أصول الفقه المجلد 11

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1432 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-84-3

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الحادي عشر

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 3-84-5213-600-978/ج11

ISBN 978-600-5213-84-3/VOL 11

الكتاب: أصول الفقه ج 11

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1432 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ خاتمة الاستصحاب : في بيان أُمور ]

قوله : فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بما ذكره الشيخ قدس سره من أنّه لولا اتّحاد المتعلّقين يلزم بقاء العرض بلا موضوع أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وكلّ منهما بمكان من الاستحالة ، فإنّ الاستدلال بذلك تبعيد للمسافة بلا موجب ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذه القضية إنّما تنفع في لزوم وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة بحسب الموضوع ، لأنّ الموضوع في القضية المشكوكة إن كان مغايراً للموضوع في القضية المتيقّنة ، ومع ذلك حكمنا ببقاء ذلك المحمول لأجل الاستصحاب ، فإن كان بقاؤه المحكوم به غير موجب للحوقه لموضوع القضية المشكوكة ، كان لازمه بقاء العرض بلا موضوع ، وإن كان بقاؤه موجباً للحوقه لموضوع القضية المشكوكة ، كان لازمه انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، أمّا لو كان الاختلاف بين القضيتين في ناحية المحمول فلا يستقيم هذا البرهان فيه كما هو واضح.

ثمّ إنّه في [ هذه ] الصورة وهي صورة الاختلاف بينهما بحسب الموضوع فقط يمكن التخلّص من المحالية بالالتزام بالشقّ الثاني ، بأن نقول : إن نقل المحمول الذي هو الحكم من موضوع إلى موضوع آخر لا بأس به إذا كان على نحو التعبّد سيّما إذا كان المحمول من الأحكام الشرعية ، فإنّا لو فرضنا أنّ

ص: 3


1- فوائد الأُصول 4 : 564.

الاستصحاب في حدّ نفسه لا يقتضي وحدة الموضوع ، وكان مقتضى دليله هو الشمول لما كان الموضوع فيه مختلفاً ، يكون مرجع الحكم الاستصحابي ببقاء ذلك المحمول إلى الحكم التعبّدي بنقل ذلك المحمول من موضوع القضية المتيقّنة إلى موضوع القضية المشكوكة المفروض كون أحدهما مغايراً للآخر.

ولا دافع لهذه الدعوى ، إلاّ أنّ الاستصحاب بنفسه يقتضي وحدة الموضوع في القضيتين ، ومجرّد استحالة نقل المحمول من موضوع إلى موضوع آخر لا تدفع ذلك ، لما عرفت من إمكان ذلك تعبّداً الذي يكون مرجعه إلى التوسّع في الموضوع ، وإن لم يكن ممكناً حقيقة ووجداناً من دون التصرّف الشرعي في ناحية الموضوع.

وبالجملة : أنّ الحجر الأساسي للوحدة المذكورة هو أنّ الاستصحاب بنفسه يقتضيها لا أمراً آخر غير نفس الاستصحاب ، ولأجل ذلك نقول إنّ هذه الوحدة من القضايا التي قياساتها معها.

قوله : أو شكّ في نجاسة الماء لأجل الشكّ في بقاء تغيّره ... الخ (1).

لا يبعد أن يكون المراد من التغيّر هو الاضافة ، كما لو كان الماء مسبوقاً بالاضافة وقد لاقته نجاسة وشكّ في تنجّسه لأجل الشكّ في بقاء إضافته ، فإنّه حينئذ يحكم بنجاسته لاستصحاب إضافته ، إذ لو كان المراد من التغيّر هو التغيّر بالنجاسة لم يكن الحكم بنجاسته متوقّفاً على استصحاب تغيّره ، فإنّه يبقى على النجاسة وإن زال تغيّره ، اللّهمّ إلاّ أن يكون المثال في الكر المتغيّر بناءً على زوال النجاسة بزوال تغيّره ، وهذا هو الذي يظهر من الرسائل (2) فراجع. وعلى كلّ

ص: 4


1- فوائد الأُصول 4 : 566.
2- فرائد الأُصول 3 : 292.

حال ، أنّ الأمر في ذلك سهل لكونه مناقشة في المثال.

قوله : فإن كان الموضوع محرزاً بالوجدان وكان الشكّ متمحّضاً في بقاء المحمول ... الخ (1).

لا فرق في ذلك بين كون ذلك المحمول شرعياً كما في طهارة الماء أو نجاسته ، أو كونه غير شرعي كما ذكره من الشكّ في العدالة بعد فرض تحقّق الحياة وجداناً.

قوله : فإن كان الشكّ في المحمول المترتّب مسبّباً عن الشكّ في الموضوع ، فلا إشكال في أنّ جريان الأصل في الموضوع يغني عن جريانه في المحمول المترتّب ، لأنّه رافع لموضوع ... الخ (2).

لا يخفى أنّه إنّما يكون الأصل في الموضوع رافعاً للشكّ في المحمول المترتّب إذا كان ترتّب المحمول وتسبّبه على ذلك الموضوع ترتّباً شرعياً كما أفاده فيما بعد بقوله : إذا كان الأصل السببي واجداً للشرائط المعتبرة في الشكّ السببي والمسبّبي (3) وذلك كما لو شكّ في المطهّرية لأجل الشكّ في بقاء إطلاق الماء ، فإنّ استصحاب بقاء إطلاق الماء حاكم على الشكّ في مطهّريته المفروض كونها حكماً شرعياً لإطلاق الماء ، وكما لو شكّ في جواز تقليد زيد للشكّ في بقاء عدالته مع فرض إحراز حياته وجداناً ، فإنّ استصحاب العدالة كافٍ في الحكم بجواز تقليده وموجب لزوال الشكّ فيه. والفرق بين المثالين أنّ المحمول الشرعي في الأوّل مترتّب على المحمول الأوّلي بلا واسطة ، وفي الثاني يكون

ص: 5


1- فوائد الأُصول 4 : 566.
2- فوائد الأُصول 4 : 567.
3- فوائد الأُصول 4 : 568.

المحمول الشرعي وهو جواز التقليد مترتّباً على العدالة وهي مترتّبة على الحياة.

أمّا إذا لم يكن ترتّب المحمول على ذلك الموضوع ترتّباً شرعياً ، كما إذا شكّ في بقاء عدالة المقلَّد لأجل الشكّ في بقاء حياته ، فإنّ العدالة من المحمولات المترتّبة على الحياة ، وكان منشأ الشكّ فيها هو الشكّ في بقاء الحياة التي هي موضوعها عقلاً ، فاستصحاب الحياة وإن كان جارياً من حيث إنّه أحد جزأي موضوع جواز التقليد ، إلاّ أنّه لا ينفع في الحكم بتحقّق العدالة وبقائها ، لما عرفت من عدم كون ترتّب العدالة على الحياة ترتّباً شرعياً ، وإن كان لازم بقاء الحياة في الفرض هو بقاء العدالة ، إلاّ أنّه لا يترتّب على استصحاب الحياة إلاّبنحو من الاثبات.

وهكذا الحال في المحمول المترتّب عقلاً بواسطتين ، كما لو شكّ في بقاء حركة الأصابع لأجل الشكّ في بقاء الكتابة ، فإنّ استصحاب الكتابة لا ينفع في إثبات حركة الأصابع ، ففي المثالين لابدّ من إجراء الاستصحاب في نفس المحمول المشكوك ، وإن لم يكن للشكّ فيه منشأ إلاّ الشكّ في الموضوع.

وبعبارة أُخرى : أنّ حركة الأصابع وإن لم تكن بنفسها مشكوكة ، إلاّ أنّه بواسطة الشكّ في بقاء الكتابة تكون مشكوكة ، لكون الشكّ في حركة الأصابع تابعاً للشكّ في الكتابة ، وهذا الشكّ الطارئ ولو بالواسطة على حركة الأصابع لا يمكن إزالته بازالة الشكّ في سببه ، لما عرفت من كون الأصل حينئذ مثبتاً ، فلابدّ من إجراء الأصل في نفس الحركة المذكورة وإن لم تكن مشكوكة بالأصالة بل كانت مشكوكة بالتبع ، فإنّ هذا المقدار من الشكّ التبعي كافٍ لجريان الأصل ، وحينئذ يكون الاستصحاب جارياً في نفس حركة الأصابع ، ولا يترتّب عليه ملزومه الذي هو بقاء الكتابة ، بل لو كان للكتابة أثر شرعي كان اللازم إجراء الأصل

ص: 6

فيها أيضاً.

وفي المثال السابق وهو الشكّ في العدالة لأجل الشكّ في الحياة ، يجري استصحاب العدالة وإن لم تكن مشكوكة بنفسها ، بل كان الشكّ فيها تبعاً للشكّ في الحياة ، وحيث إنّ الحياة جزء من موضوع جواز التقليد بناءً على تركّبه من الحياة والعدالة ، كنّا محتاجين إلى إجراء الاستصحاب فيها ، ولا يغنينا عن استصحابها استصحاب العدالة ، لما عرفت من أنّ الأصل في اللازم الذي هو العدالة لا يثبت الملزوم الذي هو الحياة ، كما أنّ استصحاب الحياة لا يغني عن استصحاب العدالة وإن لم يكن للشكّ فيها منشأ إلاّ الشكّ في الحياة ، لما عرفت من أنّ الأصل في الملزوم لا يثبت اللازم.

ومن ذلك يظهر لك أنّ مسألة ما لو كان الشكّ في المحمول غير الشرعي مسبّباً عن الشكّ في موضوعه مساوية لما إذا كان الشكّ في كلّ منهما مسبّباً عن شيء آخر ، ولم يكن الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر ، كما يظهر ذلك من التقريرات المطبوعة في صيدا أعني قوله : وكذا مع الشكّ فيه ( أي في الحياة ) سواء كان الشكّ في المحمول ( الذي هو العدالة ) ناشئاً عن الشكّ في موضوعه ( الذي هو الحياة ) أم لا ، فيستصحب وجود الحي العادل ويترتّب عليه أثره الشرعي ( وهو جواز التقليد ) ، وكذا قوله : وأُخرى يكون كلّ منهما مشكوكاً سواء كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر أم لا ، فيجري الاستصحاب في كلّ منهما في عرض واحد ، كما في بقية الموضوعات المركّبة (1) هذا لو قلنا بأنّ موضوع جواز التقليد هو المركّب منهما.

ص: 7


1- أجود التقريرات 4 : 182.

أمّا لو قلنا بأنّ موضوع جواز التقليد هو العدالة ، ولم تؤخذ الحياة قيداً شرعياً فيه ، ولم نكتف بالعدالة إلى حين الممات ، بل أخذنا العدالة العدالة المطلقة ، ولم تؤخذ الحياة قيداً شرعياً في الحكم المذكور ، بل أقصى ما في البين هو توقّف العدالة عقلاً عليها ، فلا حاجة حينئذ إلى استصحاب الحياة ، بل كان استصحاب العدالة كافياً في جواز التقليد وإن لم نحرز الحياة فعلاً. لكن ذلك فرض لا واقعية له ، لأنّ العدالة المأخوذة إن كانت هي العدالة إلى الموت فلا يعقل أن يكون الشكّ فيها مستنداً إلى الشكّ في الحياة ، وإن كانت العدالة إلى حين التقليد ، بحيث قلنا بجواز بقاء العدالة بعد الموت ، لم تكن العدالة متوقّفة على الحياة.

قوله : كما إذا شكّ في أنّ موضوع النجاسة ومعروضها هو ذات الكلب بما له من المادّة الهيولائية ... الخ (1).

الأولى أن يمثّل لذلك بالحطب المتنجّس إذا صار فحماً أو رماداً ، فإنّه لا يجري فيه استصحاب الموضوع ، لعدم إحراز حقيقته وتردّده بين ما هو مرتفع قطعاً إذا كان هو عنوان الحطبية وما هو باقٍ قطعاً إذا كان هو نفس المادّة ، ولا يجري فيه استصحاب الحكم لعدم إحراز بقاء الموضوع ، إلاّ إذا ادّعي أنّ تبدّل الحطب إلى الفحم أو الرماد من قبيل تبدّل الحالات عرفاً. ومثله ما لو ثبت عدالة زيد باجتناب الكبائر والصغائر ثمّ بعد هذا ارتكب الصغيرة ، فإنّ موضوع العدالة إن كان هو ترك الاثنين فقد ارتفع قطعاً ، وإن [ كان ] هو ترك الكبيرة فقط فهو باقٍ قطعاً.

ص: 8


1- فوائد الأُصول 4 : 567.

قوله : وأُخرى ممّا يتوقّف عليه شرعاً ، كتوقّف الكرّية العاصمة على إطلاق الماء ، فإنّ الكرّية لا تتوقّف على كون الماء مطلقاً ، لتحقّق الكرّية مع إضافة الماء ، إلاّ أنّ الشارع اعتبر في الكرّية إطلاق الماء ، فيكون دخل الاطلاق في الكرّية شرعياً ، بخلاف دخل الحياة في العدالة فإنّه عقلي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ لنا في المياه حكمين : الأوّل كونه مزيلاً للخبث والحدث ، وهذا الحكم الشرعي مرتّب على كون الماء مطلقاً ، ولم يعتبر فيه الكرّية ، فيكون خارجاً عمّا نحن فيه. الثاني : كونه معصوماً لا ينفعل بملاقاة النجاسة ، وهذا الحكم الشرعي مرتّب على كون الماء المطلق كرّاً ، فالكرّية ليست من الأحكام الشرعية المجعولة للاطلاق ، فلا يكون إطلاق الماء دخيلاً شرعاً في الكرّية ، وإنّما يكون دخيلاً شرعاً في العاصمية وعدم الانفعال لكونه جزءاً من موضوع هذا الحكم الشرعي ، فإنّ موضوع هذا الحكم الشرعي مركّب من الكرّية وإطلاق الماء ، فلا تكون نسبته إلى هذا الحكم الشرعي إلاّكنسبة الكرّية إليه ، فلو كان كلّ منهما مشكوك البقاء بشكّ مستقل جرى في كلّ منهما استصحاب البقاء ، ويكفي في جريانه فيه كونه له المدخلية في ذلك الحكم الشرعي باعتبار كونه جزءاً من موضوعه.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه لم يظهر الفرق بين هذا المثال وبين مسألة الحياة والعدالة ، فإنّ الكلام في مسألة الحياة والعدالة إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الشرعي المترتّب على المجموع المركّب من الحياة والعدالة ، كما في جواز الاقتداء وجواز التقليد كما يستفاد ممّا أفاده فيما بعد بقوله : فإنّ استصحاب الحياة إنّما يجري من

ص: 9


1- فوائد الأُصول 4 : 568.

حيث إنّ للحياة دخلاً في الحكم الشرعي المترتّب على الحي العادل - إلى قوله - وبالجملة : بعد ما كان الموضوع لجواز التقليد مركّباً من الحياة والعدالة الخ (1).

والحاصل : أنّه بعد فرض كون الحكم الشرعي الذي هو جواز التقليد مرتّباً على الموضوع المركّب من الحياة والعدالة ، يكون حال هذا المثال حال الكرّية وإطلاق الماء في كون الحكم الشرعي مرتّباً على الموضوع المركّب الموجب لكون دخل كلّ منهما في موضوع الحكم شرعياً ، وكما أنّ دخل الحياة في نفس العدالة لم يكن شرعياً ، فكذلك دخل إطلاق الماء في الكرّية. نعم بينهما فرق وهو أنّ الحياة يتوقّف عقلاً عليها العدالة بخلاف إطلاق الماء بالنسبة إلى الكرّية فإنّه لا يتوقّف عقلاً عليه الكرّية ، وهذا المقدار من الفرق لا أثر له فيما نحن بصدده.

والحاصل : أنّ كلاً من الحياة والعدالة له الدخل الشرعي في موضوع الحكم الذي هو جواز التقليد ، كما كان لكلّ من الاطلاق والكرّية دخل في موضوع الحكم الذي هو عدم الانفعال ، وأمّا نسبة إطلاق الماء إلى الكرّية فهي وإن فارقت نسبة الحياة إلى العدالة في كون الكرّية غير متوقّفة عقلاً على إطلاق الماء ، بخلاف العدالة فإنّها متوقّفة عقلاً على الحياة ، ولكن هذا المقدار من الفرق لا أثر له في ناحية ما نحن فيه من الحكم الشرعي المرتّب على الموضوع المركّب من العنوانين.

نعم ، لو كان لنا حكم شرعي مرتّب على نفس الكرّية وقد شككنا في بقائها ، لم يكن لنا إشكال في استصحابها ، لعدم توقّفها على شيء آخر لا عقلاً ولا شرعاً ، وهذا بخلاف ما لو كان لنا حكم شرعي مرتّب على عنوان العدالة وقد

ص: 10


1- فوائد الأُصول 4 : 569.

شككنا في بقائها ، فإنّه إن كان الشكّ فيها مقروناً بالعلم ببقاء الحياة ، فلا إشكال في استصحاب بقائها ، وإن كان مقروناً بالشكّ في بقاء الحياة وكان الشكّ في بقاء العدالة ناشئاً عن الشكّ في بقاء الحياة ، فقد تقدّم الكلام فيه وتقدّم أنّه فرض غير واقع. وإن كان الشكّ في العدالة غير ناشئ عن الشكّ في بقاء الحياة ، بل كان كلّ منهما ناشئاً عن منشأ مختصّ به ، فقد يقال إنّ استصحاب العدالة لا يجري لتوقّف العدالة عقلاً على إحراز الحياة ، كما أنّ استصحاب الحياة لا يجري أيضاً لعدم كون الحياة أثراً شرعياً ولا هي موضوع للأثر الشرعي ولا جزء من موضوعه ، وهذا هو المائز بين المثالين ، ولعلّ هذا الإشكال هو المقصود من الإشكال المحكي بقوله فيما بعد : فقد يستشكل في استصحاب الحياة والعدالة ، أمّا العدالة فللشكّ في موضوعها ( وهو الحياة فإنّها موضوع عقلي للعدالة ) وأمّا في الحياة فلعدم كون دخله في العدالة شرعياً (1).

لكن لو نزّلنا هذا الإشكال المحكي على الإشكال الذي ذكرناه لكان اللازم أن يقول : وأمّا في الحياة فلعدم كونها جزءاً من موضوع الحكم الشرعي الذي هو جواز التقليد ، لأنّ تمام موضوعه هو العدالة.

ويمكن أن يقرّب هذا الإشكال فيما لو كان الموضوع للحكم الشرعي هو المركّب من كلا العنوانين ، فيقال : إنّه بعد فرض كون الحكم الذي هو عدم الانفعال مرتّباً على المجموع من الكرّية وإطلاق الماء ، لو كان كلّ من العنوانين مشكوكاً بشكّ مستقل ، فبناءً على كون جزئية الموضوع كافية في صحّة الاستصحاب يجري كلا الاستصحابين ، ولا يتوقّف استصحاب الكرّية على ثبوت إطلاق الماء ، لأنّ الكرّية لا تتوقّف على إطلاق الماء لا توقّفاً شرعياً ولا

ص: 11


1- فوائد الأُصول 4 : 569.

توقّفاً عقلياً ، وهذا بخلاف مسألة العدالة والحياة ، فإنّ الحكم الشرعي وهو جواز التقليد بعد أن كان مرتّباً على المجموع المركّب من العدالة والحياة ، لم يمكن إجراء استصحاب العدالة لتوقّفها عقلاً على الحياة ، ومع عدم جريان الاستصحاب في ناحية العدالة لا يمكن استصحاب الحياة لعدم الأثر له بعد فرض عدم ثبوت الجزء الآخر الذي هو العدالة ، هذا.

ولكن هذا الإشكال لا وقع له على كلّ حال ، فإنّ محصّله هو أنّ توقّف العدالة عقلاً على الحياة يكون مانعاً من استصحاب العدالة لعدم إحراز موضوعها.

وفيه : ما لا يخفى. أمّا في صورة كون الحكم مرتّباً على العدالة فقط ، فلأنّ العدالة وإن توقّفت عقلاً على تحقّق الحياة ، إلاّ أنّه لمّا كان التوقّف عقلياً ولم تكن الحياة دخيلة شرعاً في موضوع جواز التقليد ، كان استصحاب العدالة كافياً في ترتّب هذا الحكم الشرعي وإن لم يكن في البين ما يحرز لنا الحياة ، لعدم توقّف الحكم الشرعي عليها ، ولا يكون ذلك الحكم الشرعي الثابت بالاستصحاب مخالفاً للحكم العقلي ، أعني أنّ استصحاب العدالة مع عدم إحراز الحياة لا يكون موجباً لتحقّق العدالة في ظرف عدم الحياة كي يكون ذلك مخالفاً لحكم العقل بتوقّف تحقّق العدالة على تحقّق الحياة ، بل أقصى ما فيه هو إحراز العدالة شرعاً مع عدم إحراز الحياة شرعاً ، وذلك لأنّ الحكم الشرعي ببقاء العدالة في هذا المقام لا يتوقّف على أزيد من إمكان بقائها ، والمفروض أنّ بقاءها ممكن ولو مع بقاء الحياة وإن لم تكن الحياة محكومة بالبقاء شرعاً ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر عدم احتياج استصحاب العدالة إلى ضمّ قيد الحياة بأن يحكم ببقاء العدالة على تقدير الحياة ، سواء كانت العدالة هي تمام الموضوع أو

ص: 12

كان الموضوع مركّباً منها ومن الحياة ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض هو الاكتفاء في جريان الاستصحاب بكون مجراه جزءاً من موضوع الحكم الشرعي ، فلك حينئذ أن تستصحب العدالة في عرض استصحابك للحياة ويتمّ الموضوع بكلا الاستصحابين.

نعم ، يتوجّه عليه : أنّ استصحاب نفس العدالة ونفس الحياة لا يوجب تحقّق الموضوع المركّب - أعني الحي العادل - إلاّبالأصل المثبت ، فإنّ ثبوت نفس العدالة يلازمها اتّصاف الحيّ بها ، فتأمّل فإنّ الجواب عنه واضح ، لكون المقام من قبيل التركّب من العرضين لموضوع واحد وهو ذات الشخص أعني زيداً ، فباستصحاب عدالته وحياته يتمّ الموضوع.

ثمّ إنّك قد عرفت (1) ما نقلناه عن التقريرات المطبوعة في صيدا من أنّه في صورة كون الشكّ في بقاء العدالة ناشئاً عن الشكّ في بقاء الحياة يكون الاستصحاب جارياً في ناحية العدالة في عرض جريانه في بقاء الحياة ، وذلك قوله : إذا كان الموضوع لجواز التقليد وجود الحي العادل ، فتارةً تكون الحياة محرزة وجداناً فتستصحب العدالة ، وأُخرى يكون كلّ منهما مشكوكاً ، سواء كان الشكّ في أحدهما ( الذي هو العدالة ) مسبّباً عن الشكّ في الآخر ( الذي هو الحياة ) أم لا ( بأن كان الشكّان في عرض واحد ) فيجري الاستصحاب في كلّ منهما في عرض واحد ، كما في بقية الموضوعات المركّبة (2).

ومقتضاه أنّه إذا كان الشكّ في العدالة مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحياة ، بحيث إنّه لم تكن العدالة مشكوكة بنفسها وإنّما كان الشكّ فيها من جهة الشكّ في

ص: 13


1- في الصفحة : 7.
2- أجود التقريرات 4 : 182.

بقاء الحياة مع فرض كون موضوع جواز التقليد مركّباً منهما ، نحتاج إلى استصحاب كلّ منهما في عرض استصحاب الآخر ، فيكون حاله حال ما إذا كان الشكّ في كلّ منهما مسبّباً عن منشأ يخصّه - بحيث إنّه لولا الشكّ في الحياة لكانت العدالة مشكوكة ، ولولا الشكّ في العدالة لكانت الحياة مشكوكة - في الاحتياج إلى الاستصحابين المذكورين.

وربما يظهر ذلك أيضاً من هذا التقرير كما يومئ إليه قوله : فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان فالاستصحاب إنّما يجري في العدالة ، ويلتئم الموضوع المركّب من ضمّ الوجدان بالأصل ، وإن كانت الحياة مشكوكة فالاستصحاب يجري في كلّ من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركّب من ضمّ أحد الأصلين بالآخر الخ (1) فإنّه لم يقيّد المطلب بكون الشكّ في كلّ منهما مستقلاً ، وإن كان صدر كلامه يعطي التقييد المزبور.

وعلى كلّ حال ، فالظاهر أنّه لو كان موضوع الحكم الشرعي هو العدالة والحياة ، ولم تكن العدالة مشكوكة بنفسها بل كان المشكوك ابتداءً هو الحياة وبذلك تكون العدالة مشكوكة بالتبع ، يمكن القول بأنّا لا نحتاج إلى استصحابين بل يكفي الاستصحاب الواحد ، فإنّ الحياة لمّا كانت عبارة عن أصل الوجود كان مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في بقاء وجود العادل ، فيكون استصحاب وجود العادل كافياً في ترتّب الأثر الشرعي المرتّب على العادل الموجود. نعم لو كانت الحياة زائدة على أصل الوجود ، بل كانت نظير الكتابة ، وفرضنا ترتّب الحكم الشرعي على حركة أصابع الكاتب أو على الكاتب المتحرّك الأصابع ، وحصل

ص: 14


1- فوائد الأُصول 4 : 569 - 570.

الشكّ في بقاء الكتابة الموجب للشكّ في بقاء حركة الأصابع ، لكنّا محتاجين إلى الاستصحابين الاستصحاب الجاري في الكتابة والاستصحاب الجاري في حركة الأصابع ، لأنّ استصحاب الكاتب أو الكتابة لا يثبت وجود حركة الأصابع إلاّعلى الأصل المثبت.

ومن مجموع ما حرّرناه يتّضح لك الحال في من علم إجمالاً بخروج مقلَّده عن أهلية التقليد إمّا بالموت أو بالفسق ، فإنّه قد يقال : إنّه لا يجري في حقّه استصحاب العدالة لتوقّفها على الحياة ، فلا يكون الجاري في حقّه إلاّ استصحاب الحياة.

وفيه أوّلاً : أنّ استصحاب الحياة وحده لا ينفع ، لأنّ موضوع الحكم مركّب من الحياة والعدالة ، فمع فرض عدم جريان استصحاب العدالة لا يكون استصحاب الحياة جارياً لعدم ترتّب الأثر عليه حينئذ.

وثانياً : ما عرفت من جريان استصحاب العدالة وإن توقّفت عقلاً على الحياة ، لأنّ التوقّف العقلي لا يمنع من جريان الاستصحاب ، غايته أنّ استصحاب العدالة لا يثبت به الحياة لكونه حينئذ مثبتاً ، بل يجري فيه كلّ من استصحاب العدالة واستصحاب الحياة ، من دون أن يكون الأصل في أحدهما مثبتاً للآخر ، ويكفي في جريان الأصل في كلّ منهما كون مجرى الاستصحاب جزءاً لموضوع الحكم الشرعي الذي هو جواز التقليد.

ولا حاجة إلى دعوى استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، فإنّ هذا التقدير إن أُخذ قيداً في الاستصحاب كان محصّله أنّه قبل حصول ذلك التقدير لا استصحاب ، فإنّ حاصل ذلك هو أنّ هذا الشخص لو تحقّقت حياته لكنت شاكّاً

ص: 15

في بقاء عدالته ، فأنا أستصحب عدالته لو ثبتت حياته ، فتكون النتيجة هي أنّه قبل ثبوت الحياة لا يكون في البين استصحاب العدالة ، وإنّما يتحقّق استصحابها بعد تمامية إجراء استصحاب الحياة ، فيكون استصحاب العدالة في طول استصحاب الحياة ، فلا يعقل أن يكون معارضاً له ، هذا.

مضافاً إلى أنّ التعليق المذكور إنّما يتأتّى فيما لو كان كلّ منهما مشكوكاً [ بشكّ ] مستقل دون ما لو كان في البين علم إجمالي ببقاء أحدهما وارتفاع الآخر ، فإنّه حينئذ لا يمكن استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، لأنّه على تقدير الحياة يكون الفسق محقّقاً.

وإن كان راجعاً إلى المستصحب بحيث إنّه كان المستصحب هو العدالة التقديرية ، كان محصّل ذلك هو استصحاب الملازمة بين الحياة والعدالة.

قوله : وأُخرى ممّا يتوقّف عليه شرعاً ، كتوقّف الكرّية العاصمة على إطلاق الماء ... الخ (1).

قد عرفت أنّ الكرّية لا تتوقّف على إطلاق الماء لا توقّفاً شرعياً ولا توقّفاً عقلياً. نعم عاصمية الكرّ تتوقّف شرعاً على كلّ من الكرّية وإطلاق الماء ، فإن كان أحدهما مشكوك البقاء جرى فيه الاستصحاب وبه تثبت العاصمية ، وإن كان كلّ منهما مشكوكاً جرى الاستصحاب في كلّ منهما ، من دون أن يكون توقّف من أحدهما على الآخر لا شرعي ولا عقلي.

ولو كان المحمول على العنوان حكماً شرعياً ، وكان المجموع من هذا المحمول الشرعي وموضوعه موضوعاً لحكم شرعي آخر وقد حصل [ الشكّ ]

ص: 16


1- فوائد الأُصول 4 : 568.

في بقاء كلّ من ذلك المحمول الشرعي وموضوعه ، كان استصحاب البقاء في ذلك الموضوع وحده كافياً في إثبات محموله وإثبات الحكم الشرعي المرتّب على مجموعهما ، كما في المطهّرية من الحدث والخبث ، فإنّها حكم شرعي مرتّب على الماء المطلق الطاهر ، فلو كان الماء كرّاً وقد لاقته نجاسة وقد حصل الشكّ في بقاء إطلاقه ، كان كلّ من إطلاق الماء وطهارته مشكوكاً ، وكان حكمهما الشرعي وهو المطهّرية أيضاً مشكوكاً ، وكان استصحاب إطلاق الماء محقّقاً أوّلاً لطهارته وعدم تنجّسه بملاقاة تلك النجاسة ، وكان المجموع منهما محقّقاً للحكم الشرعي اللاحق لمجموعهما وهو المطهّرية ، فيكون استصحاب الموضوع وهو استصحاب إطلاق الماء محقّقاً لمحموله الشرعي وهو طهارته ، وبعد ثبوت المجموع المركّب من ذلك الموضوع ومحموله الشرعي يترتّب عليهما الحكم الشرعي اللاحق لمجموعهما وهو المطهّرية ، لكن الشكّ في المحمول في هذا الفرض مسبّب عن الشكّ في بقاء الموضوع ، فلا يدخل فيما نحن بصدده من كون كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل غير مسبّب عن الشكّ في الآخر.

ولو كان ذلك الماء قليلاً واحتمل انقلابه إلى الاضافة كما احتمل ملاقاته للنجاسة ، كان كلّ من إطلاقه وطهارته مشكوكاً بشكّ مستقل ، لأنّه لمّا كان قليلاً كان احتمال ملاقاته للنجاسة موجباً للشكّ في بقاء طهارته ، سواء بقي على إطلاقه أو لم يبق ، كما أنّ احتمال انقلابه إلى الاضافة متحقّق سواء تحقّق ملاقاته للنجاسة أو لم يتحقّق ، وبواسطة الشكّ في بقاء كلّ من إطلاقه وطهارته ، يكون الحكم الشرعي المرتّب على مجموعهما وهو المطهّرية مشكوكاً أيضاً ، لكن لا أثر لكون هذا المحمول على الماء المطلق وهو الطهارة حكماً شرعياً ، لأنّ استصحاب

ص: 17

إطلاقه لا يزيل الشكّ في بقاء طهارته ، لعدم كون الشكّ في طهارته مسبّباً عن الشكّ في بقاء إطلاقه ، لما عرفت من أنّ الشكّ في بقاء طهارته مسبّب عن الشكّ في ملاقاته للنجاسة ، سواء بقي على إطلاقه أو لم يبق ، فلابدّ حينئذ من جريان الاستصحاب في كلّ من الموضوع الذي هو إطلاق الماء ومحموله الشرعي الذي هو طهارته ، وبعد جريان الاستصحابين وثبوت كلّ من إطلاق الماء وطهارته يتنقّح الحكم الشرعي المرتّب على مجموعهما وهو المطهّرية من الحدث والخبث.

والحاصل : أنّ كون وصف الموضوع - أعني محموله - شرعياً إنّما يؤثّر في إزالة الاستصحاب الجاري في الموضوع للشكّ في ذلك المحمول وفي تنقيح المجموع المركّب منه ومن محموله ، ليترتّب على ذلك المجموع الحكم الشرعي المرتّب على مجموعهما إذا كان الشكّ في ذلك المحمول مسبّباً عن الشكّ في ذلك الموضوع كما ذكرناه في المثال الأوّل ، أمّا إذا لم يكن الشكّ في ذلك المحمول الشرعي مسبّباً عن الشكّ في ذلك المحمول ، بل كان الشكّ في كلّ منهما ناشئاً عن منشأ يخصّه ، لم يكن الأصل الجاري في ذلك الموضوع وحده كافياً في إزالة الشكّ ، بل لابدّ من الاعتماد على الأصل في ذلك المحمول ، وبعد جريان الأصلين يتنقّح المجموع المركّب الذي هو موضوع الحكم المرتّب على مجموعهما كما ذكرناه في المثال الثاني.

ومن ذلك يظهر أنّه في الصورة الثانية المعنية بقوله : وإن كان كلّ من الموضوع ومحموله متعلّقاً للشكّ في عرض واحد الخ ، لا يظهر فيها أثر لكون المحمول شرعياً أو كونه [ غير ] شرعي ، فتأمّل.

ص: 18

قوله : نعم لا يجري استصحاب عدالة الحي لعدم إحراز الحياة ، وإنّما يجري استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، وهذا التقدير يحرز باستصحاب الحياة ، وليس المقصود إثبات الحياة من استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بل في نفس الحياة أيضاً يجري الاستصحاب لبقاء الموضوع واتّحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة في كلّ من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة ، لأنّ الموضوع في كلّ منهما هو الشخص ، فيثبت كلا جزأي الموضوع لجواز التقليد ، وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره (1) في المقام بقوله : لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلاً لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لأنّ موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة ... الخ (2).

لا يخفى أنّ فرض كون الموضوع في كلّ من العدالة والحياة هو الشخص لا يوجب كون كلّ من العدالة والحياة في عرض الآخر من دون أن تكون العدالة متوقّفة عقلاً على الحياة ليقال : إنّه بناءً على ذلك لا حاجة في استصحاب العدالة إلى تقدير الحياة ، لما قد عرفت في الأبحاث السابقة أنّ العدالة متوقّفة عقلاً على الحياة حتّى مع لحاظ طروّ كلّ منهما على ذات الشخص ، وبعد الفراغ عن هذا التوقّف العقلي ننقل الكلام إلى كيفية استصحاب العدالة مع فرض عدم إحراز الحياة في هذه المسائل الثلاث :

الأُولى : هي ما نحن فيه من كون كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل.

الثانية : ما لو كان المشكوك أوّلاً هو الحياة ، فتكون العدالة مشكوكة أيضاً

ص: 19


1- فرائد الأُصول 3 : 291.
2- فوائد الأُصول 4 : 570.

بالتبع ، فإنّه يجري فيه استصحاب كلّ من الحياة والعدالة على ما عرفته (1) فيما نقلناه عن التقريرات المطبوعة في صيدا وفيما استظهرناه أيضاً من عبارة هذا التقرير.

الثالثة : هي ما لو علم المقلّد إجمالاً بأنّ مقلَّده قد خرج عن أهلية التقليد إمّا بالفسق أو بالموت كما أفاده شيخنا قدس سره في الدروس الفقهية في مسألة من فاتته سجدتان ولم يعلم أنّهما من ركعة واحدة أو من ركعتين ، فإنّه قدس سره أفاد فيما حكيته عنه هناك ما حاصله : أنّه قد أُشكِل فيه على جريان استصحاب العدالة لأجل الشكّ في الحياة التي هي بمنزلة الموضوع للعدالة ، فيكون الجاري هو استصحاب الحياة فقط ، مع أنّ مقتضى العلم الاجمالي هو عدم جواز بقائه على تقليده. وأجاب قدس سره هناك عن هذا الإشكال بأنّه يكفي في جريان استصحاب العدالة تقدير الحياة ، بمعنى أنّه على تقدير بقائه حيّاً يكون محكوماً بالعدالة باستصحابها ، فيكون المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، انتهى.

وحينئذ نقول : إن [ كان ] المصحّح لجريان استصحاب العدالة مع فرض توقّفها عقلاً على الحياة بحيث كانت العدالة من قبيل الحكم على الحي بأنّه عادل ، هو أخذ تقدير الحياة في المستصحب الذي هو العدالة ، ففيه أوّلاً : أنّه لا يتمّ في المسألتين الأخيرتين ، لأنّ العدالة على تقدير الحياة في الصورة الأُولى منهما معلومة الوجود ، وفي الثانية منهما معلومة العدم. وثانياً : أنّ لازم ذلك هو كون استصحاب العدالة في طول استصحاب الحياة ، لأنّ استصحاب الحياة محقّق للتقدير الذي أُخذ في العدالة المستصحبة. وقد صرّح في التقرير المطبوع في صيدا بأنّ الاستصحابين في عرض واحد ، ولازم الطولية هو تمامية الإشكال في الصورة الثالثة فإنّه مبني على الطولية.

ص: 20


1- في الصفحة : 14.

ولابدّ في الجواب عن أصل الإشكال من أن نقول : إنّه بعد جريان استصحاب الحياة لا يكون استصحاب العدالة جارياً ، فنبقى نحن واستصحاب الحياة ، وهو وحده لا يترتّب عليه الحكم وهو جواز التقليد ، لعدم تمامية موضوعه وهو المجموع المركّب أعني الحي العادل.

كما أنّه يمكن أن يقال : إنّ لازم الطولية أيضاً هو عدم إمكان استصحاب الحياة في الصورة الأُولى ، لأنّه إنّما يصحّ إثبات جزأي الموضوع بالأصل في كلّ منهما إذا كان الأصلان واقعين في عرض [ واحد ] ، أمّا إذا [ كان ] استصحاب الحياة سابقاً في الرتبة على استصحاب العدالة ، فهو في مرتبته بلا أثر لعدم تمامية الموضوع في تلك المرتبة.

بل يمكن أن يقال : إنّ استصحاب الحياة وإن كان محرزاً لأحد جزأي موضوع جواز التقليد ، إلاّ أنّه لا يحرز موضوع العدالة ، لأنّ توقّفها على الحياة عقلي ، فيكون دخل الحياة في العدالة عقلياً ، فلا ينقّحه استصحاب الحياة لعدم كونه من الآثار الشرعية المترتّبة على الحياة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العدالة وإن توقّفت عقلاً على الحياة إلاّ أنّ الموقوف عليه هو الأعمّ من الحياة الوجدانية أو التعبّدية ، سيّما إذا كان الموقوف وهو العدالة باقياً بالتعبّد ، فتأمّل جيّداً.

وإن كان المصحّح لجريان الأصل في العدالة هو النظر إلى نفسها كما حرّرناه سابقاً (1) ، بأن نقول إنّها كانت موجودة وإن كان وجودها لا ينفكّ عن موضوعها الذي تقوم به أعني زيداً الحي ، إلاّ أنّا عند الاستصحاب ننظر إليها نفسها ونستصحبها ، وبرهان ذلك هو تعدّد الشكّ ، فإنّا بالوجدان نشكّ في العدالة ونشكّ أيضاً في الحياة ، فلابدّ أن يكون المشكوك هو وجود نفس العدالة ، وإلاّ لم

ص: 21


1- في الصفحة : 14.

يكن لنا إلاّشكّ واحد متعلّق بعدالة زيد الحي ، فهكذا الحال في الاستصحاب بحيث نقول إنّ نفس عدالة زيد معرّاة عن لحاظ ثبوتها لزيد ، بل كان المنظور إليه هو نفس وجودها ، كانت موجودة والآن نشكّ في بقائها فنستصحبها.

ففيه : أنّه لا يترتّب الأثر على نفس وجود العدالة ، بل إنّما يترتّب على عدالة زيد بما أنّها مضافة لزيد ، واستصحاب نفس وجودها لا يترتّب عليه هذه الجهة - أعني كون زيد متّصفاً بها - إلاّبنحو من الاثبات.

ولا يخفى أنّه لا يبعد أن يكون هذا الوجه في تقريب الاستصحاب هو المراد لما في التقرير المطبوع في صيدا بقوله : وأُخرى يكون كلّ منهما مشكوكاً ، سواء كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر أم لا ، فيجري الاستصحاب في كلّ منهما في عرض واحد كما في بقية الموضوعات المركّبة. وإلى ما ذكرناه يرجع كلام شيخنا العلاّمة الأنصاري حيث عبّر في مفروض المثال باستصحاب العدالة على تقدير الحياة ، فإنّ غرضه قدس سره هو جريان الاستصحاب في العدالة مع إحراز الجزء الآخر بالاستصحاب أيضاً ، فإنّ جزء الموضوع إنّما يصحّ التعبّد به في ظرف الشكّ بلحاظ أثر المركّب إذا كان الجزء الآخر محرزاً بالوجدان أو بالتعبّد في عرضه ، ومعنى التقدير في عبارته هو بعينه التقدير المأخوذ في كلّ قضية حقيقية الخ (1).

لكن لم أعرف المراد بالقضية الحقيقية هنا ، هل هي القضية القائلة إنّ الحي العادل يجوز تقليده ، أو أنّ المراد بها القضية المتضمّنة لحمل العادل على الحي ، وكلّ منهما لا دخل له بالمقام ، فإنّ مستصحبنا ليس هو القضية الأُولى وهو واضح ، كما أنّه ليس هو القضية الثانية لعدم إحراز موضوعها.

ص: 22


1- أجود التقريرات 4 : 182 - 183.

وإن شئت فقل : إنّ مستصحبنا عدالة شخصية خارجية ، لا أن زيداً لو كان حياً لكان عادلاً ، فتأمّل وانتظر ما سيأتي (1) في توضيح هذه الجملة ممّا يندفع به أغلب إشكالاتنا السابقة واللاحقة.

وقد يقال : إنّ فرض المسألة الأُولى هو أنّ العدالة مشكوكة في حدّ نفسها بحيث نحتمل أنّه طرأه الفسق ، فنحن نستصحب عدالة زيد من أوّل الشهر مثلاً إلى آخر زمان حياته في الواقع ، سواء لم تنته حياته حتّى الآن أو أنّها انتهت بالأمس ، فإذا أحرزنا عدالته مدّة حياته لم يبق لنا شكّ إلاّفي حياته الآن ، واستصحاب الحياة يحرزها لنا إلى الآن. وهذا التقريب بعينه يجري في الصورة الثالثة ، لكنّه لا يجري في الصورة الثانية ، لعدم الاحتياج فيها إلى استصحاب العدالة مدّة الحياة لكونها معلومة ، فإنّا نعلم بأنّ زيداً ما دام حياً لم يخرج عن العدالة ، وإنّما شكّنا في أنّ أمد حياته هل انتهى فيجري الاستصحاب في الحياة فقط.

وفيه : ما لا يخفى من أنّ استصحاب الحياة حينئذ في الصورة الثانية يكون مثبتاً ، لأنّ الأثر وهو جواز التقليد يتوقّف ثبوته فعلاً على إحراز الاتّصاف بالعدالة فعلاً ، وضمّ علمنا بأنّه مدّة حياته لم يخرج عن العدالة إلى استصحاب الحياة إلى الآن ، يلزمه أنّه متّصف الآن بالعدالة ، فلا يكون الأصل المذكور إلاّمثبتاً ، كما أنّ ضمّ علمنا بأنّ زيداً الطفل سابقاً لو بقي حياً إلى الآن لنبتت لحيته إلى استصحاب حياته إلى الآن ، يلزم أنّه فعلاً صاحب لحية. وإذا تحقّق الاثبات في الصورة الثالثة يتحقّق في الصورة الأُولى ، لأنّ ضمّ الحكم التعبّدي ببقاء عدالة زيد مدّة حياته إلى الحكم ببقاء حياته إلى الآن يلزم المطلوب الذي هو اتّصافه الآن بالعدالة.

ص: 23


1- في الصفحة : 36 وما بعدها.

فالإنصاف : أنّ استصحاب العدالة في الصور الثلاث لا يخلو عن إشكال ، فلم يبق لدينا في توجيهه إلاّما أشرنا إليه سابقاً عند الكلام على الصورة الثالثة ، وحاصله : أنّ زيداً قبل هذا كان جامعاً للمجموع المركّب من الحياة والعدالة ، والآن نشكّ في ذلك إمّا للشكّ في بقاء عدالته مع إحراز حياته ، أو للشكّ في موته الموجب لارتفاع كلّ من حياته وعدالته كما في الصورة الثانية ، أو للشكّ في كلّ من حياته وعدالته بشكّ مستقل كما في الصورة الأُولى ، فأي مانع من أن نقول إنّ زيداً بحكم الاستصحاب باقٍ إلى الآن على ما كان عليه من الحياة والعدالة.

وإن شئت فقل : كان المجموع المركّب من وجود زيد وعدالته متحقّقاً والآن أنّ ذلك المجموع باقٍ بحاله. نعم لا يجري هذا الاستصحاب في الصورة الثالثة ، للعلم بارتفاع ذلك المجموع إمّا بتمامه أو بارتفاع جزئه الذي هو العدالة.

ولكن الظاهر ممّا حرّرته عن شيخنا قدس سره هو أنّ المانع من إجراء الاستصحاب في المجموع هو الطولية بين الأجزاء الموجبة لكون الاستصحاب جارياً في كلّ جزء على حدة ، قال قدس سره فيما حرّرته عنه في تقريب الاستصحاب : في ذلك وجوه :

أحدها : استصحاب وجود هذا الموضوع الكلّي المركّب بتمامه ، أعني الحي المجتهد العادل. وفيه : أنّ استصحاب ذلك الكلّي لا يلازم جواز التقليد لزيد المذكور فضلاً عن كونه من آثاره. والحاصل : أنّه يرد على الاستصحاب المذكور أوّلاً : أنّه مثبت ، حيث إنّ جواز تقليد زيد المذكور لا يترتّب على هذا المستصحب أعني وجود الحي المجتهد العادل ، فإنّه ليس من آثاره الشرعية. وثانياً : أنّا لو سلّمنا حجّية الأصل المثبت ، فإنّما هو إذا كان مجرى الأصل ملازماً لما هو موضوع الأثر ، والمفروض أنّ مجرّد وجود الحي المجتهد العادل لا

ص: 24

يستلزم انطباقه على زيد المذكور.

الثاني : أن يقال : إنّا نستصحب المجموع المركّب من حياة هذا الشخص واجتهاده وعدالته. وفيه : أنّك قد عرفت أنّ الحياة التي هي عين الوجود من عوارض نفس الماهية ، والعدالة والاجتهاد من عوارض الماهية بعد وجودها ، فلا يمكن إثباتهما معاً باستصحاب واحد ، حيث إنّ العارض الأوّل وإن كان معروضه نفس الماهية ويصحّ إثباته بالاستصحاب المذكور ، إلاّ أنّ الثاني لا يمكن إثباته لنفس الماهية كي يقال إنّ نفس ماهية زيد كانت متّصفة بالحياة والعدالة والآن كما كانت الخ.

والذي أرتئيه من استصحاب المجموع هو الوجه الثاني ، وما أفاده قدس سره من الإشكال عليه بالطولية المذكورة يمكن التأمّل فيه ، فإنّ جميع عوارض الماهية التي تكون بعد الوجود إنّما يحكم بها على الماهية بمفاد كان الناقصة ، فيقال : كان زيد عالماً أو عادلاً أو قائماً ، أو غيره من العوارض التي بعد أصل الوجود ، وهذه القضية التي هي مفاد كان الناقصة تتضمّن أصل الوجود وإثبات ذلك العارض الثانوي ، وهذا المضمون الجامع للجهتين تارة يكون وجدانياً وأُخرى يكون تعبّدياً جارياً في مقام الشكّ في ذلك المجموع ، والشكّ فيه تارةً يكون من الجهة الأُولى وأُخرى يكون من الجهة الثانية وثالثة يكون من الجهتين ، وهذا الحكم التعبّدي مزيل لكلّ واحد من هذه الشكوك ، كما أنّ الحكم الوجداني بذلك المضمون الجامع للجهتين يكون مزيلاً وجداناً لكلّ واحد من تلك الشكوك. وحاصل الاستصحاب هو أنّ زيداً كان موجوداً عادلاً والآن كما كان ، يعني أنّه الآن موجود عادل.

ولكنّي مع ذلك في شكّ من هذا الأمر ، فإنّ مفاد كان الناقصة لا يتضمّن

ص: 25

أصل الوجود ، وإنّما يدلّ عليه بالالتزام باعتبار توقّف نسبة العارض الثانوي للشيء التي هي مفاد كان الناقصة على أصل وجود ذلك الشيء ، فإنّ وجود العارض لمعروضه يتوقّف على أصل وجود المعروض ، وليس مفاد كان الناقصة إلاّ مجرّد وجود العارض لمعروضه ، وليس هذا الوجود المأخوذ فيها الذي يتضمّنه لفظ الكون إلاّعبارة عن النسبة يعني نسبة العرض إلى معروضه ، وكيف [ كان ] فإنّ الطولية بين ثبوت أصل وجود الشيء ووجود العارض له ممّا لا ريب فيه حتّى فيما لو قلنا : وجد زيد قائماً ، وقصدنا بذلك أصل الوجود ، فإنّه يتضمّن حكمين طوليين أصل الوجود لزيد وكونه قائماً ، ففي مقام الاستصحاب لابدّ من لحاظ هاتين الجهتين ، فلا يمكن أن يتكفّلهما استصحاب واحد ، ولا أقل من كونه واحداً بحسب الصورة لكنّه بحسب الحقيقة متعدّد نظراً إلى تعدّد الجهتين المذكورتين.

ولكن لا يخفى أنّ أصل الإشكال إنّما نشأ ممّا أفاده الشيخ قدس سره (1) في البرهان على اعتبار بقاء الموضوع من استحالة انتقال العرض إلى غير محلّه أو قيامه بلا محلّ ، فإنّ هذا البرهان لا دخل له بمسألة لزوم إحراز بقاء الموضوع المعبّر عنه بوحدة القضيتين موضوعاً. مثلاً لو كان الأثر الشرعي مترتّباً على قيام زيد أعني اتّصافه بالقيام الذي هو المتحصّل من قولنا زيد قائم ، وقد شككنا في تحقّق هذا الموضوع لأجل الشكّ في بقاء زيد الذي هو معروض هذا الوصف أعني القيام ، كانت القضية المتيقّنة هنا - وهي قولنا زيد قائم - متحدة بالقضية المشكوكة اتّحاداً حقيقياً ، فلا يكون هذا البرهان مانعاً من استصحاب قيام زيد ، إذ لا يلزم قيام العرض بلا محل ، وإنّما يلزم منه الحكم التعبّدي ببقاء قيام زيد مع عدم إحراز

ص: 26


1- فرائد الأُصول 3 : 290 - 291.

موضوعه ، وليس ذلك بمحال ، إذ يكفي في صحّة هذا التعبّد احتمال بقاء قيام زيد في الواقع ، ومن الواضح أنّ ذلك محتمل لاحتمال بقاء محلّ ذلك العرض وهو زيد. والحاصل : أنّه ليس في البين إلاّ التوقّف العقلي ، وهو غير مانع من التعبّد ببقاء الشيء مع عدم إحراز ما يتوقّف عليه ، لأنّ احتمال بقاء المتوقّف عليه وهو المعروض كافٍ في الحكم التعبّدي ببقاء عرضه.

نعم لو كان المعروض مقطوع الارتفاع لما أمكن الحكم التعبّدي ببقاء عارضه ، لأنّ القطع بارتفاع المعروض يوجب القطع بعدم بقاء عارضه ، فلا يعقل التعبّد ببقاء ما يقطع بارتفاعه ، وهذا هو مورد البرهان المذكور ، ولا يدفعه ما في الكفاية (1) من أنّه إنّما يمنع من بقائه حقيقة لا تعبّداً ، وذلك لما أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه من أنّه إذا كان بقاؤه مستحيلاً لم يمكن التعبّد ببقائه ، لأنّ التعبّد ببقائه فرع إمكانه عقلاً ، فراجع (2).

أمّا مع الشكّ في بقاء المعروض الموجب للشكّ في بقاء عارضه ، فلا مانع من الحكم ببقاء عارضه تعبّداً إذا كان في البين حكم شرعي يترتّب على ذلك العارض ، لإمكان بقاء العارض في الواقع ولو ببقاء معروضه ، لكن جهة التعبّد واردة على نفس بقاء العارض لا على بقاء معروضه. هذا لو كان العارض عادياً أو عقلياً.

أمّا لو كان شرعياً ، كما لو كان المحمول حكماً شرعياً وقد شكّ في بقائه لأجل الشكّ في بقاء موضوعه ، فإن كان الشكّ في بقاء ذلك الموضوع لأجل انتفاء خصوصية كان يحتمل مدخليتها فيه ، فهذا مورد عدم اتّحاد القضية المتيقّنة

ص: 27


1- كفاية الأُصول : 427.
2- مخطوط لم يطبع بعد.

مع القضية المشكوكة ، فلا يجري فيه استصحاب ذلك المحمول. وإن كان الشكّ في بقاء ذلك الموضوع لأجل احتمال طروّ انعدامه وارتفاعه بالمرّة ، كما لو احتمل موت زيد بالنسبة إلى محموله الذي هو وجوب الانفاق من ماله على زوجته أو جواز تقليده أو حرمة قسمة ميراثه ، ويلحق به ما لو احتمل ارتفاع قيد له المدخلية في الموضوع ، كما لو شكّ في بقاء عدالة زيد المفروض اعتبارها في جواز تقليده ، فإنّ ذلك أيضاً داخل في احتمال ارتفاع موضوع الحكم ، ولا يجري فيه الاستصحاب الحكمي بأن يقال : إنّ زيداً كان يجب الانفاق من ماله على زوجته أو كان يجوز تقليده أو كان يحرم قسمة ماله بين ورثته أو كان زيد العادل يجوز تقليده والآن هو أيضاً كذلك تثبت له هذه الأحكام ، وحاصله أنّ هذه الأحكام كانت ثابتة له والآن كما كان. وإنّما لا يجري فيه استصحاب الأحكام المذكورة لا لأجل عدم اتّحاد القضيتين ، لما هو واضح من اتّحادهما موضوعاً ومحمولاً ، ولا لأجل أنّ العرض لا يعقل الحكم التعبّدي ببقائه مع العلم بارتفاع موضوعه ، لما هو واضح من أنّ ارتفاع الموضوع غير معلوم ، بل لأجل أنّ مرجع الاستصحاب الحكمي في ذلك إلى الحكم التعبّدي ببقاء فعلية وجوب الانفاق وجواز التقليد ، ومن الواضح أنّ هذا الحكم الفعلي لا يمكن بقاؤه على ما هو عليه من الفعلية مع عدم إحراز بقاء موضوعه ، فلابدّ من إحراز بقاء موضوعه ليتسنّى الحكم الفعلي عليه بتلك الأحكام الفعلية.

وبالجملة : أنّ زيداً إذا لم يحرز بقاؤه لم يمكن أن يبقى حكمه الشرعي ولو بقاءً تعبّدياً ، فلابدّ حينئذ من إحراز بقائه ليمكن أن يحكم عليه ببقاء حكمه الشرعي ، فمع الشكّ في بقائه وعدم إحراز ذلك بأصل ونحوه لا يمكننا أن نحكم ببقاء حكمه الشرعي ، وهذا بخلاف ما إذا كان المحمول عادياً مثل القيام عند

ص: 28

الشكّ في بقاء زيد الذي هو موضوعه ، فإنّه لمّا لم يكن توقّفه على زيد شرعياً بل كان عقلياً ، كان من الممكن أن يتعبّدنا الشارع ببقائه إذا كان لبقائه أثر شرعي.

والحاصل : أنّ وحدة الموضوع في القضيتين أمر لابدّ منه في جميع موارد الاستصحاب. أمّا اعتبار إحراز بقاء الموضوع في قبال احتمال ارتفاعه بعد الفراغ عن كونه موضوعاً ، فإنّما هو فيما إذا كان المحمول شرعياً فقط.

وتوضيح ذلك : أنّ القضية المتيقّنة عبارة عن جملة حملية مؤلّفة من موضوع ومحمول ، ونلخّص طوارئ هذا الموضوع في صور :

الأُولى : هي حصول القطع بارتفاعه إمّا بالمرّة أو بارتفاع قيد من قيود يكون معلوم القيدية ، وفي هذه الصورة لا ريب في عدم صحّة الاستصحاب للقطع حينئذ بارتفاع محموله ، فلا يمكن الحكم ببقاء ذلك المحمول تعبّداً ، وهي مورد البرهان السابق أعني استحالة بقاء العارض بلا معروضه ، ولا يندفع هذا المحذور بما في الكفاية من أنّه وإن لم يكن ذلك المحمول باقياً حقيقة إلاّ أنّه يمكن الحكم ببقائه تعبّداً ، لما عرفت ممّا نقلناه عن شيخنا قدس سره من أنّ إمكان التعبّد الشرعي فرع الامكان العقلي ، من دون فرق في ذلك بين كون المحمول من أحد الأحكام الشرعية أو كونه من غيرها من سائر العوارض ، مثل العدالة والقيام والقعود ونحو ذلك.

الصورة الثانية : هي القطع بارتفاع بعض الصفات التي يحتمل عدم مدخليتها في موضوعية ذلك الموضوع ، وفي هذه الصورة لا يجري استصحاب المحمول لعدم اتّحاد القضية المتيقّنة مع المشكوكة ، سواء كان المحمول شرعياً كما في قولنا : يجب أو يجوز تقليد الأعلم ، وزالت أعلميته بحيث صار غيره أعلم منه واحتملنا أنّ لها المدخلية في موضوع جواز التقليد ، أو لم يكن المحمول

ص: 29

حكماً شرعياً كما في قولنا : زيد التارك للكبائر والصغائر عادل ، ثمّ إنّه ارتكب بعض الصغائر ، فإنّه لا يمكن استصحاب عدالته لاحتمال مدخلية الاجتناب عن الصغائر في من هو عادل ، فلا يتّحد موضوع القضية المتيقّنة مع موضوع القضية المشكوكة.

الصورة الثالثة : أن لا يكون في البين إلاّ احتمال ارتفاع الموضوع بتمامه ، سواء كان المحمول عادياً كما لو احتملنا موت زيد العادل في قولنا كان زيد عادلاً ، أو كان المحمول شرعياً كما في قولنا : زيد العالم العادل يجوز تقليده وقد احتملنا موته ، فقضيّتنا المتيقّنة في الأوّل هي قولنا كان زيد عادلاً ، وفي الثاني هي قولنا كان زيد يجوز تقليده ، ولا ريب في أنّ هذه القضية بنفسها هي مورد الشكّ ، فلا إشكال في استصحاب ذلك المحمول من ناحية وحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً ، إذ لا فرق بين موضوعي القضيتين ، غايته أنّ الموضوع في القضية المتيقّنة كان معلوم الوجود وفي القضية المشكوكة كان مشكوك الوجود ، وهذا المقدار لا يوجب اختلافاً في موضوع القضيتين ، بل لا يخرج بذلك عن كون الموضوع في إحدى القضيتين هو عين الموضوع في القضية الأُخرى ، كما أنّه لا إشكال في الاستصحاب المذكور من ناحية البرهان الذي ذكره الشيخ قدس سره ، أعني لزوم بقاء العرض بلا موضوع الموجب لمحالية الحكم التعبّدي ببقاء ذلك العارض ، لأنّ ذلك إنّما هو في الصورة الأُولى المشتملة على القطع بارتفاع الموضوع ، لا في هذه الصورة التي لم تشتمل إلاّعلى احتمال ارتفاع الموضوع ، وقد عرفت أنّ احتمال بقاء الموضوع كافٍ في صحّة الحكم التعبّدي ببقاء المحمول.

نعم ، في هذا الاستصحاب مانع آخر ، وهو أنّ مرجع الاستصحاب الجاري

ص: 30

فيما نحن فيه إنّما هو إلى الحكم التعبّدي ببقاء ذلك المحمول لموضوعه الذي هو في المثالين زيد الموجود ، فلا يكون ذلك المستصحب إلاّعلى نحو القضية الحقيقية ، وهو في المثال الأوّل العدالة على تقدير وجود زيد ، وفي الثاني جواز تقليده على تقدير وجوده ، لأنّ التنزيل والتعبّد إنّما هو في ناحية المحمول لا في ناحية الموضوع وإلاّ لكان الاستصحاب موضوعياً لا حكمياً ، والمفروض أنّ المستصحب هو الحكم وهو عدالة زيد الموجود في المثال الأوّل ، وجواز تقليد زيد الموجود في المثال الثاني ، فلابدّ أن يكون الموضوع وهو زيد مأخوذاً مفروض الوجود ، وهو معنى القضية الحقيقية الراجعة إلى الحكم على تقدير الوجود ، والمفروض أنّ الوجود المذكور غير محرز عندنا ، فلا يكون مجرّد ذلك الاستصحاب نافعاً لنا ، إذ لا أثر عملي يترتّب على الحكم الثابت بهذا الاستصحاب ، لأنّا لا يمكننا الجري العملي على طبقه لعدم إحرازنا لموضوعه.

والحاصل : أنّه في المثال الأوّل لا يثبت بهذا الاستصحاب إلاّعدالة زيد على تقدير وجوده ، وهذا المقدار لا يصحّح لنا ترتيب الآثار الشرعية للعدالة لأنّ مجرّد إحراز عدالة زيد على تقدير وجوده لا يصحّح لنا ترتيب تلك الآثار ما لم نحرز وجوده.

ويمكن أن يقال : بأنّ استصحاب عدالة زيد المفروض الوجود كاف في ترتيب الحكم الشرعي اللاحق لعدالة زيد المفروض الوجود وإن لم يكن هذا الاستصحاب محرزاً لوجود زيد ، لأنّ المفروض هو أنّ عدالة زيد المفروض الوجود هي تمام موضوع ذلك الحكم الشرعي ، فنفس الحكم الشرعي لا يتوقّف على إحراز وجود زيد ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ عدالة زيد تتوقّف عقلاً على وجوده والتوقّف العقلي ذلك لا يوجب توقّف الحكم الشرعي اللاحق لعدالة

ص: 31

زيد على إحراز وجود زيد ، فتأمّل. هذا إذا كانت العدالة هي تمام الموضوع لذلك الأثر الشرعي الذي نريد أن نرتّبه على استصحابها.

أمّا إذا كانت جزء الموضوع وكان جزؤه الآخر هو الحياة ، بأن يكون موضوع جواز التقليد هو الحي العادل ، وحينئذ لا يكون جزء هذا الموضوع إلاّ نفس هذه القضية الحقيقية وهو عدالة زيد الموجود ، أعني عدالة زيد المفروض الوجود المعبّر عنه بقولنا : عدالته على تقدير وجوده وحياته ، وجزؤه الآخر هو نفس الوجود المعبّر عنه بالحياة ، فإن كان الجزء الآخر وهو الحياة محرزاً وجداناً ، كان استصحاب عدالة زيد الموجود بضميمة ذلك الأمر الوجداني كافياً في تمامية الموضوع ، فإنّ المستصحب وإن كان هو العدالة على فرض الوجود ، إلاّ أنّها أحد الجزأين ، والجزء الآخر محرز بالوجدان ، وبذلك يتمّ الموضوع.

وإن كان الجزء الآخر مشكوكاً أيضاً ، كان إحرازه بالاستصحاب أيضاً كافياً في تمام الموضوع ، ويكون الاستصحابان في عرض واحد مع فرض كون المستصحب في ناحية العدالة هو العدالة على تقدير الوجود ، لما عرفت من أنّه لا معنى لاستصحاب عدالة زيد الموجود إلاّ استصحاب العدالة على تقدير الوجود ، لكون المستصحب الذي هو عدالة زيد الموجود من قبيل القضية الحقيقية ، لما عرفت من عدم تكفّلها لإحراز الوجود ، وإنّما هي متكفّلة لإحراز عدالة الموجود ، وهذا هو جزء الموضوع ، وجزؤه الآخر وهو الوجود المعبّر عنه بالحياة محرز بالأصل الآخر ، ولا يكون الأصلان إلاّعرضيين ، لأنّ الأوّل لا يثبت إلاّعدالة الموجود ولا يتعرّض لوجوده ، كما أنّه لا يتوقّف على إحراز وجوده ، لما عرفت من أنّه لا يكون إلاّعلى نحو القضية الحقيقية التي لا تتوقّف على إحراز موضوعها ، والثاني لا يثبت إلاّوجوده ولا يتعرّض لعدالته ، ومن المجموع يلتئم

ص: 32

الموضوع.

ومن ذلك يتّضح لك الوجه فيما نقله في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) من الجمع بين كون المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة وأنّه على نحو القضية الحقيقية ، ومن كون الأصلين في عرض واحد.

والحاصل : أنّ استصحاب العدالة في مورد الشكّ في بقاء معروضها لا يكون إلاّعلى نحو القضية الحقيقية أعني عدالة زيد الموجود ، فإن كان موضوع الحكم الشرعي اللاحق لزيد العادل هو نفس العدالة فقد يقال إنّ الاستصحاب المذكور لا يكون نافعاً ، وأمّا إذا كانت جزء الموضوع فلا ينبغي الريب في أنّ استصحابها يكون كافياً في إثبات هذا الجزء ، وتوقّف تمامية الموضوع على إحراز الجزء الآخر وهو الوجود بالاستصحاب أيضاً ، ويكون الاستصحابان حينئذ عرضيين لعدم الطولية شرعاً بين المستصحبين ، ولا تضرّه الطولية العقلية ، فإنّ كون المستصحب هو العدالة على تقدير الوجود لا يوجب الطولية أيضاً ، لما عرفت من أنّه لا معنى للعدالة على تقدير الوجود إلاّعدالة زيد الموجود ، وهذه أعني عدالة زيد الموجود هي المستصحبة وهي جزء الموضوع أيضاً ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك الكلام في المثال الثاني ، فإنّ جواز التقليد إنّما كان ثابتاً لزيد الموجود ، فعند الشكّ في بقاء زيد لا يجري استصحاب حكمه المذكور ، لأنّ التعبّد ببقاء ذلك لا يكون إلاّعبارة عن الحكم ببقاء جواز تقليد زيد الموجود ، وهذا المقدار وحده مع عدم إحراز وجود زيد لا يسوّغ لنا تقليده فعلاً ، فلا يترتّب أثر عملي على هذا المستصحب ، فإنّه لا يكون إلاّمن قبيل القضايا

ص: 33


1- أجود التقريرات 4 : 182 - 183.

الحقيقية التعليقية التي يكون الحكم فيها معلّقاً على وجود موضوعها ، التي لا يترتّب أثر عملي عليها ما لم يحرز ويتحقّق وجود موضوعها.

واعلم أنّ احتمال ارتفاع ما أُخذ قيداً في موضوع الحكم ملحق بهذه الصورة الثالثة - أعني صورة احتمال ارتفاع الموضوع بتمامه - في عدم جريان الاستصحاب في ناحية المحمول ، كما إذا علمنا كفاية الأربع فراسخ في تحقّق موضوع السفر وارتفاع موضوع الحضر وقد قطع مسافة لا يعلم ببلوغها الأربع ، فإنّ استصحاب وجوب الصوم والتمام لا يجري في مثل ذلك ، لما ذكرناه في الصورة الثالثة.

نعم ، يجري فيه الاستصحاب الموضوعي ، فإنّ موضوع التمام بعد تخصيص الأدلّة العامّة الدالّة على وجوب الصوم وأخرجت منها المسافر هو من لم يسافر ، يعني من لم يقصد الأربع فراسخ ، والمفروض أنّ هذا الشخص قبل شروعه في هذه المسافة المشكوكة لم يكن مسافراً ، فيكون ذلك الموضوع مستصحباً بعد شروعه فيها. أمّا إذا كانت الشبهة حكمية بأن حصل الشكّ في كفاية الأربع فراسخ في تحقّق موضوع السفر وارتفاع موضوع الحضر ، فهو من قبيل الصورة الثانية ، ولا يجري فيه استصحاب كلّ من الحكم والموضوع.

وشرح جميع ما تقدّم هو أنّك قد عرفت أنّ في المقام - أعني صورة الشكّ في الحياة والعدالة - صورتين :

الأُولى : أن يكون سبب الشكّ (1) في بقاء العدالة منحصراً بالشكّ في بقاء الحياة ، بحيث إنّه لو بقي حيّاً إلى الآن فلا شكّ في عدالته ، وإنّما حصل الشكّ في عدالته لأجل الشكّ في بقاء حياته من جهة أنّه لا مورد لكلّ من الفسق والعدالة

ص: 34


1- [ في الأصل : سبب السبب ، والصحيح ما أثبتناه ].

بعد الموت ، فيكون الشكّ في بقاء العدالة في هذه الصورة من جهة الشكّ في بقاء موضوعها الذي هو الحياة ، لا من جهة الشكّ في طروّ الفسق بارتكاب بعض المحرّمات.

الصورة الثانية : أن يشكّ في بقاء حياته وعلى فرض بقاء حياته فعدالته مشكوكة أيضاً لاحتمال طروّ الفسق عليه ، وفي الحقيقة تكون العدالة في هذه الصورة مشكوكة البقاء من ناحيتين : الناحية الأُولى ناحية الشكّ في بقاء الحياة ، لكونه مولّداً للشكّ في بقاء العدالة ، والناحية الثانية هي الشكّ في طروّ الفسق عليه ، وهذه الناحية الثانية إنّما تكون بعد تسديد الناحية الأُولى.

وفي كلّ من الصورتين يكون استصحاب العدالة متأخّراً رتبة عن استصحاب الحياة.

أمّا في الصورة الأُولى فبدرجة واحدة ، حيث إنّ موضوع استصحاب الحياة هو الشكّ في الحياة ، وموضوع استصحاب العدالة هو الشكّ في العدالة ، وحيث كان الشكّ في الحياة سبباً للشكّ في العدالة ، كان موضوع الاستصحاب فيها مقدّماً على موضوع الاستصحاب في العدالة ، فقهراً يكون استصحاب العدالة متأخّراً برتبة واحدة عن استصحاب الحياة ، حيث إنّ كلّ حكم يكون هو متأخّراً رتبة عن موضوعه ، فاستصحاب الحياة يكون هو والشكّ في العدالة الذي هو موضوع استصحاب العدالة واقعين في رتبة واحدة ، فكان استصحاب الحياة توأماً في الرتبة مع موضوع استصحاب العدالة ، فيكون استصحاب العدالة بواسطة تأخّره رتبة عن موضوع نفسه الذي هو الشكّ في العدالة متأخّراً عن استصحاب الحياة ، لكون استصحاب الحياة واقعاً في رتبة موضوع استصحاب العدالة.

ص: 35

وحاصله : أنّ ما هو واقع في درجة علّة الشيء يكون سابقاً في الرتبة على نفس ذلك الشيء ، لأنّ ما هو في صقع العلّة يستحيل أن يكون واقعاً في صقع المعلول ، مثلاً لو كان لنا علّة واحدة لها معلولان وكان أحد المعلولين علّة في شيء ثالث ، كان المعلول الآخر واقعاً في رتبة علّة ذلك الشيء ، فيكون مقدّماً رتبة على نفس ذلك الشيء.

وإذا تمّ ما عرفت من كون استصحاب الحياة واقعاً في الرتبة السابقة على استصحاب العدالة ، بطل الاستصحابان. أمّا الأوّل فلأنّ استصحاب الحياة لا يكون استصحاباً يترتّب عليه الأثر إلاّ إذا كان الجزء الآخر وهو العدالة محرزاً بالوجدان أو بالتعبّد الذي يكون في عرض التعبّد بالحياة ، والمفروض انتفاء الأمرين. وأمّا الثاني فلأنّ بطلان استصحاب الحياة في مرتبته يكون موجباً لبطلان استصحاب العدالة في مرتبته ، لعدم ترتّب الأثر عليه. والحاصل : أنّ كلاً من الاستصحابين في مرتبة نفسه لا أثر له فيسقطان ، ولا يلتئم الموضوع منهما الذي هو الحي العادل ، أمّا استصحاب وجود الحي العادل فهو عبارة أُخرى عن الاستصحابين قد جمعا بعبارة واحدة نظير العموم الانحلالي في قولك : أكرم كلّ عالم.

وأمّا استصحاب العدالة على تقدير الحياة فإن أُريد منه كون التقدير المذكور مربوطاً بالاستصحاب ، فهو عبارة أُخرى عن كون الاستصحاب معلّقاً على تحقّق الحياة ، وهو غلط في هذه الصورة ، لأنّه مع تقدير الحياة لا تكون العدالة مشكوكة كي نستصحبها ، ومع ذلك فهو لا يخرج عن الطولية بين الاستصحابين. وإن أُريد من التقدير المذكور الملازمة بين الحياة والعدالة ، فهذا غير مشكوك في هذه الصورة. وإن كان بمعنى العدالة المرتبطة بالحياة فهي وإن

ص: 36

كانت مشكوكة ، لأنّ الشكّ في بقاء الحياة يوجب الشكّ في بقاء العدالة المربوطة بالحياة ، إلاّ أنّه إن أُريد باستصحاب العدالة المربوطة بالحياة استصحابها من حيث ذاتها فذلك يخرجها عن الربط ، وإن أُريد بذلك الاستصحاب استصحابها من حيث الارتباط وحينئذ يكون المستصحب في الحقيقة هو عين الحياة ، بل في الحقيقة لا يكون الشكّ في بقاء العدالة المربوطة بالحياة من حيث إنّها مربوطة بالحياة إلاّشكّاً في نفس الحياة ، ولا يكون الشكّ واقعاً منصبّاً إلاّعلى نفس الحياة ، ويكون قولنا إنّه عند الشكّ في بقاء الحياة تكون العدالة المربوطة بها مشكوكة البقاء من باب محض التعبير وأنّه لا واقعية إلاّللشكّ في الحياة.

فالأولى بل المتعيّن هو أن يقال : إنّ الشكّ في العدالة في هذه الصورة لا يكون متأخّراً رتبة عن الشكّ في الحياة ، بل لا يكون لنا إلاّ الشكّ في الحياة ، غاية الأمر أنّ انعدام الشيء كالجسم مثلاً عبارة عن انعدامه وانعدام لونه وعوارضه القائمة به وكلّ شيء مربوط به ، وحينئذ لا يكون الشكّ في انعدامه إلاّعين الشكّ في انعدام كلّ ما هو مربوط به ، لا أنّ الشكّ في انعدامه يكون علّة للشكّ في انعدام ما هو متّصل به ومربوط به. نعم إنّ الشكّ في انعدام نفس الشيء يكون متّسعاً إذا لوحظ ما هو مربوط به ، لأنّ العدم في حدّ نفسه يتّسع مهما اتّسع ما هو مربوط بذلك المعدوم ، لكنّه يكون انعداماً واحداً منبسطاً على الجميع من دون تقدّم رتبي ، وهكذا الحال في الشكّ الطارئ على ذلك الانعدام ، فنحن عند الاستصحاب نستصحب كلاً من الحياة والعدالة في درجة واحدة ، كما أنّ الشكّ فيهما يكون في درجة واحدة من دون تقدّم رتبي لأحد الشكّين على الآخر.

ولا يرد على استصحاب العدالة في هذه الصورة أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لأنّ الشكّ في بقائها المنحصر بالشكّ في بقاء الحياة يكون من قبيل

ص: 37

الشكّ في قابليتها للبقاء. لإمكان الجواب عنه بأنّه وإن كان من قبيل الشكّ في القابلية إلاّ أنّه بالنظر العرفي يكون الموت رافعاً لها ، فيكون من قبيل الشكّ في الرافع. نعم في مثل الشكّ في بقاء الجهر الناشئ من الشكّ في بقاء القراءة في قبال الشكّ في التحوّل من الجهر إلى الإخفات ربما كان من قبيل القابلية.

والخلاصة : هي أنّه بعد فرض انحصار الشكّ في بقاء العدالة بالشكّ في بقاء الحياة ، يقع التلازم بين الحياة والعدالة ، فلا يمكن بقاء العدالة مع ارتفاع الحياة ولا بقاء الحياة مع ارتفاع العدالة ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض هو العلم بالعدالة على تقدير الحياة ، ويكون الحاصل أنّه في هذه الصورة لا يقع التفكيك بين الحياة والعدالة ، فإمّا لا حياة ولا عدالة ، وإمّا أن يكونا موجودين ، فطروّ العدم على إحداهما يكون ملازماً لعدم الأُخرى.

والظاهر أنّه لا فرق في مثل ذلك بين كون المحمول الثاني مثل العدالة ممّا يكون من المحمولات غير الشرعية ، وبين كونه من المحمولات الشرعية مثل مطهّرية الماء بالنسبة إلى إطلاقه إذا كان الشكّ في بقاء مطهّريته من جهة الشكّ في بقاء إطلاقه ، غير أنّ استصحاب الاطلاق يغني عن استصحاب المطهّرية ، إذ لا معنى للتعبّد ببقاء الاطلاق إلاّ التعبّد ببقاء أثره الشرعي الذي هو المطهّرية ، بخلاف التعبّد ببقاء الحياة فإنّه لا يغني عن التعبّد ببقاء العدالة ، لعدم كونها من الآثار الشرعية للحياة ، ويشتركان في أنّه مع عدم جريان التعبّد ببقاء الحياة أو عدم جريان التعبّد ببقاء الاطلاق لا يمكن التعبّد ببقاء العدالة أو ببقاء المطهّرية ، أمّا الأوّل فلعدم الأثر للتعبّد ببقاء العدالة مع عدم التعبّد ببقاء الحياة ، لكون كلّ منهما جزء الموضوع لجواز الاقتداء مثلاً ، فلو كان لنا أثر شرعي مترتّب على بقاء العدالة وحدها من دون تقيّد بالحياة لصحّ التعبّد بها ، فيصحّ حينئذ استصحابها من دون

ص: 38

استصحاب الحياة ، بل لا يبقى مورد ومحل لاستصحاب الحياة حينئذ لعدم الأثر الشرعي المرتّب عليها. وأمّا الثاني فلعدم إحراز الموضوع ، ولأجل ذلك لو سقط استصحاب الاطلاق لم يمكن التعبّد بكونه مطهّراً لما يغسل فيه ، بل يرجع فيه إلى استصحاب النجاسة. هذا كلّه في الصورة الأُولى.

وأمّا الصورة الثانية فيتأتّى الإشكال فيها من ناحيتين : الأُولى من ناحية أنّ الشكّ في الحياة يوجب الشكّ في العدالة باعتبار احتمال التبدّل إلى عدم القابلية ، بمعنى أنّ عدالته السابقة يحتمل ارتفاعها وتبدّلها بالموت كما يحتمل ارتفاعها بالفسق. والناحية الثانية هي أنّ بقاء العدالة فيها مشكوكة من جهة أُخرى ، وهي جهة احتمال ارتكاب الفسق في حياته باعتبار التبدّل من العدالة إلى عدمها الذي هو الفسق مع فرض بقاء القابلية المنوطة ببقاء الحياة. وهذه الجهة من الشكّ إنّما تكون في طول الحياة ، وحينئذ يكون استصحاب العدالة متأخّراً عن استصحاب الحياة برتبتين ، الرتبة الأُولى هي أنّ الشكّ في العدالة من هذه الجهة - أعني احتمال ارتكاب الفسق - يكون بعد إحراز الحياة بالاستصحاب ، ثمّ بعد تحقّق الشكّ في العدالة يتحقّق استصحابها ، فكان استصحاب الحياة سابقاً على الشكّ في العدالة ، وكان الشكّ في العدالة سابقاً على استصحاب العدالة لكونه موضوعاً لاستصحابها.

أمّا الكلام على هذه الصورة من الناحية الأُولى ، فقد عرفت تفصيله في الصورة الأُولى ، وحاصله المنع من تأخّر الشكّ في العدالة المقرون بالشكّ في الحياة عن الشكّ في الحياة. وأمّا الناحية الثانية وهي توقّف استصحاب العدالة على الشكّ في بقائها ، وتوقّف الشكّ في بقائها على إحراز الحياة بالاستصحاب ، فلا يخفى أنّه ليس المنشأ في توقّف الشكّ في العدالة على تحقّق الحياة من جهة

ص: 39

أنّ تحقّق الحياة علّة للشكّ في بقاء العدالة ، لما هو واضح من أنّ تحقّق الحياة ليس بعلّة للشكّ المزبور ، نعم إنّ الشكّ المزبور لا يتصوّر عند تحقّق الموت ، إذ لا مورد للفسق والعدالة عند الموت وانعدام الحياة ، ولكن أقصى ما في ذلك هو أنّه عند تحقّق الموت وانعدام الحياة لا يتصوّر الشكّ في طروّ الفسق ، بمعنى أنّه مع إحراز انعدام الحياة لا يعقل الشكّ في ارتكاب الفسق لانتفاء القابلية حينئذ لكلّ منهما ، لكن ذلك بمجرّده لا يوجب توقّف الشكّ في ارتكاب الفسق على إحراز الحياة ، بل إنّ الشكّ في ارتكاب الفسق يجتمع مع الشكّ في بقاء الحياة.

وحاصله : أنّ الموضوع لكلّ من الحياة والعدالة هو زيد ، فيقال زيد حي كما يقال زيد عادل ، ويقال زيد مشكوك الحياة كما يقال زيد مشكوك العدالة ، بمعنى أنّ بقاء حياته مشكوك كما أنّ بقاء عدالته مشكوك ، غايته أنّ بقاء عدالته يكون مشكوكاً من جهتين ، من جهة بقاء القابلية بالتبدّل إلى الموت ومن جهة التبدّل إلى الفسق ، فكما يحتمل ارتفاع تلك العدالة السابقة بالموت فكذلك يحتمل ارتفاعها بالفسق ، ولا طولية بين هاتين الجهتين من الشكّ ، كما أنّه لا طولية بين الشكّ من إحدى الجهتين وسدّ الشكّ من الجهة الأُخرى ، فكما لا يكون الشكّ في بقاء العدالة من ناحية القابلية متوقّفاً على سدّ باب الشكّ فيها من جهة طروّ الفسق ، فكذلك الشكّ من جهة احتمال طروّ الفسق لا يكون متوقّفاً على سدّ باب الشكّ من جهة القابلية ، بل يكون كلّ من الشكّين في ناحية العدالة مستقلاً وإن كان ظرف الشكّ في بقائها من جهة احتمال طروّ الفسق هو بقاء الحياة ، إلاّ أنّ ذلك - أعني بقاء الحياة - لا يكون قيداً في الشكّ في طروّ الفسق ولا في الحكم ببقاء العدالة من جهته ، فإنّا كما نحكم ببقائها من الجهة الأُولى فكذلك نحكم ببقائها من الجهة الثانية ، وكما أنّ محصّل الحكم ببقائها من الجهة الأُولى

ص: 40

هو الحكم بعدم الموت ، فكذلك محصّل الحكم ببقائها من الجهة الثانية هو الحكم بعدم الفسق ، وكما أنّ الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الموت لا يكون متوقّفاً على الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الفسق ، فكذلك الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الفسق لا يكون متوقّفاً على الحكم ببقائها من جهة عدم الموت.

وبالجملة : أنّ شكّنا في بقاء العدالة من ناحية احتمال طروّ الفسق وإن لم يكن إلاّمع فرض القابلية أعني الحياة ، إلاّ أنّا بعد أن حصل لنا الشكّ في بقاء العدالة من جهة احتمال طروّ الفسق على تقدير الحياة ، أمكننا الحكم ببقائها من هذه الجهة وإن لم نرتّب عليه لازم بقائها وهو الحياة ، وليس الاستصحاب مقيّداً بتقدير ليقال إنّه لا يكون فعلياً منجّزاً قبل إحراز الحياة ، ويكون استصحاب العدالة فعلياً بعد استصحاب الحياة ليلزم الطولية بين الاستصحابين ، كما أنّه ليس المستصحب هو العدالة المقيّدة بالحياة ليقال إنّها غير قابلة للاستصحاب لعدم إحراز قيدها الذي هو الحياة ، بل هي أعني الحياة ظرف للعدالة المستصحبة ، بمعنى أنّ العدالة في ظرف كانت مورداً لليقين وقد صارت هي - أعني العدالة في ظرف الحياة - مورداً للشكّ ، فنحن نستصحب العدالة التي هي في ظرف الحياة ، بمعنى أنّ هذا الشخص تحقّقت له العدالة في حياته ونحن الآن نشكّ في بقاء تلك العدالة في حياته ، فبحكم الاستصحاب نقول إنّ عدالته في حياته باقية.

والأوضح أن نقول : إنّ عدالته باقية طول حياته ، ولعلّ هذا هو المراد من كون التقدير المذكور هو المأخوذ في القضية الحقيقية كما في تحرير السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره (1) ، هذا غاية ما أمكنني توضيحه في جريان الاستصحاب في الصورة الأُولى وفي الصورة الثانية.

ص: 41


1- أجود التقريرات 4 : 183.

ولكن النفس لا تكاد تكون قانعة بذلك ، أمّا الصورة الأُولى فلما نراه بالوجدان من كون نسبة الحياة إلى العدالة كنسبة القابلية ، فيكون الشكّ في الحياة موجباً للشكّ في بقاء العدالة ، ويكون الشكّ في العدالة في طول الشكّ في الحياة لا في عرضه ، لما عرفت من الطولية بين الحياة والعدالة ، وليسا من قبيل العرضيين المتلازمين.

وفيه إشكال من جهة أُخرى وهي أنّ نسبة الحياة إلى العدالة كنسبة الموضوع إلى الحكم ، ولا يصحّ استصحاب الحكم الذي هو العدالة مع الشكّ في بقاء الموضوع الذي هو الحياة ، وهذه الجهة جارية ومانعة من استصحاب العدالة حتّى فيما لو كانت عدالة الشخص تمام الموضوع للحكم الشرعي.

وأمّا في الصورة الثانية فلقضاء الوجدان بعدم معقولية الشكّ في بقاء العدالة وعدم طروّ الفسق ما لم تكن الحياة محرزة ، فلا يكون استصحاب العدالة إلاّ متأخّراً في الرتبة عن استصحاب الحياة ، غايته أنّه متأخّر عنه في الصورة الأُولى برتبة واحدة ، وفي الصورة الثانية برتبتين ، وذلك مانع من التئام الموضوع المركّب من الحياة والعدالة ، لأنّه إنّما يتمّ ذلك فيما لو كان إحراز أحدهما في عرض إحراز الآخر ، وقد عرفت أنّ استصحاب العدالة على تقدير الحياة لا محصّل له ، وكون القضية تعليقية لا أثر له في المقام من كون المستصحب فعلياً ، فلاحظ وتدبّر.

وأمّا ما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته (1) ممّا يظهر منه استدراك البقاء في باب الاستصحاب وأنّ المدار على وحدة القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، بأن يكون متعلّق شكّه هو نفس القضية التي تعلّق بها يقينه ، ولا يعتبر

ص: 42


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 226.

في صحّة الاستصحاب كون الشكّ متعلّقاً بالبقاء بحيث يكون شاكّاً في بقاء القضية كي يمتنع استصحاب بقاء قيام زيد عند الشكّ في بقاء حياته.

فلا يخفى ما فيه ، فإنّ لازمه جريان استصحاب [ الحكم ] الشرعي عند الشكّ في بقاء الحياة ، إذ لو جرّدنا المسألة من جهة البقاء لكانت قضيّتنا المتيقّنة وهي وجوب الإنفاق المتعلّق به عين القضية [ المشكوكة ] وينبغي مراجعة كلامه خصوصاً ما ذكره في الأمر الأوّل من الأُمور التي عدّدها بقوله : منها ، فلعلّ المراد له مطلب آخر غير هذا الذي استظهرناه ، فراجع مطلبه من أوّله إلى آخره وتأمّل فيه حقّ التأمّل ، فإنّ هذا الذي استظهرناه لا أظنّه يلتزم به ، بل لا أظنّه أن يقوله أحد ، وإلاّ لسقط البحث الآتي الراجع إلى أنّ المدار في الوحدة على ماذا.

وللمرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في غرره كلام في هذا المقام عقده بعنوان التنبيه الحادي عشر (1) ، ومحصّل ما أفاده هو أنّ الشكّ في بقاء قيام زيد تارة يكون مع العلم ببقاء نفس زيد وأُخرى مع الشكّ في بقاء زيد ، وهذا تارةً يكون منشأ الشكّ فيه في بقاء قيامه هو الشكّ في بقاء نفس زيد ، وأُخرى يكون كلّ من بقاء زيد وبقاء قيامه مشكوكاً بشكّ مستقل ، فكانت الأقسام ثلاثة.

ثمّ إنّ موضوع الحكم الشرعي وهو وجوب التصدّق مثلاً تارةً يكون هو نفس قيام زيد وأُخرى يكون موضوع الحكم المذكور هو قيام زيد على تقدير وجود زيد (2)

ص: 43


1- الصحيح : في التنبيه العاشر ، راجع درر الفوائد 1 - 2 : 573.
2- نصّ عبارته في كيفية أخذ الموضوع هو قوله : والقضية الموضوعة للحكم الشرعي في نحو قيام زيد يمكن تصوّرها على قسمين : أحدهما أن يكون الموضوع ثبوت هذا المفهوم كما إذا قال : إذا تحقّق قيام زيد في الخارج فافعل كذا. وثانيهما أن يكون الموضوع ثبوت القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج كما هو مفاد قولك : إن كان زيد قائماً فافعل كذا [ منه قدس سره ].

فلو كان الموضوع هو الأوّل أعني نفس قيام زيد ، وقد كان متحقّقاً قبل هذا ، جرى استصحابه وترتّب الحكم الشرعي المذكور في الصور الثلاث ، أعني صورة العلم ببقاء زيد والشكّ في بقاء قيامه ، وصورة الشكّ في بقاء زيد الموجب للشكّ في بقاء قيامه على وجه لو كان زيد باقياً لكان قيامه باقياً قطعاً ، وإنّما حصل لنا الشكّ في بقاء قيامه لأجل شكّنا في بقاء ذاته ، لأنّ انعدام ذات زيد موجب لانعدام قيامه ، وصورة الشكّ في بقاء كلّ من الذات وقيامه بشكّ مستقل لكلّ منهما على وجه نحتمل بقاء زيد وانعدام قيامه ، لاشتراك هذه الصور في تقدّم العلم بتحقّق موضوع الحكم وهو نفس قيام زيد وتأخّر الشكّ في بقاء الموضوع وهو نفس القيام ، فيتّحد الموضوع في القضية المتيقّنة مع الموضوع في القضية المشكوكة ، وإنّما كان الاختلاف بين هذه الصور فيما هو المثير للشكّ في بقاء نفس الموضوع الذي هو قيام زيد.

أمّا لو كان الموضوع على النحو الثاني أعني المركّب من وجود زيد وقيامه ، ففيما لو كان بقاء وجود زيد معلوماً لا شبهة في استصحاب بقاء قيامه ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالأصل وهو بقاء قيام زيد وإحراز جزئه الآخر وهو بقاء نفس وجود زيد بالوجدان ، ويتّحد الموضوع في القضيتين المتيقّنة والمشكوكة ، أمّا إذا كان بقاء وجود زيد مشكوكاً لم يجر الاستصحاب ، سواء كان الشكّ في بقاء قيامه ناشئاً عن الشكّ في بقاء وجوده أو كان السبب والمنشأ فيه شيئاً آخر ، وعلّل عدم جريان الاستصحاب في الصورتين بقوله : فلا يمكن

ص: 44

استصحاب القيام لعدم إحراز موضوعه ، نعم لو كان الأثر مرتّباً على وجوده وقيامه على تقدير الوجود يمكن إجراء الاستصحابين لإحراز جزأي الموضوع فيما إذا كان كلّ منهما مشكوكاً مستقلاً ، ولا يكفي استصحاب وجود المحل فيما إذا كان الشكّ في القيام مسبّباً عن الشكّ فيه ، فإنّ إحراز المسبّب بواسطة إجراء الأصل في طرف السبب يكون فيما كان المسبّب من الآثار الشرعية ، دون مثل القيام وأمثاله.

ثمّ قال في أثناء إيراده على صاحب الكفاية قدس سرهما فيما استظهره منه من جواز استصحاب قيام زيد وإن كان الشكّ مسبّباً عن الشكّ في وجود زيد مطلقاً على أيّ نحو فرض موضوع الحكم الشرعي ، فقال : وأنت خبير بأنّ الموضوع لو كان القيام لزيد بعد ملاحظة الوجود لم يكن في المثال مشكوكاً حتّى يستصحب ، والذي هو مشكوك ليس له أثر شرعي كما هو المفروض - إلى أن قال - ولو كان المشكوك قيام زيد وكان الشكّ مستنداً إلى الشكّ في وجود زيد ، فإن كان موضوع الحكم الشرعي تحقّق هذا المفهوم - أعني قيام زيد - يصدق أنّه شكّ في بقاء ما هو موضوع لحكم الشارع ، وإن كان في هذه الصورة موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد بعد تحقّقه ، فهذا المعنى ليس مشكوكاً فيه للعلم بقيامه بعد تحقّقه ، والمعنى المشكوك فيه - أعني قيام زيد - ليس بموضوع للحكم الشرعي (1).

والذي يتلخّص من كلامه : أنّ أخذ قيام زيد موضوعاً للحكم الشرعي يكون على ثلاثة أنحاء : الأوّل : هو ثبوت نفس هذا المفهوم. النحو الثاني : هو

ص: 45


1- درر الفوائد 1 - 2 : 574 - 576.

ثبوت القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج. النحو الثالث : هو كون الموضوع وجود زيد وقيامه على تقدير وجوده. ولم أتوفّق لمعرفة الفرق بين هذه الأنحاء ، فإنّ الأوّل إن رجع إلى كون الموضوع هو نفس قيام زيد من دون نظر إلى مدخلية وجود زيد وإن كان ذلك غير منفكّ عنه ، حصل الفرق بينه وبين الأخيرين ، لكن يبقى الفرق بينهما ، فإنّ تقدير الوجود في الثاني إن كان دخيلاً في الموضوع رجع إلى الثالث ، وإن لم يكن دخيلاً فيه رجع إلى الأوّل. ومنه يظهر أنّ قوله : نعم لو كان الأثر مرتّباً على وجوده وقيامه على تقدير الوجود ، لا يخلو من تكرار ، ولو فرضنا أنّ لقوله : « على تقدير الوجود » معنى آخر لحصلت لنا صورة رابعة وهي كون الموضوع هو المركّب من وجود زيد وقيامه ، فإنّها حينئذ تغاير المركّب من وجوده وقيامه على تقدير الوجود.

وعلى كلّ حال ، فلو كان موضوع الأثر هو قيام زيد على النحو الأوّل ، إنّما يجري فيه الاستصحاب لو كان معلوم البقاء ، أمّا لو كان زيد مشكوك البقاء وكان الشكّ في بقاء قيامه ناشئاً عن الشكّ في بقائه ، أو كان كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل ، ففيه تأمّل ، فإنّه يجري فيه ما أفاده في أخذ الموضوع على النحو الثاني في الصورتين بقوله : فلا يمكن استصحاب القيام لعدم إحراز موضوعه.

وأمّا ما أفاده على الوجه الثالث من التفكيك بين الصورتين ، ففيما كان كلّ منهما مشكوكاً أجرى الاستصحابين ، وفيما كان الشكّ في بقاء القيام مسبّباً عن الشكّ في بقاء زيد ، لم يجر الاستصحاب في القيام لأنّه غير مشكوك ، ولا في وجود زيد لأنّه ليس له أثر شرعي.

ففيه : أنّ نفس قيام زيد وإن لم يكن مشكوكاً بنفسه إلاّ أنّه مشكوك بواسطة

ص: 46

الشكّ في بقاء محلّه ، وحينئذ يكون حاله حال ما لو كان كلّ منهما مشكوكاً في إجراء الاستصحابين ، وكأنّه يريد أنّ وجود زيد في النحو الأوّل لا يكون جزءاً لموضوع الحكم الشرعي ولا يكون موضوعاً للقيام ، وعلى النحو الثاني يكون موضوعاً للقيام ، ويزيد عليه الثالث أنّه أخذ فيه من موضوع الحكم الشرعي ، ولأجل ذلك صحّح على الأوّل استصحاب قيام زيد على جميع الصور لعدم تأتّي الإشكال في إحراز موضوع القيام فيها ، ومنعه في الثاني في صورتي الشكّ في بقاء زيد لعدم إحراز موضوع القيام المانع من استصحاب القيام ، ولم يمنعه على الثالث في صورة ما إذا كان كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل ، لأنّ استصحاب وجود زيد يجري لكونه جزء الموضوع للحكم الشرعي ، وبه يحرز موضوع القيام الذي يراد استصحابه. ولا يخفى ما فيه من عدم خروج وجود زيد عن كونه موضوعاً ومحلاً للقيام الذي أُخذ موضوعاً للحكم الشرعي. ثمّ إنّه في الثالث كيف يلتئم موضوع الحكم الشرعي مع كون الاستصحاب في الثاني وهو قيام زيد على تقدير وجوده متوقّفاً على الاستصحاب في الأوّل ليكون محرزاً لما هو الموضوع في المستصحب الثاني.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الحاجة إلى الاستصحابين إنّما هي فيما لو أُخذ الموضوع للحكم الشرعي مركّباً ، بخلاف ما لو لم يكن ذلك الموضوع إلاّقيام زيد ، وحينئذ فلا يتوجّه عليه ما أفاده العلاّمة الإصفهاني في حاشيته بما ذكره بعد قوله : والجواب (1). نعم يرد عليه ما ذكره أخيراً من منع كون العدالة مشكوكة كما أوضحناه ، فراجع.

ص: 47


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 228.

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشكّ في المحمول الأوّلي أو المحمول المترتّب لا يحصل غالباً بل دائماً مع بقاء القضية المتيقّنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفّة بها ... الخ (1).

فيما لو كان الشكّ في المحمول الأوّلي لا يكون الاستصحاب إلاّ موضوعياً ، وسيأتي أنّ الغالب فيه هو وحدة القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بل إنّ المحمول المترتّب لا يكون الاستصحاب فيه غالباً إلاّ موضوعياً. نعم لو كان ذلك المحمول المترتّب من مقولة الأحكام الشرعية كان الاستصحاب فيه حكمياً ، والغالب فيه عدم الاتّحاد بين القضيتين.

قوله : وأمّا الاستصحابات الموضوعية فالغالب فيها اتّحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة ... الخ (2).

لابدّ أن يكون ذلك في موارد الشبهات الموضوعية ، إذ لو كانت الشبهة مفهومية كما مرّ في مثال الشكّ في أنّ موضوع النجاسة هو مادّة الكلب أو صورته النوعية ، وكما في مثل الخشب المتنجّس ، لم يكن الاستصحاب الموضوعي جارياً ، أمّا الحكمي فجريانه موقوف على المسامحة التي هي محلّ الكلام.

قوله : كما في استصحاب كرّية الماء إذا نقص منه مقدار يشكّ في بقائه على الكرّية ... الخ (3).

الوجه في هذه المسامحة هو أنّ الذي كان كرا هو المجموع ، والباقي وإن

ص: 48


1- فوائد الأُصول 4 : 570.
2- فوائد الأُصول 4 : 571.
3- فوائد الأُصول 4 : 571.

كان هو الأغلب لكنّه بعضه ، بحيث إنّا من أوّل الأمر لو لاحظنا هذا الباقي حال كونه موجوداً في ضمن المجموع لكان مشكوك الكرّية ، ولكن العرف في خصوص انفصال ذلك الجزء عن المجموع يرى أنّ معروض الكرّية هو نفس هذا الموجود بحيث إنّه بواسطة عدم اعتنائه بذلك المنفصل لقلّته يرى أنّ المجموع باقٍ لم ينفصل منه شيء ، ومقتضى ذلك أنّه لو كان الماء كثيراً جدّاً وقد ذهب منه دفعة واحدة الكثير أيضاً وقد شكّ في كرّية الباقي ، هو عدم جريان الاستصحاب في مثل ذلك إذا كان النقص دفعياً ولو بمثل انجماد الأغلب دفعة واحدة ، كما أنّه لابدّ في إجراء الاستصحاب من إحراز كون الباقي هو معظم الماء ، فلو نقص الماء ولم يعلم أنّ الباقي كان هو المعظم ، بأن كان الماء في صندوق مثلاً ولم يعلم بأنّ الذي نزل منه هل كان قليلاً لا يضرّ بالوحدة ، أو أنّه كان كثيراً بحيث إنّ الباقي كان هو القليل ، لم يمكن إجراء الاستصحاب لتوقّفه على الوحدة المتوقّفة على التسامح المزبور ، والمفروض توقّف ذلك التسامح على الاطّلاع على المقدار الباقي (1)

ص: 49


1- ثمّ إنّ ممّا يكثر الابتلاء به في هذه الأزمنة هو مشروع إسالة الماء إلى البلدة بالصورة الموجودة من كون المخزن في صندوق عال جدّاً ويتفرّع منه في أنابيب توصل الماء إلى الدور ، وربما انفصل بعض تلك الأنابيب عن المخزن وكان الباقي من محلّ الانفصال إلى أن يصل الانبوب إلى الدار قليلاً لا يبلغ كرّاً ، وحينئذ فلو شكّ في حدوث الانفصال لم يمكن إجراء الاستصحاب في اتّصال هذا الواصل إلى الدار ، إذ ليس الأثر مترتّباً على اتّصال هذا الماء بالمادّة الموجودة في المخزن العام ، وإنّما الأثر مترتّب على الكرّية ، فيعود محذور استصحاب الكرّية من عدم اتّصاف هذا الموجود من الماء بالكرّية حتّى لو تمّ ما أُفيد من التسامح العرفي ، للعلم اليقيني بأنّ هذا الموجود أقلّ من الكرّ بكثير ، فلا يمكن القول بأنّ هذا الموجود من الماء المتّصل من الدار إلى محلّ الشكّ في الانفصال كان كرا ولو بتلك المسامحة العرفية. ومن جملة ما لا تجري فيه المسامحة المخزن الخاصّ الذي يجعلونه في الدار في محلّ عال كسطحها ، وبعد امتلائه يقطع عن الاتّصال بالمخزن العام ولا يزال أهل الدار مستسقين من ذلك المخزن الخاصّ مع فرض الشكّ في نقصانه عن الكرّية بكثير ، فإنّ مثل ذلك لا يجري فيه التسامح العرفي أيضاً ، وهذا أشكل من المسألة السابقة التي ربما يتوهّم فيها جريان استصحاب الاتّصال بخلاف هذه المسألة. ومثل هذه المسألة ما لو حصل العلم بانفصال البلدة عن المخزن العام لأجل حدوث عيب فيه يقتضي إصلاحه وعمارته ، فيكون الاعتماد في العاصمية حينئذ على مجموع الماء الموجود في شبكة الأنابيب ، فلو حصل الشكّ في عروض نقصانه عن الكرّية لم يمكن الاعتماد في استصحاب بقاء الكرّية لذلك المقدار على دعوى المسامحة العرفية ، إذ الفرض أنّه ربما يكون الباقي أقلّ قليل على وجه لا يمكن القول بأنّ هذا المقدار كان كرّاً ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس سره ].

أمّا ما لو أُريد استصحاب وجود الكرّ في هذا الماء فهو خارج عمّا نحن فيه من التسامح العرفي وراجع إلى الأصل المثبت ، لأنّ موضوع الأثر وهو كون هذا الماء كرّاً لا يترتّب عليه إلاّبالملازمة.

قوله : لأنّ الشكّ في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات لا يمكن إلاّفي باب النسخ ... الخ (1).

كان الأنسب استثناء باب الغاية والرافع كما سيأتي ذلك منه (2) ، بل إنّ النسخ كما حرّرناه في محلّه (3) من قبيل الرافع.

ص: 50


1- فوائد الأُصول 4 : 571 - 573.
2- فوائد الأُصول 4 : 576.
3- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب الصفحة : 389 وما بعدها.

قوله : فإنّه كثيراً ما يطلق لفظ الكرّ والفرسخ والحقّة وغير ذلك من ألفاظ المقادير والأوزان على ما ينقص عن المقدار والوزن أو يزيد عنه بقليل ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ محطّ هذه المسامحة العرفية ليس هو في إطلاق المقدار المعيّن على الناقص بقليل ، بل هو في عدم الاعتناء بالناقص لقلّته ، مثلاً لو كانت الحقّة عبارة عن ثمانين مثقالاً ، وكانت هناك كمية من الحنطة تبلغ ثمانية وسبعين مثقالاً ، فإنّهم إنّما يطلقون الحقّة على تلك الكمية من الحنطة لأجل عدم اعتنائهم بما نقص منها من المثقالين لقلّتهما ، فكأنّهم يرون ذلك الموجود بتلك المسامحة غير ناقص عن المقدار المقرّر في الحقّة ، لا أنّهم يتسامحون في نفس المقدار الكلّي المقرّر ، وإلاّ لكان مقدار الحقّة عندهم هو الأعمّ من الثمانين مثقالاً وما ينقص ، ولأجل ذلك لو سألتهم عن كلّي الثمانية والسبعين مثقالاً لقالوا إنّه ليس بحقّة ، وتسامحهم مقصور على الكمية الموجودة ، وهذا كاشف عن أنّ هذا التسامح ليس في المصداق بحيث إنّهم يوسعونه ابتداءً إلى الناقص ، بل إنّ تسامحهم إنّما هو في عدم الاعتناء بالنقص الوارد على تلك الكمية الموجودة ، فلا يكون هذا التسامح إلاّمن قبيل التسامح السابق في مسألة الكرّية فيما لو نقص من الماء الموجود شيء قليل لا يعتنى به.

نعم ، إنّ هذا التسامح لا ينفعنا في من وجبت عليه حقّة ودفع ثمانية وسبعين مثقالاً ، لأنّه لا يوجب التوسعة في معنى الحقّة حتّى عند العرف ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه بعد عدم اعتنائهم بالناقص لقلّته يطلقون الحقّة عليه مجازاً ، والاطلاق المجازي لا ينفعنا ، وإنّما ينفعنا ذلك التسامح - أعني عدم اعتنائهم

ص: 51


1- فوائد الأُصول 4 : 574.

بالناقص لقلّته - في خصوص باب الاستصحاب ، لأنّه بواسطة عدم اعتنائهم بذلك النقص يرون أنّ ما كان متّصفاً بالحقّة سابقاً بعد أن نقص منه مقدار لا يعلم أنّه أوجب نقصه عن الثمانين هو موجود فعلاً.

والحاصل : أنّ تسامح العرف وإطلاقهم الوزن الخاصّ على ما ينقص عنه قليلاً إنّما هو من قبيل إطلاقهم الأسد على الرجل الشجاع لا يكون إلاّمن قبيل المجاز غير النافع في باب الأحكام ولا في الاستصحاب ، وأمّا تسامحهم في استصحاب كرّية هذا الماء فليست مبنية على هذا النحو من التجوّز ، بل هي مبنية على دعواهم أنّ هذا الموجود يصدق عليه أنّه كان كرّاً باعتبار قلّة ما نقص منه فكأنّه هو بعينه الذي كان موجوداً ، وليس هذا النحو من التسامح براجع إلى مرحلة التجوّز في الاطلاق ، بل هي من أنظارهم العرفية الموجبة لوحدة القضيتين ، نظير ما لو ارتفع التغيّر فيقولون إنّ هذا الماء كان نجساً ، مع أنّ الذي كان هو النجس هو الماء الذي كان متغيّراً ، ولأجل ذلك لا يرون الاتّحاد فيما لو كان الماء كثيراً جدّاً وانفصل عنه أغلبه دفعة بحاجز فعلي ولم يبق إلاّ القليل النسبي الذي يشكّ في كرّيته ، كما تقدّم فيما لو تعذّر المعظم من أجزاء الصلاة.

وكذلك الحال فيما لو كان أزيد من الكرّ بقليل ولكن أُخذ منه ما أوجب نقصه عن الكرّية ولو قليلاً ، فإنّ هذه الدعوى من الوحدة لا تكون حينئذ نافعة مع فرض النقصان عن الكرّ ، لأنّهم حينئذ إنّما يطلقون عليه الكرّ مجازاً ، بخلاف صورة الشكّ في بقاء الكرّية فإنّهم بعد دعواهم الاتّحاد يريدون أن يقولوا إنّ هذا الماء كان كرّاً حقيقياً والآن أيضاً هو كرّ حقيقي بحكم الاستصحاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الفرق بين المسامحتين كما تقدّمت الاشارة إليه

ص: 52

فيما علّقناه على ص 207 (1). وحاصل الفرق هو أنّ العرف لا تسامح لهم إلاّفي عدم الاعتناء بالنقصان القليل ، لكن يترتّب على تسامحهم المذكور أمران :

الأوّل : أنّهم يطلقون اسم المقدار على ذلك الناقص ، وهذا القدر من نتيجة التسامح لا عبرة به عندنا ، ولأجل ذلك لا نعتمد على هذه المسامحة فيما لو علم النقصان.

الثاني : أنّ الشيء كيف ما كان مقداره إذا نقص منه الشيء القليل يكون باقياً بتمامه لا أنّ الباقي بعضه. وبعبارة أُخرى : أنّهم بعد عدم التفاتهم إلى ذلك الطفيف الذي نقص من الشيء وعدم اعتنائهم به وعدم عدّه نقصاناً منه يرون أنّ تلك الذات موجودة لم ينقص منها شيء ، فلو كان ذلك الشيء قبل أن يذهب منه ذلك المقدار القليل موصوفاً بصفة مثل الكرّية ونحوها ، وكان ذهاب ذلك القليل موجباً للشكّ في بقاء تلك الصفة له كانت تلك المسامحة محقّقة لما نطلبه من اتّحاد موضوع المتيقّن مع موضوع المشكوك ، بأن نقول إنّ هذا الشيء كان موصوفاً بالصفة الكذائية والآن نشكّ في بقاء تلك الصفة لذلك الشيء فنستصحبها له ، فكان عدم اعتناء العرف بذلك المقدار من النقص مصحّحاً لأن نقول إنّ بقاء تلك الصفة لذلك الشيء مشكوك ، مع فرض أنّ ذلك الشيء الذي هو المجموع من الباقي والناقص لم يكن موجوداً بالدقّة ، لأنّ الحقيقة أنّي لم أشكّ في بقاء كرّية المجموع ، وإنّما شككت في كرّية بعضه وهو الباقي ، ومن الواضح أنّ كرّية هذا البعض لم تكن متيقّنة سابقاً ، لكن بعد المسامحة العرفية القاضية بأنّ ذلك المجموع باق ببقاء ذلك الأغلب الباقي ، تكون الكرّية المتيقّنة

ص: 53


1- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : 461 وما بعدها.

والكرّية المشكوكة واردتين على شيء واحد ، فتكون الوحدة المزبورة نتيجة عدم اعتنائهم بذلك الناقص.

قوله : أمّا أوّلاً : فبأنّ الرجوع إلى العقل إنّما يستقيم في المستقلاّت العقلية ... الخ (1).

لكن بالرجوع إليه فيها يتنقّح ما هو الموضوع ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب لعدم بقاء الشكّ حينئذ ، بل قد عرفت في محلّه أنّه لا معنى لشكّ العقل في موضوع حكمه. نعم قد يشكّ في بقاء الموضوع العقلي على نحو الشبهة الموضوعية ، لكن الجاري حينئذ هو بقاء الموضوع لا الحكم.

قوله : وإن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه فهو صحيح إلاّ أنّه لا يختصّ بالمقام ... الخ (2).

بل يمكن أن يقال : إنّ ذلك أعني الرجوع إلى العرف فيما يستفاد من موضوع الدليل لا دخل له بباب الاستصحاب ، بل هو راجع إلى الاجتهاد فيما يستفاد من الدليل الاجتهادي الدالّ على الحكم ، مثلاً الرجوع إلى العرف في الدليل الدالّ على حرمة الغناء إنّما هو في معنى الغناء ، وأنّ المراد به ما هو ، وذلك لا دخل له بباب الاستصحاب ، مضافاً إلى أنّ هذا المقدار من الرجوع لا يمكن أن يقابل بالرجوع إلى نفس الدليل ، فإنّا إنّما نرجع إلى الدليل بواسطة ما يفهم عرفاً منه ، فلا يكون أحدهما إلاّعين الآخر.

ص: 54


1- فوائد الأُصول 4 : 575.
2- فوائد الأُصول 4 : 575.

قوله : لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع حتّى يقال إنّ تعيين الموضوع إنّما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ... الخ (1).

العقل وإن لم يكن له سبيل إلى تعيين موضوع الحكم الشرعي ، إلاّ أنّ العرف له سبيل إلى تعيينه كما عرفت من أنّ معاني المفاهيم الواردة في موضوعات القضايا الأحكامية إنّما تؤخذ من العرف ، نعم إنّ ذلك - أعني أخذ معاني تلك المفاهيم من العرف - لا دخل له بباب الاستصحاب.

قوله : فما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من أنّ انتفاء بعض الخصوصيات يوجب العلم بارتفاع الموضوع عقلاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، بل أقصى ما يقتضيه هو الشكّ في بقاء الموضوع لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الموضوع ... الخ (2).

هذا الإشكال إنّما يرد على الشيخ قدس سره لو نسبنا الاختلاف إلى الواقع ، أمّا إذا نسبناه إلى اليقين والشكّ فلا إشكال في تغيّر الموضوع عقلاً ، فإنّ القضية المتيقّنة لو كانت هي نجاسة الماء المتغيّر كان الموضوع لتلك القضية المتيقّنة بما أنّها متيقّنة هو الماء المتغيّر ، فإذا زال تغيّره كان موضوع القضية المشكوكة هو الماء غير المتغيّر ، فلو اعتبرنا الاتّحاد العقلي فلا ريب في عدم جريان الاستصحاب ، لأنّ الموضوع في القضية المتيقّنة مغاير للموضوع في القضية المشكوكة ، بل مقتضى حصول القطع بالاختلاف بين القضيتين وأنّ اليقين إنّما تعلّق بنجاسة الماء المتغيّر وقد زال تغيّره ، هو القطع بعدم بقاء القضية المتيقّنة ، وحينئذ لا ينفعنا

ص: 55


1- فوائد الأُصول 4 : 575.
2- فوائد الأُصول 4 : 576.

الاتّحاد العرفي أو الاتّحاد بحسب دليل الحكم ، حيث إنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء القضية المتيقّنة عند الشكّ في بقائها ، ومع دخول التغيّر تحت اليقين نكون قاطعين بعدم بقاء القضية المتيقّنة بما أنّها متيقّنة.

فلابدّ حينئذ من إخراج التغيّر عن موضوع القضية المتيقّنة ، فإنّ المتيقّن إنّما هو نجاسة الماء في حال التغيّر ، وهذا هو الذي كشفه اليقين السابق ، أمّا أنّ التغيّر جزء من الموضوع أو أنّه أجنبي عنه ، فذلك ممّا لم يدخله اليقين ، وهو أجنبي عن موضوع قضيتنا المتيقّنة بما أنّها متيقّنة ، ولازم ذلك هو اتّحاد موضوع قضيتنا المتيقّنة مع موضوع قضيتنا المشكوكة وحدة عقلية ، بمعنى أنّ نفس ما كان منكشفاً لنا قد صار مشكوكاً ، وذلك هو نجاسة ذات الماء ، فإنّ دخول التغيّر لم يكن داخلاً في ذلك المنكشف الذي هو نجاسة الماء.

نعم ، إنّ ذلك وحده لا ينفع ، فإنّ الانكشاف إنّما اعتبر لا لذاته بل لكونه طريقاً إلى الواقع ، ونحن نحتمل مدخلية التغيّر في ذلك الواقع الذي انكشف لنا وهو نجاسة الماء ، ولأجل ذلك يحصل لنا الشكّ في اتّحاد هذه القضية المشكوكة مع القضية الواقعية التي انكشفت لنا ، وإذا تطرّق لنا هذا الاحتمال فلابدّ من إحراز الاتّحاد في موضوع القضيتين ، القضية الواقعية التي انكشفت لنا والقضية المشكوكة ، وذلك إمّا بنظر العقل أو العرف أو بحسب لسان الدليل ، فيكون الحاصل هو أنّ يقيننا السابق إنّما كشف لنا نجاسة الماء في حال تغيّره على الإجمال ، من دون أن تنكشف لنا حالة التغيّر وهل هي جزء من الموضوع أو أجنبية عنه ، وحينئذ لم نحرز حقيقة الموضوع في قضيتنا المتيقّنة ، فأوجب ذلك الشكّ في اتّحاده مع ما هو موضوع قضيتنا المشكوكة ، ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه البيانات لا تخلو من إجمال ، فإنّا إذا فرضنا التردّد في موضوع قضيتنا المتيقّنة

ص: 56

كيف نرجع في كيفية اتّحاده مع الموضوع في القضية المشكوكة إلى العقل أو لسان الدليل أو العرف ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك في الحاشية الآتية على ص 216 (1).

قوله : فإنّ عدم الرافع والغاية ليس من قيود الموضوع وحدوده ليرجع الشكّ في وجودهما إلى الشكّ في بقاء الموضوع ، بل ينعدم الموضوع بوجود الغاية والرافع قهراً ، فالرافع ما يكون وجوده معدماً للموضوع لا أنّ عدمه قيد فيه ، وكيف يمكن أن يكون الموضوع مقيّداً بما يوجب إعدامه - إلى قوله - فالشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في وجود الرافع أو الغاية لا يرجع إلى الشكّ في الموضوع ، بل يشكّ في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلاً ... الخ (2).

لا يخفى أنّ غاية الحكم وكذا رافعه ليسا من حدود الموضوع ، فالشكّ فيهما سواء كان من قبيل الشكّ في وجود الغاية أو في وجود الرافع ، أو كان في رافعية الموجود أو في كونه غاية ، لا يكون إلاّمع بقاء الموضوع بحاله ، ولكن هذا النحو من الرافع أو الغاية لا يكون موجباً لاعدام الموضوع ، كيف ولو كان معدماً له لكان الشكّ فيه شكّاً في بقاء الموضوع ، ومعه لا يجري استصحاب الحكم وهو خلاف المطلوب. أمّا إذا أُخذت الغاية غاية للموضوع ، فلا ريب في كونها من حدود الموضوع وإن لم يكن عدمها قيداً فيه ، إلاّ أنّ الموضوع المغيّى بغاية لا ريب في انتهائه بحصول تلك الغاية ، فيكون الشكّ فيها موجباً للشكّ في بقاء الموضوع ، ومعه لا يجري استصحاب الحكم ، بل الابتلاء بمسألة الغاية أعظم من

ص: 57


1- وهي الحاشية الآتية في الصفحة 86.
2- فوائد الأُصول 4 : 577.

الابتلاء بالقيد ، لأنّ ذلك يمكن جريان الاستصحاب فيه إذا كان مورداً للتسامح العرفي ، بخلاف مسألة غاية الموضوع فإنّ التسامح العرفي لا مورد له فيها ، وأمّا الرافع فلا أتخطّر فعلاً رافعاً تكون رافعيته بالقياس إلى موضوع الحكم ، وإنّما يكون الرافع رافعاً للحكم.

ويمكن أن يمثّل لرافع الموضوع بخلط الماء المطلق بما يوجب رفع إطلاقه. ويمكن أن يمثّل له بطهارة الماء القليل ، فإنّها وإن كانت حكماً شرعياً إلاّ أنّها موضوع لحكم شرعي وهو جواز شربه ورفعه الحدث والخبث ، ورافع هذا الموضوع هو ملاقاته للنجاسة.

ويمكن أن يمثّل لغاية الموضوع بطهارة الماء الكثير فإنّها مغياة بالتغيّر بالنجاسة ، ومثل الزوجية في العقد المنقطع التي هي موضوع لجواز الوطء فإنّها مغياة بالأجل. وأمّا الطلاق البائن في النكاح الدائم فهو من قبيل الرافع ، وهكذا الفسخ في باب العقود. ومنه يظهر لك التأمّل في قوله : فالرافع ما يكون رافعاً للموضوع (1).

ثمّ لو تصوّرنا كون الرافع رافعاً للموضوع فلا ريب في عدم بقائه بعد حصوله ، فذلك كاف في المنع من الاستصحاب عند الشكّ فيه ، ويكون حاله حال غاية الموضوع ، وإن لم يمكن أن يكون ذلك الموضوع مقيّداً بما يوجب إعدامه الذي هو ذلك الرافع ، بأن يكون عدم ذلك الرافع قيداً في ذلك الموضوع ، لأنّ الرافع لا يمكن اجتماعه مع الموضوع في الزمان ، ولأجل عدم إمكان إجتماعه

ص: 58


1- نصّ العبارة في الفوائد هكذا : فالرافع ما يكون وجوده معدماً للموضوع. كما تقدّم مصدره في الصفحة السابقة.

في الزمان لا يمكن أن يكون عدمه قيداً في الموضوع ، إلاّ أنّ حال رافع الموضوع بالنسبة إلى المنع من الاستصحاب عند الشكّ فيه أسوأ من حال قيد الموضوع ، فإنّ باب القيد يدخله التسامح العرفي بخلاف باب رافع الموضوع.

والحاصل : أنّ الجمع بين كون الرافع والغاية رافعين للموضوع وكون الشكّ فيهما موجباً للشكّ في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلاً ، لا يمكن بل هو أشبه بالتهافت أو التناقض ، نعم إنّ الشكّ في غاية الحكم ورافعه يكون موجباً للشكّ في بقاء الحكم مع بقاء موضوعه ومع وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة وحدة عقلية ، إلاّ أنّ ذلك الرافع وهاتيك الغاية لا دخل لهما في عالم موضوع الحكم بحيث يوجبان رفعه وانعدامه ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن هذه الجمل الراجعة إلى أنّ الرافع رافع للموضوع ومعدم له ونحوها في الغاية لم أجد لها ذكراً في باقي التقارير.

والخلاصة : هي أنّ الغاية والرافع إن أُخذا بالقياس إلى الحكم نفسه فلا إشكال في وحدة القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة بحسب الموضوع ، وإن أُخذا بالقياس إلى الموضوع نفسه كان استصحاب الحكم في مورد الشكّ في وجود رافع موضوعه أو غاية موضوعه من قبيل الاستصحاب في مورد الشكّ في بقاء الموضوع. وهكذا الحال في الشكّ في رافعية الموجود أو كونه غاية للموضوع ، وهو أسوأ حالاً من تبدّل الحالة من التغيّر إلى عدمه ، لأنّ ذلك يمكن التخلّص منه بالتسامح العرفي ، بخلاف ما نحن فيه. نعم يكون الاعتماد فيما نحن فيه على استصحاب الموضوع نفسه ، بخلاف باب تغيّر الحالة فإنّه لا يجري فيه استصحاب الموضوع ، فلاحظ.

ص: 59

قوله : ثمّ لا يخفى عليك أنّ المراد بالرافع في المقام ما يقابل المانع لا ما يقابل المقتضي ، فإنّ الرافع يستعمل في معنيين ، أحدهما ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : ومرادنا بالرافع في المقام هو الأمر الوجودي الذي يكون هادماً لأثر المقتضي فيكون بمنزلة المانع ، غير أنّ المانع يكون مزاحماً للمقتضي في تأثيره ، فتكون مرتبته قبل التأثير ، والرافع المراد في هذا المقام يكون أمراً وجودياً رافعاً لأثر المقتضي وهادماً لتأثيره ، فتكون مرتبته بعد تأثير المقتضي أثره ، وهذا بخلاف الرافع فيما تقدّم في المختار من عدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي وجريانه في خصوص الشكّ في الرافع ، فإنّ المراد بالرافع في ذلك المقام ما هو الأعمّ منه في هذا المقام ، فالمراد به في ذلك المقام في مقابل الشكّ في المقتضي الذي عرفت أنّه عبارة عن كون الموجود بحسب عمود الزمان مرتفعاً بنفسه ، من دون أن يكون في البين حادث وجودي أو انعدام موجود ، والمراد بالرافع المقابل له هو كون الموجود باقياً في عمود الزمان لو لم يحدث في الكون حادث وجودي أو انعدام موجود ، فذلك الحادث الكوني عدمياً كان أو وجودياً يكون رافعاً للحادث السابق. مثال الأمر الوجودي الحدث بالنسبة إلى الطهارة منه ، ومثال الأمر العدمي انعدام التغيير بالنسبة إلى نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، فإنّ الشكّ في بقاء النجاسة في مثل ذلك يكون من قبيل الشكّ في الرافع لا من قبيل الشكّ في المقتضي ، انتهى.

قلت : فيكون الضابط في الشكّ في المقتضي هو أن يكون الموجود السابق مشكوك البقاء ولو لم يحدث حادث من الحوادث الكونية من وجود معدوم أو انعدام موجود ، بل كان الشكّ في بقائه في عمود الزمان ممحضاً من جهة ذاته

ص: 60


1- فوائد الأُصول 4 : 577 - 578.

ونفس مرور الزمان ، فيشكّ في أنّه هل يبقى إلى هذا الآن أم لا ، ومقابله الشكّ في الرافع وهو ما يكون الشكّ في بقائه في عمود الزمان مستنداً إلى حادث كوني غير مرور الزمان ، بحيث إنّه لو بقي الكون على حاله بلا أن يوجد معدوم أو ينعدم موجود لكان باقياً قطعاً ، وإنّما يشكّ في بقائه من جهة الشكّ في حادث كوني وهو انعدام موجود كما في انعدام التغيير أو وجود معدوم كما في مثل الحدث ، فإن كلّ واحد من هذين يكون رافعاً لما هو الموجود أعني النجاسة في الأوّل والطهارة في الثاني ، ومعنى كون الثاني رافعاً واضح وهو مطابق للرافع المذكور هنا ، ومعنى كون الأوّل رافعاً أنّ انعدام التغيير وإن لم يكن رافعاً حقيقة لعدم كونه رافعاً لأثر المقتضي لكونه في الحقيقة ارتفاع نفس المقتضي ، إلاّ أنّه لمّا كان بارتفاعه يرتفع الحكم سمّي رافعاً بهذا الاعتبار.

لا يقال : إنّ ارتفاع التغيّر يكون مثل خلاص الزيت ، لكون التغيّر علّة كما أنّ الزيت يكون بمنزلة العلّة لاشتعال السراج ، فكما أنّ الثاني يكون من قبيل المقتضي فكذلك الأوّل.

لأنّا نقول : فرق واضح بينهما ، فإنّ مثال ارتفاع التغيير يكون من قبيل الارتفاع ، ومثال خلاص الزيت يكون من قبيل الانقضاء ، والارتفاع في الأوّل يكون موجباً لرفع الأثر فيكون من قبيل الشكّ في الرافع ، وخلاص الزيت في الثاني يكون من قبيل الانتهاء ويكون موجباً لانقضاء الأثر ، فيكون من قبيل الشكّ في المقتضي. نعم لو احتملنا ارتفاع الزيت الموجود أو إراقة بعضه بعد الاشتعال ، لكان الشكّ في بقاء الاشتعال الناشئ عن الشكّ في إراقة بعض الزيت الموجود من قبيل الشكّ في الرافع. نعم لو قلنا بأنّ النجاسة دائرة مدار وجود التغيير ، واحتملنا زوال التغيير لأجل تردّده بين التغيير القوي الذي لا يزول إلاّبساعات أو

ص: 61

الضعيف الذي يزول بالدقائق ، لكان استصحاب النجاسة في مثل ذلك من قبيل [ الشكّ ] في المقتضي.

وقد مثّل هنا في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) للشكّ في المقتضي بمسألة الشكّ في فورية الخيار ، والظاهر أنّه كذلك ، فإنّه بعد فرض عدم أخذ الزمان الأوّل قيداً في الحكم بالخيار يدور الأمر بين كون الخيار طويل العمر أو قصيره ، وهو من قبيل الشكّ في المقتضي. لكن قد يقال إنّه من قبيل الدوران في كون الحكم مغيّى بزمان خاصّ أو غير مغيّى ، فيدخل في الشكّ في الغاية وإن كانت هي نفس الزمان.

وربما يظهر من شيخنا قدس سره أنّ الشكّ في الغاية وإن كانت زماناً من قبيل الشكّ في الرافع ، وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلاً عند الكلام على اختصاص الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، فراجع (2) وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المقصود هنا هو أنّ المراد بالرافع الذي يقول الشيخ قدس سره (3) إنّ الاستصحاب مختصّ بالشكّ في الرافع ، هو الأعمّ من الأمر الوجودي والعدمي كما عرفت من مثالي الحدث وزوال التغيير ، وهذا الرافع أعمّ من الرافع الذي يقول الشيخ قدس سره عنه إنّه لو كان الاتّحاد بين القضيتين عقلياً لكان الاستصحاب في باب الأحكام مختصّاً بالشكّ في الغاية والشكّ في الرافع (4) لأنّ المراد به خصوص الأمر الوجودي ، فلا يتوجّه على الشيخ بأنّه بعد أن جعلت الاستصحاب

ص: 62


1- أجود التقريرات 4 : 185.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : 29 وما بعدها.
3- فرائد الأُصول 3 : 51 و 78 و 159.
4- فرائد الأُصول 3 : 295.

مختصّاً بالشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ينبغي لك أن تقول بأنّ اتّحاد القضيتين عقلي ، لأنّ جميع موارد الشكّ في الرافع لا يكون الاتّحاد فيها إلاّعقلياً ، وإنّما يتصوّر الاتّحاد غير العقلي في موارد اختلال بعض القيود اللاحقة للموضوع مثل مسألة نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره ونحوها ، وهذه الموارد ليست من قبيل الشكّ في الرافع ، بل هي من قبيل الشكّ في المقتضي للشكّ في قابلية النجاسة للبقاء بعد زوال التغيّر ، لاحتمال كون التغيّر قيداً في الموضوع ، فبعد انعدامه لا مقتضي للنجاسة.

والجواب : أنّ الرافع الذي يقول باختصاص الاستصحاب بالشكّ فيه يشمل انعدام التغيير ، فهو داخل فيما يكون الاستصحاب مختصّاً به على رأيه قدس سره ، ولا ريب في أنّ اتّحاد القضيتين فيه ليس بعقلي ، فيدخل حينئذ في محلّ هذا البحث من الاكتفاء بالاتّحاد العرفي أو بحسب لسان الدليل ، نعم لو كان المراد بالرافع في البحث السابق هو خصوص الأمر الوجودي لكان هذا البحث هنا ساقطاً بالمرّة ، لأنّ زوال التغيير ليس بأمر وجودي ، فيكون الاستصحاب فيه ممنوعاً بمقتضى البحث السابق ، فلا يبقى حينئذ موضوع لهذا البحث الذي نحن فيه.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّه لا يكون هذا البحث ساقطاً حتّى لو كان المراد من الرافع في البحث السابق هو خصوص الأمر الوجودي ، فإنّه لو كان الأمر كذلك وإن خرجت مسألة النجاسة والتغيّر عن هذا البحث إلاّ أنّ هناك عكسها ، وهي ما لو كان الموضوع مقيّداً بقيد عدمي ، وبعد ذلك انتقض ذلك العدم وانوجد ذلك المعدوم ، فإنّ مثل هذا الفرض لا ريب في دخوله في مسألة الشكّ في الرافع بناءً على ما تقدّم ذكره من توسعة الرافع لكلّ حادث زماني ، مع أنّه موجب للخلل في

ص: 63

ناحية الموضوع بواسطة ارتفاع قيده العدمي ، فلا يكون الاتّحاد فيه عقلياً ، وحينئذ لابدّ من إدخاله في هذا البحث من كون الاتّحاد هل هو عقلي فلا يجري فيه الاستصحاب ، أو أنّه لا يعتبر الاتّحاد العقلي فيجري الاستصحاب فيه.

ولو وسّعنا البحث في هذا المقام ، وقلنا إنّ الاعتماد على التسامح العرفي في اتّحاد القضيتين يشمل الاستصحابات الموضوعية كما هو واضح في مثل مسألة الكرّية ومسألة الزمان والتدريجيات والمختلفات بحسب الشدّة والضعف على ما عرفت سابقاً ، لكانت دائرة هذا البحث أوسع بكثير من البحث السابق ، ولعلّ أصل المناقشة مع الشيخ قدس سره كانت في خصوص مسألة النجاسة والتغيير ، فلأجل ذلك احتيج في الجواب عنها إلى ما عرفت من أعمّية الرافع هناك عن الرافع هنا ، فراجع وتأمّل.

قوله : ثانيهما الأمر الزماني الذي يمنع من تأثير المقتضي في اقتضائه لبقاء المقتضى - بالفتح - بعد تأثيره في الحدوث ، سواء كان الرافع وجودياً أو عدمياً ، فالرافع المقابل للمقتضي أعمّ من الرافع المقابل للمانع ، لأنّ الأوّل يعمّ الأمر الوجودي والعدمي ، والثاني يختصّ بالأمر الوجودي ... الخ (1).

يمكن المناقشة فيما أُفيد من هذا التنويع للرافع.

أمّا أوّلاً : فبأنّ هذين القسمين يشتركان في أنّ كلاً منهما يكون رافعاً لنفس المقتضى - بالفتح - بعد وجوده ، فلا وجه لجعل الأوّل منهما مقابلاً للمانع والثاني مقابلاً للمقتضي ، لما عرفت من أنّ كلاً منهما يكون رافعاً للمقتضى - بالفتح - بعد فرض وجوده.

ص: 64


1- فوائد الأُصول 4 : 578.

وأمّا ثانياً : فبأنّه لو سلّمنا كون العدم قابلاً لأن يكون رافعاً للمقتضى - بالفتح - يكون حاله حال الأمر الوجودي في أنّه لا دخل له في عالم الموضوع ، فلا يكون الشكّ فيه موجباً للشكّ في الموضوع كي لا تكون القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة.

وأمّا ثالثاً : فبأنّ محصّل ذلك هو أنّ الشيخ قدس سره إنّما استثنى من إشكال وحدة القضيتين خصوص الشكّ في الرافع الوجودي ، وأنّ إشكال تعدّدهما إنّما هو فيما يكون الرافع عدمياً كما في مثال زوال التغيّر ، وقد عرفت أنّ الإشكال لا ينحصر في انعدام قيد وجودي من قيود الموضوع ، بل يجري في عكسه أيضاً.

فالأولى أن يقال : إنّ الذي هو سالم من إشكال عدم اتّحاد القضيتين هو ما يكون من قبيل رافع الحكم ، سواء كان الرافع له أمراً وجودياً أو كان أمراً عدمياً إن تصوّرنا كون العدمي رافعاً ، وأنّ الذي يتأتّى فيه الإشكال المذكور إنّما هو ما إذا كان الموضوع واجداً لأمر وجودي فينعدم ذلك القيد ، أو يكون الموضوع واجداً لأمر عدمي فينوجد ذلك الأمر ، ففي مثل ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب لعدم اتّحاد الموضوع في القضيتين إلاّبطريقة التسامح العرفي ، بإخراج ذلك القيد الوجودي أو العدمي عن كونه قيداً وعنواناً وجعله ولو بقرينة مناسبة الحكم والموضوع من قبيل العلّة ، فلا يكون ارتفاعه من قبيل ارتفاع قيد الموضوع ، بل يكون من قبيل ارتفاع علّة الحكم ، وحيث إنّها يشكّ في كونها من قبيل المحدثة فقط أو من قبيل المحدثة المبقية ، يكون هذا الشكّ موجباً للشكّ في بقاء الحكم بعد ارتفاعها ، فيجري الاستصحاب على ما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى (1).

ص: 65


1- في الصفحة : 88.

ويكون حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في أوّل الاستصحاب (1) من انحصاره في الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ، وما أفاده هنا (2) من استثناء الشكّ في الرافع عن شبهة اختلاف الموضوع في القضيتين ، هو أنّ المستصحب إن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشكّ في نفس ذات ذلك المستصحب وأنّه هل له استعداد البقاء ، فالاستصحاب لا يجري ، وهذا ما يسمّيه الشكّ في المقتضي ، وإن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشكّ في أمر آخر غير ذات المستصحب من انوجاد معدوم أو انعدام موجود أوجب حدوثه الشكّ في بقاء ذلك المتيقّن ، فهذا ما يسمّيه الشكّ في الرافع ، سواء كان ذلك الانعدام أو ذلك الانوجاد رافعاً لنفس المستصحب ابتداءً أو كان رافعاً له بواسطة أنّه رافع لموضوعه ، أو كان رافعاً لعلّته أو كان غاية من غايات ذلك المستصحب ، فإنّ هذه جميعها تدخل فيما اصطلح عليه أنّه من قبيل الشكّ في الرافع ، لأنّ منشأ الشكّ في بقاء المتيقّن في جميع هذه يكون راجعاً إلى حدوث حادث أو انعدام موجود ، فلا يكون منشأ الشكّ في البقاء فيها هو نفس ذات ذلك المتيقّن السابق الذي اصطلح عليه بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي.

وحينئذ فيكون مراده من الرافع هناك هو كلّ حادث كوني وجودي أو عدمي يكون حدوثه موجباً لارتفاع ذلك المتيقّن ، فيكون شاملاً لما يكون رافعاً لنفس الحكم ابتداءً ، ولما يكون رافعاً لعلّته ، ولما يكون رافعاً لموضوعه ، بل يكون شاملاً لغايته أيضاً ، هذا حاصل مراده من الرافع هناك.

وأمّا مراده من الرافع هنا الذي استثناه من إشكال اتّحاد القضيتين ، فهو

ص: 66


1- فرائد الأُصول 3 : 51 و 78 و 159.
2- فرائد الأُصول 3 : 295.

خصوص ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، مثل الفسخ ومثل الطلاق بالنسبة إلى الزوجية ، والفسخ بالنسبة إلى الملكية ، والحدث بالنسبة إلى الطهارة ونحو ذلك ، فإنّ الشكّ في أمثال ذلك سواء كان على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية لا يكون موجباً لعدم اتّحاد الموضوع في القضيتين ، ويلحق به ما يكون منشأ الشكّ في بقاء الحكم هو الشكّ في بقاء علّته أو الشكّ في كيفية علّته وهل هي دوامية بعد العلم بارتفاعها. وهذا بخلاف غيرها من موارد الشكّ في بقاء الحكم ، فإنّه ربما أوجب اختلاف الموضوع فيها ، لأنّ الشكّ في بقاء الحكم من غير جهة الشكّ فيما يرفعه ابتداءً ربما يكون من جهة ارتفاع قيد يحتمل أنّه من قيود موضوعه.

وتفصيل ذلك وتوضيحه هو أن يقال : إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارةً يكون من جهة الشكّ في رافع نفس الحكم أو في رافعية الموجود ، سواء كانا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية ، وأُخرى يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في أنّ مثل التغيّر الذي هو علّة للنجاسة هل زال أو أنّه باقٍ لم يزل ، فيكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في بقاء علّته. وربما كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في كيفية علّته ، وأنّه هل هو بنحو العلّة الدوامية أو هو بنحو العلّة التي يدوم معلولها وإن زالت هي بنفسها ، وحينئذ يكون زوالها موجباً للشكّ في بقاء معلولها الذي هو الحكم الشرعي أعني النجاسة. وثالثة يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في بقاء موضوعه وانعدامه بالمرّة ، أو من جهة الشكّ في ارتفاع قيده بعد إحراز كونه قيداً في الموضوع. ورابعة يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة تغيّر وقع على موضوعه بانعدام صفة كانت موجودة أو انوجاد صفة كانت معدومة ، على وجه يحتمل كون وجود ذلك

ص: 67

الوصف الذي انعدم أو عدم ذلك الوصف الذي انوجد دخيلاً في الموضوع. وخامسة يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن كون الحادث الفلاني رافعاً لموضوعه.

وهذه كلّها لا مانع من استصحاب الحكم فيها من ناحية كونه شكّاً في الرافع بناءً على ما تقدّم (1) من كون المراد بالرافع هو مطلق الطارئ الذي يوجب انعدام الحكم ، سواء كان انعدام موجود أو كان انوجاد معدوم.

نعم ، في الصورة الثالثة والرابعة والخامسة إشكال آخر يرجع إلى محلّ البحث ، وهو اعتبار وحدة القضية المتيقّنة موضوعاً مع القضية المشكوكة ، وفي الصورة الثالثة لا مجال للاستصحاب الحكمي للشكّ في بقاء الموضوع ، نعم يجري استصحاب بقاء الموضوع.

وفي الصورة الرابعة لا مجال لاستصحاب الموضوع ، إذ مع الشكّ في مدخلية التغيّر في موضوع النجاسة لا مجال لاستصحاب الموضوع بعد العلم بارتفاع التغيّر ، كما أنّه لا مجال لاستصحاب الحكم فيها مع فرض احتمال مدخلية التغيّر ، إلاّبعد إحراز الاتّحاد بين الموضوعين بحسب الدقّة العقلية أو بحسب النظر العرفي أو بحسب لسان الدليل الذي دلّ على النجاسة عندما يتغيّر الماء بالنجاسة ، ومحلّ بحثنا في الخاتمة هو هذه الصورة الرابعة ، وأمّا الصورة الخامسة فالذي يجري فيها هو استصحاب الموضوع ، ولا يجري فيها استصحاب الحكم ، ولا تدخل في محلّ بحثنا في هذه الخاتمة ، إذ لا مجال للتسامح العرفي في الصورة المزبورة كما شرحناه فيما تقدّم (2).

ص: 68


1- في الصفحة : 60.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 57 - 59.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ الصورة الرابعة هي المنظور إليها في الخاتمة ، ويلحق بها باقي ما يحتاج إلى التسامح العرفي مثل كرّية هذا الماء ومثل الزمان والزمانيات التدريجية كالقراءة ، ومثل المختلفات بحسب المراتب بالشدّة والضعف مثلاً ، إلاّ أنّها ملحقات لأنّها راجعة إلى استصحاب الموضوع ، ومحلّ البحث في الخاتمة راجع إلى استصحاب الحكم.

وعلى كلّ حال ، أنّ دخول الصورة الرابعة في البحث المعقود في هذه الخاتمة لا ينافي مبنى الشيخ قدس سره على عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي وانحصاره في الشكّ في الرافع ، لما عرفت من كون الشكّ في بقاء الحكم الناشئ عن انعدام ما كان يحتمل مدخلية وجوده أو انوجاد ما كان يحتمل مدخلية عدمه في الموضوع ، فيكون الإشكال فيها هو اعتبار الوحدة بين الموضوعين.

قال الشيخ قدس سره : إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه كثيراً ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيته حتّى يكون الحكم مرتفعاً ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعاً ولا مأخوذاً فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان من جهة أُخرى غير الموضوع ، كما يقال إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه نفس الماء والتغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشكّ في علّيته للبقاء ، فلابدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها وهو أحد أُمور الخ (1). وقوله : فلو فرض شكّ في الحكم ، تفريع على قوله : والزائل ليس موضوعاً ولا مأخوذاً فيه ، يعني أنّه بعد البناء على عدم مدخلية مثل التغيّر في موضوع النجاسة ، وأنّ الموضوع لها هو

ص: 69


1- فرائد الأُصول 3 : 294.

الماء لا يبقى شكّ في بقاء النجاسة ، ولو بقي شكّ في بقائها لم يكن ذلك من قبيل الشكّ في وحدة الموضوعين كي يدخل في محلّ البحث من الخاتمة ، بل يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في كيفية علّية التغيّر لتنجّس الماء ، وهو الصورة الثانية من الصور المتقدّمة.

وأمّا ما قبل هذه العبارة فهو إشارة إلى الصورة الرابعة من الصور التي ذكرناها ، وأمّا قوله في الوجه الأوّل : فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة الرافع ذاتاً أو وصفاً ، وكذلك قوله في الوجه الثاني : وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع الخ ، فقد تقدّم شرحه (1) ، وأنّ المراد بالرافع هنا ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً مثل رفع الطلاق للزوجية ، فلا ينطبق إلاّعلى الصورة الأُولى من الصور المذكورة دون باقي الصور ، ويكون مراده بالشكّ من غير جهة الرافع هو الصورة الرابعة من الصور التي ذكرناها.

والذي تلخّص : هو أنّ للشكّ في بقاء الحكم صوراً :

الأُولى : الشكّ في وجود رافع الحكم نفسه.

الثانية : الشكّ في بقاء علّة الحكم أو في كيفية أخذها دوامية أو غير دوامية بعد العلم بارتفاعها. وفي هاتين الصورتين يجري استصحاب الحكم ولا يتوقّف على ما في الخاتمة ، وكلاهما من قبيل الشكّ في الرافع باصطلاح الشيخ قدس سره.

الثالثة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في بقاء موضوعه أو في بقاء قيده مع العلم بكونه قيداً في الموضوع.

الرابعة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في وجود رافع موضوعه.

ص: 70


1- في الصفحة : 66.

وهاتان الصورتان لا يجري فيهما استصحاب الحكم لعدم إحراز موضوعه ، ولا يصلحه ما في الخاتمة ، ولكنّهما مع ذلك يمكن إرجاعهما إلى الشكّ في الرافع بالنسبة إلى الحكم باصطلاح الشيخ قدس سره.

الخامسة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل زوال صفة كانت في موضوعه ، أو لأجل حدوث صفة في موضوعه كانت معدومة ، مع احتمال كون الموضوع مقيّداً بوجود تلك الصفة التي انعدمت ، أو كونه مقيّداً بعدم تلك الصفة التي انوجدت.

ولا يجري الاستصحاب في هذه الصورة ، لا لأجل كونه شكّاً في المقتضي لإمكان إرجاعها إلى الشكّ في الرافع باصطلاح الشيخ قدس سره ، بل لأجل عدم إحراز الموضوع الموجب لعدم إحراز اتّحاد الموضوع في القضيتين اتّحاداً عقلياً ، وحينئذ تكون هذه الصورة داخلة في محلّ البحث في الخاتمة.

والشيخ قدس سره وإن قال في الوجه الأوّل : فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّفي الشكّ من جهة الرافع ذاتاً أو وصفاً ، وقال في الوجه الثاني : وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع ، فليس مراده بالرافع إلاّما هو رافع الحكم ابتداءً ، فهو شامل للصورة الأُولى والثانية ، ولا غبار عليه من هذه الجهة ، كما أنّه غير شامل للصورة الثالثة والرابعة ، لأنّ المانع من الاستصحاب فيهما ليس من جهة كونه شكّاً في المقتضي ، لامكان إرجاع الشكّ فيهما إلى الشكّ في الرافع ، لكنّه لا يكون رافعاً له ابتداءً ، بل لأجل عدم إحراز الموضوع فيهما ، ولا يصلحه ما في الخاتمة.

وهكذا الحال في الصورة الخامسة ، غايته أنّه يصلحه ما في الخاتمة من التسامح ، وبعد ذلك التسامح العرفي يكون الشكّ فيها شكّاً في رافع الحكم ابتداءً ، لرجوع هذه الصورة الخامسة بعد ذلك التسامح إلى الصورة الثانية ،

ص: 71

وحينئذ يصحّ للشيخ قدس سره أن يقول إنّا لو سددنا باب التسامح العرفي المذكور في الخاتمة والتزمنا بلزوم الاتّحاد بين الموضوعين بالدقّة العقلية ، ينحصر الاستصحاب في الأحكام الشرعية بصورة الشكّ في وجود ما هو رافع الحكم ابتداءً كما في الصورة الأُولى ، ويلحق بها الصورة الثانية ، ولا يجري في باقي الصور لعدم كون الشكّ فيها فيما هو رافع للحكم ابتداءً ، وحينئذ لا حاجة في توجيه كلامه قدس سره إلى دعوى أنّ مراده بالرافع هنا ما يختصّ بالأمر الوجودي بخلاف الرافع الذي ذكره في أوائل الاستصحاب ، لما عرفت من إمكان الجمع في كلامه بحمل الرافع هنا على ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، بخلاف الرافع هناك فإنّه أوسع من ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّه لا يحتاج إلى هذا المقدار من الاختلاف ، بل إنّ الرافع هنا هو الرافع هناك ، وليس هو في استصحاب الأحكام إلاّما يكون رافعاً للحكم سواء ذكر في هذا المقام أو ذكر في ذلك المقام ، لكن لمّا كان من الواضح أنّ الشكّ في الرافع إنّما يكون بعد إحراز الاتّحاد بين الموضوعين في القضيتين ، وإلاّ لم يكن الشكّ في الرافع ، بل كان الشكّ في البقاء من جهة عدم الاتّحاد أو من جهة عدم إحراز الاتّحاد ، لما هو واضح من أنّ عدم سراية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ليس من قبيل ارتفاع الحكم ، وإن صحّ لنا بنحو من العناية أن نقول إنّ الحكم يرتفع بارتفاع موضوعه ، إلاّ أنّ الحقيقة إنّما هي مجرّد عدم معقولية بقاء الحكم بعد ارتفاع موضوعه.

فإن أبقينا هذا الاختلاف بحاله بأن قلنا باعتبار الاتّحاد بالدقّة العقلية ، لم يكن الاستصحاب في هذه الصورة جارياً لعدم كون الشكّ فيها شكّاً في الرافع ، لما عرفت من عدم صدق الشكّ في الرافع مع اختلاف الموضوعين ، وانحصر

ص: 72

الاستصحاب بغيرها ممّا يكون الشكّ فيه ممحّضاً للشكّ في الرافع ، فلابدّ حينئذ من التسامح العرفي ليندفع إشكال اختلاف الموضوع ، وبعد هذا التسامح العرفي تدخل المسألة في الشكّ في الرافع حينئذ ، إذ مع فرض وحدة الموضوع والمحمول ولو بحسب التسامح العرفي القائل إنّ مثل التغيّر إنّما هو علّة الحكم على موضوعه لا أنّه جزء موضوعه ، لا يكون الشكّ في بقاء الحكم إلاّمن جهة الشكّ في الرافع ، لدخوله حينئذ في الشكّ في كيفية العلّية وأنّها دوامية أم لا ، بعد العلم بارتفاعها ، وقد عرفت أنّ الشكّ في ذلك يوجب الشكّ في أنّ ارتفاع تلك العلّة هل يوجب ارتفاع الحكم عن موضوعه الذي هو ذات الماء ، فتدخل المسألة الخامسة في المسألة الثانية ، هذا.

ولكن المتعيّن في تفسير كلام الشيخ قدس سره هو ما عرفت من أنّ مراده بالرافع هو خصوص ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، وحينئذ يكون المتحصّل هو أنّا لو قلنا باعتبار الاتّحاد العقلي كان لازمه انحصار الاستصحاب بما يكون من قبيل الشكّ في رافع الحكم ابتداءً ، ولا يجري فيما يكون من قبيل انتفاء بعض القيود المحتمل مدخليتها ممّا لا يكون الشكّ في بقاء الحكم فيه من جهة الشكّ في رافع الحكم ابتداءً ، بل من جهة الشكّ في مدخلية ذلك القيد ، وإن صحّ إطلاق الرافع عليه باعتبار أنّ رفع الموضوع أو بعض قيوده يكون رفعاً للحكم. ولكن يتوجّه النقض بمسألة العلّة كما في الصورة الثانية حيث إنّ الاتّحاد فيها بالدقّة وليس من قبيل رافع الحكم ابتداءً ، فتأمّل.

ثمّ إنّي فعلاً لم أستحضر مثالاً لما يكون الموضوع حين ورود الحكم الشرعي واجداً لقيد عدمي ثمّ انتقض ذلك العدم وتبدّل بالوجود ، ليكون عكس مثال التغيّر والنجاسة ، ولا يمكن أن يمثّل لذلك بقبول شهادة العادل الذي هو

ص: 73

تارك الكبيرة ولكنّه حين ورود الحكم عليه كان تاركاً للصغيرة أيضاً ، ثمّ تبدّل ذلك العدم والترك إلى أنّه قد ارتكب الصغيرة ، فنحن وإن احتملنا مدخلية ذلك العدم فيما هو موضوع الحكم ، إلاّ أنّا نعلم أنّ موضوع الحكم هو مفهوم العدالة ، وإنّما كان حقيقة شكّنا راجعة إلى الشكّ في مفهوم هذا العنوان أعني عنوان العدالة ، ولعلّه لأجل ذلك ينسدّ فيه باب التسامح العرفي باخراج عدم الصغيرة عن الموضوعية إلى العلّية ، إذ لا يتصوّر علّية ترك الصغيرة في الحكم الذي هو قبول شهادته ، وأنّ مدخليته لو كانت فإنّما هي في كونه جزء مفهوم العدالة ، هذا.

مضافاً إلى أنّ عدم الشيء لا يعقل كونه علّة في الحكم ، وهذا الأخير يوجب انسداد باب التسامح في القيود العدمية ، بمعنى أنّا لا يمكننا دعوى التسامح باخراجه عن القيدية إلى العلّية ، لأنّ العدم لا يكون علّة. وأمّا التسامح بجعله حالة لا قيداً في الموضوع ، فهو ممّا لم أتوفّق لفهمه فعلاً ، لأنّ ذلك التسامح العرفي لو تمّ كان موجباً لعدم الشكّ في البقاء.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما قال من أنّ العنبية بحسب الفهم العرفي حالة لا قيد في الموضوع ، فإنّه لو تمّ ذلك الفهم العرفي لأوجب ارتفاع الشكّ في بقاء الحكم ، والقول بأنّه وإن كان بحسب لسان الدليل موضوعاً إلاّ أنّه لمّا كان مورداً للتسامح المذكور صحّ لنا الاستصحاب ، فلا يخلو من التهافت ، لأنّه لو كان بحسب لسان الدليل موضوعاً كان ممّا يقطع بزوال الحكم عند زواله ، فلا يبقى شكّ في الارتفاع كي تصل النوبة إلى التسامح العرفي في صدق البقاء.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في الظرف الذي أشار إليه الشيخ قدس سره في الأمر الأوّل بقوله : نعم لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفاً للحكم كالخيار ، لم يقدح في جريان الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب مبني على إلغاء خصوصية

ص: 74

الزمان الأوّل (1) حيث إنّ الظرف لو أخرجناه عن القيدية كان الشكّ في البقاء شكّاً في المقتضي وإلاّ فلا يبقى الشكّ في البقاء ، فلاحظ.

وأمّا دعوى أنّ الرجوع إلى العرف والتسامح بجعل المفقود علّة أو حالة أو ظرفاً ، فإنّما هو بعد العجز عن استفادة شيء من دليل الحكم ، بل ليس هناك إلاّ التردّد بين مدخلية المفقود وعدمها ، وحينئذ لا مانع من دفع شبهة عدم إحراز الموضوع بالرجوع إلى التسامح العرفي بجعلهم الفاقد متّحداً مع الواجد كتسامحهم في دعوى اتّحاد هذا الموجود من الماء مع الموجود سابقاً على وجه يصحّ لهم القول بأنّ هذا الماء كان كرّاً ، فكذلك الحال فيما نحن فيه من التبدّل من العنبية إلى الزبيبية ، فيقال إنّ هذا الموجود كان محكوماً عليه بالحرمة مثلاً عند الغليان ، فالآن كما كان ، بعد إلغائهم الامتياز بينهما بالعنبية والزبيبية ، وأنّهما بنظرهم شيء واحد.

ففي هذه الدعوى ما لا يخفى ، فإنّ هذه الدعوى إنّما تتمّ في الموضوع الخارجي مثل هذا الماء الذي كان كرّاً ثمّ شكّ في بقائه على الكرّية لما طرأه من النقص ، فإنّه لا يكون لنا حكم على موضوع كلّي نشكّ في مدخلية القيد المفقود فيه ، دون ما نحن بصدده من الحكم الوارد على الموضوع الكلّي ، أعني العنب مع الشكّ في مدخلية العنبية في ذلك الموضوع ، فإنّه حينئذ ينسدّ الاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع ، ولو ادّعى العرف أنّ هذا الزبيب متّحد مع العنب بحيث إنّه يصحّ عندهم أن يشيروا إلى هذا الزبيب الموجود ويقولوا إنّ هذا كان حراماً ، كان ذلك عبارة أُخرى عن اتّحادهما في نظر العرف ، وأنّه لا خصوصية للعنبية في انطباق الحرمة على هذا الجسم حينما كان عنباً ، فيكون الموضوع هو القدر

ص: 75


1- فرائد الأُصول 3 : 294.

الجامع بينهما ، وبذلك يستغنى عن الاستصحاب ، وسيأتي إن شاء اللّه توضيحه في حاشية ص 216 (1).

لا يقال : إنّ هذا الموجود يصدق عليه أنّه كان عنباً ، ولازمه بالضرورة أنّه يصدق عليه أنّه كان حراماً ، فيجري الاستصحاب لاتّحاد الموضوع عقلاً من دون حاجة إلى التسامح العرفي فيما يستفاد من دليل الحكم.

لأنّا نقول : إنّ هذا الموجود وإن صدق عليه أنّه كان عنباً ، إلاّ أنّ دعوى الضرورة على الملازمة بين صدق أنّه كان عنباً وصدق أنّه كان حراماً ممّا لا شاهد عليها ، لأنّا لو فرضنا اختصاص الحرمة بالعنبية لم يصحّ لنا أن نقول إنّه كان حراماً ، لأنّ هذا الموجود لم يكن حراماً ، لفرض كون المركب الذي حملت عليه الحرمة سابقاً ليس هو الزبيب بقيد الزبيبية ، ولا نفس الذات التي هي قدر جامع بين العنبية والزبيبية.

وبالجملة : أنّ هذا الموجود بعد فرض أنّ مركب الحرمة هو العنب لا يصدق عليه أنّه كان حراماً إلاّبنحو من التسامح الذي تقدّم تفصيله ، أمّا صدق أنّه كان عنباً فلأنّ العنبية كانت لاحقة لنفس الذات التي هي القدر الجامع ، لكن الحرمة حسب الفرض لم تكن منطبقة ومحمولة على نفس تلك الذات بل عليها بعنوان كونه عنباً ، ومن الواضح أنّ المحمول على المحمول على الشيء لا يلزمه أن يكون محمولاً على نفس ذلك الشيء ، فإنّ ذلك وإن تألّف منه الشكل الأوّل فيقال هذا كان عنباً وكلّ ما كان عنباً كان حراماً ، إلاّ أنّه لمّا كانت الحرمة مقصورة على عنوان العنبية لا تتعدّاها إلى الذات نفسها ، لم تصحّ الكبرى إلاّبمجرّد الحمل

ص: 76


1- هذه الحاشية تأتي في الصفحة : 86 وما بعدها. راجع أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : 99 وما بعدها.

العرضي بواسطة حمل الأوسط الذي هو العنب ، وإلاّ فلم يكن ذلك القدر الجامع مركز الحرمة.

والخلاصة : أنّ المغالطة في هذا الشكل ناشئة من أخذ المقيّد مطلقاً ، فإنّ الحرام المحمول في الكبرى لا يصحّ أخذه مطلقاً ، بل الصحيح هو أخذه مقيّداً فيقال : إنّ هذا كان عنباً وكلّ ما كان عنباً كان حراماً بحرمة واردة على العنب ، فلا تكون النتيجة إلاّ أنّ هذا كان حراماً بحرمة واردة على العنب ، وهذا غير نافع ، ولا يصحّ تجريد المحمول عن القيد المزبور إلاّ إذا كان الأوسط وهو العنب علّة للأكبر وحينئذ يخرج عن محلّ الكلام من فرض العنوانية أو احتمالها ، ففي فرض العنوانية لابدّ من تقييد المحمول في الكبرى ، وفي صورة احتمالها يكون المحمول في الكبرى مردّداً بين الاطلاق والتقييد ، وعلى أيّ لا تكون النتيجة نافعة فيما هو المطلوب من صدق قولنا إنّ هذا كان حراماً بقول مطلق ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فظهر أنّ الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق ، فإنّ مورد الرجوع إليه في المصداق إنّما هو بعد تبيّن المفهوم وتشخيص المعنى ، وهذا هو الممنوع عنه ، لأنّه لا عبرة بنظر العرف في المصداق ، بل لابدّ من إحراز ... الخ (1).

هذا الكلام من قوله وتوضيح إلى آخره ، مسوق لشرح ما ينقل عن الشيخ قدس سره من تقسيم الشبهة إلى مفهومية وصدقية ومصداقية (2).

ص: 77


1- فوائد الأُصول 4 : 581.
2- قال الشيخ قدس سره في أوائل كتاب الطهارة بعد أن شرح مفهوم الماء المطلق ما هذا لفظه : ثمّ لو شكّ في تحقّق الضابط المذكور للشكّ في الصدق أو المصداق عمل بالأُصول [ كتاب الطهارة 1 : 67 ] ثمّ في الطرف الثاني في الماء المضاف جعل الميزان الصدق العرفي ، ثمّ قال ما هذا لفظه : وهو قد يكون واضحاً ، وقد يكون خفياً على العرف للشكّ في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف ، فيجب حينئذ الرجوع إلى الأُصول [ كتاب الطهارة 1 : 292 ]. وأغرب من ذلك أنّه قدس سره فرض صورة يعلم فيها بعدم صدق الاسمين. قلت إذن ما هو ذلك الماء الذي يعلم أنّه ليس بمطلق ولا بمضاف. قال قدس سره : ولو امتزج المطلق بالمضاف على وجه يعلم بعدم صدق الاسمين فالظاهر إجراء أحكام المضاف عليه ، لأنّ سلب اسم الماء عنه يكفي في عدم ترتّب آثاره. وقد يتخيّل احتمال ترتّب آثار المطلق على أجزاء المطلق الموجودة فيه ، وترتّب آثار المضاف على أجزاء المضاف كذلك ، بناءً على عدم استهلاك أحدهما بالآخر ، فيصحّ ارتماس الجنب لانغماره بالأجزاء المائية الموجودة فيه بالفرض. وفيه : أنّ الأحكام منوطة بالماء العرفي ، وهو ما كان لأجزائه اتّصال لا كالأجزاء المتلاشية في المضاف. ولو امتزج الماء بمائع غير مضاف كالدبس أو بجامد فشكّ في سلب الاطلاق ، فمقتضى الأصل بقاء الاطلاق. وقد يخدش فيه بأنّ ما نحن فيه من قبيل الشكّ في اندراج هذا الجزئي الحقيقي تحت العنوان ، وهذا لم يكن متيقّناً في الآن السابق ، وما كان مندرجاً في السابق تحت ذلك العنوان كان جزئياً حقيقياً آخر متشخّصاً بمشخّصات أُخر. وفيه : أنّ الظاهر من كلمات العلماء في نظائر هذه المسألة جريان الاستصحاب ، وأنّ المرجع في تعيين الموضوع في الاستصحاب وبقائه في الآن اللاحق ليحمل عليه المستصحب هو العرف ، ولذا اتّفقوا على إجرائه فيما لو شكّ في بقائه على القلّة أو الكثرة بعد زيادة شيء من الماء عليه أو نقصانه عنه ونحو ذلك [ كتاب الطهارة 1 : [293] - 294 ]. وهذا الذي عبّر عنه قدس سره بقوله : وقد يتخيّل الخ هو ما احتمله في الجواهر بقوله : ويحتمل أن يقال : إنّه بهذا الامتزاج لم يخرج عن حقيقة كلّ منهما ، لعدم تداخل الأجسام [ جواهر الكلام 1 : 310 ]. وعنوان المسألة في الجواهر أنّه لو امتزج المطلق بالمضاف بحيث لا يصدق عليه اسم المطلق ولا اسم المضاف ولم يعلم استهلاك أحدهما بالآخر. ولعلّ مرادهما قدس سرهما أنّه لو خلط الماء المطلق بمثل ماء الورد ، فانتفى عنه اسم الماء المطلق كما انتفى عنه اسم ماء الورد بل صار نوعاً ثالثاً غيرهما. لكن لا يخفى أنّه لم يخرج عن الاضافة ، غايته أنّه لا يسمّى ماء ورد ، ولعلّ ذلك هو المراد للشيخ قدس سره بقوله : فالظاهر إجراء أحكام المضاف عليه ، لأنّ سلب اسم الماء عنه يكفي في عدم ترتيب آثاره. لكن الأولى أن يقال : يكفي في كونه مضافاً عدم صدق الماء المطلق عليه وإن لم يصدق عليه أنّه ماء ورد ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

ص: 78

أمّا المفهومية فهي واضحة لأنّها في مقام الشكّ في مفهوم اللفظ ، وكذلك المصداقية فإنّها بعد الفراغ عن عالم المفهوم وتنقيح المراد من اللفظ يقع الكلام في تحقّق ذلك المفهوم في زيد كما في مفهوم العادل ، فإنّه بعد أن عرفنا معناه وشخّصنا مفهومه يقع الكلام في أنّ زيداً هل هو واجد للعدالة أم لا ، وهذه الشبهة هي الشبهة المصداقية التي يكون منشأ الشكّ فيها هو عدم الاطّلاع على حال الشخص ، كما لو لم نعرف ما في هذه الآنية وأنّه هل هو خمر أو خل بعد معرفة مفهوم كلّ من الخمر والخل.

أمّا الشبهة الصدقية ، فالمتحصّل من مجموع هذا الكلام من قوله : وتوضيح ذلك إلى آخره ، هو أنّها إنّما تكون بعد معرفة المفهوم الكلّي معرفة ارتكازية مع فرض عدم السترة في المصداق ، بل يكون حاله معلوماً لدينا كما في الماء الذي

ص: 79

أُلقي عليه مقدار قليل من التراب ، فإنّ حال هذا الشخص من الماء معلوم لدينا ، وليس هو من قبيل ما في هذه الآنية الذي لا يعلم حاله في كونه خمراً أو خلاً ، كما أنّ مفهوم الماء الكلّي معلوم لدينا أيضاً ولو في الجملة ، بأن يكون مفهومه ارتكازياً ، ومع ذلك نشكّ في صدقه على هذا الشخص من الماء ، فلا تكون الشبهة المذكورة مصداقية ، لما عرفت من العلم بحال هذا الشخص من الماء وأنّه ماء مخلوط بمقدار من التراب ، كما أنّها لا تكون مفهومية لمعرفة المفهوم من الماء لدينا ولو على نحو الارتكاز المعبّر عنه بالإجمال ، فليس المراد بالاجمال هو التردّد بين الأقل والأكثر ، بل المراد هو المعرفة الارتكازية التي تجتمع مع عدم التردّد بين الأقل والأكثر لعدم الالتفات إلى ذلك ، فإنّ عدم الالتفات إلى سعة المفهوم وضيقه هو المراد بالمعرفة الارتكازية ، وحينئذ لابدّ من القول بأنّ هذا النحو من الشبهة هو قسم ثالث نعبّر عنه بالشبهة الصدقية ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الشكّ في صدق مفهوم الماء على هذا الشخص مع فرض معرفة مفهومه تفصيلاً ومعرفة حال هذا الشخص غير معقول ، فلابدّ من تحليل هذا الشكّ وأنّه ليس براجع إلى عالم المصداق ، بل هو راجع إلى عالم المفهوم ، ويكون الشكّ في صدق المفهوم المذكور عليه شكّاً بدوياً زائلاً بالرجوع إلى ما ارتكز في أذهاننا من ذلك المفهوم ، فإن صحّ حمله عليه استكشفنا سعة ذلك المفهوم بحيث إنّه يشمل مثل هذا ، وإن رأينا بحسب وجداننا عدم صحّة حمله عليه استكشفنا عدم سعة ذلك المفهوم الارتكازي لذلك المصداق ، وحينئذ لا تكون الشبهة إلاّفي المفهوم لكنّها بدوية زائلة بالرجوع إلى المفهوم الارتكازي الحاصل لنا من لفظ الماء ، يعني أنّا ننظر نظراً تفصيلياً إلى ذلك المعنى الاجمالي المرتكز في أذهاننا ، وما هذه المسألة إلاّكمسألة صحّة السلب وعدم

ص: 80

صحّته في استكشاف كون اللفظ حقيقة فيما لا يصحّ سلبه عنه بما له من المفهوم الارتكازي ، وغير حقيقة فيما يصحّ سلبه عنه بما له من المفهوم الارتكازي ، فنحن إذا رجعنا إلى العرف في صدق مفهوم الماء على هذا الماء المخلوط بقليل من التراب فلم نرجع إليهم إلاّفي شبهة مفهومية ، وهم يعملون عين هذه العملية التي شرحناها من أنّهم يأخذون مفهوم الماء بما له من المعنى الارتكازي للماء غير منظور إليه بالتفصيل ، فإن وجدوا صحّة حمل ذلك المفهوم الارتكازي على ذلك المصداق حكموا بسعة ذلك المفهوم الارتكازي ، وأنّه شامل لمثل ذلك المصداق ، وإن وجدوا عدم صحّة حمله عليه حكموا بعدم سعة ذلك المفهوم الارتكازي ، وأنّه لا يشمل مثل ذلك المصداق ، وإن توقّفوا كان محصّل ذلك أنّهم متردّدون في مفهوم الماء بين الأقل والأكثر.

وأمّا الفائدة المترتّبة على تصوير الشبهة الصدقية ، فالذي يظهر من هذا التحرير (1) هو أنّ فائدة ذلك تترتّب على صدق النقض في موارد اختلال بعض قيود الموضوع ، بأن يقال : إنّا وإن لم نستفد من الدليل الدالّ على حرمة العنب مثلاً أنّ للعنبية خصوصية في الموضوعية ، وبقي شكّنا بحاله ، وهو موجب للشكّ في صدق النقض على رفع اليد عن تلك الحرمة عند تحوّله إلى الزبيبية وإن كان مفهوم النقض المنهي عنه واضحاً ، فيكون الشكّ في انطباق دليل الاستصحاب المانع عن النقض على رفع اليد عن تلك الحرمة السابقة من قبيل الشبهة الصدقية ، لكن العرف بعد دعواهم الاتّحاد بين العنبية والزبيبية على وجه يصحّ عندهم أن يقولوا إنّ هذا كان حراماً ، يكون اللازم علينا اتّباعهم في ذلك ، لعدم كون تصرّفهم المذكور راجعاً إلى فهمهم في تعيين المصداق ، بل هو كما عرفت

ص: 81


1- فوائد الأُصول 4 : 582 وما بعدها.

راجع إلى إزالة الشبهة في الصدق ، وبعد تمامية ذلك يكون رفع اليد عن الحرمة السابقة مصداقاً لحرمة النقض ، ويكون هذا العنوان وهو النقض المحرّم صادقاً على الرفع المذكور.

ولكنّه بعدُ مجال التأمّل ، فإنّ المنشأ في الشكّ في صدق عنوان النقض على الرفع المذكور هو الشكّ في شمول عنوان العنب لحالة اليبس المسمّاة بالزبيبية ، فإن بنى العرف على أنّ العنب لا يشمل تلك الحالة ، لم يكن رفع اليد عن حرمته فيما لو كان زبيباً من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، وإن بنى العرف على أنّ عنوان العنب شامل للزبيب ، كان رفع اليد عن حرمته عندما يكون زبيباً نقضاً لحرمته المعلومة بلا مستند ، لا أنّه من قبيل نقض اليقين بالشكّ كي يكون مشمولاً لدليل الاستصحاب ، فإنّ العرف بعد أن وسّعوا دليل حرمة العنب إلى حالة الزبيبية فلا ريب في أنّ ذلك إنّما يكون بعد إلغائهم خصوصية العنبية ، وحينئذ يكون ذلك الدليل على الحرمة شاملاً للزبيب ، فلا حاجة في تسرية الحكم إليه إلى الاستصحاب ، وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى في الحاشية الآتية ص 215 وص 216 (1) فلاحظ.

ويمكن أن تظهر الفائدة في تصوير الشكّ في سراية الحرمة إلى حال الزبيبية مع فرض أنّهم فهموا من دليل الحرمة أنّ موضوعها هو العنب ، ولكنّهم مع ذلك يشكّون في صدق العنب عليه فيما لو طرأه اليبس وصار زبيباً ، نظير شكّهم في صدق الماء عليه فيما لو أُلقي عليه قليل من التراب ، ونظير شكّهم في صدق

ص: 82


1- لا يخفى أنّ الحاشية على ص 215 هي نفس هذه الحاشية ، والحاشية على ص 216 تأتي في الصفحة : 86 وما بعدها. لاحظ أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : 99 وما بعدها.

التمر عليه بعد اليبس ، ولكن هذا لو تمّ فلا ينفع أيضاً في تصحيح الاستصحاب ، لأنّه لو تمّ حجّية فهم العرف في هذا الصدق كان ذلك عبارة أُخرى عن كون موضوع الحرمة هو ما يشمل الزبيب ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ السرّ في تحكيم العرف في الشبهة الصدقية دون الشبهة المصداقية هو ما عرفت من رجوع الشبهة الصدقية إلى الشبهة المفهومية ، غايته أنّها شبهة بدوية زائلة بأقلّ تأمّل ، وينكشف ذلك في حمل المفهوم بما له من المعنى الارتكازي على مورد الشكّ ، وهو عين ما ذكروه في توجيه كون عدم صحّة السلب وصحّة الحمل من أمارات الحقيقة ، فإن زال ذلك الشكّ بهذه الطريقة البسيطة فهو ، وإلاّ بأن بقي العرف متردّداً في صحّة الحمل وعدمه ، كشف ذلك عن استقرار شكّهم وتردّدهم في ذلك المفهوم بين الأقل والأكثر.

وعلى كلّ حال ، أنّ الرجوع إليهم في الشبهة الصدقية إنّما هو رجوع إليهم في الشبهة المفهومية ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس سره فيما حكاه عنه في هذا التحرير بقوله آخر ص 215 : وأمّا الرجوع إليه في الصدق فهو إنّما يكون في مورد إجمال المفهوم وعدم تشخيص المعنى ، ولابدّ من الرجوع إليه في ذلك ، فإنّ تشخيص المعنى من وظيفة العرف (1) وبذلك يجمع بين هذه الجملة وبين الجملة السابقة عليها أعني مثل قوله : ألا ترى أنّ مفهوم الماء مع أنّه من أوضح المفاهيم العرفية كثيراً ما يحصل الشكّ في صدقه على بعض الأفراد ، كالماء المخلوط بمقدار من التراب على وجه لا يلحقه اسم الطين (2) فإنّ المراد من كون مفهوم الماء من أوضح المفاهيم هو وضوحه ارتكازاً

ص: 83


1- فوائد الأُصول 4 : 581 - 582.
2- فوائد الأُصول 4 : 581.

لا تفصيلاً ، ولأجل وضوح مفهومه الارتكازي يزول الشكّ في صدقه على المخلوط المذكور بمجرّد صحّة حمله عليه ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده بقوله : وأمّا الجمل التركيبية فلابدّ فيها من اتّباع نظر العرف الخ (1) فهو حقّ لا شبهة فيه ، لكن ما فرّعه عليه بقوله : ومن جملة القضايا الشرعية الخ يمكن التأمّل في تفريعه عليه ، لأنّ منشأ الشكّ في صدق النهي المذكور في دليل حجّية الاستصحاب هو ما عرفت من الشكّ البدوي في صدق النقض على الرفع المذكور ، وهو معنى أفرادي وإن وقع في الجملة التركيبية ، إذ لا تنوجد المعاني الأفرادية إلاّداخلة في ضمن الجمل التركيبية ، والأمر في ذلك سهل ، لأنّه من قبيل المحافظة على قواعد الفن التي لا تغيّر أصل المطلب الواقعي.

نعم قوله : وهذا الاختلاف إنّما ينشأ من اختلاف الموضوعات والأحكام بحسب ما يراه العرف (2) لا يخلو من عدم الانسجام ، فإنّ الاختلاف في المناسبات في دليل حرمة العنب لا دخل لها بدليل لا تنقض ، نعم إنّ الشكّ في صدق النقض مسبّب عن الشكّ في سعة مفهوم العنب ، لا أنّ الشكّ في صدق لا تنقض من جهة سعة مفهوم النقض ، فتأمّل.

ومن جميع ما حرّرناه يظهر لك أنّ الشبهة فيما نحن [ فيه ] مصداقية لا صدقية ، فإنّ منشأ الشكّ في صدق النقض على رفع اليد عن الحرمة عندما يتبدّل العنب إلى الزبيب إنّما هو الشكّ في كون موضوع الحرمة هو عنوان العنبية ، وحينئذ لا يكون رفع اليد عنها عند تحوّله إلى الزبيبية نقضاً لشيء ، وإنّما يكون

ص: 84


1- فوائد الأُصول 4 : 582.
2- فوائد الأُصول 4 : 582.

ارتفاعها بذلك لارتفاع موضوعها ، أو كون موضوع الحرمة هو ذات الثمرة المذكورة ، وأنّ العنبية من حالاتها ، وحينئذ يكون رفع اليد عنها عند التحوّل إلى الزبيبية نقضاً للحرمة المتيقّنة سابقاً ، وحيث إنّا غير مطّلعين على ما هو الواقع من هذين الوجهين ، كان محصّل ذلك هو أنّا لا نعلم حال هذا الرفع في الواقع ، وهل أنّه رفع ونقض للحرمة المتيقّنة سابقاً ، أو أنّه ليس بنقض لها ، فتكون المسألة من قبيل الشبهة المصداقية لا الصدقية ، ويكون التمسّك فيها بعموم « لا تنقض اليقين » من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، إنّ هذه الشبهة المصداقية تختلف عن بقية الشبهات المصداقية باعتبار أنّ منشأ الشكّ في تلك هو اشتباه الأُمور الخارجية ، كمائع لا نعلم حاله أهو خمر أو خل ، ولا مدخل للعرف في ذلك أصلاً ، بخلاف الشبهة فيما نحن فيه من رفع اليد عن الحرمة السابقة وتردّدنا فيه بين كونه نقضاً للمتيقّن السابق وكونه غير نقض له ، فإنّه وإن كان من قبيل الشبهة المصداقية لعدم علمنا بحال هذا الرفع في الواقع ، إلاّ أنّ منشأ الشكّ وذلك التردّد في الرفع المذكور هو التردّد في موضوع الحرمة السابقة ، وهل هو الذات أو هو الذات بقيد العنبية ، وهذا الشكّ السببي يحلّه العرف ، فنحن نرجع إلى العرف في ذلك الشكّ السببي ، وبعد إزالتهم ذلك الشكّ السببي بحكمهم بأنّ موضوع تلك الحرمة هو الذات نفسها أو بأنّه هو الذات المقيّدة بالعنبية ، يزول عنّا الشكّ المسبّبي المتعلّق برفع اليد عن الحرمة السابقة عند حال الزبيبية.

نعم ، لو لم يحكم العرف بأحد الأمرين وبقي مردّداً بينهما ، يبقى الشكّ المسبّبي بحاله ، وحينئذ يكون التمسّك بعموم لا تنقض تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، فيسقط الاستصحاب ، ولا محصّل حينئذ للتسامح العرفي ،

ص: 85

وأنّ العرف يرون أنّ هذا الموجود هو عين ذلك الذي كان متّصفاً بالحرمة ، فإنّ ذلك خلف لما فرضناه من تحيّر العرف في موضوع تلك الحرمة ، إذ مع تحيّرهم في مدخلية العنبية في موضوعية الحرمة كيف يمكنهم أن يقولوا إنّ هذا الموجود هو عين ذلك الذي كان موضوعاً للحرمة كما مرّ توضيحه في الحاشية السابقة ص 214 (1) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في الحاشية الآتية ص 216 (2).

ثمّ إنّ العرف بعد أن رجعنا إليهم وعزلوا العنبية عن موضوعية الحرمة ، فإن حكموا بأنّه أجنبي بالمرّة كنّا في غنى عن الاستصحاب ، وإن حكموا بكونه علّة مادامية امتنع الاستصحاب ، وإن احتملوا أو احتملنا العلّية المادامية مع احتمال العلّية المبقية أو مع احتمال الحالة الصرفة ، كان ذلك مورداً للاستصحاب ، لتطرّق الشكّ في البقاء حينئذ إلى تلك الحرمة المتيقّنة مع اتّحاد ما هو الموضوع في القضية المتيقّنة مع ما هو الموضوع في القضية المشكوكة.

قوله : فربّ عنوان يكون بنظر العرف مقوّماً للموضوع لمناسبة الحكم والموضوع ، فيدور الحكم مدار وجود العنوان ... الخ (3).

كان شيخنا قدس سره كثيراً ما يستشهد في أمثال هذه المقامات بمسألة تخلّف المبيع الموجب لبطلان البيع وتخلّف الوصف الموجب للخيار ، ويقول إنّ تخلّف الوصف إنّما هو في الزائد على الذات مثل الكاتبية ، سواء أُخذت في لسان العقد عنواناً أو وصفاً أو شرطاً ، فلا فرق بين أن يقول بعتك الكاتب وهو هذا العبد ، أو

ص: 86


1- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 64 وما بعدها.
2- وهي الحاشية اللاحقة. راجع أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : 99 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 582.

يقول بعتك هذا العبد الكاتب ، أو يقول بعتك هذا العبد بشرط كونه كاتباً ، فإنّ الكتابة لا تخرج بذلك عن كونها وصفاً زائداً على أصل المبيع ، فلا يكون تخلّفها إلاّ من قبيل تخلّف الوصف الذي لا يوجب إلاّ الخيار ، وهذا بخلاف تخلّف الذات فإنّه يوجب بطلان البيع سواء أُخذ عنواناً أو وصفاً أو شرطاً ، فلا فرق بين أن يقول : بعتك العبد وهو هذا ، أو يقول : بعتك هذا الشخص الذي هو العبد ، أو يقول بعتك هذا الشخص بشرط أن يكون عبداً ، فإنّه لو ظهر حماراً أو خروفاً كان من قبيل تخلّف المبيع على جميع التقادير.

ثمّ إنّه قدس سره يقيس مسألتنا هذه على تلك المسألة ويقول : إنّ قوله صلّ خلف العادل ، بقرينة مناسبة الحكم والموضوع يفهم منه أنّ العدالة قد أُخذت في الواقع عنواناً لهذا الحكم ، ويكون الحكم دائراً مدارها وجوداً وعدماً ، سواء وردت في لسان الدليل بصورة العنوان كما مثّلنا ، أو بصورة الوصف بأن يقول : صلّ خلف الإنسان العادل ، أو بصورة الشرط كأن يقول : صلّ خلف الشخص إذا كان عادلاً ، فإنّ هذا الأخير وإن كان في حدّ نفسه ظاهراً في الشرطية المساوقة لكون العدالة علّة في جواز الصلاة خلفه ، إلاّ أنّ تلك القرينة العرفية توجب التصرّف في ذلك الظهور ، وتلزمنا بحمله على العنوانية ، كما هو الشأن في كلّ قرينة تصرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه إلى مقتضاها ، وهذا بخلاف النجاسة وتغيّر الماء بها ، فإنّ القرينة المذكورة فيه على خلاف ذلك ، حيث إنّ العرف ولو بمناسبة الحكم والموضوع يفهمون أنّ التغيّر بالنجاسة علّة في الحكم بنجاسة الماء ، سواء كان لفظ الدليل بصورة أخذ التغيّر عنواناً كأن يقول : المتغيّر بالنجاسة نجس ، أو بصورة أخذه وصفاً كأن يقول : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، أو بصورة أخذه شرطاً كأن يقول : الماء ينجس إذا تغيّر بالنجاسة.

ص: 87

قلت : لا يخفى أنّ هذا المطلب أمر جوهري اجتهادي يستفيده المجتهد حسب اجتهاده ، ولا دخل له بباب الاستصحاب ، حتّى أنّ من ينكر حجّية الاستصحاب بالمرّة تارةً يجتهد ويستنبط - ولو بمراجعة العرف أو بمناسبة الحكم والموضوع أو بقرائن أُخرى حسبما يؤدّي إليه اجتهاده - أنّ هذا العارض هو عنوان الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً ، وأُخرى يؤدّي اجتهاده إلى أنّ ذلك العارض علّة للحكم ، فيبقى عليه أنّه من قبيل العلّة المحدثة فقط ، بحيث يكون حدوث ذلك العارض علّة لحدوث الحكم ، ويحتاج في بقاء ذلك الحكم إلى بقاء تلك العلّة ، أو أنّها من قبيل العلّة المحدثة والمبقية ، بحيث يكون حدوث ذلك العارض علّة لحدوث الحكم وبقائه ، بحيث إنّ الحكم يكون باقياً بعد زوال ذلك العارض ، وإن تردّد في هذا الأخير رجع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية بعد زوال ذلك العارض ، كما أنّ الأمر كذلك لو تردّد بين العلّية والعنوانية على تأمّل فيه ، فإنّ التردّد بين العلّية والعنوانية يوجب الشكّ في بقاء الموضوع.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا بعد أن فرغنا من الدليل الاجتهادي الدالّ على نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، وحكمنا ولو بواسطة قرينية مناسبة الحكم والموضوع أنّ التغيّر علّة للنجاسة وأنّ موضوعها إنّما هو نفس الماء ، لو حصل الشكّ الأخير أعني بقاء النجاسة بعد زوال التغيير ، كان الاستصحاب جارياً بلا كلام ، وكانت القضية المتيقّنة عين المشكوكة ، وكان الموضوع فيهما واحداً وحدة عقلية ، فهذه الوحدة بعد الفراغ عن مفاد الدليل الاجتهادي ليست تسامحية ولا عرفية ولا بحسب لسان الدليل ، بل هي وحدة حقيقية عقلية بكلّ معنى الكلمة ، وأمّا ذلك الاستنباط والاجتهاد من الدليل الاجتهادي فهو على ما به أجنبي عن دليل الاستصحاب ، فليس في البين شبهة صدقية بالنسبة إلى عموم قوله : « لا

ص: 88

تنقض اليقين بالشكّ » ولا شبهة مصداقية ، ولا شبهة مفهومية ، بل هو عموم منقّح المصداق بلا شبهة أصلاً.

قال شيخنا الأُستاذ قدس سره فيما حرّرته عنه ما حاصله : أنّه لو كان الدليل على الحكم لفظياً ، كان المرجع في تشخيص ما له الدخل في موضوع الحكم من القيود ممّا ليس له الدخل منها ممّا يكون علّة ، إلى ما يفهمه العرف من لسان الدليل ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، فإن فهم العرف من لسان الدليل ولو بواسطة القرينة المذكورة كون القيد علّة في الحكم وأنّه واسطة في الثبوت ، جرى الاستصحاب لتحقّق مصداق « لا تنقض اليقين بالشكّ » وكان المقام من قبيل الشبهة المصداقية ، وتكون القرينة المذكورة - أعني مناسبة الحكم والموضوع - موجبة للتصرّف في دليل الحكم ، ولا ربط لها بدليل الاستصحاب ، وليس ذلك رجوعاً إلى فهم العرف في تحقّق المصداق لدليل الاستصحاب كي يقال إنّ العرف لا يرجع إليه في تحقّق المصداق ، لأنّ فهمه لا يكون حجّة في ذلك ، وإنّما يكون الفهم العرفي محكّماً في المفاهيم الكلّية التي علّق عليها الأحكام الشرعية ، بل إنّه رجوع إلى العرف فيما يفهمه من دليل الحكم ولو بواسطة القرينة المذكورة ، وليس الرجوع إلى القرينة المذكورة من باب الرجوع إلى العرف في تشخيص كون القيد علّة للحكم لا قيداً في موضوعه كي يقال إنّ العرف لا يكون مرجعاً في ذلك لعدم كونه مشرّعاً ، بل هو رجوع إلى نفس الدليل اللفظي ولكن بواسطة القرينة المذكورة ، فإنّ الدليل اللفظي بضمّ هذه القرينة يكون دالاً على كون القيد علّة للحكم لا أنّه قيد لموضوعه.

ولا يخفى أنّه قدس سره تكلّم في هذا المبحث في ضمن دروس متعدّدة ، ولكنّه في الدرس الأخير بفاصلة تعطيلية أفاد هذا الذي نقلناه ، وإلاّ فإنّه قدس سره في الدروس

ص: 89

السابقة لم يصرّح بهذا التصريح الذي أفاده في هذا الدرس ، وأنّ ما ذكرناه سابقاً راجع إلى هذا الذي أفاده بل هو عينه ، وقد أشار في التقريرات المطبوعة في النجف إلى هذا الذي أفاده قدس سره بقوله : ومن هنا صحّ أن يقال لا وجه للمقابلة بين الدليل والعرف الخ (1).

وهذا هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وتوضيحه : هو أنّ هذا التحرير الذي حرّره الشيخ قدس سره وتبعه عليه شيخنا قدس سره وغيره من أنّ الاتّحاد بين موضوع القضية المتيقّنة وموضوع القضية المشكوكة هل هو بحسب العقل أو لسان الدليل أو هو بحسب النظر العرفي ، إنّما يحسن ويتمّ بعد إحراز الموضوع في القضية المتيقّنة ، ثمّ بعد إحرازه يقال لابدّ من اتّحاده مع موضوع القضية المشكوكة ، ثمّ يتكلّم في كيفية ذلك الاتّحاد وهل هو بالدقّة العقلية أو هو بحسب ما يستفاد من نفس دليل الحكم أو هو بحسب النظر العرفي ، أمّا إذا فرضنا أنّ ما هو الموضوع في قضيتنا المتيقّنة غير معلوم لدينا ، وأنّه مردّد بين ذات الماء والتغيّر مثلاً علّة في الحكم ، أو أنّه هو الماء بعنوان المتغيّر ، فكيف نتكلّم حينئذ أنّ المدار في اتّحاد الموضوعين على العقل أو على لسان الدليل أو على العرف.

وحينئذ يكون المتعيّن علينا أوّلاً البحث عن أنّ الذي هو مركب النجاسة وموضوعها ما هو ، هل هو ذات الماء أو هو الماء بعنوان المتغيّر ، والمرجع في تعيين أحد هذين الوجهين ليس هو العقل ، إذ لا مسرح له في تعيين ما هو الموضوع لهذا الحكم الشرعي ، بل المرجع فيه هو ما يفهمه العرف ممّا لديه من الأدلّة أو الفهم العرفي أو القرائن ولو بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، وبعد أن أعمل العرف كلّ جهده في استنتاج ما هو الموضوع بأن حكم بأنّه هو المتغيّر

ص: 90


1- فوائد الأُصول 4 : 586.

بعنوان المتغيّر لم يبق شكّ في ارتفاع الحكم بعد ارتفاع التغيّر ، ومعه لا مجال حينئذ لأن يدّعي العرف علينا دعوى ثانية من جديد وأنّه يتسامح ويخرج التغيّر عن الموضوعية ، ولو صدر منه ذلك كان قد ناقض نفسه ، وإن اجتهد العرف بحسب ما لديه من قوّة وفهم عدم مدخلية التغيّر وأنّه لا يكون إلاّعلّة في النجاسة ، وحينئذ فينفتح لنا باب الشكّ في البقاء باعتبار التردّد في كيفية العلّية المذكورة ، أمّا إذا لم يفهم العرف شيئاً من الوجهين المزبورين ، بل بقي مردّداً بين كون مركب النجاسة وموضوعها هو الذات نفسها وكونه هو الذات بعنوان التغيّر ، سقط الاستصحاب بالمرّة ، ولا يصدر من العرف حكم بعد هذا التردّد والتحيّر بأنّ التغيّر علّة أو حالة لا جزء موضوع ، ولو صدر منه ذلك لم يقبل منه ولو تسامح بألف تسامح ، وقد تقدّم توضيح ذلك في الحاشية السابقة على ص 215 (1).

وبالجملة : لا محصّل للرجوع إلى العرف في هذا المقام إلاّ الرجوع إليهم فيما يفهمون من الدليل أو الجهات الأُخر في تعيّن ما هو موضوع ذلك الحكم الشرعي ، وهم بعد أن أعملوا غاية جهدهم في استنباط الموضوع لما هو الحكم الشرعي وفهموا بحسب ذوقهم الذي رزقهم اللّه تعالى إيّاه ، لا يبقى لهم تردّد آخر وحكومة واجتهاد آخر يجرون عمليته فوق تلك العملية الاجتهادية ، نقول كلّ ذلك مماشاة مع الاصطلاح الفنّي ، وإلاّ فأين العرف وما هي محكمته وأين محلّها ، إن ذلك كلّه إلاّفهم الفقيه نفسه واجتهاد شخصه الذي هو حجّة عليه وعلى من يرجع إليه.

وهذه العملية الاجتهادية كما تجري في موضوع الأحكام الشرعية الكلّية ، فكذلك تجري في تطبيق تلك الموضوعات على مصاديقها الخارجية ، كما في

ص: 91


1- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 77 وما بعدها.

مثل صدق الكرّية وعدمها بعد النقص أو الزيادة والشكّ في بقائها أو حدوثها ، فإنّ دعوى أنّ هذا الماء الموجود هو ذلك الماء السابق الذي نقص منه أو زيد عليه وإن سمّيناها عرفية إلاّ أنّها اجتهادية صرفة موكولة إلى نظر الفقيه بما أنّه عرفي ، وكما أنّ تلك العملية راجعة إلى الاجتهاد في استنباط ما هو الموضوع لذلك الحكم الكلّي حسبما يراه المجتهد بما رزقه اللّه تعالى من الفهم العرفي ، فكذلك هذه العملية الراجعة إلى دعوى الاتّحاد بين الماءين ، غايته أنّها ليست في مقام استنباط الموضوع للحكم الكلّي ، وفي هذه المسألة تكون المقابلة بين الاتّحاد العقلي والاتّحاد العرفي صحيحة مع خروج الاتّحاد بحسب لسان الدليل ، إذ ليس في البين دليل كي يعمل المجتهد أو العرف قوّته في استنباط ما هو موضوع الحكم فيه ، بخلاف تلك المسألة فإنّ هناك حكماً كلّياً وارداً على موضوع كلّي ، وعلى المجتهد أو العرف إعمال القوّة في تشخيص ما هو موضوع الحكم ولو كان الدالّ عليه هو الإجماع ، ومع العجز عن تحصيل ذلك ينسدّ فيه باب الاستصحاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية خصوصاً قوله : ومنها أنّ للعرف نظرين ، إلى قوله : دون غيره (1) ، فإنّه وإن جعل المركز هو موضوع الحكم الشرعي ، لكنّه أناط تشخيصه بأحد أُمور ثلاثة : العقل ، وما يفهمه العرف من لسان الدليل ، وما يفهمه العرف بصرف طباعهم مع قطع [ النظر ] عن حكم العقل وعن المستفاد من لسان الدليل ، وأفاد أنّه يشترط في هذا الأخير أن لا يكون من قبيل القرائن المتّصلة بل ولا القرائن المنفصلة ، ثمّ أشكل على هذا الأخير بما حاصله : أنّه بعد فرض كونه

ص: 92


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 231 - 233.

مسامحياً لا يكون ما يتشخّص به من الموضوع إلاّموضوعاً لحكم مسامحي ، ثمّ أجاب عنه بما حاصله : أنّه وإن لم يكن له أثر في استكشاف الحكم الشرعي ولا في موضوعه ، إلاّ أنّ له أثراً في صدق لا تنقض اليقين ، فراجع.

ولا يخفى أنّ المرحلة إذا كانت مرحلة تشخيص موضوع الحكم الشرعي فلا مسرح فيها لحكم العقل ، وأنّه لا وجه للمقابلة بين ما يفهمه العرف من لسان الدليل وبين ما يفهمونه بحسب ذوقهم ، أمّا مجرّد الخيال غير الواصل إلى حدّ القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، فذلك لا عبرة به في تشخيص الموضوع ، ولا يؤثّر في صدق النقض ، لأنّه إنّما يتحقّق النقض بعد الاتّحاد بين الموضوعين ، وذلك إنّما يكون بعد إحراز موضوع القضية المتيقّنة ، وينبغي التأمّل في قوله : فالشخص بما هو عاقل برهاني يقطع بثبوت الحكم لموضوع خاصّ واقعاً ، وبما هو من أهل فهم الكلام يقطع بثبوت الحكم لموضوع آخر متخصّص بخصوصية أُخرى ، وبما ارتكز من المناسبات في ذهنه وبطبعه يقطع بثبوت الحكم لموضوع ثالث مثلاً ، فيقع الكلام حينئذ في أنّ الخطاب المتكفّل لحكم الاستصحاب متوجّه إليه بما هو عاقل بالعقل النظري البرهاني ، أو بما هو من أهل المحاورة واستفادة مفاد الدليل ، أو بما هو لو خلّي وطبعه يرى الحكم ثابتاً لموضوع مخصوص ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تعيين الأخير الخ (1).

ولكن ينبغي الوقفة قبل الوصول إلى درجة تطبيق قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ولننظر إلى حالنا أو حال ذلك العاقل البرهاني الذي حصل له القطع بأنّ موضوع الحكم الشرعي هو الخاصّ الخ ، فقد تثلّث موضوع ذلك الحكم الشرعي عنده ، وهو قاطع بكلّ من الثلاثة ، فهل بقي على هذا الحال من

ص: 93


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 233.

التناقض ، أو أنّ ما أحاط بذلك العاقل من عقل برهاني وفهم لساني وذوق طبعي استحساني قد غلب بعضها على بعض ، أو أنّه لا تناقض بين هذه الاقطاع ، وليست لي قدرة على الجواب عن هذه الأسئلة.

فلنعد إلى ما كنّا فيه فنقول : إنّك قد عرفت ما أفاده شيخنا قدس سره فيما قدّمنا نقله عنه. ثمّ إنّه قدس سره أفاد بعد ذلك ما حاصله حسبما حرّرته عنه : أنّه لو كان الدليل لبّياً كالإجماع أو العقل كان الرجوع أيضاً إلى القرينة المذكورة ، ولكنّه ليس رجوعاً إليها في تحقّق مصداق « لا تنقض » ، بل يكون رجوعاً إليها في صدق « لا تنقض » ، بمعنى أنّ مفهوم النقض يشكّ في صدقه على هذا المورد ، وتكون تلك القرينة - أعني مناسبة الحكم والموضوع - موجبة للتصرّف في دليل الاستصحاب أعني « لا تنقض » ، وحاكمة بصدقه على المورد.

والحاصل : أنّه ليس الرجوع هنا إلى الفهم العرفي بواسطة هذه القرينة رجوعاً إلى الفهم العرفي من لسان الدليل ، إذ ليس في البين دليل لفظي ، ولا أنّ العرف يكون شارحاً لحال القيد وأنّه علّة في الحكم لا قيد في موضوعه ، لأنّه لا مسرح للعرف في ذلك ، بل هو رجوع إلى العرف في صدق « لا تنقض » على المورد ، وحينئذ يكون المقام من الشبهة الصدقية لا المصداقية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

قلت : لا يخفى أنّ هذه القرينة - أعني مناسبة الحكم للموضوع - إن صحّ الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية ، كانت حاكمة بأنّ الحكم الثابت بالدليل اللبّي يكون موضوعه عارياً من ذلك القيد ويكون القيد علّة للحكم ، كما أنّها حينئذ تكون حاكمة على الدليل اللفظي ومقدّمة عليه ، وحينئذ تكون الشبهة بالنسبة إلى عموم « لا تنقض » مصداقية ، بمعنى أنّ المورد يكون مصداقاً لعموم « لا تنقض »

ص: 94

ويحكّم فيه العموم المذكور مطلقاً سواء كان دليل الحكم لفظياً أو كان لبّياً ، وتكون تلك القرينة محقّقة لمصداق « لا تنقض » ، غاية الأمر أنّه لو كان لنا دليل لفظي ظاهره هو القيدية ، كان بواسطة تلك القرينة محمولاً على خلاف ظاهره ، ولو لم يكن لنا دليل لفظي كانت تلك القرينة مبيّنة لأنّ القيد علّة للحكم لا أنّه قيد للموضوع ، وإن لم يصحّ الاعتماد على القرينة المذكورة لم يمكن تحكيمها على اللفظي كما لا يمكن إعمالها في مورد الدليل اللبّي.

وعلى أي حال ، فهذه القرينة لا يصحّ إعمالها في نفس « لا تنقض » ، بل إنّ « لا تنقض » من قبيل الكبرى يتوقّف تحقّق صغراها على إعمال هذه القرينة في نفس الموضوع والحكم والقيد ، غاية الأمر أنّه لو وجد دليل لفظي ظاهره خلافها كان اللازم صرفه إليها ، لكون القرينة مقدّمة على ذي القرينة ، ولو لم يوجد في قبالها دليل لفظي كانت هي الحاكمة بنفسها.

ثمّ إنّي قد حرّرت عن شيخنا قدس سره جملة أُخرى لا بأس بنقلها وحاصلها : هو أنّ الشيخ قدس سره ذكر في هذا الأمر فروعاً أعرضنا عنها إلاّفرعاً واحداً لا بأس بالتعرّض له ، وهو مسألة الاستحالة في النجاسات والمتنجّسات ، فنقول : إنّ التغيير الطارئ تارةً يكون موجباً لتبدّل الصورة العرضية فقط مع بقاء الصورة النوعية بحالها ، كما في مثل تبدّل الخمر خلاً ، ومثل هذا التغيير لا يكون موجباً لزوال حكم النجاسة إلاّفي مورد خاصّ وهو المثال المذكور ، فإنّه ثبت فيه زوال النجاسة بالنصّ (1).

وأمّا إذا كان التغيير الطارئ موجباً لزوال الصورة النوعية مع بقاء المادّة الهيولانية ، كما في صيرورة الكلب ملحاً ونحو ذلك ممّا تزول فيه الصورة

ص: 95


1- راجع وسائل الشيعة 25 : 370 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 31.

النوعية ، فالمشهور فيه زوال النجاسة بالتغيّر المذكور ، والخلاف في ذلك ضعيف ، والسرّ في زوال النجاسة بذلك هو أنّ النجاسة طارئة على الصورة النوعية ، وبزوالها تزول النجاسة. وأمّا المادّة الهيولانية التي هي القدر المشترك بين الأصل - أعني ذات الكلب التي هي الصورة النوعية - وبين الفرع المستحال إليه أعني الملح ، فلا يعقل اتّصافها بالنجاسة ، لأنّها أمر عقلي محفوظ بين الصورتين ، ولو فرض معقولية اتّصافها بالنجاسة فإنّما هو بالتبع إلى ما حلّت فيه من الصورة النوعية أعني الكلب ، فبزوال تلك الصورة النوعية يزول الحكم التبعي المذكور ، أعني النجاسة اللاحقة للمادّة الهيولانية.

وأمّا تغيّر المتنجّس فهو محلّ الخلاف بين الافراط والتفريط ، فقيل بأنّ الانقلاب مطلقاً يكون موجباً لزوال الحكم المذكور ولو بتبدّل الصورة العرضية كما في صيرورة الحطب فحماً ، فضلاً عن تبدّل الصورة النوعية كما في صيرورة الحطب رماداً أو دخاناً. وقيل بأنّ الانقلاب مطلقاً لا يكون موجباً لزوال الحكم المذكور ولو كان بتبدّل الصورة النوعية فضلاً عن تبدّل الصورة العرضية.

والتحقيق : أنّه لا فرق بين النجس والمتنجّس فيما تقدّم ذكره من أنّ التبدّل للصورة العرضية لا يكون موجباً لزوال الحكم ، وتبدّل الصورة النوعية يكون موجباً لزواله.

أمّا الأوّل فلعين ما عرفت في تبدّل الصورة العرضية في النجس من أنّ الحكم لم يكن قائماً بالصورة العرضية ، وإنّما كان قائماً بالصورة النوعية أعني الذات ، وما دامت تلك الصورة النوعية محفوظة لم يكن الحكم مرتفعاً ، ولو فرض حصول الشكّ في بقاء الحكم مع تبدّل الصورة العرضية لكان الاستصحاب جارياً ، لما يراه العرف من قيام الحكم الذي هو النجاسة بالذات نفسها لا بصورتها

ص: 96

العرضية ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّه قد تقدّم منه قدس سره في أوائل هذا البحث (1) أنّ الاستصحاب لا يجري في مثل ذلك ، لا الاستصحاب الحكمي ولا الموضوعي ، فراجع ما حرّرته عنه. وكذا ما حرّره عنه في التقريرات المطبوعة في النجف ص 210 (2) وما أدري كيف حرّرت عنه في هذا المقام جواز الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي ، ولعلّ الاشتباه من النظر القاصر عن فهم ما أراده قدس سره هنا. وعلى كلّ حال فلا بأس بزيادة التوضيح لما تقدّم منه قدس سره من عدم جريان الاستصحاب الحكمي في ذلك.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الصورة العرضية - أعني حطبية الحطب - إن حكم العرف بأنّ لها المدخلية في موضوع النجاسة ، كان الحكم المذكور زائلاً بزوالها قطعاً ، وإن حكم بأنّها أجنبية عن موضوع الحكم المذكور ، كان الحكم باقياً قطعاً ، ولو فرض الشكّ في ذلك لم يكن الاستصحاب جارياً لعدم إحراز الموضوع ، ولا يمكن تصحيح الاستصحاب بدعوى كون العرف يرى النجاسة من عوارض الذات ، لأنّ ذلك خلاف الفرض.

والفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من مثال الماء والتغيير ، أنّ ذلك المثال بعد فرض كون العرف يرى أنّ معروض النجاسة هو نفس الماء لا عنوان التغيّر يحصل لنا الشكّ في بقائها من جهة أنّ التغيير يكون حينئذ علّة في عروض النجاسة على نفس الماء ، ويشكّ في أنّها علّة محدثة فيزول الحكم بزوالها ، أو أنّها مع ذلك مبقية فلا يزول الحكم بزوالها ، وفيما نحن فيه لا يحتمل كون الحطبية علّة للحكم ، وإنّما حصل الشكّ في كونها قيداً للموضوع أو أنّها أجنبية

ص: 97


1- في الصفحة : 8.
2- فوائد الأُصول 4 : 567.

وأنّها من حالاته ، فإن كان حكم العرف متّبعاً وحكم بأنّها قيد للموضوع زال الحكم بزوالها ، وإن حكم بأنّها أجنبية عن الموضوع لم يزل الحكم بزوالها ، وإن شكّ في ذلك أو لم يكن حكمه متّبعاً كان الحكم مشكوك البقاء من جهة الشكّ في بقاء موضوعه ، ومع الشكّ في بقاء الموضوع لا يمكن جريان الاستصحاب.

وبالجملة : ففي موارد الشكّ في كون القيد الزائل قيداً للموضوع أو أنّه حالة من حالاته مع القطع بأنّه ليس بعلّة مبقية للحكم ، سواء احتمل كونه علّة محدثة أو لم يحتمل ذلك بل قطع بكونه حينئذ حالة ، لا يكون مورداً للاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب فيما إذا كان القيد الزائل على تقدير كونه غير دخيل في الموضوع ممّا يحتمل كونه علّة مبقية.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الحطبيّة على تقدير كونها أجنبيّة عن الموضوع لا يحتمل العلّية فيها للحكم فضلاً عن كونها مبقية. وبالجملة : فمتى لم يكن في البين احتمال العلّية واحتمال أنّها على تقديرها تكون مبقية ، لا يكون الاستصحاب جارياً.

وأمّا الثاني أعني زوال النجاسة عن المتنجّس بزوال صورته النوعية ، فلعين ما تقدّم في النجس حرفاً بحرف. وأمّا ما أفاده في الكتاب (1) من قيام النجاسة في المتنجّسات بنفس الجسم ، وهو باق بعد تبدّل الصورة النوعية ، ففيه : أنّه إن أراد بالجسم الصورة النوعية فقد تبدّلت ، وإن أراد به المادّة الهيولانية فقد عرفت عدم كونها معروضة للنجاسة إلاّبالتبع للصورة النوعية.

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّ معروض النجاسة في المتنجّسات هو عنوان الملاقي الصادق على الثوب والبدن والخشب والحديد ، وليست هذه إلاّمصاديق صرفة ،

ص: 98


1- فرائد الأُصول 3 : 297.

وليس الموضوع إلاّعبارة عن الملاقي ، وهذا العنوان يكون باقياً بحاله لا يتغيّر ولا يتبدّل بانقلاب الخشب مثلاً رماداً ونحوه من التبدّلات.

والأولى أن يقال : إنّ موضوع النجاسة وإن لم يتبدّل إلاّ أنّه جرت السيرة على الطهارة بمقدار هذا التبدّل والتغيّر ، فيكون ذلك بمنزلة الدليل الدالّ على حصول الطهارة بسبب شرطي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فتحصّل أنّ التعويل على العرف في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب ليس من التعويل عليه في مسامحاته وخطئه في التطبيق ، بل الوظيفة في أمثال المقام هو التعويل على العرف ، لأنّ نظره هو المتبع ... الخ (1).

إنّما كانت الوظيفة في أمثال ذلك هي التعويل على العرف لما عرفت من رجوع المسألة إلى أنّ المستفاد من الدليل المتكفّل للحكم بنجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة هو كون التغيّر أجنبياً عن مركز الحكم بالنجاسة ، أعني مطروّها ومعروضها المعبّر عنه بموضوعها ، وأنّ التغيّر لا يكون في ذلك إلاّمن قبيل علّة الحكم ، هذا.

ولكن يشكل ذلك في مسألة الشكّ في بقاء الكرّية عند أخذ مقدار من الماء يشكّ معه في بقاء الكرّية ، فإنّ الرجوع إلى العرف في مثل ذلك لا يكون رجوعاً إليه فيما يستفاد من دليل الحكم ، لعدم ارتباط الشكّ في بقاء الكرّية بدليل أصل الحكم ، بل لا يكون الرجوع إلى العرف في ذلك إلاّمن قبيل الرجوع إليه في تنقيح الصغرى لقوله عليه السلام : « لا تنقض » كما أنّه ليس رجوعاً إليه فيما يستفاد من قوله : « لا تنقض » بحيث إنّه يوسّع مفهوم النقض على وجه يكون شاملاً للمورد المذكور ،

ص: 99


1- فوائد الأُصول 4 : 585.

بل الظاهر أنّ العرف لا يوسّع مفهوم النقض ، وإنّما يدّعي صدقه على المورد بعد تسامحه وعدم اعتنائه بذلك القليل الذي نقص منه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ النقض الممنوع عنه ليس هو النقض الواقعي بل هو النقض العرفي ، فيكون شاملاً للمورد بعد المسامحة المذكورة ، لكن ذلك جار في مسألة المقادير ، فإنّ من وجب عليه دفع الصاع من الطعام يمكننا أن نقول إنّ الصاع الواقعي وإن كان هو المحدود بالحدّ الكذائي ، لكن المراد به ما يسمّى في العرف صاعاً ، فلو دفع ما يقلّ عن الصاع بمقدار جزئي لكان ينبغي أن نحكم بكفايته ، وقد تقدّم منه قدس سره أنّ ذلك ممنوع أشدّ المنع ، وقد تقدّم البحث عن ذلك في حواشي ص 212 فراجع (1).

بقي الكلام في نحو آخر من التسامح ، وهو الذي يقال فيه إنّ القيد الفلاني لا يراه العرف قيداً بل يراه من الحالات ، وهو الذي نوّه عنه في الكفاية بقوله : مثلاً إذا ورد : العنب إذا غلى يحرم ، كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوماً به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عمّا هو ظاهر فيه الخ (2).

ص: 100


1- الصفحة : 51 وما بعدها.
2- كفاية الأُصول : 427 - 428.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذه المناسبة التي تخيّلها العرف إن كانت بحيث تكون موجبة لصرف الدليل وجعل الموضوع هو الأعمّ من العنب والزبيب لم نكن في حال الزبيبية في حاجة إلى الاستصحاب ، وإن لم تكن بهذه المثابة لم يكن لها أثر أصلاً ، ولا يمكن أن يتنزّل عليها أخبار المنع من النقض ، وهذا هو ما تقدّم من أنّ النظر العرفي يكون محقّقاً لمصداق « لا تنقض » مع الاعتراف بعدم كونه موجباً للتصرّف في الدليل على أصل الحكم ، ولا في مفهوم قوله : « لا تنقض » الخ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه المناسبة إنّما تنفع إذا كانت بحيث توجب صرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه من التقييد بالعنبية إلى أنّ المراد كونها من الحالات ، والمراد من الحالة هنا ما يلحق بالظرف ويكون أجنبياً عن قيود الموضوع ، بل يكون مرتبطاً بالحكم ، وحاصله : أنّ الحكم على هذه الذات بالحرمة يكون في حال العنبية ، ويكون القدر المتيقّن هو وجود الحكم في ذلك الحال ، أمّا بعد ذلك الحال وهو حال الزبيبية فيتمّ الحكم فيه بالاستصحاب ، ويكون الموضوع في كلتا القضيتين واحداً وحدة حقيقية على حذو ما ذكرناه من صرف القيد عن العنوانية إلى العلّية ، لكن حينئذ يلزمه انحصار مستند الشكّ في بقاء الحكم بالشكّ في المقتضي ، وقد تقدّم توضيح في الحاشية على ص 215 (1) فراجع.

وربما يقال كما في الكفاية (2) وغيرها في مبحث عموم العام واستصحاب حكم المخصّص : إنّ الزمان إن أُخذ قيداً لم يجر الاستصحاب ، وإن أُخذ ظرفاً

ص: 101


1- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 77 وما بعدها.
2- كفاية الأُصول : 424.

كان الاستصحاب جارياً ، وهذه الجمل وأمثالها لا تخلو من إجمال ، فإنّ مثل قولك يجب الإمساك في النهار ، إن جعلت النهار متعلّقاً بالإمساك كان موجباً لتنوّع الامساك ، فإمساك في النهار وإمساك في الليل ، ومن الواضح أنّه لا يصحّ جرّ الوجوب من الأوّل إلى الثاني ، سواء كان تعلّقه به على نحو القيدية أو كان على نحو الظرفية ، بل لا محصّل للظرفية هنا إلاّ القيدية والتنويع ، نعم لو جعلنا قولنا : ( في النهار ) متعلّقاً بقولنا : يجب ، كان ذلك موجباً لتجرّد الإمساك عن وقوعه في النهار ، لكنّه واقع فيه قهراً ، فإنّ وقوع وجوبه في النهار يوجب كونه واقعاً في النهار ، ولعلّ هذا هو المراد من الظرفية في قبال القيدية.

وعلى كلّ حال ، بعد فرض كون قولك : ( في النهار ) متعلّقاً ب- ( يجب ) ، يكون محصّله هو تحقّق الوجوب في النهار ، فإن استفدنا منه الحصر وأنّه لا وجوب إلاّفي النهار وأنّه لا وجوب في الليل ، كان ذلك دليلاً على انقطاع الوجوب بانتهاء النهار ، ولم نكن في شكّ في البقاء. نعم لو لم نستفد من قولنا : ( يجب في النهار ) إلاّمجرّد ثبوت الوجوب في النهار واحتملنا بقاء ذلك الوجوب في الليل أيضاً ، كان ذلك من أوضح موارد الاستصحاب ، إذ ليس يعتبر في الاستصحاب إلاّحدوث الشيء في الزمان والشكّ في بقائه في الزمان الثاني.

نعم ، ربما يشكل عليه بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لكنّه إشكال آخر لا ربط له بما نحن فيه من اعتبار وحدة الموضوع ، ولعلّه يمكن دفعه بأنّ المراد من الشكّ في المقتضي هو ما لم يكن الشكّ في البقاء إلاّمن ناحية ذات الموجود ، وأنّه ينتهي بنفسه ولم يحدث حادث من الزمان والزماني ، مثل قضية مقدار النفط في السراج ، دون ما لو كان من قبيل الشكّ في الغاية الزمانية ، بل دون ما لو كان مغيّى بالزمان نفسه ، هذا شرح الحال في الحكم الواقع في الزمان.

ص: 102

أمّا ما بعده من الحالات فهو في قبال العموم أو الاطلاق الأحوالي الراجع إلى قولك مثلاً : يجب إكرام العالم في حال كونه قائماً ، فإنّك إن قلت : يجب إكرام العالم القائم ، كان القائم مركباً للحكم ، ولا يبقى الحكم مع عدمه ، أمّا لو قلت : يجب إكرام العالم قائماً ، بمعنى في حال قيامه ، كان ذلك بمنزلة الظرف الزماني المتعلّق بالوجوب ، وكان ذلك عبارة أُخرى عن قولك : إنّ إكرام العالم يجب في زمان قيامه ، فهو نظير قولك : يجب في النهار الامساك ، فإذا شككنا في بقاء الوجوب بعد انتهاء القيام كان مورداً للاستصحاب ، وكان من قبيل ثبوت الوجوب في زمان والشكّ في بقائه بعد ذلك الزمان.

فقد تلخّص لك : أنّ المسألة أجنبية عن التسامح العرفي ، سواء كان ذلك من قبيل العلّة أو كان من قبيل الحالة أو كان من قبيل نفس الزمان ، نعم على المجتهد أن يستفيد أحد هذه الأُمور من الدليل الاجتهادي حسبما لديه من قوّة ، وبعد تمامية الدليل على واحد منها لا ضير في الاستصحاب ، وتخرج المسألة عن الاختلاف في الموضوع ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : هذا ولكن لا يخفى عليك ما في هذا التقريب من الضعف ، فإنّ اليقين في القاعدة ليس فرداً مغايراً لليقين في باب الاستصحاب ، لأنّ تغاير أفراد اليقين إنّما يكون بتغاير متعلّقاته - إلى قوله - وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة وانحفاظه في الاستصحاب لا يوجب أن يكون اليقين في أحدهما فرداً مغايراً لليقين في الآخر ، فإنّ الانحفاظ وعدمه من الطوارئ اللاحقة لليقين بعد وجوده ... الخ (1).

لم أتوفّق لمعرفة الوجه في أنّ الطوارئ على الشيء بعد وجوده لا توجب

ص: 103


1- فوائد الأُصول 4 : 588.

التعدّد فيه ، على وجه لا يكون اليقين المنهدم بما طرأه من الشكّ الساري فرداً آخر من اليقين مغايراً لما لم يطرأه الشكّ الساري بل إنّما طرأه الشكّ في بقاء ما كان قد تعلّق به ، وهو المعبّر عنه بالشكّ الطارئ الذي هو مورد الاستصحاب ، كما أنّي لم أتوفّق للوجه في انحصار ما يوجب التفرّد بما يكون الاختلاف فيه حال الوجود ، كما أنّي لم أتوفّق للوجه في العدول عن تقريب التوهّم المذكور بالتمسّك بالعموم الاستغراقي المستفاد من الألف واللام في اليقين إلى التمسّك بالاطلاق الأحوالي لليقين ليكون النهي عن نقضه شاملاً لحالتي بقاء اليقين وزواله.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أنّ اليقين المعرّف بالألف واللام هل هو يفيد العموم الاستغراقي أو أنّه ليس في البين إلاّ الاطلاق الأحوالي ، وهذا مطلب آخر لا دخل [ له ] بما يظهر من التحرير من امتناع العموم الأفرادي لامتناع التغاير والتفرّد بهذه الطوارئ ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ الحجر الأساسي في هذه الجمل هو ما حقّقه قدس سره من أنّ إطلاق الشيء أو عمومه لا يشمل التقسيمات اللاحقة له بعد الوجود ، نظير العلم والجهل بالنسبة إلى الحكم ، لكن هذا الأساس لو جرى فيما نحن فيه لمنع من التمسّك بالاطلاق كما منع من التمسّك بعمومه ، فتأمّل.

قوله : أمّا من جهة اليقين فلأنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما يكون ملحوظاً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن ، وفي القاعدة يكون ملحوظاً من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدّله إلى الشكّ ... الخ (1).

لا يخفى أنّ تبدّل اليقين في القاعدة إلى الشكّ كما يبطل كاشفيته فكذلك

ص: 104


1- فوائد الأُصول 4 : 589.

يبطل صفته. وبالجملة أنّ اليقين في باب القاعدة قد زال وجداناً ، فكما لا تبقى كاشفيته وطريقيته لا يكون أصله باقياً ، بل إنّ العلّة في بطلان كاشفيته وطريقيته هو بطلان نفسه وصفته القائمة بالنفس ، نعم يمكننا في باب القاعدة أن نلاحظ اليقين السابق الذي قد زال وجداناً ونحكم ببقاء أثره ، سواء أخذناه من حيث الطريقية كما هو الظاهر ، أو أخذناه من حيث الصفتية.

ومنه يظهر أنّ اليقين في باب القاعدة قابل للأخذ من حيث الطريقية وللأخذ من حيث الصفتية ، وليس حاله من هذه الجهة إلاّكحال اليقين في باب الاستصحاب من القابلية للأخذ من حيث الطريقية والأخذ من حيث الصفتية ، ولعلّ مرجع هذين الوجهين في كلّ من باب الاستصحاب وباب القاعدة هو ما يقال من أنّ الآثار المترتّبة هل هي آثار اليقين أو آثار المتيقّن ، وحيث إنّه لا إشكال في أنّ الآثار المراد ترتّبها بقاعدة [ اليقين ] وبالاستصحاب هي آثار الواقع لا آثار اليقين ، فلا جرم أن يكون اليقين في كلّ منهما طريقاً صرفاً. وينبغي ملاحظة ما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه (1) فإنّه يصرّح بأنّ اليقين إنّما أُخذ طريقياً في الموردين ، وأنّ التعبّد في قاعدة اليقين إنّما هو بآثار المتيقّن دون اليقين ، فلاحظ.

وكيف كان ، فالأولى في بيان اختلاف اليقين في باب الاستصحاب عن اليقين في باب القاعدة هو ما أفاده قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ، وهو أنّ اليقين في باب الاستصحاب مستعمل في معناه الحقيقي لكونه باقياً بحاله إلى حين الشكّ لم ينتقض أصلاً ، وإنّما وقع الشكّ في بقاء ذلك الذي تعلّق به اليقين ، أمّا القاعدة فلا يكون استعمال اليقين فيها استعمالاً حقيقياً لكونه منتقضاً بالشكّ ، فلو صحّ استعماله في مورد القاعدة لكان مجازاً باعتبار ما كان ، ولا ريب في أنّ

ص: 105


1- أجود التقريرات 4 : 190.

اليقين نظير أسماء الذوات مثل الإنسان والحجر التي تكون مأخوذة من المصادر الجعلية أعني الحجرية والإنسانية ، وقد تحقّق في محلّه أنّ العناوين المأخوذة من المصادر الجعلية لا يصحّ استعمالها بعد ارتفاع تلك المصادر ، بأن زالت إنسانية الإنسان وحجرية الحجر مثلاً وصار رماداً ، وإنّما وقع الخلاف في العناوين المأخوذة من المصادر الحقيقية مثل الضارب في كونها حقيقة بعد انقضاء المبدأ أو مجازاً ، أمّا العناوين المأخوذة من المصادر الجعلية فلا ريب في أنّ استعمالها بعد الانقضاء لا يكون حقيقة بل يكون غلطاً ، ولو فرض صحّة استعمالها حينئذ لكان بنحو من العناية البعيدة ، واليقين من هذا القبيل ، فلا يصحّ استعماله في المورد الذي ارتفعت عنه صفة اليقينية إلاّبنحو من التجوّز والعناية ، وكيف كان ففي مورد الاستصحاب تكون حقيقة اليقين باقية بحالها ، وفي مورد القاعدة تكون الصفة المذكورة مرتفعة ، ولا قدر جامع بين اليقين الحقيقي واليقين المجازي ، هذا.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ اليقين في قاعدة اليقين وإن كان واقعاً قد زال بالشكّ الساري وفي الاستصحاب هو باقٍ واقعاً ، فاستعمال اليقين في مورد القاعدة محتاج إلى نحو من العناية المصحّحة لإطلاق اليقين على اليقين الزائل ، بخلاف اليقين في مورد الاستصحاب فإنّه لا يحتاج إلى العناية المذكورة ، لكن الظاهر أنّهما بالنظر إلى شمول مثل قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » سواء ، لأنّ هذه الجملة إنّما تجري فيما لو كان اليقين قد زال وانتقض وجداناً بالشكّ ، فيتوجّه النهي عن العمل على نقضه والأمر بلزوم البناء على بقائه تعبّداً ، وذلك لا يلتئم مع فرض كون اليقين باقياً وجداناً كما في مورد الاستصحاب ، فلابدّ حينئذ من إعمال العناية في شمولها للاستصحاب.

ص: 106

وحينئذ نقول : إنّه بعد فرض دخول الاستصحاب وكونه مشمولاً لهذه الجملة ، يكون اليقين فيه المشمول للجملة المذكورة مساوياً مع اليقين في مورد القاعدة في كون كلّ منهما منتقضاً وجداناً.

ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه الجملة لو خليت ونفسها لكان مقتضاها الاقتصار على مورد القاعدة ، لأنّه هو الذي قد انتقض اليقين فيه وجداناً ، فكان صالحاً للتعبّد بعدم النقض ، بخلاف الاستصحاب فإنّ اليقين فيه لا يكون منتقضاً وجداناً بالشكّ إلاّبعد العناية وتجريد المورد عن الحدوث والبقاء ، وحيث قد تحقّقت تلك العناية ولو بواسطة تطبيق الإمام عليه السلام لها على مورد الاستصحاب ، كشف ذلك عن أنّ المراد بها هو اليقين الذي قد زال وجداناً ، لأنّه هو الذي يمكن جريان التعبّد فيه بالبقاء ، وحينئذ يكون اليقين في مورد الاستصحاب مساوياً له في مورد القاعدة في كون كلّ منهما قد زال وانتقض وجداناً ، فيكون دخول الاستصحاب في عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » من قبيل ما يكون دخوله وشمول العام له محتاجاً إلى إعمال عناية ، فلو خلّينا نحن وذلك العموم لا يحكم بكونه مشمولاً ، لكن بعد تطبيق ذلك العام عليه من جانب الشارع يحكم بدخوله فيه وإعمال تلك العناية التي كان شمول العام له متوقّفاً عليها.

ولكن هذا كلّه مبني على كون مفاد هذه الجملة هو النهي عن النقض تعبّداً مع تحقّقه وجداناً ، وأنّ مورد الاستصحاب بعد تجريده عن الزمان يكون اليقين فيه منتقضاً وجداناً بالشكّ. ويمكن المناقشة في كلّ من هاتين المقدّمتين كما مرّ مشروحاً في أوائل الاستصحاب (1) ، وستأتي الإشارة إليه هنا إن شاء اللّه تعالى. هذا كلّه فيما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية اليقين.

ص: 107


1- تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 91 وما بعدها.

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية المتيقّن وأنّه في الاستصحاب مجرّد عن الزمان وفي القاعدة مقيّد به.

فيمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّه في القاعدة مجرّد عن الزمان أيضاً ، إذ كما أنّه في الاستصحاب يكون المتيقّن هو حدوث العدالة والمشكوك هو بقاءها وجرّدناهما عن الزمان لأجل ضرورة صحّة كون الشكّ ناقضاً لليقين ليكون مشمولاً لقوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فكذلك في القاعدة نقول إنّ المتيقّن في الواقع هو الموجود في الزمان الخاصّ ، ولكن نجرّده عن ذلك الزمان ليكون مشمولاً لقوله عليه السلام : « لا تنقض » الخ.

وثانياً وهو العمدة : أنّ هذا الفرق لا يمنع شمول اليقين لكلّ من اليقين في القاعدة واليقين في الاستصحاب ، فإنّه وإن أُخذ كناية وطريقاً إلى المتيقّن إلاّ أنّه لا مانع من شموله لكلّ منهما ، بل لو أبدلنا اليقين بلفظ المتيقّن لم يكن مانع من شمول المتيقّن لكلّ من المقيّد بالزمان والمجرّد عنه.

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية النقض فهو متفرّع على ما أُفيد في الأوّل من كون اليقين في القاعدة مأخوذاً على نحو الصفتية وفي الاستصحاب على نحو الطريقية ، وقد تقدّم الكلام فيه.

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية الحكم ، وأنّ الحكم في ناحية القاعدة هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين ، وفي ناحية الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ الخ ، فيمكن التأمّل فيه بأنّ الدليل اللفظي لم يتضمّن إلاّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهذه التعبيرات إنّما هي لوازم تطبيق هذه الكلّية على المورد ، فلا مانع من اختلاف اللوازم الناشئة عن اختلاف الموارد. مضافاً إلى أنّ الأثر المترتّب في القاعدة وإن

ص: 108

كان هو أثر المتيقّن اللاحق له في زمان اليقين ، إلاّ أنّ الحكم بترتّبه إنّما هو في زمان الشكّ ، كما أنّ الأثر في باب الاستصحاب يكون الحكم بترتّبه في زمان الشكّ. نعم الأثر في الاستصحاب إنّما هو أثر البقاء وهو متعلّق الشكّ ، وفي باب القاعدة هو أثر الحدوث لكنّه فعلاً متعلّق للشكّ أيضاً.

وبالجملة : أنّ ترتيب الأثر في كلّ منهما إنّما هو في زمان الشكّ ، وإنّما يختلفان في أنّ ذا الأثر في القاعدة إنّما هو نفس ما تعلّق به اليقين أعني عدالة زيد يوم الجمعة ، وفي الاستصحاب إنّما هو غير ما تعلّق به اليقين الذي هو عدالة زيد يوم الجمعة ، وذلك الغير هو عدالته يوم السبت ، مع أنّ الترتيب في تلك وفي هذا لا يكون إلاّفي يوم الشكّ الذي هو يوم السبت ، وهذا الخلل إنّما جاء من تعبير التحرير بقوله : فلأنّ الحكم المجعول في القاعدة إنّما هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ الخ (1) وظاهره جعل زمان اليقين ظرفاً للبناء العملي في القاعدة ، وجعل ظرفه في الاستصحاب زمان الشكّ ، مع أنّ الواقع هو أنّ ظرف البناء العملي في كلّ منهما إنّما هو الشكّ ، وإنّما يختلفان في أنّ في القاعدة يكون الأثر الذي حكم بالبناء العملي عليه هو أثر نفس المتيقّن السابق ، وفي الاستصحاب يكون ذلك الأثر هو بقاءه ، وحينئذ لا يتوجهّ عليه إلاّما ذكرناه من أنّ اختلافهما في الأثر لا ضير فيه ، لأنّ ذلك نتيجة شمول النهي عن النقض لكلّ منهما ، مع أنّه بعد التجريد عن الزمان في كلّ منهما لا يكون الأثر مختلفاً ، بل لا يكون لنا حينئذ إلاّ أثر واحد مترتّب على موضوع واحد ، وهو نفس العدالة التي وقعت متعلّقاً لكلّ من اليقين والشكّ في كلّ من مورد القاعدة ومورد الاستصحاب ، فلاحظ.

ص: 109


1- فوائد الأُصول 4 : 590.

وقد حرّرنا في أوائل الاستصحاب (1) عند الكلام على الرواية الرابعة وهي قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ (2) تحقيق الوجه في عدم شمول الروايات التي رواها زرارة لقاعدة اليقين والاستصحاب ، ولكن ما حرّرناه سابقاً لا يخلو عن تكلّف بل تعسّف وتطويل بلا طائل.

فالأولى في بيان كيفية عدم شمول الروايات الشريفة لقاعدة اليقين هو أن يقال : إنّ ظاهر القضية التي اشتملت عليها الروايات الشريفة هو اجتماع اليقين والشكّ وتعلّقهما بشيء واحد ، وهذا لا ينطبق على مورد القاعدة لعدم اجتماعهما فيها ، لكون الشكّ فيها هادماً لليقين ، أمّا مورد الاستصحاب فإنّه لو خلّي ونفسه باعتبار تعدّد متعلّق الشكّ واليقين فيه ولو باعتبار الحدوث والبقاء لم يدخل في القضية المذكورة ، لكن بعد تجريد المتعلّق فيه عن موجبات التعدّد والنظر فيه إلى نفس القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة يجتمع فيه اليقين والشكّ في زمان واحد ، لكن من دون كون أحدهما هادماً للآخر وجداناً ، غير أنّ المكلّف لابدّ له في ذلك الحال من الجري العملي على طبق أحدهما وأيّاً منهما أخذ به فقد نقض الآخر ، فالشارع أمره بالجري العملي على طبق اليقين ونقض الشكّ به فقال له : لا تنقض اليقين بالشكّ ، ولكن تنقض الشكّ باليقين ، هذا كلّه.

مضافاً إلى تطبيق الإمام عليه السلام هذه الجملة على مورد الاستصحاب ، القاضي بأنّه لابدّ في موردها من اجتماع اليقين والشكّ على متعلّق واحد ، وهذا لا يكون في مورد القاعدة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ مورد الاستصحاب بعد تجريده عن الزمان أو

ص: 110


1- تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 91 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 1 : 246 - 247 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 6.

الاختلاف بالحدوث والبقاء لا يكون الشكّ فيه ناقضاً لليقين وجداناً ، وأنّ دعوى أنّه لابدّ في المورد الذي تجري فيه هذه الجملة من حصول الانتقاض الوجداني ممّا لا شاهد عليها. نعم لابدّ من تصوّر ما ينطبق عليه النقض ليكون ذلك منهياً عنه ، وهو حاصل في مورد الاستصحاب بما عرفت من أنّ المكلّف لو ترك جهة اليقين واعتمد على الشكّ بعد فرض اجتماعهما عنده كان ناقضاً ليقينه بشكّه ، وهذا هو المنهي عنه. وقد ألحقنا نحو هذا البيان بما كنّا حرّرناه هناك فراجع واختر لنفسك ما يحلو من الطريقتين.

ومن هذا الذي حرّرناه أخيراً يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته بقوله : إنّ قضية اختلاف متعلّق اليقين والشكّ دقّة في الاستصحاب يقتضي ارجاع ضمير الشكّ بما تعلّق به بنحو من المسامحة ، كما أنّ وحدة المتعلّقين في القاعدة تقتضي في مقام النظر في إرجاع الضمير المزبور إلى متعلّق اليقين أن يكون نحو دقّة في البين بلا مسامحة عرفية فيه ، ومن المعلوم أنّ الجمع بين هذين النظرين في إرجاع ضمير واحد غير معقول الخ (1) ، فإنّه مضافاً إلى أنّه ليس في البين ضمير في هذه الأخبار كي يتكلّم في كيفية إرجاعه ، وإنّما جاءت استفادة الوحدة من مادّة النقض ، أنّه لو أخذنا الرجوع في الضمير بالنظر الدقّي لم تنطبق الجملة الشريفة على قاعدة اليقين ، لما عرفت من أنّ الظاهر من قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وجودهما فعلاً وتعلّق النهي بنقض اليقين بالشكّ ، وهذا غير متحقّق في مورد القاعدة ، إذ لم يجتمع فيها اليقين مع الشكّ كي يتوجّه النهي عن نقض اليقين بالشكّ إلاّبنحو ما كان ، فتأمّل.

ولو أخذناه بالنظر المسامحي بحيث جعلنا الشكّ في البقاء منزّلاً منزلة

ص: 111


1- مقالات الأُصول 2 : 430.

الشكّ بما تعلّق به اليقين الذي هو أصل الحدوث ، كان محصّل حكم الشارع بالغاء هذا الشكّ وترتيب آثار ذلك اليقين هو لزوم ترتيب آثار اليقين بالحدوث ، وليس ذلك هو المطلوب في باب الاستصحاب ، فإنّ المطلوب فيه هو ترتيب آثار البقاء ، فلابدّ من أن يكون مركز العناية ليس هو الشكّ في البقاء ، بل هو اليقين بالحدوث بجعله كناية عن اليقين بالبقاء ، أو بجعل الاعتناء بالشكّ في البقاء نقضاً لليقين بالحدوث بواسطة أنّ اليقين بالحدوث يستدعي اليقين بالبقاء على ما مرّ تفصيله فيما حرّرناه في أوائل الاستصحاب (1).

وحاصل الفرق بين ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره وبين ما ذكرناه هناك ، هو أنّ كلاً من التوجيهين مبني على رعاية العناية ، لكنه قدس سره جعلها في ناحية الشكّ ، فجعل الشكّ في البقاء كناية عن الشكّ في الحدوث ، ونحن جعلناها في ناحية اليقين فجعلنا اليقين بالحدوث كناية عن اليقين بالبقاء ، فلاحظ وتأمّل.

قال (2) شيخنا الأُستاذ العراقي في مقالته : ولئن دقّقت النظر ترى أنّ المسامحة في إرجاع الضمير المزبور في الرواية بقرينة موردها تصلح أيضاً أمر المسامحة في بقاء موضوع الاستصحاب ، إذ لا ينفكّ مثل تلك المسامحة ( يعني المسامحة في بقاء الموضوع ) أيضاً عن وحدة المتعلّقين بنحو من العناية الخ (3).

تقدّم في آخر حاشية ص 219 (4) عندما نقلنا عن الأُستاذ العراقي قدس سره بعض ما

ص: 112


1- تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 91 وما بعدها.
2- [ لا يخفى أنّ هذه المطالب أوردها المصنّف قدس سره في أوراق منفصلة وأمر بالحاقهابذيل هذه الحاشية ].
3- مقالات الأُصول 2 : 431.
4- في الصفحة : 111.

أفاده في المقالة أنّ المسامحة في مرجع الضمير بإرجاعه إلى أصل وجود الشكّ باعتبار بقائه لا يصلح انطباق القضية على مورد الاستصحاب دون قاعدة اليقين ما لم يكن في البين تسامح في ناحية اليقين ، ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ المسامحة في ناحية الضمير القاضية بانطباق القضية على مورد الاستصحاب لا دخل لها بالمسامحة في ناحية موضوع الحكم مثل قضية الماء المتغيّر ، فإنّ تلك مسامحة أُخرى تحتاج إلى عناية أُخرى ، نعم بعد تحقّق ذلك التسامح ولو باخراج عنوان التغيّر عن مركبية النجاسة وموضوعيته لها ، تكون الوحدة بين القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة وحدة حقيقية ، وما هو إلاّمن قبيل التسامح في جعل الرجل الشجاع أسداً ، وبعد ذلك الجعل التسامحي ينطبق عليه عنوان الأسد انطباقاً حقيقياً.

لكن هذه المسامحة الراجعة إلى التسامح في ناحية الموضوع تحتاج إلى دليل غير نفس قوله عليه السلام : « لا تنقض » ، كما أنّ تلك المسامحة التي كانت في ناحية الضمير محتاجة إلى الدليل أيضاً ، وكان تطبيق الإمام عليه السلام هذه القضية على مورد الاستصحاب هو القاضي بذلك التسامح ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه لم يكن في البين تطبيق منه عليه السلام هذه القضية على مثل الماء المتغيّر الذي زال تغيّره ، وإلاّ لقلنا بذلك من دون حاجة إلى ما ذكروه من الترديد في الاتّحاد بين كونه عقلياً أو دليلياً أو عرفياً.

نعم ، هنا طريقة أُخرى هي ما أشرنا إليه من أنّه لا محصّل لهذا الترديد ، بل لابدّ أوّلاً من النظر إلى دليل نفس الحكم المشكوك أعني مثل قوله « الماء المتغيّر نجس » وهل المستفاد منه بحسب النظر العرفي مدخلية التغيّر أو أنّه - أعني التغيّر - أجنبي عن الموضوع ، وأنّ الموضوع إنّما هو ذات الماء ، ولعلّه أشار إلى

ص: 113

هذه الجهة بقوله : وحينئذ فيكون المقام من باب إيجاد المسامحة في نفس عنوان الحكم ( يعني عنوان الماء المتغيّر ) بلا مسامحة حينئذ في تطبيقه ( يعني تطبيق قوله عليه السلام : لا تنقض ) بل كان تطبيق مدلول الرواية على البقاءات المسامحية من التطبيقات الدقيقة العقلية ، نظير سائر العناوين الأُخر الواقعية في غير حكم وضعي أو تكليفي من مثل الأوزان والمقدار وغيرهما (1) ، بأن يكون التسامح واقعاً في ناحية الوزنة مثلاً التي جعلت محطّاً لحكم وضعي أو تكليفي ، وأنّ المراد بها هو الأعمّ ممّا يزيد أو ينقص عن المقدار المقرّر بقليل ، فإنّك ترى أنّ انطباق تلك الوزنة المأخوذة موضوعاً لذلك الحكم على الناقص بقليل والزائد كذلك انطباق حقيقي. ولكن لا يخفى أنّ هذا التسامح مع كونه محتاجاً إلى دليل لا دخل له بما نحن فيه من الاستصحاب.

وإن كان المنظور إليه هو التسامح في عنوان النقض على وجه يشمل رفع اليد عن نجاسة الماء بعد زوال تغيّره ، بأن يكون المراد من الحكم في قوله : وحينئذ فيكون المقام من باب إيجاد المسامحة في نفس عنوان الحكم ، هو عنوان النقض في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين » الخ ، فذلك يحتاج إلى دليل ولو بمثل أن يطبّقه عليه السلام على المورد المذكور ، أعني الماء بعد زوال تغيّره ، فلاحظ.

ومن ذلك تعرف بقاء الإشكال وعدم اتّضاح المراد في قوله : وبعد هذا البيان لا يبقى مجال الإشكال في شرح اتّحاد القضيتين بكونه بنظر العرف أو بنحو من الدقّة أو بحسب دليل تلك الكبرى ، ثمّ قال : الإيراد لمثل هذا الإشكال مجال في فرض عدم قرينيته على تطبيق مورد الرواية على الاستصحاب ، كيف وبعد

ص: 114


1- مقالات الأُصول 2 : 431.

التطبيق المزبور لا محيص من اعتبار المسامحة في وحدة المتعلّقين (1) ، الظاهر أنّ في العبارة غلطاً من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو : نعم لإيراد مثل هذا الإشكال مجال ، وغرضه أنّ هذا الإشكال والتحيّر في أنّ الاتّحاد هل هو بنظر العرف أو بنحو من الدقّة الخ إنّما يتأتّى فيما إذا لم يكن في البين قرينة وهي تطبيق هذه القضية - أعني قوله عليه السلام : « لا تنقض » - على مورد الاستصحاب.

قلت : هذا مسلّم في ناحية التسامح الأوّل أعني ما يرجع إلى ناحية الضمير ، أمّا ما يرجع إلى التسامح الثاني أعني ما يرجع إلى الموضوع ، فالإشكال والترديد والتحيّر فيه باقٍ بحاله ، إذ لم يكن تطبيق منه عليه السلام لهذه القضية على مثل الماء بعد زوال تغيّره.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وبعد ذلك فكما تصلح تلك المسامحة أمر الاستصحاب تصلح أمر بقاء موضوعه ، لبداهة صدق الشكّ بما تعلّق به اليقين بضرب من العناية مع فرض المسامحة في بقاء موضوعه أوّلاً من دون احتياج بعد ذلك إلى تعيين ما سيق بهذا العنوان من كيفية الأنظار الخ (2) وذلك لما عرفت من أنّ المسامحة من ناحية الضمير في قبال قاعدة اليقين لا دخل له بالمسامحة من ناحية الموضوع ، ولعلّ مراده مطلب آخر لم أتوفّق لفهمه ، فلاحظ عباراته ودقّق النظر فيها.

ولا يخفى أنّ بين قوله « في بقاء موضوعه » وبين قوله « من دون احتياج بعد ذلك » الخ بياض يشعر سقوط كلمة بينهما ، ولعلّ الكلمة الساقطة هي قوله

ص: 115


1- مقالات الأُصول 2 : 431.
2- مقالات الأُصول 2 : 431 - 432.

« أوّلاً » وحينئذ يكون المتحصّل أنّه بعد المسامحة في بقاء الموضوع ولو بدعوى فهم العرف أنّ ما هو موضوع النجاسة هو ذات الماء ، يكون الموضوع في القضيتين واحداً دقّة ، من دون حاجة إلى التردّد في تلك الوحدة بين الجهات الثلاثة المذكورة.

قوله في المقالة : نعم ما أُفيد ( من كون الاتّحاد عرفياً أو دليلياً أو عقلياً ) إنّما يتمّ لو كان في البين لفظ بقاء ( بأن قال : ابق ما كان ) أو كلمة اتّحاد ( بأن قال : لا تنقض اليقين بالشكّ عند اتّحاد متعلّقهما ) كي يتوهّم اختلاف مصاديقهما بحسب الأنظار - إلى قوله - فلابدّ حينئذ من تعيين ما سيق له عنوان البقاء المأخوذ في القضية بأنّه بأيّ واحد من النظرين يكون مسوقاً ، ثمّ قال : كيف ومع انتهاء النوبة إلى تلك الجهة لا يبقى مجال دعوى سوقها بلحاظ الأنظار العرفية إلى آخره (1) وهذا أعني قوله : كيف الخ ، شروع في إبطال الرجوع إلى الأنظار العرفية حتّى لو كان البقاء موجوداً في دليل الاستصحاب ، وذلك لأنّ الشبهة ليست في مفهوم البقاء وإنّما هي في مصداقه ، فالعرف يرى أنّ بقاء الحرمة بعد زوال التغيّر بقاء والعقل لا يراها بقاء ، وليس شغل العرف تعيين المصاديق وإنّما شغله شرح المفاهيم. نعم يمكن الرجوع إلى العرف في تعيين المصاديق فيما لو قصر العقل عن تعيينها ، فإنّ مقتضى الحكمة وإخراجاً لكلام الحكيم عن اللغوية هو الإيكال إليهم في تعيينها ، نظير ما يقال إنّ المراد من قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) هو ما يكون بيعاً بالنظر العرفي ، وهذا إنّما يتبع فيما لو لم يعلم الخطأ بأن يقوم الدليل على تخطئة الشارع لهم في أخذهم المعاملة الفلانية بيعاً مثلاً ، وذلك خلاف ما

ص: 116


1- مقالات الأُصول 2 : 432.

هو المطلوب في المقام ، فإنّه بعد البناء على أنّ المتّبع في تعيين مصداق البقاء هو النظر العرفي دون النظر العقلي ، يكون اللازم هو اتّباعهم حتّى مع العلم بخطئهم ، فإنّ ذلك هو محصّل اتّباع النظر العرفي دون النظر العقلي.

قلت : لكنّك قد عرفت وستعرف إن شاء اللّه تعالى أنّه لا حاجة إلى إدخال لفظ البقاء أو الاتّحاد في دليل الاستصحاب ، بل يكفي الجماعة اشتمال الدليل على لفظ النقض وهو القاضي بالوحدة ، وأنّ الاشتباه ليس في المصداق المحض ، بل إنّما هو في الشبهة المفهومية التي سمّاها الشيخ قدس سره بالشبهة الصدقية ، وقد عرفت الحال في هذه الجهات مفصّلاً فلا حاجة لنا إلى إعادته ، والغرض هو بيان الفرق بين ما نحن فيه وبين أسماء المقادير ليكون جواباً عمّا أفاده بقوله : وعليه فما وجه الفرق بين لفظ البقاء الوارد في المقام ولفظ الأوزان والمقادير الواردة في مقامات أُخرى ، حيث ليس بناؤهم فيها على التطبيقات العرفية بل على الدقيقة العقلية الخ (1) وذلك لما عرفت من أنّ تصرّفهم في باب الموازين تصرّف في المصداق الصرف ، بخلاف تصرّفهم فيما نحن فيه فإنّه في المفهوم أو في الصدق ، على ما عرفت تفصيله وإبطاله بالطريق الذي ذكرناه فراجع.

قوله : وليس تلك الجهات إلاّناشئة عمّا أشرنا من خيال أخذ عنوان الاتّحاد والبقاء ... إلخ (2).

قد عرفت أنّه لا حاجة في المسألة إلى ذلك ، بل يكفي عنوان النقض.

ص: 117


1- مقالات الأُصول 2 : 433.
2- مقالات الأُصول 2 : 433.

قوله : وإلاّ - إلى قوله - إذ حينئذ لا ترى بُدّاً في إرجاع الضمير في ظرف الشكّ فيه بلا مسامحة - إلى قوله - ومعه لا يبقى حينئذ مجال لمثل ذلك الترديد أبداً ... الخ (1).

قد عرفت أنّ المسامحة في ناحية الضمير القاضية باخراج قاعدة اليقين لا دخل لها بالمسامحة في الموضوع القاضية باجراء الاستصحاب في نجاسة الماء بعد زوال التغيّر ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ثمّ إنّهم وقعوا في حيص وبيص من جهة أُخرى في بعض المقامات التي يكون لسان دليل الكبرى مشتملاً على خصوصية ( كالتغيّر ومع مدخلية هذه الخصوصية ) لا يرى العرف بقاء الموضوع في صورة فقد الخصوصية مع احتمال دخلها ... الخ (2).

حاصله : هو أنّ ظاهر الدليل مدخلية التغيّر ، ولكن ارتكاز العرف على خلافه ، وذلك يوجب عدم جريان الاستصحاب عند فقد تلك الخصوصية ، لأنّهم إن احتملوا مدخليتها في الموضوع لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز الاتّحاد ، وإن لم يحتملوا مدخليتها كان بقاء الحكم بعدها مستنداً إلى إطلاق الدليل لا إلى الاستصحاب.

وملخّص ما أجاب به عن الإشكال بقوله : ويمكن حلّ الإشكال إلخ ، أحد وجوه ثلاثة : الأوّل : صرف التغيّر عن كونه جهة تقييدية إلى الجهة التعليلية ، ولكن يكون الشكّ في بقاء الحكم بعدها ناشئاً عن احتمال قيام علّة أُخرى مقامها. لكن لا أدري لماذا عدل في تصوير الشكّ في البقاء عن كون العلّية على

ص: 118


1- نفس المصدر السابق.
2- نفس المصدر.

وجهين كما ذكره شيخنا قدس سره وغيره ، فكأنّه يرى محالية العلّية المحدثة والمبقية وأنّها لا تكون إلاّدوامية ، وحينئذ ينحصر الأمر في احتمال البقاء بقيام علّة أُخرى ، ولكنّه يوجب التبدّل في الحكم قطعاً لتبدّل علّته ، فلا يمكن استصحابه عند الشكّ المزبور فلاحظ.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : وأُخرى بإمكان بقاء ظهور القضية الخ (1) وكأنّه مبني على اختلاف المراتب ، فيقال بأنّ الماء لمّا كان متغيّراً كان متنجّساً بمرتبة من النجاسة ، ثمّ لمّا زال تغيّره زالت تلك المرتبة قطعاً ، لكن نحتمل بقاء مرتبة أنزل قوامها وموضوعها نفس الماء ، ولكن لابدّ حينئذ من الالتزام بأنّ التغيّر موضوع لتلك المرتبة الزائلة وعلّة لهذه المرتبة الباقية ، وإلاّ فمن أين يحتمل عروض هذه المرتبة للذات كما أشار إليه بقوله : ومع ذلك يحتمل بقاء الحكم الثابت للذات عند فقد الخصوصية الخ.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : وقد يجاب عن الشبهة المزبورة بوجه آخر إلخ ، وحاصل هذا هو ما تقدّم شرحه مراراً في كلمات الكفاية وغيرها (2) : من أنّ للعرف نظرين : أحدهما ما يستفيدونه من لفظ الدليل ، والآخر ما هو مرتكز لهم في قضاياهم الفطرية ، والمدار في الاتّحاد المعتبر في الاستصحاب هو النظر الثاني. وقد أورد عليه بقوله : ولكن يمكن أن يقال الخ ، والظاهر أنّ المراد به ما تقدّم شرحه من إنكار النظرين ، وأنّ الثاني إن كان على وجه يكون قرينة للتصرّف في لفظ الدليل كان متّبعاً وإلاّ فلا عبرة به ، وقد عرفت الكلام في كونه من قبيل الشبهة

ص: 119


1- مقالات الأُصول 2 : 434.
2- راجع من باب المثال الصفحة : 100 وما بعدها.

المفهومية أو الشبهة الصدقية أو الشبهة المصداقية.

ثمّ إنّه قدس سره كأنّه أعرض عن الوجه الثاني ، فإنّه بعد أن أبطل الوجه الثالث حصر الجواب بالوجه الأوّل فقال : وعليه فلابدّ من جعل فهم العرف قرينة على التصرّف في ظهور القضايا الشرعية على فرض العنوانية والقيد ، بإرادة العلّية للحكم على وجه يكون المعروض نفس الذات إلخ (1) ، ثمّ أفاد ما حاصله : أنّ الاحتياج إلى هذا الوجه الأوّل إنّما هو على فرض عدم مساعدة مسامحاتهم في بقاء الموضوع مع إبقاء القضية على ظهورها ، وإلاّ فلا يحتاج إلى التصرّف فيها أصلاً ، نظراً إلى ما عرفت في وجه كون المناط على المسامحات في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب إلخ ، وكأنّه يشير بذلك إلى ما تقدّم (2) من المسامحة في كيفية إرجاع الضمير ، التي جعلها الأساس في عدم شمول القضية لقاعدة اليقين وفي شمولها لما هو محلّ الكلام من احتمال اختلاف الموضوع ، وقد عرفت ما فيه من التأمّل ، فلاحظ.

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد ممّا تقدّم هو ما عرفت الاشارة إليه ، وحاصله : هو أنّ التسامح في بقاء الموضوع مع بقاء القضية على ظهورها هو عبارة عن التسامح في نفس الموضوع ، بدعوى كون الموضوع هو ذات الماء مثلاً ، وبعد هذه المسامحة يكون الموضوع باقياً ، ويكون الموضوع في القضيتين واحداً دقّة على نحو ما تقدّم من التسامح في مرجع الضمير. لكن لا يخفى أنّ هذا التسامح لا يجتمع مع إبقاء القضية على ظهورها من دون تصرّف فيها أصلاً ،

ص: 120


1- مقالات الأُصول 2 : 435.
2- في الصفحة : 113.

فلاحظ.

قوله في المقالة : ثمّ لا يخفى أيضاً أنّ الاحتياج ... إلخ (1).

تقدّم البحث عن ذلك تفصيلاً في حواشي ص 211 (2) ، فراجع.

قوله : نعم في المقام شيء آخر وهو أنّ كفاية ذلك المقدار - إلى قوله - بلا احتياج إلى إحراز استعداد البقاء في المستصحب ... الخ (3).

لعلّ عدم إحراز استعداد البقاء هو عبارة أُخرى عن عدم إحراز الموضوع.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو في الشكّ في بقاء الموضوع على نحو الشبهة الموضوعية مثل استصحاب عدالة زيد مع الشكّ في بقاء زيد ، دون ما لو كان على نحو الشبهة الحكمية كما لو احتملنا مدخلية التغيّر في موضوع النجاسة وقد زال التغيّر ، إذ لا يكون الشكّ في بقاء النجاسة من قبيل الشكّ في الاستعداد الذي هو عبارة عن الشكّ في المقتضي ، بل هو ممحّض لعدم إحراز الموضوع ، وليس هو من قبيل الشكّ في بقاء الموضوع. على أنّ هذا الشكّ في الاستعداد إنّما يتوجّه فيما لو كان المستصحب هو الصفة كعدالة زيد أو قيامه أو وجوب إكرامه ، دون ما لو كان المستصحب هو مفاد الجملة ، وما هو مفاد الجملة التامّة في قوله : بنحو يرجع معروض الوجوب المستصحب إلى مفاد الجمل التامّة إلخ (4) ، أهو نفس النسبة الخبرية أو الانشائية بالمعنى الإسمي أو بالمعنى الحرفي ، أو غير ذلك ، هذا

ص: 121


1- مقالات الأُصول 2 : 435.
2- وهي الحواشي المتقدّمة في الصفحة : 9 - 48.
3- مقالات الأُصول 2 : 436.
4- مقالات الأُصول 2 : 435.

يحتاج إلى توضيح وشرح.

قوله : نعم بناءً على إمكان أحد الأمرين لا بأس بإحراز الاستعداد المزبور حتّى مع الشكّ في البقاء ... إلخ (1).

لا أظنّ أنّ أحداً يقول بإمكان انتقال العرض من معروضه إلى معروض آخر أو إمكان بقائه بلا معروض.

قوله : وإلى هذا البيان نظر المحقّق الطوسي قدس سره في وجه اعتبار الموضوع في الاستصحاب حيث تشبّث بذيل هذا المبنى العقلي (2).

فهو لا يريد منع الاستصحاب من جهة استحالة انتقال العرض أو استحالة بقائه بلا موضوع كي يتوجّه عليه الإيراد باختصاص المحالية بالثبوت الحقيقي الواقعي ، بل إنّما يريد منعه من جهة كونه حينئذ من قبيل الشكّ في الاستعداد الراجع إلى الشكّ في المقتضي الراجع إلى سدّ باب الثبوت التعبّدي ، وهذا هو المراد بقوله : وبعده لا مجال لردّه بأنّ الكلام في البقاء التعبّدي لا البقاء الحقيقي كي يحتاج إلى إثبات مثل تلك المقدّمة العقلية فراجع كلامه (3).

ولكن لا يخفى أنّ المتشبّث بذيل هذا المبنى العقلي هو الشيخ قدس سره ، والذي ردّه عليه بأنّ الكلام في البقاء التعبّدي لا الحقيقي هو صاحب الكفاية قدس سره قال في الكفاية : فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع

ص: 122


1- مقالات الأُصول 2 : 436.
2- نفس المصدر.
3- مقالات الأُصول 2 : 436.

وتشخّصه به غريب ، بداهة أنّ استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبّداً والالتزام بآثاره شرعاً الخ (1). ولعلّ العبارة غلط من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو أن يقال : وإلى هذا البيان نظر الشيخ قدس سره ، إلخ ، وبعده لا مجال لردّ المحقّق الطوسي عليه بأنّ الكلام الخ ، هذا.

مضافاً إلى إمكان القول بأنّ عبارة الشيخ قدس سره تكاد تكون صريحة في أنّ المانع من الاستصحاب في موارد الشكّ في الموضوع هو لزوم أحد الأمرين ، أعني انتقال العرض من موضوعه إلى موضوع آخر ، أو بقاءه بلا موضوع ، فراجع قوله : ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط - إلى قوله - وبعبارة أُخرى الخ (2) ولا دخل لذلك بما أُفيد من كون المانع من الاستصحاب هو عدم إحراز الاستعداد.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المانع وهو عدم إحراز الاستعداد لا يقف في قبال القول به - سواء كان القائل هو الشيخ قدس سره أو المحقّق الطوسي قدس سره - القول بإحراز الاستعداد بناءً على إمكان أحد الأمرين الخ ، لما عرفت من أنّ ذلك ممّا لا يظنّ أنّ أحداً يقول به ، نعم يقف في قباله أنّ مانعية عدم إحراز الاستعداد راجعة إلى مانعية كون الشكّ في المقتضي ، فمن يقول بجريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي كصاحب الكفاية قدس سره (3) لا ينبغي أن يكون عدم إحراز الاستعداد مانعاً عنده من جريان الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 123


1- كفاية الأُصول : 427.
2- فرائد الأُصول 3 : 290 - 291.
3- كفاية الأُصول : 391.

قوله : بمعنى أنّ دليل الحاكم إمّا أن يتصرّف في موضوع دليل المحكوم بإدخال ما يكون خارجاً عنه أو باخراج ما يكون داخلاً فيه ، كقوله : « زيد عالم » أو « ليس بعالم » عقيب قوله : « أكرم العالم » ... الخ (1).

الأولى أن يمثّل للأوّل بقوله : « الطواف بالبيت صلاة » عقيب قوله : تجب الطهارة في الصلاة ، وللثاني بقوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » عقيب مثل قوله : « من شكّ بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع ».

قوله : بناءً على أن يكون الحرج والضرر من الحالات اللاحقة لنفس الأحكام لا لموضوعاتها كما أوضحناه في محلّه (2).

فإنّه بناءً على ذلك يكون قوله : « لا ضرر » متصرّفاً في المحمول الذي هو الوجوب الوارد على الوضوء مثلاً ، لأنّ الضرر بعد أن أخذناه عنواناً لنفس الحكم الضرري يكون المرفوع ابتداءً هو الوجوب ، بخلاف ما لو أخذنا الضرر عنواناً للفعل الواجب ، فإنّ قوله : « لا ضرر » حينئذ لا يكون متصرّفاً ابتداءً في المحمول ، إذ لا يكون المرفوع ابتداءً هو الوجوب المذكور ، بل يكون المرفوع ابتداءً هو نفس الفعل ، ومعنى رفعه في عالم التشريع هو رفع حكمه الذي هو الوجوب ، فيكون من قبيل التصرّف في الموضوع ، نظير « لا شكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى الدليل المتكفّل لحكم الشكّ.

قوله : بل سيأتي في مبحث التعادل والتراجيح أنّ الحكومة لا تختصّ بالأدلّة اللفظية بل تأتي في اللبّيات أيضاً ... إلخ (3).

مثال ذلك حكومة حجّية خبر العدل على الاستصحاب بعد البناء على أنّ

ص: 124


1- فوائد الأُصول 4 : 593.
2- فوائد الأُصول 4 : 593.
3- فوائد الأُصول 4 : 594.

حجّية كلّ منهما ببناء العقلاء أو الإجماع.

قوله : مع أنّه ليس في تحكيم المقيّد على المطلق والخاصّ على العام ما يقتضي شرح اللفظ بناءً على ما هو الحقّ عندنا من أنّ التقييد والتخصيص لا يوجب استعمال لفظ المطلق والعام ... الخ (1).

إذ لو كان المقيّد موجباً لشرح المطلق وبيان المراد منه ، لكان لفظ المطلق مستعملاً في المقيّد ، وهكذا الحال في الخاصّ بالاضافة إلى العام ، فتأمّل جيّداً.

قوله : والقسم الأوّل من الحكومة إنّما تكون فيما بين الأدلّة المتكفّلة لبيان الأحكام الواقعية ، والحكومة فيها حكومة واقعية ... الخ (2).

كون الحكومة واقعية في مثل « الطواف بالبيت صلاة » واضح ، وكذا في مثل قوله : « النحوي ليس بعالم » بعد قوله : « أكرم العالم » ، ومثله قوله : « لا سهو في سهو » بناءً على أنّ المراد منه لا يجب سجود السهو في السهو الواقع في سجدتي السهو ، وأمّا مثل « لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام » فكونه من الحكومة الواقعية محل تأمّل ، بل الظاهر أنّ الحكومة فيه حكومة ظاهرية ، إذ ليس الحاكم ولا المحكوم من الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية ، بل إنّ كلاً من هذين الدليلين - أعني قوله : « لا شكّ للمأموم » وقوله : « من شكّ بين الثلاث والأربع » - لا يتكفّل إلاّ الحكم الظاهري ، بل إنّ الحكم هنا مسوق لجعل حجّية حفظ الإمام ، فهو من قبيل الأمارة بالنسبة إلى الأصل العملي. نعم قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » ليس بمسوق لجعل الحجّية ، بل ليس هو مسوقاً إلاّلمجرّد إلغاء شكّ كثير الشكّ وإخراجه عن حكم الشكّ المتعارف ، مع أنّ المحكوم عليه وهو « من شكّ بين

ص: 125


1- فوائد الأُصول 4 : 594.
2- فوائد الأُصول 4 : 595.

الثلاث والأربع فليبن على الأربع » ليس متكفّلاً للحكم الواقعي ، فينبغي أن تكون الحكومة فيه أيضاً ظاهرية.

لكن يمكن أن نقول : إنّهاواقعية ، نظراً إلى أنّ مايستفاد من قوله : « لاشكّ لكثير الشكّ » من رفع حكم الشكّ المتعارف لا يكون إلاّرفعاً واقعياً ، بمعنى أنّه رفع للحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ وهو البناء على الأربع مثلاً رفعاً واقعياً.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن تحقّق الحكومة الظاهرية فيما يكون موسّعاً لموضوع الحكم كما في قاعدتي الطهارة والحل واستصحابهما بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة والحل ، فإنّ الحكومة في ذلك لا تكون إلاّحكومة ظاهرية ، خلافاً لما يظهر من الكفاية (1) من كون الحكومة في مثل ذلك تكون واقعية ، فراجع ما حرّرناه في ذلك في باب الإجزاء (2). والظاهر أنّ الضابط المائز بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية هو أنّ الدليل الحاكم إن كان متكفّلاً للحكم الواقعي كانت الحكومة واقعية ، وإن كان متكفّلاً للحكم الظاهري كانت الحكومة ظاهرية.

قوله : والجامع بين الكل هو أنّ مفاد التعبّد بأحد الدليلين ( الذي هو الدليل الحاكم ) إن رجع إلى إثبات متعلّق الشكّ الذي أُخذ موضوعاً في الدليل الآخر ( الذي هو الدليل المحكوم ) فالدليل المثبت لمتعلّق الشكّ يكون حاكماً على الآخر ، سواء كان إثبات المتعلّق بتوسّط جعل الاحراز كما في الأمارات ، أو بتوسّط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشكّ كما في الأُصول المحرزة ... الخ (3).

قد يتأمّل في تحقّق هذا الضابط في حكومة استصحاب الطهارة أو النجاسة

ص: 126


1- كفاية الأُصول : 86.
2- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب الصفحة : 382 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 596.

على مثل قاعدة الطهارة ، فإنّه كما يكون استصحاب النجاسة مثلاً مثبتاً لأحد طرفي الشكّ الذي هو موضوع قاعدة الطهارة ، فكذلك قاعدة الطهارة تكون مثبتة لأحد طرفي الشكّ الذي هو موضوع الاستصحاب ، وكما أنّ إثبات الاستصحاب لأحد طرفي الشكّ يكون بتوسّط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع ، فكذلك قاعدة الطهارة تكون مثبتة لأحد طرفي الشكّ بتوسّط الحكم بالبناء العملي على الطهارة.

فالأولى في تقريب الحكومة المذكورة هو التشبّث بنظر حكومة الأمارة على كافّة الأُصول ، بأن يقال : إنّ الاستصحاب عبارة عن الأخذ باليقين السابق والمنع عن نقضه بالشكّ ، فيكون مرجعه إلى جعل حجّية اليقين من حيث البناء العملي ، ولأجل ذلك كان من الأُصول الاحرازية ، وإلاّ فمجرّد الأمر بالبناء العملي على بقاء المتيقّن السابق لا يكون موجباً لكونه إحرازياً.

وبالجملة : أنّ الاستصحاب هو عبارة عن الأخذ باليقين السابق ، ومرجعه إلى جعل حجّية اليقين ، لكن لا مطلقاً كالأمارات ليكون مثبته حجّة ، بل من حيث البناء العملي فقط على ما شرحناه في محلّه (1) في باب جعل الطرق وفي كيفية التوفيق [ بين ] الأحكام الواقعية والظاهرية ، وحينئذ يكون الاستصحاب محرزاً للواقع ، ويكون رافعاً للشكّ الذي هو موضوع باقي الأُصول ومنها قاعدة الطهارة.

ومنه يتّضح الوجه في حكومة الأصل السببي كاستصحاب طهارة الماء على الأصل المسبّبي كاستصحاب نجاسة الثوب النجس المغسول به ، لأنّ إحراز طهارة الماء بواسطة حجّية اليقين يكون رافعاً للشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها ، وإحراز بقاء نجاسة الثوب لا يزيل الشكّ في بقاء طهارة الماء إلاّعلى

ص: 127


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : 301 وما بعدها.

الأصل المثبت ، فراجع ما حرّرناه في المباحث المشار إليها وفي مباحث الإجزاء إن شاء اللّه تعالى (1). لكن حكومة طهارة الماء على نجاسة الثوب لا تتوقّف على ذلك ، بل يكفي فيها مجرّد الحكم بطهارة الماء ولو استناداً إلى قاعدة الطهارة فيه ، فإنّها توجب الحكم بطهارة ما غسل فيه وسقوط استصحاب النجاسة في المغسول.

قوله : فإنّه إن أُريد من الحكم الظاهري مؤدّى الأمارة ، فالمؤدّى مشكوك لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، وإن أُريد من الحكم الظاهري اعتبار الأمارة وحجّيتها ، فهو وإن كان متيقّناً للعلم بحجّية الأمارات ، إلاّ أنّ العلم بالحجّية لم يؤخذ غاية للتعبّد بالأُصول العملية ... الخ (2).

لا يخفى أنّ مؤدّى الأمارة المفروض تعلّق الشكّ به لاحتمال مخالفتها للواقع ليس هو حكماً ظاهرياً ، بل هو نفس الحكم الواقعي الذي دلّت عليه الأمارة ، غايته نحتمل أنّ الحكم الواقعي ليس هو على طبق مؤدّى الأمارة.

وبالجملة : أنّ المؤدّى بنفسه المفروض تعلّق الشكّ به ليس من الأحكام الظاهرية ، كما أنّ نفس حجّية الأمارة ليس حكماً ظاهرياً بل هو حكم واقعي أيضاً ، وحينئذ فمراد من قال إنّ متعلّق العلم في غاية الأُصول العملية هو الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري ليس هو المؤدّى ولا حجّية الأمارة ، بل مراده بالحكم الظاهري هو الحكم المجعول على طبق مؤدّى الأمارة سواء خالفت الواقع أو

ص: 128


1- لم نعثر على بحث تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في مباحث الإجزاء. وعلى أيّ حال فقد تقدّمت مباحث إجزاء الحكم الظاهري في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص 375 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 598.

طابقته ، فإنّ هذا الحكم بعد فرض العلم بحجّية الأمارة يكون معلوماً ومقطوعاً به.

نعم ، يرد عليه ما أُفيد من أنّ متعلّق العلم المأخوذ غاية هو الواقع نفسه الذي تعلّق بضدّه اليقين والشكّ ، لا الأعمّ منه ومن الحكم الظاهري على خلاف مؤدّى الأصل. مضافاً إلى ما عرفت في مبحث جعل الطرق والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية من إنكار الحكم الظاهري بتاتاً ، وأنّه ليس في البين إلاّمجرّد جعل الحجّية ، ولعلّ ذلك - أعني إنكار الحكم الظاهري وأنّه ليس في البين إلاّ مجرّد جعل الحجّية - هو الأساس فيما أُفيد من حصر المراد بالحكم الظاهري بين الشيئين المذكورين أعني مؤدّى الأمارة وحجّيتها ، وإلاّ فلا ينبغي الريب في أنّه ليس شيء منهما هو المراد لمن زعم الورود مقرّباً له بهذا التقريب ، إذ ليس مراده من العلم بالحكم الظاهري إلاّ العلم بذلك الحكم المزعوم جعله في باب الطرق والأمارات فلاحظ.

قوله : هذا مع أنّ العلم بالحجّية لا يختصّ بباب الأمارات ، بل الأُصول أيضاً كذلك ، للعلم بحجّيتها ... الخ (1).

يمكن الجواب عنه بمثل ما أُفيد في الجواب عن التوهّم السابق ، فيقال : إنّ الأُصول وإن شاركت الأمارات في العلم بالحجّية ، إلاّ أنّ حجّية الأُصول لمّا كان موضوعها الشكّ كانت حجّية الأمارة رافعة له. نعم إنّ حجّية الأمارة لا ترفع الشكّ في الواقع الذي هو موضوع الأُصول ، وهو الايراد الأوّل ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّه قد تقدّم أنّه يمكن المناقشة فيه بمنع تنقيح المناط القطعي ... الخ (2).

قال في ذلك المبحث في الجزء الأوّل : وللمنع عن هذه الدعوى ( يعني

ص: 129


1- فوائد الأُصول 4 : 599.
2- فوائد الأُصول 4 : 601.

تنقيح المناط ) أيضاً مجال ، فإنّها موقوفة على استخراج المناط القطعي ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك إلخ (1).

والوجه في هذا المنع واضح ، فإنّه بعد فرض كون الدليل ظاهراً في أنّ الاحراز الوجداني قيد في الموضوع ، لا يمكن تسرية الحكم الوارد على ذلك الموضوع إلى مورد الاحراز التعبّدي ، ومجرّد كون ذلك الاحراز المفروض كونه وجدانياً مأخوذاً على نحو الطريقية لا يوجب التسرية المذكورة.

قوله : بل عمدة الوجه في قيامها مقامه هو أنّ المجعول في الأمارات لمّا كان الاحراز والوسطية في الإثبات فتكون حاكمة على الدليل الذي أُخذ القطع في موضوعه ... الخ (2).

قد حرّرنا في ذلك المبحث (3) أنّ مجرّد جعل الاحراز للأمارة لا يوجب أن يترتّب عليها الأثر الشرعي المترتّب على الاحراز الوجداني ما لم يكن في البين ما يدلّ على تنزيل الاحراز التعبّدي منزلة الاحراز الوجداني ، وإنّما أقصى ما في جعل الاحراز للأمارة هو ترتّب آثار الواقع عليها ، لكن ذلك ليس بالجعل الشرعي بل إنّ الشارع بعد أن جعل الاحراز للأمارة ، وكان قيامها على النجاسة مثلاً موجباً لتحقّق الاحراز التعبّدي للنجاسة ، لحقها آثار الواقع لحوقاً قهرياً.

والحاصل : أنّ الآثار العقلية اللاحقة للعلم الوجداني من تنجيز الواقع تلحق الاحراز التعبّدي بعد جعله من قبل الشارع لحوقاً قهرياً ، وهذا بخلاف الآثار

ص: 130


1- فوائد الأُصول 3 : 24.
2- فوائد الأُصول 4 : 601.
3- لاحظ ما ذكره المصنّف قدس سره في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 80 وما بعدها إلى آخر الحاشية.

الشرعية اللاحقة للاحراز الوجداني ، فإنّها لا يمكن أن تترتّب بمجرّد جعل الاحراز للأمارة ما لم يتنقّح نفس موضوعها الذي هو الاحراز الوجداني ، أو يقوم دليل على أنّ ذلك الاحراز التعبّدي منزّل عند الشارع منزلة الاحراز الوجداني.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : بل قد تقدّم أنّ حكومتها على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية التي لم يؤخذ القطع في موضوعها إنّما تكون بتوسّط كونها محرزة لها ، فحكومتها على نفس القطع والاحراز الذي أُخذ في الموضوع أولى وأحرى (1) لما عرفت الاشارة إليه من أنّ قيام الأمارة بالقياس إلى القطع الطريقي الصرف لا يوجب حكومة على الأدلّة الأوّلية المتكفّلة للأحكام الواقعية ، بحيث إنّه يكون قيام الأمارة موجباً لجعل ولو ظاهرياً في قبال تلك الأحكام الواقعية ، وإلاّ لعاد محذور الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، بل إنّ قيام الأمارة على موضوع أو حكم لا يؤثّر شرعاً في ناحية الأدلّة الأوّلية لا تأثيراً واقعياً ولا ظاهرياً ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ الشارع جعل لها صفة الاحراز وكوّنها علماً ، وبعد أن كوّنها علماً تتنجّز الواقعيات بها تنجّزاً قهرياً نظير تنجّزها بالقطع الوجداني ، فلا يكون ترتّب هذا الأثر العقلي عليها موجباً لأن يترتّب عليها الأثر الشرعي المجعول شرعاً للقطع ، فضلاً عن كون ترتّب الأثر الشرعي المذكور أولى وأحرى من ترتّب الأثر العقلي.

والحاصل : أنّ الحجّية والاحراز من الأحكام الوضعية القابلة للجعل الشرعي ، غايته أنّه لابدّ من ترتّب أثر عملي على هذا الجعل إخراجاً له عن اللغوية ، ويكفي في ذلك الأثر العملي ترتيب آثار الواقع عليه في موارد العلم الطريقي الصرف ، وأمّا آثار العلم الموضوعي المأخوذ في الموضوع فلا دليل على

ص: 131


1- فوائد الأُصول 4 : 601.

ترتّبه عليه وإن كان أخذه فيه على نحو الطريقية. نعم لو كان مرجع جعل الحجّية للأمارة هو تنزيلها منزلة العلم لكان لازمه ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها ، فراجع ما حرّرناه في ذلك الباب.

ولا يخفى أنّ إنكار قيام الأمارة - بمجرّد دليل حجّيتها بعد البناء على أن ليس مفاده إلاّجعل صفة الاحراز لها - مقام القطع الموضوعي لا ينافي حكومتها على الأُصول ، لأنّ حكومتها عليها ليس بمنوط بقيامها مقام العلم الموضوعي المأخوذ غاية في الأُصول ، بل يكفي في حكومتها على الأُصول هو أنّ الاحراز التعبّدي يكون رافعاً لما هو موضوع الأُصول وهو الشكّ رفعاً تعبّدياً ، فإنّ جعل الاحراز تعبّداً عين رفع الشكّ تعبّداً.

وبذلك تندفع شبهة أنّ الاحراز التعبّدي وتكوين الأمارة علماً لا يرفع الشكّ الوجداني الذي هو موضوع الأُصول ، لما عرفت من أنّ جعل قيام الأمارة على النجاسة إحرازاً للنجاسة عبارة أُخرى عن الحكم بارتفاع الشكّ فيها ، وبه يرتفع موضوع الأُصول ارتفاعاً تعبّدياً ، من دون حاجة إلى أن تكون الأمارة قائمة مقام العلم الذي أُخذ غاية في الأُصول ، لأنّ هذه الغاية إنّما هي غاية للحكم المجعول بالأصل المفروض كون موضوعه هو الشكّ ، وبعد ارتفاع الموضوع لا نحتاج إلى قيام رافعه مقام غاية الحكم الوارد عليه.

وإن شئت فقل : إنّ هذه الغاية ليست أمراً آخر وراء الموضوع ، بل إنّ تلك الغاية ليست إلاّعبارة عن أنّ هذا الحكم يكون باقياً ما دام الشكّ ، وقد تقدّم في التنبيه الثاني (1) الراجع إلى جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المحرزة بالأمارات بل وبسائر الأُصول حتّى الاستصحاب نفسه ما له نفع في هذا المقام

ص: 132


1- في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 210 وما بعدها.

فراجعه بما علّقناه عليه وتأمّل.

قوله : ولذلك قد يشتبه الشيء بين كونه أمارة أو أصلاً عملياً ... الخ (1).

قال في الحاشية : فلو شكّ في كون الشيء أمارة أو أصلاً - إلى قوله - وحيث لم يعلم كونه أمارة لم يثبت إثباته للوازم والملزومات ، والأصل عدمها ، فتأمّل (2).

وبنحو ذلك صرّح السيّد سلّمه اللّه في تحريره فقال : وإن شكّ في ذلك - إلى قوله - وأمّا الزائد عليه فهو مشكوك يرجع فيه إلى أصالة عدم الحجّية (3) ولكن لو وصلت النوبة إلى الشكّ في الحجّية بالنسبة إلى اللوازم كان ذلك موجباً للقطع بعدم الحجّية ، لما حرّر في محلّه (4) من عدم معنى محصّل لأصالة عدم الحجّية ، لكن يمكن تنزيل عبارة الحاشية - أعني والأصل عدمها - على أنّ المراد هو أصالة عدم تلك اللوازم ، لا أصالة عدم حجّية ذلك المشكوك كونه أمارة في إثبات تلك اللوازم ، فلاحظ.

ص: 133


1- فوائد الأُصول 4 : 602.
2- فوائد الأُصول 4 ( الهامش ) : 602.
3- أجود التقريرات 4 : 195.
4- راجع حواشي المصنّف قدس سره المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 362 وما بعدها.

[ قاعدة اليد ]

قوله : وإمّا لأصالة عدم التذكية ، وكلّ منهما غير قابل لأن يملك ... الخ (1).

لا يخفى أنّه كان الأنسب ذكر يد المسلم في إثباتها التذكية كما ذكروا مطلق اليد في إثباتها الملكية وإن كانت يد كافر حتّى على اللحم بناءً على كونها أمارة وأنّ مثبتها حجّة ، إذ لا يبعد أن يقال : إنّ المستند في عدم ملكية الكافر للحم إذا كان هو أصالة عدم التذكية كان من قبيل اليد على ما كان غير قابل للملكية بواسطة الاستصحاب ، وحينئذ فعلى من يقول بأنّ اليد أمارة وأنّ مثبتها حجّة وأنّ اليد مقدّمة على استصحاب الوقفية أو استصحاب عدم حصول المسوّغ للنقل ، أن يقول بأنّ يد الكافر على اللحم تحكم بتذكيته ، لتوقّف التملّك على التذكية كتوقّفه على زوال الوقفية أو على عروض إحدى مسوّغات البيع في الوقف ، فتأمّل لإمكان الفرق بين المقامين ، ففي الوقف تجري اليد ويترتّب اللازم ، بخلاف مسألة التذكية ويد الكافر ، والفارق هو النصّ القائل : إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك فعليكم أن تسألوا (2) الدالّ على إلغاء احتمال التذكية في يد الكافر.

ومن ذلك يظهر لك سقوط يد الكافر على اللحم في إثبات الملكية ولو قلنا بأنّ اليد أمارة وأنّ مثبتها حجّة. نعم يمكن القول بحجّية اليد المذكورة في إثباتها

ص: 134


1- فوائد الأُصول 4 : 603.
2- راجع وسائل الشيعة 3 : 492 / أبواب النجاسات ب 50 ح 7 ( مع اختلاف ).

الاختصاص وإن لم تكن مثبتة للملكية.

هذا كلّه لو قلنا بأنّ الكافر لا يرى ملكية الميتة كما هو غير بعيد ، إذ لا أظنّ أنّ ديناً من الأديان يسوّغ ملكيتها ، بل حتّى غير المتديّنين مثل عبدة الأصنام والطبيعيين فإنّهم يستقذرونها ، فإنّه حينئذ يكون ما تضمّنه النصّ المزبور على خلاف القاعدة ، لأنّ يد الكافر وإن لم تكن أمارة على التذكية إلاّ أنّها أمارة على الملكية ، ولازم كونه مالكاً للحم أنّه مذكّى ، لأنّ الفرض أنّه لا يرى ملكية الميتة وغير المذكّى ، أمّا الاختلاف بيننا وبينهم في كيفية التذكية فليس هو إلاّمن قبيل الاختلاف بيننا وبين العامّة في كيفيتها ، وعليه فلا يكون الفرق بين يد المسلم ويد الكافر إلاّفي أنّ الأُولى تكون أمارة على التذكية ابتداءً ، بخلاف الثانية فإنّها تكون أمارة على التذكية بواسطة إثباتها الملكية الملازمة للتذكية ، بل يمكن ادّعاء كون الأُولى كالثانية ، لكن النصّ لمّا منع من الأخذ من يد الكافر بلا فحص وسؤال التزمنا بعدم جريانها في المقام المذكور ، لعدم إمكان الحكم بالملكية ولو ظاهراً مع الحكم بعدم التذكية أو مع عدم الحكم بها المستفاد من وجوب السؤال.

أمّا لو فرضنا أنّهم يرون مالكية الميتة ، كانت يد الكافر على اللحم المزبور نظير يده على الخمر والخنزير في كونها أمارة على أنّه يملكه بحسب مذهبه من دون توقّف على التذكية ، وإن كنّا نحن لا نتمكّن من تملّكه منه بشراء ونحوه ، فلا تكون هذه الملكية التي هي على مذهبه ملازمة للحكم بالتذكية ، والنصّ المذكور لا ينفي هذه الملكية ، بل أقصى ما فيه هو عدم الحكم بكونه مذكّى ، إمّا لأنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، أو لأنّها ليست كيد المسلم في الأمارية على التذكية لتكون حاكمة على أصالة عدم التذكية.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه إنّما هو في لحم الميتة ، وأمّا

ص: 135

جلدها فلا يخفى أنّ كثيراً من المسلمين فضلاً عن الكافرين قائلون باستحلاله ولو بالدبغ ، ولكن مع ذلك تكون يده أمارة على التذكية بخلاف يد الكافر ، فراجع المسألة في كتاب الطهارة.

والفرق بين هذا الكافر الذي يرى جواز تملك الميتة وبين المسلم الذي يرى ذلك كما في الحنفي الذي يرى طهارة جلد الميتة بالدباغ أو يرى أنّ التسمية غير واجبة في التذكية ، هو أنّ الأوّل يحكم بمالكيته لما تحت يده ممّا يعلم أنّه ميتة كما نحكم بمالكيته للخمر والخنزير ، بخلاف الثاني فإنّه لو كان بيده جلد ميتة مدبوغ لا نحكم بأنّه يملكه ، وكذا لو علمنا أنّه لم يسمّ على تلك الذبيحة ، لكن لو لم يعلم الحال نحكم في الأوّل بمجرّد الملكية ولا نحكم بالتذكية ، بخلاف الثاني فإنّه يحكم فيه بالتذكية ، لأنّ مدرك حجّية يد المسلم على التذكية شبيه بأصالة الصحّة الجارية في حقّ المسلم دون الكافر احتراماً للمسلم بحمل يده على الصحّة الواقعية ، فنقول إنّه قد ذكّاه وقد سمّى على الذبيحة ولو من باب الاتّفاق.

ومنه يظهر لك الحكم في الذي يأخذه المسلم من يد الكافر ، فإنّا لو احتملنا في حقّه السؤال والفحص وأنّه لم يقدم على أخذه من الكافر إلاّبعد أن تحقّق عنده ما يكون قاطعاً لأصالة عدم التذكية ، صحّ لنا أخذه منه. أمّا لو علمنا بأنّه قد أقدم على شرائه منه من دون مسوّغ ومبرّر ، بل أقدم على ذلك مع فرض كونه مجرى لأصالة عدم التذكية ، فالظاهر سقوط يده في الاستناد إليها مقابل أصالة عدم التذكية الجارية في حقّنا كما هي جارية في حقّه.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في الجلود التي يجلبها المسلم من بلاد الكفرة مع علمنا بأنّ ذلك المسلم لم يتفحّص ، ولم يصدر عنه سوى أنّه اشتراه وجلبه من الكافر ووصل إلى يده من دون أيّ فحص قاطع عنده لأصالة عدم

ص: 136

التذكية التي هي جارية في حقّه.

والحاصل : أنّك أنت وذلك المسلم الجالب سواء في عدم الفحص والسؤال وأنّ كلاً منكما لم يصدر منه شيء سوى أنّ ذلك الجالب قد أقدم على الجلب والشراء من دون أيّ مبرّر ، وهذا بمجرّده لا يكون موجباً لانقطاع أصالة عدم التذكية في حقّك ، كما هي أيضاً غير منقطعة في حقّه ، فكيف يسوغ لك الشراء منه والحكم بأنّه مذكّى ، إلاّ أن يدّعى أنّ يد المسلم كالكرّ مطهّرة قهراً ، وهذا لا يساعده الذوق ، وإطلاق الأدلّة منصرفة عنه ، فلاحظ.

مضافاً إلى ما في ذلك ممّا هو بالتناقض أشبه ، فإنّ حكمه الظاهري هو كون ذلك الذي تحت يده ميتة وأنّه نجس وأنّه لا يملكه ، لكن يده المذكورة التي كان هذا حالها بالنسبة إليه تكون مطهّرة بالنسبة لك وموجبة لكونه بالنسبة إليك مالكاً ، وأنّ ما تحت يده مذكّى وأنّه طاهر ، هذا ممّا لا يقبله الذوق ، فلاحظ.

قوله : وليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبّد بالملكية لصاحب اليد ... الخ (1).

تقدّم نظيره في مبحث الأصل المثبت (2) ، وتقدّم أنّه لا مانع من التعبّد العقلائي الصرف ، وأنّ ترتيبهم آثار المتيقّن السابق في باب الاستصحاب من ذلك ، لو لم نقل بأنّ عملهم على ذلك من باب حجّية اليقين في خصوص ترتيب الآثار اللاحقة للمتيقّن.

وبالجملة : لا ريب في أنّ لنا أُصولاً عقلائية قد جرى عليها [ العقلاء ] مثل أصالة الصحّة وأصالة السلامة من العيب وأصالة الحقيقة ونحو ذلك من الأُصول

ص: 137


1- فوائد الأُصول 4 : 603.
2- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : 87 وما بعدها.

العقلائية التي جرى عليها العقلاء بحسب مرتكزاتهم الفطرية ، وإن كان ذلك لا يخلو عن منشأ من عادة وغلبة وناموس طبعي ونحو ذلك ، وكلّ ذلك لا يرجع إلى الكشف الظنّي كي يكون من باب الأمارة. ولو سلّمنا أنّ ذلك من باب الظنّ النوعي العقلائي فلا يلزمه أن يكون من قبيل الأمارة ، بل هو تابع لكيفية جريهم على مقتضى ذلك ، وهل هو من باب تتميم الكشف الناقص ليكون بمنزلة العلم الطريقي في ترتيب مطلق الآثار ، أو أنّه من باب مجرّد الجري العملي على طبق وجود الشيء الذي لا يقتضي إلاّمجرّد ترتيب الآثار اللاحقة لنفس ذلك الشيء دون مقارناته ولوازمه وملزوماته ، وهذا هو الفارق بين ما نسمّيه أمارة عندهم وما نسمّيه أصلاً عندهم ، وعليه يترتّب كونه مثبتاً للوازم وغير مثبت لها ، فراجع ما شرحناه في مبحث الأصل المثبت. والغرض هو أنّه ليس الميزان في الأصل هو كونه تعبّداً صرفاً لكي ينسدّ باب الأُصول العقلائية بالمرّة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : لأنّ الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكاً لما في يده ... الخ (1).

الظاهر أنّ خروج يد الاجارة والأمانة والعارية ونحوها عن عموم كون اليد أمارة على الملكية بالتخصّص ، نظير خروج هذه الأيدي عن عموم « على اليد ما أخذت » فإنّ هذه الأيدي في الحقيقة إنّما هي يد المالك ، ولأجل ذلك نقول بتقدّم استصحاب حال هذه اليد في كونها أمانة على ما تقتضيه اليد من مالكية العين ، لأنّ هذه اليد لمّا كانت في الحقيقة هي يد المالك الأصلي ، فهي إنّما تدلّ على مالكية المالك الأصلي ، ولا تدلّ على مالكية صاحب نفس هذه اليد ، فإنّ ما

ص: 138


1- فوائد الأُصول 4 : 603.

يكون أمارة على الملكية هو اليد الاستقلالية ، لا اليد التي هي وجود ظلّي ليد المالك الأصلي وهي آلة للمالك الأصلي.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لا نحتاج في تقدّم استصحاب حال اليد إلى دعوى كون اليد التي هي أمارة الملكية هي اليد المالكية أو اليد التي لم يعلم حالها ، بل يكفينا نفس عموم كون اليد أمارة على المالكية ، فإنّه ظاهر في اليد الاستقلالية. وإن شئت فقل : إنّه ظاهر في اليد لصاحب اليد وهذه ليست يداً لصاحب اليد ، بل هي يد المالك.

لا يقال : فعلى هذا ينبغي أن لا يتمسّك باليد المشكوك كونها يداً مالكية أو يداً أمانية حتّى لو لم يكن حالها السابق معلوماً ، لأنّ التمسّك حينئذ يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، نظير التمسّك بعموم العالم في من شكّ في كونه عالماً.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن ظهور اليد في حدّ نفسه قاضٍ بالاستقلالية ، وذلك كافٍ في دخوله تحت اليد المحكوم عليها بكونها أمارة على الملكية ، لكن هذا الظهور إنّما يتمشّى في اليد غير المسبوقة بالأمانيّة مثلاً ، وإلاّ كان استصحاب الأمانية قاطعاً لهذا الظهور ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة في كيفية الحكومة وإن كانت أسهل من الطريقة المشار إليها ، أعني دعوى كون اليد الأمارة على الملكية هي اليد غير المعلومة الحال ، لصعوبة إقامة الدليل على هذا التقييد كما سيتّضح في الحواشي الآتية ، إلاّ أنّه لا يتأتّى في استصحاب الحال فيما لو كان مسبوقاً بالغصبية ، ويلحق به ما كان مسبوقاً بالأمانة الشرعية كاللقطة ونحوها ممّا لا يكون التأمين من ناحية

ص: 139

المالك.

أمّا طريقة شيخنا قدس سره من كون اليد الأمارة مقيّدة بعدم العلم فيحتاج إلى دليل ، ومجرّد كون موردها ذلك غير نافع في الحكومة ، والمفروض أنّ الأدلّة اللفظية لم تتكفّل بهذا التقييد ، وبناء العقلاء دليل صامت ، وأقصى ما نستحصله هو القدر المتيقّن ممّا جروا عليه وهو اليد المجهولة الحال ، وليس ذلك بملحق له بالتقييد اللفظي للسان الدليل كي يكون محلاً لصيغة الحكومة أو الورود ، وليس دعوى هذا القدر المتيقّن بأولى من دعوى كون القدر المتيقّن هو حجّية اليد عندهم في غير المسبوقة بالعدوان والأمانية ، لنستريح بذلك من دعوى الورود أو الحكومة لسقوطها بنفسها حينئذ في المورد المذكور وإن لم يجر فيه الاستصحاب ، هذا.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) هو الاعتماد على كلا الوجهين ، فإنّه قال : فإنّ اليد المعتبرة إنّما اعتبرت بما أنّها كاشفة عن الملكية نوعاً ، لما عرفت من أنّ الاستيلاء على الشيء من اللوازم الطبيعية المترتّبة على الملك ، ولا ريب أنّ الكاشفية النوعية إنّما تتحقّق فيما إذا لم يعلم حال اليد من حيث حدوثها - إلى أن قال - هذا مع أنّه على تقدير أماريتها في هذا الحال أيضاً إنّما تكون أمارة بما أنّها مشكوكة الحال ، واستصحاب عدم تبدّل حالها وبقائها على ما كانت عليه يكون حاكماً عليها ومثبتاً كونها غير ملك ، فيخرجها عن كونها مشكوكة الحال - إلى أن قال - فتلخّص ممّا ذكرناه عدم حجّية اليد فيما إذا علم حالها السابق من كونها حادثة على غير الملك باجارة أو عارية ونحوهما ، لعدم أماريتها على الملك في نظر العقلاء أوّلاً ، وحكومة الاستصحاب عليها ثانياً ،

ص: 140

وعلى ذلك جرت سيرة العقلاء في أخذ السجلات من المستأجرين وغيرهم لقبول الاجارة ونحوها ، وليس ذلك إلاّلأجل إسقاط أمارية اليد وإثبات أنّ حدوث اليد على المال لم يكن بعنوان المالكية ، فيحتاج المستأجر مثلاً إلى إثبات الملكية إن ادّعاها (1).

ولا يخفى أنّه إن كان الاعتماد على الثاني لم يكن أخذ السجل لأجل توليد الاستصحاب ، لما عرفت من سقوطه باحتمال التبدّل إلاّفي صورة العلم ببقاء اليد السابقة ، وعدم تبدّلها بالدفع إلى المالك ثمّ الأخذ منه. أمّا إذا احتمل التبدّل فلا يكون فائدة السجل إلاّمؤاخذة المقرّ باقراره السابق وانقلابه مدّعياً ، فيكون إقراره السابق مسقطاً ليده.

وأمّا على الوجه الأوّل فلا يكون فائدة أخذ السجل محتاجاً إلى هذا التطويل ، بل يكون فائدته بواسطة إثبات أنّ حدوث اليد كان بعنوان الاجارة ، وهو كافٍ في إسقاط اليد الفعلية عن الحجّية ، لأنّها حينئذ لا تكون كاشفة بنظر العقلاء عن الملكية.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما نحتاج إليه في صورة سبق العدوان أو الأمانة الشرعية ، أمّا الأمانة المالكية فقد عرفت أنّ سقوطها لا يحتاج إلى هذا التطويل ، لما عرفت من أنّ عمراً لو كانت يده على الدار أمانة من مالكها الذي هو زيد لا تكون يد عمرو يداً لعمرو بل هي يد زيد ، فلو احتملنا أنّه اشتراها منه كان الاستصحاب قاضياً بأنّ يد عمرو باقية على ما كانت عليه من كونها غير يده وأنّها يد زيد ، فلا تكون كاشفة عن ملكية عمرو ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 141


1- أجود التقريرات 4 : 197 - 199.

قوله : وقوله عليه السلام في بعض أدلّة اعتبار اليد : « وإلاّ لما قام للمسلمين سوق » (1) لا يدلّ على التعبّد بها ( لكي يكون ذلك دليلاً على اعتبارها أصلاً عملياً ) بل إنّما هو لبيان حكمة إمضاء ما عليه العقلاء ، فإنّه لولا اعتبار اليد لاختلّ النظام ولم يبق للمسلمين سوق ... الخ (2).

كيف ولا ينبغي الريب في إمكان تعليل الحكم بحجّية خبر الثقة بمثل هذا التعليل ، بأن يقال : وإن لم يكن خبر الثقة حجّة لما انتظم معاش البشر واختلّ جميع ما هم عليه من الاجتماع البشري ، ومن الواضح أنّ التعليل بذلك لا يكشف عن كون حجّية خبر الثقة من باب الأصل العملي ، فلاحظ.

ثمّ إنّك بعد أن عرفت جميع ما حرّرناه في شرح كلمات شيخنا قدس سره وغيره من الأساطين ممّا مضى ويأتي تحريره تعرف أنّ ما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس سره في الجهة الأُولى من رسالته في قاعدة اليد ممّا لا مساس له بدليل قاعدة اليد وكيفية تقديم استصحاب حالها عليها ، فإنّه قد ذكر أنّ أماريتها في مقام الثبوت منوطة بغلبة كون اليد مالكة ، ولكن هناك غلبة أُخرى وهي غلبة بقاء الشيء على ما كان ، وهذه تقيّد الأُولى ، ومقام الإثبات تابع لمقام الثبوت ، وحينئذ يتقيّد الاطلاق الوارد في مقام الاثبات ، لكن ذلك لو قلنا بكونها أمارة ، أمّا لو قلنا بكونها أصلاً فلا مانع من إطلاق دليلها ، ومقتضاه إلغاء استصحاب الحال ، لكن هذا فيما يكون مشتملاً على الاطلاق من الأدلّة مثل « من استولى » دون غيره من الأدلّة (3).

ص: 142


1- وسائل الشيعة 27 : 292 - 293 / أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 2 ، ولفظالحديث « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».
2- فوائد الأُصول 4 : 603.
3- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة في آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 329.

وأنت خبير بما فيه من أنّ الأمارية أو حجّية اليد ليست منوطة بالغلبة كي تقدّم الغلبة الثانية على الغلبة الأُولى ، ولو سلّمنا ذلك لجرى في كلّ استصحاب في قبال اليد حتّى استصحاب الملكية السابقة.

ثمّ لا يخفى أنّها لو كانت أصلاً عقلائياً لكان ينبغي أن يكون ملاكها هو الغلبة ، وحينئذ يجري ما قدّمه من كون الغلبة الثانية مقدّمة على الغلبة الأُولى.

ثمّ لو أغضينا النظر عن ذلك كلّه فكيف كان مفاد اليد بناءً على كونه أصلاً عملياً مقدّماً على مفاد استصحاب حال اليد ، إذ لا أقل حينئذ من التعارض والتساقط ، ودعوى كون اليد بلا مورد حينئذ إنّما هي في قبال الاستصحاب في موردها لا في قبال استصحاب حالها كما أوضحناه. أمّا إطلاق دليلها لو كانت أصلاً فهو غير نافع في دعوى تقديمها على الاستصحاب المذكور ، فإنّ دليل الاستصحاب أيضاً مطلق فكيف قدّمنا ذلك الاطلاق على هذا الاطلاق.

ومن الغريب قوله : إلاّ أنّ دعوى الاطلاق في جميع موارد الأدلّة المتقدّمة ممنوع الخ ، فإنّ باقي الأدلّة إذا لم يكن فيها إطلاق كانت ساقطة [ عن ] الحجّية في المقام ، لكن ذلك الذي له إطلاق وهو مثل قوله عليه السلام : « من استولى » الخ (1) ، كاف في إثبات حجّية اليد في المقام ، فكيف فرّع عليه قوله : وحينئذ فمرجع الأمر إلى استصحاب بقاء اليد على عنوانها المعلوم ، فهي يد غير مالكة تعبّداً الخ ، وهل يكون عدم الاطلاق في باقي الأدلّة موجباً لسقوط الاطلاق في المسلّم إطلاقه أعني قوله : « من استولى على شيء » ليكون ذلك موجباً لسقوط حجّية اليد ليتمّ حجّية استصحاب الحال.

ثمّ إنّ له كلمة قبل هذه الكلمات لم أتوفّق لفهمها ، وذلك قوله في مقام

ص: 143


1- وسائل الشيعة 26 : 216 / أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

الثبوت : فنقول أمّا ملاك الملازمة الطبعية فلا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ مقام الاقتضاء لا يتقيّد بعدم المانع ، بل يتقيّد به فعلية المقتضى مع ثبوت مقتضيه وانحفاظ الاقتضاء الخ. ويمكن أن يكون مراده هو أنّ اليد مقتضية للملكية ، وهذا الاقتضاء لا يتقيّد بعدم المانع الذي هو كونها عادية مثلاً ، بل الذي يتقيّد بعدم المانع المذكور هو فعلية الملكية التي هي المقتضى - بالفتح - ، فإنّ الملكية الفعلية تتقيّد بعدم المانع المذكور وبثبوت المقتضي - بالكسر - الذي هو اليد مع انحفاظ الاقتضاء ، هذا ما فهمته.

ولكن يكون ماذا حينئذ ، فهل يكون الجاري في المقام هو اليد أو يكون الجاري هو الاستصحاب؟ ظاهره الأوّل ، لأنّ اليد باقية على الاقتضاء فيحكم بالملكية.

ثمّ له كلمة سابقة على ذلك وهي قوله : نعم يمكن - إلى قوله - بل كما يتقوّى جانب ثبوت المقتضى بثبوت مقتضيه فلا يعتنون باحتمال المانع ويتقوّى جانب البقاء بارتكاز الثبوت فلا يعتنون باحتمال الارتفاع ، كذلك يتقوّى جانب الاحتواء الاعتباري بوجدان الاحتواء الخارجي الخ (1) ، والثالث هو محصّل قاعدة اليد والثاني هو محصّل قاعدة الاستصحاب ، والأوّل هو محصّل قاعدة المقتضي ، وحينئذ فهل هي مسلّمة عنده أو أنّها غير مسلّمة ، وحينئذ فلماذا لا تكون مسلّمة مع جريان العقلاء عليها حسب الفرض ، فهل ذلك لردع أو عدم إمضاء ، كلّ ذلك محتاج إلى الشرح.

وأمّا قوله : والظاهر كما أفاده بعض أجلّة السادة قدس سرهم أنّ الأمر ممّا لا شكّ

ص: 144


1- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة في آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 328.

فيه (1) فهو إشارة إلى ما ذكره السيّد قدس سره في البلغة وهو قوله قدس سره : السادس يشترط في إفادة اليد الملك عدم العلم بحدوثها بعنوان آخر ، فلو علم بكونها في يده كان بنحو العدوان أو الأمانة ثمّ شكّ في ملكيتها وهي في يده في الزمان اللاحق ، لم تكن اليد مفيدة للملك عند الشكّ لاستصحاب اليد السابقة وأصالة عدم تبدّل عنوانها بعنوان آخر ، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه (2) لكن لعمري لقد اعترتنا الشبهة في وجه تقدّم هذا الاستصحاب المعبّر عنه باستصحاب اليد على نفس اليد ، ولابدّ من الجواب عنها بما عرفت.

أمّا دعوى أنّه لا مستند لنا في حجّية اليد إلاّعمل العقلاء الممضى من جانب الشارع ، المقصور على القدر المتيقّن وهو ما لم يكن حالها سابقاً معلوماً بالعدوان أو بالأمانيّة ، فهي أوضح الأجوبة ، ولكن عهدة هذه الدعوى على مدّعيها في قبال إطلاق الأدلّة.

تكميل : وهو أنّه بعد أن اتّضح أنّ استصحاب حال اليد في مثل الأمانات يكون مقدّماً على اليد ولو لما ذكرناه من جهة كون يد الأمين يد المالك لا أنّها يد نفس الأمين ، وبعد أن اتّضح أنّ هذا الاستصحاب لا يجري في مورد احتمال تبدّل اليد وتجدّدها ، لا تكون فائدة أخذ الورقة من المستأجر مثلاً بأنّ يده على العين يد إجارة هو فتح باب التمسّك باستصحاب اليد ، بل تكون فائدة الورقة هو مؤاخذة صاحبها باقراره وانقلابه مدّعياً لو لم نقل بعدم سماع دعواه.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أفاده في التحرير عن شيخنا قدس سره بقوله : وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الاجارة الخ ، فإنّ قبول ورقة الإقرار

ص: 145


1- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة في آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 329.
2- بلغة الفقيه 3 : 330.

ليس من جهة تقدّم الاستصحاب ، بل من جهة نفس الإقرار. نعم ثبوت كون اليد إجارة بالبيّنة يكون من هذا القبيل.

قوله : فإنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الاجارة والغصب ونحوهما ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الظاهر التسالم على تقدّم استصحاب حال اليد على نفس اليد في كشفها عن الملكية كما يظهر ذلك من الجواهر (2) والسيّد قدس سره في البلغة (3) والسيّد في ملحقات العروة (4) على أنّه مخالف في مسألة المسبوقية بالوقف (5).

وعمدة ما يمكن أن يقال في وجه تقدّم اليد على استصحاب حالها هو أنّ استصحاب كون هذه اليد يد عدوان وإن كان في حدّ نفسه جارياً ، إلاّ أنّ في قباله اليد ، وهي إن قلنا بكونها من الأمارات فلا إشكال في تقدّمها على الاستصحاب ، فإنّها وإن لم تكن بمدلولها المطابقي رافعة لموضوع هذا الاستصحاب ، لأنّ مجرّد الملكية لا يرفع موضوع هذا الاستصحاب ، إلاّ أنّها بمدلولها الالتزامي وهو خروج تلك اليد عن كونها عدوانية تكون رافعة لموضوع ذلك الاستصحاب. وإن قلنا بأنّ اليد من قبيل الأُصول الاحرازية فهي أيضاً مقدّمة على الاستصحاب في موردها ، لما تقدّم من أنّه لو تقدّم عليها لبقيت بلا مورد.

لكن قد يقال : بأنّها بناءً على كونها من الأُصول إنّما تكون مقدّمة على مثل

ص: 146


1- فوائد الأُصول 4 : 604 - 605.
2- جواهر الكلام 40 : 456.
3- بلغة الفقيه 3 : 330 - 331.
4- العروة الوثقى 6 : 625.
5- العروة الوثقى 6 : 401.

استصحاب ملكية المالك السابق لأنّها لو لم تقدّم على مثل هذا الاستصحاب لبقيت بلا مورد. أمّا استصحاب حال نفس هذه اليد من كونها عدوانية فلا يلزم من تقدّمه عليها بناءً على كونها من الأُصول أن تبقى بلا مورد ، لكفاية بقية الموارد ممّا لا يكون مورداً لاستصحاب حال اليد ، وحينئذ فلا أقل من التعارض بينها وبين هذا الاستصحاب ، وبناءً على ذلك يتمّ ما أراده المعترض من أنّه لا وجه لتقدّم الاستصحاب عليها ، بل كانت النتيجة أنّ اليد إن كانت من الأمارات كانت هي المقدّمة على الاستصحاب المذكور ، وإن كانت من الأُصول كانت معارضة له ، فلا وجه لتقدّمه عليها كما هو المعروف.

وربما يجاب : بأنّ استصحاب حال اليد لمّا كان محرزاً لكونها عدوانية ، كان موجباً لخروجها عن موضوع حجّية اليد ، إذ لا يمكن الحكم على اليد العدوانية ( ولو بواسطة الاستصحاب ) بأنّها كاشفة عن الملكية كما ربما يظهر ذلك من قوله : واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الاجارة أو الغصب ، فلا تكون كاشفة عن الملكية الخ (1).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّا لو قلنا إنّ اليد الكاشفة عن الملكية هي غير اليد الاجارية والعدوانية ونحوها لم يكن له معنى محصّل ، إلاّ أنّ اليد إن كانت هي من قبيل هذه الأيدي لم تكن كاشفة عن الملكية ، وإن لم تكن من قبيل هذه الأيدي كانت كاشفة عن الملكية ، ولا ريب في أنّ اليد التي هي غير هذه الأيدي منحصرة باليد المالكية ، فلا معنى حينئذ للقول بأنّها أمارة على الملكية ، هذا.

مضافاً إلى أنّ اليد التي هي أمارة على الملكية لو كانت مقيّدة بكونها هي غير هذه الأيدي لكان التمسّك بها في موارد الشكّ من قبيل التمسّك بالعموم في

ص: 147


1- فوائد الأُصول 4 : 605.

الشبهة المصداقية.

وحينئذ فلابدّ في الجواب عن أصل الشبهة بما أفاده قدس سره بقوله : فإنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها ، والاستصحاب يرفع موضوع اليد الخ (1) ، وحاصله : أنّ موضوع الأمارة ليس هو مطلق اليد ، بل هو اليد التي لم يكن حالها معلوماً ، والاستصحاب الجاري في حال اليد وأنّها يد عادية يكون رافعاً لهذا الموضوع ، فيكون حاكماً على دليل حجّية اليد.

وتوضيح ذلك : أنّه لا إشكال في أنّ اليد التي جرى عليها العقلاء وأمضى الشارع فيها ذلك البناء العقلائي ليس هو خصوص اليد غير العادية ولا خصوص اليد المالكية ، بل إنّ مورد ذلك البناء العقلائي والامضاء الشرعي هو اليد غير المعلومة الحال ، وحينئذ فاليد وإن كانت في حدّ نفسها باعتبار دليل حجّيتها وتتميم جهة كشفها من الأمارات ، إلاّ أنّها باعتبار كون موضوع ذلك الكشف وتلك الحجّية هو اليد التي لم يعلم حالها ، تكون من هذه الناحية كالأُصول الشرعية غير التنزيلية يتقدّم عليها كلّ ما يكون محرزاً لحالها من حيث كونها أمانية أو عدوانية.

فإنّ المراد من عدم العلم بحالها إن كان هو عدم الإحراز الأعمّ من الاحراز الوجداني والاحراز التعبّدي كما ربما يدّعى ذلك من باب أنّه القدر المتيقّن من موارد حجّية اليد ، وأنّ اليد في مورد إحراز حالها وجداناً أو تعبّداً خارجة عن دليل حجّية اليد ، كان استصحاب العدوانية فيها وارداً على دليل حجّيتها ، لكونه حينئذ مخرجاً لها وجداناً عن موضوع دليل حجّيتها الذي هو اليد التي لم يحرز حالها بالأعمّ من الاحراز الوجداني والاحراز التعبّدي ، من دون فرق في ذلك بين

ص: 148


1- فوائد الأُصول 4 : 605.

أن نقول بكون اليد من قبيل الأمارات أو نقول بكونها من قبيل الأُصول.

وإن منع من ذلك وادّعي أنّ موضوع الحجّية هو اليد التي لم يعلم حالها بالعلم الوجداني غير الشامل للاحراز التعبّدي ، فإن قلنا بأنّها من قبيل الأمارات فهي وإن كانت مثبتة للوازم ، إلاّ أنّ استصحاب العدوانية فيها يكون حاكماً عليها لأنّ هذا الاستصحاب يرفع الشكّ فيها رفعاً تنزيلياً ويخرجها إخراجاً تنزيلياً عن كونها ممّا لم يعلم حالها ، نظير حكومة الأمارة على الأُصول الاحرازية وغير الاحرازية ، وحكومة الأُصول الاحرازية على غير الاحرازية ، بناءً على أنّ تلك الأُصول المحكومة مقيّدة بعدم العلم الوجداني على ما تقدّم توضيحه (1) ، هذا حال استصحاب عدوانية اليد.

وأمّا اليد نفسها فهي بمدلولها المطابقي الذي هو مالكية صاحبها لا ترفع موضوع الاستصحاب المذكور ، وإنّما ترفعه باعتبار مدلولها الالتزامي الذي [ هو ] متأخّر رتبة عن مدلولها المطابقي ، فإنّها أوّلاً تثبت مالكية صاحبها ، وبواسطة أنّ مالكية صاحبها ملازم لكونها غير عادية تثبت ثانياً أنّها يد مالكية وأنّها غير عدوانية ، وبواسطة هذا الإثبات ثانياً يرتفع موضوع استصحاب العدوانية ، لكن الاستصحاب المذكور يرفع موضوعها تنزيلاً في المرتبة الأُولى ، فلا تصل النوبة إلى المرتبة الثانية كي تكون اليد بالمرتبة الثانية رافعة لموضوع الاستصحاب ، وهذا بخلاف البيّنة القائمة على مالكية صاحب اليد ، فإنّ البيّنة لمّا لم تكن مقيّدة بعدم العلم وكانت حجّة في إثبات اللوازم ، كانت حاكمة على الاستصحاب المذكور ، لأنّه لا يكون رافعاً لموضوعها في الرتبة الأُولى ، وهي في المرتبة الثانية

ص: 149


1- راجع الأمر الثالث في فوائد الأُصول 4 : 591 - 601 ، وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك المبحث تقدّمت في الصفحة : 124 وما بعدها.

رافعة لموضوعه ، فتكون حاكمة عليه ، هذا كلّه لو قلنا بأنّ اليد من قبيل الأمارات.

وأمّا لو قلنا بأنّها من قبيل الأُصول العملية ، فحكومة الاستصحاب عليها أوضح ، لأنّها حينئذ لا تثبت ذلك اللازم ، واستصحاب حالها يرفع موضوعها وهي في الرتبة الأُولى بحكمها بأنّ صاحبها مالك لا ترفع موضوع استصحاب الأمانية أو العدوانية ، وإنّما ترفعه في الرتبة الثانية التي هي لازمة للرتبة الأُولى ، وهي بناءً على كونها من الأُصول العملية لا تثبت تلك المرتبة.

لا يقال : قد تكرّر مراراً أنّ الأمارات وإن كان موردها الجهل بالحكم الواقعي إلاّ أنّ دليل اعتبارها لم يكن مشتملاً على تقييد موضوعها بالشكّ وعدم العلم ، فلأجل ذلك قلنا إنّ الأُصول التنزيلية لا تكون حاكمة عليها ، بل كانت هي - أعني الأمارات - حاكمة على الأُصول التنزيلية ، لكون موضوع الأُصول هو عدم العلم والأمارات لم تكن مقيّدة به ، وحينئذ فينبغي أن لا يتمّ ما ذكرتموه من أنّ موضوع اليد هو اليد المشكوكة أو غير المعلومة الحال ، سواء كان ذلك عبارة عن مطلق الاحراز أو كان عبارة عن الاحراز الوجداني ، فلا وجه لتقدّم استصحاب حالها عليها ، سواء كانت من قبيل الأمارات أو كانت من قبيل الأُصول العملية.

لأنّا نقول : يمكن أن يدّعى أنّ القدر المتيقّن من دليل حجّيتها هو خصوص هذا المورد وهو خصوص اليد غير المعلومة الحال أو غير المحرزة الحال ، فيكون ذلك القدر المتيقّن بمنزلة المقيّد للدليل الدالّ على حجّيتها ، وأنّ موضوع تلك الحجّية هو خصوص اليد غير المعلومة الحال.

بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل على الحجّية لمّا كان هو بناء العقلاء بعد إمضاء الشارع ، ورأينا العقلاء لا يأخذون بكلّ يد ، فإنّهم إنّما يأخذون باليد التي لا يعلمون حالها ، إذ اليد المعلومة الحال لا تحتاج إلى ذلك البناء العقلائي ، كان ذلك

ص: 150

عبارة أُخرى عن كون موضوعها مقيّداً بالقيد المزبور ، وما ذكرناه في باب الأمارات من أنّ مورد حجّيتها وإن كان هو عدم العلم إلاّ أنّ دليل حجّيتها لا يكون مقيّداً بهذا القيد لا يجري في حجّية اليد وإن كانت من الأمارات ، لأنّ عدم العلم الذي ذكرنا أنّه لم يكن مأخوذاً قيداً في الأمارات إنّما هو عدم العلم بنفس مؤدّاها الذي هو الحكم الواقعي ، وهكذا نقول في اليد فإنّ عدم العلم بمؤدّاها الذي هو مالكية صاحبها لم يكن مأخوذاً قيداً في دليل حجّيتها ، وإن كان مورد حجّيتها منحصراً فيه ، لكن الذي نريد أن نجعله قيداً في موضوع اليد هو عدم العلم بلون اليد وبحالها الذي هو غير مؤدّاها.

والحاصل : أنّ اليد التي تكون حاكية وكاشفة عن الملكية إنّما هي خصوص اليد المجهولة الحال ، وليس ذلك من قبيل التقييد بعدم العلم بمؤدّاها ، بل هو من قبيل التقييد بلونها ، نظير ما لو قلنا إنّ موضوع حجّية خبر الواحد هو خصوص ما لو كان الناقل ثقة ، أو ما لو كان النقل بالعربية مثلاً ، ونحو ذلك من حالات نفس الموضوع الذي جعله الشارع أمارة ، ففيما نحن فيه أنّ الشارع وإن جعل اليد أمارة إلاّ أنّه لم يجعل ذلك لكلّ يد ، بل الذي جعله هو خصوص اليد التي لم يعلم حالها ، فلاحظ وتأمّل.

لا يقال : إنّ ما تثبته اليد من الملكية هو عين كونها غير غصبية ، فلا يكون في البين تقدّم رتبي للاستصحاب على اليد.

لأنّا نقول : لا ريب في أنّ الملكية هي لون لما تحت اليد ، ولا دخل لهذا اللون بلون نفس اليد إلاّباللازم ، بمعنى أنّ إثبات اليد لملكية ما تحتها يلزمه ارتفاع لون اليد الذي هو الغصبية.

لا يقال : سلّمنا التغاير والملازمة إلاّ أنّه لا دليل على كون ارتفاع لون اليد

ص: 151

متأخّراً عن ملكية ما تحت اليد ، بل الأمر بالعكس ، فالذي يرتفع أوّلاً هو لون اليد الذي هو الغصبية ، ثمّ بعده يتحقّق الملكية بالنسبة إلى ما تحت اليد.

لأنّا نقول : إنّ ارتفاع لون اليد الذي هو الغصبية وإن كان في مقام الثبوت متقدّماً على تحقّق الملكية ، إلاّ أنّه في مقام الاثبات يكون متأخّراً عنه ، فإنّ اليد أوّل ما تثبته هو الملكية ، وبعد إثباتها الملكية تثبت ملزوم الملكية الذي هو ارتفاع الغصبية ، نظير الدليل الدالّ على إثبات الدخان ، فإنّه يثبت أوّلاً وجود الدخان وبعد إثباته الدخان يثبت ملزومه الذي هو وجود النار ، وإن كان الأمر بالعكس في مقام الثبوت والواقع ، فإنّ وجود النار سابق في الرتبة واقعاً وفي مقام الثبوت على وجود الدخان ، هذا كلّه على تقدير كون الدعوى هي كون الموضوع هو اليد التي لم يعلم حالها.

وأمّا بناءً على كون الموضوع هو اليد غير المسبوقة بالغصبية أو الأمانية والاستيجار ونحو ذلك كما ربما يستفاد ذلك من تحريرات السيّد سلّمه اللّه بدعوى كون القدر المتيقّن من دليل حجّيتها هو خصوص ذلك ، أعني اليد غير المسبوقة بلون من هذه الألوان وإن لم يكن لونها الآن معلوماً ، فلا يحتاج سقوطها في الموارد المذكورة إلى التمسّك بحكومة الاستصحاب أو وروده عليها ، بل تكون هي ساقطة بنفسها وإن لم يكن الاستصحاب جارياً في موردها.

وهذه الدعوى - أعني عدم تمامية الدليل على حجّيتها في المورد المذكور - غير بعيدة ، إذ ليس لنا إلاّبناء العقلاء وجريان السيرة وحديث « من استولى » (1) ونحو ذلك ، وكلّها قاصرة الشمول للمورد المذكور أعني اليد المسبوقة بلون من هذه الألوان وإن لم يكن لونها الحالي معلوماً ، ولا أقل من الشكّ في الشمول

ص: 152


1- وسائل الشيعة 26 : 216 / أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

الموجب للشكّ في الحجّية الموجب للقطع بعدم الحجّية.

ويمكن أن يتأتّى هذا التقريب في المسألة الآتية أعني كون ما تحت اليد مسبوقاً بالوقفية ، بدعوى قصور دليل أمارية اليد على الملكية عمّا يكون مسبوقاً بالوقفية ، فتكون اليد حينئذ ساقطة بنفسها وإن لم يجر استصحاب الوقفية ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وعلى ذلك يبتني قبول السجلاّت وأوراق الاجارة وينتزع المال عن يد مدّعي الملكية إذا كان في يد الطرف ورقة الاستيجار المثبتة لكون يد المدّعي كانت يد إجارة كما عليه عمل العلماء من سالف الزمان (1).

لكن ذلك في خصوص ما إذا كانت اليد المسبوقة بكونها يد إجارة باقية بحالها ، أمّا إذا كان قد سلّمها إلى المؤجر ثمّ بعد ذلك وضع يده عليها واحتملنا أنّ هذه اليد الجديدة يد مالكية فلا وجه للانتزاع ، لعدم جريان استصحاب حال اليد السابقة بالنسبة إلى هذه اليد الجديدة ، وذلك واضح لا ريب فيه.

ومنه يعرف الحكم في صورة احتمال التبدّل وتجدّد اليد ، فإنّ استصحاب حال اليد لا يمكن جرّه إلى هذه اليد الموجودة فعلاً التي لا نعلم أنّها هي اليد السابقة أو أنّها يد جديدة ، واستصحاب بقاء اليد السابقة التي كانت يد إجارة أو استصحاب عدم حدوث يد جديدة لا ينفع في إثبات أنّ هذه اليد هي اليد السابقة التي هي موضوع استصحاب حال الاجارة إلاّبالأصل المثبت.

ومن ذلك كلّه تظهر الخدشة فيما أفاده في قضاء المستند بقوله : فلو كانت هناك يد لم يعلم منشؤها ولكن علم مسبوقيتها بيد عارية أو غصب ، ولم يعلم أنّ اليد الحالية هل هي تلك اليد أو زالت الأُولى وحصلت يد حاصلة من السبب

ص: 153


1- فوائد الأُصول 4 : 606.

المملّك ، فمقتضى استصحاب اليد السابقة وأصالة عدم حدوث يد أُخرى يجعلها هي اليد الأُولى ، فلا تفيد ملكيته ، وليس هذا من باب تعارض الاستصحاب والأصل مع اليد المقتضية للملكية ، بل تصير اليد بواسطة الأصل والاستصحاب غير اليد المقتضية للملك (1).

فإنّ اليد إنّما تصير خارجة عن اليد المقتضية للملك بواسطة استصحاب الأمانية أو الغصبية إذا كانت هي بنفسها باقية من حين الأمانيّة أو الغصبية إلى الآن الذي هو آن دعوى الملكية ، لكون استصحاب حال اليد بالأمانة أو الغصب مخرجاً لها عن موضوع اليد المالكية الذي هو اليد التي لم يعلم حالها ، أمّا إذا علم بتبدّل تلك اليد أو احتمل تبدّلها كما هو مورد ما أفاده في المستند ، فلا يمكن جريان استصحاب حال اليد فيه كي يكون حاكماً على دليل حجّيتها في إفادة الملكية.

وهكذا الحال فيما لو أقرّ صاحب اليد بأنّ ما تحت يده ملك للمدّعي اللازم لكون يده عليه يداً غير مالكية ، فإنّه يلزم بإقراره ما دامت تلك اليد باقية ، أمّا إذا سلّمه له ثمّ بعد ذلك وضع يده عليه وادّعى الملكية في هذه اليد الجديدة ، فإنّه لا يلزم بإقراره لعدم جريان استصحاب حال اليد ، بل لا يكون من موارد الانقلاب لانحصار الانقلاب بما إذا اعترف أنّها للمدّعي وأنّه اشتراه منه مع بقاء يده تلك بحالها لم تتبدّل إلى يد جديدة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ لازم إقراره السابق المقرون بتلك اليد السابقة بضمّ دعواه الملكية بالنسبة إلى يده الفعلية هو الاعتراف بأنّها كانت ملكاً للمدّعي وأنّه اشتراها منه ، وبذلك يكون من موارد الانقلاب.

وعلى أي حال ، لا يكون ذلك من موارد تقدّم استصحاب حال اليد على ما

ص: 154


1- مستند الشيعة 17 : 344 - 345.

تقتضيه اليد ، لارتفاع اليد السابقة التي كانت مورداً لاستصحاب الحال المزبور. ولو شكّ في التبدّل كان حاله حال ما تقدّم في عدم جريان استصحاب حال اليد.

ومنه يظهر الخدشة فيما أفاده في الجواهر في كتاب القضاء في آخر شرحه لقول المصنّف في المسألة الخامسة : لو ادّعى داراً في يد إنسان وأقام بيّنة أنّها كانت في يده أمس الخ بقوله : وأمّا ما سمعته من الفرق بين الإقرار وغيره فالقدر المسلّم منه إن لم يكن إجماعاً ما إذا بقيت العين في يد المقرّ ولم يعلم تجدّد يد أُخرى له ، فإنّ الظاهر حينئذ أخذه بإقراره الرافع لحكم استدامة يده السابقة مع فرض عدم العلم بتجدّد يد غيرها والأصل عدمها ، أمّا لو كان قد أقرّ بها ودفعها إلى المقرّ له ثمّ وجدت في يده المقتضية كونه مالكاً لها ، فإنّ انتزاعها من يده لاستصحاب الإقرار السابق محلّ إشكال بل محلّ منع ، ضرورة عدم الفرق بينه وبين انتزاعها منه باستصحاب الملك السابق الثابت بالبيّنة الذي قد عرفت عدمه ، وبذلك يظهر لك الوجه بانتزاعها منه باقراره بالغصبية أو الاستيجار أو نحوهما ، لأصالة عدم يد أُخرى غير التي صادفت إقراره ، وحينئذ فالميزان ذلك (1).

ولا يخفى أنّ إقرار صاحب اليد بملكية ما تحت يده للمدّعي مع بقاء تلك اليد بحالها لم تتجدّد لا ينبغي الريب في تقدّمه على مقتضى اليد لاستصحاب حال اليد ، أمّا مع التبدّل فإنّ استصحاب حال اليد وإن سقط لتبدّل اليد إلاّ أنّه مع ذلك لا يخرج عن كونه من موارد انقلاب الدعوى ، لما أشرنا إليه من أنّ ضمّ إقراره السابق المقرون باليد السابقة إلى دعواه الملكية في هذه اليد الجديدة يكون عين دعوى الانتقال ، فلا يبعد إبقاء إطلاق كلماتهم بالنسبة إلى الإقرار بحالها ، بل مقتضى إطلاق كلماتهم هو أنّه لو أقرّ بملكية العين لزيد ولم تكن يده عليها حين

ص: 155


1- جواهر الكلام 40 : 452 - 456.

الإقرار ، ثمّ بعد ذلك وضع يده عليها ، يكون دعواه الملكية في يده تلك عين دعوى الانتقال إليه ، كلّ ذلك بضميمة إقراره السابق.

قال في الكفاية في آخر المسألة السادسة من دعوى الأملاك : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ أمس بأنّ الملك له ، أو شهدت البيّنة بإقراره له أمس أو أقرّ بأنّ هذا له أمس ، قضي به له. وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال ( ولعلّ الإشكال المشار إليه هو ما فصّله في الجواهر من صورة التبدّل وعدمها ) نعم لو أقرّ بأنّه غصبه أمس من زيد أو قامت البيّنة على ذلك أو أقرّ بذلك أمس ، لم تنفع اليد الحالية ، إذ قد ثبت بالإقرار أو البيّنة أنّه أثبت عليه يد عدوان ، فيستصحب ذلك حتّى يثبت خلافه ، وفي حكم الغصب فيما ذكرناه الاستيجار والاستعارة ، انتهى ما في الكفاية (1). وقد تعرّض السيّد قدس سره في قضائه من ملحقات العروة (2) لهذا الذي نقلناه عن الكفاية فراجعه ، وقد أيّد إشكاله بما يظهر اندفاعه ممّا حرّرناه هنا وفي الحاشية الآتية.

وقال في كشف اللثام مازجاً عبارته بعبارة المصنّف قدس سره : أمّا لو شهدت بأنّه أقرّ له بالأمس ثبت الإقرار واستصحب موجبه إلى أن يظهر المزيل ، وإن لم يتعرّض الشاهد للملك الحالي ، كما إذا سمعنا نحن منه الإقرار حكمنا بالملك للمقرّ له إلى ظهور المزيل ، والفرق بين ثبوت الملك بالإقرار وثبوته بالبيّنة واضح ، ولذا لو قال المدّعى عليه كان ملكك بالأمس انتزع من يده ، وكذا إذا كان أقرّ بالأمس أنّه ملكه ثمّ رأيناه اليوم بيده وينازعه فيه المقرّ له ، فإنّ المرء مأخوذ بإقراره ، ولأنّه يخبر عن تحقيق ، فإنّه يخبر عن حال نفسه فيستصحب ما أقرّ به ،

ص: 156


1- كفاية الفقه : 734.
2- العروة الوثقى 6 : 625 ( الفصل الثالث عشر في تعارض اليدين والبيّنتين ).

بخلاف الشاهد بملكه أمس فإنّه ربما يخبر عن تخمين مستنداً إلى يد أو استفاضة ، وقد يسوّى بين الإقرار أمس والشهادة بملكه أمس فلا ينتزع من يده بشيء منهما (1).

ومن الفروع التي ينبغي التأمّل فيها ما لو كانت يده على الشاة مثلاً يد أمانة وقد أولدت تلك الشاة ، واحتملنا أنّها انتقلت إليه ببيع ونحوه قبل الولادة ، فهل يكون مقتضى استصحاب الأمانية بالنسبة إلى الشاة موجباً للحكم بالأمانية بالنسبة إلى ولدها أيضاً ، أو أنّه لا يقتضي إلاّسقوط اليد بالنسبة إلى الشاة نفسها دون ولدها.

وبعبارة أُخرى : هل يكون في البين يديان إحداهما على الشاة والأُخرى على ولدها ، والاستصحاب لا يحكم إلاّعلى اليد الأُولى التي هي اليد على الشاة دون اليد على ولدها ، وإن كان الحكم بالأمانية بالنسبة إلى الشاة ملازماً للأمانية بالنسبة إلى ولدها ، وأوضح منه ما لو لم يكن في البين هذا التلازم بأن كان محتمل الانتقال هو ولد تلك الشاة دون الشاة نفسها.

قوله : فإنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك في المال الذي يكون في طبعه قابلاً للنقل والانتقال فعلاً ولم يكن محبوساً ... الخ (2).

حاصله : أنّ موضوع أمارية اليد وحجّيتها مقيّد بكون ما تحت اليد قابلاً للنقل والانتقال فعلاً بمعنى جواز نقله جوازاً فعلياً ، إذ لا ريب في أنّ ما ليس قابلاً لذلك لا تكون اليد فيه حجّة على الملكية ، والحكم بالملكية فيما تحقّقت وقفيته يحتاج إلى طي أربع مراحل ، بأن يقال : طرأ الخراب على هذه الدار مثلاً فجاز

ص: 157


1- كشف اللثام 10 : 261.
2- فوائد الأُصول 4 : 606 - 607.

نقلها وبيعها ووقع البيع فتحقّقت الملكية ، والملكية وإن كانت متأخّرة في مقام الثبوت والواقع عن هذه المراحل ، لأنّ نسبة الملكية إليها نسبة المعلول إلى العلّة إلاّ أنّها في مقام الإثبات متقدّمة عليها ، لأنّ مقام الاثبات في مثل ما نحن فيه من الانتقال من المعلول إلى العلّة يكون على العكس من مقام الثبوت ، فالذي تثبته اليد أوّلاً هو الملكية ، وبعد إثباتها الملكية ينتقل إلى إثبات تحقّق النقل والبيع ، وبعد إثبات البيع ننتقل إلى إثبات جواز البيع ، وعن إثبات جواز البيع ننتقل إلى إثبات حدوث المسوّغ وهو حصول الخراب مثلاً ، واستصحاب عدم حصول المسوّغ يرفع موضوع اليد الذي هو قابلية الانتقال في الدرجة الأُولى قبل أن تصل النوبة إلى الدرجة الأخيرة من درجات ما تثبته اليد ، فيكون الاستصحاب حاكماً على اليد.

ولكن يرد النقض بما هو مشكوك الوقفية ممّا هو تحت اليد ، كما إذا كان مورداً للعلم الاجمالي ، أمّا الشبهة البدوية فيمكن إحراز القابلية فيها بأصالة عدم صدور الوقف على هذه الدار مثلاً.

والذي ينبغي هو إسقاط النقض بمسألة احتمال الوقفية بالمرّة حتّى لو كان مقروناً بالعلم الاجمالي ، لوضوح سقوط اليد في مورد العلم الاجمالي.

نعم يتوجّه النقض باحتمال حرّية من هو تحت اليد. وما أُفيد في الجواب عنه بسقوط أصالة الحرّية لأنّها مقيّدة بما إذا لم يكن تحت اليد ، إنّما ينفع في سقوط أصالة الحرّية ولكن لا يطرد احتمال الحرّية بناءً على كون ما تحت اليد مقيّداً بالقابلية ، فإنّ التمسّك باليد في مثل ذلك يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، لكن ورد النصّ (1) في عدم سماع دعوى الحرّية في قبال

ص: 158


1- لعلّه يريد بذلك ما ورد في وسائل الشيعة 18 : 250 / أبواب بيع الحيوان ب 5.

اليد ، وهكذا احتمال الحرّية لها.

نعم يرد النقض بالحيوان المحتمل تولّده من حيوان موقوف لو كان على نحو يكون الوقف سارياً إلى نسله ، ولا مانع من الالتزام بعدم تحكيم اليد في مثل الحيوان المذكور بعد فرض عدم جريان أصالة العدم فيه ، كما في أصالة عدم القرشية. ولو التزمنا بتحكيم اليد في مثل الحيوان المذكور لم يكن له وجه إلاّ دعوى أنّ اليد الحاكمة بالملكية مقيّدة بعدم العلم بالوقفية ، بأن يدّعى أنّ موضوع اليد هو ما لم يعلم كونه وقفاً إمّا بالعلم الوجداني فيكون الاستصحاب حاكماً على دليل اليد ، أو الأعمّ من الاحراز التعبّدي والوجداني فيكون وارداً عليه ، على حذو ما سبق في استصحاب حال اليد.

وقد يقرّب تقديم الاستصحاب على اليد فيما نحن فيه بما حاصله : هو أنّ مدرك اليد هو غالبية كونها مالكة في قبال احتمال بقاء العين على ملك مالكها الأوّل ، أمّا لو كان في قبال احتمال طروّ المسوّغ للبيع فلا تكون المالكية هي الغالبة كي تكون اليد في أمثال هذه الموارد كاشفة عن الملكية ، لتوقّف غلبة المالكية في هذه الموارد على غلبة طروّ المسوّغ ، ولمّا لم يكن ذلك اللازم غالبياً لم تكن الملكية غالبة ، فلمّا لم تكن الملكية غالبة لم يمكن الحكم بكون أمثال هذه اليد كاشفة عن الملكية ، وهذا هو المتراءى من التقريرات المطبوعة في صيدا (1) ، وهو الذي يظهر من العلاّمة الأصفهاني في رسالته الملحقة بحاشيته على الكفاية (2).

ولكن يمكن المناقشة فيه أوّلاً : بأنّ الغلبة من قبيل حكمة التشريع لا من

ص: 159


1- أجود التقريرات 4 : 200.
2- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 329 - 330.

قبيل العلّة ، فلا يضرّ تخلّفها في بعض الموارد. وثانياً : أنّ عدم الغلبة في خصوص المسبوق بالوقفية لا يضرّ بتحقّق الغلبة بالنظر إلى مجموع ما تحت الأيدي ممّا لا يكون مسبوقاً بالوقفية. وثالثاً : النقض بما هو محتمل الوقفية ممّا لم يكن مسبوقاً بها ، فإنّ هذا الصنف لم تتحقّق فيه غلبة الملكية.

وحينئذ فالأولى أن يقال : موضوع اليد هو ما لم يعلم كونه وقفاً غير قابل للنقل بالعلم الوجداني ليكون استصحاب الوقفية أو عدم طروّ المسوّغ حاكماً على اليد ، ويكون دليل هذا التقييد هو أنّ ما علم كونه غير قابل للنقل لا يمكن أن تكون اليد فيه كاشفة عن الملكية ، فينحصر كشفها عن الملكية في مورد عدم العلم الوجداني بعدم القابلية للنقل.

لا يقال : كما أنّ اليد لا يمكن أن تكون كاشفة عن الملكية في مورد العلم بعدم القابلية للنقل ، فكذلك لا يمكن أن تكون كاشفة عن الملكية في موارد العلم بكون ما تحت اليد مملوكاً لمن هو قبله ، وكما أنّ الأوّل يكون موجباً للتقييد فكذلك الثاني ، وحينئذ يكون استصحاب الملكية السابقة حاكماً على اليد كما يكون استصحاب الوقفية حاكماً عليها.

لأنّا نقول : فرق واضح بين المقامين ، فإنّ الثاني يكون من قبيل التقييد بعدم العلم بما هو ضدّ مؤدّى الأمارة ، والأوّل [ لا ] يكون من هذا القبيل ، بل يكون من قبيل التقييد بما هو خارج عن مؤدّاها ، وقد تحرّر في محلّه (1) أنّ الأمارة لا تكون مقيّدة بالشكّ وعدم العلم بمؤدّاها ، بخلاف ما هو خارج عن مؤدّاها وإن كان لازماً له.

على أنّه يمكن الفرق بينهما من ناحية أُخرى ، بأنّ ذلك وإن كان مقتضاه

ص: 160


1- أشار إليه في فوائد الأُصول 4 : 595.

التقييد من الجهتين ، وكان لازمه حكومة استصحاب الملكية السابقة وعدم حدوث الملكية الجديدة على اليد كحكومة استصحاب الوقفية عليها ، إلاّ أنّا لو التزمنا بحكومة الاستصحاب في ناحية الملكية - أعني بذلك استصحاب عدم حدوث الملكية الجديدة - على اليد ، لم يبق لليد مورد أصلاً ، بخلاف تحكيم استصحاب الوقفية عليها فإنّه لا يترتّب عليه ذلك اللازم الفاسد ، فاستصحاب الملكية السابقة أو استصحاب عدم الملكية الجديدة وإن كان في حدّ نفسه حاكماً على اليد أو معارضاً لها ، إلاّ أنّ جعل اليد حجّة في مورده دليل قطعي على عدم اعتناء الشارع به في قبالها ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث : هو أنّه لا ريب في أنّ مورد حجّية اليد هو ما لم يعلم حالها من حيث كونها أمانة أو غصباً أو مالكية ، وما لم يعلم حال ما تحتها من حيث كونه وقفاً مثلاً غير قابل للنقل ، بل ما لم يعلم أيضاً كون ما تحتها مملوكاً للغير ، لأنّ اليد في جميع هذه الموارد - ممّا علم أنّها يد غصب أو علم كون ما تحتها وقفاً غير قابل للنقل أو علم كونه مملوكاً للغير - لا يمكن أن تكون كاشفة عن الملكية ، ومقتضى ذلك هو حكومة الاستصحاب أو وروده عليها في الصورتين الأُوليين ، بل مقتضاه أيضاً حكومته في الصورة الأخيرة ، إلاّ أنّه لمّا علم من النصوص وعمل العقلاء الركون إلى اليد في مورد استصحاب الملكية السابقة أو استصحاب عدم ملكية صاحب اليد ، كان ذلك دليلاً قطعياً على إلغاء الاستصحاب في الصورة الأخيرة عند الشارع وبناء العقلاء ، مضافاً إلى أنّه لو قدّمنا الاستصحاب عليها في الصورة الأخيرة كما في الصورة الأُولى والثانية لبقيت اليد بلا مورد ، سواء قلنا بأنّ اليد من قبيل الأمارات أو من قبيل الأُصول العملية ، فتبقى الصورة الأُولى والثانية على ما تقتضيه القاعدة من تقدّم الاستصحاب

ص: 161

عليها ، ولا يمكن العكس بأن نقول بسقوط اليد في الصورة الأخيرة وإعمالها في الأُوليين ، لكونهما نادرين بالنسبة إلى الصورة الأخيرة. مضافاً إلى ما عرفت من النصوص وعمل العقلاء من إعمالها في الصورة الأخيرة وعدم ثبوت إعمالها في الأُوليين.

ثمّ إنّ تقييد اليد بموارد عدم العلم في الصورة الأخيرة وإن كان منقوضاً بلزوم تقييد جميع الأمارات بموارد عدم العلم بخلاف مؤدّاها ، إلاّ أنّا يمكننا عدم الالتزام بذلك النقض ، للفرق بين اليد وسائر الأمارات ، بأنّ اليد في لسان بعض الأخبار المتضمّنة لإعمالها قد أُخذ فيها عدم البيّنة ، وهي مشعرة بأنّها مقيّدة بعدم العلم ، بل إنّ بعضها قد صرّح فيها بأخذ عدم العلم بخلاف ما تقتضيه ، كما تضمّنته رواية مسعدة بن صدقة من قوله عليه السلام - بعد تعداد أمثلة من جملتها ما هو مورد قاعدة اليد وهو الثوب والعبد (1) ومن جملتها ما هو مورد لأصل آخر - : « والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة » (2) فجعل الحكم بالترخيص في تلك الأشياء التي منها ما هو مورد اليد مغيّى بالعلم بالخلاف ، فيكون موضوع الترخيص في جميع تلك الموارد ومنها ما هو مورد اليد مقيّداً بعدم العلم بالخلاف ، فيكون ذلك على حذو قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » (3) أو « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (4).

وهذا بخلاف باقي الأمارات فإنّه لم يقم دليل على تقييد موضوعها بعدم

ص: 162


1- لا يبعد أن يكون مثالا الزوجية من باب اليد أيضاً [ منه قدس سره ].
2- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 ( مع اختلاف يسير ).
3- وسائل الشيعة 17 : 87 و 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 و 4 ( باختلاف يسير ).
4- وسائل الشيعة 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4 ( باختلاف يسير ).

العلم ، غايته أنّا نعلم علماً قطعياً أنّها لا تكون حجّة في مورد العلم بالخلاف ، وهذا لا يوجب تقييد موضوعها بذلك بحيث يكون موضوع حجّيتها هو عنوان عدم العلم ، كي يلزم منه ارتفاع هذا الحكم عند ارتفاع ذلك الموضوع في عالم التشريع بواسطة قيام الاستصحاب ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ موردها منحصر بذلك ، ومجرّد ذلك لا يوجب كونه موضوعاً لها بالنحو الذي ذكرناه.

ثمّ إنّا لو تنزّلنا وقلنا إنّ ذلك راجع إلى التقييد لم يكن ذلك بعيداً ، وحينئذ يكون الوجه في عدم حكومة مثل الاستصحاب عليها وإن كان كلّ منهما مقيّداً بعدم العلم بالخلاف ، هو أنّ المجعول في باب الأمارات لمّا كان هو الاحراز وتتميم جهة الكشف ، والمجعول في باب الاستصحاب ونحوه من الأُصول الاحرازية هو الاحراز العملي الذي هو الجهة الثانية من جهات العلم الطريقي ، فكان المجعول في باب الأمارات زائداً على المجعول في الأُصول الاحرازية ، وكانت تلك الجهة الزائدة في المجعول في باب الأمارات غير زائلة بالاستصحاب ، كانت تلك الجهة الزائدة في باب الأمارات كافية في تحكيم الأمارات في مورد التدافع ، فيكون لازم ذلك هو سقوط الاحرازية في موارد الأمارات.

قوله : في كتاب القضاء من ملحقات العروة (1).

بل في كتاب الوقف مسألة 64 ، لكنّه قدس سره لم يبرهن عليه بأزيد من قوله : لأنّه من تعارض اليد المتصرّفة فعلاً مع استصحاب الملكية أو اليد السابقتين ، وقد قرّر في محلّه تقدّم اليد الفعلية (2)

ص: 163


1- فوائد الأُصول 4 : 606.
2- العروة الوثقى 6 : 401.

هذا مع اعترافه قدس سره في كتاب القضاء بتقدّم استصحاب الحال على اليد ، فإنّه قال : وتقديم الاستصحاب عليها في بعض الموارد إنّما هو من جهة كونه أصلاً موضوعياً يبيّن وجهها وكيفيتها ، كما إذا كانت في السابق بعنوان الأمانة أو الغصبية ، فإنّ مقتضى الاستصحاب كونها فعلاً أيضاً كذلك ، وهذا لا ينافي كونها دليلاً (1).

ولا يخفى أنّ ملاك تقدّم استصحاب الأمانية على اليد إنّما هو من جهة كون استصحاب الأمانية رافعاً لموضوع اليد الذي هو اليد التي لم يعلم حالها ، وهذا الملاك بعينه جارٍ في استصحاب الوقفية أو استصحاب عدم حصول مسوّغ البيع ، فإنّه أيضاً رافع لموضوع اليد ، فإنّها إنّما تكون أمارة على الملكية إذا كان ما تحتها قابلاً للتملّك والنقل ، وهذا الاستصحاب مخرج لتلك العين عن القابلية المذكورة ، وليس هذا الاستصحاب إلاّكأصالة عدم التذكية ، وقد اعترف بجريانه في الذبيحة التي تحت يد الكافر كما يظهر ممّا حرّره في مسألة 6 من كتاب القضاء (2).

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره في كتاب الوقف ذكر في المسألة السابقة المشار إليها - أعني مسألة 64 - : أنّه لو أقرّ ذو اليد بأنّه كان وقفاً وأنّه اشتراه بعد حصول المسوّغ ، سقط حكم يده على ما بيّن في محلّه من أنّ ذا اليد إذا أقرّ بالمدّعى عليه يصير مدّعياً ولا يبقى حكم ليده ، إذ حينئذ يصير فيما نحن فيه مدّعياً من جهتين ، من جهة وجود المسوّغ ومن جهة الشراء المنفيين بالأصل.

ولا يخفى أنّ انقلابه مدّعياً من الجهة الأُولى هي عين ما أنكره في صدر

ص: 164


1- العروة الوثقى 6 : 584.
2- العروة الوثقى 6 : 598.

المسألة من عدم تقدّم استصحاب الوقفية على اليد ، وأمّا انقلابه من الجهة الثانية فعلى الظاهر أنّه لا يحتاج إلى تصريح صاحب اليد بأنّه قد اشتراه ، بل إنّ إقراره بالوقفية السابقة مع دعواه الملكية فعلاً هو عين الانقلاب المتضمّن لدعوى الشراء والانتقال. نعم إنّه قدس سره يفرّق في مصبّ الدعوى كما صرّح به في كتاب القضاء (1) فراجع.

لكن الظاهر أنّه لا أثر في باب المدّعي والمنكر لمصبّ الدعوى ، بل المدار على واقع الدعوى لا خصوص مصبّها اللفظي.

ثمّ إنّه قال في كتاب الوقف في المسألة المشار إليها : لو ادّعى أنّ أباه أو جدّه شراه ، يمكن أن يقال بتقدّم قوله ، لأنّ يده وإن سقطت بالاقرار إلاّ أنّ حكم يد أبيه أو جدّه على فرض ثبوت ذلك يبقى ، إذ لم يصر أبوه أو جدّه مقرّاً باقراره ، فيحكم بملكية أبيه وانتقاله إليه بالارث (2). وهذا غريب ، فإنّ إقراره إذا أسقط يده فقد أسقط تشبّثه بملكية أبيه وجدّه ، وأيّ أثر ليد أبيه أو جدّه بعد إقراره بما يوجب انتزاع العين من جدّه وأبيه.

قوله : فاستصحاب عدم طروّ ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد ، فإنّه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد ، فهو كاستصحاب حال اليد ... الخ (3).

لو قلنا ببطلان الوقف عند طروّ أحد مسوّغات البيع ، كان استصحاب بقاء الوقفية كافياً في رفع موضوع اليد الذي هو اليد على ما يمكن تملّكه ، وإن قلنا

ص: 165


1- العروة الوثقى 6 : 625.
2- العروة الوثقى 6 : 401.
3- فوائد الأُصول 4 : 607.

ببقاء الوقفية بحالها وعدم ارتفاعها إلاّبحدوث البيع ، كان استصحاب بقاء الوقفية غير كافٍ في رفع موضوع اليد ، واحتجنا حينئذ إلى استصحاب عدم حدوث أحد المسوّغات ، وحيث إنّ مختار شيخنا قدس سره هو الثاني كان المرجع عنده في هذه المسألة هو استصحاب عدم حدوث المسوّغ لا استصحاب الوقفية.

ومن ذلك يظهر لك أنّ قوله قبيل هذا في تقريب توهّم عدم حكومة الاستصحاب : بل احتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ، ليس بملائم لمسلكه قدس سره في مبحث بيع الوقف ، فلاحظ.

قوله : وتوهّم - إلى قوله - فاسد ، لما عرفت من أنّ قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات - إلى قوله - فلا تكون اليد أمارة على انقلاب الخمر خلاً ... الخ (1).

الذي ينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه اللّه في هذا المقام (2) ومراجعة ما حرّرته عنه قدس سره ، فإنّ هذه التقارير قد اختلفت في تقرير الوجه في حكومة الاستصحاب.

فالذي يستفاد من التقرير المطبوع في النجف هو ما عرفت من أنّ قابلية ما تحت اليد للنقل بمنزلة الموضوع لا من اللوازم ، كما يستفاد من جوابه عن الاعتراض القائل بأنّ القابلية من اللوازم واليد بعد فرض أماريتها تثبت اللوازم ، فإنّه أجاب عنه بقوله : إنّ قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات. ثمّ نظّر ما نحن [ فيه ] بالخمر المتوقّف

ص: 166


1- فوائد الأُصول 4 : 607 - 608.
2- أجود التقريرات 4 : 199 فما بعدها.

قابليته للنقل على انقلابه خلاً ، إلى أن قال : لا يمكن إثبات كونه خلاً بمجرّد كونه في اليد - إلى أن قال - وليس ذلك إلاّمن جهة كون المالية لا تكون من لوازم الملكية ، بل هي موضوع لها ، واليد لا تثبت الموضوع الخ (1).

ولا يخفى أنّه لو كانت القابلية موضوعاً لم يمكن تحكيم اليد إلاّبعد إحرازها ، فلو شكّ في الوقفية أو في الخمرية بالنسبة إلى ما تحت اليد مع فرض عدم العلم بالحالة السابقة ، كان لازم ذلك هو عدم إجراء اليد لعدم إحراز موضوعها ، ولا ينفعنا إحرازه بطريق أنّه لازم الملكية التي هي مدلول اليد ، لأنّ القابلية بعد فرض كونها موضوعاً لابدّ من إحرازها في الرتبة السابقة على إثبات الملكية باليد كما هو واضح.

الوجه الثاني : ما يستفاد من التقرير المطبوع في صيدا فإنّه أجاب عن الإشكال المشار إليه بقوله : قلت نعم إنّ دليل الحجّية على تقدير شموله للمقام لا ريب في صحّة التمسّك به لإثبات اللوازم والملزومات ، إلاّ أنّ الشأن في شموله له - إلى قوله - ضرورة أنّ احتمال الانقلاب إن كان لازماً غالبياً لموارد الشكّ في الملكية ، أمكن أن يقال إنّ دليل الحجّية ناظر إلى هذه الجهة أيضاً ، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك بل كانت موارد الشكّ في الملكية غالباً غير مسبوقة بالعلم بعدم القابلية للمسير سابقاً ، فلا يمكن إثبات الحجّية في غير تلك الموارد مع عدم ثبوت إطلاق له من تلك الحيثية (2).

وهذا التوجيه لا بأس به ، إلاّ أنّه يمكن المناقشة في دعوى عدم الاطلاق في دليل حجّية اليد ، مضافاً إلى أنّه لو أمكننا دعوى قصور الاطلاق عن ذلك فما

ص: 167


1- فوائد الأُصول 4 : 608.
2- أجود التقريرات 4 : 200.

ذكرناه في النقض أولى بقصور الاطلاق عنه ، وهو ما لو احتمل كون ما تحت اليد وقفاً أو خمراً مع عدم السبق باليقين بالوقفية أو الخمرية.

الوجه الثالث : ما حرّرته عنه قدس سره في ذلك ، وهو أنّ الاستصحاب يكون رافعاً بنفس مقتضاه المطابقي لموضوع اليد ، أعني أنّه بنفسه يكون مسقطاً لليد ، لأنّه بعد فرض جريان أصالة عدم حدوث المسوّغ للبيع والنقل ، تكون اليد يداً على الوقف الذي لا يسوغ نقله ، وبذلك تكون اليد ساقطة عن إفادة الملكية ، لأنّها يد على الوقف ، ومن الواضح أنّ اليد على الوقف الذي لا يسوغ تملّكه لا تكون كاشفة عن الملكية ، بخلاف جريان اليد فإنّها إنّما ترفع موضوع الاستصحاب بعد فرض جريانها وثبوت حكمها ليلزم من الحكم بكون صاحبها مالكاً الحكم بحدوث المسوّغ لانتقاله إليه بالبيع الموجب لارتفاع موضوع الاستصحاب ، فكان الاستصحاب بنفسه رافعاً لموضوع اليد ، واليد لا ترفع موضوعه إلاّبلازمها ، فيكون حاكماً عليها ، انتهى.

ولكن يتوجّه عليه النقض باستصحاب ملكية زيد ، فإنّه حاكم بأنّ اليد يد على ملك زيد ، وهي لا تكون كاشفة عن ملكية صاحب اليد ، وحينئذ نحتاج في التفرقة بينهما إلى أنّ المسبوقية بملك الغير لازم غالبي ، بخلاف المسبوقية بالوقف ، وهو ما تضمّنه الوجه الثاني.

اللّهمّ إلاّ أنّ يفرّق بين استصحاب ملكية زيد واستصحاب عدم المسوّغ ، بأنّ استصحاب الملكية لزيد عبارة أُخرى عن أنّه لم ينتقل إلى صاحب اليد ، ولمّا كان مقتضى اليد هو ملكية صاحب اليد الذي هو عبارة أُخرى عن الانتقال إليه ، كانا متدافعين ، ووجب تقديم اليد لأنّها أمارة ، أو لأنّها لا مورد لها إلاّمثل ذلك ، أمّا استصحاب عدم المسوّغ فهو لا يدافع مدلول اليد الابتدائي ، بل إنّ اليد بدلالتها

ص: 168

على الملكية لصاحبها وإن كانت هي عين الحكم بالانتقال إليه ، إلاّ أنّ ذلك الحكم لمّا كان متوقّفاً على حدوث المسوّغ كانت حاكمة به بالدرجة الثانية ، فيكون الاستصحاب مقدّماً عليها.

والحاصل : أنّ استصحاب ملكية زيد في اقتضائه ملكية زيد وعدم الانتقال عنه واقع في درجة اقتضاء ملكية صاحبها وانتقال العين إليه من زيد ، وهذا بخلاف استصحاب عدم المسوّغ فإنّ اليد لا تدافعه إلاّبلازمها الواقع في الدرجة الثانية من حكمها بالملكية لصاحبها ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ الوصول إلى درجة ملكية صاحب اليد يحتاج إلى فاءات ثلاث بأن نقول حصل المسوّغ فصار قابلاً للنقل فانتقل إلى صاحب اليد فملكه.

قوله : وهذا القسم هو المتيقّن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك في ملك مالكه وعدم انتقاله إلى ذي اليد ، لأنّ استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلاّبلازمه العقلي - إلى قوله - وأمارية اليد تقتضي عدم كون اليد في ملك الغير - إلى قوله - فاليد بمدلولها المطابقي تقتضي رفع موضوع الاستصحاب ، وهو بمدلوله الالتزامي يرفع موضوع اليد ... الخ (1).

الإنصاف أنّه لم يتّضح الفرق في مقتضى الاستصحاب واليد ، فإنّ استصحاب بقاء هذه العين على ملكية زيد المدّعي هو عين كون يد صاحب اليد عليها يداً على ملك الغير ، فإنّ وضع يده على هذا الملك محرز بالوجدان ، وكون هذا الملك ملك الغير بالاستصحاب ، ولو تمّ ما أُفيد من أنّ ذلك من اللوازم العقلية لكان الاستصحاب ساقطاً بنفسه لا بحكومة اليد عليه ، مع أنّ هذه الجهة

ص: 169


1- فوائد الأُصول 4 : 609.

جارية بعينها في اقتضاء اليد عدم كونها في ملك الغير.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الريب في التدافع والتعارض بين مقتضى اليد ومقتضى الاستصحاب ، من دون أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر ، وحينئذ لابدّ في توجيه تقدّم اليد عليه من سلوك ما أُفيد فيما سبق من كونها من الأمارات وهو من الأُصول ، أو كونها بلا مورد لو قدّم عليها.

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد بقوله : لأنّ استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلاّبلازمه العقلي الخ ، هو دفع توهّم أنّ استصحاب الملكية السابقة يتبيّن منه حال اليد وأنّها غير مالكة أو غاصبة ، فيكون حينئذ حاكماً على الأمارة المذكورة لكونه من قبيل استصحاب حال اليد ، وبيان الدفع هو أنّ استصحاب الملكية السابقة لا يثبت حال هذه اليد وأنّها غير مالكة أو غاصبة إلاّ بالأصل المثبت.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بالسبق في هذا المقام وفيما سيأتي هو الملكية السابقة على وضع اليد لا السبق على دعوى الملكية ، فإنّه لو ادّعى الملكية وكانت هذه الدعوى مسبوقة بملكية غيره ، وكان قد وضع يده في خلال تلك الملكية السابقة ، كان من استصحاب حال اليد ، فتسقط اليد لحكومة استصحاب حالها عليها ، وإنّما تكون اليد حاكمة بالملكية ومسقطة لاستصحاب الملكية السابقة فيما لو كان السبق على وضع اليد ، أو كان محتملاً بمعنى احتمال كون وضع اليد من أيّام تلك الملكية السابقة أو كونه قد وضعها بعد تلك الأيّام التي قد علمنا الملكية فيها ، ففي هاتين الصورتين تتقدّم اليد على استصحاب الملكية السابقة إمّا لكونها أمارة ، وإمّا لكونها أصلاً لكن لو قدّم الاستصحاب عليها لبقيت بلا مورد ، أو لا يبقى لها إلاّبعض الموارد النادرة التي لا تتناسب مع مثل قوله عليه السلام : « لولا ذلك

ص: 170

لما قام للمسلمين سوق » (1) وتلك الموارد النادرة هي موارد التملّك بالاستنتاج مثل ثمرة الأشجار المملوكة ونسل الحيوانات المملوكة ، فإنّها لا تكون مسبوقة بمالكية الغير ، فلا مورد فيها لاستصحاب مالكية الغير كما لا مورد فيها لاستصحاب عدم الملكية بالنسبة إلى صاحب اليد ، ولا بالنسبة إلى ما يكون تحت يده ممّا يحتمل كونه من نتاج مملوكه.

أمّا ما يملكه بالحيازة فالظاهر أنّه لا يخلو عن الاستصحاب ، فإنّ هذا الحطب الذي هو تحت يد زيد فعلاً محكوم بأنّه يملكه ويجري فيه استصحاب عدم ملكيته لهذا الحطب ، لأنّ الشكّ في ملكيته إن كان من جهة أنّه حازه فاليد قاضية بأنّه حازه بالوجدان ، وإن كان من جهة التردّد بين أنّ الحائز هو صاحب اليد أو الحائز غيره وهذا قد غصبه منه ، أمكن القول بأنّ نفس هذا الحطب كان غير مملوك لزيد والآن كما كان ، لاحتمال كون الحائز له هو غيره.

ثمّ لا يخفى أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية فيما إذا لم تكن مسبوقة بيد أُخرى ، مثلاً لو رأينا هذه العين بيد زيد ورأينا عمراً أخذها منه قهراً ، وبعد أن صارت بيده ادّعى الملكية ، واحتملنا أنّه كان مالكاً لها حينما كانت بيد زيد ، فهل تكون يد عمرو حجّة أو لا؟ ربما يقال بالثاني ، لأنّ يد زيد لا تزيد في كشفها عن مالكية زيد على العلم بمالكيته سابقاً ، وقد قلنا بأنّ اليد مقدّمة. وربما يقال بالأوّل ، لأنّ يد عمرو لمّا كانت حادثة ومتفرّعة عن يد زيد ، وكانت يد زيد في ظرفها حاكمة بأنّ زيداً مالك ، كانت مقدّمة على يد عمرو لأنّ يد زيد تحكم بأن أخذ عمرو منه قهراً من قبيل الأخذ القهري من المالك فلا أثر لها. والحاصل أنّ

ص: 171


1- وسائل الشيعة 27 : 292 - 293 / أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 2 ، ولفظالحديث « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

يد عمرو طرأت في ظرف كون المال محكوماً بكونه لزيد ، فلا حكم لها ، وهذا هو المتعيّن ، فلاحظ.

هذا في مقام الثبوت والواقع ، واليد في مقام الاثبات لمّا أثبتت الملكية لصاحب اليد وكان لازمها حجّة تكشف كشفاً إنّياً عن طي تلك المراتب ، وحيث إنّ استصحاب عدم حصول المسوّغ رافع للمرتبة الأُولى ، فلا يمكن أن تكون اليد معه حجّة ، لارتفاع المرتبة الأُولى من مراتب كشفها ، فالاستصحاب لا يدع التدرّج في تلك المراتب لكي يتسنّى لنا الحكم بالمرتبة الأخيرة باليد أعني الملكية لنستكشف منها طي تلك المراتب ، وهذا بخلاف استصحاب ملكية زيد فإنّ مدلوله في عرض مدلول اليد.

ولا يخفى أنّ لازم هذا التوجيه هو عدم قبول بيّنة صاحب اليد التي تشهد بالملكية له فعلاً ، لما عرفت من توقّف ثبوت الملكية الفعلية على طي تلك المراتب التي عرفت أنّ الاستصحاب قائم بالمرصاد للمرتبة الأُولى منها ، فلا تقبل البيّنة إلاّ إذا شهدت بعروض المسوّغ للبيع ويكمل باقي المراتب باليد ، أو تشهد بباقي المراتب من الانتقال والملكية الفعلية ، فتأمّل لإمكان دعوى الفرق بين البيّنة واليد ، بكون البيّنة غير مقيّدة بقابلية الانتقال وإن كان ذلك هو موردها ، بخلاف اليد ، وحينئذ تكون البيّنة حاكمة على الاستصحاب بخلاف اليد فإنّها محكومة لاستصحاب عدم حصول المسوّغ للانتقال.

وأمّا تقدّم أصالة عدم التذكية على يد الكافر وكذلك استصحاب الخمرية ، فلأجل أنّ استصحاب عدم التذكية واستصحاب الخمرية يخرج ما تحت اليد عن كونه مالاً ، ولا ريب في أنّ موضوع اليد هو المال ، وقد تقدّم (1) البحث في أصالة

ص: 172


1- في الصفحة : 134 وما بعدها.

عدم التذكية فيما تحت يد الكافر ، وأنّه لا مانع من الحكم بكونه مملوكاً للكافر بحيث إنّه يرثه منه وارثه الكافر الذي يرى ملكية الميتة ، ولا أقل من الحكم بالاختصاص.

ومنه يظهر الحال فيما يكون تحت يد المسلم ممّا يحتمل كونه خمراً مع عدم العلم بحالته السابقة ، فإنّه يحكم باختصاصه به وإن لم يحكم بملكيته له لعدم إحراز موضوع الملكية وهو المالية ، لكن قاعدة الطهارة بل وقاعدة الحل كافية في الحكم بكونه مالاً ، فتجري فيه اليد الحاكمة بكونه مملوكاً لذيها.

قوله : وأمّا على الأوّل وهو ما إذا أقرّ ذو اليد بأنّ المال كان في السابق ملكاً للمدّعي - إلى قوله - لأنّ باقراره تنقلب الدعوى ... الخ (1).

الإقرار بالملكية السابقة لابدّ أن يكون المراد به الملكية السابقة على وضع اليد كما هو مفروض العنوان بقوله في طليعة هذا البحث : وثبت كون المال كان ملكاً للمدّعي قبل استيلاء ذي اليد الخ ، وذلك - أعني الإقرار بالملكية السابقة على وضع اليد - يكون على نحوين : الأوّل : أن يقرّ في حال كون يده على المال بأنّ هذا المال قبل وضع يدي عليه كان ملكاً لزيد. النحو الثاني : أن يحصل منه الإقرار بالملكية قبل وضع يده ثمّ بعد ذلك الإقرار يضع يده عليه ويدّعي الملكية ، والظاهر أنّ كلاً منهما مشترك في الجهة التي أفادها من الرجوع إلى انقلاب الدعوى.

وأمّا لو كان قد أقرّ في حال وضع يده على المال بأنّ هذا المال فعلاً لزيد ثمّ بعد هذا الإقرار ادّعى الملكية مع بقاء يده بحالها ، فهذا فيه جهة أُخرى توجب سقوط يده غير انقلاب الدعوى ، وتلك الجهة هي استصحاب حال اليد ، فإنّ

ص: 173


1- فوائد الأُصول 4 : 611.

إقراره بأنّ ما تحت يده فعلاً هو ملك زيد إقرار بأنّ يده فعلاً ليست مالكية ، فمع قطع النظر عن أنّ دعواه الملكية بعد ذلك الإقرار مستلزم لدعوى الانتقال إليه الذي هو انقلاب الدعوى ، يكون ذلك الإقرار مثبتاً لكون يده غير مالكية ، فيستصحب هذا الحال ، ويكون هذا الاستصحاب مقدّماً على يده ومسقطاً لها عن الحجّية على الملك ، وفي هذه الصورة تكون يده ساقطة حتّى لو لم يكن في مقابله من يدّعي الملكية ، فلا يمكن أن يعامل معه معاملة المالك ، فإنّ استصحاب حال اليد مانع من ترتيب آثار الملك عليه بحيث إنّه لا يجوز شراؤه منه.

ومن ذلك يظهر أنّ ما أُفيد في طليعة البحث بقوله : إن لم يكن في مقابل ذي اليد من يدّعي ملكية المال فلا إشكال في وجوب ترتيب آثار كون المال ملكاً لذي اليد والمعاملة معه معاملة المالك (1) ينبغي أن تخرج منه هذه الصورة.

نعم ، في الصورتين السابقتين إذا لم يكن في قباله من يدّعي الملكية يلزم ترتيب آثار الملك ، فإنّ إقراره وإن أوجب انقلابه مدّعياً إلاّ أنّه لمّا كان من قبيل الدعوى بلا معارض كان اللازم ترتيب آثار الملك عليه ، إذ ليس في البين استصحاب مقدّم على اليد المفروض كونها بلا معارض.

وفيه تأمّل وإشكال ، فإنّه بإقراره قد أسقط يده وأوجب إجراء أصالة عدم النقل في حقّه ، وذلك موجب لعدم جواز شرائه منه ، فإنّ الاعتماد في ذلك إن كان على اليد فقد عرفت حالها ، وإن كان على مجرّد كون الدعوى بلا معارض فهو أيضاً ، فإنّ السيد قد ذكرها في قضائه ، وذكر لها شروطاً من جملتها أن لا يكون قوله مخالفاً للأصل ، فقال : وكذا لا تجري ( يعني قاعدة الدعوى بلا معارض ) فيما

ص: 174


1- فوائد الأُصول 4 : 610.

إذا كان قول المدّعي مخالفاً للأصل (1).

ولا يخفى أنّ هذا الشرط موجب لسقوط القاعدة المذكورة بالمرّة ، لأنّ كلّ مدّع لابدّ أن يكون قوله مخالفاً للأصل ، إذ لو كان موافقاً للأصل الموجود في المسألة لكان منكراً ، وخرج عن قولهم مدّع بلا معارض.

نعم ، هناك جهات أُخر كعدم لزوم معارضته في تصرّفاته أو حمل فعله على الصحّة وغير ذلك من الجهات ممّا هو خارج عن مجرّد قاعدة الدعوى بلا معارض ، وترتيب آثار الملك ، وجواز الشراء منه بمجرّد الدعوى بلا معارض ، فإنّ هذه الجهة هي التي محلّ ما ذكرناه من الإشكال والتأمّل دون باقي الجهات ، اللّهمّ إلاّ أن يدفع هذا الإشكال والتأمّل بدعوى أنّ إقرار صاحب اليد بأنّ ما في يده كان ملكاً للخصم أو مورّثه لا يكون مسقطاً لحجّية يده بتاتاً ، وإنّما يسقطها في مقابلة الخصم فقط دون من لم يكن مخاصماً له وكان أجنبياً عمّن أقرّ له بها ، فإنّ حجّية يده تكون باقية بالنسبة إلى ذلك الأجنبي بحالها كما سيتّضح ذلك في قضية فدك إن شاء اللّه تعالى ، لكن الآن والمسلّم من عدم سقوط اليد بالنسبة إلى الأجنبي إنّما هو بمعنى أنّه ليس له انتزاع العين من صاحب اليد ، لا أنّه يجوز له أن يعامله معاملة المالك بحيث إنّه يسوغ له شراؤها منه ، فتأمّل.

وظاهر قول السيّد سلّمه اللّه في تحريره : وأمّا إذا كان ثبوت الحالة السابقة بالإقرار فلا ريب في لحوقه أيضاً بالثبوت العلمي في غير مورد الترافع الخ (2) أنّه يجوز الشراء منه وسائر المعاملات معه معاملة المالك ، لكنّه محتاج إلى تتبّع. والذي يظهر من الشيخ قدس سره أنّه من المسلّمات ، فراجع قوله قدس سره : ولذا لو لم يكن في

ص: 175


1- العروة الوثقى 6 : 612.
2- أجود التقريرات 4 : 203.

مقابله مدّع الخ (1).

قوله : من أنّ المدّعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة من بينهما ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ المنكر هو ما لو تُرك تَرك ، وبيان ذلك : أنّ المنكر هو من يكون قوله مطابقاً لما يكون هو المرجع في نفس المسألة لولا ما يدّعيه خصمه ، سواء كان ذلك المرجع أصلاً عملياً أو كان أمارة شرعية كاليد ونحوها ، فمرجع قول المدّعي إلى التمسّك بالاحتمال المخالف لما تقتضيه تلك الوظيفة الجارية في نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن الترافع فيها ، ومرجع قول المنكر إلى الأخذ بما تقتضيه تلك الوظيفة ، ومرجع اليمين من المنكر إلى الحلف على نفي ذلك الاحتمال المخالف لما تقتضيه تلك الوظيفة ، ومرجع البيّنة من طرف المدّعي إلى إقامة الدليل على تحقّق ذلك الاحتمال المخالف لتلك الوظيفة.

قلت : وبذلك يتّضح لك وجه الحكمة في احتياج المدّعي إلى البيّنة ، وعدم الاحتياج إليها في طرف المنكر والاكتفاء منه باليمين.

قوله : فإنّ انقلاب الدعوى ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الإقرار ، حيث إنّ المرء مأخوذ بإقراره ... الخ (3).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه قدس سره : أنّ الإقرار قد يكون له أثر غير مرتّب على نفس ما أقرّ به ، بحيث إنّ ذلك الأثر لا يترتّب على نفس المقرّ به ، وإنّما يترتّب على

ص: 176


1- فرائد الأُصول 3 : 322.
2- فوائد الأُصول 4 : 612 - 613.
3- فوائد الأُصول 4 : 613.

نفس الإقرار ، مثلاً فسق الشاهد أو الحاكم فيما لو حكم الحاكم لشخص لا يكون ذلك الشخص ملزماً به ولو كان عالماً بذلك ، ولكن لو أقرّ المحكوم له بذلك كان لإقراره أثر وهو صيرورته ملزماً بفساد ذلك الحكم ، بحيث إنّه ليس له أن يأخذ ما حكم له به استناداً إلى ذلك الحكم الذي أقرّ بفساده.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ ما ذهب إليه المشهور من انقلاب ذي اليد مدّعياً مبني على أنّه بإقراره بالملكية السابقة على يده يكون مدّعياً في الانتقال إليه ، وتكون يده ساقطة بذلك الإقرار وإن لم [ يكن ] نفس ما أقرّ به وهو الملكية السابقة موجباً لذلك ، لما ذكرناه من أنّه كثيراً ما يترتّب على الإقرار ما لم يكن مترتّباً على نفس ما أقرّ به ، فالإقرار لا يحتاج في إسقاط اليد إلى الاستصحاب كي يقال إنّ اليد حاكمة عليه ، ليكون حال الإقرار حال ثبوت الملكية السابقة بالبيّنة أو بعلم الحاكم ، بل إنّ الإقرار بنفسه يسقط اليد ، ويكون صاحبها محتاجاً إلى إقامة البيّنة على الانتقال.

والحاصل : أنّ السرّ في انقلاب الدعوى بهذا الإقرار هو ما ذكرناه من أنّ الإقرار له أثر وهو إلزام المقرّ بما أقرّ به في مقام الخصومة ، وإن لم يكن الالزام المذكور مترتّباً على نفس ما أقرّ به كما إذا ثبت بعلم الحاكم أو بقيام البيّنة ، فإنّ صاحب اليد بعد إقراره في مقام المرافعة بأنّ ما تحت يده كان ملكاً للمدّعي أو لورثته ، إن أضاف إلى هذا الإقرار ما حاصله أنّه اشتراه منه أو من مورّثه ، كان عليه إقامة البيّنة على ذلك ، وإن اقتصر على مجرّد هذا الإقرار أُلزم به ، لأنّ إقراره بملكية المدّعي أو مورّثه يكون ملزماً له بدفع ما تحت يده إليه ، لما ذكرناه.

ثمّ إنّه قدس سره أفاد فيما حرّرته عنه ما حاصله : أنّ هذا كلّه في حكم الإقرار في مقام الخصومة ، أمّا لو قامت بيّنة على إقرار سابق فقد يقال إنّ حكمها حكم الإقرار

ص: 177

في قلب الدعوى وتوجّه البيّنة على صاحب اليد. ولكن لا يخفى فساده ، لأنّ هذا الأثر إنّما يكون مترتّباً على الإقرار الواقع في مقام المخاصمة ، أمّا الاقرار السابق الثابت بالبيّنة فلا يزيد حكمه على نفس ما أقرّ به ، فلا يكون صاحب اليد ملزماً به ليكون موجباً لقلب الدعوى ، بل لابدّ من ضمّ الاستصحاب إلى ذلك الذي أقرّ به بحكم البيّنة ، فلو كان الثابت بالبيّنة هو الاقرار بالملكية السابقة لم يكن له أثر ، لكون الاستصحاب محكوماً باليد ، وإن كان هو الاقرار بحال اليد سابقاً أو بحال متعلّقها من كونه وقفاً ، كان الاستصحاب فيه حاكماً على اليد ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

وفي هذا الأخير تأمّل ، لأنّ إسقاط الاقرار السابق إن كان من جهة كونه غير واقع في مجلس التحاكم والترافع لم يكن له أثر أصلاً حتّى في إثبات مضمونه ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيما أقرّ به ، وإن كان للاقرار المذكور أثر في ثبوت متعلّقه كان ملزماً لمن أقرّ به ، سواء كنّا قد سمعناه منه أو قامت به البيّنة ، وإلاّ كانت سجلات الأقارير والشهادة عليها لاغية بالمرّة ، والمسألة محتاجة إلى التتبّع ، وقد عرفت فيما تقدّم نقله (1) عن الكفاية وكشف اللثام والجواهر وغيرها أنّ الظاهر مساواة البيّنة على الاقرار لسماع الاقرار ، فراجع وتتبّع وتأمّل.

قال في الجواهر في ذيل مسألة دعوى أبي الزوجة أنّه أعارها ما تحت يدها قبيل قوله : المقصد الثالث في دعوى المواريث ، ما هذا لفظه : نعم لو فرض كون الدعوى بين الأب وبين الوارث أو بينه وبين البنت ، بدعوى التمليك عليه ، كان القول قوله حينئذ ، لأنّه منكر حينئذ لا مدّع الخ (2) ، فإنّ المنشأ في كون القول قوله هو

ص: 178


1- في الصفحة : 156.
2- جواهر الكلام 40 : 503.

انقلاب صاحب اليد مدّعياً بدعوى الوارث أو البنت أنّ الأب قد ملّك بنته ، وأصرح من ذلك ما ذكره في شرح المسألة الخامسة ، فراجعه وراجع ما نقله عن الأعلام في ذلك (1).

ولا يخفى أنّ قوله : فالأقوى وفاقاً للمحكي عن المشهور انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدّعي لأنّ باقراره تنقلب الدعوى الخ (2) ظاهره وجوب الانتزاع بمجرّد الاقرار ، ثمّ بعد فرض انقلابه مدّعياً فعليه إقامة البيّنة ، فإن أقامها استرجع المال ، وإلاّ حلف المدّعي الذي انقلب منكراً وأُبقيت العين في يده.

وربما يقال إنّ أخذ العين من يده وتسليمها إلى المقرّ له نحو من القضاء ، وهو لا يصحّ إلاّبعد ضمّ الدعوى بموازين البيّنة واليمين.

ويمكن الجواب : أنّه تبعيض في القضاء ، فإنّه بمقدار الانقلاب يكون مقضياً عليه بمقدار رفع يده ، وإن لم يحكم بمالكية المقرّ له.

والأولى أن يقال : إنّها تنتزع من يده وتبقى أمانة تحت يد الحاكم إلى أن تكمل الدعوى. وفيه تأمّل ، وينبغي التتبّع ، وظاهر ما تقدّم نقله هو الحكم بالانتزاع وظاهره التسليم إلى المقرّ له. وعبارة تحرير السيّد سلّمه اللّه وهي قوله : فلابدّ له من إثبات الانتقال أو تسليم المال الخ (3) ، ظاهرة في عدم وجوب التسليم فعلاً فلاحظ ، فإنّه بعد أن سقطت يده لا وجه لإبقاء المال تحت يده إلى أن يقيم البيّنة خصوصاً إذا طلب المقرّ له الانتزاع ولو بالتسليم إلى أمين إلى أن تنخصم الدعوى الجديدة.

ص: 179


1- جواهر الكلام 40 : 452.
2- فوائد الأُصول 4 : 611.
3- أجود التقريرات 4 : 204.

قوله : فإن لم يضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال يكون إقراره مكذباً لدعواه الملكية الفعلية ... الخ (1).

الظاهر أنّ سقوط يده لا يحتاج إلى تكلّف هذا التناقض الذي ربما تطرّق المنع إليه ، بل يكفي في سقوط يده مجرّد الإقرار بالملكية السابقة ، فإنّه يلزم به حتّى يقيم البيّنة على التخلّص منه ، لكن في قضاء العروة بعد نقل عبارة للكفاية تتضمّن الإشكال في الانقلاب في كلّي هذه المسألة أيّد الإشكال المزبور بما حاصله : أنّ الانقلاب ينحصر بدعوى الانتقال ، دون ما لو قال : هذا كان له سابقاً والآن هو لي ، ولم يذكر أنّي اشتريته أو انتقل إليّ ، بأن كان مصبّ الدعوى كونه له أو ليس له ، فلا يكون مدّعياً ، نعم يكون مدّعياً للملكية وحجّته على ذلك يده الفعلية (2).

ومقتضاه أنّه لا يحتاج إلى إقامة البيّنة ، بل يكون منكراً لموافقة قوله حجّية اليد ، لكن لا يبعد أن يكون المنشأ في ذلك هو ما أشار إليه من أنّ الميزان في تشخيص المدّعي والمنكر هو مصبّ الدعوى ، وحيث قد تحقّق أنّ المدار على الواقع وعلى ما يلزم به أحدهما الآخر ، فلا تخرج المسألة عن الانقلاب بمجرّد الاقرار المذكور ، وإلاّ لجرى ذلك في قول المديون كنت مديوناً والآن أنا بريء الذمّة ، ونحو ذلك ، نظراً إلى أنّ مصبّ الدعوى هو أنّ المدّعي على الطرف يدّعي انشغال ذمّته ، والطرف يجيبه بأنّي ليست ذمّتي فعلاً مشغولة لك.

ولعلّ الإشكال الذي أشار إليه في الكفاية راجع إلى بعض صور المسألة. فإنّ نصّ عبارته التي نقلها السيّد هي قوله : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو

ص: 180


1- فوائد الأُصول 4 : 611.
2- العروة الوثقى 6 : 625.

أقرّ أمس بأنّ الملك له أي للمدّعي ، أو شهدت البيّنة باقراره أمس له ، أو أقرّ بأنّ هذا له أمس ، قضي به له ، وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال (1) ، فأنت تراه قد ذكر صوراً متعدّدة ، ولعلّ الإشكال راجع إلى الصورة الأُولى وهي ما لو كان إقراره سابقاً ، خصوصاً ما لو كان المراد من السبق هو السبق على وضع [ اليد ] بأن أقرّ وبعد إقراره وضع اليد وادّعى الملكية ، وكذلك الحال فيما لو شهدت البيّنة باقراره أمس الذي [ هو ] الصورة الثانية ، دون الصورة الأخيرة التي مرجعها إلى إقراره بعد وضع يده بأنّ هذا له أمس ، سواء كان المراد من قوله هذا له أمس أنّه له قبل وضع يدي ، أو كان المراد أنّه له وهو تحت يدي ، لكنّي بعد مدّة من وضع يدي ملكته ، والسيّد قدس سره وإن قال : خصوصاً إذا كان الإقرار سابقاً أو شهدت البيّنة باقراره سابقاً ، إلاّ أنّ كلامه ظاهر في الإشكال في الصورة الثالثة أيضاً ، وقد عرفت أنّ الذي ينبغي هو الانقلاب في الصور الثلاث ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر عبارة الكفاية أعني قوله : قضي به له (2) ، هو ما عرفت من الانتزاع بمجرّد الاقرار ، بل هو ظاهر في أزيد من ذلك وهو الحكم بملكية المقرّ له ، لكنّه ليس كذلك ، بل الأولى هو ما عرفت من مجرّد الانتزاع وإن لم تسلّم إلى المقرّ له ، بل تبقى أمانة عند من يعيّنه الحاكم.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس سره من لزوم التناقض بأنّه مبني على الاستصحاب ، وقد أشرنا إلى هذا التوهّم ، ولكنّه واضح الاندفاع ، لأنّ هذا المقرّ قد أخبر بأمرين متناقضين ، والتناقض وإن اندفع باختلاف الزمان ، إلاّ أنّ الإخبار القطعي بأنّه بالأمس ملك لزيد واليوم هو ملكي يتضمّن دعوى الانتقال

ص: 181


1- العروة الوثقى 6 : 625.
2- كفاية الفقه 2 : 734.

وارتفاع الملكية السابقة ، حتّى في مثل زيد قائم أمس وليس بقائم اليوم ، وحينئذ فإن ركن هذا المقرّ إلى دعوى الانتقال فقد تخلص من التناقض ، وإن لم يركن إلى دعوى الانتقال وانسلاخ الملكية السابقة كان تناقضاً.

والخلاصة : هي أنّ هذا التناقض جار حتّى في مورد علم الحاكم بملكية أمس ، فإنّ صاحب اليد لا يمكنه دعوى الملكية اليوم لأنّه في نظر الحاكم مناقض لما يعلمه من ملكية أمس ، إلاّبأن يضمّ المدّعي إلى دعوى الملكية اليوم دعوى التحوّل والانتقال وأنّه اشتراه مثلاً من مالكه بالأمس ، وحينئذ يكون في دعوى التحوّل والانتقال مدّعياً لكن يده الدالّة على الملكية الفعلية تدلّ بالالتزام على ذلك النقل والتحوّل ، وهي حجّة شرعية ، وبذلك يتسنّى للحاكم أن يرفع نظره عن علمه بالملكية السابقة ، وهذه الطريقة وإن جرت في صورة الاقرار ، إلاّ أنّه يمكن ادّعاء كون اليد ساقطة الحجّية لدى العقلاء في مورد الاقرار المذكور ، بخلاف مورد علم الحاكم ونحوه من قيام البيّنة على الملكية السابقة.

ولكن شيخنا قدس سره اعتمد في سقوط اليد على طريقة علمية ، وهي أنّ المقرّ مؤاخذ باقراره ، ويلزمه ترتيب آثار إقراره ، ومن آثار إقراره بقاء ملكية أمس إلى اليوم ، فيلزمه ترتيبه وذلك برفع يده عن الملك المزبور.

لا يقال : بناءً على ذلك لا تكون دعواه الملكية بالتحوّل والانتقال مسموعة ، لكونها على خلاف ما أقرّ به.

لأنّا نقول : إنّ الدعوى على خلاف الاقرار إنّما لا تكون مسموعة إذا كانت على خلاف ما أقرّ به ابتداءً ، بأن يقول وقع منّي البيع ، ثمّ يدّعي أنّه لم يبع ، أمّا إذا كان الشيء من آثار المقرّ به لو لم يكن في البين بعض الطوارئ ، فالمقرّ وإن كان ملزماً به إلاّ أنّه يمكنه ادّعاء ذلك الطارئ ، فبقاء الملكية اليوم وإن كان من آثار

ص: 182

ولوازم ملكية أمس ، إلاّ أنّها إنّما تكون كذلك لو لم يطرأ التحوّل والانتقال ، وحينئذ يمكنه ادّعاء هذا الطارئ ، غايته أنّه ينقلب من الانكار إلى الادّعاء المحتاج إلى الإثبات.

وإن شئت فقل : إنّا لا نسمع دعوى الملكية الفعلية التي هي مناقضة لما أقرّ به من الملكية السابقة ، وإنّما نسمع دعواه الشراء وإن كان هو علّة في ارتفاع الملكية السابقة وحدوث الملكية الجديدة ، وبعبارة أُخرى : أنّ الملكية الجديدة إنّما تكون مناقضة لما أقرّ به من الملكية السابقة إذا لم تكن دعواها منضمّة إلى دعوى الاشتراء ، وحينئذ تكون مسموعة ، بخلاف ما لو جرّدت عن هذه الضميمة فإنّها لا تكون مسموعة لكونها مناقضة لإقراره ، فتأمّل.

وعلى ذلك يتخرّج الانقلاب فيما لو اعترف زيد أنّه استقرض من عمرو ديناراً في أوّل الشهر ، ثمّ ادّعى أنّه اليوم - أعني اليوم الثالث - بريء الذمّة لأنّي وفيته في ثاني الشهر ، كلّ ذلك مؤاخذة باقراره وهو البقاء مشغول الذمّة ما لم يثبت الوفاء في اليوم الثاني.

ثمّ إنّ هذا الانقلاب إنّما يكون إذا كان الاقرار المذكور في مورد التخاصم ، وكان المقرّ له بالملكية السابقة هو المدّعي أو وارثه ، أمّا إذا لم يكن في البين تخاصم فلا يتأتّى الانقلاب المذكور ، لما عرفت من أنّ الانقلاب إنّما يكون لأحد أمرين : قصور الدليل على حجّية اليد على الملكية لصاحبها ، أو كون المقرّ ملزماً باقراره ، والأوّل - أعني القصور - لا يتأتّى في مثل ذلك ، إذ لا ريب في قيام سيرة المسلمين على معاملة مثل هذا المقرّ معاملة المالك ، فإنّ الكثير من ذوي الأيدي يعترفون بأنّ ما تحت أيديهم قد انتقل إليهم من أشخاص سابقين بالشراء ونحوه ، ومع [ ذلك ] يعاملهم المسلمون معاملة المالك بالشراء منه ونحو ذلك ، ولا يكون

ص: 183

ذلك الاقرار موجباً لسقوط يده عن الحجّية على الملكية. وأمّا الثاني فلوضوح أنّ المقرّ له غير مخاصم لصاحب اليد لا هو ولا وارثه.

ومن ذلك يظهر لك عدم الانقلاب لو كان في البين خصومة ، وكان هناك مدّع مخاصم لكنّه لم يكن هو المقرّ له ولا وارثه ، بل كان هو شخصاً ثالثاً ، كما لو أنّ زيداً وهب لعمرو كتابه الفلاني وسلّمه الكتاب وصار تحت يد عمرو ، ثمّ إنّ زيداً بعد مدّة باع جميع ما يملكه من بكر ، وبعد ذلك مات زيد فادّعى بكر بذلك الكتاب وأنّه داخل في جملة ما اشتراه من زيد ، وفي مقام التخاصم اعترف عمرو الذي هو صاحب اليد على الكتاب بأنّ هذا الكتاب كان لزيد ، لكنّه وهبنيه قبل أن يبيعك جميع أملاكه ، لم يكن الاقرار المذكور مسقطاً للحجّية ، لحجّية اليد على الملكية ، فلا يكون موجباً للانقلاب ، حيث إنّ الاقرار المذكور وإن كان في مقام التخاصم إلاّ أنّه لم يكن إقراراً بالملكية السابقة على يده للخصم ولا لمورّثه ، إذ ليس بكر المشتري جميع أملاك زيد هو نفس المقرّ له ولا هو وارثه ، فلا يكون دليل حجّيتها قاصراً ولا يكون المقرّ ملزماً باقراره للمدّعي ، وإنّما يكون ملزماً باقراره للمقرّ له أو وارثه ، والمفروض أنّه - أعني المقرّ له أو وارثه - غير مدّع ولا مخاصم ، وحينئذ فليس للمدّعي المذكور - أعني بكراً - إلاّ ادّعاء بقاء الكتاب على ملك زيد إلى أن اشترى منه جميع أملاكه ، ولا يكون ذلك إلاّبالاستصحاب ، ويد عمرو على الكتاب حاكمة على ذلك الاستصحاب.

ومن ذلك يتّضح لك عدم الانقلاب في قضية فدك ، حيث إنّ المسلمين لو صحّ ما لفّقوه لم يكونوا هم ورثة النبي صلى اللّه عليه وآله ، وأقصى ما في البين أن يكون حالهم في متروكاته حال المشتري المذكور أو حال الموصى له أو حال الموقوف عليه. وعلى أي حال ، لا يكون حالهم حال وارثه صلى اللّه عليه وآله في كون الاقرار بالملكية السابقة

ص: 184

إقراراً لهم ليكون موجباً لانقلاب الدعوى ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّا وإن قلنا بأنّ الانقلاب إنّما يكون لو كان الاقرار للمدّعي في مورد التخاصم ، لكن يمكننا القول بأنّه لو صدر الاقرار للمدّعي قبل وضع اليد أو صدر بعد وضع اليد ثمّ بعد ذلك ادّعى صاحب اليد أنّه ملكه ، ثمّ بعد ذلك وقع التخاصم يكون حال هاتين المسألتين لو ثبت صدور الاقرار منه فيما مضى حال ما لو أقرّ له بعد المخاصمة في كونه موجباً للانقلاب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فما يظهر من بعض الكلمات من أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ليس على ما ينبغي ... الخ (1).

المتحصّل للنظر القاصر بعد المراجعة في الجملة إلى الجواهر وبعض الكتب الفقهية ، هو أنّ بعضهم احتمل أو قال بتخلّف أحد التعريفين عن الآخر فيما لو اعترف المديون بالدين ولكنّه ادّعى الوفاء ، فإنّ مقتضى كون الضابط والمايز بين المدّعي والمنكر هو مطابقة الأصل ومخالفته ، يكون الدائن هو المنكر والمدّعي هو المديون ، ومقتضى كون الضابط هو ما لو تُرك لترك يكون الدائن هو المدّعي والمديون هو المنكر ، ومثله ما لو ادّعت الزوجة عدم الانفاق وادّعى الزوج الانفاق ، ومثله أيضاً ما نحن فيه ، فإنّه بناءً على الأوّل يكون المدّعي هو صاحب اليد والمنكر هو المقرّ له ، وبناءً على الثاني يكون الأمر بالعكس.

ولكن أشار السيّد قدس سره في قضاء العروة إلى ردّ هذا التوهّم بقوله : ( مسألة 1 ) عرّف المدّعي بتعاريف ، أحدها : أنّه من لو تَرك تُرك ، وبعبارة أُخرى من لو سكت يسكت عنه. والظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى لا مطلقاً ، فلو كان مديوناً وادّعى الوفاء أو كان عنده مال من غيره فادّعى الردّ ، يكون مدّعياً ، لأنّه لو

ص: 185


1- فوائد الأُصول 4 : 613.

ترك هذه الدعوى تُرك فيها ، فيكون الدين باقياً في ذمّته أو المال باقياً عنده ، ولا ينافي عدم تركه من هذه الحيثية. الثاني : أنّه من يدّعي خلاف الأصل. والظاهر أنّ المراد منه أعمّ من الأصل العملي والأمارات المعتبرة كاليد ونحوها ، وهذا بحسب المصاديق مساوق للأوّل الخ (1).

ولا يخفى أنّ المساوقة بين الضابطين إنّما هي من جهة ما أفاده أوّلاً بقوله : والظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى الخ ، وتطبيق ذلك فيما نحن فيه هو أن نقول : إنّ صاحب اليد بعد إقراره ودعواه الانتقال إليه لو ترك دعواه الانتقال لترك ، وإن كان في الحقيقة لا يترك ، بل ينتزع منه المال ، لكن ذلك أمر خارج عن الدعوى ، فإنّ المراد من أنّه لو تَرك لترك أنّه لو ترك دعواه الانتقال لم يطالب بشيء ممّا يدّعيه من الانتقال ، وإن طولب بشيء آخر هو غير مركز الدعوى.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف والتجشّم ، والمسألة - أعني ضابط المدّعي والمنكر - غير منصوصة ، وإنّما ذلك مستفاد من الفحاوى ، والظاهر حينئذ أنّ الضابط الحقيقي هو ما عرفت من المطابقة للوظيفة الفعلية مع قطع النظر عن التخاصم ، فلا حاجة إلى تكلّف إرجاع الضابط الثاني إلى الضابط الأوّل.

(2) لو تعدّدت الأيدي على شيء واحد ، فإمّا أن يقال بأنّها واحدة وأنّ المجموع بمنزلة يد واحدة على مجموع ذلك الشيء ، ويتّضح ذلك في صورة ما إذا كان ذلك الشيء محتاجاً في الاستيلاء عليه إلى اجتماع اليدين كالفرس الذي يقاد بشطنين (3) لقوّة شكيمته.

ص: 186


1- العروة الوثقى 6 : 462.
2- بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وله الحمد ، رمضان المبارك سنة 1374 [ منه قدس سره ].
3- الشَطَن : الحبل ، وقيل : الحبل الطويل ، وإنّما يُربط الفرس بشطنين لقوّته وشدّته. لسان العرب مادّة شطن.

وإمّا أن يقال : إنّ كلّ واحدة من اليدين مستقلّة ولكنّها على النصف لا على المجموع ، وحينئذ لا تدافع بينهما ، ويكون حالهما حال ما لو كانت إحدى اليدين على النصف الشرقي والأُخرى على النصف الغربي.

وإمّا أن يقال : بأنّ كلاً منهما مستقلّة ولكن ما تحت اليد هو المجموع لا النصف ، وحينئذ يكون كلّ يد قاضية بمالكية صاحبها للمجموع ، فإن صحّحنا تعدّد الملاّك مع وحدة المملوك فهو ، وإلاّ وقع التعارض بين اليدين كالتعارض بين البيّنتين ، وحينئذ يلزم الرجوع إلى قاعدة المال المردّد بأن نحكم فيه بالتنصيف بينهما. والذي اختاره السيّد قدس سره في كتاب القضاء الملحق بالعروة (1) هو الثاني ، واستشهد لإمكان تعدّد المالك مع وحدة المملوك بالزكاة والخمس ، ولتعدّده شخصاً بمسألة الوقف على شخصين أو بالوصية التمليكية لهما على نحو المصرف ، وبالخيار الواحد الموروث لمتعدّد ، وبولاية الأب والجد.

ولكن كلّ هذه الشواهد قابلة للتأمّل. أمّا الزكاة فهي بعد عزلها مثلاً إن قلنا بأنّها غير مملوكة وإنّما هي زكاة وإنّما يملكها شخص الفقير عند الدفع إليه ، فلا دخل لها بما نحن فيه ، وإن قلنا إنّها مملوكة لكلّي الفقير فهو وإن كان كلّياً إلاّ أنّه غير متعدّد ، غايته أنّه عند الدفع إلى الفقير المعيّن يملكها عند القبض. ومنه يظهر الحال في الخمس.

وأمّا وقف المصرف فكذلك ، لأنّه قبل الدفع لا يملكه هذا ولا ذاك ، وإنّما تتحقّق الملكية عند القبض لو قلنا إنّ المصرف يملك بالقبض ، وإلاّ لم تتحقّق الملكية وإن فنى المال في صرفه عليه ، ويكون المال خارجاً عن كونه مال الوقف [ بدفعه ] إلى البايع الذي يبيع الخبز مثلاً ، وحينئذ يكون الخبز عائداً إلى الوقف ،

ص: 187


1- العروة الوثقى 6 : 589.

وهذا الآكل الذي هو المصرف يأكله ليس إلاّ ، لا أنّه يملكه.

وأمّا مسألة إرث الخيار ، فلو قلنا إنّه حقّ واحد لكلٍّ إعماله كان حاله حال المصرف المذكور ، بمعنى نفس الحقّ يبقى على ما هو عليه حقّاً للميّت ولكلّ من الورثة إعماله فسخاً فقط أو فسخاً وإمضاء ، على بحث محرّر في محلّه.

وأمّا مسألة ولاية الأب والجد فهي من الأحكام لا من الحقوق.

ثمّ إنّه بعد فرض تمامية ما أفاده من إمكان تعدّد الملاّك لمملوك واحد ، فهل يكون ما نحن فيه حال هذه الأُمور التي ذكرها من كون الملكية قائمة بالنوع مثلاً؟ لا أظن أنّه يقول بذلك فيما نحن فيه ، بل لابدّ من التوزيع ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما مالكاً للنصف ، إلاّ أن يقال كما قيل بأنّ الشركة الاشاعية هي عبارة عن كون كلّ منهما مالكاً لكنّها ملكية ضعيفة.

وعلى كلّ حال ، أنّ الذي ينبغي أن يقال : إنّ يد كلّ منهما وإن كانت على تمام العين ، إلاّ أنّ اليد على العين إنّما تكون حجّة على أنّ العين بتمامها مملوكة لصاحب اليد فيما لو كانت اليد وحدها ، أمّا لو انضمّت إليها أُخرى مثلها في كونها على تمام العين كان ذلك موجباً لقصر حجّيتها أو كشفها العقلائي وصرفه إلى النصف ، لا أنّ اليد تكون على النصف بل هي على الكل ، ولا أنّ حجّيتها في مالكية الكل معارضة أو مزاحمة باليد الأُخرى ليوجب ذلك التساقط بينهما ، والرجوع إلى التنصيف كما في البيّنة ، للفرق الواضح بين البيّنة وبين اليد ، وهو ما أشرنا إليه من أنّه مع وجود اليد الأُخرى لا تكون هذه اليد حاكمة بمالكية التمام ، بل هي عند العقلاء حاكمة بمالكية صاحبها للنصف ، بحيث لو قلنا إنّها أمارة لا تكون كاشفة وحاكية عند العقلاء عن مالكية التمام ، بل تكون حكايتها مقصورة على مالكية النصف ، فهي يد على التمام لكنّها لا تحكي إلاّمالكية النصف ،

ص: 188

بخلاف البيّنة فإنّها بوجود معارضها لا تخرج عن الحكاية عن مالكية التمام.

وإن شئت قلت : إنّ اليدين كاشفتان عن ملكية ما تحتهما لأربابهما ، لا أنّ كلّ واحدة منهما كاشفة عن مالكية صاحبها لما تحتها كما لو كانت وحدها ، فيكون نسبة كلّ من اليدين إلى الأُخرى من قبيل القرينة وذي القرينة ، بحيث يكون هذا الانضمام قرينة على أنّ ما تحكيه اليد التي هي على الجميع إنّما هو ملكية النصف. وينبغي مراجعة قضاء البلغة ص 339 وص 340 (1) ، فإنّ ظاهر ما أفاده هناك هو هذا الذي شرحناه هنا ، لكنّه قدس سره فيما نحن فيه - أعني قاعدة اليد - أفاد ما هذا نصّه : الرابع : لو اشترك اثنان أو أكثر فيما يصدق به اليد عرفاً ، فهل الثابت به يد واحدة لهما ، فلا يد لكلّ واحد منهما ، أو يثبت به يد لكلّ واحد منهما وتتعدّد الأيدي حينئذ ، وعليه فهل تختصّ اليد بالبعض نصفاً أو ثلثاً بحسب تعدّد الشركاء ، فيكون له اليد على النصف أو الثلث ، أو لكلٍّ يد على كلّ العين وجميعها وإن زوحم بمثلها عليه ، فعلى الأوّل لا تعارض بين اليدين لاختلاف متعلّقهما ، وعلى الثاني كان من تعارض اليدين لاتّحاد المتعلّق فيهما.

وتظهر الثمرة بينهما فيما لو غصب العين اثنان دفعة فتلفت عندهما ، رجع المالك عليهما معاً بالمناصفة أو بالمثالثة بحسب تعدّد الشركاء على الأوّل ، وله الرجوع على من شاء منهما أو عليهما بالتوزيع على التساوي أو على التفاضل على حدّ تعاقب الأيدي على الثاني (2).

وهذا التفريع لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ يد الضمان لا تقاس باليد المالكة ، ولو تمّ القياس لكان القول بتعارض اليدين في المالكية موجباً لتعارضهما في

ص: 189


1- بلغة الفقيه 3 : 388 وما بعدها.
2- بلغة الفقيه 3 : 321.

الضمان. وعلى كلّ حال ، أنّ اليد بمجرّد جعلها على تمام العين توجب ضمانها ، وإن انضمّت إليها مثلها كان كلّ منهما موجباً لضمان صاحبها تمام المال نظير تعاقب الأيدي ، وإن لم تكن طولية بين الضمانين كما في التعاقب ، بل كان كلّ منهما في عرض الآخر.

والفرق بينه وبين تعاقب الأيدي أنّه في تعاقب الأيدي لو أخذ المالك القيمة من السابق يرجع السابق على اللاحق وهكذا ، حتّى يستقرّ الضمان على الأخير الذي حصل التلف عنده ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما نحن فيه ، إذ لو رجع المالك على أحدهما لم يكن له الرجوع على صاحبه ، ويكون ذلك من قبيل الواجب الكفائي الذي لو قام به الواحد سقط عن الباقين ، غايته أنّ قيام هذا الواحد هنا كان قهرياً عليه لا باختياره ، وهذا ممّا يبعّد القول بأنّ كلّ واحد من الأيدي يكون على تمام المال ، بل يكون الجميع من باب الاشتراك في الغصب ، فينحصر الأمر حينئذ بالتوزيع ، فلاحظ. وهذا بخلاف اليد المالكة فإنّها وإن كانت على التمام ، إلاّ أنّها إنّما تكون حاكية وكاشفة وحاكمة وحجّة - ما شئت فعبّر - بمالكية التمام إذا لم تكن مقرونة بمثلها ، وإلاّ كان انضمام الأُخرى إليها موجباً لقصر حكايتها وتقليص حجّيتها من مالكية التمام إلى مالكية النصف.

وكيف كان ، فاليدان على الشيء يكون كلّ واحدة منهما على التمام لا على النصف ، ولكن لا يحكمان بمالكية صاحب كلّ يد للتمام ، بل إنّ انضمام كلّ منهما إلى الأُخرى وإن كانتا مستقلّتين لا متداعمتين كما في مثال الفرس القوي ، يكون موجباً لانقلاب تلك الحكاية من مالكية التمام إلى مالكية النصف ، فلو ادّعى صاحب إحداهما مالكية التمام وادّعى صاحب الأُخرى مالكية النصف ، كان الأوّل مدّعياً في النصف الآخر والثاني منكراً. ولو ادّعى كلّ منهما مالكية التمام

ص: 190

كانا متداعيين ، لا من جهة ادّعاء الاستقلالية كما يظهر من السيّد في البلغة (1) ، بل من جهة ما ذكرناه من وجود الأصل القاضي بملكية النصف في حقّ كلّ منهما ، فهو في دعواه الزائد يكون مدّعياً لكونه على خلاف مقتضى اليد المقرونة بغيرها ، وفي دعواه النصف يكون منكراً ، لما عرفت من أنّ يده على الكلّ المقرونة بمثلها قاضية بكونه مالكاً للنصف فقط ، فلو نفاه صاحبه كان هو منكراً ، فيكون كلّ منهما مدّعياً منكراً ، بل لا أثر لهذا الانكار ولا يجري عليهما إلاّحكم التداعي من التحالف.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده السيّد في البلغة كأنّه هو الذي أراده السيّد في قضاء العروة ، وهو مبني على صحّة تعدّد المالك مع وحدة المملوك كما في الاشاعة ، غايته أنّه مالك غير استقلالي ، فلاحظ ما أفاداه وتأمّل لتقدر على إرجاع كلّ منهما إلى هذا المطلب.

ثمّ إنّ الذي يظهر من الأُستاذ العراقي قدس سره في قضائه هو اختيار الوجه الأوّل أعني كونهما معاً يداً واحدة ، فقد قال : فلو كان المال في يدهما وأقام كلّ منهما البيّنة ، فمقتضى ما تلوناه لك هو الأخذ بالبيّنة في كلّ واحد من الطرفين بمقدار من مؤدّاها الذي كانت البيّنة بالاضافة إليه بيّنة خارج وهو النصف ، لما أسلفنا من أنّ يد الشخصين على تمام المال بمنزلة يد كلّ واحد على النصف كما هو المشهور المعروف (2).

وقال قبل ذلك ولو تنازع اثنان فيما في يدهما فلهما بالسويّة ، وذلك لما عرفت من أنّ مرجع يديهما على تمام المال إلى استيلاء كلّ واحد منهما عليه

ص: 191


1- بلغة الفقيه 3 : 323.
2- كتاب القضاء : 127.

ضمناً لا مستقلاً ، ولازم كشف مثل هذا الاستيلاء القائم بهما على وجه يكون جميع ذرّات العين تحت ملكيتهما بلا ميز في متعلّق الملكية ، بل ولا في نفس الملكية أصلاً ، ومرجع مثل هذا الاعتبار إلى اعتبار كون كلّ منهما مالكاً للنصف المشاع (1).

والأصرح من الجميع هو ما ذكره في مسألة الكيس الواقع بين عشرة فقد قال : إنّ من الواضح كون يد كلّ واحد على تمام المال غير معقول ، لأنّ حقيقة اليد ليست إلاّعبارة عن الاستيلاء على المال خارجاً ، ومثل هذا المعنى لا يتصوّر بنحو الاستقلال بالنسبة إلى اثنين فضلاً عن الأكثر ، لأنّ استيلاء كلّ واحد مستقلاً ملازم مع قدرته على منع الغير عن التصرّف ، وهذا المعنى لا يجامع مع قدرة الغير كذلك ، فما هو معقول هو الاستيلاء القائم بكليهما بنحو يكون كلّ واحد مشمول هذا الاستيلاء ضمناً لا مستقلاً ، ومن المعلوم أنّ مرجع هذا الاستيلاء الضمني بحسب الاعتبار إلى استيلاء كلّ واحد على النصف (2). والحجر الأساسي في مطلبه هو هذه الكلمة الأخيرة ، وهي عدم معقولية كون كلّ يد على تمام المال في قبال قول من قال إنّه لا يعقل كون النصف المشاع تحت اليد مع عدم كون اليد على الكلّ.

وعمدة الوجه في هذه الدعوى وهي عدم معقولية كون كلّ واحد من الأيدي المتعدّدة على تمام المال ، هو أنّ محصّل كون المال تحت اليد هو استيلاء صاحبها عليه استيلاءً تامّاً ، ولازم الاستيلاء التامّ هو منع الغير ، وهذا لا يجتمع مع التعدّد ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّ اليد التي هي عبارة عن الاستيلاء التامّ الذي قوامه

ص: 192


1- كتاب القضاء : 127.
2- كتاب القضاء : 116.

بمنع الغير إنّما هي لهما معاً ، فلا يكون في البين إلاّ استيلاء واحد قائم بهما ، وعن هذا الاستيلاء الواحد القائم بهما ينتزع الاستيلاء لكلّ منهما على النصف ، وفي الحقيقة أنّ لكلّ منهما نصف اليد ونصف الاستيلاء ونصف الملكية ، ولكن نصف اليد يكون عبارة عن اليد على نصف المال ، ونصف الاستيلاء يكون عبارة عن الاستيلاء على نصف المال ، ونصف الملكية يكون عبارة عن مالكية النصف من المال ، وكلّ هذه الجهات إنّما جاءت من اعتبار منع الغير في اليد وما تقتضيه من الاستيلاء ، وذلك - أعني القدرة على منع الغير - إنّما يعتبر في الملكية التامّة والاستيلاء التامّ ، أمّا نحن ومجرّد اليد وكشفها عن الملكية في حدّ نفسها فهي لا تقتضي الاستيلاء التامّ ولا القدرة على منع الغير.

ثمّ إنّ القدرة على منع الغير ليست عبارة عن المنع الفعلي ولا عبارة عن عدم وجود الغير فعلاً ، فلو وجدنا اثنين نائمين على بساط واحد أو في دار واحدة حكمنا بأنّ لكلّ منهما اليد ، ولو انتبها وادّعى كلّ منهما أنّه المالك وأراد طرد صاحبه لم يكن ذلك منافياً لكون كلّ منهما صاحب يد ، لا أنّه يكون كلّ منهما صاحب نصف اليد أو صاحب نصف الاستيلاء.

وعلى كلّ ، أنّ اليد والاستيلاء لا يعتبر فيهما القدرة على منع الغير ولا المنع الفعلي ولا عدم وجود الغير.

والخلاصة : هي أنّ الملاك عنده في عدم تحقّق اليد بالنسبة إلى يد زيد مثلاً على تمام المال هو أنّه لا يقدر على منع عمرو ، وعن هذا انتقلنا إلى أنّ المجموع يد واحدة على تمام المال ، وأنّ يد زيد واستيلاءه بالنسبة إلى تمام المال يد ضمنية واستيلاء ضمني ، ومرجع هذا الاستيلاء الضمني إلى استيلاء كلّ واحد منهما على النصف ، وهذا هو روح المطلب.

ص: 193

ولكن هلمّ في الاستيلاء على النصف ، وهل يقدر صاحبه على منع الغير مع كون صاحبه مدّعياً لتمام المال. فإن قلت إنّه قبل تشكيل الدعوى كان يقدر على منعه عن النصف. قلنا إنّه أيضاً كان يقدر على منعه عن الكلّ.

وإن شئت فقل : إنّ محلّ الكلام في اجتماع اليدين إنما فيما لم يحرز كون كلّ منهما مالكاً للنصف ، بل احتمل ذلك كما احتمل أيضاً كونه مملوكاً بالتمام لأحدهما دون الآخر ، أو أنّه ليس بمملوك لهما بل هو ملك الغير ، وحينئذ فلو فرضنا أنّ أحدهما المعيّن كان قادراً على منع الآخر من أيّ تصرّف في العين ، كان ذلك ملازماً لعدم مالكية الآخر ، وكانت الملكية منحصرة بذلك القادر ، كما أنّا لو فرضناه غير قادر على منع الآخر كان ذلك ملازماً لعدم [ كونه ] مالكاً له بالتمام. وعلى أي ، يكون الفرض خارجاً عمّا هو محلّ الكلام من اجتماع اليدين مع عدم العلم بكيفية الملكية ، وهل هي مشتركة بينهما أو أنّها بالتمام لهذا دون ذاك ، أو أنّ الأمر بالعكس ، أو أنّ ما تحت يدهما مملوك لغيرهما ، ولأجل ذلك قلنا بأنّ فرض تصرّف كلّ منهما بالنصف المشاع بأن يؤجره ويبيع ثمرته ونحو ذلك من التصرّفات النصفية أيضاً خارج عمّا هو محلّ الكلام.

وحينئذ لابدّ أن يكون مفروض الكلام هو ما إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد كون يدهما على تمام المال يداً استقلالية ، مع عدم الاطّلاع على قدرة أحدهما على منع الآخر أو عدم قدرته على ذلك ، بأن لم يكن بينهما إلاّ التصرّف الاستقلالي لكلّ منهما ، حتّى أنّهما لو اشتركا في التصرّف الواحد الواقع على التمام كان ذلك خارجاً عن الفرض ، ومنه ما لو آجراه أو باعا ثمرته ، بل منه ما لو افترشاه مثلاً ، فإنّ جميع ذلك لا يكون إلاّمن باب كون مجموع اليدين يداً واحدة. ومثله ما لو وجد في محلّهما ، كالكتاب الموجود في غرفة الشريكين في

ص: 194

الغرفة التي يسكنانها أو ضياء تلك الغرفة أو معلّقاتها ، بل ومثله الكيس المطروح بين جماعة فإنّ كون مجموع اليدين يداً واحدة قاضٍ بالاشاعة بينهما. نعم في جميع ذلك لو علم عدم الاشاعة كان داخلاً فيما نحن فيه.

ومن ذلك يظهر الحال فيما ذكرناه من أنّ ضمّ كلّ من اليدين الاستقلاليتين إلى الأُخرى يكون موجباً لرفع اليد عمّا تقتضيه يد كلّ واحد منهما من مالكيته للتمام ، وصرف ذلك إلى مالكية النصف ، فإنّ ذلك إنّما يمكن لو لم نعلم من الخارج بعدم الاشاعة ، أمّا إذا علمنا بذلك وانحصر الأمر باحتمال مالكية التمام لكلّ منهما واحتمال كون المالك غيرهما ، كان مقتضى القاعدة هو التعارض بين الأيدي والتساقط ، ومنه مسألة الكيس المطروح بين عشرة ، فإنّ ظاهر الفرض هو ما لو علم بعدم كونه على الاشاعة بينهم ، وحينئذ يكون الحكم بأنّه لمن ادّعاه منهم على حسب قاعدة اليد ، فإنّ نفي الباقين له يوجب سقوط أيديهم عن معارضة يد من ادّعاه ، وحينئذ تعمل يده عملها في اقتضائها مالكيته للتمام ، ولا يكون الحكم بأنّه له من باب الدعوى بلا معارض ، فلاحظ.

فصار الحاصل أنّه في اليدين اللتين تكون إحداهما منضمّة إلى الأُخرى إمّا للحاجة مثل شطني الفرس الواحد ، وإمّا لأنّ ذلك التصرّف الذي أخذنا اليد منه مشترك بينهما ، مثل ما عرفت من الاستضاءة بالسراج والاستظلال بالخيمة ووقوع الاجارة منهما ، بل ووقوع الكيس بينهما والكتاب في غرفتهما ، يكون المجموع يداً واحدة ويكون كلّ منهما صاحب النصف من تلك اليد ، ولازمه عرفاً أنّه صاحب النصف من ذلك المال ، وهكذا الحال فيما لو كانت يد كلّ منهما على النصف ، كما لو كان حالهما أنّ كلّ واحد منهما يؤجر نصفه ونحو ذلك من التصرّفات في النصف المشاع. ولو كانت اليد استقلالية لم يكن كلّ منهما صاحب

ص: 195

النصف من اليد بل كانت يد كلّ منهما استقلالية. نعم كان ضمّ إحدى اليدين إلى الأُخرى قرينة عرفية على أنّ صاحبها مالك للنصف لا للتمام ، وفي كلّ من الصورتين لابدّ من إمكان الاشاعة بينهما ، أمّا إذا انسدّ باب الاشاعة تعيّن كونه من تعارض اليدين والحكم بسقوطهما والرجوع إلى ما تقتضيه القواعد من التنصيف أو القرعة ، فلاحظ وتأمّل.

وإن شئت فعبّر عن النحو الأوّل بالتصرّفات الاشتراكية على الكل ، وعن النحو الثاني بالتصرّفات الانفرادية في الجزء ، وعن النحو الثالث بالتصرّفات الانفرادية في الكل.

قال المرحوم العلاّمة الأصفهاني قدس سره في رسالته ما محصّله : لا إشكال في كون الأيدي المتعدّدة أمارة على الملكية ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ كلاً من اليدين على النصف المشاع فتوجب ملكيّة النصف ابتداءً ، أو أنّ كلاً منهما على الكل لكن مقتضى اليدين هو ملكية النصف ، نظراً إلى أنّ الاستيلاء على النصف المشاع لا يعقل إلاّبالاستيلاء على الكل.

ويندفع بأنّ الاستيلاء لو كان من المقولات كالجدة لتمّ ذلك ، إذ لا يعقل الاحاطة الخارجية على النصف المشاع إلاّبالاحاطة على الكل ، لكنّه خروج عن الفرض من قيام اليدين على المال ، إذ لا يعقل اجتماع فردين من هذه المقولة على موضوع واحد ، وأمّا إن كان الاستيلاء المراد من اليد - كما مرّ مراراً - أعمّ من الحقيقي والاعتباري المستكشف بالتصرّف ، فتعلّقه بالنصف المشاع فقط على حدّ تعلّق الملك الاعتباري الشرعي والعرفي بالنصف المشاع أمر معقول ، فكما أنّ تعلّق الملك بالنصف المشاع ليس بتبع تعلّقه بالكل فكذا تعلّق الاستيلاء الاعتباري بالنصف المشاع ليس بتبع تعلّقه بالكل. وأمّا التصرّف الخارجي فهو لا

ص: 196

محالة بالجزء المعيّن من كلّ من المتصرّفين ، إلاّ أنّ التصرّفات المتبادلة من الطرفين في العين مع تساوي النسبة وعدم تمكّن كلّ منهما من التصرّف على وجه يوجب حرمان الآخر من التصرّف تكشف عرفاً عن أنّ كلاً منهما مستول على النصف المشاع من العين ، وهو أمارة على ملكية النصف (1).

ولا يخلو من تأمّل ، فإنّ الاستيلاء المتعلّق بالنصف لابدّ له من كاشف ، وهو التصرّف بالنصف مثل إجارته وبيع ثمرته ، وحينئذ تكون اليد يداً على النصف ، وقد عرفت خروجها عمّا هو محلّ الكلام.

ومنه تعرف أنّ التصرّف الخارجي لا يلزمه أن يكون واقعاً على الجزء المعيّن مثل أن يجلس في جانب من الدار ، بل يمكن وقوعه على النصف كما عرفت من إجارة النصف ورهنه ، ويمكن وقوعه على الكل كما في إجارة التمام ورهنه ، بل يمكن وقوعه على الكلّ خارجاً مثل أن يسكن الدار وحده ، فإذا وقع ذلك على وجه التبادل منهما كان ذلك من اليدين الاستقلاليتين ، ولا حاجة فيه إلى التقييد بعدم إيجاب حرمان الآخر ، لأنّه لو لم يكن له قدرة على حرمان الآخر كان خارجاً عمّا هو محلّ الكلام ، كما عرفت (2) فيما أفاده الأُستاذ العراقي في اعتباره عدم القدرة ، وأنّ اليد لابدّ أن لا تكون استقلالية ، لأنّ لازم الاستقلال هو القدرة ، وقد عرفت التأمّل في ذلك.

ثمّ بعد فرض تبادلهما في تلك التصرّفات الاستقلالية لا تخرج اليد بذلك عن كونها استقلالية ولا الاستيلاء المستكشف بها عن كونه استيلاء على الكل إلى الاستيلاء على النصف ، نعم إنّ هذه اليد الاستقلالية الكاشفة عن الاستيلاء على

ص: 197


1- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 334.
2- في الصفحة : 191.

الكل مع فرض انضمام مثلها إليها لا تكون كاشفة عن ملكية التمام ، بل تكون كاشفة عن ملكية النصف ، نعم يختصّ ذلك بما لو أمكن الاشتراك ، أمّا لو علمنا من الخارج أنّ تلك العين غير مشاعة بينهما ، لزمنا القول بتعارض اليدين أو تزاحمهما وتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الانصاف أو القرعة ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الجماعة ردّوا على القول بكون اليد على النصف المشاع بأنّه يستحيل وضع اليد على النصف المشاع من دون وضعها على الكل. وأُجيب عن ذلك بامكان كون النصف المشاع تحت اليد مع عدم كون الكل تحتها كما إذا كان يتصرف في النصف المشاع باجارة وبيع ثمره ورهن ونحو ذلك من التصرّفات الواردة على النصف المشاع من دون تصرّف في الكلّ.

ولكن لا يبعد أن يقال : إنّ هذا النحو من اليد المنحصرة بالنصف المشاع خارجة عن محلّ الكلام ، فإنّ محلّ الكلام هو تعدّد الأيدي على الكل ، وهل يكون تعدّدها موجباً لكون ما تحت كلّ منهما هو النصف المشاع ، وحينئذ لا يتمّ الجواب عن هذا الإشكال بإمكان وضع اليد على النصف دون الكل ، لما عرفت من خروج ذلك الفرض عن محلّ النزاع ، كما أنّه لا محصّل لأصل الإشكال على القول المذكور بأنّه لا يمكن وضع اليد على النصف المشاع من دون وضع يد على الكل ، بل الذي ينبغي أن يشكل عليه بأنّه بعد فرض كون محلّ الكلام هو تعدّد الأيدي على تمام المال ، كيف يصحّ أن نقول إنّ ما تحت يد كلّ واحد هو النصف المشاع إلاّبالنحو الذي ذكرناه من كون اليد على التمام المقرونة بمثلها تكون حجّة على مالكية النصف ، لا أنّها تكون موضوعة على النصف.

واعلم أنّ النتيجة على جميع الأقوال المزبورة هي مالكية النصف لكلّ واحد من الشخصين ، ولكن هناك ثمرات تترتّب على تلك الأقوال أو

ص: 198

الاحتمالات الخمسة ، أعني كون مجموع اليدين يداً واحدة ، وكون كلّ واحدة منهما على النصف ، وكون كلّ واحدة منهما على التمام مع التعارض والتساقط والرجوع إلى قاعدة الانصاف ، أو مع عدم التعارض بناءً على إمكان اجتماع الملكيتين على مملوك واحد كما قيل في الاشاعة ، أو كون كلّ واحدة منهما على التمام ، لكن اجتماعهما يكون من قبيل القرينة على مالكية النصف لا التمام ، منها : ما تقدّم نقله عن البلغة في اجتماع أيدي الضمان. ومنها : ما لو نفاه أحدهما. ومنها ما لو ادّعى أحدهما مالكية التمام والآخر مالكية النصف. ومنها : ما لو ادّعى كلّ منهما مالكية التمام.

أمّا الأوّل ، فقد تقدّم الكلام فيه. وأمّا الثاني ومنه مسألة الكيس الموجود بين عشرة إذا نفاه الجميع وادّعاه أحدهم ، فقد قيل إنّه من قبيل الدعوى بلا معارض. وأورد عليهم ابن إدريس (1) بوجود اليد من هذا المدّعي مع نفي الباقين. وأجاب عنه الشيخ قدس سره فيما حكاه المرحوم الآشتياني قدس سره في قضائه ص 351 (2) بأنّ اليد للمجموع إنّما تثبت لوجوده فيما بينهم ، أمّا لو نفاه الأغلب أو تمام التسعة ولم يبق إلاّواحد لم يكن بصاحب يد عليه ، لأنّ يدهم إنّما تثبت باعتبار كونه فيما بينهم وهم محيطون به كالحلقة ، أمّا لو ذهب الجميع وبقي واحد لم يكن هو صاحب يد ، لعدم دخوله في حيطته لبعده عنه. وفيه : أنّه من قبيل المناقشة في الصغرى ، وإلاّ كان من الممكن أن يكون صاحب يد باعتبار كون المحل محلاً للجميع.

وناقش فيه الأُستاذ العراقي قدس سره في قضائه ص 116 بما عرفت من كون

ص: 199


1- السرائر 2 : 191.
2- كتاب القضاء ( للآشتياني ) 2 : 866 - 869.

اليدين يداً واحدة ، فلا تكون إلاّعلى النصف أو العشر في المثال ، فهو فيما زاد أجنبي ، فمع نفي الباقين يكون ادّعاؤه للجميع من قبيل الدعوى بلا معارض.

لكن قال في ص 117 : فالأولى أن يقال : إنّ نفي البقية صار موجباً لكشف خروج المال عن تحت يدهم وكون نسبتهم إليه كنسبة المشتري إلى متاع الدكّان ، بخلاف المدّعي فإنّ نفس إضافته حاكية عن يده مستقلاً ، فيكون ردّ المال إليه أجمع بمناط قول ذي اليد لا المدّعي بلا معارض (1). هذا مع قوله في ص 116 إنّه لو فرض كون المال في يد العشرة فمجرّد إقرار البقية لا يلغي عنهم اليد موضوعاً وإنّما يلغي اعتبارها (2). ومع فرض كون يده نصف يد كيف عادت يداً تامّة عند نفي الآخر ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ اجتماع اليدين يكون على أنحاء ثلاثة : الأوّل : أن يكونا من قبيل اليد الواحدة ، مثل الاستضاءة بالسراج ونحو ذلك من التصرّفات في الكلّ الواقعة منهما معاً دفعة واحدة. الثاني : أن يكون كلّ واحدة منهما على النصف المشاع ، مثل أنّ كلاً منهما يؤجر النصف المشاع أو يرهنه أو يبيع ثمرته. الثالث : أن يكون كلّ واحدة من اليدين مستقلّة وعلى الكل ولو على نحو التبادل ، كالدابّة التي يركبها هذا مرّة وذاك أُخرى ، والحكم في هذه الأقسام هو كون المال مشتركاً بينهما على الاشاعة ، لكن ذلك إنّما يتمّ حيث كان المورد محتملاً للاشاعة ، أمّا إذا لم تكن الاشاعة محتملة فالظاهر سقوط اليد عن الاعتبار للتزاحم أو التعارض والرجوع إلى قاعدة القرعة أو قاعدة الانصاف.

وعلى كلّ حال ، فإنّه على الأوّل - أعني ما لو لم يعلم عدم الاشتراك ، بل كان

ص: 200


1- كتاب القضاء : 117.
2- كتاب القضاء : 116.

الاشتراك محتملاً - كان مقتضى اجتماع هذه الأيدي في الصور الثلاثة هو كون صاحب كلّ يد مالكاً للنصف ، فلو ادّعى أنّه مالك للجميع كان مدّعياً في مالكية النصف الآخر ، فيكونان من قبيل ما لو كان الكتاب في يد زيد والثوب في يد عمرو فادعّى زيد أنّه مالك للثوب أيضاً وادّعى عمرو أنّه مالك للكتاب أيضاً فتتألّف هناك خصومتان ، خصومة على الكتاب فعمرو يدّعيه وزيد ينكره وهو صاحب اليد عليه ، وخصومة على الثوب فزيد يدّعيه وعمرو ينكره وهو صاحب اليد عليه ، لكن يبقى الكلام في أنّه هل تنحلّ هذه الخصومة بإقامة زيد البيّنة على أنّه مالك لكلّ من الكتاب والثوب؟ ربما يقال نعم بناءً على سماع بيّنة المنكر ، لأنّ زيداً بالقياس إلى الكتاب منكر لأنّه صاحب اليد.

وعلى كلّ حال ، لو أقام كلّ منهما البيّنة على مدّعاه حكم بكون الكتاب لعمرو والثوب لزيد ، ولكن في مقامنا يحكم بكون المال بينهما بالمناصفة ، لأنّ النصف الذي تحت يد زيد يكون بالبيّنة من قبل عمرو لعمرو ، والنصف الذي تحت يد عمرو يكون بالبيّنة من قبل زيد لزيد ، وهذا غريب ، إذ لم يحدث بالبيّنة شيء زائد على ما اقتضته اليدان. أمّا لو ادّعى أحدهما الكل والآخر النصف لم يكن هناك إلاّخصومة واحدة وهي على النصف الذي في يد عمرو ، فإن أقام زيد البيّنة عليه حكم له به ، وإلاّ حلف عمرو على أنّه يملكه ويحكم له به وهو واضح ، هذا كلّه لو لم نعلم بعدم الاشتراك.

أمّا لو علمنا من الخارج بعدم الاشتراك سقطت الأيدي في الصور الثلاث ، لأنّ اليد وإن لم تقتض إلاّمالكية النصف ، إلاّ أنّ مالكية أحد النصفين ملازمة حينئذ لمالكية النصف الآخر ، وحينئذ يحصل التدافع بين اليدين ولو باعتبار اللازم ، فتسقط اليدان عن الاعتبار ، ويكون قول كلّ منهما على خلاف ما تقتضيه

ص: 201

القاعدة في الآخر من مالكيته للتمام ، وحينئذ يكون كلّ منهما مدّعياً ، فتدخل المسألة في باب التداعي ، ولا يتصوّر التداعي على النصف حينئذ ، لأنّ المفروض هو العلم بعدم التنصيف.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من إلحاق الصورة الثالثة بالأُولى والثانية إنّما هو بناءً على ما ذكرناه من أنّ اجتماع اليدين على تمام المال قاض بمالكية كلّ منهما النصف ، وأمّا بناءً على القول بتعارض اليدين لقضاء كلّ منهما مالكية التمام ، فلا ريب في كون المسألة من التداعي لو ادّعى كلّ منهما التمام ، ولو ادّعى أحدهما التمام والآخر النصف فالظاهر أنّه أيضاً من التداعي ، فإنّ اليدين بعد سقوطهما يكون ما يدّعيه كلّ منهما من قبيل الدعوى بلا حجّة ، سواء كان هو دعوى التمام أو دعوى النصف ، فكما أنّ من يدّعي التمام يكون قوله بلا حجّة فكذلك من يدّعي النصف.

أمّا لو قلنا باجتماع اليدين والالتزام بتحقّق الملكيتين وتعدّد المالك مع وحدة المملوك كما هو الظاهر من قضاء العروة (1) ، فالذي ينبغي هو ما تقدّم من أنّه مع احتمال الشركة يكون التداعي على الكل من قبيل الخصومتين ، وعلى النصف من قبيل الخصومة الواحدة ، فإنّ مقتضى اليدين وإن كان هو مالكية كلّ منهما إلاّ أنّه لابدّ أن يلتزم بأنّها ملكية ضعيفة ، ولأجل ذلك لا يحكم لصاحبها مع فرض عدم الخصومة إلاّبالنصف ، فيكون الحاصل هو أنّه مع اجتماع اليدين تكون يد كلّ منهما أمارة على مالكية النصف المشاع ، فيجري عليه ما ذكرناه في الصورة الأُولى والثانية والثالثة ، حتّى في صورة كون الدعوى على النصف بأن ادّعى أحدهما أنّه مالك الكل والآخر أنّه مالك النصف ، لكن الذي يظهر منه قدس سره الالتزام

ص: 202


1- العروة الوثقى 6 : 589.

بمقتضى ذلك في صورة ادّعاء أحدهما الكل والآخر النصف كما ذكره ص 113 (1) إلاّ أنّه في صورة ادّعاء كلّ منهما الكل جعله من التداعي لو كانت يد كلّ منهما على الكلّ (2) فراجع وتأمّل.

بل الذي ينبغي أن يكون الأمر كذلك على ما أفاده سيّد البلغة قدس سره وهو عين ما منعه صاحب الجواهر قدس سره بقوله : ومنه يظهر لك عدم كون كلّ منهما مدّعياً لنصف الآخر ومدّعى عليه في نصفه كي يتوجّه التحالف الخ (3) ، ولم أتوفّق للوجه في تبعيد المسافة في توجيه كون كلّ منهما مدّعياً ومدّعى عليه بقوله : لأنّ كلاً منهما يدّعي الاستقلالية المستلزمة دعواه لعدم ملكية صاحبه أصلاً ، لا عدم استقلاليته الخ (4) ، فراجعه وراجع ما أفاده في كتاب القضاء ص 340 (5) ، وكأنّه لم ينتقل إلى مالكية النصف من نفس اليد وإنّما انتقل إلى ذلك من الاستقلال ، فلأجل ذلك جعل مركز الدعوى هو الاستقلال. وعلى كلّ حال ، لا تخرج المسألة عن كونها ذات خصومتين.

والذي تلخّص : هو أنّه على جميع هذه الأقوال ، الذي ينبغي هو كون التداعي على التمام من قبيل الخصومتين وعلى النصف من قبيل الخصومة الواحدة. وأظهر هذه الأقوال في أنّه يلزمه ذلك هو ما اختاره الأُستاذ العراقي قدس سره ص 116 من الاشتراك في اليد ، والظاهر أنّه قدس سره قد جرى على ذلك فيما لو أقام كلّ

ص: 203


1- العروة الوثقى 6 : 599 ( مسألة 7 ).
2- العروة الوثقى 6 : 591.
3- جواهر الكلام 40 : 403.
4- بُلغة الفقيه 3 : 323.
5- بُلغة الفقيه 3 : 388.

منهما البيّنة ص 127 من تصديق كلّ من البيّنتين ، وكذلك صنع في اليمين المردودة ص 119 وص 120. لكنّه قال في ص 119 : ثمّ إنّه على المختار لو حلف كلّ منهما فلا شبهة في انحلال حلف كلّ إلى الحلف على كلّ واحد من النصفين ، فيؤخذ بواحد من حلفي كلّ واحد ، ويلغى الآخر لعدم كونه ميزاناً (1).

ولم أتوفّق لفهم ذلك ، بل الأولى أن يقال : إنّه لابدّ من تحليف كلّ منهما على ما بيده من النصف ، وأنّه يملكه هو لا صاحبه ، نظير ما عرفت من دعوى الكتاب والثوب بين زيد وعمرو ، فإنّ زيداً يلزمه الحلف على أنّ ما بيد نفسه من الكتاب هو له لا لعمرو ، وكذلك عمرو يحلف على أنّ ما بيده من الثوب هو له لا لزيد ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، لا تكون المسألة من باب التداعي إلاّ إذا علمنا من الخارج أنّه لا اشتراك في البين ، أو على رأي صاحب الجواهر قدس سره من التدافع والتعارض بين اليدين بعد فرض كون كلّ منهما على تمام العين.

وربما يتوهّم جريان ما ذكرناه من كونهما من قبيل الخصومتين حتّى في تلك الصورة وحتّى على رأي صاحب الجواهر قدس سره ، وذلك فإنّ صاحب الجواهر قدس سره يلتزم بالتنصيف بينهما إذا لم تكن مخاصمة في البين ، وحينئذ يكون ذلك - أعني التنصيف - هو حكم المسألة عند عدم المخاصمة ، ويكون مدّعي التمام حينئذ مدّعياً بالنسبة إلى النصف الزائد الذي هو له عند عدم المخاصمة ، وهكذا الطرف الآخر ، وحينئذ تتشكّل بينهما خصومتان.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا الحكم - أعني التنصيف - لا يكون ميزاناً في تشخيص المدّعي ، لأنّه إنّما يكون في طول الموازين ، بمعنى أنّه في طول كلّ من

ص: 204


1- كتاب القضاء : 119 - 120.

البيّنة واليمين ، وبعد عدم الانتفاع بتلك الطرق أو عدم تأتّيها يحكم بالتنصيف بينهما ، لا أنّ الحكم بالتنصيف يكون هو الأصل في المسألة ويكون من يدّعي خلافه مدّعياً ومن يدّعي على طبقه منكراً ، فلاحظ وتأمّل.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّه قد وردت روايات متعدّدة في التداعي على العين في يدهما ، وقد ذكرها في البلغة ص 346 وص 347 (1) والحكم فيها لا ينطبق على ما ذكرناه من كون التداعي على العين في يدهما من قبيل الخصومتين ، فلابدّ من حملها - كما لا يبعد أن يكون ذلك ظاهرها - على الصورة المشار إليها أعني ما حصل العلم من الخارج بعدم الاشاعة والاشتراك بين المتداعيين ، وحينئذ تدخل المسألة في تعارض اليدين ثمّ تعارض البيّنتين ، فيقع الكلام في الحكم بالتنصيف بينهما وهل هو متوقّف على الاحلاف لهما ، وهل المقام مقام القرعة في من هو صاحب الحقّ أو في من يتوجّه عليه اليمين ، وقد اختلفت الروايات المذكورة في هذه الجهات.

والكلام فيها من هذه الجهات في محلّه من كتاب القضاء ، وعلى العجالة يمكن أن يقال : إنّه بعد تعارض البيّنات يتخيّر الحاكم بين الحكم بينهما بالتنصيف ابتداءً أو بعد تحليفهما معاً ، فإن نكل أحدهما حكم للحالف ، وبين الحكم بالقرعة إمّا ابتداءً أو على من توجّه إليه. وهل في البين ترجيح لبعض البيّنات على بعض عدالة ووثاقة أو عدداً؟ لا يبعد الترجيح بالعدد ، وللحاكم أن يستحلف من كانت بيّنته أكثر عدداً. وهل هذا التحليف وجوبي أو استحبابي؟ محلّ تأمّل.

ومنه يظهر الحال فيما لو كانت البيّنة من طرف واحد ، وإن كان الأحوط

ص: 205


1- بلغة الفقيه 3 : 403 - 405.

للحاكم التحليف ، بل ربما كان اللازم تحليف من خرجت القرعة باسمه كما هو مفاد صحيحة داود (1).

ثمّ إنّ هذا التخيير مستفاد من اختلاف هذه الروايات في كيفية قضاء أمير المؤمنين ( صلوات اللّه وسلامه عليه ) فإنّ الغالب في هذه الروايات حكاية ما وقع ، ومع فرض اختلافه نستكشف التخيير. نعم في بعضها ما تضمّنته رواية البصري من قوله : « كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان » (2) ونحوها صحيح أبي بصير (3) ، ولكن ذلك لا يفيد الكلّية على وجه ينافي التخيير ، فلاحظ.

وتوضيح ذلك : هو أنّ رواية تميم بن طرفة ، وهي « أنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ واحد منهما بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه السلام بينهما » (4) يحتمل كونه في يدهما ، وأنّ القضية كانت ممّا يحتمل فيها الاشاعة بينهما ، فتدخل المسألة فيما تقدّم من كون ذلك حينئذ من قبيل الخصومتين المحتاج كلّ خصومة منهما إلى البيّنة ، ولا تعارض بين البيّنتين ، فيصدّقان معاً ويحكم بمالكية كلّ منهما للنصف ، وحينئذ تخرج القضية عن تعارض البيّنات. ويحتمل كونها من باب التعارض ، وهذا الاحتمال في غاية القوّة ، لأنّ احتمال الاشتراك وكون ذلك من قبيل الخصومتين في غاية البعد.

ولكن هل كان البعير بيدهما أو بيد أحدهما أو بيد ثالث؟ وهل كانت البيّنتان متساوية عدداً وعدالة أو لا؟ كلّ ذلك غير معلوم ، وحينئذ تكون الرواية

ص: 206


1- وسائل الشيعة 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 6.
2- وسائل الشيعة 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 5.
3- وسائل الشيعة 27 : 249 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 1.
4- وسائل الشيعة 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 4.

مجملة ساقطة الحجيّة من هذه الجهات ، لكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد بها للتنصيف في قبال القرعة ، سواء كان البعير في يدهما أو في يد ثالث أو في يد أحدهما مع عدم الترجيح لبيّنة الخارج أو الداخل ، مع فرض تساويهما من حيث العدد والعدالة.

وأمّا رواية غياث عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام « اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها ، فقضى عليه السلام بها للذي هي في يده ، وقال عليه السلام : « لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » (1) ومثله خبر جابر « أنّ رجلين تداعيا دابة ، وأقام كلّ منهما بيّنة أنّها دابّته أنتجها ، فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للذي في يده » (2) فقد اشتملت على ترجيح بيّنة الداخل.

ولا يعارضها صحيح أبي بصير سأل الصادق عليه السلام « عن رجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ، ويقيم الذي في يديه الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه ، ولا يدري كيف كان أمرها ، فقال عليه السلام : أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه ، وذكر أنّ علياً عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البيّنة أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى عليه السلام بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم » (3) ، لأنّ ما تضمّنته رواية غياث حكاية قضية واقعة ، ولعلّ المورد كان هو تساوي البيّنتين عدداً وعدالة ، فحكم عليه السلام على طبق بيّنة الداخل ، وأمّا قوله عليه السلام : « لو لم تكن في يده

ص: 207


1- وسائل الشيعة 27 : 250 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 3.
2- مستدرك الوسائل 17 : 373 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 5 ( باختلاف يسير ).
3- وسائل الشيعة 27 : 249 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 1 ( باختلاف في بعض العبائر ).

جعلتها بينهما نصفين » فهو أيضاً إشارة إلى ذلك المورد ، وأنّه لو تبدّل من هذه الناحية فقط - وهي عدم كونها في يد أحدهما - جعلتها بينهما نصفين ، وليس ذلك من قبيل الاطلاق والتقييد ، ولا من قبيل العموم من وجه باعتبار كون مفاد رواية غياث هو الترجيح بالداخل سواء كانت بيّنته أكثر أو لا ، ومفاد رواية أبي بصير هو الترجيح بالأكثرية سواء في ذلك الداخل والخارج ، أو هي مختصّة بخصوص موردها الذي هو الداخل لتكون أخصّ من رواية غياث ، وإنّما قلنا إنّهما ليسا من هذا القبيل لما عرفت من أنّ مفاد رواية غياث قضية واحدة وأنّ موردها واحد ، ولم يعلم أنّ البيّنة التي وجدت للداخل كانت أقلّ من الخارج ، فلا إطلاق فيها يشمل الأقل والأكثر والمساوي.

ثمّ إنّ رواية أبي بصير لم تتعرّض للحكم في صورة التساوي من حيث التنصيف أو الاحلاف أو القرعة ، فلا شاهد لنا فيها من هذه الجهة.

والخلاصة : هي أنّ اليد مرجّحة ، كما أنّ الأكثرية مرجّحة ، لكن المستفاد من رواية أبي بصير الترجيح بالأكثرية في مورد اليد ، فتكون كالنصّ في تقدّم هذه الجهة من الرجحان - وهي الأكثرية - على جهة اليد ، ورواية غياث وجابر لا ينفيان ذلك لأنّهما لا يزيدان على الحكاية ، ولعلّ البيّنتين كانتا متساويتين أو كانت بيّنة ذي اليد أكثر ، ولا إطلاق فيهما يشمل العكس ، لما عرفت من كونهما حكاية فعل خارجي لا بيان حكم كلّي.

نعم ، ذيل رواية ابن سنان أعني قوله : « إذا أقاما البيّنة جميعاً قضي بها للذي أنتجت عنده » (1) ليس حكاية لشخص قضية خاصّة ، بل هو حكم كلّي بالقضاء لصاحب اليد ، سواء كانت بيّنة الغير أكثر أو لم تكن ، لكن رواية أبي بصير لمّا

ص: 208


1- وسائل الشيعة 27 : 255 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 15.

كانت حاكمة بترجيح الأكثر في مورد كون العين في يد أحدهما ، كانت بمنزلة النصّ في تقديم الترجيح بالأكثرية على الترجيح ببيّنة الداخل.

وأمّا خبر منصور (1) والمرسل (2) والفقه الرضوي (3) ممّا ظاهره سقوط بيّنة الداخل معلّلاً بأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر الذي هو صاحب اليد ، فقد أعرض عنها الأصحاب ولم يقاوموا بها ما دلّ على حجّية بيّنة المنكر من حديث السرج (4) ، ورواية احتجاج الأمير عليه السلام على أبي بكر (5) ، وباقي الروايات المسطورة في المقام ، فإنّ عدم سماع بيّنة المنكر هو مذهب ابن حنبل (6) ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ذيل رواية أبي بصير « فقلت أرأيت » الخ ، فليس ذلك من تقدّم بيّنة الخارج ، بل هو من باب حكومة خصوص بيّنته على بيّنة الوارث كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (7).

ومن ذلك يعلم أنّ صورة ما لو كانت العين في يد أحدهما وأقام كلّ منهما البيّنة لا مورد فيها للقرعة ولا للتنصيف ، لأنّ إحدى البيّنتين إن كانت أرجح من حيث العدد أو من [ حيث ] العدالة كانت هي المقدّمة ، وإن لم يكن في البين

ص: 209


1- وسائل الشيعة 27 : 255 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 14.
2- مستدرك الوسائل 17 : 372 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 1.
3- مستدرك الوسائل 17 : 372 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 3.
4- وسائل الشيعة 27 : 291 / أبواب كيفية الحكم ب 24 ح 1.
5- وسائل الشيعة 27 : 293 / أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 3.
6- حكاه عنه في الجواهر 40 : 417 ، وراجع شرح الزركشي على مختصر الخرقي 7 : 399 وما بعدها.
7- في الصفحة : 219.

تفاوت في ذلك كانت بيّنة الداخل هي المقدّمة ، فلا تصل النوبة في ذلك إلى سقوط البيّنتين كي تدخل المسألة في القرعة أو التنصيف.

أمّا رواية داود العطّار « في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود شهدوا أنّ هذه المرأة امرأة فلان ، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان ، فاعتدل الشهود وعدلوا ، قال عليه السلام : يقرع بين الشهود فمن خرج اسمه فهو المحقّ وهو أولى بها » (1) فهي وإن كان ربما يتوهّم أنّ أحدهما صاحب يد وهو الرجل المسؤول عنه بقوله : « رجل كانت له امرأة » إلاّ أنّ مجموع ما بعده يدلّ على أنّ المرأة فعلاً ليست تحت يد أحدهما ، ومجرّد قوله : « كانت له امرأة » لا يدلّ على أنّها فعلاً تحت يده ، فلاحظ.

نعم ، رواية غياث حاكمة بالتنصيف عند تعارض البيّنتين من دون إحلاف ومن دون تعرّض للقرعة ، وكذلك رواية تميم ، وطريق الجمع حينئذ بينهما وبين رواية إسحاق الدالّة عليه بعد التحليف هو أن يقال : إنّ رواية غياث دالّة على التنصيف من دون إحلاف ، ورواية إسحاق بقوله عليه السلام : « فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين » (2) دالّة على تقييد التنصيف بأنّه بعد الحلف ، فيكون الحكم حينئذ هو التحليف ، فإن نكل أحدهما قضي عليه ، وإن حلفا نصّفت العين بينهما ، هذا ولكن رواية داود قال عليه السلام : « يقرع بينهم فأيّهم قرع ، فعليه اليمين وهو أولى بالقضاء » (3) وموثّقة سماعة قال : « فأقرع بينهما سهمين - إلى قوله - فخرج سهم

ص: 210


1- وسائل الشيعة 27 : 252 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 8 ( باختلاف يسير ).
2- وسائل الشيعة 27 : 250 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 2.
3- وسائل الشيعة 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 6.

أحدهما فقضى له بها » (1) ورواية البصري « أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين - إلى قوله - ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف » (2) دالّة على إعمال القرعة ، فتنافي الحكم بالتنصيف ولو بعد التحليف.

ولا يبعد القول بأنّ الحاكم مخيّر بين هاتين الطريقتين. وموثّقة سماعة وإن كانت القرعة فيها خالية من اليمين ، إلاّ أنّه لا مانع من تقييد ذلك باليمين الذي دلّت عليه رواية البصري ورواية داود. قال السيّد قدس سره في البلغة : نعم النسبة بين أخبار التنصيف بعد تقييدها بالتساوي والتحالف ، وبين أخبار القرعة بعد تقييدها به وبالحلف هو التباين ، اللازم فيه التماس المرجّح ، وهو لأخبار القرعة من وجوه (3).

وقد عرفت أنّ الأولى هو الحمل على تخيير الحاكم وإن استبعده في قضاء العروة ، فإنّه بعد ذكر خبر إسحاق الدالّ على التحليف والتنصيف ، وأنّه لم يقل به أحد إلاّما عن كشف اللثام عن ظاهر أبي علي (4) ، قال السيّد ما هذا لفظه : وعن الشيخ حمله على ما إذا تصالحا على ذلك. وقال في الاستبصار : ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة إذا اختار كلّ واحد منهما اليمين ، فيكون الإمام عليه السلام مخيّراً بين العمل عليه والعمل بالقرعة. وكلا الحملين بعيد ، والعمل به في قبال الأخبار الأُخر لا وجه له ، فالأولى طرحه بالنسبة إلى هذا لعدم مقاومته لسائر الأخبار (5)

ص: 211


1- وسائل الشيعة 27 : 254 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 12.
2- وسائل الشيعة 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 5.
3- بلغة الفقيه 3 : 405.
4- كشف اللثام 10 : 191.
5- العروة الوثقى 6 : 640.

قلت : الوجه في الاستبعاد المذكور واضح ، أمّا الأوّل فلأنّ ظاهره الحكم منه عليه السلام ، لا أنّهما تصالحا على ذلك. وأمّا الثاني فلأنّ تقييد الحكم المذكور باختيار كلّ منهما اليمين خلاف الظاهر ، لكن لو لم نقيّده بذلك ويكون محصّل قوله عليه السلام « جعلتها » هو أنّه عليه السلام له الخيار في ذلك الجعل ، فليس فيه خلاف الظاهر من هذه الجهة ، وإن كان مخالفاً له من ناحية الظهور في تعيّن الجعل المذكور ، ولا بأس به بعد الجمع بينه وبين ما دلّ على القرعة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّه تبرّعي.

وكيف كان ، نحن وإن قلنا إنّه لا بأس به ، إلاّ أنّه بعد فرض أنّه لم يقل به أحد كما يستفاد من قول السيّد : ولا عامل به (1) ففيه كلّ البأس ، فالمتعيّن حينئذ هو القرعة ، فلاحظ.

وكلّ ذلك إنّما هو فرار ممّا أفاده السيّد في قضاء العروة من أنّه لم يجد به عاملاً ، وإن أمكن أن يقال كفى بالشيخ قدس سره قائلاً به سيّما مع ما ينقل من أنّ أغلب من تأخّر عن الشيخ قدس سره إنّما هو تابع له ، حتّى قيل في حقّهم إنّهم له مقلّدون ، ولو فتحنا هذا الباب - أعني التخيير - لأمكننا القول بعدم الحاجة إلى حمل إطلاقات أدلّة التنصيف على التقييد بما دلّ على التحليف.

بل يمكن أن يقال : إنّ التحليف لمن خرجت القرعة باسمه أو لمن كانت بيّنته أقوى وأكثر من هذا القبيل أيضاً ، يعني أنّه راجع إلى نظر الإمام عليه السلام وإلى الحاكم المنصوب من قبله بالنصب الخاصّ أو العام ، ولكن مع ذلك كلّه ففي مقام العمل لا يكون العمل إلاّعلى وفق ما أفادوه من الالتزام بالتحليف في موارده ، والاعتماد في خصم المخاصمة بالقرعة لا بالتنصيف ، فإنّ العمل على طبق ذلك لا ينافي التخيير ، فلا بأس بالالتزام به في مقام العمل لكونه هو الأحوط ، وإن لم

ص: 212


1- العروة الوثقى 6 : 639.

يكن لازماً بحسب النظر.

واعلم أنّ ما دلّ على التنصيف منحصر في خبر إسحاق وفي المرسلة وخبر غياث وخبر تميم ، ولا يمكن حمل هذه الأخبار على صورة احتمال الاشاعة ، لبعد ذلك خصوصاً في خبر إسحاق والمرسلة ، لأنّ خبر إسحاق اعتبر اليمين والمرسلة اعتبرت التعادل بين البيّنتين ، ولو كان من قبيل احتمال الاشاعة وتعدّد الخصومة لم يكن وجه لاعتبار شيء من هذين القيدين.

ثمّ إنّه بعد فرض كون ذلك من تعارض البيّنات لعدم احتمال الاشاعة ، يكون اللازم تقييد رواية إسحاق ورواية غياث بما في المرسلة وغيرها من اعتدال البيّنتين ، كما أنّ مفاد رواية إسحاق يقيّد الجزء الثاني من المرسلة ورواية غياث بالتحالف ، وأنّ التنصيف إنّما يكون بعد الاحلاف ، أمّا رواية تميم فقد عرفت إجمالها من جهة كونها حكاية شخصية متردّدة بين كون المورد هو اجتماع اليدين على البعير أو خلوّهما منه أو يد أحدهما عليه فقط ، فلا حجّية فيه من هذه الجهة ، فبعد إسقاط الاحتمال الثالث لبعده يبقى مردّداً بين الاحتمال الأوّل فيكون موافقاً للجزء الثاني من المرسلة ومن موارد الجزء الأوّل من رواية إسحاق ، والاحتمال الثاني فيكون حاله حال الجزء الثاني من خبر إسحاق معارضاً للجزء الأوّل من المرسلة.

أمّا خبر غياث فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام : « لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » شاملاً لما إذا خلت عنه يدهما معاً ولما إذا كان تحت يديهما ، وحينئذ يكون إطلاقه موافقاً لكلا صورتي خبر إسحاق ، ويكون الجزء الأوّل من المرسلة مخصّصاً له. لكنّه احتمال بعيد ، وإنّما الظاهر هو أنّه لم يكن في يد أحدهما ، وحينئذ يكون حاله حال الجزء الثاني من خبر إسحاق معارضاً للجزء

ص: 213

الأوّل من المرسلة في خصوص ما إذا كان محلّ النزاع خارجاً عن يد كلّ منهما ، أمّا ما يكون تحت يديهما فإنّ حكمه هو التنصيف وليس هو مورداً لتعارض الأدلّة ، فإنّ الحكم بالقرعة وإن ورد غير مقيّد بخروجه عن تحت يدهما كما في خبر البصري وموثّقة سماعة ورواية داود بن سرحان ورواية داود العطّار ، إلاّ أنّ المرسلة بجزئها الأوّل كافية في تقييد ذلك بما إذا لم يكن تحت أيديهما ، وتبقى المعارضة في ذلك بينها وبين خبر إسحاق ، بل وخبر غياث أيضاً بناءً على ما عرفت من ظهوره في الخارجين عن العين.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده السيّد في العروة (1) من أنّ المرجع هو القرعة في جميع الصور الأربع ما عدا الأُولى منها فراجع ، وعمدة ما أفاده هو ضعف المرسلة وعدم انجبارها بالشهرة ، فتبقى إطلاقات القرعة بحالها شاملة لتمام الصور الأربع ما عدا الأُولى منها. وأمّا رواية زرارة (2) فالظاهر خروجها عمّا نحن فيه.

ثمّ إنّ المرسلة وإن حكمت بالتنصيف في مورد كون العين تحت يدهما ، إلاّ أنّ ذلك بعد قيام البيّنة من كلّ منهما مع التساوي كما يعطيه قوله : « يقرع بينهما إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما ، وأمّا إذا كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان » (3) فإنّ ظاهره انحصار الاختلاف بين الصورتين بخصوص كونه في أيديهما ، ثمّ بعد هذا نحتاج إلى تقييد آخر وهو التقييد بالحلف من كلّ منهما كما يعطيه رواية إسحاق ، فإنّ الشقّ الثاني من رواية إسحاق وإن كان معارضاً

ص: 214


1- العروة الوثقى 6 : 635.
2- وسائل الشيعة 27 : 252 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 7.
3- مستدرك الوسائل 17 : 372 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

للمرسلة إلاّ أنّ الشقّ الأوّل وهو ما لو كانت في أيديهما غير معارض للمرسلة ، بل هو موافق لها في الشقّ الثاني منها ، فلاحظ.

واعلم أنّ الذي ذكره في الوسائل عن الشيخ قدس سره هو قول صاحب الوسائل قال الشيخ : الذي أعتمد في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا - إلى أن قال - فأمّا خبر إسحاق بن عمّار « إنّ من حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين » فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، لأنّا بيّنا الترجيح بكثرة الشهود أو القرعة ، ويمكن أن يكون الإمام مخيّراً بين الاحلاف والقرعة (1).

قال في الوافي : بيان ، قال في التهذيبين في الجمع بين هذه الأخبار : إنّ البيّنتين إذا تقابلتا - إلى أن قال - وأمّا الحكم للحالف ومع حلفهما فالتنصيف فمحمول على الاصطلاح بينهما ، لأنّا قد بيّنا وجوه الترجيح ولا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما. وقال في الاستبصار : ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة بأن لا يختار القرعة وأحال كلّ واحد منهما إلى اليمين ورأى ذلك الإمام صواباً وكان مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة ، هذا ملخّص كلامه في الكتابين (2).

وعلى كلّ حال ، أنّ ظاهر هذا الوجه هو كون الإمام مخيّراً بقول مطلق ، لا أنّ تخييره مقيّد برضاهما كما يظهر من حكاية العروة بقوله : إذا اختار كلّ منهما اليمين فيكون الإمام مخيّراً (3) فلاحظ. وإن كانت عبارة الاستبصار مشعرة بما حكاه

ص: 215


1- وسائل الشيعة 27 : 256 / ذيل الباب (12) من أبواب كيفية الحكم.
2- كتاب الوافي 16 : 939.
3- العروة الوثقى 6 : 640.

عنه في العروة على خلاف ما حكاه في الوسائل ، فإنّ عبارة الاستبصار (1) : كان

ص: 216


1- في الاستبصار : قال محمّد بن الحسن الطوسي رحمه اللّه : الذي أعتمد عليه في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا فلا يخلو - إلى أن قال - فأمّا خبر إسحاق بن عمّار خاصّة بأنّه إذا تقابلت البيّنتان حلف كلّ واحد منهما ، فمن حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا جميعاً كان الحقّ بينهما نصفين ، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، فإنّا قد بيّنا ما يقتضي الترجيح لأحد الخصمين مع تساوي بيّنتهما باليمين له ، وهو كثرة الشهود أو القرعة ، وليس هاهنا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما. ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة بأن لا يختار القرعة ، وأجاب كلّ واحد منهما إلى اليمين ، ورأى ذلك الإمام صواباً كان مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة ، وهذه الطريقة تأتي على جميع الأخبار من غير اطراح شيء منها وتسلم بأجمعها ، وأنت إذا فكّرت فيها وجدتها على ما ذكرت لك إن شاء اللّه تعالى [ الاستبصار 3 :1. 43 ]. قال في الايضاح : قوله حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما ، أي من ذي اليد على أنّها ليست للآخر أو لا يعرف أنّها للآخر على اختلاف الرأيين ومن المدّعي على أنّه له [ إيضاح الفوائد 4 : 379 ]. قال المحقّق القمّي قدس سره : فإن صدق أحدهما فالمقرّ له في حكم ذي اليد فيقضى له مع يمينه ، وعلى المصدّق اليمين للآخر على أنّها ليست له أو على أنّه لا يعرف أنّها له على اختلاف الروايتين ( الجوابين خ ل ) كما نقلهما في الايضاح [ جامع الشتات 2 : 704 ]. قال في التهذيب : فأمّا خبر إسحاق بن عمّار خاصّة بأنّه إذا تقابلت البيّنتان حلف كلّ واحد منهما ، فمن حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين ، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، لأنّا قد بيّنا ما يقتضي الترجيح لأحد الخصمين مع تساوي بيّنتهما باليمين له ، وهو كثرة الشهود أو القرعة ، وليس هاهنا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما ، وهذه الطريقة تأتي على جميع الأخبار من غير اطراح شيء منها وتسلم بأجمعها ، وأنت إذا فكّرت فيها رأيتها على ما ذكرت لك إن شاء اللّه تعالى [ تهذيب الأحكام 6 :237- 238 ذيل الحديث 583 منه قدس سره ].

مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة (1) باسقاط الواو من لفظ « كان » ، وحينئذ تكون جواباً لقوله : بأن ، فلاحظ.

لا يقال : إنّ رواية إسحاق لا تقييد فيها بتعادل البيّنتين ، فهي حاكمة بالتنصيف فيما لو أقام البيّنة ولم تكن العين في أيديهما ، سواء اعتدلت البيّنتان أو لم تعتدلا ، بخلاف المرسلة فإنّها حاكمة بالقرعة في خصوص اعتدال البيّنتين ، فتكون أخص من مضمون رواية إسحاق فتقدّم عليها ، وحينئذ تكون النتيجة أنّه عند اعتدال البيّنتين يحكم بالقرعة ، وتبقى صورة عدم الاعتدال تحت حكم رواية إسحاق بالتنصيف.

لأنّا نقول : إنّ ذلك - أعني الحكم بالتنصيف في صورة عدم الاعتدال - لا يمكن الالتزام به ، لما هو واضح من عدم التساقط عند عدم الاعتدال ، بل لابدّ من تقديم ما هو الأعدل أو الأكثر عدداً ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك لا يوجب كون التعارض بين المرسلة وبين رواية إسحاق ، بل كما تتقدّم المرسلة على رواية إسحاق لكونها أخصّ منها ، فكذلك يقدّم على رواية إسحاق ما هو مستفاد من مجموع الأدلّة من الترجيح ، وبالأخرة ينتهي الأمر إلى سقوط رواية إسحاق ، إلاّ أن يدّعى أنّها من أوّل الأمر غير شاملة لصورة عدم الاعتدال ، وحينئذ تكون النسبة بينها وبين المرسلة هي التباين ، فلابدّ في توجيه تقديم المرسلة عليها من الركون إلى ما أُفيد في البلغة (2)

ص: 217


1- الاستبصار 3 : 43.
2- لاحظ بلغة الفقيه 3 : 405.

والعروة (1) من كون المرسلة مقدّمة لعدم العمل برواية إسحاق كما أفاده في العروة ، لكن الظاهر أنّ عدم العمل (2) وإن شئت قلت - كما أفاده الشيخ الطوسي قدس سره - أنّه لا وجه للتحليف.

لكن لا يخفى أنّ هذا لو تمّ لم يكن موجباً لسقوط أصل الحكم بالتنصيف ، وإنّما أقصى ما فيه هو سقوط الحكم بالتحليف ، فإنّه هو الذي استشكل الشيخ قدس سره في وجهه ، وهو الذي ادّعى في العروة عدم العمل به فلاحظ وتدبّر. وهذه الجهات إنّما تأتّت لو قلنا بالتعيين ، أمّا لو قلنا بالتخيير فلا حاجة إلى هذه الجهات ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ المرسلة المذكورة في البلغة ناقصة ، وهذا نصّها : « عن أمير المؤمنين عليه السلام في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان ، أنّه يقرع بينهما فيه إذا اعتدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما ، فإن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان ، وإن كان في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (3).

ولا يبعد أن يكون المنشأ في الحكم بالتنصيف فيما إذا كان بأيديهما هو احتمال الاشاعة أو ظهورها من اجتماع اليدين ، فيحكم بالتنصيف بينهما لا من باب العدل والانصاف ، بل من باب أنّ قضية اليد مالكية النصف عند الاجتماع ، هذا إذا لم نجعل هذا القسم مشاركاً للأوّل في كونه مورد البيّنتين ، وإلاّ كان الحكم بالتنصيف من باب قضية البيّنة لكلّ منهما بناءً على ما عرفت من أنّه يكون من

ص: 218


1- العروة الوثقى 6 : 639.
2- [ كذا في الأصل فلاحظ ].
3- مستدرك الوسائل 17 : 372 / أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

قبيل الخصومتين ، ولكن لا يدخله قيد التساوي واعتدال البيّنتين ، بل يكون ذلك مختصّاً بالأوّل مقدّمة للقرعة ، بخلاف الثاني فإنّه عند اجتماع البيّنتين لا تعارض بينهما ، فيحكم بالتنصيف الذي هو مقتضى البيّنتين.

ومنه يظهر الكلام في الصورة الثالثة وهي ما لو كان في يد أحدهما ، فإنّه يمكن أن يكون لبيان الحكم الكلّي في مورد اليد لأحدهما من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

ولو قلنا إنّه داخل في مفروض الصورة الأُولى وهو وجود البيّنتين ، كان حاله من هذه الجهة حال خبر منصور المتضمّن لجملة « ولا أقبل من الذي في يده بيّنة » في الدلالة على عدم قبول بيّنة المنكر ، وقد حقّق في محلّه أنّ كون اليمين عليه إنّما [ هو ] من قبيل الارفاق ، وأنّه لا مانع من سماع بيّنته كما دلّ عليه رواية السرج وحديث علي عليه السلام في فدك مع أبي بكر كما أوضحه السيّد في قضاء العروة (1) ، فلا يكون حينئذ مقاوماً لتلك الأدلّة ، مضافاً إلى ضعفهما وكون ذلك مذهب ابن حنبل (2) ، فراجع.

وأمّا ذيل رواية أبي بصير « فقلت : أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال : إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن ، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة إلاّ أنّه ورثها عن أبيه ، قال عليه السلام : إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها وأقام البيّنة عليها » (3) فليس هو من باب تقديم بيّنة الخارج ولا من باب سقوط بيّنة الداخل إذا بيّنت السبب ، بل

ص: 219


1- رواية السرج وحديث علي عليه السلام تقدّم ذكر مصدرهما في الصفحة : 209 ، وراجع العروة الوثقى 6 : 633 - 634.
2- تقدّم ذكر مصدره في الصفحة : 209.
3- وسائل الشيعة 27 : 249 / أبواب كيفية الحكم ب 12 ح 1.

الظاهر هو أنّ المدّعي أقام البيّنة على دعواه وهي الأخذ بغير ثمن ، وهو عبارة عن كون المورّث غاصباً ، فتكون بيّنته حاكمة على بيّنة الوارث التي أقامها على أنّه ورثها من أبيه ولا يدري كيف كان أمرها ... إلخ ، خصوصاً إذا كان ذلك - أعني قوله : « ولا يدري » - من تتمّة البيّنة وجزءاً من شهادة الشاهد ، وكذلك لو جعلناه من مقولات الوارث بأن قرأناه مبنيّاً للفاعل ، بخلاف ما لو جعلناه من مقولات حاكي القضية وأنّه بالبناء للمفعول ، مع أنّه لو كان كذلك كانت بيّنة المدّعي حاكمة أيضاً ، وإن كانت حكومتها على الوجهين الأوّلين أوضح.

بقي الكلام في أنّ من أقرّ له صاحب اليد هل يكون صاحب يد في قبال من يدّعي العين فيما لو تداعياه وهي في يد ثالث وأقرّ هذا الثالث بأنّها لأحدهما المعيّن ، والمعروف عندهم هو ذلك ، ويمكن [ القول ] بأنّ جميع ما أفادوه في توجيه كون المقرّ له صاحب يد بحيث يكون عليه اليمين وعلى طرفه البيّنة لا يخلو من تعسّف حتّى توجيه ذلك بقاعدة من ملك ، تلك القاعدة التي هي في نفسها محل التأمّل فضلاً عن انطباقها على ما نحن فيه.

وأحسن ما يمكن أن يقال في توجيه كون المقرّ له صاحب يد بعد أن لا ريب في كون طرفه أجنبياً : هو أنّ يد الغاصب والأمين ونحوه إنّما هي يد المالك حتّى فيما لو كان المالك غافلاً أو جاهلاً بأنّها في يد هذا الثالث ، وهذا الثالث هو صاحب اليد حتّى بعد اعترافه لأحدهما وإن كانت يده هي يد المقرّ له ، وإن شئت قلت : إنّ هذا والمقرّ له تكون اليد بينهما في قبال ذلك الأجنبي الذي لا يقدر على انتزاعها منهما إلاّبالبيّنة ، وحيث إنّ هذا الثالث قد اعترف بأنّ يده على المال هي عارية أو عادية عن المالك الذي هو المقرّ له وقد صدّقه المقرّ له بذلك ، فليس إقرار هذا الثالث من قبيل مجرّد الاعتراف بسقوط يده والشهادة بأنّ المال

ص: 220

لذلك المقرّ له ، كي يكون حال هذا المال حال ما لا يد لأحد عليه ، لما عرفت من وجود اليد بالوجدان بالقياس إلى ذلك الأجنبي ، غايته أنّ هذا الثالث الذي بيده المال قد صرف الدعوى عن نفسه باقراره لأحدهما ، ولم يكن إقراره مؤثّراً إلاّفي صرف توجّه الدعوى عن نفسه ، وهو بجعل يده يد أمانة أو غصب عن المالك قد وجّه الدعوى وحوّلها عن نفسه إلى المالك مع بقاء اليد بحالها ، غايته أنّها اتّسعت إلى المالك المقرّ له.

وربما يقال : إنّ المقرّ له إذا استلمها من المقرّ كان صاحب يد بالوجدان ولا يحتاج كونه صاحب يد إلى هذا التكلّف ، ففيما صدّقه المقرّ له يكون بمنزلة تأمين جديد ولو لم يقبض المقرّ له.

لكن هذه الطريقة تحتاج إلى توسعة للشمول لمثل هذه اليد ، نظير ما لو كان المال مطروحاً في الطريق فسبق إليه أحد الناس وأخذه وادّعى أنّه له ، وهناك شخص آخر ادّعى أنّه له فوراً مقارناً لأخذ ذاك أو متأخّراً عنه في الجملة ، وحاصل ذلك أنّ اليد التي هي أمارة على الملكية هي التي لم يعلم حالها وكيف كان مبدؤها ، أمّا إذا علم مبدؤها وأنّه لم يكن في البين سوى التناول الخارجي ففي كونه مشمولاً لعمومات اليد تأمّل وإشكال.

واعلم أنّ مرجع هذا الذي ذكرناه لتوجيه ما عليه المعروف من كون المقرّ له صاحب يد إلى اتّساع اليد ، وحاصله بقاء اليد على ما هي عليه من كونها أمارة على نفي الغير ، غايته أنّها باقرار صاحبها اتّسعت إلى المقرّ له. ولا يخلو من تأمّل.

والذي يظهر من الأُستاذ العراقي في قضائه - وذلك قوله : ولو كان في يد ثالث فهي لمن صدّقه ، وللآخر إحلافه من جهة اقتضاء مجموع الاقرار النافي عن نفسه واليد النافي لغير المقرّ له كونه له ، فيكون المقرّ له بمنزلة ذي اليد يقدّم قوله

ص: 221

بيمينه (1) ، وبنحو ذلك صرّح في اقراره لهما وأنّ مقتضاه التنصيف ، فإنّه قال : وذلك أيضاً من جهة إلغاء اليد بالاقرار في النفي عن المقرّ له وفي الاثبات لنفسه مع بقائها على الأمارية على النفي بالنسبة إلى غيره الخ (2) - يمكن توضيحه بأن يقال إنّ أمارية اليد لها جهة إثبات وهي مالكية صاحبها وجهة نفي وهي نفي مالكية الغير ، والإقرار إنّما يسقط الجهة الأُولى منها وهي مالكية صاحبها.

أمّا الجهة الثانية وهي نفي مالكية الغير فهي باقية بحالها ، بمعنى بقاء اليد على الأمارية في نفي ذلك الغير ، وحيث إنّه قامت الحجّة على نفيه كان هو المطالب بالبيّنة ، وأمّا المقرّ له فلم تكن حجّة على نفيه كي يطالب بضدّ تلك الحجّة أعني البيّنة ، وإنّما عليه تأييده ذلك النفي باليمين.

ولكن يمكن التأمّل فيه ، بأن نفي الغير بمعنى احتياجه إلى الاثبات لا كلام فيه حتّى لو لم يكن يد لأحد ، وإنّما الكلام في نفيه المولد من إثبات الطرف ، وهذا أعني إثبات الطرف بحيث يكون لنا في المقام ما يثبت مالكيته فهو أوّل الكلام ، ولا يمكننا ذلك إلاّبدعوى اتّساع اليد إليه.

أمّا ما في رسالة اليد للعلاّمة الأصفهاني قدس سره من توجيه ذلك أوّلاً : بأنّ الدعوى إذا تقوّى جانبها بحجّة كان المتقوّي بها منكراً ، والمفروض أنّ إخبار ذي اليد حجّة. وثانياً : أنّ الدعوى على الوكيل والأمين دعوى على المالك ، وإذا أخبر ذو اليد بأنّ يده يد أمانة ، فحيث إنّ إخباره حجّة كانت يده يد المالك شرعاً الخ (3).

ص: 222


1- كتاب القضاء : 120.
2- كتاب القضاء : 121.
3- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 350 ( نُقل بتلخيص ).

ففيه : أنّ كلا الوجهين مبنيان على حجّية قول ذي اليد فيما أخبر به ، وهو أوّل الكلام فلاحظ. ولو ثبت أنّ قوله حجّة كان كافياً في كون المقرّ له منكراً وإن لم يكن صاحب يد ، ولم نحتج إلى التقوّي ولا إلى إلحاق المسألة بأنّ يد الوكيل يد المالك.

ولكن لا يبعد أن يكون بناء العقلاء على حجّية قول ذي اليد ولو في تعيين مالك ما تحت يده ونحو ذلك ، حتّى لو تنازع البائع والمشتري في كون المبيع نجساً أو كونه معيباً أو كونه ناقص الوزن ، وكان المبيع تحت يد رجل آخر وهو وكيل البائع أو أمينه ، فاعترف ذلك الرجل بأنّه نجس أو معيب أو ناقص الوزن ونحو ذلك ، فلا يبعد أن يكون إخباره حجّة على البائع ، ويكون القول قول المشتري لكونه مطابقاً للحجّة الموجودة في البين وهي إخبار ذي اليد حتّى لو كان ذو اليد غاصباً ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما ذكره الآشتياني قدس سره في قضائه ، وذلك قوله : لصيرورته مدّعى عليه بعد الاقرار له من ذي اليد عرفاً ، مضافاً إلى قوله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (1) ، فإنّه باقراره يجعله للمقرّ له ، فاقراره أمارة على كون المقرّ به ملكاً للمقرّ له ، هذا. وقد ذكر الأُستاذ العلاّمة : أنا في سابق الزمان كنت بانياً على جعل العلّة في صيرورته مدّعى عليه هو الوجه الأوّل ، وكنت متأمّلاً في الاستدلال بالوجه الثاني. وكيف كان ، لا إشكال في كونه مدّعى عليه من أي طريق كان (2).

قلت : لعلّ الوجه في الوجه الأوّل الراجع إلى دعوى كونه بنظر العرف

ص: 223


1- وسائل الشيعة 23 : 184 / أبواب الإقرار ب 3 ح 2 ، مستدرك الوسائل 13 : 369 - 370 / أبواب بيع الحيوان ب 3 ح 3.
2- كتاب القضاء ( للآشتياني ) 2 : 894 - 895.

مدّعى عليه هو ما عرفت من اتّساع اليد ، وأمّا الوجه الثاني فلعلّه مبني على قاعدة من ملك ، وإلاّ فإنّ مجرّد جواز الاقرار على نفس المقرّ لا يوجب إثبات المقرّ به على وجه يكون حجة للمقرّ له على طرفه ، فلاحظ.

وربما يتوهّم توجيه الاستدلال بهذا الحديث على ما نحن فيه ، بل على مفاد قاعدة من ملك ، وذلك بأن يقال : إنّ الظرف متعلّق بقوله : « إقرار العقلاء » ، وحينئذ يبقى قوله : جائز أو نافذ على إطلاقه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا الظرف لو علّقناه بالاقرار لا يبقى قوله : نافذ أو جائز مطلقاً ، ليكون مفاده أنّ من أقرّ بشيء على نفسه يكون إقراره نافذاً على كلّ أحد ، إذ لا يمكن الأخذ بذلك الاطلاق ، لأنّه ممّا يكاد يحصل [ القطع ] بعدمه لمن مارس الأحكام الشرعية ، لا من جهة أنّ مفاد « على » هو الضرر ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يمنع من الأخذ باطلاق قوله : نافذ ، إذ يجوز أن يقال : إنّ الاقرار الذي هو على النفس المضرّ بها يكون نافذاً على نفس المقرّ وعلى غيره ، وليس في البين ما يمنع سوى الذوق الفقهي الذي حاصله هو أنّ من مارس الأحكام الشرعية يحصل له القطع بعدم صدور مثل هذا الحكم من الشارع المقدّس ، ولعلّ هذا هو المراد للمرحوم العلاّمة الأصفهاني في قوله في رسالته : بل الحرف هنا للضرر سواء تعلّق بالاقرار أو بجائز ، ومن الواضح اتّحاد المفاد في الصورتين ، فإنّ الاقرار على النفس لا ينفذ إلاّفيما كان ضرراً على المقرّ دون غيره (1).

فإنّه مع قطع النظر عن هذا الحكم الذوقي لا داعي إلى الالتزام بأنّ الاقرار على النفس لا ينفذ إلاّفيما كان ضرراً على المقرّ دون غيره ، فإنّه لو أسقطنا قرينة الذوق المذكور لكان من الممكن صناعةً أن يقال : إنّ الاقرار على النفس الذي

ص: 224


1- رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 351.

يكون مضرّاً بها يكون نافذاً عليها وعلى غيرها ، ولا دافع له إلاّما عرفت من استهجان الذوق مثل هذا الحكم الشرعي القائل إنّ الاقرار على النفس يكون نافذاً وحجّة على الغير ، على وجه يكون الاقرار فيما نحن فيه بأنّ العين التي تحت يد المقرّ ليست له وأنّها ملك زيد نافذ أو حجّة على عمرو لا من جهة أنّه إخبار من ذي اليد بالنسبة إلى ما تحت يده ، بل من جهة أنّه إقرار على نفس المقرّ وأنّ إقراره وإضراره بنفسه يكون حجّة على غيره ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يمكن أن يدّعى سيرة المسلمين بل سيرة العقلاء على العمل بقول ذي اليد في ذلك ، ومنه الاعتماد عليه في الوزن والكيل والصحّة والعيب ، فلا إشكال في أنّ قول ذي اليد حجّة فيما يخبر به عن طهارة ونجاسة ، ومنه وجوب الإعلام بنجاسة الدهن. ودعوى كون ذلك لأجل إخراج البائع عن التسبيب كما في الرسالة (1) قابلة للمنع ، فإنّه لو سكت لا يكون سبباً لشرب النجس إلاّفيما لو كان الاستناد في طهارته إلى يده كما في موارد أصالة عدم التذكية ، دون ما لو كان المستند هو قاعدة الطهارة ، فلاحظ.

ص: 225


1- [ لم نعثر عليه ].

[ قضيّة فدك ]

قوله : ربما يتوهّم المنافاة بين ما ذكرنا من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي اليد بأنّ المال كان للمدّعي ، وبين ما ورد في محاجة أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر في قصّة فدك ... الخ (1).

لا يخفى أنّها عليها السلام طالبت بفدك بطريقين : النحلة والإرث ، ولا يبعد أن يكون الظاهر من جملة من العامّة هو تقدّم دعوى الارث ، كما رواه ابن أبي الحديد عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه في السقيفة وفدك ، قال : قال أبو بكر : وحدّثني محمّد بن زكريا ، قال : حدّثني ابن عائشة ، قال : حدّثني أبي عن عمّه ، قال : لمّا كلّمت فاطمة عليها السلام أبا بكر بكى ثمّ قال : يا ابنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله واللّه ما ورّث أبوك ديناراً ولا درهماً ، وأنّه قال : إنّ الأنبياء لا يورّثون ، فقالت : إنّ فدك وهبها لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، قال : فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فشهد وجاءت أُمّ أيمن فشهدت أيضاً الخ (2) ، ثمّ نقل عن قاضي القضاة قوله في المغني وهو أنّه قد أنكر أبو علي ما قائله السائل من أنّها لمّا رُدّت في دعوى النحلة ادّعته إرثاً ، وقال : بل كان طلب الارث قبل ذلك ، فلمّا سمعت منه الخبر كفت وادّعت النحلة (3) انتهى ما نقله ابن أبي الحديد عن قاضي القضاة.

ص: 226


1- فوائد الأُصول 4 : 613 - 614.
2- شرح نهج البلاغة 16 : 210 - 216.
3- شرح نهج البلاغة 16 : 268 فما بعدها.

ولكن السيّد المرتضى في الشافي والشيخ الطوسي في مختصره (1) والقاضي نور اللّه في إحقاق الحقّ (2) صرّحوا بأنّ دعوى النحلة مقدّمة على دعوى الارث ، وهذه عبارة السيّد المرتضى على ما نقله ابن أبي الحديد في المجلّد الرابع : قال السيّد : فأمّا إنكار أبي علي لأن يكون ادّعاء النحل قبل ادّعاء الميراث وعكسه الأمر فيه ، فأوّل ما فيه : أنّا لا نعرف له غرضاً صحيحاً في إنكار ذلك ، لأنّ كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحّح له مذهباً ، ولا يفسد على مخالفيه مذهباً. ثمّ إنّ الأمر في أنّ الكلام في النحل كان المتقدّم ظاهر ، والروايات كلّها به واردة ، وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدّعيه بعينه نحلاً ، أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقّها من وجه لا تستحقّه منه مع الاختيار ، وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحل تنفرد به ، ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل ، لأنّها في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذي تستحقّ فدك منه ، فلمّا دُفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث ، لأنّ للمدفوع عن حقّه أن يتوصّل إلى تناوله بكلّ وجه وسبب ، وهذا بخلاف قول أبي علي لأنّه أضاف إليها ادّعاء الحقّ من وجه لا تستحقّه منه وهي مختارة ، انتهى كلام السيّد قدس سره (3).

وقد تعرّض ابن أبي الحديد للتعليق عليه ، وتوقّف هو في كون المقدّم أيّهما ، لتعارض الروايات عنده ، ولكنّه مع ذلك استحسن ما ذكره السيّد قدس سره من كون الحال تقتضي تقديم دعوى النحلة.

ص: 227


1- تلخيص الشافي 3 : 127.
2- إحقاق الحقّ ( الأصل ) : 225.
3- شرح نهج البلاغة 16 : 277 ، الشافي في الإمامة 4 : 101.

ولا يخفى أنّ هناك مبعّداً آخر لتقدّم دعوى الارث ، وهو أنّ تقدّمه لا يخلو من منافاة لدعواها النحلة بعد ذلك ، إذ لا تخلو مطالبة الارث من ظهور في عدم النحلة.

وقال القاضي نور اللّه قدس سره في إحقاق الحقّ في أبواب المطاعن على أبي بكر : والظاهر أنّها عليها السلام ادّعت النحلة أوّلاً ثمّ لمّا رأت أنّهم عكسوا قضية الشرع في شأنها وطلبوا منها البيّنة على أنّ ما في يدها منحولة إيّاها ، قالت لهم إن لم تقبلوا النحلة فالارث ثابت ، فدفعوا ذلك بما اخترعوه من قولهم : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث الخ (1).

وقال في مقام آخر بعد هذا المقام بعد نقل ما صدر عن أبي بكر من طرده وكيلها عليها السلام وأخذه فدكاً والعوالي : فنازعته فاطمة عليها السلام في ذلك وقالت له إنّهما ممّا أنحليهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لي ، وإن أبيت فهو ميراث لي ، فلهذا ترى في بعض الروايات سؤال النحلة وفي بعضها سؤال الميراث. ثمّ نقل عن ملل الشهرستاني قوله الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث من النبي صلى اللّه عليه وآله ، ودعوى فاطمة وارثة تارة وتمليكاً أُخرى حتّى دفعت عن ذلك بالرواية عن النبي صلى اللّه عليه وآله نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة (2).

ولا يبعد أن يكون الواقع هو ما ذكره السيّد قدس سره من تقدّم دعوى النحلة ، ولكن لا يخفى أنّه قبل سدّ باب الارث عنها عليها السلام بذلك الخبر المزعوم لا يكون طرفها في دعوى النحلة أبا بكر ، بل يكون طرفها في هذه الدعوى هو العبّاس ، بناءً على ما يقولونه من إرث العصبة أو الأزواج. ولو كان الطرف هو باقي الورثة

ص: 228


1- إحقاق الحقّ ( الأصل ) : 225.
2- إحقاق الحقّ ( الأصل ) : 229.

لتوجّه إشكال انقلاب الدعوى ، وإنّما يمكن الجواب عنه بما أفاده شيخنا قدس سره إذا كان الطرف لها في هذه الدعوى هو أبا بكر ، لكن لو كانت دعوى النحلة هي المتقدّمة لم يتوجّه إشكال الانقلاب أصلاً ، لأنّ توهّم الانقلاب والاحتياج للجواب عنه بعد اختلاق تلك الرواية ، وذلك الاختلاق إنّما كان بعد دعواها الارث المفروض تأخّرها عن دعوى النحلة.

والحاصل : أنّها عليها السلام قبل سدّ باب الارث عنها لا تكون بدعواها النحلة منه صلى اللّه عليه وآله معترفة بشيء لأبي بكر كي تكون بتلك الدعوى داخلة في باب انقلاب الدعوى في صاحب اليد باقراره بملكية طرفه سابقاً أو بملكية مورّثه ، بل قد عرفت أنّ أبا بكر قبل سدّه باب الارث عنها يكون أجنبياً عن دعوى النحلة ، بل لا وجه لوضع يده على فدك قبل أن يختلق تلك الرواية ، بل تكون مطالبته لها عليها السلام بالبيّنة حينئذ أسوأ حالاً من مطالبة ذي اليد ، لكونه قبل سدّه باب الارث عنها أجنبياً عن متروكات النبي صلى اللّه عليه وآله بالمرّة ، إلاّ أن يكون ذلك منه بدعوى أنّها ليست من أمواله صلى اللّه عليه وآله وأنّها من أموال المسلمين ، نظير الفيء ونحوه كما في بعض ما نقله ابن أبي الحديد في المجلّد الرابع (1).

ولا يخفى أنّه لو كان بناؤه على أنّ فدك ليست له صلى اللّه عليه وآله وأنّها فيء للمسلمين لكان عليه أن يردّ فاطمة عليها السلام بذلك كما تضمّنته هذه الرواية من عدم كون فدك ملكاً له صلى اللّه عليه وآله ، لا أن يطالبها بالبيّنة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّها وإن كانت فيئاً للمسلمين إلاّ أنّه صلى اللّه عليه وآله يصحّ له أن يهبها لها عليها السلام ، فلأجل ذلك طالبها عليها السلام بالبيّنة ، فراجع ما تكلّم به ابن أبي الحديد في هذا المقام ، أعني أنّه صلى اللّه عليه وآله يجوز له هبة الفيء أو لا (2)

ص: 229


1- شرح نهج البلاغة 16 : 214.
2- شرح نهج البلاغة 16 : 225.

ثمّ إنّه لو كان بناء أبي بكر هو كونها فيئاً لكان له أن يقول في ردّ دعوى الارث : إنّها لم تكن له صلى اللّه عليه وآله وأنّها فيء المسلمين ، ولم يكن في حاجة إلى اختراع ذلك الخبر ، ولكن رواية الاحتجاج ... (1).

والحاصل : أنّ تأخّر دعوى الارث لا يلائم توجيهها عليها السلام دعوى النحلة إلى أبي بكر ، ولا يكون قولها عليها السلام : « نحلنيها أبي » قبل أن يسدّ باب الارث عنها بذلك الخبر المزعوم إلاّكقولك لمن غصب منك دار أبيك : إنّ أبي نحلنيها ، فإنّ ذلك لا محصّل له ، بل كان عليك أن تقول : لِمَ ذا غصبت داري أو دار أبي ، كما أنّه لا يلائم ما في مرسلة الاحتجاج (2) ونحوها من أنّ البيّنة كانت على المسلمين لا عليها ، لأنّ طلبه البيّنة في هذه الصورة - أعني قبل أن يتبيّن أنّ ما تركه صلى اللّه عليه وآله هو للمسلمين - أسوأ حالاً من طلب البيّنة من صاحب اليد ، وإنّما ذلك كلّه يلائم تقدّم دعوى الارث ليكون المسلمون طرفاً لها عليها السلام في دعوى النحلة بعد سدّ باب الارث عنها بتلك الرواية المختلقة.

ولا يضرّ في تقدّم دعوى الارث ما أفاده السيّد قدس سره ، لأنّ الفرض انحصار الارث بها دون العبّاس ، ولعلّ دعوى الارث كانت أوسع من فدك ، أو لعلّها رأت الاستراحة فعلاً من أبي بكر لأنّه استولى على جميع ما كان للنبي صلى اللّه عليه وآله فأرادت أن ترفع غصبه بدعوى الارث ثمّ هي بعد ذلك تتراجع مع الأزواج في ميراثهنّ ، أو لعلّها رأت أنّ دعوى الارث أسهل لكونها بطبيعة الحال لكون أبي بكر أجنبياً عن تركة النبي صلى اللّه عليه وآله فلمّا سدّ باب الارث عنها التجأت إلى دعوى النحلة.

ويمكن أن يكون ذلك في مجلس واحد ، فإنّها هي صاحبة اليد وهي

ص: 230


1- [ كذا في الأصل ].
2- الاحتجاج 1 : 237.

المنحولة وهي وارثة أيضاً ، وكان محصّل دعواها عليها السلام التمسّك بهذه الأُمور أجمع ، وبعد أن سدّ عنها باب الارث بقي من مستمسكاتها عليها السلام النحلة فطالبها بالبيّنة.

ثمّ إنّ الذي يظهر من قاضي القضاة كما حكاه السيّد عنه أنّه ينكر كونها صاحبة يد ، ويوجّه طلب أبي بكر البيّنة منها بذلك ، لا بأنّها بعد إقرارها بالنحلة تنقلب مدّعية ، وقد ردّه السيّد قدس سره بما لا مزيد عليه ، فراجع الشافي (1) أو راجع ما نقله ابن أبي الحديد.

ثمّ لا يخفى أنّ قاضي القضاة على ما حكاه عنه في شرح ابن أبي الحديد روى عن أبي سعيد الخدري أنّه لمّا أُنزلت ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (2) أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاطمة عليها السلام فدكاً. ثمّ إنّه أنكر كون فدك في يد فاطمة عليها السلام ، ثمّ أنكر شهادة أمير المؤمنين عليه السلام لفاطمة عليها السلام واستشهد على ذلك بأنّه عليه السلام لمّا ولي الخلافة ترك فدك بحالها ، وقال : وهذا يبيّن أنّ الشاهد كان غيره ، لأنّه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه ، على أنّ الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض ، فعند بعضهم تستحقّ بالعقد ، وعند بعضهم أنّها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها ، فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين عليه السلام من ردّها ، وإن صحّ عنده عقد الهبة ، وهذا هو الظاهر ، لأنّ التسليم لو كان وقع لظهر أنّه كان في يدها ، ولكان ذلك كافياً في الاستحقاق الخ (3).

وقال السيّد قدس سره في ردّه : فأمّا إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها عليها السلام ، فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجّة ، بل قال : لو كان ذلك في

ص: 231


1- الشافي في الإمامة 4 : 98.
2- الإسراء 17 : 26.
3- شرح نهج البلاغة 16 : 268 - 270.

يدها لكان الظاهر أنّه لها ، والأمر على ما قال ، فمن أين أنّها لم تخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه. وقد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا النبي صلى اللّه عليه وآله فاطمة عليها السلام فأعطاها فدك ، وإذا كان ذلك مروياً فلا معنى لدفعه بغير حجّة (1).

وقال ابن أبي الحديد : فلو كانت في يدها تتصرّف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرّف الناس في ضياعهم وأملاكهم ، لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل ، لأنّ اليد حجّة ، فهلاّ قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي ولا يجوز انتزاعها منّي إلاّبحجّة ، وحينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، لأنّها ما تكون قد ادّعتها ميراثاً ليحتجّ عليها بالخبر ، وخبر أبي سعيد في قوله : « فأعطاها فدك » يدلّ على الهبة لا على القبض والتصرّف ، ولأنّه يقال : أعطاني فلان كذا فلم أقبضه ، ولو كان الاعطاء هو القبض والتصرّف لكان هذا الكلام متناقضاً الخ (2).

أقول : لا يخفى ظهور قولك « أعطاني » في القبض ، وإن لم يكن قولك « وهبني » ظاهراً في ذلك. وعدم التناقض في قولك « أعطاني فلم أقبض » إنّما هو من جهة الجمع بين القرينة وذيها ، نظير قولك : رأيت أسداً يرمي.

ثمّ إنّه لو لم يكن القبض مسلّماً عند أبي بكر وكانت الهبة مشروطة بالقبض - كما هو الظاهر عند كثير من العامّة وعند جميع الخاصّة ، فراجع ما نقله العلاّمة

ص: 232


1- الشافي في الإمامة 4 : 98.
2- شرح نهج البلاغة 16 : 285.

في إحقاق الحقّ في باب الهبات (1) - لكان الأولى له بعد قيام البيّنة على أصل الهبة والنحلة أن يطالب بالبيّنة على القبض ، لا أن يجيب عن البيّنة المذكورة بمثل تلك الترهات مثل : يجرّ النار إلى قرصه.

ولو أُجيب عن ذلك بأنّ البيّنة شهدت بالقبض أيضاً ، كان ذلك حجّة على قاضي القضاة وأصحابه ، لأنّ شهادة علي عليه السلام بالقبض وكذا شهادة أُمّ أيمن بل وكذا بعض موالي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على ما يزعمه قاضي القضاة لا تقصر عندهم عن رواية مثل أبي هريرة وأضرابه ، فلماذا أنكر القاضي القبض واليد مع وجود تلك الشهادة منهم التي لا تقصر عن أن تكون عنده رواية من الروايات وإن كانت قاصرة عند أبي بكر.

ثمّ لا يخفى أنّ العلاّمة قدس سره قال في متن إحقاق الحقّ ما نصّه : وروى الواقدي وغيره من نقلة الأخبار عندهم وذكروه في الأخبار الصحيحة أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله لمّا افتتح خيبر اصطفى قرى من قرى اليهود ، فنزل جبرئيل بهذه الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) فقال : ومن ذوي القربى وما حقّه؟ قال : فاطمة ، فدفع إليها فدك والعوالي ، فاستغلّتها حتّى توفّي أبوها ( عليه الصلاة والسلام ) ، فلمّا بويع أبو بكر منعها وكلّمته في ردّها عليها وقالت : إنّهما لي - إلى أن قال - وأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر بن الخطّاب وقال : إنّها امرأة فطالبها بالبيّنة على ما ادّعت ، فأمرها أبو بكر فجاءت بأُمّ أيمن وأسماء بنت عميس مع علي عليه السلام فشهدوا بذلك الخ (2).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشهد بالقبض واليد إلى وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله ، ولكن ما

ص: 233


1- إحقاق الحقّ ( الأصل ) : 446 وما بعدها.
2- إحقاق الحقّ ( الأصل ) : 297.

أدري أين كان هؤلاء الرواة عندما طولبت الصدّيقة بالبيّنة ، إن هي إلاّ السلطة الغاشمة التي تأخذ بأفواه الناس عن النطق بالحقّ وأداء الشهادة ، فأين كان أبو سعيد الخدري وغيره عن أداء الشهادة. نعم إنّه وغيره كتموا ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو بيعة الغدير ، بل كتموا ذلك حتّى في خلافة أمير المؤمنين وادّعى أبو سعيد هذا النسيان ، فرمي بما دعا به عليه أمير المؤمنين عليه السلام.

وأمّا قول ابن أبي الحديد : فهلاّ قالت عليها السلام لأبي بكر : هذه الأرض في يدي ولا يجوز انتزاعها منّي إلاّبحجّة الخ (1) ، فقد قال ذلك أمير المؤمنين عليه السلام كما في رواية الاحتجاج وغيرها ممّا رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد (2) ، ولكن من يسمع ذلك والسلطة غاشمة.

قال ابن الأثير في الجزء الثاني : وكان نصف فدك خالصاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لأنّه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل - إلى أن قال - ولم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام يصنعون صنيع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعد وفاته - إلى أن قال - فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس وأعلمهم أمر فدك ، وأنّه قد ردّها إلى ما كانت عليه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فوليها أولاد فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمّ أخذت منهم ، فلمّا كانت سنة عشر ومائتين ردّها المأمون إليهم (3).

فانظر إلى هذا التناقض واعجب ، فإنّه يقول : إنّها خالصة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمّ

ص: 234


1- شرح نهج البلاغة 16 : 285.
2- وسائل الشيعة 27 : 293 / أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 3 ، الاحتجاج 1 : 237.
3- الكامل في التاريخ 1 : 600.

يقول إنّه صلى اللّه عليه وآله والخلفاء بعده يصرفونها في أبناء السبيل ، فأين النزاع من فاطمة عليها السلام فيها!! ثمّ يقول إنّ عمر بن عبد العزيز ردّها إلى ما كانت عليه أيّامه صلى اللّه عليه وآله وأيّام الخلفاء بعده ويقول فوليها أولادها عليها السلام ، فإن كانت في أيّامه صلى اللّه عليه وآله لأبناء السبيل فما معنى قوله : أرجعها إلى ولد فاطمة عليها السلام!!

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر من قاضي القضاة وابن أبي الحديد أنّهما يهوّنان الخطب في فدك بإنكار القبض ، لكنّا نقول : إنّهما لو سلّما النحلة من النبي صلى اللّه عليه وآله وأنكرا القبض وأبطلا هبة النبي صلى اللّه عليه وآله بأنّه صلى اللّه عليه وآله لم يقع منه التسليم لما وهبه ، فهلاّ كانت هذه القضية نظير القضايا التي ادّعاها أربابها على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وعدهم بها فأنجزوا عدته صلى اللّه عليه وآله وذلك مثل قضية كرامة بنت عبد المسيح التي ادّعى شويل أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وعده بأن تكون له إذا فتحت الحيرة ، فلمّا فتحت بعده في السنة الثانية عشر من الهجرة في أيّام عمر وادّعى هذه الدعوى وشهد له بذلك سُلّمت له كرامة المذكورة مع كونها فيئاً أو مع اشتراط لتسليمها لشويل عند كتابة الصلح كما تضمّنه تاريخ الطبري في الجزء الرابع (1). وببالي أنّ مثل ذلك وقائع أُخر لا تحضرني مواقعها فعلاً ، نعم لهم أن يقولوا : إنّ مثل تلك الوقائع كانت بعد كثرة الأموال على المسلمين مع فرض عدم أهميّة موردها ، بخلاف فدك ، لكن ذلك لا يغيّر الحكم الشرعي في مقام الترافع واستماع الشهود. نعم إنّ تحت قضية فدك مانعاً قوياً للجماعة من السماح بها ، وذلك هو تقوّي أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان عمدة اهتمام القوم في إضعاف جانبه.

تنبيه : قال السيّد سلّمه اللّه فيما حكاه عن شيخنا قدس سره : والعجب من العلاّمة الأنصاري قدس سره في المقام كيف غفل عن ذلك واحتمل كون الرواية الشريفة دليلاً

ص: 235


1- تاريخ الطبري 2 : 568 - 569.

على عدم سقوط اليد عن الاعتبار حتّى مع الاعتراف بملكية المورّث الخ (1).

قال الشيخ قدس سره : ولذا لو لم يكن في مقابله مدّع لم تقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيته ، أو كان في مقابله مدّع لكن أسند الملك السابق إلى غيره ، كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريته من عمرو. بل يظهر ممّا ورد في محاجّة علي عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك المروية في الاحتجاج أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليها السلام باليد دعواها تلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، مع أنّه قد يقال : إنّها حينئذ صارت مدّعية لا تنفعها اليد (2) ، ولعلّ قول الشيخ قدس سره : بل يظهر الخ ، بيان لمطلب آخر وهو أنّ الاقرار للمورّث لا يكون إقراراً للوارث وأنّه داخل في الاقرار لغير المدّعي ، أو أنّ مراده أنّه من قبيل الاقرار للأجنبي عن المدّعي ومورثه ، والمناسب حينئذ أن يقول : كما يدلّ قوله بل ، لكن لمّا كانت انتقالاً من مجرّد الاحتمال إلى قيام الدليل عبّر بلفظ « بل » التي تفيد الترقّي.

قوله : وتوضيح ذلك هو أنّ الملكية عبارة عن الاضافة الخاصّة القائمة بين المالك والمملوك ، فللملكية طرفان طرف المالك وطرف المملوك ، وتبدّل الاضافة قد يكون من طرف المملوك كما في عقود المعاوضات ، فإنّ التبدّل في البيع إنّما يكون من طرف المملوك فقط ... الخ (3).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه بعد الفراغ من تحرير هذه الأنحاء الثلاثة ما محصّله : أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه ليس أمراً تخيلياً صرفاً ، بل هو أمر واقعي

ص: 236


1- أجود التقريرات 4 : 208.
2- فرائد الأُصول 3 : 322.
3- فوائد الأُصول 4 : 615.

يكون منشأ لآثار مهمّة ، فإنّ الحقوق المتعلّقة بالأعيان المملوكة بعضها يكون متعلّقاً بنفس العين ويكون تابعاً لنفس العين في أيّ ملك وجدت ، فلا يكون له ربط بالعلقة بينها وبين المالك ، وذلك كما في حقّ الجناية العمدية ، فإنّ لصاحب الحقّ أن يسترقّ ذلك العبد الجاني في أي ملك وجده ، فيكون هذا الحقّ تابعاً للجاني سواء انتقل إلى الغير بإرث أو هبة أو معاوضة أو بقي على ملك مالكه.

وحقّ الرهانة يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف لهذه الاضافة التي هي بينها وبين الراهن ، فلو خرجت عن كونها طرفاً للاضافة المذكورة إمّا بزوال تلك الاضافة بأن نقلت العين من ملكه بطريق الهبة ، وإمّا بتبدّل طرف الاضافة بأن صارت تلك العين طرفاً لاضافة أُخرى بينها وبين مالك آخر غير ذلك الراهن ، بأن زالت عن ملك الراهن بطريق المعاوضة ، ارتفع عنها ذلك الحقّ إن تمّ النقل بأحد الطريقين ، بأن أجازه المرتهن ، وإلاّ كان النقل المذكور باطلاً لكون الحقّ مانعاً منه.

وهكذا الحال في حقّ الخيار ونحوه ممّا يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف للاضافة بينها وبين مالك خاصّ ، فإنّه يرتفع إذا خرجت العين عن كونها طرفاً لهذه الاضافة وصارت طرفاً لإضافة أُخرى ، بأن تبدّلت نفس الاضافة كما في الهبة أو تبدّلت العين عن كونها طرفاً لها وصارت طرفاً لإضافة أُخرى بينها وبين مالك آخر كما في المعاوضة.

أمّا لو بقيت العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لهذه الاضافة ولكن تبدّل الطرف الآخر - أعني المالك - كما في باب الارث ، كان الحقّ المذكور تابعاً للعين المذكورة لبقائها طرفاً لتلك الاضافة وبقاء نفس تلك الاضافة ، غير أنّ طرفها الآخر - أعني المالك - قد تبدّل ، فكأنّ تلك الاضافة باقية بحالها غير أنّ طرفها

ص: 237

الآخر رفع عن المورّث وجعل الوارث مكانه مع بقاء الاضافة بحالها ، فالحقّ الذي يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف لتلك الاضافة يكون باقياً بحاله لبقاء تلك العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لتلك الاضافة. ( قلت : ولذلك لا يقال خرجت العين من ملك المورّث وصارت في ملك الوارث ، بل يقال : إنّ الوارث قام مقام المورّث كما هو مفاد : ما كان للميت فهو لوارثه (1) ) ، وهذا بخلاف النقل في باب الهبة فإنّ تلك الاضافة انعدمت وحصلت مكانها إضافة أُخرى ، فقبل الهبة كانت العين طرفاً لاضافة ، وبعد الهبة انعدمت تلك الاضافة وحدثت إضافة أُخرى وصارت العين طرفاً لهذه الاضافة الجديدة. ( قلت : ولذلك يقال : خرجت العين من ملك الواهب وصارت في ملك المتّهب ). وهكذا الحال في النقل في باب المعاوضة ، فإنّ العين كانت طرفاً للاضافة بينها وبين مالك خاصّ فصارت طرفاً للاضافة بينها وبين مالك آخر ، وفي كلا المقامين لم تبق العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لتلك الاضافة التي تعلّق الحقّ بها بما أنّها طرف لها ، فلا يلحقها الحقّ المذكور في الصورتين المذكورتين ، وإنّما يلحقها في تلك الصورة فقط ، وهي صورة الارث التي يكون المنتقل إليه العين وهو الوارث قائماً مقام من انتقلت عنه أعني المورّث ، بحيث تكون العين باقية طرفاً لتلك الاضافة ، والاضافة تكون باقية بحالها ، غير أنّ طرفها الآخر وهو المالك قد تبدّل وصار الوارث قائماً مقامه ، وهذا النحو من الانتقال مختصّ بباب الارث.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو تمّ ما لفّقه أبو بكر من عدم مورّثية النبي صلى اللّه عليه وآله ، وأنّ ما يتركه يكون للمسلمين بعده ، وأنّه هو وليّهم ، بحيث سلّمنا صحّة ما ادّعاه

ص: 238


1- وسائل الشيعة 26 : 251 / أبواب ولاء ضمان الجريرة ب 3 ح 14 ( نقل بالمضمون ).

من الخبر المانع من الارث الذي قلب مورد صدره الوارد عنه صلى اللّه عليه وآله في مقام أنّهم لا يدّخرون الأموال كي يورّثونها ، وجعله وارداً في مقام أنّهم لا يورّثون ما يتركون ، وأضاف له زيادة من عنده وجعلها مؤيّدة لما افتعله من قلب مورد الصدر ، وهي : ما تركناه من طعمة فهو لولي الأمر بعدنا ، إلى آخر تلك المغالطات والأكاذيب ، لم يكن الانتقال منه صلى اللّه عليه وآله إليه من قبيل الارث ليكون هو قائماً مقامه صلى اللّه عليه وآله في هذه الجهة وتلك الاضافة ، ويكون إقرارها عليها السلام بأنّ فدكاً كانت للنبي صلى اللّه عليه وآله من قبيل الاقرار لمورّث المدّعي ، بل يكون الانتقال إليه من قبيل الانتقال إلى الموصى له أو المتّهب ، لأنّه بحسب دعوى أبي بكر يكون ما كان للنبي صلى اللّه عليه وآله للمسلمين بعد رحلته صلى اللّه عليه وآله ، وبواسطة كون أبي بكر بحسب زعمه وليّاً للمسلمين بعد رحلته صلى اللّه عليه وآله ، وأنّ المسلمين ليسوا بورثة للنبي صلى اللّه عليه وآله ، بل كان صيرورة ما كان له صلى اللّه عليه وآله لهم من قبيل الوصية أو الهبة ، لم يكن الاقرار منها عليها السلام بأن فدكاً كانت لأبيها صلى اللّه عليه وآله من قبيل الاقرار لمورّث المدّعي ، بل يكون من قبيل الاقرار لشخص ثالث ، فلا يكون في البين ما يوجب قلب الدعوى بحيث يكون موجباً لتوجّه البيّنة عليها.

وبالجملة : لو كان انتقال متروكاته صلى اللّه عليه وآله إليهم من قبيل الارث لكان إقرارها عليها السلام بأنّ فدكاً كانت له صلى اللّه عليه وآله من قبيل الاقرار لمورّثهم في قلبه الدعوى وتوجّه البيّنة عليها عليها السلام ، لأنّ الوارث يملك ما كان يملكه مورّثه ، فإذا أقرّت بأنّها كانت له صلى اللّه عليه وآله كانت ملزمة باسقاط يدها وإقامة البيّنة على ما تدّعيه من النحلة منه صلى اللّه عليه وآله ، لكن المفروض أنّه صلى اللّه عليه وآله لا يورّث ، وأنّه لو كان له وارث لكانت هي ذلك الوارث ، فلابدّ أن لا يكون الانتقال منه صلى اللّه عليه وآله إليهم من قبيل الارث الذي هو تبدّل أحد طرفي الاضافة أعني المالك ، بل هو من قبيل تبدّل نفس الاضافة وحدوث

ص: 239

إضافة جديدة نظير ملك الموصى له لما أُوصي له به ، فكما أنّه لو كانت العين بيد شخص واعترف بأنّه اشتراها أو اتّهبها من الموصي في حياته لم يكن للموصى له أن يطالبه بالبيّنة على ذلك ، بل كان على الموصى له أن يثبت أنّها باقية على ملك الموصي إلى حين موته ، ولم يكن الاستصحاب نافعاً في ذلك لكونه محكوماً لليد ، ولابدّ للموصى له من إقامة البيّنة على كونها باقية على ملك الموصي إلى حين موته ، فكذلك اعترافها عليها السلام بأنّ فدكاً التي هي تحت يدها عليها السلام قد انتقلت إليها بالنحلة منه صلى اللّه عليه وآله لا يكون موجباً لانقلابها مدّعية ، بل يكون على المسلمين أن يثبتوا أنّ فدكاً باقية على ملكه صلى اللّه عليه وآله إلى حين رحلته صلى اللّه عليه وآله لتكون بعد رحلته صلى اللّه عليه وآله لهم والاستصحاب محكوم ليدها عليها السلام ، فلا تتوجّه عليها إقامة البيّنة ، بل عليهم أن يقيموا البيّنة على كونها باقية على ملكه صلى اللّه عليه وآله إلى حين رحلته صلى اللّه عليه وآله.

قلت : فعلى هذا الذي أفاده قدس سره يتنقّح عندنا كبرى واسعة الفروع ، وجامعها هو أنّه لو صالح شخص زيداً على جميع أمواله أو باعها منه أو وهبها له أو أوصى له بها أو نحو ذلك من موجبات الانتقال ما عدا الارث ، وكان من جملة تلك الأموال ما هو تحت يد شخص ثالث ، وادّعى ذلك الشخص الثالث أنّه تملّكها من ذلك المالك بأحد أنحاء التملّك ، لم يكن لزيد انتزاع تلك العين من ذلك الشخص الثالث وطلب البيّنة على انتقالها من المالك إليه ، بل كان على زيد إقامة البيّنة على بقاء تلك العين على ملك ذلك المالك الأصلي إلى حين انتقال جميع أمواله إليه.

وهذه الكبرى محتاجة إلى تتبّع تامّ في كلمات الفقهاء ، ولم تسنح لي الفرصة فعلاً في تمامية هذا التتبّع ، لكن وجدت في كشف اللثام ما لعلّه يكون من

ص: 240

بعض فروع هذه الكبرى ، فقال مازجاً عبارته بعبارة المصنّف قدس سرهما : ولو كانت العين التي ادّعيا شراءها من فلان في يد أحدهما قضي بها له مع عدم البيّنة وعليه اليمين للآخر. ولو أقاما بيّنة حكم للخارج على رأي وللداخل على قول (1) ، فإنّه قد أرسل ذلك إرسال المسلّمات ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّ إقرار صاحب اليد بأنّه اشتراها من صاحبها لا يوجب قلبه مدّعياً في قبال طرفه في الخصومة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك فيما إذا لم يكن شراء الآخر معلوماً ، أمّا لو كان معلوماً ولو بالبيّنة كان على صاحب اليد إقامة البيّنة على أنّه اشتراها من صاحبها قبل شراء الطرف ، وبهذه الكيفية تخرج المسألة عن محلّ الكلام في ترجيح بيّنة الداخل أو ترجيح بيّنة الخارج ، فلاحظ وتتبّع وتأمّل ، لكن لو أقرّ صاحب اليد لطرفه بالشراء ، لكنّه يدّعي أنّ شراءه متأخّر عن شراء نفسه ، وإن أمكن القول بانقلابه مدّعياً وأنّ عليه إثبات تقدّم شرائه ، على إشكال في ذلك. وعلى كلّ حال ، فهذا الاحتمال لا يأتي فيما لو كان المدّعي يدّعي أنّ زيداً صالحني أو وهبني جميع أمواله وهذا الذي بيدك من جملته ، وصاحب اليد يعترف له بما ادّعاه لكن يقول إنّما صالحك على ما بقي من أمواله وهذا ليس من ذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى إثبات السبق ، لأنّه لم يعترف بالمصالحة على وجه العموم ، وإنّما يعترف بالمصالحة على أعيان خاصّة وهي ما بقي من أمواله ، وقضية فدك من هذا القبيل ، لأنّ الصدّيقة عليها السلام لو اعترفت بمقتضى الخبر المزعوم فهي إنّما تعترف بانتقال ما توفّي عنه صلى اللّه عليه وآله إلى عموم المسلمين ، ولا دخل لذلك بما هو تحت يدها ممّا تدّعي أنّه صلى اللّه عليه وآله أنحله إيّاها في حياته ، فبعد أنّه ليس انتقال ما تركه صلى اللّه عليه وآله إليهم

ص: 241


1- كشف اللثام 10 : 219.

على نحو الارث بل على نحو الوصية ، يكون اعترافها بأنّ فدكاً كانت له صلى اللّه عليه وآله اعترافاً لشخص لا يمتّ إليه المسلمون إلاّبنحو من الوصية ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره في حاشيته على هذا المقام في الرسائل أجاب عن الانقلاب بما حاصله : أنّ الانقلاب إنّما يتمّ فيما لو أنكر الطرف المقابل ما يدّعيه طرفه من سبب النقل ، كأن يقول صاحب اليد اشتريتها من مورّثك فينكر الطرف الآخر ذلك ، أمّا لو لم يجب الطرف الآخر إلاّ بعدم العلم ، فليس له على صاحب اليد الذي يدّعي الانتقال إليه إلاّ اليمين دون البيّنة ، والمفروض في قضية فدك هو ذلك ، حيث إنّ أبا بكر لم ينكر ما ادّعته الصدّيقة الطاهرة عليها السلام ، وإنّما كان أقصى ما عنده هو عدم العلم بذلك ، وحينئذ فليس له أن يطالب بالبيّنة ، قال : إذ ليس أثر الاعتراف أزيد من العلم بكونه في السابق ملكاً للمدّعي ، بل ليس للمدّعي فيما بينه وبين اللّه التصرّف - في مثل الفرض - فيما في يد الغير اعتماداً على ملكيته السابقة التي يحتمل زوالها بناقل شرعي ، لأنّ اليد كما أنّها أمارة لغيره عند الجهل بالسبب كذلك أمارة له ما لم يعلم بكونها عادية ، فحكم المشهور بانتزاع العين من يده إنّما هو في صورة إنكار السبب الموجب لانقلاب الدعوى ، لا الاعتراف بجهله بالحال المستلزم لبقاء الدعوى على ما كانت عليه وهي الملكية الفعلية لا في سببها ، فمطالبة أبي بكر البيّنة منها عليها السلام مع أنّه لم يكن في مقابلها من ينكر التلقّي ممّا لا وجه له ، وليس دعوى الجهل بالسبب كانكاره في سماع الدعوى ومطالبة البيّنة ، وإلاّ لفتح من ذلك باب واسع لأكل أموال الناس على وجه مشروع ، فإنّ أكثر الناس يعترفون بأنّ كثيراً ممّا في أيديهم كان ملكاً للسابقين ، ولا يعلم ورثتهم نقلها إليهم بناقل شرعي

ص: 242

كما لا يخفى (1). وعلى ذلك جرى المرحوم صاحب الدرر فراجعه (2).

قلت : لا يخفى ما فيما أفاده من التسوية بين علم المدّعي بكونها في السابق له وبين اعتراف صاحب اليد ، وقد مرّ تفصيل الفرق بين الصورتين ، فإنّ علم المدّعي بأنّها في السابق كانت له لا ينفعه في الملكية الفعلية إلاّبالاستصحاب المفروض سقوطه بحكومة اليد ، وأمّا ما أفاده من تخصيص الانقلاب بصورة إنكار المدّعي ففيه : أنّ الاعتراف ودعوى الانتقال إذا قلنا إنّه يوجب قلب الدعوى فلا دخل له بجواب المجيب ، بل أقصى ما في البين هو أنّ طرف صاحب اليد لو أجاب عن دعوى الانتقال بقوله لا أدري ، دخل فيما حرّره الفقهاء في جواب المدّعى عليه بقوله لا أدري ، من أنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة فهل عليه الحلف ويحكم له أم تسقط الدعوى بالمرّة ، فراجع ما ذكره السيّد في قضاء العروة ص 90 (3).

وأمّا قوله : وليس دعوى الجهل بالسبب كإنكاره في سماع الدعوى ومطالبة البيّنة الخ ، ففيه أنّ عدم العلم والجهل بالواقع إنّما يؤثّر فيما لو كان صاحبه مدّعياً ، إذ لا تسمع الدعوى إلاّمع الجزم ، أمّا لو كان صاحبه منكراً كما هو المفروض فلا أثر له في عدم سماع الانكار الناشئ عن الجهل وعدم العلم بحيث إنّ ذلك المنكر يُلزم بمجرّد دعوى المدّعي.

ثمّ إنّ ذلك لو سلّم لم يكن نافعاً في توجيه رواية الاحتجاج ، لأنّ حاصل

ص: 243


1- حاشية فرائد الأُصول : 451 - 452.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 617.
3- العروة الوثقى 6 : 562.

الرواية هو أنّه عليه السلام يستدلّ على خطأ أبي بكر في طلب البيّنة ، بأنّ صاحب اليد لا يطالب بالبيّنة ، لا بأنّ إقراره مع عدم علم الطرف بما يدّعيه من الانتقال لا يوجب الانقلاب ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره بقوله : وإلاّ لفتح من ذلك باب واسع الخ ، فلا يخفى ما فيه ، فإنّ الاشهاد المأمور به في المعاملات وتعارف كتابة الأسناد والسجلاّت يسدّ هذا الفتق ، وهذه الجهة هي إحدى الجهات في حكمة الاشهاد وتنظيم السجلاّت الذي نطقت به الآيات الشريفة.

ص: 244

[ قاعدة الفراغ والتجاوز ]

قوله : فقد قيل بكونها من الأمارات لما فيها من الكاشفية ، فإنّ الغالب عند تعلّق الارادة ... الخ (1).

إنّ هذا المطلب قوي ومتين ، وحاصله هو تحرّك المكلّف عن تلك الارادة وإن كان قد طرأته الغفلة في أثناء استمراره على العمل ، فهو يفعل بإرادته تلك الموجودة في صقع نفسه ارتكازاً وإن كان غافلاً عنها ، وما أكثر نظائر ذلك في عالم الإنسان كما في التبادر ونحو ذلك من الارتكازيات الموجودة في صقع النفس المؤثّرة في عالم الإنسان مع غفلته عنها ، فهو فعلاً يسجد باختياره وإرادته مع فرض عدم تعلّق إرادة شخصية بذلك.

ولكن هذا كلّه نافع في تصحيح العبادة ، أما أنّه يكون موجباً لأمارية قاعدة التجاوز ففيه تأمّل ، فإنّ الغالب وإن كان هو الجري على طبق تلك الارادة المخزونة ، أو أنّها بطبعها تدفعه إلى الفعل ما لم يكن هناك طارئ يوجب عدم تأثّرها ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إنّما يصلح وجهاً في تعبّدهم بالقاعدة المزبورة ، إذ كلّ أصل جرى عليه العقلاء لابدّ أن يوجّه بهذا النحو من التوجيهات الراجعة إلى الارتكازات العقلائية ، إذ ليس من شأنهم التعبّد الصرف بلا جهة توجبه ، أمّا مثل قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » (2) ومثل قولهم عليهم السلام : « هو

ص: 245


1- فوائد الأُصول 4 : 618.
2- وسائل الشيعة 6 : 317 / أبواب الركوع ب 13 ح 3.

أذكر » (1) فلا يكون من الأدلّة على الأمارية ، بل ظاهر الأوّل هو التعبّد بوجود الركوع ، فلا يزيد على سائر الأُصول التعبّدية الاحرازية أو التنزيلية ، نظير قوله في المشكوك : « هو طاهر » أو « حلال » ونحو ذلك ممّا يفيد التنزيل ، سيّما ما اشتمل على قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت فامض في صلاتك ، فإنّما ذلك من الشيطان » (2) فإنّه لا يخلو عن ظهور في مجرّد التعبّد من دون كشف ، نعم هي لا تخلو عن الاحرازية ، فلاحظ.

وأمّا مفاد قوله عليه السلام : « هو أذكر » فلعلّه لا يزيد على مفاد الأخذ باليقين السابق على نحو مفاد الاستصحاب أو على نحو مفاد قاعدة اليقين ، وإلى ذلك يومئ قوله عليه السلام : « إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك » (3). وفي مستطرفات السرائر بدله « وكان حين انصرف أقرب منه للحفظ بعد ذلك » (4).

قال شيخنا قدس سره عند استشهاده على الأمارية بقوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » ما هذا لفظه الذي حرّرته عنه : نعم ، قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار : « فامضه كما هو » (5) ربما يكون دليلاً على كونها أصلاً ، إلاّ أنّه أقصى ما فيه أنّه لم يكن متعرّضاً لتتميم الكشف ، لا أنّه كان متعرّضاً للحكم بعدمه ، فيكون ما تعرّض له هو

ص: 246


1- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7 وفيه « هو حين يتوضّأ أذكر ... ».
2- وسائل الشيعة 6 : 317 / أبواب الركوع ب 13 ح 3.
3- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 3.
4- السرائر 3 : 614.
5- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.

المرجع لأنّه بلا مزاحم. وبالجملة : فإنّ الفرق بين مفاد الأمارة ومفاد الأصل هو الفرق بين الوجود والعدم ، فدليل الأمارة يكون متعرّضاً لجهة زائدة وهي تتميم الكشف ، ودليل الأصل لا يكون متعرّضاً لها ، فلا يكون بين الدليلين تعارض لو اجتمعا في مورد واحد ، انتهى.

قلت : قد عرفت أنّ نفس قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » لا دلالة فيه على لحاظ جهة الكشف أو تتميمها ، فإنّه ليس باخبار عن وجود الركوع حقيقة ، بل هو تعبّد وتنزيل لوجود الركوع ، فلا يستفاد منه إلاّ التعبّد بوجود الركوع ولزوم البناء على وجوده.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ هذا - أعني الاخبار عن الركوع - هو مفاد نفس قاعدة التجاوز ، فكأنّ لسان قاعدة التجاوز يُخبرك عن الواقع بأنّك قد ركعت ، فإذا فرضنا أنّ الشارع جعل قاعدة التجاوز حجّة فقد جعل لك حجّية ذلك الاخبار ، غايته أنّه كان دليل حجّيتها هو عين مفادها أعني الاخبار عن الواقع ، فيكون نظير ما لو أخبرك المخبر بحياة زيد والمولى في مقام لزوم تصديقه عليك يقول لك إنّ زيداً حي.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك متوقّف على أن يكون مفاد قاعدة التجاوز في حدّ نفسه هو الاخبار عن وجود الجزء ، وليس الأمر كذلك ، إذ ليس الاخبار إلاّ واقعاً في كلامه عليه السلام تنزيلاً وتعبّداً بوجود الركوع ، فلا يزيد على أن يكون قد تعبّدنا بوجوده في لزوم ترتيب آثار وجوده من المضي على الصلاة ، ولأجل ذلك عقّبه بقوله عليه السلام في بعضها « فامضه » بل وزاد في بعضها « فإنّما ذلك من الشيطان ».

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر أنّ هذا النزاع - أعني كونها أمارة أو أصلاً - لا أثر له سوى توجيه حكومتها على الاستصحاب ، أمّا ما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس سره في

ص: 247

رسالته ص 304 المطبوعة مع الجزء الثالث من حاشيته على الكفاية ، من الأمثلة من الشكّ في الوضوء أو الغسل بعد الفراغ من الصلاة ، وأنّها لو كانت أمارة لكان مقتضاها عدم وجوب الغسل عليه للصلوات الآتية ، بخلاف ما لو كانت أصلاً ، فيمكن التأمّل فيه ، فإنّ الظاهر أنّ هذا الأثر وهو عدم وجوب الغسل عليه للصلوات الآتية تابع لما هو المستفاد من أدلّة القاعدة من لزوم ترتيب آثار وجود الغسل مثلاً ، وهل في البين إطلاق يشمل الصلاة الآتية أو أنّه مقصور على الصلاة السابقة التي هي موقع الشكّ ، سواء قلنا بكونها أمارة أو قلنا بكونها أصلاً ، وقد صرّح هو بذلك بقوله : نعم على الطريقية والأمارية يقع الكلام في أنّ مقتضى أخبار المسألة التعبّد بالوجود بقول مطلق الخ (1) ، بل حتّى لو كانت من الأُصول غير الاحرازية ، فإنّه يمكن أن يكون الحكم على الشاكّ في الغسل بأنّه مغتسل مطلق شامل لجميع آثار الغسل حتّى صحّة ما يأتي به من الصلوات بعد ذلك ، فإنّ ميزان الأمارة هو الكشف وتتميم جهة الكشف من دون أن يكون الشكّ مأخوذاً في موضوعها ، غايته أنّه مورد لها ، وميزان الأصل هو أخذ الشكّ في موضوعه ، فإن كان الحكم فيه حكماً على الشكّ من دون تعرّض لإزالته كان أصلاً غير إحرازي ، وإن كان الحكم فيه قد تضمّن إزالة الشكّ كان أصلاً إحرازياً ، ولأجل ذلك كانت الأمارة حاكمة على الأصل ، وكان الأصل الاحرازي حاكماً على غير الاحرازي.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده العلاّمة المذكور ممّا يظهر أنّ الميزان في الأمارة هو الحكم بها بازالة الشكّ بخلاف الأصل ، فإنّه قال في تقريب الاستدلال على كونها أمارة بالروايات : مضافاً إلى الفرق بين ترتيب الحكم على

ص: 248


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 305.

الشكّ كما في الأصل والحكم بعدم الاعتناء بالشكّ بقوله : « فشكّك ليس بشيء » (1) - (2) فلاحظ.

ثمّ إنّه أشار إلى مطلب شيخنا قدس سره وأوضحه فقال في ص 304 ومحصّله بتوضيح منّي : إنّ الارادة المتعلّقة بمركّب إرادة كلّية ينبعث منها إرادات جزئية تدريجية متعلّقة بكلّ جزء جزء متدرّجاً الخ ، ومحصّل هذا التوجيه هو أنّ الارادة المتعلّقة بمركّب تولّد إرادات متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، كلّ إرادة تقع في ظرف ذلك الجزء الذي تتعلّق به ، فالارادة الأُولى الكلّية تولّد إرادات جزئية متدرّجة ، وتلك الارادات الجزئية يولد كلّ منها ما تعلّق به من الأجزاء ، وبعد الفراغ يحكم بأنّه عند وصوله مثلاً إلى السجود قد أراده في ظرفه وفعله.

ولكن الظاهر من تقريب شيخنا قدس سره حذف الارادات الجزئية في كلّ جزء ، بمعنى عدم الحاجة إليها في صحّة العمل ، وأنّ الارادة الكلّية الأُولى المخزونة في النفس كافية في صحّة الجزء ، وفي الحقيقة أنّ نفس الارادة الكلّية الحاصلة عند الشروع في المركّب هي عبارة عن الارادة المنبسطة على ذلك المركّب التي يكون تعلّقها بذلك المركّب عين تعلّق الارادة بكلّ واحد من أجزائه ، بمعنى أنّ كلّ واحد من تلك الأجزاء يكون مراداً ضمناً في ضمن تلك الارادة الكلّية ، نظير ما قلنا في الإرادة التشريعية الوجوبية المتعلّقة بالمركبات.

ثمّ إنّ هذه الإرادة الكلّية بما اشتملت عليه من الارادات الانحلالية تبقى مخزونة في النفس ، لكنّها تؤثّر في تحريك المكلّف وتبعثه على كلّ جزء في

ص: 249


1- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
2- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 304.

مورده وإن حصلت الغفلة وغيبوبتها تفصيلاً عن ذهنه لكنّها حاضرة في نفسه ارتكازاً على حذو ما ذكرناه في التبادر وغيره من الحركات الارتكازية ، وبعد الفراغ لو شكّ في إيجاد بعض تلك الأجزاء كان الأصل العقلائي أو الأمارة العقلائية قاضية بأنّه عند وصوله إلى محلّ ذلك الجزء قد انبعث إليه بتلك الارادة الكلّية الارتكازية التي كان في ضمنها إرادة ذلك الجزء عندما شرع في العمل ، فإنّه لا يترك ذلك الجزء إلاّبعارض يحول بينه وبين الانبعاث عن تلك الارادة ، بأن تغيب تلك الإرادة عن ذهنه بالمرّة ، وتكون تلك الغيبوبة التامّة ماحية لتلك الارادة عن صقع النفس بالمرّة ، وهذا خلاف العادة الجارية في من تعلّقت إرادتهم بالمركّب وشرعوا فيه واستمرّوا إلى آخر جزء منه.

ولأجل ذلك أفاد شيخنا قدس سره بأنّه لابدّ في مجرى القاعدة من كونه مراداً ضمناً لا استقلالاً ، فإنّه حينئذ يخرج عن هذا الأصل العقلائي.

وأمّا ما أفاده العلاّمة المذكور (1) من تقريب الوجه الثاني الذي اختاره ممّا حاصله أنّ المقدم على الفعل المشروط بشرط مثلاً لا يُقدم عليه إلاّمع حصول ذلك الشرط إمّا سابقاً أو مع الاقدام عليه قبل الشروع في العمل المشروط به ، فلو تمّت الغلبة في ذلك أو تمّ البناء العقلائي عليه ، فذلك على الظاهر أمر آخر غير مفاد قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ ، بل هو أشبه شيء بأصالة الحمل على الصحّة وعدم المخالفة لما هو المقرّر ، سواء ذلك في عمل نفسه أو عمل غيره ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 250


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 305.

قال الشيخ قدس سره في الموضع السادس الذي حرّره لما إذا كان الشكّ متعلّقاً بصحّة الجزء وقد تجاوزه إلى جزء آخر ، وأنّه هل يلحق بما لو حصل الشكّ في أصل وجوده ما هذا لفظه : لكن الانصاف أنّ الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشكّ في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة ، إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد منه العموم مثل موثّقة ابن أبي يعفور (1) ، أو يجعل أصالة الصحّة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ومدركه ظهور حال المسلم ، قال فخر الدين في الإيضاح في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة : إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكمّية ، الصحّة (2). ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » فإنّه بمنزلة صغرى لقوله : فإذا كان أذكر فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد به إبراء ذمّته ، لأنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر ، وعمداً خلاف إرادة الابراء (3) ، وهو عين ما أفاده العلاّمة المذكور في هذا المقام ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، لا يكون ذلك مستلزماً لكونها من قبيل الأمارة ، بل أقصى ما فيه هو أنّه صالح لعلّية البناء العقلائي أو لحكمة التشريع في ذلك البناء التعبّدي ، فلا تخرج القاعدة بذلك عن كونها أصلاً عقلائياً أمضاه الشارع أو أصلاً تعبّدياً شرعياً ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 251


1- وسائل الشيعة 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.
2- إيضاح الفوائد 1 : 43.
3- فرائد الأُصول 3 : 342 - 343.

قوله : وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الأمارات الأُخر عليه ... إلخ (1).

بعد الاعتراف بأنّ موضوع كلّ منهما هو الشكّ وصلاحية كلّ منهما في حدّ نفسه لأن يكون رافعاً لذلك الشكّ ، لا وجه لتقدّمها عليه وإن كانت هي من الأمارات ، خصوصاً إذا كان الشكّ فيهما واحداً لا تعدّد فيه ، وقد تقدّم في المباحث السابقة ما لعلّه يكون موضّحاً لذلك ، فراجع.

قوله : ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ موضوع الاستصحاب إنّما هو الشكّ في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنّما يكون مسبّباً عن الشكّ في حدوث ما يوجب ... الخ (2).

حاصل ما أفاده قدس سره في توضيح ما أفاده الشيخ قدس سره فيما حرّرته عنه قدس سره : هو أنّ هذه القاعدة وكلّ ما هو نظيرها مثل اليد ونحوها لو كانت مسبوقة بخلاف ما هو مقتضاها كالملكية السابقة في مورد اليد ، وعدم الاتيان بالجزء المشكوك في مورد القاعدة ، تكون حاكمة على الاستصحاب ، فإنّ غاية تقريب المعارضة أن يقال : إنّه ليس لنا في مورد المعارضة إلاّشكّ واحد ، له إضافة إلى الحالة السابقة ، فيكون شكّاً في البقاء ، وإضافة إلى حدوث ما هو مقتضى القاعدة فيكون شكّاً في الحدوث ، فيكون ذلك الشكّ الواحد مورداً للاستصحاب والقاعدة ، فيحصل التعارض.

وفيه أوّلاً : أنّ دعوى كون الشكّ شكّاً واحداً عهدتها على مدّعيها ، حيث إنّ الوجدان شاهد على أنّ لنا شكّين ، أحدهما الشكّ في بقاء عدم السورة مثلاً الذي

ص: 252


1- فوائد الأُصول 4 : 618.
2- فوائد الأُصول 4 : 619.

هو الحالة السابقة ، والآخر الشكّ في حدوث ما هو مقتضى القاعدة وهو وجود السورة.

وثانياً : أنّه لو أُغضي النظر عن ذلك وقيل إنّه شكّ واحد ذو جهتين ، أو قيل إنّهما شكّان ، فالقاعدة حاكمة على الاستصحاب من جهة السببية والمسبّبية ، حيث إنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة إنّما يكون مسبّباً عن حدوث ذلك الحادث الذي هو رافع لها ، بخلاف الشكّ في وجود ذلك الحادث فإنّه غير مسبّب عن الشكّ في بقاء الحالة السابقة ، لتحقّق الشكّ المذكور حتّى لو لم تكن الحالة السابقة معلومة ، بخلاف الشكّ في البقاء فإنّه لا يكون له منشأ إلاّمن جهة الشكّ في حدوث ذلك المشكوك ، وحينئذ فإذا كان ذلك المشكوك حدوثه محكوماً بالحدوث بمقتضى القاعدة المذكورة ، كان مقتضاه الحكم بانتقاض الحالة السابقة ، فيسقط الاستصحاب للحكم بانتقاض الحالة السابقة.

قلت : أمّا كونهما شكّاً واحداً أو شكّين فلم يتّضح الحال فيه ، فإنّ الظاهر أنّ الشكّ في بقاء عدم السورة عبارة عن التردّد في بقاء ذلك العدم بين البقاء وعدم البقاء ، ولا يخفى أنّ عدم بقاء ذلك العدم هو عين وجود السورة ، فالظاهر أنّه ليس لنا إلاّشكّ واحد ، ثمّ بعد تسليم كونه شكّاً واحداً ذا جهتين أو تسليم كونه شكّين لم يتّضح وجه الحكومة ، فإنّ الشكّ في بقاء العدم لو كان مسبّباً عن الشكّ في حدوث السورة لم يكن وجه للحكومة ، لعدم كون هذا التسبّب شرعياً ، مضافاً إلى إمكان عكس الأمر ، بأن يقال : إنّ الشكّ في حدوث السورة مسبّب عن الشكّ في بقاء العدم. ومجرّد أنّه قد يحدث الشكّ في وجود السورة مع فرض عدم تحقّق الحالة السابقة أو عدم العلم بها لا ينفع في دفع الإشكال ، فإنّ المدّعى هو أنّه في المورد الذي يكون الشكّ في الحدوث مسبوقاً بالعلم بالحالة السابقة ، يكون

ص: 253

الشكّ في الحدوث مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحالة السابقة.

ومن ذلك كلّه تظهر الخدشة فيما في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) ، من توجيه الحكومة بأنّ الاستصحاب لا يرفع موضوع القاعدة إلاّبلازم حكمه ببقاء الحالة السابقة ، بخلاف القاعدة فإنّها بنفس حكمها بالحدوث ترفع الحالة السابقة التي هي مورد الاستصحاب ، فإنّه قد اتّضح لك أنّ ارتفاع الحالة السابقة هو عين حدوث مقتضى القاعدة ، وعدم حدوثه هو عين بقاء الحالة السابقة ، فليس في البين تلازم بل اتّحاد وعينية ، ولو سلّمنا التلازم لأمكن العكس بأن يقال : إنّ القاعدة لا ترفع الاستصحاب بنفسها ، بمعنى أنّه لا ترفعه بمدلولها المطابقي الذي هو الحكم بوجود السورة ، بل إنّما ترفعه بواسطة اللازم الذي هو ارتفاع الحالة السابقة وانتقاضها.

قوله : كما يظهر من الشيخ قدس سره حيث ذكر قبل التعرّض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه : وقد يعلم عدم كونه ناظراً إلى الواقع وكاشفاً عنه وأنّه من القواعد التعبّدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ ، فراجع العبارة فإنّ الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأُصول التنزيلية رافعاً لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبيّن وجهه (2).

لا يخفى أنّ تتمّة العبارة هي قوله : لأنّا قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف منصوباً من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع ، إلاّ أنّ

ص: 254


1- أجود التقريرات 4 : 210 - 211.
2- فوائد الأُصول 4 : 619.

الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه (1) ، وليس في هذه العبارة إلاّمجرّد الإشكال في وجه التقديم ، من دون إشارة إلى الوجه المشار إليه أعني كون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر ، بل قال بعد ذلك في توجيه تقديم قاعدة الفراغ ما نصّه : المسألة الثانية : في أنّ أصالة الصحّة في العمل بعد الفراغ منه لا يعارض بها الاستصحاب ، إمّا لكونها من الأمارات كما يشعر به قوله عليه السلام في بعض روايات ذلك الأصل : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (2) وإمّا لأنّها وإن كانت من الأُصول إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه ، فهي خاصّة بالنسبة إليه يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا إشكال في شيء من ذلك (3).

وإلى هذا الوجه - أعني التخصيص - يرجع ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : فلو قدّم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد (4) ، وإليه يرجع ما في الكفاية (5) وأمّا ما احتمله في الكفاية من العموم من وجه ، فلم يظهر له وجه إلاّ إذا فرض نادراً سقوط الاستصحاب في موردها بذاته لمعارضة ونحوها ، وهو نادر جدّاً لا يعتنى به ، ولأجل ذلك نقول : لو قدّم عليها لبقيت بلا مورد أو على مورد نادر ، فلاحظ.

وأمّا ما احتمله شيخنا قدس سره بقوله : ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ الخ (6) ، فقد عرفت

ص: 255


1- فرائد الأُصول 3 : 319.
2- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
3- فرائد الأُصول 3 : 325.
4- فوائد الأُصول 4 : 619.
5- كفاية الأُصول : 433.
6- فوائد الأُصول 4 : 619.

أنّ كلام الشيخ قدس سره في هذا المقام أجنبي عنه ، نعم في مبحث أصالة الصحّة في عمل الغير عند قوله : المقام السادس في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب (1) ، قد اختلفت فيه النسخ وفي بعضها ما لعلّه يرجع إلى هذا الوجه الذي أفاده شيخنا قدس سره فراجع ، ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في عدول الشيخ قدس سره عمّا أفاده في قاعدة الفراغ من وجه التقديم إلى هذه العبائر التي اختلفت النسخ فيها على طولها في مبحث أصالة الصحّة في فعل الغير ، كما أنّ ما أفاده في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) عن شيخنا قدس سره بقوله : وتحقيق الحال الخ (2) ، لم يتّضح المراد منه ، فإنّه يقول : فإنّ دليل القاعدة الناظر إلى إثبات حكم مخالف للحالة السابقة بنفسه ينظر إلى سقوط الاستصحاب وعدم بقاء الحالة السابقة الخ ، ومن الواضح أنّ هذا بمجرّده لا يوجب الحكومة إلاّمن جهة كون دليل القاعدة وارداً في مورد الاستصحاب على خلافها ، وذلك عبارة أُخرى عن الالتزام بالتخصيص ، إذ لا مورد لها غير مورد الاستصحاب ، وذلك لا دخل له بالقرينة وذي القرينة الذي قاس التقديم فيما نحن فيه عليه.

وهذا - أعني كون التقديم من باب التخصيص - هو الظاهر من الشيخ قدس سره ومن الكفاية ومن المقالة ص 177 وص 183 (3) ، وهو الذي يظهر من الغرر ، قال فيها : إن قلنا به من باب التعبّد فمقتضى تقديمه على سائر الأُصول وإن كان تقديمه عليها أيضاً إلاّ أنّه لو قلنا به لزم لغوية القاعدة ، إذ قلّما يتّفق عدم استصحاب في موردها ، مخالفاً كان أو موافقاً ، ولو بني على تقديم الاستصحاب

ص: 256


1- فرائد الأُصول 3 : 373.
2- أجود التقريرات 4 : 210.
3- مقالات الأُصول 2 : 439 ، 452.

على القاعدة كتقديمه على سائر الأُصول لم يبق لها مورد إلاّنادراً غاية الندرة ، فاللازم تقديمها عليه من هذه الجهة (1).

ولا يخفى أنّ البناء على كون القاعدة من باب التعبّد لا يقضي بتقدّم الاستصحاب عليها إلاّ إذا قلنا بعدم تكفّلها الاحراز ، أمّا لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية فلا موجب لتقدّم أحدهما على الآخر كما أشار إليه في المقالة ، فلاحظ كلماته ص 177 وص 183 (2).

وكيف كان ، أنّ لقائل أن يقول : ما الداعي إلى هذه التعبيرات الموجبة للاشتباه ، فإنّ حقّ التعبير هو أن يقال : إنّ مفاد أدلّة هذه القواعد أخصّ من مفاد أدلّة الاستصحاب ، فالمتعيّن هو التخصيص ، ولو فرضنا النسبة هي العموم من وجه كان المتعيّن هو تقديم أدلّة القاعدة (3) ، لأنّ العكس يوجب التخصيص المستهجن وهو خروج الأكثر ، لكون الباقي أقلّ قليل.

وتوضيح ذلك : هو أنّ الموارد الباقية للقاعدة ولا يجري فيها الاستصحاب المخالف لها لا تخلو عن أحد أُمور :

الأوّل : أن يكون الاستصحاب مبتلى بالمعارض ، فيكون في حدّ نفسه ساقطاً ، كما لو شكّ بعد الفراغ من الصلاة في أنّه قد اغتسل من الجنابة ، وقلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز في الغسل لكونه مراداً بإرادة مستقلّة ، واتّفق أنّ استصحاب الجنابة أو عدم الغسل غير جار لأجل الابتلاء بالعلم الاجمالي مثلاً ، وحينئذ ينحصر الأمر في إجراء قاعدة الفراغ في الصلاة.

ص: 257


1- درر الفوائد 1 - 2 : 610.
2- مقالات الأُصول 2 : 439 - 440 ، 450 - 452.
3- [ المذكور في الأصل : أدلّة الاستصحاب ، فلاحظ ].

الثاني : ما لو شكّ بعد الفراغ من الصلاة بين الثلاث والأربع مثلاً ، وقلنا بعدم جريان استصحاب العدم في الركعات [ لا ] لأجل تقدّم قاعدة البناء على الأكثر ، لأنّ ذلك منحصر بما إذا كان الشكّ في أثناء الصلاة ، بل لأجل أنّ استصحاب عدم الركعات في ذاته لا يجري ، لأنّ أصالة عدم الاتيان بالرابعة لا ينفع في إثبات أنّ صلاته كانت ثلاثاً ، ونحو ذلك من الموانع المدّعاة الجارية فيما لو كان الشكّ بعد الفراغ.

الثالث : ما لو شكّ بعد الفراغ في عروض المبطل مثل زيادة الركوع أو استدبار القبلة مثلاً.

أمّا الأوّلان فالصناعة العلمية فيهما هي أن يقال : إنّ بين دليل الاستصحاب ودليل قاعدة الفراغ وإن كان هو العموم من وجه ، إلاّ أنّه لو قدّم الأوّل على الثاني لزم التخصيص الأكثر في دليل القاعدة ، وهو باطل فيتعيّن العكس ، ولعلّ ذلك هو المراد من قولهم إنّه لو قدّم الاستصحاب على القاعدة لم يبق لها إلاّ النادر.

وأمّا الثالث فلا يتأتّى فيه ما ذكرناه من لزوم تخصيص الأكثر ، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب القاضي بعدم زيادة الركوع موافق لقاعدة الفراغ ، فإمّا أن نقدّم القاعدة عليه لكونها أمارة ، أو نقدّمه عليها لكونه إحرازياً وهي من الأُصول غير الاحرازية ، وإن لم نقل بذاك ولا بهذا كان مقتضاه إجراءهما معاً ، ولا يصحّ لنا أن نقول : إنّها لو لم تقدّم في هذا المورد على الاستصحاب بل قدّمنا الاستصحاب عليها لكانت بلا مورد أو مورد نادر ، لأنّ ذلك في الاستصحاب المخالف لها دون الموافق.

نعم يصحّ لنا أن نقول : إنّا لو قدّمنا الاستصحاب المخالف لها في مورد المخالفة لانحصر جريانها في مثل هذه الموارد ، وهي وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها لا

ص: 258

أهميّة للقاعدة فيها بعد فرض جريان الاستصحاب فيها القاضي بصحّة العمل ، وحينئذ لا يبقى موقع لهذا الاهتمام بالقاعدة المستفادة من تلك الأخبار ، وبناءً على ذلك ، الحاصل هو أنّه عند مخالفتها مع الاستصحاب لو قدّمنا الاستصحاب عليها لم يبق للقاعدة إلاّموارد نادرة ، وموارد أُخر لا أهميّة فيها للقاعدة وإن كانت كثيرة في الجملة.

نعم ، لو اتّفق سقوط الاستصحاب الموافق لها وبقيت القاعدة وحدها ، كان لجريانها فيه أهميّة ، ولكن ذلك مورد نادر ، بحيث إنّا لو قدّمنا الاستصحاب عليها في تلك الموارد التي يكون الاستصحاب مخالفاً لها وابقاء هذا المورد لها والموردين السابقين كان من التخصيص المستهجن ، فلاحظ.

قوله : ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ قدس سره اتّحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : الموضع السادس إنّ الشكّ ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الظاهر من عبارة الشيخ قدس سره في هذا الموضع السادس (2) هو النظر إلى أنّ قاعدة التجاوز إنّما تجري في مورد الشكّ في وجود الجزء بعد الدخول في جزء آخر ، أمّا لو كان المشكوك هو صحّة ذلك الجزء لا أصل وجوده ، فهل تجري فيه قاعدة التجاوز؟

والذي أفاده هو الإلحاق ، بدعوى أنّ الشكّ في صحّة الجزء راجع إلى الشكّ في وجود الصحيح ، وحينئذ يكون مفاد القاعدة هو الأعمّ من الشكّ في أصل وجود الجزء أو الشكّ في وجود الصحيح منه.

ثمّ استشكل في هذا الالحاق ، ثمّ بنى عليه لتنقيح المناط أو لرواية ابن أبي

ص: 259


1- فوائد الأُصول 4 : 620.
2- فرائد الأُصول 3 : 342.

يعفور (1) أو لأجل أصالة الصحّة ، وقد تقدّم منه نظير هذا التشكيك في الموضع الأوّل من المواضع المذكورة ، وقال في آخره : وهذا - أعني الاختصاص بالشكّ في أصل الوجود - هو المتعيّن ، لأنّ إرادة الأعمّ من الشكّ في وجود الشيء والشكّ الواقع في الشيء الموجود في استعمال واحد غير صحيح (2). ثمّ أحال المطلب على ما سيأتي.

وعلى كلّ حال ، أنّ عبارة الشيخ قدس سره إنّما هي مسوقة لما عرفت من إجراء القاعدة عند الشكّ في صحّة الجزء ، وليست بصدد بيان اتّحاد القاعدتين أو تعدّدهما ، ولكن لازم كلامه هو وحدة القاعدتين ، لأنّ أساس الفرق بينهما هو أنّ محصّل قاعدة التجاوز هو الشكّ في أصل وجود الشيء ، ومحصّل قاعدة الفراغ هو الشكّ في صحّته ، فلو شكّ بعد الفراغ في نقصان ركوع يكون جريان قاعدة التجاوز فيه باعتبار كونه قد شكّ في أصل وجود الركوع مع فرض تجاوز محلّه ، وجريان قاعدة الفراغ فيه باعتبار كونه قد شكّ في صحّة صلاته ولو من جهة كون الشكّ في الصحّة مسبّباً عن الشكّ في وجود الركوع ، وحينئذ فنحن لو قلنا بما أفاده الشيخ قدس سره في هذا المقام من إرجاع الشكّ في صحّة الشيء إلى الشكّ في وجود الصحيح ، كان كلّ منهما من قبيل الشكّ في الوجود ، فلا يحصل ما هو الفارق بين القاعدتين ، وتكون الكبرى الجامعة هي أنّه لا يعتنى بالشكّ في وجود الشيء سواء كان في أصل وجوده أو كان في وجود الصحيح منه ، غايته أنّ موارد الأُولى هي الشكّ في أصل الوجود وموارد الثانية هي الشكّ في وجود الصحيح.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه الذي حرّرته عنه : وحاصل الأقوال أو

ص: 260


1- الآتية في الصفحة : 268.
2- فرائد الأُصول 3 : 329.

الوجوه في كون القاعدتين واحدة أو لا ، ثلاثة : الأوّل : هو المختار للشيخ قدس سره ، وهو اتّحادهما صغرى وكبرى ، بإرجاع الشكّ في الصحّة في مورد قاعدة الفراغ إلى الشكّ في وجود الصحيح ، ويكون الشكّ في الموردين شكّاً في أصل الوجود. الثاني : هو اختلافهما صغرى وكبرى. والظاهر أنّ هذا هو المختار للمشهور. الثالث : هو اختلافهما صغرى مع اتّحادهما كبرى وهو المختار انتهى ، وذلك كما سيأتي (1) توضيحه إن شاء اللّه بجعل الكبرى واحدة ، غير أنّ لها صغرى وجدانية وهي ما لو كان المشكوك هو نفس المركّب ولو باعتبار الشكّ في وجود الصحيح منه ، وصغرى تنزيلية وهي ما لو كان الجزء مشكوك الوجود ، فإنّ الجزء من المركّب لا يكون شيئاً بل هو مندك في المركّب ، غير أنّ الشارع ربما لاحظه مستقلاً ، فيكون شيئاً بجعل وتنزيل من الشارع ، وذلك الجعل والتنزيل مختصّ بأجزاء الصلاة دون غيرها من المركّبات كالطهارات ، فهما من هذه الجهة نظير قاعدة وجوب الوضوء لكلّ صلاة ، غير أنّ لها صغرى وجدانية وهي الصلاة المتعارفة ، ولها أيضاً صغرى تنزيلية وهي الطواف ، فإنّه داخل في هذه القاعدة - أعني وجوب الوضوء للصلاة - لكونه من صغرياتها تنزيلاً كما يستفاد من قوله عليه السلام « الطواف بالبيت صلاة » (2).

ثمّ إنّ قاعدة التجاوز تتوقّف على تنزيل آخر أشار إليه شيخنا قدس سره في بعض ما حرّرته عنه ، وهو تحقّق التجاوز عنه بالتجاوز عن محلّه ، فيكون التجاوز عن محلّه منزّلاً منزلة التجاوز عنه ، بتنزيل الجزء المشكوك منزلة محلّه بنحو من الاستعارة على مذهب السكاكي من دون حاجة إلى تقدير وحذف مضاف ،

ص: 261


1- في الصفحة : 307 وما بعدها.
2- مستدرك الوسائل 9 : 410 / كتاب الحجّ ب 38 ح 2.

وسيأتي إن شاء اللّه تعرّضه قدس سره لهذه الجهة من التنزيل في ص 233 من هذا التحرير (1).

ثمّ لا يخفى أنّ ملخّص القدر الجامع بين الشكّين هو أنّ الشكّ عبارة عن الترديد بين وجود الشيء وعدمه ، ويؤخذ هذا العدم الذي هو طرف الشكّ بالأعمّ من السالبة البسيطة والسالبة بانتفاء الموضوع ، بأن يكون محصّله هل وجد الركوع الصحيح أو لم يوجد ، بالأعمّ من عدم وجوده أصلاً أو عدم وجود وصف صحّته مع فرض أصل وجوده ، فإنّ كلاً منهما داخل في قولك لم يوجد الركوع الصحيح ، والقاعدة تزيل هذا الشكّ وتقول إنّ ما شككت في وجوده قد وجد سواء كان الذي شككت في وجوده هو أصل وجود الشيء أو كان هو وجود الصحيح منه ، وحينئذ تنطبق على الشكّ في صحّة الصلاة بعد الفراغ منها ، وتنطبق على الشكّ في أصل وجود الركوع بعد التجاوز عنه بأن يتسامح في التجاوز عنه بتحقّق التجاوز عن محلّه ، وعلى الشكّ في صحّته بعد التجاوز عنه إلى السجود أو بعد الفراغ منه وإن لم يتجاوز عنه أو عن محلّه ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الشكّ في صحّة الصلاة بعد الفراغ منها ، وحينئذ يكون المراد بالتجاوز عن المشكوك هو الأعمّ من التجاوز عن نفسه أو التجاوز عن محلّه.

وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ قدس سره ومنعه في أوّل المواضع بقوله : نعم ، لو أُريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشكّ في الشيء ، وهذا هو المتعيّن ، لأنّ إرادة الأعمّ من الشكّ في وجود الشيء والشكّ الواقع في الشيء الموجود في استعمال واحد غير صحيح (2) ، ومحصّله هو

ص: 262


1- فوائد الأُصول 4 : 627.
2- فرائد الأُصول 3 : 329.

الإشكال الرابع الذي أشكل به على إرادة الأعمّ من القاعدتين ، وذلك قوله : ورابعاً التجاوز في قاعدة التجاوز إنّما يكون بالتجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ إنّما يكون بالتجاوز عن نفس المركّب لا عن محلّه (1).

قوله : قلت : نعم وإن كان المهمّ في باب التكاليف هو إثبات وجود متعلّق التكليف صحيحاً ولو مع عدم إثبات صحّة المأتي به ... الخ (2).

لا يخفى أنّه يمكن التأمّل في الفرق بين باب التكاليف وباب الوضعيات ، فإنّ الظاهر أنّ الحكم العقلي بلزوم الفراغ يتوقّف الخروج عن عهدته على إحراز الصحّة ، ولا يكفي مجرّد إحراز وجود الصحيح مع فرض عدم إحراز الصحّة بذلك ، هذا. مضافاً إلى ما في التقرير المطبوع في صيدا (3) من الإيراد أوّلاً بأنّ الظاهر من دليل قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة الموجود كما يستفاد من قوله عليه السلام : « فأمضه كما هو » (4) لا وجود الصحيح.

ثمّ إنّ الالتزام بأنّه في الوضعيات لا يكفي الحكم بوجود الصحيح بل لابدّ من الحكم بصحّة الموجود ليس على إطلاقه ، فإنّ ذلك إنّما يحتاج إليه في صورة التنازع والمخاصمة على هذا العقد الواقع هل كان صحيحاً أو فاسداً ، فإنّه حينئذ يحتاج إلى الحكم بأنّ ذلك العقد كان صحيحاً ، أمّا لو لم يكن في البين إلاّ الشكّ في الانتقال فعلاً وأردنا أن نحكم بانتقال المال إلى المشتري ، فإنّه يكفي في ذلك الحكمُ بوجود العقد الصحيح ، ولا يتوقّف على إثبات صحّة الموجود.

ص: 263


1- فوائد الأُصول 4 : 622 - 623.
2- فوائد الأُصول 4 : 621.
3- أجود التقريرات 4 : 212.
4- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.

قوله : وثانياً : أنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو أجزاء المركّب وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلّق نفس المركّب بما له من الوحدة الاعتبارية ... الخ (1).

يمكن التأمّل فيما أُفيد في وجه امتناع القدر الجامع ، من كون لحاظ الجزء مستقلاً يباين لحاظه مندكّاً في ضمن المجموع ، فإنّ أقصى ما فيه هو التباين بين اللحاظين ، وهذا - أعني تباين اللحاظين - إنّما يمنع لو كان اللحاظ واحداً ، أمّا مع فرض تعدّد اللحاظ كما هو مقتضى العموم الاستغراقي في قوله : « كلّ شيء شككت فيه » الموجب للحاظ كلّ مصداق من مصاديق الشيء لحاظاً مستقلاً وإن كان لحاظاً إجمالياً ، فعلى الظاهر أنّه لا مانع منه ، بل يكون هذا التباين الناشئ عن تعدّد اللحاظ وتباين اللحاظين موجباً لتعدّد مصداق الشيء باعتبار كونه ملحوظاً تارةً مستقلاً وأُخرى مندكّاً في ضمن المجموع.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع ذلك بأنّه ليس لنا في هذا العموم الحاكي عن مصاديق الأشياء إلاّعنوان الشيء وهو عنوان واحد ، فإن لوحظ بما أنّه مستقل في حدّ نفسه لم ينطبق على الجزء في ضمن المركّب الذي هو مفاد قاعدة الفراغ ، وإن لوحظ مندكّاً في ضمن المجموع لم ينطبق على الجزء مستقلاً الذي هو مفاد قاعدة التجاوز.

ويمكن أن يقال : إنّ الشيء جامع بين الجزء والكل ، غايته أنّ سبب الشكّ في وجود الكل هو وجود ذلك الجزء ، فلا يكون المقام من قبيل الجامع بين المتباينين.

ص: 264


1- فوائد الأُصول 4 : 621.

قوله : وثالثاً : يلزم التناقض في مدلول قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » (1) لو كان يعمّ الشكّ في الجزء والكل ... الخ (2).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه أنّه لا يتوجّه هذا التناقض لو قلنا بأنّ القاعدتين متباينتان ، إذ لو قلنا بذلك لكانت قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، لأنّ مفاد قاعدة الفراغ حينئذ هو الحكم بصحّة المجموع وتماميته بتمامية الاتيان بجميع أجزائه ، ومن الواضح أنّ الشكّ في تمامية الكل مسبّب عن الشكّ في الاتيان بالجزء ، فإذا حكم بمقتضى قاعدة التجاوز في الجزء بأنّه قد أُتي بذلك الجزء ، لم يبق لنا شكّ في صحّة الكل وتماميته كي يكون مجرى قاعدة « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه ».

قلت : لا يخفى أنّ هذه الحكومة متحقّقة أيضاً لو قلنا بأنّهما قاعدة واحدة ، فإنّ جريان هذه القاعدة الواحدة في ناحية الجزء يكون حاكماً على إجراء قاعدة « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » في الكل.

والحاصل : أنّ التناقض المتوهّم إنّما هو بين قاعدة الشكّ بعد التجاوز بالنسبة إلى الجزء وبين قاعدة الشكّ في المحلّ بالنسبة إلى الكلّ ، ومن الواضح حكومة الأُولى على الثانية ، سيّما إذا قلنا بأنّ قاعدة الشكّ في المحل ليست قاعدة مستقلّة وإنّما هي عبارة عن الأخذ باستصحاب عدم الاتيان بما شكّ فيه ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ قاعدة التجاوز في الجزء هي عين قاعدة الفراغ أو قلنا بأنّهما متغايران ، بل إنّ القاعدة في الجزء وإن كانت موافقة للقاعدة في الكل

ص: 265


1- وسائل الشيعة 1 : 469 - 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2 وفيه : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه ».
2- فوائد الأُصول 4 : 622.

عند الفراغ منه ، إلاّ أنّ الأُولى حاكمة على الثانية لكونها مزيلة لموضوعها الذي هو الشكّ في تمامية المركّب أو في صحّته ، سواء قلنا إنّهما قاعدة واحدة ، أو قلنا إنّهما قاعدتان متغايرتان ، أو قلنا بمقالة شيخنا الأُستاذ قدس سره (1) من أنّ التغاير واقع في الصغرى دون الكبرى.

ومن ذلك يظهر أنّه على جميع هذه الأقوال لا يبقى مورد لقاعدة الفراغ إلاّ فيما لا تجري فيه قاعدة التجاوز من الشرائط التي ليس لها محل مخصوص كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى ، وينبغي في هذا المقام ملاحظة ما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا ص 466 (2) ويلاحظ ما فيه من الاضطراب.

قوله : ورابعاً : التجاوز في قاعدة التجاوز إنّما يكون بالتجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه ... الخ (3).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه أنّ مورد قاعدة التجاوز هو الشكّ في [ الشيء ] بعد تجاوز محلّه لا بعد تجاوز نفس الشيء ، وإلاّ لم يحصل فيه شكّ ، ومورد قاعدة الفراغ هو الشكّ في الشيء بعد تجاوز نفسه ، لأنّ الشكّ في الأوّل شكّ في أصل الوجود ، وفي الثاني شكّ في الصحّة بعد إحراز الوجود.

قلت : ينبغي أن يكون مراده بالصحّة هو تمامية الأجزاء ، إذ لا ينحصر مورد قاعدة الفراغ بموارد الشكّ في الصحّة ، كما لو شكّ بعد الفراغ فيما له قضاء أو في موجب سجود السهو من دون إبطال.

ثمّ إنّ الاحتياج في الفراغ من الجزء إلى التجاوز عن محلّه والدخول في غيره إنّما [ هو ] عند الشكّ في أصل وجوده ، أمّا عند الشكّ في صحّته بعد تحقّق

ص: 266


1- فوائد الأُصول 4 : 624.
2- راجع أجود التقريرات 4 : 213 - 214.
3- فوائد الأُصول 4 : 622 - 623.

الفراغ فعلى الظاهر أنّه لا يحتاج في تحقّق الفراغ منه إلى الدخول في الغير ، فبناءً على وحدة القاعدة تكون القاعدة المذكورة جارية فيه وإن لم يدخل في جزء آخر. نعم ، بناءً على التعدّد وانحصار قاعدة الفراغ بالفراغ من تمام المركّب ينحصر الأمر في هذا الفرض بالرجوع إلى قاعدة التجاوز عن الجزء ، وهي متوقّفة على الدخول في جزء آخر كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه عند الكلام على جريان القاعدة في الشرائط (1).

قوله : وخامساً : متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو نفس الجزء ... الخ (2).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه أنّ مدخول لفظ « في » في قوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت فيه » (3) في قاعدة التجاوز يكون متعلّقاً للشكّ وطرفاً له ، وفي قاعدة الفراغ يكون ظرفاً للشكّ ، بمعنى أنّ الشكّ في الصحّة واقع فيه.

قلت : هذا الفرق إنّما هو في الشكّ في الاتيان بنفس الجزء ، أمّا في صورة الشكّ في صحّته بعد فرض الاتيان به فعلى الظاهر مساواته لقاعدة الفراغ في مدخول لفظ « في » فتأمّل.

قوله : مع تقارب التعبيرات الواردة في الأخبار ... الخ (4).

لابدّ من ذكر الأخبار التي يمكن استفادة القاعدة الكلّية منها ، فمنها : ما ورد

ص: 267


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 380 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 623.
3- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4 وفيه : « كلّ شيء شكّ فيه ».
4- فوائد الأُصول 4 : 624.

في باب الوضوء ما عن ابن أبي عمير عن محمّد بن مسلم ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ، قال : يمضي في صلاته ولا يعيد » (1).

وما عن عبد اللّه بن بكير عن محمّد بن مسلم ، قال : « سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك » (2) فسّرت بالشكّ.

وما عن أبان بن عثمان عن بكير بن أعين ، قال « قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ، قال : هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (3).

وما عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » (4) قالوا : الضمير في « غيره » راجع إلى الوضوء لا إلى الشيء ، بقرينة ما عن زرارة عن أبي جعفر : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليها وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه تعالى ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب عليك فيه وضوءه لا شيء عليك » (5)

ص: 268


1- وسائل الشيعة 1 : 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 5.
2- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6.
3- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
4- وسائل الشيعة 1 : 469 - 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.
5- وسائل الشيعة 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1.

ومنها : ما في الموثّقة « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » (1).

وما عن إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2).

وما عن زرارة ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الاقامة ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في الأذان والاقامة وقد كبّر ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في القراءة وقد ركع ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في الركوع وقد سجد ، قال عليه السلام : يمضي في صلاته ، ثمّ قال عليه السلام : يازرارة ، إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فشكّك ليس بشيء » (3).

وهذان الأخيران مسوقان لقاعدة التجاوز (4) ، وأمّا ما قبلهما فهو مسوق لقاعدة الفراغ المدّعى كونها هي الكبرى الوحيدة. وأظهرها في العموم الموثّقة المشتملة على قوله : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » ومثلها رواية ابن بكير المشتملة على قوله : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك » الخ. ودونهما في

ص: 269


1- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.
2- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.
3- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
4- وهناك أخبار أُخر لقاعدة التجاوز لكنّها خاصّة ببعض الأفعال ، مثل قوله عليه السلام في رواية حمّاد بن عثمان ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، فقال عليه السلام : قد ركعت فأمضه » وعن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : « سألته عن رجل شكّ بعد ما سجد أنّه لم يركع ، فقال عليه السلام : يمضي في صلاته » [ منه قدس سره. راجع وسائل الشيعة 6 :317- 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 2 و 5 ].

استفادة العموم قوله عليه السلام : « يمضي في صلاته ولا يعيد » في جواب قول السائل في رواية ابن أبي عمير : « رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة » ، ونحن إذا أخذنا الأُولى وهي قوله عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » ميزاناً يتّضح لنا المراد في البواقي (1).

فنقول بعونه تعالى : إنّ الظاهر من المضي هو المضي الوجداني المعبّر عنه بالفراغ فيما عن أبي جعفر عليه السلام وفي السؤال المشتمل عليه رواية ابن أبي عمير ، وقد عبّر عنه بالانصراف فيما عن الصادق عليه السلام ، فلا فرق بين أن يقول : كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى ، أو يقول : ممّا قد فرغت منه وانصرفت عنه ، وإذا كانت الجملة المذكورة ظاهرة في الفراغ الوجداني نرجع إلى معنى قوله عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه » فنقول : لا يمكن أن يكون المراد به شككت في أصل وجوده ، لأنّ فرض الفراغ منه يمنع من تعلّق الشكّ بأصل وجوده ، وحينئذ لابدّ من حمل قوله عليه السلام « فيه » على أحد وجهين :

أوّلهما : أنّها ظرف للشكّ ومتعلّقه محذوف ، يعني أنّك قد وقع شكّك في ذلك هل نقصت منه جزءاً أو شرطاً ، فإنّك لو تردّدت في أنّك هل نقصت منه جزءاً أو شرطاً فقد شككت في ذلك ، إذ يصحّ لمن شكّ في نقصه جزءاً من الصلاة أن يقال فيه إنّه وقع شكّه في الصلاة هل نقص جزء منها ، نظير قولك :

شككت في زيد ، وأنت شاكّ في عدالته مثلاً.

ص: 270


1- ومن الأخبار ما عن أبي جعفر عليه السلام قال : « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد » ومثله قول الصادق عليه السلام : « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، قال عليه السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » [ منه قدس سره. راجع وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 2 و 1 ].

ثانيهما : أنّها متعلّق الشكّ ، لأنّ الشكّ في وجود الجزء يوجب الشكّ في وجود المجموع المركّب ، فيصحّ أن تقول : شككت في وجود ذلك المركّب ، وأنت شاكّ في وجود جزء من أجزائه مع وجود باقي الأجزاء.

ولا يخفى أنّه بعد هذه العناية الموجبة لكون الشكّ قد تعلّق بوجود الكل وأنّه صار الكل بنفسه مشكوك الوجود ولو من جهة الشكّ في وجود بعض أجزائه لا يحسن التعبير عنه بأنّه قد مضى ، لأنّ فرض مضيّه ينافي الشكّ في أصل وجوده ولو بالعناية المذكورة. وإصلاح نسبة المضي إليه بعناية محلّه إنّما يتمّ في مثل قوله : جزته ، فإنّه يصحّ نسبة الجواز عن الشيء باعتبار الجواز عن محلّه ، بخلاف نسبة المضي الذي هو عبارة عن الفراغ الموجود في مثل رواية ابن أبي عمير « شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة » وقوله فيما عن أبي جعفر عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد » ومثله ما عن الصادق عليه السلام « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، قال عليه السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » وهكذا ما في رواية ابن مسلم القائلة « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك » فإن ضمّ هذه الروايات بعضها إلى بعض يعطي أنّ المراد بالمضي في قوله في الموثّقة : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » هو المضي الوجداني الذي هو الفراغ منه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ الحكم عليه بقوله عليه السلام : « فأمضه كما هو » يعطي أنّه كان ظرفاً للشكّ ، وأنّه قد فرغ وأنّه قد مضى ، فإنّ الحكم ب- « امضه كما هو » في هذه الرواية وب « امضه ولا إعادة عليك » في رواية ابن مسلم لا يناسب فرض كون نفس الكل مشكوكاً ولو باعتبار الشكّ في وجود بعض أجزائه ، بل كلّ هذه الجهات إنّما تناسب كون الكلّ ظرفاً للشكّ باعتبار كون المشكوك وجود بعض أجزائه أو

ص: 271

بعض شرائطه ، وحينئذ لا ينطبق هذا المفاد إلاّعلى مفاد قاعدة الفراغ دون موارد قاعدة التجاوز.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّها شاملة للشكّ في صحّة الجزء بعد التجاوز عنه وإن لم يفرغ من الصلاة ، كما لو شكّ في صحّة ركوعه مثلاً بعد أن تجاوز عنه إلى السجود ، أو شكّ في صحّة تشهّده بعد أن تجاوز عنه إلى القيام ، سواء كان الشكّ فيه من جهة اجتماع شرائطه ، أو كان من جهة اجتماع تمام أجزائه كأن يشكّ وهو في حال القيام أنّه هل ألحن في تشهّده مثلاً ، أو أنّه هل أتى فيه بالشهادة الثانية ونحو ذلك ، فإنّه يصدق عليه أنّه شكّ في شيء قد مضى وهو التشهّد ، بل إنّ ذلك جارٍ حتّى لو لم يقم بعدُ ، بل كان في حال النهوض أو قبله بعد فراغه من الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله ، لكن ذلك داخل في مفاد قاعدة التجاوز باعتبار أنّ الشكّ في الجزء يشمل الشكّ فيه باعتبار اجتماع شرائطه.

ثمّ إنّ هذا كلّه مبني على كون لفظة « من » الداخلة على « ما مضى » بيانية ل- « ما شككت فيه » ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، ويكون الحاصل أنّ كلّ ما شككت فيه وهو بعض ممّا قد مضى جزءاً أو شرطاً فامضه كما هو ، وحينئذ يكون الضمير في قوله « شككت فيه » متعلّقاً للشكّ ، كما أنّ الضمير في قوله عليه السلام « فامضه كما هو » يكون راجعاً إلى المشكوك ، ويكون معنى إمضائه كما هو هو إمضاء ذلك الذي شككت في وجوده على ما هو عليه من وجود أو عدم ، ومع ذلك لا يكون مفاده مفاد قاعدة التجاوز ، لأنّه قد اعتبر في المشكوك أن يكون بعضاً ممّا قد مضى ، فلا ينطبق إلاّعلى مفاد قاعدة الفراغ.

نعم ، يمكن ذلك في قوله عليه السلام : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً » بجعل « من » للتبعيض بحسب الأجزاء والشرائط ، لكن لا يناسبه حينئذ

ص: 272

الحكم عليه بقوله عليه السلام : « فامضه ولا إعادة » فإنّها إنّما تناسب الفراغ ، وحينئذ فلو جعلنا لفظة « من » فيه للتبعيض فلابدّ أن يكون التبعيض بحسب الأفراد لا الأجزاء.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الضمير في قوله عليه السلام « فأمضه كما هو » راجع إلى ما شككت فيه لا إلى نفس ما مضى ، فإنّه لو عاد إلى نفس ما مضى لزم منه خلوّ جملة « فأمضه كما هو » حينئذ عن ضمير عائد إلى المبتدأ أعني « ما شككت » إلاّبتأويل قوله « كما هو » إلى قولنا كما هو من وجوده وعدمه ، يعني من وجود ذلك المشكوك وعدمه ، ولا يخفى بُعده. وعلى أيّ حال ، لا ينطبق إلاّعلى مفاد قاعدة الفراغ ، لما عرفت من أنّه قد قيّد المشكوك بكونه بعضاً ممّا قد مضى ، فلا يكون له مورد إلاّبعد الفراغ ليصدق على ذلك المشكوك أنّه بعض ممّا قد مضى.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره قد اختار الوجه الثاني من الوجهين السابقين أعني كون مدخول لفظة « في » متعلّقاً للشكّ ، ويصحّ أن يقال إنّ المركّب مشكوك إذا شككت في جزء منه أو شرط باعتبار كون الشكّ في وجود التمام أو الصحيح.

وحينئذ فلا يكون محصّل هذه الكبرى إلاّ أنّ كلّ شيء شكّ في وجوده ولو من جهة الشكّ في وجود بعض أجزائه أو شرائطه بعد الفراغ منه ، لا يعتنى بذلك الشكّ ، ومن الواضح أنّ هذه القضية لا تنطبق على الشكّ في وجود الركوع مثلاً بعد الدخول في السجود ، كما أنّها لا تنطبق على الشكّ في أصل وجود الظهر بعد الشروع في العصر ، إذ لم يكن ذلك الشكّ بعد الفراغ منه وإلاّ لم يحصل لنا شكّ في وجوده.

مضافاً إلى أنّ هذه الكلّية لمّا كانت ناظرة إلى المركّب المشكوك لم يعقل أن تكون شاملة مع ذلك لشيء من أجزائه على حدة ، لما أفاده من تباين اللحاظين.

ص: 273

نعم ، لو شكّ في وجود الركوع بعد الفراغ من الصلاة لكانت الكبرى المذكورة منطبقة ، باعتبار أنّ نفس الصلاة تكون مشكوكة الوجود بعد الفراغ منها ولو باعتبار أنّ الشكّ في وجودها مسبّب عن الشكّ في وجود بعض أجزائها وهو الركوع ، وحينئذ فيكون المانع من انطباق هذه الكلّية على ما ذكرناه من مثل الشكّ في وجود الركوع بعد الدخول في السجود أمرين : أوّلهما عدم دخول الجزء في عرض دخول الكل ، والثاني : هو عدم تأتّي الشكّ بعد الفراغ منه ، ولأجل ذلك احتاج قدس سره إلى التصرّف من الجهتين ، الجهة الأُولى التصرّف في ناحية الجزء بلحاظه مستقلاً ، والثانية التصرّف في ناحية الفراغ منه بالدخول في الغير المترتّب عليه ، وبعد هذين التصرّفين يكون الشكّ المذكور مصداقاً لتلك الكلّية.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : ثمّ إنّه كما تكون الصغرى في قاعدة التجاوز محتاجة إلى التنزيل في ناحية الجزء ، فكذلك أيضاً تحتاج إلى تنزيل آخر باعتبار الفراغ منه والتجاوز عنه ، بمعنى أنّ ذلك محتاج إلى تنزيل الجزء المشكوك منزلة الفعل المستقلّ في لحاظه شيئاً واحداً ، وبعد هذا التنزيل لا يمكن استعمال التجاوز فيه إلاّبالتنزيل أيضاً والعناية ، بحيث ينزل الدخول في جزء آخر منزلة الفراغ من الجزء المشكوك والتجاوز عنه ، فيكون الغرض من الفراغ منه أو التجاوز عنه هو التجاوز عن محلّه ، لا بمعنى الاضمار وحذف المضاف ليكون التقدير في مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت فيه بعد التجاوز عنه » (1) بعد التجاوز عن محلّه ، بل بمعنى التنزيل للجزء المشكوك منزلة محلّه في صحّة نسبة التجاوز إليه ، فيكون من قبيل الاستعارة على مسلك السكاكي لا من قبيل مجاز الحذف

ص: 274


1- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4 ، وفيه « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ».

والاضمار.

قلت : يمكن التأمّل في الاحتياج إلى التنزيل الأوّل بعد تحقّق التنزيل الثاني بل الظاهر كفاية التنزيل الثاني ، لأنّ الشارع إذا اعتبر الدخول في الجزء المتأخّر فراغاً ومضيّاً للجزء المتقدّم ، كان ذلك كافياً في كونه شيئاً شكّ في وجوده بعد الفراغ عنه ومضيّه الذي هو مصداق هذه الكلّية ، من دون حاجة إلى لحاظ الشارع له شيئاً مستقلاً المعبّر عنه بلحاظه قبل التركيب ، بمعنى أنّ الشارع بعد أن يحكم بتلك الكبرى الكلّية يحكم ويتصرّف تصرّفاً ثانياً ويجعل الجزء من المركّب شيئاً مستقلاً ، ليكون داخلاً في قوله في تلك الكلّية « كلّ شيء شككت فيه » بعد فرض أنّه لم يكن داخلاً فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ التنزيل الثاني ليس راجعاً إلى مرحلة لفظية كي يتكلّم في أنّه من قبيل الاستعارة على رأي السكاكي أو من قبيل مجاز الحذف ، بل هو راجع إلى مرحلة شرعية وهي أنّ الشارع نزّل الدخول في جزء آخر منزلة الفراغ والمضي عن الجزء المشكوك ليدخل في موثّقة سماعة « كلّ ما مضى فأمضه كما هو » (1) نعم إنّ قوله في مثل رواية زرارة : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » الخ (2) لابدّ أن ينزّل على الاستعارة أو على مجاز الحذف في قوله : « قد جاوزه » ، وهذا البحث - أعني كونه من قبيل مجاز الحذف أو من قبيل الاستعارة -

ص: 275


1- لم نجد لسماعة رواية بهذا المضمون ، نعم ورد في وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3 ، عن ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو ».
2- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4. لكنّها عن إسماعيل بن جابر لا عن زرارة.

جار في قوله « جاوزه » سواء قلنا إنّه قاعدة مستقلّة أو قلنا إنّه راجع إلى قاعدة الفراغ ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ النظر قاصر عن إدراك ما أفاده من أنّ المستفاد من تلك النصوص هو كبرى واحدة وهي قاعدة الفراغ ، كي نحتاج بواسطة ذلك إلى هذه التكلّفات في شمول تلك الكبرى لموارد قاعدة التجاوز ، بل الإنصاف أنّ الذي يظهر من الأخبار هو تعدّد القاعدة ، فإنّ ما قبل رواية إسماعيل بن جابر (1) وإن كان ظاهراً في قاعدة الفراغ ، إلاّ أنّ تلك الرواية وما بعدها من رواية زرارة ظاهرة في قاعدة التجاوز في خصوص أجزاء الصلاة وما يتبعها ، من دون أن يكون تنزيل في البين ، فإنّ رواية زرارة وإسماعيل بن جابر ليس في شيء منهما ولا في غيرهما إشعار بهذا التنزيل الذي أفاده بقوله : يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه - إلى أن قال - والذي يدلّ على هذا التنزيل رواية زرارة وإسماعيل بن جابر الخ (2).

والحاصل : أنّ المستفاد من رواية زرارة وإسماعيل بن جابر ونحوهما هو ضرب كبرى كلّية في خصوص الشكّ في الجزء من الصلاة بعد الدخول في الجزء الذي بعده ، وهذه كلّية أُخرى غير الكلّية المضروبة في تلك الروايات السابقة التي محصّلها عدم الاعتناء بالشكّ في العمل من حيث تمامية أجزائه بعد تحقّق الفراغ منه ومضيّه ، وهذه القاعدة هي المعبّر عنها بأصالة الصحّة في فعل المكلّف نفسه ، في قبال أصالة الصحّة في عمل الغير ، كما أفاده قدس سره فيما حرّرته عنه وهو أنّ مورد قاعدة التجاوز كما هو المستفاد من كلمات الفقهاء هو الشكّ في

ص: 276


1- تقدّمت الروايات ومصادرها في الصفحة : 268.
2- فوائد الأُصول 4 : 624 - 625.

خصوص أجزاء الصلاة ، ومورد قاعدة الفراغ هو الشكّ في الصحّة ، وهي عندهم تعمّ الصلاة وغيرها ، ويعبّر عنها بأصالة الصحّة في عمل نفس المكلّف ، في مقابل أصالة الصحّة في فعل الغير ، انتهى.

والمراد بالصحّة في مورد قاعدة الفراغ هو التمامية في مقابل النقصان ، لا الصحّة في مقابل الفساد والبطلان ، لجريان القاعدة المذكورة فيما لا يكون موجباً للبطلان كما في موارد الشكّ في النقص الموجب لسجود السهو أو النقص الموجب لقضاء المنسي.

قوله : وأمّا الشكّ في الجزء فهو إنّما يكون صغرى لها بعناية التعبّد والتنزيل ، يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ... الخ (1).

تقدّم أنّ ذلك من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » بعد قوله : يجب الوضوء للصلاة. ولكن لا يخفى أنّ مفاد هذا التنزيل إن كان عبارة عن جعل المماثل ، بأن يكون محصّل تنزيل الطواف مثلاً منزلة الصلاة في وجوب الوضوء هو جعل وجوب الوضوء للطواف كما جعله للصلاة ، فكأنّه قال : يجب الوضوء للطواف لأنّه مثل الصلاة في اقتضائها وجوب الوضوء ، لم يكن ذلك موجباً للتصرّف في موضوع القضية السابقة ولا في محمولها ، ويكون حاصل ذلك فيما نحن فيه هو جعل عدم الاعتناء بالشكّ في المركّب بعد تجاوزه عنه ، وجعل مثل هذا الحكم للشكّ في الجزء بعد التجاوز عنه ، ويكون ذلك عبارة عن جعل قضية أُخرى في الأجزاء مقابلاً للقضية في المجموع المركّب ، ويكون ذلك عبارة عن عدم اتّحاد القاعدتين واختلافهما صغرى وكبرى.

ص: 277


1- فوائد الأُصول 4 : 624 - 625.

وإن كان مفاد التنزيل المذكور هو الحكومة الواقعية على الدليل الأوّل بجعل موضوعه الأعمّ من الصلاة والطواف أعني القدر الجامع بينهما ، ويكون مفاد هذا التنزيل في ناحية الجزء هو توسعة موضوع الدليل الأوّل - الذي هو الشكّ في المركّب بعد تجاوزه - إلى الأعمّ من الشكّ في المركّب والشكّ في أحد أجزائه ، وحينئذ يعود إشكال القدر الجامع بين الجزء والكلّ.

وربما يتوهّم فيه إشكال آخر ، وهو أنّ الفرد التنزيلي متأخّر عن الحكم الأوّل ، لأنّ التنزيل إنّما هو بحسب الحكم ، فلا يمكن أن يكون الحكم الأوّل وارداً على ما هو الأعمّ من الموضوع الحقيقي والموضوع التنزيلي المفروض تأخّره رتبة عن الحكم المذكور.

ولكن هذا التوهّم يمكن الجواب عنه بأنّ مقتضى الحكومة في مثل « الطواف بالبيت صلاة » هو توسعة الموضوع إلى الصلاة والطواف ، لا إلى عنوان الصلاة الحقيقية والصلاة التنزيلية ، وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّ حكومة التنزيل في الجزء على الدليل الأوّل لا يكون مقتضاها إلاّتوسعة موضوع الدليل الأوّل الذي هو الشكّ في المركّب إلى القدر الجامع بينه وبين الشكّ في الجزء ، فلا إشكال فيه إلاّما عرفت من عود المحذور السابق وهو عدم الجامع بين النظر الاندكاكي والنظر الاستقلالي.

وأمّا ما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه اللّه من التعلّق بالقضية الحقيقية الشاملة لكلّ ما وجد أو يوجد من الشكّ في الشيء ، أو الشاملة لكلّ ما وجد أو يوجد من الشيء الذي حصل به الشكّ بعد التجاوز عنه ، فكأنّه جواب آخر لا دخل له بأصل الدعوى وهي دعوى التنزيل في ناحية الجزء ، فإنّ الظاهر أنّه لا مدخل للقضية الخارجية في المقام الذي هو الإشكال في الجامع وفي كيفية تصويره ، فإنّ ذلك

ص: 278

بعد الحاجة إلى الجامع ، ومع كون القضية خارجية لا يكون الحكم فيها إلاّعلى الأفراد الخارجية ، سواء كان لها جامع أو لم يكن ، فلا معنى للقول بأنّه لو كانت القضية خارجية لتوجّه عود الإشكال بطريق الحكومة كما هو صريح قوله : قلت لو كان جعل الحكم في القاعدة من قبيل الجعل الثابت في موارد القضايا الخارجية الخ (1) ، فلاحظ تمام العبارة.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الجواب المبني على الاستناد إلى كون القضية حقيقية جواب آخر ، ويمكن توجيهه بأن يقال : إنّ الشكّ المتعلّق بالشيء منطبق على كلّ ما وجد أو يوجد من الشكّ ، سواء كان شكّاً في الكل أو كان شكّاً في الجزء ، فليس في البين حكم على موضوع وهو الكلّ أو الشكّ في الكل ثمّ إنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء منزلة الشكّ في الكل في ذلك ، بل ليس في البين إلاّ حكم واحد على كلّ من الكلّ وكلّ واحد من أجزائه بجامع الشيئية ، غايته أنّ الجزء في حال طروّ الشكّ عليه نفسه يكون ملحوظاً للشاكّ استقلالاً ، وفي حال طروّ الشكّ على المركّب يكون ذلك الجزء ملحوظاً للشاكّ مندكّاً في ضمن المركّب ، لكن في مقام الحكاية بقولك : كلّ شيء مشكوك جزته فلا تعتن ، لا تحكي إلاّ الشيء الذي تعلّق به الشكّ بحيث كان هو المشكوك استقلالاً ، وذلك هو الجزء إن كان قد تعلّق الشكّ بوجود نفس الجزء ولو في ضمن المركّب ، أو الكلّ نفسه إن كان الشكّ متعلّقاً بوجود الكل ولو بواسطة الشكّ في ذلك الجزء ، والجزء في هذه الحالة الثانية في الحكاية لا يكون داخلاً في الحكاية كي يحتاج الحاكي إلى الجامع بين الحالتين من اللحاظ له استقلالاً واندكاكاً ، بل ليس الملحوظ في هذه الحالة في عالم الحكاية إلاّنفس المركّب وأنّه وقع مورداً للشكّ

ص: 279


1- أجود التقريرات 4 : 218.

في وجود نفسه.

وبالجملة : أنّه مع قطع [ النظر ] عن بقيّة [ الإشكالات ] لا أتصوّر لهذا الإشكال صورة مهمّة ، فإنّه لو قال : إنّ كلّ شيء شككت في وجوده يلزمك الاتيان به ، فهل ترى من نفسك أنّه غير جامع لما إذا تعلّق الشكّ بنفس وجود الجزء في ضمن الكلّ ، ولما إذا تعلّق بنفس وجود الكل بحيث إنّه لم يوجد أصلاً ولو ببعض أجزائه. نعم هنا إشكالات أُخر مثل أنّ المراد من الشكّ في وجود الكل هو الشكّ الناشئ عن وجود ذلك الجزء ، ونحو ذلك ممّا أوجب الإشكال في الجامع ، وإلاّ فإنّ الجامع بين لحاظ نفس الجزء ولو في ضمن الكلّ وبين لحاظ الكل نفسه ممّا لا يتطرّق إليه [ الشكّ ].

وإن شئت فقل : إنّ الجزء عندما نشكّ في إيجاده في أثناء اشتغالنا بالكل لا يكون إلاّشيئاً مبايناً للكل ، كما أنّ الكلّ في حال شكّنا في أصل وجوده في قبال عدمه الكلّي - أعني انعدامه بانعدام جميع أجزائه بحيث إنّه لم يوجد شيء من أجزائه - يكون مبايناً للجزء ، ويكون الجامع بينهما هو الشيء فإنّه من أوسع الجوامع.

وبالجملة : أنّا نتطلّب جامعاً بين أصل المركّب وبين الجزء الذي في ضمنه وعنوان الشيئية كاف ، بل يمكن أن نجعله جامعاً بين الجزء الملحوظ مستقلاً والجزء الملحوظ مندكّاً ، وإن كنّا في غنى عن ذلك ، لأنّ مركز الحكم وموضوعه هو الجزء الملحوظ مستقلاً ونفس الكل ، لا الجزء الملحوظ مندكّاً والجزء الملحوظ مستقلاً ، فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا التقريب للجامع لا دخل له بالتنزيل والحكومة ، لما عرفت من إمكان تعلّق الشكّ بالجزء كتعلّقه بالكل ، ومقتضى تعلّقه به أنّه في حدّ

ص: 280

نفسه شيء ، بمعنى أنّ تعلّق الشكّ به عبارة أُخرى عن أنّ الشاكّ لاحظه شيئاً في قبال المركّب ، كما أنّه لو تعلّق الشكّ بالمركّب لم يكن ذلك الجزء شيئاً ، بل كان عدماً ومندكّاً في المركّب ، وهذان الشكّان داخلان معاً في عرض واحد تحت قولك : إذا شككت في شيء ، ولا يتوقّف دخول الأوّل مع فرض دخول الثاني على تنزيل وإعمال عناية من الشارع ولا من الشاكّ. أمّا الشارع فلما عرفت ، وأمّا الشاكّ فلما عرفت من أن محصّل كون الجزء مشكوك الوجود عنده أنّه في حال تعلّق شكّه به قد لاحظه استقلالاً ، وإن كان هو واقعاً في ضمن الغير.

لكن قال السيّد سلّمه اللّه : فهي ( يعني الأدلّة الخاصّة مثل قوله : « شكّ في الأذان وقد دخل في الاقامة » إلى آخر صحيحة زرارة ) دالّة بالحكومة على لحاظ الجزء سابقاً على لحاظ التركيب أمراً مستقلاً بنفسه ، ثمّ قال ما محصّله : أنّ القاعدة لا تشمل شيئاً من موارد الشكّ بعد تجاوز محلّ الجزء المشكوك فيه ، لكن الروايات الخاصّة حكمت على تلك الأدلّة بإدخال أجزاء الصلاة في موضوعها بعد ما لم تكن ، ثمّ قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ دخول أجزاء الصلاة في عموم قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » إنّما هو بالحكومة ، لكنّه مع ذلك لا يمكن شمول العموم المذكور لها في مقام الاثبات (1).

وهذه الكلمات كلّها تدلّ على أنّ المسألة من باب التوسعة والحكومة ، وأنّ المقام من قبيل وجوب الوضوء للصلاة وقوله عليه السلام « الطواف بالبيت صلاة » (2) والذي ينبغي حينئذ هو عود الإشكال في مقام الثبوت كما عرفت ، ولا يختصّ بمقام الاثبات ، ولكنّه مع ذلك أجاب عن قوله : « إن قلت » المذكورة بما عرفت

ص: 281


1- أجود التقريرات 4 : 216 - 218.
2- مستدرك الوسائل 9 : 410 / كتاب الحجّ ب 38 ح 2.

الاشارة إليه من التعلّق بالقضية الحقيقية ، وأنّ الإشكال إنّما يتمّ في القضية الخارجية ، أمّا القضية الحقيقية فلا يتوجّه فيها الإشكال المزبور ، لأنّ الحكم في الكبرى الكلّية إنّما هو على عنوان الشيء المشكوك ، والجزء في حدّ نفسه وإن لم يكن شيئاً ، لكن الأدلّة الخاصّة جعلته شيئاً ، قال : إذ حكومة الأدلّة الخاصّة إنّما تقع في مرحلة الانطباق وجعل ما ليس بفرد للعام في حدّ نفسه فرداً له بالتعبّد والتنزيل ، فيكون لقاعدة الفراغ فرد تكويني خارجي وهو الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ عنه حقيقة ، وفرد جعلي تنزيلي وهو الشكّ في وجود الجزء بعد التجاوز عن محلّه الخ (1).

ولا يخفى أنّه يعود الإشكال السابق ، وهو أنّ هذه التوسعة توجب كون ما هو الموضوع في مقام الثبوت هو الجامع بين الكلّ وبين الجزء ، والمفروض أنّه لا جامع بينهما.

ثمّ قال : ولكن التحقيق أنّ تصوير الجامع بين القاعدتين غير محتاج إليه أصلاً ، بل غير ممكن ، لما ذكرناه من أنّ جعل القاعدة الكلّية إنّما هو من باب جعل الحكم في القضايا الحقيقية التي لا نظر فيها إلى خصوصية الأفراد الخارجية ، فلو لم يكن هناك دليل التنزيل كانت القاعدة مختصّة بموارد قاعدة الفراغ ، إلاّ أنّ ورود الأدلّة الخاصّة وتطبيق القاعدة على موارد الشكّ في الأجزاء أيضاً أوجب جريان القاعدة فيها بالحكومة ، فالحكومة إنّما هي في مقام التطبيق وتحقّق الصغرى ، ومعه كيف يمكن تصوير الجامع في مقام الجعل الخ (2) ، وقد عرفت أنّ الحكومة في المقام عبارة أُخرى عن كون الموضوع في مقام الجعل والثبوت هو الأعمّ

ص: 282


1- أجود التقريرات 4 : 218 - 219.
2- أجود التقريرات 4 : 220.

والقدر الجامع بين الموردين ، فلاحظ.

وبالجملة : الأمر في هذه الأدلّة الخاصّة يدور بين كونها من باب جعل المماثل فلا ترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو من باب التنزيل والحكومة الموجبة للتوسعة في موضوع الدليل الأوّل فيعود محذور القدر الجامع ، ولا مخلص منه إلاّبالالتزام بامكانه كما عرفت ، ومعه لا حاجة إلى ذلك الدليل ولا إلى ذلك التنزيل ، مضافاً إلى ما سيأتي إن شاء اللّه من إباء تلك الأخبار عن إفادة التنزيل ، نعم هنا موانع أُخر من جعل القاعدتين قاعدة واحدة سيأتي إن شاء اللّه إيضاحها.

ثمّ إنّ العلاّمة الأصفهاني قدس سره في رسالته نقل هذا الوجه عن شيخنا قدس سره وأورد عليه بما حاصله : أنّ الدليل المتكفّل لحال الأجزاء إمّا أن يكون من باب التنزيل وإعطاء حكم موضوع لموضوع آخر ، فلا محالة تتعدّد القاعدة ، وإمّا أن يكون من باب تحقيق الموضوع فلا تعبّد في التطبيق بل في إيجاد الفرد الاعتباري كما يوجد الملكية بالحيازة أو الارث ، فيلحقها الأحكام الشرعية المجعولة للملك ، والثاني باطل لعدم إمكان الجعل فيما نحن فيه ، وإنّما يمكن ذلك في الأُمور الاعتبارية القابلة للانجعال بجعل الشارع كالملكية ، فينحصر الأمر بالأوّل وهو قاض بتعدّد القاعدة.

قلت : أمّا الثاني فلا يريده شيخنا قدس سره ، وأمّا الأوّل فقد عرفت أنّه إنّما يكون موجباً لتعدّد القاعدة إذا قلنا برجوع التنزيل إلى جعل المماثل ، لكنّه خلاف مسلك شيخنا قدس سره من جعل هذا النحو من التنزيل من قبيل الحكومة الواقعية الكاشفة عن التوسعة في الموضوع ، وكون ما هو موضوع الحكم واقعاً هو القدر الجامع ، وحينئذ يتّجه عليه قدس سره ما أشرنا إليه من عود محذور الجامع.

ص: 283

ثمّ قال : مع أنّ اعتبار الجزء كلاً بلا موجب الخ (1) ، وكأنّه من تتمّة الإشكال على الوجه الثاني ، وقد عرفت أنّ شيخنا قدس سره لا يريده. وعلى كلّ حال ، أنّ شيخنا قدس سره لم يقل بتنزيل الجزء منزلة الكل أو بجعل الجزء كلاً ، بل كلّ ما أفاده إنّما هو إلحاق الجزء المندكّ في الكل الذي لا ينطبق عليه أنّه شيء بالشيء ، ليدخل في قوله : « كلّ شيء شككت فيه » وأين هذا من تنزيله منزلة الكلّ أو جعله كلاً.

ولا يخفى أنّه قدس سره قرّب أصل الإشكال في رسالته بما هذا لفظه : ومنها أنّ الجزء له لحاظان ، لحاظ بعين لحاظ الكل ، وفي هذا اللحاظ لا يقبل الحكم به وعليه ، ولحاظ استقلالي وهو بهذا اللحاظ سابق رتبة على لحاظ الكل ، ولا يعقل الجمع بين ملحوظين طوليين في إطلاق واحد مبني على لحاظهما في عرض واحد ، وهو اشتباه بيّن عند أهله ، لأنّ معرفة الكل وإن كانت متوقّفة على معرفة أجزائه ، إلاّ أنّه بعد معرفة الكل بأجزائه لا يتوقّف دائماً تصوّر الكلّ على تصوّر سابق لأجزائه ، بل يتصوّر الأجزاء بعين تصوّر الكل عند العارف ، فلا مانع من ملاحظة الجزء مستقلاً في عرض الكلّ ، مع أنّ المدّعى تصوّر الجامع بين الكلّ والجزء وترتيب الحكم عليه ، لا لحاظ الجزء ولحاظ الكلّ في إطلاق واحد ، فإنّ محذوره الجمع بين اللحاظين في إطلاق واحد لا الجمع بين أمرين طوليين في اللحاظ وقد مرّ كيفية ملاحظة الجزء والكل بملاحظة الجامع بنحو اللاّ بشرط القسمي (2)

ص: 284


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 297.
2- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 297.

والإنصاف : أنّ تقريب الإشكال بالتقدّم الرتبي وأنّه لا يمكن الجمع بين ملحوظين طوليين ، هو الظاهر من تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) ولعلّ تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي قريب من ذلك. ويمكنني القول إنّ حاصل ما أفاده شيخنا قدس سره من الإشكال ليس مبنياً على الطولية بين اللحاظين ، بل هو مبني على المنافاة بين لحاظ الجزء ولحاظ الكل بالاستقلال والاندكاك ، فقولنا : إذا شككت في شيء ، لا يمكن أن يكون المراد من الشيء فيه هو الجامع بين الجزء الملحوظ استقلالاً والكل ، لأنّ تعلّق الشكّ بالجزء يوجب كونه ملحوظاً مستقلاً ، وتعلّق الشكّ بالكلّ يوجب كونه - أعني الجزء - ملحوظاً مندكّاً في الكلّ ، وحينئذ لا يمكن أن [ يكون ] الشيء الذي وقع متعلّقاً للشكّ في الرواية الشريفة شاملاً للجزء وشاملاً للكلّ ، لأنّه على الأوّل يكون الجزء ملحوظاً مستقلاً ، وعلى الثاني يكون الجزء ملحوظاً في ضمن الكلّ لحاظاً اندكاكياً.

وهاك نصّ ما حرّرته عنه وهو : الثاني أنّ مبنى قاعدة التجاوز على لحاظ الأجزاء كلّ واحد منها بلحاظ نفسه وقبل التركيب ، فيكون كلّ واحد منها شيئاً مستقلاً شكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، ومبنى قاعدة الفراغ على لحاظ المجموع المركّب شيئاً واحداً ، فلا تلاحظ فيه الأجزاء إلاّمنضمّاً بعضها إلى بعض ، فلا تكون ملحوظة على حالها وبنفسها ليكون كلّ واحد منها في هذه المرحلة - أعني مرحلة التركيب - شيئاً مستقلاً بحياله ليصدق عليه ما أُخذ في قاعدة التجاوز من قوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت فيه وقد جزته إلى غيره » (1) وإنّما يلاحظ المجموع شيئاً واحداً شكّ فيه بعد الفراغ منه ، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجمع بين

ص: 285


1- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4 ، وفيه « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ... ».

اللحاظين ، انتهى.

وأنت ترى أنّ المستفاد من هذه العبارة هو أنّ روح الإشكال إنّما هو في الجمع بين لحاظه استقلالاً ولحاظه مندكّاً ، فإنّها وإن اشتملت على لفظة ( قبل التركيب ) إلاّ أنّ المقصود منه هو اللحاظ الاستقلالي في قبال لحاظها الضمني الاندكاكي ، وتوصيفه بقبل التركيب ليس المراد منه هو التقدّم الرتبي ، بل المراد منه مجرّد لحاظه مستقلاً كأنّه غير داخل في المركّب ، في قبال لحاظه في ضمن المركّب عندما ينظر إلى الشكّ في المركّب.

وبالجملة : أنّ المحتاج إليه هو القدر الجامع بين الشكّين ، الشكّ المتعلّق بالجزء والشكّ المتعلّق بالكلّ ، لا الجامع بين الجزء والكل ، والمفروض أنّ الجزء في صورة كون الشكّ متعلّقاً بالجزء منظور وملاحظ بما أنّه مستقل ، وفي صورة تعلّق الشكّ بالكل يكون الجزء منظوراً وملاحظاً مندكّاً.

نعم ، يرد على هذا التقريب ما شرحناه من أنّ اللحاظ الاستقلالي للجزء واللحاظ الاندكاكي للجزء أيضاً إنّما يكون في نظر الشاكّ ، فإنّه إذا شكّ في نفس الجزء يكون قد لاحظ الجزء مستقلاً وإلاّ لم يعقل أن يشكّ فيه ، وإذا شكّ في الكلّ يكون قد لاحظ الجزء مندكّاً ، أمّا في عالم الحكاية مثل قولك : الشكّ في الشيء ، فلا مانع من شموله للقدر الجامع بين الشكّين ، لأنّ المقابلة إنّما هي بين الشكّين ، فلا مانع من جعل الشكّ بالشيء شاملاً للشكّ في الجزء والشكّ في الكلّ وحاكياً عن القدر الجامع بينهما ، وفي الحقيقة يكون الشيء شاملاً للجزء والكل ، ويكون حكم الشكّ المتعلّق بذلك الشيء هو عدم الاعتناء ، هذا.

ولكنّه بعدُ محلّ تأمّل ، لأنّ عالم الحكاية لا يقلّ عن عالم وقوع الشكّ خارجاً ، فالحاكي بقوله : الشكّ في الشيء حكمه كذا ، لو أخذ الشيء قدراً جامعاً

ص: 286

بين الجزء والكل كان لابدّ له من لحاظ الجزء ولحاظ الكل ، وحينئذ يعود محذور أنّ لحاظ الجزء استقلالي ولحاظ الكل يوجب لحاظه مندكّاً فيه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الملحوظ للحاكي ليس إلاّعنوان الشيء ، وأمّا كونه جزءاً في الواقع أو كونه كلاً فلا يكون ملحوظاً للحاكي ، فإنّه إنّما يحكيه بعنوان الشيئية وبمقدار ما فيه من ذلك العنوان ، نظير قولك : كلّ إنسان حكمه كذا ، لا يكون منظور الحاكي وملحوظه إلاّعنوان الإنسان ، دون ما هو زائد على الإنسان من كونه أبيض أو أسود.

ولا يخفى أنّه ليس المراد من لحاظ الجزء مندكّاً هو لحاظ الجزء الموجود في ضمن الكلّ ليقال إنّ الجزء الموجود في ضمن الكل يمكن لحاظه مستقلاً ، بل المراد أنّ لحاظ الجزء في ضمن لحاظ الكل لا يكون إلاّمندكّاً.

ثمّ إنّه قد ذكر قبل هذا إشكالات على الجامع بقوله : منها أنّ المشكوك في مورد قاعدة التجاوز هو الوجود المتعبّد به ، وفي مورد قاعدة الفراغ هي صحّة العمل الموجود المتعبّد بها ، وهما أمران متغايران لا يجمعهما جامع ، لا من حيث كون المشكوك في الأُولى لوحظ بنحو مفاد كان التامّة وفي الثانية بنحو مفاد كان الناقصة ، فإنّها بلا موجب لكفاية الشكّ في ثبوت صحّة العمل (1).

قوله : بلا موجب إلخ ، لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ ظاهر كثير من أخبار قاعدة الفراغ هو مفاد كان الناقصة ، كما أنّ ظاهر أخبار قاعدة التجاوز هو مفاد كان التامّة. ثمّ إنّه ذكر مطلب الشيخ قدس سره الراجع إلى أنّ القدر الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، وأورد عليه بأنّه غير معقول ، لأنّ ملاحظة العمل مهملاً واقعاً غير

ص: 287


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 296.

معقول. وكأنّه يتخيّل أنّ مراد الشيخ قدس سره هو أنّ الجامع جامع بين واجد الصحّة وفاقدها ، فأورد عليه ما أورده ، ولكن مراد الشيخ قدس سره أنّ الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، وهذا الشكّ تارةً ينشأ عن الشكّ في أصل وجود الشيء ، وأُخرى ينشأ عن الشكّ في صحّته بعد فرض وجوده ، فالشكّ في وجود الصحيح مسبّب عن أحدهما ، لا أنّه جامع بينهما.

نعم ، يرد عليه ما عرفت من أنّ ظاهر أخبار الفراغ هو مفاد كان الناقصة ، أعني الشكّ في صحّة الموجود ، لا الشكّ في أصل وجود الصحيح.

وأمّا ما أصلح به الإشكال المذكور بقوله : ويندفع أصل الإشكال بأنّ الصحّة لا يراد منها ترتّب الأثر حتّى لا يكون جامع للوجود ولترتّب الأثر على الموجود ، بل المراد من الصحّة استجماع العمل للأجزاء وللشرائط الخ (1) ، وهذا هو الذي أجاب به شيخنا قدس سره بقوله : أمّا الإشكال الأوّل ، ففيه أنّ المراد من الشكّ في الشيء الخ (2) ، ولعلّه هو الظاهر ممّا أجاب به الأُستاذ العراقي قدس سره بقوله في مقالته : وأيضاً في التعبّد بتمامية الموجود أمكن إرادة الجامع بين التعبّد بالتمامية مقابل النقص الخ (3).

وعلى كلّ حال أنّك قد عرفت أنّ هذا مجرّد تغيير عبارة ، لأنّ التمامية بمعنى واجدية الأجزاء والشرائط ، وهي صفة زائدة على أصل الوجود ، فلابدّ من

ص: 288


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 296.
2- فوائد الأُصول 4 : 625.
3- مقالات الأُصول 2 : 449.

إرجاع الجامع إلى الشكّ في وجود المركّب التامّ ، وهذا الشكّ تارةً ينشأ عن الشكّ في أصل وجوده في قبال عدمه بالمرّة ، وأُخرى ينشأ عن الشكّ في تماميته بعد إحراز أصل وجوده في الجملة ، وحينئذ يتوجّه إشكال أنّ مفاد الأخبار هو مفاد كان الناقصة.

ثمّ قال في الرسالة : بل المراد من الصحّة استجماع العمل للأجزاء والشرائط ، فمرجع الشكّ في الصحّة إلى وجود العمل بتمام أجزائه وشرائطه ، فالشكّ دائماً متعلّق بوجود العمل ، ومصداقه تارةً هو الجزء وأُخرى هو الكلّ ، واللاّ بشرطية من هذه الحيثية مجدية ، فإنّ مرجعها إلى عدم دخل الجزئية والكلّية في التعبّد بوجود العمل المشكوك الخ (1).

قلت : أمّا الشكّ في الكلّ بمعنى الشكّ في أصل وجوده في قبال عدمه بالمرّة ، فهذا غير داخل في قاعدة الفراغ ولا في قاعدة التجاوز ، إلاّ إذا كان شرطاً لعمل آخر مثل الشكّ في وجود صلاة الظهر بعد الشروع في العصر أو بعد الفراغ من العصر ، وحينئذ لابدّ أن يكون نسبة الشكّ إلى الكلّ بمعنى الشكّ في تماميته ، وهو وإن أمكن إرجاعه إلى مفاد كان التامّة ، لكنّه خلاف ظاهر الأخبار الواردة في الفراغ ، فإنّ ظاهرها هو مفاد كان الناقصة ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ مفاد كان التامّة يشمل الشكّ في أصل وجود المركّب ، وهو خارج عن القاعدتين وعن الجامع بينهما ، وأمّا الشكّ في الجزء فلا يكون الشكّ فيه متمحّضاً للشكّ في أصل الوجود ، بل ربما كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في وجود شرط من شروط

ص: 289


1- رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : 296.

ذلك الجزء ، فنحتاج حينئذ إلى الجامع بين مفاد كان التامّة إذا كان الشكّ في أصل وجوده ومفاد كان الناقصة إذا كان الشكّ في تماميته بتمامية شرائطه.

والحاصل : أنّا نريد جامعاً بين الشكّ في أصل وجود الجزء وبين الشكّ في تمامية الكلّ وفي تمامية الجزء لو شككنا في تحقّق شرطه بعد إحرازنا وجوده ، وإرجاع الشكّ في التمامية إلى الشكّ في أصل الوجود مع جعل متعلّق الشكّ مطلق العمل جزءاً كان أو كلاً ، ليس هو إلاّما أفاده الشيخ قدس سره من كون الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، إذ ليس مراده من الصحيح هو ترتّب الأثر ولا ما هو منتزع من ترتّب الأثر ، بل ولا ما هو منتزع من التمامية ، بل ليس مراده به إلاّنفس التمامية ، فيكون ما أفاده بقوله : ويندفع أصل الإشكال الخ هو عين ما أفاده الشيخ قدس سره ، نعم إنّك قد عرفت أنّ الشيخ قدس سره لم يظهر منه في تلك العبارة أنّه بصدد الجامع بين القاعدتين ، وإنّما كان جلّ غرضه هو أنّ قاعدة التجاوز الجارية في الجزء شاملة لما إذا كان الشكّ في صحّته كما هي شاملة لما إذا كان الشكّ في أصل وجوده ، وهذا المقدار لا يرد عليه أنّه خلاف الظاهر من أخبار الفراغ. نعم أنّا قلنا إنّه لو تمّ هذا الجامع بين أصل الجزء وبين تماميته بتمامية شرائطه لكان جارياً في المركّب نفسه ، فيشمل موارد قاعدة الفراغ ، وحينئذ يتّجه عليه إشكال مخالفته لظاهر أخبار الفراغ.

وبالجملة : أنّ العمدة هو ملاحظة ما يستفاد من الأخبار ، والإنصاف أنّها ظاهرة في تعدّد القاعدتين ، وأنّ بعضها في مقام الشكّ في وجود الجزء بعد تجاوز محلّه ، وبعضها في مقام الشكّ في صحّة المركّب وتماميته بعد الفراغ عنه ، فلاحظ الأخبار وتأمّل.

ص: 290

قوله : فيكون المراد من الشيء في قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » مطلق الشيء مركّباً كان أو غير مركّب ، ولا يشمل جزء المركّب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنّما يشمله بعناية التعبّد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئاً بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتّى يقال إنّه لا يصحّ إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكلّ ، فيرتفع الإشكال الثاني الذي هو العمدة ... الخ (1).

لا يخفى أنّ قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » إنّما وقع في ذيل رواية ابن أبي يعفور المشتملة على قوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » ومن الواضح أنّ « الشيء » فيها لا يشمل الجزء ولو بعناية التعبّد بتنزيل الجزء منزلة الكل ، وإلاّ كان اللازم هو ثبوت قاعدة التجاوز في الوضوء وعدم اختصاصها بباب الصلاة ، وحينئذ فلابدّ من القول بأنّ التعبّد في التنزيل المذكور لا يجري في هذه الرواية ، بل بما عرفت من كون الضمير في قوله « وقد دخلت في غيره » راجعاً إلى الوضوء ، تكون هذه الجملة ممحضة لقاعدة الفراغ ، وأنّ الشكّ في شيء من الوضوء إذا كان واقعاً بعد الفراغ منه لم يكن ذلك الشكّ بشيء ، وإنّما يكون الشكّ مؤثّراً ومعتنى به إذا كان واقعاً في أثناء العمل ، لا ما إذا كان بعد الفراغ منه.

ومن ذلك يظهر لك أنّه بعد ما عرفت ممّا حرّرناه من تعدّد القاعدتين صغرى وكبرى ، لا يكون لنا ما يدلّ على قاعدة الشكّ في المحل في قبال قاعدة

ص: 291


1- فوائد الأُصول 4 : 625.

التجاوز إلاّ الركون إلى أصالة العدم ، لأنّ قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » بعد فرض رجوع [ الضمير ] في قوله « وقد دخلت في غيره » إلى الوضوء لا إلى الشيء ، لا يكون إلاّفي قبال قاعدة الفراغ ، ويكون محصّلها أنّك إن فرغت من العمل فلا تعتن بشكّك في تماميته ، وإنّما يعتنى بالشكّ في ذلك إذا كان واقعاً في أثناء العمل قبل الفراغ منه ، وحينئذ تكون قاعدة التجاوز حاكمة على هذه القاعدة ، لحكمها بالاتيان بالجزء المشكوك الموجب لرفع الشكّ في تمامية العمل الناشئ عن الشكّ في الاتيان بذلك الجزء ، كما هي حاكمة على قاعدة الفراغ وإن كانت موافقة لها ، لعين ما ذكرناه في وجه حكومتها على مقابلها ، ولا يبقى مورد لهذه القاعدة ولا لقاعدة الفراغ إلاّما لا تكون قاعدة التجاوز جارية فيه ، كما في الشرائط التي ليس لها محلّ مخصوص ، فهذا النحو من الشرائط لو وقع الشكّ فيه بعد الفراغ يكون مورداً لقاعدة الفراغ ، وإذا وقع الشكّ فيه في الأثناء يكون مورداً لقاعدة الشكّ في الأثناء إن قلنا بأنّها قاعدة مستقلّة غير أصالة العدم.

نعم ، لو قلنا إنّ الضمير في قوله عليه السلام « وقد دخلت في غيره » راجع إلى الشيء لا إلى الوضوء نفسه ، وحينئذ يكون مفاده جريان قاعدة التجاوز في الوضوء ، ويكون حينئذ قوله عليه السلام « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » مسوقاً لبيان قاعدة الشكّ في المحل في قبال قاعدة التجاوز ، غايته أنّ الصدر المتضمّن لقاعدة التجاوز في الوضوء يكون ساقطاً عن الحجّية بمعارضة رواية زرارة ، ويبقى الذيل بحاله من الدلالة على قاعدة الشكّ في المحل ، فإنّه حينئذ يتمّ لنا الدليل على قاعدة الشكّ في المحلّ في قبال قاعدة التجاوز.

لكن لا يخفى ما فيه من التكلّف ، مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه لأمكننا أن نقول إنّ قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » ليس مسوقاً

ص: 292

لتأسيس قاعدة جديدة ، وإنّما هو عبارة عن عدم إلغاء هذا الشكّ ، وأنّه يبقى على حاله مجرى لأصالة العدم غير محكوم لقاعدة التجاوز.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ لا يفرق فيها بين كون مورد قاعدة الفراغ هو الشكّ في تمامية المركّب الناشئ عن الشكّ في نقصان جزء منه أو شرط كما هو المختار ، أو أنّ موردها هو الشكّ في وجود المركّب الناشئ عن الشكّ في نقصان جزء أو شرط كما يظهر من شيخنا قدس سره ، لأنّ قاعدة التجاوز لمّا كانت متعرّضة لوجود ذلك المحتمل نقصانه من جزء أو شرط كانت مزيلة لكلا الشكّين.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله فيما تقدّم : يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه - إلى قوله في هذه العبارة - فيكون المراد من « الشيء » مطلق الشيء مركّباً كان أو غير مركّب الخ (1) ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنّه إن كان مراده بالتنزيل المذكور هو أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء منزلة الشكّ [ في الكلّ ] في الحكم عليه بعدم الالتفات إليه ليكون ذلك من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » (2) بعد الحكم على الصلاة بأنّها يجب فيها الطهارة من الحدث ، فقد عرفت أنّ هذا التنزيل إن كان مرجعه إلى جعل المماثل فهو اعتراف بالتعدّد ، وإن كان مرجعه إلى الحكومة وتوسعة الموضوع السابق عاد محذور عدم معقولية الجامع.

وقد تنبّه في التقريرات المطبوعة في صيدا لهذا الإشكال ، فإنّه قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ دخول أجزاء الصلاة في عموم قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في

ص: 293


1- فوائد الأُصول 4 : 624 - 625.
2- كما ورد في مستدرك الوسائل 9 : 410 / كتاب الحجّ ب 38 ح 2.

شيء لم تجزه » إلى أن قال : فلا يفرق في عدم إمكان فعلية الشمول لكلا الموردين بجعل واحد بين ما إذا كان دخول الأجزاء غير محتاج إلى ورود أدلّة خاصّة ، وبين ما إذا كان محتاجاً إليه. قلت : لو كان جعل الحكم في القاعدة من قبيل الجعل الثابت في موارد القضايا الخارجية التي يثبت الحكم فيها ابتداءً لنفس الأفراد الخارجية ، لكان للإشكال المزبور مجال واسع - ثمّ أطال الكلام في ذلك إلى أن قال - وبالجملة : إشكال الجمع بين اللحاظين إنّما يتوجّه إذا كان الجزء والمركّب ملحوظين في عرض واحد عند جعل القاعدة ، وهذا إنّما يكون مع كون القضية خارجية ، وأمّا إذا كانت حقيقية فالأفراد الخارجية لا تكون ملحوظة في جعل الحكم أصلاً ، فأين الجمع بين اللحاظين الخ (1).

ولا يخفى أنّه لا ريب في أنّ القضية القائلة « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » إنّما هي قضية حقيقية لا خارجية ، ولكن لابدّ في دخول الفرد في القضية الحقيقية ولو بعد التنزيل والعناية المذكورة من كون الموضوع في تلك القضية شاملاً لذلك الفرد ، وإلاّ لم يكن داخلاً فيه ، وحينئذ نقول : إنّ الجزء المشكوك بعد تنزيل الشارع له منزلة مجموع العمل وصيرورته فرداً تنزيلياً له إن كان مشمولاً لقوله « كلّ شيء شككت فيه بعد مضيّه » كان قوله « كلّ شيء » شاملاً للجزء كشموله للكل ، فيلزم اجتماع اللحاظين ، وإن لم يكن مشمولاً له كان خارجاً عن عموم قوله « كلّ شيء شككت فيه » فلا تكون قاعدة الفراغ هي التي تجري في الشكّ في الأجزاء.

وما أفاده في أثناء كلامه بقوله : فقوله عليه السلام « إنّما الشكّ ... » الخ يثبت حكماً كلّياً على عنوان الشيء من دون نظر إلى أفراده حتّى يكون لازم لحاظ اندراج

ص: 294


1- أجود التقريرات 4 : 217 - 219.

الجزء فيه في عرض اندراج الكل مستلزماً للجمع بين اللحاظين ، فالانطباق على الأفراد خارج عن جعل الحكم في القضية الكلّية الخ (1) ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ مقام تحقّق المصداق الخارجي وإن كان لا دخل له بجعل الحكم على العنوان الكلّي ، وأنّ ذلك التصرّف الشرعي في ناحية الجزء إنّما كان في مرتبة تحقيق المصداق ، إلاّ أنّ تحقّق المصداق لا ينفع ما لم يكن ذلك المصداق مشمولاً لذلك العنوان الكلّي ولو بعد ذلك التصرّف الشرعي الراجع إلى عالم المصداق ، وحينئذ يكون الإشكال في شمول ذلك العنوان لكلّ من الجزء والكل بحاله ، ولا دافع له إلاّما ذكرناه من أنّ تعدّد اللحاظ يوجب المباينة وتعدّد المصداق ، فراجعه.

وأمّا دعوى كون المنظور إليه في القضايا الحقيقية إنّما هو العنوان الكلّي من دون نظر إلى أفراده ، فذلك يخرجها عن القضية الحقيقية إلى القضية الطبيعية ، فإنّ القضية الحقيقية لابدّ فيها من النظر إلى الأفراد ، غايته أنّه نظر إجمالي بتوسّط العنوان الكلّي الشامل لها ، لا نظر تفصيلي إلى كلّ مصداق خارجي كما في القضية الخارجية ، فتأمّل.

قوله : أمّا الإشكال الأوّل ، ففيه : أنّ المراد من الشكّ في الشيء إنّما هو الشكّ في وجود الشيء بمفاد كان التامّة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضاً وجود الكل بمفاد كان التامّة ، غايته أنّ الشكّ في وجود الكل يكون مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ (2).

لا يخفى أنّ من جملة أدلّة القاعدة هو قوله عليه السلام في موثّقة سماعة (3) « كلّ ما

ص: 295


1- أجود التقريرات 4 : 218 وفيه : « في عرض اندراج المركّب فيه مستلزماً ... ».
2- فوائد الأُصول 4 : 625 - 626.
3- [ بل موثّقة محمّد بن مسلم ، كما تقدّم ذكر مصدرها في الصفحة : 275 برقم 1 ].

شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » والشكّ في وجود الجزء وإن صحّح نسبة الشكّ إلى وجود الكل باعتبار رجوعه إلى الشكّ في وجود المجموع المركّب ولو من جهة الشكّ في وجود بعض أجزائه ، إلاّ أنّ نسبة الشكّ حينئذ إلى وجود المجموع لا تخلو من مسامحة ونحو من العناية ، بخلاف نسبة الشكّ إلى نفس وجود الجزء فإنّها عارية من هذه العناية ، وحينئذ فلو أردنا الجمع في مفاد هذه الرواية الشريفة بين مفاد قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ، كان ذلك متوقّفاً على الجمع في نسبة الشكّ إلى الضمير في قوله « فيه » بين النسبة الحقيقية والنسبة المجازية ، فلا محيص حينئذ من أخذ الشكّ منسوباً إلى ذلك الشيء على نحو مفاد كان الناقصة بقرينة قوله « ممّا قد مضى » لما عرفت فيما تقدّم من أنّ ظاهر المضي هو مضي الشيء بنفسه ، فلابدّ أن يكون المراد من الشكّ فيه الشكّ فيه على نحو مفاد كان الناقصة ، ليكون محصّله هو الشكّ في صحّته أو تماميته بعد فرض أصل وجوده في الجملة.

وقد أبدل قدس سره عبارة الصحّة فيما نقله عن الشيخ قدس سره بالتمامية (1) ، والظاهر أنّه لا فرق بينهما ، فإنّ الصحّة هي التمامية ، ولا معنى للشكّ في المركّب التامّ إلاّ الشكّ في وجود الصحيح ، فإذا فرضنا أنّ الشكّ في وجود الصحيح عبارة عن الشكّ في صحّته ، كان الشكّ في وجود التامّ عبارة عن الشكّ في تماميته ، وهو محصّل مفاد كان الناقصة.

وبالجملة : أنّه لا يخفى على من راجع أخبار المسألة أنّه لم يتضمّن شيء منها تعلّق الشكّ بنفس المركّب على نحو مفاد كان التامّة ، فإنّ الشكّ في مثل قوله عليه السلام « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » وإن كان مربوطاً بذلك الماضي ، إلاّ أنّه

ص: 296


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى ما في تحريراته المخطوطة عن المحقّق النائيني قدس سره.

لم يكن وجود ذلك الماضي مشكوكاً ، وإنّما كان المشكوك وجوده أمراً متعلّقاً بذلك الماضي من جزئه أو شرطه أو مانعه ، ولو صحّ لنا أن نقول إنّ المشكوك في هذه الكبرى هو نفس الماضي على نحو مفاد كان التامّة لم يحسن نسبة المضي إليه والفراغ منه ، فإنّ مضيّه والفراغ منه لا يجتمع مع الشكّ في وجوده وإن كان منشأ الشكّ في وجوده هو الشكّ في وجود جزئه ، إذ لم يكن الغرض إجراء القاعدة في الشكّ السببي وإلاّ لرجعت إلى قاعدة التجاوز ، وإنّما الغرض هو إجراؤها في الشكّ المسبّبي ، ليكون عبارة عن قاعدة الفراغ ، فلابدّ أن يكون الملحوظ هو الشكّ المسبّبي أعني وجود الكل ، ومع فرض كون الملحوظ هو الشكّ في وجود الكل لا يحسن أن ننسب الفراغ أو المضيّ إلى نفس ذلك الكل.

واعلم أنّ الموجود في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه ) في بيان رجوع الشكّ في قاعدة التجاوز إلى مفاد كان التامّة ، هو أنّ الشكّ في صحّة العمل وفساده بعد الفراغ مسبّب عن الشكّ في تحقّق ما اعتبر فيه شرطاً أو جزءاً ، فما هو المشكوك بالأخرة هو الوجود بنحو مفاد كان التامّة ، من دون فرق بين موارد الشكّ في أثناء العمل وبين موارده بعد الفراغ ، الخ (1).

ولا يخفى أنّه لو تمّ ذلك لم يكن لنا إلاّقاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز غير الجارية فيما لو شكّ في صحّة العمل من ناحية أُخرى مثل الشكّ في زيادة ركوع أو عروض مبطل ونحو ذلك ، مضافاً إلى أنّ الشكّ في الصحّة وإن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء إلاّ أنّ الحكم عليه بعدم الاعتناء إنّما هو وارد على الشكّ في الصحّة لا على سببه ، فلا وجه لإرجاع الحكم إلى قاعدة التجاوز.

ص: 297


1- أجود التقريرات 4 : 215 - 216.

قوله : وأمّا الإشكال الثالث ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو بنينا على ما أُفيد من أنّ الشكّ في وجود الكل لا يتصوّر في أثناء العمل ، وأنّه إنّما يتصوّر بعد الفراغ من العمل ، لم يكن حينئذ قوله عليه السلام « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » نقيضاً لقاعدة الفراغ ، بل إنّما تكون نقيضاً لقاعدة التجاوز ، مع أنّ هذه الجملة إنّما وردت في ذيل قاعدة الفراغ بناءً على ما ذكروه من أنّ الضمير في قوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (2) راجع إلى الوضوء لا إلى الشيء.

وحينئذ نقول : إن بنينا على ما أفادوه من رجوع الضمير إلى الوضوء لابدّ أن نقول إنّ مجرى قاعدة الفراغ إنّما هو الشكّ في الجزء مثلاً بعد الفراغ من العمل ، فيكون مفهومها هو أنّه لو شكّ في الجزء وهو في أثناء العمل لم تجر قاعدة الفراغ وكان ذلك الشكّ معتنى به ، إمّا لأنّ قاعدة الشكّ في المحلّ قاعدة مستقلّة ، أو لأنّها عبارة عن الأخذ بالاستصحاب ، فلابدّ أن نقول إنّ هذا المفهوم إنّما هو مختصّ في مورده وهو الوضوء ، لأنّ قاعدة التجاوز لا تجري فيه ، أمّا في غير الوضوء فإنّ قاعدة التجاوز حاكمة على مقتضى هذا المفهوم ، أو لا أقل من أنّها مقدّمة عليه لو فرضنا المعارضة بينهما ، لأنّ أخبارها أقوى من هذا المفهوم سنداً ودلالة وشهرة ، أو نقول إنّ هذا المفهوم لمّا كان نقيضاً لقاعدة الفراغ يكون محصّله أنّك تعتني بهذا الشكّ إذا كنت في أثناء العمل المركّب ولم تفرغ منه ، وهذا شامل لما إذا كان قد تجاوز محلّ ذلك الجزء المشكوك إلى جزء آخر ، وما إذا كان الشكّ فيه وهو في محلّه ، وقاعدة التجاوز توجب اختصاص ذلك المفهوم بالقسم الثاني وهو

ص: 298


1- فوائد الأُصول 4 : 626.
2- وسائل الشيعة 1 : 469 - 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.

كون الشكّ في محلّ الجزء ، وتخرج منه ما إذا كان الشكّ في الجزء بعد تجاوزه إلى جزء آخر.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه تكلّف دعانا إليه ما أفاده من رجوع الضمير إلى لفظ الوضوء ، ولو قلنا بأنّ الضمير راجع إلى الشيء لم يكن قوله عليه السلام « إنّما الشكّ » إلاّ نقيضاً لقاعدة التجاوز ، ونحن نلتزم بمقتضى ذلك المفهوم ، إمّا من باب أنّه قاعدة مستقلّة نعبّر عنها بقاعدة الشكّ في المحل ، أو لأنّه راجع إلى مقتضى الاستصحاب مع عدم الحاكم عليه من قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ ، ولا يبقى إشكال في الرواية من هذه الجهة أعني جهة ذيلها.

نعم ، يبقى الإشكال في مفاد صدرها وهو جريان قاعدة التجاوز في الوضوء الذي لم يعملوا به ولو من جهة تقديم رواية زرارة عليه ، فأقصى ما في البين هو سقوط الصدر عن الحجّية ، وذلك لا ينافي العمل على مقتضى ذيلها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وأمّا الإشكال الثالث ، ففيه : أنّ التناقض في المدلول مبني على صدق الشكّ في الكل عند الشكّ في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محلّ الجزء ، وهو ممنوع ، فإنّ الشكّ في الكلّ إنّما يصدق بعد الفراغ عنه ... الخ (1).

لمّا أخذ الشكّ في الكل بمعنى الشكّ في وجوده بمفاد كان التامّة الناشئ عن الشكّ في وجود جزئه ، لم يكن هذا الشكّ صادقاً عنده إلاّبعد الفراغ عن الكلّ.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال عند الشكّ في الجزء السابق قبل الفراغ من العمل أنّه شكّ في وجوده من هذه الناحية أعني ناحية جزئه السابق المشكوك ، وإن كان

ص: 299


1- فوائد الأُصول 4 : 626.

بالقياس إلى ما بقي من الأجزاء لم يكن الكل موجوداً قطعاً ، ولو أُغضي النظر عن ذلك لقلنا إنّه يصدق عليه الشكّ في الكل بمفاد كان الناقصة ، سيّما إذا كان نقصان ذلك الجزء المشكوك موجباً لبطلان الصلاة ، إذ يصدق على من كان في حال السجود وقد شكّ في الركوع أنّه شاكّ في صحّة الصلاة ، أو في وجودها صحيحة ولو باعتبار ما مضى من أجزائها ، فيصدق عليه حينئذ أنّه قد شكّ في الصلاة مع كونه في أثنائها لم يجزها.

والأولى رفع التناقض بما تقدّم من حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الشكّ في المحل ، سواء كانت قاعدة التجاوز قاعدة مستقلّة أو كانت متّحدة مع قاعدة الفراغ بحسب الكبرى على ما تقدّم تفصيله.

وفي التقريرات المطبوعة في صيدا قرّب الحكومة بقوله : فإنّه بعد حكم الشارع في مقام الانطباق بأنّ هذا الشكّ شكّ في العمل بعد التجاوز ، كيف يمكن انطباق عكس القاعدة عليه المأخوذ في موضوعه عدم كون الشكّ بعد التجاوز الخ (1).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا التوجيه إنّما يتمّ لو أردنا أن نحكّم قاعدة الشكّ في المحل بالنسبة إلى نفس ذلك الجزء ، أمّا إذا كان المراد هو انطباق قاعدة الشكّ في المحل بالنسبة إلى المجموع المركّب فلا يتمّ التقريب المزبور ، لأنّ حكم الشارع على ذلك الجزء بأنّه قد مضى وأنّ الشكّ فيه كان بعد تجاوز المحل لا دخل له بتمام المركّب المفروض أنّه وقع الشكّ فيه مع عدم تجاوز محلّه ، فلابدّ في توجيه الحكومة من أن نقول إنّ الشكّ في تمامية ذلك المركّب لمّا كان ناشئاً

ص: 300


1- أجود التقريرات 4 : 219.

عن الشكّ في وجود ذلك الجزء ، كانت قاعدة التجاوز في الجزء حاكمة على الشكّ المزبور ، من دون فرق في ذلك بين القول بكونهما قاعدة واحدة أو قاعدتين.

قوله : وأمّا الإشكال الرابع ... الخ (1).

يريد أنّ التجاوز عن الكل بعد أن كان الشكّ فيه مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء يكون أيضاً تجاوزاً عن المحل بالنسبة إلى ذلك الجزء ، وإن كان هو تجاوزاً عن نفس المشكوك بالنسبة إلى الشكّ في الكل.

ولا يخفى أنّ ذلك خلف لما هو المفروض من أنّ المطلوب إنّما هو إجراء قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.

وحاصل الأمر أنّ الكبرى الكلّية إن طبّقناها على الشكّ السببي الذي هو الشكّ في وجود الجزء لم تكن إلاّعبارة عن قاعدة التجاوز ، وإن طبّقناها على الشكّ المسبّبي لم يكن ذلك من قبيل التجاوز عن محلّ المشكوك ، وإنّما يكون من قبيل التجاوز عن نفس المشكوك.

ومنه يظهر فيما أُفيد من الجواب عن الإشكال الخامس ، هذا. مضافاً إلى ما سيأتي في صدر البحث الثاني من محاولة إرجاع التجاوز إلى التجاوز عن نفس المشكوك في كلّ من القاعدتين ، خلافاً لما أفاده هنا من محاولة إرجاعه إلى التجاوز عن المحل في كلّ منهما.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ العمدة هو الإشكال الأوّل ، ولو تمّ الجواب عنه بأنّ الشكّ في الصحّة الذي هو مورد قاعدة الفراغ [ مرجعه ] إلى الشكّ في وجود

ص: 301


1- فوائد الأُصول 4 : 626.

الصحيح ، فيكون الجامع هو الشكّ في وجود الشيء ، الشامل للشكّ في وجود الجزء كالشكّ في أصل وجود الركوع بعد الدخول في السجود ، وللشكّ في وجود الركوع الصحيح ، وللشكّ في وجود المركّب الصحيح ، وهذا الجامع لو تمّ لم يتّجه الإشكال الرابع ، لأنّ الشكّ في هذه الموارد الثلاثة شكّ في وجود الشيء بعد تجاوز محلّه ، حتّى ما هو مورد قاعدة الفراغ أعني المورد الثالث من الموارد المذكورة ، لأنّ الشكّ في وجود الصحيح من الصلاة يكون أيضاً بعد تجاوز محلّها والدخول في شيء آخر ممّا يدخل فيه بعد الصلاة ، فلا يكون التجاوز في ذلك إلاّمن قبيل التجاوز عن المحل كما في موارد قاعدة التجاوز.

ومنه يظهر اندفاع الإشكال الخامس ، لأنّ مدخول لفظة « في » في قولنا : شككت في وجود الصلاة الصحيحة ، لا يكون ظرفاً للشكّ ، بل يكون هو متعلّق الشكّ كما في موارد قاعدة التجاوز ، وحينئذ فالعمدة هو صحّة الجامع المذكور ، وقد تقدّم منه (1) الإشكال عليه بأنّ الحكم بوجود الصحيح بمفاد كان التامّة لا ينفع في إثبات صحّة الموجود ، والمطلوب إنّما هو إثبات صحّة الموجود لا مجرّد الحكم بوجود الصحيح ، فلاحظ.

ويمكن أن يقال : إنّ الجامع هو الشكّ في وجود الشيء ، فإن كان هو الجزء فواضح ، وإن كان هو الكل فذلك من جهة أنّ الكل ينعدم بانعدام جزئه ، فعند الشكّ في وجود جزئه أو شرطه يكون نفس المركّب مشكوك الوجود ، وإذا حكمنا بوجود المركّب كان ذلك كافياً في الخروج عن العهدة من دون حاجة إلى إثبات صحّة الموجود أو تماميته.

ص: 302


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 621.

قوله : وأمّا الإشكال الرابع ففيه : أنّ المراد من التجاوز إنّما هو التجاوز عن محلّ المشكوك فيه مطلقاً ، فإنّ الشكّ في قاعدة الفراغ أيضاً يكون بعد التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه الذي كان سبباً للشكّ في وجود الكلّ (1).

لا يخفى أنّ الشكّ بعد الفراغ لو كان في الشرائط التي ليس لها محلّ مخصوص لم يصدق عليه أنّه بعد التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك ، فلابدّ أن يراد من التجاوز بالنسبة إلى هذه الصورة التجاوز عن نفس العمل بالفراغ منه. نعم بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط التي لها محلّ مخصوص لو كان الشكّ واقعاً بعد الفراغ ، لصدق عليه قاعدة التجاوز بالنسبة إلى محلّ المشكوك المقرّر له ، ولأجل ذلك قلنا إنّ قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ في مثل هذه الموارد.

ولا يخفى أنّه لو كان التجاوز في قاعدة الفراغ هو التجاوز عن محلّ الجزء الذي كان الشكّ فيه سبباً للشكّ في الكل ، لكان محصّل قوله عليه السلام « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » (2) هو أنّ المركّب الذي شككت فيه بعد تجاوز محلّ جزئه الذي كان الشكّ فيه سبباً للشكّ في ذلك المركّب. ولا يخفى ما فيه من التكلّف وعدم الالتئام.

والأولى أن يقال في توجيه الجامع : إنّ المراد هو التجاوز عن نفس الشيء ، وإنّما الاختلاف في المحقّق لذلك التجاوز ، ففي الجزء يكون التجاوز عنه بالدخول في غيره ، وفي الكل يكون التجاوز عنه بالفراغ منه.

وفيه تأمّل ، فإنّ التجاوز عن الجزء حينئذ يكون مجازياً ، وسيأتي الكلام

ص: 303


1- فوائد الأُصول 4 : 626.
2- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.

فيه إن شاء اللّه تعالى.

قوله : وأمّا الإشكال الخامس ففيه : أنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز والفراغ إنّما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفاً للشكّ ، لما عرفت من أنّ الشكّ في الكلّ دائماً يكون مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلّق الشكّ في القاعدتين (1).

لا يخفى أنّه لو كان متعلّق الشكّ في كلّ من القاعدتين هو وجود الجزء وكان مثل قوله عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » بمنزلة قولك « كلّ جزء شككت فيه » كانت القاعدة المذكورة هي عين قاعدة التجاوز من دون توقّف على إعمال عناية من الشارع في إلحاق الجزء بالكل ، بل بناءً على ذلك لا وجه لذلك الكل أصلاً ، ولكان الشكّ دائماً منسوباً إلى وجود الجزء ، وكانت القاعدة عامّة للطهارات وغيرها من العبادات والمعاملات.

ولكن مراد الأُستاذ قدس سره أمر آخر غير هذا الذي يتراءى من العبارة ، فإنّ مراده قدس سره هو أنّه بعد البناء على أنّ الشكّ في الكل راجع إلى مفاد كان التامّة يكون لفظ « في » في مثل قوله عليه السلام « كلّ ما شككت فيه » متعلّقاً للشكّ لا ظرفاً له ، ويكون الحاصل أنّ كلّ شيء سواء كان هو الجزء أو الكل قد شككت في وجوده بعد فرض مضيّه فامضه كما هو.

قوله : المبحث الثاني : التجاوز عن الجزء إنّما يكون بالتجاوز عن محلّه - إلى قوله - ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد ... الخ (2).

لا يخفى أنّا لو قلنا بتعدّد القاعدتين ، وأنّ لنا قاعدة هي قاعدة الفراغ

ص: 304


1- فوائد الأُصول 4 : 626.
2- فوائد الأُصول 4 : 627.

وأُخرى هي قاعدة التجاوز ، والأُولى هي المستفادة من الموثّقة « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه » (1) وممّا رواه محمّد بن مسلم « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك » الخ (2) و « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، قال عليه السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » (3) وقوله عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فأمض ولا تعد » (4) و « في الرجل يشكّ في الوضوء بعد ما فرغ من صلاته » (5) وعن بكير ابن أعين « الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ، قال عليه السلام : هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (6) إلى غير ذلك من الروايات ، ولا يخفى أنّها قد اكتفت بمجرّد الفراغ والمضي ، ولم يعتبر فيها الدخول في الغير فضلاً عن كون ذلك الغير مترتّباً شرعياً أو كون المحلّ محلاً شرعياً.

نعم ، بعض الروايات اعتبرت في خصوص باب الوضوء الدخول في الغير ، كما في رواية ابن أبي يعفور « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (7) بناءً على رجوع الضمير في « غيره » إلى الوضوء ، ورواية زرارة القائلة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه ، لا

ص: 305


1- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.
2- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6.
3- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 1.
4- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 2.
5- وسائل الشيعة 1 : 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 5 ( باختلاف يسير ).
6- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
7- وسائل الشيعة 1 : 469 - 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.

شيء عليك فيه » (1) وذلك خصوصية في الوضوء لعلّها ناشئة عمّا في رواية زرارة من قوله : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه ما دمت في حال الوضوء » الخ ، بحيث إنّه يكون حكمه أنّه شكّ في المحل ما دام قاعداً على الوضوء وكان في حالة وضوء ، وحينئذ يكون ذلك موجباً لتقييد قوله : « كلّ ما مضى من طهورك » وقوله : « يشكّ بعد ما يتوضّأ » بأنّه إذا صار في حال أُخرى ، أو لعلّ الخصوصية في الوضوء هو أنّه كثيراً ما يكمل الإنسان وضوءه في أثناء المشي ، فهو لا يصدق عليه الفراغ ، إذ لا يحرزه إلاّ إذا دخل في عمل مقابل للوضوء كالصلاة ونحوها ، هذا كلّه في قاعدة الفراغ.

وأمّا قاعدة التجاوز فالميزان فيها هو أخبارها أيضاً ، والعمدة هي قوله في رواية زرارة بعد التعداد « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » (2) وكذلك قوله عليه السلام في رواية إسماعيل بن جابر بعد التعداد : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (3) ونحوهما باقي الروايات ، وهي تعطي الدخول في الغير المترتّب شرعاً ، ولا تشمل الجزء الأخير فيما لو شكّ فيه بعد الدخول في فعل آخر إلاّبنحو العناية الزائدة على مورد الروايات ، بدعوى كون التعقيب مثلاً مترتّباً شرعاً ، أو بدعوى كون الفعل المنافي مترتّباً ولو عادياً.

ولو أمكن تسليم الدعوى الأُولى ، فلا أقل من منع الثانية ، وإلاّ لجرت قاعدة

ص: 306


1- وسائل الشيعة 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1.
2- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1 ( باختلاف يسير ).
3- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.

التجاوز في من شكّ في الاستنجاء بعد أن تلبّس بالخروج من المحلّ ، بناءً على أنّ مفادها هو أنّ كلّ فعل قد شكّ في وجوده بعد أن تلبّس بغيره الذي يكون واقعاً بعده عادةً مثلاً. نعم في مثل الشكّ في السلام بعد التلبّس بفعل مناف يمكن تطبيق قاعدة الفراغ عليه ، لصدق مضي الصلاة فيما لو دخل في التعقيب أو الفعل المنافي ، هذا كلّه على القول بتعدّد القاعدتين.

أمّا على القول بالوحدة كما هو مسلك شيخنا قدس سره فالمدار فيه على الجامع بين القاعدتين ، والذي يظهر من هذا التحرير (1) أنّ الجامع هو مفاد ذيل رواية زرارة وذيل رواية إسماعيل بن جابر ، وحينئذ لابدّ في القاعدتين من الدخول في الغير ويقع الكلام في أنّ ذلك الغير هو مطلق الغير ، أو هو المترتّب الشرعي ، أو مطلق المترتّب ولو كان عادياً.

لكن الذي ينبغي أن يقال : إنّ جميع ما تضمّنته تلك الروايات بعد ضمّ بعضها إلى بعض ، وبعد البناء على أنّها تومئ إلى مطلب واحد ، لا يكون الجامع إلاّ ما هو أخصّها مضموناً ، وذلك هو مفاد رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر الظاهرتين في اعتبار الدخول في الغير ، وكون ذلك الغير مترتّباً شرعاً على المشكوك ، سواء في ذلك قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، ومن الواضح أنّ قاعدة الفراغ لا يعتبر فيها الدخول في الغير المترتّب شرعاً ، وإلاّ لانسدّ باب قاعدة الفراغ في الصلاة ، فلابدّ حينئذ من أخذ الغير في قوله : « وقد دخلت في غيره » مطلق الغير وإن لم يكن مترتّباً شرعياً ، سواء كان هو في قاعدة التجاوز أو كان هو في قاعدة الفراغ ، هذا.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد سلّمه اللّه أنّه لا جامع بين القاعدتين ،

ص: 307


1- فوائد الأُصول 4 : 625.

وإنّما هو حكم واحد حاصله هو الفراغ من الشيء ، ولكن في خصوص موارد قاعدة التجاوز أعني الأجزاء حيث إنّها محتاجة إلى العناية والتنزيل منزلة نفس المركّب ، وكان ما يدلّ على تلك العناية حاكماً على ذلك الحكم الكبروي أعني عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد الفراغ منه ، وموجباً لتوسعة موضوعه إلى أجزاء ذلك المركّب بجعلها شيئاً ولو تنزيلاً ، وكان ذلك الدليل الحاكم قد اعتبر في تنزيل الشكّ في الجزء منزلة الشكّ في الشيء أن يكون الشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، انحصر مورد قاعدة التجاوز بتجاوز المحل والدخول في الغير مع بقاء الحكم الكبروي - أعني عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد مضيّه والفراغ منه - من هذه الجهة بحاله. ثمّ بعد أن كانت الكبرى واحدة فعلينا أن ننظر في دليلها ، وهو مختلف فبعضه يكتفي بالفراغ مثل الموثّقة ، وبعضه يعتبر الدخول في الغير والتجاوز عن المحلّ المقرّر مثل رواية زرارة « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » الخ ، وحينئذ لابدّ من الجمع ، ثمّ أخذ في كيفية الجمع وأخيراً أفاد أنّ المطلق منصرف إلى خصوص مورد القيد بل هو القدر المتيقّن ، فراجعه من ص 470 إلى ص 471 (1).

وحاصل ذلك أو توضيحه بضمّ ما حرّرته عن شيخنا قدس سره : هو أنّه ليس لنا إلاّ كبرى قاعدة الفراغ ، وموردها الأوّلي هو الشكّ في المركّب بعد مضيّه والفراغ عنه ، أمّا الأجزاء فيحتاج دخولها في هذه الكبرى إلى تحقّق تنزيلين ، الأوّل اعتبار كون الجزء شيئاً في حين أنّه في حدّ نفسه لم يكن شيئاً ، وإنّما هو مندكّ في الشيء الذي هو المركّب ، والثاني اعتبار تجاوز محلّه إلى الجزء الذي بعده مضيّاً لذلك الجزء وفراغاً عنه في حين أنّه لم يتحقّق مضيّه والفراغ منه ، لأنّه في حدّ

ص: 308


1- حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات 4 : 220 وما بعدها.

نفسه مشكوك الوجود ، وبعد هذين التنزيلين يدخل في الكبرى الكلّية القائلة إنّ كلّ شيء قد مضى وقد فرغت منه فلا تعتن بالشكّ فيه ، وحينئذ لابدّ من النظر إلى دليل نفس تلك الكبرى الكلّية ، وأنّه هل يكفي في الحكم الذي تضمّنته - الذي هو عدم الاعتناء بالشكّ فيه - مجرّد الفراغ منه ومضيّه أم لابدّ من الدخول في الغير ، وهل هو كلّ مغاير أو هو مختصّ بما يكون مترتّباً شرعاً على ذلك المشكوك ، هذه خلاصة ما أفاده قدس سره حسبما حرّرته عنه قدس سره.

ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك يكون الدليل المتكفّل للتنزيلين حاكماً على تلك الكبرى حكومة توجب توسعة موضوعها ، لكن بعد تمامية التنزيل لا يكون مفاد انطباق الكبرى عليه إلاّمجرّد عدم الاعتناء بالشكّ من دون تعرّض لإثبات وجود المشكوك ، فمن شكّ بعد فراغه من الصلاة في أنّه هل ركع فيها أم لا ، لا يكون حكمه إلاّمجرّد عدم الاعتناء بالشكّ ، لا أنّه يكون مجرى لكلّ من قاعدة التجاوز القائلة « بلى قد ركعت » وقاعدة الفراغ القائلة : لا تعتن بالشكّ بعد الفراغ ، لتكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، من جهة أنّ الشكّ في المركّب الذي هو موضوع قاعدة الفراغ مسبّب عن الشكّ في وجود الجزء الذي هو موضوع قاعدة التجاوز ، فإذا جرت في حقّه قاعدة التجاوز القائلة « قد ركعت » تكون حاكمة على قاعدة الفراغ حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وبالجملة : أنّه بناءً على هذا الوجه لا يكون لنا إلاّكبرى واحدة ، ولا وجه للقول حينئذ بأنّ مفاد قاعدة التجاوز هو الاثبات وإحراز وجود المشكوك أخذاً من قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » ومفاد قاعدة الفراغ هو مجرّد عدم الاعتناء بالشكّ ليكون الأوّل من الأُصول الاحرازية والثاني من الأُصول غير الاحرازية ، ويكون الأوّل حاكماً على الثاني عند اجتماعهما ، بل إنّ جميع هذه الكلمات ينسدّ التكلّم

ص: 309

بها علينا ، إذ لا يكون لنا إلاّحكم واحد على موضوع كلّي ، غايته أنّ موضوع ذلك الحكم يختلف ، فتارةً يكون شكّاً في الشيء بعد تجاوزه بالوجدان ، وأُخرى يكون شكّاً فيه بعد تجاوزه بالتعبّد ، ويكون الحكم على كلّ منهما واحداً ، سواء طرأ الشكّ بعد الفراغ من الصلاة ، أو طرأ الشكّ في أثناء الصلاة بأن شكّ في الركوع بعد ما سجد ، فإنّ الركوع حينئذ شيء قد تجاوزه ، غايته أنّه شيء تجاوزه بالتعبّد والتنزيل ، وحكمه هو عين ذلك الحكم الذي يتوجّه عندما يشكّ في الركوع بعد الفراغ من الصلاة ، أو عندما يشكّ في بعض شرائطها أو موانعها بعد الفراغ منها ، فلابدّ إمّا أن نقول إنّ مفاد ذلك الحكم هو إثبات الوجود والاحراز في المقامين كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى في التنبيه الآتي ، وإمّا أن نقول بأنّ مفاده في المقامين مجرّد عدم الالتفات ، ولا محصّل حينئذ للقول بأنّه لو شكّ في الركوع بعد الفراغ من الصلاة تكون قاعدة التجاوز في حقّه حاكمة على قاعدة الفراغ ، فلاحظ وتدبّر. كما أنّه بناءً على هذا التوجيه ينسدّ علينا التفرقة في كثير من الفروع الآتية في الأبحاث الآتية ، من أنّ الفرع الفلاني تجري فيه قاعدة الفراغ ولا تجري فيه قاعدة التجاوز ، أو أنّه تجري فيه قاعدة التجاوز ولا تجري فيه قاعدة الفراغ.

ثمّ إنّ تلك الكبرى الكلّية لو كان موضوعها مقيّداً بالدخول في الغير ، إمّا لأنّ بعض مواردها كان مقيّداً بذلك ، وإمّا لأجل أنّ ذلك هو القدر المتيقّن منها ، فلا إشكال حينئذ في عدم اعتبار كون ذلك الغير مترتّباً شرعاً وإلاّ لانسدّ باب قاعدة الفراغ بالمرّة ، لأنّ ما يكون بعد الفراغ من الصلاة لا يكون مترتّباً شرعاً عليها إلاّ إذا كان مثل التعقيب ، أمّا الدخول في الجزء اللاحق كما في رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر فليس ذلك قيداً في قاعدة الفراغ ، بل هو حسب

ص: 310

الفرض عبارة عن التنزيل الثاني الذي كان محقّقاً لموضوع قاعدة الفراغ في ناحية الشكّ في الجزء ، وحينئذ يكون الحاصل هو أنّه يشترط في انطباق قاعدة الفراغ على موارد الشكّ في الأجزاء الدخول في الجزء اللاحق ، وحاصله أنّه يعتبر في الموارد التنزيلية لقاعدة الفراغ الدخول في الجزء اللاحق الذي هو مترتّب شرعاً على الجزء السابق الذي هو متعلّق الشكّ ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّه يعتبر ذلك في مورد قاعدة التجاوز الذي هو مورد تنزيلي لقاعدة الفراغ ، وأين هذا من دعوى أنّه يعتبر ذلك في نفس قاعدة الفراغ التي هي الكبرى الكلّية الأصلية التي لم يلاحظ فيها التنزيل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الدخول في الغير الذي كان إحدى جهتي التنزيل ، والذي كان محقّقاً للمضي والفراغ تنزيلاً في الأجزاء ، هو غير الدخول في الغير الذي كان هو القدر المتيقّن من قاعدة الفراغ ، والذي هو قابل للتكلّم في اعتبار ترتّبه شرعاً هو الأوّل دون الثاني ، فلاحظ.

ثمّ إنّه لم يتّضح الوجه في عدم إمكان الجامع بين الأفراد التنزيلية والأفراد الأصلية ، فإنّ التنزيل في جعل الجزء شيئاً بعد أن لم يكن في حدّ نفسه شيئاً ، وفي جعل التجاوز عن محلّه بمنزلة التجاوز عن نفسه ليكون مصداقاً لما قد مضى وما قد فرغ منه ، إن كان موجباً للتصرّف في الموضوع بالتوسعة بحيث يكون شاملاً واقعاً لما هو مورد التنزيل ، كان ذلك عبارة أُخرى عن وجود الجامع بين الأفراد التنزيلية والأفراد الأصلية ، وكانت القضيتان قضية واحدة ، وفي الحقيقة لا تكون لنا إلاّقضية واحدة واقعية شاملة لكلا الفردين ، إذ ليس في لبّ الواقع منزّل ولا منزّل عليه ، وإنّما كان ذلك في مقام الاثبات.

وإن لم يكن ذلك التنزيل موجباً لتوسعة الموضوع ، بل كان أقصى ما فيه هو

ص: 311

جعل المماثل ، فيكون الحاصل أنّ هذا الفرد محكوم أيضاً بمثل ذلك الحكم ، لم تكن قضيتنا قضية واحدة ، بل كانت لنا قضيتان طوليتان في مقام الإثبات وقضيتان عرضيتان متباينتان في مقام الثبوت ، وعلى هذه الطريقة من التنزيل - أعني طريقة جعل المماثل - لا يكون لنا جامع بين القضيتين لا في مقام الثبوت ولا في مقام الاثبات ، وحينئذ يبطل القول بأنّ مرجعهما إلى قضية واحدة ، فلاحظ وتدبّر.

تنبيه وتتميم : قد مرّت الاشارة بناءً على تعدّد القاعدتين إلى دعوى كون قاعدة التجاوز من الأُصول الاحرازية ، لتعرّضها لإثبات ما شكّ في وجوده مثل قوله : « بلى قد ركعت » بخلاف قاعدة الفراغ فإنّها من الأُصول غير الاحرازية لعدم تعرّضها لإثبات ما شكّ فيه ، ولأجل ذلك تكون الأُولى حاكمة على الثانية عند الاجتماع ، ولكن هذا المقدار من الفرق قابل للانكار ، فإنّ أدلّة قاعدة التجاوز وإن اشتمل بعضها على الإثبات مثل قوله « بلى قد ركعت » إلاّ أنّ الغالب منها لا تعرّض فيه لأزيد من عدم الاعتناء بالشكّ ، مثل رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر.

كما أنّ روايات قاعدة الفراغ وإن كان الكثير منها خالياً من الاحراز ، إلاّ أنّ بعضها يفيد الاحراز مثل قوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ ». وعدم تعرّض الكثير من الروايات مثل قوله « فأمضه كما هو » ونحوه لذلك ، لا ينافي ما أفادته رواية « هو حين يتوضّأ » مضافاً إلى أنّ نفس موضوع الأصل وهو الشكّ في الشيء بعد مضيّه لا يخلو عن نظر إلى الواقع وجهة تعرّض له بإحراز ونحو أمارية ، وحينئذ فلا مانع من دعوى الاحرازية في كلا الأصلين ، وأمّا وجه الحكومة عند اجتماعهما فمنشؤه هو السببية والمسبّبية ، حيث إنّ الشكّ في مورد قاعدة الفراغ مسبّب عن الشكّ في مورد قاعدة التجاوز.

وفيه تأمّل ، فإنّه بعد كون الحكم في كلّ منهما إحرازياً لا وجه لحكومة

ص: 312

أحدهما على الآخر حتّى مع السببية والمسبّبية ، إلاّ إذا كان المسبّب من آثار السبب كما في استصحاب طهارة الماء مع استصحاب نجاسة ما غسل فيه ، وسيأتي التعرّض لذلك منه في المبحث الخامس (1).

قوله : بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه فأُضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ... الخ (2).

لا يخفى أنّ تنزيل التجاوز عن المحلّ منزلة التجاوز عن نفس الجزء وإن كان موجباً لكون نسبة التجاوز إلى نفس الجزء نسبة حقيقية ، لكنّه لا يخرجه عن كونه تجاوزاً مجازياً ، وهذا أحد موارد الترديد بين كون التنزيل في الفعل الذي هو التجاوز أو في متعلّق الفعل الذي هو المتجاوز عنه.

فالأولى أن يقال : إنّه نزّل محلّ الجزء منزلة الجزء نفسه ، وبعد هذا التنزيل نسب التجاوز إلى الجزء نسبة حقيقية ، وعلى كلّ حال فإنّ هذا البحث لفظي راجع إلى كيفية النسبة في قوله عليه السلام في رواية زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » (3) وفي قوله عليه السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » (4) وقد عرفت فيما قدّمناه أنّه لا دخل له بالجهة المطلوبة لشيخنا التي هي تطبيق كبرى قاعدة الفراغ المشتملة على ذكر المضي والفراغ ، فإنّ تلك الجهة اللفظية غير كافية في تطبيق تلك الكبرى بعد أن كان المضي والفراغ فيها فراغاً ومضيّاً وجدانياً ، الممتنع اجتماعه مع كون الجزء مشكوك

ص: 313


1- فوائد الأُصول 4 : 639 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 627.
3- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
4- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.

الوجود ، بل لابدّ في ذلك من دعوى كون الشارع قد نزّل التجاوز عن الجزء أو التجاوز عن محلّه منزلة الفراغ الذي لا يكون إلاّحكماً شرعياً لا أمراً لفظياً ، ومن الواضح أنّ هذا التنزيل لا دليل عليه ، إذ لم يطبّق على التجاوز عن الجزء أو عن محلّه أنّه مضي وفراغ ليكون مرجع هذا الحمل إلى أنّ الشارع نزّل التجاوز عن الجزء منزلة الفراغ عنه. ولو ثبت هذا التنزيل لكان كافياً في حكم الشارع بأنّ ذلك الجزء قد وجد ، لما عرفت من أنّ الفراغ عن الشيء يستدعي وجوده ، لعدم اجتماع الشكّ في وجود الشيء مع الحكم الشرعي بأنّه قد فرغ منه ، وحينئذ يكون هذا التنزيل مغنياً عن الحكم الذي تضمّنته كبرى القاعدة من عدم الاعتناء بالشكّ ، فتأمّل.

قوله : فإن كان ( يعني الجزء المشكوك ) ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحلّ العادي ، لأنّ التجاوز عمّا عدا الجزء الأخير إنّما يكون من التجاوز عن المحلّ الشرعي ، فإنّ المفروض اعتبار الترتيب بين الأجزاء ... الخ (1).

لكن ربما حصل الابتلاء بالمحلّ العادي في الأجزاء في الأثناء ، كما لو كان الشخص من عادته مثلاً في صلاته أنّه يقول سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر مثلاً سبع مرّات فيما بين السجدتين ، فرأى نفسه يقول ذلك وشكّ في السجدة الأُولى ، فبناءً على الاكتفاء بالمحلّ والغير العادي ينبغي القول بعدم التفاته لأنّه شكّ بعد تجاوز المحلّ العادي والدخول في المحلّ العادي ، وهكذا الحال فيما لو كان من عادته أنّه بعد فراغه من السجدة أو التشهّد وإرادته القيام أنّه ينقل ما

ص: 314


1- فوائد الأُصول 4 : 628.

جعله علامة لعدد الركعات من محلّ إلى محلّ آخر ، وقد نقل تلك العلامة وشكّ في السجود أو التشهّد. وهكذا الحال في الغير العقلي ، كحال نهوضه إلى القيام وقد شكّ فيما قبل ذلك من التشهّد أو السجود ، وهكذا في جميع ما هو من مقدّمات الأجزاء ، وسيأتي الكلام عن هذا الأخير في المبحث الرابع (1) إن شاء اللّه تعالى ، هذا.

ولكن الكلام في هذه الفروض إنّما ينفتح بناءً على كون قاعدة التجاوز قاعدة مستقلّة ، أمّا بناءً على مسلك شيخنا قدس سره من اندماجها في قاعدة الفراغ بعد تنزيل التجاوز من جزء إلى جزء آخر منزلة مضي ذلك الجزء والفراغ منه ، فينسدّ الكلام في هذه الفروض ، لأنّ هذا التنزيل إنّما ثبت من جزء إلى جزء ، دون ما لو كان الانتقال من محلّ الجزء إلى مثل هذه الأُمور العقلية والعادية ، إلاّ أن يدّعى تعميم التنزيل إلى ذلك وهو - أعني عموم التنزيل وشموله لمثله - ممنوع عند شيخنا قدس سره كما سيأتي منه في الأبحاث الآتية إن شاء اللّه.

قوله : إلاّ أنّه لمّا كان تحليلها التسليم كان محلّ التسليم قبل فعل المنافي ... الخ (2).

لا يخلو هذا التوجيه لكون المنافي غيراً شرعياً وأنّ المحلّ الشرعي للتسليم قبله عن تكلّف ، ولعمري إنّ الالتزام بالاكتفاء بالغير العادي في تحقّق التجاوز كما مرّ فيما تقدّم من أمثلة العاديات الواقعة في أثنائها ممّا لا يكون منافياً لها أهون منه ، وأهون من ذلك هو الاكتفاء بقاعدة الفراغ من الصلاة ، ودخول هذه الصلاة التي شكّ في تسليمها بعد أن دخل في منافيها تحت ما مضى في قوله « كلّ

ص: 315


1- فوائد الأُصول 4 : 633 وما بعدها. وراجع الصفحة 336 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- فوائد الأُصول 4 : 629.

ما شككت فيه ممّا قد مضى » لكن هذا الأخير مبني على تعدّد القاعدة ، وصدق مضي الصلاة على مثل ذلك كصدقه وجداناً على من شكّ في شيء منها بعد وقوع التسليم منه ، بناءً على ما تقدّم من كفاية الخروج من السلام وإن لم يدخل في فعل آخر مغاير لها.

لكن شيخنا قدس سره لمّا التزم بوحدة القاعدة وأنّه لابدّ في الغير الذي دخل فيه من كون ترتّبه شرعياً ، أراد إصلاح الفتوى بعدم الاعتناء بالشكّ في التسليم بعد الدخول في المنافي ، بأنّ هذا المنافي مترتّب شرعي على التسليم ، باعتبار كون محلّ التسليم شرعاً هو قبل فعل المنافي العمدي والسهوي ، ثمّ ألحق به المنافي العمدي فقط ، ثمّ تأمّل في هذا الالحاق ، نظراً إلى أنّ الكلام السهوي لمّا كان غير مبطل للصلاة لم يكن محلّ التسليم شرعاً مقيّداً بكونه قبل الكلام السهوي فلاحظ ، هذا.

ولكنّه قدس سره حسبما حرّرته عنه وإن وجّه الحكم بعد الاعتناء بهذا الوجه وهو كون المنافي داخلاً في الغير الشرعي ، نظراً إلى كون محلّ التسليم المخرج هو قبله فيكون من موارد قاعدة التجاوز ، بمعنى أنّه من الموارد التي تكون محتاجة لما مرّ ذكره من تنزيل التجاوز عن المحلّ الشرعي منزلة المضي بالنسبة إلى ذلك الجزء المشكوك ، إلاّ أنّه أخيراً وجّهه بما تقدّمت الاشارة إليه من صدق المضي والتجاوز بالنسبة إلى مجموع الصلاة ، وذلك عبارة أُخرى عن كون قاعدة الفراغ جارية في نفس المركب من دون توقّف على ذلك التنزيل الشرعي ، فكأنّه عدل عن التوجيه الأوّل كما صرّح به السيّد سلّمه اللّه فيما نقله عنه ، وذلك قوله : وهذا الوجه هو الذي بنينا عليه في الدورة السابقة ، ولكن الحق فساده ، فإنّ القدر المتيقّن من أدلّة قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتّب الذي هو من أجزاء

ص: 316

المركّب أو من ملحقاته ، وأمّا الدخول في مطلق الغير المترتّب فلا نظّن بشمول الغير المأخوذ في دليل الحاكم فضلاً عن القطع به الخ (1).

وحاصل ذلك هو عدم الاكتفاء بتجاوز المحلّ الشرعي والدخول في الغير الذي هو مترتّب على الجزء المشكوك وإن كان ترتّبه عليه شرعياً ، باعتبار أنّ التسليم محلّه شرعاً قبل ذلك المنافي ، إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يدخل ذلك الجزء المشكوك تحت قاعدة عدم الاعتناء إلاّ إذا دخل في جزء آخر هو مثله في كونه جزءاً صلاتياً مستقلاً بالتبويب ، لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من دليل التنزيل الحاكم على دليل عدم الاعتناء حكومة توجب توسعة موضوعه كما مرّت الاشارة إليه ، فراجع وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ من شكّ في التسليم وقد رأى نفسه في حالة أُخرى هي مبطلة للصلاة لم يعتن ، لصدق المضي على الصلاة المذكورة. وهكذا الحال في غير الصلاة ممّا له نحو وحدة مثل الوضوء ، فإنّه لو شكّ في جزء منه أو خصوص الجزء الأخير بعد أن رأى نفسه في حالة أُخرى موجبة لفوات الموالاة ولو بتحقّق الجفاف ، على وجه لو اعتنى بذلك الشكّ كان عليه إعادة الوضوء من رأس ، فإنّه لو كان كذلك لم يعتن ، لعين ما ذكرناه في الصلاة من صدق المضي ، أمّا لو لم يكن ما دخل فيه موجباً للاعادة لو كان قد علم بترك ذلك المشكوك ، ولكنّه مع ذلك يصدق عليه أنّه حالة أُخرى ، كما لو شكّ في مسح رجليه وقد قام عن وضوئه وانصرف ماشياً ، أو دخل في عمل آخر من أعماله ولكن لم يكن مفوّتاً للموالاة المعتبرة في الوضوء ، على وجه لو علم بأنّه لم يمسح رجليه لم يكن عليه إلاّ مسحهما دون الاعادة ، فهل يكون دخوله في ذلك كافياً في صدق المضي على

ص: 317


1- أجود التقريرات 4 : 223 - 224.

وضوئه ، أم لابدّ من كون ذلك العمل مترتّباً على الوضوء عادة أو شرعاً كما لو شرع في الصلاة.

ولعلّ مثل ذلك يتصوّر في الصلاة ، كما لو شكّ في التسليم بعد أن رأى نفسه بيده القرآن يقرأه ، ونحو ذلك من الدعاء ، على وجه لو علم أنّه لم يسلّم لم تبطل صلاته ولم يجب عليه إلاّ التسليم ، مع فرض كون قراءته القرآن غيراً بالنسبة إلى الصلاة ، وإن كان هو غير مبطل لها لو وقع في أثنائها ولو عمداً ، ومثله لو كان ذلك بعد نزع عمامته أو عباءته ، فهل يكون ذلك كافياً في صدق المضي على صلاته ، أو لابدّ في ذلك من جريان عادته بإيقاعه بعد الفراغ من صلاته كما يظهر من هذا التحرير بقوله : لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الأجزاء الخ (1) ، وكما يظهر من تحرير السيّد سلّمه اللّه وذلك قوله : ومن هذا البيان يظهر - إلى قوله - كالشكّ في غسل الجانب الأيسر من الغسل مع جريان العادة بغسل جميع الأجزاء مرّة واحدة - إلى قوله - فمن اغتسل في أوّل النهار وكان من عادته غسل تمام الأعضاء في مجلس واحد ، واتّفق أنّه شكّ في غسل الجانب الأيسر عند الغروب ، يصدق عليه أنّه شكّ في العمل بعد التجاوز عنه الخ (2) ، وليس مراده إجراء قاعدة التجاوز في نفس غسل الجانب الأيسر ، بل إنّ مراده إجراء قاعدة الفراغ في نفس المركّب الذي هو مجموع الغسل ، ويظهر أنّ ذلك هو مراده قدس سره من قوله : لا أقول - إلى قوله قدس سره - بل أقول الخ.

وحاصل ذلك : هو أنّ الدخول في الغير يكون في مقامين :

الأوّل : مقام نفس الأجزاء عند الشكّ في وجودها الذي أفاد قدس سره أنّه يحتاج

ص: 318


1- فوائد الأُصول 4 : 630.
2- أجود التقريرات 4 : 224 - 225.

إلى تنزيل الجزء منزلة الشيء ، وإلى تنزيل التجاوز عن محلّه والدخول في غيره منزلة مضيّه والفراغ منه ، والغير في هذه المرحلة لا يكون إلاّجزءاً شرعياً ، لما حقّقه من أنّ ذلك هو محطّ التنزيل الثاني ، ولا يكفي فيه العادي بل ولا العقلي.

المقام الثاني لمقام الدخول في الغير : هو الغير المقابل للمركّب الذي فرغ منه وكان الشكّ في غير جزئه الأخير ، وسيأتي منه قدس سره في البحث الثالث أنّه لابدّ من اعتبار الدخول في الغير لأنّه هو القدر المتيقّن وإن كانت بعض الروايات مطلقة ، ولا يعتبر في هذا الغير الترتّب الشرعي ولا الترتّب العادي ، بل يكفي مجرّد المغايرة وأنّه فعل آخر.

وهناك مقام ثالث للغير الذي دخل فيه بعد المركّب ، وذلك عند الشكّ في الجزء الأخير ، فإنّا سواء قلنا إنّه يعتبر الدخول في الغير في موارد قاعدة الفراغ أو لم نقل ، نقول إنّ المركّب الذي حصل الشكّ في جزئه الأخير لا يصدق عليه أنّه قد مضى إلاّبعد الدخول في الغير ، إذ لو لم يدخل في شيء أصلاً كان من قبيل الشكّ في المحلّ بالنسبة إلى ذلك الجزء الأخير ، ولا يخرج عن كونه شكّاً في المحل إلاّبأن يدخل في شيء آخر ، وحينئذ نقول : إنّ ذلك الشيء إن كان مبطلاً لذلك المركّب كفى في صدق المضي على ذلك المركّب ، وإن لم يكن في البين ترتّب شرعي ولا عادي ، أمّا إذا كان ذلك الغير غير مبطل للمركّب فلا يكفي مجرّد الدخول فيه في صدق المضي على ذلك المركّب إلاّ إذا كان ترتّب ذلك الغير على ذلك المركّب وبالأحرى كان ترتّبه على الجزء الأخير ترتّباً عادياً ، وهذا الترتّب المدّعى هنا اعتباره بالنسبة إلى ذلك الغير لا دخل له بالغير المذكور في المقام الأوّل ولا الغير المذكور في المقام الثاني ، فإنّ الغير في المقام الأوّل خاصّ بالترتّب الشرعي بل بخصوص الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، والغير في المقام

ص: 319

الثاني يشمل كلّ غير وإن لم يكن مترتّباً على ذلك المركّب لا شرعياً ولا عادياً ، والغير في المقام الثالث لابدّ أن يكون مترتّباً على المركّب ترتّباً عادياً ، ونعني بالمقام الثالث هو ما لا يكون مبطلاً ، وحينئذ يكون المعتبر في الغير في موارد الشكّ في الجزء الأخير أحد الأمرين : من كونه مبطلاً للمركّب وإن لم يكن مترتّباً ترتّباً شرعياً ولا عادياً ، أو كونه مترتّباً عليه ترتّباً عادياً فيما لا يكون مبطلاً ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الغير الذي هو مبطل للمركّب يكون ترتّبه على المركّب ترتّباً عادياً وإن لم يكن شرعياً ، وحينئذ يكون الضابط في المقام الثالث هو الترتّب العادي ، سواء كان ذلك الغير المترتّب العادي مبطلاً أو كان غير مبطل فتأمّل.

ويمكن التفرقة بين الوضوء والصلاة وبين الغسل الترتيبي ممّا ليس له وحدة عرفية أو شرعية ، ففي الأوّل يكفي الترتّب العادي في صدق المضي على المركّب ، بخلاف الثاني. نعم لو دخل في الصلاة ونحوها ممّا يشترط فيه الفراغ من الغسل لا يبعد صدق المضي على الغسل ، لا من جهة إعمال قاعدة التجاوز في نفس الغسل أو الصلاة ، بل من جهة صدق المضي على الغسل الذي شرع فيما يترتّب عليه ، على وجه يكون الغسل مصداقاً لقاعدة الفراغ ، وأمّا في غير الدخول في الصلاة فصدق المضي على الغسل مشكل حتّى فيما اعتاد الاتيان بكلّ جزء من الغسل عقيب سابقه ، فإنّ ذلك الاعتياد لا يوجب الوحدة في المجموع المحقّقة للمضي والفراغ ، ألا ترى أنّ الحائض لو كان من عادتها أنّها تقضي ما فاتها من الصوم متوالياً ، لو شرعت في القضاء ثمّ بعد مدّة شكّت في إكمال ما كان عليها بعد فصل أيّام أفطرت فيها ، فهل ترى أن تجري قاعدة الفراغ في قضائها.

ومع ذلك كلّه يمكن أن يقال : إنّ المغتسل إذا كانت عادته جارية على

ص: 320

الموالاة في الغسل وقد رأى نفسه في حال أُخرى غير الغسل وقد شكّ في الجزء الأخير ، يكون مصداقاً للمضي والفراغ عرفاً ، بمعنى أنّ أهل العرف يعدّون من كانت عادته على الموالاة في أجزاء الغسل أنّه قد فرغ وأنّ غسله قد مضى عند اشتغاله في أفعال أُخرى ، ولا يُنقض ذلك بما تقدّم من مسألة قضاء الحائض ونحوها ، لأنّ أيّام القضاء ليست أجزاء لمجموع ما يجب قضاؤه من الأيّام بحيث يكون لها أوّل وآخر كي يصدق عليها ولو بالنظر العرفي أنّها عمل واحد ينسب إلى مجموعه الفراغ والمضي ، إذ لا ترتيب في أيّام القضاء ولا ارتباطية ، وهذا بخلاف أجزاء الغسل فإنّها وإن لم يعتبر فيها الموالاة ، إلاّ أنّ اعتبار الترتيب فيها والارتباطية بين أجزائه مع جريان العادة على الموالاة كافٍ في صدق المضي والفراغ عرفاً.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا التفصيل الذي شرحناه في موارد الشكّ في الجزء الأخير لا يختصّ بمسلك شيخنا قدس سره من وحدة القاعدتين ، بل هو جارٍ حتّى بناءً على تعدّد القاعدتين ، فإنّ إعمال قاعدة الفراغ في موارد الشكّ في الجزء الأخير لا يكون إلاّبعد صدق المضي على المركّب ، وهو متوقّف في المقام - أعني مقام الشكّ في الجزء الأخير - على كون ما دخل فيه مترتّباً على المركّب ترتّباً عادياً ، سواء كان من مبطلات ذلك المركّب أو لم يكن ، وسواء كان ذلك المركّب من قبيل الصلاة أو كان غيرها من الواجبات المركّبة تركّباً ارتباطياً وكان الترتيب معتبراً بين أجزائها ، سواء اعتبر فيها الموالاة كالوضوء أو لم يعتبر فيها ذلك كالغسل الترتيبي ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بتوقّف جريان قاعدة الفراغ فيما إذا لم يكن المشكوك هو الجزء الأخير (1) أو نقول بعدم توقّف جريانها عند

ص: 321


1- كذا وردت العبارة في الأصل فلاحظ.

الشكّ في غير الجزء الأخير على ذلك ، بل يكفي فيه مجرّد الخروج من الجزء الأخير مع فرض حصول المعظم من الأجزاء ، فلاحظ.

هذا (1) ما كنّا حرّرناه سابقاً. ولكن لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المقام على طائفتين :

الأُولى : ما يكون ظاهره قاعدة التجاوز ، مثل رواية إسماعيل بن جابر وهي قوله عليه السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2) ومثل رواية زرارة وهي قوله : « رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الاقامة ، قال عليه السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في الأذان والاقامة وقد كبّر ، قال عليه السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال عليه السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في القراءة وقد ركع ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في الركوع وقد سجد ، قال عليه السلام : يمضي في صلاته. ثمّ قال يازرارة : إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » (3).

وهناك أخبار أُخر في التجاوز لا شاهد لنا فيها ، مثل رواية حمّاد قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، قال عليه السلام : قد ركعت فأمضه » (4) ونحوها غيرها.

ص: 322


1- هذه المطالب إلى آخر الحاشية وجدناها هنا محرّرة في أوراق منفصلة عن الأصل.
2- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.
3- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1 وفيه : « فشكّك ليس بشيء ».
4- وسائل الشيعة 6 : 317 / أبواب الركوع ب 13 ح 2.

والعمدة هو رواية إسماعيل ورواية زرارة ، لما اشتملت عليه من الكلّية التي يمكن ادّعاء كونها لكلا القاعدتين ، بدعوى أنّ مثل قوله : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » شامل للشكّ في الجزء عند الدخول فيما بعده ، وللشكّ في الكلّ عند المجاوزة عنه بالفراغ منه. ولكن ذلك قابل للمنع ، فإنّ هذه الكلّية في هاتين الروايتين ظاهرة في أنّ هناك أشياء مترتّبة بعضها سابق على بعض ، وأنّه لو شكّ في السابق عند دخوله في اللاحق كان حكمه المضي وعدم الاعتناء.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الشكّ في السابق عند دخوله في اللاحق كما يكون في أصل وجود السابق ، فكذلك يكون في تماميته لو كان الجزء السابق مشتملاً على شرط ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بالشكّ في المركّب وكان قد فرغ منه ، إذ ليس في البين سابق ولاحق كي يكون الشكّ في السابق غير معتنى به إذا كان عند الدخول في اللاحق ، بل ليس في البين إلاّعبارة عن مجموعة أجزاء قد فرغ منها وحصل له الشكّ في بعض أجزائها أو في بعض شرائطها ، وأين هذا من الأُمور المترتّبة ، فسابق ولاحق وقد حصل الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق كما هو ظاهر قوله عليه السلام في رواية إسماعيل : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض » وفي رواية زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » فإنّ الشكّ في المركّب بعد الفراغ منه غير مشمول لذلك ، إذ لم يكن الفراغ دخولاً في الغير ، ولو كان بعد فراغه من الصلاة قد دخل في عمل من الأعمال مثل التعقيب أو مثل الأعمال الأُخر مثل القيام عن محلّه والاشتغال بأعماله ، فإنّ ذلك العمل لا يتوقّف عليه قاعدة الفراغ. ولو قلنا بالتوقّف كما التزم به شيخنا قدس سره في الأمر الثالث كان خارجاً أيضاً عن مفاد تلك

ص: 323

الكلّية في الروايتين ، فإنّ ظاهر تلك الكلّية هو الترتّب بين ما خرج منه وما دخل فيه على وجه يكون المجموع ملحوظاً شيئاً واحداً ، وذلك بقرينة الموارد التي فصّلت في الروايتين وطبّقت عليها الكلّية المزبورة.

وبالجملة : أنّ المنظور إليه في هذه الجملة هو أجزاء المركّب بالخروج من جزء والدخول فيما بعده ، ولا دخل لذلك بنفس المركّب ، وإن كان قد خرج عنه ودخل في غيره ، إلاّ إذا كان بينهما ترتّب مثل الشكّ في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر بالنظر إلى كون الظهر شرطاً في صحّة العصر ، أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان من مجرّد الفراغ عن الصلاة والدخول في فعل آخر ، فهو خارج عن مفاد هذه الكلّية ولو بقرينة تطبيقها على ما تقدّمها من التفاصيل. بل قلنا إنّ ورود هذه الكلّية في هذا النحو من التفاصيل من أجزاء الصلاة يكون قرينة على انحصار الكلّية بها ، فلا تشمل مثل أجزاء الغسل والوضوء والتيمّم لو شكّ في جزء منها بعد الدخول في الجزء الآخر.

ومع قطع النظر عمّا ذكرناه من دعوى كون الجملة ظاهرة في ترتّب اللاحق على السابق ، وأنّه يكون الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق ، وذلك لا يتأتّى في قاعدة الفراغ ، فيكون المتعيّن هو كونها مسوقة لقاعدة التجاوز ، نقول : إنّ الجمع بينهما يتوقّف على أخذ المجاوزة بالمعنى الأعمّ من المجاوزة عن محلّ الشيء كما هو مورد قاعدة التجاوز ، والمجاوزة عن نفس الشيء كما هو مورد قاعدة الفراغ ، ولا جامع بينهما ، إذ نسبة المجاوزة إلى نفس الشيء مع أنّها ليست مجاوزة عن نفسه وإنّما هي مجاوزة عن محلّه لا تكون إلاّنسبة تجوزية ، بخلاف المجاوزة في مورد قاعدة الفراغ فإنّ نسبتها إلى نفس الشيء نسبة حقيقية لا تحتاج إلى التجوّز والعناية ، سواء جعلنا ذلك من قبيل المجاز في الاسناد أعني

ص: 324

المجاز العقلي ، أو جعلناه من قبيل الكناية ، أو جعلناه من قبيل الاستعارة على مذهب السكاكي ، أو جعلناه من المجاز في الكلمة. وهكذا الحال في التعبير عن ذلك بالخروج بقوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « إذا خرجت من شيء » فيراد به الأعمّ من الخروج عن المحلّ والخروج عن نفس الشيء بالفراغ منه ، هذا.

مضافاً إلى أنّه لا جامع بين الشيء الذي هو نفس المركّب كما هو مورد قاعدة الفراغ ، والشيء الذي هو جزء ذلك المركّب كما هو مورد قاعدة التجاوز ، فإنّ الجزء في ضمن المركّب لا يكون شيئاً إلاّبالعناية والتنزيل الذي أفاده شيخنا قدس سره بقوله : وأمّا الشكّ في الجزء فهو إنّما يكون صغرى لها بعناية التعبّد والتنزيل ، يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكلّ في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب ، وصار من مصاديق الشيء تعبّداً وتنزيلاً الخ (1) ، وحينئذ فيكون ذلك من قبيل الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى التنزيلي.

ثمّ بعد هذا كلّه يكون اللازم في قاعدة الفراغ هو الدخول في الغير ، ولا يكفي مجرّد الفراغ عن الصلاة ، وقد التزم به شيخنا قدس سره في الأمر الثالث فراجع.

ويمكن القول بأنّه لو التزم في قاعدة الفراغ باعتبار الدخول في الغير يندفع عنه إشكال الجمع بين كون التجاوز تجاوزاً عن محلّ الشيء وكونه تجاوزاً عن نفسه ، لأنّ الجميع حينئذ يكون تجاوزاً عن المحل ، كما أنّه يمكن القول باندفاع الإشكال السابق ، وهو كون الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق ، لحصول ذلك في قاعدة الفراغ أيضاً ، بل لا يكون لنا حينئذ إلاّقاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز. نعم يبقى الإشكال الأخير وهو إشكال الجمع في الشيء بين التنزيلي

ص: 325


1- فوائد الأُصول 4 : 624 - 625.

والحقيقي.

ولو قرّبنا المطلب بأنّ المجعول أوّلاً هو مفاد قاعدة الفراغ ، وإجراؤها في الأجزاء يكون تنزيلاً ، ويعتبر في هذا التنزيل الدخول في الغير ، لم يكن ذلك عبارة عن رجوع الكبريين إلى كبرى واحدة ، بل هما كبريان إحداهما أصلية والأُخرى تنزيلية ، نظير ما يدلّ على وجوب الوضوء في الصلاة ، وقوله عليه السلام « الطواف بالبيت صلاة » فلاحظ وتدبّر ، هذا كلّه في الأخبار المسوقة لقاعدة التجاوز.

وأمّا الأخبار المسوقة لقاعدة الفراغ فهي طوائف :

الأُولى : ما كان مختصّاً بالفراغ وكان مورده الصلاة ، وذلك مثل صحيحة ابن مسلم « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فأمض ولا تعد » (1) وكذلك الأُخرى عنه « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، فقال عليه السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » (2) وهذان وأمثالهما لا يدخلان فيما نحن فيه من احتمال العموم لقاعدة التجاوز والفراغ.

الطائفة الثانية : ما يحتمل فيه التعميم المذكور ، وهما الموثّقة القائلة : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » (3) ، ورواية ابن بكير عن محمّد بن مسلم قال : « سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك » (4)

ص: 326


1- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 2.
2- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 1.
3- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.
4- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6.

وينبغي التكلّم في مفاد الأُولى - ومنه يعلم الكلام في مفاد الثانية - فنقول بعونه تعالى : إنّ لفظة « من » في قوله « ممّا قد مضى » إن كانت تبعيضية كان محصّلها أنّك إن شككت في بعض المركّب الذي قد مضى فأمضه كما هو ، وحينئذ تكون مختصّة بقاعدة الفراغ ، ولا دخل لها بقاعدة التجاوز.

وإن كانت لفظة « من » المذكورة بيانية ، كان محصّلها أنّ ما شككت فيه وهو قد مضى فأمضه كما هو ، وحينئذ نقول : إنّها لو كانت منطبقة على مفاد قاعدة التجاوز التي يكون موردها هو الشكّ في الجزء بعد الدخول فيما بعده من الأجزاء ، لابدّ أن نقول إنّ لفظة « فيه » للتعدية ، وأنّ المشكوك هو وجوده ، فلابدّ أن يكون معنى مضيّه مضي محلّه ، نظير نسبة التجاوز عن المحلّ إلى نفس الشيء الذي هو ذو المحل لو صحّت هذه النسبة في المضي كما صحّحناها في التجاوز.

وبعد ذلك لو أردنا إثبات شمولها لمورد قاعدة الفراغ ، بأن ندّعي أنّ الشكّ في وجود الشيء بمفاد كان التامّة يشمل الشكّ في وجوده بتمامه ، بحيث يكون وجود بعض أجزائه مع فقد الباقي من قبيل عدم الوجود لذلك المركّب ، لابدّ أن يكون المضي فيه عبارة عن الفراغ منه ، ولازم ذلك هو كون المراد بالمضي الأعمّ من مضي محلّ الشيء بالنظر إلى مورد قاعدة التجاوز ، ومن مضي نفسه بالنظر إلى مورد قاعدة الفراغ ، والأوّل تجوّز وبالعناية ، والثاني حقيقي ، ولا جامع بينهما.

وإن أخذنا لفظة « فيه » للظرفية ليكون شمول الجملة للمركّب باعتبار كون الشكّ واقعاً فيه ، كانت الشقّة بين مورد قاعدة الفراغ ومورد قاعدة التجاوز أبعد ، إذ لا جامع أيضاً بين كون لفظة « في » للتعدية وبين كونها للظرفية ، مضافاً إلى ما عرفت من كون المضي في الأوّل بمعنى مضي المحل وفي الثاني بمعنى مضيّه في نفسه.

ص: 327

وحينئذ لابدّ أن نقول : إنّها مسوقة لأحد الموردين ، والظاهر أنّها مسوقة للثاني ، إذ لا أقل من استظهار ذلك من لفظ المضي الظاهر في مضيّه في نفسه ، لا أنّه كناية عن مضي محلّه ، ولابدّ حينئذ من أخذ لفظة « فيه » للظرفية ، إذ أخذها للتعدية مع كون الشكّ في الوجود لا يناسب التعبير بلفظ المضي ، فإنّه يعطي الوجود ، ويكون محصّل ذلك أنّك إن شككت في الصلاة بعد مضيّها والفراغ عنها ، بأن كان مشكوكك هو بعض أجزائها أو بعض شرائطها ، فأمضها كما هي ، ولا تعتن بالشكّ المزبور ، ويكون مفادها هو قاعدة الفراغ ليس إلاّ.

ومنه يظهر الحال في قوله عليه السلام في الرواية الثانية : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك » بعد جعل قوله « فذكرته تذكّراً » كناية عن الشكّ ، وجعل لفظة « من » في قوله « من صلاتك وطهورك » بيانية ، فإنّه حينئذ يكون حاصلها هو أنّ الماضي من صلاتك وطهورك إذا شككت فيه يكون الحكم فيه هو إمضاءه كما هو وعدم وجوب إعادته ، وحينئذ يكون حالها حال الموثّقة ، ويجري فيها ما جرى فيه ممّا تقدّم ممّا تكون النتيجة فيه هي الاختصاص بقاعدة الفراغ.

وأمّا الطائفة الثالثة الواردة في الوضوء مثل رواية أبان ورواية ابن أبي يعفور ورواية زرارة (1) في موارد الحكم في هذه الروايات بعدم الاعتناء فجميعها ناظر إلى قاعدة الفراغ ، ولا دخل لشيء من ذلك بقاعدة التجاوز ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ بعد البناء على كون كلّ منهما قاعدة مستقلّة ، فالظاهر أنّ بينهما عموماً من وجه ، فتنفرد قاعدة التجاوز فيما لو كان الشكّ في الأثناء ، كما تنفرد قاعدة الفراغ فيما لو كان الشكّ بعد الفراغ ، وكان الشكّ في الصحّة من ناحية الشرط

ص: 328


1- وقد تقدّمت في الصفحة : 268.

الذي لا محلّ له مخصوص ممّا لا تجري فيه قاعدة التجاوز ، ويجتمعان في الشكّ بعد الفراغ فيما لو كان المشكوك جزءاً ونحوه ممّا هو مورد لقاعدة التجاوز أيضاً ، فربما يقال بحكومة الأُولى على الثانية لكونها أمارة أو لكونها إحرازية ، بخلاف الثانية ، ولكن لو ادّعي التساوي بينهما من ناحية الأمارية أو من ناحية الاحرازية أو من ناحية عدم الاحرازية ، فلا مانع من الالتزام باجتماعهما ، لتوافقهما في اقتضاء الصحّة ، وهذا كلّه إجمال من مفصّلات يأتي كلّ منها في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

قوله : نعم ، لو كان الشكّ في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنّه يجب المسح مع عدم تخلّل الفصل الطويل ، لأنّه يكون من ( قبيل ) الشكّ في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ... الخ (1).

ينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يدخل في فعل آخر مترتّب عادة على تمامية الوضوء ، كالصلاة أو القيام من مقام الوضوء ونحو ذلك ممّا جرت عادته أو عادة النوع بأنّه لا يفعله ما دام لم يكمل وضوءه ، لما تقدّم من كفاية الترتّب العادي في صدق المضي ، ولا يعتبر فيه كونه مبطلاً من تفويت الموالاة ونحوها ، بل يمكن أن يقال باستفادة ذلك من رواية زرارة أعني قوله عليه السلام : « فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب عليك وضوءه ، لا شيء عليك فيه » (2) فإنّ عدم الاعتناء بالشكّ فيها غير مقيّد بفوات الموالاة ، وهو شامل لمورد الشكّ في المسح وقوله عليه السلام : « ممّا أوجب عليك وضوءه » لا ينافي شموله للمسح ، لأنّ المراد به هو ما في قبال ما تضمّنه الصدر من موارد الشكّ في المحل بقوله : « فأعد عليهما

ص: 329


1- فوائد الأُصول 4 : 630 لا يخفى خلوّ النسخة الجديدة والقديمة من كلمة ( قبيل ).
2- وسائل الشيعة 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1.

وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه تعالى ما دمت في حال الوضوء » الخ.

قوله : المبحث الثالث : لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز - إلى قوله - وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال ... الخ (1).

بناءً على تعدّد القاعدة لا إشكال في المقابلة المذكورة ، أمّا بناءً على وحدة الكبرى ، فلابدّ من أن يكون المراد من قاعدة التجاوز هو نفس الشكّ في الجزء بعد التجاوز عن محلّه إلى جزء آخر ، فهذا الشكّ لا يدخل في الكبريات التي تضمّنتها هذه الأخبار ، سواء كان هو ما في ذيل رواية زرارة وذيل رواية إسماعيل ابن جابر ، أو كان هو ما تضمّنته الروايات الأُخر ، إلاّبعد العناية والتنزيل من الجهتين ، أعني تنزيل الجزء منزلة الشيء ، وتنزيل التجاوز عن محلّه إلى الجزء الآخر منزلة مضيّه والفراغ منه ، وبعد هذا التنزيل يدخل في موضوع تلك الكبريات ، وهذه العملية أعني عملية التنزيل المذكور الموجبة لدخول الجزء المشكوك في موضوع تلك الكبريات يصطلح عليها شيخنا قدس سره بقاعدة التجاوز ، وإلاّ فبناءً على مسلكه قدس سره ليس لنا في تلك الكبريات ما هو كبرى قاعدة التجاوز.

وحيث قد اتّضح لك مراده من قاعدة التجاوز تعرف صحّة ما أفاده من أنّه لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز (2) ، إذ لا إشكال في

ص: 330


1- فوائد الأُصول 4 : 631.
2- ومن ذلك أيضاً يتّضح لك صحّة ما أفاده في آخر المبحث من أنّ اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنّما هو بالتعبّد الناتج من حمل المطلق على المقيّد ، بخلافه في قاعدة التجاوز فإنّ اعتباره فيها إنّما هو لأجل أنّه يتوقّف صدق التجاوز عليه لا لمحض التعبّد [ منه قدس سره ].

انحصار هذا التنزيل بما إذا كان الشكّ في الجزء بعد الدخول في غيره ، بل يتّضح أنّه لابدّ في كون ذلك الغير مترتّباً شرعياً وكونه جزءاً من ذلك المركّب ، بل كونه من الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتّب عليه ... الخ (1).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه : أنّه إنّما يحتاج في مورد قاعدة التجاوز إلى الدخول في أمر مرتّب على المشكوك ليكون ذلك محقّقاً للتجاوز والفراغ عن المشكوك بمعنى الفراغ عن محلّه ، فإنّ مرجع القاعدتين وإن كان إلى كبرى واحدة بناءً على المختار ، إلاّ أنّ الاختلاف بينهما إنّما يكون في المورد والصغرى ، فإنّ نفس تلك الكبرى إنّما تتحقّق صغراها في الأجزاء إذا دخل فيما هو مرتّب على المشكوك ، وفي جريانها في المركّب لا يحتاج تحقّق صغراها إلى كون ما دخل فيه أمراً مرتّباً شرعاً على المشكوك ، بل يكفي فيه كون المكلّف في حال مغايرة لفعل الصلاة ولو كان سكوتاً أو تعقيباً أو فعلاً منافياً لها ، بل يكفي مجرّد الفراغ وكونه في حال غير حال الصلاة.

قوله : وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال ... الخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ هذا النزاع لا أثر له في باب الصلاة ، إذا لم يكن الشكّ

ص: 331


1- فوائد الأُصول 4 : 631.
2- فوائد الأُصول 4 : 631.

في الجزء الأخير الذي هو السلام ، وذلك لأنّه إذا فرغ من السلام وبعد فراغه منه شكّ في تمامية صلاته ، فهو بمجرّد فراغه من التسليم يكون في حال أُخرى غير الصلاة ، كما أفاده قدس سره فيما نقلناه عنه في الحاشية السابقة ، وذلك بالنظر إلى ما ورد من أنّ تحليلها التسليم ، فإنّه يدلّ على أنّ الحال بعده هي حال تحليل وهي مغايرة لحال الصلاة ، فلو قلنا بعدم كفاية مجرّد الفراغ في قاعدة الفراغ ، وأنّه لابدّ من الدخول في حال أُخرى ، كما تنطق به رواية زرارة الواردة في باب الوضوء « فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها » (1) لكان ذلك - أعني الدخول في حال أُخرى - متحقّقاً في الصلاة بمجرّد الفراغ من التسليم ، ولأنّه صار في حال التحليل ، ولأجل ذلك قالوا - كما في العروة (2) : - إنّه لو نسي السجدة الأخيرة حتّى تشهد وسلّم قضاها وسجد للسهو ، ولو كان ذلك هو السجدتين بطلت صلاته ، فإنّ ذلك مؤيّد لما ذكرناه من أنّ الفراغ من السلام بمجرّده هو دخول في حال أُخرى وخروج عن الصلاة ، هذا كلّه في باب الصلاة عند كون المشكوك هو غير الجزء الأخير.

أمّا لو كان المشكوك هو نفس الجزء الأخير ، فالدخول بالغير وإن كان معتبراً فيه إلاّ أنّ ذلك من جهة أُخرى غير هذا المتنازع فيه ، وتلك الجهة الأُخرى هي ما تقدّم (3) في المقام الثالث من مقامات الغير أعني ما يكون محقّقاً للمضي عرفاً ، ولا فرق من هذه الجهة بين الصلاة والوضوء ونحوه من المركّبات على ما مرّ تفصيل الكلام فيه.

ص: 332


1- تقدّمت في الصفحة : 329.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 219.
3- في الصفحة : 319.

نعم ، يبقى الكلام في غير الصلاة من الوضوء ونحوه ممّا كان المشكوك فيه هو غير الجزء الأخير ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه (1) فيما حرّرناه على العروة في مباحث الخلل في الوضوء في ملاك قاعدة الفراغ ، وأنّ المدار في ذلك على عنوان الفراغ أو على عنوان المضي ، فيظهر الأثر في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ فيما إذا فرغ من الوضوء ولم يشرع في عمل آخر.

ولا يخفى أنّ جميع ما قدّمنا نقله من روايات قاعدة الفراغ هو خال عن اعتبار الدخول في الغير ، عدا موثّقة ابن أبي يعفور المشتملة على قوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » (2) بناءً على رجوع الضمير في « غيره » إلى الوضوء لا إلى الشيء ، وعدا رواية زرارة الواردة في باب الوضوء المشتملة على قوله عليه السلام : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما - إلى قوله عليه السلام - ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها » الخ (3).

فأمّا رواية زرارة فيمكن أن يقال عليها : إنّ المراد من قوله « إذا كنت قاعداً على وضوئك » هو كونه مشغولاً به ، كما يفيده قوله عليه السلام « ما دمت في حال الوضوء » ، وحينئذ فيكون المراد من قوله « فإذا قمت عن الوضوء » هو مجرّد الفراغ ، وكذلك قوله « وقد صرت في حال أُخرى » ليس من قبيل القيد الزائد ، بل هو عطف تفسير على قوله « قمت ... وفرغت » أو أنّه قيد توضيحي ، لأنّ المراد

ص: 333


1- مخطوط لم يطبع بعدُ.
2- وسائل الشيعة 1 : 469 - 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 2.
3- وسائل الشيعة 1 : 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1.

من الحال الأُخرى هي المقابلة لحال الوضوء التي هي عبارة عن حال الاشتغال بالوضوء ، فلابدّ أن يكون المراد به هي حال غير حال الوضوء لا حال وفعل آخر غير الوضوء ، وليس قوله « في الصلاة أو في غيرها » قرينة على أنّ المقصود بها حال وجودية ، فإنّه لمجرّد التعميم لحال غير الوضوء ، وأنّه أيّ حال كان ممّا هو غير حال الوضوء.

ويؤيّد هذا المعنى : أنّه لو كان المراد بقوله عليه السلام « ما دمت في حال الوضوء » هو حال الاشتغال به ، وكان قوله عليه السلام « في حال أُخرى » هي عبارة عن حال وجودية في قبال الوضوء ، لكان عليه السلام قد أهمل صورة ثالثة وهي حال الفراغ من الوضوء من دون اشتغال بعمل آخر ، وهو بعيد من ظاهر الرواية أعني الحصر والاحاطة بشقوق المسألة ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ هذه الحالة هي حال وضوء بمعنى كونه قاعداً على وضوئه لم يقم منه وإن فرغ من جزئه الأخير.

ومنه يظهر الحال في الموثّقة أعني موثّقة ابن أبي يعفور ، فإنّها بقرينة مقابلتها بقوله « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » يعطي أنّ المراد بقوله « وقد دخلت في غيره » هو مجرّد الفراغ من الوضوء وعدم كونه فيه ولم يجزه ، سيّما بملاحظة صدرها الذي ذكره في السرائر (1) أعني قوله : « وإذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثمّ استيقنت بعد ( يعني بعد ذلك ) أنّك بدأت بها غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك ورجليك ، وإذا شككت » الخ ، فإنّ هذا اليقين لمّا كان بعد الفراغ من مسح الرجلين ، كان الشكّ المذكور بقوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء » هو الشكّ الواقع بعد مسح الرجلين ، وقد جعلت قوله عليه السلام « وقد دخلت في غيره » كناية عن ذلك ، وإلاّ لكانت صورة الفراغ عن

ص: 334


1- السرائر 3 : 554.

الوضوء مع عدم اشتغاله بفعل آخر خارجة عن كلا الشقّين ، وحيث إنّه لا ينبغي الريب في عدم دخولها في قوله « إنّما الشكّ » الخ ، فلا ينبغي [ الشكّ ] في دخولها في الشقّ الأوّل الذي حكم فيه بعدم الاعتناء.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير كون الضمير في « غيره » راجعاً إلى الوضوء ، أمّا لو قلنا بكونه راجعاً إلى الشيء لكانت أجنبية عن قاعدة الفراغ ، بل كانت عبارة عن قاعدة التجاوز ، غايته أنّها ساقطة لمعارضتها برواية زرارة من عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء ، وهي مقدّمة عليها لكونها صحيحة سنداً معمول بها عند الأصحاب ، فتأمّل.

ثمّ لو سلّم ظهور الروايتين في التقييد بالدخول بالغير ، فلا يمكن الخروج به عن مورده ، لأنّه لم يكن قيداً لكلّي قاعدة الفراغ ، وإنّما هو قيد لعدم الاعتناء بالشكّ بالوضوء بعد الدخول في غيره ، فيكون ذلك مختصّاً بباب الوضوء ، فلا وجه للتعدّي منه به إلى غيره من الأفعال المركّبة ، إذ لا بُعد في اختصاص الوضوء بذلك من بين سائر الأفعال ، كما قد اختصّ بعدم جريان قاعدة التجاوز فيه على ما حرّرناه من شمولها لكلّ فعل مركّب إلاّ الوضوء ، لكن هذا كلّه مبني على تعدّد القاعدتين ، وأنّ مثل رواية زرارة القائلة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » وكذلك رواية إسماعيل بن جابر القائلة : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » (1) مختصّة بقاعدة التجاوز.

أمّا بناءً على مسلك شيخنا قدس سره من الوحدة ، وأنّ مثل هذه الكبرى المشتمل عليها الروايتان المذكورتان هي الكبرى الوحيدة المعبّر عنها بقاعدة الفراغ ، فلا يكون ما دلّ على اعتبار الدخول بالغير منحصراً بموثّقة ابن أبي يعفور ورواية

ص: 335


1- تقدّمتا في الصفحة : 306.

زرارة الواردة في باب الوضوء كي يمكن الجواب عنهما بما ذكرناه من المناقشة في الدلالة أوّلاً ، وبكون ذلك مختصّاً بباب الوضوء ثانياً ، وذلك لعدم تأتّي هذين الجوابين في الروايتين السابقتين - أعني رواية إسماعيل بن جابر ورواية زرارة - في باب الصلاة.

نعم ، قد عرفت أنّ ذلك أعني اعتبار الدخول في الغير لا أثر له في موارد الشكّ في غير الجزء الأخير ، لأنّ ما بعد السلام غيرٌ لكونه حالة تحليل ، وإنّما يظهر أثره في غيرها من المركّبات مثل الوضوء والتيمّم والغسل ولو الارتماسي منه إذا شكّ في صحّته بعد الفراغ منه ولو من جهة الحاجب ونحوه ، فلا محيص من الالتزام باعتبار الدخول في الغير في أمثال هذه المركّبات بناءً على ما أُفيد من كون الكبرى الكلّية التي اشتملت عليها رواية زرارة وإسماعيل بن جابر هي الكبرى الوحيدة ، وأنّها شاملة لكلّ مركّب ، وأنّ ورودها في مورد الصلاة لا يوجب اختصاصها بها.

والذي تلخّص : هو أنّه لو كان الشكّ في غير الجزء الأخير كان جريان القاعدة متوقّفاً على الدخول في الغير سواء في ذلك الصلاة وغيرها ، غير أنّه في الصلاة يكون حاصلاً قهراً بمجرّد السلام ، بخلاف باقي المركّبات ، أمّا لو كان الشكّ في الجزء الأخير فلابدّ من الدخول في الغير أيضاً ، ولابدّ أن يكون مترتّباً عادياً.

قوله : المبحث الرابع : قد اختلفت كلمات الأعلام في الغير الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل إنّه مطلق الغير سواء كان من الأجزاء أو من المقدّمات كالهوي والنهوض ... الخ (1).

قد عرفت أنّه بناءً على تعدّد القاعدتين يكون لنا عمومان ، أحدهما عموم

ص: 336


1- فوائد الأُصول 4 : 633.

الذيل في روايتي زرارة وإسماعيل بن جابر ، وهذا هو العموم المعبّر عنه بقاعدة التجاوز ، والعموم الآخر العموم الذي اشتملت عليه رواية ابن بكير القائلة : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » (1) ونحو ذلك من العمومات ، وهذا هو العموم المعبّر عنه بقاعدة الفراغ ، وحينئذ يتّجه النزاع في هذا البحث في أنّ هذا العموم الراجع إلى قاعدة التجاوز هل يشمل المقدّمات أو هل يشمل أجزاء الأجزاء ، وأيضاً تتّجه الكلمات الموجودة من أنّ المقدّمة الفلانية مثل النهوض إلى القيام داخلة في العموم لكن خروجها منه كان من قبيل التخصيص ، إلى غير ذلك من الكلمات الراجعة إلى دعوى تخصيص العام وخروج مثل النهوض إلى القيام عنه ، وإلى دعوى كون العام شاملاً لجزء الجزء أو للمقدّمة الفلانية ، فاخراجها منه محتاج إلى الدليل.

أمّا بناءً على وحدة القاعدة ، وأنّه ليس لنا إلاّعموم واحد هو مفاد قاعدة الفراغ حتّى العموم الذي اشتمل عليه ذيل الروايتين أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر ، فإنّه لا يكون مفاده حينئذ إلاّمفاد قاعدة الفراغ المنطبق على مفاد رواية ابن بكير ونحوها ، وأنّ محصّل قاعدة التجاوز هو ذلك التنزيل المدّعى كما شرحناه ، الذي لا يكون إلاّمن قبيل التصرّف في المورد وإدخاله بعد ذلك التصرّف في موضوع تلك العمومات المذكورة.

وحينئذ لا محصّل لدعوى تخصيص في ذلك العموم بالنسبة إلى ما هو محلّ النزاع من المقدّمات وأجزاء الأجزاء ، كما لا محصّل للتمسّك بذلك العموم في شموله للمقدّمة الفلانية أو للجزء الفلاني أو لجزء الجزء ، إلى غير ذلك.

وبالجملة : أنّ ذلك العموم بالنسبة إلى الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدّمات

ص: 337


1- تقدّمت في الصفحة : 326.

الأجزاء محترم المقام غير قابل للتخصيص بشيء من ذلك ، نعم هو قابل للتوسعة بالتنزيل المشار إليه ، كما أنّ ذلك العموم لا يكون نافعاً ومرجعاً عند الشكّ في أنّ الجزء الفلاني أو المقدّمة الفلانية مشمولة له أو غير مشمولة ، بل يكون المرجع هو ما يستفاد من دليل التنزيل.

ولا يخفى أنّ دليل التنزيل منحصر بما يستفاد من التعداد الذي اشتملت عليه الروايتان - أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر - ونحوهما ممّا ورد فيه الحكم في موارد خاصّة ، وحينئذ تتّضح شبهة عدم ثبوت التنزيل فيما هو خارج عن ذلك التعداد ، ولابدّ في التوسعة من دعوى عدم الفرق ونحو ذلك من الدعاوي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : التزم صاحب هذا القول بأنّ رواية إسماعيل تكون مخصّصة لعموم « الغير » ، فيكون النهوض إلى القيام خارجاً عن العموم ... الخ (1).

رواية إسماعيل بن جابر هي المشتملة على قوله عليه السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2). ولابدّ أن يكون الوجه في تخصيصها لعموم « الغير » فيها باخراج النهوض إلى القيام - وكذا الهوي إلى السجود - عن عموم « الغير » هو ما أُفيد أوّلاً من مفهوم التحديد ، بمعنى أنّ تحديده عليه السلام لعدم الالتفات إلى الشكّ في السجود بالدخول في القيام مع كون النهوض سابقاً عليه يعطي أنّ الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام لابدّ من الاعتناء به ، وذلك كلّه إنّما هو باقتضاء التحديد الدالّ على أنّ أقرب حالة يكون

ص: 338


1- فوائد الأُصول 4 : 634.
2- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.

الشكّ المذكور ملغى فيها هي حال الدخول في القيام.

فالأولى في الجواب عن هذه الطريقة أوّلاً : بأنّ مفهوم التحديد في رواية إسماعيل بن جابر إنّما يدلّ على إخراج صورة الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام وصورة الشكّ في الركوع في حال الهوي إلى السجود ، وحينئذ تبقى صورة الشكّ في القراءة في حال الهوي إلى الركوع وصورة الشكّ في التشهّد في حال النهوض داخلين تحت عموم « الغير ».

وثانياً : بما أفاده قدس سره في باب حجّية خبر الواحد في الايراد على جواب الشيخ (1) عن الإشكال على آية النبأ بمعارضة مفهوم الشرط فيها لعموم التعليل المستفاد من قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً ) الخ (2) ، فإنّ الشيخ قدس سره أجاب عن هذا الإشكال بأنّ المفهوم أخصّ من العموم المذكور ، وقد أورد شيخنا قدس سره على هذا الجواب بأنّ المفهوم الخاصّ إنّما يقدّم على العام فيما لو كانا منفصلين ، أمّا مع الاتّصال فلا يقدم المفهوم الخاصّ ، بل يقدّم عموم العام ، ويكون موجباً لسقوط المفهوم ، فراجع ذلك المبحث فيما حرّرناه في ص 98 (3) ، وفيما حرّره في هذه التقريرات ص 60 (4) وفيما حرّره في التقريرات المطبوعة في صيدا ص 105 (5) وراجع ما علّقناه على مبحث تخصيص العام بمفهوم المخالفة (6) ، فإنّا شرحنا

ص: 339


1- فرائد الأُصول 1 : 259.
2- الحجرات 49 : 6.
3- مخطوط لم يطبع بعد.
4- فوائد الأُصول 3 : 170 وما بعدها.
5- أجود التقريرات 3 : 183.
6- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 337 - 338.

هناك أنّ بين المفهوم والعموم عموماً من وجه ، وأنّ المتعيّن هو تقدّم المفهوم ، إذ لو تقدّم العام لزم كون الشرط مردّداً بين الأقل والأكثر ، إلاّ أن يكون ذكر الدخول بالقيام لكونه الغالب.

وأمّا ما أُفيد من الجواب هنا بقوله : ولمّا كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط ، بداهة أنّ قوله عليه السلام في الرواية « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه » إنّما سيق لبيان الكبرى الكلّية ، فلابدّ وأن يكون قوله عليه السلام « شكّ في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ، ولا يمكن إخراجه عنها الخ (1).

ففيه ما لا يخفى ، لأنّ من يدّعي التخصيص المزبور لم يدّع خروج الشكّ في السجود بعد القيام عن عموم « الغير » ، ليتوجّه عليه أنّ صغرى المورد لا يمكن إخراجه عن الكبرى ، وإنّما يدّعي خروج مفهوم التحديد في هذه الصغرى عن الكبرى المذكورة ، وذلك المفهوم هو الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، ومن الواضح أنّ هذا المورد لم يكن في كلام الإمام عليه السلام ما يدلّ على أنّه عليه السلام أخذه مورداً لتلك الكبرى ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وحينئذ لابدّ من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الأجزاء المستقلّة بالتبويب الخ. وقوله : وبعد ما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الأجزاء المستقلّة كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود ، فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدّمات وأجزاء الأجزاء ، فإنّ الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ... الخ (2).

لا يخفى أنّ هذا العموم الذي اشتمل عليه ذيل الروايتين لو كان هو عبارة

ص: 340


1- فوائد الأُصول 4 : 634.
2- فوائد الأُصول 4 : 635.

عن الكبرى الكلّية التي هي - على ما أفاده قدس سره - القدر الجامع بين صغريات التجاوز وصغريات الفراغ ، لكان محطّ التنزيل هو خصوص الأمثلة المذكورة في الروايتين ، بمعنى أنّ الشارع لاحظ هذه الأجزاء المذكورة في الروايتين بلحاظ حال قبل التركيب ، وبعد ذلك طبّق عليها الحكم الكبروي الذي هو القدر الجامع ، فلابدّ حينئذ من أن يكون مقصوراً على الأجزاء المذكورة ، دون غيرها من باقي أجزاء الصلاة كالنيّة والتشهّد وجميع الأجزاء المستحبّة لعدم ثبوت هذا التنزيل فيها ، ولابدّ في إجراء قاعدة التجاوز في مثل التشهّد والأجزاء المستحبّة من دعوى أنّه يستفاد من الأمثلة المذكورة المنصوص عليها في الروايات أنّ جميع ما كان من هذا القبيل ممّا يكون مستقلاً بالتسمية المعبّر عنه بالاستقلال بالتبويب ، يكون مورداً لذلك التنزيل الشرعي واجباً كان أو مستحبّاً ، وهذه الدعوى تحتاج إلى دليل قوي.

والحاصل : أنّ هذه الكلّية إن كانت هي كبرى الفراغ وقد طبّقها الشارع على الأجزاء المذكورة بعد تحقّق العناية والتعبّد بلحاظ حال الأجزاء فيما قبل التركيب إلى آخر ما أفاده قدس سره ، كان اللازم هو حصر ذلك في خصوص ما نصّ عليه من الأجزاء دون غيره ممّا لم ينصّ عليه ، إلاّبدعوى أنّ اللحاظ والتعبّد إنّما أجري في جميع ما كان من هذا القبيل من الأجزاء لا في خصوص ما هو مذكور في الروايتين ولكن ذلك محتاج إلى الدليل القوي ، هذا لو كانت الكلّية المذكورة في الروايتين هي كبرى قاعدة الفراغ.

وأمّا إذا لم تكن كذلك ، بل كانت كلّية في خصوص قاعدة التجاوز ، بمعنى أنّ الشيء في قوله عليه السلام : « وكلّ شيء شكّ فيه » الخ ، عبارة عن الجزء وقد لوحظ مستقلاً في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، ويكون المفيد

ص: 341

للتنزيل ولحاظ الأجزاء مستقلاً هو هذا العموم ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في عموم « الشيء » لكلّ جزء ، وعموم « الغير » لكلّ فعل وإن لم يكن جزءاً ، ولا يكون في قبال هذا العموم إلاّ أنّه بقرينة ذكر الأمثلة المذكورة يكون مورد ذلك العموم منحصراً بما كان من هذا القبيل ، وقد حقّق في محلّه أنّ المورد لا يخصّص الوارد.

ولا يخفى [ أنّ ] الركون في دعوى التخصيص إلى هذه الجهة أضعف من الركون في ذلك إلى دعوى دلالة مفهوم التحديد على خروج النهوض إلى القيام ، والظاهر من التحرير هو هذا الوجه الثاني ، إذ لو كان محطّ ذلك التعبّد والتنزيل هو نفس الأمثلة المذكورة في الروايتين ، لكانت الكلّية المذكورة في الذيل ممحضة لقاعدة الفراغ ، وحينئذ تكون هذه الكلّية المذكورة فيهما من جملة ما يدلّ على أنّه يعتبر في قاعدة الفراغ الدخول في الغير ، ولا يختصّ الدليل المذكور بخصوص موثّقة ابن أبي يعفور كما يظهر منه في البحث السابق ، هذا.

مضافاً إلى ما يشعر به قوله في هذا البحث : فإنّ الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل الخ (1) ، فإنّ هذه الجملة مشعرة بأنّ العموم في الذيل إنّما هو لخصوص قاعدة التجاوز ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ توقّف جريان القاعدة على ذلك التعبّد والعناية واللحاظ الاستقلالي إنّما يؤثّر على جريانها في أجزاء الأجزاء ، بدعوى عدم ثبوت ذلك التنزيل في أجزاء الأجزاء ، أمّا في الدخول في مقدّمات الأجزاء اللاحقة مع الشكّ في الجزء السابق كالسجود بالنسبة إلى النهوض إلى القيام ، فعلى الظاهر أنّ ذلك ليس بمانع ، لأنّ المفروض هو أنّ المشكوك - وهو السجود - قد ثبتت فيه تلك

ص: 342


1- فوائد الأُصول 4 : 635.

العناية واللحاظ الاستقلالي ، وذلك كافٍ في جريان القاعدة فيه ، ولا يتوقّف على كون ما دخل فيه جزءاً ومستقلاً بالتبويب ، إلاّ أن يركن إلى أنّ الأمثلة في الرواية لمّا كان الغير فيها جزءاً مستقلاً ، فلابدّ في جريان القاعدة من كون الغير الذي دخل فيه جزءاً مستقلاً ، وقد عرفت أنّ خصوصية المثال لا توجب تخصيص القاعدة الكلّية الواردة في مورده.

على أنّ هذه الطريقة - أعني طريقة تخصيص الغير بالأجزاء وإخراج المقدّمات - لا تتمّ على رأي شيخنا قدس سره من وحدة الكبرى الكلّية الجامعة بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، لأنّه قدس سره يعتبر في قاعدة الفراغ الدخول في الغير ، ولا ريب أنّ ذلك الغير المعتبر في قاعدة الفراغ ليس بمسانخ للمشكوك ، فإنّ الغير الذي يدخل فيه بعد الفراغ من الصلاة لا يكون من أجزائها ولا مسانخاً لها.

ولا يخفى أنّ المقدّمات منحصرة في ثلاث : النهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، والهوي إلى السجود مع الشكّ في الركوع ، والهوي إلى الركوع مع الشكّ في القراءة ، والدليل على خروج الصورتين الأُوليين هو مفهوم التحديد في رواية إسماعيل بن جابر (1) الذي جعل مخصّصاً لعموم الغير فيه ، وقد عرفت الحال في ذلك المفهوم ، وأمّا الصورة الثالثة فسيأتي تعرّضه قدس سره لها عند التنبيه الخامس. ثمّ إنّ الصورة الأُولى خارجة عن قاعدة التجاوز بالنصّ الوارد عن أبان ابن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه (2).

وهناك صورة رابعة وهي ما لو شكّ في التشهّد عند النهوض إلى القيام ، وهي غير داخلة في مفهوم التحديد المذكور كالصورة الثالثة.

ص: 343


1- التي تقدّم متنها ومصدرها في الصفحة : 338.
2- وسائل الشيعة 6 : 369 / أبواب السجود ب 15 ح 6.

ولا يخفى أنّه قدس سره بعد أن منع من كون مفهوم التحديد مخصّصاً لعموم الغير ، إمّا لما ذكره هنا من كونه من قبيل إخراج مورد العام عنه ، وإمّا لما نقلناه عنه (1) في آية النبأ من أنّ العام المتّصل يسقط الظهور في المفهوم ، فلم يبق حينئذ ما يدلّ على إخراج المقدّمات عن عموم الغير إلاّهذا الذي أفاده في وجه خروج أجزاء الأجزاء من توقّف الدخول على العناية والتنزيل ، وقد عرفت أنّه لا يمنع من الأخذ بعموم الغير للمقدّمات ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا يمكن الاستناد إليه في خروج أجزاء الأجزاء فضلاً عن المقدّمات.

لا يقال : بناءً على ما قدّمتموه من كون مجرى القاعدة مختصّاً بالمركّبات ينبغي أن لا تجري في الدخول في المقدّمات لعدم كونها جزءاً من ذلك المركّب.

لأنّا نقول : إنّا لم نشترط في الذي دخل فيه أن يكون جزءاً من المركّب وإنّما اشترطنا في مجرى القاعدة أن يكون له وحدة اعتبارية تكون موجبة لدخوله تحت الارادة السابقة ، وكون الغير من المقدّمات ممّا تتحقّق فيه تلك الوحدة الاعتبارية ، فالظاهر هو جريان القاعدة في أجزاء الأجزاء وفي مقدّمات الأجزاء.

نعم ، لا يبعد أن يشترط في ذلك كون جزء الجزء والمقدّمة ممّا يعدّ عرفاً شيئاً في قبال الشيء الذي شكّ فيه ، فيخرج عنه الشكّ في الحرف الأوّل عند الشروع في الحرف الثاني ، بل يخرج عنه الشكّ في الكلمة السابقة عند الشروع في اللاحقة ، وهناك أجزاء أجزاء هي مورد التشكيك في صدق هذا الضابط العرفي عليها ، مثل الشكّ في أوّل الجملة الارتباطية عند الشروع في آخرها أو وسطها. وهكذا الحال في المقدّمات فإنّه لا يكفي فيه مجرّد الحركة الجزئية التي هي ميل إلى النهوض ، بل لابدّ من تلبّسه بالنهوض على وجه يصدق عليه عرفاً أنّه

ص: 344


1- في الصفحة : 339.

دخل في فعل آخر أي خرج من شيء ودخل في آخر.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس سره في توجيه خروج المقدّمات وأجزاء الأجزاء عن قاعدة التجاوز ، أنّ الكبرى الكلّية التي تتضمّنها رواية زرارة (1) ورواية إسماعيل بن جابر (2) هي كبرى قاعدة الفراغ التي هي القدر المشترك بينها وبين صغريات قاعدة التجاوز ، وأنّ محطّ التنزيل ولحاظ الاستقلالية إنّما هو في نفس الأمثلة المذكورة في الروايتين ، ولا بأس بنقل ذلك برمّته تعميماً للفائدة وهذا نصّه : إنّك قد عرفت أنّه ليس لنا إلاّكبرى واحدة وهي القاعدة الملحوظ فيها جملة العمل شيئاً واحداً ، وأنّ الأجزاء قبل لحاظ التركيب خارجة عن هذه القاعدة ، إلاّ أنّه في خصوص الصلاة دلّ الدليل على دخول أجزائها في هذه الكبرى بتنزيل الشارع وعناية منه ، وهي لحاظه كلّ واحد من تلك الأجزاء شيئاً واحداً ، وهو المعبّر عنه فيما تقدّم منّا بلحاظها قبل التركيب ، وبهذه العناية تدخل أجزاء الصلاة في الكبرى القائلة : « كلّ شيء شككت فيه وقد خرجت عنه إلى غيره » فيكون دخول الأجزاء الصلاتية في هذه الكبرى بواسطة النصّ المتضمّن لما ذكرناه من التنزيل المذكور ، ويكون دخولها هو المحتاج إلى الدليل ، لا أنّ إخراج أجزاء الطهارات من هذه الكبرى هو المحتاج إلى الدليل.

وحينئذ نقول : لو لم يكن لنا تلك الأدلّة المتضمّنة للعناية المذكورة ، أعني مثل صحيحة زرارة ورواية إسماعيل بن جابر المتضمّنة لذلك ، وبقينا نحن وعموم « كلّ شيء خرجت منه وشككت فيه بعد الدخول في غيره » لكان العموم المذكور غير شامل للأجزاء الصلاتية ، إلاّ أنّه بعد أن وردت تلك الأدلّة الدالّة على

ص: 345


1- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
2- المتقدّمة في الصفحة : 338.

العناية المذكورة كانت الأجزاء الصلاتية داخلة في العموم المذكور ، فلابدّ حينئذ في دخولها من اتّباع مقدار دلالة تلك الأدلّة ، فنقول : إنّ لجريان العناية المذكورة في الأجزاء الصلاتية مراتب : جريانها في الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، وجريانها في أجزاء الأجزاء مثل الآيات بالنسبة إلى السورة ، وجريانها في أجزاء أجزاء الأجزاء مثل الكلمات بالنسبة إلى الآيات ، وهكذا إلى أن تنتهي النوبة إلى الحروف بالنسبة إلى الكلمات ، وبعد تعيين المرتبة التي هي محط تلك العناية تكون تلك المرتبة هي المعتبرة في الغير الذي دخل فيه ، فإنّ ذلك هو الظاهر من مقابلة الغير للشيء الذي شكّ فيه.

فنقول : إنّ صحيحة زرارة لم تدلّ على أزيد من كون العناية باعتبار المرتبة الأُولى كما هو الظاهر من الأمثلة المذكورة فيها ، فلا يكون الداخل في هذا العموم من تلك الأجزاء إلاّما يكون مستقلاً بالتبويب ، فلا يكون جزء الجزء داخلاً حتّى الآيات بالنسبة إلى السورة (1).

ثمّ إنّ رواية إسماعيل بن جابر لمّا لم يذكر فيها النهوض ، بل إنّما كان الشكّ في السجود داخلاً في هذه القاعدة بمقتضى هذه الرواية إذا كان بعد القيام ، دلّت على أنّه لا يكفي في ذلك الغير كونه من المقدّمات ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام يدلّ على أنّ نظره قدس سره هو أنّ الكلّية المذكورة في

ص: 346


1- تنبيه : قد يشكل على ما أُفيد من انحصار الشيء في الأجزاء المستقلّة بالتبويب بمثل ما لو شكّ في آخر القراءة وهو في القنوت مثلاً ، فإنّ الآية الأخيرة من السورة ليست من تلك الأجزاء المستقلّة. ويمكن الجواب عنه بأنّ الشكّ حينئذ يكون متعلّقاً بنفس القراءة ولو باعتبار جزئها ، نظير ما أُفيد من توجيه قاعدة الفراغ بأنّ الشكّ قد تعلّق بوجود الكلّ ولو بواسطة الشكّ في وجود جزئه أو شرطه [ منه قدس سره ].

الروايتين هي القدر الجامع بين صغرياتها وصغريات قاعدة التجاوز ، كما أنّ إخراج المقدّمات لم يكن من جهة عدم ثبوت العناية والتنزيل ، بل من جهة مفهوم التحديد ، وهذا الأخير - أعني كون خروج المقدّمات عن عموم الغير بمفهوم التحديد - هو الذي حرّره عنه أيضاً في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) فراجع. وهو الظاهر بل الصريح فيما حرّرته عنه في الفقه في أحكام الخلل. وعلى كلّ حال ، أنّك قد عرفت الإشكال على الأوّل بأنّ لازمه الاقتصار على الأمثلة المذكورة ، ولا يتعدّاها إلى مثل التشهّد والأجزاء المستحبّة ، وعلى الثاني بأنّ عموم الغير يسقط المفهوم لكونه متّصلاً به ، مع أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، والشكّ في الركوع عند الهوي إلى السجود ، فإنّ هاتين الصورتين هما مورد مفهوم التحديد المستفاد من رواية إسماعيل بن جابر ، دون صورة الشكّ في القراءة عند الهوي إلى الركوع والشكّ في التشهّد عند النهوض إلى القيام ، وقد عرفت البحث في ذلك مفصّلاً ، فراجع وتأمّل.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في أحكام الخلل في الفقه - بعد أن برهن على عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الأجزاء بنحو ما تقدّم تحريره - : أمّا خروج المقدّمات عن هذه القاعدة ، فإنّ صحيحة زرارة وإن كانت ساكتة عنه بناءً على أنّ التعداد الذي هو من الراوي وضرب القاعدة من الإمام عليه السلام في ذلك المقام لا يدلّ على انحصار موردها فيما يكون من قبيل ما فرضه الراوي ، إلاّ أنّ رواية إسماعيل ابن جابر المتضمّنة لحكمه عليه السلام على من شكّ في السجود بعد ما قام ومن شكّ في الركوع بعد ما سجد بأنّه لا يعتني بشكّه ، دالّة على خروج المقدّمات عن مورد

ص: 347


1- أجود التقريرات 4 : 226 وما بعدها.

القاعدة ، لما أفاده الشيخ قدس سره (1) من أنّها ظاهرة في أنّه ليس حالة أقرب إلى السجود من القيام ، وأنّه ليس حالة أقرب إلى الركوع من السجود ، ففيها دلالة على خروج النهوض إلى القيام والهوي إلى السجود عن كونهما مورداً للقاعدة التي ضربها الإمام عليه السلام بعد فراغه عليه السلام من ذكر المثالين والحكم عليهما بأنّه لا يعتني ، وما أدري أنّ الشيخ قدس سره مع هذا التحقيق الذي أفاده كيف وافق صاحب الجواهر في النجاة في بعض فروع هذه المسألة (2).

وكيف كان ، فقد تلخّص لك أنّ رواية إسماعيل بن جابر دالّة على خروج المقدّمات عن القاعدة المذكورة ، إمّا للجهة التي ذكرها الشيخ قدس سره ، وإمّا لأنّها في مقام التحديد ، فتكون ظاهرة في المفهوم ، وأنّ من شكّ في السجود بعد النهوض إلى القيام قبل أن يتمّ قيامه لا يكون داخلاً فيما حكم به عليه السلام من عدم الاعتناء بالشكّ ( قلت : أو نقول إنّ القضية الشرطية القائلة إنّه إن شكّ في السجود بعد القيام لا يعتني ، ظاهرة في المفهوم ، وأنّه لو لم يدخل في القيام لم يجر فيه الحكم المذكور ، سواء دخل في النهوض أو لم يدخل فيه ، وذلك إمّا لأنّ الاشتراط يتوجّه إلى القيد المذكور في القضية الشرطية فيكون من قبيل مفهوم الشرط ، أو أنّه من قبيل مفهوم الوصف ، كلّ ذلك بعد ضمّ كون الشرط أو التقييد وارداً في مقام التحديد ) (3).

ثمّ إنّه بعد الفراغ عن ثبوت هذا المفهوم بأحد الوجوه المذكورة لا يمكننا القول بابقاء القاعدة المضروبة في هذه الرواية على عمومها لكلّ غيرٍ حتّى

ص: 348


1- فرائد الأُصول 3 : 332 - 333.
2- نجاة العباد : 153.
3- الظاهر أنّ ما بين القوسين من تعليق المصنّف على كلام أُستاذه قدس سرهما.

المقدّمات ، والالتزام بخروج خصوص النهوض إلى القيام والهوي عنه عن ذلك العموم بالتخصيص بجعل ذلك المفهوم مخصّصاً لهذا العموم ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان التخصيص المذكور بدليل منفصل ، أمّا لو كان المخصّص المذكور متّصلاً كما هو المفروض فيما نحن فيه ، فلا يمكن فيه ذلك ، لأنّه من قبيل إخراج المورد وهو قبيح ، لما تقدّم من أنّ مورد هذه القاعدة في الرواية المزبورة هو المثالان المذكوران ، مضافاً إلى أنّ ذكر المثالين في الرواية كان من قبيل التمهيد لذكر تلك القاعدة الكلّية ، فلا يمكن القول بخروج ما دلّ عليه مفهومها بالتخصيص ، لأنّ ذلك أقبح من تخصيص المورد ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره في ذلك البحث.

والذي يظهر منه أنّه قدس سره لا يريد أن يجعل ما استفاده من المفهوم مخصّصاً للعموم المذكور ، بل إنّه قدس سره يريد أن يجعل هذا المفهوم قرينة على أنّ المراد من الغير في ذلك الحكم الكلّي هو خصوص الأجزاء ، وأنّ المقدّمات خارجة عنه بالتخصّص ، إذ لو كان الغير باقياً على عمومه للمقدّمات لكان المفهوم المذكور مخصّصاً له ، ولا يمكن الالتزام بالتخصيص ، لأنّ ضرب تلك القاعدة الكلّية الشاملة لمورد المفهوم في جنب ذلك المفهوم المخالف له في الحكم قبيح ، نعم يحسن ذلك فيما لو كان العام منفصلاً عن القضية التي هي دالّة على ذلك المفهوم بخلاف ما لو كان العام متّصلاً بما يكون مشتملاً على الحكم بخلافه في بعض موارده ، فإنّه لا يخلو عن قبح ، بل هو لا يزيد على قبح إخراج المورد ، بل هو أقبح منه ، لأنّ إخراج المورد إنّما يكون بالدليل المنفصل ، وهذا كان بالدليل المتّصل وإن لم يكن إخراجاً للمورد.

والحاصل : أنّ ضرب القاعدة الكلّية العامّة في عرض الحكم على بعض

ص: 349

أفرادها بخلاف حكم تلك القاعدة لا يحسن إلاّبنحو الاستثناء أو التقييد ، أمّا إذا كانا من قبيل الحكمين المستقلّين اللذين يكون أحدهما مخالفاً للآخر فإنّه قبيح وإن كان أحدهما أخصّ من الآخر ، وحيث قد امتنعت طريقة التخصيص فلا محيص حينئذ من القول بأنّ المراد من الغير هو ما عدا المقدّمات ليكون من قبيل التخصّص ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ اجتماع العام مع الخاصّ على خلافه في كلام واحد متّصل ليس بتلك الدرجة من القبح ، كما تراه في مثل قولك لا تكرم النحويين وأكرم العلماء ، أو قولك أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ، ونحو ذلك ممّا لا يكون من قبيل الاستثناء والتقييد ، وحينئذ فلا يكون ما نحن فيه من قبيل التخصص كي يكون موجباً لخروج المقدّمات عن عموم الغير خروجاً موضوعياً ، بل يكون من قبيل التخصيص ، فيلزم الاقتصار فيه على مورده الذي هو الهوي للسجود مع الشكّ في الركوع ، والنهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، دون ما عدا ذلك من صور المسألة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : يستفاد من هذا الحكم أنّه جار في كلّ صورة من صور المسألة ، ولكن دون ذلك خرط القتاد.

ثمّ إنّه لو سلّمنا أنّ المقام من قبيل التخصّص لكان لنا أن نقول : إنّ ذلك كلّه فرع ثبوت المفهوم مع فرض العموم المذكور إلى جنبه ، فلِمَ لا نقول إنّ العموم يوجب انسلاخ القضية عن المفهوم ، وكونها واردة في مقام التحديد ممنوع ، إذ ليست هي إلاّفي مقام أنّ الشكّ في السجود بعد الدخول في غيره مثل القيام لا يعتنى به ، لا في مقام أنّ الشكّ في السجود الذي لا يعتنى [ به ] هو الشكّ الحاصل بعد القيام ، وبعد أن أخرجناها عن مقام التحديد لا تكون إلاّكسائر القضايا الشرطية أو القضايا التقييدية في الظهور في المفهوم لا الصراحة فيه ، وحينئذ

ص: 350

نقول : كما يمكن رفع اليد عن العموم ولو بطريقة التخصّص لأجل المفهوم ، فكذلك يمكن رفع اليد عن الظهور في المفهوم لأجل العموم ، ولو سلّم فلا أقل من إجمال الرواية المزبورة من هذه الناحية ، فيبقى العموم في صحيحة زرارة بحاله ، فيكون هو المرجع من هذه الجهة.

ثمّ لا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو في مثل خصوص الهوي إلى السجود مع الشكّ في الركوع ، ومثل النهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، ومثل الشكّ في التشهّد بعد النهوض ، والشكّ في القراءة بعد الهوي إلى الركوع ، وهاتان الصورتان أهمّ من الصورتين السابقتين ، لكون الأُولى من السابقتين منصوصة بما يدلّ على عدم الاعتناء بالشكّ ، وهو رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لا ، قال عليه السلام : قد ركع » (1) وسيأتي إن شاء اللّه (2) التعليق على ما أفاده قدس سره في التنبيه الأوّل من الجمع بين هذا النصّ وغيره ممّا استفاد منه عدم جريان القاعدة في المقدّمات.

وأمّا الصورة الثانية فهي أيضاً منصوصة ، لكن بما يدلّ على الاعتناء بالشكّ ويكون موجباً لتخصيص عمومات قاعدة التجاوز ، وذلك النصّ هو ما عن أبان ابن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه السلام : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه السلام : يسجد » (3)

ص: 351


1- وسائل الشيعة 6 : 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 6.
2- في الصفحة : 360.
3- وسائل الشيعة 6 : 369 / أبواب السجود ب 15 ح 6.

أمّا الصورة الرابعة فليس لها أهميّة أيضاً ، لإمكان القول بأنّ الهوي جزء للركوع صلاتي كما هو مختاره قدس سره ، وحينئذ تكون خارجة عن محلّ النزاع.

نعم ، المهّم في المسألة هي الصورة الثالثة ولم يتعرّض قدس سره لها في التنبيهات الآتية ، وقد احتمل السيّد في العروة (1) إلحاقها بالثانية بناءً على أنّه يستفاد من النصّ فيها هو عدم العبرة بالنهوض إلى القيام ، سواء كان في مقام الشكّ في السجود أو كان في مقام الشكّ في التشهّد. ولا يخفى أنّه احتمال صرف لا شاهد عليه أصلاً.

وهناك صورتان أُخريان وهما ما لو شكّ في الاستقرار والاستقامة من الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود ، وما لو شكّ في الاستقرار والاستقامة بعد السجدة الأُولى وهو في حال الهوي إلى السجدة الثانية.

وكيف كان ، فالأظهر هو عدم الالتفات إلى الشكّ فيما عدا الصورة الثانية من هذه الصور ، وأنّها إنّما خرجت عن مقتضى قاعدة التجاوز بالنصّ.

وتفصيل هذا المبحث : هو أنّ الفروع المتعلّقة به منحصرة على الظاهر في ستّة :

الأوّل : أن يشكّ في الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود.

الثاني : أن يشكّ في السجود وهو في حال النهوض إلى القيام.

الثالث : أن يشكّ في التشهّد وهو في حال النهوض إلى القيام.

الرابع : أن يشكّ في القراءة أو في القنوت وهو في حال الهوي إلى الركوع.

الخامس : أن يشكّ في الطمأنينة أو الاستقرار أو الانتصاب من الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود.

السادس : أن يشكّ في شيء من ذلك بالنسبة إلى رفع الرأس من السجدة

ص: 352


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 235 - 236.

الأُولى وهو في حال الهوي إلى السجدة الثانية.

والفرع الأوّل وإن كان هو مورد رواية عبد الرحمن المتضمّنة لجريان القاعدة وعدم الاعتناء بالشكّ المذكور ، وكذلك الفرع الثاني هو مورد لرواية أبان المتضمّنة لقوله عليه السلام « يسجد » الظاهرة في عدم جريان القاعدة فيه ، حتّى أنّ المرحوم السيّد قدس سره في العروة ألحق به الفرع الثالث وجعل كلاً منهما خارجاً عن مقتضى القاعدة من كون المقام من قبيل الشكّ بعد التجاوز ، وكذلك الفرع الرابع فإنّ شيخنا قدس سره يريد أن يجعله خارجاً من محلّ البحث بدعوى كون الهوي إلى الركوع جزءاً صلاتياً لا من المقدّمات.

إلاّ أنّا مع ذلك كلّه لابدّ لنا من بيان أساس هذا المبحث ، وأنّ الغير في مفاد قاعدة التجاوز هل يكون مختصّاً بالأجزاء المستقلّة ولا يكون شاملاً لمقدّمات الأجزاء أو لا ، والذي بنى عليه شيخنا قدس سره هو الأوّل ، أعني اختصاص الغير بالأجزاء وعدم شموله للمقدّمات.

ولا يخفى أنّ إتمام هذه الدعوى لا يمكن إلاّبأحد دعويين : الدعوى الأُولى : هي دعوى استفادة السنخية من قوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت فيه وقد دخلت في غيره » بين المدخول فيه والمشكوك ، فبعد البناء على أنّ المراد من « كلّ شيء » هو الأجزاء لابدّ أن يكون المراد من الغير هو الأجزاء أيضاً ، فلا يشمل المقدّمات.

وهذه الدعوى لا تتمّ على مسلكه قدس سره من كون هذه القاعدة عامّة شاملة لقاعدة الفراغ والتجاوز ، بل على مسلكه قدس سره لا يكون مفادها إلاّقاعدة الفراغ ، غايته أنّ الشكّ في الجزء بعد الدخول في غيره يكون محقّقاً للفراغ من ذلك الجزء بعد اعتبار الجزء شيئاً مستقلاً في عرض الكل ، وقد عرفت أنّه قدس سره يعتبر في

ص: 353

قاعدة الفراغ الدخول في الغير استناداً إلى ما عرفت من الروايات ، وقد تقدّم أنّه لو استند إلى هاتين الروايتين - أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر - إلى ما أفاده من اعتبار الدخول في الغير في القاعدة المذكورة ، لكان ذلك أولى من الاستدلال على ذلك بالروايات الواردة في باب الوضوء.

وعلى كلّ حال ، نقول : إنّه قدس سره لمّا بنى أنّه لابدّ في قاعدة الفراغ من الدخول في الغير ، وأنّ هذه الكلّية - أعني كلّ شيء شككت فيه الخ - شاملة لقاعدة الفراغ أو أنّها هي بنفسها قاعدة الفراغ ، لم يمكنه أن يدّعي السنخية بين « الغير » المدخول فيه و « الشيء » المشكوك فيه ، إذ لا ريب في أنّه لا يعتبر في « الغير » المدخول فيه في قاعدة الفراغ في الصلاة أن يكون من سنخ المشكوك فيه ، ضرورة الاكتفاء في ذلك بمثل الحدث والضحك ونحوهما من منافيات الصلاة ، هذا على مسلكه قدس سره من إرجاع القاعدتين إلى كبرى واحدة.

وأمّا بناءً على ما سلكناه من كون كلّ منهما قاعدة مستقلّة وأنّ ما تضمّنته رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر مختصّ بقاعدة التجاوز ، فأيضاً لا تتمّ دعوى السنخية المذكورة ، لما عرفت من أنّ أساس هذه القاعدة هو بناء العقلاء على أنّ المكلّف الذي تعلّقت إرادته بالكلّ ينبعث إلى الاتيان بكلّ جزء في محلّه ومورده ، على وجه لا يجوز محلّ ذلك الجزء إلاّبعد أن يأتي بذلك الجزء ، وسواء قلنا إنّ هذا التصرّف الشرعي هو إمضاء لما عليه العقلاء أو أنّه تأسيس لا يكون إلاّ عبارة عن الأخذ بهذا الأساس الذي شرحناه ، وهو أنّ المكلّف المقدم على عمل مركّب لا ينتقل من محلّ الجزء إلاّبعد فراغه منه والاتيان به في محلّه ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى يتحقّق فيما لو كان خروجه من محلّ ذلك الجزء إلى جزء آخر ، أو كان إلى مقدّمة جزء آخر ، لاشتراكهما في أنّه قد جاز محلّ ذلك الجزء

ص: 354

المشكوك الذي هو - أعني خروجه عن محلّ ذلك الجزء المشكوك وتجاوزه عنه - الأساس في الحكم بأنّه قد فعله في محلّه.

وبعبارة أُخرى : أنّ أساس هذا البناء العقلائي أو ذلك التعبّد الشرعي وهو التجاوز عن المحلّ وإن كان ملازماً للدخول في الغير ، إلاّ أنّ الدخول في الغير لا مدخلية له في ذلك الحكم ، وإنّما تمام ما له المدخلية فيه هو مجرّد المجاوزة عن محلّ الجزء المشكوك والخروج منه ، سواء كان خروجه منه إلى جزء آخر أو كان خروجه منه إلى مقدّمة من مقدّمات الجزء الآخر.

ولعلّ من لم يعتبر الدخول في المقدّمة نظر إلى أنّ مجرى هذه القاعدة هو المركّب من أجزاء متّصل بعضها ببعض ، ولا يكون الخروج عن السابق إلاّ بالدخول في نفس اللاحق ، فكان ذلك موجباً لحكمه بأنّه لابدّ في جريان قاعدة التجاوز من الدخول في الجزء اللاحق ، غفلة عن أنّه ربما كان للجزء اللاحق مقدّمة سابقة عليه فاصلة بينه وبين الجزء السابق.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ دعوى السنخية المذكورة لا يمكن الركون إليها في إتمام القول بأنّه لابدّ في المدخول فيه من كونه جزءاً لا مقدّمة جزء ، سواء قلنا بما أفاده شيخنا من وحدة القاعدتين ، أو قلنا بما تقدّم ذكره من تعدّدهما.

وحينئذ لابدّ في ذلك من الركون إلى الدعوى الثانية ، وهي دعوى استفادة ذلك من رواية إسماعيل بن جابر (1) ، بدعوى دلالتها على المفهوم الذي عرفت شرحه ، وأنّه مستفاد من كونها واردة في مقام تحديد أوّل حدّ لإجراء قاعدة التجاوز في الركوع مثلاً والسجود ، أو أنّه مستفاد من مفهوم الشرط باعتبار إرجاعه إلى القيد ، أو من مفهوم نفس القيد أعني قوله عليه السلام « بعد ما قام » مثلاً ، وعلى أيّ

ص: 355


1- وسائل الشيعة 6 : 317 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.

حال يكون مفهومه أنّه إذا شكّ قبل تمام القيام بأن شكّ في حال النهوض كان عليه الاعتناء بشكّه ، لكن شيخنا قدس سره يقول إنّ هذا المفهوم لا يمكن أن يكون مخصّصاً لعموم « الغير » في قوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت فيه ودخلت في غيره » (1) للزوم اجتماع الخاصّ والعام في كلام متّصل ، وهو أقبح من تخصيص المورد ، فلابدّ أن نقول : إنّ هذا المفهوم كاشف عن أنّ الغير لا يشمل المقدّمات ، ويكون المقام من قبيل التخصّص لا التخصيص.

وكأنّه قدس سره إنّما فرّ من طريقة التخصيص لأنّها توجب قصر الدعوى على هاتين المقدّمتين دون باقي المقدّمات ، إلاّبدعوى استفادة التعميم فيها لكلّ مقدّمة ودونه خرط القتاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أساس انحصار الغير بالأجزاء إنّما هو دعوى [ دلالة ] الرواية الشريفة على المفهوم المذكور الموجب لتخصيص عموم الغير أو تخصّصه بالأجزاء ، وإلاّ فإنّ عموم الغير لو خلّينا نحن وقوله عليه السلام : « كلّ شيء شككت وقد دخلت في غيره » (2) يكون شاملاً للمقدّمات كنفس الأجزاء ، لكن الموجب لنا لرفع اليد عن ذلك العموم تخصيصاً أو تخصّصاً هو ما تضمّنه صدر الرواية الشريفة من الدلالة على المفهوم المذكور.

ويمكن المنع من هذه الدلالة ، أمّا مفهوم التحديد فواضح لتوقّفه على إحراز كونه عليه السلام بصدد بيان أقلّ حدّ تجري فيه قاعدة التجاوز ، ولم يثبت ذلك. وأمّا دعوى مفهوم الشرط فإنّه يرجع إلى مفهوم القيد ، ليكون الشرط هو الشكّ المقيّد بكونه واقعاً بعد القيام ، وإلاّ فإنّ مفهوم الشرط ليس إلاّنقيضه وهو في

ص: 356


1- ورد في رواية إسماعيل بن جابر ما نصّه : « ... كلّ شيء شكّ فيه ممّا قدجاوزه ودخل في غيره ... ».
2- ورد في رواية إسماعيل بن جابر ما نصّه : « ... كلّ شيء شكّ فيه ممّا قدجاوزه ودخل في غيره ... ».

المقام عدم الشكّ ، وإذا رجع بالأخرة إلى مفهوم القيد الذي هو الظرف كان ذلك من قبيل مفهوم اللقب ، وهو قدس سره لا يقول به.

ثمّ لو سلّمنا دلالة الجملة في حدّ نفسها على المفهوم ، فهو إنّما يكون حجّة إذا لم يكن قد اتّصل بها ذلك العموم ، أمّا بعد فرض اتّصاله بها فلا يبقى موضع للمفهوم وإن كان المفهوم أخصّ كما حرّرناه عنه قدس سره في آية النبأ (1) ، وحينئذ يكون الساقط هو المفهوم لا العموم.

ولو سلّمنا أنّ العام لا يكون مسقطاً للمفهوم الخاصّ فلا أقل من الإجمال والتوقّف في الدلالة على المفهوم ، وحينئذ يكون المرجع هو العموم في رواية زرارة (2) لسلامته من المزاحمة بذلك المفهوم.

ثمّ لو سلّمنا تمامية المفهوم حتّى مع اتّصال العام به فلا مانع من كونه من قبيل التخصيص ، وما أُفيد فيما نقلناه عنه قدس سره (3) من كونه قبيحاً أو أنّه أقبح من تخصيص المورد لم يتّضح وجهه ، لإمكان اجتماع الخاصّ مع الحكم العام في كلام واحد كأن يقول : لا تكرم النحويين وأكرم العلماء ، ولا ينحصر حسنه بطريقة الاستثناء وما أُلحق به من التقييد ، وحينئذ لا تكون رواية إسماعيل دالّة إلاّعلى أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في صورة الشكّ في الركوع عند الهوي إلى السجود ، وفي صورة الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، والصورة الثانية لا كلام لنا فيها ،

ص: 357


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى التحريرات المخطوطة عن شيخه قدس سره ، وعلى أيّ حال فراجع فوائد الأُصول 3 : 170 - 171.
2- الواردة في وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
3- في الصفحة : 349.

لأنّها مورد النصّ في رواية أبان (1) ، والأُولى معارضة بما دلّت عليه رواية عبد الرحمن من جريان قاعدة التجاوز فيها ، ولا أقل من التساقط والرجوع إلى عموم رواية زرارة.

أمّا ما أُفيد في التنبيه الأوّل من التصرّف في رواية عبد الرحمن وإخراجها عمّا هو محلّ الكلام من الدخول في مقدّمة السجود بحمل الهوي إلى السجود على الدخول في الجزء الصلاتي الذي هو ذلك الجزء الأخير من الهوي الذي يكون قبيل وضع الجبهة على الأرض ، فذلك أشبه شيء بالجمع التبرّعي كما شرحناه في التعليق على التنبيه المذكور ، فراجع.

ولا يخفى أنّه قد قال في العروة : والظاهر عدم الفرق بين أن يكون ذلك الغير من الأجزاء أو مقدّماتها ، فلو شكّ في الركوع أو الانتصاب منه بعد الهوي للسجود لم يلتفت الخ (2) ، ولم يعلّق عليه قدس سره بما محصّله أنّ ذلك منحصر بما لو كان قبيل وضع جبهته على الأرض ، أمّا لو كان قبل ذلك كان عليه الرجوع ، ومقتضى ما أفاده في هذا التنبيه هو لزوم الرجوع لو كان قد شكّ قبل وصوله في الهوي إلى ذلك الحدّ ، فتأمّل.

قال السيّد سلّمه اللّه في تحريره عن شيخنا قدس سره : وأمّا إذا قلنا بأنّهما من الأفعال كما هو المختار عندنا ، فلابدّ من اعتبار آخر مرتبة الهوي المتّصل بالهيئة الساجدية في حقيقة السجود ، كما أنّه لابدّ من اعتبار آخر المرتبة المتّصلة بالهيئة الراكعية أو تمام الهوي المتّصل بالقيام بعد الركوع في حقيقة الركوع أيضاً الخ (3)

ص: 358


1- تقدّمت في الصفحة : 351.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 235.
3- أجود التقريرات 4 : 227 - 228.

يحتمل أن لا يكون قوله : ( بعد الركوع ) متعلّقاً بقوله : ( بالقيام ) بل يكون متعلّقاً بما دلّ عليه الكلام السابق ، وحاصله : أنّ هذا الهوي الذي هو قبيل الوصول إلى حدّ الراكع أو هو من حين ابتدائه من القيام إنّما هو يكون جزءاً من الركوع إذا تحقّق الركوع بعده ، أمّا لو هوى ولم يركع بل استمرّ في هويّه إلى السجود لم يكن ذلك الهوي من أوّله إلى آخره جزءاً من الركوع.

ولا يخفى بُعده ، فإنّه بناءً على أنّ الركوع من مقولة الفعل إذا قصد الهوي إلى الركوع ولكنّه لم يتوقّف حين وصوله إلى حدّ الراكع بل استمرّ هاوياً إلى أن تجاوز حدّ الركوع إلى السجود ، قد يقال إنّه قد تحقّق منه الركوع لكنّه لم يستقرّ فيه.

ويمكن أن يكون قوله ( بعد الركوع ) غلطاً من الناسخ ، وأنّ الصواب : قبل الركوع. ويمكن أن يكون المراد هو أنّ الركوع عبارة عن الهوي من القيام الأوّل إلى أن يعود إلى القيام الثاني الذي هو بعد الركوع ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشكّ في أوّل السورة مع كون المكلّف في آخرها ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : إنّه إذا كانت السورة من السور الطوال مثل البقرة بل يس والجمعة والمنافقون ، ففيه تأمّل ، فإنّ مقتضى ما تقدّم وإن كان هو عدم الدخول في القاعدة ، إلاّ أنّ الانصاف أنّ الذهن العرفي لا يساعد عليه بل الذوق الفقهي لا يساعد عليه أيضاً ، فالأحوط الاعادة بقصد القربة المطلقة.

وقد حرّرت عنه قدس سره في الدروس الفقهية : أنّه إن كان المنشأ في ذلك الشكّ

ص: 359


1- فوائد الأُصول 4 : 636.

هو طول السورة وغيبوبة الاتيان بها عن الذهن بواسطة طول السورة لم يعتن بذلك الشكّ ، لا لأجل القاعدة المذكورة ، بل لأجل أنّ هذا الشكّ غير عقلائي ، والشكّ الذي يكون منشأ للآثار هو الشكّ العقلائي. وإن كان منشأ الشكّ المذكور هو بعض الطوارئ والعوارض غير طول السورة وغيبوبة الاتيان بأوّلها عن ذهنه بواسطة طولها ، لم يكن مشمولاً لهذه القاعدة ووجب الاعتناء به والعود إلى أوّل السورة ، ولأجل استبعاد ذلك في الذوق الفقهي ، فالأحوط هو العود بقصد القربة المطلقة ، انتهى.

ولا يخفى أنّه تكلّف ، منشؤه عدم دخول أجزاء الأجزاء في قاعدة التجاوز.

قوله : وحكي عن بعض أنّه حمل قوله عليه السلام في رواية زرارة وإسماعيل ابن جابر : ( شكّ في الركوع وقد سجد أو بعد ما سجد ) على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بُعده ، فالأولى أن يقال : إنّ للهوي إلى السجود مراتب ... الخ (1).

الإنصاف : أنّ حمل قوله « وقد سجد » على الهوي إلى السجود بعيد جدّاً ، وهذا بخلاف حمل قوله « وقد هوى إلى السجود » على الوصول إلى السجود أو على المرتبة الأخيرة من الهوي التي هي قبيل وضع الجبهة على الأرض ، بناءً على أنّ السجود من قبيل الفعل لا من قبيل الهيئة ، فإنّ الحمل على أحد هذين الوجهين ليس بهذه المثابة من البعد ، ولكن مع ذلك لا يخلوان من بُعد ، خصوصاً لو قلنا إنّ الظاهر من قوله « أهوى » دخل في الهوي ، بخلاف قوله « هوى » فإنّه يدلّ على أنّه تحقّق منه الهوي.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ العموم كافٍ في دخول الهوي إلى السجود في

ص: 360


1- فوائد الأُصول 4 : 636.

قاعدة التجاوز ، وأنّه لا دليل على خروجه منه فضلاً عن وجود ما بظاهره الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ في الركوع بعد التلبّس بالهوي ، نعم في خصوص النهوض إلى القيام دلّ الدليل على خروجه عن ذلك العموم ، بخلاف الهوي إلى السجود.

والظاهر أنّ المقدّمات في باب الصلاة منحصرة في هذين الفرعين ، وفيما لو شكّ في التشهّد وهو في حال النهوض للقيام ، وفيما لو شكّ في حال هويّه إلى السجدة أنّه استقرّ بينهما ، وهكذا فيما لو شكّ في حال هويّه إلى السجود أنّه استقام واستقرّ بعد الركوع ، أمّا الشكّ في القراءة بعد الهوي إلى الركوع قبل الوصول إلى حدّه فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : الأمر الثاني : مقتضى ما ذكرناه ... الخ (2).

قد عرفت فيما قدّمنا نقله من الروايات أنّ التشهّد قد ذكر في رواية دعائم الإسلام المنقولة في المستدرك (3) فراجع.

فرع : لو كان القنوت مشكوكاً بعد الدخول في الركوع ، وكان أثر ذلك الشكّ هو القضاء بعد الركوع لو لم يكن من عادته القنوت ، ولكنّه في أثناء الركوع شكّ في أنّه جرى على خلاف عادته فأتى به قبل الركوع أم لا ، فإنّ جريان قاعدة التجاوز في ذلك محلّ تأمّل وإشكال ، لوهنها بجريان عادته على خلاف مقتضاها من أنّه أتى بالقنوت قبل الركوع.

بل يمكن أن يقال : إنّه لمّا كانت عادته جارية على ترك القنوت لم يكن القنوت في حقّه واجداً لما هو الملاك في قاعدة التجاوز من الجري على مقتضى

ص: 361


1- في الصفحة : 363.
2- فوائد الأُصول 4 : 637.
3- مستدرك الوسائل 6 : 417 / أبواب الخلل في الصلاة ب 20 ح 1.

الارادة السابقة ، وهكذا الحال في الشكّ في الأذان في أثناء الاقامة لو لم يكن من عادته الأذان.

قوله : فإنّ المذكور في رواية زرارة هو الشكّ في القراءة بعد الركوع ... الخ (1).

لابدّ أن يكون أثر هذا الشكّ هو رفع لزوم سجود السهو لو قلنا بوجوبه لكلّ زيادة ونقيصة أو باستحبابه ، وإلاّ فلا أثر لتركه السهوي بعد عدم التذكّر إلاّبعد الدخول في الركوع ، فضلاً عن الشكّ في ذلك.

قوله : وأمّا الشكّ في الحمد وحدها بعد الدخول في السورة فلم يتعرّض السائل لفرضه ، بل ذكره الإمام عليه السلام في الكبرى الكلّية المذكورة في الذيل وهي قوله عليه السلام : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بناءً على مسلكه قدس سره لا تكون الحمد داخلة في هذه الكبرى إلاّ بعد التنزيل والعناية ولحاظها مستقلّة ، والمفروض أنّه لم يثبت ذلك ، إلاّ أن تكون تلك الكلّية هي محطّ التنزيل لا ما تقدّمها من الأمثلة. ومنه يظهر التأمّل فيما أُفيد في الأمر الرابع في صورة الشكّ في التشهّد بعد القيام.

ثمّ إنّه لا فرق على الظاهر في الأجزاء المستحبّة بين مثل الاستعاذة قبل الفاتحة وبين الاستغفار بعد التسبيح ، فتجري قاعدة التجاوز فيما لو شكّ في تكبيرة الاحرام بعد الدخول في الاستعاذة ، وفيما لو شكّ في التسبيح بعد الدخول في الاستغفار ، لكنّه قدس سره أفاد في بعض إفاداته أنّه يمكن الفرق بينهما بأنّ الاستغفار جزء ممّا يقال في الركعة الثالثة والرابعة ، فلا تجري فيها قاعدة التجاوز ، ولعلّ هذا

ص: 362


1- فوائد الأُصول 4 : 637.
2- فوائد الأُصول 4 : 637.

الفرق هو منشأ ما أفاده قدس سره في حواشي العروة (1) من الاحتياط في الاستغفار في باب القراءة ، ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ الحمد بالنسبة إلى السورة أيضاً كذلك ، يعني أنّ المجموع منهما ممّا يقال في الركعة الأُولى والثانية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحمد والسورة يكون كلّ منهما جزءاً مستقلاً في التبويب ، فتأمّل.

قوله : فإن قلنا إنّ الهوي من القيام إلى الركوع من المقدّمات كالهوي إلى السجود ، فلا إشكال في وجوب العود إلى القراءة ... الخ (2).

لا يخفى أنّه ليس لنا دليل عام يخرج عامّة المقدّمات عن عموم « الغير » ، وإنّما كان أقصى ذلك هو مفهوم التحديد في رواية إسماعيل بن جابر ، ومن الواضح أنّه مختصّ بالنهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، والهوي إلى السجود مع الشكّ في الركوع ، أمّا الهوي إلى الركوع مع الشكّ في القراءة بناءً على كونه من المقدّمات ، فلم يدلّ دليل على خروجه عن عموم « الغير » ، والفرض الذي فرضه السائل في رواية زرارة بقوله : « شكّ في القراءة وقد ركع » (3) لا يدلّ على ذلك ، لعدم كونه واقعاً في كلام الإمام عليه السلام ، إلاّ أن يقال - كما مرّ - (4) إنّ خروج هذين الموردين بالتخصّص لا التخصيص ، وأنّ « الغير » لا يشمل المقدّمات ، وقد حرّرت عنه قدس سره ما محصّله : أنّه بناءً على كون الهوي إلى الركوع جزءاً صلاتياً يقع الإشكال في دخوله تحت القاعدة ، لأنّ الظاهر من قوله « وقد ركع » هو تمامية الركوع ، فلا يشمل ما إذا كان الشكّ في القراءة قبل تمامية الركوع ، ولو كان الشكّ

ص: 363


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 529 / المسألة 10.
2- فوائد الأُصول 4 : 638.
3- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
4- في الصفحة : 342 فما بعدها.

في أثناء الهوي.

قلت : لا يخفى أنّه بناءً على كونه جزءاً صلاتياً لا دليل على خروجه ، ومجرّد ظهور رواية زرارة في تمام الركوع لا يوجب ذلك ، لما عرفت من أنّه ليس واقعاً في كلام الإمام عليه السلام كي يكون دالاً على الانحصار بمقتضى مفهوم التحديد ، سيّما بعد أن أفاد قدس سره أنّه يستفاد من الأمثلة جريان القاعدة في جميع الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فإنّ الهوي بناءً على أنّ الركوع من مقولة الفعل لا من قبيل الهيئة كما هو مختاره قدس سره ، يكون من جملة الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، على أنّ اعتبار استقلال الأجزاء بالتبويب إنّما يكون مؤثّراً في خروج ما لو كان المشكوك فيه والمدخول [ فيه ] كلاهما جزءاً من جزء واحد ، دون ما لو كان أحدهما من جزء والآخر من جزء آخر.

قوله : وهو أنّ المجعول في قاعدة التجاوز والفراغ إنّما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه ، فإنّها لو لم تكن من الأمارات فلا أقل من كونها من الأُصول المحرزة ... الخ (1).

أمّا قاعدة التجاوز فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّها كما أفاده قدس سره من أنّها لو لم تكن من قبيل الأمارات فلا أقل من كونها من الأُصول المحرزة للمشكوك ، لما اشتملت عليه رواياتها من قوله عليه السلام « قد ركع ». وأمّا قاعدة الفراغ فكونها من ذلك القبيل محلّ تأمّل ، لإمكان القول بأنّها لا تعرض فيها لأزيد من الحكم بامضاء ما مضى ، كما قد يدّعى استفادة ذلك من قوله عليه السلام : « فأمضه كما هو » (2) وأمّا ما

ص: 364


1- فوائد الأُصول 4 : 639.
2- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.

اشتملت عليه الرواية من قوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (1) فيمكن القول بأنّه ليس من قبيل العلّة والعنوان ، بل هو من قبيل الحكمة كما سيأتي ذلك في ص 242 (2) وكما سيأتي إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام في ذلك.

ولكن لا يبعد القول بأنّها من الأُصول الاحرازية ، لكن لا يكون المحرز بها هو نفس الجزء المشكوك ، بل المحرز بها إنّما هو الصحّة أو التمامية ، في قبال الفساد أو النقصان بما يلزم قضاؤه أو سجود السهود له ، فإنّ هذا المقدار هو المحكوم به في قاعدة الفراغ ، حيث إنّك قد عرفت في بعض المباحث السابقة (3) أنّها عبارة عن الحكم بالصحّة والتمامية في قبال احتمال الفساد والنقصان ، فهي لا تكون مزيلة إلاّلهذه الجهة من الشكّ ، وإن كانت هذه الجهة ناشئة عن الشكّ في وجود الجزء الفلاني ، ولأجل هذا التسبّب كانت قاعدة التجاوز حاكمة عليها.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من عدم تعرّض قاعدة الفراغ لإثبات الجزء المشكوك وأنّها لا تتعرّض لأزيد من إحراز الصحّة والتمامية ، لا ينافيه ما اشتملت عليه الرواية المزبورة من قوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » لأنّ المراد الأذكرية من حيث التمامية في قبال احتمال النقص ، لا الأذكرية من حيث الاتيان بالمشكوك ، كما أنّه لا ينافيه ما تقرّر وتحقّق من حكومتها على استصحاب عدم الاتيان بالجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ، وذلك لأنّ أثر ذلك الاستصحاب لمّا كان هو الحكم ببطلان الصلاة أو نقصانها ولزوم قضاء الجزء المتروك أو سجود السهو ، كانت القاعدة حاكمة عليه في هذا الأثر ، دون باقي آثاره

ص: 365


1- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
2- فوائد الأُصول 4 : 650.
3- راجع الصفحة : 262 و 265 و 292.

من لزوم الاتيان بالشرط المشكوك بالنسبة إلى الصلوات الآتية.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا إنّ قاعدة الفراغ متعرّضة لإثبات الجزء أو الشرط المشكوك وأنّها محرزة له ، فلا أقل حينئذ من القول بأنّ أثر ذلك الاحراز منحصر بما ذكرناه من صحّة الصلاة ، وعدم قضاء المشكوك وسجود السهو ونحو ذلك ممّا يعود إلى نفس تلك الصلاة ، لا جميع الآثار حتّى بالنسبة إلى الصلوات الآتية ، والشاهد على هذا التخصيص ما تضمّنته جملة من رواياتها من قولهم عليهم السلام « يمضي ولا يعيد » (1) وهكذا قوله عليه السلام : « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، قال : لا يعيد ولا شيء عليه » (2).

ولا يضرّه قوله عليه السلام « ولا شيء عليه » فإنّ الظاهر منه بقرينة قوله عليه السلام « لا يعيد » هو أنّه لا شيء عليه فيما يعود إلى تلك الصلاة من إعادة أو قضاء جزء أو سجود سهو ، لكن هذا الوجه لو تمّ لكان مقتضاه عدم حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ ، لتساويهما في مورد الاجتماع في كون كلّ منهما متعرّضاً لاثبات الجزء المشكوك ، غايته أنّ إثبات قاعدة التجاوز له لا يكون مقيّداً بحيثية خاصّة ، بخلاف إثباته بقاعدة الفراغ ، فإنّ إثباتها له إنّما يكون من تلك الحيثية الخاصّة وهو عدم إعادة الصلاة أو قضاء الجزء المشكوك أو سجود السهو ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب الحكومة مع فرض الوحدة من حيث الموضوع وأصل الحكم.

وربما يقال : إنّ إثبات قاعدة التجاوز للجزء أو الشرط المشكوكين لا يكون إلاّ من الحيثية المذكورة كإثبات قاعدة الفراغ.

ص: 366


1- وسائل الشيعة 1 : 470 / أبواب الوضوء ب 42 ح 5.
2- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 1.

ولا يرد عليه أنّه بناءً على ذلك لا وجه للحكم بصحّة الأجزاء اللاحقة ، بل حينئذ لابدّ من إحراز الشرط لها أو إحراز ترتّبها على ذلك الجزء المشكوك ، وإحرازه من تلك الحيثية إنّما يؤثّر في الأجزاء السابقة على المشكوك.

وبيان عدم الورود ، هو أنّ المستفاد من أدلّة قاعدة التجاوز هو تصحيح الصلاة بجميع أجزائها السابقة واللاحقة ، وعدم الالتفات إلى ما يقتضيه الشكّ من احتمال البطلان أو احتمال قضاء الجزء المشكوك أو سجود السهو ، لا خصوص الأجزاء السابقة ، لكن ذلك مخصوص بخصوص تلك الصلاة دون غيرها ممّا يأتي من الصلوات.

نعم ، يرد على هذا الوجه : أنّه ليس في روايات قاعدة التجاوز ما يدلّ على انحصار أثر إحراز الجزء أو الشرط وإثباته بخصوص تلك الصلاة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ ذلك هو المنساق منها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وهذا في الشرائط التي لا تتعلّق بها إرادة مستقلّة بل تتعلّق بها الارادة بتبع تعلّقها بالمشروط واضح ، ولكن الظاهر أن لا يكون له مثال ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ الوضوء للصلاة من هذا القبيل ، ويمكن أن يقال : إنّ نفس أجزاء الصلاة بالنسبة إلى جهة كون كلّ جزء شرطاً في صحّة الأجزاء الأُخر بواسطة الارتباطية بين الأجزاء من هذا القبيل ، فلو شكّ في جزء وقد جازه إلى جزء آخر جرت فيه قاعدة التجاوز من جهة نفس وجوده ، ومن جهة كونه شرطاً في صحّة الأجزاء الأُخر السابقة عليه واللاحقة له ، لكنّه قدس سره لم يعتن بهذا المثال

ص: 367


1- فوائد الأُصول 4 : 641.

لعدم تمحّضه في الجهة الثانية ، وحينئذ يكفي في جريان القاعدة فيه من الجهة الأُولى. أمّا مثال الوضوء ففيه إشكال كون الشرط هو نفس الأفعال الوضوئية ، أو أنّ الشرط هو أثرها حتّى لو كان قد توضّأ لصلاة سابقة ، وحينئذ يدخل في الشرط الذي ليس له محلّ مخصوص.

ثمّ لو قلنا بأنّ الشرط هو نفس الأفعال الوضوئية كان الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه متوقّفاً على كونه مراداً تبعاً لا استقلالاً.

ولو سلّمنا أنّه مراد تبعاً أو قلنا بأنّه مراد استقلالاً ، وقلنا بأنّ جريان القاعدة لا يتوقّف على الارادة التبعية توقّف جريان قاعدة التجاوز فيه على كونها قاعدة مستقلّة ، أمّا بناءً على كونهما واحدة وأنّ جريان تلك القاعدة التي هي قاعدة الفراغ في الأجزاء يتوقّف على التنزيل ، كان التوقّف فيه من جريان القاعدة المذكورة من هذه الجهة ، إلاّ أن يدّعى تعميم التنزيل له باستفادة ذلك من إجرائها في الأذان والاقامة ، ويمكن التفرقة بأنّ الأذان والاقامة ملحقان بأجزاء الصلاة ، فتكون الارادة فيهما تبعية ، بخلاف مثل الوضوء والغسل وصلاة الظهر ، فلاحظ.

ثمّ إنّه سيأتي الإشكال على القول بأنّه تجري في حقّه قاعدة التجاوز من ناحية الوضوء مثلاً وتصحّ الأجزاء اللاحقة ولكن يتوضّأ للصلوات الآتية ، بأنّ لازم ذلك هو حرمة مسّ المصحف عليه في أثناء تلك الصلاة ، وأنّه لو [ كان ] محل التجاوز هو الغسل وكان قد طرأه الشكّ في أثناء الصلاة في المسجد فلازمه الخروج من المسجد ، وهو غريب تصحّ صلاته ولا يجوز له مسّ المصحف.

وربما يجاب : بأنّ المانع من المسّ والبقاء هو استصحاب الجنابة ، وهو ما دام لم يفرغ من الصلاة محكوم بقاعدة التجاوز ، وإنّما يرجع إلى الاستصحاب

ص: 368

بعد الفراغ من تلك الصلاة.

وفيه : ما لا يخفى ، حيث إنّ حكومة القاعدة عليه حسب الفرض إنّما تكون من ناحية صحّة الصلاة المذكورة ، أمّا الآثار الأُخر فلا حكومة من ناحيتها ، فلا مانع من جريان الاستصحاب القاضي بحرمة اللبث والمسّ ولو في أثناء الصلاة ، لعدم كونه من هذه الجهة محكوماً بقاعدة الفراغ ، بل يجريان معاً في زمان واحد لعدم التدافع بينهما إلاّمن جهة دعوى كون قاعدة التجاوز قاضية بتحقّق الغسل ، وحينئذ يلزمه جواز الدخول في الصلوات الآتية.

وممّا يستدلّ به لما ذكر من عدم وجوب الطهارة للصلاة الآتية ، هو أنّه لا ريب في كون قاعدة التجاوز الجارية في السجدة بعد الدخول في التشهّد لا يكون أثرها منحصراً بصحّة ما يأتي من الأجزاء ، بل هي قاضية بأنّه امتثل أمر السجدة ، ولأجل ذلك لا يبقى له شكّ في أنّه يقضيها بعد الصلاة ، وحينئذ يكون أثر جريانها في الغسل بعد الدخول في الصلاة غير مقصور على صحّة ما بيده ، بل له أثر آخر وهو إثبات الغسل وامتثال أمره ، وحينئذ يكون ذلك كافياً في صحّة صلواته الآتية ، ولا يجب عليه التطهّر لها.

ولكن يمكن الفرق بأنّ إثبات السجدة وإسقاط أمرها لا يخرج عن مجموع ما بيده من العمل الذي قلنا إنّ قاعدة التجاوز تؤثّر فيه حتّى من قضائه بعد الصلاة ، وهذا بخلاف ما يأتي من الصلوات الأُخر في مسألة الغسل فإنّها - أعني الصلوات الأُخر - أجنبية عن العمل الذي بيده. وبالجملة : أنّ أثر قاعدة التجاوز منحصر بما جرت فيه دون ما هو خارج عن منطقة جريانها ، ولكنّه لا يخلو عن مجرّد التخرّص ومزيج من الاستحسان ، فلاحظ وتدبّر.

ص: 369

قوله : ففي جريان قاعدة التجاوز عند الشكّ في الشرط في أثناء المشروط وعدمه وجهان ... الخ (1).

الذي بنى عليه أخيراً في مبحث الخلل (2) وفي الدورة الأخيرة من الأُصول (3) هو عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الطهور وصلاة الظهر ، لكونهما من الأفعال الاستقلالية المرادة بإرادة مستقلّة ، والمعتبر فيما تجري فيه قاعدة التجاوز أن يكون مراداً بالارادة الجزئية الناشئة عن الارادة المتعلّقة بالمركّب.

قلت : قد يقال : إنّ اعتبار الارادة الجزئية إنّما يتمّ على تقدير القول بكون قاعدة التجاوز قاعدة مستقلّة ، وأمّا على تقدير القول بأنّها راجعة إلى قاعدة الفراغ وأنّ التنزيل إنّما يكون في ناحية الصغرى بالنظر إلى كلّ واحد من الأجزاء مستقلاً فلا يعتبر الارادة الجزئية ، لمنافاتها للنظر الاستقلالي للأجزاء.

والجواب عن ذلك واضح ، لأنّ كون الفعل مراداً بالارادة الجزئية لا ينافي كونه في نظر الشارع ملحوظاً بنحو الاستقلال المعبّر عنه بلحاظ قبل التركيب ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ صلاة الظهر وإن كانت مرادة بالاستقلال ، إلاّ أنّ الوضوء ليس كذلك ، فالأولى أن يسند عدم جريان القاعدة فيه إلى عدم كونه من ذوات المحلّ المخصوص ، لما أفاده قدس سره في أثناء تحقيقاته في مبحث الخلل (4) من أنّ أقصى ما يستفاد من الآية الشريفة هو وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة

ص: 370


1- فوائد الأُصول 4 : 641.
2- كتاب الصلاة ( للشيخ الآملي قدس سره ) 3 : 142 - 143.
3- أجود التقريرات 4 : 234 - 235.
4- كتاب الصلاة ( للشيخ الآملي قدس سره ) 3 : 139.

من جهة كونها مشروطة به ، وهذا المقدار لا دلالة له على أنّ له محلاً مقرّراً قبل الصلاة ، لقوّة احتمال أن يكون الأمر به قبل الصلاة من جهة حكم العقل بتقدّمه على الصلاة آناً ما كتقدّم الاستقبال والتوجّه إلى القبلة قبل الدخول فيها آناً ما ، ومجرّد ذلك لا يكون محقّقاً للمحلّ الشرعي للوضوء ، وأمّا صلاة الظهر فأقصى ما يدلّ عليه قوله عليه السلام : « إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (1) هو لزوم امتثال أمر الأُولى قبل امتثال أمر الثانية ، وهذا المقدار لا يحقّق كون محلّها الشرعي قبل الثانية.

قلت : لا يخفى أنّ الحكم في قاعدة التجاوز غير معلّق في أخبارها على المحلّ الشرعي ، بل إنّما أقصى ما في تلك الأخبار أن يكون الشكّ في الشيء بعد الدخول في غيره ، وهذا المقدار متحقّق في المثالين المذكورين.

بل يمكن أن يقال : إنّ دليل الترتيب في باب الظهر والعصر دالّ على أنّ محلّ الظهر شرعاً قبل العصر ، ولعلّه قدس سره لأجل ذلك عدل عن هذه الطريقة إلى طريقة كونهما من الأفعال الاستقلالية ، وقد عرفت أنّه إنّما يسلم في الظهر دون الوضوء.

فالأولى أن يستند في عدم جريان القاعدة في الوضوء إلى أنّ الشرط ليس هو هذه الأفعال ، وإنّما الشرط هو أثرها وهو كونه متطهّراً من الحدث حتّى لو كان واجداً لهذا الشرط من جهة أُخرى ، كأن يكون قبل دخول الوقت متوضّئاً لصلاة سابقة ، وذلك لا ينافي كون المأمور به بالأمر الغيري هو نفس الأفعال فيما لو لم يكن ذلك الشرط حاصلاً كما هو مورد الآية الشريفة ، بناءً على تفسيرها بالقيام من النوم.

والحاصل : أنّ كون المأمور به بالأمر الغيري هو نفس الأفعال ، بحيث إنّه

ص: 371


1- وسائل الشيعة 4 : 126 / أبواب المواقيت ب 4 ح 5.

عند الشكّ في الأقل والأكثر منها يكون المرجع هو البراءة ، لا ينافي كون القيد والشرط الحقيقي هو نفس الطهارة التي هي أثر تلك الأفعال ، لأنّ إجراء البراءة في الزائد ينقّح أنّ الأقل هو المأمور به بالأمر الغيري وأنّه يترتّب عليه ما هو الشرط والقيد الحقيقي للصلاة ، فتأمّل فإنّ دعوى عدم المنافاة بين هذين المطلبين - أعني مطلب الرجوع إلى البراءة في مسألة الأقل والأكثر في باب الوضوء ، ومسألة كون الشرط الحقيقي هو نفس الأثر الذي هو الطهارة من الحدث - لا تخلو من إشكال.

ويمكن التفصيل بين ما لو دخل في الصلاة وقد علم أنّه لم يتطهّر لهذه الصلاة لكنّه احتمل أنّه كان واجداً للطهارة في صلاة سابقة مثلاً ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم كون محلّ طهارته في هذه الصورة قبل هذه الصلاة ، وبين ما لو علم بأنّه في السابق لم يكن متطهّراً واحتمل أنّه تطهّر لهذه الصلاة فتجري فيه قاعدة التجاوز.

وأمّا حديث الاستقلال بالارادة فقد عرفت أنّه إنّما يؤثّر في ناحية الظهر بالنسبة إلى العصر دون الوضوء بالنسبة إلى الصلاة. نعم يمكن أن يرجع في مسألة الظهر والعصر إلى أمر آخر غير قاعدة التجاوز ، وذلك الأمر الآخر هو أنّ الدخول في المرتّب على الشيء لا يكون إلاّبعد الاتيان بذلك الشيء ، فيكون الدخول في المرتّب كاشفاً عن الاتيان بالمرتّب عليه بنحو من الكشف الأماري أو بنحو من التعبّد العقلائي ، والملاك في هذا الأمر غير ما هو الملاك في قاعدة التجاوز ، فإنّ الملاك في قاعدة التجاوز هو أنّ تعلّق الارادة بالمركّب يلزمه تعبّداً أو أمارةً الجريَ على طبق تلك الارادة في أجزاء ذلك المركّب ، فلو أردنا أن ندخل ما نحن فيه في تلك القاعدة ، كان علينا أن ندّعي وحدة المجموع من صلاة الظهر والعصر وحدة عرفية ناشئة من ارتباط الثانية بالأُولى ولو من جهة ترتّبها

ص: 372

عليها ، ولا ينافي ذلك كون كلّ منهما مراداً بإرادة مستقلّة بعد فرض تعلّق الارادة السابقة بالمجموع المركّب منهما ، ونجعل الشروع في العصر أمارة أو أصلاً عقلائياً مثبتاً للفراغ من الظهر.

ولا يخفى ما في هذه الدعوى من التكلّف وتطرّق المنع إلى دعوى وحدتهما على وجه يمكن أن تتعلّق بالمجموع منهما إرادة واحدة مع فرض أنّه لابدّ في كلّ منهما من إرادة مستقلّة تتعلّق به بنفسه.

فالأولى أن نركن إلى ذلك الأمر الثاني ، وهو أنّ البناء العقلائي جرى على أنّ الأفعال المترتّبة ولو كانت استقلالية إلاّ أنّها لمّا كانت مترتّبة كان البناء العقلائي جارياً على أنّه لا يشرع في اللاحق إلاّبعد الفراغ من السابق ، وهذا البناء العقلائي سواء كان على نحو الأمارة أو كان على نحو الأصل العقلائي أوسع من مفاد قاعدة التجاوز ، بناءً على انحصارها بالمركّبات.

وهناك رواية لا يبعد أن تكون ظاهرة فيه ، قال في الوسائل - في أبواب الوقت باب أنّ من شكّ قبل خروج الوقت في أنّه صلّى أم لا وجب عليه الصلاة ، وإن شكّ بعد خروجه لم يجب إلاّ أن يتيقّن ، وكذا الشكّ في الأُولى بعد أن يصلّي الفريضة الثانية - : محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن حريز عن زرارة والفضيل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث ، قال عليه السلام : « متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها أو في وقت فوتها أنّك لم تصلّها صلّيتها ، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتّى تستيقن ، فإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حالة كنت » ورواه الشيخ باسناده عن علي بن إبراهيم مثله (1). محمّد بن إدريس في آخر

ص: 373


1- وسائل الشيعة 4 : 282 - 283 / أبواب المواقيت ب 60 ح 1 ، تهذيب الأحكام 2 : 276 / 1098.

السرائر نقلاً عن كتاب حريز بن عبد اللّه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين ويقضي الحائل والشكّ جميعاً ، فإن شكّ في الظهر فيما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها ، وإن دخله الشكّ بعد أن صلّى العصر فقد مضت إلاّ أن استيقن ، لأنّ العصر حائل فيما بينه وبين الظهر ، فلا يدع الحائل لما كان من الشكّ إلاّبيقين » (1).

ولم أعثر على من استدلّ لعدم الاعتناء بالشكّ في الاتيان بالظهر بعد الشروع في العصر أو بعد الفراغ منها بهذه الرواية فيما راجعته من الكتب التي حضرتني ، مع أنّها واضحة الدلالة على عدم الاعتناء بالشكّ والحكم بأنّه قد فرغ من الظهر ، ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة ذلك البناء العقلائي الذي عرفت أنّه أوسع من قاعدة التجاوز ، لا لنفس قاعدة التجاوز ، لما عرفت من تطرّق المنع إلى إجرائها في أمثال ذلك ممّا يكون خارجاً عن عالم المركّبات ، ولا لقاعدة الفراغ من العصر لما عرفت من عدم اقتضائها سقوط الأمر بالظهر ، وحيث إنّي لم أعثر على ما يدلّ على عمل الأصحاب بمقتضى هذه الرواية فلا يمكنني الاستناد إليها فعلاً ، فلابدّ حينئذ من الاعتناء بالشكّ في صلاة الظهر بعد الدخول في العصر.

أمّا الوضوء والصلاة فالأقوى جريان قاعدة التجاوز فيه ، خصوصاً فيما عرفت من صورة احتمال أنّه قد توضّأ لهذه الصلاة ، ومقتضى قاعدة [ التجاوز ] هو جواز بل لزوم إتمام تلك الصلاة مع عدم لزومه للصلوات الأُخرى ، بل لو كان الشكّ بعد الفراغ كان الحكم أيضاً كذلك من عدم لزوم الوضوء للصلوات الآتية ، لما عرفت فيما تقدّم (2) من حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ.

ص: 374


1- نفس المصدر ح 2 ، السرائر 3 : 588 ( باختلاف يسير ).
2- في الصفحة : 262 و 265 و 292.

ولكن الإنصاف أنّه لا يبعد القول بأنّ ما دلّت عليه رواية زرارة (1) وإسماعيل ابن جابر (2) من تلك الكلّية ليس مختصّاً بخصوص المركّبات الداخلة تحت إرادة واحدة ، بل إنّ الأمر أوسع من ذلك ، وذلك هو ما يساوق ما دلّت عليه هذه الرواية.

والحاصل : أنّ بناء العقلاء على الأخذ بمقتضى الارادة الأوّلية المتعلّقة بالمركّب وإن كان مسلّماً إلاّ أنّ لهم بناء هو أوسع من ذلك ، وهو عدم التجاوز عن الشيء والدخول فيما هو مرتّب عليه إلاّبعد الاتيان به والفراغ منه ، ولا يبعد القول بأنّ مثل كلّ شيء دخلت في غيره الخ إنّما هو في مقام بيان هذا البناء الثاني ، وما تضمّنته هذه الرواية من صغرياته ، فتكون قاعدة التجاوز جارية في جميع المرتبات لا خصوص المركّبات ، وهذه التوسعة ظاهرة من كشف الغطاء (3) والعناوين (4) الذي هو كتاب تلميذه أو تلميذ أحد أنجاله ، فقد وسّعوا ذلك إلى كلّ مرتب ولو عادي أو اتّفاقي ، فراجع (5).

قوله : والذي يترجّح في النظر ... الخ (6).

بعد أن تقدّم الإشكال على ذلك بأنّ مقتضى الأُصول الاحرازية هو عدم وجوب الوضوء للصلوات الآتية ، كيف صار الاقتصار على إتمام الصلاة ووجوب

ص: 375


1- وسائل الشيعة 8 : 237 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 1.
2- وسائل الشيعة 6 : 317 - 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.
3- كشف الغطاء 3 : 367.
4- العناوين 1 : 174.
5- وينبغي مراجعة العروة في أحكام الوقت المسألة 20 وفي أحكام الشكّ المسألة 1 [ منه قدس سره ].
6- فوائد الأُصول 4 : 642.

الوضوء لما يأتي راجحاً.

والإنصاف : أنّ ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في هذا المقام في غاية الاضطراب ، فراجع التحرير المطبوع في صيدا (1) مع ما حرّرته عنه في مبحث الخلل والأُصول (2) وما اشتمل عليه هذا التقرير ، تجد هذه التحارير غير متّحدة المفاد ، وكان قدس سره يشكل على هذا الذي أُفيد هنا أنّه المختار بأنّ لازمه عدم جواز مس المصحف في أثناء الصلاة ( قلت : بل ولزوم خروجه من المسجد ) مع فرض جواز تلك الصلاة له بل صحّتها ، كما أنّه قدس سره قد نقل عن البعض توجيه هذا المختار هنا بأنّ حيثية وجود الشيء لا دخل لها بصحّة ما هو المشكوك ، وقاعدة التجاوز لا تثبت أصل وجود الشيء ، وإنّما تثبت صحّة ذلك العمل الذي يكون ذلك الشيء شرطاً له. وأورد قدس سره على ذلك بأنّ إثبات صحّة العمل إنّما يكون باحراز وجود ذلك الشرط ، وحينئذ لابدّ من الالتزام بسقوط أمره حتّى بالنسبة إلى الصلوات الآتية ، فراجع ما حرّرته عنه قدس سره في درس الأُصول.

ثمّ إنّه ربما يقال بجريان قاعدة التجاوز في الوضوء فيما مضى منه ولزوم الوضوء للباقي ، فيتوضّأ في أثناء الصلاة لو شكّ وهو في أثنائها.

وفيه : أنّ الطهارة شرط من أوّل الصلاة إلى آخرها ، وحينئذ فلو شرع في الوضوء في أثناء الصلاة فهو في حال وضوئه في حال الصلاة وليس بمحرز له في ذلك الحال ، فيكون قد مضى عليه كون من أكوان صلاته وهو غير محرز فيه للوضوء ، فتبطل صلاته من هذه الجهة ، وكأنّه لأجل ذلك لم يذكر شيخنا قدس سره هذا الوجه أعني لزوم الوضوء في أثناء الصلاة.

ص: 376


1- أجود التقريرات 4 : 232 - 234.
2- مخطوط لم يطبع بعدُ.

قوله : وإن شكّ فيه بعد الفراغ ، فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه ... الخ (1).

لا يخفى ظهور الأثر في جريان قاعدة الفراغ في مثل الشكّ في الوضوء أو الغسل بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّ أثره هو عدم وجوب الاعادة ، وأمّا في مثل الشكّ في الظهر بعد الفراغ من العصر بناءً على عدم كونها نافعة إلاّفي صحّة الصلاة التي فرغ منها دون الحكم بامتثال الأمر المتعلّق بذلك المشكوك ، فعلى الظاهر أنّه لا أثر له ، قال شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : إنّ ذلك الشكّ إن كان بعد الفراغ فلا معنى لجريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى العصر التي فرغ منها إذ لا أثر لجريان هذه القاعدة بالنسبة إلى صلاة العصر ، لوقوعها عصراً صحيحة على كلّ حال ، إلاّعلى قول ضعيف وهو وجوب العدول بعد الفراغ أخذاً بقولهم عليهم السلام : « فإنّما هي أربع مكان أربع » (2) فيكون فائدة جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى العصر هو عدم العدول بها إلى الظهر ، وأمّا بناءً على عدم العدول في مثل ذلك فلا أثر لقاعدة الفراغ بالنسبة إلى صلاة العصر ، انتهى.

قلت : كلّ ذلك بعد فرض أنّ قاعدة الفراغ في العصر لا تحكم بأنّه قد امتثل الأمر المتعلّق بالظهر.

بل يمكن أن يقال : إنّه لا أثر لجريان القاعدة في ذلك حتّى على هذا القول أعني به العدول بعد الفراغ ، لأنّه إذا لم تجر القاعدة كان مردّداً بين الفراغ منهما وبين الفراغ من العصر فقط ، وإذ لا أصل يجري في حقّه كان عليه أن يعدل بعصره المذكورة إلى الظهر ثمّ يصلّي العصر ، فإن كان قد صلاّهما معاً كان ذلك العدول

ص: 377


1- فوائد الأُصول 4 : 642.
2- وسائل الشيعة 4 : 290 - 291 / أبواب المواقيت ب 63 ح 1.

تهديماً لعصره مع إعادتها ، وإن لم يكن قد صلّى الظهر كان عدوله إليها والاتيان بعدها بالعصر في محلّه ، هذا لو لم تجر قاعدة الفراغ. وأمّا لو أجراها فهو بعد جريانها يحرز صحّة عصره ، لكن تبقى عليه أصالة الاشتغال بالظهر فيلزمه الاتيان بها لذلك ، وحينئذ تكون أصالة الاشتغال بها قاضية بلزوم العدول بعصره إليها ثمّ الاتيان بالعصر ثانياً ، وما دام باب العدول مفتوحاً فليس له أن يأتي بالظهر بعد العصر ، وحينئذ لا يظهر أثر عملي لإجرائه قاعدة الفراغ في عصره ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يمكن أن نتصوّر لذلك أثراً في مورد نادر ، وهو أن يكون قد صلّى العصر في أوّل الوقت ، وبعد الفراغ منها حصل له الشكّ في أنّه هل صلّى قبلها الظهر فيكون قد مضى من الوقت إلى الآن ما يزيد على مقدار أداء أربع ركعات ، أو أنّه لم يصلّها فلا يكون قد مضى من الوقت إلاّمقدار أربع ركعات. وبعبارة أُخرى على تقدير أنّه لم يصلّ الظهر يكون إيقاعه للعصر في الوقت المختصّ بالظهر فتكون باطلة من هذه الجهة ، وتكون فائدة قاعدة الفراغ حينئذ هو الحكم بصحّة العصر وعدم لزوم إعادتها ، وإن لم يكن ذلك كافياً في إسقاط الأمر بالظهر بل كان عليه أن يأتي بها بعد الفراغ من العصر.

قوله : وأمّا كون الغير متّصلاً بالمشكوك فلا يعتبر ، فإنّه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز لو شكّ المكلّف في أوّل الصلاة وهو في آخرها ... الخ (1).

لا يخفى أنّ اعتبار كون الغير - أعني الجزء الذي دخل فيه - هو الجزء اللاحق للجزء المشكوك فيه لا يضرّ باجراء قاعدة التجاوز إذا كان الشكّ بعد

ص: 378


1- فوائد الأُصول 4 : 643.

الفراغ ، مثلاً لو شكّ بعد السلام في أنّه هل ركع في الركعة الأُولى جرت قاعدة التجاوز في حقّه باعتبار كون السجود واقعاً بعد الركوع ، فيكون الغير متّصلاً بالمشكوك ، فلا وجه لما يظهر من هذه الجملة من تسليم تحقّق الانفصال ، والجواب عنه بأنّه لا يعتبر الاتّصال.

ولو كان المراد بذلك هو أنّه لا ينبغي الإشكال على جريان قاعدة التجاوز في الشرط السابق زمانه على زمان الصلاة من جهة عدم اتّصال الصلاة بذلك الشرط لتحقّق الفاصل الزماني بينهما ، ففيه أوّلاً : أنّه وإن صحّ الجواب عنه بأنّه لا يعتبر الاتّصال الزماني بين المشكوك وبين الغير ، إلاّ أنّه لا يحسن ذكر هذا الإشكال هنا ، بل كان ينبغي ذكره في إجراء القاعدة في الشقّ الأوّل وهو ما لو كان الشكّ في الأثناء ، إذ لا خصوصية لذلك الإشكال بما إذا كان الشكّ بعد الفراغ. وثانياً : عدم صحّة النقض على هذا الإشكال بما إذا شكّ في أوّل الصلاة وهو في آخرها ، لتحقّق الاتّصال الزماني في هذا المثال بين الغير - الذي هو ما بعد ذلك المشكوك - وبين المشكوك.

ولعلّ المراد من هذه الدعوى هو اعتبار حصول الشكّ عند الدخول في الغير الذي هو متّصل بالمشكوك ، فلا تجري قاعدة التجاوز في الركوع إلاّ إذا كان قد حصل الشكّ فيه عند الدخول في السجود ، أمّا لو تأخّر الشكّ في الركوع عن السجود بأن لم يحصل له الشكّ في الركوع إلاّبعد أن دخل في التشهّد ، فلا تجري في حقّه قاعدة التجاوز ، وحينئذ يتّجه عليه النقض المزبور. مضافاً إلى عدم ما يدلّ على هذه الدعوى. نعم كان الأنسب ذكر هذه الدعوى والجواب عنها في الشقّ الأوّل ، بل إنّ إعادة الكلام هنا على إجراء قاعدة التجاوز تكرار واضح فلاحظ.

ص: 379

قوله : فالأقوى عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لأنّه ليس له محلّ شرعي ... الخ (1).

لا يقال : لا حاجة إلى إجراء قاعدة التجاوز في نفس الشرط ، بل يمكن إجراؤها في الأجزاء السابقة ، لأنّ الشكّ في صحّتها يوجب الشكّ في وجود الصحيح منها.

لأنّا نقول : إنّ حالته الفعلية إن كانت حالة شكّ في وجود الشرط لم ينفعه إجراء قاعدة التجاوز في وجود الصحيح ممّا سبق ، إذ لا يمكنه الاستمرار في صلاته إلاّ إذا كانت القاعدة الجارية في وجود الصحيح ممّا سبق مثبتة للازمها وهو تحقّق الشرط فيما سبق ليثبت بذلك وجوده الآن ، هذا. مضافاً إلى أنّا ولو قلنا بالاثبات لم تكن القاعدة جارية في هذه الصورة ، لأنّ المفروض أنّه لم يتجاوز عن ذلك المشكوك إلى غيره.

وإن كانت حالته الفعلية هي إحراز الشرط وإنّما حصل له الشكّ فيما مضى من الأجزاء إلى حالته الفعلية ، لم يكن أيضاً مورداً لقاعدة التجاوز ، إذ لم يدخل بعدُ في جزء واجد للشرط. نعم لو كان مشغولاً بالتشهّد مثلاً وكان في حال تشهّده مستقبلاً متستّراً لكن شكّ في كونه كذلك في الأجزاء السابقة على التشهّد ، جرت في حقّه قاعدة التجاوز بالنسبة إلى ما تقدّم على هذا التشهّد من الأجزاء بناءً على ما أفاده الشيخ قدس سره (2) من إلحاق الشكّ في وجود الصحيح من الأجزاء بالشكّ في أصل وجود الجزء ، وقد تقدّم (3) الكلام على هذا الجامع

ص: 380


1- فوائد الأُصول 4 : 643.
2- فرائد الأُصول 3 : 342 ( الموضع السادس ).
3- في الصفحة : 259 وما بعدها.

وسيأتي (1) بعض الكلام فيه إن شاء اللّه.

ولو أُريد إجراء قاعدة التجاوز في نفس الشرط بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، ففيه : أنّ ذلك لو تمّ فإنّما يتمّ في شروط الأجزاء لا في شروط الصلاة المفروض أنّها ليس لها محلّ مخصوص كما سيأتي (2) الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. نعم تقدّمت الاشارة في بعض المباحث السابقة (3) [ إلى ] إمكان إجراء قاعدة الفراغ في الأجزاء السابقة بناءً على ما شرحناه من كون الجزء مركّباً ولو من ذاته وشرطه أو شرط المركّب منه ، فيدخل في قوله عليه السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه » (4) ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ مثل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة تارةً يكون المشكوك هو الاستقبال المستمرّ من أوّل الصلاة إلى آخرها وإن كان الشكّ في وجوده واقعاً في أثناء الصلاة ، وحينئذ يكون لازمه أنّه عند حصول الشكّ يكون الاستقبال فعلاً مشكوكاً ، وهذا هو الذي ينطبق عليه شرط الصلاة. وأُخرى يكون المنظور إليه هو الاستقبال في كلّ جزء ، بمعنى أنّ كلّ جزء يكون مشروطاً بالاستقبال في ضمن كون الكلّ مشروطاً ، نظير كونه واجباً في ضمن وجوب الكلّ ، وفي الحقيقة يكون ذلك الاستقبال في حال الجزء شرطاً لذلك الجزء ، وإن كان هو - أعني الاستقبال في حال الجزء - جزءاً من ذلك الاستقبال المستمرّ الذي هو شرط الكلّ.

وعلى هذا فلو كان المكلّف في حال التشهّد مثلاً وكان في ذلك مستقبلاً

ص: 381


1- في الصفحة : 386.
2- لاحظ ما يذكره قدس سره في الصفحة : 396 وما بعدها.
3- راجع ما ذكره في الصفحة : 262 و 271.
4- وسائل الشيعة 8 : 237 - 238 / أبواب الخلل في الصلاة ب 23 ح 3.

لكنّه شكّ في الاستقبال فيما مضى من الأجزاء ، أمكن إجراء قاعدة التجاوز في تلك الأجزاء على ما أفاده الشيخ قدس سره من كون المشكوك هو الأعمّ من وجود الصحيح أو وجود نفس الشيء ، كما أنّه يمكن أن تجري قاعدة التجاوز في نفس الشرط الذي هو الاستقبال في الجزء الذي جاوزه إلى التشهّد ، لأنّ تلك القطعة من الاستقبال التي في حال الجزء السابق محلّها الجزء السابق ، وقد جازها إلى غيرها من الاستقبال الموجود في حال التشهّد أو إلى التشهّد نفسه.

لا يقال : إنّ الاستقبال وإن كان شرطاً للجزء في ضمن كونه شرطاً للكلّ [ إلاّ ] أنّ ما هو شرط للجزء في ضمن الكلّ إنّما هو نفس الاستقبال المستمرّ لا الاستقبال الموجود في حال الجزء.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وإن كان كذلك ، إلاّ أنّا نقول : إنّ تلك القطعة لا تخرج عن كونها شرطاً للجزء ولو في ضمن الاستقبال المستمرّ الذي هو شرط للجزء في ضمن كونه شرطاً للكلّ ، وهذا المقدار من مدخلية تلك القطعة من الاستقبال في صحّة ذلك الجزء كافٍ في إجراء قاعدة التجاوز فيها ، فتأمّل.

والأولى هو ما ذكرناه من إجراء قاعدة الفراغ في ذلك الجزء الذي هو الركوع مثلاً بما اشتمل عليه من الاستقبال.

لا يقال : لو صحّ ما ذكرتموه من تركّب ذلك الجزء لم يمكن إجراء قاعدة الفراغ في ذلك الجزء ، لأنّ له شرطاً آخر وهو لحوق باقي الأجزاء لأجل الارتباطية فلا يصدق الفراغ منه بكلّ شرائطه إلاّباتمام الصلاة.

لأنّا نقول : يكفي في صدق الفراغ من ذلك الجزء الفراغ عنه بما له من الشرائط الراجعة إليه ، فإنّه لو لم تلحقه باقي الأجزاء لا يكون فساده من ناحية نفسه بل من ناحية عدم لحوق الباقي به ، وليس المراد من الفراغ عنه هو تحقّق

ص: 382

امتثال أمره ، بل المراد من الفراغ عنه هو الاتيان به بما يرجع إليه من شرائط نفسه ، فلاحظ وتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا المبحث كلّه إيراداً وجواباً مبني على أنّ شرط الكلّ شرط للجزء ، وأنّه عند الإخلال به يكون تلافيه ممكناً ما لم يدخل في ركن آخر ، أمّا بناءً على ما سيأتي (1) من عدم إمكان التلافي للشرط بمجرّد الدخول في غير ذلك الجزء بل بمجرّد الفراغ ، فلا إشكال في سقوط هذه المباحث الراجعة إلى إمكان جريان قاعدة التجاوز في الشرط أو في المجموع أو إجراء قاعدة الفراغ بعد الفراغ من نفس الجزء فلاحظ. بل الأولى إسقاط هذه الحاشية برمّتها لكن أبقيتها تشريحاً للنظر.

ثمّ لا يخفى أنّ عدّ الوقت من هذا القبيل لا يخلو من تأمّل ، لأنّه لو كان في أثناء الصلاة وقد شكّ في وقوع أوّل صلاته في الوقت مع كونه فعلاً محرزاً لدخول الوقت ، كانت صلاته صحيحة بقاعدة من أدرك ، من دون حاجة إلى قاعدة التجاوز ، إذ لو علم بدخول الوقت في أثناء الصلاة كفى ذلك في صحّتها فضلاً عمّا لو شكّ في ذلك.

قوله : والمحلّ العادي قد عرفت ما فيه ... الخ (2).

تطبيق نظرية المحلّ العادي فيما نحن فيه من الشرائط التي ليس لها محلّ مخصوص ، هو أن يقال : إنّ الشرط الواجب من تلك الشرائط وإن كان هو المقارن للصلاة من أوّلها إلى آخرها ، إلاّ أنّ مثل التستّر والاستقبال لمّا كان سابقاً على الصلاة ولو آناً ما بحسب العادة ، فكان محلّه العادي قبل الصلاة ولو آناً ما ،

ص: 383


1- في الصفحة : 396 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 643.

فلو كان في أثناء الصلاة وقد شكّ فيه كان قد تجاوز محلّه العادي.

قوله : من دون فرق في ذلك بين الموالاة بمعنى عدم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة ... الخ (1).

يمكن أن يلحق الفاصل الطويل الواقع بين الكلمات الموجب لمحو صورة الصلاة بالفاصل بين حروف الكلمة ، فإنّ محوه لصورة الصلاة ملازم لمحوه لصورة الجملة ، فيكون عدمه شرطاً عقلياً ، بل يظهر من العروة (2) هو أنّه ربما كان ترك الموالاة موجباً لمحو صورة الجملة والآيات وإن لم يكن ماحياً لصورة الصلاة ، ولم يعلّق عليه قدس سره شيئاً.

ومنه يظهر حينئذ كونه من الشرائط العقلية للآية ، لا أنّه زائد على الآية وأنّه شرط شرعي للصلاة ، كما أنّه يظهر لك أنّه وإن كان من قبيل الشكّ في عروض المبطل ، إلاّ أنّه لمّا كان مجرى لقاعدة التجاوز في الآية كانت قاعدة التجاوز رافعة للشكّ في عروض المبطل ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّهما - أعني الشكّ في وجود الآية والشكّ في عروض المبطل المذكور - متلازمان ، فلا تكون قاعدة التجاوز في ناحية وجود الآية رافعة للشكّ في عروض المبطل الذي هو الفاصل الطويل إلاّ بالأصل المثبت ، فتأمّل.

قوله : فإنّ المفروض أنّها شرط للصلاة في حال القراءة ... الخ (3).

لا يخفى أنّ الموالاة لو كانت واجبة مستقلّة وكان ظرفها الجزء ، لكان نسيانها موجباً لعدم إمكان تلافيها حتّى لو كان التذكّر قبل الدخول في ركن ، أمّا

ص: 384


1- فوائد الأُصول 4 : 644.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 606.
3- فوائد الأُصول 4 : 645.

بعد البناء على كونها شرطاً فإن قلنا إنّها شرط لنفس الجزء فلا إشكال في إمكان تلافيها ، والظاهر أنّ الأمر كذلك لو قلنا بأنّها شرط للصلاة في حال الجزء ، فإنّها لا تخرج بذلك عن كونها شرطاً ، غايته أنّها كانت شرطاً للصلاة في حال الجزء ، فإنّ نسيانها لا يوجب عدم التمكّن من تلافيها فيما إذا تذكّر قبل الدخول في الركن ، وذلك لأنّ كونها شرطاً لمجموع الصلاة يوجب انبساط شرطيتها على ذلك الجزء إذ ليس المجموع المركّب إلاّعين الأجزاء ، فلو كانت شرطاً للمجموع كانت شرطاً لكلّ واحد من تلك الأجزاء حتّى الجزء الذي كانت هي في ظرفه ، وإلاّ لم تكن شرطاً للمجموع بل كانت شرطاً لما عدا ذلك الجزء من الأجزاء.

وحينئذ نقول : إنّها بعد ثبوت كونها شرطاً لذلك الجزء ولو في ضمن الكل ، يكون نسيانها موجباً لبطلان ذلك الجزء ، فيلزم تلافيه إذا لم يكن قد دخل بركن ، ولا يلزم من ذلك زيادة عمدية ، فلو شكّ فيها بعد تجاوز ذلك الجزء إلى جزء آخر ولم يدخل بركن جرت فيها قاعدة التجاوز ، بل لو لم يدخل في جزء آخر أمكن القول بجريان قاعدة الفراغ من ذلك الجزء ، لأنّه قد فرغ منه مع كونه شاكّاً في صحّته ، لما بيّناه سابقاً من عموم قاعدة الفراغ لكلّ عمل شكّ في صحّته بعد الفراغ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ قاعدة الفراغ في الجزء لا تثبت إلاّمجرّد صحّة نفسه ، ولا تعرض لها لإثبات نفس ذلك الشرط المفروض كون باقي الأجزاء مشروطة به أيضاً ، فيلزم الاعادة لأجل إحراز شرط البواقي ، لكن لا يمكن إعادة الجزء للحكم بصحّته بمقتضى قاعدة الفراغ ، لأنّ حكمها بعدم الاعادة عزيمة كما سيأتي (1) إن شاء اللّه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال في خصوص ما نحن فيه من القراءة يمكن

ص: 385


1- راجع ما يأتي في الصفحة : 438 وما بعدها.

الاعادة بقصد القربة المطلقة فتأمّل ، لكن ذلك مبني على جريان قاعدة الفراغ في الأجزاء لو كان الشكّ في أثناء الصلاة ، وقد عرفت المنع عنه فيما تقدّم.

قوله : بل يصحّ جريان القاعدة في كلّ من الشرط والمشروط ... الخ (1).

جريانها في الشرط واضح ، وأمّا جريانها في المشروط فهو وإن أُفيد في وجهه أنّ الشكّ في وجود الشرط يكون موجباً للشكّ في وجود المشروط ، إلاّ أنّ ذلك لا يمكن لما تقدّم من عدم إمكان قضية واحدة تشمل الشكّ في الصحّة والشكّ في الوجود على ما تقدّم تفصيله في وحدة القاعدتين (2). نعم تجري في المشروط قاعدة الفراغ ، ولا يتطرّق إليها الإشكال السابق ، لأنّ شرط هذا الجزء ليس بشرط لباقي الأجزاء كي يتوجّه الإشكال بأنّ قاعدة الفراغ عن ذلك الجزء لا تحرز الشرط في باقي الأجزاء ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ شرط الجزء شرط للمجموع.

قوله : والبحث عن الشكّ في الجهر والاخفات بالقراءة قليل الجدوى لورود النصّ على عدم وجوب العود إلى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكّر قبل الركوع ... الخ (3).

لا يخفى على من راجع النصوص المذكورة أنّها ظاهرة فيما لو كان التذكّر بعد الفراغ ، ولا ظهور لها فيما لو كان التذكّر في الأثناء فضلاً عن كونه قبل الركوع ، فراجع النصوص المذكورة ، وراجع ما أفادوه من الشمول للصورة المذكورة بدعوى عدم الاستفصال بين ما لو كان التذكّر في الأثناء أو كونه بعد الفراغ ، ونحو

ص: 386


1- فوائد الأُصول 4 : 645.
2- لاحظ الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 277 وما قاربها من الحواشي.
3- فوائد الأُصول 4 : 645.

ذلك من الاستدلال على تعميم الحكم لما لو تذكّر في الأثناء.

قوله : ولم نعثر له على مثال سوى الجهر والاخفات بالقراءة على أحد الوجهين فيهما ... الخ (1).

يمكن أن يمثّل لذلك بكون القراءة على العربية وعدم الالحان فيها ، فإنّ الظاهر من حكمهم بوجوب إعادة القراءة أنّه من قبيل شرط الجزء لا من قبيل شرط الصلاة في حال الجزء ، وإلاّ كان اللازم على ما أفادوه من التفرقة بين شرط الجزء وشرط الصلاة في حال الجزء هو عدم لزوم الاعادة فيما لو قرأ ملحوناً سهواً وتذكّر قبل الركوع ، كما يظهر ذلك من العروة مسألة 18 في قوله : فلو نسي القراءة أو الذكر أو بعضهما أو الترتيب فيهما أو إعرابهما - إلى قوله - وإن ذكر قبل الدخول في الركوع رجع وتدارك الخ (2) ، بل راجع مسألة 12 فإنّه قال : إذا شكّ في صحّة قراءة آية أو كلمة يجب إعادتها إذا لم يتجاوز ، ويجوز بقصد الاحتياط مع التجاوز الخ (3).

في الجواهر (4) في المسألة الثانية التي تعرّض فيها لشرطية الموالاة في القراءة فيما لو قرأ خلالها من غيرها استأنف ، قال : ووجوب تدارك المنسي مع بقاء المحلّ الذي هو عدم الدخول في ركن إنّما هو إذا أمكن تداركه بنفسه من غير حاجة إلى إعادة شيء آخر غيره ، أمّا نحو المقام والجهر والاخفات وغيرهما من

ص: 387


1- فوائد الأُصول 4 : 645.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 220 - 221.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 535.
4- [ هذه المطالب إلى آخر الحاشية كانت في أوراق مستقلّة ألحقها قدس سره بالأصل فارتأينا إدراجها في المتن ].

الصفات فقد يمنع وجوب تداركه بمنع شمول ما دلّ عليه لمثله الخ (1) ، وبمثل ذلك صرّح فيما لو وضع جبهته على ما لا يصحّ السجود عليه (2).

قلت : ويمكن أن يقال : إنّ أساس هذا الكلام هو مسألة أنّ الشرط المذكور - أعني الموالاة أو الجهر والاخفات - هو شرط للصلاة في حال الجزء لا شرط للجزء وإلاّ لم يكن تداركه موجباً لإعادة شيء آخر ، بل في الحقيقة لا يكون تداركه إلاّتداركاً للجزء ، حيث إنّه لم يقع على النحو المعتبر ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، فبناءً على كونه شرطاً للجزء لا يكون تداركه إلاّتداركاً للجزء ، ولا يكون موجباً لإعادة شيء آخر ، هذا.

ولكن الذي يظهر من عبارته قدس سره هنا وهناك أنّ ما أفاده مبني على أنّ الجزء الفاقد للشرط لا يمكن إعادته ، لأنّ إعادته توجب الزيادة ، وأدلّة التدارك قاصرة عن شمولها لمثله.

وقد ذكر أيضاً في ذلك المبحث الطويل المتعلّق بوضع الجبهة ما نصّه : ولعلّه بذلك يفرّق بين نسيان الذكر والوضع لأحد المساجد ونحوهما ، وبين نسيان الوضع على ما لا يصحّ السجود عليه ، بجعل هذه الأُمور واجبات في الصلاة حال السجود لا شرائط ، بخلاف وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه (3).

قلت : والظاهر أنّ مراده قدس سره هو أنّ تلك الأُمور معتبرة في الصلاة وليست هي من شرائط السجود ، فيكون ذلك من جملة ما يكون معتبراً في الصلاة حال الجزء مع أنّه ليس بمعتبر في نفس الجزء ، غايته أنّ اعتبار مثل الذكر يكون على نحو

ص: 388


1- جواهر الكلام 10 : 14.
2- جواهر الكلام 10 : 160.
3- جواهر الكلام 10 : 163.

الجزء ، ومثل وضع أحد المساجد يكون على نحو الشرطية.

والقول في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمة : وهي الفرق بين ما يكون شرطاً للجزء وما يكون شرطاً للصلاة حال الجزء ، كالجهر والإخفات مثلاً ، فإنّه يمكن أن يكون شرطاً لنفس القراءة ، ويمكن أن يكون شرطاً للصلاة حال القراءة ، وتظهر الثمرة بين هذين الوجهين فيما لو نسي وقرأ جهراً في موضع الاخفات أو أخفت في موضع الجهر وتذكّر قبل الركوع ، فعلى الأوّل يلزمه إعادة ما قرأه لكونه فاقداً للشرط ، وعلى الثاني لا يمكنه إعادة ما قرأه ويسقط اعتبار الجهر ، لأنّه إنّما اعتبر في الصلاة حال القراءة وقد تحقّقت القراءة ، فلم يبق محلّ للجهر المعتبر في الصلاة.

ثمّ إنّه لو شكّ في كون الشرط شرطاً للجزء أو شرطاً للصلاة حال الجزء ، وكان في البين إطلاق كان هو المرجع لإزالة الشكّ المزبور ، ومقتضاه كون الشرط شرطاً للصلاة ، وذلك لأنّ كونه شرطاً للجزء يحتاج إلى مؤونة زائدة وعناية أُخرى فإنّ ما هو شرط للجزء شرط للصلاة ، من جهة أنّ شرط الجزء شرط للكلّ ، ولكن شرط الجزء يحتاج إلى عناية زائدة على هذا المقدار وهي اعتباره في نفس الجزء ، وحيث لا دليل على تلك العناية الزائدة كان مقتضى الاطلاق كونه شرطاً للصلاة.

ولو لم يكن في البين إطلاق ، كان المرجع هو الأُصول العملية ، وحيث إنّك عرفت أنّ ما هو شرط للجزء شرط للصلاة مع زيادة اعتباره في الجزء ، فكونه شرطاً للصلاة متيقّن على كلّ تقدير ، وكونه شرطاً للجزء مشكوك ، فالمرجع البراءة من شرطيته للجزء ، ومقتضاها عدم وجوب الاعادة فيما لو نسي وتذكّر قبل الركوع. ولو أشكل على البراءة من شرطية الجزء لأنّها لا تعود بتسهيل على

ص: 389

المكلّف ، لأنّه يجب عليه الجهر على كلّ تقدير ، كان المرجع هو البراءة من وجوب الاعادة لو تذكّر قبل الركوع.

ثمّ إنّه في مسألتنا هذه - أعني مسألة الجهر والاخفات - إذا فعل أحدهما في مقام الآخر نسياناً أو جهلاً بالحكم ، لو أردنا الرجوع فيها إلى حديث لا تعاد ، يظهر أثر كونه شرطاً للجزء أو شرطاً للصلاة ، فإنّه لو تذكّر قبل الركوع فبناءً على كونه شرطاً للجزء تلزمه إعادة القراءة ، ولا يجوز له المضي ، إذ لا يلزم من كون القراءة الجهرية جزءاً في هذه الحال إعادة الصلاة كي تكون منفية بحديث لا تعاد ، وبناءً على كونه شرطاً للصلاة حال الجزء يمضي في صلاته ولا يعيد ما قرأه لسقوط الشرطية حينئذ ، فإنّها لو فرض عدم سقوطها في هذا الحال لكان اللازم من هذه الشرطية في هذه الحال إعادة الصلاة ، لأنّها لو كانت باقية لزم إمّا إعادة الجزء أو بطلان الصلاة وإعادتها ، والأوّل لا يمكن لسقوط أمره ، والثاني منفي بحديث لا تعاد.

ولا يخفى أنّه إنّما يظهر أثر هذين الوجهين في حديث لا تعاد لو كان التذكّر قبل الركوع ، أمّا إذا كان التذكّر بعده فيلزمه المضي على كلّ تقدير ، هذا كلّه لو كان المرجع هو حديث لا تعاد.

وأمّا لو رجعنا في المسألة المزبورة إلى صحيحة زرارة (1) المتضمّنة لسؤاله عن رجل أخفت في موضع الجهر أو أجهر في موضع الإخفات ، وللجواب بما حاصله أنّه لو فعل ذلك ناسياً أو غافلاً أو لا يدري ليس عليه شيء ، لم يكن في هذه المسألة أثر للقولين المزبورين ، فإنّ السؤال لمّا لم يكن متعرّضاً لأنّ التذكّر كان قبل الركوع أو بعده ، وكان مطلقاً من هذه الجهة ، وكان الجواب أيضاً غير

ص: 390


1- وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.

متعرّض لكون التذكّر قبل الركوع أو بعده ، بل حكم بأنّه لا شيء عليه مطلقاً من دون استفصال منه عليه السلام ، لم يكن حينئذ أثر لذينك الاحتمالين ، فإنّه على تقدير كونه شرطاً للصلاة يكون الحكم بأنّه لا شيء عليه على وفق القاعدة ، وعلى تقدير كونه شرطاً للجزء يكون الحكم المذكور بأنّه لا شيء عليه حتّى لو تذكّر قبل الركوع حكماً تعبّدياً على خلاف القاعدة للنصّ المذكور.

قلت : بل يمكن أن يقال إنّ المستفاد من الصحيحة المزبورة هو كونه شرطاً للصلاة لا للجزء ، فتكون دليلاً على أحد القولين.

ثمّ إنّ نظري القاصر قاصر عن إدراك الفرق بين القولين من حيث الثمرة التي أفادها ( دام ظلّه ) فإنّ الجهر على تقدير كونه شرطاً للصلاة حال القراءة يكون شرطاً للقراءة أيضاً في ضمن كونه شرطاً لمجموع الصلاة ، حيث إنّ الصلاة ليست إلاّ المجموع المركّب من الأجزاء التي من جملتها القراءة ، فلو فرض أنّ شيئاً كان شرطاً لنفس الصلاة كان في ضمن ذلك شرطاً لكلّ واحد من تلك الأجزاء التي تركّبت منها الصلاة ، فلو نسي الجهر وتذكّر قبل الركوع كان ما أتى به من القراءة فاقداً لشرطه ، فيكون وجوده كعدمه وتلزمه إعادته ، كما إذا قلنا بأنّه شرط لنفس القراءة ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّه على الأوّل تكون فاقدة لشرطها المعتبر فيها من قبل اعتباره في مجموع الصلاة ، ويكون شرطها الذي هو في ضمن شرط الصلاة مفقوداً ، وعلى الثاني تكون فاقدة لشرطها المعتبر فيها بالخصوص ، وهذا المقدار لا أثر له فيما نحن فيه من لزوم الاعادة وعدم لزومها لو تذكّر قبل الركوع ، اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد من كونه شرطاً للصلاة أنّه شرط لها ما عدا هذا الجزء ، ولا يخفى ما فيه.

ص: 391

ثمّ لا يخفى أنّ مسائل السهو والغفلة في هذا المقام لمّا كانت رواية لا تعاد متكفّلة لها لم يكن لذكرها كثير فائدة ، فالعمدة هو صرف الكلام إلى فروع الجهل التي يمكن أن تكون مشمولة لقوله عليه السلام في هذه الصحيحة : « أو لا يدري » وهي كثيرة ، فينبغي أن نحرّرها في مسائل.

الأُولى : هل هذا الحكم - أعني معذورية الجاهل - مختصّ بالركعتين الأُوليين أو يشمل الأخيرتين؟ ربما يتوهّم الاختصاص من جهة انصراف ينبغي ولا ينبغي إلى ما يكون مورداً للجهر والاخفات ، وهو خصوص الأُوليين. وفيه : أنّ هذا الانصراف لا وجه له ، وأنّ السؤال وكذلك الجواب مطلق من هذه الجهة ، فلا اختصاص لخصوص الأُوليين.

الثانية : أنّه ربما يتوهّم أنّ المعذورية إنّما تكون لو كان الالتفات بعد الفراغ ، بدعوى استفادة ذلك من قوله : أي شيء عليه (1) والحقّ أنّه لا فرق بين كون الالتفات بعد الفراغ أو في الأثناء ، حتّى أنّه لو خالف جهلاً في كلمة واحدة وبعد الفراغ منها التفت لم تجب عليه الاعادة ، عملاً بالاطلاق المذكور في السؤال والجواب.

الثالثة : الظاهر أنّه يفرق في هذا الحكم بين كون وجوب أحد الأمرين بالأصالة أو بالعارض ، كما في قراءة المأموم بناءً على كون الاخفات فيها واجباً وأنّ وجوبه يكون شرطاً في صحّة الصلاة ، فلو كان جاهلاً وأجهر كان معذوراً ، فإنّ الظاهر عدم شمول الصحيحة المذكورة لمثل هذه الصورة ، لانصراف الاطلاق

ص: 392


1- [ هكذا في الأصل. والمذكور في صحيحة زرارة : فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أولا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته ].

فيها إلى ما كان الوجوب بالأصالة كما هو الظاهر من قول « ينبغي » ولا ريب أنّ الجواب إنّما يكون على طبق السؤال خصوصاً بملاحظة قوله عليه السلام « فعل ذلك » فإنّه إشارة إلى ما في كلام السائل أعني فعل أحد الأمرين في المورد الذي ينبغي فيه فعل الآخر ، وقد عرفت أنّ لفظ « ينبغي » ظاهر في كون الوجوب أصلياً.

الرابعة : الظاهر أنّ هذا الحكم يشمل المرأة لقاعدة الاشتراك كما لو أجهرت في موضع الاخفات مع عدم الأجنبي وكانت جاهلة بذلك ، وأمّا لو أجهرت مع وجود الأجنبي بأن أجهرت في موارد التخيير لها ولكن كان الأجنبي حاضراً سامعاً ، فلو قلنا بحرمة الجهر عليها في هذه الصورة وأنّها مبطلة للصلاة لو كانت عالمة بهذا الحكم ، فصورة الجهل من ذلك لا تكون مشمولة لهذه الصحيحة ، لما تقدّم من الانصراف في الصورة الثالثة ، بل هذه الصورة أولى بالانصراف كما لا يخفى.

الخامسة : أنّ الأساطين من متأخّري المتأخّرين قصروا المعذورية على ما إذا كان جاهلاً بالكلّية ، أمّا إذا كان عالماً بأصل وجوب الجهر والاخفات ولكنّه تخيّل مثلاً أنّ الصلاة الليلية يجب فيها الاخفات وأنّ النهارية يجب فيها الجهر فلم يحكموا بكونه معذوراً وأخرجوه عن عموم هذه الصحيحة استناداً منهم إلى إطلاق قوله عليه السلام « لا يدري ».

وفيه : أنّه ليس المراد من قوله عليه السلام « لا يدري » سلب الدراية عن كلّ شيء بقول مطلق حتّى يتمّ ما ذكروه من عدم شموله لما إذا علم إجمالاً بأصل وجوب الجهر والاخفات ، بل المراد أنّه لا يدري وجوب الجهر في هذه الصلاة التي قرأ فيها إخفاتاً ، أو وجوب الاخفات في هذه الصلاة التي قرأ فيها جهراً ، وحينئذ

ص: 393

فتكون الرواية شاملة للصورة المزبورة ، خلافاً لأُولئك الأساطين ، ولما تقدّم منّا من موافقتهم.

وتوضيح ذلك : أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ القضية الشرطية إذا كانت ملحوقة بقضية شرطية ثانية مصرّحة بمفهوم الأُولى ، كان الاعتبار من حيث العموم والخصوص هو بالقضية الأُولى ، فإنّهما حينئذ تكونان بمنزلة قضية واحدة ذات مفهوم ، ولا ريب أنّ المفهوم يكون تابعاً في العموم والخصوص للمنطوق ، فنقول : إنّ قوله عليه السلام « أي ذلك فعل عامداً فقد نقض صلاته هذه » هي القضية الأُولى ، ولا ريب أنّ ذلك إشارة إلى ما في كلام السائل من أنّه أخفت في موضع الجهر أو أجهر في موضع الاخفات ، فيكون محصّل هذه القضية أنّه متى تعمّد وأخفت في موضع الجهر فقد نقض صلاته ، فيكون وزانه وزان من تكلّم في الصلاة عامداً فقد أبطل صلاته ، ومن أكل في نهار رمضان عامداً فقد أبطل صومه ، ومن الواضح أنّ هذا يحتاج إلى قيدين ، أحدهما أن يكون ملتفتاً إلى أنّ ما يفعله كان أكلاً أو كلاماً ، والقيد الثاني أن يكون ملتفتاً إلى ذلك في الصلاة أو في نهار رمضان ، وبعد هذين القيدين يكون داخلاً في قوله : من أكل في نهار رمضان عامداً ، أو من تكلّم في الصلاة عامداً ، فلو تكلّم غافلاً عن تكلّمه لا يكون عامداً ، كما أنّه لو تكلّم ملتفتاً إلى أنّه يتكلّم ولكنّه غفل عن كونه في الصلاة بأن تخيّل مثلاً أنّه قد فرغ من صلاته لا يكون عامداً للتكلّم في الصلاة ، بمعنى أنّه لا يكون متعمّداً في تكلّمه في الصلاة ، بمعنى أنّه لم يكن تعمّد إلى جهة كون الكلام واقعاً في الصلاة.

إذا عرفت ذلك فنقول فيما نحن فيه : بعد أن كان محصّل القضية الشرطية

ص: 394

الأُولى أنّه تعمّد الاخفات في موضع الجهر ، لم تصدق هذه القضية إلاّبعد هذين القيدين ، أعني الالتفات إلى أنّه أخفت والالتفات إلى أنّه أخفت في موضع الجهر ، فلو كان جاهلاً بأصل وجوب الجهر لم يكن متعمّداً ، كما أنّه لو كان عالماً بوجوب الجهر في الجملة إلاّ أنّه لم يكن عالماً بوجوبه في هذه الفريضة ، لم يكن متعمّداً في إخفاته في موضع الجهر ، بمعنى أنّه لم يتعمّد إلى جهة كون محلّ إخفاته هو موضع الجهر ، فيكون من علم بأصل وجوب الجهر والاخفات في الجملة ، ولكنّه تخيّل أنّ ذوات الجهر هي الصلوات النهارية وذوات الاخفات هي الصلوات الليلية ، وصلّى على طبق تخيّله ، لا يكون داخلاً في قوله عليه السلام « متعمّداً » وحينئذ فيكون داخلاً في قوله عليه السلام « لا يدري » وهكذا الحال في الجاهل بمعنى الجهر والاخفات لا يكون داخلاً في العامد ، بل وكذا الشاكّ في الحكم ، بل وفي الموضوع لو أمكن منه نيّة القربة وخالف الواقع أيضاً لا يكون داخلاً في العمد ، وكذلك ناسي الحكم لا يكون داخلاً في العمد ، لأنّه في حال نسيانه جاهل بالحكم.

وحاصل الكلام : أنّ التعمّد يحتاج إلى قيود ثلاثة : العلم بالوجوب ، والعلم بحقيقة الجهر والاخفات ، والعلم بمحلّ كلّ منهما ، فعند اجتماع هذه الأُمور يكون مصداقاً لقوله عليه السلام « متعمّداً » أمّا إذا اختلّ أحد هذه الأُمور كان خارجاً عن العامد ، ويكون داخلاً في قوله عليه السلام « لا يدري » من دون فرق في جميع ذلك بين أن يكون قاصراً أو مقصّراً ، ولا وجه لتخصيصه بالقاصر. نعم لو كان مقصّراً كان معاقباً ، وحينئذ يتوجّه الإشكال المشهور وهو أنّه كيف يكون معاقباً مع الحكم بصحّة صلاته وعدم وجوب الاعادة عليه ، وقد تصدّى الأساطين لدفعه بطرق

ص: 395

مختلفة ، وتفصيل الكلام في هذا الإشكال وتحقيق الجواب عنه خارج عمّا نحن فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ أدلّة العمد مثل من فعل كذا عامداً فعليه كذا ، لا شبهة في شمولها للجاهل بالحكم ، إلاّ أنّ هذا الدليل ، أعني صحيحة زرارة لما تضمّنت لتعلّق العمد بقوله « فيما لا ينبغي » ، وقلنا إنّ هذا التعلّق يكون له المدخلية في العمد بمعنى أنّ مثل قوله تعمّد الجهر فيما لا ينبغي الجهر فيه يعطي أنّ جهة التعمّد واقعة في جهة إيقاع الجهر فيما لا ينبغي إيقاعه فيه ، وهذا إنّما يتحقّق فيما إذا كان عالماً بالحكم لكونه حينئذ تعمّد إيقاع الجهر فيما لا ينبغي إيقاعه فيه ، أمّا الجاهل بالحكم فهو وإن حصل منه التعمّد إلى نفس الجهر [ إلاّ ] أنّه ليس متعمّداً في إيقاعه فيما لا ينبغي إيقاعه فيه ، لعدم الالتفات منه إلى أنّ هذا الذي أوقع فيه الجهر ممّا لا ينبغي إيقاعه فيه كي يكون متعمّداً لإيقاعه فيما لا ينبغي إيقاعه فيه.

بقي الكلام في التفرقة بين ما هو شرط الجزء وما هو شرط للصلاة حال الجزء ، وأنّ الثاني لا يمكن فيه التلافي لو جاء بذلك الجزء فاقداً لذلك الشرط سهواً ، وقد تقدّم الإشكال على ذلك بأنّ كونه شرطاً للصلاة يوجب انبساط تلك الشرطية على جميع أجزائها حتّى هذا الجزء الذي هو محلّ ذلك الشرط ، فيبطل لفقدانه لشرطه الذي ناله من الشرط المنبسط على جميع الأجزاء ، وإذا بطل الجزء أمكن إعادته.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ إمكان الاعادة لأجل فقدانه ذلك الشرط الانبساطي محال يلزم من وجوده عدمه ، لأنّ إمكان إعادة ذلك الجزء يوجب عدم انفقاد ذلك الشرط المنبسط على المجموع ، وعدم انفقاد ذلك الشرط يوجب

ص: 396

عدم انفقاد المقدار الذي نال ذلك الجزء منه ، وذلك موجب لعدم إمكان إعادته.

وإن شئت قلت : إنّه لو ترك الجهر بالقراءة سهواً بناءً على كونه شرطاً للصلاة في حال الجزء فقد انعدم شرط الصلاة ، ولا يمكن الحكم بانعدام شرط الصلاة إلاّ إذا كان قد تحقّق ذلك الجزء الذي كان ذلك الشرط للصلاة معتبراً في حال تحقّقه ، فلو قلنا إنّ انعدام شرط الصلاة موجب لانعدام الشرط الانبساطي لذلك الجزء كان ذلك موجباً لانعدام ذلك الجزء بانعدام شرطه ، ومن الواضح أنّ انعدام ذلك الجزء يكون موجباً لعدم تحقّق انعدام شرط الصلاة ، لأنّ انعدام شرطها إنّما يكون عند تحقّق ذلك الجزء في حال عدم ذلك الشرط ، فتأمّل.

وبتقريب آخر : أنّ لزوم إعادة هذا الجزء إنّما هي لأجل بطلانه ، وبطلانه إنّما يكون في ضمن بطلان نفس الصلاة ، كما أنّ كونه مشروطاً بذلك الشرط إنّما يكون في ضمن كون الصلاة مشروطة به ، ومع فرض بطلان الصلاة كيف يمكن الاتيان بذلك الجزء ثانياً مع الشرط ، هذا بحسب القاعدة الأوّلية ، لكن حديث لا تعاد يحكم بعدم لزوم إعادة الصلاة في ذلك الحال ، وعدم بطلانها بفقد ذلك الشرط ، وذلك الحكم ينجرّ إلى عدم اشتراطه فيها في ذلك الحال.

ثمّ إنّ حديث لا تعاد بعد أن التزمنا في وجه حكومته على أدلّة الشروط والأجزاء ، هو أنّ مفاده أنّه لو لزم من الشرطية الاعادة بحيث إنّه لا يكون معنى للاشتراط ولا لوجوب ذلك الشرط إلاّ إعادة الصلاة ، كانت تلك الشرطية مرتفعة ، وهذا المعنى بعينه منطبق فيما نحن فيه ، لأنّ اشتراط الصلاة بالجهر في قراءتها بمعنى أنّه يجب في الصلاة أن يجهر في قراءتها ، لا يكون له معنى محصّل بعد فرض السهو عن الجهر في حال القراءة ، وفرض أنّه لا يمكن إعادة القراءة ، لما

ص: 397

عرفت من أنّ بطلان تلك القراءة لفقدها الشرط المنبسط عليها إنّما يكون في ضمن بطلان نفس الصلاة ، وحينئذ لا يكون معنى لوجوب الجهر إلاّوجوب إعادة الصلاة ، فالحديث يقول لا تعاد فيسقط حينئذ ذلك الوجوب.

والحاصل : أنّ اشتراط مجموع الصلاة بالجهر في قراءتها وإن أوجب كون القراءة مشروطة بذلك في ضمن اشتراط المجموع به ، وكان ذلك موجباً لبطلان القراءة الخالية من الجهر ، إلاّ أنّ بطلان القراءة بفقد شرطها الانبساطي لا يوجب التمكّن من إعادتها مع الجهر ، لأنّ بطلان تلك القراءة من أجل عدم ذلك الشرط الانبساطي لا يكون إلاّفي ضمن بطلان نفس الصلاة ، ومع بطلان نفس الصلاة لا يمكن إعادة ذلك الجزء الذي هو القراءة مع الجهر ، فينحصر وجوب الجهر وشرطيته بوجوب إعادة الصلاة من جهة الجهر ، ويكون المقام حينئذ من صغريات حديث لا تعاد ، وبذلك تسقط شرطية الجهر في الصلاة ، ويلزمه إتمامها بلا إعادة لذلك الجزء الذي هو القراءة.

وهذا بخلاف ما لو جعلنا الجهر شرطاً في نفس القراءة بحيث كانت القراءة مشروطة بالجهر ابتداءً ، فإنّه وإن كان ذلك ملازماً لكون الصلاة مشروطة به ، وكان فقدان القراءة لذلك الشرط علّة لفقدان الصلاة لشرطها الذي ترشّحت شرطيته فيها من شرطية نفس الجزء ، ببرهان أنّ الجهر شرط في القراءة ، وهي شرط في الصلاة لكونها جزءاً منها ، وشرط الشرط شرط ، إلاّ أنّ بطلان ذلك الجزء لفقده لشرطه لمّا أمكن تلافيه باعادة الجزء نفسه مع الشرط لم يكن المقام من صغريات لا تعاد ، لإمكان امتثال نفس وجوب الجهر الشرطي بلا توقّف على إعادة الصلاة ، فلا تكون شرطيته ساقطة بل كان يلزمه إعادة الجزء نفسه مع الشرط.

ص: 398

نعم لو لم يمكنه ذلك بأن كان قد دخل في الركوع كان المقام من صغريات حديث لا تعاد ، فتأمّل جيّداً فإنّ الحاصل هو أنّا لا يمكننا القول بأنّ هذه القراءة فاسدة لفقدان شرطها الانبساطي فيلزم إعادتها ، وذلك لأنّ فساد هذه القراءة لفقدان شرطها الانبساطي هو عبارة أُخرى عن فساد نفس الصلاة الموجب لعدم التمكّن من امتثال الأمر بالاجهار في قراءتها إلاّباعادة نفس الصلاة ، وبذلك تكون من صغريات حديث لا تعاد ، فيلزم الحكم بصحّتها.

وفيه تأمّل ، إذ لا معنى لانطباق حديث لا تعاد عليها بعد تحقّق فسادها ، بل قبل الوصول إلى مرتبة تحقّق فسادهانقول إنّ انفقاد الشرط الانبساطي لهذه القراءة هو عين انفقاد شرط المجموع ، وفي تلك المرتبة - أعني مرتبة انفقاد شرط المجموع - لا يكون معنى الشرطية منحصراً بالاعادة كي يكون المقام من صغريات حديث لا تعاد ، وذلك لإمكان امتثال الاجهار في قراءتها باعادة القراءة ، فلا تكون من صغريات حديث لا تعاد. لكن يبقى الكلام في القراءة السابقة فإنّها إن كانت صحيحة لم يكن لإعادتها وجه ، وإن كانت فاسدة كان فسادها عين فساد الصلاة الموجب لعدم التمكّن من إعادة تلك القراءة ، وعدم إمكان امتثال الأمر بالاجهار في قراءتها إلاّبالاعادة ، وذلك موجب لاندراجها في حديث لا تعاد.

وبتقريب أوضح : أنّ بطلان هذا الجزء لأجل فقدان شرطه الانبساطي هو عين بطلان الكل ، لأنّ انفقاد الشرط الانبساطي للجزء هو عين انفقاد شرط الكل ، وحينئذ ففي هذه المرحلة - أعني مرحلة انفقاد شرط الكل القاضي ببطلان الكلّ - لا يمكننا تلافي الجزء ، وإنّما يمكننا تلافيه بعد إسقاط بطلان الكل الناشئ عن انفقاد شرط الكل ، ولا يكون ذلك إلاّباسقاط شرط الكل باجراء حديث لا تعاد ،

ص: 399

ومع إسقاط شرط الكل لا يبقى موقع لإعادة الجزء ، وحينئذ يكون إمكان تلافي الجزء متوقّفاً على بقاء صحّة الصلاة ، وبقاء صحّة الصلاة موقوف على أن لا يكون انفقاد شرط الكل موجباً لبطلانها ، وكونه كذلك موقوف على إسقاط شرطية الكل بحديث لا تعاد ، وإذا سقطت شرطية الكل لم يمكن التلافي لأنّه لا موقع له حينئذ فيكون إمكان التلافي موجباً لعدم إمكان التلافي.

ولك أن تقول : إنّ عدم جريان حديث لا تعاد في إسقاط شرطية الكل متوقّف على إمكان التلافي لذلك الجزء ، وإمكان التلافي موقوف على عدم سقوط شرطية الكل ، وعدم سقوط شرطية الكل موقوف على عدم جريان حديث لا تعاد في شرطية الكل.

والخلاصة : أنّ جريان لا تعاد في شرطية الكل موقوف على عدم إمكان التلافي ، وهنا لا يمكن التلافي لأنّه يلزم من وجوده عدمه.

وخلاصة الفرق : أنّ الاجهار لو كان شرطاً للجزء ابتداءً يكون تركه تركاً للجزء ، وهو - أعني ترك الجزء - لا يوجب بطلان الصلاة وإنّما يوجب الاتيان بالجزء ، بخلاف ما لو قلنا إنّه شرط لنفس الصلاة فإنّ تركه يكون تركاً لنفس الصلاة القاضي ببطلانها ، ولا تصل النوبة إلى ترك الجزء ، إلاّبأن نقول إنّ ترك الجهر ترك لشرط مجموع الصلاة ، وترك شرط مجموع الصلاة يكون تركاً لشرط جزئها الذي هو القراءة ، وترك شرط الجزء يوجب ترك الجزء ، وترك الجزء يوجب إعادة الجزء لا بطلان الصلاة ، في حين أنّ ترك الجهر كان قاضياً بانعدام شرط الصلاة القاضي ببطلانها في الدرجة الأُولى ، فلا يبقى الحال إلى الدرجة الرابعة القاضية بتلافي الجزء فقط ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 400

قوله : المبحث السادس : يعتبر في قاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشكّ في صحّة العمل راجعاً إلى كيفية صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلّق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعاً وحكماً ، فلو كان الشكّ في الصحّة لأجل الشكّ في متعلّق التكليف من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية (1) لا تجري فيه قاعدة التجاوز والفراغ ، بل لابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية حسب اختلاف المقامات ... الخ (2).

قد تقدّم أنّ قاعدة الفراغ راجعة إلى أصالة التمامية في العمل ، وحيث إنّ ذلك العمل الذي تجري فيه قاعدة الفراغ من الأفعال المركّبة الاختيارية ، كان محصّلها هو أنّ المكلّف إذا أقدم على عمل مركّب من مجموع أجزاء وشرائط ، وتعلّقت به إرادته ، فالأصل - أعني القاعدة المذكورة - عبارة عن أنّه أتى به بتمام ما فيه من الأجزاء والشرائط ، فهذا الأصل لا يتحقّق إلاّبعد فرض تعلّق الارادة بالمجموع ، ولا تتعلّق الارادة بالمجموع إلاّبعد الالتفات إلى جميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، وبعد هذا كلّه لا يكون تركه لبعض الأجزاء والشرائط إلاّ نسياناً.

ص: 401


1- مثال الشبهة الموضوعية هو أن يقطع بالجنابة فيغتسل ويصلّي ثمّ يحصل له الشكّ الساري في الجنابة ، فلو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر كانت صلاته باطلة ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، إذ ليس له شكّ في ناحية نفس العمل ، وإنّما كان يشكّ في ناحية الأمر الواقعي ، وكذلك الحال في الصورة المزبورة لو تيمّم لأجل ضيق الوقت مثلاً أو لكون الماء مضرّاً له ، ولا يكون بالنسبة إلى التيمّم من قبيل الخطأ في التطبيق ، لأنّ التيمّم الذي هو بدل الغسل مخالف في الحقيقة لما هو بدل عن الوضوء ، ومع اختلاف الهوية لا تدخل المسألة في وادي الخطأ في التطبيق [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 4 : 647.

فالقاعدة إنّما هي عبارة عن طرد احتمال الترك الناشئ عن النسيان والغفلة عن الجزء والشرط بعد فرض العلم بوجوبه والالتفات إلى لزومه ، فلابدّ في جريانها من فرض العلم بالحكم والالتفات إليه حين الشروع في العمل ، بل لابدّ من الالتفات إلى الموضوع ، بمعنى أنّ الشكّ في تحقّق الاستقبال إنّما يكون مورداً لقاعدة الفراغ بعد فرض علم المكلّف بلزوم الاستقبال في الصلاة وأنّه شرط في صحّة الصلاة ، بل لابدّ أيضاً من الالتفات إلى جهة القبلة وأنّها هي هذه الجهة المعيّنة ، ليكون احتمال عدم تحقّق الاستقبال منه عند الصلاة ناشئاً عن احتمال النسيان للاستقبال حال الصلاة مع فرض علمه بوجوبه وأنّه إلى هذه الجهة ، فإنّه بعد الفراغ عن إحراز هاتين الجهتين لا يكون تركه للاستقبال إلاّعن نسيانه له وغفلته عنه عند الصلاة ، بخلاف ما لو كان جاهلاً بوجوب الاستقبال أو كان جاهلاً بجهة القبلة ، فإنّ احتمال تركه للاستقبال في هاتين الصورتين بعد الفراغ من الصلاة لا يكون ناشئاً عن احتمال نسيانه ، بل يكون ناشئاً عن الجهل بوجوبه أو عن الجهل بجهة القبلة.

والحاصل : أنّه لا محصّل لهذه القاعدة إلاّطرد احتمال النسيان وإثبات التذكّر والاتيان كما أُفيد في البحث الآتي في بيان الوجه في عدم جريانها في مورد احتمال الترك العمدي ، فيكون حاصل هذه القاعدة هو إثبات قصد الشرط مثلاً والاتيان ونفي السهو عنه ونسيانه ، ومحصّل ذلك هو نفي خصوص الترك السهوي وإثبات التمامية بإثبات قصد الفعل والاتيان به ، فلو أجريناها في من صلّى غفلة إلى جهة لا يعلمها فعلاً وكان حين الصلاة جاهلاً بالقبلة ، كان محصّلها هو إثبات الاستقبال الناشئ عن عدم القصد وطرد احتمال تركه المفروض أنّه لم ينشأ إلاّعن الجهل بالقبلة ، وذلك هو خلاف ما عرفت من ملاك هذه القاعدة الذي

ص: 402

هو إثبات تذكّر الشرط وطرد احتمال تركه الناشئ عن نسيانه له حين العمل.

وهذا المعنى هو الذي جرى عليه البناء العقلائي ، وهو المستفاد من روايات الباب ولو بقرينة الرواية المتضمّنة لقوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (1) وقوله عليه السلام في رواية محمّد بن [ مسلم ] في من شكّ بعد الفراغ بين الثلاث والأربع : « وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك » (2) وفي نسخة مستطرفات السرائر : « أقرب منه للحفظ بعد ذلك » (3).

وما أُفيد من كون ذلك من قبيل الحكمة محلّ تأمّل وإشكال ، لأنّ الظاهر أنّ ما يكون من قبيل الحكمة لابدّ أن يكون من قبيل العلل الغائية ، مثل رفع الأرياح ومنع اختلاط المياه ، وكون المكلّف حين العمل أذكر منه حين يشكّ ليس من قبيل العلّة الغائية ، بل هو من قبيل الأخذ بما تقتضيه إرادته المتعلّقة بمجموع العمل وعدم الاعتناء باحتمال تركه نسياناً ، والبناء على أنّه قد كان ذاكراً للشرط ، وأنّه لم يكن ناسياً له ، من دون فرق في ذلك بين القول بكون ذلك البناء على نحو الأمارة ، أو كونه على نحو الأصل العملي الاحرازي أو الأصل غير الاحرازي ، وسواء كان المحرز هو تمامية العمل وعدم نقصانه بالسهو والنسيان ، أو كون المحرز هو الاتيان بالجزء أو الشرط.

ولو سلّمنا كونه حكمة فلا يكون ذلك إلاّبمعنى أنّ هذا المعنى - وهو الأذكرية - في حال العمل هو الملاك والعلّة في البناء على التمامية ، أو في البناء على إحراز التمامية ، أو في البناء على إحراز المشكوك ، أو في كون الإرادة

ص: 403


1- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
2- وسائل الشيعة 8 : 246 / أبواب الخلل في الصلاة ب 27 ح 3.
3- السرائر 3 : 614.

المتعلّقة بالمجموع مع نفي احتمال النسيان أمارة شرعية أو عقلائية على وجوده أو على تحقّق التمامية ، وحينئذ فلا أقل من كون الأذكرية المفروض كونها هي الملاك والعلّة في ذلك الحكم قرينة على ما ذكرناه من أنّه ليس مفاد ذلك الحكم إلاّ طرد احتمال الترك النسياني ، دون غيره من احتمالات الترك ، وحينئذ تكون هذه القرينة موجبة لاختصاص القاعدة بالمورد المذكور ، أعني ما لو كان احتمال ترك الجزء أو الشرط مستنداً إلى احتمال نسيانه بعد العلم بلزومه والالتفات إلى ذلك حكماً وموضوعاً.

ومنه يظهر أنّ هذا المعنى الذي شرحناه هو الأساس فيما أُفيد من أنّه لابدّ في جريان القاعدة من العلم بمتعلّق التكليف حكماً وموضوعاً ، وانحصار مجراها بخصوص الشكّ في مطابقة المأتي به لما هو المأمور به.

قوله : وثالثة يشكّ في صحّة العمل وفساده بعد الفراغ منه ، مع أنّ المكلّف قبل العمل كان ملتفتاً إلى أنّه لا يجوز له الدخول في العمل لكونه شاكّاً في أنّه واجد لشرط صحّة العمل أو فاقد له ، وكان حكمه قبل العمل على خلاف ما تقتضيه قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ثمّ غفل وصلّى ، وهذا الوجه يتصوّر أيضاً على وجهين : أحدهما أنّه بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد توضّأ قبل الصلاة بعد ما شكّ في الطهارة. ثانيهما : أنّه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم أنّه لم يتوضّأ قبل الصلاة بعد ما شكّ في الطهارة ... الخ (1).

فعلى الصورة الأُولى لا تكون صورة العمل محفوظة ، وعلى الثانية تكون صورة العمل محفوظة.

ص: 404


1- فوائد الأُصول 4 : 648.

ثمّ إنّ لازم الصورة الأُولى هو أن لا يكون دخوله في الصلاة منحصراً في الغفلة ، بل هو بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد التفت وتوضّأ كما يحتمل أنّه لم يلتفت ولم يتوضّأ وقد صلّى بلا أن يحدث وضوءاً ، وحينئذ يدخل في الضابط الذي ذكرناه من أنّ احتمال تركه للوضوء في هذه الصورة يكون ناشئاً عن احتمال السهو عن لزوم الوضوء عليه ، كما أنّه يحتمل أن يكون قد التفت وتوضّأ ، وحينئذ يكون مجرى لقاعدة التجاوز.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ومثالها أن يكون قبل الزوال ملتفتاً أنّه كان في الصباح محدثاً واحتمل أن قد توضّأ فجرى في حقّه استصحاب الحدث ، ثمّ لمّا دخل [ الزوال ] غفل عن ذلك كلّه ولم يتوضّأ ودخل في الصلاة غفلة ، وبعد الفراغ يكون عالماً بأنّه لم يلتفت إلى وجوب الوضوء عليه وأنّه كان غافلاً عنه ، وأنّه قد ترك ذلك الوضوء الذي كان لازماً عليه بحكم الاستصحاب السابق الذي هو في ظرفه غير محكوم لقاعدة التجاوز ، وإنّما أقصى ما عنده هو احتمال خطأ استصحابه السابق ، وأنّه كان قد توضّأ قبل التفاته إلى حدثه السابق ، يعني أنّه يحتمل أنّه قد توضّأ فيما بعد الصباح إلى أوان شكّه في بقاء حدثه كما أنّه يحتمل أنّه لم يتوضّأ ، ومن الواضح أنّ تركه ذلك الوضوء لم يكن داخلاً في الترك السهوي لشرط هذه الصلاة عند إقدامه عليها بعد الزوال ، فلا تطرده قاعدة الفراغ ، بل يكون مقتضى ذلك الاستصحاب السابق غير المحكوم لقاعدة الفراغ هو كون صلاته بلا وضوء ، وأنّها كانت مع الحدث فتلزمه الاعادة.

والظاهر جريان هاتين الصورتين فيما إذا لم يكن قبل العمل ملتفتاً إلى شيء من حاله ، لكنّه بعد الفراغ من الصلاة التفت إلى أنّه كان في الصباح محدثاً وشكّ في إيجاده الوضوء إلى ما قبل الزوال من جهة احتماله طروّ شيء مشروط

ص: 405

بالطهارة وأنّه قد توضّأ من أجله لا من أجل هذه الصلاة ، فتارةً يحتمل أنّه قد التفت بعد الزوال وتوضّأ للصلاة ، وأُخرى لا يحتمل ذلك بل يعلم من نفسه أنّه قد دخل في الصلاة ولم يتوضّأ لها لكنّه يحتمل أنّه قد أوجد الوضوء قبل الزوال لأجل غاية أُخرى.

والظاهر أنّ الحكم في هاتين الصورتين هو الحكم في الصورتين السابقتين ، أمّا الأُولى فواضح ، وأمّا الثانية فلأنّ استصحابه حدثه من الصباح إلى حين الصلاة وإن لم يكن جارياً في حقّه قبل الصلاة ، وإنّما جرى في حقّه بعد الصلاة لأنّه لم يكن قبل الصلاة ملتفتاً إلى الحدث والشكّ في بقائه ، وإنّما التفت إلى ذلك بعد الصلاة ، ومقتضى ذلك هو حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ ، إلاّ أنّ نفس القاعدة لا تجري في حقّه ، لما ذكرناه من أنّ تركه لذلك الوضوء المحتمل لغاية أُخرى لم يكن داخلاً في الترك السهوي لشرط هذه الصلاة عند إقدامه عليها.

والفرق بين الصورتين أنّه في الأُولى يحتمل الخطأ في استصحابه السابق لاحتماله الوضوء ، سواء كان ذلك الوضوء المحتمل لأجل غاية أُخرى أو كان لنفس هذه الصلاة ، وفي هذه الصورة إنّما يحتمل الخطأ في استصحابه الحالي الجاري في حقّه بعد الفراغ ، فإن كان الوضوء المحتمل على تقدير وقوعه إنّما أوقعه لهذه الصلاة جرت في حقّه قاعدة الفراغ ، وإن كان قد أوقعه لأجل غاية أُخرى لم تجر فيه قاعدة الفراغ ، وكان استصحاب الحدث جارياً في حقّه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في الفرع الذي يذكرونه في باب الاستصحاب ، وأنّه يعتبر فيه فعلية الشكّ وأنّه لا يكفي فيه الشكّ التقديري ، وذلك هو ما لو كان عالماً بالحدث ثمّ غفل وصلّى وبعد الفراغ التفت ، فإنّه إن كان

ص: 406

بعد الفراغ قد علم بأنّه لم يتوضّأ فقد علم بفساد صلاته ، وإن كان يحتمل بأنّه قد توضّأ ودخل في الصلاة ليكون المراد من الغفلة بعد الصلاة احتمال أنّه قد غفل عن الوضوء ، كانت قاعدة الفراغ جارية في حقّه.

نعم ، لو قلنا إنّه يكفي الشكّ التقديري ، وكان في الواقع محكوماً في حال غفلته باستصحاب الحدث ، لم تكن قاعدة الفراغ رافعة وحاكمة على ذلك الاستصحاب الواقعي.

لا يقال : إنّه قد احتمل الآن بعد الفراغ من الصلاة أنّه قد توضّأ لها ، وأنّه لا يكون تركه للوضوء إلاّمن قبيل النسيان والغفلة عن شرط هذه الصلاة ، فتشمله القاعدة ويسقط الاستصحاب بحكومتها عليه وإن كان في الواقع جارياً قبلها.

لأنّا نقول : إنّ هذا تقريب للاستصحاب الجاري بعد الصلاة ، والذي هو محلّ الإشكال هو الاستصحاب الجاري قبلها بالنظر إلى الشكّ المقدّر قبلها (1).

ثمّ لا يخفى أنّ الصور الأربع التي ذكرناها لما إذا كان المنجّز هو استصحاب الحدث ، تجري بتمامها فيما إذا كان المنجّز هو تعارض الحالتين وتساقط الاستصحابين ، كأن تتعاقب عليه حالتان الحدث والوضوء ، فيكون حكمه بعد التعارض والتساقط هو لزوم الوضوء للصلوات الآتية ، ثمّ يدخل في الصلاة وبعد الفراغ منها يحتمل أنّه قد توضّأ ، أو يعلم أنّه لم يتوضّأ إلى آخر الصور الأربع. والظاهر اتّحاد هذه الصور مع صور استصحاب الحدث في الحكم ، فتأمّل جيّداً.

ونظير قاعدة الفراغ من هذه الجهات قاعدة التجاوز فيما لو شكّ في الجزء

ص: 407


1- ينبغي مراجعة العروة ص 101 م 38 [ راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 372 / المسألة : 39 ] ومراجعة ما حرّرناه هناك في التعليق عليها [ منه قدس سره ].

وهو في محلّه ثمّ غفل ودخل في جزء آخر ، فإنّه إن علم أنّه لم يصنع شيئاً لم تجر في حقّه قاعدة التجاوز ، وإن احتمل أنّه بعد أن شكّ أتى بالمشكوك في محلّه جرت القاعدة في حقّه.

قوله : ولا دافع لهذا الاحتمال إلاّ استصحاب الحدث المستصحب ... الخ (1).

قد يقال : إنّ هذا منافٍ لما تقدّم منه قدس سره في مبحث الاستصحاب من قوله : فلا معنى للتعبّد باستصحاب بقاء المستصحب - إلى قوله - وهذا غير استصحاب المستصحب الخ (2) فإنّ الذي يظهر منه هناك هو أنّ المستصحب هو اليقين السابق الوجداني دون اليقين التعبّدي الحاصل بالاستصحاب ، وبناءً عليه يكون هذا الاستصحاب - أعني استصحاب الحدث السابق المتيقّن وجداناً - موجوداً قبل الصلاة ، فلا يتمّ ما أفاده هنا من كونه محكوماً لقاعدة الفراغ.

ويمكن الجواب : بأنّ ميزان الحكومة هو الشكّ ، وحيث إنّ الشكّ في إيجاد الوضوء حال الغفلة قد وجد بعد الصلاة ، يكون الاستصحاب الجاري فيه محكوماً لقاعدة الفراغ ، وإن كان المستصحب والمتيقّن فيه هو الحدث السابق ، بل وإن كان اليقين هو اليقين السابق ، إلاّ أنّه لمّا كان الشكّ وحكمه حاصلين بعد الفراغ كان الاستصحاب فيه محكوماً لقاعدة الفراغ ، فلاحظ وتأمّل.

والمتحصّل : هو أنّ المكلّف إمّا أن يكون عالماً بالحدث وإمّا أن يكون مستصحباً له وإمّا أن يكون ممّن تواردت عليه الحالتان ، ثمّ في هذه الصور الثلاث غفل وصلّى ويعلم أنّه لم يصنع شيئاً في حال غفلته ، فالظاهر أنّه في جميع هذه

ص: 408


1- فوائد الأُصول 4 : 650.
2- فوائد الأُصول 4 : 405.

الصور تكون صلاته محكومة بالبطلان ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ. أمّا لو احتمل أنّه في حال غفلته قد توضّأ ، فالظاهر صحّة صلاته لقاعدة الفراغ ، إلاّ إذا قلنا بأنّه يكفي في الاستصحاب الشكّ التقديري ، وحينئذ يكون في الواقع قد جرى في حقّه استصحاب الحدث في الصورة الأُولى ، واستصحاب الحدث المستصحب في الصورة الثانية ، واستصحاب حكم العقل بلزوم الوضوء في الصورة الثالثة ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ لعدم حكومتها على الحكم الظاهري الجاري في حقّه واقعاً قبل الدخول في الصلاة. ولكن لازم ذلك سقوط قاعدة الفراغ في باب الوضوء ، لأنّ الشكّ فيه بعد الصلاة دائماً مقرون بالغفلة قبل الصلاة وأنّه يحتمل أنّه في حال غفلته قد توضّأ ، ولا يبقى لها مورد إلاّمورد الشكّ الساري ، بأن يكون أقدم على الصلاة قاطعاً بالوضوء ثمّ بعد الفراغ شكّ في ذلك الوضوء بنحو الشكّ الساري ، وإلاّ ما لو تردّد بعد الصلاة في أنّه هل التفت وتوضّأ أو أنّه لم يلتفت وصلّى بلا وضوء ، لكنّه راجع إلى الصورة المفروضة ، لأنّ احتمال وضوئه في حال غفلته لا يكون إلاّبأن يحتمل أنّه التفت وتوضّأ ، لأنّ الوضوء لا يكون إلاّمع الالتفات. نعم فيما لا يتوقّف على الالتفات وكان يمكن وقوعه في حال الغفلة مثل التستّر ربما يحصل فيه الفرق بين الصورتين ، فتأمّل.

قوله : أمّا الوجه الأوّل من الوجه الثاني وهو ما إذا لم يعلم المكلّف بعد الفراغ صورة العمل وكيفية وقوعه ، كما إذا لم يعلم الجهة التي صلّى نحوها ... الخ (1).

الظاهر أنّ هذا الوجه هو الوجه الثاني من الوجه الثاني لا الأوّل منه ، وكأنّه غلط من الناسخ ، وكذا قوله فيما سيأتي : وأمّا الوجه الثاني من الوجه الثاني ، فإنّ

ص: 409


1- فوائد الأُصول 4 : 650.

الصحيح هو أن يقول : وأمّا الوجه الأوّل من الوجه الثاني.

ثمّ لا يخفى أنّه لو لم يكن حين الصلاة عارفاً بجهة القبلة ولكنّه غفل وصلّى إلى جهة وبعد الفراغ احتمل أنّه صلّى إلى القبلة ولكنّه لم يعلم الجهة التي صلّى إليها ، لا يكون داخلاً فيما ذكرناه من ضابط قاعدة الفراغ وهو كون عدم الاستقبال ناشئاً عن نسيان للاستقبال ، فلا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّ عدم تحقّق الاستقبال منه لم يكن عن نسيان له ، كما أنّ احتمال تحقّق الاستقبال منه لم يكن ناشئاً عن احتمال أنّه قصد الاستقبال ، بل على تقدير تحقّق الاستقبال منه يكون اتّفاقياً من باب المصادفة الاتّفاقية ، سواء كان بعد الفراغ قد علم جهة القبلة أم لم يكن قد علمها وبقي على حاله قبل الشروع في الصلاة من التردّد فيها بين الجهات ، بل لو كان قبل الصلاة عالماً بجهة القبلة ولكنّه غفل وصلّى إلى جهة وبعد الفراغ لم يعرف الجهة التي صلّى إليها لم تجر في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّه لمّا كان حين تحقّق الصلاة منه غافلاً عن الاستقبال لا يكون تحقّقه منه إلاّمن باب الاتّفاق ، كما أنّ عدم تحقّقه منه لا يكون عن نسيان له ، بل كان عن غفلة عنه.

والحاصل : أنّه بعد [ أن ] كان عالماً بأنّه قد غفل عن إيقاع صلاته إلى القبلة لم يمكن أن يحكم عليه بعدم الغفلة وبقصد الاستقبال وتحقّقه منه بالارادة ، بل يكون تحقّقه منه على تقديره من باب الاتّفاق والمصادفة الاتّفاقية للقبلة ، لا المصادفة القصدية.

قوله : أو لم يعلم أنّه حرّك الخاتم في يده أو لم يحرّكه (1).

لا يخفى أنّه لو كان حين الشروع في الوضوء عالماً وملتفتاً إلى أنّ في يده خاتماً ، وبعد الفراغ من الوضوء شكّ في تحريكه الموجب لإيصال الماء إلى ما

ص: 410


1- فوائد الأُصول 4 : 650.

تحته ، تكون قاعدة الفراغ جارية في حقّه بلا كلام ، ولا يبعد إلحاق صورة احتمال الالتفات بهذه الصورة أعني صورة العلم بالالتفات.

وإنّما محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن عالماً بالخاتم ، أو كان عالماً به لكنّه غفل عنه عند الوضوء ، وبناءً على الضابط الذي ذكرناه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّ عدم غسله لما تحت الخاتم لم يكن ناشئاً عن نسيان له ، بل كان ناشئاً عن عدم العلم بالخاتم أو عدم التفاته إليه حين الوضوء ، ولو كان قد حرّكه لم يكن تحريكه له ناشئاً عن قصد إلى التحريك وإلى إيصال الماء إلى ما تحته ، بل كان اتّفاقياً من باب المصادفة الاتّفاقية بأن يكون قد حرّكه غير ملتفت إلى تحريكه ، لأنّ قصده إلى التحريك يتوقّف على علمه بوجود الخاتم وعلى الالتفات إليه ، والمفروض أنّه حين الوضوء لم يكن عالماً بذلك أو لم يكن ملتفتاً إليه ، وفي بعض الروايات ما ربما يشعر أو يدلّ على جريان قاعدة الفراغ في بعض صور هذه المسألة ، وقد ذكر في الحدائق (1) هذه الروايات في باب الغسل ، وذكرها الحاج آغا رضا قدس سره في باب الوضوء (2) فراجع الأوّل ص 237 والثاني ص 182.

قوله : أو لم يعلم مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده ... الخ (3).

لمّا كان فرض الكلام هو ما لم يعلم صورة العمل لابدّ من فرض المسألة أنّه قد صلّى ولم يعلم بأنّه قد أتى بالسورة أو لم يأت بها ، فبعد الفراغ لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، إذ لم يكن تركه للسورة ناشئاً عن نسيانها ، بل كان ناشئاً عن الجهل بوجوبها ، سواء كان قد علم بعد الفراغ بأنّ فتوى من يجب عليه تقليده هي

ص: 411


1- الحدائق الناضرة 3 : 90 - 91.
2- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 3 : 59 - 62.
3- فوائد الأُصول 4 : 650.

وجوب السورة أو لم يعلم بذلك ، بل لو كان قد علم قبل الصلاة بوجوب السورة ولكنّه غفل عن ذلك عند الصلاة ، بحيث إنّه على تقدير عدمها يكون عدمها مستنداً إلى الغفلة عن وجوبها ، وعلى تقدير الاتيان بها يكون الاتيان بها لا عن قصد واختيار وإرادة بل من باب المصادفة الاتّفاقية ، لم تكن قاعدة الفراغ جارية في حقّه على حذو ما ذكرناه (1) في مسألة القبلة.

ومن ذلك كلّه يظهر الحال فيما لو علم بأنّه فيما سبق من صلواته كان تاركاً للسورة ، لكنّه فعلاً يحتمل أنّ فتوى من يجب عليه تقليده هي عدم وجوب السورة فإنّه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ وذلك واضح ، وهو داخل في الوجه الأوّل من الوجه الثاني وهو ما لو علم صورة العمل.

ومنه أيضاً ما إذا علم أنّه صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة ولم يكن عالماً بالقبلة لا قبل العمل ولا بعد الفراغ منه ، إذ لو كان بعد الفراغ قد عيّن جهة القبلة وأنّها غير الجهة التي صلّى إليها كانت صلاته باطلة بلا إشكال.

ومنه أيضاً ما لو علم أنّه لم يحرّك الخاتم في يده إمّا لنسيان التحريك أو لعدم علمه بوجود الخاتم أو لعدم التفاته إلى وجوده حين الوضوء ، ولكنّه مع ذلك يحتمل وصول الماء تحته من باب الاتّفاق الخارج عن إرادته واختياره ، فإنّ جميع هذه الفروع لا تجري فيها قاعدة الفراغ ، لما شرحناه من أنّ عدم تحقّق الشرط أو الجزء لم يكن ناشئاً عن نسيان ، بل كان ناشئاً عن الجهل بالقبلة أو الجهل بوجود الخاتم أو عدم الالتفات إليه حين الوضوء.

وهكذا الحال فيما لو علم أنّه قد حرّك الخاتم ولكن كان يحتمل عدم وصول الماء إلى ما تحته ، فإنّه بالأخرة يرجع إلى كون الوصول من باب

ص: 412


1- في الصفحة : 402.

المصادفات الاتّفاقية ، وهو من أمثلة هذا القسم دون سابقه كما ربما يظهر من عبارة الكتاب ، لكن المراد من قوله : لأنّ الشكّ في وصول الماء تحت الخاتم بعد تحريكه (1) ليس هو أنّه قد حرّكه ولكن يشكّ في وصول الماء إليه بذلك التحريك ، بل المراد أنّه قد شكّ في وصول الماء تحت الخاتم بواسطة شكّه في التحريك ، فقوله « بعد » متعلّق بالوصول لا بالشكّ ، والشكّ متعلّق بالمجموع المركّب من وصول الماء المعلول للتحريك ، والمنشأ في هذا الشكّ هو الشكّ في العلّة.

قوله : وحاصل الكلام ... الخ (2).

يستفاد من مجموع ما أُفيد أنّ الضابط في جريان القاعدة وعدمه هو انحفاظ صورة العمل وعدم انحفاظه ، فإن كانت صورة العمل محفوظة كأن يعلم بأنّه قد صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة وقد شكّ في كونها القبلة مع فرض أنّه بعد صلاته لم يعيّن جهة القبلة ، أو صلّى بلا سورة أو مع المشكوك وقد شكّ في الفتوى هل هي وجوب السورة وبطلان الصلاة مع المشكوك أم لا ، أو صلّى في المشكوك غفلة وقد علم بعد الفراغ أنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، فإنّه و [ إن ] احتمل صحّة صلاته لاحتمال كون ذلك الذي صلّى فيه من المأكول أو القطن مثلاً ، فإنّ حاله حال من صلّى إلى جهة معيّنة مع أنّه بعد الفراغ يحتمل أنّها القبلة.

وهكذا الحال في من علم بأنّه لم يحرّك خاتمه ولكن احتمل وصول الماء إليه من باب الاتّفاق ، أو علم بأنّه حرّكه لكن احتمل أنّ ذلك التحريك لا يكفي في

ص: 413


1- فوائد الأُصول 4 : 651.
2- فوائد الأُصول 4 : 651.

إيصال الماء ، أو علم بأنّه توضّأ من هذا المائع ولكن شكّ في كونه ماء مطلقاً ، كلّ ذلك وما كان من قبيله لا تجري فيه قاعدة الفراغ ، إذ لا يكون الشكّ في ذلك ممحّضاً للشكّ في العمل ، بل يكون الشكّ في ذلك راجعاً إلى جهة أُخرى هي غير ناحية نفس العمل وإن أوجب الشكّ في تلك الناحية الشكّ في العمل ، ولأجل ذلك يكون الشكّ في تلك الناحية موجوداً حتّى لو لم يعمل ، فإنّ كون هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة مشكوك ، سواء وقعت منه الصلاة أو لم تقع ، ولأجل ذلك يكون الشكّ في أمثال ذلك شكّاً في انطباق المأمور به على المأتي به لا في مطابقة المأتي به للمأمور به ، والمستفاد من قاعدة الفراغ هو كون موردها من قبيل الشكّ في مطابقة المأتي به للمأمور به (1).

ص: 414


1- لا يخفى أنّا لو قلنا بأنّ من صلّى إلى جهة معيّنة وشكّ بعد الفراغ في كونها قبلة لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لزمنا أن نقول بأنّ من صلّى في ساعة معيّنة وبعد الفراغ شكّ في دخول الوقت في تلك الساعة أنّه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، سواء كان حين الشكّ عالماً بدخول الوقت وقد شكّ في مبدأ دخوله وأنّه كان داخلاً عند الصلاة أو كان حين شكّه المذكور شاكّاً أيضاً في دخول الوقت. ومنه يظهر لك أنّ التفصيل بين الصورتين كما بنى عليه في العروة في مباحث الوقت [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 280 / المسألة 7 ] لابدّ أن يكون مبنياً على أنّه لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في مثل الشكّ في كون الجهة المعيّنة التي صلّى إليها قبلة ، فإنّه بناءً على ذلك يتأتّى التفصيل بين الصورتين ، ففي الثانية لا تجري قاعدة الفراغ لأنّها فرع إحراز الاشتغال على وجه لو لم يكن المرجع هو قاعدة الفراغ لكان المورد مورد الشكّ في فراغ الذمّة ، والمفروض في هذه الصورة أنّه حتّى الآن لم يحرز اشتغال ذمّته بالصلاة ، وهكذا الحال في كلّ ما يكون الشكّ في الصحّة من جهة الشكّ في حصول شرط التكليف ، كما لو شكّ في مقارنة حجّه للاستطاعة مع فرض شكّه في ذلك فعلاً ، أمّا مع العلم بحدوث الشرط ولكن لم يعلم مبدأه ، كأن علم فيما نحن فيه أنّه فعلاً في الوقت ولكن شكّ في أنّ صلاته كانت فيه أو كانت سابقة عليه ، فلا مانع من إجراء قاعدة الفراغ في حقّه ، والسيّد قدس سره وإن علّل الحكم بعدم جريانها في الصورة الأُولى بأنّه لا يقدر فعلاً على الاتيان بالصلاة الذي هو جارٍ في جميع موارد الشكّ في الصحّة كالشكّ في الطهارة ونحوه ، إلاّ أنّ مراده هو ما ذكرناه من أنّ المانع هو عدم إحراز التكليف فعلاً. ولا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّه لو بقي مدّة ثمّ علم بدخول الوقت لكن بنحو الشكّ الساري إلى صلاته على وجه يحتمل أنّه كان قبل ذلك قد دخل الوقت ، هو الالتزام بجريان القاعدة ، بمعنى أنّه لم يمكن إجراؤها قبل مضي تلك المدّة ، وكان المورد مورد استصحاب عدم دخول الوقت القاضي بفساد تلك الصلاة ، إلاّ أنّه بعد مضي تلك المدّة ينعكس الأمر وتجري قاعدة الفراغ ويسقط الاستصحاب المذكور لحكومتها عليه. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه الصورة - أعني صورة ما لو كانت الساعة التي وقعت فيها الصلاة معيّنة - خارجة عمّا أفاده في العروة ، وأنّ ما أفاده في العروة ناظر إلى ما لو علم الوقت الذي هو أوّل الزوال في الساعة السادسة مثلاً ، ولكن شكّ في أنّ صلاته هل وقعت قبل ذلك أو وقعت بعده. وفيه تأمّل ، لأنّ العبارة مطلقة ، بل يمكن أن يقال : إنّ المتعارف منها هو الصورة الأُولى وأنّه عند فراغه من الصلاة شكّ في كونها في الوقت مع علمه بأنّه فعلاً في الوقت ، ولا أقل من القول بأنّه كان على شيخنا قدس سره الاشارة إلى هذا التفصيل في الحاشية لكونه قدس سره مانعاً من إجراء قاعدة الفراغ في مثل مسألة القبلة ، فراجع وتأمّل. ولا يخفى أنّ الذي يظهر من السيّد قدس سره في بحث القبلة أنّه لا يجري قاعدة الفراغ فيما لو صلّى إلى جهة معيّنة وشكّ في كونها هي القبلة ، فإنّه قال في مسألة 17 : إذا صلّى من دون الفحص عن القبلة إلى جهة غفلة أو مسامحة يجب إعادتها إلاّ إذا تبيّن كونها القبلة مع حصول قصد القربة منه [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 :309- 310 ]. فإنّ قوله : إلى جهة غفلة ، لو لم يكن ظاهره الاختصاص بكون تلك الجهة معيّنة ، فلا أقل من كونه شاملاً لذلك ، وكذلك قوله : يجب إعادتها ، لو لم يكن مختصّاً بخصوص صورة الشكّ بكونها القبلة ، فلا أقل من كونه شاملاً له ولصورة تبيّن العلم بكونها غير قبلة ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس سره ].

ص: 415

وهذا بخلاف ما لو لم تكن صورة العمل محفوظة ، بأن يكون قد صلّى ولم يعلم إلى أيّ جهة قد صلّى مع فرض كونه عند صلاته غير عالم بجهة القبلة ، وفرض كونه بعد الصلاة قد علم بها ، فإنّ شكّه حينئذ ممحض للشكّ في نفس العمل ، وأنّه هل هو منطبق على المأمور به أم لا ، لأنّ هذا الشكّ لم يكن إلاّفي ناحية العمل ، بحيث إنّه لولا ذلك العمل لم يكن الشكّ المذكور موجوداً ، فتجري فيه قاعدة الفراغ بناءً على هذا الضابط الذي أفاده قدس سره. نعم بناءً على الضابط الذي ذكرناه في صدر المبحث لا تجري فيه القاعدة المذكورة.

ولا يخفى أنّه في هذه الصورة لو كان بعد الفراغ غير عالم بالقبلة بل بقي على حاله السابق جاهلاً بها ، كان ملحقاً بما كانت صورة العمل فيه محفوظة ، لأنّ كلّ جهة يفرض أنّها قد وقعت إليها صلاته تكون تلك الجهة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن وقوع الصلاة فيها ممّا يشكّ في كونها هي القبلة ، فلابدّ أن تكون هذه الصورة خارجة عن مورد حكمه قدس سره بالصحّة ، إذ لو كانت هذه الصورة محكومة بالصحّة أيضاً لكان اللازم هو الحكم بالصحّة في من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات ، وقد أتى بواحدة منها ونسي الجهة التي صلّى إليها مع بقائه على حاله من الجهل بجهة القبلة. نعم لو كان بعد الفراغ من الصلاة قد عيّن

ص: 416

جهة القبلة ولكنّه نسي الجهة التي صلّى إليها ، كانت صلاته المذكورة بناءً على ما أفاده قدس سره مجرى لقاعدة الفراغ ، لدخول هذه الصورة تحت الضابط الذي أفاده ، وهو كون صورة العمل غير محفوظة عنده مع فرض أنّه قد عيّن جهة القبلة بعد الفراغ من صلاته.

ولا يخفى أنّ الملاك في الحكم بصحّة الصلاة فيما لو كان بعد الفراغ قد عيّن جهة القبلة - وهو احتمال انطباق المأتي به على المأمور به - متحقّق فيما لو لم يكن قد عيّن جهة القبلة بعد الفراغ ، لأنّ تلك الصلاة التي قد فرغ منها ولم يعلم أنّها إلى أيّ جهة وقعت يحتمل مطابقتها لما هو المأمور به واقعاً ، وهو الصلاة إلى القبلة الموجودة بين تلك الجهات.

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ هذا الضابط - أعني انحفاظ صورة العمل وعدمه - جارٍ حتّى في النحو الثالث أعني مسألة استصحاب الحدث والصلاة ، فإنّه إن احتمل أنّه قد توضّأ لم تكن صورة العمل وهو الصلاة محفوظة عنده ، وإن علم بأنّه لم يتوضّأ ولم يكن في البين إلاّ احتمال خطأ استصحابه كانت صورة عمله محفوظة ، ولم يكن شكّه راجعاً إلى ذلك العمل وممحضاً فيه ، بل كان ذلك الشكّ ناشئاً عن الشكّ في بقاء حدثه السابق ، وهذا الشكّ موجود سواء كان قد صلّى أو لم يكن قد صلّى ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّه لم يكن شاكّاً في مطابقة عمله للمأمور به ، وإنّما كان شاكّاً في انطباق المأمور به على الفعل المأتي به.

قوله : أو صلّى في الثوب المعيّن المشكوك كونه من المشكوك ... الخ (1).

المراد بالثوب الذي هو من المشكوك هو مثل الفاصونة التي يحتمل كونها

ص: 417


1- فوائد الأُصول 4 : 651.

من صوف ما لا يؤكل لحمه ، فهذا الثوب المعيّن الذي صلّى فيه غفلة إن كان من المشكوك الذي هو الفاصونة لم تجر فيه قاعدة الفراغ إذا كان بعد الفراغ غير عالم بالفتوى ، بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال أنّ الفتوى هي جواز الصلاة فيه ، وكذا لو كان قد علم بعد الفراغ بأنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، فإنّه لا تجري فيه قاعدة الفراغ بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال كون ذلك الثوب من المأكول.

وهكذا الحال لو كان عالماً قبل الصلاة بأنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، ولكنّه غفل وصلّى فيه ، فلا تجري في حقّه قاعدة الفراغ بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال كون ذلك الثوب من المأكول.

وكذا لو كان الثوب المعيّن الذي صلّى فيه مردّداً بين القطن والفاصونة ، فيكون من المشكوك كونه من المشكوك ، إلاّ أنّه ليس بفرض آخر زائد على الفروض المذكورة ، لأنّ المشكوك كونه من المشكوك ليس بخارج عن كونه مشكوكاً ، فلا فرق في هذه الصور بين كون الثوب الذي صلّى فيه من الفاصونة أو كونه مردّداً بين القطن والفاصونة ، ولعلّ الغلط من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو صلّى في الثوب المعيّن المعلوم كونه من المشكوك. وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الصور كلّها من قبيل ما تكون صورة العمل فيه محفوظة ، فتدخل تحت ضابط عدم جريان قاعدة الفراغ.

وأمّا صور كون العمل غير محفوظ الصورة فهي أن يكون له أثواب متعدّدة بعضها من القطن وكان بعضها الآخر من صوف ما لا يؤكل لحمه أو كان من الفاصونة ، وقد صلّى غفلة في أحدها ، وبعد الفراغ لم يعلمه بعينه ، لكنّه بعد الفراغ قد تميّز عنده ما هو القطن عن غيره ، فإنّه في هذه الصورة تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّه نظير ما لو صلّى غفلة إلى جهة وبعد الفراغ لم يعلمها بعينها ،

ص: 418

وقد عرف جهة القبلة بعد الفراغ ، ويكون داخلاً فيما تجري فيه القاعدة وهو ما يكون صورة العمل غير محفوظة بعد الفراغ.

أمّا إذا لم يكن بعد الفراغ قد ميّز القطن عن غيره فلا تجري فيه القاعدة ، لأنّ كلّ واحد من هذه الأثواب لو كان هو الذي قد صلّى فيه لم يكن الشكّ في الصحّة راجعاً إلى نفس العمل ، بل كان راجعاً إلى الشكّ في جهة أُخرى ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد من هذه الأثواب لا يعلم كونه ممّا يؤكل ، فيكون حاله حال ما لو صلّى إلى جهة ولا يعلمها فعلاً بعينها ولم يكن قد عيّن بعد الفراغ جهة القبلة ، وقد عرفت أنّه لا تجري فيه هذه القاعدة بناءً على الضابط الذي أفاده قدس سره ، ولكنّك قد عرفت الإشكال على عدم جريان القاعدة في ذلك ، لما عرفت من أنّ الملاك في جريانها هو احتمال مطابقة المأتي به لما هو المأمور به واقعاً ، وذلك متحقّق في الصورة المفروضة ، لاحتمال مطابقة تلك الصلاة التي فرغ منها على ما هو المأمور به الذي هو الصلاة إلى القبلة الموجودة بين الجهات ، وقد عرفت أيضاً أنّ القاعدة لو كانت جارية في ذلك لكان لازمها جريان قاعدة الفراغ في من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات وصلّى إلى جهة ونسيها ولم يكن بعدُ قد عيّن جهة القبلة ، ولا أظن أنّه قدس سره يلتزم في مثل ذلك بجريان قاعدة الفراغ.

نعم ، بناءً على ما أفاده قدس سره - فيما لو كان قد صلّى إلى جهة لا يعلمها فعلاً وقد عيّن جهة القبلة فعلاً - من جريان قاعدة الفراغ ، يلزمه أن يجري قاعدة الفراغ فيما لو كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات وقد صلّى إلى واحدة ونسيها وقد عيّن بعد ذلك جهة القبلة. وهكذا في من كانت وظيفته تكرار الصلاة في الثياب التي هي أطراف العلم الاجمالي ، أو كانت وظيفته تكرار الوضوء من المائعين اللذين يعلم بكون أحدهما مطلقاً والآخر مضافاً ، وبعد الفراغ من العمل الأوّل نسي

ص: 419

الثوب الذي صلّى فيه أو المائع الذي توضّأ منه ، وقد تعيّن بعد ذلك عنده الثوب الذي تجوز فيه الصلاة أو المائع المطلق ، فإنّه بناءً على هذا الذي أفاده في تلك المسألة ينبغي أن يُجري قاعدة الفراغ في ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّه يرد على من اكتفى في جريان قاعدة الفراغ باحتمال المصادفة الاتّفاقية حتّى فيما لو كانت صورة العمل محفوظة ، أنّ لازم ذلك هو جريان القاعدة في من كانت وظيفته التكرار وقد فرغ من واحد معيّن من الأعمال ، ومقتضى جريانها هو سقوط لزوم الاتيان بالباقي ، حيث إنّ القاعدة لو جرت تنقّح موضوع الامتثال ، فيسقط العلم الاجمالي ، كما أنّها تحكم بتحقّق الامتثال في مورد العلم التفصيلي ، فإنّ من صلّى وقد شكّ بعد الفراغ في نقصان ركن منها تكون قاعدة الفراغ منقّحة للامتثال وفراغ ذمّته ممّا اشتغلت به اشتغالاً تفصيلياً ، ولازم ذلك أنّ من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات أن يقتصر على واحدة منها.

وكذلك يرد عليه أن تجري قاعدة الفراغ في حقّ من توضّأ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء الطاهر المطلق ، فينبغي أن يحكم بصحّة وضوئه وطهارة أعضائه مع أنّهم يقولون إنّه محكوم باستصحاب الحدث وطهارة الأعضاء ، ولأجل ذلك يستشكلون من وضوئه بعد هذا الشكّ ، فإنّه حينئذ يعلم بأنّ وضوءه الثاني غير مأمور به إمّا لنجاسة أعضائه أو لكونه على وضوء ، ولو أجروا قاعدة الفراغ لسلموا من هذا الإشكال.

ولو وسّعوا المطلب إلى الشبهات الحكمية كما في من صلّى مدّة من عمره بلا سورة والآن لا يعلم بوجوب السورة - كما تقدّم ذكره في الأمثلة - مع فرض كون احتمال وجوبها منجّزاً ، لأنّه قبل الفحص أو قبل التقليد أو قبل السؤال ممّن

ص: 420

قلّده ، واكتفوا باحتمال انطباق المأمور به على المأتي به ، ولم يشترطوا احتمال مطابقة المأتي به لما هو المأمور به ، لتوجّه عليهم الايراد بجميع موارد العلم الاجمالي في الشبهات الحكمية الوجوبية المقرونة بالعلم الاجمالي ، فمن كان مردّداً بين كون الواجب عليه هو صلاة الظهر أو الجمعة ، لو أتى بأحدهما يسقط عنه الآخر ، لجريان قاعدة الفراغ في المأتي به الحاكمة بانطباق المأمور به عليه الموجبة للحكم بفراغ ذمّته عن الواجب الواقعي المردّد بينهما.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قاعدة الفراغ لا تجري في الشكّ في أصل الاتيان بالمأمور به ، وإنّما تجري في مورد الشكّ في شرطه أو جزئه بعد الفراغ عن أصل الاتيان به ، وإلاّ لورد على شيخنا قدس سره أنّ من فاتته فريضة مردّدة بين الصبح والمغرب والعشاء وكان اللازم عليه قضاء ثلاث فرائض أنّه لو أتى بواحدة منها ثمّ نسيها وقد علم بعد ذلك أنّ الفائت منه هو العشاء ، تكون قاعدة الفراغ جارية في تلك التي نسيها ولم يعلمها بعينها ، وبذلك يثبت أنّها كانت عشاء ، ولا يلزمه بعد ذلك قضاء العشاء. بل يرد أيضاً أن تجري قاعدة الفراغ في من دخل عليه الفجر وقد صلّى صلاة ونسيها واحتمل أن تكون هي الصبح أو النافلة ، ولا جواب عن أمثال هذه الزخارف إلاّما ذكرناه من عدم جريان القاعدة في الشكّ في أصل الاتيان بما هو المأمور به.

قوله : وكذا الكلام فيما إذا كان المكلّف عالماً بجهة القبلة وبعد الصلاة شكّ في مطابقة علمه للواقع ... الخ (1).

وهكذا الحال في من كان قاطعاً بأنّه متطهّر من الحدث فصلّى ثمّ شكّ في ذلك القطع ، وكذا لو كان قاطعاً بذلك فشكّ فاستصحب الطهارة فصلّى ثمّ بعد

ص: 421


1- فوائد الأُصول 4 : 652.

الفراغ شكّ في قطعه السابق. نعم لو احتمل مع ذلك أنّه توضّأ تجديداً في المثال الأوّل أو احتياطاً في المثال الثاني ، جرت في حقّه قاعدة الفراغ.

ومن ذلك يظهر أنّ الوجه الرابع يمكن أن يتأتّى فيه الوجهان ، أعني انحفاظ صورة العمل كما في الأمثلة التي ذكرت في الكتاب وكما في المثال الأوّل الذي ذكرناه ، وعدم انحفاظ صورة العمل كما في المثال الثاني.

ولا يخفى أنّ جريان قاعدة الفراغ في صورة احتمال الوضوء التجديدي أو في صورة احتمال الوضوء الاحتياطي إنّما هو بناءً على ما أفاده قدس سره من أنّ الضابط هو عدم انحفاظ صورة العمل ، أمّا بناءً على ما ذكرناه من أنّ الضابط هو طروّ احتمال النسيان ، فالظاهر هو عدم جريانها ، لأنّ تركه للوضوء في هاتين الصورتين لم يكن عن نسيان له ، وإنّما يكون من جهة قطعه السابق أو استصحابه للطهارة.

قوله : المبحث السابع : لا تجري قاعدة الفراغ والتجاوز في حقّ من يحتمل الترك عمداً ، فإنّ الظاهر من قوله عليه السلام : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه » الخ ، وقوله : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك » الخ هو اختصاص القاعدة بصورة احتمال الترك غفلة عن نسيان خصوصاً قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (1).

الأذكرية عند العمل كما تطرد احتمال النسيان فكذلك تطرد احتمال تعمّد الترك ، فإنّ المنظور إليه هو الانبعاث عن تلك الارادة التي تعلّقت بالمركّب ، وأنّها تؤثّر في محلّ كلّ جزء بتوليد إرادة ضمنية متعلّقة بذلك الجزء ، وهذه الجهة كما

ص: 422


1- فوائد الأُصول 4 : 652 - 653.

تطرد احتمال تركه نسياناً ، فكذلك تطرد احتمال تعمّد تركه.

ثمّ لو أُغضي النظر عن ذلك وأخذنا بجانب هذا التعليل بناءً على اختصاصه بطرد احتمال الترك نسياناً ، فذلك التعليل إنّما هو في قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز ، وحينئذ فلنقل بسقوط قاعدة الفراغ ، لكن لا مانع من الركون إلى قاعدة التجاوز حتّى لو طرأ الشكّ المذكور بعد الفراغ ، لما عرفت مراراً من جريان قاعدة التجاوز في مورد قاعدة الفراغ وأنّها حاكمة عليها ، أو أنّهما يجريان معاً من دون حكومة للأُولى على الثانية.

نعم ، فيها إشكال آخر وهو ما أشرنا إليه في المباحث السابقة (1) من كون جريانها في التشهّد بعد الدخول في القيام موجباً لإحراز صحّة ما يأتي من الأجزاء التي هي بعد التشهّد ، وأنّها كافية في إحراز شرط تلك الأجزاء الذي هو كونها بعد التشهّد ، من جهة أنّ تطبيق عموم قاعدة التجاوز على الجزء الذي احتمل تركه نسياناً ، لو لم يكن في البين ذلك التصرّف الشرعي الزائد على أصل قاعدة التجاوز أعني تحقّق الشرط فيما بعد ما جرت فيه ، لكان جريان القاعدة فيه لغواً ، فاخراجاً لعموم قاعدة التجاوز عن اللغوية بعد فرض تطبيق الشارع لها على موارد الترك نسياناً ، نقول إنّه لابدّ أنّه قد تحقّقت عند الشارع تلك العناية ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّه متوقّف على عناية أُخرى ، حيث إنّ الأجزاء اللاحقة على تقدير تعمّد ترك السابق تكون من تعمّد الزيادة ، فنحتاج في تطبيق قاعدة [ التجاوز ] على احتمال الترك العمدي إلى عناية فيما يتعقّبه من الأجزاء وأنّها لا تكون زيادة عمدية ، وحيث لم تثبت تلك العناية لم يكن في وسعنا تطبيق العام في هذا المورد لنستكشف منه تحقّق تلك العناية عند الشارع.

ص: 423


1- في الصفحة : 366 - 367.

وحينئذ تكون الوقفة والتردّد في إجراء قاعدة التجاوز فيما نحن فيه من هذه الجهة ، فلو أردنا الاحتياط فهل يكون ذلك بالمضي في الصلاة وإجراء قاعدة التجاوز ثمّ بعد الفراغ يعيد الصلاة ، أم أنّ الاحتياط يكون بالتدارك ثمّ الاعادة ، في حين أنّ التدارك لا يرفع احتمال كون ذلك القيام والتسبيح الذي تركه ورجع إلى التشهّد زيادة عمدية ، وهكذا الحال فيما ذكرناه من المضي في الصلاة وعدم التلافي ، فإنّ إجراء قاعدة [ التجاوز ] كما عرفت لا ينفي احتمال تعمّد الزيادة في تلك الأجزاء ، وفي الحقيقة أنّ هذا الاحتمال المسجّل لا ينفيه التدارك كما لا ينفيه المضي وعدم التدارك ، فلا محيص حينئذ من الحكم ببطلان الصلاة لعدم تمكّنه من إتمامها بكلّ من الوجهين أعني التلافي وعدمه. نعم لا مانع من المضي وعدم التلافي استناداً إلى احتمال جريان قاعدة الفراغ ثمّ الاعادة بعد الاتمام.

أمّا الاحتياط بالتلافي ثمّ الاعادة ، ففيه أنّه متوقّف على إمكان العمل بالاحتياط بالتلافي في المورد الذي نجزم فيه بجريان قاعدة [ التجاوز ] كما لو احتمل الترك نسياناً ، فهل يمكنه أو يصحّ له الاحتياط بأن يتلافى ذلك الجزء المشكوك ، الظاهر أنّهم لا يقولون بذلك ، وحينئذ فيما نحن [ فيه ] لا يكون هذا الاحتياط بالتلافي صحيحاً ، لأنّ في قباله احتمال جريان قاعدة التجاوز المانع من التلافي ولو احتياطاً.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده في العروة في مسألة 56 التي نقلناها عنه فيما تقدّم (1) ، بل منه يظهر التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره ، وقد تقدّم (2) الكلام في توجيه الحاشية المشار إليها فراجع.

ص: 424


1- سيأتي في الصفحة : 426.
2- سيأتي في الصفحة : 427.

قوله : خصوصاً قوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » ... الخ (1).

في التقريرات المطبوعة في صيدا وجّه عدم شمول الأدلّة للاحتمال العمدي بأنّها منصرفة عنه ، خصوصاً قوله عليه السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (2) فإنّه وإن لم يكن ظاهراً في التعليل ، بل الظاهر كونه حكمة غالبية ، إلاّ أنّه يستظهر منه الاختصاص لغير صورة الترك العمدي (3).

ولا يخفى أنّه بعد تسليم استظهار الاختصاص من الحكمة المذكورة لا يمكن منع هذا الاختصاص المدّعى سابقاً في مسألة من صلّى إلى جهة لا يعلمها وقد شكّ في أنّها القبلة ، ونحو ذلك من فروع الوجه الثاني من الوجه الثاني.

والحاصل : أنّ هذه الحكمة إن كانت قرينة على الاختصاص بغير صورة احتمال الترك العمدي ، كانت قرينة أيضاً على الاختصاص بغير صورة احتمال المصادفة الاتّفاقية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّها قرينة على إخراج احتمال الترك العمدي فقط دون احتمال المصادفة الاتّفاقية ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ قوله عليه السلام « هو أذكر » قرينة على دخول احتمال الترك العمدي ، فإنّ الأذكرية إنّما اعتبرت لأجل أنّ المكلّف الذي هو بصدد الامتثال لابدّ أن يأتي بكلّ ما كلّف به في موضعه ، فاحتمال أنّه تركه عمداً في موضعه أبعد من احتمال سهوه عنه ونسيانه له.

ص: 425


1- فوائد الأُصول 4 : 652 - 653.
2- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 7.
3- أجود التقريرات 4 : 241.

والحاصل : أنّ كونه ذاكراً له في موضعه لمّا أُخذ طريقاً إلى الحكم بالاتيان به في صورة احتمال السهو فهو طريق إلى الاتيان به في صورة احتمال تعمّد الترك بطريق أولى ، كما يظهر ذلك من الشيخ قدس سره (1) وقد شرحه الآشتياني قدس سره (2) وأوضح فساد القول بعدم شمول القاعدة بما لا مزيد عليه ، وقد تعرّض لهذه المسألة في العروة في مسألة 56 إذا شكّ (3) في أنّه هل ترك الجزء الفلاني عمداً أم لا ، فمع بقاء محلّ الشكّ لا إشكال في وجوب الاتيان به ، وأمّا مع تجاوزه فهل تجري قاعدة الشكّ بعد التجاوز أم لا ، لانصراف أخبارها عن هذه الصورة خصوصاً بملاحظة قوله : « كان حين العمل أذكر » وجهان ، والأحوط الاتيان ثمّ الاعادة (4) ومراده من الاتيان هو الاتيان بذلك الجزء المحتمل تركه عمداً ، لا إتمام الصلاة مع عدم الاتيان به ، وقد كتب شيخنا قدس سره في الحاشية على قوله « ثمّ الاعادة » ما هذا لفظه : لو تخلّل في البين ما يوجب البطلان على تقدير تعمّد الترك يجب الاعادة ، وإلاّ فلا (5) فإنّه بعد فرض عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل ما لو كان في حال القيام واحتمل أنّه ترك التشهّد أو السجدة الأخيرة عمداً ، وجب عليه التدارك دون الاعادة ، إذ ليس في البين ما يمنع من وجوب التدارك إلاّكون هذه الأجزاء التي شرع [ فيها ] زيادة عمدية ، ولم يثبت أنّها موجبة لبطلان الصلاة ، نعم لو دخل في الركوع لم يمكنه التدارك إلاّبزيادة الركوع وهو مبطل للصلاة ، وحينئذ تجب عليه الاعادة.

ص: 426


1- فرائد الأُصول 3 : 344.
2- بحر الفوائد 3 : 200.
3- سابقاً حرّرنا هذه المسألة مستقلّة [ لعلّ المقصود بذلك تحريراته الفقهية المخطوطة ] فينبغي مراجعتها والجمع بين البحث هناك وهنا [ منه قدس سره ].
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 389 / المسألة 4. .
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 389 / المسألة 4. .

فحاصل الحاشية أنّه بعد فرض عدم جريان قاعدة التجاوز ينبغي التفصيل في المسألة بأنّه إن كان قد دخل في ركن بطلت صلاته ووجب عليه الاعادة ، وإن لم يدخل في ركن لزمه تدارك ذلك المحتمل. ولعلّ نظر الماتن في الاحتياط بالجمع بين الاتيان بذلك المحتمل والاعادة إلى هذه الصورة ، أعني صورة ما لم يدخل في ركن ، ومنشأ هذا الاحتياط أحد أمرين :

الأوّل : احتمال جريان قاعدة التجاوز في حقّه القاضي بعدم لزوم التدارك ، فلا يمكنه التدارك لأنّه موجب للزيادة ، فالقدر الجامع هو أن يتداركه ويعيد الصلاة ، لكن هذا الوجه يوجب كون التدارك خلاف الاحتياط حتّى في صورة احتمال الترك سهواً ، وكأنّه لأجل ذلك قيل إنّ مراده من الاتيان هو إتمام الصلاة بلا تدارك للجزء المحتمل تركه.

الوجه الثاني لهذا الاحتياط : هو أن يقال إنّ تعمّد الترك والدخول في الجزء الآخر يحتمل أنّه مبطل للصلاة ، نظراً إلى أنّه إن لم يرجع إلى تلافيه كان من النقيصة العمدية وهي مبطلة ، وإن رجع إلى تلافيه ولو قبل الدخول في ركن كان ذلك الجزء الذي دخل فيه زيادة عمدية ، وهذا القول وإن قلنا ببطلانه إلاّ أنّه لمّا كان محتملاً وكان الترك العمدي هنا محتملاً ، كان ذلك عبارة أُخرى عن احتمال بطلان الصلاة لو عمل بما قلناه من لزوم العود إلى تلافيه ، فلأجل ذلك يكون الأحوط هو لزوم التدارك والاعادة.

وبعبارة أُخرى لو كان الترك العمدي معلوماً وقد دخل في جزء آخر فنحن نلزمه بالعود لأجل تلافي ذلك المتروك ، وحيث إنّه قد قيل بأنّ ذلك التلافي موجب لبطلان الصلاة بالزيادة العمدية ، فالأحوط في تلك المسألة - أعني ما لو كان الترك العمدي معلوماً - هو التدارك والاعادة.

ص: 427

ومنه يظهر أنّ الأحوط في مسألتنا هذه - أعني ما لو كان الترك العمدي محتملاً - هو التدارك والاعادة أيضاً ، فإنّه بعد أن لم تجر في حقّه قاعدة التجاوز كان التدارك لازماً بمقتضى أصالة الاشتغال بذلك الجزء أو أصالة عدم الاتيان به والتدارك وإن قلنا بلزومه لعدم بطلان الصلاة بما يستلزمه من الزيادة العمدية ، إلاّ أنّه لمّا قيل بأنّ تلك الزيادة موجبة لبطلان الصلاة ، كان الأحوط هو ضمّ الاعادة إلى لزوم التدارك.

لا يقال : فلِمَ لَم تحتاطوا بترك التدارك وتكتفوا بالاتمام والاعادة.

لأنّا نقول : إنّ ذلك خلاف مسلكنا الذي سلكناه في أصل المسألة وهو الفتوى بلزوم التدارك وعدم كون تلك الزيادة مبطلة ، لكنّي في شكّ من كون مسلك السيّد صاحب العروة قدس سره هو لزوم التدارك في صورة تعمّد الترك ، فإنّ كلامه في مسألة فصل في الترتيب في أجزاء الصلاة (1) ربما يعطي خلاف ذلك ، حيث إنّه في صورة ما لو خالف الترتيب عمداً حكم ببطلان الصلاة ، فلو خالفه عمداً بطل ما أتى به مقدّماً وأبطل من جهة لزوم الزيادة ، وفيما لو خالف الترتيب سهواً فصّل بين ما لو قدّم ركناً على ركن فإنّه مبطل بخلاف ما لو لم يكن كذلك (2) وبناءً على ذلك نقول : إن جرت في حقّه قاعدة التجاوز كان مقتضاها إتمام الصلاة من دون لزوم الاعادة ، وإن لم تجر في حقّه كان محكوماً بأصالة عدم الاتيان ، ويكون مقتضاه البطلان ، وطريق الاحتياط هو الاتمام والاعادة ، فلا يتّجه ما أفاده

ص: 428


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 600.
2- لكن ينبغي مراجعة ما أفاده في المسألة 49 من مسائل خلل الوضوء [ منه قدس سره. العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 456 / المسألة 49 من شرائط الوضوء ].

من الاحتياط بالتدارك ، إذ لا وجه حينئذ للتدارك ، لأنّه إن كان قد ترك ذلك الجزء فقد بطلت صلاته ، وإن لم يكن قد تركه لم يكن وجه لهدم ما بيده والرجوع إلى الجزء السابق ، إلاّ أن يحمل قوله « الأحوط الاتيان والاعادة » على إتمام الصلاة وهو خلاف الظاهر.

ويبقى الإشكال في توجيه ما أفاده شيخنا قدس سره في الحاشية ، فإنّه قدس سره أيضاً يقول بأنّ الزيادة العمدية في غير الركن مبطلة كما يظهر لمن راجع ما أفاده قدس سره (1) في أُصوله في مسألة الأقل والأكثر في حكم الزيادة العمدية ، فإنّه يستند في ذلك إلى قوله عليه السلام : « من زاد في صلاته فعليه الاعادة » (2) بعد تحكيم حديث لا تعاد (3) عليه في إخراج الزيادة السهوية عنه ، ويبقى مختصّاً بالزيادة العمدية.

ودعوى أنّا وإن قلنا بأنّ زيادة غير الركن عمداً مبطلة ، إلاّ أنّه لا يشمل مثل ما نحن فيه ممّا كان من قبيل إعادة الجزء لأجل كونه قد وقع في غير محلّه ، ممنوعة فإنّه إنّما يتمشّى فيما لو كان وقوعه في غير محلّه من جهة السهو ، كما لو نسي الجزء ودخل في جزء آخر وتذكّر ، فإنّه عليه الاتيان بذلك الجزء المتروك سهواً وإعادة ذلك الجزء الذي دخل فيه ، ولا يكون إعادة ذلك الجزء من الزيادة العمدية ، بل يكون من الزيادة السهوية ، أمّا لو كان الترك عمدياً فلا يكون إلاّمن قبيل الزيادة العمدية ، إذ لا ريب حينئذ في أنّه قد حصلت الزيادة باعادة ذلك الجزء الذي دخل فيه ، لأنّ كلاً من ذلك الجزء الذي أتى به أوّلاً والجزء الذي أتى به ثانياً ، لا يكون إلاّبقصد الجزئية عمداً ، ويكون موجباً للدخول في الزيادة

ص: 429


1- فوائد الأُصول 4 : 238.
2- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 2.
3- وسائل الشيعة 1 : 371 - 372 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.

العمدية ، فيوجب البطلان.

لا يقال : إنّ ذلك الجزء الذي دخل فيه لا يكون زائداً قبل التدارك لعدم تكراره ، ولا تكون المسألة إلاّمن قبيل نقصان الجزء السابق لا من قبيل زيادة الجزء اللاحق ، وحيث إنّ تلك النقيصة كان يمكنه تداركها كان عليه أن يتدارك ذلك الجزء الذي تركه عمداً ، وحينئذ لو تدارك الجزء الفائت عمداً وكرّر ذلك الجزء الذي دخل فيه لا يمكننا القول بأنّ الزائد هو ذلك الجزء الذي جاء به ثانياً ، لأنّه لم يكن واقعاً إلاّفي محلّه فلا يكون زائداً ، كما أنّه لا يمكننا القول بأنّ الزائد هو الذي أتى به أوّلاً لفرض أنّه حينما وقع لم يكن زائداً ، فكيف ينقلب عمّا وقع من عدم الزيادة إلى الزيادة.

لأنّا نقول : إنّا نقول إنّه لا يمكنه الرجوع إلى تدارك الجزء الفائت ، لأنّه موجب لأن يكون ذلك الجزء الذي دخل فيه زائداً وقد كان تعمّد في دخوله فيه ، فيكون داخلاً في الزيادة العمدية وإن لم يكن داخلاً فيها قبل ذلك ، هذا.

ولكن التحقيق أنّ ذلك الجزء الذي دخل فيه هو مصداق للزيادة العمدية قبل التدارك ، فإنّه لمّا أتى به عمداً بقصد الجزئية بعد ترك ما قبله عمداً ، كان ذلك الجزء فاقداً لشرطه وهو ترتيبه على ما قبله فيكون باطلاً ، وقد أتى به بقصد الجزئية فيكون زيادة عمدية ، فيكون مبطلاً من حينه من دون توقّف في ذلك على تدارك الجزء المتروك.

لا يقال : بناءً على ذلك لو كان الترك سهواً ولم يتذكّر حتّى دخل في ركن ، كان جميع ما أتى به من الأجزاء ممّا بين ذلك الجزء المتروك وبين ذلك الركن من قبيل الزيادة السهوية ، فيلزمه سجود السهو لها.

لأنّا نقول : إنّ الأمر كذلك ، لكن لمّا دلّ حديث لا تعاد على سقوط جزئية

ص: 430

ذلك المتروك سهواً ، كان ذلك موجباً لسقوط اشتراط ما بعده بترتّبه عليه ، فيخرج ما بعده عن كونه زيادة سهوية.

وكيف كان ، فالأوجه في توجيه الحاشية هو جعلها ناظرة إلى ما لو دخل فيما لا يكون من الأجزاء ، مثل ما لو دخل في القنوت بناءً على أنّه مستحبّ مستقل واحتمل أنّه ترك القراءة عمداً ، أو دخل في النهوض واحتمل أنّه ترك التشهّد أو السجدة الأخيرة عمداً ، فإنّه بعد فرض أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في حقّه ، إمّا لأنّ القنوت والمقدّمات لا يصدق عليه عنوان الغير ، وإمّا لأنّ الشكّ في تعمّد الترك لا يكون مشمولاً لقاعدة التجاوز ، فإنّه في أمثال ذلك يلزمه العود لتدارك ما احتمل تركه عمداً ، ولا يكون في البين زيادة عمدية ، نعم لو دخل في جزء واجب من أجزاء الصلاة لم يمكنه التدارك ولزمه إعادة الصلاة لبطلانها حينئذ.

ويمكن أن يقال : إنّ كلّ جزء جاء به قبل محلّه لا يكون من قبيل الزيادة ، فلو جاء بالركوع قبل القراءة أو بالقيام للثالثة قبل التشهّد إلى غير ذلك ، لا يكون من قبيل الزيادة ، وإنّما يكون من قبيل النقيصة ، غايته أنّه إن أمكن تلافي ذلك الناقص كان حكم الشارع به وباعادة ذلك الجزء موجباً لكون ذلك الجزء الذي جاء به في غير محلّه زائداً ، وإن لم يمكنه التلافي كما لو دخل في الركوع قبل القراءة لم يكن إلاّمن قبيل نسيان القراءة لا من قبيل زيادة الركوع.

ومن ذلك ما لو سلّم على الثانية عن تخيّل كونها رابعة والتفت قبل المنافي فإنّه يلزمه الاتمام والاتيان بالسلام ثانياً على الرابعة ، فيكون السلام السابق حينئذ زائداً بالنظر إلى وجوب السلام الأخير عليه ، ويكون حاله حال ما لو سلّم على الثانية غفلة.

ص: 431

وعلى كلّ حال ، أنّه مع قطع النظر عن حكم الشارع عليه بالسلام الأخير ، لا يكون إلاّمن قبيل نقصان الركعتين الأخيرتين سهواً ، فلو حكم الشارع بتلافيها من دون سلام واكتفى بالسلام السابق ، لم يكن ذلك السابق زائداً ، غايته أنّه كان على خلاف الترتيب ، لكن لمّا حكم الشارع بلزوم السلام ثانياً كان لازمه إلغاء الأوّل فيكون زائداً.

ولازم هذه الكلمات أنّه لو قرأ السورة قبل الفاتحة ثمّ قرأ الفاتحة ولم يلتفت إلاّبعد الدخول في الركوع ، لم يكن ذلك من الزيادة ولا من النقيصة ، بل لا يكون إلاّمن قبيل الإخلال بشرط هذين الجزأين وهو الترتيب.

وهكذا الحال فيما لو قدّم التشهّد على السجود ، سواء كان على تمامه أو على السجدة الثانية ثمّ سجد وقام ، اللّهمّ إلاّ أن نقول : إنّه في الواقع لمّا كان محكوماً بوجوب إعادة التشهّد كان ذلك كافياً في الحكم بكون التشهّد السابق زائداً ، وحيث إنّه قد تركه بعد السجود أيضاً مع كونه مأموراً به واقعاً يكون من قبيل نقصانه ، فيلزمه بعد الصلاة قضاؤه وسجود السهو لنقصانه ، كما يجب عليه أيضاً السجود لزيادته ، من دون فرق في ذلك بين الغفلة في جميع ما صدر من عكس الترتيب بين السجدة الأخيرة والتشهّد ، أو أنّه قد تخيّل أنّه أكمل السجدتين فتشهّد وبعد الفراغ من تشهّده ذكر أنّه لم يأت بالثانية فهوى إليها ، ثمّ بعد رفعه الرأس منها نسي الاتيان بالتشهّد بعدها ، فإنّ ذلك كلّه من قبيل الزيادة والنقص وإن كان كونه كذلك في الصورة الثانية أوضح.

وهذه الزيادة ليست بعمدية ، لأنّه لم يتعمّد زيادتها عند الاتيان بها ، ولا سهوية لأنّها لم تقع سهواً ، بل هي قهرية بمعنى أنّه لمّا كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو الاتيان بذلك الجزء المتروك ولزوم الترتيب باعادة تلك الأجزاء ، كانت تلك

ص: 432

الأجزاء التي جاء بها بطبيعة الحال زيادة في ذلك المركّب ، فإن لم يكن في البين ما يدلّ على البطلان بالزيادة صحّ العمل معها كما في باب الوضوء ، ولمّا كانت الصلاة بخلاف ذلك لعموم « من زاد في صلاته فعليه الاعادة » (1) كان هذا العموم قاضياً بفسادها بالزيادة ، سواء كانت عمدية أو كانت سهوية أو كانت قهرية ، لكن حديث لا تعاد دلّ على عدم بطلان الصلاة بأي خلل وقع فيها إلاّمن ناحية تلك الخمسة ، وبه تكون الزيادة السهوية والزيادة القهرية غير مبطلة للصلاة ، أمّا الزيادة العمدية فهي خارجة عن عموم حديث لا تعاد ، لما حقّق في محلّه من عدم شموله للخلل العمدي ، وحينئذ نقول : إنّ من نسي التشهّد مثلاً وتذكّر قبل الركوع كانت القاعدة الأوّلية قاضية بلزوم الاتيان به ، وإن لزم منه كون القيام والقراءة السابقة زيادة قهرية وهي مبطلة بعموم « من زاد » إلاّ أنّ حديث لا تعاد الشامل للزيادة القهرية يصحّحها ويجري عليها حكم الزيادة السهوية من سجود السهو لعموم دليل سجود السهو ، أمّا إذا لم يتذكّر إلاّبعد الدخول في الركوع ، فكان تدارك التشهّد موجباً لكون ذلك الركوع زيادة قهرية ، وكان المورد داخلاً في أحد تلك الخمسة الموجبة للاعادة بحكم الاستثناء ، فلاحظ.

وإن شئت فقل : إنّ هذا الشخص الذي سها عن السجدة الأخيرة مثلاً وتشهّد وقام بعد فرض اعتبار الترتيب في أجزاء الصلاة ، وبعد فرض اعتبار عدم الزيادة فيها ، يدور أمره بالنظر إلى جريان حديث لا تعاد في حقّه بين إسقاط جزئية السجدة الأخيرة في حقّه فيلزمه المضي في صلاته وعدم تلافي السجدة ، وبين لزوم تلافيها بلا إعادة ما أتى به ممّا بعدها فيكون الساقط هو الترتيب ، أو لزوم تلافيها مع إعادة ما بعدها ، فيكون ذلك موجباً لكون ما سبق زيادة قهرية ،

ص: 433


1- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 2.

فيكون الساقط هو اعتبار عدم الزيادة ، وبمقتضى حديث لا تعاد يتعيّن الأخير ، لأنّ التكليف بالجزء يستدعي بطبعه الاتيان به ما دام ممكناً ، فبالطبع الأوّلي يلزمه الاتيان بالسجدة ، وبعد الاتيان بها نقول إنّه لا يمكننا إسقاط الترتيب عنه بالاكتفاء في الأجزاء اللاحقة بما فعله منها قبل تلافيه السجدة ، لأنّ الترتيب فعلاً ممكن الحصول ، فطبع الحال من الأمر بتحصيل الترتيب يلزمه إعادة ما تقدّم من الأجزاء فيلزم من ذلك الزيادة القهرية فيما سبق منها ، وهذا - أعني عدم الزيادة - لو كان معتبراً في هذا الحال لم يمكن الحصول عليه إلاّبالاعادة ، فيكون اعتباره ساقطاً بحديث لا تعاد.

والخلاصة : هي دعوى الطولية والترتّب الطبعي بين هذه الأُمور ، فلا يقع التزاحم بينها ، فلاحظ وتأمّل.

وحاصل ذلك : هو أنّ هذا المكلّف يمكنه الحصول على الجزء وعلى شرطه من الترتيب فيلزمه ذلك ، غايته أنّه موجب لكون ما مضى زيادة قهرية ، وهذه لا يتكلّف بعدمها إلاّبالاعادة فتسقط.

لا يقال : إنّه يمكنه فعلاً الحصول على الجزء وعلى عدم الزيادة ، وحينئذ يسقط الترتيب ، لأنّه مع الاحتفاظ بالجزء وعدم الزيادة يكون الاحتفاظ بالترتيب منحصراً بالاعادة فيسقط.

لأنّا نقول : إنّ معنى التكليف بعدم الزيادة هو النهي عنها ، وهو إنّما يكون قبل وجودها ، فهو في هذا الحال - أعني حال تركه الجزء نسياناً - لا يتوجّه إليه نهي عن تلك الزيادة ، وإنّما المتوجّه إليه هو الأمر بالترتيب ، وبعد الجري على طبق الأمر بالجزء وبترتيبه يكون ما مضى زيادة قهرية ، فلا يمكن توجّه النهي إليها ، ولا يكون للنهي عن الزيادة الذي تضمّنه الأمر بالصلاة [ مجال ] إلاّبالاعادة

ص: 434

فتسقط.

لا يقال : إنّه لو دخل في الركوع في الصورة المفروضة ينبغي أن تقولوا بأنّه يلزمه السجدة وما بعدها ، لإمكان تلافيه ، ويكون الساقط هو الترتيب في ناحية السجدة.

لأنّا نقول : إنّه عند الاتيان بالركوع قبل السجدة يكون الترتيب في الركوع ساقطاً ، لأنّه يلزمه السجدة ثمّ الركوع بعده ، ولا يكون ذلك إلاّباعادة الصلاة ، فيسقط ترتيب الركوع على السجدة وذلك لسقوط جزئية السجدة ، فيكون سقوط جزئية السجدة حاصلاً بمجرّد الدخول في الركوع ، فلا يبقى أمرها كي يقال إنّه بعد فراغه من الركوع يدور الأمر بين سقوط السجدة وسقوط ترتّبها على الركوع ، والذي يلازم الاعادة هو شرطها وترتيبها على الركوع دون أصل وجوبها ، فلاحظ وتأمّل.

وحاصل الأمر : أنّه لا معنى لوجوب ترتيب الركوع على السجدة إلاّوجوب السجدة وإيقاع الركوع بعدها ، وهذا الوجوب - أعني إيقاع الركوع بعد السجود الراجع إلى قوله : اسجد ثمّ اركع - لا يمكنه امتثاله إلاّبالاعادة فيسقط ، وهو عبارة أُخرى عن سقوط وجوب السجدة ، هذا.

ولكن الإنصاف هو أنّ انفقاد شرط الجزء يكون موجباً لزيادته ، وأنّ الإخلال بالترتيب في الأجزاء لا يكون ممكناً ، لأنّه موجب لزيادة الجزء المأتي به قبل ما تقدّمه ، ومع كونه زيادة لا يكون جزءاً صلاتياً. ومنه يتّضح لك الوجه في عدم جريان حديث لا تعاد في نفس الإخلال بالترتيب لعدم تصوّر الإخلال به ، بل إنّ الإخلال به يوجب الزيادة ، وبذلك يكون مجرى لحديث لا تعاد ، ففي تقديم تمام السجود على الركوع لا يجري حديث لا تعاد ، لأنّه من زيادة الركن

ص: 435

ونقصه ، فيكون داخلاً في الاستثناء ، ومع كونه من الزيادة لا يكون من تقدّم بعض الأجزاء على بعض.

ومنه يظهر وجه الصحّة في تقديم السورة على الفاتحة وعدم الالتفات إلاّ بعد الركوع ، فإنّه ليس من باب الخلل في الترتيب كي يقال إنّه لا يجري فيه حديث لا تعاد ، بل هو من زيادة السورة ونقصها ، بل من باب النقص والزيادة في كلّ منهما.

وأمّا ما لو نسي بعض الأجزاء غير الركنية حتّى دخل في ركن فهو وإن كان قبل الدخول في الركن من باب زيادة تلك الأجزاء ، إلاّ أنّه بعد أن دخل في الركن وجرى حديث [ لا تعاد ] في ذلك المتروك سهواً وسقطت جزئيته ، تخرج تلك الأجزاء عن كونها زيادة ، لا بمعنى الانقلاب ، بل بمعنى أنّه ينكشف بذلك أنّها ليست بزيادة ، لأنّه من حين ترك ذلك الجزء لمّا كان ذلك الترك متعقّباً بالدخول في الركن كان ذلك المتروك ساقط الجزئية من حين تركه ، فتكون المسألة من باب الكشف لا من باب النقل.

ثمّ إنّه مع الدخول في الركن لمّا كان الدخول فيه مسقطاً للجزئية لم يكن ذلك الركن زائداً ، كما أنّه لا يبقى مجال لتدارك ذلك المتروك ليقال إنّ الساقط هو الترتيب ، لما عرفت من أنّه لا يتصوّر الإخلال بالترتيب ، فلا يكون ذلك الركن وذلك الجزء الذي تداركه بعد الركن من قبيل جزأين قد أخلّ بترتيبهما ، بل يكون كلّ منهما أجنبياً عن أجزاء الصلاة لانفقاد الشرط في كلّ منهما ، ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، فلماذا لم يجعل حديث لا تعاد جارياً في ذلك الشرط فيكون هو الساقط ، ويكونان من قبيل جزأين تقدّم أحدهما على الآخر.

فالأولى أن يقال : إنّ حديث لا تعاد وإن جرى في الشرائط إلاّ أنّه لا يجري

ص: 436

في شرط الترتيب ، لأنّه ليس في عرض سائر الأجزاء والشرائط ، فلاحظ وتأمّل.

ولازم هذا الذي ذكرناه هو أنّه لو عكس الترتيب فقرأ السورة قبل الفاتحة فإن تذكّر قبل الركوع أعادهما أو أعاد السورة فقط ، وكانا من قبيل الزيادة القهرية ، أو كانت السورة الأُولى فقط زيادة قهرية ، وإن لم يتذكّر حتّى ركع أو حتّى فرغ من صلاته لم يكن من قبيل الزيادة ولا النقيصة ، بل كان من قبيل فقدان شرط الترتيب بينهما كما صرّح به في مسألة 62 من ختام العروة (1) ، لكن شيخنا قدس سره (2) علّق عليه أنّه من قبيل زيادة السورة ونقصها ، وفيه تأمّل.

ولو قدّم التشهّد على السجدتين بأن تشهّد ثمّ سجد السجدتين ولم يتذكّر حتّى فرغ ودخل في الركوع كان الأمر كذلك ، ولو تذكّر بعد السجود عاد للتشهّد - وكان الأوّل زيادة قهرية - وبه صرّح في العروة (3).

أمّا لو قدّم أحد الأركان على الآخر كما لو قدّم السجود على الركوع بطلت صلاته ، لنقصان الركوع وعدم إمكان تلافيه إلاّبإعادة السجود ، وكلاهما داخل في عقد الاستثناء.

ولو ركع ثمّ قرأ كان من قبيل نقصان القراءة وزيادتها ، أمّا الأوّل فواضح ، لأنّه بركوعه قبلها يكون من قبيل نقصانها ، ولكن لمّا لم يمكنه إعادتها وكان حديث لا تعاد بجزئه الاستثنائي قاضياً بسقوط جزئيتها ، كان إتيانه بها بعد الركوع من قبيل الزيادة ، فلو قلنا بلزوم سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة كان عليه أن يسجد مرّتين ، الأُولى لنقص القراءة والثانية لزيادتها ، فلاحظ وتأمّل.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره لم يعلّق شيئاً على ما تقدّم في العروة في فصل وجوب

ص: 437


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 393 / المسألة 1. .
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 393 / المسألة 1. .
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 600.

الترتيب ، فدلّ ذلك على أنّه موافق للعروة في أنّه لو قدّم بعض الأجزاء عمداً كان موجباً لزيادة ذلك المقدّم عمداً وكان باطلاً مبطلاً ، وحينئذ نقول : إنّه قدس سره لمّا بنى فيما نحن فيه من احتمال الترك العمدي على عدم جريان التجاوز ، تعيّن أن يكون مراده من المتخلّل الموجب للبطلان على تقدير تعمّد الترك ليس هو خصوص الركن ، بل هو كلّ جزء كان قد أتى به المكلّف بعد تعمّد الترك ، وحينئذ ينحصر مورد قوله « وإلاّ فلا » (1) بما لو كان المأتي خارجاً عن الأجزاء ، مثل ما لو احتمل تعمّد ترك القراءة ودخل في القنوت بناءً على أنّه مستحبّ مستقل ، ومثل ما لو احتمل تعمّد ترك التشهّد أو ترك السجدة الواحدة أو ترك السجدتين وقد دخل في النهوض قبل أن يستوي قائماً ، فإنّ الحكم في أمثال هذه الصورة هو لزوم العود والتدارك بلا حاجة إلى الاعادة ، بخلاف ما لو كان ما دخل فيه جزءاً صلاتياً فإن الحكم هو البطلان بعد البناء على عدم جريان قاعدة التجاوز ، سواء كان ذلك الجزء ركناً أو كان غير ركن.

والخلاصة : هي أنّ الوجوه المحتملة في مسألة ترك الجزء عمداً والدخول في الجزء الآخر ثلاثة : البطلان ، وعدم البطلان ولزوم الرجوع قبل الدخول في أحد الأركان ، والتوقّف. وكذلك الحال في جريان قاعدة التجاوز في مورد احتمال الترك العمدي ، فإنّ الوجوه في ذلك ثلاثة : الجريان ، وعدمه ، والتوقّف ، فتكون النتيجة هي أنّ المحتملات تسعة ، فلو قلنا بجريان قاعدة التجاوز كان الحكم هو المضي في صلاته على كلّ من المحتملات في المسألة الأُولى. ولو قلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز فعلى الأوّل من شقوق المسألة الأُولى يكون الحكم هو بطلان صلاته ، وعلى الثاني يكون الحكم هو وجوب العود والتلافي ،

ص: 438


1- تقدّم ذكر مصدره في الصفحة : 426.

وعلى الثالث يكون اللازم الاحتياط بالتلافي والاعادة. ولو توقّفنا في إجراء قاعدة التجاوز فعلى الوجه الأوّل من شقوق المسألة الأُولى نقول على تقدير الجريان يمضي في صلاته ، وعلى تقدير عدم الجريان تكون صلاته باطلة لأصالة عدم الاتيان بما يحتمل تعمّد تركه ، وحينئذ يكون مقتضى الجمع هو الاتمام والاعادة. وعلى التقدير الثاني يكون مقتضى الجريان هو الاتمام ومقتضى عدمه هو التدارك ، وحينئذ نقول إنّ مقتضى جريان القاعدة إن كان عزيمة على وجه لا يصحّ الاحتياط بالتدارك كان المقام من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّه على تقدير جريان القاعدة يلزمه المضي ولا يجوز له التدارك ، وعلى تقدير عدم الجريان يجب عليه التدارك ، وحينئذ ينسدّ طريق الاحتياط ، فلا يمكنه إتمام هذه الصلاة فتبطل.

وكذلك الحال على الشقّ الثالث من شقوق المسألة الأُولى ، لأنّا نحتمل الصحّة ، وعلى تقديره نتردّد في الجريان وعدمه ، فتكون المسألة من الدوران بين المحذورين.

نعم لو قلنا بأنّ مفاد قاعدة التجاوز هو الرخصة في المضي وعدم لزوم التدارك ، كان مقتضى التردّد بين الجريان وعدمه على الشقّ الثاني والثالث من شقوق المسألة الأُولى هو لزوم الاحتياط بالتدارك والاعادة ، وأمّا على الشقّ الأوّل فيكون الاحتياط بالاتمام والاعادة ، ولو احتاط بالتدارك والاعادة لم يكن في البين ما يمنع منه ، فإنّ أقصى ما في البين هو احتمال جريان القاعدة وهو لا يمنع من التدارك ، لكن الظاهر من أدلّة قاعدة التجاوز إحراز الاتيان بالجزء المشكوك ، فينسدّ باب الاحتياط بالاتيان به لكونه موجباً للزيادة ، إلاّ أن يقال إنّ الاتيان به احتياطاً لا يكون محقّقاً للزيادة العمدية ، وفيه تأمّل ، ولعلّه لأجل ذلك أفاد

ص: 439

شيخنا قدس سره في الموارد التي استشكل فيها من إجراء قاعدة التجاوز بأنّ الأحوط إعادة المشكوك بقصد القربة المطلقة ، فلاحظ حاشية 2 على مسألة 10 من ص 415 (1) ، ولو كان باب الاحتياط ممكناً بالاعادة لما احتاج إلى قصد القربة المطلقة الذي يكون جدواه في الاحتياط في غاية الإشكال ، إلاّ أن يريد من قصد القربة المطلقة قصد امتثال الأمر الواقعي ، فلاحظ.

قال في العروة : فصل في الترتيب : يجب الاتيان بأفعال الصلاة على حسب ما عرفت من الترتيب ، بأن يقدّم تكبيرة الإحرام على القراءة ، والقراءة على الركوع ، وهكذا ، فلو خالفه عمداً بطل ما أتى به مقدّماً وأبطل من جهة لزوم الزيادة ، سواء كان ذلك في الأفعال أو الأقوال ، وفي الأركان أو غيرها (2).

والوجه في كون ذلك الجزء زيادة عمدية ، هو أنّه لمّا أتى به عمداً بقصد الجزئية بعد ترك ما قبله عمداً ، كان ذلك الجزء فاقداً لشرطه وهو ترتيبه على ما قبله فيكون باطلاً ، وقد أتى به بقصد الجزئية فيكون زيادة عمدية ، فيكون باطلاً من حينه ، ويكون مبطلاً من دون توقّف على تدارك الجزء المتروك.

لا يقال : فعلى هذا لو كان الترك سهواً ولم يتذكّر حتّى دخل في أحد الأركان كان جميع ما أتى به من الأجزاء ما بين ذلك الجزء المتروك وبين ذلك الركن من قبيل الزيادة السهوية ، فيلزمه سجود السهو لها ، بل ربما سرت الزيادة السهوية إلى ما قبل ذلك المتروك من الأجزاء لكونها فاقدة لشرطها وهو تعقّبها بذلك الجزء المتروك ، بل ربما سرت الزيادة السهوية إلى نفس الركن الذي دخل فيه ، فينبغي الحكم ببطلان الصلاة عند ترك بعض أجزائها سهواً والدخول في

ص: 440


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 235.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 600.

ركن ، سواء كان ذلك الركن متّصلاً بمحلّ المتروك أو كان منفصلاً عنه بأجزاء غير ركنية.

لأنّا نقول : فرق واضح بين الترك العمدي والترك السهوي ، فإنّه في الترك العمدي يكون المأتي به بعد محلّ المتروك منهياً عنه باعتبار تعمّد ترك شرطه وهو تقدّم ذلك المتروك عليه ، وحيث كان منهياً عنه لم يكن صالحاً للجزئية وقد جاء به بعنوان الجزئية ، فكان زيادة عمدية ، فكان باطلاً في نفسه لكونه منهياً عنه ومبطلاً لكونه من الزيادة العمدية.

وإن شئت فقل : إنّه بتعمّد الاتيان بالجزء قبل الاتيان بما قبله يكون قد تعمّد ترك شرط ذلك الجزء الذي أتى به ، فيكون من قبيل تعمّد ترك شرط الجزء فيكون موجباً لبطلان الصلاة ، فلا حاجة إلى تجشّم كونه من تعمّد الزيادة كي يلزم عليه لزوم تحقّق الزيادة فيما إذا فعل ذلك سهواً ، وعلى أيّ من هاتين الطريقتين لا يتأتّى النقض بالترك السهوي ، فإنّه لا يكون من قبيل ترك شرط الجزء عمداً ، وكذلك لا يكون منهياً عنه كي يكون من الزيادة العمدية ، فلا يكون باطلاً في نفسه كي يكون من الزيادة ، وأقصى ما في البين هو فقدانه لشرط الانضمام إلى ما قبله الحاصل بترك ما قبله ، فلا يكون إلاّمن باب النقص السهوي ، ومقتضى القاعدة الأوّلية هو وجوب الاتيان بذلك المفقود وإعادة ما وقع بعده من الأجزاء ما دام في العمل كما في باب الوضوء ، وإن لزم من إعادتها صيرورة تلك الأجزاء التي وقعت قبل التلافي زيادة في ذلك المركّب.

ولكنّه مع ذلك كلّه قابل للتأمّل ، فإنّ أقصى ما في البين هو التعمّد في ترك شرط الجزء ، وهو لا يوجب زيادة ذلك الجزء ، بل أقصى ما فيه هو أنّه قد ترك شرطه عمداً ، وليس ذلك من الزيادة في شيء ، فلو أمكنه التلافي كما لو كان قبل

ص: 441

الدخول في الركوع وجب عليه تلافيه ، وبعد التلافي يكون ذلك المأتي به زيادة قهرية لا عمدية ولا سهوية ، فتدخل في حديث لا تعاد ، وتصحّ الصلاة إن لم يكن في البين إجماع أو نصّ على البطلان. اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ الجزء الفاقد للشرط ليس بجزء من الصلاة فلا يكون إلاّزائداً ، سواء كان فقده للشرط عن عمد أو كان عن نسيان.

أمّا الاستدلال على الزيادة في خصوص [ العمد ] بكونه منهياً عنه ، ففيه أنّه ليس في البين نهي مولوي كي يدخل في النهي عن جزء العبادة ، وأمّا النهي الغيري فهو متوقّف على كونه زيادة ليكون عدمه معتبراً في الصلاة ، فلا يصحّ الاستدلال على كونه زيادة بالنهي الغيري ، فالعمدة في كونه زيادة هو فقدانه للشرط ، فيكون خارجاً عن الصلاة لعدم كونه جزءاً منها ، فيكون زيادة ، فلو كان عن عمد أبطل ، بخلاف ما لو كان عن سهو فإنّ أقصى ما فيه أن يكون زيادة سهوية.

ص: 442

[ أصالة الصحّة ]

قوله : وإن كان أكثرها لا يخلو عن مناقشة بل منع ... الخ (1).

الإنصاف : أنّه يمكن القول بأنّه لا مجال للمنع عن بناء العقلاء - وملاكه هو ما تقدّمت الاشارة إليه في بعض مباحث قاعدة التجاوز والفراغ من أنّ العاقل المقدم على عمل مركّب لا يخلّ بشيء من أجزائه أو شرائطه وأنّه يأتي به بتمامه - والسيرة المستمرّة من المسلمين على البناء على أصالة الصحّة في الجملة. أمّا الإجماع فلا يبعد أن يكون مستنده هو البناء العقلائي والسيرة المذكورة ، وفي ثبوت إطلاق لمعقده تأمّل وإشكال.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في إطلاق الأخذ بأصالة الصحّة حتّى مع جهل العامل ، خصوصاً ما لو كان يعتقد شرطية ذلك المشكوك ونحن نعتقد مانعيته أو بالعكس ، نعم لا يبعد الأخذ بالأصل المذكور فيما شكّ في جهل العامل وعلمه بالحكم ولو من جهة دعوى بناء العقلاء على إلغاء احتمال جهله.

وبالجملة : يمكن أن يقال بخروج خصوص من كان جاهلاً بالحكم عن مورد الأصل المذكور ، والمسألة بعدُ محتاجة إلى التتبّع في كلمات الأصحاب.

ص: 443


1- فوائد الأُصول 4 : 653.

قوله : فنقول قد اختلفت كلمات الأعلام في حكومة أصالة الصحّة في العقود على جميع الأُصول الموضوعية المقتضية لفساد العقد ، والمتحصّل من الكلمات أقوال ثلاثة : الأوّل حكومتها على كلّ أصل يقتضي فساد العقد سواء كان الأصل جارياً في شرائط ... الخ (1).

لا يخفى أنّهم قسّموا الشروط في باب المعاملات إلى ثلاثة أقسام : شروط نفس العقد ، وشروط المتعاقدين ، وشروط العوضين. والأولى جعل هذه الأقوال الثلاثة واردة على حسب هذه الشروط ، فيكون القول الأوّل عبارة عن إجراء أصالة الصحّة مطلقاً في الجهات الثلاثة ، بمعنى إجرائها عند الشكّ في شرائط العقد والشكّ في شرائط العوضين والشكّ في شرائط المتعاقدين ، سواء كان في قبالها أصل موضوعي ينفي الشرط المحتمل أو لم يكن في البين إلاّمجرّد أصالة عدم النقل والانتقال ، والقول الثاني عبارة عن إجرائها في خصوص الشكّ في شرائط العقد دون الشكّ في شرائط العوضين أو شرائط المتعاقدين ، سواء كان في البين أصل موضوعي أو لم يكن ، والقول الثالث عبارة عن القول الأوّل إلاّفي إخراج ما يكون شرطاً عرفياً للعوضين كالمالية أو للمتعاقدين كالبلوغ والرشد.

وبالجملة : ليس المدار في هذه الأقوال هو حكومتها على الأصل الموضوعي وعدمه ، بل المدار فيها هو جريانها في هذه المراتب من الشروط. نعم بعد فرض جريانها في مرتبة من هذه الشروط تكون حاكمة على الأصل الموضوعي فيها ، لكن مع فرض القول بعدم جريانها في مرتبة من هذه المراتب لا يمكن حينئذ الرجوع إلى أصالة الصحّة في تلك المرتبة حتّى لو لم يكن في البين أصل موضوعي ، بل في صورة عدم وجود الأصل الموضوعي يكون

ص: 444


1- فوائد الأُصول 4 : 655.

المرجع هو أصالة عدم النقل والانتقال ، كما لو فرضنا أنّ أصالة الصحّة لا تجري في صورة الشكّ في كون أحد العوضين مالاً ، كما لو تردّد بين كون الثمن خمراً أو كونه غير خمر من سائر الماليات ، فإنّه بعد عدم جريان أصالة الصحّة في ذلك يكون المرجع هو أصالة عدم انتقال العوض الآخر لعدم وجود الأصل الموضوعي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّ حقيقته هي المبادلة بين المالين ولو كان المبيع أو الثمن كلّياً ... الخ (1).

لا يخفى أنّ قوام مالية الكلّي إنّما هو الذمّة ، فإذا فرضنا أنّ الصبي لا ذمّة له عرفاً يشكل الحكم بكون الكلّي في ذمّته مالاً ، وحينئذ يكون الإشكال في الضمان جار بعينه في كون أحد العوضين في باب البيع كلّياً في الذمّة ، هذا. مضافاً إلى إمكان المناقشة في كون الصبي لا ذمّة له عرفاً ، وإنّما يسلّم ذلك في الصبي غير المميّز ، أمّا المميّز العارف بالمعاملة الحاذق فيها فيشكل الحكم بالغاء ذمّته عرفاً بحيث إنّه لا يعتمد العرف على ضمانه.

قوله : والتحقيق أنّ أصالة الصحّة إنّما تقدّم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه ولا تقدّم على سائر الأُصول ... الخ (2).

لا يخفى أنّه قدس سره لا يمنع من تقديم أصالة الصحّة على الأُصول الموضوعية الجارية في ناحية العقد ، كما لو قلنا بأنّ ذكر المهر شرط في عقد نكاح المتعة وقد شكّ في ذكره في عقدها ، ونحو ذلك ممّا يكون المشكوك فيه من شرائط العقد مورداً للأصل العدمي ، بل إنّ أصالة الصحّة عنده قدس سره تحكم على جملة من الأُصول

ص: 445


1- فوائد الأُصول 4 : 656.
2- فوائد الأُصول 4 : 657.

الموضوعية الجارية في ناحية المتعاقدين أو العوضين ممّا لا يكون راجعاً إلى القابلية للنقل أو إلى أهلية الناقل ، نعم إنّه قدس سره يمنع من جريان أصالة الصحّة فيما إذا كان الشرط في المتعاقدين أو العوضين راجعاً إلى القابلية والأهلية ، لكن لا لأجل عدم حكومتها على الأصل الموضوعي الجاري في ذلك الشرط ، بل لأجل أنّ أصالة الصحّة لا تجري فيه حتّى لو لم يكن في البين أصل موضوعي ، كما لو تردّد الأمر في كون الثمن مثلاً خمراً أو غيره ممّا يكون قابلاً للنقل.

وقد أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه في توضيح ذلك ما لا بأس بنقله ليتّضح الوجه فيما أفاده قدس سره : وهو أنّا قد حقّقنا في باب اقتضاء النهي عن المعاملة فسادها أنّ النهي إن تعلّق بالسبب لم يكن ذلك موجباً لفساده ، وإن تعلّق بالمسبّب أوجب الفساد ، وبيّنا أنّ السرّ في ذلك هو أنّ النهي إذا كان متعلّقاً بالمسبّب كان موجباً لقصر السلطنة وعدم قدرة العاقد على إيجاد ذلك المسبّب ، حيث إنّ غير المقدور شرعاً كغير المقدور العقلي ، وهكذا الحال في الشرط ، فإن كان المجعول شرعاً هو عدم المسبّب أوجب الفساد ، وإن كان هو عدم السبب لم يكن موجباً للفساد.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّ بعض الشروط تكون شرطاً للسبب بما أنّه سبب وهذه هي القدر المتيقّن من موارد جريان أصالة الصحّة ، وبعضها تكون شرطاً للمسبّب وهي شروط المتعاقدين وشروط العوضين. مثال الأوّل عدم السفه مثلاً فإنّه شرط في حصول المسبّب وترتّبه على السبب ، فلو كان مشكوكاً لم ينفع في ترتّب الأثر - أعني المسبّب - أصالة الصحّة ، حيث إنّ صحّة العقد التي هي نتيجة أصالة الصحّة لا تنفع في الحكم بحصول المسبّب.

وهكذا الحال في شرائط العوضين ، فإنّ كون العين مملوكة إنّما تكون شرطاً في ناحية المسبّب ، بمعنى أنّ حصول المسبّب وهو النقل والانتقال يتوقّف

ص: 446

على كون العوضين مملوكين ، فلو شكّ في كون ما وقع عليه العقد كان خمراً أو خلاً لم تنفع أصالة الصحّة في حصول المسبّب ، حيث إنّ صحّة العقد لا ربط لها بحصول المسبّب المتوقّف حصوله على قابلية العوض لأن يكون مملوكاً ، وهكذا الحال في غيره من شرائط العوضين. نعم بعض شرائط العوضين تكون راجعة إلى ناحية السبب ، مثل كونهما معلومين غير مشتملين على الربا ، فيكون هذا النحو مورداً لأصالة الصحّة. أمّا شرائط المتعاقدين فالإنصاف أنّ بعضها صالح وواجد للجهتين ، كالبلوغ الذي هو شرط المتعاقدين ، فإنّ له جهتين إحداهما راجعة إلى ناحية المسبّب التي هي عبارة عن توقّف النقل والانتقال على كون المالك العاقد بالغاً ، بمعنى أنّه لا يحصل النقل والانتقال من غير البالغ ، فلا يكون من هذه الجهة مورداً لأصالة الصحّة ، وله جهة أُخرى راجعة إلى ناحية السبب وهي عبارة عن توقّف تمامية العقد على كون العاقد بالغاً ، سواء كان هو المالك أو كان وكيلاً أو مأذوناً أو فضولياً ، من جهة أنّ الصبي مسلوب العبارة ، ومن هذه الجهة يكون الشكّ في حصول هذا الشرط مورداً لأصالة الصحّة ، وتظهر الثمرة في عقد الوكيل أو المأذون أو الفضولي إذا وقع الشكّ في بلوغه حين العقد ، فإنّ أصالة الصحّة تجري فيه.

وبالجملة : أنّ هذه الشروط كلّها وإن كانت متساوية في أنّ عدمها يوجب عدم المسبّب ، إلاّ أنّه تارة يكون لقصور في السبب كما في الشروط الراجعة إلى ناحية السبب ، وأُخرى يكون ذلك لقصور في المسبّب لأجل قصور فيما وقع عليه السبب أو في من أوقع السبب ، فما كان القصور فيه راجعاً إلى ناحية السبب جرت فيه أصالة الصحّة عند الشكّ فيه ، وما كان راجعاً إلى ناحية المسبّب لم تجر أصالة الصحّة في مورد الشكّ فيه.

ص: 447

وإن شئت فقل : إنّ لمجرى أصالة الصحّة عقد وضع وعقد حمل ، فإنّ مجراها هو العقد الصادر ممّن له العقد على ما يمكن العقد عليه ، فلو كان الشكّ واقعاً في نفس العقد وأنّه هل كان صحيحاً أو فاسداً ، وهو المعبّر عنه بعقد الحمل جرت في ذلك أصالة الصحّة ، سواء كان الشكّ في شروط العقد نفسه أو فيما يرجع إلى ذلك من شروط المتعاقدين أو العوضين. أمّا إذا كان الشكّ في عقد الوضع ، بأن كان الشكّ في نفس المتعاقدين من جهة الشكّ في كونهما ممّن له العقد ، أو كان الشكّ فيما وقع عليه من العوضين من جهة الشكّ في كونهما ممّا يمكن وقوع العقد عليهما ، لم تجر فيه أصالة الصحّة ، لما ذكرناه من رجوع ذلك إلى مرحلة المسبّب ، ولا مجال فيه لأصالة الصحّة التي يكون مجراها هو الشكّ في صحّة السبب ، هذا حاصل ما أفاده قدس سره فيما حرّرته عنه.

ولكنّه مع ذلك قابل للتأمّل والإشكال ، فإنّ المدار في جريان أصالة الصحّة إن كان على كون الشكّ راجعاً إلى ناحية نفس السبب ، فالظاهر أنّه بناءً عليه ينبغي أن لا تجري في مثل شرائط المتعاقدين والعوضين ممّا لا يكون راجعاً إلى القابلية وذلك مثل عدم الاكراه ومثل كون أحد العوضين غير معلوم المقدار أو عدم التفاوت ، ونحو ذلك ممّا لا يرجع إلى القابلية ، ودعوى كون هذه الشروط راجعة إلى شروط العقد قابلة للمنع ، لأنّ الضابط حينئذ هو كون الشكّ راجعاً إلى عالم العقد كالعربية والماضوية ونحوهما ، ومن الواضح أنّ مثل العلم بالمقدار وعدم التفاوت والاختيار ليس ممّا يرجع إلى نفس العقد ، نعم ذلك شرط في تأثيره كما أنّ البلوغ شرط في تأثيره.

وإن كان المدار في جريان أصالة الصحّة على أن لا يكون الشرط المشكوك راجعاً إلى القابلية الشرعية أو العرفية ، فهذا يحتاج إلى إقامة البرهان ، نعم هناك

ص: 448

دعوى كون القدر المتيقّن من الإجماع هو ما عدا شروط القابلية ، وهذه الدعوى محتاجة إلى التتبّع في كلمات المجمعين ، خصوصاً من مثل شيخنا قدس سره الذي قدّم في طليعة البحث ثبوت إطلاق لمعقد الإجماع.

وأمّا لو استدللنا على هذا الأصل بالسيرة المستمرّة من المسلمين وببناء العقلاء أمكن دعوى القدر المتيقّن ، لكن يمكن القطع بخلافه وأنّ ما جرت عليه السيرة وبناء العقلاء هو مطلق الشروط ، ولعلّ من هذا القبيل ما هو مسلّم عندهم على الظاهر من أنّه لو ادّعى أحد الزوجين فساد الطلاق لمصادفة حيض الزوجة أو طهرها الذي واقعها فيه ، فالقول قول مدّعي الصحّة ، وهكذا فيما يكون من هذا القبيل ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ مثل حيض الزوجة والطهر الذي لم يواقعها فيه وأمثالهما كلّها راجعة إلى السبب ، ولكن المسألة بعدُ محتاجة إلى التأمّل ، إذ لا يبعد القول بأنّ ما جرت عليه السيرة والبناء العقلائي وقام عليه الإجماع إنّما هو البناء على مثل صحّة النقل عند الشكّ في صحّته بعد إحراز قابلية النقل من الناقل والمنقول ، دون ما لو كان الشكّ في قابلية العين للنقل أو قابلية الناقل للنقل.

والحاصل : أنّ الشكّ إذا كان راجعاً إلى قابلية العوض للعوضية مثل المشكوك كونه حرّاً مع فرض عدم اليد ، وكذا لو كان الشكّ في أهلية من أوقع المعاملة ، كما لو شكّ في كون الطلاق بائناً أو رجعياً مع فرض الرجوع في أثناء العدّة ، وكذا لو شكّ في كون المعاملة بيعاً كي ينفذ الفسخ قبل التفرّق أو صلحاً أو هبة معوّضة كي لا ينفذ الفسخ ، بل لو شكّ في كون البيع خيارياً أو غير خياري فلا أظن أنّ أحداً يلتزم بنفوذ الرجوع أو بنفوذ الفسخ استناداً إلى أصالة الصحّة في الرجوع أو الفسخ ، وهكذا الحال في مسألة بيع الوقف المعلوم الوقفية مع الشكّ في طروّ المجوّز ، نعم مع الشكّ في كون المبيع وقفاً أو طلقاً يمكن القول بصحّة

ص: 449

البيع ، ولعلّ ذلك لأجل اليد الحاكمة بالملكية ، وإلاّ فمع قطع النظر عن اليد لا يمكن الاعتماد على مجرّد أصالة الصحّة في البيع ، والمسألة محتاجة إلى التتبّع والتأمّل في الموارد الخاصّة ، ثمّ إنّ في عدّ عدم السفه من شرائط القابلية تأمّلاً ، فإنّه ليس على حذو العقل ، بل الظاهر أنّه على حذو الاختيار في قبال الاكراه.

ثمّ إنّ البرهان الذي أقامه قدس سره على امتناع جريان أصالة الصحّة في موارد الشكّ في القابلية قوي متين ، وحاصله أنّ كلّ ما يكون ركناً في العقد ، بحيث يتوقّف صدق العقد عليه على وجه يكون الشكّ في تحقّقه موجباً للشكّ في تحقّق العقد ، يمتنع فيه إجراء أصالة الصحّة في العقد ، لتوقّف الحكم بصحّة العقد على تحقّق أصل العقد ، وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه كبروياً ، وأظهر صغرياته ما لو شكّ في تحقّق القصد فإنّه - أعني القصد - من مقوّمات العقد على وجه لو شكّ في تحقّق القصد يكون تحقّق العقد مشكوكاً ، ولعلّ منه اشتراط العقل في المتعاقدين ، سيّما إذا كان عدم العقد ملازماً لعدم القصد على وجه يكون مسلوب العبارة في النظر العرفي. وهكذا الحال في الصغير الذي لا قصد له ، أمّا المميّز ففي غاية الإشكال ، لتحقّق القصد منه عرفاً غايته أنّ الشارع المقدّس لم يرتّب الأثر على قصده.

ومن صغريات هذه الكبرى ما لو شكّ في وجود المبيع ، كما لو تلف المبيع وشكّ في أنّ تلفه كان قبل العقد أو كان بعد القبض ، وقد تعرّض الشيخ لذلك في المكاسب في أواخر اشتراط معلومية العوضين (1).

ومن صغريات هذه الكبرى كون العوض ثمناً أو مثمناً مالاً عرفياً ، أمّا ما يكون مالاً عرفاً ولكن الشارع ألغى ماليته كالخمر فكونه من صغريات هذه

ص: 450


1- المكاسب 4 : 284.

الكبرى في غاية الإشكال. نعم يمكن التمسّك في أمثال ذلك بقصور الدليل أعني السيرة العقلائية أو سيرة المسلمين أو الإجماع ، ومع ذلك فهو في غاية الإشكال سيّما بعد الاعتراف بوجود معقد للإجماع الذي هو بمنزلة رواية عامّة أو مطلقة ، إلاّ أن يقال إنّ الشكّ في الشمول كافٍ في عدم ثبوت إجراء أصالة الصحّة فيه ، والمسألة بعدُ مجال التأمّل والنظر.

قوله : وكذلك يصحّ التفاضل بين المالين في غير عقود المعاوضة ، بل حتى في عقود المعاوضة غير عقد البيع على قولٍ ... الخ (1).

لم أستحضر معاملة غير معاوضية مشتملة على مال من الطرفين ، لتكون مثالاً لصحّة التفاوت بين المالين من جنس واحد في غير عقود المعاوضات إلاّفي باب الغرامات ، ودخولها في المعاملات العقدية ممنوع. أمّا القول بصحّة التفاوت في غير البيع من المعاوضات فهو غير نافع لمن يمنع من التفاوت في مطلق المعاوضات ، ولكن يهوّن الخطب أنّه ليس المدار في كون الشرط راجعاً إلى القابلية والأهلية على اعتباره في جميع المعاوضات ، وإلاّ لكان الاختيار في قبال الاكراه من الشروط الراجعة إلى القابلية ، بل إنّ هذا - أعني كون الشرط راجعاً إلى الأهلية والقابلية - أمر واقعي لا دخل له بعموم اعتباره في جميع المعاوضات أو اختصاصه بخصوص البيع ، ومن الواضح أنّ عدم التفاوت بين الجنسين لم يكن من قبيل شروط القابلية ، وهو واضح لا ينبغي الريب فيه ، فلا يقاس على مثل الخمر والحرّ والوقف ونحو ذلك ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ اشتراط التساوي في الجنسين لا يكون مانعاً من نقل كلّ منهما في قبال جنس آخر ، فلأجل ذلك لا يكون هذا الشرط راجعاً إلى القابلية.

ص: 451


1- فوائد الأُصول 4 : 658.

قوله : وقد يشكّ في بعض الشروط أنّها من أيّ القبيل كاشتراط كون العاقد غير محرم ... الخ (1).

ولعلّ هذا الشكّ هو منشأ الإشكال فيما لو شكّ في أنّ عقده كان في حال الاحرام أو بعده كما ذكره في العروة في مسائل النكاح مسألة 4 (2) ، فإنّه فيما لو شكّ في أنّ عقده كان في الاحرام أو قبله جزم في الحكم بالصحّة ، بخلاف الصورة المزبورة فإنّه وإن حكم فيها بالصحّة إلاّ أنّه عقّبه بقوله : على إشكال.

وحاصل الفرق : أنّ الصورة الأُولى يكون مقتضى الاستصحاب هو الصحّة ، فلا يتوقّف الحكم بالصحّة فيها على إجراء أصالة الصحّة ، بخلاف الثانية فإنّ مقتضى الاستصحاب فيها هو البطلان ، فيحتاج في الحكم بالصحّة فيها إلى أصالة الصحّة ، وجريانها في المقام مشكل للشكّ في كون هذا الشرط من الأركان.

أو نقول : إنّ وجه الإشكال فيها هو ما سيأتي من الإشكال في حكومة أصالة الصحّة على الأصل الموضوعي الجاري في موردها الذي يكون مقتضاه الفساد ، وهو ما تعرّض له من كلمات الشيخ والسيّد الشيرازي قدس سرهما فراجع (3).

قوله : فاسد ، فإنّ اشتراط أهلية الوكيل للوكالة أو سلطنة الموكّل للتوكيل ليس شرطاً زائداً على اشتراط بلوغ العاقد ... الخ (4).

لا يخفى أنّا وإن سلّمنا أنّ عقد البيع الصادر من الوكيل غير البالغ لا يكون

ص: 452


1- فوائد الأُصول 4 : 659.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 5 : 539.
3- راجع الأمر السادس في فوائد الأُصول 4 : 669 وما بعدها. وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك المبحث تأتي في الصفحة : 491 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 4 : 660.

البلوغ فيه من قبيل شرط القابلية في ناحية النقل والانتقال الذي هو مؤدّى عقد البيع ، إلاّ أنّه - أعني البلوغ - بالنسبة إلى عقد الوكالة لا ينبغي التأمّل في كونه من قبيل شرط القابلية ، حيث إنّه لابدّ في عقد الوكالة من قابلية الوكيل لأن يصدر منه ما وكّل فيه ، وبعد فرض اشتراط البلوغ في عقد البيع لا يكون غير البالغ متمكّناً من إيقاعه ، وحينئذ يكون غير البالغ خارجاً عن قابلية إيقاع عقد البيع ، فلا يمكن إيقاع وكالته على البيع ، ويكون البلوغ بالنسبة إلى عقد الوكالة شرطاً في القابلية ، فلا يمكن التمسّك بأصالة الصحّة في عقد الوكالة عند الشكّ في بلوغ الوكيل ، كما لا يمكن ذلك عند الشكّ في بلوغ الموكّل.

نعم ، بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة في عقد الوكالة يكون المرجع في عقدها إلى أصالة عدم ترتّب الأثر الذي هو الوكالة ، ومقتضاه وإن كان هو عدم صحّة البيع ، لكن أصالة الصحّة فيه يمكن القول بأنّها نافعة في الحكم بصحّة ذلك البيع بعد فرض كون بلوغ الوكيل العاقد لم يكن من شروط القابلية بالقياس إليه فتأمّل.

قوله في الهامش في وجه التأمّل : وجهه هو أنّه يمكن دفع التنافي بين الكلامين ... الخ (1).

لا يخفى أنّه عند الشكّ في بلوغ أحد المتعاقدين مع فرض كون الآخر بالغاً إن كان المراد من أصالة الصحّة هي صحّة عمل البالغ الذي هو الايجاب فتلك صحّة تأهّلية لا دخل لها بناحية القبول ، فإنّها متحقّقة وجد القبول أو لم يوجد أو وجد فاسداً. وإن كان المراد صحّة مجموع العقد تطرّق إليه الإشكال في أنّ البلوغ من شروط القابلية ، فلا تجري فيه أصالة الصحّة ، فليس المانع من التمسّك

ص: 453


1- فوائد الأُصول 4 ( الهامش ) : 662.

بأصالة الصحّة عند الشكّ في البلوغ منحصراً بما إذا كان كلّ من الطرفين مشكوك البلوغ.

والحاصل : أنّه عند كون أحدهما مشكوك البلوغ والآخر معلومه إن كان المراد إجراء أصالة الصحّة في ناحية مشكوك البلوغ ففيه إشكال القابلية ، وإن كان المراد إجراءها في ناحية معلوم البلوغ ليثبت بذلك صحّة عمل طرفه الآخر ، لكون صحّة عمل البالغ موقوفة على صحّة عمل ذلك الطرف ، ففيه أنّ المراد بالصحّة التي نثبتها في ناحية البالغ هي صحّة عمله بنفسه ، فتلك صحّة تأهّلية وهي غير مشكوكة أصلاً ، وإن كان المراد هي صحّة العقد تطرّق حينئذ إشكال القابلية.

قوله : وأولى من ذلك بيع الوقف مع الشكّ في عروض ما يسوغ معه البيع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الإشكال في بيع الراهن مع الشكّ في اجازة المرتهن يكون من جهتين : إحداهما أنّ صحّته تأهّلية بمعنى القابلية للحوق الاجازة من المرتهن ، والأُخرى من جهة كون الشكّ في القابلية ، بخلاف بيع الوقف فإنّ الإشكال فيه منحصر بالجهة الثانية ، فينبغي أن يكون الأولى هو بيع الراهن لا بيع الوقف ، وقد تقدّمت الاشارة إلى أنّ الشكّ في مسألة الوقف على نحوين ، أحدهما : ما لو أحرزت الوقفية وحصل الشكّ في المسوّغ. الثاني : ما لو شكّ في كون المبيع ملكاً أو وقفاً مع فرض عدم المسوّغ للبيع لو كان وقفاً وعدم اليد الدالّة على الملكية ، كما أنّ ذلك متصوّر أيضاً في الرهن ، فإنّه ربما يكون الشكّ في إجازة المرتهن مع فرض تحقّق الرهن ، وأُخرى يكون الشكّ في أصل الرهن مع فرض أنّه لو كان مرهوناً فهو بغير إجازة من المرتهن.

ص: 454


1- فوائد الأُصول 4 : 663.

ثمّ لا يخفى أنّ كون بيع الراهن واجداً للجهتين محلّ تأمّل ، لأنّ المراد من الصحّة فيه إن كانت هي التأهّلية فلا يرد عليها الإشكال الثاني الذي هو إشكال القابلية ، وإنّما يرد عليها الإشكال الأوّل وهو أنّها ليست بمشكوكة ، وإن كان المراد هو الصحّة الفعلية توجّه عليها الإشكال الثاني وهو إشكال القابلية دون الإشكال الأوّل.

والظاهر أنّ محلّ الفرض هو الأوّل أعني الصحّة الفعلية ، لأنّ المفروض أنّ عقد الراهن لم تلحقه الاجازة من المرتهن ، فإنّ ذلك مقطوع به ، وإنّما وقع الشكّ في كونه مسبوقاً بالإذن أو في كونه سابقاً على الرجوع ، فلا تكون الصحّة المشكوكة حينئذ إلاّصحّة فعلية ، فتأمّل.

ومنه يظهر الكلام في إجراء أصل الصحّة في بيع الصرف عند الشكّ في تحقّق القبض في المجلس ، فإنّ المقصود من الصحّة فيه هي الصحّة الفعلية ، بمعنى صحّة بيع الصرف لا صحّة نفس العقد الذي هو مجرّد الإيجاب والقبول التي لا تكون إلاّصحّة تأهّلية ، والظاهر أنّه لا مانع من إثبات القبض في المجلس بأصالة الصحّة بمعنى الجامعية لجميع ما يعتبر في بيع الصرف التي من جملتها القبض في المجلس ، خصوصاً إذا علمنا بتحقّق القبض ولكن وقع الشكّ في كونه في مجلس العقد أو أنّه في مجلس آخر.

والحاصل : أنّ الشكّ في تحقّق التقابض في بيع الصرف والسلم إن كان قبل التفرّق عن المجلس ، لم يكن في البين مجال لأصالة الصحّة ، من دون فرق في ذلك بين القول بأنّ القبض جزء من المعاملة ، والقول بأنّه شرط في حصول الملكية مع فرض تمامية المعاملة قبله ، إذ لا إشكال في الصورة المفروضة في كون البيع صحيحاً ، سواء قلنا بالصحّة التأهلية أو قلنا بالصحّة الفعلية. وإن كان

ص: 455

الشكّ بعد التفرّق ، فإن نسبنا الصحّة إلى نفس العقد فكذلك أيضاً لا مجال لأصالة الصحّة ، لفرض كون العقد في حدّ نفسه صحيحاً ، غايته أنّه لو لحقه القبض في المجلس لترتّب عليه الأثر ، وهو المراد من الصحّة التأهّلية ، وإن نسبنا الصحّة إلى نفس المعاملة الصرفية المفروض أنّ الشارع اعتبر فيها زيادة على العقد القبض في المجلس ، فلا مانع على الظاهر من الحكم بصحّة تلك المعاملة وترتّب القبض في المجلس عليها ، خصوصاً لو علمنا بتحقّق القبض واحتملنا كونه بعد التفرّق.

ومن ذلك يظهر الحال في الهبة من الرحم مثلاً وفي الوقف ، فإنّه ما دام الواهب أو الواقف موجوداً وقد شككنا في تحقّق القبض لا يمكن الحكم بترتّب القبض وتحقّقه ركوناً إلى أصالة الصحّة ، ويكون حالهما حال بيع الصرف ما داما في المجلس ، إذ لا إشكال في صحّة عقد الهبة والوقف قبل القبض ، غايته أنّهما لا يكونان لازمين قبل القبض. وإن كان الشكّ بعد موت الواهب والواقف ، فإن نسبنا الصحّة إلى نفس العقد لم تكن أصالة الصحّة نافعة في تحقّق القبض ، وإن نسبنا الصحّة إلى معاملة الهبة والوقف فلا مانع على الظاهر من الركون إلى أصالة الصحّة في نفس المعاملة والحكم بترتّب القبض ، لأنّه لو لم يحصل القبض إلى ما بعد الموت كانت تلك المعاملة فاسدة.

ومن ذلك يظهر لك الحال في بيع الفضولي ، سواء كان الشكّ في أصل الفضولية بأن شككنا في مالكية البائع أو في إجازة المالك سابقة على العقد أو لاحقة له ، فإنّ العقد في جميع ذلك يكون صحيحاً ، ولا يقابله احتمال الفساد ، بل إنّما تكون المقابلة بين كونه لازماً وكونه موقوفاً على إجازة المالك ، وفي مثله لا تجري أصالة الصحّة ، لأنّها إنّما تجري في قبال احتمال الفساد ، فليس المانع من

ص: 456

جريان الصحّة فيما لو احتمل كون البائع غير مالك هو أنّ المالكية من شرائط القابلية ، بل المانع إنّما هو أنّه ليس في مقابل احتمال المالكية احتمال الفساد ، لما عرفت من صحّة العقد سواء كان من المالك أو كان من غير المالك ، غايته أنّه لو كان من غير المالك كان لزومه على المالك موقوفاً على إجازته. نعم في مسألة الشكّ في الفضولية أصل آخر غير أصالة الصحّة وهو أصالة كون البائع مالكاً ، ألمّ به الشيخ قدس سره (1) في باب الخيار نقلاً عن جامع المقاصد ، وربما كان في بعض كلمات الجواهر إشارة إليه ، فراجع ما حرّرناه في هذه المسألة في المجموعة (2) وعلى أيّ حال ، لا مورد لأصالة الصحّة عند الشكّ في الفضولية.

ومنه يظهر الحال في البيع مع احتمال كون المبيع مرهوناً ، أو مع إحراز كونه مرهوناً مع الشكّ في إجازة المرتهن ، فإنّ المانع من إجراء أصالة الصحّة في مثل ذلك ليس هو كون المبيع غير مرهون أو كونه باجازة المرتهن من شرائط القابلية ، بل المانع هو كون العقد في حدّ نفسه صحيحاً على كلّ حال ، غايته أنّه لو كان مرهوناً كان لزومه متوقّفاً على إجازة المرتهن سابقة أو لاحقة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في البيع مع احتمال الاكراه ، فإنّه لا يمكن التمسّك في نفي الاكراه بأصالة الصحّة ، لأنّ عقد المكره لم يكن فاسداً بل هو صحيح ، غايته أنّ صحّته تأهّلية معلّقة على لحوق الرضا به.

فقد تلخّص لك : أنّه لا مجرى لأصالة الصحّة في كلّ مورد احتمل فيه التوقّف على إجازة من له الاجازة ، من دون فرق في ذلك بين احتمال الفضولية أو احتمال الرهن أو احتمال الاكراه. نعم بعد فرض تحقّق الردّ من ذلك الذي كنّا

ص: 457


1- المكاسب 6 : 132 - 133.
2- مخطوط لم يطبع بعدُ.

نحتمل توقّف العقد على إجازته حيث يكون مقابل احتمال اللزوم هو احتمال الفساد ، يكون المرجع حينئذٍ هو أصالة الصحّة. كما ظهر لك أنّ ما يكون موقوفاً على القبض من المعاملات - مثل الصرف والسلم والهبة والوقف - لا مجال فيه لأصالة الصحّة عند الشكّ في تحقّق القبض ما دام الاقباض ممكناً ، كما لو كان المجلس باقياً في مسألة الصرف والسلم ، وكما لو كان الواهب والواقف حياً ، أمّا بعد انقضاء المجلس أو بعد موت الواهب أو الواقف ، فإن نسبنا الصحّة إلى نفس العقد بما أنّه عقد لم يكن مورد لأصالة الصحّة ، وإن نسبناها إلى نفس المعاملة كان هناك مجال لإعمال أصالة الصحّة ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ من جملة فروع المسألة مسألة اختلاف الزوج مع الزوجة المطلّقة رجعياً في أنّه كان رجوعه بها قبل انقضاء العدّة أو بعد انقضائها ، فقد اختلف في أنّ القول هل هو قول الزوج أو هو قول الزوجة. وقال بعض أجلّة العصر إنّه لو علم تاريخ الانقضاء ووقع النزاع في يوم الرجوع كان القول قوله ، ولو كان الأمر بالعكس بأن علم تاريخ الرجوع واختلف في تاريخ الانقضاء كان القول قولها ، استناداً في الأوّل إلى أصالة الصحّة في الرجوع الحاكمة على أصالة عدم وقوع الرجوع قبل الانقضاء ، وفي الثاني إلى سماع قولها في انقضاء العدّة ، وهو حاكم على أصالة الصحّة في الرجوع ، ولا مورد لسماع قولها في الأوّل لعدم الشكّ في تاريخ الانقضاء ، وإنّما وقع الشكّ في وقوع الرجوع قبله ، فلا يكون من موارد سماع قولها في انقضاء العدّة ، خلافاً لما يظهر من الجواهر (1) ، فإنّ الذي يظهر منه هو إجراء سماع قولها في المورد الأوّل أيضاً ، وقد اختاره السيّد قدس سره في قضاء

ص: 458


1- جواهر الكلام 32 : 196 - 198.

العروة (1).

ثمّ إنّا لو قلنا بعدم جريان أصالة الصحّة في الرجوع لكون الشكّ في القابلية كما يستفاد من كلمات شيخنا قدس سره ، كان القول قولها في المورد الأوّل أيضاً ، لأصالة عدم وقوع الرجوع من حين الطلاق إلى حين الخروج من العدّة ، فتأمّل. وقد تكلّمنا في هذه المسألة وفيما هو من نظائرها مفصّلاً في مباحث مجهول التاريخ فراجع (2).

ص: 459


1- العروة الوثقى 6 : 695.
2- وإن شئت فراجع قوله في الجزء الثاني من العروة مسألة 4 : لو شكّ في أنّ تزويجه هل كان في الاحرام أو قبله ، بنى على عدم كونه فيه [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 5 : 539 ] فإنّه لا يبعد أن يكون المراد هو البناء على صحّة التزويج كما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في حاشيته [ نفس المصدر ] ، فيكون ذلك عبارة عن الاستناد إلى أصالة الصحّة ، وإلاّ فإنّ البناء على عدم كون ذلك العقد واقعاً في حال الاحرام لا وجه له ، وأصالة عدم وقوع العقد في حال الاحرام بمفاد ليس التامّة لا دخل لها بهذا العقد وأنّه هل وقع في حال الاحرام أو أنّه قد وقع قبله ، مضافاً إلى إمكان استصحاب كونه في الاحلال إلى أن وقع العقد ، فيكون هو القاضي بالصحّة ، كما أنّ استصحاب كونه في الاحرام إلى حين العقد في الفرع الثاني يكون قاضياً بالفساد ، إلاّ أن نحكّم فيه أصالة الصحّة على استصحاب كونه محرماً إلى حين العقد ، ولعلّه لأجل ذلك خصّصه بالإشكال. ويحتمل رجوع الإشكال إلى الصورتين ، بناءً على أن يكون منشؤه هو التأمّل في جريان أصالة الصحّة عند الشكّ في إحرام العاقد لكونه من قبيل الشكّ في القابلية ، نظير الشكّ في بلوغ العاقد ، والثاني منهما أشكل لوجود الأصل الموضوعي الحاكم بالفساد ، وهو استصحاب كونه في الاحرام إلى حين العقد ، لكن الظاهر منه قدس سره هو البناء على أصالة الصحّة ، وقد أشار إلى أنّ كلاً من الفرعين يتصوّر فيه الجهل بتاريخ الحادثين والعلم بأحدهما دون الآخر وحكم في الجميع بأصالة الصحّة ، فلاحظ الصور المتصوّرة في الفرعين وهي ست ، وتأمّل في مقتضى الأصل فيها مع قطع النظر عن أصالة الصحّة. صور الفرع الأوّل : 1 - العقد والاحرام مجهولا التاريخ ، فيجري استصحاب بقائه محلاً وعدم الاحرام إلى حين العقد ، فيكون العقد صحيحاً ، ولا تعارضه أصالة عدم العقد إلى ما بعد الاحرام ، لأنّه لا أثر له إلاّبلازمه وهو وقوع العقد بعد الإحرام. 2 - أن يكون الاحرام معلوم التاريخ والعقد مجهولاً ، فلا أصل إلاّ استصحاب عدم العقد إلى ما بعد الاحرام وهو مثبت ، فإن قلنا بأصالة الصحّة فهو وإلاّ كان المرجع أصالة عدم ترتّب الأثر حتّى الحرمة الأبدية لو احتمل وقوعه في الاحرام عن عمد وعلم. 3 - أن يكونا بالعكس ، فيجري استصحاب الاحلال إلى حين العقد فيحكم بصحّته. صور الفرع الثاني : 1 - العقد والاحلال من الاحرام كلّ منهما مجهول التاريخ ، فيجري استصحاب بقائه محرماً إلى حين العقد فيبطل ، إلاّ أن يركن إلى أصالة الصحّة ، ولا يعارضه استصحاب عدم العقد إلى ما بعد الاحلال ، إذ لا أثر لعدم وقوع العقد في حال الاحرام إلاّبواسطة لازمه وهو كون هذا العقد غير واقع في حال الاحرام. 2 - أن يكون الاحلال معلوم التاريخ ، فلا أصل في البين ، لأنّ استصحاب عدم وقوع العقد إلى ما بعد الاحلال لا أثر له ، فيكون المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر إلاّ إذا قلنا بأصالة الصحّة. 3 - أن يكون بالعكس فيجري استصحاب كونه محرماً إلى حين العقد فيحكم بالبطلان إلاّ أن يركن إلى أصالة الصحّة. ولا يخفى أنّه كان الأنسب أن يتعرّض شيخنا قدس سره في حاشيته على هذا المقام من العروة للإشكال الذي أشار إليه هنا في جريان أصالة الصحّة. وكيف كان ، فلو قلنا بأنّ أصالة الصحّة لا تجري في مثل هذا الشرط أشكل الحكم في الصورة الثانية من الفرع الأوّل ومن الفرع الثاني ، لأنّ المرجع حينئذ كما أشرنا إليه هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، فيحكم بعدم الزوجية وبعدم الحرمة الأبدية ، وهذا الأصل - أعني استصحاب عدم الزوجية وعدم الحرمة الأبدية - من الأُصول الاحرازية التي لا يمكن الجمع فيها على رأي شيخنا قدس سره بين إحرازين يعلم بكذب أحدهما ، سواء كان هذا الأصل هنا أصلاً واحداً أعني عدم ترتّب الأثر من الطرفين ، أو كان عبارة عن أصلين أعني استصحاب عدم الزوجية الثابت قبل هذا العقد ، واستصحاب عدم حرمتها الأبدية الثابت أيضاً قبل هذا العقد ، فلو قلنا بما أفاده شيخنا قدس سره من سقوط الأصل الاحرازي في ذلك ، يكون المرجع في احتمال الحرمة الأبدية أصالة البراءة والحل ، وفي احتمال تحقّق الزوجية ترتيب آثار الزوجية الواجبة مثل الانفاق ونحوه لزوم الاحتياط وإن لم يجز له وطؤها [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ]. وإن شئت فقل : يكون هذا المكلّف واقعاً في علم إجمالي مردّد بين الحرمة الأبدية ووجوب الانفاق ، فيكون منجّزاً بكلا طرفيه ، لأنّ كلاً منهما في حدّ نفسه مجرى لأصالة البراءة ، بل هو يعلم إجمالاً إمّا بحرمة وطئها أو وجوب الانفاق ، ولا مخلص له من مأزق هذا العلم الاجمالي إلاّ الطلاق الاحتياطي. واعلم أنّ عين الفرع الثاني بصوره الثلاث متأت فيما لو كانت المرأة معتدة وقد عقد عليها ودخل بها وخرجت من العدة ، ولم يعلم المتقدّم منهما أعني العقد المصحوب بالدخول وخروجها من العدّة ، فإنّه يجري فيه الصور الثلاث ، فإن قلنا بأصالة الصحّة فهو ، وإلاّ كان المرجع هو ما عرفت من المرجع في الصور الثلاث في مسألة ما لو كان محرماً وأحلّ من إحرامه وعقد ولم يعلم المتقدّم من العقد أو الخروج من الاحرام ، فلاحظ [ منه قدس سره ].

ص: 460

ص: 461

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وأمّا مسألة بيع الراهن المأذون من قبل المرتهن إذا كان كلّ منهما محقّقاً صدوره ولكن شكّ فيما هو المقدّم منهما ، فقد عورضت فيه أصالة الصحّة في البيع بأصالة الصحّة في الرجوع ، حيث إنّه لو كان واقعاً بعد البيع كان فاسداً.

والتحقيق : أنّ كلّ واحد من هذين الأصلين غير جار في نفسه ، أمّا أصالة الصحّة في البيع فلما تقدّم من أنّ الشكّ في مثل هذا لا يكون في ناحية السبب بل هو في ناحية المسبّب ، لوقوع الشكّ في أنّ هذا العاقد هل له أن يعقد أو لا ، كما أنّ الأمر في الرجوع أيضاً كذلك ، لوقوع الشكّ في أنّ هذا المرتهن هل له أن يرجع عن إذنه أم لا ، وحينئذ فلو كان البيع معلوم التاريخ استصحب عدم الرجوع وبقاء الإذن إلى حينه ، فيكون البيع بحكم الاستصحاب واقعاً ممّن له إيقاعه. ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المعلوم التاريخ هو الرجوع استصحب عدم البيع إلى ما بعد الرجوع ، فيكون الرجوع بحكم الاستصحاب واقعاً ممّن له إيقاعه ، للحكم بعدم وقوع البيع قبله ، والنتيجة في الصورة الأُولى صحّة البيع ، وفي الثانية صحّة الرجوع. ولو كانا مجهولي التاريخ تعارض الأصلان المذكوران.

قلت : لا يخفى أنّا في الصورة الثانية وهي ما لو علم تاريخ الرجوع وجهل تاريخ البيع وإن حكمنا بصحّة الرجوع لإحراز عدم البيع قبله ، إلاّ أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب الحكم ببطلان البيع إلاّعلى نحو الأصل المثبت. نعم يكون المرجع في البيع بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة فيه هو أصالة عدم النقل والانتقال.

ومنه يظهر الحال في مجهولي التاريخ ، فإنّ أصالة عدم الرجوع إلى ما بعد

ص: 462

البيع وإن أوجبت الحكم بصحّة البيع ، إلاّ أنّ أصالة عدم البيع إلى ما بعد الرجوع لا تكون حاكمة ببطلان البيع وإن حكمت بصحّة الرجوع ، فهي - أعني أصالة عدم البيع إلى ما بعد الرجوع - لا تكون معارضة لأصالة عدم الرجوع إلى ما بعد البيع بالنسبة إلى البيع نفسه ، لكن لمّا كان أحد الأصلين قاضياً بصحّة الرجوع وكان الآخر قاضياً بصحّة البيع كانا متعارضين من هذه الجهة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال ، فتأمّل. ولو قيل بالتعارض بين هذين الأصلين كان المقام من قبيل التداعي.

وللسيّد قدس سره في قضاء العروة كلام استغربته ، أشكل به على التمسّك بأصالة الصحّة في الرجوع وحاصله : أنّه لا معنى لحمل فعل شخص على الصحّة وجعله حجّة على الطرف المقابل ، وفي المقامات التي يقدّم فيها قول مدّعي الصحّة إنّما يكون حمل فعله على الصحّة حجّة عليه للطرف المقابل ، وهذا واضح (1).

ونظير ذلك ما ذكره في الردّ على التمسّك بأصالة الصحّة في مورد بيع الراهن ورجوع المرتهن عن إذنه مع الشكّ في المقدّم منهما ، من أنّ ذلك إنّما هو فيما كان مدّعي الفساد طرفاً في المعاملة ليكون فعله حجّة على نفسه ، وفي المقام ليس مدّعي الفساد طرفاً في البيع بل هو شخص آخر ، فيلزم من حمله على الصحّة كون فعل شخص حجّة له على غيره (2).

ويلزمه أن لا يكون الزوج منكراً فيما لو ادّعت الزوجة فساد الطلاق لكونه في أيّام الحيض ، ولا أظنّه يلتزم بذلك ، وليس كون صحّة عمل شخص حجّة على طرفه في باب المخاصمة بأعظم من كون أحدهما مجرى للبراءة في كونه حجّة على الآخر فيما لو ادّعى زيد على عمرو ديناً فأنكره عمرو هذا.

ص: 463


1- العروة الوثقى 6 : 695.
2- العروة الوثقى 6 : 677 - 678.

مضافاً إلى أنّه لا دليل على الاختصاص المزبور ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى قصور السيرة والإجماع عن الشمول لمثل ذلك ، هذا. مع أنّ ظاهر كلامه هو الاختصاص بخصوص باب الترافع ، أعني أنّ ما أفاده من أنّ حمل فعل الشخص على الصحّة لا يكون حجّة على الطرف المقابل إنّما يوجب سقوط أصالة الصحّة المذكورة في خصوص باب الترافع ، دون ما إذا لم يكن في البين ترافع ، ولعلّ المنشأ في هذه الدعوى هو ما أفاده - بعد أن استشكل من اجراء أصالة الصحّة في قبال الأُصول الموضوعية - بقوله : نعم ، يمكن أن يقال إنّ الوجه في تقديم قول مدّعي الصحّة أخذ مدّعي الفساد باعترافه بوقوع المعاملة الظاهرة في الصحيحة ، فيكون في دعوى ما يوجب الفساد مدّعياً ، فعليه إثباته كما في سائر موارد الإقرار إذا ادّعى بعده ما ينافيه ، وعليه ففي جميع الصور المذكورة يقدّم قول مدّعي الصحّة إلاّفي مورد لا ينفذ إقراره الخ (1) ، بتقريب أنّ إقراره بالمعاملة إنّما يكون إذا كان هو الموقع لها ، فإنّ إيقاعه لها يكون عبارة أُخرى عن إقراره بها ، وحينئذ لا يدخل في هذا الأصل إلاّمن كان هو الفاعل ، بحيث كان الفاعل هو المدّعي لفساد فعله ، دون ما لو كان المدّعي للفساد شخصاً آخر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه بناءً على كون المدرك في تقديم مدّعي الصحّة هو هذا الذي أفاده لا ينحصر الاقرار بالمعاملة بإيقاعها ، بل يمكن أن تقع ويعترف الشخص الآخر بوقوعها لكن يدّعي فسادها ، هذا.

مضافاً إلى فساد هذا المبنى من أصله ، لأنّ أصالة الصحّة إن كانت من الأُصول العقلائية التي يجري عليها العقلاء بحيث كانت حجّة شرعية ولو في غير المخاصمة ، كان ذلك كافياً في كون مدّعيها منكراً وكون مدّعي الفساد مدّعياً ، وإن لم تكن في حدّ نفسها مرجعاً في غير باب المخاصمة لم يكن اعتراف الشخص

ص: 464


1- العروة الوثقى 6 : 673.

بالمعاملة موجباً لتوجّه إثبات الفساد عليه ، لأنّ الفرض هو كونها قابلة للوقوع على نحو الفساد كما هي قابلة للوقوع على نحو الصحّة ، فمع قطع النظر عن أصالة عدم النقل والانتقال ينبغي أن يكون كلّ منهما مطالباً بإثبات ما يدّعيه ، وإن رجعنا إلى أصالة عدم النقل والانتقال كان المطالب هو مدّعي الصحّة لا مدّعي الفساد ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّه لا يدفع الإشكال في تقدّمها على الأُصول الموضوعية ، فإنّا لو سلّمنا أنّ مدّعي الفساد يلزمه بعد أن أقرّ بالمعاملة أن يثبت مدّعاه الذي هو فسادها ، لقلنا إنّه يكفي لإثبات ذلك الأصل الموضوعي المقتضي للفساد ، فإنّ ذلك ليس من قبيل الانكار بعد الاقرار في مجلس القضاء كي لا يسمع أصلاً ، بل هو لم يخرج بذلك الاقرار السابق عن كونه أحد طرفي الخصومة ، والمفروض أنّ الأصل الموضوعي مطابق لقوله ، فيكون منكراً لا مدّعياً ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّ صحّة الرجوع فيما لو تردّد الطلاق بين البائن والرجعي ، وكذلك صحّة الفسخ فيما لو تردّد البيع بين كونه خيارياً أو كونه لازماً ليس على الظاهر من قبيل ما نحن فيه ، لأنّ ذلك ناشئ من التردّد في العقد السابق ، ولا يكون قول من يدّعي الرجعي أو الخياري على طبق الأصل فتأمّل ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه في مباحث مجهول التاريخ (1).

قوله : ولا إشكال في جريان أصالة الصحّة عند الشكّ في صحّة الصلاة وفسادها من جهة الشكّ في قصد القربة ... الخ (2).

هذا إن كان الشكّ في قصد القربة مع فرض إحراز أصل النيّة ، أمّا مع الشكّ

ص: 465


1- وهي الحواشي المتقدّمة على التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب ، فراجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 158 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 664.

في أصل النيّة بأن شككنا في أنّه هل قصد الصلاة ونواها أو أنّه لم يقصد إلاّصورة العمل ولو من جهة تعليم الغير مثلاً ، ففي جريان أصالة الصحّة في مثل ذلك تأمّل وإشكال ، إذ ليس هو [ إلاّ ] من قبيل ما لو رأيناه غمس الثوب مع احتمال عدم قصد تطهيره أو ارتمس في الماء مع احتمال أنّه لم يقصد الغسل من الجنابة. وهذا الإشكال بعينه جارٍ في قاعدة الفراغ والتجاوز. والذي يظهر من الجواهر (1) إجراؤهم قاعدة التجاوز.

ويمكن الفرق بين قاعدة التجاوز وبين قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة ، فإنّه لو شكّ في النيّة وهو في أثناء القراءة مثلاً يصحّ في حقّه إجراء قاعدة التجاوز لكونه يرى نفسه فعلاً في الصلاة ، بخلاف قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة لعدم إحراز الصلاة في مواردهما عند الشكّ في أصل النيّة ، اللّهمّ إلاّ أن يكتفى بصورة الصلاة بحيث يدّعى أنّ تحقّق صورة الصلاة كاف في صدق أنّه قد صلّى صدقاً عرفياً ، بخلاف ما لو ارتمس ولم يعلم أنّه قصد الغسل من الجنابة ، فإنّ قوام الغسل من الجنابة بحسب النظر العرفي هو النية بخلاف الصلاة ، وفيه تأمّل.

قوله : وبالجملة يتوقّف جريان أصالة الصحّة على إحراز صدور العمل على الوجه والعنوان الذي يكون العمل به موضوع الأثر ومتعلّق الأمر ، سواء كان العنوان من العناوين التي لا يتوقّف حصولها على القصد كغسل الثوب ... الخ (2).

لا يخفى أنّ المائز بين رمس الثوب في الماء لأجل إزالة نجاسته وبين رمسه فيه لأجل إزاله الوسخ عنه ونحو ذلك من دواعي رمسه فيه إنّما هو بالقصد ،

ص: 466


1- جواهر الكلام 12 : 322 و 325.
2- فوائد الأُصول 4 : 664.

وحينئذ فالغسل من العناوين القصدية ، غايته أنّه ربما أغنى عنه الرمس لا بقصد الغسل ، بل بقصد أمر آخر أو مجرّد وقوعه في الماء ولو باطارة الريح ، وذلك أمر آخر راجع إلى كونه توصّلياً يغني عنه ما يؤدّي مؤدّاه من إزالة النجاسة وإن لم يكن هو المأمور به على ما شرحناه في الفرق بين التعبّدي والتوصّلي (1).

وبالجملة : لمّا كان المأمور به هو الرمس بعنوان الغسل من النجاسة ، وكان جريان أصالة الصحّة موقوفاً على إحراز الاتيان به بذلك العنوان ، وكان الاتيان به بذلك العنوان متوقّفاً على الاتيان به بقصد إزالة النجاسة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون ذلك العنوان من العناوين القصدية ، ولكن أيّ أثر يترتّب على قصد المأمور به في مثل ذلك ، وما معنى الشكّ في الصحّة في ذلك بعد فرض تحقّق الطهارة بمجرّد رمس الثوب في الماء وإن لم يكن بقصد تطهيره ، إلاّمن جهة أنّ مجرّد الرمس في الماء لا يوجب تحقّق الطهارة إلاّبأن يصل الماء إلى أعماق الثوب مثلاً وطيّاته ، فإن كان بعنوان التطهير أمكن الركون فيه إلى أصالة الصحّة ، ولو لم يكن بعنوان التطهير لم يكن فيه مورد لأصالة الصحّة ، فلاحظ.

قوله : وأمّا في العبادات فإذا حصل الوثوق من قوله يقبل قوله ، لأنّ الاقتصار في إثبات مثل هذه الموضوعات ... الخ (2).

هذا من موارد قاعدة تصديق المدّعي فيما لا يُعلم إلاّمن قبله ، وقد ذكر في المسالك (3) من مواردها ما يزيد على العشرين ، وعدّ ما نحن فيه من جملتها وإن استشكل في ذلك ، والظاهر من إطلاق جملة من الكلمات أنّه لا يعتبر الوثوق

ص: 467


1- راجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب الصفحة : 360 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 665.
3- لاحظ مسالك الافهام 13 : 501 - 503.

فضلاً عن العدالة ، وعلى الظاهر أنّ هذه القاعدة مسلّمة عندهم في الجملة وإن اختلفوا في جملة من فروعها ، وقد تعرّض لها الفقهاء في كتاب القضاء ، فراجع الجواهر في المسألة السادسة من المسائل الثمان التي عقدها في باب الحلف واليمين (1) ، وقضاء الحاج ملاّ علي كني في أوائل قضائه فيما حرّره في الدعاوي المسموعة (2) ، وقضاء العروة في أُخرياته (3) ، بل راجع العناوين (4) وقواعد الشهيد قدس سره (5).

قوله : أمّا في باب العقود والإيقاعات وما يلحق بها ، فالظاهر كفاية إخباره بذلك وإن لم يحصل الوثوق بقوله ، لاندراجه في قاعدة « من ملك شيئاً ملك الإقرار به » ... الخ (6).

لا يخفى أنّ مورد قاعدة « من ملك » على تقدير القول بها إنّما هو الشكّ في أصل وقوع المعاملة ، أمّا مع إحراز وقوع صورة العقد منه والشكّ في قصده ، فالمرجع فيه هو أصالة الظهور في القصد ، حتّى أنّه لو أنكر القصد لا يسمع ذلك منه ، ومحلّ الكلام إنّما هو الشكّ في القصد بعد إحراز وقوع صورة العقد منه.

ومنه يظهر لك الحال في العبادات النيابية ، فإنّ مجرّد العسر والحرج أو اختلال النظام لا يوجب حجّية قول الأجير ، فإنّ هذه الأُمور لا تكون مشرّعة ، ففي

ص: 468


1- جواهر الكلام 40 : 262 فما بعدها.
2- كتاب القضاء : 99 وما بعدها.
3- العروة الوثقى 6 : 711.
4- العناوين 2 : 615 - 616.
5- القواعد والفوائد 1 : 229 ، و 2 : 188.
6- فوائد الأُصول 4 : 665.

مقام الشكّ في صدور أصل الفعل أو الشكّ في قصد النيابة به عن المنوب عنه إنّما يكون الاعتماد فيه على إخبار النائب من جهة عدالته ، أو من جهة حصول الوثوق بقوله وإن لم يكن عادلاً.

والحاصل : أنّه لابدّ في الحكم بفراغ ذمّة المنوب عنه من العلم أو ما يقوم مقامه من الوثوق أو الاطمئنان ، وهو حاصل بقول النائب العادل أو الوثوق بإخباره وإن لم يكن عادلاً ، والاعتماد على قوله إنّما هو لأجل كونه محصّلاً للعلم أو ما يقوم مقامه من الاطمئنان ، والسيرة وبناء العقلاء كافية في الحكم بكفاية ذلك المقدار من الاطمئنان ، نعم يمكن أن نجعل العسر والحرج المذكورين شاهداً على جريان السيرة المذكورة على كفاية الاطمئنان.

قوله : والإنصاف أنّ ما أفاده في هذا المقام ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه إن أحرز أنّ العامل قصد النيابة - إلى قوله - وإن لم يحرز أنّ العامل قصد النيابة في عمله فلا تجري في عمله أصالة الصحّة ... الخ (1).

الإنصاف : أنّ هذا هو عين ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : والصحّة من الحيثية الأُولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثية الثانية ، بل لابدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب الخ (2) ، فإنّ ذلك عبارة أُخرى عن أنّه لابدّ من إحراز عنوان النيابة ، وأنّ صحّة نفس العمل من حيث الأجزاء والشرائط لا تنفع في إحراز النيابة.

نعم ، للشيخ قدس سره في هذا المقام عبارة لا يبعد أن تكون من سهو القلم ، وهي قوله : بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين ، فيحكم باستحقاق الفاعل

ص: 469


1- فوائد الأُصول 4 : 665 - 666.
2- فرائد الأُصول 3 : 369.

الأُجرة ، وعدم براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل الخ ، فإنّ ذلك - أعني البناء على صحّة العمل لأجل أصالة الصحّة - إن كان بعد إحراز الاتيان بالعمل بعنوان النيابة كان اللازم ترتّب كلا الأثرين ، أعني استحقاق الأُجرة وبراءة ذمّة المنوب عنه ، وإن لم يكن ما يحرز لنا عنوان النيابة انتفى كلّ من هذين الأثرين ، فلا يحكم باستحقاق الأُجرة ولا ببراءة ذمّة المنوب عنه ، بل لا معنى للرجوع إلى أصالة الصحّة في العمل في هذه الصورة ، إذ ليس غرض ولي الميّت مثلاً هو إجراء [ أصالة ] الصحّة في عمل النائب بما أنّه عمل للنائب نفسه ، بل غرضه إجراء أصالة الصحّة فيه بما أنّه عمل منسوب إلى الميّت المنوب عنه ، ومع عدم إحراز النيابة لا يكون موضوع لأصالة الصحّة في العمل المنسوب إلى المنوب عنه ، وهذا هو المراد لشيخنا قدس سره في اعتراضه على الشيخ قدس سره كما يظهر ذلك من التحريرات ومن التقرير المطبوع في صيدا (1) ، فراجع وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ لنا في المقام أُموراً ثلاثة : ذات العمل ، وكونه عن النائب وكونه عن المنوب عنه ، وأصالة الصحّة إن أجريناها في الأوّل لم تنفع في إحراز أحد الأخيرين ، إذ لو حصل القطع بصحّة نفس العمل من حيث جامعيته لتمام الأجزاء والشرائط ، لم يكن ذلك نافعاً في إحراز أحد الأمرين من كونه واقعاً بقصد أن يكون عن نفسه أو كونه عن الغير ، ومع التردّد بين هذين الأمرين لا يكون أصل الصحّة منتجاً لأحدهما ، لأنّ أيّاً منهما قصده كان صحيحاً. وعلى أيّ حال ، لم يتّضح لنا مفاد هذه الجملة ، وهي أنّ أصالة الصحّة من الجهة الأُولى - أعني كونه عن نفسه - لا تنفع في إحراز الجهة الثانية أعني كونه عن غيره ، إلاّ أن يراد ما ذكرناه من أنّ أصل الصحّة في ذات العمل لا ينفع في إحراز كونه عن الغير.

ص: 470


1- أجوذ التقريرات 4 : 249.

قوله : فعلى الأوّل يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون أن يدخل في ملك البائع ما يقابله من الثمن ، وهو كما ترى ... الخ (1).

الظاهر أنّه لا مانع من ذلك ، وهل ذلك إلاّمن قبيل التفكيك بين مقتضيات الأُصول ، فإنّ الشكّ في صحّة البيع في مورد تردّد الثمن بين كونه خمراً أو ديناراً معيّناً عبارة أُخرى عن الشكّ في أنّ نقل ذلك المبيع عن ملك البائع هل هو صحيح أو لا ، فإذا حكمنا بمقتضى أصالة الصحّة بأنّه كان صحيحاً ، كان ذلك هو عين الحكم بتحقّق انتقال المبيع إلى المشتري ، أمّا كون الثمن ديناراً لا خمراً فليس ذلك هو عين صحّة ذلك البيع ، بل هو من لوازمه العقلية في المقام ، إذ الصحّة منحصرة بكون الثمن هو الدينار ، لا أنّ صحّة البيع بنفسها هي عبارة عن كون الثمن هو الدينار لا الخمر ، وإذا لم يكن كون الدينار ثمناً من آثار الصحّة شرعاً ، كان المرجع فيه إلى أصالة عدم الانتقال ، فإنّ أصالة الصحّة عند الشكّ في كون الثمن ديناراً أو خمراً وإن كانت من الأُصول الاحرازية ، إلاّ أنّها إنّما يحرز بها مجرّد كون العقد واجداً للشرط وهو كون الثمن حلالاً مثلاً لا حراماً ، أمّا كون الثمن في هذا العقد هو الدينار لا الخمر فذلك لا يكون إلاّبالأصل المثبت باعتبار العلم الخارجي بأنّه لم يكن في البين ثمن حلال إلاّ الدينار ، فإذا أحرزنا بأصالة الصحّة كون العقد واجداً للشرط وهو حلّية الثمن لزمه أن يكون الثمن في الصورة المفروضة هو الدينار ، لا أنّ كون الثمن هو الدينار هو عين ما يحرزه الأصل المذكور.

نعم ، يمكن القول بتعارض هذين الأصلين باعتبار العلم الاجمالي بخطأ أحدهما مع كونهما إحرازيين ، فيسقطان معاً ويكون المرجع هو أصالة عدم

ص: 471


1- فوائد الأُصول 4 : 666.

انتقال المبيع إلى المشتري وأصالة براءة ذمّته من وجوب دفع الدينار إلى البائع ، ومنه يعلم المعارضة بينهما في حقّ المشتري مع قطع النظر عن كونهما إحرازيين ، لأنّ جريانهما معاً في حقّه يوجب المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وهو حرمة إمساكه الدينار أو حرمة إمساكه المبيع ، للعلم الاجمالي بأنّ أحد الأمرين خارج عن ملكه ، هذا كلّه في حكم المشتري أو ورثته لو كان جاهلاً.

أمّا البائع أو ورثته لو كان جاهلاً فأصالة الصحّة في البيع قاضية عليه بلزوم تسليم المبيع ، وأصالة عدم انتقال الدينار إليه قاضية عليه بعدم جواز أخذه الدينار إلاّ أن يقال بتعارضهما من جهة كونهما إحرازيين فيتساقطان حينئذ ، ويكون المرجع له في المبيع أصالة بقائه على ملكه وعدم وجوب تسليمه إلى طرف المشتري ، وأصالة الحرمة في أخذه الدينار بناءً على أصالة الحرمة في الأموال. ولو قلنا بأصالة البراءة من حرمة أخذه الدينار وقعت المعارضة بين الأصلين ، وحينئذ يلزمه الاحتياط لعدم الأصل المسوّغ لشيء من الطرفين. هذا كلّه في حكم المسألة مع قطع النظر عن المخاصمة والنزاع.

أمّا مع فرض المخاصمة ، فإن كان البائع يدّعي صحّة البيع ويطالب بالدينار والمشتري أو ورثته يدفعون ذلك بدعوى فساد البيع بأنّ الثمن كان خمراً لا ديناراً فالمدّعي هو البائع ، فإنّ قوله وإن كان موافقاً لأصالة الصحّة إلاّ أنّ النزاع لم يكن في الحقيقة على الصحّة ، وإنّما كان النزاع على استحقاقه الدينار ، وأصالة الصحّة لا تكون مثبتة لقوله في استحقاق الدينار كي يكون قوله على طبق الأصل. والحاصل : أنّ الصحّة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن استتباعها استحقاق البائع للدينار ، لا معنى للمخاصمة فيها ، غايته أنّ أثرها المترتّب شرعاً عليها هو انتقال المبيع منه ، وهو - أعني البائع - معترف به وإن نفاه الورثة عنهم ، لكن ليس هذا

ص: 472

- أعني انتقال المبيع منه إلى المشتري - هو مركز المخاصمة ، بل إنّهما بالقياس إلى هذا من قبيل المعترف بالحقّ لطرفه مع كون طرفه نافياً له عن نفسه ، وإنّما مركز المخاصمة هو دعوى استحقاق البائع الدينار ، وقد عرفت أنّ أصالة الصحّة لا يترتّب عليها هذا الأثر.

وبتقرير أوضح : أنّ ما يمكن أن نحكم به بمقتضى أصالة الصحّة - من صحّة العقد وانتقال المبيع إلى المشتري - ليس هو مركز المخاصمة كي يكون قول البائع مطابقاً للأصل ، لأنّ جميع هذه الآثار من تمامية العقد وانتقال المبيع إلى المشتري لا تضرّ بما يرومه المشتري من دفع البائع عن ذلك الدينار ، ولا يكون شيء منها مثبتاً ، لأنّ هذا الدينار يستحقّه البائع الذي هو عبارة عمّا يدّعيه البائع ، وحينئذ يكون المرجع في الدينار إلى أصالة عدم الانتقال ، فيكون الأصل مطابقاً لقول المشتري وهو أصالة عدم الانتقال ، فيكون هو المنكر.

ثمّ إنّ أصالة الصحّة بل اعتراف البائع وإن اقتضى انتقال المبيع إلى المشتري ، إلاّ أنّ دعوى المشتري الفساد يكون إقراراً منه بعدم انتقال المبيع إليه ، فلا يمكنه أخذه كي يكون جامعاً بين العوض والمعوّض مع العلم الاجمالي بخروج أحدهما عن ملكه.

ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المشتري يقول بصحّة البيع وأنّ الثمن كان هو الدينار ، لكن البائع يدّعي الفساد وأنّ الثمن كان خمراً ، كان المنكر هو المشتري أيضاً فيما هو محلّ النزاع بينهما من استحقاقه المبيع ، لاتّفاقهما على وقوع النقل على ذلك المبيع والمشتري يدّعي صحّته والبائع يدّعي فساده ، أمّا قول المشتري بأنّ الثمن هو الدينار فذلك عبارة أُخرى عن الاعتراف منه للبائع بأنّه يستحقّ عليه ذلك الدينار مع كون البائع ينفيه عن نفسه ، فليس ذلك - أعني

ص: 473

استحقاق البائع الدينار - مورد الخصومة كي يقال إنّ أصالة الصحّة لا تثبته فكيف يكون منكراً.

وهكذا الحال في كلّ ما كان من هذا القبيل ممّا كان فيه العوض مردّداً بين ما هو موجب الفساد وما هو موجب الصحّة كما في مسألة الاجارة ، ودعوى أحدهما وقوع العقد على السنة بثمن معلوم وهو الدينار وادّعى الآخر وقوع العقد عليها بثمن مجهول وهو هذه الصبرة من الطعام ، وكذلك الحال فيما لو ادّعى أحدهما أنّ الشراء صحيح لكونه قد وقع على هذه الصبرة التي هي معلومة المقدار ، وادّعى الآخر أنّه قد وقع على تلك التي هي مجهولة المقدار ، أمّا لو وقع النزاع في أنّ هذه الصبرة التي اتّفقا على وقوع البيع عليها هل هي مجهولة المقدار عند البيع أو هي معلومة ، فلا يكون ممّا نحن فيه ، ويكون القول فيها هو قول مدّعي الصحّة. ومن ذلك كلّه يظهر لك السرّ في الفرعين اللذين نقلهما عن القواعد فإنّهما داخلان في هذا الضابط الذي ذكرناه ، فتأمّل (1)

ص: 474


1- مقدّمة لتوضيح المسألة التي هي محلّ الكلام : وهذه المقدّمة تتّضح بمثال ، وهو أنّه لو اتّفق البائع للثوب مع مشتريه على وقوع البيع وصحّته ، لكن ادّعى البائع أنّ الثمن كان ديناراً ، والمشتري يقول لا بل إنّ الثمن كان منّاً من الحنطة ، فقيل إنّهما متداعيان وعليهما التحالف وبعد التحالف يحكم بالتفاسخ. لكن قد يقال : إنّ المدّعي هو البائع ، لتسالمهما على انتقال الثوب إلى المشتري ، والمشتري لا نزاع له مع البائع لأنّه يعترف للبائع بالمنّ من الحنطة والبائع ينفيه ، فلا خصومة بينهما من هذه الجهة ، وإنّما عمدة الخصومة في استحقاق الدينار ، فالبائع يدّعيه والمشتري ينكره ، فيكون القول قول المشتري وعلى البائع البيّنة. إذا عرفت ذلك فنقول في الفرع الذي حرّره الشيخ قدس سره فيما لو كان الميّت قد اشترى الثوب ، وقد وقع النزاع بين البائع والورثة في أنّ الثمن هل كان ديناراً فتكون المعاملة صحيحة ، أو أنّه كان خمراً فتكون المعاملة فاسدة ، فهناك صورتان ، لأنّ مدّعي الفساد تارةً يكون هو البائع وأُخرى هو ورثة المشتري. فإن كان مدّعي الفساد هو الورثة والبائع يدّعي الصحّة وأنّ الثمن كان ديناراً ، فمع قطع النظر عن إشكال كون شرط أصالة الصحّة أن لا يكون المورد من الأركان ، وأنّه عند الشكّ في كون الثمن خمراً أو كونه ديناراً لا مجرى لأصالة الصحّة ( ولنفرض في مقابل الدينار صبرة من الطعام مجهولة المقدار ) نقول بعونه تعالى : إنّ أصالة الصحّة المطابقة لقول البائع إن لم يترتّب عليها استحقاق البائع الدينار على ورثة المشتري كما يقوله الشيخ قدس سره فيما أفاده من قوله : فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه [ فرائد الأُصول 3 : 371 ] ، فأي أثر لاعتماد البائع عليها مع أنّه معترف بأنّ الثوب ملك للمشتري ، وإنّما يدّعي الدينار بازائه ، فإذا لم تكن أصالة الصحّة مثبتة له الدينار وكان المرجع فيه أصالة العدم ، فماذا رتّبه البائع على إجراء أصالة الصحّة وماذا رتّبه الحاكم باجرائها ، وحينئذ لا يظهر أثر لإجراء أصالة الصحّة فتسقط ، كما لو قلنا بأنّها لا تجري لعدم إحراز الركن ، وحينئذ يكون النزاع بينهما على استحقاق الدينار ، فالبائع يدّعي وورثة المشتري ينكرونه ، فعلى البائع الاثبات. ولو كان البائع مدّعياً للفساد بدعوى كون الثمن خمراً ، وكان الورثة ينكرون ذلك ويدّعون أنّ الثمن كان ديناراً ، لو أجرينا أصالة الصحّة كانت نافعة لهم في استحقاق الثوب ، فتجري في حقّهم ويكون القول قولهم ، أمّا الدينار فلا خصومة فيه ، لأنّهم يعترفون به للبائع ولكنّ البائع ينفيه عن ملكه ، ولو قلنا بأنّ أصالة [ الصحّة ] لا تجري في حقّهم للشكّ في الركن كان الحال كذلك في الدينار لا خصومة فيه ، وإنّما الخصومة في الثوب ، فهم يدّعون أنّه لهم بالشراء الصحيح والبائع ينكر ذلك فيكون القول قول البائع وعليه اليمين ، وتكون البيّنة على الورثة ، فإن لم يكن لهم بيّنة وحلف البائع كانوا فيما بينهم وبين [ اللّه ] ملزمين بإيصال الدينار إليه لإقرارهم بأنّه له ، اللّهمّ إلاّ أن يأخذوه قصاصاً إن جوّزنا القصاص مع اليمين. أمّا الكلام في مقابلة أصالة الصحّة بالأصل فهو متوقّف على النظر في دليلها ، وليس هو إلاّ الإجماع والسيرة ، فإن لم يكن في البين معقد إجماع بطل الكلام في هذه المسألة ، إذ لو تمّ الإجماع فيها قدّمت أصالة الصحّة على الأصل الجاري فيها ، ولو لم يثبت الإجماع فيها كان المرجع هو الأصل الجاري ، فالعمدة إنّما هو بعد ثبوت معقد الإجماع ليكون بمنزلة النصّ العام ، وحينئذ نقول : مع قطع النظر عن كون المشكوك من الشرائط ركناً ، أو بعد الالتزام بأنّه لا فرق في جريانها بين كون المشكوك ركناً أو غير ركن ، لا يكون في قبالها إلاّ أصالة عدم النقل والانتقال ، أو أصالة عدم اعتبار المبيع فيما لو كان العوض صبرة من الطعام وقد حصل [ الشكّ ] في أنّهما اختبراها ووزناها ، أو أصالة عدم بلوغ العاقد ، وفي جميع ذلك يكون المرجع هو عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » في قبال إذا شككت في صحّة العقد مثلاً فابن على الصحّة ، والثاني أخصّ من الأوّل ، فيكون هو المقدم ، وهو معنى قولهم إذا قدّمنا الاستصحاب تكون أصالة [ الصحّة ] بلا مورد. ولكن قد يقال : إنّ أصالة الصحّة حاكمة على أصالة عدم [ النقل و ] الانتقال ، لكون ذلك من قبيل الموضوع والحكم ، نظير حكومة أصالة الصحّة في الوضوء مثلاً على استصحاب الحدث ، فإنّ النقل والانتقال حكم لاحق لتمامية العقد ، وحينئذ يكون هذا المورد خارجاً موضوعاً خروجاً تنزيلياً عن عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » وتختصّ به أصالة الصحّة ، كما أنّ هذا العموم - أعني عموم « لا تنقض » - يختصّ بمثل استصحاب الحياة ونحوه ممّا لا مورد فيه لأصالة الصحّة ، ليكون بينهما عموم من وجه ، ويجتمعان في مثل مورد الشكّ في البلوغ ويتعارضان فيه. لكن التحقيق : أنّ تقديم أصالة الصحّة بطريق الحكومة على عموم « لا تنقض » لا يوجب خروجه عنه حقيقة كي يكون موجباً لانقلاب النسبة ، بل إنّ النسبة كما هي عموم من وجه وأنّ المقدّم هو الخاصّ ، غايته أنّ تقديمه في بعض الموارد بطريق الحكومة ، وهي تخصيص بحسب الواقع. ولو أغضينا النظر عن ذلك والتزمنا بوقوع التعارض بين أصالة الصحّة والأصل الموضوعي الجاري في موردها ، نقول إنّها هي المقدّمة ، فإنّ أصالة عدم اختبارهما الصبرة لا يوجب إحراز كون ذلك العقد عقداً على المجهول ، فإنّ أصالة العدم بمفاد ليس التامّة لا تثبت نسبة ذلك العدم إلى العقد بمفاد ليس الناقصة ، كما أنّها لا تنفي نسبة ذلك الشرط - أعني العلم - إلى العقد بمفاد كان الناقصة. والحاصل : أنّ أصالة عدم العلم بالثمن لا تنفي العقد الصحيح أعني العقد على المعلوم ، ولا تثبت العقد الفاسد أعني العقد على ما ليس بمعلوم ، وهكذا الحال في العدم بمفاد ليس الناقصة بالنسبة إلى العاقد ، بأن نقول بأنّه كان ليس ببالغ ، إذ لا يترتّب على ذلك إلاّ العقد من ناحية وكون العاقد غير بالغ من الناحية الأُخرى ، وذلك لا يوجب اتّصاف الأوّل بالثاني إلاّبالأصل المثبت. وإن شئت قلت : إنّ الأصل النافي للشرط سواء كان مثل أصالة عدم تحقّق اعتبار المبيع بوزنه ، أو كان مثل استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى أن صدر منه [ العقد ] ، لا يوجب كون العقد منعدم الشرط بمفاد ليس الناقصة ، أمّا الأصل الأوّل فواضح ، لأنّه من قبيل أصالة عدم القرشية ، وأمّا الثاني فلأنّ أقصى ما فيه أن يكون عقد بالوجدان وعدم بلوغ العاقد بالأصل ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب اتّصاف العقد بأنّه ليس من بالغ بمفاد ليس الناقصة. ولو سلّمنا أنّه يثبت بذلك عنوان مفاد ليس الناقصة بالنسبة إلى العقد ، فذلك لا يطرد ما هو محلّ الأثر - أعني العقد الواجد للشرط بمفاد كان الناقصة - كي يكون ذلك موجباً لانتفاء السبب الذي هو العقد الواجد للشرط بمفاد كان الناقصة ، إذ ليس مفاد ليس الناقصة نقيضاً لمفاد كان الناقصة كي يكفي في ثبوته بالأصل كونه طارداً لأثر نقيضه ، بل هما ملحقان بالضدّين ، فلاحظ وتدبّر. ولو أُغضي النظر عن ذلك كلّه ، لقلنا إنّ أصالة الصحّة مقدّمة ، لأنّها من قبيل الظهور الحاكم على ما في مورده من الأصل 20 / ربيع 1 / 1381 [ منه قدس سره ].

ص: 475

ص: 476

ص: 477

قوله فيما حكاه عن العلاّمة قدس سره في القواعد : فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل (1) هنا ... الخ (2) - (3).

لا يخفى أنّه بعد البناء على بطلان الاجارة بقول مطلق فيما لو آجره الدار كلّ شهر بدرهم كما يظهر من العلاّمة قدس سره (4) في المباحث السابقة على هذه العبارة ، نبقى نحن وقول المستأجر ، وحينئذ فإن قلنا كما قاله المحقّق الثاني (5) بعدم جريان أصالة الصحّة فيما لو شكّ في تعيين المدّة لأنّ تعيينها ركن في باب الاجارة ، كان المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال ، فيكون المقدّم هو قول المالك لموافقته لأصالة عدم ترتّب الأثر ، كما نقل في مفتاح الكرامة عن الإيضاح أنّه الأولى (6) ، وعن الحواشي أنّه الأقوى ، وعن جامع المقاصد أنّه الأوجه ، لكن تقديمه إنّما هو لما عرفت من أنّه بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة في ناحية

ص: 478


1- قواعد الأحكام 2 : 310.
2- فوائد الأُصول 4 : 667.
3- للشيخ قدس سره كلام في المكاسب [ 4 : 284 ] في أصالة الصحّة ينبغي مراجعته في أواخر اشتراط معلومية العوضين قبيل قوله : مسألة لابدّ من اختبار الطعم واللون والرائحة [ منه قدس سره ].
4- قواعد الأحكام 2 : 285.
5- جامع المقاصد 7 : 308.
6- مفتاح الكرامة 15 : 400. إيضاح الفوائد 2 : 283.

قول المستأجر وبعد فرض بطلان الاجارة لكلّ شهر درهم ، يكون الأصل هو عدم ترتّب الأثر ، لا لما في مفتاح الكرامة من أنّ المستأجر وإن كان مدّعياً للصحّة إلاّ أنّه مع ذلك مدّع أمراً زائداً وهو استيجار سنة بدينار والمالك ينكره ، فلا يقدّم قوله فيه لأنّ الأصل عدمه.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة وفرض بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم ، وبعد فرض تقديم قول المالك ، يكون الحكم هو بطلان الاجارة بيمين المالك ، فلا وجه للقول بصحّة العقد في الشهر الأوّل ، وما أفاده المحقّق الثاني قدس سره في توجيهه من الاتّفاق منهما على أنّ أُجرة الشهر الأوّل هي الدرهم لا يكون نافعاً في الحكم بصحّة الاجارة في الشهر الأوّل بعد فرض بطلان الاجارة فيما لو آجره لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق من دون استثناء الشهر الأوّل ، نعم لو قلنا في تلك المسألة بالصحّة في الشهر الأوّل كان لازمه هنا الصحّة فيه أيضاً ، لكن مفروض الكلام هو إطلاق البطلان في تلك ، فماذا تكون قيمة الاتّفاق بين المتعاقدين على أنّ أُجرة الشهر الأوّل هو الدرهم بعد الحكم بفساد المعاملة من رأس.

والإنصاف : أنّ عبارة العلاّمة قدس سره القائلة : فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل هنا ، لا يمكن توجيهها ، فراجع مفتاح الكرامة لترى ما تحمّله الجماعة الذين نقل عنهم توجيهها من التكلّف الظاهر.

ولا يخفى أنّا لو قلنا في مسألة ما لو آجره لكلّ شهر درهم بالصحّة بقول مطلق ، هل يكون النزاع المذكور من باب التداعي ، لأنّ كلاً منهما يدّعي العقد على خلاف ما يدّعيه الآخر ، أو أنّ المالك مدّع لأنّه يدّعي الخيار لنفسه على رأس كلّ شهر والمستأجر ينكره؟ محلّ تأمّل وإشكال.

ص: 479

ولو قلنا بالصحّة في تلك المسألة في خصوص الشهر الأوّل ، فهل يكون المدّعي هو المستأجر والمنكر هو المالك ، لما في مفتاح الكرامة وعن جامع المقاصد من أنّ المستأجر يدّعي أمراً زائداً وهو استيجار تمام السنة والمالك ينكره ، أو أنّ الأمر بالعكس لأنّ المالك يدّعي بطلان الاجارة فيما زاد على الشهر الأوّل والمستأجر يدّعي صحّته ، فيكون قوله موافقاً لأصالة الصحّة بناءً على جريانها في صورة الشكّ في تعيين المدّة؟ أيضاً محلّ تأمّل وإشكال ، لكنّا في غنى عن ذلك كلّه بعد أن قلنا في صورة ما لو آجره لكلّ شهر درهم ببطلان الاجارة بقول مطلق ، أمّا بناءً على جريان أصالة الصحّة في صورة الشكّ في تعيين المدّة فلوضوح كون المدّعي هو المالك والمنكر هو المستأجر ، وأمّا بناءً على عدم جريانها فلوضوح كون الأمر بالعكس ، إذ بعد سقوط أصالة الصحّة في ناحية قول المستأجر يبقى عندنا أصالة عدم ترتّب الأثر وهي موافقة لقول المالك ، فتأمّل.

وخلاصة البحث : هو أنّ حاصل ما عند المستأجر هو اعترافه للمالك بالدينار لكونه بحسب دعواه عوضاً [ عن ] منفعة السنة ، والمالك ينفي الدينار عن نفسه ، فلا نزاع بينهما من هذه الناحية ، نعم إنّ المستأجر يطالب بمنفعة السنة استناداً إلى صحّة الاجارة والمالك ينكر ذلك ، فيكون المدّعي هو المستأجر والمنكر هو المالك ، وأصالة الصحّة لا تنفع في هذا الوادي ، لأنّها لا تثبت وقوع العقد على السنة كي يحكم باستحقاق المستأجر لها ، نعم لازم صحّة الاجارة هو وقوع العقد على السنة ، وحيث إنّ أصالة الصحّة لا تنفع في ذلك كان المرجع فيه هو أصالة عدم انتقال [ منفعة ] السنة إلى المستأجر ، فيكون القول في ذلك قول المالك ، هذا بناءً على بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق ، أمّا لو قلنا

ص: 480

بصحّته في الشهر الأوّل كان المتيقّن هو أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل ، إمّا بالدرهم أو بنصف سدس الدينار ، ومن هذه الجهة يكون المالك مدّعياً ، لأنّه يطالب بالدرهم والمستأجر ينكر ذلك ويعترف له بنصف سدس الدينار والمالك ينفيه عن نفسه ، وأمّا من جهة الزائد على الشهر الأوّل فإنّ المدّعي هو المستأجر والمالك ينكر ذلك. وعلى كلّ حال ، أنّ أصالة الصحّة لا تكون نافعة في النزاع الأوّل ولا في النزاع الثاني.

ويحتمل أن يكون الوجه في صحّة الشهر الأوّل هو أنّ وجه البطلان لا يتأتّى فيه ، حيث إنّ وجه البطلان هو الغرر على المالك وأنّه لا يعرف مقدار ما هو ملزم به ، كما أنّ المستأجر أيضاً لا يعلم مقدار ما هو ملزم به من الثمن ، أمّا بالنسبة إلى الشهر الأوّل فلا شكّ عندهما في أنّهما ملزمان به ، وفيه ما لا يخفى كما هو واضح.

قوله بعد الفراغ عن شرح ما أفاده في جامع المقاصد في شرح الوجه في توقّفه عن إجراء أصالة الصحّة : وبذلك يظهر أنّه يصحّ الاستشهاد على عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة بما ذكره العلاّمة في الفرع الأوّل أيضاً ... الخ (1).

قال في جامع المقاصد في شرح قول العلاّمة قدس سره « ففي تقديم قول المستأجر نظر » : ينشأ من أنّه مدّع للصحّة وهي موافقة للأصل ، فيكون هو المنكر فيقدّم قوله باليمين ، ومن أنّه مع ذلك يدّعي أمراً زائداً وهو استيجار سنة بدينار والمالك ينكره فلا يقدّم قوله فيه ، لأنّ الأصل عدمه ، ولأنّ الأُمور المعتبرة في العقد لم يقع الاتّفاق عليها فلم يثبت سببيته ، وتقديم قول مدّعي الصحّة فرع ذلك

ص: 481


1- فوائد الأُصول 4 : 668.

كما حقّقناه في المسألة السابقة ، فعدم تقديم قوله أوجه (1).

قلت : أمّا الوجه الثاني الذي ركن إليه في المنع من جريان أصالة الصحّة فهو على الظاهر لا دخل له بالأصل المثبت ، بل هو راجع إلى ما اعتبره في جريان أصالة الصحّة من إحراز الأركان ، فيكون مرجع هذا الوجه إلى المنع من جريان أصل الصحّة.

وأمّا الوجه الأوّل وهو دعوى المستأجر أمراً زائداً وهو مالكية منفعة السنة بدينار ، فالظاهر أنّه كذلك لا دخل له بكون الأصل مثبتاً ، بل الظاهر أنّه مبني على دعوى استحقاق ذلك الأمر الزائد وأنّ المالك ينكره وينفيه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الأمر الزائد لمّا كان أمراً خارجاً عن مقتضى أصالة الصحّة وكان ملازماً لصحّة الاجارة ، لم يمكن الحكم بترتّبه على أصالة الصحّة فيها إلاّبالأصل المثبت ، وحيث إنّا لا نقول بحجّية الأصل المثبت يكون المرجع في هذا الأمر الزائد الذي [ هو ] مركز الدعوى هو أصالة عدمه ، على حذو ما ذكرناه في دعوى البائع صحّة العقد لكونه قد وقع على كون الثمن ديناراً ، ودعوى المشتري فساده لكون الثمن كان خمراً.

وبالجملة : أنّ المسألة فيما نحن فيه نظير تلك المسألة في عدم إثبات أصالة الصحّة لكون البائع مستحقّاً للدينار الذي هو لازم أصالة الصحّة ، فإنّ كلا المسألتين من وادٍ واحد وهو تردّد العوض بين موجب الفساد وموجب الصحّة ، وأصالة الصحّة لا تثبت الثاني ، فلا ريب في كون أصالة صحّة الاجارة بالنسبة إلى إثبات كون العوض هو منفعة السنة من قبيل الأصل المثبت.

نعم ، يبقى الكلام في أنّ مراد جامع المقاصد هو هذه الجهة ، أو أنّ مراده

ص: 482


1- جامع المقاصد 7 : 308.

أمر آخر وهو الركون إلى أصالة العدم في استحقاق ذلك الزائد. وعلى كلّ حال ، فالذي يمكن أن يكون راجعاً إلى إعابة أصالة الصحّة بكونها مثبتة إنّما هو الوجه الأوّل دون الوجه الثاني كما يظهر من هذا التحرير.

قوله : أقول ولو فرض أنّ قيمة الدينار كانت اثني عشر درهماً لا يحصل الاتّفاق بينهما في الشهر الأوّل ... الخ (1).

الظاهر أنّه لو قال آجرتك كلّ شهر بدرهم فقال المستأجر بل آجرتني سنة باثني عشر درهماً ، لا يحصل الاتّفاق بينهما على الشهر الأوّل ، وذلك لأنّ المالك يدّعي فساد العقد بالمرّة ، فلا تصحّ الاجارة حتّى في الشهر الأوّل ، والمستأجر يدّعي صحّتها في تمام السنة ، فكيف يكونان متّفقين على أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل بدرهم. نعم إنّهما قد اتّفقا على أنّ الشهر الأوّل قد وقع تحت الاجارة ، فالمالك يدّعي وقوعه تحتها فاسدة في ضمن مجموع الاجارة لكلّ شهر درهم ، والمستأجر يدّعي وقوعه تحتها صحيحة في ضمن مجموع إجارة السنة ، غايته أنّه قد وقع النزاع بينهما في صحّة إجارة ذلك الشهر وفساده ، وحيث إنّ المستأجر يدّعي الصحّة فالقول قوله في خصوص الشهر الأوّل وإن قدّمنا قول المالك في بقية جهات النزاع ، ولا ينتقض ذلك بضمّ الشهر الثاني إلى الأوّل بأن يقال إنّهما اتّفقا على وقوع الشهرين تحت الاجارة الخ ، لأنّهما لم يتّفقا على وقوع الاجارة على الشهرين متّصلين ، فإنّ المالك يدّعي أنّ كلّ شهر على حدة ، والمستأجر يدّعي انضمام الثاني إلى الأوّل.

نعم ، قد أورد عليه في جامع المقاصد بما حاصله أنّه بعد تقديم قول المالك استناداً إلى أصالة عدم الانتقال بعد سقوط أصالة الصحّة يكون العقد

ص: 483


1- فوائد الأُصول 4 : 668.

فاسداً بتمامه ، سواء في ذلك الشهر الأوّل وباقي الأشهر ، ولا معنى للتبعيض. وفيه تأمّل ، هذا كلّه بناءً على بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق.

أمّا لو قلنا بصحّته في الشهر الأوّل كان المتيقّن هو أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل إمّا بالدرهم أو بنصف سدس الدينار ، ومن هذه الجهة يكون المالك مدّعياً لأنّه يطالب بالدرهم ، والمستأجر ينكر ذلك ويعترف له بنصف سدس الدينار والمالك ينفيه عن نفسه ، وأمّا من جهة الزائد على الشهر الأوّل فإنّ المدّعي هو المستأجر والمالك منكر. وعلى كلّ حال ، أنّ أصالة الصحّة لا تكون نافعة في النزاع الأوّل ولا في النزاع الثاني.

قوله : وعن جامع المقاصد في شرح قوله : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » ... الخ (1).

لو وقع النزاع في تعيين المدّة وعدمه ، فقال المالك آجرتكها لمدّة شفاء مريضك بدينار ، وقال المستأجر بل آجرتنيها سنة تامّة بدينار ، فإن كان ذلك قبل استيفاء المستأجر المنفعة المذكورة ، كان حاله حال قول المشتري بعتنيه بخمر وقال البائع بل بالدينار المعيّن في عدم جريان أصالة الصحّة في ناحية البائع وإجراء أصالة عدم النقل للدينار في ناحية المشتري ، ويكون القول قول المشتري ولا تجري أصالة الصحّة في ناحية البائع حتّى في ناحية انتقال المبيع عنه إلى المشتري ، لأنّ ذلك - أعني مالكية المشتري للمبيع - أمر يعترف به البائع وينفيه المشتري ، وتكون فائدة قول المالك في هذه الصورة هي طرد المستأجر عن السلطنة على استيفاء المنفعة المذكورة وهي تمام السنة.

ص: 484


1- فوائد الأُصول 4 : 669 [ سيأتي التعليق مرّة أُخرى على هذا المتن في الصفحة : 490 ].

لا يقال : بعد فرض كون الشكّ في تعيين المدّة تكون أصالة الصحّة نافعة للمستأجر في استحقاقه لمنفعة السنة ، فإنّها بناءً على كونها من الأُصول الاحرازية تكون محرزة لكون المنفعة هي المعلومة وهي السنة دون المجهولة.

لأنّا نقول : إنّ أصالة الصحّة وإن كانت من الأُصول الاحرازية إلاّ أنّه لا يحرز بها إلاّواجدية المعاملة لذلك الشرط ، وهو هنا معلومية المدّة ، أمّا أنّ كون تلك المدّة هي السنة فذلك لا يترتّب عليها إلاّبالأصل المثبت من جهة العلم الخارجي في خصوص هذه المسألة بانحصار [ المدّة ] المعلومة في السنة ، فلا يمكن القول بترتّب هذا اللازم وهو استحقاق منفعة السنة على أصالة الصحّة.

وإن كان حدوث النزاع بينهما بعد استيفاء المستأجر للمنفعة في تلك المدّة وكانت أُجرة المثل للسنة مساوية لما هو المسمّى - أعني الدينار - أو كانت أقلّ منه سقط النزاع بينهما ، لعدم الفائدة حينئذ للمالك في دعواه فساد الاجارة ، كما أنّه لا فائدة للمستأجر في دعواه صحّة الاجارة ، ولو كانت أُجرة المثل أزيد من الدينار توجّه النزاع بينهما ، وكانت فائدة دعوى المالك فساد الاجارة هي سلطنته على أخذ أُجرة المثل من المستأجر وهي أكثر من الدينار ، وكانت فائدة دعوى المستأجر صحّة الاجارة هي منع المالك من أخذ الزائد على الدينار وقصر استحقاقه على المسمّى الذي هو الدينار ، وحينئذ تسقط أصالة الصحّة في جانب المستأجر ، لأنّها لا يترتّب عليها ما يدّعيه من منع المالك من أخذ الزائد على الدينار إلاّبالأصل المثبت ، إذ لا يمكنه منعه إلاّباثبات كونه مالكاً عليه منفعة السنة ، وهذا لا يترتّب على أصالة الصحّة إلاّبالأصل المثبت.

وحينئذ يكون المرجع هو أصالة عدم انتقال منفعة السنة إلى المستأجر ، وأنّه لم يكن مالكاً لها ، فيلزم المستأجر دفع أُجرة المثل التي هي زائدة على

ص: 485

الدينار ، ولا يعارضها أصالة براءة ذمّة المستأجر من ذلك الزائد ، لأنّ أصالة عدم انتقال منفعة تمام السنة إلى المستأجر حاكم على البراءة المذكورة لكونه أصلاً موضوعياً بالقياس إليها ، كما أنّ أصالة الصحّة الحاكمة بانتقال الدينار إلى المالك لا تدفع هذا الأصل ، لما عرفت من أنّ أصالة الصحّة والحكم بانتقال الدينار إلى المالك لا يترتّب عليه الحكم بانتقال المنفعة في تمام السنة إلى المستأجر إلاّ بالأصل المثبت ، وفي كلتا الصورتين تكون أصالة الصحّة في ناحية المستأجر متضمّنة للدعوى على المالك وهي استحقاق المستأجر منفعة تمام السنة ، وذلك لا يكون إلاّبالأصل المثبت.

ولو وقع النزاع بينهما في تعيين العوض ، بأن قال المالك آجرتكها سنة بما في الصرّة التي هي عندك مع فرض كون ما في الصرّة غير معلوم لهما ، وقال المستأجر آجرتنيها سنة بهذا الدينار ، فإن كان النزاع بينهما قبل استيفاء المستأجر المنفعة المذكورة ، كان فائدة قول المالك هي منع المستأجر من السلطنة على استيفاء المنفعة المذكورة ، وفائدة قول المستأجر هي إثبات سلطنته على ذلك بالدينار ، وحينئذ تجري أصالة الصحّة في ناحية قول المستأجر ويكون القول قوله ، ويترتّب على أصالة الصحّة مقتضاها الشرعي وهو سلطنته على استيفاء المنفعة واستلامها من المالك. وأمّا بالنسبة إلى عوض منفعة السنة فيكون الحال فيه كما إذا كان النزاع بعد الاستيفاء في أنّ المالك يدّعي الزائد والمستأجر يدّعي الناقص ، ويكون القول في هذه الجهة هو قول المستأجر أيضاً.

ولو كان ذلك النزاع بينهما بعد استيفاء المستأجر لتلك المنفعة ، فإن كانت أُجرة المثل لتلك المنفعة مساوية للدينار أو أقلّ منه سقط النزاع بينهما ، إذ لا فائدة ترتّب عليه ، أمّا بالنسبة إلى المالك فلأنّ المفروض أنّ المستأجر قد استوفى

ص: 486

المنفعة ، فلا يكون غرض المالك من دعوى الفساد هو طرد المستأجر عن استيفاء المنفعة ، كما أنّه لا غرض للمستأجر من دعوى الصحّة ، لأنّ ذلك لا يترتّب عليه إلاّ الدينار وهو مساوٍ لأُجرة المثل أو أكثر منها.

نعم ، لو كانت أُجرة المثل أزيد من الدينار توجّه النزاع بينهما بالنسبة إلى الزائد على الدينار ، فالمالك يدّعي الفساد لأجل إثبات استحقاقه ذلك الزائد ، والمستأجر يدّعي الصحّة لأجل نفي ذلك الزائد عنه ، وأصالة الصحّة وإن أثبتت انتقال منفعة تلك السنة إلى المستأجر وأنّه قد ملكها ، إلاّ أنّها لا يترتّب عليها كون عوضها هو الدينار على وجه لا يكون المالك مستحقّاً لما هو الزائد الذي هو أُجرة المثل إلاّبالأصل المثبت ، فقول المستأجر وإن كان مطابقاً لأصالة الصحّة إلاّ أنّه لا يترتّب عليه ما يرومه من دفع المالك عمّا هو الزائد على الدينار ، فلا يكون بالنسبة إلى دفع المالك عن ذلك الزائد إلاّمدّعياً ، وهو معنى قول العلاّمة قدس سره : « فيما لم يتضمّن دعوى » على ما شرحه جامع المقاصد (1).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ قول المستأجر وادّعاءه بعدم استحقاق المالك ذلك الزائد عليه وإن لم يمكن إثباته بأصالة الصحّة ، إلاّ أنّ قول المالك وادّعاءه ذلك الزائد لا يكون على طبق الأصل ، لأنّ أصالة عدم الانتقال في تلك المنفعة لا تجري ، لحكومة أصالة الصحّة عليها القاضية بمالكية المستأجر لتلك المنفعة ، فلم يبق لنا في ناحية استحقاق ذلك الزائد إلاّ أصالة براءة ذمّة المستأجر منه ، فيكون القول في هذا النزاع قوله ، وفي كلا الصورتين لا تكون أصالة الصحّة في جانب المستأجر متضمّنة لدعوى على المالك ، أمّا بالنسبة إلى استحقاقه تمام منفعة السنة فلأنّ ذلك هو مقتضى أصالة الصحّة ، وأمّا بالنسبة إلى عوضها فلأنّ

ص: 487


1- جامع المقاصد 7 : 310.

المالك يدّعي الزائد والمستأجر يدّعي أنّه غير مشغول الذمّة إلاّبالدينار ، فيكون القول قول المستأجر من الجهتين ، ولا تكون أصالة الصحّة في ناحيته متضمّنة لدعوى على المالك.

وربما يقال : إنّ أصالة الصحّة لا يترتّب عليها لازمها وهو مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، سواء كان قد وقع النزاع بينهما قبل الاستيفاء أو كان بعده ، وسواء كان النزاع من جهة مجهولية المدّة أو من جهة مجهولية الثمن ، ففي جميع هذه الصور الأربع لا تكون أصالة الصحّة مثبتة للازم وهو مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، وما لم يترتّب عليها ذلك اللازم يكون جريانها بلا أثر فتسقط ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة عدم انتقال منفعة السنة إلى المستأجر ، ويكون القول قول المالك في جميع الصور المذكورة ، وتكون أصالة الصحّة في جميع هذه الصور متضمّنة للدعوى على المالك.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك وإن كان كذلك في الصورتين السابقتين أعني ما لو كان النزاع في جهالة المدّة ومعلوميتها قبل الاستيفاء أو بعده إلاّ أنّه لا يتمّ في الصورتين الأخيرتين أعني ما لو كانت المدّة معلومة وكان النزاع في العوض هل هو الدينار أو هو ما في الصرّة ، فإنّ أصالة الصحّة في ذلك هو عين صحّة مالكية المستأجر للمنفعة المعلومة أعني تمام السنة ، وليس ذلك بلازم خارج ، وأمّا النزاع بينهما في العوض فإنّ القول فيه هو قول المستأجر ، لأنّ المالك يدّعي على المستأجر تمام أُجرة المثل وهو العشرة دنانير مثلاً ، والمستأجر ينفي اشتغال ذمّته بأُجرة المثل ، ولا يعترف باشتغال ذمّته إلاّبالمسمّى الذي هو الدينار ، وهو - أعني انشغال ذمّته بالدينار - وإن لم يثبت بأصالة الصحّة لكونه لازماً لها ، إلاّ أنّه يكفي في نفي الزائد عليه أصالة البراءة ، فيكون القول قول المستأجر في هذه الصورة في

ص: 488

كلّ من الحالين ، أعني حال ما قبل الاستيفاء وحال ما بعد الاستيفاء ، ولا تكون أصالة الصحّة في جانبه متضمّنة لدعوى على المالك في كلا الحالين ، بخلاف الصورة الأُولى وهي ما لو كان النزاع على جهالة المدّة ومعلوميتها ، فإنّ أصالة الصحّة فيها تتضمّن الدعوى على المالك ، سواء كان النزاع بينهما قبل الاستيفاء أو كان بعد الاستيفاء ، ولعلّ قول العلاّمة قدس سره : « فيما لم يتضمّن دعوى » إشارة إلى إخراج الصورة الأُولى بكلا حاليها ، وإبقاء الصورة الثانية بكلا حاليها أيضاً ، فلاحظ وتأمّل.

بل يمكن أن يقال : إنّ أصالة الصحّة في جانب المستأجر تسدّ على المالك باب المطالبة بأُجرة المثل ، لأنّ استحقاقه لأُجرة المثل منوط بفساد مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، وأصالة الصحّة قاضية بصحّة مالكية المستأجر لها ، ومعه لا وجه لمطالبته بأُجرة المثل.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أفاده جامع المقاصد قدس سره (1) من تفسير ما أفاده العلاّمة قدس سره من قوله : والأقوى التقديم فيما لا يتضمّن دعوى. كما يظهر لك التأمّل ممّا يظهر من شيخنا من تقريره لذلك التفسير.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ قول العلاّمة « والأقوى التقديم » راجع إلى جميع ما تقدّم من موارد النزاع ، حتّى فيما لو قال المالك آجرتك كلّ شهر بدرهم فقال المستأجر بل سنة بدينار ، وأنّ جميع ذلك يكون الأقوى فيه تقديم قول مدّعي الصحّة بالشرط المذكور ، غايته أنّ هذا الشرط - أعني عدم تضمّن الدعوى على المالك - منحصر بالصورة الأخيرة أعني ما لو ادّعى المالك جهالة الثمن وادّعى المستأجر معلوميته ، دون باقي الصور ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 489


1- جامع المقاصد 7 : 310.

ولعلّ المراد من كون أصالة الصحّة في حقّ المستأجر الذي يدّعي كون الأُجرة معلومة تتضمّن الدعوى هو ما لو منعه المؤجر من العين في المدّة التي وقع عليها عقد الاجارة ، فإنّ صحّة الاجارة توجب كون المؤجر ضامناً للمستأجر أُجرة المثل لتلك المدّة.

قوله : وعن جامع المقاصد في شرح قوله : والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى - إلى قوله - أقول : لا فائدة في تقديم قول المستأجر لو كان يدّعي أُجرة تساوي أُجرة المثل ، ولا أثر لجريان أصالة الصحّة ... الخ (1).

قال في جامع المقاصد في أثناء شرحه العبارة المذكورة : والأقوى عند المصنّف تقديم قول المستأجر بيمينه فيما لا يتضمّن دعوى أمر آخر غير الصحّة على المؤجر ، كما لو كان العوض الذي ادّعاه المستأجر لا يزيد على أُجرة المثل ، فإنّ ذلك القدر ثابت على كلّ تقدير ، فيقدّم فيه قول مدّعي الصحّة عملاً بالأصل مع عدم المنافي. وهذا الذي ذكره يمكن أن يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ الاختلاف الذي لا يترتّب عليه فائدة أصلاً ولا يكون فيه إلاّ محض تجرّع مرارة اليمين وامتهان اسم اللّه العظيم بالحلف به لغير مصلحة لا يكاد يقع ممّن يعقل ، ومع الفائدة فالمحذور قائم.

الثاني : أنّ تقديم قول مدّعي الصحّة إنّما يتحقّق على ما بيّناه حيث يتّفقان على حصول أركان العقد ويختلفان في وقوع المفسد ، فإنّ التمسّك لنفيه بالأصل هو المحقّق لكون مدّعي الصحّة منكراً ، دون ما إذا اختلفا في شيء من أركان العقد فإنّه لا وجه للتقديم الخ (2)

ص: 490


1- فوائد الأُصول 4 : 669 [ مرّ التعليق على هذا المتن في الصفحة : 484 ].
2- جامع المقاصد 7 : 310 - 311.

ومنه يظهر أنّ هذا الذي أفاده قدس سره من الايراد على جامع المقاصد قد صرّح به هو في إيراده الأوّل على عبارة العلاّمة قدس سره. وأمّا إيراده الثاني على العبارة فهو راجع إلى الإشكال على جريان أصالة الصحّة في أمثال هذه الموارد ممّا يكون الشكّ في الصحّة فيه ناشئاً عن الشكّ في تحقّق ما هو الركن.

قوله : إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر ، كما إذا كان الشكّ متمحّضاً في شرائط العقد من العربية والماضوية والصراحة ونحو ذلك ... الخ (1).

قد يتصوّر الأصل الموضوعي في شرائط العقد غير أصالة عدم الانتقال ، كما في ذكر المهر في العقد المنقطع فإنّه شرط للعقد ويجري فيه الاستصحاب العدمي عند الشكّ في ذكره ، وكما في موارد الشكّ في الموالاة بين الايجاب والقبول ، فإنّ استصحاب عدم وقوع القبول في الزمان الذي يتحقّق به الموالاة يكون نافياً لهذا الشرط ، ولكن مع ذلك تكون أصالة الصحّة حاكمة عليه ، إلاّ إذا كان على وجه تكون دائرة الشكّ أوسع من ذلك ، على وجه احتمل التأخّر بمقدار يكون منافياً لصدق العقد ، فإنّه حينئذ لا مورد لأصالة صحّة العقد لعدم إحراز العقدية ، بل بواسطة إحراز ذلك الفاصل بأصالة عدم وقوع القبول فيه تكون المسألة من قبيل إحراز عدم العقدية ، اللّهمّ إلاّ أن يرجع في ذلك إلى أصالة صحّة القبول بناءً على أنّها يحرز بها موالاته للايجاب التي هي شرط فيهما ، لكنّها على الظاهر لا تنفع ، لأنّها لا يثبت بها إلاّ الصحّة التأهّلية للقبول ، وكونه بحيث لو تقدّمه الايجاب على الوجه المعتبر من عدم الفاصل المعتد به لترتّب عليه الأثر.

ومن ذلك ما لو شكّ في تحقّق القصد ، فإنّه مع قطع النظر عن الأصل

ص: 491


1- فوائد الأُصول 4 : 669.

العقلائي الحاكم بعدم الهزل مثلاً تكون أصالة عدم القصد محكّمة ، ومعها لا تجري أصالة الصحّة في العقد لعدم إحراز القصد الذي به قوام العقد على وجه يكون الشكّ في تحقّق القصد موجباً للشكّ في تحقّق العقد ، فلو لم تكن أصالة عدم القصد جارية لكان الشكّ في القصد كافياً في الشكّ في تحقّق العقد الموجب لعدم جريان أصالة الصحّة في العقد لعدم إحراز موضوعها الذي هو العقد.

قوله : وأمّا بالتخصيص بناءً على كونها من الأُصول الغير المحرزة ... الخ (1).

لا يخفى أنّ تقدّم أصالة الصحّة على أصالة عدم النقل والانتقال لا يكون إلاّ بالحكومة ، أمّا على تقدير كونها محرزة فواضح ، وأمّا على تقدير كونها غير إحرازية فكذلك أيضاً ، لأنّ الشكّ في النقل والانتقال مسبّب عن الشكّ في صحّة المعاملة ، فيكون أصل صحّة المعاملة موضوعياً بالنسبة إلى أصالة عدم النقل والانتقال ، نعم لو أخذنا أصالة الصحّة بمعنى حمل فعل المسلم على الصحّة لكانت غير حاكمة على أصالة الفساد ، بل كانت جارية مع أصالة الفساد بلا تدافع بينهما.

قوله : فإنّه لو سلّم كون الصحّة من مقتضيات ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على الفساد ، إلاّ أنّه قد عرفت أنّ عمدة الدليل على اعتبار أصالة الصحّة هو الإجماع ، ولم يظهر من الإجماع أنّ اعتبارها كان لأجل كشفها عن الصحّة ، وبعبارة أُخرى لم يعلم أنّ التعبّد بها كان تتميماً لكشفها ... الخ (2).

الأولى إبدال ظهور حال المسلم بظهور حال العاقل ، فإنّ هذا الظهور لا

ص: 492


1- فوائد الأُصول 4 : 670.
2- فوائد الأُصول 4 : 670.

يختصّ بحال المسلم ، وإلاّ لاختصّت أصالة الصحّة بالعقود التي يوقعها المسلمون دون غيرهم من العقلاء.

ثمّ إنّك قد عرفت في بعض المباحث السابقة (1) أنّ منشأ هذا الظهور هو أنّ المقدم على عمل مركّب من أُمور لها جهة وحدة عرفية اعتبارية لا يكون مخلاً بشيء من تلك الأُمور التي وقع قصده إليها بقصده المجموع المركّب منها ، لكن هذا الظهور العقلائي وبناء العقلاء عليه لمّا كان مختصّاً بموارد الشكّ على وجه يكون موضوع الركون إليه هو الشكّ في تحقّق شيء من تلك الأُمور ، يكون هذا الظهور من هذه الجهة - أعني كون موضوعه مقيّداً بالشكّ - حاله حال الأُصول ، غايته أنّ حاله حال الأُصول الاحرازية ، وبهذه الواسطة لا تكون أصالة الصحّة من قبيل الأمارات التي لا يكون موضوعها مقيّداً بالشكّ حتّى لو كان دليل اعتباره هو الإجماع.

وبالجملة : أنّ الظاهر هو كون الدليل على حجّية هذا الظهور هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية ، فيكون موضوعه مقيّداً بالشكّ ، ولو سلّمنا أنّ دليله الإجماع فأيضاً نقول إنّ الظاهر أنّ موضوعه عندهم مقيّد بالشكّ ، فلا يخرج بذلك عن حضيض الأُصول إلى أوج الأمارات ، بل لو قلنا إنّ اعتباره كان من قبيل تتميم الكشف لم يكن ذلك موجباً لكونه من قبيل الأمارات التي لا يكون موضوعها مقيّداً بالشكّ.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من كون أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية أنّها يحرز بها وجود الشرط ، فإذا شكّ في واجدية العقد للشرط مثل العربية يكون معنى أصالة الصحّة هو أنّه كان واجداً لذلك الشرط المشكوك ، لأنّ معنى الصحّة

ص: 493


1- أشار إلى ذلك في الصفحة : 443.

هو التمامية والتمامية عبارة أُخرى عن واجدية الشرط.

أمّا المراد من كونها من الأُصول غير الاحرازية فلا أتصوّر له معنى إلاّما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في كلام السيّد الشيرازي من قوله : فإن أُريد بالصحّة من قولهم إنّ الأصل الصحّة هو ترتّب الأثر الخ (1) وذلك عبارة أُخرى عن أنّ أصل الصحّة أصل حكمي مفاده ترتّب الأثر ، وحينئذ فهل يكون مفاد هذا الأصل مصادماً ومعارضاً لأصالة عدم ترتّب الأثر لنحتاج في توجيه تقديم أصالة الصحّة على أصالة عدم ترتّب الأثر إلى ارتكاب طريقة التخصيص ، وإلى أنّه لولا هذا التقديم لكانت أصالة الصحّة بلا مورد ، أو أنّ مفاد هذا الأصل - أعني أصالة الصحّة - لا يكون مصادماً لأصالة عدم ترتّب الأثر لحكومته عليه ، بتقريب أنّ محصّل أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم انتقال المال من البائع إلى المشتري مثلاً هو التمسّك بأصالة بقاء مالكية البائع لذلك المال ، فإذا كان مفاد أصالة الصحّة هو الحكم بالانتقال كان رافعاً لذلك المستصحب وهو مالكية البائع.

ولكن في ذلك تأمّل وإشكال ، لأنّ مفاد كلّ من هذين الأصلين مناقض لما هو مفاد الآخر مع كون موضوع كلّ منهما هو الشكّ الناشئ عن الشكّ في وجود شرط من شروط ذلك العقد ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الشكّ في بقاء ملكية البائع مسبّب عن الشكّ في صحّة العقد بمعنى ترتّب الأثر عليه. وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في بقاء ملكية البائع مسبّب عن الشكّ في حكم الشارع على ذلك العقد بأنّه ناقل الذي هو عبارة عن الصحّة ، بخلاف الشكّ في صحّة ذلك العقد - بمعنى حكم الشارع على ذلك العقد بأنّه ناقل - فإنّه مسبّب عن الشكّ في واجديته للشرط ، لأنّ محصّل أصالة

ص: 494


1- نقل عنه في فوائد الأُصول 4 : 672.

صحّة العقد بناءً على كونه حكمياً هو أنّك إذا شككت في واجدية العقد للشرط فاحكم عليه بأنّه قد ترتّب عليه الأثر.

وفيه تأمّل ، لإمكان كون الشكّ في بقاء المالكية السابقة ناشئاً عن الشكّ في واجدية العقد للشرط ، أو نقول إنّ الشكّ في حكم الشارع بالانتقال إنّما يكون مترتّباً على الشكّ في الانتقال المسبّب عن الشكّ في واجدية العقد للشرط ، فيكون كلّ من أصالة بقاء المالكية السابقة وحكم الشارع بالانتقال واردين على الشكّ في الانتقال المسبّب عن الشكّ في واجدية العقد للشرائط ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، ولعلّه سيأتي زيادة توضيح لهذا المبحث إن شاء اللّه تعالى عند الكلام على ما أفاده قدس سره من الإشكال على ما أفاده المرحوم السيّد الشيرازي قدس سره هذا.

ولكن لا يخفى أنّه لو لم يحصل هذا العقد المشكوك فلا شكّ لنا في بقاء ملكية المالك الأوّل ، وإنّما حصل الشكّ في بقائها من جهة الشكّ في صحّة هذا العقد التي هي عبارة عن حكم الشارع بانتقال ملكية المالك الأوّل.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في بقاء مالكية المالك الأوّل هو عين الشكّ في ارتفاعها ، فإذا كان هناك أصل يحكم بارتفاعها فقد ارتفع الشكّ في البقاء ، والمفروض أنّ أصالة الصحّة في العقد عبارة عن حكم الشارع بترتّب الأثر عليه ، وهو كونه رافعاً للملكية السابقة ، فلا ينبغي الريب في حكومة أصالة الصحّة ولو بمعنى ترتّب الأثر على استصحاب الملكية السابقة بلا حاجة إلى تكلّف طريقة التخصيص الراجع إلى التشبّث ببقاء أصالة الصحّة بلا مورد.

بل لا معنى للحكومة في المقام ، إذ ليس لنا فيه شكّان وأصلان يكون أحدهما حاكماً على الآخر ، بل لا يكون في البين إلاّشكّ واحد وهو الشكّ في

ص: 495

ارتفاع الملكية السابقة للشكّ في رافعية هذا العقد لها ، فلو لم يكن لنا أصل يتعرّض هذا الشكّ المتعلّق برافعية هذا العقد كان المورد مورداً لاستصحاب بقاء الملكية السابقة ، أمّا إذا كان لنا أصل يكون مقتضاه هو الحكم برافعية ذلك العقد للملكية السابقة ، كانت الملكية السابقة محكومة بالارتفاع.

ولا يقال : إنّه وإن كان شكّاً واحداً مردّداً بين البقاء والارتفاع لكن الاستصحاب يحكم بالبقاء ، وأصالة الصحّة تحكم بالارتفاع فيقع التعارض.

لأنّا نقول : إنّ احتمال البقاء عبارة أُخرى عن احتمال الارتفاع ، بمعنى أنّ احتماله ناشئ عن احتمال الارتفاع ، لما عرفت من أنّ البقاء معلوم ، وإنّما جاء الشكّ فيه من جهة الشكّ في هذا العقد المولّد لاحتمال الارتفاع الموجب لخروج البقاء عن المعلومية إلى الاحتمال ، ولعلّ المراد من تعدّد الشكّ والحكومة هو هذا المقدار.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما نحن فيه نظير البلل الخارج قبل الاستبراء وبعد الوضوء ، حيث إنّ استصحاب الطهارة قاضٍ بالحكم بالبقاء ، وحكم الشارع على ذلك البلل بأنّه بول نجس ورافع للطهارة قاضٍ بالحكم بالارتفاع ، ولا ريب في كون المحكّم هو الثاني ، ولم يتخيّل أحد أنّ هناك مورداً لاستصحاب الطهارة وأنّ قاعدة البلل الخارج قبل الاستبراء حاكمة عليه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نظرهم في ذلك إلى كون قاعدة البلل الخارج من قبيل الأمارة. وفيه تأمّل ، إذ لا وجه لكونها أمارة ، فإنّ مجرّد عدم الاستبراء لا يكشف عن بقاء البول في المجرى ليكون ذلك الكشف هو القاضي بكون الخارج بولاً لا مجرّد التعبّد بأنّه بول ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجه في تحكيم قاعدة البلل الخارج على استصحاب الطهارة هو أنّها لو لم تقدّم عليه لبقيت بلا مورد ، كما أنّ الوجه في

ص: 496

تقديم أصالة الصحّة على أصالة عدم الانتقال هو بقاؤها بلا مورد لو لم تقدّم عليه. هذا على تقدير كون أصالة الصحّة من الأُصول غير الاحرازية ، وأنّ مفادها منحصر بترتّب الأثر ، أمّا لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية بمعنى إحراز وجود الشرط المشكوك ، فلا ينبغي الريب في تقدّمها على استصحاب بقاء الملكية السابقة.

ولا يخفى أنّ الأمر في أصالة الصحّة لا ينحصر بهذين الوجهين - أعني كونها إحرازية بمعنى إحراز الشرط ، وغير إحرازية بمعنى أنّها لا محصّل لها إلاّ الحكم بترتّب الأثر والنقل والانتقال - بل هناك معنى ثالث متوسّط بين هذين الوجهين ، وهو أن نقول إنّها لا تحرز الشرط ، ولكنّها تتضمّن الحكم بالصحّة ، فإنّ الصحّة بنفسها من الأحكام الشرعية الوضعية نظير الحجّية والملكية ، فإذا حكم الشارع على هذا العقد بالصحّة كان من آثار صحّته هو النقل والانتقال.

وعلى كلّ حال ، لا ينبغي الريب في تقدّم أصالة الصحّة على أصالة بقاء الملكية السابقة ، إمّا حكومة كما عرفت ، أو تخصيصاً كما أفاده شيخنا قدس سره من لزوم كونها بلا مورد ، لكن هذا الوجه لا يخلو عن تأمّل ، إذ ليست الصحّة إلاّ التمامية ، وليست هي من الأحكام الشرعية ، فلا يكون محصّل التعبّد بها إلاّ التعبّد بالأثر الشرعي المترتّب عليها.

ولكن هذا كلّه فيما إذا لم يكن في قبالها إلاّمجرّد أصالة بقاء الملكية السابقة أمّا لو كان في قبالها أصل موضوعي حاكم بعدم الشرط المشكوك مثل أصالة عدم ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل استصحاب عدم وقوع القبول بعد الايجاب الموجب لعدم حصول الموالاة ، ونحو ذلك من الأُصول الموضوعية الجارية في بعض شرائط العقد أو شرائط العوضين أو شرائط المتعاقدين ، فإنّه في غاية

ص: 497

الإشكال ، لعدم تأتّي طريقة البقاء بلا مورد ، لكفاية الموارد التي لا يكون فيها في قبال أصالة الصحّة إلاّ أصالة عدم الانتقال ، ولو قلنا بكون أصالة الصحّة من الأمارات الحاكية عن وجود الشرط ، كان وجه تقديمها على مثل تلك الأُصول العدمية الجارية في ذلك النحو من الشرائط واضحاً لا ريب فيه ، ولكن الإشكال كلّ الإشكال فيما لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية التي يحرز بها وجود الشرط فضلاً عمّا لو قلنا بكونها من الأُصول غير الاحرازية ، ولعلّ أن يأتي في شرح عبارة السيّد الشيرازي قدس سره ما يندفع به هذا الإشكال إن شاء اللّه تعالى.

قوله في العبارة المنقولة عن الرسائل : والتحقيق أنّه إن جعلنا هذا الأصل ( يعني أصالة الصحّة ) من الظواهر ... الخ (1).

ملخّص المراد هو أنّ أصالة الصحّة إمّا أن تكون من الأمارات ، وإمّا أن تكون من الأُصول غير الاحرازية ، وإمّا أن تكون من الأُصول الاحرازية.

فعبّر عن الاحتمال الأوّل بقوله : إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر (2). وعن الثاني بقوله : فإن أُريد بالصحّة من قولهم « إنّ الأصل الصحّة » نفس ترتّب الأثر (3) ، بمعنى أنّ الصحّة تكون بمعنى ترتّب الأثر ، فتكون أصلاً حكمياً يتضمّن الحكم على ذلك العقد المشكوك بأنّه يترتّب عليه الأثر ، فلا يكون لها تعرّض لإثبات وجود الشرط المشكوك ، بل لا تعرّض لها لأزيد من الحكم بترتّب الأثر ، فلا تكون أصلاً إحرازياً ، بل تكون من الأُصول غير الاحرازية التي لا تعرّض لها إلاّ إثبات الحكم فتكون أصلاً حكمياً ، ولأجل ذلك يكون الأصل الموضوعي حاكماً عليها.

ص: 498


1- فوائد الأُصول 4 : 672.
2- فرائد الأُصول 3 : 374.
3- فرائد الأُصول 3 : 374.

وعبّر عن الثالث - أعني كونها من الأُصول الاحرازية - بقوله : وإن أُريد بها كون الفعل ( يعني العقد ) على وجه يترتّب عليه الأثر الخ ، يعني أنّ الصحّة تكون بمعنى التمامية ، ومعنى التمامية هي واجدية العقد لما يعتبر فيه ، فإن كان بلوغ العاقد مشكوكاً ، كان معنى التمامية هو تحقّق البلوغ ، فتكون أصلاً موضوعياً إحرازياً لكونه حينئذ حاكماً باحراز البلوغ في المقام ، ويكون مركب كلّ من هذا الأصل الموضوعي المحرز للبلوغ والاستصحاب المحرز لعدم البلوغ شكّاً واحداً ، وهو الشكّ في كون العاقد بالغاً عند صدور العقد ، أمّا الاستصحاب فواضح ، لأنّ مجراه هو عدم البلوغ إلى زمان الشكّ في بلوغ العاقد الذي هو زمان صدور العقد ، وحيث إنّ صدور العقد محرز بالوجدان ، وكونه مع من ليس ببالغ بالأصل ، تكون النتيجة أنّ هذا العقد كان مع غير بالغ ، وأمّا أصالة الصحّة فهي وإن كان المشكوك فيها هو كون هذا العقد مع البالغ ، إلاّ أنّ هذا العقد لمّا كان محرزاً بالوجدان ، كان الشكّ في الحقيقة متّجهاً إلى قيده أعني بلوغ العاقد ، فيكون الشكّ في بلوغ العاقد حين صدور العقد مورداً للحكم عليه بعدم البلوغ من ناحية الاستصحاب وبالبلوغ من ناحية أصل الصحّة ، ويكون موجباً للتعارض بينهما وعدم إمكان تقدّم أحدهما على [ الآخر ] لكونهما حكمين متنافيين على موضوع وشكّ واحد ، وهو بلوغ العاقد حين صدور العقد منه.

قوله : لا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه موضوع الأثر الشرعي ، بل يكفي في صحّة الاستصحاب كون المستصحب نقيض ما هو الموضوع للأثر ، ويترتّب على الاستصحاب عدم وجود موضوع الأثر ... الخ (1).

لا يخفى أنّ عدم وجود الأثر لا يترتّب على استصحاب نقيض ما هو

ص: 499


1- فوائد الأُصول 4 : 675.

موضوع الأثر بمفاد ليس الناقصة ، بل إنّما يترتّب عليه بمفاد ليس التامّة.

والأولى أن يقال : إنّه ليس المطلوب من استصحاب عدم بلوغ العاقد الحكم بعدم ترتّب الأثر بمفاد ليس التامّة كي يقال إنّه لا يترتّب عليه إلاّبالأصل المثبت ، بل المطلوب إنّما هو بيان حال هذا العقد ، وبيان أنّه عقد صدر من غير بالغ ، وأنّ الأثر لا يترتّب على هذا العقد ، ويكون ذلك مناقضاً لما تثبته أصالة الصحّة من كونه عقداً تامّاً صدر من بالغ وأنّه يترتّب عليه الأثر فيتعارضان ، ويكون المرجع بعد تعارضهما إلى أصالة عدم ترتّب الأثر بمفاد ليس التامّة ، لا أنّا نريد أن نحكم بهذا الذي هو مفاد ليس التامّة بنفس الاستصحاب المذكور ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الأثر فيما نحن فيه - وهو ارتفاع الملكية السابقة - إنّما يترتّب على وجود العقد من البالغ بمفاد كان التامّة ، فالأصل العدمي لا يترتّب عليه نفي الأثر المذكور إلاّ إذا كان بمفاد ليس التامّة ، بمعنى أنّ العقد من البالغ لم يوجد ، وهذا المعنى - أعني أنّ العقد من البالغ لم يوجد - لا يترتّب على استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى حين العقد الذي هو بمفاد ليس الناقصة إلاّ بالأصل المثبت.

نعم ، إنّ هذا العقد لو كان من البالغ لكان رافعاً للملكية السابقة ، وأصالة الصحّة بناءً على كونها محرزة لبلوغ هذا العاقد كافية في إثباته ، لأنّ إثبات مفاد كان الناقصة كاف في إثبات أنّه قد وجد العقد بمفاد كان التامّة ، أمّا مقابل أصالة الصحّة وهو استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى حين صدور العقد منه ، فقد عرفت أنّه لا ينفي وجود العقد من البالغ بمفاد كان التامّة الذي هو منشأ الأثر إلاّبالأصل المثبت ، وأمّا نفيه لكون العاقد بالغاً الذي هو مفاد كان الناقصة ، فهو أيضاً لا يكون إلاّ بالأصل المثبت ، لأنّ محصّل مفاد ليس الناقصة هو اتّصاف العاقد بعدم البلوغ

ص: 500

حين العقد ، وهذا يلزمه نفي اتّصافه به الذي هو مفاد كان الناقصة.

والخلاصة : أنّ استصحاب عدم الشيء بمفاد ليس الناقصة كاستصحاب عدم عدالة زيد لا يترتّب عليه إلاّ الأثر المترتّب على اتّصافه بعدم العدالة الذي هو مفاد ليس الناقصة ، أمّا إذا لم يكن لنا أثر مترتّب على نفس مفاد ليس الناقصة ، بل كان الأثر متّرتّباً على وجود العدالة بمفاد كان التامّة ، فلا يكون مصحّحاً لجريان استصحاب العدالة بمفاد ليس الناقصة ، بل إنّما يصحّح استصحاب العدم بمفاد ليس التامّة. وكذلك الحال لو كان الأثر مترتّباً على كون زيد عادلاً بمفاد كان الناقصة ، فإنّ هذا الأثر لا يصحّح جريان أصالة عدم عدالته بمفاد ليس الناقصة.

نعم لو تمّ إجراء أصالة العدم في نفس مفاد كان الناقصة لكان من قبيل جريان أصالة العدم لنفي أثر المعدوم ، وأين هذا من استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة فإنّ المعدوم في استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة ليس هو مفاد كان التامّة كي يكون من قبيل أصالة عدم الشيء لنفي أثر ذلك الشيء ، هذا.

مضافاً إلى أنّ مفاد كان الناقصة ليس هو موضوع النقل والانتقال ، بل موضوعه هو مفاد كان التامّة ، وإنّما حكمنا بالنقل ورتّبناه على مفاد كان الناقصة لأنّه محقّق لمفاد كان التامّة. ومنه يظهر لك أنّ استصحاب عدم البلوغ بمفاد كان الناقصة لا يجري في نفسه لعدم المصحّح له ، وحينئذ يكون الجاري هو أصالة الصحّة.

والخلاصة : هي أنّ مفاد ليس الناقصة ليس هو نقيض لمفاد كان الناقصة ليكون الفائدة من إجراء الأصل بمفاد ليس الناقصة هو نفي الأثر المترتّب على مفاد كان الناقصة ، بل هما - أعني مفاد ليس الناقصة ومفاد كان الناقصة - من قبيل الضدّين ، وإنّما نقيض مفاد كان الناقصة الذي هو عبارة عن كون العاقد متّصفاً

ص: 501

بالبلوغ هو عدم كون العاقد متّصفاً بالبلوغ ، وليس لنا أصل ينفي كون العاقد متّصفاً بالبلوغ ، إذ لا أصل في نفس مفاد كان الناقصة.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير بقوله : كما لا إشكال في أنّ الموضوع إن كان بمفاد كان الناقصة فنقيضه يكون بمفاد ليس الناقصة ، وإن كان بمفاد كان التامّة فنقيضه يكون بمفاد ليس التامّة ، فإنّه لا يعقل أن يكون نقيض مفاد كان الناقصة مفاد ليس التامّة وبالعكس ، لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه الخ (1).

فقد ظهر لك أنّ مفاد ليس الناقصة ليس هو بنقيض لمفاد كان الناقصة ، وإنّما نقيض مفاد كان الناقصة هو رفعه ، ورفع مفاد كان الناقصة الذي هو عبارة عن كون العاقد بالغاً إنّما يكون برفع كون العاقد بالغاً لا باثبات كون العاقد غير بالغ الذي هو بمنزلة الموجبة المعدولة المحمول ، ولا بنفي البالغية عن هذا العاقد الذي هو السالبة البسيطة بمفاد ليس الناقصة ، فإنّ نفي البالغية عن هذا العاقد ليس هو رفع كون العاقد بالغاً ليكون نقيضاً لمفاد كان الناقصة.

نعم ، إنّ مفاد عدم البلوغ الذي هو مفاد ليس التامّة لا يكون نقيضاً لمفاد كان الناقصة ، لكن نقيض مفاد كان الناقصة هو نفي مفاد كان الناقصة ، وهو مفاد ليس التامّة أيضاً ، لكنّه ليس بمسلّط على نفس البلوغ ، بل هو مسلّط على كون العاقد بالغاً ، أعني أنّه عبارة عن عدم كون العاقد بالغاً ، وهو مفاد ليس التامّة المسلّط على كون العاقد بالغاً ، وليس هو عبارة عن مفاد ليس الناقصة الذي هو عبارة عن أنّ العاقد ليس ببالغ.

ولا يبعد أن يقال : إنّ هذا الذي جرى عليه شيخنا قدس سره في هذا المقام من كون

ص: 502


1- فوائد الأُصول 4 : 675 - 676.

مفاد ليس الناقصة نقيضاً لمفاد كان الناقصة مناف لما أفاده في مسألة استصحاب عدم القرشية (1) ، فإنّ عمدة ما يتمسّك به الجماعة هو أنّهما متناقضان ، وإذا لم يكن مفاد كان الناقصة حاصلاً قبل وجود المرأة كان الحاصل هو مفاد ليس الناقصة.

وحاصل جواب شيخنا قدس سره هناك هو أنّ التناقض بينهما إنّما [ هو ] في ظرف وجود المرأة ، أمّا قبل وجودها فلا يكون إلاّمن قبيل ارتفاعهما. وحاصل هذا الكلام هو أنّه لا تناقض بينهما ، وإنّما جلّ ما بينهما هو التقابل وعدم الاجتماع ، فهما من هذه الجهة من قبيل العدم والملكة أو من قبيل الضدّين ، وليس لازم ذلك رجوع السالبة البسيطة التي هي مفاد ليس الناقصة إلى الموجبة المعدولة المحمول ، فراجع ذلك المبحث وتأمّل. هذا كلّه في البلوغ ونحوه ممّا يكون الأصل الموضوعي فيه راجعاً إلى مفاد ليس الناقصة.

أمّا ما يكون مرجع الأصل الموضوعي إلى مفاد ليس التامّة مثل ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل اختبار المبيع من حيث الكيل والوزن ممّا يكون المرجع فيه هو أصالة العدم بمفاد ليس التامّة ، فلا يتأتّى فيه ما تقدّم في مسألة الشكّ في بلوغ العاقد ، ولكن هل الأثر - وهو النقل والانتقال والزوجية - مترتّب على مجرّد وجود ذلك الشرط لتكون أصالة عدمه بمفاد ليس التامّة كافياً ، أو أنّه مترتّب على العقد المشتمل على ذلك الشرط لئلاّ ينفع فيه الأصل المذكور ، أو يكتفى في عدم ترتّب الأثر المذكور باحراز العقد وجداناً وعدم الشرط بالأصل المذكور ، كلّ ذلك محتاج إلى التأمّل. ويمكن أن يقال : إنّ الاختبار راجع إلى كون المشتري عالماً فيكون من قبيل بلوغ العاقد.

ص: 503


1- راجع أجود التقريرات 2 : 336 ، وراجع أيضاً المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 181 وما بعدها.

قوله : وإن كان لفظياً فالمتّبع ملاحظة مقدار إطلاق معقد الإجماع ، فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ، بمعنى أنّها تجري في جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد ، سواء كان في مورد الشكّ أصل موضوعي ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كان لنا إطلاق معقد إجماع أو إطلاق رواية أو آية يدلّ على الأخذ بأصالة الصحّة في موارد الشكّ فيها ، نقول : إنّ هذا الأصل - أعني الصحّة - إن كان بمعنى ترتّب الأثر أعني كونه أصلاً حكمياً غير إحرازي ، فإن كان في قباله مجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، كان مقدّماً عليه ، إمّا لأجل أنّ دليل أصالة عدم ترتّب الأثر وهو قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (2) الذي هو دليل كلّي الاستصحاب أعمّ من دليل أصالة الصحّة ، إذ ما من مورد من موارد أصالة الصحّة إلاّ وهو مورد لقوله عليه السلام « لا تنقض اليقين » الخ ، فيكون مقدّماً عليه للتخصيص ، أو لأنّه لو لم يقدّم لبقي بلا مورد.

وإن كان المقابل لأصالة الصحّة هو الأصل الموضوعي كان حاكماً عليها ، لكونها حينئذ من الأُصول الحكمية ، ولا تنفع طريقة التخصيص في هذه الصورة ، فإنّ الحاكم يقدّم على المحكوم وإن كان أخصّ منه ، فإنّ المسألة حينئذ تكون دائرة بين حكومة ذلك الدليل العام على هذا الدليل الخاصّ ، أو كون هذا الدليل الخاصّ مخصّصاً لذلك الدليل العام ، والمتعيّن هو الأوّل ، لأنّ مرتبة الجمع الدلالي بعد مرتبة الحكومة. كما أنّ طريقة البقاء بلا مورد لا تكون نافعة ، لكفاية موارد المقابلة بمجرّد أصالة عدم النقل وعدم ترتّب الأثر.

ص: 504


1- فوائد الأُصول 4 : 677.
2- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

والحاصل : أنّ المسألة تكون من قبيل ما لو كان لنا دليل عام وكان في قباله دليل أخصّ منه مطلقاً ، وكان ذلك الأخصّ في بعض موارده محكوماً للعام وفي البعض الآخر منافياً له ، فبالنسبة إلى مورد الحكومة يكون العام هو المقدّم ، لأنّ مرتبة الحكومة سابقة على الجمع الدلالي بطريقة التخصيص ، وبالنسبة إلى مورد المنافاة يكون المقدّم هو الدليل الخاصّ لأجل الجمع الدلالي.

وإن كان هذا الأصل - أعني أصالة الصحّة - بمعنى التمامية وجامعية الشرائط ليكون أصلاً موضوعياً إحرازياً ، فإن كان المقابل له هو مجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، كان هو حاكماً عليه من دون حاجة إلى طريقة التخصيص أو طريقة البقاء بلا مورد ، وإن كان المقابل له أحد الأُصول الموضوعية النافية مثل أصالة عدم البلوغ ونحوها ، حصل التعارض بينهما ، لما تقرّر فيما تقدّم من عدم حكومة أصالة الصحّة ولو قلنا بكونها إحرازية على مثل أصالة عدم البلوغ ، كما أنّه لا تتأتى طريقة البقاء بلا مورد هنا أيضاً ، لكفاية موارد المقابلة بمجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، فلم يبق لنا ما يمكن أن نستند إليه في توجيه تقديم أصالة الصحّة في هذه الصورة على أصالة عدم البلوغ إلاّدعوى كون دليل أصالة الصحّة أخصّ من دليل أصالة عدم البلوغ ، وهو لا تنقض اليقين الخ.

ولكن بعد أن قلنا إنّ دليل أصالة الصحّة حاكم على ذلك الدليل عند مقابلته بأصالة عدم ترتّب الأثر ، كان ذلك المورد خارجاً عن عموم « لا تنقض » خروجاً موضوعياً بالتعبّد ، فيكون من الموارد التي ينفرد فيها دليل أصالة الصحّة عن دليل الاستصحاب ، فتنقلب النسبة وتكون النسبة حينئذ عموماً من وجه ، فلا وجه حينئذ للتخصيص.

لا يقال : لا وجه لانقلاب النسبة بين الأدلّة سيّما في هذا المقام ممّا كان

ص: 505

التقابل منحصراً في دليلين لا بين ثلاثة يكون الثاني مخصّصاً للأوّل وبه تنقلب النسبة بين الأوّل والثالث من العموم والخصوص المطلق إلى العموم من وجه. وبالجملة : أنّه لا وجه لملاحظة النسبة بين دليل أصالة الصحّة ودليل الاستصحاب بعد تحكيم الأوّل على الثاني في موارد أصالة عدم ترتّب الأثر ، بل اللازم هو ملاحظة النسبة بين دليل أصالة الصحّة والاستصحاب قبل تحكيمه عليه في مورد أصالة عدم ترتّب الأثر.

لأنّا نقول : إنّ الأمر وإن كان كذلك في صورة كون العملية الأُولى من سنخ الثانية وفي رتبتها ، أمّا ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، فإنّ عملية الحكومة مقدّمة رتبة على عملية الجمع الدلالي ، وإذا كان الخروج بطريق الحكومة هو المقدّم رتبة تعيّن في الثاني عدم الركون إلى طريقة التخصيص ، لما عرفت من انقلاب النسبة المانع من إعمال طريقة التخصيص ، فتأمّل.

ولازم ذلك انحصار مجاري أصالة الصحّة فيما لم يكن في البين أصل موضوعي ينفي بعض الشروط حتّى مثل شرائط العقد ممّا يجري فيه أصالة العدم مثل ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل الموالاة بين الايجاب والقبول ، فلا تكون أصالة الصحّة جارية في مثل ذلك ، بل يكون المحكّم في أمثاله هو أصالة عدم ترتّب الأثر. والظاهر تسالمهم على جريان أصالة الصحّة في أمثال ذلك ممّا يرجع إلى شرائط العقد ، وإن وقع الخلاف فيما هو من قبيل شرائط العوضين أو شرائط المتعاقدين.

وممّا يزيد الطين بلّة باب أصالة الصحّة في عبادات الغير وأفعاله ممّا يترتّب فيه الأثر على غير الفاعل مثل عبادة النائب وتطهير الأجير الثوب ونحو ذلك ، فإنّ جميع هذه الموارد هي موارد تجري فيها أصالة عدم الاتيان بالجزء أو الشرط ،

ص: 506

ومع ذلك يكون المحكّم عندهم فيها هو أصالة الصحّة ، وهذا ممّا يكشف عن أنّ الوجه في تقديم أصالة الصحّة على الأصل الموضوعي النافي للشرط والجزء هو أنّ أصالة الصحّة فوق الأُصول الاحرازية ، بواسطة كونها معتبرة من باب الظهور النوعي في أنّ الفاعل العاقل إذا أقدم على عمل مركّب من أجزاء وشرائط أنّه يأتي بجميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط.

وهذا الظهور النوعي وإن كان موضوعه الشكّ في الاتيان بذلك الجزء أو الشرط ، كما أنّ الأصل الموضوعي النافي لذلك الجزء أو الشرط يكون موضوعه الشكّ في وجوده بعد اليقين بعدمه السابق ، إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان مقتضياً للبناء على الاتيان بذلك الجزء أو ذلك الشرط من جهة الظهور العقلائي النوعي والثاني من باب التعبّد بالبقاء ، كانت المسألة من وادي معارضة الظاهر للأصل ، وبعد فرض كون ذلك الظهور النوعي حجّة يكون مقدّماً على الأصل العملي وإن كان إحرازياً.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا أفاده الأُستاذ قدس سره فيما حرّرته عنه قدس سره في وجه التقديم ممّا هو غير راجع إلى التخصيص المنقول عنه في هذه التقريرات (1) ، ولا إلى دعوى تحقّق الإجماع العملي المنقول عنه في التقريرات المطبوعة في صيدا (2) ، وهاك نصّ ما حرّرته عنه قدس سره بحذف بعض الزوائد وذلك قوله : إنّ هذا الأصل ( يعني أصالة الصحّة ) قد يكون جارياً في مقابل أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر ، فلا شبهة في حكومته على ذلك الأصل - ثمّ قال - وقد يكون جارياً في مقابل أصل موضوعي مثل أصالة عدم بلوغ العاقد ، فتقع المعارضة حينئذ بين الأصلين ، فإنّ مقتضى أصالة عدم البلوغ كون العاقد لذلك العقد غير بالغ ، فيكون

ص: 507


1- فوائد الأُصول 4 : 677.
2- أجود التقريرات 4 : 260.

العقد فاسداً ، ومقتضى أصالة الصحّة كون ذلك العقد صادراً عن البالغ فيكون صحيحاً ، وليس أحد الأمرين مسبّباً عن الآخر لأنّها قضية واحدة ، إن نظر فيها إلى طرف العاقد كان مقتضاه أصالة عدم بلوغه ، وإن نظر إلى نفس العقد كان مقتضاه أصالة صحّته.

وبعبارة أُخرى : هذه القضية الواحدة تارةً يجعل موضوعها العاقد الذي أوقع ذلك العقد فيقال إنّه مشكوك البلوغ ، وأُخرى يجعل موضوعها العقد الذي وقع من هذا العاقد وأنّه هل وقع من البالغ فيكون صحيحاً أم وقع من غير البالغ فيكون فاسداً ، وحينئذ يكون محكوماً بالصحّة ، فيتعارض الأصلان مع عدم تقدّم لأحدهما على الآخر ، وحينئذ فالتعارض بين الأصلين باقٍ بحاله. ومنه يتّضح صحّة ما عليه الطبقة الوسطى من عدم جريان أصالة الصحّة في موارد الشكّ في شروط المتعاقدين ، أمّا فيما لا يرجع منها إلى مرتبة العقد كشروط القابلية فلما تقدّم مفصّلاً ، وأمّا فيما يرجع إلى مرتبة العقد كالبلوغ في الوكيل والفضولي ونحوهما فللمعارضة المذكورة.

ثمّ قال : إنّه إذا كان المقابل لأصالة الصحّة أصالة الفساد كانت أصالة الصحّة هي الحاكمة ، وإلاّ لم يبق لها مورد ، إذ ليس لنا مورد من الموارد لا يكون مجرى لأصالة الفساد. وإذا كان المقابل لها أصلاً موضوعياً مثل أصالة عدم بلوغ العاقد المالك ، فالظاهر منهم أنّهم لا يجرون أصالة الصحّة رأساً ويجرون أصالة عدم البلوغ ، لكون الشرط في مثل ذلك راجعاً إلى القابلية ، لا أنّهم يبنون على التعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة الفساد.

نعم ، الظاهر منهم في مثل الشكّ في الاختبار ونحوه ممّا لا يرجع إلى القابلية أنّهم يجرون أصالة الصحّة ويحكّمونها على أصالة عدم اختبار المبيع ،

ص: 508

ولعلّ السرّ فيه أنّ أصالة الصحّة وإن لم تكن عندهم من الأمارات ، إلاّ أنّ فيها نحو جهة أمارية ، فتكون مقدّمة على الأصل المذكور لأجل ذلك ، كما تقدّم توضيح ذلك في بيان حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب ، من أنّه وإن لم يكن لنا في البين شكّان أحدهما مسبّب عن الآخر ، وكان لنا شكّ واحد لكنّه ذو جهتين مترتّبتين إحداهما مسبّبة عن الأُخرى ، فيكون الأصل الجاري في الجهة المسبّبة محكوماً للأصل الجاري في الجهة الأُخرى ، انتهى.

قلت : أمّا كون أصالة الصحّة مشتملة على جهة أمارية ، فقد عرفت المراد منه من كونها من باب الظهور النوعي ، ومعه تكون مقدّمة على الأُصول النافية الموضوعية الاحرازية. وأمّا ما أفاده من تعدّد الجهة للشكّ وأنّ إحدى الجهتين فيه مسبّبة عن الأُخرى فقد عرفت الكلام فيه مفصّلاً في باب قاعدة الفراغ ، فراجع (1).

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره قد تعرّض فيما حرّرته عنه لإجراء [ أصالة ] الصحّة في الاعتقاد وأنّه إذا كان إنكار ما هو ضروري الدين لاحتمال كون ذلك لشبهة عرضت للمنكر لا يحكم بكفره ، إلاّ إذا كان ذلك الضروري ممّا ورد النصّ بتكفير منكره الشامل باطلاقه لما إذا كان ذلك الانكار لشبهة ، مثل الصوم والصلاة والمعاد الجسماني ، أمّا إذا لم يكن ممّا ورد النصّ بتكفير منكره ، فإنّه لا يكفّر منكره إلاّ إذا رجع إلى تكذيب النبي صلى اللّه عليه وآله ، فراجع ما حرّرته عنه (2). والظاهر أنّ أصالة الصحّة في مثل ذلك إنّما هي من باب حمل [ فعل ] المسلم على الصحّة لا من باب

ص: 509


1- راجع حواشيه قدس سره في أوّل بحث قاعدة الفراغ والتجاوز في الصفحة : 245 وما بعدها.
2- مخطوط لم يطبع بعد.

الحمل على الصحّة التي هي محلّ بحثنا.

قال في التقريرات المطبوعة في صيدا : ولكن التحقيق في المقام أن يقال : إنّ أصالة الصحّة إذا كان مدركها هو لزوم حمل فعل المسلم على الصحّة ، فلا ينبغي الريب في كونه من الأُصول الحكمية المحضة ، فتقدّم عليها الاستصحابات الموضوعية لا محالة ، لكنّك عرفت فيما تقدّم عدم كون المدرك ذلك (1).

قلت : لا يخفى أنّه إذا كان المدرك هو حمل فعل المسلم على الصحيح فلا أثر له إلاّ أنّه لم يقدم على مخالفة الحكم الشرعي ، وحينئذ فيتقدّم عليها كلّ أصل حتّى أصالة عدم النقل والانتقال. والذي يظهر من هذه العبارة أنّه إذا لم يكن المدرك لها هو حمل فعل المسلم على الصحيح تكون أصلاً موضوعياً ، وقد عرفت أنّها إنّما تكون أصلاً موضوعياً إذا كانت محرزة لوجود الشرط المشكوك دون ما لو قلنا بأنّها غير محرزة لذلك ، وأنّه لا محصّل لها إلاّمجرّد ترتّب الأثر ، فإنّها حينئذ لا تكون إلاّ أصلاً حكمياً.

ثمّ قال : كما أنّه إذا كان المدرك لها هو الإجماع القولي ، فلابدّ حينئذ من التمسّك باطلاق معقد الإجماع ، ولا ريب في شموله لموارد الاستصحابات الموضوعية فيما لا يرجع الشكّ إلى أهلية المتعاقدين أو قابلية العوضين ، فتكون أصالة الصحّة متقدّمة عليها كتقدّمها على الاستصحابات الحكمية (2).

قلت : لا يخفى أنّ تقدّمها على الاستصحابات الحكمية التي هي أصالة عدم النقل والانتقال إنّما هو لحكومة أصالة الصحّة عليها ، لما عرفت من كون الصحّة بالقياس إلى هذا الأثر من قبيل الموضوع بالقياس إلى الحكم ، ومن الواضح أنّ

ص: 510


1- أجود التقريرات 4 : 259.
2- أجود التقريرات 4 : 259.

ذلك - أعني طريقة الحكومة المذكورة - لا تأتي في تقدّمها على الأُصول الموضوعية فلابدّ من سلوك طريقة الجمع الدلالي - أعني طريقة التخصيص - التي أشار إليها في التقريرات المطبوعة في النجف (1) ، وقد عرفت عدم تمامية الطريقة المزبورة فيما تقدّم تفصيله ، كما أنّك قد عرفت أنّ الأُصول الموضوعية المقابلة لأصالة الصحّة ليست بمنحصرة في شرائط المتعاقدين وشرائط العوضين ، بل ربما كان لها مورد في شرائط نفس العقد إذا كان الشرط المشكوك من الحوادث القابلة لجريان أصالة العدم فيها ، كما في مثل ذكر المهر في باب النكاح المنقطع ونحو ذلك.

ثمّ قال : لكن الظاهر عدم ثبوت الإجماع القولي كما يظهر ذلك لمن راجع كلماتهم (2).

قلت : هذا منافٍ لما في طليعة البحث في التقريرات المطبوعة في النجف (3) من ثبوت معقد الإجماع وإطلاقه اللفظي ، بل هو منافٍ لما مرّ من هذا التقرير من قوله : لا أقول إنّ الإجماع دليل لبّي لا يمكن التمسّك به إلاّفي الموارد المتيقّنة ، فإنّه إنّما يتمّ في غير المقام ممّا لم يكن الإجماع على لفظ مطلق ، وإلاّ فلا مانع من التمسّك باطلاقه كما في الأدلّة اللفظية الخ (4).

ثمّ قال : فينحصر المدرك في الإجماع العملي المستفاد من تمسّكهم بها في الموارد المتفرّقة ، ولا ريب أنّ القدر المتيقّن منه وإن كان عدم وجود أصل

ص: 511


1- فوائد الأُصول 4 : 677.
2- أجود التقريرات 4 : 259 - 260.
3- فوائد الأُصول 4 : 654.
4- أجود التقريرات 4 : 243.

موضوعي مخالف لمقتضى أصالة الصحّة ، إلاّ أنّ من المظنون قوياً بمرتبة تطمئن بها النفس هو تحقّق الإجماع في موارد الأُصول الموضوعية أيضاً ، فينحصر مورد الخروج بما إذا كان الشكّ في الصحّة من جهة الشكّ في أهلية المتعاقدين أو قابلية العوضين ، وكلّما كان الشكّ من غير هاتين الجهتين يرجع فيه إلى أصالة الصحّة ، سواء كان الأصل المخالف لها من الأُصول الحكمية أو الموضوعية. نعم لو لم يكن تحقّق الإجماع في موارد الأُصول الموضوعية محرزاً لما كان مناص عن الرجوع إلى تلك الأُصول ، لعدم ثبوت حجّة أُخرى على خلافها (1).

قلت : فيكون المختار له أخيراً هو جريان أصالة الصحّة في موارد الأُصول الموضوعية النافية للشرط غير ما هو راجع إلى القابلية ، وبرهانه على ذلك قيام الإجماع على جريانها في الموارد المذكورة ، فيكون الموجب لسقوط الأُصول الموضوعية في تلك الموارد هو الإجماع على سقوطه ، لا أنّه محكوم لأصالة الصحّة ، أو أنّ دليل أصالة الصحّة أخصّ من أدلّة تلك الأُصول ، وهذا ممّا لا ينبغي الريب فيه ، لكن الشأن في ثبوت الإجماع العملي على ذلك.

قوله : هذا ولكن مع ذلك كلّه فالمسألة لا تخلو عن الإشكال ، فإنّ المدرك في أصالة الصحّة في العقود ليس إلاّ الإجماع ، وهو لا يخلو إمّا أن يكون ... الخ (2).

قد يقال : إنّ الصحّة في أصالة الصحّة ليست هي إلاّعبارة عن التمامية أعني واجدية المعاملة لكلّ ما يعتبر في تأثيرها من الأجزاء والشرائط ، فعند الشكّ في اشتمال المعاملة على الشرط الكذائي المعتبر في تأثيرها للنقل والانتقال لا يكون

ص: 512


1- أجود التقريرات 4 : 260.
2- فوائد الأُصول 4 : 677.

معنى أصالة الصحّة في تلك المعاملة إلاّ أصالة واجديتها لذلك الشرط المشكوك الوجود ، فهي على تقدير كونها من الأُصول الاحرازية لا يحرز بها إلاّواجديتها لذلك الشرط واشتمالها عليه ، لا أنّها يحرز بها وجود ذلك الشرط ، وحينئذ فلا يترتّب عليها آثار وجود ذلك الشرط ، وإنّما يترتّب عليها الآثار المترتّبة على واجدية تلك المعاملة لذلك الشرط.

وهذا المعنى - أعني أصالة واجدية المعاملة للشرط المشكوك - وإن كان بالنسبة إلى الأثر المترتّب على تلك المعاملة الذي هو النقل والانتقال من الأُصول الموضوعية ، بحيث إنّه يكون حاكماً على أصالة عدم النقل والانتقال ، لكون نسبته إلى ذلك الأصل من قبيل نسبة الأصل الموضوعي إلى الأصل الحكمي ، إلاّ أنّ ذلك الأصل - أعني أصالة الواجدية - يكون حكمياً بالنسبة إلى الأصل الجاري في وجود ذلك الشرط النافي للشرط المذكور ، وحينئذ فلا ينبغي الريب في حكومة الأصل الجاري في ناحية الشرط المفروض كونه نافياً له على أصالة الصحّة بمعنى واجدية المعاملة لذلك الشرط المشكوك الوجود ، لأنّ الشكّ في واجدية المعاملة لذلك الشرط وفي اشتمالها عليه مسبّب عن الشكّ في وجود ذلك الشرط ، فيكون الأصل النافي لذلك الشرط حاكماً على أصالة الصحّة الجارية في تلك المعاملة الحاكم بواجديتها للشرط المذكور واشتمالها ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الظاهر في أصالة الصحّة أنها تحرز وجود ذلك الشرط ، فإنّ أصالة واجديتها لذلك الشرط عبارة أُخرى عن الحكم بوجود ذلك الشرط ، وحينئذ يكون الأصل النافي لذلك الشرط معارضاً لأصالة الصحّة ، من دون فرق في تلك الأُصول النافية لذلك الشرط بين ما يكون جارياً في شروط العقد وما يكون جارياً في شروط العوضين أو شروط المتعاقدين ، وحينئذ ننقل

ص: 513

الكلام إلى دليل أصالة الصحّة الذي هو الإجماع ، فنقول :

إن كان في البين معقد إجماع وكان مطلقاً شاملاً لموارد الأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك ، فلا علاج لذلك التعارض ، فلابدّ حينئذ من التساقط والرجوع إلى أصالة عدم ترتّب الأثر على تلك المعاملة ، للعموم من وجه بين دليل أصالة الصحّة وبين أدلّة تلك الأُصول النافية ، لكون الأوّل شاملاً للموارد التي لا توجد فيها تلك الأُصول النافية وللموارد التي توجد فيها تلك الأُصول النافية ، والثاني شاملاً لموارد أصالة الصحّة والموارد التي هي خارجة عن مورد أصالة الصحّة من سائر موارد الأُصول النافية ، فما أُفيد من كون أصالة الصحّة أخصّ من تلك الأُصول النافية فتكون مقدّمة عليها ممّا لم يظهر وجهه.

وما أُفيد في توجيهه ممّا ربما يظهر من قوله : فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ، بمعنى أنّها تجري في جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد - إلى قوله - فلا محالة تكون أصالة الصحّة أخصّ مطلقاً من الاستصحاب ، فإنّه ليس في مورد من موارد أصالة الصحّة إلاّوالاستصحاب على خلافها ، فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد تخصيص الاستصحاب بما عدا الشكّ في صحّة العقد وفساده مطلقاً (1) ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه قدس سره جعل دليل أصالة الصحّة في قبال دليل كلّي الاستصحاب ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّ دليل أصالة الصحّة أخصّ مطلقاً من دليل الاستصحاب ، فإنّ جميع موارد دليل أصالة الصحّة لا تخلو من الاستصحاب ، ولا أقل من أصالة عدم ترتّب الأثر الذي هو النقل والانتقال.

ولكن ذلك محلّ تأمّل وإشكال ، وتوضيح هذا الإشكال يتوقّف على تمهيد

ص: 514


1- فوائد الأُصول 4 : 677 - 678.

مقدّمة ، وهي أنّ حكومة أحد الدليلين على الآخر سابقة في الرتبة على الجمع الدلالي ولو بمثل العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ، فإنّ الجمع الدلالي ولو كان بالتقييد أو التخصيص فرع التنافي في الجملة ، وإذا كان أحدهما حاكماً على الآخر لكونه رافعاً لموضوعه ولو تعبّداً يرتفع التنافي بينهما ، وحينئذ لا تصل النوبة إلى التنافي بينهما كي تتأتّى في ذلك طريقة التخصيص أو التقييد التي هي مرتبة الجمع الدلالي.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا لو قلنا بأنّ أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية بمعنى أنّه عند الشكّ في تحقّق شرط المعاملة تكون أصالة الصحّة في تلك المعاملة محرزة لوجود ذلك الشرط ، فإنّ دليلها وإن كان أخصّ مطلقاً من دليل الاستصحاب لما عرفت ، إلاّ أنّها لمّا كانت حاكمة في بعض الموارد على دليل الاستصحاب الجاري في تلك الموارد أعني أصالة عدم ترتّب الأثر ، كانت تلك الموارد خارجة عن موضوع دليل الاستصحاب خروجاً تعبّدياً بواسطة الحكومة المذكورة ، وحينئذ فقهراً يكون موضوع دليل الاستصحاب منحصراً بما عدا تلك الموارد ممّا يكون موضوعه فيها مجتمعاً مع موضوع أصالة الصحّة ، وبتلك الحكومة تنقلب النسبة بين الدليلين إلى العموم من وجه ، لما عرفت من أنّ طريقة الحكومة سابقة في الرتبة على الجمع الدلالي ، ففي المرتبة الأُولى كانت موارد الشكّ في مثل العربية ونحوها ممّا لا تجري [ فيه ] الاستصحابات الموضوعية خارجة عن موارد كلّي الاستصحاب ، وتكون تلك الموارد من مختصّات أصالة الصحّة ، كما أنّ الموارد التي لا محل لأصالة الصحّة فيها ممّا هي مورد للاستصحاب تكون من مختصّات دليل الاستصحاب ، وتبقى موارد أصالة الصحّة التي هي مجرى للاستصحابات الموضوعية النافية للشرط مجمعاً للدليلين

ص: 515

ومورداً للمعارضة بينهما ، وحينئذ لابدّ في هذه الموارد من الالتزام بالتساقط والرجوع فيها إلى أصالة عدم ترتّب الأثر.

إلاّ أن ندّعي أنّ أصالة الصحّة من قبيل الظهور في الجامعية ، وحينئذ تكون حاكمة ومقدّمة على الأصل ، هذا كلّه على تقدير أن يكون لنا دليل لفظي يدلّ على أصالة الصحّة ، ولو كان ذلك الدليل اللفظي هو معقد الإجماع.

أمّا إذا لم يكن لنا مثل ذلك الدليل اللفظي كما هو الظاهر ، وبقينا نحن وبناء العقلاء وسيرة المسلمين والإجماع العملي ، فإن ثبت بناء العقلاء أو السيرة أو الإجماع على إجراء أصالة الصحّة في الموارد التي هي في حدّ نفسها مجرى للأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك الوجود ، كان ذلك عبارة أُخرى عن قيام الدليل القطعي على سقوط تلك الاستصحابات في الموارد المذكورة ، وقهراً يكون دليل الاستصحاب مختصّاً بما عدا تلك الموارد.

وإن لم يثبت بناء العقلاء أو السيرة أو الإجماع على إجراء أصالة الصحّة في خصوص تلك الموارد ، وكان القدر المتيقّن هو جريانها فيما عداها ممّا لا يوجد فيه تلك الأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك ، كان المتعيّن هو الرجوع في تلك الموارد إلى الأُصول الموضوعية النافية للموضوع ، من دون فرق في ذلك كلّه بين القول بأنّ أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية والقول بأنّها من الأُصول غير الاحرازية.

قوله : فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كون أصالة الصحّة أصلاً حكمياً أو موضوعياً إنّما يترتّب على

ص: 516


1- فوائد الأُصول 4 : 677.

كونها محرزة للشرط أو غير محرزة للشرط ، لا على أنّ الشرط المشكوك هو في حدّ نفسه مع قطع النظر عن أصالة الصحّة مجرى لأصالة العدم أو عدم كونها مجرى لها ، ولا على أنّ المقابل لأصالة الصحّة هو أصالة عدم الشرط أو أصالة عدم النقل ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 517

[ تعارض الاستصحابين ]

(1) قوله : إذا كان الأصل السببي واجداً لشرطين ... الخ (2).

تقدّم في مبحث استصحاب الكلّي أنّه بعد فرض كون المشكوك الثاني من الآثار الشرعية للمشكوك الأوّل الذي هو عبارة عن كون الشكّ الثاني مسبّباً شرعياً عن الشكّ الأوّل ، لا حاجة في الحكومة إلى ذكر الشرط الثاني ، بل يكون الشرط الأوّل مغنياً عن الشرط الثاني.

وأمّا مسألة حلّية أكل الحيوان وجواز الصلاة في المأخوذ منه ، فقد تقدّم أيضاً أنّ المانعية ليست مسبّبة عن الحرمة ، بل هما معاً مسبّبان عن أمر ثالث وهو المفسدة في ذلك الحيوان الموجبة لحرمة أكل لحمه ولعدم جواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، فيكون كلّ من الحكمين في عرض الآخر ، وأنّه لو سلّمنا كون المانعية منتزعة ومسبّبة عن حرمة الأكل كما أنّ جواز الصلاة فيما يؤخذ منه مسبّبة عن حلّية الأكل ، فإن كان جواز الصلاة فيه تابعاً للحلّية ولو الحلّية الظاهرية الثابتة بقاعدة الحل ، كان لازمه عدم لزوم الاعادة عند تبيّن الخلاف ، وهكذا الحال في طهارة الماء التي هي شرط في الوضوء ، وإن كان الشرط تابعاً للحلّية الواقعية اللاحقة له بعنوانه الأوّلي ، لم تكن أصالة الحل ولا أصالة الطهارة نافعة في جواز

ص: 518


1- بسم اللّه الرحمن الرحيم وله الحمد وعليه نتوكّل وبه نستعين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين / الاثنين 20 / محرّم سنة 1360 [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 4 : 682.

الاقدام ، إلاّ إذا قلنا بأنّ المستفاد من قاعدة الحل وقاعدة الطهارة هو التنزيل منزلة الحلال والطاهر الواقعي ، فراجع (1).

قوله : بداهة أنّ التعبّد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبّد بطهارة الثوب ، إذ لا معنى لطهارة الماء إلاّكونه مزيلاً للحدث والخبث ... الخ (2).

يمكن التأمّل في ذلك ، إذ ليس معنى طهارة الماء هو كونه مزيلاً للحدث والخبث ، بل إنّ ذلك - أعني كونه مزيلاً للحدث والخبث - من الأحكام الشرعية اللاحقة للماء الطاهر ، ويتفرّع على هذه الجهة انحصار الوجه في تقديم أصل الطهارة في الماء - سواء كان باستصحابها أو بقاعدتها - على استصحاب نجاسة المغسول به بأنّ ترتّب ارتفاع النجاسة عن المغسول به يكون شرعياً ، فيكون أصل الطهارة في الماء حاكماً على استصحاب النجاسة في المغسول به ، لكون الأوّل مزيلاً ورافعاً لموضوع الثاني الذي هو الشكّ في بقاء النجاسة ، بخلاف استصحاب النجاسة في ناحية المغسول فإنّه لا يترتّب عليه ارتفاع الشكّ في طهارة الماء إلاّبالأصل المثبت ، لأنّ ترتّب النجاسة في الماء على بقاء نجاسة المغسول ترتّب عقلي ناش عن الملازمة العقلية بين بقاء نجاسة المغسول وبين كون الماء نجساً ، وحينئذ لا تتأتّى الجهة المطلوبة من كون الأوّل مقدّماً على الثاني حتّى لو قلنا بحجّية الأصل المثبت بالتقريب الذي أفاده قدس سره من التأخّر الرتبي ، وذلك فإنّا لو قلنا بحجّية الأصل المثبت وعدم الفرق بين الآثار التي يكون ترتّبها

ص: 519


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 279 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 683 - 684.

شرعياً والآثار التي يكون ترتّبها عقلياً ، تكون نجاسة الماء فيما نحن فيه من الآثار اللاحقة لبقاء نجاسة المغسول فيه ، ويكون حاله حال ارتفاع نجاسة المغسول بالنسبة إلى طهارة الماء.

وبالجملة : يكون المستصحب في ناحية الماء هو طهارته ، ومن آثار الطهارة وأحكامها التي تترتّب على استصحابها هو ارتفاع نجاسة المغسول فيه ، والمستصحب في ناحية المغسول هو نجاسة المغسول ، ومن آثار نجاسته هو نجاسة الماء المغسول فيه ، وكما أنّ الأثر في الأوّل يكون رافعاً لموضوع الثاني ، فكذلك الأثر في الثاني يكون رافعاً لموضوع الأوّل.

نعم لو كان مجرى الاستصحاب في الأوّل رافعاً بنفسه لموضوع الثاني لا بأثره ، وكان مجرى الاستصحاب في الثاني غير رافع بنفسه لموضوع الأوّل بل إنّما كان يرفعه بواسطة الأثر المترتّب عليه ، لكان الأوّل مقدّماً على الثاني لكونه بنفسه رافعاً لموضوعه لا بأثره بخلاف الثاني ، وفي مثل ذلك يتحقّق التقدّم الرتبي الموجب لتقدّم الأوّل على الثاني ، كما لو كان المستصحب في ناحية الماء هو نفس كونه مزيلاً للخبث لا الطهارة التي يكون أثرها إزالة الخبث.

وحينئذ يكون استصحاب إزالة الماء للخبث رافعاً لموضوع استصحاب بقاء النجاسة في المغسول ، لكن لو كان الأمر كذلك لقلنا إنّ المقابل لاستصحاب إزالة الخبث في ناحية الماء هو استصحاب أثر نجاسة المغسول ، وذلك الأثر هو عدم إزالة ذلك [ الماء ] لخبث ذلك الثوب بناءً على كونه من آثار بقاء نجاسته ، فيقال إنّ هذا الثوب كان نجساً ومن آثار نجاسته إلى الآن كون ذلك الماء نجساً ، فهذا الأثر المزعوم لو قلنا بأنّه من آثار نجاسة الثوب لأجرينا فيه بنفسه الاستصحاب ، فيكون رافعاً لموضوع استصحاب كون ذلك الماء مزيلاً للنجاسة.

ص: 520

ولا جواب له إلاّ أنّ هذا الأثر ليس من آثار نجاسة المغسول ، بل إنّه يترتّب قهراً على بقاء نجاسة المغسول إلى ما بعد غسله لا أنّه يترتّب عليه شرعاً ، فلا يمكن أن يكون رافعاً لموضوع الأصل في ناحية الماء ، بخلاف ارتفاع نجاسة المغسول بالنسبة إلى الماء فإنّ المستصحب في الماء إن كان هو طهارته كان ذلك - أعني ارتفاع نجاسة المغسول - من آثاره الشرعية ، وإن كان المستصحب في ناحية الماء هو نفس كونه رافعاً للنجاسة كان ارتفاع نجاسة ذلك الثوب عين ذلك المستصحب. وعلى أيّ حال ، يكون الأصل في ناحية الماء رافعاً شرعاً لموضوع الأصل في ناحية المغسول ، بخلاف الأصل في ناحية المغسول ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الشكّ في بقاء طهارة الماء لم يكن متولّداً عن غسل الثوب فيه ، بل هو في حدّ نفسه كانت طهارته مشكوكة البقاء ، بخلاف الشكّ في بقاء نجاسة الثوب فإنّه متولّد عن غسله في ذلك الماء الذي كانت طهارته مشكوكة البقاء ، وحينئذ يكون الشكّ في بقاء طهارة الماء سابقاً في الرتبة على الشكّ في بقاء نجاسته ، فيكون الأصل الجاري فيه هو المقدّم على الأصل الجاري في ناحية الثوب دون العكس ، وإن قلنا بأنّ كلاً منهما يكون رافعاً لموضوع الآخر بناءً على حجّية الأصل المثبت ، لكن ذلك إنّما يتمّ لو فرض أنّهما في رتبة واحدة ، والمفروض كما عرفت تقدّم الأوّل رتبة على الثاني ، فيكون هو الرافع لموضوع صاحبه ، فلاحظ وتأمّل.

لا يقال : لو كان الثوب في حدّ نفسه قبل غسله في ذلك الماء مستصحب النجاسة كان حاله حال الماء في كونه مشكوك البقاء في حدّ نفسه.

لأنّا نقول : فرض المسألة أنّه لا يحتمل تأثير الثوب على الماء وإنّما المحتمل تأثير الماء على الثوب ، وحينئذ ففي الصورة المزبورة يكون

ص: 521

المستصحب بعد الغسل هو النجاسة الاستصحابية التي كانت قبل الغسل ، ولا ريب أنّ الشكّ في بقاء تلك النجاسة الاستصحابية لا يتولّد إلاّعن غسله بذلك الماء.

والخلاصة : هي [ أنّ ] التأثير المحتمل إنّما هو في جانب الماء ، فإنّه لو كانت طهارته باقية كانت رافعة لنجاسة الثوب ، ولو لم تكن طهارة الماء باقية بأن صادف أنّه نجس في الواقع كان موجباً لنجاسة الثوب ، على وجه لو كانت النجاسة في الثوب استصحابية وكان ذلك الاستصحاب مخطئاً ، كانت نجاسة الماء واقعاً موجبة لتنجّس الثوب ، أمّا من جانب الثوب فإنّ فرض المسألة هو أن لا تكون نجاسته موجبة لتنجّس الماء المغسول به ، إمّا لكونه كثيراً وإمّا لكون الغسل به كان بصبّ الماء عليه من الآنية الموجود فيها ، ولم يكن الحكم بنجاسة الماء إلاّمن جهة الكاشفية ، بمعنى أنّا لو حكمنا ببقاء نجاسة الثوب لكان ذلك ملازماً لكون ذلك الماء نجساً في الواقع ، إذ لو كان طاهراً لم تكن نجاسة الثوب باقية.

وحينئذ نقول : إنّ احتمال بقاء طهارة الماء لم يكن ناشئاً عن غسل الثوب فيه ، بل هو - أعني الماء - في حدّ نفسه محتمل الطهارة ، فيجري فيه الاستصحاب أو القاعدة من دون توقّف على ما في ناحية الثوب ، أمّا الثوب فسواء كان في حدّ نفسه مقطوع النجاسة أو كان هو مستصحب النجاسة ، لا تكون تلك النجاسة القطعية أو المستصحبة محتملة الزوال والبقاء إلاّبعد غسله في ذلك الماء ، لكون هذا الاحتمال متولّداً عن غسله فيه ، فيكون الشكّ في الماء سابقاً في الرتبة على الشكّ في ناحية الثوب ، ويكون الحكم في الماء رافعاً للشكّ في ناحية الثوب ، بخلاف الشكّ في ناحية الثوب فإنّ الشكّ فيه لمّا كان متأخّراً رتبة عن الشكّ في

ص: 522

الماء لكونه مسبّباً ومعلولاً له ، كان الحكم فيه باستصحاب تلك النجاسة التي كانت له قبل الغسل متأخّراً عن الحكم بطهارة الماء ، فلو قلنا إنّ استصحاب تلك النجاسة التي كانت للثوب قبل الغسل مثبتة للازمها وهو نجاسة الماء ، لم يكن ذلك الحكم صالحاً لأن يرفع الشكّ في طهارة الماء ، لما عرفت من تأخّره رتبة عنه.

وبالجملة : أنّ استصحاب طهارة الماء رافع للشكّ في نجاسة الثوب ، وأمّا استصحاب نجاسته فهو وإن خلي في حدّ نفسه لكان رافعاً للشكّ في طهارة الماء بناءً على الأصل [ المثبت ] ، إلاّ أنّ الحكم في الأوّل لمّا كان سابقاً في الرتبة على الحكم في الثاني ، كان الحكم في الأوّل رافعاً لموضوع الثاني قبل أن تصل إلى درجته ليكون بعد تحقّقه رافعاً لموضوع الحكم في الأوّل ، فكلّ من الحكمين وإن كان في حدّ نفسه رافعاً لموضوع الآخر إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان سابقاً في الرتبة كان هو الرافع لموضوع صاحبه دون العكس.

قوله : وإن شئت قلت - إلى قوله - وبعبارة أوضح ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كلاً من هذين التقريرين يتوقّف على الحكومة ، وما أُفيد من قوله : إنّ قوله عليه السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ » (2) لا يمكن أن يعمّ الأصل السببي والمسبّبي في عرض واحد جمعاً (3) يمكن التأمّل فيه ، فإنّه مع قطع النظر عن الحكومة المذكورة يكون كلّ من الأصلين جارياً ، ويكون حالهما حال الأصلين في من توضّأ بمائع مردّد بين الماء والبول في جريان كلّ من استصحاب الحدث

ص: 523


1- فوائد الأُصول 4 : 687.
2- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.
3- فوائد الأُصول 4 : 687.

وطهارة الأعضاء.

قوله : وعلى الثاني فإمّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين كتتميم الماء النجس كرّاً ... الخ (1).

لكن بقي مورد واحد من موارد التعارض على رأيه قدس سره خارجاً عن هذه الأقسام ، وهو ما إذا لم يلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية للتكليف المعلوم ولكن كان الأصلان إحرازيين ، كما في الاناءين المعلومي النجاسة إذا طهّر أحدهما ولم يعلم بعينه ، فإنّه على رأي الشيخ قدس سره (2) يجري استصحاب النجاسة في كلّ منهما فلا يكون بينهما تعارض ، لكن على رأي شيخنا قدس سره يكون ذلك في باب التعارض ، وحينئذ يمكن القول بإدخاله تحت هذا القسم بجعل العلم بالانتقاض في أحد الطرفين من قبيل الدليل الخارج الموجب لعدم إمكان الجمع بينهما هذا ، ولكن هذا التقسيم إنّما هو تقسيم الشيخ نفسه ، وسيأتي في آخر البحث من شيخنا قدس سره (3) الاستدراك عليه بجعل الأقسام خمسة.

قوله : كما لو توضّأ المكلّف بمائع مردّد بين البول والماء غفلة فإنّ ... الخ (4).

لا يخفى أنّه بعد الفراغ عن عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرع لما تقدّم من انحفاظ صورة العمل ، يكون الجاري في هذا الفرع هو استصحاب الحدث وطهارة الأعضاء. نعم إنّه لا يمكنه إعادة الوضوء بالماء الطاهر للعلم بعدم الأمر

ص: 524


1- فوائد الأُصول 4 : 687.
2- فرائد الأُصول 3 : 407 ( الهامش ) و 413.
3- فوائد الأُصول 4 : 696.
4- فوائد الأُصول 4 : 688.

بذلك الوضوء ، إمّا لكونه متوضّئاً أو لأنّ أعضاءه نجسة ، كما تقدّمت الاشارة إلى ذلك في مباحث قاعدة الفراغ فراجع (1) ، وسيأتي منه قدس سره (2) أنّ هذا المثال خارج عن تعارض الاستصحابين.

قوله : وإمّا أن يكون لأحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشكّ دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية ... الخ (3).

بحيث كان الوكيل قد اشترى الجارية فأنكر الموكّل التوكيل في شرائها وادّعى أنّه وكله في شراء العبد ، فإنّ القول حينئذ هو قول الموكّل لأصالة عدم التوكيل في شراء الجارية ، ولا يعارضها أصالة عدم التوكيل في شراء العبد ، لعدم الأثر في توكيله في شرائه ، لأنّ المفروض أنّ الوكيل قد اشترى الجارية ولم يشتر العبد. وفي بعض التقريرات إبدال المثال بما لو كان العلم الاجمالي بعد خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء. وعلى أي حال ، يكون هذا النوع خارجاً عن تعارض الاستصحابين.

قوله : وتقدّم أيضاً أنّه لا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل الحقّ هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والوسطية في الاثبات من دون أن يكون في العمل بها مصلحة سوى مصلحة الواقع عند الاصابة ... الخ (4).

الذي يظهر من هذه العبارة هو [ أنّ ] الالتزام بالمصلحة السلوكية إنّما يكون

ص: 525


1- راجع الصفحة : 420.
2- فوائد الأُصول 4 : 694 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 688.
4- فوائد الأُصول 4 : 689.

لو لم نقل بجعل الحجّية والطريقية ، بل قلنا بجعل الأحكام الظاهرية على طبق مؤدّيات الأمارات ، إمّا بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، أو بتنزيل قيامها منزلة العلم بالواقع ، أو غير ذلك ممّا لا يرجع إلى جعل الحجّية والطريقية ، أمّا لو قلنا بما اخترناه من أنّ المجعول هو نفس الطريقية والحجّية ، فلا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية.

وفيه تأمّل ، فإنّ الالتزام بالمصلحة السلوكية إنّما هو لدفع الشبهة القائلة بأنّ جعل الطرق والأمارات يكون موجباً للوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة ، ومن الواضح تأتّي هذا الإشكال على القول بجعل الحجّية كتأتّيه على الأقوال الأُخر ، فإذا كان الجواب عن الشبهة على تقدير أحد الأقوال الأُخر بالالتزام بالمصلحة السلوكية ، كان على أرباب هذا القول - أعني جعل الحجّية - أن يجيبوا عن هذه الشبهة بالالتزام بالمصلحة السلوكية ، أو بنحو آخر من قبيل أنّ موارد الاصابة في الأمارات أكثر منها في القطع ونحو ذلك ممّا يتأتّى على جميع الأقوال.

ثمّ لا يخفى أنّ مورد الأمارة إمّا أن يكون من قبيل ما انسدّ فيه باب العلم بمعنى أنّ المكلّف في مورد تلك الأمارة لا يتمكّن من تحصيل العلم بالحكم الواقعي فيه ( ولعلّ هذا هو المراد ممّا أُفيد بقوله : وأمّا في صورة انسداد باب العلم (1) يعني انسداده في ذلك المورد الخاصّ لا الانسداد الكلّي (2) ) وإمّا أن يكون باب العلم منفتحاً فيه.

فإن كان الأوّل لم يكن في البين تفويت للواقع كما أفاده بقوله : والمقدار

ص: 526


1- فوائد الأُصول 4 : 689.
2- وإن كان الذي يظهر ممّا أُفيد في جعل الطرق أنّ المراد هو الانسداد الكلّي [ منه قدس سره ].

الذي يدركه المكلّف من إصابة الأمارة للواقع خير جاءه من قبل التعبّد بها (1) ، ولكن لابدّ من تقييده (2) بعدم تمكّن ذلك المكلّف من الاحتياط في المورد المذكور ، وإلاّ لكان العمل بالأمارة أيضاً مورداً للشبهة المذكورة ، واحتيج إلى الجواب عنها بالمصلحة السلوكية أو أكثرية الاصابة.

وإن كان الثاني ، وهو فرض تمكّن المكلّف من تحصيل العلم ، فالظاهر أنّه لابدّ في دفع الشبهة فيه من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، أو دعوى اطّلاع الشارع على أكثرية موارد الاصابة في باب الأمارات من موارد الاصابة في تحصيل العلم والعمل على طبقه بعد فرض عدم التمكّن من الاحتياط.

ولكن الذي يظهر من الكتاب هو أنّه يكفي في المصلحة السلوكية مجرّد التسهيل على المكلّفين كما هو كذلك فيما تقدّم (3) من بحث جعل الطرق. وفيه تأمّل فإنّ مجرّد التسهيل لا يصحّح تفويت المصلحة ، إلاّ أن نقول إنّ في نفس التسهيل مصلحة يتدارك بها ما يفوت على المكلّف من مصلحة الواقع لو عمل بالأمارة.

ولا يخفى أنّ القائلين بالمصلحة السلوكية لا يريدون بها إلاّهذا المعنى أعني كون سلوك هذه الأمارة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع عندما تكون تلك الأمارة مخطئة ، سواء كانت تلك المصلحة قائمة بالتسهيل أو كانت قائمة في تصديق العادل مثلاً والاعتناء بشأنه ، وليس المراد أنّ تلك

ص: 527


1- فوائد الأُصول 4 : 689.
2- لكن شيخنا حيث إنّ مفروض كلامه إنّما هو الانسداد الكلّي الذي لا يكون إلاّبعد سقوط الاحتياط ، كان هو قدس سره في غنى عن هذا التقييد [ منه قدس سره ].
3- فوائد الأُصول 3 : 93 - 94.

المصلحة تكون كاسرة لمصلحة الواقع الذي خالفته ليعود محذور التصويب ، بل إنّ المراد أنّ الواقع باقٍ على ما هو عليه من الحكم الواقعي والصلاح الواقعي ، لكن لمّا كان المكلّف لم يحصل على تلك المصلحة الواقعية وقد فاتته بواسطة ركونه إلى الأمارة التي جعلها الشارع حجّة عليه ، كان على الشارع الحكيم أن يتدارك له ما فاته من المصلحة بمصلحة أُخرى ، فالتدارك شيء وكون مصلحة الواقع منكسرة بواسطة المصلحة السلوكية شيء آخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ القول بهذا المقدار من المصلحة السلوكية لا يوجب اندراج الأمارتين المتعارضتين في باب التزاحم ، فإنّه بناءً عليها لا تخرج الأمارتان المذكورتان عن كون حجّيتهما من باب الكشف والطريقية [ و ] عن كونهما متدافعين ومتنافيين من حيث الحكاية عن الواقع الذي هو ملاك التعارض والتساقط ، غايته أنّ هذه الأمارة التي تكون حجّيتها من باب الكشف والحكاية عن الواقع لو عمل بها المكلّف وفوّتت عليه مصلحة الواقع ، كان على الشارع الحكيم أن يتدارك ما فاته بمصلحة أُخرى ، وهذا المقدار لا يوجب انقلاب حجّيتها من الطريقية إلى السببية المعبّر عنها بالموضوعية ، بمعنى أنّ ما قامت الأمارة على وجوبه يكون قيام الأمارة على وجوبه أو تعنونه بما قامت الأمارة على وجوبه يكسبه صلاحاً يزاحم صلاح الواقع أو فساده لو كان ذلك الفعل محرّماً في الواقع مثلاً أو كان غير واجب ، وحينئذ فينحصر التزاحم والتخيير به ، ولا يتأتّى في السببية السلوكية.

ولكن سيأتي منه قدس سره في باب التعادل والتراجيح (1) المنع من كونه من باب التزاحم.

ص: 528


1- فوائد الأُصول 4 : 761 - 762.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الخدشة فيما أُفيد في صدر البحث بقوله : فإنّ الأمارات المتعارضة بناءً على السببية فيها إنّما تندرج في صغرى التزاحم ، سواء قلنا بالسببية الباطلة التي ترجع إلى التصويب ، أو قلنا بالسببية الصحيحة التي توافق مسلك المخطّئة الخ (1) ، فإنّه قد ظهر لك أنّه بناءً على سببية المخطّئة التي هي الالتزام بالمصلحة السلوكية الراجعة إلى لزوم تدارك ما يفوت المكلّف من مصلحة الواقع ، لا يخرجها عن باب التعارض ويدرجها في باب التزاحم.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الجواب عن النقض الذي في الحاشية (2) على ما أُفيد في المتن ، من دعوى اختصاص الأُصول بصورة الانسداد ، فإنّ الأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية وإن كانت في مورد الانفتاح لعدم لزوم الفحص فيها ، إلاّ أنّا لو التزمنا بالمصلحة السلوكية فيها لم يكن ذلك موجباً لدخولها في باب التزاحم وأصالة التخيير. نعم هذا النقض وارد على المتن باعتبار التزامه بأنّ الالتزام بالمصلحة السلوكية موجب لدخول المسألة في باب التزاحم وجريان أصالة التخيير ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الأُصول العملية - إلى قوله - فلا تندرج في صغرى التزاحم ... الخ (3).

لا يخفى أنّه يتأتّى في الأُصول العملية ما تأتّى في الأمارات من شبهة تفويت المصالح الواقعية ، ولابدّ في الجواب عن هذه الشبهة فيها بنحو ما تقدّم ، فإنّها وإن كانت في فرض انسداد باب العلم في مجاريها ، إلاّ أنّه مع إمكان

ص: 529


1- فوائد الأُصول 4 : 688.
2- فوائد الأُصول 4 : 690 ( الهامش 2 ).
3- فوائد الأُصول 4 : 690 - 691.

الاحتياط كما هو المفروض تكون الشبهة فيها جارية ، فلابدّ من الجواب عنها بالالتزام بالمصلحة السلوكية.

لا يقال : في الأُصول التي تارةً تكون نافية وأُخرى مثبتة مثل الاستصحاب ، يمكن الجواب عن الشبهة فيه بما تقدّم (1) من اطّلاع الشارع على أكثرية موارد إصابته الواقع ، وإنّما يتعيّن الالتزام بالمصلحة السلوكية في خصوص ما يكون نافياً محضاً ، مثل أصالة البراءة ونحوها من الأُصول النافية.

لأنّا نقول : إنّا قد فرضنا أنّ الأُصول لا تجري إلاّبعد انسداد باب العلم في مواردها ، ولذلك نقول بلزوم الفحص عن الأدلّة الاجتهادية قبل إجراء الأُصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية ، فلا معنى للقول حينئذ بأنّ موارد الاصابة في الأُصول أكثر منها في موارد العلم ، بل يتعيّن الجواب حينئذ بما نجيب به عن الأُصول النافية من الالتزام بالمصلحة السلوكية التداركية ، والمراد بها هنا هو أنّ الشارع لاحظ خطأ جملة من هذه الأُصول وفوات مصلحة الواقع بالركون إليها ، ومع ذلك حكم بها وأعرض عن الاحتياط المحصّل للواقع ، فلابدّ أن يكون في الركون إليها مصلحة يتدارك بها ما يفوت المكلّف بالركون إليها من المصالح الواقعية. ويقرّب ذلك بما حرّر في محلّه في بحث جعل الأحكام الظاهرية وعدم المنافاة بينها وبين الأحكام الواقعية.

ولعلّ هذا الذي حرّرناه راجع إلى ما حرّرته عنه قدس سره بقولي عنه : فإنّ غاية ما يتوهّم هو أنّ سلوك الأصل مع التمكّن من تحصيل الواقع بالاحتياط مفوّت لمصلحة الواقع.

وفيه : أنّ التمكّن من الاحتياط ليس مثل التمكّن من تحصيل العلم ، فإنّ

ص: 530


1- في الصفحة : 527.

مجرّد التمكّن من تحصيل العلم موجب لتحصيله ، بخلاف التمكّن من الاحتياط فإنّه لا يوجب الاحتياط إلاّبموجب شرعي نعبّر عنه بمتمّم الجعل ، ويستكشف منه أهميّة ذلك الواقع على وجه يحتاج إلى جعل الاحتياط الذي هو متمّم الجعل ، ففي مورد عدم الدليل على الاحتياط يستكشف منه عدم تلك الأهمية على الوجه المذكور ، بل تكون الارادة الواقعية غير مقتضية للتأثير إلاّفي حال قيام الحجّة عليها ، وبذلك أجبنا عن الاستدلال على القول بالاحتياط في الشبهات البدوية بما حاصله أنّ المصلحة التي اقتضت جعل التكليف تكون مقتضية لجعل الاحتياط وإلاّ لفاتت المصلحة الواقعية ، انتهى.

وتوضيح المبحث بنحو أخصر : هو أنّ المدار في الاحتياج إلى المصلحة السلوكية على إمكان الاحتياط وعدمه ، فإن كان الاحتياط ممكناً كان جعل الطرق والأمارات وكذلك جعل الأُصول العملية مفوّتاً للواقع وموجباً للوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة ، فلابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية سواء كان باب العلم منفتحاً أو كان منسدّاً. وإن [ كان ] الاحتياط غير ممكن كنّا في غنى عن المصلحة السلوكية ، فتكون الصور في جعل الطرق أربعاً ، كما أنّها في جعل الأُصول أربع أيضاً.

أمّا صور جعل الطرق ، فالأُولى منها : أن يكون باب العلم منفتحاً ويكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من المصلحة السلوكية.

الثانية : أن يكون باب العلم منفتحاً ويكون الاحتياط غير ممكن. وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لإمكان كون موارد الخطأ في العلم الذي يحصّله المكلّف أكثر منه في الأمارات ، هذا لو رجعنا إلى تحصيل العلم ، ولو رجعنا إلى التخيير فكذلك أيضاً يمكن أن يكون موارد خطأ التخيير

ص: 531

أكثر من موارد خطأ الطرق.

الثالثة : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط غير ممكن ، وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأنّ وظيفته تنحصر بالتخيير ، ولعلّ موارد الخطأ فيه أكثر منه في الأمارات.

الرابعة : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية كما في الصورة الأُولى.

وأمّا صور جعل الأُصول ، فالأُولى منها : أن يكون باب العلم منسدّاً كما لو كانت الشبهة حكمية ، لأنّها حينئذ لا تجري الأُصول فيها إلاّبعد الفحص والعجز عن تحصيل العلم بالواقع أو ما يقوم مقام العلم به ، ولكن يكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية.

الثانية : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط غير ممكن ، وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لكون المسألة حينئذ من الدوران بين المحذورين ، والوظيفة الأوّلية فيها هي التخيير ، ولا مورد فيها لمثل البراءة ونحوها. نعم ربما يجري فيها الاستصحاب في أحد الطرفين دون الآخر ، ولكن لا داعي حينئذ إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لإمكان كون موارد الاصابة فيه أكثر من موارد إصابة التخيير.

الثالثة : أن يكون باب العلم بالواقع منفتحاً كما في موارد الشبهات الموضوعية بناء على عدم وجوب الفحص فيها ، ولكن يكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية.

الرابعة : أن يكون باب العلم منفتحاً ولكن لا يكون الاحتياط ممكناً ، فيكون الحال فيها كالصورة الثانية في كونها من الدوران بين المحذورين وأنّ

ص: 532

الأصل النافي لا يجري فيها ، وإنّما يجري الاستصحاب في أحد الطرفين لو اتّفق كونه مورداً له ، ولعلّ موارد الخطأ فيه أقلّ من موارد الخطأ في العلم إن رجعنا إلى العلم ، كما هي أقل من موارد خطأ التخيير أيضاً لو رجعنا إليه ، وهذا واضح في الاستصحاب المثبت لأحد الطرفين ، وأمّا النافي لأحدهما فهو لا يزيد في النتيجة على التخيير ، أمّا تقديمه على تحصيل العلم فلابدّ أن نقول إنّه لأجل مصلحة سلوكية.

ثمّ بعد ما عرفت من هذه الصور وما عرفت من أنّه لا يكفي مجرّد التسهيل في المصلحة السلوكية ، وأنّ المصلحة السلوكية لا توجب الاندراج في صغرى التزاحم والتخيير ، يظهر لك التأمّل في هذا التحرير الذي أُفيد في الكتاب ، فتأمّل.

قوله : لأنّ التعبّد بالأُصول العملية إنّما يكون في ظرف انسداد باب العلم وعدم التمكّن من إدراك الواقع ، لأنّها وظيفة الشاكّ والمتحيّر الذي ... الخ (1).

لا يخفى أنّه قد تقدّم منه قدس سره في مباحث الاشتغال (2) في تقريب القول بالتخيير في تعارض الأُصول أنّ في ذلك تقريبين : أحدهما هذا الذي أفاده هنا ، وهو قياس المسألة بباب التزاحم بناءً على السببية ، وأجاب عنه هناك بما أجاب به هنا من عدم تصوّر السببية في باب الأُصول العملية. والوجه الثاني هو قياس المسألة بباب العام الذي خرج منه فردان واحتملنا كون خروج كلّ منهما مقيّداً ببقاء الآخر ، وقد تقدّم منه قدس سره في ذلك البحث الجواب عنه بالفرق بين البابين ، لكن قد علّقنا عليه هناك بما حاصله المنع من الفرق المشار إليه ،

ص: 533


1- فوائد الأُصول 4 : 690.
2- فوائد الأُصول 4 : 26 - 29.

فراجع (1).

قوله : وما ذكره الشيخ قدس سره من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أنّ العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكّن من العمل بالآخر مجرّد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل ... الخ (2).

قال الشيخ قدس سره : نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعاً أو عقلاً العمل بكليهما من دون علم إجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما. وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم « لا تنقض » عنوان ينطبق على الواحد التخييري (3).

وقد يمثّل لذلك بما إذا وجب إنقاذ العادل وكان هناك غريقان كلّ منهما مستصحب العدالة ، فإنّ العمل بالاستصحاب في أحدهما الذي هو زيد مثلاً يكون موجباً لسلب القدرة عن العمل به في الآخر.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه في المثال يكون كلّ من الاستصحابين جارياً في حدّ

ص: 534


1- راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 383 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 691.
3- فرائد الأُصول 3 : 411 - 412.

نفسه ، ولا يكون جريان الاستصحاب في أحدهما سالباً للقدرة على إجرائه في الآخر ، بل يجري كلّ من الاستصحابين ويثبت بذلك وجوب الانقاذ في كلّ منهما وإنّما يقع التزاحم بين الأثرين أعني وجوب إنقاذ زيد ووجوب إنقاذ الآخر ، ومع التساوي يكون المكلّف مخيّراً بين الانقاذين.

قوله : فإنّ الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كلاً من الأصلين المتعارضين مع اتّحاد رتبتهما ... الخ (1).

إن كان هذان الأصلان المتوافقان في موردين كما في إناءين وإناء ثالث علم بوقوع نجاسة إمّا فيهما معاً أو في خصوص ذلك الثالث ، فلا يكون ذلك من باب الترجيح ولا من باب أصل في مقابل أصلين ، بل يكون الأصل في الثالث معارضاً لأصل واحد وهو استصحاب الطهارة في الاثنين. وإن كانا في مورد واحد كان ذلك غير معقول إلاّفي صورة كون أحد الأصلين حاكماً على الآخر ، كما في مورد يكون مورداً لاستصحاب الطهارة حتّى في مثل أصالة الحل وأصالة البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع ، فإنّ الأُولى حاكمة على الثانية كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (2). فلو كان في الطرف الآخر أصل يعارضه فيسقط الأصل الحاكم بالمعارضة ، ويكون المورد بعد سقوطه مورداً للأصل المحكوم الذي هو قاعدة الطهارة ، إلاّعلى مبنىً له قدس سره في مثل ذلك من الالتزام بسقوط كلّ من الحاكم والمحكوم في رتبة واحدة ، وعلى كلّ حال لا يكون ذلك من باب الترجيح.

ص: 535


1- فوائد الأُصول 4 : 691.
2- في الحاشية الآتية.

قوله : المجعول في باب الأُصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ ، إلاّ أنّه تارة يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ وتنزيله على منزلة الواقع ، وأُخرى يكون المجعول مجرّد تطبيق العمل - إلى قوله - ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ... الخ (1).

في كون الاحتياط من قبيل ما كان المجعول فيه مجرّد تطبيق العمل على طبق أحد طرفي الشكّ تأمّل ، خصوصاً في الاحتياط الموجب للتكرار ، فإنّ الظاهر أنّه من قبيل تطبيق العمل على كلا طرفي الشكّ ، والأمر في ذلك سهل ، إلاّ أنّ جعل الأُصول التنزيلية من قبيل الأُصول الاحرازية يمكن المنع عنه.

والأولى في التقسيم هو جعل الأقسام ثلاثة : أُصول إحرازية ، وأُصول تنزيلية ، وأُصول لا إحرازية ولا تنزيلية. والأوّل هو الاستصحاب ونحوه من قاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة ، والثاني هو قاعدة الحل والطهارة بناءً على كون مفادهما هو تنزيل المشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقعي ومشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي ، ويقابل أصالة الحل قاعدة الحرمة في الأموال والنفوس والفروج ، بأن يكون مفاد قاعدة الحرمة في الأموال مثلاً هو الحكم على المال المشكوك الحرمة والحلّية بالحرمة ، بأن يقال إنّ كلّ مال هو حرام عليك حتّى تعرف الحلال بعينه.

وعلى كلّ حال ، فإنّ مفاد أصالة الحل هو تنزيل ما هو مشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقعي في ترتيب أثر الحلّية حتّى يعرف أنّه حرام ، وهكذا الحال في قاعدة الطهارة ، فيكون مفادهما التنزيل منزلة الحلال الواقعي والطاهر الواقعي ، لا

ص: 536


1- فوائد الأُصول 4 : 692.

الحكم على المشكوك بأنّه حلال ليكون مفادهما جعل الحكم في مورد الشكّ ، غايته أنّها تكون حلّية لاحقة للشيء بعنوانه الثانوي الذي هو الشكّ ، في قبال الحلّية المجعولة له بعنوانه الأوّلي أعني كونه غنماً مثلاً أو ماءً ، فإنّها بناءً على ذلك تتضمّن حكماً واقعياً ثانوياً ، وتكون من هذه الجهة ملحقة بالأصل غير الاحرازي وغير التنزيلي.

وبالجملة : لا ينبغي الريب في بطلان هذا الوجه في قاعدتي الطهارة والحل وقاعدة الحرمة في الأموال والنفوس والأعراض ، إذ لا يمكن الالتزام بلازمه ، حيث إنّه إذا كان مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الحكم في مورد الشكّ بأن تكون متضمّنة للطهارة الثابتة للشيء بعنوانه الثانوي ، لم تكن نافعة في جواز الإقدام على الوضوء بالماء المشكوك الطهارة إن كان الشرط هو خصوص طهارة الماء الثابتة له بعنوانه الأوّلي ، وإن كان الشرط هو الأعمّ من الطهارة الثابتة له بعنوانه الأوّلي والطهارة الثابتة له بعنوانه الثانوي ، كان لازمه صحّة الوضوء واقعاً لو تبيّن بعد الفراغ منه نجاسة ذلك الماء ، وكلّ منهما لا يمكن الالتزام به ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّ مفادها هو التنزيل ، فتكون أصلاً تنزيلياً فائدته جواز الاقدام في مثل الفرض ، وأنّه لو تبيّن الخلاف بعد الفراغ كان عليه الاعادة لانكشاف الخطأ في ذلك الأصل ، وذلك واضح.

ثمّ إنّ هذه الأُصول التنزيلية تشارك الأُصول غير الاحرازية وغير التنزيلية في عدم قيامها مقام القطع الطريقي ، كما أنّها تشاركها في إمكان جريانها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منه المخالفة العملية ، كما لو علمنا بحرمة أحد المالين وحلّية المال الآخر ، فإنّ أصالة الحرمة المقابلة لأصالة الحل تجري في كلّ من الطرفين ، ولا يجري فيها الإشكال الذي يجري في الأصل الاحرازي مثل

ص: 537

استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين اللذين علم بتطهّر أحدهما.

نعم ، ينفرد هذا الأصل التنزيلي مثل أصالة الحل عن الأصل غير التنزيلي مثل البراءة التي يتكفّلها حديث [ الرفع ] في جريانه في مسألة اللباس المشكوك المأخوذ من حيوان ذكّيناه وشككنا في أنّه حرام الأكل مثل الأرنب أو أنّه حلال الأكل مثل الغنم ، فإنّه يجوز الصلاة في شعره اعتماداً على قاعدة الحل ، بناءً على أنّ الشرط هو كونه مأخوذاً ممّا يحلّ أكل لحمه لا كونه غنماً ، بخلاف ما لو اعتمدنا في جواز الاقدام على أكل لحمه على حديث الرفع ، فإنّ مجرّد البراءة الشرعية ورفع الحرمة المجهولة لا يصحّح جواز الصلاة في شعره ما لم يحكم عليه بأنّه حلال كما هو مفاد قاعدة الحل.

وبالجملة : أنّ قاعدة الحل تكون نافعة في المقام كما ينفعنا الأصل الاحرازي الذي هو استصحاب الحلّية لو كان جارياً ، بخلاف الأصل غير الاحرازي الذي هو مثل مفاد حديث الرفع فإنّه لا ينفعنا في جواز الصلاة في شعره وإن أمكننا الإقدام على أكل لحمه.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن القول بأنّ قاعدة الحل في مثل ذلك حاكمة على البراءة الشرعية ، لأنّها بتكفّلها تنزيل المشكوك منزلة الحلال الواقعي تخرج المورد عن كونه ممّا لا يعلم حكمه من حيث الحلّية والحرمة ، هذا كلّه في شرح حال الأُصول التنزيلية.

وأمّا الأُصول الاحرازية مثل الاستصحاب فهي في الحقيقة بمنزلة الأمارة من جهة كونها بنفسها كاشفة عن الواقع كشفاً ظنّياً نوعياً ولو باعتبار غلبة بقاء ما كان متيقّن الحدوث ، غايته أنّ حجّية ذلك الكشف مقصورة على الآثار اللاحقة لنفس المتيقّن التي يكون رفع اليد عنها نقضاً لليقين به ، فلا يتعدّى عنها إلى الآثار

ص: 538

العقلية واللوازم الاتّفاقية ، وبذلك تنفرد عن الأمارات فإنّ حجّيتها غير مقصورة على آثار خصوص ما قامت عليه الأمارة ، كما أنّها تنفرد عن الأمارة بكون موضوعها هو الشكّ بخلاف الأمارات ، فهي - أعني الأُصول الاحرازية - أمارات لكنّها مبتورة الطرفين ، بمعنى أنّ موضوعها مقيّد بالشكّ بخلاف موضوع الأمارات ، والحكم فيها وحجّيتها مقصورة على آثار نفس ما أدّت إليه دون لوازمه غير الشرعية ، وهي من الجهة الأُولى تكون محكومة للأمارة ، ومن الجهة الثانية لا يكون مثبتها حجّة ، ومن حيث إنّها تشترك مع الأمارة في اشتمالها على الكشف النوعي والاحراز الظنّي النوعي وأنّ الشارع أبقى لها ذلك الاحراز تكون حاكمة على بقية الأُصول ، سواء كانت تنزيلية مثل قاعدة الطهارة والحل أو كانت غير تنزيلية مثل قاعدة البراءة والاحتياط ، كما أنّ الأُصول التنزيلية تشارك الأُصول الاحرازية في كونها حاكمة على الأُصول غير التنزيلية ، وتشارك الأُصول غير التنزيلية في كونها محكومة للأُصول الاحرازية ، فتأمّل.

قوله : كطهارة البدن وبقاء الحدث ... الخ (1).

لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول مثلاً ممّا لا تجري فيه قاعدة الطهارة المسوّغة للوضوء لعدم إحراز الشرط الذي هو الإطلاق ، ولا تجري فيه قاعدة الفراغ لفرض انحفاظ صورة العمل ، يكون المرجع هو استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، لكنّه لا يمكنه أن يتوضّأ قبل غسل أعضاء وضوئه ، لعلمه بأنّ هذا الوضوء الذي يأتي به لا يكون مأموراً به ، لأنّه إمّا أن يكون على أعضاء نجسة ، أو يكون قد امتثل الأمر بالوضوء ، وحيث إنّه يجب عليه الوضوء للصلاة وهو متوقّف على تطهير أعضائه ، كان ذلك التطهير واجباً عليه من باب المقدّمة

ص: 539


1- فوائد الأُصول 4 : 694.

لتحصيل التمكّن من امتثال الأمر بالوضوء ، فيلزمه تطهير أعضائه وإن كانت هي محكومة بالطهارة في حدّ نفسها. وفيه تأمّل واضح ، لأنّ الحكم بطهارة أعضائه محصّل للشرط.

وهل يمكنه الاتيان بالوضوء باحتمال الأمر الاستحبابي التجديدي ، فينفعه حينئذ ذلك الوضوء لأنّ الوضوء التجديدي لو صادف الحدث واقعاً يكون رافعاً له؟ وتقريب ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة : وهي أنّ من كان مستصحب الحدث وإن كان حكمه هو كون الوضوء واجباً عليه ، إلاّ أنّه لمّا كان يحتمل خطأ ذلك الاستصحاب فهو يحتمل أنّه في الواقع متوضّئ ، وحينئذ هو يحتمل أنّه مورد للأمر التجديدي الاستحبابي ، فله أن يأتي بالوضوء التجديدي من باب الاحتياط في ذلك الأمر الاستحبابي المحتمل ، بأن يأتي بالوضوء بداعي احتمال الأمر الاستحبابي التجديدي ، فإنّه وإن كان مستصحباً للحدث إلاّ أنّ هذا الاستصحاب لا يمنعه من الجري على طبق الاحتياط في ذلك الأمر الاستحبابي باحتمال الخطأ في ذلك الاستصحاب ، وبعد الفراغ من ذلك الوضوء يقطع بارتفاع حدثه ، لأنّه إن كان في الواقع متوضّئاً قبله كان ذلك الوضوء الثاني تجديدياً ، وإن لم يكن في الواقع متوضّئاً يكون ذلك الوضوء الذي احتاط فيه للأمر التجديدي رافعاً لحدثه ، ففيما نحن فيه يكون الحال كذلك ، بأن يأتي بالوضوء بداعي احتمال الأمر التجديدي ، فيتخلّص بذلك عن شبهة القطع بأنّ هذا الوضوء الذي يأتي به غير مأمور به.

وفيه تأمّل ، فإنّا وإن قلنا إنّ الوضوء التجديدي رافع للحدث لو صادف محلّه ، لكنّه إنّما يكون رافعاً إذا كان بعنوان التجديد ، بأن كان قاطعاً بأنّه متوضّئ ولكنّه جدّد الوضوء استحباباً ، ثمّ بعد الفراغ منه علم أنّه لم يكن قد توضّأ سابقاً ،

ص: 540

وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّه عند الاتيان بالوضوء لم يأت به بعنوان التجديد ، بل إنّما أتى به بعنوان الاحتياط وبداعي احتمال الأمر التجديدي ، فهذا الوضوء الاحتياطي لا يكون رافعاً لأنّه على تقدير أنّه في الواقع محدث لا يكون وضوءه إلاّ هدراً.

وفيه تأمّل ، فإنّه لا عيب فيه سوى أنّه لم يصادف الواقع من الأمر التجديدي ، وهذا بعينه متحقّق فيما لو قصد التجديد معتقداً أنّه متوضّئ وصادف في الواقع أنّه لم يكن متوضّئاً ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ ذلك حينما أتى بالوضوء كان قد أتى به بعنوان التجديد ، وهذا عندما أتى به إنّما أتى به بعنوان احتمال التجديد ، وهذا المقدار من الفرق لا يغيّر الواقع من أنّه وضوء بداعي الأمر التجديدي مع مصادفة أنّه لم يكن مأموراً بالتجديد بل كان مأموراً بالوضوء الرافع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الجزم بنيّة التجديد له دخل في كونه رافعاً. ولكن لا دليل على اعتبار قصد الجزم في رافعية الوضوء التجديدي.

ولا يخفى أنّا لو قلنا في هذا الفرع بتعارض الاستصحابين من جهة الاحرازية وتساقطهما ، يكون المرجع في الأعضاء قاعدة الطهارة وفي الوضوء أصالة البراءة من حرمة مسّ المصحف ، ولا مانع من الجمع بينهما ، إذ لا يلزم منه المخالفة القطعية لجواز كون ذلك المائع ماءً فيكون وضوءه صحيحاً وأعضاؤه طاهرة ، فلا يحرم عليه مسّ المصحف ولا يجب عليه تطهير أعضائه. نعم بالنسبة إلى ما يكون الوضوء شرطاً فيه كالصلاة يلزمه إحراز الشرط وهو الوضوء.

لا يقال : إنّ ما ذكرتموه من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الأعضاء ممنوع لسقوطها بسقوط استصحاب طهارة الأعضاء بناءً على مسلك الأُستاذ قدس سره من سقوطها بسقوطه.

ص: 541

لأنّا نقول : إنّ ما أفاده قدس سره في ذلك لا يتأتّى في هذا الفرع ، لأنّ سقوط استصحاب الطهارة بمعارضته لاستصحاب الحدث إنّما كان من جهة الاحرازية ، وهذه الجهة لا تجري في قاعدة الطهارة كي تكون ساقطة بسقوط استصحاب الطهارة. ولو أُغضي النظر عن ذلك أمكننا أن نقول إنّ المرجع هو قاعدة الطهارة في ذلك المائع ، فإنّها وإن لم تنفع في صحّة الوضوء لتوقّف صحّته على إحراز الاطلاق ، إلاّ أنّها نافعة في الحكم بطهارة الأعضاء ، بل إنّ قاعدة الطهارة في ذلك المائع حاكمة على استصحاب طهارة الأعضاء وعلى قاعدة الطهارة فيها ، بل في الحقيقة تقع المقابلة بين استصحاب الحدث وقاعدة الطهارة في ذلك المائع ولو باعتبار عدم تنجيس ملاقيه الذي هو الأعضاء ، وهذان الأصلان وإن علم بمخالفة أحدهما للواقع إلاّ أنّه لا مانع من الجمع بينهما ، لعدم كونهما معاً إحرازيين ، وعدم لزوم المخالفة القطعية منهما ، ولكن مع هذا كلّه يعود الإشكال في أنّه يلزمه الوضوء وهو يعلم بأنّ هذا الوضوء غير مأمور به ، لأنّه إمّا على وضوء أو على أعضاء نجسة ، لكن شيخنا قدس سره لا يعتني بهذا العلم بعد فرض أنّ الأُصول قاضية بالوظيفة المذكورة ، كما جرى عليه في كثير من مباحث الخلل خصوصاً فروع الخاتمة من العروة فراجع ، ولكن الإشكال وارد ولا مدفع له.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا لزمه الوضوء فقد لزمه إيجاده على النحو المطلوب ، وهو لا يكون في هذا المقام إلاّبتطهير أعضائه وإن كانت هي في المقام مجرى لقاعدة الطهارة ، أو هي مجرى لاستصحاب الطهارة بناءً على جريان كلّ من استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء ، أو نقول إنّه يلزمه الحدث الأصغر وحينئذ يتسنّى له أن يتوضّأ ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكرناه من الوضوء التجديدي ، ففيه أنّه يعلم بأنّه غير مسوّغ

ص: 542

للدخول في الصلاة لعدم كونه سبباً في تحصيل الطهارة من الحدث ، لأنّ ذلك المائع إن كان ماءً كان المحصّل للطهارة من الحدث والمسوّغ للدخول في الصلاة هو الوضوء الأوّل ، وإن كان ذلك المائع بولاً لم يكن شيء من الوضوءين محصّلاً للطهارة ومسوّغاً للدخول في الصلاة ، فلاحظ وتأمّل. وقد تعرّضنا لهذا الفرع ونحوه في أصالة الاشتغال عند الكلام على ما أفاده شيخنا قدس سره في سقوط قاعدة الطهارة بسقوط استصحابها في الحاشية الأُولى على ص 16 فراجع قبل قوله بقي التنبيه على أُمور (1) ، وراجع ما ذكرناه في الاستصحاب الكلّي على ص 156 (2).

قوله : والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال : إنّه تارةً يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليه ، لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلاً ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلاً نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الاناءين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلاً من طهارة أحدهما أو نجاسته ... الخ (3).

أفاد قدس سره فيما حرّرته عنه : أنّ العلم الاجمالي بخلاف الحالة السابقة وانتقاضها في أحد الطرفين إن رجع إلى العلم التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به في الأصلين ، كما في العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين فيما كانا مسبوقين

ص: 543


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة 518 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 387 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 694.

بالطهارة ، وكما في العلم الاجمالي بطهارة أحد الاناءين المسبوقين بالنجاسة ، لم يكن لإجراء الأصلين مجال ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري حينئذ ، فإنّ العلم التفصيلي بطهارة أحد الاناءين يمنع من التعبّد ببقاء نجاسة كلّ منهما ، وكذلك العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما يمنع من التعبّد بطهارة كلّ منهما ، وهكذا الحال في مورد العلم الاجمالي بحرمة أحد الأمرين أو العلم الاجمالي بوجوب أحدهما ، فإنّه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بأنّ الحكم الواقعي هو الحرمة في الأوّل والوجوب في الثاني ، ومع هذا العلم التفصيلي لا يمكن التعبّد با باحة كلّ منهما كما هو مؤدّى الأصلين ، بل لو علم إجمالاً حرمة أحد الأمرين أو وجوب الآخر ، فإنّه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بأنّ الحكم الواقعي هو الالزام ، ومعه لا يمكن الحكم التعبّدي با باحة كلّ منهما.

أمّا إذا لم يرجع العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي ، فلا مانع من جريان الأصلين معاً ، إلاّ أن يكون هناك إجماع على عدم جريانهما كما في المتمِّم والمتمَّم ، وإلاّ فلا مانع من إجراء الأصلين كما في مثل استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء ، وكما في مثل استصحاب عدم نبات اللحية واستصحاب الحياة ، إذ لا يرجع هذا العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به في كلا الأصلين كي لا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، ولا إجماع على عدم جريان الأصلين المزبورين ، فأيّ مانع يمنع من جريانهما.

فإن قلت : إنّا نعلم تفصيلاً أنّ التعبّد ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء معاً مخالف للواقع ، وهكذا التعبّد ببقاء الحياة وعدم نبات اللحية ، فإنّا نعلم تفصيلاً بمخالفته للواقع ، فلا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة.

قلنا : إنّ مرتبة الحكم الظاهري إنّما لا تكون محفوظة إذا حصل العلم

ص: 544

التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به الذي هو مؤدّى للأصلين ، أمّا إذا حصل العلم بخلاف نفس التعبّد بالأصلين ، ولم يكن خلاف ما يتعبّد به فيهما معلوماً تفصيلاً ، فلا مانع من جريانهما ، غايته أنّه يعلم تفصيلاً بعدم مطابقة التعبّدين للواقع ، للملازمة بين بقاء الحياة ونبات اللحية ، فيكون التعبّد بعدم نبات اللحية وبقاء الحياة موجباً للتفكيك بين المتلازمين ، وهذا إنّما يمنع من جريان الأصلين إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت ، لأنّ مقتضى التعبّد ببقاء الحياة حينئذ هو الحكم بنبات اللحية ، ومقتضى التعبّد بعدم نباتها هو الحكم بعدم بقاء الحياة ، فيكون كلّ واحد من الأصلين منافياً لما يقتضيه الآخر ، فلا يمكن إجراؤهما معاً.

أمّا إذا قلنا - كما هو المختار - بأنّ الأصل لا يكون مثبتاً ، فلا يكون مقتضى أحد الأصلين منافياً لمقتضى الأصل الآخر ، فإنّ التعبّد ببقاء الحياة لا يترتّب عليه الحكم بنبات اللحية ، والتعبّد ببقاء عدم نباتها لا يترتّب عليه الحكم بعدم بقاء الحياة. وهكذا الحال في المثال المتقدّم ، فإنّ التعبّد ببقاء الحدث لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة الأعضاء ، والتعبّد ببقاء طهارة الأعضاء لا يترتّب عليه الحكم بارتفاع الحدث ، فلا يكون في البين مانع من جريان كلا الأصلين.

قلت : والأولى أن يقال : إنّ المانع هو العلم التفصيلي بخلاف الأصلين ، وفي هذه الأمثلة لم يكن علم تفصيلي على خلاف التعبّد بالأصلين ، كما أنّه لم يكن فيها علم تفصيلي على خلاف ما يتعبّد به. وهذا أولى ممّا يظهر منه قدس سره من حصر المانع بكون العلم التفصيلي على خلاف ما يتعبّد به ، وتسليم حصول العلم التفصيلي في هذه الأمثلة على خلاف نفس التعبّد ودعوى كونه غير مانع ، فتأمّل.

والذي يتلخّص من الفرق هو أنّ طرفي العلم الاجمالي إن كان بينهما قدر جامع يكون هو المعلوم التفصيلي ، لم يمكن جريان الأصل في كلّ واحد من

ص: 545

الطرفين ، وإلاّ كان الأصل جارياً في كلّ منهما.

ويمكن تطرّق المناقشة في ذلك بما تقدّم في مباحث الاشتغال وفي بعض مباحث القطع (1) ، ممّا يتعلّق بانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري ، بما حاصله أنّ الأصل إنّما يجري في كلّ واحد منهما على حياله وفي حدّ نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر ، وحينئذ فلا يكون العلم التفصيلي بالقدر الجامع بين الطرفين مانعاً من جريان الأصل في كلّ واحد منهما بنفسه مع قطع النظر عن الآخر. نعم هذا العلم التفصيلي مانع من إجراء أصل واحد في مجموع الطرفين ، ولا دخل لذلك بجريانه في كلّ واحد منهما على انفراده ، فإنّ العلم التفصيلي بوجود الطاهر المردّد بين الاناءين لا يمنع إلاّمن الحكم بنجاستهما معاً بحكم واحد ، أمّا الحكم ببقاء نجاسة هذا الاناء والحكم الآخر ببقاء نجاسة الاناء الآخر فلا يكون ذلك العلم التفصيلي مانعاً منه ، نعم الجمع بين الأصلين لا يجتمع مع العلم التفصيلي المذكور ، لكنّه لو كان مانعاً لمنع من الأُصول غير الاحرازية أيضاً ، إذ لا يمكن أن يجتمع الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف.

مضافاً إلى أنّ كلّ علم إجمالي لابدّ أن يرجع إلى علم تفصيلي بالقدر الجامع ، فلو كان العلم بذلك القدر الجامع مانعاً لمنع في جميع الموارد حتّى في مثل استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية ، فإنّ مرجع استصحاب الحياة إلى استصحاب عدم الموت ، فيكون الجمع بين إحراز عدم الموت وإحراز عدم نبات اللحية منافياً للعلم التفصيلي بحدوث أحدهما ، فيكون ذلك مانعاً من جريان الأصلين المذكورين ، ولا خصوصية لما إذا كان ذلك القدر الجامع أحد الأحكام الشرعية كنجاسة أحد الاناءين أو حرمة أحد الطرفين ، والسرّ في ذلك هو أنّ

ص: 546


1- [ لم نجده في المبحثين المذكورين ].

الجمع بين الأصلين ليس من الأحكام الشرعية ، وإنّما هو لازم جريان الأصل في هذا الطرف وجريانه في الطرف الآخر ، والأصل لا دخل له بإثبات اللوازم ، فلا يكون هذا العلم التفصيلي منافياً لنفس الأصل وإن كان منافياً للازمه وهو الجمع المذكور ، فتأمّل.

ثمّ إنّ من جملة القسم الأوّل الذي لا يجري فيه الاستصحابان على رأي شيخنا قدس سره مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غيره ممّا يقضى بعد الصلاة ، فإنّه قدس سره بعد إسقاطه لقاعدة الفراغ في الطرفين لأجل التعارض بينهما ، يوقع التعارض بين أصالة العدم في الركن وأصالة العدم في غير الركن ، ويكون المرجع بعد ذلك هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء غير الركن ، وذلك من جهة أنّ الدوران بين كون المتروك ركناً أو غير ركن يرجع إلى العلم التفصيلي بتوجّه الخطاب إليه بأحد الأمرين من قضاء غير الركن وإعادة الصلاة. ومن ذلك ما لو دار الأمر بين حصول ما يرفع نجاسة الثوب أو موت زيد مثلاً ، فإنّه يرجع إلى القدر الجامع بين لزوم تطهير الثوب أو لزوم عدم قسمة ميراث زيد.

ومن القسم الثاني الذي يجري فيه الاستصحابان ، ما لو كان أحد الاناءين كرّاً والآخر قليلاً ثمّ حدث حادث مردّد بين نقصان الأوّل وبلوغ الثاني حدّ الكرّية فإنّه يجري فيه استصحاب الكرّية في الأوّل وعدمها في الثاني ، لعدم الرجوع إلى قدر جامع يكون هو المعلوم بالتفصيل.

ومن ذلك ما لو كان أحد الاناءين نجساً والآخر طاهراً وحدث حادث مردّد بين تطهير الأوّل وتنجّس الثاني ، فإنّ ذلك من قبيل المتمِّم والمتمَّم ، غير أنّه ليس في البين ذلك الإجماع القائم على عدم اختلاف الماء الواحد في الطهارة والنجاسة ، لأنّ المفروض تعدّد الاناءين ، وحينئذ يجري فيه الاستصحابان بلا

ص: 547

مانع.

ومن ذلك ما لو تردّد الحادث الصادر من المكلّف بين الوضوء أو تنجيس ثوبه الطاهر ، فإنّهما لا يرجعان إلى قدر جامع ، وحينئذ يكون المرجع هو استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الثوب ، وهو عين ما ذكره في مسألة من توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء. نعم لو دار الأمر بين الوضوء أو تطهير ثوبه النجس ، كانا راجعين إلى القدر الجامع وهو الالزام بأحد الأمرين من الوضوء أو تطهير الثوب ، فلا يمكن الرجوع إلى استصحاب الحدث واستصحاب نجاسة الثوب ، بل يتعارضان وبعد التساقط يكون المرجع في الوضوء هو لزوم إحراز الشرط ، وفي الثاني هو قاعدة الطهارة.

ومن ذلك ما لو صلّى وبعد الفراغ علم بأنّه كان مجنباً وشكّ في الغسل قبل الصلاة ، فإنّهم يقولون بأنّه تجري في حقّه قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة السابقة واستصحاب بقاء الجنابة بالنسبة إلى الصلاة اللاحقة مع كونهما إحرازيين ، لكنّهما لا يرجعان إلى قدر جامع ، ولو كان أحدث بالأصغر بعد الصلاة السابقة وقع في محذور آخر ، وقد حرّرنا فيه رسالتين.

ولو دار الأمر بين الحدث وتنجيس الثوب ، لم يجر فيه استصحاب الطهارة من الحدث واستصحاب طهارة الثوب للمخالفة القطعية ، وبعد التساقط يكون المرجع هو لزوم إحراز الشرط وهو الوضوء ، ويرجع في الثوب إلى قاعدة الطهارة إذا لم نقل بسقوطها في مرتبة سقوط استصحاب الطهارة فيه كما هو رأي شيخنا قدس سره في مثل ذلك ، ومجرّد كونها غير إحرازية لا ينفع في توجيه عدم سقوطها ، لما عرفت من المخالفة القطعية الموجبة لسقوطها بسقوط استصحاب الطهارة.

ص: 548

نعم ، لولا المخالفة القطعية لأمكن القول بأنّ التعارض بين استصحاب [ الطهارة من ] الحدث واستصحاب طهارة الثوب لا يوجب سقوط قاعدة الطهارة فيه ، لأنّ الموجب لسقوط الاستصحابين هو كونهما إحرازيين ، وذلك غير متحقّق في قاعدة الطهارة ، فراجع ما حرّرناه في التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب (1).

ولا يخفى أنّا لو قلنا بسقوط قاعدة الطهارة في ذلك ، لم يكن استعمال الثوب فيما يشترط فيه الطهارة جائزاً ، لعدم المسوّغ حينئذ لذلك.

ولو دار الأمر بين الحدث وتطهير الثوب ، جرى فيه استصحاب الطهارة من الحدث واستصحاب نجاسة الثوب ، ولا مانع منهما ، لعدم رجوع ذلك التردّد إلى العلم التفصيلي بالقدر الجامع ، إذ لا جامع بين الحدث وتطهير الثوب.

ثمّ لا يخفى أنّه لا يرد النقض على القائلين بجريان الأُصول الاحرازية إذا لم يكن جريانها مستلزماً للمخالفة القطعية ، بمسألة تعاقب الحالتين الطهارة والنجاسة على الثوب أو الغسل والجنابة مثلاً مع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، بتقريب أنّه ليس في البين تكليف معلوم بالإجمال كي [ يكون ] جريان الأصلين المذكورين معاً موجباً للمخالفة القطعية لذلك التكليف المعلوم بالاجمال ، وحينئذ يكون الاستصحابان في هذه المسألة مثل استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم الاجمالي بتطهير أحدهما في جريان كلّ من الأصلين.

وبيان عدم ورود النقض المذكور عليهم ، هو أنّ ما ذكروه من حصر المانع من جريان الأُصول ولو كانت إحرازية باستلزام المخالفة القطعية مقيّد بما إذا كان

ص: 549


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 237 وما بعدها.

الأصلان في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد ففيه مانع آخر من جريانهما وهو لزوم التناقض ، إذ لا يصحّ الحكم على الشيء الواحد بكلّ من الطهارة والنجاسة أو الحدث والطهارة منه وإن لم يكن في البين مخالفة قطعية ، ويكون ذلك من قبيل ما ذكروه من قيام الإجماع على وحدة حكم الماء الواحد في مسألة المتمِّم والمتمَّم الذي يكون مانعاً من جريان الأصلين المزبورين (1) بل إنّ المسألتين من

ص: 550


1- والحاصل : أنّ المانع من جريان استصحاب النجاسة في الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم بحصول الطهارة لأحدهما ، إن كان هو كون مؤدّاهما على خلاف ما هو معلوم تفصيلاً من ارتفاع النجاسة في أحدهما كما ربما يظهر من بعض عبائر الكتاب ، ففيه أوّلاً : أنّ العلم التفصيلي بالخلاف كما يمنع من الأُصول الاحرازية فكذلك هو مانع من الأُصول غير الاحرازية ، فما وجه التخصيص بالأُصول الاحرازية. وثانياً : أنّه ليس في البين علم تفصيلي ، وإنّما هو العلم الاجمالي بطهارة أحدهما دون العلم التفصيلي. وثالثاً : أنّ ذلك منقوض بالأُصول الاحرازية الموجبة للتفكيك بين اللوازم ، كما في من توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء ، وفي مثل استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية. ودعوى الفرق بين ما نحن فيه وما هو من هذا القبيل ممّا يرجع إلى التفكيك بين المتلازمين ، بوجود القدر الجامع بين المستصحبين فيما نحن فيه وهو نجاسة كلّ من الاناءين ، بخلافه في تلك الأمثلة فإنّ المستصحبين فيها لا جامع بينهما. ممنوعة أوّلاً : أنّ وجود القدر الجامع بين المستصحبين لا أثر له في المنع ، إذ ليس المستصحب فيما نحن فيه هو ذلك القدر الجامع - أعني نجاسة الاناءين - كي يكون العلم الاجمالي أو التفصيلي بخلافه مانعاً ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ لو لم يكن في البين إلاّ استصحاب واحد لنجاسة كلّ من الاناءين وهو خلاف المفروض ، فإنّ المفروض إنّما هو استصحاب نجاسة هذا الاناء في قبال استصحاب نجاسة ذلك الاناء ، على نحو يكون كلّ استصحاب جارياً في مورده على حدة. وثانياً : أنّ ذلك - أعني وجود القدر الجامع بين المستصحبين - جار حتّى في مثل استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، بأن يكون المستصحب في كلّ منهما هو العدم أعني عدم نجاسة الأعضاء وعدم ارتفاع الحدث ، فيكون محصّل الاستصحابين هو البناء على العدم في كلّ من هذين الحادثين ليناقضه العلم الاجمالي بحدوث أحد الأمرين من نجاسة الأعضاء وارتفاع الحدث ، وهكذا الحال في استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية بجعل المستصحب في الأوّل هو عدم الموت. وإن كان المانع هو امتناع التعبّد بكلا الاحرازين في قبال العلم الاجمالي بالخلاف ، بمعنى أنّه لا يصحّ الجمع بين الاحرازين في قبال العلم الاجمالي بالخلاف ، ليكون ذلك من قبيل الأمارتين اللتين يعلم إجمالاً بكذب إحداهما ، فإنّ حال الأُصول الاحرازية من هذه الجهة - أعني جهة التكفّل باحراز الواقع - حال الأمارات في كون العلم الاجمالي بخلاف أحدها موجباً لإسقاط أحدها عن الحجّية. ففيه : أنّ هذا التقريب وإن لم يرد عليه الإشكال الأوّل أعني النقض بالأُصول غير الاحرازية ، إلاّ أنّه يرد عليه الإشكال الثالث أعني النقض بالأُصول الاحرازية الموجبة للتفكيك بين اللوازم ، فإنّ إحراز طهارة الأعضاء وإحراز بقاء الحدث ينافيه العلم الاجمالي بالخلاف ، فلو كان ذلك مانعاً لمنع من جريان الأصلين المذكورين. وهكذا الحال في مثل استصحاب الحياة بمعنى عدم الموت واستصحاب عدم نبات اللحية ، وإنّما امتنع ذلك في الأمارات كالأمارة القائمة على نجاسة هذا الاناء والأمارة الأُخرى القائمة على نجاسة الاناء الآخر ، وهكذا الحال في الأمارتين القائمة إحداهما على طهارة الأعضاء والأُخرى القائمة على بقاء الحدث ، من جهة أنّ الأمارة القائمة على بقاء نجاسة هذا الاناء يترتّب عليها لازمها وهو ارتفاع النجاسة في الاناء الآخر ، وهكذا الحال في الأمارة القائمة على بقاء طهارة الأعضاء والأُخرى القائمة على بقاء الحدث ، فإنّ كلاً منهما يترتّب عليها لازمها وهو ارتفاع مورد الأُخرى ، فيقع التعارض بينهما من هذه الجهة ، لا من جهة مجرّد الجمع بين الاحرازين ، وهذا بخلاف الأُصول ولو كانت إحرازية ، فإنّها لمّا لم يترتّب عليها لازمها وهو رفع مؤدّى الآخر ، لم يكن مانع من جريانهما معاً ، هذا. ولكن النفس غير قانعة بذلك ، فإنّها تجد العلم الاجمالي بخلاف الاحرازين موجباً للوقفة في إمكان التعبّد بهما ، وحينئذ يبقى سؤال الفرق بين استصحابي النجاسة في كلّ من الاناءين واستصحابي مثل طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، وعلى الاجمال نحن نرى بحسب الارتكاز فرقاً بين هذين الموردين بحسب أنّا نجد من أنفسنا الفرق الارتكازي بينهما ، ولكن ما هو السرّ في هذا الفرق الارتكازي. ولعلّ السرّ في ذلك الفرق الارتكازي هو أنّ العلم في الأوّل يتعلّق ابتداءً بما هو مورد الاحراز ، حيث إنّ المكلّف في الصورة المفروضة قد تعلّق علمه ابتداءً بطهارة أحد الاناءين ، وهذا المتعلّق بنفسه مضادّ ابتداءً لما هو مورد الاحراز في كلّ من الاناءين ، فلذلك نجد من أنفسنا أنّ التعبّد باحراز بقاء النجاسة في هذا الاناء وإحراز بقائها في الاناء الآخر مضادّ لما نعلمه إجمالاً من طهارة أحدهما ، بمعنى أنّا نجد من أنفسنا أنّه لا يمكن الجمع بين هذين الاحرازين ، لأنّ العلم الاجمالي المتعلّق ابتداءً بضدّ أحد المحرزين يأبى من الجمع بين هذين الاحرازين ، وهذا بخلاف بقية الصور ممّا يرجع إلى التفكيك بين المتلازمين ، فإنّ العلم الاجمالي في صورة الوضوء بالماء المردّد لم يتعلّق ابتداءً بما هو ضدّ لأحد المحرزين ، بل إنّما تعلّق ابتداءً بالوضوء بالمائع المردّد ، ولكن بواسطة ذلك الترديد ينشأ له علم إجمالي بأنّه إن كان ذلك المائع بولاً فقد تنجّست أعضاؤه وبقي حدثه بحاله ، وإن كان ماءً مطلقاً فقد ارتفع حدثه وبقيت طهارة أعضائه ، وبواسطة هذا الترديد يحصل له العلم الاجمالي إمّا بارتفاع حدثه أو بارتفاع طهارة أعضائه ، وهذه الدرجة الأخيرة من العلم تعاند الجمع بالتعبّد باحراز بقاء طهارة أعضائه والتعبّد باحراز بقاء حدثه ، فلمّا لم يكن متعلّق العلم ابتداءً مصادماً للجمع بين ذينك التعبّدين ، وإنّما كان يصادمه باعتبار تلك اللوازم ، وكان التعبّد بذينك الاحرازين لا يترتّب عليه تلك اللوازم ، لم يكن مانعاً بالنظر العرفي من الجمع بين ذينك الاحرازين ، وإن كان بحسب الدقّة وبعد ترتّب تلك اللوازم مصادماً للتعبّد بذينك الاحرازين ، وحيث كان النظر العرفي متّبعاً في فهم الأدلّة الواردة في الباب كانت تلك المصادمة العرفية في الأوّل مانعة ، بخلاف المصادمة المبنية على الدقّة والتأمّل كما في الثاني ، هذا. وينبغي النظر فيما أفاده شيخنا قدس سره في أوائل التعادل والتراجيح ، فإنّه قدس سره قد أخرج الأمارتين المعلوم كذب إحداهما عن باب التعارض وجعله من باب اشتباه الحجّة باللاّ حجّة ، وفرّق بينهما وبين الأمارتين القائمة إحداهما على وجوب صلاة الجمعة يومها والأُخرى على وجوب صلاة الظهر بعد الإجماع على أنّه ليس في البين إلاّفريضة واحدة ، فجعلهما من باب التعارض [ راجع فوائد الأُصول 4 : 702 - 703 ]. والظاهر أنّ الاستصحابين في مثل ما نحن فيه - أعني استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين - من قبيل القسم الأوّل أعني ما علم بكذب أحدهما ، لأنّ الكلام فيه أعمّ ممّا علم ببقاء النجاسة في أحد الاناءين ، ويشمل ما احتمل ارتفاع النجاسة في كلّ منهما مع العلم بارتفاعها في أحدهما [ منه قدس سره ].

ص: 551

ص: 552

وادٍ واحد ، فإنّه بعد الإجماع على اتّحاد الحكم في الماء الواحد ، تكون المسألتان من وادٍ واحد ، وهو الحكم على الشيء الواحد بحكمين متناقضين ، والسرّ في ذلك هو أنّ الحكم بطهارة ذلك الثوب هو عين الحكم بعدم نجاسته ، والحكم بنجاسته هو عين الحكم بعدم طهارته ، فيكون مؤدّى كلّ من الأصلين مناقضاً لمؤدّى الأصل الآخر ، وهكذا الحال في الغسل والجنابة المتعاقبين ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الطهارة ليست عبارة عن عدم النجاسة وكذلك العكس ، وإلاّ لكانت هذه الأحكام أحكاماً عدمية ، وحينئذ فلابدّ أن يكون المانع من جريان الأصلين في مثل ذلك أمراً آخر غير لزوم التناقض.

ص: 553

ويمكن أن يكون ذلك المانع هو لزوم عدم إمكان ترتّب الأثر لكلّ من الأصلين فيلزم لغويتهما.

وفي العروة في مسألة 42 فيما لو توضّأ وضوءين وصلّى بعد أحدهما فريضة وبعد الآخر نافلة ثمّ علم بالحدث بعد أحدهما ، ذكر أوّلاً أنّه يمكن جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواجبة وعدم معارضتها بجريانها في النافلة ، لأنّه لا يلزم من إجرائهما فيهما طرح تكليف منجّز ، إلاّ أنّ الأقوى عدم جريانها للعلم الاجمالي ، فيجب إعادة الواجبة ويستحبّ إعادة النافلة (1).

ولا يخفى أنّه بعد حصر المانع من جريان الأصلين بلزوم المخالفة القطعية غير اللازمة في هذه الصورة ، ينبغي أن يكون الحكم في هذا المسألة هو إجراء القاعدة في كلّ من الصلاتين ، ولا يكون هذا العلم الاجمالي مانعاً من جريانه فيهما إلاّعلى مسلك شيخنا قدس سره (2) من عدم جريان الأُصول الاحرازية في أطراف العلم الاجمالي بالخلاف ، وهو - أعني السيّد قدس سره - لا يقول بذلك كما يظهر ممّا أفاده في مسألة 2 (3) فراجع.

استطراد : ذكر شيخنا قدس سره في الوسيلة أنّه إذا علم بصدور حدث منه بعد أحد الوضوءين ، فهو بالنسبة إلى حاله الحاضر ممّن علم الحدث والطهارة وشكّ في المتأخّر منهما ، ويلزمه التطهّر - إلى قوله - ولو تعقّب كلّ منهما به ( يعني بما يشرع إعادته في الوقت وخارجه ) كانت القاعدة ( يعني قاعدة الفراغ ) متعارضة

ص: 554


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 451 - 452.
2- فوائد الأُصول 4 : 14 وما بعدها.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 299.

متساقطة الخ (1).

قد يقال : إنّه بعد سقوط قاعدة الفراغ في كلّ من الصلاتين يمكن الحكم بصحّة الصلاة الأُولى ، نظراً إلى أنّ استصحاب الطهارة بالوضوء الثاني إلى ما بعد الصلاة الثانية معارض باستصحاب الحدث المردّد بين كونه بعد الثاني وكونه قبله وبعد الأوّل ، وبعد سقوطهما يكون استصحاب الطهارة بالوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى بلا معارض ، ومقتضاه صحّة الصلاة الأُولى ، فلا يلزمه إلاّ إعادة الصلاة الثانية.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ لا وجه لتقدّم بعض هذه الأُصول على بعض في مقام المعارضة ، فإنّ استصحاب الطهارة من حين الوضوء الثاني إلى ما بعد الصلاة الثانية يعارض كلاً من استصحاب الحدث المجهول التاريخ إلى حين الصلاة الثانية ، ومن استصحاب الطهارة من حين الوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى ، وبهذا التعارض تسقط الأُصول الثلاثة بسقوط واحد ، ولا وجه لجعل المعارضة أوّلاً بين استصحاب الطهارة إلى الصلاة الثانية واستصحاب الحدث إليها ، ثمّ بقاء استصحاب الطهارة من حين الوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى وحده بلا معارض ، إذ ليس ذلك أولى من العكس ، أعني جعل المعارضة بين استصحابي الطهارة إلى حين الصلاة في كلّ من الصلاتين ثمّ بقاء استصحاب الحدث إلى حين الصلاة الثانية بلا معارض ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من كون هذه الأُصول الثلاثة متعارضة متساقطة بدرجة واحدة ، من دون تقدّم لأحدها على الآخر في مقام المعارضة.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا حاجة في الحكم بلزوم إعادة الصلاتين إلى

ص: 555


1- وسيلة النجاة : 16.

ارتكاب جعل المعارض لقاعدة الفراغ في الصلاة الثانية هو الحكم بصحّة الصلاة الأُولى المستند إلى كلّ من قاعدة الفراغ منها واستصحاب الطهارة إلى حينها ، نظير ما أفاده قدس سره في الاناءين اللذين يكون أحدهما مستصحب الطهارة والآخر مجرى لقاعدة الطهارة.

تنبيه : ينبغي التأمّل فيما حرّره الفقهاء ( رضوان اللّه عليهم ) في حكم الغرقى وأنّهم يتوارثون ، وأنّ الحكم فيهم بالتوارث ثبت على خلاف القاعدة ، فيقتصر على مورد النصّ ، وأمّا غيرهم فيحكمون فيهم بعدم التوارث ، وربما علّل ذلك بأنّه مقتضى تعارض الأُصول ، حيث إنّ استصحاب حياة الوارث كالابن إلى ما بعد موت المورّث كالأب معارض باستصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن ، فلا يحكم بإرث أحدهما من الآخر ، ويرجع ميراث كلّ منهما إلى وارثه الحي.

ونظراً إلى ما ذكروه من أنّ تعارض الأُصول وتساقطها منحصر بما إذا لزم من إجرائها في أطراف العلم الاجمالي المخالفة القطعية ، ينبغي أن يقال : إنّ مقتضى القاعدة هو التوارث ، حيث لا يلزم من استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب واستصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن مخالفة قطعية لتكليف معلوم بالاجمال.

نعم ، ربما يتّجه ذلك على مسلك شيخنا قدس سره من تعارض الأُصول الاحرازية وإن لم يلزم منها المخالفة العملية إن لم يخصّصه بما عرفت من العلم التفصيلي بالقدر الجامع لينحصر في مثل نجاسة الاناءين اللذين علم بطهارة أحدهما ، وإلاّ توجّه عليه الإشكال أيضاً.

ص: 556

لكن الذي يظهر من الجواهر (1) أنّ المانع من جريان الأُصول هنا هو أنّ الارث لا يكفي فيه مجرّد استصحاب حياة الوارث إلى ما بعد موت المورّث ، بل لابدّ من ثبوت البعدية أعني كون الحياة بعد الموت ، وذلك لا يثبته استصحاب الحياة.

ولكن يمكن المناقشة في ذلك أوّلاً : بانكار اعتبار هذا العنوان الزائد. وثانياً : بأنّه ليس بزائد على استصحاب الحياة إلى ما بعد موت المورّث ، بل هو عين بقاء المستصحب المذكور ، أعني الحياة إلى ما بعد موت المورّث ، فيكون الموضوع مركّباً من الاجتماع الزماني بين هذين العارضين لموضوعين ، أعني موت المورّث وبقاء حياة وارثه إلى ما بعد موته ، والعنوان الزائد الذي نقول إنّ الأصل مثبت بالقياس إليه إنّما هو اتّصاف حياة الوارث بكونها بعد موت المورّث ، أو اتّصاف موت المورّث بكونه قبل موت الوارث ، والظاهر عدم اعتبار أحدهما في تحقّق الارث ، ولتحرير هذه المسألة وتوضيحها ينبغي (2) أن نفرض لها مثالاً ثمّ نتكلّم فيها على ذلك المثال.

فنقول : إنّه لو مات الأب وابنه ، وكان للأب عشرة دنانير وكان للابن عشرة دراهم ، وكان وارث الأب لولا الابن منحصراً بإخوته ، وكان وارث الابن لولا الأب

ص: 557


1- جواهر الكلام 39 : 306.
2- ينبغي التأمّل فيما لو ولدت الحامل وكانت الولادة بعد موت الزوج ، وحصل الشكّ في تحقّق الحياة والاستهلال بعد الولادة بعد فرض كون الحمل حيّاً في بطن أُمّه قبل الولادة ، فهل يجري استصحاب الحياة إلى ما بعد الولادة ، أو لابدّ من إثبات الحياة والاستهلال بعد الولادة ولو بشهادة النساء والقوابل كما ذكروه في باب إرث الحمل. وهل المسألة من قبيل استصحاب حياة السمك إلى حين أخذه من الماء؟ [ منه قدس سره ].

منحصراً في إخوته من أُمّه ، فلو أجرينا استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب ، فهل يكون مقتضى هذا الاستصحاب منحصراً في الجزء الايجابي أعني كون الابن وارثاً لأبيه وانتقال الدنانير إليه ، أو أنّه كما يقتضي ذلك الجزء الايجابي يكون مقتضياً أيضاً للجزء السلبي أعني عدم كون الأب وارثاً للابن ، ويحكم على تلك الدراهم بعدم انتقالها من الابن إلى الأب ، ليكون مقتضى استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب هو أنّ كلاً من الدراهم والدنانير راجعة فعلاً إلى إخوة الابن من أُمّه ، كما أنّ ذلك هو مقتضى استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن ، فيكون مجموع المالين مردّداً فعلاً بين الرجوع إلى إخوة الأب والرجوع إلى إخوة الابن من أُمّه ، ويكون مجموع المالين مورداً لتعارض الأصلين ، لأنّ استصحاب حياة الأب حاكم برجوع مجموع المال إلى إخوته ، واستصحاب حياة الابن حاكم برجوع مجموع ذلك المال إلى إخوته من أُمّه ، وفي الحقيقة يكون الجزء الايجابي من كلّ منهما معارضاً للجزء السلبي من الآخر ، وبذلك يتحقّق التعارض بينهما وإن لم يكن الجزء الايجابي من كلّ منهما معارضاً بالجزء الايجابي من الآخر ، وكذلك الجزء السلبي من كلّ منهما.

والظاهر من هذين الاحتمالين هو الأوّل ، لأنّ استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب لا يترتّب عليه إلاّكونه وارثاً من أبيه تلك الدنانير ، ولا تعرّض له لعدم كون الأب وارثاً منه تلك الدراهم إلاّبالأصل المثبت ، ولأجل ذلك لو كانت المسألة من أخوين أحدهما أكبر من الآخر وكان للأكبر ولد ، ولم يكن للأصغر ولد وكان وارثه منحصراً بأخيه الأكبر المفروض موته معه ، مع عدم العلم بالمتقدّم منهما ، فإنّ استصحاب حياة الأخ الأصغر إلى ما بعد موت أخيه الأكبر لا يجري ، لأنّه لا يترتّب عليه وارثيته من أخيه الأكبر ، وعدم وارثية الأكبر من الأصغر ليست

ص: 558

من آثار بقاء حياة الأصغر إلى ما بعد موت الأكبر.

وبالجملة : في هذه المسألة لا يجري إلاّ استصحاب حياة الأكبر إلى ما بعد موت الأصغر ، فيحكم بأنّ الأكبر وارث للأصغر ، ولا يمكن أن يعارض ذلك في هذه الصورة باستصحاب حياة الأصغر إلى ما بعد موت الأكبر ، لأنّ هذا الأصل لا يترتّب عليه الحكم بعدم وارثية الأكبر للأصغر.

إذا عرفت ذلك تعرف أنّ مورد التنافي بين الأُصول فيما نحن فيه ليس هو مجموع الدراهم والدنانير ، بحيث يكون مقتضى استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن هو انتقال المجموع إلى إخوته ، ومقتضى استصحاب حياة الابن هو انتقاله إلى إخوته من أُمّه ، بل لا يترتّب على استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن إلاّوارثيته الدراهم من ابنه ، كما لا يترتّب على استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب إلاّوارثيته الدنانير من أبيه ، ويترتّب على الأوّل الحكم بانتقال الدراهم إلى إخوة الأب مع السكوت عن حكم الدنانير ، ويترتّب على الثاني الحكم بانتقال الدنانير إلى إخوة الابن مع السكوت عن حال الدراهم.

وبالجملة : أنّ مورد أحد الأصلين هو الدراهم ومورد الأصل الآخر هو الدنانير ، فلم يجتمع الأصلان والحكمان المتنافيان في موضوع واحد وهو مجموع المالين ، وإنّما كان مورد أحدهما هو الدراهم وكان مورد الآخر هو الدنانير ، فلا يكون التنافي بينهما إلاّمن جهة العلم الاجمالي بأنّ أحدهما خطأ مخالف للواقع ، من جهة أنّ لازم أحد الأصلين والحكمين المذكورين هو عدم صحّة الحكم الآخر الذي محصّله التفكيك بين اللوازم ، وليس ذلك بعزيز في الأُصول ولو كانت إحرازية حتّى على مسلك شيخنا قدس سره ، فإنّ مجرّد العلم الاجمالي بمخالفة أحد الأصلين الاحرازيين للواقع لا يوجب عنده تعارضهما وسقوطهما

ص: 559

إذا كان ذلك ناشئاً عن التفكيك بين اللوازم ، كما هو الشأن في جميع موارد الأُصول المثبتة ، وما نحن فيه منها ، لما عرفت من أنّ استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب لا يترتّب عليه إلاّ أثره الشرعي وهو كون الابن وارثاً للأب ، دون لازمه وهو عدم كون الأب وارثاً للابن ، وهكذا الحال من طرف الأب.

وبالجملة : لا يكون عنده هذان الأصلان إلاّكحال استصحاب الحياة واستصحاب عدم نبات اللحية في جريانهما معاً ، وعدم كون العلم الاجمالي بكون أحدهما مخالفاً للواقع مانعاً من جريانهما ، هذا على مسلك شيخنا قدس سره.

وأمّا على مسلك الجماعة من حصر المانع من جريان الأُصول بالمخالفة القطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، فالأمر في جريان هذين الأصلين أوضح ، إذ لا يلزم ذلك من جريان هذين الأصلين.

ودعوى أنّ الحكم بكون الدراهم لورثة الأب والدنانير لورثة الابن يشتمل على المخالفة العملية ، فإنّ السابق موته إن كان هو الأب كان المجموع لإخوة الابن ، وإن كان هو الابن كان المجموع لإخوة الأب ، وإن كانا متقارنين كانت الدنانير لإخوة الأب والدراهم لإخوة الابن ، فجعل الدراهم لاخوة الأب والدنانير لاخوة الابن مخالفة عملية للواقع المردّد بين الأُمور الثلاثة.

لا يخفى ما فيها ، فإنّها وإن كانت مخالفة عملية إلاّ أنّها مخالفة للواقع لا مخالفة عملية لتكليف إلزامي في البين.

ودعوى أنّا مكلّفون بإيصال كلّ من هذه الدراهم وهذه الدنانير إلى مالكها الواقعي ، وإذا عملنا بكلّ من هذين الأصلين نكون قد أوصلنا أحدهما إلى غير مالكه الواقعي.

ممنوعة عهدتها على مدّعيها ، وإنّما الذي يجب علينا هو إيصال المال إلى

ص: 560

من يكون مالكاً له ولو بحسب الحكم الظاهري الناشئ عن الأُصول أو الأمارات. ولكن هذا مخدوش بأنّه إذا كان الواجب علينا إيصال المال إلى مالكه الواقعي لم يمكننا الحكم فعلاً ولو بحسب الظاهر بكلّ من هذين الحكمين ، لأنّا نعلم بأنّ أحدهما إيصال إلى غير المالك الواقعي.

فالأولى بل المتعيّن أنّه لو ترافع الطرفان إلينا ولم يكن في البين يد ، وكان ورثة الأب يدّعون تأخّر موته وورثة الابن يدّعون تأخّر موته ، كان كلّ منهما منكراً لأنّ قول كلّ منهما على طبق الأصل ، فلابدّ من حسم المسألة بينهما في هذه الصورة بالتحليف أو البيّنة إن كانت ، أو الصلح القهري أو التنصيف في كلّ من الدراهم والدنانير أو القرعة ، ولا يمكننا الحكم الشرعي بوارثية كلّ منهما الآخر ، لما عرفت من أنّه موجب للمخالفة القطعية لما يجب علينا من إيصال الحقّ.

والأوجه أن يقال : إنّ المسألة تتكوّن من خصومتين : الأُولى الخصومة على الدنانير ، وفي هذه الخصومة يكون ورثة الابن منكرين وورثة الأب مدّعين ، فعلى ورثة الأب إقامة البيّنة على عدم بقاء الابن حيّاً بعد الأب ، وإلاّ توجّه الحلف على ورثة الابن وأنّه بقي حيّاً بعد الأب. والخصومة الثانية هي الخصومة على الدراهم ، ويكون الحال في هذه الخصومة على العكس من الأُولى ، وحيث لا بيّنة من الطرفين حلف ورثة الابن على بقاء حياته وأخذوا الدنانير ، وحلف ورثة الأب على بقاء حياته وأخذوا الدراهم ، ولكن يكون أحد الحكمين على خلاف الواقع ، فلو كان ذلك مانعاً من القضاء بما ذكر تعيّن القضاء بالصلح القهري أو الحكم بالتنصيف. وفيه تأمّل ، لأنّه موجب لخلاف الواقع أيضاً. هذا إذا كان في البين تداع وخصومة من الطرفين.

ولو لم يكن في البين ذلك ، بأن كان كلّ منهما جاهلاً بالحال بالنسبة إلى

ص: 561

التقدّم والتأخّر ، عرّفنا كلاً منهما ما يقتضيه حكمه الظاهري من وارثية مورّثه فيعمل كلّ منهما على طبق ما يجري في حقّه من الأصلين ، فورثة الأب يسلّمون الدنانير إلى ورثة الابن استناداً إلى استصحابهم حياة الابن ، ويأخذون منهم الدراهم استناداً إلى استصحابهم حياة الأب.

وهكذا الحال في ورثة الابن ، فإنّه يلزمهم تسليم الدراهم إلى ورثة الأب استناداً إلى استصحابهم حياته ، ولهم أخذ الدنانير استناداً إلى استصحابهم حياة الابن ، فيكون هذان الاستصحابان جاريين معاً في حقّ كلّ من الطرفين ، فليسا من قبيل واجدي المني ، لأنّ كلاً من واجدي المني يستصحب طهارة نفسه ، فالأصل الجاري في حقّ أحدهما غير الأصل الجاري في الآخر ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ كلاً من الطرفين فيما نحن فيه يجري كلاً من الأصلين من حيث الأخذ والاعطاء ، وعمل كلّ واحد من الطرفين بكلّ واحد من الأصلين لا يكون مشتملاً على المخالفة لتكليف إلزامي ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يعلم أنّ أحد الأمرين من جواز أخذه ولزوم دفعه مخالف للواقع ، فتأمّل إذ ليس المقام من قبيل دوران الأمر بين حرمة الدنانير أو حرمة الدراهم عليهم ، بل هي من قبيل الدوران بين حرمتهما معاً لهم أو حلّيتهما معاً لهم ، فلا يكون في لزوم دفعهم الدراهم وجواز أخذهم الدنانير مخالفة عملية لتكليف إلزامي متوجّه إلى ورثة الابن ، وهكذا الحال في ناحية ورثة الأب.

نعم ، إنّ كلاً من الطرفين يعلم بحرمة مجموع المال إمّا عليه أو على طرفه ، وإذا كان مقتضى الأصل هو حرمة أحد المالين عليه وحلّية الآخر له لا يكون في ذلك مخالفة عملية لتكليف إلزامي ، وإنّما أقصى ما فيه هو العلم الاجمالي بخطأ أحد الحكمين ومخالفته للواقع ، هذا إذا لم يكن في البين احتمال المقارنة.

ص: 562

ومنه يعلم الحال فيما إذا احتمل المقارنة مع احتمال تقدّم موت كلّ منهما ، فإنّ ورثة الأب حينئذ يعلمون إمّا بحرمة تمام المال عليهم أو كونه لهم وحرمته على ورثة الابن ، وإمّا ببقاء مال كلّ ميت على حاله فتكون الدنانير لورثة الأب والدراهم لورثة الابن ، ومقتضى الأصلين هو حرمة الدنانير عليهم وانتقال الدراهم إليهم ، وليس في ذلك إلاّ العلم بخطأ أحد الأصلين أو خطئهما معاً ، من دون أن يكون في البين مخالفة عملية لتكليف إلزامي. هذا كلّه مع قطع النظر عن شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان [ اليقين ] في مجهولي التاريخ ، وإلاّ سقط الأصلان وإن لم يكن بينهما التعارض ، وكان الحكم هو عدم التوارث ، فلاحظ وتدبّر.

وربما يناقش في جواز أخذ الدنانير لورثة الابن وتملّكهم لها ، فإنّ استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب وإن أثبت وارثية الابن للأب ، إلاّ أنّ ذلك بمجرّده لا يصحّح انتقال الدنانير إلى ورثة الابن إلاّباللازم ، لأنّ انتقالها إليهم متوقّف على كونها ممّا تركه الابن ، وذلك لا يثبت بمجرّد وارثية الابن ، وهكذا الحال في ورثة الأب بالنسبة إلى الدراهم.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ كون الدنانير ممّا تركه الابن يكفي فيه الحكم بأنّه مالك لها ، وذلك هو مقتضى استصحاب حياته.

والحاصل : أنّ ما تركه الميت يشمل جميع ما يملكه ولو بمقتضى الأصل والحكم الظاهري ، غايته أنّ انتقالها إليهم يكون حكماً ظاهرياً كالحكم بأنّ الابن ورثها من أبيه.

وأمّا الإشكال على استصحاب حياة الابن بأنّه لا يثبت به وارثيته من الأب لتوقّفها على إحراز حياته بعد أبيه ، ومجرّد استصحاب حياته إلى ما بعد موت أبيه

ص: 563

لا تثبته ، كما في الجواهر (1) ، ففيه : أنّ البعدية غير محتاج إليها في الحكم بالارث ، لأنّ موضوع الارث هو المركّب من موت الأب وحياة الابن ، وأحدهما وهو موت الأب محرز بالوجدان ، والآخر وهو حياة الابن محرز بالأصل ، وهما عرضان لموضوعين فيكفي فيهما الاجتماع في الزمان ، ولأجل ذلك يحكم بالارث لمن هو مجهول التاريخ فيما لو كان أحدهما معلوم التاريخ وكان الآخر مجهول التاريخ ، كما صرّح به في المستند (2) بل نقل عدم الخلاف فيه.

وقد حرّر هذه المسألة المرحوم السيّد في كتاب القضاء من ملحقات العروة في مسائل الخلاف في الارث ، وأشكل على قول المشهور بأنّ التوارث في الغرقى على خلاف القاعدة فراجع (3) ، وراجع الجواهر (4) في كتاب القضاء في مسألة التنازع في المواريث فيما لو ماتت الزوجة ومات ابنها ، وادّعى الزوج موت الابن بعد موت أُمّه ، وادّعى أخو الزوجة أنّه مات قبل أُمّه ، وراجع أيضاً كشف اللثام (5) في هذه المسألة ، تجدهم يصرّحون بجريان الاستصحاب فيما لو كان أحدهما معلوم التاريخ.

بل يرد النقض على اعتبار البعدية فيما لو كان الابن غائباً وقد مات أبوه الآن ولم يعلم ببقاء حياة الابن ، فإنّ مقتضاه عدم الحكم بأنّه وارث.

ص: 564


1- جواهر الكلام 39 : 306.
2- مستند الشيعة 19 : 452 / المسألة السابعة.
3- العروة الوثقى 6 : 679 - 680 / مسألة 16.
4- جواهر الكلام 40 : 513 / المسألة الرابعة.
5- لاحظ كشف اللثام 10 : 229.

[ فرع ](1) شخص له زوجة لها ولد من غيره ، ولهذه الزوجة إخوة ، ولولدها المذكور إخوة من أبيه ، فغرقت الزوجة وابنها المذكور ، ولكلّ منهما مال ، فما هو نصيب الزوج من زوجته ، هل هو الربع أو النصف؟

الجواب : مقتضى كون الحكم الشرعي في الغرقى والمهدوم عليهم هو التوارث بينهما ، هو استحقاق الزوج الربع ممّا كان من الأموال الأصلية لزوجته والنصف من الأموال التي انتقلت إليها من ابنها ، وذلك بأن نفرض تارةً موت الزوجة قبل ابنها وأُخرى نفرض موت ابنها قبلها ، ففي الفرض الأوّل يرثها ولدها وفي هذه المرحلة يكون للزوج الربع من الأموال الأصلية لزوجته والباقي لولدها ومنه ينتقل إلى اخوته من أبيه. وفي الفرض الثاني - أعني موت الولد قبل أُمّه - ينتقل ماله الأصلي إلى أُمّه وعن أُمّه ينتقل إلى ورثتها وهم زوجها وإخوتها ، فيكون للزوج النصف من ذلك والنصف الآخر الباقي إلى اخوتها.

والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين القول بأنّ توارث الغرقى والمهدوم عليهم على خلاف القاعدة استناداً إلى النصوص الحاكمة بالتوارث (2) ، والقول بأنّه على القاعدة استناداً إلى استصحاب الحياة في كلّ منهما إلى ما بعد موت الآخر.

أمّا الأوّل ، فلما عرفت من أنّ ذلك هو قضية التوارث بينهما ، فإنّ مقتضى التوارث بينهما هو انتقال الأموال الأصلية للزوجة إلى ولدها وزوجها ، وانتقال الأموال الأصلية للولد إلى أُمّه وعنها إلى ورثتها ومنهم زوجها ، الذي لازمه أو عينه كون استحقاق الزوج الربع في الجهة الأُولى لكونها فيها ذات ولد ، والنصف في الجهة الثانية لكونها فيها غير ذات ولد.

ص: 565


1- 8 / شعبان / 1370 [ منه قدس سره ].
2- وسائل الشيعة 26 : 307 / أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ب 1 وغيره.

وأمّا الثاني ، فلأنّ مقتضى استصحاب حياة الولد إلى ما بعد وفاة الأُمّ أنّه يرثها هو وزوجها ، فيكون للزوج الربع من متروكاتها. ومقتضى استصحاب حياتها إلى ما بعد وفاة الولد أنّها ترثه ، وعنها ينتقل ما ورثته منه إلى ورثتها وهم زوجها وإخوتها ، فيكون للزوج النصف من ذلك.

لا يقال : إنّ مجرّد استصحاب حياتها إلى ما بعد وفاة ولدها لا يترتّب عليه وارثية الزوج النصف منه وأنّها ماتت بلا ولد إلاّبالأصل المثبت ، فإنّ أقصى ما يفيده هذا الأصل هو كونها وارثة لولدها ليس إلاّ.

لأنّا نقول : إذا ثبت بذلك الأصل كونها وارثة لولدها وأنّها قد ملكت متروكاته وأمواله الأصلية ، كان ذلك - أعني مالكيتها في حياتها لما تركه ولدها - كافياً في الحكم بانتقاله منها إلى ورثتها وهم زوجها وإخوتها ، كما هو الحال في الجهة الأُولى والحكم بانتقال ما ملكه ولدها منها إلى ورثته بمجرّد استصحاب حياته إلى ما بعد وفاتها.

وأمّا الحكم بكون استحقاق زوجها النصف من ذلك لا الربع ، فقد يتأمّل فيه ، لأنّ استصحاب حياتها إلى ما بعد وفاة ولدها لا يثبت كونها ماتت بلا ولد إلاّ باعتبار الملازمة الاتّفاقية هنا ، وهي أنّها لا ولد لها غير هذا الولد المذكور.

ولكن يمكن دفعه بأنّه يكفي في استحقاقه النصف مجرّد الحكم بأنّها قد ملكت في حياتها ما تركه ولدها ، فإنّ هذا الحكم الثابت باستصحاب حياتها إلى ما بعد وفاة ولدها كاف في الحكم بانتقاله منها إلى ورثتها الموجودين بالوجدان ، وهم زوجها المقرون فعلاً بلا ولد منها وإخوتها ، وإلاّ سرى الإشكال في الحكم بانتقاله إلى إخوتها ، لأنّه لا ينتقل إليهم إلاّ إذا لم يكن لها ولد. وكذلك الحال في الجهة الأُولى ، وهي انتقال ما وصل الولد من أُمّه إلى إخوته ، فإنّه أيضاً يتوقّف

ص: 566

على أن لا تكون أُمّه موجودة عند موته.

لا يقال : إنّ استصحاب حياتها إلى ما بعد وفاة ولدها لا ينحصر أثره في انتقال ما تركه ولدها إليها ثمّ إلى ورثتها ، بل إنّه يؤثّر في انتقال متروكاتها الأصلية منها إلى زوجها وإخوتها ، وحينئذ يكون مقتضى الأصل الأوّل - وهو بقاء حياته إلى ما بعد وفاتها - هو انتقال متروكاتها الأصلية إلى ولدها ومنه إلى إخوته ، ومقتضى الأصل الثاني - وهو بقاء حياتها إلى ما بعد وفاة ولدها - هو انتقال تلك المتروكات الأصلية إلى زوجها وإخوتها ، وحينئذ يقع التعارض بين الأصلين فيسقطان.

لأنّا نقول : إنّ الأصل الثاني لا يقتضي انتقال متروكاتها الأصلية إلى إخوتها ، وإنّما أقصى ما فيه هو أنّها ترث ولدها وأنّها قد ملكت متروكاته في حياتها ، وقهراً ينتقل ذلك منها إلى ورثتها ، أمّا وصول متروكاتها الأصلية إلى إخوتها فهو لا يترتّب على بقاء حياتها إلى ما بعد ولدها إلاّباعتبار لازم ذلك ، وهو سقوط ولدها عن كونه وارثاً لها.

ومن ذلك كلّه يعرف الحكم فيما لم يكن الموت بسبب الغرق والهدم ، بل كان بسبب آخر كالقتل ، أو كان من محض الشكّ في المقدّم منهما بناءً على جريان الاستصحابين المذكورين ، لكن الأصحاب ( قدّست أسرارهم ) حكموا في مثل ذلك بعدم التوارث لعدم اعتنائهم بالاستصحاب المذكور ، فإن كان استنادهم في ذلك إلى أنّ التوارث يحتاج إلى إحراز القبلية والبعدية أو الحينية ، والاستصحاب المذكور لا يثبتها ، كما قالوا إنّ التوارث في الغرقى والمهدوم عليهم على خلاف القاعدة ، وحينئذ يكون النصّ الوارد بعدم التوارث في غيرهم

ص: 567

على القاعدة ، أعني بذلك ما ورد في قصّة موت أُمّ كلثوم وولدها زيد (1) ، وحينئذ يكون مقتضى ذلك في مسألتنا هو الحكم بأنّ الولد لا يرث أُمّه والأُمّ لا ترث ولدها ، وأنّ إرث كلّ واحد منهما يصل إلى الأحياء من ورثته ، فمتروكات الأُمّ إلى إخوتها وزوجها ، وللزوج النصف [ من ] ذلك ، ومتروكات الولد إلى إخوته من أبيه ، وليس للزوج شيء من ذلك إذ لا نصيب له فيها.

أمّا على ما عرفت من جريان الاستصحاب ، فإن اعتمدنا على النصّ الوارد في قصّة أُمّ كلثوم ، كان الحكم كذلك من انتقال متروكات الأُمّ نصفاً إلى زوجها ونصفاً إلى إخوتها ، وإن لم نعتمد عليه كان الحكم هو ما تقدّم من استحقاق الزوج الربع من متروكات زوجته الأصلية والنصف ممّا وصلها من متروكات ولدها ، فراجع كلمات القوم من الجواهر وغيرها ، وراجع ما علّقناه على أُصول شيخنا الأُستاذ قدس سره في تنبيهات الاستصحاب في البحث عن أصالة تأخّر الحادث والاستصحاب في الحادثين المجهولي التاريخ (2) ، وفي الخاتمة في البحث عن تعارض الأُصول (3).

وعلى أي حال ، الظاهر أنّ الحكم في المسألة الأُولى - وهي كون موت الأُمّ وولدها مستنداً إلى الغرق - هو ما ذكرناه من استحقاق الزوج الربع من المتروكات الأصلية لزوجته والنصف ممّا وصلها من متروكات ولدها ، لكن ربما يظهر من المحقّق الميرزا القمي قدس سره في جامع الشتات خلاف ذلك ، وهذا نصّ ما فيه :

ص: 568


1- وسائل الشيعة 26 : 314 / أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ب 5 ح 1.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 175 ومابعدها.
3- وهي هذه المباحث المذكورة هنا.

س : شخصى با زوجه خود ويك نفر أولاد در ميان خانه ودر ميان يك رخت خواب خوابيده بودند وشب خانه بر سر ايشان خراب شده وهر سه نفر در زير بام مانده ، زوج زنده بيرون آمده وزوجه وفرزند مرده ، الحال ورثه زوجه از زوج مزبور ادعاى وجه صداق زوجه مينمايد ، وزوج را سخن اينست كه بلكه مادر پيش از فرزند مرده باشد إرث بفرزند مى رسد واز فرزند به پدر مى رسد ، ووارث زوجه ميگويد بلكه فرزند پيش از مادر مرده باشد يا هر دو همراه مرده باشند حكم آن را بيان فرمائيد؟

ج : در صورت مزبوره كه معلوم نيست كه كدام پيش مرده ، هرگاه زوجه وارثى كه با فرزند تواند ميراث برد مثل پدر ومادر نداشته باشد ، ميراث او بالتمام از صداق وغير صداق الحال مال شوهر است ، چه آنچه نصيب خود شوهر است كه ربع است وچه آنچه از مادر به فرزند رسيده واز فرزند باو رسيده است ، بلى اگر آن فرزند هم مالى على حده از خود داشته بوده است وارث مادر بقدر حصه مادر از ميراث آن طفل كه از خود داشته مى طلبند واللّه العالم (1).

فإنّ ظاهر قوله « وارث مادر بقدر حصه مادر از ميراث آن طفل كه از خود داشته است مى طلبند » أنّ ميراث الأُمّ من ولدها يكون لورثتها ، ومقتضى المقابلة مع الزوج أنّه ليس للزوج فيه نصيب ، لكن قد عرفت أنّ له فيه النصف ، ولعلّ مراده من وارث الأُمّ شامل للزوج ، فتأمّل.

ولو غرقت الأُمّ وبنتها وتركت الأُمّ زوجاً وأُمّاً ولم يكن للبنت مال ، حكم بكون البنت وارثة للأُمّ الغريقة ، إمّا لمقتضى النصوص وإمّا لاستصحاب حياة الطفلة إلى حين موت أُمّها ، ولا يجري استصحاب حياة الأُمّ إلى ما بعد موت

ص: 569


1- جامع الشتات 2 : 593.

الطفلة لعدم الأثر له ، إذ لا مال للطفلة ، وحينئذ يكون للزوج الربع ممّا تركته زوجته ، ولأُمّها السدس منه ، وللطفلة النصف ويعود إلى الزوج الذي هو الأب ، فتكون الفريضة أوّلاً من اثني عشر ، ثلاثة منها للزوج واثنان للأُمّ وستة للطفلة ، ويبقى واحد يردّ عليها وعلى جدّتها أرباعاً على حسب نسبة ميراث إحداهما للأُخرى ، فربعه للجدّة وثلاثة أرباعه للطفلة ، فيكون الحاصل أنّ ما عدا ربع الزوج يقسّم أرباعاً ، ربع منه للجدّة وثلاثة أرباعه للطفلة ، فتصحّ من ستّة عشر ، ربعها أربعة للزوج ، والباقي اثنا عشر ، ربعه وهو ثلاثة للجدّة ، وثلاثة أرباعه وهو التسعة للبنت.

وكان مقتضى الحساب هو ضرب الاثني عشر في الأربعة ليكون الحاصل 48 ، نصفها 24 للبنت ، وربعها 12 للزوج ، وسدسها وهو 8 للجدّة ، يبقى أربعة ، واحد منها يردّ على الجدّة فيكون لها من ذلك 9 ، والثلاثة الأُخرى تردّ على البنت فيكون لها من ذلك 27 ، ونسبة هذه السبعة والعشرين إلى 48 كنسبة 9 للستّة عشر ، لكونها نصفاً ونصف ثمن ، كما أنّ نسبة 9 للأصل - وهو 48 - كنسبة 3 لستّة عشر في كونها ثمناً ونصف ثمن. واختصار الفريضة من 48 إلى 16 مأخوذ ممّا دلّت عليه الروايات (1) في من مات وترك أُمّه وبنته ، للابنة النصف ثلاثة أسهم وللأُمّ السدس ، ويقسّم المال على أربعة أسهم ، فما أصاب ثلاثة أسهم فللابنة ، وما أصاب سهماً فللأُمّ ( راجع الجواهر ومفتاح الكرامة ص 123 (2) ) (3).

ص: 570


1- وسائل الشيعة 26 : 128 / أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب 17 ح 1 وغيره.
2- جواهر الكلام 39 : 114 ، مفتاح الكرامة 17 : 202.
3- فإنّ قواعد حساب الفرائض أن تكون القسمة من 12 ، لأنّ أصل الفريضة ستّة ، يزيد فيها اثنان ، لا تقبل الردّ على حسب نسبة فريضة الأُمّ للبنت إلاّبفرضهما أربعة ، فنحتاج إلى ضرب اثنين في 6 ليكون الحاصل اثني عشر ، ليكون للأُمّ منها 3 و 9 للبنت ، فتأمّل فإنّ الأربعة يكون نصفها للبنت وهو اثنان وسدسها للأُمّ وهو أربعة أسداس عبارة عن الثلثين للأُمّ ، زاد واحد وثلث ، ومعلوم أنّ نسبة الثلثين أعني استحقاق [ الأُمّ ] إلى الاثنين أعني استحقاق البنت بالربع ، فإنّ الاثنين ستّة أثلاث ، أضف إليها ثلثين تكن ثمانية أثلاث ، فيكون ردّ ذلك الواحد والثلث على الأُمّ والبنت أرباعاً ، فيكون الثلث للأُمّ والواحد للبنت ، ويكون مجموع ما تستحقّه الأُمّ من الأربعة فرضاً وردّاً واحداً من أربعة ، ويكون مجموع ما تستحقّه البنت من الأربعة ثلاثة. وكذلك الحال في مسألتنا فإنّ للزوج من 16 أربعة وهي ربعها ، وللأُمّ السدس وهو اثنان وثلثان ، وللبنت النصف وهو ثمانية ، صار المجموع أربعة عشر وثلثين ، فقد زاد واحد وثلث ، يردّ الثلث على الأُمّ والواحد على البنت ، فيكون مجموع استحقاق الأُمّ فرضاً وردّاً ثلاثة ، ومجموع استحقاق [ البنت ] كذلك 9. وأساس المسألة أنّ السدس إذا جمعناه إلى النصف يكون السدس ربع المجموع ، ويكون الردّ بهذه النسبة ، فيكون ما يحصل لذات السدس فرضاً وردّاً إذا جمعناه مع ما يحصل لذات النصف فرضاً وردّاً ربع المجموع ، بحيث يكون لذات السدس الربع ولذات النصف ثلاثة أرباع. ومن الغريب أنّ صاحب المستند ذكر في صورة اجتماع أحد الأبوين مع الزوج والبنت أنّ الردّ يكون فيها أرباعاً ، قال : فتكون مقسومة على ثمانية وأربعين ، ذكر ذلك في المسألة الخامسة من البحث الثالث [ مستند الشيعة 19 : 183 ]. وأغرب من ذلك ما ذكره في المسألة الثانية من هذه المسائل فقال : الثانية إذا اجتمع أحد الأبوين مع بنت فله السدس ولها النصف ، والباقي يردّ عليهما أرباعاً ، فتكون التركة مقسومة على أربعة وعشرين الحاصلة من ضرب الأربعة في الستّة ، ربعها له وثلاثة أرباع لها ، والدليل على ذلك بعد الإجماع الأخبار المستفيضة [ مستند الشيعة 19 : 177 ]. ثمّ ذكر الأخبار ، وهي صريحة في قسمة المال على أربعة أسهم. ومع قطع النظر عن ذلك فكان ينبغي أن يقول : القسم من اثني عشر ، لأنّ الباقي اثنان فنضربهما في الستّة ، لأنّ المحتاج إلى التربيع هما الاثنان ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

ص: 571

وأمّا كون نصيب الزوج هو الربع لا النصف فهو واضح ممّا تقدّم في نظائره من أنّ استصحاب حياة البنت إلى ما بعد موت أُمّها يترتّب عليه أنّ الزوجة ماتت وهي ذات ولد ، بخلاف استصحاب حياة الأُمّ إلى ما بعد موت البنت فإنّه لا يترتّب عليها أنّها ماتت بلا ولد إلاّبالأصل المثبت ، فتأمّل.

قال المرحوم الميرزا القمي في جامع الشتات :

س : زيد وزوجه مدخوله اش مع ولدهما مهدوم عليهم گرديده اند ، وتقديم وتاخير موت هيچ يك معلوم نيست ، وتركه از زوجه وولدش معلوم نيست ، وزوج مذكور مالك مبلغى - إلى أن قال - ووارث زوج منحصر است در يك برادر ، ووارث زوجه منحصر است در دو همشيره ، تركه مذكوره را چه نحو بايد قسمت كرد الخ.

ج : ثمن تركه زيد از غير اراضى وآب تابع آن مال زوجه اوست ، واز او منتقل مى شود به دو همشيره او ، وبينهما على السوية قسمت ميشود اگر در يك مرتبه باشند ، وباقى مال ولد اوست ، واز او منتقل مى شود به يك نفر عم ودو نفر خاله او ، دو ثلث را به عم مى دهند ، ويك ثلث را بين دو خاله تقسيم ميكنند على السوية هرگاه در مرتبه واحده باشند ، وديگر فرزند ومادر از يكديگر ميراثى نمى برند به جهت اينكه ميراث مهدوم عليهم از صلب مال است نه از

ص: 572

آنچه بآنها رسيده از مال مهدوم عليه ديگر (1) ، انتهى محل الحاجة من الجواب.

قوله : « وديگر فرزند ومادر از يكديگر ميراث نمى برند » الخ ، الظاهر خلافه ، فإنّهم وإن قالوا يتوارثان في تالد المال لا طريفه ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما يرثه البعض من الآخر ، فإنّه لا يرجع إليه ، أمّا ما يرثه من غيره فإنّه يرث منه ، من دون فرق في ذلك بين كون المستند في التوارث هو الاستصحاب أو النصّ الدالّ على التوارث ، أمّا الأوّل فواضح ، لأنّا في هذه الصورة وإن حكمنا ببقاء حياة الأُمّ والولد إلى ما بعد موت الأب فورثاه ، إلاّ أنّه لمّا كان موت كلّ منهما غير معلوم التقدّم والتأخّر بالقياس إلى الآخر ، كان استصحاب حياة كلّ منهما إلى موت الآخر جارياً ، ومقتضاه وارثية كلّ منهما من الآخر ما كان قد ورثه من الأب. وأمّا الثاني فكذلك ، لأنّ حكم الشارع بالتوارث يجري فيما ورثاه من الأب. قال في مفتاح الكرامة في مثل هذه المسألة عند كون كلّ منهم ذا مال ، عندما تعرّض لما قيل من تقديم الأقوى أو تقديم الأضعف : لا يرث أحد من أحد من ماله الذي ورثه منه على المشهور ، نعم يرث ممّا ورثه من غيره (2) فراجعه.

أمّا قول صاحب الجواهر قدس سره في شرحه آخر مسألة الغرقى : فليس في شيء من الأدلّة تقديم أحدهما بالخصوص ، ولا ميراث الثاني ممّا ورثه الأوّل منه أو من غيره الخ (3). وكذلك قوله في النجاة : والمراد بالتوارث في الغرقى والمهدوم عليهم فرض كلّ منهما حياً بعد موت الآخر فيعطى إرثه ، نعم الأصحّ أنّه لا يورث الثاني

ص: 573


1- جامع الشتات 2 : 615.
2- مفتاح الكرامة 17 : 421.
3- جواهر الكلام 39 : 318 - 319.

ممّا ورثه منه أو من غيره الأوّل (1). وكذلك قول العلاّمة قدس سره في القواعد وهو أنّه : لو كان الغرقى أكثر من اثنين يتوارثون فالحكم كذلك ، يفرض موت أحدهم وتقسم تركته على الأحياء والأموات معه ، فما يصيب الحي يعطى وما يصيب الميّت معه تقسّم على ورثته الأحياء دون الأموات ، وهكذا يفرض موت كلّ واحد إلى أن تصير تركات جميعهم منقولة إلى الأحياء (2) ، فليس هو إلاّناظراً إلى أنّه لو كان لكلٍّ مال وكانوا أزيد من اثنين ، يكون وارثية كلّ منهم في عرض الآخر ، ولازمه أنّ كلّ واحد إنّما يرث من الآخر تركته الأصلية لا ما ورثه منه ولا ما ورثه من غيره ، فلا دخل لما هو المفروض في جامع الشتات من كون كلّ من الزوجة وولدها لا مال لهما وإنّما كان صاحب المال هو الزوج الميت معهما ، كما أنّه لا دخل له بما في مفتاح الكرامة من فرض تقديم الأضعف أو فرض تقديم الأقوى ، فراجع وتأمّل.

ولعلّ المستند فيما أفاده المحقّق القمي قدس سره من عدم التوارث بين الولد وأُمّه في الصورة المزبورة هو إطلاق ما عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام « في رجل سقط عليه وعلى امرأته بيت ، قال عليه السلام : تورث المرأة من الرجل ويورث الرجل من المرأة. معناه : يورث بعضهم من بعض من صلب أموالهم ، لا يورثون ممّا يورث بعضهم بعضاً شيئاً » (3).

لكن فيه أوّلاً : أنّ هذه الجملة الأخيرة لم يعلم كونها من الإمام عليه السلام ، بل يحتمل قريباً بقرينة قوله « معناه » الخ كونها من كلام الراوي كما أومأ إليه في

ص: 574


1- نجاة العباد : 569 / المسألة الرابعة عشر.
2- قواعد الأحكام 3 : 401.
3- وسائل الشيعة 26 : 310 / أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ب 3 ح 1.

الجواهر بقوله : وإن كان لم يعلم كون ذلك من الباقر عليه السلام الخ (1). وثانياً : أنّ ظاهره هو أنّ أحدهم لا يرث من صاحبه ما ورثه منه ، فلا دخل لذلك بما ورثه صاحبه من الشخص الثالث الذي مات معهما.

والمتعيّن هو ما أفاده في الجواهر والنجاة ، فإنّ الضابط هو أن نفرض موت كلّ واحد من الثلاثة وبقاء الاثنين ، ففي مسألة الزوج والزوجة وولدهما نفرض أوّلاً مثلاً موت [ الزوج ] وقد ورثه ابنه وزوجته ، ثمّ نفرض موت الابن وقد ورثه أبواه ، ثمّ نفرض موت الزوجة وقد ورثها زوجها وابنها ، كلّ ذلك استناداً إلى استصحاب حياة الباقين عند موت أحدهم ، ولازم ذلك هو كون الموروث من كلّ واحد لمن بقي هو ماله الأصلي ، دون ما يحصل له من هذه الواقعة ولو ما يرثه من الآخر ، ولعلّ في مرسلة حمران دلالة عليه ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : « في قوم غرقوا جميعاً أهل البيت ، قال : يورث هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ، ولا يورث هؤلاء ممّا ورثوا من هؤلاء شيئاً ، ولا يورث هؤلاء ممّا ورثوا من هؤلاء شيئاً » (2) وأمّا ما في مفتاح الكرامة فهو محتاج إلى مراجعة وتأمّل ، فراجعه وتأمّل.

قوله : وفي القسم الرابع لا يجريان لمكان قيام الدليل من الخارج على عدم صحّة الجمع بين الاستصحابين ، كما في تتميم الماء النجس كرّاً بماء طاهر ، فإنّه لولا قيام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين المختلطين لكانت القاعدة تقتضي بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ... الخ (3).

لا يخفى أنّه في مسألة المتمِّم والمتمَّم قولان ، أوّلهما الحكم بنجاسة

ص: 575


1- جواهر الكلام 39 : 314.
2- وسائل الشيعة 26 : 311 / أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ب 3 ح 2.
3- فوائد الأُصول 4 : 697.

المجموع ، والثاني الحكم بطهارة المجموع ، بدعوى أنّ مثل قولهم عليهم السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثاً » (1) مسوق للأعمّ من الحدوث والبقاء ، وحينئذ نقول : إنّه مع قطع النظر عن دليل القول الأوّل وعن دليل القول الثاني نقول إنّ مقتضى الاستصحاب هو بقاء النجس على نجاسته والطاهر على طهارته ، فيكون الأصل الأوّل في قبال القول الثاني والأصل الثاني في قبال القول الأوّل.

لكن على الظاهر أنّه لا أثر لهذين الأصلين بالقياس إلى المجموع المختلط من المتمِّم والمتمَّم ، إذ لا يمكن الحكم بأنّه لا ينجس ملاقيه ، لفرض أنّ جزءاً منه مستصحب النجاسة ، كما أنّه لأجل ذلك لا يمكن الحكم بأنّه مطهّر للنجس مثلاً ، فيكون ذلك راجعاً إلى القول الأوّل. نعم لو لم يكن في البين خلط ، ولم يقع إلاّ اتّصال أحد الماءين بالآخر مع تمايز الماءين ، لكان أثر الاستصحابين ظاهراً.

وعلى كلّ حال ، فقد أفاد شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه أنّ المرجع بعد تعارض الاستصحابين في المتمِّم والمتمَّم هو قاعدة الطهارة في مجموع الماء ، لا في خصوص المتمِّم المفروض كونه قبل الخلط طاهراً ، أمّا أوّلاً : فلما تقدّم في قاعدة الاشتغال من أنّ الأصل المحكوم في أحد الطرفين لا يمكن الرجوع إليه بعد سقوط الحاكم بالمعارضة ، لأنّ المحكوم والحاكم معاً معارضان بالأصل في الطرف الآخر. وأمّا ثانياً : فلأنّه مع الغضّ عن هذا تكون قاعدة الطهارة في المتمِّم معارضة لها في المتمَّم ، نعم قاعدة الطهارة في مجموع الماءين لا يرد عليها شيء من هذين الإشكالين.

ثمّ إنّه قدس سره أفاد أنّ الشكّ في مسألة المتمِّم والمتمَّم والرجوع إلى الأُصول المذكورة فيها إنّما هو فرض محض ، وإلاّ فالتحقيق أنّ الماء المذكور محكوم

ص: 576


1- مستدرك الوسائل 1 : 198 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 6.

بالنجاسة ، لأنّ مرتبة الملاقاة سابقة على مرتبة الكرّية ، فيكون محكوماً بالانفعال قبل الوصول إلى مرتبة الكرّية والعاصمية.

قلت : وتوضيح ذلك هو أنّ إلقاء الماء المتنجّس في الماء القليل الطاهر يكون علّة في أمرين ، أحدهما نجاسته والآخر صيرورته كرّاً ، فتكون الكرّية واقعة في مرتبة النجاسة ، فلا يعقل كونها عاصمة ، إذ لابدّ في العاصمية من النجاسة ومانعيتها من تأثير المقتضي - الذي هو الملاقاة - من كونها سابقة في الرتبة على النجاسة التي هي أثر الملاقاة ، وإن كانت متّحدة معها زماناً.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو وقعت النجاسة والكرّية في آن واحد ، فإنّ وقوع هذا النجس ووقوع ذلك المتمِّم في رتبة واحدة ، ومعلول الأوّل هو التنجيس ومعلول الثاني هو الكرّية والعاصمية ، فكما أنّ المتمِّم قد وقع على القليل فأوجب كونه كرّاً ، فكذلك هذا النجس قد وقع على القليل فأوجب نجاسته فكانت النجاسة في رتبة الكرّية ، فلا يعقل كونها مانعة منها.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الشيخ محمّد علي فيما نقله عن شيخنا قدس سره من قوله : هو أنّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرّية ولو آناً ما الخ (1) ، فإنّه قد ظهر لك أنّه لا حاجة إلى دعوى السبق الزماني ، بل المعتبر إنّما هو السبق الرتبي كما حقّقه شيخنا قدس سره (2) في مسألة الترتّب من أنّ الشرط والموضوع لا يعقل فيهما التقدّم والتأخّر الزماني ، فراجع وتأمّل.

والخلاصة : أنّ معلول الملاقاة التي هي الكرّية لا يعقل أن تكون مانعة من

ص: 577


1- فوائد الأُصول 4 : 528.
2- راجع أجود التقريرات 2 : 59 وما بعدها / المقدّمة الثالثة. وراجع أيضاً فوائدالأُصول1- 2 : 341.

تأثير علّتها المذكورة كما في مسألة المتمّم بالنجس ، ولا يعقل أيضاً أن يكون ما هو المعلول لإحدى العلّتين مانعاً من تأثير العلّة الأُخرى التي هي مقارنة لها في الرتبة ، كما في صورة تحقّق الكرّية والملاقاة في آن واحد ، لكن في هذا الأخير إشكال ، وهو أنّ تقارن العلّتين في الزمان لا يوجب اتّحادهما في الرتبة ، وحينئذ يمكن أن يكون معلول أحدهما وهو الكرّية مانعاً من تأثير العلّة الأُخرى وهي ملاقاة النجاسة.

ومنه تظهر الخدشة في الصورة الأُولى وهي مسألة المتمِّم والمتمَّم ، فإنّ إلقاء الماء النجس في الماء القليل على وحدته لا يعقل أن يؤثّر في معلولين وهما الكرّية والنجاسة ، بل لابدّ من إرجاعه إلى علّتين إحداهما كونه ماء والأُخرى كونه نجساً ، فبالجهة الأُولى يؤثّر في تحقّق الكرّية ، وبالجهة الثانية يؤثّر في تحقّق النجاسة ، واجتماع هاتين الجهتين لا يكون موجباً لاتّحادهما في الرتبة ، بل لا يكون ذلك إلاّمن قبيل الاجتماع في الزمان ، فلا مانع من أن يكون أثر الجهة الأُولى مانعاً من تأثير الجهة الثانية.

وحينئذ ينحصر الأمر بالرجوع إلى ظاهر الأدلّة ، والمستفاد من مجموعها هو أنّ ملاقاة النجاسة للماء القليل موضوع للحكم بنجاسته ، وملاقاة النجاسة للكرّ موضوع للحكم بطهارته وعدم نجاسته ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ الملاقاة وقعت على القليل فيتحقّق موضوع النجاسة فينجس الماء المذكور ، ولم تقع النجاسة على الكرّ ليكون موضوع الطهارة متحقّقاً ، والكرّية وإن قلنا بأنّها مانعة من تأثير الملاقاة ، إلاّ أنّ الظاهر من الأدلّة هو كون المانعية هي ملاقاة النجاسة للكرّ ، والمفروض في كلتا الصورتين أنّ الملاقاة لم تقع على الكرّ وإنّما وقعت على القليل ، فتأمّل جيّداً.

ص: 578

ولو وقعت النجاسة والنقصان عن الكرّية في آن واحد ، فالظاهر ممّا تقدّم هو الحكم بالطهارة في هذه الصورة ، لوقوع النجاسة على الكرّ وإن صادفت النقصان في آن وقوعها.

والخلاصة : هي أنّا لو أردنا في استصحاب نجاسة المتمّم واستصحاب طهارة المتمّم إثبات نجاسة الماء الواحد وطهارته فذلك بديهي البطلان ، لكونه موجباً للتناقض الموجب للتعارض والتساقط ، ولا يحتاج إلى الإجماع. ولو فرضنا أنّا نريد طهارة تلك الذرّات المختلطة ونجاسة الذرّات الأُخرى ، فذلك أيضاً باطل ، لما عرفت من عدم الأثر لطهارة تلك الذرّات المختلطة مع تلك الذرّات النجسة ، إذ لا يمكن استعمالها في شيء من التطهير والشرب ونحوهما. ولو لم يكن في البين اختلاط وكان من قبيل مجرّد الاتّصال ، لقلنا إنّ ذلك الاتّصال يولّد الكرّية في المجموع في عرض توليده لنجاسة ما كان طاهراً منهما ، وحينئذ ففي المرتبة الثانية لو قلنا بالقول الأوّل وهو اعتبار عروض الملاقاة بعد الكرّية فلا إشكال في نجاسة الجميع ، وإن قلنا بالقول الثاني وهو كون طروّ الكرّية رافعاً ودافعاً للنجاسة ، لزمنا الحكم بطهارة الجميع ، وإن تردّدنا بين القولين لزمنا الحكم بنجاسة الجميع ، أمّا النجس سابقاً فواضح ، وأمّا هذا الطاهر الذي كانت الملاقاة علّة في نجاسته فلأنّ نجاسته قد تحقّقت بتحقّق علّتها ، ولم يعلم كون تلك التي هي في عرض نجاسته رافعة لها ، لأنّها إنّما تكون كذلك على القول الثاني ، والمفروض أنّا شاكّون فيه ، فيكون المستصحب هو نجاسة ذلك الذي كان طاهراً - أعني النجاسة الحادثة بالملاقاة - ونجاسة ذلك الذي كان نجساً ، لعدم العلم بارتفاع النجاستين ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 579

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

خاتمة الاستصحاب في بيان أُمور...

الأمر الأوّل : اعتبار اتّحاد متعلّق الشكّ مع متعلّق اليقين... 3

تحقيق جريان الاستصحاب في المحمولات الأوّلية والمحمولات المترتّبة... 4

معنى أخذ الموضوع من العرف دون العقل أو لسان الدليل... 48

الشكّ في الغاية والرافع بالنسبة إلى الحكم أو الموضوع... 57

كون المراد بالرافع في المقام ما يقابل المانع لا ما يقابل المقتضي... 60

المناقشة في تقسيم الرافع إلى قسمين... 64

أنحاء الشكّ في بقاء الحكم ووقفة مع الشيخ الأنصاري قدس سره في المقام... 67

التعليق على تقسيم الشيخ قدس سره الشبهة إلى المفهومية والصدقية والمصداقية وتعيين مرجعية العرف في ذلك 77

مرجعية العرف في تشخيص مقوّم الموضوع عن غيره ومناقشة الحلّي قدس سره في ذلك... 86

الأمر الثاني : حول شمول أخبار الباب لقاعدة اليقين... 103

مناقشة المصنّف للمحقّق النائيني قدس سرهما في الفرق بين القاعدة والاستصحاب... 104

ص: 580

الأولى في بيان كيفية عدم شمول الروايات لقاعدة اليقين... 110

نقد كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام... 111

الأمر الثالث : حول تقدّم الأمارات على الأُصول ومنها الاستصحاب... 124

توضيحات وتعليقات على كلام أُستاذه قدس سرهما في المقام... 124

الأُمور التي وقع الخلاف في أنّها من الأمارات أو من الأُصول...

1 - قاعدة اليد... 134

حول إثبات يد الكافر الملكية ولو في اللحوم والجلود... 134

المناقشة في دلالة السيرة على كون اليد أمارة... 137

اختصاص أمارية اليد على الملك باليد الاستقلالية... 138

مناقشة المصنّف للمحقّق الأصفهاني قدس سرهما في المقام... 142

وجه تقدّم استصحاب حال اليد على نفس اليد فيما إذا علم أنّها يد غصبية أو أمانية 146

حكم السجلاّت وأوراق الاجارة وإقرار ذي اليد المثبتة لملكية الغير سابقاً... 153

عدم اعتبار اليد على ما كان وقفاً واحتمل نقله بمسوّغ شرعي... 157

توجيه تقدّم اليد المجهولة الحال على الاستصحاب... 169

حكم ما لو كانت اليد مسبوقة بيد أُخرى... 171

الكلام في إقرار ذي اليد بالملكية السابقة لشخص آخر والبحث عن انقلاب الدعوى 173

حول لزوم ضمّ دعوى الانتقال إلى إقرار ذي اليد بملكية الغير... 180

توقّف الانقلاب على التخاصم... 183

الكلام في التهافت بين ضابطي المدّعي والمنكر... 185

ص: 581

تحقيق مفصّل مع نقل أقوال الفقهاء في مسألة تعدّد الأيدي على شيء واحد... 186

الكلام فيما لو أقرّ ذو اليد بكون العين لأحد المدّعيين... 220

بحث رشيق حول قضية فدك بين دعوى الإرث والنحلة... 226

2 - قاعدة الفراغ والتجاوز... 245

حول أمارية القاعدة وتقدّمها على الاستصحاب... 245

المباحث الفقهية السبعة في المقام :...

1 - الكلام في اتّحاد قاعدتي الفراغ والتجاوز... 259

ذكر الأخبار الواردة في المقام وتعيين أنّها تفيد قاعدة أو قاعدتين... 267

ذكر الإشكالات الواردة على القول باتّحاد القاعدتين... 291

2 - الكلام في اعتبار الدخول في الغير في اجراء القاعدة... 304

تنبيه : حول حكومة قاعدة التجاوز على الفراغ بناءً على تعدّد القاعدتين... 312

جريان القاعدة في الشكّ في التسليم... 315

الشكّ في المسح قبل جفاف الأعضاء... 329

3 - الكلام في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ... 330

4 - الكلام في جريان القاعدة في المقدّمات وجزء الجزء... 336

5 - في جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشرائط... 364

6 - اعتبار الالتفات حين العمل في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز... 401

ذكر تطبيقات وأمثلة للمقام... 404

7 - عدم جريان قاعدة الفراغ والتجاوز مع احتمال الترك عمداً... 422

3 - الكلام في أصالة الصحّة... 443

التنبيه على أُمور في المقام...

ص: 582

1 - بناء العقلاء وسيرة المسلمين على العمل بأصالة الصحّة... 443

2 - الكلام في حكومة أصالة الصحّة في العقود على الأُصول الموضوعية فيها... 444

3 - المراد من الصحّة في أصالة الصحّة... 453

4 - اشتراط جريان أصالة الصحّة باحراز صدور العمل بعنوانه... 465

5 - الكلام في حجّية مثبتات أصالة الصحّة... 471

6 - هل تجري أصالة الصحّة مع وجود أصل موضوعي غير أصالة الفساد... 491

في تعارض الاستصحابين... 518

حكومة الأصل السببي على المسبّبي مع توفّر الشروط... 518

حول المصلحة السلوكية واندراج الأمارتين المتعارضين معها في التزاحم... 525

الكلام في تعارض الأُصول العملية وصغرويتها لباب التزاحم... 530

مانعية العلم الاجمالي لجريان الأُصول في الأطراف... 536

حكم ما لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول... 539

الكلام في ما ذكره النائيني قدس سره من ضابط تعارض الأُصول الاحرازية في أطراف العلم الاجمالي 543

استطراد : إذا علم بصدور حدث منه بعد أحد الوضوءين... 554

تنبيه : الكلام في توارث الغرقى... 556

فرع : في من ماتت زوجته مع ولدها ، فاختلف في إرث الزوج وإخوة الزوجة... 565

حكم المتمِّم والمتمَّم من حيث جريان الأُصول... 575

فهرس الموضوعات... 580

ص: 583

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.