تعليقة على معالم الاصول المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1421 ه.ق

الصفحات: 551

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق حفيدة: السيد علي العلوي القزويني

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج2)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد عليّ العلويّ القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الأولی

المطبوع: 1000 نسخة

التاريخ: شعبان المعظم 1421

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تعليقة : تمهيد امور يرجع إليها لتمييز الحقائق عن المجازات

اشارة

- تعليقة -

اعلم أنّ الاصوليين وضعوا امورا يرجع إليها لتشخيص موارد ثبوت الوضع عن موارد انتفائه وتمييز الحقائق عن المجازات ، وسمّوها بعلامات الوضع وأمارات الحقيقة والمجاز ، وإن اختلفت في كون بعضها ممّا اتّفقوا على كونه أمارة ، لاتّفاقهم فيه على الملازمة بينه وبين الوضع ثبوتا وانتفاء ، وكون البعض الآخر ممّا اختلفوا في كونه أمارة وعدمه ، من جهة الاختلاف في الملازمة وعدمها ، وينبغي قبل الخوض في بيانها التنبيه على عدّة امور مهمّة ، لما في معرفتها من رفع بعض الاشتباهات الحاصلة في بعض الأمارات ، ودفع بعض الاعتراضات الواردة على بعضها الآخر ، وتأسيس ما يكون ضابطا كلّيا لمعرفة ما يصلح كونه أمارة وما لا يصلح له.

الأمر الأوّل : اعتبار الأمارات المعمولة في باب الوضع لمجرّد الطريقيّة

الأمر الأوّل : إنّه ينبغي أن يعلم أنّ أمارات الحقيقة والمجاز المعمولة في باب إثبات الوضع ونفيه ليس حالها كحال الأمارات الشرعيّة المعمولة في الموضوعات الخارجيّة تعبّدا من الشارع ، فإنّ الأمارات الشرعيّة كالبيّنة وقول العدل الواحد ، وقول ذي اليد ، ويد المسلم وفعله وسوقه ، امور اعتبر فيها الشارع نحو موضوعيّة ، حيث ليس غرضه من اعتبارها مجرّد إدراك الواقع والوصول إليه ، وإلاّ استحال اعتباره لها إلاّ على تقدير دوام مصادفتها الواقع. وقد علمنا خلافه ضرورة ، بل الغرض من اعتبارها ترتيب آثار الواقع ، وإجراء أحكامه على ما هي قائمة عليه

ص: 3

وإن لم تصادف الواقع ، ولا نعني من اعتبار الأمارة من باب الموضوعيّة إلاّ هذا ، بخلاف الأمارات المعمولة في باب الوضع ، فإنّ الغرض الأصلي من اعتبارها إنّما هو الوصول إلى الواقع وإدراك نفس الأمر ، كما يظهر بملاحظة النقوض والإبرامات المتعلّقتين بالأمارات ، الّتي منها الاطّراد في علامة الحقيقة وعدمه في علامة المجاز ، حيث إنّ منهم من أخذهما أمارتين ومنهم من أخذ الأوّل أمارة دون الثاني ، تعليلا بكونه أعمّ من المجاز ، ومنهم من أنكرهما معا تعليلا بكون كلّ أعمّ من ذيه ، ومثله الخلاف في أماريّة صحّة التقسيم وغيرها ، وليس ذلك إلاّ لمجرّد أنّ المراد من الأمارة هنا ما يتوصّل به إلى الواقع ، وما كان أعمّ منه يستحيل نهوضه موصلا إليه.

وقضيّة ذلك كون الأمارات معتبرة في هذا المقام لمجرّد الطريقيّة ، وعليه فاللازم على الناظر في حال ما ادّعى كونه أمارة للوضع ، أن يتحرّى في إثبات الملازمة بينه وبين الوضع ، على معنى كونه ملزوما للوضع وإن لم يكن الوضع ملزوما له ، بناء على إنّ العلامة إنّما يعتبر فيها الاطّراد ولا يعتبر فيها الانعكاس ، فإن أثبتها فقد حصل عنده كبرى كلّية ، ثمّ إذا أراد إعمال تلك الأمارة يجب عليه التحرّي في إحراز الملزوم ليتحصّل عنده صغرى تنضمّ إلى الكبرى المذكورة ، فإن أحرزه بطريق العلم فقد توصل إلى الواقع المطلوب إدراكه بالنظر إلى الطريق ، ولا حاجة له بعد ذلك إلى تجشّم الاستدلال على اعتباره ، لأنّ اعتبار الطريق إنّما هو باعتبار كشفه وقد حصل ، وإلاّ فقد انقطع عن الطريق ، فحينئذ ربّما يقع الشبهة في اعتباره من باب الموضوعيّة بحسب نظر أهل العرف واللغة ، على معنى كونه بحيث يترتّب على ما هو قائم به عرفا أحكام الوضع والحقيقة ، وإن لم يكن كذلك في الواقع أو بحسب نظر أهل الشرع على معنى كونه شرعا بتلك المثابة ، وإن لم يكن كذلك عرفا ، وإنّما حصلت هذه الشبهة لملاحظة ما في كلام جماعة من الأواخر والمعاصرين من تتميم التبادر الغير المقطوع معه بعدم مدخليّة القرائن الخارجة من اللفظ فيه ، بضميمة الأصل ، فيحكم من جهته بالوضع والحقيقة ، وهو الّذي يعبّر عنه بأنّ الأصل في التبادر أن يكون وضعيّاً.

ص: 4

ولا ريب انّ الأصل قاصر عن إفادة العلم بنفي مدخليّة القرينة ، فلا ينطبق ذلك إلاّ على اعتبار التبادر من باب الموضوعيّة.

ووجه الشبهة عدم تبيّن كون هذا الأصل هل هو من الاصول العرفيّة على حدّ الاصول العرفيّة المعمولة في تشخيص المرادات ، كما في أصالة الحقيقة ونحوها ، فيلزم من ذلك كون التبادر المحرز باستمداده معتبرا من باب الموضوعيّة باعتبار نظر أهل العرف ، أو هو من الاصول الشرعيّة على حدّ الاصول العدميّة المقام عليها الأدلّة الشرعيّة ، فيلزم من ذلك كون التبادر ثابت الاعتبار من باب الموضوعيّة بحسب الشرع ، أو أنّه أصل لا أصل له عرفا ولا مدرك عليه شرعا ، ويظهر أثر هذه الشبهة أيضا فيما هو في كلام غير واحد أيضا من فرض التعارض بين الأمارات بعضها مع بعض ، كما لا يخفى.

وإن لم يثبتها إمّا بتبيّن عدم الملازمة الواقعيّة بينهما ، أو بعدم تبيّن شيء من ثبوت الملازمة وانتفائها ، فقد خرج عن كونه أمارة معتبرة من باب الطريقيّة ، وحينئذ فربّما يقع الإشكال في اعتباره من باب الموضوعيّة باعتبار نظر العرف أو الشرع - حسبما تقدّم - ومنشائه اختلافهم في حجّيّة نقل أئمّة اللغة ، حيثما لم يفد التعيين بالحقيقيّة أو المجازيّة ، كما هو قضيّة عدم الملازمة الواقعيّة عقلا ولا عادة بينه وبينهما.

فإنّا نرى القائلين بالحجّية بين من يستند إلى ما لو تمّ لقضى بالموضوعيّة العرفيّة ، ومن يستند إلى ما لو تمّ لقضى بالموضوعيّة الشرعيّة.

ويظهر أثر هذه الشبهة أيضا ، في مسألة التعارض المفروض في قول نقلة اللغة حسبما تعرفه.

فتحقّق بما بيّنّاه أنّ الشبهة في الموضوعيّة تتأتّى تارة : عند العجز عن إحراز الطريق بطريق اليقين ، بعدما ثبت كونه طريقا واقعيّا.

واخرى : عند عدم ثبوت طريقيّة ما ادّعي كونه طريقا ، ولو من جهة ثبوت عدم الطريقيّة.

ص: 5

فالناظر في حال الأمارة حينئذ لابدّ أن يلاحظها في مراتب ثلاث ، على سبيل الترتّب :

اوليها : النظر إليها إحرازا للملازمة الواقعيّة.

وثانيتها : النظر إليها طلبا لموضوعيّتها بحسب العرف ، وإنّما يعدل إليها بعد اليأس عن الاولى.

وثالثتها : النظر فيها استعلاما لموضوعيّتها بحسب الشرع ، وإنّما يعدل إليها بعد اليأس عن الاوليين ، والوجه في الكلّ يظهر بالتأمّل.

الأمر الثاني : نهوض أمارات الوضع للجاهل دون العالم

الأمر الثاني : في إنّ أمارة الوضع إنّما تنهض أمارة للجاهل ، وأمّا العالم فلا يعقل له الحاجة إلى إعمالها إلاّ إذا قصد به ضرب أمارة ونصب علامة لإرشاد الجاهل بمؤدّاها ، ومنه تمسّكهم بها في المسائل اللغويّة المختلف فيها ، لكن ينبغي أن يعلم إنّ الجاهل بالوضع قد يكون جاهلا به بالجهل الساذج ، بأن لا يكون الموضوع له معلوما لا باعتبار معلوميّة أجزائه المفصّلة ولا باعتبار معلوميّة صورته النوعيّة ، وقد يكون جاهلا به بالجهل المشوب ، وهو الجهل الّذي خالطه نحو علم ، ويلزمه الشكّ في الفرديّة ولو قوّة ، وهذا الشكّ في الفرديّة قد يكون باعتبار الشكّ في الصدق ، وقد يكون باعتبار الشكّ في المصداق ، وقد يكون باعتبار الشكّ فيهما معا.

والمراد بالأوّل : أن يكون الشكّ في الفرديّة ، الّذي مرجعه إلى الشكّ في صحّة الحمل طارئا لشبهة في وصف المحمول ، كما لو شكّ في فرديّة البليد للحمار نظرا إلى الشبهة في مفهوم الحمار ، من حيث الوضع باعتبار تردّده بين النوع الخاصّ من الحيوان أو مطلق قليل الإدراك.

وبالثاني : أن يكون الشكّ في الفرديّة الراجع إلى ما ذكر طارئا لشبهة في وصف الموضوع ، كما لو شكّ في فرديّة رجل مردّد بين كونه بليدا أو غير بليد للحمار ، بعد البناء على كونه باعتبار الوضع لمطلق قليل الإدراك.

وبالثالث : أن يكون الشكّ في الفرديّة طارئا لشبهة في كلّ من وصفي المحمول والموضوع.

ص: 6

ومرجع الشبهة الاولى إلى الشبهة في الكبرى بعد تبيّن الصغرى ، والثانية إلى الشبهة في الصغرى بعد تبيّن الكبرى ، والثالثة إلى الشبهة فيهما معا.

والضابط الكلّي في الشكّ في الفرديّة باعتبار الصدق ، أن يطلب رفع الشبهة بمراجعة العرف واللغة إحرازا لأمارات الوضع وعلامات الحقيقة والمجاز ، من نصّ لغويّ أو تبادر وعدمه العرفيّين وغيرهما ، وفي الشكّ في الفرديّة باعتبار المصداق ، أن يطلب رفعها بمراجعة أهل الخبرة خاصّة ، ولا مجرى في ذلك للأمارات المعمولة في باب الوضع ، لفرض عدم الشبهة في الوضع من هذه الجهة ليطلب رفعها بها ، وإليه يرجع ما في كلام أفاضل المتأخّرين من معاصرينا (1) في الفرق بين الموضوعات المستنبطة والموضوعات الصرفة ، من كون المرجع في الأوّل هو العرف واللغة ، وفي الثاني أهل الخبرة ، فالشكّ في الفرديّة باعتبار المصداق ساقط عن محلّ الكلام ، لخروجه عن معقد الأمارات المبحوث عنها هنا ، فوجب الاقتصار حينئذ على الشكّ في الفرديّة باعتبار الصدق. وقد عرفت أنّ مآله إلى الجهل المشوب بالموضوع له.

فنقول : حينئذ إنّ العلم الّذي خالطه قد يكون علما بالموضوع له إجمالا ، على معنى العلم الإجمالي به ، وقد يكون علما به في الجملة.

وتوضيح الفرق بينهما : إنّ الماهيّات المركّبة من الأجزاء الخارجيّة أو العقليّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة تلاحظ باعتبارين ، وتعتبر بلحاظين :

أحدهما : أن تلاحظ باعتبار صورها النوعيّة ، وبها بالاعتبار المذكور يتعلّق نظر أئمّة اللغة في كتب متون اللغة عند ضبط معاني الألفاظ وبيانها والبحث عنها كما لا يخفى ، وعليها مدار الإفادة بالألفاظ والاستفادة عنها في المحاورات ، كما هو واضح أيضا.

وثانيهما : أن تلاحظ باعتبار أجزائها المفصّلة ، خارجيّة أو عقليّة ، حقيقيّة

ص: 7


1- لم أعرف قائله.

أو اعتباريّة ، وبها بهذا الاعتبار يتعلّق نظر أهل المعقول ، حيث لا غرض لهم إلاّ معرفة الأشياء بحقائقها ، وعليها مدار التعريفات والحدود والرسوم.

وظاهر أنّ العلم بالماهيّة باعتبار صورته النوعيّة لا يستلزم العلم بها باعتبار أجزائها المفصّلة ، كما أنّ الجهل بها باعتبار أجزائها المفصّلة لا يستلزم الجهل بها باعتبار صورتها النوعيّة ، كما في علوم عوام الناس بل كثير من الخواصّ بالأشياء ومعاني الألفاظ ، ضرورة أنّ المركوز في الأذهان من تلك المعاني ليس إلاّ صورها النوعيّة.

نعم الجهل بها باعتبار صورته النوعيّة يستلزم الجهل بها باعتبار أجزائها المفصّلة ، كما أنّ العلم بها باعتبار أجزائها المفصّلة يستلزم العلم بها باعتبار صورتها النوعيّة ، فحينئذ قد يكون الماهيّة معلومة بمعلوميّة أجزائها المفصّلة ، ولازمه كونها معلومة باعتبار صورتها النوعيّة أيضا ، وقد تكون مجهولة بمجهوليّة صورتها النوعيّة ، ولازمه كونها مجهولة باعتبار أجزائها المفصّلة أيضا ، وقد تكون معلومة بتمام صورتها النوعيّة فقط دون أجزائها المفصّلة ، وقد تكون معلومة ببعض صورتها النوعيّة.

ومعيار الفرق بينه وبين سابقه ، أنّه قد يحصل في الذهن من الصورة النوعيّة ما ينطبق في الواقع على تمام الأجزاء المفصّلة ، وإن لم يبلغ فطنته إليها بحسب الظاهر ، وهو العلم بها بتمام الصورة النوعيّة ، وقد يحصل فيه منها ما لا ينطبق في الواقع إلاّ على بعض الأجزاء ، وإن ذهل عنها كلاّ أو بعضا بالمرّة ، وهو العلم بها ببعض الصور النوعيّة.

أمّا القسم الأوّل فالعلم فيه تفصيلي لتعلّقه بالماهيّة باعتبار معلوميّة أجزائها المفصّلة ، وهو الّذي إذا تعلّق بمسمّى اللفظ أوجب الاستغناء عن الأمارات.

وأمّا القسم الثاني فالجهل المفروض فيه هو الجهل الساذج ، الموجب للحاجة إلى التشبّث بالأمارات الّتي تحرز بمراجعة الغير من العرف واللغة ، ولا يمكن معه إحرازها بمراجعة النفس حذرا عن الدور المستحيل.

ص: 8

وأمّا القسم الثالث فالعلم المفروض فيه هو العلم الإجمالي المنسوب إلى الإجمال ، بمعنى الجمع لتعلّقه بالصورة النوعيّة الجامعة للأجزاء المفصّلة من جهة اشتمالها عليها بأجمعها.

وأمّا القسم الرابع فالعلم المفروض فيه هو العلم بالشيء في الجملة ، لتعلّقه ببعض الصورة النوعيّة قبالا للعلم به بتمام الصورة النوعيّة ، وحكم هذا القسم لرفع الجهل كصورة الجهل الساذج في وجوب إحراز الأمارات ، بمراجعة الغير من أهل العرف واللغة لعين المحذور المذكور ، وأمّا العالم بالعلم الإجمالي فإن لم يلتفت إلى معرفة الأجزاء المفصّلة أو التفت وعرفها من دون واسطة فيصير عالما بالتفصيل فيستغني عن الأمارات ، وإن التفت ولم يعرفها كذلك بعروض الشكّ في مدخليّة بعض ما له دخل في الواقع ، أو بعض ما لا دخل له في الواقع الّذي مرجعه بالأخرة إلى فرديّة ما خلا عمّا شكّ في مدخليّته ، فإن كان ذلك الشكّ بحيث يسري إلى الصورة النوعيّة المعلومة حتّى أوجب انقلاب العلم الإجمالي إلى العلم في الجملة فيلحقه حكمه من وجوب إحراز الأمارة بمراجعة الغير ، وإن لم يكن كذلك فوظيفته إحراز الأمارات إمّا بمراجعة غيره ، أو بمراجعة نفسه لعدم أدائه حينئذ إلى الدور من حيث إنّ المتوقّف على الأمارة هو العلم التفصيلي ، والمتوقّف عليه الأمارة هو العلم الإجمالي.

ولا ريب إنّ العلم التفصيلي ليس ممّا يتوقّف عليه الأمارة ولا العلم الإجمالي المتوقّف عليه الأمارة ، وعليه ينزّل إطلاق من دفع الدور المتوهّم - حسبما تعرفه في بعض صوره - بإبداء المغايرة بين الطرفين بالإجمال والتفصيل ، كما لا يخفى.

الأمر الثالث : كلّما هو من الآثار المترتّبة على الوضع للعالم بالوضع فهو أمارة كاشفة عنه للجاهل

الأمر الثالث : إنّ كلّما هو من الآثار المترتّبة على الوضع للعالم بالوضع فهو أمارة كاشفة عنه للجاهل به ، فتبادر المعنى من اللفظ المجرّد واستعماله كذلك عند إرادة الإفهام ، وعدم صحّة سلبه عن المورد من الأمارات الدالّة على الوضع ، كما أنّ أضدادها من أمارات انتفاء الوضع.

الأمر الرابع : كلّما هو أمارة دالّة على الوضع فهو أمارة على الحقيقة

الأمر الرابع : كلّما هو أمارة دالّة على الوضع فهو أمارة دالّة على الحقيقة ، كما

ص: 9

أنّ كلّ أمارة لانتفاء الوضع أمارة للمجاز ، لما عرفت من أنّ الأمارة إنّما تنهض أمارة للجاهل ، ولا يعقل منه الحاجة إليها إلاّ في موضع الشكّ ، الّذي لا يعقل عروضه إلاّ بعد ثبوت مقدّمتين :

أمارات الحقيقة والمجاز

اشارة

إحداهما : ثبوت أصل الاستعمال ، والاخرى صحّته ، وحينئذ فيندفع ما عساه يعترض على بعض الأمارات كعدم صحّة السلب وصحّته من أنّ غاية ما يفيده الأوّل هو ثبوت الوضع وهو أعمّ من الحقيقة ، لجواز حصول الوضع وانتفاء الاستعمال ، كما أنّ غاية ما يفيده الثاني هو انتفاء الوضع وهو أعمّ من المجاز لاحتمال الغلط ، فإنّ الأوّل يندفع بفرض ثبوت الاستعمال والثاني بفرض صحّته.

وإذا تمهّدت الامور المذكورة ، فاعلم أنّ ما ادّعي كونه أمارة من المتّفق عليه والمختلف فيه امور :

1 - تنصيص الواضع

أوّلها تنصيص الواضع وهو على أقسام :

منها : أن ينصّ بما يدلّ على الوضع بطريق المطابقة ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني » أو قال - بعنوان الإخبار أو الإنشاء : « وضعته له » ومثله ما لو قال : « جعلته أو عيّنته له ».

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني اسم للمعنى الفلاني » بناء على أنّ اسم الشيء عرفا عبارة عن اللفظ الموضوع له ، ومثله ما لو قال : « إنّه حقيقة فيه » بناء على أنّ الوضع فيهما اعتبر بالقياس إلى اللفظ من باب الخارج اللازم ، الّذي اعتبر تقييده به على وجه خرج معه القيد.

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني يدلّ بنفسه على المعنى الفلاني » فإنّه يحصل بملاحظة الوضع المأخوذ فيه الدلالة بنفس اللفظ والدلالة على المعنى كذلك والنسبة بينهما ، من حيث إنّهما بحسب الخارج لا ينفكّ أحدهما عن صاحبه الجزم باللزوم ، ومثله ما لو قال : « يجوز استعماله فيه مجرّدا عن القرينة للإفهام ».

ص: 10

2 - تنصيص أهل اللغة

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام الغير البيّن ، من باب الإشارة الّتي مناطها حكم العقل باللزوم بملاحظة المنصوص ، كما لو قال : « الجمع المعرّف باللام يجوز استثناء أيّ فرد منه » وقال أيضا : « الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل » فإنّ العقل بملاحظة هاتين المقدّمتين المنصوص عليهما يحكم بوضع الجمع للعموم ، على معنى كونه لازم المراد منهما.

ومنها : أن ينصّ بما لا دلالة عليه بشيء من وجوهها ، كما لو قال : « رضيت باستعمال اللفظ الفلاني في المعنى الفلاني » أو « أذنت أو رخّصت في استعماله فيه » ولا يتفاوت الحال في جميع الصور بين ما لو حصل العثور بالتنصيص على طريق المشافهة ، أو على طريق النقل المتواتر ، أو الواحد المحفوف بما يفيد العلم بالصدق ، وأمّا الواحد الغير المحفوف بما ذكر فنتكلّم بعيد ذلك على اعتباره وعدمه.

ثمّ إنّ تنصيص الواضع بأحد الوجوه المتقدّمة ممّا لا يستراب في كبراه حيثما تحقّق.

نعم يتطرّق الاسترابة إلى صغراه ، فإنّه فيما يجدينا من الموضوعات اللغويّة أو العرفيّة العامّة ، أو الخاصّة الشرعيّة غير موجود ، وفيما يوجد أو يمكن وجوده كالأعلام الشخصيّة أو الامور الاصطلاحيّة غير مجد.

وثانيها : تنصيص أهل اللغة في كلّ لغة يقع بها التخاطب ، وهذا أيضا كتنصيص الواضع في انقسامه إلى الوجوه المتقدّمة مع نوع اختلاف في التعبير بالقياس إلى بعض الوجوه ، ويمتاز عنه بعدم تطرّق الاسترابة إلى شيء من صغراه وكبراه كما هو واضح.

نعم لا يثبت به إلاّ ما يختصّ باصطلاح التخاطب ، فلو احتيج إلى التعميم بالنظر إلى أصل اللغة الّذي يتبعه عرف زمان الشارع ، فلا بدّ من انضمام مقدّمة اخرى ، من أصالة عدم النقل ، أو تشابه الأزمان أو نحوهما ، كما قد يحتاج إليها في تتميم سائر الأمارات حسبما تقف عليه ، وسنورد الكلام في حجّية هذه الاصول وعدمها.

ص: 11

وثالثها : الترديد بالقرائن ، والمراد به تكرير اللفظ أو استعماله مقرونا بالقرينة المستقلّة في الدلالة على المعنى ، للتنبيه على الوضع الثابت فيما بينهما ، وهذا هو السديد من تعريفه ، لا ما قيل من أنّه تكرير الاستعمالات المقرونة بالقرائن الدالّة على أنّ المقصود من هذا اللفظ هو هذا المعنى ، ولا ما قيل أيضا من أنّه استعمال اللفظ متكرّرا مع القرينة الموجبة لفهم المقصود ، ولا ما قيل أيضا من أنّه ذكر اللفظ مقترنا بالقرينة الدالّة على كون المستعمل فيه معنى حقيقيّا ، فإنّه لا يخلو شيء من ذلك عن شيء ، كما يتّضح بعيد ذلك.

وهذا الطريق طريق مألوف قطعيّ لمعرفة اللغات ، ودليل معروف علميّ للتوصّل إلى حقائق الألفاظ ، كما في الأطفال يتعلّمونها به ، بل أهل كلّ لغة يتعلّمون لغة اخرى كالعجميّ القحّ يتعلّم اللغة العربيّة والعربيّ الصرف يتعلّم اللغة العجميّة ، فإنّ تعليم هؤلاء ممّا لا يتأتّى بل لا يتيسّر إلاّ بهذا الطريق ، لتعذّر التصريح بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من لغة المعلّم أو ممّن لا يعلم شيئا من لغة المتعلّم ، فهو مع كونه قطعيّا - كما هو المصرّح به في كلام غير واحد - ممّا لا يمكن القدح فيه وفي طريقيّته ، غير أنّه ربّما يتوجّه الإشكال من جهته في أمرين :

أحدهما : فتح باب السؤال على الاصوليّين ، حيث إنّ الأكثرين من فحو لهم من العامّة والخاصّة لم يتعرّضوا لذكر هذا الطريق في باب البحث عن الطرق المثبتة للوضع ، بل لم يذكره هنا إلاّ بعض الأواخر وإنّما أشاروا إليه في غير هذا الباب ، كما في مسألة الحقائق الشرعيّة عند دفع احتجاج النافين لها بأنّ الألفاظ المتنازع فيها لو وضعها الشارع لمعانيها الشرعيّة لفهّمها المخاطبين ... إلى آخره ، فإن كان ذلك يصلح طريقا فلم أهملوه في باب الطرق ، ولم يدرجوه فيها عند التعرّض لذكرها ، وإن كان لا يصلح طريقا فلم أشاروا إليه واعتبروه وحكموا بكونه قطعيّا عند دفع الاحتجاج المشار إليه.

وثانيهما : القدح في كبرى هذا الطريق ، من حيث إنّ المستفاد من كلماتهم كما يشعر به التعريفات المتقدّمة ، وهو المعلوم ضرورة بملاحظة مجاري هذا الطريق ،

ص: 12

لزومه استعمال اللفظ وكون الاستعمال باعتبار القرينة وتضمّنه تفهيم المعنى بواسطة القرائن ، على معنى افتقار التفهيم إلى مراعاتها.

وقد تقدّم أنّ أمارة الوضع والطريق الموصل إليه لا بدّ وأن يكون من لوازمه والآثار المترتّبة عليه.

ولا ريب أنّ لزوم كون الاستعمال باعتبار القرينة ، وافتقار تفهيم المعنى إلى مراعاتها من لوازم المجاز ، فكيف يصلح طريقا إلى الحقيقة وكاشفا عن الوضع.

وبالجملة ، ما هو من لوازم ضدّ الشيء لا يعقل كونه طريقا موصلا إلى ذلك الشيء ، وإلاّ وجب كون الاستعمالات المجازيّة عند العالمين باللغة الحاصلة باعتبار القرائن بأسرها من علائم الحقيقة في نظر الجاهل ، وإنّه بديهيّ البطلان.

فإن قلت : فرق واضح بين ما هو من لوازم المجاز ، وما هو المعتبر في مورد هذا الطريق ، كما يعلم ذلك بملاحظة ما تقدّم عند البحث فيما يتعلّق بالوضع ، من أنّ الدلالة على المعنى وفهمه من اللفظ مشروط بالوضع والعلم به ، فالافتقار إلى مراعاة القرينة في تفهيم المعنى قد يكون من جهة انتفاء الشرط الأوّل ، وقد يكون من جهة انتفاء الشرط الثاني.

ولا ريب أنّ لازم المجاز هو الأوّل ، والمعتبر في المقام هو الثاني ، وهو من الآثار المترتّبة على الوضع عند العالم به ، إذا أراد تفهيم الموضوع له للجاهل به ، فينهض بالنسبة إليه أمارة على الوضع وطريقا موصلا إليه.

3 - الترديد بالقرائن

قلت : قيام الفرق بينهما بحسب الواقع كما هو مسلّم ، لا يقضي بتبيّن كونه عند تعريف الوضع بالترديد بالقرائن من قبيل الثاني في نظر الجاهل ، لينهض طريقا موصلا له إلى الوضع ، فكلّ استعمال مع القرينة إذا عثر عليه الجاهل فهو محتمل عنده كونه من قبيل الأوّل ، وكونه من قبيل الثاني ، وقضيّة ذلك أن لا يتوصّل به إلى الوضع أصلا.

فإن قلت : إنّ القرينة إنّما تعتبر هنا لإعلام الوضع ، كما هو مفاد الأخير من التعريفات المتقدّمة ، لا لإفادة المعنى كما هو لازم المجاز.

ص: 13

قلت : مع أنّه خلاف ما يساعد عليه النظر ، كونه كذلك بحسب الواقع لا يجدي كونه كذلك بحسب نظر الجاهل الناظر في الأمارة ، فيحتمل في نظره حينئذ كون القرينة إنّما اعتبرت لإفادة المعنى على قياس ما هو الحال في المجازات.

فالّذي يختلج بالبال في دفع السؤال وحلّ الإشكال معا ، أن يقال : بمنع أنّهم أهملوا هذا الطريق ، بل أدرجوه في تنصيص أهل اللغة الّذي ذكروه في باب الطرق ، بدعوى : أن يكون مرادهم منه ما يعمّ الترديد بالقرائن أيضا ، بناء على أنّه في موارده قائم مقام التنصيص بالمعنى المعهود المتعارف ، فيكون هو بالنسبة إليه من باب البدل الاضطراريّ ، وإن كان بالقياس إلى القدر الجامع الّذي يراد من التنصيص المطلق معتبرا من باب الفرديّة.

وتوضيحه : إنّ الوضع - على ما بيّنّاه سابقا - نسبة بين اللفظ والمعنى ، فالعلم بها الّذي هو عبارة عن الإذعان لتلك النسبة ، مسبوق بتصوّرها وتصوّر طرفيها اللفظ والمعنى ، وللتنصيص باعتبار موارده بالنظر إلى هذه القاعدة صور كثيرة ، لأنّ الجاهل بلغة إذا ورد أهلها قد يكون بحيث يتصوّر معنى بعينه ، ويجزم بوضع لفظ بإزائه عندهم ولكن لا يعرفه بعينه ، فيؤدّون إليه عند تعريف الوضع بالتنصيص ما يعيّن اللفظ ، وقد يكون بحيث يتصوّر لفظا بعينه ويجزم بوضعه عندهم لمعنى لا يعرفه بعينه ، فيؤدّون إليه ما يعيّن المعنى ، وقد يكون بحيث يتصوّر لفظا بعينه ومعنى كذلك مع الشكّ في الوضع بينهما ، فيؤدّون إليه ما يزول هذا الشكّ ويرفعه ، وقد يكون غافلا بالمرّة فيؤدّون إليه ما يوجب تصوّر الطرفين والنسبة بينهما والإذعان لتلك النسبة.

وهذا كلّه حيث يتمكّن أهل اللغة من التأدية بما يفيد المطلب من الألفاظ ويتمكّن الجاهل من استفادة المطلب من الألفاظ المؤدّات إليه ، وقد يتعذّر ذلك بعدم تمكّن الجاهل من الاستفادة من شيء من ألفاظ شيء من ألفاظ شيء من اللغات ، كالطفل في أوائل تعلّمه اللغة ، أو بعدم تمكّن أهل اللغة من التأدية بما يتمكّن الجاهل من الاستفادة منه ، وعدم تمكّن الجاهل من الاستفادة ممّا يتمكّن أهل اللغة من التأدية

ص: 14

به من ألفاظ لغتهم ، كالعربيّ القحّ الّذي لا يعرف شيئا من ألفاظ اللغة العجميّة ، والعجمي القحّ الّذي لا يعرف شيئا من ألفاظ اللغة العربيّة إذا أراد أحدهما أن يتعلّم لغة صاحبه ، فإنّ المعلّم في مثل هذا الفرض لا يتمكّن من التأدية بألفاظ لغة المتعلّم ، الّذي هو أيضا لا يتمكّن من الاستفادة من ألفاظ لغة المعلّم ، فعادة الناس في مثل ذلك جارية بإقامة الترديد بالقرائن مقام التنصيص بالنحو المتعارف ، المتضمّن لأداء المطلب بألفاظ من لغة المعلّم أو المتعلّم ، تدلّ على الوضع بأحد الوجوه المتقدّمة ، وعلى المعنى المطلوب وضع اللفظ بأزائه.

وكيفيّته حينئذ على ما يشاهد بالوجدان ، إنّه يقام من القرائن ما يستقلّ في الدلالة على المعنى مقام الألفاظ الدالّة عليه ، الّتي يتضمّنها التنصيص بالنحو المتعارف لإحضار ذلك المعنى في ذهن الجاهل ، طلبا لحصول تصوّره الّذي كان يستلزمه العلم بالوضع ، ثمّ يذكر اللفظ المطلوب إعلام وضعه لذلك المعنى مقارنا للقرينة المذكورة ، ويكرّر ذلك اللفظ أو استعماله ليوجب أصل ذكره إحضاره في ذهن الجاهل ، طلبا لحصول تصوّره المعتبر في العلم بالوضع ، واقترانه بالقرينة تصوّر النسبة بينهما مع الإذعان لها ، وتكرّره رفع الغفلة عن الجاهل أو رفع احتمال كون ذكره من باب سبق اللسان ، أو من باب الهزليّة أو من باب المقارنات الاتفاقيّة ، أو غير ذلك ممّا يمنع احتماله عن حصول الجزم بالنسبة.

ولا ريب أنّ الترديد بالقرائن حيثما انعقد واستكمل الامور المذكورة كان طريقا قطعيّا إلى الوضع كالتنصيص ، كما نصّ عليه الجماعة في مسألة الحقيقة الشرعيّة ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كون الناصب لهذا الطريق إعلاما للوضع من قحّ أهل اللسان الّذين يستشهد بكلامهم ، أو من خارج لسانهم المطّلع على أوضاعهم ، والعارف بحقائقهم عن مجازاتهم من جهة شدّة مخالطته لهم ، وكثرة مزاولته في محاوراتهم ، فما سبق إلى بعض الأوهام من الفرق بينهما بكون الترديد من الأوّل مفيدا للقطع ، ومن الثاني مفيدا للظنّ ليس على ما ينبغي ، ولا يشترط في ذلك تعدّد الناصب له المستعمل للفظ ، كما قد يتوهّم أيضا.

ص: 15

وإذا كان مراد الأكثرين من تنصيص أهل اللغة الّذي تعرّضوا لذكره في باب الطرق ما يعمّ ذلك ، اندفع عنهم السؤال المتقدّم ، كما اندفع بما ذكرنا إشكال القدح في كبرى هذا الطريق ، من حيث إنّ القرائن الّتي تلتزم بها في هذا المقام ، إنّما تعتبر إقامة لها مقام الألفاظ الّتي يعبّر بها عن المعنى الموضوع له عند إعلام الوضع بطريق التنصيص بالنحو المتعارف ، وليس حالها كحال قرائن المجاز لاستقلالها في الدلالة على المعنى ، وعدم كون اللفظ المقترن بها مقصودا به إفادة المعنى بخلاف قرائن المجاز ، فإنّ الدلالة على المعنى ثمّة مقصودة من اللفظ باستمدادها مع عدم استقلالها في الدلالة لولاه ، فعلم بما قرّرناه امور :

أحدها : إنّ الدلالة على الوضع هنا قائمة باقتران اللفظ بالقرينة المستقلّة في الدلالة على المعنى ، وإنّها من باب الدلالة الالتزاميّة الإيمائيّة والتنبيهيّة ، لوضوح أنّ الانتقال إلى الوضع مع ملاحظة استقلال القرينة في الدلالة على المعنى إنّما يحصل من جهة أنّه لولا كونه مقصودا لبعد اقترانه بها عرفا.

وثانيها : إنّ اللفظ المذكور هنا لا يقصد به الدلالة على المعنى ، ولا إعلام الوضع به ، بل يقصد به إحضاره في ذهن الجاهل طلبا لتصوّره.

وثالثها : إنّ القرينة المعتبرة هنا لا يقصد بها إعلام الوضع ، بل إفادة المعنى على الاستقلال ، وبذلك كلّه يتبيّن وجه خروج التعريفات الثلاث المتقدّمة عن السداد ، وعدم خلوّ شيء منها عن شيء حسبما أشرنا إليه.

ورابعها : وجه الفرق بين التنصيص بالنحو المتعارف وبين هذا الطريق الّذي هو بدل عنه ، فإنّه طريق لا ينفع في حقّ الأجنبيّ الّذي لا يعرف شيئا من اللسان ، مع عدم اعتبار التكرير فيه.

4 - قول اللغوي

ورابعها : نقل نقلة متون اللغة المعبّر عنه بقول اللغويّين ، كالخليل والأصمعي وابن أثير وأبي عبيدة وغيرهم ، فإنّه الطريق الغالب المعوّل عليه فيما بين العلماء الأزكياء والفضلاء الادباء ، يرجع إليه في معرفة الأوضاع والتمييز بين الحقائق والمجازات غير أنّه يمتاز عمّا عداه من الطرق المتداولة في انطباق كبراه على

ص: 16

تقدير الثبوت على الثمرة المطلوبة من وضع الطرق ، وهو استعلام حال خطاب الشرع ، لمكان اختصاصه بألفاظ لغة العرب الّتي هي موضع تلك الثمرة ، بخلاف سائر الطرق فإنّ كبراها عامّة تجري في سائر اللغات أيضا ، فلا بدّ في أخذ الثمرة عنها من أخذ موضوع الصغرى من ألفاظ لغة العرب.

ثمّ إنّ هذا الطريق إنّما يحتاج إليه في استعلام أوضاع موادّ ألفاظ هذه اللغة ، وأمّا معرفة أوضاع هيئآتها مفردة ومركّبة - كصيغتي الأمر والنهي ، والجملة الشرطيّة ونحوها - فتكفي في حصولها معرفة هيئآت سائر اللغات ، لما هو معلوم بحكم الضرورة والاستقراء القطعيّ كون اللغات المتخالفة باعتبار أوضاع هيئآتها ألفاظا مترادفة ، والتباين إنّما حصل فيها باعتبار موادّها ، فالحاصل إذا ثبت في الهيئآت المذكورة من اللغة الفارسيّة أو التركيّة أو الهنديّة كونها للإيجاب والتحريم والانتفاء عند الانتفاء ، فهو في معنى ثبوت كون صيغتي الأمر والنهي والجملة الشرطيّة من اللغة العربيّة أيضا لهذه المعاني على سبيل الجزم ، ولا حاجة معه إلى تكلّف النظر في قول اللغويّ.

نعم معرفة موادّ اللغة الفارسيّة أو التركيّة أو غيرها لا تغني عن معرفة موادّ لغة العرب.

ثمّ قول اللغوي في مثل « الصعيد : وجه الأرض » ليس المراد منه مجرّد اللفظ والعبارة ، بل الرأي والاعتقاد بمؤدّاهما ، ولو اريد اللفظ والعبارة فإنّما يرادان باعتبار كشفهما عن الاعتقاد بالمؤدّى.

وبالجملة مناط الكلام اعتقاد اللغويّين ، الّذي يكشف عنه الألفاظ الصادرة عنهم في مقام بيان المعاني والأوضاع.

ثمّ إنّه لا ينبغي التكلّم في اعتبار قول اللغوي من باب كونه طريقا إلى الواقع ، على معنى استلزامه كون المعتقد هو الواقع ، حتّى يكون العلم به إحرازا للواقع نفسه ، لوضوح أنّ الطريقيّة بهذا المعنى فرع على الملازمة الواقعيّة بينه وبين الواقع ، وقد علمنا انتفاءها لقضاء الضرورة بجواز الخطأ على غير المعصوم ، وإنّما يستحيل

ص: 17

تخلّف الواقع عن الاعتقاد في مظانّ العصمة لأدلّة العصمة ، مع قضاء الوجدان عند النظر في قول لغويّ بالتزام التحرّي لاعتبار أمر زائد عليه ، من تواتر أو تظافر أو اعتضاد بقرائن خارجيّة وشواهد عرفيّة ليفيد بإعانته العلم ، وهذا من آثار انتفاء الملازمة الواقعيّة ، مع أنّ ملاحظة ما قيل في أئمّة اللغة من الموهنات والقوادح ، مثل التقصير في الاجتهاد أو البناء على أصل فاسد من قياس ونحوه ، كما نقل عن المازني أنّ ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم ، وكون الغالب عليهم انتفاء العدالة بل وفساد المذهب ، فلا يؤمن عليهم من تعمّد الكذب والوضع إذا تعلّق به بعض الأغراض الفاسدة ، كما عن روبة وابنه إنّهما ارتجلا ألفاظا لم يسبقا إليها.

وعن الأصمعي ، إنّه نسب إلى الحذاعة زيادة ألفاظ ممّا يمنع عن انكشاف الواقع لمجرّد قول لغويّ ، وهذا كلّه آية انتفاء الملازمة ، فجهة التكلّم في اعتباره حينئذ تنحصر في جهة الموضوعيّة ، فإنّه الّذي يجوّزه العقل إمّا بحسب العرف ، على معنى أنّه شيء نزّله العرف وأهل اللسان الكاشف عن ترخيص الواضع منزلة الواقع بإجراء أحكام الوضع والحقيقة والمجاز عليه ، وإن تخلّف عنه الواقع بحسب الواقع ، أو بحسب الشرع ، على معنى كونه ممّا نزّله الشارع منزلة الواقع وإن خالفه ، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون مناط الاعتبار هو الذات ، أعني قول اللغوي من حيث هو ، أو ما هو المسبّب عنها وهو الظنّ الحاصل منها المتعلّق بالوضع أو الحقيقيّة أو المجازيّة ، ولأجل ذا اختلفت الأنظار واضطربت الآراء في حجّيته وعدمها ، حتّى حصلت بينهم أقوال مختلفة ، على ما عثرنا عليه من المحقّق والمحكيّ.

فقيل : بكونه حجّة وإن لم يفد الظنّ.

وقيل : بعدم كونه حجّة وإن أفاد الظنّ.

وقيل : بكونه حجّة إن أفاد الظنّ.

وقيل : بعدم كونه حجّة إلاّ إذا انسدّ باب العلم ، ولم يظهر منه أنّ المراد انسداد باب العلم في اللغات خاصّة وإن انفتح في الأحكام الشرعيّة ، أو في الأحكام خاصّة وإن انفتح في اللغات ، أو فيهما معا ، ولكلّ وجه من الأدلّة الآتية.

ص: 18

وكيف كان ، فالأقوى وفاقا لبعض مشايخنا العظام (1) هو القول الثاني ، وعليه الفاضل النراقي في مناهجه ، وإن كان القول الثالث هو المشهور المدّعى عليه الإجماع على حدّ الاستفاضة ، ومن جملة ذلك ما عن العضدي من أنّا نقطع إنّ العلماء في الأعصار والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد ، كنقلهم عن الأصمعي والخليل وأبي عبيدة وسيبويه.

وما عن المدقّق الشيرواني من أنّ المعنى اللغوي خرج عن قاعدة اعتبار القطع في الاصول بالإجماع ، حيث لم يزل العلماء في كلّ عصر يعوّلون على نقل الآحاد في اللغة ، كالخليل والإصمعي ولم ينكر ذلك أحد عليهم من العصر السابق واللاحق ، فصار ذلك إجماعا.

وهذا الخلاف كما ترى وإن انعقد في قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه ، غير أنّ الأولى أن يؤخذ العنوان على الوجه الأعمّ بالبحث عن حجيّة مطلق الظنون المتعلّقة باللغات ، وإن حصلت من غير جهة قول اللغوي ، كما صنعه بعض المشايخ وقبله بعض الأعاظم ليعمّ فائدته سائر الطرق والأمارات ممّا لم يثبت فيه الملازمة إلاّ بطريق ظنّي ، أو لم يكن الملزوم محرزا إلاّ بطريق ظنّي ، كالتبادر الظنّي ونحوه مثلا ، ومعلوم أنّ المانع هنا في فسحة عن تجشّم الاستدلال ، لكونه مستظهرا فلا يطالب بالدليل ، بل التشبّث بالدليل من وظيفة مدّعي الحجيّة ، لوضوح أنّ دعوى كون قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه أو مطلق الظنّ في اللغات ما نزّله العرف أو الشرع منزلة الواقع وإن لم يصادفه بحسب الواقع ، بنفسها وبأعلى صوتها تنادي بلزوم مطالبة الدليل من مدّعيها ، ومع ذلك فللمانع أن يستند لمنعه إلى أصل كلّي مقطوع به مقتضى لعدم الحجّية إلاّ ما أثبته الدليل بخصوصه ، على كلا الاعتبارين من اعتبار الحجيّة بحسب العرف واعتبارها بحسب الشرع.

أمّا الأوّل : فلأصالة التوقيف في اللغات بالنسبة إلى جميع الجهات الراجعة إليها ، من أوضاعها ومجازاتها وقرائنها وكيفيّة استعمالاتها.

ص: 19


1- هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه اللّه.

وأمّا الثاني : فلأصالة منع العمل بالظنّ في الامور المتعلّقة بالشرع ، المستفادة من القاطع ، فإنّ الأدلّة من العقل والكتاب والسنّة والإجماع بل الضرورة متطابقة عليه.

ودعاوى الإجماع بل الضرورة في كلام أساطين العلماء متكاثرة فيه ، كما ستقف على تقريره وتقريب أدلّته مفصّلا في محلّه ، ولأجل كون القول بالحجيّة واردا على خلاف الأصل المقطوع به ، واضطر أصحابه إلى الاحتجاج بوجوه كثيرة مرجعها إلى أقسام :

قسم ، ما لو تمّ لقضى بها بحسب العرف.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى بها بحسب الشرع من باب الظنّ الخاصّ.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى لها عرفا من باب الاضطرار إلى العمل به خاصّة.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى بها شرعا من باب الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

فمن حججهم : بناء العقلاء كافّة من جميع الملل والأديان في جميع الأمصار والأعصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فإنّ بنائهم مستقرّ على العمل بالظنون المتعلّقة بأوضاع الألفاظ وتشخيص الظواهر من كلّ لغة واصطلاح ، كما يشهد به اعتمادهم في إثبات اللغات على التبادرات والترديدات بالقرائن ، وأخبار الآحاد الّتي ليست إلاّ طرقا ظنّية.

وهذا الوجه كما ترى لو تمّ لقضى بالاعتبار بحسب نظر العرف المنتهي إلى الواضع ، لكون بناء العقلاء في أمر اللغات ممّا يكشف عن إذن الواضع ورضاه ، غير أنّه في الضعف والوهن بمثابة بيت العنكبوت بل أوهن منه ، فإنّه دعوى غير مسموعة لمكان القطع بكذبها ، فإنّا لم نعهد عن أحد من العقلاء ولا واحد من آحاد أهل كلّ لسان إنّه معتمد في لغته أو في شيء من ألفاظ لسانه على الظنّ ، على معنى التزامه بالوضع الظنّي الحقيقي أو المجازي ، بإجراء أحكامه العرفيّة أو الشرعيّة عليه.

ص: 20

كيف وهذا البناء لو كان مستقرّا وهذا العمل لو كان ثابتا لشاع وذاع ، بحيث يعرفه كلّ أحد عن صاحبه ، ويعهده عن نفسه وعن غيره من معاشريه وأهل لسانه ، على قياس ما هو الحال في العمل بالظواهر لتشخيص المرادات وإحراز الدلالات ، والمنصف يجد عند مراعاة الإنصاف ومجانبة الاعتساف أنّ ذلك ممّا لا أثر له في شيء من اللغات ، ولو كابر مكابر فنحن لا نجد من أنفسنا الاستناد إلى الظنّ في شيء من ألفاظ اللغة المتداولة عندنا ، من العربيّة أو الفارسيّة أو التركيّة - وحدانيّة أو ثنائيّة أو ثلاثيّة - وكذلك لا نجد من غيرنا من مشاركينا في تلك اللغة أنّ بناءه في عاداته ومعاملاته وشرائعه على العمل بالظنّ ، على معنى كون الوضع المعتبر فيه الّذي عليه مدار جميع أحكامه ثابتا في نظره بطريق ظنّي ، أو قول لغوي غير مفيد للعلم على وجه يتفطّن بكونه متعمّدا فيه.

نعم استقرار بنائهم في الاعتماد على التبادرات والترديدات بالقرائن وأخبار الآحاد أمر مسلّم لا يستراب فيه ، غير انّ الاولى والثانية من هذه الامور ونظائرها طرق علميّة حيثما احرزت بطريق علمي ، وأمّا ما احرز منها بنحو الظنّ فلا يسلّم انّهم يعتمدون عليه.

وبالجملة إنّما يستند إلى هذه الطرق في محلّ العلم بالملزوم ، وأمّا التبادر الظنّي فلم نعهد أحدا يستند إليه ، ولو فرض الاستناد إليه في بعض الأحيان ، فإنّما هو في الامور الّتي يتسامح فيها عرفا وشرعا لا مطلقا.

وأمّا أخبار الآحاد فإنّها وإن لم تكن في حدّ أنفسها مفيدة للعلم ، غير أنّ الغالب فيها وجود القرائن المفيدة له ، فإنّما يؤخذ ذبها في بناء العقلاء في موضع وجود القرائن لا مطلقا ، إلاّ في الامور المتسامح فيها.

ألا ترى أنّه لو أخبرنا عربيّ أو تركيّ أو غيرهما بوضع لفظ متداول في لغته لمعنى في موضع التعليم ، خصوصا إذا كان مسبوقا بالسؤال ، لحصل لنا بحكم العادة وقرائن المقام العلم بصدقه ، ولا نشكّ في مطابقته للواقع.

والسرّ فيه أنّ ما يمنع عن حصول العلم بالخبر غالبا هو احتمال الخطأ والكذب ، وهما في المقام منفيّان بحكم العادة القطعيّة.

ص: 21

أمّا الأوّل : فلامتناع الخطأ عادة على أهل اللغة في أجزاء لغتهم المعتادة واصطلاحهم المتعارف.

وأمّا الثاني : فلانتفاء دواعي الكذب في خصوص المقام.

وبالجملة : العلم الضروري بكون مبنى المحاورة في جميع اللغات والألسنة على العلم بالأوضاع ، والقطع بالموضوعات ممّا لا ينبغي إنكاره ، بل المنكر له مكابر وجدانه.

وبما قرّرنا يتّضح فساد الاحتجاج على الحجّية ، بأنّه : لولاها لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة ، لانسداد باب العلم في اللغات. وكأنّ مبنى هذا التوهّم على اشتباه العمل بالظنّ في تشخيص الظواهر ، بالعمل به في العمل بالظواهر.

ولا ريب أنّ المقامين بينهما بون بعيد ، وعلى أيّ حال فدفع هذه الحجّة إنّما هو بمنع الملازمة ، إذ لو اريد باللغات المسدود فيها باب العلم القدر الكافي منها في المحاورات ، ممّا هو متداول في المخاطبات عند كلّ قوم في كلّ مصر من الألفاظ والمعاني ، أصليّة كانت أو طارويّة ، فلا ريب أنّ باب العلم بهذا المقدار بجميع جهاته وتفاصيله مفتوح لكلّ أحد من آحاد أهل كلّ لغة ، ولا يجد أحد من نفسه إنّه في أقلّ قليل من أجزاء لغته المتداولة بان على الظنّ بالوضع بالتقريب المتقدّم.

ولو اريد بها المجموع من ذلك ومن الألفاظ الأصليّة وغيرها المهجورين في المحاورة ، فلا ريب أنّ باب العلم بأغلب اللغات بهذا المعنى وأكثرها أيضا مفتوح ، لكون أكثرها ما يعلم به بملاحظة العرف والأمارات العرفيّة المفيدين للقطع ، كما هو الحال في القدر المكتفى به في المحاورة من الألفاظ والمعاني الموجودتين ، وما لا يعلم به بملاحظتهما فإنّما يعلم به بمراجعة أقوال اللغويّين في موضع تعاضد بعضها ببعض ، كما لو اتّفقوا أو تعدّدوا على وجه يحصل من تعدّدهم العلم بالمطلب ، وما لا معاضد له فإنّما يؤخذ به لإفادته العلم بملاحظة قرائن المقام وشواهد الكلام ، من الامور الجزئيّة الغير المنضبطة الّتي يطّلع عليها المتتبّع ، فلا يبقى في المقام إلاّ أقلّ قليل من الألفاظ المهجورة بأنفسها أو بمعانيها ، وبانسداد

ص: 22

باب العلم في مثل ذلك ومنع التعويل على النقل الغير المفيد للعلم ، لا يلزم من ذكر من المحذور ، لعدم مدخليّة لهذا المفروض في أمر الإفادة والاستفادة.

نعم لو أراد الأجنبيّ عن لغة العرب أن يتعلّمها بمراجعة أقوال اللغويّين وكتبهم المتداولة ، أمكن القول بعدم اتّفاق العلم له في كثير ممّا ضبطوه ، بل في أكثرها بل في كلّها ، مع قطع النظر عن الامور المكتنفة بها ، الّتي لها دخل في إفادة العلم من التعاضد والقرائن الجزئيّة ، غير أنّ ذلك أجنبيّ عن الملازمة المذكورة ، وبعيد عن مظانّ الإفادة والاستفادة كما لا يخفى.

ومنها : إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة ، على مراجعة كتب اللغويّين والأخذ بقولهم في معرفة معاني الألفاظ ، والاحتجاج به لقطع المشاجرات في المسائل العلميّة من غير نكير ، ومن دون أن يعهد من خصومهم إلاّ التسليم أو السكوت أو المعارضة بقول لغوي آخر ، ومن دون المبادرة إلى الردّ ومنع الاحتجاج ، تعليلا بأنّه احتجاج بما لا عبرة به ، واعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه.

ونوقش فيه : تارة بأنّ الإجماع إنّما يعتبر لكشفه عن قول المعصوم ورأيه عليه السلام ، ولا يكون كاشفا إلاّ في الامور الشرعيّة ، والمقام أمر لغوي ليس بيانه من وظيفة المعصوم ليكون الإجماع كاشفا عن رأيه.

واخرى : بأنّ الاجماع إنّما يعتبر إذا انعقد في زمان المعصوم عليه السلام ، أو كان المجمع عليه ثابتا في زمانه ، وهذا الشرط في المقام منتف ، لكون العمل بقول أهل اللغة أمرا حادثا من العلماء ، متأخّرا حدوثه عن زمن المعصوم.

وثالثة : بأنّ الإجماع في خصوص المقام تقييديّ لاختلاف مشاربهم في العمل ، فإنّ منهم من يعمل بقول أهل اللغة لإفادته القطع ، بملاحظة بعض القرائن الداخلة أو الخارجة ، ومنهم من يعمل به تعبّدا ، ومنهم من يعمل به بزعم كونه ظنّا خاصّا قام الدليل على اعتباره بالخصوص ، ومنهم من يعمل بزعم طروّ الاضطرار إلى العمل به ، فلا إجماع على اعتباره من حيث إنّه سبب للظنّ.

ص: 23

ويمكن دفع الاولى : فأوّلا ، بأنّ الإجماع قد يكون كاشفا عن حقّيّة مورده ، وإن لم يكن من الامور الشرعيّة ، إذا انضمّ إليه قضاء العادة بامتناع تواطئهم - مع كثرتهم وكونهم من أهل النظر واختلاف مشاربهم - على الخطأ ، نظير ما هو الحال في الخبر المتواتر المفيد للعلم بالصدق بضميمة العادة.

غاية الأمر ، كون المراد به هنا المعنى اللغوي وهو الاتّفاق ، دون المصطلح عليه الاصولي ، ولا غائلة فيه بعد ملاحظة عدم ابتناء الاستدلال على اعتبار المعنى المصطلح عليه.

وثانيا : بمنع عدم صلوحه للكشف عن رأي المعصوم ، فإنّه إنّما يتمّ إذا اعتبر الإجماع بطريقة القدماء أو الشيخ ، إذ دخول المعصوم مع المجمعين في العمل بقول اللغويّين غير معقول ، كما أنّ الإجماع بطريقة الشيخ في مورد لا يجري فيه دليل اللطف غير معقول.

أمّا على طريقة الحدس عن الرضاء فلا مانع عن كونه كاشفا ، ولا ينافيه عدم كون بيان الامور اللغويّة من وظيفة المعصوم ، إذ ليس المراد به أنّ المعصوم ليس له هذا البيان ، بل معناه أنّه ليس عليه على وجه ينافي عدمه عصمته ومنصبه.

وأمّا على التقدير أنّه عليه السلام بيّن شيئا من الامور اللغويّة ، أو غير الشرعيّات فلا ريب في مطابقته الواقع.

وثالثا : بمنع خروج المقام من الامور الشرعيّة ، ولو باعتبار رجوعه إلى جواز العمل به فيما يرجع إلى خطابات الشارع ، بل هو حكم شرعي حينئذ يكشف عنه وعن كونه مأخوذا عن المعصوم الإجماع العملي.

ودفع الثانية : بمنع تأخّر الحدوث ، فإنّ بناء تدوين اللغة على ما روي ، وادّعي كونه متواترا كما في كلام بعض الأجلّة (1) إنّما حصل في المائة الثانية من الهجرة في عهد الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام ، وقد شاع غاية الشيوع في المائة الثالثة.

ص: 24


1- هو السيّد مهدي بحر العلوم - في شرحه على الوافية -.

إلاّ أن يقال : إنّ المبحوث عنه هو العمل بالمدوّن لا نفس التدوين ، والعلم بحدوث الثاني في عصر الأئمّة لا يجدي نفعا في العلم بحدوث الأوّل فيه ، بل احتمال تأخّره كاف.

وأمّا الثالثة : فيصعب دفعها ، بل الظاهر ورودها لعدم ثبوت الإجماع على إحدى الجهات المذكورة ، ولا سيّما ما هو محلّ البحث منها ، وهو العمل بقول اللغوي الغير المفيد للعلم تعبّدا ، أو من باب الظنّ الخاصّ.

هذا ولكنّ التحقيق في دفع الاحتجاج به منع أصل الإجماع ، فإنّ عمل العلماء بجميع أصنافهم بقول اللغويّين وإن كان ثابتا في الجملة ، لكنّه لا يجدي في ثبوت الإجماع على العمل به فيما هو محلّ النزاع ، لأنّ المراد من عملهم به إمّا أن يكون هو العمل في أمر المحاورة ومقام الإفادة والاستفادة ، أو العمل به في الأحكام الشرعيّة والتكاليف الإلهيّة الّتي يعاقب فيها على العمل بغير العلم ، وهو على كلا التقديرين محلّ منع.

أمّا على الأوّل : فلأنّ من العلماء من ليس من أهل لسان العرب ، فهو ليس من أهل المحاورة باللغة العربيّة ليتصوّر في حقّه المراجعة إلى كتب اللغة ، لينتفع بها في أمر المحاورة ومقام الإفادة والاستفادة ، ومن كان من أهل هذا اللسان فحاله بالنسبة إلى المحاورة ومقام الإفادة والاستفادة كحال عوام العرب في عدم الاحتياج إلى تلك الكتب في القدر الّذي يتمّ به المحاورة.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الّذي يساعد عليه النظر ، أنّ موارد عمل العلماء بقول اللغويّين في غير أمر المحاورة مختلفة.

منها : ما يعملون به في موضع تعاضد البعض ببعض من جهة الاتّفاق ، أو التعدّد الّذي يحصل من جهته العلم بالصدق.

ومنها : ما يعملون به لاعتضاده بالقرائن المفيدة للعلم ، من مطابقة العرف أو مساعدة الأمارات المعمولة لتشخيص الموضوعات.

ومنها : ما يعملون به في موضع يتسامح فيه ، ولا يطالب فيه العلم ، ولا يعاقب

ص: 25

على العمل بغير العلم ، كما في تفسير التواريخ والخطب والأشعار والقصائد والمطالب الأدبيّة والأدعية والأحاديث الغير المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة ، والآيات الغير الواردة في التكاليف الإلهيّة.

ومنها : ما يعملون به في موضع الجدال والغلبة على الخصم ، فيستندون في إثبات المطلب إليه ، لكونه مفيدا للغرض المقصود من المجادلة ، وهو الغلبة على الخصم ، فلا يبقى إلاّ ما هو موضوع المسألة ، وهو قول اللغوي الغير المفيد للعلم في الأحكام الشرعيّة ، ولم يثبت إجماعهم على العمل به ، وعلى المستدلّ إثباته وأنّى له بالإثبات.

ومنها : تقرير الأئمّة عليهم السلام لما روى متواترا من أنّ كتب اللغة إنّما دوّنت في عهد الأئمّة عليهم السلام من دون ردعهم عنه ، وإلاّ لنقل إلينا لتوفّر الدواعي إليه.

وفيه : منع واضح وجواب لائح ، فإنّ التقرير إنّما يجري في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والردع إنّما يجب عليه عليه السلام فيما لو كان محظورا ، فبعدمه يستكشف عن عدم المحظوريّة ، والمحظور على القول بعدم الحجّية إنّما هو العمل بقول اللغوي الغير المفيد للعلم في الأحكام الشرعيّة ، والتقرير بالنسبة إليه غير ثابت ، لعدم ثبوت كون العمل بقول اللغويّين ومراجعة كتبهم أمرا متداولا في عصرهم عليهم السلام ، وشيئا متعارفا في زمانهم ، وإنّما علم التقرير بالنسبة إلى أصل التدوين ، وهو ليس من العمل بشيء ولا مستلزما له.

فإن قلت : إذا كان العمل محظورا فالتدوين إنّما حصل لغرض فاسد ، فيكون هو أيضا فاسدا يجب الردع عنه من هذه الجهة ، والمفروض خلافه.

قلت : أمّا أوّلا : فبمنع غرضيّة العمل ، بمعنى كون الغاية المقصودة بالأصالة من التدوين ، فإنّ تدوين كتب اللغة يجري مجرى تدوين العلوم العربيّة ، المصرّح في كلامهم بعدم كون الغرض الأصلي من تدوينها استنباط الأحكام الشرعيّة ، كما علم في تعريف اصول الفقه ، وكونها ممّا له دخل في الاستنباط لا يقضي إلاّ بكون مقام الاستنباط إنّما يترتّب عليها من باب الفائدة الغير المقصودة ، ولا يلزم من

ص: 26

فساد فائدة من فوائد شيء ، فساد ذلك الشيء ، وإلاّ كان جميع أجزاء العالم من المآكل والمشارب والملابس والمساكن وغيرها محظورا.

والقول بأنّ الغرض من جمع اللغة ، كون كتبها مرجعا لمن بعدهم من العلماء ، ومنهلا لمن يأتي من الفضلاء في فهم الكتاب والسنّة ليأخذوا عنها ، ويصدروا عنها ، ولذا اقتصر كثير منهم كأبي عبد اللّه والمازني (1) وقطرب (2) وأبي عبيدة (3) وابن قتيبة (4) والبستي (5) والهروي (6) وابن الأثير (7) وغيرهم على إيراد غرائب القرآن والحديث ، أو غريب الحديث وحده ، ولم يتعرّضوا لما سوى ذلك ، لحصول الغرض الأصلي في اللغة بهذا المقدار ، وانتفاء الفائدة المهمّة في غيره ، ليس

ص: 27


1- أبو الحسن النضر بن شميل التميمي المازني النحوي البصري ، كان عالما بفنون من العلم ، له كتاب اسمه « غريب الحديث » وغيره من التصانيف ، توفى في مسلخ ذي الحجّة سنة ( 204 ه. ق ) [ وفيات الأعيان 397 : 5 ].
2- هو أبو علي محمّد بن المستنير بن أحمد النحوي اللغوي البصري ، مولى سالم بن زياد ، المعروف بقطرب ، كان من أئمّة عصره في الأدب وله من التصانيف « غريب الحديث » توفي سنة ( 206 ه. ق ). [ وفيات الأعيان 312 : 4 ].
3- أبو عبيد القاسم بن سلاّم - بتشديد اللام - كان أبوه عبدا روميّا لرجل من أهل هراة واشتغل أبو عبيد بالحديث والأدب والفقه وكان متفنّنا في أصناف العلوم من القراءات والفقه والعربية والأخبار ، ويقال إنّه أوّل من صنّف في غريب الحديث ، وله من التصانيف « الغريب المصنف » و « الأمثال » و « معاني الشعر » وغير ذلك. توفي في سنة ( 222 أو 223 ه ق ) وقال البخاري سنة ( 224 ه ق ). [ وفيات الأعيان3. 62 : 4 ].
4- ابن قتيبة : أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم ، المتوفّى سنة ( 276 ه ق ).
5- أبو سليمان الخطابي ، محمّد بن محمّد بن إبراهيم بن الخطاب البستي الشافعي المتوفّى سنة ( 388 ه ق ).
6- أبو عبيد الهروي : أحمد بن محمّد المتوفّى ( سنة 401 ه ق ) وكتابه في غريبي القرآن والحديث أحد كتابين اعتمد عليهما ابن الأثير في تأليف كتابه.
7- ابن الأثير : مبارك بن محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجرزي ثمّ الموصلي الشافعي ، المتوفّى ( سنة 606 ه ق ) واسم كتابه « النهاية في غريب الحديث » راجع مقدّمة النهاية في غريب الحديث 4 : 1.

بمسموع ، والاقتصار على إيراد الغريبين لا ينافي كون الغرض غير جهة الاستنباط.

وأمّا ثانيا : فبمنع فساد هذا الغرض لو كان هو العمل به في موضع العلم ، على معنى كون مقصودهم تحصيل القطع بمراجعة كتبهم والاجتهاد في كلماتهم ، ولو باعتبار اعتضاد بعضها ببعض ، أو اعتضادها بقرائن تضمّ إليها ، فرضى الأئمّة عليهم السلام بذلك لصحّته ، وعلى تقدير كون غرضهم إنّما هو المراجعة على كلّ تقدير - ولو في غير موضع القطع - فيجوز كون عدم الردع لعلمهم عليهم السلام بعدم ترتّب هذا الغرض الفاسد عليه أصلا ، وكون المترتّب عليه إنّما هو أمر صحيح وهو المراجعة المستتبعة للقطع إليها.

وأمّا ثالثا : فلمنع استلزام فساد الغرض فساد التدوين ، إلاّ إذا ساعد عليه قاعدة « حرمة مقدّمة الحرام » ، أو قاعدة « حرمة المعاونة على الإثم » ، وليس شيء منهما في مجراه.

أمّا الاولى ، فلاشتراط كون المقدّمة في اتّصافها بالوجوب أو الحرمة من باب المقدّمة في كلّ من مقدّمتي الواجب والحرام متّحد الفاعل مع ذبها ، على معنى كونها فعلا للمكلّف بذيها ، كما قرّر في محلّه.

وأمّا الثانية : فلاشتراط قاعدة المعونة على الإثم في انعقاد الحرمة ، على ما قرّر في محلّه بامور :

منها ، كون الإثم المعان عليه مع كونه إثما في الواقع ، إثما في نظر المعاون.

ومنها ، ترتّبه بحسب الخارج على ما فعل من إيجاد بعض مقدّماته بقصد المعاونة ، فلو أوجد ما هو من مقدّمات معصية الغير بقصد المعاونة عليها ، واتّفق عدم حصول المعصية المعان عليها في الخارج ، لم يصدق عليه قضيّة المعاونة على الإثم.

نعم يصدق في حقّه قصد المعصية بالنسبة إلى عنوان المعاونة الغير المتحقّقة ، فيعود الكلام إلى مسألة التجرّي ، فكون هذا الفعل المقرون بالقصد المذكور محرّما

ص: 28

مبنيّ على كون عنوان التجرّي موجبا لقبح الفعل المتجرّي به ، وهو خلاف التحقيق ، بل غايته إنّه يوجب قبحا في الفاعل ، لكشفه عن سوء سريرته وخبث باطنه ، وتحقّق الشرطين في محلّ الكلام محلّ منع.

أمّا في الأوّل : فلجواز كون تدوين الكتب ، إنّما حصل من أصحابها باعتقاد صحّة الغرض المطلوب منه.

وقضيّة ذلك عدم كونه محظورا عليهم ، لانتفاء صدق قضيّة المعاونة على الإثم عليه.

وأمّا في الثاني : فلجواز عدم ترتّب ما هو مقصودهم على فعلهم ، وإنّما ترتّب عليه ما يضادّه ، وهو العمل في موضع القطع ولو بمعونة الغير ، وقد علم به المعصوم عليه السلام فلم يردع عنه.

وبالجملة ، لم يتحقّق منهم عنوان المعاونة على الإثم ، المحكوم عليه بالحرمة في النصّ والفتوى ، ليجب الردع عنه.

وأمّا رابعا : فلمنع تحقّق شروط التقرير ، الّتي منها أن لا يكون لعدم ردعهم عليهم السلام بعد اطّلاعهم على التدوين بالأسباب العاديّة جهة إلاّ الرضاء ، بانتفاء الخوف والتقيّة ، ومن الجائز استناد عدم الردع إلى نحو من التقيّة ، خصوصا بعد ملاحظة كون أكثر المصنّفين لتلك الكتب من المخالفين.

وأمّا خامسا : فلمنع عدم الردع والعلم به ، ولا قاضي بنقله إلينا ، لجواز كونه من الأحكام الواقعيّة الصادرة عنهم عليهم السلام المختفية علينا من جهة الحوادث.

وربّما يمنع الاستدلال بالتقرير أيضا ، بناء على العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم ، بتخيّل أنّهم عليهم السلام إنّما لم يردعوا عن التدوين أو عن العمل بالمدوّن ، اكتفاء بورود تلك العمومات في الكتاب والسنّة ، فإنّها لمن يراجعها كافية في الارتداع.

ويزيّفه : أنّ هذه العمومات من باب أدلّة الواقع ، والاكتفاء بأدلّة الواقع في مظانّ التقرير إنّما يصحّ لو كان ما اخذ فيه من الردع واجبا عليهم من باب اللطف ،

ص: 29

على معنى كونه من باب بيان الوافع وإرشاد الجاهل إليه ، لوجوب بيان الأحكام الواقعيّة عليهم - كما هو منصبهم - لأجل اللطف ، وهو في حيّز المنع ، بل الردع يجب عليهم فيما يعمّ موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، المخصوصين بالعالم بالأحكام الواقعيّة العاصي في عمله بترك ما علم وجوبه ، أو فعل ما علم حرمته بحسب الشرع ، كما نطق بوجوبه بالمعنى الأعمّ ، قوله عزّ من قائل : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) بناء على أنّ المراد بالدعاء إلى الخير إرشاد الجاهل إلى الواقع ، كما فسّر به ، فحينئذ مجرّد ورود العمومات الناهية لا يكفي في سقوط تكليفهم بالردع عن المحظور مطلقا ، لبقاء التكليف به من باب النهي عن المنكر ، الّذي لا يغنى عنه أدلّة الواقع ولا بيان الحكم الواقعي ، فعدمه في محلّ البحث - على فرض تسليمه - ينهض دليلا على انتفاء المنكريّة ، لامتناع ترك الواجب على المعصوم عليه السلام ، فالوجه في منع الاستدلال ما ذكرناه ، فاغتنم به.

ومنها : قضيّة الانسداد ، بتقريب : ثبوت التكليف بالأحكام المبتنية على معرفة اللغات ، فلو كنّا كلّفنا فيها بالعلم بتلك اللغات لزم التكليف بما لا يطاق ، لانسداد باب العلم بها غالبا ، فتعيّن التعويل على الظنّ.

وممّن اعتمد على هذا الوجه بعض الأجلّة في شرح الوافية (2) قائلا - في طيّ ذكر الأدلّة على الحجّية - : وأيضا فإنّ الحاجة ماسّة إلى قبول خبر الواحد في اللغة ، لتوقّف الأحكام عليها وانسداد باب العلم بكثير منها ، ومع ذلك فلو كان العلم باللغة مكلّفا به ، لزم تكليف ما لا يطاق ، أو سقوط التكاليف المبتنية على ما يتعذّر منه العلم على كثرتها ، وحيث إنّ التكليف باق مع انتفاء العلم ، فالحجّة هو الظنّ قطعا. انتهى كلامه رفع مقامه.

ودفع : بأنّ مناط حكم العقل بحجّية الظنّ إنّما هو الانسداد الأغلبيّ ، الّذي هو في المقام واضح الانتفاء ، لانفتاح باب العلم بأغلب اللغات ، فإنّ جملة منها

ص: 30


1- آل عمران : 104.
2- هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه اللّه.

هيئاتها الّتي يمكن الوصول إلى حقائقها بمراجعة سائر اللغات ، ومنها موادّها الّتي تبلغ ثمانين ألف مادّة على ما قيل ، ويمكن القطع بأوضاع أغلبها بالاجتهادات المنوطة بمراجعة العرف ، واستعلام الأمارات من التبادر وغيره ، فلا يبقى ممّا لم يقطع بها إلاّ ألفاظ معدودة ، قليلة بالغة نحوا من الخمسين أو أزيد.

ولا ريب أنّ مجرّد الانسداد بالنسبة إلى هذا المقدار لا يوجب حجّية الظنّ فيها.

وقد يقرّر أيضا : بمنع ما ذكر من الانسداد ، لانفتاح باب العلم في أغلب اللغات الواردة في الكتاب والسنّة ، لكون أكثرها ما يعلم به بملاحظة العرف ومراجعة الأمارات العرفيّة المفيدة للقطع ، وما لا يعلم بالعرف فإنّما يعلم بأقوال اللغويّين في موضع تعاضد بعضها ببعض ، وما لا معاضد له فإنّما يؤخذ به بملاحظة قرائن المقام ، فلا يبقى إلاّ ألفاظ قليلة ، كما في خلافيّات أهل اللغة الّتي لا يعلم فيها حال العرف.

ولا ريب أنّ عدم حجّية الظنّ في هذا النحو من الألفاظ لا يستعقب محذورا لإمكان الاحتياط فيه من دون مانع عقلي ولا شرعي.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ قضيّة الانسداد دليل مصبّه الأحكام ، ومناطه الانسداد الأغلبي ولولا هذان الأمران لم ينهض منتجا ، وحينئذ فإمّا أن يراد بالوجه المذكور ، أنّ الانسداد الأغلبي المفروض في الأحكام إنّما ينشأ عن الانسداد الأغلبي في اللغات والألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ، باعتبار أوضاعها وظواهرها المستندة إلى تلك الأوضاع - أوّليّة وثانويّة - وحيث إنّ سبيل امتثال الأحكام المنسدّ فيها باب العلم منحصر في الظنّ ، فتعيّن التعويل على الظنّ في اللغات ، الّذي لازمه قبول خبر الواحد فيها.

أو يراد به أنّ ما فرض في الأحكام من الانسداد الأغلبي ينشأ عن أمور منها : ظنّيّة سندى الكتاب والسنّة مثلا في جملة منها.

ومنها : ظنّية متون ألفاظهما في جملة ثانية.

ص: 31

ومنها : ظنّية دلالات ألفاظهما في جملة ثالثة.

ومنها : ظنّية أوضاع ألفاظهما في جملة رابعة ، وحيث إنّ الظنّ فيها مطلقة لا بدّ من التعويل عليه ، فلزم منه التعويل على الظنّ في الجهة الرابعة ، الّذي هو في معنى التعويل على الظنّ في اللغات.

وعلى الأوّل فالدليل فاسد الوضع ، وعلى الثاني غير منتج للمطلوب.

أمّا الأوّل : فلوضوح عدم انحصار الجهة المقتضية لانسداد باب العلم بمعظم الأحكام في اختلال أوضاع ألفاظ الكتاب والسنّة ، بل العمدة في ذلك - بعد قلّة الطرق العلميّة - إنّما هو الاختلال في السند وجهة الدلالة والاختلال من جهة المعارضة.

ومع الغضّ عن ذلك فيتطرّق المنع إلى دعوى الانسداد الأغلبي في اللغات ، إذ المرتبط منها بالأحكام إنّما هو الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ، ولها جهتان :

إحداهما : الهيئات الموضوعة منها مفردة ومركّبة ، وهي معلومة الأوضاع بمراجعة العرف ولو من غير اللغة العربيّة - حسبما تقدّم - من كون هيئآت جميع اللغات المختلفة باعتبار أوضاعها ألفاظا مترادفة.

وثانيتهما : موادّها الموضوعة ، وهي على أقسام :

منها : ما هو معلوم بمعلوميّة عرف زمان الشارع.

ومنها : ما هو معلوم باعتبار كونه من الألفاظ الأصليّة الواصلة من أصل اللغة ، بطريق التواتر أو التسامع والتظافر.

ومنها : ما هو معلوم بمعلوميّة حال العرف ، مع العلم بالمطابقة بينه وبين عرف زمان الشارع.

ومنها : ما هو معلوم بمراجعة أقوال اللغويّين ، في موضع العلم بالتعاضد أو مساعدة القرائن ، مع العلم بمطابقته لعرف زمان الشارع.

ومنها : ما هو معلوم المراد باعتبار القرائن الخارجيّة ، من الأخبار المفسّرة للآيات أو الإجماع أو حكم العقل ، وإن لم يعلم فيه بالوضع.

ص: 32

ومنها : ما لا تعلّق له بالأحكام ، فلا يبقى إلاّ أقلّ قليل لم يعلم حاله باعتبار الوضع والمراد بشيء من الوجوه المذكورة ، فيلزم بانسداد باب العلم في ذلك انسداد بابه في قليل من الأحكام ، ولا يوجب ذلك بمجرّده ، تعيّن العمل بالظنّ ، لعدم كون الرجوع إلى الاصول - كلّ في مورده - مستتبعا لمحذور ، بل لو قيل بتعيّن العمل بالاحتياط حينئذ لم يلزم شيء ممّا يلزم على تقدير الانسداد الأغلبي ، ودليل الانسداد لا يتأتّى إلاّ في موضع لا يمكن فيه الاحتياط ، أو يوجب العسر والحرج.

وأمّا الثاني : فلأنّ المطلوب ، إثبات جواز العمل بالظنّ المتعلّق بأوضاع اللغات ، باعتبار أنّه بهذا العنوان مخرج عن الأصل المقتضي لمنع العمل بالظنّ مطلقا بالدليل ، والاستدلال لا يفيده ، فإنّ الظنّ المأخوذ في موضوع الأصل يندرج تحته أنواع ، كلّ نوع [ له ] عنوان خاصّ يتكلّم في خروجه عن الأصل وعدمه.

منها : الظنّ في الأحكام الشرعيّة الاصوليّة.

ومنها : الظنّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

ومنها : الظنّ في الموضوعات الصرفة ، الّتي يعبّر عنها بالموضوعات الخارجيّة.

ومنها : الظنّ في الموضوعات المستنبطة ، باعتبار دلالاتها وتشخيص المرادات منها.

ومنها : الظنّ في الموضوعات المستنبطة باعتبار أوضاعها.

ولا ريب أنّ القائل بحجّية الظنّ في كلّ من هذه الأنواع يرجع كلامه إلى دعوى خروج العمل به بعنوانه الخاصّ عن الأصل المقتضي للمنع ، بالدليل المقتضي لكون الأصل الثانوي جواز العمل به مطلقا إلاّ ما خرج منه بالدليل ، فالمعتبر في حجّية كلّ نوع ، خروجه عن الأصل بعنوانه الخاصّ ، ولا يكفي فيه جواز العمل ببعض أفراد نوع معيّن من جهة الاضطرار إليه بوقوع التعبّد بنوع آخر على وجه يكون العمل به حاصلا على أنّه عمل به بعنوان هذا النوع المتعبّد به ، لا بعنوان النوع الّذي هو من أفراده ، فلو ثبت بالدليل مثلا جواز التعويل على الظنّ

ص: 33

في اصول الدين ، كان الخارج من الأصل هو الظنّ بهذا العنوان ، وحينئذ فلو استلزم العمل بالظنّ في اصول الدين الأخذ بالظنون الدلالتيّة لبعض ألفاظ الكتاب والسنّة المتضمّنة للمطالب الاصوليّة على وجه لم يتمّ العمل بالظنّ فيها إلاّ بالأخذ بتلك الظنون ، لم يكن ذلك من حجّية الظنّ في الدلالات ، بتوهّم كون العمل به بهذا العنوان أيضا خارجا عن الأصل ، بل العمل بها باعتبار ما ذكر عمل بالظنّ بعنوان أنّه ظنّ في اصول الدين وهو خارج عن الأصل.

وأمّا هي بعنوانها الخاصّ الممتاز عن عنوان الظنّ في اصول الدين فباقية بعد ، تحت الأصل إلى أن يقوم على خروجها عنه دليل آخر ، ولا يكفي فيه الدليل المخرج للظنّ في اصول الدين.

ويظهر الثمرة في الظنون الدلالتيّة المتحقّقة في غير اصول الدين ، كما يظهر بالتأمّل ، وحينئذ فدليل الانسداد إنّما ينهض دليلا على التعبّد بالظنّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة بعنوان أنّه ظنّ فيها ، وحيث انّ هذا الظنّ لا بدّ وأن يكون إطمئنانيّا فلا ريب أنّ الظنّ الاطمئناني في معظم الأحكام المسدود فيها باب العلم ، لا ينعقد إلاّ بإحراز جميع جهات دليليّة الأدلّة الّتي عمدتها الكتاب والسنّة من الصدور وجهة الصدور والمتن والدلالة ، والوضع بالمعنى الأعمّ ممّا هو في المجازات بالأسباب الظنّية في كلّها أو بعضها ، إذا لم يكن من الظنون الّتي قام الدليل عليها بالخصوص ، فإذا توقّف انعقاد هذا الظنّ على إعمال الظنون الغير الثابت حجّيتها بالخصوص في أوضاع نبذة من ألفاظ الكتاب والسنّة - كما هو القدر المسلّم ممّا يتعذّر فيه العلم - كان ذلك من باب الاضطرار إلى العمل بها من جهة تعيّن العمل بالظنّ في الأحكام ، المتوقّف انعقاده على الأخذ بها ، وليس من باب حجّية الظنّ في اللغات ، أو قول اللغويّين على وجه يكون أصلا ثانويّا مخرجا بالدليل عن أصالة منع العمل بالظنّ مطلقا كما هو المطلوب في المقام ، والمنعقد لأجله المبحث ، بل الأخذ بها على الوجه المذكور إنّما حصل بعنوان أنّه عمل بالظنّ في الأحكام ، وهو الخارج عن الأصل بالدليل ، وأمّا العمل بها بعنوان أنّه عمل بالظنّ

ص: 34

في باب اللغات وأوضاع الألفاظ فبعد باق تحت الأصل الأوّلي المقتضي للمنع.

وبالجملة ، نحن نجد فرقا واضحا بين العمل بظنّ لكونه من أفراد نوع مرخّص في العمل به ، والعمل به للاضطرار إليه من جهة إحراز ما هو من النوع الآخر الّذي وقع التعبّد به وتعيّن التعويل عليه.

والفرق بين الوجهين يظهر عند عدم ثبوت التعبّد بهذا النوع ، أو عدم الاضطرار على تقدير التعبّد إلى ما هو من أفراد النوع الأوّل ، فإنّ العمل به حينئذ سائغ على التعبير الأوّل دون الثاني ، والمطلوب في محلّ البحث إثبات حجّية الظنّ في اللغات على التعبير الأوّل ، والّذي ينتجه الدليل هو العمل به بالتعبير الثاني ، وهو ليس من محلّ البحث في شيء ، بل ليس إلاّ من باب العمل بالظنّ في الأحكام ، وجوازه ليس بمحلّ الكلام.

وإن شئت قلت : إنّ هذا النحو من العمل بالظنّ إذا اضيف إلى الظنّ في اللغات كان من قبيل المستثنى في الأصل المتقدّم بالنسبة إليها ، المعبّر عنه بقولنا : « الأصل في اللغات وفي قول اللغويّين منع العمل بالظنّ إلاّ ما خرج منه بالدليل » فالأصل غير منتقض بمجرّد خروج بعض أفراده للاضطرار إليه بانسداد باب العلم بمعظم الأحكام.

وبالتأمّل في ذلك - مضافا إلى ما سبق - يندفع ما قيل في الاستدلال على الحجّية ، من أنّ الظنّ في اللغات يستلزم الظنّ بالأحكام ، لوضوح أنّ الظنّ بكون « الصعيد » وجه الأرض مطلقا من قول لغوي ، يلزمه الظنّ بجواز التيمّم على مطلق وجه الأرض ولو حجرا ، والظنّ بالأحكام حجّة مطلقا ، فيلزمه أن يكون الظنّ في اللغات أيضا حجّة.

وجه الاندفاع أوّلا : منع كلّية المقدّمة الاولى ، إذ كلّ ظنّ في اللغات لا يستلزم الظنّ في الأحكام ، فإنّ من اللغات ما لا تعلّق له بالأحكام أصلا ، كما لا يخفى.

وثانيا : منع المقدّمة الأخيرة ، إذ لا يلزم من حجّية الظنّ في الأحكام حجّية كلّ ظنّ في اللغات ، غاية ما يسلّم منه جواز التعويل من الظنّ في اللغات على

ص: 35

ما حصل الاضطرار إليه من أفراد هذا النوع ، إحرازا للظنّ في الحكم الّذي وقع التعبّد بنوعه ، فالعمل عليه حينئذ حاصل على أنّه عمل بالظنّ في الأحكام لا غير.

ولو سلّم فهو داخل في المستثنى المأخوذ مع الأصل المقرّر بالقياس إلى الظنّ في اللغات ، المقتضي لمنع العمل به إلاّ ما خرج منه الدليل ، فهذا الأصل باق على حاله وغير منقطع بانقلابه إلى أصالة الحجّية إلاّ ما خرج بالدليل ، كما هو المتنازع فيه.

ولأهل القول بالحجّية وجوه اخر ، أوضح ضعفا من الوجوه المتقدّمة ، فلا حاجة إلى الإطناب بإيرادها والتعرّض لما يرد عليها ، فهي بالإعراض عنها أحرى ، وينبغي ختم المسألة بإيراد امور مهمّة :

الأوّل : قضيّة ما قرّرناه من الأصل في منع العمل بالظنّ في اللغات ، عدم جواز الاكتفاء بالظنّ في مباحث الألفاظ ، من المسائل الاصوليّة ومبادئها اللغويّة مطلقا ، بل وفي غيرها من المسائل والمبادئ الأحكاميّة بطريق الأولويّة ، سواء رجع البحث فيها إلى إحراز الدلالة وتشخيص الظاهر المستند ظهوره إلى الوضع الحقيقي ، كصيغة « افعل » في الإيجاب ، و « لا تفعل » في التحريم ونظائرهما.

أو إلى الوضع المجازي لقرينة عامّة ، كالأمر الواقع عقيب الحظر في رفع الحظر ، الملازم للإذن في الفعل مطلقا ، والنهي الواقع عقيب الإيجاب في رفع الإيجاب ، الملازم للإذن في الترك مطلقا.

أو لقرينة خاصّة كالعامّ في إرادة الخصوص في العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر ، أو إلى العقل الحاكم باعتبار الإطلاق بملاحظة السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان ، كالأمر المطلق الظاهر في إرادة الوجوب المطلق ، بل كلّ مطلق في إرادة الإطلاق.

أو إلى ما يلتئم من الوضع الحقيقي والعقل ، كالجملة الشرطيّة الظاهرة في المفهوم ، بمعنى الانتفاء عند الانتفاء ، حيث إنّ المفهوم فيها لا يثبت إلاّ بظهورها في السببيّة التامّة المنحصرة ، الّذي بالنسبة إلى تماميّة السببيّة ينشأ عن وضع الجملة أو

ص: 36

الأداة لها ، وبالنسبة إلى كونها على وجه الانحصار عن إطلاق ورود الشرط في القضيّة ، على معنى السكوت عن ذكر قيد آخر معه في معرض البيان ، على ما ستعرف الكلام فيه.

أو إلى ما يلتئم من الوضع المجازي والعقل ، كالعامّ المخصّص الظاهر في إرادة تمام الباقي ، فإنّ العامّ بالنسبة إلى الباقي مجاز ، وتمامه يستفاد من السكوت عن ذكر مخصّص آخر وورود المخصّص المفروض في الكلام مطلقا.

أو لم يرجع إلى شيء من إحراز الدلالة وتشخيص الظاهر في شيء من الوجوه المذكورة ، كجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى - مشتركا كان أو غيره - إلى غير ذلك من المباحث المتعلّقة بالألفاظ ، فإنّ الكلّ من الامور المتعلّقة باللغة ، فلا يكفي فيها الظنّ للأصل ، وانفتاح باب العلم في الأكثر ، ولو فرض منها ما تعذّر فيه العلم وكان مع ذلك ممّا لا مناص من إعماله في مقام الاستنباط ، على معنى ابتناء الظنّ الاطمئناني بالحكم الشرعي على التعويل على هذا الظنّ ، وجب الأخذ به لذلك بأحد الوجهين المتقدّم ذكرهما ، لا لأصالة الحجّية في الظنّ في الاصول.

وعلى قياسه القواعد العربيّة من المطالب الصرفيّة المتعلّقة بتصاريف لغة العرب ، أو المطالب النحويّة المتعلّقة بالتراكيب الكلاميّة ، الحاصلة بتوارد العوامل على معمولاتها بصورها المختلفة ، ووجوهها المتشتّتة ، فإنّ باب العلم في أغلبها مفتوح ، فلا يكفي فيها الظنّ للأصل ، وإنّما يحصل العلم فيها تارة : باتّفاق أهلها ، وفي معناه التسامع والتظافر.

واخرى : بكونها ممّا يرسلها العلماء إرسال المسلّمات ، ويعاملون معها معاملة المقبولات.

وثالثة ، بالاستقراءات المفيدة للقطع.

نعم لو حصل الاضطرار إلى ما يتعذّر فيه العلم ، كما في خلافيّات العربيّة لوقوع التعبّد بالظنّ في الأحكام المنوط إحرازه بإعمال هذه المسألة الظنّية ، وجب البناء عليه بأحد التوجيهين الغير المنافي لأصالة منع العمل بالظنّ فيها.

ص: 37

وأمّا ما يستشمّ عن بعض العبائر من كون مبنى العلوم العربيّة بالنسبة إلى مقام الاستنباط على التقليد ، فوضوح فساده يغني عن التعرّض لإفساده ، فالحقّ أنّها امور اجتهاديّة لا يكفي فيها التقليد ، ويعتبر فيها العلم فلا يكفي فيها الاجتهاد الظنّي إلاّ في بعض الفروض النادرة.

وسيلحقك زيادة تحقيق للمقام في باب حجيّة الظنّ ، وفي باب الاجتهاد في مسألة التجزّي.

الثاني : قد علم من تضاعيف المسألة أنّ المعتبر في العمل بقول اللغوي - بمعنى اعتقاده - إنّما هو العلم ، لكن ينبغي أن يعلم أنّ المعتبر في هذا العلم إنّما هو العلم بمطابقة هذا الاعتقاد للواقع.

وأمّا أصل الاعتقاد فلا يعتبر في إحرازه العلم به أيضا ، بل يكفي فيه الظنّ إذا استند إلى ظهور لفظي نشأ منه بنفسه ، أو بواسطة مقدّمة خارجيّة.

وبعبارة اخرى : إنّما يعتبر العلم في كبرى قول اللغوي ، وهو كون ما اعتقده مطابقا للواقع ، لا في صغراه وهو كون ذلك ما اعتقده ، فمهما كانت كبراه ظنّية فلا عبرة به وإن كانت الصغرى علميّة ، ومهما كانت كبراه علميّة يكون معتبرا وإن كانت الصغرى ظنّية بالشرط المذكور.

ولا يقدح استلزامه لظنّية النتيجة من حيث إنّها تتبع أخسّ المقدّمتين.

وقد تقرّر أنّ الظنّ في اللغات ليس بحجّة وهذا منه ، لأنّ هذا الظنّ من الظنون القائمة مقام العلم ، لكونه إنّما سرى إلى النتيجة من الصغرى المحرزة بالظنّ اللفظي ، وهو اللفظ الوارد في عبارة اللغوي عند بيان المعنى.

ومن المقرّر - على ما سيجيء في محلّه - حجّية ظواهر الألفاظ والظنون المستندة إليها في جميع الموارد ، من المحاورة والمكاتبة بعنوان المراسلة وغيرها ، فصغرى هذا القياس باعتبار كون ما ينقله اللغوي قد يكون معنى متّحدا وقد يكون متعدّدا ، يندرج فيها قسمان :

أمّا القسم الأوّل : يندرج فيه أيضا باعتبار أنّه قد يعلم باعتقاده بالحقيقيّة ، وقد يظنّ به ، وقد يشكّ فيه ، صور ثلاث :

ص: 38

الصورة الاولى : كما إذا صرّح بالتسمية أو الحقيقيّة أو لازمها الّذي هو الوضع ، أو الدلالة على المعنى بنفسه ، ولا إشكال في حجّيته حينئذ ، سواء علم من العبارة أو القرائن باعتقاده الحقيقيّة مستمرّة عن صدر اللغة إلى زمن الصدور وما بعده ، أو ثابتة عن قديم الأيّام إلى زمن الصدور وما بعده ، أو مقدّمة على زمن الصدور إلى ما بعده ، أو موجودة في زمن الصدور إلى ما بعده ، أو متحقّقة فيما بعد زمن الصدور من دون معرفة ما قبله ، أو حادثة فيما بعد زمن الصدور ، أو لم يعلم منه إلاّ الاعتقاد بأصل الحقيقيّة من دون معرفة شيء من الاستمرار والقدم والحدوث ، وغيرها ممّا ذكر.

نعم الثمرة المطلوبة من وضع الطرق وهو استعلام حال خطاب الشرع ، بحمله على ما ثبت كونه حقيقة لا يترتّب إلاّ على ما عدا السادس ، لكن بعد انضمام أصالة عدم النقل على الخامس والسابع كما لا يخفى ، وربّما يذكر للحكم بالاستمرار عند الشكّ فيه - كما على الأخير - وجه آخر ، وهو على ما في موائد العوائد أنّ الظاهر فيما يورده اللغويّون في كتب اللغة ، كونه لغة مستمرّة باقية ما لم ينبّهوا على خلافه ، فإنّ الغرض الأصلي من تدوين اللغة وجمعها ، كون كتبها مرجعا للعلماء في فهم الكتاب والسنّة والآثار والأشعار وغيرها ، ومع احتمال النقل والهجر فيما ذكروه ينتفي ذلك الغرض ، وهذا ممّا لا ضير فيه وإن اختصّ بما لو لم ينكشف حاله بالقياس إلى التفاصيل المذكورة من حيث اعتقاده ببعضها أو جهله بها ، وأمّا إذا انكشف أنّه لا يعتقد إلاّ بأصل الحقيقيّة فلا مجرى لذلك.

الصورة الثانية : كما إذا ذكر المعنى على طريقة الحمل ، أو مصدّر بلام الاختصاص ، أو كلمة التفسير أو غيره ممّا يكشف بظاهره عن دعوى الحقيقيّة ، وهذا أيضا - على حسبما بيّناه - ممّا لا إشكال في الحجّية فيه ، والفروض المشار إليها بأسرها جارية هنا ، والكلام في ترتّب الثمرة وعدمها ، والحاجة إلى انضمام أصالة عدم النقل فيما يحتاج إليه ، على حسبما تقدّم.

الصورة الثالثة : كما لو ذكر المعنى بعبارة توجب الشكّ في اعتقاد الحقيقيّة

ص: 39

أو اعتقاد المجازيّة ، وهذا ممّا لا يترتّب عليه فائدة حجّية قول اللغوي كما هو واضح ، وإنّما الإشكال في مثال هذه الصورة ، وربّما يمثّل بما لو قال : « اللفظ الفلاني يستعمل في المعنى الفلاني أو يطلق عليه » فإنّ غاية ما يعلم به بملاحظة مطابقة قوله للواقع إنّما هو وقوع أصل الاستعمال ، المردّد بين كونه على وجه الحقيقة أو على وجه المجاز ، فيصير حاله كالاستعمال المعلوم بطرق آخر ، الّذي اشتهر كونه أعمّ من الحقيقة والمجاز.

ويمكن المناقشة فيه بالفرق بينه وبين ما حكم بكونه أعمّ ، فإنّه عبارة عن أمر معنوي يعبّر عنه بلفظ « الاستعمال » وأخذ فصلا في تعريفي الحقيقة والمجاز ، وكونه أعمّ لا يستلزم كون لفظه الوارد في كلام اللغوي أيضا أعمّ ، لانصراف إطلاقه حينئذ - ولو بملاحظة المقام من حيث وروده في مقام التعريف - إلى دعوى الحقيقيّة ، فيكشف بذلك عن اعتقاده بها ، وقد يستظهر دعوى الحقيقة في مثل ذلك بوجهين آخرين :

أحدهما : قاعدة إلحاق النادر بمورد الغالب.

وثانيهما : استبعاد ذكره المجاز تاركا للحقيقة.

ويخدش الأوّل : إنّ مورد الغالب الّذي يلحق به النادر غير واضح المراد ، فإن اريد به أنّ الغالب فيما يورده اللغويّون في كتب اللغة من المعاني كونها معاني حقيقيّة ، فيلحق به النادر الّذي محلّ البحث منه ، ففيه : كما أنّ الغالب على تقدير صحّة الغلبة المدّعاة كون ما يورده اللغويّون معاني حقيقيّة ، كذلك الغالب تعدّد ما يوردونه من المعاني ، إذ قلّما تتّفق لفظ ذكروا له معنى واحدا ، فيلزم غلبة الاشتراك في اللغة وهو واضح الفساد ، فإنّ ندرة الاشتراك ممّا لا ينكره أحد ، بل هو في الندرة بمثابة أنكر أصل وقوعه بل إمكانه قوم.

وإن اريد به أنّ الغالب فيما اتّحد معناه كونه حقيقة فيه ، فيلحق به النادر الّذي محلّ الفرض منه ، ففيه : أنّ كبرى هذه الغلبة ممّا لا إشكال فيه ، ولا يمكن إنكارها بل لا يوجد لفظ اتّحد معناه إلاّ وهو حقيقة فيه ، لكن صغراها في حيّز المنع ، فإنّ

ص: 40

غاية ما هنالك أنّ اللغوي لم يذكر له إلاّ معنى واحدا كما هو المفروض ، وهو لا يقضى بانحصار معناه فيه بحسب الخارج ، لجواز أن يكون له معنى حقيقيّا لم يتعرّض له اللغوي اعتمادا على اشتهاره ومعروفيّته ، وإنّما تعرّض لذكر المجاز لخفائه باعتبار ندرة الاستعمال فيه ، وكم من هذا القبيل في كلامهم ، فتراهم كثيرا مّا يذكرون اللفظ بعنوان أنّه معروف من غير تصريح بذكر معناه المعروف ، بل ربّما يقتصرون عند ذكر اللفظ بإيراد مستعملاته ، أو موارد استعماله في الكتاب والسنّة أو غيرهما ، من دون ذكر معناه الأصلي ، لا بعنوان التصريح ولا بعنوان وصف المعروفيّة ، مع إمكان عدم اطّلاعه بالحقيقة ، كما إذا لم يكن من أهل لسان العرب ، ولم يحصل له من التتبّع ما يؤدّيه إلى تعيين الحقيقة.

وما يقال : في دفعه بعدم إمكانه ، حيث إنّ معرفة المجاز فرع معرفة الحقيقة.

يدفعه : أنّ المستحيل إنّما هو تحقّق المجاز في الخارج من دون وضع ، وأمّا تحقّقه في الذهن من دون معرفة الموضوع له بعينه فليس بمستحيل ، كما هو واضح ، وبما ذكر يندفع الاستبعاد المذكور ، فإنّ ذكر المجاز مع ترك الحقيقة ليس بعزيز الوجود في كتب اللغة ، بل المتتبّع يشهد بشيوعه ، فطريق الاستظهار مقصور على ما نبهنا عليه ، فإنّ دعوى الانصراف - حسبما قرّرناه - ليس خروجا عن الإنصاف ، كما يجده المجانب عن الاعتساف.

وأمّا القسم الثاني : فيندرج فيه أيضا صور :

إحداها : أن يوجد في عبارته الصادرة عند بيان المعاني المتعدّدة ما يكشف بصراحته أو ظهوره عن اعتقاده بالحقيقيّة في البعض والمجازيّة في الآخر ، كأن يقول : الأسد حقيقة في المفترس ومجاز في الشجاع ، أو إنّه اسم للمفترس ويستعار أو يكنّى للشجاع ، أو إنّه يدلّ على المفترس بنفسه ويستعمل في الشجاع لعلاقة أو للمناسبة ، أو يقول : إنّه المفترس أو إنّه للمفترس وقد يستعمل في الشجاع ، أو قد يطلق عليه أو قد يأتي أو قد يجيء له ، وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الحجّية ولا من حيث حصول الثمرة ، إلاّ في بعض الفروض - على حسبما ما تقدّم ذكره - فإنّ الفروض السبعة المشار إليها آتية هنا.

ص: 41

وثانيتها : أن يوجد في العبارة ما يكشف عن اعتقاده بالحقيقيّة في الكلّ ، ولازمه ثبوت الاشتراك فيعامل معه معاملة المشتركات ، ففي أخذ الثمرة يتحرّى في طلب القرينة المعيّنة للمراد ، ومع تعذّرها يتوقّف.

وثالثتها : أن لا يوجد في العبارة ما يقضي بإحدى الصورتين المتقدّميتن فالوجه فيه أنّه يرجع إلى مسألة تعارض الاشتراك مع الحقيقة والمجاز ، ولتحقيق الكلام فيها وتفصيل القول فيما هو أولى منهما محلّ آخر ، يأتي إن شاء اللّه تعالى.

وعلى تقدير الحكم بأولويّة المجاز ، فالمحكوم بالحقيقيّة فيه إنّما هو أحد المعاني المفروضة وإن كثرت كما هو واضح ، وأمّا تعيين ذلك الواحد فلا بدّ له من معيّن خارجي.

وفي كلام غير واحد من أجلّة الاصوليّين ، الحكم في التعيين بكون المقدّم ذكره من المعاني هو الواحد المحكوم بكونه حقيقة ، وهذا ممّا لم يعلم له مدرك يعتمد عليه ، عدا ما في كلام بعضهم من الاستناد إلى الاستبعاد ، فإنّ تقديم المجاز على الحقيقة بعيد عن ذوي البصائر ، سيّما بعد ملاحظة ما قيل من شدّة اهتمامهم بضبط الحقائق ، وكثرة ما يترتّب عليها من الفوائد ، الّتي منها الوصول إلى التجوّز بأنحائه المختلفة.

والإنصاف : إنّ هذا الاستبعاد لا يصلح للتعويل عليه ولا الاستناد إليه ، فلو قيل بكون الأمر موكولا إلى نظر الفقيه في مظانّ الابتلاء كان أوجه.

الثالث : في تعارض النقل من نقلة اللغة ، وإنّما يحصل التعارض في مواضع الاختلاف ، الّذي يقع تارة : في وصف المعنى من حيث الحقيقيّة والمجازيّة ، بأن يذكره بعضهم باعتقاد الحقيقة ، والبعض الآخر باعتقاد المجاز.

واخرى : في ذات المعنى من حيث التبائن ، بالمعنى المتناول للتساوي أو العموم من وجه أو مطلقا ، بأن يقول بعضهم : « القرء الطهر » و « الغناء ترجيع الصوت » و « الصعيد وجه الأرض » والبعض الآخر : « القرء الحيض » و « الغناء الصوت المطرب » و « الصعيد التراب » فيقع الكلام في مقامين :

ص: 42

أمّا المقام الأوّل : فيختلف الحال فيه على حسب اختلاف المذاهب في حجّية قول اللغوي ، أمّا على المذهب المختار من اعتبار العلم في العمل به ، فلا محيص من التحرّي في طلب العلم بالمطابقة ، ثمّ الأخذ بموجبه سواء صادف نقل الحقيقة أو نقل المجاز ، ومع تعذّره لا محيص من الوقف.

وأمّا على مذهب من يعتبره في موضع الظنّ فالأمر منوط بحصوله ، فلا بدّ من التحرّي في طلبه ، ومع تعذّره في كلا الجانبين يتوقّف أيضا.

وأمّا على القول به تعبّدا فلا بدّ من التحرّي في الجمع بينهما ، فإن أمكن يتعيّن عملا بدليل الحجّية ، كالخبرين المتعارضين - على القول بأولويّة الجمع حيثما أمكن - وإن كان يفارقه في طريق الجمع ، من حيث إنّه في الخبرين إنّما يحصل بالإخراج عن الظاهر وتطرّق التصرّف إلى أحدهما بعينه ، أو إليه لا بعينه أو إلى كليهما.

وفي المقام يحصل بتصديق الناقلين معا فيما اعتقدا به ، ولذا لا يتوجّه هنا المناقشة الواردة ثمّة باعتبار قضاء الجمع على الوجه المذكور بطرح الخبر في الحقيقة ، لو التزم به مطلقا ولو مع فقد الشاهد الخارجي ، فيما يحتاج إليه من الصور المشار إليها.

والوجه في المغايرة أنّ التعارض ثمّة إنّما يحصل لشبهة في الدلالة ، مع مطابقة المدلول للواقع على تقدير إحراز الدلالة ، وهاهنا إنّما يحصل لشبهة في المطابقة للواقع مع الفراغ عن إحراز الدلالة كالسند.

وليس الجمع هنا أيضا نظير الجمع الّذي يلتزم به في مسألة تعارض الجرح والتعديل ، بتقديم الجرح نظرا إلى أنّه لا يستلزم تكذيب المعدّل ، من حيث إنّه يخبر عن « لا أدري » والجارح عن « أدري » والأوّل لا يعارض الثاني ، لكون كلّ من الناقلين مخبرا عن الدراية ، ولا من باب ما يأتي من طريقه في المقام الثاني من الأخذ بإثبات كلّ وإلغاء نفيه ، لأنّ ذلك إنّما يعقل إذا لم يكن الخلاف في قضيّة شخصيّة كما في المقام ، لكون المعنى واحدا وحصل الخلاف في وصفه ، فلا يمكن

ص: 43

الحكم بالاشتراك كما هو قضيّة الجمع بالمعنى المشار إليه ، بل هو إرجاع للنقلين إلى ما يرفع المعارضة عمّا بينهما ، وإن كان يستلزم الالتزام بضرب من النقل ، وإنّما يمكن ذلك فيما لو كان تاريخ أحدهما مع كونهما معلومي التاريخ - متقدّما على تاريخ الآخر ، وكذا مع الجهل بتاريخ أحدهما لو اعتبرنا أصالة التأخّر في نظائر المقام ، وفيما تقدّم تاريخ نقل المجازيّة يصدق الناقلان بالتزام النقل التعيّني ، إذ لا يبعد كون اللفظ في زمان ناقل المجازيّة مجازا في المعنى الّذي حكم بمجازيّته ، ثمّ كثر استعمالاته المجازيّة إلى ما يقرب من زمان ناقل الحقيقيّة فبلغ حدّ الحقيقة ، بحيث وجده في زمانه حقيقة فيه ، ولمّا كان المجاز لا بدّ له من حقيقة أو معنى موضوع له ، فينهض ذلك منقولا منه سواء نقله ناقل المجازيّة أيضا ، أو لم ينقله بملاحظة ما ذكرناه من جوازه.

وفيما تقدّم نقل الحقيقيّة يصدقان أيضا ، بالتزام النقل الّذي قد يطرء المشترك بين المعنيين ، فيما لو غلب في أحدهما على وجه زال أثر الوضع عن الآخر ، لكنّه يختصّ بما لو نقل كلّ منهما معنيين ، أحدهما باعتقاد الحقيقيّة فيهما ، والآخر باعتقاد المجازيّة في أحدهما ، إذ لا يبعد أن يكون اللفظ في زمان ناقل الحقيقيّة مشتركا بين المعنيين فغلب استعماله في أحدهما حتّى تعيّن له خاصّة ، فإذا جاء ناقل المجازيّة وجد حقيقة فيه ومجازا في الآخر من دون اطّلاع بحالته السابقة ، وأمّا إذا علم تاريخهما مع العلم بالمقارنة ، كما لو جهل تاريخهما فلا يمكن الجمع بوجه ، وحينئذ لا بدّ من الترجيح بمراجعة المرجّحات الراجعة إلى أصل النقل ، من الصراحة أو الأظهريّة في الدلالة على اعتقاد الحقيقيّة أو المجازيّة تقديما للنصّ أو الأظهر على الظاهر ، فيما لو اختلف النقلان من حيث الصراحة والظهور ، أو الأظهريّة والظهور ، أو إلى الناقل فيما لو تساويا من الحيثيّة المذكورة التفاتا إلى أنّ لهما من حيث الصراحة والظهور أربع صور ، حاصلة من ضربهما بالنسبة إلى نقل الحقيقة فيهما بالنسبة إلى نقل المجاز.

ومن المرجّحات الراجعة إلى الناقل العدالة وكثرة العدد ، وكثرة التتبّع في كلام

ص: 44

العرب ، وكثرة المهارة في فنون الأدب ، وغلبة الضبط وقلّة الخلط بين الحقيقة والمجاز ، وكون الناقل مشتهرا بين العلماء ومعتمدا على نقله عند الأجلاّء ، وكونه عربيّا إلى غير ذلك ممّا يوجب الظنّ الغالب بأحد النقلين ، ومع فقد المرجّحات ، أو وجودها في كلا الجانبين على جهة التعارض مع اتّحاد النوع أو اختلافه ، تعيّن الوقف كما هو واضح.

وأمّا المقام الثاني : فيختلف فيه الحال أيضا على حسب اختلاف الأقوال ، فعلى المختار وكذا على مختار من يعتبره لوصفه فالأمر واضح ، بملاحظة ما سبق ، بل فرض التعارض على هذين المذهبين مسامحة ، حيث لا يعقل التعارض بين علميّين ولا بين ظنّيّين.

وعلى مذهب من يعتبره لذاته فطريق العلاج فيه إنّما هو مراعاة الجمع ، بمعنى تصديق الناقلين معا ، على معنى العمل بكلّ من النقلين ، على وجه لا يلزم منه ترك العمل بالآخر حيثما أمكن.

ولا يذهب عليك أنّ دائرة الجمع هنا أوسع منها في المقام المتقدّم ، وإنّما يتأتّى ذلك بجعل اللفظ في صور التساوي والتباين والعموم من وجه مشتركا بين معنيين « فالقرء » حينئذ إمّا الطهر وإمّا الحيض ، و « الغناء » إمّا الصوت المطرب أو ترجيع الصوت ، والوجه في ذلك إنّ عدم تعرّض اللغوي لذكر المعنى المتنازع فيه ، إمّا من جهة عدم الوجدان وهو الغالب ، أو من جهة وجدان العدم ، ومورد الشكّ ملحق بالغالب ، فإذا علم بملاحظة القرائن الخارجيّة كون عدم التعرّض لذكر ما لم يذكر في محلّ الاختلاف من الصور المذكورة من جهة عدم الوجدان ، فالحكم بالاشتراك على الوجه المذكور أخذ بكلا القولين ، غير مستتبع لشيء من الطرح ، وعليه فطريق الجمع في صورة العموم مطلقا إنّما هو الأخذ بالأعمّ ، لأنّ العمل به عمل بنقل الأخصّ.

وقد يتوهّم : أنّ ذلك ينافي قاعدتهم المقرّرة في بحث المطلق والمقيّد من وجوب حمل الأوّل على الثاني ، فإنّ مقتضى هذه القاعدة تقديم القول بالأخصّ

ص: 45

لأنّه مقيّد فيحمل عليه القول بالأعّم لأنّه مطلق ، بل في موائد العوائد جعل احتمال الأخذ بالأخصّ وجها من وجوه المسألة استنادا إلى تلك القاعدة ، وليس في محلّه ، فإنّ قضيّة حمل المطلق على المقيّد إنّما يلتزم بها لرفع الشبهة في الدلالة ، والمقام ليس من مظانّ تلك الشبهة كما عرفت في المقام الأوّل ، مع أنّه ممّا لا يتصوّر له معنى ، فإنّ الحمل عبارة عن الحكم بكون المراد من المطلق هو المقيّد ، بجعل المقيّد قرينة عليه ، وإنّما يصحّ ذلك إذا كانا من كلام متكلّم واحد حقيقي أو حكمي ، كما في أخبار الأئمّة الأطهار سلام اللّه عليهم ، ولا يصلح مقيّد متكلّم قرينة على مطلق متكلّم آخر ، على معنى كونه كاشفا عن إرادته المقيّد من المطلق ، وتوهّم أنّ الناقلين هنا إنّما يخبران عن الواضع الّذي هو واحد.

يدفعه أوّلا : إنّه إخبار مبناه على الاجتهاد ، فالواقع الصادر من الواضع بحسب نفس الأمر واحد ، وهو إمّا الوضع للمطلق أو الوضع للمقيّد ، وحصل الاختلاف في فهمه ، فلا محالة أحد النقلين خطأ عن الاجتهاد ، لا انّهما معا صادران من الواضع ، فيحمل أحدهما على الآخر دفعا للتناقض.

وبما قرّرناه من وجه الجمع يظهر فساد إطلاق ما قيل من أنّ الواجب في صورة التعارض ، الأخذ بما اتّفق فيه القولان ، وترك ما اختلفا فيه ، لأنّ اللغة توقيفيّة والتعارض يوجب التساقط ، فلم يحصل التوقيف إلاّ في المتّفق عليه.

وقضيّة ذلك جعل اللفظ في العامّين من وجه لمادّة اجتماعهما ، وفي العامّ والخاصّ المطلقين للأخصّ ، فإنّ الوجه في عدم التعرّض لذكر المعنى إذا كان هو عدم الوجدان ، فلا تعارض بين القولين في الحقيقة ليوجب التساقط.

نعم لو علم من الخارج كون الوجه في عدم التعرّض هو وجدان العدم ، فحينئذ يمكن الجمع أيضا بالتزام الاشتراك في الصور الثلاث المذكورة ، وبأخذ القول بالأعمّ في الصورة الأخيرة ، لكون القول من كلّ قائل حينئذ منحلاّ إلى قضيّتين ، إيجابيّة بالنسبة إلى ما أثبته ، وسلبيّة بالنسبة إلى ما نفاه ، والجمع المذكور طرح للقضيّة السلبيّة عن كلّ قول.

ص: 46

وإن شئت قلت : إنّه جمع في الجملة وطرح في الجملة ، وإنّه تبعيض في العمل بالقول وترك للعمل به ، وهذا المعنى من الجمع هو الّذي يعبّر عنه بالأخذ بإثبات كلّ وإلغاء نفيه.

وهل يتعيّن الجمع بهذا المعنى أيضا ، أو لا بدّ في نحو المفروض من إعمال الترجيح بمراجعة المرجّحات إن وجدت وإلاّ فالوقف ، أو يؤخذ بما اتّفق عليه القولان ويطرح ما اختلفا فيه إن كان هناك محلّ وفاق وإلاّ فالوقف ، أو يتوقّف مطلقا ، وجوه يظهر من غير واحد اختيار أوّلها استنادا إلى قاعدة تقديم الإثبات على النفي.

وهذه القاعدة لو ثبت لها أصل يعوّل عليه ومدرك يعتمد عليه ، كان المصير إلى موجبها متّجها ، فيمكن الاستناد لها إلى وجوه :

أحدها : أنّ مرجع الإثبات والنفي إلى دعوى الاطّلاع ودعوى عدم الاطّلاع ، فلا يلزم من تقديم الإثبات تكذيب القول بالنفي.

ويزيّفه : أنّه خلاف المفروض في هذه الصورة.

وثانيها : أنّ الغالب على مدّعي النفي إنّما هو الاستناد إلى الأصل بخلاف مدّعي الإثبات ، فإنّه لا يستند إلاّ إلى الدليل ، فمرجع تعارضهما إلى تعارض الأصل والدليل ، وكما أنّ الدليل يقدّم على الأصل في محلّ المعارضة ، فلذا ترى تعيّن العمل بالتبادر الكاشف عن الوضع مع قضاء الأصل بخلافه ، فكذلك الإثبات يقدّم على النفي.

وفيه : أنّ النفي إنّما يستند إلى الأصل في موضع عدم الوجدان ، وأمّا في موضع وجدان العدم - كما هو المفروض - فالتعارض واقع حينئذ بين الدليلين ، ولا معنى لإطلاق تقديم أحدهما على الآخر.

وثالثها : أنّ القول بالنفي في نحو محلّ البحث إنّما يطرح لعدم تناول دليل الحجّية له ، ويتأكّد ذلك بملاحظة أنّ ما قام على حجّية قول أهل اللغة من الوجوه المتقدّمة أدلّة لبّيّة ، يؤخذ فيها في محلّ الإجمال بالقدر المتيقّن الّذي ليس في المقام إلاّ القول بالإثبات.

ص: 47

وفيه : منع القصور في الأدلّة المذكورة بالنسبة إلى النفي ، بشهادة أنّه لو ادّعى أهل اللغة قضيّة سلبيّة سليمة عن المعارض يؤخذ بها بلا تأمّل.

ورابعها : أنّ تقديم الإثبات في خصوص المقام إنّما هو بمقتضى دليل الحجّية ، لأنّ فيه تصديقا لكلّ من القائلين ، وحكما بصدق كلا القولين ، فلا مخالفة فيه لدليل الحجّية الدالّ على وجوب تصديق أهل اللغة مهما أمكن ، بخلاف ما لو قلنا بالترجيح المستلزم لطرح أحد القولين بالمرّة لفقده المرجّح ، وهو خروج عن مقتضى قوله : « إذا أخبرك أهل اللغة بشيء من اللغة فصدّقهم » على ما هو مفاد أدلّة الحجّية مع إمكان العمل به في الجملة ، حسبما عرفت.

وفيه ، المعارضة بالمثل.

وتوضيحه : إنّ الناقلين المختلفين إمّا أن يصدّق كلاهما في تمام الدعوى ، أو لا يصدّق كلاهما في شيء من الدعوى ، أو يصدّق أحدهما في تمام الدعوى ويطرح قول الآخر بتمام دعواه ، أو يصدّق كلاهما في النفي الّذي هو جزء الدعوى أو في الإثبات الّذي هو الجزء الآخر من الدعوى ، ولا سبيل إلى الأوّل في مورد التعارض لعدم إمكانه وإلاّ لزم التناقض ، ولا إلى الثاني لكونه مخالفة للحجّة بلا عذر فينفيه دليل الحجّية ، ولا إلى الرابع لقضائه بإخلاء اللفظ عن المعنى وهو خلاف ما علم بالضرورة واتّفق عليه القولان من أنّ له معنى ، فانحصر الأمر في الوجه الثالث والخامس ، وليس أحدهما أولى من الآخر باعتبار مراعاة العمل بدليل الحجّية أو الخروج عنها ، إذ كما أنّ تمام الدعوى من أحدهما يصدق عليه قضيّة قول اللغوي فكذلك دعوى النفي من كليهما يصدق عليه تلك القضيّة ، وكما أنّ ترك العمل بتمام الدعوى لأحدهما خروج عن مقتضى قوله : « إعمل بقول اللغوي » ومخالفة له فيكون حراما ، فكذلك ترك العمل بنفي كليهما خروج عنه ومخالفة له فيكون حراما.

وتوهّم أنّ دليل الحجّية مقيّد بالإمكان لا محالة ، ولا ريب أنّ العمل بالنفيين بعد فرض العمل بالإثباتين غير ممكن جزما ، فترك العمل به ليس مخالفة للدليل ليكون حراما.

ص: 48

يدفعه : المعارضة بالمثل ، فإنّ عدم الإمكان المفروض إنّما ينشأ من اتّفاق المزاحمة بين فردي هذا العنوان في مقام العمل ، وكما أنّ المزاحمة متحقّقة بين الإثباتين والنفيين على تقدير بناء العمل على الإثباتين فكذلك متحقّقة بين تمام الدعوى من أحدهما وتمامها من الآخر ، على تقدير بناء العمل على تمام إحدى الدعويين.

فحينئذ نقول : إنّ العمل بتمام دعوى أحدهما بعد فرض العمل بتمام دعوى الآخر غير ممكن جزما ، فترك العمل به ليس مخالفة للدليل المذكور ، فالمتّجه حينئذ هو الرجوع إلى الترجيح والأخذ بتمام أحد القولين إن ساعد عليه وجود المرجّح من الامور المتقدّم ذكرها تعويلا على الأقربيّة بالنظر إلى الواقع ، فإنّ قول أهل اللغة على القول المفروض من التعبّد به لذاته وإن كان لا يعتبر فيه مراعاة الأقربيّة ، غير أنّ ذلك إنّما هو إذا لوحظ بطبعه ونوعه مع قطع النظر عمّا يطرئه من موجبات التحيّر في مقام العمل ، وأمّا مع طرو شيء من ذلك كالتعارض على ما هو مفروض المسألة فلا محيص من مراعاة الأقربيّة حينئذ ، والأخذ بما هو أقرب إلى الواقع كما يرشد إليه التدبّر في بناء العقلاء في الامور الّتي يؤخذ بها من باب السببيّة المحضة ، كقول أهل الخبرة في جميع الصناعات وغيره. فليتدبّر.

ثمّ إنّه لو نقل بعضهم للفظ معنى كلّيا وخالفه الآخر فذكر له ما يكون فردا له ، وثالث فذكر له ما يكون فردا آخر له ، أو ذكرهما واحد بتخيّل أنّ كلاّ منهما موضوع له بالاستقلال ، فهل يلتزم حينئذ بتعدّد وضع اللفظ حتّى يكون له ثلاثة أوضاع ، أحدها للكلّي والآخرين لفرديه فيكون مشتركا بين الكلّي والفرد ، أو لا يلتزم إلاّ بوضع واحد للكلّي الجامع بين الفردين ، أو يؤخذ بذي المرجّح إن وجد ، أو يتوقّف ، أوجه ، أوجهها الثاني على فرض عدم الوجدان ، أو الثالث في صورة وجدان العدم والوجه ما تقدّم.

وقد يطلق في اختيار الوجه الثاني قبالا للوجه الأوّل استنادا إلى الأصل ، وندرة الاشتراك بين الكلّي وأفراده ، وغلبة الاشتراك المعنوي فيلحق المشكوك

ص: 49

فيه بمورد الغالب ، مع عدم تضمّنه تكذيب أحد من الناقلين ، فإنّ كلاّ منهم يدّعي كون اللفظ حقيقة فيما نقله ، ولا ريب في حقيقيّة اللفظ بالنسبة إلى الكلّي وأفراده إذا كان استعماله فيها من باب الإطلاق ، وضعف الكلّ بالنسبة إلى محلّ البحث واضح ، ولا سيّما الأخير ، فإنّ كلاّ من الناقلين على تقدير وجدان العدم إنّما يدّعي الحقيقيّة الخاصّة ، فلم يحصل تصديقهما بالتزام الحقيقيّة من باب الإطلاق.

خاتمة : إذا ورد عن أهل العصمة من النبيّ والأئمّة : نصّ في بيان أمر لغوي ، كما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في قصة ابن الزبعري (1) في كون لفظة « ما » لما لا يعقل.

وعن أبي جعفر عليه السلام في وجه كون المسح ببعض الرأس ، تعليلا بكون « الباء » للتبعيض (2) فجواز التعويل عليه مبنيّ على العلم بالسند ، أو ثبوت حجّية خبر الواحد بالخصوص ، أو الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الأحكام ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، بل في مفاتيح السيّد رحمه اللّه (3) : دعوى بناء الأصحاب على العمل بمثل ذلك ، المؤذنة بدعوى الإجماع.

نعم ربّما يناقش فيه التفاتا إلى عدم كون بيان اللغة من وظيفتهم ، وقد تقدّم منّا ما يدفعه : فإنّ هذه القضيّة ليس معناها أن ليس لهم البيان بل ليس عليهم البيان ، وإذا ثبت بيانهم فلا يمكن التأمّل في اعتباره ومطابقته للواقع لمكان عصمتهم.

وأمّا لو ورد بيان اللغة في كلام فقيه أو غيره من العلماء غير أئمة اللغة ففي حجّيته الكلام المتقدّم ، فعلى المختار يعتبر العلم ، أو الاضطرار إلى العمل بالظنّ الحاصل منه على تقدير حصوله ، من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

نعم اتّفاق حصول الظنّ منه لعلّه نادر بالإضافة إلى ما حصل منه من قول أئمّة اللغة ، نظرا إلى عدم خبرتهم مع ملاحظة ما يقال : من أنّ الفقيه متّهم في حدسه.

ص: 50


1- تفسير القمّي 2 : 57.
2- حيث قال عليه السلام : « إنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء » راجع الكافي 3 : 30 ح 4 ، الفقيه 1 : 56 ح 212 ، التهذيب 1 : 61 ح 168.
3- مفاتيح الاصول : 62.

5 - التبادر وعدمه

اشارة

خامسها : التبادر وعدمه ، فإنّ الأوّل علامة للحقيقة كما أنّ الثاني علامة للمجاز ، من التبادر تفاعل من البدور بمعنى السبق والسرعة ، إلاّ أنّ الظاهر إنّه في الإطلاقات يرد على حدّ ما هو الحال في التقاعد ، وقد غلّب في اصطلاح الاصوليّين على معنى خاصّ اختلفت كلماتهم في تعريفه ، إلاّ أنّ أصحّها اعتبارا وأسلمها جمعا ومنعا ما أفاده العلاّمة الطباطبائي في شرحه للوافية من : « إنّه فهم المعنى من اللفظ مع التجرّد عن القرينة ، أو قطع النظر عنها ».

والعطف تنويع لتعميم التعريف بالقياس إلى ما حصل من لفظ لم يقارنه قرينة أصلا ، وما حصل من لفظ قارنه ما لا دخل له في فهم المعنى ، فإنّ كلاّ منهما من المعرّف عندهم.

وممّن وافقه على هذا التعريف ، الفاضل النراقي في مناهجه (1) غير أنّه أسقط القيد الأخير ، وكأنّه بناء منه على أخذ التجرّد عن القرينة على وجه يعمّ التجرّد الحقيقي والتجرّد الحكمي ، كما في صورة الاقتران بما لا مدخل له في الفهم ، فإنّ وجود مثل ذلك بمنزلة عدمه ، فمؤدّى التعريف مع القيد المذكور ولا معه واحد ، وإنّما يختلف الحال بالاعتبار.

وفي كلام غير واحد تعريفه : « بسبق المعنى إلى الذهن » أو « سبق الذهن إلى المعنى » وكأنّه لتوهّم كون النقل هنا من باب النقل من العامّ إلى الخاصّ.

ويشكل : بظهور عدم كون التبادر بمعناه المصطلح عليه من أفراده بمعناه اللغوي ، فإنّ السبق على ما يساعد عليه الاعتبار من الأفعال المسندة إلى ذي الإرادة والشعور ، المتوقّف في تحقّقها على سابق ومسبوق ، فخرج بالاعتبار الأوّل تعريفه بالعبارة الاولى ، وبالاعتبار الثاني تعريفه بالعبارة الثانية.

فإذا اضيف إلى المعنى أو الذهن لا بدّ وأن يكون لضرب من المسامحة والمجاز ، وقضيّة ذلك أن يعتبر النقل من المبائن إلى مثله لمناسبة الشباهة ، فإنّ المعنى في انفهامه عمّا بين المعاني يشبه الشيء السابق في انسباقه عمّا بين الأشياء.

ص: 51


1- مناهج الاصول : 15.

هذا مع ما في التعريف بإحدى العبارتين من تناوله المجازات ، فإنّ سبق المعنى إلى الذهن كسبق الذهن إلى المعنى ممّا يصدق على فهم المعنى المجازي أيضا.

غاية الأمر ، إنّه ما يحصل بمعونة القرينة ، فالتعريف حينئذ مسامحة في التعبير أو وارد على خلاف التحقيق.

وأضعف منه ما في موائد العوائد من تعريفه : « بانسباق المعنى إلى الذهن بعد التلفّظ باللفظ ونحوه » مع تصريحه بانقسامه إلى الغيري ، وهو ما يستند إلى القرينة الخارجة من اللفظ ، والنفسي وهو ما يستند إلى كثرة الاستعمال وشيوع الإطلاق ، الّذي يعلم كونه كذلك بالاستقراء أو حمل عليه ترجيحا لمعارضه الأقوى ، كصحّة السلب ، والحقيقي وهو ما يستند إلى حاقّ اللفظ. وواضح أنّ علامة الحقيقة مقصور على القسم الأخير.

وجه الأضعفيّة : إنّه إن اريد أنّ علامة الحقيقة عبارة عن هذا المعنى العامّ المنقسم إلى هذه الأقسام ، فيردّه : أنّ الأعمّ لا يصلح علامة للأخصّ.

وإن اريد أنّ المعنى المصطلح عليه الاصولي هو هذا المعنى العامّ ، وإن اختصّت العلامة بأحد أقسامه ، فيردّه : أنّ المعلوم بالتتبّع في كلماتهم انعقاد اصطلاحهم على ما يكون علامة بالخصوص ، وإطلاقه في بعض الأحيان على غيره مبنيّ على التجوّز كما يرشد إليه التزام القيد.

ثمّ إنّ أكثر كلماتهم تعطي كونه من صفات المعنى ، بناء على أخذ « الفهم » في مفهومه بالمعنى المصدري من المبنيّ للمفعول وهو المفهوميّة بمعنى الانفهام ، كما أنّ بعض كلماتهم لا يأبى عن كونه من صفات الذهن ، بناء على أخذ « الفهم » من المبنيّ للفاعل أعني الفاهميّة.

وأمّا ترجيح أوّل الوجهين تعليلا : بانتفاء ما هو من لوازم السبق الّذي هو أمر نسبي لا يتحقّق إلاّ بتحقّق منتسبيه السابق والمسبوق ، وإذا كان الذهن هو السابق فلا مسبوق له ، ومعه يستحيل حقيقة السبق ، بخلافه على الوجه الأوّل إذ السابق

ص: 52

حينئذ هو المعنى المتبادر ، ومسبوقه غيره من المعاني الغير المتبادرة ، فواضح الضعف ، كما يعلم وجهه بملاحظة ما سبق ، من أنّ التبادر بحسب الاصطلاح ليس من أفراده بحسب اللغة ، ولو عبّر عنه بالسبق - كما في بعض الأحيان - كان مسامحة في التعبير.

ثمّ التدبّر فيما قرّرناه في تعريف الوضع ، من كون الدلالة المأخوذة فيه لا بدّ وأن يكون عبارة عن الفهم التصديقي لئلاّ يخرج أصالة الحقيقة بلا مورد ، يرشد إلى كون التبادر أيضا عبارة عن الفهم التصديقي ، بعد ملاحظة ما عرفته من أنّ المعتبر فيه تجرّد اللفظ عن القرينة ولو حكما ، فإنّ اختلاف المعنى في انفهامه من الفظ تارة وعدمه اخرى ، من جهة اختلاف حال اللفظ باعتبار تجرّده عن القرينة واقترانه بها ، إنّما يتأتّى في الفهم التصديقي ، ضرورة أنّ وجود القرينة بالنسبة إلى المعنى المجازي ليس شرطا في فهمه التصوّري ، كما أنّه بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ليس مانعا عن فهمه التصورّي ، فلا يظهر لاشتراط التجرّد فائدة في انعقاد التبادر حصل الشرط أو لم يحصل ، إذ حصوله لا ينافي تبادر المعنى المجازي ، كما أنّ عدم حصوله لا يلازم عدم تبادر المعنى الحقيقي ، إن اخذ فيهما بمعنى التصوّر.

ويمكن التفصيل بين لفظ علم له معنى مجازي فلا بدّ وأن يؤخذ التبادر بالقياس إليه بمعنى التصديق ، ولفظ لم يعلم له معنى مجازي فيجوز فيه الاكتفاء بالتبادر التصوّري ، غير أنّ هذا التفصيل كما ترى حسن بالنظر إلى نفس الأمر ، وأمّا بالنظر إلى الجاهل الناظر في التبادر استعلاما للوضع فغير مجد ، لتعذّر الاطّلاع على الامور الباطنيّة إلاّ بالحمل ، بمعنى ترتيب الآثار الّذي هو في المرتبة متأخّر عن التصديق بما هو المراد ، فالتصوّر فيما يكفي فيه التبادر التصوّري ما لم يكن آئلا إلى التصديق الّذي يكشف عنه الحمل الخارجي ممّا لا سبيل للجاهل إلى إحرازه ، فسقط حينئذ اعتبار التصوّر وتعيّن اعتبار التصديق في جميع الفروض.

ص: 53

ثمّ إنّ معنى كون التبادر علامة للوضع ، إنّ بينه وبين الوضع ملازمة خارجيّة ، على معنى أنّه حيثما ثبت يكشف عن الوضع كشفا إنّيّا ولا يتخلّف عنه الوضع ، كما لا يتخلّف الملزوم عن لازمه.

لنا على الملازمة بالمعنى المذكور وجوه :

أوّلها : قضاء الوجدان المغني في الحقيقة عن إقامة البرهان ، فإنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّه متى علم بوضع لفظ لمعنى معيّن ، فهو بحيث متى سمعه أو أحسّه مجرّدا عن قرينة صارفة فهم منه ذلك المعنى ، ويحصل له التصديق بإرادته.

وقد عرفت سابقا أنّ كلّما هو من لوازم الوضع عند العالم به ، فهو علامة عليه للجاهل.

وثانيها : إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا ، كما يرشد إليه اعتمادهم عليه في عامّة المطالب اللغويّة من غير نكير ، حتّى أنّ المنكر للمطلب إذا أراد القدح في الاستدلال بادر إلى منع الصغرى دون الكبرى ، الراجع منعها إلى إنكار الملازمة.

وثالثها : بناء العرف وأهل اللسان من كلّ لغة ، فإنّهم في كافّة اللغات وأوضاع الألفاظ لا يزالون يعتمدون على التبادرات ، كما يعتمدون فيها على الترديدات بالقرائن ونحوها.

ورابعها : البرهان الّذي اعتمد عليه غير واحد من الأجلّة ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ في محلّ التبادر لا بدّ له من موجب وعلّة محدثة ، وهو بحكم الاستقراء القطعي ، إمّا المناسبة الذاتيّة فيما بين اللفظ والمعنى ، أو القرينة الموجودة مع اللفظ الموجبة لفهم المعنى ، أو تعيّن اللفظ بإزاء ذلك المعنى ، ولا سبيل إلى الأوّل لبطلان القول بالمناسبات الذاتيّة ، ولا إلى الثاني لدليل الخلف ، فيعيّن الثالث وهو المطلوب.

ولا يفترق فيه الحال بين كون التعيّن أثرا للتعيين أو غلبة الاستعمال ، فإنّه علامة لكليهما.

ص: 54

وربّما أورد على الملازمة بامور واهية وشبهات سخيفة :

فتارة : نقضها بالدلالات التضمّنيّة والالتزاميّة ، فإنّ الدلالة على جزء المعنى أو لازمه تبادر لهما مع انتفاء الوضع عنهما.

واخرى : نقضها بالمجاز المشهور ، الّذي يتبادر منه المعنى المجازي الّذي لا وضع بإزائه.

وثالثة : نقضها بالمطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشائعة ، فإنّ انصراف المطلق إلى الفرد الشائع معناه تبادر الفرد منه مع انتفاء الوضع عنه.

ورابعة : نقضها بالمشتركات اللفظيّة ، فإنّ من حكم المشترك أنّه إذا اطلق بلا قرينة عدم انفهام معناه ، فتخلّف الوضع عن التبادر في الثلاث الاولى ، كتخلّف التبادر عن الوضع في الأخير ، دليل على عدم الملازمة بينهما.

والجواب عن الأوّل : منع تحقّق التبادر بالمعنى المتقدّم في مورد دلالة التضمّن أو الالتزام ،فإنّه على ما تقدّم عبارة عن التصديق بكون المعنى بنفسه مرادا من اللفظ نفسه ، على معنى كون المعنى هو المناط للحكم مع كون إفادته مقصودة من نفس اللفظ ، بأن يقصد الانتقال إليه بواسطة اللفظ دون غيره ، وليست الدلالة في شيء من جزء المعنى ولازمه بتلك المثابة ، إذ الجزء ما يحصل التصديق بكونه مرادا باعتبار التصديق بكون الكلّ مرادا لا بنفسه ، واللازم ما يحصل التصديق بكونه مرادا بنفسه ، بواسطة التصديق بإرادة الملزوم لا بواسطة اللفظ نفسه.

وتوضيحه : إنّ الدلالة وفهم المعنى الّذي هو من فعل السامع العالم بالوضع لا بدّ وأن يكون على طبق الاستعمال الّذي هو من فعل المتكلّم.

ولا ريب أنّ حقيقة الاستعمال في خصوص المقام أن يقصد إفادة المعنى بنفسه باللفظ نفسه ، فخرج بالقيد الأوّل جزء المعنى وبالثاني لازمه ، ويتبعه التبادر بمعنى فهم المعنى من اللفظ المجرّد عن القرينة في تضمّنه القيدين.

غاية ما في الباب ، إنّ الناظر في التبادر عند استعلام الوضع لا بدّ وأن يحرزه

ص: 55

على هذا الوجه ، فإن تعذّر في مورد كان قدحا في الملزوم وانتفاء للصغرى ، لا انتفاء للملازمة وقدحا في الكبرى فلا وجه للمناقشة فيها بنحو ما ذكر.

وقد يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى الدلالتين معا ، بأنّ التبادر هو فهم المعنى من اللفظ الموضوع بلا واسطة غيره ، وفهم الجزء واللازم إنّما يحصل بتوسّط الكلّ والملزوم.

وقريب منه ما قيل بالنسبة إلى اللازم ، من أنّ مراد القوم بالتبادر هاهنا ما كان أوّليّا ، وتبادر اللازم ثانوي بدليل الترتّب في الانتقال ، لوضوح أنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن عند سماع اللفظ إنّما هو الملزوم ، ثمّ بتوسّطه ينتقل إلى اللازم ، وهذا الاعتبار بعينه كما ترى يجري في الجزء أيضا ، فإنّ الانتقال أوّلا يحصل بالنسبة إلى الكلّ الّذي هو عبارة عن مجموع الأجزاء من حيث المجموع.

وكيف كان ، فإن رجع هذان الكلامان إلى ما قرّرناه ففي غاية المتانة وإلاّ فلا يلتفت إليهما.

وعن الثاني : منع تحقّق التبادر في المجاز المشهور لو اريد به حصول فهم المعنى المجازي بملاحظة الشهرة ، وعدم صلوحه موردا للنقض لو اريد به ما يحصل مطلقا ولو مع قطع النظر عن الشهرة ، فإنّه على هذا التقدير تبادر في محلّ الوضع ، بناء على ما عرفت من أنّ الوضع الّذي يستكشف عنه بالتبادر أعمّ من التعيّني.

وعن الثالث : منع تحقّق التبادر بالمعنى المبحوث عنه في غير محلّ الوضع من المطلقات المنصرفة ، فإنّ انصراف المطلق معناه فهم الماهيّة الكلّية باعتبار وجودها في ضمن فردها الشائع وجودا أو إطلاقا ، وهذا ينحلّ إلى قضيّتين :

إحداهما : انفهام أصل الماهيّة.

والاخرى : انفهام اعتبار وجودها في ضمن هذا الفرد الخاصّ.

والأوّل يستند إلى نفس اللفظ فيكون من أفراد المبحوث عنه ، فلا يصلح نقضا.

ص: 56

والثاني يحصل بمعاونة الخارج من شيوع وجود أو إطلاق فلا معنى للنقض به ، بل هو عند التحقيق ليس فهما للفرد من اللفظ ، بناء على أنّ قرينة الشيوع في نحو مفروض المقام لا تتعرّض للّفظ بصرفه عن معناه الحقيقي وهو الماهيّة إلى الفرد ، على حدّ سائر المجازات باعتبار قرائنها الصارفة ، بل إنّما يتعرّض المعنى وهو الماهيّة بعد انفهامها من اللفظ بحكم الوضع بصرفها عن مقتضى اللابشرطيّة إلى اعتبارها بشرط الوجود.

وهذا هو وجه الفرق بين الشهرة في المجاز المشهور الّذي صار فيه الجمهور إلى الوقف والشيوع في المطلقات المشكّكة الّذي صار الجمهور فيه إلى الاعتبار ، على معنى جعله مناطا لصرفها إلى الأفراد الشائعة ، بل لعلّه ممّا لا خلاف فيه ، فإنّ الشهرة في الأوّل لكونها قرينة صارفة متعرّضة للّفظ فيزاحمها الوضع وأصالة الحقيقة المقتضية للحمل على الموضوع له ، بخلاف الشيوع في الثاني فإنّه لعدم تعرّضه للّفظ سليم عمّا يزاحمه ممّا هو في جانب اللفظ ، لكون الصرف فيه اعتبارا يحصل بعد الفراغ عن العمل بمقتضى أصالة الحقيقة فيكون على اقتضائه من صرف الماهيّة عن الإطلاق إلى التقييد ، وبذلك يندفع ما دخل في بعض الأوهام من شبهة التدافع بين كلامي الجمهور ، من حيث فرقهم بين المقامين وأخذهم بمقتضى إحدى الغلبتين دون الاخرى.

وعن الرابع : بأنّ المراد بالملازمة المدّعاة امتناع تخلّف الوضع عن التبادر لا استحالة تخلّف التبادر عن الوضع ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ العلامة ليست كالمعرّف ليعتبر فيها الاطّراد والانعكاس معا ، بل غاية ما يعتبر فيها الاطّراد ، فإنّ من حكمها أن لا توجد مع غير ذيها ، ولا تعتبر فيها وجودها مع جميع أفراد ذيها ، ومرجعه إلى اشتراط مساواتها له أو كونها أخصّ منه.

وأمّا إذا كانت أعمّ فلا يعقل كونها علامة ، لعدم دلالة للأعمّ على الأخصّ.

وربّما يجاب عنه : بمنع العدم ، فإنّ التحقيق في المشترك أنّه مجرّدا عن القرينة يدلّ على جميع معانيه دلالة تامّة ، وإنّما المحتاج إلى القرينة تعيين ما هو المراد منه لا أصل الدلالة.

ص: 57

ويرد عليه : أنّه لو اريد بدلالته على الجميع انفهامها التصوّري فهو مفسد للعلامة من جهة اخرى ، وهي أنّ الفهم التصوّري لمجرّد سماع اللفظ كما يحصل بالقياس إلى المعاني الحقيقيّة كذلك يحصل بالقياس إلى المعاني المجازيّة فيصير أعمّ ، وهو لا يصلح علامة.

ولو اريد به انفهامها التصديقي فهو فاسد ، لابتنائه على مقدّمتين فاسدتين :

إحداهما : جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى.

واخراهما : ظهوره مع التجرّد في إرادة الجميع.

ويمكن إصلاحه بإرادة الأعمّ من التصوّر والتصديق مع تقيّده بالقياس إلى التصوّر بالتفصيل ، وبالقياس إلى التصديق بالإجمال.

فحاصل المراد منه حينئذ إدراك المعاني المتحقّق في ضمن التصوّر الحاصل على جهة التفصيل ، والتصديق الحاصل على جهة الإجمال على معنى التصديق بإرادة ما هو مردّد بين الجميع.

فيرجع بناء على هذا التوجيه إلى ما قد يجاب أيضا : من دعوى تحقّق التبادر الإجمالي فيه ، فإنّ التبادر على ما يساعد عليه النظر قد يكون تفصيليّا ، وهو أن يفهم المعنى على أنّه لا غير مراد ، وقد يكون إجماليّا وهو أن يفهم المعنى على أنّه أو أحد معادلاته ومشاركاته مراد.

وبعبارة اخرى : قد يحصل التصديق بإرادة المعنى بطريق العينيّة ، وقد يحصل بإرادته بطريق البدليّة ، وكلاهما من لوازم الوضع ، إلاّ أنّ الثاني في المشتركات والأوّل في غيرها.

وبهذا الاعتبار قد يقسّم التبادر إلى ما هو بالمعنى الأخصّ وهو أحد القسمين ، وما هو بالمعنى الأعمّ وهو الجامع بينهما ، أعني التصديق بإرادة المعنى من دون قيدي « العينيّة » و « البدليّة » وكلّ منهما ملازم للوضع.

ثمّ في علامة المجاز إن اعتبرت عدم التبادر فعدم التبادر بالمعنى الأعمّ ملازم للمجازيّة ، وإن اعتبرت تبادر الغير فتبادر الغير بالمعنى الأخصّ ملازم لها.

ص: 58

ولكن يشكل ذلك أيضا : بأنّ التبادر بهذا المعنى وإن كان ينقدح في نفس العالم بالوضع في المشتركات اللفظيّة ولا يكاد ينكر ، غير أنّه في موضع الأمارة لا يترتّب عليه فائدة ، لأنّه ما لم ينكشف للجاهل بمبرز خارجي وهو مقام الحمل وترتيب الأثر لا ينهض أمارة ، ولا مبرز له في نحو المفروض ، حيث إنّ المشترك فيه ملزوم للوقف الّذي لا حمل معه ولا ترتيب الأثر.

فالجواب الحاسم لمادّة الإشكال هو ما ذكرناه واعتمد عليه غير واحد من الأجلّة ، ومعه لا حاجة إلى العدول عمّا عليه الفحول من جعل التبادر علامة للحقيقة ، إلى أخذ عدم تبادر الغير علامة لها تفصّيا عن الإشكال كما صنعه بعضهم.

هذا مع وضوح فساده بنفسه من حيث إفضائه في بعض الأحيان إلى جعل لفظ واحد حقيقة في جميع معاني العالم فليتدبّر. هذا كلّه في علامة الحقيقة الملزومة للوضع.

وأمّا علامة المجاز : فالمعروف بين الاصوليّين أنّها عدم التبادر ، وذهب جماعة إلى أنّها تبادر الغير ، لأنّه لولاه لزم انتقاض طردها بما في المشترك من عدم تبادر شيء من معانيه كما في كلام غير واحد ، أو لأنّ النقض بالمشترك وإن لم يكن واردا ، لكنّ الحقّ أنّ علامة المجاز تبادر الغير لا عدم التبادر ، لتحقّقه في اللفظ الموضوع قبل اشتهاره فيما وضع له ، فإنّه لا يتبادر منه المعنى في محلّ الحاجة إلى العلامة مع أنّه حقيقة بنصّ أهل اللغة ، كما في كلام السيّد الطباطبائي في شرحه للوافية أو لأنّ عدم التبادر أمر عدمي فلا يصلح علامة للمجاز الّذي هو أمر وجودي.

والمعتمد هو المذهب المشهور ، فإنّ المراد بعدم التبادر عدم التبادر الّذي هو علامة للحقيقة ، المتقدّم تعريفه بأنّه : « فهم المعنى من اللفظ مع التجرّد عن القرينة أو قطع النظر عنها » والعدم المضاف إلى هذا المفهوم المركّب نظير النفي الوارد على المقيّد ، المتوجّه تارة إلى نفسه واخرى إلى قيده.

وبعبارة اخرى : هذا المفهوم نظير الماهيّة المركّبة من جنس وفصل ، وإذا ورد

ص: 59

عليها النفي فقد يتوجّه إلى جنسها وقد يتوجّه إلى فصلها ، فعدم تبادر معنى من المعاني ، إمّا لانتفاء جنس التبادر وهو أصل الفهم ، أو لانتفاء فصله وهو تجرّد اللفظ عن القرينة ، أو اقترانه بما لا دخل له في الفهم ، ومحصّله حصول الفهم بمعاونة القرينة الموجودة مع اللفظ ، وكلّ من هذين علامة للمجاز لكونه ملزوما لانتفاء الوضع ، غير أنّ الأوّل منهما مقصور على موارد تبادر الغير كما في « الأسد » مقيسا إلى الشجاع إذا استعمل مجرّدا عن قرينة « يرمى » كما أنّ الثاني منهما مقصور على مواضع وجود قرينة التجوّز كما في « أسد يرمى » مقيسا إلى الشجاع أيضا ، فإنّه لا يتبادر في كلّ من الاستعمالين غير أنّه في الأوّل لانتفاء جنس التبادر ، وفي الثاني لانتفاء فصله ، وهو في كلا القسمين ملزوم لانتفاء الوضع.

أمّا في الأوّل : فلأنّ اللفظ لو كان موضوعا لنحو المعنى المفروض لتبادر منه ذلك المعنى لوجود مقتضيه التامّ ، وهو المجموع من اللفظ والوضع والتجرّد عن القرينة ، والمفروض خلافه ولا جهة له سوى انتفاء الوضع.

وأمّا في الثاني : فلأنّ اللفظ لو كان موضوعا للمعنى المفروض لوجب عدم افتقار ذلك المعنى في انفهامه إلى قرينة والمفروض خلافه ، ولا جهة له أيضا سوى انتفاء الوضع.

وأمّا تبادر الغير فإن اريد به ما هو في مواضع وجود قرينة التجوّز ، فهو غير متحقّق في تلك المواضع لينهض علامة.

وإن اريد به ما هو في موارد عدم التبادر لانتفاء جنس التبادر فأخذه علامة ليس بأولى من أخذ عدم التبادر علامة ، مع أنّه ما لم ينضمّ إليه عدم التبادر لا ينهض منتجا لانتفاء الوضع ، لأنّه لو قيل لمدّعى المجازيّة في المعنى الغير المتبادر تعليلا بتبادر غيره بأنّه لم لا يجوز كونه موضوعا لهذا المعنى وحده ، أو كونه موضوعا له أيضا ، لا مدفع له إلاّ أن يقول : بأنّه لو كان كذلك لتبادر هذا المعنى ، أو كان هو أيضا من المتبادر ، والتالي باطل لعدم تبادره أصلا ، فنفي الاحتمالين استنادا إلى عدم التبادر دليل على أنّه الوسط الحقيقي للعلم بالمجازيّة

ص: 60

اللازمة من انتفاء الوضع ، ومعه فالاستناد إلى تبادر الغير حينئذ ليس في محلّه ، بل هو في جنب عدم التبادر ليس إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وأمّا شبهة انتقاض طرده بالمشترك ، فيدفعها : إنّ عدم التبادر - على ما بيّنّاه - مقصور إمّا على موارد تبادر الغير لو اعتبر باعتبار انتفاء جنس التبادر ، أو على مواضع وجود قرينة التجوّز لو أخذ باعتبار انتفاء فصل التبادر ، والمشترك عند تجرّده عن القرينة ليس بشيء من القبيلتين.

ومحصّله : إنّ عدم التبادر ليس بمتحقّق فيه بشيء من قسميه ، مع أنّه فرق واضح بين عدم وجود التبادر بحسب الواقع ، وعدم ظهور الموجود منه في الواقع للجاهل ، والعلامة هو الأوّل والموجود في المشترك هو الثاني ، لما عرفت من أنّ حصول التبادر على جهة الإجمال للعالم بالوضع في نحو الصورة المفروضة ممّا لا سبيل إلى إنكاره.

نعم لعدم ظهوره للجاهل لا يترتّب عليه فائدة العلامة ، وهو كما ترى ليس من عدم وجوده باعتبار انتفاء جنسه في الواقع أو انتفاء فصله كذلك.

وأمّا شبهة انتقاض الطرد ، بما وضع لمعنى قبل اشتهاره فيه.

فيدفعها : أنّ اشتهار اللفظ الموضوع وعدمه ممّا لا مدخل له في تبادر معناه الموضوع له وعدمه ، بل التبادر وعدمه يتبعان العلم بالاختصاص الحاصل للّفظ الناشئ عن التعيين أو غلبة الاستعمال وعدمه ، فالأوّل يستلزم التبادر لا محالة كما أنّ الثاني يستلزم خلافه ، وعلى التقديرين لا معنى للنقض.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فلأنّ العبرة في التبادر وعدمه بما يتحقّق عند العالم بالوضع ولو على جهة الإجمال ، لا ما يتحقّق عند الجاهل الساذج.

وأمّا شبهة عدم صلوح الأمر العدمي علامة للأمر الوجودي ، فيدفعها :

أوّلا : النقض بعدم صحّة السلب المأخوذ علامة للحقيقة ، الّتي لا شبهة في كونها أمرا وجوديّا.

ص: 61

وثانيا : إنّ الممتنع وقوع الأمر العدمي مؤثّرا في الوجودي ، والمقصود من الأمارة إنّما هو الأخذ به معرّفا ، ولذا يكون الاستدلال بها على الوضع أو عدمه إنّيّا ، فلأنّ العدم على تقدير احتياجه إلى العلّة يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، ولمّا كان علّة التبادر هو الوضع فيكون علّة عدمه انتفاء الوضع ، فالكشف فيه كالتبادر إنّيّ فيكون واسطة في الإثبات ولا مانع منه.

وثالثا : منع كون المجازيّة المطلوبة من عدم التبادر أمرا وجوديّا ، فإنّ الشبهة فيها راجعة إلى وجود الوضع وانتفائه ، وإذا كان التبادر علامة لوجود الوضع فيقابله عدمه في كونه علامة لانتفاء الوضع هذا كلّه فيما يتعلّق بالملازمة وذيهما من الوضع وانتفائه.

وأمّا ما يتعلّق من المباحث بإحراز الملزوم ، الّذي مرجعه إلى إحراز الصغرى الّذي لولاه لا يتمّ الاستدلال على المطلب من وضع أو انتفائه.

مناقشة الدور في التبادر

فنقول : إنّ هاهنا مناقشة معروفة ترجع في الحقيقة إلى مقام إحراز الملزوم ، وهي أنّ التبادر علامة دوريّة ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ في الدلالة الوضعيّة موقوف على العلم بالوضع ، فلو كان العلم بالوضع موقوفا على فهم المعنى كما ذكرتم لزم الدور ، ومرجعه إلى أنّ التبادر المتوقّف على العلم بالوضع في محلّ توقّف العلم بالوضع عليه ممّا لا يمكن إحرازه.

وقد تقدّم منّا في مفتتح باب الأمارات ما يدفعها في جميع شقوق المسألة ، من كون الناظر في الأمارة جاهلا ساذجا أو جاهلا مشوبا ، لعلمه بالمعنى الموضوع له في الجملة أو إجمالا ، والعلامة في الأوّلين تبادر العالمين بالوضع كما علم من تضاعيف المسألة أيضا.

وفي الأخير يجوز كونها تبادر العالمين أيضا ، أو تبادر الناظر نفسه ما لم يكن جهله في مقام التفصيل ساريا إلى علمه الإجمالي المتعلّق بماهيّة الموضوع له باعتبار صورته النوعيّة ، ولا دور على التقديرين.

أمّا على الأوّل : فواضح ، وأمّا على الثاني فلتغاير طرفي التوقّف بالإجمال

ص: 62

والتفصيل ، فإنّ المتوقّف على التبادر إنّما هو العلم التفصيلي بالموضوع له ، على معنى العلم به باعتبار أجزائه المفصّلة.

والّذي يتوقّف عليه التبادر إنّما هو العلم به إجمالا ، على معنى العلم به بتمام صورته النوعيّة.

وقد ذكرنا سابقا أنّ هذا العلم لا يستلزم العلم به بأجزائه المفصّلة ، فلا يكون متوقّفا عليه.

وقد يجاب عن إشكال الدور بما لا يرجع إلى محصّل ، وهو : إنّا لا نسلّم توقّف الفهم في الدلالة الوضعيّة على العلم بالوضع ، فإنّ الاشتهار يقتضي تبادر المعنى وفهمه من اللفظ المجرّد قطعا ، لحصول المؤانسة الموجبة للتفاهم ، والتفاهم للاشتهار لا يقتضي العلم بالاشتهار فضلا عن العلم بالوضع.

وتحقيقه : إنّ وضع اللفظ إمّا أن يكون بتعيينه بإزاء المعنى ، أو لتحقّق الغلبة والاشتهار فيه ، وعلى الثاني فالسبب في الفهم هو نفس الغلبة والاشتهار ، وكذا على الأوّل إن كان فهم المعنى بعد حصول الأمرين ، وأمّا إذا كان قبلهما كما في أوائل الاستعمال ففهم المعنى حينئذ موقوف على العلم بالوضع ، إذ لا سبب للفهم سوى ذلك ، فعلم أنّ فهم المعنى لا يتوقّف على العلم بالوضع مطلقا ، بل إنّما يتوقّف عليه في صورة نادرة ، هي كون الوضع تعيينيّا والاستعمال قبل حصول الغلبة والاشتهار.

نعم حصول الفهم مطلقا موقوف على نفس الوضع ، أمّا إذا كان الفهم موقوفا على العلم بالوضع كما في هذه الصورة ، فظاهر.

وأمّا إذا كان بالغلبة والاشتهار ، فلأنّ الوضع إمّا أن يحصل بهما أو بالتعيين السابق عليهما ، وعلى الأوّل فسبب الفهم هو الوضع الحاصل بالاشتهار ، وعلى الثاني فالسبب القريب في الفهم وإن كان هو الاشتهار ، لكن لمّا كان الاشتهار فيه فرع التعيين ، كان التعيين سببا بعيدا في الفهم ، فيتوقّف عليه الفهم ، فالوضع في جميع الصور من شرائط الدلالة.

ص: 63

وفيه : إنّ فهم المعنى في باب الدلالات اللفظيّة من دون العلم بسببه غير معقول.

نعم لا يعتبر فيه الالتفات التفصيلي إلى السبب إذا كان معلوما ، بمعنى حضوره في الخزانة ، فالغلبة والاشتهار إن اريد بهما ما علم معهما بما يستتبعهما أو ما يستتبعانه من اختصاص اللفظ بالمعنى ولو بمعنى حضوره في الخزانة ، فالمقتضى لتبادر المعنى وفهمه هو هذا الاختصاص لا غير ، وإن اريد بهما ما لا علم معهما بالاختصاص الحاصل للّفظ على أحد الوجهين ، فلا يجدي الفهم الحاصل بهما نفعا في الانتقال إلى الوضع ، لوجود نحوه في المجاز المشهور ، فيكون في نظر الجاهل مردّدا بين فهم المعنى الحقيقي وفهم المعنى المجازي ، ولذا شرطوا في التبادر تجرّد اللفظ عن القرينة ولو شهرة بالمعنى الأعمّ.

ودعوى : أنّ المجاز المشهور ليس بثابت وإن كان مشهورا ، لأنّ الاشتهار إن بلغ حدّا يتبادر منه المعنى كان حقيقة ، وإلاّ لم يؤثّر في فهم المعنى وإن التفت إليه السامع ، ووجود شهرة يفهم بها المعنى مع الالتفات والملاحظة لا بدونهما مجرّد فرض لا نتحقّقه.

يدفعها : أنّ ذلك مكابرة للوجدان ، فإنّ تأثير مجرّد الشهرة في بعض مراتبها في فهم المعنى ولو مع العلم بانتفاء الاختصاص أمر معلوم بالوجدان ، فالدور المذكور لا مدفع له سوى ما بيّنّاه من التفصيل.

ثمّ المراد بإحراز الملزوم بالقياس إلى الأمارتين ، انكشاف التبادر أو عدمه بالنسبة إلى المعنى المبحوث عنه وتبيّن وجوده للناظر فيه ، ولمّا كان الانكشاف لا بدّ له من طريق ، فينقسم التبادر باعتبار طريق انكشافه إلى وجداني وكشفي واستقرائي.

والمراد بالأوّل : ما يجده الجاهل المشوب ، العالم بالإجمال عند استعلامه تفصيل الموضوع له ، ويشترط في انكشافه له التخلية التامّة عن جميع القرائن ، من الجليّة والخفيّة ، الحاليّة والمقاليّة ، المتّصلة والمنفصلة.

ص: 64

وعن خصوصيّات المقام وموارد الاستعمال ، على معنى أنّه لو كان نظره إلى شيء من ذلك أو كان شيء منه مركوزا في ذهنه قطع النظر عنه ونزّل وجوده منزلة عدمه ، وإذا فعل ذلك فلا محالة يدرك في نفسه من التبادر ما يرشده إلى أحد طرفي شبهته.

وبالثاني : أن يرد في كتاب أو سنّة ما يكشف عن تحقّق التبادر في معنى خاصّ من لفظ خاصّ في العرف القديم من الأعصار السالفة والقرون الخالية ، كما في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) الآية ، وقوله أيضا : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (2) المستدلّ بهما على كون الأمر للوجوب ، فإنّ مرجع الاستدلال بهما وبغيرهما في الحقيقة إلى الاستدلال بالتبادر المتحقّق في العرف الّذي يكشف عنه سياق الآية ، بتقريب : أنّها وردت في سياق الذمّ والتوبيخ ، فيكشف عن الاستحقاق لهما ، وهو فرع على العصيان الّذي هو فرع على فهم التكليف الإلزامي.

ونظيرهما من السنّة ما ورد في قصّة ابن الزبعرى (3) حيث إنّه بعد ما سمع قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (4) قال : لأخصمنّ محمّدا عليه السلام ثمّ جاءه ، وقال : يا محمّد أليس عبده موسى وعيسى والملائكة ... الخ ، فإنّه يكشف عن كونه إنّما فهم من لفظة « ما » من العموم ما هو متناول لمثل موسى وعيسى والملائكة.

ومثل ذلك في النصوص كثير ، وإذا ثبت هذا القسم من التبادر بسند قطعي كان أقوى من سائر أقسامه ، حيث لا حاجة له في استعلام حال عرف زمان الشارع إلى ضميمة والنظر في وسط آخر ، كما كان يحتاج إليه غيره.

وبالثالث : أن يعلم بتحقّق التبادر في العرف وعند أهل اللسان ، بملاحظة الاستعمالات الدائرة بينهم وتتبّع موارد إطلاقاتهم ، والعمدة في باب التبادر هو

ص: 65


1- النور : 63.
2- الأعراف : 12.
3- تفسير القمي 2 : 75.
4- الأنبياء : 98.

هذا القسم ، بل لا يظهر من عبائر الأكثرين إلاّ عقد الباب لبيانه والتعرّض لأحكامه خاصّة ، وحينئذ فالجاهل باللغة إذا ورد على أهلها ولا حظ في لفظ خاصّ موارد استعمالاتهم فيعلم

تارة : بعدم حصول فهم المعنى منه.

واخرى : بحصوله مع التجرّد عن القرينة.

وثالثة : بحصوله مع عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة.

ورابعة : بحصوله مع وجود القرينة الملتفت إليها ، لا لأجل ابتناء أصل الفهم عليه بل لأجل تأكيد أو تعيين أو إفهام.

وخامسة : بحصوله لمعاونة القرينة الموجودة ، على معنى كونها إنّما اعتبرت لمجرّد ابتناء الفهم عليها.

وهذه صور لا إشكال في شيء منها ، إلاّ أنّه في الاولى كالأخيرة إحراز لأمارة المجاز وهو عدم التبادر ، إمّا لانتفاء جنسه أو لانتفاء فصله - حسبما بيّنّاه - وفي البواقي إحراز لأمارة الحقيقة.

وقد يشتبه عليه الأمر ، إمّا لشبهة في أصل الفهم الّذي هو جنس التبادر ، أو في وجود القرينة ، أو الالتفات إلى القرينة الموجودة ، أو جهة القرينة الملتفت إليها من الصرف والتأكيد والتعيين والإفهام ، وهي في كلّ هذه الثلاث ترجع إلى الفصل بعد تبيّن الجنس ، وهذه أيضا صور لا إشكال في الاولى منها من حيث إنّه لا يحرز فيها شيء من أمارتي الحقيقة والمجاز ، وإن ظنّ بحصول الفهم أو بعدمه ، بناء على تحقيقاتنا السابق من عدم حجّية الظنّ في اللغات ، ومرجعه إلى عدم الاعتبار بالتبادر أو عدمه الظنّي.

نعم ربّما يتأتّى الإشكال في بواقي الصور من حيث تحقّق جنس التبادر ووقوع الاشتباه في فصله ، فهل هنا أصل أصيل وقاعدة يعتدّ بها من جهة العرف أو الشرع يقتضي الإلتزام بتحقّق الفصل أيضا ، الراجع إلى البناء على عدم وجود القرينة ، أو عدم الالتفات إلى الموجودة منها ، أو كون الالتفات لا لأجل ابتناء أصل الفهم عليها ، أو لا أصل في البين أصلا ، أو يفصّل؟

ص: 66

وهذا هو مسألة دوران الأمر في التبادر بين كونه وضعيّا أو غيره ، المحكوم عليه في كلام غير واحد بكون الأصل فيه كونه وضعيّا ، وربّما يدّعى ظهور الإجماع على إطلاقه ، استشهادا بإطلاق وروده في كلامهم ، فيحتمل في المقام حينئذ وجوه :

القول بأصالة وضعيّة التبادر مطلقا ، كما يرشد إليه إطلاق من أطلق في دعوى تلك القضيّة.

والقول بالوقف مطلقا لتطرّق المنع إلى هذا الأصل رأسا ، فيبقى قاعدة توقيفيّة اللغات سليمة.

والقول بأصالة الوضعيّة في الصورة الاولى خاصّة والوقف في الباقي ، كما يظهر من بعض العبائر.

والقول بأصالة الوضعيّة في غير الصورة الأخيرة والوقف فيها مطلقا ، أو يحكم فيها بإطلاقيّة التبادر تقديما لجانب الصرف لما فيه من التأسيس ، فيبنى على المجاز لأولويّة التأسيس بالقياس إلى التأكيد.

لكن يرد عليه : أنّ هذه القاعدة ممّا لم يتبيّن له مدرك سوى ما في كلام بعض الاصوليّين في مسألة المقرّر والناقل ، تبعا لعلماء المعاني من أنّ في التأسيس إفادة والتأكيد إعادة ، والإفادة أولى.

وما في كلام بعض في نحو المقام ، من غلبة التأسيس على التأكيد نوعا وشخصا.

ويتطرّق المنع إلى الأوّل من حيث إنّ للتأكيد في موارده أيضا فوائد يجب مراعاتها ، فلا معنى لترجيح التأسيس عليه.

وإلى الثاني من حيث إنّ الغلبة المدّعاة بالقياس إلى النتيجة المأخوذة عنها ليست إلاّ ظنّيّة ، فيرجع البحث إلى الظنّ في اللغات.

ولو سلّم اعتبارها فلا تقضي بتعيّن الصرف ، لأنّ في التعيين والإفهام أيضا تأسيسا.

ص: 67

وقضيّة ذلك أن يحكم بنفي التأكيد تقديما للتأسيس ، ثمّ ينفى التعيين أيضا بأصالة عدم الاشتراك وعدم تعدّد الوضع ، فيرجع الأمر حينئذ إلى تعارض المجاز والاشتراك معنى ، فعلى القول بأصالة الاشتراك ينتفي احتمال المجازيّة أيضا وإلاّ اتّجه الوقف ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : إنّ هذه المسألة غير منقّحة في كلامهم ، وليس فيها أصل يعتمد عليه ، وأصالة وضعيّة التبادر وإن كانت قضيّة مشهورة غير أنّه لم يتبيّن لها في العرف والشرع مدرك يعوّل عليه ، والإجماع المدّعى ظهوره غير واضح الانعقاد.

نعم ربّما شاع في مستنده ورود أصالة عدم القرينة ، أو هي مع أصالة عدم الالتفات إليها ، في كلام غير واحد بالقياس إلى بعض الصور ، غير أنّه يتطرّق المنع إلى اعتبار نحو هذين الأصلين المعمولين لإحراز الأمارات المرشدة إلى اللغات وأوضاع الألفاظ ، حيث لم يظهر من بناء العرف أنّهما بالقياس إلى الجاهل باللغات كالاصول العدميّة - المعمولة عندهم في تشخيص المرادات - في الاعتبار بالقياس إلى العالمين بها ، وبدونه لا يمكن الاعتداد بهما.

نعم غاية ما علم من بناء العرف إنّما هو الأخذ بالتبادرات وعدمها ، غير أنّ المتيقّن منها ما يحرز بطريق القطع فلا يتسرّى إلى غيرها ، وعليه فالمتّجه هو الوقف مطلقا.

وممّا عرفت من التفصيل ظهر أنّه لا وقع لما قيل : من أنّ التبادر لو اريد به ما قارنه القرينة فلا نسلّم كونه كاشفا عن الوضع ، وإن اريد به ما لم يقارنه قرينة فلا مصداق له في الخارج ، التفاتا إلى اقتران كلّ لفظ بقرينة لا محالة وأقلّها الحاليّة ، بل غلبة الاستعمال الّتي لا تنفكّ عن شيء من الألفاظ بالقياس إلى معانيها الحقيقيّة. فإنّ مقارنة القرينة بمجرّدها غير قادحة في انعقاد التبادر الكاشف ما لم يحصل الالتفات إليها لغرض التوصّل إلى الفهم وإحراز الدلالة ، ومعرفة ذلك للجاهل المشوب في غاية السهولة بعد التخلية التامّة ، وكذلك الجاهل الساذج بعد تتبّع موارد الاستعمالات.

ص: 68

6 - صحّة السلب وعدمها

اشارة

سادسها : في صحّة السلب وعدمها ، فإنّ الأوّل علامة للمجاز كما أنّ الثاني علامة للحقيقة ، والمراد بهما صحّة سلب اللفظ باعتبار ما سمّي به وضعا وما يفهم منه عرفا أو عدمها عن المورد ، ومجراهما ، ما لو استعمل اللفظ فيما يشكّ كونه مسمّاه الوضعي ومفهومه العرفي ، أو أطلق على ما يشكّ كونه فردا لمسمّاه العرفي ومفهومه الوضعي ، باعتبار الشكّ في كونه موضوعا لما يشمل ذلك الفرد أو لما لا يشمله حتّى يكون الإطلاق مجازيّا ، وطريق إعمالهما أن يؤخذ قضيّة سلبيّة موضوعها المعنى المشكوك فيه ومحمولها اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي ومفهومه العرفي ، ثمّ ينظر في صدقها وكذبها بمراجعة النفس بعد التخلية التامّة ، كما لو كان الناظر فيهما جاهلا مشوبا باعتبار علمه الإجمالي ، أو بمراجعة العرف وأهل اللسان ، كما لو كان الناظر فيهما جاهلا ساذجا ، أو مشوبا باعتبار علمه في الجملة.

لا يقال : استعلام حال الفرد بالأمارتين استعمال لهما في غير موضعها إذ ليس وضع الأمارات لتشخيص الفرد ، وأيضا لو كان ما يفهم من اللفظ عرفا معلوما فهو بنفسه كاف في استعلام حال الفرد ، أو لا بدّ من مراجعة أهل الخبرة وإلاّ فلا يمكن الاستعلام بالأمارتين ، لما قرّرناه سابقا من الفرق بين شبهة الفرديّة من باب الشكّ في المصداق وشبهة الفرديّة من باب الشكّ في الصدق ، وإعمال الأمارة في الأوّل استعمال لها على خلاف وضعها بخلاف الثاني ، فإنّ ما يفهم من اللفظ عرفا ربّما كان معلوما بالإجمال فيقع الشكّ في تفصيله ببعض الجهات ويؤول ذلك الشكّ إلى شبهة الفرديّة الّتي لا رافع لها إلاّ زوال الشكّ المذكور ، والمقصود من إعمال الأمارة هنا إزالة ذلك الشكّ المنتجة لرفع الشبهة ، ولا ريب أنّه استعمال لها على مقتضى وضعها.

نعم ربّما يشكل الحال هاهنا في أمرين :

أحدهما : إنّ صحّة السلب في جميع مواقعها يستلزم عدم صحّة الحمل ، كما أنّ عدم صحّة السلب في جميع مواردها يستلزم صحّة الحمل ، فما وجه عدولهم عن أخذ صحّة الحمل وعدمها أمارتين إلى صحّة السلب وعدمها.

ص: 69

وثانيهما : إنّ اعتبار التبادر وعدمه أمارتين لعلّه يغني عن أخذ صحّة السلب وعدمها أمارتين ، بل هما عند التحقيق طريقان إلى إحراز التبادر وعدمه بالنسبة إلى المعنى المبحوث عنه ، إذ بصحّة سلب ما يفهم من اللفظ عرفا عنه يتبيّن أنّه ليس ممّا يتبادر من اللفظ عرفا ، كما أنّ بعدمها يتبيّن أنّه المتبادر أو ممّا هو متبادر منه عرفا.

ويندفع الأوّل : بمنع استلزام عدم صحّة السلب صحّة الحمل في تقدير ، ومنع صلوحها علامة للحقيقة لعدم اطّرادها في آخر ، ومنع عدم اعتبارهم إيّاها علامة لها في تقدير ثالث.

وتوضيحه : إنّ الحمل المقتضي لأخذ المحمول باعتبار المفهوم في الحمليّات يرد على وجهين :

أحدهما : حمل الشيء بنفس مفهومه ومن غير نظر إلى ما هو من أوصافه وأحواله على ذات الموضوع ، كما في « زيد إنسان » و « الإنسان حيوان ».

وثانيهما : حمل مفهوم الشيء باعتبار وصف من أوصافه ، أو حال من أحواله عليها ، كما في « هذا زيد » حيث يؤخذ المحمول مفهوم « زيد » - وهو الذات المشار إليها - باعتبار وصف كونه مسمّى لهذا اللفظ ، صونا للحمل عن كونه حملا للشيء على نفسه.

وعلى قياس ذلك الحمليّات الجارية على لسان أهل اللغة ، عند بيان معاني الألفاظ إذا اخذت محمولاتها الألفاظ ، كما في قولهم : « الحيوان المفترس الأسد » إذ لا وجه لصحّة الحمل فيها إلاّ أخذ المحمول مفهوم اللفظ باعتبار وصف المسمّى له ، ولأجل جريان هذين الاعتبارين في الحمليّات كثيرا مّا يوجد قضيّة واحدة في موضوع ومحمول واحد صادقة بأحد الاعتبارين وكاذبة بالاعتبار الآخر ، كما في « زيد حيوان ، أو إنسان ، أو ناطق » إذا اعتبر المحمول الحيوان والإنسان والناطق بنفس مفاهيمها ، أو تلك المفاهيم باعتبار وصف الجنسيّة أو النوعيّة أو الفصليّة.

ص: 70

هذا كلّه في الموجبات ، وعلى قياسها السوالب إذ السالبة إنّما هي لسلب الاتّحاد الّذي كان يقتضيه الحمل لولا السلب ، سواء اعتبر بين المحمول بنفس مفهومه وذات الموضوع ، أو بين مفهومه باعتبار وصفه وذات الموضوع.

وهذان الوجهان يجريان في صحّة السلب وعدمها ، ففي صورة ما لو شكّ في كون المستعمل فيه هو الموضوع له لا بدّ وأن يؤخذ المحمول مفهوم اللفظ باعتبار وصفه ، وفي صورة ما لو شكّ في فرديّة المورد لما وضع له اللفظ لا بدّ وأن يؤخذ اللفظ بنفس مفهومه محمولا ، كما يعلم وجهه بأدنى تأمّل.

وحينئذ فإن اريد بصحّة الحمل المتوهّم كونها لازمة لعدم صحّة السلب ما لو اعتبر اللفظ بنفس مفهومه محمولا في القضيّة ، ففيه : منع إطلاق الاستلزام وإنّما يستلزمها في صورة الشكّ في الفرديّة لا مطلقا.

ومع الغضّ عن ذلك ، فوجه عدولهم عنها وعدم اعتبارهم إيّاها إذا اخذت بهذا الاعتبار علامة للحقيقة انتقاض طرده بمثل « الإنسان ناطق ، أو ضاحك ، أو ماش » أو « الناطق أو الضاحك أو الماشي إنسان » وبمثل « الحيوان ناطق أو ضاحك » أو « الناطق والضاحك حيوان » إلى غير ذلك ممّا يصحّ فيه الحمل الذاتي ، وبمثل « زيد إنسان » وغيره ممّا يصح فيه الحمل المتعارفي ، فإنّ الحمل في الجميع صحيح بلا شبهة مع عدم كون ألفاظ محمولات تلك القضايا حقائق في موضوعاتها.

وإن اريد بها ما لو اعتبر مفهوم اللفظ باعتبار وصفه محمولا ، ففيه : أيضا منع إطلاق الاستلزام أوّلا ، وإنّما يستلزمها في صورة الشكّ في كون المستعمل فيه بنفسه موضوعا له لا مطلقا ، ومنع أنّهم أهملوها ولم يعتبروها في عداد العلامات ، بل اعتبروها في غير المقام التفاتا إلى أنّها مندرجة في عنوان تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللسان ، بل وعنوان نقل نقلة المتون ، ضرورة أنّ المراد بها ما يعمّ ذكر المعنى للّفظ بطريق الحمل على نحو ما هو مفروض الكلام.

وإنّما تعرّضوا في نحو المقام لذكر خواصّ الحقيقة ، منها عدم صحّة السلب

ص: 71

لينفع في مقام لم يحصل شيء من الطرق المذكورة ، فإذا اخذ ذلك علامة للحقيقة لزم منه أن يؤخذ خلافه علامة للمجاز ، فلا اعتراض عليهم.

وبالتأمّل فيما قرّرناه من قاعدة الحمل يندفع ثاني الإشكالين أيضا ، فإنّ السالبة في كلّ من صحّة السلب وعدمها إذا اخذت على الوجه الأوّل أفادت سلب الوصف عن المستعمل فيه ، نظرا إلى أنّ الإيجاب والسلب يتوجّهان إلى القيد الأخير ، فإن صحّ ذلك السلب علم عدم كون المستعمل فيه مسمّى اللفظ ، وإلاّ علم كونه مسمّاه وهذا معنى كونهما علامتين.

غاية الأمر أنّه على الأوّل يستلزم الانتقال إلى عدم تبادره عند الإطلاق.

وعلى الثاني يستلزم الانتقال إلى تبادره ، وهذا غير قادح في كونهما برأسهما علامتين ، بل علامات الحقيقة والمجاز كلّها امور متلازمة ، وإنّما تتمايز بالحيثيّات فلا بدّ من اعتبار الحيثيّة ، وإلاّ فتنصيص أهل اللسان مثلا إذا أفاد العلم بوضع لفظ لمعنى يستلزم كون ذلك المعنى متبادرا عند الإطلاق.

كما يندفع به ما قد يقال : - على طرد عدم صحّة السلب - من أنّه لا يصحّ سلب جزء الشيء أو لازمه في مثل « الإنسان ليس بناطق ، أو ضاحك » مع عدم كون اللفظ فيهما حقيقة في ذلك الشيء.

فإنّ السلب في تلك القضيّة إن اخذ على الوجه الأوّل فلا ينبغي التأمّل في صحّته ، ضرورة انتفاء وصف معنى « الناطق » و « الضاحك » عن معنى الإنسان.

وإن اخذ على الوجه الثاني ، فهو وإن لم يكن صحيحا غير أنّه لا يصلح نقضا لعدم صحّة السلب الّذي هو في نحو المثال لا بدّ وأن يؤخذ على الوجه الأوّل ، كما يظهر به أيضا وجه الملازمة بين العلامتين وذيهما ، فإنّها بعد ملاحظة ما ذكر معلومة بالوجدان ، ضرورة أنّ صحّة سلب معنى اللفظ باعتبار وصفه ممّا يوجب الانتقال إلى انتفاء ذلك الوصف عن المسلوب عنه ، وهذا معنى كونه مجازا فيه ، كما أنّ عدم صحّة سلبه بهذا الاعتبار يوجب الانتقال إلى ثبوت الوصف للمسلوب عنه ، وهذا معنى كونه حقيقة فيه ، كما أنّ صحّة سلب اللفظ باعتبار نفس مفهومه

ص: 72

يوجب الانتقال إلى كون الإطلاق بالنسبة إلى المورد مجازيّا ، وعدمها بهذا الاعتبار يوجب الانتقال إلى كون الإطلاق حقيقيّا لانكشاف وضعه حينئذ لمعنى يتناول المورد.

وإن شئت قلت : إنّه على الأوّل ينكشف به كونه مجازا في المعنى العامّ المتناول للمورد ، وعلى الثاني ينكشف كونه حقيقة في ذلك المعنى العامّ.

ثمّ إنّ هاهنا مناقشة معروفة ترجع إلى إحراز الملزوم بحيث لو تمّت لقضت باستحالة إحرازه ، وهي الدور الّذي اختلفت عباراتهم في تقريره من حيث التصريح والإضمار ، فالمعروف كونه مضمرا في علامة المجاز ومصرّحا في علامة الحقيقة.

وزعم بعض الأعلام (1) جواز كونه مضمرا فيهما معا ، وذهب جماعة من الفحول إلى كونه مصرّحا فيهما معا ، وهو الأوفق بالنظر والأنسب بضابطة الدور مصرّحا ومضمرا.

وتقريره - في جانب علامة المجاز - : أنّ العلم بكون المستعمل فيه مجازا يتوقّف على العلم بصحّة سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي عنه ، وهو يتوقّف على العلم بكونه مجازا ، إذ مع احتمال الحقيقة يستحيل العلم بالصحّة على هذا الوجه ، لجواز الاشتراك بين المسلوب والمسلوب عنه ، ولا يتفاوت الحال في اعتبار صحّة سلب المسمّى الوضعي بين كونه متّحدا أو متعدّدا ، فيعتبر على الأوّل صحّة سلب ذلك المتّحد بعينه ، وعلى الثاني صحّة سلب المتعدّد بجميع آحاده لينكشف به مجازيّة المستعمل فيه بالإضافة إلى اللفظ.

ونتيجة المقدّمتين أنّ العلم بكون المستعمل فيه مجازا يتوقّف على العلم بكونه مجازا.

وفي جانب علامة الحقيقة : أنّ العلم بكون المستعمل فيه حقيقة موقوف على العلم بعدم صحّة سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي عنه ، وهو موقوف على

ص: 73


1- قوانين الاصول 18.

العلم بكونه حقيقة إذ مع احتمال المجازيّة يستحيل العلم بعدم الصحّة على هذا الوجه ، فالعلم بكونه حقيقه موقوف على العلم بكونه حقيقة.

وإلى نحو التقريرين يرجع ما في كلام بعض الأعاظم (1) في علامة المجاز ، من أنّ العلم بصحّة السلب إنّما يتوقّف على عدم كون المعنى من المعاني الحقيقيّة ، فلو توقّف العلم بذلك على صحّة السلب لزم الدور.

وما في كلام بعض الأجلّة (2) في علامة الحقيقة ، من أنّ عدم صحّة السلب إنّما يعلم إذا علم بكون اللفظ حقيقة في المعنى ، فإنّ المجازي يصحّ سلبه قطعا ، فلو كان العلم بالحقيقة موقوفا على العلم بعدم صحّة السلب لزم الدور.

وأمّا من توهّمه مضمرا في جانب علامة المجاز ، فقد قرّره - على ما في كلام بعض الأعلام مصرّحا بكونه مضمرا بواسطتين - : بأنّ كون المستعمل فيه مجازا لا يعرف إلاّ بصحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة ، ولا يعرف سلب جميع المعاني الحقيقيّة إلاّ بعد معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها ، لاحتمال الاشتراك فإنّه يصحّ سلب بعض معاني المشترك عن بعض ، وهو موقوف على معرفة كونه مجازا ، فلو أثبت كونه مجازا بصحّة السلب لزم الدور.

ويرد عليه أوّلا : إنّ المقدّمة الثانية المفروض كونها واسطة لا تغاير المقدّمة الاولى بالذات بل هي عينها ، فإنّه إذا علم بصحّة سلب العين بمعنى الذهب والفضّة والجارية والباكية والركبة مثلا عن الربيئة كانت في معنى العلم بأنّها ليست بشيء منها.

ولو سلّم المغايرة ، فهي مغايرة استلزاميّة على غير جهة التوقّف بدليل عدم الترتّب بينهما كما يدركه الوجدان ، وما عرفته في تعليل وجه التوقّف فمحلّه المقدّمة الاولى المحكوم عليها بالحاجة إلى صحّة سلب الجميع ، كما هو واضح.

وثانيا : إنّه على فرض تسليم الإضمار مضمر بواسطة لا بواسطتين ، فإنّ

ص: 74


1- إشارات الاصول : 35 ( الطبعة الحجرية ).
2- هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه اللّه.

الواسطة فيما بين مقدّمات الدور عبارة عن المقدّمة المتخلّلة فيما بين الصغرى والكبرى ، اللتين تتمايزان بكون الموقوف في إحداهما عين الموقوف عليه في الاخرى ، فالاولى هي الصغرى كما أنّ الثانية هي الكبرى.

ولا ريب أنّ المتخلّلة هنا مقدّمة واحدة ، وهي كون معرفة سلب جميع المعاني الحقيقيّة متوقّفة على معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها.

ولعلّ توهّم من توهّم ذلك نشأ عن أخذ الكبرى إحدى الواسطتين ، لأنّها مع المقدّمة المذكورة متخلّلة بين الصغرى والنتيجة وهو كما ترى ، مع قضائه بسقوط الدور المصرّح بالمرّة.

وأمّا من توهّمه مضمرا في علامة الحقيقة كبعض الأعلام (1) فقد قرّره : بأنّ معرفة كون اللفظ حقيقة في المورد - كالإنسان في البليد - موقوفة على عدم صحّة سلب معانيه الحقيقيّة عنه ، وعدم صحّة سلب معانيه الحقيقيّة عنه موقوف على عدم معنى حقيقي له يجوز سلبه عنه ، ومعرفة عدم هذا المعنى موقوفة على معرفة كون اللفظ حقيقة فيه.

ويرد عليه : إنّ عدم صحّة سلب الجميع في قضيّة لا يصحّ (2) إمّا أن يراد به ما يكون مفاده سلب العموم على معنى رفع الإيجاب الكلّي ، ليكون المعنى : أنّ علامة الحقيقة أن لا يصحّ سلب جميع الحقائق سواء صحّ سلب البعض أو لا ، أو يراد به ما يكون مفاده عموم السلب على معنى السلب الكلّي ، ليكون المعنى : أنّ علامة الحقيقة أن لا يصحّ سلب شيء من الحقائق ، فإن كان الأوّل سقط اعتبار الواسطة لعدم الحاجة إليها حينئذ ، فإنّه يصحّ العلم بعدم صحّة سلب الجميع على هذا الوجه مع العلم بأنّ للّفظ معنى آخر يصحّ سلبه عن المورد كما هو واضح.

وإن كان الثاني ، بطلت المغايرة بين المقدّمتين الاولى والثانية ، فإنّ العلم بعدم

ص: 75


1- قوانين الاصول : 1.
2- والمراد به قضيّة قولنا : لا يصحّ سلب الجميع ، كما أشار إليه في تعليقته على القوانين بقوله : فإنّ عدم صحّة سلب الجميع الذي هو في معنى قولنا : لا يصحّ سلب الجميع ... الخ.

صحّة سلب شيء من الحقائق عن المورد في معنى العلم بعدم معنى للّفظ يصحّ سلبه عنه.

تقرير الدور في صحّة السلب وعدمها

ولو سلّم المغايرة فالثانية ممّا يستلزمها الاولى لا أنّها يتوقّف عليها ، هذا مع ما في الالتزام بهذا الاعتبار في علامة الحقيقة من الفساد الواضح ، فإنّ عدم صحّة سلب جميع الحقائق عن المورد على هذا الوجه غير معقول ، إذ المورد إمّا بنفسه معنى حقيقي للّفظ بالنظر إلى الواقع ، أو فرد من معنى حقيقي له.

والأوّل لا يتصوّر فيه إلاّ عدم صحّة سلب أحد الحقائق على التعيين ، وإلاّ لزم بملاحظة ما سبق - من أنّ عدم صحّة السلب في جميع موارده يستلزم صحّة الحمل - صدق حقائق متعدّدة على حقيقة واحدة ، وكذلك على الثاني ، وهذا كما ترى محال إلاّ على الثاني إذا كانت الحقائق امورا متلازمة متصادقة في مصداق واحد.

ولا ريب أنّ تنزيل العلامة إلى نحو هذه الصورة النادرة بعيد عن نظر أرباب الفنّ ، مع أنّ اعتبار نحو ذلك في موضع الحاجة إلى النظر في العلامة التزام بما لا حاجة إليه ، حيث لا غرض من إعمالها والنظر فيها إلاّ استعلام كون المورد مسمّى اللفظ أو اندراجه في مسمّاه.

وواضح أنّ هذا الغرض يتأتّى لمجرّد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، على معنى بعض الحقائق.

ودعوى : أنّه لا يثبت حينئذ إلاّ الحقيقة في الجملة لا مطلقا ممّا لا يرجع إلى محصّل ، فإنّ الحقيقيّة وصف في المعنى تلاحظ بالإضافة إلى اللفظ في نوع الاستعمالات الطارئة له باعتبار هذا المعنى ، فلا تضاف إلى معنى من معانيه بل هي من هذه الجهة ليست من الامور الإضافيّة ليلاحظ فيها الإضافة والنسبة ، وإنّما هي صفة تابعة للوضع ، فتثبت حيثما يثبت.

نعم ربّما تلاحظ النسبة في المجازيّة ، كما في المشترك إذا استعمل في أحد معانيه لا للوضع الثابت له بل لعلاقة بينهما ، فيقال : إنّه مجاز بالإضافة.

ص: 76

ومن هنا التزموا في تعريف الحقيقة بما التزموا من اعتبار قيد الحيثيّة ، فكونه مجازا إنّما هو بالنسبة إلى هذا المعنى لا مطلقا ، ولذا يشترط في ثبوت المجازيّة المطلقة صحّة سلب جميع الحقائق ، وإلاّ لا يعلم بانتفاء الوضع عن المورد مطلقا ، ومقايسة عدم صحّة السلب عليها في اعتبار الجميع بالمعنى المفروض كمقايستها عليه في الاكتفاء بالبعض ممّا يبعد عن طريقة العلماء ، بل خروج عنها بالمرّة ، لوضوح الفرق بينهما كرابعة النهار.

ثمّ بملاحظة ما قدّمناه مرارا يندفع الدور ، لتغاير محلّ التوقّف تغايرا ذاتيّا ، كما لو كان الناظر في الأمارتين جاهلا ساذجا أو مشوبا لعلمه في الجملة ، فإنّ المراد بصحّة السلب وعدمها حينئذ ما تتحقّق عند أهل العرف العالمين بحال اللفظ المميّزين لحقائقه عن مجازاته ، وهما علامتان للجاهل بأحد هذين المذكورين ، أو اعتباريّا كما لو كان جاهلا مشوبا ، لعلمه الإجمالي بمسمّى اللفظ مع رجوع شكّه إلى كونه في الاندراج ، لتعدّد جهة التوقّف حينئذ بالإجمال والتفصيل فلا دور مطلقا.

وممّن دفع الدور على الوجه الّذي قرّرناه بعض الأجلّة (1) من أنّ المراد صحّة السلب وعدمها في العرف على الإطلاق ، أي في الكلام المجرّد عن القرينة وحينئذ فلا دور ولا إشكال ، وذلك لأنّه إذا صحّ في العرف أن يقال للبليد : « ليس بحمار » مع تجرّد الكلام عن القرينة المعيّنة للمراد ، علم أنّ « الحمار » لم يوضع لما يتناول « البليد » وإلاّ لم يصحّ سلبه عنه إلاّ بقرينة ، وإذا لم يصحّ في العرف أن يقال له : « ليس بإنسان » مع التجرّد علم أنّ الإنسان موضوع لما يتناوله ، وإلاّ لصحّ سلبه عنه من غير قرينة وذلك واضح.

وفي معناه ما أفاده الوحيد البهبهاني (2) : من أنّ المراد سلب ما يستعمل فيه اللفظ عرفا مجرّدا عن القرينة وما يفهم منه كذلك عرفا ، إذ لا شكّ في أنّه يصحّ

ص: 77


1- هو السيّد بحر العلوم قدس سره. ( منه ).
2- الفوائد الحائريّة : 325.

عرفا أن يقال للبليد : « إنّه ليس بحمار » ولا يصحّ أن يقال : « ليس برجل ، ولا ببشر ، أو بإنسان ».

وهذا ما حكاه بعض الأعلام بعين تلك العبارة لكنّه اعترض عليه : بأنّ ذلك مجرّد تغيير عبارة ولا يدفع السؤال ، فإنّ معرفة ما يفهم من اللفظ عرفا مجرّدا عن القرائن هو بعينه معرفة الحقائق ، سواء اتّحد المفهوم العرفي وفهم معيّنا أو تعدّد بالاشتراك ففهم الكلّ إجمالا ، وذلك يتوقّف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو عين ما يفهم عرفا على التعيين ، أو من جملة ما يفهم عرفا على الإجمال ، فيبقى الدور بحاله انتهى (1).

ولعلّه قدس سرّه أخذ ما في العبارة من قيد « عرفا » في الموضعين الأوّلين قيدا « للاستعمال » و « الفهم » كما هو مقتضى صريح كلامه ، وحينئذ فالاعتراض عليه كما ذكره.

ولكن يدفعه : ذلك القيد في الموضع الثالث ، فإنّه ظاهر كالصريح في كونه قيدا « للصحّة وعدمها » وأصرح منه ما في ذيل العبارة من قوله : « والحاصل الصحّة وعدمها العرفيّان علامتان » ومع ذلك يتعيّن ما في أوّل العبارة لكونه قيدا للسلب الّذي يضاف إليه الصحّة وعدمها ، وعليه فلا اعتراض.

وفي كلام جماعة منهم الفاضل في شرح الزبدة ، والنراقي في عين الاصول دفع الدور بأنّ المراد من قولنا : « صحّة السلب من علامات المجاز » إنّا إذا علمنا المعنى الحقيقي للّفظ ومعناه المجازي ولم نعلم ما أراد القائل منه ، فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد أنّ المراد المعنى المجازي.

ثمّ قالوا : إنّ الدور لا يندفع في جانب عدم صحّة السلب ، فإنّا إذا علمنا المعنيين ولم نعلم أيّهما ، المراد فلا يمكن معرفة كونه حقيقة بعدم صحّة سلب المعنى الحقيقي.

ص: 78


1- قوانين الاصول 21 : 1.

وعلّله بعضهم كما عن المحقّق الشريف ، بأنّ العامّ المستعمل في فرده مجاز مع امتناع سلب معناه عن مورد استعماله.

وهذا كما ترى لا ينطبق على المدّعى ، لوضوح الفرق بين انتقاض طرد العلامة وبين تضمّنها الدور ، هذا مع ما في البيان المذكور بالقياس إلى علامة المجاز من حيث إنّه بظاهره لا ينطبق على قواعدهم ، وما هو المقصد الأصلي من وضع العلامات كما لا يخفى.

ويمكن إصلاحه بضرب من التوجيه : بكون العلم بالمعنيين مرادا به الإجمالي وبالمورد ما يكون فردا مردّدا بين كونه من المعنى الحقيقي المعلوم بالإجمال أو من المعنى المجازي المعلوم بالإجمال ، مع ورود الاستعمال فيه من باب إطلاق الكلّي على الفرد المردّد بين كونه المعنى الحقيقي أو المجازي « كالماء » إذا أطلق على « ماء السيل » المشكوك في كونه باعتبار مسمّاه الوضعي أو باعتبار مسمّى « الوحل » الّذي قد تستعمل فيه الماء مجازا.

وممّا يؤيّد إرادة هذا المعنى قولهم : « فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد ... الخ » فإنّ المورد لا يراد به إلاّ مورد الاستعمال ، ولا يجوز أن يراد به مع فرض الجهل بالمراد إلاّ الفرد مع جهالة حاله ، مع أنّ السلب من دون العلم بالمسلوب منه غير معقول ، ولا يصلح له في مفروض العبارة إلاّ الفرد ، وعليه فمفادها ما يرجع إلى ما قرّرناه أخيرا.

لكن يشكل : بأنّ هذا التوجيه يقضي بجريان الجواب في علامة الحقيقة أيضا ، فلا وجه لما تقدّم فيه من الإشكال ، إلاّ أن يوجّه أيضا ، بأنّ العلم الإجمالي لا يكفي في الحكم على اللفظ بكونه حقيقة ، لأنّه كما يجامع فرض الإطلاق كذلك يجامع فرض الاستعمال في الخاصّ بقيد الخصوصيّة ، واستعمال العامّ فيه مجاز مع عدم صحّة سلبه عنه.

لكن يدفعه : فرض الإطلاق من أوّل الأمر ورجوع الشكّ في الفرد إلى تعيين المعنى العامّ المراد من اللفظ.

ص: 79

ومن الأجلّة (1) من أجاب عن الدور أيضا : بأنّ المراد بصحّة السلب هو صحّة سلب المعنى الملحوظ في الإثبات في نفس الأمر لا مطلق المعنى ، حتّى يلزم فساد الحكم بصحّة السلب في بعض صوره ، وعدم دلالته على المجاز في بعض آخر ، ولا خصوص المعنى الحقيقي ليلزم الدور في العلامة.

وتوضيح ذلك : إنّ في إطلاق « الحمار » على « البليد » قد لوحظ معنى الحيوان الناهق ، فإنّ إطلاقه عليه إنّما هو بهذا الاعتبار ، مع أنّه يصحّ سلب هذا المعنى بعينه عنه في نفس الأمر ، فيقال : « البليد ليس بحمار » أي ليس بحيوان ناهق في نفس الأمر فتكون مجازا فيه ، إذ لو كان حقيقة لكان البليد حمارا ، أي حيوانا ناهقا في نفس الأمر والمفروض خلافه.

وإذا عرفت معنى صحّة السلب الّذي هو علامة المجاز تبيّن لك المراد من عدم صحّة السلب الّذي هو علامة الحقيقة.

ويرد عليه : أنّ صحّة السلب وعدمها النفس الأمريّين وإن كانا ملزومين للمجاز والحقيقة بحسب نفس الأمر ، غير أنّهما ما لم ينكشفا للجاهل لا يترتّب عليهما فائدة العلامة كما مرّ مرارا ، كما أنّهما إذا انكشفا من دون معلوميّة وصف المعنى المسلوب ليسا بملزومين لهما ، وكونه في نفس الأمر هو المعنى الحقيقي لا يجدي في معرفة كون المعنى المسلوب عنه هو المعنى المجازي أو الحقيقي ، فلا بدّ أوّلا من معرفة أصل الصحّة وعدمها ، وثانيا من معرفة كون المسلوب هو المعنى الحقيقي ، وهو مع الجهل بحال المستعمل فيه المسلوب عنه عند استعلام حاله بهما دوريّ لا محالة.

ومن الأفاضل (2) من دفع الدور ، بأنّ ما يتوقّف عليه الحكم بعدم صحّة السلب هو ملاحظة المعنى الحقيقي بنفسه ، لا ملاحظته بعنوان كونه معنى حقيقيّا ، والمعلوم بالعلامة المفروضة هو الصفة المذكورة.

ص: 80


1- هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه اللّه.
2- هداية المسترشدين : 50 ( الطبعة الحجريّة ).

غاية الأمر أن يلاحظ مع نفس المعنى ما يتعيّن به كونه معنى حقيقيّا في الواقع حتّى لا يحتمل بحسب الواقع أن يكون المحكوم بعدم صحّة سلبه غير ذلك ، وذلك كأن يعتبر فيما يحكم بعدم صحّة سلبه أن يكون هو المعنى المفهوم منه حال الإطلاق ، إذ ليس ذلك إلاّ معناه الموضوع له بحسب الواقع وإن لم يلاحظ بعنوان أنّه الموضوع له ، فلا دور بالتقرير المذكور.

وملخصه : إنّ المتوقّف على العلم بعدم صحّة السلب ، إنّما هو وصف المعنى الحقيقي الّذي هو المستعمل فيه ، والّذي يتوقّف عليه العلم بعدم صحّة السلب إنّما هو ذات المعنى. نعم ، يشترط في المعنى المسلوب كونه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق.

ويضعّفه : أنّ عدم صحّة سلب مفهوم اللفظ حال الإطلاق عن المستعمل فيه لا يعلم إلاّ بعد العلم بكونه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق ، ولا معنى له إلاّ العلم به بعنوان أنّه الموضوع له ، فالدور بحاله على ما هو مفاد ظاهر العبارة.

ومن الأعلام من دفع الدور بوجهين :

أحدهما : أنّ المراد بكون صحّة السلب علامة للمجاز ، أنّ صحّة سلب كلّ واحد من المعاني الحقيقيّة عن المعنى المبحوث عنه علامة لمجازيّته بالنسبة إلى ذلك المعنى المسلوب ، فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر فيكون ذلك المبحوث عنه مجازا مطلقا ، وإن تعدّد فيكون مجازا بالنسبة إلى ما علم سلبه عنه لا مطلقا ، فإنّه إذا استعمل « العين » بمعنى « النابعة » في « الباصرة الباكية » بعلاقة جريان الماء فيصحّ سلب « النابعة » عنها ، ويكون ذلك علامة كون « الباكية » معنى مجازيّا بالنسبة إلى « العين » بمعنى النابعة ، وإن كانت حقيقة في « الباكية » أيضا بوضع آخر.

ومنه يظهر حال عدم صحّة السلب بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ، فإنّ المراد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، فيقال : إنّه علامة لكون ما لا يصحّ سلب المعنى الحقيقي عنه معنى حقيقيّا بالنسبة إلى ذلك المعنى الّذي لا يجوز سلبه

ص: 81

عنه وإن ، احتمل أن يكون للّفظ معنى حقيقي آخر يصحّ سلبه عن المبحوث عنه فيكون مجازا بالنسبة إليه. انتهى ملخّصا.

ويرد عليه : أنّه إن أخذ الصحّة وعدمها عرفيّين - حسبما بيّنّاه - فلا قاضي معه بملاحظة الإضافة والنسبة ، مع فساده بنفسه بالقياس إلى علامة الحقيقة كما تقدّم إليه الإشارة ، وإلاّ فلا يجدي في دفع إشكال الدور ، ضرورة أنّ صحّة السلب حينئذ لا يعلم بها إلاّ مع العلم بمغايرة المعنيين المسلوب والمسلوب عنه ، كما أنّ عدمها لا يعلم به إلاّ مع العلم بالاتّحاد.

نعم هاهنا كلام آخر وهو أنّ المستفاد من المجيب في حواشيه المتعلّقة بهذا المقام (1) أنّه لا يضايق عن كون المراد بالصحّة وعدمها ما هو بحسب العرف ، بل هو صريح ما ستسمعه منه ، وتوهّم مع ذلك لزوم الدور بناء منه على كون المعتبر في إعمالهما مراعاة أمرين :

أحدهما : العلم بتعيين المعنى المسلوب.

وثانيهما : العلم بكونه معنى حقيقيّا ، فإعمالهما من الجاهل بحال المستعمل فيه مع مراعاة هذين الأمرين يفضى إلى الدور ، حيث إنّه أورد على نفسه سؤالا ، بقوله : لا يقال : بعد البناء على ملاحظة النسبة والإضافة لا حاجة إلى اعتبار كون المسلوب معنى حقيقيّا ، فإذا علم صحّة سلب معنى لذلك اللفظ عن المبحوث عنه فيصدق أنّ المبحوث عنه معنى مجازي بالنسبة إليه ، بحيث لو استعمل فيه لصار مجازا ولا حاجة إلى تعيينه حتّى يلزم الدور.

فأجاب عنه بقوله : لا ثمرة للجاهل باصطلاح قوم رأسا إذا فهم بسبب سلبهم لفظا باعتبار معنى مجهول أنّه مجاز في المسلوب منه بملاحظة ذلك المعنى المسلوب المجهول.

وإنّما يظهر الثمرة له بعد معرفة المعنى المسلوب حتّى يجري على المسلوب منه أحكام المجاز ، وهذا وجه الاحتياج إلى التعيين.

ص: 82


1- قوانين الاصول 1 : 21.

وأمّا اعتبار كونه معنى حقيقيّا فلأنّا نقول : المجازيّة عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة ، وذلك لا يتصوّر إلاّ بعد تعيين ما وضع له ، فإذا لم يعلم كون المسلوب معنى حقيقيّا أو ممّا وضع له اللفظ ، فكيف يقال : إنّ المسلوب منه معنى مجازي له. ولا ريب أنّ مطلق السلب لا يدلّ على كون المسلوب معنى حقيقيّا إلى آخر كلامه رحمه اللّه.

فرجع البحث إلى صحّة دعوى اعتبار الأمرين وسقمها.

فنقول : أمّا معرفة كون المسلوب معنى حقيقيّا للّفظ فممّا لا ينبغي التأمّل في اعتباره لكلّ من العلامتين ، وهو الباعث على ما قدّمناه في تفسيريهما من أخذ المسمّى الوضعي والمفهوم العرفي ، لكن لا لما علّله من أنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة لا يتصوّر إلاّ مع تلك المعرفة ، بل لأنّه لولاها لم يمكن العلم بمجازيّة المسلوب عنه بواسطة صحّة السلب ولا بحقيقيّته بواسطة عدمها ، إذ مع احتمال كون المسلوب هو اللفظ باعتبار معنى مجازي له ، يتطرّق إلى علامة المجاز احتمال كون المسلوب منه هو المعنى الحقيقي ، وإلى علامة الحقيقة احتمال كونه المعنى المجازي المتّحد مع المسلوب ، غير أنّه لا يعتبر في إحراز ذلك الشرط سبق تلك المعرفة ، بل يكفي حصولها من حين النظر في العلامتين ، وطريقها : كون اللفظ المأخوذ في محمول السالبة على أحد الوجوه الثلاث ، من تجرّده عن القرائن ، أو اقترانه بما لا يلتفت إليه ، أو كون الالتفات لا لجهة الصرف ، وستقف بعيد ذلك على تمام هذا الكلام.

وأمّا معرفة تعيين ذلك المعنى المسلوب بعد معرفة كونه حقيقيّا فممّا ينبغي القطع بعدم اعتباره لاستلزامه الدور الغير المندفع ، حتّى مع ملاحظة الإضافة والنسبة ، وكأنّ توهّم من توهّم لزومه إنّما نشأ عن توهّم اعتبار تلك المعرفة ، ولا يلزم من عدم اعتبارها اختلال فيما هو الغرض الأصلي من وضع العلامتين.

ودعوى : عدم ظهور ثمرة للجاهل بدونها ، مع أنّها لا تتمشّى في علامة الحقيقة ، لوضوح أنّه إذا علم بعدم صحّة سلب اللفظ باعتبار معناه الحقيقي

ص: 83

المجهول عينه انكشف كونه هو المستعمل فيه ، فتحصل معرفة التعيين بمجرّد تلك العلامة ، فيترتّب عليه أحكام الحقيقة من جواز الاستعمال فيه بلا قرينة ، ووجوب الحمل عليه لو وجد مستعملا كذلك في خطاب شرع أو غيره.

يدفعها : منع انتفاء ما هو من ثمرات مجازيّة المستعمل فيه من حيث إنّه من ثمرات المجازيّة ، فإنّ المجاز لا حكم له إلاّ أنّ العالم به إذا أراد الاستعمال فيه للإفهام فلا يستعمل إلاّ بقرينة ، وإذا وجد اللفظ مجرّدا عنها عند استعمال غيره فليس له أن يحمله عليه.

ولا ريب أنّ كلاّ من ذلك ممّا يحصل للجاهل بتعيين المعنى المجازي.

نعم هو لا يتمكّن عن الاستعمال الحقيقي ، ويتوقّف عن الحمل إذا وجد اللفظ مستعملا بلا قرينة.

ولا ريب أنّه ليس انتفاء لما هو من ثمرات المجازيّة المعلومة بالعلامة ، بل هو انتفاء لما هو من ثمرات حقيقيّة المعنى المسلوب لمكان الجهل بها على جهة التعيين ، فلا يكون اختلالا فيما هو مقصود من علامة المجاز ، بل هو اختلال في فائدة الحقيقة ناش عن عدم معرفة التعيين ، فلا بدّ في تحصيلها من إزالة الجهل من هذه الجهة بمراجعة سائر علامات الحقيقة الموجبة لمعرفة التعيين ، وبذلك يعلم منع هذه الدعوى أيضا لو اريد من الأحكام الغير الجارية بدون تلك المعرفة ما يرجع إلى مقام البلاغة ، أو ما يرجع إلى حال خطاب الشرع الّذي لا يقصد من وضع العلامات هنا إلاّ استعلامه ، فإنّ الكلّ من واد واحد.

في نبذة من الامور المهمّة

وينبغي ختم المسألة بإيراد نبذة من الامور المهمّة :

الأوّل : أنّ صحّة السلب وعدمها لا بدّ لأخذهما علامتين من إحرازهما بطريق علمي أو طريق يقوم مقام العلم ، من ظهور لفظي أو أصل لفظي معمول في تشخيص المراد ، وحيثما انتفى هذه الامور تعذّر إحرازهما فيندرج في المقام صور كثيرة :

منها : ما لو لم يعلم بشيء من الصحّة وعدمها في سالبة متداولة عند العرف ،

ص: 84

ولا يحرز فيها شيء من العلامتين ، وإن ظنّ بأحدهما ما لم يستند إلى ظهور لفظي وما بحكمه.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها بحسب نفس الأمر ، مع كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي للعلم بتجرّده في محمول القضيّة عن القرينة ، أو بعدم الالتفات إلى القرينة الموجودة في لحاظ السلب ، أو بكون اعتبارها لا لجهة الصرف ، وهذه هي العلامة المحرزة بطريق العلم فلا إشكال فيها.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها مع الاشتباه في حال السلب الوارد في القضيّة ، باعتبار تردّده بين كونه إنّما اعتبر بحسب نفس الأمر ، أو هو صوري اعتبر لمجرّد المبالغة على حدّ ما في مثل « البليد ليس بإنسان » حيث يصحّ السلب عرفا من باب المبالغة أو « ليس بحمار » لعدم صحّته كذلك من باب المبالغة ، وهذه تلحق بالصورة السابقة تعويلا على ظهور السالبة عند إطلاقها في السلب الواقعي النفس الأمري ، فلا يلتفت إلى احتمال غيره.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها وكون السلب إنّما اخذ في القضيّة باعتبار نفس الأمر مع الاشتباه في محمولها ، لاحتمال وجود القرينة أو الالتفات إلى القرينة الموجودة ، الموجب لتردّد اللفظ بين كونه مرادا منه مسمّاه الحقيقي أو غيره ، وهذه أيضا تلحق بما تقدّم اعتمادا على أصالة عدم القرينة ، أو أصالة عدم الالتفات إليها.

ولا يرد عليها هاهنا ما تقدّم في مسألة التبادر ، لظهور الفرق بين المقامين ، فإنّ المقصود من توسيطهما هاهنا تشخيص المراد من اللفظ الوارد في القضيّة المتلقّاة من العرف ، سواء كانت ملقاة إلى الجاهل الطالب لإحراز الأمارة نفسه أو غيره.

ولا ريب في اعتبار الاصول العدميّة المحرزة للمراد ، بخلافهما ثمّة كما عرفت.

ولا يرد أنّه يوجب تركّب العلامة من جزءين : أحدهما الأصل ، لعدم كون

ص: 85

الأخذ بالأصل هاهنا على أنّه جزء بل على أنّه طريق إلى إحراز العلامة حيث إنّ المعتبر فيها كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي ، ولا يحرز كون المراد منه المسمّى الحقيقي إلاّ بهذا الطريق.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها وكون السلب معتبرا بحسب نفس الأمر مع الاشتباه في حال اللفظ أيضا ، لعدم تبيّن جهة الالتفات في القرينة الملتفت إليها ، لتردّدها بين كونها إنّما اعتبرت لجهة الصرف أو غيرها من التأكيد ونحوه ، فهل هي أيضا ملحقة بالصور المتقدّمة أو هي هاهنا نحوها في باب التبادر؟

فإمّا أن يقال فيها بالتوقّف ، بناء على أنّه لا طريق إلى إحراز كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي ، من الظهور والأصل المذكورين.

أمّا الأوّل : فلطروّ الإجمال للفظ لعارض اقترانه بما يتردّد بين الصرف وغيره ، فلا يظنّ معه بإرادة المعنى الحقيقي.

وأمّا الثاني فلوقوع الشكّ في الحادث بعد تيقّن الحدوث ، ولا مجرى للأصل معه.

أو يقال : بمنع سقوط الظهور اللفظي ، بناء على أنّه إنّما يعتبر في مورده بالنوع وإنّما يعدل عنه إذا قام ظنّ شخصي معتبر ، أو ظنّ نوعي أقوى منه بخلافه ، والقرينة المردّدة إنّما يصادم الظنّ الشخصي ، وهي غير مفيدة للظنّ الشخصي بالخلاف ، فيبقى الظنّ النوعي من جهة اللفظ سليما.

أو يقال : بأنّ احتمال التأكيد ينفى بأولويّة التأسيس ، ثمّ ينفي احتمال التعيين بأصالة عدم الاشتراك ، فيعود الأمر إلى تعارض المجاز والاشتراك المعنوي. ويرجّح الثاني بغلبة القرائن المفهمة ، بدعوى : أنّ غالب الألفاظ معانيها مفاهيم كلّية لا يستعمل فيها تلك الألفاظ إلاّ وأن يراد منها الأفراد غالبا على طريقة إطلاق الكلّي على الفرد ، وظاهر أنّ الخارج الّذي يفيد الخصوصيّة ليس إلاّ القرينة المفهمة ، والمفروض أنّها هي الغالب ، أوجه أوجهها أوسطها لما سيأتي تحقيقه في بحث أصالة الحقيقة.

ص: 86

الثاني : إنّ عدم صحّة السلب ، كثيرا مّا يثبت به ما يتردّد بين كونه نفس مسمّى اللفظ الموضوع له ، أو فردا من مسمّاه ، بناء على صلوحه لأن يثبت به تارة كون المسلوب عنه نفس ما وضع له اللفظ ، واخرى كونه من أفراده ، وهل هنا أصل وميزان يقتضي الخروج عن الشبهة من هذه الجهة أو لا؟

فقد يقال : بأنّ هنا ميزانا وهو الرجوع إلى صحّة السلب ، فإن صحّ السلب عنه مع اعتبار الخصوصيّة يتبيّن كونه فردا ، لوضوح صحّة سلب الكلّي عن الفرد الملحوظ بقيد الخصوصيّة ، وإلاّ يتبيّن كونه نفس المسمّى الحقيقي ، وفي إطلاقه من الضعف ما لا يخفى ، بل دعوى صحّة سلب الكلّي عن الفرد الملحوظ بقيد الخصوصيّة مطلقا من أوضح المفاسد.

فإنّ السلب في الحمليّات يتبع الإيجاب ولا ريب أنّ الحمل في طرف الإيجاب يقتضي الاتّحاد على معنى كون المحمول متّحد الوجود مع الموضوع ، ومعناه : إنّ المحمول في ضمن الموضوع ليس له وجودا آخر ممتاز عن وجود الموضوع بل موجود بعين وجوده ، فإن كان الاتّحاد بهذا المعنى صدقا ومطابقا للواقع لزمه أن لا يصحّ سلبه ، وإن أخذ مع الموضوع في الإيجاب ألف خصوصيّة ، وإن لم يكن صدقا لزمه أن يصحّ سلبه ، وإن جرّد الموضوع عن جميع الخصوصيّات ، بل تجريد الموضوع بملاحظة قاعدتهم « إنّ موضوع القضيّة لا بدّ وأن يؤخذ باعتبار المصداق ومحمولها باعتبار المفهوم » عن الخصوصيّة بالمرّة غير معقول ، فلو كان أخذ الخصوصيّة حينئذ موجبا لصحّة سلب الكلّي عنه ، لزم عدم صدق القضيّة في الإيجاب في شيء من الحمليّات المتعارفة وهو كما ترى.

ولعلّ الاشتباه نشأ عمّا يذكرونه من الفرق بين استعمال الكلّي في الفرد المفروض في أخذ الفرد بقيد الخصوصيّة ، وإطلاق الكلّي على الفرد المفروض في تجريده عن ملاحظة الخصوصيّة ، بكون الأوّل مجازا والثاني حقيقة وهو كما ترى ، لوضوح الفرق بين الاستعمال في الفرد أو الإطلاق على الفرد ، وبين حمل الكلّي على الفرد ، ولا يقاس أحدهما على الآخر.

ص: 87

فإن قلت : الاعتراف بكون أخذ الفرد بقيد الخصوصيّة في لحاظ الاستعمال موجبا للتجوّز ، اعتراف بكون أخذه بقيد الخصوصيّة في لحاظ الحمل موجبا لصحّة السلب ، لأنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير الموضوع ، والفرد عبارة عن الماهيّة المتشخّصة وهي غير الكلّي بمعنى الماهيّة لا بشرط.

ولا ريب أنّ مقتضى شيء لشيء صحّة سلب الشيء الثاني عن الأوّل.

قلت : هذا إذا اعتبر الحمل في لحاظ الحمل من باب الحمل الذاتي المعبّر عنه بحمل هو هو ، وإذا اعتبر من باب الحمل المتعارفي فلا ، كما لا يخفى.

فالوجه في بيان الميزان للخروج عن الاشتباه أن يرجّح احتمال الفرديّة تعويلا على ظهور لفظي قائم في نحو المقام ، فإنّ السلب في القضايا على ما عرفت يتبع الإيجاب حتّى في الظهورات العرفيّة المنساقة منها.

ومن المقرّر إنّ الحمل في الإيجاب ظاهر في الاتّحاد الوجودي ، ولازمه أن يكون القضيّة بمقتضى وضعها الطبيعي ظاهرة في الحمل المتعارفي ، المفيد لصدق المحمول على الموضوع باعتبار كونه من مصاديقه ، والحمل الذاتي في القضايا مخصوص بموارد الحصر ولو مبالغة.

ولا ريب أنّ الحصر في معنى القضيّة أمر زائد على معناها الّذي كان يفيده وضعها الطبيعي ، ولذا يحتاج في الالتزام به إلى اعتبار أمر آخر في القضيّة زائد على أجزائها الّتي يقتضيها الوضع الطبيعي ، من تقديم وصف عامّ لموصوف خاصّ ، أو تعريف في المسند أو المسند إليه ، أو دخول كلمة « إنّما » أو غيرها ممّا يفيد الحصر ، كالنفي والاستثناء أو انفصال الضمير.

وقضيّة ذلك كون الحمل الذاتي حيثما يعتبر في القضيّة واردا على خلاف مقتضى الظاهر ، فإذا كانت في حيّز الإيجاب ظاهرة في الحمل المتعارفي كانت على اقتضائها في حيّز السلب ، فالسلب بمقتضى ظاهر القضيّة حينئذ إنّما يتوجّه إلى سلب الاتّحاد الّذي مرجعه إلى سلب فرديّة الموضوع للمحمول ، فإذا ثبت أنّ هذا السلب غير صحيح تبيّن فرديّة الموضوع ، وهذا هو مقتضى الظاهر فلا يعدل عنه إلاّ بدليل واضح.

ص: 88

وقضيّة ذلك حمل المسلوب عنه في نحو المقام على كونه فردا لما وضع له اللفظ ، وإن لم يعلم ما وضع له على جهة التفصيل إلى أن يعلم خلافه من الخارج.

وأيضا قد ذكرنا سابقا أنّ صحّة السلب وعدمها حيثما اعتبرا مع الشكّ في كون المستعمل فيه نفس الموضوع له ، لا بدّ وأن يؤخذ محمول القضيّة مفهوم اللفظ باعتبار وصف كونه مسمّاه ، بخلاف ما لو اعتبرا عند الشكّ في الفرديّة فإنّ المحمول حينئذ هو اللفظ بنفس مفهومه.

ولا ريب أنّ اعتبار الوصف في الأوّل اعتبار زائد ، لا يساعد عليه القضيّة باعتبار وضعها الطبيعي ، وليس ذلك إلاّ من جهة ظهورها حال الإطلاق في أخذ المحمول مفهوم اللفظ بنفسه.

وقد عرفت أنّه بهذا الاعتبار ملازم لفرديّة الموضوع الّذي اخذ في لحاظ السلب مسلوبا عنه.

هذا ، ولعلّه لذا لم يلتفت قد ماء أهل الفنّ من العامّة والخاصّة في عناوين بحث صحّة السلب وعدمها ، إلى ما يكون منهما معمولا لإثبات كون المسلوب عنه المستعمل فيه نفس الموضوع له أو غيره ، بل لم يتعرّضوا إلاّ لذكر ما ينطبق على صورة الشكّ في الفرديّة ، حيث مثّلوا كلمة واحدة لصحّة السلب بقولهم : « البليد ليس بحمار » ولعدمها بقولهم : « البليد ليس بإنسان » وكأنّه لإفادة حصر المورد في تلك الصورة ولو من باب المبالغة ، وليس إلاّ من جهة ظهور القضيّة بطبعها في فرديّة المسلوب عنه.

وبما قرّرناه يعلم أنّه لا وجه لتخيّل أن يقال : إنّ نحو الاشتباه المفروض يتأتّى كثيرا في جانب صحّة السلب ، بأن يتردّد المسلوب عنه بين كونه معنى مجازيّا أو فردا من المعنى الحقيقي ، وإنّما صحّ عنه السلب لما اعتبر فيه من الخصوصيّة ، فإنّ الخصوصيّة المعتبرة في موضوع القضيّة لا توجب صحّة سلب المفهوم الكلّي الصادق عليه عنه ، إلاّ إذا كان الاتّحاد المستفاد من الإيجاب كذبا واردا على خلاف الواقع وهذا خلف ، فصحّة السلب لا محالة دليل على المجازيّة الصرفة ، أو فرديّة المسلوب عنه لمعنى مجازي.

ص: 89

الثالث : أنّ صحّة السلب وعدمها في كونهما علامتين مقصوران على مجراهما لفظا واصطلاحا وزمانا ، فيجب الاقتصار في الحكم بالحقيقيّة أو المجازيّة على لفظ أو طائفة أو زمان وجدا فيه ، ولا يتعدّى من جهتهما إلى لفظ آخر ، ولا إلى طائفة اخرى ولا إلى زمان آخر ، إلاّ لوسط آخر ، وكذا الحال في التبادر وعدمه ، فلو ثبت بالتبادر أو عدم صحّة السلب كون الأمر بالمادّة حقيقة في الوجوب اللغوي - أعني الطلب الحتمي - أو الاصطلاحي - أعني الطلب الحتمي الصادر من العالي - وبعدم التبادر أو صحّة السلب كونه مجازا في الطلب الندبي أو الحتمي الغير الصادر من العالي لا يجوز التعدّي عنه إلى الأمر بالصيغة ، ويقال : بكونه حقيقة في أحد الأوّلين ومجازا في الأخير ، وكذا لو ثبت بأحد علامتي الحقيقة كون لفظ الاستفهام من حيث إنّه استفعال من الفهم حقيقة في الاستفهام التقريري - بناء على أنّ طلب الفهم أعمّ من كونه للنفس أو للغير - وبأحد علامتي المجاز كونه مجازا في الإنكاري ، لا يتعدّى منه لمجرّد ذلك إلى أدوات الاستفهام ، ويقال : بكونها حقيقة في التقريري ومجازا في الإنكاري.

وكذا في طائفة من أهل اللسان إذا وجدت العلامتان في محاوراتهم خاصّة فلا يتعدّى منها إلى طائفة اخرى لمجرّد ذلك ، وكذا في زمان بالقياس إلى سابق الزمان إذا وجدت العلامتان فيه بالخصوص ، فلا بدّ للتعدّي في كلّ من المقامات الثلاث من وسط آخر ، والمراد بالوسط الآخر في هذه المقامات أصل كلّي معتبر أو قاعدة يعتمد عليها أوجب تعدية الحكم الثابت بالعلامة في موردها إلى غيره.

والّذي يساعد عليه النظر أنّ نظير هذا الأصل ليس بثابت في المقام الأوّل ، بل طريق إجراء الحكم فيما يتعدّى إليه من اللفظ منحصر في إحراز علامة اخرى بالنسبة إليه بالخصوص ، ومع عدمها لا محيص من الوقف.

وأمّا المقامان الآخران فمقتضى النظر وجود نحو الأصل المذكور فيهما ، وهو أصالة عدم النقل المتّفق عليها عندهم ، كما يعلم بتتبّع كلماتهم في المسائل اللغويّة لاستنادهم إليها على الوجه الكلّي من دون نكير ، وأصالة الاتّحاد وعدم التغاير والاختلاف الّذي قد يعبّر عنه بأصالة التشابه ، كما اعتمد عليه غير واحد.

ص: 90

ونعني بهذين الأصلين القاعدة الّتي يقتضي البناء على العدم في مواضع احتمال النقل ، وعلى الاتّحاد في مواضع احتمال الاختلاف بين الزمانين أو الطائفتين في الاصطلاح وأوضاع الألفاظ ومعانيها.

ومدرك القاعدة بناء العرف وطريقة العقلاء - قديما وحديثا - من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فإنّهم لا يزالون يرتّبون آثار العدم على ما احتمل فيه النقل أو الاختلاف والتغاير ، وينزّلون الاحتمال بعدم الاعتناء به منزلة عدمه ، كما يرشد إليه أخذهم عن الكتب المؤلّفة القديمة من السير والتواريخ وكتب الأخبار والأحاديث القدسيّة والتفاسير وغيرها ، من الرسائل والقصائد والأشعار ونحوها ، واستفادتهم المطالب من المراسيل والمكاتبات المرسولة من الطوائف المختلفة والدول المتبائنة ، بحملهم الألفاظ المندرجة في الجميع - مفردة ومركّبة ، مادّية وهيئة - على المعاني المتداولة لديهم ، المتعارفة فيما بينهم من دون توقّف ولا نكير ولا فحص ، مع قيام احتمال تغيّر الاصطلاح واختلافه باختلاف الأوضاع والمعاني في الجميع ، وحيث إنّ العلم الضروري حاصل بعدم كون هذه الطريقة حادثة ، فربّما تكشف عن تقرير المعصومين من الأنبياء سلفا إلى خلف والأئمّة ، خلفا عن سلف بالقياس إلى ألفاظ ما له تعلّق بالشرائع والأحكام ، لقضاء العادة ببلوغ منعهم لو كان إلينا بطريق التواتر أو التسامع والتظافر.

لا يقال ، إنّما يتمّ ذلك لو كان مبناه على عدم الاعتناء بالاحتمال الملتفت إليه ، لا على عدم طروّ الاحتمال ولو من جهة الغفلة والذهول عن منشائه ، بحيث لولاهما لالتزموا الوقف لا غير ، فجهة بنائهم غير واضحة ، لأنّ الغفلة والذهول - على فرض تحقّقهما - فمبناهما على كون موجب الأصل مركوزا في أذهانهم ، ومقتضى القاعدة راسخا في ضمائرهم.

وما ادّعي في المقام فإنّما هو عدم التفات إلى الاحتمال ، وموجبه الأصل والعلم الضروري بأنّ نحو هذا الاحتمال ما نزّل وجوده رأسا منزلة عدمه.

وممّا يفصح عنه أيضا : أنّه لو تقاعد أحد عن ترتيب آثار العدم على بعض

ص: 91

ما ذكر استنادا إلى الاحتمال كان مستهجنا في نظرهم وأمرا غير مستحسن ، وليس إلاّ من جهة أنّ الاحتمال في خصوص محلّ المقال ساقط عن درجة الاعتبار ، وغير صالح لأن يعتنى به حتّى يلزم منه الوقف والتقاعد عن ترتيب أحكام.

وبالجملة : كون ما ذكر - من البناء على العدم - أصلا أصيلا وقاعدة معوّلا عليها ممّا لا سترة عليه ، فلا ينبغي الاسترابة فيه ، ولعلّه لوضوح انعقاد هذا الأصل في النفوس والأذهان ووضوح مدركه لم يتعرّضوا للبحث عن اعتباره إثباتا ولا نفيا ، وليس إلاّ من جهة أنّ التعرّض لبيان مثله داخل في توضيح الواضحات ، ولم يعهد عن أحد القدح في الاعتماد عليه ، ولا يكون إلاّ لدخول نحوه في عنوان المكابرة للوجدان ، أو المناقشات في الضروريّات الغير اللائقة بالكتمان.

الرابع : إنّ صحّة السلب وعدمها يمتازان عن التبادر وعدمه بعدم انعقادهما في جملة من الألفاظ ، وهي على ما قيل الهيئات والحروف ، وقد يلحق بهما المبهمات وغيرها ممّا وضع بوضع عامّ لأمر خاصّ ، فلا يقال : « زيد ليس بهذا » ولا « هند ليست بهذه » ولا « الجماعة المعهودة ليسوا هؤلاء » ولا الجزئي الحقيقي من المخاطب ليس « بأنت » ولا الابتداء الملحوظ بين السير والبصرة ليس « بمن » لا لأنّ السلب ليس بصحيح كما في « البليد ليس بإنسان » بل لاستهجان العرف عن أصل القضيّة ، ولو صادف السلب محلّه الواقعي ، وقضيّة ذلك دوران انعقادهما وجودا وعدما مع الاستهجان وجودا وعدما.

وربّما يعلّل العدم بالنسبة إلى الهيئآت والحروف بعدم استقلال معانيهما بالمفهوميّة ، والقضيّة من شرطها استقلال كلّ من موضوعها ومحمولها بالمفهوميّة.

وبعض ما ذكر لا يخلو عن نظر :

أمّا أوّلا : فلعدم كون إطلاق هذا القول بالنسبة إلى الهيئات في محلّه ، بل لا بدّ من تخصيصه بهيئات الأفعال - إخباريّة أو إنشائيّة - وهيئآت المركّبات الموضوعة للنسب المخصوصة - التامّة والناقصة - لعدم كونها كالحروف صالحة لأن تؤخذ في محمول القضيّة من غير تأويل على وجه يكون المسلوب مسمّياتها الوضعيّة الملحوظة بوصف أنّها مسمّيات على حدّ الحمل الذاتي.

ص: 92

وأمّا هيئات الأسماء المشتقّة فينبغي فيها القطع بالجواز ، ضرورة صحّة أن يقال في نحو قوله تعالى : ( ماءٍ دافِقٍ ) (1) إنّه ليس بدافق ، مرادا به سلب ما قام به الدفق عن المورد ، وفي نحو قوله تعالى : ( حِجاباً مَسْتُوراً ) (2) إنّه ليس بمستور ، مرادا به سلب ما وقع عليه الستر عن المورد ، وفي نحو « زيد عدل » و « خلق اللّه » أنّه ليس بعدل وخلق اللّه مرادا به سلب هذين الحدثين عن المورد ، والوجه في صحّة المذكورات أنّ الجاهل المستعلم بالنظر في العلامة ربّما يعلم إجمالا أنّ كلا من هذه الهيئآت موضوعة بنوعها لأحد هذه المفاهيم ، وأنّ خصوصيّات كلّ نوع إنّما ترد في الاستعمالات على حسبما فيها من المعاني النوعيّة ، وأنّ كلاّ منها ربّما ترد مجازا في معنى صاحبها ، فيستعلم التمييز بين حقائق معاني كلّ نوع ومجازاته بمراجعة العلامتين.

وقضيّة ذلك أن يتبيّن له في أوّل الأمثلة كون هيئة « فاعل » مجازا فيما وقع عليه المبدأ ، وفي ثانيها كون هيئة « مفعول » مجازا فيما قام به المبدأ ، وفي ثالثها كون هيئة المصدر مثلا مجازا في معنى الفاعل والمفعول ، كما أنّه يتبيّن بعدم صحّة سلب نحو الأوّل عمّا قام به المبدأ ونحو الثاني عمّا وقع عليه المبدأ ونحو الثالث عن الحدثين إنّها حقائق في هذه المعاني بحسب أوضاعها النوعيّة.

وأمّا ثانيا : فلمنع الدعوى في نحو ما ذكر من المبهمات إذا اخذت في محمول القضيّة على طريقة الحمل الذاتي ، بفرض توجّه السلب إلى مفاهيمها باعتبار وصفها عن ذات الموضوع ، المأخوذة في كلّ قضيّة نفس كلّ واحد من تلك المفاهيم ، فيقال في موارد استعمال « أنت » أو « هذا » أو غيرهما بعنوان الحقيقة أو المجاز : « أنّه ليس بأنت ، أو هذا » بإرادة الذات الملحوظة على وجه الخطاب أو الإشارة باعتبار وصف كونها مسمّاة لهذا اللفظ ، وسلبها بهذا الاعتبار عن الذات المأخوذة موضوعة الملحوظة لا بهذا الاعتبار ، فالسلب لا محالة إمّا صحيح أو غير صحيح فتأمّل جيّدا.

ص: 93


1- الطارق : 6.
2- الإسراء : 45.

الخامس : قد يفرض التعارض فيما بين التبادر وعدم صحّة السلب ، وبينه وبين صحّة السلب.

أمّا الأوّل : فكما لو قضى التبادر بكون لفظ حقيقة في شيء ومجازا في غيره كما إذا كان بمعناه الأخصّ ، أو سكت عن المجازيّة كما لو اعتبر بمعناه الأعمّ ، وعدم صحّة السلب بكونه حقيقة فيما قضى التبادر بمجازيّته ومجازا فيما قضى بحقيقيّته كما إذا اعتبر بمعناه الأخصّ ، أو سكت عن المجازيّة كما إذا اعتبر بمعناه الأعمّ ، فصور التعارض من الأربع الحاصلة من ضرب صورتي التبادر في صورتي عدم صحّة السلب ثلاث بعد إسقاط الصورة الرابعة ، وهي ما لو اعتبرا معا بمعناهما الأعمّ ، لعدم تعارض حينئذ من حيث سكوت كلّ عمّا كان يقتضيه صاحبه ، فيحكم بالاشتراك لو كان كلّ اجتهاديّا ولا ضير فيه ، لأنّ المتبّع هو الدليل والمفروض إنّ دليل منعه تعليقيّ فلا يعارض غيره ، وبتقديم الاجتهادي في صورة الاختلاف ، ومع كون كلّ فقاهيّا يؤخذ بموجب عدم صحّة السلب ، لكونه باعتبار ندرة تخلّفه عن الوضع بالقياس إلى التبادر الّذي يكثر فيه التخلّف كالنصّ ، فيعود المسألة إلى تعارض النصّ والظاهر.

وأمّا الثاني : فكما لو قضى التبادر في قضيّة شخصيّة بالحقيقيّة وصحّة السلب بالمجازيّة ، والمنسوب إلى المشهور حينئذ تقديم صحّة السلب بقول مطلق.

وقد يفصّل بما يقرب ممّا مرّ بعد تصوير الصور أربعة حاصلة عن ضرب الاجتهادي والفقاهي من أحدهما فيهما من الآخر ، وإسقاط الاجتهاديّين حذرا عن القطع في قضيّة شخصيّة بطرفي النقيض فيقدّم الاجتهادي من كلّ منهما مع الاختلاف ، وأمّا مع عدمه فيقدّم صحّة السلب لكونها من التبادر بمنزلة النصّ من الظاهر ، لندرة تخلّفها عن ذيها ، وشيوع تخلّفه عنه بكثرة استناده إلى القرينة في نفس الأمر.

أقول : هذه الكلمات في النظر الدقيق واردة على خلاف التحقيق ، بل فرض التعارض بين العلامتين كسائر علامات الحقيقة والمجازات من القضايا الغير

ص: 94

المعقولة ، سواء اخذت باعتبار ما ينعقد في نظر العالم بالوضع - الّذي هو في الحقيقة بملاحظة ما سبق من أنّ كلّما هو من لوازم الوضع عنده فهو أمارة عليه للجاهل - مادّة العلامات بأسرها ، أو باعتبار ما يحرزه الجاهل المستعلم.

أمّا على الأوّل : فلأنّ التبادر بمعنى فهم المعنى من اللفظ حال الإطلاق على أنّه لا غير مراد منه ممّا لا يجامع عدم صحّة السلب ، الّذي هو عبارة عن سلب اللفظ باعتبار ما يفهم منه حال الإطلاق عن المورد ، وإلاّ لزم كون المورد ما يفهم منه حال الإطلاق وكونه لا يفهم منه حال الإطلاق ، وهذا كما ترى مستحيل.

نعم لو اخذ التبادر بالمعنى الإجمالي فكثيرا مّا يجامع عدم صحّة السلب ، إذا كان المورد المسلوب عنه أحد المعاني المردّد فيها المفهومة من اللفظ على جهة البدليّة ، غير أنّهما مع هذا الفرض متعاضدان كما لا يخفى ، فلا تعارض أيضا.

وبما ذكرناه يعلم ما في فرض التعارض بين التبادر وصحّة السلب ، فإنّ انعقاد التبادر بالنسبة إلى معنى واحد يناقض انعقاد صحّة السلب بالنسبة إليه ، لقضائها بعدم كونه ما يفهم من اللفظ حال إطلاقه ، فهي في الحقيقة رافعة لأصل التبادر لا أنّها نافية لحكمه ليتأتّى التعارض بمعنى تنافي المدلولين ، فالتنافي في كلا الفرضين واقع بين نفس العلامتين لا بين مدلوليهما ، وهذا ليس من باب التعارض المصطلح عليه.

وأمّا على الثاني : فكذلك بناء على أنّ الجاهل عند استعلام الحقيقيّة والمجازيّة إنّما يحرز ما ينعقد عند العالم ، وقد عرفت أنّهما لا ينعقدان متعارضين ، مضافا إلى ما يلزم بالنسبة إلى الجاهل من التنافي من غير جهة المدلول باعتبار آخر ، فيما لو احرز كلاّ منهما بطريق القطع أو الظنّ ، أو اختلفا في القطع والظنّ ، لو قلنا بالتبادر الظنّي.

نعم على الظنّ النوعي في جانب صحّة السلب الناشئ عن ظهور اللفظ نوعا - حسبما تقدّم بيانه - مع الظنّ الشخصي في التبادر ربّما أمكن اجتماعهما في قضيّة شخصيّة ، غير أنّهما أيضا لا يندرجان في ضابط التعارض لوقوع المزاحمة باعتبار

ص: 95

الموضوع ، على معنى كون التبادر في الفرض المذكور رافعا لموضوع صحّة السلب ، لأنّ مبنى الكلام على حجّية التبادر الظنّي ، فيكون من باب الظنّ الشخصي المعتبر الوارد على الظنّ النوعي في باب الألفاظ ، وأمّا على المختار من انحصار طريق إحراز التبادر في العلم فهو لا يجامع صحّة السلب أو عدمها في صورة ووارد عليه في سائر الصور.

وعلى التقديرين لا يتأتّى التعارض بالمعنى المصطلح عليه ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا لو حظت العلامتان المتعارضتان حسبما توهّم مع اتّحاد اصطلاح التخاطب المتحقّق باتّحاد الطائفة والزمان.

وأمّا مع تعدّده فعدم وقوع التعارض حينئذ أوضح ، لتعدّد موضوعي العلامتين فيؤخذ بموجب كلّ بالقياس إلى موضوعه.

7 - الاطّراد وعدمه

سابعها : الاطّراد وعدمه : فإنّ الأوّل على الخلاف الآتي علامة للحقيقة والثاني علامة للمجاز ، والمراد بالأوّل كون اللفظ المستعمل في مورد لوجود معنى فيه جائز الاستعمال في كلّ مورد يوجد فيه ذلك المعنى.

وبعبارة اخرى : جواز استعمال لفظ مستعمل في مورد لوجود معنى فيه في جميع موارد وجود ذلك المعنى « كالعالم » إذا وجد مستعملا في « زيد » لوجود صفة العالميّة فيه ، و « الإنسان » إذا وجد مستعملا فيه لوجود معنى الحيوانيّة والناطقيّة فيه ، فإنّهما يجوز استعمالهما في جميع موارد وجود صفة العالميّة ، ومعنى الحيوانيّة والناطقيّة ، وذلك آية كون الأوّل حقيقة في مطلق الذات المتّصفة بالعالميّة والثاني حقيقة في مطلق الحيوان الناطق.

والمراد بالثاني خلافه كما يظهر بتأمّل قليل ، كما في « القرية » المستعملة في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) في « أهلها » لوجود صفة المجاورة فيه ، فإنّه لا يجوز استعمالها في الإبريق ولا الغراب والشاة والدجاجة ولا الشجر ، فلا يقال :

ص: 96


1- يوسف : 82.

« اكسر القرية » مرادا بها الإبريق ، ولا « اذبح القرية » مرادا بها الغراب وتالييه ، ولا « اقطع القرية » مرادا بها الشجر ، مع وجود صفة المجاورة في الكلّ ، وذلك آية كون استعماله في المورد المذكور على وجه المجاز ، وإنّ الصفة المذكورة إنّما لو حظت علاقة والجواز وعدمه المأخوذان فيهما يراد بهما الصحّة وعدمها بالمعنى المرادف للغلط ، كما هو الضابط الكلّي فيهما إذا اضيفا إلى الامور اللغويّة ، فيعتبر في علامة الحقيقة صحّة الاستعمال في جميع موارد وجود المعنى الموجود في المورد المبحوث عنه ، بحيث لو وقع الاستعمال في شيء لا يعدّ ذلك الاستعمال في نظر أهل اللغة غلطا ، وفي علامة المجاز عدم الصحّة بهذا المعنى ، بحيث لو فرض الاستعمال في الجميع يعدّ ذلك الاستعمال في نظرهم غلطا ، ومنه يعلم أنّ العبرة في الاطّراد وعدمه بما هو كذلك في نظر أهل اللغة العالمين بالأوضاع ، فإنّه ينهض علامة للجاهل إذا أحرزه بطريق علمي كالاستقراء القطعي ، وبذلك يندفع شبهة الدور المتوهّم في هذا المقام أيضا.

والعمدة فيه النظر في الملازمة بين العلامتين وذيهما ، وهذا ممّا اختلفت فيه الأنظار ، والمعروف بينهم أنّه ذات أقوال ، ثالثها ثبوت الملازمة في علامة المجاز دون علامة الحقيقة.

وقد يستدلّ على الملازمة مطلقا : بأنّ التخلّف عن الوضع ممتنع لتضمّنه الإذن في الاستعمال بخلاف العلاقة فإنّ التخلّف عنها جائز عقلا بل واقع لغة ، وهو ضعيف لأنّ صحّة الاستعمال على ما هو مقتضى التعليل - وهو التحقيق - تدور وجودا وعدما مع الإذن في الاستعمال وجودا وعدما ، والعلاقة اللازمة للمجاز لا بدّ وأن تكون مأذونا فيها على ما هو قاعدتهم ، وقضيّة ذلك امتناع التخلّف عنها أيضا كما في الوضع.

وأضعف منه بناء المسألة على الاستقراء المنوط بالغالب الّذي لا يقدح فيه مخالفة النادر ، بتقريب : إنّ الغالب في الحقائق اطّرادها في مواردها والغالب في المجازات عدم الاطّراد ، وإذا شكّ في مورد ممّا يطّرد يحكم فيه بالحقيقة إلحاقا له

ص: 97

بمورد الغالب ، كما أنّه لو شكّ في شيء ممّا لا يطّرد يحكم فيه بالمجاز إلحاقا له بمورد الغالب.

وجه الضعف : قضاء العقل ببطلان الفرق بين الحقيقة والمجاز في وجوب الاطّراد ، لاشتمال كلّ منهما على ما لا يتخلّف عنه صحّة الاستعمال وهو إذن الواضع خصوصا أو عموما ، فلا معنى لدعوى غلبة الاطّراد في جانب الحقيقة ولا غلبة خلافه في جانب المجاز ، هذا مع ما في الاستناد إلى الغلبة في إثبات الملازمة من الاعتماد على الظنّ ، المتقدّم منعه.

وأضعف من الجميع ما قيل من تفريع المسألة على اختلافهم المعروف في علائق المجازات ، فإنّما يصلح الاطّراد وعدمه علامتين على القول بكفاية نوع العلاقة في صحّة التجوّز.

وأمّا على القول باشتراط نقل الآحاد فلا ، لوجود الاطّراد حينئذ في المجازات ، وكذلك على القول بعدم اشتراط النقل وعدم كفاية النوع ، بدعوى : إناطة الأمر بالصنفف الّذي حصل الاستقراء في أفراده ، فإنّ المدار في صحّة التجوّز إذا كان على الإذن فلا يفترق الحال حينئذ في وجوب الاطّراد وامتناع التخلّف بين المذاهب.

وإذا ثبت حصول الإذن بالقياس إلى النوع بنفسه لزم منه وجوب الصحّة في جميع أفراد ذلك النوع ، والتخصيص على تقدير عموم الإذن غير معقول.

غاية الأمر إنّه إذا تبيّن عدم الاطّراد بالنسبة إلى جميع آحاد النوع ينهض ذلك مبطلا للقول بكفاية النوع ، كاشفا عن عدم ثبوت الإذن في النوع بما هو هو لا إنّه محقّق لعلامة المجاز.

والأولى في استعلام الملازمة وعدمها أن يرجع إلى الضابط المتقدّم ذكره مرارا ، من كون كلّما هو من لوازم الوضع عند العالم بالوضع - لعلمه بالوضع - علامة له ودليلا عليه للجاهل إذا كان له طريق إلى إحرازه.

وعليه فنقول : إنّ الملازمة بين الاطّراد والوضع المعتبر في الحقائق ممّا

ص: 98

لا ينبغي أن يتأمّل فيه ، بل معلوم بالوجدان ومحسوس بما يقرب من العيان ، فإنّ كلّ عاقل يقطع بأنّ اللفظ إذا وضع لمعنى كلّي عامّ لموارد فمن لوازم ذلك الوضع بعد العلم به جواز استعماله في جميع هذه الموارد ، ولا يمكن نقض تلك الملازمة بمثل « الفاضل » و « السخيّ » و « الرحمن » فإنّها حقائق في الذات المتّصفة بمبادئها مع عدم اطّرادها ، لعدم جواز استعمال الأوّلين في اللّه سبحانه مع وجود المعنى فيه ، وعدم جواز استعمال الثالث في غيره تعالى ولو وجد فيه مبدأ الرحمة ، لمنع عدم الجواز بالمعنى المتقدّم المعتبر في المقام في هذه الأمثلة ، وما يوجد فيها من المنع فهو منع شرعي ثابت بالخصوص ، أو لعموم توقيفيّة أسمائه تعالى وهو لا ينافي الجواز اللغوي.

فغاية ما في الباب ، إنّ الأوّلين لو استعملا فيه تعالى كالأخير لو استعمل في غيره كان الاستعمال محرّما عند اجتماع شروط التكليف ، ولا يلزم منه كونه ممّا يعدّ في نظر أهل اللغة غلطا كما لا يخفى.

وأمّا النقض « بالقارورة » أيضا من حيث وضعها لمطلق ما يستقرّ فيه الشيء مع عدم استعمالها إلاّ في الزجاج ، فيدفعه :

أوّلا : إنّ عدم الاستعمال فعلا أعمّ من عدم صحّته لغة ، والمعتبر هو الثاني والموجود هنا إنّما هو الأوّل ، فعدم وقوع الاستعمال لا ينافي صحّته لو وقع.

وثانيا : إنّ الاطّراد يتبع وجود الوضع وبقاء أثره وهو الاختصاص ، ولا ريب إنّ الوضع أو أثره قد زال في نحو المثال فيكون خارجا عن محلّ المقال.

وأمّا الملازمة بين عدم الاطّراد وانتفاء الوضع المعتبر في المجاز ، فإنّما تتمّ لو انحصر مصحّح الاستعمال في الوضع.

وبعبارة اخرى : لو كان التجوّز ممّا يتبع انتفاء الوضع ، ولكن يبطله دليل الخلف لكون العلاقة كالوضع مصحّحة للاستعمال كما هو المتّفق عليه فيما بينهم ، المصرّح به في كلماتهم ، مع اشتراط الإذن في اعتبار العلامة على ما هو المشتهر عندهم ، وعليه فالمجاز أيضا مطّرد لضرورة العلم بصحّة الاستعمال في كلّ مورد شملته الإذن.

ص: 99

وقضيّة ذلك عدم صلاحيّة الاطّراد لكونه علامة للحقيقة لوجوده في المجاز أيضا ، فيكون أعمّ ومن المستحيل نهوض الأعمّ دليلا على الأخصّ ، واستحالة كون عدمه علامة للمجاز لمكان التنافي بينهما ، فإنّ المجازيّة تتضمّن وجود العلاقة مع الرخصة في العلاقة الموجودة ، وعدم الاطّراد حيثما وجد فإنّما ينشأ إمّا عن عدم وجود العلاقة أو عن عدم الإذن في العلاقة الموجودة ، ومعه لا يعقل كونه علامة بل هو - على ما بيّنّاه - دائم التخلّف عن المجاز.

والمعتبر في العلامة أن لا يتخلّف عن ذيها أصلا ، فإذا وجب سقوطها عن الاعتبار لمجرّد وجود مادّة تخلّف فمع دوام تخلّفها تكون أولى بالسقوط.

هذا كلّه على حسبما يساعد عليه ظاهر النظر لكنّ الإنصاف ممّن جانب الاعتساف يقتضي الاعتراف بكونهما علامتين ، إذ لا يراد من كون عدم الاطّراد علامة انّه يدلّ على مجازيّة اللفظ مطلقا ، حتّى بالقياس إلى ما لا يطّرد فيه الاستعمال ، ليرد عليه : إنّ المجازيّة المتضمّنة للإذن في الاستعمال لا يعقل مع عدم صحّة الاستعمال ، بل المراد إنّه يدلّ على كونه مجازا في المورد لكشفه عن انتفاء وضع اللفظ بإزاء المعنى العامّ الموجود في جميع الموارد ، وهو في المثال المتقدّم مطلق ما يجاور الشيء ، على قياس ما هو الحال في الاطّراد الّذي معنى كونه علامة إنّه يدلّ على حقيقيّة اللفظ في المورد لكشفه عن وضع اللفظ بإزاء المعنى العامّ المتحقّق في جميع الموارد ، وهو مطلق الذات المتّصفة بالعالميّة ، ومطلق الحيوان الناطق في نحو المثالين المتقدّمين.

ولا ينافيهما صحّة الاستعمال في البعض الآخر من موارد وجود العلاقة غير المورد ممّا شمله الإذن المعتبرة فيها ، باعتبار فرض ثبوتها في الصنف أو في النوع ، إذ ليس المراد بالاطّراد المأخوذ علامة للحقيقة صحّة الاستعمال في الجملة ، كما أنّه ليس المراد بعدمه عدم صحّة الاستعمال في غير المورد ، بل المراد بالأوّل صحّة الاستعمال في جميع موارد وجود المعنى الملحوظ في المورد ، وبالثاني عدم الصحّة في جميع موارد وجوده ، سواء صحّ في البعض الآخر منها

ص: 100

غير المورد أو لم يصحّ إلاّ في المورد ، فصحّته في بعض الأحيان بالقياس إلى المورد وغيره ممّا لا يرجع إلى جميع الموارد على حسبما ثبت الإذن فيه من أفراد الصنف أو النوع ليس من الاطّراد المصطلح عليه المحكوم عليه بكونه علامة للحقيقة ، فلا ينافي عدم الاطّراد المصطلح عليه المحكوم عليه بكونه علامة للمجاز ، بل يكفي فيه عدم الصحّة في مورد واحد فضلا عن عدم الصحّة في كثير من الموارد أو أكثرها ، فاندفع عن علامة الحقيقة كونه أعمّ وعن علامة المجاز كونه منافيا لذيها بل دوام تخلّفه عنه.

8 - صحّة التقسيم وعدمها

ثامنها : صحّة التقسيم وعدمها :فإنّ الأوّل على ما هو المعروف علامة للحقيقة والثاني علامة المجاز ، خلافا لبعض الأفاضل - على ما حكي عنه - من منع كون صحّة التقسيم علامة تعليلا بكونها أعمّ ، وهو ظاهر ما حكى عن ثاني الشهيدين في المسالك (1) عند دفع الاحتجاج بصحّة تقسيم البيع إلى الصحيح والفاسد على كونه اسما للأعمّ.

وموردهما ما لو استعمل اللفظ في مورد يشكّ في كونه فردا من مسمّاه الوضعي المشترك بينه وبين غيره ممّا علم بكون الاستعمال فيه على وجه الحقيقة في الجملة ، ليكون الاستعمال فيه أيضا على وجه الحقيقة باعتبار ذلك المسمّى المشترك ، وعدم كونه فردا منه ليكون الاستعمال المفروض على وجه المجاز ، فإن صحّ التقسيم حينئذ كشف عن كون اللفظ موضوعا للمقسم الّذي هو الأمر المشترك ، بينهما ، ويلزم منه كون الاستعمال في كلّ منهما باعتبار ذلك الأمر المشترك على وجه الحقيقة ، وإلاّ كشف عن عدم كونه موضوعا لذلك الأمر المشترك ، ولازمه كون استعماله في خصوص المورد على وجه المجاز.

وعلم بذلك أنّ هذه العلامة مختصّة بموارد دوران اللفظ بين الاشتراك

ص: 101


1- المسالك 11 : 263 كتاب الأيمان حيث قال : « وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة ... ».

المعنوي والمجاز ، وتحرير العنوان على وجه يتميّز به موضع الخلاف ويتبيّن جهته ، إنّ التقسم في القضيّة التقسيميّة في بادئ النظر يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يؤخذ اللفظ بنفسه لا باعتبار مسمّاه مطلقا مقسما.

وثانيها : أن يؤخذ اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي الحقيقي مقسما ، كما في الإنسان المنقسم باعتبار معنى الحيوان الناطق إلى العالم والجاهل.

وثالثها : أن يؤخذ اللفظ باعتبار مسمّاه التأويلي مقسما ، سواء كان ذلك المسمّى التأويلي جامعا حقيقيّا بين القسمين ، كالشجاع في تقسيم « الأسد » باعتباره إلى المفترس والرامي ، أو جامعا اعتباريّا كمفهوم « المسمّى » في تقسيم الأسد باعتباره إليهما ، وفي تقسيم « العين » باعتباره إلى الباكية والجارية وغيرهما من معانيها الحقيقيّة.

وهو على الوجه الأوّل فاسد الوضع ، ضرورة مبائنة اللفظ لما هو من مقولة المعنى فلا يصلح مقسما لما يباينه ، حيث إنّ القضيّة التقسيميّة نوع من الحمليّة ومن المستحيل وقوع اللفظ بنفسه موضوعا في قضيّة محمولها ما هو من مقولة المعنى ، كاستحالة وقوعه كذلك محمولا فيما اخذ موضوعه من مقولة المعنى.

وعلى الوجه الثاني ما يعبّر عنه بتقسيم المعنى ، وهو يوجد في الحقائق إذا اخذت من باب الاشتراك المعنوي.

وعلى الوجه الثالث يعبّر عنه بتقسيم اللفظ ، ويوجد في المجازات باعتبار الأمر المشترك التأويلي المعبّر عنه بعموم المجاز ، وفي المشتركات اللفظيّة باعتبار الأمر المشترك المعبّر عنه بعموم الاشتراك ، ولا إشكال في كلّ من الوجهين إذا علم بحقيقة الحال فيهما باعتبار الخارج ، فلا يمكن تنزيل الخلاف المتقدّم إليهما ، بل الخلاف واقع في صورة اشتباه التقسيم الوارد في القضيّة من حيث تردّده بين الوجهين ، وإليه يرجع ما في كلام المنكر لعلاميّة صحّة التقسيم من أنّ التقسيم أعمّ من تقسيم المعنى وتقسيم اللفظ.

ولا ريب أنّه لا يرجع أيضا إلى الملازمة الواقعيّة بين صحّة التقسيم والحقيقيّة

ص: 102

وبين عدمها والمجازيّة ، إذا كان المقسم بحسب الواقع هو اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي الحقيقي ، فإنّه معلوم بالوجدان ومحسوس بما يقرب من العيان إنّ كون لفظ موضوعا لأمر مشترك بين شيئين يلزمه عند العالم به صحّة تقسيمه باعتباره إليهما ، بخلاف ما لو لم يوضع لذلك الأمر المشترك ، فإنّه لا يصحّ تقسيمه إليهما باعتبار مسمّاه الوضعي ، فيرجع الخلاف حينئذ إلى مقام إحراز الملزوم ، ووجهه الشبهة في ظهور القضيّة التقسيميّة عند إطلاقها في تقسيم المعنى وعدمه ، فالمنكر للعلاميّة مانع عن الظهور تعليلا بما تقدّم ، والقائل بها مدّع للظهور وهو الأقوى بشرط تجرّد اللفظ في القضيّة عن القرينة الملتفت إليها لجهة الصرف ، لظهوره مع هذا الفرض في إرادة المسمّى الوضعي ، فالجاهل المستعلم للحقيقيّة والمجازيّة الناظر في تلك العلامة لا بدّ من أن يحرزها على هذا الوجه بمراجعة أهل اللغة العالمين بالأوضاع ، وطريقه إثبات كون اللفظ المأخوذ مقسما مجرّدا ، ولو بحكم الأصل الجاري في نظائر المقام ، ولو كان هناك توهّم دور يندفع بذلك ولا يقدح كون النتيجة الحاصلة من تلك العلامة في بعض فروضها ظنّية ، لأنّ ذلك ظنّ نشأ عن صغرى العلامة مستند إلى ظهور لفظي قائم مقام العلم ، لا عن كبراها لمكان العلم بالملازمة على تقدير ثبوت الصغرى ، ولو بحكم ما ذكر من ظهور اللفظ.

9 - الاستقراء

تاسعها : الاستقراء ، الّذي عدّه غير واحد من الطرق المختصّة بالحقيقة ، وهو العمدة في تحصيل اللغة واستعلام المطالب الأدبيّة والقواعد العربيّة ، من الصرفيّة والنحويّة وما يرجع إلى فنون البلاغة وغيرها ، ككثير من المسائل الاصوليّة ، والمراد به هاهنا تصفّح الموارد الجزئيّة - كلّها أو غالبها - لإثبات ما يستعلم من الأحوال العارضة لها لأمر جامع لها ولغيرها ، وهو بهذا المعنى يأتي في الأحكام الشرعيّة وفي اللغات وفي غيرها من الموضوعات الخارجيّة ، وهذا مع الأوّل خارجان عن معقد البحث ، والثاني ما يؤخذ به نفسه طريقا إلى استعلام الوضع ، فخرج به ما يقصد منه إحراز علامة اخرى من علامات الحقيقة والمجاز ، على معنى الأخذ به لكونه طريقا إلى الطريق كاستقراء موارد الاستعمالات الشخصيّة

ص: 103

اللاحقة بلفظ في معنى طلبا لتبادره وعدمه ، أو الاطّراد وعدمه أو غيرهما ممّا تقدّم ، فإنّه ليس من الاستقراء المقصود بالبحث حيث لا يقصد منه بنفسه استعلام حال اللفظ ، وذلك كما في إثبات الوضع لهيئة « فاعل » مثلا ، فإنّه بملاحظة كون « ضارب » لمن قام به الضرب ، و « عالم » لمن قام به العلم ، و « فاضل » لمن قام [ به ] الفضل وهكذا إلى غالب أفراد اسم الفاعل من هذا الوزن ، ينتقل إلى كون هذه الهيئة في ضمن أيّ مادّة تحقّقت موضوعة لمن قام [ به ] المبدأ.

وكذلك في إثبات رفع الفاعل ونصب المفعول بعنوانهما الكلّي ، فإنّه يعلم بتصفّح الموارد الجزئيّة منهما ، ومنه يعلم أنّ مورده الموضوعات الكلّية الموضوعة بالأوضاع النوعيّة ، والأمر المستعلم هو الوضع النوعي لا غير ، فإن اتّفق بعد الانتقال إلى حال الكلّي مورد يشكّ في حكمه يلحق بالغالب ، لا لأنّ الغلبة بنفسها يفيد ظنّ اللحوق ، بل لأنّ الانتقال إلى حال الكلّي يوجب الانتقال إلى حكمه بواسطة قياس ينتظم بطريقة الشكل الأوّل ، كبراه تتحصّل من الانتقال إلى حال الكلّي وصغراه بفرض كون مورد الشكّ فردا له.

ومن هنا يعلم أنّ الإلحاق على هذا الوجه ليس من باب القياس كما قد يتوهّم ، وهو في غالب أفراده يفيد القطع وإن لم يكن تامّا ، كما لو علم حال التصفّح بعدم وجود فرد للكلّي مخالف للأفراد الغالبة في الحكم ولا كلام في اعتباره ، وقد يفيد الظنّ ، وفي اعتباره إذا انيط به الحكم الشرعي حينئذ الكلام المتقدّم في بحث حجّية قول اللغوي.

فالوجه على ما تقدّم منع العمل به إلاّ إذا اضطرّ إليه من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

فما يقال - في وجه الحجّية - من اتّفاق أهل الحلّ والعقد كافّة على العمل به ، بل هو ممّا عليه بناء أساس الفنون الأدبيّة وأكثر المسائل الاصوليّة ، حيث لا طريق لأربابها سواه ، فلو بنى على عدم الاعتداد به لزم هدم أساس هذه الفنون بأجمعها ، ومنه يلزم هدم أساس الشريعة بالمرّة.

ص: 104

ففيه : ما فيه ويجري فيه جميع ما تقدّم في دفع الإجماع المستدلّ به على حجّية قول اللغوي فراجع وتأمّل ، مع توجه المنع إلى دعوى الانهدام بعد ما عرفت من غلبة اتّفاق العلم فيه.

ولو سلّم فالاعتداد به في الامور المتسامح فيها صون لها عن الانهدام ، وإن لم يعمل بالظنّي منه في الامور الشرعيّة.

ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى دعوى انهدام الشريعة بالمرّة بعدما بيّنا من جواز البناء على الظنّي منه حين الاضطرار إليه ، من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ فيها ، وهذا ليس من الحجّية بالمعنى المبحوث عنه كما عرفت ثمّة.

10 - القياس

عاشرها : القياس ، الّذي اعتمد عليه بعض الناس إذا كان بين الأصل والفرع جامع يصلح للعلّية ، وخالفه الجمهور وأصحابنا كافّة بمنع العمل به في اللغات ، وهو أن يوجد اللفظ مستعملا في مورد على وجه الحقيقة لوجود وصف فيه بحيث لو لم يوجد فيه ذلك الوصف أو وجد فارتفع لم يقع الاستعمال ، وقد يعبّر عنه « بالدوران » لكون التسمية وجودا وعدما تدور مع الوصف الموجود في المسمّى وجودا وعدما ، حيث لا تسمية قبل وجوده كما لا تسمية بعد زواله ، فينهض ذلك دليلا على وضع اللفظ لكلّ ما وجد فيه ذلك الوصف ، وذلك كما في « الخمر » المستعمل في المتّخذ من العنب باعتبار وصف الإسكار ، حيث لا يطلق على ما لم يلحقه الإسكار لكونه عصيرا ، كما لا يطلق على ما ارتفع عنه الوصف بعدما لحقه ، كما إذا انقلب خلاّ فيقال : بأنّه موضوع لكلّ ما فيه الإسكار فكلّ من الفقّاع والفضيح والنقيع وغيرهما من الأنبذة خمر على وجه الحقيقة ، وكذا الكلام في تسمية « اللائط » زانيا و « النبّاش » سارقا لجامع الإيلاج المحرّم في الأوّل ، والأخذ بالخفية في الثاني ، بناء على ضابطة الدوران المفيد للعلّية.

وطريق دفعه تارة : بمنع الكبرى كما في كلام غير واحد ، وملخّصه : منع التعويل على نحو هذا الظنّ في اللغات ، حيث لا دليل عليه بل الدليل على خلافه.

واخرى : بمنع الصغرى ، على معنى منع إفادة الدوران علم العلّيّة ولا ظنّها

ص: 105

لو جاز التعويل عليه في اللغات ، لمنع الملازمة بين ما اقتضاه علّة وفعل الواضع بمعنى جعل اللفظ لمطلق ما فيه الوصف ، فإنّ المعلوم إجمالا في لفظ « الخمر » مثلا إنّه قد وضع البتّة ، وكما يمكن كونه بإزاء مطلق ما فيه الوصف ، كذلك يمكن كونه بإزاء المورد الخاصّ باعتبار هذا الوصف.

ومرجعه إلى إمكان أخذ الوصف علّة تامّة له وإمكان أخذه جزءا للعلّة ، والمقام بالنظر إلى اعتبار الواضع ولحاظ الوضع محتمل لكلّ منهما ، واللفظ قابل لهما على وجه السويّة ، والدوران لا ينافي شيئا منهما بل يجامع الوجه الثاني كما يجامع الوجه الأوّل ، التفاتا إلى أنّ الشيء كما ينتفي بانتفاء علّته التامّة فكذا ينتفي بانتفاء جزء علّته ، ومن الجائز كون مجموعي الوصف وخصوصيّة المحلّ علّة.

وملخّصه : منع وجود التسمية مع وجود الوصف كيفما اتّفق وحيثما تحقّق ، بل غاية ما علم أنّها توجد حيثما اجتمع الوصف والخصوصيّة ، وإلى هذا البيان ينحلّ ما في كلام غير واحد من هدم الاستدلال بقلب الدوران ، بأنّ التسمية دارت مع الوصف والمحلّ وهو ماء العنب في المثال ، فإنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية وإذا انتفى انتفت ، فالعلّة مركّبة.

وبالجملة : فالدوران أعمّ ممّا قصد إثباته به ، من وضع اللفظ لمطلق ما فيه الوصف ، ولا يعقل نهوضه دليلا على الأخصّ فلا يفيد علما ولا ظنّا.

وأيضا فإمّا أن يراد به اعتبار الوصف علّة تامّة للوضع بمعنى جعل الواضع ، المستتبع لاختصاص اللفظ بالمعنى ، على معنى كونه الجهة الباعثة على الوضع والحكمة الداعية إليه لا غير ، أو اعتباره علّة تامّة له بمعنى مجرّد الاختصاص الّذي ليس من آثار الوضع بالمعنى الأوّل ، وأيّا ما كان فهو باطل ، لقصوره عن إفادة العلّية على الوجه الأوّل ، بملاحظة أنّ الواجب على الحكيم إنّما هو مراعاة حكمة مرجّحة لفعله الاختياري ، لكن الحكم قد تتعدّد وفي موضع التعدّد قد تتفاوت ظهورا وخفاء ، ومن الجائز أن يعتبر من الحكم ما دعاه إلى وضع اللفظ على الوجه الأوّل ، وقد صادف الوصف الموجود في المحلّ من باب مجرّد

ص: 106

المقارنة الاتّفاقية ، حتّى دخل في وهم من لم يقف عليه - لخفائه - إنّ الوصف هو الحكمة الملحوظة الباعثة على إيجاد الوضع ، وهو عن إفادة العلّيّة على الوجه الثاني أشدّ قصورا ، لوضوح أنّه لا يتمّ إلاّ على القول بالمناسبات الذاتيّة الّذي قد فرغنا عن إبطاله ، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

هذا كلّه في قياس معنى على معنى اللفظ في إثبات الوضع الثابت له للمعنى الأوّل لجامع بينهما صالح للعلّية ، ومنه يظهر وجه بطلان القياس لو استعمل بين لفظين بينهما جامع لإثبات كون أحدهما موضوعا لما وضع له الآخر ، كما صنعه بعضهم في إثبات كون الأمر للتكرار قياسا له على النهي لجامع الطلب ، لتطرّق المنع إلى علّية الطلب رأسا ، فضلا عن كونه علّة تامّة.

وبما قرّرناه في الوجه الثاني يظهر السرّ في القضيّة المشتهرة فيما بينهم من عدم اعتبار الترجيحات العقليّة في اللغات ، وعدم جواز إثباتها وترجيحها بالعقل بعد تفسيرها بالاستدلال على الوضع بأمر عقلي على طريقة اللمّ المفيد لكون ذلك الأمر العقلي علّة موجبة للوضع ، كتيقّن الإرادة على مذهب من استدلّ به على كون ما ادّعي كونه للعموم من الصيغ موضوعا للخصوص.

وتوضيحه : إنّ تيقّن الإرادة مثلا إن اخذ علّة للوضع بمعنى ما يصدر من الواضع الحكيم فالملازمة ممنوعة ، لقيام احتمال كون الجهة الباعثة على وضع تلك الصيغ حكمة خفيّة دعته إليه بإزاء العموم ، وإن اخذ علّة للوضع بمعنى الاختصاص الّذي لازمه نفي مدخليّة جعل الواضع على أن يكون تيقّن الإرادة بنفسه موجدا لهذا الوضع فلا يتمّ إلاّ على القول بالمناسبات الذاتيّة ، وهذا هو وجه الفرق بين الاستدلال عليه بهذا الطريق والاستدلال عليه بطريق الإنّ كما في العلامات المتقدّمة من التبادر ونحوه ، فإنّه استدلال بما هو من آثار الوضع ومعلولاته بالمعنى الراجع إلى ما هو قائم بالواضع أو الأثر الناشئ منه ، أعني الاختصاص المسبّب عن التخصيص ، أو ما يعمّه والمسبّب عن غلبة استعمال أو إطلاق كما في الألفاظ الموضوعة بوضع التعيّن لما عرفت من أنّ الاستدلال بها

ص: 107

إنّما هو بعد الفراغ عن إثبات الملازمة الخارجيّة بينهما فلا يتطرّق هنا شيء من وجهي الترديد المتقدّم كما هو واضح.

11 - التزام التقييد وعدمه

حادي عشرها التزام التقييد وعدمه : المجعول أوّلهما من علائم المجاز وثانيهما من علامات الحقيقة ، المفسّران بوجدان اللفظ مستعملا في معنيين لا يجوز ذلك في أحدهما إلاّ مقيّدا بقيد مع جوازه في الآخر مجرّدا عن القيد ، ولا ينافيه وقوع التقييد في بعض الأحيان إذا لم يكن على جهة الالتزام - على معنى توقّف الجواز عليه - فيحكم بكونه حقيقة في الثاني ومجازا في الأوّل ، وذلك كما في « النار » و « الجناح » و « الماء » الّتي لا يجوز استعمالها في غير معانيها المعهودة إلاّ مقيّدة فيقال : « نار الحرب » و « جناح الذلّ » و « ماء الورد » بخلاف استعمالها في معانيها المعهودة فإنّه جائز بلا تقييد ، وإن كان قد يقع التقييد في بعض الحقائق كما يقيّد « الماء » و « الأسد » و « العين » بالكوز والافتراس والنبع ، فإنّه ليس بلازم بالمعنى المذكور بل الأوّل لأجل الإفهام والثاني لأجل التأكيد والثالث لأجل التعيين.

أقول : الظاهر إنّ إطلاق التقييد هنا بملاحظة الأمثلة المذكورة بالبيان المذكور مسامحة ، أو بناء على كون المراد منه تقييد مجرّد اللفظ من دون تعلّق له بالمعنى أصلا ، ضرورة أنّ المعنى المجازي المراد من اللفظ على ما هو مفروض الأمثلة غير مقيّد بشيء ، وعليه فلا بدّ وأن يراد منه ما يقابل إطلاق اللفظ بمعنى تجرّده عمّا يصرفه عمّا وضع له إلى خلافه ، فعدم الجواز مع عدم التقييد لا ينبغي أن يراد منه ما يخلّ بصحّة أصل الاستعمال على معنى اندراجه في عداد الأغلاط ، لوضوح أنّ التقييد وعدمه ممّا لا مدخل لهما في الصحّة بهذا المعنى وعدمها ، بل يراد منه ما يخلّ بحكمة المتكلّم حيث قصد من اللفظ إفهام ما لا يفيده إلاّ بإعانة القيد فبتركه التقييد نقض غرضه ، والالتزام به حينئذ حذر عن هذا القبيح المنافي للحكمة ، فمحصّل العنوان حينئذ يرجع إلى الالتزام بنصب القرينة اللفظيّة مع اللفظ للدلالة على إفهام ما قصد منه إفهامه.

ص: 108

ولا ريب في كون عدم الالتزام بهذا المعنى علامة للحقيقة كما هو قضيّة ما قرّرناه مرارا من الضابط الكلّي ، وفي كون الالتزام علامة للمجاز إشكال يظهر وجهه بملاحظة وجود نحوه في المشتركات أيضا فليتدبّر.

وهاهنا إشكال آخر ينشأ من ملاحظة ظهور العنوان مع الأمثلة المتقدّمة في القيود اللفظيّة المأخوذة مع اللفظ بطريق الوصف أو الإضافة ، وإذا كان المراد منها ما يرادف القرائن كما هو المتعيّن - على ما عرفت - فما وجه تخصيصها بالقرائن اللفظيّة ، مع أنّ العنوان - على ما وجّهناه - عامّ لها ولغيرها من القرائن العقليّة والحاليّة ، إلاّ أن يدفع بما نبّهنا عليه سابقا من أنّ ما هو من آثار الوضع وانتفائه في نظر أهل اللغة لا ينهض بالنسبة إلى الجاهل علامة إلاّ إذا كان له طريق إلى إحرازه ، واعتبار كون القرينة الملتزم بها لفظيّة طريق إلى إحرازه ، إذ مع سائر القرائن لا ينكشف عليه واقع الأمر ليستفيد منه شيئا ممّا يقصد من العلامة من حقيقة أو مجاز.

ولك أن تورد هنا إشكالا ثالثا : وهو إنّ العلاّمة وغيره في النهاية وغيرها مع تعرّضه لهذا العنوان في بحث العلامات ، تعرّض قبيل ذلك لذكر عنوان آخر في هذا البحث أيضا.

فقال : الثالث استعمال أهل اللغة لفظا مجرّدا عند قصد الإفهام لمعنى معيّن ، ولو عبّروا به عن غيره لم يجرّدوه ، بل ضمّوا إليه قرينة ، فيعلم أنّ الأوّل حقيقة إذ لولا علمهم باستحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها ، فيكون الثاني مجازا. انتهى (1) وهذان العنوانان كما ترى لا يظهر بينهما بحسب المعنى فرق يعتدّ به.

12 - التنافر

ثاني عشرها : التنافر ، المعدود من علائم المجاز وعدمه المعدود من علائم الحقيقة ، وفسّرا بما لو استعمل اللفظ في معنيين بقرينتين تنافر أحدهما لظهور

ص: 109


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).

اللفظ - ويسمّى تارة بالمنافرة ، واخرى بالمناقضة ، وثالثة بالمعارضة - دون الاخرى كما في « الأسد » المستعمل تارة في الحيوان المفترس والرجل بالقياس إلى قرينتي « يرمي » و « يفترس ».

وقد يفسّران أيضا بمنافرة اللفظ عن المعنى المستعمل بحيث اخذ الفرار منه إذا استعمل فيه وعدمها ، كما في المفرد المعرّف باللام بالنسبة إلى عهدي الذهني والخارجي ، فيحكم بمجازيّة الأوّل لمكان المنافرة وحقيقيّة الثاني لمكان عدمها.

ويشكل ذلك : بأنّ المنافرة وعدمها بكلّ من المعنيين وإن كانا من الآثار الواقعيّة المترتّبة على الوضع وانتفائه في نظر أهل اللغة العالمين بهما ، غير أنّه في مقام استعلام الحقيقة والمجاز بهما لا يترتّب عليهما أثر ، لعدم مبرز لهما باعث على انكشافهما في نظر الجاهل المستعلم ، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

13 - مخالفة صيغة الجمع

ثالث عشرها : مخالفة صيغة جمع لفظ مستعمل في معنيين ، أحدهما المشكوك في حاله ، لصيغة جمعه عن الآخر المتبيّن حاله من حيث الحقيقة ، كما في « الأمر » الّذي يجمع « أوامر » من القول المخصوص الّذي هو حقيقة فيه ، و « امور » من الفعل المختلف في كونه حقيقة أو مجازا ، فيدلّ ذلك على كونه مجازا في الثاني.

وقد يقرّر بكون ذلك آية انتفاء الاشتراك المعنوي لغلبة الاتّحاد والموافقة في صيغة الجمع ، فيرجع الأمر إلى دورانه بين الاشتراك اللفظي الّذي يندفع بالأصل والمجاز الّذي هو خير منه ، فيتعيّن.

ولا يخفى ضعف هذا التقرير ووروده على خلاف ما هو مذكور في كتب أهل الفنّ ، فلنبحث على ما في كتبهم.

فنقول : إنّ الملازمة ممنوعة لضرورة العلم بتخلّف كلّ من الطرفين عن صاحبه أعني العلامة وذيها ، فليست منعكسة ولا مطّردة كما يرشد إليه التتّبع ، وكأنّ التوهّم نشأ في هذا اللفظ عن اتّفاق مصادفة الاختلاف في صيغة الجمع لمجازيّة المستعمل فيه من باب المقارنة الاتّفاقيّة ، فذهب إلى الوهم إنّه من جهة ملازمة واقعيّة بينهما ، على معنى أنّ كلّ مجاز يلزمه مخالفة صيغة جمعه لصيغة جمع حقيقته ، وهو كما ترى.

ص: 110

14 - امتناع الاشتقاق

رابع عشرها : امتناع الاشتقاق : المعدود من خواصّ المجاز ، وتحريره على ما في نهاية العلاّمة (1) إنّ الاسم إذا كان موضوعا لصفة ولا يصحّ أن يشتقّ للموصوف بها اسمه منه مع عدم المنع من الاشتقاق دلّ ذلك على كونه مجازا ، وذلك كما في لفظ « الأمر » فإنّه لمّا كان حقيقة في القول المخصوص اشتقّ منه « الآمر » و « المأمور » ولمّا لم يكن حقيقة في الفعل لم يوجد فيه الاشتقاق.

ويضعّفه : - كما فيها - عدم دلالة المثال على العموم ، وبالجملة يتطرّق المنع إلى الملازمة في هذه العلامة أيضا باعتبار انتقاضها عكسا وطردا كما لا يخفى ، وإنّما دخل كون ذلك علامة في الوهم اتّفاق مصادفة عدم الاشتقاق هنا لمجازيّة المستعمل فيه من باب مجرّد المقارنة.

وممّا يفصح عن فساد ذلك التوهّم إنّه لو كان امتناع الاشتقاق من لوازم المجاز وآثار انتفاء الوضع ، لقضى بامتناع المجاز التبعي في الأفعال ، كما في « قاتل » و « مقتول » وغيرهما من مشتقّات « القتل » إذا أخذ بمعنى الضرب الشديد ، وهو كما ترى.

15 - أصالة الاستعمال

خامس عشرها : أصالة الاستعمال ، المعدود في قول من طرق كون اللفظ حقيقة في المعنى المستعمل فيه.

واعلم : أنّ الاستعمال على ما في الكتب الاصوليّة يلحقه البحث بجهات ، فقد ينظر فيه لاستعلام حال المتكلّم من حيث إنّه أراد من اللفظ معناه الحقيقي أو المجازي ، فيقال : إنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، كما في مواضع أصالة الحقيقة بالمعنى المسلّم المتّفق عليه المعمول بها لتشخيص المراد بعد تبيّن حال اللفظ من حيث الحقيقيّة والمجازيّة ، وقد ينظر فيه لاستعلام حال اللفظ من حيث إنّه حقيقة في المعنى المستعمل فيه المعلوم ، وله بهذا الاعتبار عناوين ثلاث :

أحدها : الاستعمال المجرّد عن القرينة ، المقصود منه إفهام ما في الضمير وإفادة حقيقة المراد.

ص: 111


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ... ( مخطوط ).

وثانيها : الاستعمال المطلق ، المجهول حاله من حيث قيدي « التجرّد » و « قصد الإفهام » وعدمهما.

وثالثها : غلبة الاستعمال المأخوذة من طرق الحقيقة في كلام جماعة من الاصوليّين ، ولا سيّما متأخّري المتأخّرين مع إنكارهم دلالة الاستعمال بالمعنى الثاني على الحقيقة ، فينبغي البحث والتكلّم بالنظر إلى هذه العناوين مضافة إلى عنوان أصالة الحقيقة في مقامات أربع :

المقام الأوّل : في الاستعمال المأخوذ معه قيد « التجرّد » و « قصد الإفهام » وحيثما علم الاستعمال بهذه المثابة فلا ينبغي التأمّل في كونه كاشفا عن الوضع كشفا إنّيّا على وجه القطع ، كما نصّ عليه في النهاية (1) والتهذيب (2) والمنية (3) وغيرهما.

ويظهر من السيّد في الذريعة حيث قال - في مفتتح الكتاب على ما حكي - : وأقوى ما يعرف به كون اللفظ حقيقة هو نصّ أهل اللغة وتوقيفهم على ذلك ، أو يكون معلوما من حالهم ضرورة ، ويتلوه في القوّة أن يستعملوا اللفظة في بعض الفوائد ولا يدلّونا ما على أنّهم متجوّزون بها مستعيرون لها ، فيعلم أنّها حقيقة. انتهى (4) فتأمّل.

فالملازمة بين الاستعمال بهذا المعنى وبين الوضع والحقيقيّة ثابتة بلا إشكال ، كالملازمة بين الاستعمال مع القرينة المقصود بها الإفهام وبين انتفاء الوضع والمجازيّة ، فالأوّل علامة الحقيقة كما أنّ الثاني علامة المجاز ، وقد سبق منّا في بحث الوضع والمطالب المتعلّقة به باعتبار قيد « الدلالة على المعنى بنفسه » ما ينفعك في هذا المقام ، وما يرشدك إلى صدق هذه المقالة.

ص: 112


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).
2- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة 15 ( مخطوط ).
3- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).
4- الذريعة الى اصول الشريعة 1 : 10.

المقام الثاني : في مطلق الاستعمال الّذي اختلف في حاله من حيث دلالته على الحقيقة وظهوره فيها وعدمه ، وهذا هو محلّ التشاجر فيما بين السيّد وأحزابه والآخرين.

ولا ريب أنّ محلّ النزاع ما خلا عن النصّ والعلامة وغيرهما ممّا تقدّم من الطرق ، إذ مع وجود بعض ما ذكر يتعيّن الالتزام بموجبه من حقيقة أو مجاز.

وقد يتوهّم إنّه بهذا الاعتبار ممّا لا محلّ له ولا يترتّب عليه أثر ، لأنّهم قد ذكروا إنّ من علامات الحقيقة والمجاز تبادر المعنى وعدمه ، أو عدم تبادر غير المعنى وتبادره ، وصحّة السلب وعدمها ، وهذه العلامات لا يخلو عنها شيء من الألفاظ ، لأنّ الحصر فيها دائر بين النفي والإثبات ، وذلك لأنّه إمّا أن يتبادر المعنى أو لا يتبادر وإمّا أن لا يتبادر غير المعنى أو يتبادر ، وإمّا أن لا يصحّ سلب المعنى أو يصحّ ، فإن كان الأوّل وجب الحكم بالحقيقة لوجود علامتها وإلاّ فبالمجاز.

وحينئذ فلا يبقى لهذا البحث موضوع يتنازع فيه لانتفاء الواسطة بين النفي والإثبات.

ولا يخفى ما فيه من الغفلة الواضحة عن حقيقة الحال في العلامات المذكورة ، فإنّ وجود شيء منها في موضوع البحث بحسب الواقع ونفس الأمر بالقياس إلى أهل التخاطب المتحقّق فيما بينهم الاستعمال المتنازع فيه أمر مسلّم لا يمكن الاسترابة فيه ، غير أنّها لا تنهض علامات للجاهل على هذا الوجه ، بل هي إنّما تنهض علامات له إذا علم بها بطريق له يوجب انكشافها في نظره حسبما عرفت.

والعمدة فيه - على ما بيّنّاه - مراجعة موارد الاستعمالات الدائرة فيما بين أهل اللغة والفحص في استعمالاتهم.

ولا ريب أنّه ربّما لا يتمكّن من الفحص ومع تمكّنه منه ربّما لا يفيده شيئا ممّا ذكر ، على معنى أنّه بعد الفحص لا يتمكّن من إحراز شيء ممّا هو متحقّق بحسب الواقع من الأمر الدائر بين النفي والإثبات.

وربما يتكاسل نفسه عن تحمّل كلفة الفحص ، فإذا ثبت أنّ مطلق الاستعمال

ص: 113

ممّا يدلّ على الحقيقة فينتفع منه حينئذ في جميع الصور المذكورة ، ولا يفتقر إلى إحراز شيء ممّا ذكر ، وهذا هو موضوع البحث المتنازع فيه.

وأيضا فكثيرا مّا يحصل الابتلاء بلفظ وارد في كتاب أو سنّة متعلّق بالشرع مستعمل فيهما في معنى غير معلوم ، لكن علم استعماله في العرف القديم في معنى أو معان لم يعلم حالها ثمّة من حيث وصفي الحقيقيّة والمجازيّة ، وهو مع ذلك بالنسبة إلى العرف الحاضر الّذي يحرز فيه العلامات غالبا مهجور بنفسه أو بمعناه أو بهما معا ، ولا طريق إلى إحراز العلامات أيضا في العرف القديم ، فالاستعمال المعلوم بالفرض حينئذ يفيدنا في الحكم بالحقيقة ، الموجب لحمل الخطاب لو بنينا على أنّه يدلّ على الحقيقة.

ولبعض ما ذكرنا ترى السيّد ومن يقول بمقالته إنّه في كثير من المسائل الاصوليّة يبنى الحكم بالحقيقيّة على هذا الأصل ، وليس إلاّ من جهة أنّه مفروض فيها بلا إحراز شيء من العلامات.

وربّما سبق إلى بعض الأوهام شبهة تدافع بين كلامي الاصوليّين المخالفين للسيّد في هذا الأصل ، حيث إنّهم عند إبداء هذه المخالفة يقولون : « بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة » وفي مسألة أصالة الحقيقة المتّفق عليها ، يقولون : « بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة » بل اتّفاقهم هذا يناقض خلافهم المذكور ، لكون موضوع الكلامين هو الاستعمال.

وشبهة تدافع اخرى بين كلامهم المذكور في محلّ الخلاف ، وقولهم - في مسألة دوران اللفظ بين الاشتراك والمجاز - : إنّ المجاز خير من الاشتراك وأولى منه ، فإنّ الاستعمال إذا قصر عن الدلالة على الحقيقة لكونه أعمّ فلا جرم يكون قاصرا عن الدلالة على المجاز أيضا لكونه أعمّ ، فالحكم بالمجاز قبالا للاشتراك يناقض القول بكونه أعمّ.

ويدفعها : إنّ الكلامين الأوّلين قضيّتان متغايرتان موضوعا وجهة وموردا ، فإنّ كلامهم في الأصل المتّفق عليه ، معناه : إنّ الاستعمال المجرّد الصادر عن

ص: 114

متكلّم لمخاطبه العالم بالمعنى الحقيقي والمجازي ظاهر في نظره في إرادة المعنى الحقيقي ، وفي الأصل المختلف فيه معناه : إنّ الاستعمال الغير المعلوم حاله لا يدلّ للجاهل على حقيقيّة اللفظ في المعنى المستعمل فيه ، وجهة الشبهة في الأوّل إنّما هو الشكّ في حال المتكلّم وفي الثاني الشكّ في حال اللفظ ، ومورد الأوّل هو العالم بحال اللفظ ومورد الثاني هو الجاهل بحاله ، ومستند الحكم بالمجازيّة قبالا للاشتراك ليس هو الاستعمال ، بل امور اخرى من الأصل والغلبة وبناء العرف وجملة من اعتبارات ذوقيّة واستحسانات عقليّة على ما ستسمعها ، فلا تدافع في البين أصلا.

وكيف كان فقد طال التشاجر في هذا الأصل وقوى التنازع والخلاف ، ومع ذلك فقد اختلفت العبارات المتكفّلة لبيانه ونقل الأقوال فيه ، من حيث ضبط تلك الأقوال قلّة وكثرة اختلافا ربّما يوجب اشتباه الحال في بادئ النظر ، لجهات يأتي الإشارة إليها وإلى ما يرفع الاشتباه عنها.

فإنّ منهم من جعل الخلاف في قولين ، كما في شرح الوافية للسيّد الجليل الطباطبائي قدس سره قائلا : والمشهور بين الفقهاء والاصوليّين سيّما المتأخّرين الحكم بالحقيقة مع اتّحاد المعنى المستعمل فيه ، وبالحقيقة والمجاز مع تعدّده.

وذهب السيّد المرتضى وجماعة من القدماء إلى القول بالحقيقة مطلقا وإن تعدّد المعنى ، ومقتضى كلامه قدس سره ظهورا ونصّا في غير موضع عدم وقوع الخلاف فيما لو اتّحد المعنى المستعمل فيه ، بل تكرّر منه دعوى الاتّفاق على الحكم بالحقيقيّة مع الاتّحاد.

وعزى دعواه إلى السيّد رحمه اللّه في الذريعة (1) إلى العلاّمة في النهاية (2) بل إلى كافّة الاصوليّين أيضا.

أمّا الأوّل : ففيما ذكره في فصل الأمر ، حيث إنّه بعد ما اختار القول باشتراك

ص: 115


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 13.
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ... ( مخطوط ).

الأمر بين الوجوب والندب ، قال : إنّه لا شبهة في استعمال صيغة الأمر في الإيجاب والندب معا في اللغة والتعارف والقرآن والسنّة ، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة وإنّما يعدل عنها بدليل ، قال : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة ».

وذكر ما يقرب من ذلك في جملة كثيرة من المباحث الاصوليّة ، كمبحث المرّة والتكرار ، والفور والتراخي ، وفي مسألة ألفاظ العموم والاستثناء المتعقّب للجمل وغيرها ، حيث بنى فيها على الاشتراك استنادا إلى الاستعمال.

والوجه في استظهار دعوى الاتّفاق من العبارة المذكورة إنّه لولا إنّ اقتضاء الحقيقة بنفس الاستعمال في المعنى الواحد من المسلّمات عند الجميع ، لم يكن في التسوية بين الاستعمال في المعنى الواحد والتعدّد دلالة على ما ادّعاه ، من دلالة الاستعمال على الحقيقة مع التعدّد وظهوره فيها.

وأمّا الثاني : ففي مسألة إنّ الأصل الحقيقة والمجاز خلاف الأصل ، حيث احتجّ على ذلك بالإجماع واستشهد له بما حكى عن ابن عبّاس إنّه قال : « ما كنت أعرف « الفاطر » حتّى اختصم إليّ شخصان في بئر ، فقال أحدهما : فطرها أبي ، أي اخترعها ».

وعن الأصمعي ، إنّه قال : ما كنت أعرف « الدهاق » حتّى سمعت جارية تقول : اسقني دهاقا ، أي ملأ.

قال : فاستدلّوا بالاستعمال على الحقيقة ، ولولا علمهم بأنّ الأصل الحقيقة لما يساغ ذلك ، قال السيّد رحمه اللّه : وإطلاق كلامه منزّل على صورة اتّحاد المعنى لاشتهار الخلاف مع التعدّد ، واختيار الأكثر ومنهم العلاّمة رحمه اللّه رجحان المجاز على الاشتراك ، مع أنّ الظاهر من الحقيقة في هذه المواضع الحقيقة المتّحدة.

وأمّا الثالث : ففي مسألة تعارض الأحوال ، حيث إنّهم صرّحوا بأنّ الامور العارضة للألفاظ المخرجة لها عن حدّ الاعتدال الموجبة فيها لحصول الاختلال

ص: 116

هي الخمس المعروفة ، أعني الاشتراك والنقل والمجاز والتخصيص (1) وإنّ حصول كمال المقصود من اللفظ يتوقّف على انتفاء هذه الأحوال ، فإنّه إذا انتفى عنه إحتمال الاشتراك والنقل كان له حقيقة واحدة ، وإذا انتفى عنه احتمال المجاز والإضمار كان المراد تلك الحقيقة ، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد تلك الحقيقة بكمالها ، وبذلك يحصل الفائدة المقصودة من اللفظ وهو فهم معناه منه بتمامه.

قال السيّد رحمه اللّه : ومقتضى ذلك إنّ الأصل في اللفظ هو الحقيقة الواحدة التامّة ، وإنّ ما عدا ذلك خارج عن الأصل فلا يحمل عليه اللفظ إلاّ بدليل ، ولذا ترى أنّ أكثر الاصوليّين اقتصروا في تعارض الأحوال على الصور العشر الحاصلة من ملاحظة هذه الخمس بعضها مع بعض ، ولم يتعرّضوا للصور الخمس الحاصلة من دوران الحقيقة مع كلّ من هذه الخمس ، لوضوح حكمها والاتّفاق على تقدّم الحقيقة فيها.

ومن أدخل الخمس في مسائل الدوران ، كالمصنّف قطع بتقدّم الحقيقة في الجميع من دون نقل خلاف في المسألة ولا تردّد في الحكم ، انتهى.

وممّن وافقه على هذه الدعوى بعض الأفاضل ، فإنّه بعد ما ادّعى كون ظاهر الاصوليّين الإطباق على الحكم بدلالة الاستعمال على الحقيقة ، جعل الاختلاف المعروف فيما إذا تعدّد المستعمل فيه ، وقال - بعيد ذلك في عنوان دلالته على الحقيقة مع اتّحاد المعنى - : ولا كلام ظاهرا في تحقّق الدلالة المذكورة.

بل يستفاد من كلامه كونه طريقة مستمرّة لعلماء الأدب وأئمّة اللغة ، قائلا : ويدلّ عليه بعد ذلك جريان طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني اللغويّة على ذلك ، ثمّ استشهد لذلك بما عرفته عن ابن عبّاس والأصمعي ، ثمّ قال : وكذا الحال فيمن عداهما ، فإنّهم لا زالوا يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ، ويثبتون المعاني اللغويّة بذلك.

ص: 117


1- والظاهر سقوط كلمة « الإضمار » من قلمه الشريف.

ولا زال ذلك ديدنهم من قدمائهم إلى متأخّريهم كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم ، انتهى (1).

ومنهم من جعله في أقوال ثلاث كما في الضوابط (2) :

أحدها : القول بدلالته على الحقيقة مطلقا ، نسبه إلى السيّد وأتباعه.

وثانيها : القول بدلالته على المجاز مطلقا ، نسبه إلى ابن جنّي (3) القائل بأنّ المجاز أكثر اللغة.

وثالثها : القول بالتفصيل ، فالدلالة على الحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه ، والوقف مع تعدّده ، ونسبه إلى المشهور.

ومنهم من جعله في أربعة أقوال ، كما في القوانين (4) :

أحدها : دلالته على الحقيقة ، نسبه إلى السيّد رحمه اللّه.

وثانيها : الدلالة على المجاز ، نسبه إلى ابن جنّي ، قال : وجنح إليه بعض المتأخّرين ، لأنّ أغلب لغة العرب مجازات ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، والظاهر إنّ مراده ببعض المتأخّرين الفاضل المحقّق جمال الملّة والدين في حواشيه على شرح المختصر ، حيث نسب إليه فيها اختيار هذا القول ، لكن ستعرف أنّ كلامه المحكّي عنها غير دالّ عليه لا صراحة ولا ظهورا.

ص: 118


1- هداية المسترشدين : 42 ( الطبعة الحجريّة ).
2- ضوابط الاصول : 43 ( الطبعة الحجريّة ).
3- ابن جنّي : بكسر الجيم وتشديد النون بعدها ياء ، هو أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي النحوي المشهور ، كان إماما في علم العربيّة ، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي ، وقرأ ديوان المتنبّي على صاحبه وشرحه ، وكان في طبقة سيّديّنا المرتضى والرضي ، بل من جملة مشايخ سيّدنا الرضي رضوان اللّه عليه ، وكان أبوه جنّي مملوكا روميّا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي ، وله من التصانيف المفيدة في النحو كتاب « الخصائص » و « سرّ الصناعة » وغيرهما ، وكانت ولادته قبل الثلاثين والثلاثمائة بالموصل ، وتوفّي يوم الجمعة لليلتين من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، ببغداد. راجع : وفيات الأعيان ٣ : ٢٤٦ ، روضات الجنات ٥ : ١٧٦.
4- قوانين الاصول 1 : 29.

وثالثها : التفصيل المتقدّم على طبق ما عرفت نقله عن السيّد شارح الوافية وجعله مبنيّا على أنّ المجاز مستلزم للحقيقة ، فمع الاتّحاد لا يمكن القول بمجازيّته وأمّا مع التعدّد فلمّا كان المجاز خيرا من الاشتراك فيؤثر عليه ، ويترتّب على ذلك لزوم إستعمال أمارات الحقيقة والمجاز في التميّز وحيث لم يتميّز فالوقف.

ورابعها : الوقف مطلقا ، نسبه إلى المشهور واختاره تعليلا بعدم دلالة الإستعمال على الحقيقة.

ولا يذهب عليك أنّ له في هذه النسبة موافقا ، بل بالنسبة إلى مذهب الأكثر هي المعروفة بين الاصوليّين كما يقف عليه المتتبّع ، حتّى أنّ السيّد شارح الوافية بعدما نفى الخلاف عن الدلالة على الحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه ، وأطنب في ترويجه وبالغ في تشييده ، نقل هذه النسبة مع وجود القول بالوقف ، بقوله :

وربّما يتوهّم من قول الفقهاء والاصوليّين في مطاوي مباحث الفقه والاصول إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، وإنّ العامّ لا دلالة له على الخاصّ ، تحقّق الخلاف في هذا المقام ، وإنّ في المسألة قولا ثالثا وهو إنّ الاستعمال لا يدلّ على شيء من الحقيقة والمجاز مطلقا ، سواء كان المعنى متّحدا أو متعدّدا ، وقد يتخيّل مع ذلك إنّ هذا هو القول المشهور ، حيث يرى ذلك الكلام متكرّرا في كتب الاصول ، والخلاف مقطوعا به عند الأكثر ... الخ.

ثمّ أخذ بتزييف هذا التوهّم وتوجيه كلامهم المتكرّر في الكتب الاصوليّة بما ستعرفه.

واعلم : أنّ النظر في اختلاف العبارات المذكورة في نقل الخلاف وأقواله ربّما يوجب الشبهة في جهات :

منها : دخول الاستعمال مع اتّحاد المستعمل فيه في موضع النزاع ومعقد البحث وعدمه.

ومنها : وجود القول بدلالة الاستعمال على مجازيّة المستعمل فيه وظهوره في المجاز ، قبالا لمن يدّعي ظهوره في الحقيقة وعدمه.

ص: 119

وتسري هذه الشبهة إلى مقالة ابن جنّي ، من حيث إنّه بتلك المقالة هل هو بصدد إنكار أصل السيّد وأتباعه ، في دعوى ظهور الاستعمال في حقيقيّة المستعمل فيه ، بدعوى : إنّ الأصل فيه الدلالة على المجازيّة ، أو بصدد إنكار أصالة الحقيقة المعمولة في تشخيص المراد ، بدعوى : إنّ الاستعمال في مجارى هذا الأصل ظاهر في إرادة المعنى المجازي ، أو بصدد إنكار أصل ثالث خارج عن الأصلين.

وبعبارة اخرى : إنّ القضيّة المعروفة عن ابن جنّي هل هي متعرّضة لأصل السيّد وأتباعه ، أو للأصل المتّفق عليه المعمول به في تشخيص المرادات ، أو إنّها ممّا لا تعلّق له بهذين الأصلين وإنّما هي متعلّقة بأصل آخر.

ومنها : كون المذهب المشهور الّذي صار إليه الجمهور هل هو الوقف مطلقا ، أو التفصيل بأحد الوجهين المتقدّمين في عبارتي السيّدين.

لكنّ الّذي يساعد عليه النظر ، والحقّ الّذي لا محيص عنه ، هو أنّ النزاع واقع في الأعمّ وليس في المسألة قول بدلالة الاستعمال على المجاز ، والمشهور فيها الوقف مطلقا ، بل نفي الدلالة على الحقيقة الّذي لازمه الوقوف عن الحكم بها من جهته ، لا الوقف بمعنى إنّه لا يدري أنّ الاستعمال يدلّ على الحقيقة أو لا يدلّ ، كما هو ظاهره في غير المقام.

أمّا إنّه ليس فيها قول بالدلالة على المجاز فلأنّه ليس فيما بينهم من يتوهّم منه اختيار هذا القول إلاّ ابن جنّي حسبما زعمه في الضوابط (1) وبعض الأعلام ، أو الفاضل المتقدّم ذكره - حسبما زعمه بعض الأعلام في قوله المتقدّم : وجنح إليه بعض المتأخّرين (2) - وليس الأمر كما توهّم لإباء كلاميهما عن ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّه - على ما حكي - قال : أكثر اللغة مجازات ، فإنّك إذا قلت : « قام زيد » اقتضى الفعل إفادة الجنس ، وهو يتناول جميع الأفراد فيلزم وجود كلّ فرد من أفراد القيام من زيد وهو معلوم البطلان.

ص: 120


1- ضوابط الاصول : 43 ( الطبعة الحجرية ).
2- قوانين الاصول 1 : 29 ( الطبعة الحجرية ).

وإذا قلت : « ضربت زيدا » كان مجازا من حيث إنّك ضربت بعضه لا جميعه ، بل لو قلت : « ضربت رأسه » لم تكن قد ضربته من جميع جوانبه ، وهاهنا مجاز من وجه آخر فإنّك إذا قلت : « رأيت زيدا أو ضربته » « فزيد » ليس إشارة إلى هذه الجملة المشاهدة لتطرّق الزيادة والنقصان والتبدّل عليها وإنّما هي أجزاء أصليّة لا يعتورها شيء من ذلك ، فلعلّ تلك الأجزاء لم يقع عليها الرؤية ولا الضرب ، وقد اسند إليها فكان مجازا ، مع أنّ الرؤية إنّما تتناول سطحه الظاهر وليس ذلك حقيقة « زيد » بل إنّما هو خارج عنه أو جزء منه.

ومفاد هذه العبارة بمقتضى الأمثلة المذكورة فيها الّتي استشهد بها لما ادّعاه من الغلبة ، كما ترى إنّما هو دعوى غلبة استعمال كلّ لفظ علم له حقيقة ومجاز في مجازه لا حقيقته ، وهذه الغلبة لو تمّت توجب في نحو المفروض ظهور اللفظ في إرادة المعنى المجازي في موضع الشكّ في المراد ، وهذا كما ترى كلام لا يقال إلاّ في مقابلة من يدّعي في نحو المفروض ظهوره في إرادة المعنى الحقيقي ، فلا تعلّق لتلك القضيّة بمحلّ البحث.

بل ولو سلّم عدم تعلّقها بما ذكر يمنع تعلّقها بمحلّ البحث أيضا ، بل هي كلام يقال به بعد التنزّل عمّا ذكرناه في مقابلة من يأخذ غلبة الاستعمال دليلا على الحقيقة ، كما هو عنوان المقام الثالث الّذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

فمرجع القول المذكور حينئذ إلى أنّ غلبة الاستعمال في موضع الشكّ إنّما يكشف عن المجاز ، بضابطة أنّ الظن يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

ولا ريب أنّ القول بذلك لا يستلزم القول بكون مطلق الاستعمال ولو مع انتفاء الغلبة دليلا على المجاز ، كما أنّ القول بكون غلبة الاستعمال دليلا على الحقيقة لا يستلزم القول به في مطلق الاستعمال.

وأمّا الثاني : فلأنّه في مسألة المشتقّ عند تتميم الفاضل الباغنوي احتجاج من قال بالحقيقة بالأصل ، قال :

واعلم : أنّ ما ذكره المحشّي في تتميم الاستدلال جيّد ، يندفع به جواب

ص: 121

الشارح لكن كون الأصل في الإطلاق وإن كان مشهورا وفي كتبهم مذكورا ، إلاّ أنّ ظنّي أنّ هذا الأصل ليس له أصل ينبغي الاعتماد عليه ، ولا يحصل معه ظنّ يمكن الاستناد إليه.

كيف وإنّهم صرّحوا بأنّ المجاز أكثر اللغة ، وأطبقوا على أنّه أبلغ من الحقيقة ، فكيف يحصل بمجرّد استعمال اللفظ في معنى الظنّ بأنّه معنى حقيقي له. انتهى.

وهذا كما ترى ممّا لا إشعار له بأنّ ما صرّحوا به - على ما حكاه - مرضيّ له ولا بأنّه مائل إليه ، وإنّما أورده في هذا المقام على سبيل الحكاية توهينا لأصل الإطلاق ، وتنبيها على أنّ ملاحظته ولو من جهة اشتهاره عند أهل الفنّ ممّا يمنع عن حصول الظنّ من هذا الأصل ، أو من مجرّد الاستعمال.

ولو سلّم فإنّما أشار به إلى ما عزي إلى محقّقي أهل اللغة ، وتلقّاه الاصوليّون بالقبول على ما قيل ، من غلبة المجاز بمعنى غلبة المفاهيم المجازيّة الغير الموضوع لها - بأحد التقارير الآتية - بالقياس إلى المفاهيم الحقيقيّة الموضوع لها ، لا غلبة المجاز بالمعنى الّذي عرفته عن ابن جنّي.

وهذه قضيّة يذكرونها في تعارض الأحوال ، في مسألة تعارض الاشتراك والمجاز ، وجها لرجحان المجاز.

ولا ريب أنّ النظر في مسائل التعارض ليس إلى جهة الاستعمال ، بأن يكون مورد البحث إثباتا ونفيا هو الاستعمال ، بكونه المرجّح للاشتراك في نظر القائل برجحانه وللمجاز في نظر القائل به ، بل إلى نفس الاشتراك التابع للوضع والمجاز التابع لانتفاء الوضع.

وأمّا إنّ المذهب المشهور الّذي عليه الجمهور هو الوقف بالمعنى المتقدّم - فلنصّ دليلهم ، فإنّه بأعلى صوته ينادي به بل لا نتيجة له سواه ، فإنّهم إنّما يتكلّمون في مقابلة السيّد المصرّح بدلالة الاستعمال مطلقا على الحقيقة وظهوره فيها ، فخالفوه بقولهم : « الاستعمال لا يدّل على الحقيقة » وليس بظاهر فيه.

واستدلّوا عليه : بأنّه أعمّ ، والأعمّ لا يدلّ على الأخصّ ، وهذا كما ترى

ص: 122

استدلال بما يرجع إلى قياس تامّ ينتظم بطريق الشكل الأوّل ، صغراه المقدّمة الاولى وكبراه المقدّمة الثانية الّتي تنحلّ إلى قولنا : « لا شيء من الأعمّ بدليل على الأخصّ » فينتج : إنّ الاستعمال ليس بدليل على الأخصّ الّذي هو الحقيقة.

أمّا الصغرى : فلأنّ الاستعمال إمّا جنس لمفهومي الحقيقة والمجاز ، أو فصل هو بمنزلة الجنس ، فيكون بالقياس إلى كلّ منهما أعمّ منه.

وأمّا الكبرى : فلأنّ الدليل على الشيء ما يوجب الانتقال إليه انتقالا تصديقيّا بعنوان الجزم أو الظنّ ، والأعمّ بالقياس إلى الأخصّ لا يوجب إلاّ التردّد إن كان النظر إليه مسبوقا بالغفلة والذهول عن الأمر المردّد بين الأخصّ وما يباينه ، أو تأكّد التردّد إن سبقه التردّد.

ولا ريب أنّ التردّد ممّا ينافي الانتقال التصديقي بكلّ من قسميه.

ونتيجة ذلك كلّه كما ترى هو الوقوف عن الحكم بالحقيقيّة والمجازيّة معا ، ولا نعني من الوقف إلاّ هذا ، كما عرفت.

وبذلك يعلم كون النزاع في الأعمّ ، وإنّ الاستعمال مع وحدة المستعمل فيه من محلّ البحث ، حتّى أنّ الجمهور فيه على الوقف ، لكون دليلهم المذكور دليلا عقليّا غير قابل للتخصيص ، فالاستعمال بالقياس إلى ما اتّحد المستعمل فيه لا يوجب إلاّ تردّده أو تأكّد تردّده بين الحقيقيّة والمجازيّة ، ولا ينافيه قيام الاتّفاق فيه على الحكم بالحقيقيّة وكونه من المسلّمات عند الجميع على حسبما ادّعى ، لأنّ المقام تلاحظ فيه قضيّتان :

إحداهما : الحكم بحقيقيّة اللفظ فيما إذا اتّحد معناه المستعمل فيه.

وثانيتهما : الحكم بدلالة الاستعمال على الحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه.

ولا ريب : أنّ إحداهما ليست بعين الاخرى ولا أنّها لازمة لها ، والقدر المسلّم من الاتّفاق ما انعقد بالقياس إلى الاولى ، وهو لا يستلزم الاتّفاق على الثانية إلاّ إذا كان مستند الحكم في الاولى هو الاستعمال وهو محلّ منع ، لجواز كونه امور اخر من بناء العرف وطريقة أهل اللغة ، أو امتناع المجاز بلا حقيقة أو عدم وقوعه

ص: 123

في الخارج وإن أمكن بحسب العقل ، أو غلبة الحقيقة بلا مجاز على المجاز بلا حقيقة الموجبة لظنّ اللحوق ، أو غير ذلك ممّا أمكن فرضه.

غاية ما هنالك كون الاتّفاق بالنظر إلى الوجوه المذكورة الّتي أمكن فيها اختلاف الأنظار في اعتماد كلّ على بعض منها تقييديّا.

ولا ريب أنّ الاتّفاق على حكم قابل لأسباب متعدّدة على الانفراد أو الانضمام لا يدّل على كونه عن سبب معيّن ليكون اتّفاقا على سببه أيضا.

غاية الأمر أن تقول : إنّ من المتّفقين من يعتمد على هذا السبب - أعني الاستعمال - ويستند إليه ، وليس هذا من الاتّفاق على الأخذ بالاستعمال والاعتماد عليه في الحكم بالحقيقة في شيء ، وهو بدونه لا ينفع ، فبذلك يعلم الجواب عمّا ادّعاه السيّد الجليل المتقدّم ذكره.

وكذلك ما ادّعاه السيّد المرتضى في كلامه المتقدّم ، والعلاّمة في عبارته المتقدّمة ، ولا شهادة لما عرفته من قضيّتي ابن عبّاس والأصمعي بما استشهد له ، لجواز كون ذلك اتّباعا لطريقة أهل اللغة في عنوان الاتّحاد لا استنادا إلى مجرّد الاستعمال.

ولو سلّم فلا دلالة فيهما على أنّه استناد إليه في أصل الحكم ، لجواز كونهما قد علما بالخارج بالملازمة بين الوضع والاستعمال من باب الاتّفاق في خصوص اللفظين المذكورين ، على معنى العلم بأنّه لم يوضع إلاّ لمعنى واحد ولم يستعمل إلاّ في ذلك المعنى الموضوع له ، غير أنّه لم يكن بعينه معلوما إلى أن يتحقّق الاستعمال المفروض ، فهو حينئذ طريق إلى تعيين محلّ الحقيقة لا واسطة في الحكم بها.

ولو سلّم فمن الجائز كونه في نظرهما من باب الاستعمال بالمعنى الّذي تقدّم ذكره في عنوان المقام الأوّل.

وقد ذكرنا إنّ الملازمة بينه وبين الوضع والحقيقة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، وظنّي أنّ دعوى الاتّفاق بالقياس إلى مقام البحث مع انعقاده في مقام آخر

ص: 124

- حسبما عرفته - خلط بين المقامين ، غفلة عن حقيقة الحال ، بل التوجيه الّذي ذكرناه للاتّفاق ممّا لا يأباه بعض هؤلاء المدّعين له كالسيّد الجليل المتقدّم ذكره ، بل يعترف به في جملة كلام له ، وإن كان عبارته لا تخلو عن تهافت بين صدرها وذيلها ، حيث إنّه إذا رام الجمع بينه حسبما ادّعاه وبين ما في قول الفقهاء والاصوليّين من أنّ الاستعمال لكونه أعمّ لا يدلّ على الحقيقة ، ذكر في صدر كلامه ما يرجع إلى أنّ ذلك في كلامهم نفي للإطلاق لا إطلاق في النفي ، ردّا على من زعم دلالة الاستعمال على الحقيقة مطلقا.

وفي ذيل كلامه ما يرجع إلى ما وجّهناه ، وإن شئت العبارة بعينها فانظر إلى قوله : « إنّ الفقهاء والاصوليّين إنّما قالوا ذلك ردّا على من زعم دلالة الاستعمال على الحقيقة مطلقا ، كما ذهب إليه السيّد المرتضى ومن وافقه ، ولذا تراهم كثيرا مّا يقولون : إنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة مع الشكّ في الوضع ، وربّما قالوا : المجاز خير من الاشتراك وذلك إذا تحقّق وضع اللفظ لمعنى وشكّ في غيره ، ولولا أنّ الأصل عندهم هو الحقيقة في صورة الاتّحاد ، والحقيقة والمجاز مع التعدّد لما صحّ ذلك.

والمراد من قولهم : « الاستعمال أعمّ من الحقيقة » إنّ الاستعمال بنفسه لا يدلّ على الحقيقة لا مطلقا ، لأنّه جنس للحقيقة والمجاز والجنس لا يدلّ على بعض أنواعه بعينه ، فلا يمكن إثبات الحقيقة بمجرّد الاستعمال كما يدّعيه القائلون بالاشتراك ، بل لا بدّ في الدلالة عليها من أمر آخر غير الاستعمال المشترك بينها وبين المجاز ، وإن اتّحد المعنى المستعمل فيه ، وثبوت الأصل عندهم لا يقتضي كونه لأجل الاستعمال من حيث هو استعمال ، بل يمكن أن يكون لدليل آخر ... » إلى آخر ما ذكره.

وقضيّة ما أفاده رحمه اللّه أخيرا كون الاختلاف بينه وبين بعض الأعلام في دعوى الاتّفاق على الحكم بالحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه ، وجعل المشهور هو التوقّف مطلقا لفظيّا ، وهو من عجائب الامور.

ص: 125

وبما ذكرناه بعينه يندفع ما سمعته عن بعض الأفاضل من دعوى إطباق الاصوليّين ، فإنّه أيضا نشأ عن الخلط بين القضيّتين.

وأمّا ما ادّعاه من كون الاعتماد على الاستعمال طريقة مستمرّة عند أهل اللغة في إثبات اللغات فستعرف دفعه عند تحقيق المسألة.

فانقدح بما قرّرناه أنّ النزاع في المسألة بحسب أصل وضعها وتدوينها منحصر في قولين : دلالة الاستعمال على الحقيقة مطلقا ، ونفي الدلالة كذلك المستلزم للوقف بالمعنى المتقدّم ، وهو المشهور الّذي عليه أكثر الفقهاء والاصوليّين ومنهم الشيخ في كلام محكيّ له عن مبحث الأمر من العدّة ، قائلا : فإن قيل : ظاهر استعمالهم يدلّ على أنّه حقيقة في الموضعين ، قيل : لا نسلّم إنّ نفس الاستعمال يدلّ على الحقيقة لأنّ المجاز أيضا يستعمل ، وإنّما يعلم كون اللفظ حقيقة بأن ينصّوا لنا على أنّه حقيقة ، أو نجد اللفظ يطرّد في كلّ موضع ، أو غير ذلك من الأقسام الّتي قدّمنا ذكرها فيما مضى للفرق بين الحقيقة والمجاز ، وليس مجرّد الاستعمال من ذلك انتهى (1).

نعم قد حدث عن بعض متأخّري المتأخّرين قول بالتفصيل بين صورتي الاتّحاد والتعدّد لمستند مبنيّ على الخلط المشار إليه ، وصار إليه السيّد المتقدّم ذكره وبعض الأفاضل وغيرهما.

كما انقدح بما قرّرناه أيضا إنّ موضوع هذا البحث هو الاستعمال مع قطع النظر عن الضمائم ، كما هو عنوان المقام الثاني الّذي نتكلّم فيه ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه على القول بالدلالة على الحقيقة « بأصالة الاستعمال » تارة و « أصالة الإطلاق » اخرى ، كما عرفت التعبير به عن جمال الملّة والدين المصرّح بأنّه أصل لا أصل له.

وأمّا كون الأصل في اللفظ المستعمل في معنى أو معان كونه حقيقة مطلقا ، أو إذا اتّحد المستعمل فيه ، فهو أصل آخر يعبّر عنه « بأصالة الحقيقة » بغير المعنى المعهود في أصالة الحقيقة الّتي ينظر فيها لتشخيص المراد استعلاما لحال المتكلّم.

ص: 126


1- عدّة الاصول : 66.

ولا ريب أنّه ليس من موضوع البحث في أصالة الاستعمال ، بل هو موضوع لمسألة اخرى مندرجة في مسائل تعارض الأحوال الّتي يأتي التعرّض لها إن شاء اللّه ، فما صنعه بعضهم من إدراج جملة من فروع تلك المسألة في بحث الاستعمال لكونه خلطا بين المسألتين ، ليس على ما ينبغي.

ثمّ ينبغي أن يعلم إنّ النزاع في بحث الاستعمال ليس في الملازمة الواقعيّة بين الاستعمال والحقيقيّة ، فإنّ القول بها لوضوح بطلانه ممّا لم يتفوّه به جاهل فضلا عن عالم فاضل ، بل في ظهور الاستعمال فيها وعدمه ، فمقالة السيّد تنحلّ إلى صغرى وهو : « إنّ الاستعمال ظاهر في الحقيقة » على معنى إنّه يورث الظنّ نوعا أو شخصا بكون اللفظ حقيقة في المستعمل فيه اتّحد أو تعدّد ، وكبرى وهو : « كون هذا الظنّ حجّة ».

ومقالة الجمهور المخالفين له ترجع إمّا إلى منع الصغرى أو الكبرى أو منعهما ، بأن يكون مرادهم من قولهم : « الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة » إنّ الحقيقة لا تثبت بالاستعمال.

أمّا أوّلا : فلأنّ الاستعمال لا يفيد ظنّا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا الظنّ ليس بحجّة.

لكنّ الظاهر من دليلهم بل هو صريحه رجوع مقالتهم إلى منع الصغرى ، لا بمعنى كون الكبرى بعد تسليم الصغرى من المسلّمات عندهم ، بل هو بعد على الخلاف المتقدّم في بحث الظنّ في اللغات ، الّذي قد عرفت أنّ لهم في ذلك أقوال مختلفة.

وتحقيق المقام : إنّ النزاع إن كان في الكبرى على فرض حصول الظنّ بالاستعمال نوعا أو شخصا ، فالكلام فيه على حسب ما حقّقناه من أصالة عدم حجّيّة الظنّ في اللغات.

نعم إذا حصل الاضطرار إلى هذا الظنّ من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام الشرعيّة جاز الأخذ به ، غير أنّه قد عرفت أنّه ليس من حجّيّة

ص: 127

الظنّ في اللغات في شيء ، وإن كان في الصغرى فالحقّ فيه ما عليه الجمهور من عدم دلالة الاستعمال على الحقيقة ، بمعنى عدم ظهوره فيها لا نوعا ولا شخصا مطلقا ، لعين ما ذكروه من أنّه أعمّ ولا يعقل من الأعمّ دلالة على الأخصّ بالتقريب المتقدّم.

فإنّه على ما بيّنّاه بالنسبة إلى الأخصّ لا يوجب إلاّ تردّدا أو تأكّدا في التردّد ، مضافا إلى أنّ الشيء لا ينهض دليلا إلاّ إذا كان ملزوما ، وهو يقضي بكونه مساويا ففرض دلالته المبنيّ على أحد الوجهين يستلزم مساواة الأخصّ أو كونه أعمّ وهو ممّا يبطله دليل الخلف.

وبالجملة : الاستعمال بمنزلة اللازم الأعمّ الغير الصالح لكشفه عن ملزوم أخص ، كيف وكشفه هنا عن الوضع ليس بأولى من أن يكشف عن وجود العلاقة ، وهل العلم بمجرّد الاستعمال إلاّ نظير العلم بوجود ماش في الدار من دون علمه بموصوفه وما هو ملزوم له ، فهل يقدر بمجرّده على الحكم بأنّ الموجود فيها إنسان أو حمار ، ما لم يضمّ إليه ما يعيّن أحدهما من غلبة وجود أو قرينة مقام أو غيرهما ، ولو فرض مع الاستعمال غلبة وجوده في جانب الحقيقة ، فرجع البحث فيه إلى أنّ غلبة الاستعمال هل يصلح دليلا على الحقيقة أو لا ، وهذا بحث عن عنوان المقام الثالث فلا تعلّق له بالمقام.

احتجّ أهل القول بالدلالة مطلقا أو في الجملة ، بوجوه :

منها : ما قرّره السيّد في الذريعة (1) في جملة كلام طويل له في بحث ما ادّعى كونه للعموم من الصيغ والألفاظ ، فإنّه بعد ما بنى فيه على اشتراكه لغة بين العموم والخصوص تمسّكا بالاستعمال ، قال : والظاهر من استعمال اللفظة في شيئين إنّها مشتركة بينهما وموضوعة لهما ، إلاّ أن يوقفونا أو يدلّونا بدليل قاطع على أنّهم باستعمالها في أحدهما متجوّزون ، إلى أن قال :

ص: 128


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 301 - 202.

فإن قيل : دلّوا على أنّ بنفس الاستعمال يعلم الحقيقة ، وهذا ينتقض بالمجاز لأنّهم قد استعملوه وليس بحقيقة ، إلى أن قال :

قلنا : أمّا الّذي يدلّ عليه فهو إنّ لغتهم إنّما تعرف باستعمالهم ، وكما إنّهم إذا استعملوا اللفظ في المعنى الواحد ولم يدلّونا على أنّهم متجوّزون قطعنا على أنّها حقيقة فيه ، فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين.

وتوضيح ذلك : إنّ الحقيقة هي الأصل في اللغة والمجاز طار عليها ، بدلالة أنّ اللفظ قد يكون لها حقيقة في اللغة ولا مجاز له ، ولا يمكن أن يكون مجاز إلاّ حقيقة له في اللغة ، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون الحقيقة هي الّتي يقتضيها ظاهر الاستعمال ، وإنّما ينتقل في اللفظ المستعمل إلى أنّه مجاز بالدلالة ، وأمّا المجاز فلا يلزم على ما ذكرنا لأنّ استعمال اللفظ لو تجرّد عن توقيف أو دلالة على أنّ المراد به المجاز والاستعارة لقطعنا به على الحقيقة ، إلى آخر ما ذكره.

وأطنب فيه وبالغ به في ترويج ما اختاره ممّا لا يرجع إلى طائل ، ومحصّله يرجع إلى بناء أصالة الاستعمال - بالمعنى الّذي ذهب إليه - على أصالة الحقيقة بالمعنى المتقدّم إليه الإشارة ، المأخوذ في مباحث تعارض الأحوال ، مع كون المراد بالأصل ثمّة القاعدة المأخوذة عن جواز الحقيقة بلا مجاز وعدم جواز المجاز بلا حقيقة.

فأوّل ما يرد عليه : تطرّق المنع إلى تفسير الأصل المذكور بما ذكر ، فإنّه ليس من لوازم هذا الأصل ولا من ملزوماته ، ولذا صار المجاز بلا حقيقة مسألة خلافيّة ولهم فيها أقوال ثلاث ، مع اتّفاقهم على هذا الأصل في الجملة ، بل المراد به القاعدة المستفادة من حكمة الوضع بمعنى العلّة الباعثة على فتح باب اللغات ، المفسّرة بحصول التفهيم والتفهّم من غير حاجة إلى تجشّم القرائن ، وإنّما يكون المجاز مخالفا للأصل بهذا المعنى ، لأنّه حين الاستعمال إمّا أن يقترن بقرينة توجب انفهام المعنى المجازي أو لا ، فعلى الثاني يلزم مخالفة الجزء الأوّل من حكمة الوضع وعلى الأوّل يلزم مخالفة الجزء الثاني منها.

ص: 129

وثاني ما يرد عليه : إنّ جواز الحقيقة بلا مجاز وامتناع المجاز بلا حقيقة لو تمّ وسلم عن المنع - بناء على أحد القولين الآخرين - لا تنهض بنفسه برهانا قاطعا على الحكم بحقيقيّة اللفظ في المعنى المتنازع فيه ، ولا حاجة معه إلى النظر في وسط آخر ، بل لا يعقل معه للاستعمال مدخل في ذلك الحكم.

نعم لا بدّ من إحرازه تحقيقا لموضوع البرهان المذكور ، أو إحرازا لمجرى الأصل المأخوذ منه ، ولا يلاحظ على أنّه مناط للحكم.

وثالث ما يرد عليه : بطلان المقايسة وعدم إمكان التعدّي إلى الاستعمال في معنيين بمقتضى أصالة الحقيقة ، سواء أخذت بمعنى القاعدة المأخوذة عن امتناع المجاز بلا حقيقة ، أو بمعنى القاعدة المستفادة من حكمة الوضع.

أمّا على الأوّل : فلعدم لزوم المجاز بلا حقيقة لو لا الحكم بالحقيقة في الجميع.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأصل في اللغة إنّما هو الحقيقة الواحدة لا مطلقا ، وكما أنّ المجاز طار على ما هو الأصل لكونه منافيا لجنسه ، فكذلك الاشتراك فإنّه أيضا طار عليه لكونه منافيا لفصله.

ووجهه : إنّه إن استعمل بلا قرينة معيّنة للمراد يلزم مخالفة الجزء الأوّل من حكمة الوضع ، وإن استعمل مع القرينة يلزم مخالفة جزئها الثاني ، وإذا تساوى الأمران في مخالفة الأصل فكيف يعقل العدول عن أحدهما إلى صاحبه فرارا عن مخالفة الأصل ، مع أنّ الثابت المحقّق بمقتضى الغلبة بل الأصل بالمعنى المذكور كون المتعيّن في محلّ التعارض والدوران إنّما هو المجاز ، لكون مخالفة الأصل بهذا المعنى فيه أقلّ كما لا يخفى.

ومنها : ما قرّره بعض الأفاضل (1) من جريان طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني اللغويّة على ذلك ، فعن ابن عبّاس الاستناد في معنى « الفاطر » إلى مجرّد الاستعمال وكذا عن الأصمعي في معنى « الدهاق » وكذا الحال فيمن عداهما ، فإنّهم لا يزالون يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في

ص: 130


1- هداية المسترشدين : 42 ( الطبعة الحجريّة ).

الأشعار وكلمات العرب ، ويثبتون المعاني اللغويّة بذلك ، ولا زال ديدنهم ذلك من قدمائهم إلى متأخّريهم ... إلى آخره.

وهذا الوجه وإن قرّره فيما إذا اتّحد المستعمل فيه ، إلاّ أنّه لو تمّ لجرى في المتعدّد أيضا كما لا يخفى.

ويرد عليه ، أوّلا :

إنّه لو تمّ لقضى باعتبار الاستعمال لمجرّد الموضوعيّة لا لكشفه الظنّي عن الحقيقة ، وظهوره فيها كما لا يخفى ، وهو على ما عرفت خلاف مقالة أهل القول بأصالة الإطلاق.

وثانيا : منع كون نظرهم في إثباتها إلى مجرّد الاستعمال ، كيف والمعهود من طريقتهم إنّما هو الأخذ بالتبادرات والترديدات بالقرائن والتنصيصات ونحوها.

ولو سلّم كون نظرهم في بعض الأحيان إلى مجرّد الاستعمال أيضا لا نسلّم كونه لأجل الأخذ به مناطا للحكم ، لجواز كونه لأجل أنّه محقّق لموضوع الحكم الثابت بالملازمة الشخصيّة بين وضع لفظ لمعنى واستعماله فيه ، دون غيره الثابتة بقاطع غير مفيد لتعيين المحلّ وهو المعنى الموضوع له المستعمل فيه.

ولو سلّم كونه أخذا به على أنّه مناط للحكم ، لا يسلّم كونه مطلق الاستعمال بالمعنى المأخوذ في محلّ البحث ، بل هو استعمال بالمعنى المتقدّم في عنوان المقام الأوّل ، الّذي قد عرفت الملازمة فيه بينه وبين الوضع.

ولو سلّم الاستناد منهم إلى مطلق الاستعمال أيضا لا يسلّم كونه على وجه الاتّفاق ، وهو بدونه لا ينفع لجواز كون الاستناد من طائفة منهم بناء على زعم كونه أصلا - كما هو المتنازع - من باب البناء على أصل فاسد ، كما كان منهم من يستند إلى سائر الاصول الفاسدة من قياس ونحوه.

ومنها : ما اعتمد عليه جماعة منهم الفاضل المتقدّم ذكره (1) فيما إذا اتّحد المستعمل فيه ، من اتّفاقهم على الحكم بالحقيقة في تلك الصورة.

ص: 131


1- هداية المسترشدين : 42 ( الطبعة الحجريّة ).

ويدفعه : ما قرّرناه سابقا من أنّ الاتّفاق على الحكم المذكور ليس من الاتّفاق على الاستناد إلى مجرّد الاستعمال - كما هو محلّ البحث - في شيء.

ومحصّله : تسليم الاتّفاق على أصالة الحقيقة في الجملة ، ومنعه على أصالة الاستعمال مطلقا ، فإنّ الاتّفاق على الحكم المعيّن لا يستلزم الاتّفاق على سببه المعيّن ما لم يثبت الاستناد إليه من الجميع ، بل يجوز أن يكون بسبب آخر كما هو كذلك في المقام.

وممّا يفصح عن ذلك أنّ وضع الأمارات المميّزة بين الحقائق والمجازات من التبادر وعدمه وغيرهما ممّا تقدّم اتّفاق منهم مطلقا ، فلو أنّ أصالة الاستعمال أصل معوّل عليه مطلقا أو في الجملة في نظرهم على جهة الاتّفاق عليه لما احتاجوا إلى تكلّف هذا الوضع ، ولا إلى تجشّم الاستدلال على أمارة ولا إلى ارتكاب ما تقدّم من النقوض والإبرامات في جملة منها ، لعدم انفكاك شيء منها عن الاستعمال كما لا يخفى ، مع ما عرفت من أنّ جملة منها كالتبادر وخلافه مثلا لا ينهض أمارة إلاّ في صورة اتّحاد المستعمل فيه خاصّة. فليتأمّل.

ومنها : ما احتجّ به الفاضل المذكور (1) من مقايسة أصالة الاستعمال على أصالة الحقيقة ، بالمعنى المعهود المعمول به لتشخيص المرادات ، بقوله ملخّصا :

ولا ريب أنّ ظاهر الاستعمال قاض بإرادة الموضوع له بعد تعيّنه والشكّ في إرادته بغير خلاف ، وذلك قاض بجريان الظهور المذكور في المقام أيضا ، إذ لا فرق في ذلك بين العلم بالموضوع له والجهل بالمراد ، والعلم بالمراد والجهل بما وضع له لاتّحاد المناط في المقامين ، وهو استظهار أن يراد من اللفظ ما وضع بإزائه من غير أن يتعدّى في اللفظ عن مقتضى وضعه إلى أن يقوم دليل عليه.

ومحصّله يرجع إلى دعوى الملازمة بين الأصلين ، على معنى أنّ ظهور الاستعمال في إرادة ما وضع له في نظر العالم به ، يستلزم ظهوره في إرادته في

ص: 132


1- المصدر السابق.

نظر الجاهل به ابتداء ، فينتقل به إلى كون المستعمل فيه المعلوم أوّلا هو ما وضع له لا غير.

ويزيّفه أوّلا : إنّ موضوع الأصل المذكور إنّما هو اللفظ المجرّد عن القرينة ولو بحكم الأصل ، المقصود به الإفهام من حيث ظهوره في إرادة ما وضع له في نظر العالم به ، فالظهور ثمّة من صفات اللفظ ومنشائه تجرّده عن القرينة مع صدوره لقصد الإفهام ، كما يرشد إليه ما قرّرناه - عند شرح الوضع - في مسألة إنّ عدم القرينة جزء لما يقتضي حمل اللفظ على ما وضع بإزائه ، فالمقتضى التامّ إنّما هو الوضع والعلم به والتجرّد عن القرينة ، وهذا ممّا لا مدخل فيه للاستعمال.

نعم إنّما يعتبر الاستعمال تحقيقا لمجرى هذا الأصل ، بخلاف المقام فإنّ موضوع الأصل المبحوث عنه إنّما هو الاستعمال من حيث هو صفة ثابتة في اللفظ فبطلت المقايسة ودعوى الملازمة ، وإن كان المناط في المقامين هو استظهار أن يراد من اللفظ ما وضع بإزائه ، فإنّ الاستظهار في الأوّل حاصل بنفس اللفظ وفي الثاني مقصود من الاستعمال.

ولا يلزم من ظهور اللفظ في الأوّل في إرادة ما وضع له ظهور الاستعمال في الثاني فيه ، لعدم الملازمة من جهة أنّه لا ارتباط بين الأمرين.

وثانيا : وضوح الفرق بين المقامين لو جعلنا الموضوع في كليهما هو الاستعمال ، فإنّه في موضوع المقيس عليه مأخوذ على أنّه مجرّد عن القرينة ومقصود به الإفهام ، فإن أخذ في المقيس أيضا ما هو من هذا الباب كان عدولا عمّا هو موضوع البحث إلى ما هو موضوع المقام الأوّل المتقدّم تحقيقه ، وهو كما ترى.

وإن اخذ مطلق الاستعمال باعتبار جهالة حاله من حيث الاقتران والتجرّد كان مبطلا للمقايسة بوجود الفارق الواضح بينهما ، فلا يلزم من ظهور الاستعمال المأخوذ على الوجه المذكور في إرادة الحقيقة ظهور الاستعمال المأخوذ لا على هذا الوجه في إرادتها كما لا يخفى.

ص: 133

ومنها : ما اعتمد عليه الفاضل المذكور من أنّ المجاز يستلزم كثرة المؤن ، لتوقّفه على الوضع والعلاقة والقرينة الصارفة والمعيّنة ، بل ويتوقّف على الحقيقة على ما هو الغالب وإن لم يستلزمها على التحقيق (1) ومحصّله ترجيح جانب الحقيقة لما فيها من قلّة المؤن.

ويدفعه : إنّ وضع لفظ لمعنى يستلزم مجازيّته في معنى آخر ممّا يناسبه لا يستلزم مرجوحيّة هذا المجاز لمجرّد تضمّنه كثرة المؤن على وجه يترتّب عليه لزوم مراعاة ما يرفع تلك المرجوحيّة على الواضع وإلاّ لسرى المرجوحيّة إلى الوضع الأوّل ، فيقضي برجحان تركه أو قضى برجحان الوضع الثاني ، فيجب حينئذ وضعه لكلّ ما يناسب المعنى الأوّل ، فيلزم إمّا سدّ باب الوضع بالمرّة بعدم وضع لفظ لمعنى ، أو وجوب اشتراك كلّ لفظ بين معاني غير محصورة ، والكلّ كما ترى. وأقلّ ما يلزم في محلّ البحث على تقدير المجازيّة كون اللفظ مجازا بلا حقيقة ، ومعناه : إنّه لا يستلزم الحقيقة لا إنّه يستلزم الوضع ، بل الوضع واجب في كلّ مجاز ، فالمجازيّة الملحوظة في المقام من آثار هذا الوضع وتوابعه ، ولا ينشأ منه مرجوحيّة باعثة على اختيار خلافها ، مع أنّ الترجيح بالوجه المذكور لو تمّ لقضى بصحّة أصالة الحقيقة ، والكلام في تأسيس أصالة الاستعمال لا غير.

التنبيه على أمرين

وينبغي التنبيه على أمرين :

أحدهما : قد عرفت بما قرّرناه مرارا أنّ محلّ النزاع في أصالة الاستعمال إنّما هو مطلق الاستعمال الّذي جهل حاله ، باعتبار تجرّده عن قرينة الدلالة أو اقترانه بها.

وأمّا ما علم تجرّده عنها مع تبيّن كونه مقصودا به الإفهام فممّا لا ينبغي التأمّل في كونه ملزوما للحقيقة كاشفا عن الوضع ، ويمكن تنزيل مقالة السيّد إلى إرادة هذا النحو من الاستعمال ، بل في بعض عباراته من كلامه المتقدّم إليه الإشارة

ص: 134


1- هداية المسترشدين : 42 ( الطبعة الحجريّة ).

- في مبحث العموم والخصوص - ما هو ظاهر فيه إن لم نقل بكونه صريحا ، فإنّ قوله : « وكما إنّهم إذا استعملوا اللفظة في المعنى الواحد ولم يدلّونا على أنّهم متجوّزون قطعنا على أنّها حقيقة ، فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين » بظاهره لا ينطبق إلاّ على ذلك ، بشهادة قوله : « ولم يدلّونا على أنّهم متجوّزون » فإنّ الدلالة على التجوّز معناها نصب القرينة عليه ، فمعنى « لم يدلّونا » أنّه لم ينصبوا قرينة التجوّز ، وليس له معنى محصّل إلاّ فرض اللفظة في استعمالها في المعنى الواحد مجرّدة عن قرينة التجوّز ، ويرجع ذلك إلى فرض الاستعمال المذكور مع التجرّد عن القرينة ، والمفروض إنّه بقرينة صيغة الجمع في « استعملوها » ظاهر في استعمال النوع فيكون ممّا علم قصده الإفهام به لا محالة.

وحينئذ قوله : « قطعنا على أنّها حقيقة فيه » في محلّه ، ضرورة أنّ الاستعمال حيثما وجد بذلك المنوال كان مفيدا للقطع بالحقيقة ، ولا ينافيه ما في جملة من كلامه من دعوى ظهوره فيه - حسبما بيّنّاه - إذا كان الظهور مرادا به انكشاف الحقيقة كما لا يخفى ، فقوله : « فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين » أيضا يحمل على النحو المفروض ، فمعناه : أنّهم استعملوها في معنيين ولم ينصبوا قرينة التجوّز في شيء منهما.

ولا ريب أنّ الاستعمال في المعنيين مع التجرّد عن قرينة الدلالة فيهما معا آية الاشتراك ، لأنّه ممّا يكشف عن وضعه لهما معا ، ولا ينافي الجميع ما تمسّك به من الأصل المبنيّ على جواز الحقيقة بلا مجاز وعدم جواز المجاز بلا حقيقة ، لأنّ مقصوده بذلك الأصل بيان إنّ ما هو الأصل في اللغة يلزمه عدم الدلالة ، أي عدم وجوب نصب القرينة عليه لمجرّد كونه أصلا ، حتّى أنّه لو ثبت إنّ المجاز هو الأصل فيها فمن لوازمه عدم وجوب نصب القرينة عليه ، كما إنّ ما هو طار على الأصل ووارد على خلافه فيلزمه الدلالة ، بمعنى وجوب نصب القرينة عليه ، حتّى أنّه لو فرض أنّ الحقيقة هي الطارئة كان ذلك من لوازمها ، على ما هو شأن كلّ أمر مخالف للأصل ، حيث إنّ الدلالة مطلوبة فيه دون ما هو موافق له ، وحيث ثبت إنّ

ص: 135

الأصل في اللغة هو الحقيقة والمجاز على خلافه ، فينحلّ ذلك بمقتضى عدم لزوم الدلالة في الأوّل ولزومها في الثاني إلى أنّ كلّ حقيقة فمن لوازمه عدم وجوب نصب القرينة عليها ، وكلّ مجاز فمن لوازمه وجوب نصب القرينة عليه.

ولا ريب أنّه لو وجد الاستعمال مع ما هو من لوازم المجاز كان كاشفا عن ملزومه وهو المجاز ، فكذلك لو وجد مع ما هو من لوازم الحقيقة أعني التجرّد عن القرينة فإنّه أيضا ممّا يكشف عن ملزومه وهو الحقيقة ، ولا يفترق الحال فيه بين صورتي اتّحاد المستعمل فيه وتعدّده ، فإنّ من لوازم الحقيقة على جهة الاشتراك تجرّدها عن قرينة الدلالة بالنسبة إلى كلّ من معنييه ، وإن لزمها قرينة التعيين حيثما قصد به الإفهام ، فالاستعمال في كلّ إذا أخذ على النحو المفروض يكشف عن الحقيقة كشفا علميّا.

وأنت إذا تأمّلت في سائر فقرات كلامه لوجدت فيها ما يساعد عليه أيضا ، بل ما هو أصرح فيه ممّا عرفته ، وعليه فيعود النزاع المعروف بينه وبين الجمهور لفظيّا. فليتأمّل جيّدا.

وثانيهما : إنّ الشبهة مع الاستعمال الّذي جهل حاله باعتبار عدم معلوميّة حال اللفظ الّذي هو صفة قائمة به ، قد ترجع إلى مسألة دوران الأمر بين الحقيقة بلا مجاز والمجاز بلا حقيقة.

وقد ترجع إلى مسألة دوران الأمر بين الحقيقة بلا مجاز والمجاز مع الحقيقة.

وقد ترجع إلى مسألة دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي.

وقد ترجع إلى مسألة دوران الأمر بين الاشتراك اللفظي والمجاز.

وقد ترجع إلى مسألة دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي والمجاز.

وضابطه : إنّ الشكّ في حال الاستعمال بالاعتبار المذكور لا بدّ وأن ينشأ من جهل مقارن لحال الاستعمال ، وهو إمّا لجهالة أصل الوضع ، أو لجهالة الموضوع له لتردّده بين معنيين متباينين ، أو لتردّده بين معنيين أحدهما أعمّ والآخر أخصّ ،

ص: 136

أو لتردّده بين أعمّ وأخصّين أو لجهالة تعدّد الوضع ، أو لجهالة الموضوع له المردّد بين أعمّ وأخصّ وجهالة تعدّد الوضع معا.

والأوّل راجع إلى المسألة الاولى ، كما لو وجد اللفظ مستعملا في معنى معيّن مع عدم سبق علم بوضعه ، فيحتمل في بادئ النظر عدم وضعه لشيء ، أو وضعه للمستعمل فيه أو لغيره ممّا لم يستعمل فيه بل اتّفق استعماله في المستعمل فيه المفروض على وجه المجاز ، وإنّما ينقدح الاحتمال الأوّل في بدو الأمر وإلاّ فبعد ملاحظة الاستعمال وصحّته كما هو المفروض في كلى مسألة أصالة الاستعمال مع قضيّة انحصار الاستعمال في الحقيقة والمجاز المستلزم للوضع لا محالة يزول هذا الاحتمال بانكشاف الوضع لا محالة ، المردّد بين المستعمل فيه وغيره ممّا لم يستعمل فيه.

والثاني راجع إلى المسألة الثانية ، كما لو وجد اللفظ مستعملا في معنى معيّن مع سبق العلم بوضعه لمعنى قد استعمل فيه أيضا ، مردّد بين كونه نفس المستعمل فيه أو غيره ممّا يناسبه المستعمل فيه.

والثالث إلى المسألة الثالثة ، كما لو وجد اللفظ المستعمل في معنى على وجه الحقيقة في الجملة مستعملا في معنى آخر بينه وبين الأوّل جهة جامعة ، مع سبق العلم بوضعه لمعنى مردّد بين كونه الجهة الجامعة - ليكون استعماله في الثاني كالأوّل على وجه الحقيقة باعتبارها - أو الأوّل على جهة الاختصاص - ليكون استعماله في الثاني على وجه المجاز - كالخمر المستعمل في المتّخذ من العنب على وجه الحقيقة إذا استعمل في الفقّاع مثلا المردّد بين كون وضعه المعلوم لمطلق المسكر أو للمتّخذ من العنب خاصّة.

والرابع إلى المسألة الرابعة ، كما لو وجد اللفظ مستعملا على وجه الحقيقة في الجملة في معنيين بينهما جهة جامعة ، مع سبق العلم بوضعه لما يتردّد بين الجهة الجامعة وكلّ من المعنيين المستعمل فيهما ، كما في لفظ « الخمر » أيضا مع كون استعماله في كلّ من المتّخذ من العنب والفقّاع على وجه الحقيقة في الجملة.

ص: 137

والخامس إلى المسألة الخامسة ، كما لو وجد اللفظ المستعمل في معنى مستعملا في معنى آخر يشكّ في وضعه له على الاستقلال ، بعد سبق العلم بوضعه للأوّل على الاستقلال.

والسادس إلى المسألة السادسة ، كما لو وجد اللفظ مستعملا في معنيين بينهما جهة جامعة ، مع العلم بكونه في أحدهما المعيّن على وجه الحقيقة في الجملة ، بعد سبق العلم بوضعه لما يتردّد بين كونه الجهة الجامعة أو كلّ من المعنيين على الاستقلال أو أحدهما المعيّن كذلك ، وهو الّذي علم أوّلا بكون الاستعمال فيه على وجه الحقيقة في الجملة ، وذلك أيضا كما في لفظ « الخمر » بفرض آخر غير الفرضين الأوّلين ، والأجود في مثاله صيغة « إفعل » على القول بوضعها للطلب المطلق المشترك بين الوجوب والندب ، تمسّكا بأولويّة الحقيقة الواحدة بالقياس إلى صورتي الاشتراك بين الوجوب والندب ، والمجاز في الندب بناء على وضعها للوجوب خاصّة ، الّذي علم كون الاستعمال فيه على وجه الحقيقة في الجملة.

فهذه مسائل ستّ لا إشكال في حكم الاولى منها ، من حيث البناء فيها على الحقيقة ، بل لا خلاف فيه ظاهرا ترجيحا لجانب الحقيقة ، فإنّها ممّا يفرض في لفظ اتّحد ومعناه المستعمل فيه.

ودعاوى الاتّفاق فيها في الحكم المذكور في حدّ الاستفاضة كما عرفت جملة منها.

وأمّا الثانية : فلم نقف على من تعرّض لها بالخصوص.

وأمّا البواقي ففيها خلاف ، ومن السيّد في الخامسة ترجيح الحقيقة.

وعن الأكثر ترجيح المجاز ، وعن بعضهم التوقّف ولعلّه لزعم فقد المرجّح أو اشتباه ذي الرجحان.

وعن المحقّق في المعارج ، والعلاّمة في كتبه الثلاث ، والبيضاوي في منهاجه والرازي في محصوله (1) ترجيح الاشتراك المعنوي في الثالثة والرابعة والسادسة ،

ص: 138


1- المحصول 1 : 352.

خلافا للسيّد لبنائه في الثالثة على ترجيح الاشتراك المعنوي وفي الرابعة والسادسة على ترجيح الاشتراك اللفظي.

وعن المصنّف والعميدي والأسوي التوقّف في هذه الثلاث ، ومرجع الكلام في الجميع إلى ترجيح أحد وجهي المسألة أو أحد وجوهها بأصل يعوّل عليه عرفا لذاته ، أو وصفه إن كان الأخذ به في نظر العرف منوطا بالظنّ الحاصل ، فخرج به ما ينهض فيه على الترجيح بعض الأمارات المعتبرة المميّزة فيما بين الحقائق والمجازات المثبتة تارة للاشتراك المعنوي واخرى للاشتراك اللفظي وثالثة للحقيقة ورابعة للمجاز من التبادر وعدمه وغيرهما ، فإنّ الأخذ بموجب الأمارة المعتبرة حيثما وجدت ممّا لا يقبل النزاع ، فمحلّ البحث ما لا يمكن فيه تحصيل شيء من الأمارات المذكورة.

وقضيّة ذلك كون الأصل الّذي يطلب في المقام لينظر في موجبه من الترجيح على تقدير وجوده بحيث اخذ فيه نحو من التعليق ، على معنى كونه في اقتضاء الترجيح معلّقا على فقد الأمارة لوجوب البناء على ذي الأمارة من دون التفات إلى الأصل ، لا لأنّه يجري ولا التفات إليه بل لعدم جريانه بارتفاع موضوعه ، نظير الاصول العمليّة المعمول بها في الشرعيّات المعلّقة على فقد الأدلّة الاجتهاديّة ، فيرجع مفاد نحو هذا الأصل على فرض وجوده والاعتداد به إلى لزوم ترتيب أحكام الحقيقة أو المجاز أو الاشتراك لفظا أو معنى - حيثما ساعد على شيء منها - إلى أن يقوم أمارة معتبرة بخلافه.

وبذلك يندفع ما عساه يسبق إلى بعض الأوهام ، من أنّه لو كان هناك اصول معتبرة يعوّل عليها في الترجيح في نحو المسائل المفروضة لأغنت عن سائر الأمارات ، فلا حاجة لأرباب الفنّ إلى تكلّف وضعها والتكلّم فيها نقضا وإبراما ، وحيث إنّهم أطبقوا على وضع أمارات كان ذلك كاشفا عن فقد نحو الاصول المفروضة ، فإنّ هذه الاصول إذا اخذت معلّقة فلا ينافي تأسيسها لوضع الأمارات ، لأنّ كلاّ يقصد في مورده ومجراه.

ص: 139

وإن شئت قلت : إنّ الاصول الّتي يعوّل عليها في إثبات اللغات على قسمين :

أحدهما : الاصول المطلقة ، وهي الأمارات المتقدّم ذكرها مستوفاة.

وثانيهما : الاصول المعلّقة المبحوث عنها في المقام ، والمتداول عندهم في هذا الباب على ما يرشد إليه التتّبع في مطاوي عباراتهم وتضاعيف كلماتهم ، اصول كثيرة منها ما هو محلّ وفاق ، ومنها ما هو محلّ خلاف ، فمن جملة هذه الاصول « أصالة الاستعمال » بالمعنى الّذي يراه السيّد ومتابعوه ، بناء على كون النزاع المعروف معنويّا.

ومنها : « أصالة الحقيقة » بالمعنى الّذي يستعلم منه حال اللفظ ، لا ما هو بالمعنى الّذي يستعلم منه حال المتكلّم ، وهي قد تعتبر بالمعنى الأخصّ باعتبار اختصاصه بموارد متّحد المعنى المستعمل فيه ، وقد تعتبر بالمعنى الأعمّ فتعمّ المتّحد والمتعدّد معا.

وهي بالاعتبار الأوّل ما انعقد عليه الاتّفاق ظاهرا ، وبالاعتبار الثاني ما اعتمد عليه السيّد ومن تبعه في ترجيح الاشتراك لفظا.

ومنها : « أصالة المجاز » الّتي هي أيضا قد تعتبر بالمعنى الأخصّ فتختصّ بالمتعدّد ، وقد تعتبر بالمعنى الأعمّ فتعمّه والمتّحد معا ، فهي بالاعتبار الأوّل ما عليه الأكثر في ترجيح المجاز على الاشتراك.

وبالاعتبار الثاني ربّما عزى إلى ابن جنّي القائل بكون المجاز أكثر اللغة.

وبما بيّنّاه تندفع المنافاة المتوهّمة بين ما في كلام الأكثر من أصالة الحقيقة وأصالة المجاز والاعتماد عليهما ، فإنّ التنافي إنّما يحصل على تقدير إطلاق أحدهما أو كليهما ، بأن يؤخذ أحدهما بمعناه الأعمّ أو كلاهما بمعناهما الأعمّ وليس كذلك ، بل كلّ منهما إنّما يؤخذ به بمعناه الأخصّ.

وهناك اصول اخر « كأصالة الاشتراك » و « أصالة عدم الاشتراك » و « أصالة عدم تعدّد الوضع » غير أنّ الاولى مندرجة في أصالة الحقيقة بمعناها الأعمّ ، كما أنّ الثانية مرادفة لأصالة المجاز بمعناها الأخصّ ، فليس شيء منهما أصلا برأسه ممتازا عمّا ذكرناه.

ص: 140

وأمّا الثالثة وإن كانت باعتبار المفهوم تغاير كلاّ ممّا ذكر ، حتّى « أصالة عدم الاشتراك » المرادفة « لأصالة المجاز » بالمعنى الأخصّ ، غير أنّها باعتبار المورد أخصّ منهما ، حيث إنّها إنّما يؤخذ بها في مواردها على وجه المدركيّة لهما كما هو واضح. فالعمدة في المقام حينئذ إنّما هو النظر في تأسيس هذه الاصول وتحكيمها بالنظر إلى أنّه هل لها في نظر العرف والعادة دليل ومدرك صحيح أو لا ، ليتّضح منه حال المسائل المفروضة ، وما شاكلها من حيث الترجيح والوقف.

فنقول : أمّا « أصالة الاستعمال » فقد اتّضح حالها بما لا مزيد عليها ، وتبيّن أنّه من الاصول الّتي لم يثبت لها أصل ، فلا حكم لها حينئذ من حيث الترجيح أصلا.

في أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ

وأمّا أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ : فالّذي يساعد عليه النظر إنّه أصل معتبر معوّل عليه ، والدليل عليه وجوه :

أحدها : بناء العرف وطريقة أهل اللغة ، فإنّهم لا يزالون يعاملون مع اللفظ المستعمل في معنى واحد معاملة الحقائق ، بترتيب أحكامها وإجراء آثارها عليه من غير تحقيق لشيء من الأمارات فيه ، فتراهم في اللفظ الوارد في الأشعار والقصائد القديمة ، والكتب المؤلّفة المندرسة من السير والتواريخ ، وكتب الأخبار والتفاسير ، وغيرها يحملونه على ما عثروا بكونه ثمّة مستعملا فيه من المعنى المعيّن وإن كان مهجورا في العرف الحاضر بنفسه أو بمعناه أو كليهما ، من دون وقف ، ولا اعتناء باحتمال مجازيّة هذا الاستعمال ، ولا كون اللفظ بالقياس إليه مجازا بلا حقيقة ، ولا ينكر ذلك عليهم تعليلا بالاحتمال المذكور ، بل لو ألقى إليهم شبهة هذا الاحتمال كان مستهجنا في نظرهم ، وليس إلاّ لسخافة الاحتمال ، وكونه في السقوط بحيث ليس من شأنه أن يلتفت إليه ولا أن يعتنى به ، وهذا مع ما علم ضرورة من وجوب مراعاة أصالة الحقيقة المشخّصة للمرادات لا يلائم إلاّ على كون اللفظ المفروض من حكمه اجراء أحكام الحقيقة عليه.

وكذا الحال فيما يوجد في العرف الحاضر مستعملا في معنى معيّن واحد من دون إحراز أمارة فيه بالقياس إلى ذلك المعنى ، ويرجع ذلك كلّه إلى أنّ اتّحاد

ص: 141

المستعمل فيه ممّا يؤخذ به في نظر العرف والعادة مناطا لإجراء أحكام الحقيقة على اللفظ المستعمل إلى أن يقوم أمارة بخلافها ، فتأمّل جيّدا.

وثانيها : الاستقراء المفيد للقطع ، فإنّ مورد أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ على ما عرفت هو اللفظ المردّد بين الحقيقة بلا مجاز والمجاز بلا حقيقة.

وقضيّة الاستقراء القطع بكونه حقيقة ، فإنّ المجاز بلا حقيقة وإن كان أمرا ممكنا بحسب العقل ، غير أنّه ممّا لا خارج له ، بل هو « كالعنقاء » مجرّد اسم لا رسم له بحسب الخارج ، ومفهوم لا أثر له في الأعيان ، كيف وأهل القول بوقوعه لم يأتوا لوقوعه إلاّ بعدّة أمثلة زيّفناها في محلّه ، لمنع أصل المجازيّة في جملة ، ومنع كونها بلا حقيقة في اخرى ، وليس لهم ممّا عداها مثال آخر ، مع ما ارتكبوه ترويجا لمذهبهم من كلفة الفحص في تحصيله ليكون حجّة على من يخاصمهم.

ولا ريب أنّ عدم الوجدان بعد الفحص التامّ ممّا يفيد القطع بعدم الوجود ، فيتحصّل بذلك كبرى كلّية ، وهي : « إنّ اتّحاد معنى اللفظ المستعمل فيه ملزوم لحقيقيّته فيه » فإذا انضمّ إليها صغرى تفرض بالقياس إلى مورد الدوران ، كان نتيجتهما ترجيح جانب الحقيقة على سبيل الجزم.

وثالثها : إنّ اتّحاد المستعمل فيه في نحو مفروض المسألة على ما هو مورد أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ ممّا يكشف عن نحو اختصاص للّفظ به ، وإن لم يكن عن آثار الوضع الثابت له لا محالة ، المردّد بين هذا المستعمل فيه وغيره ممّا لم يستعمل فيه ، وذلك لأنّ الاستعمال مع اتّحاد المستعمل فيه في اللفظ المتداول عند نوع أهل اللغة يلزمه أن يكون متداولا فيما بين النوع ، على معنى أن يتداوله العرف في محاوراتهم ومخاطباتهم في المعنى المبحوث عنه.

ولا ريب أنّ نحو هذا الاستعمال ملزوم لنحو من الاختصاص سواء كان بحسب الواقع من آثار وضع الواضع ، أو من آثار نفس استعمال النوع ، فينكشف به الحقيقيّة لا محالة ، وإن كانت مردّدة بين وجهي الاختصاص.

وربّما يستدلّ عليه بحكمة الوضع - المتقدّم تفسيرها - فإنّها تقضي بترجيح

ص: 142

جانب الحقيقة ، إذ على تقدير المجاز يلزم مخالفة الحكمة ، سواء اخذ في الاستعمال بلا قرينة أو معها.

ويندفع : إنّ التجوّز إنّما يطرأ اللفظ غالبا من أهل اللسان لا من الواضع نفسه ، لغرض دعاهم إليه من قبل أن يستعملوه فيما وضع له ، المفروض وجوده لا محالة على تقدير المجازيّة ، ولا ريب أنّ حكمة الوضع لا تنفيه.

نعم لو فرض كون الاستعمال المفروض صادرا عنهم لمراعاة نحو هذه الحكمة ، على معنى كونهم إنّما استعملوا اللفظ لحصول التفاهم بلا حاجة إلى تجشّم القرينة لا تنهض بترجيح الحقيقة ، غير أنّ تنزيل البحث على نحو هذا الفرض خروج عن محلّه ، حسبما بيّنّاه من أنّ المقصود تأسيس أصل يرجع إليه على تقدير فقد أمارة الحقيقة والمجاز ، والاستعمال المفروض على الوجه المذكور بنفسه أمارة حقيقة لرجوعه في حاصل المعنى إلى الاستعمال المأخوذ في عنوان المقام الأوّل حسبما تقدّم.

وربّما استدلّ أيضا بما تقدّم في بحث أصالة الاستعمال ، من أنّ المجاز يستلزم كثرة المؤن بخلاف الحقيقة فتكون أولى وأرجح ، وقد نفيناه بأنّ قلّة المؤن وكثرتها لا تقتضي رجحانا ولا مرجوحيّة ، فالحكم بمرجوحيّة المجاز لمجرّد استلزامه كثرة المؤن غير متّجه ، فإنّ مجازيّة لفظ في معنى إنّما تتبع وضع ذلك اللفظ بإزاء معنى آخر ، فهي معلولة عن مجموع أمرين وضع اللفظ بإزاء ما فرض وضعه له ، وعدم وضعه بإزاء ما فرض كونه مجازا فيه.

ولا ريب أنّ مرجوحيّة المعلول إنّما هي باعتبار مرجوحيّة علّته ، فإمّا أن يحكم بمرجوحيّة الوضع ، فيلزم أن يكون الوضع في كلّ لفظ موضوع أمرا مرجوحا ، أو مرجوحيّة عدمه بالقياس إلى ما لم يوضع له فيلزم رجحان خلافه ، ويلزم من ذلك وجوب اشتراك كلّ لفظ بين معاني غير محصورة ، واللازم بكلا قسميه باطل.

وبالجملة : قلّة المؤن وكثرتها لا تصلحان لتأسيس هذا الأصل ، ليتفرّع عليه رجحان الحقيقة ومرجوحيّة المجاز.

ص: 143

نعم إنّما يصلحان لتأسيس أصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، فيما لو دار اللفظ الصادر من متكلّم خاصّ بين إرادة معناه الحقيقي أو معناه المجازي ، فيقال : إنّ الحقيقة أرجح لما فيها من قلّة المؤن القاضية بسهولة التعبير ، وكأنّ توهّم الرجحان في المقام ناش عن الخلط بين المقامين.

وممّا يمكن أن يستدلّ أو استدلّ به أيضا ، الملازمة بين الأصل بالمعنى المبحوث عنه وأصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، فإنّ المقصود بالأصل ثمّة الحكم على اللفظ بكون المستعمل فيه المراد منه معناه الحقيقي وهو بعينه مقصود به هاهنا ، فالقول بأصالة الحقيقة ثمّة يستلزم القول بها هاهنا ، وسبق العلم بالمعنى الحقيقي وعدمه لا يصلح فارقا.

ويزيّفه : وضوح تغاير الأصلين مفهوما وموضوعا ، فإنّ ما يستعلم به حال المتكلّم أصل بمعنى ظهور الحقيقة ورجحانها ، وموضوعه اللفظ المستعمل المقصود به الإفهام المجرّد عن قرينة المجاز ، ومناط ظهوره في إرادة الحقيقة إنّما هو العلم بوضعه مع تجرّده عن القرينة ، وما يستعلم به حال اللفظ أصل بمعنى القاعدة الموجبة لترجيح الحقيقة ، وموضوعه اللفظ المستعمل مع جهالة حاله بالقياس إلى معناه المستعمل فيه من حيث الاقتران بالقرينة وتجرّده عنها ، ولا يلزم من ظهور الأوّل في كون المستعمل فيه المراد منه معناه الحقيقي ظهور الثاني فيه ، كما هو واضح.

فإن قلت : من المقرّر في تحقيق الأصل المذكور - على ما سيأتي تحقيقه - إنّ أصالة الحقيقة في حجّيتها ووجوب العمل بها لا يتفاوت فيهما الحال بين المشافه الّذي قصد إفهامه وغيره الّذي لم يقصد إفهامه فإنّهما في العمل بها سيّان ، فإذا فرض الجاهل المستعلم (1) لحال اللفظ ناظرا في لفظ قصد به إفهام مشافه غيره يحصل الملازمة بين الأصلين حينئذ في كون كلّ منهما يستظهر كون المستعمل فيه المراد منه هو المعنى الحقيقي ، غير أنّ المشافه إنّما يستظهره لأنّه مشافه قصد

ص: 144


1- في الأصل « المستعمل » والصواب ما أثبتناه في المتن.

إفهامه والجاهل يستظهره لأنّه غير مشافه لا يتفاوت الحال بينه وبين المشافه في استظهار إرادة الحقيقة.

قلت : كما أنّ المشافه المقصود إفهامه وغيره سيّان في استظهار الحقيقة ، فكذلك هما سيّان في اشتراط سبق العلم بالموضوع له ، وتبيّن حال اللفظ من حيث تجرّده عن القرينة ، فإنّ منشأ ظهور الحقيقة هو اللفظ بهذا الشرط لا مطلقا ، فلا يمكن فرض الجاهل المستعلم لحال اللفظ من قبيل الغير المشافه العالم بحاله ، المستظهر للحقيقة لمجرّد علمه.

فإن قلت : ربّما تتأتّى الملازمة بين الأصلين فيما لو كان مستند علم الجاهل بالمعنى المستعمل فيه هو أصالة الحقيقة ، الّتي أعملها العالم بحال اللفظ مشافها مقصودا إفهامه أو غيره ، بأن علم في لفظ مستعمل بمعناه المستعمل فيه بسبب وقوفه على ما صنعه العالم بحاله من حمله على معنى معيّن ، تعويلا على ظهوره فيه كما هو مناط العمل بأصالة الحقيقة.

قلت : إن تبيّن له إنّه إنّما حمل اللفظ على ذلك المعيّن لمجرّد كونه بنفسه ظاهرا فيه ، فهو انكشاف للتبادر الّذي هو من أقوى أمارات الحقيقة ، فانكشاف الحقيقة في الحقيقة إنّما هو لأجل ذلك التبادر.

وقد عرفت أنّ نحو هذه الصورة خارج عن معقد الأصل بالمعنى المبحوث عنه ، وإن لم يتبيّن له إلاّ أنّه إنّما حمله لظهوره المردّد في نظره بين كونه لمجرّد اللفظ أو له بمعاونة القرينة ، فهو انكشاف للتبادر الظنّي.

فإن قلنا باعتباره في أمارات الحقيقة عاد الكلام السابق ، وإلاّ فلم يتبيّن له ظهور إرادة الحقيقة في نظر العالم ، ليكون ذلك منشأ لأصالة الحقيقة بالمعنى المبحوث عنه.

فإن قلت : ربّما أمكن فرض الملازمة بينهما فيما لو كان الجاهل بحال اللفظ بنفسه مخاطبا في استعمال هذا اللفظ مقصودا إفهامه ، فهو حينئذ يحكم بإرادة الحقيقة لأصالة الحقيقة.

ص: 145

غاية الأمر : أنّ المعنى الحقيقي لجهله به على نحو التعيين مشتبه في نظره ، فيتحرّى حينئذ في طلب العلم بالمستعمل فيه ، وإذا حصل له ذلك العلم انكشف له كونه المعنى الحقيقي بحكم الفرض الأوّل ، وهذا هو الملازمة بين الأصلين.

قلت : علمه بالمستعمل فيه لا بدّ له في نحو الصورة المفروضة من مستند ، وهو لا يخلو إمّا تنصيص المتكلّم فيما بعد الخطاب بما هو مراده على التعيين ، أو تتبعه الكاشف عن أنّ استعمال هذا اللفظ المتداول عند نوع أهل اللغة ما يقع على هذا المعنى المعيّن ، وأيّا ما كان ، فالفرض على الوجه الأوّل ممّا يخرج المورد عن معقد أصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، لترددّ تنصيص المستعمل حينئذ في نظره بين كونه لمجرّد رفع الإبهام وإزالة الاشتباه عن المعنى الحقيقي ، أو لنصب قرينة الدلالة الّتي يلزمها المجاز ، فهو بعد على جهله في حال اللفظ ووصفه.

وعلى الوجه الثاني ممّا يخرجه عن معقد أصالة الحقيقة بالمعنى المبحوث عنه ، لرجوع الاستعمال المفروض بضميمة كونه مقصودا به الإفهام مع تجرّد اللفظ عن القرينة إلى ما هو ملزوم للحقيقة ، وأمارة واقعيّة للوضع وهو الاستعمال المأخوذ في عنوان المقام الأوّل المتقدّم ذكره.

فالوجه في تأسيس الأصل المبحوث عنه هو ما قرّرناه من الوجوه الثلاث.

لكن لك أن تقول : بانحصار وجهه عند التحقيق في أوّل هذه الوجوه ، وهو بناء العرف وطريقة أهل اللسان خاصّة ، لأنّه الّذي يكون النتيجة الحاصلة منه أصالة الحقيقة المعلّقة على عدم قيام الأمارة بخلافها ، على معنى القاعدة المقتضية لإجراء أحكام الحقيقة إلى أن يقوم أمارة بخلافها ، وأمّا الوجهان الأخيران فإنّما يفيدان الحقيقيّة الواقعيّة ، فهما بأنفسهما ينهضان من أمارات الحقيقة ، ولا يعقل كونهما محرزين لهذا الأصل ، لأنّهما على البيان المتقدّم رافعان لموضوع الأصل ، وقيام ما يرفع موضوع أصل مدركا له ودليلا على تأسيسه غير معقول ، فالأصل المبحوث عنه ما يحرز بالوجه الأوّل فقط ، وحينئذ لا بدّ من فرض المورد بحيث لا يتأتّى فيه الوجهان الآخران ، أو لا بدّ من قطع النظر حين إجراء الأصل وإعماله عنهما على تقدير تأتّيهما وجريانهما في مجرى الأصل.

ص: 146

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ العبرة في الاتّحاد المأخوذ في مجرى هذا الأصل بما هو في نظر الجاهل لا ما هو بحسب الواقع ، ولا يعتبر فيه ظهور عدم التعدّد بل يكفي عدم ظهوره ، وهو على تقدير الاستناد إلى الاستقراء أعمّ من الحقيقي والحكمي ، كما لو استعمل اللفظ في معاني متعدّدة علم بمجازيّة غير الواحد منها ، غير أنّ المسألة معه من باب الدوران بين المجاز بلا حقيقة والحقيقة مع المجاز ، بعكس المسألة الثانية من الستّ المتقدّمة ، فمجموع المسائل مضافة إليها سبع.

ثمّ إنّ المستعمل فيه الواحد ، ربّما لا يندرج في معقد الأصل المذكور ، كما إذا كان بحيث علم بعدم مناسبته لشيء من المعاني ، أو علم بعدم ملاحظة مناسبته حين استعمالاته ، أو كان اللفظ الواقع عليه بحيث علم قبل العثور عليه بالملازمة الشخصيّة بين وضعه واستعماله ، على معنى العلم من جهة الخارج بأنّه وضع لمعنى لم يقع استعماله الخارجي إلاّ عليه ، فلا حاجة في هذه الفروض إلى النظر في الأصل ، لانكشاف الحقيقيّة الواقعيّة فيها من غير جهته.

في أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ

وأمّا أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ : فقد اتّضح الدليل على أحد فرديها ، وهو المعنى الأخصّ منها.

وأمّا هي في فردها الآخر المختصّ بمتكثّر المعنى ، فقد استدلّ عليها بوجوه :

منها : الاستعمال بالتقرير المتقدّم عن السيّد ، من أنّ استعمال اللفظ في المعنيين فما زاد ليس إلاّ كاستعماله في المعنى الواحد في الدلالة على الحقيقة.

وفيه أوّلا : منع الحكم في المقيس عليه بالسند المتقدّم بما لا مزيد عليه ، فإنّ الاستعمال بنفسه قاصر عن إفادة شيء من الحقيقة والمجاز ، لكونه حقيقة جنسيّة لا يعقل معينّة لأحد أنواعها.

وثانيا : وجود الفارق ، فإنّ لوحدة المعنى المستعمل فيه مدخليّة في الحكم ، إمّا لأنّها السبب التامّ أو كونها جزءا للسبب ، على أن يكون السبب مركّبا منها ومن الاستعمال ، وأيّاما كان فالمقايسة باطلة ، لانتفاء السبب أو جزئه في المقيس.

وأمّا ما قيل في تتميم الاستدلال به من مقايسة استعمال اللفظ على حمل

ص: 147

المعنى المستعمل فيه عليه ، بدعوى : كونه بمنزلته ، لوضوح أنّ استعمال « الأسد » في الحيوان المفترس ، بمنزلة أن يقال : « الأسد الحيوان المفترس » فكما أنّ نحو ذلك لو ورد في كلام من يعتدّ بقوله ممّا يفيد كون اللفظ حقيقة فيه موضوعا بإزائه ، فكذلك ما هو بمنزلته ، فممّا يقضي الضرورة بفساده لمنع الحكم في الأصل ، فإنّ نحو هذا الحمل المتولّد من نحو هذا الاستعمال الأعمّ باعتبار جهالة حاله أعمّ من الحقيقة.

وتوضيحه : إنّ الحمل فيما بين اللفظ المستعمل ومعناه المستعمل فيه ذاتي ، وهو يتأتّى في كلّ من الاستعمال الحقيقي والاستعمال المجازي ، وإنّما يعلم الحال بملاحظة الخارج ، فالحمل إنّما يعتبر ويؤخذ به بحسب الاستعمال الواقع فيما بين اللفظ ، فإذا كان الاستعمال على ما هو مفروض المقام بحيث جهل حاله كان الحمل المتولّد منه أيضا على هذا الوجه فلا يفيد شيئا ، وهو باعتبار كونه ضمنيّا تابعا لنحو هذا الاستعمال ليس نظير الحمل الصريح الواقع في كلام من يعتدّ بقوله في إثبات اللغات ، لأنّ كونه متعرّضا لبيان معنى اللفظ قرينة مقام أوجبت ظهور الحمل في إفادة الحقيقة ، فلا يقاس عليه الحمل الضمني الغير المقصود به إلاّ إفادة ذات المعنى من غير نظر إلى وصفه من الحقيقة والمجاز.

ومنها : إنّ الاشتراك أكثر في اللغة ، فيكون الحمل عليه أولى مع الاشتباه.

أمّا الاولى : فلأنّ الكلمة اسم وفعل وحرف ، والحروف كلّها مشتركة كما يشهد به كتب النحو ، وكذا الأفعال فإنّ الماضي والمستقبل مشتركان بين الخبر والدعاء ، والمضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، والأمر مشترك بين الوجوب والندب.

وأمّا الأسماء فإنّ الاشتراك فيها كثير على ما يشهد به تتبع اللغة ، فإذا ضمّ إليها الحروف والأفعال غلب الاشتراك على الانفراد.

وأمّا الثانية : فلأنّ المظنون لحوق المشتبه بالأكثر الأغلب.

ولا يخفى ضعفه : بل دعوى غلبة الاشتراك في اللغة من أوضح الأغلاط ، كيف وهو في القلّة بمرتبة أنكره قوم فأحالوه ، مع أنّ الأصل في الكلام الأسماء

ص: 148

والاشتراك فيها نادر جدّا ، واشتراك الأفعال والحروف ممّا لا يجدي نفعا مع ذلك كذا عن النهاية (1) مع توجّه المنع إلى الاشتراك في الامور المذكورة ، كيف ولو اريد به فيها ما ثبت بأمارات الوضع من تبادر أو نصّ لغوي أو غيرهما ، ففيه : منع واضح حيث لم يوجد لأمارات الوضع في اشتراكها أثر ، ولا شهادة به لما في كتب النحو بالقياس إلى الحروف ، ولا لما في اللغة بالنسبة إلى الأسماء ، لعدم اشتمال الأمرين إلاّ على أصل التعدّد ، وهو ليس بملزوم للاشتراك لوجوده في الحقيقة والمجاز ، فإنّهما كالمشترك من أقسام متكثّر المعنى ، ولا ريب أنّ اللازم الأعمّ غير صالح لأن يكشف عن ملزوم أخصّ.

وإن اريد به ما يستند إلى أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ وأصالة الاشتراك الّتي هي قسم منها ، ففيه : دور واضح ، إذ الاشتراك فيها لا يعرف إلاّ بالأصل ، والمفروض إنّ الأصل لا يعرف إلاّ بالاشتراك فيها ، مع أنّ الثابت فيها على التحقيق عدم الاشتراك.

أمّا الحروف : فلأنّها بأسرها حقائق في معانيها المعروفة الّتي يغلب استعمالها فيها ويكثر دورانها في الاستعمالات ، كالإلصاق في « الباء » والابتداء في « من » والانتهاء في « إلى » والظرفيّة في « في » والجمع في « الواو » والتفريق في « أو » وهكذا إلى سائر الحروف ، لأنّها المتبادر منها عند الإطلاق وغيرها غير متبادر منها ، مع ندرة الاستعمال فيها ، ووقوع الخلاف بين أئمّة اللغة في ثبوت أكثرها كما يشهد به التتبّع.

وأمّا الأفعال : فالماضي والمستقبل وإن استعملا في الخبر والدعاء معا غير أنّ الاستعمال بالنسبة إلى الدعاء يرد على سبيل المجاز ، لتبادر الخبر منهما عند الإطلاق وعدم تبادر غيره ، بل الظاهر إنّه محلّ وفاق عند أئمّة اللغة ، كما في كلام غير واحد من أساطين أهل الفنّ.

ص: 149


1- نهاية الوصول في علم الاصول : الورقة 22 ( مخطوط ).

نعم قد يدّعى حصول الوضع الجديد في بعض أفراد الماضي كصيغ العقود للإنشاء ، وهو - مع أنّه أخصّ من المدّعى - دعوى مردودة على مدّعيها ، حيث لا شاهد عليها بل الشاهد على خلافها ، لتبادر الخبر من صيغ العقود أيضا حيثما اطلقت ، وتبادر الإنشاء حيثما وردت في مقام عقد أو إيقاع إطلاقي لاستناده إلى قرينة المقام ، فإنّ التعرّض لمقام العقد أو الإيقاع بإيجاب أو قبول قرينة مقام تصلح مستندة للتبادر.

وأمّا فعل المضارع في الحال والاستقبال فالأقوال الثلاثة فيه معروفة ، غير أنّ الّذي يساعد عليه النظر بحكم التبادر وغيره كونه حقيقة في الحال خاصّة ، لأنّه المتبادر عند إطلاقه كما يشهد به المنصف ، وممّا يرشد إليه ، إنّه لا يستعمل في الاستقبال إلاّ مع القرينة وأدوات الاستقبال ، بخلاف استعماله في الحال فإنّه يرد مجرّدا في الغالب ، كما هو شأن اللفظ بالقياس إلى معنييه الحقيقي والمجازي.

وقد عزى القول به والذهاب إليه إلى جماعة من محقّقي النحاة ، منهم نجم الأئمّة الشيخ الرضي طاب ثراه ، فقال - في كلام محكيّ له - : لأنّه إذا خلا من القرائن لم يحمل إلاّ على الحال ، ولا يصرف إلى الاستقبال إلاّ لقرينة. وهذا شأن الحقيقة والمجاز ، وأيضا من المناسب أن يكون للحال صيغة خاصّة كما لأخويه. انتهى (1).

والمناقشة فيه : تأييدا للحقيقة في الاستقبال خاصّة ، بالقضيّة المشتهرة عن الحكماء من : أنّ الحال ليس بآن موجود ولا زمان محقّق يكون واسطة بين الماضي والاستقبال ، بل هو فصل وحدّ مشترك بينهما ، ولو كان زمانا لكان التنصيف تثليثا. تندفع : بعدم كون المراد بالحال هاهنا الحال الحكمي ، بل العرفي المفسّر تارة بالزمان الّذي أنت فيه ، واخرى بحال النطق المنطبق على الجزء الأخير من الماضي والجزء الأوّل من الاستقبال.

قال الشارح الرضي (2) : ومن ثمّ يقال : إنّ « يصلّي » في قولك : « زيد يصلّي »

ص: 150


1- شرح الكافية 2 : 226.
2- شرح الكافية 2 : 226.

حال ، مع أنّ بعض صلاته ماض وبعضها باق ، فجعلوا الصلاة الواقعة في الآنات الكثيرة المتتالية واقعة في الحال.

والخلاف في فعل الأمر معلوم ضرورة ولهم فيه أقوال متشتّتة إلاّ أنّ أقواها على ما سنحقّقه في محلّه كونه حقيقة في الوجوب مجازا في الندب ، فلا اشتراك فيه أيضا.

ومع الغضّ عن جميع ذلك أيضا وتسليم الاشتراك في المذكورات ، يتوجّه المنع إلى الغلبة المدّعاة الموجبة للظنّ باللحوق ، إذ الألفاظ الموضوعة بأسرها منقسمة إلى موادّ وهيئات ، ومن الموادّ الحروف وهي بالإضافة إلى غيرها في غاية القلّة ، ومنها الأسماء الّتي يعترف الخصم بعدم أكثريّة الاشتراك فيها.

ومن الهيئات الأفعال الثلاث الّتي منها : الأمر المستعمل في معاني كثيرة قريبة من عشرين معنى مضبوطة في كتب الاصول ، ولا خلاف عندهم في مجازيّة أكثرها كما هو واضح.

ومنها : الهيئات الاسميّة من صيغ اسمي الفاعل والمفعول ، والصفة المشبهة واسم التفضيل ، وأسماء الزمان والمكان والآلة والمبالغة وغيرها ، ولا اشتراك في شيء منها ، وهي أكثر من الأفعال المذكورة ، فإذا انضمّ إليها الأسماء الغير المشتركة لغلب عدم الاشتراك على الاشتراك ، وإلاّ فلا أقلّ من التساوي ، فلا غلبة لجانب الاشتراك. مع أنّ المستدلّ على ما يشهد به صريح كلامه معترف بأكثريّة المجاز في الأسماء ، ومن جملتها المصادر الّتي هي على تقدير اشتقاق الفعل عنها سارية في الأفعال كلّها ، وقد ورد لغالبها - على ما يرشد إليه كتب اللغة - معاني متعدّدة ، وقد اشتملت الأفعال المأخوذة عنها على تلك المعاني ، وإذ فرضنا كون الغالب من تلك المعاني هي المجازات لزم كون الغالب في الأفعال باعتبار موادّها المجازات ، وإن كان الغالب فيها باعتبار هيئآتها الاشتراك.

وقضيّة ذلك اختيار تفصيل في المسألة ، بين ما لو كان مورد الاشتباه من قبيل الأسماء والأفعال باعتبار المادّة أو من قبيل الأفعال باعتبار الهيئة.

ص: 151

ففي الأوّلين يحكم عليه بالمجاز إلحاقا بالغالب من صنفه ، وفي الأخير يحكم عليه بالاشتراك إلحاقا بالغالب من صنفه ، فإطلاق الحكم بالاشتراك ليس في محلّه إلاّ إذا ثبت كونه أكثر في أفراد نوع اللفظ ، لكنّه مع تطرّق المنع إليه لا يجدي نفعا في مقام الإلحاق ، حيث لا حكم لغلبة النوع مع قيام غلبة الصنف بخلافها.

وربّما يقرّر الغلبة المدّعاة - تأييدا لأصالة الاشتراك أو دليلا عليها - : بأنّ تعدّد المعنى في اللغة أكثر من اتّحاده ، كما يظهر بملاحظة حال الأسماء والأفعال والحروف ، ويشهد به تتبّع كتب اللغة العربيّة. ولا ريب أنّ المشتبه يلحق بالأعمّ الأكثر.

وهذا أضعف من سابقه إذ ليس الكلام في الاتّحاد والتعدّد ، ليرجع إلى غلبة التعدّد ، استعلاما لحكم ما يتردّد بينهما.

وقد عرفت أنّ التعدّد لا يلازم الاشتراك إلاّ أن يوجّه إلى تعدّد المعنى الموضوع له ، ففيه المنع حسبما تقدّم.

وأضعف منه أيضا ما حكى في تقرير الاستدلال على رجحان الاشتراك ، من : أنّ الألفاظ بأسرها من الأسماء والأفعال والحروف مشتركة ، إذ ما من لفظ إلاّ وهو مشترك بين معناه الّذي وضع بإزائه وبين نفس اللفظ ، وهو بهذا الاعتبار اسم وإن كان بالاعتبار الأوّل فعلا أو حرفا ، على ما ذكره النحاة في قولهم : « من » حرف جرّ و « ضرب » فعل ماض ، فإنّ معناه إنّ « من » و « ضرب » اسمان لهذين اللفظين ، وهما الفعل والحرف.

وفيه : إنّ « من » و « ضرب » ليسا اسمين لأنفسهما ، ولا للحرف والفعل ، بل الحرف والفعل في اصطلاح أهل العربيّة من قبيل أسماء الأجناس ، ومسمّاهما المفهومان الكلّيان الصادقان كلّ منهما على الكثرة الّتي منها « من » و « ضرب » كما أنّ الكلمة بالنسبة إلى الحرف والفعل ، واللفظ بالنسبة إلى الكلمة والكلام كذلك ، ولا يعقل في شيء منهما اشتراك بين المعنى الموضوع له ونفس اللفظ.

ولعلّ التوهّم نشأ عن الحمل في قضيّة قولهم : « من » حرف ، و « ضَرَب » فعل ،

ص: 152

قياسا له على الحمل في نحو « الأسد الحيوان المفترس » المقتضي لكون لفظ « الأسد » اسما للحيوان المفترس ، وفيه : من الفساد من وجوه شتّى ما لا يخفى.

ومنها : بعض الاعتبارات الذوقيّة والاستحسانات العقليّة الّتي يضبطها كون الاشتراك مشتملا على فوائد لا يوجد شيء منها في المجاز ، ككونه مطّردا باعتبار أنّه حقيقة فلا اضطراب فيه ، بخلاف المجاز الّذي قد لا يطرّد فيضطرب.

وكونه ممّا يصحّ الاشتقاق منه بكلا معنييه فيتّسع به الكلام ، بخلاف المجاز فإنّه قد لا يشتقّ منه.

وإنّه ممّا يصحّ التجوّز منه باعتبار كلّ من معنييه فيتّسع به الكلام ويحصل به الفائدة المطلوبة من المجاز ، بخلاف المجاز فإنّه لا يصحّ منه التجوّز.

وإنّه يتعيّن في أحد معنييه بتعذّر الآخر ، بخلاف المجاز الّذي قد لا يتعيّن عند تعذّر الحقيقة.

وإنّه ممّا يفهم منه المعنى بأدنى قرينة ، بخلاف المجاز المفتقر إلى قرينة قويّة تعادل أصالة الحقيقة.

مضافا إلى اشتماله على مفاسد لا يوجد شيء منها مع الاشتراك ، حيث إنّه ربّما يفضي إلى الخطأ ، كما لو تجرّد اللفظ عن قرينة الدلالة فيحمل على الحقيقة الّتي ليست بمرادة ، بخلاف الاشتراك الّذي لا يوجب مع فقد القرينة إلاّ الوقف.

وإنّه يتوقّف على وضعين وقرينة وعلاقة بخلاف الاشتراك الّذي لا يفتقر معه إلى جميع ذلك.

وإنّه مخالف للظاهر ولذا يفتقر إلى قرينة الدلالة بخلاف الاشتراك الّذي لا يفتقر إلى تلك القرينة ، وإنّ شاركه في الافتقار إلى القرينة في الجملة.

وفيه أوّلا : إنّ غلبة وقوع المجاز ممّا يكشف عن انعكاس الفرض ، أو عن عدم العبرة في نظر الواضع بنحو هذا المفروض.

وثانيا : إنّ الاستناد إلى نحو ما ذكر يرجع إلى إثبات اللغة بالترجيحات العقليّة ، وقد تقدّم وجه بطلانه.

ص: 153

وثالثاً : إنّ الاطّراد وعدمه وإنّ كانا من خواصّ الحقيقة والمجاز ، غير أنّ الاضطراب وعدمه ممّا لا أثر لهما في الفرق ، من حيث انتفاء الاضطراب في كليهما على تقدير ، وحصوله فيهما على تقدير آخر.

وتوضيحه : إنّ الحقيقة تتبع الوضع والمجاز يتبع العلاقة ، فإن كان النظر في الوجه المزبور إلى من هو من أهل اللغة ، العارفين بأوضاعها وحقائقها عن مجازاتها فلا اضطراب لهم في شيء من موارد الحقيقة وموارد المجاز ، إذ لا يشتبه موارد وجود العلاقة ولا موارد عدم وجودها على أحد من أهل اللغة ، وإنّ كان النظر إلى الأجنبيّ الغير العارف على التفصيل بحقائق اللغة ومجازاتها فربّما يحصل له الاضطراب في الحقيقة ، لعدم علمه على التفصيل بجميع موارد الوضع ، كما يتأتّى له الاضطراب في المجاز لعدم علمه على التفصيل بموارد وجود العلاقة. والاشتقاق فيما يصلح له - باعتبار حدثيّة المعنى - إنّما يختلف الحال فيه صحّة وعدمها ، بجريان عادة أهل اللغة بمراعاته لقيام الدواعي إليها وعدمه لعدم قيام الدواعي إليها ، ولا مدخل للحقيقة والمجاز فيهما أصلا ، وربّ حقيقة لم يجر العادة بالاشتقاق منها أيضا ، وما يوجد في بعض المجازات من عدم صحّته فإنّما هو لذلك لا غير ، كيف ولم يوجد له مورد إلاّ لفظ « الأمر » بالقياس إلى الفعل على القول بكونه مجازا فيه ، وهذا كما ترى مشترك الالتزام بين هذا القول والقول باشتراكه بينه وبين المعنى الإنشائي ، فإنّ القائل بكونه حقيقة في الفعل أيضا لا محيص له عن الالتزام بعدم صحّة الاشتقاق بالنسبة إليه ، وهذا أقوى شاهد بأنّ ذلك إنّما لزم هذا اللفظ في هذا المعنى لأمر آخر غير جهة المجازيّة ، وليس إلاّ عدم جريان العادة بالاشتقاق منه ، وحينئذ فلو كانت العادة جارية به لإلتزم به القائل بالمجازيّة أيضا.

والاعتراف بصحّة التجوّز في كلا معنيي المشترك اعتراف بفساد أصالة الاشتراك ، وعدم كونها أصلا قرّره الواضع أو أهل اللغة ، وإلاّ لقضت بتحقّق الاشتراك بالنسبة إلى غير المعنيين أيضا ممّا يتجوّز له على الفرض ، مع أنّ صحّة

ص: 154

التجوّز على الوجه المذكور وإنّ أوجبت اتّساع الكلام غير أنّ الاعتماد عليها في اختيار الاشتراك ارتكاب بخلاف ظاهر في خلاف أصل ، فإنّ الاشتراك مخالف للأصل بمعنى أصالة عدم تعدّد الوضع والمجاز على ما اعترف به المستدلّ في ذكر مفاسد المجاز مخالف للظاهر.

ولا ريب أنّ الاقتصار على أحدهما أولى ، فيقع التعارض بين رجحان الاتّساع ومرجوحيّة ذلك فلا رجحان للاشتراك بالوجه المذكور.

والمشترك أيضا لا يتعيّن إذا تجاوز معناه الحقيقي عن اثنين كما هو الغالب ، بناء على أصالة الاشتراك ، كما أنّ المجاز قد يتعيّن إذا انحصر في واحد.

وبالجملة : تعدّد المعنى حقيقيّا كان أو مجازيّا إنّ كان بين معنيين فلازمه تعيّن أحدهما بتعذّر صاحبه ولو مجازيّا ، وإن كان بين ما زاد عليهما فلازمه عدم تعيّن البعض بتعذّر بعض معيّن غيره ولو حقيقيّا ، فبطل الفرق بين الاشتراك والمجاز من جهة التعيّن وعدمه.

والقاضي بالمرجوحيّة في موضع الافتقار إلى القرينة إنّما هو ذات القرينة لا وصفها من حيث الضعف والقوّة ، وذلك القرينة معتبرة في كليهما فتكون المرجوحيّة الناشئة عنها مشتركة بينهما ، واختلاف الوصف لا مدخل له في الرجحان والمرجوحيّة بما يعتدّ به في العرف والعادة.

والوقوع في الخطأ لا يوجب مرجوحيّة راجعة إلى الواضع داعية له إلى اختيار الاشتراك على المجاز في موضع دوران اللفظ في نظره بين أنّ يضعه مشتركا أو يدعه مجازا ، وإلاّ لانسدّ باب المجاز بالمرّة ووجب الاشتراك في كافّة الألفاظ ، ولا يرضى به المستدلّ مع وضوح بطلانه ، وإنّما توجب من المرجوحيّة ما يرجع إلى المتكلّم فيما إذا دار الأمر في نظره بين اختيار لفظ هو مشترك بين معنيين لإفادة أحدهما ، أو اختيار لفظ آخر هو مجاز في أحدهما لإفادته وهذه كما ترى مسألة اخرى خارجة عمّا نحن فيه.

فلو قيل : بمنع وجوب الاشتراك على تقدير رجوع المرجوحيّة إلى الواضع ،

ص: 155

لجواز كونه إنّما اختار المجاز في مواضع ثبوته لحكمة اخرى راجحة على مصلحة عدم الوقوع في الخطأ.

لقلنا : إذا جاز قيام نحو هذه الحكمة مرجّحة للمجاز ، لجاز قيامها في نحو المسألة المبحوث عنها ، ومعه بطل ترجيح الاشتراك بما ذكر من مصلحة عدم الوقوع في الخطأ.

لا يقال : الأصل في مصلحة عدم الوقوع في الخطأ الإعمال إلى أنّ يعلم بقيام مصلحة راجحة والأصل عدمها ، لأنّ الأصل في هذين الأصلين إنّ اريد به ما يتوقّف العلم به على أصالة الاشتراك لزم الدور ، لتوقّف معرفة كلّ من الأصلين على الآخر ، وإلاّ فدعوى الأصل المذكور غير مسموعة.

والمشترك أيضا يتوقّف على وضعين وقرينتين.

ومخالفة المجاز للظاهر لا توجب إلاّ حمل اللفظ في بعض الأحيان على ما ليس بمراد ، فيرجع ذلك أيضا إلى الوجه السابق وقد عرفت ما فيه.

ومنها : إنّ المجاز من حكمه أنّ يثبت كونه مجازا بضرورة وسبب ضروري من أهل اللغة ، فكلّما لم ينهض بمجازيّته الضرورة فليس بمجاز بل هو حقيقة.

وهذا الوجه مستفاد من السيّد في مواضع من كلامه - في مبحث ألفاظ العموم والخصوص - حيث قال : ألا ترى إنّه لا أحد خالط أهل اللغة إلاّ وهو يعلم من حالهم ضرورة إنّهم إنّما سمّوا « البليد » حمارا و « الشديد » أسدا على سبيل التشبيه المجاز ، فكان يجب أنّ يثبت مثل ذلك في إجراء لفظ العموم على الخصوص.

وقال في موضع آخر : وممّا يقال لهم كيف وجب في كلّ شيء تجوّز أهل اللغة به من الألفاظ ، واستعملوه في غير ما وضع له كالتشبيه الّذي ذكرناه في « حمار » و « بليد » وكالحذف في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) والزيادة في قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (2) ونظائر ذلك وأمثاله وما تفرّع عليه وتشعّب ، أن يعلم أنّهم

ص: 156


1- يوسف : 82.
2- الشورى : 11.

بذلك متجوّزون وقارنون إلى اللفظ ما يدلّ على المراد ضرورة بغير إشكال ولا حاجة إلى نظر واستدلال ، ولم يجب مثل ذلك في استعمال صيغة العموم في الخصوص وهو ضرب من ضروب المجاز عندكم - إلى أنّ قال - فنقول : قد ثبت بلا شكّ استعمال هذه اللفظة في العموم والخصوص وما وقفنا أهل اللغة ولا علمنا ضرورة من حالهم مع المداخلة لهم أنّهم متجوّزون بها في الخصوص ، كما علمنا ذلك منهم في صنوف المجاز على اختلافها ، فوجب أنّ تكون مشتركة.

فإذا قيل لنا : فلعلّ كونهم متجوّزين بها في الخصوص يعلم بالاستدلال دون الضرورة ، فلم قصرتم هذا العلم على الضرورة.

قلنا : كيف وقف هذا الباب من المجاز على الاستدلال ولم يقف غيره من ضروب المجاز في كلامهم على الاستدلال لولا بطلان هذه الدعوى ، وفي خروج هذا الموضع عن بابه دلالة على خلاف مذهبكم. انتهى.

والجواب : إنّه بظاهره بل صريحه القاضي بانحصار طريق إثبات المجاز في الضرورة من اللغة ، يفضي إلى إنكار الأمارات المقرّرة لإثبات المجازيّة من عدم التبادر وصحّة السلب وغيرهما ، لأنّها أسباب نظريّة يستند إليها بطريق الاستدلال ويلزم منه إنكار أمارات الحقيقة المقرّرة عندهم ، لأنّ الكلّ باعتبار كون الدلالة في الجميع من باب الكشف ، نحو كشف المعلول عن علّته ، واللازم عن ملزومه من واد واحد.

والفرق بين كواشف الحقيقة وكواشف المجاز بالاعتبار في الأوّل - ولو كانت نظريّة - وعدمه في الثاني لعلّه تحكّم ، وحينئذ فيدلّ على بطلان هذا المطلب نفس الأدّلة المقامة على تلك الأمارات حسبما عرفت.

وأيضا ففرق واضح بين بلوغ الشيء الثابت بطريق الاستدلال بسبب التسامع والتظافر إلى حدّ الضرورة وثبوته بالضرورة.

والّذي يوجد في مجازات اللغة - كما في حقائقها - عند أهلها إنّما هو الأوّل دون الثاني ، فإنّ ضروريّة مجازيّة مجازات اللغة كضروريّة حقيقيّة حقائقها

ص: 157

معلومة لنا حصل العلم بها بالتسامع والتظافر ، لا أنّ علمنا بأصل المجازيّة والحقيقيّة حاصل بالضرورة ، بل هو حاصل بالنظر والاستدلال بواسطة نصّ أو تبادر وعدمه أو غيرهما قبل العثور على الضرورة.

فأوّل ما يتفّق للجاهل المستعلم إنّما هو هذا العلم النظري ، ثمّ يتبعه العلم بكون المعلوم من ضروريّات أهل اللغة بحيث يعلمه كلّ واحد من آحادها ، وإذا اتّفق مورد حصل له الاشتباه في وصفي الحقيقة والمجاز كما في ألفاظ العموم الواقعة على الخصوص مثلا فإنّما هو لعجزه عن إحراز الأمارة النظريّة ، وقصور نظره عن إدراك طريق الواقع الّذي يقع عليه النظر والاستدلال ، لا لأجل انتفاء الضرورة على تقدير كونه مجازا ، وهي الطريق إلى إثباته بل الوصف على تقدير كونه للمجازيّة ضروري عند أهل اللغة.

ولا طريق للجاهل إلى العثور عليه حيث لا طريق له إلى العثور على أصل الوصف ، فجهله بالمجازيّة - لو كانت هي الواقعي - لا ينافي كونها ضروريّة عند أهل اللغة ، ولمّا كان الوصف الضروري عندهم مردّدا في نظره بين كونه الحقيقيّة أو المجازيّة فلا مناص له عن الوقف ، إنّ لم يكن هناك أصل معتبر يقتضي إجراء أحكام أحدهما إلى أن يتبيّن خلافه ، ولا يعقل معه ترجيح جانب الحقيقة لمجرّد عدم تبيّن ضروريّة المجازيّة كما لا يخفى.

ومنها : ما يستفاد من كلامه ; أيضا في جملة من عبارته في المبحث المذكور من أنّ مدّعى المجازيّة يرجع قوله إلى دعوى الزيادة على ما يدّعيه مدّعي الحقيقة ، فإنّ قوله ينحلّ إلى دعوى الاستعمال مع مصاحبة القرينة ، ومدّعي الحقيقة إنّما يدّعي الاستعمال ، فهما متّفقان في دعوى الاستعمال ومختلفان في دعوى مصاحبة القرينة ، ومعلوم أنّ مدّعي الزيادة يطالب بالدليل ، وكلّ من يطالب بالدليل فدعواه مخالف للأصل ، فالمجاز على خلاف الأصل.

وجوابه أوّلا : بالقلب فإنّ مدّعي المجازيّة في نحو المقام إنّما يدّعي وحدة الوضع مثلا ، ومدّعي الاشتراك يدّعي تعدّده ، فهما متّفقان في الوضع الواحد

ص: 158

ومختلفان في الزائد ، والدليل على مدّعي الزيادة ، فيكون الاشتراك هو المخالف للأصل.

لا يقال : إنّ المجاز أيضا يتضمّن الوضع النوعي لا محالة ، فمدّعي المجازيّة أيضا يدّعي وضعين : أحدهما شخصي بالقياس إلى المعنى الحقيقي ، والآخر وضع نوعي بالقياس إلى المعنى المجازي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

لأنّا نقول : إنّ الوضع النوعي إنّما ثبت بالقياس إلى النوع لا خصوص هذا الشخص ، فهو ثابت لا محالة على كلا تقديري الاشتراك والمجاز فيه.

غاية الأمر إنّه على تقدير الاشتراك غير مندرج في هذا الوضع النوعي ، لا أنّ من يدّعي الاشتراك ينكره وناف له فإنّه غير معقول ، فالمدّعي للمجازيّة لا يدّعي من الأمر الحادث في خصوص هذا الشخص ما زاد على الوضع الواحد ، وخصمه يدّعيه ، بعدما اتّفقا على حدوث الوضع النوعي بالقياس إلى النوع.

وثانيا : الأصل الّذي يحكم بكون المجاز مخالفا له ، إن اريد به أصل العدم الّذي ربّما يتخيّل كونه من باب الاستصحاب فالمجاز لا يخالفه ، وإن اريد به القاعدة بمعنى الغلبة فلا يخالفه أيضا ، وإن اريد به القاعدة بمعنى حكمة الوضع فالاشتراك أيضا يخالفه ، ضرورة أنّ مقتضى حكمة الوضع هو الحقيقة الواحدة لا مطلقا ، وإن اريد به الظاهر فإنّما يكون مخالفا له إذا تجرّد عن قرينة الدلالة وأمّا معها فهو بنفسه يكون ظاهرا ولو بالظهور الثانوي.

فالإنصاف : إنّ أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ ممّا لا أصل له في نظر العرف واللغة أصلا ، وأمّا أصالة المجاز بالمعنى الأعمّ فلم يعرف له قائل ، ولا نقل القول بها ناقل عدا ما في كلام غير واحد من نسبته إلى ابن جنّي ، باستظهاره ممّا اشتهر منه من أنّ المجاز أكثر اللغة ، لكن قد عرفت أنّ عبارته المنقولة عنه في بيان هذه القضيّة آبية لتلك النسبة ، بل هي مسوقة بظاهرها لإنكار أصالة الحقيقة بالمعنى المعروف المشخّص للمراد ، أو لإنكار دلالة غلبة الاستعمال على الحقيقة حسبما زعمه جماعة ، غير إنّا نتكلّم فيها على تقدير تحقّق القول من أيّ قائل كان ، أو على

ص: 159

احتمال كونه قولا لقائل ، ونقول : إنّه يكفي في إبطال هذا القول ما تقدّم من أدّلة أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ فراجع وتأمّل ، ولا حاجة إلى الإعادة.

في أصالة المجاز بالمعنى الأخصّ

وأمّا أصالة المجاز بالمعنى الأخصّ : فاستدلّ لها بوجوه عمدتها أمران :

أحدهما : أصالة عدم تعدّد الوضع ، والظاهر إنّ هذا الأصل وأصالة عدم النقل وأصالة عدم القرينة وأصالة عدم الإضمار وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ونحو ذلك كلّها من باب واحد مفهوما واعتبارا ، فلا يراد بالأصل في شي منها الاستصحاب كما قد يتوهّم ، للقطع بانتفاء ما هو العمدة من أركان الاستصحاب وهو ملاحظة الحالة السابقة والتعويل عليها في مجاري هذه الاصول ، بل المراد به القاعدة المقتضية للحكم بالعدم وترتيب أحكامه ، الملازم لعدم الاعتناء باحتمال الوجود والالتفات إليه.

ومدرك هذه القاعدة بناء العرف وطريقة أهل اللسان في جميع الألسنة وكافّة اللغات ، وعلى هذه الاصول مبنى المحاورات ومدار المخاطبات ، ولولا البناء عليها لاختلّ أمر المحاورة بالمرّة ، بل انسدّ باب استفادة المطالب من المراسلات والمكاتبات الواصلة من البلاد النائية ، والمؤلّفات القديمة من الرسائل والقصائد والأشعار وكتب السير والتواريخ وغيرها الباقية من القرون الخالية.

ألا ترى إنّ الألفاظ المأخوذة فيها تحمل على حقائقها الموجودة في العرف الحاضر من دون اعتناء باحتمال النقل ، أو على ما علم من حقائقها الثابتة لها في بلد الكتابة والتأليف أو في زمانهما ، ولو مع العلم بوقوع استعمالهما في غير تلك المعاني واحتمال الاشتراك وتعدّد الوضع بالقياس إليه ، من دون التفات إلى ذلك الاحتمال ، بل ولو توقّف أحد وتقاعد عن الحمل اعتذارا بذلك الاحتمال كان مستنكرا وموجبا لرميه بسوء الطريقة وسخافة الرأي ، وليس ذلك إلاّ لوضوح سقوط نحو هذا الاحتمال عن درجة الاعتداد والاعتبار.

لا يقال : لعلّ عدم الاعتناء بذلك الاحتمال لعدم طروّه ، أو لعدم التفطّن بالاحتمال الطاري ، لأنّ طروّ أصل الاحتمال ضروري.

ص: 160

نعم كثيرا مّا لا يتفطّن به للعلم الضروري بأنّ بناء اللغة فيه حيثما طرء - لغاية سقوطه في نظر أهلها بل الواضع أيضا وعدم الاعتناء بشأنه - على تنزيل وجوده منزلة عدمه.

وإن شئت قلت : إنّ هذا البناء منهم اتّفاق كاشف عن رضا الواضع وترخيصه - بل إلزامه - بترتيب أحكام العدم في هذه الموارد ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود ما لم ينهض عليه دلالة قطعيّة.

فإن قلت : أصالة عدم تعدّد الوضع وإن ثبت اعتبارها بالعرف لكنّها معارضة بمثلها ، وهو أصالة عدم وجود العلاقة وأصالة عدم حصول الوضع النوعي المعتبر في المجازات ، فإنّ المجاز لا بدّ فيه من الأمرين معا والأصل ينفيهما.

قلت : هذان الأصلان قد انتقضا في نحو المقام بالفرض ، فلا مجرى لهما حينئذ.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلامهم في مسألة دوران الأمر بين الاشتراك والحقيقة والمجاز مفروض فيما لو كان بين المعاني المستعمل فيها مناسبة معتبرة وعلاقة مصحّحة للتجوّز ليصّح من جهته احتمال التجوّز ، ضرورة استحالة المجاز بلا علاقة ، فانتفاؤها فيما بين المعاني حيثما فرض بنفسه آية الاشتراك ، وأمارة علميّة على تعدّد الوضع فارتفع معه التعارض ، وإذا علم بوجودها في محلّ التعارض فلا معنى لنفيه بالأصل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوضع المعتبر في المجازات لم يعتبر حصوله بالنسبة إلى أشخاص اللفظ بإزاء أشخاص المعنى ، بل هو معتبر بالقياس إلى النوع ، ولذا يسمّى « بالوضع النوعي » الّذي هو عبارة عن ترخيص الواضع في استعمال كلّ لفظ موضوع فيما يناسب معناه الموضوع له بإحدى أنواع العلائق المعهودة ، على ما هو طريقة المشهور في المجازات ، وحصول الوضع بهذا المعنى متيقّن من الواضع فيندرج فيه كلّ ما هو صالح له ، وضابطه كلّ لفظ موضوع لمعنى بإزاء معنى آخر مناسب له إذا اخذا ولو حظا لمجرّد تلك المناسبة ، وإن كان لذلك المعنى الآخر وضع آخر أيضا.

ص: 161

وعليه فلا يتفاوت الحال بالنسبة إلى اليقين بحصول الوضع المجازي بين تقديري اشتراك اللفظ في محلّ التعارض بين المعاني المستعمل فيها أو كونه حقيقة في البعض ومجازا في الباقي ، فإنّه متيقّن الحصول على كلا التقديرين.

وإن شئت قلت : إنّ شمول الوضع النوعي المجازي يتبع وجود العلاقة ، فإذا كان وجودها في محلّ التعارض ممّا لا بدّ منه فلا جرم يكون الرخصة في اعتبارها شاملة لها ، لأنّ المصحّح للتجوّز هو العلاقة المرخّص فيها لا مطلقا ، فالمشترك مع القطع باشتراكه ربّما يندرج في هذا الوضع النوعي المجازي إذا حصل بين معانيه شيء من العلائق المرخّص فيها ، ولذا تراهم في تعريفي الحقيقة والمجاز اضطرّوا إلى اعتبار قيد الحيثيّة صونا للأوّل عن انتقاض الطرد ، والثاني عن انتقاض العكس بنحو المشترك المفروض إذا استعمل في أحد معانيه لمناسبته المعنى الآخر لا للوضع الثابت له.

وبالجملة : فاحتمال الاشتراك لا ينافي حصول الوضع المجازي ، بل هو في محلّ التعارض يلازمه كما يلازم وجود العلاقة.

وإن شئت قلت : إنّ فرض التعارض يلازم فرض وجود العلاقة المرخّص فيها بين المعاني المستعمل فيها فلا يعقل معه أصل العدم بالنسبة إلى الأمرين معا.

فإن قلت : هذا الأصل ربّما يعارضه أصالة عدم ملاحظة العلاقة الموجودة الّتي هي من لوازم التجوّز ، فإنّ مجرّد وجود العلاقة المرخّص فيها لا يكفي في صحّته ما لم تكن ملحوظة.

قلت : ملاحظة العلاقة في التجوّز ليست إلاّ من جهة كون العلاقة أحد مصحّحي الاستعمال اللذين ثانيهما الوضع في الحقائق ، فلو كان ملاحظة المصحّح - ولو إجمالا - لازمة للاستعمال فيكون الاستعمال ملزوما له في الحقائق أيضا ، ففي نحو محلّ الكلام يلاحظ مصحّح في استعمالاته لا محالة ، وهو بحسب الواقع إمّا الوضع أو العلاقة ، ومعه لا يعقل نفي كون الملحوظ هو العلاقة بأصالة عدم ملاحظتها كما هو واضح.

ص: 162

فإن قلت : إنّ التجوّز يستلزم امورا حادثة اخر هي تختصّ بالمجاز ، كنصب القرينة والتفات الجانبين إلى القرينة الموجودة وملاحظة المعنى الموضوع له ، والأصل في محلّ الكلام عدم كلّ هذه الامور ولا معارض له ، فيسقط أصالة عدم تعدّد الوضع بمعارضة هذا الأصل بل الاصول.

قلت : قد تبيّن بما قرّرناه في معنى الأصل في نحو المقام ، إنّ أصالة عدم تعدّد الوضع معناها القاعدة المقتضية لترتيب آثار العدم على الوضع المحتمل تعدّده ، وظاهر إنّ عدم هذا الوضع ليس له آثار ترتّب عليه إلاّ الالتزام بالامور المذكورة ولو كانت على خلاف الأصل الّذي يضاف إليها ، فالالتزام بهذه الامور بعينه معنى العمل بأصالة عدم تعدّد الوضع ، وبعد العمل بهذا الأصل لا مجال للأصل الآخر الّذي يضاف إلى هذه الامور.

والسرّ في عدم انعكاس الأمر : إنّ كلّ مطلب وجودي أو عدمي إذا ثبت بأصل من الاصول المعتبرة - كائنا ما كان - وكان ذلك المطلب ملزوما لامور اخر كلّها مخالفة لنحو هذا الأصل ، وسببا لها على وجه يكون له تقدّم طبعي عليها في نظر العرف أو العقل أو الشرع ، فبناء العاملين بنحو هذه الاصول المعتبرين لها كلّ في مجراه ، على عدم الاعتداد بالأصل النافي للوازم هذا المطلب ومسبّباته ، وكأنّ ذلك في نظرهم ليس في مجراه مع هذا الفرض ، بل لا موضوع له في الحقيقة ، لكون الأصل الجاري في الملزوم المتقدّم بالطبع بإثباته ذلك الملزوم متقدّما رافعا لموضوع الأصل بالقياس إلى اللوازم ، ولذا يعدّ عندهم بالقياس إليه واردا عليه ، ولا معنى للورود إلاّ رفع الموضوع ، فلا أصل حينئذ ليكون معارضا لأصالة عدم تعدّد الوضع.

وثانيهما : قاعدة غلبة المجاز على الاشتراك القاضية بإلحاق المشتبه بالغالب وتقرير الغلبة ما اعتمد عليه غير واحد من الأساطين ، إنّ أكثر الألفاظ المستعملة في معان متعدّدة مجاز فيما عدا واحد منها ، وما هو حقيقة في أكثر من معنى قليل في الغاية بالنسبة إليه ، فيلحق به المشكوك فيه.

ص: 163

وقد يقرّر : بأنّ المعاني المجازيّة في اللغة أكثر من المعاني الحقيقيّة ، سواء اريد بالمعنى المجازي ما يصحّ استعمال اللفظ فيه ، أو ما وقع الاستعمال فيه فعلا.

وقرّر أيضا : بأنّ المعنى المجازي لكلّ لفظ أكثر من معناه الحقيقي ، وإنّما يتمّ ذلك إذا اريد بالمعنى المجازي ما هو بحسب الصلاحيّة.

وقرّر أيضا : بأنّ أكثر المعاني المودّعة في كتب اللغة مجازات.

والأجود هو الأوّل ، وعليه اعتمد المحقّقون ، بل المعظم على ما يلوح من كلامهم ، ولا مدافعة بينه وبين ما يوجد في كلامهم من إنكار الغلبة الّتي جزم بها ابن جنّي بالنسبة إلى مجازات اللغة ، لأنّها - على ما ظهر سابقا من عبارته المنقولة - غلبة في الاستعمالات المجازيّة بالقياس إلى الاستعمالات الحقيقيّة ، وإنكار هذه الغلبة لوضوح فسادها لا ينافي الاعتراف بغلبة المعاني المجازيّة.

وبالجملة : لا ينبغي الاسترابة في صغرى هذه الغلبة وأمّا كبراها فالظاهر أنّها أيضا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لاستقرار بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع معاملاتهم وكافّة عاداتهم ومحاوراتهم على إلحاق المشتبه بالغالب ، على معنى إجراء أحكامه عليه ، وعدم الالتفات إلى الفرد النادر.

ويؤيّده موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السلام إنّه قال : لا بأس بالصلاة في فرو اليماني ، وفيما صنع في أرض الإسلام.

قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس (1).

فتقرّر بجميع ما ذكر أنّ المعتبر من الاصول الأربع المتقدّمة إنّما هو أصالة الحقيقة وأصالة المجاز بمعناهما الأخصّ.

وربّما يحصل الإشكال في « أصالة المجاز » المعبّر عنها في كلام القوم بأولويّة المجاز من الاشتراك.

ص: 164


1- التهذيب 2 : 368 ح 1532.

وهل هو في نظرهم مقصور على الاشتراك اللفظي أو يعمّه والاشتراك المعنوي أيضا ، فلو إنّ لفظا استعمل في معنيين بينهما جامع واحتمل كونه حقيقة فيهما على طريق الاشتراك المعنوي أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، يرجّح الثاني لأنّ المجاز خير من الاشتراك ، ومنشؤه ما في كلام بعض الأعلام من نسبة تخصيص هذه القاعدة إليهم بالاشتراك اللفظي ، وإنّهم لا يقولون بها مع الاشتراك المعنوي.

واعلم : أنّ الصور المتصوّرة في نحو اللفظ المفروض في بادئ الأمر ثلاث :

إحداهما : أن يعلم أنّ استعمال اللفظ في المعنيين إنّما هو باعتبار الجامع الموجود بينهما على وجه يكون هو المستعمل فيه.

وثانيتها : أن يعلم أنّه إنّما هو باعتبار الخصوصيّة لا غير.

وثالثتها : أن لا يعلم شيء من الأمرين ، بحيث احتمل كون الاستعمال باعتبار الجامع واحتمل كونه باعتبار الخصوصيّة.

وظاهر إنّ الصورة الاولى خارجة عن محلّ الكلام ، ضرورة أنّ قضيّة الفرض تحقّق الاشتراك ، ويقطع معه بالوضع للجامع.

وكذلك الثانية لحصول القطع معها بانتفاء الاشتراك المستلزم للمجاز في أحد المعنيين.

فمحلّ الكلام هو الثالثة ، وهذه الصورة يتكلّم فيها لجهتين :

الاولى : إنّ المجاز في نحو هذه الصورة هل يرجّح على الاشتراك ، لأنّه أولى وخير منه أو لا؟

والثانية : إنّ الاشتراك على تقدير عدم رجحان المجاز عليه ، هل يرجّح على المجاز إلى أن يعلم خلافه أو لا؟ بل لا بدّ من الوقف.

أمّا الجهة الاولى : فالّذي يساعد عليه النظر فيها صدق ما عرفته عن بعض الأعلام من نسبة التخصيص إلى المشهور ، فإنّ دليلهم على ترجيح المجاز - من الوجهين المتقدّم ذكرهما - غير جار فيه مع الاشتراك المعنوي ، أمّا أصالة عدم

ص: 165

تعدّد الوضع : فلأنّ هذا الاشتراك لا يتضمّن تعدّد الوضع حتّى ينفى احتماله بالأصل.

وأمّا غلبة المجاز في اللغة : فلأنّها في نحو الصورة المفروضة غير ثابتة بالقياس إلى المجاز إن لم نقل بثبوتها بالقياس إلى الاشتراك.

وأمّا غلبة نوع المجاز فإنّما ادّعيت في كلامهم في مقابلة الاشتراك لفظا لا مطلقا ، فتأمّل.

وأمّا الجهة الثانية : فاختلف فيها الجمهور فإنّهم بعدما اتّفقوا على أنّ المجاز في نحو هذه الصورة لا يرجّح على الاشتراك بين قائل بترجيح الاشتراك كما عن المحقّق والعلاّمة والبيضاوي والرازي ، وذاهب إلى الوقف كالمصنّف والعميدي والأسوي ، وقد تقدّم نقل هذين القولين ، ومستند الأوّلين على ما يلوح من تتبّع كلماتهم المتفرّقة في سائر الأبواب والمسائل الاصوليّة ، الأصل بمعنى القاعدة المستفادة من حكمة الوضع القاضية بأولويّة الحقيقة الواحدة بالقياس إلى المجاز والاشتراك ، فإنّهما على خلاف الأصل بمعنى حكمة الوضع فيرجّح الأوّل.

وقد تمسّكوا بهذا الدليل في عدّة مواضع ، منها : صيغة إفعل على القول باشتراكها معنى بين الوجوب والندب.

ومستند الآخرين على ما يلوح منهم في المواضع المشار إليها ، نقض هذا الدليل بكون التزام الوضع للقدر الجامع كرّا على ما فرّوا منه من المجاز المخالف للأصل ، التفاتا إلى أنّ استعمال العامّ في الخاصّ أيضا مجاز فلم يحصل التفصّي منه بالتزام الحقيقة الواحدة.

وأنت خبير بورود هذا النقض في غير محلّه ، لأنّ المجاز الّذي يلزم مع الوضع للجامع - بناء على قاعدة استعمال العامّ في الخاصّ - أهون من المجاز اللازم على تقدير الوضع لأحد المعنيين خاصّة ، وأقرب إلى حكمة الوضع لأنّ له وجه حقيقة وهو مجاز يمكن التفصّي عنه بإلغاء الخصوصيّة عند أخذ المعنيين في استعمالات اللفظ ، فيكون الاستعمال حينئذ على وجه الحقيقة.

ص: 166

والتجوّز في الاستعمال بناء على هذا الوجه غير لازم ، بخلاف المجاز الآخر فإنّه ممّا لا يمكن التفصّي عنه عند استعمالات اللفظ في خلاف ما وضع له ، إذ ليس له وجه حقيقة.

وظاهر أنّ كون أحد المجازين أهون وأقرب إلى حكمة الوضع يصلح لأن يكون باعثا للواضع على اختيار ملزومه - حين وضع اللفظ - على ملزوم المجاز الآخر.

فالعمدة في هدم الدليل المذكور وإصلاحه ، النظر في أنّ حكمة الوضع هل يصلح للتأسيس والترجيح ليثمر في نحو محلّ البحث أو لا؟

والّذي يقتضيه الإنصاف ويساعد عليه مجانبة الاعتساف ، عدم صلوحها لهما ، فإنّها ليست إلاّ حكمة باعثة على فتح باب نوع الوضع ، وليست علّة مستقلّة مطّردة في جميع أشخاص الوضع بالقياس إلى موارده الكلّية والجزئيّة ، لتثمر في الموارد المشتبهة بالرجوع إليها للحكم على المشتبه بالوضع إلى أن يعلم خلافه من الخارج.

وممّا يؤيّد ذلك إنّه لم يعهد منهم إلاّ من شذّ وندر الاستناد إليها لإثبات الوضع في الموارد المشتبهة ، بل طريقتهم الالتزام بمراجعة الأمارات ، ثمّ الوقف أو الاستناد إلى الاستعمال أو غيره من الاصول الكلّية حسبما عرفت.

وأيضا فإنّ من المعلوم شيوع وقوع المجاز بل الاشتراك في الألفاظ المستعملة في معنيين بينهما جامع ، ويدلّ ذلك على أنّ هنالك حكما خفيّة ربّما تكون في نظر الواضع واردة على حكمة الوضع ، باعثة على اختيار المجاز أو الاشتراك ، وعليه فلا يمكن الحكم في نحو محلّ البحث على اللفظ بوضعه للجامع لمجرّد حكمة الوضع ، لجواز أن يقوم من الحكم الخفيّة ما دعاه إلى اختيار المجاز في أحد المعنيين ، إلاّ أن يقال : إنّ حكمة الوضع معلوم الثبوت وقيام حكمة اخرى غير معلوم ، والأصل عدمه.

ويدفعه : أنّ الأصل إن اريد به الاستصحاب ، فهو فرع على وجود الحالة السابقة المنتفية في المقام ، وإن اريد به معنى آخر فهو غير ثابت.

ص: 167

فالمتّجه حينئذ هو الوقف لفقد ما يصلح للترجيح ، من غير فرق في ذلك بين ما لو عارضهما اشتراك لفظي أو لا ، إذ غاية ما هنالك حينئذ إنّه ينفى الاشتراك اللفظي بأصالة عدم تعدّد الوضع وغلبة الاشتراك المعنوي مع المجاز ، وتبقى التعارض بعد بين الأوّلين.

وبما نبّهنا عليه ينقدح الحال فيما لو كان الاشتراك المعنوي بحيث عارضه الاشتراك اللفظي لا غير ، إذ لا ينبغي التأمّل حينئذ في ترجيح الأوّل لعين ما يرجّح المجاز على الثاني ، من أصالة عدم تعدّد الوضع ، وغلبة الاشتراك المعنوي بالقياس إلى اللفظي.

في أصالة الحقيقة بالمعنى المشخّص للمراد

فتقرّر بجميع ما ذكر من البداية إلى تلك النهاية حال المسائل الستّ المتقدّمة ، من حيث كون البناء فيها على الترجيح في ثلاث منها ، وهي المسألة الاولى والرابعة والخامسة ، أمّا الاولى فلأصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ ، وأمّا الثانية والثالثة فلما مرّ من الأصل والغلبة وأصالة المجاز بالمعنى الأخصّ ، والوقف في الثلاث الباقية ، وهي الثانية والثالثة والسادسة لفقد المرجّح.

المقام الثالث : في غلبة الاستعمال الّتي صار جماعة إلى دلالتها على الحقيقة ، والظاهر أنّه كذلك لملازمة عرفيّة مضافة إلى الملازمة الغالبيّة ، بناء على أنّ الغالب في الألفاظ غلبة استعمالها في معانيها الحقيقيّة وندرة استعمالها في معانيها المجازيّة.

وما تقدّم عن ابن جنّي من دعوى غلبة الاستعمالات المجازيّة في الألفاظ الموضوعة ممّا ينبغي القطع بفساده ، فلا يرد أنّ الاستعمال إذا كان أعمّ من الحقيقة فلا يخرجه الغلبة عن كونه أعمّ.

المقام الرابع : في أصالة الحقيقة بالمعنى المشخّص للمراد ، وتفصيل القول فيه يستدعي التكلّم في جهات :

الجهة الاولى : فيما يرجع إليه موضوعا.

ص: 168

فاعلم أنّ أظهر محامل الأصل هنا بالنظر إلى كلمات الاصوليّين وإطلاقاتهم اللاحقة بتلك اللفظة إنّما هو الظهور ، فأصالة الحقيقة يراد بها ظهور الحقيقة ، على معنى ظهور اللفظ الموضوع المجرّد في إرادة معناه الحقيقي.

وأمّا حمله على القاعدة المقتضية لحمل اللفظ على حقيقته ، وإن كان محتملا التفاتا إلى أنّ وجوب حمل كلّ لفظ موضوع مجرّد على إرادة معناه الحقيقي قاعدة مستفادة من العرف أو من العقل ، صونا لكلام المتكلّم الحكيم عن الإغراء بالجهل القبيح عليه من جهة منافاته الحكمة ، غير أنّه بعيد عن ظاهر كلماتهم وإطلاقاتهم.

وممّا يبعّده أيضا : أنّ ظاهر كلامهم في الاستدلال على حجّية أصالة الحقيقة كون الغرض منه إثبات حكم لموضوع محرز وهو أصالة الحقيقة ، وقضيّة الحمل على القاعدة كون الغرض من البحث والاستدلال إثبات أصالة الحقيقة ، لا إثبات حكم لها.

وبالجملة : فرق بين البحث عن حكم أصالة الحقيقة والبحث عن أصالة الحقيقة ، ظاهر كلام الاصوليّين هو الأوّل.

والحاصل : إنّ المستفاد من ظاهر كلام الاصوليّين كون أصالة الحقيقة موضوعا لحكم اصولي لا إنّها نفس الحكم الاصولي ، وكونها موضوعا لا يستقيم إلاّ بالحمل على الظهور.

وأبعد ممّا ذكر حمله على إرادة الدليل ، بتقريب : كون الاستعمال المجرّد عن القرينة أو اللفظ المجرّد عنها دليلا على إرادة الحقيقة ، فإنّه أيضا لا يلائم بحث الحجّية ، لرجوعه حينئذ إلى إثبات الدليل ، لا إثبات حكم للدليل ، أو ما هو من أحوال الدليل.

وأبعد من الجميع ما قد يتخيّل من إمكان إرادة الاستصحاب ، بتقريب : أنّ البناء على الحقيقة والحمل عليها إنّما هو من مقتضى أصالة عدم القرينة أو أصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، فأصالة الحقيقة معناها الاستصحاب المقتضي للبناء على الحقيقة.

ص: 169

وفيه : مع بعده في نفسه لا يلائمه البحث عن الحجّية كما لا يخفى ، هذا مع فساد هذا الاحتمال من غير هذه الجهة.

أمّا أوّلا : فلأنّ أصالة الحقيقة كثيرا مّا تجري فيما لا يجري فيه الاستصحاب المذكور ، وهو ما لو علم تجرّد اللفظ عن القرينة ، أو عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، بل هذه الصورة أظهر مجاري هذا الأصل على ما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت سابقا من عدم كون مبنى العمل بالأصل في الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ ، على العمل بالاستصحاب ، لعدم ابتنائه على مراعاة الحالة السابقة والتعويل عليها ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ الظهور في معنى أصالة الحقيقة إنّما يحرز بإحراز ظهورات عديدة ، كظهور كون المتكلّم قاصدا للّفظ قبالا لاحتمال كونه ساهيا أو غير شاعر ، وظهور كونه قاصدا للمعنى قبالا لاحتمال كونه هازلا أو لاغيا ، وظهور كونه قاصدا لإفهام المعنى المقصود قبالا لاحتمال كون غرضه التعمية والإبهام ، وظهور كون المعنى المقصود الّذي قصد إفهامه هو المعنى الحقيقي قبالا لاحتمال كونه المعنى المجازي ، والظهورات الثلاث الاول محرزة ببعد احتمال خلافها عن حالة التخاطب ، ولذا أطبق العقلاء في جميع المخاطبات في قاطبة الأعصار وكافّة الأمصار على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، والظهور الرابع يحرز بفرض تجرّد اللفظ عن القرينة ولو بحكم الأصل.

ثمّ المتكلّم قد يصدر منه ما يعلم بالمعنى المراد منه ، وقد يصدر منه ما يقترن بقرينة المجاز ، وقد يصدر منه ما تجرّد عن القرينة ، وقد يصدر منه ما يشكّ في تجرّده واقترانه لاحتمال اعتباره قرينة خفيّة اختفت على السامع ، وقد يصدر منه ما يقترن به ما يشكّ في كونه قرينة معتبرة في نظر العقلاء ، على معنى كونه ممّا يعامل معه معاملة القرائن ويعوّل عليه في إفهام المعنى المقصود.

والأوّل مع الثاني خارجان عن مجرى أصالة الحقيقة كما هو واضح ، ككون الثالث من مجراها ، بل هو أظهر مجاريها وهل هي جارية في الصورتين الأخيرتين أو لا؟

ص: 170

والحاصل : إنّ هذا الأصل هل يجري في جميع الصور الثلاث الباقية أو يختصّ بالصورة الاولى ، أو يجري فيما عدا الصورة الأخيرة؟

فقد يقال : بجريانها في جميع الصور ، كما هو لازم قول من يقدّم الحقيقة المرجوحة في المجاز المشهور ، عملا بأصالة الحقيقة مع اقتران اللفظ بما يشكّ كونه من القرائن وهو الشهرة ، ويمكن كون الأمر المتعقّب للحظر أيضا كذلك على رأي من يجعله للوجوب.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر عدم جريانها في الصورة الأخيرة ، لأنّها إن اخذت بمعنى ظهور الحقيقة فلا ظهور في تلك الصورة ، لأنّ اقتران اللفظ بما يشكّ كونه من القرائن المعتبرة في العرف أوجب خروجه عن الظهور وصيرورته مجملا ومعه لا معنى لظهور الحقيقة ، وإن اخذت بمعنى القاعدة المقتضية لحمل اللفظ على حقيقته ، فهي بهذا المعنى غير شاملة لنحو هذه الصورة ، سواء اريد بالقاعدة ما استفيد من العرف أو من العقل.

أمّا على الأوّل : فلأنّ كون بناء العرف على الحمل على الحقيقة في هذه الصورة غير ثابت ، إن لم نقل بثبوت خلافه ، بل المعلوم من العرف كون بنائهم فيها على الوقف.

وأمّا على الثاني : فلأنّ لزوم الإغراء بالجهل حكم عقلي موضوعه الظهور إذا اريد خلافه بغير قرينة ، وقد عرفت انتفاء الظهور في نحو هذه الصورة.

وأمّا الصورتان الاخريان فيمكن بناء المسألة - من حيث جريان أصالة الحقيقة فيهما معا ، أو اختصاصها بصورة واحدة وهي صورة التجرّد عن القرينة - على مسألة كون عدم القرينة - بمعنى تجرّد اللفظ عن القرينة - جزءا لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، أو كون وجود القرينة مانعا عن الحمل.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه اختصاصها بصورة التجرّد ، وإن قلنا بالثاني : لزمه جريانها في الصورتين معا. أمّا صورة التجرّد فواضح ، وأمّا صورة الشكّ في التجرّد والاقتران فلأنّ المانع يكفي في إحراز عدمه عدم العلم بوجوده.

ص: 171

ويزيّفه : أنّ التجرّد عن القرينة - في نظر من يجعله جزءا - أعمّ ممّا يحرز بالأصل وهو أصالة عدم القرينة ، فتجرّد اللفظ عن القرينة لا يلازم اختصاص أصالة الحقيقة بصورة واحدة ، بل لا ينافي جريانها في صورة الشكّ أيضا.

غاية الأمر أنّه باعتبار كونه جزءا للمقتضي ، قد يكون محرزا بالفرض وقد يحرز بواسطة الأصل.

ويمكن بناء المسألة أيضا على كون المراد من أصالة الحقيقة ، - بمعنى ظهور الحقيقة - ما يوجب الظنّ الشخصي بإرادة الحقيقة ، أو ما يوجب الظنّ النوعي.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه الاختصاص ، وإن قلنا بالثاني : لزمه عموم الجريان.

ويزيّفه أيضا : أنّ التجرّد بنفسه لا يلازم الظنّ الشخصي ، بل غايته الظنّ النوعي وهو حصول الظنّ من جهته لنوع المخاطبين ، فقد يتّفق في بعض الأشخاص عدم حصول ظنّ فعليّ له لمانع.

ويمكن بناؤها أيضا على كون المناط في أصالة الحقيقة - بمعنى الظهور - والمقتضى لها - على معنى المحقّق للظهور - هو الوضع ، أو كونه حكم العقل بلزوم الإغراء بالجهل لولا إرادة الحقيقة.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه جريانها في الصورتين معا ، لوجود المقتضي وهو الوضع فيهما.

وإن قلنا بالثاني : لزمه الاختصاص ، لعدم حكم العقل بلزوم الإغراء بالجهل في صورة الشكّ في التجرّد والاقتران ، لولا إرادة الحقيقة ، لأنّ إرادة المجاز احتمال مبنيّ على احتمال الاقتران بالقرينة ، فإرادة المعنى المجازي في الواقع اعتمادا على القرينة الموجودة مع اللفظ ليس إغراء بالجهل.

وهذا هو الوجه الصحيح في مبنى المسألة ، مع كون مناط الأصل والمحقّق لظهور الحقيقة هو الوضع ، وإن كان لبعد التجوّز في صورة التجرّد وبعد الاكتفاء بالقرينة الخفيّة أيضا مدخليّة في هذا الظهور ، لأنّه المستفاد من تضاعيف كلمات الاصوليّين ومطاوي عباراتهم.

ص: 172

وممّا يرشد إليه أيضا إنّهم جعلوا موضوع أصالة الحقيقة ، اللفظ الموضوع الّذي تميّز حقيقته عن مجازه إذا تجرّد عن قرينة المجاز.

وقضيّة كون الموضوع هو اللفظ الموضوع ، كون الوضع هو المناط المحقّق لظهور الحقيقة ، وحيث إنّ الوضع حاصل في الصورتين معا لزمه جريان أصالة الحقيقة فيهما أيضا.

ولا ينتقض ذلك بصورة الاقتران بما يتردّد بين كونه من القرائن المعتبرة عند العرف في المجاز ، بتقريب : أنّ الوضع المجعول مناطا حاصل في هذه الصورة أيضا ، فوجب انعقاد أصالة [ الحقيقة ](1) فيها أيضا ، لأنّ الوضع في استلزامه ظهور الحقيقة ليس علّة تامّة لا يتخلّف عنها الظهور ، بل هو معتبر من باب المقتضي ، ومن حكم المقتضي جواز مصادفة فقدان الشرط أو وجود المانع فلا يقتضي ، وتجرّد اللفظ عن القرينة ولو بحكم الأصل شرط ، واقترانه بالقرينة المعتبرة في المجاز أو بما يتردّد بين كونه من القرائن المعتبرة في المجاز مانع ، حيث إنّه على الأوّل يوجب انقلاب ظهور الحقيقة بظهور المجاز.

وعلى الثاني يوجب زوال ظهور الحقيقة لطروّ الإجمال ، فعدم انعقاد أصالة الحقيقة في الصورة المذكورة ليس من جهة فقد المقتضي ، بل لوجود المانع.

الجهة الثانية : مقتضى الأصل الأوّلي في الظنّ في اللغات عدم حجّية أصالة الحقيقة ، والظنّ الحاصل منها.

نعم إذا تعلّق بالأحكام الشرعيّة وحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام جاز الأخذ به ، لا من حيث إنّه عمل بالظنّ في اللغات وهو حجّة ، بل من حيث إنّه عمل بالظنّ في الأحكام وهو حجّة ، إلاّ أنّ هذا الأصل قد انقلب بالنسبة إلى خصوص المقام ، لثبوت حجّيته بالخصوص بعنوان القطع.

ص: 173


1- زيادة يقتضيها السياق.

والدليل عليه : بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع المخاطبات والمحاورات في كافّة الأعصار والأمصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فكما إنّهم مطبقون على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والإفهام ، فكذلك مطبقون على حمله عند تجرّده عن القرينة - ولو بحكم الأصل - على حقيقته ، تعويلا على أصالة الحقيقة ، على معنى ظهورها من غير نكير ولا توقّف ، بل لو اتّفق إنّ أحدا توقّف عن الحمل ، اعتذارا بعدم العلم بالمراد لم يكن عذره مسموعا ، وأطبقوا على ذمّه والتشنيع عليه ، وليس إلاّ من جهة كون التوقّف عن الحمل توقّفا فيما لا ينبغي التأمّل فيه ، ولا ينافيه ما قد يقع من السؤال عن حقيقة المراد لأنّه احتياط يراد به تحصيل الجزم ، لا أنّه بناء على عدم الاعتناء بأصالة الحقيقة.

وهذا كلّه يكشف عن إذن الواضع ، على معنى كون البناء على أصالة الحقيقة وحمل الألفاظ الموضوعة المجرّدة عن قرائن المجاز على معانيها الحقيقيّة إلى أن يظهر خلافه من الخارج ، ممّا رخّص فيه الواضع.

ويدلّ عليه أيضا إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة على الاعتماد على أصالة الحقيقة من غير نكير ولا توقّف ، وهذا وإن لم يكن من الإجماع المصطلح عليه ليكشف عن رأي المعصوم ، باعتبار عدم كون معقده ممّا بيانه وظيفة المعصوم ، غير أنّه يكشف عن حقيقة مورده ، وهو جواز البناء على أصالة الحقيقة في العمل بالحقائق وترتيب أحكامها على ما قام به الظهور اللفظي.

ولا يصادمه ما عرفته عن ابن جنّي من دعوى غلبة الاستعمالات المجازيّة ، إن كانت مسوقة لإنكار أصالة الحقيقة - كما هو أظهر الوجوه المحتملة في عبارته المتقدّمة - لابتنائه على أصل فاسد ، لمنع الغلبة المدّعاة ، بل الغلبة في جانب الاستعمالات الحقيقيّة حسبما أشرنا إليه في المقام الثالث ، مع أنّه إن أراد بغلبة الاستعمالات المجازيّة ما هو معتبر في المجاز المشهور ، فهو يقضي بكون الألفاظ بأسرها أو أكثرها مجازات مشهورة. وهذا كما ترى ، كيف والمجاز المشهور في

ص: 174

الندرة بمثابة استحاله بعضهم ، فقال : إنّه غير ممكن ، وإن اريد به ما دون ذلك فهو لا يزاحم الأصل بمعنى ظهور الحقيقة ، لأنّ غلبة الاستعمال المجازي لقرينة لا ينافي ظهور الحقيقة مع التجرّد ، وهذا هو محلّ الكلام.

ويدلّ عليه أيضا أنّ المعنى الحقيقي هو الظاهر من اللفظ عند إطلاقه فتعيّن إرادته في كلام الحكيم ، لأنّ إرادة غير الظاهر من دون نصب قرينة توجب حصول الغرض والإفهام المقصود من الكلام تستلزم الإغراء بالجهل ، مضافا إلى قضائه في بعض الأحيان بلزوم تكليف ما لا يطاق ، وانتفاء الفائدة في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فإنّ الفائدة العظمى فيهما حصول النظام بتبليغ الأحكام الموقوف على المخاطبة والإفهام.

وربّما يمكن الناقشة فيه : بكونه أخصّ من موضوع المسألة ، بملاحظة ما قدّمناه من عدم قضاء العقل في صورة الشكّ في القرينة بالإغراء بالجهل لولا إرادة الحقيقة.

إلاّ أن يدفع : بأنّ احتمال إرادة المجاز في هذه الصورة إنّما هو من جهة احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة خفيّة غفل عنها السامع ، ويبعد من المتكلّم المريد للإفهام أن يعتمد على نحو القرينة المفروضة ، كما يبعد منه إرادة المجاز من دون نصب قرينة.

وبالجملة : نصب قرينة يغفل عنها السامع كعدم نصب القرينة أصلا في بعده عن غرض المتكلّم المريد للإفهام ، وقضيّة البعد في المقامين ظهور إرادة الحقيقة فيهما ولو بحسب النوع ، وحينئذ يلزم من إرادة غير هذا الظاهر ما ذكر من الإغراء بالجهل.

ويرد عليه : عدم كون غفلة السامع مقصورة على خفاء القرينة ، بل قد تحصل مع القرينة الجليّة أيضا ، فلا يلزم الإغراء كما نبّهنا عليه في تضاعيف الجهة الاولى ، فالمناقشة المذكورة واردة في الجملة.

وأمّا ما عساه يناقش في أصل الملازمة ، من أنّ محذور الإغراء بالجهل إنّما

ص: 175

يلزم لو حمل اللفظ المقصود منه خلاف الظاهر على ظاهره ، وهذا ليس بلازم لجواز الوقف ، كما هو قضيّة عدم ثبوت حجّية أصالة الحقيقة في نظر السامع ، فإنّ غاية ما يستلزمه إنّما هو الوقف عن الحمل ، لا الحمل على المعنى الحقيقي الغير المراد من اللفظ بالفرض.

فيدفعه : أنّ قبح الإغراء بالجهل على الحكيم إنّما هو من جهة قبح نقض الغرض ، فإنّ إيراد الكلام المقصود به الإفهام على وجه لا يحصل منه فهم المعنى المقصود إفهامه نقض للغرض ، وهذا لا يتفاوت في لزومه بين الوقف والحمل على المعنى الغير المقصود.

ويدلّ عليه أيضا ، قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1) فإنّ اللسان اريد منه اللغة مجازا ، تسمية للشيء باسم آلته وهو مجاز شائع ، واللغة مشتملة على موادّ وهيئآت مفردة وهيئآت مركّبة ، وأحوال عامّة من العمل على أصالة الحقيقة ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم الإضمار ، وغير ذلك من الاصول اللفظيّة الّتي استقرّ طريقة قوم كلّ رسول على العمل بها والتعويل عليها ، وإرسال كلّ رسول بلغة قومه إمضاء للغة القوم بجميع الجهات المذكورة ، ولولا الجهات المذكورة بأجمعها من أصل اللغة لما ساغ إمضاؤها ، ولا يعنى من الحجيّة إلاّ هذا.

وبما قرّرناه في وجه الاستدلال يندفع ما عساه يورد : من أنّ الاستدلال بالآية إن اريد به إثبات صغرى ، وهو كون طريقة كلّ قوم حمل ألفاظ لغتهم على حقائقها تعويلا على الأصل بمعنى ظهور الحقيقة ، فالآية قاصرة عن إفادة ذلك كما هو واضح ، وإن اريد به إثبات كبرى لهذه الصغرى وهي حجّية هذه الطريقة ، فمرجعه إلى إثبات حجّية طريقة العقلاء في العمل بأصالة الحقيقة ، وهو ليس من إثبات حجّية أصالة الحقيقة كما هو المبحوث عنه ، فإنّ حجّية طريقة العقلاء في

ص: 176


1- إبراهيم : 4.

العمل بأصالة الحقيقة تستلزم حجّية أصالة الحقيقة ، غاية ما هنالك ، كون دلالة الآية على ما هو المقصد الأصلي بالالتزام لا بالمطابقة ، وهو كاف في تماميّة الدليل.

ويدلّ عليه أيضا : ما ورد في الخبر : من « أنّ اللّه سبحانه أجلّ من أن يخاطب قوما بخطاب ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » فإنّ إرادة المعنى الحقيقي ، هو الّذي يفهم من الخطاب عند إطلاقه ، وكون المراد معناه المجازي احتمال ينفيه قوله عليه السلام : « أجلّ ... إلى آخره » فيرجع مفاد الرواية إلى دوام مطابقة مراداته تعالى لظواهر خطاباته ، بل يدلّ على أنّ إرادة خلاف الظاهر مع قيام الظاهر لا تلائم شأن الحكيم وحكمته ، وبذلك يثبت عموم المدّعى.

لا يقال : إنّ الفهم ظاهر في الإدراك بالمعنى العامّ للتصوّر ، فالرواية إنّما تدلّ على نفي إرادة ما لا يدخل في إدراك السامع وذهنه أصلا ، وكون المعنى المجازي ممّا لا يدخل في الإدراك أصلا ممنوع ، بل خلاف ما يدرك بالوجدان كما يرشد إليه فرض مجرى أصالة الحقيقة فيما يتردّد بين حقيقته ومجازه ، لأنّ المراد من فهم المعنى ما يتمّ به مقام التخاطب ، ولا يكون إلاّ الفهم التصديقي ، على معنى التصديق بالمعنى على أنّه مراد من الخطاب ولو بالنوع ، المستند إلى الظهور النوعي.

ولا ريب أنّ الفهم بهذا المعنى في الخطاب المجرّد عن القرينة - ولو بحكم الأصل - مقصور على الحقيقة ، فيكون المجاز خلاف ما يفهم من الخطاب ، وقد نفت الرواية بنفي إرادته ، والظاهر أنّها باعتبار السند متلقّاة عند العلماء بالقبول.

واستدلّ أيضا : بأنّه لو لم يجب الحمل على الحقيقة لوجب التوقّف أو الحمل على المجاز ، وكلاهما باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب التوقّف لا يكون إلاّ لإجمال اللفظ وتردّد الذهن في تعيين المراد منه ، والحكم بكون الألفاظ بأسرها مجملة متردّدة بين حقائقها ومجازاتها أبدا ممّا يكذّبه الوجدان ، وكذا الاتّفاق على وجود اللفظ المحكم الدلالة وعدم الانحصار في المجمل.

ص: 177

وأمّا الثاني : فلأنّه يقتضي كون المجاز أصلا وفساده ظاهر ، إذ من الممتنع أن يعيّن الواضع لفظا لمعنى ثمّ يكون استعماله فيما لم يوضع له أصلا في تلك اللغة ، وبأنّ اللفظ إذا تجرّد عن القرينة فإمّا أن يحمل على حقيقته ، أو على مجازه ، أو عليهما معا ، أو لا على واحد منهما.

والثلاث الأخيرة باطلة ، لأن من شرط المجاز وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي ، والمفروض انتفاؤها فيتسحيل الحمل عليه ، والحمل عليهما يقتضي كون اللفظ حقيقة في مجموع الحقيقة والمجاز ، أو مشتركا بينهما ، وهو باطل بالضرورة ، والإخلاء عنهما يستلزم تعطيل اللفظ وإلحاقه بالألفاظ المهملة والمفروض خلافه ، فتعيّن الأوّل وهو الحمل على الحقيقة كما هو المطلوب ، ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا الأوّل : فلمنع انحصار الجهة المقتضية للوقف في الإجمال ، فإنّ الظهور الغير المعتبر كالظنّ الغير المعتبر الحاصل منه كالإجمال في وجوب الوقف ، فالإجماع على وجود اللفظ المحكم الدلالة إن اريد به ما يعمّ النصّ والظاهر ، لا ينافي وجوب الوقف المسبّب عن عدم اعتبار ظهور الظاهر إلاّ بشهادة قطعيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ عدم الحمل على الحقيقة - لعدم ثبوت اعتبار ظاهرها إلاّ بدلالة قطعيّة - مع عدم الحمل على المجاز - لعدم تحقّق القرينة عليه - لا يوجب تعطيل نوع هذا اللفظ وإهماله حتّى مع وجود الدلالة القطعيّة على الاعتبار ، أو على إرادة الحقيقة أو مع قيام القرينة على إرادة المجاز كما هو واضح.

الجهة الثالثة : في ختم المسألة ببيان امور مهمّة :

أحدها : أنّه قد عرفت أنّ أصالة الحقيقة معناها ظهور الحقيقة ، وهو عبارة عن رجحان إرادة المعنى الحقيقي في نظر المخاطب ، وهو الّذي سيق إليه الخطاب وقصد به إفهامه ، أو في نظر السامع وهو الّذي يسمع الخطاب لحضوره في مجلسه وإن لم يقصد إفهامه ، أو في نظر من يستفيد من الخطاب وإن لم يكن سامعا أو مقصودا إفهامه لعدم حضوره في مجلس الخطاب ، بل عدم وجوده في زمانه على أحد الوجوه المحتملة الّتي يأتي الكلام في تحقيقها.

ص: 178

ورجحان إرادة المعنى الحقيقي المتصوّر بأحد الوجوه المذكورة ، قد يعتبر بحسب الفعل على معنى كون اللفظ الصادر من المتكلّم المجرّد عن القرينة - ولو بحكم الأصل - بحيث حصل منه الظنّ الفعلي بإرادة المعنى الحقيقي ، ويعبّر عنه « بالظنّ الشخصي » لحصول الظنّ الفعلي في شخص الاستعمال اللاحق باللفظ.

وقد يعتبر بحسب الشأن والصلاحيّة ، على معنى كون اللفظ المذكور بحيث لو خلّي وطبعه حصل منه الظنّ بإرادة المعنى الحقيقي ، وإن اتّفق في بعض الأحيان أنّه لم يحصل منه ظنّ فعلا لفقد شرط ، كالالتفات إلى بعد احتمال إرادة المجاز من غير نصب قرينة أو بعد احتمال الاعتماد على قرينة خفيّة مغفول عنها ، أو وجود مانع كالأسباب الغير المعتبرة الموجبة للشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز من النوم أو الرمل أو الجفر ، أو خبر صبّي أو قياس أو غير ذلك ، ويعبّر عنه « بالظنّ النوعي » لحصول الظنّ في نوع الاستعمالات الدائرة على اللفظ لا في كلّ شخص منها.

وهل المعتبر في حجّية أصالة الحقيقة هو الظنّ الشخصي ، على معنى كونها حجّة من باب الظنّ الشخصي ، أو هو الظنّ النوعي ، على معنى كون حجّيتها من باب الظنّ النوعي ، وعلى الثاني فهل المراد من نوعيّة الظنّ النوعي إنّ حصول الظنّ الفعلي بإرادة الحقيقة ليس شرطا في العمل بها ، وإن أضرّبها الشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز ، ومرجعه إلى مانعيّة الشكّ والظنّ المذكورين ، أو إنّ المراد بها ما يتضمّن عدم شرطيّة الظنّ الفعلي مع عدم مانعيّة الشكّ ، وإن أضرّبها الظنّ بإرادة المجاز وإن لم يكن معتبرا ، أو أنّ المراد بها ما يتضمّن عدم شرطيّة الظنّ الفعلي وعدم مانعيّة الشكّ والظنّ الغير المعتبر وجوه ، وإن كان المعنى المعهود عندهم الواقع في كلامهم من الظنّ النوعي ، هو المعنى الأخير.

وكيف كان : فحجيّة أصالة الحقيقة تتصوّر على وجوه أربع ، وقد وقع الخلاف في معنى حجّيتها.

فعن بعض المتأخّرين : أنّها حجّة إذا حصل الظنّ الفعلي بإرادة المعنى الحقيقي لا غير ، سواء حصل بخلافها ظنّ أو لا.

ص: 179

وقيل : إنّها حجّة ما لم يظنّ بخلافها ولو ظنّا غير معتبر ، فما ظنّ بخلافه ليس حجّة.

والأكثر على أنّه حجّة ما لم يقم قرينة معتبرة بخلاف الحقيقة ، سواء حصل الظنّ الفعلي بإرادة الحقيقة أو لا ، حصل الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز أو لا.

وهذا هو المعنى المعروف من العمل بأصالة الحقيقة ، بل العمل بمطلق الظواهر من باب الظنّ النوعي ، بل ربّما ينسب إلى عمل العلماء قديما وحديثا في عامّة المسائل الفرعيّة وغيرها ، وهو المعتمد بل الحقّ الّذي لا محيص عنه.

ومن الأفاضل من فصّل بين ما لو كانت الشبهة في حدوث القرينة فيبنى عليها ويعمل بها ، سواء كانت موهومة أو مشكوكة أو مظنونة بالظنّ الغير المعتبر ، وما لو كانت الشبهة في صلاحيّة الحادث لكونه قرينة بحسب العرف فلا يبنى عليها ، ومرجعه إلى جريان أصالة العدم بالنسبة إلى قرينة المجاز وعدم جريانها.

وهذا بمعزل عن التحقيق ، سيّما إذا اخذ أصالة الحقيقة بمعنى ظهور الحقيقة ، لما أشرنا إليه سابقا من عدم ظهور للحقيقة مع قيام ما يتردّد بين كونه قرينة في نظر العرف وعدمه ، لا من باب الظنّ الشخصي ولا الظنّ النوعي ، لصيرورته مجملا فعدم الحجّية حينئذ إنّما هو من باب السالبة المنتفية الموضوع ، ونحو ذلك ممّا لا ينبغي أخذه للتفصيل في المسألة ، لأنّ كلاّ من الإثبات والنفي المأخوذين في المسألة لا بدّ وأن يرد على ما هو داخل فيها موضوعا وهذا خارج عن موضوع المسألة ، إلاّ أن يقصد من التفصيل التنبيه على خروجه الموضوعي ، وكيف كان فهو لا يخلو عن بعد وتكلّف.

ولنا : على ما رجّحناه عين ما دلّ على حجّية أصالة الحقيقة ، فإنّ العمدة من أدّلته إنّما هو بناء العرف وطريقة العقلاء في الأخذ بالظواهر ، لاستقرارها في الأخذ من حيث هي من دون مراعاة الظنّ الفعلي في شخص المورد ، ولا الاعتناء بالشكّ ولا احتمال وجود القرينة ولا الظنّ الغير المعتبر القائم بخلاف الظاهر ، بل لو توقّف أحد في مورد عن الأخذ بالظاهر استنادا إلى عدم اتّفاق الظنّ الفعلي وإلى اتّفاق أحد الامور المذكورة كان مستنكرا في نظرهم.

ص: 180

ألا ترى إنّه لو أمر السيّد عبده بإضافة العلماء فأحضرهم العبد في مجلس الضيافة إلاّ واحدا منهم ، واطّلع عليه السيّد وسأله عن وجهه فاعتذر بأنّه لم يحصل لي الظنّ بإرادته ، أو انقدح في نفسي الشكّ في أنّك أردته أيضا أو لا ، أو رأيت في المنام أنّك قلت : « ما أردته » فحصل لي الظّن ، بذلك لما سمع عذره وذمّه العقلاء وعاقبه السيّد تعليلا بعدم التنبيه على عدم إرادته وعدم نصبه القرينة على ذلك ، فقد خالفني حيث خرج عن ظاهر خطابي ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ الاصول اللفظيّة وظواهر الألفاظ معتبرة عندهم من باب النوع.

نعم يغلب في المحاورات اتّفاق حصول العلم أو الظنّ الفعلي بالمراد ، غير أنّه ليس لأجل أنّهما المناط في مقام المحاورة ، بحيث لولا أحدهما لما أخذ بظاهر الخطاب ، بل إنّما هو أمر يتحقّق من باب الاتّفاق ، فالغلبة المذكورة اتّفاقيّة لا غير.

وبالجملة : الظاهر حجّة ما لم يقم قرينة معتبرة في نظر العرف مفيدة لإرادة خلاف الظاهر - ولو من باب الظنّ النوعي أيضا - مطلقا ، وإذا قام نحو هذه القرينة فحينئذ سقط العمل بأصالة الحقيقة ، لا بمعنى أنّها قائمة ولا يعمل بها ، بل بمعنى ارتفاعها بارتفاع موضوعها ، وهو اللفظ المجرّد عن قرينة المجاز ، فإنّ التجرّد يزول بقيام القرينة المفروضة.

وهذا هو معنى ارتفاع موضوع الأصل والظاهر ، وهذا من جملة الشواهد بما تقدّم تحقيقه في مباحث الوضع ، من كون عدم القرينة في العمل على الحقائق جزءا لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي.

وثانيها : إنّ أصالة الحقيقة - بمعنى الظهور - كما يعمل بها في مقام الخطاب والمحاورة ، كذلك يعمل بها في مقام الكتابة بجميع مواردها ، لا بمعنى إعمال ذلك الأصل في الخطوط المأخوذة في الكتابة ، الدالّة بالوضع على ألفاظ مخصوصة موضوعة لمسمّياتها ، فإنّ كلّ خطّ خاصّ موضوع للفظ معيّن فهو بحيث يدلّ على مسمّاه بنحو النصوصيّة ولا يحتمل غيره ، فإنّ صورة « زيد » المكتوبة لا تحتمل غير لفظ « زيد » وكذلك عمرو وإنسان وغيرهما من حيث كونه هذا الخطّ الخاصّ.

ص: 181

نعم ربّما يتّفق إنّ خطّا خاصّا يحتمل خطّا آخر غيره لمشاركته في صورة الكتابة ، كما في المرويّ من : « إنّ الدنيا رأس كلّ خطيئة » بكون « الدنيا » كلمة برأسها و « الرأس » كلمة اخرى كذلك ، فإنّه بحسب صورة الكتابة يشارك هذا الخطّ الّذي اعتبر « دينار » كلمة واحدة و « اسّ » بضم الهمزة كلمة اخرى ، مع كون ظاهر هذه الصورة في الرواية هو الأوّل وهي محتملة للثاني احتمالا مخالفا للظاهر ، إلاّ أنّه ليس احتمالا في الخطّ لخلاف مسمّاه وهو اللفظ الخاصّ ، ولو اخذ بالظهور المذكور فهو ليس أخذا بالظهور بمعنى أصالة الحقيقة ، لأن ذلك ظهور عرفي آخر يثبت عرفا في نظائر الفرض ولا مدخل لأصالة الحقيقة بمعنى ظهورها فيه ، فإذا اخذ بظاهر هذه الصورة وحمل على الخطّ الأوّل كان ذلك الخطّ حينئذ نصّا في مسمّاه.

ولا ريب أنّ النصوص الغير المحتملة لغير مسمّياتها ليست من موارد أصالة الحقيقة ومجاريها ، بل بمعنى إعمال ذلك الأصل في الألفاظ المدلول عليها بتلك الخطوط ، فإنّها الّتي تحتمل غير معانيها الحقيقيّة ، والمراد بإعمال الأصل فيها الأخذ بظواهرها من باب العمل بالظنّ النوعي.

وتوضيح ذلك : إنّ طريق استفادة المطالب من الألفاظ المدلول عليها بالخطوط المرسومة في مقام الكتابة ، يتصوّر على وجهين :

أحدهما : إنّ الناظر في تلك الخطوط لزمه في الغالب التلفّظ بالألفاظ المستفادة منها ، فهو من حيث إنّه متلفّظ بهذه الألفاظ ينزّل نفسه منزلة المتكلّم بها ، ومن حيث إنّه مدرك لمعانيها وفاهم لها ينزّل نفسه منزلة المخاطب لها ، فهو متكلّم ومخاطب باعتبارين ، فمن حيث إنّه مخاطب يستعمل في تلك الألفاظ جميع الاصول والقواعد المعمولتين في الألفاظ الواقعة في مقام الخطاب والمحاورة.

ومن جملة ذلك الأخذ بظواهرها وحملها على حقائقها ، تعويلا على أصالة الحقيقة المعمول بها من باب الظنّ النوعي ، المتضمّن لعدم مراعاة الظنّ وعدم الالتفات إلى ما انقدح في النفس من الشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة خلاف الظاهر.

ص: 182

وثانيهما : إنّه ينزّل هذه الألفاظ المتلفّظ بها أو الحاضر في الذهن منزلة الألفاظ الواقعة في مقام المخاطبة بين متكلّم ومخاطب ، استعلاما لما ينبغي أن يراد منها وما ينبغي أن يستفاد منها في ذلك ، ثمّ يستعمل فيها جميع القواعد والاصول المعمولة في الألفاظ الواقعة في مقام المحاورة.

ومن جملتها الأخذ بظواهرها وحملها على حقائقها إلى أن يقوم قرينة معتبرة بخلافها.

وهذا هو الأظهر بملاحظة العرف ومراجعة الوجدان ، غير أنّه أيّامّا كان من الطريقين فلا ينبغي التأمّل في العمل بأصالة الحقيقة في الألفاظ المدلول عليها بخطوط الكتابة على الوجه المذكور ، لأنّه المعلوم من بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع الملل والأديان ، لاستقرارهما بالأخذ بظواهرها من حيث هي من دون مراعاة ظنّ فعلي ، ولا التفات إلى الشكّ ، ولا احتمال القرينة ، ولا الظنّ الغير المعتبر ، ومن أنكر ذلك مطلقا أو في الجملة فقد كابر وجدانه.

وثالثها : إنّ من الأعلام من فصّل في حجّية الظواهر من جهة أصالة الحقيقة فخصّ الحجّية بمن قصد إفهامه مشافها كان أو لا ، حاضرا في مجلس الخطاب أو لا ، موجودا في زمن الخطاب أو لا ، كما في الوصايا ومؤلّفات المؤلّفين حيث إنّ المقصود فيها استفادة كلّ من يلاحظها المطالب منها مطلقا ، دون من لم يقصد إفهامه ولو كان حاضرا في مجلس الخطاب أو موجودا في زمنه.

ويمكن كون مستنده حسبما يتخيّل أحد الأمرين ، من منع صغرى العمل بالظواهر وهو إنّ هذا ظاهر ، أو منع كبراه وهو إنّ كلّ ظاهر حجّة.

أمّا الأوّل : فيمكن تقريره تارة بأنّ ظهور الحقيقة متأخّر رتبة عن ظهورات اخر ، لو لم تكن محرزة لم يحرز الظهور ، وهي ظهور قصد اللفظ وظهور قصد المعنى وظهور قصد إفهام المعنى.

والأصل الأوّلي في جميع هذه المراتب وإن كان هو العدم ، إلاّ أنّ الأصل الثانوي بمعنى الظهور من جهة غلبة اتّفاق القصد في جميع المراتب الثلاث هو

ص: 183

كون الكلام الصادر من المتكلّم مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، ولذا أطبق العقلاء في الأعصار والأمصار على حمل كلام كلّ متكلّم على ما ذكر ، والقدر الثابت المسلّم من هذا الأصل الثانوي إنّما هو ثبوته لمن قصد إفهامه لا غير.

واخرى : بأنّ الظهورات الثلاث المذكورة وإن كان ثبوتها عامّا بالقياس إلى الفريقين ، غير أنّ ظهور الحقيقة لا يحرز إلاّ بالقياس إلى من قصد إفهامه ، لابتنائه على اصول عديدة لا تجري بالقياس إلى غيره.

وذلك لأنّ المتكلّم على تقدير كون مراده المعنى المجازي ، فإمّا أن ينصب عليه قرينة ثمّ اختفت هذه القرينة على المخاطب أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن لا ينصبها عمدا أو سهوا أو غفلة ، وهذه الاحتمالات ما دامت قائمة لا ظهور للحقيقة ، إلاّ أنّ الأوّل منها ينفيه الأصل.

والثاني منفّي بأصل عقلي قاض بالقبح في مثله ، ومنافاته الحكمة.

والثالث كالرابع ، منفيّ بأصالة عدم طروّ السهو والغفلة له ، مع أنّ الغالب في آحاد المتكلّمين وغيرهم عدم عروض هذه الصفات.

وينهض مجموع هذه الاصول أمارة محرزة لظهور إرادة الحقيقة ، والقدر الثابت المسلّم من هذه الأمارة ما كان ناهضا فيما قصد به إفهام الغير بالنسبة إلى من قصد إفهامه.

كيف والعمدة من هذه الأمارة هو الأصل العقلي الّذي اخذ في موضوعه الاختصاص بمن قصد إفهامه كما هو واضح.

وأمّا الثاني : فإمّا لعدم استقرار بناء العقلاء على العمل بالظواهر فيما لم يقصد إفهامه ، أو لعدم الدليل على اعتبار بناء العقلاء هنا بالخصوص ، ولا يخفى ما في الكلّ من خروجه عن حدّ الاعتدال.

أمّا منع الصغرى فيدفعه : في تقريره الأوّل إنّ الكلام إذا كان بنفسه ظاهرا في قصد اللفظ وقصد المعنى وقصد الإفهام ، وحكم عليه مع ذلك في بناء العقلاء بكونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، فيتساوى نسبته إلى محلّ قصد الإفهام وغيره.

ص: 184

ولا يعقل الفرق بينهما بكونه كذلك بالقياس إلى الأوّل دون الثاني ، لأنّ الشيء الواحد لا يتحمّل طرفي النقيض ، فإذا نفي احتمال عدم القصد في الجهات الثلاث بالظهور أو بناء العقلاء بالنسبة إلى محلّ قصد الإفهام ، كان منفيّا بالقياس إلى غيره أيضا.

غاية الأمر : عدم كون قصد الإفهام متحقّقا بالنسبة إلى ذلك الغير بالخصوص ، ولا يلزم منه عدم كون الكلام مقصودا به الإفهام أصلا.

كما يدفعه في تقريره الثاني : أنّ الاصول العدميّة لا يتفاوت الحال في جريانها بين من قصد إفهامه وغيره ، لأنّ احتمال الحدوث في كلّ شيء إذا لم يساعد عليه أمارة ينفى بالأصل مطلقا.

وبعبارة اخرى : كلّ حادث إذا شكّ في حدوثه فالأصل عدمه ، من غير تعقّل فرق بين آحاد الشاكّ.

والأصل العقلي ممّا لا ينبغي أخذه من أجزاء الأمارة المحرزة للظهور ، لأنّه أصل اخذ في موضوعه الظهور ، فهو في الحقيقة دليل على الملازمة بين ظهور إرادة المعنى الحقيقي وكون المراد هو المعنى الحقيقي ، فيكون من أدّلة الكبرى ، وقصوره لإثبات الكبرى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه لما اخذ في موضوعه من الاختصاص بمن قصد إفهامه غير ضائر ، لعدم انحصار دليل الكبرى فيه.

وأمّا منع الكبرى فيدفعه : عدم الفرق في بناء العقلاء في الأخذ بالظواهر بين المقامين ، فإنّا نراهم في المراسلات والمكاتبات مطبقين على أخذهم من ظواهرها مطالب من أرسلها ، واستفادة مقاصده وعقائده من غير مراعاة كونهم مقصودين بالإفهام وعدمه ، بل لو فرضنا أنّ أحدا ينكر على من يستفيد المطلب وليس ممّن قصد إفهامه ويشنّعه لأطبقوا على ذمّه والتشنيع عليه.

وكيف كان : فاستقرار بنائهم على ما ذكر من غير نكير ممّا لا يمكن الاسترابة فيه.

وأمّا منع الدليل على اعتبار بنائهم هنا بالخصوص فلم يتحقّق معناه ، فإنّ بناء

ص: 185

العقلاء حيثما قام في أمر اللغات كان بنفسه كاشفا قطعيّا عن إذن الواضع وترخيصه ، ولا يحتاج بعد كشفه القطعي إلى دليل الاعتبار.

ومع الغضّ عن ذلك فقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1) كاف في دليل اعتباره ، لقضائه بإمضائه تعالى كلّ طريقة للعقلاء متعلّقة بلغاتهم.

ومن جملة ذلك أخذهم بظواهر الألفاظ مطلقا ، ولو في غير محلّ قصد الإفهام.

فإن قلت : لعلّ مستند المنع في نظر المانع عن الحجّية لمن لم يقصد إفهامه دعوى وجود المانع لا توهّم فقد المقتضي ، وهو العلم الإجمالي بوجود القرائن من المتّصلة والمنفصلة مع جملة كثيرة من الظواهر حين الخطاب قد اختفت على غير من قصد إفهامه.

أمّا القرائن المنفصلة فلأنها امور فيما بين المتكلّم والمخاطب قد زالت بزوال حالة المخاطبة.

وأمّا القرائن المتّصلة فلزوالها أيضا بواسطة التقطيع الّذي تطرّق إلى الأخبار ، فإنّ أجزاء الكلام كثيرا مّا يفسّر بعضها بعضا ، وقد زال هذا الوصف عنه بالتقطيع فاشتبه محلّ انتفاء القرينة بمحلّ وجودها ، ومعه سقط الاعتبار عن الظواهر رأسا بل خرجت عن الظهور.

قلت : إن اريد بالعلم الإجمالي المفروض ما هو حاصل بالنسبة إلى نوع الظواهر ، حتّى ظواهر غير الكتاب والسنّة من المراسلات وغيرها ، فهو واضح المنع ، وإن اريد به ما هو كذلك في خصوص ظواهر الكتاب والسنّة - فمع توجّه المنع إلى دعوى عموم العلم الإجمالي بالقياس إلى ظواهر الكتاب والسنّة حتّى غير العمومات - إنّ العلم الإجمالي إنّما يعالج ويتخلّص عنه بالتزام الفحص ، فإنّ من يجوّز العمل بنحو هذه الظواهر يوجب الفحص عمّا يصادمها إلى أن يخرج المورد عن طرف العلم الإجمالي.

ص: 186


1- إبراهيم : 4.

ولا ينافيه الإجماع على عدم لزوم الفحص عن قرينة المجاز عند العمل على الحقيقة ، لأنّ هذا الإجماع مقصور على الحقائق الّتي لم يصادمها علم إجمالي ، بأن لا يكون في مقابلة احتمال الحقيقة إلاّ احتمال المجاز من جهة احتمال وجود القرينة من غير علم إجمالي فحينئذ يجب الأخذ بظاهر الحقيقة من دون توقّف إجماعا.

وأما ما صادمه علم إجمالي فلا إجماع على عدم وجوب الفحص ، إن لم ندّع الإجماع على وجوبه لرفع أثر العلم الإجمالي. فليتدبّر.

رابعها : إنّ أصالة الحقيقة بمعنى ظهورها يقال له الظهور الأوّلي ، قبالا للظهور الثانوي بالمعنى الآتي.

وقد عرفت في تضاعيف ما تقدّم : إنّه إنّما يحصل في اللفظ حيث لم يقم قرينة معتبرة في نظر العرف بخلاف الظاهر.

والمراد بها ما يعوّل عليه عرفا في الخروج عن الظاهر لإفادته الظنّ شخصا أو نوعا بإرادة خلافه ، وإذا قام مع اللفظ نحو هذه القرينة انقلب الظهور الأوّلي بالظهور الثانوي.

وحينئذ يتعيّن العمل بالظهور الثانوي ولا أثر للظهور الأوّلي ، لا بمعنى أنّه قائم ولا يعمل به ، بل بمعنى ارتفاعه بارتفاع موضوعه ، وهو التجرّد عن نحو القرينة المفروضة.

ومن هنا يعلم أنّه لا يقع تعارض بين الظهور الأوّلي والظهور الثانوي ، لورود الثاني على الأوّل دائما ، فالظهور الثانوي حيثما كان قائما لا مقابل له في طرف الحقيقة ليعارضه ، على حدّ ما هو الحال في الأصل الثانوي الوارد على الأصل الأوّلي دائما.

نعم إنّما يحصل التعارض بين الظهورين الأوّليين كما في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) مثلا ، فإنّ الأمر ظاهر في الوجوب ، والعامّ في العموم الشامل للعقود الجائزة.

ص: 187


1- المائدة : 1.

ولا يمكن الأخذ بالظهورين للزوم وجوب الوفاء بالعقود الجائزة ، فلا بدّ من طرح أحد الظهورين ، فيتعارض ظهور الصيغة في الوجوب والعامّ في العموم ، وهو الّذي يعبّر عنه بتعارض المجاز والتخصيص ، ونحوه الكلام في قوله : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (1). ولتعارض الظهورين صور كثيرة ، باعتبار ظهور لفظ غير عامّ ولا مطلق في معناه الحقيقي ، وظهور العامّ في العموم ، وظهور المطلق في الإطلاق ، وظهور الهيئة التركيبيّة الكلاميّة في عدم حذف شيء من أجزائها ، وظهور الخطاب في دوام الحكم واستمراره ، وصور التعارض بين هذه الظهورات الخمس الّذي يعبّر عنه بالتعارض بين كلّ واحد من المجاز والتخصيص والتقييد والإضمار والنسخ مع الآخر ، عشرة.

تعارض الأحوال

اشارة

وهذه الأحوال هي الّتي يعبّر عن تعارض بعضها بعضا بتعارض الأحوال.

والضابط الكلّي في تعارض الظواهر بعضها بعضا على وجه يشمل العشرة المذكورة وغيرها ، أن يرد في كلام المتكلّم ظاهران قام قرينة معتبرة على تصرّف المتكلّم في أحدهما وخروجه عن ظهوره لا بعينه ، فيتعارضان حينئذ باشتباه محلّ هذا التصرّف.

وقد يذكر من الأحوال المتعارضة الاشتراك والنقل ، بل في جملة من كتب الاصول الاقتصار عليهما مع المجاز والتخصيص والإضمار ، وعليه فصور التعارض بعد انضمام الاشتراك والنقل إلى الخمس المتقدّمة ترتقى إلى أحد وعشرين ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

ثمّ الظاهر أنّ المجاز المقابل للاشتراك والنقل في باب تعارض الأحوال لا يراد منه كون اللفظ مجازا في أحد المعنيين فصاعدا ، قبالا لكونه مشتركا بينهما ، لدخول ذلك في عنوان مسألة اخرى تقدّم البحث عنها ونقل الخلاف فيها بين السيّد والمشهور ، من حيث كون الأصل هو الاشتراك أو المجاز ، بل المراد به

ص: 188


1- البقرة : 148.

الاستعمال المجازي والتجوّز في لفظ وارد في الكلام قبالا للاشتراك في لفظ آخر ، كما في قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (1) فإنّ النكاح حقيقة في العقد بلا إشكال ، فلو كان المراد به العقد كان مفاد ظاهر الآية تحريم منكوحة الأب ولو بالعقد الفاسد على الابن.

وهذا في المعقود عليها بالعقد الفاسد خلاف الإجماع ، فلا بدّ إمّا من الإلتزام باشتراك النكاح بين العقد والوطء ، وحمله في الآية على إرادة الواطئ ، أو التجوّز في النهي بإرادة القدر الجامع بين الحرمة والكراهة ، فيتعارض الاشتراك والمجاز بالمعنى المذكور حينئذ ، ونحو ذلك هو الّذي ينبغي أن يراد من المجاز في مباحث تعارض الأحوال.

وربّما يشكل صحّة فرض التعارض بين الاشتراك والنقل وغيرهما من الأحوال الباقية حتّى المجاز بالمعنى المذكور ، فإنّ الاشتراك والنقل من الأحوال العارضة للّفظ من حيث هو ، ومع قطع النظر عن خصوصيّات الاستعمال ، فيقصد بمعرفتهما استعلام حال اللفظ من حيث كونه مشتركا أو منقولا بخلاف البواقي ، فإنّها أحوال عارضة للاستعمال أو اللفظ باعتبار عروض الاستعمال الخاصّ له ، وتقصد بمعرفتها تشخيص مراد المتكلّم.

والأوّل من وظيفة العالم بالاستعمال الشاكّ في حال اللفظ.

والثاني من وظيفة العالم بحال اللفظ الشاكّ في حال الاستعمال.

ولا ريب أنّ تعدّد موضوعي الحالتين يأبى وقوع التعارض بينهما.

وأيضا فإنّا نرى أنّ كلاّ من المجاز والتخصيص والتقييد والإضمار والنسخ ممّا يجامع الاشتراك بل النقل أيضا في الأمثلة الّتي ذكروها لصور التعارض بينه وبينها.

ألا ترى أنّ في مثل قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (2) يصحّ أن

ص: 189


1- النساء : 22.
2- النساء : 22.

يقال : لم لا يجوز كون النكاح مشتركا واريد به في الآية « العقد » مع التجوّز في النهي لئلاّ يلزم خلاف الإجماع.

وهكذا يقال : في مثال صورة تعارض الاشتراك والتخصيص ، أو الاشتراك والتقييد ، وهو هذا المثال بناء على كون الموصول من أدوات العموم أو كونه مطلقا ، نظرا إلى أنّ مخالفة الإجماع كما تندفع بالتجوّز ، فكذلك بالتخصيص أو التقييد في الموصول ، إخراجا للمعقود عليها بالعقد الفاسد ، فيجوز حينئذ الالتزام باشتراك النكاح مع التزام التخصيص أو التقييد ، على تقدير إرادة العقد الّذي هو أحد المعنيين المشترك فيهما.

وكذا الكلام في مثالي صورتي تعارض الاشتراك والإضمار ، وتعارض الاشتراك والنسخ.

وهذا كما ترى آية عدم وقوع التعارض بين الاشتراك بل النقل ومقابلاته ، ومعه لا يصحّ أخذهما من الأحوال المتعارضة.

ويمكن دفعه : بأنّ مسائل تعارض الأحوال مفروضة فيمن علم بواسطة الخارج بوقوع إحدى الحالتين في الخطاب من غير تعيين في نظره ، وقضيّة الفرض كونه شاكّا في كلّ من الحالتين من باب الشكّ في الحادث بعد العلم بحدوثه ، وهو موضوع واحد لا تعدّد فيه ، وبالتأمّل في ذلك يندفع ما ذكرناه في العلاوة ، فإنّ كون كلّ من أحوال الاستعمال ممّا يجامع الاشتراك أو النقل لا ينافي وقوع التعارض ، لأنّ التعارض المفروض في تعارض الأحوال ليس تعارضا ذاتيّا ، بأن يكون الحالتان المتعارضتان لذاتهما مقتضيتين للتنافي واستحالة الاجتماع في محلّ واحد ، بل هو تعارض عرضي نشأ عن الخارج ، القائم بوقوع إحدى الحالتين على سبيل البدليّة والترديد المفيد للعلم الإجمالي.

فبمقتضى العلم الإجمالي لا بدّ من التزام إحداهما إمّا هذه أو تلك ، وهما يتعارضان ، فالتزام كلتيهما يبطله دليل الخلف ، لمنافاته العلم الإجمالي.

وهل البحث يختصّ بما لو اختلف الحكم باختلاف الحالتين المتعارضتين ،

ص: 190

كما في قوله : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (1) لدوران الحكم الشرعي فيه بين استحباب المبادرة إلى كلّ خير ولو مندوبا أو وجوب المبادرة إلى الواجبات ، أو يعمّه وما اتّحد الحكم كما في قوله : « في خمس من الإبل شاة » (2) في مثال تعارض الاشتراك والإضمار وجهان ، من اختصاص ثمرة البحث بصورة الاختلاف ، ومن اشتمال أمثلة صور التعارض على كلا القسمين.

ألا ترى أنّ العلاّمة (3) مثّل لصورة تعارض المجاز والتخصيص ، بقوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (4) مع اتّحاد الحكم في التقديرين ، وهو وجوب قتل أهل الحرب من المشركين خاصّة دون أهل الذمّة.

ولكن الأرجح الوجه الثاني عملا بمقتضى الأمثلة ، ولا ينافيه اختصاص الثمرة بصورة الاختلاف ، لأنّ اختصاص الثمرة ببعض أفراد موضوع المسألة لا يخصّص البحث في المسألة بذلك الفرد ، كما هو الحال في كافّة المسائل ، اصوليّة وفروعيّة.

ألا ترى أنّ ثمرة البحث في كون صيغة « إفعل » حقيقة في الوجوب إنّما يظهر في صورة التجرّد عن القرينة ، مع أنّ كون الصيغة حقيقة لا يختصّ بها كما لا يخفى.

ولنقدّم البحث في تعارض الاشتراك والنقل كلّ مع الآخر ، ومع كلّ من الأحوال الخمس الباقية ، وهي أحد عشر صورة :

الصورة الاولى : تعارض الاشتراك والنقل

الصورة الاولى : تعارض الاشتراك والنقل الّذي مثل له بما لا يخلو عن مناقشة ، وهو « الصلاة » في قوله : « الطواف بالبيت صلاة » لاحتمال كونها منقولة عن المعنى اللغوي إلى الشرعي ، فيجب حملها على المعنى المنقول إليه عند

ص: 191


1- البقرة : 148.
2- صحيح البخاري 2 : 146 كتاب الزكاة ، سنن أبي داود 2 : 96 ح 1567 ، سنن ابن ماجة 1 : 573 ح 1798.
3- نهاية الوصول في علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
4- التوبة : 5.

تجرّدها عن القرينة ، ولازمه اشتراط الطواف بالطهارة في المثال ، أو مشتركة بين المعنيين فلا يحمل على أحدهما إلاّ بقرينة واضحة ، ولازمه عدم اشتراطه بالطهارة.

واختلف في الترجيح ، فعن جماعة منهم العلاّمة في التهذيب (1) ترجيح النقل ، وعن آخرين منهم العلاّمة في النهاية (2) ترجيح الاشتراك ، وليعلم أنّ الترجيح في هذه الصورة وغيرها ممّا كان ما هو من أحوال اللفظ طرفا للتعارض إمّا أن يناط بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى حكمة الوضع ، على معنى اختيار ما هو أقرب إليها على ما هو أبعد منها ، أو بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى غرض المتكلّم وهو تفهيم حقيقة مراده من اللفظ وفهمه ، على معنى اختيار ما هو أقرب إلى هذا الغرض على ما هو أبعد عنه ، أو بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى الوقوع الخارجي ، على معنى اختيار ما هو أقرب إلى الوقوع على ما هو أبعد منه ، أو بموافقة أصل من الاصول العدميّة ومخالفته ، على معنى ترجيح الموافق للأصل على مخالفه.

ولعلّه إلى الطريق الأوّل ينظر احتجاج الأوّلين لترجيح النقل : بأنّ الاشتراك لتعدّد الحقيقة فيه موجب لاختلال الفهم بخلاف النقل ، فإنّ الحقيقة فيه واحدة على كلّ حال فلا اختلال فيه ، لوجوب حمل اللفظ على المنقول منه قبل النقل لأنّه الحقيقة حينئذ ، والمنقول إليه بعده لأنّه الحقيقة حينئذ.

وملخّصه : أنّ الاشتراك أبعد عن حكمة الوضع لما فيه بتعدّد الحقيقة من اختلال فهم المعنى المراد ، لأنّ اللفظ إن اخذ في الاستعمال بلا قرينة معيّنة فلا يحصل فهم المراد على التعيين ، وإن أخذ مع القرينة فربّما يغفل عنها السامع فلا يحصل الفهم أيضا ، فيجب على الواضع الحكيم مراعاة لحكمة الوضع أن يختار النقل على الاشتراك في لفظ دار أمره في نظره أن يضعه لمعنيين ليكون مشتركا بينهما أو يضعه لمعنى ثمّ ينقله إلى آخر ليكون منقولا.

ص: 192


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة 16 ( مخطوط ).
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).

ويزيّفه : إنّه إنّما يتمّ لو كان كلّ من الاشتراك والنقل بحيث حصل في موارده عن واضع أصل اللغة ، والكلّ موضع منع ، فإنّ الاشتراك قد يحصل بوضع غير الواضع للّفظ الموضوع في اللغة لمعنى آخر لعدم اطّلاعه على وضعه اللغوي ، أو عدم التفاته إليه.

والمعهود من النقل في موارده حصوله من أهل اللسان لغرض دعاهم إليه ، والغالب فيه استناده إلى الاستعمالات المجازيّة ، فليس مبنى شيء من الاشتراك والنقل على مراعاة حكمة الوضع ، ليختار ما هو أقرب إليها.

وأيضا قد عرفت سابقا أنّ حكمة الوضع لا تكون إلاّ حكمة باعثة على فتح باب نوع الوضع ، فليست علّة مستقلّة مطّردة في جميع موارد الوضع ليستدلّ بها على إثبات شيء ونفي شيء آخر.

وأيضا قد عرفت أنّ وقوع الاشتراك في موارده يكشف عن أنّ هناك حكما خفيّة ربّما تكون في نظر الواضع راجحة على حكمة الوضع ، باعثة على اختياره الاشتراك. ومن الجائز كون المقام أيضا مشتملا على نحو هذه الحكم.

وتوهّم أنّ حكمة الوضع معلوم الثبوت وغيرها ممّا يترجّح عليها غير معلوم. والأصل عدمه ، قد عرفت دفعه.

ويمكن تنزيل الوجه المذكور إلى الطريق الثاني ، بتقريب : أنّ المتكلّم إذا كان غرضه تفهيم مراده وفهمه ، فالواجب عليه مراعاة ما هو أقرب إلى غرضه ، وهو أن يختار في كلامه الاشتراك.

ويزيّفه : إنّه إنّما يتمّ فيما لو كان هناك لفظان أحدهما مشترك والآخر منقول وصحّ أخذ كلّ منهما في الكلام ، ودار الأمر عند المتكلّم في وضع كلامه بين أن يأخذ فيه اللفظ المشترك أو اللفظ المنقول ، فيقال حينئذ : إنّ الأقرب إلى غرضه المنقول فوجب اختياره.

وهذا كما ترى مسألة اخرى لا دخل لها في محلّ البحث ، الّذي علم إجمالا بوقوع إحدى الحالتين من الاشتراك والنقل في اللفظ المأخوذ في الكلام.

ص: 193

حجّة ترجيح الاشتراك : إنّ المشترك أكثر وجودا من المنقول في جميع اللغات فيكون راجحا ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح لو كانا متساويين ، أو ترجيح المرجوح على الراجح لو كان المشترك مرجوحا ، وكلاهما محالان على الواضع.

ويزيّفه أوّلا : ابتناؤه على كون الاشتراك الّذي كثر وقوعه في موارده من وضع واضع واحد مع التفاته إلى وضعه السابق.

وقد عرفت أنّه ليس بلازم في الاشتراك ، ومع تعدّد الواضع وعدم اطّلاع الواضع الثاني على الوضع الأوّل ، أو عدم التفاته إليه ، لا يصحّ فرض الرجحان والمرجوحيّة والتساوي.

وثانيا : إنّ رجحان الاشتراك في نظر الواضع - على تقدير تسليم وحدته - ليس ذاتيّا ، كيف ومخالفته لحكمة الوضع وغيرها من الاصول قاضية بمرجوحيّته لذاته ، بل هو رجحان عرضي مسبّب عن حكم خفيّة تترجّح على حكمة الوضع ، ولا يمكن الاستناد إلى نحو هذا الرجحان في ترجيح الاشتراك في مورد الشكّ ، لمكان الشكّ في وجود سبب الرجحان فيه كما هو واضح.

ولو رام أحد التمسّك في هذا الوجه بنفس الأكثريّة ، عملا بقاعدة الإلحاق فيزيّفه : عدم التعويل على الأكثريّة الغير المعتدّ بها.

واستدلّ أيضا : بأنّ الاشتراك والنقل وإن تشاركا في تعدّد الوضع وتعاقب الوضعين لمعنيين ، غير أنّ النقل يقتضي نسخ الوضع الأوّل بخلاف الاشتراك ، والنسخ يقتضي بطلان المنسوخ والاشتراك يقتضي التوقّف ، فيكون أولى.

ويمكن إرجاع ذلك إلى الطريق الثالث ، وهو إناطة الترجيح بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى الوقوع في الخارج.

بدعوى : أنّ ما لا يتضمّن النسخ وبطلان المنسوخ أقرب بالوقوع في الخارج.

ويزيّفه : إنّ هذه الأقربيّة بعد تسليمها ظنّية فلا تعويل عليها ، بناء على أصالة عدم حجّية الظنّ في اللغات مطلقا.

كما يمكن إرجاعه إلى الطريق الرابع ، وهو الإناطة بموافقة الأصل ومخالفته ،

ص: 194

بناء على أنّ الأصل عدم نسخ الوضع الأوّل على معنى هجره ، وإذا انجرّ الكلام إلى مراعاة موافقة الأصل ومخالفته فنقول : إنّ لدوران الأمر بين النقل والاشتراك صورا يختلف باختلافها الأصل :

إحداها : أن يكون اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى وفي العرف لمعنى آخر ، واحتمل نقله من الأوّل إلى الثاني أو اشتراكه بينهما ، وله فروض ثلاث :

الأوّل : أن يثبت كونه للمعنى العرفي باعتبار وضع التعيين ، وحينئذ فمرجع الدوران بينهما إلى الشكّ في حدوث لوازم النقل الزائدة على تعدّد الوضع ، كنسخ الوضع الأوّل إن قلنا باعتبار الهجر في النقل ، وملاحظة المناسبة بين المعنيين عند الوضع الثاني ، والأصل عدمهما فيترجّح الاشتراك.

الثاني : أن يثبت كونه باعتبار وضع التعيّن ، فإن قلنا بالاشتراك التعيّني - كما جوّزه بعض - فانحصر المايز بينهما في اعتبار هجر المعنى اللغوي في النقل دون الاشتراك ، والشكّ راجع إليه والأصل عدمه ، فيترجّح الاشتراك أيضا.

وإن قلنا بعدمه كما هو الأظهر - بناء على ظهور كلامهم في الفرق بين النقل والاشتراك بملاحظة المناسبة في الأوّل دون الثاني ، في كون الحصر بينهما عقليّا دائرا بين الإثبات والنفي قاضيا بانتفاء الواسطة ، كما هو قضيّة عبائرهم عند تقسيم اللفظ ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بجعل السلب في كلامهم بالنسبة إلى المشترك كلّيا والإيجاب بالنسبة إلى المنقول جزئيّا ، على معنى اعتبار ملاحظة المناسبة ولو للتجوّز في الاستعمالات السابقة على التعيّن في نقل التعيّن - سقط حينئذ احتمال الاشتراك وخرج الفرض معه عن موضوع التعارض ، كما هو واضح.

الثالث : أن لا يثبت شيء من الوجهين ، بل كان الوضع المفروض للمعنى العرفي مردّدا بين التعيين والتعيّن ، وكان ذلك سببا لدوران الأمر بين الاشتراك والنقل.

فإن قلنا بأصالة وضع التعيّن في نظائر الفرض ، كما قيل بها استنادا إلى أصالة تأخّر الحادث وأصالة عدم الوضع يترجّح النقل ، المبنيّ على كون الوضع العرفي

ص: 195

وضع تعيّن وإلاّ لا مناص من الوقف ، وحيث إنّا قد بيّنّا فساد ذلك الأصل - في تعريف الفقه - لفساد مدركيه فيتعيّن الوقف في الفرض المذكور.

ثانيتها : أن يكون للّفظ لغة معنى وفي العرف معنى آخر يشكّ في ثبوته في اللغة ليكون مشتركا بينهما ، فيعامل معه معاملة المشتركات بحسب اللغة ، وإن لزمه هجر المعنى اللغوي في العرف للقطع بعدم ثبوته فيه ، وعدمه ليكون منقولا فيتعارض فيه العرف واللغة ، ولكن أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي - على معنى عدم تعرّض واضع اللغة لوضعين في ذلك اللفظ - مع أصالة تأخّر الحادث بالنظر إلى الوضع للمعنى العرفي ينفي احتمال ثبوت هذا المعنى في اللغة ويعيّن النقل ولا يعارضه أصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، للقطع بحصول الهجر من جهة القطع بعدم ثبوت المعنى اللغوي في العرف.

وقد يعكس الفرض المذكور بالشكّ في ثبوت المعنى اللغوي في العرف مع القطع بعدم ثبوت المعنى العرفي في اللغة ، فيدور الأمر بين الاشتراك في العرف الحاصل بوضع لغوي ووضع عرفي ، والنقل عن المعنى اللغوي إلى العرفي.

وقضيّة أصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، مع أصالة عدم ملاحظة المناسبة عند الوضع العرفي ينفي احتمال النقل ، فيترجّح الاشتراك.

وقد يشكّ في ثبوت كلّ في كلّ ليكون مشتركا في اللغة والعرف معا ، وعدمه ليكون منقولا.

وقضيّة الاصول المذكورة في الفرضين الأوّلين ثبوت الاشتراك بينهما عرفا ، لأن أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي ، مع أصالة تأخّر الحادث تنفي ثبوت المعنى العرفي في اللغة.

وأصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، مع أصالة عدم ملاحظة المناسبة ، تعيّن الاشتراك الحاصل من وضع لغوي ووضع عرفي.

ثالثتها : أن يكون للّفظ معنيان بحسب العرف ، ويوجد استعماله لغة في معنى ثالث يناسبهما ، فيشكّ حينئذ في كونه حقيقة في ذلك المعنى خاصّة ، فيكون

ص: 196

بحسب اللغة من متّحد المعنى ، ولازمه كونه منقولا في العرف من هذا المعنى إلى المعنيين المذكورين ، أو كونه حقيقة فيهما من أوّل الأمر فيكون مشتركا بحسب اللغة من دون أن يكون هناك نقل.

وقد يحتمل فيه عدم وضعه بحسب اللغة للمعنى الثالث ولا المعنيين ، أو عدم كونه حقيقة في شيء من ذلك ، أو كونه موضوعا للثالث وأحد المعنيين ، أو له ولكلّ منهما ليكون مشتركا بين الجميع.

لكن ينبغي أن يقطع بكونه بحسب اللغة موضوعا بل حقيقة في شيء لا محالة ، لئلاّ يلزم المجاز بلا وضع والمجاز بلا حقيقة ، واحتمال كونه موضوعا للمعنيين معا ينفيه أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي بالمعنى المتقدّم ، كما أنّ احتمال كونه موضوعا للثالث وأحد المعنيين ، أوله ولهما ينفيه ذلك الأصل ، ويعتضد بأصالة تأخّر الحادث بالقياس إلى الوضع الحاصل للمعنيين.

وقضيّة الأصلين ترجيح النقل على الاشتراك ، ولا يعارضهما أصالة عدم ثبوت الوضع للمعنى الثالث ، لانتقاض هذا الأصل بفرض العلم الإجمالي بكونه بحسب اللغة موضوعا لا محالة ، كما لا يعارضهما أصالة عدم ملاحظة المناسبة في وضعه عرفا للمعنيين ، لورودهما عليه.

وقد يقال : إنّ أصالة تأخّر الحادث قاضية بعدم الوضع لهما في اللغة ، ولمّا لم يكن وضعه للمعنى الآخر معلوما من أصله ، فقضيّة الأصل عدم ثبوت الوضع له أيضا ، وحينئذ فيحتمل القول بثبوت المعنيين له بحسب اللغة أيضا ، لأصالة عدم تغيّر الحال فيه ، أو بوضعه لأحدهما ثمّ طروّ وضعه للآخر عرفا ، اقتصارا في إثبات الحادث على القدر الثابت ، وفيه ما لا يخفى.

رابعتها : أن يكون مشتركا بين معنيين بحسب اللغة واستعمل عرفا في معنى ثالث مجازا ، واشتهر استعماله فيه إلى أن يحصل الشكّ في حصول النقل وهجر المعنيين ، فيدور الأمر بين النقل واشتراكه عرفا كما كان لغة ، وحكمه بعد ملاحظة أصالة عدم النقل وأصالة بقاء حالته الأوّلية - وهو الاشتراك - إنّما هو ترجيح الاشتراك لا غير.

ص: 197

ويمكن إرجاع هذه الصورة إلى مسألة الدوران بين النقل والمجاز ، وأصالة عدم النقل تعيّن المجاز ، ولزمه بقاء الاشتراك اللغوي.

الصورة الثانية والثالثة : تعارض الاشتراك أو النقل والمجاز

الصورة الثانية والثالثة : تعارض الاشتراك أو النقل والمجاز ، فإن اريد بالمجاز هنا كون اللفظ مجازا في أحد المعنيين المستعمل فيهما اللفظ ، قبالا لكونه مشتركا بينهما أو منقولا إليه - ومرجعه إلى تعارض حالتين من أحوال اللفظ - وجب ترجيح المجاز ، أمّا في الاشتراك فقد اتّضح وجهه مشروحا في مباحث الاستعمال.

وأمّا في النقل فلأصالة عدم النقل ، ولا يعارضها أصالة عدم القرينة وغيرها من لوازم المجاز لورودها عليها ، ويؤكّدها شيوع المجاز وقلّة المنقول.

وقد يستدلّ أيضا بتوقّف النقل على اتّفاق أهل اللسان على تغيير الوضع ، وهو متعذّر كما في النهاية (1) أو متعسّر كما في العميدي (2) بخلاف المجاز الّذي يتوقّف على وجود العلاقة كما في الثاني ، أو قرينة صارفة عن الحقيقة كما في الأوّل ، وهو متيسّر ولا يخفى ضعفه.

وإن اريد به التجوّز في لفظ قبالا لاحتمال الاشتراك أو النقل في آخر مع كونهما مأخوذين في الكلام ، كما في قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (3) حيث إنّ إرادة العقد من « النكاح » والتحريم من الصيغة تفضي إلى مخالفة الإجماع من تحريم المعقود عليه بالعقد الفاسد ، فلا بدّ من الالتزام بالتجوّز في النهي بإرادة القدر الجامع بين الحرمة والكراهة ، أو باشتراك النكاح بين العقد والوطء مع إرادة الواطئ منه بقرينة الإجماع المذكور ، أو بكونه منقولا من العقد إلى الواطئ فاريد منه الوطء لأنّه الحقيقة بعد النقل.

ومرجعه إلى تعارض حالتين : إحداهما من أحوال اللفظ ، والاخرى من

ص: 198


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).
3- النساء : 22.

أحوال الاستعمال ، وحيث إنّ وقوع الاشتراك أو النقل في لفظ « النكاح » وغيره من نظائره ممّا لم يقم عليه أمارة معتبرة ، فينفى احتماله بأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ، ويتعيّن معه التجوّز في اللفظ الآخر.

لا يقال : إنّ احتمال التجوّز أيضا ينفيه أصالة الحقيقة ، فالأصلان المذكوران يعارضهما أصالة الحقيقة ، لأنّ أصالة الحقيقة لكونها من الاصول المشخّصة للمراد لا تصلح لمعارضة الأصلين ، لكون الاصول المحرزة لحال اللفظ واردة على الاصول المشخّصة للمراد ، الّتي اخذ في موضوعاتها خلاف مقتضيات الاصول المحرزة لحال اللفظ ، فإنّ أصالة الحقيقة في لفظ النهي في المثال قد اخذ في موضوعها ولو بحكم الفرض من جهة القرينة في القضيّة الشخصيّة ، وقوع الاشتراك أو النقل في لفظ « النكاح » ، وإذا نفي احتمال وقوعهما بالأصلين ارتفع به موضوع أصالة الحقيقة ، ومعه لا معنى لتوهّم المعارضة بينها وبينهما.

وأيضا أصالة الحقيقة بمعنى ظهور اللفظ في إرادة الحقيقة إنّما تنهض حيث لم يطرأه ما يوجب إجماله ، والقرينة المردّدة بين كونها معيّنة لأحد معنيي المشترك أو صارفة للّفظ الآخر عن حقيقته كالإجماع ونحوه ، أوجبت إجماله ، فلا ظهور للحقيقة حينئذ حتّى يعارض به الأصلان ، وإذا نفي احتمال الاشتراك أو النقل بهما انتفى عن هذه القرينة احتمال كونها معيّنة أو مؤكّدة ، وبعد تعيّن كونها صارفة لا معنى لأصالة الحقيقة معها.

الصورة الرابعة والخامسة : تعارض الاشتراك والتخصيص أو النقل والتخصيص

الصورة الرابعة والخامسة : تعارض الاشتراك والتخصيص أو النقل والتخصيص كما في المثال المتقدّم ، إذا فرض دوران الأمر بين التصرّف في قوله [ تعالى ] : ( ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (1) بطريق التخصيص ، بناء على كون الموصول من أدوات العموم بإخراج المعقود عليه بالعقد الفاسد عن العموم ، والالتزام باشتراك النكاح بين العقد والوطء ، أو نقله إلى الوطء.

ص: 199


1- النساء : 22.

والكلام فيه من حيث الترجيح ، والسؤال الوارد عليه ودفع هذا السؤال بما عرفت من الوجهين كما تقدّم ، فيترجّح التخصيص.

والمعروف في الاستدلال عليه : إنّه خير من المجاز ، الّذي هو خير من الاشتراك والنقل ، وخير الخير من شيء خير من ذلك الشيء ، وربّما يقوى بملاحظة شيوع التخصيص وكثرته ورجحانه على الاشتراك والنقل ولا يخلو عن ضعف.

الصورة السادسة والسابعة : تعارض الاشتراك والتقييد أو النقل والتقييد

الصورة السادسة والسابعة : تعارض الاشتراك والتقييد ، أو النقل والتقييد كما في المثال المتقدّم أيضا ، بناء على الدوران بين التصرّف في لفظ « النكاح » في قوله [ تعالى ] ( ما نَكَحَ ) (1) بتقييده بالصحيح ، أو الالتزام بالاشتراك أو النقل فيه ، ومثّل لتعارض النقل والتقييد بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2) بتقريب : أنّ « البيع » يحتمل بقاؤه على معناه الأصلي وهو مطلق المبادلة الواقعة بين الناس ، فلا بدّ حينئذ من تقييده بالصحيح الجامع للأركان والشرائط الشرعيّة ، أو الالتزام بنقل الشارع إيّاه إلى الصحيح الجامع للشرائط.

وكيف كان فالمتعيّن فيه أيضا ترجيح التقييد ، والكلام في وجهه والسؤال الوارد عليه مع ما يدفعه نظير ما مرّ أيضا حرفا بحرف.

الصورة الثامنة والتاسعة : تعارض الاشتراك أو النقل والإضمار

الصورة الثامنة والتاسعة : تعارض الاشتراك أو النقل والإضمار ،أمّا الأوّل فكما في قوله عليه السلام : « في خمس من الإبل شاة » (3) بعد ملاحظة أنّ حمل كلمة « في » على حقيقتها المعلومة وهي الظرفيّة المقتضية للاشتمال يستلزم الكذب ، فلا بدّ من التزام اشتراكها بين الظرفيّة والسببيّة ، فتحمل على إرادة السببيّة حذرا عن الكذب أو إضمار ما يضاف إلى الشاة كالمقدار ونحوه ، ويصحّ فرض ذلك مثالا للثاني أيضا ، إلاّ أنّه مثّل له بأن يقال : لا يجوز بيع الجنس بمثله مع زيادة لأنّه

ص: 200


1- النساء : 22.
2- البقرة : 275.
3- صحيح البخاري 2 : 146 كتاب الزكاة ، سنن أبي داود 2 : 96 ح 1567 ، سنن ابن ماجة 1 : 573 ح 1798.

ربا وهو حرام لقوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) بتقريب : أنّ الربا إمّا منقول عن معناه الأصلي وهو « الزيادة » إلى العقد المشتمل عليها ، أو إنّ المراد « بالربا » أخذ الزيادة بإضمار لفظ « الأخذ » ويرجّح الإضمار هنا أيضا للأصلين المتقدّمين ، ولا يعارضهما أصالة عدم الإضمار وظهور الهيئة التركيبيّة الكلاميّة في عدم الحذف ، وعلّل أيضا تارة : بأنّه عديل المجاز وهو أولى من الاشتراك والنقل.

واخرى : بأنّ الإضمار من باب الإيجاز والاختصار وهو من محاسن الكلام ، وليس المشترك والمنقول بهذه المثابة.

وثالثة : بأنّ دلالة اللفظ على المعنى على تقدير الإضمار ظاهرة لا يتحقّق فيها الإجمال إلاّ في صورة واحدة ، وهي ما إذا قام في المقام امور متعدّدة متكافئة في احتمال الإضمار مع انتفاء قرينة توجب تعيّن البعض ، بخلاف غير تلك الصورة من اتّحاد المضمر أو رجحان بعض ما يصلح للإضمار على الباقي ، فلا إجمال حينئذ لوجوب الأخذ بالراجح ، وليس المشترك بهذه المثابة لما فيه من عموم الإجمال الشامل لجميع صور وجودها بغير قرينة مراد ، وإنّ النقل يتوقّف على اتّفاق أهل اللسان وهو متعذّر أو متعسّر ، بخلاف الإضمار لدلالة باقي الكلام عليه ، والكلّ كما ترى.

الصورة العاشرة والحادي عشر : تعارض الاشتراك أو النقل والنسخ

الصورة العاشرة والإحدى عشر : تعارض الاشتراك أو النقل والنسخ أمّا الاولى : فكما لو قال : « ليكن ثوبي جونا » وعلمنا بوضع « الجون » للأبيض ، ثمّ عقّبه بعد تخلّل زمان بقوله : « ليكن أسود » فحصل الشكّ في وضع « الجون » للأسود أيضا حتّى يكون مشتركا ، فيكون القول الثاني قرينة معيّنة لإرادة ذلك من أوّل الأمر ، أو إنّه حقيقة خاصّة في الأبيض فيكون القول الثاني ناسخا لحكم الأوّل.

والظاهر إنّها مفروضة فيما لو لم يكن بين المعنيين علاقة مصحّحة للتجوّز ، أو علم بإيقاف من المتكلّم أو غيره من القرائن إنّه لم يتجوّز في لفظ « الجون » نفيا

ص: 201


1- البقرة : 275.

لاحتمال المجاز أيضا ، لئلاّ يعترض عليه بمنع الملازمة بين انتفاء الاشتراك والتزام النسخ ، لجواز نهوض القول الثاني بيانا باعتبار كونه قرينة للتجوّز.

وأمّا الثانية : فكما لو قال : « صلّوا في البيت » ثمّ قال : « طوفوا بالبيت » فإنّ الطواف به صلاة ، وعلمنا بأنّه لم يتجوّز في قوله الأوّل بإيقاف منه أو غيره من القرائن ، فيحتمل حينئذ كون الصلاة ممّا نقلها من معناها الأصلي - وهو الدعاء - إلى الطواف فيكون هو المراد من أوّل الأمر ، فيكون القول الثاني من باب القرينة المؤكّدة ، أو بقائها على المعنى الأصلي ليكون القول الثاني ناسخا.

والتعارض في الصورتين وإن ورد فرضه في كلامهم مطلقا ، إلاّ أنّه ينبغي تخصيصه بما لم يعلم ورود الخطاب الثاني بعد حضور وقت العمل بالخطاب الأوّل أو قبله ليتردّد بين الناسخيّة والبيانيّة ، ضرورة أنّه لو علم بتأخّر وروده عن حضور وقت العمل بالأوّل تعيّن كونه ناسخا ، لاستحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، الملازم للإغراء بالجهل. وقضيّة ذلك انتفاء الاشتراك والنقل.

ولو علم بتقدّم وروده على حضور وقت العمل بالأوّل ، تعيّن كونه بيانا أو تأكيدا حذرا عن البداء المحال ، أو الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن ، واللازم من ذلك ثبوت الاشتراك أو النقل ، وإلاّ لزم إمّا تجويز النسخ أو تغليط الاستعمال في تقدير ، إذ لا مصحّح لاستعمال اللفظ في الثاني على هذا التقدير - كما هو قضيّة جعله كاشفا عن كونه مرادا من اللفظ عن أوّل الأمر - سوى الوضع.

وحينئذ فالّذي يتراءى في بادئ النظر بضابطة ما تقدّم من ورود الاصول المحرزة لحال اللفظ ، على الاصول المحرزة لحال الاستعمال ، رجحان النسخ على كلّ من الاشتراك والنقل ، عملا بأصل العدم فيهما ، الوارد على أصالة عدم النسخ المحرزة لحال الاستعمال.

لكنّ الّذي ينبغي أن يقطع به بعد إمعان النظر انعكاس الفرض هنا ، لكون الشكّ في حال اللفظ من حيث الاشتراك أو النقل مع الشكّ في حال الاستعمال من حيث النسخ في الخطاب الأوّل ، مسببّا عن الشكّ في حضور وقت العمل بالخطاب

ص: 202

الأوّل عند ورود الخطاب الثاني ، وظاهر : إنّ الأصل عدمه ، فأصالة عدم النسخ ، معناها أصالة عدم حضور وقت العمل بالخطاب الأوّل عند ورود الثاني.

وبه يرتفع احتمال الناسخيّة عن الخطاب الثاني ، فيرتفع معه موضوع الأصل النافي للاشتراك والنقل.

وقضيّة ذلك ترجيح كلّ من الأمرين على معارضهما.

نعم إن جوّزنا النسخ قبل حضور وقت العمل ، الّذي مرجعه إلى البداء بالمعنى الحقيقي المستحيل على العالم بالعواقب ، كما شاع وقوعه في خطابات الغير العالم بالعواقب كالامراء بالنسبة إلى رعاياهم والموالي بالنسبة الى العبيد ، كان ورود أصالة عدم الاشتراك وعدم النقل على أصالة عدم النسخ متّجها ، غير أنّ ذلك بمراحل عن موضوع كلام الاصوليّين كما هو واضح.

وهكذا ينبغي أن يقال في ترجيح الاشتراك والنقل على النسخ ، لا كما في نهاية العلاّمة (1) من تعليل أولويّة الاشتراك - بعدما اختارها - باحتياطهم في النسخ دون التخصيص ، ولهذا جوّزوا تخصيص العامّ بخبر الواحد دون النسخ ، والأصل فيه إنّ الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل بخلاف التخصيص ، لوضوح فساده ، ولذا تنظّر فيه بأنّ ذلك إنّما يقتضي رجحان التخصيص على النسخ ، والمطلوب ترجيح الاشتراك عليه ، والتخصيص وإن ثبت رجحانه على الاشتراك سابقا ، فيكون راجحا على النسخ أيضا بضميمة ما ذكر هاهنا ، وهو لا يقضي برجحان الاشتراك على النسخ ولا العكس.

ويتلوه في الضعف ما استند إليه بعد تزييف الوجه المذكور بقوله : « بل الوجه توقّف الاشتراك على الوضع وتوقّف النسخ عليه وعلى رفع الحكم » (2) فإنّ الاشتراك أيضا يتوقّف على الوضعين فيتساويان في مخالفة الأصل.

ومن الأفاضل (3) من نقل الاستدلال عليه أيضا ، بعدما حكاه قولا بغلبة

ص: 203


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
3- هداية المسترشدين : 65 ( الطبعة الحجريّة ).

الاشتراك على النسخ ، وكونه ممّا يثبت بأيّ دليل ظنّي اقيم عليه بخلاف النسخ الّذي لا يثبت إلاّ بدليل شرعي ، بل ربّما يعتبر فيه ما يزيد على ما اعتبر في دليل سائر الأحكام ، وبأنّ غاية ما يلزم من الاشتراك ، الإجمال أحيانا بخلاف النسخ. فإنّ قضيّته إبطال العمل بالدليل السابق ، وفي الكلّ ما ترى.

في تعارض حالتين من أحوال الاستعمال

اشارة

واعترض عليه الفاضل المذكور ، بأنّه لا وجه لإثبات الوضع بهذه الوجوه الموهونة من غير قيام شاهد عليه من النقل أو الرجوع إلى لوازم الوضع ونحو ذلك ممّا يوجب ظنّا به ، فقال : إنّ الأظهر عدم ثبوت اشتراك اللفظ بين المعنيين بمجرّد رفع احتمال النسخ في مورد مخصوص ، ولا الحكم بثبوت النسخ هناك أيضا.

وقضيّة ذلك التوقّف في حكمه ، وإن كان البناء على حمله على معناه الثابت والحكم بكون الثاني ناسخا لا يخلو عن وجه. انتهى (1).

وفيه : إنّ الاشتراك على تقدير الالتزام به لا يثبت بمجرّد رفع احتمال النسخ ولا بغيره من الوجوه المذكورة ، بل بحكم الفرض من وقوع إحدى الحالتين مع تبيّن عدم تجوّز المتكلّم في الخطاب الأوّل بالقياس إلى المعنى الثاني ، فلم يبق بعد نفي احتمال النسخ مناص من الالتزام بالاشتراك.

وفي كلام بعض الأفاضل التعليل لترجيح النقل - كما احتمله وحكى اختياره عن المنية - بكثرة النقل بالنسبة إلى النسخ ، معترضا عليه : بأنّ بلوغ كثرة النقل وقلّة النسخ إلى حدّ يورث الظنّ بالأوّل غير معلوم ، لطريان النسخ كثيرا على الأحكام العاديّة والشرعيّة ، فقال : « إنّ قضيّة ثبوت المعنى الأوّل وعدم ثبوت الثاني هو البناء على النسخ أخذا بمقتضى الوضع الثابت » انتهى (2).

وفيه : ما فيه بعد البناء على الترجيح بالأصل كما عرفت مشروحا.

هذا تمام الكلام في صور تعارض حالتين إحداهما من أحوال اللفظ.

وأمّا صور تعارض حالتين كلتيهما من أحوال الاستعمال ، الّذي مرجعه إلى تعارض الظاهرين.

ص: 204


1- هداية المسترشدين : 65.
2- المصدر السابق : 67.

1 - تعارض المجاز والتخصيص

فأولاها : تعارض المجاز والتخصيص ، ومثاله على ما ذكره العلاّمة في النهاية (1) وتبعه شارح التهذيب في المنية (2) قوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (3) نظرا إلى إجماعهم على اختصاص الحكم بغير أهل الذمّة ، فيحتمل حينئذ تخصيص الحكم ببعضهم وهو الحربي ، أو إرادة غير أهل الذمّة منهم مجازا ، وكأنّه مبنيّ على مذهبه في توجيه الكلام الاستثنائي دفعا للتناقض الواقع في الكلام من جعل الإخراج قبل الإسناد بعد إرادة العموم من اللفظ ، وإلاّ فإرادة البعض منه مجازا بجعل الاستثناء قرينة للتجوّز كما ذهب إليه الأكثر في دفع التناقض أيضا من باب المجاز ، فكيف يجعل وجها مقابلا له كما تنبّه عليه بعض الأعاظم ولذا يقال : إنّ التخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز ، لكنّه لمّا كان لهما مزيد اختصاص وامتياز أفردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيما له.

ويمكن توجيه المثال أيضا بأنّ تعارض التخصيص والمجاز هنا من جهة دوران الأمر بين التصرّف في هيئة العامّ ، فيكون مجازا من جهة التخصيص بإرادة الخصوص من الهيئة الموضوعة للعموم ، والتصرّف في مادّته وهو المشرك بإرادة الحربي منه من باب استعمال العامّ في الخاصّ بقيد الخصوصيّة فيكون مجازا من غير جهة التخصيص ، وهذا أوجه من سابقه وإن بعد من مذهب العلاّمة.

والأولى أن يمثّل بقوله تعالى : ( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4) بعد ملاحظة عدم وجوب الانتهاء عن المكروهات إجماعا ، فلا بدّ من تخصيص الموصول بالمحرّمات ، أو حمل الأمر على الاستحباب أو القدر الجامع بينه وبين الوجوب ، ونحوه الكلام في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) وأولى من الجميع التمثيل بقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (6) بعد ملاحظة عدم وجوب الاستباق بالمستحبّات ، فإمّا أن يخصّص الخيرات بالواجبات ، أو يحمل الصيغة على الاستحباب.

ص: 205


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).
3- التوبة : 5.
4- الحشر : 7.
5- المائدة : 1.
6- البقرة : 148.

وكيف كان فالمعروف بين الاصوليّين ترجيح التخصيص ، وظاهرهم الإطباق عليه حيث لم نقف على مصرّح بالخلاف ولا على نقل تصريح بخلافه ، وهو كذلك لشيوع التخصيص وغلبة وقوعه في الخارج كما اعتمد عليه جماعة ، فإنّه في الشيوع وغلبة الوقوع بمثابة قيل فيه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه ».

ولا ريب إنّ ملاحظة ذلك ممّا يوجب وهنا في ظهور العامّ في إرادة العموم ، فيكون الحقيقة أظهر في إرادة معناها الحقيقي منه في إرادة العموم ، وظهورها أقوى الظهورين ، وقضيّة ذلك تطرّق التصرّف المتردّد بينهما إلى العامّ بالتخصيص.

وإلى ذلك يرجع مؤدّى الاستدلال أيضا بما في كلام غير واحد ، من أنّ العامّ عند انتفاء قرينة التخصيص يحمل على الجميع فيدخل فيه المراد أيضا ، بخلاف المجاز الّذي يحمل معه اللفظ عند انتفاء القرينة على حقيقته ، وقد لا تكون مرادة فيفوت الغرض بالمرّة فيكون التخصيص أرجح ، لعدم استلزامه فوات الغرض ، وإن استلزم دخول غيره معه كما اعتمد عليه العلاّمة (1) وجماعة.

ومحصّله : إنّه عند دوران الأمر بين حالتين إحداهما يتضمّن فوات مراد المتكلّم بالمرّة عند الغفلة عن القرينة ، والاخرى لا يتضمّن ذلك كانت الثانية أوفق بغرض المتكلّم وأقرب بمقام الإفادة والاستفادة ، وذلك يوجب أظهريّة الحقيقة في إرادة معناها الحقيقي.

ثمّ إنّ المجاز المقابل للتخصيص قد يعرض العامّ كما في مثال المشركين ، وقد يعرض اللفظ الواقع في الكلام المشتمل على العامّ كما في بواقي الأمثلة ، وقد يعرض اللفظ الواقع في كلام آخر غير ما اشتمل على العامّ كما في الخبرين المتعارضين ، إذا كان تعارضهما من حيث الدلالة باعتبار دوران الأمر بين المجاز في أحدهما والتخصيص في الآخر ، كما في الخبر المستفيض من قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) الدالّ بعمومه على اشتراط صلاة الجنازة بالطهارة على

ص: 206


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 27 ( مخطوط ).
2- التهذيب 1 : 49 ح 144 ، الاستبصار 1 : 55 ح 160 ، الوسائل 1 : 256 أبواب الوضوء باب 1 ح 1.

تقدير كونها صلاة على وجه الحقيقة ، وما لو ورد في خبر آخر مثلا من قوله عليه السلام : « يستحبّ الوضوء لصلاة الجنازة » فإمّا أن يخصّص الأوّل بما عدا صلاة الجنازة ، أو يحمل قوله « يستحبّ » على إرادة « يجب » مجازا.

ومن الأعلام من زعم الاقتصار في ترجيح التخصيص على الصورة الاولى ، حيث خصّ غلبة التخصيص به في مقابل المجاز في العامّ لا مطلقا ، أو عليها وعلى الصورة الثانية أيضا بناء على أحد احتمالي عبارته وإن ضعف ، بناء على أن يكون المراد من المجاز في العامّ المجاز في الكلام المشتمل على العامّ ولو في لفظ آخر غير العامّ ، التفاتا إلى شيوع إطلاق العامّ في كلمات الفقهاء والاصوليّين على نحو هذا الكلام ، وكأنّه من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.

لكن قضيّة إطلاق الاصوليّين بكون التخصيص أرجح عدم الفرق بين الصور الثلاث ، وهو المستفاد أيضا من تضاعيف كلام الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة ، حيث نراهم في مقام ترجيح أحد الدليلين المتعارضين إذا كان تعارضهما بالمجاز والتخصيص ، يرجّحون التخصيص على المجاز.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه لاتّحاد المناط ، فإنّ شيوع التخصيص وغلبة وقوعه في الخارج إذا أوجب وهنا في ظهور العامّ في العموم كان العامّ أضعف الظواهر فكان غيره أظهر ، وإذا كان الحقيقة أظهر في معناه الحقيقي من العامّ في العموم ، فلا يتفاوت الحال فيه بين الصور الثلاث المذكورة.

وما يقال : من أنّ التخصيص أغلب أفراد المجاز في العامّ لا مطلقا ، ويجعل ذلك وجها في الفرق ومناطا لتخصيص القاعدة بالصورة الاولى ، أو بما عدا الصورة الأخيرة.

يدفعه : إنّه على فرض تسليمه ، إنّما يصحّ لو قصد بإحراز شيوع التخصيص وغلبة وقوعه التمسّك في الترجيح بقاعدة الإلحاق ، أعني إلحاق مورد الشكّ بالأعمّ الأغلب ، فيقال - في مقام المناقشة في الدليل - : بأنّ القاعدة إنّما تجري في بعض الصور.

ص: 207

لكن قد تبيّن بما قرّرناه من طريق الاستدلال ، إنّ المقصود من إحراز الشيوع والغلبة في جانب التخصيص إنّما هو بيان صيرورة ظهور العامّ في العموم موهونا بملاحظة شيوع التخصيص في العمومات وغلبة التخصيصات ، ليحرز به كون الحقيقة أظهر في معناها الحقيقي ، ولا فرق في ثبوت الأظهريّة لها وكون العامّ غير أظهر ، بين ما لو فرض المجاز في العامّ ، أو في الكلام المشتمل على العامّ ، أو في كلام آخر غيره ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا لوحظ التخصيص والمجاز بنوعيهما مع قطع النظر عن الخصوصيّات الطارئة لأحدهما ، الموجبة لرجحان المرجوح ومرجوحيّة الراجح ، على معنى أنّ التخصيص نوعا أرجح من المجاز نوعا ، لكون غيره من أنواع الحقائق نوعا أظهر من العامّ نوعا ، وهذا لا ينافي انعكاس الفرض باعتبار الطواري ، فإنّه ربّما يطرأ التخصيص أو المجاز من الخصوصيّات ما يوجب مرجوحيّة التخصيص ورجحان المجاز ، لكون العامّ مع ملاحظة هذه الخصوصيّة أظهر من مقابله.

ومن جملة ذلك كون التخصيص المقابل للمجاز تخصيص الأكثر ، فإنّ العامّ عند معارضة تخصيص الأكثر والمجاز - لغاية مرجوحيّة ذلك التخصيص وقلّة وقوعه في الخارج - أظهر في العموم من مقابله في حقيقته ، فيرجّح المجاز عليه.

ومن جملة ذلك كون المجاز المقابل للتخصيص مجازا مشهورا ، فإنّ الشهرة في المعنى المجازي - على تقدير البناء على أصالة الحقيقة في المجاز المشهور في غير محلّ التعارض - توجب وهنا في ظهور الحقيقة ، ويصير العامّ بذلك أظهر في العموم من مقابله في حقيقته.

ومن جملة ذلك إعراض المعظم أو غير واحد من الأساطين المشاهير كالمحقّق والشهيدين (1) الأوّلين وأحزابهما في محلّ التعارض عن التخصيص إلى اختيار المجاز ، فإنّه يوجب قوّة في ظهور العامّ وضعفا في مقابله ، لكشفه عن قرينة معيّنة للمجاز قد بلغتهم ، فيكون العامّ أظهر.

ص: 208


1- كذا في الأصل.

وقد يشكل الحال في محلّ الاختلاف بين شهرة القدماء وشهرة المتأخّرين بكون إحداهما في جانب التخصيص والاخرى في جانب المجاز ، من قرب عهد القدماء بزمان أهل العصمة ، وكثرة تعهّدهم بالقرائن الموجودة ثمّة ومن دقّة نظر المتأخّرين وكثرة تحقيقهم.

وقد توجب الخصوصيّة الطارئة لتكافؤ الحالتين وتساوي الظهورين ، كتخصيص المساوي مثلا.

وبالجملة : فلا بدّ في الترجيح من ملاحظة المقام ، ومراعاة الخصوصيّات الطارئة له.

هذا كلّه فيما يرجع إلى الصغرى وهو تشخيص الأظهر عن غيره.

وأمّا الكبرى وهو وجوب الترجيح بالأظهريّة والأخذ بظهور الأظهر وإرجاع التصرّف إلى الظاهر ، فكون ذلك أوفق بغرض المتكلّم وأقرب بمقام الإفادة والاستفادة ممّا لا ينبغي أن يستراب فيه ، إنّما الكلام في الالتزام بذلك في مجرى عادات المتكلّمين من أهل العرف ، بمعنى أنّه كما إنّ مبنى المحاورة ومدار الإفادة والاستفادة في غير محلّ التعارض على الأخذ بأصالة الحقيقة ، والتعويل على الظهور الأوّلي ، فهل هو في محلّ التعارض أيضا على الأخذ بظهور أظهر الظاهرين والعمل بأصالة الحقيقة فيه ، وإرجاع التصرّف إلى الظاهر ، أو لا التزام في بناء أهل العرف وطريقة أهل اللسان ، بل قد يؤخذ به وقد يؤخذ بظهور الظاهر.

ولكنّ الّذي ينبغي أن يقطع به هو الأوّل ، لإجماع العلماء على الترجيح بالأظهريّة من غير خلاف ، ولو وجد خلاف في بعض صور المسألة فهو راجع إلى الصغرى كما يظهر بالتدّبر.

وهذا الإجماع لا ينبغي أن يكون عن مستند شرعي لأنّ المسألة لغويّة ، والمسائل اللغويّة لا تؤخذ من الشرع ، بل لا بدّ وأن يكون عن مستند عرفي ، فيكشف عن كون الترجيح بالأظهريّة وإرجاع التصرّف إلى غير الأظهر من مجاري عادات العرف ، وإنّ الواجب في بناء أهل اللسان الأخذ بأصالة الحقيقة

ص: 209

والظهور الأوّلي في الأظهر ، والتعويل على القرينة والظهور الثانوي في الظاهر الغير الأظهر.

2 - تعارض المجاز والتقييد

وثانيتها : تعارض المجاز والتقييد ، كما في قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (1) لعدم وجوب المسارعة إلى فعل المستحبّات إجماعا ، فإمّا أن يقيّد المغفرة بالواجب أو يحمل الصيغة على الاستحباب مجازا ، وبما تقدّم في وجه ترجيح التخصيص على المجاز يتبيّن وجه رجحان التقييد عليه ، بل هو أولى بالترجيح لكونه أشيع من التخصيص ، من غير فرق في ذلك بين كون المجاز مفروضا في المطلق ، أو في الكلام المشتمل على المطلق ، أو في كلام آخر غير ما فيه المطلق ، كما في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ولذا يحمل المطلق على المقيّد مع قيام احتمال المجاز في الثاني بحمل الأمر على الاستحباب.

3 - تعارض المجاز والإضمار

وثالثتها : تعارض المجاز والإضمار ، كما في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (2) لاحتمال إرادة « الأهل » من القرية مجازا بعلاقة المجاورة ، أو إضمار « الأهل » ليصحّ تعلّق السؤال به ، فقالوا : إنّهما متساويان فلا رجحان لأحدهما على الآخر ، لاحتياج كلّ منهما إلى قرينة صارفة له عن ظاهره.

واعترض عليه : بأنّه لا يلزم من تساويهما في الاحتياج إلى القرينة الصارفة للّفظ عن ظاهره ، عدم رجحان أحدهما على الآخر.

ألا ترى أنّ التخصيص يساوي كلاّ منهما في الاحتياج المذكور مع ثبوت رجحانه عليهما معا ، بل الحقّ أنّ الإضمار أولى من المجاز ، لاحتياج المجاز إلى كلّ من الوضع السابق واللاحق والعلاقة ، واستغناء الإضمار عن ذلك.

وفيه : إنّ الاعتراض على الدليل المذكور بنحو ما ذكر وإن كان في محلّه ، ضرورة عدم قضاء تشارك الحالتين المتعارضتين في الاحتياج إلى القرينة بتعادلهما وتساويهما في مرتبة الرجحان ، ولا ينافي وقوع التراجيح بينهما ، غير أنّ ترجيح

ص: 210


1- آل عمران : 133.
2- يوسف : 82.

الإضمار بنحو ما ذكر في غير محلّه ، لوضوح أنّ الامور المذكورة إنّما تصلح مرجّحة لملزومها إذا كان مع معارضه من أحوال اللفظ لا مطلقا.

كيف وحصول الوضعين والعلاقة المصحّحة للتجوّز فيما يحتمل التجوّز من شروط موضوع المسألة ، ضرورة امتناع التجوّز مع انتفاء هذه الامور كلاّ أم بعضا ، فهي على تقدير كون الحالة الواقعة هو الإضمار متيقّن الحصول ، فلا يمكن نفيه بكون المجاز ملزوما لها.

فالوجه في الترجيح النظر في إحراز الأظهريّة ، والظاهر انتفاء الأظهريّة هاهنا ، فمعنى تساوي الحالتين تساوي ما يحتمل الإضمار وما يحتمل التجوّز في مرتبة الظهور ، مع عدم قيام ما يوجب قوّة في ظهور أحدهما وضعفا في الآخر ، من شيوع وغلبة وقوع في الخارج.

وعليه فيستحيل الترجيح ، وحينئذ فإن لم يختلف الحكم الشرعي باختلاف الحالتين المتعارضتين كما في المثال فلا كلام ، وإلاّ فلا بدّ من مراعاة ما يرجّح أحدهما من القرائن الجزئيّة الغير المنضبطة ، أو الوقف في حال الخطاب والأخذ بالاصول العمليّة - كلّ في مورده - إحرازا لكيفيّة العمل.

4 - تعارض المجاز والنسخ

ورابعتها : تعارض المجاز والنسخ ، كما في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) الظاهر في وجوب البدءة في غسل اليدين من رؤوس الأصاب والانتهاء إلى المرافق مع ما دلّ من إجماع أو رواية قطعيّة الصدور على أنّ تكليفنا اليوم البدأة من المرافق والانتهاء إلى الأصابع ، فالآية محتملة حينئذ لنسخ الحكم الأوّل فيكون ذلك الدليل ناسخا ، أو للتجوّز في كلمة « الانتهاء » بإرادة الابتداء منها ، فيكون ذلك الدليل من باب البيان.

ولا يضرّ كونه هو الإجماع باحتمال البيانيّة ، نظرا إلى جواز تأخّر انعقاده عن زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله بل عصر الأئمّة عليهم السلام أيضا ، فيلزم تأخّر البيان عن وقت الحاجة ،

ص: 211


1- المائدة : 6.

لأنّ معنى كون الإجماع بيانا ، إنّه يكشف عن وجود قرينة حاليّة أو فعليّة أو قوليّة حال الخطاب أفادت التجوّز وقد اختفت علينا.

كما لا يقدح كونه رواية في احتمال الناسخيّة إلاّ إذا كانت رواية نبويّة ، نظرا إلى استحالة النسخ بعد انقطاع الوحي ، لأنّ حقيقة النسخ هو بيان انتهاء مدّة استمرار الحكم ، وإنّما يستحيل وقوعه بعد انقطاع الوحي إذا كان مستنده الوحي أو الإلهام أو نزول جبرئيل ، أو غير ذلك ممّا يختصّ بالأنبياء.

وأمّا إذا كان مستنده إيقاف النبيّ صلى اللّه عليه وآله وإخباره لوصيّة عليه السلام باستمرار الحكم إلى غاية فلانيّة مع أمره عليه السلام إيّاه عليه السلام ببيان انتهاء مدّة استمراره عند حلول الغاية ، فلا استحالة فيه أصلا.

نعم إنّما يعتبر في الرواية مطلقا كونها قطعيّة الصدور ، بتواتر أو استفاضة أو احتفاف بالقرائن القطعيّة ، حذرا عن النسخ بخبر الواحد.

وكيف كان : فالأرجح في هذه الصورة هو المجاز كما هو المعروف ، من غير خلاف يعرف فيه ، عملا بقاعدة الإلحاق الملحقة لمورد الاشتباه - وهو الحالة الواقعة في الخطاب المردّدة بين المجاز والنسخ - بالأعمّ الأغلب ، نظرا إلى كون وقوع المجاز في خطابات الشرع في غاية الشيوع والكثرة وليس كذلك النسخ.

مضافا إلى كون ظهور الخطاب بنفسه في استمرار الحكم أقوى وأكثر من ظهور ما يحتمل فيه المجاز في معناه الحقيقي ، فيجب الالتزام بالمجاز ترجيحا للأظهر على الظاهر.

ولو سلّم منع الأظهريّة الذاتيّة فشيوع وقوع المجاز في خطابات الشرع وقلّة وقوع النسخ ممّا يقوي ظهور الخطاب في الاستمرار ، ويوهن ظهور الحقيقة في معناه الحقيقي ، فيكون الأوّل أيضا ، أظهر فيجب ترجيحه المقتضي لنفي احتمال النسخ.

وربّما استدلّ أيضا بما استفاض من الروايات : بأنّ حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ص: 212

وفيه : من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ هذه الروايات إنّما سيقت لبيان استمرار شريعة محمّد صلى اللّه عليه وآله إلى يوم القيامة ، على معنى أنّها لا تنقطع بشرع نبيّ آخر ، حيث لا نبيّ بعد خاتم النبيّين صلى اللّه عليه وآله ، ولذا لا يفهم تعارض بينها وبين أدّلة وقوع النسخ في موارد مخصوصة ، وعليه فيكون المجموع من الناسخ والمنسوخ من شريعة محمّد صلى اللّه عليه وآله ، ومعنى استمراره : إنّ الأمر الدائر بين الناسخ والمنسوخ حكم مستمرّ إلى يوم القيامة.

وأضعف منه التمسّك باستصحاب عدم النسخ ، فإنّ مرجع الكلام في الترجيح في باب تعارض الأحوال إلى إحراز دلالة الخطاب ، والاستصحاب من الاصول العمليّة الّتي اخذ في موضوعاتها انتفاء الدلالة رأسا.

ولا ريب أنّ ما احذ في موضوعه انتفاء الدلالة لا يصلح محرزا للدلالة ، فالوجه في الترجيح هو ما بيّنّاه من الوجوه الثلاث.

5 - تعارض التخصيص والتقييد

وخامستها : تعارض التخصيص والتقييد ، الّذي مرجعه إلى تعارض العموم والإطلاق كما في قوله : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفاسق » مثلا ، لتعارضهما في مادّة الاجتماع وهو « العالم الفاسق » فلا بدّ من تصرّف إمّا بتخصيص العامّ أو تقييد المطلق ، والأرجح هاهنا هو التقييد كما ذكره الاصوليّون ، لقاعدة الإلحاق الملحقة للمشتبه بالأعمّ الأغلب ، لغلبة التقييد بحسب الوقوع الخارجي على التخصيص ، كما ربّما يفصح عنه كون المطلقات أكثر بمراتب شتّى من العمومات الّتي ليس لها إلاّ صيغ مخصوصة.

وبالجملة : العمومات مقصورة على ألفاظ مخصوصة ولا كذلك المطلقات ، فإنّها بغاية كثرتها كغير المحصور ، فتأمّل.

هذا مضافا إلى أنّ العامّ بنفسه أظهر في العموم من المطلق في الإطلاق ، ولك أن تأخذ غلبة التقييد بالنظر إلى التخصيص جهة لتقوية ظهور العامّ وتوهين ظهور المطلق ، وأيّا ما كان فالواجب اختيار التقييد ترجيحا للأظهر على الظاهر.

وقد يستدلّ بناء على ما حقّقه سلطان العلماء من كون التقييد حقيقة ، بأنّ

ص: 213

الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان والعامّ بيان ، فإنّ عدم بيان التقييد جزء من مقتضى الإطلاق ، وبيان التخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم ، فإذا رفعنا المانع عن العموم بالأصل والمفروض وجود المقتضى له يثبت بيان التقييد ، وارتفع المقتضى للإطلاق ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي.

ويزيّفه : إنّ بيان التخصيص في العامّ وإن كان مانعا ، إلاّ أنّ عدم المانع هنا جزء من مقتضى ظهور العامّ في العموم ، فإنّ ظهور العامّ في العموم إنّما هو من باب أصالة الحقيقة بمعنى ظهور الحقيقة.

وقد عرفت أنّ ظهور الحقيقة في موارد أصالة الحقيقة ، معلّق على تجرّد اللفظ عن قرينة المجاز ولو بحكم الأصل ، فالتجرّد الّذي هو في العامّ ، عبارة عن عدم بيان التخصيص ولو بحكم الأصل جزء من مقتضى العموم ، فيكون كلّ من العامّ والمطلق من هذه الجهة دليلا تعليقيّا ، مع أنّ جريان الأصل النافي لاحتمال التخصيص مع قيام احتمال التقييد فيما يصلح له الّذي ينفيه الأصل أيضا مشكل.

فالوجه أن يقال : إنّ ظهور العامّ في العموم وضعي وظهور المطلق في الإطلاق عقلي ، بناء على مذهب السلطان ، فإنّ أخذ الخصوصيّة مع الماهيّة في لحاظ جعل الحكم لا يلازم أخذها في لحاظ الاستعمال.

وقضيّة ذلك : أن لا يكون أصالة الحقيقة المحرزة لحال الاستعمال في المطلق منافية لتقييد الماهيّة في لحاظ الجعل ، لكنّ المتكلّم لمّا ترك بيان التقييد وسكت عن ذكر القيد في مقام البيان حكم العقل بكون المأخوذ في لحاظ الجعل أيضا هو الماهيّة المطلقة ، لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل بإرادة الماهيّة المقيّدة بالخصوصيّة من غير بيان ، والظهور الوضعي وارد على الظهور العقلي ، لأنّ حكم العقل بالإطلاق إنّما هو حيث لم يقابل المطلق ظهور ولا عامّ ، فيبقى ظهور العامّ سليما عن المعارض وينهض بذلك بيانا للتقييد ، فالمطلق دليل تعليقي بهذا المعنى لا بالمعنى المتقدّم.

نعم على مذهب بعض الأعلام (1) في التقييد من كونه تجوّزا في المطلق

ص: 214


1- والمراد منه صاحب القوانين رحمه اللّه.

لا محالة ، كان كلّ من ظهوري العامّ والمطلق وضعيّا يحصل من باب أصالة الحقيقة ، فسقط معه التمسّك في الترجيح بقاعدة الورود ، وتعيّن الاستناد إلى الوجهين الأوّلين.

ثمّ عموم العامّ المقابل للتخصيص فيما يحتمله قد يثبت بغير الوضع ، كالثابت بدليل الحكمة ، أو بقاعدة السريان في مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) أو بقاعدة الامتنان ، أو بقاعدة ورود الخطاب مورد إعطاء ضابط كلّي ، وغير ذلك من القرائن الكلّية أو الجزئيّة المثبتة للعموم فيما ليس بعامّ وضعا ، والظاهر بملاحظة إطلاق الاصوليّين ترجيح التقييد على التخصيص عدم الفرق بين تعارض الإطلاق والعموم الوضعي وتعارضه والعموم الغير الوضعي ، وكأنّ مستنده الغلبة المحرزة لقاعدة الإلحاق.

كما أنّ قضيّة إطلاقهم أيضا في الترجيح بالنسبة إلى التقييد ، عدم الفرق فيه بين كون محلّ التقييد المحتمل هو المطلق ، بمعنى ما دلّ على الماهيّة من حيث هي ، وكونه المطلق بمعنى ما دلّ على الفرد المنتشر كالنكرة وما بمعناها.

6 - تعارض التخصيص والإضمار

وسادستها : تعارض التخصيص والإضمار ، كما في قوله عليه السلام : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » (2) فإنّ صحّة انعقاد النفل بالنيّة المتأخّرة عن الليل إلى الزوال - بل ما بعده أيضا - يقضي بتخصيص العامّ بما عدا النفل ، أو إضمار ما يرجع إليه ممّا عدا الصحّة كالكمال والفضيلة ، وحيث ثبت رجحان التخصيص على المجاز لشيوعه وغلبة وقوعه ، قضى ذلك برجحانه على الإضمار المعادل له ، بعين ما ذكر مع أظهريّة الخطاب في عدم الإضمار بنفسه من العامّ في العموم ، كما هو واضح.

7 - تعارض التخصيص والنسخ

وسابعتها : تعارض التخصيص والنسخ ، وإنّما يتأتّى ذلك في العامّ والخاصّ المتنافيي الظاهر ، وتفصيل القول في أحكامهما موكول إلى محلّه ، إلاّ أنّ مجمل القول في هذا التعارض إنّه مفروض فيما إذا لم يكن هناك احتمال آخر غير

ص: 215


1- البقرة : 275.
2- سنن الدار قطني 2 : 171 / 1 وفيه : عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : لا صيام لمن يبيّت الصيام من الليل.

التخصيص والنسخ ، أو إنّ الكلام في علاج هذا التعارض من حيث إنّه واقع بين الأمرين مع قطع النظر عن احتمال آخر ، من غير فرق في ذلك بين تقدّم الخاصّ على العامّ كما لو قال : « لا تكرم زيدا العالم » ثمّ قال : « أكرم العلماء » أو تأخّره عن العامّ كما في المثال إذا قال : « لا تكرم زيدا العالم » بعد قوله : « أكرم العلماء ».

أمّا الأوّل : فمرجع التعارض فيه إلى دوران الأمر بين نسخ الخاصّ أو تخصيص العامّ ، على معنى تعدّد موردي المتعارضين ، وشرطه تأخّر ورود العامّ عن حضور وقت العمل بالخاصّ ، فيرجّح التخصيص لشيوعه وغلبة وقوعه ، مضافا إلى كون الخاصّ أظهر في دوام الحكم واستمراره من العامّ في العموم الأفرادي ، مع أنّ مرجع هذا التعارض - عند التحقيق - إلى تعارض ظهور واحد لظهورين ، ظهور كلّ من الخطابين في استمرار حكمه من بدو الشريعة إلى يوم القيام ، والقول بالنسخ طرح لكلا الظهورين كما لا يخفى ، بخلاف القول بالتخصيص فإنّه طرح لظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وظاهر إنّ هذا الظهور لا يكافئ أحد الظهورين المذكورين فضلا عن كليهما ، فلا ينبغي طرحهما بظهور واحد.

وأمّا الثاني : فمرجع التعارض فيه إلى الدوران بين التخصيص والنسخ في العامّ على معنى وحدة مورديهما ، وشرطه اشتباه حال الخاصّ من حيث تأخّره عن حضور وقت العمل بالعامّ أو تقدّمه عليه ، فيرجّح التخصيص أيضا لعين ما ذكر ، ولا سيّما لزوم طرح ظهورين باختيار النسخ.

وأمّا مع العلم بتقدّم ورود الخاصّ على حضور وقت العمل بالعامّ ، كما لو علم بتقدّم ورود العامّ على حضور وقت العمل بالخاصّ ، فالمتعيّن فيه التخصيص لاستحالة النسخ حينئذ ، حذرا عن البداء المحال على اللّه تعالى.

وأمّا مع العلم بتأخّر الخاصّ عن حضور وقت العمل بالعامّ فربّما يشكل الحال بالنظر إلى بعض الصور ، فإنّه قد يكون بحيث علم من الخارج بكون تكليف السابقين المخاطبين بالعامّ ظاهرا وواقعا هو العمل بعموم العامّ ، ولا إشكال حينئذ في تعيّن النسخ.

ص: 216

وقد يكون بحيث علم من الخارج بكون تكليفهم ظاهرا وواقعا هو العمل بالخاصّ ، وإنّما يصحّ ذلك إذا انكشف - ولو من ملاحظة ورود الخاصّ - قرينة كانت مع العامّ حين وروده أفادت إرادة الخصوص من العامّ واختفت علينا ، فلا إشكال حينئذ في كون ورود الخاصّ من باب التخصيص ، بل الكاشف عن وجود المخصّص مع العامّ.

وقد يكون بحيث علم بكون تكليفهم ظاهرا هو العمل بالعموم وواقعا هو العمل بالخصوص.

وإنّما يصحّ ذلك إذا كانت هناك مصلحة اقتضت إخفاء هذا الحكم إلى زمان ورود الخاصّ ، فيكون وروده حينئذ بالنظر إلى التكليف الظاهري من باب النسخ وإن كان إطلاق النسخ على نحو ذلك لا يخلو عن مسامحة ، وبالنظر إلى التكليف الواقعي من باب التخصيص.

وقد يكون بحيث لم يتبيّن شيء من ذلك وهذا هو محلّ الإشكال ، ومرجعه إلى التعارض بين الظهورات الثلاث ، ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وظهور الخطاب في كون مؤدّاه هو تكليف المخاطبين ظاهرا وواقعا ، وظهوره في دوام ذلك الحكم واستمراره ، وأظهر موارد هذا الإشكال العمومات الواردة في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الوصيّ أو بعض الأئمّة عليهم السلام المقابلة للخصوصات الواردة بعد انقضاء مدّة عن باقي الأئمّة ، فيدور الأمر فيها بين نسخ الحكم الواقعي عن بعض أفراد العامّ ، أو كشف الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية ، أو كون المخاطبين بالعامّ مكلّفين ظاهرا بالعمل بالعموم وواقعا بالخصوص المراد من العامّ في الواقع.

لكن احتمال النسخ ينفى ببعده وقلّة وقوعه ، مضافا إلى استلزامه طرح ظهور كلا الخطابين في استمرار مفاديهما من أوّل الشريعة إلى آخرها ، فإنّ النسخ يوجب عدم استمرار حكم العامّ إلى آخر الشريعة ، كما يوجب عدم استمرار حكم الخاصّ من أوّل الشريعة ، إلاّ أن يمنع ظهوره في ثبوت حكمه بالنسبة إلى ما قبل صدوره ، أو يفرض بحيث لم يكن ظاهرا فيه.

ص: 217

وكيف كان : فيبقى الخاصّ بعد نفي احتمال النسخ مردّدا بين الكشف والتخصيص ، والنظر في ترجيح أحد هذين الوجهين ممّا لا يرجع إلى طائل ، حيث إنّ تكليفنا اليوم ظاهرا وواقعا هو العمل بالخاصّ ، والمفروض إنّ تكليف السابقين المخاطبين بالعامّ واقعا أيضا هو العمل به ، غير إنّه يبقى الشبهة في أنّ تكليفهم ظاهرا أيضا كان هو العمل به أو العمل بالعامّ ، وقد اختفى عليهم الحكم الواقعي لمصلحة ، وهذا شيء لا يترتّب على تحقيقه بالنسبة إلينا فائدة مهمّة ، ولا يتفرّع عليه ثمرة عمليّة ، فلا داعي إلى الخوض في تحقيقه.

مع أنّه قد يقال : إنّ الكشف واختفاء القرائن المخصّصة للعمومات حين ورودها ممّا يبعّده عادة ، بل يستحيله عموم البلوى بها علما وعملا ، وهو يقضي بعدم اختفائها لو كانت مع العمومات مع إمكان دعوى العلم بعملهم بالعمومات وعدم علمهم بقرائن معها ، بل المعلوم جهلهم بها.

وقضيّة ذلك تعيّن التخصيص ، ولا بعد فيه أصلا كما لا مانع عنه عقلا ولا شرعا ، إذ كما يجوز رفع مقتضى البراءة الأصليّة الثابتة بحكم العقل ببيان التكليف الإلزامي على التدريج ، على ما هو معلوم من سيرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله في تبليغ الأحكام مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ، فكذلك يجوز ورود التخصيص والتقييد ببيان ما يخصّص العمومات ويقيّد المطلقات الواردتين في أوائل البعثة على التدريج ، مع كون الحكم الظاهري للسابقين العمل بعمومها وإطلاقها ، لاقتضاء المصلحة إخفاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى بعض أفراد العامّ والمطلق عليهم وعلى من يضاهيهم إلى زمان ورود بيان التخصيص أو التقييد ، من غير فرق فيه بين كون الحكم الظاهري المعلّق على العامّ أو المطلق الترخيص في فعل شيء أو تركه ، المستلزم لكون الحكم الواقعي في بعض الأفراد التكليف الإلزامي بالترك أو الفعل مع اختفائه لمصلحة ، أو كونه التكليف الإلزامي بفعل أو ترك لمصلحة في أصل التكليف مع كون الحكم الواقعي هو الترخيص في الترك أو الفعل ، وقد اختفى عليهم للمصلحة المذكورة.

ص: 218

ودعوى الفرق بين إخفاء التكليف الفعلي وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك عملا بمقتضى البراءة الأصليّة ، وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام الواقعي أو ترك الواجب الواقعي تحكّم ، وإن حصل الفرق بينهما بكون الأوّل من باب عدم البيان والثاني من باب بيان العدم ، وهذا ممّا لا قبح فيه بعد مساعدة المصلحة عليه ، بل المستفاد من تتبّع الأخبار - كما هو الظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرائن المخرجة عنها - إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله نصب وصيّه عليه السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه أو أهمله ، أو أطلق أو أهمل في الكتاب العزيز وأودعه علمه ، وكذا الوصيّ بالقياس إلى من بعده من الأوصياء عليهم السلام ، فبيّنوا ما رأوا المصلحة في بيانه ، وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه ، بل ربّما يستظهر تقرير النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو وصيّه للسابقين على العمل بعموم العمومات وإطلاق المطلقات مع كون الواقع في بعض الأفراد خلافه ممّا ورد في خطبة له صلى اللّه عليه وآله يوم الغدير ، من قوله صلى اللّه عليه وآله : « معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (1) مع ملاحظة أنّ كثيرا ممّا بيّنه صلى اللّه عليه وآله كان مودّعا عند الأوصياء مخفيّا على السابقين.

هذا كلّه فيما لو تأخّر ورود الخاصّ عن حضور وقت العمل بالعامّ ، من دون تبيّن حال العامّ من حيث العمل به وعدمه.

وأمّا لو تأخّر عن العمل بالعامّ أيضا ، مع تأخّره عن حضور وقت العمل به فسقط عنه احتمال الكشف ، وبقي مردّدا بين النسخ والتخصيص المبيّن للحكم الواقعي الوارد على خلاف الحكم الظاهري ، الّذي تعبّد به السابقون بمقتضى العامّ ، لكنّ النسخ أيضا ينتفي بما تقدّم ويتعيّن التخصيص.

8 - 9 - 10 - تعارض التقييد والإضمار أو النسخ وتعارض الإضمار والنسخ

وثامنتها مع تاسعتها وعاشرتها : تعارض التقييد والإضمار أو النسخ ، وتعارض الإضمار والنسخ ، ففي الاولى والثانية يرجّح التقييد ، وفي الثالثة يرجّح

ص: 219


1- المحاسن : 278.

الإضمار ويظهر الوجه في الجميع بملاحظة ما مرّ ، كما يظهر أمثلة هذه الصور بالتأمّل.

وقد يمثّل للتقييد والإضمار بقوله عليه السلام : « الصلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر » (1) نظرا إلى عدم جواز التعدّي عن الموظّف من الفرض لا تقليلا ولا تكثيرا ، فإمّا أن يقيّد الصلاة بالنفل أو يضمر النافلة عقيب قوله : « استقلّ ».

وللإضمار والنسخ بقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (2) مع ملاحظة وجوب تطهير ما باشره الكلب ، فعلى تقدير إطلاق الآية بالقياس إلى موضع العزّ إمّا أن يضمر ما يفيد خروجه عن الإطلاق ، أو يلتزم بنسخ مقتضى الإطلاق بالنسبة إلى هذا الموضع.

ص: 220


1- معاني الأخبار : 333.
2- المائدة : 4.

تعليقة : في تعارض العرف واللغة

اشارة

- تعليقة -

بقي من مسائل الدوران عدّة مسائل ، عمدتها مسألتان :

المسألة الاولى

في تعارض العرف واللغة

ففي تقديم العرف لقاعدة الإلحاق المقرّرة تارة : بأنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني العرفيّة فيلحق به المشتبه.

واخرى : بأنّ الغالب في المعاني العرفيّة العامّة ثبوتها من قديم الأيّام فيلحق به المشتبه ، كما عن الشيخ والعّلامة والشهيدين والبيضاوي ، وربّما عزى إلى الشهرة ، أو تقديم اللغة كما عن بعضهم لأصالة عدم النقل ، أو الوقف لتكافؤ الاحتمالين مع فقد ما يصلح مرجّحا لأحدهما ، وجوه بل أقوال.

وقبل الخوض في البحث ينبغي أن يعلم : أنّ السرّ في وقوع التعارض بين العرف واللغة ، هو إنّه قد علم في مباحث أصالة الحقيقة إنّ الأصل في اللفظ الّذي تميّز حقيقته عن مجازه ، ولم يعلم المراد منه وتجرّد عن قرينة المجاز ، أن يحمل على حقيقته.

وقضيّة ذلك الأصل حمل اللفظ الوارد في خطاب الشرع الحاوي للشروط المذكورة على معناه الحقيقي ، وقد يشتبه مورد ذلك الأصل باعتبار كون اللفظ الوارد في الخطاب ممّا ثبت له في اللغة معنى وفي العرف معنى آخر ، فاشتبه

ص: 221

حقيقة زمان الشارع هل هو المعنى اللغوي ليحمل عليه اللفظ المذكور بمقتضى أصالة الحقيقة ، أو هو المعنى العرفي ليحمل عليه بمقتضى أصالة الحقيقة أيضا ، فالمقصود من الترجيح من جهة أصل أو قاعدة تشخيص حقيقة زمان الشارع ، ليعمل فيه بأصالة الحقيقة.

ثمّ إنّ اللغة في كلام الاصوليّين قد تطلق على المعاني المثبتة من الواضع مهجورة كانت أو باقية ، وقد تطلق على المعاني المودّعة في كتب اللغة أصليّة كانت أو متجدّدة ، وبذلك يعلم أنّ النسبة بينهما عموم من وجه يجتمعان في الأصليّة المودّعة في كتب اللغة ، وفي كون المراد باللغة المقابلة للعرف في محلّ البحث هو المعنى الأوّل أو المعنى الثاني أو ما يعمّهما وجوه ، لم نقف في كلماتهم على ما يرشد إلى أحدها على التعيين ، وإن كان التمسّك لتقديم اللغة بأصالة عدم النقل ربّما يومئ بظاهره إلى إرادة الأوّل ، فاللازم حينئذ في مقام الترجيح فرض التعارض تارة بين العرف واللغة بالمعنى الأوّل ، واخرى بينه وبين اللغة بالمعنى الثاني.

لكن على الأوّل ينبغي القطع بخروج المهجورة من اللغة قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب ، والباقية منها إلى ما بعد زمان الشرع أو ما بعد صدور الخطاب عن موضوع المسألة ، لأنّه يتبيّن بحكم الفرض عدم كونه في الصورتين الاوليين حقيقة زمان الشارع ، كتبيّن كونه في الصورتين الاخريين حقيقة زمان الشارع ، فلا اشتباه في الفرضين معا.

كما أنّه على الثاني ينبغي القطع بخروج الثابتة من اللغة قبل زمان الشارع أو قبل صدور الخطاب ، والمتجدّدة منها بعد زمان الشارع أو بعد صدور الخطاب عن المتنازع فيه ، لتبيّن كون الأوّلين من حقيقة زمان الشارع ، وعدم ، كون الأخيرين منها ، فموضوع المسألة من كلّ من المعنيين ما شكّ في وجوده في زمان الشارع ، على معنى الشكّ في كون حقيقة زمان الشارع هو هذا أو غيره من المعنى العرفي.

وأمّا العرف ، فالمراد به هاهنا المعاني الموجودة في العرف العامّ المتداولة

ص: 222

في استعمالات أهل اللسان ، أصليّة كانت أو ثابتة من قديم الأيّام أو قبل الشرع ، أو قبل صدور الخطاب أو متجدّدة بعد الخطاب أو بعد الشرع ، وموضوع المسألة من ذلك ما كان من المتجدّدة وشكّ في بدو زمان تجدّده ، هل تجدّد قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب أو بعدهما.

وربّما يشكل الحال في فرض التعارض بينه وبين اللغة بالمعنى الثاني ، باعتبار اتّحاد جهة الشكّ فيهما ، فإنّ الجهة المقتضية للشكّ فيها أيضا هي أنّ المعنى اللغوي المذكور في كتب اللغة هل هو من المعاني الأصليّة أو من المتجدّدة ، تجدّد قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب أو بعدهما.

ويدفعه : بعد منع اتّحاد جهة الشكّ فيهما مطلقا ، لقيام احتمال كون المعنى من المعاني الأصليّة في اللغة دون العرف ، إنّ مرجع التعارض بينهما إلى تعارض العرفين ، العرف القريب من زمان الشارع والبعيد منه ، لكون ما في كتب اللغة من العرف القريب ، فإنّها إنّما دوّنت بعد زمن الشارع في عصر الصادقين عليهما السلام إلى عهد العسكري سلام اللّه عليه.

والسّر في التعارض إنّه لا يدرى أنّ حقيقة زمان الشارع هل هو المعنى اللغوي أو العرفي المتأخّر.

ومن هنا ربّما يمكن فرض وقوع التعارض بين العرف واللغة بالمعنى الأوّل واللغة بالمعنى الثاني ، في لفظ ثبت له معنى في صدر اللغة ومعنى آخر في كتب اللغة ومعنى ثالث في العرف ، على وجه دار حقيقة زمان الشارع بين هذه الثلاث.

ومن الأعاظم (1) من جعل العرف في محلّ النزاع أعمّ من قسميه العامّ والخاصّ ، ولعلّ مراده بالعرف الخاصّ المعارض للّغة طائفة خاصّة من أهل اللسان غير أرباب الفنون والصناعات في مصطلحاتهم المتجدّدة بعد الشرع ، كأن

ص: 223


1- إشارات الاصول : 37 ( الطبعة الحجريّة ) حيث قال : « ويمكن دفعه : بأنّ المراد بالعرفيّة هنا غير ما ذكروه ثمّة وهي ما يستفاد منه المعنى في العرف مطلقا وإن كان المعنى أصليّا فهي أعمّ من اللغويّة من وجه ... ».

يكون لفظ ثبت له لغة معنى وعند الطائفة المذكورة من أهل اللسان معنى آخر ، بحيث احتمل كون حقيقة زمان الشارع هو الأوّل واحتمل كونها الثاني ، وإلاّ فالخطابات الشرعيّة لا تنزّل على الامور الاصطلاحيّة بالبديهة.

وإذا تمهّد هذا كلّه ، فاعلم : أنّ ما تقدّم عن أهل القول بتقديم العرف من التمسّك بالغلبة ، واضح الضعف بكلّ من تقريريها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّه كما أنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني العرفيّة ، كذلك الغالب في المعاني العرفيّة كونها المعاني اللغويّة الأصليّة.

ونتيجة الغلبتين أنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني اللغويّة ، فنحو هذه الغلبة لا ينتج تقديم العرف ، إلاّ أن يراد بالغلبة ما هو كذلك في محلّ التعارض فتسلم عن هذه المناقشة ، إلاّ أنّه يتطرّق المنع إلى دعوى أصل هذه الغلبة.

وأمّا على التقرير الثاني : فلأنّ نحو هذه الغلبة موجودة في اللغة بكلّ من معنييها ، إذ كما أنّ الغالب في المعاني العرفيّة ثبوتها قبل الشرع ، كذلك الغالب في المعاني الأصليّة بقاؤها إلى زمان الشارع وما بعده ، والغالب في المعاني المودّعة في كتب اللغة ثبوتها قبل الشرع ، فالغلبة في كلّ معارضة بمثلها في الآخر.

ويمكن المناقشة في الحجّة المتقدّمة للقول بتقديم اللغة - وهي أصالة عدم النقل أيضا - بأنّه إن اريد بها إثبات عدم النقل المطلق الّذي مرجعه إلى نفي حدوث النقل رأسا.

ففيه : إنّه بالنسبة إلى اللغة بالمعنى الأوّل منتقض بيقين حدوث النقل لا محالة ، فإنّ مخالفة العرف للّغة لا جهة لها إلاّ نقل اللفظ في العرف عن معناه اللغوي إلى المعنى العرفي ، وبعد تيقّن حدوث النقل لا يمكن نفيه بالأصل.

نعم إنّما الشكّ في بدو حدوثه ، وهو ليس من مجرى أصالة عدم النقل بالمعنى المذكور.

ص: 224

وإن اُريد بها إثبات عدم النقل المقيّد ، وهو المغيّي إلى غاية العلم بحدوثه وهو ما بعد زمان الشرع.

ففيه : إنّه بهذا المعنى لا يجري في اللغة بالمعنى الثاني ، لأنّ كون اللفظ للمعنى اللغوي المذكور في كتب اللغة في صدر اللغة غير ثابت ، حتّى يحكم به من جهة الأصل إلى ما بعد زمان الشارع الّذي هو زمان حصول اليقين بحدوث النقل ، وتخصيص محلّ البحث باللغة بالمعنى الأوّل بعيد ، إلاّ أن يوجّه الأصل المذكور بأنّ المقصود من التمسّك به نفي حدوث صفة النقل في هذا اللفظ مع قطع النظر عن كونه في صدر اللغة لهذا المعنى وعدمه.

بتقريب : أنّ اللفظ كان له في صدر اللغة معنى لا محالة ، وإنّه ممّا لم يعرضه النقل في صدر اللغة جزما ، وإنّ كونه للمعنى العرفي إنّما هو من جهة النقل لا محالة ، وهذا النقل الحادث فيه جزما يشكّ في بدو زمان حدوثه ، فيحكم من جهة الأصل بعدم حدوثه - المتيقّن في صدر اللغة - حتّى ينتهي إلى زمان العلم بحدوثه ، وهو ما بعد زمان أهل اللغة المدوّنين لكتبها.

وقضيّة ذلك كون حقيقة اللفظ من صدر اللغة إلى زمان الشارع وما بعده إلى زمان أهل اللغة هو هذا المعنى المودّع في كتبهم ، وإنّما نقل عنه بعد زمانهم إلى المعنى العرفي ، فالأصل المذكور بعد هذا التوجيه يتساوى نسبة جريانه إلى اللغة بالمعنيين ، ويعضده بالقياس إليها بالمعنى الثاني أصالة عدم تعدّد النقل ، الّذي كان يلزم على تقدير تقديم العرف المقتضي لكون حقيقة زمان الشارع هو المعنى العرفي ، لأنّه يستلزم حينئذ نقل اللفظ تارة بعد زمان الشارع عن هذا المعنى إلى ما كان حقيقة فيه في زمان أئمّة اللغة.

واخرى بعد زمانهم إلى المعنى العرفي الّذي كان حقيقة فيه في زمان الشارع ، والمتيقّن حدوثه إنّما هو نقل واحد والزائد مشكوك فيه ، فيدفع بالأصل.

وهذا أيضا كأصالة عدم النقل بالمعنى المتقدّم ممّا يرجّح تقديم اللغة بالمعنى الثاني ، كما أنّ أصالة عدم النقل بانفرادها ترجّح تقديم اللغة بالمعنى الأوّل.

ص: 225

فبجميع ما قرّرناه يعلم أنّ القول بتقديم اللغة مطلقا قويّ ، لقوّة دليله وهو الأصل ، بل الأصلان بالنسبة إلى اللغة بالمعنى الثاني ، ويؤيّدهما امور اخر :

منها : الاعتبار القاضي بأولويّة حمل كلام الشارع على العرف الأقرب إلى زمانه من حمله على العرف الأبعد من زمانه ، ووجه الأولويّة : كون احتمال مخالفة عرف زمان الشارع لعرف أهل اللغة أضعف من احتمال مخالفته للعرف المتأخّر كما هو واضح.

ومنها : كون المعاني المودّعة في كتب اللغة لغات باقية مستمرّة من زمان الشارع إلى زمان أهل اللغة ، وأمّا المهجورة منها فيما بين الزمانين فقليلة جدّا ، وظاهر إنّ المظنّة مع الكثرة والغلبة.

ومنها : ما اشتهر من أنّ الغرض الأصلي من تدوين اللغة وجمعها وضبطها هو أن يكون الكتب المؤلّفة فيها مرجعا للعلماء في فهم الكتاب والسنّة ، وحلّ ما فيهما من الألفاظ الغريبة واللغات المشكلة ، كما يعلم من تصريحات القوم وتلويحاتهم ، ويشهد به أيضا أسامي كثير من تلك الكتب المناسبة لما ذكر « كمجمع البحرين » و « الغريبين » و « غرائب القرآن » ونحوه.

وقضيّة ذلك كون المعاني المثبتة فيها هي المعاني المفهومة منها حال صدور الخطاب ، فإنّ الغرض المذكور إنّما يتأتّى على هذا التقدير.

ومنها : ما قيل من أنّه لو كان هذا المعنى مسبوقا بوضع آخر مهجور لوجب تقديمه أيضا لكونه عرفيّا بالنظر إلى المعنى الأوّل.

وقد اعترفتم بأنّ طريقة الشارع في مخاطباته ومحاوراته هي طريقة العرف دون اللغة ، فما أسّسه المشهور من الأساس على تقديم العرف لو تمّ إنّما يقضي بتقديم ما في كتب اللغة على العرف لما تقدّم ، وإن كان بالقياس إليه لغويّا.

هذا كلّه مع ضعف مستند المشهور إذ ليس لهم إلاّ وجوه :

منها : ما تقدّم مع وجه ضعفه.

ص: 226

ومنها : الاستقراء بتقرير آخر ذكره بعض الأعاظم (1) وهو ندرة النقل في العرف العامّ بعد الشرع ، فيلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

وفيه : مع أنّه لا يجري في مقابلة اللغة بالمعنى الثاني ، إنّه معارض بمثله لندرة ما لم يستمرّ من المعاني اللغويّة إلى زمان الشارع ، فيلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

ومنها : الشهرة حسبما تقدّم من كون تقديم العرف هو المشهور ، وهي إن لم تفد العلم فلا أقلّ من إفادتها الظنّ وهو حجّة في اللغات.

وفيه : إنّ الشهرة مع فساد المستند لا تفيد الظنّ فضلا عن عدم إفادتها العلم.

ومنها : بعد مخالفة عرف الشارع لهذا العرف ، مع أنّه لم يمض بينهما إلاّ قليل من الزمان ، والمخالفة المنبئة عن النقل تحتاج إلى مضيّ زمان طويل.

وفيه : مع أنّ مخالفة عرف الشارع لعرف أئمّة اللغة أبعد ، لما عرفت من كونه أقرب العرفين إليه ، وإنّ مجرّد الاستبعاد لا ينهض حجّة على الخصم ، مع قلّة الزمان المتخلّل بين زمان الشارع والعرف العامّ.

ولو سلّم فالبعد المتوهّم يرتفع بفرض كون النقل تعيّنيّا كما هو الغالب في المنقولات ، مع سبق الاستعمالات المجازيّة البالغة حدّ الكثرة على زمان الشارع واستمرارها إلى زمانه ، حتّى بلغت بعد زمانه حدّا أوجب النقل وتعيّن اللفظ للمعنى العرفي المفروض كونه مجازيّا في زمان الشارع وما قبله.

ومنها : طريقة العرف وقاطبة أهل اللسان حيث تراهم أنّهم لا يزالون يحملون كلام الشارع على ما هو المتعارف عندهم من دون فحص عن اللغة ، وبحثهم عن مخالفة متعارفهم لما هو المثبت في الكتب ، فلو كان احتمال تقديم اللغة ممّا يعتنى به عندهم لما أهملوا في أمر الفحص ، ولما تركوه بالمرّة.

وفيه : إنّ عدم التزامهم بالفحص والبحث إنّما هو لما ارتكز في أذهانهم من

ص: 227


1- إشارات الاصول : 37 ( الطبعة الحجريّة ).

غلبة المطابقة بين العرف واللغة ، وإنّ النادر ممّا لا يلتفت إليه في محلّ الشكّ ، وهذا بمجرّده لا يقضي باستقرار طريقتهم على تقديم العرف في محلّ تبيّن المخالفة كما لا يخفى.

ودعوى استقرارها على حمل الخطاب على متعارفهم حتّى مع تبيّن المخالفة ، ممّا لم نقف على شاهد عليه كما لا يخفى ، وبجميع ما عرفت يظهر لك ضعف مستند الوقف.

تعارض عرفي المتكلّم والمخاطب

المسألة الثانية

تعارض عرفي المتكلّم والمخاطب

المعبّر عنه تارة بتعارض عرفي الراوي والمرويّ عنه. واخرى بتعارض عرفي السائل والمسؤول ، كما في لفظ ثبت له معنى عند طائفة من أهل اللسان ومعنى آخر عند طائفة اخرى ، ووقع المخاطبة به بين متكلّم هو من إحدى الطائفتين ومخاطب هو من الطائفة الاخرى ، ومثّل في الكتب الاصوليّة « بالرطل » الوارد في رواية ابن أبي عمير (1) الواردة في تحديد الكرّ بألف ومائتي رطل ، باعتبار أنّ « الرطل » مقول بالاشتراك على العراقي وهو مائة وثلاثون درهما ، والمدني وهو مائة وخمسة وتسعون درهما ، مع وقوع التخاطب به في الرواية بين أبي عبد اللّه عليه السلام الّذي هو من أهل المدينة ، وابن أبي عمير الّذي هو من أهل الكوفة ، فيتعارض فيه العرفان.

وفي كون هذا التعارض باعتبار دوران اللفظ بين حقيقته ومجازه ، بتقريب : إنّ حقيقة اللفظ الّذي استعمله المتكلّم إنّما هو مصطلحه لأنّه معناه الموضوع له عنده ، بخلاف مصطلح المخاطب فإنّه خلاف المعنى الموضوع له عنده فيكون مجازا للّفظ المفروض ، كما يقتضيه احتجاج بعض القائلين بترجيح عرف المتكلّم بأنّ

ص: 228


1- الكافي 3 : 3 الطهارة ب 2 ح 6 ، التهذيب 1 : 41 / 113 ، الاستبصار 1 : 10 / 15 ، الوسائل 1 : 167 أبواب الماء المطلق ب 11 ح 1.

الاستعمال المجرّد عن قرينة المجاز يحمل على الحقيقة لأصالة الحقيقة ، وعرف المتكلّم هو الحقيقة عنده فليحمل عليه.

أو باعتبار دورانه بين حقيقتيه ، حقيقته عند طائفة ، وحقيقته الاخرى عند طائفة اخرى.

بتقريب : إنّ الحقيقة هو الاستعمال التابع للوضع - كما يرشد إليه قيد الحيثيّة المأخوذة في تعريف الحقيقة - ولا كلام في وقوع الاستعمال المفروض تبعا لوضع ، لكنّ الوضع المتبوع مردّد بين ما ثبت للفظ في عرف المتكلّم وما ثبت له في عرف المخاطب ، فالاستعمال على أيّ تقدير وقع على وجه الحقيقة كما هو ظاهر أكثر أطراف المسألة ، وجهان أظهرهما الأخير ، لوضوح عدم كون مبنى عقد المسألة على أنّ المتكلّم هل تجوّز في استعماله أو لم يتجوّز؟

وما عرفت من الحجّة فاسد الوضع ، بل على أنّه هل تبع في استعماله عرف نفسه أو عرف مخاطبه؟ وهو نظير البحث المتقدّم في تعارض العرف واللغة باعتبار اشتباه مورد أصالة الحقيقة الّتي عوّل عليها المتكلّم في إفادة ما في ضميره ، فإنّ هذا الاشتباه قد يتأتّى باعتبار اشتباه حقيقة زمان المخاطبة كما في المسألة المتقدّمة ، وقد يتأتّى باعتبار تعدّد الحقيقة في زمان المخاطبة كما فيما نحن فيه ، فمرجع الاشتباه إلى أنّ أصالة الحقيقة الّتي عوّل عليها المتكلّم والمخاطب في تفهيم المراد وفهمه ، هل هي التابعة لعرف المتكلّم أو التابعة لعرف المخاطب؟

ومن طريق هذا البيان يعلم صحّة ما يلوح من بعض الأعاظم (1) من كون المتنازع فيه ما لو علم السائل باصطلاح المتكلّم ، مع علم المتكلّم أيضا باصطلاح السائل ، لأنّه الّذي يمكن تعويل الطرفين على ما يتردّد بين العرفين من أصالة الحقيقة.

ص: 229


1- إشارات الاصول : 20 ( الطبعة الحجريّة ).

وأمّا في غيره كما لو لم يعلم السامع أنّ للمتكلّم اصطلاحا آخر أو لم يعلم المتكلّم أنّ للسامع اصطلاحا آخر فلا يتصوّر التعارض بينهما ، لتعيّن حمله في الأوّل على عرف السامع حذرا عن الإغراء بالجهل.

وفي الثاني على عرف المتكلّم حذرا عن التكليف بالمحال ، لأنّ إرادة ما لا يعلمه المتكلّم من اللفظ محال.

ومرجع الكلام في الترجيح على أنّ الثابت في مجاري العادات والمحاورات عند اختلاف عرفي المتكلّم والمخاطب ، هو أن يعوّلا على أصالة الحقيقة التابعة لعرف المتكلّم مطلقا ، أو على التابعة لعرف المخاطب كذلك ، أو يختلف ذلك باختلاف الموارد أو الألفاظ أو غير ذلك ، فيه خلاف على أقوال فعن السيّد (1) ترجيح عرف المتكلّم مطلقا ، واختاره جماعة من أجلّة الأعلام.

وعن العلاّمة في المختلف (2) ترجيح عرف المخاطب مطلقا ، وقيل بأنّ له تبعة من الأصحاب ، منهم الشهيد الثاني.

وفي كلام محكيّ عن الذخيرة (3) الحكم بأقربيّة عرف بلد التكلّم ، إلاّ أنّه خصّه بالأوزان.

وعن جماعة منهم صاحب المدارك (4) الوقف ، وقد يحكى أقوال اخر كتقديم عرف بلد السؤال إذا وافق عرف السائل ، وتقديمه أيضا إذا وافق عرف المسؤول وتقديمه أيضا إذا وافق عرف أحدهما.

ومن الأجلّة من قسّم المتكلّم والمخاطب بالأقسام الأربعة الآتية ثمّ قطع بتعيين عرف المتكلّم مع جهالة التعدّد مطلقا ، وكذلك تعيين عرف المخاطب مع

ص: 230


1- وهو السيّد المرتضى رحمه اللّه حكى عنه في الذخيرة : 122.
2- مختلف الشيعة 1 : 186 حيث قال - في بحث حدّ الكرّ - : إنّه لا اعتبار ببلدهم عليهم السلام بل ببلد السائل ...
3- الذخيرة : 122 حيث قال : « ... والأقرب أنّ الأوزان إنّما يحمل على بلد السؤال كما لا يخفى على من تتبّع مجاري العادات ... ».
4- مدارك الأحكام 1 : 48.

جهله وعلم المتكلّم بحقيقة الحال ، إذا كان المقام مقام البيان وكان المتكلّم حكيما ، ثمّ قال : ويبقى ما عدا ذلك محتملا لوجوه :

الأوّل : تقديم عرف المتكلّم.

الثاني : تقديم عرف المخاطب.

الثالث : تقديم عرف بلد الخطاب.

الرابع : تقديم عرف المتكلّم إذا وافق عرف بلد الخطاب ، وإلاّ فعرف المخاطب.

الخامس : تقديم عرف المخاطب إذا وافق عرف بلد الخطاب ، وإلاّ فعرف المتكلّم.

السادس : تقديم العرف الموافق لاصطلاح البلد ، سواء كان عرف المتكلّم أو المخاطب.

السابع : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المتكلّم والمخاطب جميعا.

الثامن : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المتكلّم.

التاسع : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المخاطب.

العاشر : التوقّف في جميع ذلك ، ثمّ قال : والأقرب تقديم عرف المتكلّم مطلقا سيّما إذا وافق عرف بلد الخطاب. هذا.

وتحقيق المقام على وجه يتضمّن استيفاء جميع الصور الداخلة في المتنازع فيه ، والصور الخارجة عنه وبيان أحكامها ، أن يقال : إنّ المتكلّم والمخاطب إمّا أن يكونا عالمين بتعدّد العرف ، على معنى كون كلّ عالما باصطلاح صاحبه ، أو جاهلين ، أو المتكلّم عالما والمخاطب جاهلا ، أو بالعكس.

ففي صورة جهلهما معا يتعيّن عرف المتكلّم ، تحمل الخطاب عليه بل لا تعارض في تلك الصورة أصلا ، وإن كان ما فهمه المخاطب غير ذلك ، إذ ليس في قانون اللغة ولا طريقة العرف والعقلاء أن يلزم المتكلّم على إرادة ما لا يعلمه من كلامه لكونها محالا ، فلو فرض وقوع نحو هذه الصورة في خطابات الشرع من

ص: 231

باب فرض المحال ، وجب القطع بتنزيل الخطاب على مصطلح المتكلّم ، ولا يلتفت فيه إلى فهم المخاطب.

ولا ينافيه ما ذكروه من أنّ الواجب على غير الحاضرين المشافهين في إحراز تكاليفهم وموضوعاتها الرجوع إلى فهمهم وتحصيل ما فهموه من الخطابات ، لأنّ اعتبار فهم المخاطب لغيره ليس من باب الموضوعيّة بل إنّما اعتبر على وجه الطريقيّة ، باعتبار أنّه الطريق إلى العلم بمرادات الشارع من خطاباته ، إمّا لأنّه لا طريق إليه في الغالب إلاّ هذا ، أو لما علم من سيرة الشارع وامنائه عليهم السلام أنّهم كانوا يتكلّمون الناس بما يعقلونه ويفهمونه ، كما يشير إليه ما روي من : « أنّ اللّه سبحانه أجلّ من أن يخاطب قوما بخاطب ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » ففهم المخاطب إنّما يؤخذ به على أنّه مراد الشارع من خطابه لا على أنّه فهمه من حيث هو فهمه ، فإذا حصل لنا في بعض الموارد طريق آخر إلى إحراز المراد سقط اعتبار فهم المخاطب ولا حاجة إلى مراعاته.

وبما ذكرناه ظهر حكم ما لو جهل المتكلّم بعرف المخاطب مع علمه بعرف المتكلّم ، فإنّ المتعيّن أيضا عرف المتكلّم لعين ما بيّنّاه ، من غير فرق فيه بين ما لو علم المخاطب بحالة المتكلّم أو جهل بها. إمّا لعدم التفاته أو شكّه أو اعتقاده بالخلاف.

وفي صورة علم المتكلّم بعرف المخاطب مع جهل المخاطب بعرف المتكلّم ، فإن كان مع علمه بعرف المخاطب عالما بحاله وجهله بعرفه ، وجب تقديم عرف المخاطب ، والحكم بأنّ المتكلّم إنّما اتّبع في نحو هذه الصورة عرف المخاطب وأراد من اللفظ مصطلحه لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل القبيح على الحكيم.

لا يقال : إنّ الحكم بلزوم الإغراء بالجهل لولا اتّباع عرف المخاطب هنا إنّما يصحّ لو ثبت أنّ المخاطبة إنّما وقعت في مقام البيان ، وإنّ تكليف المخاطب واقعا وظاهرا إنّما هو مقتضى عرفه ، ويتطرّق المنع إلى كلتا المقدّمتين ، لجواز وقوع المخاطبة في مقام التعمية والإجمال ، أو كون تكليف المخاطب ظاهرا هو مقتضى عرف المتكلّم ، وإنّما أخفى عليه تكليفه الواقعي - وهو مقتضى عرفه - لمصلحةٍ

ص: 232

ولو نحو التقيّة ، لاندفاع كلّ من الاحتمالين المذكورين في منع المقدّمتين بالأصل والظهور.

أمّا دفع الاحتمال الأوّل : فلأنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم وروده في مقام البيان ، لغلبة البيان في خطابات المتكلّمين جنسا ونوعا وصنفا ، حسبما قرّر في محلّه.

ومن الظاهر إنّ المشتبه يلحق بالغالب ، هذا مضافا إلى ظهور السؤال في كلّ خطاب سبقه السؤال في وقوعه في مقام الحاجة المساوق لمقام البيان.

وأمّا دفع الاحتمال الثاني ، فأوّلا : بأنّ الأصل في كلّ كلام كون مضمونه تكليف المخاطب ظاهرا وواقعا ، على معنى ظهوره فيه ، فلا يعدل عنه لمجرّد الاحتمال المرجوح.

وثانيا : بأنّ هذا الاحتمال ممّا لا يتمشّى في نحو المقام ، إذ الإغراء بالجهل كما يقبح على الحكيم في مقام بيان الحكم الواقعي ، فكذلك يقبح في مقام بيان الحكم الظاهري.

ولا ريب أنّ إفادة الحكم الظاهري للمخاطب بما لا طريق له إلى معرفته - كما هو قضيّة جهله في مفروض المقام بعرف المتكلّم - إغراء بالجهل ، وهو قبيح كقبح الإغراء بالجهل اللازم في مقام بيان الحكم الواقعي.

نعم لو فرض كون الحكم الواقعي للمخاطب هو مقتضى عرف المتكلّم ، وأخفى على المخاطب بسبب تقريره على جهله ، مع كون حكمه الظاهري هو مقتضى عرفه سلم عن اتّباع المتكلّم عرف نفسه حزازة الإغراء بالجهل ، لكنّه أيضا مع كون هذا الغرض يتأتّى على تقدير اتّباعه مصطلح المخاطب أيضا ، يندفع بالأصل المتقدّم.

فإن قلت : نفي الاحتمالين بالأصل والظهور لا ينافي قيامهما ، ولزوم الإغراء بالجهل حكم عقلي وهو مع قيام احتمال ما ينافيه ممتنع.

قلت : الاحتمال المنافي إنّما يمنع عن حكم العقل إذا كان قائما في قضيّة هذا الحكم لا مطلقا.

ص: 233

وقضيّة حكم العقل هنا كبرويّة ، والاحتمال المذكور قائم في صغرى هذه القضيّة ولا يمنع عن حكم العقل فيها ، لأنّ القضايا العقليّة إذا كانت كبرويّة إنّما تصدر من العقل على تقدير تحقّق الصغرى.

فغاية ما هنالك إنّ صغرى الإغراء بالجهل تحرز بالظنّ والظهور ، وظاهر إنّ ظنّية الصغرى لا توجب ظنّية الكبرى.

نعم إنّما توجب ظنّية النتيجة ، وهو لا يقدح في ترجيح عرف المخاطب ، لأنّ مرجع البحث في الترجيح في نظائر المسألة إلى إحراز دلالة الخطاب ، ولا خفاء أنّ دلالات الخطاب تحرز في الغالب بالظنون والظواهر.

ولا ينافيه ما تقدّم من أصالة عدم حجّية الظنّ في اللغات ، لأنّه إنّما هو في تشخيص الظواهر وإثبات الأوضاع لا في إحراز الدلالات وتشخيص المرادات ، فإنّ الطريق الغالب في ذلك إنّما هو الظنون والظواهر.

وإن كان مع علمه بعرف المخاطب شاكّا في حاله ، فقضيّة لزوم التخلّص عن الإغراء بالجهل أيضا هو ترجيح عرف المخاطب ، والحكم على المتكلّم باتّباعه مصطلح مخاطبه.

فإنّ قضيّة ذلك إذا كان الحكيم في مقام البيان أن يؤدّى المطلب بما يوجب حصول البيان على وجه يطمئنّ بحصوله ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا أراد مصطلح المخاطب ، لأنّه المعهود لديه الحاضر في ذهنه ، أو بأن ينبّهه على اتّباعه لمصطلح نفسه ، وحيث سكت عن التنبيه كشف عن اتّباعه لمصطلح مخاطبه ، لأنّه المحصّل للبيان على الوجه المذكور.

وإن كان غير ملتفت إلى حاله أو معتقدا لخلاف حاله فهما في الحكم يلحقان بما بقى من الصور الأربع ، وهو ما لو كان كلّ من المتكلّم والمخاطب عارفا باصطلاح صاحبه.

وهذه الصورة باعتبار علم كلّ منهما بحال الآخر أو جهله بحاله - إمّا بمعنى عدم التفاته أو شكّه أو اعتقاده بالخلاف - تنحلّ إلى صور كثيرة ، ينبغي أن يخرج منها ما لو اعتقد المتكلّم جهل المخاطب بعرفه أو شكّ في جهله ومعرفته ، لتعيّن

ص: 234

تقديم عرف المخاطب فيهما ، والحكم على المتكلّم بالجري على مصطلح مخاطبه ، لئلاّ يلزم الإغراء بحسب اعتقاده ، أو يحصل البيان على الوجه المتقدّم على حسب شكّه ، وإن كان أمكن كون ما فهمه المخاطب في الواقع هو مصطلح المتكلّم.

وأمّا البواقي وما الحق بها فالّذي يقتضيه التدبّر وإمعان النظر في مجاري عادات الناس تقديم عرف المتكلّم ، لأنّ المعلوم من عادة المتكلّمين في غالب محاوراتهم هو الجري على مصطلحهم لا مصطلح الغير ، على معنى إنّ الغالب في كلام المتكلّمين هو ذلك ، وظاهر إنّ المشتبه يلحق بالغالب.

وتوهّم انتفاء شرط قاعدة الإلحاق هنا ، وهو كون مورد الشكّ متّحد الصنف مع مورد الغالب ، ومورد الشكّ هنا من جملة ما اختلف فيه العرفان ، والغلبة المدّعاة إنّما ثبتت فيما اتّحد العرفان ، فلا يلحق بها ما هو من أفراد الصنف ، وثبوت الغلبة في أفراد الصنف محلّ منع.

يدفعه : أنّ المعتبر في قاعدة الإلحاق إنّما هو اتّحاد العنوان جنسا كان أو نوعا أو صنفا لا خصوص اتّحاد الصنف ، فمناط الإلحاق هو الغلبة - صنفيّة كانت أو نوعيّة أو جنسيّة - ما لم يزاحمها في النوع غلبة صنفيّة ولا في الجنس غلبة نوعيّة أو صنفيّة ، والغلبة المدّعاة وإن كانت نوعيّة غير أنّها مع عدم مزاحمة الغلبة الصنفيّة متّبعة ، لإفادتها الظنّ باللحوق في موضع عدم المزاحمة ، وهي في أفراد الصنف غير ثابتة في جانب تقديم عرف المخاطب ، إن لم نقل بثبوتها في جانب تقديم عرف المتكلّم.

لا يقال : إنّ قاعدة تقديم عرف المتكلّم حسبما قرّرته يكذّبها صحيحة محمّد ابن مسلم (1) ومرسلة ابن أبي عمير (2) الواردتين عن أبي عبد اللّه عليه السلام في تحديد

ص: 235


1- التهذيب 1 : 414 / 1308 ، الاستبصار 1 : 11 / 17 ، الوسائل 1 : 168 أبواب الماء المطلق ب 11 ح 3.
2- الكافي 3 : 3 الطهارة ب 2 ح 6 ، التهذيب 1 : 41 / 113 ، الاستبصار 1 : 10 / 15 ، الوسائل 1 : 167 أبواب الماء المطلق ب 11 ح 1.

الكرّ ، مع اشتمال الاولى على تحديده بستّمائة رطل ، والثانية على تحديده بألف ومائتي رطل.

وقد جمع العلماء بينهما بحمل الاولى على الأرطال المكّيّة والثانية على الأرطال العراقيّة ، فيتوافقان حينئذ بملاحظة كون الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي ، فالستّمائة من الأرطال المكّيّة تساوي الألف والمائتين من الأرطال العراقيّة ، وأيّدوه بموافقة عرف المخاطب ، فإنّ الراوي - في الصحيحة - وهو محمّد بن مسلم على ما عن النقد عن رجال الشيخ من أهل الطائف وهو من توابع مكّة ، وابن [ أبي ] عمير أرسل الرواية عن بعض أصحابه ، وظاهره كونه من مشايخه وهو مع مشايخه كلّهم عراقيّون ، وهذا كلّه يقضي بكون المعتبر في مقام التعارض عرف المخاطب لا المتكلّم ، ولذا جرى الإمام عليه السلام في كلّ من الروايتين على مصطلح مخاطبه ، كما هو قضيّة الجمع المذكور.

لأنّا ندفعه ، أوّلا : بأنّ مدرك القاعدة - حسبما بيّنّاه - هو الغلبة ، ولا خفاء أنّ الغالب لا ينافيه النادر ، ومن الجائز كون مورد الروايتين من النادر.

وثانيا : بمنع معرفة المخاطب في مورد الروايتين لمصطلح المتكلّم ، لجواز وقوع المخاطبة في أوّل ورود الروايين بالمدينة ، وعرف الإمام عليه السلام من حالهما أنّهما لا يعرفان عرف المدينة فتكلّم بمقتضى عرفيهما ، وقد عرفت سابقا أنّ المعتبر في نحو هذه الصورة مراعاة عرف المخاطب لا غير.

وثالثا : بمنع التفات المخاطب فيهما حين المخاطبة إلى ما عرفه من عرف المتكلّم ، وعرف من حاله الإمام عليه السلام عدم التفاته فجرى على حسب مصطلحه ، مراعاة لما هو الحاضر في ذهنه.

ورابعا : بجواز كونه عليه السلام إنّما جرى بمصطلح المخاطب لينفعه بعد عوده إلى بلده في نقل الرواية إلى غيره ، بأن ينقلها بعين عبارة تحديد الإمام عليه السلام ، ويحتمل ضعيفا كون النقل من كلّ من الراويين من باب النقل بالمعنى ، على معنى كون الإمام عليه السلام إنّما حدّد له الكرّ بالأرطال المدنيّة ، وهو في مقام نقل الرواية للغير جرى على مصطلحه نقلا لها بالمعنى.

ص: 236

ثمّ إنّ هاهنا دقيقة ينبغي التنبيه عليها ، وهي إنّ من عادة الناس إذا دخلوا بلدا يغاير عرفه في بعض الألفاظ عرفهم ، إنّهم يتعلّمون عرف ذلك البلد ويصطلحونه ويتّخذونه عرفا لهم تبعا ما داموا مقيمين فيه ، فيصير ذلك عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا ، ويكون مدار الإفادة والاستفادة ما دامت الإقامة فيه على ذلك العرف لا غير ، وأظهر موارد هذه العادة وأكثر مواقعها ألفاظ الأوزان والمقادير.

وقضيّة ذلك عدم وقوع التعارض بين عرف البلد وعرف من غايره عرفه الأصلي - متكلّما كان أو مخاطبا - في نحوه هذه الألفاظ ، إذ لا يعقل التعارض مع اتّحاد العرف ، وبذلك بطل ما صنعه بعضهم من استثناء ألفاظ الأوزان والمقادير من موضوع مسألة تعارض عرف المتكلّم والمخاطب ، أو من قاعدة تقديم عرف المتكلّم ، تعليلا بتعيّن تقديم عرف بلد الخطاب في هذه الألفاظ ، سواء وافق عرف المتكلّم أو عرف المخاطب أو خالفهما جميعا ، لصيرورة عرفه عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا حينئذ للمخاطب أو للمتكلّم أو لهما ، ولا تعارض مع الاتّحاد.

كما بطل أيضا أكثر التفاصيل المتقدّمة عند بيان وجوه المسألة ومحتملاتها ، الّتي اخذ فيها عرف البلد طرفا للترجيح ، بجعل الموافقة له شرطا فيه ، أو مخالفته لعرف المتكلّم أو المخاطب مانعا ، كما بطل القول بتقديم عرف البلد مطلقا ، إذ لا تغاير بعد صيرورة عرف البلد عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا.

ومن هنا ربّما يتطرّق الإشكال إلى أصل المسألة ، إذ المخاطبة إن وقعت في بلد المتكلّم أو بلد آخر يوافق عرفه عرف المتكلّم فقد صار عرفه عرف المخاطب أيضا وإن وقعت في بلد المخاطب أو بلد آخر يوافق عرفه عرف المخاطب فقد صار عرفه عرف المتكلّم أيضا ، وإن وقعت في بلد آخر يخالف عرفه عرفيهما فقد صار ذلك العرف عرفا لهما ، وأيّا ما كان فالتعارض مع اتّحاد العرف الحاصل بالفرض غير معقول.

وبالجملة : موضوع المسألة إمّا العرف الأصلي للمتكلّم والمخاطب فقط ، فيرد عليه : عدم كون مدار الإفادة والاستفادة في مجاري عادات المتكلّمين على العرف الأصلي فقط بل على ما يعمّه والعرف الطاروي.

أو ما يعمّ الأصلي والطاروي فيخدشه : عدم وقوع التعارض ، لأنّ قضيّة

ص: 237

طريان العرف الثانوي اتّحاد عرفي المتكلّم والمخاطب حين المخاطبة ، فيبقى البحث في المسألة بلا موضوع في الخارج ، إلاّ أن تخصّص بصورة الغفلة عن عرف البلد على معنى عدم معرفة عرفه المغاير بالفرض ، أو عدم الالتفات إليه حال المخاطبة بعد معرفته في المتكلّم أو المخاطب أو فيهما جميعا ، فيكون الترجيح كما تقدّم في صورة جهل المتكلّم أو المخاطب أو جهلهما معا.

وفيه : مع بعده ما عرفت من عدم التعارض في الحقيقة مع الجهل.

نعم إن خصّصت بصورة اشتباه بلد التخاطب ، ليشتبه من جهته العرف الطاري لأحدهما أو كليهما الّذي عليه مدار الإفادة والاستفادة في محلّ التعارض ، لم يكن بذلك البعيد وإن كان لا يخلو عن بعد أيضا.

وحينئذ فالمتّجه هو الوقف مطلقا ، لصيرورة اللفظ مجملا ، لاشتباه المعنى المراد منه الّذي عليه مبنى المخاطبة به في لحاظ المتكلّم والمخاطب ، وليس في مجاري العادات ما يصلح مناطا للترجيح ، فلا بدّ من مراجعة القرائن الخارجيّة الجزئيّة أو الأخذ بالاصول العمليّة.

هذا كلّه فيما اتّحد المخاطب أو تعدّد مع اتّحاد عرف الجميع ، وغاير عرفه عرف المتكلّم.

فأمّا إذا تعدّد المخاطبون وتعدّد عرفهم أيضا على حسب تعدّدهم ، بأن يكون لكلّ اصطلاح في اللفظ مغاير لعرف الآخرين مع عرف المتكلّم ، ففي حمله حينئذ على الجميع - بأن يحمله كلّ مخاطب على مصطلحه خاصّة - أو على مصطلح المتكلّم خاصّة ، أو تعيّن الوقف وجوه ، صار إلى أوّلهما العلاّمة في التهذيب (1) وتبعه السيّد في المنية (2) استنادا إلى أنّه لولاه لزم الخطاب بما له ظاهر من غير إرادة ظاهره مع تجرّده عن القرينة ، وهو باطل.

ص: 238


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 19 ( مخطوط ) حيث قال : « ... فإن تعدّدت العرفيّة حملت كلّ طائفة الخطاب على المتعارف عندها ... ».
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ) حيث قال : « فإن تعدّدت العرفيّة بأن كان اللفظ مستعملا عند طائفة في معنى وعند غيرهم في غيره حملت كلّ واحدة من الطائفتين ذلك اللفظ على ما هو متعارف عندها ... ».

وحكى الاستدلال عليه أيضا : بأنّه لولا إرادة الجميع فإمّا أن يراد المجموع من حيث المجموع ، أو البعض المبهم ، أو المعيّن ، أو معنى آخر خارج عنها ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه الإغراء بالجهل ، إذ كلّ مخاطب لا يعهد إلاّ مصطلحه ، أو أنّه ظاهر اللفظ في نظره فإرادة غيره إرادة لخلاف الظاهر ، وهو قبيح.

وأمّا الثاني : فلقبح الخطاب بالمبهم.

وأمّا الثالث : فللزوم الإغراء بالجهل إن اختصّ التعيين بالمتكلّم ، وامتناع إرادة ما لا يعرفه المتكلّم إن اختصّ التعيين بالمخاطب ، وقبح الترجيح بلا مرجّح إن عمّهما معا ، وتوهّم كون المرجّح إرادة المتكلّم وقصده ، يدفعه : لزوم الترجّح بلا مرجّح.

وأمّا الرابع : فلاستلزامه الإغراء بالجهل أيضا ، لعدم معرفة المخاطبين غير مصطلحهم ، هذا مع كونه ترجيحا للمرجوح ، إذ الخارج المغاير لمعاني اللفظ مرجوح بالإضافة إليها ، فتعيّن إرادة كلّ واحد على البدل.

وفيه : مع خروجه عن طريقة العرف والعادة ، وابتنائه على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، واستلزامه تعدّد أحكامه تعالى في واقعة واحدة ، ومنافاته للاشتراك في التكليف ، إنّ الالتزام بإرادة الجميع ليكون كلّ مكلّفا بما فهمه بحسب الواقع ليس بأولى من الإلتزام بإرادة ما وافق مصطلح المتكلّم فقط مثلا ، مع تقرير كلّ مخاطب على ما فهمه من باب الحكم الظاهري ، فلا يضاف إناطة الأمر بنظر العقل أو العرف أو القرائن الخاصّة إن وجد شيء من ذلك ، وإلاّ فالوقف.

ولك أن تقول : بإجراء الصور المتقدّمة ليتعيّن في بعضها تقديم عرف المتكلّم وفي الآخر مراعاة حال المخاطبين ، وبالجملة ، المسألة محلّ إشكال.

ص: 239

تعليقة : ألفاظ المقادير حقيقة في حدودها المعيّنة المعهودة

اشارة

- تعليقة -

الظاهر إنّ ما يتسامح فيه عرفا من المقادير وزنا وكيلا وعددا وزمانا ومسافة ، كالمنّ والرطل والألف واليوم والفرسخ ، فالألفاظ الدالّة عليها حقيقة لغة وعرفا في حدودها المعيّنة المعهودة المضبوطة لدى أهلها ، لا في الزائد والناقص بالقياس إلى هذه الحدود بيسير كمثقال أو مثقالين ، وواحد أو اثنين ، وساعة أو ساعتين ، وقصبة أو قصبتين أو نحو ذلك ، إذا اخذا بوصف الزيادة والنقصان ، ولا في القدر المشترك بينهما وبين الحدود المعيّنة ، خلافا لمن زعم كون إطلاقها على الزائد والناقص من باب الحقيقة العرفيّة ، وكأنّه أراد به الحقيقيّة باعتبار الوضع العرفي.

لنا : إنّ المنقول من أهل اللغة ليس إلاّ حدودا معيّنة ، وظاهرهم يعطى الاختصاص ، وتبادر هذه عند الإطلاق وصحّة السلب عن الزائد والناقص المأخوذين بوصف الزيادة والنقصان ، وصحّة استثناء مقدار النقصان في الناقص مع صحّة عطف مقدار الزيادة في الزائد ، وعدم صحّة الاستفهام عن الزائد والناقص كما يصحّ في المشتركات لفظا أو معنى بالقياس إلى ما يحتملانه من المعاني أو الألفاظ ، وعدم وقوع المسامحة في الامور الخطيرة ولا سيّما الذهب والفضّة وغيرهما من الجواهر النفيسة ، لكون مجاري العادات فيها المداقّة وعدم التجاوز عن الحدود المعيّنة لا بزيادة ولا نقيصة ، ولو قيراطا أو أقلّ.

ص: 240

نعم إنّما شاع في غيرها الإطلاق على الزائد أو الناقص ، غير إنّ الظاهر أنّه ليس إطلاقا على الزائد بوصف الزيادة ، ولا على الناقص بوصف النقصان ، ليكون مجازا على التحقيق المتقدّم ، بل هو إطلاق على أحدهما على أنّه الحدّ التامّ تنزيلا للزيادة والنقصان منزلة عدمهما ، فالتسامح إنّما هو في الزيادة والنقصان ، حيث ينزّل الأوّل لعدم الاعتداد به من جهة قلّته منزلة المعدوم ، والثاني لعدم الاعتداد به من جهة قلّته منزلة الموجود. وهذا هو معنى ما يقال : إنّ الإطلاق في محلّ التسامح.

كما أنّه ليس على وجه الحقيقة لغة ولا عرفا فكذلك ليس على وجه المجاز اللغوي - الّذي هو عبارة عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له - بل هو من باب المجازي العقلي.

إذ لا ريب أنّ المولى إذا أمر عبده بشراء منّ من الحنطة ، أو بإتيان قصعة من الماء ، فهو يريد منه المنّ الحقيقي ، فإذا اشترى بنقص قيراط من المنّ ينزّل ذلك في مقام الامتثال منزلة العدم ، فكأنّه أتى بالمنّ التامّ ، لا أنّ المولى أراد منه الناقص فأتى به امتثالا ، فهذا الناقص من أفراد المنّ ادّعاء ومسامحة من العرف ، وكذا الكلام في القصعة.

وفي كلام غير واحد الاستدلال على نفي الحقيقيّة في الزائد والناقص ، بأنّه لو كان لفظ « المنّ » حقيقة في الأقلّ من المقدار المعهود بمثقال لقربه منه وقلّة نقصانه عنه ، لكان حقيقة في أقلّ منه أيضا بمثقالين ، لقربه من الأقلّ بمثقال الّذي هو أيضا معنى حقيقي للّفظ وقلّة نقصانه بالنظر إليه ، وهكذا يقال إلى ما ينتهى إليه النقصان.

وكذا الكلام في جانب الزيادة إلى ما لا يتناهى وبطلانه من البديهيّات ، وفيه من الغرابة والوهن ما لا يخفى.

فإنّ موضوع المسألة ما يتسامح فيه العرف ، ولذا يقيّد الزيادة والنقصان بكونهما يسيرين ، ولا ريب أنّه لا يتسامح عرفا في إطلاق الألفاظ المذكورة على الزائد والناقص إلاّ فيما كان الزيادة والنقصان ملحوظين بالقياس إلى الحدود

ص: 241

المعيّنة ، فدعوى الحقيقة مختصّة بذلك لأنّه مورد التسامح ، لا الزيادة والنقصان بجميع مراتبهما ، وهذا واضح.

واعلم : أنّه قد يتسامح عرفا في غير المقادير ممّا فيه خليط مستهلك من غير جنسه ، فيطلق الاسم على مسمّاه تنزيلا للخليط من جهة عدم الاعتداد به ، لقلّته واستهلاكه منزلة عدمه ، أو كونه من جنس المسمّى كالسمن إذا كان فيه شيء من الدبس ، والحنطة إذا كان فيه شيء من التراب ونحوه ، واللبن إذا كان فيه شيء من الماء ، والماء إذا كان فيه شيء من الطين وما أشبه ذلك ، فالإطلاق بعد التنزيل المذكور يقع على وجه الحقيقة.

ولك أن تقول : إنّ المسامحة في نحو هذه الإطلاقات ليست من جهة أصل المسمّى ، بل هي راجعة إلى الأوزان المضافة إليه من المنّ ونحوه ، لأنّه إذا فرض الخليط لاستهلاكه في جنب المنّ من المسمّى بمنزلة عدمه لنقص المسمّى عن المنّ بمقدار الخليط ، فيكون المسامحة في المنّ من السمن مثلا في إطلاق المنّ عليه لا في إطلاق السمن ، على معنى إنّ السمن المخلوط بشيء من الدبس سمن حقيقة من غير مجاز عقلي فيه ، إلاّ أنّ كونه مقدار المنّ مبنيّ على المسامحة من جهة التنزيل.

ثمّ عن بعض الفقهاء كالإسكافي في تحديد الكرّ ، والشهيد في القواعد التعدّي في المسامحة عن التحديدات العرفيّة إلى التحديدات الشرعيّة ، بدعوى : ابتنائها على التقريب كما عن الأوّل ، أو لصدق الاسم كما عن الثاني ، في سنّ مفارقة الولد في السبع فاحتمل جواز نقصه بيوم أو اسبوع تعليلا بما ذكر.

وربّما جعل نظير ذلك ما عن بعضهم من الحكم بصحّة السجود على القرطاس المكتوب والحجر الّذي يعلوه الوسخ ، التفاتا إلى أنّه يقال في العرف إنّه سجد على القرطاس أو الحجر ، ولا يبعد القول بكونه لازما لمدّعي النقل والحقيقة العرفيّة في المقادير بالنسبة إلى الزائد والناقص.

وتظهر الفائدة في تحديد الكرّ وزنا ومساحة ، ومنزوحات البئر وغلاّت الزكاة

ص: 242

وعشرة أيّام زمان الإقامة ، وأقلّ زمان الحيض وأكثره ، وزمان التردّد في غير محلّ الإقامة ، ومسافة القصر ، وعدد المطلّقات ، والمتوفّى عنها زوجها ، وما أشبه ذلك ممّا لا يحصى.

وفيه تأمّل مع مساعدة الظاهر والأصل والاحتياط على خلافه.

نعم لا يبعد القول بجواز المسامحة في الغلاّت الزكويّة إذا كان الموجب لنقصها خلطها بشيء من التراب ونحوه ، فيسوغ دفعها حينئذ إلى المستحقّ أداء للحقّ الواجب ، بل يكون النقصان من هذه الجهة مغتفرا في اعتبار النصب ، لأنّه المعلوم من سيرة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وامنائه عليهم السلام الثابت بتقريرهم ، ونحوه المسامحة في نزح الدلاء في منزوحات البئر ، لما يغلب فيه من أنّها لا تملأ ، والطهارة بالماء مع غلبة اختلاطه بشيء يسير من الطين ، للقطع الضروري بعدم إلزامهم عليهم السلام الدافعين للزكوات على دفع الخالص من الخليط ، ولا النازحين والمتطهّرين بإملاء الدلاء وتخليص الماء ، مع عدم إمكانهما عادة ، بل المقطوع به ثبوت ذلك بفعلهم عليهم السلام فضلا عن تقريرهم الّذي يتّسع فيه مجال المناقشة.

وبالجملة : فالأصل في التحديدات الشرعيّة عدم المسامحة إلاّ ما ثبت جوازه بالدليل ، وعليه عمل العلماء في الأعصار والأمصار ، لشذوذ المخالف ، مع اختصاص مخالفته ببعض المذكورات.

ص: 243

ص: 244

معالم الدين :

أصل

لا ريب في وجود الحقيقة اللغويّة والعرفيّة. وأمّا الشرعيّة ، فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها. فذهب إلى كلّ فريق. وقبل الخوض في الاستدلال ، لا بدّ من تحرير محلّ النزاع.

فنقول : لا نزاع في أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع ، المستعملة في خلاف معانيها اللّغويّة ، قد صارت حقائق في تلك المعاني ، كاستعمال « الصلاة » في الأفعال المخصوصة ، بعد وضعها في اللّغة للدعاء ، واستعمال « الزكاة » في القدر المخرج من المال ، بعد وضعها في اللّغة للنموّ ، واستعمال « الحجّ » في أداء المناسك المخصوصة ، بعد وضعه في اللّغة لمطلق القصد. وإنّما النزاع في أنّ صيرورتها كذلك ، هل هي بوضع الشارع وتعيينه إيّاها بازاء تلك المعاني بحيث تدلّ عليها بغير قرينة ، لتكون حقائق شرعيّة فيها ، أو بواسطة غلبة هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان أهل الشرع ، وإنّما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز بمعونة القرائن ، فتكون حقائق عرفيّة خاصّة ، لا شرعيّة.

وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام الشارع ؛ فانّها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأوّل ، وعلى

ص: 245

اللّغويّة بناء على الثاني. وأمّا إذا استعملت في كلام أهل الشرع ، فانّها تحمل على الشرعيّ بغير خلاف.

احتجّ المثبتون : بأنّا نقطع بأنّ « الصلاة » اسم للركعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات ، وأنّ « الزكاة » لأداء مال مخصوص ، و « الصيام » لامساك مخصوص ، و « الحجّ » لقصد مخصوص. ونقطع أيضا بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها ، وذلك علامة الحقيقة. ثمّ إنّ هذا لم يحصل إلاّ بتصرّف الشارع ونقله لها إليها ، وهو معنى الحقيقة الشرعيّة.

وأورد عليه : أنّه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون حقائق شرعيّة ، بل يجوز كونها مجازات.

وردّ بوجهين : أحدهما : أنّه إن اريد بمجازيّتها : أنّ الشارع استعملها في [ غير ] معانيها ، لمناسبة المعنى اللّغويّ ، ولم يكن ذلك معهودا من أهل اللّغة ، ثم اشتهر ، فأفاد بغير قرينة ، فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة ، وقد ثبت المدّعى ؛ وإن اريد بالمجازيّة : أنّ أهل اللّغة استعملوها في هذه المعاني والشارع تبعهم فيه ، فهو خلاف الظاهر ؛ لأنّها معان حدثت ، ولم يكن أهل اللّغة يعرفونها ، واستعمال اللّفظ في المعنى فرع معرفته.

وثانيهما : أنّ هذه المعاني تفهم من الألفاظ عند الاطلاق بغير قرينة. ولو كانت مجازات لغويّة ، لما فهمت إلاّ بالقرينة.

وفي كلا هذين الوجهين مع أصل الحجّة بحث.

أمّا في الحجّة ، فلأنّ دعوى كونها أسماء لمعانيها الشرعيّة لسبقها منها إلى الفهم عند إطلاقها ، إن كانت بالنسبة إلى إطلاق الشارع فهي ممنوعة. وإن كانت بالنظر إلى اطلاق أهل الشرع فالذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفيّة لهم ، لا حقايق شرعيّة.

وأمّا في الوجه الأوّل ، فلأنّ قوله : « فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة »

ص: 246

ممنوع ، إذ الاشتهار والافادة بغير قرينة إنّما هو في عرف أهل الشرع ، لا في إطلاق الشارع. فهي حينئذ حقيقة عرفيّة لهم ، لا شرعيّة.

وأمّا في الوجه الثاني ، فلما أوردناه على الحجّة ، من أنّ السبق إلى الفهم بغير قرينة إنّما هو بالنسبة إلى المتشرّعة لا إلى الشارع.

حجّة النافين وجهان.

الأوّل : أنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللّغوية ، لفهّمها المخاطبين بها ، حيث انّهم مكلّفون بما تتضمّنه. ولا ريب أنّ الفهم شرط التكليف. ولو فهّمهم إيّاها ، لنقل ذلك إلينا ، لمشاركتنا لهم في التكليف. ولو نقل ، فإمّا بالتواتر ، أو بالآحاد. والأوّل لم يوجد قطعا ، وإلاّ لما وقع الخلاف فيه. والثّاني لا يفيد العلم. على أنّ العادة تقضي في مثله بالتواتر.

الوجه الثاني : أنّها لو كانت حقائق شرعيّة لكانت غير عربيّة ، واللاّزم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أنّ اختصاص الألفاظ باللّغات إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها. والعرب لم يضعوها ؛ لأنّه المفروض ، فلا تكون عربيّة. وأمّا بطلان اللاّزم ، فلانّه يلزمه أن لا يكون القرآن عربيّا ؛ لاشتماله عليها. وما بعضه خاصّة عربّي لا يكون عربيّا كلّه. وقد قال اللّه سبحانه : « إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا ».

وأجيب عن الأوّل : بأن فهّمها لهم ولنا باعتبار التّرديد بالقرائن ، كالأطفال يتعلّمون اللّغات من غير أن يصرّح لهم بوضع الّلفظ للمعنى ؛ إذ هو ممتنع بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من الألفاظ. وهذا طريق قطعيّ لا ينكر. فان عنيتم بالتفهيم بالنقل : ما يتناول هذا ، منعنا بطلان اللازم ، وإن عنيتم به : التصريح بوضع اللفظ للمعنى ، منعنا الملازمة.

وعن الثاني : بالمنع من كونها غير عربيّة. كيف ، وقد جعلها الشارع حقائق شرعيّة في تلك المعاني مجازات لغويّة في المعنى اللّغويّ ؛ فإنّ

ص: 247

المجازات الحادثة عربيّة ، وإن لم يصرّح العرب بآحادها ، لدلالة الاستقراء على تجويزهم نوعها. ومع التنزّل ، نمنع كون القرآن كلّه عربيّا ، والضمير في « إنّا أنزلناه » للسّورة ، لا للقرآن ، وقد يطلق « القرآن » على السورة وعلى الآية.

فان قيل : يصدق على كلّ سورة وآية أنّها بعض القرآن ، وبعض الشيء لا يصدق عليه أنّه نفس ذلك الشيء.

قلنا : هذا إنّما يكون فيما لم يشارك البعض الكلّ في مفهوم الاسم ، كالعشرة ، فانّها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة ، فلا يصدق على البعض ، بخلاف نحو الماء ، فانّه اسم للجسم البسيط البارد الرطب بالطبع ، فيصدق على الكلّ وعلى أيّ بعض فرض منه ، فيقال : هذا البحر ماء ، ويراد بالماء مفهومه الكلّيّ ، ويقال : إنّه بعض الماء ، ويراد به مجموع المياه الذي هو أحد جزئيّات ذلك المفهوم. والقرآن من هذا القبيل ، فيصدق على السورة أنّها قرآن وبعض من القرآن ، بالاعتبارين ، على أنّا نقول : إنّ القرآن قد وضع - بحسب الاشتراك - للمجموع الشخصيّ وضعا آخر ، فيصحّ بهذا الاعتبار أنّ يقال السورة بعض القرآن.

إذا عرفت هذا ، فقد ظهر لك ضعف الحجّتين.

والتحقيق أنّ يقال : لا ريب في وضع هذه الألفاظ للمعاني اللّغويّة ، وكونها حينئذ حقائق فيها لغة ، ولم يعلم من حال الشارع إلاّ أنّه استعملها في المعاني المذكورة. أما كون ذلك الاستعمال بطريق النقل ، أو انّه غلب في زمانه واشتهر حتّى أفاد بغير قرينة ، فليس بمعلوم ؛ لجواز الاستناد في فهم المراد منها إلى القرائن الحاليّة أو المقاليّة ؛ فلا يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا. وبدون ذلك لا يثبت المطلوب. فالترجيح لمذهب النافين ، وإن كان المنقول من دليلهم مشاركا في الضعف لدليل المثبتين.

ص: 248

الحقيقة اللغويّة والعرفيّة

[47] قوله : (لا ريب في وجود الحقيقة اللغويّة والعرفيّة ... الخ)

قد عرفت أنّ الحقيقة باعتبار الوضع المأخوذ فيها تنسب إلى ما نسب إليه واضعها ، فتنقسم بهذا الاعتبار إلى اللغويّة ، والعرفيّة العامّة والخاصّة ، والشرعيّة ، وإفراد الشرعيّة مع أنّها قسم من الخاصّة ، لشرفها واختصاصها بمزيد بحث.

ولا ريب في وجود اللغويّة والعرفيّة الخاصّة ، كما لا إشكال في وجود العرفيّة العامّة ، والقول بعدم وجودها لكونه - مع شذوذه - قاطعا لما ثبت بضرورة من العرف واضح الضعف ، فلا ينبغي الالتفات إليه كما لم يلتفت إليه المصنّف.

وربّما يشكل الحال في التقسيم المذكور باعتبار قصوره بظاهر لفظه عن شموله للحقائق الموضوعة بوضع التعيّن ، لظهور الواضع المأخوذ فيه طرفا للنسبة في موجد الوضع وفاعله.

ويساعد عليه وضع اسم الفاعل للذات المتّصفة بالمبدأ من حيث وقوعه وصدوره منه ، فلا يصدق على غلبة الاستعمالات المجازيّة الموجبة لوضع التعيّن. وقضيّة ذلك عدم اندراج ما وضع بهذا الوضع في التقسيم.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاقتصار في التقسيم على الحقائق الموضوعة بوضع التعيين ليس إهمالا في الحقائق الموضوعة بوضع التعين ، بل إحالة للأمر فيها إلى اتّضاحه من تقسيم الحقائق الموضوعة بوضع التعيين ، فإنّه إذا علم أنّها تنسب إلى ما نسب إليه واضعها فيعلم أنّ الحقائق الموضوعة بوضع التعيّن تنسب إلى ما نسب إليه مستعمليها ، فتنقسم إلى الأقسام المذكورة.

ويمكن الذبّ أيضا : بحمل الواضع على ما يعمّ فاعل الوضع والمستعمل ، أعني القدر الجامع بينهما ، وهو الّذي يستند إليه الوضع بمعنى التعيّن ، إمّا بتعيينه أو استعمالاته المجازيّة.

وإن شئت قلت : إنّه يراد بالواضع سبب الوضع ، وهو أعمّ من فاعله والاستعمالات المجازيّة ، وإطلاق المشتقّ على سبب وجود الحدث كثير شائع في كلامهم ، ومنه ما في كلام الفقهاء من إطلاق الموجب على الأحداث الست

ص: 249

المعروفة ، فإنّ المراد به هاهنا سبب الوجوب لا فاعله الّذي هو الشارع تعالى.

في الحقيقة الشرعيّة

[48] قوله : (وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها ... الخ)

الأولى لاستيفاء جميع جهات البحث في الألفاظ الشرعيّة من عباداتها ومعاملاتها التكلّم ، تارة من حيث ثبوت الوضع الشرعي فيها وعدمه ، واخرى من حيث أخذ الصّحة في معانيها وعدمه ، فتمام البحث فيها يقع في فصلين :

الفصل الأوّل : في إثبات الحقيقة الشرعيّة ونفيها

اشارة

الفصل الأوّل

في إثبات الحقيقة الشرعيّة ونفيها

واعلم : أنّ النسبة المستفادة من أداة النسبة تعريف للحقيقة الشرعيّة ، إذ ليس المقصود من تعريفها طلب ماهيّة الحقيقة الشرعيّة بجنسها ولا في فصلها ، لأنّ معرفة الماهيّة بكلا الاعتبارين قد حصلت من تعريف مطلق الحقيقة باللفظ المستعمل فيما وضع له ، بل المقصود هنا طلب المميّز ، أعني ما يميّز هذا الصنف من الماهيّة عن سائر الأصناف ، ويكفي فيه ملاحظة النسبة المأخوذة في هذا العنوان ، إذ كما أنّ الحقيقة اللغويّة يراد بها الحقيقة المنتسبة إلى اللغة ، وانتسابها إلى اللغة ، إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل اللغة ، فالحقيقة اللغويّة ما استند وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل اللغة.

والحقيقة العرفيّة يراد بها الحقيقة المنتسبة إلى العرف ، وانتسابها إلى العرف إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل العرف. فالحقيقة العرفيّة ما استند وضعها تعيينا أم تعينا إلى أهل اللغة.

فكذلك الحقيقة الشرعيّة فيراد بها الحقيقة المنتسبة إلى الشرع ، وانتسابها إلى الشرع إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى الشارع.

فالحقيقة الشرعيّة ما استند وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى الشارع ، وهذا كما ترى تعريف تامّ مستفاد من النسبة ، ولا حاجة معه إلى كلفة تعريف آخر - كما صنعه

ص: 250

غير واحد من الأواخر - كبعض الأفاضل (1) حيث عرّفها : « باللفظ المستعمل في المعاني الشرعيّة الموضوع لها في عهد صاحب الشريعة » وبعض الفضلاء (2) فعرّفها : « بالكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع شرعي ».

وهذا كلّه كما ترى كلفة لا حاجة إلى ارتكابها ، مع ما في نحو هذه التعاريف من الإطناب وغيره من الحززات الغير المستحسنة في مقام التعريف.

ولعلّ ما ذكرناه من كفاية النسبة المستفادة من أداة النسبة في تعريف الصنف هو السرّ في خلوّ كلام أوائل الاصوليّين عن التعرّض لتعريفها بالخصوص بنحو ما عرفت ، ثمّ تحقيق المسألة يستدعي رسم امور :

الأمر الأوّل : في أنّ « الشارع » بحسب أصل اللغة جاعل الشرع وواضعه

الأمر الأوّل : في أنّ « الشارع » بحسب أصل اللغة جاعل الشرع وواضعه ، وهو محدث الطريقة ومخترعها ، ويرشد إليه النصّ اللغوي كما عن الجوهري في تفسيره شرع : بسنّ الأمر ، الظاهر في الجعل والاختراع ، كما فهمه المحقّقون ونطق به الأخبار كما في الحديث : « من سنّ سنّة حسنة فله مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة فله مثل وزر من عمل بها ».

وقد غلّب في عرف الفقهاء والاصوليّين على ما يرشد إليه إطلاقاتهم الواردة في الكتب الفقهيّة والاصوليّة على اللّه عزّ وجلّ ، فإنّ قولهم : الشارع حكم بكذا ، وإنّ الأحكام التكليفيّة مجعولات للشارع ، وإنّ الوضعيّات ليست من مجعولات الشارع ، وإنّ المعاني الشرعيّة ماهيّات إخترعها الشارع ، وإنّ المعاملة الفلانيّة ممّا أمضاه الشارع إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، لا يراد منه بل لا يفهم منه إلاّ اللّه سبحانه ، كما يدركه المنصف ومن أنكره فهو مكابر وجدانه.

لكنّ الكلام في أنّ التغليب المذكور هل من باب النقل إليه تعالى باعتبار وصف الشارعيّة ، على معنى كون الوصف مأخوذا في كلّ من المنقول منه والمنقول إليه إلاّ أنّه في الأوّل على الوجه الكلّي وفي الثاني على الوجه الجزئي ،

ص: 251


1- هداية المسترشدين : 92 ( الطبعة الحجريّة ).
2- الفصول الغرويّة : 42.

فيكون من نقل الكلّي إلى الفرد ، أو أنّه من باب النقل من المعنى اللغوي الوصفي إلى المعنى الاسمي ، وهو الذات المعرّاة عن وصف المعنى اللغوي ، فيكون علما له تعالى بالغلبة كلّ محتمل.

وإن أمكن ترجيح الثاني ، بدعوى : عدم انفهامه تعالى في الإطلاقات المذكورة ونظائرها بوصف المعنى اللغوي ، ولا يبعد الالتزام بتعدّد النقل فغلّب عند أوائل الفقهاء والاصوليّين إليه تعالى من حيث إنّه ذات متّصفة بالوصف ، واخرى عند أواخرهم إلى الذات المعرّاة.

وبالجملة : فهو المراد في المسألة من « الشارع » المنسوب إليه وضع الألفاظ الشرعيّة المتنازع فيه ، كما يعلم ذلك من ملاحظة مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم واستدلالاتهم الواردة على الإثبات والنفي ، فالوضع المتنازع فيه هو وضع الشارع بهذا المعنى ، خلافا لجماعة من الأواخر ، فتخيّلوا أنّ المراد به النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، حتّى أنّ السيّد بحر العلوم نسبه إلى ظاهر كلام القوم وغيرهم.

ونقل عن بعض المتأخّرين من أهل اللغة التصريح بذلك ، والظاهر إنّه يعني به صاحب المجمع إلاّ أنّهم اختلفوا في وجه هذا الإطلاق.

فعن بعضهم دعوى كونه حقيقة عرفيّة فيه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي كلام غير واحد مجيئه لغة بمعنى المبيّن للشريعة ، والآتي بها مستشهدين لذلك بنصّ بعض أهل اللغة ، المراد به ما في القاموس من تفسيره سنّ الأمر ، المتقدّم عن الجوهري في تفسير شرع ببيّنه ، فإطلاق الشارع عليه صلى اللّه عليه وآله إنّما هو باعتبار هذا المعنى.

واعترض عليه تارة : بأنّه لو صحّ ذلك لصحّ إطلاق الشارع على الأئمّة عليهم السلام بل على علماء الشيعة أيضا ، لكونهم مبيّنين للشرع دالّين عليه ، والتالي باطل بالضرورة.

واخرى : بأنّ قضيّة ذلك كون وضع الألفاظ المتنازع فيها وضع النبيّ صلى اللّه عليه وآله ويشكل : بأنّه يقضي بوجوب حمل الخطابات النبويّة على المعاني الحادثة بناء على القول بالثبوت ، وأمّا الألفاظ الواردة في الكتاب العزيز فيشكل القول بتعيّن

ص: 252

الحمل فيها ، لأنّ المتكلّم بها - وهو اللّه - لم يضعها لتلك المعاني على ما هو المفروض ، ووضع النبّي صلى اللّه عليه وآله يقتضي وجوب الحمل في خطاباته وخطابات من تابعه من المتشرّعة لا مطلقا.

وصريح كلامهم يقتضي الاتّفاق على عدم الفرق بين الخطابات القرآنيّة والأحاديث النبويّة في وجوب الحمل على المعاني الشرعيّة أو اللغويّة.

فإنّ القائلين بالحقيقة الشرعيّة اتّفقوا على الأوّل ، والنافين لها أجمعوا على الثاني ، وهذا بخلاف ما لو قيل بأنّ الواضع هو اللّه تعالى ، فإنّ الحمل على المعاني الحادثة حينئذ متعيّن في الجميع.

أمّا في خطاب اللّه تعالى فظاهر ، وأمّا في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلأنّه تابع على هذا التقدير كالمتشرّعة.

ويندفع الأوّل : بجواز قيام المنع الشرعي ، كما قام نظيره في إطلاق لفظ « النبيّ » مع وجود معناه في الأئمّة عليهم السلام ، سواء اخذ من النبأ أو من النبوّة ، مع قوّة احتمال كون الشارع بمعنى المبيّن بلا واسطة البشر ، فمعناه غير موجود في الأئمّة وعلماء الشيعة.

والثاني : بجواز التبعيّة في العكس أيضا ، فالفرق تحكّم واضح كما هو الحال في سائر اللغات على تقدير واضعيّة البشر ، فإنّ خطاباته تعالى محمولة على المعاني العرفيّة تبعا.

ويستفاد من السيّد المتقدّم ذكره ، جواز ابتناء هذا الإطلاق على كونه باعتبار المعنى الأوّل وهو جاعل الشرع وواضعه ، فإنّه بهذا المعنى يصدق عليه في الجملة لثبوت التفويض إليه في بعض الأحكام ، كالزيادة في أعداد الصلاة المكتوبة ، وجعل النافلة في الصوم والصلاة ضعف الفريضة ، وإطعام الجدّ السدس ، وتحريم المسكر عدا الخمر ونحو ذلك.

وهذا ليس من التفويض الباطل الّذي قال به الطائفة الضالّة الموسومة بالمفوّضة ، كتفويض أمر الخلق إليه ، أو تفويض الرزق إليه دون الخلق ، أو تفويض

ص: 253

أفعال العباد إليهم على الاستقلال ، بل هو تفويض صحيح ورد به أخبار أهل العصمة ، وقد عقد الشيخان الجليلان أبو جعفر محمّد بن الحسن الصفّار القمّي ، وأبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني الرازي ، لذلك بابا في جامعيهما البصائر (1) والكافي (2) وأوردا فيهما كثيرا من الروايات المعتبرة الّتي هي نصّ في المطلوب.

ولا يخفى ضعف دعوى كون المراد من « الشارع » هو النبيّ ، وأضعف منها الوجوه المذكورة في توجيه إطلاقه عليه.

أمّا الأوّل : فلأنّه إن اريد بما ذكر إرادة النبيّ على أنّه المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء والاصوليّين.

فيدفعه : إنّ الإطلاقات الواردة في الكتب الفقهيّة كما عرفت في خلافه ، وإن اريد به إنّه علم بشهادة القرائن كون المراد به في خصوص المسألة هو النبيّ صلى اللّه عليه وآله.

ففيه : إنّه لم نقف على قرينة تشهد به إلاّ ما يوهمه ما في العبائر من إضافة الزمان إلى الشارع في نحو قولهم : « إنّ الألفاظ نقلت إلى المعاني الشرعيّة في زمان الشارع أو بعد زمان الشارع ».

وفيه : إنّ هذا التعبير ونظائره إنّما هو للتنبيه على ما هو المعتبر عندهم ، من كون الوضع المتنازع فيه هو الوضع الحاصل في زمان ورود الشرع لا ما بعده ، فيراد بزمان الشارع زمان ظهور شارعيّة الشارع.

ومن جميع ما ذكر ظهر وجه ضعف دعوى كونه حقيقة عرفيّة في النبيّ صلى اللّه عليه وآله إن اريد به عرف الفقهاء والاصوليّين ، لمساعدة إطلاقاتهم كما عرفت على خلافه.

وأمّا كون إطلاقه عليه باعتبار مجيئه لغة بمعنى المبيّن للشرع ، فيزيّفه أوّلا : منع أصل الإطلاق أو شيوعه.

وثانيا : منع مجيئه لغة لهذا المعنى بحيث لا يشهد به شاهد ، ونسبته إلى النصّ اللغوي يكذّبها إنّه خلاف ما يفهم من اللفظ عرفا ، بل خلاف ما يستفاد من كلام

ص: 254


1- بصائر الدرجات : 383 باب : في أنّ ما فوّض إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقد فوّض إلى الأئمّة عليهم السلام.
2- الكافي 1 : 265 باب : التفويض إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وإلى الأئمّة عليهم السلام في أمر الدين.

أهل اللغة وإطلاقات الأخبار ، وتفسير صاحب القاموس لما في كلام الجوهري بذلك بعد مخالفته لما ذكر ممّا لا يعبأ به ، حيث إنّ حجّية قول اللغوي في اللغات ليست تعبّدا محضا ، وهو مع ملاحظة ما ذكر لا يفيد اطمينانا ولا ظنّا فضلا عن العلم.

وثبوت التفويض في الجملة بعد تسليمه وتسليم دلالة النصوص عليه لا يثبت الإطلاق ومجرّد الاحتمال غير كاف ، وجواز الإطلاق بهذا الاعتبار لا يقضي بظهور كلام القوم في إرادته بعد انكشاف خلافه بشهادة ما ذكرناه.

فما قد يقال : من أنّ الوضع المتنازع فيه يمكن كونه مطلقا من اللّه ، بناء على أخذ الشارع بمعنى الجاعل ، أو من النبيّ بناء على أخذه بمعنى المبيّن ، أو منهما معا على التلفيق بكون وضع ما في الكتاب العزيز من اللّه وما في السنّة من النبيّ ، بناء على أخذ الشارع بمعنى القدر المشترك بين المعنيين كمن يؤخذ منه الشرع ونحوه ، ليس على ما ينبغي ، بل الواضع في الجميع هو اللّه تعالى.

هذا مع أنّ تحقيق هذا المطلب ممّا لا يثمر فائدة بالنسبة إلى الثمرة المطلوبة من ثبوت الحقائق الشرعيّة وعدمها ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : تقسيم الحقيقة الشرعيّة إلى ما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما وما يعرفون كليهما

الأمر الثاني : في كلام جماعة من الاصوليّين من العامّة والخاصّة تقسيم الحقيقة الشرعيّة إلى ما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما ، وما يعرفون كليهما ولكن لم يكن اللفظ عندهم لذلك المعنى ، وقد صرّح غير واحد من الأجلّة بأنّ المعتزلة سمّوا ما عدا الأخير حقيقة دينيّة.

وفي كلام بعضهم إنّهم قالوا : « الحقيقة الدينيّة أخصّ من الشرعيّة » ، فكلّ حقيقة دينيّة شرعيّة ولا عكس ، وكأنّ وجه تسمية ما عدا الأخير دينيّة ما فيه من جهة اختصاص بهذا الدين ، من لفظ فقط أو معناه كذلك أو كليهما ، نظرا إلى عدم كون أحد هذه الامور معروفا متداولا عند غير أهل هذا الدين ، فيكون وضعه الشرعي على القول بثبوته محدثا فيه ، بخلاف الأخير فإنّه لكون لفظه ومعناه معروفين قبل حدوث هذا الدين كان وضعه الشرعي ثابتا من الشرائع السالفة.

ص: 255

وستعرف أنّ الحقيقة الشرعيّة عندهم أعمّ ممّا ثبت وضعه من سائر الشرائع ، فتأمّل لتعرف أنّه لا ملازمة بين سبق معروفيّة اللفظ والمعنى ، وسبق وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى ، على تقدير كون اللفظ عند أهل اللغة لغير ذلك المعنى.

نعم إنّما يتّجه هذا البيان إذا فرض كون معنى اللفظ عندهم هو هذا المعنى المعروف لديهم لا غيره ، ولعلّه المراد إن لم يشكل الأمر بالقياس إلى كون وضعه شرعيّا ، والمقام لا يخلو عن تأمّل.

والأولى أن يوجّه التسمية بملاحظة ما سيأتي من أنّهم يخصّون الحقائق الدينيّة بأسماء الذوات ، المفسّرة باصول الدين وما يتعلّق بالقلب ، فليتدبّر.

وأمّا وجه التقسيم المذكور ، فلعلّه التنبيه على أنّ الحقائق الشرعيّة باعتبار الوضع ليست بأسرها منقولات ، كما يظهر من كلام كثير منهم بل صريح بعضهم ، حيث عبّر عنه بنقل الشارع ، بل فيها ما يكون وضعه من باب الارتجال كما يرشد إليه ما عن ظاهر كلام العضدي (1) والتفتازاني من أنّ الحقيقة الدينيّة بأقسامها الثلاث من الموضوعات المبتدعة دون المنقولة.

وما عن المحقّق الشريف والفاضل الباغنوي من التصريح بأنّها كذلك على الأوّل والثالث ، وأمّا على الثاني فهي محتملة للأمرين.

وكأنّ السرّ في مخالفتهما العضدي والتفتازاني بجعلها على الثاني محتملة اختلاف النظر في الوضع هنا على تقدير النقل ، من حيث كونه وضع التعيّن المسبوق على التجوّز ، أو وضع التعيين المسبوق على مجرّد ملاحظة المناسبة ، مع البناء على اشتراط نقل الآحاد في المجاز أو الاختلاف فيه أيضا.

فإطلاق الارتجال من الأوّلين بناء منهما على ترجيح نقل التعيّن على تقدير النقل ، واشتراط نقل الآحاد في المجاز ، فلا يمكن الالتزام بالنقل على الثاني لعدم كون المعنى منقولا من العرب بحكم الفرض ، ليصحّ الالتزام بسبق المجاز الّذي

ص: 256


1- شرح العضدي على مختصر المنتهى لإبن الحاجب : 52.

هو في نحو محلّ البحث لا بدّ وأن يكون لغويّا ، كما يرشد إليه مقالة نفاة الحقيقة الشرعيّة لانتفاء شرطه.

وإبداء احتمال الأمرين من الأخرين بناء منهما على تجويز وضع التعيين ، فيجوز حينئذ كونه لملاحظة المناسبة أوّلا لها ، على منع اشتراط النقل في المجاز ، فلا مانع حينئذ من اعتبار الوضع من باب التعيّن كما جاز كونه من باب التعيين فجاز معه الأمران.

واعلم أنّ العلاّمة والسيّد وشارح المختصر ، في النهاية (1) والمنية (2) وبيان المختصر نسبوا إلى المعتزلة أنّهم إنّما سمّوا باسم الحقيقة الدينيّة ما يقع من الأسماء الشرعيّة على الذوات ، المفسّرة في كلام غير واحد باصول الدين ، أو ما يتعلّق بالقلب كالإيمان والكفر وما يشتقّ منهما كالمؤمن والكافر ، فرقا بينها وبين ما يقع منها على الأفعال المفسّرة بفروع الدين ، أو ما يتعلّق بالجوارح كالصلاة والزكاة والمصلّي والمزكّي.

وهذا كما ترى يخالف بظاهر إطلاقه الشامل للأقسام الأربع المتقدّمة لظاهر إطلاق ما تقدّم المتناول للقسمين ، وبينهما عموم من وجه ، فيتعارضان في مادّتي الافتراق ، لكون كلّ نافيا لما أثبته الآخر كما لا يخفى.

وفي كلام بعض الفضلاء (3) أنّ الحقيقة الدينيّة هي الّتي عرّفها المعتزلة بما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما ، وخصّوها بأسماء الذوات والصفات كالمؤمن والكافر وما يشتقّان منه ، دون أسماء الأفعال كالصلاة والحجّ ، وهذا كما ترى يخالف كلاّ من الأوّلين بكونه أخصّ من كلّ منهما ، وكأنّه قصد بذلك إلى الجمع بينهما تنزيلا لاصطلاح المعتزلة على مادّة اجتماعهما ، وليس ببعيد.

ص: 257


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 22 ( مخطوط ).
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ... ( مخطوط ) حيث قال : « ثمّ إنّهم ( أي المعتزلة ) قسمّوا الأسماء الشرعيّة إلى ما جرت على الأفعال كالصلاة والصوم وإلى ما جرت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق والكافر فسمّوا الأخير بالأسماء الدينيّة ... ».
3- الفصول الغرويّة : 42.

وأمّا توهّم إمكانه بإرجاع أحدهما إلى صاحبه ، المستلزم لطرح مادّة افتراقه ، ففيه ما فيه.

وكلامهم هنا غير خال عن الإجمال والاضطراب ، ولعلّه الباعث على فتح باب الاعتراض على ما نسب اليهم من زعمهم كون أسماء الذوات من قبيل الحقيقة الدينيّة دون أسماء الأفعال ، بأنّ هذه دعوى فاسدة لمكان القطع بأنّ الصلاة وغيرهما من أسماء الأفعال مجهولة المعاني عند أهل اللغة ، كالإيمان والكفر وغيرهما من أسماء الذوات ، فالحكم بأنّ جميع أسماء الذوات من قبيل الحقيقة الدينيّة دون أسماء الأفعال ، تحكّم محض لا يلتفت إليه.

ويمكن أن يكون نظرهم إلى قصر اصطلاحهم على ما كان الأقسام الثلاث من أسماء الذوات لا قصرها عليها ، فلا ينافي حينئذ وجود ما يكون من أسماء الأفعال مجهول المعنى عند أهل اللغة ، وعليه فيسلّم عن الاعتراض إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّ في كون الاختلاف فيما بين المعتزلة وغيرهم في إثبات الحقيقة الدينيّة وعدمه اختلافا في المعنى ، بدعوى : إنّ الفريقين بعدما اتّفقا على إثبات الحقيقة الشرعيّة - على معنى إثبات الوضع الشرعي لها - اختلفا في الحقيقة الدينيّة فأثبتها المعتزلة وأنكرها غيرهم - على معنى إنكار الوضع لما يسمّونه حقيقة دينيّة - أو في مجرّد التسمية والاصطلاح ، بدعوى : أنّهما بعدما اتّفقا على إثبات الوضع الشرعي للألفاظ الشرعيّة بجميع الأقسام الأربع المتقدّمة ، وتسمية الجميع بالحقيقة الشرعيّة اختلفا في تسمية بعضها بالحقيقة الدينيّة أيضا ، فأثبتها المعتزلة دون غيرهم ، وجهان ظاهر عنوان التقسيم هو الثاني ، حيث أخذ المقسم الحقيقة الشرعيّة.

وربّما يظهر أوّلهما من عبارة الحاجبي حيث قال : الشرعيّة واقعة خلافا للقاضي ، وأثبت المعتزلة الدينيّة أيضا (1).

ص: 258


1- مختصر ابن الحاجب : الورقة 11 ( مخطوط ) وانظر أيضا شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب : 52.

ولعلّه لذا أورد بعض الأجلّة على نسبة القول بالحقيقة الدينيّة إلى المعتزلة خاصّة ، مع تصريحهم بأنّها قسم من الحقيقة الشرعيّة ، بأنّه إنّما يستقيم لو كان دعوى المثبتين للحقيقة الشرعيّة راجعة إلى موجبة جزئيّة ، هي إنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة في الجملة وهو خلاف التحقيق ، فإنّ الظاهر كما ستعرف أنّ النزاع في الحقيقة يرجع إلى الإيجاب والسلب الكلّيين ، فالقائل بالحقيقة الشرعيّة قائل بالحقيقة الدينيّة والنافي للحقيقة الدينيّة ناف للحقيقة الشرعيّة ، فلا يكون النزاع في الحقيقة الدينيّة نزاعا آخر غير النزاع في الحقيقة الشرعيّة.

وظنّي أنّ هذا غفلة منه قدس سره عمّا نسب إليهم ، وجزم به من تصريحهم بأنّ الحقيقة الدينيّة أخصّ من الشرعيّة وقسم منها.

وهذا كما ترى كالصريح في كونه قرينة صارفة لعبارة الحاجبي عمّا هي ظاهرة فيه ، لقضائه بأنّ المعتزلة بعد إثباتهم الحقيقة الشرعيّة على وجه الإيجاب الكلّي وفاقا لغيرهم من مثبتيها على هذا الوجه ، تفرّدوا بإثبات الحقيقة الدينيّة أيضا ولم يبق له محلّ إلاّ إثباتها بحسب التسمية ، وبه يقيّد إطلاق عبارة الحاجبي ، فمخالفة غيرهم لهم إنّما هي في تسمية ما يسمّونه بذلك الاسم.

وظاهر أنّ إنكار التسمية لا يلازم إنكار المسمّى ، لثبوته عند غيرهم أيضا على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، إلاّ أنّهم لا يسمّونه بهذا الاسم.

وأيضا فإنّ في كلام غير واحد : إنّ ما ذكروه من الأنواع الأربع ، إنما هو مجرّد فرض وتجويز عقل ، وإلاّ فالموجود منها في الخارج ليس إلاّ أحد الأنواع ، وهو ما يعرف أهل اللغة لفظه دون معناه ، فلو أنّ الاختلاف المذكور كان معنويّا لكان معقد البحث في الحقيقة الشرعيّة الّذي هو مطرح أدلّة المثبتين والنافين مجرّد فرض لا خارج له فيما بين الألفاظ ، أو هو على تقدير وقوعه في غاية الندرة ، وفيه ما فيه.

وبما قرّرناه يعلم أنّه لا تدافع بين ما في بعض العبائر من التصريح بانحصار الحقيقة الشرعيّة فيما ذكر من النوع الواحد ، وبين ما اشتهر من قضيّة انقسامها إليه وإلى سائر الأنواع ، لاختلاف القضيّتين في الموضوع ، فإنّ النظر في التقسيم إلى مجرّد المفهوم الذهني ، وفي الحصر إلى المصداق الخارجي.

ص: 259

الأمر الثالث : في أنواع الألفاظ الواردة في خطاب الشرع

الأمر الثالث : في أنّ الألفاظ الواردة في خطاب الشرع على أنواع :

منها : ما علم كون المعنى المفهوم منه حال الخطاب بعينه المعنى المفهوم منه في العرف ، من دون اختلاف بينهما بنقل ولا ارتجال ، على معنى اتّحاد العرفين وهو الأكثر ، كالأرض والسماء والماء والكلاء والكلب والخنزير ، وهذا ممّا لا خفاء في حكمه من حيث تعيّن حمل الخطاب على ما اتّحد فيه العرفان.

ومنها : ما علم فيه بتغاير العرفين ، على معنى كون المفهوم منه في هذا العرف مغايرا لمتفاهم عرف زمن الخطاب ، كالأرطال والأوقية والدراهم ، وهذا أيضا ممّا لا خفاء في حكمه ، من حيث تعيّن حمل الخطاب فيه على متفاهم زمن الخطاب.

ومنها : ما علم له في متفاهم هذا العرف معنى ، واشتبه معناه في متفاهم زمن الخطاب باحتمال طرو النقل ، كالأمر والنهي وألفاظ العموم وغيرها ممّا يثبت الوضع فيه بالأمارات العرفيّة.

وهذا أيضا واضح الحكم ، من حيث تعيّن حمل الخطاب فيه على المعنى العرفي ، لكن بعد توسيط أصالة عدم النقل.

ومنها : ما علم له معنى لغوي ومعنى عرفي ، واشتبه المراد منه حين الخطاب ، وهذا هو مسألة تعارض العرف واللغة ، وقد أشبعنا الكلام فيه.

ومنها : ما علم فيه النقل وطروّ الوضع الجديد ، ولكن حصل الشكّ في مبدأ حصولهما ، بحيث يتردّد بين تقدّمه على صدور الخطاب وتأخّره عنه ، وموضوع المسألة من هذا القبيل ، لكن بالقياس إلى المعاني الشرعيّة.

وتحريره : إنّه لا شبهة كما لا خلاف ظاهرا في أنّ كثيرا من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة مستعملة في عرف المتشرّعة - ونعني بهم كلّ من تديّن بدين الإسلام ، فقيها كان أو عاميّا ، مؤمنا كان أو مخالفا - في غير معانيها الأصليّة اللغويّة على وجه الحقيقة ، الناشئة عن النقل كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ وغيرها ، فإنّها بحسب اللغة كانت للدعاء والنموّ والإمساك والقصد ، وقد صارت عند المتشرّعة للأركان المخصوصة المقرونة بالنيّة ، والقدر المخرج من المال المقرون

ص: 260

إخراجه بها ، والإمساك المخصوص المقرون بها ، والمناسك المخصوصة المقرونة بها من جهة النقل ، وإنّما الشبهة في بدو حدوث ذلك النقل وابتداء زمانه ، لتردّده بين كونه حادثا فيما بعد زمان انقطاع الوحي أو متحقّقا في زمن الوحي ، إمّا بوضع الشارع من باب التعيين ، أو باستعماله مجازا إلى أن اشتهرت باستعمالاته ، أو الملفّق من استعمالاته واستعمالات تابعيه فبلغت حدّ وضع التعيّن في زمان الوحي.

وربّما يذكر هنا وجه ثالث ، وهو وصولها إليه من الشرائع السالفة ، موضوعة لكفاية التسمية الحاصلة ثمّة في انعقاد الحقيقة الشرعيّة ، وإن غاير المسمّى الجديد للمسمّى السابق بتصرّف الشارع فيه بزيادة أو نقيصة أو نحو ذلك ، بناء على أنّ تغيير المسمّى لا يستلزم تبدّل التسمية ولا انتفائها.

وهذا الوجه ذكره غير واحد حتّى أنّهم جوّزوا كون بناء الحقيقة الشرعيّة عليه ، غير أنّه عندنا لا يخلو عن تأمّل ما لم يلتزم بتجدّد التسمية أيضا من الشارع بأحد الوجهين الأوّلين ، فإنّه إنّما يستقيم لو فرض تحقّق التسمية في الشرائع السالفة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المأخوذة مع المسمّى كمّا وكيفا ، هيئة ومادّة ، وتحقّق التسمية ثمّة على هذا الوجه غير ثابت ، إن لم ندّع ظهور ثبوت خلافه ، كما يرشد إليه التأمّل.

وقضيّة ذلك انتفاء تلك التسمية حين تغيير المسمّى ، المستلزم لفوات بعض ما اعتبر معها ثمّة من الخصوصيّات ، وافتقار المسمّى الجديد إلى تسمية جديدة ، فانحصر الوجه في فرض تحقّق النقل في زمان الوحي في الوجهين المذكورين.

نعم لو فرض وصول التسمية من الشرائع السابقة على وجه لم يتغيّر معه المسمّى الثابت ثمّة أصلا اتّجه الوجه المذكور ، لكنّ الظاهر إنّه فرض لا وقوع له في الألفاظ الشرعيّة المتنازع فيها.

وبالجملة : فإشكال المسألة الّذي نشأ منه النزاع تحقّق النقل المذكور في زمن الوحي بالمعنى الأعمّ وحدوثه فيما بعده ، فعلى الأوّل يكون الألفاظ المتنازع فيها حقائق شرعيّة كما أنّها حقائق متشرّعة.

ص: 261

وعلى الثاني تكون حقائق متشرّعة لا غير ، فبين الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة عموم مطلق ، إذ كلّ من قال بالاولى لزمه القول بالثانية ، ولا عكس.

ثمّ على الثاني ، فهل الألفاظ حيثما جرت على لسان الشارع وغيره هل هي مجازات لغويّة أو حقائق لغويّة؟ وجهان ، مبنيّان على ثبوت استعمال الشارع لها في غير معانيها اللغويّة من المعاني المحدثة الشرعيّة مجازا ، أو عدم استعماله لها إلاّ في معانيها اللغويّة. غاية الأمر ، إنّه أضاف إليها من الزوائد الثابتة في الشرع ما يكون بالقياس إليها قيودا وشروطا.

وقد صار إلى أوّلهما الجمهور ، والأكثرون من نفاة الحقيقة الشرعيّة أيضا.

وإلى ثانيهما القاضي على ما اشتهر من نسبة هذا القول إليه ، وإن نفاها بعض المحقّقين (1) قائلا : بأنّ المشهور اختيار القول بالمجازيّة ، وإنّ ما ذكر محض احتمال لم يقل به أحد ، فهو على النسبة المذكورة منكر لأصل استعمال هذه الألفاظ في لسان الشارع في المعاني الشرعيّة المحدثة الثابتة لها في عرف المتشرّعة ، ومحصّل مقالته : إنّها في لسان الشارع كانت مبقاة على معانيها اللغويّة ، ولم يتطرّق إليها نقل ولا تجوّز ، بل حيثما استعملت اريد منها هذه المعاني ولو في غير الأوامر والطلبات ، حتّى أنّ المطلوبات بتلك الأوامر إنّما هي هذه المعاني.

غاية الأمر ، اعتبار انضمام الزوائد إليها لكونها شروطا لوقوعها وامتثال الأوامر المتعلّقة بها ، وقد اتّفق غيره من نفاة الحقيقة الشرعيّة ومثبتيها على بطلان مقالته ، فعلم بما ذكر أنّ في الألفاظ الشرعيّة نزاعين :

أحدهما : ما وقع بين القاضي وغيره من إنكار أصل الاستعمال وإثباته.

وثانيهما : ما وقع بين غيره من إثبات الوضع الشرعي لتلك الألفاظ ونفيه ، مع اتّفاق الفريقين على تحقق أصل الاستعمال ولو على وجه المجاز.

في تأسيس الأصل في المسألة

وأمّا الأصل في المسألة : فلا بدّ من تأسيسه ليكون مرجعا في الموارد

ص: 262


1- هو سلطان العلماء رحمه اللّه في حاشيته على المعالم.

المشتبهة ، أو على تقدير فقد الدليل على ترجيح أحد أقوالها ، كما هو فائدة الأصل الّذي يؤسّس في جميع المسائل.

فنقول : إن كان النظر فيه إلى النزاع الأوّل ، فقد يقال : إنّ الأصل فيه مع القاضي ، لأنّ الاستعمال المتنازع فيه بالقياس إلى غير المعاني اللغويّة أمر حادث ، ينفيه الأصل.

ويزيّفه : إنّ أصل الاستعمال في لسان الشارع متيقّن الحدوث ، والشكّ إنّما هو في المستعمل فيه ، فلا يمكن نفي وقوعه على غير المعاني اللغويّة بالأصل ، إلاّ أن يقال : إنّ وقوع استعمال تلك الألفاظ في لسان الشارع على المعاني اللغويّة ممّا لا شكّ فيه ، بل الشكّ في الزائد وهو وقوعه على غير تلك المعاني أيضا ، والأصل عدمه لكون الشكّ حينئذ في الحدوث.

لكن يدفعه : أنّه إنّما يستقيم لو فرض اليقين والشكّ بالقياس إلى نوع الاستعمالين ، لكون تيقّن الحدوث بالنسبة إلى نوع أوّل الاستعمالين ، والشكّ فيه بالنسبة إلى نوع ثانيهما.

وأمّا لو فرضنا بالقياس إلى شخص الاستعمال الّذي فيه يغلب وقوع الاشتباه بل هو مورد الثمرة المطلوبة من الأصل فلا لرجوع الشكّ فيه إلى كونه في الحادث فإنّ الشارع تعالى لو قال - مثلا - : « الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر » فهو شخص استعمال لم يعلم حاله من حيث وقوعه على المعنى اللغوي ليكون المعنى الدعاء خير موضوع ، أو على المعنى الشرعي ليكون المعنى الأركان المخصوصة خير موضوع ، فحينئذ لا يمكن الأصل جزما.

نعم هاهنا أصل لفظي يساعد على مقالة القاضي ، وبيانه : إنّ لفرض وقوع استعمالات تلك الألفاظ في لسان الشارع على معانيها اللغويّة صورا أربع :

إحداها : استعماله إيّاها في نفس المعاني اللغويّة ، بلا انضمام الزوائد الثابتة في الشريعة إليها أصلا.

وثانيتها : استعماله فيها مقيّدة بتلك الزوائد على وجه لم يدخل القيد ولا

ص: 263

التقييد في المستعمل فيه ، على حدّ ما هو المقرّر في إطلاق الكلّي على الفرد المتضمّن لإلغاء خصوصيّة الفرد.

وثالثتها : هذه الصورة بعينها مع فرض دخول التقيّد دون القيد في المستعمل فيه ، على حدّ ما هو المقرّر في استعمال الكلّي في الفرد الّذي يراد به دخول الخصوصيّة في المستعمل فيه.

ورابعتها : هذه الصورة مع دخول القيد في المستعمل فيه.

ولا ريب إنّ الصورة الاولى خارجة عن مقالة القاضي ، لتصريحه بانضمام الزوائد إلى ما اريد من الألفاظ من المعاني اللغويّة ، كما أنّ الصورة الرابعة أيضا كذلك ، لأنّ فرض الاستعمال على هذا الوجه أشبه بمقالة من يدّعي الاستعمال في المعاني الشرعيّة مجازا ، من نفاة الحقيقة الشرعيّة كما لا يخفى.

وإنّما تنطبق مقالة القاضي على إحدى الصورتين المتوسّطتين ، وإن تضمّن القول بثانيتهما الالتزام بنحو من التجوّز الّذي هو لازم استعمال العامّ في الخاصّ بقيد الخصوصيّة ، بناء على أنّه لا ينكر أصل التجوّز في الاستعمال ، وإنّما ينكر المجاز الّذي يلزم على تقدير وقوع الاستعمال في المعاني الشرعيّة المحدثة المغايرة للمعاني اللغويّة ، وعلى أيّ تقدير كان فما ادّعاه القاضي التزام بالتقييد في تلك الألفاظ وإن تضمّن تجوّزا في أحد وجهيه ، بناء على أنّه عندهم يطلق على ما يعمّ الوجهين ، كما يشهد به الخلاف الواقع فيه من حيث استلزامه تجوّزا في المطلق وعدمه.

والحقّ جواز كليهما ، وإنّما يختلف الحال بحسب الاعتبار ، وما ادّعاه غيره من النفاة والمثبتين للحقيقة الشرعيّة التزام بالمجاز من غير جهة التقييد أو النقل ، ومن المقرّر في محلّه رجحان التقييد على كليهما.

وإن كان النظر فيه إلى النزاع الثاني ، فالأصل مع النفاة لأصالة عدم تحقّق النقل إلى زمان يقطع فيه بتحقّقه ، وليس إلاّ الأزمنة المتأخّرة عن انقضاء زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وانقطاع الوحي.

ص: 264

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النزاع الأوّل في غاية السخافة ، وإنكار وقوع الاستعمال في لسان الشارع على المعاني الشرعيّة ولو مجازا في غاية السقوط.

ولعلّه لذا لم يتعرّض الأكثرون لهذا النزاع ، ولا أحد من السلف لدفع مقالة القاضي في إنكار أصل الاستعمال ، فإنّه لما ذكرنا نزّل منزلة ما لا ينبغي أن ينازع فيه ، ولا الالتفات إلى قول النافي.

لكنّا نتكلّم على هذا القول توضيحا لفساده ، ليجدي الغافل القاصر عن إدراك وجه فساده.

فنقول : إنّ في المقالة المنسوبة إلى القاضي نوع إجمال ، إذ لا يدري أنّه بما نفاه من الاستعمال هل أراد ما يعمّ الاستعمال في عرف زمان الشارع والاستعمال في عرف المتشرّعة ، على معنى أنّ هذه الألفاظ لم تستعمل قطّ في عرف زمان الشارع في المعاني المحدثة الشرعيّة ، ولا أنّها مستعملة فيها في عرف المتشرّعة ، بل هي حيثما استعملت في الأوّل أو تستعمل في الثاني فإنّما يقع استعمالاتها على المعاني اللغويّة ، أو أراد ما يختصّ بعرف زمان الشارع مع الاعتراف بكونها في عرف المتشرّعة مستعملة في المعاني الشرعيّة بل منقولة إليها عندهم.

فإن أراد الأوّل ، يدفعه : ما علم ضرورة من عرف المتشرّعة من أنّها في الاستعمالات الدائرة لديهم لا تقع إلاّ على المعاني الشرعيّة المعهودة عندهم ، ولا يتبادر منها إلاّ هذه المعاني ، بل المنصف إذا راجع وجدانه يجزم أنّه لا يدرك أحد في تلك الاستعمالات شأئبة من المعاني اللغويّة ، لا بنحو الاستقلال ولا بنحو الجزئيّة ، بل معاني أكثر هذه الألفاظ مجهولة لأكثر المتشرّعة ، ولا سيّما العوام والنسوان والصبيان منهم ، على عكس المعاني الشرعيّة بالقياس إلى أهل اللغة ، وكما أنّ هذه المعاني كانت مجهولة على أهل اللغة ولم يكونوا يعرفونها ، فكذلك المعاني اللغويّة لأكثر هذه الألفاظ بالقياس إلى أكثر المتشرّعة ، ومع ذلك فكيف يعقل وقوع استعمالاتهم الدائرة فيما بينهم على هذه المعاني.

وإن أراد الثاني ، يدفعه : أمران :

ص: 265

الأوّل : إنّ الاعتراف بحدوث النقل المفروض في الأزمنة المتأخّرة عن انقطاع الوحي ، يؤول بالأخرة إلى الاعتراف بتحقّق الاستعمالات المجازيّة في زمان الوحي ، الواقعة على المعاني الشرعيّة المتداولة عند المتشرّعة ، وذلك لأنّ النقل الملتزم بحدوثه فيما بعد زمن الوحي لا يمكن فرض كونه من باب التعيين ، إذ كما أنّ أصل النقل وتحقّقه في عرف المتشرّعة معلوم بالضرورة ، فكذلك عدم تعرّض أحد منهم لنقل هذه الألفاظ بوضع التعيين معلوم ضرورة من عرفهم ، ولم يدّعه أحد على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولو ادّعاه أحد نكذّبه ، وملاحظة كلام العلماء تعطي إطباقهم على خلافه ، فلا بدّ وأن يكون ذلك النقل حاصلا من باب التعيّن المسبّب عن كثرة الاستعمالات المجازيّة.

ولا ريب انّ هذه الاستعمالات المجازيّة ليست إلاّ المتحقّقة في عرف زمان الشارع ، وقد تسرّت وتعدّت من هذا العرف إلى عرف المتشرّعة إلى أن بلغت حدّا أوجبت معه حدوث وضع التعيّن.

واحتمال حدوثها كأصل النقل ممّا بعد زمن الشرع في غاية البعد ، بل ممّا ينبغي القطع ببطلانه ، فإنّ مرجعه إلى دعوى أنّ طريقة الشارع وتابعيه ما دام زمن الوحي باقيا كانت مستقرّة على أخذ الألفاظ في استعمالاتهم لمعانيها اللغويّة مقيّدة بالزوائد ، فإذا انقضى زمان الشرع وانقطع الوحي بنى المتشرّعة على تغيير الطريقة المستمرّة من ابتداء الشرع إلى هذا الزمان ، بأن يستعملوا الألفاظ في غير ما استعملها الشارع وتابعيه مجازا ، فاستقرّت عليه طريقتهم إلى أن اشتهرت الاستعمالات المجازيّة فوصلت حدّ وضع التعيّن.

وهذا كما ترى من جملة المضحكات الّتي لا يتفوّه بها جاهل فضلا عن العلماء الأزكياء.

فإن قلت : إنّ سبق الاستعمالات المجازيّة على وضع التعيّن وإن كان من القضايا المشهورة ، إلاّ أنّه لا دليل على اعتباره في ماهيّة نقل التعيّن ، فمن الجائز حينئذ أن يكون استعمالات هذه الألفاظ في عرف الشارع واردة على معانيها

ص: 266

اللغويّة المقيّدة من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، فاشتهرت الإطلاقات الواردة على هذا الوجه إلى أن بلغت عرف المتشرّعة ، فأوجبت ثمّة تعيّن الألفاظ لما اطلقت عليها من أفراد المعاني الحقيقيّة ، فإنّ ذلك أيضا نحو من النقل التعيّني على ما جوّزه بعض متأخّري المتأخّرين ، من دون استلزامه الاعتراف بخلاف المطلوب.

قلت : أوّلا : إنّ هذا النحو من النقل وإن جوّزه بعض ممّن لا خبرة له بطريقة أهل الاصطلاح ، إلاّ أنّه ينافيه ما يستفاد منهم من انحصار نقل التعيّن فيما سبقه الاستعمالات المجازيّة.

وثانيا : إنّ فرض حصول النقل بالتعيّن بواسطة تكثّر الاستعمالات الواردة على سبيل إطلاق الكلّي على الفرد غير ممكن ، لإفضائه إلى اجتماع المتناقضين ، فإنّ وضع التعيّن بالنسبة إلى الفرد يستدعي أخذ الخصوصيّة في المنقول إليه ، وهو لكونه ناشئا عن تكثّر الاستعمالات لا يتأتّى إلاّ إذا اعتبر هذه الخصوصيّة في الاستعمالات أيضا ، وأخذ هذه الاستعمالات على وجه إطلاق الكلّي على الفرد كما هو المفروض يستدعي إلغاء الخصوصيّة ، وظاهر إنّ اعتبار الخصوصيّة وإلغاءها أمران متناقضان فلا يجتمعان في استعمال واحد ، فاستحال من جهته تحقّق النقل إلى ما لا بدّ فيه من أخذ الخصوصيّة.

وثالثا : إنّ هذا الفرض على فرض إمكانه في حصول نقل التعيّن ، إنّما يصحّ لو كان النقل المتحقّق في هذه الألفاظ من باب النقل عن الكلّي إلى الفرد.

وقضيّة كون المنقول إليه هو الفرد انفهام المعاني اللغويّة في استعمالات الألفاظ الجارية على لسان المتشرّعة ، لأنّ الفرد عبارة عن الماهيّة المقيّدة - بوصف التقيّد - وهو ممّا يبطله دليل الخلف ، بملاحظة ما بيّنّاه من أنّه لا يدرك في استعمالات هذه الألفاظ في عرف المتشرّعة شائبة من معانيها اللغويّة مطلقا.

وقضيّة ذلك كون النقل المفروض متحقّقا هنا من باب النقل عن المبائن إلى مثله ، وهذا كما ترى ممّا لا يمكن فرضه مسبوقا بإطلاق الكلّي على الفرد.

ص: 267

وبهذا الوجه يندفع ما لو عساه يقال - تفصّيا عن محذور ما ذكرناه في الوجه الثاني - : من أنّ نقل التعيّن يفرض مسبوقا بالاستعمالات المتحقّقة في عرف زمن الشرع مجازا على الوجه المفروض في الصورة الثالثة ممّا تقدّم ، المحتمل في مقالة القاضي المدّعى للتقييد بدعوى ما تقدّم من أنّه لم يظهر منه إنكار هذه النحو من المجاز ، لا على الوجه الّذي هو المتنازع فيه ، فإنّ ذلك لا ينتج ثبوت النقل على الوجه الثابت بالفرض في عرف المتشرّعة كما لا يخفى.

الثاني : احتفاف كثير من تلك الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة - بل أكثرها - بما يقضي من القرائن اللفظيّة والاعتباريّة قضاء واضحا بعدم إرادة المعاني اللغويّة منها ، ومن جملة ذلك الإقامة والإيتاء في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) المتكرّر في كتابه العزيز ، إذ لا ملائمة بينهما وبين الدعاء والنموّ ، وإن قيّدا بالزوائد ، فإنّه لو قيل : يجب عليكم إقامة الدعاء وإعطاء النموّ ، ففيه من الركاكة والحزازة الموجبين لاستهجان العرف ما لا يخفى ، بخلاف ما لو اريد منهما المعنى الشرعي ولو مجازا لعلاقة المشابهة في الاولى والسببيّة في الثانية ، التفاتا إلى أنّ إعطاء القدر المخصوص من المال يوجب فيه نموّا وزيادة.

وأيضا فإن كان مبنى إطلاق الحجّ في موارده الّتي منها قوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1) على إرادة القصد المقيّد بزوائد مخصوصة ، لكان ينبغي إطلاقه على سائر العبادات أيضا لعموم هذا المعنى باعتبار المفهوم ووجوده فيها ، ولم يعهد إلى الآن ورود نحو هذا الإطلاق في كتاب ولا سنّة ، وهذا ممّا يكشف عن إنّ هاهنا تخصيصا اعتبره الشارع في ذلك اللفظ ، وهو إمّا تجوّز به في المعنى الشرعي من حيث إنّه عبادة مخصوصة ممتازة عمّا عداها ، أو نقل له إليه ، وعلى أيّ تقدير فهو بهذا الاعتبار غير صالح لأن يطلق على غير تلك العبادة.

وقد شاع بين المتأخّرين دفع مقالة القاضي بصدق المصلّي على الأخرس

ص: 268


1- آل عمران : 97.

المنفرد ، لانتفاء الدعاء الّذي هو ذكر لفظي عنه ، وعدم اتّباعه بحكم الفرض ، وعدم محاذاة رأسه لعظم ورك من يتقدّم عليه في صفوف الجماعة ، على ما قيل من أنّها تأتي لعظم الورك ، وإنّما يسمّى المصلّي مصلّيا لمحاذاة رأسه عظم ورك غيره في الجماعة ، وكأنّه مبنيّ على زعم أن ما ينكره القاضي إنّما هو الاستعمال بالمعنى الأعمّ - حسبما احتملناه سابقا - وإلاّ فغير جيّد ، لإمكان التفصّي عنه بأنّ الصدق إن اريد به ما هو كذلك في عرف المتشرّعة فمسلّم ولكنّه غير مجد ، وإن اريد به ما هو كذلك في عرف الشارع فغير ثابت.

تحرير محلّ النزاع في الحقيقة الشرعيّة

وقد يدفع هذه المقالة بأنّ بطلانها على القول بالحقيقة الشرعيّة واضح ، فإنّ « الصلاة » اسم لهذا المركّب ، وكذا الغسل والوضوء ، فكيف يحملها على الدعاء والغسل بفتح العين المعجمة ، وعلى القول بعدمها فبعد وجود القرينة الصارفة عن اللغوي لا بدّ أن يحمل على الشرعي لكونه أشهر مجازاته وأشيعها ، وكأنّه مبنيّ على إرجاع كلام القاضي إلى نفي الثمرة ، وإلاّ فقد عرفت أنّه لا يقول بشيء من الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المعاني الشرعيّة ، وحينئذ فالوجه المذكور ليس بسديد جزما.

[49] قوله : (فذهب إلى كلّ فريق ... الخ)

واعلم أنّ المعروف المشهور بين الاصوليّين من العامّة والخاصّة في محلّ الخلاف من النزاع الثاني قولان ، الإثبات مطلقا والنفي كذلك ، كما أنّ المعروف من هذين القولين هو الإثبات مطلقا ، حتّى أنّ القول بالنفي المطلق لم ينسب في أكثر الكتب الاصوليّة إلاّ إلى القاضي.

ومنهم من أضاف إليه شرذمة اخرى من العامّة ، بل لم يعرف من أصحابنا القول بالنفي كذلك ، عدا المصنّف حيث رجّحه في آخر كلامه بعد ما زيّف حجج الطرفين ، بل في كلام بعض الأجلّة : إنّ ظاهر الاصوليّين الاتّفاق على القولين المذكورين.

وعن بعضهم التصريح بأنّه لا ثالث لهما ، وعن جماعة من متقدّميهم ومنهم

ص: 269

السيّد والشيخ والحلّي دعوى الإجماع على ثبوتها في غير واحد من الألفاظ ، وربّما عزى الميل إلى النفي إلى جماعة من متأخّري المتأخّرين.

نعم قد نسب إلى جماعة منهم أيضا حيث لم يروا وجها لإنكارها بالمرّة ، ولم يتيسّر لهم إقامة الدليل على الثبوت المطلق ، إحداث تفاصيل عديدة :

منها : ثبوتها في ألفاظ العبادات دون المعاملات الّتي يرجع فيها إلى اللغة أو العرف ، كالبيع والهبة والصلح والدين والرهن والإجارة والعارية والوديعة والغصب والميراث والقصاص والدية وغيرها ، فإنّه باقية على معانيها الأصليّة من دون طروّ نقل لها من الشارع إلى معان اخر ، وإن توقّفت صحّتها شرعا على شرائطها المقرّرة في الشريعة ، فإنّ ذلك لا ينافيه بعد قضاء الاشتراط بخروج الشرط عن ماهيّة المشروط ، القاضي بصدق اسمه بدونه ، بخلاف العبادات الّتي لا بدّ وأن تكون متلقّاة من الشارع ، كما يرشد إليه قولهم : « بأنّها توقيفيّة دون المعاملات » بعد ملاحظة عدم كون المراد بالتوقيفيّة توقيفيّة أحكامها ، فإنّ الأحكام بأسرها توقيفيّة من غير فرق بين العبادات والمعاملات ، بل توقيفيّة موضوعاتها فإنّ موضوع العبادات كنفس الحكم الشرعي مأخوذ من الشارع بخلاف المعاملات ، فإنّ المرجع فيها إلى اللغة أو العرف.

ومنها : ثبوتها في الألفاظ المتكرّر الاستعمال ، الكثير الدوران في لسان الشارع والمتشرّعة ، كلفظ الوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والإيمان والكفر ، دون غيرها ممّا لم يتحقّق عندنا كثرة استعمالها في كلام الشارع مثل الخلع والمبارات والقسم واللعان والعدالة والفسق ، وذلك لأنّ الموجب لصيرورة اللفظ حقيقة و - هو كثرة الاستعمال وتحقّق الغلبة - قد حصل في القسم الأوّل قطعا فوجب المصير إلى مقتضاه دون الثاني ، فإنّ المفروض فيه عدم حصول الكثرة والغلبة أو الشكّ في حصولهما ، وعلى التقديرين يتعيّن النفي.

أمّا على الأوّل : فلأنّ انتفاء العلّة يستلزم انتفاء المعلول.

وأمّا على الثاني : فلأنّ النقل على خلاف الأصل ، فيقتصر فيما خالفه على موضع القطع والتعيين.

ص: 270

ومنها : إنّ تلك الألفاظ إنّما صارت حقائق في زمان الباقر والصادق عليهما السلام دون ما تقدّمه من الأزمنة ، إذ الأصل بقاء المعنى اللغوي حتّى يعلم خلافه ، وقد حصل العلم في زمانهما بالاستقراء والجزم بالغلبة والاشتهار فيه ، ولأنّ الظاهر وقوع النزاع في ذلك الزمان أو ما قاربه ، فيجب الحكم بمقتضى العلم فيه دون غيره لانتفاء المقتضى ، وهذا كما ترى ليس قولا بالتفصيل في الحقيقة الشرعيّة بل هو راجع إلى النفي المطلق.

غاية الأمر ، إنّه يفارقه في تضمّنه تعيين زمان النقل ، فلا معنى لعدّه من أقوال ثبوت الحقيقة الشرعيّة.

ومنها : ثبوتها في الألفاظ الكثير الدوران في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وفي غيرها في زمان الصادقين عليهما السلام ، وهذا كما ترى راجع إلى التفصيل الثاني ، إلاّ في تعيين زمان النقل في غير الكثير الدوران ، فلا معنى لأخذه في الطرف المقابل له.

ومنها : ثبوتها في بعض الألفاظ في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وفي الآخر في زمن الحسنين عليهما السلام وفي ثالث في زمن الصادقين عليهما السلام وهكذا ، وبعضها لم يصر حقيقة إلى الآن.

ومنها : إنّ المنقولات المتداولة على لسان المتشرّعة مختلفة في القطع بكلّ من استعمالها ونقلها بحسب اختلاف الأزمنة اختلافا بيّنا ، حتّى أنّ منها ما يقطع بحصول الأمرين فيه في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، ومنها ما يقطع باستعمال النبيّ صلى اللّه عليه وآله في المعنى الشرعي لكن لا يعلم صيرورتها حقيقة إلاّ في زمان انتشار الشرع ، وظهور الفقهاء والمتكلّمين الباحثين عن الأحكام المتعلقة بتلك الألفاظ.

ومنها : ما لا يقطع فيه باستعمال الشارع ، فضلا عن نقله وصيرورته حقيقة في زمانه ، ومنها ما لا يقطع فيه بتجدّد النقل والاستعمال في زمان الفقهاء.

وإذا كانت الألفاظ مختلفة هذا الاختلاف فكيف يحكم بتحقّق النقل فيها في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله بل الواجب حينئذ هو التفصيل بينها بحسب العلم بتحقّق موجب الوضع وانتفائه ، وطريقه التتبّع الكاشف عن حصول الغلبة والاشتهار.

ص: 271

في ثمرة النزاع في الحقيقة الشرعيّة

[50] قوله : (وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام الشارع ، فإنّها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأوّل ، وعلى اللغويّة بناء على الثاني ... الخ)

وظاهر إنّ ثمرة النزاع إنّما تظهر إذا تجرّدت الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة عمّا يفيد من القرائن إرادة المعنى اللغوي أو إرادة المعنى الشرعي.

وقد اضطربت عباراتهم في تقرير الثمرة اضطرابا فاحشا ، فمنهم من أطلق الحكم بالحمل على الشرعي على القول بالثبوت ، واللغوي على القول الآخر كالمصنّف وغيره.

ومنهم من فصّل كبعض الأعلام بين وضع التعيين فيحمل على الشرعي مطلقا ، ووضع التعيّن فلا يحمل عليه إلاّ إذا علم بتأخّر الصدور عن الوضع ، وأمّا إذا لم يعلم به فيمكن صدوره قبله مع احتمال إرادة المعنى الشرعي بقرينة اختفيت علينا ، أو إرادة المعنى اللغوي فيحمل على اللغوي في الجميع ، وإطلاقه يقضي بعدم الفرق بين العلم بصدوره قبله وعدمه.

ومنهم من فصّل بنحو ما ذكر ، لكن جعل الصور على تقدير وضع التعيّن ثلاثيّة من حيث العلم بتاريخي الوضع والصدور ، والعلم بتارخى أحدهما ، والجهل بتاريخهما ، فعلى الأوّل يحمل على الشرعي إن كان المتقدّم تاريخ الوضع ، واللغوي إن كان المتقدّم تاريخ الصدور ، وكذلك على الثاني بعد انضمام أصالة التأخّر المقتضية لتأخّر ما جهل تاريخه ، فإذا تأخّر يلحقه حكمه حسبما ذكر ، وأمّا على الثالث فلا بدّ من الوقف ، لتعارض الأصلين وتكافؤ الاحتمالين ، وعدم مرجّح في البين.

ومنهم من فصّل بنحو ما ذكر ، مع ترجيح الحمل على الشرعي في الصورة الثالثة ، بناء على إعمال الأصلين المنتج للمقارنة المقتضية له ، مع استشكال فيه بملاحظة أنّ المقارنة بين التاريخين إن كانت فهي من الامور الاتّفاقيّة فيعزّ وقوعها ، بخلاف الجهل بالتاريخين فإنّه واقع في غالب الألفاظ بالنظر إلى غالب

ص: 272

استعمالاتها ، فلو بنى على إعمال الأصلين لإثبات المقارنة لحكمنا بغلبة ما لا نشكّ في ندرته ، ومرجعه إلى مخالفة العلم الإجمالي المانع عن الاعتبار ، فتعيّن رجحان الوقف.

ومنهم من اعترض على إطلاق الحكم في وضع التعيين أيضا ، لجريان احتمال التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى الصدور والوضع فيه أيضا ، فلا وجه لتخصيص ما تقدّم من التفصيل بوضع التعيّن ، ثمّ اعتذر عنه بأنّ الّذي يظهر من تتبّع أحوال الواضعين أنّهم حين التعرّض للوضع يقدّمونه على الاستعمال حذرا عن اللغو.

وهذا هو وجه الإطلاق وعدم إجراء التفصيل في وضع التعيين ، وقد يضاف إليه كونه ممّا يقضي به ما دلّ على ثبوت الوضع من باب التعيين في صدر الإسلام ، وهو كون الوضع ممّا يحصل معه الغناء عن تجشّم القرائن الّتي هي في معرض الزوال وعدم الثبات ، فثبوته من مقتضى الحكمة الإلهيّة.

ومنهم من التزم بإجراء التفصيل في وضع التعيين أيضا بزيادة يسيرة فيه ، وهو إنّه إمّا أن يعلم كون تحقّق الوضع قبل أوائل الاستعمال ، أو يعلم كونه بعدها ، أو لا يعلم بشيء منهما ، والأوّل حكمه واضح من حيث تعيّن حمله على المعنى الشرعي ، وكذلك على الثاني إن علم بالتاريخين مع تقدّم تاريخ الوضع ، أو علم تاريخ الوضع مع جهالة تاريخ الصدور بعد الحكم عليه بالتأخّر عملا بأصالة التأخّر ، بخلاف ما لو تقدّم تاريخ الصدور ، أو كان المعلوم هو الصدور ، لوجوب الحمل حينئذ على اللغوي ولو بانضمام الأصل.

وأمّا مع جهالة التاريخين فكلّ من تعرّض لذلك التفصيل فبناؤه على الوقف لتعارض الأصلين مع تكافؤ الاحتمالين.

ويمكن الذبّ عن الوقف بأنّ احتمال تحقّق الوضع بعد أواسط الاستعمال أو أواخره بعيد جدّا ، بخلاف الصدور ، فإنّ احتمال كون تحقّقه بعد الأواسط أو بعد الأوائل ليس بذلك البعيد ، بل ليس إلاّ كاحتمال كونه بعد الأوائل بل قبلها ، فإنّ الكلّ محتمل على حدّ سواء ، فيصحّ الحكم بتأخّره إلى ما بعد أواخر

ص: 273

الاستعمال استنادا إلى الأصل ، ولازمه الحمل على المعنى الشرعي أخذا بموجب تقدّم الوضع.

وفي جميع ما ذكر من التشويش وعدم الانضباط ما لا يخفى.

وتحقيق المقام : أنّ أخذ الثمرة مسبوق بإحراز كون الوضع على القول بالثبوت وضع تعيين أو تعيّن ، وطريقه النظر في مفاد الأدّلة المقامة على الثبوت ، فإمّا أن يكون مفاد الجميع وضع تعيين ، أو مفاد الجميع وضع تعيّن ، أو مفاد البعض وضع تعيّن مع سكوت الباقي أو بالعكس ، أو مفاد البعض وضع تعيين والآخر وضع تعيّن على وجه التعارض ، أو يكون الكلّ ساكتة.

وهذه ستّ صور يحمل اللفظ في اوليها وثالثتها على المعنى الشرعي مطلقا ، لأصالة الحقيقة التابعة للوضع الشرعي ، وكذلك في الثانية والرابعة مع العلم بتأخّر الصدور عن الوضع.

وأمّا مع عدمه فلا مناص من الوقف مطلقا.

أمّا مع الجهل بتاريخيهما أو تاريخ أحدهما ، فلعدم جريان أصالة الحقيقة المقتضية لحمل اللفظ على معناه اللغوي أو الشرعي ، سواء كان مبناها على الظهور الشخصي أو النوعي ، لصيرورة اللفظ المستعمل لأجل الوضع المردّد بين كونه الوضع اللغوي أو الوضع الشرعي مجملا ، لتردّده بين حقيقته اللغويّة وحقيقته الشرعيّة ، فالاشتباه إنّما هو في تعيين المقتضي للحمل على الحقيقة هل هو الوضع اللغوي أو الوضع الشرعي ، وليس من باب ما يتردّد بين حقيقته ومجازه ليكون الاشتباه من جهة احتمال التجوّز.

وأمّا مع العلم بتقدّم الصدور على الوضع ، فلأنّ تحقّق نقل التعيّن وتأخّره عن الصدور يكشف عن كون اللفظ حين صدوره من المجاز المشهور ، بناء على أنّ كلّ نقل تعيّني مسبوق بالمجاز المشهور ، والمشهور في المجاز المشهور هو الوقف.

وتوهّم جريان التفصيل في وضع التعيين أيضا ، يدفعه : إنّ المعلوم من حال الواضعين بالتتّبع إنّهم يقدّمونه على نوع الاستعمالات ، مع أنّ الحكمة الّتي تدعو

ص: 274

الشارع إلى الوضع والتعيين - وهو رفع كلفة مراعاة القرينة للتفهيم أو التفهّم - تدعوه إلى تقديمه على نوع الاستعمال كما هو واضح.

واحتمال أنّ الشارع بنى أوّلا على التجوّز ، ثمّ بدا له بعد مدّة أن يضعه لرفع تجشّم القرينة ، احتمال سخيف لا يلتفت إليه ، ودعوى جوازه ممّا لا يصغى إليه.

أمّا الخامسة ، فهي لمكان التعارض راجعة إلى السادسة ، وفيهما لا بدّ من الرجوع إلى مسألة دوران الوضع الثابت بين نوعيه ، فإن كان ثمّة أصل يعوّل عليه - كما زعمه بعض في جانب التعيّن استنادا إلى أصالة التأخّر وأصالة عدم الوضع - فيؤخذ بموجبه ويلحقه الحكم المتقدّم ، وإلاّ فلا مناص من الوقف ، وحيث إنّه قد تقدّم منّا - في تعريف الفقه - منع وجود نحو هذا الأصل بالمناقشة فيما عرفته من الأصلين ، فالمتّجه حينئذ هو الوقف لا غير.

الأمر السادس : في بيان ما ينضبط به موضوع المسألة ، ويعنون به محلّ النزاع ليتميّز به عمّا هو خارج عنه.

وبعبارة اخرى : الضابط الكلّي الّذي يندرج فيه كلّ ما هو من موضوع المسألة ويخرج عنه ما عداه ، وهو يتصوّر من وجوه :

أحدها : الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة المستعملة في غير معانيها الأصليّة اللغويّة ،فما ليس بوارد فيهما ، أو ليس بمستعمل في غير المعاني اللغويّة خارج عن المتنازع.

وثانيها : الماهيّات المخترعة الشرعيّة الّتي اخترعها وأحدثها الشارع ، المغايرة لماهيّات المعاني اللغويّة ، فالمتنازع فيه الألفاظ الواقعة على تلك الماهيّات دون ما يقع على غيرها.

وثالثها : الألفاظ الّتي هي حقائق متشرّعة ،وهي الّتي صارت حقائق عند المتشرّعة في غير معانيها اللغويّة ، سواء كانت من الماهيّات المخترعة أو غيرها ، فما ليس بحقيقة عند المتشرّعة فليس بداخل في موضوع المسألة.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه لوجوب كون موضوع المسألة معنونا بعنوان يتوارد عليه أقوالها.

ص: 275

وقد عرفت أنّ العمدة من نفاة الحقيقة الشرعيّة هو القاضي المنكر لأصل الاستعمال ، فلو أخذ العنوان على الوجه المذكور لتدافع دعواه لأصل العنوان كما لا يخفى.

أو يقال : إنّ موضوع المسألة في النزاع الثاني بعينه موضوعها في النزاع الأوّل ، ومعه لا يعقل أخذ العنوان على الوجه المذكور. فتأمّل.

والثاني أيضا ممّا لا سبيل إليه ، أمّا أوّلا : فلما يوجد منهم من دعوى الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ مخصوصة ليس معانيها من الماهيّات المخترعة.

ومن جملة ذلك صيغ العقود ، المدّعى في كلام جماعة منهم كونها حقائق شرعيّة في الإنشاء ، الّذي ليس من محدثات الشارع.

ومنها ما ذهب إليه بعضهم من كون الأمر الواقع عقيب الحظر حقيقة شرعيّة في الإباحة ، ومنها ما عليه السيّد المرتضى في صيغة « إفعل » من كونها لغة مشتركة بين الوجوب والندب ، لكنّها في عرف الشارع صارت حقيقة شرعيّة في الوجوب خاصّة (1) إلى غير ذلك من المواضع الّتي يقف عليها البصير.

وأمّا ثانيا : فلقضائه بعدم إمكان دخول القاضي في النزاع بالتقريب المذكور ، نظرا إلى أنّ إنكار الاستعمال بالمرّة يتضمنّ إنكار الاختراع الشرعي أيضا ، كما هو واضح فتعيّن الثالث ، وهو الّذي يساعد عليه تعبيرات الاصوليّين وعنواناتهم ، فإنّها لمن يراجعها بين صريحة وبين ظاهرة في ذلك ، ولذا قرّروا النزاع في بدو زمان حدوث الوضع والنقل ، بعد الفراغ عن إثباتهما في عرف المتشرّعة والاتّفاق عليه.

وإن شئت لا حظ عبارة المصنّف وغيره ، وإنّما يظهر فائدة ما بيّنّاه من الضابط في الموارد المشتبهة ، بعد الفراغ عن إثبات الحقيقة الشرعيّة - ولو في الجملة - من الألفاظ المخصوصة الّتي ربّما وقع الخلاف بين الفقهاء في كتبهم الفقهيّة في ثبوت

ص: 276


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 51.

الحقيقة الشرعيّة فيها أيضا أو عدم ثبوتها فيها خاصّة ، فإنّ الاشتباه فيها ربّما ينشأ عن عدم تبيّن اندراجها في صغرى المسألة ، الّتي لا يحرزها إلاّ الضابط المذكور ، وربّما ينشأ عن عدم تبيّن اندراجها في كبراها الّتي أحرزها الاصوليّون. وربّما ينشأ عنهما معا.

فعلى الأوّل يعرض المورد على الضابط المذكور ، فإمّا أن يتبيّن الاندراج أو عدمه. وعلى التقديرين ارتفع الإشكال.

وعلى الثاني يعرض على دليل الكبرى المقام عليه ما في المسألة الاصوليّة استعلاما لعمومه له وعدمه ، فيرتفع الإشكال لا محالة.

وعلى الثالث يعرض على الأوّل ، فإن تبيّن الاندراج في الصغرى يعرض على دليل الكبرى فيتخلّص عن الاشتباه إن شاء اللّه.

احتجاج المثبتين لوجود الحقيقة الشرعيّة

[51] قوله : احتجّ المثبتون ... الخ

الحقّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الجملة ، والعمدة من دليله الاستقراء ، والمعتمد في تقريره : الاستقراء في طريقة المخترعين من أرباب الحرف والصنائع وغيرهم ممّن أحدث مركّبا جعليّا ، واخترع ماهيّة مركّبة مثل المركّبات الاعتباريّة الخارجيّة ومعاجين الأطبّاء وغيرها ، فإنّ عادة كلّ مخترع في مخترعه جارية بجعل تسمية ووضع اسم له ، ليجديه في مقام الإفادة والاستفادة ، ويرفع عنه وعن تابعيه كلفة نصب القرائن ، وتجشّم مراعاة ما يعين في فهم المقصود وتفهيم ما في الضمير ، بل الالتزام به من فطريّات المخترع كائنا من كان ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ومن هذا الباب ألفاظ الفنون المدوّنة ، ومصطلحاتها المتداولة المعهودة ، وأسامي الرسائل المؤلّفة والكتب المصنّفة.

وبالجملة : لم يعهد عن مخترع إهماله جعل التسمية ووضع الاسم لمخترعه ، بل المعهود عن قاطبة المخترعين الاهتمام فيهما ، بل الغالب فيما بينهم تقديم الوضع والتسمية على الشروع في اختراع المسمّى أو إتمامه ، كما نشاهده في

ص: 277

تسمية المصنّفين والمؤلّفين لمصنّفاتهم ومؤلّفاتهم بأساميها المعهودة ، فكيف بالشارع تعالى مع ما فيه من الحكمة البالغة ، ومخترعاته مع ما فيها من شدّة الاهتمام بشأنها ، وكثرة المحافظة عليها ، والقصد فيها إلى استمرارها وبقائها أبد الدهور ، وإنّه تعالى رتّب عليها أحكاما ، وتعلّق غرضه بامتثالها ، وبنى أمر المحاورة مع تابعيه ورعيّته على التخاطب بها ، وأخذها في مكالماته وسائر مخاطباته ، فيحصل القطع الضروري لمن راجع وجدانه وفطرته الأصليّة بأنّه لم يهمل جعل التسمية ووضع أسام لها ، مع ما فيهما من تسهيل الأمر على تابعيه ، حيث يتضمّن رفع تجشّم مراعاة القرائن عنهم ، والعمل على موجب حكمته البالغة لما في الوضع من حصول كمال المقصود ، وعدم كون اللفظ معه في معرض فوات ما قصد إفادته به ، من حيث ثباته حيثما حصل وعدم زواله فيستحيل عنه التخلّف ، بخلاف القرائن الّتي يعتمد عليها في مكان الوضع ، فإنّها تارة : في معرض الزوال ، واخرى : في معرض الخفاء ، وثالثة : في معرض الغفلة وعدم الالتفات إليها من السامع ، فيغلب عليها فوات الغرض من الخطاب.

ويتأكّد ذلك الحكم مضافا إلى ما ذكر ، بملاحظة ما تقدّم من عدم ظهور الخلاف بين قدماء أصحابنا في ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، بل ظهور إطباقهم عليه وإجماعاتهم المنقولة عليه في جملة من الألفاظ.

وقضيّة ذلك كلّه انعقاد ذلك اصطلاحا له حادثا منه من أوّل بناء الشرع ، واردا على الاصطلاح القديم الثابت من أهل اللغة ، فالمتعيّن حينئذ وجوب حمل خطاباته على مصطلحاته عملا بالأصل فيه ، إلى أن يعلم خلافه بقيام قرينة قاضية به.

وما يقال - في الاعتراض عليه من دعوى معارضته بالاستقراء المقرّر بأنّ الألفاظ الّتي كان تكلّمه فيها بمقتضى الاصطلاح القديم لا تحصى عددا ، وما نحن فيه بالقياس إليه قطرة في مقابلة البحر - غير مفهوم المراد إذ لو اريد به نفي الثمرة المذكورة فإنّما يتّجه إذا لم ينعقد له اصطلاح خاصّ به ، ودار كلامه بين أن يتوجّه إلى ما اقتضاه العرف القديم أو ما يساعد عليه العرف الحادث بعد زمانه.

ص: 278

وأمّا مع انعقاده كما هو مفروض المقام ، ومفاد الدليل المقام عليه ، فالمتعيّن متابعته ولو كان حادثا.

وإن اريد به القدح في الدليل فلا يعارضه بعد ملاحظة ثبوت تكلّمه بتلك الألفاظ أيضا ، لإفادة المعاني الجديدة - ولو مجازا - كما هو مفروض المقام. مسلّم على كلّ تقدير ، إذ الكلام إنّما هو بعد الفراغ عن دفع شبهة القاضي في إنكار أصل الاستعمال ، فالاعتراض بالوجه المذكور في نحو المقام في غاية السقوط.

ويقرب منه في السقوط ما أورد على المختار أو دليله المذكور ، بقوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1).

وفيه : إنّ لسان القوم لا يتغيّر بمجرّد تغيير التسمية وإثبات المسمّى الآخر ، كما أنّه لا يتغيّر بالتجوّز على تقدير انتفاء التسمية ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ هذه الألفاظ من ألفاظ لغتهم بموادّها وهيئاتها واسلوب المركّبات التي هي واقعة فيها.

لا يقال : لعلّ الدليل المذكور عقيم بالنسبة إلى إنتاج الوضع للألفاظ المتنازع فيها ، إذ غاية ما يفيده ثبوت تسمية بإزاء المعاني الشرعيّة ، وأمّا كونها واقعة على تلك الألفاظ فلا.

لأنّا نقول : يندفع ذلك بما علم ضرورة وبإجماعهم المعلوم كذلك عليه ، من أنّ المعاني الشرعيّة المتداولة في عرف المتشرّعة لو كانت بحيث تصدّى الشارع بوضع ألفاظ لها ، فلا تكون هذه الألفاظ إلاّ الألفاظ المعهودة الواقعة عليها في عرف المتشرّعة.

نعم إنّما يتوجّه الإشكال إلى الدليل من حيث عموم نتيجته بالقياس إلى جميع الألفاظ المتنازع فيها وخصوصها.

وبعبارة اخرى : كون نتيجته محصورة كلّية أو مهملة حيث اخذ في مورده الاختراع فلا يدرى أنّ المعاني المستعمل فيها هل هي بأجمعها من مخترعات الشارع أو لا؟

ص: 279


1- إبراهيم : 4.

ويظهر أثر هذا الإشكال في ألفاظ المعاملات بعد ما تبيّن كون ماهيّات العبادات من مخترعات الشارع ، فالمعاملات بهذا الاعتبار ممّا اشتبه حاله من حيث اندراجه في كبرى المسألة ، وفيها اشتباه آخر من حيث اندراجها في صغرى المسألة ، المتقدّم ذكرها عند بيان الضابط الكلّي ، الّذي يعنون به موضوع المسألة فينبغي التكلّم فيها من جهتين.

في ثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات وعدمه

الجهة الاولى : في أنّ الألفاظ الواقعة على المعاملات هل ثبت فيها للمتشرّعة اصطلاح خاصّ وارد على اصطلاح العرف واللغة ، لتكون حقائق متشرّعة أو لا؟ وينبغي الإشارة أوّلا : إلى الفرق بين العبادات والمعاملات ، وبيان ما هو محلّ الاشتباه من المعاملات.

فنقول : إنّ العبادات قد تطلق على ما لا مقابل لها من المعاملات ، وهو كلّ ما يتوقّف ترتّب الثواب عليه على النيّة وقصد القربة ، ويدخل فيها بهذا المعنى جميع المعاملات من العقود والإيقاعات وجميع المباحات الأصليّة بل المكروهات أيضا ، فضلا عن الواجبات والمندوبات ، لما ثبت في كلّ واحد جهة رجحان بعروض بعض الوجوه والاعتبارات ، لو أتى به المكلّف بداعي ذلك الرجحان لاستحقّ الثواب ، ولا ينبغي أن ينزّل عليه العبادات في قول من خصّ الحقيقة الشرعيّة بها لوضوح فساده.

وقد تطلق على ما هو أخصّ من الأوّل وهو كلّ ما كان مبنى مشروعيّته في الدين على ورود الأمر به إيجابا أو ندبا سواء توقّف صحّته على النيّة أو لا ، فدخل فيه جميع الواجبات الأصليّة تعبّديّة أو توصليّة ، بل المندوبات كذلك ، ويقابله المعاملات ، وهذا أيضا ممّا لا ينبغي أن يكون مرادا لمخصّص الحقيقة الشرعيّة بالعبادات ، وإلاّ لزم منه القول بما لم يتفوّه به أحد ، من ثبوت الحقيقة الشرعيّة في مثل الغسل عن الأخباث ، وإزالة النجاسة عن المسجد ، وكفن الأموات ودفنهم وإنقاذ الغريق ، وإطفاء الحريق ، وغير ذلك من التوصّليّات.

وقد تطلق على ما هو أخصّ ممّا ذكر ، وهو كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة

ص: 280

مؤثّرة كانت في استحقاق المثوبات الاخرويّة أو لا ، فدخل فيه عتق الكافر بناء على اشتراط القربة فيه وإمكان حصولها من الكافر ، ويقابله المعاملات ، والظاهر إنّه أيضا ليس بمراد ، لظهور كلام مخصّص الحقيقة الشرعيّة بالعبادات ومعمّمها بالقياس إلى المعاملات أيضا في عدّ مثل العتق من جملة المعاملات.

وقد تطلق على ما هو أخصّ من ذلك أيضا ، وهو كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة المؤثّرة ، فخرج عنه نحو العتق ويقابله المعاملات.

وهذا هو المراد جزما ، فمحلّ الاشتباه هو المعاملات بهذا المعنى ، والّذي يساعد عليه النظر فيه عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة أيضا في المعاملات بهذا المعنى ، لأنّها أوّلا على قسمين :

أحدهما : الألفاظ الواقعة على التوصّليّات من الواجبات والمندوبات ، وعدم ثبوت شيء من الحقيقتين فيها واضح.

ولعلّه إلى ذلك يرجع فرقهم في موضوعات الأحكام بين العبادات والمعاملات ، بكون الاولى كنفس الأحكام توقيفيّة فلا بدّ وأن تتلقّى من الشارع بخلاف الثانية ، الّتي ترجع لمعرفتها إلى العرف أو اللغة ، بناء على أن يكون المراد بهما ما ينقسم إليهما واجبات الشرع.

وثانيهما : الألفاظ الواقعة على العقود والإيقاعات وهذا أيضا على قسمين :

الأوّل : ألفاظ عقود أو إيقاعات تسميتها بتلك الألفاظ معروفة عند عامّة المتشرّعة ، وإطلاقها عليها متداول لدى قاطبتهم ، وذلك كالبيع والصلح والهبة والإجارة والوكالة وما أشبه ذلك.

والظاهر أنّ هذه الألفاظ بالقياس إلى معانيها المعهودة ليست بحقائق شرعيّة ولا حقائق المتشرّعيّة ، بل هي مندرجة في الحقائق العرفيّة العامّة أو اللغويّة ، ولم يتصرّف فيها الشارع إلاّ بطريق التقييد ، وإمضاء طريقة العرف في إعمال هذه العقود وتقريرهم عليها ، وإن تضمّن نحوا من التخصيص بإثبات قيود زائدة على ما يتداوله العرف ، ولذا لا يختصّ تداولها وإطلاق ألفاظها عليها بأهل هذا الشرع ، بل يعمّهم وسائر الشرائع والديانات ، بل منكري الشرائع والأديان كما هو واضح.

ص: 281

فالقول بحصول اصطلاح فيها للشارع أو المتشرّعة في غاية السخافة ، ولذا نرى الفقهاء لا يزالون يراجعون العرف أو اللغة فيها لشبهة مفهوم أو مصداق.

ويمكن اندراج ذلك أيضا في قضيّة قولهم : « المعاملات يرجع فيها إلى العرف أو اللغة ».

الثاني : ألفاظ تسمية معانيها من العقود والإيقاعات بها معروفة عند الفقهاء ، وإطلاقها عليها متداول في لسانهم خاصّة دون عامّة المتشرّعة حتّى عوامهم ، وذلك كالخلع والمباراة واللعان ونظائرها ، فإنّ المعلوم منها في قاطبة المتشرّعة إنّما هو وجود معاني هذه الألفاظ حيث قد يقع فيما بينهم طلاق خلع أو مباراة أو نحو ذلك.

وأمّا تسمية هذه المعاني بالألفاظ المذكورة فليست متداولة إلاّ في لسان الفقهاء ، بحيث لو أورد على غيرهم هذه الألفاظ لكانت في نظرهم الألفاظ من الغريبة ، وفي هذا النحو من الألفاظ يحتمل وجوه :

منها : أن يقال : إنّ الشارع تعالى قد وضعها من أوّل بناء الشرع لتلك المعاني فوصلت إلى الأئمّة عليهم السلام كذلك ، ومنهم إلى الفقهاء ولم يتعدّهم إلى غيرهم من عوام المتشرّعة لقلّة ابتلائهم بمعانيها ، فتكون حقائق شرعيّة دون المتشرّعة العامّة.

ومنها : أن يقال : إنّ الشارع لم يتصرّف فيها إلاّ بطريق التجوّز ، غير أنّها إذا وصلت إلى الأئمّة عليهم السلام صارت حقائق في لسانهم ، ثمّ وصلت منهم كذلك إلى الفقهاء ، ولم تتعدّهم إلى غيرهم ، فتكون حقائق متشرّعة خاصّة.

ومنها : أن يقال بتلك الصورة غير أنّها في لسان الأئمّة لم تبلغ حدّ الحقيقة ، وإنّما بلغت بهذا الحدّ في لسان الفقهاء خاصّة ، وخفيت على غيرهم فتكون حقائق فقهائيّة.

ومنها : أن يقال : بعدم تطرّق تجوّز ولا وضع شرعي ولا متشرّعي ولا فقهائي إليها ، بل هي حيثما اطلقت على هذه المعاني فإنّما اطلقت باعتبار مفاهيمها العرفيّة أو اللغويّة لتكون من جملة الحقائق العرفيّة ، أو اللغويّة الأصليّة.

ص: 282

وهذه الوجوه كما ترى كلّها قائمة في نحو المقام ، ولم ينهض على ترجيح شيء منها حجّة واضحة يصحّ التعويل عليها ، حتّى إنّ أهل القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات مطلقة لم يأتوا بشيء ينبغي الركون إليه ، فلا بدّ فيها حينئذ من مراجعة الاصول ، فيبنى على الوجه الأخير حيثما دار الأمر بينه وبين إحدى الثلاث الاولى ، لأصالة عدم النقل وأولويّة التقييد بالقياس إلى النقل والمجاز ، وعلى ثاني الوجوه لو دار بينه وبين الأوّل ، وعلى ثالثها لو دار بينه وبين الثاني ، للأصل فيهما وهو أصالة التأخّر لو قلنا بها في نظائر المقام.

وعلى جميع التقادير فهذه الألفاظ ليست بحقائق شرعيّة ولا المتشرّعة بالمعنى المأخوذ في عنوان المسألة ، بل هي إمّا حقائق أصليّة أو المتشرّعة الخاصّة أو الحقائق الفقهائيّة ، فالقول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها لعلّه على خلاف التحقيق.

وقضيّة ذلك كلّه كون الحقّ في المسألة هو الأوّل من التفاصيل المتقدّمة ، بل أنت بملاحظة ما أشرنا إليه من ظهور عدم ورود ما يكون من قبيل ألفاظ المعاملات في تمثيلات كلّ من تعرّض لتحرير محلّ النزاع في عدم كونها من موضوع المسألة ، ويشعر به ما يأتي من أوّل حجّتي النفاة حيث أخذ فيه التكليف واشتراطه بالفهم ، تعرف أنّه ليس تفصيلا فيها.

ويلحق بالمعاملات في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة فيها طوائف من الألفاظ ، ممّا توهم أو يمكن أن يتوهّم ثبوتهما فيها.

الاولى : عدّة ألفاظ واقعة على جملة من العبادات الّتي ليست من الماهيّات المخترعة والمعاني المستحدثة الّتي أحدثها الشارع ، كالطواف والوقوف والذبح ونحوها من مناسك الحجّ ، ومنها الاعتكاف ، فإنّها بمفاهيمها الأصليّة مع ما أثبت لها الشارع من القيود والزوائد اخذت في حيّز الأمر ، واجريت عليها أحكام العبادة ، والظاهر إنّه من هذا الباب ركوع الصلاة الّذي هو عبارة عن انحناء خاصّ وسجودها ، بناء على مجيئه في أصل اللغة لوضع الجبهة على الأرض ، كما يظهر من كلام بعض أهل اللغة.

ص: 283

الثانية : الألفاظ الواردة في خطاب الشرع كتابا أو سنّة لبيان ماهيّات العبادات ، ومنها الغسل والمسح الواردين في قولهم عليهم السلام : « الوضوء غسلتان ومسحتان ».

الثالثة : الألفاظ الواردة لبيان نفس الأحكام ، سواء كانت من قبيل الهيئآت كصيغ الأمر والنهي ، فإنّها بمعانيها العرفيّة أو اللغويّة تفيد الأحكام الشرعيّة ، والقول بالحقيقة الشرعيّة في بعضها - على ما تقدّم إليه الإشارة - شاذّ لا يلتفت إليه ، مع ورود الدليل بخلافه ، أو من قبيل الموادّ كالوجوب والتحريم ، والندب والكراهة ومرادفاتها ، فإنّ ورودها في معانيها المعهودة من الأحكام الخمس التكليفيّة اصطلاح من الفقهاء والاصوليّة ، فلا ينزّل ما يرد منها في خطاب الشرع عليها إلاّ لقرينة ، ولذا كثر إطلاق الواجب في النصوص على جملة من المستحبّات ، كما في موثّقة سماعة المتكفّلة لبيان الأغسال المفروضة والمسنونة ، من إطلاقه على كثير من الأغسال الّتي لا يشكّ في استحبابها ، كغسل المولود ، وأوّل ليلة من شهر رمضان ، ودخول البيت ونحوه ، فإنّه لا يلائم إلاّ بإرادة الثابت في الشريعة.

وقد شاع إطلاق الكراهة في أخبار الأئمّة عليهم السلام على الحرمة بل جزم بعض مشايخنا بكون الأصل في لفظ « الكراهة » حيثما ورد في الأخبار وكلام القدماء من فقهائنا الأخيار هو الحمل على الحرمة ، و « السنّة » على ما يستفاد من جملة من النصوص كان يطلق في عرف الأئمّة عليهم السلام على قسم من الواجب ، وهو ما ورد وجوبه في السنّة النبويّة ، في مقابلة « الفرض » المعهود إطلاقه على القسم الآخر وهو ما ثبت وجوبه بالكتاب ، ومنه ما ورد في بعض الأخبار في تعليل عدم إجزاء الأغسال الاخر غير غسل الجنابة عن الوضوء من قوله : « الوضوء فريضة والغسل سنّة ، ولا يسقط الفريضة بالسنّة ».

الرابعة : الألفاظ الواقعة على معان ليست من مقولة العبادات ولا من مقولة المعاملات من العقود والإيقاعات ، « كالعدالة » و « الفسق » و « المؤمن » و « الكافر »

ص: 284

و « الطهارة » و « النجاسة » فإنّ العدالة لغة الاعتدال والاستقامة ، وإذا اضيفت الاستقامة إلى الإنسان في أمر الدين لا معنى له إلاّ الملكة الرادعة ، والأحكام المعلّقة عليها في الشرع واردة عليها باعتبار هذا المعنى وهي باعتبار هذا المعنى يرد إطلاقها في كلام الفقهاء على الملكة باتّفاق منهم ، والاختلاف المعروف فيها ليس اختلافا في معناها ، بل هو - على ما حقّق - اختلاف في الطرق المثبتة لها ، الكاشفة عن حصولها ، و « الفسق » هو الخروج عن طاعة اللّه ولم يظهر من الشارع إطلاقه في غير هذا المعنى ، والإيمان هو التصديق ، والكفر هو الستر ، والطهارة هو النظافة ، والنجاسة ضدّ لها على ما بيّنّاه سابقا.

غاية الأمر ، إنّ الشارع أضاف إلى هذه المفاهيم جملة من الزوائد والخصوصيّات ، وهو في نحو الفرض لا يستدعي نقلا ولا وضعا جديدا ، ولا تجوّزا كما هو واضح.

وأمّا ما قيل في الاستدلال على ثبوت الحقيقة الشرعيّة بقول مطلق ، من أنّا نجد هذه الألفاظ في الكتاب العزيز والسنّة النبويّة واستعمالات الصحابة والتابعين قد استعملت في المعاني الشرعيّة الحادثة غالبا ، ونرى استعمالها في المعاني اللغويّة السابقة في غاية الندرة ، حتّى كاد أن لا يوجد منها في الكتاب والسنّة عين ولا أثر ، وهذا يدلّ على أنّ الشارع بنى الأمر على هجر المعاني اللغويّة ، ونقل تلك الألفاظ إلى المعاني الحادثة من أوّل الأمر.

فلا يخفى ما فيه ، من عدم وفائه بتمام المدّعى ، مع توجّه المنع إلى الصغرى ، بل أصل الاستعمال إن اريد بها ما يعمّ المعاملات ونحو ما ذكر من الألفاظ الملحقة بها كما يعلم بملاحظة ما سبق.

وأضعف منه الاستدلال أيضا بأنّ أهل البيت والصحابة وعلماء الأمصار في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلّون بما اشتمل عليه الكتاب والسنّة ، ولم ينكر عليهم أحد ، فإنّ للخصم مجالا واسعا في دفعه : بإبداء كون اعتمادهم في ذلك على قرائن وجدوها مع الألفاظ ، قاضية بإرادة المعاني الحادثة كما هو الغالب الّذي تقدّم الإشارة إلى بعضه.

ص: 285

ولذا ترى الاصوليّين بين ناف لثمرة الخلاف في المسألة ، تعليلا بفقد لفظ يكون مجرّدا عن القرائن الصارفة عن المعنى اللغوي.

وبين مصرّح بقلّتها التفاتا منه إلى قلّة ورود هذه الألفاظ في كلام الشارع مجرّدة عمّا يصرفها عن معانيها الأصليّة.

وربّما استدلّ أيضا بكون كثير من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ والوضوء والغسل ثابتا في الشرائع السابقة ، معروفا عند الامم السالفة.

بل ربّما ظهر من بعض الأخبار ثبوت بعضها في الجاهليّة عند مشركي العرب ، فلا يبعد حينئذ دعوى كونها حقيقة قبل بعثة النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فكيف بها بعد البعثة وانتشار الشريعة.

وقد تقدّم المناقشة في ذلك أيضا ، فالوجه في الاستدلال ما قرّرناه من الاستقراء.

وقد عرفت أنّه لا يفيد إلاّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالخصوص ، ومفاده في مورده وضع التعيين ، وعليه فإطلاق الثمرة المتقدّمة على القول بالثبوت في محلّه ، إن لم يخدش فيها قلّة التجرّد ، حسبما أشرنا إلى نقله عن بعضهم.

احتجاج النافين للحقيقة الشرعيّة والجواب عنها

[52] قوله : حجّة النافين وجهان ... الخ

احتجّ نفاة الحقيقة الشرعيّة بعد الأصل بوجهين.

أحدهما : على ما قرّره المصنّف إنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللغويّة لفهّمها المخاطبين بها ، حيث إنّهم مكلّفون بما تضمّنته.

ولا ريب إنّ الفهم شرط التكليف ، ولو فهّمهم إيّاها لنقل ذلك إلينا ، لمشاركتنا لهم في التكليف ، ولو نقل فإمّا بالتواتر أو بالآحاد ، والأوّل لم يوجد قطعا وإلاّ لما وقع الخلاف فيه ، والثاني لا يفيد العلم ، على أنّ العادة يقضي في مثله بالتواتر.

ولا يذهب عليك أنّ الضميرين المنصوب والمجرور في القياس الأوّل يعودان إلى غير المعاني اللغويّة ، باعتبار موصوف مقدّر له وهو معان اخر ، فعبارة أصل الدليل : إنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى معان اخر غير المعاني

ص: 286

اللغويّة ، فحذف الموصوف واقيم الوصف مقامه ، أو إلى نفس الموصوف المقدّر لدلالة الوصف عليه.

وأمّا ما سبق إلى بعض الأوهام من عود الأوّل إلى النقل ، فمع أنّه لا يلائمه قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه في التأنيث والتذكير ، لا يساعد عليه لفظ « التفهيم » كما لا يخفى. مع ما فيه من استلزامه التفكيك بين الضميرين ، إذ عود الضمير الثاني أيضا إلى النقل كما ترى مفسد للمعنى.

فما قيل - في الاعتراض عليه - : بأنّ غاية ما يلزم من ذلك إنّما هو لزوم تفهيم المراد من تلك الألفاظ ، لكون التكليف مشروطا بفهمه ، وهو لا يتوقّف على تفهيم الوضع والنقل ، لحصوله بالبيانات النبويّة ، ليس بسديد ، لابتنائه على الوهم المذكور.

وأمّا ما يقال عليه أيضا : من أنّ هذا الدليل لو تمّ لدلّ على بقائها في المعاني اللغويّة ، إذ تفهيم النقل كما يلزم في المعاني الحقيقيّة يلزم في المعاني المجازيّة إذا كانت مرادة للشارع بلا فرق بينهما.

فمع أنّه فاسد بما نبّهنا عليه من عدم عود الضمير إلى النقل ، لا يتوجّه إليه على كلّ تقدير ، فإنّ تفهيم المراد مع وجود القرينة - وإن كان هو المعاني المجازيّة - قد حصل بنفس القرينة ، فلا ينكره المستدلّ على أحد تقديري دليله حتّى يعارض بمثله.

فإنّ هذه الألفاظ - على هذا التقدير - تحمل على المعاني الشرعيّة على تقدير مقارنة القرينة لها ، وإلاّ فعلى اللغويّة فيفوت فائدة النقل الّتي لا بدّ وأن تظهر حال عدم المقارنة ، وحيث لم يحصل تفهيم كون المراد في تلك الحال هو المعاني الشرعيّة الحادثة ، كشف ذلك عن عدم تحقّق النقل حذرا عن اللغويّة.

وتوضيح ذلك : إنّك قد عرفت بما بيّنّاه آنفا ، أنّ نفاة الحقيقة الشرعيّة فريقان :

أحدهما : من ينفي التسمية الحقيقيّة في لسان الشارع ، مع اعترافه بورود التسمية المجازيّة ، الملازم للاعتراف بثبوت المسمّى المحدث الشرعي المغاير للمسمّى العرفي أو اللغوي ، كغير القاضي منهم.

ص: 287

وثانيهما : من ينفي أصل التسمية حقيقيّة ومجازيّة ، ولازمه نفي ثبوت المسمّى الشرعي ، وإنكار الاختراع رأسا كالقاضي.

ولا ريب أنّ الدليل المذكور قابل لأن يقرّر على وجه ينطبق على مذهب القاضي ، كما هو الأظهر ممّا ينساق من عبارته ، وأن يقرّر على وجه ينطبق على مذهب غيره.

وأمّا تقريره على مذهب القاضي ، فبأن يقال : إنّ انكار النقل الّذي يدّعيه أهل القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة - المتضمّن قولهم هذا دعويين : ثبوت مسمّى آخر مغاير للمسمّى اللغوي ، وتحقّق النقل بالقياس إليه - يتأتّى تارة بإنكار ثبوت أصل المسمّى المغاير.

واخرى : بإنكار صدور النقل من الشارع إليه.

والقاضي إنّما ينكر الأوّل ، بدعوى : إنّه ليس هنا مسمّى آخر مغاير للمسمّى اللغوي حتّى نلتزم بحصول النقل إليه ، وهذا الإنكار كما ترى يؤول بالأخرة إلى إنكار أصل الاستعمال والتسمية في المعنى المغاير ولو مجازا ، فيكون نفي النقل في كلامه من باب السلب في منتفية الموضوع ، فيرجع تقدير المقدّمة الاولى من الدليل إلى أنّه : لو كان هناك مسمّيات اخر غير المعاني اللغويّة ، نقل الشارع هذه الألفاظ إليها ، لفهّمها المخاطبين بها ، وحيث إنّه لم يفهّمهم تلك المسمّيات وإلاّ لنقل إلينا ، كشف ذلك عن انتفائها بالمرّة ، لئلاّ يلزم التكليف بما لم يفهّمه ولم يعلمه المكلّف ، ولزم منه انتفاء النقل بالمرّة ، الملازم لبقاء الألفاظ في كلامه على معانيها اللغويّة.

وأمّا تقريره على مذهب غيره ، فظاهره انّ بين مقدّم المقدّمة الاولى وتاليها واسطة مطويّة ، وهي كون هذه المعاني مرادة من الألفاظ عند تجرّدها عن القرائن ، فيكون التقدير : إنّ هذه الألفاظ لو نقلها الشارع إلى غير معانيها اللغويّة لكانت مرادة منها عند تجرّدها عن القرينة.

أمّا الملازمة : فلأنّ ذلك هو فائدة النقل - على ما تقدّم - ولو كانت مرادةً منها

ص: 288

مع تجرّدها عن القرينة لفهّمها المخاطبين بها ، إذ لولا ذلك لم يتحقّق بينهما ملازمة ، كما لا يخفى.

وعلى هذا التقرير لا يتوجّه إليه السؤال المذكور ، بل هو على التقرير الأوّل أيضا في غير محلّه ، لأنّ ما ذكر عين مطلب المستدلّ ، فلا اعتراض على الدليل من جهته ، لانطباقه على تمام المطلب.

ولعلّ منه الاعتراض على توهّم اختصاصه بمذهب من ينكر النقل فقط ، دون ثبوت المسمّى الآخر.

وكيف كان : فكلماتهم لا تخلو عن الخلط بين التقريرين ، واشتباه المذهبين.

وربّما يقرّر الملازمة الاولى - بناء على توهّم اختصاصه بمذهب غير القاضي - : بأنّه لولا النقل إليهم لعرى الوضع عن الفائدة ، والحكيم منزّه عنه.

والملازمة الثانية : بقضاء العادة من جهة شدّة الحاجة وتوفّر الدواعي بنقله إلينا ، وفيه أيضا ما لا يخفى من الاشتباه في فهم حقيقة المراد من الدليل ، والغفلة عمّا قرّرناه من توجيه الضميرين.

[53] قوله : واجيب عن الأوّل ... الخ

وتحقيق الجواب عنه على تقريره الأوّل : منع عدم نقل المسمّيات الاخر إلينا ، بتطرّق المنع إلى الملازمة في القياس الأخير ، وسنده ما أسلفناه في دفع مقالة القاضي ، بناء على احتمال كون مراده بما ينفيه من الاستعمال ما يعمّ الاستعمال في لسان المتشرّعة أيضا.

وتوجيهه هنا : إنّ علمنا الضروري من عرف المتشرّعة بأنّه لا يتبادر من تلك الألفاظ عندهم إلاّ ما يغاير المعاني اللغويّة ، بل لا يدرك في استعمالاتهم شائبة من المعاني اللغويّة ، كاف في انكشاف نقل المسمّيات الاخر المغايرة للمعاني اللغويّة إلينا ، وليس علينا بعد ذلك لأن ننظر في أنّ مستند هذا العلم هل هو النقل المتواتر ليقابل بوقوع الخلاف ، أو هو النقل الآحاد ليدفع بعدم إفادته العلم ، أو هو التسامع والتظافر فيما بين المتشرّعة ، أو هو الترديد بالقرائن أو غير ذلك من طرق العلم.

ص: 289

على إنّه يمكن الالتزام بتحقّق النقل المتواتر والذبّ عمّا ذكر بأنّ التواتر في النقل ليس بالقياس إلى العلم المستند إليه من باب العلّة التامّة ، لئلاّ يجامعه الخلاف بل غايته ، كونه من باب المقتضى الّذي قد يصادفه فقد الشرط ، أو وجود المانع ، فلا يقتضي فعلا.

ولا ريب إنّ سبق الشبهة إلى الذهن من جملة الموانع ، كما يمكن الالتزام بحصول النقل الواحد ، ويذبّ عمّا أورد عليه بجواز الاحتفاف بقرائن الصدق.

وأمّا الجواب عنه على تقريره الثاني.

فأوّلا : بمنع الملازمة في المقدّمة المطويّة ، فإنّ تحقّق النقل يستدعي حكما بالقياس إلى المخاطبين ، وهو وجوب حمل هذه الألفاظ عند تجرّدها عن القرائن على ما ثبت عندهم نقلها إليه من المعاني الشرعيّة تعويلا على أصالة الحقيقة ، ولا يستدعي بالقياس إلى الشارع المتكلّم بها وجوب إرادة هذه عند التجرّد إلاّ مع انضمام مقدّمات اخر. فليتدبّر.

وثانيا : بمنع الملازمة الثانية تارة ، ومنع بطلان اللازم منها اخرى ، فإنّ تفهيم المعاني الشرعيّة المرادة منها مجرّدة عن القرائن إن اريد به تفهيمها بعد إعلام الوضع وإخبارهم به ، فيتوجّه إليه منع الملازمة حينئذ ، لجواز الاكتفاء من المتكلّم في إفادة مراده بعد تبيّن الوضع لسامعه بأصالة الحقيقة ، كجواز الاعتماد من السامع في استفادة هذا المراد عليها ، فالتصريح بإرادة المعنى الحقيقي بعد إعلام الوضع ليس بلازم.

وإن اريد به تفهيمها بإعلام الوضع ، بأن يكون طريق التفهيم المستتبع للفهم هو إعلام الوضع ، ليحرز به موضوع أصالة الحقيقة ، فيتوجّه إليه أيضا منع الملازمة إن اريد بالإعلام ما هو بنحو التصريح ، لجواز الاكتفاء فيه بنحو الترديد بالقرائن ، وهو طريق مألوف في تعلّم الأوضاع واللغات مفيد للقطع ، كما تقدّم بيانه وتحقيق معناه ، ومنع بطلان اللازم إن اريد به ما يعمّ الترديد بالقرائن ونحوه ، بدعوى : إنّ الإعلام لم يحصل بشيء من طرقه ، إذ لا دليل على هذا البطلان إلاّ لزوم نقل هذا

ص: 290

الإعلام إلينا ، المدّعى انتفائه بفرض عدم تحقّق التواتر ، وعدم فائدة حصول العلم بنقل الواحد.

وفيه : إنّ مشاركتنا لهم في التكليف لا يقتضي نقل ذلك إلينا مسندا ، وإنّما يقتضي وجوب الفحص والتحرّي عمّا فهموه من هذه الألفاظ ، ولو بالنظر فيما يكشف عن حصول الوضع الشرعي ثمّة من الحجج الناهضة بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وقد حصل بنهوض الحجّة بذلك ، هذا مع أنّ الدليل لو تمّ لقضى بنفي وضع التعيين ، وإذا كان الكلام فيما يعمّه ووضع التعيّن - كما تقدّم إليه الإشارة ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد - فلا ينهض بنفيه ، لعدم منافاته وضع التعيّن الناشئ عن كثرة الاستعمالات المجازيّة.

وأمّا ما عرفته أخيرا من تقرير الدليل ، فاجيب عنه : بأنّ التفهيم إن اريد به ما لا يتناول الترديد بتوهّم اختصاصه بالتصريح ، توجّه المنع إلى الملازمة الاولى ، لعدم عراء الوضع عن الفائدة مع حصول التفهيم بالترديد ، وإن اريد به ما يتناوله أيضا ، توجّه المنع إلى الملازمة الثانية ، لأنّ التفهيم بطريق الترديد ليس مظنّة التواتر كما في التصريح ، مع أنّ توفّر الدواعي في نحو ذلك غير مسلّم ، كيف ولم ينقل بالتواتر ما هو أعظم من ذلك ، كما لا يخفى.

[54] قوله : (وعن الثاني : بالمنع من كونها غير عربيّة ... الخ)

هذا جواب عن الوجه الثاني من حجّتي النافين ، وتقريره ملخّصا : إنّ هذه الألفاظ لو ثبت كونها حقائق لم تكن عربيّة ، بملازمة : أنّ انتساب كلّ لفظ إلى لغة إنّما هو لاستناد دلالته على معناه إلى الوضع الثابت له في هذه اللغة ، والمفروض إنّ وضع هذه الحقائق ليس من واضع لغة العرب ، فلا تكون عربيّة ، واللازم باطل ، لأنّه يلزم على هذا التقدير أن لا يكون القرآن عربيّا ، لاشتماله عليها وعلى غيرها ، فيكون نظير المركّب من الداخل والخارج المحكوم عليه بكونه خارجا ، واللازم باطل لقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (1).

ص: 291


1- الزخرف : 3.

[55] قوله : (فإنّ المجازات الحادثة عربيّة وإن لم يصرّح العرب بآحادها ... الخ)

ويشكل بمنع كونها مجازات على تقدير كون وضعها من باب التعيين كما هو مقتضى الحجّة المتقدّمة ، لعدم اقتضائه سبق التجوّز في استعمالاتها ، الملازم لملاحظة العلاقة لمعانيها اللغويّة ، واحتمال استنادها إلى الوضع والعلاقة معا مع أنّه غير معقول لقضائه باتّصاف الاستعمال الواحد بالحقيقيّة والمجازيّة ، ممّا لا يساعد عليه الذوق السليم ، سيّما إذا استلزم عراء الوضع عن الفائدة ، ومقايسته على استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي - على ما جوّزه جماعة من الاصوليّين - بمعزل عن التحقيق ، لكمال وضوح الفرق بينهما ، لعدم تعدّد المستعمل فيه فيما نحن فيه.

وما قيل - في إصلاحه - : من كفاية كونها بحيث لو استعملها اللغوي في هذه المعاني بملاحظة العلاقة كانت مجازات لغويّة في كونها عربيّة ، فقول المجيب : إنّها حقائق شرعيّة مجازات لغويّة ، معناه : إنّها مجازات لغويّة بحسب القوّة.

يدفعه : إنّ المعتبر في الحقيقة والمجاز إنّما هو الاستعمال بحسب الفعل ، ولا يكفي فيه صلاحيّة الاستعمال ، وإلاّ لكفى في الحقيقة لأنّها مع المجاز بالنسبة إلى الاستعمال المأخوذ فيهما على شرع سواء ، وهو خلاف ما صار إليه المحقّقون ، ولذا أطبقوا على عدم استلزام المجاز للحقيقة ، وقضيّة الاكتفاء بصلاحيّة الاستعمال كون كلّ مجاز مستلزما لها ، لتحقّق الاستعمال بهذا المعنى في كلّ لفظ موضوع ، وهذا كما ترى.

وقد يتكلّف في إلحاقها بالعربيّة : بأنّها لما كانت من موضوعات العرب بحكم الفرض ، وقد نقلها الشارع إلى المعاني الحادثة لمناسبتها المعاني الأصليّة اللغويّة ، فهي حال استعمالها في هذه المعاني عربيّة ، لأنّ لوضع العرب مدخلا في وضعها واستعمالها.

ويشكل ذلك أيضا : بأنّه إنّما يستقيم لو كان تصرّف الشارع فيها من باب النقل المصطلح.

ص: 292

وقد عرفت أنّ كونه من باب الارتجال أحد الاحتمالين الجاريين في المقام.

ويمكن الجواب بمنع كون المعتبر في انتساب اللفظ بالعربيّة ما قرّره المستدلّ من استناد دلالته على معناه إلى وضع العرب ، بل المعتبر كونه ممّا طرأه وضع من العرب ، وإن طرأه وضع آخر من غيرهم ، سيّما إذا كان أثر الوضع الأوّل باقيا.

والمفروض أنّ هذه الألفاظ بحسب الأصل من موضوعات العرب ، فتكون عربيّة بهذا الاعتبار ، وطروّ الوضع الجديد لها لا يرفع هذا الصدق ، ولا يضرّ بلحوق وصف العربيّة لها ، كما لا يخفى.

وفي كلام غير واحد من الأجلّة ، منع الملازمة أيضا : بأنّ ذلك على تقدير كون واضع اللغات هو اللّه تعالى ، يبطله منع اعتبار وضع العرب في لحوق وصف العربيّة ، بل المعتبر حينئذ كونه ممّا يستعمله العرب ويتداولوه في محاوراتهم.

ولا ريب أنّ هذه الألفاظ بعدما وضعها الشارع للمعاني الحادثة ممّا يتداولها العرب في محاوراتهم فتكون عربيّة ، سواء قلنا بكون الشارع الواضع لها لهذه المعاني هو اللّه تعالى - كسائر الألفاظ على الفرض - أو النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فإنّ مناط وصف العربيّة متحقّق على كلا التقديرين ، بل على تقدير كون واضع اللغات هو البشر وواضع هذه الألفاظ هو النبيّ لصحّ اتّصافها بالعربيّة أيضا ، إذ لا يشترط في ذلك صدور الوضع من الجميع أو من الصدر الأوّل ، وإلاّ لخرجت الحقائق العرفيّة والأعلام الشخصيّة المتداولة بين العرب عن كونها عربيّة وهو كما ترى.

والمفروض أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله من العرب بل ورئيسهم ، ولعلّ مبنى الاستدلال على اشتباه العربيّة بالحقائق اللغويّة ، أو توهّم الترادف بين العربيّة واللغويّة ، مع أنّ كون الواضع من العرب غير معتبر في اللغويّة.

واجيب عن الاستدلال أيضا ، تارة : بالنقض بألفاظ معرّبة واقعة في القرآن ، من الهنديّة والروميّة والفارسيّة « كالمشكاة » و « القسطاس » و « السجيل » وأعلام لم يضعها واضع لغة العرب « كإبراهيم » و « إسماعيل » و « زيد ».

ودفع الاولى بتوهّم كونها من مشتركات اللغتين ، على حدّ ما هو الحال في

ص: 293

الصابون والتنور بعيد جدّا ، لما هو الأصحّ من عدم كونها من العربيّة ، على ما نصّ به ابن عبّاس وغيره.

واخرى : بمنع الملازمة الثانية بدعوى : عدم قضاء اشتمال القرآن على لفظ غير عربي بكونه غير عربي ، فإنّ معنى كونه عربيّا إنّه عربي النظم والاسلوب ، ولا ملازمة بينه وبين عربيّة مفرداته ، إذ ربّما كانت المفردات غير عربيّة والكلام عربي ، كما أنّه ربّما تكون المفردات عربيّة والكلام غير عربي ، كما يشاهد في الكتب الفارسيّة وغيرها.

[56] قوله : (ومع التنزّل بمنع كون القرآن كلّه عربيّا ... الخ)

وهذا في معرض منع بطلان التالي ، وحاصله : إنّ مبنى توهّم البطلان قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) (1) على عود الضمير إلى القرآن بتمامه ، وهو في حيّز المنع ، لجواز عوده إلى السورة أو الآية بتأويل البعض أو المنزّل ، وظاهر أنّ عربيّة البعض لا تستلزم عربيّة الكلّ.

والاعتراض عليه : بأنّ السورة والآية ممّا يصدق عليه أنّه بعض القرآن ، وبعض الشيء لا يصدق عليه نفس ذلك الشيء.

يندفع : بأنّ القرآن ليس كالعشرة ليكون اسما للمجموع من حيث هو ، على معنى مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في وضعه حتّى يمتنع صدقه على الأبعاض ، بل هو مقول على المجموع وعلى كلّ بعض بالاشتراك معنى ، بدعوى : وضعه للقدر المشترك بين المجموع وكلّ بعض كالمنزّل على وجه الإعجاز ونحوه ، كلفظ « الماء » الموضوع للقدر المشترك بين مجموع المياه وكلّ من أبعاضه ، وهو الجسم البسيط الرطب البارد بالطبع ، فصدق البعضيّة على السورة أو الآية لا ينافي صدق اسم القرآن عليها ، لأنّها بعض باعتبار كونها في ضمن الكلّ ، وقرآن باعتبار اشتمالها على القدر الجامع الموضوع له ، كماء البحر الّذي هو بعض من مجموع المياه ، وماء باعتبار ما تحقّق في ضمنه من المفهوم الكلّي الموضوع له.

ص: 294


1- الزخرف : 3.

أو لفظا بدعوى : وضعه تارة للقدر الجامع ، واخرى للمجموع مع الهيئة الاجتماعيّة ، فالسورة يصدق عليها القرآن بالاعتبار الأوّل ، والبعض بالإعتبار الثاني ، كما يظهر اختيار ذلك من بعض الفضلاء (1) وإن بعد بمخالفته الأصل ، وعدم مساعدة الأمارات عليه.

والأظهر هو الوجه الأوّل إن لم يكن هنا وجه ثالث يترجّح عليه ، على ما سنشير إليه في المسألة الآتية.

ومنعه : بدعوى تبادر المجموع فقط ، كما في سائر الكتب ، كما صنعه الفاضل المشار إليه في ظاهر كلامه.

يدفعه : أنّ التبادر المدّعى على فرض صحّته ليس إلاّ لمجرّد الانصراف إلى الفرد الكامل ، فلا ينهض حجّة للوضع ، وقياسه على أسماء سائر الكتب غير مجد ، بعد توجّه المنع إلى الحكم في المقيس عليه ، فإنّ تبادر المجموع فيها أيضا - إن صحّ - فليس إلاّ لما ذكرناه ، وإلاّ فلا ينبغي التأمّل في صدق الاسم فيها على البعض المعتدّ به في حصول الغرض المطلوب من تدوين الفنّ ، وهذا هو الفرق بينها وبين القرآن الصادق على أيّ بعض ولو سورة أو آية صدقا حقيقيّا ، لا يصحّ معه السلب ، كما يرشد إليه التدبّر.

وأقوى ما يشهد بذلك لحوق الأحكام اللاحقة بالمجموع من جهة الشرع ، من تحريم مسّه ونحوه ، بكلّ سورة وآية وكلمة لمجرّد صدق الاسم ، ومن هذا الباب لزوم الحنث بقراءة آية بل كلمة فيما لو حلف أن لا يقرأنّ القرآن.

ودعوى : كون ذلك مسامحة عرفيّة في التعليق ، على معنى تنزيل تعلّق الفعل بالبعض منزلة تعلّقه بالكلّ.

يدفعها : عدم مساعدة صحّة السلب عليها ، كما في إطلاق المنّ وغيره من الموازين على ما ينقص أو يزيد بيسير ، بالقياس إلى حدودهما المعيّنة الواقعيّة.

ص: 295


1- الفصول : 45.

بل قد عرفت ما ينادي بخلاف ذلك ، فالحنث إنّما يلزم لتعلّق الفعل بما هو مصداق الاسم حقيقة ، نظيره لزومه بأكل لقمة في دار عمرو ، لو حلف أن لا يأكلنّ في داره.

وبالجملة : منع الجواب بمنع صدق « القرآن » على البعض خروج عن الإنصاف ، بل المنع إن كان ولا بدّ منه فإنّما هو بمنع عود الضمير إلى السورة أو الآية ، لكونه ممّا يأباه سائر سياق الآية ، للحوقه بذكر الكتاب المقتضي لعوده إليه ، مع كونه مرادا به الكلّ بقرينة إضافة الآيات إليه.

مضافا إلى شهادة قوله تعالى - في سورة اخرى - : ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (1) بذلك ، لعدم احتماله إلاّ أن يراد منه الكتاب الّذي هو حال له من باب حال الموّطئة ، فوصفه بالعربيّة حينئذ وصف للمجموع به ، ويشهد له أيضا ما في سورة ثالثة من قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (2) وإرجاع الضمير فيه أيضا إلى السورة أو الآية دون الكتاب المتقدّم ذكره بعيد عن السياق جدّا.

هذا مع أنّ هذا التأويل إن صحّحناه غير مجد في دفع المحذور في شيء من المواضع الثلاث المشار إليها ، لاشتمالها على ما هو من الألفاظ المتنازع فيها المدّعى ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها ، كالمؤمن والكافر في جميع السور الثلاث ، والزكاة والسجود في السورة الثانية ، والفسق في الثالثة ، ولو قدّرت الآية مرادة في جميع المواضع الثلاث لم يكن مجديا أيضا ، من حيث اشتمال هذه الآية أيضا على لفظ القرآن الصالح لكونه من المتنازع فيه ، كما يظهر الجزم به من بعض الفضلاء.

ص: 296


1- فصّلت : 2.
2- الزخرف : 3.

تعليقة : في الصحيح والأعمّ

اشارة

- تعليقة -

في الصحيح والأعمّ

اختلفوا في ألفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ، على قولين أو ثلاثة أقوال ، ثالثها التفصيل بين الأجزاء فالصحيحة والشرائط فالأعمّ ، أو أربعة أقوال رابعها الفرق بين الحجّ فالأعمّ وغيره فالصحيحة ، وتنقيح المطلب يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى : عدم كون النزاع في الصحيح والأعمّ من متفرّعات القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة

المقدّمة الاولى : هذا الخلاف ليس من متفرّعات القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وخصائصه لئلاّ يجري على قول النافي مطلقا بل يجري على كلا القولين ، ويصحّ من كلا الفريقين ، وفاقا للمحقّقين من مشايخنا المعاصرين وغيرهم.

وقد سبق إلى بعض الأوهام ابتناؤه على القول بالثبوت ، القاضي بعدم جريانه على القول بالعدم ، وارتضى به بعض الفضلاء ، استنادا إلى ما في عناوين البحث من التعبير بالاسم الّذي فيه باعتبار مفهومه العرفي تصريح بالوضع الّذي ينكره النافي ، مضافا إلى احتجاج الفريقين هنا بجملة من أمارات الحقيقة وكواشف الوضع الّذي لا يلائم القول بالنفي.

وأيضا فإنّه على تقدير دخول النافي يلزم من قوله بالصحيحة إنكار ما لا سبيل له إلى إنكاره ، من ورود هذه الألفاظ في كلام الشارع مستعملة في غير الصحيحة من المعاني المحدثة الشرعيّة.

وبيان الملازمة : أنّ نفي الحقيقة الشرعيّة على مذهب غير القاضي لا معنى له

ص: 297

إلاّ دعوى أنّ هذه الألفاظ حيثما استعملها الشارع في المعاني المحدثة الشرعيّة فقد استعملها مجازا ، فإذا فرض كون ذلك المعنى المجازي هو الصحيح - بناء على القول بالصحيحة - رجع إلى إنكار ورود استعمالها في غيره ، وهذا هو المراد باللازم ، وبطلان اللازم بعد ملاحظة إطباق الفريقين على ورود الاستعمال في كلام الشارع كتابا وسنّة في غير الصحيحة أيضا - بل كثرة وقوعه - ولو مجازا ، أوضح من أن يوضح.

والجواب : أنّ التعبير بالاسم في العنوان إنّما هو لانعقاد النزاع في عرف المتشرّعة ، إطباقا منهم على كونه ميزانا لعرف الشارع ، وطريقا إلى انكشاف مراداته من هذه الألفاظ الواردة في الكتاب أو السنّة مجرّدة عن القرائن المشخّصة للمراد.

ولا إشكال عند الفريقين في ثبوت الوضع في عرف المتشرّعة ، كما علم ذلك في المسألة المتقدّمة.

وقد يعتذر عن التعبير المذكور بأنّ الظاهر أنّ تحرير النزاع بهذا الوجه إنّما هو من المثبتين ، بناء على أصلهم في القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة.

ثمّ اشتهر ذلك بين الاصوليّين ، فتبعهم في ذلك من لا يوافقهم في ظاهر مفاد العنوان ، جمعا بين الجري على ما هو المعنون ، ومراعاة جريان النزاع على القول بالنفي أيضا باعتبار المعنى.

وما قرّرناه أوجه وأوفق بقواعدهم ، وبه يعلم الجواب عن ثاني الوجوه ، فإنّ المراد بالأمارات المحتجّ بها ما هو كذلك بحسب عرف المتشرّعة ، لا ما يتحقّق منها في عرف الشارع ، لئلاّ يجامع القول بالنفي.

وأمّا الشبهة الأخيرة فيدفعها : منع الملازمة المدّعاة ، لرجوع النزاع على القول بالنفي إلى تعيين أقرب مجازات الألفاظ من المعاني الشرعيّة - المنقسمة إلى الصحيحة والفاسدة والأعمّ منهما - إلى الحقيقة من معانيها اللغويّة ، ليثمر عند قيام القرينة الصارفة عن الحقيقة ، بضابطة قولهم : « إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب

ص: 298

المجازات أولى » فاختيار القول بالصحيحة يرجع إلى دعوى : كونها الأقرب ، وهو لا ينافي ورود الاستعمال في غيرها أيضا على وجه المجاز ، كما أنّ مرجع القول بالأعمّ حينئذ إلى دعوى كونه الأقرب ، الملازم لمساواة جميع المجازات الثلاث بحسب المرتبة في القرب والبعد.

وإن شئت أخذ العنوان على وجه يفرض في عرف الشارع ، ويندرج فيه نفاة الحقيقة الشرعيّة ، ويندفع به شبهات متوهّم الاختصاص ، فعبّر عنه : بأنّه إذا وردت هذه الألفاظ في كلام الشارع كتابا أو سنّة ، مجرّدة عن القرائن المشخّصة للمراد ، فهل الأصل فيها الحمل على إرادة الصحيحة من المعاني الشرعيّة ، أو إرادة ما يعمّها والفاسدة؟

فالقائل بالصحيحة يدّعي كونها ممّا يقتضي الحمل على إرادته الأصل ، والقائل بالأعمّ يدّعي كون الحمل على إرادته ما يقتضيه الأصل ، من غير فرق بين القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة والقول بنفيها.

غاية الأمر اختلاف معنى الأصل بحسب اختلاف المذهبين ، فعلى القول بالثبوت يراد به أصالة الحقيقة ، وعلى القول بالنفي يراد به القاعدة المشار إليها ، فإنّها أيضا بعد إحراز الصغرى كأصالة الحقيقة من الاصول اللفظيّة المعمولة في تشخيص المرادات ، غير أنّ أصالة الحقيقة مختصّة بموارد الوضع ، والقاعدة المذكورة مختصّة بموارد التجوّز بعد تعذّر الحقيقة ، وإلى التعبير المذكور أشار بعض الأعلام في جملة كلام له في هذا المقام.

لا يقال : إنّ الأقربيّة إذا اريد بها العرفيّة ، لا بدّ وأن تستند إلى غلبة الاستعمال ، وهي أيضا كأصل الاستعمال ممّا لا سبيل إلى إنكاره على القول بالصحيحة ، ضرورة تحقّقها بالنسبة إلى الأعمّ على وجه لا يكاد ينكر ، فإنّها على فرض الصحّة والتسليم تنهض حجّة على القول بالأعمّ ، ولا تنافي جريان النزاع على القولين ، كما هو واضح.

وأمّا ما يتراءى من بعض عبارات بعض الفضلاء في المقام ، من لزوم سبك

ص: 299

المجاز من مثله على تقدير جريان النزاع على القول بالنفي ، التفاتا إلى أنّ الاستعمال في الصحيحة على هذا القول إنّما هو لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، من علاقة الإطلاق والتقييد أو غيرها ممّا يتحمّله المقام ، فالاستعمال في الأعمّ أو خصوص الفاسدة لا بدّ وأن يكون لضرب من المشابهة والمشاكلة بينه وبين الصحيح في الصورة ، وهو كما ترى استعمال لعلاقة المجاز بين المستعمل فيه وبين المعنى المجازي ، ولا ريب في ندرته على تقدير صحّته ووقوعه ، فلا ينبغي تنزيل هذا النزاع المعروف الواقع بين أهل النظر على نحو هذا المفروض ، الّذي لا يكاد نجد له شاهدا في كلام العرب.

فلعلّ مبناه على ملاحظة أنّ الاستعمال في غير الصحيحة - على القول بها - من مثبتي الحقيقة الشرعية إنّما يرد لنحو العلاقة المذكورة بينه وبين الصحيحة الّتي هي المعنى الحقيقي حينئذ ، بتوهّم اطّراد هذا الاعتبار على القول بالنفي غفلة عن حقيقة الحال.

ويدفعه : أنّ علاقة المجاز لا بدّ وأن تكون ملحوظة بين المستعمل فيه المجازي والمعنى الحقيقي ، الّذي هو الصحيحة على القول بها مع القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فغيرها حينئذ مجازي شرعي ، ولذا لا يلاحظ العلاقة حينئذ إلاّ بينه وبين المعنى الحقيقي الشرعي ، بخلافه على القول بنفي الحقيقة الشرعيّة ، فإنّ المعنى الشرعي حينئذ مجاز لغوي ، فيجب مراعاة العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي لا غير ، وعليه فلم لا يفرض غير الصحيحة من المعاني الشرعيّة في عرض الصحيحة ليكون كلّ منهما مجازا لغويّا ، يعتبر نحو العلاقة المذكورة بينه وبين المعنى اللغوي ، فإنّ اعتبار علاقة الإطلاق والتقييد على تقدير صحّته هنا أو المشاكلة في الصورة ونحوها يمكن بالقياس إلى كلّ من الصحيحة وغيرها ، كما هو واضح.

وقد يذبّ عمّا ذكر : بأنّ الاستعمال في الفاسدة عند القائل بالنفي ليس مجازا آخر غير ما يلزم منه على تقدير الاستعمال في الصحيحة ، بل هو وجه من وجوه

ص: 300

هذا الاستعمال ، تنزيلا للفاسدة منزلة الصحيحة بنحو من وجوه صحّة التنزيل ، كتنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء أو الشرائط منزلة الموجود منها ، كما هو المعهود المشاهد في أنواع المركّبات الكمّيّة بحسب العرف والعادة ، فليس في ذلك مجاز لفظي آخر ، بل إنّما هو المجاز الحاصل بالنسبة إلى الصحيحة.

وقد حصل في الفرض المذكور بعد ما عرفته من التصرّف العقلي ، وهذا في ظاهر النظر بعيد عن ظاهر المحاورة ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فالوجه ما ذكرناه.

وربّما يتخيّل أنّ دخول النافين في النزاع لا يلائمه ما عليه المحقّقون من المتأخّرين في ثمرة المسألة ، من ظهورها في البيان الملازم لصحّة التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في مدخليّة شيء جزءا أم شرطا ، والإجمال الملازم لانتفاء الإطلاق.

فإنّ الإطلاق على المجاز ، اللازم على تقدير القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، مع تصرّف الشارع من غير جهة التقييد في المعنى ، كأن يكون المعنى اللغوي جزء من المعنى الشرعي أو مبائنا له ، ممّا لا سبيل إلى التمسّك به.

ويجعل ذلك فرقا بين مقالة القاضي ، الراجعة إلى دعوى التقييد في المعنى اللغوي ولو استلزم مجازا بعلاقة الإطلاق والتقييد ، ومقالة غيره من النافين ، فإنّه على الأوّل يصحّ التمسّك بالإطلاق مطلقا ، والمجاز اللازم من التقييد إن التزم به القاضي لا ينافيه ، لما هو المقرّر في محلّه من أنّه بمنزلة التخصيص في العامّ المخصّص على القول بمجازيّته في الباقي ، فلا ينافي ظهوره في الباقي ، بل الأمر في التقييد أظهر كما لا يخفى ، بخلافه على الثاني ، فإنّ العلاقة على هذا التقدير غير علاقة الإطلاق والتقييد ، كعلاقة الجزء أو الكلّ وغيرها من أنواع العلائق ، فلا يبقى للمطلق ظهور بعد القول بالمجازيّة - على هذا الوجه - حتّى يعوّل عليه عند الشكّ.

وهذا كما ترى بظاهره ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إلاّ أن يراد بالإطلاق المتمسّك به ما هو ثابت بالقياس إلى المعنى اللغوي ، وهذا الاعتبار ساقط على

ص: 301

قول النافي للحقيقة الشرعيّة ، بل الإطلاق حينئذ على القول بالأعمّ يعتبر بالقياس إلى المعنى الشرعي المحدث ، الّذي هو ماهيّة مبائنة للمعنى اللغوي ، سواء اخذ المعنى اللغوي جزءا منه أو لا.

وطريق التمسّك به حينئذ أن يفرض ذلك المعنى الّذي هو مسمّى اللفظ على وجه الحقيقة عند المتشرّعة - على الفرض - مرادا للشارع من اللفظ المجرّد عن القرينة المشخّصة للمراد - بقاعدة الأقربيّة - بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ، ثمّ ينفى احتمال مدخليّة ما يشكّ في مدخليّته جزءا أو شرطا في ذلك المعنى المجازي بالنسبة إلى عرف الشارع بما فيه من الإطلاق ، وهذا النحو من الإطلاق وإن كان لا يساعد عليه أكثر كلماتهم في باب المطلق والمقيّد ، لظهورها في فرضه بالقياس إلى الألفاظ الموضوعة بإزاء الماهيّات المعرّاة عن القيود والشروط ، ولكنّه يساعد عليه ما هو مناط ظهور المطلقات في الإطلاق ، فإنّه ليس ظهورا وضعيّا ، وإلاّ لم يبق فرق بينها وبين العمومات الّتي ظهورها في العموم إنّما هو باعتبار الوضع ، وهو خلاف ما هو المصرّح به في كلامهم ، بل هو ظهور مستند إلى حال المتكلّم باعتبار سكوته في معرض البيان عن ذكر القيد ، المخرج للماهيّة عن كونها لا بشرط شيء ، فيحمل كلامه على إرادة الإطلاق صونا له عن الإغراء بالجهل المنافي للحكمة.

وهذا كما ترى ممّا لا يتفاوت فيه الحال بين كون الماهيّة المعرّاة عن الشروط بالقياس إلى اللفظ الصادر من المتكلّم بدون ذكر القيد معه معنى حقيقيّا له أو غيره ، فالتمسّك بالإطلاق متّجه على التقديرين.

غاية الأمر ، إنّه على تقدير المجازيّة يجب مراعاة القرينة الصارفة عن الحقيقة مع ما يعيّن المراد من المعاني المجازيّة ، ولو كان نحو قاعدة الأقربيّة.

فإنّ كلّ معنى مجازي بالنسبة إلى ما زاد عليه من الامور الوجوديّة أو العدميّة ماهيّة مطلقة ، ملحوظة لا بشرط شيء من هذه الامور.

فإذا قامت القرينة الصارفة مع ما يعيّن المراد اتّجه التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار أمر زائد بعين المناط المذكور.

ص: 302

ألا ترى إنّه لو قيل : « إئتني بأسد يرمي » لا مانع من التمسّك بالإطلاق لو شكّ في اعتبار ما زاد على ماهيّة الشجاع ، من وصف العالميّة أو العدالة أو غيرهما ، بل هو المتداول في العرف والعادة ، وعليه طريقة العلماء في مظانّ الاستنباط.

ثمّ إنّ الّذي يساعد عليه النظر عدم جريان النزاع على ما نسب إلى الباقلاني من كون الألفاظ الشرعيّة مبقاة على معانيها الأصليّة اللغويّة ، سواء فرض النزاع بالنسبة إلى الصحّة والعموم في مقام الاختراع أو في مقام التسمية والاستعمال ، فإنّ الباقلاني على ما اتّضح في المسألة السابقة بإنكاره التسمية والاستعمال في غير المعاني الأصليّة ينكر أصل الاختراع أيضا ، فهو منكر لكلا المقامين ، ومعه كيف يصحّ دخوله في النزاع المنعقد على أحدهما.

نعم لو تنزّل عن مرتبته وغضّ البصر عن مقالته ، أمكن دخوله في النزاع بفرضه صحّة مقالة مخالفيه ، لكنّه ليس من الدخول فيه على ما نسب إليه من المقالة. والكلام على هذا التقدير لا غير.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بجواز دخوله بضرب من التوجيه ، على كلّ من فرضي انعقاد النزاع في مقام الاختراع أو في مقام التسمية والاستعمال.

أمّا على الأوّل : فلأنّ عدم الدخول إنّما يتّجه لو أخذ الاختراع الّذي ينكره بمعناه الظاهر ، وهو إحداث ماهيّة اخرى مغايرة لماهيّة المعنى اللغوي ، سواء اخذ المعنى اللغوي فيها أو لا.

وأمّا إذا اخذ بالمعنى المتناول لما يسلّمه من تقييد المعنى اللغوي بما ثبت له من القيود والزوائد ، فإنّه أيضا نحو اختراع وإن كان لا ينصرف إليه إطلاقه ، فدعوى عدم الدخول غير متّجهة ، ضرورة إنّ الماهيّة إذا اخذت مقيّدة بجميع ما اعتبر من الزوائد كانت صحيحة ، وإذا اخذت مجرّدة أو مقيّدة لا بجميع ما اعتبر معها من الزوائد كانت فاسدة من حيث التقييد وورود القيود بها ، وإن كانت صحيحة من حيث نفسها ، إذ الصحّة من حيث نفسها لا تنافي الفساد من حيث اعتبرت مقيّدة.

ص: 303

وأمّا على الثاني : فلأنّه إنّما لا يدخل في النزاع إذا اريد بالتسمية والاستعمال ما يدّعيه مخالفوه من مثبتي الحقيقة الشرعيّة ونافوها.

وأمّا إذا اريد بها ما يعمّ التسمية الّتي يسلّمها من تقييد المعنى اللغوي المستتبع للتجوّز في اللفظ ، بدخول الخصوصيّة في المستعمل فيه - على ما تقدّم جوازه على مقالته - فلا مانع من دخوله في النزاع ، ولو بإرجاعه بالنسبة إليه إلى تعيين أقرب المجازات إلى المعنى اللغوي المعرّى عن جميع القيود ، بناء على تعدّدها بهذا الاعتبار ، فإنّ الخصوصيّة الداخلة في المستعمل فيه لها باعتبار تكثّر القيود اللاحقة بالمعنى اللغوي مراتب متكثّرة ، فيتكثّر من جهتها المجازات ، منها ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، ومنها ما دخل فيه الخصوصيّة ببعض مراتبها بجميع فروضه المتصوّرة ، بعدم انضمام بعض القيود وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا وهكذا إلى أن لا ينضمّ إليه إلاّ قيد واحد ، فيصحّ أن ينازع حينئذ في أنّ أقرب المجازات هل هو ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها وهو الصحيحة ، أو ما دخل فيه الخصوصيّة في الجملة ، ولو ببعض مراتبها.

لكن يدفعه : منع جدوى التوجيه المذكور للاختراع والتسمية ، في جريان النزاع على هذه المقالة.

أمّا على توجيه الاختراع ، فلأنّ المخترع إمّا أن يعتبر بلحاظ الاختراع فلا يوصف إلاّ بالصحّة ، إذ لا معنى لاختراعه إلاّ تقييده بجميع ما قيّد به ، ولا صحيح له إلاّ ما لحقه هذا المقدار من التقييد ، فلا يعقل له بهذا الاعتبار فساد ، لينظر من جهته في صحّته وعمومه باعتبار هذا اللحاظ ، أو يعتبر بلحاظات اخر فهو قابل لأن يتّصف بكلّ من الصحّة والفساد ، وإنّما يختلف الحال باعتبار المعتبر ، فليس قابلا لأن ينازع في صحّته وعمومه ، فإنّه إن اخذ بجميع تقييداته صحيح ، وإن أخذ ببعض تقييداته فاسد.

وأمّا على توجيه التسمية ، فلأنّ الأقربيّة الّتي ينازع في تعيين محلّها ، إمّا أن يراد بها ما لحق المعنى المستعمل فيه لنفسه ، أو ما لحقه باعتبار الاستعمال ، على

ص: 304

معنى كونه في متفاهم العرف بحيث ينساق عند قيام القرينة الصارفة إلى الذهن عمّا بين مجازات اللفظ ، ولا يكون كذلك إلاّ بغلبة الاستعمال فيه.

وبعبارة اخرى : إنّ الأقربيّة ، إمّا أن يراد بها الاعتباريّة ، أو يراد بها العرفيّة ، فهي على الأوّل - مع عدم اعتبارها في مقام الحمل - غير قابلة لأن ينازع في تعيين محلّها ، فإنّ الأقرب والأبعد بهذا التقدير متمايزان لأنفسهما ، بل تمائزهما في نظر الوجدان من القضايا الّتي قياساتها معها ، إذ المعنيان إن كانا من المفاهيم البسيطة بحسب الخارج فالأقرب إلى الحقيقة ما يشاركها في الجنس القريب أو في الفصل القريب ، والأبعد إليه ما يشاركه في الجنس البعيد أو الفصل البعيد ، وإن كانا من المفاهيم المركّبة الخارجيّة - على معنى كون المعنى الحقيقي ماهيّة مركّبة ، والمعنى المجازي ما نقص منها ببعض الأجزاء - فالأقرب إليه ما قلّ نقصه والأبعد إليه ما كثر نقصه ، وإن كان المعنى الحقيقي ماهيّة بسيطة والمعنى المجازي هذه الماهيّة مقيّدة ، فالأقرب إليه حينئذ ما قلّ قيده والأبعد إليه ما كثر قيده ، ضرورة إنّ اللفظ كلّما ازداد في معناه المراد منه قيد ازداد ذلك بعدا عن معناه اللغوي المعرّى عن جميع القيود ، بل المصير إلى الصحيحة حينئذ تعويلا على أنّها أقرب المجازات ، كما ترى بل قضيّة هذه الأقربيّة هو المصير إلى الفاسدة.

وعلى الثاني لا يكون الحاجة على هذه المقالة ماسّة إلى الخوض في هذا النزاع ، قصدا إلى تعيين الأقرب وتمييزه عن الأبعد ، فإنّ هذا البحث لكونه من المبادئ اللغويّة إنّما يقصد به إحراز ما هو من موضوع مسألة اصوليّة هي إمّا مسألة البراءة والاشتغال بناء ، على أنّ الأعمّي يلزمه البناء فيما يشكّ في مدخليّته على البراءة ، لالتزامه بما هو من موضوعه ، والصحيحي يلزمه البناء على الاشتغال لالتزامه بما هو من موضوعه ، على ما هو المعروف في ثمرة المسألة.

أو مسألة البيان والإجمال ، بناء على أنّ الأعمّي يلزمه إجراء أحكام المبيّن في الألفاظ الشرعيّة ، لالتزامه فيها بالبيان من جهة الإطلاق ، فينهض له ذلك الإطلاق نافيا لاعتبار ما يشكّ في اعتباره ، والصحيحي يلزمه إجراء أحكام

ص: 305

الإجمال عليها ، الّتي منها الوقف بالنظر إلى الواقع ، ومراجعة الاصول من جهة العمل ، على ما جزم به جماعة من المتأخّرين ولا سيّما المعاصرين ، وأيّا ما كان ، فلا سبيل على هذه المقالة إلى النظر في الصحّة والعموم لمراعاة هذا الغرض.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الأخذ بأصلي البراءة والاشتغال إنّما يتّجه حيث لم ينهض من الوجوه الاجتهاديّة ما ينفى مدخليّة ما احتمل مدخليّته في العبادة من عموم أو إطلاق أو نصّ ، وإطلاق هذه الألفاظ بالقياس إلى معانيها اللغويّة - المعلومة بالفرض على هذه المقالة - ينهض حجّة على النفي ، لرجوع احتمال المدخليّة إلى احتمال التقييد ، ومعه لا مجرى لشيء من الأصلين ، ولو اتّفق عليها إجمال في اللفظ من جهة اخرى ، كعدم معلوميّة المعنى اللغوي ونحوه من أسباب الإجمال فهو إجمال لا مدخل له في القول بالصحيحة ، حتّى يقال : بإمكان أن يحصل لهذا القائل من الإجمال ما يقضي بمراجعة الاصول كما في الصورة المفروضة ، فلا تكون الفائدة المذكورة مخصوصة بغيره من أصحاب القولين ، فإنّ نحو هذا الإجمال كثيرا مّا يتّفق للأعمّي من أصحاب القولين وإن كان قائلا بالحقيقة الشرعيّة فيضطرّ إلى مراجعة الاصول ، كما لو شكّ في مدخليّة ما يسري شكّه إلى صدق الاسم وتحقّق الماهيّة.

وبالجملة : ما يلزم هذا القائل من إطلاق اللفظ بالنظر إلى المعنى اللغوي رافع لموضوع الأصلين ، ومعه لا يعقل منه الدخول في النزاع إحرازا لموضوع أحد الأصلين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الدخول في النزاع لإحراز موضوع مسألتي البيان والإجمال ، إنّما يتّجه حيث تردّد اللفظ من أوّل الأمر بين حالتين ، إحداهما مقتضية للبيان والاخرى مقتضية للإجمال ، كما هو كذلك على مذهب غير هذا القائل ، لتردّد اللفظ في نظره بين حالتي كونه اسما للأعمّ وكونه اسما للصحيحة ، وليس كذلك على مذهب هذا القائل ، لكون اللفظ عنده بالنظر إلى المعنى اللغوي من قبيل المبيّن ، لنهوض الإطلاق بالنسبة إليه بيانا لعدم إرادة المقيّد من لفظ المطلق ، بالنسبة إلى ما احتمل كونه قيداً.

ص: 306

وتوهّم : أنّ الإطلاق إنّما ينهض حجّة على نفي التقييد حيث لم يتضمّن التقييد تجوّزا في اللفظ باعتبار دخول الخصوصيّة في المستعمل فيه ، وأمّا معه كما عليه مبني التوجيه المذكور فلا ، خصوصا بعد ما تطرّق إليه التجوّز بما لحقه من التقييد بواسطة قيام الدلالة عليه ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، فإنّ طروّ التجوّز للمطلق بواسطة دخول خصوصيّة في معناه المستعمل فيه لا ينافي ظهوره في الإطلاق ، ولا يمنع عن التمسّك بإطلاقه بالنسبة إلى خصوصيّة اخرى لم يقض الدليل بدخولها في المستعمل فيه ، فإنّ الماهيّة المطلقة إنّما تخرج عن إطلاقها بالنظر إلى ما لحقها من القيد.

وأمّا بالنظر إلى قيود اخر مضافة إليها ممّا لم يقم دليل على لحوقها بها ، فهي بعد على إطلاقها ، ولا يرفعه مجرّد طروّ التجوّز للّفظ ، كيف والمطلق المقيّد لا يقصر عن العامّ المخصّص ، الّذي هو على ما هو محقّق في محلّه ظاهر في الباقي ، مع كونه مجازا بورود التخصيص عليه ، وكما أنّه لا ينافي ظهوره في الباقي ولا يمنع عن التمسّك بهذا الظهور ، فكذلك المطلق بل هو فيه أولى بذلك ، لعدم استناد إطلاقه إلى الوضع ليزول أثره بطروّ التجوّز كما في العامّ المخصّص ، بل ظهور من حال المتكلّم وحكمته ، حيث سكت في معرض البيان عن ذكر القيد ، وإيراد ما يقيّد الماهيّة ، فاللفظ حينئذ مبيّن من ابتداء الأمر باعتبار أصله ، لا أنّه مردّد بين البيان والإجمال ، ليوجب الحاجة إلى النظر فيما يحرز له أحد الأمرين.

لا يقال : نهوض الإطلاق بيانا لعدم التقييد - حيث لم يساعد على خلافه الدليل - لا ينافي الاحتياج إلى النظر في تعيين أقرب المجازات ، الحاصلة عن دخول الخصوصيّة بمراتبها في المستعمل فيه ، بعد ملاحظة تردّد الأقربيّة في النظر بين كونها في جانب ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، أو في جانب ما دخلت فيه في الجملة ، وأنّها على تقدير حصولها مع الأوّل تنهض بيانا للتقييد والتجوّز ، وإرادة ما هو أخصّ أفراد ماهيّة المعنى اللغوي ، وحاكما على إطلاق اللفظ - بل واردا عليه - كما أنّ النافي للحقيقة الشرعيّة يحتاج إليه لتعيين الأقرب ،

ص: 307

المعلوم إجمالا المردّد بين كونه الصحيحة بالخصوص ، ليلزم منه عدم جواز التمسّك بالإطلاق من جهة الإجمال ، أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ليلزم منه نهوض الإطلاق بيانا.

غاية الأمر كون المانع عن التمسّك هنا على التقدير الأوّل ، هو الإجمال الطارئ عن عدم معلوميّة المسمّى ، وثمّة على التقدير الأوّل أيضا ، نهوض الأقربيّة المفروضة بيانا لخلاف ما كان يساعد عليه الإطلاق لولاها.

لأنّا نقول : بوضوح الفرق بين المقامين ، وبطلان المقايسة المتوهّمة بين الفريقين ، فإنّ النافي للحقيقة الشرعيّة إنّما يضطرّ إلى النظر في هذه المسألة إحرازا لما هو طريق عمله من الإطلاق أو الاصول العمليّة ، فإنّه لعلمه الإجمالي بأنّ هناك أقرب إلى الحقيقة من المجازات - وهو مردّد بين الصحيحة والأعمّ - ليس له قبل النظر في تعيينه مرجع يرجع إليه ، من وجه اجتهادي ولا أصل عملي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا يحرز إلاّ بالبناء على الأعمّ.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا يعوّل عليه إلاّ بعد اليأس عن الوجوه الاجتهاديّة ، الّذي كان يحصل بالبناء على الصحيحة.

وبعبارة اخرى : أنّه لا بدّ له إمّا من البناء على البيان ، ولا مقتضى له إلاّ الإطلاق الّذي لا يحرز إلاّ بثبوت الأعمّ ، أو على أصل عملي من البراءة أو الاشتغال ، وهو مشروط بفقد الوجوه الاجتهاديّة ، ولا يحرز إلاّ بثبوت الصحيحة ، فليس له الالتزام بأحد الأمرين قبل النظر.

أمّا الأوّل : فلعدم كون مقتضيه محرزا.

وأمّا الثاني : فلعدم كون شرطه محرزا وبدونه لم يحرز له شيء من الأمرين ، فليس له الرجوع إلى شيء من الطريقين ، بخلاف غيره ممّن يقول بمقالة الباقلاني ، فإنّه لوجود المقتضي للبيان - وهو الإطلاق - في فسحة من ذلك.

غاية الأمر أنّه لو علم بالأقربيّة ، وكونها مع ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، سقط اعتبار الإطلاق.

ص: 308

وأمّا إذا شكّ في وجودها وفي محلّها على تقدير الوجود ، أو علم بوجودها مع الشكّ في محلّها ، فالإطلاق على حاله.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأقربيّة المردّدة في نحو المقام لا يوجب إلاّ حدوث احتمال التقييد بغير ما ساعد الدليل على التقييد به ، وهو كما ترى احتمال مانع لا يصلح رافعا لحكم المقتضى.

وتوهّم : أنّ الأقربيّة على هذا التقدير نظير ما لو ورد مع مطلق ما يتردّد بين كونه تقييدا له أو تأكيدا لإطلاقه ، فيدور الأمر بين التأكيد والتأسيس ، الّذي هو أولى من التأكيد - على تقدير تسليم كبراه ثمّ تسليم صغراه - لا ينافي ما ذكرناه ، بل يؤكّده لأنّ هذه القاعدة حينئذ تنهض مرجعا لتعيين الأقرب ، وتمييزه عن الأبعد ، ولا حاجة معها إلى الخوض في هذه المسألة ، والدخول في هذا النزاع.

وبجميع ما ذكر يعلم أنّه لا مجال لأحد أن يقول : بأنّ هذا كلّه إنّما يتمّ إذا كانت التسمية الّتي ينكرها الباقلاني ما يعمّ عرف المتشرّعة أيضا ، وإلاّ فعلى تقدير تسليمه التسمية بحسب هذا العرف أمكن له النزاع ، لما تقدّم من أنّه مفروض في عرف المتشرّعة ، بناء على أنّه طريق ينكشف به حال عرف الشارع ، وذلك لأنّ الغرض من الخوض في هذا النزاع إن كان إحراز ما هو من موضوعي أصلي البراءة والاشتغال ، فهو بالنسبة إلى خطاب الشرع في غناء عن ذلك ، لنهوض الإطلاق بالنسبة إلى هذا الخطاب وجها اجتهاديّا رافعا لموضوعي الأصلين ، وإن كان إحراز ما هو من موضوع البيان والإجمال ، فهو فرع على دوران الألفاظ من ابتداء الأمر بين حالتين تقتضي إحداهما البيان واخراهما الإجمال ، وهي عنده بحسب خطاب الشرع وعرف الشارع مبيّنات في معانيها اللغويّة ، لما فيها من الإطلاق السليم عن مزاحمة الغير ، حسبما فصّلناه.

نعم لو اكتفى في الخوض في المسألة بمجرّد الثمرة العمليّة ، أمكن ما ذكر على التقدير المذكور ، إلاّ أنّه في نحو المقام بعيد.

ص: 309

ثمّ لا يذهب عليك ، إنّه لا اختصاص للبحث المذكور المفروض على مقالة الباقلاني من البداية إلى تلك النهاية بالباقلاني ، بل يجري على طريقة غيره أيضا في غير الألفاظ من العبادات الّتي هي محلّ النزاع بينه وبين غيره ، من الألفاظ الواقعة على جملة من العبادات الّتي ليست من الماهيّات المخترعة الشرعيّة ، بل هي بمعانيها اللغويّة وردت في حيّز الأمر العبادي ، كالطواف وركوع الصلاة وسجودها في وجه ، وسجود الشكر والزيارة وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ممّا تقدّم في المسألة السابقة لحوقه بألفاظ المعاملات ، في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة فيها ، فإنّ نزاع الصحيح والأعمّ لا يجري في هذا النحو من الألفاظ جدّا ، وينهض ما فيها من الإطلاق حجّة لنفي كلّ ما احتمل مدخليّته في الصحّة.

ويظهر أثره في سجود الشكر مثلا ، لو شكّ بعد اشتراط صحّته بالقربة في اعتبار الطهارة أو القبلة أو وضع الجبهة على ما لا يصحّ السجود في الصلاة إلاّ عليه ، وفي الزيارة لو شكّ بعد مساعدة الدليل على اعتبار القربة في مدخليّة غيرها ، كالطهارة أو الاغتسال أو استعمال الطيب أو نحو ذلك في الصحّة ، وفي قراءة القرآن لو شكّ - بعد ما ساعد الدليل على اعتبار القربة - في اشتراط الصحّة بالطهارة أو الجهر ، أو عدم الغناء فيها بناء على احتمال كونه مانعا.

المقدّمة الثانية : عدم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات

المقدّمة الثانية : قضيّة ما قرّرناه في وجه إخراج ألفاظ العبادات عن النزاع على مقالة القاضي ، عدم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات مطلقا ، فإنّ هذا النزاع إذا كان متفرّعا على أحد الأمرين من الاختراع الشرعي أو التسمية الشرعيّة فكيف يندرج فيه ما انتفى عنه الأمران معا ، على التحقيق المتقدّم في المسألة السابقة ، من عدم اختصاص تداول هذه المعاملات وإطلاق ألفاظها عليها بأهل هذا الشرع ، وثبوتهما في الشرائع الاخر ، بل عند من لم يعرف الشرائع أصلا ، من منكرى الصانع وغيرهم ، كيف لا وعليها مبنى نظام العالم ، وبها ينتظم امور معاش بني آدم ، فهي إنّما يثبت من قديم الأيّام من لدن بناء اللغة وحدوثها ، فتكون من الألفاظ الأصليّة الّتي وقوعها على معانيها إنّما هو بمقتضى أوضاعها اللغويّة.

ص: 310

وممّا يفصح عن ذلك أيضا ما في كلامهم من التصريح بالفرق بينها وبين العبادات ، من كون العبادات توقيفيّة متوقّفة على بيان الشارع ، فلا يصحّ فيها مراجعة عرف ولا لغة ، بخلاف المعاملات ، ولعلّهم مطبقون على ذلك ، بل هو كذلك كما يكشف عنه سيرتهم وإجماعهم العملي ، حيث إنّهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة لا يزالون في تصحيح معاملة من المعاملات في جميع أبوابها المنضبطة في الكتب الفقهيّة يتمسّكون بالعمومات أو الإطلاقات الواردة فيها ، أجناسا وأنواعا وأصنافا ، كتابا وسنّة من غير نكير ، مع ابتنائه في الكلّ لإحراز الموضوع على اعتبار صدق الاسم وتحقّق الماهيّة بمراجعة العرف مطلقا ، ولا يستقيم شيء من ذلك إلاّ بعزل الشارع عن التصرّف فيها اختراعا وتسمية ، ولا ينافيه ما تحقّق منه فيها من إمضائه إيّاها في بعض مصاديقها باعتبار شروط دون اخر ، لرجوعه إلى التخصيص في المعنى اللغوي العامّ ، وإخراج فاقد الشروط عنه إخراجا حكميّا لا موضوعيّا كما لا يخفى.

وأيضا فإنّ عقد هذا البحث إن كان لإحراز موضوعي البراءة والاشتغال فالمعاملات بمعزل عن ذلك ، لاختصاص جريان الأصلين بموارد التكليف ، وهي الّتي مبنى مشروعيّتها على الأمر الإلزامي ، وإن كان لإحراز موضوعي البيان والإجمال ، فيلزم على القول بالصحيحة فيها كونها مجملة متوقّفة على بيان الشارع وقد اتّضح بطلانه.

وقد يستشمّ عن بعض العبارات جريان النزاع فيها أيضا ، بل جزم به بعض الأعلام (1) مستظهرا له من عبارات جماعة من أساطين فقهائنا ، كالمحقّق في الشرائع وأوّل الشهيدين في القواعد ، وثانيهما في المسالك.

قال في القواعد : الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم

ص: 311


1- القوانين 1 : 52 حيث قال : إنّ الخلاف في كون الألفاظ أسامي للصحيحة أو الأعمّ لا يختصّ بمثل الصلاة والصوم بل تجري في سائر العقود أيضا.

اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، ويحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما (1).

وأمّا لو تحزّم في الصلاة ، أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث ، قال - في كتاب الإيمان من الشرائع - : إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد ، ولا يبرأ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ ، وكذا غيره من العقود (2).

ويقرب منه ما عن قواعد العلاّمة قائلا : المطلب الرابع في العقد ، وإطلاقه ينصرف إلى الصحيح (3).

قال في المسالك : عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم : « باع فلان داره » وغيره ، ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا ، وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما ، كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة.

والجزم بما ذكر كما عرفته ضعيف ، وأضعف منه استظهاره عن عبارة القواعد ، إذ لو اريد استظهاره من موضوع هذه العبارة وهو الماهيّات الجعليّة ، فلا يتمّ إلاّ على تقدير عطف سائر العقود على سابقه ، ليكون قسما من الماهيّات الجعليّة وهو في حيّز المنع ، لقوّة احتمال العطف على الماهيّات فيكون سائر العقود قسيمة لها ، وليس إلاّ لعدم كونها من جعليّات الشارع فلا تندرج في ما انعقد في الجعليّات ، ولو اريد استظهاره من محمولها وهو لا تطلق على الفاسدة ، فهو لا يدلّ على مصيره فيها إلى القول بالصحيحة ، فضلا عن دلالته على اعتقاد جريان النزاع فيها ، لما فيه من احتمالات أربع ، رابعها : كون المراد بما نفاه من الإطلاق على الفاسدة ما يجري على لسان المتشرّعة في مواضع مخصوصة ، كموضع الإقرار والنذر

ص: 312


1- القواعد والفوائد 1 : 158 قاعدة 42 فائدة 2.
2- شرائع الإسلام 6 : 44.
3- انظر - إيضاح القواعد - 4 : 25.

وشبهه ونحوهما ، على معنى عدم الإطلاق - بموجب الانصراف - إلى إرادة الصحيحة ، ولو بمعونة قرائن المقام وشواهد الحال ، وهذا أظهر الاحتمالات بقرينة التفريع ، إذ لولاه لم يرتبط الفرع على ما فرّع عليه من إرادة الإطلاق في لسان الشارع وخطابه جنسا أو نوعا أو صنفا ، أعني الإطلاق بالمعنى الأعمّ حتّى ما يكون على وجه المجاز ، أو الإطلاق على وجه الحقيقة خاصّة ، أو الإطلاق في حيّز الأوامر والطلبات ، مع ما فيها من وجوه الفساد الّتي ستقف عليها عند نقل أقوال المسألة.

ولا يخفى إنّه على هذا الاحتمال بل على احتمال إرادة صنف الإطلاق في كلام الشارع لا يدلّ على شيء ممّا ذكر ، وعبارة الشرائع كعبارة قواعد العلاّمة أولى بعدم الدلالة جدّا.

نعم إنّما المعضل عبارة المسالك ، فإنّ دلالته على تحقّق النزاع فيها واضحة ، وإنكارها خروج عن الإنصاف ، كما يظهر وجهها بأدنى تأمّل ، إلاّ أنّه ربّما يذكر في المقام وجه لو تمّ لكان مخرجا لها عن الدلالة ، كما صنعه بعض الأفاضل ، فإنّه - بعد ما استشكل فيها على ما هو مفادها من اختيار القول بالصحيحة في ألفاظ المعاملات بما ملخّصه : إنّه يلزم على ما اختاره من الصحّة في ألفاظ المعاملات كونها كألفاظ العبادات مجملة متوقّفة على بيان الشارع ، فلا يصحّ الرجوع إلى الإطلاقات العرفيّة والأوضاع اللغويّة ، وليس الموضوع له بحسب اللغة أو العرف خصوص الصحيحة الشرعيّة ، لوضوح المغايرة بين الأمرين ، مع أنّ صحّة الرجوع فيها إلى العرف واللغة ممّا اطبقت عليه الامّة ، ولا خلاف فيه ظاهرا بين الخاصّة والعامّة.

فقضيّة ذلك حملها على ما يعمّ الصحيح الشرعي وغيره - ذكر في إصلاحه ما يرجع محصّله - إلى : أنّ معنى وضع ألفاظ المعاملات للصحيح : إنّ المعنى العرفي هو الصحيح لا إنّ الصحيح الشرعي هو الموضوع له ، ليلزم منه الإجمال الموجب لتوقّف استعلامها على بيان الشارع ، ولا ينافيه إطلاقها عرفا على

ص: 313

الفاسدة في بعض الأحيان ، لكونه لضرب من المجاز من باب المشاكلة في الصورة ، فلا اختلاف بين الشرع والعرف في أصل المعنى والمفهوم.

نعم ربّما يزعم العرف صدق هذا المفهوم على ما ليس من مصاديقه بحسب الواقع ، باعتبار كشف الشارع عنه حيث حكم عليه بالفساد ، فالاختلاف إنّما هو في المصداق الشرعي والمصداق العرفي بعد الاتّفاق على نفس المعنى والمفهوم.

وحينئذ فإذا ورد أمر من الشارع بإمضاء معاملة من تلك المعاملات على وجه الإطلاق ، يحكم بمشروعيّة مورد الشكّ تعويلا على الإطلاق ، المتوقّف انعقاده على اعتبار صدق الاسم وتحقّق الماهيّة بمراجعة العرف. انتهى ملخّصا (1).

وقضيّة التوجيه أن يكون إمضاءات الشارع في هذه المعاملات من باب بيان المسمّى ، فيكون عدم إمضائه ما لم يمضه منها من باب الإخراج الموضوعي لا الإخراج عن الحكم ، بل التنبيه على خروجه عن الموضوع الّذي هو أصل المفهوم الّذي وضع له اللفظ.

وكيف كان : فهذا الوجه إن تمّ لقضى باندفاع ما أورد عليه من إشكال الإجمال ، وسقط من جهته عن الدلالة المذكورة ، حيث إنّ الصحّة المأخوذة في عقد المسألة هي الصحّة الشرعيّة ، التابعة للاختراع والتسمية الشرعيّين.

لكن يشكل ذلك ، أوّلا : بعدم انطباقه على كلام الشهيد بظاهره ، فإنّ المعاملة باعتبار المصداق قد تكون فاسدة بحسب نظر العرف والشارع ، كعقد الهاذل أو المجنون أو النائم بل الصبّي أيضا.

وقد تكون صحيحة بحسب نظرهما معا ، وقد تكون صحيحة بحسب نظر العرف فاسدة بحسب نظر الشارع ، كبيع الخمر ، وبيع الصرف من دون القبض في المجلس ، والبيع الربوي ونحو ذلك.

ولا ريب إنّ مطرح كلام الشهيد وخصمه المخالف له في القول بكون لفظ « البيع » ونحوه حقيقة في الفاسدة باعتبار كونه اسما للأعمّ لا ينبغي أن يكون

ص: 314


1- هداية المسترشدين : 115 ( الطبعة الحجرية ).

هو القسم الأوّل ، فإنّه ممّا لم يقل فيه أحد بصدق الاسم عليه على وجه الحقيقة ، ولو على القول بالأعمّ وورود الإطلاق عليه إنّما هو باعتبار المشاكلة لا غير ، فتعيّن كون مطرح كلامهما الّذي فرضه محلاّ للخلاف هو القسم الثالث ، فإذا كان الفاسد الّذي هو حكم عليه الشهيد بكون اللفظ مجازا فيه هو الفاسد الشرعي ويقابله الصحيح الشرعي ، فيكون هو المحكوم عليه بكون اللفظ حقيقة فيه.

وثانيا : إنّ الاختلاف في المصداق إن كان لشبهة في وصف موضوع القضيّة على معنى رجوع الاختلاف إلى الموضوع ، فهو ممّا لا يكاد يتحقّق فيما بين العرف والشارع ، فإنّ ما لم يمضه الشارع من المعاملة بكشفه عن فساده لا يرجع إلى بيان الموضوع الخارجي ، كما لو وقع معاملة بين شخصين مجهول حالهما باعتبار كونهما كاملين أو ناقصين مع إحراز كون البيع ما اخذ في مسمّاه كون المعاملة واقعة بين كاملين ، فحكم فيها العرف بالصحّة والشرع بالفساد.

وبالجملة : هذا النحو من الاختلاف وإن كان لا ينافي الاتّفاق على أصل المعنى والمفهوم ، إلاّ أنّ الاختلافات الواقعة بين العرف والشارع ليست من هذا الباب.

وإن كان لشبهة في وصف المحمول فهو لا محالة ينافي الاتّفاق على أصل المعنى والمفهوم ، لرجوعه بالأخرة إلى الاختلاف في أصل المعنى والمفهوم ، كما لو وقعت المعاملة المفروضة بين ناقصين ، فحصل الاختلاف بحكم العرف بالصحّة بزعم أنّه لم يؤخذ في وضع اللفظ كون المعاملة صادرة من الكاملين ، والشارع بالفساد ، بناء منه على أخذ ذلك في وضعه لها.

وهذا كما ترى عين الاختلاف في أصل المسمّى ، فكيف يقال بأنّه اختلاف في المصداق يحصل بينهما بعد الاتّفاق على المعنى والمفهوم ، وحينئذ فالقائل بالصحيحة لا يجوز له جعل الاسم للصحيح العرفي ، لرجوعه إلى طرح الشرع ورفع اليد عن بيانات الشارع ، فتعيّن أن يكون مراد الشهيد بالصحيح فيما ادّعاه هو الصحيح الشرعي المقابل للعرفي ، فإذا بطل الوجوه المذكورة بقي كلام الشهيد

ص: 315

على دلالته ، وحينئذٍ فيكفي في ردّه ما قدّمناه في وجه الخروج من عدم مساعدة المبتنى عليه المسألة ، ولا الغرض المقصود من عقدها على الدخول ، فلا نعيد.

ثمّ إنّ معنى قولنا : « إنّ النزاع غير جار في ألفاظ المعاملات » إنّها بحسب اللغة والعرف الكاشف عنها أسام للأعمّ ، لعدم صحّة السلب عن الفاسدة ، ومساعدة إطلاقات العرف ، ولذا لا يقال - في ردّ من ادّعى بيع داره مثلا على وجه الفساد - : إنّك ما بعتها ، أو إنّ ما أوقعته ليس بيعا ، بل يقال : إنّه ليس بصحيح ، أو غير مفيد ، وما يوجد في بعض الأحيان من سلب الاسم عن الفاسدة فهو ليس على حقيقته ، بل هو صوري يراد به المبالغة في نفي الآثار ، على قياس ما يراد بقولهم : « البليد ليس بإنسان » حيث يرد مبالغة لنفي آثار الانسانيّة.

فدعوى : وضعها لخصوص الصحيحة أو ما أمضاه الشارع ممّا لا يصغى إليه ، ومبادرة المعنى في نحو مقام الإقرار وغيره انصراف من قرائن الحال ، أو ما ارتكز في الأذهان من لزوم حمل الفعل أو القول الصادرين عن المسلم أو غيره في الجملة على الصحّة ، وعدم سماع دعوى إرادة الفاسدة إنّما لأجل هذا الانصراف ، وإنّما يسمع التفسير في موضع الإجمال كالاشتراك اللفظي وما بحكمه ، فلا يندرج فيه نحو الاشتراك المعنوي خصوصا بعد ظهوره في إرادة الفرد ولو بمعونة المقام وغيره.

هذا كلّه مع ما يرد عليه من رجوعه على التحقيق إلى أحد المحذورين ، من الاستغناء عن العرف بالشرع ، أو عن الشرع بالعرف ، واللازم بكلا قسميه باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ كلّ واقعة من العبادات والمعاملات يبحث عنها الفقهاء فمرجع البحث فيها إلى إحراز حكم اقتضائي أو وضعي وهو الصحّة لموضوع محرز ، فلا ينعقد ذلك البحث مسألة إلاّ بإحراز الحكم بعد الفراغ عن إحراز موضوعه من عبادة أو معاملة ، إلاّ أنّهم فرّقوا في ذلك بين العبادات والمعاملات بالتزام إحراز الاولى موضوعا وحكما بمراجعة الشارع ، وإحراز الثانية موضوعا بمراجعة العرف وحكما بمراجعة الشارع ، وهذا معنى ما يقال من : « إنّ الأحكام

ص: 316

بأسرها توقيفيّة فلا تتلقّى إلاّ من الشارع بخلاف الموضوعات ، فإنّ التوقيفيّة منها إنّما هي العبادات ».

والسرّ فيه : إنّ مخترع كلّ مخترع لا يؤخذ إلاّ من مخترعه ، ولا يعرف إلاّ بيانه ، والمعاملات ليست من مخترعات الشارع لئلاّ تؤخذ كالعبادات إلاّ منه.

وحينئذ فالصحيح المأخوذة في مسمّى ألفاظ المعاملات إن اريد به ما يكون صحيحا بحسب نظر الشارع بجعل منه أو كشف عن الواقع يلزم أوّل الأمرين ، لكون الحال في المعاملات على هذا التقدير على قياس ما هو الحال في العبادات فلا يعرّفها إلاّ الشارع ، ولا يستعلم إلاّ منه.

وإن اريد به ما يكون كذلك بحسب نظر العرف بجعل منهم أو كشف عن الواقع يلزم ثانيهما ، لكون مسمّى اللفظ حينئذ ملزوما للصحّة بالملازمة الثابتة بينهما بفرض التسمية لأحدهما في نظر العرف ، فلا يحتاج في إحراز الصحّة إلى ملاحظة واسطة اخرى من خطابات الشارع وبياناته ، وأمّا بطلان اللازم بقسميه فلمخالفته الفرق المجمع عليه بين العبادات والمعاملات.

لا يقال : ما اخترته من ترجيح الأعمّ في ألفاظ المعاملات ، ودفع كونها للصحيحة بما ذكرته ، فرض للاختلاف فيها من حيث الصحّة والعموم ، بل الاختلاف واقع في الحقيقة كما يكشف عنه ما تقدّم عن الشهيد الثاني من اختيار الصحّة.

وما عزي إلى جماعة من المتأخّرين من اختيار العموم - كما في كلام بعض الأفاضل - فكيف التوفيق بينه وبين ما قدّمته من إخراجها عن موضع النزاع في الصحّة والعموم ، لأنّ ذلك اختلاف لا تعلّق له بما هو وارد في الكتب الاصوليّة وتعرّض له الاصوليّون ، على إنّه من مبادئ المسائل الاصوليّة ممّا اخذ في موضوعه حيث الصحّة الشرعيّة المستتبعة للإجمال ، أو المحصّلة لموضوع أصل الاشتغال ، ضرورة أنّه اختلاف وقع لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث تعيين معاني هذه الألفاظ الثابتة لها بمقتضى أوضاعها اللغويّة أو العرفيّة ، نظير سائر

ص: 317

الاختلافات الواقعة في الموضوعات العرفيّة واللغويّة ، الّتي منها الاختلاف الواقع في مسمّى « الصعيد » من حيث كونه مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، فلا يندرج هذا البحث في المسائل الاصوليّة ولا مبادئها ، بل هو على التحقيق من مبادئ المسائل الفقهيّة ، فيكون التعرّض له من وظيفة الفقهاء ، فلا تدافع بين القضيّتين.

لكن ينبغي أن يعلم إنّ قولنا بالأعمّ في ألفاظ المعاملات ليس المراد به ما يستلزم حقيقيّة الإطلاق في الفاسد بإطلاقه ، حتّى ما يكون منه نحو ما يصدر من الهازل أو النائم أو المجنون أو غيره ممّن لا قصد له كالمكره - على القول بعدم صحّة عقده لانتفاء القصد والرضا النفساني منه - لينافي ذلك ما قدّمناه من أنّه ممّا لم يقل أحد بكون إطلاق اللفظ عليه على وجه الحقيقة ، وإنّما الإطلاق حيثما يرد عليه إنّما يرد من باب المشاكلة ، ولا أنّه على إطلاقه القاضي بجريانه في مثل لفظ « الطلاق » و « الخلع » و « المبارات » و « اللعان » و « الإيلاء » و « النذر » و « العتق » ونحوها ممّا هو من قبيل ألفاظ الإيقاعات لئلاّ يساعد عليه إطلاقات هذه الألفاظ ، بل كلماتهم القاضية بكونها مجازا في الفاسد الّذي يلزم منه كونها أسام لخصوص الصحيح كما هو الأقوى ولذا يعبّر كثيرا مّا عند الحكم بفساد شيء منها عند اختلال شرط من شروط الصحّة بقولهم : « لم ينعقد » أو « لم يقع » الظاهر في نفي أصل الماهيّة.

وتوضيحه : أنّ الصحّة المضافة إلى المعاملات قبالا للفساد فيها يرد على وجهين :

أحدهما : ما هو من لوازم الشخص الّذي هو عبارة عن مجموع الماهيّة والخصوصيّة ، الحاصلة عن انضمام ما زاد عليها من القيود إليها ، فانتفاؤها حينئذ لا ينافي بقاء الماهيّة وتحقّقها الّذي عليه مدار صدق الاسم ، وصحّة الإطلاق على وجه الحقيقة.

وإذا كان مدار الصحّة حينئذٍ على تحقّق مجموع الماهيّة والخصوصيّة ،

ص: 318

فالفساد يطرء المحلّ ويلحقه تارة : لأجل انتفاء الخصوصيّة الغير المنافي لتحقّق أصل الماهيّة ، كما في البيع الربوي وبيع الخمر ، وبيع الصرف من دون القبض في المجلس.

واخرى : لأجل انتفاء أصل الماهيّة ، كما في عقد الهازل وغيره ممّا ذكر.

ولا ريب إنّ القول بالأعمّ إنّما يقتضي كون الإطلاق على وجه الحقيقة في القسم الأوّل من الفساد ، لأنّ المدار في صحّة الإطلاق على وجه الحقيقة إنّما هو على تحقّق الماهيّة مطلقا دون القسم الثاني منه لكونه فيه لانتفاء الماهيّة ، ولا يعقل صدق الاسم على وجه الحقيقة على ما انتفى عنه ماهيّة المسمّى كما لا يخفى.

والوجه في انتفاء الماهيّة في الأمثلة المذكورة ، إنّ القصد والرضا النفساني له في نظر العرف والاعتبار مدخل في تحقّق ماهيّة البيع. وإن فسّرناه بمبادلة مال بمال.

وإن شئت قلت : إنّه مقوّم لأصل الماهيّة ، فقول القائل : « بعت داري بكذا » مثلا ، إنّما يصدق عليه البيع بمعنى مبادلة مال بمال إذا نشأ عن القصد والرضا النفساني ، وما يقع من الهازل والنائم والمكره ليس من هذا الباب حيث لا قصد لهما ، وعليه فإطلاق اللفظ عليه في بعض الأحيان لا وجه له إلاّ كونه مجازا باعتبار علاقة المشاكلة.

وثانيهما : ما هو من لوازم أصل الماهيّة ، ويلزمه كون انتفائها في موضع الحكم بالفساد ملازما لانتفاء الماهيّة ، ومعه لا معنى لصدق الاسم على وجه الحقيقة ، فهي في نحو « الطلاق » وغيره ممّا ذكر إنّما اخذت مع المسمّى من باب لوازم الماهيّة ، على معنى كون اللفظ اسما لملزوم الصحّة ، فانتفاؤها ممّا يكشف عن انتفاء ملزومها الّذي هو المسمّى ، بل لا يندرج نحوها في موضع الخلاف ولا تقبل القول بالأعمّ ، بخلاف البيع وغيره من العقود.

وضابط الفرق بينهما : إنّ المعنى إن كان من المركّبات الخارجيّة أو العقليّة ، ولو باعتبار لحوق التقييدات بماهيّة متعيّنة الموجبة لانضمام الخصوصيّات إلى

ص: 319

تلك الماهيّة ، فهو قابل لكلّ من الصحّة والعموم باعتبار الوضع والتسمية ، أمّا على تقدير التركّب الخارجي فكما في ألفاظ العبادات بالبيان الّذي سنقرّره عند توجيه القول بالصحيحة والأعمّ فيها.

وأمّا على تقدير التركّب العقلي فكما في لفظ « البيع » وغيره من ألفاظ العقود ، فإنّ مبادلة مال بمال على تقدير كونها معنى البيع باعتبار اللغة ، ماهيّة متعيّنة يعرفها العرف وأهل اللغة ، وقد لحقها من الخصوصيّات ما كشف عنه الشارع ، فإن كان المأخوذ في وضع اللفظ باعتبار العرف أو اللغة هذه الماهيّة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المنضمّة إليها باعتبار الشرع - كما رجّحناه - كان اللفظ اسما للأعمّ ، وهو القدر الجامع بين الصحيح والفاسد ، الّذي فساده باعتبار انتفاء الخصوصيّة في الجملة.

وإن كان المجموع من هذه الماهيّة والخصوصيّات المنضمّة إليها باعتبار لحوق القيود بها كان اللفظ اسما للصحيحة ، فلكون المعنى قابلا لكلا الاعتبارين وقع الاختلاف المتقدّم فيه ، وفي نظائره من العقود.

وإن كان من البسائط كما في « الطلاق » ونظائره المذكورة ، فهو غير قابل للنزاع في صحّته وعمومه ، بل المتّجه فيه كونه اسما لخصوص الصحيحة ، إذ ليس بينها وبين الفاسدة جامع يصلح لكونه المسمّى الحقيقي المأخوذ في وضع اللفظ ، فإنّ الفاسد إمّا أن يراد به ناقص الأجزاء فهو هاهنا خلاف فرض كون المعنى بسيطا ، أو يراد به ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود منه فهو أيضا لا يشارك الصحيح هاهنا في جامع بينهما ، فإنّ المعنى البسيط على تقدير وجوده في الخارج ووقوعه في نفس الأمر لا يعقل عدم ترتّب الأثر المقصود منه ، عليه وعلى تقدير عدمه فترتّب الأثر عليه غير معقول ، ولا يعقل بين الموجود والمعدوم جامع ليكون اللفظ موضوعا بإزائه ، فهو دائما إمّا صحيح وإمّا أنّه ليس بشيء ، فإزالة قيد النكاح وعلاقة الزوجيّة في معنى الطلاق ، وإزالة الرقّيّة أو فكّ الملك في مفهوم العتق ، وإلزام شيء على النفس في مفهوم النذر مثلا ، من الماهيّات البسيطة الّتي لا خارج

ص: 320

لها إلاّ على تقدير حصول الآثار المقصودة منها ، من زوال قيد النكاح وعلاقة الزوجيّة ، وزوال الرقّيّة وانفكاك الملك ، ولزوم ما ألزم على النفس عليها ، فالفساد الّذي يضاف إلى هذه الماهيّات إنّما هو حيث لم يحصل هذه الآثار ، ومع عدم حصولها لا تحقّق لأصل هذه الماهيّات ، ضرورة أنّ تحقّق الإزالة بدون الزوال ، والفكّ بدون الانفكاك ، والإلزام بدون اللزوم ، بحسب الخارج غير معقول ، كما أنّ حقيقة الكسر بدون الانكسار والإيجاب بدون الوجوب والنقل بدون الانتقال غير معقولة ، فهي بدون الصحّة - على معنى انتفاء هذه الآثار - ليست بشيء في الخارج ، لتكون من مسمّى اللفظ أو نفس مسمّاه.

وعليه فلا يعقل فيها إلاّ الوضع للصحيحة ، وإطلاقها على الفاسدة الّتي فسادها لأجل انتفاء أصل ماهيّة المسمّى لا يصحّ هنا إلاّ لضرب من المجاز ، كالمجاز بالمشارفة أو الاستعمال في القصد والإرادة تسمية للسبب باسم المسبّب ، إلى غير ذلك ممّا يتحمّله المقام. فليتدبّر.

المقدّمة الثالثة : في تفسير الصحّة والفساد

المقدّمة الثالثة : الصحّة على ما يساعد عليه أمارات الحقيقة وكواشف الوضع ، يطلق في العرف على الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود منه عليه.

وبعبارة اخرى : كونه بحيث يترتّب عليه ذلك الأثر ، فإنّ كونه بهذه الحيثيّة صفة منتزعة عنه باعتبار اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر ، فالصحيح هو ما له هذه الصفة والفساد في مقابله ، وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار عدم اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر عليه.

وفي عرف الفقهاء والاصوليّين على الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار انطباقة على المأمور به واندراجه تحته ، وهذه الصفة عند المتكلّمين هي موافقة الأمر ، وعند الفقهاء إسقاط القضاء ، والظاهر إنّهما متلازمان ، فالاختلاف بين الفريقين كاللفظي ، حيث إنّ أحد الفريقين عقد الاصطلاح في أحد المتلازمين والفريق الآخر في المتلازم الآخر.

ص: 321

فما يقال : من أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقا ويظهر الثمرة بينهما في الصلاة بظنّ الطهارة ، لعلّه ليس بشيء ، ولتفصيل القول فيه محلّ آخر وانتظر له.

فالصحيح حينئذ ما له هذه الصفة ، ويفسّر بما يوافق الأمر تارة ، وما أسقط القضاء اخرى ، وفي مقابله الفاسد ، والمراد بالصحّة في المتنازع فيه إنّما هو المعنى الأوّل ، كما يفصح عنه ما في كلام جماعة من تفسير الصحيح بالماهيّة الجامعة لجميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود من الأجزاء والشرائط ، أو الجامعة لجميع الامور المعتبرة في المأمور به من الأجزاء والشرائط ، أو الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط.

وأمّا الصحّة بالمعنى الثاني فينبغي القطع بعدم إرادتها هنا ، لأنّها بهذا المعنى من عوارض الشخص ولوازم الوجود الخارجي.

والكلام في محلّ البحث إنّما هو في كون الصحّة مأخوذة في مسمّيات ألفاظ العبادات وعدمه ، وظاهر أنّها موضوعة لمسمّياتها باعتبار مفاهيمها لا باعتبار وجوداتها ، وإذا لم يكن الوجود مأخوذا فيها فما هو من لوازمه أولى بالعدم ، وأيضا فإنّ الصحّة بالمعنى المذكور من توابع الأمر.

ولا ريب أنّ مرتبة الأمر والطلب متأخّرة عن مرتبتي التسمية والاختراع ، والكلام في المسألة على ما عرفت راجع إمّا إلى مرتبة الاختراع أو إلى مرتبة التسمية ، فلا يصحّ أن يؤخذ فيه من الصحّة ما هو متأخّر عنهما بحسب المرتبة ، وأيضا فإنّ المسمّى المأخوذ فيه الصحّة - على القول بها - موضوع للأمر الّذي ينتزع عنه الصحّة بالمعنى الثاني ، فلا يعقل كونها مأخوذة فيه ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه كما هو واضح.

نعم الصحّة والفساد بهذا المعنى إنّما اخذا محلاّ للبحث في مسألة النهي في العبادات ، والنسبة بينهما بهذا المعنى المأخوذ في مسألة النهي وبينهما بالمعنى الأوّل المأخوذ في محلّ البحث عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الصحّة بالمعنى المأخوذ في مسألة النهي أخصّ منها بالمعنى المأخوذ في محلّ البحث مطلقا.

ص: 322

ضرورة أنّ موافقة المأتيّ به للمأمور به يقتضي أمران (1) ، الأمر واشتماله على جميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود ، وما اشتمل على جميع ما له دخل في ترتّب ذلك الأثر أعمّ من كونه مأمورا به وعدمه ، كما أنّ الفساد في محلّ البحث أخصّ مطلقا منه بالمعنى المأخوذ في مسألة النهي ، ضرورة أنّ عدم موافقة المأتيّ به للمأمور به قد يكون لانتفاء الأمر كما في صلاة الحائض ، وقد يكون لاختلال فيما له دخل في ترتّب الأثر من جزء أو شرط كصلاة المحدث ، أو تارك السورة عمدا أو قارئ سورة العزيمة مثلا ، وبذلك يعلم الجواب عمّا احتجّ به من قال - في مسألة النهي بأنّه يدلّ على الصحّة - : من أنّ الصلاة في قوله : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » (2) اسم للصحيحة ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فلا بدّ أن يكون الصلاة الصحيحة مقدورة للحائض لئلاّ يلزم التكليف بغير مقدور. وقضيّة ذلك كون صلاتها صحيحة.

فإنّ ما يثبت بهذه المقدّمات - بعد فرض صحّتها - إنّما هو الصحّة بالمعنى المأخوذ في مسألة الصحيح والأعمّ ، وهو أعمّ من الصحّة المأخوذة في مسألة النهي ، فهذه الصحّة لا تنافي الفساد بالمعنى المأخوذ في كلام القائل بدلالة النهي عليه ، كما لا يخفى.

وممّن تفطّن بهذا الجواب بعض الأعلام في جملة كلام له ، فراجع وتأمّل جيّدا. ولذا جعل صلاة الحائض من باب المنهيّ عنه لنفسه ، بإرجاع الظرف في قوله : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » إلى الموضوع أو الحكم والنسبة الحكميّة ، ردّا على من زعمه من باب المنهيّ عنه لوصفه ، بجعل الظرف قيدا للمحمول وهو الصلاة.

وتوجيه الردّ - لعلّه على ما يساعد عليه النظر - : أنّ المأمور به لا بدّ وأن يكون بجميع قيوده حتّى الشرائط - ولو باعتبار مبادئها - مقدورا وحالة الحيض من الامور الخارجة من القدرة حدوثا وارتفاعا ، فلا يصلح عدمها قيدا للمأمور

ص: 323


1- كذا في الأصل ، والصواب : أمرين.
2- الكافي 3 : 83 ح 1 ، التهذيب 1 : 381 ح 1183 ، السنن الكبرى 1 : 332 ، سنن الدار قطني 1 : 212.

به ، ولذا تعدّ كحالة الجنون ونحوها من موانع الأمر ، فلا أمر بالصلاة معها لا أنّ الصلاة الحاصلة معها منهيّ عنها مع ثبوت الأمر بها ، لا معها.

وقضيّة ذلك أن يكون الحائض في تلك الحالة منهيّة عن الصلاة ، وإن اخذت الصلاة جامعة لجميع شروط الصحّة ، الّتي ليس منها عدم الحيض بمقتضى البرهان المذكور.

والعجب منه إنّه مع تفطّنه هاهنا بهذا التحقيق ، جعل « الصلاة » في هذا التركيب في محلّ البحث ممّا استعمل في الفاسدة ، بزعم ورود النهي عليها حال حصولها في أيّام الحيض وهي فاسدة ، لأنّ الصحيحة منها ما يحصل في غير هذه الأيّام ، وبين كلاميه من التهافت ما لا يخفى ، مع ورود كلامه في محلّ البحث على خلاف التحقيق كما عرفت.

وبما عرفته في دفع شبهة القائل بدلالة النهي على الصحّة تقدر على دفع ما أورده رحمه اللّه - تأييدا لما اختاره من القول بالأعمّ - على القول بالصحيحة باستلزامه في اليمين على ترك الصلاة المحال ، وهو أن يلزم من انعقاد اليمين عدم انعقاده.

حيث قال : إنّه لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه أو مباح مثلا وحصول الحنث بفعلها ، ويلزمهم على ذلك المحال ، لأنّه يلزم حينئذ من ثبوت اليمين نفيها ، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيّا عنها ، والنهي في العبادة مستلزم للفساد ، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها ، إذ هي إنّما تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم ، إلى آخره.

وتوضيح الدفع : بعد الغضّ عن كون المحذور على تقدير صحّته مشترك الورود - بناء على ما صرّح به غير مرّة من أنّها في نحو مقام النذر واليمين محمولة على إرادة الصحيحة على مذهب الأعمّي أيضا - إنّ الفساد الناشئ من النهي بحكم امتناع اجتماع الأمر والنهي إنّما هو الفساد اللازم من انتفاء الأمر ، وهو لا ينافي الصحّة بالمعنى الّذي يلتزم به القائل بالصحيحة ، واليمين لا يقتضي أزيد من الصحّة بهذا المعنى ، مضافا إلى أنّ المانع عن انعقاد اليمين إنّما هو الفساد السابق على

ص: 324

اليمين ، وهو في المقام لاحق به لكونه من آثاره ، فلا يعقل كونه مؤثّرا في عدم انعقاده كما هو واضح.

ثمّ إنّ المراد بالصحيحة على القول بها بناء على ما عرفت من معنى الصحّة بحسب العرف - ما هو ملزوم للصحّة بهذا المعنى - وهو الماهيّة المشتملة على جميع ما له دخل من الأجزاء والشرائط في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها من الآثار ، ويلزمه أن يكون الصحّة بمعنى الصفة المذكورة بالنسبة إلى ماهيّة المسمّى من قبيل العرض اللازم ، فتكون وجودا وعدما دائرة مع الصحّة وجودا وعدما ، على معنى تحقّقها حيثما تتحقّق الصحّة وانتفائها حيثما تنتفي الصحّة.

وقضيّة ذلك أن يكون خروج الفاسدة عن الأوامر الواردة على الصحيحة خروجا موضوعيّا ، وهو الباعث على كون اللفظ حيثما يطلق عليها مجازا بعلاقة المشاكلة الصوريّة ونحوها ، لخروجها عن أصل المسمّى الحقيقي ، إلاّ إذا كان مبناه على نحو من التنزيل.

وبالأعمّ ما ليس ملزوما للصحّة ولا الفساد على معنى كون المسمّى بحيث اعتبر في لحاظ الوضع أو التسمية المطلقة ، على وجه يقبل كلا وصفي الصحّة والفساد.

ويلزمه أن يكون كلّ منهما بالقياس إلى أصل المسمّى من قبيل العرض المفارق ، فقد يتحقّق مع الصحّة وقد يتحقّق مع الفساد ، ويكون إطلاق اللفظ على كلّ منهما باعتباره على وجه الحقيقة.

نعم قد يكون الفاسدة بحيث يكون فسادها باعتبار انتفاء أصل ماهيّة المسمّى ويكون الإطلاق عليها حينئذ بهذا الاعتبار مجازا.

وقضيّة ذلك كلّه كون خروجها عن الأوامر تارة خروجا حكميّا واخرى خروجا موضوعيّا ، ويعلم التمييز بينهما بمراجعة الخارج.

ثمّ هذا النزاع لا ينبغي أن يرجع إلى مرتبة الطلب ، لاتّفاق الفريقين فيها على الصحيحة ولو بمعونة قرينة الطلب ، لوضوح إنّ الحكيم لا يأمر بما لا يترتّب عليه

ص: 325

الأثر الباعث على الأمر ، بل إنّما يأمر بما يترتّب عليه هذا الأثر ، وليس إلاّ ما اشتمل على جميع ما له دخل في ترتّبه من الأجزاء والشرائط ، بل إنّما هو راجع إمّا إلى مرتبة التسمية أو إلى مرتبة الاختراع ، والنسبة بين المطلوب والمسمّى والمخترع هو التساوي على مذهب الصحيحي ، لكون هذه الامور على هذا المذهب عناوين مختلفة بالمفهوم متّحدة بالمصداق فتكون من المتساوية.

وأمّا على مذهب الأعمّي فإن رجع النزاع إلى مرتبة التسمية - بعد الاتّفاق على الصحّة في مرتبة الاختراع كالاتّفاق عليها في مرتبة الطلب - فالنسبة بين المسمّى وكلّ من المخترع والمطلوب عموم مطلق ، لكون المسمّى حينئذ أعمّ مطلقا من كلّ منهما ، وإن رجع إلى مرتبة الاختراع مع تبعيّة التسمية له كمّا وكيفا ، فبين المطلوب وكلّ من المسمّى والمخترع عموم مطلق ، لكون المطلوب حينئذ أخصّ مطلقا من كلّ منهما.

وفي رجوع النزاع إلى أيّ المرتبتين وجهان ، وظاهر العناوين حيث يعبّر فيها بالأسامي يساعد على رجوعه إلى مرتبة التسمية ، لكنّه لا ينافي سرايته إلى مرتبة الاختراع أيضا ، بناء على الملازمة بينهما بحكم التبعيّة المشار إليها.

وأمّا الأدلّة المقامة من الطرفين ، فمفاد جملة منها يساعد على رجوعه إلى مرتبة الاختراع ، كما أنّ مفاد جملة اخرى يساعد على رجوعه إلى مرتبة التسمية ، مع عدم منافاته السراية إلى مرتبة الاختراع.

ولعلّه لبعض ما ذكر اختلف بعض الانظار في تعيين مورده ، فإنّ من الأفاضل (1) من جزم بكونه واقعا في مرتبة الاختراع ، حيث قال : « والحاصل إنّ الكلام في أنّ ما أحدثه الشارع وقرّره من تلك الطبائع الجعليّة وعبّر عنها بتلك الألفاظ الخاصّة هل هو خصوص الصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة؟ وإن حكمنا بأنّ مطلوب الشارع هو قسم منها بعدما قام الدليل على فساد بعضها فهذا هو عين المتنازع فيه. انتهى ».

ص: 326


1- هداية المسترشدين : 99 ( الطبعة الحجرية ).

خلافاً لما جزم به بعض الأعلام ، قائلا : « والحاصل إنّه لا ريب في أنّ الماهيّات المحدثة امور مخترعة من الشارع ، ولا شكّ أنّ ما أحدثه الشارع متّصف بالصحّة لا غير ، بمعنى أنّه بحيث لو أتى به المكلّف على ما اخترعه الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث هو أمر بالماهيّة ، لكنّهم اختلفوا هذا الاختلاف بوجهين :

أحدهما : أن نقول إذا وضع الشارع أسماء لهذه المركّبات أو استعمل فيها بمناسبة فهو يريد تلك الماهيّة على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور من الحيثيّة المذكورة ، وهذا القدر متيقّن الإرادة ، ولكنّه لمّا كان الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون مدخليّة الشرائط ، والشرائط خارجة عنها ، ولا مانع من وضع اللفظ بإزاء الماهيّة مع قطع النظر عن كونها جامعة للشرائط ، ولا من وضعه بإزاء الماهيّة مع ملاحظة اجتماعها لشرائط الصحّة.

فاختلفوا في أنّ الألفاظ هل هي موضوعة للماهيّة مع اجتماع الشرائط ، أو الماهيّة المطلقة. انتهى (1).

وصريح هذه العبارة يعطي كون النزاع في مرتبة التسمية بعد إحراز الصحّة في مرتبة الاختراع ، لكن لا يذهب عليك إنّ الصحّة الّتي التزم بها في تلك المرتبة هو صحّة الماهيّة باعتبار الأجزاء فقط ، على معنى عدم كون الشرائط ممّا اخذ معها بالتمام في هذه المرتبة ، لمكان قوله : « الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون مدخليّة الشرائط والشرائط خارجة عنها ».

وبهذا يظهر وجه الحيثيّة التي أخذها في معنى صحّة الماهيّة وتفسيرها ، فإنّ صحّة الماهيّة بحسب الأجزاء لا تنافي فسادها باعتبار الإخلال في الشرائط الخارجة عنها المعتبرة معها في المأمور به.

وعليه فما أورده عليه الفاضل المتقدّم ذكره في جملة اعتراضاته عليه ، بقوله :

ص: 327


1- قوانين الاصول 1 : 43.

« ثمّ إنّ اعتباره الحيثيّة في الأمر في قوله : للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث إنّه أمر بالماهيّة ، غير مفهوم الجهة ، ليس على ما ينبغي ».

نعم يتوجّه إليه تجريد الماهيّة عن الشرائط في مقام الاختراع ، فإنّه غير واضح الوجه ، بل بظاهره فاسد الوضع ، إذ الماهيّة في مقام الاختراع تعتبر بجميع ما له دخل في ترتّب الأثر حتّى الشرائط ، فإن كانت متّصفة بالصحّة حينئذ بالقياس إلى الأجزاء فكذا بالنسبة إلى الشرائط وإلاّ فلا صحّة مطلقا ، فالفرق تحكّم ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ على القول بالفرق في الصحّة والعموم بين الأجزاء والشرائط ، وهو عادل عنه.

وكيف كان : فلا يتعلّق بتحقيق هذا المقام فائدة مهمّة ، ولعلّك تعرف الحقّ فيه بملاحظة كلماتنا الآتية في المقدّمات الاخر ، ولا نطيل هنا.

المقدّمة الرابعة : في نبذة ممّا يتعلّق بماهيّة العبادة

المقدّمة الرابعة : في نبذة ممّا يتعلّق بماهيّة العبادة باعتبار ما يضاف إليها من الجعل والاختراع وما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط.

فنقول : إنّ اختراع الماهيّة الجعليّة باعتبار الأجزاء ، عبارة عن أن يلاحظ عدّة امور مختلفة الحقائق ، متشاركة في الجنس المقول عليها ، ثمّ يعتبر انضمام بعضها إلى بعض ، فيحصل به ماهيّة ملتئمة عن أجزاء.

وباعتبار الشرائط أن يلاحظة عدّة امور اخر غير مشاركة للماهيّة في الجنس المقول عليها ، ثمّ يعتبر تقييدها بتلك الامور ، فيحصل ماهيّة ملتئمة عن أجزاء مشتملة على شرائط.

وبذلك يعلم الفرق بين الأجزاء والشرائط ، فإنّ جزء الشيء عبارة عمّا يشاركه في الجنس المقول عليه ، سواء كان من مقولة الجواهر أو الأعراض ، وشرطه عبارة عمّا لا يشاركه في ذلك الجنس ، فإن كان من مقولة الجوهر لا بدّ وأن يكون جزؤه أيضا من هذه المقولة وشرطه من غير هذه المقولة من أنواع العرض ، وإن كان من مقولة عرض الفعل مثلا فجزؤه أيضا لا بدّ وأن يكون من هذه المقولة ، وشرطه من غيرها ممّا هو من مقولة الكيف أو الكمّ أو غيرهما.

ص: 328

فالجنس المقول على « الصلاة » مثلا هو فعل المكلّف بالمعنى اللغوي المتناول للحركة والسكون ، ولذا يقال - في تفسيرها - إنّها عبارة عن أكوان مخصوصة من الحركات والسكنات المعهودة ، وأجزائها حينئذ هي هذه الحركات والسكنات من التكبيرة والقيام والقراءة والركوع والسجود والطمأنينة في مواضع مخصوصة ، الّتي هي عبارة عن سكون الأعضاء ، وشرائطها هي الطهارة من الحدث والخبث والستر والاستقبال ، بمعنى كونه مستور العورة ومستقبل القبلة لا بمعناهما المصدري ، فإنّه بهذا الاعتبار غير قارّ بالذات فلا يصلح شرطا ، وإنّما هو مقدّمة لحصول الشرط الّذي هو الأثر الحاصل منه المقارن للعمل.

وإلى ما بيّنّاه من ضابط الفرق ينظر ما في كلامهم من أنّ جزء الشيء ما كان داخلا فيه وشرطه ما كان خارجا عنه ، بناء على أن ليس المراد بالدخول والخروج الحسّي منهما ، كما قد يسبق إلى بعض الأوهام ، بل الدخول والخروج العقليّين ، على معنى الدخول في الجنس والخروج عن الجنس.

وبهذا كلّه يندفع الشبهة الّتي أوردها بعض الأعلام - في جملة كلام له على القائل بالفرق في الصحّة والعموم بين الأجزاء والشرائط - بقوله : مع أنّ تحديد الشرط والجزء في غاية الإشكال.

ولعلّ نظر من فرّق بينهما إلى أنّ الشرط خارج عن الماهيّة والجزء داخل فيها.

وأنت خبير بأنّ الشرط أيضا قد يكون داخلا في الماهيّة ، فإنّ قولنا : الطمأنينة بمقدار الذكر شرط في صحّة الركوع ، في قوّة قولنا : يجب الكون الطويل بالمقدار المعلوم في حال الركوع.

وكما يمكن أن يقال : يجب الطمأنينة في القيام بعد الركوع ، يمكن أن يقال : يجب المقدار الزائد عن تحقّق طبيعة القيام بعد الركوع. انتهى (1).

ص: 329


1- قوانين الاصول 1 : 59.

وهذا كما ترى ليس في محلّه ، فإنّ الجزء والشرط على ما بيّنّاه من الضابط لا يشتبهان ، والشرط من الحيثيّة الّتي هو شرط لا يمكن كونه من هذه الحيثيّة جزء ، وكذا الجزء من الحيثيّة الّتي عليها مبنى جزئيّته فلا يمكن فرضه شرطا من هذه الحيثيّة.

والنقض بالطمأنينة غير سديد ، لأنّها عبارة عن سكون الأعضاء ، فإن اعتبرت مقيسة إلى الركوع الّذي هو من مقولة الفعل بمعنى الحركة كانت شرطا لا غير ، وإن اعتبرت مقيسة إلى الصلاة الملتئمة عن عدّة حركات وسكنات كانت جزء لا غير لكونها من جملة السكنات ، وهذا واضح.

وعلى هذا فمقتضى التفصيل بين الأجزاء والشرائط في الصحّة والعموم دخولها في مسمّى الصلاة دون الركوع ، إلاّ على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه أيضا ، مع كون الوضع الشرعي ثابتا لمجموع ما يلتئم من المعنى اللغوي وغيره ممّا اعتبر معه ، فيكون كالصلاة في جزئيّة الطمأنينة حينئذ.

ثمّ إنّ أجزاء العبادة قد تنقسم عندهم إلى الأركان وغيرها.

والأوّل : ما كان الإخلال به عمدا أو سهوا بزيادة أو نقيصة مبطلا.

والثاني : ما كان الإخلال به عمدا مبطلا.

وربّما يتوهّم كون مبنى هذا الفرق على كون الجزء مقوّما للماهيّة وعدم كونه مقوّما لها ، فكلّ ركن مقوّم لها ، بحيث يلزم من انتفائه انتفاؤها ، ولا شيء من غير الركن مقوّما لها ، فلا يلزم من انتفائه انتفاؤها.

وكأنّه لهذا التوهّم جزم بعض الأعلام (1) - بعدما اختار القول بالأعمّ مطلقا - بكون « الصلاة » اسما للتكبيرة والقيام والركوع والسجود بناء على أنّ هذه الأجزاء هى الّتي ينعقد بها الماهيّة فيكون ما عداها خارجا عن المسمّى بالمرّة لعدم مدخل لها في قوام الماهيّة ، وهذا كما ترى ليس كما توهّم ، فإنّ انقسام الأجزاء إلى ما ذكر وكون الفرق بين القسمين ما عرفت ممّا أطبق عليه الكلّ ، واعترف به الصحيحي

ص: 330


1- قوانين الاصول 1 : 58.

كالأعمّي ، ولا يلائمه كون مبنى الفرق على ما توهّم ، إذ لو اريد به كونه كذلك في نظر الصحيحي فمن مذهبه عدم الفرق بين الأركان وغيرها في تقويم الماهيّة ، على معنى كون الجزء كائنا ما كان ولو غير ركني مقوّما لها داخلا في المسمّى ، بحيث يلزم من انتفائه الانتفاء ، فلو كان مبنى الفرق على ما ذكر يلزم كون الصحيحي منكرا للانقسام والفرق المذكورين. وهذا كما ترى.

ولو اريد به كونه كذلك في نظر الأعمّي ، يرد عليه : انتقاضه في طرده وعكسه.

أمّا الأوّل : فلقضائه بكون ما اقتصر فيه المكلّف على مجرّد الأركان من دون انضمام شيء من غيرها إليها صلاة على وجه الحقيقة ، بحيث لم يصحّ سلب الاسم عنها بعد الاطّلاع على حقيقة الحال.

وأمّا الثاني : فلقضائه بعدم كون صلاة المرائي ، وصلاة من يخلّ بالقيام المتّصل بالركوع ، ومن لا يمتاز ركوعه عن قيامه كما يشاهد من الأعراب ، صلاة على وجه الحقيقة ، ولا نظنّ إنّ الأعمّي يلتزم بشيء من ذلك ، بل المعلوم من طريقته خلافه ، وإنّما مبنى الفرق على شيء آخر وهو أنّ الجزء قد يكون معتبرا في حقّ نوع المكلّف ، أعمّ من المختار والمضطرّ ، وقد يكون معتبرا في حقّ صنفه وهو المختار ، والركن وغيره اصطلاح عن هذا الفرق ، فلذا لا يتفاوت الحال في الركن بين حالتي العمد والسهو ، نظرا إلى أنّ السهو والنسيان من جهات الاضطرار ، وإنّما لا يخلّ السهو في غير الركن بالصحّة لعدم كونه جزءا في حقّ الساهي ، وإنّما يخلّ النقيصة والزيادة في الركن مطلقا لابتنائه على كون الحركة بفعله مرّة والسكون عمّا زاد ممّا اعتبر كلّ منهما جزءا ، وكذا في غير الركن للعامد.

وقد ينقسم أجزاء العبادة أيضا إلى الواجبة والمسنونة ، فمن المسنونة قنوت الصلاة ، والاولى من صيغتي التسليم ، بل التسليم نفسه على القول باستحبابه ، والأذان والإقامة ومضمضة الوضوء والغسل واستنشاقهما وغسل اليدين من الزندين في الأوّل ، وكذا في الثاني منه أو من نصف الذراع ، أو من المرفقين على اختلاف الروايات.

ص: 331

وربما يستشكل في معنى استحباب الجزء والّذي يتصوّر فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون معناه استحباب العبادة مشتملة عليه ، ومرجعه : إلى كون العبادة المشتملة عليه أفضل فردي الماهيّة ، بناء على أنّ استحباب الواجب معناه الأفضليّة وأكثريّة الثواب ، وعليه يكون ذلك الجزء مقدّمة لحصول الأفضل المحكوم عليه بالاستحباب ، فيكون مستحبّا بالاستحباب الغيري بحكم المقدّمة.

وثانيهما : أن يكون معناه استحبابه لذاته في العبادة ، على معنى كون العبادة محلاّ له أثناء أو قبلا أو بعدا.

وعليه فيكون العبادة مقدّمة لحصوله على عكس الوجه الأوّل ، فتكون واجبة ومستحبّة بالاعتبارين ، بناء على القول بجواز اجتماع الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري ، إن لم يخدشه منع المقدّميّة بجميع أقسامها ، وإنّما غايته كونها من لوازم وجوده من غير جهة المقدّميّة ، فيعرضها الاستحباب على سبيل المسامحة والمجاز ، لكون العارض كالمعروض الحقيقي واحدا ، وإنّما يتعدّد العروض بالفرض والاعتبار على حدّ الوجوب العرضي الّذي يضاف إلى استقبال الامور المحاذية للقبلة باعتبار وقوعها في جهتها عند الخطاب باستقبالها المستلزم لاستقبال جميع ما بحذاها.

وكيف كان : فإطلاق الجزء على هذا الوجه عليه مسامحة ، يرد لضرب من المجاز ، لكونه باعتبار وقوعه في العبادة يشبه الجزء.

ومن فروع الفرق بين الوجهين اشتراط ذلك الجزء المسنون بما اشترط به العبادة على الأوّل وعدمه على الثاني ، ويظهر أثر هذا الفرع في الأذان والإقامة والتكبيرات الستّ من السبع الافتتاحيّة على تقدير تأخير تكبيرة الإحرام ، فعلى ثاني الوجهين يجوز الإتيان بها محدثا وغير مستقبل القبلة - كما هو الأقوى على ما حقّقناه في الفقه (1) - وكذا التسليم على القول باستحبابه.

ص: 332


1- في كتابه الكبير الموسوم ب- « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام » نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لطبعه ونشره إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : جواز مقارنة النيّة على القول بكونها الإخطار للأذان أو الإقامة في الصلاة ، وغسل اليدين أو المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل على الأوّل وعدمه على الثاني.

ومنها : ما لو شكّ في قراءة السورة بعد الدخول في القنوت ، وفي التشهّد بعد أداء الصيغة الاولى من صيغ التسليم ونحو ذلك ، فعلى الأوّل يكون من باب الشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ بخلافه على الثاني فيجب العود حينئذ.

ومنها : ما لو شكّ في شيء من الصلاة - ولو في عدد الركعات - بعد التشهّد وقبل التسليم على القول باستحبابه ، فإنّه على ثاني الوجهين يكون من باب الشكّ بعد الفراغ فلا عبرة به ، لأنّ الفراغ إنّما حصل بالتشهّد ، ومعنى استحباب التسليم حينئذ يرجع إلى استحباب لحوقه بالصلاة كما في التعقيب ، بخلافه على الأوّل.

ومنها : ما لو أتى بذلك الجزء على الوجه المنهيّ عنه ، كما في القنوت لو أتى به رياء ، والمضمضة والاستنشاق وغسل اليدين لو أوجدها بالماء المغصوب ، فإنّه يفسد العبادة رأسا على الوجه الأوّل ، لمكان النهي عن الشيء باعتبار جزئه ، فالفرد المنويّ وهو الأفضل لم يحصل وما حصل ليس بمنويّ ، بخلافه على الثاني لكون النهي حينئذ من باب ما نهى عنه لأمر خارج. فليتأمّل.

ثمّ إنّ الماهيّة المخترعة بحسب الأجزاء والشرائط معا باعتبار المكلّف تنقسم إلى قسمين

أحدهما : ما هو وظيفة الحاضر العالم القادر العامد المختار ، الّذي لم يطرئه جهة اضطرار أصلا.

وثانيهما : ما هو وظيفة غيره من المكلّفين ، المختلفين باختلاف أحوالهم الّتي أخذها الشارع على جهة الموضوعيّة ، من السفر والجهل والعجز والسهو والنسيان والاضطرار ، وعليه فربّما يشكل الحال على الصحيحي من حيث إنّ المسمّى المتّصف بالصحّة في نظره هل هو الاولى بالخصوص ، أو ما يعمّها. والثانية بأنواعها المختلفة بحسب اختلاف الموضوعات المذكورة ، ولا سبيل له إلى شيء من ذلك.

ص: 333

أمّا الأوّل : فلقضائه بعدم كون وظيفة سائر المكلّفين بشيء من أنواعها صلاة على وجه الحقيقة ، لمكان فساد الجميع بالقياس إلى مسمّى اللفظ ، فيصحّ سلب الاسم ، ولا يظنّ عليه أنّه يلتزم بذلك ، مع فساده في نفسه بملاحظة عرف المتشرّعة.

وأمّا الثاني : فلأنّ لفظ « الصلاة » مثلا إمّا أن يكون مقولا على الجميع بالاشتراك اللفظي أو بالاشتراك المعنوي ، والأوّل مع مخالفته الأصل يفضي إلى الاستعمال في الأكثر نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) بناء على كون الحكم بالنسبة إلى جميع آحاد المكلّفين مستفادا منه ومن نظائره ، ولا قائل بشيء من ذلك ، حتّى أنّ الصحيحي لا يلتزم به.

والثاني : يستدعي جامعا يكون مسمّى اللفظ متحقّقا مع الجميع ، وهو إمّا أن يكون أمرا مركّبا موجودا في ضمن الجميع ، أو أمرا بسيطا كذلك ، ولا سبيل إلى شيء منه.

أمّا الأوّل : فلأنّ ذلك الأمر المركّب إن اخذ مع الجميع بوصف الصحّة فهو غير معقول ، ضرورة أنّ هذا المركّب في أيّ مرتبة من مراتب التركيب إذا كان صحيحا من مكلّف فهو بعينه فاسد من غيره ، وكلّما هو فاسد في حقّ مكلّف فهو بحيث يمكن أن يكون صحيحا في حقّ غيره بل هو كذلك ، فكلّما يتصوّر كونه القدر الجامع فهو صحيح وفاسد بالاعتبارين.

ألا ترى إنّ الصلاة تماما صحيحة من الحاضر فاسدة من المسافر ، وهي قصرا بالعكس ، والصلاة بلا فاتحة أو بلا سورة أو نحو ذلك صحيحة من الناسي فاسدة من العامد ، وهي عن قعود ونحوه صحيحة من المريض فاسدة من الصحيح ، وبالإيماء للركوع والسجود صحيحة من العاري فاسدة من غيره ، وعلى الراحلة أو ماشيا صحيحة من المتنفّل فاسدة من غيره ، وكذلك صلاة الخوف والغريق والمهدوم عليه والأخرس وغيره.

ص: 334


1- الأنعام : 72.

وإن اُخذ لا بوصف الصحّة فهو عدول إلى القول بالأعمّ كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك الأمر البسيط لا يعقل إلاّ أن يكون نحو المعنى اللغوي وهو الدعاء ، أو المطلوب ، أو المبرء للذمّة ، أو الناهي عن الفحشاء بالخاصيّة ، والالتزام بالأوّل عدول عن القول بالماهيّات المخترعة إلى الأخذ بالمعنى اللغوي الأصلي فيبطله دليل الخلف ، والبواقي إن اعتبرت بمفاهيمها يلزم المرادفة بين لفظ « الصلاة » وألفاظ هذه المفاهيم.

ويبطله : عدم كون المنساق المتبادر منها في الإطلاقات شيء من مفاهيم هذه الألفاظ ، وإن اعتبرت بمصاديقها عاد المحذور السابق ، إذ المصاديق ليست إلاّ الماهيّات المفروضة المختلفة بحسب اختلاف أحوال المكلّفين.

وقد يذبّ عن الإشكال باختيار الشقّ الأوّل من الترديد الأوّل - وهو كون اللفظ بحسب أصل الوضع الشرعي اسما للمركّب التامّ الّذي هو وظيفة من لم يطرئه شيء من جهات الاضطرار - ومنع محذور المجاز ، بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسمية غير المركّب التامّ صلاة من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التامّ من غيره أيضا ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع ، كما سمّوا كلّ مسكر خمرا وإن لم يكن مأخوذا من العنب ، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه ، ونظيره لفظ « الإجماع » فإنّه في مصطلح العامّة والخاصّة على ما يظهر من تحديداتهم هو اتّفاق الكلّ غير أنّهم لما وقفوا على حصول ما هو المقصود من اتّفاق الكلّ في اتّفاق البعض الكاشف توسّعوا في الإطلاق ، حتّى صار ذلك الاتّفاق أيضا من موارد استعمال اللفظ على وجه الحقيقة عندهم ، فكأنّ مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركّب التامّ الجامع ، والوضع فيها نظير الوضع العامّ لموضوع له خاصّ دون الاشتراك اللفظي.

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح ومخالفته الأصل ، إنّه يلزم حينئذ أن لا يكون التكليف بوظائف سائر المكلّفين مستفادا من نحو الكتاب والسنّة ، ويلزم أيضا فيما لو ورد في الخطاب كتابا أو سنّة اعتبار شيء في الصلاة جزء كقوله :

ص: 335

« لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) أو شرطا كقوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) مثلا ، أن لا يثبت اعتبار ذلك لغير المركّب التامّ ، لعدم كونه من المسمّى الشرعي المحمول عليه الخطاب.

وكلّ ذلك كما ترى يخالف طريقة الفقهاء ، وتوهّم كون التكليف بغير المركّب التامّ إنّما يثبت بنحو أدلّة الاشتراك ، بعيد جدّا.

وأبعد منه توسيط الاشتراك في إثبات ما ثبت اعتباره بالخطاب في غير المركّب التامّ ، لما يظهر من طريقتهم إنّ ذلك إنّما يثبت لغيره بواسطة كونه صلاة لا غير.

المقدّمة الخامسة : في نبذة ممّا يتعلّق بالماهيّات الجعليّة باعتبار ما يضاف إليها من الوضع والتسمية

المقدّمة الخامسة : في نبذة ممّا يتعلّق بالماهيّات الجعليّة باعتبار ما يضاف إليها من الوضع والتسمية ، لينكشف به حقيقة المعنى المراد بالوضع للصحيحة أو الأعمّ.

واعلم أنّه إذا حصل الانضمام بين امور إمّا باعتبار الجعل والاختراع ، أو من باب البغت والاتّفاق ، فلا جرم يحصل لمجموع هذه الامور باعتبار ما طرأها من الانضمام في نظر العقل والاعتبار جزءان ، مادّي وهو نفس هذه الامور وذواتها ، وصوري وهو الهيئة الاجتماعيّة القائمة بها الطارئة لها بسبب الانضمام ، ولهذه الهيئة الاجتماعيّة باعتبار كونها هذا الشخص من الهيئة ، حدّان :

أحدهما : ما يمنع غيره في طرف الزيادة ، نظرا إلى أنّ زيادة ما زاد على هذه الامور يوجب تبدّل هذا الشخص من الهيئة بشخص آخر.

وثانيهما : ما ينفي غيره في طرف النقيصة ، نظرا إلى أنّ النقص في هذه الامور يوجب تبدّل هذا الشخص أيضا بشخص آخر غيره.

ص: 336


1- تفسير أبي الفتوح الرازي 1 : 15 ، عوالي اللآلي 2 : 218 ، مستدرك الوسائل 4 : 158 أبواب القراءة باب 1 حديث 5 ، 8.
2- التهذيب 1 : 49 ح 144 ، الاستبصار 1 : 55 ح 160 ، الوسائل 1 : 256 أبواب الوضوء باب 1 ح 1.

وحينئذٍ إذا اخذ بوضع لفظ لهذه الامور فيتصوّر له صور :

إحداها : وضعه لها بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة ، على معنى أخذ الهيئة الاجتماعيّة بكلّ من حدّيها جزءا للموضوع له ، ويلزم منه كون استعماله في كلّ من الزائد والناقص مجازا أو غلطا ، لفوات جزء الموضوع له عن المستعمل فيه.

وثانيتها : وضعه لها لا بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة ، على معنى عدم أخذها جزءا للموضوع له بكلّ من حدّيها ، ويلزمه كون استعماله في كلّ من الزائد والناقص على وجه الحقيقة.

وثالثتها : وضعه لها بشرط هذه الهيئة في طرف النقيصة لا بشرطها في طرف الزيادة ، على معنى كونها في أحد حدّيها وعدم كونها في الحدّ الآخر جزءا ، ويلزمه أن يكون استعماله في الزائد على وجه الحقيقة ، وفي الناقص مجازا أو غلطا.

ورابعتها : عكس الثالثة ، ويلزمه أن يكون الاستعمال في الناقص على وجه الحقيقة ، وفي الزائد مجازا أو غلطا.

وخامستها : وضعه لها بشرط عدم الهيئة الاجتماعيّة ، ومرجعه إلى اعتبار الوضع لكلّ واحد منها بشرط الانفراد ، ويلزمه أن يكون استعماله فيها مع الهيئة الاجتماعيّة مجازا أو غلطا.

ولا يخفى عليك إنّ هذه الأقسام بأسرها واقعة بحسب الخارج فيما بين الألفاظ الموضوعة.

فمن القسم الأوّل : أسماء العدد مفردة ومركّبة ، ولذا يكون استعمالها في الزائد والناقص خروجا عن الحقيقة ، ومنه أيضا المثنّيات الموضوعة للفردين من ماهيّة ، ولذا لا يقع استعمالها في الزائد والناقص.

ومن القسم الثاني : لفظ « القرآن » المقول على المجموع وكلّ بعض من باب الاشتراك المعنوي كما هو الحقّ ، إذ ليس المراد بالقدر المشترك الّذي وضع له

ص: 337

اللفظ إلاّ هذه الخطوط المعهودة لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة ولا بشرط عدمها ، ولذا يقع استعماله في المجموع وكلّ واحد من الأبعاض بقيد الخصوصيّة - ولو كلمة واحدة بل حرفا واحدا - على وجه الحقيقة ، ولا يراد من تفسيره بالكلام المنزل على وجه الإعجاز وجعله القدر الجامع بين المجموع والأبعاض بيان كون مسمّى اللفظ هو هذا المفهوم ، وإلاّ لقضى اعتبار الخصوصيّة في لحاظ الاستعمال بالتجوّز ، وهو خلاف ما علم ضرورة من ملاحظة الإطلاقات ، بل المراد به تعريف المسمّى بما هو من صفاته اللازمة ، على أنّه وصف منتزع عنه مرأتا إلى إدراكه في موضع التعريف.

ومنه أيضا : أعلام الأشخاص بناء على أنّها مركّبات من الجوارح المخصوصة مقيّدة بالناطقيّة ، ولذا يقع استعمالها مع الصغر والكبر ومع الهزال والسمن ومع النقص في بعض الجوارح والزيادة عليها.

وبالجملة : مسمّى « زيد » إذا سمّي بهذا الاسم حال صغره كان الموضوع له هذا الهيكل المحسوس المؤلّف من الجوارح المخصوصة لا بشرط هذه الهيئة الخاصّة زيادة ونقيصة ، ولذا لا يفترق الحال في التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئآت غير متناهية ، وزيادات غير محصورة ، ونواقص كثيرة فيما بين الرضاع والشيخوخة.

ولا ريب أنّه ليس بأوضاع متعدّدة بل الاستعمال في جميع هذه المراتب على وجه الحقيقة من توابع الوضع الأوّل ، ولا يكون إلاّ لعروضه الجوارح لا بشرط الهيئة الخاصّة.

وما يقال - في منع التركيب - : من أنّ الأعلام الشخصيّة إنّما وضعت للنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان بمعزل عن التحقيق ، لوضوح أنّ الأشخاص ليست من المجرّدات وإلاّ لزم أن لا تكون أفرادا للإنسان الّذي هو الحيوان الناطق ، وهو باطل بالضرورة.

وإذا كان « زيد » مثلا حيوانا ناطقا فلازمه الجسميّة ، لكون الحيوان من مقولة الجسم ، ولازم الجسميّة التركّب من هذه الجوارح.

ص: 338

نعم إنّما قيد ذلك الجسم بالناطقيّة ، ولذا لا يكون الاستعمال بعد الموت على وجه الحقيقة كما هو واضح.

ومن القسم الثالث : صيغ الجمع فإنّها لا تصدق على ما نقص من الثلاثة على وجه الحقيقة ، بخلاف ما زاد عليها إلى ما لا يحصى في الكثرة عددا ، وليس إلاّ لأنّ الهيئة الخاصّة فيما بين الثلاثة مأخوذة في الوضع باعتبار طرف النقص ، وملغاة باعتبار طرف الزيادة.

ومنه أيضا : لفظ « الدار » و « البيت » المرادف له ، فإنّ الملحوظ في وضعهما من الأجزاء إنّما هو أقلّ ما يتقوّم به الصورة النوعيّة وهو ما اشتمل على الجدران الأربع مع حجرة بينهما ، بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في طرف النقيصة فقط ، ولذا لا يكون استعمالها في الجدران المجرّدة عن الحجرة ، أو الحجرة المجرّدة عن الجدران على وجه الحقيقة ، بخلاف الاستعمال فيما زاد عليها بجميع مراتب الزيادة ، على حسبما اقتضته حوائج الناس من المواضع المبنيّة بينها من الحجرات والسراديب والحياض والاصطبلات ومساكن الدوابّ ومواضع الحطب والحشيش وغيرها ، فإنّه يقع في الجميع على وجه الحقيقة.

ومن القسم الرابع : صيغ جموع القلّة على القول بالفرق بينها وبين جموع الكثرة بكون أكثر الاولى عشرة ، فإنّ العشرة ما وضع له اللفظ بشرط هذه الهيئة الخاصّة في طرف الزيادة دون النقيصة في الجملة ، فليتأمّل.

ومن القسم الخامس : أسماء الإشارة ومضاهياتها في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإنّ الملحوظ في وضع اسم الإشارة إنّما هو الامور الخارجيّة الملحوظة بعنوان الإشارة بشرط عدم الهيئة الاجتماعيّة ، من دون أن يدخل الإشارة في الوضع ولا في الاستعمال ، بل هي في كلّ من لحاظي الوضع والاستعمال اعتبرت طريقا إلى الإدراك ، غير أنّه في لحاظ الوضع اعتبرت كلّي الإشارة عنوانا لملاحظة الموارد الّتي انتزعت عن جماعة منها هذه الصفة ، لتكون آلة لملاحظة الجميع على الإجمال ، وفي لحاظ الاستعمال يعتبر جزئي الإشارة

ص: 339

طريقاً إلى إدراك المستعمل فيه المراد من اللفظ من باب نصب القرينة للإفهام.

وإذا تمهّد ذلك كلّه فيعلم به حقيقة معنى النزاع ، ولمّ المسألة حسبما رامه الفريقان ، فإنّ مرجع القول بالصحيحة إلى دعوى : كون الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة فيما بين الأجزاء المعتبرة في الشرع مأخوذة في المسمّى بكلّ من طرفيها ، ويلزم منه التجوّز في الناقص ، بل الزائد إن كانت الزيادة ممّا لم يعتبرها الشارع ، غير أنّ الصحيحي إن كان قائلا باتّحاد الماهيّة وإنّها بحسب الوضع الأصلي الشرعي ليست إلاّ وظيفة المختار الجامع لجهات الاختيار بأسرها ، يرجع دعواه إلى أنّ اللفظ بحسب الوضع الشرعي موضوع لمجموع الأجزاء المعتبرة بالإضافة إلى هذا المكلّف ، بشرط ما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة. وإن كان قائلا بتعدّد الماهيّات يرجع دعواه إلى اعتبار الهيئة الاجتماعيّة مطلقا في كلّ مرتبة من مراتب التركيب الحاصل بالقياس إلى وظيفة كلّ مكلف ، جزءا للمسمّى ، إن كان اللفظ عنده في جميع هذه المراتب مقولا بالاشتراك اللفظي ، فيكون الاستعمال في الزائد والناقص في كلّ مرتبة بالقياس إلى وضع هذه المرتبة على وجه المجاز ، لانتفاء ما هو جزء الموضوع له عن المستعمل فيه.

وأمّا القول بالأعمّ فمرجعه إلى إنكار مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة - حسبما يدّعيه القائل بالصحيحة - في الموضوع له.

وفي رجوعه حينئذ إلى نفي المدخليّة عنها بالمرّة لتكون من القسم الثاني ، أو في خصوص طرف النقيصة لتكون من القسم الرابع ، أو في خصوص طرف الزيادة لتكون من القسم الثالث ، احتمالات.

لا سبيل إلى الأوّل منها جدّا وإلاّ لزم كون « الصلاة » مثلا كالقرآن صادقة على كلّ جزء - ولو نحو الطمأنينة وذكر الركوع - على وجه الحقيقة وهو كما ترى ، مضافا إلى أنّ المستفاد من كلماتهم صراحة وظهورا أنّ الأعمّي يعترف بانتفاء الماهيّة وصدق الاسم في بعض صور الإخلال بالعبادة ، ولذا قد يقال : إنّه قد يكون كالصحيحي من حيث الثمرة ، كما إذا رجع الشكّ في مدخليّة شيء جزءا أم شرطاً

ص: 340

إلى تحقّق الماهيّة وصدق الاسم ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا التزم بمدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في الجملة.

وحينئذ فيتردّد المسمّى على مقالته بين ما اخذ فيه الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة خاصّة ، وما اخذت فيه في طرف النقيصة كذلك.

وتصويره على التقدير الأوّل بأن يقال : إنّ الشارع تعالى قد لا حظ الأجزاء الواقعيّة الّتي اعتبرها في حقّ الحاضر المختار من جميع الجهات بتلك الهيئة الاجتماعيّة الطارئة لها بسبب انضمام هذه الأجزاء بعضها إلى بعض ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة ، ولا بشرطها في طرف النقيصة.

وقضيّة ذلك بحكم الفرض أن يسري الوضع إلى الناقص بجميع مراتبه ، الّذي هو في كلّ مرتبة وظيفة نوع من المكلّفين ، المختلفين بحسب اختلاف أحوالهم المأخوذة من باب الموضوعيّة ، من غير فرق فيه بين صحيحه وفاسده في كلّ مرتبة ، فيكون الاستعمال في كلّ من هذه الوظائف - صحيحة أو فاسدة - على وجه الحقيقة ، لا على أنّه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد ليكون حقيقة في وجه دون وجه آخر ، بل على أنّه استعمال في نفس الموضوع له.

وبذلك يمتاز هذه المقالة عن مقالة الصحيحي ، فإنّه لالتزامه بأخذ الهيئة الاجتماعيّة مطلقا في المسمّى الموضوع له ، يتوجّه إليه أحد المحذورين من عدم كون وظائف سائر المكلّفين الّتي هي ناقصة بالقياس إلى وظيفة الحاضر المختار صلاة على وجه الحقيقة ، أو تعدّد الماهيّات المستدعي للاشتراك المستلزم للاستعمال في أكثر من معنى.

وعلى التقدير الثاني بأن يقال : إنّه لا حظ من الأجزاء ما يتقوّم به الصورة النوعيّة ، وهو أقلّ مصاديق اللفظ ، كالأركان الأربعة مثلا - على ما زعمه بعض الأعلام - بما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة بسبب الانضمام ، فوضع اللفظ بإزائها بشرط هذه الهيئة في طرف النقيصة ولا بشرطها في الطرف الآخر.

ص: 341

ولازمه أن يسري الوضع بحكم الفرض إلى الزائد بجميع مراتبه إلى أن يبلغ وظيفة الحاضر المختار ، من غير فرق في هذه المراتب بين صحيحه وفاسده ، فيكون الاستعمال في جميع هذه المراتب على وجه الحقيقة ولو بالقياس إلى الفاسدة في كلّ مرتبة ، لا على أنّه استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد لئلاّ يكون حقيقة إلاّ في وجه ، بل على أنّه استعمال في نفس المسمّى الموضوع له.

وبه يمتاز أيضا هذه المقالة عن مقالة الصحيحي ، فإنّه لالتزامه بما عرفت لا مناص له عن أحد المحذورين ، مع التزامه بالمجاز في فاسدة كلّ مرتبة من الزائد والناقص على تقدير التزامه بتعدّد الماهيّات ، وهذا هو المراد من قولهم : كون اللفظ اسما للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، ومحصّله كونه بحكم إلغاء الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة في الجملة لكلّ من الزائد والناقص صحيحهما وفاسدهما ، بل هو المعنى المراد من كونه اسما للقدر المشترك بين الزائد والناقص أو الصحيح والفاسد ، بناء على أنّ القدر المشترك هنا عبارة عن عدّة امور خارجيّة اعتبرت لا بشرط ما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة مطلقا أو في الجملة ، كما هو الضابط الكلّي في القدر المشترك بين الزائد والناقص ، فيكون اللفظ في جميع مراتب الزيادة والنقصان مقولا بالاشتراك المعنوي.

وبذلك يعلم الفرق بين المشترك المعنوي واللفظ الموضوع للكلّي ، فإنّ الأوّل أعمّ مطلقا من الثاني ، إذ القدر المشترك الّذي يوضع بإزائه اللفظ إمّا أن يكون مشتركا بين امور مختلفة بالزيادة والنقصان - حسبما فسّرناه مرارا - فهو مادّة الافتراق ، أو بين امور مختلفة بغيرهما من سائر مشخّصات أفراد الماهيّات المتأصّلة كالإنسان في أفراده فهو مادّة الاجتماع ، فنحو لفظ « الإنسان » مشترك معنوي وكلّي ، بخلاف نحو لفظ « القرآن » و « الصلاة » فإنّه مشترك معنوي لا غير ، ومن حكم الكلّي كون صدقه على موارده صدقا حمليّا ، وكون إطلاقه على كلّ من موارده على طريق الحقيقة في وجه والمجاز في آخر ، بخلاف القسم الآخر من المشترك المعنوي فإنّ صدق القدر المشترك فيه على موارده ليس حمليّا ، وإطلاقه على كلّ من موارده يرد على وجه الحقيقة لا غير.

ص: 342

وبما قرّرناه جميعا يندفع ما قد يورد على القول بالأعمّ ، من أنّ وضع اللفظ للقدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه يكون استعماله في الزائد والناقص على وجه الحقيقة غير معقول ، إمّا لعدم معقوليّة القدر المشترك بينهما ، أو لعدم معقوليّة كون الاستعمال على وجه الحقيقة حتّى في الزائد ، وذلك لأنّ الزيادة في الزائد إمّا أن يراد بها ما يدخل في حقيقة القدر المشترك ، أو ما يدخل في حقيقة الفرد ، على معنى كونها من مشخّصات الفرد الزائد.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه ضرورة امتناع اختلاف المعنى الواحد بالزيادة والنقصان ، فإنّ دخول الزيادة في حقيقة القدر المشترك يقضي بدخول النقصان فيها لكونه مشتركا بينهما ، فيلزم كون ماهيّة واحدة زائدة وناقصة وهو محال ، والثاني يقضي بكون الاستعمال في الزائد على وجه المجاز ، لفرض خروج الزيادة عن الموضوع له وقد دخلت في المستعمل فيه.

ووجه الاندفاع : إنّ القدر المشترك بين الزائد والناقص ليس على حدّ القدر المشترك بين زيد وعمرو وغيرهما من أفراد الماهيّات المتأصّلة ، ليسأل عن دخول الزيادة في حقيقته أو في حقيقة الفرد ، ويلزم كون الاستعمال في الفرد على تقدير دخوله في حقيقته مجازا ، بل هو على ما عرفت عبارة عن عدّة امور منضمّ بعضها إلى بعض ، اعتبرت في لحاظ الوضع لا بشرط ما طرئها بالانضمام من الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة مطلقا أو في الجملة.

وقد عرفت إنّ اللازم من وضع اللفظ له بهذا المعنى وبالاعتبار المذكور ، وقوع كلّ من فرديه الزائد والناقص بنفسه موضوعا له ، فكلّ من مجموع الامور المذكورة وما زاد عليها في وجه وما نقص عنها في آخر يقع مسمّى اللفظ ، ولازمه انتفاء المجاز عن استعمالاته مطلقا.

وكما يندفع به هذا الإشكال فكذلك يندفع به ما قد يورد على بعض الأعلام حيث اعترض على القول بالصحيحة بلزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلا إلى أن قال :

ص: 343

وأمّا على القول بالأعمّ فلا يلزم شيء من ذلك ، لأنّ هذه أحكام مختلفة ترد على ماهيّة واحدة ، من أنّ ذلك مشترك الورود ، إذ لا يعقل وجود القدر المشترك بين الزائد والناقص ، ولا يعقل تبادل أجزاء ماهيّة واحدة (1).

ووجه الاندفاع : إنّ القائل بالأعمّ حيث لا يأخذ الهيئة الاجتماعيّة في مسمّى اللفظ في الجملة في فسحة من هذا المحذور ، والقدر المشترك بين الزائد والناقص بالمعنى المتقدّم أمر معقول ، بل واضح يدركه الوجدان السليم ، وتبادل أجزاء الماهيّة بهذا المعنى لا ضير فيه ، كما هو أمر معقول بل واضح ، ومن لوازم القدر المشترك بهذا المعنى قبوله من الزيادة ما هو معتبر في وظائف طائفة من أنواع المكلّفين المختلفين بحسب اختلاف أحوالهم ، ومن النقيصة ما هو معتبر أيضا في وظائف طائفة اخرى ، وهذه هي الأحكام المختلفة الواردة على ماهيّة واحدة ، هي القدر المشترك المذكور.

وينبغي التنبيه على امور :

منها : إنّ الأظهر بل المتعيّن على مقالة الأعمّي هو الوجه الثاني ، وهو ما كانت الهيئة الاجتماعيّة ملغاة عن المسمّى في طرف الزيادة ، وإلاّ لزم صحّة إطلاق اللفظ على الجزء أيضا ، وهو باطل كما عرفت.

ومنها : إنّ ما عرفته إنّما هو في تصوير الصحّة والعموم بالنسبة إلى الأجزاء ، وأمّا بالنسبة إلى الشرائط فتصويره واضح ، فإنّ أجزاء الماهيّة كما كان يعرضها الهيئة الاجتماعيّة بسب الانضمام فكذلك يعرضها هيئة اخرى بسبب لحوق الشرائط بها ، فمرجع القول بالصحيحة إلى أخذ هذه الهيئة أيضا في المسمّى ، كما إنّ مرجع القول بالأعمّ إلى منع ذلك ، بدعوى : إنّ ماهيّة المسمّى إنّما اخذت في لحاظ الوضع لا بشرط هذه الهيئة أيضا ، كما اخذت لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة في الجملة.

ص: 344


1- قوانين الاصول 1 : 44.

وأمّا القول المفصّل بين الأجزاء والشرائط ، فمرجعه إلى أخذ إحدى الهيئتين دون الاخرى.

ومنها : إنّ قضيّة اختلاف وظائف المكلّفين بالزيادة والنقصان وتبادل الأجزاء باعتبار اختلاف أحوالهم ، المقتضية لاعتبار الزيادة وسقوطها أو تبادل الأجزاء ، كون الصحّة والفساد كالزيادة والنقصان أمرين إضافيّين ، يضاف كلّ منهما إلى مكلّف ، وعليه فالناقص فاسد بالإضافة إلى من وظيفته الزائد ، وصحيح بالقياس إلى من هو وظيفته ، فهو صحيح وفاسد بالاعتبارين.

ومن هنا ربّما يشكل الحال في انطباق هذين الوصفين مع ورودهما على محلّ واحد على ما تقدّم في شرح الصحّة والفساد ، فإنّ الزيادة المعتبرة في الزائد إن كان لها مدخل في ترتّب الأثر المقصود من العبادة فكيف يتصوّر كون الناقص صحيحا بالمعنى المتقدّم ، وفرض كونه صحيحا بهذا المعنى يقضي بسقوط اعتبار الزيادة وعدم كونها ممّا له مدخل في ترتّب الأثر.

لكن على تقدير كون الأثر المقصود من العبادة هو مجرّد التقرّب ورفع الدرجة ، فدفع الإشكال هيّن بعد ملاحظة أنّ هذا الأثر من توابع الأمر الّذي مداره على جعل الأمر الّذي هو تابع للمقدور بل الميسور المختلفين بحسب أحوال المكلّف.

وأمّا على تقدير كونه أمرا آخر من المصالح الخفيّة النفس الأمريّة ، فلا بدّ في دفعه من التزام كونه مع اتّحاده بحسب الجنس مختلفا بحسب المراتب في الكمال والنزول ، أكملها ما يترتّب على أكمل المركّبات من حيث الأجزاء والشرائط ، وأنزلها ما يترتّب على أقلّها جزءا وشرطا ، مع كونه في كلّ مرتبة ملزما ، على معنى كونه مقتضيا للزوم إدراكه لولا المانع من عذر أو عسر أو غيره ، وعليه فلا تنافي أيضا بين الصحّة والفساد اللاحقين بمركّب واحد بالقياس إلى مكلّفين باعتبار مدخليّة الزيادة في ترتّب الأثر وعدم مدخليّتها فيه بالاعتبارين ، فإنّ المقصود من الزائد بالقياس إلى من هو وظيفته نحو من مرتبة المصلحة ليس مقصوداً من

ص: 345

الناقص بالقياس إلى من هو وظيفته ، فالزيادة له مدخليّة في ترتّب هذا النحو من مرتبة المصلحة ، وهذا لا ينافي كون الناقص بحيث يترتّب عليه نحو آخر من مرتبة المصلحة هو المقصود منه في حقّ من هو وظيفته لا غير ، من دون أن يكون للزيادة مدخل في ترتّب هذا النحو من المرتبة أيضا.

وإن شئت فاستوضح ذلك بملاحظة الاجرة على نوع عمل الّتي يختلف مراتبها في الكمال والنزول على حسب اختلاف أفراد العمل بالزيادة والنقصان أو القلّة والكثرة.

المقدّمة السادسة : في ثمرة المسألة

المقدّمة السادسة : في تحقيق الحال في ثمرة المسألة ، فاعلم : أنّ المشهور فيما بينهم المذكور في جملة من الكتب الاصوليّة ، إنّ الثمرة تظهر في البناء على أصل البراءة في العبادة عند الشكّ في مدخليّة شيء فيها جزءا أو شرطا وعدمه ، فعلى القول بالأعمّ يتّجه البناء عليه في نفي المدخليّة ، لصدق الاسم وتحقّق الماهيّة بدون المشكوك فيه ، مع عدم مساعدة الدليل على اعتباره ، لا بمعنى أنّ مفاد الأصل إنّما هو عدم الجزئيّة أو الشرطيّة بحسب الواقع ، ليرد عليه : أنّه ممّا لا تعلّق له بالواقع بل شأنه إعطاء حكم ظاهري يتعبّد به في مقام العمل ، بل بمعنى إجراء آثار عدم الجزئيّة وعدم الشرطيّة من عدم كون الإخلال بالمشكوك فيه مفسدا للعبادة وعدم كونه موجبا للإعادة والقضاء اعتمادا عليه من باب الالتزام بالحكم الظاهري ، وإن كان المشكوك فيه جزءا أو شرطا بحسب الواقع إلى أن يثبت خلافه بالدليل ، فيبنى المسألة حينئذ على الإجزاء في الأمر الظاهري الشرعي وعدمه.

وعلى القول بالصحيحة لا يتّجه البناء عليه ، من حيث عدم تبيّن صدق الاسم ولا تحقّق الماهيّة بدون المشكوك فيه ، للجهل بالمسمّى بعدم معلوميّة تمام الأجزاء والشرائط ، فيجب الإتيان بجميع المحتملات تحصيلا للبراءة اليقينيّة الّتي يستدعيها الشغل اليقيني ، كما أنّه كذلك على القول بالأعمّ لو كان الشكّ في المدخليّة بحيث رجع إلى الصدق وتحقّق المسمّى بدون المشكوك فيه.

ص: 346

ومحصّله : إنّ اللازم من ذلك إنّما هو البناء على الاشتغال ، المقتضي لإجراء أحكام الجزئيّة أو الشرطيّة من باب الالتزام بالأحكام الظاهريّة إلى أن يعلم خلافه بالدليل.

وأمّا على القول بالتفصيل فهو كالقول بالأعمّ إذا كان المشكوك فيه من مقولة الشرائط ، والصحيحة إذا كان من مقولة الأجزاء.

نعم قد يشكل الأمر حينئذ إذا تعلّق الشكّ بالجزئيّة والشرطيّة معا ، بأن يشكّ في الاعتبار ، ثمّ الجزئيّة والشرطيّة على تقدير الاعتبار ، كما في النيّة مثلا.

لكن قد يقال : بأنّه يرجع إلى مسألة دوران الأمر بين الجزئيّة والشرطيّة ، فيؤخذ بموجب الأصل فيها - إن كان - فيبنى على البراءة أو الاشتغال ، وإلاّ فلا مناص من الاشتغال مطلقا لرجوع الشكّ إلى الصدق.

وقد عدل جماعة من متأخّري المتأخّرين ، ولا سيّما المعاصرين من مشايخنا وغيرهم عن هذه الثمرة ، بزعم أنّ المسألة إنّما تثمر في البيان والإجمال ، إذ القول بالأعمّ يرجع إلى دعوى كون ألفاظ العبادات من المبيّنات فيعامل معها معاملة المبيّن ، فيدفع احتمال المدخليّة عند الشكّ في الجزئيّة كالسورة مثلا أو الشرطيّة كالطهارة من الخبث مثلا بأصالة الإطلاق.

وليس المراد بالشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ما يرجع إلى الماهيّة لينافي الفرض ، فإنّ اللفظ على هذا التقدير يصير مجملا والإطلاق ينافيه ، بل ما يرجع إلى المطلوب بعد إحراز الماهيّة بدون المشكوك فيه ، ومعنى كونه جزءا أو شرطا كونه كذلك بالنسبة إلى المطلوب وقيدا بالنسبة إلى الماهيّة ، فيكون الشكّ راجعا إلى الإطلاق والتقييد.

ومن البيّن أنّ الإطلاق ينهض مع عدم ورود بيان القيد بيانا لعدم التقييد ، بخلاف القول بالصحيحة فإنّ مرجعه إلى دعوى كونها من المجملات لفرض كونها أسامي للمركّبات التامّة الجامعة للأجزاء الواقعيّة والشرائط النفس الأمريّة ، وحيث إنّ تمام الأجزاء والشرائط غير معلوم ، فالماهيّة غير محرزة بدون

ص: 347

المشكوك فيه ، ومعه لا إطلاق يتمسّك به في نفي الجزئيّة أو الشرطيّة ، وعليه فلا مناص عن مراجعة الاصول العمليّة المحرزة للأحكام الظاهريّة ، إمّا بالبناء على البراءة أو على الاشتغال على الخلاف في الاصول.

وبالجملة : فاللفظ عند الأعمّي. ليس مجملا ، بل هو على حدّ سائر المطلقات فيؤخذ بما علم كونه جزءا للمطلوب وقيدا للماهيّة بدليل خارج ، وينفى الجزئيّة عمّا لم يساعد عليه الدليل تمسّكا بالإطلاق ، فيحكم بكون المطلوب هو الماهيّة المعرّاة عن المشكوك فيه حكما إنّيّا من باب الانتقال عن الظواهر إلى المطالب ، بخلاف الصحيحي فإنّ اللفظ عنده مجمل ، والإجمال ينافي الإطلاق ، فلا مرجع له إلاّ أحد الأصلين.

ثمّ اعترضوا على الثمرة الاولى ، بمنع الملازمة : فإنّ القول بالأعمّ غير ملازم للبناء على أصل البراءة ، كما أنّ القول بالصحيحة غير ملازم للبناء على أصل الاشتغال ، بل مبنى الأخذ بأحد الأصلين على ترجيح أدّلة ذلك الأصل من العمومات وغيرها ، فمن ترجّح في نظره أدلّة البراءة يرجع إليها في مظانّه ، وإن كان في المسألة صحيحيّا.

غاية الأمر إنّه إذا كان أعمّيّا يتعاضد عنده في خصوص ألفاظ العبادات الأصلان ، الاجتهادي وهو الإطلاق ، والعملي وهو البراءة ، بمعنى أنّه بعد التمسّك بالإطلاق يتمسّك بأصل البراءة من باب التأييد ، ومن ترجّح في نظره أدلّة الاشتغال بمعنى الاحتياط يرجع إليه في مظانّه ، وإن كان أعمّيّا في المسألة.

غاية الأمر إنّه إذا كان أعمّيّا يتعارض في نظره الأصلان في خصوص ألفاظ العبادات ، وحيث إنّ أصل الاشتغال أصل تعليقي - كأصل البراءة - معلّق اعتباره بل انعقاده على فقد الأصل الاجتهادي فلا حكم له مع نهوض الإطلاق بيانا لعدم التقييد ، رافعا للشكّ في البراءة.

وممّا يؤيّد ضعف الثمرة المذكورة ، إنّ أدلّة الأصلين مضبوطة ليس منها كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ولا كونها أسامي للصحيحة ، ولم يعهد عن أحدٍ من

ص: 348

أصحاب البراءة التمسّك بذلك تحكيما لهذا الأصل على مقابله ، ولا عن أحد من أصحاب الاشتغال التمسّك بنحوه تحكيما لأصله على مقابله.

نعم من صور موضع النزاع في الأصلين كون الشبهة ناشئة عن إجمال الدليل ، وهو وإن كان يناسب القول بالصحيحة ، بناء على أنّ الإجمال أعمّ ممّا يكون في أصل الحكم أو في متعلّقه المدلول عليه باللفظ المجمل ، إلاّ أنّ الأصل المعمول به في تلك الصورة كغيرها ليس مقصورا عند العلماء على الاشتغال ، لبناء كثير منهم فيها على أصل البراءة كما هو الأقوى ، مع أنّ ثمرة المسألة ما يترتّب عليها بلا توسيط وسط آخر ، وليس إعمال الأصلين على القولين من هذا الباب ، فإنّهما لا ينهضان على المطلوب من نفي المدخليّة أو إثباتها إلاّ بعد توسيط أدلّتهما كما هو واضح.

وربّما يذكر في المقام ثمرة اخرى ، وهي ما يظهر في مقام النذر ، كما لو نذر إعطاء دينار لمن يراه يصلّي ، فعلى القول بالأعمّ يبرء ذمّته لو أعطى المصلّي من غير تفتيش وفحص عن صحّة صلاته ، بخلافه على القول بالصحيحة ، فلا يبرأ بالإعطاء من غير فحص.

وهاهنا ثمرة اخرى تذكر في المقام ، وهو جواز الاقتداء بالعدل من دون تفتيش عن صحّة صلاته على القول بالأعمّ ، وعدمه إلاّ بعد التفتيش على القول الآخر ، وفيهما ما لا يخفى من فساد التفريع مع إمكان المناقشة في الفرع.

أمّا الأوّل ، فلأنّ ثمرة المسألة كائنة ما كانت عبارة عن الفائدة المقصودة من وضع المسألة وتدوينها.

ولا ريب أنّ ما يرجع إلى مقام النذر أو القدوة ليس ممّا قصد من وضع المسائل الاصوليّة ولا مبادئها ، فإنّ المسألة المبحوث عنها إن كانت من المسائل الاصوليّة فالفائدة المقصودة من وضعها والبحث عنها ما يرجع إلى مقام الاستنباط ، بكونها مأخوذة في المقدّمات المأخوذة في استدلالات المسائل الفقهيّة لا غير ، وإن كانت من مبادئها فالغرض من وضعها والبحث عنها إحراز ما

ص: 349

يرجع إلى موضوعات المسائل الاصوليّة ، أو إحراز ما يرجع إلى استدلالات تلك المسائل. وجواز إعطاء المنذور من دون فحص وعدمه ، كجواز الاقتداء من دون فحص وعدمه لا يندرج في ذلك ، بل هو من الأحكام الفرعيّة الّتي تتفرّع على المسألة من باب الاتّفاق وليس الغرض الأصلي من وضعها التوصّل إلى هذا الحكم الفرعي.

وبالجملة : فرق واضح بين مقاصد المسائل الاصوليّة ومبادئها وفوائدها ، والثمرة لا بدّ وأن يكون من قبيل المقاصد ، وما ذكر من الحكمين الفرعيّين من قبيل الفوائد لا المقاصد ، فلا تصلح ثمرة.

وأمّا الثاني : فلتطرّق المنع إلى الفرق والتفصيل في الجواز وعدمه بين القولين ، إذ لو كان مبناه على كون النذر والقدوة معلّقين على مسمّى الصلاة ، والقول بالأعمّ ملزوم لتحقّق المسمّى فلا حاجة في إحرازه إلى الفحص ، والقول بالصحيحة غير ملزوم له فلا بدّ في إحرازه من الفحص ، ففيه : منع واضح لاعتبار الصحّة في كلّ من الأمرين.

أمّا في الثاني : فلما دلّ على عدم كفاية مجرّد تحقّق المسمّى في الجواز ، بل لا بدّ معه من وصف الصحّة.

وأمّا في الأوّل : فلانصراف الإطلاق إلى إرادة الصحّة - ولو بمعونة شهادة الحال - وإن كان مبناه على كونهما معلّقين على الصحّة والقول بالأعمّ ملزوم لها بخلاف القول بالصحيحة ، فلا بدّ في إحرازها حينئذ من الفحص.

ففيه : إنّه أوضح منعا ، فإنّ الأعمّ - على القول بالأعمّ - لا معنى له إلاّ عدم كون المسمّى ملزوما للصحّة ، بل الملزوم لها إنّما هو الصحيحة.

وإن كان مبناه بعد فرض كونهما معلّقين على الصحّة على أنّه يكفي في إحرازها أصالة الصحّة في فعل المسلم على القول بالأعمّ بخلافه على القول بالصحيحة ، فلا بدّ في إحرازها من الفحص.

ففيه : إنّ أصالة الصحّة في فعل المسلم كما تجري في الصلاة المفروضة على

ص: 350

القول بالأعمّ ، فكذلك على القول الآخر ، فتكفي في إحراز الصحّة مطلقا والفرق تحكّم.

فإن قلت : إنّ النذر والقدوة معلّقان على المسمّى والصحّة معا ، وحينئذ يحصل الفرق بين القولين ، إذ على القول بالأعمّ يحرز المسمّى بفرض كون اللفظ اسما للأعمّ صادقا على الصلاة المفروضة ، والصحّة بأصالة الصحّة ، وعلى القول الآخر لا طريق إلى إحراز المسمّى ليتمسّك في إحراز الصحّة بالأصل ، بل لا بدّ في إحرازه من الفحص ، وحيث إنّ الصحّة لازمة للمسمّى على هذا القول ، فالفحص لإحراز المسمّى فحص لإحرازها.

قلت : أصالة الصحّة على تقدير جريانها على هذا القول ، فالصحّة المحرزة بها كافية في إحراز المسمّى لمكان الملازمة بينهما.

والحاصل : إذا بنى على جريان الأصل على هذا القول ، فإحراز الصحّة بواسطة إحراز المسمّى بالفحص ليس بأولى من إحراز المسمّى بواسطة إحراز الصحّة بالأصل ، ومعه لا حاجة إلى طريق آخر لإحرازه.

إلاّ أن يقال : بمنع اندراج المورد على هذا القول في أدلّة ذلك الأصل ، بدعوى : أنّه إنّما يجري في فعل المسلم بعد ما كان العنوان الّذي علّق عليه حكم الصحّة محرزا ، ليندرج الفعل المشكوك في صحّته في أدلّة الصحّة ، بأن يكون الشكّ في صحّته راجعا إلى ما لا يوجب الإخلال به إخلال في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم.

وبعبارة اخرى : أن لا يكون الشكّ في الصحّة راجعا إلى الشكّ في تحقّق أصل العنوان وصدقه على الفعل البارز في الخارج من المسلم ، ولذا لو تنازع المتعاقدان في صحّة عقد بدعوى أحدهما حصول القبول ولحوقه بالإيجاب ، ودعوى الآخر عدمه ، ليس للحاكم الحكم للأوّل استنادا إلى أصالة الصحّة ، لأنّ الصحّة من مقتضيات ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ولا يعقل له اقتضاء إلاّ إذا صدق على الفعل البارز

ص: 351


1- المائدة : 1.

في الخارج عنوان العقديّة ، والمفروض مشكوك في تحقّق هذا العنوان فلا يتناوله العموم جزما ، فلا وجه للحكم بالصحّة ، بل المقام حينئذ من مجاري أصالة العدم بلا معارض ، فيجب فيه الحكم للثاني.

ومنه : ما لو وقع الاختلاف في الوقف الخاصّ بين ورثة الواقف وورثة الموقوف عليه ، بأن يدّعي الأوّل عدم لحوق قبول الموقوف عليه بإيجاب الواقف ، ويدّعي الثاني لحوقه ، فحينئذ لا يمكن الحكم للثاني تعويلا على أصالة الصحّة. ومحلّ البحث على القول بالصحيحة من هذا الباب ، إذ الشكّ في الصحّة حينئذ مرجعه إلى الشكّ في تحقّق عنوان الصلاتيّة وصدقه على الفعل البارز في الخارج ، ومعه لا معنى للحكم بالصحّة استنادا إلى أصالة الصحّة في فعل المسلم.

فإن كان النظر في الفرعين المذكورين إلى هذه القاعدة فالفرق بين القولين متّجه ، ومحصّله يرجع إلى منع جريان أصالة الصحّة في فعل المسلم إذا وقع في موضع العبادة على القول بالصحيحة ، لا من باب تقييد أدلّة هذا الأصل أو تخصيصها لنطالب بدليلهما ، بل من باب خروجه عنها خروجا موضوعيّا ، وبذلك - مع ملاحظة بطلان القول بالفحص والتفتيش عن صحّة صلاة المصلّي في المسألتين ، حيث إنّ المتشرّعة غير ملتزمين بذلك عند الوفاء بالنذر والقدوة ، بل لو التزم به أحد كان مستنكرا في نظرهم - يظهر قوّة القول بالأعمّ وضعف القول الآخر ، حيث إنّه يكشف عن كون المركوز في أذهانهم كون وضع اللفظ للعبادة بمثابة لا تمنع عن الاستناد إلى أصالة الصحّة في إحراز الصحّة الرافعة للحاجة إلى الفحص والتفتيش وهو الوضع للأعمّ ، كما يظهر به قوّة ما صنعه بعض الأعلام (1) من استظهار صحّة مقالته وبطلان مقالة الصحيحي ، من عدم التزام المؤمنين في الأعصار والأمصار بالتفحّص عن مذهب المصلّي في مسألتي القدوة وإعطاء النذور ، فإنّه استظهار حسن ، غير إنّه علّل عدم كفاية أصالة الصحّة في فعل المسلم لإحراز الصحّة على القول بالصحيحة بغير ما نبّهنا عليه.

ص: 352


1- قوانين الاصول 1 : 51.

وملخّصه : إنّ غاية ما يثبت بهذا الأصل إنّما هو الصحّة عند الفاعل ، لأنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده المطابق لنفس الأمر بظنّه.

قال : ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئا واحدا حتّى يبنى عليه في المجهول الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة (1).

وحاصل ما أفاده قدس سره : أنّ هذا الأصل في المسائل الخلافيّة الّتي حصل فيها الاختلاف بين الحامل والفاعل بحسب اجتهادهما أو تقليدهما لمجتهدين مختلفين في الرأي لا يكفي في إحراز الصحّة في نظر الحامل.

وهذا الكلام عند التحقيق ليس بسديد ، إذ الاختلاف في المسألة بحسب المذهب غير ضائر في الاعتماد على هذا الأصل ما لم يعلم بالمخالفة في الواقعة الشخصيّة ، وهو وقوع الفعل البارز في الخارج على خلاف ما هو الصحيح الواقعي في نظر الحامل ، فيجوز الصلاة في مغسول من لا يرى التعدّد شرطا والأكل من ذبيحة من لا يرى التسمية شرطا ، والتمتّع من معقودة من لا يرى العربيّة في العقد شرطا ، والايتمام بمن لا يرى السورة في الصلاة واجبة ، لمن يرى اعتبار التعدّد والتسمية والعربيّة والسورة ، حتّى ما احتمل عنده ولو ضعيفا وقوع الفعل من فاعله المخالف في المذهب على طبق معتقده من الصحيح الواقعي ، احتياطا منه أو اختيارا لأفضل الفردين أو من باب النعت والاتّفاق.

نعم إذا علم بأنّه لم يقع إلاّ على طبق مذهب الفاعل فلا حمل ، وبالجملة المخالفة في المذهب غير ضائرة في الحمل ما لم يصادفها المخالفة الشخصيّة ، فالوجه في عدم البناء على الأصل - بناء على القول بالصحيحة - هو ما ذكرنا لا غير فليتدبّر.

وتمام الكلام في تحقيق هذا الأصل أوردناه في رسالة منفردة (2) ولنرجع إلى تحقيق الحال في الثمرتين الاوليين المختلف فيهما.

ص: 353


1- قوانين الاصول 1 : 51.
2- الرسالة الموسومة ب- « أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة » المطبوعة بانضمام رسالتين إحداهما في العدالة والاخرى في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، باهتمام مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة سنة 1420 ه. ق.

فالّذي يقتضيه التدبّر فيما قرّرناه من تصوير النزاع ، ومراجعة كلام الفقهاء واستدلالاتهم المتعلّقة بالعبادات ، هو المحاكمة بين الفريقين بالتفصيل.

فإن كان النظر في الثمرة إلى أجزاء ماهيّة العبادة فالحقّ ما ذكره الأوّلون ، وإن كان النظر إلى شروطها فالحقّ ما جزم به الآخرون.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإجمال الّذي لا إطلاق معه يتمسّك به في موضع الشكّ مشترك اللزوم بين القولين ، غير إنّه على القول بالصحيحة إجمال مفهومي ، ومن حكمه هنا كونه محرزا لموضوع أصل الاشتغال ، وعلى القول بالأعمّ إجمال مرادي ، ومن حكمه هنا كونه محرزا لموضوع أصل البراءة.

أمّا الفرق بينهما في الإجمال : فلأنّ مقتضى ما التزم به القائل بالصحيحة من أخذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة في المسمّى والموضوع له - حسبما قرّرناه سابقا - جهالة مفهوم اللفظ بما هو مفهومه ، باعتبار جهالة جزئه وهو الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة بعدم معلوميّة تمام الأجزاء الواقعيّة ، ومقتضى ما التزم به القائل بالأعمّ من تعرية المسمّى عن هذه الهيئة الاجتماعيّة باعتبار طرف الزيادة معلوميّة مفهوم اللفظ بما هو مفهومه ، وهو الأركان الأربعة مثلا بأيّ هيئة طرئها في جانب الزيادة ، فإنّها بكلّ هيئة طرئها بانضمام الزوائد إليها من مسمّى اللفظ المعروض للوضع ، وهذا ممّا لا إجمال فيه أصلاً.

نعم يطرئه الإجمال بحسب إرادة المتكلّم في مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) عند الشكّ في جزئيّة شيء كالسورة مثلا ، إذ لا يدرى إنّ المراد بالصلاة في هذا الإطلاق هل هو ما دخل فيه السورة أو ما خلا عن السورة ، مع كون كلّ منهما مسمّاه على وجه الحقيقة ، نظير اسم الإشارة إذا ورد بلا قرينة الإشارة المردّد بين إرادة زيد أو عمرو ، مع كون كلّ منهما مسمّاه حقيقة ، وهذا كما ترى إجمال في المراد لا في المفهوم والمسمّى.

ص: 354


1- الأنعام : 72.

وأمّا الفرق بينهما في الرجوع إلى الأصلين : فلما حقّق في محلّه وسيأتي تفصيله من أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الأصلين إذا تعلّق بالمكلّف به بعد العلم بأصل التكليف لا يوجب الرجوع إلى أصل البراءة ، ما لم يكن آئلا إلى الشكّ في التكليف ، ولو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، كما هو الحال في ماهيّات العبادات إذا شكّ في جزئيّة شيء لها.

وضابط أوله حينئذ إلى الشكّ في التكليف وعدمه ، هو أنّه إن تعلّق التكليف بعنوان معيّن في الواقع مردّد في نظر المكلّف بين كونه حاصلا في ضمن الأقلّ وبين عدم حصوله إلاّ في ضمن الأكثر ، فالشكّ فيه ممّا لا يؤول إلى التكليف بالزائد ، ومعه لا يعقل الرجوع إلى أصل البراءة ، بل المتعيّن فيه الرجوع إلى أصل الاشتغال المقتضي لمراعاة الأكثر تحصيلا للبراءة اليقينيّة.

وإن لم يتعلّق بنحو هذا العنوان ، بل تعلّق بالأقلّ يقينا مع احتمال تعلّقه معه بالزائد عليه.

وبعبارة اخرى : تعلّق بالأمر الدائر بين كونه نفس الأقلّ أو هو مع ما احتمل دخله في المكلّف به ، ولازمه دوران وجوب الأقلّ بين النفسي والمقدّمي.

فالشكّ فيه آئل إلى أصل التكليف بالنسبة إلى القدر الزائد ، وهذا معنى ما يقال : من رجوع اليقين بالاشتغال مع الشكّ في المكلّف به إلى العلم بالمكلّف به في الجملة مع الشكّ البدوي ، ومعه يجوز الرجوع إلى أصل البراءة المقتضي للاقتصار في الخروج عن عهدة التكليف على القدر المتيقّن وهو الأقلّ ، إذ اليقين بالاشتغال لم يحصل إلاّ بحسبه.

ولا ريب أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر عند الشكّ في جزئيّة السورة على القول بالصحيحة من باب القسم الأوّل ، إذ التكليف إنّما يتعلّق بمسمّى اللفظ المأخوذ فيه الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة ، وهو عنوان واقعي تعلّق التكليف به مردّد بين حصوله في ضمن الأقلّ وعدم حصوله إلاّ في ضمن الأكثر.

وإن شئت قلت : إنّه كدوران المكلّف به بين المتبائنين ، إذ لا يدرى أنّ المكلّف

ص: 355

به الواقعي هل هو الهيئة المتقوّمة بالأجزاء الخالية عن السورة ، أو الهيئة المتقوّمة بالأجزاء المشتملة عليها ، فليس في البين قدر متيقّن يؤخذ به ويرجع في الباقي إلى الأصل ، بخلافه على القول بالأعمّ ، إذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة كما لم تؤخذ في المسمّى فكذا لم تؤخذ في المكلّف به ، فهو مردّد بين كونه نفس الأقلّ وهو ما لا يدخل فيه السورة أو هو مع السورة ، والقدر المتيقّن من مورد التكليف هو الأوّل وتعلّقه بالسورة غير معلوم ، فيدفع احتماله بالأصل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الهيئة الخاصّة الحاصلة من لحوق الشرائط مأخوذة في المسمّى أيضا على القول بالصحيحة ، وهو يوجب الإجمال المفهومي أيضا لجهالة هذه الهيئة بعدم معلوميّة تمام الشرائط الواقعيّة ، ولازمه البناء على أصل الاشتغال أيضا لعين ما قرّرناه ، لا كما توهّمه الجماعة من جواز الأمرين حينئذ ، بخلافه على القول بالأعمّ فإنّه لعدم أخذه هذه الهيئة في المسمّى أصلا في فراغ عن الإجمال بالمرّة ، فيؤول الشكّ في الشرطيّة حينئذ إلى الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى ماهيّة المسمّى الملتئمة من الأجزاء المعيّنة لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة ، فينهض ذلك الإطلاق بيانا لعدم التقييد فيما لم يساعد على شرطيّته الدليل.

وممّا يكشف عن صحّة ما قلناه من الفرق ، إنّه لم يعهد من الفقهاء في أبواب العبادات التمسّك بالإطلاق في الأفعال أو التروك المختلف في وجوبها فيها ، بل المعهود منهم - على ما يشهد به التتبّع - هو التمسّك بأصل البراءة للنفي وأصل الاشتغال للإثبات ، مع التمسّك بالأدلّة الخاصّة على تقدير وجودها وعدمه على تقدير العدم.

نعم قد كثر تمسّكهم به في بحث الشروط ، كما وقع عن العلاّمة في المختلف وصاحب المدارك وغيرهما في مسألة تجويز الحرير للنساء في الصلاة بعد منع الرجال عنه ، وغيرها من المسائل المتعلّقة بالشروط.

وبما بيّنّاه يندفع ما قد يتوهّم : من أنّ تمسّكهم بالإطلاق في أبواب العبادات أيضا كثير بل في غاية الكثرة ، كما في مسألة الحرير للنساء في الصلاة لتمسّكهم

ص: 356

للجواز بإطلاق الأمر بالصلاة ، فلا يتقيّد إلاّ بدليل ، وفي مسألة كفاية الخمسة في عدد انعقاد الجمعة ، حيث تمسّكوا بإطلاق الأمر بالسعي في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (1) لنفي اعتبار الزائد كالسبعة وغيره ، ومسألة عدم اشتراط حضور الإمام ومنصوبه حيث تمسّك أهل القول بالوجوب مطلقا بإطلاق الأمر في الآية ، ومسألة التنفّل في السفر حيث تمسّك القائلون بجوازه بإطلاق أدلّة النوافل والأوامر الواردة عليها ، ومسألة الصلاة في السمجد عند الخطاب بإزالة النجاسة عنه حيث تمسّك القائل بصحّة هذه الصلاة بإطلاق الأمر بها ، قبالا لمن يفسدها تعويلا على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ المقتضي لفساد العبادة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى عددا.

ووجه الاندفاع : إنّ التمسّك به في باب الشروط كالمثال الأوّل مسلّم ، وفي باب الأجزاء غير مسلّم ، وما ذكر من الأمثلة ليس من هذا الباب ولا من الباب الأوّل ، لوضوح الفرق بين إطلاق الأمر وإطلاق المأمور به وما وجد في الموارد المذكورة وغيرها تمسّك بإطلاق الأمر ، التفاتا إلى أنّ العدد وحضور الإمام أو نائبه الخاصّ في مسألة الجمعة ، والحضر في مسألة التنفّل ، وفقد الأمر المضيّق في مسألة الصلاة في المسجد مكان الإزالة - على القول باعتبارها - من شروط الوجوب لا الواجب ، فيكون الأمر بالنسبة إليها على تقدير عدم مساعدة الدليل على الاشتراط بها مطلقا.

ولا ريب أنّ إطلاق الأمر لا ينافي إجمال المأمور به بالنظر إلى الأجزاء حتّى على القول بالأعمّ ولا بالنظر إلى الشرائط على القول بالصحيحة.

والحاصل : أنّ التمسّك بالإطلاق لم يعهد منهم إلاّ في باب شروط الأمر وشروط المأمور به ، ولا ينافي شيء من ذلك ما ادّعيناه من الإجمال المانع عن الإطلاق بالنظر إلى الأجزاء حتّى على القول بالأعمّ.

ص: 357


1- الجمعة : 9.

وممّا يرشد إلى صحّة ذلك ما عن المحقّق البهبهاني ملخّصا في بيان طريق إثبات ماهيّة العبادات ، من أن يرجع إلى اصطلاح المتشرّعة ، ويقال : المتبادر في اصطلاحهم هو هذا فهو مطلوب الشارع.

إلى أن قال : لكن يشكل ذلك على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحّة مطلقا ، وعلى القول بكونها اسما للأعمّ من الصحيحة ، لو كان الإشكال والتشكيك في الأجزاء ، وأمّا لو كان الإشكال في ثبوت شرط لها ، فيصير مثل المعاملات في جواز الاكتفاء بما يفهم منه عرفا ، وينفي الشرط المحتمل بالأصل ، إلى آخره.

فإنّ هذه العبارة وإن أو همت لكثير من الأنظار كون مفادها اختيار القول بالتفصيل في أصل المسألة ، وقد تقدّم منّا احتمال آخر فيها ، وهو كون المراد منها إرجاع القول بالأعمّ - المعروف المأخوذ في الطرف المقابل من القول بالصحيحة - إلى هذا التفصيل.

لكنّ الإنصاف : إنّ أظهر محاملها كونها تفصيلا في ثمرة القولين بين الأجزاء والشرائط ، مع كون المراد بالأصل الجاري في الشرائط على القول بالأعمّ هو الأصل اللفظي ، كما يقتضيه التشبيه بالمعاملات.

ومحصّله : إنّه بالنسبة إلى الأجزاء ليس هنا أصل لفظي يرجع إليه على القولين معا ، وكذلك بالنسبة إلى الشرائط على القول بالصحيحة.

وأمّا على القول بالأعمّ ، فالأصل اللفظي وهو الإطلاق موجود.

والعجب ممّن اختار القول الأوّل في المسألة مع مصيره في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر إلى عدم وجوب الاحتياط ، مع اعترافه في غير موضع بتعيّن الرجوع إلى أصل الاشتغال فيما لو دار المكلّف به الواقعي بين تحقّقه في ضمن الأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، وليس هذا إلاّ غفلة عن حقيقة الحال في تصوّر المسألة حسبما بيّنّاه.

وأعجب منه : إنّه بعد ما أورد على نفسه بأنّ متعلّق الخطاب مجمل لتنجّز

ص: 358

التكليف بمراد الشارع من اللفظ فيجب القطع بالإتيان بمراده ، دفعه : بأنّ التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله ، حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّى يجب الاحتياط فيه ، وإنّما هو متعلّق بمصداق المراد والمدلول ، لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه. انتهى.

والجواب : إنّ أحدا لا يقول بتعلّق التكليف بمفهوم المراد المتأخّر انعقاده عن عروض الإرادة والاستعمال بالمسمّى الموضوع له اللفظ ليدفع بنحو ما ذكر ، بل متعلّق التكليف مصداق هذا المفهوم الّذي نفس الموضوع له وقد طرئه الإرادة ، وهو مردّد بين الهيئة الشخصيّة المتقوّمة بالأقلّ ، والهيئة الشخصيّة الاخرى المتقوّمة بالأكثر ، وهو شكّ في المكلّف به الدائر بين الأقلّ والأكثر غير آئل إلى الشكّ في التكليف ، ولذا لو قيل : بأنّ الأصل عدم تعلّقه بالهيئة المتقوّمة بالأكثر ، كان معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالهيئة المتقوّمة بالأقلّ.

ولا يلزم نظير ذلك على القول بالأعمّ ، لعدم اعتبار شخص الهيئة حينئذ في متعلّق التكليف من حيث عدم دخوله في المسمّى الموضوع له اللفظ ، بل التكليف إنّما تعلّق بنفس الأجزاء المعرّاة عن اعتبار هيئة خاصّة المردّدة بين الأقلّ أو هو مع الزيادة المحقّقة لعنوان الأكثر ، وهذا كما ترى آئل إلى الشكّ في أصل تعلّق التكليف بالزائد بعد تيقّن تعلّقه بالأقلّ ، مردّدا بين كونه نفسيّا أو مقدّميّا ، ولذا لو دفع احتمال تعلّقه بالزائد بالأصل لم يكن معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالأقلّ.

وهذا مع ما عرفته على القول بالصحيحة من معارضة الأصل بمثله بيّنة واضحة على الفرق بين القولين في كيفيّة تعلّق التكليف وحقيقة متعلّقة ، وأول الشكّ على أحدهما إلى أصل التكليف بالنسبة إلى الزيادة دون الآخر ، ولا يعتبر في عدم أوله إليه تعلّق التكليف بالمفهوم المبيّن المردّد مصداقه بين أمرين ، بل يكفي تعلّقه بالمصداق المردّد بين أمرين ، كما هو لازم القول بالصحيحة.

ص: 359

المقدّمة السابعة : في تحقيق أقوال المسألة

اشارة

المقدّمة السابعة : في تحقيق أقوال المسألة ، والإشارة إلى ما يصلح أصلا فيها.

أمّا الأقوال : فالحقّ منها - تحصيلا ونقلا - قولان : الصحيحة مطلقا كما نسب إلى جماعة من الخاصّة والعامّة ، وربّما عزى إلى أكثر المحقّقين.

وقد يدّعى فيه الشهرة ، والأعمّ كذلك كما صار إليه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

ويظهر من الأوائل ممّن تمسّك في المسائل المتعلّقة بماهيّات العبادات بأصل البراءة ، كالعلاّمة وصاحب المدارك ونظرائهما.

وقد اشتهر قول ثالث وهو التفصيل بين الأجزاء فالصحّة والشرائط فالعموم ، والمعروف في الألسنة نسبة هذا القول إلى العلاّمة البهبهاني ، وفي النسبة ما عرفت.

فهذا القول إمّا لا أصل له أو قائله ليس بمعلوم.

وقد يحكى قول رابع عن الشهيد في القواعد ، وعبارته : « إنّ الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، واحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما ، وأمّا لو تحزّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع لم يحنث قطعا ». انتهى (1).

وهي لكثرة ما يجري فيها من وجوه الاحتمال لا تكاد تدلّ على ما استظهروه منها لا صراحة ولا ظهورا ، لابتناء دلالتها على أضعف هذه الوجوه ، مع عدم خلوّ شيء منها عن شيء :

منها : كون المراد بالمنفيّ سنخ الإطلاق المتناول لكلّ من وجهي الحقيقة والمجاز ، ويفسده : أنّه نظير إنكار ما هو كالضروري في عرف المتشرّعة ، وأطبق عليه الفريقان من ورود إطلاقها على الفاسدة حتّى في لسان الشارع ولو على وجه المجاز ، كما يزعمه أصحاب القول بالصحيحة.

ص: 360


1- القواعد والفوائد 1 : 158 القاعدة 42 الفائدة 2.

ومنها : كون المراد به خصوص الإطلاق على وجه الحقيقة ، وعليه مبنى توهّم القول المذكور ، لكن يفسده الاستثناء المعلّل بوجوب المضيّ في جانب المستثنى ، فإنّه حكم شرعي لا ملازمة بينه وبين أصل الإطلاق في الحجّ ، ولا كونه على وجه الحقيقة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإطلاق إنّما يثبت لو كان وجوب المضيّ من جهة الأمر الأوّل الوارد بالحجّ وهو محلّ منع ، بل هو من جهة أمر آخر ورد بإتمام الفاسد ، فلا يكشف عن كون المراد بالحجّ الوارد في حيّز الأمر الأوّل ما يعمّ الفاسد.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، ووجوب المضيّ لا يلازم الحقيقيّة لعدم كونه من لوازمه ولا من ملزوماته.

ومنها : كون المراد به الإطلاق على لسان الشارع في حيّز الأوامر والطلبات ، كما جزم به جماعة تبعا لبعض الأعلام (1).

وهذا وإن كان يلائمه التعليل الواقع في الاستثناء في الجملة ، بدعوى : إنّ وجوب المضيّ في فاسد الحجّ ممّا يكشف عن كون المراد من لفظه في حيّز الأمر ما يعمّ الفاسد ، لكن قد عرفت منعه ، مع أنّه يبعّده تفريع مسألة الحنث ، لعدم الملازمة بين عدم ورود إطلاق ما عدا الحجّ في حيّز الأوامر على الفاسدة ، وبين كونه كذلك في لسان المتشرّعة في نحو مقام الحلف ، فإنّ أحدهما ليس بلازم للآخر ولا ملزومه.

ومنها : كون المراد به إطلاق المتشرّعة في خصوص مقام الحلف والنذر وغيرهما من العقود والإجارات ، وهذا وإن كان يساعد عليه التفريع ، لكن لا يلائمه الاستثناء ، لجواز جريان ذلك الحكم في لفظ « الحجّ » إذا ورد في نحو هذا المقام ، إلاّ أن يوجّه : بأنّ بناء المتشرّعة في هذه المقامات على مراعاة الرجحان ، ولا رجحان لفاسد غير الحجّ بخلاف الحجّ ، فإنّ فيه رجحانا مّا يكشف عنه

ص: 361


1- قوانين الاصول 1 : 47.

وجوب المضيّ فيه ، فإنّه حكم شرعي يتبع رجحانا في متعلّقه ، وهذا الوجه بناء على التوجيه كما ترى أقلّ محذورا من غيره ، وإن كان بعيدا عن مساق العبارة.

وقد يعترض عليه : بناء على حمل العبارة على الوجه الثاني بالنقض بفاسد الصوم ، لوجوب المضيّ في فاسده أيضا ، فينبغي أن يطلق عليه اللفظ أيضا.

ويزيّفه : أنّ وجوب الإمساك عن المفطرات بعد إبطال الصوم ليس من باب الأمر بالصوم ولا إتمامه ، ليستلزم إطلاق الاسم عليه ، وإنّما هو تكليف بالإمساك اللغوي ، ولو سمّي صوما فإنّما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار الشرع.

نعم لو اريد دفع الاستدلال بناء على الحمل المذكور بنحو ذلك كان له وجه.

ومن الفضلاء من اعترض على بعض الأعلام - الحامل للعبارة على الوجه الثالث - بأنّه « إن أراد بالفاسدة ما يكون فاسدا على تقدير عدم تعلّق الأمر به فلا ريب أنّ جميع العبادات فاسدة بهذا المعنى ، وإن اعتبر الصحّة بحسب الواقع فلمانع أن يمنع لزوم تقدّمها على الأمر لجواز إنشائها به.

وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى الأمر المتعلّق به ، فما ذكره في غير الحجّ غير مفيد وفيه غير سديد ، ضرورة أنّ ما تعلّق به الأمر لا يكون فاسدا.

وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر ، فهذا مع بعده عن مساق كلامه لا يساعد عليه تفريع مسألة الحجّ ». انتهى (1).

ومبناه كما ترى على أخذ الصحّة والفساد بمعنى موافقة الأمر ومخالفته ، وهو الّذي أوقعه في الترديد الّذي أخذه في الاعتراض.

وملخّصه : منع إطلاق الحجّ مع فرض وجود الأمر على الفاسد.

وجوابه : إنّ المراد بالفاسد - على ما تقدّم في شرحه - ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود ، بسبب عدم اشتماله على جميع ما له دخل فيه.

ولا ريب أنّ فاسد الحجّ ، وهو بقيّة المناسك المأمور بفعلها فاسد بهذا المعنى وإن أمر به عقوبة أو لحكمة اخرى.

ص: 362


1- الفصول الغرويّة : 52.

وحينئذ فلا يتّجه النقض بسائر العبادات على تقدير عدم ورود الأمر بها ، إذ فسادها باعتبار انتفاء الأمر لا ينافي صحّتها باعتبار عدم دخول نقص فيها ببعض ما له دخل في ترتّب الآثار المقصودة منها ، كما أنّ ورود الأمر بفاسد الحجّ باعتبار دخول النقص فيه بالنظر إلى أصل ماهيّة الحجّ لحكمة العقوبة - كما هو أحد القولين في المسألة - أو غيرها لا ينافي فساده بالاعتبار المذكور.

وأمّا دعوى : إمكان منع لزوم تقدّم الصحّة على الأمر ، كدعوى جواز إنشائها بهذا الأمر.

ففيها أوّلا : إنّ الصحّة ليست من الامور الإنشائيّة لتوجد بالأمر ، كيف والأحكام الوضعيّة ليست من مجعولات الشارع المتوقّفة بالإنشاء ، وهي أولى بعدم الجعل ، كما قرّرناه في محلّه.

وثانيا : إنّها لازم التقدّم على الأمر في وجه ، ولازم التأخّر عنه في وجه آخر.

إذ لو اريد بها معناها العرفي وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار اشتماله على جميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود منه ، فهي متقدّمة على الأمر لا محالة ، لوجوب تقدّم موضوع الحكم عليه.

ولو اريد بها معناها الاصطلاحي ، وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار انطباقه على المأمور به الكلّي ، فهي متأخّرة عن الأمر لا محالة ، فلا يعقل فيها المقارنة للأمر فضلا عن كونها من الامور المتولّدة منه.

ثمّ يبقى الكلام في حقيقة معنى الفرع - حسبما ذكره الشهيد - من الاكتفاء في لزوم الحنث بمسمّى الصحّة الّذي فسّره بالدخول فيها ، على معنى الدخول في العمل على وجه الصحّة ، ووجه احتمال لزوم الحنث بمجرّد ذلك ، مع أنّه ليس من مسمّى الاسم قطعا ، مع وجه الاحتمال الآخر وهو عدم لزوم الحنث ، فإنّه لا يخلو عن غموض.

والّذي يقتضيه التدبّر هو ، إنّ وجه لزوم الحنث بمجرّد الدخول هو إنّ الحنث عبارة عن مخالفة الحلف ، أو مخالفة النهي الناشئ عنه ، ويكفي في لزومه صدق قضيّة المخالفة في نظر العرف.

ص: 363

ولا ريب أنّ الحالف بمجرّد شروعه على العمل الّذي حلف على تركه جامعا للامور المعتبرة فيه من الشرائط يصدق عليه عرفا إنّه قد خالف الحلف ، وهذا معنى لزوم الحنث ، وإن أفسد العمل بعد ذلك ، ووجه العدم إنّه عبارة عن مخالفة الحلف بحسب الواقع.

وفرق واضح بينها وبين الحكم بالمخالفة ، وإنّما يلزم المخالفة الواقعيّة على تقدير إتمام العمل المحلوف على تركه على وجهه ، لكون مسمّى اللفظ الّذي تعلّق به الحلف هو تمام العمل.

والّذي تحقّق في الصورة المفروضة من المكلّف بعض العمل ، وهو ليس من مسمّى اللفظ في شيء ، حيث لا يسمّى صلاة ولا صوما شرعا ، فالمخالفة الواقعيّة حينئذ غير متحقّقة.

ولا ينافيه صدق القضيّة أوّلا بمجرّد الدخول في نظر العرف ، لأنّه حكم بالمخالفة ، وإنّما يصدر من العرف اعتمادا على ظاهر الحال من أنّ الفاعل إذا أقدم على فعل أتمّه ، وحينئذ فإذا طرئه القطع والفساد يكشف عن ورود الحكم الأوّل في غير محلّه.

فالحكم بالمخالفة أعمّ من نفس المخالفة ، ومدار الحنث على الثاني دون الأوّل فليتأمّل في ذلك ، فإنّ المقام من مطارح الأنظار وقد أظهر العجز في الوصول إليه غير واحد من الأزكياء.

في تأسيس الأصل في المسألة

وأمّا أصل المسألة : فاللفظي منه يساعد على القول بالأعمّ ، إن كان القائل بالصحيحة ممّن يلتزم بتعدّد الماهيّات المستلزم للاشتراك ، لكون ألفاظ العبادات حينئذ من باب مسألة دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي. وقد تقدّم رجحان الأوّل.

وكذلك إن كان ممّن لا يلتزم به على القول برجحان الاشتراك المعنوي على المجاز ، لكونها حينئذٍ من باب مسألة الدوران بينهما ، وإلاّ - كما عليه جماعة - لا أصل يساعد على أحدهما ، فلا مناص من الوقف كما هو المختار.

ص: 364

والاعتباري منه وهو أصالة العدم يساعد على القول بالأعمّ أيضا ، لأنّ الأصل عدم تعرّض الواضع لأخذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة جزءا في الموضوع له.

نعم يبقى الكلام في اعتباره في نظائر المقام ، وهو محلّ إشكال.

احتجّ أهل القول بالصحيحة بوجوه كثيرة ، كلّها ضعيفة :

منها : التبادر ، فإنّك إذا قلت : « صلّيت ، أو صمت ، أو توضّأت ، أو اغتسلت » لا يتبادر منها إلاّ الصحيحة.

وأضاف إليه بعض الأفاضل ، قوله : « وممّا يوضح ذلك إنّ المتشرّعة إنّما يحكمون بكون الصلاة وغيرها من الألفاظ المذكورة عبارة عن الامور الراجحة والعبادات المطلوبة لله تعالى ، ولا يجعلونها أسامي لما يعمّ الطاعة والمعصية إلى آخره » (1).

ويزيّفه : إنّ الصحيحة المتبادرة إن اريد بها مفهوم الصحيحة فهو واضح الفساد ، مع قضاء ضرورة عرف المتشرّعة بعدم مرادفة لفظ « الصحيحة » لألفاظ العبادات.

وإن اريد بها مصداق الصحيحة ، فدعوى تبادرها يناقض الاعتراف بالإجمال في ألفاظ العبادات لجهالة تمام حقيقة المسمّى بعدم معلوميّة تمام الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه ، فإنّ تبادر المعنى - إن اريد به تبادر الناظر فيه لاستعلام الوضع ، كالعلم به إن اريد به تبادر المتشرّعة - مسبوق بالعلم بذات المعنى أو مستلزم له ، وهو لا يجامع الإجمال باعتبار المفهوم.

وإلى ذلك يرجع ما قيل - في دفع الاستدلال - : من أنّ التمسّك بأمثال هذه الأمارات ليس من وظيفة الصحيحي ، من جهة ما تقرّر عندهم كما صرّحوا به من أنّها امور توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشرع ، لا تصحّ الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة.

ص: 365


1- هداية المسترشدين : 101 ( الطبعة الحجرية ).

وما قيل في دفعه : من أنّ قضيّة القول بالصحيحة هو التوقّف في تعيين الأجزاء والشرائط تفصيلا ، وأمّا تشخيص مفهوم اللفظ إجمالا وتصوّره بوجه مّا - كأن يقال : ليس المراد من اللفظ هو المعنى العرفي بل الشرعي ، أو إنّ المراد جميع الأجزاء والشرائط - فلا غبار عليه ، غير مفيد كما لا يخفى.

كما أنّه لا يفيد أيضا ما قيل : من أنّ الرجوع إلى عرف المتشرّعة يصحّ على المذهبين فيستكشف عنه عرف الشارع ، لأنّ الموجود فيه هو الموروث عن الشارع المحفوظ لدى المتشرّعة ، كما يفصح عنه قولهم : « عرف المتشرّعة ميزان لعرف الشارع إن صحيحا فصحيح وإن أعمّ فأعمّ » فإنّ عرف المتشرّعة على مذهب الصحيحي الملازم لإجمال المسمّى باعتبار المفهوم لا يجدي نفعا في معرفة تمام المسمّى.

وبالجملة : دعوى تبادر الصحيحة من المعترف بالإجمال الناشئ عن جهالة تمام المسمّى عجيب.

وأعجب منه ما في كلام بعض الفضلاء - بعد ما تمسّك بتبادر الصحيحة أوّلا ، وصحّة السلب عن الفاسدة ثانيا - « من أنّ معيار الفرق والتميّز في نظائر المقام إنّما هو الوجدان ، ونحن إذا راجعنا وجداننا وجدنا المعاني الصحيحة متبادرة من تلك الألفاظ مع قطع النظر عن إطلاقها ، ووجدنا صحّة سلبها عن الفاسدة من غير ابتناء على التأويل ، فلا يصغى إلى المنع المورد على المقامين » (1).

وإنّما ذكره في دفع ما أورد على نفسه من سؤال : « إنّ التبادر إن اريد به ما يكون ناشئا عن الإطلاق فبعد تسليمه لا يثبت المقصود وإلاّ فممنوع ، وصحّة سلب الاسم عن الفاسدة لعلّها مبتنية على التأويل ، بتنزيل الفاسدة منزلة أمر مغاير للماهيّة ، نظرا إلى عدم ترتّب الفائدة المقصودة منها عليها » (2).

فإنّ الوجدان مع قيام الإجمال لا طريق له إلى تعقّل أصل المعنى على ما هو عليه في الواقع ، فضلا عن إدراك كون انفهامه لمجرّد الوضع لا بواسطة الإطلاق.

ص: 366


1- الفصول الغرويّة : 46.
2- الفصول الغرويّة : 46.

فإن قلت : المراد بالصحيحة المتبادرة الماهيّة المستجمعة للامور المعتبرة فيها من الأجزاء والشرائط.

قلت : إن اُريد بالماهيّة على الوجه المذكور مفهومها ، فدعوى تبادرها كذب وفرية ، مع ضرورة انتفاء المرادفة ، وإن اريد مصداقها عاد المحذور.

فإن قلت : المراد بتبادر الصحيحة تبادر ما هو من لوازمها كالمطلوبيّة ، أو ما أمر به ، إذ لا ريب انّ قائلا إذا قال : « صلّى فلان » أو « صام أو حجّ » أو قال : « صلّيت أو صمت أو حججت » مثلا ، يتبادر منه أنّه أتى بما امر به ، والمفروض أنّ الأمر يلازم الصحّة باتّفاق الفريقين ، فينكشف به كون المسمّى هو الصحيحة لا غير.

قلت : مع أنّ هذا التبادر إن صحّحناه إنّما يستند إلى الأصل القطعي المركوز في الأذهان ، من لزوم حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة ، المقتضية لكون المأتيّ به هو المأمور به ، إنّ ما أمر به في دعوى هذا التبادر إن اريد به مفهومه فهو كذب أيضا ، مع انتفاء المرادفة جزما ، وإن اريد به مصداقه فدعوى هذا التبادر يؤول بالأخرة إلى الاعتراف بتبادر الأعمّ ، التفاتا إلى انّ مصداق المأمور به يختلف باختلاف المكلّفين بحسب اختلاف أحوالهم ، والقدر المسلّم من تبادر المصداق تبادر ما يتردّد بين وظائفهم المختلفة زيادة ونقيصة ، وتبادلا في الأجزاء أو الشرائط ، فإنّ وظيفة كلّ واحد في أيّ مرتبة كانت من مراتب الزيادة والنقيصة ممّا أمر به ذلك الواحد.

ودعوى : كون المتبادر مرتبة معيّنة هي أعلى المراتب وأكمل الوظائف ، ممّا لا يصغى إليها.

وقد عرفت سابقا إنّ وظيفة كلّ مكلّف وإن كانت صحيحة بالقياس إليه ، إلاّ أنّها فاسدة بالقياس إلى غيره ، لما بيّنّاه من أنّ الصحّة والفساد المبحوث عنهما من الامور الإضافيّة ، فيؤخذ كلّ منهما مقيسا إلى مكلّف دون غيره ، فتبادر هذا المعنى على جهة الترديد في معنى تبادر الأعمّ من الصحيح.

نعم ، إن اعتبر الصحّة في محلّ البحث بمعنى موافقة الأمر ، كان لدعوى التبادر

ص: 367

على الوجه المفروض وجه في الجملة ، غير أنّه على ما حقّقناه بمعزل عن التحقيق وغفلة عن حقيقة محلّ النزاع ، مع بعده عن طريقة أهل هذا القول ، حيث إنّه لا ينهض حجّة ولا يسلّم إلاّ على تعدّد الماهيّات المستلزم للاشتراك ، وهو ممّا لا يظنّ الالتزام به عليهم.

وأمّا العلاوة الّتي في كلام بعض الأفاضل (1) فيدفعها : بعد تصحيح كون الفاسدة معصية ، إنّ حكم المتشرّعة بالرجحان والمطلوبيّة في المذكورات إنّما هو من جهة كون نظرهم في الغالب مقصورا على لحاظ عالم التكليف ، وهذا لا ينافي جعلهم الألفاظ أسامي للأعمّ ممّا يتحقّق به الطاعة وما يتحقّق به المعصية ، لو جرّدوا النظر عنه إلى لحاظ التسمية ، كما هو مقتضى أدلّة القول بالأعمّ.

ومنها : صحّة سلب الاسم عن الفاسدة ، فإنّها من أمارات المجاز.

ومن الأفاضل من أضاف إليها عدم صحّة السلب عن الصحيحة ، قائلا : بأنّه إذا اخذت الماهيّة مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في صحّتها ، فلا يصحّ سلب الصلاة عنها في عرف المتشرّعة ، فيكون ذلك عين معناها. (2)

والجواب عن ذلك : - بعد ملاحظة أنّ المعتبر في السلب في الصحّة وعدمها إنّما هو سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الموضوع له لا غير - يظهر بالتأمّل فيما مرّ ، فإنّ صحّة السلب وعدمها على القول بالصحيحة - المتضمّن للإجمال المفهومي - لا طريق إلى إحرازهما ، بل لا يمكن معه أصل السلب لينظر في صحّته أو عدمه ، التفاتا إلى أنّ السلب في الحمليّات السوالب كالحمل في الموجبات مسبوق بتصوّر موضوع القضيّة ومحمولها ، وهو مسبوق بالعلم بذات الموضوع والمحمول ، وهو لا يجامع الإجمال الناشئ عن جهالة ذات المسمّى ، من غير فرق بين كون المراد بهما ما ينعقد في نظر الجاهل المستدلّ بهما أو ما ينعقد في نظر المتشرّعة

ص: 368


1- هداية المسترشدين : 101 ( الطبعة الحجرية ).
2- المصدر السابق : 102.

نظراً إلى أنّ الإجمال المدّعى في ألفاظ العبادات ما يعمّ كافّة المتشرّعة ، لا أنّه مخصوص بأهل القول بالصحيحة من العلماء منهم ، كما لا يخفى.

فلو علم بانعقادهما عندهم - كما هو واضح - كان كاشفا عن صحّة القول بالأعمّ ، مع ابتناء الصحّة على التأويل بتنزيل الفاسدة منزلة الأمر المغاير للمسمّى ، أو على كون جهة الفساد في الفاسدة المسلوب عنها اختلال ما هو من مقوّمات الصورة النوعيّة.

وبالجملة : على القول بالصحيحة لا يمكن أصل السلب ، فضلا عن إدراك صحّته أو عدمها.

وما يقال : من أنّ الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض الموارد ، فيعلم بذلك أنّ المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة المسمّى ، وذلك لا يلازم تعيينه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح ، كلام ظاهري منشأه عدم استيفاء النظر في أطراف المسألة.

لا يقال : ما ذكرته - بناء على ما اعترفت به سابقا من كون الإجمال مشترك اللزوم بين القولين - مشترك الورود فكيف صحّحت الصحّة وعدمها على القول بالأعمّ ، لأنّ الإجمال اللازم للقول بالأعمّ - على ما بيّنّاه - إجمال مرادي وهو لا ينافي بيان المفهوم والمسمّى كما لا يخفى.

نعم لو علم بالصحّة أو عدمها في نظر الشارع المطّلع على حقيقة المسمّى بتفاصيله اتّجه التمسّك بهما على القول بالصحيحة ، إلاّ أنّ الكلام حينئذ في طريق هذا العلم ، وأيّ طريق إلى إحرازهما على هذا الوجه.

فإن قلت : الطريق إلى إحراز صحّة السلب هو الروايات المميّزة للصلاة ونحوها عمّا دخله الاختلال جزءا أو شرطا ، كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1)

ص: 369


1- تفسير أبي الفتوح الرازي 1 : 15 ، عوالي اللآلي 2 : 218 ، مستدرك الوسائل 4 : 158 أبواب القراءة باب 1 حديث 5 ، 8.

و « لا صلاة لمن لم يقم صلبه » و « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) و « لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل » (2) ونحو ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، فإنّ مفاد النفي في هذه الروايات إنّ ما لا فاتحة فيه ليس بصلاة ، وما لا قيام فيه ليس بصلاة ، وما لا طهور فيه ليس بصلاة ، وما لا عزم فيه من الليل ليس بصيام وهكذا.

وهذا يكفي في إثبات المطلب ، وإن كان مفاده الإيجاب الجزئي.

قلت : بعد الغضّ عن أنّه خلط بين التمسّك بصحّة السلب والاستناد إلى هذه الروايات مع أنّ ظاهرهم كون كلّ منهما حجّة مستقلّة ، إنّ إحراز صحّة السلب في نظر الشارع بهذه الروايات ونظائرها مبنيّ على كون النافية الواردة فيها مرادا بها نفي الماهيّة ، وهو وإن كان يساعد عليه أصل وضع هذه الكلمة ، لكنّه في خصوص المقام في حيّز المنع - لا لما قيل من حصول الوضع العرفي الثانوي في هذه الهيئات التركيبيّة الّتي مدخول « لا » فيها من الماهيّات المركّبة الجعليّة ، أو الحمل على النظائر في أخوات هذه التراكيب مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (3) و « لا نكاح إلاّ بوليّ » و « لا عمل إلاّ بنيّة » أو لزوم الدور لو اريد إثبات كون الاسم للصحيحة بالحمل على إرادة الحقيقة المتوقّف على كونه للصحيحة ، أو لزوم التخصيص في أغلب الموارد. لعدم انتفاء الماهيّة في صورة نسيان الفاتحة أو عدم القدرة على قراءتها ، أو كون المصلّي مأموما وإنّ الصوم قد يصحّ مع عدم العزم عليه من الليل ، كما يستفاد أكثر هذه الوجوه من بعض الأعلام - بل لأنّ أصالة الحقيقة في لفظ وارد من المتكلّم لا تصلح أمارة للوضع في لفظ آخر مصاحب له ، مجهول حاله مردّد بين معنيين باعتبار جهالة وضعه ، مع العلم باعتماد المتكلّم في استعماله على أصالة الحقيقة فيه ، المردّدة بين كونها في جانب هذا

ص: 370


1- التهذيب 1 : 49 ح 144 ، الاستبصار 1 : 55 ح 160 ، الوسائل 1 : 256 أبواب الوضوء باب 1 ح 1.
2- سنن الدار قطني 2 : 173 ، عوالي اللئالي 3 : 133.
3- قوانين الاصول 1 : 47.

المعنى وبين كونها في جانب ذلك المعنى ، بحيث لو كانت في جانب الأوّل لاستلزم بقاء أصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل على حالها ، ولو كانت في جانب الثاني لاستلزم الخروج عن أصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل ، وحينئذ لا يمكن الحكم بأصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل بكون اللفظ موضوعا لما لا يستلزم إرادته الخروج عنها ، لا لأنّ أصالة الحقيقة موجودة ولا يعبأ بها ، بل لأنّها في نحو الصورة المفروضة ما دام الجهل بوضع اللفظ الآخر باقيا ليست في مجراها ، فإنّها عبارة عن ظهور إرادة المعنى الحقيقي من باب الظنّ الشخصي أو الظنّ النوعي - على الخلاف فيها - وهي بهذا المعنى إنّما تجري وتنهض حجّة على إرادة المعنى الحقيقي إذا لم يصادفها ما يقتضي إجمال اللفظ ، على معنى تردّده في النظر بين إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي على جهة سواء.

ولا ريب إنّ تردّد اللفظ الآخر بين معنيين باعتبار جهالة وضعه يوجب إجمال هذا اللفظ وتردّده بين معنييه الحقيقي والمجازي ، ومعه لا يعقل أصالة الحقيقة ، ولو اعتبرت من باب الظنّ النوعي ، كيف والشكّ فيها مسبّب في الشكّ عن اللفظ الآخر المجهول حاله من حيث الوضع.

ولا ريب إنّ حمل كلمة « لا » على إرادة نفي الماهيّة لا مقتضى له إلاّ توهّم أصالة الحقيقة ، وهي لمكان طروّ الإجمال لها لعارض ليست في مجراها.

وهذا هو معنى قولنا : « إنّ أصالة الحقيقة في لفظ لا تصلح أمارة للوضع في لفظ آخر وارد معه في كلام المتكلّم ».

نعم لو قام من الخارج دليل على كون لفظ « الصلاة » ونحوه اسما للصحيحة وتردّد كلمة « لا » بين نفي الماهيّة ونفي الصفة ، كانت أصالة الحقيقة بالنسبة إليها في مجراها ، لزوال المانع حينئذ بارتفاع علّته ، إلاّ أنّه خارج عن الفرض.

وأمّا الوجوه الاخر المذكورة في سند منع الحمل على نفي الحقيقة فليست بسديدة.

أمّا الأوّل : فلتطرّق المنع إلى طروّ الوضع الجديد العرفي ، مع مخالفته الأصل.

ص: 371

وأمّا الثاني : فلأنّ ثبوت التجوّز في لفظ بقرينة وإن شاع لا يوجب التجوّز فيه عند تجرّدة عن القرينة.

وأمّا الثالث : فلمنع الدور ، فإنّ العلم بكون لفظ « الصلاة » وغيرها اسما للصحيحة وإن كان متوقّفا على حمل كلمة « لا » على نفي الحقيقة ، إلاّ أنّه لا يتوقّف على العلم المذكور ، بل يتوقّف على العلم بوضع هذه الكلمة لنفي الحقيقة ، وهو غير متوقّف على العلم بكون الصلاة اسما للصحيحة بالضرورة ، فلا دور ، إلاّ أن يرجع توهّم لزومه إلى ما قرّرناه في منع جريان أصالة الحقيقة ، بأن يقال : إنّ العلم بالوضع للصحيحة موقوف على أصالة الحقيقة في كلمة « لا » وهي موقوفة على العلم بوجود مقتضيها وهو الوضع ، وفقد مانعها وهو الإجمال ، والعلم بفقد المانع موقوف على العلم بالوضع للصحيحة ، وهذا دور واضح.

وأمّا الرابع : فلشيوع التخصيص وكونه خيرا من المجاز ، مع كون لزومه مشترك الورود على تقدير الحمل على نفي الصحّة كما لا يخفى ، والحمل على نفي الكمال خلاف الإجماع ، فإنّها بعد صرفها عن نفي الماهيّة لا محمل لها إلاّ نفي الصحّة.

ومنها : قضاء الوجدان بذلك ، فإنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات الخارجيّة - عرفيّة وغيرها - وفرضنا أنفسنا واضعين للفظ لمعنى مخترع مركّب ، نجد من أنفسنا حين الوضع عدم التخطّي عن الوضع للمركّب التامّ الأجزاء والشرائط ، مضافا إلى أنّه الّذي كونه الموضوع له ممّا يقتضي حكمة الوضع ، وهي مسيس الحاجة إلى التعبير عنه ، والحكم عليه بما هو من لوازمه وآثاره.

وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلاّ مسامحة ، تنزيلا للمعدوم أو الفاقد منزلة الموجود أو الواجد.

وجوابه : تكذيب هذا الوجدان بإطلاقه ، ومحصّله : إنّا نجد من أنفسنا بعد المراجعة والتتبّع أنّ الواضع قد يتعلّق غرضه بأن لا يطلق اللفظ إلاّ على المركّب التامّ من حيث هو دون ما يغايره من زائد عليه أو ناقص منه ، وقد يتعلّق غرضه

ص: 372

بالإطلاق عليه وعلى الناقص بمراتبه ، وإنّما يختلف هذا الغرض باختلاف المركّب باعتبار الأثر المقصود ترتّبه على المسمّى والفائدة المطلوبة منه ، فقد يكون ذلك الأمر بحيث لا يترتّب إلاّ على المركّب التامّ بقيد التمام.

وقضيّة ذلك بحكم الوجدان أو حكمة الوضع ، تعلّق الغرض بإطلاق اللفظ عليه خاصّة. فيوضع له بحيث يخرج بحدّيه كلّ مغاير له من الزائد والناقص ، بأن يلاحظ ما فيه من الأجزاء والشرائط الواقعيّة مع ما طرئها من الهيئتين المتقدّم ذكرهما ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط هاتين الهيئتين بكلّ من طرفي الزيادة والنقيصة.

وقد يكون بحيث مع ترتّبه على المركّب التامّ يترتّب على الناقص بمراتبه ، ولو باعتبار مراتبه المختلفة ، بأن يترتّب أعلى مراتبه على التامّ وما دونه على ما ينقص منه ، وهكذا إلى أنزل مراتبه.

وقضيّة ذلك بحكم الوجدان والحكمة تعلّق الغرض بإطلاق اللفظ على كلّ ما يترتّب عليه الأثر في أيّ مرتبة فيوضع اللفظ حينئذ على هذا الوجه ، بأن يلاحظ من الأجزاء أقلّ ما يتقوّم به الصورة النوعيّة ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط ما عليها من الهيئة الاجتماعيّة في طرف النقيصة ولا بشرطها في طرف الزيادة ، ليسري ذلك الوضع إلى الزائد بجميع مراتبها الّتي منها المركّب التامّ الّذي هو أعلى المراتب.

وظاهر أنّ ماهيّات العبادات من قبيل القسم الثاني ، كما يعترف به المستدلّ مصرّحا بكون الناقص ممّا يترتّب عليه ما يترتّب على التامّ ، ويوجد فيه الخاصيّة بدون الجزء المفقود أيضا ، واعتذر عن وجه إطلاق اللفظ عليه على وجه الحقيقة بأنّه في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة ، بحيث لا التفات لهم في إطلاق اللفظ عليه إلى التسامح.

وهذا كما ترى ممّا يناقض مفاد الدليل ، فإنّ هذا الناقص بالقياس إلى من وظيفته المركّب التامّ ليس إلاّ فاسدا ، ولو لا الإطلاق الحقيقي عليه من أثر أصل

ص: 373

الوضع الطارئ للتامّ - على الوجه الّذي قرّرناه - فكيف يعقل عدم التسامح في الإطلاق عليه ، إلاّ بالتزام تجدّد الوضع من العرف ودونه في نظر العرف والاعتبار خرط القتاد.

بل نقول : إنّ مراجعة الوجدان وتتبّع حال العرف يقضي بأنّ الإطلاق على كلّ ناقص ما دام مشتملا على الصورة النوعيّة ليس إلاّ على حدّ الإطلاق على التامّ ، فإنّ كلاّ منهما في نظر العرف والاعتبار يعدّ من أثر وضع واحد ، والمسامحة المدّعاة في طيّ الاستدلال لا نجد لها في نظر العرف عينا ولا أثرا.

فالقول بأنّا نجد من أنفسنا أنّ العلاقة المصحّحة لاستعمال اللفظ في الناقص هو التنزيل والمسامحة دون سائر الروابط والعلائق المسوّغة للتجوّز ، وهذه هي الطريقة المألوفة في استعمال الألفاظ الموضوعة للمقادير والأوزان في مرتبة خاصّة فيما هو زائد عليها أو ناقص عنها بضرب من التنزيل والمسامحة ، مكابرة للوجدان أو مجازفة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وبالجملة : بعد مراجعة العرف والوجدان لا نجد إطلاق « الصلاة * على ركعتي المسافر إلاّ نحو إطلاقنا على ركعات الحاضر ، ولا إطلاقها على صلاة ناسي الفاتحة إلاّ نحو إطلاقها على قارئها وهكذا.

ثمّ لا نجد فرقا بين تاركها نسيانا وتاركها عمدا كما في المأموم ، بل التارك عصيانا.

نعم ربّما يسلب عنها الاسم لكشف الترك العمدي عصيانا عن عدم كونه ناويا من حين الدخول لعنوان الصلاة ، فإنّ قصد العنوان في كلّ فعل اختياري معتبر في الصدق ، كما لا يخفى.

ومنها : إنّه لا ريب في أنّ في الشرع ماهيّات مخترعة مطلوبة ، هي ذوات أجزاء وشروط ، قد تصدّى الشارع لبيانها ببيان أجزائها وشرائطها وأحكامها ، وحثّ في المواظبة عليها.

وظاهر إنّ هذه ليست إلاّ العبادات الصحيحة ، وحيث كان أسهل طرق التفهيم والتفاهم بتأدية الألفاظ ، مست الحاجة إلى نصب ألفاظ على تلك الماهيّات.

ص: 374

إمّا بالوضع ، فقضيّة الحكمة والعادة حينئذ أن يكون الوضع بإزاء تلك الماهيّات المطلوبة لا الأعمّ منها ، لئلاّ يختلّ فهم المراد في الموارد الّتي هي أهمّ موارد استعمالاتها ، مع ما فيه من الاقتصار على قدر الحاجة.

وإمّا بالتجوّز ، فلا يكون المستعمل فيه في أكثر الموارد - كموارد الأمر والبيان في ذكر الشرائط والأحكام ونحو ذلك - إلاّ تلك الماهيّات المطلوبة لا الأعمّ منها ، لعدم تعلّق الطلب حقيقة إلاّ بها ، وعدم تعلّق القصد ببيان غيرها ، وعدم كون الشرائط والأحكام ثابتة لغيرها ، وظاهر إنّ هذه الموارد هي معظم موارد استعمال هذه الألفاظ حتّى إنّه يندر استعمالها في غيرها ، فتصير تلك الألفاظ حقائق في تلك الماهيّات بالغلبة وهو المطلوب.

وجوابه : يظهر بالتأمّل فيما مرّ ، وتوضيحه : أنّ المستدلّ إمّا أن يعترف باختلاف وظائف المكلّفين بالزيادة والنقصان ، وتبادل الأجزاء بعضها ببعض ، بسبب اختلاف أحوالهم ، أو لا.

والثاني ممّا لا يستحقّ الجواب ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يعترف بكون وظيفة كلّ مكلّف صحيحة بالقياس إليه وفاسدة بالقياس إلى غيره ، أو لا.

والثاني أيضا ممّا لا يستحقّ الجواب ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يعترف بشمول الوضع الشرعي أو الاستعمال المجازي المتأدّي إلى الوضع بالغلبة لوظيفة كلّ مكلّف ، أو لا.

والثاني : ما مرّ جوابه ، مضافا إلى ما يأتي عند الاحتجاج للقول بالأعمّ ، والاعتراف بالأوّل اعتراف بالأعمّ ، إذ لا يعني من الوضع للأعمّ - بمعنى القدر المشترك بين الزائد والناقص والصحيح والفاسد - إلاّ هذا ، وتصويره ما تقدّم من اعتبار الوضع بحيث يسري إلى كلّ زائد وناقص ، والمفروض أنّ كلاّ منهما حال كونه صحيحا بالإضافة إلى مكلّف فاسد بالإضافة إلى مكلّف آخر ، حتّى أنّ المركّب التامّ صحّته إنّما هي بالإضافة إلى الحاضر وهو بعينه بالإضافة إلى المسافر فاسد ، وكيف يعقل اختلاف حاله في شمول الوضع له على الأوّل وعدم

ص: 375

شموله له على الثاني ، إلاّ إذا اخذ الأمر والمطلوبيّة معه في لحاظ الوضع ، ويلزم منه إمّا تقدّم الشيء على نفسه ، أو التزام التجريد في الخطابات المعطيّة للمطلوبيّة. وهذا كما ترى.

فعلم بما ذكر أنّ ثبوت الماهيّات المخترعة المطلوبة الّتي هي ذوات أجزاء وشرائط ، وتصدّى الشارع لبيانها ببيان أجزائها وشرائطها وأحكامها لا ينافي الوضع للأعمّ ، بل هو بملاحظة ما ذكر من أنّ هذه الماهيّات بحسب الشرع يطرئها زيادة ونقص في الأجزاء أو الشرائط ، وتبادل فيهما بالقياس إلى المكلّفين المختلفين بحسب أحوالهم يؤكّده.

فدعوى : إنّ هذه ليست إلاّ العبادات الصحيحة ليست إلاّ مجازفة أو غفلة عن حقيقة الحال ، فإنّ هذه العبادات إنّما تكون صحيحة باعتبار إضافة ، وهي باعتبار إضافة اخرى بأعيانها فاسدة.

وأمّا سائر فقرات الدليل فليست إلاّ ترجيحات عقليّة ومصادرات واضحة ، فلا يلتفت إليها.

ومنها : أنّ جميع العبادات مطلوبة للشارع متعلّقة لأمره ولا شيء من الفاسدة كذلك ، فلا شيء من الفاسدة بعبادة.

أمّا الصغري فلأمرين ، الأوّل : إطلاق الأوامر المتعلّقة بها وذلك ظاهر ، الثاني : إنّ العبادة ليست إلاّ ما رجّح فعله على تركه ، وظاهر أنّ الرجحان إنّما يتحقّق بعد تعلّق أمر الشارع وطلبه بها ، فلا بدّ في كونها عبادات من كونها متعلّقة لطلب الشارع وأمره ، وهو المقصود من الصغرى.

وأمّا الكبرى : فظاهر ضرورة أنّ أوامر الشارع لا تتعلّق بالفاسدة ، وإلاّ لخرجت عن كونها فاسدة.

وفيه : ما لا يخفى من الخلط بين مقام الطلب ومقام التسمية ، والمسمّى عند الأعمّي - على ما عرفت سابقا - أعمّ من المطلوب ، وإنّما يصير عبادة بعد ما تعلّق به الأمر إمّا مطلقا إن فسّرناها بما كان مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به ،

ص: 376

أو الأمر المتوقّف امتثاله على النيّة إن فسّرناها بما كان صحّته متوقّفة على النيّة ، ولا ينافيه إطلاق العبادة عليه بقول مطلق في قولهم : « ألفاظ العبادات أسام للأعمّ أو للصحيحة منها » لأنّ المراد به ما كان العبادة في نوعه وهو لا يقضي بعباديّة كلّ فرد منه ، ومنه يعلم توجيه الرجحان المعتبر في العبادة ، فإنّه بالقياس إلى كلّ مكلّف معتبر في نوع المسمّى ، ولذا يكون كلّ فرد منه راجحا بالقياس إلى مكلّف غير راجح بالقياس إلى غيره ، وعليه فيتطرّق المنع إلى الكلّية المدّعاة في الصغرى إن اريد بالعبادات مسمّيات الألفاظ المتنازع فيها بقول مطلق ، حيث لا قاضي بها من عقل ولا شرع.

والتعليل بما ذكر من الوجهين عليل جدّا ، أمّا إطلاق الأمر فليس له مفهوم محصّل ، إلاّ أن يوجّه بأنّ خروج الفاسدة على قول الصحيحي عن الأمر خروج موضوعي ، لعدم دخولها في المسمّى بالفرض.

وعلى قول الأعمّي خروج حكمي منوط بالتقييد المنافي للإطلاق ، ومرجعه إلى التمسّك لإثبات الصحيحة بالإطلاق ، إذ على الأعمّ يلزم التقييد في مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1).

ومن المقرّر عندهم أنّ الإطلاق في نحو المقام محكّم.

وفيه : أنّ الإطلاق مع جهالة حال اللفظ لتردّده بين ملزوم الإطلاق وملزوم التقييد غير معقول.

وملخّصه : أنّ أصل الإطلاق كأصالة الحقيقة لا يصلح أمارة للوضع ، وإلاّ لزم الدور.

ألا ترى أنّه لا يمكن إثبات كون « الصعيد » لخصوص التراب ، بعد ما قام الدليل على عدم جواز التيمّم على الحجر ، تمسّكا بإطلاق قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (2).

ص: 377


1- الأنعام : 72.
2- النساء : 43.

ومع الغضّ عن ذلك - بالبناء على تصحيح هذا الإطلاق المتوهّم - فالأمر في خروج الفاسدة يدور بين التقييد والمجاز ، والأوّل على ما قرّر في محلّه أولى فتأمّل.

وأمّا الرجحان فلأنّ اعتباره في العبادة مسلّم ، ولكنّه على ما عرفت لا يجدي.

ومنها : أنّها لو كانت تلك الألفاظ أسامي للصحيحة كان لها وجه ضبط في المعنى الموضوع له ، كالصحيحة أو المبرئة للذمّة أو المطلوبة للشرع أو نحو ذلك.

وأمّا إذا كانت موضوعة للأعمّ لم يكن لها وجه ضبط بحيث يمكن تعقّله حتّى يصحّ أن تكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها.

ولا يمكن القول بأنّها موضوعة لجملة من تلك الأفعال ، لعدم صدقها عندهم على كلّ جملة منها ، ولا يصحّ أخذها على وجه يعتبر فيه الصدق عرفا ، للزوم الدور فإنّ الصدق عرفا يتوقّف على الوضع ، فلو توقّف الوضع عليه كان دورا.

وفيه : أنّ المسمّى على القول بالصحيحة أولى بعدم الانضباط ، بعد ملاحظة أنّ المأخوذ في الوضع لا يمكن أن يكون مفاهيم هذه المذكورات ، إذ مصداق الصحيحة والمبرأ والمطلوب يختلف على حسب اختلاف الموضوعات ، حسبما قرّرناه غير مرّة.

ولا جامع لها إلاّ عدّة من الأجزاء اخذت في الوضع لا بشرط الهيئة الإجتماعيّة الطارئة لها باعتبار طرف الزيادة.

غاية الأمر ، عدم إمكان تحديد هذه الأجزاء وتعيينها إلاّ ببيان الواضع الشارع ، وهو لا يوجب نقضا بالقاعدة الّتي يساعد عليها العرف والاعتبار ، فوجود وجه الضبط على القول بالأعمّ أظهر وأبين.

ومنها : ظواهر جملة من الآيات والأخبار الواردة في مقام خواصّ العبادات وآثارها ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) وقوله

ص: 378


1- العنكبوت : 45.

( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1) وقوله عليه السلام : « الصلاة عمود الدين » و « الصلاة قربان كلّ تقيّ » و « الصوم جنّة من النار » و « الصوم لي وأنا أجزي به » فإنّ حمل تلك المحمولات على المعرّف باللام ظاهر جدّا في اتّصاف الطبيعة المقرّرة من الشارع المحدثة منه بها ، فهي بحكم عكس النقيض تدلّ على أنّ ما ليس فيه هذه الصفات ليس بصلاة.

وفيه : إنّه لا يرجع إلى محصّل إلاّ تحكيم الإطلاق ، وهو مع فرض الإجمال المسبّب عن جهالة المسمّى المردّد في النظر بين ما هو ملزوم هذا الإطلاق وما هو ملزوم خلافه ، غير معقول.

وعليه فلا يثبت الإطلاق إلاّ على تقدير ثبوت الوضع للصحيحة ، فلو ثبت ذلك بالإطلاق لزم الدور.

ومنها : إنّ العبادات كلّها امور توقيفيّة لا تعرف إلاّ من قبل الشارع اتّفاقا ، فلو كانت ألفاظها أسامي للأعمّ لما كانت كذلك ، لكون المرجع فيها حينئذ إلى العرف دون الشرع.

وفيه : منع الملازمة ، فإنّ العرف إنّما يرجع إليه لمجرّد استعلام كون وضع الاسم للأعمّ وهو القدر المشترك بين الزائد والناقص والأجزاء المتبادلة ، وهذا لا ينافي مرجعيّة الشرع لاستعلام الزوائد وكمّيّتها وما يقبل التبادل وما لا يقبل ، إذ ليس المراد بالزائد والبدل ما يختاره المكلّف اقتراحا واختراعا من قبل نفسه ، بل ما اعتبر الزيادة والبدليّة له الشرع ، ولا يعلم ذلك إلاّ بمراجعة الشرع ، كما يوضح ذلك ما قرّرنا عند تحقيق الثمرة من أنّ القول بالأعمّ يلزمه الإجمال المرادي.

ولا ريب أنّ المراد لا يحرز إلاّ بمراجعة الأدلّة ، ومع عدم وفائها وبقاء الشبهة لا مناص من مراجعة الأصل المتقدّم ثمّة ، وهذا كلّه من جهة أنّ العرف لا مدخل له في إفادة مرادات الشارع على ما ينبغي في ألفاظ العبادات.

ص: 379


1- النساء : 103.

ومنها : وجوه اخر واضحة الضعف ، مثل : انّها لو كانت أسامي للصحيحة لم يلحقها تقييد بخلاف ما لو كانت للأعمّ للزومها تقييدات كثيرة غاية الكثرة ، وظاهر انّ الواحد منها خلاف الأصل فضلا عن الكثير.

وإنّ الفقهاء يفسّرون هذه الماهيّات بألفاظ مجملة ، كقولهم : « الصلاة اسم للأركان المخصوصة ، والصوم لإمساك مخصوص ، والزكاة لإخراج مال مخصوص ، والحجّ لمناسك مخصوصة مؤدّاة في مشاعر مخصوصة » فإنّ ذلك يقضي بكونها عندهم مجملة ، وهو من لوازم الصحيحة إذ لا إجمال على غيرها ، وإنّ تقسيماتهم الماهيّات إلى الواجب والمندوب ، في قولهم : « الوضوء إمّا واجب أو مندوب مثلا » ظاهرة في انحصارها فيهما ، وإنّه ليس لها قسم سواهما وإلاّ أدرجوه في التقسيم.

ولا ريب أنّ الفاسد ليس بواجب ولا مندوب فيكون خارجا عن المقسم ، وإنّهم اتّفقوا على أنّ الفاتحة والركوع والسجود ونحوها من أجزاء الصلاة ، وانّ الطهارة والاستقبال وسترة العورة من شرائطها ، وظاهر أنّ الجزء والشرط ما ينتفي بانتفائه الكلّ والمشروط ، فدعوى إنّ هذه الامور ليست من الأجزاء والشرائط تخالف الإجماع ، كما أنّ القول بأنّ الكلّ والمشروط لا ينتفيان بانتفاء الجزء والشرط ينافي الضرورة والوجدان.

نعم رجوعهما إلى المطلوب دون الماهيّة وإن كان ممكنا ، غير أنّه ممّا يكذّبه ظهور كلامهم في رجوعهما إلى الماهيّة.

وقد يقرّر وجه الظهور : بأنّ قولهم : « يجب في الوضوء أو في الصلاة كذا وكذا ، وتشترط فيهما كذا وكذا » يعطي الدخول في الماهيّة كظهور لفظة « في » في الظرفيّة ، فإنّ معنى كون الشيء في الشيء دخوله فيه ، وإنّ هذه الألفاظ قد كثر استعمالها في الصحيحة الجامعة للأجزاء والشرائط سيّما في حيّز الطلب.

ومن البعيد عدم بلوغها مع تلك الكثرة حدّ الحقيقة ، وضعف هذه الوجوه يظهر بالتأمّل في كلماتنا السابقة.

ص: 380

وبما قرّرناه جميعا علم إنّ الاظهر - بل المقطوع به - هو القول بالأعمّ ، والمعتمد من دليله مضافا إلى ما تبيّن من فساد أدلّة القول بالصحيحة ، وجوه :

أدلّة القول بالوضع للأعمّ

الأوّل : التبادر القطعي المستند إلى حاقّ اللفظ ، فإنّه إذا سمعنا قائلا يقول : فلان صلّى أو صام أو حجّ أو نحو ذلك ، يتبادر إلى أذهاننا من الصورة النوعيّة ما يتردّد بين وظائف جميع المكلّفين أو غير واحد منهم ، حتّى أنّه لو أردنا استفصال ذلك المتبادر بالتأمّل كان محتملا للكلّ ، ولم يحصل الجزم بأحدها ، ولولا أنّ اللفظ صالح بحسب وضعه لجميع هذه المحتملات لما كان المتبادر منه متردّدا بين الجميع ، وهذا معلوم بالوجدان ، ومن ينكره فقد كابر وجدانه.

الثاني : إنّا لا نعقل فرقا بين الماهيّات الجعليّة الشرعيّة في وقوع ألفاظها على كلّ زائد وناقص ، وبين الماهيّات الجعليّة العرفيّة في وقوع ألفاظها على كلّ زائد وناقص منها ، كلفظ « الدار » مثلا فإنّ العلم الضروري حاصل لكلّ ذي مسكة إنّه يطلق عند العرف على ناقص الأجزاء نحو إطلاقها على زائدها بجميع مراتبها من دون شائبة تجوّز ولا تأويل فيه ، وكذلك لفظ « الصلاة » وغيرها ، لا بمعنى أنّ هنا فرقا ولا يعقل ، بل بمعنى أنّه لا فرق ليعقل ، وهذا آية كونها للقدر المشترك بين الزائد والناقص بالبيان المتقدّم ، كما هو الوجه في لفظ « الدار » وغيره.

الثالث : إنّها لو كانت للصحيحة لزم من المحاذير ما يقضي ضرورة عرف المتشرّعة بفساده.

فأوّلا : يلزم بالقياس إلى ما عدا المركّب التامّ أن يلتزم إمّا بالاشتراك أو بالتجوّز لعلاقة المشاكلة في الصورة ، أو بالتأويل بنحو التنزيل حسبما تقدّم ، أو بالوضع الجديد من المتشرّعة.

وثانيا : يلزم في نحو قول القائل : « صلاة زيد صحيحة ، وصلاة عمرو فاسدة » فهم التكرار في الأوّل وفهم التناقض في الثاني ، أو ابتناء القول على ارتكاب تجريد في موضوع القضيّة.

وثالثا : يلزم عدم صحّة الإخبار عن العبادات بشيء ، ولا الإخبار عن شيء

ص: 381

بها ، التفاتا إلى أنّ الإخبار يستدعي تصوّر الطرفين المتوقّف على معرفتهما ، الّتي تأباها جهالة المسمّى ، إلاّ أن يراد بلفظ العبادة مجرّد الصورة ، وهو كما ترى.

ورابعا : يلزم عدم جريان الأصل الضروري عند المتشرّعة ، المجمع عليه لدى العامّة والخاصّة ، المعمول في حمل فعل المسلم على الصحّة في العبادات ، الّتي هي أظهر مجاريه.

أمّا الملازمة - فلما قرّرناه سابقا - : من أنّ ما شكّ في صحّته وفساده فالشكّ فيه راجع إلى تحقّق العنوان المعلّق عليه حكم الصحّة على هذا القول.

وقد عرفت عدم جريان الأصل المقتضي للحمل معه ، فيختلّ به نظم امور المتشرّعة بالقياس إلى موارد ذلك الأصل ، من النذور والأيمان والقدوة والإجارات وغيرها ممّا يتعلّق بالعبادات ، واللوازم كلّها كما ترى ، وهذا كلّه آية أنّ المركوز في أذهان المتشرّعة كون ألفاظها بإزاء الأعمّ.

وربّما استدل عليه بوجوه اخر غير ناهضة عليه ، ومن يطلبها يراجع مظانّها.

« تذنيب »

قد يشكل الحال في تشخيص ما يتقوّم به الصورة النوعيّة من الأجزاء الملحوظة حين الوضع ،المأخوذ معها هيئتها الاجتماعيّة الخاصّة في لحاظ الوضع باعتبار طرف النقيصة ، المقتضي لانتفاء المسمّى بنقص بعضها ، فمنهم من حدّدها بالتكبيرة والقيام والركوع والسجود في الصلاة ، كما عرفته سابقا عن بعض الأعلام (1).

ومنهم من حدّدها بالأركان بقول مطلق مع إضافة الطهارة إليها ، كما حكاه بعض الفضلاء عن بعض (2) وعلى هذا فالتسمية دائرة وجودا وعدما معها ، فكلّما يتحقّق فيه الأركان فالمسمّى موجود فيه والماهيّة متحقّقة معه وإن لم يتحقّق معها شيء من غيرها ، وكلّما نقص عنه بعض الأركان فالمسمّى غير موجود فيه والماهيّة غير متحقّقة معه وإن تحقّق جميع غيرها.

ص: 382


1- قوانين الاصول 1 : 56.
2- الفصول الغرويّة : 47.

ومنهم من عدل عن هذا المسلك فجعل المدار على الصدق العرفي ، ولازمه الالتزام بأنّ كلّما صدق معه الاسم عرفا فهو المسمّى وإن لم يتحقّق فيه الأركان ، وكلّما لم يصدق معه الاسم عرفا فليس من المسمّى وإن تحقّق معه جميع الأركان.

ومستند الأوّل - على ما تقدّم إليه الإشارة - قول الفقهاء في الفرق بين الأركان وغيرها بكون الأوّل ما يوجب الإخلال به عمدا أو سهوا بطلان العبادة بخلاف الثاني الّذي لا يوجب سهوه البطلان ، فلو لا الأوّل مقوّما للماهيّة لم يكن سهوه مبطلا ، كما أنّه لو كان الثاني مقوّما كان سهوه أيضا مبطلا.

وربّما أمكن الاستناد له أيضا إلى لزوم الدور ، لو كان المدار على الصدق العرفي ، فإنّه متوقّف على الوضع فلو توقّف الوضع عليه - كما هو لازم القول بالوضع لما يصدق عليه الاسم عرفا - لزم ما ذكر.

ومستند الثاني انتقاض الطريق الأوّل في طرده وعكسه ، على معنى كذب الكلّيتين المشار إليهما على هذا الطريق ، بالبيان المتقدّم ذكره سابقا.

والإنصاف : عدم استقامة شيء من الطريقين.

أمّا الأوّل : فللانتقاض المشار إليه ، مع عدم اطّراد الأركان في جميع العبادات وعدم كونها على حقيقة واحدة فيما هي ثابتة فيه ، كالصلاة والحجّ على ما يكشف عنه اختلاف الحكم ، فإنّ ركن الحجّ ليس على حدّ أركان الصلاة ، لعدم كون سهوه مبطلا ، وإنّما هو على حدّ غير الأركان فيها ، فلا يتمّ التقريب المذكور ، مع تطرّق المنع إلى كون الركنيّة ملزومة للمقوّميّة ، بل الركن كغيره - على ما بيّنّاه سابقا - اصطلاح نشأ عن الفرق في الأجزاء بين ما اعتبر في حالتي الاختيار والاضطرار معا ، وما اعتبر في حالة الاختيار خاصّة.

وتوهّم الدور - حسبما ذكر - يندفع : بتغاير محلّ التوقّف في المقدّمتين ، فإنّ المتوقّف على الوضع هو الصدق العرفي على أنّه واسطة في ثبوته ، والمتوقّف على الصدق العرفي هو الوضع على أنّه واسطة في الإثبات ، على معنى أنّ العلم بالوضع متوقّف على الصدق لا نفسه ، كما هو واضح.

ص: 383

وأمّا الثاني : فلأنّ الصدق العرفي وعدمه لا يحرزان إلاّ بصحّتي الحمل والسلب ، وهما في نحو المقام لا تنهضان على المطلوب بتمامه ، لكثرة ما يقع فيهما من المسامحة العرفيّة ، فقد يصحّ السلب عمّا لا يترتّب عليه الفائدة تنزيلا له منزلة ما يغاير المسمّى ، وقد يصحّ الحمل على المغاير تنزيلا له منزلة المسمّى في تماميّة الأجزاء من باب تنزيل المعدوم أو الفاقد منزلة الموجود أو الواجد ، فإنّ ذلك ممّا يوجب قوّة في الشبهة ، ولا مخلص عنها إلاّ مراجعة الوجدان ، وهي هاهنا غير مجدية.

فالإنصاف : أنّ المقام في غاية الإشكال ، لكنّه لا يخلّ بالمختار ، فإنّ مقتضى ما قدّمناه وقرّرناه من الأدلّة وقوع الوضع على الوجه المتقدّم ، بكون الشارع قد لا حظ عدّة من الأجزاء الواقعيّة واعتبرها في لحاظ الوضع ، على حسبما بيّنّاه.

وهذا كما ترى كاف في ثبوت الوضع للأعمّ ، وإن اشتبهت أعيان هذه الأجزاء ، ويمكن الذبّ عنه أيضا في خصوص الصلاة بالتزام تحديدها بما ورد في صحيحة زرارة من قول أبي جعفر عليه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (1) لظهورها في كونه عليه السلام بصدد بيان حال الأوامر الأصليّة المتعلّقة بالصلاة.

فقضيّة نفي الإعادة عمّا عدا الامور الخمس المذكورة أن لا يكون لغيرها دخل في قوام الماهيّة ليلزم من نقصه انتفائها المقتضي للإعادة.

وقضيّة الاستثناء من هذا الحكم مدخليّة الخمس فيها ، ولذا حكم على ما نقص بوجوب الإعادة.

نعم يشكل الحال بملاحظة دخول الثلاث الاولى الّتي هي من سلسلة الشروط في هذا الحكم ، المقتضي لدخلها في الماهيّة ولعلّه خلاف ما يزعمه الأعمّي. بل قد عرفت بما بيّنّاه سابقا خروج الشروط بالمرّة عن لحاظ التسمية.

ص: 384


1- الفقيه 1 : 225 ح 991 ، التهذيب 2 : 152 ح 597.

لكن يمكن الذبّ عنه أيضا : بموثّقة منصور بن حازم « قال : قلت : لأبي عبد اللّه عليه السلام إنّي صلّيت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها ، فقال : أليس قد أتممت الركوع والسجود ، فقلت : بلى ، قال : تمّت صلاتك » (1) فإنّ الحكم على الصلاة بالتمام بمجرّد إتمام الركوع والسجود يقضي بأنّهما المناط في استكمال الماهيّة ، وعليهما مدار الصدق ويؤيّدها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام « قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض الركوع والسجود وجعل القراءة سنّة ، فمن ترك القراءة عمدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته » لقضائها بأنّ النقص في غير الركوع والسجود نسيانا غير قادح في انعقاد الماهيّة الصلاتيّة ، وإسناد فرضهما إلى اللّه سبحانه ظاهر في أنّهما الّذي أخذه مقوّما للماهيّة وإلاّ لم يكن الصلاة بمجرّدهما تماما.

ص: 385


1- الوسائل 6 : 90 ب 29 أبواب القراءة ح 2 ، الفقيه 1 : 227 / 1005 ، التهذيب 2 : 146 / 570.

تعليقة : في ما يتعلّق بمباحث المشتقّ

اشارة

- تعليقة -

فيما يتعلّق بمباحث المشتقّ

واعلم : أنّ العدل والإعلال والاشتقاق من جملة الألفاظ المتداولة في عرف علماء الأدب الجارية على لسانهم ، وهي متشاركة عندهم في جهة ومتفارقة في اخرى.

أمّا الأوّل : فلكون كلّ. واحد عبارة عن إخراج الكلمة عن حالتها الأوّلية إلى حالة اخرى.

وأمّا الثاني : فلأنّ العدل عبارة عن إخراجها إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل - بمعنى قانون اللغة - كونها على الحالة الاولى ، كما في « عمر » المخرج عن « عامر » و « الجُمَع » المخرجة عن « جمع » أو « جماعي » أو « جمعاوات ».

والإعلال عبارة عن إخراجها بالقلب أو النقل أو الحذف أو الإدغام أو الإبدال إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل كونها على تلك الحالة دون الحالة الاولى ، كما في « قال » عن قول و « يقول » عن يقول ، و « يعد » عن يوعد ، و « يمدّ » عن يمدد ، و « عدة » عن وعد ، و « إقامة » عن إقوام.

والاشتقاق عبارة عن إخراجها إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل كونها على كلتا الحالتين ، على معنى كونها في كلّ منهما من حيث كونها كذلك على طبق قانون اللغة ، كما في « الضارب » المخرج عن الضرب مصدرا ، بناء على أنّه الأصل في

ص: 386

المشتقّات فإنّها في كلّ من حالتي المصدريّة واسم الفاعليّة على طبق قانون المصادر وأسماء الفاعلين ، فهو يفارق العدل في كون الحالة الثانية المخرج إليها على طبق الأصل فيه دون العدل ، كما أنّه يفارق الإعلال في كون الحالة الاولى المخرج عنها على طبق الأصل فيه دون الإعلال.

وهو لغة افتعال ، إمّا من شقّ الشيء بمعنى فرّقه وقطعه ، أي جعله قطعتين أو قطعات ، أو من الشقاق بمعنى المخالفة ، فهو على الأوّل عبارة عن أخذ شقّ الشيء أي نصفه أو قطعة من قطعاته.

وعلى الثاني عبارة عن أخذ الشيء في الطرف المخالف من الشيء الآخر ، وقد غلّب في عرف العلماء على نسبة مخصوصة حاصلة بين لفظين منبئة عن تناسب بينهما من جهة وتغاير من اخرى ، نظرا إلى اشتمال كلّ مشتقّ باعتبار المادّة والهيئة على جزءين.

أوّلهما : جهة التناسب بينه وبين مبدئه.

وثانيهما : جهة التغاير بينهما ، فإن كان النظر في اصطلاح الاشتقاق إلى الجهة الاولى اعتبر النقل من المعنى الأوّل ، فكأنّ المبدأ بوجوده مع كلّ مشتقّ بتمامه جعل قطعات فأعطى كلّ قطعة ، نظير حصص الكلّي الموجودة في ضمن أفراده ، وإن كان إلى الجهة الثانية اعتبر النقل من المعنى الثاني.

وعلى أيّ تقدير فيعتبر في صدق هذه النسبة الّتي عليها مدار الاشتقاق وإطلاق اسم المشتقّ عندهم امور :

منها : أن يتناسب اللفظان في اصول حروفهما وترتيبها تقديما وتأخيرا ، فلا اشتقاق في نحو « القعود » و « الجالس » و « الجلوس » و « القاعد » واحترزنا بالاصول عن الحروف الزائدة الّتي لا يجب فيها مراعاة التناسب ، وهي العشرة المعروفة الّتي يجمعها « هم يتساءلون » أو « سئلتمونيها » فلا يقدح المخالفة فيها.

والمراد بحصول التناسب في اصول الحروف والترتيب حصوله بحسب أصل اللغة ، فلا يقدح طروّ المخالفة لعارض ، لئلاّ ينتقض بالاشتقاق الكبير والأكبر.

ص: 387

وتوضيحه : إنّ المشتقّ إن وافق المبدأ في الحروف الأصليّة وترتيبها فهو الاشتقاق الصغير وقد يسمّى بالأصغر ، وإلاّ فإن كانت المخالفة في الترتيب فقط فهو الاشتقاق الكبير « كجبذ » من « الجذب » وإن كانت في الحروف الأصليّة فقط فهو الاشتقاق الأكبر « كنعق » من « النهق » وما يرى من مخالفة الترتيب في الأوّل ومخالفة الحروف الأصلي في الثاني ليست من أصل اللغة ، بل طارئة لعارض النقل والقلب ولو لغير قياس.

ومنها : أن يتغايرا بحسب الهيئة ، وهي الصورة المتولّدة من توالي الحركات والسكنات وتلاحق الزوائد على الحروف الأصليّة ، سواء كان لكلّ منهما هيئة مخالفة لهيئة صاحبه بناء على كون المبدأ هو المصدر ، أو لم يعتبر لأحدهما هيئة مخصوصة لتوافق هيئة صاحبه بناء على كونه الحروف المرتّبة بالبيان الآتي.

ومنها : أن يكون أحدهما أصلا والآخر فرعا ، فلا اشتقاق بينهما لو كانا أصلين « كدحرجة » و « دحراجا » و « كتب » و « كتاب » و « كتابة » أو كانا فرعين « كعالم » و « عليم » و « ضارب » و « مضروب ».

ومنها : أن يكون الفرعيّة ناشئة عن أخذ الفرع من الأصل ، لا عن نحو زيادة حرف ، بناء على أنّ المزيد فرع للمزيد عليه ، فلا اشتقاق بين « قائم » و « قائمة ».

والمراد من الأخذ هنا أن يلاحظ هيئة منضبطة موضوعة بحسب أصل اللغة ، ثمّ أخذ من اصول حروف الأصل ما هو بوزان تلك الهيئة.

فخرج به باب العدل والإعلال ، لعدم كون المعدول إليه ممّا أخذ بوزان هيئة موضوعه لغة ، وعدم كون ما حصل بالإعلال بوزان الهيئة الموضوعة ، ضرورة أنّ الهيئة الموازنة « لقال » مثلا بعد الإعلال لم يتعلّق بها وضع لغة على أنّها هذه الهيئة ، بل الوضع اللغوي إنّما تعلّق بهيئة « فعل » وأخذ من القول ما هو بوزانها وهو « قول » بالفتح ، وحيث إنّ قانون اللغة أن لا يستعمل هذا الوزن إذا كان بعض اصوله من حروف العلّة إلاّ بقلب هذا الحرف ألفا فأخرج إلى هيئة « قال » من دون أن يتطرّق إليها برأسها وضع.

ص: 388

ودخل فيه المشتقّات بجميع أنواعها فعليّة واسميّة وصفيّة وغيرها ، حتّى الجموع المكسّرة بأسرها ، حتّى نحو « فلك » جمعا منه مفردا ، فإنّ وجه وروده جمعا ليس وجه وروده مفردا وإن اتّحدا صورة ، إذ الثاني إنّما هو بمقتضى الوضع الشخصي المتعلّق بمجموع المركّب من هذه الحروف المعروضة لتلك الهيئة المخصوصة بخلاف الأوّل ، فإنّه من مقتضى الوضع النوعي المتعلّق بهيئة « فعل » وضمّه بهذا الاعتبار هو الضمّ المأخوذ في هذه الهيئة المغاير لما هو في المفرد ، فالتغاير بينهما بهذا الاعتبار حقيقي ، وإنّما دخل بالاعتبار الأوّل في هذه الهيئة بطريق الاشتقاق على الوجه المتقدّم.

وربّما يشكل الحال في شيئين :

أحدهما : جريان هذا الاعتبار في المثنّى والجمع المصحّح ، ففي اندراجهما تحت ضابط الاشتقاق وعدمه ، وجهان : مبنيّان على كون الوضع فيهما باعتبار معنييهما نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة المتولّدة من انضمام أدواتهما إلى المفرد ، أو كونه شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

وثانيهما : جريانه بالقياس إلى نحو « لبّان » و « حدّاد » و « نجّار » و « بنّاء » وغيره ممّا يدلّ على الذات باعتبار انتسابها إلى مبدأ جامد ويعبّر عنها بألفاظ النسبة ، وقد تسمّى بالمنسوب ، وفيها أيضا وجهان : مبنيّان على كون الهيئات الموازنة لها باعتبار أنّها هيئة مخصوصة موضوعة بحسب اللغة للمعنى المستفاد منها وعدمه ، والأوّل وإن كان يساعد عليه كلام أهل الصرف ، حيث أدرجوها في عداد الأوزان الموضوعة إلاّ أنّ الثاني هو الأظهر ، وحينئذ فالأرجح فيها عدم اندراجها في الضابط ، فيكون إطلاق المشتقّ عليه توسّعا.

ولذا يعبّر عنها بالمشتقّات الجعليّة ، لكون أخذها من مبادئها من جعليّات العرف ومخترعاتهم ، لا من باب الاشتقاق الواصل من أصل اللغة.

ثمّ إنّ لهم في الاشتقاق والمشتقّ تعريفات كثيرة ، لا يسلم شيء منها عن شيء ، مع ابتناء كثير منها على تكلّفات واضحة ، مثل ما في التهذيب من تعريف

ص: 389

الاشتقاق : « باقتطاع فرع عن أصل يدور في تصاريفه حروف ذلك الأصل » (1).

وما عن أرباب الصناعة من تعريفه : « بأن يكون بين اللفظين تناسب في أحد المدلولات الثلاث مع اتّحاد الحروف الأصليّة ، أو وجود أكثرها مع المناسبة في الباقي ».

وما حكاه الفاضل في شرح الزبدة ، من تعريفه : « بأن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فتردّ أحدهما إلى الآخر ».

وما حكاه أيضا عن بعضهم من تعريفه : بأن تأخذ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فتجعله دالاّ على معنى ما يناسب معناه ، قائلا : بأنّ الأوّل حدّ له باعتبار العلم ، والثاني حدّ باعتبار العمل.

وما في الزبدة من تعريف المشتقّ : بأنّه فرع وافق الأصل بأصول حروفه.

وما في شرحها للفاضل : بأنّه فرع وافق الأصل بالحروف الاصول. وما في كلام بعض الأعاظم ، بأنّه : الفرع الموافق لأصله في حروف اصوله.

وما في كلام بعض الفضلاء من : أنّه لفظ وافق أصلا باصول حروفه ولو حكما مع مناسبة المعنى وموافقة الترتيب ، مع تصريحه بكون القيد الثاني وهو اعتبار كون الموافقة باصول الحروف احترازا عن المشتقّ بالأكبر ، والقيد الأخير احترازا عن المشتقّ بالكبير ، وهو غير واضح الوجه.

ودعوى : خروجهما عن المحدود ، يأباها إطلاق الاسم وانقسام المسمّى ، ولا يقدح فيهما عدم الموافقة في الترتيب وبعض حروف الأصل إذا كانت من باب الطوارئ كما عرفت.

وكيف كان : فلا جدوى في التعرّض لجرح هذه التعاريف وتعديلها ، والتنبيه على ما فيها وما يصلحها ، بعد ما بيّنّاه من الضابط الكلّي.

وإن شئت تعريف الاشتقاق بما يسلم عن جميع الحزازات ، فقل - بملاحظة

ص: 390


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة 9 ( مخطوط ).

الضابط المذكور - : إنّ الاشتقاق أن يؤخذ من اللفظ الموضوع ما يوازن هيئة موضوعة في اللغة ، وبحسبه تعريف المشتقّ وهو : إنّه اللفظ المأخوذ من لفظ موضوع بوزان هيئة موضوعة في اللغة.

ثمّ إنّ الكلام في هذا البيان يتمّ برسم مباحث :

المبحث الأوّل : في تحقيق الحال في مبدأ الاشتقاق المعتبر في الأفعال وغيرها ممّا يكون مبادئها من المعاني الحدثيّة

المبحث الأوّل : في تحقيق الحال في مبدأ الاشتقاق المعتبر في الأفعال وغيرها ممّا يكون مبادئها من المعاني الحدثيّة.

وهذا البحث وإن كان من جزئيّات فنّ الصرف ، إلاّ أنّه من مبادئ اصول الفقه وليس مقرّرا في محلّه على ما ينبغي ، ليؤخذ به ها هنا كغيره من مسائل الصرف ومسائل النحو من باب أخذ المسلّمات.

فنقول : في كون الأصل هو المصدر والفعل فرع عليه أو العكس خلاف معروف وقع بين البصريّين والكوفيّين من أهل العربيّة ، ولكلّ من الفريقين أدلّة واهية غير ناهضة على مطلوبهم.

حيث إنّ الفريق الأوّل استدلّوا أوّلا : بأنّ مفهوم المصدر واحد لأنّه يدلّ على الحدث لا غير ، ومدلول الفعل متعدّد لدلالة على الحدث والزمان ، والواحد قبل المتعدّد وأصل له.

وثانيا : بأنّ المصدر اسم ، والاسم مستغن عن الفعل وهو غير مستغن عنه ، وما هو مستغن أصل.

وثالثا : بأنّ المصدر إنّما يسمّى مصدرا لصدور الفعل عنه ، وهو في اللغة موضع يخرج منه الإبل فيكون الفعل فرعا عليه.

ورابعا : بأنّ المصدر لو اشتقّ من الفعل لوجب أن يدلّ على أكثر ممّا يدلّ عليه الفعل ، لوجوب زيادة المشتقّ على المشتقّ منه ، وهو أنقص منه لعدم دلالته على الزمان.

والفريق الثاني استدلّوا أوّلا : بأنّ إعلال المصدر يدور مدار إعلال الفعل وجودا وعدما ، فإنّه يعلّ حيث علّ فعله ، ولم يعلّ إذا لم يعلّ فعله.

ص: 391

وحاصل الدليل : أنّه لو كان أصلا لم يكن تابعا للفعل في إعلاله ، وحيث إنّه تابع علمنا أنّه ليس بأصل.

وثانيا : إنّ الفعل يؤكّد بالمصدر فيكون أصلا ، لأنّ المؤكّد تابع والتابع فرع.

وثالثا : إنّ المصدر يسمّى مصدرا لكونه مصدورا عن الفعل ، كما قالوا في « مشرب عذب » و « مركب » بمعنى مشروب ومركوب ، فيكون فرعا.

ولا يخفى ما فيها من الوهن ، ولا جدوى في التعرّض لبيان ما فيها ، وإنّما العمدة هو النظر فيما أحدثه غير واحد ممّن تأخّر من علماء الاصول من تخطئة الفريقين والإعراض عن كلا المذهبين باختيار مذهب ثالث ، وهو أنّ الأصل في المشتقّات إنّما هو المؤلّف من الحروف المرتّبة تقديما وتأخيرا ، المعرّاة عن الحركات والسكنات ، الموضوعة للحدث المطلق بشرط تحقّقها في ضمن هيئة موضوعة ، لئلاّ يرد لزوم كونها مفيدة لمعانيها في ضمن أيّ هيئة ولو غير موضوعة.

وعلّلوه باتّفاقهم على وجوب سراية الأصل في الفرع ، الّتي لا تتأتّى إلاّ بسريان لفظه مادّة وهيئة وسريان معناه ، لوضوح عدم كونه في المصدر والفعل عبارة عن اللفظ فقط ، ولا عن المعنى وحده ، ولا لفظه عبارة عن المادّة فقط ولا عن الهيئة وحدها ، فالواجب حينئذ سريانه بجميع هذه الاعتبارات.

ولا ريب أنّه بهذا المعنى غير متحقّق في شيء منهما ، لعدم وجود الهيئة المصدريّة في الفعل ولا سائر المشتقّات ، كعدم وجود معناه فيهما ، لكونه الحدث المخصوص المقيّد بالنسبة الإجماليّة المعبّر عنها « بالإصدار » و « الصدور » وعدم وجود الهيئة الفعليّة ولا معناه في المصدر وسائر المشتقّات ، فلا بدّ وأن يكون الأصل أمرا ثالثا يتساوى نسبته إليهما وإلى غيرهما وليس إلاّ ما ذكر ، لكونه باعتبار اللفظ لا بشرط شيء من الهيئات ، وباعتبار المعنى لا بشرط شيء من الخصوصيّات المضافة إلى المعنى الحدثي حتّى النسبة تفصيليّة وإجماليّة المستفادة من المشتقّات المختلفة باختلاف أنواعها ، فيصحّ سريانه بكلا الاعتبارين إليها وإلى المصادر أيضا ، بملاحظة أنّ اللابشرط لا ينافيه ألف شرط بل يجتمع مع ألف شرط.

ص: 392

وقيل : أصل هذا المذهب من المحقّق الشريف في بعض تحقيقاته ، وهذا هو الأقوى بل المقطوع به ، لكن لا لمجرّد ما عرفته من التعليل ، بل - مضافا إلى ضعف أدلّة القولين ووضوح فسادها - لوجوه اخر :

منها : الاستقراء التامّ القاضي بدوران الاشتقاق في جميع موارده وجودا وعدما مع حروف مرتّبة ليست بأنفسها هي المصادر ولا هي بمجرّدها الأفعال ، لاشتمالهما مطلقا على حركات وسكنات ، وغالبا على حروف لا يدور عليها الاشتقاق وجودا وعدما ، ولا يضرّ المخالفة فيها بانعقاده فينهض ذلك حجّة واضحة على أنّ نظر الواضع في أصل المشتقّات إلى ما ليس بمصدر ولا بفعل ممّا يكون نسبته إلى الجميع على حدّ سواء ، وليس إلاّ الحروف المذكورة الصالحة لأن يطرئها كافّة الهيئآت المتولّدة عن توالي الحركات والسكنات وتلاحق الحروف والزيادات.

ومنها : ما حصل بمراجعة كلمات العرب ومزاولة كلام أئمّة اللغة والأدب من العلم الضروري لكلّ متدرّب بانقسام حروف المصادر والأفعال في غالب أفرادهما إلى الاصول ، الّتي هي عبارة عمّا يدخل في المشتقّ باعتبار مبدأ اشتقاقه ، والزوائد الّتي تدخل فيه باعتبار الهيئات المختلفة الموضوعة بأنواعها للمعاني المستفادة من أنواعه المختلفة.

وقضيّة ذلك أن لا يكون لمصدريّة المصدر وفعليّة الفعل مدخليّة في الاشتقاق ، لكون مبناهما على اعتبار انضمام الزوائد إلى الاصول ، ولا يعقل لذلك وجه إلاّ كونه جعلا من الواضع ، على معنى أنّه جعل الأصل في المشتقّات ما لا يدخل فيه الحروف الزوائد ، التي على انضمامها مبنى بناء المصدر والفعل ، وإلاّ لم يعقل الفرق بين حروفهما بكون جملة منها أصليّة واخرى زائدة.

وممّا يوضح ذلك أيضا عدم انقسام الحركات والسكنات الطارئة للمشتقّات إلى الأصليّة وغيرها ، وهذا كما ترى ليس إلاّ لأنّ الأصل شيء لم يؤخذ معه بحسب وضعه حركة وسكون.

ص: 393

ومنها : إنّه لو كان الأصل في المشتقّات هو المصدر أو الفعل دون ما ذكر لزم عدم دلالتها على معانيها الحدثيّة ، وعدم اتّصافها بالحقيقة والمجاز ، وبطلان اللازم بكلا قسميه أبين من أن يبيّن.

أمّا الملازمة : فلأنّ كلاّ من الدلالة والاتّصاف بالوصفين يتبع الاستعمال ، وهو يتبع الوضع ، على معنى اعتبار وقوعه على مورد الوضع في الموضوع له ليدلّ عليه بوصف الحقيقة أو في خلافه ليدلّ عليه بوصف المجاز.

والمفروض إنّ مورد الوضع فيهما هو المجموع المركّب من الهيئة والمادّة ، وهو على هذا الوجه غير موجود في المشتقّ لما عرفت من انتفاء الهيئتين.

وبالجملة : مورد الوضع منهما ليس بموجود في المشتقّات ، والموجود ليس بمورد له ، فالاستعمال غير واقع على مورد الوضع ، وينتفي معه الدلالة والاتّصاف ، وهو المراد من اللازم ، وبطلانه يكشف عن كون مورده هو الحروف المرتّبة المعرّاة عن الهيئة المخصوصة ، وأنّ الدلالة على المعنى الحدثي والاتّصاف باعتبارها لا غير.

وممّا يؤيّد الجميع ، أو يدلّ على المطلب أيضا : أنّ المصادر كالأفعال لها بحسب اللغة على ما ضبطه أئمّة الصرف هيئآت خاصّة وأوزان مخصوصة ، ترتقي إلى اثنين وثلاثين أو أزيد ، وهذا يقتضي كون بناء المصدر مصدرا بأحد هذه الأوزان من باب الاشتقاق بالمعنى المتقدّم ، بأن يلاحظ من هذه الهيئآت الموضوعة على ما هو الظاهر للمعاني المصدريّة هيئة مخصوصة - على حسب ما قصد البناء عليه - فيؤخذ حروف الأصل بوزانها.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ قضيّة الوجوه المذكورة كون أصل المشتقّات متساوي النسبة إليها جمع ، حتّى المصادر المجرّدة باعتبار المعنى ، كما أنّه كذلك باعتبار اللفظ ، ليكون موجودا مع الجميع بكلّ من اعتباري اللفظ والمعنى ، وإنّما يتأتّى ذلك - على ما عرفت - بفرض كون الحروف الأصليّة بما فيها من الترتيب موضوعة للمعنى الحدثي ، من حيث إنّه ماهيّة مقرّرة في نفس الأمر ملحوظة

ص: 394

لا بشرط جميع الخصوصيّات الزائدة عليها ، المستفادة من المشتقّات المختلفة بحسب اختلاف هيئآتها الموضوعة بالنوع لهذه الخصوصيّات ، فحروف « الضرب » مثلا من حيث إنّها مجرّد هذه الحروف المرتّبة موضوعة للمعنى الحدثي ، وهو مباشرة جسم لجسم على وجه يستتبع الإيلام من حيث إنّه هذه الماهيّة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المضافة إليها ، حتّى الصدور أو الوقوع والذات المنسوب إليها الحدث - صدورا منها أو وقوعا عليها - والزمان معيّنا أو غير معيّن والمكان والآلة وغيرها ممّا له مدخليّة فيه صدورا ووقوعا.

فإذا تحقّق هذه الحروف بهذا المعنى في ضمن المصدر بأحد أوزانه المعهودة ، كان مفاد الجميع ما ينحلّ إلى ماهيّة الحدث من حيث صدورها أو وقوعها بشرط لا بالنسبة إلى الذات المنسوب إليها تلك الماهيّة ، أي بشرط أن لا يكون معها الذات الموصوفة بها ليصحّ كونها بالنسبة إليها عرضا قائما بها مغايرا لها في الوجود ، فإنّها لا يصلح لذلك إلاّ على تقدير عدم دخولها معها في مدلول لفظ المصدر ولذا يمتنع حمله عليها.

وإذا تحقّقت في ضمن اسمي الفاعل أو المفعول كان مفاد الجميع ما ينحلّ إلى الذات واتّصافها بماهيّة الحدث من حيث صدورها عنها أو وقوعها عليها ، ولذا يعبّر عن الجميع عند تفسير المشتقّ بذات أو شيء له المبدأ ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا اخذ الحدث في مدلول المشتقّ بلا شرط بالنسبة إلى ذات الموضوع ، أي لا بشرط القيد العدمي المأخوذ في وضع المصدر وإن لحقه التقييد بانضمام الذات إليه ، وإلاّ امتنع الجمع بينهما في مدلول لفظ واحد.

وهذا هو الوجه في صحّة حمل المشتقّ على الذات المأخوذة في لحاظ هذا الحمل أيضا ، بلا شرط في كلّ من جانبي الموضوع والمحمول.

فالفرق بين المصدر واسم الفاعل مثلا ، إنّ الحدث في الأوّل مأخوذ بشرط لا وفي الثاني بلا شرط ، مع استناد الدلالة فيهما عليه إلى ذات الحروف الأصليّة المتحقّقة في ضمنها المعبّر عنها بالمادّة.

ص: 395

نعم الدلالة على ما زاد عليه من الشروط والقيود اللاحقة به يستند إليهما باعتبار الهيئة حتّى الصدور أو الوقوع في الأوّل ، بناء على ما يساعد عليه النظر من وضع هيئات المصدر للدلالة على أحد هذين الأمرين المأخوذ قيدا لماهيّة الحدث ، وهو المراد بالنسبة الإجماليّة المتقدّم ذكرها ، كما وقع التفسير به في كلام بعضهم من حيث إنّه لم يؤخذ معه في لحاظ الوضع ما يوجب حصول معرفته على التفصيل بل اعتبر عدمه ، ولذا كان استعماله فيما دخل فيه الذات كمعنى اسمي الفاعل والمفعول في مثل « زيد عدل » و « خلق اللّه » مجازا.

ومن هنا يعلم أنّ قيد بشرط لا في مدلول المصدر من مقتضيات وضعه الهيئي لا المادّي ، لينافي ما تقدّم من القاعدة المقتضية لكون المبدأ لا بدّ وأن يعتبر بلا شرط لفظا ومعنى.

فإذا تبيّن هذا كلّه ، فاعلم : أنّه عن جماعة من أهل المعقول إنّهم زعموا أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه ، هو الفرق بين الشيء لا بشرط وبينه بشرط لا ، فحدث الضرب إن اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ « الضرب » وامتنع حمله على الذات الموصوفة به وإن اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ « الضارب » وصحّ حمله عليها.

وعلى هذا القياس فجعلوا الفرق بين العرض والعرضي ، كالفرق بين الهيولي والجنس ، وبين الصورة والفصل ، وهذا الكلام وإن كان مبناه على أخذ المصدر مبدأ - تبعا لما اشتهر عن أهل العربيّة ، وهو على ما قرّرناه خلاف التحقيق - لكن مفاده من حيث تضمّنه لإبداء الفرق بين المصدر والمشتقّ باعتبار المعنى بعدم صحّة الحمل في الأوّل وصحّته في الثاني حقّ لا سترة عليه ، فإنّ محصّله : أخذ المصدر باعتبار مدلوله من باب العرض والمشتقّ باعتبار مدلوله من باب الأمر العرضي ، تنظيرا لهما في الحكم من حيث صحّة الحمل وعدمها بالهيولي والجنس ، والصورة والفصل ، من حيث عدم صحّة الحمل في الهيولي والصورة ، المأخوذ كلّ منهما جزءا للماهيّة المركّبة من حيث إنّها جسم منهما باعتبار لحاظ الخارج على ما هو ضابط المركّبات الخارجيّة بأجمعها ، من عدم صحّة الحمل في أجزائها

ص: 396

بعضها على بعض ولا كلّ واحد على المجموع ، ولا المجموع على كلّ واحد ، لما لزمها من التغاير بالوجود ، واعتبار كلّ بشرط لا في لحاظه ، وصحّته في الجنس والفصل المأخوذ كلّ منهما جزءا لها من حيث إنّها نوع مركّب باعتبار لحاظ العقل من الأجناس والفصول ، على ما هو ضابط المركّبات العقليّة بأجمعها من صحّة الحمل في أجزائها بعضها على بعض ، وكلّ واحد على الكلّ ، والكلّ على كلّ واحد ، لما لزمها من الاتّحاد الوجودي ، المقتضي لأخذ كلّ في لحاظ التركيب الّذي هو لحاظ التعريف لا بشرط.

ومن هنا يصحّ التعريف المنوط صحّته على صحّة حمل كلّ جزء من المعرّف على المعرّف ، وإنّما ذكر الهيولي في قرن الجنس والصورة في قرن الفصل ، مراعاة لمشابهة الأولى للجنس في الاشتراك بين جميع الماهيّات ، والثانية للفصل في جهة الاختصاص بماهيّة واحدة وامتيازها بهما عن مشاركاتها في الهيولي والجنس خارجا وعقلا ، ولا خفاء إنّ العرض والعرضي وإن كانا يمتازان عن هذه المذكورات في خروجهما عن الماهيّة غير أنّ الأوّل منهما يشارك الهيولي والصورة في عدم صحّة الحمل ، والثاني يشارك الجنس والفصل في صحّته.

ومن الفضلاء من اعترض على ما ذكروه بما يرجع ملخّصه ، إلى أنّ العرض ممّا لا يصحّ حمله على موضوعه وإن أخذ لا بشرط ، ما لم يعتبر المجموع منهما من حيث المجموع شيئا واحدا ، بأن اعتبر ذات الموضوع المأخوذة لا بشرط باعتبار قيام العرض بها ليحمل المجموع عليها ، فلا يكفي فيه مجرّد أخذ العرض لا بشرط (1).

وظنّي إنّه في غير محلّه ، حيث لا نجد في كلامهم المذكور ما ينافي ذلك ولعلّ مبناه على توهّم إنّهم زعموا كون العرض إذا اخذ على الوجه المذكور تمام مدلول المشتقّ ، فهو حيثما يؤخذ في قضيّة الحمل فإنّما هو يؤخذ بتمام مدلوله ، وليس إلاّ العرض المأخوذ لا بشرط.

ص: 397


1- الفصول الغرويّة : 62.

وكأنّه نشأ من ملاحظة ما تقدّم في كلامهم من أنّ حدث الضرب إذا اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ « الضارب » وصحّ حمله عليها.

ويدفعه : ظهور أنّهم جعلوه مدلولا له باعتبار مادّته لا مطلقا ، وهو لا ينافي أن يكون له مدلول آخر باعتبار هيئته ، وهو الذات مع اتّصافها بمدلول المادّة.

وممّا يفصح عن ذلك تعبيرهم عنه بالعرضي الّذي لا يكون إلاّ بدخول الذات أيضا في مدلوله ، قبالا للعرض المعرّى عن الذات المعبّر به عن المصدر ، مضافا إلى ذكره مع المصدر المعبّر عنه بالمبدأ الّذي دخله فيه باعتبار المادّة لا غير ، فوجب أن يكون النظر في مدلوله فيما دخل في مفهومه من جهتها لا غير.

تنبيه : ينبغي أن يعلم أنّ ما في كلام جماعة من الاصوليّين من تنويع التغيير الّذي هو من لوازم الاشتقاق على خمسة عشر نوعا ، حاصلا من ملاحظة الزيادة أو النقصان أو هما معا في الحروف أو الحركات أو فيهما معا ، وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ورباعيّا ، باعتبار استلزام كلّ من الأوّل والثالث حصول أربعة أنواع ، والثاني حصول ستّة أنواع ، والرابع حصول نوع واحد ، إنّما يستقيم على اعتبار كون الأصل هو المصدر أو الفعل.

وأمّا على المختار فلا يعقل التغيير في الحركات بزيادة ولا نقيصة ، حيث لا حركة للأصل حينئذ حتّى تتغيّر بانتقاله إلى فروعه ، ولا في الحروف من حيث النقص لوجوب وجود حروفه بأسرها في فروعه ، فالوجه في التنويع - على هذا الأصل - أن يقال : إنّ الاشتقاق يلزمه انتقال الأصل إلى فروعه بتحريك حروفه كلاّ أو بعضا مع إسكان الآخر مع زيادة حرف آخر عليها ، وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا أو بدونها ، تلك عشرة كاملة حاصلة عن ضرب اثنين في الخمس ، وعليك باستخراج الأمثلة.

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالمشتقّات المخرجة عن المبدأ الحدثي

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالمشتقّات المخرجة عن المبدأ الحدثي ، بالنظر إلى جانب ألفاظها هيئة من حيث ورود الوضع عليها.

فاعلم : أنّ الوضع ينقسم عندهم باعتبار متعلّقه من حيث اللفظ إلى الشخصي

ص: 398

لتعلّقه بشخص اللفظ ، والنوعي لتعلّقه بنوعه ، فالمقسم الأولي وهو المتعلّق لا غير ، وقد يطلق الوضع النوعي على ما يتعلّق بالألفاظ المتصوّرة إجمالا بتصوّر نوعها ، والمراد بشخص اللفظ هو اللفظ الخاصّ المعيّن ، وهو إمّا يتعيّن باعتبار الخارج نظرا إلى ما يطرئه من الاستعمال ، أو يتعيّن باعتبار الذهن نظرا إلى اشتماله على مادّة أو هيئة على طريقة منع الخلوّ ، لكن ينبغي أن يقطع أنّ متعلّق الوضع الشخصي في موارده ليس ما يتعيّن بالاستعمال ، على معنى فرض تعلّقه بالمتعيّنات الخارجيّة ومستعملات اللفظ المتعدّدة بحسب المستعملين والاستعمالات لا بملاحظة تفصيليّة ولا بملاحظة إجماليّة ، بناء على احتمال كون الملحوظ حين الوضع إنّما هو المتعيّن الذهني بحسب المادّة أو الهيئة على أن يكون آلة لملاحظة مصاديقه على الإجمال ، فإنّه مع عدم قائل به خلاف ما علم ضرورة من حال الواضعين ، مع منافاته الحكمة من حيث تضمّنه سفها ، سيّما الأوّل ، مع قضاء ضرورة الوجدان ببطلانه ، فإنّا إذا فرضنا أنفسنا واضعين لا نجد من أنفسنا إلاّ ملاحظة ما يتعيّن في الذهن ووضعه للمعنى ، وإن شئت فاختبر نفسك في تسمية ولدك.

وفي كون العبرة بما يتعيّن مادّة وهيئة فالوضع فيما عداه نوعي ، أو بما يتعيّن مادّة أو هيئة على سبيل منع الخلوّ فالوضع في الجميع شخصي ، وجهان يختلفان بالاعتبار.

وتوضيحه : أنّ الوضع باعتبار انقسامه إلى القسمين المذكورين يتصوّر تارة : بأن يلاحظ مادّة مخصوصة بهيئة مخصوصة عارضة لها.

واخرى : بأن يلاحظ هيئة مخصوصة مع قطع النظر عن المادّة مطلقا ، أو عن مادّة مخصوصة.

وثالثة : بأن يلاحظ مادّة مخصوصة مع قطع النظر عن الهيئة كما في مبادئ المشتقّات على المختار.

ورابعة : بأن يلاحظ اللفظ بعنوان كلّي غير ملحوظ معه مادّة ولا هيئة كما في

ص: 399

المجازات ، بناء على الترخيص في النوع ، وإطلاق الوضع عليه مسامحة لعلاقة المشابهة في إفادة صحّة الاستعمال.

وحينئذ فإمّا أن يقال : إنّ الوضع النوعي ما لم يلاحظ فيه خصوصيّة أصلا ، أو يقال : إنّ الوضع الشخصي ما لم يلاحظ فيه جهة عموم أصلا ، فبالاعتبار الأوّل ينحصر الوضع النوعي في القسم الأخير وهو فيما عداه شخصي ، وبالاعتبار الثاني ينحصر الوضع الشخصي في القسم الأوّل وهو فيما عداه نوعي ، وهو الأظهر من طريقة القوم.

ولعلّه لذا اختلف عبارات بعض الأعلام ، فصرّح تارة : بما يقضي بالوجه الأوّل ، واخرى : بما يقضي بالوجه الثاني.

وعلم بما ذكر جميعا أنّ المراد بالشخص والنوع هاهنا ما يرادف النوع والجنس ، لا ما هو مصطلح أهل المعقول ، ولا خفاء أنّ الوضع في المشتقّات لا يجوز أن يكون شخصيّا لمنافاته الحكمة ، مع عدم ظهور قائل به بل ظهور الاتّفاق على خلافه ، من غير فرق في ذلك بين الاسميّة والفعليّة حتّى المصادر - على المختار - باعتبار هيأتها ، لكونها حينئذ على ما عرفت سابقا من قبيل المشتقّات.

وما يستفاد من صريح بعضهم - كظاهر غيره - من كون أوضاع المصادر شخصيّة لا يستقيم إلاّ على القول بكونها مبادئ المشتقّات ، وإلاّ فعلى القول الآخر لا وجه له سوى توهّم اختلاف صيغها وفقد ما يكون قدرا جامعا لجزئيّاتها.

ويزيّفه : إنّه إن اريد أنّه ليس لها نوع واحد يكون شاملا لجميع جزئيّاتها فليس وضعها واحدا متعلّقا بنوع واحد ، فالصغرى مسلّمة لكنّ الكبرى ممنوعة ، لعدم كون العبرة في الوضع النوعي بوحدة النوع.

وإن اريد أن ليس لها قدر جامع أصلا لا واحدا يجمع جميع الجزئيّات ، ولا متعدّدا يجمع كلّ واحد جملة كثيرة منها لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، فيكون أوضاعها كأوضاع أعلام الأشخاص وأسماء الأجناس ، فالكبرى مسلّمة لكنّ الصغرى ممنوعة ، لوضوح أنّ المصادر - على ما تقدّم عن أهل الصرف -

ص: 400

لها أنواع متعدّدة لكلّ نوع هيئة مخصوصة تعرض لموادّ كثيرة موضوعة ويكون وضعه بتلك الهيئة كافيا عن وضع ما اندرج تحته من الجزئيّات.

ومن الفضلاء من فصّل فجعل الوضع فيما عدا فعل الماضي والمستقبل المجرّدين إذا بنيا للفاعل وكانا مفردين مذكّرين غائبين نوعيّا ، وفيهما بالقيود المذكورة شخصيّا ، مستدلاّ باختلاف صيغهما وفقد ما يكون جامعا بين جزئيّاتهما.

وفيه : مع أنّ نحو هذا الاختلاف موجود في صيغ الأمر ، وضوح أنّ لكلّ واحد منهما أنواعا ثلاث يضبطها كسر العين وفتحها وضمّها ، بحيث يندرج تحت كلّ نوع أشخاص كثيرة غير محصورة يكفي من وضع كلّ شخص بانفراده وضع النوع الشامل له ، هذا إذا اريد بفقده ما يرجع إلى جانب اللفظ ، وإلاّ فإن اريد به ما يرجع إلى جانب المعنى فوجوده أوضح ، فإنّ القدر الجامع حينئذ قيام المبدء بفاعل مّا في أحد الأزمنة.

وإذا ثبت كون الوضع في المشتقّات مطلقا نوعيّا ، ففيه باعتبار جواز تعلّقه في نظر العقل بالأمر الكلّي وهو نوع الهيئة العارضة للمادّة ، أو نوع المجموع منها ومن مادّة مبهمة ، أو بمصاديقه على إنّه بأحد الوجهين إنّما لوحظ مرآتا وآلة لملاحظة تلك المصاديق وجوه أربع ، ترتفع من احتمالي وضع الهيئة أو ما كان على هذه الهيئة في احتمالي الوضع النوعي بمعنى ما تعلّق بنفس النوع ، أو ما تعلّق بالألفاظ الملحوظة بنوعها ، والنظر في تحقيق المقام بالنظر إلى هذه الوجوه يستدعي التكلّم في مسألتين :

المسألة الاولى : أنّ المعروف من مذهب الاصوليّين كون الوضع في المشتقّات باعتبار الهيئة من حيث إنّها عارضة للمادّة لا باعتبار المجموع منها ومن المادّة ، كما ينادي به ما اشتهر بينهم من أنّ المشتقّ له وضعان : شخصي باعتبار المادّة ونوعي باعتبار الهيئة ، وهو الّذي يساعد عليه ظاهر النظر للتبادر ، فإنّ المتبادر من كلّ مشتقّ من المعنى ما ينحلّ إلى ما يستند انفهامه - على ما

ص: 401

يدرك بالوجدان - إلى جزء من اللفظ وما يستند انفهامه إلى جزئه الآخر ، فالحدث الخاصّ في مثل « عالم » لا ينفهم إلاّ من ملاحظة المادّة الموجودة فيه ، كما أنّ الذات وانتسابها إلى الحدث المذكور لا ينفهم إلاّ من ملاحظة الهيئة العارضة لها ، ولذا نجد من أنفسنا أنفسنا أنّه لو تبدّل أحد الجزئين من اللفظ بما يغايره لتبدّل من المعنى ما كان يستند انفهامه إليه ، ولو تطرّق تجوّز إليه فإنّما يتطرّق تارة : باعتبار جزئه الهيئي ، واخرى : باعتبار جزئه المادّي ، وثالثة : باعتبارهما معا ، وهذا كلّه آية كون كلّ منهما مستقلاّ بوضع على حدّه.

وما قيل - في منعه - : بأنّا لا نسلّم إنّ فهم بعض المعنى يستند إلى جزء اللفظ ، بل إلى كلّه ، لكن لا خفاء في أنّا إذا علمنا أنّ صيغة معيّنة موضوعة بإزاء ما دلّ عليه مصدرها مع أمر آخر يشاركها فيه صيغة اخرى ، لا جرم ننتقل بالعلم بأحد الأمرين إلى بعض المعنى ، وليس ذلك انتقالا من بعض اللفظ إلى بعض المعنى ، بل من كلّ اللفظ إلى بعض المعنى.

يدفعه : كونه مكابرة للوجدان ، وخروجه عن قانون الحقيقة والمجاز ، من حيث عدم معهوديّة لحوقهما اللفظ باعتبار كلّ من جزئيه مع عدم انفراد الجزء بوضع مستقلّ فإنّهما يتبعان الوضع ، وابتنائه على أصل قد أفسدناه.

وبه يندفع ما اعترض على المختار ، من أنّهم إن أرادوا أنّ الموادّ موضوعة بوضع المصادر فمتّضح الفساد ، لأنّ هيئآت المصادر معتبرة في وضعها لمعانيها قطعا ، وإن أرادوا أنّها موضوعة للمعاني الحدثيّة بوضع آخر مشروط باقترانها بإحدى الهيئآت المعتبرة لئلاّ يلزم جواز استعمالها بدونها ، فبعد بعده جدّا ممّا لم نقف لهم فيه على دليل ، فإنّ الدليل على وضع مبادئ المشتقّات الّتي موادّها من جهتها - حسبما قرّرناه - قد تقدّم من وجوه عديدة.

نعم هذا البيان ينهض حجّة اخرى على ما اشتهر من كون المبادئ هي المصادر ، كما لا يخفى.

ص: 402

فالمصادر أيضا موضوعة بوضع مبادئها الّتي تتساوى نسبتها إليها وإلى سائر المشتقّات ، فكلّ من الهيئة والمادّة في وضعها مشروطة بالاقتران المذكور لئلاّ يلزم جواز استعمال الهيئة في ضمن غير المادّة الموضوعة ، واستعمال المادّة في ضمن غير الهيئة الموضوعة.

غاية ما في الباب ، توجّه مناقشة إلى تسمية هذا الوضع بالقياس إلى المادّة شخصيّا ، من حيث إنّها إذا اخذت مع تجريد النظر عن خصوصيّات الهيئة كانت نوعا ، كما إنّ الهيئة نوع إذا اخذت مع تجريد النظر عن خصوصيّات المادّة ، لكن الخطب في نحوها سهل ، مع إمكان الذبّ عنها بابتناء التسمية على توهّم كون وضع الموادّ باعتبار وضع المصادر الّتي لا إشكال لأحد في كونه فيها على تقدير كونها مبادئ المشتقّات شخصيّا.

ومن الأفاضل من زعمه فيها واحدا بالنوع متعلّقا بالمجموع ، حيث قال : والظاهر عدم تعدّد الوضع المتعلّق بكلّ من الألفاظ ، فالهيئة والمادّة المعروضة لها موضوعة بوضع واحد نوعي ، ثمّ تكلّف بتأويل القضيّة المتقدّمة المشهورة المصرّحة بالوضع الشخصي الثابت فيها لموادّها ، فتارة : بأنّه إنّما يعنى به الأوضاع المتعلّقة بمصادرها لا الموادّ الحاصلة في ضمنها.

واخرى : بأنّه لمّا كان المنظور في الوضع المذكور هو دلالة المادّة على الحدث ودلالة الهيئة على اعتبار ذلك الحدث جاريا على الذات ، نزّل ذلك منزلة وضعين ، وكان وضعه بالنسبة إلى الأوّل شخصيّا ، وبالنسبة إلى الثاني نوعيّا كلّيا. انتهى (1).

ولا يخفى ما فيه من التكلّف ، مع ما في ثاني الوجهين من الالتزام بمقتضى القضيّة ، فإنّ قصد دلالة المادّة على الحدث إن اريد به الحدث الخاصّ لا يقصر عن وضع الشخص ، بل هو عينه.

ص: 403


1- هداية المسترشدين : 28 ( الطبعة الحجرية ).

غاية الأمر إنّه حصل بحكم الفرض للأشخاص بملاحظة إجماليّة ، مع أنّه لم يأت لإثبات مرامه بما ينهض حجّة عليه ما عدا بعد تعلّق الوضع فيها بغير اللفظ ، ولزوم التعسّف البيّن في التزام تعلّق الوضعين بلفظ واحد ، وفيه ما لا يخفى ، مع ما يتوجّه إليه من لزوم أوله بالأخرة إلى الالتزام بالوضع الشخصي التفصيلي ، لقضاء الضرورة باختصاص كلّ لفظ بما اختصّ به من المعنى الحدثي الخاصّ ، ولولا الموادّ لها وضع بانفرادها لم يكن الوضع النوعي باعتبار الهيئة كافيا في حصول هذا الاختصاص ، سواء فرض متعلّقا بالنوع للنوع أو للجزئيّات ، أو بالجزئيّات للنوع أو للجزئيّات ، واحتمال كونه إنّما حصل من حيث الاتّفاق ممّا لا يصغى إليه. فتكون الحاجة ماسّة إلى اعتبار أمر زائد على هذا الوضع ليفيد الغرض ، وهو إمّا توزيع الواضع بعد الفراغ عن الوضع ، بأن يقول : « هذا لذاك » وهكذا ، إلى أن يتعيّن كلّ خاصّ من اللفظ بإزاء ما اختصّ به من المعنى ، أو استعماله على هذا الوجه بقصد التعيين.

وأيّا مّا كان فالالتزام به التزام بالوضع الشخصي التفصيلي ، إذ لا يعني منه ما يقع بلفظ « وضعت » كما لا يخفى.

هذا مع ما عرفت من عدم حجّة واضحة على ما زعمه ، فإنّ غاية ما أمكنه الاستناد إليه - بعد الاستبعاد المتقدّم - هو : أنّ اختصاص الوضع النوعي في المشتقّات بهيئآتها فقط مبنيّ على كون موادّها موضوعة بأوضاع شخصيّة باعتبار أوضاع مبادئها ، وهي على تقدير كون المبادئ هي المصادر غير مجدية في وضع الموادّ ، لفرض كونها موضوعة بما اعتبر فيها من الهيئآت المخصوصة ، وهي بتلك الهيئآت غير موجودة في المشتقّات ، فلا أثر لأوضاعها في الموادّ.

وعلى تقدير كون المبادئ غيرها ، كالحروف الأصليّة المعرّاة عن الهيئآت المخصوصة - على ما يراه جماعة تبعا للمحقّق الشريف - غير مسلّمة ، لتوجّه المنع إلى هذه الدعوى ، فيبقى الموادّ خارجة عن مورد الوضع لولا تعلّقه بها معروضة للهيئات.

ص: 404

وأيضا : فإنّ التزام الوضعين في المشتقّات ممّا يؤدّي إلى التكثير في مخالفة الأصل ، ضرورة كون الموادّ في الكثرة فوق حدّ الإحصاء ، فلو فرضت مثلا مائة مع الالتزام بالوضع الشخصي في كلّ مع الوضع النوعي في كلّ من الهيئآت المعارضة لها الّتي نفرضها عشرة أنواع ، لزم الالتزام بعشرة أوضاع نوعيّة ومائة شخصيّة ، بخلاف ما لو قيل بوحدة الوضع في مجموع الهيئة والمادّة ، فإنّ الملتزم به حينئذ الأوضاع النوعيّة خاصّة ، وظاهر إنّ التقليل في الحادث أولى من تكثيره.

وأيضا : فإنّ الوضع فيها لولا واحدا متعلّقا بالمجموع لزم عدم كونها في استعمالاتها حقائق ولا مجازات ، واللازم - بحكم انحصار الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز - باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ الحقيقة يعتبر فيها الوضع والاستعمال وتواردهما على اللفظ ، ومفروضهم تعلّق الوضعين بأمر غير اللفظ.

ويندفع الأوّل : بأنّ مرجعه إلى النزاع في مسألة المبادئ وقد فرغنا عنها بإثبات كونها الحروف الأصليّة دون المصادر.

والثاني : بعدم اختصاص الالتزام بحدوث المائة الشخصيّة بمقالة من يثبت الأوضاع الشخصيّة للموادّ ، إذ ليس المراد منها ما هو زائد على أوضاع المبادئ المتّفق على كونها شخصيّة ، بل ما يدخل في الموادّ بواسطة المبادئ ، وحدوثها بالقياس إليها متّفق عليه سواء فرضتها المصادر أو غيرها ، غاية ما هنالك بقاء مناقشة على من يزعمها المصادر من حيث عدم معقوليّة سراية أوضاع المصادر إليها بدون اعتبار وجود الهيئآت المصدريّة المعتبرة في أوضاعها.

وهذه مناقشة اخرى لا مدخل لها في تتميم الدليل ، ولعلّها تنهض حجّة للمختار في المبادئ.

نعم عليه يلزم الالتزام بأوضاع نوعيّة متعلّقة بهيئآت المصادر أيضا - حسبما قرّرناه - بناء على ما تقدّم من استلزام ذلك دخول المصادر في قانون المشتقّات ، ولا ضير فيه بعد مساعدة الدليل عليه.

ص: 405

والثالث : بمنع الملازمة ، إمّا بدعوى كون اللفظ في مصطلحهم لما يعمّ الهيئة المنفردة والمادّة المجرّدة ، وإن كان كلّ في وجوده الخارجي يتوقّف على تقوّمه بالآخر.

وإنّما يستكشف ذلك عن ملاحظة تصريحهم بثبوت الوضعين باعتباري الهيئة والمادّة ، مع تعريفهم الوضع بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى ، وعدم تعرّض أحد لنقضه عكسا بوضعي المشتقّات مع تعرّضهم لنقضه بوضع المشتركات والحروف وغيرها ممّا تقدّم بيانه في محلّه.

أو بدعوى : كون اللفظ في تعريف الحقيقة يراد به المعنى الأعمّ ولو مجازا ، ليشمل نحو المشتقّات ، كما يكشف عنه إثباتهم الوضعين لها.

أو بدعوى : إنّ ثبوت الوضع لكلّ من الجزئين يوجب صدق كون المجموع موضوعا ، فيصدق بقصد الإفادة من كلّ جزء كون المجموع مستعملا ، ويكفي ذلك في توارد الوصفين على اللفظ.

المسألة الثانية : في أنّ الوضع المبحوث عنه هاهنا هل هو متعلّق بنفس النوع المتصوّر المعبّر عنه بالكلّي المنطقي ، أو بجزئيّاته المندرجة تحته الملحوظة إجمالا بملاحظة النوع ، وفيه خلاف آخر.

قيل : بإمكان الجميع ، حيث لا دليل على تعيين أحدهما بحسب الوقوع ، ولعلّه المعروف.

وقيل : بتعين الثاني ، كما جزم به بعض الأفاضل ، وقبله بعض أجلّة السادة (1) وعلّله في شرحه للوافية : بأنّ الظاهر من كلامهم إنّ المستعمل في الوضع النوعي ليس إلاّ أفراد النوع وجزئيّاته المشخّصة ، فلو كان الموضوع هو النوع لكان المستعمل أفراد الموضوع وجزئيّاته دون الموضوع نفسه. وهذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجازا.

ص: 406


1- وهو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه اللّه.

أمّا الأوّل : فظاهر ، وأمّا الثاني : فلأنّ المجاز هو استعمال اللفظ الموضوع في غير ما وضع له ، للمناسبة بينه وبين الموضوع له.

وهذا الاستعمال إنّما هو استعمال اللفظ الغير الموضوع فيما وضع له لفظ آخر للمناسبة بين المستعمل والموضوع وهو عكس المجاز ، فإنّ الخروج عن الظاهر في المجاز من جهة المعنى ، وفي هذا الاستعمال من جهة اللفظ ، والعلاقة المعتبرة في المجاز بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه ، وفي هذا الاستعمال بين اللفظين المستعمل والموضوع ، والواسطة بين الحقيقة والمجاز في الاستعمال الصحيح ليست معهودة في استعمالات العرب ولا منصوصة في كلام أئمّة الأدب ، كيف وقد صرّحوا بأنّ الاستعمال الصحيح منحصر في الحقيقة والمجاز (1) انتهى.

وتحقيق المقام : إنّ النظر إن كان إلى الوقوع الخارجي فلم ينهض ما يقضي بأحد الوجهين ، وإن كان إلى الإمكان وتجويز العقل فكلّ منهما جائز ، ولا مانع عنه عدا ما عرفت من التعليل وهو غير صالح للمنع ، لتطرّق المنع إلى الملازمة المذكورة بناء على وجود الكلّي الطبيعي - كما حقّقناه - ومعناه : وجود الماهيّة بتمامها في ضمن كلّ فرد ، على معنى تشخّصها بلوازم الفرد ، ومن حكم وجودها أن يوجد معها جميع لوازمها لئلاّ يلزم الانفكاك بينهما ، فالنوع على تقدير تعلّق الوضع به في الواقع حيثما يوجد في ضمن شخص منه فإنّما يوجد موضوعا ، لدخوله بالقياس إليه في عداد اللوازم ولو من جهة جعل الجاعل واعتبار المعتبر.

والأصل في ذلك : أنّ الوضع هنا يراد به ما هو صفة اللفظ أعني اختصاص اللفظ بالمعنى ، وهو وإن كان وصفا اعتباريّا إلاّ أنّه بالقياس إلى الموضوع - وهو نوع الهيئة - من قبيل لازم الماهيّة في الوجود الخارجي ، ومعناه : إنّه يوجد حيثما وجدت الماهيّة في الخارج.

وبعبارة اخرى : أنّ الاختصاص يوجد مع كلّ حصّة من حصص الماهيّة

ص: 407


1- شرح الوافية - للسيّد بحر العلوم - مخطوط.

الموجودة في الخارج ، ويرشد إليه إنّه كما يصدق أنّ نوع هيئة « فاعل » مثلا مختصّ بمن قام به المبدأ ، كذلك يصدق إنّ شخص الهيئة الموجودة في « ضارب » مثلا مختصّ بمن قام به الضرب.

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالمشتقّات باعتبار مفاهيمها ومعانيها الموضوع لها

اشارة

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالمشتقّات باعتبار مفاهيمها ومعانيها الموضوع لها ، وينبغي التكلّم فيه من جهات :

الجهة الاولى : ثبوت التركيب في مفهوم كلّ مشتقّ

الجهة الاولى : قضيّة ما حقّقناه من ثبوت وضعين لكلّ مشتقّ تركّب مفهومه ، ضرورة اقتضاء تعدّد الوضع المقصود منه الدلالة تعدّد الدلالة ، وهو فرع على تعدّد المدلول ، كما أنّه فرع على تعدّد الدالّ من غير فرق في ذلك بين المشتقّات الفعليّة والاسميّة حتّى نحو اسمي الفاعل والمفعول ، وهو المعروف المشهور بين كافّة أهل العلم ، كما يشهد به عباراتهم المشحونة من تفسير اسم الفاعل بذات أو شيء له المبدأ ، أو الذات المتّصفة أو المتلبّسة بالمبدأ ونحو ذلك ، ممّا يؤدي مؤدّى هذه العبارات الظاهرة في التركّب ، خلافا لبعض الأعاظم القائل : بأنّ مفهوم المشتقّ ليس إلاّ أمرا بسيطا إجماليّا هو وجه من وجوه الذات الموصوفة الّتي وجد فيها المبدأ ، وصرّح به في موضع آخر أيضا مع التصريح بأنّ : غاية الأمر إنّه في تحليل العقل ينحلّ إلى ذات ووصف ، من دون دخول شيء من ذلك في المدلول ، بل الجميع انتزاعيّات عقليّة ، مستشهدا بأنّهم لا يفرّقون في العرف بين قولنا : « الوجود موجود » و « اللّه موجود » و « زيد موجود » و « اللّه عالم » و « زيد عالم » وتعبيرهم عن « العالم » في الفارسي ب- « دانا » وعن الأسود ب- « سياه » وعن الأبيض ب- « سفيد » وعن الحسن ب- « نيك » وهكذا (1).

وقد تبع في ذلك بعض أهل المعقول ، القائل بأنّ مفهوم المشتقّ معنى بسيط منتزع من الذات باعتبار قيام المبدأ بها ، ومتّحد معها في الوجود الخارجي.

فما اشتهر في العبائر والألسنة من أنّ معنى المشتقّ ذات أو شيء له المبدأ ،

ص: 408


1- إشارات الاصول : 31.

فإمّا مسامحة منهم في التعبير وتفسير للشيء بلوازمه ، أو وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ المراد بالذات والشيء إن كان مفهومهما لزم دخول العرض العامّ في مفهوم الفصل فيكون الفصل عرضيّا للنوع ، لأنّ مفهوم الذات والشيء عرضي لأفراده ، والمركّب من الذاتي والعرضي لا يكون ذاتيّا بالضرورة ، وإن اريد ما صدق عليه الذات أو الشيء - فمع أنّه لا يناسب وقوعه محمولا - يلزم أن ينقلب مادّة الإمكان الخاصّ ضروريّة ، لأنّ ذاتا أو شيئا له الكتابة أو الضحك هو الإنسان لا غير ، فيصدق كلّ إنسان كاتب أو ضاحك بالضرورة ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري. انتهى.

وقد وجدنا هذا البيان في كلام المحقّق الشريف في حواشيه على شرح المطالع.

وتوضيح - ما قرّره من الدليل - : أنّ المشتقّ طائفة من أفراده ما اخذت فصولا في الحدود ، وطائفة اخرى ما اخذت محمولات في القضايا الممكنة الخاصّة كما في « كلّ إنسان كاتب أو ضاحك » فيلزم على مقالتهم من دخول الذات أو الشيء في مفهومه اختلال قانون الفصل ، من لزوم كونه كالجنس ذاتيّا للنوع على تقدير كون المراد بالذات أو الشيء مفهومه ، لكون مفهوم أحد الأمرين - بدليل الضرورة وعدم صحّة وقوعه جوابا للسؤال عن الشيء بما هو ، ولا بأيّ شيء هو في ذاته ، كما هو ملاك معرفة الذاتي عن العرضي - عرضيّا لأفراده الّتي منها النوع ، فيكون الفصل - الّذي هو ذاتي - من جهة دخول الأمر العرضي في مفهومه عرضيّا للنوع ، ضرورة عدم كون المركّب من الذاتي والعرضي ذاتيّا ، أو اختلال قانون القضيّة الممكنة الخاصّة من كونها ما حكم فيها بسلب ضرورة وجود المحمول وعدمه للموضوع ، على تقدير كون المراد بهما مصداق أحد الأمرين ، إذ « الكاتب » و « الضاحك » لا مصداق لهما إلاّ الإنسان ، وثبوت الإنسان لنفسه ضروري ، فيكون القضيّة المتقدّمة ما حكم فيها بضرورة ثبوت الكاتب والضاحك للإنسان فانقلبت الممكنة الخاصّة ضروريّة مطلقة ، وحينئذ إن اعتبر

ص: 409

صدق القضيّة على كلتا الجهتين يلزم اجتماع النقيضين ، وإن اعتبر صدقها على جهة الضرورة يلزم سقوط الممكنة الخاصّة عمّا بين القضايا ، ويبطله - على ما قرّر في محلّه - دليل الخلف ، هذا مضافا إلى كون هذا التقدير على خلاف القانون المقرّر في الحمل من لزوم أخذ محمول القضيّة باعتبار المفهوم قبالا لموضوعها المأخوذ باعتبار المصداق.

وقد يفصّل في المقام بين ما لو كان المشتقّ للثبوت « كالأبيض » و « الأسود » و « الحسن » و « القبيح » و « العطشان » و « الجوعان » و « الشريف » و « الظريف » و « الطاهر » و « النجس » وما أشبه ذلك ، فإنّ المنساق منها - حسبما يجده الذوق السليم والوجدان المستقيم - ليس إلاّ امورا بسيطة ، ولذا يعبّر عنها في الترجمة الفارسية ب- « سفيد » و « سياه » و « خوب » و « بد » و « تشنه » و « گرسنه » و « أصل مند » و « شوخ » و « پاك » و « پليد » وهذه كلّها كما ترى مفاهيم بسيطة لا يعتبر فيها في العرف تركيب ، وبين ما لو كان للحدوث « كالضارب » و « القاتل » و « الناصر » و « البايع » وما أشبه ذلك ، فإنّ معانيها مفاهيم مركّبة تتضمّن نسبا إجماليّة ، ولذا يقال في ترجمتها الفارسية « زننده » و « كشنده » و « يارى كننده » و « فروشنده » وهذا التفصيل قد استفدناه من بعض مشايخنا مدّ ظلّه (1) فالأقوال ثلاث.

والتحقيق على ما يساعد عليه النظر هو الأوّل ، ووجهه - مضافا إلى ما مرّ من قضيّة ثبوت الوضعين - التبادر في مثل « أكرم العالم » و « رأيت عالما » على ما يدرك بالوجدان من انفهام الذات والوصف القائم بها ، ولذا يتردّد الذهن في الثاني لمكان الإبهام في الذات المدلول عليها ويصحّ السؤال عن تعيينه بعبارة « ومن العالم » مع ما في القول بالأمر البسيط المنتزع من فساده بعدم معقوليّة معنى هذه العبارة ، فإنّ معنى اللفظ الموضوع الدائر في الاستعمالات الجاري على لسان كافّة أهل اللسان لا بدّ وأن يكون أمرا معقولا مدركا بحسب الذهن يعرفه كلّ أحد ،

ص: 410


1- ومن المظنون قويّا هو الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره.

ويمتنع كونه وضعا لما لا يعقله أحد أو لا يعقله إلاّ الأوحدي ، ونحن لا نتعقّل من الأمر البسيط المنتزع سوى اللفظ الخالي عن المعنى ، ولا يدخل في أذهاننا منه عدا عنوان بدون معنون ، بخلاف الذات والوصف القائم بها ، فإنّه أمر معقول مدرك يعرفه كلّ أحد.

ودعوى : إنّه يدرك بما يظهر في الترجمة الفارسية من الامور البسيطة المتقدّم ذكرها ، من نحو « دانا » و « سفيد » و « سياه » في مفهوم « العالم » و « الأبيض » و « الأسود ».

يدفعها : إنّ بساطة اللفظ لا يلازم بساطة المعنى.

ولا ريب أنّ مفاهيم الألفاظ العربيّة ليست الألفاظ الفارسيّة ، وإرادة التعريف بمعاني هذه الألفاظ توجب نقل الكلام إليها فإنّ هذه الألفاظ مرادفات للألفاظ العربيّة ، بناء على ما تقدّم في محلّه من حصول المرادفة بين لفظين من لغتين ، فالكلام الجاري في محلّ الكلام يجري بعينه في مرادفاته ، هذا مضافا إلى عدم قيام دليل ينهض بإثباته ، وما عرفته عن بعض المحقّقين فاسد الوضع.

فإنّ أوّل ما يرد عليه : إنّه بحسب المفهوم أعمّ من المدّعى ، إذ غاية ما يلزم منه بعد تسليم مقدّماته إنّما هو نفي دخول الذات أو الشيء مفهوما ومصداقا في مفهوم المشتقّ ، وهو أعمّ من البساطة ، لجواز دخول ما لا يستتبع المحذورين فيه وإن لم نعرفه بعينه.

ولا ريب إنّ الاحتمال في نحوه مبطل للاستدلال.

وثاني ما يرد عليه : أنّه بحسب المورد أخصّ من المدّعى ، إذ لا يجري إلاّ في بعض نادر من أفراد المشتقّ ، وهو ما اخذ فصلا أو محمولا في مادّة الإمكان الخاصّ.

وثالث ما يرد عليه : إنّه إن اريد به إنّ اختلال قانون الفصل أو مادّة الإمكان الخاصّ بالقياس إلى بعض أفراد المشتقّ في نظر أهل المعقول ، اللازم من دخول الذات أو الشيء مفهوما أو مصداقا في مفهومه ، ينهض حكمة باعثة على عدم أخذ شيء منهما بشيء من التقديرين فيه ، ليكون الدليل راجعا إليه بطريق اللِمّ.

ص: 411

ففيه : إنّ اللغة لا تثبت بالعقل ، ولا باعتبارات أهل المعقول.

وإن اريد أنّ صحّة وقوع بعض أفراد المشتقّ فصلا والبعض الآخر محمولا في نظر أهل المعقول ، ممّا يكشف عن عدم دخولهما في مفهوم المشتقّ بحسب أصل الوضع وإلاّ لم يكن صحيحا ، ليكون الدليل راجعا إليه من باب الإنّ ، نظير التبادر وغيره من كواشف الوضع.

ففيه : منع الكشف ، لجواز ابتناء الصحّة في نظرهم على نحو من النقل في خصوص ما وقع فصلا أو محمولا ، أو على تجريد المفهوم عن الذات أو الشيء مفهوما ومصداقا ، أو على أخذ المشتقّ في خصوص المقام بمعنى الأمر البسيط المنتزع من الذات باعتبار الوصف مجازا ، أو على أخذ الذات أو الشيء المأخوذ في مفهومه لغة بمعنى المصداق في الأوّل والمفهوم في الثاني ، فيندفع به المحذوران معا كما لا يخفى.

ورابع ما يرد عليه : اختيار ثاني شقّي الترديد على ما يساعد عليه النظر ومنع الانقلاب.

أمّا الأوّل فبيانه : إنّ الامور الواقعيّة والأشياء النفس الأمريّة مطلقا قد تلاحظ بحقائقها المأخوذة من حيث هي هي ، فتوضع لها ألفاظ شخصيّة منقسمة إلى أسماء الأجناس وأعلامها والنكرات وأعلام الأشخاص ، لمكان احتياجها إلى التعبير في مقام الإفادة والاستفادة إذا اخذت بتلك الحيثيّة بهذه الألفاظ ، وقد تلاحظ بحقائقها المأخوذة من حيث الصفات اللاحقة بها والأوصاف المضافة إليها ، فتوضع لها ألفاظ نوعيّة مختلفة بحسب اختلاف جهات إضافة الأوصاف إليها ، من حيث ثبوتها فيها ، أو وقوعها منها أو عليها ، أو فيها مكانا وزمانا أو بها ، أو نحو ذلك ممّا سيمرّ بك.

ومقتضى الحكمة وضرورة الوجدان في نحو ذلك أن يؤخذ من هذه الحقائق - لعدم انضباطها وعدم انحصارها - مفهوما جامعا لجميع شتاتها الكلّية والجزئيّة ، ليلزم من ملاحظته ملاحظتها إجمالا ، وقد جرت عادتهم بالتعبير عن هذا المفهوم الجامع بالذات أو الشيء ، وقد يكنّى عنه بالوصول.

ص: 412

وقد اختلف المتأخّرون في وضع الألفاظ النوعيّة لنفس هذا المفهوم. وقد مال إليه بعض الأعلام ، أو للمصاديق الّتي اخذ المفهوم منها ، وهي نفس الحقائق الملحوظة بالحيثيّة المذكورة ، كلّية وجزئيّة ، فيكون المفهوم إنّما لو حظ لمجرّد المرآتية كما عليه جمع من الاصوليّين ، وهو الأظهر بل المقطوع به من جهة استقراء موارد الاستعمالات وملاحظة كيفيّة إطلاقات المشتقّ ، مثل « الكاتب » ونحوه حيث لا نجد إطلاقه إلاّ على نفس الحقيقة من غير نظر إلى المفهوم.

ولا نجد فيها بين ما لو كانت الحقيقة كلّية أو شخصيّة فرقا ، بل نجد الإطلاق في الحقيقة الشخصيّة مع قيد الخصوصيّة نحوه في الحقيقة الكلّية ، فيراد من « الكاتب » تارة الحقيقة الكلّية المأخوذة بوصف الكاتبيّة.

واخرى الحقيقة الشخصيّة المأخوذة بهذا الوصف ، وإنّما يتبع ذلك لكلّية الذات الموصوفة به وجزئيّتها ، ففي مثل « الإنسان كاتب » يراد به الحقيقة الكلّية المأخوذة بهذا الوصف ، وفي مثل « زيد كاتب » يراد به الحقيقة الشخصيّة المأخوذة بهذا الوصف ، وهو في الكلّ يقع بحكم الاستقراء والوجدان على نحو الحقيقة ، فليس المشتقّ الواقع على الشخص على حدّ اسم الجنس الواقع عليه ، ليكون حقيقة في وجه ومجازا في وجه آخر.

فعلم بما قرّرناه : أنّ المراد بالذات أو الشيء المأخوذين في مفهوم المشتقّ إنّما هو مصداقهما ، أعني الحقيقة المأخوذة من حيث الوصف المستفاد من المادّة لجهة ثبوته فيها ، كما في المشتقّات الثبوتيّة ، أو لجهة وقوعه منها أو عليها أو فيها أو بها كما في المشتقّات الحدوثيّة.

وأمّا الثاني فبيانه : أنّ الجهة من الضرورة واللاضرورة وغيرهما إنّما تتبع النسبة المأخوذة في القضيّة ، وهي تتبع الحيثيّة الّتي اخذ المحمول محمولا بالنظر إليها ، فإن كان النظر فيه إلى حيث هي هي كما في « كلّ إنسان حيوان » لا بدّ وأن يعتبر الجهة راجعة إلى حيث هي هي ، ولذا يكون هذه القضيّة ضروريّة.

وإن كان النظر فيه إلى حيث الوصف كما « في كلّ إنسان كاتب » لابدّ وأن

ص: 413

يعتبر الجهة راجعة إلى حيث الوصف ، ولذا يكون هذه القضيّة ضروريّة إن اخذ وصف الكتابة بمعنى الكتابة بالقوّة ، وممكنة خاصّة إن اخذ الوصف بمعنى الكتابة بالفعل ، فإنّه الّذي ليس وجوده كعدمه ضروريّا للإنسان ، وحينئذ اندفع المنافاة بين كون ثبوت شيء لنفسه ضروريّا وبين كون القضيّة المذكورة ممكنة خاصّة على تقدير كون المراد بالذات المأخوذة في « كاتب » مصداقها الّذي هو الإنسان ، لأنّ ضروري الثبوت لنفسه إنّما هو الإنسان إذا اخذ من حيث هو هو.

وأمّا إذا اخذ من حيث وصف الكتابة - كما هو المقصود من هذه القضيّة - فلا ، لوضوح أنّ الضرورة واللاضرورة حينئذ إنّما تعتبر بالقياس إلى الوصف ، وعدم كونه ضروريّا ضروري.

وأمّا ما يقال في دفعه : من أنّ الذات المأخوذة مقيّدة بالوصف قوّة أو فعلا إن كانت مقيّدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة ، وإلاّ صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق « زيد كاتب بالضرورة » لكن يصدق « زيد الكاتب بالفعل أو بالقوّة كاتب بالضرورة ».

ففيه : من المغالطة ما لا يخفى ، فإنّ ما اخذ في الواقع قيدا لذات الإنسان المأخوذ موضوعا إنّما هو الوصف بالقوّة ، والمأخوذ في طرف المحمول ليس إلاّ الوصف بالفعل ، فكون الأوّل ضروريّا لذات الإنسان لا يناقض عدم ضروريّة الثاني ، فيصدق قولنا : « كلّ إنسان كاتب بالضرورة » مع قولنا : « لا شيء من الإنسان بكاتب بالإمكان » إذا اعتبر الأوّل بمعنى الكتابة بالقوّة والثاني بمعناها بالفعل.

وأمّا العلاوة الّتي ذكرها المستدلّ ، من عدم مناسبة الفرض لوقوع المشتقّ محمولا.

فيدفعها : إنّ المعتبر في الحمل إنّما هو الحكم بثبوت المحمول بمفهومه لمصاديق الموضوع ، ولا ينافيه كون المأخوذ في مدلول المشتقّ مصداق الذات ، بعد ملاحظة أنّ المراد به ما يعمّ الحقيقة الكلّية ، ففي مثل هذه القضيّة المتقدّمة

ص: 414

يحمل الإنسان الموصوف بوصف الكتابة بمفهومه الكلّي على مصاديق الإنسان المأخوذ موضوعا لا بشرط هذا الوصف.

وأمّا ما استشهد به بعض الأعاظم من الوجهين ، فيندفع ثانيهما : بما تقدّم من أنّ مداليل مشتقّات لغة العرب ليست الألفاظ الفارسيّة الّتي هي الامور البسيطة ، ودعوى : كون مداليل هذه الألفاظ امورا بسيطة كنفس الألفاظ مع كونها مرادفات لمشتقّات لغة العرب أوّل المسألة ، فتكون الاستناد إلى التعبير بها مصادرة.

كما يندفع أوّلهما : بأنّ عدم فرقهم بين الأمثلة المذكورة مسلّم ، لكنّه باعتبار أنّ المراد بالمشتقّ في الجميع إنّما هو الذات الموصوفة بوصف مدلول المادّة ، وإن كان مبناه في بعضها على تصرّف عقلي من جهة ضيق العبارة ، بتنزيل الموضوع من حيث اخذ في المحمول منزلة الذات الموصوفة بما زاد عليها من وصف مدلول المادّة ، على معنى إثبات وصف الوجود والعلم للوجود والباري تعالى ، ادّعاء ، وسيمرّبك زيادة تحقيق يتعلّق بهذا المقام.

الجهة الثانية : في بيان معاني المشتقّات بالمعنى الأعمّ من المصادر على وجه التفصيل

اشارة

الجهة الثانية : في بيان معاني المشتقّات بالمعنى الأعمّ من المصادر على وجه التفصيل والتعرّض لتحقيق ما يدخل فيها وما لا يدخل ، فنقول : إنّها على أنواع :

1 - المصادر

منها : المصادر ، وقد علم بجميع ما قرّرناه في المباحث السابقة ، إنّ المعنى الحدثي من حيث إنّه من الأعراض الّتي لو وجدت في الخارج لوجدت في الموضوع ، إن اخذ من حيث إنّه ماهيّة مقرّرة في نفس الأمر وجرّد النظر فيها عن جميع الخصوصيّات الّتي تضاف إليها ، كان مدلولا لما هو مبدأ المشتقّات ، وهي الحروف الأصليّة الّتي يتساوي نسبتها إلى الجميع حتّى المصادر ، وإن اخذ من حيث الوقوع بالمعنى الشامل للتجدّد والحدوث ، كان مدلوللا للفظ المصدر ، بمعنى إنّه باعتبار هيئته المتنوّعة - بأنواعها المتقدّم إليها الإشارة - موضوع للدلالة على وقوع الحدث ، كما يكشف عنه ما يظهر في ترجمته الفارسيّة من لفظي « الدال والنون » أو « التاء والنون » وهو الّذي قد يعبّر عنه بالنسبة الإجماليّة ، ولا يدخل في مفهومه سوى ما ذكر - حتّى الذات والزمان والنسبة التفصيليّة - باعتبار الوضع.

ص: 415

نعم قد يرد إطلاقه على ما دخل فيه الذات مجازا ، كما في « زيد عدل » في غير مقام المبالغة ، وفي « خلق اللّه » ثمّ إنّه قد يعتبر الوقوع في مفهومه بحيث تصحّ إضافته إلى فاعل الحدث وموجده ، فيسمّى بهذا الاعتبار بالمصدر المبنيّ للفاعل ، وقد يعتبر بحيث تصحّ إضافته إلى المفعول به ، فيسمّى بهذا الاعتبار بالمصدر المبنيّ للمفعول ، وفي كونه حقيقة في الأوّل خاصّة أو في الثاني كذلك ، أو فيهما معا على طريقة الاشتراك لفظا أو معنى ، أوجه ، أوجهها الأوّل لأمارة التبادر ، فإنّ المتبادر من نحو « الضرب » و « القتل » إنّما هو الحدث الخاصّ من حيث الوقوع بمعنى الفاعليّة لا هو بمعنى المفعوليّة ، هذا مضافا إلى قاعدة غلبة الاستعمال وندرته ، مع أصالة المجاز في مقابلة الاشتراك لفظا.

ثمّ ينبغي أن يعلم : إنّ الوقوع المأخوذ على هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع لازم الإضافة إلى الفاعل ، غير أنّ الإضافة إليه فعلا لم تعتبر في وضع المصدر ، بأن تكون جزءا لمدلوله الوضعي وإلاّ انقلبت النسبة الإجماليّة تفصيليّة ، وهو خلاف ما يساعد عليه ظاهر اللفظ بحسب العرف.

فما عن بعض المحقّقين في الفرق بينه وبين اسم المصدر من أنّ المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلّقه بالمنسوب إليه على الإبهام ، ولذا يقتضي الفاعل والمفعول ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله ، واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو بلا اعتبار تعلّقه بالمنسوب إليه ، وإن كان له تعلّق في الواقع ، ليس على ما ينبغي.

وقريب منه أو يرادفه ما عن بعضهم في الفرق أيضا ، من أنّ المعنى الّذي يعبّر عنه بالفعل الحقيقي ومبدأ الفعل الصناعي إن اعتبر فيه تلبّس الفاعل به وصدوره منه وتجدّده ، فاللفظ الموضوع بإزائه مقيّدا بهذا القيد يسمّى مصدرا ، وإن لم يعتبر فيه ذلك فاللفظ الموضوع بإزائه مطلقا عن هذا القيد المذكور هو اسم المصدر.

فإنّ هذا البيان بكلّ من التقريرين يعطي بظاهره كون المصدر ما اخذ في مدلوله النسبة التفصيليّة ، وإن لم يدخل معه المنسوب إليه بعنوان الجزئيّة ، وهو ممّا يكذبه ضرورة الوجدان والاستعمال.

ص: 416

ولمّا انجرّ الكلام إلى ذكر اسم المصدر فلا بأس بالنظر إلى الفرق بينه وبين المصدر ، على ما يساعد عليه النظر ، فنقول :

ينبغي أن يقطع أنّ الإضافة في اسم المصدر ليست بيانيّة ، وعلى تقدير كونها لاميّة - كما هو المتعيّن - فيحتمل كون معناها اسم مدلوله المصدر ، أو اسم مدلول المصدر وإن لم يكن هو بنفسه مصدرا ، أو اسم معلوله ما هو حاصل من المصدر.

ولعلّه لتوهّم الوجه الأوّل قيل في الفرق بينهما : إنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه ، واسم المصدر يدلّ على الحدث بواسطة المصدر ، فمدلول المصدر معنى ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر.

ولتوهّم الوجه الثاني قيل : إنّ اسم المصدر ما ليس على أوزان مصدر فعله ، ولكن بمعناه.

ولتوهّم الوجه الثالث قيل : إنّ المصدر يدلّ على الحدث ، واسمه على الهيئة الحاصلة بسببه ، كما يقال في الفارسيّة « رفتن ورفتار كردن ، وكردار » « خوردن وخوردار » وفي معناه ما استظهره جمال الملّة والدين في حاشية الروضة (1) من أنّ المصدر موضوع لفعل الأمر أو الانفعال به ، واسم المصدر موضوع لأصل ذلك الأمر ، فالاغتسال مثلا عبارة عن إيجاد امور مخصوصة هي أفعال تدريجيّة مخصوصة ، والغسل عبارة عن نفس تلك الامور ، وإن ذكره هو بتخيّل كونه مغايرا لسابقه.

وتحقيق المقام - على ما يرشد إليه التدبّر في كلام أئمّة اللغة ، وكلمات الأعلام - إنّ الفرق بينهما معنوي لا أنّه لمجرّد اللفظ ، وإنّ اسم المصدر بحسب المعنى ليس من مقولة اللفظ ليكون مدلوله لفظ المصدر ، بل الفرق بينهما بحسب الذهن كالفرق بين حصول الشيء ونفس الشيء الحاصل.

وبعبارة اخرى : وقوع الشيء ونفس الشيء الواقع ، وبحسب الخارج كالفرق بين الشيء المتضمّن للنسبة والشيء المعرّى عنها ، فإنّ المصدر باعتبار مدلوله

ص: 417


1- حاشية الخوانساري على الروضة البهيّة : 9 ( الطبعة الحجرية ).

يتضمّن نسبة إجماليّة يعبّر عنها بالحصول أو الوقوع المضاف إلى الحدث ، واسمه باعتبار مدلوله معرّى عنها ، لأنّه عبارة عن نفس ذلك الشيء الحاصل وهو الحدث ، ولذا يكون حاصلا بالمصدر على ما حقّقه المحقّقون.

ومن حكم ذلك الفرق بحسب اللغة ، أن يعمل المصدر باقتضاء الفاعليّة - بل المفعوليّة - حيثما كان صالحا لأخذ المفعول ، لتضمّنه النسبة المقتضية للمنسوب إليه فاعلا ومفعولا ، ولا يعمل اسمه لعدم تضمّنه النسبة المقتضية لهما ، وبحسب العقل والاعتبار : إنّ الخارج بالقياس إلى حصول الشيء ظرف لنفسه لا لحصوله ، لئلاّ يلزم التسلسل ، وبالقياس إلى الحاصل ظرف لحصوله لا لنفسه ، فإنّ الأوّل من قبيل الأمر الخارجي كوجود زيد وحصول القيام ، والثاني من قبيل الموجود الخارجي كنفس « زيد » وقيامه.

ومن المقرّر في محلّه إنّ الأوّل ما كان الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ، والثاني ما كان الخارج ظرفا لوجوده لا لنفسه.

وعلى هذا الفرق ينطبق ما عن بعض حواشي الكشّاف (1) في سورة الزلزال من الفرق بينهما : بأنّ المصدر له معنى معقول نسبي لا يكون الخارج ظرفا لوجوده ، واسم المصدر له معنى حاصل فيمن قام به المصدر ، ليس بأمر نسبي يكون الخارج ظرفا لوجوده ، يقال له : الحاصل بالمصدر.

فإنّ هذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه في الفرق بينهما.

والعجب عن جمال الملّة والدين حيث غفل عن حقيقة هذا الفرق ، فاعترض عليه ، بأنّ الظاهر إنّ المصدر عبارة عن الفعل أو الانفعال به ، وهما عندهم مقولتان من العرض ، وقد اعتبر فيه الوجود الخارجي.

وأيضا : لا ريب أنّ الحاصل بالمصدر قد لا يكون موجودا خارجيّا (2).

ويندفع الأوّل : بأنّ العرض الّذي اعتبر فيه الوجود الخارجي قد يلاحظ من

ص: 418


1- حكاه الخوانساري في حاشيته على الروضة البهية : 9 ( الطبعة الحجرية ).
2- نفس المصدر السابق.

حيث عروضه ، وقد يلاحظ من حيث إنّه عارض ، والوجود الخارجي إنّما اعتبر فيه من الجهة الثانية ، لكونه من هذه الجهة موجودا خارجيّا ، والخارج ظرف لوجوده.

وأمّا هو من الجهة الاولى فلا يمكن اعتبار الوجود الخارجي له ، لأنّ حيث العروض في الأعراض هو حيث الوجود ، ولا يعقل للوجود وجودا آخر.

كما يندفع الثاني : بأنّ اسم المصدر بالمعنى المذكور يتبع مصدره ، فالحاصل من دون الحصول غير معقول ، فالشيء إن كان لحصوله خارج فلنفسه أيضا خارج البتّة.

غاية الأمر أنّ الخارج إن اخذ مقيسا إلى حصوله كان ظرفا لنفس الحصول ، وإن اخذ مقيسا إليه نفسه كان ظرفا لحصوله لا لنفسه ، كما عرفت.

وإلى ما قرّرناه من الفرق يمكن إرجاع ما استظهره هو رحمه اللّه ، بل وسابقه أيضا بضرب من التوجيه في الحدث المأخوذ مدلولا للمصدر ، بحمله عليه من حيث الحدوث لا من حيث إنّه حادث ، كما هو ظاهر التعبير بلفظ « الحدث » والهيئة الحاصلة بسببه لا محصّل لها إلاّ الحالة القائمة بالذات ، اللازمة للحصول بحسب الخارج ، ولا تكون إلاّ نفس الحاصل المعرّى في مدلول اسم المصدر عن حيث الحصول ، كما لا يخفى.

وبجميع ما بيّنّاه يظهر لك ضعف الفرق بينهما بأحد الوجهين الأوّلين ، فإنّ قضيّة أوّلهما كون اسم المصدر بحسب المعنى من مقولة اللفظ ، وقد عرفت فساده.

كما أنّ قضيّة ثانيهما كون الفرق بينه وبين المصدر لفظيّا حاصلا لمجرّد اللفظ ، من حيث إنّ المصدر ما يندرج لفظه في أوزان مصدر فعله واسمه ما لا يندرج فيها ، وقد علمت بطلانه.

ومثله في الضعف والبطلان ما قيل أيضا أنّ الاسم الدالّ على مجرّد الحدث إن كان علما « كفجار » و « حماد » علمين « للفجرة » و « المحمدة » بفتح الميم الاولى وكسر الثانية ، أو كان مبدوّا بميمٍ زائدة لغير المفاعلة « كمضرب » و « مقتل » أو كان

ص: 419

على أوزان المصدر المجرّد وهو لمعنى المصدر المزيد فيه كغسل ووضوء ، فهو اسم مصدر وإلاّ فهو مصدر ، فإنّ ذلك يعطي كون الفرق بينهما لمجرّد اللفظ ، فاسم المصدر لفظ كان على أحد الامور الثلاث من المعرفة أو البدئة بميم زائدة أو موازنة المصادر المجرّدة ، والمصدر لفظ تجرّد عن جميع هذه الامور مع اشتراكهما في المعنى من حيث الدلالة على الحدث.

وهو باطل جدّا ، مع عدم اطّراده في جميع أسماء المصادر ، فإنّ « الظهر » مع إنّه اسم مصدر بنصّ أئمّة اللغة لا يندرج في شيء من الأقسام الثلاثة ، وكذلك « الستر » بالكسر الّذي مصدره الستر بالفتح ، مع ما قيل : من أنّ المبدوّ بميم زائدة لغير المفاعلة مصدر يسمّى المصدر الميمي ، وإنّما سمّوه أحيانا اسم مصدر تجوّزا.

2 - 3 - فعلا الماضي والمضارع

ومنها : فعلا الماضي والمضارع ، واعلم : أنّه ذكر جماعة من الاصوليّين إنّ فعل الماضي موضوع الدلالة على قيام حدث مخصوص بفاعل مّا في الزمان الماضي ، فاستعماله فيما تجرّد عن الزمان - كما في صيغ العقود - أو فيما اقترن بزمان غير ماض مجاز ، كما أنّ استعماله في حدث غير ما هو مبدئه مجاز ، وفعل المضارع موضوع للدلالة على قيام حدث مخصوص بفاعل مّا في زمان الحال - كما رجّحناه في مباحث الاستعمال - أو الاستقبال فقط في قول ، أو فيهما على الاشتراك لفظا أو معنى في قولين آخرين ، اختار ثانيهما بعض الفضلاء ، فاستعماله فيما اقترن بزمان ماض أو تجرّد عن الزمان مطلقا - كما في الإنشاء في وجه - مجاز ، وهذا لا يخلو عن اجمال وإشكال.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعنى المذكور للفعلين ينحلّ عند التحليل إلى امور خمس : الحدث ، والذات المبهمة ، والزمان المعيّن ، ونسبة الحدث إلى الذات المبهمة من حيث وقوعه منها ، ونسبته إلى الزمان المعيّن من حيث وقوعه فيه ، ولا يدرى أنّ المأخوذ في وضع الفعل هل هو جميع هذه الامور أو بعضها؟ وإنّه على الثاني أيّها داخل في الوضع ليكون الدلالة عليه مطابقة أو تضمّنا ، وأيّها خارج عنه ليكون الدلالة التزاماً؟

ص: 420

وأمّا الثاني : فلأنّ أخذ قيام الحدث بفاعل مّا - وهو الذات المبهمة - في وضع الفعل لا يستقيم على ما ذهب إليه جمهور المحقّقين من إثبات الوضع للمركّبات التي منها المركّب من الفعل وفاعله في نحو « ضرب زيد » و « يضرب عمرو » مثلا ، لأنّهم إنّما أثبتوه فيه بإزاء الإسناد الّذي لا معنى له إلاّ قيام الحدث بفاعل مّا ، والمفروض أنّه في كلّ من المركّب والفعل من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فالإسناد الجزئي بين « زيد » و « ضرب » أو « يضرب » في المثال هو نفس ما وضع له ، فيلزم الالتزام بثبوت وضعين لمعنى واحد أحدهما باعتبار المركّب والآخر باعتبار أحد جزئيه ، وهو مع أنّه لا يلائم حكمة الواضع ، عديم النظير فيما بين الألفاظ الموضوعة ، كما أنّه لا يستقيم على القول بنفي الوضع في المركّبات ، لقضائه بكون ذكر الفاعل المعيّن في جميع مواقعه مع الفعل لمجرّد رفع الإبهام ، وتعيين الذات المنسوب إليها الحدث بمقتضى وضع الفعل ، لا لدخله في إسناد الكلام فيكون على حدّ سائر القرائن المفهمة ، وهو خلاف ما يرشد إليه ضرورة العرف واللغة ، لوضوح الفرق بينه وبينها من حيث إنّ له دخلا في الإسناد ، إذ لولاه لم ينعقد إسناد ، ولو انعقد فهو ناقص ، ولذا لا يكون الفعل بدونه مفيدا ، بخلاف القرائن المفهمة ونحوها لعدم دخل لها في إسناد الكلام أصلاً.

وتحقيق المقام أنّه لا إشكال في دخول الحدث المخصوص في مدلول الفعل ، وإنّ الدلالة عليه إنّما هو بمقتضى وضعه المادّي ، كما أنّه لا إشكال في دخول نسبته إلى الزمان باعتبار وقوعه فيه في مدلوله لكن باعتبار وضعه الهيئي ، لنصّ أئمّة اللغة بل إطباقهم عليه ، كما يعلم من حدودهم للفعل بأنّه ما دلّ على اقتران حدث بزمان ونحوه ممّا يرادفه ، مع كون النسبة الزمانيّة ممّا يتبادر منه بملاحظة هيئته مع شهادة الاستقراء به ، فإنّ المعلوم من ملاحظة الأفعال استفادة الزمان منها ، واختلافه باختلاف هيئآتها وإن اتّحدت موادّها ، واتّحاده باتّحاد هيئاتها وإن اختلفت الموادّ.

وقضيّة ذلك مدخليّة الهيئة في الدلالة على الزمان ، ولا يعقل له وجه سوى

ص: 421

الوضع ، وأمّا نسبته إلى الذات مبهمة أو معيّنة من حيث وقوعه منها ، فالّذي يساعد عليه النظر عدم دخولها في مدلول الفعل باعتبار الوضع ، لا من حيث مادّته ولا من حيث هيئته ، كما يرشد إليه ظاهر عبائر أئمّة اللغة في حدوده ، فإنّه كالصريح في كون الهيئة باعتبار الوضع مقصورة على النسبة الزمانيّة ولم يؤخذ معها شيء ، مضافا إلى قضاء ضرورة الوجدان بأنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن من ملاحظة الهيئة إنّما هو نسبة الحدث إلى الزمان من حيث وقوعه فيه.

نعم لمّا كان وقوعه في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من ذات يستند إليها بوقوعه منها ، فيحصل الانتقال إلى النسبة الفاعليّة في النظر الثاني بعد الملاحظة المذكورة الراجعة إلى ملاحظة الطرفين والنسبة ، فيكون الدلالة عليها من باب الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.

لا يقال : قيام العمل به باقتضاء الفاعليّة بل المفعوليّة أيضا يكشف عن كون هذه النسبة مأخوذة في مدلوله ، لأنّ هذا حكم يتبع هذه النسبة بحسب لزومها الواقعي.

ولا يتوقّف على كونها معتبرة بالوضع ، كما مرّ نظيره في المصدر.

ولقد عثرت على كلام للأزهري في التصريح مصرّح بجميع ما قرّرناه ، حيث إنّه عرّف اسم الفاعل بالدلالة على الحدث وحدوثه وفاعله ، وجعل قيد الفاعل احترازا عن الفعل.

وعلّله بقوله : والفعل إنّما يدلّ على الحدث والزمان بالوضع لا على الفاعل وإن دلّ عليه بالالتزام. انتهى.

نعم إنّما يحصل الدلالة الصريحة عليها بواسطة التركيب الحاصل بينه وبين فاعله ، إمّا من جهة وضع المركّب بإزائها ، أو لدلالته عليه بوضع مفرداته.

وبذلك يندفع الإشكال المتقدّم ، إذ لا يلزم حينئذ اعتبار وضعين لمعنى واحد ، ولا عدم مدخليّة الفاعل في إسناد الكلام ، فما عليه الجماعة من وضع الفعل للدلالة على قيام حدث بفاعل مّا في زمان معيّن ، إن أرادوا به كون هذا المفهوم

ص: 422

بجملة ما تضمّنه من النسبتين وغيرهما ما وضع له اللفظ - كما هو ظاهر هذا التعبير - فقد اتّضح منعه ، وإن أرادوا به كونه في الجملة ولو باعتبار بعض ما تضمّنه - وهو النسبة الزمانيّة مع الحدث - فأصل المطلب حسن ، غير أنّ العبارة توهم خلافه.

بل الوجه فيها حينئذ أن يقال : إنّه موضوع للدلالة على الحدث وانتسابه إلى الزمان المعيّن من حيث وقوعه فيه ، فما يتراءى من عبائر غير واحد - كعبارة بعض الأعلام في غير موضع من كتابه - من أخذ النسبة الفاعليّة في وضع الفعل هيئة ليس على ما ينبغي ، وكأنّه وهم منشأه ملاحظة الدلالة الإلزاميّة - حسبما بيّنّاه - بحسبان كونها باعتبار الوضع ، أو ملاحظة الدلالة الصريحة المستندة إلى التركيب بحسبان كونها من مقتضيات جزء هذا المركّب ، وبعد ما تبيّن خروج هذه النسبة عن مدلول الفعل وضعا فالذات المبهمة المنسوب إليها الحدث أولى بالخروج.

وأمّا الزمان المعيّن فربّما يستأنس من ظواهر حدود الفعل في كلام النحاة عدم كونه جزءا للموضوع له ، فإنّ ما وضع للدلالة على اقتران الحدث بزمان ونحوه لا يقتضي أزيد من دخول الاقتران في الوضع ، وهو المعنى المراد من النسبة ، ولا يبعد الالتزام به أيضا ، بدعوى : إنّ المأخوذ في الوضع هو الحدث المنسوب إلى الزمان على وجه يكون الداخل في الوضع هو المنسوب والنسبة دون المنسوب إليه ، فيكون الدلالة عليه التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، لكن كلماتهم في غير مقام التعريف بين صريحة وظاهرة في كون الدلالة عليه تضمّنية.

وعلى التقديرين يكون الدلالة عليه وضعيّة ، ولا يترتّب على تحقيق أنّها من أيّ القسمين فائدة مهمّة.

وبما بيّنّاه اتّضح الفرق بين المصدر والفعل ، فإنّ النسبة المأخوذة في مدلول المصدر إجماليّة صرفة ، حيث لم يؤخذ معها باعتبار الوضع ذات ولا زمان بخلاف الفعل فإنّ لنسبته نحو تفصيل.

ص: 423

4 - فعل الأمر

ومنها : فعل الأمر ، ولا إشكال في دلالته بالوضع على الحدث المخصوص من جهة المادّة ، كما أنّه لا إشكال في دلالته كذلك من جهة الهيئة على نسبة الحدث إلى المتكلّم من حيث كونه مطلوبا له على وجه الحتم خاصّة - كما هو الراجح في النظر على ما سيأتي تحقيقه - أو لا على هذا الوجه على الأقوال الاخر ، وإنّما الإشكال في شيئين :

أحدهما : إنّه هل يدلّ بالوضع على النسبة الزمانيّة ، على معنى كون زمان معيّن من الثلث كالحال أو الاستقبال مأخوذا في وضعه على وجه الجزئيّة أو القيديّة أو لا؟ فإنّ فيه اختلافا في كلمات العلماء من العربيّة والاصوليّة ، والمتحصّل من أقوالهم على ما ساعد عليه الممارسة أربعة :

الأوّل : ما جزم به جماعة من الاصوليّين ، تبعا لجمهور النحويّين من دلالته على الحال بالخصوص ، وعليه مبنى قولهم : بدلالته على الفور.

الثاني : ما يستفاد من غير واحد من أهل العربيّة من دلالته على الاستقبال بالخصوص ، كما يظهر الجزم به من نجم الأئمّة في شرحه للكافية (1) حيث إنّه بعد ما صرّح بكون فعل المضارع للحال فقط ، استدلّ عليه بما تقدّم في باب الاستعمال ، وبأنّ من المناسب أنّ له صيغة خاصّة كما أنّ لأخويه ، فإنّ المراد بأخويه الماضي والاستقبال ولا يعقل للثاني صيغة خاصّة به إلاّ فعل الأمر.

الثالث : ما يستشمّ من بعضهم من اشتراكه بين الحال والاستقبال ، تعليلا بكونه مأخوذا من المضارع الّذي هو للحال والاستقبال.

الرابع : ما صار إليه محقّقوا متأخّري الاصوليّين من منع دلالته على زمان حالا واستقبالا ، كما صرّحوا به في منع دلالته على الفور والتراخي.

وثانيهما : دلالته على النسبة الفاعليّة بالوضع وعدمها ، فإنّ المستفاد من بعض الأعلام في غير موضع من كتابه دلالته عليها أيضا بالوضع ، كدلالته على النسبة

ص: 424


1- شرح الكافية : 2.

الطلبيّة كذلك ، مع تصريحه في ذيل مسألة متعلّق الأوامر بكون وضع الهيئة للأوّل من باب وضع الحروف ، بخلاف وضعها للثاني فإنّه من باب وضع المادّة ، فتكون كلّ من الوضع والموضوع له عامّا.

وهذا كما ترى التزام بالاشتراك في الهيئة لعدم إمكان الجمع بين هاتين القضيّتين بإنشاء واحد ، ويلزمه كون استعمالها دائما من باب استعمال المشترك في معنييه ، ولا نظنّ أحدا يلتزم بشيء من ذلك.

ولعلّه لذا عدل في ذيل مسألة المفرد المعرّف باللام عن هذا المسلك ، فجعل وضعها لكلّ من الأمرين من باب وضع الحروف ، لكفاية إنشاء واحد حينئذ في وجه ، غير أنّ دوام الاستعمال في معنيين لازم له كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال فالإنصاف ومجانبة الاعتساف ، يقضي بعدم دلالته بالوضع على نسبة زمانيّة ، بحيث يكون الزمان حالا أو استقبالا جزءا أو قيدا للموضوع له ، وإن كان الطلب المأخوذ في وضعه لزمه الحال على أنّه ظرف لحدوثه ، كما أنّ متعلّقه وهو الحدث المدلول عليه بالمادّة لزمه المستقبل ، بمعنى ما بعد حال النطق مطلقا على أنّه ظرف لوقوعه فيه ، فلو حصل فيه الدلالة على أحدهما فإنّما يحصل لمجرّد هذه الملازمة الواقعيّة ، لا لأنّها مأخوذ في وضعه بعنوان الجزئيّة أو القيديّة.

والوجه في ذلك أوّلا : هو التبادر ، فإنّ قول القائل : « إضرب » مثلا لا يتبادر منه إلاّ مطلوبيّة حدث « الضرب » من دون انفهام زمان معها أصلا.

وثانيا : ما ندركه بالوجدان من الفرق الواضح بينه وبين أخويه الماضي والمضارع في لحاظ استعماله للإفادة ، حيث لا نقصد منهما إلاّ إفادة وقوع الحدث في زمان معيّن ملحوظ بالخصوص من ماض أو حال ، ومنه إلاّ إفادة مطلوبيّة الحدث من دون نظر إلى شيء من الأزمنة.

ومن ينكر ذلك مع كونه معلوما بالوجدان فقد كابر وجدانه.

وأمّا الأقوال الاخر فلا مستند لها سوى ما عليه أهل العربيّة محافظة على قاعدتهم المقرّرة في الفرق بين الاسم والفعل مطلقا ، أو توهّم اشتقاق الأمر من

ص: 425

المضارع ، والثاني ممنوع كما يعلم وجهه في بحث مبدأ الاشتقاق ، والأوّل إنّما يتّبع حيث ساعد عليه دليل ، ولو سلّم فلا أقلّ من عدم مساعدة الدليل على خلافه ، لا مطلقا.

وأمّا النسبة الفاعليّة ، فالإنصاف إنّه كأخويه أيضا في عدم دلالته عليها بالوضع.

وبيانه : إنّ الطلب المأخوذ في وضع الهيئة من حيث إنّه معنى ذهني ووصف نفساني يتضمّن جهتين باعتبار حدوثه وتعلّقه ، ومحلّه من الجهة الاولى ذهن المتكلّم ، ومن الجهة الثانية الحدث المدلول عليه بالمادّة من حيث إنّه مطلوب مع ذمّة السامع من حيث إنّه مطلوب منه ، ولأجل هذا يستدعي نسبتين ، أحدهما : نسبة الحدث إلى المتكلّم من حيث إنّه مطلوب له ، والاخرى : نسبته إلى السامع من حيث إنّه مطلوب منه ، والدلالة على الاولى بحكم التبادر والوجدان الضروري مستندة إلى الفعل بنفس هيئته ، وعلى الثانية بحكمهما أيضا إلى الهيئة الكلاميّة الحاصلة بينه وبين الفاعل المنويّ فيه ، إمّا باعتبار الوضع والاستعمال معا ، أو باعتبار الاستعمال فقط - على القول بعدم الوضع في المركّبات - فكلّ من النسبتين نسبة طلبيّة ، غير أنّ أوليهما مدلول للمفرد بالوضع ، وثانيتهما مدلول للمركّب بالوضع أيضا ، أو بالاستعمال فقط ، فلا دلالة لشيء منهما بالوضع على النسبة الفاعليّة.

نعم النسبة الطلبيّة بالمعنى الثاني مستلزمة لفاعليّة السامع للحدث باللزوم العقلي التبعي ، الغير مقصود إفادته أصالة لا بالمفرد ولا بالمركّب ، وهذه هي النسبة الفاعليّة لكونها عبارة عن نسبته الحدث إلى السامع من حيث إنّه يقع منه.

فمن يتوهّم دخول النسبة الفاعليّة في وضع فعل الأمر ، إن أراد بها النسبة الطلبيّة الملزومة لها فهي مدلولة للهيئة الكلاميّة لا لفعل الأمر ، وإن أراد بها النسبة اللازمة لها فهي ليست من مدلول اللفظ أصالة ، سواء فرضناه الهيئة الفعليّة أو الهيئة الكلاميّة ، بل الدلالة عليها تحصل باللزوم العقلي بواسطة التركيب الكلامي.

ص: 426

وبجميع ما حقّقناه هنا مضافا إلى ما مرّ في تحقيق معنيي الماضي والمضارع اتّضح أمران :

أحدهما : كون فعل الأمر كأخويه في عدم الدلالة بالوضع على النسبة الفاعليّة ، بل هو يدلّ بالوضع على الطلب من حيث إنّه نسبة بين الحدث والمتكلّم ، كما إنّهما بالوضع لا يدلاّن على النسبة الزمانيّة.

وثانيهما : حصول الفرق بينه وبينهما في صورة التركيب الكلامي ، حيث إنّ الهيئة الكلاميّة فيهما تدلّ على النسبة الفاعليّة دلالة مقصودة بالوضع أو الاستعمال ، بخلاف الهيئة الكلاميّة فيه فإنّها لا تدلّ كذلك إلاّ على الطلب من حيث إنّه نسبة بين الحدث وفاعله ، ولأجل ذا كان المركّب معهما من الكلام الخبري ومعه من الكلام الإنشائي.

وضابط الفرق بينهما : إنّ الخبر كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، والإنشاء كلام ليس لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، والمراد بنسبة الكلام هي النسبة الّتي يقصد إفادتها باللفظ ، والمراد بالخارج النسبة الواقعيّة الّتي تكون ثابتة بين طرفي النسبة المقصود إفادتها باللفظ ، فالنسبة المقصودة من قول القائل : « ضرب زيد » مثلا هي نسبة « الضرب » إلى « زيد » من حيث حصوله منه ، ولها مع قطع النظر عنها وعن هذا اللفظ وصدوره عن قائله خارج ، وهو النسبة الواقعيّة بين « الضرب » و « زيد » الثابتة في نفس الأمر ، من دون أن يكون ثبوتها وجودا أو عدما دائرا مدار اللفظ وجودا أو عدما ، وهي أنّ الضرب في الواقع إمّا حاصل من « زيد » أو ليس بحاصل فحصوله منه أو عدم حصوله نسبة بينهما قد يطابقها نسبة الكلام فيكون صدقا ، وقد لا يطابقها فيكون كذبا ، كما أنّ النسبة المقصودة من قول القائل : « إضرب » مثلا هي مطلوبيّة « الضرب » من « زيد » ولا خارج لها مع قطع النظر عنها وعن اللفظ وصدوره ، بل هي في وجودها بينهما وعدم وجودها دائرة مدار اللفظ المفيد لها وجودا وعدما ، فإذا وجد اللفظ وجدت وإلاّ لم توجد.

ثمّ إنّ ها هنا إشكالين يندفعان بملاحظة ما بيّنّاه :

ص: 427

أحدهما : ما توهّم في نقض ضابط الخبر ، من أنّ فيه أيضا نسبة لا خارج لها وهي إيقاع نسبة الحدث على فاعله ، فإنّ المتكلّم بقوله : « ضرب زيدا » إنّما يوقع نسبة حدث « الضرب » على « زيد » وهو نسبة في الخبر حاصلة بين المتكلّم ومضمون خبره ولا خارج لها ، لأنّها تتولّد بنفس اللفظ ولا توجد عند عدم وجوده.

ووجه الاندفاع : إنّه فرق واضح بين النسبة الّتي هي من مقاصد اللفظ ، والنسبة الّتي هي من لوازم التلفّظ ، وإيقاع النسبة أمر مشترك بين جميع أنواع الكلام خبريّا أو إنشائيّا طلبيّا أو غيره ، وقد تعبّر عنها بالنسبة المتكلّميّة ، ولا إشكال في كونها إنشائيّة حتّى في الخبر ، غير أنّها لا تصلح نقضا لضابطه ، لأنّها من لوازم التلفّظ لا من مقاصد اللفظ ، لأنّ المتكلّم لا يقصد بكلامه إفادة أنّه أوقع النسبة ، بل إنّما يقصد بإيقاعه النسبة بإيجاد اللفظ إفادة أصل النسبة باللفظ ، والمراد بالنسبة في ضابط الخبر والإنشاء هي النسبة المقصودة باللفظ لا مطلقا.

وثانيهما : ما سبق إلى بعض الأوهام في نقض ضابط الإنشاء ، من أنّ فيه أيضا نسبة لها خارج تطابقه أو لا تطابقه وهي النسبة الفاعليّة ، فإنّ قول القائل : « إضرب » تتضمّن نسبة حدث « الضرب » إلى « زيد » من حيث إنّه يقع منه.

ولا ريب أنّ له خارجا لأنّ زيدا في الخارج إمّا أن يقع منه « الضرب » فهو نسبة يطابقه ما تضمّنه اللفظ المذكور ، أو لا يقع فهو نسبة لا يطابقها ما تضمّنه اللفظ.

ووجه الاندفاع : ما بيّنّاه من أنّ المراد بالنسبة في ضابط الخبر والإنشاء ما قصد إفادته باللفظ ، وقد علم إنّ النسبة الفاعليّة في الإنشاء ليست من هذا الباب ، بل المقصود بالإفادة هي النسبة الطلبيّة ولا خارج لها.

وبجميع ما تقدّم تعلم حقيقة الحال في فعل النهي ، فإنّه كالأمر في جميع ما مرّ حرفا بحرف ، فلا حاجة له إلى أخذه عنوانا على حدّة والبحث عنه بانفراده ، فصار المتحصّل : أنّ فعل الأمر ما وضع للدلالة على طلب إيجاد الحدث من حيث إنّه نسبة بينه وبين المتكلّم ، وفعل النهي ما وضع للدلالة على طلب عدم إيجاد الحدث من حيث إنّه نسبة بينه وبين المتكلّم أيضاً.

ص: 428

5 - اسم الفاعل

ومنها : اسم الفاعل ، وقد تقدّم في المباحث السابقة جملة ممّا يتعلّق به ، وتبيّن أنّه يدلّ بالوضع على ذات متّصفة بالمبدأ ، وبقي ممّا يتعلّق به مسائل ثلاث :

فيما يتعلّق باسم الفاعل من المسائل

الاولى : دخول الزمان في مدلوله وضعا بعنوان الجزئيّة أو القيديّة وعدمه

الاولى : دخول الزمان في مدلوله وضعا بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة وعدمه ، والّذي ينبغي أن يقطع به - وفاقا لأهل العربيّة المطبقين على الفرق بين الفعل والاسم بقول مطلق في عدم دلالة الثاني على معنى مقترن بأحد الأزمنة - هو العدم ، لتبادر معنى معرّى عن الزمان مطلقا منه عند الإطلاق ، وهو الذات المتّصفة بالمبدأ ، فعدم تبادر الزمان معه يدلّ على كون استعماله فيما اخذ فيه الزمان مجازا.

مضافا إلى صحّة تقييده بكلّ واحد من الأزمنة ، كما في « قائم أمس أو الآن أو غدا » من دون فهم تكرار ولا تناقض ، كما في « قام أمس أو غدا » و « يضرب الآن أو أمس » وعدم معقوليّة تحقّق الحدث بدون الزمان لا يلازم كونه معتبرا في الوضع ، إذ ليس هذا إلاّ كعدم معقوليّة تحقّقه بدون المكان ، فإنّ كلاّ منهما من لوازم الوجود الخارجي ، ولا يلزم منه كونهما من لوازم الوجود الذهني باعتبار الوضع.

ولا ينافيه الاتّفاق المدّعى على كونه حقيقة في الحال خاصّة ، إذ لم يرد به الحال الزماني الّذي هو أحد الثلاث المعهودة ، بل المراد به حال التلبّس ، على معنى فعليّة وجود المبدأ حين ما يعتبر النسبة بينه وبين الذات ، ومحصّله : كونه حقيقة في الذات المتّصفة بالمبدأ اتّصافا حاصلا حال وجود المبدأ ، والحال بهذا المعنى عرض من مقولة الكيف يصلح بطبعه مظروفا لكلّ واحد من الأزمنة.

وهذا معنى ما يقال : من أنّ حال التلبّس قدر مشترك بينها ، فتأمّل كي تعرف أنّ إطلاق المشترك بينها عليه مسامحة ، لعدم كونه أمرا زمانيّا ، بل هو قدر مشترك بين ما هو مظروف للماضي وما هو مظروف للحال وما هو مظروف للاستقبال ، وإنّما اطلق الحال بهذا المعنى على ما يقابل حال انقضاء المبدأ وعدم بقائه ، أعني الذات المتّصفة بالمبدأ اتّصافا حاصلا حال انقضاء ذلك المبدأ عنها وعدم بقائه فيها.

ولو اريد به الحال الزماني المعهود أيضا ، فليس المراد بكونه حقيقة فيه كونه

ص: 429

حقيقة فيما دخل فيه الحال الزماني بنحو الجزئيّة ، بل المراد به كونه حقيقة في الاتّصاف بالمبدأ باعتبار التلبّس الحاصل في الحال الزماني على وجه الظرفيّة.

ويظهر ثمرة الفرق بين الاعتبارين في نحو « كان قائما أمس » و « يصير قائما غدا » فإنّه حقيقة في المثالين على الاعتبار الأوّل ومجاز على الاعتبار الثاني.

كما لا ينافيه أيضا ما ذكره أهل العربيّة : من إنّ اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، ولا يعمل مع وجوب إضافته إذا كان بمعنى الماضي ، إذ لا يراد من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال أو الماضي كونه لمعنى يدخل فيه أحد هذه الأزمنة باعتبار الوضع ، بل المراد به كونه لمعنى هو بحسب الوجود الخارجي مظروف لأحد هذه الأزمنة ، من دون أن يدخل ذلك في المستعمل فيه ، وهو حال التلبّس الّذي يصلح مظروفا لكلّ منها ، كما يرشد إليه تمثيلهم للأوّلين ب- « زيد ضارب غلامه عمروا الآن ، أو غدا » وللآخر ب- « زيد ضارب عمرو أمس » فإنّه ظاهر في كون الزمان مرادا من خارج اللفظ.

وأمّا ما توهّم من كون إطلاق النحاة اسم الفاعل مثلا على مثل « الضارب » في قولنا : « زيد ضارب غدا » يدلّ على كونه حقيقة عندهم في المستقبل.

ففيه أوّلا : منع ورود إطلاقه في نحو المثال على ما دخل فيه هذا الزمان ، بقرينة ذكر الغد.

وثانيا : إنّ غاية ما يقضي به هذا الإطلاق كون لفظ اسم الفاعل في مصطلحهم حقيقة في نحو « الضارب » المذكور في المثال ، ولا يلزم منه كون « الضارب » عندهم أيضا حقيقة. (1)

ص: 430


1- ولقد أوضح هذا الكلام في تعليقته الشريفة على القوانين ، فيما يتعلّق بالمقام بقوله : « طريق دفعه حينئذ أن يقال : إنّ كون لفظ اسم الفاعل من حيث إنّه من مصطلحات النحاة حقيقة في « ضارب » في نحو هذا الاستعمال ، لا ينافي كون « ضارب » مجازا في المعنى المذكور باعتبار اللغة ، وبالجملة : حقيقيّة لفظ اصطلاحا في لفظ مجازى لغة لا ينافي مجازيّة ذلك اللفظ ، كما في إطلاق فعل الماضي مثلا في « بعت » الإنشائي وفي « ضربت » حيث يلي إن ». انتهى كلامه. [ راجع التعليقة على القوانين : 43 ].

نعم ربّما يرد ذلك نقضا على دعوى اتّفاقهم على كونه حقيقة في الحال بالمعنى المتقدّم على اعتباره الثاني ، وهو إرادة حال التلبّس الحاصل في حال النطق ، على أن يكون الزمان ظرفا للمستعمل فيه لا جزءا.

لكن يمكن دفعه بثاني الوجهين : حيث إنّ الإطلاق المذكور هو إطلاق لفظ اسم الفاعل الّذي هو اصطلاح عندهم في لفظ نحو « ضارب » وكون هذا الإطلاق حقيقة لا يستلزم كون إطلاق « الضارب » على التلبّس الحاصل في الزمان المستقبل على الوجه المذكور حقيقة ، كما هو واضح.

وفي حكم اسم الفاعل من حيث عدم دخول الزمان في مدلوله الوضعي ، اسم المفعول وغيره من سائر المشتقّات الاسميّة ، فلم يؤخذ شيء من الأزمنة الثلاثة في مفاهيمها باعتبار الوضع حتّى أسماء الزمان ، فتأمّل فيه حتّى تعرف إنّه لا ينافي ما اخذ في وضعه من الزمان المطلق ، لأنّه ليس بأحد هذه الأزمنة.

الثانية : في اشتراط قيام المبدأ بالمشتقّ وعدمه

الثانية : اختلفوا في اشتراط قيام المبدأ بما صدق عليه اسم الفاعل أو مطلق المشتقّ في صدقه وعدمه ، فالأشاعرة إلى الأوّل ، وجماعة منهم العلاّمة في التهذيب (1) والنهاية (2) وشارح التهذيب في المنية إلى الثاني ، بل في المنية : إنّه مذهب المعتزلة أصحابنا وعن البهائي الوقف.

ومن الفضلاء (3) من قيّد العنوان بكون المبدأ صفة وكون قيامه بلا واسطة في العروض ، واحترز بالأوّل عمّا لو كان ذاتا كما في المشتقّات الجعليّة ، « كالخمّار » و « التمّار » و « اللبّان » وكأنّه نبّه بذلك على خروجها عن محلّ النزاع باتّفاق الفريقين فيها على عدم الاشتراط ، كما صرّح به بعض

ص: 431


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 10 ، حيث قال : ولا يشترط قيام المعنى بما صدق عليه الاشتقاق ... الخ.
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 19 ( مخطوط ) قال : البحث الخامس : في أنّه هل يجب الاشتقاق مع القيام بالمحل ... إلى أن قال : فأوجبه الأشاعرة خلافا للمعتزلة ...
3- الفصول : 62.

الأعاظم (1) نظرا إلى أنّ مبادئها امور قائمة بذواتها فلا يعقل قيامها بالغير.

ويشكل بما في نهاية العلاّمة (2) من أخذه امتناع قيام مبادئ هذه الألفاظ ونحوه بما هي صادقة عليه حجّة على الأشاعرة ، وهذا لا يلائم قضيّة الخروج.

وبالثاني (3) عن القائم بواسطة ، كالشدّة والسرعة القائمتين بالجسم بواسطة اللون والحركة ، فإنّه يقال : « اللون شديد والحركة سريعة » ولا يقال : « الجسم شديد أو سريع » إلاّ مجازا ، وكأنّه لتوهّم الملازمة بين القول : بأنّ كلّما صدق عليه المشتقّ يجب قيام مبدئه به ، والقول : بأنّ كلّما قام به المبدأ يجب صدق المشتقّ من هذا المبدأ عليه ، وإلاّ فمحلّ البحث من قبيل المسألة الاولى ، وفائدة القيد تترتّب على المسألة الثانية ولا تعلّق له بمحلّ البحث كما لا يخفى.

ومن الأعاظم من صرّح بعدم الفرق بين اسم الفاعل والمفعول وصفة المشبّهة وغيرها ، لكن عن الحاجبي والبيضاوي تخصيص النزاع بالأوّل ، وهو الأوفق بتمثيلاتهم.

والمنقول من حجّة الأشاعرة الاستقراء ، بمعنى تتبّع الكلمات المشتقّة وعدم الظفر على كلمة تصدق على ما ليس مبدأ الاشتقاق قائما به.

واحتجّ الآخرون بصدق « الضارب » و « المؤلم » و « المتكلّم » على ذوات ليس مبادئها قائمة بها ، لقيام الضرب والألم بالمضروب والمولم ، و « الكلام » الّذي هو المؤلّف عن الأصوات والحروف بالهواء.

وربّما استدلّ بالعالم والقادر والخالق والمتكلّم.

أمّا الأوّلان : فلعدم تغاير العلم والقدرة فيهما لذاته تعالى ، وأمّا الثالث : فلأنّ الخلق عبارة عن المخلوق وهو غير قائم بذاته تعالى ، إذ لو غايره لكان إمّا قديما أو حادثا ، فيلزم إمّا قدم العالم أو التسلسل.

ص: 432


1- إشارات الاصول : 31 ، حيث قال : ثمّ على المختار لا فرق بين اسم الفاعل والمفعول وصفة المشبهة وغيرها ...
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 19 ( مخطوط ).
3- أي واحترز بالثاني.

وأمّا الرابع : فلقيام كلامه تعالى وهو المؤلّف من الأصوات والحروف بالأجسام الخارجيّة الجماديّة ، لا بذاته تعالى.

أقول : قيام المبدأ بما يصدق عليه المشتقّ وعدمه ، إن اريد به حالة وجوده - على ما هو من لوازم العرض المحكوم عليه بأنّه إذا وجد في الخارج وجد في الموضوع - ليكون مرجع البحث إلى تعيين محلّ هذا الموجود ، نظرا إلى أنّه بعد وجوده عرض ولا بدّ له من موضوع فاختلف في وجوب كونه الذات الّتي يصدق عليها المشتقّ صدقا حمليّا أو صدقا إطلاقيّا وعدمه ، كما هو ظاهر كلمات أهل القول بعدم الإشتراط.

فالحقّ هو هذا القول ، بمعنى أنّ صدق المشتقّ على ذات لا يقتضي بالوضع ولا بالعقل وجوب كون محلّ وجود مبدئه الموجود في الخارج هو هذه الذات ، وذلك لما تبيّن في المباحث السابقة من أنّ الأسماء المشتقّة ألفاظ موضوعة للذوات الخارجيّة من حيث الأوصاف المضافة إليها ، قبالا للألفاظ الموضوعة لها من حيث هي هي.

والمراد من إضافة الأوصاف إليها انتسابها إليها وارتباطها بها ، ومعنى ارتباط الوصف بالذات في اسم الفاعل ، ونحوه كون المبدأ بحيث يصلح وقوع الذات فاعلا اصطلاحيّا له ، ويصحّ في نظر العرف أن يسند إليها إسنادا حقيقيّا ، وهذا لا يقتضي كونها محلاّ لوجوده ، موضوعا له حينما كان موجودا في الخارج.

وتوضيحه : إنّ فاعل الحدث قد يكون فاعلا له بالإيجاد « كالكاتب » و « الضاحك » و « الضارب » و « المتكلّم » وقد يكون فاعلا له بالإعداد « كالمحرق » و « المولد » و « الوالد » و « الوالدة » و « القاتل ».

وقد يكون فاعلا بالقبول « كالمريض » و « الميّت » و « المنكسر » و « المنقطع » وقد يكون فاعلا بالتقرّر والثبوت « كالحسن » و « الشريف » و « الأسود » و « الأبيض » وهذا كسابقه ممّا لا ينبغي التأمّل في قيام المبدأ فيه بفاعله ، على معنى كونه موضوعا لهذا العرض الموجود في الخارج.

ص: 433

كما أنّ القسم الثاني ممّا لا ينبغي التأمّل في عدم قيام المبدأ فيه بفاعله ، ضرورة أنّ الفاعل في نحوه لا شغل له إلاّ إعداد المبدأ للوجود ، وإذا وجد بتأثير من موجده الحقيقي فإنّما يوجد في غير ذلك الفاعل.

وأمّا القسم الأوّل فمنه ما هو من قبيل الثالث والرابع كالضاحك والقاعد والجالس ، ومنه ما هو من قبيل الثاني كالكاتب والضارب والمتكلّم ، ضرورة قيام الكتابة الموجودة بالخطوط المنقوشة ، والضرب الحاصل في الخارج بالمضروب ، والمؤلّف من الصوت والحروف بالهواء ، ومنه الخالق سواء قلنا بعدم تغاير مبدئه للمخلوق بالذات - كما هو الأظهر - أو لا ، ولا يضاف في هذه الأمثلة ونحوها إلى الفاعل ما عدا الإيجاد الّذي هو عبارة عن إعطاء الوجود وليس له وجودا آخر ليكون من العرض الموجود الّذي محلّه الفاعل.

لا يقال : إنّ الضرب له اعتباران : فباعتبار المحلّ الصادر منه يسمّى المحلّ بالضارب ، وباعتبار المحلّ الواقع عليه يسمّى المحلّ بالمضروب ، فالمحلّ في الضارب يتّصف بالمبدأ باعتبار الصدور وإن كان أثره قائما بغيره ، والمبدأ ليس أثر الوصف بل نفس الوصف ، لأنّ صدور المبدأ من المحلّ المتّصف به لا معنى له إلاّ ارتباطه به من حيث إنّه أوقعه ، والعبرة إنّما هو بالواقع وانتسابه إليه إنّما هو من حيث كونه علّة موجدة له لا من حيث كونه موضوعا له ، باعتبار أنّه عرض موجود في الخارج حال وجوده.

هذا كلّه إن جعلنا « الضرب » عبارة عن مجرّد الإيلام ، وإن جعلناه عبارة عن مباشرة جسم لجسم على وجه يستتبع الألم ، فقد يكون قائما بالفاعل وقد يكون قائما بالآلة كما لا يخفى.

وبجميع ما ذكر تبيّن بطلان ما اعترضت به الأشاعرة على نحو الضارب والمتكلّم والخالق ، من أنّ المراد « بالضرب » ليس الأثر القائم بالمضروب بل تأثير القادر فيه ، وذلك التأثير قائم بالضارب لا بالمضروب ، وصدق المتكلّم على اللّه تعالى ليس باعتبار خلقه الأصوات والحروف ، بل باعتبار قيام المعنى القديم

ص: 434

وهو الكلام النفساني الّذي يدلّ عليه الحروف والأصوات بذاته تعالى ، والخلق ليس هو المخلوق بل التعلّق الحاصل بينه وبين القدرة حالة الإيجاد ، وحيث إنّ هذا التعلّق ينسب إليه تعالى صدق عليه لفظ « الخالق » فإنّ هذه الدعاوى بأجمعها مردودة على مدّعيها.

نعم الاحتجاج بصدق « العالم » و « القادر » عليه تعالى على الوجه المتقدّم ليس على ما ينبغي ، لأنّ وجه إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى ليس وجه إطلاق المشتقّ على الذات المتّصفة بمبدئه كما في « زيد العالم » إذ ليس ها هنا ذات وصفة زائدة عليها بل هو ذات بسيط يعبّر عنه « بالعالم » لأنّه في محلّ العلم يصدر منه شغل العالم ، وفي محلّ القدرة يصدر منه شغل القادر ، كما إنّه في محلّ البصر يصدر منه شغل ذي البصر فيطلق عليه البصير وفي محلّ السمع يصدر منه شغل السميع وهكذا ، فهذه الإطلاقات في الحقيقة ليست على حقائقها ، بل إنّما يؤتى لمجرّد التعبير عن الذات الملحوظة على الوجه المذكور في مقام الإفادة والاستفادة من جهة ضيق العبارة وعدم وجود لفظ لغوي وضع لنحو هذا التعبير ، وربّما التزم في نحو هذه الألفاظ بوقوع النقل فيها بالنسبة إليه تعالى ، ولهذا لا تصدق في حقّ غيره تعالى.

الثالثة : في اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ وعدمه

الثالثة : اختلفوا في اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ، فيكون مجازا فيما انقضى عنه المبدأ وعدمه ، فيكون حقيقة فيما انقضى ، وتنقيح المطلب يتمّ برسم اُمورٍ :

الأوّل : في ضبط مستعملات المشتقّ حسبما وقع أو يمكن أن يقع في الخارج وتشخيص حقائقها عن مجازاتها ، ليحرّر به ما هو محلّ النزاع منها.

فنقول : إنّ الحقيقة والمجاز قد يلحقانه باعتبار مادّته ، كما لو استعمل « القاتل » في الذات المتّصفة بالقتل أو بالضرب الشديد ، فإنّ الأوّل حقيقة والثاني مجاز ، ونحوه « العالم » إذا استعمل في ذي الملكة فإنّه مجاز باعتبار المادّة فقط ، إذا فرض وجود الملكة حال النسبة والاتّصاف وإن كان الإدراك في الماضي أو المستقبل ،

ص: 435

ضرورة أنّ مضيّ زمان الإدراك أو استقباله مع حصول الملكة المرادة من المادّة حال النسبة لا يوجب كون الاستعمال على الأوّل من باب الاستعمال فيما انقضى ، وعلى الثاني من باب الاستعمال في المستقبل المتّفق على كونه مجازاً.

وبالجملة : استعمال المشتقّ في ذوي الملكات وأرباب الحرف كما في « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » لا يخرجه عن الحقيقيّة باعتبار الهيئة إذا كان المبدأ بهذا المعنى موجودا حال الإطلاق ، وإن أوجب المجازيّة باعتبار المادّة.

هذا على ما زعمه جماعة منهم بعض مشايخنا ، وإلاّ فهو في الألفاظ المستعملة في ذوي الملكات وأرباب الحرف والصناعات محلّ منع أيضا عندنا ، على ما سنحقّقه في ذيل المسألة إن شاء اللّه.

وكيف كان : فهذا النحو من الاستعمال خارج عن محلّ البحث.

وقد يلحقانه باعتبار هيئة ، وهو يتصوّر من جهتين :

إحداهما : باعتبار الذات المأخوذة في وضع الهيئة ، فيكون استعماله فيما لم يؤخذ فيه الذات ، أو فيما اخذ فيه الذات المأخوذة فيه لا من الجهة المأخوذة في وضع الهيئة مجازا ، ومن الأوّل نحو « قمت قائما » و ( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) (1) ممّا استعمل اسم الفاعل أو اسم المفعول في المعنى المصدري ، ومن الثاني قوله تعالى ( مِنْ ماءٍ دافِقٍ ) (2) و ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) (3) و ( عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) (4) و ( حِجاباً مَسْتُوراً ) (5) و ( كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) (6) و ( جَزاءً مَوْفُوراً ) (7) إلى غير ذلك ممّا استعمل فيه الفاعل أو المفعول في معنى صاحبه ، وهذا أيضا ممّا لا تعلّق له بمحلّ البحث.

وثانيتهما : باعتبار التلبّس وعدمه ، ودخول الزمان في مفهومه وعدمه ، فقد

ص: 436


1- القلم : 6.
2- الطارق : 6.
3- هود : 43.
4- القارعة : 7.
5- الإسراء : 45.
6- مريم : 61.
7- الإسراء : 63.

يستعمل في القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة المعبّر عنه بحال التلبّس ، وهو أن يراد به اتّصاف الذات بالمبدأ الموجود حال الاتّصاف مطلقا ، وقد يستعمل في القدر المشترك بين الحال والماضي ، أعني الاتّصاف بالمبدأ الّذي وجد ، بقي حال الاتّصاف أو لم يبق.

وقد يستعمل في القدر المشترك بين الحال والمستقبل ، أعني الاتّصاف بالمبدأ الّذي يوجد ، وجد حال الاتّصاف أو لم يوجد بعد ، وقد يستعمل باعتبار الماضي فقط ، وهو يتصوّر من وجوه :

الأوّل : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في الزمان الماضي ، على وجه اعتبر كونه ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، وجزءا للمستعمل فيه.

الثاني : هذا الفرض مع اعتبار الزمان ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، لا جزءا للمستعمل فيه.

الثالث : هذا الوجه مع اعتبار الزمان ظرفا لوجود المبدأ فقط ، سواء كان الاتّصاف حال النطق أو ما قبله أو ما بعده.

الرابع : أن يراد به الذات حال عدم التلبّس ، باعتبار كونها متلبّسة حال الماضي ، على معنى إرادة الذات الغير المتلبّسة بعلاقة ما كان.

والفرق بينه وبين سابقه بعدم إرادة الاتّصاف بالمبدأ فيه.

وقد يستعمل فيه باعتبار الحال فقط ، وهو أيضا يتصوّر من وجوه :

منها : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في حال النطق ، على وجه اعتبر الزمان ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، وجزءا للمستعمل فيه.

ومنها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان جزءا للمستعمل فيه.

ومنها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان ظرفا للاتّصاف ، كما في قولك : « كان قائما » بإرادة اتّصاف الذات في الماضي بالمبدأ الموجود حال النطق ، والأظهر أنّه من صور الاستعمال في المستقبل.

وقد يستعمل في المستقبل فقط ، وهو أيضا يتصوّر من وجوه :

ص: 437

أحدها : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في الزمان المستقبل ، على وجه اعتبر كونه ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ وجزءا للمستعمل فيه.

وثانيها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان جزءا.

وثالثها : هذه الصورة مع اعتباره ظرفا لوجود المبدأ فقط.

ورابعها : أن يراد به الذات الغير المتلبّسة بعلاقة ما يؤول ، وهذا هو أظهر فروض استعماله فيمن لم يتلبّس بعد بالمبدأ ، المحكوم عليه في كلامهم بكونه مجازا.

وربّما يفرض ذلك على وجه يكون من باب المجاز بالمشارفة.

وتوضيح الفرق بينهما : إنّ الشيء قد يطرئه حالتان وهو باعتبار إحداهما مسمّى للفظ دون الاخرى ، لكنّهما بحيث يلزم في الغالب من حضور إحداهما في الذهن حضور الاخرى لما بينهما من العلاقة ، باعتبار خروج ذلك الشيء عن إحداهما إلى الاخرى ، أو انقلاب إحداهما إلى الاخرى ، وظاهر انّ هاتين لا بدّ فيهما من زمانين قد يحصل بينهما أيضا مناسبة باعتبار مقاربة أحدهما لصاحبه ، فإن كان الاعتماد في الاستعمال على ملاحظة المناسبة بين الحالتين من دون نظر إلى الزمانين وما بينهما من المناسبة فهو المجاز بعلاقة الكون ، إن كان اللفظ موضوعا للشيء باعتبار الحالة الاولى واستعمل فيه باعتبار الحالة الثانية ، كما في قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) (1) أو بعلاقة الأول إن كان اللفظ موضوعا له باعتبار الحالة الثانية واستعمل فيه باعتبار الحالة الاولى ، كما في قوله تعالى: ( أَعْصِرُ خَمْراً ) (2) بالقياس إلى العصير العنبي ، ضرورة أنّ إطلاق الخمر على العصير ليس بملاحظة أنّه في المستقبل يصير خمرا بل بملاحظة انقلابه إليه ، الموجب لتصوّر الخمر عند تصوّر العنب وبالعكس ، وإن كان الاعتماد على المناسبة بين الزمانين فهو المجاز بالمشارفة.

ومن هذا الباب إطلاق « ينام » في صحيحة زرارة السائل بقوله : « الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء » بناء على أحد وجهيه.

ص: 438


1- النساء : 2.
2- يوسف : 26.

ومن الأعلام من زعم مجازيّة المشتقّ فيمن لم يتلبّس بعد من هذا الباب ، قائلا في حواشيه على كتابه : إطلاق « ضارب » في الحال على من يتلبّس به في الاستقبال لم يلاحظ فيه المناسبة بين المتلبّس والغير المتلبّس ، كما في الخمر والعنب ، بل لوحظ فيه المناسبة بين الزمان الحاصل فيه الضرب لمن قام به ، والزمان الّذي لم يحصل فيه ، فاستعمل اللفظ الدالّ على الذات باعتبار حصول الضرب في زمان التلبّس - وهو الاستقبال - في الذات الغير المتلبّس في الحال. انتهى (1).

ويمكن منعه : بأنّ الظاهر من كلام القوم وأمثلتهم في المجاز بالمشارفة اختصاصه بما أخذ في وضعه الزمان ، كالفعل المستقبل مثلا ، فلا يجري في نحو اسم الفاعل ، كيف لا والمعتبر في المجاز ملاحظة العلاقة بين الموضوع له والمستعمل فيه.

وكيف كان : فلا ينبغي التأمّل في أنّ استعمال المشتقّ في القدر المشترك بجميع وجوهه الثلاث المذكورة مجرّد فرض وتجويز عقلي ، لوضوح إنّ هذا النحو من الاستعمال - مع كون المستعمل فيه الأمر الملحوظ على الوجه العامّ كما هو المفروض - غير متحقّق بحسب الخارج في استعمالات المشتقّ ، بل المتحقّق إنّما هو وقوع الاستعمال في الخصوصيّات ، فلا وجه للنظر في الحقيقيّة والمجازيّة بالنسبة إلى استعمال غير واقع في الخارج.

ولا ينافيه كون القول بحقيقيّة المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ باعتبار كونه حقيقة في الأمر العامّ المشترك بين الماضي والحال ، بعد ملاحظة كون المشتقّات موضوعة بالوضع العامّ للموضوع له الخاصّ ، والمفروض أنّ الاستعمال يتبع الوضع ، فيكون الاستعمالات الواقعة بالنسبة إلى وجوه القدر المشترك لمكان وقوعها على الخصوصيّات غير خارجة عن صور استعمالات الماضي فقط

ص: 439


1- قوانين الاصول 1 : 75 في ذيل قوله المشتق ... ومجاز فيما لم يتلبّس بعد سواء اريد بذلك إطلاقه على زمن يتلبّس بالمبدأ في المستقبل ... الخ.

والحال والمستقبل كذلك ، كما لا ينبغي التأمّل في مجازيّة الصورة الرابعة من صور الماضي ومن المستقبل أيضا ، لوضوح عدم انطباق المستعمل فيه فيهما على ما أخذ في وضع المشتقّ ، وإلاّ لم يحتج إلى ملاحظة العلاقة ، مع دعوى الاتّفاق على المجازيّة تارة نفي الخلاف عنها اخرى في كلامهم بل ينبغي القطع بمجازيّة ما أخذ فيه الزمان جزءا للمستعمل فيه ولو حالا أو ماضيا ، على ما حقّقنا سابقا من عدم دخول الزمان مطلقا في وضع المشتقّات الاسميّة.

وقضيّة ذلك كون دخوله في المستعمل فيه موجبا للتجوّز باعتبار زيادة ما ليس بداخل في الموضوع له عليه.

نعم ربّما يتوهّم من إطلاق دعوى الاتّفاق في كلام بعضهم على كونه حقيقة في الحال ، ومن تخصيص الخلاف بالماضي دخول ما اخذ فيه زمان الحال في محلّ الوفاق ، ودخول ما اخذ فيه الزمان الماضي في محلّ الخلاف ، بل قد يتوهّم كون الخلاف المعروف فيما انقضى واقعا في خصوص هذه الصورة ، على معنى رجوعه إلى كون هذا الزمان مأخوذا في وضع المشتقّ وعدمه ، كما ربّما يظهر ذلك من بعض أدلّة أصحاب القول بالحقيقة في الماضي ، غير أنّه لا خفاء في كون جميع ذلك على خلاف التحقيق.

أمّا الاتّفاق : فلأنّه إنّما ادّعي على حال التلبّس كائنا ما كان كما هو الأظهر ، أو على حال النطق بالخصوص ، على أن يكون الزمان ظرفا لوجود المبدأ والاتّصاف معا ، لا جزء للموضوع له على ما هو أبعد الاحتمالين في قضيّة دعوى الاتّفاق.

وأمّا كون الخلاف في جزئيّة الزمان ، فهو خلاف ما يساعد عليه أكثر أدلّة المسألة بل ولم يظهر به قول صريح ولو كان هنالك قائل فهو شاذّ لا يلتفت إلى مقالته ، والاستدلال ببعض ما يقضي به من الأدّلة مع كونه فاسد الوضع غفلة عن حقيقة مراد القوم في محلّ النزاع ، أو وارد على خلاف التحقيق ، كما ينبغي القطع بسقوط الصورة الأخيرة من صور الحال وهي ما كان زمان الحال ظرفا لوجود المبدأ دون الاتّصاف ، لكونها على ما سنقرّره من صور الماضي في تقدير

ص: 440

والمستقبل في آخر ، فإنّ الاتّصاف مع الفرض المذكور لا بدّ له من ظرف زماني وهو إمّا ما بعد زمان الحال المأخوذ ظرفا لوجود المبدأ فيدخل في صور الماضي ، بمعنى المنقضي عنه المبدأ ، أو ما قبله فيدخل في صور المستقبل بمعنى الغير المتلبّس بالمبدأ بعد [ فيتحقّق الصور المتقدّمة ](1).

فيبقى لكلّ من الماضي والمستقبل صورتان كما يبقى للحال صورة واحدة وقد نقلوا الاتّفاق على كونه مجازا في المستقبل بعد نقلهم الاتّفاق على كونه حقيقة في الحال ، وخصّوا الخلاف بالماضي ، وشمول الخلاف لكلّ من صورتيه كشمول الاتّفاق على مجازيّة المستقبل لكلّ من صورتيه مبنيّ على تحقيق معنى الحال في قضيّة الاتّفاق على الحقيقيّة فيه ، والنظر في أنّ المراد به هل هو حال النطق كما زعمه بعضهم ، فمرجع دعوى الاتّفاق حينئذ الى دعوى كونه حقيقة في الذات المتّصفة بالمبدأ الموجود في زمان النطق ، على أن يكون هذا الزمان ظرفا للوجود والاتّصاف معا ، فيكون الخلاف والاتّفاق على المجازيّة عامّا للصورتين معا ، أو هو حال الاتّصاف والنسبة ، وهي الّتي يقصد المتكلّم إفادتها ، كما جزم به جماعة من الفحول وغير واحد من أساطين أهل الاصول ، فمرجع الدعوى حينئذ إلى أنّه حقيقة في الذات المتّصفة بالمبدأ الموجود حال الاتّصاف وهو أعمّ من الأوّل كما عرفته غير مرّة ، فيختصّ الخلاف والاتّفاق على المجازيّة بصورة واحدة.

ويظهر الثمرة في « زيد كان قائما بالأمس ، أو يصير قائما غدا » أو في مثل « أكرمت قائما » أو « سأكرم قائما » إذا كان المراد « بالقائم » من له الوصف حال الإكرام لا حال النطق ، فإنّ الأوّل من كلّ من المثالين يدخل في محلّ الخلاف على المعنى الأوّل ، ويخرج عنه على المعنى الثاني ، كما أنّ الثاني من كلّ من المثالين يدخل في محلّ الوفاق على المجازيّة على المعنى الأوّل ، ويخرج عنه على المعنى الثاني ، ومن هنا يعلم أنّه يتفرّع على الخلاف المذكور في معنى الحال

ص: 441


1- هكذا يقرأ في نسخة الأصل.

اختلافهم في اعتبار الماضي المتنازع فيه ، والمستقبل المتّفق على مجازيّته ، فإنّ من يعتبر الحال بالمعنى الأوّل يعتبرهما بالإضافة إلى الحال بهذا المعنى ومن يعتبره بالمعنى الثاني يعتبرهما بالإضافة إليه بهذا المعنى ، ولأجل ذا قد يتخيّل إنّ هاهنا نزاعين : أحدهما في تحقيق معنى الحال ، والآخر : في تحقيق معنى الماضي والمستقبل ، ولكنّه وهم ، لكون الثاني من متفرّعات الأوّل لا أنّه نزاع آخر غيره.

والتحقيق في ذلك : هو مختار الجماعة ، لوضوح أنّ الوضع للذات المتّصفة لا يقتضي إلاّ اعتبار حال الاتّصاف ، وكونه في زمان النطق ممّا لا مدخل له في الوضع ، مع أنّه لا مستند له إلاّ توهّم تبادر الحال في مثل « زيد قائم » و « عمرو قاعد ».

وهذا كما ترى خلط بين مقتضى المشتقّ وما هو من مقتضيات القضيّة الحمليّة الّتي يغلب عليها الحكم بثبوت المحمول للموضوع في زمان النطق ، كما يرشد إليه تبادره من نحو « زيد إنسان » و « هذا ماء » مضافا إلى بعد كونه في مثل « كان زيد قائما » أو « يصير قائما » مجازا في الغاية ، ومن هنا لا يظنّ قائلا بذلك ، ولعلّ من فسّر الحال بحال النطق لا يريد به ما ينافي اعتبار حال الاتّصاف والنسبة.

ولذا قد يوجّه كلامه تارة : بإرادة التلازم الغالبي ، فإنّ الغالب من مواقع المشتقّ في الاستعمالات إنّما هو القضايا ، والغالب فيها الحمليّات ، والغالب فيها الحاليّات الّتي يحكم فيها بثبوت المحمول حال النطق ، فالتفسير به إنّما هو للتلازم الغالبي بينهما.

واُخرى : بحمل « النطق » في كلامه على إرادة الحمل ، جريا على ما عن بعض أهل المعقول من إطلاقه عليه ، على حدّ القول الّذي هو في مصطلحهم يطلق على الحمل ، ولا معنى لحال النطق بمعنى حال الحمل إلاّ حال النسبة.

ثمّ إنّه بناءً على المختار فزمان وجود المبدأ إمّا زمان الحال أو الزمان الماضي أو الزمان المستقبل ، وإذا اعتبرنا هذه الثلاث بالإضافة إلى حال النسبة والاتّصاف الّذي قد يصادف زمان النطق وقد يصادف ما بعده وقد يصادف ما قبله

ص: 442

يحصل صور تسع ، هي مرتفع الثلث في مثله ، فإنّ زمان الحال يراد به زمان الاتّصاف وهو حينئذ قد يكون زمان النطق كقولك : « زيد قائم الآن » مريدا به اتّصاف الذات في الآن بالمبدأ الموجود في الآن ، وقد يكون ما بعده كقولك : « زيد يصير قائما » مريدا به الاتّصاف في الغد بالمبدأ الموجود في الغد ، وقد يكون ما قبله كقولك : « زيد كان قائما بالأمس » مريدا به الاتّصاف في الأمس بالمبدأ الموجود في الأمس.

وهذه الثلاث كلّها من الاستعمال في الحال المحكوم عليه بكونه حقيقة بالاتّفاق.

والمستقبل يراد به ما بعد زمان الاتّصاف ، وهو حينئذ قد يكون زمان النطق كقولك : « زيد قائم الآن » مريدا به اتّصافه في الآن بالمبدأ الّذي يوجد منه في الغد ، وقد يكون ما بعده كقولك : « زيد يصير قائما غدا » مريدا به اتّصافه في الغد بالمبدأ الّذي يوجد منه بعد الغد ، وقد يكون ما قبله كقولك : « زيد كان قائما بالأمس » مريدا به اتّصافه في الأمس بالمبدأ الموجود منه في الآن.

وهذه الثلاث كلّها من الاستعمال في المستقبل المحكوم عليه بالمجازيّة اتّفاقا.

والماضي يراد به ما قبل زمان الاتّصاف ، وهو حينئذ قد يكون زمان النطق كقولك : « زيد قائم الآن » مريدا به اتّصافه في الآن بما وجد منه في الأمس ، وقد يكون ما بعده كقولك : « زيد قائم غدا » مريدا به اتّصافه في الغد بما هو موجود في الآن ، وقد يكون ما قبله كقولك : « زيد كان قائما بالأمس » مريدا به اتّصافه في الأمس بما وجد منه قبل الأمس.

وهذه الثلاث كلّها من الاستعمال فيما انقضى المتنازع فيه ، والمراد به الذات المتّصفة بما انقضى عنه من المبدأ ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في عنوان المسألة باشتراط بقاء المبدأ وعدمه ، فإنّ المراد به بقاؤه حال الاتّصاف والنسبة ، ومرجع النزاع عند التحقيق إلى اعتبار اتّحاد زماني وجود المبدأ والاتّصاف وعدمه ،

ص: 443

فالقول بالحقيقيّة مرجعه إلى أنّه مع تعدّد الزمانين بسبق زمان وجود المبدأ على زمان الاتّصاف يصدق المشتقّ على الذات على وجه الحقيقة.

الثاني : اختلفت عباراتهم في تشخيص محلّ النزاع بالنسبة إلى موضوع المسألة ، قال التفتازاني في شرحه للشرح : والتحقيق أنّ النزاع في حقيقة اسم الفاعل الّذي هو بمعنى الحدوث ، لا في مثل « المؤمن » و « الكافر » و « النائم » و « اليقظان » و « الحلو » و « الحامض » و « الحرّ » و « العبد » ونحو ذلك ممّا يعتبر في بعضه الاتّصاف به مع عدم طريان المنافي ، وفي بعضه الاتّصاف به بالفعل.

ومن الفضلاء (1) من خصه باسم الفاعل وأطلق.

وقال الشهيد الثاني - في كلام محكيّ له عن تمهيد القواعد - : إنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجودي ناقض المعنى أو ضادّه كالزنا والقتل والأكل ، فإن طرأ من الموجودات ما يناقضه أو يضادّه كالسواد والبياض فإنّه يكون مجازا اتّفاقا على ما ذكره في المحصول (2) وغيره (3).

هذا كلّه إذا كان المشتقّ محكوما به ، كقولك : « زيد قائل أو متكلّم » فإن كان محكوما عليه كقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (4) ونحوه فإنّه حقيقة مطلقا سواء كان للحال أو لم يكن. انتهى (5).

وربّما عزي التصريح بالاتّفاق على المجازيّة مع طريان الوصف إلى الآمدي والنيريزي.

وفي المناهج عن والده : أنّ شيئا من هذه التخصيصات لم يثبت (6).

ص: 444


1- الفصول الغرويّة : 60 ، حيث قال : « لا خفاء في إنّ المشتقّ المبحوث عنه هنا لا يعمّ الأفعال والمصادر المزيد ... إلى أن قال : فهل المراد به ما يعمّ بقيّة المشتقّات من اسمي الفاعل أو المفعول والصفة المشبهة ... أو يختصّ باسم الفاعل وجهان أظهرهما الثاني ... الخ.
2- المحصول 1 : 86.
3- شرح المختصر للعضدي 1 : 176 ، التمهيد للإسنوي : 154.
4- النور : 2.
5- تمهيد القواعد : 85.
6- مناهج الأحكام والاصول - للنراقي - : 34.

ووافقه على ذلك غير واحد فعمّموا النزاع ، بل ربّما قيل بعمومه للجوامد أيضا ، لجواز أن ينازع في نحو « الرجل » و « الماء » و « النار » و « الحجر » وغيره في اشتراط بقاء الرجوليّة والمائيّة والناريّة والحجريّة في صدقها وعدمه.

وربّما يستظهر ذلك من جماعة من فقهائنا كالعلاّمة (1) وفخر المحقّقين (2) وغيرهما كما يستظهر ذلك ممّا ذكروه في باب الرضاع ، من أنّ رجلا لو أن له ثلاث زوجات إحداهنّ صغيرة ، فأرضعتها إحدى الكبيرتين ، فإنّهما حينئذ بانتا معا ، لصيرورة الصغيرة بنتا رضاعيّة للزوج والكبيرة امّا رضاعيّة للزوجة ، فيشملهما عموم ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) - إلى قوله - ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) (3) ثمّ إنّه لو أرضعتها الكبيرة الباقية فهل يوجب ذلك خروجها أيضا بائنة أو لا ، فعن شبرمة القول بالبينونة أيضا.

وفي رواية إنّ الإمام عليه السلام ردّه فحكم بعدم البينونة ، لكنّها غير مقبولة لدى الأصحاب لبنائهم في المسألة على البينونة.

وعلّله بعضهم بأنّ المشتقّ لا يشترط في صدقه بقاء المبدأ ، ويشكل هذا التعليل تارة : بعدم دخول الزوجة عندهم في عداد المشتقّات لينطبق عليه التعليل المبنيّ على القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ.

واخرى : بأنّ الحرمة في الآية إنّما علّقت على « اُمّهات النساء » والصغيرة بعدما بانت لا يصدق عليها عنوان « النسائيّة » حتّى يندرج بذلك الزوجة المرضعة في عنوان « اُمّهات النساء ».

ومدفع الإشكالين تعميم نزاعهم في بحث المشتقّ بحيث يشمل الجوامد فيندرج اللفظان حينئذٍ في العنوان الّذي ينطبق عليه التعليل.

وكيف كان : فلو تحقّق هذا قولا فما أبعد بينه وبين ما عرفته من التخصيصات ، والإنصاف : إنّ التعميم المذكور مع ما عرفته من التخصيصات - ولا سيّما ما عرفته

ص: 445


1- اُنظر ايضاح القواعد : 3 : 51.
2- المصدر السابق.
3- النساء : 23.

من شارح الشرح - واقعان في طرفي الإفراط والتفريط ، فإنّ بعض التخصيصات وإن كان ربّما يساعد عليه تمثيلات المسألة ، غير أنّه يدفع الجميع ما ذكروه في ثمرات المسألة من كراهة الوضوء والغسل بالماء المشمّس ، وكراهة غسل الميّت بالماء المسخّن الواردتين في النصوص وعدمهما بعد برودة الماء ، فإنّ المشمّس والمسخّن ليسا من اسم الفاعل ولا أنّ مبدءهما من الحدوثيّات (1) مع طريان الضدّ الوجودي وهو البرودة على المحلّ.

هذا لكنّ الإنصاف : انّ بعض التخصيصات المذكورة ليس ببعيد ، بل هو - على ما سنقرّره في مطاوي تحقيق المسألة - ممّا لا محيص عنه ، وعليه فالثمرة المذكورة ونظائرها لعلّها ليست في محلّها.

وأمّا التعميم بالقياس إلى الجوامد ففساده أوضح من أن يوضح ، لعدم معقوليّة جريان النزاع في الجوامد أمّا أوّلا : فلأنّ مداليل الجوامد ذوات ملحوظة في لحاظ الوضع من حيث هي هي ، وعناوين واقعيّة صدق ألفاظها على مواردها في المحاورات منوط بضرورة من العرف واللغة بتحقّق تلك العناوين فيها ، وبدونه يستحيل صدق ألفاظها على وجه الحقيقة ، بل يصحّ سلبها بالضرورة.

ألا ترى أنّ الماء والنار والحجر والشجر وغيرها إذا زال عنها عنوان المائيّة والناريّة والحجريّة والشجريّة لا يصحّ إطلاق ألفاظها بعنوان الحقيقة ، كيف وهو يوجب صحّة سلب الاسم عرفا ، ومعه كيف يعقل الصدق العرفي الّذي هو المعيار في عنوان قولهم : « لا يشترط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ».

وأمّا ثانيا : فلأنّ النزاع - على ما قرّرناه - راجع إلى اعتبار اتّحاد زماني وجود المبدأ والنسبة المأخوذة بينه وبين الذات ، فهو مبنيّ على كون معنى اللفظ باعتبار الوضع ممّا اعتبر فيه تركيب اخذ من جهته ذات ووصف ونسبة بينهما ، لينظر في اعتبار اتّحاد زماني وجود الوصف والنسبة.

ص: 446


1- كذا في الأصل.

ولا ريب أنّ الجوامد كأسماء الأجناس ونحوها لم يؤخذ في وضعها إلاّ ماهيّات بسيطة لم يؤخذ معها وصف ولا نسبة ولا زمان ، كما لم يلاحظ شيء منها في لحاظ الوضع ، ولا ينافيه كونها عند العقل مركّبات عن أجناس وفصول هي أجزاء ذاتيّة لها ، لأنّها ليست ملحوظة عند الوضع ولا معتبرة في لحاظه.

ومناط البحث كون المعنى باعتبار الوضع مركّبا عن ذات ووصف زائد عليها بحيث لو زال الوصف كان الذات بحسب الخارج على ما هي عليه ، وليس شيء من معاني الجوامد من هذا القبيل.

وما يقال - في تفسير « الرجل » مثلا - من : أنّه ذات ثبت له الرجوليّة ، ليس مبناه على تحقّق التركيب الوضعي في معنى رجل ، الحاصل بين الذات والوصف هو الرجوليّة ، لأنّ هذا الوصف ليس أمرا زائدا على الذات ، بل هو أمر اعتباري ينتزعه العقل من باب التوسّع في التعبير عن الذات بعد ما وضع له اللفظ باعتبار هذا العنوان ، كيف ولا ذات له سوى الرجوليّة بحيث لو زالت أوجب زوالها زوال الذات بالمرّة ، ولذا يصحّ سلب الاسم على ما بيّنّاه في الوجه الأوّل.

وأما استظهار التعميم ممّا تقدّم من مسألة الرضاع فلعلّه ليس على ما ينبغي ، لعدم دلالة في التعليل المذكور على أنّه وقع باعتقاد أنّ « الزوجة » من الجوامد - كما يومئ إلى خلافه التعبير بالمشتقّ - فمن الجائز ابتنائه على اعتقاد كونها مع « الزوج » من المشتقّات على حدّ « الصعب والصعبة » ونحوهما من صيغ الصفة المشبّهة ، كما ربّما يشعر به لحوق أداة التأنيث الفارقة بين ما يقع على المذكّر وما يقع على المؤنث الّذي هو من خصائص المعنى الاشتقاقي الوصفي ، على ما قرّر في محلّه في الفرق بين الجامد والمشتقّ من أنّ الأوّل ما كان فارغا عن الضمير والثاني ما كان متحمّلا له ، بناء على أنّ أداة التأنيث إنّما تعتبر للدلالة على تأنيث المضمر ، ومن هنا جاء اشتراط مطابقة الخبر للمبتدأ إذا كان مشتقّا غير رافع للظاهر ، وحينئذ فيمكن الالتزام بكون « الزوج » ومؤنّثه في هذا المورد للمعنى الوصفي الاشتقاقي « كالمتزوّج والمتزوّجة » أو « المزوّج والمزوّجة » إمّا بحسب أصل اللغة أو بحسب العرف ، ولو من باب النقل المستند إلى الغلبة.

ص: 447

فتبيّن بما قرّرناه أنّ ضابط موضوع المسألة بمقتضى ظاهر كلماتهم كلّ مشتقّ اسمي وصفي لم يكن مبدأ اشتقاقه لفظا تامّا.

الثالث : قد يقال : ليس في المسألة أصل يرجع إليه في الموارد المشتبهة ، أو على تقدير بقاء الشبهة ، لرجوع الشكّ فيها إلى الحادث من جهة دوران الموضوع له بعد اليقين بحدوث الوضع بين المتبائنين ، وهما المتلبّسة بالمبدأ والمتّصفة بالمبدأ الموجود ، فإنّهما وإن كانا من قبيل الفرد والكلّي ، إلاّ أنّهما بحسب الذهن مفهومان متغايران ، وإن كانا قد يتّحدان بحسب الخارج ، والمعتبر في باب الأوضاع مفاهيم الأشياء لا وجوداتها الخارجيّة ، فيكون المقام من قبيل دوران « الصعيد » بين وجه الأرض والتراب ، وكما لا يمكن فيه أن يقال : إنّ الأصل عدم كون « الصعيد » موضوعا لوجه الأرض ، ولا إنّ الأصل عدم كونه موضوعا للتراب ، فكذلك فيما نحن فيه.

نعم ربّما يجري فيه - كنظائره - الأصل في نفي الآثار المترتّبة على الحقيقة والموضوع له ، فيما لو قال الشارع : « يجوز التيمّم على الصعيد » و « يكره البول تحت الأشجار المثمرة » فإنّ القدر المتيقّن من مورد الحكم هو المفهوم الخاصّ ، لأنّه إمّا نفس الحقيقة أو فرد منه ، وما عداه موضع شكّ فينفى الحكم عنه بالأصل ، لأصالة عدم تعلّقه بالزائد ، غير أنّه لا يجدي فيما نحن بصدد تأسيسه من الأصل الرافع للشبهة الحاصلة في حال اللفظ من حيث هو.

أقول : ويمكن الذبّ عنه بفرض جريان الأصل في نحو ما نحن فيه من دون محذور ، فإنّ الوضع المردّد بين الكلّي والفرد قد يستلزم في لحاظ الواضع ملاحظة الماهيّة الكلّية على كلا تقديري تعلّقه بالكلّي أو بالفرد ، على وجه يرجع الشكّ إلى ملاحظة الزيادة الموجبة لفرديّة الفرد واعتبارها مع الماهيّة الملحوظة في متن الوضع ، كما في « الغناء » المردّد بين كونه لترجيع الصوت أو له مع الطرب ، فإنّ ترجيع الصوت ملحوظ على كلّ تقدير ، ونحوه صيغة الأمر المردّدة بين كونه لطلب الماهيّة أو له مع قيد المرّة أو التكرار أو الفور أو التراخي ، وقد لا يستلزم ملاحظتها

ص: 448

على أحد التقديرين كما في « الصعيد » فإنّ وضعه للتراب لا يستلزم ملاحظة كلّي وجه الأرض ، ومثله اللفظ المردّد وضعه بين الماهيّة الجنسيّة والماهيّة النوعيّة ، والمردّد بين كونه اسم جنس أو علم شخص ، وهذا هو الّذي لا مجرى للأصل فيه ، لكون الشكّ فيه من جهة الحادث بخلاف الصورة الاولى ، لرجوع الشكّ فيها إلى الحدوث بالنسبة إلى الزيادة والأصل يدفعها ، ومحلّ البحث من هذا الباب لتيقّن ملحوظيّة الذات المتّصفة بالمبدأ الموجود ، ورجوع الشكّ إلى قيد كون الوجود في حال الاتّصاف.

نعم يبقى الكلام في اعتبار هذا الأصل في نظائر المقام ، وهو في محلّ منع لعدم نهوض مدرك له كما أشرنا إليه مرارا.

وقد يذكر في المقام أصل لفظي وهو أولويّة الاشتراك معنى عليه لفظا مع المجاز ، فإنّ المشتقّ مستعمل في كلّ من المتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه المبدأ ، وكونه على وجه الاشتراك أو على وجه المجاز في الثاني خلاف الأصل ، فتعيّن كونه للجامع بينهما وهو المتّصف بالمبدأ الموجود.

وقد تبيّن في محلّه إنّ هذا الأصل حيثما قابل المجاز للاشتراك المعنوي ممّا لم يتبيّن له أصل ، فعلم بما ذكر إنّ النظر في الأصل إن كان إلى الأصل الاعتباري فهو غير ثابت الاعتبار ، وإن كان إلى الأصل اللفظي فغير ناهض.

وأمّا أقوال المسألة : فالمعروف المصرّح به في كلام جماعة من الأساطين أنّها في أصل وضع المسألة كانت مقصورة على اشتراط البقاء مطلقا وعدمه كذلك ، وهو المستفاد من نهاية العلاّمة (1) حيث لم ينقل ما عداهما.

نعم نقل القول بالتفصيل بين ما يمكن بقاؤه فيعتبر وما لا يمكن فلا يعتبر ، لكن عقّبه في أثناء الاحتجاج : « بأنّ الفرق بين ممكن الثبوت وغيره منفيّ

ص: 449


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 18 ( مخطوط ) حيث قال : الرابع : في إنّ بقاء المعنى هل هو شرط في الصدق أم لا اختلف الناس هنا فقال قوم : إنّ بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم حقيقة ... وقال قوم إنّه يشترط إن أمكن وإلاّ فلا والأقرب عدم الاشتراط ...

بالإجماع » (1) وهذا يقضي بكون القول المذكور من الحوادث المخرجة على خلاف الإجماع.

وكيف كان : فالقول بعدم اشتراط البقاء مطلقا هو المعروف بين الاصوليّين ، وقيل : إنّه المشهور من الشيعة والمعتزلة ، وعزاه في المطوّل إلى الأكثر ، وفي المبادئ إلى أكثر المحقّقين.

وعن جماعة إنّهم نسبوه إلى أصحابنا ومنهم العميدي (2) والشهيد الثاني ، وهو يؤذن بدعوى اتّفاق الإماميّة عليه ، كما فهمه بعض الأفاضل واختاره العلاّمة في التهذيب (3) والنهاية (4) والعميدي في المنية (5) وعزى إلى الشهيد والمحقّق الكركي منّا وإلى فخر الدين الرازي وكثير من العامّة كالشافعي ومن تبعه وعبد القاهر. وفي كلام بعض الأفاضل : « وعزى إلى ابن سينا وغيره ».

والقول بالاشتراط محكيّ عن البيضاوي والحنفيّة ، وربّما قيل : إنّه مذهب أكثر الأشاعرة.

وربّما عزى إلى الرازي وابن سينا ، فاختلفت النسبة بالقياس إليهما.

ثمّ إنّه حدث عن المتأخّرين ومتأخّريهم تفاصيل كثيرة دعاهم إليها عجزهم عن حلّ الشبهات الّتي حصلت لهم بالنسبة إلى بعض موارد المسألة.

أحدها : الفرق بين ما يمكن بقاؤه فيعتبر ، وما لا يمكن - كالمصادر السيّالة الّتي يراد بها ما يلتئم عن أجزاء مرتّبة في الوجود على وجه توقّف كلّ لاحق على انعدام سابقه بعد وجوده ، ويلزمه أن يكون كلّ سابق معدّا للاحقه « كالتكلّم » و « الإخبار » و « المشي » - فلا يعتبر ، والظاهر أنّ المراد به عدم اعتبار البقاء حال

ص: 450


1- المصدر السابق.
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ) حيث قال : « إنّ قيام المعنى بالذات لا يوجب أن يشتق لها منه اسم وهو مذهب أصحابنا ... ».
3- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 10 ( مخطوط ).
4- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 18 ( مخطوط ).
5- منية اللبيب في شرح التهذيب : الورقة 74 ( مخطوط ).

التشاغل بالكلام ، فحينئذ لا يعتبر بقاء الأجزاء السابقة حال وجود الأجزاء اللاحقة لاستحالة اجتماعهما ، وإلاّ فينتفي الفرق.

وثانيها : الفرق بين ما لو طرء على المحلّ وصف وجودي كالأبيض إذا صار « أسود » فيعتبر البقاء ، وغيره فلا يعتبر « كالقاتل » و « الضارب ».

وثالثها : الفرق بين الحدوثي فيعتبر ، والثبوتي فلا يعتبر.

ورابعها : الفرق بين ما لو وقع محكوما به فيعتبر ، وما لو وقع محكوما عليه فلا يعتبر.

وخامسها : الفرق بين ما لو كان اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ولم يكن معرضا عنه فلا يعتبر ، وغيره فيعتبر.

وسادسها : الفرق بين ما كان مأخوذا من المبادئ المتعدّية إلى غيرها فلا يعتبر البقاء ، ويكون حقيقة في القدر المشترك بين الماضي والحال ، وبين غيرها فيعتبر ، ويكون حقيقة في الحال فقط ، وهذا ما أحدثه بعض الفضلاء.

ومن الأفاضل من نقل أقوالا اخر غير ما ذكر ، كما إنّ من الأعاظم وغيره من حكى قولا بالوقف.

والحقّ عندنا : هو القول الأوّل الّذي هو مختار المعتزلة وأصحابنا من عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ، فإنّه على ما يساعد عليه النظر ممّا لا مدخل له في صدقه حيثما تحقّق ما هو مناط الصدق.

ووجهه : إنّ الألفاظ المشتقّة بجميع أنواعها المختلفة لا فرق بينها وبين الألفاظ الغير المشتقّة إلاّ في أنّ الغير المشتقّة موضوعة للذوات ، الّتي هي العناوين الواقعيّة الملحوظة من حيث هي هي المعرّاة عن نسبة ووصف ، والمشتقّة موضوعة لتلك الذوات الملحوظة من حيث انتسابها إلى الأوصاف المضافة إليها والنسبة الحاصلة بينها وبين الأوصاف الّتي هي المبادئ.

والمراد بالنسبة الارتباط الواقعي الّذي يحصل بين الذات والمبدأ ، فالمأخوذ في وضع هيئآت المشتقّات هو الذات مع النسبة والارتباط الواقعي بينها وبين

ص: 451

المبدأ الّذي هو مدلول المادّة ، وكما أنّ صدق الألفاظ الغير المشتقّة على مواردها منوط بتحقّق العناوين المذكورة في تلك الموارد - على ما أشرنا إليه سابقا - لأنّها المأخوذة في وضعها ، من غير فرق في ذلك بين الصدق الحملي والصدق الإطلاقي وبدون ذلك يستحيل صدقها على وجه الحقيقة ، فكذلك الألفاظ المشتقّة ، فإنّ صدقها حملا وإطلاقا على مواردها - على ما هو معلوم بضرورة من اللغة والعرف وتتبّع موارد الاستعمالات ، وملاحظة الأمارات الكاشفة عن الوضع المميّزة بين الحقائق والمجازات - منوط بتحقّق ما اخذ في وضعها من الذات والنسبة ، بمعنى الارتباط الواقعي فيها ، وبدونه يستحيل الصدق إلاّ على وجه المجاز ، وظنّي أنّ هذا من الواضحات الّتي لا تحتاج إلى البيان.

نعم لا بدّ من النظر فيما به يتحقّق الارتباط الواقعي بين الذات والوصف الّذي يضاف إليها.

والكلام فيه تارة : في تشخيص ما يتحقّق به الارتباط حدوثا ، على معنى بيان علّته المحدثة.

واخرى : في تحقيق ما يتحقّق به بقاءً.

أمّا الأوّل : فالّذي يساعد عليه النظر ، إنّ ما به حدوث النسبة الواقعيّة إنّما هو وجود المبدأ ودخوله في ظرف الخارج ، لا على أنّ وجوده مأخوذ في وضعه ، فإنّه خلاف ما يساعد عليه وضعه المادّي والهيئي معا ، بل على أنّه محقّق للنسبة المأخوذة في وضع الهيئة ، وأنّه علّة محرزة للموضوع له من دون كونه جزءا منه ، فيكون اعتباره من باب الخارج اللازم.

وبالجملة : تحقّق النسبة الواقعيّة بجميع جهاتها من الفاعليّة والمفعوليّة والمكانيّة والزمانيّة والآليّة وغيرها بحكم ضرورة الوجدان منوط بدخول المبدأ في الوجود الخارجي ، وبدونه لا نسبة ولا ربط بين الذات والمبدأ المأخوذ منه المشتقّ كائنا ما كان ، فيكون إطلاقه عليها حيثما صحّ واردا على وجه المجاز ، ومنه استعماله فيمن لم يتلبّس بعد ، المعبّر عنه « بالمستقبل » المتّفق على مجازيّته ،

ص: 452

فإنّه ممّا لا وجه له إلاّ عدم تحقّق الارتباط الواقعي الّذي هو مناط الصدق الحقيقي.

وأمّا الثاني : فالكلام فيه لجهتين :

الجهة الاولى : النظر في مدخليّة ما احتمل كونه علّة مبقية للنسبة المتحقّقة بحسب نفس الأمر ، وهو بقاء المبدأ وعدمه.

فالإنصاف ومجانبة الاعتساف في ذلك يقتضي الالتزام بالعدم ، لما ندركه بضرورة الوجدان ، أو شهادة العيان من بقاء الارتباط الواقعي بين الذات والمبدأ الداخل في ظرف الخارج ، المأخوذ منه المشتقّ حال انقضاء المبدأ ما لم يرفعه رافع.

ألا ترى أنّ زيدا إذا قتل عمرا فهو على ما يدرك بالوجدان باق على الارتباط الحاصل بينه وبين قتل عمرو حيثما يتصوّر معه.

وأيضا ندرك من الإرتباط بينهما بعد انقضاء المبدأ ما لا ندركه قبل وجوده ، بل ندرك خلافه ، فيكون إطلاقه عليه لمجرّد ذلك واردا على وجه الحقيقة ، لصحّة تكذيب من أنكره الّتي هي في معنى عدم صحّة السلب ، وتوهّم كونه مجازا بدليل صحّة السلب التفاتا إلى صحّة القول : « بأنّه ليس بقاتل الآن » يدفعه : ما سنقرّره.

الجهة الثانية : النظر فيه باعتبار مدخليّة ما احتمل كونه رافعا لها ، وهو الوصف الطارئ على المحلّ وعدمها ، فالحقّ أنّ لعدم طروّ الوصف الوجودي دخلا في بقائها لكون طروّه رافعا لها ، على ما ندركه بضرورة الوجدان من تبدّل الارتباط الأوّل الحاصل بين الذات وبين المبدأ الأوّل بارتباط آخر بينها وبين الوصف الطارئ بمجرّد طروّه ، كما في اليقظان إذا صار نائما وبالعكس ، ومن ينكره فقد كابر وجدانه.

والمراد بالوصف الطارئ حالة منافية للمبدأ ، طروّها على الذات يلازم زوال المبدأ ، وهي مبدأ لمشتقّ آخر مأخوذ منها ، فنحو « العالم » و « الجاهل » و « الحيّ » و « الميّت » و « البصير » و « الأعمى » و « المتحرّك » و « الساكن » من المشتقّ الّذي لمبدئه وصف وجودي ، بخلاف نحو « ضارب » و « قاتل » و « آكل ».

ص: 453

وليس لمتوهّم أن يتوهّم أنّ ما ذكرناه من إناطة بقاء الارتباط بعدم طروّ الوصف الوجودي رجوع عمّا اخترناه أوّلا - من مذهب الأكثر - إلى القول بالفرق في اشتراط البقاء بين ما طرء على المحلّ وصف وجودي وغيره ، إذ لم يظهر من الأكثر اختيار ما ينافي ذلك ، بل الظاهر انطباق ما اختاروه عليه ، لوضوح الفرق بين عدم صدق المشتقّ لأنّ بقاء المبدأ شرط والشرط غير موجود ، وبين عدم صدقه لأنّ الوصف الطارئ رافع للارتباط الواقعي الّذي هو مناط الصدق والرافع موجود ، والأكثر إنّما ينكرون القضيّة الاولى وهو لا ينافي الاعتراف بالقضيّة الثانية ، بل الواجب اعترافهم بها ، فإنّ الإذعان بالصدق مع ارتفاع ما اخذ في الوضع من الارتباط الواقعي ممّا لا يظنّ بجاهل فضلا عن العلماء المحقّقين.

نعم إنّما يتّجه ذلك الإذعان لو كان مستنده منع دخول الارتباط في الوضع ، أو منع ارتفاعه بطروّ الوصف المنافي على تقدير صحّة المستند ، إلاّ أنّه مقطوع بعدم صحّته ، فإنّ أوّل المنعين إنكار لما علم من العرف واللغة بالعيان ، كما أنّ ثانيهما مكابرة للوجدان.

ومن هنا يمكن أن يؤخذ ذلك وجها لتصديق من خصّ النزاع بغير ما طرء المحلّ ضدّ وجودي كما تقدّم عن الشهيد (1) وغيره (2) لعدم معقوليّة القول بالحقيقة فيما انتفى عنه المعنى المأخوذ في الموضوع له.

فتلخّص من جميع ما قرّرناه : أنّ المعتبر في صدق المشتقّ بعد وجود المبدأ بقاء ما اخذ في وضعه باعتبار الهيئة ، وليس إلاّ الذات مع الارتباط الواقعي ، مع زيادة عليهما في بعض أنواعه كاسم التفضيل على ما ستعرفه ، من غير دخل في بقائهما لبقاء المبدأ ، وإن كان بقاء الارتباط منوطا بعدم طروّ ما يرفعه من الوصف الوجودي ، ولا نعني من عدم اشتراط بقاء المبدأ إلاّ هذا.

ومن هنا يعلم كون إطلاق اسم الزمان بعد انقضاء الزمان الواقع فيه المبدأ على

ص: 454


1- تمهيد القواعد : 85.
2- المحصول 1 : 86.

زمان آخر يشابهه - كما لو قتل زيد يوم الخميس ، فاطلق على الخميس الآتي إنّه مقتل زيد مجازا - لا لعدم بقاء المبدأ ، بل لعدم بقاء الذات المرتبطة بالمبدأ ، وهو الشخص المذكور من الزمان ، لكونه ممّا ينقضي بمجرّد انقضاء المبدأ ، والإطلاق المذكور وارد على ما يغايره لضرب من المجاز ، كتنزيل الموجود منزلة المنقضي في كونه يوم الخميس مثلا.

ومن هذا الباب إطلاق مقتل الحسين عليه السلام على كلّ يوم عاشر من المحرّم ، فإنّه مجاز من باب تنزيله منزلة اليوم المعهود الّذي وقع فيه الواقعة ، لمشابهته إيّاه في كونه اليوم العاشر من هذا الشهر ، والغافل عن حقيقة ما ذكرنا ربّما يظنّ إنّ وجه المجاز هنا انقضاء المبدأ ، فيأخذه حجّة على من لا يشترط البقاء ، وهو كما ترى ظنّ فاسد.

ومن هذا الباب عدم صحّة إطلاق الموجود على المعدوم بعد ما كان موجودا ، فإنّه ربّما يتوهّم كونه لعدم بقاء المبدأ.

ويدفعه : إنّ وجه المجازيّة عدم بقاء الذات لا غير ، وإن استلزم عدم بقائها عدم بقاء المبدأ بل الارتباط أيضا.

ثمّ إنّهم ذكروا للقول المختار وجوها كثيرة لا يكاد يستقيم شيء منها.

الأوّل : الاستعمال ، خرج عنه الاستقبال بالإجماع.

ويدفعه : كونه أعمّ.

الثاني : إنّ معنى « الضارب » من حصل له الضرب ، وهو يتناول الحال والماضي ، وهو يقرب من المصادرة.

الثالث : إطباق النحاة على أنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي.

وفيه : منع الدلالة ، مع أنّه منقوض بإطباقهم على أنّه يعمل إذا كان بمعنى الاستقبال.

الرابع : إنّه لولاه لما صحّ إطلاق « المتكلّم » و « المخبر » على أحد على وجه الحقيقة ، والتالي باطل.

ص: 455

أمّا الملازمة : فلأنّ الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية الّتي يعدم السابق منها بطريان اللاحق لا لواحد منها ، ويستحيل اجتماعها خارجا ، بل الموجود منها دائما حرف واحد ، والمشتقّ صادق مع عدم بقاء المجموع الّذي هو المبدأ ، وهو المقصود من بطلان التالي.

وفيه : إنّ النسبة بمعنى الارتباط الواقعي تحصل بمجرّد التشاغل بإيجاده جزء فجزء ، ولذا لا يضرّ فيه تخلّل السكوت على ما هو وظيفة الامور السيّالة ، بل لا مانع من الصدق بعد زوال التشاغل ما دامت النسبة باقية.

هذا في حلّ الصدق على طريقة ما حقّقناه ، ومع الإغماض عنه يمكن الجواب : بأنّ كون الكلام لمجموع الحروف المتوالية وإن كان مسلّما ، غير أنّه يكفي في صدق التلبّس به في نظر العرف التلبّس بجزء ، كما هو شأن الامور السيّالة ، فلا يضرّ انعدام ما انعدام وعدم وجود ما لم يوجد بعد من الأجزاء ، بل يكفي في صدق التلبّس في الامور السيّالة بقاء حالة التشاغل ، وإن انقطع التلبّس بالجزء أيضا في آن لتخلّل تنفّس أو شرب ماء أو نحوهما.

الخامس : إنّه لو صحّ اشتراط البقاء لما صدق « المؤمن » على النائم والغافل والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، فإنّ « المؤمن » صادق حقيقة على من لا يباشر التصديق ولا العمل ولا المجموع كالنائم ، وهو المراد ببطلان التالي ، مع أنّ الإيمان حقيقة في أحدها بالإجماع ، وهو المراد بالملازمة.

وفيه : إنّ الصدق مسلّم ومناطه بقاء النسبة والارتباط الواقعي ، ولا يقدح فيه عدم مباشرة التصديق ولا العمل.

وأمّا ما يقال في دفعه : من أنّ التصديق عبارة عن القضايا المعقولة ، وهي على فرض حصولها مكنونة في خزانة القلب ودفينة الذهن ، ولا يوجب زوال الحسّ ظاهرا والذهول عنها زوالها وانعدامها ، فواضح الضعف ، فإنّ القضيّة المعقولة هو متعلّق الإيمان بمعنى التصديق لا أنّه نفسه ، مع أنّه لا يتمّ على القول بكونه العمل أو المجموع منه ومن التصديق.

ص: 456

السادس : إنّ الفرق واقع بالضرورة بين قولنا : « ضارب » و « ضارب في الحال » فلا يتّحد معناهما.

ويدفعه : أنّ الفرق يكفي فيه حصوله في العموم والخصوص باعتبار حال التلبّس ووجود المبدأ حال النسبة ، وضابطه : أنّ الأوّل لمجرّد التلبّس ، والثاني له في حال النطق ، والأوّل أعمّ من الثاني ، ولم ينكشف منه حال المنقضي عنه المبدأ بالمعنى المأخوذ في محلّ البحث.

السابع : إنّه يصدق في الحال بعد انقضاء الضرب منه أنّه « ضارب أمس » ويلزم أن يصدق عليه إنّه « ضارب » لأنّه جزء من « ضارب أمس » وصدق المركّب يستلزم صدق أجزائه.

ويدفعه : أنّ صدق اللفظ بواسطة قرينة لا يستلزم صدقه بدونها ، مع أنّ « ضاربا أمس » إن اريد بقيده ما يرجع إلى النسبة لا مدخل له بمحلّ البحث كما لا يخفى.

حجّة القول باشتراط بقاء المبدأ ، وجوه :

منها : تبادر المتلبّس بالمبدأ دون المنقضي عنه المبدأ ، والتبادر علامة الحقيقة كما أنّ عدمه علامة المجاز.

وفيه : أنّ تلبّس الذات بالمبدأ لا معنى له إلاّ وجود المبدأ للذات ، فإن اريد بتبادره تبادر وجود المبدأ على أنّه مدلوله باعتبار الوضع.

ففيه : منع تقدّم وجهه ، فإنّ وجود المبدأ وإن حصل الانتقال إليه إلاّ أنّه ليس لدخوله في الوضع ، بل لكونه من باب الخارج اللازم لما دخل فيه ، وهو النسبة الواقعيّة التي لا تتأتّى بين الذات والمبدأ إلاّ بوجوده ودخوله في ظرف الخارج.

وإن اريد به تبادره على أنّه مدلول له بالالتزام ، فهو لا يقضي بمدخليّة بقائه في بقاء مدلوله باعتبار الوضع ، ومحصّله : إنّ المتبادر الذات المرتبطة بالمبدأ الّذي وجد منها بقي أو لم يبق ، والمنقضي عنه المبدأ أحد فردي هذا المعنى العامّ ، فلا يضرّ عدم تبادره بالخصوص.

ومنها : صحّة سلب الاسم عن المنقضي عنه المبدأ ، لوضوح صحّة قولنا - لمن ضرب بالأمس - : « إنّه ليس بضارب الآن ».

ص: 457

وفيه : أنّ السلب في صحّة السلب وعدمها تابع لما يقصد من اللفظ ، فإن قصد إرجاع السلب إلى التلبّس بمعنى وجود المبدأ في الذات فصحّته مسلّمة ، غير أنّه لا يقضي بعدم صدق اللفظ باعتبار ما بقي بعد الانقضاء من الارتباط الواقعي ، وهذا معنى ما قيل : من أنّ نفي الخاصّ والمقيّد لا يستلزم نفي العامّ والمطلق ، والمشتقّ يصدق على المنقضي باعتبار عموم الارتباط لا باعتبار خصوص بقاء التلبّس ، وإن قصد إرجاعه إلى أصل الارتباط ، ليكون مفاده إنّ الذات لا ربط بينها وبين المبدأ الموجود منها بعد انقضائه.

ففيه : إنّه كذب وفرية ، بل دعوى صحّة السلب على هذا التقدير مدافعة لضرورة الوجدان.

ومنها : إنّه لولا اشتراط البقاء لزم اجتماع المتضادّين في نحو « الأبيض » و « الأسود »و « النائم » و « اليقظان » واللازم باطل.

وفيه : إنّ عدم الصدق في نحو هذه الأمثلة ليس لاجتماع المتضادّين ، كيف والقائل بعدم اشتراط البقاء لو التزم فيها أيضا بالصدق لا يعتبره على وجه يستتبع لهذا المحذور ، فإنّه إنّما يلزم لو اعتبر في صدق المشتقّين فعليّة حصول المبدئين لأنّهما متضادّان ، وهذا كما ترى ينافي قوله : بعدم اشتراط البقاء ، الراجع إلى عدم لزوم فعليّة وجود المبدأ حين صدق المشتقّ ، بل إنّما يعتبر على وجه ينوط الصدق في أحدهما بإرادة الذات المتّصفة بمبدئه الموجود حال الإطلاق وفي الآخر بمبدئه الّذي وجد في سابق الزمان.

وأمّا على ما قرّرناه فلا نلتزم بالصدق ، لعدم بقاء ما اخذ في وضعه بطروّ رافعه وهو الوصف الوجودي.

وبالجملة : هذا هو الجهة في عدم الصدق لا ما ذكره المستدلّ من لزوم اجتماع المتضادّين ، فإنّه لو كانت الجهة هي هذه الشبهة لتطرّق المنع إلى الملازمة بنحو ما بيّنّاه.

ومنها : أنّ حال المشتقّات كالجوامد في اعتبار فعليّة الاتّصاف بمبادئها.

ص: 458

ألا ترى أنّ الماء والنار لا يصدقان إلاّ مع بقاء وصف المائيّة والناريّة ، فكذلك المشتقّ فإنّه لا يصدق إلاّ مع بقاء وصف المبدأ.

وفيه : إنّ المقايسة صحيحة غير أنّ البيان المذكور فاسد الوضع ، فإنّ مناط صدق اللفظ تحقّق ما اخذ في وضعه ، والّذي اخذ في وضع المشتقّ ليس إلاّ النسبة الواقعيّة ولا إشكال في اعتبار بقائها ، وهو لا ينوط ببقاء المبدأ كما عرفت.

كيف وبقاء الشيء عبارة عن وجوده المسبوق بالوجود ، وقد تقدّم أنّ وجود المبدأ ليس مأخوذا في الوضع مطلقا.

ومنها : إنّه لولا اعتبار بقاء المبدأ في الصدق لجاز ترتيب آثار العدالة على من كان عادلا ففسق ، أو آثار الفسق على من كان فاسقا فعدل ، وهذا ضروي البطلان.

وفيه : منع واضح بما مرّ غير مرّة ، فإنّ الوصف الطارئ رافع لمناط الصدق ، بلا مدخليّة لبقاء المبدأ فيه وعدم بقائه.

وأمّا حجج التفاصيل :

فحجّة الأوّل منها : امتناع البقاء فيما لا يمكن ، فيلزم أن لا يكون للمتكلّم والمخبر والماشي حقيقة ، لأنّ معانيها مركّبة عن أجزاء لا يمكن اجتماعها في الخارج ، فالمتكلّم ما لم يتلفّظ بحرف لم يخرج المبدأ من قوّته إلى الفعل فيدخل في الاستقبال ، وبمجرّد التلفّظ به ينقضي وينعدم فيدخل في الماضي.

ولا ريب أنّه مجاز في المستقبل ، فلو كان مجازا في الماضي أيضا لزم ما ذكر ، وبطلان اللازم واضح.

وفيه : إن كان النظر إلى حال التشاغل - كما هو الظاهر - فالصدق إنّما هو على المتلبّس فعلا ، لأنّ وجود المبدأ في كلّ شيء بحسبه ويكفي في الامور السيّالة مجرّد التشاغل بجزء منها ، فالذات ما دامت متشاغلة بالكلام يصدق عليها عرفا « المتكلّم » بمعنى المتلبّس بالكلام حقيقة ، ولا يضرّه طريان سكوت مّا في الأثناء ، وكذا الكلام في المخبر والماشي ، فليس هذا من الإطلاق على المنقضي عنه المبدأ في شيء ، وإن كان النظر إلى ما بعد التشاغل فبقاء مناط الصدق في كلّ موضع

ص: 459

لم يصادفه ما يرفعه - وهو الارتباط الواقعي ، لو سلّمناه في نحو الأمثلة المذكورة ينفي الفرق.

وحجّة الثاني منها : إنّه لو لم يشترط البقاء فيما طرء الضدّ الوجودي على المحلّ ، لزم أن يكون أكابر الصحابة كفّارا على وجه الحقيقة ، وأن يصدق « النائم » على اليقظان ، و « الحامض » على الحلو كذلك ، لوجود المبدأ لهما وانقضائه.

وفيه : إنّ عدم الصدق في نحو هذه الأمثلة وإن كان مسلّما ، بل خارجا عن محلّ النزاع على ما أشرنا إليه ، لكن لا لاشتراط بقاء المبدأ والشرط منتف ، بل لطروّ رافع مناط الصدق ، فلا وجه لأخذه وجها في التفصيل.

وحجّة الثالث منها : أنّه لو كان البقاء شرطا في الثبوتي أيضا لزم أن يكون إطلاق « المؤمن » على النائم والغافل مجازا ، إذ لا تصديق حال النوم.

وتقريب الاستدلال ما تقدّم مع ما يعرب عن فساده ، فإنّ نحو « النوم » و « الغفلة » ليس ممّا يرفع الارتباط الواقعي الّذي عليه مدار الصدق ، وحينئذ فلا يتفاوت الحال بين الثبوتي والحدوثي ما لم يصادفه ما يرفع الارتباط ، وإن لم يكن المبدأ باقيا.

وحجّة الرابع منها : إنّ المسلمين لا يزالون يستدلّون بقوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (1) ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (2) لإجراء الحدود على من لم يتلبّس بالمبدأ أو لم يوجد حال النزول ، وظاهرهم إرادة الحقيقة ، فلولا تحقّق المبدأ بالفعل غير معتبر في المحكوم عليه لما صحّ ذلك ، لعدم تناول الخطاب للمذكورين حينئذ.

وهذا كما ترى يشبه بكون المطلب حقيقيّة المشتقّ في المستقبل ، فيفسد : بكونه مدافعا للإجماع ، مع عدم تعرّضه لحال الماضي.

وقد يوجّه : بأنّ مراده أنّ المحكوم عليه حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ في الجملة ،

ص: 460


1- النور : 2.
2- المائدة : 38.

يعني المعنى العامّ المشترك بين الحال والماضي ، أو ما هو أعمّ منه ليشمل الاستقبال أيضا ، يعني حال التلبّس بالمعنى المظروف للأزمنة الثلاث.

ويدفعه : حينئذ إنّ اندراج الماضي في المفهوم العامّ حينئذ على الاحتمال الثاني ليس من اندراج المنقضي عنه المبدأ بالمعنى المبحوث عنه في الوضع ، كما لا يخفى.

وأنّ الوضع على الاحتمال الأوّل إذا ثبت في شيء فلا يختلف حاله باختلاف حالات الموضوع بالضرورة.

ولا ريب أنّ وقوع اللفظ محكوما عليه أو به من الحالات العارضة له التابعة للاستعمال ، فلا يعقل له مدخليّة في الوضع ، وعليه فنقول : إنّ الحكم إذا علّق على الارتباط الواقعي الناشئ عن وقوع المبدأ وإن انقضى بعد وقوعه ، كان لازم الترتّب على ما يصدق عليه المشتقّ من الذات ، وإن اخذ في الخطاب بعنوان المحكوم به.

وهذا هو السرّ في إجراء الحدّين على المنقضي عنه الزنا والسرقة ، لا ما قيل إنّه من موجب أدلّة الاشتراك في التكليف ، أو من مقتضى استصحاب الحالة السابقة ، هذا مع أنّ الاستدلال بالآيتين ونظائرهما لا يتمّ إلاّ بأخذهما كبرى الدليل لصغرى منضمّة إليهما محمولها موضوعهما ، فالاعتراف بعدم اشتراط البقاء في المحكوم عليه يستلزم الاعتراف به في المحكوم به وإلاّ لم يتكرّر حدّ الوسط ، وظهور إرادتهم الحقيقة قائم بالنسبة إلى المقدّمتين معاً.

وحجّة الخامس منها : إنّهم يطلقون المشتقّ على ما كان اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف مضمحلاّ في جنب الاتّصاف من دون قرينة « كالكاتب » و « الخياط » و « القارئ » و « المتعلّم » و « المعلّم » ونحوها ولو كان المحلّ متّصفا بالقيد الوجودي كالنوم ونحوه والقول بأنّ الألفاظ المذكورة ونحوها كلّها موضوعة لملكات هذه الأفعال ، ممّا يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة وغير موافق لمبادئها على ما في كتب اللغة.

ص: 461

وفيه : أنّ إطلاق هذه الألفاظ ونظائرها على مواردها - على ما سنقرّره - ليس على حدّ ما اخذ في عنوان المسألة ، فهي عند التحقيق بالبيان الآتي خارجة عن محلّ النزاع ، وليس النظر في إطلاقها إلى مبادئها حسبما اخذت في كتب اللغة وجودا ولا بقاء ، فلا يقاس عليها غيرها ممّا ليس بداخل في ضابطها ، وسنورد ما يدفع توهّم إباء الطبع السليم عن وضع هذه الألفاظ لملكات هذه الأفعال بالخصوص ، وما ينهض وجها لعدم منافاة ذلك لما في كتب اللغة.

وحجّة السادس منها : الاستقراء فإنّ « الضارب » و « القاتل » و « السالب » و « الهازم » و « القاطع » وكذا ما اخذ من باب الإفعال والتفعيل والاستفعال « كمكرم » و « مصرف » و « مستخرج » ونحوها إذا اطلقت تبادر منها ما اتّصف بالمبدأ حال الاتّصاف وما بعدها ، وإنّ نحو « عالم » و « جاهل » و « حسن » و « قبيح » و « طاهر » و « نجس » و « طيّب » و « خائف » و « طامث » و « حائل » و « حي » و « ميّت » و « قائم » و « راكع » و « ساجد » و « يقظان » و « نائم » و « مقبل » و « منكر » و « صحيح » و « محبّ » و « معادي » و « مبغض » و « صاحب » و « مالك » إلى غير ذلك يتبادر منها المتّصف بالمبدأ حال الاتّصاف فقط ، وقد ثبت أنّ التبادر من آيات الحقيقيّة.

وفيه : إنّ عدم الصدق فيما هو من قبيل القسم الثاني كالأمثلة المذكورة وغيرها إنّما هو لما بيّنّاه من ارتفاع مناط الصدق بطروّ رافعه ، بلا مدخل لبقاء المبدأ وارتفاعه فيه.

وجه المتوقّف ، أحد الأمرين : من إمكان الجميع مع عدم نهوض ما يقضي بتعيّن البعض ، أو تزاحم الأدلّة من الطرفين مع عدم المرجّح للبعض.

وجوابه : يظهر بالتدبّر فيما مضى.

تذنيبان :

أحدهما : مبادئ المشتقّات - على ما زعمه غير واحد من الأواخر - على أنواع يختلف حال التلبّس وحال الانقضاء باختلافها ، فإنّ المبدأ قد يكون من

ص: 462

مقولة الجوهر كما في المشتقّات الجعليّة من الحدّاد والتمّار واللبّان ، وقد يكون من مقولة عرض الفعل وغيره ، وهو قد يكون فعلا مباشريّا كالضرب والأكل والكتابة وقد يكون فعلا توليديّا كالقتل والذبح والطبخ والإحراق وعلى التقادير الثلاث فقد يكون من قبيل الحالات ، وقد يكون من قبيل الملكات ، وقد يكون من قبيل الحرف والصناعات ، وقد يرد حالا وملكة وحرفة بحسب اختلاف الاعتبارات كالكتابة والقراءة والخياطة والصياغة ونحوها ، وليس المراد بالحال والملكة هاهنا ما هو المعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول أعني الكيفيّة النفسانيّة - أي المختصّة بذوات الأنفس الغير الراسخة في المحلّ وهو الحال ، أو الراسخة فيه وهو الملكة - بل معناهما العرفي المعبّر عنه بالفعل ، على معنى التلبّس بالعمل فعلا والقوّة القريبة من الفعل.

والأولى إسقاط قيد « القرب » لتشمل نحو الملكة الاستعداديّة الفطريّة ، كما في الشجرة المثمرة على ما ينساق منها عرفا من صلاحيّة الإثمار وإن لم يثمر فعلا بل ولم يبلغ أوان الإثمار ، فإنّهم يطلقونها على ما يقابل ما ليس مثمرا في نوعه ويعبّر عنه في الفارسيّة « بدرخت ميوه » وإن كان يطلق على ما أثمر ويعبّر عنه في الفارسيّة « بميوه ده » وعلى ما عليه ثمرته فعلا ويعبّر عنه في الفارسيّة « بميوه دار » أيضا.

ونحو الملكة الاستعداديّة الجعليّة كما في المجلس والمسجد وغيرهما من كثير من أسماء المكان ، والمفتاح والمقراض وغيرهما من أسماء الآلة ، فإنّ إطلاقهما في العرف على ما أعدّ لأن يجلس أو يسجد فيه ، وما أعدّ لأن يفتح أو يقرض به كثير بل شائع بالشيوع الّذي ربّما توهّم كونه من باب المجاز المشهور ، أو لغلبة الاسميّة على الوصفيّة من دون مراعاة تحقّق المبدأ فيهما ، بل الإطلاق في نحوهما متداول وإن لم يتحقّق فيهما المبدأ قطّ ، لكون النظر في الإطلاق مقصورا على مجرّد كونه معدّا لذلك.

وكيف كان : فهذا الإطلاق إنّما يقع على خلاف مقتضى الوضع اللغوي النوعي

ص: 463

الاشتقاقي - حسبما بيّنّاه آنفاً - نحو الملكة العمليّة وهي القوّة المتأكّدة على العمل الناشئة عن الممارسة وتكرّر العمل.

وبهذا ظهر الفرق بينها وبين القوّة الاستعداديّة الّتي هي منشأ للفعل غير متوقّفة على ممارسة ولا عمل فضلا عن تكرّره ، كالكتابة بالقوّة للإنسان ، ولذا يكون جميع آحاد الأشخاص فيها على شرع سواء ، بخلاف العمليّة فإنّها ناشئة عن الفعل متولّدة عن الممارسة وتكرّر العمل ولذا يختصّ بواحد دون واحد ، على حسب اختلافهم في الممارسة وتكرّر العمل وعدمهما ، فالحال مع الملكة بمعنى القوّة العمليّة حيثيّتان في المبدأ تلحقان الذات في مرتبتين مترتّبتين لتأخّر مرتبة الملكة عن مرتبة الحال ، وأمّا الحرفة والصنعة فهي حيثيّة ثالثة متأخّرة في المرتبة عن حيثيّة الملكة لأنّها عبارة عن أن يتّخذ الذات ما فيها من القوّة المتأكّدة على العمل وسيلة لكسب المال وتحصيله ، على معنى الغرم المتأكّد على الاكتساب بسببه وتوجّه النفس إليه ، وأمّا الحرفة مع الصنعة فقد يقال بعدم الفرق بينهما بحسب المعنى ، وهو المستفاد أيضا من بعض أهل اللغة حيث يأخذ كلاّ منهما في تفسير صاحبه ، وقد يفرّق بينهما بأنّ الحرفة ما لا يقتصر إلى آلة ولا إلى صرف مال بخلاف الصنعة.

وربّما قيل : بأنّ الصنعة قوّة على عمل لا تحصل إلاّ بالممارسة وتكرّر العمل ، بخلاف الحرفة كالاحتطاب والاحتشاش ونحوهما ، ولم نقف من العرف على ما يقضي بأحد هذه الوجوه.

وكيف كان : فالتلبّس في الحاليّات إنّما يتحقّق بالمباشرة على الفعل إن كان مباشريّا ، أو على مقدّماته إن كان توليديّا ، وفي الملكيّات يتحقّق بوجود الملكة ، وفي الصناعات يتحقّق ما دام العزم وتوجّه النفس إلى اكتساب المال بواسطة الملكة الموجودة باقيا.

والانقضاء في الحاليّات يتحقّق بانقطاع المباشرة ، وفي الملكيّات يتحقّق بزوال الملكة ، بنسيان أو متاركة أو شيبة أو مرض أو نحو ذلك ، وفي الصناعات

ص: 464

يتحقّق بصرف النفس عن اكتساب المال وإن كانت الملكة باقية ، هذا على حسبما يستفاد من كلام الأواخر لكنّه عندنا محلّ تأمّل ، يظهر وجهه بملاحظة ما سنقرّره في دفع إشكال قائم في المقام ، وهو : إنّ النظر في إطلاق الألفاظ المذكورة - وهي « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » و « المتعلّم » ونحوها - على ذوي الملكات أو أرباب الحرف والصناعات هل هو إلى حيثيّة الحال أو إلى حيثيّة الملكة أو الحرفة والصنعة ، لتصرّف في اللفظ مادّة بعنوان التجوّز أو الوضع الجديد من العرف ، أو هيئة بأحد الوجهين المذكورين أيضا ، أو لا - لتصرّف في اللفظ - بل هي إنّما تعتبر من باب الخارج اللازم على حدّ ما يعتبر وجود المبدأ محقّقا لما اخذ في وضع اللفظ من الارتباط الواقعي بين الذات والمبدأ ، بدعوى : أنّه قد يتحقّق بوجود المبدأ كما في موارد الحال ، وقد يتحقّق بحصول الملكة على فعل المبدأ كما في موارد الملكة ، وقد يتحقّق بحيثيّة الحرفة والصنعة كما في موارد الإطلاق على أرباب الحرف والصناعات ، وجوه كلماتهم بالنسبة إليها مضطربة ، فإنّ منهم من يظهر منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار حيثيّة الحال ، كالفاضل التوني (1) فيما تقدّم عنه من التفصيل بين كون اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ولم يكن معرضا عنه ، وغيره القائل بكونه حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ بالقيدين.

ومنهم من يظهر منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار حيثيّة الملكة أو الحرفة والصنعة مرادة من المشتقّ باعتبار المادّة مع عدم تعرّضه لكونه تجوّزا فيها أو على وجه الحقيقة باعتبار الوضع الجديد ، كبعض الأعلام حيث جعل الإطلاق في هذه الألفاظ من باب الإطلاق على المتلبّس بالمبدأ بالنظر إلى حيثيّتي الملكة أو الحرفة ، ولم يبيّن وجه هذا التصرّف الواقع على موادّها ، وقد تبعه في هذا التوهّم جماعة ممّن تأخّر عنه ، ومنهم بعض مشايخنا إلاّ أنّه التزم بكونه تجوّزا في المواد.

ومنهم من يستفاد منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار إحدى الحيثيّتين مرادة

ص: 465


1- الوافية : 63.

من المشتقّ باعتبار الهيئة لما طرئها من الوضع الجديد العرفي ، كالفاضل النراقي في المناهج (1) حيث صرّح به في دفع كلام الفاضل التوني في التفصيل المتقدّم ، فقال :

« إنّ من المشتقّات ما يطلق على الذات باعتبار الملكة والصناعة ، لا بمعنى أنّ مبادئها موضوعة لها ، بل المشتقّ منها صار بالوضع الطاري موضوعا لذواتها من غير ملاحظة قيام المبادئ ، كما قد يصير المشتقّ علما ، وما ذكره من هذا القبيل » صرّح بذلك أيضا بعيد هذا الموضع.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّ كون مبنى الإطلاق على اعتبار الحال ممّا ينبغي القطع ببطلانه ، لتبادر ذوي الملكات أو الصناعات في إطلاقاتها ، ولو مع غضّ البصر وإغماض النظر عن جميع ما هو خارج عن اللفظ ، وصحّة سلبها عن فاقد الملكة وغير ذي الصنعة ، وعدم صحّة سلبها عن ذيهما ، ولا استقراء المفيد للقطع بكون الملحوظ في نظر أهل العرف في موارد إطلاقاتها إنّما هو حيثية الملكة أو الصنعة من دون نظر إلى حيثيّة الحال.

وكذلك احتمال كون مبناه على تقدير اعتبار الملكة أو الصنعة على التجوّز في اللفظ مادّة أو هيئة ، أو على طروّ الوضع الجديد للمادّة.

أمّا الأوّلان : فلعدم صحّة السلب ، فإنّ كلّ مشتقّ إذا تطرّق إليه التجوّز هيئة أو مادة يصحّ سلبه عرفا عن المورد ، كما في إطلاق « الضارب » على المضروب و « القاتل » على من ضرب ضربا شديدا.

وأمّا الثالث : فلعدم الاطّراد ، فإنّ « الخياطة » و « الكتابة » و « القراءة » و « التعليم » لا يصحّ إطلاقها على الملكة في ضمن سائر الهيئآت ، وتوهّم حصول الوضع للشخص من حيث تقوّمه بهيئآت هذه الألفاظ ليس بأولى من الإذعان بحصوله لشخص هذه الهيئآت من حيث تقوّمه بهذه الموادّ ، بل هو المتعيّن بدليل استناد انفهام حيثيّتي الملكة والصنعة على ما يدرك بالوجدان الواضح إلى ملاحظة

ص: 466


1- مناهج الأحكام والاصول : 35.

الهيئآت المتقوّمة بتلك الموادّ ، مضافا إلى ما يعلم ضرورة من طريقة العرف من عدم فرقهم بين هذه الألفاظ الواقعة عندهم على ذوي الملكات أو أرباب الحرف والصناعات وبين ألفاظ النسبة المعبّر عنها بالمشتقّات الجعليّة ، الّتي منها « الخيّاط » « كالحدّاد » و « الصبّاغ » و « البقّال » فإنّ التحقيق إنّ كلّ واحد منها في نظر العرف موضوع بالوضع الشخصي للذات من حيث اتّخاذها لما فيها من الملكة والقوّة المتأكّدة على عمل الخياطة والحديد والصبغ والبقل وسيلة لكسب المال ، ونجدهم يعاملون مع نحو الكاتب والقارئ والمعلّم والمدرّس معاملة هذه الألفاظ.

وقضيّة ذلك كون كلّ في نظرهم موضوعا بالوضع الشخصي للذات من حيث اشتمالها على ملكة هذه الأفعال ، لحقها حيثيّة الصنعة أيضا أو لا ، فإنّها ليست مأخوذة في وضعها.

نعم إنّما اخذت في وضع « الخيّاط » وغيرها من المشتقّات الجعليّة ، ولذا صحّ سلبها عند زوال هذه الحيثيّة وإن كانت الملكة باقية ، ولو أطلق اللفظ حينئذ كان مجازا باعتبار علاقة ما كان ، كما يشهد به الوجدان.

فعلم بما قرّرناه إنّ نحو « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » طرئه وضعان أحدهما : النوعي الاشتقاقي باعتبار اللغة ، بإزاء الذات من حيث ارتباطها بالمبدأ.

وثانيهما : الشخصي الطارئ باعتبار العرف ، بإزاء الذات من حيث اشتمالها على ملكة هذا المبدأ.

ومن هذا الباب لفظ « المجتهد » و « الفقيه » في عرف الفقهاء ، بل من هذا الباب ظاهرا لفظ « المثمر » ونحو « المسجد » و « المجلس » و « المقراض » و « المفتاح ».

فاتّضح بجميع ما ذكر بطلان ما توهّمه الفاضل التوني ، كما اندفع به أيضا ما ادّعاه من كون وضع هذه الألفاظ لملكات هذه الأفعال ممّا يأبى عنه الطبع السليم ولا يوافقه مبادئها على ما في كتب اللغة ، فإنّ ذلك بملاحظة العرف والتدبّر فيما أشرنا إليه ممّا يقبله الطبع السليم ولا ينافيه ما في كتب اللغة ، لعدم كونه وضعا في المبادئ الموضوعة لغة لنفس الأفعال ، كما إنّه اتّضح بجميع ما ذكر أنّ الألفاظ

ص: 467

المشتقّة المتداولة في العرف والعادة على أنواع :

منها : ما ورد وضعا وإطلاقا للحالات فقط ، وهو الغالب كما في « ضارب » و « قاتل » وغيرهما.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات الاستعداديّة الفطريّة « كالمثمر » ونحوه.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات الاستعداديّة الجعليّة « كالمسجد » و « المقراض » ونحوهما.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات العمليّة المستندة إلى الممارسة « كالكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » ولا يبعد كون « العالم » أيضا من هذا الباب.

ومنها : ما ورد كذلك للصناعات ، وهي الملكات المتّخذة وسائل لكسب الأموال.

ولا ريب أنّ عنوان مسألة كون المشتقّ حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ وكونه مجازا فيما انقضى عنه المبدأ ، أو حقيقة فيه أيضا على الخلاف المتقدّم ، إنّما ينطبق على النوع الأوّل ، فإنّه الّذي يلاحظ فيه التلبّس والانقضاء بالنسبة إلى المبدأ.

وأمّا البواقي فلا تندرج في هذا العنوان ، إذ لا يلاحظ فيها جهة الحال الراجعة إلى اعتبار المبدأ تلبّسا وبقاء وانقضاء ، فهي عند التحقيق خارجة عن المتنازع فيه كما أنّ الجوامد كانت خارجة ، والمعتبر في إطلاقها بعنوان الحقيقة أو المجاز مراعاة تحقّق ما أخذ في أوضاعها الجديدة العرفيّة من حيثيّتي الملكة والصنعة ، فما تقدّم عن الأواخر من القول بأنّ حال المشتقّ من حيث استعماله في حال التلبّس أو فيما انقضى عنه المبدأ يختلف بحسب اختلاف المبادئ من حيث كونها من الحالات أو الملكات أو الصناعات ، ليس على ما ينبغي ، لما تبيّن من أنّ اعتبار الملكة والصنعة حيثما يعتبران ممّا لا تعلّق له بالمبدأ ليشمله النزاع في اشتراط بقاء المبدأ وعدمه.

وثانيهما : قالوا : يظهر الثمرة فيما ورد من النهي عن الجلوس تحت الشجرة

ص: 468

المثمرة ، والطرق النافذة ، وعن سؤر آكل الجيف ، وعن التوضّي بالماء المسخّن بالشمس ونحوه ، فإنّ الإثمار يحتمل كونه من قبيل الحالات فزمان الكراهة حينئذ على القول باشتراط بقاء المبدأ إنّما هو زمان وجود الثمر فعلا ، وعلى غيره ما بعد حصولها باقية كانت أم ماضية ، كما يحتمل كونها من الملكات فزمان الكراهة حينئذ على القول بالاشتراط ما دامت الملكة بعد حصولها موجودة وجد الثمر فعلا أو لم يوجد ، وعلى غيره ما بعد حصولها بقيت فعلا أو زالت لعلّة ما دام الشجر قائما.

وهذا الوجهان جاريان في الطرق النافذة وآكل الجيف ، فيترتّب الثمرة على كلّ مذهب بحسبه ، وأمّا الماء المسخّن فلا يحتمل فيه إلاّ الحال ، وعليه فالكراهة على القول بالاشتراط يختصّ بما لو وجدت فيه السخونة فعلا ، وعلى غيره يعمّه وما لو انقضى عنه الوصف.

ويظهر الثمرة أيضا كثيرا في باب الوصايا والأقارير والنذور والأيمان ونحوها.

وفي كون « المثمرة » بناء على اعتبارها بمعنى ذي ملكة الإثمار ، إن اريد بها القوّة الاستعداديّة الفطريّة من موضع الثمرة منع ، ظهر وجهه بما تقدّم ، وكذلك لو اريد بها القوّة القريبة من الفعل ، فما في كلام غير واحد من الفقهاء في مسألة كراهة الجلوس تحت الأشجار المثمرة ، من تعليل الحكم بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ بعد حمل « المثمرة » على ما من شأنه الثمر ، ليس على ما ينبغي.

ثمّ إنّ في جعل أمثال ما ذكر ثمرة للمسألة مع كونها من المبادئ اللغويّة ، نظرا يظهر وجهه بملاحظة ما قرّرناه في مسألة الصحيح والأعمّ من ضابط الثمرات.

نعم إنّما يستقيم ذلك لو اندرجت المسألة في المسائل الاصوليّة وهو مشكل.

وبالجملة : المقام غير خال عن الإشكال ، ولم يظهر لي ما يدفعه الآن ، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

ص: 469

ص: 470

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ الاشتراك واقع في لغة العرب. وقد أحاله شرذمة. وهو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه.

ثمّ إنّ القائلين بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا ؛ فجوّزه قوم مطلقا ، ومنعه آخرون مطلقا ، وفصّل ثالث : فمنعه في المفرد وجوّزه في التثنية والجمع ، ورابع : فنفاه في الاثبات وأثبته في النفي.

ثمّ اختلف المجوّزون ؛ فقال قوم منهم : إنّه بطريق الحقيقة. وزاد بعض هؤلاء : أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ؛ فيجب حمله عليه حينئذ. وقال الباقون : إنّه بطريق المجاز.

والأقوى عندي جوازه مطلقا ، لكنّه في المفرد مجاز ، وفي غيره حقيقة. لنا على الجواز : انتفاء المانع ، بما سنبيّنه : من بطلان ما تمسّك به المانعون ، وعلى كونه مجازا في المفرد : تبادر الوحدة منه عند إطلاق اللّفظ ، فيفتقر إرادة الجميع منه إلى إلغاء اعتبار قيد الوحدة. فيصير اللّفظ مستعملا في خلاف موضوعه. لكنّ وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز أعنى : علاقة الكلّ والجزء يجوّزه ، فيكون مجازا.

فإن قلت : محلّ النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين بأن يراد به - في إطلاق واحد - هذا وذاك ، على أن يكون كلّ

ص: 471

منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للاثبات والنّفي ، لا في المجموع المركّب الذي أحد المعنيين جزء منه. سلّمنا ، لكن ليس كلّ جزء يصحّ إطلاقه على الكلّ ، بل إذا كان للكلّ تركّب حقيقيّ وكان الجزء ممّا إذا انتفى انتفى الكلّ بحسب العرف أيضا ، كالرقبة للانسان ، بخلاف الإصبع والظّفر ونحو ذلك.

قلت : لم أرد بوجود علاقة الكلّ والجزء : أنّ اللّفظ موضوع لأحد المعنيين ومستعمل حينئذ في مجموعهما معا ، فيكون من باب إطلاق اللّفظ الموضوع للجزء وإرادة الكلّ كما توهّمه بعضهم ، ليرد ما ذكرت. بل المراد : أنّ اللّفظ لمّا كان حقيقة في كلّ من المعنيين ، لكن مع قيد الوحدة ، كان استعماله في الجميع مقتضيا لإلغاء اعتبار قيد الوحدة كما ذكرناه ، واختصاص اللّفظ ببعض الموضوع له أعني : ما سوى الوحدة. فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للكلّ وإرادة الجزء. وهو غير مشترط بشيء ممّا اشترط في عكسه ، فلا إشكال.

ولنا على كونه حقيقة في التثنية والجمع : أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف. والظاهر : اعتبار الاتفاق في اللّفظ دون المعنى في المفردات ؛ ألا ترى أنّه يقال : زيدان وزيدون ، وما أشبه هذا مع كون المعنى في الآحاد مختلفا. وتأويل بعضهم له بالمسمّى تعسّف بعيد. وحينئذ ، فكما أنّه يجوز إرادة المعاني المتعدّدة من الألفاظ المفردة المتّحدة المتعاطفة ، على أن يكون كلّ واحد منها مستعملا في معنى بطريق الحقيقة ، فكذا ما هو في قوّته.

احتجّ المانع مطلقا : بأنّه لو جاز استعماله فيهما معا ، لكان ذلك بطريق الحقيقة ، إذ المفروض : أنّه موضوع لكلّ من المعنيين ، وأنّ الاستعمال في كلّ منهما بطريق الحقيقة. وإذا كان بطريق الحقيقة ، يلزم كونه مريدا لأحدهما خاصّة ، غير مريد له خاصّة ، وهو محال.

بيان الملازمة : أنّ له حينئذ ثلاثة معان : هذا وحده ، وهذا وحده ،

ص: 472

وهما معاً ، وقد فرض استعماله في جميع معانيه ، فيكون مريدا لهذا وحده ، ولهذا وحده ، ولهما معا. وكونه مريدا لهما معا معناه : أن لا يريد هذا وحده ، وهذا وحده. فيلزم من إرادته لهما على سبيل البدليّة ، الاكتفاء بكلّ واحد منهما ، وكونهما مرادين على الانفراد ؛ ومن إرادة المجموع معا عدم الاكتفاء بأحدهما ، وكونهما مرادين على الاجتماع. وهو ما ذكرنا من اللازم.

والجواب : أنّه مناقشة لفظيّة ؛ إذ المراد نفس المدلولين معا ، لا بقاؤه لكلّ واحد منفردا. وغاية ما يمكن حينئذ أن يقال : إنّ مفهومي المشترك هما منفردين ، فاذا استعمل في المجموع ، لم يكن مستعملا في مفهوميه ، فيرجع البحث إلى تسمية ذلك استعمالا له في مفهوميه ، لا إلى إبطال أصل الاستعمال. وذلك قليل الجدوى.

واحتجّ من خصّ المنع بالمفرد : بأنّ التثنية والجمع متعدّدان في التقدير ، فجاز تعدّد مدلوليهما ، بخلاف المفرد.

وأجيب عنه : بأنّ التثنية والجمع إنّما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد من المفرد. فان أفاد المفرد التعدّد ، أفاداه ، وإلاّ ، فلا.

وفيه نظر يعلم ممّا قلناه في حجّة ما اخترناه.

والحقّ أن يقال : إنّ هذا الدليل إنّما يقتضي نفي كون الاستعمال المذكور بالنسبة إلى المفرد حقيقة ، وأمّا نفي صحّته مجازا حيث توجد العلاقة المجوّزة له ، فلا.

واحتجّ من خصّ الجواز بالنفي : بأنّ النفي يفيد العموم فيتعدّد ، بخلاف الاثبات.

وجوابه : أنّ النفي إنّما هو للمعنى المستفاد عند الاثبات ؛ فاذا لم يكن متعدّدا فمن أين يجىء التعدّد في النفي؟

حجّة مجوّزيه حقيقة : أنّ ما وضع له اللّفظ واستعمل فيه هو كلّ من المعنيين ، لا بشرط أن يكون وحده ، ولا بشرط كونه مع غيره ، على ما هو

ص: 473

شأن الماهيّة لا بشرط شيء ، وهو متحقّق في حال الانفراد عن الآخر والاجتماع معه فيكون حقيقة في كلّ منهما.

والجواب : أنّ الوحدة تتبادر من المفرد عند إطلاقه ، وذلك آية الحقيقة. وحينئذ ، فالمعنى الموضوع له فيه ليس هو الماهيّة لا بشرط شيء ، بل هي بشرط شيء. وأمّا فيما عداه فالمدّعى حقّ ، كما أسفلناه.

وحجّة من زعم أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ، قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. ) فانّ السجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، ومن غيرهم أمر مخالف لذلك قطعا. وقوله : « إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النّبيّ ». فانّ الصلاة من اللّه : المغفرة ، ومن الملائكة : الاستغفار. وهما مختلفان.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ معنى السجود في الكلّ واحد ، وهو : غاية الخضوع. وكذا في الصلاة وهو الاعتناء باظهار الشرف ولو مجازا.

وثانيها : أن الآية الأولى بتقدير فعل ، كأنّه قيل : « ويسجد له كثير من الناس » ، والثانية بتقدير خبر ، كأنّه قيل : إنّ اللّه يصلّى. وإنّما جاز هذا التقدير ، لأنّ قوله : « يسجد له من في السّموات » ، وقوله : « وملائكته يصلّون » مقارن له ، وهو مثل المحذوف ، فكان دالا عليه ، مثل قوله :

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف

أي نحن بما عندنا راضون. وعلى هذا ، فيكون قد كرّر اللّفظ ، مرادا به في كلّ مرّة معنى ؛ لأنّ المقدّر في حكم المذكور. وذلك جائز بالاتّفاق.

وثالثها : أنّه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعيّن كونه حقيقة ، بل نقول : هو مجاز ، لما قدّمناه من الدليل. وإن كان المجاز على خلاف الأصل. ولو سلّم كونه حقيقة ، فالقرينة على إرادة الجميع فيه ظاهرة ؛ فأين وجه الدلالة على ظهوره في ذلك مع فقد القرينة؟ كما هو المدّعى.

ص: 474

تعليقة : في مباحث الاشتراك

اشارة

- تعليقة -

في مباحث المشترك

والغرض الأصلي منها هو التكلّم فيما تعرّض له المصنّف من جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وعدمه ، ونتعرّض ما عداه من تعريف المشترك وغيره من المطالب المتعلّقة به على وجه الإجمال استطرادا أو استتباعا.

أمّا تعريفه ، فنقول : إنّه قد ذكر جماعة من الاصوليّين له تعاريف عديدة ، لا يخلو شيء منها عن شيء من انتقاض عكس أو طرد ، أو انتقاضهما ، والأجود الأسلم من جميع ما ذكر أن يعرّف : « بأنّه اللفظ الواحد الموضوع بوضع متعدّد لأكثر من معنى ، لا لملاحظة جامع ولا مناسبة بينهما ».

فقيد « الوحدة » لإخراج الألفاظ المتبائنة بل المترادفة أيضا - وإن كان لها مخرج آخر - والتثنية والجمع السالم مذكّرا أو مؤنّثا ، بناء على اعتبار وضعيهما الإفراديّتين للمدخول والعلامات.

و « الوضع » لإخراج المهمل ، و « تعدّده » لإخراج المجاز والجمع المكسّر ، بل التثنية والجمع السالم ، بناء على اعتبار الوضع النوعي فيهما المتعلّق بالهيئة التركيبيّة ، أي المجموع من العلامة والملحق به.

وقيد « الكثرة » في المعنى لإخراج مثل التنّور والصابون وغيرهما من مشتركات اللغات ، والقيد الأخير لإخراج المنقولات ، وما قبله لإخراج المبهمات

ص: 475

وأشباهها في الوضع ، بناء على عدم وفاء تعدّد الوضع لإخراجها ، بجعله أعمّ من التحقيقي والتحليلي كما هو الأظهر ، فإنّه لولاه لانتقض العكس بما لو قال - بإنشاء واحدة - : وضعت « العين » مثلا للذهب والفضّة أو البصر والينبوع على أن يكون كلّ منهما موضوعا له بالاستقلال ، فإنّ الوضع وإن حصل بإنشاء واحد فيكون واحدا إلاّ أنّه ينحلّ إلى المتعدّد ، ويتعدّد على حسب تعدّد متعلّقه في جانب المعنى ، وهذا الاعتبار يجري في المبهمات وأشباهها أيضا ، فتخرج بالقيد المذكور.

وهذا التعريف كما ترى أسلم ممّا ذكره في التهذيب (1) كما عن المحصول (2) أيضا ، من أنّه : « اللفظ الموضوع لحقيقتين فما زاد وضعا أوّلا من حيث كذلك ».

وما ذكره في النهاية من أنّه : « اللفظ الواحد الموضوع لأزيد من معنى واحد وضعا أوّلا من حيث هي متعدّدة » (3).

وما ذكره في النهاية أيضا من : « أنّه اللفظ الواحد المتناول لعدّة معان من حيث هي كذلك بطريق الحقيقة على السواء » (4).

وقد اختاره العلاّمة بعد الإعراض عمّا قبله ، وما ذكره بعض الأواخر من : « أنّه لفظ وضع بوضعين فصاعدا لمعنيين فصاعدا على سبيل التعيين أو التعيّن ». والتطويل بذكر ما ذكروه في فوائد قيوداتها ، وبيان ما فيها وما يرد عليها من الإنتقاض في العكس أو الطرد أو فيهما معا ، ممّا لا يرجع إلى طائل.

[57] قوله : الحقّ أنّ الاشتراك واقع في لغة العرب ، وأحاله شرذمة وهو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه ... الخ

أقول : اختلفوا في وجوب الاشتراك وامتناعه في اللغة وعدمهما ، فالجمهور على إمكانه.

ص: 476


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 10 ( مخطوط ).
2- المحصول في علم اصول الفقه - للرازي - 1 : 261.
3- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 19 ( مخطوط ).
4- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 19 ( مخطوط ).

وعن قوم كما في النهاية (1) والمنية (2) وغيرهما ، وجوبه. وعن آخرين ، امتناعه.

في وقوع الاشتراك وامتناعه

والمراد بالوجوب أو الامتناع وإن كان لزوم الوقوع ولزوم عدم الوقوع ، أي ضرورة جانب الوجود وضرورة جانب العدم ، إلاّ أنّه لا يراد بهما عند قائليهما ما يكون ذاتيّا ، أي من مقتضى ذات الاشتراك كما في وجود الواجب تعالى ، وامتناع شريك الباري ، بل ما يكون عارضيّا عرضه أحدهما لجهة خارجيّة من اقتضاء حكمة الواضع ، أو المنافاة لحكمته أو نحو ذلك ، بحيث لولاها لثبت الإمكان على معنى تساوي الطرفين ، وعدم رجحان أحدهما على الآخر بالنظر إلى ذات الاشتراك.

ومن هنا ظهر أنّ إثبات الإمكان بعد نفي الوجوب والامتناع بإبطال أدلّتهما ممّا لا حاجة له إلى دليل ولا إقامة برهان ، بل يكفي فيه مجرّد عدم ثبوت الوجوب والامتناع على ما هو الأصل المتّفق عليه ، الموافق لبناء العقلاء وقضاء القوّة العاقلة.

وكيف كان : فاحتجّ أصحاب القولين بأدلّة مدخولة ، مثل ما عن القائلين بالوجوب.

تارة : بأنّ الألفاظ متناهية ، والمعاني غير متناهية ، ولا ريب أنّ المتناهي إذا وزّع على غير المتناهي يتولّد منه الاشتراك.

واخرى : بأنّ الألفاظ العامّة « كالموجود » و « الشيء » ضروريّة في اللغات ، وقد ثبت أنّ وجود كلّ شيء نفس ماهيّته ، فيكون وجود كلّ شيء مخالفا لغيره ، فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك.

وما عن القائلين بالامتناع ، تارة : بأنّ الاشتراك موجب للإجمال ، وهو موجب لفوات الغرض من وضع الألفاظ وهو الإفهام ، فإنّه غير حاصل مع الإجمال.

ص: 477


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 19 ( مخطوط ).
2- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

واُخرى : بأنّ اللفظ إن ذكر معه قرينة زائدة عليه فيفضي إلى التطويل بغير طائل ، وإلاّ فلا يفهم منه شيء أصلا ، فيكون إطلاقه عبثا ، فإنّ الغرض من الإطلاق إنّما هو فهم المعنى.

والجواب عن الأوّل : بأنّ عدم وقوع الاشتراك على الوجه الّذي يقتضيه التوزيع - حسبما رامه المستدلّ - كما هو معلوم بضرورة من اللغة ، وإلاّ كانت الألفاظ بأسرها مشتركة ، بل كلّ لفظ مشتركا بين معاني كثيرة ، وهذا ينافي ضرورة ندرته ، ووقوعه في بعض الألفاظ على ندرة دليل على بطلان القول بالوجوب وفساد وضع دليله ، مع أنّ المستدلّ ذكر : « إذا وزّع » وهو تقدير للتوزيع ، وظاهر أنّ تقدير الشيء لا يحقّقه ، والدليل لا يفيد وقوع التوزيع المذكور فضلا عن وجوبه.

نعم إنّما يسلّم وقوع الاشتراك على ندرة ، وهو لا يلازم وجوبه لوضوح الفرق بين وقوع الشيء ووجوب وقوعه والمسلّم هو الأوّل ، وقد يكون لمجرّد المقارنة الاتّفاقيّة كما لو حصل الاشتراك بالوضع اللاحق من واضع واحد إذا كان من البشر لعدم التفاته إلى وضعه السابق ، أو من واضع آخر لعدم اطّلاعه على وضع الأوّل ، أو لعدم التفاته إليه ، أو لغير ذلك من دواعي وقوعه ، من دون أن يكون واجبا.

وعن الثاني : بأنّ غاية ما يسلم في لفظ « الموجود » إنّما هو وقوع الاشتراك فيه ، وهو لا يلازم كونه على وجه الوجوب ، ولا ينافي كونه لضرب من الاتّفاق ، مع أنّ الموجودات غير متناهية ، وزمان الوضع متناه ، ولا يتصوّر وقوع الأوضاع الغير المتناهية في الزمان المتناهي ، مع تطرّق المنع إلى كون وجود كلّ شيء نفس ماهيّته ، فإنّه مبنيّ على القول بأصالة الوجود لا الماهيّة ، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو أنّ الأصل الماهيّة والوجود طار عليها عارض ، لها فيكون قول « الموجود » على الموجودات بالتواطي لا بالاشتراك.

والقول : بأنّ الوجود إن كان صفة زائدة على الماهيّة فهي في القديم واجب وفي الحادث ممكن فلا يكون أمرا واحدا ، وإلاّ لكان الواحد بالحقيقة واجبا لذات وممكنا لاخرى ، وهو محال.

ص: 478

يندفع : بأنّ الوجود صفة في القديم والحادث والوجوب والإمكان صفتان في تلك الصفة باعتبار أنّ ذات القديم تقتضي وجوب وجوده ، وذات الحادث تقتضي إمكان وجوده ، ولا استحالة في شيء من ذلك كما لا استحالة في كون الصفة الموصوفة بهما واحدا بالنوع ، لأنّ الاختلاف بالوجوب والإمكان إنّما هو باعتبار وجوداته.

غاية الأمر ، كونه بهذا الاعتبار من الكلّي المشكّك لتفاوت أفراده بالأوّليّة والأولويّة والأشدّيّة وأضدادها ولا ضير فيه.

وعن الثالث : بمنع المقدّمة الاولى أوّلا : إذ لا إجمال في اللفظ إذا ذكر معه القرينة للمراد.

ومنع المقدّمة الثانية ثانيا : لمنع فوات الغرض مطلقا على تقدير الإجمال ، إذ الغرض قد يتعلّق بإفهام ما في الضمير على الإجمال ، ويترتّب عليه فوائده ومزاياه ممّا سنذكره.

ومع الغضّ عن ذلك فالدليل المذكور إنّما ينهض سندا للمنع ، ومقتضيا للامتناع على القول بكون واضع اللغات هو اللّه سبحانه ، أو غيره مع اتّحاده والتفاته إلى وضعه السابق ، أو تعدّده مع اطّلاعه بوضع الأوّل والتفاته إليه.

وأمّا إذا اتّحد ولم يلتفت ، أو تعدّد ولم يطّلع أو اطّلع ولم يلتفت ، فلا لحصول الاشتراك حينئذ بمجرّد الوضع الثاني وشيوعه قهرا مع عدم منافاته الحكمة.

وعن الرابع : أوّلا : بالنقض بمجازات اللغة إذا ذكر معها القرينة أو عدمه ، إذا الأوّل يوجب التطويل بلا طائل ، والثاني تفويت الغرض من الإطلاق بل بطريق آكد لعدم حصول فهم هنا حتّى إجمالاً.

وثانيا : بالنقض بالمشتركات المعنويّة عند إطلاقها على أفراد معانيها بالتقريب المذكور.

وثالثا : بمنع إطلاق كون ذكر القرينة تطويلا ، لأنّها قد تكون عقليّة ونحوها ممّا لا يكون لفظا ، وهي في اللفظيّة أيضا قد لا تكون فضلة في الكلام ، بل يكون

ص: 479

مضمون الكلام بنفسه قرينة معيّنة للمراد ، كما في قوله تعالى : ( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (1)

ورابعا : بمنع كونه بلا طائل ، كيف وتعيين حقيقة المراد من أعظم الفوائد.

وقد يتضمّن غير ذلك من الخواصّ والفوائد ، كما في قوله تعالى : ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ ) (2) لقضائه بكون الشاربين هم المخصوصون.

وخامسا : بمنع عدم انفهام شيء عند ترك القرينة أصلا ، ليكون الإطلاق عبثا لوضوح حصول انفهام المراد على وجه الإجمال والترديد ، فيترتّب عليه فوائده وخواصّه الّتي كثيرا مّا يتعلّق غرض الحكيم بترتّبها ، كالتوصّل إلى حقيقة المراد بالنظر والاجتهاد ، أو التهيّؤ للامتثال وتوطين النفس للإطاعة إلى [ أن ] تأتي مقام الحاجة المستدعية لورود البيان على التفصيل ، ليترتّب على كلّ فوائده المطلوبة منه.

هذا كلّه مضافا إلى ما يرد على هذا الوجه وسابقه معا من أنّ في وقوع الاشتراك في اللغة - على ما سنذكره - حجّة واضحة على بطلان القول بالامتناع ، وفساد وضع حجّتيه ، ضرورة أنّه لو امتنع لم يقع ، واللازم باطل والملازمة بيّنة.

ثمّ القائلون بإمكان الاشتراك عقلا اختلفوا في وقوعه مطلقا في اللغة وعدمه ، وعلى القول بالوقوع اختلف أيضا في وقوعه في القرآن وعدمه.

والحقّ وقوعه مطلقا ومقيّدا ، ولمّا كان إثبات المقيّد كافيا في ثبوت فلنكتف بالاستدلال على الوقوع المقيّد ، فنقول :

لنا : على ذلك لفظ « القرء » في قوله تعالى : ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) و « عسعس » في قوله تعالى : ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) (4) لاشتراك الأوّل بين الطهر والحيض ، والثاني بين أقبل وأدبر كما صرّح به أئمّة اللغة ، وأطبق عليه محقّقوا أهل النظر ، بل هو معلوم بالتسامع والتظافر بين أرباب الصناعات بجميع أصنافهم

ص: 480


1- القمر : 12.
2- الإنسان : 6.
3- البقرة : 228.
4- التكوير : 17.

من غير مخالف ولا نكير ، وإن كان المراد بالأوّل خصوص الطهر على ما اتّفق عليه الفقهاء وبالثاني خصوص الإدبار كما عن الفرّاء حكاية إجماع المفسّرين على التفسير به.

وإنّما اقتصرنا في إثبات الوقوع المقيّد على هذين اللفظين وفاقا لغير واحد مع أنّ « العين » أيضا كما في الآيتين المتقدّمتين من هذا القبيل سدّا لباب احتمال التواطي والحقيقة والمجاز والنقل ، لكون المعنيين في كلّ منهما من الأضداد فلا يعقل بينهما جامع حتّى يحتمل التواطي ، ولا علاقة مصحّحة حتّى يحتمل المجاز ، ولا مناسبة معتبرة حتّى يحتمل النقل ، فلم يبق إلاّ الاشتراك ، وإنكار تعدّد المعنى فيهما ليكونا من المتّحد المعنى تكذيب لأئمّة اللغة ، بل مصادمة لما هو في المعلوميّة بالسامع والتظافر كالبديهة.

وقد يستدلّ على الاشتراك فيهما أيضا كما في المنية ، بأنّ السامع إذا سمعه لم يبادر ذهنه إلى أحد المعنيين بعينه ، ولا إلى أمر مشترك بينهما ، بل يبقى متردّدا بينهما إلى أن يحصل قرينة تدلّ على تعيين أحدهما ، وذلك آية الاشتراك إذ لو كان متواطيا لبادر الذهن إلى فهم المشترك بينهما ، ولو كان حقيقة ومجازا لبادر إلى فهم المعنى الحقيقي منهما دون المجازي عند التجرّد عن القرينة ، ولو كان منقولا عن أحدهما إلى الآخر لبادر إلى فهم المنقول إليه دون المنقول منه ، فلم يبق إلاّ أن يكون مشتركا بينهما ، فإذا ثبت الاشتراك فيهما ثبت وقوع المشترك في القرآن المجيد لوقوعهما فيه. انتهى (1).

وهذا إن لم ينهض حجّة مستقلّة يصلح مؤيّدا لا محالة.

احتجّ المانع من وقوعه فيه - على ما في النهاية (2) - بأنّ المقصود منه إمّا أن يكون هو الإفهام أو لا ، والثاني باطل لكونه عبثا ممتنعا على الحكيم.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يوجد معه القرينة الدالّة على معانيه أو لا ، والأوّل

ص: 481


1- منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).

تطويل بلا فائدة ، والثاني لكونه طلبا لفهم معنى من لفظ يدلّ عليه وعلى غيره بالسويّة تكليفا بالمحال.

وقد يقرّر بوجه أخصر : وهو أنّه لو كان مبيّنا لزم التطويل بلا فائدة لإمكان الأداء بدونه ، وإلاّ لزم عدم الإفادة ، وكلّ منهما لا يليق بكلامه تعالى.

والجواب عن كلا التقريرين ، أوّلا : بأنّه في مقابلة ما بيّنّاه يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ ، لأنّ مبناه إمّا على إنكار ورودهما في القرآن أو على انكار تعدّد معنييهما ، أو على إنكار كونه على الاشتراك لجواز التواطي أو المجاز أو النقل ، ولا سبيل له إلى شيء من ذلك كما هو واضح.

وثانيا : بمنع الملازمة في كلّ من مقدّمتي الدليل ، أعني منع لزوم التطويل على تقدير وجود القرينة والبيان ، ومنع كونه بلا فائدة ، ومنع اختلال الفهم وعدم الإفادة مطلقا - ولو إجمالا - على تقدير ترك القرينة وعدم البيان ، وسند المنع في الكلّ قد تقدّم بيانه ولا حاجة إلى الإعادة ، مع أنّه لو تمّ لقضى بعدم وقوع المجاز فيه أيضا لعين التقريب المذكور ، ولا أظنّ المستدلّ ينكره.

وبما قرّرناه يثبت وقوعه مطلقا ، أي في العرف ، لعين ما ذكر لإثبات الاشتراك في اللفظين وغيرهما ، كالعين وغيرها بنصّ أهل اللغة وإطباق أهل النظر عليه في الجملة ، وكذلك في اللغة لأصالة عدم النقل ، ولا يعارضها أصالة عدم تعدّد النقل ، إمّا لعدم جريانه.

بتقريب : إنّ تعدّد الوضع بحسب المعنيين معلوم الثبوت ، والشكّ إنّما هو في كونه بحسب صدر اللغة أو بحسب العرف من جهة النقل عن معنى ثالث لغوي إليهما في العرف ، فأصالة عدم تعدّد الوضع غير جارية ، وأصالة عدم النقل نافية لاحتمال النقل المذكور.

أو لكونها على فرض تسليم الجريان معارضة بأصالة عدم هذا الوضع المحتمل في صدر اللغة لمعنى ثالث غير المعنيين ، لأنّه على حصوله وضع ثالث عارض للّفظ زائدا على الوضعين المفروض عروضهما له بإزاء المعنيين ، والأصل عدم هذا الوضع الزائد ، فيبقى أصالة عدم النقل سليمة.

ص: 482

أو لورود أصالة عدم النقل عليها باعتبار كونه أصلا سببيّا كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

واحتجاج المانع عنه بما تقدّم في احتجاج القائل بالامتناع من استلزامه التطويل بلا طائل ، أو اختلال الفهم ، يندفع بما تقدّم مشروحا.

وقوله أيضا - في منع الاشتراك في مثل « العين » للجارية والباكية وغيرها ، والجون للأسود والأبيض ، الثابت بتنصيص أهل اللغة وتصريح محقّقي العلماء وغيرهما - : بأنّ ما يدّعى اشتراكه فهو إمّا متواطئ أو حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر « كالعين » الّتي هي موضوعة للجارحة المخصوصة ثمّ نقل إلى الدينار والفضّة لوجود الصفاء فيهما ، وإلى الشمس لاشتراكها في الصفاء والضياء ، وإلى الماء لما ذكر ، ساقط بعد ما عرفت. ولا يلتفت إليه في مقابلة ما ذكر ، لكون احتمال النقل - بمعنى التجوّز - كالتشكيك في مقابلة البديهة ، مضافا إلى أصالة عدم ملاحظة العلاقة والمناسبة المذكورة في استعمالات اللفظ في المعاني المذكورة غير الجارحة المخصوصة. فتأمّل.

فإنّ هذا الأصل مدفوع بورود أصالة عدم تعدّد الوضع عليه.

في جواز استعمال المشترك في معنيين

وإذا اتّضح الحقّ في المقامات المذكورة ، فلنشرع فيما هو الغرض الأصلي من عقد الباب ، وهو البحث في جواز استعمال المشترك في معنيين فما زاد وعدم جوازه ، وتفصيل القول فيه يستدعي رسم مقدّمات وتمهيدها من باب المبادئ.

المقدّمة الاولى : في شرح أجزاء العنوان

المقدّمة الاولى : في شرح أجزاء العنوان من « الجواز » و « الاستعمال » و « المشترك » و « المعنيين » وبيان حقيقة المراد منها.

فأوّل أجزائه الجواز وعدمه ، ولا يصحّ أن يراد به الجواز الشرعي التكليفي وعدمه ، أعني الحرمة والإباحة كما هو محلّ بحث الفقيه في الفروع ، ليكون معنى قول المانع من الجواز حرمة استعمال المشترك في أكثر من معنى وكونه اثما ، ولا الجواز الشرعي الوضعي أعني الصحّة والفساد ، بمعنى ترتّب الأثر الشرعي وعدمه ليكون معنى القول بالمنع فساد الاستعمال المذكور وبطلانه ، كما هو محلّ البحث

ص: 483

في الفقه أيضا ، لإطباقهم على كون المسألة لغويّة فلا يطلب فيها الحكم الشرعي ، والجواز بكلّ من المعنيين حكم شرعي.

مضافا إلى عدم مساعدة احتجاجات المجوّزين والمانعين وسائر كلماتهم على إرادتهما ، بل مساعدة الجميع على خلافها كما يظهر بالتأمّل.

وقضيّة كونها لغويّة كون المراد بهما الجواز اللغوي وعدمه ، أعني رخصة الواضع في نحو هذا الاستعمال وكونه مرخّصا فيه وعدمه فيكون غلطا ، ويساعد عليه احتجاج جماعة من المانعين بقاعدة توقيفيّة اللغات ، أو وحدانيّة وضع الألفاظ ، ولكن يأباه احتجاج جملة منهم على المنع بلزوم التناقض في الإرادة كما ستعرفه ، فإنّه يقتضي المنع العقلي ، ويلزم منه كون المراد بهما الجواز العقلي وعدمه أعني الإمكان والامتناع.

والإنصاف : إنّ مراد المجوّزين من الجواز ما يتضمّن الجواز العقلي واللغوي معا ، أعني عدم امتناع نحو هذا الاستعمال وثبوت الرخصة فيه من أهل اللغة.

وأمّا المانعون فمنهم من يدّعي المنع العقلي ، ومنهم من يدّعي المنع اللغوي بعد إنكارهم المنع العقلي.

وثاني أجزائه « الاستعمال » وقد ذكرنا في غير موضع أنّ الاستعمال استفعال من العمل ، ويتضمّن الطلب وهو فعل المتكلّم ، ومعناه : أن يطلب المتكلّم من اللفظ العمل في المعنى ، وعمل اللفظ فيه أن يفيده ، فالاستعمال في محصّل المعنى طلب المتكلّم من اللفظ إفادة المعنى للسامع ، وهو بهذا المعنى قد يتحقّق بالنسبة إلى معنى واحد بعينه ، بأن يطلب من المشترك مثلا إفادة واحد معيّن من معانيه ، فينعقد به تكليف واحد مثلا إن كان ذلك المعنى من قبيل الحكم ، كما في صيغة « إفعل » على القول باشتراكها بين الوجوب والندب ، إذا اريد بها الوجوب فقط أو الندب كذلك ، أو ينعقد به مكلّف به واحد إذا كان المعنى من قبيل الموضوع ، كما في قوله : « إئتني بعين » إذا اريد به الإتيان بالفضّة فقط.

وقد يفرض بالنسبة إلى معنيين من معانيه بعينهما ، بأن يطلب منه إفادة هذا

ص: 484

وهذا بعينهما ، فينعقد به تكليفان مثلا إن كانا من قبيل الحكم كما في الصيغة أيضا على القول المذكور إذا اريد بها الوجوب والندب ، كقوله : « إغتسل للجنابة والجمعة » أو ينعقد به كلّ منهما مكلّفا به على حدّة فيتعدّد المكلّف به إن كانا من قبيل الموضوع ، كما في « إئتني بعين » إذا اريد به الإتيان بالفضّة وبالذهب.

وهذا هو المراد باستعمال المشترك في معنيين أو أكثر من معنى في معقد البحث ، على ما يرشد إليه قرينة المقابلة بينه وبين استعماله في معنى واحد ، حسبما فرضناه ، فإنّ المراد بالاستعمال فيهما نحو استعماله في المعنى الواحد بلا فرق بينهما إلاّ في اتّحاد المستعمل فيه المعيّن وتعدّده.

وعليه ينطبق ما في كلام المصنّف وغير واحد عند تحرير المبحث من : أنّ محلّ النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين ، بأن يراد به في إطلاق واحد هذا وذاك على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ، لا في المجموع المركّب الّذي أحد المعنيين جزء منه (1).

وهذا هو المراد ممّا حرّره بعض أصحاب الحواشي (2) وتبعه بعض الأعلام من أنّ المراد : استعماله في كلّ واحد على البدل (3) ، بناء على كون المراد بالبدليّة اعتوار المعنيين المستعمل فيهما على اللفظ الواحد ، وهو أن يتناوبا في أخذه ، بأن يأخذه أحدهما ويستوفي حقّه من حيث إنّه مطلوب إفادته للسامع ، ثمّ يأخذه الآخر ويستوفي حقّه أيضا من الحيثيّة المذكورة ، على معنى انحلال الاستعمال فيهما عند العقل إلى التناوب بالمعنى المذكور.

وعليه فلا حاجة ولا داعي إلى تكلّف تصوير استعمال المشترك بصور كثيرة وإبداء احتمالات كثيرة فيه لتشخيص موضع النزاع ، كما صنعه جماعة من الأواخر مع إطناب بعضهم كبعض الأفاضل (4) في التكلّم في كلّ صورة بما لا يرجع إلى

ص: 485


1- المعالم : 33.
2- حاشية المدقّق الشيرواني المعروفة بحاشية ملا ميرزا ، المطبوعة بهامش المعالم : 33.
3- قوانين الاصول 1 : 67.
4- هداية المسترشدين : 118 ( الطبعة الحجرية ).

كثير طائل ، فإنّ كلّ ما ذكروه من الصور على ما يرشد إليه التأمّل الصادق خارجة عن معقد البحث في استعمال المشترك في أكثر من معنى ، لما أخذ فيه من حيثيّة - حسبما ذكرناه - تأبى كونها من معقد البحث.

نعم لا نضائق كون كلّ ما فرض ممّا عدا ذلك مسألة اخرى خارجة عن عنوان مسألة استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولعلّنا بعد الفراغ عن المسألة واختيار المذهب فيها نتكلّم في بعض هذه الصور أو كلّها ، استعلاما لحكمها من الجواز وعدمه.

ثمّ إنّه لا فرق في المعنى المذكور من الاستعمال في معنيين بين مفرد المشترك وتثنيته وجمعه عند القائل بالجواز في الكلّ أو في الأخيرين خاصّة ، إذ كما يطلب من « العين » في قوله : « رأيت عينا » أو « ائتني بعين » إفادة الذهب والفضّة على أن يكون كلّ منهما موردا للحكم أو مكلّفا به على حدة ، فكذلك من « العين » في قوله : « رأيت عينين » أو « إئتني بعينين » ويقصد بالعلامة الإشارة إلى اثنينيّة المراد والمستعمل فيه بلا فرق بينهما في أصل كيفيّة الاستعمال.

نعم ربّما يحصل الفرق بينهما في جهة اخرى عن الاستعمال في معنيين بالمعنى المبحوث عنه ، وهو أنّه يعتبر في التثنية جريان الحكم على المعنيين بطريق الانضمام والاجتماع ، لا بمعنى كون كلّ منهما جزءا من المجموع لينافي الفرض ، بل بمعنى جريان الحكم عليهما بطريق المعيّة ، مع كون كلّ موردا له بالاستقلال ، ولا يعتبر ذلك في المفرد ، فقولك : « رأيت عينا » عند إرادة الذهب والفضّة مثلا يصدق مع وقوع الرؤية على كلّ منهما بطريق المعيّة أو على الانفراد مع تقدّم رؤية الذهب أو بالعكس ، وقولك : « رأيت عينين » يقتضي وقوعها على كلّ منهما حال كونهما معا.

وعلى هذا فقولك : « ائتني بعينين » يقتضي اعتبار الإتيان بهما في حصول الامتثال ، وإن كان الإتيان بكلّ مكلّفا به على حدّة.

وهذا كما ترى حكم آخر واعتبار زائد على ما فرض من استعمال المشترك

ص: 486

الّذي هو مدخل العلامة ، وهو من خواصّ التثنية من حيث إنّها تثنية ، ولا مدخل له في استعمال المشترك من حيث هو مشترك في معنيين بالمعنى المذكور ، فإنّه طلب منه إفادة المعنيين على أن يكون كلّ منهما مكلّفا به على حدّة ، واعتبار المعيّة في الامتثال حكم آخر لحقه من جهة التثنية مستندا إلى ظهورها الانصرافي لا الوضعي ، وليس هذا الاعتبار إلاّ نظير إذا ثبت في المفرد بدلالة خارجيّة ، وكما أنّه فيه لا ينافي كون استعمال اللفظ في المعنيين على الوجه المذكور فكذلك في التثنية فاستعمال المشترك مفردا ومثنّى في معنيين بالمعنى المبحوث عنه على نمط واحد لا غير.

ومن ذلك يندفع ما قد يسبق إلى الوهم من حصول الفرق بينهما في الاعتبار المذكور ، فيورد على من حرّر محلّ النزاع على الوجه المتقدّم - من كون كلّ من المعنيين مناطا للحكم متعلّقا للإثبات والنفي - : بأنّ هذا لا يتمّ في التثنية والجمع لما دخل في مفهوميهما من اعتبار الانضمام والاجتماع ، ووجه الاندفاع : ما ذكرناه من عدم المنافاة.

وأمّا التكلّم في خصوص التثنية من أنّ المراد من استعماله في معنيين هل هو إرادة نفس المعنيين كالذهب والفضّة مثلا ، أو فرد من معنى وفرد آخر من معنى آخر ، أو فردان من معنى وآخران من معنى آخر كما صنعه غير واحد من الأواخر ، فليس على ما ينبغي ، بل ينبغي القطع بكون المراد إرادة نفس المعنيين ، ضرورة : أنّ معنى المشترك كالعين مثلا نفس الذهب والفضّة لا فرد أو فردان من الذهب ، وفرد أو فردان من الفضّة.

مضافا إلى أنّ مقتضى الحجّة الّتي احتجّ بها القائل بالجواز في التثنية والجمع من أنّهما في قوّة تكرير المفرد إلى آخر ما سيأتي من تقريره أيضا ، كون المراد إرادة نفس المعنيين لا غير.

وثالث أجزائه « المشترك » وهذا بالنظر إلى ظاهر اصطلاحهم وإن كان لا يتناول المنقول الّذي لم يهجر معناه الأصلي ، ولا المرتجل إن جعلناه قسيماً له ، ولا

ص: 487

الألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ لمعنى خاصّ ، لبناء الاصطلاح على مقابلته للجميع ، إلاّ أنّ أدلّتهم على الجواز والمنع تعمّ الجميع ، ومناط الجواز والمنع جار في الجميع ، فلا يبعد القول حينئذ بدخول المذكورات في محلّ النزاع حكما وإن لم تدخل فيه اسما ، ولا ينافيه إفراد الحقيقة والمجاز بعنوان آخر ، مع أنّ قضيّة ما ذكر دخولهما في هذا العنوان حكما ، لما في الحقيقة والمجاز من حيثيّة اخرى غير موجودة في غيرهما ، من كون المجاز ملزوما لقرينة معاندة للحقيقة ، وكان النزاع في الجواز وعدمه فيهما بعد البناء على الجواز في غيرهما ولو من باب الفرض والتنزّل.

ورابع أجزائه « المعنيين أو أكثر من معنى » وقد ظهر المعنى المراد بذلك الجزء وهو نفس الأمرين الكلّيين أو الشخصيّين المأخوذ كلّ واحد منهما بانفراده في وضع اللفظ من غير نظر إلى كون الاستعمال المفروض فيهما على وجه الحقيقة مطلقا أو المجاز كذلك أو على التفصيل بين المفرد والتثنية والجمع ، ولذا بنى الخلاف الآتي في الحقيقة والمجاز على القول بالجواز.

المقدّمة الثانية : تقييد العنوان بما إذا أمكن الجمع بين المعنيين ومازاد

المقدمة الثانية : في كلام أكثر الاصوليّين من المجوّزين والمانعين تقييد العنوان بما إذا أمكن الجمع بين المعنيين وما زاد حسبما يراد من اللفظ ، وظاهرهم كون القيد احترازيّا يقصد به الاحتراز عمّا لا يمكن الجمع ، كما فهمه المحقّق السلطان في عبارته الآتية ، وكلامهم في بيان المعنى المراد من هذا القيد غير محرّر.

فيحتمل كون مرادهم به إمكان الجمع بينهما في الإرادة احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما لأوله إلى اجتماع المتناقضين أو المتضادّين في نفس المتكلّم ، كما في الأمر إن قلنا باشتراكه بين الوجوب والتهديد الّذي مرجعه إلى التحريم ، كما حمله عليه المحقّق المذكور في شرح عبارة المصنّف ، حيث قال : « إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا »

فقال المحقّق في الحاشية : أي يمكن جمعهما في الإرادة عند إطلاق واحد ،

ص: 488

وإن كان متضادّين « كالقرء » للطهر والحيض و « الجون » للبياض والسواد ، في قولنا : القرء من صفات النساء ، والجون من عوارض الجسم ، بخلاف صيغة « إفعل » للوجوب والتهديد فإنّه لا يمكن إرادتهما معا منه في إطلاق واحد.

ويحتمل كون مرادهم به إمكان الجمع بينهما في الامتثال ، احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال ، لأوله إلى التكليف بما لا يطاق ، كقوله - لشخص واحد في زمان واحد - « عسعس » في الأمر من العسعاس ، مريدا به معنى أقبل وأدبر فإنّ الإقبال والإدبار متضادّان لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال.

ويحتمل كون مرادهم إمكان الجمع بينهما بحسب قابليّة المقام ، بأن يكون المقام قابلا لاجتماعهما فيه ، احترازا عمّا لا يكون قابلا له ، كما لو كان لفظ مشتركا بين المعنى الفعلي والمعنى الحرفي مثلا ، مثل : « على » و « في » فإنّ كلاّ منهما يرد فعلا كما في قوله تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) (1) وقولنا : « في بعهدك » وحرفا كقوله : « كن على السطح » و « زيد في الدار » فإنّهما حيث يراد منهما المعنى الفعلي كالمثالين الأوّلين فالمقام لا يناسب معه المعنى الحرفي ولا يصلح له ، وحيث يراد منهما المعنى الحرفي كالمثالين الأخيرين فالمقام لا يناسب معه المعنى الفعلي ولا يصلح له ، فهذان المعنيان ممّا لا يمكن الجمع بينهما بحسب قابليّة المقام.

وهذا أبعد الاحتمالات ، لمنع كون الكلمتين في معنييهما الفعلي والحرفي من باب الاشتراك ، بل كلّ منهما فعلا وحرفا كلمتان مستقلّتان ، كما يرشد إليه التأمّل في لحوق الإعلال بهما فعلا ، فبسببه اتّحدتا معهما حرفا في الصورة فكلّ منهما في معنييهما الفعلي والحرفي من الألفاظ المتبائنة لتعدّد اللفظ والمعنى معا ، فعدم قابليّة المقام لاجتماع معنييهما الفعلي والحرفي إنّما هو باعتبار عدم قابليّته للفعل والحرف معا ، إذ لا ريب في أنّ كلمة « على » في مقام واحد لا يمكن أن ترد فعلا وحرفا معاً ، وكذلك كلمة « في ».

ص: 489


1- القصص : 4.

ويقرب منه في البعد ثاني الاحتمالات ، فإنّ غاية ما يلزم من عدم إمكان الجمع بين المعنيين في الامتثال على تقدير وقوع الاستعمال فيهما مع وروده في حيّز التكليف ، إنّما هو لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح على الحكيم عقلا.

وظاهر أنّ القبيح العقلي لا ينافي جواز الاستعمال لغة أعني صحّته ، ولا يوجب كونه غلطا.

ألا ترى أنّ قول الحكيم : « طر إلى السماء » مثلا لا غلط في تركيبه ولا في شيء من مفرداته ، مع أنّ مضمونه تكليف بما لا يطاق ، فتعيّن كون مرادهم أوّل المحتملات كما فهمه المحقّق المتقدّم ، ومثّل له بالأمر في الوجوب والتهديد.

والوجه في عدم إمكان الجمع بينهما في الإرادة - للزوم اجتماع المتناقضين أو المتضادّين - : إنّ الإيجاب والتحريم متضادّان فلا يجتمعان في ضمير متكلّم واحد ، لوضوح إنّ المأخوذ في وضع صيغة الأمر ليس مفهوم الإيجاب ومفهوم التحريم بل مصداقهما ، وهو الطلب الحتمي الشخصي المنقدح في نفس المتكلّم بفعل الشيء ، والطلب الحتمي الشخصي المنقدح في نفسه أيضا المتعلّق بترك الشيء.

ولا ريب أنّه إذا انقدح في نفسه الطلب الحتمي المتعلّق بفعل شيء لا ينقدح معه الطلب الحتمي المتعلّق بترك ذلك الشيء ، وإلاّ لزم اجتماع المتضادّين في نفس المتكلّم وهو محال ، مضافا إلى أنّ الإيجاب يتضمّن إرادة الفعل والتحريم يتضمّن كراهته وهما أيضا متضادّتان ، وإلى أنّ الأوّل يستلزم المحبوبيّة والثاني يستلزم المبغوضيّة وهما أيضا متضادّتان ، وهذا بكلّ من التقارير الثلاث معنى عدم إمكان الجمع بينهما في الإرادة ، ومرجعه إلى عدم إمكان إرادتهما معا ، لعدم إمكان اجتماعهما في نفس المتكلّم ، وهو راجع إلى عدم استعمال اللفظ فيهما معا.

وبالتأمّل في ذلك يظهر السرّ في التقييد والاحتراز ، فإنّ غرضهم بذلك إحراز ما هو موضوع المسألة ، وتحقيق ما هو عنوان البحث الّذي هو مورد الأقوال الآتية ، أعني الاستعمال في معنيين وما زاد ، فإنّه لا يتحقّق إلاّ فيما أمكن الجمع

ص: 490

بينهما في الإرادة ، ضرورة أنّ ما لا يمكن الجمع بينهما فلا يتحقّق فيه الاستعمال في المعنيين حتّى يبحث في جوازه وعدم جوازه ، بل لا يتحقّق فيه دائما إلاّ الاستعمال في أحد المعنيين ، فلا معنى للنزاع في جوازه وعدم جوازه.

وربّما يشكل الحال بالنظر إلى أكثر المانعين في احتجاجهم لعدم الجواز بلزوم التناقض في الإرادة وهو غير ممكن ، فيكون الجمع غير ممكن ، فيلزمهم على هذا أن لا يكون للعنوان المتنازع فيه مصداق في الخارج أصلا ، لزعمهم لزوم التناقض دائما في إرادة جميع المعاني ، لوضوح أنّ كلّ مشترك يفرض استعماله في الجميع فهو داخل فيما أخرجوه عن عنوان المسألة بالقيد المذكور ، فهو دائما ممّا لا يتحقّق في الخارج حتّى يبحث في جوازه وعدم جوازه.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ غرضهم من الاحتجاج بالحجّة المذكورة إلزام المجوّزين على بطلان مقالتهم بما يسلّمونه من خروج ما لا يمكن الجمع فيه بين المعنيين في الإرادة عن عنوان المسألة ، باعتبار عدم إمكان تحقّق الاستعمال في المعنيين.

وملخّصه : إنّ كلّ مشترك تفرضون استعماله في معنييه أو جميع معانيه فهو راجع إلى ما لا يمكن فيه الجمع بينهما في الإرادة للزوم التناقض ، وقد أخرجتموه بواسطة التقييد بالقيد المذكور عن عنوان البحث ، فكيف تجوّزونه مع أنّه دائما غير ممكن. فليتدبّر فإنّه دقيق.

وطريق دفع هذا الإلزام - حسبما يستفاد من كلمات المجوّزين في مقام الجواب عن هذه الحجّة - أنّ المراد من إمكان الجمع بين المعنيين إمكان الجمع بينهما لذاتهما ، احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما لذاتهما ، بأن يكون ذات المعنيين مقتضية لامتناع اجتماعهما في إرادة المتكلّم ، كما في الوجوب والتهديد حسبما بيّناه ، بل للوجوب والندب أيضا بالنسبة إلى الأمر على القول باشتراكه بينهما ، نظرا إلى تنافي الحتميّة واللاحتميّة ، وتنافي المنع من الترك وعدم المنع منه ، فلا يجتمعان من جهة واحدة بالنسبة إلى شيء واحد في ذهن المتكلّم ، وما زعمتم

ص: 491

كونه كذلك في كلّ مشترك يفرض استعماله في معنييه أو جميع معانيه فإنّما ينشأ من توهّم جزئيّة قيد الوحدة للمعنى الموضوع له ، لا من اقتضاء ذاتي المعنيين ، ويمنع الملازمة حينئذ بمنع جزئيّة قيد الوحدة.

ولو سلّم فيرتفع المحذور بإسقاط قيد الوحدة ، ومع إسقاطها مطلقا يتحقّق الاستعمال في المعنيين أو في الجميع.

غاية ما هنالك أن لا يسمّى ذلك استعمالا في المعنى الحقيقي ، وهذه مناقشة لفظيّة لا يعبأ بها في المسائل النظريّة.

المقدّمة الثالثة : في أنّ قيد « الوحدة » ليس جزء المعنى المفرد

المقدّمة الثالثة : في أنّ قيد الوحدة ليس جزء المعنى المفرد مشتركا كان أو غيره ، ونعني بالمفرد هنا ما يقابل المثنّى والمجموع. وبعبارة اخرى : ما ليس بتثنية ولا جمع.

والوحدة قد تطلق على الوصف الاعتباري الّذي يلحق الشيء في نفسه باعتبار انتفاء الكثرة عنه في نفسه ، سواء كان ذلك الشيء أمرا كلّيّا أو شخصيّا ، فإنّ كلّ مفهوم كلّي كالإنسان أو شخصي كزيد فهو واحد بهذا الاعتبار.

غاية الأمر إنّ الوحدة في الأوّل نوعيّة وفي الثاني شخصيّة ، ووصف الوحدة بهذا المعنى بالنسبة إلى موصوفه من قبيل العرض اللازم ، فلا ينفكّ عنه في شيء من حالاته حتّى حال انضمامه إلى غيره ، كانضمام الإنسان إلى الفرس والبقر والغنم وغيرها من الأنواع ، وانضمام زيد إلى عمرو وبكر وخالد وغيرها من الأشخاص. ولا ينافيه حصول وصف الكثرة بسبب الانضمام ، لأنّه ليس كثرة في مفهوم « الإنسان » و « زيد » ولا غيرهما من الأنواع والأشخاص ، بل هو أيضا وصف اعتباري يحصل في المجموع باعتبار انضمام بعض إلى بعض ، كآحاد العشرة مثلا مع بقاء كلّ واحد على وحدته الذاتيّة.

وقد تطلق على وصف اعتباري آخر يلحق المعنى كلّيا كان أو جزئيّا باعتبار عدم انضمام الغير إليه ، ويعبّر عنه « بالانفراد » وفي الفارسية ب- « تنهايى » وهو بهذا المعنى بالنسبة إلى موصوفه من قبيل العرض المفارق ، لأنّه في لحوقه وعدم

ص: 492

لحوقه يتبع الانضمام وعدم الانضمام ، فيقال له الواحد حال عدم انضمام الغير إليه ولا يقال مع الانضمام.

وقيد الوحدة وإن لم يكن بشيء من المعنيين جزءا لمعنى المفرد ولا مأخوذا في وضعه ، إلاّ أنّ المقصود بنفي جزئيّته هنا هو المعنى الثاني ، لأنّه مراد من زعمه جزءا له كما يرشد إليه كلماتهم المصرّحة بسقوط قيد الوحدة عند استعمال المشترك في أكثر من معنى ، لوضوح أنّ المعنى الأوّل على ما بيّنّاه من كونه وصفا لازما لا يقبل السقوط والإسقاط.

وقد فسّره الفاضل المحشّي بكون المعنى منفردا في الإرادة ، وهذا سهو لأنّ كونه منفردا في الإرادة من عوارض الاستعمال ، وعلى تقدير ثبوت اعتباره من الواضع فلا يصلح جزءا للمعنى ولا قيدا للموضوع له ، بل يشبه بكونه شرطا في ضمن الوضع ، على معنى أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لنفس المعنى شرط أن لا يراد من اللفظ إلاّ منفردا ، فلا محمل لقيد « الوحدة » في محلّ البحث إلاّ الوصف الاعتباري بالمعنى الثاني.

فنقول : إنّه ليس جزء المعنى المفرد ولا مأخوذا في وضعه ، فتكون دلالته على نفس المعنى كلّيّا أم جزئيّا بالمطابقة لا بالتضمّن ، خلافا لمن زعمه جزءا كالمصنّف ومن وافقه ، ولمن زعمه قيدا كما في الضوابط ، فيكون الدلالة على نفس المعنى حينئذ بالتضمّن.

لنا : على ذلك بعد الأصل - بمعنى أصالة عدم تعرّض الواضع لتصوّر ما زاد على تصوّر نفس المعنى وملاحظته وأخذه في الوضع ، لكونه مشكوكا بعد تيقّن الجميع بالنسبة إلى نفس المعنى - قضاء الوجدان الصريح والطبع الصحيح بأنّ الواضع حين الوضع إنّما يلاحظ نفس المعنى ويأخذه في الوضع ويضع اللفظ بإزائه ، ولا يلتفت إلى وصفه الاعتباري المعبّر عنه بالوحدة ، ولا يأخذه في الوضع ولا يجعله جزءا للموضوع له ولا قيدا فيه ، بل هو لمن خلّى نفسه عن الشبهة من الفطريّات ، ويكفي شاهدا بذلك مراجعة الوجدان عند وضع العلم ، فيجد كلّ أحدٍ

ص: 493

أنّه لا يلتفت إلى الوصف المذكور ولا يأخذه في الوضع أصلا ، ومن أنكره فقد كابر وجدانه.

ويشهد بذلك أيضا ظاهر كلام أئمّة اللغة في كتبهم عند ضبط معاني الألفاظ ، حيث لا يتعرّضون إلاّ لبيان نفس المعنى من دون إشعار بوصفه ولا إشارة إليه ، وإنّما أردنا من عدم التفات الواضع حين الوضع إلى ما زاد على نفس المعنى ما يعمّ عدم الاعتناء لا ما يرادف الغفلة ، فلا ينافي إسناده إلى الواضع توقيفيّة اللغات نظرا إلى استحالة الغفلة منه تعالى.

لا يقال : كيف تنكر جزئيّة قيد « الوحدة » مع أنّ المعنى حال الوضع واحد ، فالوضع حاصل بإزاء المعنى حال وجود الوحدة والانفراد ، إذ لا ملازمة بين وجود وصف مع المعنى حين الوضع ودخوله في الوضع وأخذه جزءا للموضوع له.

ألا ترى أنّ وضع العلم حاصل حال صغر المسمّى مع عدم دخول الوصف في الوضع ، ولذا كان استعماله في جميع حالات المسمّى من الصغر والكبر والشيخوخة والهرم حقيقة.

فإن قلت : إنّ تبادر الوحدة من المشترك ممّا يرشد إلى كونها جزءا كما اعتمد عليه المصنّف وغيره ، فإنّ المتبادر منه عند الإطلاق واحد من معانيه بعينه عند المتكلّم ، وإن لم يكن معيّنا للسامع.

وبعبارة اخرى : تبادر المعنى الواحد وهو علامة دخول الوحدة أيضا في الوضع.

قلت : هذا التبادر إطلاقي على معنى كونه من لوازم الاستعمال ، ومنشؤه جريان العادة في المحاورات بأن لا يراد من المشترك إلاّ أحد معانيه بعينه عند المتكلّم ، أو غلبة استعماله في الواحد ، وليس وضعيّا كاشفا عن الوضع باعتبار كون المتبادر ممّا وضع له اللفظ ، فلا يعبأ به.

وكما اندفع بما ذكرناه القول بجزئيّة قيد « الوحدة » فكذلك اندفع القول بقيديّته ، ثمّ إنّ ها هنا توهّمين :

ص: 494

أحدهما : أنّ عدم دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له يقتضي عموم الوضع لحالتي الوحدة والكثرة ، فيكون استعمال اللفظ في الكثير على وجه الحقيقة ، كما أنّ استعماله في الواحد كذلك ، وإنّما توهّمه المحقّق السلطان حيث ردّ على المصنّف في دعوى كون اللفظ حقيقة في كلّ من المعنيين مع قيد « الوحدة » قائلا : لا يخفى أنّ دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ممنوع ، بل الظاهر خلافه ، وإنّ الوحدة وعدمها من عوارض الاستعمال لا جزء للمستعمل فيه ، فإنّ الظاهر إنّ الواضع إنّما وضعه لكلّ من المعاني لا بشرط الوحدة ولا عدمها.

نعم قد يستعمل تارة في واحد منها ، وقد يستعمل في أكثر ، والموضوع له المستعمل فيه هو ذات المعنى في الصورتين على ما حقّقه شارح المختصر (1).

ثانيهما : إنّ قيد « الوحدة » وإن لم يدخل في الوضع ولكن وجود الوصف حال الوضع ممّا يقتضي اختصاص الوضع بحال الوحدة ، فالتخطّي منها إلى غيرها باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعمال له في غير ما وضع [ له ](2) والمتوهّم لذلك بعض الأعلام في هذا المقام (3) بل في غير موضع من كتابه.

ولا بأس بالتكلّم في تحقيق ما هو الصواب من هذين التوهّمين.

فنقول : يمكن توجيه الأوّل بما يكون دليلا عليه ، من : أنّ المشترك « كالعين » مثلا بالنسبة إلى الذهب والفضّة موضوع لذات كلّ من المعنيين بوضع على حدّة ، وكما أنّه إذا اريد منه الذهب وحده تعويلا على الوضع المختصّ به كان استعمالا له فيما وضع له ، وإذا اريد منه الفضّة وحدها تعويلا على الوضع الآخر المختصّ بها كان استعمالا له فيما وضع له ، فكذلك إذا اريد منه الذهب والفضّة معا تعويلا بالنسبة إلى كلّ منهما على الوضع المختصّ به كان استعمالا له فيما وضع له ، والانضمام المفروض إنّما حصل قهرا من جهة الاستعمال من باب المقارنة الاتّفاقية من دون أن يوثّر في خروج شيء منهما عن كونه موضوعا له ، ولا في

ص: 495


1- حاشية سلطان العلماء على المعالم : 33.
2- أثبتناه بضرورة السياق.
3- قوانين الاصول 1 : 63.

كون الاستعمال المفروض استعمالا في خلاف ما وضع له ، لأنّه إنّما يؤثّر في ذلك على تقدير كون وصف الوحدة والانفراد معتبرا في الوضع بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة والمفروض خلافه لفرض حصول الوضع لذات كلّ من المعنيين لا بشرط الوحدة ولا بشرط عدمها ، فكلّ من الوحدة وعدمها ملغى في نظر الواضع ، ولا نعني من عموم الوضع لكلتا حالتي الوحدة والانضمام إلاّ هذا.

ويمكن توجيه الثاني أيضا بوجهين ينهض كلّ منهما دليلا عليه :

أحدهما : أنّ محصّل معنى الوضع قصر اللفظ على المعنى ، سواء عرّفناه بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، أو بتخصيص اللفظ بالمعنى بحيث متى اطلق اللفظ فهم منه المعنى أو بغير ذلك ، وكما أنّ الوضع بمعنى قصر اللفظ على معنى معيّن يوجب انصراف اللفظ عن المعاني الاخر ، ولذا يكون استعماله فيها استعمالا في خلاف ما وضع له ، فكذلك قصره على معنى حال وجود وصف فيه يوجب انصرافه عن حالة انتفاء ذلك الوصف ، ولا نعني من اختصاص الوضع بحال الوحدة والانفراد وعدم تناوله لحال الكثرة والانضمام إلاّ هذا.

ولا ينتقض ذلك بوضع العلم حال وجود وصف الصغر في المسمّى ، لأنّ واضع العلم قصد بوضعه التعميم ليدعى المسمّى ويعرف بذلك الاسم في جميع حالاته حتّى بعد الموت ، بخلاف ما نحن فيه لعدم ثبوت القصد إلى التعميم من الواضع هنا بالنسبة إلى الحالتين.

ويزيّفه : أنّ الوضع بمعنى قصر اللفظ لا يوجب انصراف اللفظ عن حالة انتفاء الوصف الموجود في المعنى إلاّ إذا وضع اللفظ لنفس ذلك الوصف أو للوصف والموصوف معا ، والمفروض عدم التفات الواضع إلى الوصف وكونه ملغى في نظره.

وثانيهما : أنّ انتفاء ماهيّة عن شيء وعدم صدقها عليه قد يكون لانتفاء جنسها وقد يكون لانتفاء فصلها ، كانتفاء ماهيّة « الإنسان » عمّا هو فرد للشجر وما هو فرد للفرس ، فإنّه في الأوّل لانتفاء الحيوانيّة وفي الثاني لانتفاء الناطقيّة ، والوضع

ص: 496

بمعنى تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ماهيّة مركّبة من جنس وهو : تعيين اللفظ للمعنى ، وفصل وهو : الدلالة على المعنى بنفسه ، وهو بهذا المعنى منتف عن الغلط والمجاز معا ، إلاّ أنّه في الأوّل لانتفاء جنسه وفي الثاني لانتفاء فصله ، لأنّ دلالته على المعنى المجازي بواسطة القرينة لا بنفس اللفظ ، مع اشتماله على نوع تعيين باعتبار ترخيص الواضع في استعمال نوع اللفظ الموضوع فيما يناسب معناه الموضوع له ، والمشترك عند إطلاقه إنّما يدلّ بنفسه على واحد من معنييه بعينه عند المتكلّم ، والافتقار إلى القرينة لأجل تعيين ذلك الواحد للسامع ، وإذا اريد منه المعنيان معا فهو لا يدلّ عليهما بنفسه جزما بل يفتقر في دلالته إلى القرينة.

وقضيّة ذلك انتفاء الوضع عن المعنيين لانتفاء فصله ، وإن شمل كلاّ منهما الجنس وهو التعيين ، وهذا هو معنى اختصاص الوضع بحالة الوحدة والانفراد.

ويزيّفه أيضا : أنّ قيد « الدلالة على المعنى بنفسه » في تعريف الوضع ليس من قبيل الفصل بل من قبيل الغاية ، فإنّ الفائدة المقصودة من تعيين اللفظ للمعنى إنّما هي دلالة اللفظ على المعنى بنفسه لا بالقرينة.

ومن المعلوم إنّ غاية الشيء خارجة عن حقيقة ذلك الشيء ، فحقيقة الوضع وماهيّته هو تعيين اللفظ للمعنى ، وهو حاصل لكلّ من المعنيين في حالتي الانفراد والانضمام وعدم الدلالة عليهما مع الانضمام لمانع التعدّد مثلا لا ينافي عموم الوضع الحاصل لكلّ منهما لهما حال الانضمام في الإرادة ، بل لنا أن نقول : إنّ الوضع ليس علّة تامّة للدلالة بل هو من باب المقتضي ، ومن ذلك يمكن أن يكون المراد من الدلالة المأخوذة في تعريفه الدلالة بالقوّة. أعني كون اللفظ من شأنه أن يدلّ على المعنى بنفسه ، لوجود مقتضى الدلالة وهو الوضع ، وعدم فعليّة الدلالة إنّما هو لمانع خارجي.

وتوهّم إنّه لقصور اللفظ عن الدلالة ، ولا يكون إلاّ لانتفاء المقتضي حال الانضمام.

ص: 497

يدفعه : قضاء الوجدان بأنّه لقصور المعنيين عن الانفهام حال الانضمام لا لقصور اللفظ ، فإنّه لوجود المقتضي معه مستعدّ للدلالة عليهما مع الانضمام ، وإنّما لا يدلّ عليهما فعلا لجريان العادة بأن يراد من المشترك واحد من معانيه بعينه أو لغلبة ذلك فيه.

وهذا هو الباعث على قصور المعنيين عن الانفهام من اللفظ مع الانضمام ، فما ذكره المحقّق السلطان بحسب ظاهر النظر هو الصحيح والصواب ، فقيد « الوحدة » كما أنّه ليس من أجزاء الموضوع له ولا من مشخّصاته فكذلك ليس من مخصّصات الوضع.

المقدّمة الرابعة : في تحقيق حال المثنّى والمجموع وضعا واستعمالا

المقدّمة الرابعة : في تحقيق حال المثنّى والمجموع وضعا واستعمالا.

فنقول : إنّ كلاّ منهما يرد في الاستعمال على وجوه :

أحدها : أن يراد به فردان أو أفراد من ماهيّة واحدة هي معنى المفرد ، كرجلان ومسلمون رفعا ، ورجلين ومسلمين نصبا وجرّا.

وثانيها : أن يراد بهما شيئان في الاسم أو أشياء متّفقات في الاسم وإن لم يتّفقا أو لم تتّفق في المعنى ، بعدم كونهما فردين أو أفرادا من ماهيّة واحدة ، كزيدان وزيدون رفعا ، وزيدين بالفتح والكسر نصبا وجرّا.

وثالثها : أن يراد بهما شيئان مختلفان في الاسم والمعنى ، بعدم كونهما مسمّيين باسم المفرد ولا فردين من مسمّاه ، ك- « قمران » و « قمرين » لمسمّى القمر والشمس لبنائه على الاستعارة بالنسبة إلى مسمّى الشمس لمشابهتهما في الضوء والإنارة.

وقد نقل عن أهل العربيّة خلاف فيهما باعتبار المعنى ، فعن الأكثرين منهم القول بالحقيقيّة في الأوّل خاصّة ، ووافقهم جماعة من الأعلام من الاصوليّين.

وعن جماعة المصير إلى كونهما لما يعمّ الأوّل والثاني ، أعني كونهما بحسب الوضع لشيئين أو أشياء متّفقة في الاسم فقط ، سواء اتّفقت في المعنى أيضا بكونهما فردين أو أفرادا من ماهيّة واحدة أو لا ، وعبّروا عنه بكفاية الاتّفاق في اللفظ فيهما ولا حاجة معه إلى الاتّفاق في المعنى أيضاً.

ص: 498

والظاهر أنّ مرادهم من كفاية الاتّفاق في اللفظ صحّة وقوع لفظ المفرد على كلّ من الشيئين أو الأشياء بالاشتراك المعنوي ، كما لو كانا فردين أو أفرادا من معناه الحقيقي أو الادّعائي كفردين من الرجل الشجاع إذا اريدا من أسدين ، أو بالاشتراك اللفظي كما في « عينين » و « زيدين » أو بالحقيقة والمجاز كما في « قمرين » و « حسنين » و « عمرين » و « أبوين » أو بالمجاز فيهما معا كما في « خافقين » للمغرب والمشرق ، فإنّ « الخافق » من خفق النجم بمعنى غرب ، كنّى للمغرب من باب إطلاق اسم الفاعل على معنى اسم المفعول ، لأنّ المغرب على المعنى المذكور مخفوق فيه ، وكذلك إن أخذناه من خفقة بمعنى النعاس ، ثمّ غلّب بعد ذلك على المشرق فهذا مجاز في مجاز من باب سبك المجاز من مجاز.

فمرجع المعنى الثالث باعتبار وضع التثنية والجمع على القول الثاني إلى المعنى الثاني على معنى كون إطلاق « قمرين » مثلا باعتبار الوضع المذكور على الحقيقة وإن لزمه التجوّز في المفرد بالاستعارة أو غيرها لإحدى العلاقات المعتبرة بالنسبة إلى أحد المعنيين ، لوضوح أنّ مرجع القول المذكور إلى كون التثنية بحسب الوضع لشيئين متّفقين في اللفظ مطلقا ، سواء كانا فردين من معنى المفرد حقيقة أو مجازا أو معنيين مستقلّين ، مع كون كلّ منهما معنى حقيقيّا للمفرد أو أحدهما معنى حقيقيّا له والآخر معنى مجازيّا ، أو كلّ منهما معنى مجازيّا له كما في « خافقين ».

وقيل : بأنّه على القول الأوّل يلزم في مثل « زيدان » و « زيدين » مجاز واحد ، وهو تأويل الاسم أعني المفرد بالمسمّى اعتبار لكون المعنيين المتبائنين فردين من المسمّى ، وفي مثل « قمران » و « قمرين » مجازان ، لافتقاره أوّلا إلى استعارة اسم « القمر » لمسمّى الشمس ، ثمّ تأويله إلى المسمّى ليشمل كلاّ من المعنى الحقيقي والمجازي.

وفيه : أنّ التجوّز الأوّل في مثل « قمرين » لازم للقولين معا ، ولا اختصاص له بالقول الأوّل ، إذ لا مدخليّة فيه لوضع التثنية من حيث أنّها تثنية ولا لوضع الجمع من حيث إنّه جمع.

ص: 499

وأمّا التجوّز الآخر باعتبار التأويل بالمسمّى الّذي مرجعه إلى التصرّف في المادّة لا في الهيئة ، فيه وفي مثل « زيدين » فكونه بالخصوص لازما للقول الأوّل مبنيّ على كون وضع التثنية والجمع شخصيّا متعلّقا بأدواتهما ، مع القول بعدم جواز استعمال المشترك في التثنية والجمع في أكثر من معنى ، إذ على الوضع النوعي المتعلّق بالهيئة يلزم التجوّز في الهيئة لا في المادّة ، باستعمال الهيئة الموضوعة للفردين أو الأفراد من ماهيّة واحدة في ماهيّتين ونحوهما ممّا ليسا فردين من معنى المفرد بإحدى المناسبات المعتبرة ، كما أنّه على القول بجواز الاستعمال في أكثر من معنى يراد نفس المعنيين أو المعاني من مدخول العلامات بلا افتقار إلى التأويل بالمسمّى ، وإن لزمه المجاز في العلامات على القول المذكور ، لفرض وقوع استعمالها في مطلق التعدّد مع كونها موضوعة لتعدّد خاصّ وهو قصد الفرد.

وكيف كان : ففيهما خلاف آخر باعتبار اللفظ ، وهو كون الوضع فيهما نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة الحاصلة من لحوق الأدوات بالمفرد ، أو شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

فاستظهر أوّلهما بعض الأعاظم مسندا له إلى ثلّة وقرّره بأن يقال - في التثنية مثلا - : كلّ ما كان آخر مفرده « ألف أو ياء » مفتوح ما قبلها ونون مكسورة فهو موضوع لفردين (1).

وصرّح بثانيهما بعض الأعلام (2) وهو ظاهر بعض الفضلاء بل صريحه (3) ويمكن ترجيح هذا القول بملاحظة مقدّمتين :

الاولى : ما تقرّر عندهم من أنّ الموادّ المجرّدة عن اللواحق من اللام والتنوين

ص: 500


1- إشارات الاصول : 29 ( الطبعة الحجرية ).
2- قوانين الاصول 1 : 68 ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : فإنّ الظاهر إنّ المجاز في التثنية والجمع إنّما يرجع إلى ما لحقه علامتهما لا إلى العلامة والملحق به معا ...
3- الفصول : 55 ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : « لنا : على عدم جوازه في التثنية والجمع حقيقة أنّ أداتهما إنّما تدلّ على فردين أو أفراد من معنى المفرد فمفادها التعدّد في أفراد مدلول المفرد ... الخ ».

وأدوات التثنية والجمع المعبّر عنها بأسماء الأجناس موضوعة للطبائع الكلّية المعرّاة عن ملاحظة الأفراد ، ولكنّ الطبيعة قد تعتبر من حيث الوجود في ضمن فرد واحد أو فردين أو أفراد ، فتقيّد بالوحدة أو الاثنينيّة أو ما فوق الاثنينيّة ، وكلّ من هذه القيود كمّيّة تحتاج في الكلام إلى معبّر ولفظ موضوع يعبّر به عنها ، وقد وضع لها التنوين وأدوات التثنية والجمع ، فالوحدة وضع لها التنوين ، والاثنينيّة وضع لها الألف والياء المفتوح ما قبلها ، وما فوق الاثنينيّة وضع لها الواو والياء المكسور ما قبلها.

الثانية : ما قرّرناه في مسألة وضع المركّبات من أنّ المركّب من لفظين لكلّ منهما وضع إفرادي لا حاجة له إلى وضع آخر نوعي متعلّق به من حيث كونه مركّبا ، ما لم يتولّد من التركيب معنى ثالث مفتقر إلى معبّر لا يكفي عنه الجزءان ، وظاهر أنّ المركّب من اللواحق المذكورة والمادّة « كرجل » و « رجلان » و « رجلون » مثلا - على فرض ثبوت هذا الجمع فيه - إنّما يراد به الطبيعة من حيث وجودها في ضمن فرد أو فردين أو أفراد منها ، وهذا المعنى يكفي في إفادته المركّب باعتبار الوضع الإفرادي الثابت لجزئيه بلا حاجة له إلى وضع آخر ، إذ الجزء الأوّل منه يدلّ على الجزء الأوّل من المعنى ، والثاني منه على الثاني من المعنى وهذا هو معنى كون الوضع في التثنية والجمع شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

ولكن يشكل الأمر في أنّ الكمّية المذكورة بأنواعها الثلاث وإن كانت قيودا للطبيعة ، إلاّ أنّها قائمة بالفرد والفردين والأفراد ، وهي بأنواعها الثلاث معاني حرفيّة والأدوات المفيدة لها من قبيل الحروف ، وأمّا نفس الفرد والفردين والأفراد فهي معان اسميّة وتفتقر إلى معبّر لا يكفي فيه الجزءان ، إذ لو اريدت من الأدوات لا نقلب المعنى إلى المعنى الاسمي ، أو دخل المعنى الاسمي في مدلول الحرف ، وهذا غير سائغ عند أهل العربيّة ، ولو اريدت من المدخول الموضوع للطبيعة من حيث هي لزم التجوّز فيما أطبقوا على أنّه لا مجاز فيه ، لدخول ما ليس من الموضوع له في المستعمل فيه.

ص: 501

وأخصّ من يتوجّه إليه هذا الإشكال من صرّح من الأعلام كجماعة بأنّ هذه الأدوات موضوعة للفرد والفردين والأفراد ، فإنّ الأدوات إذا كانت حروفا فكيف يقال بوضعها للمعاني الاسميّة ، فلا بدّ في الذبّ عن الإشكال المذكور من التزام وضع آخر نوعي متعلّق بالمركّب لنفس الفرد والفردين والأفراد فمدلول كلّ من المفرد والتثنية والجمع ينحلّ إلى امور ثلاث ، ذات الفرد والفردين والأفراد وهي مدلول الأدوات والماهيّة وهي مدلول المادّة ، وهذا هو معنى ما يقال : من أنّ النكرة موضوعة بالنوع لفرد مّا من الماهيّة ، والتثنية لفردين منها ، والجمع لأفراد منها ، فالمتّجه حينئذ هو القول الأوّل.

وتوهّم أنّ الذبّ عن الإشكال يتأتّى بجعل ذات الفرد وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا مثلا مدلولا التزاميّا لمجموع مدلولي المادّة والأدوات بلا حاجة له إلى معبّر آخر ، فإنّ الماهيّة وقيدها الّذي هو الكمّيّة بأنواعها الثلاث تستلزم اعتبار فرد يقوم به هذه الكمّيّة ، فتكون الدلالة عليه التزاميّة.

يدفعه : أنّ المدلول الالتزامي ما يحصل الانتقال إليه بواسطة الانتقال إلى المدلول المطابقي فيكون ثانويّا ، ويأباه هنا كون المتبادر أوّلا وبالذات من النكرة هو فرد مّا ، ومن التثنية فردان ومن الجمع أفراد من الماهيّة ، وهذا يكشف عن كونه مدلولا مطابقيّا للهيئة التركيبيّة ، مضافا إلى أنّ المقصود بالأصالة في الكلام فيما علّق فيه الحكم على النكرة أو التثنية أو الجمع ، والموضوع الأصلي للحكم في خطابات الشرع والعرف إنّما هو الفرد والفردين والأفراد ، فمن البعيد كونه مدلولا التزاميّا.

هذا كلّه في « رجل » و « رجلين » ونظائرهما ، و « مسلمين » و « مسلمين » وأشباههما ، من مثنّيات أسماء الأجناس وجموعها ، وأمّا نحو « زيدان » و « زيدون » وغيرهما من مثنّيات الأعلام وجموعها فلا يجري فيه الإشكال المذكور أوّلا وبالذات ، لأنّ الكمّيّة المذكورة من الاثنينيّة وما فوقها قائمة بنفس

ص: 502

معنى المدخول المأخوذ في وضع المفرد ، لا بأمر مغاير له أعني الفرد ، ولكن إرادة المعنيين أو المعاني في التثنية والجمع من المدخول من غير تجوّز فيهما مبنيّ على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، مع القول بكون الأدوات موضوعة لمطلق الاثنينيّة وما فوقها ، ومن لم يجوّز الاستعمال ويجعل الأدوات للاثنينيّة الخاصّة وما فوقها ، أعني اثنينيّة الفرد وما فوقها يلتزم بتأويل المفرد إلى المسمّى ليكون نفس المعنيين أو المعاني فردين أو أفرادا من جنس المسمّى.

وحينئذ لا بدّ هنا أيضا من التزام وضع نوعي متعلّق بالمركّب بإزاء المعنيين أو المعاني بعنوان أنّهما فردان أو أفراد ، لأنّهما من المعاني الاسميّة الغير الصالحة لأن تراد من الأدوات ، ولو اريدت من المدخول مع فرض تأويله بالمسمّى لزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ، أو تداخل المعنى الحقيقي في المجازي ، وهو ليس بسائغ عند هذا القائل.

فظهر بما قرّرناه تحقيق القول في النزاع الثاني الواقع في وضع التثنية والجمع من حيث اللفظ.

وملخّصه : إنّ لكلّ منهما مع قطع [ النظر ] عن جزئيه وضع نوعي متعلّق بالهيئة التركيبيّة مغاير لوضعي جزئيه.

وأمّا تحقيق القول في النزاع الأوّل الواقع في وضعهما باعتبار المعنى ، وهو : أنّ المأخوذ في وضعهما أو وضع أدواتهما هل هو التعدّد الخاصّ من اثنينيّة الفرد من الجنس وما فوقها ، أو مطلق التعدّد أعني مطلق الاثنينيّة وما فوقها ولو في نفس معنى المفرد ، وهو المراد من كفاية اتّفاق اللفظ فيهما من دون حاجة إلى اتّفاق المعنى ، ومرجعه : إلى أنّه هل يجوز بحسب الوضع بناء التثنية والجمع من المعنيين أو المعاني للدلالة على التعدّد في نفس المعنى ، أو يجب بناؤهما من معنى واحد للدلالة على التعدّد في فرده.

والأقوى : هو اعتبار اتّفاق اللفظ والمعنى معا فيهما ، فالمأخوذ في وضعهما التعدّد الخاصّ الّذي هو كمّيّة في الفرد ، لا مطلق التعدّد ، وذلك لأنّ أدواتهما وإن

ص: 503

كانت في الطرف المقابل للتنوين باعتبار دلالته على الوحدة ودلالتهما على الاثنينيّة وما فوقها ، إلاّ أنّها بحكم التبادر العرفي وظاهر كلام أئمّة اللغة وعلماء الأدب والاصوليّين تشاركه في نكارة المعنى ، فالتنوين وأدوات التثنية وأدوات الجمع بحسب الوضع ألفاظ من قسم الحروف متشاركة في الدلالة على النكارة ، ومتمايزة في الدلالة على الوحدة والاثنينيّة وما فوق الاثنينيّة.

وقضيّة ذلك : أن يكون التعدّد المأخوذ في وضع الأدوات معتبرا في الفرد كما أنّ الوحدة المأخوذة في وضع التنوين تعتبر في الفرد ، نظرا إلى أنّ النكارة إنّما تلحق الفرد لا غير ، فكما أنّ النكرة باعتبار وضع التنوين تدلّ على فرد مّا من الجنس لا بعينه ، فالتثنية أيضا باعتبار وضع الألف أو الياء المفتوح ما قبلها تدلّ على فردين من الجنس لا بعينهما ، والجمع أيضا باعتبار وضع « الواو » أو « الياء » المكسور ما قبلها يدلّ على أفراد من الجنس لا بعينها.

وبالجملة : فكلّ من الوحدة والاثنينيّة وما فوقها ملزومة للنكارة.

ويدلّ عليه أيضا ما في كلام النحاة في ذكر شروط بناء التثنية من اشتراطه بتنكير ، ولأجل ذلك ترى أنّ بعضا منهم أشكل عليه الأمر في تثنية الأعلام وجمعها « كزيدان » و « زيدين » و « زيدون » ونحوها ، فالتزم بكونهما من ملحقات التثنية والجمع لما اعتبر في بنائهما من النكارة في المفرد والعلم معرفة.

ومنهم من التزم بتأويل الفرد إلى المسمّى اعتبارا للتنكير في معناه ، وهم الأكثرون منهم ، بل في كلام بعض الأفاضل : لا شكّ في كون تثنية الأعلام وجمعها نكرة حسبما اتّفقت عليه النحاة (1).

وفي تضاعيف عبارات الشارح الرضي في مباحث المعرفة والنكرة ، ومباحث المثنّى والمجموع وغيرها : أنّ تثنية العلم وجمعه يغيّرانه من التعريف إلى التنكير.

ويظهر من مطاوي كلماته كونه اتّفاقا من النحاة ، ومن ثمّ يغلب فيهما دخول « لام » التعريف اعتبارا للتعريف في معناهما بواسطة « اللام » لزوال التعريف العلمي

ص: 504


1- هداية المسترشدين : 121 ( الطبعة الحجرية ).

المأخوذ في مفردهما بسبب بنائه تثنية أو جمعا ، ولا يوصفان بالمعرفة إلاّ بعد اعتبار التعريف فيهما « باللام » وينصرف المفرد بطروّهما له لو كان ممّا لا ينصرف ، كما ينصرف بطروّ الإضافة في نحو : « مررت بأحمدكم » وبلحوق التنوين في نحو : « مررت بأحمد غيره » ويدخل فيهما كلمة « ربّ » الملزومة لنكارة المدخول ، فيقال : « ربّ زيدين لقيتهما » كما يقال : « ربّ زينب وفاطمة لقيتهما » ويضاف إليهما « الكلّ » للتعميم فيقال : « أكرم كلّ زيدين » كما يقال : « أكرم كلّ رجلين » إلى غير ذلك من الشواهد على لزوم التثنية والجمع بحسب وضع أدواتهما لنكارة المفرد ، حتّى أنّه لو كان علما ينكر ، ولا ريب أنّ النكارة من عوارض المفرد.

ولا ينتقض ما ذكرناه - من لزومهما النكارة المستلزم لتأويل المفرد بالمسمّى وإخراجه عن المعرفة لو كان علما - بالألف والواو في « ضربا » و « ضربوا » و « يضربان » و « يضربون » وغيرهما من مثنّيات الأفعال وجموعها ، بتقريب : أنّهما يدلاّن على الاثنينيّة وما فوق الاثنينيّة في الفاعل ، فيلزم أن يراد من الضمير المستتر في مفردات هذه الأفعال مفهوم المتقدّم ذكره ، ليكون العلامة إشارة إلى فردين أو أفراد منه ، مع استحالة النكارة فيهما ، مع إشكال آخر فيه من حيث استلزامه لوقوع استعمال الضمير في المفهوم الكلّي ، وهو باطل لمخالفته إطباق القدماء والمتأخّرين من أهل العربيّة على أنّ الضمائر ونحوها من المبهمات لم يقع استعمالها قطّ في المفاهيم الكلّية ، وإن قلنا بكونها وضعا لها كما هو رأي قدمائهم ، لعدم كون « الألف » و « الواو » اللاحقين بمثنّيات الأفعال وجموعها من قبيل أدوات التثنية والجمع ليعتبر جريان حكمها فيهما ، بل هما بأنفسهما من الضمائر وقد وضع كلّ منهما بهذه الصيغة الخاصّة بالوضع العامّ لكلّ فردين معيّنين من المذكّر الغائب ، حصل تعيينهما بواسطة تقدّم ذكر المرجع ، فهما من قبيل الملحقات بالتثنية والجمع ، ولا يعتبر في نحوهما مفرد ولا لحوق بالمفرد حتّى ينشأ منه إشكال عدم النكارة أو إشكال آخر.

نعم ربّما يشكل الحال فيما ذكرناه - من وضع أدوات التثنية والجمع للدلالة

ص: 505

على فردين أو أفراد من الجنس الّذي يراد من المدخول - بالقياس إلى « هذان » و « هذين » و « اللذان » و « اللذين » و « اللتان » و « اللتين » بتقريب : إنّه لو قدّر الجنس المشترك بين الفردين اللذين يشار إليهما بالعلامة مفهوم المشار إليه الكلّي ، أو كلّي ما يتعيّن بالصلة مع فرض كونه مرادا من المدخول ، لزم خرق اتّفاق الفريقين من القدماء والمتأخّرين من أهل العربيّة على عدم وقوع استعمال هذه الألفاظ قطّ في المفاهيم الكلّية كما عرفت.

ودعوى : أنّ المذكورات ليست من قبيل التثنية ، بل كلّ واحدة منها صيغة مستأنفة وضعت للدلالة على فردين معيّنين من المشار إليه ، وما يتعيّن بالصلة اللذين يحصل تعيينهما بواسطة الإشارة الحسّية أو معهوديّة مضمون الصلة ، من دون أن يعتبر فيها لحوق ولا لاحق ولا ملحوق به لينشأ منه الإشكال المذكور ، بعيدة عن الاعتبار خالية عن الشاهد ، بل مخالفة لظاهر كلمات أئمّة اللغة وعلماء الأدب ، بل صريح كثير منهم في كون المذكورات من قبيل المثنّيات وإطلاق التثنية عليها ، وعدم ذكرهم في باب عدّ الملحقات بالتثنية نحو « كلا وكلتا » و « اثنان واثنتان » في عدادها ، فظاهرهم كونها من التثنية حقيقة ، ولذا تراهم اختلفوا في « هذان » في أنّ الألف المحذوفة بواسطة التقاء الساكنين هل هي الألف الأصليّة أو ألف التثنية. وهذا كما ترى بناء منهم على كونها تثنية.

هذا ويمكن التفصّي عن الإشكال - على تقدير كونها من التثنية على وجه الحقيقة - : بمنع منافاة تقدير إرادة الجنس المشترك من المدخول ، لاتّفاق الفريقين من أهل العربيّة المتقدّم ذكره ، بملاحظة أنّ مرادهم ممّا ذكروه عدم وقوع استعمال « هذا » و « الّذي » في المفهوم الكلّي من حيث هو كلّي ، وهذا لا ينافي فرض وقوع استعماله فيه من حيث الوجود.

وبيانه : إنّ المأخوذ آلة للملاحظة في وضع اسم والموصول الملحوظ قبل الوضع - على ما يساعد عليه النظر الصادق - إنّما هو مفهوم الذات المتّخذة في الذهن مع نسبة عارضة لها باعتبار الإشارة إليها أو تقييدها بالصلة ، وجزئيّاتها هي

ص: 506

الذوات الخارجيّة المتعيّنة الّتي يحصل تعيينها بواسطة الإشارة الحسّية ، أو معهوديّة مضمون الصلة فيما بين طرفي الخطاب من المتكلّم والسامع.

وقد ذهب قدماء أهل العربيّة إلى أنّ « هذا » و « الّذي » موضوعة لنفس مفهوم الذات المذكورة على الوجه المذكور من حيث إنّه مفهوم كلّي ، وأكثر متأخّريهم إلى الوضع للجزئيّات الخارجيّة المتعيّنة بواسطة الإشارة الحسّيّة أو مضمون الصلة ، وهذا هو المراد من المشار إليه كلّيا أو جزئيّا ، لا أنّ صفة الإشارة مأخوذة في الوضع مع الذات المذكورة كلّية أو جزئيّة ، بل المأخوذ معها على القولين إنّما هو النسبة العارضة لها باعتبار الإشارة ، والإشارة وجه من وجوهها ، كما أنّ التعقّب بالصلة في الموصول والتكلّم والخطاب والغيبة في أنواع الضمائر من وجوهها ، وبنائها - على ما حقّقه النحاة - إنّما هو لتضمّن معانيها النسبة المذكورة الّتي هي معنى حرفي فاشبهت المبنى الأصل شباهة معنويّة.

ومعنى عدم استعمالها في المفهوم الكلّي عند الفريقين عدم استعمالها في مفهوم الذات المتّخذة في الذهن بالنسبة المأخوذة معها باعتبار الإشارة من حيث إنّه كلّي ، وهذا لا ينافي استعمالها في جنس هذه الذات من حيث الوجود في ضمن الشخص الخارجي المعيّن ، المستفاد تعيينه من الإشارة الحسّيّة.

وحينئذ فلو اريد من « هذان » جنس الذات المذكورة من حيث الوجود في ضمن فرديها الخارجيّين المعيّنين ، المستفاد تعدّدهما من العلامة وتعيينهما من الإشارة كما يراد من « رجلان » مثلا جنس ذات ثبت لها الرجوليّة من حيث وجودها في ضمن فرديها المستفاد تعدّدهما من العلامة ، لم يلزم خرق الاتّفاق.

ولكن يزيّفه : ما علم ضرورة من استعمالات العرف من وقوع استعمالها دائما في نفس الشخص الخارجي ، من غير نظر إلى جنس الذات المتّخذة في الذهن أصلا ورأسا ، كما يتّضح ذلك بملاحظة هذا مفردا في الاستعمال.

ومع الغضّ عن ذلك ، الضرورة قاضية بانتفاء النكارة اللازمة للتثنية بحسب الوضع عن « هذان » و « اللذان » لوضوح كونهما معرفتين بعين ما يكون مفردهما معرفة من الإشارة الحسّيّة ومعهوديّة مضمون الصلة.

ص: 507

فالوجه في الألفاظ المذكورة هو الالتزام بخروجها عن حقيقة التثنية ، وكونها صيغا مخصوصة وضعت بخصوصها للدلالة على الفردين الخارجيّين المعيّنين ، من دون اعتبار لحوق ولا حق وملحوق به ، على حدّ الملحقات بالتثنية ، وإطلاق التثنية عليها في كلام بعض أهل العربيّة مسامحة في التعبير. وفي كلام بعضهم وارد على خلاف التحقيق.

ولا ينافيه عدم ذكرهم لها في عداد الملحقات ، إذ ليس مبنى كلامهم في باب الملحقات على الحصر ، بل يستفاد من عبارة الشارح الرضى وغيره كون عدّها من الملحقات قولا محقّقا فيما بينهم ، بل صريح بعض كلماته كونه قول الأكثرين منهم ، فإنّه في تضاعيف كلامه في مبحث المثنّى. قال : ومذهب الزجاج إنّ المثنّى والمجموع مبنيّان ، لتضمّنهما « واو » العطف كخمسة عشر ، وليس الاختلاف فيهما إعرابا عنده بل كلّ واحد صيغة مستأنفة ، كما قيل : في « اللذان » و « هذان » عند غيره. انتهى (1).

وقال - في مطاوي مبحث أسماء الإشارة : - قال : الأكثرون أنّ المثنّى مبنيّ لقيام علّة البناء فيه كما في المفرد والجمع ، و « ذان » صيغة مرتجلة غير مبنيّة على واحدة وإلاّ لقيل « ذيان » « فذان » صيغة الرفع ، و « ذين » صيغة اخرى للنصب والجرّ. وقال بعضهم : إنّه معرب لاختلاف آخره باختلاف العوامل. ودعوى أنّ كلّ واحد منهما صيغة مستأنفة خلاف الظاهر. انتهى.

فكونها من الملحقات هو الموافق للاعتبار ، وضابطة التثنية والجمع ، والاختلاف المتقدّم في الألف المحذوفة في « هذان » مبنيّ على القول بكونها تثنية أو على فرض كونها منها ، فتدبّر في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

ثمّ الظاهر إنّ ما بيّنّاه في معنى الجمع من كونه بحسب الوضع للدلالة على أفراد من جنس معنى المفرد لا فرق فيه بين مصحّحه ومكسّره ، كما نصّ عليه

ص: 508


1- شرح الكافية 2 : 173.

بعض الأفاضل : مدّعيا لعدم القائل بالفصل : إلاّ أنّ الدلالة في الأوّل بواسطة وضع الأداة والعلامة ، وفي الثاني بواسطة تكسير المفرد وتغييره بإحدى الوجوه المقرّرة في كتب التصريف ، ومرجعه : إلى أنّه بصيغته الحاصلة من تكسير مفرده موضوع للدلالة على حال معنى مفرده من حيث حصوله في ضمن أكثر من فرديه ، كما أنّ العلامة في الأوّل موضوعة للدلالة على حال معنى مدخولها من الحيثيّة المذكورة.

فظهر بجميع ما قرّرناه ضعف القول بكفاية اتّفاق اللفظ في بناء التثنية والجمع مصحّحا ومكسّرا ، وأنّه لا بدّ في الجميع من اتّفاق المعنى ، وإن كان معنى تأويليّا كما في الأعلام.

المقدّمة الخامسة : في أنّ عموم النفي المستفاد من ورود أداة النفي على المنكر أو النكرة لا استعمال المشترك في أكثر من معنى

المقدّمة الخامسة : في أنّ عموم النفي المستفاد من ورود أداة النفي على المنكر أو النكرة لا يجوّز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولا إرادة جميع المعاني منه ، خلافا لمن توهّمه حيث فرّق في المشترك بين ما وقع في الإثبات وما وقع في النفي ، فجوّزه في الثاني استنادا إلى أنّ النفي يفيد العموم فيتعدّد مدلوله.

وفيه : إنّ التعدّد اللازم لعموم النفي إنّما يعتبر في أفراد الماهيّة أو مصاديق فرد مّا ، وأيّا مّا كان فالأفراد أو المصاديق المتعدّدة ليست معنى اللفظ ولا مرادة من مدخول النفي ، بل المستعمل فيه المراد منه إنّما هو الماهيّة أو فرد مّا ، فإرادة المعاني المتعدّدة أو جميع المعاني منه ليست من لوازم عموم النفي ولا من ملزوماته ليستدلّ به على جوازها.

وتوضيحه : إنّ « لا » النافية للجنس و « لا » المشبّهة بليس وما بمعناها من أدوات النفي الواردة على المنكر أو النكرة ، وإن كانت تفيد العموم وتدلّ على عموم النفي ، إلاّ أنّهم ذكروا إنّ الاولى تدلّ عليه بطريق النصوصيّة والبواقي بطريق الظهور ، ولذا لا يجوز أن يقال : « لا رجل في الدار بل رجلان » ويجوز أن يقال : « ليس في الدار رجل بل رجلان » و « ما في الدار رجل بل رجلان » و « ما رأيت رجلا بل رجلين ».

والسّر في الفرق إنّ « لا » النافية للجنس تقتضي أن يكون مدخولها من قبيل

ص: 509

اسم الجنس ، وهو ما دلّ بالوضع على الماهيّة من حيث هي ، ونفي الماهيّة يستلزم نفي جميع أفرادها ، وظاهر أنّ إثبات البعض يناقض نفي الجميع ، ولذا لا يصحّ أن يقال : « بل رجلان » فيما إذا صدق قولنا : « لا رجل في الدار » للزوم التناقض.

بخلاف « ليس » و « لا » المشبّهة بها وغيرها ، فإنّ الغالب فيها كون مدخولها نكرة ، وهي ما يدلّ بالوضع على فرد مّا من الماهيّة ، أي مفهوم فرد مّا ، فإذا وردت عليها أداة النفي كانت ظاهرة في نفي مفهوم فرد مّا.

وظاهر إنّ نفي مفهوم فرد مّا يستلزم نفي جميع مصاديقه ، وحيث إنّ فردا مّا يتضمّن الوحدة المستفادة من التنوين فيحتمل كون النفي المستفاد من الأداة متوجّها إلى الوحدة فقط دون مفهوم الفرد ، وحينئذ يصحّ أن يقال : « بل رجلان » بعد قولنا : « ليس في الدار رجل » لأنّ نفي الوحدة لا ينافي إثبات الاثنين ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال مخالف للظاهر ، لظهور إرادة النفي في التوجّه إلى مفهوم الفرد ، ولأجل قيام الاحتمال المذكور كان دلالتها على عموم النفي على وجه الظهور ، وليس نحوه قائما في « لا » النافية حيث لم يؤخذ في معنى مدخولها وحدة حتّى يحتمل توجّه النفي إليها.

وعلى هذا فلو قيل : « لا عين في الدار » واريد من المدخول ماهيّة واحدة من معانيه ، أو قيل : « ليس في الدار عين » واريد فرد مّا من ماهيّة واحدة من معانيه فلا كلام في أنّهما يفيدان العموم ، وأنّ الأوّل يفيده في أفراد الماهيّة والثاني يفيده في مصاديق فرد مّا ، وأنّ عموم النفي يستلزم تعدّد المنفيّ من أفراد الماهيّة ومصاديق فرد مّا.

وأمّا إذا اريد من المدخول فيهما معان متعدّدة أو جميع المعاني ويقصد من أداة النفي نفي الماهيّات المتعدّدة المرادة من المدخول ، فهذه الإرادة ليست من لوازم عموم النفي بالمعنى المذكور ولا من ملزوماته ، فجوازها مبنيّة على ثبوت جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى بدليل آخر ، فإن ثبت جوازه بالدليل فلا يفترق الحال فيه بين الإثبات والنفي ، وإن لم يثبت فلا يفترق الحال فيه أيضاً

ص: 510

بينهما ، فالنفي المفيد للعموم في المنكر أو النكرة لا تأثير له في إثبات الجواز واختصاصه بالنفي.

وتوهّم : أنّ مدلول المشترك عند السكّاكي في المفتاح واحد من المعاني لا بعينه ، وعلى ما فهمه بعضهم من أنّ مراده لا بعينه مطلقا حتّى عند المتكلّم ، فلو دخلت عليه أداة النفي كان على مذهب صاحب المفتاح كالنكرة المنفيّة في إفادة العموم ، ولكن بالنسبة إلى جميع معانيه ، لوضوح أنّ نفي الواحد لا بعينه يقتضي نفي جميع مصاديقه الّتي هي المعاني هنا بالفرض.

يدفعه : أنّ حمل كلام صاحب المفتاح في مدلول المشترك على ما ذكر سهو ، بل الصواب أنّ مراده - موافقا للجمهور - لا بعينه في نظر السامع مع كون الواحد معيّنا في نظر المتكلّم.

ولو سلّم عدم التعيين مطلقا فالمراد مصداق الواحد لا بعينه ، وظاهر أنّ النفي الوارد عليه يقتضي نفيه على وجه البدليّة والترديد ، على معنى كون المنفيّ واحدا مردّدا بين الجميع ، كما أنّ الإثبات فيما لو وقع في الإثبات على الوجه المذكور يقتضي إثباته على وجه البدليّة والترديد ، ولا يقتضي نفيه نفي جميع المعاني لامتناع كونها مصاديق مصداق الواحد لا بعينه. فليتدبّر.

في أقوال المسألة

وإذا تمهّدت المقدّمات ، فنقول :

إنّ الاصوليّين بين قائل بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى مطلقا ، وقائل بعدم جوازه كذلك ، ومفصّل بين المفرد وغيره من المثنّى والمجموع. فجوّز في الثاني دون الأوّل ، ومفصّل بين المنفيّ والمثبت فجوّز في الأوّل دون الثاني.

والمجوّزون أيضا بين قائل بكون الاستعمال المفروض حقيقة مطلقا ، وقائل بكونه مجازا كذلك ، ومفصّل بين المفرد فالمجاز وغيره فالحقيقة.

ومن المجوّزين من زعم ظهوره عند التجرّد عن القرينة في إرادة جميع المعاني كالشافعي.

والمانعون أيضا بين مانع عقلا للزوم التناقض في الإرادة ، ومانع توقيفاً.

ص: 511

والسرّ في ذلك : أنّ القول بالجواز مبنيّ على وجود المقتضي للجواز ، وفقد مانعه.

في القول المختار والاستدلال عليه

وأمّا القول بعدم الجواز ، فإن كان مستنده دعوى وجود المانع وهو لزوم التناقض فهو المنع العقلي ، وإن كان مستنده منع وجود المقتضي فهو المنع التوقيفي ، نظرا إلى أنّ المقتضي لجواز استعمال اللفظ في المعنى المعبّر عنه بمصحّح الاستعمال منحصر في أحد الأمرين من الوضع والعلاقة المرخّص فيها.

وقد زعم هذا القائل انتفاءهما معا ، أمّا انتفاء الأوّل : فمبناه إمّا على توهّم مدخليّة قيد « الوحدة » في الوضع أو الموضوع له ، أو على توهّم اختصاص الوضع بحالة الوحدة والانفراد وعدم تناوله حالة الكثرة والانضمام ، وأيّا مّا كان فكلّ من المعنيين أو أكثر حال الانضمام والاجتماع خلاف ما وضع له اللفظ.

وأمّا انتفاء الثاني : فلأنّ العلاقة المتصوّرة في صورة الاستعمال في أكثر من معنى إمّا الجزئيّة : باستعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، لكونه جزءا على القول بمدخليّة « الوحدة » في الموضوع له ، أو الكلّية : باستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، لكونه كلاّ على القول بعدم تناول الوضع لغير حال الوحدة لحصوله في حال الوحدة.

وقد اعتبر في هذين النوعين من العلاقة كون تركيب الكلّ خارجيّا حقيقيّا وهو هنا ذهني اعتباري ، مع ما اعتبر في علاقة الكلّية من كون الجزء مقوّما وهذا أيضا منتف ، والاستعمال توقيفي فيكفي في الحكم بعدم جوازه انتفاء المقتضي للجواز.

وكيف كان : فالأظهر الأقوى ، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بعدم الجواز مطلقا ، لا لوجود المانع - لما ستعرفه من ضعف القول به - بل توقيفا لفقد المقتضي للجواز.

ولكن لا لدخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ، ولا لعدم تناول الوضع لغير حال الوحدة لما حقّقناه في المقدّمة الرابعة ، ولا لدعوى أنّ الواضع حين الوضع

ص: 512

شرط انفراد المعنى في الإرادة والاستعمال ، أو أنّه منع من استعماله في المعنى مع الانضمام والاجتماع حتّى نطالب بدليله ثمّ ينفي احتمال الاشتراط أو المنع على تقدير عدم مساعدة دليل عليه بالأصل ، بل لأنّ الوضع إنّما يصحّح الاستعمال ويقتضي جوازه لما تضمّنه من إذن الواضع في الاستعمال ، كما يستكشف ذلك عن الغاية المأخوذة في مفهوم الوضع ، فإنّ كون دلالة اللفظ بنفسه على المعنى غرضا وغاية مطلوبة من تعيين اللفظ للمعنى يقتضي أنّ الواضع قد أذن بتعيينه في استعمال اللفظ الموضوع في معناه الموضوع له لا محالة.

فالمقتضي لجواز الاستعمال في الحقيقة هو هذا الإذن الضمني ، والقدر الثابت منه المعلوم ثبوته إنّما هو استعماله في المعنى الموضوع له مع الانفراد.

وأمّا استعماله فيه مع الانضمام والاجتماع فلم يثبت ، ولم يعلم شمول إذن الواضع له أيضا.

وممّا يؤيّد ذلك بل يكشف عن انتفاء الإذن أنّه إذا اريد منه معنيان أو أكثر فاللفظ لا يدلّ عليه بنفسه ، بل يفتقر في دلالته إلى قرينة خارجيّة ، فلا يتناوله الغاية المطلوبة من تعيين اللفظ لكلّ من المعنيين أو المعاني ، فلا يتناوله أيضا الإذن في الاستعمال الّذي يتضمّنه الوضع باعتبار هذه الغاية.

وبالجملة : المصحّح للاستعمال المقتضي لجوازه إنّما هو إذن الواضع فيه خصوصا وهو ما تضمّنه الوضع ، أو عموما وهو أن يقول الواضع : « أذنت في استعمال كلّ لفظ مشترك في أكثر من معنى ».

وأيّا مّا كان فهو بالنسبة إلى الاستعمال في الأكثر غير ثابت ، وظاهر أنّ الأمر التوقيفي يكفي في عدم جوازه عدم ثبوت إذن الواضع فيه ، وإن صدق على المعنى مع الانضمام أيضا كونه موضوعا له ، فيكون الاستعمال على فرض وقوعه غلطا.

ألا ترى : أنّ المبهمات وغيرها ممّا يشاركها في كيفيّة الوضع لا يصحّ استعمالها على رأي القدماء في المفهوم الكلّي مع كونه موضوعا له عندهم ، لأنّ إذن الواضع في الاستعمال الّذي يتضمّنه الوضع إنّما حصل فيها بالخصوص بالنسبة إلى الجزئيّات ، لا المفهوم الكلّي الّذي هو الموضوع له.

ص: 513

وممّا يؤيّده ما ذكرنا بل يكشف عن عدم الجواز عدم معهوديّة نحو هذا الاستعمال من العرب في نثر ولا نظم ، ولا من الشارع في كتاب ولا سنّة.

في الأدلّة الغير الناهضة على المختار

والمناقشة في ذلك : بأنّ عدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود ، تندفع : بأنّ عدم الوجدان بعد الاستقراء التامّ يدلّ على عدم الوجود كيف ولم ينقله أحد من أئمّة اللغة عن الفصحاء والبلغاء ولا غيرهم من اولي البصائر في كلام العرب وأشعارهم وقصائدهم ، حتّى أنّ المجوّزين له مطلقا لم يأتوا لذلك بشاهد ولا مثال محقّق كونه من هذا الباب.

نعم ربّما ادّعي ذلك في قوله عزّ من قائل : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (1) بتخيّل كون المراد بالنكاح العقد والوطء معا ، وفي قوله : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (2) بتوهّم كون المراد الجماع واللمس باليد معا ، وقوله : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) (3) وقوله : ( أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (4) مع ما في الكلّ من مناقشات عديدة عمدتها منع الاشتراك ، ثمّ منع الاستعمال في أكثر من معنى ، فلو جاز نحو هذا الاستعمال لوقع لمسيس الحاجة إليه كثير ، ولو وقع لنقل لتوفّر الدواعي إليه.

واستدلّ أيضا بوجوه اخر غير تامّة :

منها : الحجّة المعروفة الّتي قرّرها في النهاية (5) والمنية وغيرهما ، بأنّ اللفظ المشترك بين المعنيين أو المعاني إمّا أن يكون موضوعا للمجموع أيضا أو لا ، فإن كان الأوّل فإن اريد به المجموع فقط كان مستعملا في بعض معانيه دون الجميع ولا كلام فيه.

وإن اريد مع ذلك كلّ واحد أيضا لزم التناقض ، لأنّ إرادة كلّ واحد يقتضي

ص: 514


1- النساء : 22.
2- النساء : 43.
3- الأحزاب : 56.
4- الحج : 18.
5- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 20 ( مخطوط ).

الاكتفاء به وإرادة المجموع يقتضي عدم الاكتفاء به وذلك تناقض ، وإن كان الثاني كان استعماله فيه استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا ، فلا يكون مستعملا في شيء من معانيه.

والجواب : منع لزوم التناقض على تقدير كون المجموع أيضا موضوعا له مع إرادته وإرادة كلّ واحد ، فإنّ الاكتفاء به إن اريد به الاكتفاء به في مقام الطلب والامتثال ، فالاكتفاء بكلّ واحد لا يقتضي الإكتفاء به عن الآخر ولا عن المجموع ، كما أنّ إرادة المجموع لا يقتضي عدم الاكتفاء بكلّ واحد ، لجواز تعدّد التكاليف على حسب تعدّد المعاني ، مع تعلّق بعضها بالمجموع وبعضها بهذا وحده وثالث بذاك وحده ، كما هو قضيّة ما تقدّم من تحرير المتنازع فيه بكون كلّ واحد مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ، فيجب حينئذ الإتيان بالمجموع تارة وبهذا وحده اخرى وبذاك وحده ثالثة.

وإن اريد به الاكتفاء به في غير مقام الطلب كالإخبار ونحوه فكذلك ، لجواز تعلّق الحكم الّذي قصد إعطاؤه بالإخبار تارة بالمجموع واخرى بهذا وحده وثالثة بذاك وحده ، فيراد الجميع من اللفظ في إطلاق واحد حسبما هو المتنازع فيه ، ففي نحو قوله : « رأيت عينا » مع إرادة المجموع من الذهب والفضّة وإرادة كلّ واحد يجوز وقوع الرؤية تارة بالمجموع واخرى بالذهب وحده وثالثة بالفضّة كذلك ، فقصد بالخطاب الإخبار بالجميع ، مع أنّه لم يعتبر في موضع البحث مع كونه مشتركا بين كلّ واحد كونه موضوعا للمجموع أيضا ، بل لم نقف على مشترك في اللغة يكون من هذا القبيل ، فلا مقتضى لعدم الاكتفاء بكلّ واحد ، والمفروض على ما حقّقناه في المقدّمات عدم دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ، فيراد هذا وهذا ويتعلّق الحكم بكلّ واحد على هذا الوجه من دون تناقض ، وعلى تقدير عدم الوضع للمجموع لا يلزم من إرادة الجميع كون المجموع من حيث هو مستعملا فيه ، ليكون من الاستعمال في غير ما وضع له ، لما عرفت من أنّ المراد من الاستعمال في الجميع إرادة هذا وهذا على أن يكون كلّ موضوعا للحكم بالاستقلال.

ص: 515

ومنها : ما تمسّك به بعض الفضلاء من : أنّ الوضع على ما يساعد عليه التحقيق عبارة عن نوع تخصيص ينشئه الواضع ، ومرجعه إلى قصر اللفظ على المعنى ، ويدلّ عليه تعريف بعضهم له : « بأنّه تخصيص شيء بشيء » وهو الظاهر من تعريف آخرين له : « بأنّه تعيين شيء لشيء ».

وحينئذ فإذا وضع لفظ لمعنيين فقضيّة كلّ وضع أن لا يستعمل إلاّ في المعنى الّذي بإزائه ، فإذا اطلق واريد به أحدهما صحّ الاستعمال على ما هو قضيّة أحد الوضعين ، وإن اطلق واريد به كلا المعنيين لم يصحّ ، لأنّ قضيّة كلّ من الوضعين أن لا يراد منه المعنى الآخر ، ففي الجمع بينهما نقض لهما ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له بحسب شيء من الوضعين (1).

وفيه : من الضعف بالمصادرة وغيرها ما لا يخفى ، لأنّه إن أراد من كون قضيّة كلّ من الوضعين أن لا يراد منه المعنى الآخر انّ كلاّ من الوضعين يقتضي عدم إرادة المعنى الآخر بحسب ذلك الوضع فهو مسلّم ، وإلاّ لم يكن تخصيصا ولا قصرا للّفظ على المعنى ، ولكن ليس بناء القول بالجواز على إرادة المعنيين بحسب أحد الوضعين ، وإن أراد به أنّه يقتضي عدم إرادة المعنى الآخر مطلقا حتّى بحسب وضع نفسه ، بأن يراد كلّ من المعنيين بحسب الوضع المخصوص به فهو المصادرة ، وليس فيه نقض للوضعين ، ولا ينافي كون الوضع قصر اللفظ على المعنى ولا كونه تخصيصا ولا تعيينا ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى كلّ من المعنيين مستعملا فيما وضع له.

ومنها : ما اعتمد عليه بعض الأعلام على ما يستفاد من تضاعيف عباراته (2) وملخّصه : أنّ استعمال اللفظ في المعنى لا بدّ وأن يكون على طبق قانون الوضع ، ومقتضى قانون الوضع إنّما هو الاستعمال في حال الوحدة والانفراد ، للعلم بثبوت الوضع للمعنى في حال الانفراد لا بشرط ولا بشرط عدمه ، فالعدول عنه واستعماله في غير حال الانفراد ليس استعمالا فيما وضع له حقيقة ، واحتمال

ص: 516


1- الفصول : 54 ( الطبعة الحجرية ).
2- قوانين الاصول 1 : 67 ( الطبعة الحجرية ).

جوازه مجازاً يندفع أيضا بعدم ثبوت الرخصة في هذا النوع من المجاز ، نظرا إلى أنّ المجازات كالحقائق وحدانيّة والّذي علم ترخيصهم فيه من التجوّز إنّما هو الاستعمال في مجازي واحد ، وأمّا الاستعمال في مجازين وما زاد فلم يعلم ترخيصهم فيه ، وعدم العلم بالرخصة كاف في عدم جواز الاستعمال ، فإنّ جواز الاستعمال مشروط بالعلم أو الظنّ بالرخصة.

وقد سبق منّا في المقدّمات ما يقضي بضعفه بما لا مزيد عليه ، من أنّ الوضع وإن حصل في حال انفراد المعنى إلاّ أنّه لا يوجب اختصاصه بتلك الحالة ، بحيث كان المعنى في غيرها خلاف ما وضع له بحسب ذلك الوضع ، مع فرض كون المعنى المنضمّ إليه مرادا باعتبار وضع نفسه لا بحسب ذلك الوضع.

نعم إنّما لا يجوز ذلك لما بيّنّاه من أنّ الوضع إنّما يقتضي جواز الاستعمال باعتبار ما تضمّنه من إذن الواضع فيه ، وهو بالنسبة إلى الاستعمال المفروض غير معلوم الثبوت ، وهو كاف في الحكم بعدم الجواز.

ومنها : ما قيل في المناقشة في القول بالجواز من أنّه يستلزم ذلك في التثنية والجمع بإرادة معنيين لا أقلّ من المفرد ، ففي التثنية يلزم جواز استعماله في أربعة وهكذا في الجمع ، واستنكاره غير خفيّ على ذي مسكة ، وبذلك يرفع التفرقة بين المفرد والتثنية والجمع ، بل يبطل الحصر بين الاسم والفعل والحرف ، لوجود رابع وخامس وهكذا ، وكأنّ المراد به أنّ تجويز إرادة معنيين من المفرد يستلزم تجويز إرادة أربع معان من تثنيته ، لكون التثنية ما يدلّ على ضعف مدلول مفرده ، وهكذا في الجمع على ما يقتضيه وضع الجمعيّة.

وقضيّة ذلك في التثنية على تقدير إرادة ثلاثة معان من المفرد أن يراد منها ستّ معان وهكذا ، وهذا ممّا يستنكره الطبع ويستهجنه العرف.

ويدفعه : منع الملازمة على كلا القولين في وضع التثنية والجمع من اعتبار اتّفاق اللفظ والمعنى معا فيهما ، أو كفاية اتّفاق اللفظ فقط ، أمّا على القول الأوّل : فلأنّ مبناه فيما إذا اُريد من المفرد معنيان على تأويله بالمسمّى ، ليكون المعنيان فردين منه.

ص: 517

وأمّا على القول الآخر : فلأنّ مبناه على إرادة نفس المعنيين من المدخول مع العلامة ، إشارة إلى اثنينيّة المعنى المراد منه أو ما فوق الاثنينيّة فيه ، كما يشهد بذلك الاحتجاج الآتي بأنّهما في قوّة تكرير المفرد ، فالاعتبار المذكور في المناقشة ممّا لا يوافقه شيء من القولين.

نعم هنا اعتبار آخر غير ما ذكر وهو : أن يراد من المدخول نفس المعنيين ويشار بالأداة إلى فردين من أحدهما وفردين من الآخر في التثنية ، أو نفس المعاني ويشار بالأداة إلى أفراد من كلّ معنى.

وهذا مع ابتنائه على وضع الأدوات للفردين أو الأفراد اعتبارا لاتّفاق المعنى أيضا ، وعلى عدم الالتزام بالتأويل إلى المسمّى مبنيّ على فرض استعمال الأدوات أيضا كالمدخول في أكثر من معنى ، ولا ضير فيه على القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولا يصلح مناقشة فيه بل هو لازم له على ما قرّرناه في مقدّمات المسألة من عموم النزاع بحسب المعنى للألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ للمعنى الخاصّ.

وأمّا الاعتبار المذكور فمع عدم موافقته القولين كما عرفت ، يخالف وضع الأداة في التثنية أيضا حتّى على القول الثاني ، لأنّها موضوعة للدلالة على الاثنينيّة في فرد المعنى المراد من المدخول ، أو في نفس المعنى المراد منه ، وهذا لا يجامع إرادة الأربع.

ودعوى : دلالة التثنية على ضعف مدلول مفرده تقتضي دعوى دلالة الجمع على ضعفي مدلول مفرده ، وكلاهما ممنوعتان ، لوضوح عدم دخول الضعف والضعفين في مدلوليهما ، بل المأخوذ في وضعيهما إنّما هو الاثنينيّة وما فوقها خصوصا أو عموما ، بالقياس إلى فرد المعنى المراد من المدخول أو نفسه.

وتوهّم بناء الفرض على كون الوضع فيها نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة ، فيمكن القول حينئذ بإرادة معنيين من المفرد وإرادة آخرين من الهيئة التركيبيّة.

يدفعه : أنّ أهل هذا القول يجعلون الهيئة للفردين من المعنى المراد من المفرد.

وغاية ما يلزم من إرادة معنيين من المفرد إرادة فردين من معنى وفردين من

ص: 518

معنى آخر من الهيئة ، ويرجع ذلك إلى ما بيّنّاه من الاعتبار لا إلى ما ذكر في المناقشة ، فإرادة نفس معنيين آخرين من الهيئة التركيبيّة أو من العلامة لا يوافق شيئا من اعتبارات التثنية.

وأمّا ما ذكر أيضا في المناقشة من أنّ بذلك يرفع التفرقة بين المفرد والتثنية والجمع.

ففيه : أيضا منع الملازمة ، لأنّ المفرد إذا اريد منه معنيين أو معاني يفتقر في دلالته على الاثنينيّة وما فوقها إلى دلالة خارجيّة ، وهذه الدلالة في التثنية والجمع وضعيّة مستندة إلى العلامة أو الهيئة التركيبيّة وهذا القدر كاف في التفرقة بينه وبينهما ، ولو جعلنا العلامة أو الهيئة لفردين أو أفراد من كلّ من المعنيين ، بناء على فرض استعمالهما أيضا في أكثر من معنى كان التفرقة أوضح.

وأمّا قوله : « بل يبطل الحصر بين الاسم والفعل والحرف » فلم أتحقّق معناه إلاّ إذا رجع إلى إنكار الاشتراك رأسا في اللغة ، لأنّ الحصر المذكور مستفاد من الوضع.

وأمّا على تقدير تسليم الاشتراك ووقوعه في كلّ من الاسم والفعل والحرف فلا نرى له وجها ، فإنّ انقسام الكلمة إلى هذه الأقسام إنّما هو من جهة المعنى الموضوع له باعتبار استقلاله بالمفهوميّة مع الاقتران بأحد الأزمنة أو لا معه وعدمه ، اتّحد أو تعدّد ، فما كان معناه المراد منه باعتبار الوضع مستقلاّ بالمفهوميّة فهو اسم إن لم يقترن بأحدها وإلاّ ففعل ، اتّحد أو تعدّد ، وطروّ التعدّد له وضعا أو إستعمالا لا يقضي بخروجه عن الاستقلال ، وما كان معناه المراد غير مستقلّ فهو حرف اتّحد أو تعدّد ، ولا يوجب طروّ التعدّد له خروجه عن عدم الاستقلال ، كما إذا اريد من كلمة « من » الابتداء والبيان معا حيث ناسبهما المقام.

نعم لو وجد لفظ وضع لمعنى مستقلّ ومعنى غير مستقلّ ، أو معنى مستقلّ مقترن ومعنى مستقلّ غير مقترن كان لتوهّم نقض الحصر بذلك وجه.

ولكن يذبّ عنه أيضا : مع عدم تحقّق نحو ذلك في الخارج ، أنّه لو صلح منعا لرجع إلى منع جواز الاشتراك بين المعنى الاسمي والمعنى الفعلي أو الحرفي ، وبين

ص: 519

المعنى الفعلي والمعنى الحرفي ، لا إلى منع جواز استعمال المشترك على تقدير وقوعه في أكثر من معنى ، مع أنّه على تقدير وقوعه بين المعنى الاسمي وغيره ، وبين المعنى الفعلي والحرفي أمكن منع الملازمة باعتبار الحيثيّة فيما إذا استعمل في المعنيين ، بأن يقال : إنّه من حيث اريد منه معناه المستقلّ الغير المقترن اسم ، ومن حيث اريد منه معناه المستقلّ المقترن فعل ، ومن حيث اريد منه معناه الغير المستقلّ حرف فتأمّل.

ثمّ إنّ ما قرّرناه من دليل المنع عامّ ، ومفاده عموم المنع من استعمال المشترك في أكثر من معنى في المفرد والتثنية والجمع ، والمثبت والمنفيّ ، فبذلك انقدح ضعف سائر الأقوال ، كما أنّه ظهر به مضافا إلى ما قرّرناه في المقدّمات ضعف حججها والجواب عنها ، فلا طائل في الإطناب بالتعرّض لذكرها وبيان ما في كلّ واحد بالخصوص.

التنبيهات :

تنبيهات :

أحدها : قد عرفت سابقا أنّ من مجوّزي استعمال المشترك على وجه الحقيقة من زعم ظهوره عند التجرّد عن القرينة في إرادة الجميع ، ونسبه في النهاية (1) إلى الشافعي وأبي بكر وعبد الجبّار ، وحكى عنهم الاحتجاج عليه بوجهين :

أحدهما : إنّه حينئذ إمّا أن يحمل على أحد المعاني لا بعينه فيلزم الإجمال ، أو يتعيّن ولا مرجّح له ، فيتعيّن الحمل على الجميع.

وقد يقرّر : بأنّ حمله على جميع معانيه غير ممنوع فيجب حمله عليه حينئذ ، إذ لولا ذلك فإمّا أن لا يحمل على شيء من معانيه وذلك إهمال للّفظ بالكلّية ، وهو ظاهر البطلان ، أو يحمل على بعض دون بعض وذلك تحكّم وترجيح بلا مرجّح.

وثانيهما : قوله عزّ من قائل : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) (2).

ص: 520


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 21 ( مخطوط ).
2- الحج : 18.

وقوله أيضا : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) (1) فإنّ « السجود » مشترك بين الخضوع ووضع الجبهة على الأرض ، كما أنّ الصلاة من اللّه الرحمة ومن غيره الاستغفار ، وقد استعملا في معنييهما.

أمّا الثاني : فبدليل إسنادها إلى تعالى والملائكة.

وأمّا الأوّل : فبدليل إسناده إلى الشجر والدوابّ وكثير من الناس. فإنّ الأوّلين لا يناسبهما إلاّ الخضوع ، كما أنّ الأخير لا يصلح له إلاّ وضع الجبهة ، لعدم اختصاص الخضوع بالكثير لاشتراك غيرهم ممّن حقّ عليهم العذاب لهم في ذلك.

والجواب عن الأوّل ، في تقريره الأوّل : باختيار الشقّ الأوّل ، والإجمال اللازم منه غير ضائر ، لأنّ المصلحة وحكمة المتكلّم قد تدعو إليه ، مع أنّ تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة جائز ، خصوصا فيما ليس له ظاهر.

ومع الغضّ عن ذلك فهذا حمل للّفظ على الجميع بالاستدلال ، لا أنّه ظاهر فيه بنفسه ، مع أنّه متفرّع على أصل جواز الاستعمال في الأكثر. وقد ظهر منعه ، ومن الفضلاء من أجاب بذلك ، مضافا إلى أنّه على تقدير تسليم صحّة الاستعمال فمخالفة الاستعمال المذكور للأصل من حيث ندرة مورده على تقدير تحقّقه لا تقصر عن مخالفة الإجمال له ، إن لم يزد عليه ، فيتعارض الأصلان فيجب الوقف (2).

وفي تقريره الثاني : بأنّ ها هنا شقّا ثالثا ، وهو الحمل على بعض المعاني لا بعينه فيلزم الإجمال ، وبطلانه ممنوع كما عرفت.

وعن الثاني : بمنع اشتراك اللفظين ولا سيّما لفظ « الصلاة » لوضوح عدم جواز تعدّد وضع اللفظ لغة باعتبار اختلاف إضافاته المتشخّصة بخصوصيّات الفاعلين ، مضافا إلى منع ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيهما ، والوضع العرفي الوارد على الوضع اللغوي أيضا غير واضح ، والحمل على المعنى اللغوي الجامع بين الجميع ممكن

ص: 521


1- الأحزاب : 56.
2- الفصول : 56 ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : والجواب أمّا عن الأوّل فبأنّه إنّما يتفرّع على تقدير صحّة الاستعمال بل كونه حقيق وقد عرفت وجه المنع فيها ... الخ.

كالخضوع بمعنى الانقياد لأمره تعالى في الأوّل ، فإنّ كلّ شيء متواضع له منقاد لأمره ، ولو بالذكر والتسبيح ولو بنطق ولسان لا يفهمه غيره تعالى وأوليائه ، وقد قال تعالى : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (1) وفي الحديث عن الصادق عليه السلام : « ما من طير يصاد في برّ ولا بحر ، ولا يصاد شيء من الوحش إلاّ بتضييعه التسبيح ».

وتخصيصه بكثير من الناس ، لأنّ الأكثر كفّار بإنكارهم الصانع أو النبوّات والشرائع أو غير ذلك من شؤون الكفر وصنوف الشرك ، فلا ينقادون له في أوامره ونواهيه على ما هي عليه ، فاختلاف الإضافات المخصوصة يوجب تعدّد أفراد المعنى الكلّي اللغوي لا تعدّد أوضاع اللفظ بإزاء تلك الأفراد.

نعم يبعد فرض الجامع اللغوي بين معنيي « الصلاة » بل بين معانيها الثلاث ، وهي الرحمة من اللّه سبحانه والاستغفار من الملائكة والدعاء من المؤمنين ، على ما ورد في النصوص المستفيضة المفسّرة للآية ، فإنّ غاية ما يمكن فرضه لها من المعنى اللغوي إنّما هو الدعاء بالمعنى الإنشائي أعني طلب النفع والخير ، وهو لا يصلح جامعا بين نفسه وفرده وهو الاستغفار ومغايره وهو الرحمة ، ضرورة أنّه ليس فردا للدعاء ، بل هي من اللّه تعالى بالنسبة إلى نبيّه صلى اللّه عليه وآله عبارة عن التفضّل عليه والإحسان إليه بإظهار شرفه وإعلاء شأنه في الدنيا ، بإجلال ذكره وإبقاء دينه وشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في امّته وتضعيف أجره ومثوبته ، وطلبها عبارة عن طلب الرحمة بهذا المعنى ، ومنه « اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد » وهو الدعاء المنسوب إلى المؤمنين « فالصلاة » بمعنى الرحمة أشبه بالمجاز ، بل هو مجاز عند التحقيق.

فالوجه في الجواب عن آية الصلاة : هو منع وقوع استعمالها بعد منع الاشتراك في أكثر من معنى ، بالتزام تقدير الفعل ليكون على حدّ قوله : « نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض » وهذا الوجه يجري في آية السجود أيضا.

ص: 522


1- الإسراء : 44.

ثمّ بعد تسليم الاشتراك فيهما ثمّ تسليم وقوع استعمالهما في الجميع نمنع ظهوره فيه مع التجرّد ، لأنّ الإسناد بنفسه قرينة على تعيين ما يناسب المسند إليه ، فالظهور المتوهّم فيهما مستند إلى القرينة.

ثانيها : قد ورد في الحديث : « إنّ لكلّ آية من القرآن ظهرا وبطنا » وفي آخر : « ما نزل آية في القرآن إلاّ وله ظهر وبطن » وفي آخر : « للقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن ».

وفي بعض الأخبار : « أنّ له سبعة بطون » وفي بعضها : « سبعين بطنا ».

وكيف كان : فقيل إنّ ما ورد في هذه الأخبار إنّما هو من باب الاستعمال في أكثر من معنى.

وربّما يقال : إنّه قد يتمسّك به على الجواز مطلقا.

وتحقيق المقام : أنّ للقرآن وجودا خطابيّا من الخطاب بمعنى توجيه الكلام نحو الغير ، وهو الّذي صار محلّ النزاع في مسألة عموم الخطابات الشفاهيّة للمعدومين وعدمه ، ووجودا كتابيّا وهو الخطوط المؤلّفة فيما بين الدفّتين الموجودة بأيدينا اليوم ، فإن كان النظر في توهّم كونه من باب الاستعمال في أكثر إلى وجوده الخطابي فكونه بهذا الاعتبار من باب الاستعمال مسلّم ، ولكن تعلّق ذلك الاستعمال بالأكثر ممنوع ، لجواز كون المستعمل فيه المراد من الألفاظ الصادرة عند الخطاب ظاهر القرآن ، وتكون البطون الواردة في الأخبار بطونا لذلك الظاهر فتكون مرادة بإرادته بالالتزام من باب الدلالة بالإشارة ، وإن لم يساعد عليها أفهامنا ولم يعرفها إلاّ الأوحدي كأهل العصمة عليهم السلام من دون أن تكون بأنفسها مرادة بإرادة اخرى ممتازة عن إرادة الظاهر ، كالجزء في ضمن الكلّ حيث إنّه مراد بإرادة الكلّ لا بإرادة ممتازة ، بحيث كانت الإرادة فيما بينهما واحدة يسند إلى الكلّ أوّلا وبالذات وإلى الجزء ثانيا وبالعرض ، أو لجواز كونها مستعملة في معناها الظاهر مع دلالتها على بقيّة المعاني الّتي هي البطون التزاما من باب الإيماء والتنبيه ، بناء على أنّها لا تستلزم الإستعمال الّذي بينه وبينها عموم من وجه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 523

وإن كان النظر إلى وجوده الكتابي فكونه بهذا الاعتبار من باب الاستعمال ممنوع ، لأنّه من أحوال الخطاب وعوارض اللفظ الّذي هو الصوت المعتمد على مقطع الفم ، فتكون خارجا عن محلّ البحث ، وحينئذ فمن الجائز أن يراد بتأليفها الدلالة على ما فوق الواحد ممّا يصلح له وإن لم يساعد عليها أفهامنا ، كما أنّه قصد به بقاء جهة الإعجاز وبقاء التلاوة وبقاء الاستشفاء به وغير ذلك من الفوائد المرتّبة عليه. ولعلّ ما ورد في الأخبار منزّل على هذا المعنى.

وقد يقال في دفع التوهّم : أنّ المراد من جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ومن جواز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي ، إنّما هو بحسب ظاهر اصطلاح أهل اللسان ومحاوراتهم سيّما في مفردات الكلام ، فلا ينافي ما ذكرنا تعدّد مرادات القرآن وتعدّد معانيه في الباطن ، وتكثّر معانيه التأويليّة ، وإنّما الموافق للسان العرب هو تنزيله لا تأويله. انتهى.

ويمكن إرجاعه إلى بعض ما ذكرناه.

وقد يجاب أيضا : بإمكان تعدّد الاستعمال على حسب تعدّد المعاني والبطون ، إذ ليس في تلك الأخبار دلالة على أنّ الكلّ مراد باستعمال واحد.

أقول احتمال تعدّد الاستعمال على معنى إطلاق اللفظ ربّما يساعده ما أجمع عليه من أنّ قراءآت السبع متواترة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، إذ لا يمكن ذلك إلاّ بتعدّد الإطلاق في الخطاب فيجوز أن يراد بكلّ إطلاق حينئذ معنى غير ما اريد بسابقه. فليتأمّل.

ثالثها : قيل يظهر ثمرة النزاع في الإقرار والوقف والوصيّة وسائر العقود ، فعلى القول بالجواز ينفذ الإقرار فيما إذا كان المقرّبه أو المقرّ له شيئين أو أكثر قصدا من لفظ مشترك بينهما ، كما لو قال : « لزيد عندي عين » مريدا منها الفضّة والدينار أو من « زيد » شخصين ، وعلى القول بعدم الجواز لا ينفذ لكون الاستعمال حينئذ غلطا والغلط ممّا لا أثر له في الأحكام ، وكذلك يترتّب عليه صحّة الوقف والوصيّة وغيرهما من العقود إذا اخذ فيها لفظ مشترك واريد منه أكثر من معنى ، إن لم نعتبر فيها الصراحة وعدمها.

ص: 524

ويظهر الثمرة أيضا في عدم تحريم كلّ من الامّ والبنت بمجرّد العقد عليهما من غير دخول ، نظرا إلى قوله تعالى : ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) (1) على القول برجوع القيد إلى الجملتين ، فإنّ قوله : ( مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) على القول برجوعه إليهما يستلزم كون لفظة « من » مستعملة في معنيين البيان بالقياس إلى الجملة الاولى والابتداء بالقياس إلى الثانية ، فعلى القول بجواز هذا الاستعمال تصير الآية دليلا على اشتراط الدخول في تحريم كلّ من الامّ والبنت المعقود عليهما ، وعلى القول بعدمه يختصّ الاشتراط بتحريم البنت في العقد على الامّ ، لقيام قرينة حينئذ قاضية باختصاص القيد بالجملة الأخيرة صونا للاستعمال في كلام الحكيم عن كونه غلطا. وفي الجميع نظر ، لوضوح عدم كون الغرض من تدوين هذه المسألة في الكتب الاصوليّة تفريع هذه الامور عليها ، مع إمكان المناقشة في صحّة بعضها كمسألة الإقرار ، فإنّ نفوذه من جهة كشفه عن الواقع لا من جهة تأثيره شرعا في حصول المسبّب الواقعي ليقبل من الخصوصيّات والشروط كلّما اعتبره الشارع ، فيجوز نفوذ الإقرار بالاستعمال حيثما كشف عن الواقع بعنوان القطع.

فإنّ الكلام في صورة قيام الدلالة القطعيّة على إرادة أكثر ، ولذا يلزم بواحد فيما لو قال : « له عليّ عشرة إلاّ تسعة » على القول بعدم جواز استثناء الأكثر ، هذا مع ما [ في ] جعل مسألة اشتراط تحريم كلّ من الامّ والبنت المعقود عليهما بالدخول ثمرة لأمثال هذه المسألة نظرا آخر.

فإنّ المسائل الفرعيّة إنّما تصلح ثمرات للمسائل الاصوليّة الّتي يطلب بها في باب المشتركات إحراز الدلالة على الحكم الشرعي الفرعي ، وضابطها الكلّي اندراجها في تعريف اصول الفقه : « بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة » وهذه المسألة من المبادئ اللغويّة الّتي قد يستنبط بها الموضوعات. وقد يستنبط بها ما هو من قبيل المسائل الاصوليّة ، فإنّ كون التبادر

ص: 525


1- النساء : 22.

علامة للحقيقة قد يحرز به كون « الغناء » مثلا عبارة عن الصوت اللّهوي وهو من الموضوعات ، وقد يحرز به كون الأمر حقيقة في الوجوب ، والنهي حقيقة في التحريم وهو من المسائل الاصوليّة.

وظاهر أنّ من المسائل الاصوليّة الّتي هي الأحوال العارضة للأدلّة وجوب التأويل في الدليل عند تعذّر الأخذ بحقيقته أو مطلق ظهوره وعدم وجوبه ، بل عدم جوازه عند عدم تعذّر الأخذ بظهوره ، وجواز استعمال المشترك وعدم جوازه يثمران هذين الحكمين الاصوليّين فيما إذا قام دلالة معتبرة على اعتبار أكثر من معنى من معاني المشترك ودار الأمر بين كونه من باب الاستعمال في الأكثر أو على نهج آخر من وجوه التأويل ، كما في قوله عليه السلام : « إغتسل للجنابة ولمسّ الميّت وللجمعة وللزيارة » بناء على القول باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب مثلا.

فعلى القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى يجوز كونهما في هذا المثال مرادين من قوله : « إغتسل » في إطلاق واحد من دون الحاجة إلى التأويل بتجوّز أو تقدير.

وعلى القول بعدم الجواز لا بدّ من التأويل بالتجوّز بحمل الصيغة على إرادة الطلب الراجح مطلقا من باب عموم الاشتراك ، أو بالإضمار بتقدير « إغتسل » مع كلّ من الامور المتعاطفة لئلاّ يلزم الغلط في كلام الحكيم.

وقد تقدّم نظير هذا التأويل على القول المذكور في آيتي الصلاة على النبيّ والسجود لله ، وهكذا نقول في آية تحريم امّهات النساء والربائب على القول بظهور القيد في الرجوع إلى الجميع ، فعلى القول بعدم جواز استعمال لفظة « من » في البيان والابتداء معا يجب صرف هذا الظاهر عن ظهوره بتخصيص القيد بالجملة الأخيرة فيختصّ اشتراط الدخول حينئذ بتحريم الربائب ، ولا يشترط في تحريم امّهات النساء ، فالحكم الفرعي متفرّع على الحكم الاصولي المترتّب على مسألة استعمال المشترك ، لا أنّه متفرّع على المسألة أوّلا وبالذات وبلا واسطة ليكون ثمرة لها فليتدبّر.

ص: 526

معالم الدين :

أصل

واختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ ، كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه فمنعه قوم ، وجوّزه آخرون. ثمّ اختلف المجوّزون فأكثرهم على أنّه مجاز. وربّما قيل بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين.

حجّة المانعين : انه لو جاز استعمال اللّفظ في المعنيين ، للزم الجمع بين المتنافيين. أمّا الملازمة ، فلأنّ من شرط المجاز نصب القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ؛ ولهذا قال أهل البيان : إنّ المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة ، ولهذا قال أهل البيان : إنّ المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء. وإلاّ لزم صدق الملزوم بدون اللازم وهو محال ، وجعلوا هذا وجه الفرق بين المجاز والكناية. وحينئذ ، فإذا استعمل المتكلّم اللّفظ فيهما ، كان مريدا لاستعماله فيما وضع له ، باعتبار إرادة المعنى الحقيقيّ غير مريد له باعتبار إرادة المعنى المجازيّ ، وهو ما ذكر من اللاّزم. وأمّا بطلانه فواضح.

وحجّة المجوّزين : أنّه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معا منافاة. وإذا لم يكن ثمّ منافاة لم يمتنع اجتماع الارادتين عند التكلّم.

واحتجّوا لكونه مجازا : بأنّ استعماله فيهما استعمال في غير ما وضع له أوّلا ؛ إذ لم يكن المعنى المجازيّ داخلا في الموضوع له وهو الآن داخل ، فكان مجازا.

واحتجّ القائل بكونه حقيقة ومجازا : بأنّ اللفظ مستعمل في كلّ واحد من المعنيين. والمفروض أنّه حقيقة في أحدهما ، مجاز في

ص: 527

الآخر ، فلكلّ واحد من الاستعمالين حكمه.

وجواب المانعين عن حجّة الجواز ، ظاهر بعد ما قرّروه في وجه التنافي.

وأمّا الحجّتان الأخيرتان ، فهما ساقطتان بعد إبطال الأولى. وتزيد الحجّة على مجازيّته : بأنّ فيها خروجا عن محلّ النزاع ؛ إذ موضع البحث هو استعمال اللّفظ في المعنيين ، على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ، ومتعلّقا للاثبات والنفي ، كما مرّ آنفا في المشترك. وما ذكر في الحجّة يدلّ على أنّ اللّفظ مستعمل في معنى مجازيّ شامل للمعنى الحقيقيّ والمجازيّ الأوّل ، فهو معنى ثالث لهما. وهذا ممّا لا نزاع فيه ؛ فانّ النّافي للصحّة يجوّز إرادة المعنى المجازيّ الشامل ويسمّى ذلك ب- « عموم المجاز » ، مثل أن تريد ب- « وضع القدم » في قولك : « لا أضع قدمى في دار فلان » الدخول ، فيتناول دخولها حافيا وهو الحقيقة ، وناعلا وراكبا ، وهما مجازان.

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقيّ الذي يستعمل فيه اللّفظ حينئذ تمام الموضوع له حتّى مع الوحدة الملحوظة في اللّفظ المفرد ، كما علم في المشترك ، كان القول بالمنع متوجّها ، لأنّ إرادة المجاز تعانده من جهتين : منافاتها للوحدة الملحوظة ، ولزوم القرينة المانعة ؛ وإن أرادوا به : المدلول الحقيقيّ من دون اعتبار كونه منفردا ، كما قرّر في جواب حجّة المانع في المشترك ، اتّجه القول بالجواز ، لأنّ المعنى الحقيقيّ يصير بعد تعريته عن الوحدة مجازيّا للّفظ ؛ فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده. وحيث كان المعتبر في استعمال المشترك هو هذا المعنى ، فالظاهر اعتباره هنا أيضا. ولعلّ المانع في الموضعين بناؤه على الاعتبار الآخر. وكلامه حينئذ متّجه ، لكن قد عرفت أنّ النّزاع يعود معه لفظيّا. ومن هنا يظهر ضعف القول بكونه حقيقة ومجازا حينئذ ، فإنّ المعنيّ الحقيقيّ لم يرد بكماله ، وإنّما أريد منه البعض ، فيكون اللّفظ فيه مجازا أيضا.

ص: 528

في استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي

[58] قوله : (إختلفوا في استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي كاختلافهم في استعمال المشترك في معانيه ... الخ)

أراد من التشبيه تشبيه معنى الاستعمال في المعنيين هنا به حسبما تقدّم في بحث المشترك ، لا تشبيه أصل الاختلاف وإن كانت العبارة ظاهرة فيه.

وحاصل المراد من التشبيه : إنّ المراد من استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي استعماله فيهما على البدل ، على معنى استقلال كلّ منهما في كونه مستعملا فيه مطلوبا إفادته من اللفظ ، وعلامته أن ينعقد به حكمان شرعيّان فيما كان المعنيان من قبيل الحكم كالوجوب والندب في صيغة الأمر على القول بكونها حقيقة في الأوّل مجازا في الثاني ، إذا وقع استعمالها فيهما معا ، أو ينعقد به موضوعان لحكم خبري أو إنشائي ، كقوله : « رأيت أسدا » أو « إئتني بأسد » مثلا مريدا به المفترس والرجل الشجاع.

وظاهر إطلاق المعنى المجازي في عناوين المسألة يقضي بأنّ المراد به أعمّ ممّا كان مجازا من هذا المعنى الحقيقي المراد معه من اللفظ كالمثال المذكور وغيره ، كما في لفظ يكون حقيقة في معنيين ومجازا في ثالث مناسب لأحدهما دون الآخر ، واريد منه ذلك المعنى المجازي مع ما لا يناسبه من المعنيين الحقيقيّين.

والمناقشة فيه : بأنّ ظاهر استدلال المانعين بأنّ المجاز ملزوم لقرينة معاندة للحقيقة يأبى ذلك ، بتقريب : إنّ المعاندة عبارة عن المعارضة ، وهي تتأتّى غالبا بين القرينة وظهور الحقيقة باعتبار فيما إذا كان المعنيان متناسبين.

يدفعها : وضوح كون المراد من القرينة المعاندة اللازمة للمجاز هي القرينة الصارفة للّفظ عن إرادة الحقيقة ، وهي كما تصرفه فيما إذا كانت الحقيقة متّحدة كذلك تصرفه فيما إذا كانت متعدّدة ، كالمشترك إذا قامت معه قرينة المجاز ، وظاهر أنّه لم يؤخذ في ذلك المجاز كونه مناسبا لجميع الحقائق ، وإذا اريد منه هذا المجاز مع بعض ما لا يناسبه من الحقائق كان من محلّ النزاع أخذاً بظاهر إطلاق العنوان

ص: 529

من غير منافاة له في استدلال المانع ، ولذا لم يعترض عليه أحد بكونه أخصّ ممّا يقتضيه ظاهر العنوان. فتأمّل.

ثمّ إنّه يستفاد من العلاّمة في النهاية أنّ هذا النزاع متفرّع على النزاع السابق ، بدعوى : إنّ من جوّز الاستعمال ثمّة جوّزه هنا ، ومن منعه ثمّة منعه هنا (1).

وفيه نظر من وجوه ، فإنّه ممّا يبعّده :

أوّلا : تعدّد العنوان ، فلو صحّ ما ذكر لوجب الاكتفاء بعنوان واحد عامّ لهما ولغيرهما أيضا ، كاستعمال اللفظ في معنيين حقيقيّين أو مجازيّين أو مختلفين لخلوّ تعدّده عن الفائدة.

وثانيا : إنّه لو صحّ ذلك لجرى هنا سائر الأقوال المتقدّمة ثمّة أو بعضها ، لعدم وجود القول بالتفصيل هنا لا بين المفرد والتثنية والجمع ولا بين الإثبات والنفي.

وتوهّم : تفرّع إطلاق الجواز والنفي هنا على القولين بالجواز وعدمه مطلقا ثمّة.

يدفعه : أنّ القائل بكلّ من التفصيلين ثمّة لا بدّ وأن يكون له هنا مذهب ، وهو إمّا الجواز أو النفي. وأيّا مّا كان فتفريعه على إطلاق القول بالجواز أو النفي فقط غير صحيح.

وثالثا : إنّه ينافي ظاهر استدلال المانع هنا ، فإنّه يقضي بانحصار جهة المنع هنا في استلزام المجاز لقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة بحيث لولاه لاتّجه الجواز ، بخلاف ما يظهر من المانعين ثمّة من كون الجهة المقتضية للمنع هو لزوم التناقض في الإرادة بالذات ، باعتبار أنّ إرادة الجميع تقتضي عدم الاكتفاء بكلّ واحد منفردا وإرادة كلّ واحد تقتضي الاكتفاء به كذلك.

فلو صحّ التفريع لكان على المانع هنا الاحتجاج بذلك ويضيف إليه علاوة وهو استلزام المجاز للقرينة المانعة.

ص: 530


1- نهاية الوصول إلى علم الاصول : ورقة 26 ( مخطوط ).

فالّذي يختلج بالبال اختصاص النزاع هنا بالمجوّزين ثمّة ، فإنّهم بعد ما بنوا على أنّ ما اعتمد عليه المانعون ثمّة لا يصلح سندا للمنع ، تكلّموا في أنّ مجازيّة أحد المعنيين هل تصلح سندا للمنع أو لا ، فافترقوا فريقين.

وربما يؤيّده ما جزم به بعضهم من كون النزاع لفظيّا ، باعتبار أنّ المجوّز يجوّز ما لا ينكره المانع ، وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي الغير المستلزم للقرينة المانعة ، والمانع يمنع ما لا يجوّزه المجوّز وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي باصطلاح البياني وهو المستلزم للقرينة المانعة ، فالفريقان مطبقان على الجواز في الأوّل وعلى عدمه في الثاني.

أمّا الأوّل : فلما ذكره علماء البيان في باب الكناية ، من تفسيرها : بلفظ اريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه ، وفي موضع آخر : أنّه لفظ اريد به غير ما وضع له مع جواز إرادته معه ، وظاهر الاتّفاق على ذلك.

وأمّا الثاني : فلأنّ امتناع الجمع بينهما معلوم بالضرورة ، فكيف يتصوّر تجويزه من العارف بالاصطلاح.

وظاهر أنّ الاتّفاق على الجواز هنا في الجملة لا يستقيم إلاّ على القول بالجواز في البحث السابق ، إذ قضيّة القول بالمنع ثمّة ودليله هو المنع هنا مطلقا.

وينبغي التنبيه على امور من باب مبادئ المسألة :

الأمر الأوّل : في بيان صحّة ما ذكره البعض وسقمه من لفظيّة النزاع ، كما عرفت وقد ذكره السيّد الطباطبائي في شرحه للوافية.

ويزيّفه أوّلا : أنّ النزاع اللفظي في المسائل العلميّة بعيد عن طريقة أهل النظر.

وثانيا : يأباه ظاهر قولهم : « اختلفوا في الجواز وعدمه » في عناوين المسألة على ما هو في الكتب الاصوليّة ، مضافا إلى أنّ هذه العناوين ظاهرة في توارد النفي والإثبات على موضوع واحد ، كما هو الأصل الكلّي في جميع المسائل الخلافيّة ، وعلى هذه القاعدة فالمعنى المجازي المأخوذ في العنوان قبالا للمعنى الحقيقي الّذي توارد عليه النفي والإثبات. إمّا أن يراد به ما يعمّ المعنى الكنائي

ص: 531

والمجازي باصطلاح البياني ، أو خصوص المعنى الكنائي أو خصوص المجازي باصطلاح البياني. وأيّا ما كان فالنزاع لا يكون إلاّ معنويّا.

غاية الأمر ، أنّ المجوّز على الأوّل يجوّز الجمع بين المعنيين مطلقا ، حتّى المعنى المجازي باصطلاح البياني ، والمانع يمنعه كذلك حتّى في المعنى الكنائي ، فكيف يدّعي اتّفاق الفريقين على الجواز في الكنائي ، وعلى المنع في المجازي البياني.

وعلى الثاني يكون محلّ النزاع هو المعنى الكنائي لا غير.

وعلى الثالث يكون هو المعنى المجازي البياني.

فكيف يدّعي على الجواز في الأوّل وعلى المنع في الثاني.

فالّذي يترجّح في النظر إنّما هو وقوع النزاع في المجازي بالمعنى الأعمّ ، ومرجعه إلى النزاع في جواز الجمع بين ما وضع له ، وغير ما وضع له سواء كان هو المعنى الكنائي أو المجازي باصطلاح البياني ، والمجوّز يجوّزه مطلقا والمانع يمنعه كذلك.

غاية الأمر أنّه يتوجّه إلى المانع في استدلاله بكون المجاز ملزوما لقرينة مانعة ، قصور دليله عن الوفاء بتمام الدعوى ، وكونه أخصّ من المدّعى ، وهذا ليس بعزيز في المسائل العلميّة واستدلالاتها بخلاف لفظيّة النزاع ، والالتزام بها ليس بأولى من الالتزام بأخصّيّة دليل المانع بل العكس أولى بالإذعان التفاتا إلى شيوعه وكثرة وقوعه في استدلالات المسائل النظريّة.

وممّا يفصح عن عموم النزاع بل عموم القول بالجواز للمجاز البياني ، اعتراض المجوّزين على دليل المانع تارة : بمنع لزوم القرينة المانعة في المجاز.

واخرى : بأنّ القرينة اللازمة للمجاز إنّما تمنع عن إرادة الحقيقة منفردا ، وأمّا إرادته مجتمعا مع المعنى المجازي فلا تمنعه.

وثالثة : بأنّها إنّما تمنع عن إرادتها بدلا عن المعنى المجازي ، لا ما اريد بإرادة مستقلّة اخرى منضمّة إلى إراة المعنى المجازي وهذه الاعتراضات كما ترى تدلّ

ص: 532

على أنّ المجوّزين يجوّزون الجمع في المجاز البياني أيضا ، أو انّ فيهم من يجوّزه أيضا.

فكيف يدّعى الاتّفاق أو الضرورة في خلافه ، وأمّا دعوى على الجواز في المعنى الكنائي فلئن سلّمناه من علماء البيان فلا نسلّمه من علماء الاصول خصوصا ، مع ملاحظة أنّ التشاجر واقع بينهم في المجاز بقول مطلق ، وأنّ الكناية عندهم نوع من المجاز.

الأمر الثاني : في بيان صحّة ما في كلام جماعة - منهم السيّد المتقدّم ذكره والفاضل المحشّي - وسقمه من أنّ المجاز الاصولي أعمّ منه باصطلاح البياني ، فإنّ الكناية مندرجة في المجاز وقسم منه عند الاصوليّين ، بدليل أنّهم لم يعتبروا لزوم القرينة المانعة في تعريفه ، وقسيم له عند علماء البيان ولذا أخذوا القيد المذكور في تعريفه ، احترازا عن الكناية الّتي أخذوا فيها جواز إرادة الملزوم والمعنى مع اللازم وغير ما وضع له.

قال السيّد المذكور قدس سره : والسرّ في اختلاف الاصطلاحين اختلاف المقاصد والأغراض في العلمين ، فإنّ علم البيان لمّا كان باحثا عن الألفاظ من حيث إنّها طرق مختلفه للتعبير عن المعنى الواحد ، وكان التعبير عن المعنى بطريق الكناية طريقا معروفا متميّزا عن غيره بأقسام وأحكام كثيرة كان المناسب جعله أصلا برأسه مستقلاّ بنفسه ، وتعميم حدّ المجاز مع ذلك يوجب تداخل أبحاث الفنّ وهو غير مستحسن ، فلذا جعلوه قسيما للكناية مبائنا لها ، وزادوا في حدّه ما يميّزه عنها.

وأمّا علم الاصول فإنّما يبحث عن الألفاظ فيه من الوجه الّذي يبتنى عليه جمل الخطاب الشرعي ، أي من حيث إنّه في أيّ مقام يصلح للحمل على ما وضع له ، وفي أيّ مقام يحمل على غيره ، والمناسب لهذا الغرض هو البحث عنها من حيث إنّها تستقلّ بالإفادة والتفهيم لأجل أو لا تستقلّ لانتفائه بل يحتاج إلى القرينة ، ومرجعه إلى البحث عن الحقيقة والمجاز بالمعنى الأعمّ من الكناية والمجاز بالمعنى الأخصّ.

ص: 533

وأمّا كون اللفظ كناية بخصوصها - أي اتّصافه بإمكان إرادة المسمّى - فممّا لا دخل له في ذلك الغرض ، لأنّه إنّما يتحقّق بتحقّق الإرادة دون احتمالها ، وليس للّفظ المتّصف بإمكان الإرادة حكم مخصوص يتعلّق به نظر الاصولي ، كما لا يخفى على المطّلع العارف بمباحث الكناية ، فبحث الاصولي عن الكناية ليس له وجه يعتّد به. انتهى كلامه رفع مقامه.

وتحقيق المقام : إنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ المجاز عند الاصولي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له من حيث إنّه غير ما وضع له ، سواء اقترنه القرينة اللازمة للمجاز حين الخطاب أو لا. بل لحقته بعد الخطاب ، وسواء كان غير ما وضع له لازما بالمعنى الأخصّ لما وضع له بلزوم عقلي أو عرفي أو لا.

وعلى ذلك يبتنى انقسام القرينة عندهم إلى المتّصلة والمنفصلة ، وقولهم : « بأنّ تأخير البيان فيما له ظاهر عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز ، وإنّما لا يجوز التأخير عن وقت الحاجة فيما كان له وقت حاجة لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل » ولا نظنّ أنّ علماء البيان ينكرون شيئا من ذلك ، وإن لم يقع التصريح به أيضا في كلامهم.

فآل الكلام إلى أن يقال : إنّ القرينة اللازمة للمجاز عندهم - حسبما أخذوه في حدّه - أعمّ ممّا اقترن باللفظ حين الاستعمال ، وما لحقته بعده لدى الحاجة.

ومن ذلك ينقدح أنّ الكناية المجعولة قسيمة للمجاز ليس هو ما لم يقترنه القرينة حين الخطاب وإن لحقته بعده ، بل إنّما جعلت قسيمة لحيثيّة اخرى غير ذلك ، وهي حيثيّة جواز إرادة المعنى مع لازمه ، فهي حينئذ لفظ اريد به لازم معناه من حيث إنّه يجوز أن يراد معه المعنى أيضا.

بل عن صاحب المفتاح (1) إنّها ما اريد به لازم معناه من حيث إنّه يراد معه المعنى ، لأنّه قال - فيما حكى عنه - : المراد بالكلمة المستعملة إمّا معناها وحده

ص: 534


1- مفتاح العلوم : 175 - وحكى عنه في المطوّل - : 323 ( الطبعة الحجرية ).

أو غير معناها وحده ، أو معناها وغير معناها ، والأوّل الحقيقة ، والثاني المجاز ، والثالث الكناية ، وإن كان ذلك ضعيفا مخالفا لرأي جمهورهم ، لأنّ المعتبر في الكناية عندهم إمكان إرادة المعنى مع لازمه ، سواء اريد فعلا أو لا ، لا فعليّة إرادته وتعيّنه.

ولذا أورد عليه في المطوّل : بأنّ الحقّ في الكناية أنّ المراد فيها إنّما هو لازم المعنى وإرادة المعنى جائزة لا واجبة ، لأنّها كثيرا مّا تخلو عن إرادة المعنى الحقيقي وإن كانت جائزة ، للقطع بصحّة قولنا : « فلان طويل النجاد » وإن لم يكن له نجاد قطّ ، وقولنا : « جبان الكلب » و « مهزول الفصيل » وإن لم يكن له كلب ولا فصيل. انتهى (1).

وحيث إنّ المأخوذ فيها عندهم حيثيّة إمكان إرادة المعنى مع لازمه ، فهو الباعث على أنّهم اعتبروا فيها تجرّد اللفظ عن قرينة عدم إرادة المعنى مطلقا.

وعلى هذا فالمجاز عندهم لفظ اريد به لازم معناه ، أو غير ما وضع له من حيث إنّه لا يجوز أن يراد معه المعنى ، أو ما وضع له وهو الباعث على أخذ القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة في حدّه.

وأمّا الاصوليّون فعموم اصطلاحهم فيه مبنيّ على تعرية مفهومه عن هذه الحيثيّة ، بأن يكون عبارة عن اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مطلقا ، أي سواء جاز إرادة ما وضع له معه أو لم يجز.

والظاهر إنّه كذلك لشواهد كثيرة يقف عليها المتتبّع في كلامهم :

منها : حصرهم الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز ، وإنّه لا واسطة بينهما إلاّ الغلط ، والكناية ليست مندرجة في الحقيقة بالضرورة ، فتكون مندرجة في المجاز ، وإلاّ بطل الحصر المذكور.

ومنها : ما تكرّر في كلامهم من أنّ المصحّح للاستعمال في الألفاظ ، إمّا الوضع

ص: 535


1- المطوّل : 323 ( الطبعة الحجرية ).

أو العلاقة ، الوضع في الحقائق والعلاقة في المجازات ، ولا ريب أنّ المصحّح للاستعمال في الكناية علاقة اللزوم بالمعنى الأخصّ فتكون من المجاز.

ومنها : خلوّ حدّ المجاز عن القرينة المانعة ، فلو لم يندرج الكناية فيه لانتقض بها طرد الحدّ ، ولم يقل به أحد حيث لم يتعرّض أحد لنقض طرده بها.

لا يقال : نراهم أنّهم عند بيان أقسام القرينة وأنّها صارفة ومعيّنة ومفهمة يخصّون القرينة الصارفة بالمجاز ، وهذا يقضي بأنّ المجاز عندهم أيضا ملزوم لقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة ، وإن لم يأخذوه في حدّه ، إذ القرينة الصارفة لا تكون إلاّ مانعة.

لأنّا نقول : لا شهادة في التخصيص المذكور بذلك ، لأنّ المراد به أنّ القرينة الصارفة لا توجد إلاّ في المجاز من باب قصر الصفة على الموصوف ، لا أنّ المجاز لا يكون إلاّ مع القرينة الصارفة من باب قصر الموصوف على الصفة ، فاختصاص القرينة بالمجاز لا ينافي عموم اصطلاحهم فيه.

هذا كلّه بناء على تفسير الكناية بما تقدّم ، من لفظ اريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه ، كما هو المعروف عند علماء البيان.

وقد يوجد في كلامهم تفسيرها باستعمال اللفظ من الملزوم للانتقال إلى اللازم ، أو اللفظ المستعمل في الملزوم لينتقل إلى اللازم.

وقد عدّه جماعة من الأعلام طريقا آخر لهم في الكناية.

وعن التفتازاني في شرح المفتاح : إنّ لهم فيها طريقين ويظهر من مطاوي كلماته في المطّول أيضا (1).

وصرّح به الفاضل الچلبي في حواشيه على المطوّل ، في باب تعريف المسند إليه بالعلميّة (2).

وقد زعم بعض الأعاظم - بناء على هذا الطريق - خروجها عن تعريف المجاز بقيد الاستعمال في غير ما وضع له.

ص: 536


1- المطوّل : 52 ( الطبعة الحجرية ).
2- المطوّل : 52 ( الطبعة الحجرية ).

قال : فإنّ الكناية مستعملة فيما وضعت له لينتقل منه إلى غير ما وضعت له.

والحقيقة مستعملة فيما وضعت له ليفهم منه الموضوع له ، والمجاز مستعمل في غير ما وضع له ليفهم منه ذلك ، والكناية في الاستعمال كالحقيقة وفي إرادة المعنى كالمجاز ، إلاّ أنّه يفترق بأنّ في الكناية استعمل اللفظ فيما وضع له ليحصل منه الانتقال إلى غيره بخلاف المجاز. انتهى (1).

وظاهره كونها خارجة عن الحقيقة والمجاز معا ، وهذا كما ترى غير جيّد بل خلاف التحقيق ، لمنع كونها في الاستعمال كالحقيقة ، بل هي في الاستعمال والإرادة معا كالمجاز ، فتكون مجازا لا غير ، فإنّ الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له ، أي طلب فهمه التصديقي على وجه يتعلّق به الحكم وينوط به الصدق والكذب ، والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له على الوجه المذكور ، وقولهم : « لينتقل إلى اللازم » في تعريف الكناية ، يراد به أيضا طلب فهمه التصديقي على الوجه المذكور.

فالاستعمال بالمعنى المأخوذ في حدّ الحقيقة والمجاز حاصل فيها بالنسبة إلى المعنى الكنائي.

وأمّا الاستعمال المعتبر فيها بالنسبة إلى الملزوم أو ما وضع له ، فهو كما ذكروه عبارة عن مجرّد طلب فهمه التصوّري ، ليكون وسيلة إلى الانتقال إلى اللازم على معنى فهمه التصديقي على الوجه المذكور ، وهذا ليس من الاستعمال بالمعنى المأخوذ في حدّ الحقيقة لتكون في الاستعمال كالحقيقة.

وهذا هو معنى قولنا : « إنّها مجاز لا غير » ولأجل هذا ربّما أمكن إرجاع التفسير الثاني إلى الأوّل ، بجعل الاختلاف بينهما في مجرّد اللفظ والعبارة ، بملاحظة أنّ الفهم التصديقي للازم المعنى مسبوق دائما في مثل « طويل النجاد » بالفهم التصوّري الملزوم.

ص: 537


1- إشارات الاصول : 26.

ويبقى الكلام في أنّ المتكلّم في الاستعمال الكنائي هل يطلب من اللفظ ذلك الفهم التصوّري كما يطلب الفهم التصديقي للاّزم الّذي هو المقصود بالأصالة ، أو لا؟

ويمكن القول بالتزامهم به على التفسير الأوّل أيضا ، إلاّ أنّهم لم يصرّحوا به فيه لوضوحه ، باعتبار وضوح سبق حصول الفهم التصوّري.

ويمكن أن يكون مبناه على نفي اعتباره فيها ، بناء على أنّه قهري الحصول فيها ، طلبه المتكلّم أو لم يطلبه ، فيكون طلبه اعتبارا لا حاجة إلى توجّه النفس إليه. فمقتضى الحكمة عدم الالتفات إليه.

الأمر الثالث : في أنّ المجاز بجميع أنواعه وأفراده - حتّى ما كان منه من قبيل الكناية - ملزوم لقرينة إرادة المعنى المجازي حذرا عن الإغراء بالجهل ، فإنّ اللفظ باعتبار الوضع حال تجرّده عن القرينة ظاهر في إرادة ما وضع له فيحمل عليه.

وهذا هو معنى أصالة الحقيقة ، فلا يحمل على إرادة خلاف ما وضع له إلاّ مع قرينة تدلّ عليه ، وعليه مبنى ما حقّقناه في محلّه من أنّ عدم القرينة جزء لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، ووجودها جزء لما يقتضي حمله على معناه المجازي ، وهذا في غير الكناية واضح.

وأمّا فيها فلأنّ اللفظ في موضع الكناية باعتبار وضعه الإفرادي والتركيبي أيضا ظاهر في إرادة الملزوم ، ويدلّ عليه مطابقة فلا يحمل على اللازم إلاّ لقرينة تدلّ على إرادته ، وإن دلّ عليه اللفظ بدونها التزاما ، فإنّ هذه الدلالة الالتزاميّة الحاصلة بواسطة دلالة المطابقة ليست معنى الكناية ، بل الكناية هي إرادة لازم المعنى على وجه يدلّ عليه اللفظ أصالة لا بواسطة دلالته المطابقيّة على المعنى ، فإنّ قولنا : « طويل النجاد » إنّما يصير كناية إذا اريد منه طول القامة ، بحيث يدلّ عليه أصالة فلا بدّ فيه من قرينة تدلّ عليه ، وبدونها يدلّ على طول النجاد مطابقة ، وعلى طول القامة التزاما ، ولا يقال له الكناية باعتبار هذه الدلالة.

ص: 538

نعم الغالب عليها كون قرينتها اللازمة مقاميّة كمقام المدح في قولنا : « فلان مفتوح الباب » كناية عن جوده أو الذمّ في قولنا : « فلان مغلوق الباب » كناية عن بخله ، أو الدعاء في قولنا : « أغلق اللّه باب فلان » أي أماته ، وممّا قام عليه قرينة المقام قوله : ( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ) (1) فإنّه ورد في مقام استبعاد زكريّا لحصول ولد له ، وهذا قرينة على أنّ المراد من بلوغ الكبر بلوغ الهرم والشيخوخة لا ما يقابل الصغر ، ومنه قوله تعالى : ( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) (2) فإنّ بياض العين كناية عن العمى وذهاب البصر ، وقرينته ورود الخطاب في مقام بيان كثرة حزن يعقوب وبكائه ، ففي نحو « طويل النجاد » لا يكفي في كوته كناية مجرّد احتمال إرادة طول القامة ، بل لا بدّ من مساعدة قرينة مقام عليه ، والغالب في قرائن المقام كونها امورا غير منضبطة.

وهل يعتبر في القرينة اللازمة للمجاز بقول مطلق كونها معاندة للحقيقة مانعة عن إرادته؟ الحقّ فيه التفصيل بين ما كان من قبيل الكناية فيعتبر في قرينته عدم المعاندة والمنع.

وبعبارة اخرى : يكفي فيها إثبات اللازم ولا يعتبر معه نفي الملزوم ، بل يعتبر عدم التعرّض لنفيه ، كما ينبّه عليه ما اخذ في حدّها من قيد « جواز إرادة المعنى وامكانه » فيعتبر فيها عدم القرينة المانعة لا عدم مطلق القرينة ، وما كان من قبيل المجاز البياني فيعتبر في قرينته المعاندة والمنع ، وضابطه عدم نهوضها دالّة على إرادة خلاف ما وضع له إلاّ حيث تعذّرت الحقيقة في موضع قيامها ، أو ما دامت قائمة فقوله تعالى : ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (3) مجاز في القدرة أو القوّة وقرينته العقل القاضي بتعذّر الجارحة في حقّه تعالى ، وقولنا : « أيادي فلان عندي كثيرة » مجاز في النعمة وقرينته جمعيّة الأيادي واعتبار المتكلّم كونها عنده ، فتقضى بتعذّر الحقيقة لأنّ الجارحة لا تكون جماعة ولا عند غير ذيها ، وقولنا : « سال

ص: 539


1- آل عمران : 40.
2- يوسف : 84.
3- الفتح : 10.

الوادي » مجاز في الماء لقرينة السيلان ، ويتعذّر معه الحقيقة لاستحالة سيلان حقيقة الوادي ، وطلب السؤال في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) قرينة على كون القرية مجازا في « الأهل » ويتعذّر معه الحقيقة لعدم صحّة سؤال حقيقة القرية ، وقولنا : « أسد يرمي » مجاز في الرجل الشجاع باعتبار « يرمي » ويتعذّر معه الحقيقة إذ لا ملائمة بين الرمي والمفترس ، وقولنا : « رعينا الغيث » مجاز في النبات لتعذّر رعي المطر ، وقولنا : « أمطرت السماء نباتا » مجاز في المطر ، لتعذّر إمطار حقيقة النبات.

وقوله تعالى : ( أَعْصِرُ خَمْراً ) (2) مجاز في العنب لتعذّر عصر المائع المسكر ، وقوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) (3) مجاز في البالغين بعد اليتم لتعذّر إعطاء حقيقة اليتيم شرعا ماله ، وقوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللّهِ ) (4) مجاز في الجنّة أو مطلق الفضل لتعذّر رقّة القلب في حقّه تعالى وهكذا في سائر أمثلة ما كان مجازا بالمعنى الأخصّ.

وبالتأمّل فيما حقّقناه يندفع الاعتراضات والأجوبة الّتي أوردوها على دليل المانع ، من كون المجاز ملزوما للقرينة المانعة ، مثل ما أورد من منع لزوم القرينة المانعة في المجاز ، فإنّ هذا المنع إن اريد به ما يؤول إلى السلب الكلّي وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ من المجاز ما لا يمكن الاسترابة في ملزوميّته للقرينة المانعة.

نعم لو اريد به ما يرجع إلى رفع الايجاب الكلّي فهو في محلّه ، لأنّ من المجاز ما يكون من قبيل الكناية الملزومة لانتفاء القرينة المانعة.

ومثل ما يستفاد من كلام المصنّف فيما حقّقه ، وملخصّه : إنّهم إن أرادوا بالمعنى الحقيقي الّذي يستعمل فيه اللفظ حينئذ المدلول الحقيقي من دون اعتبار الوحدة المأخوذة في وضع المفرد معه اتّجه القول بالجواز ، لأنّ المعنى الحقيقي بعد تعريته عن الوحدة يصير مجازيّا للّفظ فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده.

ص: 540


1- يوسف : 82.
2- يوسف : 26.
3- النساء : 2.
4- آل عمران : 107.

وفيه : إنّ مانعيّة القرينة اللازمة للمجاز معناها - على ما بيّنّاه - استلزامها في موضع قيامها أو ما دامت قائمة تعذّر الحقيقة لذاتها ، سواء اخذت بوصف الوحدة على تقدير دخولها في الوضع أو معرّاة عن ذلك الوصف ، فإنّ ذات الجارحة في نحو ( يَدُ اللّهِ ) متعذّرة ، وهي في « أيادي فلان » لا تجامع القرينة الموجودة مع اليد ، وذات المفترس لا تجامع قرينة « يرمي » في « أسد يرمي » وكذلك في سائر الأمثلة.

وبالجملة : قرينة المجاز معاندة لذات المعنى الحقيقي لا وصفه ، إن قلنا بجزئيّته كيف وهذا أيضا محلّ منع على ما حقّقناه في بحث المشترك ، وقضيّة تعذّر ذات الحقيقة امتناع إرادته منفردا ومجتمعا مع المعنى المجازي لا منفردا فقط ، وامتناع إرادته بإرادة مستقلّة منضمّة إلى إرادة المعنى المجازي ، لا بتلك الإرادة بدلا عن المعنى المجازي فقط ، فبطل اعتراضان آخران :

أحدهما : ما أورده المدقّق الشيرواني ، وهو : أنّ قرينة المجاز إنّما تمنع عن إرادته منفردا لا مجتمعا مع المعنى المجازي.

والآخر ما أورده المحقّق السلطان من : أنّها إنّما تمنع لو اريد بتلك الإرادة بدلا عن المعنى المجازي لا بإرادة اخرى ممتازة عن إرادة المعنى المجازي فليتدبّر.

[59] قوله : (فمنعه قوم وجوّزه آخرون ، ثمّ اختلف المجوّزون فأكثرهم على أنّه مجاز ، وربّما قيل بكونه حقيقة ومجازا بالاعتبارين ... الخ)

واعلم ، أنّ المصنّف وإن نسب القول بالمجازيّة إلى أكثر المجوّزين. إلاّ أنّ الأجود على القول بالجواز هو القول الثاني ، أخذا بظاهر العناوين القاضية ببقاء الوصف العنواني في المعنى الحقيقي على حاله ، مضافا إلى ظهور آخر في كون الاعتماد في الاستعمال فيهما على الوضع والعلاقة معا بالاعتبارين ، لا على العلاقة فقط بالنسبة إليهما.

كيف وهي بالنسبة إلى المعنى الحقيقي منتفية جزماً.

ص: 541

والاعتراض عليه : بأنّ الاستعمال لا تعدّد فيه فلا يعقل اتّصافه بالمتضادّين بمعزل عن التحقيق ، ناش عن قلّة التدبّر والتدقيق.

فإنّ وحدة الاستعمال وتعدّده لا ينوطان بوحدة النطق والتلفّظ ، وتعدّدهما ، بل بوحدة المعنى المستعمل فيه وتعدّده ، التفاتا إلى ما قدّمناه في بحث المشترك من : أنّ الاستعمال استفعال من العمل ، بمعنى طلب إفادة المعنى من اللفظ.

وهذا كما ترى صفة قائمة بضمير المتكلّم فتتعدّد بتعدّد المعنى المطلوب إفادته ، وكيف كان : فالأصحّ هو القول بالمنع مطلقا ، حتّى فيما يكون من قبيل الكناية.

وملخّصه : إنّه حيثما اريد من اللفظ معناه المجازي لا يصحّ أن يراد معه معناه الحقيقي ، ولو كان الأوّل معنى كنائيّا.

لنا على ذلك : نظير ما تقدّم في البحث السابق من أنّ الوضع إنّما يكون مصحّحا للاستعمال باعتبار ما تضمنّه من إذن الواضع في الاستعمال ، فيجب الاقتصار فيه على القدر المعلوم ثبوته من الإذن ، ولم يعلم إلاّ بالنسبة إلى الاستعمال فيما وضع له مع الانفراد ، فلا يصحّ الاستعمال فيه مع انضمام الغير إليه ، ولو كان ذلك الغير خلاف ما وضع له ، ولو لازما مساويا لما وضع له.

لا يقال : هذا الدليل لا يتمشّى فيما يكون من قبيل الكناية ، لتصريح علماء البيان في تفسيرها بجواز إرادة الملزوم أو ما وضع له معه ، وهم من أهل اللغة فتصريحهم بالجواز يجري مجرى تنصيص أهل اللغة فيكشف عن تجويز الواضع ، لما ذكرناه مرارا من أنّ مرادهم بالجواز هنا الجواز العقلي المرادف للإمكان ، على معنى عدم امتناع إرادة الملزوم مع اللازم امتناعا عرضيّا لقبحه المنافي لحكمة المتكلّم الحكيم ، فإنّهم التزموا بذلك في الكناية قبالا لما أخذوه في تعريف المجاز من استلزامه لقرينة مانعة عن إرادة الحقيقة بملاحظة ما سبق من أنّ مانعيّة القرينة معناها تعذّر الحقيقة في مورد قيامها أو ما دامت قائمة ، على معنى امتناع إرادتها حينئذ اريد معها المعنى المجازي أو لا ، وظاهر أن ليس المراد به الامتناع الذاتي

ص: 542

لوضوح عدم خروجها باعتبار القرينة عن مقدوريّتها للمتكلّم ، بل المراد به الامتناع العرضي لقبح تلك الإرادة ، لكونها مؤديّة إلى عنوان قبيح من العناوين القبيحة المتعذّر صدورها من الحكيم من كذب ، كما في ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) و « أيادي فلان عندي كثيرة » و « سال الوادي » و « رأيت أسدا يرمي » وغير ذلك ممّا اخذ في الأخبار ، أو طلب لغو كما في قوله : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (2) نظرا إلى أنّه كما يقبح ارتكاب اللغو على الحكيم كذلك يقبح عليه طلبه ، أو طلب محال كما في قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) (3) حيث إنّه تعالى حرّم إعطاء اليتامى حال اليتم أموالهم ، فلو كان مراده في الآية حقيقة اليتيم لزم الأمر بالحرام وهو قبيح.

وكذلك في قولنا : « ائتني بأسد يرمي » حيث إنّ الإتيان بالمفترس الرامي محال ، فامتناع إرادة الحقيقة المأخوذة في المجاز البياني إنّما هو باعتبار قبح تلك الإرادة ، وهو المراد من تعذّر الحقيقة في لسان الاصوليّين ، بخلاف الكناية فإرادة ما وضع له في « طويل النجاد » و « كثير الرماد » و « أبيض اللحية » مثلا مع إرادة لوازمه في هذه الأمثلة من طول القامة والجود والشيخوخة لا يؤدّي إلى قبح فلا يمتنع ، وظاهر أنّ الجواز العقلي بالمعنى المذكور لا يلازم الجواز اللغوي المرادف للصحّة المقابلة للغلط ، فعلماء البيان في تصريحهم بالجواز العقلي لم ينصّوا بالجواز اللغوي ، ليكون كاشفا عن تجويز الواضع وإذنه ، ولم يثبت في استعمالات العرب مورد من الكنايات إنّهم أرادوا المعنى الحقيقي مع المعنى الكنائي.

وبالتأمّل فيما قرّرناه ينقدح الجواب عن حجّة المجوّزين ، وهو : أنّه ليس بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز منافاة ، وإذا لم يكن ثمّة منافاة لم يمتنع اجتماع الإرادتين عند المتكلّم ، فإنّ عدم منافاة الإرادتين وعدم امتناع اجتماعهما عند المتكلّم لعدم خروجهما عن مقدوريّته وإن كان ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، إلاّ أنّه

ص: 543


1- الفتح : 10.
2- يوسف : 82.
3- النساء : 2.

لا ينافي الامتناع الإضافي من جهة القبح العقلي فيما لزمه القرينة المانعة ، ولا ينتج الجواز اللغوي فيه ولا في غيره.

[60] قوله : (وحجّة المانعين بأنّه لو جاز استعمال اللفظ في المعنيين لزم الجمع بين المتنافيين ، أمّا الملازمة : فلأنّ من شرط المجاز نصب القرينة المانعة لإرادة الحقيقة - إلى قوله - فإذا استعمل المتكلّم اللفظ فيهما كان مريدا لاستعماله فيما وضع له باعتبار إرادة المعنى الحقيقي غير مريد له باعتبار إرادة المعنى المجازي ... الخ)

وفيه : بعد الغضّ عن القبح العقلي اللازم من إرادة المعنى الحقيقي ، منع الملازمة ، فإنّ إرادة المعنى المجازي لا تنفي بالذات إرادة المعنى الحقيقي لينافي إثبات إرادته بفرض وقوع الاستعمال فيه أيضا ، بل هو من مقتضى القرينة وهي أيضا لا تقضي بنفي تلك الإرادة بالذات ، بل باعتبار ما يتضمّنه من القبح.

وإذا قطعنا النظر عن القبح أو جوّزناه في حقّ المتكلّم ، فلا نافي لها من جهة القرينة ، كما لا نافي لها من جهة إرادة المعنى المجازي.

ثمّ إنّ نفي تلك الإرادة باعتبار القبح كما هو مقتضى القرينة - على ما حقّقناه - يوجب امتناعها بهذا الاعتبار [ و ] (1) لا حاجة في إلزام الخصم إلى تكلّف توسيط لزوم التناقض.

ثمّ على تقدير الاستدلال على الامتناع بلزوم القبح ، يتوجّه إليه كون الدليل أخصّ ، لأنّه لا يتمشّى في الكناية الّذي هو من قسم المجاز عند الاصوليّين على ما بيّنّاه.

ويرد عليه أيضا : أنّ قصارى ما يترتّب عليه إنّما هو القبح العقلي في إرادة الحقيقة ، وهو لا يلازم المنع اللغوي على وجه يكون الاستعمال غلطا.

ألا ترى أنّ قول الحكيم : « طر إلى السماء » مريدا به الحقيقة قبيح عقلا ، مع أنّه

ص: 544


1- زيادة بقتضيها السياق.

لا غلط في شيء من مفرداته ولا في تركيبه ، إلاّ أن يدفع ذلك بملاحظة ما قرّرناه في مقدّمات المسألة السابقة ، بأنّ مرجع الخلاف في المسألة إلى الجواز بالمعنى المتضمّن للجواز العقلي والجواز اللغوي ، والمنع بمعنى أحد الأمرين من المنع اللغوي والمنع العقلي ، فالمانع يكفيه إقامة الدليل على المنع العقلي.

ثمّ إنّ من طريق الاستدلال على المنع اللغوي - حسبما بيّنّاه - يظهر أنّ المتّجه في استعمال اللفظ في معنيين مجازيّين فما زاد أيضا هو عدم الجواز ، لأنّ العلاقة اللازمة للمجاز كالوضع إنّما تصحّح الاستعمال في المجازات باعتبار ما تضمّنته من إذن الواضع في الاستعمال ، وثبوته في الصورة المفروضة غير معلوم ، وعدم ثبوت الإذن أو عدم العلم به كاف في الحكم بعدم الجواز اللغوي.

وقد تمّت المسألة حسبما تحتاج إلى التعرّض لها بيد مؤلّفها الفقير إلى عفو اللّه العليم القدير.

الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا

في خامس شهر صفر من 1290

إلى هنا انتهى الجزء الثاني من هذه التعليقة المباركة - حسب تجزئتنا -

ويتلوه الجزء الثالث إن شاء اللّه تعالى

وأوّله : قوله : في الأوامر والنواهي

ص: 545

ص: 546

فهرس المحتوى

تعليقة : تمهيد امور يرجع إليها لتمييز الحقائق عن المجازات... 3

الأمر الأوّل : اعتبار الأمارات المعمولة في باب الوضع لمجرّد الطريقيّة... 3

الأمر الثاني : نهوض أمارات الوضع للجاهل دون العالم... 6

الأمر الثالث : كلّما هو من الآثار المترتّبة على الوضع للعالم بالوضع فهو أمارة كاشفة عنه للجاهل 9

الأمر الرابع : كلّما هو أمارة دالّة على الوضع فهو أمارة على الحقيقة... 9

أمارات الحقيقة والمجاز... 10

1 - تنصيص الواضع... 10

2 - تنصيص أهل اللغة... 11

3 - الترديد بالقرائن... 12

4 - قول اللغوي... 16

5 - التبادر وعدمه... 51

مناقشة الدور في التبادر... 62

6 - صحّة السلب وعدمها... 69

تقرير الدور في صحّة السلب وعدمها... 77

في نبذة من الامور المهمّة... 84

7 - الاطّراد وعدمه... 96

ص: 547

8 - صحّة التقسيم وعدمها... 101

9 - الاستقراء... 103

10 - القياس... 105

11 - التزام التقييد وعدمه... 108

12 - التنافر... 109

13 - مخالفة صيغة الجمع... 110

14 - امتناع الاشتقاق... 111

15 - أصالة الاستعمال... 111

التنبيه على أمرين... 134

في أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ... 141

في أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ... 147

في أصالة المجاز بالمعنى الأخصّ... 160

في أصالة الحقيقة بالمعنى المشخّص للمراد... 168

تعارض الأحوال... 188

الصورة الاولى : تعارض الاشتراك والنقل... 191

الصورة الثانية والثالثة : تعارض الاشتراك أو النقل والمجاز... 198

الصورة الرابعة والخامسة : تعارض الاشتراك والتخصيص أو النقل والتخصيص... 199

الصورة السادسة والسابعة : تعارض الاشتراك والتقييد أو النقل والتقييد... 200

الصورة الثامنة والتاسعة : تعارض الاشتراك أو النقل والإضمار... 200

الصورة العاشرة والحادي عشر : تعارض الاشتراك أو النقل والنسخ... 201

في تعارض حالتين من أحوال الاستعمال... 204

1 - تعارض المجاز والتخصيص... 205

2 - تعارض المجاز والتقييد... 210

ص: 548

3 - تعارض المجاز والإضمار... 210

4 - تعارض المجاز والنسخ... 211

5 - تعارض التخصيص والتقييد... 213

6 - تعارض التخصيص والإضمار... 215

7 - تعارض التخصيص والنسخ... 215

8 - 9 - 10 - تعارض التقييد والإضمار أو النسخ وتعارض الإضمار والنسخ... 219

تعليقة : في تعارض العرف واللغة... 221

تعارض عرفي المتكلّم والمخاطب... 228

تعليقة : ألفاظ المقادير حقيقة في حدودها المعيّنة المعهودة... 240

الحقيقة اللغويّة والعرفيّة... 249

في الحقيقة الشرعيّة... 250

الفصل الأوّل : في إثبات الحقيقة الشرعيّة ونفيها... 250

الأمر الأوّل : في أنّ « الشارع » بحسب أصل اللغة جاعل الشرع وواضعه... 251

الأمر الثاني : تقسيم الحقيقة الشرعيّة إلى ما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما وما يعرفون كليهما         255

الأمر الثالث : في أنواع الألفاظ الواردة في خطاب الشرع... 260

في تأسيس الأصل في المسألة... 262

تحرير محلّ النزاع في الحقيقة الشرعيّة... 269

في ثمرة النزاع في الحقيقة الشرعيّة... 272

احتجاج المثبتين لوجود الحقيقة الشرعيّة... 277

في ثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات وعدمه... 280

احتجاج النافين للحقيقة الشرعيّة والجواب عنها... 286

تعليقة : في الصحيح والأعمّ... 297

المقدّمة الاولى : عدم كون النزاع في الصحيح والأعمّ من متفرّعات القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة  297

ص: 549

المقدّمة الثانية : عدم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات... 310

المقدّمة الثالثة : في تفسير الصحّة والفساد... 321

المقدّمة الرابعة : في نبذة ممّا يتعلّق بماهيّة العبادة... 328

المقدّمة الخامسة : في نبذة ممّا يتعلّق بالماهيّات الجعليّة باعتبار ما يضاف إليها من الوضع والتسمية     336

المقدّمة السادسة : في ثمرة المسألة... 346

المقدّمة السابعة : في تحقيق أقوال المسألة... 360

في تأسيس الأصل في المسألة... 364

أدلّة القول بالوضع للأعمّ... 381

تعليقة : في ما يتعلّق بمباحث المشتقّ... 386

المبحث الأوّل : في تحقيق الحال في مبدأ الاشتقاق المعتبر في الأفعال وغيرها ممّا يكون مبادئها من المعاني الحدثيّة         391

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالمشتقّات المخرجة عن المبدأ الحدثي... 398

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالمشتقّات باعتبار مفاهيمها ومعانيها الموضوع لها... 408

الجهة الاولى : ثبوت التركيب في مفهوم كلّ مشتقّ... 408

الجهة الثانية : في بيان معاني المشتقّات بالمعنى الأعمّ من المصادر على وجه التفصيل... 415

1 - المصادر... 415

2 - 3 - فعلا الماضي والمضارع... 420

4 - فعل الأمر... 424

5 - اسم الفاعل... 429

فيما يتعلّق باسم الفاعل من المسائل... 429

ص: 550

الاولى : دخول الزمان في مدلوله وضعا بعنوان الجزئيّة أو القيديّة وعدمه... 429

الثانية : في اشتراط قيام المبدأ بالمشتقّ وعدمه... 431

الثالثة : في اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ وعدمه... 435

تعليقة : في مباحث الاشتراك... 475

في وقوع الاشتراك وامتناعه... 477

في جواز استعمال المشترك في معنيين... 483

المقدّمة الاولى : في شرح أجزاء العنوان... 483

المقدّمة الثانية : تقييد العنوان بما إذا أمكن الجمع بين المعنيين ومازاد... 488

المقدّمة الثالثة : في أنّ قيد « الوحدة » ليس جزء المعنى المفرد... 492

المقدّمة الرابعة : في تحقيق حال المثنّى والمجموع وضعا واستعمالا... 498

المقدّمة الخامسة : في أنّ عموم النفي المستفاد من ورود أداة النفي على المنكر أو النكرة لا استعمال المشترك في أكثر من معنى  509

في أقوال المسألة... 511

في القول المختار والاستدلال عليه... 512

في الأدلّة الغير الناهضة على المختار... 514

التنبيهات :... 520

في استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي... 529

ص: 551

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.