامتثال ، سواء تعلّق بإيجاد شيء أو تركه في غير موضع الابتلاء والامتحان وإلاّ كان سفها منافيا للحكمة ، والشيء إذا تعلّق بإيجاده وتركه طلبان فعليّان فإن قصد بهما معا الامتثال بمتعلّقهما لزم التكليف بالمحال ، وإن قصد بأحدهما الامتثال خاصّة أو لم يقصد الامتثال بشيء منهما لزم السفه ، وتعدّد الجهة على ما اكتفى به بعضهم في تجويز الاجتماع لا يجدي إلاّ إذا كانت الجهة بنفسها موضوعا للحكم وموردا للحسن والقبح ، لا منشأ للحكم وعلّة للحسن والقبح كما في ضرب اليتيم للتأديب والتعذيب ، فإنّ موضوع الحكمين في الحقيقة هو التأديب والتعذيب ضرورة أنّ تأديبه حسن ذاتا وتعذيبه قبيح أصلا ، غايته أنّ الضرب قد يرد في موضع التأديب فيكون حسنا مأمورا به ، وقد يرد في محلّ التعذيب فيكون قبيحا منهيّا عنه فالتأديب والتعذيب جهتان داخلتان في موضوعي الحكمين ، فها هنا حكمان فعليّان لموضوعين ممتازين ، وكون الضرب محلاّ لهذين

ص: 760

الحكمين ليس من باب الاجتماع لوقوعه تارة مصداقا لهذا الموضوع فيختصّ بحكمه ، واخرى مصداقا لذلك الموضوع فيلحقه حكمه ، وإنّما يمتاز كلّ منهما عن الآخر بالقصد والنيّة ، فلا يكون من الاجتماع في شيء ، فلذا لو قصد به التأديب والتعذيب معا كان من أفراد المسألة ، والّذي يمنع عن أنّه الاجتماع على الإطلاق يمنعه هنا أيضا.

ولا ريب أنّ جهة التوصّل ليست بنفسها موضوعا للحكم حتّى يقال : بأنّ الوجوب قد تعلّق بشيء لا مدخل له في متعلّق الحرمة ، بل هي صفة خارجة عن الشيء قائمة مقام سائر الصفات الذاتيّة أو العرضيّة الباعثة على تعلّق الأحكام وجعلها ، فتكون داعية إلى تعلّق الحكم الإيجابي بمحالّها فعلا أو شأنا ، والمحلّ إذا كان باعتبار ذاته مشغولا بالحكم التحريمي الفعلي فكيف يعقل معه تأثير جهة الإيصال في تعلّق الحكم الإيجابي ولو شأنا ، وهو مفض إلى محاذير أخفاها في الأنظار لزوم التكليف بالمحال أو السفه المحالين من الحكيم على الإطلاق.

ونحن لا نعقل أنّ المصنّف ومن وافقه كيف تعقّلوا ما جوّزوه فضلا عن تجويزهم إيّاه واعتقادهم بجوازه ، ولعلّهم أدركوا في تلك المقالة ما لا يبلغ إليه عقولنا ولا يدركه أفهامنا ، فهم أعلم بحقيقة ما قالوه وإلاّ فو اللّه العالم.

ثمّ إنّ حدّ الواجبات الاخر أن لا يسقط وجوبها إلاّ بالامتثال ولا يحصل الامتثال بها بفعل غير مشروع [ ولا ] بفعل غيرها ولا بفعل غير المكلّف وهذا معنى ما اعتبروه فيها من المباشرة النفسيّة وجعلوها أصلا فيها ، وقد تقدّم منّا ما يتعلّق بهذا الباب في محلّه ، فالنفي في قول المصنّف : « ليس على حدّ غيره من الواجبات » إمّا متعلّق بنفي الإسقاط فيكون المعنى : أنّ وجوب المقدّمة نحو خاصّ من الوجوب يسقط بغير فعل الواجب (1) أو بفعل غير الواجب ، كالإزالة وأداء الدين حيث يسقط وجوبهما بغير فعل المكلّف وبفعله على وجه غير مشروع ، فعليه يكون المصنّف خارجا عن مقالة الجماعة ، إذ لا قضاء في هذا المعنى بتعلّق الوجوب بالمقدّمة المحرّمة ، غايته كونها موجبة لسقوط الوجوب عن المكلّف بالنسبة إلى المقدّمة المحلّلة ، فإنّه إذا وجب عليه الضدّ وجب لأجله جميع مقدّماته المحلّلة منها وجود الصارف عن ضدّ آخر لا يكون مأمورا به ، والصارف عنه بوصف كونه مأمورا به وإن كان بنفسه مقدّمة موصلة إليه إلاّ أنّه لكونه محرّما لم يتعلّق به الوجوب ولو تخييرا ،

ص: 761


1- كذا في الأصل.

بل تعلّق بما يكون الصارف على وجه محلّل غير أنّ المكلّف لو عصى واختار في مقدّمة الضدّ الواجب هذا الصارف المحرّم يبرء ذمّته عن الصارف الواجب ، لا لأنّه امتثل بما وجب عليه ، بل لأنّه أتى بما أسقط عنه الوجوب من جهة إيجابه لحصول التوصّل إلى المطلوب الّذي هو الحكمة في إنشاء ذلك الوجوب وتعلّقه بالصارف المحلّل ، فلا شيء عليه بعد ذلك من إعادة ولا قضاء.

ويرشد إلى إرادة هذا المعنى ما يذكره بعد ذلك من قوله : « فعلم أنّ الوجوب فيها إنّما هو للتوصّل بها إلى الواجب ».

ولا ريب أنّه بعد الإتيان بالفعل المنهيّ عنه يحصل التوصّل فيسقط الوجوب لانتفاء غايته.

أو متعلّق (1) بنفي الامتثال فيكون المعنى : أنّ الواجب من المقدّمة ما يحصل الامتثال به ولو اوتي به على وجه غير مشروع ، وهذا المعنى هو الّذي يناسب مقالة الجماعة (2).

لا يمكنهم التوصّل إلى الإيمان فالتكليف بالنظر إليهم تكليف بما لا يطاق ، بل يلزم أن لا يجب على العصاة الغير المريدين للطاعات السعي في تحصيل العلم بالأحكام ومعرفة المسائل ، لأنّه لا يمكنهم التوصّل إلى فعل الواجبات ولا ترك المحرّمات مع وجود الصارف.

وهذا كلّه كما ترى ممّا يقضي الضرورة ببطلانه ، بل لم يتفوّه به أحد لاتّفاقهم الضروري على إطلاق وجوب هذه الامور مع القدرة عليها.

وثانيا : منع عدم إمكان التوصّل مع وجود الصارف ، فإنّ الصارف إذا لم يكن قادحا في القدرة على ذي المقدّمة فليس بقادح في القدرة على مقدّماته ، والمفروض أنّ التكليف بها كالتكليف بذيها مشروط على القدرة عليها ، وهي حاصلة مع وجود الصارف ومع انتفائه ومجرّد عدم إمكان التوصّل مع وجوده ليس بصالح لسلب التكليف عنها ، لأنّ وجوده ليس بلازم لها ولا هو بحيث كان واجبا على المكلّف ، بل هو متمكّن على نفيه فكان متمكّنا عن التوصّل ولو بواسطة.

وإن أراد أنّ التوصّل غاية للتكليف بالمقدّمة وهو لا يحصل مع وجود الصارف وإن أمكن حصوله ، فالتكليف بذي الغاية بعدم ترتّب الغاية لا معنى له ، لأنّه عبث والعبث قبيح على الحكيم.

ص: 762


1- عطف على قوله : وإمّا متعلّق بنفي الإسقاط ».
2- سقط من هنا بعض المطالب ، ومن المظنون أنّها كانت أوراقا معدودة.

وأيضا : فحجّة القول بوجوب المقدّمة - على تقدير تسليمها - إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر. وحينئذ فاللازم عدم وجوب ترك الضدّ الخاصّ في حال عدم إرادة الفعل المتوقّف عليه من حيث كونه مقدّمة * له ؛ فلا يتمّ الاستناد في الحكم بالاقتضاء إليه. وعليك بامعان النظر في هذه المباحث ؛ فإنّي لا أعلم أحدا حام حولها.

__________________

ففيه : مع أنّه ممّا لا يساعده ظاهر العبارة ، أنّه منقوض بأصل التكليف بذي المقدّمة ، فإنّه ثابت لا محالة وبتكليف العصاة وبتكليف الكفّار بالاصول اتّفاقا بل الفروع أيضا على التحقيق المتقدّم في بحث المقدّمة ، مع أنّه مع الغضّ عن ذلك فاسد الوضع ، لما قرّرناه في المبحث المذكور من أنّ فائدة التكليف لا تنحصر في حصول الامتثال وإن كان ذلك هو الغرض الأصلي من فتح بابه ، بل قد يحسن التكليف مع العلم بعدم حصول الامتثال لقطع العذر على المكلّف وإلزامه على استحقاقه للعقوبة ، حيث ترك الامتثال باختياره واختار العصيان على الطاعة بمشيّته وإرادته ، فإذا صحّ التكليف بأصل ذي المقدّمة لأجل تلك الفائدة يتفرّع عليه التكليف بالمقدّمة لأجل تلك الفائدة وإن لم يترتّب عليه فائدته الأصليّة ، فإنّ الفرع لا يزيد على الأصل واللازم لا ينفكّ عن الملزوم.

وبالجملة هذا الكلام من المصنّف وغيره في غاية السقوط ، لوضوح وهنه عند كلّ أحد.

* هذا الكلام راجع عند التحقيق إلى الكلام الأوّل كما لا يخفى على المتدبّر ، فلا يغايره حتّى يكون جوابا آخر ولو غايره بنوع من الاعتبار مثل أن يقال : إنّ الكلام الأوّل وارد لإبداء وجود المانع عن إيجاب المقدّمة وهو امتناع التوصّل بها إلى ذيها مثلا ، والكلام الثاني وارد لمنع وجود المقتضي لوجوبها ، فإنّ المقتضي له إنّما هو البرهان المعروف من أنّه لو لا وجوبها لزم التكليف بما لا يطاق ، أو خروج الواجب عن وجوبه ، ولا يجري ذلك مع عدم إرادة الفعل ، إذ لا تكليف معه بذلك حتّى يكون تكليفا بما لا يطاق ، ولا يلزم الخروج عن الوجوب لأنّه كان مشروطا بالإرادة ، فانتفاؤه إنّما هو بانتفاء شرطه ولا ضير فيه.

فهو أوهن منه فإنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة تنهض دليلا على الوجوب حال كون المكلّف متمكّنا عن الفعل المتوقّف عليها ، إذ مع عدمه لا وجوب لأصل الفعل فضلا عن

ص: 763

وجوب مقدّمته ، والإرادة ليست من شرائط التمكّن لأنّ عدمها لا يوجب ارتفاعه كما تبيّن إلاّ على مذهب الأشاعرة في جعلهم الإرادة من شرائط التكليف كالقدرة وهو فاسد جدّا.

وربّما يوجّه هذا الكلام من المصنّف وسابقه على وجه يقتضي باعتبار فعليّة الإيصال في وجوب المقدّمة على ما سبق إلى بعض الأوهام من كون الواجب من المقدّمة هو المقدّمة الموصلة دون ما من شأنه الإيصال.

فيقال في تقرير الوجه الأوّل : بأنّه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه كما هو مفروض المقام لا يمكن التوصّل بالمقدّمة المفروضة إليه ، فلا تكون تلك المقدّمة على هذا الفرض موصلة فلا تكون واجبة ، وإمكان التوصّل لا يجدي في حصول فعليّة التوصل لأنّه أعمّ والعامّ لا يستلزم الخاصّ ، وهذا المعنى وإن كان خلاف ظاهر العبارتين إلاّ أنّه أوجه من المعنى السابق ، ولو كان مرادا منهما فيدفعه ما قرّرناه في بحث المقدّمة بما لا مزيد عليه فلا حاجة إلى الاعادة.

دفع مقالة الشيخ البهائي رحمه اللّه

وبقي من أطراف المسألة الكلام مع البهائي في المقالة المعروفة عنه من أنّ الأمر بالشيء يستدعي عدم الأمر بضدّه ، وقد أشار إليه في زبدته بعد ما زيّف أدلّة المثبتين والنافين للنهي بقوله : « ولو أبدل النهي عن الضدّ الخاصّ بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب ، وربّما يعزى ذلك إلى السيّد في الرياض أيضا ».

وقد يعترض عليه : بأنّ ذلك إنّما يتمّ في العبادات وأمّا في المعاملات فلا يتمّ مطلقا كما في كلام بعض الأعلام ، وهو كما ترى في غير محلّه لأنّ المقصود بإبداء هذه المقالة هو بيان أنّ الفساد حيثما صحّ استناده إلى عدم الأمر وإلى النهي الكاشف عن عدم الأمر فهو في الحقيقة مستند إلى عدم الأمر فقط ، لقصور الأدلّة القاضية باستناده إلى النهي ، وإلاّ فهو معترف بأنّ مقالته لا تجري إلاّ في العبادات فلاحظ عبارته في الحاشية حيث قال : « لكن ثمرته لا تظهر إلاّ في العبادات » فهو في الحقيقة على ما يزعمه من النافين لاقتضاء النهي ، فلذا يظهر الثمرة بينه وبين المثبتين في التحريم في كلّ من العبادات والمعاملات.

نعم له ثمرة مشتركة بينه وبين المثبتين في خصوص العبادات.

نعم هي موضع إشكال من جهة اخرى ، وهي أنّه أحدثها بتخيّل أنّها بالنسبة إلى العبادات تغاير القولين بإثبات النهي ونفيه.

والّذي يعطيه النظر خلافه ، بل هو عند التحقيق راجع إمّا إلى القول بإثبات النهي

ص: 764

الملازم للفساد أو القول بنفيه الملازم للصحّة ، وذلك لأنّ محلّ النزاع على ما تقرّر عندهم ما كان الأمر بالقياس إلى المأمور به مضيّقا كالإزالة وبالقياس إلى الضدّ كالصلاة موسّعا ، والأمر بالنسبة إلى الضدّ وإن كان عينيّا لتعلّقه بالكلّي عينا ولكنّه في حكم العقل بالنسبة إلى أفراده راجع إلى التخيير ، فهو بحسب ظاهر الشرع عيني وباعتبار حكم العقل تخييري ، لاستقلاله بأنّه إذا تعلّق أمر بكلّي له أفراد متعدّدة بحسب الأزمان وغيرها فالمكلّف مخيّر في الامتثال به بين إتيانه في ضمن أيّ فرد منه اتّفق.

وظاهر أنّ ضدّ المأمور به المضيّق ليس ذلك الكلّي المفروض مأمورا به بما هو كلّي ، لعدم منافاته له بجميع أفراده وإنّما هو ضدّ له باعتبار بعض أفراده ، وهو الّذي يوجد في زمان المأمور به المضروب له ، كفرد من الصلاة يوجد في زمان الإزالة فإنّه يضادّ الإزالة لا سائر الأفراد حتّى ما يقع منها بعد انقضاء زمان الإزالة ، فذلك الفرد الّذي فرضناه ضدّا للمأمور به فإمّا أن يجيء من جانب الشرع منع عن الإتيان به ، كما إذا كان الكلّي المأمور به مقيّدا بما يوجب خروج ذلك الفرد عن تحته أو لا.

فعلى الأوّل لا إشكال في كونه قولا له بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه ، إذ لا نعني بما يوجب تقييد الأمر بكلّي الضدّ إلاّ النهي الّذي تضمّنه الأمر المضيّق.

وعلى الثاني لا إشكال في كون الإتيان بذلك الفرد موجبا للصحّة ، ودعوى : أنّ الصحّة فرع للأمر ولا أمر بالنسبة إلى ذلك الفرد.

يدفعها : أنّ الفرد يكفي في صحّته كونه فردا من المأمور به الكلّي الغير المقرون بالمنع عنه ، والمفروض أنّه فرد له ولا منع عنه فيكون صحيحا ، بل حقيقة الصحّة على ما فسّروها بموافقة المأمور به متحقّق بالنسبة إليه ، من جهة أنّ الموافقة أمر إضافي فلابدّ في تحقّقها من متعدّد ، وإطلاقها على هذا المعنى بالنسبة إلى عين ما تعلّق به الأمر مسامحة.

ولا يخفى أنّ القول بالصحّة على هذا التقدير قول بعدم دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ الّذي هو الفرد المفروض ، فالقول المذكور لا يغاير بالذات أحد القولين ، لأنّ قائله لابدّ وأن يقول إمّا بثبوت المنع عن الفرد الّذي هو ضدّ للمأمور به أو يقول بعدم ثبوته ولا واسطة بينهما ، فعدم القول بشيء منهما قول بارتفاع النقيضين وهو محال.

فعلى الأوّل يلزم كونه قائلا بدلالة الأمر على النهي عن الضدّ المقتضي للفساد.

وعلى الثاني يلزم كونه قائلا بصحّة الضدّ لكونه فردا من المأمور به الكلّي ولازمه

ص: 765

القول بعدم دلالة الأمر على النهي المقتضي للفساد.

هذه مناقشة في هذا القول بالنسبة إلى دعوى كونه مغايرا للقولين الآخرين ، وعلى فرض تسليم مغايرته لهما فلابدّ من النظر في دليله إستعلاما لصحّته أو سقمه.

فنقول : إنّ البهائي رحمه اللّه لم يأت عليه بدليل في كلامه متنا وحاشية غير أنّ وجهه واضح من حيث إنّ الّذي أوقعه على إحداث القول بذلك هو أنّه لولاه لزم الأمر بالمتضادّين في زمان واحد ، المفضي إلى التكليف بالمحال الّذي هو محال بالضرورة من العقل والشرع.

فلذا ترى أنّ الجماعة لم يذكروا له إلاّ ذلك الوجه بتقارير متقاربة ، وأجود تلك التقارير ما في كلام السيّد الخراساني في شرحه للزبدة حيث علّل العبارة المتقدّمة بقوله : « لإمكان أن يقال : لو لم يستلزم الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه لكان مستلزما للأمر به لعدم الواسطة ، وحينئذ لزم التكليف بالمحال وهو الإتيان بالضدّين في زمان واحد » انتهى.

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه سابقا في غير موضع تعرف بكون ذلك فاسد الوضع ، وتفصيل ذلك : أنّ الأمر حسبما هو مأخوذ في عنوان المسألة - على ما تقدّم - من الصفات القائمة بنفس الآمر ، وهو على ما يساعده الوجدان مسبوق بتصوّر محلّه بجميع مشخّصاته من زمان ومكان وغيرهما من الصفات الراجعة إلى المأمور والمأمور به كمّا وكيفا.

ولا ريب أنّ الزمان الّذي هو من جملة المشخّصات قد يتصوّره الآمر حسبما يقتضيه مصلحة المحلّ على وجه لا يسع إلاّ أداءه فيصير الأمر بهذا الاعتبار مضيّقا ، وقد يتصوّره على حسب المصلحة على وجه يزيد على أدائه بحيث يتجزّى في حدّ ذاته بأجزاء يصلح كلّ جزء منها لأدائه فيه فيصير الأمر بهذا الاعتبار موسّعا ، ومن خواصّ الموسّع أنّ المحلّ إذا لوحظ بالقياس إلى كلّ جزء من أجزاء الوقت المضروب له كان كلّيّا ، له بالقياس إلى أجزاء ذلك الوقت أفراد متكثّرة فرضيّة حسب تكثّر تلك الأجزاء ، بحيث لم يكن شيء من تلك الأفراد ملحوظا في نظر الآمر ولا متعلّقا للأمر بالخصوص ، بل الملحوظ في نظره ومتعلّق أمره إنّما هو الكلّي الصالح لتلك الأفراد ، ولمّا كان من تلك الأفراد ممّا ينطبق عليه الكلّي الملحوظ عنوانا للأمر ولم يكن شيء منها متعيّنا في نظر الآمر بالخصوص فللمكلّف في حكم العقل أن يختار الامتثال بذلك الكلّي بأداء كلّ منها شاء وأراد ، فله اختيار ما يتشخّص منها بالجزء الأوّل من أجزاء الوقت ، وله اختيار ما يتشخّص بالجزء الثاني وهكذا إلى آخر الأجزاء الّذي يتضيّق منه الفعل ، وهذا هو التخيير الّذي يحكم به

ص: 766

العقل بملاحظة توسعة الوقت الثابتة بحكم الشرع ، فكون كلّ فرد موجبا للامتثال ومحصّلا لوصف الصحّة ليس من جهة كونه متعلّقا للأمر بالخصوص ولا ملحوظا في نظر الآمر بعينه ، بل من جهة انطباقه على الكلّي الّذي لاحظه الآمر وتعلّق به الأمر.

فما يقال : من أنّ الصحّة تابعة للأمر والامتثال فرع للتكليف ، أعمّ من أن يكون الموجب للصحّة بنفسه مأمورا به أو مندرجا تحت عنوان كلّي هو مأمور به ، فلا قضاء في حصول وصف الصحّة بكون الموصوف به موردا للأمر بعينه ولا ملحوظا في نظر الآمر بخصوصه ، بل يكفي فيه انطباقه على عنوان آخر هو مورد للأمر وملحوظ عند الآمر ، وظاهر أنّ كلّ فرد ممّا يوجب تلك الصحّة ويقضي بامتثال الأمر بالكلّي قد لا يصادفه باعتبار ما يشخّصه من أجزاء الوقت ما يزاحمه في ما يشخّصه فهو حينئذ سليم عن المعارض ، وقد يصادفه ذلك فيزاحمه في الجزء المشخّص له من الوقت فيكون مشغولا بالمعارض ، فحينئذ إن كان ذلك المعارض شبيها له في كونه فردا من الكلّي الآخر الّذي تعلّق به أمر آخر أيضا وكان ممّا يقبل البدل من الأفراد الاخر لذلك الكلّي المرتّبة بحسب أجزاء الوقت تقدّما وتأخّرا كان المكلّف بحكم العقل مخيّرا في الإتيان بين تقديم أيّهما شاء ، إلاّ إذا كان أحدهما أهمّ في نظر الآمر فيقدّمه من باب الأولويّة لا على وجه الحتم والإلزام.

وإن كان ممّا لا يقبل البدل بأن يكون ذلك الجزء من الوقت آخر أجزاء الوقت الّذي ضرب للكلّي الآخر الّذي هو فرده ، بمعنى كونه آخر أفراد ذلك الكلّي المرتّبة بحسب ترتّب أجزاء وقته ، كالصلاة اليوميّة إذا أراد المكلّف إيقاعها في آخر الوقت وعليه صلاة واجبة اخرى كالآيات ونحوها ممّا وقته العمر ونحوه ، فحينئذ يجب على المكلّف اختيار ذلك المعارض لكونه في معرض الفوات حذرا عن العصيان المنوط باختياره ، فلو فرض أنّه عصى وأقدم على أداء غيره ممّا هو معارض له كان ممتثلا بالقياس إليه ، لإتيانه بما هو مندرج تحت كلّي مأمور به ، كما لو كان أقدم على أدائه ولا معارض له.

وليس لأحد أن يفصّل بين المقامين مع قيام المقتضي في كلّ منهما وانتفاء الفارق وعدم صلاحيّة ما يحتمل مانعا ، وهو تضيّق وقت المأمور به الآخر للمانعيّة ، لأنّ معنى كونه مانعا أنّه يوجب المنع عن الإتيان بذلك المأتيّ به الّذي له بدل أو كاشفا عن ارتفاع الأمر به ، وكلّ ذلك قول لمجرّد التشهّي ، كيف وإنّه لم يكن مأمورا به بالخصوص ، وخروجه عن تحت الكلّي المأمور به لم يعلم بدليل من العقل والشرع ، ولا يعقل كون الأمر المتعلّق

ص: 767

بما هو كلّي لهما من باب الأمر بالمتضادّين في زمان واحد فيقبح على الحكيم ، لأنّه لم يكن أمر بهما في فرديهما المتعارضين وإنّما أمر بهما لا بشرط شيء.

ومن البيّن أنّ الأمر بالكلّيّين لا بشرط شيء لا يعدّ عقلا ولا عرفا من الأمر بالمتضادّين حيث لم يكن بينهما مضادّة أصلا ، وما حصل من المضادّة بين فرديهما ليس من قبله ، بل هو من قبل المكلّف حيث أخّر أداء أحدهما إلى أن يتضيّق وقته ، فكان آثما من جهة سوء اختياره ، وذلك لا يقضي بعدم كونه ممتثلا بالقياس إلى الآخر الّذي أتى بما ينطبق عليه من أفراده.

وإن لم يكن ذلك المعارض شبيها له في الفرديّة لعنوان كلّي آخر مأمور به ، بأن كان هو بعينه مأمورا به كالمضيّق بالأصالة فهو حينئذ قد يكون في مصادفة ذلك المفروض الفرد الأوّل من الأفراد المرتّبة ، كما لو كان المكلّف مريدا لأداء الكلّي المأمور به في أوّل الوقت فحصل له الابتلاء بواجب مضيّق من أداء شهادة أو إزالة نجاسة عن المسجد أو أداء دين ونحو ذلك ، وقد يكون الفرد الثاني وهكذا إلى آخر الأفراد المرتّبة ، ضرورة أنّ فرض الابتلاء بالواجب المضيّق مع دخول وقت الموسّع لا ينحصر في أوّل وقت الموسّع ، بل قد يحصل في وسطه وقد يحصل في آخره.

والصورة الثالثة تكون من باب تزاحم المضيّقين اللذين أحدهما مضيّق بالأصالة والآخر بالعارض.

ولا ندري أنّ هذا القائل الّذي أحدث المقالة المذكورة أيّ شيء يقول في تلك الصورة ، فإن قال فيها أيضا بعدم الأمر بالنسبة إلى المضيّق بالعارض فهو مع أنّه مجازفة مخالف لتصريحهم في المضيّقين المحكوم فيهما بالتخيير أو تقديم الأهمّ بعدم الفرق بين المضيّق بالأصالة والمضيّق بالعارض.

ولعلّه يستفاد عن كلام هذا القائل أيضا حيث أطلق في الحكم بالتخيير ، بل ولعلّه قريب من كونه خلافا للإجماع كما لا يخفى.

وإن كان بناؤه فيها على التخيير فكيف يقول به مع أنّه يوجب التخصيص في القاعدة العقليّة الّتي تمسّك بها في دعواه عدم الأمر بالموسّع مع معارضته للمضيّق ، فإنّها إن تمّت وانتهضت دليلا على مطلوبه غير فارقة بين ما لو صادف المضيّق لأوّل وقت الموسّع أو وسطه أو آخره ، فعلى كلّ تقدير تقضي بخروج الفرد من الموسّع الّذي يزاحم المضيّق ويضادّه عن تحته في تعلّق الأمر ، به ومعه كيف يقال بالتخيير الّذي هو فرع للأمر.

ص: 768

فإن قيل : بثبوت الأمر حينئذ ، يلزم التخصيص في القاعدة العقليّة.

وإن قيل بعدمه يلزم التخيير بين المأمور به وغيره ، فيلزم على تقدير اختيار غير المأمور به حصول الصحّة والامتثال مع فرض عدم الأمر ، وكلّ ذلك كما ترى.

وبالجملة يكفي في الامتثال بالطبيعة الكلّيّة المأمور بها الإتيان بما ينطبق عليها من أفرادها ، وكون ذلك الفرد موجبا لامتثال الأمر لا يوجب كونه مأمورا به بالخصوص ، ليكون ذلك الأمر مع الأمر المضيّق من باب التكليف بالمحال ، فلا يبقى في مقابلة الأمر المضيّق إلاّ الأمر الوارد على الطبيعة الكلّيّة مع قطع النظر عن ذلك الفرد ، ولا ريب أنّها بما هي طبيعة لا تعدّ مضادة للمأمور به المضيّق عقلا ولا عرفا ، فلا يكون الأمر بها الّذي صادفه الأمر المضيّق ممّا يوجب التكليف بالمحال ، والّذي يضادّه إنّما هو فرد منه وليس بمأمور به بالخصوص.

والقول بأنّ حكم الطبيعة لابدّ وأن يسري إلى الأفراد نحو سريان الحلاوة الثابتة لطبيعة التمر إلى جميع أفرادها ليس على إطلاقه ، المتناول للوجوب ونحوه من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة ، وإلاّ لزم كون جميع أفراد الطبيعة واجبات عينيّة حيثما كان وجوب الطبيعة عينيّا ، نظير الطهارة الثابتة لطبيعة الماء السارية إلى جميع أفرادها.

فإن اريد من تعلّق الأمر بالضدّين تعلّق الأمر الشرعي أو العقلي بهما عينا أو تخييرا شرعيّا أو عقليّا فالأمر كما ذكر من كونه تكليفا بالمحال ، ولكن مصادمة فرد من أفراد الواجب الموسّع مع الواجب المضيّق ليس من هذا القبيل كما عرفت.

وإن اريد من تعلّق الأمر بهما تعلّق الأمر بأحدهما وبكلّي الآخر ، فما ذكر من كونه تكليفا بالمحال ممنوع ، لأنّ المحال إنّما هو طلب الأمرين معا لا طلب أحدهما وانطباق الآخر على المطلوب.

فإن قلت : كلّما ذكرت بعد تسليمه إنّما يقضي بعدم تعلّق الأمر الشرعي بالفرد لا عينا ولا تخييرا ، وأمّا الأمر العقلي التخييري فلا يسعك إنكاره ، كيف وأنت اعترفت في سابق كلامك بما يقضي ثبوت التخيير العقلي ، بل العقل إذا وجد تعلّق الأمر بالكلّي حكم بكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على جهة التخيير ، وهذا الطلب التخييري العقلي أيضا يستحيل اجتماعه مع طلب ضدّه عينا.

قلت : إن أردت بالتخيير العقلي حكم العقل بكون الأفراد مطلوبة للشارع على سبيل

ص: 769

التخيير فهذا يرجع إلى التخيير الشرعي ، إذ لا نعني بالتخيير الشرعي إلاّ طلب أمور شرعا ولو بلسان العقل على سبيل التخيير كما في الخصال فكون محلّ البحث من هذا الباب أوّل الكلام ، وما اعترفنا به سابقا من ثبوت التخيير العقلي ليس معناه الطلب العقلي المتعلّق بأحد الأفراد لا بعينه ، بل حكمه بكون المكلّف مخيّرا في الامتثال بالكلّي المأمور به بين الأفراد المنطبقة عليه.

وإن أردت به أنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بعنوان كلّي ولم يجد تخصيصا في المقام حكم بحصول الامتثال بذلك العنوان الكلّي في ضمن فرد من أفراده ، فهذا بعينه هو الانطباق الّذي ادّعينا كونه كافيا في الامتثال وقلنا : إنّه ليس منوطا بالطلب.

لا يقال : إنّ الّذي سمّيته بانطباق الفرد على الكلّي هو الّذي يعدّ أمرا في العرف ، وحكمه حكم الأمر الصريح في صحّة العمل وسقوط التكليف وحصول الإجزاء وترتّب الثواب والعقاب والإطاعة والعصيان وغيرها من أحكام المأمور به سمّيته بالأمر أو لا.

ولا ريب في استحالة هذا الانطباق في أحد الضدّين على وجه يؤثّر في الصحّة مع تعلّق الأمر بالضدّ الآخر.

لأنّا نقول : بمنع ذلك ، فإنّ القبح والاستحالة من خصائص تعلّق الطلب بالضدّين ، فلا يثبت لطلب أحدهما وانطباق الآخر على المطلوب ، والأحكام المذكورة تعمّ كلاّ من الطلب والانطباق على المطلوب ، ولكن الانطباق على المطلوب لا يستلزم الطلب.

فما ذكره بعض الأفاضل في دفع كلام بعض الأعلام في هذا المقام الراجع بنوع من التقريب إلى ما ذكرناه من قوله : « أنّه لا كلام في جواز صدور التكليفين في الجملة على الوجه المذكور إذ لا مزاحمة بينهما ، وإنّما المقصود في المقام أنّ التكليف بالمضيّق يقتضي تقييد الأمر بالموسّع فيفيد عدم تعلّق الأمر بالموسّع في حال التكليف بالمضيّق إلى آخره » ليس على ما ينبغي ، كيف وأنّا نطالب بدليل ذلك التقييد من حيث كونه على خلاف الأصل ، ولا دليل عليه إلاّ ما ذكر وقد تبيّن فساده.

وأجاب الفاضل المشار إليه عن أصل الشبهة بنحو ما ذكره في دفع الثمرة المعروفة من فساد العبارة على القول باقتضاء الأمر للنهي ، فقال : « بأنّ المسلّم من اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه هو ما إذا كان الأمران في مرتبة واحدة ، بأن يراد من التكليف بهما الإتيان بهما معا ، وأمّا لو كان التكليفان في مرتبتين يراد منه الإتيان بأحدهما على سبيل التعيين

ص: 770

فإن أتى به المكلّف فلا تكليف عليه سواه ، وإن بنى على العصيان وعلم بإخلائه ذلك الزمان عن ذلك الفعل تعلّق به الأمر الآخر فيكون تكليفه بالثاني على وجه عصيان الأوّل ولا مانع منه أصلا » إلى آخره.

وبما قدّمنا في تزييف هذا الكلام تعرف ما فيه هنا ولا نعيده من جهة عراه عن الفائدة.

دفع مقالة الشيخ التستري رحمه اللّه

وربّما يذكر في المسألة قولا آخر عن بعض أواخر المتأخّرين (1) وهو التفصيل بين ما إذا كان فعل الضدّ رافعا لتمكّن المكلّف عن أداء المأمور به فيحرم ويكون منهيّا عنه ، كالمسافرة إلى البحر المانعة عن أداء الحقّ الواجب المضيّق إلى صاحبه ، وما إذا لم يكن الضدّ رافعا لتمكّنه عن أداء الواجب ، كقراءة القرآن في مكان أداء الشهادة ، فإنّها وإن كانت ضدّا له غير أنّها لا توجب امتناعه على المكلّف لأنّه يقتدر في كلّ آن من آناتها على قطعها للاشتغال بالواجب فلا يكون محرّما ومنهيّا عنه.

وعبارته المسوقة لبيان هذا الفرق مع دليله ما حكاه بعض الفضلاء ملخّصا : من أنّ إيجاب الشيء إنّما يقتضي بحكم العقل والشرع والعرف إيجاب التهيّؤ له والتوصّل إليه ، فيجب فعل ما يقتضي وجوده وجوده كالسبب ، وترك ما يقتضي تركه فعله كترك الحركة المقتضي لتحقّق السكون الواجب ، وترك ما يقتضي عدم التمكّن منه كالمنافيات ، فالضدّ إن كان ممّا يوجب فعله عدم التمكّن من الواجب كالسفر المانع من إيصال الحقّ المضيّق إلى صاحبه فهو محرّم ، سواء قصد به الغاية المحرّمة أم لا ، لأنّ إباحته تقتضي عدم الإثم فيما يترتّب عليه وإن قدر على أداء الواجب بعده ، فلو لم يكن الضدّ الموجب لعدم التمكّن منه محرّما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا.

ولأنّ قضيّة إناطة الأحكام بالحكم والمصالح هو تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، ولما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة لمن لا يتمكّن من الخروج منه لأدائها وغير ذلك ، وإن لم يرفع تمكّنه بل كان في جميع أفعال الضدّ متمكّنا من تركه وأداء الواجب ، كما لو ترك أداء الحقّ المضيّق وتشاغل بالصلاة فإنّه يتمكّن في كلّ حال من أحوالها أن يتركها ويتشاغل بالواجب ، ففعل الصلاة ممّا لا يقتضي رفع تمكّنه منه عقلا وهو واضح ، ولا شرعا لسبق الحقّ المضيّق على الدخول فيها فيجوز الإبطال كغيره من الامور المقرّرة عليها ، فلا يلزم من إيجاب الواجب تحريم مثل هذا الفعل ، إذ ليس في تركه

ص: 771


1- وهو الشيخ أسد اللّه التستري على ما حكي. ( منه ).

مدخليّة في أداء الواجب ، ولا فائدة تترتّب على تركه مع ترك الواجب إذ التمكّن حاصل على التقديرين. انتهى.

فتبيّن أنّه تفصيل بين الرافع للتمكّن والغير الرافع له.

واعترض عليه الفاضل المذكور : بأنّه إن أراد أنّ التمكّن من الفعل شرط في بقاء التكليف فيجب إبقاؤه والمحافظة عليه لذلك ، فهو فاسد قطعا لأنّ إبقاء التكليف غير واجب بالنظر إلى نفس التكليف فضلا عن وجوب مقدّمته لذلك ، وقد سبق في بحث المقدّمة أنّ الواجب المشروط لا يقتضي وجوب مقدّمته الّتي هي شرط الوجوب ، والضرورة قاضية بأنّه كما لا يجب تحصيل شرط الوجوب من حيث كونه شرطا له كذلك لا يجب تحصيل شرط بقائه من حيث كونه شرطا لبقائه ، لأنّ البقاء عند التحقيق في معنى الحدوث ، وإن أراد أنّ التمكّن حينئذ شرط للتوصّل إلى فعل الواجب فيجب المحافظة عليه للتوصّل إليه ، ففيه : أنّ التمكّن حينئذ يكون على حدّ ترك سائر الأضداد الغير الرافعة للتمكّن ، ضرورة أنّ الكلّ شرط في التوصّل إلى الواجب كما هو قضيّة ما بينهما من التضادّ ، فيتّحد الكلام في المقامين ويبطل الفرق المتوهّم في البين إلى آخره.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ اقتضاء إيجاب الشيء إيجاب التهيّؤ له أمر مسلّم ، ولكنّه عبارة اخرى لاقتضاء الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته مطلقا ، إذ إيجاب التهيّؤ لو اريد به وجوب توطين النفس للامتثال بكلّ ما جاء به النبيّ فهو ممّا لا ربط له بالمقام ، بل هو من لوازم الإيمان ثابت بدليل خارج ولا اختصاص له بالواجبات فضلا عن الواجب المضيّق ، ولو اريد به العزم على الامتثال بدلا عنه فهو من خصائص الواجب الموسّع في موضع أراد المكلّف تأخير أدائه عن أوّل الوقت ولهم في وجوبه كلام ، ولعلّه خلاف التحقيق حسبما يأتي في محلّه.

ولو سلّم فهو أيضا ممّا لا دخل له في محلّ البحث كما لا يخفى ، فلا محصّل لوجوب التهيّؤ حينئذ إلاّ وجوب الإتيان بمقدّماته مطلقا ، وهو كلام راجع إلى كبرى القياس بالنظر إلى محلّ البحث ولا كلام لنا فيه.

وإنّما الكلام في صغرى ذلك القياس ، فما ذكره في التفريع على تلك الكلّيّة من الامور المذكورة بعضها من حيث رجوعها إلى إحراز الصغرى أيضا مسلّم ، كوجوب فعل ما يقتضي وجوده وجود الواجب ، فإنّه ليس وراء وجوب الإتيان بالمقدّمات مطلقا ، ولكن تمثيله بالسبب خاصّة ليس

ص: 772

بسديد لعدم انحصار طريق التهيّؤ فيه بل يدخل فيه الشرط أيضا ، فإنّه أيضا ممّا يقتضي وجوده وجود الواجب ولكن لا بطريق اللزوم الذاتي ، وبعضها في حيّز المنع كوجوب ترك ما يقتضي تركه فعل الواجب إن اريد به ترك الأضداد الوجوديّة ، كما يومئ إليه تمثيله بالحركة المقتضية لتحقّق السكون الواجب ، كيف وهو لو تمّ دليلا لكان راجعا إلى احتجاج القائل باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ معنى ، بكون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به فيكون واجبا فيكون فعله حراما ، وقد زيّفناه بما لا مزيد عليه ومنعنا المقدّمية عن أصلها ، كيف وهو مبنيّ على قضيّة التمانع وقد بيّنّا أنّه لا تمانع بين الأضداد الوجوديّة.

فعلى هذا يكون قوله : « فالضدّ إن كان ممّا يوجب فعله لعدم التمكّن من الواجب فهو محرّم سواء قصد به الغاية المحرّمة أم لا » فاسد الوضع لفساد مدركه ، وتعليله : « بأنّ إباحته تقتضي عدم الإثم فيما يترتّب عليه ، فلو لم يكن الضدّ الموجب لعدم التمكّن منه محرّما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا » عليل.

كيف وأنّ المراد بما يترتّب عليه إن كان ترك الواجب المضيّق السابق عليه وعلى ارتفاع التمكّن منه فهو غير مترتّب عليه ولا على ارتفاع التمكّن لسبقه عليهما ، وإنّما هو مترتّب على وجود الصارف ، وهو لكونه موكولا إلى اختيار المكلّف كان الترك المترتّب عليه مستندا إلى اختياره فيأثم من هذه الجهة سواء حرم عليه فعل الضدّ أو لا ، فكيف يفرّع على إباحته عدم الإثم ، ولو فرض استناد الترك إليه أيضا فترتّب الإثم عليه لا ينوط بحرمته ، فإنّه من خصائص وجوب الواجب سواء حرم معه علّة تركه أم لا ، ولو فرض كونه حراما فلا إثم عليه أيضا لما تقرّر من أنّ المقدّمة لا يترتّب عليها ثواب ولا عقاب فعلا ولا تركا ، فلا ملازمة بين إباحته وعدم ترتّب الإثم ، على ترك الواجب المسبّب عنه كما هو الحال في مطلق المقدّمة حيث لا ملازمة بين عدم وجوبها وخروج ذيها عن وجوبه ، حسبما حقّقناه في تزييف احتجاج القائلين بوجوبها بأنّه لو لا وجوبها لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أو التكليف بما لا يطاق.

فإن قلت : لو لا تفرّع الإثم على فعل الضدّ امتنع تفرّعه على ترك الواجب ، لصيرورته من جهة إفضاء فعله إلى ارتفاع التمكّن عنه ممتنعا ، والعقاب على الممتنع ممّا يقبح على الحكيم العدل ، فلزم خروج الواجب عن كونه واجبا بخلاف ما لو تفرّع الإثم على فعل الضدّ وهو فرع لتحريمه لقبح العقاب على ما لم ينه عنه.

ص: 773

قلت : مع أنّه مبنيّ على منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ولعلّ الخصم ينكرها ، أنّ الإثم لو كان متفرّعا على فعل الضدّ ناشئا عن تحريمه فهو لا يجدي في التفصّي عن لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا كما لا يخفى ، مضافا إلى كونه قولا بما لا يعقل ، فإن ذلك الإثم إن كان فما يختصّ بترك الواجب فيتفرّع على فعل الضدّ دون الترك فهو كما ترى.

وإن كان ممّا لا مدخل له بل هو من خصائص فعل الضدّ فهو مبنيّ على حرمته الذاتيّة الغير المنوطة بإفضائه إلى ترك واجب ، وهو خارج عن المقام وبدونه لا إثم عليه بناءا على التحقيق ، وإن حرم مع أنّ الامتناع الّذي يوجب قبح العقاب على ترك الممتنع إنّما هو الامتناع الابتدائي الّذي يمنع عن تعلّق أصل التكليف الّذي يتفرّع عليه العقاب ، وهو في المقام ليس منه لسبق الاختيار عليه الموجب لسبق التكليف عليه ، فالعقاب من لوازم عصيان هذا التكليف الثابت قبل الامتناع لكونه ممّا سبق عليه الترك الناشئ عن اختيار الصارف ، والامتناع لاحق من جهة طروّ الضدّ الرافع للتمكّن وهو لا يؤثّر في قبح العقاب على العصيان السابق ، ومعه لا حاجة إلى إثبات تحريم للضدّ.

وإن كان المراد به ارتفاع التمكّن عن الواجب نظرا إلى أنّ التمكّن من مقدّمات وجوده وإن كان مقدّمة لوجوبه أيضا ، وإعدام المقدّمة حرام لكونه سببا للترك وهو حرام فيحرم سببه.

ففيه : أنّه على فرض تسليمه حرمة مقدّميّة فلا يترتّب عليها إثم ، ولو سلّم فهو إثم آخر لا دخل له في الإثم المترتّب على ترك الواجب والكلام فيه ، وهو في ترتّبه عليه غير منوط بتحريم الضدّ فلا قضاء له بعدم إباحته ، وإثبات التحريم بمقدّمة خارجيّة يرفع الحاجة إلى ما ذكر في العبارة من الاحتجاج بلزوم خروج الواجب عن كونه واجبا.

ثمّ إنّ بناء الحكم على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به على تقدير تسليم كون ترك الضدّ ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به يقضي بعدم الفرق في الحرمة فيما بين ما يرفع التمكّن عن أداء الواجب وما لا يرفعه ، وليس لارتفاعه وعدمه مزيد دخل في المقام ، كيف وأنّ إيجاب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به من جهة إفضاء تركه إلى ترك الواجب وهو حاصل في المقامين ، ضرورة أنّ المفضي إلى ترك الواجب هو قيام الضدّ لا عدم التمكّن منه ، وكون التمكّن بالنسبة إليه باقيا مع استمرار فعل الضدّ إلى انقضاء وقته في أحدهما ممّا لا يجدي في عدم تأثير وصف الإفضاء إلى الترك في الحرمة ، لإناطة الحكم في إيجاب شيء لوجوب شيء وعدمه بحصول الإفضاء إلى الترك وعدمه لا بارتفاع التمكّن من أداء الواجب وعدمه.

ص: 774

وقضيّة ذلك الفرق هنا حصول الفرق بين المقدّمات أيضا في الوجوب وعدمه بين ما يرفع تركه تمكّنه عن أداء الواجب كالخروج مع القافلة الأخيرة لقطع مسافة الحجّ وبين غيره ، وهو غريب حيث لا يساعده عقل ولا شرع ، ومقتضاه لزوم التخصيص في حكم العقل ، مع أنّ إناطة الحكم بارتفاع التمكّن على فرض صحّته ممّا يقضي أيضا بعدم الفرق فيما بين الأضداد أصلا ، إذ كون الضدّ ممّا لا يرفع التمكّن عن أداء الواجب ممّا لا محصل له بل هو من لوازم الضدّية على زعمهم ، ضرورة عدم تمكّنه منه حال التشاغل بفعل الضدّ فيفوت عليه في تلك الحال واجب من حيث وجوب المسارعة إلى أداء الواجب المضيّق ، وقدرته على الانصراف عن فعل الضدّ بتركه والاشتغال بأداء الواجب لا تجدي في حصول التمكّن حال التشاغل به وإلاّ لم يكن ضدّا ، كيف ولو انيط الحكم بالقدرة اللاحقة فهي حاصلة في المقامين معا.

غاية الفرق بينهما طول زمان الامتناع وعدمه ، وهو لا يوجب فرقا في حكم التحريم وعدمه بعد ايجاب كلّ لتأخير ما لا يجوز تأخيره ولو آنا مّا.

ومن هنا يتّجه أن يقال : إنّ ما ذكره في التعليل جار في المقامين أيضا لو أراد بما يترتّب على فعل الضدّ تأخير أداء الواجب المضيّق الّذي كان حراما ، فإنّه حاصل لا محالة سواء استمرّ فعل الضدّ إلى مدّة طويلة أو لا ، إذ لا يعقل الفرق في حرمة التأخير بين كونه في زمان طويل أو قصير.

فيقال حينئذ بالنسبة إلى المقام الثاني : بأنّه لو لم يحرم الضدّ وكان مباحا لاقتضى عدم الإثم فيما يترتّب عليه من تأخير الواجب المضيّق ولو آنا مّا ، فيلزم خروج الواجب - وهو المسارعة إلى الامتثال - عن كونه واجبا.

وأمّا إناطة الاحكام بالحكم والمصالح فممّا لا قضاء له بتحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، إن اريد أنّ رفع التمكّن من فعل الواجب بنفسه حكمة مقتضية للتحريم مع قطع النظر عن تضمّنه لفوات مصلحة الواجب ، إذ ليس في حكم العقل ولا الشرع ما يقضي بكون ذلك من الصفات المقبّحة ، وإن اريد كونه كذلك لتضمّنه فوات مصلحة الواجب فهو علّة جارية في كلا المقامين ، لكون المسارعة إلى أداء الواجب المضيّق واجبة ويفوت مصلحتها فيهما بالتأخير الّذي هو من لوازم التشاغل بفعل الضدّ ولو آنا مّا ، والعلل العقليّة غير قابلة للتخصيص.

وأمّا النهي عن دخول البحر قبل الصلاة فمع عدم اطّراده لاختصاصه بالمورد ممّا

ص: 775

لا ربط له بالمقام ، لعدم كون الصلاة من الواجبات المضيّقة فلا ضير في كون الضدّ رافعا للتمكّن منها ما لم يرفع التمكّن إلى انقضاء الوقت ، إذ ليست المسارعة إليها واجبة حتّى يحرم ضدّها مطلقا حتّى فيما لو كان رافعا في مقدار زمانه ، ومع قطع النظر عن استغراق وقته لوقتها فهو متساوي النسبة إلى ما يرفع التمكّن وما لا يرفعه ، بل هو في مطلق المضيّقات بالقياس إلى مطلق الأضداد أولى بالجريان من حيث عدم الرخصة في تأخيرها مطلقا ، إلاّ أن يكون مقيّدا بعدم التمكّن منها إلى انقضاء تمام الوقت ، فحينئذ لا مضائقة في نحو الصلاة وغيرها من الواجبات المضيّقة في الالتزام بحرمة ضدّها الّذي يرفع التمكّن منها رأسا دون غيره ممّا لا يرفع ، بناءا على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ من جهة القاعدة المقدّمية ، لأنّ الواجب الموسّع حينئذ بالقياس إلى الضدّ الّذي يرفع التمكّن عنه بالمرّة يكون في حكم الواجب المضيّق في اقتضائه النهي عن ضدّه ، لأنّ تركه مقدّمة لأداء الواجب ، بخلاف الموسّع بالقياس إلى الضدّ الّذي لا يرفع التمكّن من أداء الواجب لعدم كون تركه حينئذ مقدّمة لفعل الواجب على وجه الانحصار ، لإمكان أدائه في زمان آخر غير زمان ذلك الضدّ.

وبالجملة لا إشكال في فساد هذا القول ووهن أدلّته ، بل كلّما يزيد التأمّل في كلّ جزء جزء من الكلام المذكور ينقدح منه فساد فيه عقيب فساد آخر ، فهو حينئذ أحرى بالإعراض عنه وعدم الالتفات إليه.

فملخّص مختارنا في المسألة : أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ مطلقا ، وأمّا الضدّ العامّ فإن اريد بالنهي عنه مجرّد المنع عن الترك بالمعنى المقابل للإذن والرخصة فيه فيقتضيه تضمّنا ، وإن اريد به معناه المقابل للأمر المنساق منه عرفا فلا يقتضيه أصلا.

هذا في الأمر الإيجابى وعلى قياسه الأمر الندبي ، فهو أيضا لا يقتضي النهي عن ضدّه عامّا ولا خاصّا ، فترك المندوب ليس بمكروه كما قرّرناه في مفتتح المسألة كما أنّ فعل ضدّه الخاصّ ليس بمكروه بالضرورة.

وأمّا النهي عن الشيء تحريما أو تنزيها هل يقتضي الأمر بالضدّ إيجابا أو ندبا أو لا؟

قد يقال : بوقوع الخلاف فيه أيضا بالنسبة إلى النهي التحريمي ، وجريان الأقوال المتقدّمة في الأمر الإيجابي فيه أيضا.

وفي المناهج : اختلفوا في اقتضاء النهي عن الشيء للأمر بأحد أضداده نحو اختلافهم

ص: 776

في عكسه ، ولكنّه غير ثابت.

ملخّص المختار في المسألة

نعم أصل الخلاف في الجملة ثابت ، إذ قد عرفت أنّ الكعبي صار إلى أنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه الخاصّ تمسّكا بما تقدّم من الوجوه وتبيّن جوابها بما لا مزيد عليه ، وخالفه أكثر العامّة وإن نسب إلى القاضي منهم موافقته له على ما في كلام بعض الأفاضل وجميع الخاصّة إلاّ في موضع الاستثناء المتقدّم إليه الإشارة ، وأمّا اقتضاؤه الأمر بالضدّ العامّ كاقتضاء قوله : « لا تزن » الأمر بترك الزنا ، فالحقّ أنّه ممّا لا يعقل ، إذ الترك إذا فرضته موردا للنهي الّذي هو عبارة عن الطلب الحتمي للترك فكيف يعقل معه فرضه موردا للأمر الّذي هو طلب للفعل إلزاما ، مضافا إلى اقتضائهما طلبين وليس في المقام إلاّ طلب واحد متعلّق بالترك ، وهو إذا كان نهيا فأيّ شيء يبقى لكونه أمرا.

فتحقيق المقام : أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العامّ أصلا ، إذ ليس طلب الترك حتما إلاّ مفاد النهي إلاّ أن يعبّر عنه بالأمر مجازا أو مسامحة وهو ممّا [ لا ] ربط له بالمقام.

نعم هو يقتضي المنع عن الفعل تضمّنا على حسبما هو مأخوذ في مفهوم « الأمر » بالقياس إلى الترك ، بمعنى أنّ النهي عن الشيء تحريما طلب لترك ذلك الشيء مع إظهار كراهة فعله وعدم الرضا به وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالحتم والإلزام وليس مفاده إلاّ مفاد الحتميّة بعينه حسبما هو مأخوذ في مفهوم النهي المقابل للأمر.

ومن هنا تبيّن أنّ النهي التنزيهي عن الشيء أيضا لا قضاء له بالأمر مطلقا بضدّه عامّا وخاصّا ، فترك المكروه ليس بمندوب كما أنّ فعل ضدّه الخاصّ لا يكون مندوبا.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظاهر أنّه لا ضير في اقتضائه لاستحباب الضدّ العامّ تعليلا بأنّ الفرار عن المنقصة مطلوب عند الشارع ولا نعني بالمستحبّ إلاّ ما كان مطلوبا ومحبوبا ، فليس بشيء ، إذ مطلوبيّة الفرار عن المنقصة ليست إلاّ مفاد الكراهة وطلب الترك الّذي هو عبارة اخرى من الفرار عن منقصة الفعل ، ولا ريب أنّ مثل ذلك لا يعدّ استحبابا إلاّ أن يكون اصطلاح آخر فلا مشاحّة حينئذ.

هذا آخر ما أوردناه في تلك المسألة حسبما ساعدنا عليه الوسع والطاقة.

إلى هنا انتهى الجزء الثالث من هذه التعليقة المباركة - حسب تجزئتنا -

ويتلوه الجزء الرابع إن شاء اللّه تعالى

وأوّله : بحث في الواجب المخيّر

ص: 777

ص: 778

فهرس المحتوى

الأوامر والنواهي... 3

مادّة الأمر... 4

عدم كون الأمر من مقولة الألفاظ لغة وعرفا... 8

هل يعتبر كون الأمر مستفادا من القول أو لا؟... 13

اعتبار العلوّ أو الاستعلاء في معنى الأمر... 14

في الطلب والإرادة... 25

عدم مدخليّة الإرادة في دلالة الصيغة على الطلب... 37

في ما به يصير الصيغة أمرا... 39

هل تكون للأمر صيغة تخصّه أم لا؟... 43

صيغة افعل وما في معناها... 46

في معنى الوجوب والإيجاب... 51

صيغة الأمر... 59

أدلّة القول بوضع صيغة الأمر للوجوب... 64

أدلّة القول بوضع صيغة الأمر للندب... 109

أدلّة القول بوضع الصيغة للقدر المشترك بين الوجوب والندب... 118

مقالة السيّد المرتضى في مفاد الصيغة... 126

مفاد الأمر في الأحاديث المرويّة عن الأئمّة... 130

الجمل الخبريّة المستعملة في الإنشاء... 134

الأمر الواقع عقيب الحظر... 137

ص: 779

الأمر بالأمر... 150

المرّة والتكرار... 157

المرّة والتكرار ، ثمرات الأقوال... 164

المرّة والتكرار ، الامتثال عقيب الامتثال... 170

المرّة والتكرار ، في تأسيس الأصل... 177

المرّة والتكرار... 183

المرّة والتكرار ، إقامة الأدلّة على المختار... 190

أدلّة القول بالتكرار... 195

أدلّة القول بالمرّة... 203

حجّة القول بالاشتراك بين المرّة والتكرار... 205

الأمر المعلّق على شرط أو وصف... 206

الفور والتراخي... 215

أدلّة القول بالفور... 232

أدلّة القول بالوقف... 360

ما يتفرّع على القول بالفور... 262

ما يتفرّع على القول المختار... 269

الموسّع والمؤقّت... 271

فوائد ، الفائدة الاولى... 276

فوائد ، الفائدة الثانية... 278

فوائد ، الفائدة الثالثة... 281

فوائد ، الفائدة الرابعة... 284

فوائد ، الفائدة الخامسة... 293

في الفروع المتعلّقة بالمقام... 299

في تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد... 301

اشتراط قصد العنوان وعدمه... 316

ص: 780

التعبّدي والتوصّلي... 324

بعض الفوائد المتعلّقة بالمقام... 342

في استلزام تعدّد الأمر تعدّد التكليف وعدمه... 346

مقدّمة الواجب... 357

تبيين موضع المسألة... 357

المبحث الأوّل : في شرح ماهيّة المقدّمة وأقسامها... 360

في تحرير محلّ النزاع... 375

الفرق بين الأمر الحقيقي والإرشادي... 378

انقسام المقدّمة إلى الداخليّة والخارجيّة... 380

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بكلمة « الواجب »... 381

المطلب الأوّل : في انقسام الواجب إلى المطلق والمشروط... 385

هل الأصل في الواجب أن يكون مطلقا أو مقيّدا؟... 394

المطلب الثاني : في انقسام الواجب إلى النفسي والغيري... 406

في بعض الامور المتعلّقة بالواجب الغيري... 416

في المقدّمة الموصلة... 425

ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة... 430

في ترتّب الثواب على فعل الواجب الغيري وعدمه... 432

المطلب الثالث : في انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي... 438

المطلب الرابع : في انقسام الواجب إلى الشرطي وغيره... 440

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالكلمة الثالثة من أجزاء القضيّة... 442

تحرير إجمالى لمحلّ النزاع... 442

ثمرات النزاع في مسألة مقدّمة الواجب... 464

في تأسيس الأصل في المسألة... 477

الأقوال في مسألة مقدّمة الواجب... 480

البحث حول مقالة السيّد المرتضى رحمه اللّه... 481

ص: 781

المقدّمة السببيّة... 487

البحث حول ما اختاره الماتن رحمه اللّه... 495

أدلّة القول بعدم وجوب المقدّمة... 498

أدلّة القول بوجوب المقدّمة... 509

الأدلّة المزيّفة لإثبات وجوب المقدّمة... 516

تحقيق القول في الامتناع بالاختيار... 527

في تكليف الكفّار بالفروع وعدمه... 529

عود الكلام إلى الأدلّة المزيّفة لإثبات وجوب المقدّمة... 540

القول بالتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره... 561

المقدّمات الداخليّة... 569

في مقدّمة العلم... 575

زيادة إيضاح في المقدّمة الموصلة... 579

في تعلّق الوجوب بالمقدّمة قبل وجوب ذيها... 584

في مقدّمة الحرام... 600

في مبحث الضدّ... 613

المرحلة الثانية : فيما يتعلّق بكلمة « الاقتضاء »... 624

المرحلة الثالثة : فيما يتعلّق بكلمة « النهي »... 626

المرحلة الرابعة : فيما يتعلّق بكلمة « الضدّ »... 628

في أنّ ترك الضدّ ليس مقدّمة لفعل الضدّ الآخر... 628

في تفسير الضدّ العامّ... 646

الأقوال في المسألة... 655

عدم جواز الأمر بالمتضادّين في زمان واحد... 656

في تأسيس الأصل... 660

في ثمرات مسألة الضدّ... 664

في الترتّب... 678

ص: 782

في ثمرات مسألة الضدّ... 686

الاستدلال على نفي اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه الخاصّ... 687

الاستدلال على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ... 689

في شرح ماهيّة الوجوب... 691

قولان آخران في الضدّ العامّ... 700

أدلّة القول على أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه الخاصّ... 705

حجّة القول بالاستلزام اللفظي في الضدّ الخاصّ... 709

حجّة القول بالاستلزام المعنوي في الضدّ الخاصّ... 714

في جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه... 718

تحقيق إجمالي في نفي الجبر والتفويض... 727

دفع شبهة الكعبي... 731

مسألة بقاء الأكوان وعدمه... 740

المراد من الاستلزام... 747

عدم اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام... 757

دفع مقالة الشيخ البهائي رحمه اللّه... 764

دفع مقالة الشيخ التستري رحمه اللّه... 771

ملخّص المختار في المسألة... 777

ص: 783

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.