أصول الفقه المجلد 10

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1432 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-83-6

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء العاشر

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 6-83-5213-600-978/ج10

ISBN 978-600-5213-83-6/VOL 10

الكتاب: أصول الفقه ج 10

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1432 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ الاستصحاب التعليقي ]

قوله : الأمر الثاني : الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام كالحنطة والعنب والحطب ونحو ذلك من العناوين ، تارةً يستفاد من نفس الدليل أو من الخارج أنّ لها دخلاً ... الخ (1).

أفاد حسبما حرّرته عنه قدس سره أنّ الحالات اللاحقة للموضوع إمّا أن تكون مغيّرة للحقيقة ، كما في مثل صيرورة الكلب ملحاً ، وإمّا أن تكون موجبة لارتفاع التسمية عرفاً ، كما في مثل العنب إذا صار زبيباً والخشب إذا صار فحماً ، وإمّا أن لا تكون موجبة لهذا ولا لذاك ، كما في الحنطة إذا صارت دقيقاً مثلاً.

أمّا التغيير الموجب لتغيّر الحقيقة ، فلا شبهة في عدم لحوق الحكم المجعول لتلك الحقيقة إذا طرأها مثل هذا التغيير ، فالكلب إذا صار ملحاً لا تلحقه الأحكام المجعولة للكلب.

وأمّا الحالة التي لا يكون التغيير إليها موجباً لاختلاف الاسم والعنوان ، فلا شبهة في سراية الحكم إلى ما تغيّر منها ، فإنّ الحلّية اللاحقة للحنطة لاحقة لها بجميع حالاتها الطارئة عليها ، من كونها دقيقاً أو عجيناً أو خبزاً ونحو ذلك من الحالات.

وأمّا الحالة المغيّرة للاسم دون الحقيقة ، فإن فهم من لسان الدليل ولو بواسطة القرائن الخارجية - ومنها مناسبة الحكم والموضوع - كون الحكم معلّقاً

ص: 3


1- فوائد الأُصول 4 : 458.

على نفس الحقيقة ، كان الحكم سارياً إليها ، وإن فهم من لسان الدليل أنّ الحكم معلّق على الاسم والعنوان لم يكن الحكم سارياً إليها ، ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو الاستصحاب إن كانت القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة عرفاً ، فإنّ الاتّحاد العرفي بين القضيتين أمر آخر غير ما يفهم عرفاً من لسان الدليل ، لما سيأتي في محلّه (1) إن شاء اللّه تعالى من أنّ المدار في الاتّحاد العرفي على ما يفهمه العرف من تحقّق النقض وعدمه ، لا على ما يفهمه العرف من لسان الدليل ، فإنّ التوسعة العرفية المأخوذة من لسان الدليل لا تحتاج إلى الاستصحاب.

ولكن سيأتي إن شاء اللّه في خاتمة الاستصحاب أنّ الاستصحاب لا يجري في ذلك ، وأنّ هذه الموارد ليست ممّا يدخلها التسامح العرفي ، فراجعه.

وينبغي التأمّل فيما أُفيد بقوله : وأُخرى يستفاد من الدليل أو من الخارج أنّه ليس للوصف العنواني دخل في الحكم ، بل الحكم مترتّب على نفس الحقيقة والذات الخ (2) ، فيقال بعد الفراغ عن عدم مدخلية ذلك العنوان في موضوع الحكم : لا يعقل أخذه فيه إلاّمن جهة كونه علّة للحكم ، فلو شكّ في بقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك العنوان ، لا يكون إلاّمن جهة الشكّ في أنّ تلك العلّة هل محدثة أو مبقية ، ومعه يتمّ الاستصحاب مع فرض وحدة الموضوع وحدة عقلية.

نعم ، كما يمكن أن يستفاد من الدليل العلّية فيتمّ الاستصحاب ، فكذلك يمكن أن يستفاد منه كون تلك الحالة وذلك العنوان ظرفاً للحكم ، وبعد انقضاء

ص: 4


1- فرائد الأُصول 4 : 580 وما بعدها. وللمصنّف قدس سره حواشٍ على هذا المطلب ، فراجع حاشيته قدس سره الآتية في المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 86 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 458.

ذلك الظرف نشكّ في بقاء الحكم ، وتكون الوحدة حينئذ عقلية أيضاً.

أمّا مع الشكّ في اعتبار ذلك العنوان المفقود في موضوع الحكم وعدم اعتباره ، فلا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب لعدم إحراز [ الموضوع ] فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع المشكوكة ، والتسامح العرفي لا ينفع في مثل ذلك كما حرّرناه في خاتمة الاستصحاب ، فراجع.

قوله : ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئي لا يتصوّر إلاّ إذا عرض لموضوعه الخارجي ما يشكّ في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه. وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّي فهو يتصوّر على أحد وجوه ثلاثة : الأوّل الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ ... الخ (1).

الظاهر أنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّي المجعول إنشاءً من جانب الشارع منحصر في الشكّ في نسخه ، بحيث إنّه لو لم يجر الاستصحاب لكان الحكم الكلّي بتمامه مرتفعاً ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه لو لم يجر لم يكن المرتفع إلاّحكم هذا المفروض الوجود. والحاصل أنّه بعد فعلية الحكم ولو فرضاً ، وحصول الشكّ في بقائه من جهة الطوارئ والعواض كما في مثل زوال التغيّر ، فالمستصحب فيه لا يكون إلاّذلك الحكم الشخصي المتحقّق بتحقّق موضوعه.

والفرق بين هذا وبين ما ذكره أوّلاً هو أنّ ما ذكره أوّلاً محقّق الشخصية لتحقّق موضوعه خارجاً ، وهذا لا يكون إلاّبفرض الشخصية ، نعم ربما يكون الشكّ في بقائه على نحو الشبهة الحكمية ، كما في مثل زوال التغيّر ، وكما في موارد الشكّ في رافعية الموجود ، وأُخرى يكون على نحو الشبهة الموضوعية ، كما في موارد الشكّ في حدوث الرافع بعد الفراغ عن رافعيته.

ص: 5


1- فوائد الأُصول 4 : 460 - 461.

ثمّ لا يخفى أنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئي قد يكون من جهة الشكّ في النسخ ، وقد يكون من جهة الشكّ في الرافع ، وقد يكون من جهة الشكّ في رافعية الموجود وكذا من حيث الغاية. وأمّا ما أفاد من جهة الشكّ في عارض عرض لموضوعه ، فهو محلّ الإشكال من حيث وحدة الموضوع ، وهو داخل في القسم الثاني الذي ذكره لاستصحاب الحكم الكلّي ، في مقابل القسم الأوّل الذي يكون منشأ الشكّ فيه هو النسخ ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الذي ينبغي أوّلاً هو إخراج الشكّ في النسخ ، ثمّ إخراج الشكّ في الغاية والرافع ، سواء كانا على نحو الشبهة الموضوعية أو كانا على نحو الشبهة الحكمية. وفي كلّ منهما لا يكون المستصحب إلاّ الحكم الفعلي الشخصي ، غايته أنّ مجري الاستصحاب في الشبهة الموضوعية هو المقلّد ، وفي الشبهة الحكمية هو المجتهد.

واعلم أنّ الشكّ في رافعية الموجود وغائية الموجود كما يتصوّر فيه الشبهة الحكمية ، فكذلك يتصوّر فيه الشبهة الموضوعية ، بأن يتردّد في الظلام الموجود هل هو ليل أو هو من جهة الغيم ، أو يتردّد في البلل الخارج بين البول والمذي.

ثمّ بعد إخراج هذه الأقسام ، ينحصر استصحاب الحكم بموارد الشكّ في بقائه لأجل تبدّل حالة من حالات الموضوع التي يحتمل مدخليتها ، فيجري الاستصحاب بعد الفراغ عن التسامح العرفي ، إمّا بدعوى كون الجهة الزائلة بنظر العرف من الحالات ، أو بدعوى كونها بنظرهم من قبيل العلّة لا الموضوع ، على التفصيل الذي مرّ بعضه (1) ويأتي في خاتمة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

وعلى أيّ حال ، لا يكون المستصحب إلاّ الحكم الجزئي الفعلي المتحقّق

ص: 6


1- في الحاشية السابقة.

بتحقّق موضوعه ، مثلاً : الماء طاهر لكنّه ينجس عند تغيّره بالنجاسة ، فإذا زال تغيّره هل تبقى نجاسته أو تزول.

فتارةً ننظر إلى الحكم الكلّي - أعني النجاسة الكلّية التي جعلها الشارع للماء المتغيّر - فنقول : نحن عالمون بأنّ كلّي الماء الموصوف بالتغيّر مع فرض بقاء تغيّره هو محكوم بأنّه نجس ، وهناك كلّي آخر في قبال هذا الكلّي وهو الماء الكلّي المتغيّر الذي زال تغيّره ، ولا محصّل لسحب النجاسة الكلّية من ذلك الكلّي إلى هذا الكلّي ، لما هو واضح من تباين الكلّيات ، ولا محصّل للتسامح العرفي في عالم الكلّيات بعضها مع بعض ، وحينئذ فلابدّ من فرض ماء خارجي قد تغيّر خارجاً بالنجاسة فوجد فيه الحكم ، ثمّ بعد أن وجد فيه الحكم زال ذلك القيد منه وهو التغيّر ، فهل يبقى له ذلك الحكم - أعني حكم النجاسة - أم يزول بزوال التغيير ، وحينئذ لا يكون المستصحب إلاّجزئياً خارجياً على جزئي خارجي ، غايته أنّ ذلك كلّه فرض ، لكن هذا الفرض لا يخرجه عن كون المفروض جزئياً ، وليس المستصحب إلاّذلك المفروض ، نعم إنّه لا يكون إلاّبنحو الشبهة الحكمية ، هذا كلّه فيما لو طرأ زوال القيد بعد تحقق الحكم وفعليته خارجاً.

أمّا عكس ذلك وهو جعل فعلية الحكم بعد زوال القيد ، بأن يكون زوال القيد قبل فعلية ذلك الحكم لكون الحكم مشروطاً بشرط آخر لم يحصل بعد ، وقبل حصوله وقع زوال القيد ثمّ حصل شرط الحكم بعد زوال القيد ، فالحكم حين وجود القيد لم يكن فعلياً كي نسحبه إلى ما بعد زوال القيد ، وهذا هو محلّ الكلام المعقود له هذا التنبيه ، أعني استصحاب الحكم التعليقي.

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره جرى في المقام على طريقته ، وهي إرجاع الشرط إلى الموضوع ، فكثر الإنكار عليه بما حاصله : أنّهما وإن كانا بمآل واحد ، إلاّ أنّ

ص: 7

هناك آثاراً تترتّب على أخذه في لسان الدليل موضوعاً للقضية الحملية ، أو أخذه شرطاً في حمل الحكم على الذات ، وليس كلّ ما يؤول إلى شيء لبّاً يكون حكمُه حكمَه ، هذا.

ولكن لنقل إنّه شرط وليس براجع إلى الموضوع ، ولكن هل يتحقّق المشروط قبل حصول شرطه ليتسنّى لنا أن نقول : إنّ العنب قبل غليانه كان حراماً والآن بعد أن تبدّل إلى الزبيبية نشكّ في بقاء تلك الحرمة العارضة عليه فنحكم ببقائها ، كلاّ ثمّ كلاّ.

ولأجل ذلك التجأ بعضهم إلى دعوى أنّ الشرط ليس هو وجود الغليان خارجاً ، وإلاّ لكان موجباً لتخلّف المجعول عن الجعل ، فلابدّ أن نقول : إنّ الشرط هو وجود الغليان لحاظاً. وبعبارة أُخرى : أنّ المجعول هو الحرمة الملحوظ بها الغليان ، وهذه متحقّقة قبل الغليان ، غايتها أنّها لا تكون فعلية إلاّبعد الغليان ، وهذا - أعني عدم فعليتها قبل الغليان - لا يضرّ بما نحن بصدده من اتّصاف العنب بالحرمة الملحوظ بها الغليان ، وهذا المقدار من الاتّصاف كافٍ في صحّة الاستصحاب.

وفيه : ما لا يخفى. أمّا حديث تخلّف المجعول عن الجعل ، فقد تعرّض له في الكفاية وأجاب عنه بأنّ المجعول لمّا كان هو الحرمة على تقدير الغليان ، لم يكن ذلك من التخلّف ، بل كان وجود الحرمة فعلاً تخلّفاً لما أنشأه وجعله ، فراجع ما ذكره في الواجب المعلّق (1).

وأمّا التعلّق بكون الشرط هو الشيء بوجوده اللحاظي لا بوجوده

ص: 8


1- الظاهر أنّه في بحث الواجب المشروط فراجع كفاية الأُصول : 97.

الخارجي ، فقد تعرّض له شيخنا قدس سره في مبحث الشرط المتأخّر (1) فراجع.

ثمّ لو أُغضي النظر عن ذلك كلّه ، لم يكن استصحاب الحرمة الملحوظ بها الغليان في إثبات الحرمة الفعلية إلاّمن قبيل الأصل المثبت ، لأنّ لازم بقاء تلك الحرمة اللحاظية هو تحقّق فعلية الحرمة عند الغليان بعد التبدّل إلى الزبيبية. نعم لو كان المستصحب هو نفس الملازمة بين الحرمة والغليان ، لقلنا إنّ استصحابها قاض بتحقّق الحرمة خارجاً عند تحقّق الغليان خارجاً ، بناءً على أنّ فعلية الحكم لازمة قهراً لوجود الملزوم ، سواء كانت الملازمة واقعية أو كانت ظاهرية ، فالملازمة الواقعية يتبعها وجود اللازم عند وجود الملزوم وجوداً واقعياً ، والملازمة الظاهرية يتبعها تحقّق اللازم ظاهراً عند وجود الملزوم ، ولكن لا يخلو عن تأمّل.

والإنصاف : أنّا لم يتّضح لنا المراد من كون المستصحب هو الحرمة المنوطة بوجود الغليان اللحاظي ، فهل المراد أنّ الحرمة الموجودة هي الحرمة اللحاظية فلا يخفى فساده ، أو أنّ المراد هو الحرمة الخارجية المعلّقة على لحاظ الغليان فهو أفسد ، لأنّ لازمه تحقّق الحرمة فعلاً بمجرّد لحاظ الشارع الغليان ، وإن كان المراد هو أنّ الجعل منوط باللحاظ لا المجعول ، فهذا راجع إلى شرط الجعل الذي هو فعل اختياري للشارع لا إلى شرط المجعول ، فلاحظ الجزء الأوّل من المستمسك ، وذلك قوله : أمّا إذا كان الحكم منوطاً بوجود الشرط اللحاظي الخ (2) وقوله في الحقائق : أمّا إذا كان مشروطاً بالوجود الذهني الحاكي عن الخارجي كما

ص: 9


1- أجود التقريرات 1 : 326.
2- مستمسك العروة الوثقى 1 : 416.

هو الظاهر الخ (1) ولاحظ المقالة وذلك قوله : وإلاّ فبناءً على التحقيق في تعليقات الأحكام من رجوعها إلى جعل حقيقة الحكم منوطاً بوجود شروطها في فرضه ولحاظه ، كما هو الشأن في مثل تلك الصفات الوجدانية من الارادة والكراهة ، فلا بأس بدعوى كونها بمثل هذا النحو من الوجود موضوع الأثر العملي ومناط حكم العقل بوجوب الامتثال عند تحقّق المنوط به في الخارج ، من دون حصول تغيير في الحكم المزبور بوجود ما أُنيط به في الخارج أبداً ، بل الحكم المزبور بنحو كان حاصلاً ومتحقّقاً قبل تحقّق الشرط في الخارج كان متحقّقاً بعده (2) ، ولذا نقول بعدم انقلاب الواجب المشروط عن كونه كذلك حين حصول الشرط. نعم إنّما يترتّب على وجود شرطه حكم العقل بوجوب امتثاله ، وهذا معنى إناطة فاعليته ومحرّكيته بوجود شرطه بلا تغيير في عالم فعليته وعلّيته (3) ، فتمام موضوع حكم العقل بترتّب الأعمال هو هذا الحكم العقلي المنوط الخ (4).

والذي يتلخّص منه : هو دعوى فعلية الحكم قبل حصول شرطه ، غايته أنّ محركّيته تكون منوطة بوجود الشرط.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه مضافاً إلى ما عرفت من عدم معقولية كون الوجود اللحاظي شرطاً ، يكون لازمه هو إخراج الشرط عن كونه شرطاً في الحكم المجعول ، بل تكون الشرطية راجعة إلى المحرّكية. ولو تمّ هذا - أعني كون مثل

ص: 10


1- حقائق الأُصول 2 : 468.
2- [ جملة « كان متحقّقاً بعده » موجودة في الطبعة القديمة من المقالات دون الحديثة ].
3- [ « وعلّيته » موجود في الطبعة القديمة من المقالات دون الحديثة ].
4- مقالات الأُصول 2 : 400 ( مع اختلاف ).

الاستطاعة مثلاً شرطاً في محرّكية الوجوب ، لا في أصل تحقّقه ولا في فعليته - لم يحتج فيه إلى تجشّم كون الشرط وجودها اللحاظي ، بل يكون الشرط هو وجودها الخارجي ، لكنّه ليس بشرط في أصل الوجوب ولا في فعليته ، بل في محرّكيته ، وكأنّه قد انقدح في ذهنه الشريف عملية الواجب المعلّق وطبّقها على الواجب المشروط.

وأمّا ما ذكره من عدم انقلاب الواجب المشروط عن كونه كذلك عند وجود الشرط ، فالظاهر أنّه لا دخل له بما نحن فيه ، فإنّ وجود الشرط وإن لم يكن موجباً للانقلاب ، إلاّ أنّه موجب لفعلية الوجوب ، لأنّ معنى الاشتراط هو كون الفعلية مشروطة بتحقّق الشرط خارجاً.

ثمّ إنّه بعد ذلك كلّه التزم بجريان الاستصحاب حتّى بناءً على مسلك المشهور من كون الشرط هو الوجود الخارجي ، وبنى المسألة على أنّ اليقين لو كان طريقاً إلى المتيقّن لامتنع الاستصحاب ، أمّا لو أُخذ اليقين موضوعاً لحرمة النقض ، فلا مانع من جريان الاستصحاب حتّى على مسلك المشهور ، فقال ما هذا لفظه : وذلك بدعوى أنّ اليقين بالملازمة في كلّ مقام مستتبع لليقين بوجود الشيء منوطاً بوجود الملزوم في فرضه ولحاظه ، ولذا يصحّ الإخبار عن وجوده كذلك جزميّاً مقروناً بألف حلف ، ويقال في الليل : لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود (1) ، ثمّ أخذ في دفع التوهّمات الواردة على ذلك.

ولا يخفى أنّ من يرى من نفسه أنّه قاطع بوجود النهار على تقدير طلوع الشمس ، عليه أن يحاسب نفسه ، فإن رأى أنّ تقدير طلوع الشمس مربوط بقطعه كانت النتيجة أنّه فعلاً غير قاطع بوجود النهار ، وإن رأى أنّ تقدير طلوع الشمس

ص: 11


1- مقالات الأُصول 2 : 401.

مربوط بوجود النهار ، كانت النتيجة أنّه قاطع بربط وجود النهار بطلوع الشمس. وهكذا الإخبار ، فإنّ القاطع أو المخبر لو غالط نفسه بألف مغالطة لم يستطع أن يخرج عن أحد هذين الشقّين.

ثمّ إنّه قدس سره لمّا التزم بهذا الأخير أجراه حتّى في الموضوعات الخارجية التي يترتّب عليها أحكام شرعية ، ومثّل لذلك بمن كان عنده ماء مطلق ، فكان هذا مصداقاً لفاقد الماء إن تلف ذلك الماء الذي كان عنده ، وحينئذ يكون محكوماً عليه بالفاقدية التعليقية قطعاً ، ثمّ إنّه يجري في حقّه استصحاب هذه الفاقدية التعليقية لو كان قد وجد بعد ذلك ماء مشكوك الاطلاق والاضافة ، ثمّ إنّه إذا تلف منه ذلك الماء المطلق وجب عليه التيمّم بمقتضى استصحاب تلك الفاقدية التعليقية بعد المسامحة العرفية ، بدعوى إلغاء التفاوت بين ما سبق من كونه فاقد المشكوك وبين حالته من وجدانه لذلك المشكوك ، ثمّ قال بعد أن حكم باجراء استصحاب الفاقدية : فيترتّب عليه حكم الفقدان من صحّة تيمّمه بلا احتياج أيضاً إلى حديث رفع الواجدية كي يرد عليه بأنّه لا يثبت به التكليف لأنّه خلاف الامتنان ، ومع هذا الأصل أيضاً لا ينتهي النوبة إلى حكم العقل بالجمع بين الوظيفتين من جهة العلم الاجمالي كما لا يخفى (1).

والظاهر أنّ مراده من حديث رفع الواجدية هو إجراء أصالة البراءة في واجديته للماء القاضية بوجوب الوضوء ، فيكون خلاف الامتنان ، لقضائها حينئذ بوجوب التيمّم.

وفيه تأمّل ، لأنّ رفع وجوب الوضوء في الماء امتناني ، وإن كان التيمّم لازماً لأجل الاحتياط القاضي بكلّ منهما ، وفيه نظر.

ص: 12


1- مقالات الأُصول 2 : 402 - 403.

أمّا أصل المثال فقد يناقش فيه ، حيث إنّ الفاقدية التي هي موضوع وجوب التيمّم هي فاقدية طبيعة الماء لا خصوص ذلك الماء الموجود عنده. والجواب عنه أنّ المستصحب هو فقد طبيعة الماء لكن معلّقاً على فقد هذا الموجود من جهة انحصارها به ، لأنّ فقد هذا بخصوصه إنّما يوجب فقد الطبيعة لأجل انحصارها به لا أنّه هو يكون فقده فقداً للطبيعة.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر ما أفاده في المقالة هو أنّ الاحتياج إلى أحد هذين التقريبين لجريان الاستصحاب إنّما هو بناءً على أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو الجري العملي على طبق اليقين أو المتيقّن ، وأنّ مفاده هو التنزيل من حيث العمل ، أمّا بناءً على أنّ المجعول هو المماثل ، فلا يتوجّه الإشكال على استصحاب الحكم التعليقي.

والذي حرّرته عنه في الدرس : هو أنّه بناءً على جعل المماثل يكون استصحاب الحكم المعلّق جارياً عند الشكّ في بقائه لأجل تبدّل الحالة من العنبية إلى الزبيبية ، سواء كان ذلك قبل حصول المعلّق عليه أعني الغليان ، أم كان بعده ، لإمكان جعل المماثل في كلا الحالين.

أمّا بناءً على كون مفاد الاستصحاب هو لزوم العمل على طبق اليقين السابق فلا يمكن إجراء الاستصحاب قبل حصول المعلّق عليه الذي هو الغليان ، إذ لا يكون في البين أثر عملي يترتّب على اليقين السابق. نعم بعد حصول الغليان يكون جريان الاستصحاب ممكناً لوجود الأثر العملي حينئذ ، سواء كان حصول الغليان مقارناً لزمان الشكّ ، أو كان بعده ، إذ بعد حصول الغليان لا فرق بين أن يكون قد شكّ ثمّ حصل الغليان ، أو يكون قد حصل الغليان ثمّ شكّ ، هذا حاصل ما حرّرته عنه في درسه.

ص: 13

لكن الذي يظهر من المقالة في مقام التفرقة بين القول بجعل المماثل والقول بالجري العملي شيء آخر ، وحاصله : أنّ الملازمة بين الحرمة والغليان وإن لم تكن مجعولة شرعاً إلاّ أنّها منتزعة من جعل الشارع الحرمة على تقدير الغليان ، وبهذا الاعتبار يجري فيها الاستصحاب ، فحينئذ بناءً على جعل المماثل تكون نتيجة الاستصحاب هو جعل تلك الملازمة ولو بجعل ما هو منشأ انتزاعها ، ومن المعلوم أنّ لازم تلك الملازمة المجعولة - أعمّ من الواقعية والظاهرية - فعلية وجود الملزوم الذي هو الحرمة عند وجود اللازم الذي هو الغليان ، وينتهي ببركته إلى حكم العقل بوجوب الامتثال في مقام العمل.

أمّا بناءً على أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو الأمر بمعاملة المتيقّن السابق معاملة الواقع ، ومرجعه إلى ادّعاء وجود المتيقّن بلحاظ ما يترتّب عليه من العمل لا إلى جعل مماثله ، فلا مجال لاستصحاب الملازمة حينئذ ، لأنّ مرجعه إلى تنزيل الملازمة الواقعية منزلة الموجود بلحاظ ما يترتّب عليه من العمل ، بلا جعل ملازمة في مرحلة الظاهر ، ومع فرض أنّه لم يكن جعل في الملازمة بين الحرمة والغليان لا يتسنّى للعقل أن يحكم بالحرمة عند وجود الغليان ، وهذا هو محصّل قوله : ومن البديهي أنّ العقل لا يحكم - إلى قوله - كما هو ظاهر (1) ، إذ لا ملازمة بين تنزيل الملازمة منزلة الموجود من حيث العمل ، وبين وجود الملزوم تعبّداً - الذي هو الحرمة عند وجود اللازم الذي هو الغليان - ولا حقيقة.

وبعبارة أُخرى : أنّ تنزيل الملازمة بين الحرمة والغليان لا يترتّب عليه وجود الحرمة عند الغليان لا حقيقة ولا تعبّداً ، فيبقى التنزيل المزبور منفرداً عن وجود لازمه حقيقة أو ادّعاء ، ومن البديهي أنّ هذا لا ينتهي إلى أثر عملي أصلاً ،

ص: 14


1- مقالات الأُصول 2 : 399 - 400.

بخلاف ما لو قلنا بجعل المماثل ، فإنّ لازم تلك الملازمة المجعولة سواء كانت واقعية أو ظاهرية ، هو فعلية وجود الملزوم الذي هو الحرمة عند وجود اللازم الذي هو الغليان ، وينتهي ببركته إلى حكم العقل بوجوب الامتثال في مقام العمل ، هذا خلاصة ما أفاده في المقالة حسبما فهمته من عبارتها على ما فيها من الاغلاق.

ولا يخفى أنّ المستصحب الذي يكون نتيجة استصحابه هو جعل مماثله ، إن كان هو نفس الملازمة من حيث نفسها فهي غير مجعولة بنفسها ، وإنّما المجعول منشأ انتزاعها أعني نفس الحرمة على تقدير الغليان ، فلابدّ أن تكون هي مركز الاستصحاب ، وحينئذ يتّجه إشكال شيخنا قدس سره وهو أنّ تلك الحرمة المستصحبة إن كانت هي الحرمة المتحقّقة فعلاً ، وأعني بتلك الحرمة الشخصية ، فهي قبل الغليان غير متحقّقة ، وإن كانت هي الحرمة الكلّية المعلّقة على تقدير الغليان ، فتلك لا يشكّ في بقائها إلاّمن ناحية النسخ ، وحينئذ نحتاج إلى القول بأنّ تلك الحرمة موجودة فعلاً قبل الغليان ، لكن بمعنى كونها منوطة بلحاظ الغليان ، وهو الذي أفاده من إنكار توقّف فعلية الحرمة على وجود الغليان خارجاً ، بل على لحاظها منوطة بالغليان ، وقد عرفت ما فيه ، فلاحظ ما تقدّم وتأمّل.

ولا يخفى أنّ ظاهر مطلبه الذي أفاده في المقالة أنّه ملتزم بأنّ الملازمة بين الحرمة والغليان ليست مجعولة ، وإنّما هي منتزعة عقلاً من جعل الحرمة على تقدير الغليان ، لكنّها لمّا كان منشأ انتزاعها بيد الشارع صحّ استصحابها ، وبناءً على جعل المماثل يكون المجعول هو الملازمة ، وعنها ينتزع لازمها وهو تحقّق الحرمة عند تحقّق الغليان.

وحينئذ يرد عليه أنّ المجعول بالأصل هو الحرمة والملازمة منتزعة عقلاً ،

ص: 15

لكن في جعل المماثل بالاستصحاب يكون الأمر بالعكس ، بمعنى أنّ المماثل المجعول هو الملازمة ، وعنها ينتزع وجود اللازم عند وجود الملزوم أعني الحرمة عند الغليان ، فراجع قوله في المقالة من قوله : نعم هنا - إلى قوله - فحينئذ لا قصور الخ (1).

وممّن ناقش في كون الغليان جزء الموضوع العلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية ، فإنّه قد منع من كون الغليان جزء الموضوع ، وجعل تمام الموضوع هو العصير ، وجعل الغليان شرطاً في حرمته ، وأفاد أنّ الحكم المشروط وإن لم يكن فعلياً قبل حصول شرطه كما هو التحقيق ، إلاّ أنّ الشكّ ليس في بقاء الحكم الانشائي الكلّي لموضوعه الكلّي ، بل الحكم الانشائي المنطبق على هذا الموضوع الجزئي وإن كانت فعليته منوطة شرعاً بوجود شرط فعليته ، وهذا قابل للشكّ في البقاء ، لا من جهة النسخ ، بل من جهة تبدّل حالة الموضوع الخاصّ من العنبية إلى الزبيبية.

وفيه : ما عرفت من أنّه لا محصّل للقول بأنّ هذا العصير الموجود لو غلى يحرم إلاّ الملازمة بين فعلية غليانه وفعلية حرمته ، فمع الاعتراف بأنّه قبل الغليان لا تكون الحرمة فيه فعلية ، لا يكون المستصحب فيه حينئذ إلاّ الملازمة بينهما ، أمّا نفس الحرمة فلا وجود لها فيه ، إلاّ أن يدّعى أنّ لها نحواً من الوجود ، وذلك هو الحرمة المنوطة بلحاظ الغليان ، أو يدّعى أنّها فعلية ولو قبل الغليان غايته أنّها تتنجّز بالغليان ، وهو قد جرّد كلامه من هذين الدعويين ، وجعل المستصحب هو نفس الحكم الانشائي المتعلّق بهذا الموضوع الجزئي ، ومن الواضح أنّ الحكم الانشائي لا وجود له كي يدخله الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 16


1- مقالات الأُصول 2 : 399.

والأولى نقل عبارته بعينها ، فإنّه بعد أن منع من صحّة الاستصحاب على تقدير كون الغليان جزء الموضوع قال : وإن كان الحكم التعليقي حكماً معلّقاً على الشرط حقيقة زيادة على تعليقه على موضوعه المقدّر وجوده ، فموضوع الحرمة هو العصير في حال العنبية ، والغليان شرط للحكم لا جزء الموضوع ، والحكم المشروط وإن لم يكن فعلياً قبل حصول شرطه كما هو التحقيق ، إلاّ أنّ الشكّ ليس في بقاء الحكم الانشائي الكلّي لموضوعه الكلّي ، بل الحكم الانشائي المنطبق على هذا الموضوع الجزئي ، وإن كانت فعليته منوطة شرعاً بوجود شرط فعليته ، فالإشكال إن كان لعدم قابلية الحكم الانشائي قبل فعليته بفعلية شرطه للاستصحاب ، فهو مدفوع بأنّ الانشاء بداعي جعل الداعي فعلاً أو تركاً هو تمام ما بيد المولى وزمامه بيده ، وإن كان فعليته البعثية أو الزجرية منوطة بشيء عقلاً أو شرعاً ، ولذا لا يشكّ في قبول الانشاء الكلّي للاستصحاب إذا شكّ في نسخه وارتفاعه الكلّي. وإن كان لعدم الشكّ في الإنشاء المجعول من الشارع ، فهو مدفوع بأنّ ما لا شكّ في بقائه هو الانشاء الكلّي لموضوعه الكلّي ، وأمّا الانشاء المتعلّق بهذا الموضوع الجزئي بسبب تعلّق الكلّي منه بكلّي الموضوع ، فهو مشكوك البقاء بعد تبدّل حالة إلى حالة (1).

وغاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده وأفاده غيره من تصحيح الاستصحاب التعليقي : هو أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الكلّية لا تكون فعلية ولا تنوجد في الخارج ولا تتشخّص إلاّبفعلية موضوعها وانوجاده وتشخيصه في الخارج ، ولكن هذا واضح فيما لم يكن في البين تعليق على شرط هو خارج عن حيّز الموضوع الوارد عليه الحكم ، كما في مثل حرمة الخمر ، أمّا لو كان في البين

ص: 17


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 173.

تعليق على شرط وقد وجد الموضوع ولكن لم ينوجد الشرط ، مثل ما نحن فيه من الحرمة الواردة على عصير العنب بشرط غليانه ، فإذا وجد العصير لكنّه فعلاً لم يطرأه الغليان ، فلا ريب في أنّ حرمته لا تكون فعلية ولا تنوجد في الخارج ، بل ولا تكون شخصية.

ولكن هناك شيء آخر ، وهو أنّ ذلك الحكم الكلّي أعني الحرمة المعلّقة على الغليان الواردة على كلّي العصير ، هل حصل فيها انتقال من تلك الكلّية الواسعة بواسطة وجود نفس العصير ، أم هي باقية على ما كانت عليه قبل وجود العصير ، ونعني بذلك الانتقال أنّها بواسطة وجود موضوعها يكون ذلك الموضوع متّصفاً بتلك الحرمة ، لكن لا فعلية بل معلّقة على غليانه ، وذلك ما نسمّيه بتشخّص الحرمة التعليقية مع بقائها على ما هي عليه من التعليق وعدم الفعلية ، إذ لا ريب في أنّ هذا العصير الموجود خارجاً وإن كان فعلاً حلالاً ، إلاّ أنّه ليس حاله حال ذلك الماء المطلق الموجود خارجاً ، بل إنّ في البين شيئاً هو الفارق بينه وبين ذلك الماء المطلق ، وليس ذلك الشيء عبارة عن كون ذلك العصير حراماً فعلاً ، إذ لا يقوله عاقل ، كما أنّ الأوّل لا يقوله عاقل أيضاً ، وهو أنّ هذا العصير الموجود يكون حاله حال ذلك الماء المطلق الموجود في عدم ارتباطه بالتحريم وعدم تعلّقه به أصلاً ، بل إنّ في البين شيئاً هو بين بين ، وليس ذلك الشيء إلاّ عبارة عن اتّصافه فعلاً بالحرمة التعليقية ، وليس ذلك عبارة عن كونه متأهّلاً للحرمة ليكون المستصحب هو الحرمة التأهّلية ، نظير الصحّة التأهّلية اللاحقة لبعض أجزاء المركّب قبل لحوق باقي الأجزاء ، لأنّ ذلك إنّما يتّجه لو قلنا إنّ الغليان جزء الموضوع ، أمّا بعد البناء على أنّ الغليان ليس إلاّشرطاً للحكم ، وأنّ تمام الموضوع إنّما هو العصير ، فلا تكون الحرمة الواردة على العصير حرمة

ص: 18

تأهّلية ، بل لا تكون إلاّ الحرمة الواقعية الحقيقية ، غايته أنّها معلّقة على الغليان ، فليست هي قبل الغليان تأهّلية لا واقعية لها ، بل هي واقعية مجعولة شرعاً بعين جعل الحرمة الكلّية المجعولة للعنب الكلّي بشرط الغليان ، فكما أنّ العنب الكلّي لا تكون حرمته تأهّلية بل واقعية شرعية مجعولة شرعاً ، غايته أنّها مشروطة بالغليان ، فكذلك حرمة هذا العصير الخاصّ ليست تأهّلية صرفة ، وليست هذه الحرمة المعلّقة فيما نحن فيه من سنخ الوجوب المعلّق ، لأنّ ذلك إنّما هو بجعل الحكم فعلياً وأخذ متعلّقه استقبالياً ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل إنّ ما نحن فيه مطلب آخر غير راجع إلى سنخ الوجوب المعلّق ، ولا إلى الحرمة التأهّلية ، بل إنّ أساسه هو ما عرفت من دعوى الفرق بين الماء المطلق وبين العصير العنبي.

وإن شئت فقل : إنّ كلّي العصير العنبي قبل أن يجعل الشارع له تلك الحرمة المعلّقة على غليانه ، لا ريب في أنّه قد تبدّلت حاله بواسطة ذلك الجعل ، فإنّ ذلك العصير الكلّي قد طرأته صفة شرعية لم تكن حاصلة له قبل هذا الجعل ، ومن الواضح أنّ تلك الصفة الشرعية التي لحقت كلّي العصير تسري منه إلى أفراده الخارجية ، فكما أنّ كلّي العصير يتّصف بتلك الصفة الشرعية في عالم الاعتبار ، فكذلك أفراده الخارجية تتّصف في الخارج بذلك الاعتبار الشرعي ، وهو الذي نعبّر عنه بالحرمة على تقدير الغليان ، وحينئذ فعند التبدّل إلى الزبيبية نشكّ في بقاء تلك الصفة الشرعية الاعتبارية له ، فيشملها دليل الاستصحاب ، وليس ذلك راجعاً إلى استصحاب الحكم الكلّي كي يقال إنّه لا يتعلّق ببقائه الشكّ إلاّمن ناحية احتمال النسخ ، بل هو استصحاب للحكم الثابت لذلك الفرد الموجود ، غايته أنّه مشروط بشرط لم يحصل بعدُ ، وليس هو الحرمة الفعلية كي يقال إنّه لا وجود لها

ص: 19

قبل حصول الشرط ، بل هو الحرمة التعليقية الثابتة لذلك الفرد قبل أن يحصل شرطها الذي علّقت عليه ، ولعلّ هذا هو المراد لما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته في العبارة التي تقدّم نقلها.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذا هو المنظور إليه لكلّ من صحّح الاستصحاب التعليقي ، دون كون المستصحب هو الحرمة المنوطة بلحاظ الغليان ، أو أنّ المستصحب هو فعلية الحكم بدعوى كون الحكم فعلياً ولو قبل وجود شرطه في قبال الشأني أو الانشائي ، وأنّ المراد من الفعلية هو الوصول إلى درجة الاعلان والتبليغ في قبال الاقتضائية أو الشأنية أو الانشائية ، فلاحظ.

ولكنّه مع ذلك كلّه قابل للتأمّل ، فإنّ الحرمة المعلّقة على الغليان بالنسبة إلى هذا العصير الخاصّ لا محصّل لها إلاّ الحرمة التأهّلية ، وأنّها لا وجود لها قبل وجود الغليان ، ولا محصّل لقولنا : هذا العصير حرام إذا غلى ، إلاّ الملازمة بين الغليان والحرمة الناشئة عن جعل الحرمة للعصير الكلّي مقدّمة على الغليان ، فتأمّل.

وأمّا حديث إرجاع الشرط إلى الموضوع وأنّهما بمآل واحد ، فهو وإن تكرّر في كلمات شيخنا قدس سره في مقامات عديدة ، إلاّ أنّ المقامات تختلف ، فربّ مقام يكون المدار فيه على واقع الأمر حسبما يراه الذوق العرفي ، سواء أُبرز في قالب الشرط أو في قالب الوصف أو في قالب العنوان ، كما في مسألة تخلّف الشرط وتخلّف المبيع ، فإنّ أثر الأوّل هو الخيار ، وأثر الثاني هو بطلان العقد ، والمدار في ذلك على كون الشيء عنواناً حافظاً للصورة النوعية وكونه زائداً على الصورة النوعية ، فمثل كون المبيع عبداً في قبال كونه حماراً يكون من قبيل تخلّف المبيع سواء أُبرز عنواناً للمبيع أو وصفاً أو شرطاً ، فإنّ الحكم هو بطلان

ص: 20

البيع عند التخلّف في الجميع ، وعكسه في مثل كون المبيع عبداً كاتباً ، فإنّ الحكم فيه هو الخيار عند التخلّف بأي قالب كان إبراز أخذه في المبيع حتّى لو قال بعتك الكاتب.

وربّ مقام يكون المدار فيه على الصورة المأخوذة في الدليل ، كما في باب تغيّر بعض حالات الموضوع في قابليته لجريان الاستصحاب وعدم جريانه ، كما ذكره في خاتمة الاستصحاب ، وذلك قوله : وعلى هذا ينبغي أن يفرّق بين قوله عليه السلام : « الماء المتغيّر نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغيّر » فإنّ المعنى وإن كان لا يختلف ، إلاّ أنّ الأوّل ظاهر في كون التغيّر قيداً للماء ، فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغيّر ، والثاني ظاهر في كون التغيّر علّة لعروض النجاسة على الماء ، فيكون الموضوع ذات الماء (1). ثمّ فرّع على ذلك جريان الاستصحاب على الثاني دون الأوّل. ومن هذا القبيل ما تفرّق فيه بين القضية الحملية والقضية الشرطية ، في أنّ الأُولى لا مفهوم لها بخلاف الثانية ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل من هذا التحرير (2) في آية النبأ ، وأنّ القضية فيها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

وربّ مقام يشترك الأثر فيه بين كون الشيء موضوعاً وكونه شرطاً ، حتّى لو قلنا بكونهما مختلفين واقعاً ولبّاً كما فيما نحن فيه ، لاشتراك الموضوع والشرط في عدم تحقّق الحكم قبل حصول ذلك الشيء ، سواء كان موضوعاً أو شرطاً ، ويشهد بذلك الأخبار الواردة في حرمة العصير ، ففي بعضها أُخذ الغليان موضوعاً

ص: 21


1- فوائد الأُصول 4 : 580.
2- فوائد الأُصول 3 : 167 - 168.

مثل قوله عليه السلام : « كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (1) وفي بعضها أخذ الغليان شرطاً مثل قوله عليه السلام : « إنّ العصير إذا طبخ » الخ (2).

ولأجل ذلك قال في الحقائق : هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّه لا فرق بين إناطة الحكم بالشرط باصطلاح النحاة ، مثل إذا غلى ينجس ، وإذا استطعت يجب عليك الحجّ ، وبين إناطته بالموضوع مثل العنب الغالي ينجس ، والمستطيع يجب عليه الحجّ ، وكما أنّه لا ريب في صحّة استصحاب الحكم المنوط بالموضوع ، ينبغي أن لا يستراب في صحّة استصحاب الحكم المنوط بشرطه ، فيكشف ذلك عن أنّ الاناطة في المقامين إنّما هي بالوجود اللحاظي ، وإلاّ لم يكن وجه للاستصحاب فيهما معاً (3).

وحيث إنّ شيخنا قدس سره لم يعتن بكون الاناطة بالنظر إلى الوجود اللحاظي ، جعل الشرط والموضوع واحداً في أنّه لا تحقّق للحكم قبل تحقّق شرطه ، كما لا تحقّق له قبل تحقّق موضوعه ، وبناءً على ذلك لا يتوجّه عليه ما ذكره في ج 1 من المستمسك ص 189 إلى ص 191 (4).

وأمّا بعض الأمثلة التي ذكرها ، فالظاهر أنّها أجنبية عن محلّ البحث من كون شرط التكليف راجعاً إلى موضوعه ، وذلك مثل شهر رمضان والتردّد في كونه شرطاً للتكليف بالصوم ، أو أنّه قيد في متعلّق التكليف ، ويتفرّع على الثاني وجوب إحراز كون الصوم فيه ، فلا يجدي بقاء رمضان في إحراز هذا القيد ،

ص: 22


1- وسائل الشيعة 25 : 282 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 2 ح 1.
2- وسائل الشيعة 25 : 288 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 5 ح 1.
3- حقائق الأُصول 2 : 469.
4- مستمسك العروة الوثقى 1 : 416 - 419.

بخلاف ما لو أخذناه شرطاً في التكليف ، لما هو واضح من أنّ المقابلة بين ما هو شرط التكليف وما هو شرط المكلّف به لا دخل له بالمقابلة بين شرط التكليف وموضوعه.

نعم ، في المثال مطلب آخر شرحناه فيما تقدّم (1) ، وهو أنّ قيد المكلّف به لكونه غير مقدور يكون شرطاً للتكليف قهراً ، فيكون الاستصحاب نافعاً على كلّ حال.

وأمّا مثال الكرّ والحوض فلم يكن لازماً لما أفاده شيخنا قدس سره من إرجاع الشرط إلى الموضوع ، إذ لا يلزمه أن يكون مفاد كان التامّة عين مفاد كان الناقصة ، وكأنّه يدّعي أنّ شيخنا قدس سره يقول إنّ كلّ تصرّفين شرعيين يكونان واردين على واقع واحد يكون أحدهما عين الآخر في جميع الآثار ، ولأجل ذلك نقض بهذه النقوض ، وكان عليه أن ينقض بأنّ لازمه هو كون الهبة المشروط فيها العوض عين البيع ، بل كان لازمه إبطال الحيل الشرعية في التخلّص من الربا ، إلى غير ذلك ممّا يلزمه تأسيس فقه جديد.

وأمّا ما ذكره العلاّمة الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل بقوله : هذا كلّه لو كان الحكم حقيقة مشروطاً كما هو ظاهر القضية التعليقية ، وأمّا لو كان القيد في الحقيقة راجعاً إلى الموضوع ، بأن يكون العصير المغلي حراماً ، فالأمر في صحّة الاستصحاب أوضح ، لأنّه يكون استصحاباً لما ثبت محقّقاً وبالفعل من الحكم للمغلي من العصير سابقاً وشكّ فيه لاحقاً ، إلى آخر ما أفاده (2) فعلى الظاهر أنّه لا يخرج عن دعوى كون وصف نفس العصير بحرمة الغالي منه من قبيل الوصف

ص: 23


1- [ لم يتقدّم في هذا البحث حسبما لاحظناه ].
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 208.

بحال المتعلّق ، نظير زيد قائم الأب ، ومن الواضح أنّه تجوّز لا واقعية له ، أو دعوى صحّة قولنا إنّه لو لحقه الجزء الآخر لكان المجموع حراماً ، وقد عرفت ما فيه.

لكن العلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية بعد أن التزم بعدم صحّة الوجه الثاني من هاتين الدعويين ، نقل كلام أُستاذه في الحاشية وارتضاه ، وأوضحه بما لا يخرج عن إحدى هاتين الدعويين ، نعم في آخر كلامه جمل لعلّ المراد بها شيء آخر ، فإنّه قال : ومن البيّن أنّ العصير في حالة العنبية إذا قدّر غليانه ، بأن قدّر العصير المغلي في حالة العنبية ، كان له الحرمة قطعاً ، إذ ليس موضوعها إلاّ العصير المغلي المقدّر وجوده ، لا المحقّق وجوده حتّى يقال لم يكن في حالة العنبية عصير مغلي محقّق. وإذا كان العصير المغلي المقدّر وجوده في حال العنبية حراماً ، وشكّ في بقاء هذا الحكم المترتّب على المقدّر وجوده بعد تبدّل حالة العنبية إلى حالة الزبيبية ، صحّ استصحاب تلك الحرمة المرتّبة على موضوعها المتقوّم بتقدير وجوده وفرض ثبوته الخ (1) فلعلّ المراد أنّ الموضوع نفس التقدير ، لا أنّ الموضوع هو نفس وجود المقدّر وجوده ، وحينئذ فيرد عليه ما لا يخفى من الخلط بين كون الموضوع مقدّر الوجود وكونه هو تقدير الوجود ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا مأخوذ ممّا أفاده في البدائع في مبحث الترتّب ، فإنّه قال هناك : فإن قلت : الواجب المشروط لا يجب قبل الشرط ، فإذا كان ترك أحدهما شرطاً لوجوب الآخر فكيف يتّصف بالوجوب مقارناً للترك قبل تحقّقه. قلت : الشرط هو تقدير الترك لا نفس الترك ، وهو الفارق بين الواجب المشروط وبين ما نحن

ص: 24


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 173 - 174.

فيه ، فإنّ الوجوب إن كان مشروطاً بوجود شيء فهذا هو الواجب المشروط الذي يتوقّف وجوبه على وجود الشرط ، ولا يتّصف بالوجوب قبله ولو مقارناً ، أمّا لو كان مشروطاً بتقديره لا بتحقّقه ووجوده فهذا يتّصف بالوجوب قبل وجوده ، لأنّ الشرط هو تقدير الوجود لا نفسه ، والتقدير محقّق قبل وجوده ، فلا مانع من تحقّق الوجوب قبل تحقّقه ، وهذا يسمّيه بعض بالواجب المعلّق ، قسيم الواجب المشروط والمطلق ، وبعض بالواجب المترتّب نظراً إلى ترتّب الوجوب على تقدير عدم الآخر ، وبعضهم يسمّيه بالواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، والكل واحد الخ (1).

قوله : نعم الأثر المترتّب على أحد جزأي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنّه عقلي مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزأيه ، فلا معنى لاستصحابه ... الخ (2).

لا يخفى أنّه يمكن أن يقرّر المستصحب في مثل ما نحن فيه بوجوه : أوّلها هذا الذي أُشير إليه هنا. ثانيها : هو ما سيأتي من أنّ المستصحب هو نفس الحرمة التعليقية. ثالثها : ما سيأتي أيضاً من أنّ المستصحب هو الملازمة.

وتوضيح الوجه الأوّل هو أن يقال : إنّ العصير العنبي عندما وجد اتّصف بأنّ غليانه يوجب الحرمة والنجاسة ، وبعد أن صار زبيباً نشكّ في بقاء تلك الصفة له وهي كون غليانه موجباً للحرمة والنجاسة ، وهنا تنفع المسامحة العرفية ، لا من جهة كون العنبية والزبيبية بحسب النظر العرفي من الحالات الأجنبية عن المدخلية في موضوع الحكم الذي هو ذات العصير ، لأنّ ذلك لو تمّ لم نكن

ص: 25


1- بدائع الأفكار ( للمحقّق الرشتي قدس سره ) : 390.
2- فوائد الأُصول 4 : 467.

محتاجين إلى الاستصحاب ، بل من جهة أنّ العرف يرى اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بحيث إنّ رفع اليد عن المتيقّن السابق الذي هو كون غليان ذلك العصير موجباً لحرمته لأجل طروّ الزبيبية عليه يعد بحسب نظرهم نقضاً لليقين السابق.

لكن يرد على التقريب المذكور ما أُفيد من كون ذلك المتيقّن السابق عقلياً صرفاً ، فإنّ كون غليان ذلك العصير العنبي موجباً لحرمته ليس بحكم شرعي ، وإنّما هو أمر عقلي منتزع من كون العصير العنبي أحد جزأي موضوع الحكم بالحرمة والنجاسة ، وهو العصير العنبي الغالي.

أمّا ما أُفيد من الايراد عليه ثانياً بأنّه مقطوع ، فالظاهر أنّه غير متوجّه عليه ، لأنّ ذلك المعنى الذي يراد استصحابه لا يكون مقطوع البقاء ، للشكّ في بقائه بواسطة الشكّ في مدخلية العنبية فيه ، وهذا بخلاف صحّة الأجزاء السابقة ، فإنّها إن أُخذت بمعنى أنّه لو انضمّ إليها باقي الأجزاء لأسقطت الأمر لكانت باقية حتّى في حال الشكّ ، أمّا كون غليان ذلك العصير موجباً للحرمة فبقاؤه بعد الانقلاب إلى الزبيبية مشكوك ، لاحتمال مدخلية العنبية في ذلك ، فلو أغضينا النظر عن كون ذلك المعنى عقلياً لا شرعياً ، لم يكن مانع من استصحابه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : وهذه القضية التعليقية - مضافاً إلى أنّها عقلية لأنّها لازم جعل الحكم على الموضوع المركّب الذي وجد أحد جزأيه - مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابها الخ (1) فإنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة التعليقية الشرعية الكلّية لم يرد عليه سوى أنّها مقطوعة البقاء ، إذ لا يمكن الشكّ في بقائها إلاّمن ناحية الشكّ في النسخ ، وإن كان المستصحب هو

ص: 26


1- فوائد الأُصول 4 : 469.

الحرمة التعليقية التي اتّصف بها العصير العنبي بعد فرض وجوده ، لم يرد عليه سوى ما أُفيد من كونها عقلية ، دون كونها مقطوعة البقاء ، لكونها حينئذ مشكوكة البقاء بواسطة الشكّ في مدخلية العنبية في تلك الحرمة ، وبعد التسامح العرفي في اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة يكون الاستصحاب فيها جارياً ، ولا إشكال فيه سوى إشكال أنّها ليست بشرعية ، من جهة كون تلك الحرمة التعليقية التي اتّصف بها ذلك العصير العنبي بعد وجوده لازماً عقلياً لجعل الحرمة ، مرتّبة على الموضوع المركّب منه ومن الغليان ، فإنّ لازم جعل الحرمة مرتّبة على العصير والغليان أنّ العصير إذا وجد قبل غليانه يكون متّصفاً بالحرمة التعليقية وهي أنّه لو غلى لكان حراماً.

لا يقال : قد تحقّق في محلّه صحّة جريان الاستصحاب في جزء الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، والمصحّح لجريان الاستصحاب في الجزء المذكور إنّما هو الأثر اللاحق له باعتبار كونه جزءاً لموضوع الحكم ، فذلك الأثر اللاحق للجزء إذا كان مصحّحاً للاستصحاب في نفس الجزء فلِمَ لا يصحّح الاستصحاب الجاري في نفس ذلك الأثر ، أعني الأثر اللاحق لجزء الموضوع.

لأنّا نقول : المصحّح لاستصحاب جزء الموضوع عند الشكّ في بقائه مع فرض إحراز جزئه الآخر بالوجدان ليس هو الأثر اللاحق له باعتبار كونه جزءاً من الموضوع ، وإنّما المصحّح للاستصحاب المذكور هو ترتّب الحكم عليه ولو بعد جريان ذلك الاستصحاب المحقّق لاحراز جزء الموضوع ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى غير متحقّق فيما نحن فيه.

والحاصل : أنّ المستصحب لابدّ من أحد الأمرين ، إمّا كونه في حدّ نفسه أثراً شرعياً عملياً ، أو كونه بحيث يترتّب عليه الأثر العملي الشرعي ، وفي

ص: 27

استصحاب جزء الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان أو بأصل آخر ، يكون المستصحب ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي العملي ، ويكفي في ذلك المستصحب كونه جزءاً ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي العملي إذا كان الجزء الآخر محرزاً أيضاً إمّا بالوجدان أو بالأصل ، أمّا جزء الموضوع فيما نحن فيه وهو العصير العنبي فليس هو المستصحب ، وإنّما المستصحب هو أثره ، والمفروض أنّه لا أثر له شرعي سوى تلك الحرمة المعلّقة على الجزء الآخر وهو الغليان ، وهذه الحرمة ليست بأثر شرعي ولا هي موضوع أو جزء موضوع لأثر شرعي.

والأولى [ أن يقال ] إن أُريد نفس الحرمة التعليقية فكما أنّها ليست بموجودة بنفسها قبل الغليان فكذلك جزء هذه الحرمة إن تصوّرنا للحكم جزءاً ، وإن كان المستصحب هو هذه الملازمة كانت غير شرعية سواء كان المستصحب هو نفسها أو جزءها.

وقد بقي في المقام تأمّل آخر ، وهو أنّ العصير العنبي حينما وجد قد اتّصف بصفة ، وهي أنّ غليانه موجب لحرمته ونجاسته ، وهذه الصفة وإن لم تكن بنفسها حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، إلاّ أنّ بقاءها إلى حين الغليان لمّا كان موجباً لتحقّق حكم شرعي فعلي ، وهو الحرمة والنجاسة الفعليين ، فلِمَ لا يجري فيها الاستصحاب بعد فرض التسامح ووحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة بحسب النظر العرفي ، إذ لا يشترط في المستصحب أن يكون ذا أثر في حال حدوثه ، بل يكفي تحقّق الأثر على تقدير بقائه ، فتأمّل جيّداً ، فإنّه إنّما يجري الاستصحاب في مثل ذلك إذا كان المستصحب في حال حدوثه لا يترتّب عليه أثر شرعي لكن كان يترتّب عليه في حال بقائه ، أمّا إذا لم يكن له أثر أصلاً ، بل لم يكن إلاّ أنّ بقاءه ملازم لتحقّق الأثر الشرعي ، فإنّ جريان الاستصحاب فيه في

ص: 28

غاية الإشكال ، بل يمكن أن يقال : إنّ الاستصحاب في ذلك يكون مبنياً على الأصل المثبت ، فتأمّل جيّداً.

وتحرير هذا المبحث بنحو أخصر وأوضح هو أن يقال : إنّ في العصير العنبي إذا غلى بعد أن صار زبيباً جهتين من الكلام :

الأُولى : في مثير الشكّ في البقاء وهو نفس تبدّله من العنبية إلى الزبيبية. ثمّ بعد تحقّق الشكّ في بقاء ما كان مجعولاً للعصير الزبيبي ننقل الكلام إلى :

الجهة الثانية من الكلام : وهي الكلام على الاستصحاب ، وهذه الجهة هي المتكفّلة للإشكال في هذا الاستصحاب ، والإشكال يقرّر من ناحيتين : الناحية الأُولى ناحية تبدّل الموضوع. والناحية الثانية : ناحية كون اليقين حاصلاً قبل التئام الموضوع ، وكون الشكّ حاصلاً بعد التئامه.

أمّا الكلام في الناحية الأُولى ، فالذي يتكفّل بسدّ ثغرة الإشكال فيها هو الوحدة العرفية ، فإنّها ترفع هذا الإشكال من هذه الناحية كما ترفعه لو حصل الشكّ في حلّية أكله قبل الغليان ، فإنّ الحلّية الثابتة له في حال العنبية تنجرّ بالاستصحاب إلى حال الزبيبية ، ولا يضرّها هذا التغيير لما عرفت من الوحدة العرفية.

وبعد سدّ ثغرة الإشكال فيما نحن فيه من الناحية الأُولى ننقل الكلام إلى الإشكال من الناحية الثانية ، فيكون الإشكال في الاستصحاب التعليقي ممحّضاً بالإشكال من الناحية الثانية.

وملخّص الإشكال : أنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة الكلّية اللاحقة للعصير العنبي عند غليانه ، فهذه الحرمة المتيقّنة لا شكّ في بقائها إلاّمن ناحية النسخ ، وحيث إنّ المفروض هو عدم النسخ ، فالحرمة الكلّية باقية بحالها لا يكون

ص: 29

بقاؤها مشكوكاً. وإن كان المستصحب هو حرمة ذلك العصير الذي صار زبيباً أعني بذلك الحرمة الفعلية التي تلحقه عندما يغلي ، فهذه الحرمة لا تحقّق لها قبل حصول المعلّق عليه ، فكيف يمكن استصحابها.

وإن كان المستصحب هو الملازمة بين هذا العصير العنبي وبين حرمته عند الغليان ، فتلك وإن كانت موجودة متيقّنة قبل صيرورته زبيباً وقد تعلّق الشكّ ببقائها بعد الزبيبية ، إلاّ أنّها ليست بشرعية حتّى بناءً على جعل السببية ، لأنّ مرجع هذه الملازمة إلى أنّ هذا الجزء وهو العصير العنبي لو انضمّ إليه الجزء الآخر وهو الغليان لترتّب عليه الحرمة ، وهذه عقلية صرفة ، نظير استصحاب صحّة الجزء التي يكون مرجعها إلى أنّه لو انضمّ إليه باقي الأجزاء لترتّب عليه الأثر. نعم الذي قيل بكونه شرعياً بناءً على جعل السببية هو الملازمة بين تمام الموضوع وبين حكمه ، لا الملازمة بين جزئه الأوّل الذي هو العصير العنبي ، وبين ترتّب الحرمة عليه لو انضمّ إليه الجزء الآخر.

فقد تلخّص : أنّ المستصحب إن كان هو الأوّل ، فذلك لا شكّ في بقائه. وإن كان الثاني وهو نفس حرمة العصير العنبي على تقدير غليانه المعبّر عنه بالحرمة التعليقية فذلك لا وجود له قبل الغليان - لأنّ المعلّق عدمٌ قبل وجود المعلّق عليه - كي يقال إنّه وقع الشكّ في بقائه فيستصحب. وإن كان المستصحب هو الثالث أعني الملازمة بين هذا العصير عند غليانه وبين الحرمة ، فهذه الملازمة وإن كانت متيقّنة سابقاً ومشكوكة بعد الغليان ، إلاّ أنّها لمّا لم تكن شرعية حتّى بناءً على جعل السببية لم يمكن إجراء الاستصحاب فيها.

وما أُفيد في الإشكال على ذلك ثانياً بأنّه لو سلّم كون هذه الملازمة شرعية لما جرى فيها الاستصحاب لعدم حصول الشكّ في بقائها ، ففيه تأمّل ، لأنّ هذه

ص: 30

الملازمة اللاحقة للعصير العنبي المفروض تبدّله إلى الزبيبية مشكوكة البقاء ، من جهة الشكّ في تبدّل معروضها من العنبية إلى الزبيبية.

والحاصل : أنّ المستصحب إن كان هو نفس الحرمة فقد عرفت أنّ العصير لا يوصف بالحرمة قبل الغليان ، وما يقال من أنّه وإن لم يوصف بالحرمة الفعلية إلاّ أنّه موصوف بالحرمة التعليقية ، لأنّ الحرمة التعليقية لها حظّ من الوجود في عالم الاعتبار ولو قبل وجود ما علّقت عليه ، ففيه أنّه لا معنى ولا محصّل للحرمة التعليقية إلاّ أنّ هذا العصير لو لحقه الغليان لحرم ، وذلك عبارة أُخرى عن قضية حملية تكون القضية الشرطية محمولاً فيها ، ومن الواضح أنّ ذلك إنّما هو أمر عقلي انتزاعي ، ينتزعه العقل من جعل الشارع الحرمة على موضوعها الذي هو العصير الغالي أو العصير عند الغليان ، فإنّ الشارع لم يجعل هذه الملازمة بين هذا العصير وبين حرمته عند غليانه ، وإنّما جعل الحرمة له على تقدير غليانه ، فالمجعول الشرعي للعصير هو تلك الحرمة التي تنوجد عند الغليان ، لا الملازمة بينه وبين الحرمة على تقدير الغليان ، فقبل وجود الغليان لا يكون لنا موجود شرعي ، وإنّما يكون الموجود حينئذ أمراً عقلياً منتزعاً من تلك الحرمة التي جعلها الشارع للغليان ، وذلك الأمر الانتزاعي المعبّر عنه بأنّ هذا العصير لو غلى لحرم ليس بنفسه هو المجعول الشرعي. نعم لا يرد على هذا التقريب ما أُورد عليه ثانياً بأنّ تلك الحرمة التعليقية الانتزاعية مقطوعة لا مشكوكة ، لما عرفت من طروّ الشكّ عليها بواسطة التبدّل من الزبيبية إلى العنبية.

نعم ، يرد عليه ثانياً ما أورد ثانياً على التقريب الآخر الذي نقله عن الشيخ قدس سره ، وحاصل ذلك الإيراد الثاني : أن الملازمة بين الموضوع وحكمه التي

ص: 31

قيل بأنّها شرعية بناءً على جعل السببية إنّما هي الملازمة بين تمام الموضوع وبين حكمه ، أمّا الملازمة بين جزء الموضوع الذي هو العصير وبين الحكم على تقدير وجود الجزء الآخر الذي هو الغليان ، فتلك عقلية صرفة لم يقل أحد بأنّها شرعية ، والمفروض أنّ المراد استصحابه فيما نحن فيه إنّما هي هذه الملازمة المعبّر عنها بأنّ هذا العصير لو لحقه الغليان لكان حراماً ، لا الملازمة بين العصير الغالي وبين الحرمة ، فإنّها ليست مطروّة للشكّ.

وينبغي أن يعلم أنّ التقريب الأوّل للحرمة التعليقية وهو كون العصير لو غلى لكان حراماً هو عين التقريب الثاني المعبّر عنه بالملازمة بين الغليان والحرمة ، فإنّ هذه الملازمة لابدّ أن يراد منها الملازمة بين غليان هذا العصير والحرمة ، فيكون هذا العصير متّصفاً بأنّه لو غلى لكان حراماً ، وذلك عين التقريب الأوّل فتأمّل.

تنبيه : لو كان الشرط أمراً تكوينياً غير الغليان ، مثل أن يقول : يحرم العصير العنبي عند مجيء زيد ، فتبدّل إلى الزبيبية قبل مجيئه ثمّ جاء ، فهل يمنع من استصحاب هذا الحكم التعليقي. وينبغي أن يتأمّل في استصحاب وجوب القصر أو استصحاب وجوب التمام قبل الوقت هل هو من قبيل الاستصحاب التعليقي أو لا ، وينبغي مراجعة ما حرّرته في المجموعة (1) في مسألة العدول عن نيّة الإقامة وحصول الصلاة الرباعية مع الشكّ في المقدّم منهما ، فبعد تعارض الأُصول الموضوعية هل يكون المرجع هو استصحاب وجوب التمام ولو كان الرجوع المحتمل قبل الوقت ، وهل يكون ذلك من الاستصحاب التعليقي.

ص: 32


1- [ الظاهر أنّه قدس سره يشير بذلك إلى مجموعته الفقهية الاستدلالية المخطوطة ].

قوله : أنّ الشكّ في حلّية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وإن لم يكن مسبّباً عن الشكّ في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان ، وإنّما كان الشكّ في أحدهما ملازماً للشكّ في الآخر ، بل الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر ، إلاّ أنّ الشكّ في الطهارة والحلّية الفعلية في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كون المجعول الشرعي هل هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقاً حتّى في حال كونه زبيباً ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كان الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر لكان استصحاب كلّ منهما رافعاً للشكّ في الآخر ، فتكون المعارضة باقية بحالها بنحو أقبح ، فإنّها حينئذ من قبيل حكومة كلّ من الأصلين على الآخر ، لا من قبيل مجرّد المعارضة.

وأمّا ما أُفيد بقوله : إلاّ أنّ الشكّ في الطهارة والحلّية الفعلية في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كون المجعول الخ ، فهو غير رافع للإشكال بل يؤيّده ويؤكّده ، لأنّ كلاً منهما إذا كان مسبّباً عن الشكّ في إطلاق الحكم المستفاد من الدليل وشموله لحال الزبيبية ، فلا وجه لتقديم أحد الاستصحابين على الآخر ، لأنّ كلاً منهما لا يكون مزيلاً لناحية الشكّ في ذلك الدليل كي يكون مزيلاً للشكّ المسبّب عنه ، إذ كما أنّ استصحاب الحرمة يقال فيه إنّه يشرح ذلك الدليل ويبيّن شموله لحال الزبيبية ، فلِمَ لا يقال ذلك في ناحية استصحاب الحلّية وأنّه يشرح ذلك الدليل ويبيّن اختصاصه بحال العنبية ، وما ذلك إلاّلأنّ أقصى ما في استصحاب الحرمة أنّه حكم على طبق العموم والشمول لا أنّه مبيّن للشمول ، فكذلك استصحاب الحلّية أقصى ما فيه أنّه حكم تعبّدي على طبق الخصوص ، لا أنّه مبيّن لكون الدليل خاصّاً.

ص: 33


1- فوائد الأُصول 4 : 474 - 475.

ولعلّ هذا هو المتحصّل من قول صاحب الكفاية قدس سره : وبالجملة يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أُهمل أو أُجمل كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً الخ (1) فإنّ هذه الجملة وإن لم يسقها صاحب الكفاية لبيان حكومة استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلّية الفعلية ، إلاّ أنّها صالحة لذلك بالبيان الذي أفاده شيخنا قدس سره ، ولكن قد عرفت التأمّل في ذلك.

ثمّ لا يبعد أن تكون دعوى العينية مبنية على دعوى كون الاباحة عبارة عن عدم الحرمة ، لا أنّها حكم مستقل في قبال الحرمة. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ كلامنا إنّما هو في إباحة العصير الزبيبي ، وهي إباحة اقتضائية في قبال الحرمة ، لا أنّها عبارة عن مجرّد عدم الحرمة ، مع أنّا لو سلّمنا كون الاباحة عبارة عن عدم الحرمة لم يكن ذلك نافعاً في التخلّص عن إشكال المعارضة ، فإنّ استصحاب الاباحة ولو بمعنى عدم الحرمة معارض لاستصحاب الحرمة ، كمعارضة استصحاب عدم الحرمة لاستصحاب الحرمة.

قوله : والحاصل : أنّ الشكّ في الحلّية والحرمة والطهارة والنجاسة في الزبيب المغلي مسبّب عن الشكّ في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي ، وأنّ الشارع هل رتّب النجاسة والحرمة على العنب المغلي مطلقاً في جميع مراتبه المتبادلة ، أو أنّ الشارع رتّب النجاسة والحرمة على خصوص العنب ولا يعمّ الزبيب ، فالاستصحاب التعليقي يقتضي كون النجاسة والحرمة مترتّبين على الأعمّ ، ويثبت به نجاسة الزبيب المغلي ، فلا يبقى مجال للشكّ في الطهارة والحلّية ... الخ (2).

لا يخفى أنّ هذه الجملة اعتراف بأنّ كلاً من الشكّ في الحلّية بعد الغليان

ص: 34


1- كفاية الأُصول : 411.
2- فوائد الأُصول 4 : 475.

والشكّ في الحرمة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في عموم الدليل الاجتهادي وشموله للزبيب ، فعلى تقدير عمومه له يكون العصير الزبيبي محكوماً بالحرمة بعد الغليان ، وعلى تقدير عدم عمومه له يكون العصير المذكور بعد الغليان محكوماً بالحلّية ، فيتوجّه عليه حينئذ أنّ استصحاب الحرمة التعليقية لا يكون رافعاً للشكّ في ذلك الدليل الاجتهادي ، ومبيّناً لعمومه للعصير الزبيبي ، ولو سلّمنا له هذه الصلاحية لكان استصحاب الحلّية الثابتة للعصير الزبيبي قبل غليانه والحكم ببقائها بعد الغليان رافعاً للشكّ في ذلك الدليل ، ومبيّناً لاختصاصه بحال العنبية وعدم شموله لحال الزبيبية.

وأمّا ما أُفيد في آخر المبحث من قوله : وحاصل الكلام - إلى قوله - فإنّ التعبّد بنجاسة العنب المغلي وحرمته بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيباً كما هو مفاد الاستصحاب التعليقي يقتضي التعبّد بعدم طهارته وحلّيته ، إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة والحرمة إلاّ إلغاء احتمال الطهارة والحلّية الخ (1) ففيه : أنّه بعد فرض عدم السببية والمسبّبية بين الشكّين ، وأنّ كلاً منهما مسبّب عن الشكّ في الدليل الاجتهادي ، يمكن أن يقال : إنّ التعبّد ببقاء الحلّية والطهارة الثابتتين للعصير الزبيبي قبل الغليان وجرّهما إلى ما بعد الغليان ، يقتضي التعبّد بعدم نجاسته وحرمته بعد الغليان ، إذ ليس حينئذ أحد الاستصحابين أولى بالتقدّم من الآخر.

فالأولى في وجه الحكومة هو أن يقال : إنّ الوجه في حكومة الاستصحاب التعليقي هو أنّ كلاً من الحلّية والحرمة وإن كان ضدّاً للآخر إلاّ أنّ الحكم بأحدهما يقتضي رفع الآخر ، بل إنّ الحكم بأحدهما عين رفع الآخر ، وحينئذ نقول : إنّ

ص: 35


1- فوائد الأُصول 4 : 477.

العصير في حال كونه عنباً محكوم بالحرمة على تقدير الغليان ، والحكم عليه بالحرمة على تقدير الغليان هو عين رفع الحلّية عند الغليان ، ثمّ إنّ ذلك العصير من حين صيرورته زبيباً إلى حين غليانه محكوم بالحلّية فعلاً ، وهذه الحلّية المعلومة في حدّ نفسها لم يثبت أنّها محدودة ومرتفعة بالغليان ، إلاّ أنّه في هذه القطعة من الزمان يعني من زمان صيرورته زبيباً إلى حال الغليان لمّا كان محكوماً بالحرمة على تقدير الغليان استصحاباً لحرمته التعليقية ، وجرّها من حال العنبية إلى حال الزبيبية ، كان مقتضى هذا الاستصحاب هو أن تكون حلّيته الثابتة له في حال الزبيبية مرتفعة بالغليان كما كانت حرمته التعليقية الثابتة له بالوجدان في حال العنبية حاكمة بارتفاع حلّيته الفعلية عند الغليان.

قوله : والسرّ في ذلك : هو أنّه في الشبهات الموضوعية يكون أحد طرفي الشكّ المسبّبي أثراً شرعياً لمؤدّى الأصل السببي بدليل آخر (1).

الظاهر أنّ هذا كلّه إنّما هو لأجل تعدّد الموضوع الذي يجري فيه الأصل أعني بذلك مورد الشكّ السببي ومورد الشكّ المسبّبي ، لا لخصوصية في كون الشبهة موضوعية ، وإلاّ فإنّ طهارة الماء حكم شرعي وإن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشبهة الموضوعية كما في المثال ، وربما كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشبهة الحكمية ، كما لو كان الماء مشكوك الطهارة بنحو الشبهة الحكمية ، بأن كان قليلاً ولاقته نجاسة وحصل لنا الشكّ في نجاسة الماء القليل فاستصحبنا طهارته قبل الملاقاة ، فإنّ هذا الاستصحاب وإن كان مورده الشبهة الحكمية يكون حاكماً على استصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه ، لأنّه يدخله تحت الكبرى القائلة بأنّ

ص: 36


1- فوائد الأُصول 4 : 476.

الغسل بالماء الطاهر مطهّر ، وفي كلّ من الموردين يكون استصحاب الطهارة منقّحاً للموضوع في الشكّ المسبّبي ، فإنّه يوجب كون الثوب مغسولاً بماء طاهر ، وكلّ ما غسل بماء طاهر يكون طاهراً ، وبذلك يرتفع الشكّ في بقاء نجاسته. وهذه الجهة وهي إزالة الشكّ في ناحية المسبّب هي الملاك في الحكومة ، وهي بعينها المدعاة فيما نحن فيه ، فإنّ استصحاب الحرمة التعليقية تحقّق الكبرى في ناحية السبب ، وبعد أن تتحقّق الكبرى فيه وهي حرمته التعليقية يرتفع الشكّ في ناحية المسبّب وهي بقاء الحلّية ، ويكون العصير ممّا أحرز ارتفاع حلّيته ، فلا يكون بقاؤها مشكوكاً كي ينطبق عليه كبرى « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

وكأنّه لأجل هذه الجهة - من عدم الفرق بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية في حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي - قال فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه بعد بيان وجه الحكومة ما هذا لفظه : وهذا هو المعيار في حكومة أحد الدليلين على الآخر ، من دون فرق بين كون الأصل الحاكم أصلاً حكمياً أو موضوعياً (1) فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّ التعبّد بنجاسة الشيء وحرمته يقتضي عدم الحلّية والطهارة (2).

نعم ، يقتضيها ولكن بالملازمة العقلية ، لما عرفت من كون الحلّية ثبوتية لا مجرّد عدم الحرمة ، وإن سلّمنا أنّها عبارة عن عدم الحرمة كان استصحابها معارضاً لاستصحاب الحرمة.

ص: 37


1- أجود التقريرات 4 : 127.
2- فوائد الأُصول 4 : 477.

قوله : فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلّية الزبيب وطهارته كان التعبّد به لغواً ، ويلزم بطلان الاستصحاب التعليقي أساساً ... الخ (1).

ليس هذا بلازم باطل ، وإنّما جلّ غرض المستشكل هو إبطاله وإلغاؤه. نعم فيما لم يكن معارض لاستصحاب الحرمة لا يكون استصحاب الحرمة ( بناءً على ما ذكرناه من كون الحلّية ثبوتية ) مثبتاً لعدم الاباحة ، لكن هناك نقول إنّه يكفي في مقام العمل مجرّد ثبوت الحرمة ، وإن لم يكن في البين ما يثبت عدم الاباحة ، أعني الاباحة الثبوتية الاقتضائية.

والذي تلخّص : هو أنّ شيخنا قدس سره قد أفاد في وجه حكومة استصحاب النجاسة والحرمة التعليقيتين على استصحاب الحلّية والطهارة الفعليتين ، أنّ الشكّ في طهارة العصير وحلّيته عند الغليان مسبّب عن عموم الدليل القائل إنّ العنب إذا غلى يحرم وينجس ، وشموله لما إذا صار زبيباً ، فإذا جرى الاستصحاب في هذا الحكم التعليقي ارتفع الشكّ في طهارته وحلّيته.

وفيه تأمّل أوّلاً : من جهة كون ذلك مثبتاً ، فإنّ الأصل لا يثبت عموم الدليل إلاّ بلازمه ، وإن كان قد صرّح السيّد في تحريراته بقوله : وإذا أُحرز العموم بالاستصحاب الخ (2) وكيف يمكن إحراز العموم بالاستصحاب.

وثانياً : من جهة أنّ كشف هذا الاستصحاب التعليقي عن عموم الدليل الموجب لزوال الشكّ في طهارته وحلّيته ليس بأولى من دعوى كون استصحاب الحلّية والطهارة الفعليتين كاشفاً عن اختصاص ذلك الحكم التعليقي بخصوص حالة العنبية.

ص: 38


1- نفس المصدر.
2- أجود التقريرات 4 : 127.

ثمّ إنّه قدس سره أشكل على نفسه بأنّ المسبّب هنا ليس من الآثار الشرعية للسبب ، وأجاب عنه : بأنّ ذلك إنّما يعتبر في الأُصول الموضوعية دون الأُصول الحكمية ، فإنّها لا تحتاج إلى ذلك ، لأنّ عدم الحلّية والطهارة بنفسه أثر للحكم بالحرمة والنجاسة.

وفيه تأمّل أيضاً ، لعدم وضوح هذا الفرق ، وكأنّه لأجل ذلك قال في تحريرات السيّد سلّمه اللّه : من دون فرق بين كون الأصل الحاكم أصلاً حكمياً أو موضوعياً (1). ولو سلّم فليس ذلك بأولى من القول بأنّ عدم الحرمة والنجاسة أثر للحكم بالحلّية والطهارة.

ثمّ قال : فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلّية الزبيب وطهارته كان التعبّد به لغواً ، ويلزم بطلان استصحاب التعليقي أساساً.

ويمكن التأمّل فيه أوّلاً : بأنّ هذا ليس بأولى من القول بأنّ استصحاب الطهارة والحلّية لو لم يثبت عدم الحرمة والنجاسة لكان لغواً. وثانياً : أنّ هذا هو مراد المشكل ، فإنّه يريد سقوط الاستصحاب التعليقي ، لأنّه دائماً مبتلى بمعارضة الاستصحاب التنجيزي.

ثمّ قال : إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة أو الحرمة إلاّ إلغاء احتمال الحلّية والطهارة ، انتهى.

ويمكن التأمّل فيه ، بأنّه ليس بأولى من القول بأنّه لا معنى للتعبّد بالحلّية والطهارة عند الغليان إلاّ إلغاء احتمال الحرمة والنجاسة ، فتأمّل.

والإنصاف : أنّ ورود هذه التأمّلات فيما أفاده مؤيّد ما شرحنا من كون جعل الحكم الطارئ يكون بنفسه جعلاً لرفع الحكم الموجود قبل جعل ذلك الطارئ ،

ص: 39


1- أجود التقريرات 4 : 127.

فإنّ التعبّد بعروض الحرمة والنجاسة عند الغليان يكون تعبّداً برفع الطهارة والحلّية ، بخلاف العكس لأنّ التعبّد ببقاء الطهارة والحلّية لا يكون تعبّداً إلاّبالعدم لهما ، الذي هو توأم مع وجود الحلّية والطهارة ، فلاحظ ما شرحناه ونقلناه عن تحريراتنا عنه قدس سره في التنبيه الثاني (1) الذي عقدناه لتوجيه الحكومة المذكورة من التنبيهين الآتيين.

تنبيه : يمكن أن يشكل على استصحاب الحلّية المنجّزة حين التبدّل إلى الزبيبية ، بأنّها إن كانت هي الثابتة للعنب التي هي محدودة شرعاً بالغليان فقد ارتفعت بالغليان ، وإن كانت هي الثابتة للزبيب بأن كان التبدّل إليه موجباً لتغيّر الموضوع ، فهي باقية قطعاً بعد الغليان ، فتكون تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية مردّدة بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ، فلم يبق إلاّ استصحاب الكلّي ، وحينئذ تندرج المسألة في القسم الثالث من الكلّي ، لأنّا بعد الغليان نعلم بأنّ حلّية العنب قد ارتفعت إمّا بالتبدّل إلى الزبيبية وإمّا بالغليان ، غايته أنّا نحتمل قيام حلّية أُخرى مقامها لو كان ارتفاعها بالتبدّل ، فتكون المسألة مندرجة في استصحاب القسم الثالث من الكلّي.

وبالجملة : أنّ المتيقّن الحدوث هو الحلّية المحدودة ، وهي حلّية العنب ، ولكنّا عند صيرورته زبيباً نحتمل تبدّلها إلى حلّية غير محدودة على وجه لا يكون الغليان موجباً لارتفاعها وانقطاعها ، فلو أردنا استصحاب كلّي الحلّية كان من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، إذ هو حينئذ نظير ما لو علمنا بوجود البقّة في هذه الغرفة لكن في اليوم الثاني احتملنا دخول الفيل إلى الغرفة واعدامه للبقّة ، بمعنى أنّا في اليوم الثاني احتملنا أنّ البقّة تبدّلت بالفيل ثمّ جاء اليوم الثالث وانتهى وهو آخر

ص: 40


1- الظاهر أنّ المراد به هو التنبيه الآتي في الصفحة : 60 وما بعدها.

حياة البقّة ، ففي مثل ذلك لا يمكننا استصحاب كلّي الحيوان ، لأنّه من قبيل القسم الثالث ، فإنّا وإن كنّا في اليوم الثاني قاطعين بوجود الحيوان المردّد بين الفيل والبقّة ، إلاّ أنّ ما هو معلوم الحدوث من ذلك الكلّي وهو البقّة قد ارتفع يقيناً إمّا بالفيل أو بانقضاء الثلاثة ، غايته أنّا نحتمل ارتفاعه بالفيل الذي يخلف البقّة ، فيكون راجعاً إلى القسم الثالث. نعم لو كان الحادث مردّداً بين البقّة والفيل لكان من قبيل القسم الثاني.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّ الزبيب لو كانت حلّيته حادثة وتردّدت بين الحلّية المحدودة بالغليان وغير المحدودة به ، لكان استصحاب القدر الجامع بينهما بعد الغليان من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، لكن المفروض ليس كذلك ، بل إنّ حلّيته إن كانت محدودة بالغليان فهي الحلّية السابقة التي كانت له حينما كان عنباً لا حلّية جديدة ، وإن لم تكن محدودة بالغليان فهي حلّية جديدة تخلف الحلّية السابقة المحدودة ، فلا يكون استصحاب القدر الجامع بينهما إلاّمن قبيل القسم الثالث من الكلّي الذي قد علم بوجوده في ضمن المحدودة ، وقد علم بارتفاع ذلك المحدود ، إمّا بوجود حدّه وإمّا لتبدّله إلى غير المحدود. ولو سلّمنا أنّه من قبيل القسم الثاني توجّه إليه المنع من وجود القدر الجامع بين الحلّيتين.

ومن ذلك يظهر لك الوجه فيما حكموا به من عدم وجوب الغسل فيما لو كان محدثاً بالأصغر واحتمل طروّ الجنابة عليه ، بناءً على أنّ الحدث الأكبر معدم للأصغر ، فإنّه وإن كان حدثه عند احتمال طروّ الجنابة مردّداً بين الأصغر والأكبر ، إلاّ أنّه لمّا كان مسبوقاً بالأصغر فهو بعد الوضوء يعلم بارتفاع الأصغر إمّا بالوضوء وإمّا بالجنابة ، غايته أنّه يحتمل أنّه قد قامت الجنابة مقام الأصغر لو كانت قد حدثت له ، فيكون استصحاب كلّي الحدث من قبيل القسم الثالث.

ص: 41

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المنظور إليه في الاستصحاب ليس هو مجموع ما مرّ عليه ليكون من قبيل القسم الثالث ، بل المنظور إليه في ذلك هو حالة احتمال طروّ الجنابة ، وهو في ذلك الحال عالم بأنّه محدث بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر ، فيستصحب القدر الجامع بينهما ، ويكون من قبيل القسم الثاني ، ويندرج في اجتماع المقتضي وعدم المقتضي ، بمعنى أنّا لو نظرنا إلى مجموع ما مر عليه كان من قبيل عدم المقتضي ، لأنّ الاستصحاب حينئذ ينحصر بالقسم الثالث وهو غير جار ، لكن لو نظرنا إلى حالته عند احتمال الجنابة كان من قبيل المقتضي ، لأنّه يكون من قبيل القسم الثاني.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّا لو نظرنا إلى مجموع ما مرّ على هذا العصير من حين كونه عنباً إلى كونه زبيباً إلى غليانه ، كان استصحاب الحلّية الكلّية فيه من قبيل القسم الثالث ، لكن لو نظرنا إلى خصوص حالته الزبيبية كان من قبيل القسم الثاني.

أمّا الاستناد إلى استصحاب بقاء حلّية العنب المحدودة إلى ما بعد التبدّل ، أو استصحاب عدم حدوث حلّية جديدة عند التبدّل ، ففيه أنّهما لا يزيلان الشكّ في هذه الحلّية إلاّبالأصل المثبت ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الحلّية حال العنب وإن كانت محدودة ، إلاّ أنّا بعد التبدّل إلى الزبيب نشكّ في أنّها حينئذ محدودة بالغليان فترتفع عنده فيستصحب بقاؤها.

لأنّا نقول : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الحلّية عند التبدّل إلى الزبيب هي الحلّية السابقة ، غايته أنّ حدّها بالغليان قد ارتفع ، وهذا خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّ لنا حلّيتين إحداهما عند العنب وهي محدودة ، والأُخرى عند التبدّل وهي غير محدودة ، وإنّما قلنا باختلافهما لأجل اختلاف موضوعهما ، فإنّا لو قلنا إنّ الزبيب

ص: 42

مغاير للعنب بحيث كان موضوعاً جديداً ، فلا جرم تكون حلّيته هي مباينة للحلّية التي كانت لاحقة للعنب.

قال الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته : وأمّا بناءً على مشربنا فقد يتوهّم عدم وصول النوبة إلى المعارضة أصلاً ، إذ كما يجري استصحاب الحرمة التعليقية كذلك يجري استصحاب عدم الوجوب منوطاً بعدم المعلّق عليه ، وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية محضة من قبيل تزاحم المناطين (1).

بدّل الاباحة بالوجوب ليظهر أثر المعارضة والتزاحم ، وكأنّه إشارة إلى ما في الكفاية (2) من أن استصحاب الحلّية المغيّاة بالغليان أو التي يكون عدمها معلّقاً على الغليان ، لا يعارض استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان لجريانهما معاً بلا تدافع بينهما. والعبارة مشتملة على زيادة لفظ « العدم » ، فإنّ المراد هو أنّه لو فرضنا أنّ حكمه قبل حصول الغليان هو الوجوب ، يكون عدم الوجوب منوطاً بوجود المعلّق عليه ، بمعنى أنّ زوال ذلك الوجوب مشروط بالغليان ، أو المراد أنّ ذلك الوجوب يكون بقاؤه منوطاً بعدم ذلك المعلّق عليه الحرمة أعني الغليان ، فلابدّ من إسقاط أحد لفظي « العدم » من العبارة ، ولعلّ قوله : كما أنّ لنا حينئذ قطعاً بعدم الوجوب منوطاً بالمعلّق عليه للحرمة الخ ، قرينة على الأوّل ، أعني إسقاط لفظ « العدم » من المعلّق عليه.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ هذا التوهّم الذي ذكره هو تعريض بما في الكفاية ، وقد أجاب عنه بقوله : ولكن لا يخفى ما فيه ، من أنّه كما أنّ لنا حينئذ قطعاً بعدم الوجوب منوطاً بالمعلّق عليه للحرمة ، كذلك لنا أيضاً قطع مطلق ( متعلّق )

ص: 43


1- مقالات الأُصول 2 : 403.
2- كفاية الأُصول : 412.

بوجوب الشيء منجّزاً ، وكلّ واحد من القطعين مشمول حرمة النقض ، بلا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر بعد فرض عدم كون ارتفاع أحدهما من آثار الآخر شرعاً كي يصير أحد الاستصحابين حاكماً على الآخر الخ (1).

وحاصله : أنّ هذا الجواب الذي في الكفاية إنّما ينفع لو كانت الحلّية المستصحبة هي الحلّية الثابتة للعنب ، أمّا الحلّية الثابتة للزبيب فتلك حلّية منجّزة ، فلا يتأتّى فيها ما أفاده في الكفاية من كون استصحابها موافقاً لاستصحاب الحرمة المعلّقة ، فراجع ج 1 من المستمسك ص 92 (2) وج 2 من الحقائق ص 470 (3).

وينبغي مراجعة حاشية العلاّمة الأصفهاني قدس سره (4) فإنّه أوّلاً قد صرّح بمنع كون حلّية عصير العنب مغيّاة شرعاً بالغليان ، وبأنّ استصحاب تلك الحلّية لا يقتضي ارتفاعها بالغليان إلاّبالأصل المثبت ، لعدم كون ارتفاعها به بحكم الشارع ، بل هو بواسطة حكم العقل بارتفاع أحد الضدّين وهو الحلّية عند وجود الضدّ الآخر وهو التحريم عند الغليان ، وحينئذ يكون استصحاب تلك الحلّية معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية.

ثمّ أفاد بعد ذلك ما حاصله : أنّه لو قلنا بكون الغاية شرعية والحلّية المجعولة مغيّاة شرعاً ، كان ذلك موجباً لسقوط استصحاب تلك الحلّية المغيّاة بعد حصول الغاية ، لكن يجري استصحاب الحلّية المهملة للزبيب ، للقطع بأنّه حلال فعلاً إمّا بالحلّية المغيّاة كالعنب ، أو بحلّية مطلقة حادثة بعد التبدّل إلى

ص: 44


1- مقالات الأُصول 2 : 403.
2- مستمسك العروة الوثقى 1 : 422 - 423.
3- حقائق الأُصول 2 : 470.
4- نهاية الدراية 5 - 6 : 176 - 177.

الزبيبية ، وقد اعتمد على استصحاب هذه الحلّية الكلّية المهملة وجعله معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، بل ولاستصحاب الحلّية المغيّاة ، ولاستصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة الثابت قبل الزبيبية.

فهو موافق لما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره من الاعتماد على هذا الاستصحاب في إلقاء المعارضة بينه وبين استصحاب الحرمة التعليقية لو أسقطنا استصحاب حلّية العنب بعد تسليم كون حلّية العنب مغيّاة شرعاً ، لكنّه يدّعى أنّ حلّية العنب غير مغيّاة شرعاً بالغليان ، ولعلّ الأُستاذ العراقي يوافق على ذلك كما تقدّم (1) من عبارته في المقالة بقوله : وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية الخ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الذي تقدّم كان بناءً على كون حلّية العنب محدودة شرعاً بالغليان.

وأمّا بناءً على أنّه لا تحديد فيها ، غايته أنّها ترتفع قهراً بوجود ضدّها وهو الحرمة على تقدير الغليان ، ففيها تفصيل ، وهو أنّه عند التبدّل إلى الزبيبية وحصول احتمال تبدّل الموضوع بذلك ، فالظاهر أنّ الذي يتبدّل هو موضوع الحرمة التعليقية ، وأمّا الحلّية فلا يبعد القول ببقاء موضوعها الأعمّ من العنب والزبيب ، وحينئذ لا يكون لنا ترديد في الحلّية الثابتة في حال الزبيبية ، فإنّها حينئذ هي تلك الحلّية الثابتة في حال العنبية ، سواء حصل التبدّل في موضوع الحرمة التعليقية أو لم يحصل ، وحينئذ فلا مانع من استصحاب تلك الحلّية إلى ما بعد الغليان ، فيعارض استصحاب الحرمة التعليقية.

نعم ، لو قلنا إنّ هذا التبدّل كما يؤثّر على موضوع الحرمة التعليقية ، فكذلك يؤثّر على موضوع الحلّية الفعلية للعنب ، وأنّه بتبدّله إلى الزبيبية يحدث له حلّية

ص: 45


1- في الصفحة : 43.

أُخرى لكونه موضوعاً آخر غير العنب ، فعلى هذا التقدير يحصل لنا التردّد في الحلّية الثابتة في حال الزبيبية ، هل هي الحلّية السابقة التي كانت في حال العنب ، أو هي حلّية جديدة مختصّة بالزبيب ، وإن كان كلّ من الحلّيتين غير محدودة بالغليان ، إلاّ أنّ الأُولى قابلة للارتفاع القهري بالغليان ، بخلاف الثانية.

وحينئذ تكون النتيجة هي أنّا بعد الغليان قاطعون بارتفاع الحلّية السابقة التي كانت حال العنبية ، إمّا بتبدّل موضوعها أو بحصول رافعها القهري ، وهو الحرمة الآتية من قبل الغليان ، أمّا الحلّية التي كانت موجودة في حال الزبيبية فهي مردّدة عندنا بين الحلّية السابقة والحلّية الجديدة ، وعلى الأوّل هي مقطوعة الارتفاع بالغليان ، وعلى الثاني هي مقطوعة البقاء ، ويكون الحاصل هو أنّ الحلّية السابقة قد ارتفعت يقيناً ، لكن هل كان ارتفاعها من حين التبدّل فقد خلفتها حلّية أُخرى هي باقية حتّى بعد الغليان ، أو أنّه كان ارتفاعها بالغليان فلم تخلفها حلّية أُخرى ، فيكون المقام من استصحاب الكلّي الذي علم ارتفاع فرده وشكّ في أنّه عند ارتفاعه خلفه فرد آخر أو لم يخلفه ، إن كان المنظور إليه هو مجموع حالاته من العنبية إلى الزبيبية ، وإن كان المنظور إليه هو خصوص حالته الزبيبية ، كان من قبيل الفرد المردّد وكان من قبيل القسم الثاني من الكلّي.

لا يقال : بناءً على الوجه الأوّل - أعني كون حلّية العنب غير محدودة شرعاً بالغليان ، وأنّها لا تتبدّل بحلّية أُخرى عند التبدّل إلى الزبيبية - ينبغي أن يقال : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية يكون حاكماً على استصحاب تلك الحلّية ، إذ لم يكن الشكّ حينئذ إلاّمن ناحية واحدة ، وهي بقاء تلك الحرمة التعليقية ، فإذا جرى الاستصحاب فيها زال الشكّ المذكور ، وكان عند حصول الغليان محكوماً بالحرمة الفعلية ، وذلك عبارة أُخرى عن عدم بقاء الحلّية ، ولأجل ذلك لم يتردّد

ص: 46

أحد في أنّه لو حصل الشكّ في نسخ تلك الحرمة التعليقية عن العنب ، كان استصحاب عدم النسخ قاضياً بأنّه باقٍ على ما هو عليه من أنّه لو غلى يحرم ، ولم يتخيّل أحد أنّ استصحاب حلّيته قبل غليانه يكون معارضاً لاستصحاب بقاء الحرمة المذكور وعدم نسخها.

لأنّا نقول : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية وإن قضى بفعلية الحرمة عند الغليان ، إلاّ أنّ ذلك ليس عبارة عن عدم الحلّية بناءً على التضادّ بين الأحكام الشرعية. وأمّا استصحاب عدم النسخ فإنّ فيه خصوصية أُخرى ، وهو أنّه يفتح باب التمسّك بالدليل الاجتهادي الوارد في المسألة ، وأنّ ما تضمّنه من الحكم باق لم ينسخ ، وحينئذ فبأصالة عدم نسخ الحرمة التعليقية المستفادة من مثل قوله : إنّ العنب إذا غلى يحرم ، يبقى لنا ذلك الدليل بحاله ، ويكون حاكماً بالحرمة على تقدير الغليان ، ومن الواضح أنّ أخذ الحرمة من هذا الدليل يقضي بارتفاع الحلّية لكونه لازم تحقّق الحرمة فعلاً ، وهذا بخلاف الاستصحاب فيما نحن فيه ، فإنّه لا يكون المستصحب إلاّنفس الحكم ، ومن المعلوم أنّه لا يترتّب عليه لازمه الذي هو ارتفاع الحلّية.

وأمّا الجواب عن استصحاب عدم النسخ بأنّه أصل عقلائي مستقل ، وإلاّ لم يكن جارياً في الشكّ في نسخ نفس الاستصحاب ، فالظاهر أنّه غير نافع ، فإنّه لو سلّمنا كونه أصلاً مستقلاً لم يكن ذلك موجباً لترتّب اللوازم عليه ، والمفروض أنّ إشكالنا فيه إنّما هو من هذه الناحية فلاحظ ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الدعوى - أعني كون استصحاب الحكم في مورد الشكّ في نسخه موجباً لفتح باب التمسّك بالدليل الاجتهادي الدالّ على ذلك الحكم ، بخلاف استصحاب الحكم في مورد الشكّ في بقائه من ناحية تبدّل

ص: 47

بعض حالات موضوعه - ممّا لا شاهد عليها ، فإنّ الاستصحاب ليس هو إلاّعبارة عن جرّ الحكم السابق من زمان اليقين به إلى زمان الشكّ في بقائه ، سواء كان منشأ الشكّ في بقائه هو احتمال نسخه ، أو كان هو تبدّل بعض حالات موضوعه ، ولعلّها راجعة إلى دعوى كون النسخ تخصيصاً بحسب الأزمان وأنّه من مقولة الدفع لا الرفع ، كما أنّ دعوى كون أصالة عدم النسخ أصلاً مستقلاً غير راجع إلى الاستصحاب ممّا لا شاهد عليها ، ولو فرضنا الشكّ في نسخ نفس الاستصحاب - أعني نسخ مفاد « لا تنقض اليقين » - نلتزم بعدم إمكان الحكم ببقاء هذا الحكم.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّا لو سلّمنا كون استصحاب عدم النسخ أصلاً مستقلاً ، لم يكن ذلك بقاض بحجّية المثبت منه ، الذي هو منشأ الإشكال في استصحاب الحكم من ناحية تبدّل الحالة.

فالحقّ : هو أنّ استصحاب الحكم التعليقي - أعني الحرمة المعلّقة على الغليان - حاكم على استصحاب حلّيته الفعلية ، سواء كان منشأ الشكّ في بقاء ذلك الحكم التعليقي هو احتمال نسخه ، أو كان منشأ الشكّ في بقائه هو احتمال مدخلية تلك الحالة فيه أعني العنبية التي تبدّلت إلى الزبيبية ، كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

بقي الكلام في كون الحلّية محدودة شرعاً بالغليان وعدمه ، فإن قلنا بكونها ناشئة عن ملاك محدود بالغليان ، كما أنّ ملاك الحرمة منحصر بوجود الغليان ، تعيّن الأوّل ، وإن قلنا بأنّ ملاك الحلّية في نفسه غير محدود بذلك ، غايته أنّه إذا وجد الغليان يتولّد منه ملاك التحريم ، وإذا رأينا الشارع قد حكم بالحرمة عند الغليان علمنا أنّ ملاك التحريم أقوى من ملاك الحلّية ، وحينئذ يكون ارتفاع

ص: 48


1- راجع التنبيه الآتي في الصفحة : 60 وما بعدها.

الحلّية عند الغليان عقلياً من باب أنّ وجود أحد الضدّين وهو التحريم يكون موجباً عقلاً لارتفاع الضدّ الآخر وهو الحلّية ، وهذا التفصيل مأخوذ ممّا حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي ، ولعلّه إليه يومئ في مقالته حيث قال فيها في عبارته السابقة : إذ كما يجري استصحاب الحرمة التعليقية كذلك يجري استصحاب عدم الوجوب منوطاً بعدم المعلّق عليه ، وإن كانت مثل تلك الاناطة عقلية محضة من قبيل تزاحم المناطين (1).

ويمكن أن يقال : إنّ ملاك الحلّية وإن لم يكن محدوداً في حدّ ذاته بالغليان إلاّ أنّه لمّا كان عند الغليان يحدث ملاك التحريم وكان هو أقوى ، كانت المسألة من تزاحم الملاكات في مقام الجعل والتشريع ، ووقوع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام يوجب مغلوبيّة المنكسر وعدم تأثيره في ذلك المقام في مقتضاه ، وحينئذ قهراً يكون تأثير ملاك الحلّية منحصراً بما قبل الغليان ، وأنّه ينتهي تأثيره فيها عند الغليان ، وذلك هو عين المحدودية الشرعية.

وبالجملة : أنّ جعل الحرمة مشروطة بالغليان هو عين جعل الحلّية محدودة به ، سواء كان ذلك لقصور ملاك الحلّية ، أو لانكساره وغلبة ملاك الحرمة عليه.

ومن ذلك يظهر لك أنّه ليس لنا في قبال استصحاب الحرمة التعليقية إلاّ استصحاب الحلّية الزبيبية المردّدة بين المحدودة وغير المحدودة ، أمّا حلّية نفس العنب فلا ريب في كونها محدودة ، فلا أثر لاستصحابها في قبال استصحاب الحرمة التعليقية ، بل لا أثر للقطع ببقائها ، كما أفاده في الكفاية (2). نعم لو لم تكن حلّية العنب محدودة بالغليان شرعاً ، كان استصحابها جارياً ومعارضاً

ص: 49


1- مقالات الأُصول 2 : 403.
2- كفاية الأُصول : 412.

لاستصحاب الحرمة التعليقية ، ولا يتمّ ما أفاده في الكفاية من أنّ جريان استصحاب تلك الحلّية لا يضرّ باستصحاب الحرمة التعليقية.

لا يقال : إنّ كون ملاك الحلّية مقصوراً على ما قبل الغليان ، أو كونه فيما بعد الغليان مغلوباً لملاك التحريم ، لا يوجب كون الحلّية المجعولة على طبقه محدودة شرعاً بالغليان ، بل يمكن جعل الحلّية غير محدودة بذلك لكنّه يرفعها عند الغليان إمّا لانتهاء ملاكها أو لأجل مغلوبيته حينئذ.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وإن كان ممكناً كما شرحناه في النسخ (1) وأنّه من قبيل الرفع لا الدفع ، إلاّ أنّه لا يخرج عن التصرّف الشرعي بجعل الغليان رافعاً للحلّية الذي هو عبارة عن رفعها عند الغليان ، وحينئذ لا تكون الحلّية الثابتة للعنب حلّية مطلقة بل إمّا محدودة بالغليان وإمّا مرفوعة بالغليان ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب الخلل فيما رامه صاحب الكفاية قدس سره من أنّ استصحاب تلك الحلّية لا يعارض استصحاب الحرمة التعليقية ، لأنّ استصحاب الحلّية التي هي محدودة بالغليان أو الحلّية التي ترتفع شرعاً بالغليان يكون حاكماً بانعدامها بعد الغليان ، فلا يكون معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، هذا.

مضافاً إلى ما يستفاد من بعض أخبار المسألة من تحديد الحلّية بالغليان مثل قوله عليه السلام في صحيحة حمّاد : « لا يحرم العصير حتّى يغلى » (2) وفي أُخرى له « سألته عن شرب العصير ، قال عليه السلام : تشرب ما لم يغل ، وإذا غلى فلا تشربه » (3) الخ.

ص: 50


1- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 389 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 25 : 287 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 3 ح 1.
3- وسائل الشيعة 25 : 287 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 3 ح 3.

ثمّ إنّه بعد البناء على ذلك يكون المعارض لاستصحاب الحرمة التعليقية منحصراً باستصحاب حلّية الزبيب ، ولكن هل يكون استصحاب تلك الحلّية المحدودة أو استصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة حاكماً على استصحاب الحلّية الثابتة في حال الزبيبية إلى ما بعد الغليان؟ الظاهر العدم ، لأنّ استصحاب تلك الحلّية المحدودة أو استصحاب عدم حدوث الحلّية المطلقة ، لا يزيل الشكّ في تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية المردّدة بين الحلّية المطلقة والحلّية المحدودة ، إذ لا يثبت بهذين الاستصحابين كون تلك الحلّية الثابتة في حال الزبيبية حلّية محدودة ، وأمّا استصحاب حال نفس الغليان ، وأنّه قد كان في حال العنبية سبباً للحرمة وغاية للحلّية ، فهو لو تمّ لكان نافعاً في إزالة الشكّ من الجهتين ، وقاضياً بأنّ غليان عصير الزبيب كغليان عصير العنب في كونه سبباً لحرمته وحدّاً وغاية لحلّيته ، إلاّ أنّه على الظاهر لا مورد فيه للاستصحاب ، إذ ليست سببية السبب وحدّية الحدّ وغائية الغاية من المجعولات الشرعية ، وإنّما المجعول الشرعي هو الحرمة على تقدير وجود ذلك السبب الذي هو الغليان والحلّية المحدودة والمغيّاة بالغليان ، وعن جعل الشارع الحرمة على تقدير الغليان ينتزع العقل كون الغليان سبباً للحرمة ، وعن جعل الحلّية محدودة ومغيّاة بالغليان ينتزع العقل كون الغليان حدّاً وغاية للحلّية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره في طهارته بعد أن استدلّ بالاستصحاب التعليقي ، قال : والخدشة فيه بأنّ المستصحب وهو نجاسة ماء العنب على تقدير غليانه تعليقي فلا اعتداد به ، لأنّه يعتبر في الاستصحاب كون المستصحب موجوداً قبل زمان الشكّ ، مدفوعة

ص: 51

برجوعه إلى استصحاب أمر محقّق وهو سببية غليانه للنجاسة (1).

تنبيه : ذكر في الحقائق هذا الاستصحاب فقال : ويمكن في الجواب أن يقال : الشكّ في ارتفاع الحلّية بالغليان وبقائها ناشٍ من الشكّ في بقاء الغليان على ما هو عليه من الخصوصية المقتضية للحرمة الرافعة للحلّية وعدمه ، والأصل بقاؤه على ما كان ، فيترتّب عليه أثره وهو ارتفاع الحلّية وثبوت الحرمة - إلى أن قال - وإذا جرى الأصل في ذلك كان حاكماً على استصحاب الحل لكونه جارياً في السبب - إلى أن قال - ومنه يظهر أنّه لا مجال لاستصحاب الحكم التعليقي ، بل هو يثبت باستصحاب موضوعه - ثمّ قال - هذا ولكن يشكل ما ذكر بما سيأتي في الأصل المثبت من أنّ الخصوصيات التي يجري الأصل لإثباتها هي الخصوصيات التي تؤخذ في القضية التشريعية التي يطابقها الدليل ، لا الخصوصيات التي تؤخذ في القضية اللبّية ، فخصوصية الغليان التي تستصحب إن كان المراد بها مثل كونه في حال العنبية ونحوها ، فاستصحابها من استصحاب المردّد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع الذي لا يصحّ ، وإن كان المراد بها الخصوصية المصحّحة لاناطة الحكم بحال العنبية مثلاً المعبّر عنها بالمصلحة ونحوها ، فتلك ممّا لم تؤخذ موضوعاً للحكم في القضية الشرعية ، فلا يجري الأصل لإثباتها إلاّبناءً على الأصل المثبت ، فتأمّل جيّداً ، واللّه سبحانه أعلم (2).

قال الأُستاذ العراقي فيما حرّرته في مقام بيان استصحاب بقاء الحلّية المحدودة : إنّه لا ريب في أنّ هذا الشكّ إنّما يكون مسبّباً عن الشكّ في بقاء إضافة تلك الحلّية للغليان ، وكونها محدودة ومشروطة بعدمه ، وبعبارة أُخرى

ص: 52


1- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 7 : 209.
2- حقائق الأُصول 2 : 470 - 471.

يكون الشكّ في بقاء تلك الحلّية الفعلية مسبّباً عن بقاء الغليان على ما كان عليه في حال العنبية من كونه غاية للحلّية ، فيكون أصالة بقاء تلك الحلّية على ما هي عليه في حال العنبية من كونها محدودة ومغيّاة بالغليان حاكماً على أصالة بقاء تلك الحلّية الفعلية ، لأنّ مقتضى أصالة بقاء تلك الحلّية على ما هي عليه من كونها محدودة بالغليان كون الغليان مفنياً لها ، انتهى.

فإن كان المراد هو استصحاب الحلّية المحدودة ، ففيه ما عرفت من [ أنّ ] استصحاب الحلّية المحدودة لا يثبت كون هذه الحلّية الثابتة في حال الزبيبية هي حلّية محدودة ، وإن كان المراد هو استصحاب حالة الغليان من كونه حدّاً للحلّية وسبباً للحرمة ، فهذا هو الذي أفاده في الحقائق.

لكن قد عرفت أنّه لا يتمّ إلاّعلى القول بجعل السببية والحدّية ، ولعلّ هذا هو مراد الحقائق بقوله : إنّ الخصوصيات التي يجري الأصل لإثباتها هي الخصوصيات التي تؤخذ في القضية التشريعية الخ. وأمّا الإشكال على ذلك بقوله : فاستصحابها من استصحاب المردّد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع الخ ، فلعلّ المراد به هو أنّ كون الغليان غاية للحلّية إن كان هو غليان العنب فقد ارتفع يقيناً بصيرورته زبيباً ، وإن كان هو غليان الأعمّ الشامل للزبيبية فقد بقي يقيناً ، لكن هذا جار في استصحاب الحلّية ، بل جارٍ أيضاً في استصحاب الحرمة التعليقية ، وفتح باب التسامح العرفي يدفع هذا الإشكال ، وإلاّ كان ذلك جارياً في كلّ مستصحب يحصل الشكّ في بقائه حتّى مثل استصحاب الحدث ، فإنّه إن توضّأ فقد ارتفع حدثه يقيناً ، وإن لم يتوضّأ فقد بقي حدثه يقيناً ، فكما نقول إنّ الاستصحاب في مثل ذلك يلغي الاحتمال الأوّل ويحكم بالبقاء ، فكذلك الحال

ص: 53

فيما نحن فيه بعد فتح باب التسامح ، فإنّ الاستصحاب يلغي احتمال الاختصاص بحال العنبية ويحكم ببقاء آثارها في حال الزبيبية ، وهذا بخلاف الحلّية الفعلية الموجودة في حال الزبيبية المردّدة في حدّ نفسها بين المحدودة بالغليان والمطلقة ، فإنّ استصحابها يكون من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ قال في المقالة : بل وربما يبتلى الاستصحاب في التعليقيات الخارجية على مشربنا غالباً باستصحاب نقيضه أو ضدّه المعلّق بنحو التنجّز. نعم في بعض الموارد - كما في الفرع السابق - لا يجري الاستصحاب التنجيزي في طرف النقيض ، لأنّه من الاستصحاب الكلّي القسم الثالث ، وفي مثله لا بأس بالتمسّك بالاستصحاب التعليقي المثبت لوجوب التيمّم بلا معارض ، كما لا يخفى (1).

وتوضيح ذلك : هو أنّ هذا الشخص الذي قد انحصر ماؤه المطلق بما في هذه الآنية يكون فاقديته للماء معلّقة على تلف ما في هذه الآنية ، كما أنّ واجديته للماء يكون محدوداً بوجود ما في هذه الآنية ، ثمّ بعد هذا وجد مائعاً في آنية أُخرى يشكّ في إطلاقه وإضافته ، وحينئذ تكون واجديته لطبيعة الماء متحقّقة في ... (2) لكن لا يعلم بأنّها هل هي محدودة بوجود ما في آنيته الأُولى بناءً على كون ما في الآنية الثانية مضافاً ، أو أنّها غير محدودة بذلك بناءً على كون ما في الآنية الثانية ماء مطلقاً ، ثمّ بعد عروض التلف لما في الآنية الأُولى يشكّ في بقاء واجديته لطبيعة الماء ، فيستصحب تلك الواجدية التي كانت له قبل التلف

ص: 54


1- مقالات الأُصول 2 : 403 - 404.
2- [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

المذكور ، وحينئذ يكون هذا الاستصحاب معارضاً لاستصحاب تلك الفاقدية المعلّقة على تلف الآنية الأُولى ، التي كان متيقّناً بها قبل وجود الآنية الثانية.

ولكن استصحاب تلك الواجدية غير جار في حدّ نفسه ، لكونه من القسم الثالث من الكلّي ، لأنّ تلك الواجدية إن كانت محدودة بتلف الآنية الأُولى فقد ارتفعت قطعاً ، وإن كانت غير محدودة بذلك بأن كان ذلك الذي وجده ماء مطلقاً ، كانت الواجدية باقية قطعاً بعد تلف ما في الآنية الأُولى ، وحينئذ تكون تلك الواجدية التي كانت حينما وجد الآنية الثانية مردّدة عند تلف الآنية الأُولى بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، فنلتجئ إلى استصحاب الواجدية الكلّية ، وحينئذ يكون استصحابها من القسم الثالث من الكلّي ، لأنّ الواجدية الآتية من ناحية الآنية الأُولى قد ارتفعت قطعاً بتلفها ، ويشكّ في قيام الواجدية الآتية من الآنية الثانية مقامها على تقدير كونها ماء مطلقاً ، فيكون من قبيل ما لو ارتفع الفرد ويشكّ في قيام فرد آخر مقامه كان وجوده سابقاً على ارتفاع الفرد الأوّل المعلوم الارتفاع.

ونحن لا نريد أن نناقش في هذا المثال من ناحية كون الواجدية لطبيعة الماء لا تتعدّد بتعدّد الأواني ، ولا من ناحية أنّ استصحاب الواجدية لا يثبت له كون هذا المائع الباقي ماءً مطلقاً كي يسوغ له أو يجب عليه الوضوء ، وإنّما جلّ ما لم نتوصّل [ إليه ] فيما أفاده من كلامه هو أنّ هذا الإشكال ، وهو كون المثال بالنسبة إلى الواجدية من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، لِمَ لَم يجره فيما هو محل الكلام فيما نحن فيه ، من استصحاب الحلّية التنجّزية التي كانت متيقّنة حال الزبيبية قبل الغليان التي كانت مردّدة بين المحدودة بالغليان وغير المحدودة به ، التي جعل استصحابها معارضاً لاستصحاب الحرمة التعليقية ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 55

قوله : مع أنّ القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فإنّه لو شكّ في كون اللباس متّخذاً من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحّة الصلاة فيه تمسّكاً بالاستصحاب التعليقي ، بدعوى أنّ المكلّف لو صلّى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة ، فيستصحب الصحّة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك والصلاة فيه ، ممّا لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنّه التزم به فهو بمكان من الغرابة (1).

وقال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه قدس سره : تتميم لا يخفى أنّ الاستصحاب التعليقي على تقدير جريانه إنّما يختصّ بما إذا كان الموجود في الزمان السابق هو الجزء الركين للموضوع وكان الجزء الآخر غير المتحقّق ممّا يعدّ من حالاته حتّى يصحّ أن يقال إنّ الموجود الخ (2).

ولم أتوفّق لهذا التفصيل بين كون المعلّق عليه جزءاً ركيناً أو غير ركين ، ولم أعثر في مسألة اللباس المشكوك المطبوعة على التعرّض لذلك. نعم وجدت فيما حرّرته عنه قدس سره في مسألة اللباس المشكوك ما محصّله : أنّ البعض تمسّك للصحّة بالاستصحاب التعليقي ، بتقريب أنّ هذا الشخص قبل أن يلبس ذلك المشكوك كان لو صلّى لكانت صلاته صحيحة ، والآن بعد أن لبسه يكون استصحاب تلك الصحّة التعليقية جارياً في حقّه ، بناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقية كما هو مذهب الشيخ قدس سره (3).

ثمّ أورد على الاستصحاب التعليقي بما حاصله أوّلاً : أنّه مناف لمسلكه من

ص: 56


1- فوائد الأُصول 4 : 472.
2- أجود التقريرات 4 : 125.
3- فرائد الأُصول 3 : 223 - 224.

عدم جعل السببية ، فلا يصحّ استصحاب سببية الغليان للحرمة.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا جعل السببية فليس منها الملازمة بين الحرمة والغليان ، فإنّ هذه الملازمة ليست من السببية المجعولة ، وإنّما هي منتزعة من ترتّب الحكم على جزء موضوعه ، لأنّ الغليان جزء الموضوع ، لأنّ المحرّم هو العصير العنبي الغالي.

وثالثاً : أنّ الشكّ في بقاء الملازمة منحصر بموارد الشكّ في النسخ.

ثمّ أفاد ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس سره : ثمّ إنّ ما ذكرناه يجري فيما نحن فيه من استصحاب الحكم التعليقي ، وهو أنّ هذا الشخص قبل لبسه لذلك المشكوك لو صلّى لكانت صلاته واجدة لقيدها العدمي ، فبعد أن لبسه يكون حاله كما تقدّم في مسألة العصير ، بل يكون أسوأ منها ، لأنّه ربما يجاب عن الإيراد الثاني ويوجّه بما ذكرناه في محلّه من أنّ الحكم وارد على نفس العصير العنبي ، وما الغليان إلاّمن حالاته ، فيصحّ جعله شرطاً بجعل الحرمة الواردة على نفس العصير مشروطة بالغليان ومعلّقة عليه ، ولا يكون ذلك من قبيل تعليق الحكم على جزء موضوعه ، لتكون الملازمة انتزاعية صرفة ، فإنّا وإن أجبنا عن هذا الجواب في محلّه ، إلاّ أنّ هذا التوجيه لا يمكن تمشّيه فيما نحن فيه ، فإنّ نفس الصلاة هي المقيّدة بعدم غير المأكولية ، فلا معنى لجعلها محلاً للتعليق ، ويقال لو صلّى هذا لكانت صلاته خالية من غير المأكول ، فإنّ مثل هذا التعليق انتزاعي صرف ، انتهى ببعض التغييرات الطفيفة.

وحاصله : أنّ الصلاة هي تمام الموضوع للصحّة وواجدية القيد ، لا أنّها شرط في حكم وارد على المكلّف وهو صحّة صلاته ، كي يتأتّى في حقّه استصحاب ذلك الحكم المعلّق على وجود الصلاة. ولعلّ هذا هو المراد بالركن

ص: 57

الركين فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه ، فلاحظ وتأمّل.

قال الأُستاذ العراقي في رسالته المطبوعة المعمولة في مسألة اللباس المشكوك : ومنها استصحاب صحّة الصلاة على تقدير الوجود قبل لبسه ، بتقريب أنّه لو صلّى لكانت صلاته صحيحة والآن صحيح ، بناءً على كون تبدّل عدم المشكوك بوجوده من ( قبيل ) حالات الصلاة لا من مقوّماتها عرفاً. وتوهّم أنّ صحّة الصلاة بمعنى موافقة أجزائها للأمر بها في ظرف تحقّق بقية الشرائط وجودية أم عدمية مقطوع البقاء فلا شكّ فيه ، والصحّة الفعلية الملازمة لعدم شرطية شيء فيها من الأوّل مشكوك. وبعبارة أُخرى : أنّ الصلاة إنّما تقع تمام الموضوع للصحّة في ظرف كونها تام الأجزاء والشرائط ، وهذا المعنى محرز بنحو الإجمال سابقاً ، وأمّا في الآن اللاحق لا تكون الصلاة تمام الموضوع للصحّة مع احتمال المانعية ، مدفوع بأنّ ذلك كلّه مبني على حكم العرف بمغايرة موضوع الصحّة في الحالتين عرفاً ، وهو كما ترى (1).

فقد أخذ الصحّة حكماً شرعياً ، وجعل موضوعه هو الصلاة ، وجعل وجود الصلاة شرطاً في هذا الحكم ، وجعل الحكم بصحّتها في حال عدم لبس المشكوك قطعياً وفي حال لبسه مشكوكاً ، وسحب الصحّة المتيقّنة من الصلاة بدونه إلى الصلاة معه ، ثمّ استشكل من ذلك بالمغايرة بين الصلاتين ، ثمّ أجاب عنه بالوحدة العرفية بينهما.

وهذه الأُمور السبعة كلّها محلّ نظر وتأمّل ، وكيف يمكن سحب هذا الحكم الشرعي الذي هو الصحّة من الصلاة بدون ذلك اللباس إلى الصلاة معه مع أنّهما موضوعان ، سواء كان المراد بذلك كلّي الصلاة بدون ذلك اللباس ومع ذلك

ص: 58


1- رسالة في اللباس المشكوك ( المطبوعة في ذيل روائع الأمالي ) : 155.

اللباس ، أو كان المراد هو الفرد الخارجي من الصلاة بدون ذلك اللباس والفرد الآخر منها مع ذلك اللباس ، والتسامح العرفي لا دخل له بذلك ، بل لو فرضنا وقوع صلاتين منه بدون ذلك اللباس كان كلّ منهما موضوعاً مستقلاً وحكمه الصحّة ، لا أنّ الصحّة من إحداهما سارية إلى الأُخرى ، بل يكون كلّ منهما محكوماً بالصحّة حكماً مستقلاً لنفسه ، وإن كان كلّ منهما مندرجاً تحت الحكم الكبروي ، فهما في ذلك نظير الفردين من العالم في أنّ لكلّ منهما وجوباً مستقلاً غير سار إليه من صاحبه.

وحينئذ لابدّ في تقريب كون المسألة من الاستصحاب التعليقي من جعل مركز الحكم هو المكلّف ، وأنّه لو وقعت منه الصلاة لكانت صحيحة ، وسحب هذا الحكم التعليقي من المكلّف حال كونه غير لابس ذلك اللباس إلى حال كونه لابساً ذلك اللباس ، وحينئذ يدفع التغاير الوجداني في ناحية الموضوع الذي هو ذات المكلّف بالاتّحاد العرفي ، فيرد عليه ما نقلناه عن شيخنا الأُستاذ قدس سره من أنّ وجود الصلاة المعلّق عليه هذا الحكم لا يمكن أخذه شرطاً في ذلك الحكم ، بل هو تمام الموضوع فيه.

ثمّ لا يخفى أنّه لابدّ في الإقدام على الصلاة من إحراز صحّتها ، فلابدّ أن يكون إحراز الصحّة سابقاً في الرتبة على وجودها ، ولازمه أن يكون نفس الصحّة سابقاً على إحرازها السابق رتبة على وجودها ، فلو كانت صحّتها مشروطة بوجودها لكانت متأخّرة رتبة عن وجودها ، ولا يخفى ما فيه من الخلف.

وهذا الإشكال وارد أيضاً على تقدير أخذ المكلّف مركزاً لذلك ، بأن يقال إنّ هذا المكلّف لو صلّى لكانت صلاته صحيحة ، فلاحظ وتأمّل.

ولقد أجاد في المستمسك عندما ذكر صور التمسّك بالاستصحاب فقال :

ص: 59

ورابعة في نفس الصلاة ، إمّا بأن يقال : كانت الصلاة قبل لبس هذا اللباس صحيحة فهي بعد لبسه باقية على ما كانت ، ثمّ قال : والرابع يختصّ بما لو كان اللبس في الأثناء ، لكن الإشكال في استصحاب الصحّة مشهور (1) فصرف الاستصحاب المتمسّك به في المقام عمّا أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في رسالته من الاستصحاب التعليقي إلى الاستصحاب التنجيزي ، أعني صحّة الأجزاء السابقة على لبس ذلك المشكوك ، فتخلّص من تعليق الصحّة على الوجود وحصر الإشكال بالصحّة التأهّلية ، وهو الإشكال المشهور الذي تعرّضوا له في مباحث الأقل والأكثر ، فراجع (2).

تنبيه : قد تقدّم (3) الكلام على ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس سره في تقريب حكومة الاستصحاب التعليقي على الاباحة الفعلية ، والتحقيق هو الحكومة المذكورة ، لكن البحث في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمات :

الأُولى : أنّ وجود أحد الضدّين يكون مقروناً وتوأماً مع عدم الآخر وإلاّ لاجتمع الضدّان ، حتّى قيل إنّ اجتماع الضدّين ينتهي إلى اجتماع النقيضين ، إلاّ أنّ هذا - أعني اقتران الضدّ دائماً بعدم ضدّه - إنّما هو في الوجود الواقعي دون وجوده التعبّدي ، فإنّ التعبّد بوجود أحد الضدّين بالاستصحاب مثلاً لا يكون مقتضياً للحكم التعبّدي بعدم الضدّ الآخر إلاّعلى الأصل المثبت ، من دون فرق في ذلك بين الضدّين الخارجيين مثل السواد والبياض ، والضدّين الشرعيين مثل الوجوب والحرمة ، كما سيأتي توضيحه.

ص: 60


1- مستمسك العروة الوثقى 5 : 344 ، 346.
2- المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 372 وما بعدها.
3- راجع ما تقدّم في الصفحة : 38 وما بعدها.

الثانية : أنّ الاباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة هي في قبال كلّ واحد منها فتكون حكماً ثبوتياً ، وهو عبارة عن تساوي الطرفين ، سواء قلنا بأنّها اقتضائية أو قلنا بأنّها غير اقتضائية ، بمعنى أنّ الحكم بتساوي الطرفين هل هو ناش عن مقتض يقتضي ذلك التساوي ، أو أنّه ناش عن عدم ما يقتضي ترجيح أحد الطرفين على الآخر. وعلى كلّ حال ، فليست هي إلاّعبارة عن الحكم بتساوي الطرفين ، فليست هي أمراً عدمياً لتكون عبارة عن عدم كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية ، فليست الاباحة عبارة عن عدم الحرمة مثلاً ، بل هي حكم ثبوتي مضاد للأحكام الباقية ، كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام مضاد لكل واحد من باقيها.

الثالثة : أنّ عدم الحكم وإن لم يكن بنفسه حكماً شرعياً ، إلاّ أنّه قابل للتعبّد الشرعي ، ولو باعتبار كونه بيد الشارع الناشئ عن كون وجود ذلك الحكم بيده ، فيكون عدمه بيده أيضاً ، وإلاّ لكان نفس الحكم غير اختياري له ، إلاّ أنّ ذلك - أعني قابليته للتعبّد الشرعي - إنّما هو فيما لو جرى الأصل في نفس عدم الحكم ، كما في استصحاب عدم الوجوب مثلاً ، أو استصحاب عدم الحرمة ، أمّا إذا كان المستصحب هو نفس الحكم ، فلا يكون ذلك الاستصحاب موجباً للتعبّد بعدم غيره من الأحكام ، فلا يكون استصحاب الوجوب والتعبّد ببقائه موجباً للتعبّد بعدم الحرمة مثلاً ، فإنّ عدمها وإن كان أثراً شرعياً بالاعتبار المتقدّم ، إلاّ أنّ ترتّبه على استصحاب الوجوب لمّا لم يكن شرعياً ، بل كان بالملازمة العقلية الناشئة عن كون وجود أحد الضدّين ملازماً لعدم الضدّ الآخر ، لم يمكن الحكم بترتّبه على استصحاب الوجوب إلاّبالأصل المثبت.

بل يمكن أن يقال : إنّ عدم الحرمة في مورد استصحاب الوجوب مثلاً ليس

ص: 61

بأثر شرعي ولو بذلك المعنى المتقدّم ، لما هو واضح من أنّه لا يمكنه الحكم بالحرمة في ظرف حكمه بالوجوب ، فلا يكون عدم الحرمة في ذلك الظرف بيد الشارع بل يكون قهرياً عليه.

وحينئذ فلو قلنا بأنّ الحلّية هي أحد الأحكام فكانت ضدّاً لباقيها ، لم يكن استصحاب الحرمة قاضياً بالتعبّد بعدمها بذلك المعنى الثبوتي ، نعم لو قلنا بأنّها عبارة عن أمر عدمي ، يعني عدم الأحكام الأربعة أو عدم خصوص الحرمة ، لكان استصحاب بقاء الحرمة قاضياً بعدمها ، بل كان استصحاب وجود الحرمة عين استصحاب عدم تلك الاباحة التي هي عدم الحرمة ، فإنّ وجود الحرمة عبارة أُخرى عن عدم عدمها.

إذا عرفت ذلك فنقول : قال الشيخ قدس سره في الجواب عن إشكال معارضة استصحاب الحرمة التعليقية باستصحاب الاباحة قبل الغليان ما هذا لفظه : والثاني ( يعني إشكال المعارضة ) فاسد ، لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الاباحة قبل الغليان (1). ولم يبيّن الوجه في هذه الحكومة ، فإن كانت الحلّية المستصحبة هي عبارة عن عدم الحكم ، بمعنى أنّ العنب قبل الغليان لا حكم له حتّى الاباحة التي هي عبارة عن الحكم بتساوي الطرفين ، اتّجهت الحكومة ، لكنّه فرض لا واقعية له ، إذ لا يخلو الشيء من أحد الأحكام الخمسة. وإن كانت الحلّية عبارة عن أحد الأحكام الأربعة - أعني ما عدا الحرمة من الأحكام الخمسة - لم يكن وجه للحكومة المذكورة ، إذ لا يكون عدم الحرمة بهذا المعنى نقيضاً لها ، بل يرجع إلى أحد الأضداد الوجودية. وإن كان المراد بالحلّية هي الاباحة الثبوتية التي هي ضدّ الحرمة ، كانت المعارضة أوضح ، لأنّ استصحاب

ص: 62


1- فرائد الأُصول 3 : 223.

الحرمة لا يقتضي التعبّد بعدم هذه الاباحة إلاّعلى الأصل المثبت ، الذي يكون مرجعه إلى أنّ التعبّد بأحد الضدّين يكون موجباً للحكم بعدم الضدّ الآخر ، ولو اقتضاه لقلنا إنّ التعبّد بالاباحة المذكورة يكون موجباً للحكم بعدم الحرمة.

ولا يخفى أنّ مورد كلام الشيخ قدس سره وإن كان هو استصحاب الحرمة والنجاسة المعلّقتين على الغليان ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن كلامه ظاهراً في أنّ خصوصية التعليق هي مدرك الحكومة ، كان اللازم من كلامه هو أنّ استصحاب الحرمة مطلقاً حاكم على استصحاب الحلّية ، وكذا استصحاب النجاسة بالنسبة إلى استصحاب الطهارة فيرد عليه أنّه يلزمه أن يقول بالحكومة في مورد تعاقب الحالتين الحلّية والحرمة والطهارة والنجاسة.

أمّا ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره بقوله : فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحلّية ، فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه ، شكّ في حلّيته المغيّاة لا محالة أيضاً - إلى قوله - فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّيته المغياة حرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيته الخ (1) ففيه أنّه بعد البناء على كون الحلّية هي الحلّية الثبوتية ، لا يكون جعل الحرمة للعصير العنبي على تقدير الغليان موجباً لجعل الشارع الغليان غاية للحلّية ، وإنّما أقصى ما فيه هو أنّ جعل الحرمة له على تقدير الغليان يكون رافعاً قهرياً للحلّية عند الغليان ، لأنّ جعل أحد الضدّين يكون موجباً تكويناً لرفع الضدّ الآخر ، وحينئذ فبعد أن صار العنب زبيباً ثمّ طرأه الغليان جرى فيه كلا الاستصحابين ووقع التعارض بينهما ، ولو أُريد بالاستصحاب استصحاب ارتفاعها بالغليان فقد عرفت أنّ ارتفاع الحلّية بالغليان الموجب للحرمة لا يكون

ص: 63


1- كفاية الأُصول : 412.

بجعل الشارع ، فكيف يمكن استصحابه.

ولا بأس بنقل نصّ ما كنت حرّرته عن شيخنا الأُستاذ قدس سره في هذا المقام فلعلّ أن ترتفع به الشبهة من أصلها ، قال قدس سره : ثمّ إنّه بناءً على صحّة الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب لا شبهة فيما أفاده الشيخ قدس سره من حكومة استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلّية الثابتة للعصير الزبيبي قبل الغليان ، لكون الشكّ في بقاء الحلّية مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية.

لا يقال : إنّ كلاً من الشكّ في بقاء الحلّية قبل الغليان وبقاء الحرمة المعلّقة على الغليان مسبّب عن الشكّ في كون ذلك الحكم - أعني حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان - شاملاً للعصير الزبيبي ، فإن كان شاملاً له كانت تلك الحرمة التعليقية باقية قطعاً ، وتلك الحلّية مرتفعة قطعاً ، وإن لم يكن شاملاً له كان الأمر بالعكس ، فلا وجه لكون الشكّ في بقاء الحلّية مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية ، بل إنّ كلاً منهما مسبّب عن الشكّ في أمر ثالث ، وهو شمول الحكم المذكور للعصير الزبيبي وعدم شموله له.

لأنّا نقول : إنّ بقاء الحرمة التعليقية لم يكن مسبّباً عن الشمول المذكور بل هو عينه ، فإنّ محصّل بقاء تلك الحرمة التعليقية هو كون الحكم المذكور شاملاً للعصير الزبيبي ، فيكون الشكّ في أحدهما عين الشكّ في الآخر ، وحينئذ فيكون الشكّ في بقاء الحلّية المسبّب عن الشكّ في الشمول المذكور مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحرمة التعليقية ، لما عرفت من كون أحدهما عين الآخر ، وحينئذ فيكون الأصل الجاري في بقاء الحرمة التعليقية حاكماً على الأصل الجاري في بقاء الحلّية لكون الأوّل سببياً والثاني مسبّبياً.

ص: 64

ثمّ بعد هذا أفاد في ليلة أُخرى ما نصّه على ما حرّرته عنه قدس سره : لا يقال : إنّ ترتّب ارتفاع الحلّية المذكورة على الحكم ببقاء تلك الحرمة التعليقية التي تحقّق ما علّقت عليه إنّما يكون بالملازمة العقلية ، لأنّه من قبيل الحكم بارتفاع أحد النقيضين ( الضدّين ) عند الحكم بتحقّق ضدّه الآخر. لأنّا نقول : قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو العكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به ، انتهى.

قلت : أمّا السببية فبرهانها هو أنّ بقاء الحلّية ليس منشؤه مجرّد اختصاص الحرمة التعليقية بخصوص العنب ، إذ ربما كان ذلك الحكم وهو الحرمة التعليقية مختصّاً بخصوص العنب لأجل صيرورته بالغليان سمّاً قاتلاً ، وأنّه لو تبدّل إلى الزبيبية يخرج عن كونه سمّاً فيكون مباحاً ، ولكن يحتمل أن يحدث بالغليان بعد الزبيبية حكم آخر غير الحرمة السابقة ، بأن يكون حينئذ مكروهاً أو يكون واجباً أو نحوهما ، بل يحتمل أن تحدث حرمة أُخرى مترتّبة على غليان الزبيب غير الحرمة المترتّبة على غليان العنب ، ولو لأجل ملازمة غليان الزبيب لعنوان موجب لحرمته ، بأن لا يكون غليان العنب محرّماً لخصوصية في العنب ، مع فرض عدم كون غليانه موجباً لصيرورته مسكراً ، ولا يكون غليان الزبيب في حدّ نفسه واجداً لتلك الجهة التي أوجبت التحريم في غليان العنب ، لكن كانت فيه خصوصية أُخرى أوجبت تحريمه وهي الاسكار مثلاً ، وبناءً على ذلك فلا يكون مجرّد اختصاص حرمة العصير الغالي بالعنب موجباً لبقاء حلّية العصير الزبيبي بعد الغليان ، كي يكون الشكّ في بقاء الحلّية المذكورة مسبّباً عن احتمال اختصاص تلك الحرمة المعلّقة بالعنب.

ص: 65

ويتلخّص من ذلك : أنّ بقاء الحلّية متوقّف على خلوّ صفحة الوجود من تلك الحرمة وغيرها ، وخلوّه من تلك الحرمة مسبّب عن اختصاص الحكم بها بحال العنبية ، ففي ناحية الحرمة لا نحتاج إلى أزيد من أن نقول الحكم عام فتبقى الحرمة فترتفع الحلّية ، لكن في ناحية الحلّية نحتاج إلى القول بأنّ الحكم خاصّ فترتفع الحرمة وغيرها ، فتبقى الحلّية فترتفع الحرمة (1).

والحاصل : أنّ الحكم ببقاء الحرمة هنا رافع للحلّية ، بخلاف الحكم ببقاء الحلّية فإنّه لا يرفع الحرمة ، لكونه معلولاً للحكم بارتفاعها ، وحينئذ فيكون الشكّ في بقاء الحرمة سببياً بالنسبة إلى الشكّ في بقاء الحلّية.

وليس المراد أنّ ارتفاع الحلّية معلول لبقاء الحرمة ، أو أنّ بقاء الحلّية معلول لارتفاع الحرمة ، لما هو واضح من أنّه لا تقدّم رتبي بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر ، بل المراد أنّ انتفاء الحلّية تعبّداً معلول لبقاء الحرمة تعبّداً ، وأنّ بقاء الحلّية تعبّداً معلول لارتفاع الحرمة تعبّداً ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ المسألة لم تخرج عن كون وجود أحد الضدّين وهو الاباحة فيما نحن فيه متوقّفاً ومتسبّباً عن عدم ضدّه الآخر وهو الحرمة ، فلا تكون إلاّ من قبيل توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر ، أو على رفع الضدّ الموجود وهو الحرمة ، فإنّها كانت موجودة على [ تقدير ] الغليان ، فيتوقّف بقاء الاباحة ووجودها فيما بعد الغليان على ارتفاع ذلك الضدّ الموجود وهو الحرمة ، وحينئذ فيكون إثبات السببية في غاية الإشكال ، هذا (2)

ص: 66


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر زيادة « فترتفع الحرمة » ].
2- [ لمّا وصل المصنّف إلى هذه العبارة كتب في الهامش بيتين معروفين من الشعر وهما : ] لقد كان القطا في أرض نجد *** قرير العين لا يدري الهياما تولّته البزاة فهيّمته *** ولو تُرك القطا لغفا وناما

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الاباحة وإن كانت هي أحد الأحكام الخمسة ، وكانت الأحكام بأسرها متضادّة ، وقد حقّق في محلّه أنّ وجود أحد الضدّين لا يكون مقدّمة لعدم الآخر ، كما أنّ عدم أحدهما لا يكون مقدّمة لوجود الآخر ، من دون فرق في ذلك بين الضدّ الموجود والمعدوم.

لكنّا مع ذلك نقول : إنّ هذه الأضداد هي بمنزلة الأفعال الاختيارية للشارع ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما اختيارياً للشارع ، فعند إقدامه على جعل الحرمة مثلاً للشيء يكون قد اختار تحريمه ، وبعين اختياره لتحريمه يكون قد اختار عدم إباحته مثلاً ، إذ لو لم يكن عدم إباحته في قدرته واختياره لم يكن تحريمه باختياره.

والشاهد على ذلك : أنّك لا ترى في موارد استصحاب الوجوب مثلاً حاجة إلى ملاحظة احتمال الحرمة ، فإنّ استصحاب الوجوب فعلاً لو لم يكن نافياً لاحتمال الحرمة وحاكماً بعدمها ، لكان من اللازم في مورد احتمالهما مع الوجوب المستصحب من الرجوع في نفيها إلى الأصل ولو مثل البراءة ، وربما لم يكن الجاري في المسألة هو البراءة ، كما لو كانت الشبهة من الأُمور التي يكون الأصل فيها هو الاحتياط ، مثل ما لو كان الشخص واجب القتل لكونه مرتدّاً مثلاً ولكن عرض له ما يوجب الشكّ في بقاء ذلك الوجوب ، وحينئذ نشكّ في حرمته فيستصحب الوجوب ، ويكون المرجع هو أصالة الاحتياط ، هذا لا يكون ، إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب أحد الضدّين كالوجوب مثلاً يكون دائماً مقروناً

ص: 67

باستصحاب عدم ضدّه الآخر.

نعم ، في مورد التعارض بين استصحاب الوجوب واستصحاب الحرمة مثلاً يكون كلّ من الأصلين - مع كونه حاكماً بضدّ مجرى الآخر - حاكماً أيضاً بنفي مجرى الآخر ، هذا كلّه في الجعل الابتدائي لأحد الأضداد التي هي الأحكام الخمسة.

وأمّا في مقام جعل أحدها طارئاً على الآخر ، بأن يكون الشيء في حدّ نفسه واجباً مثلاً ولكن الشارع قد جعل حرمته لأجل بعض الطوارئ ، فهو وإن لم يصدر منه إلاّجعل الحرمة ، إلاّ أنّ نفس جعله للحرمة يكون رافعاً للوجوب ، كما تجده من نفسك فيما لو كان الجسم ملوّناً بالبياض مثلاً وأنت أقدمت على تسويده ، فإنّ نفس تسويدك له يكون رفعاً للبياض ، ويكون نفس ذلك التسويد الاختياري منك رافعاً اختيارياً للبياض ، وإن لم يكن في البين تقدّم رتبي من أحدهما على الآخر ، بل كان أحدهما في عرض الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ الشارع في ضمن جعله للحرمة المعلّقة على الغليان يكون قد جعل رفع الحلّية ، لا بمعنى جعل الغليان رافعاً للحلّية ، ولا بمعنى جعل الحلّية محدودة بالغليان ، بل بمعنى أنّ جعله للحرمة عند الغليان يكون قد رفع الحلّية ، كما أنّه لو أورد الحرمة فعلاً على ما هو في حدّ نفسه حلال مباح ، فإنّ نفس إيراده الحرمة عليه يكون رفعاً اختيارياً للحلّية والاباحة.

وحينئذ يكون محصّل استصحاب الحرمة التعليقية لو صحّحناه هو أنّ هذا العصير الذي هو فعلاً مباح وإباحته غير محدودة شرعاً بالغليان تطرؤه الحرمة عند الغليان ، وليست حرمته الطارئة عليه عند الغليان إلاّفعلاً اختيارياً للشارع ، وبعين جعله لتلك الحرمة وإيراده لها على ذلك المباح يكون قد رفع تلك الحلّية

ص: 68

الموجودة التي هي ضدّ تلك الحرمة.

وحينئذ يكون استصحاب الحرمة التعليقية قاضياً برفع الحلّية وحاكماً على استصحاب تلك الحلّية ، ولا يمكن العكس ، فإنّ استصحاب الحلّية وإن قضى بعدم الحرمة على ما شرحناه ، إلاّ أنّه إنّما يقضي بعدم الحرمة الذي هو توأم مع جعل الحلّية ، ولا يقضي بعدم طروّ الحرمة ، لطار من الطوارئ ، فاستصحاب الاباحة لا يقضي بعدم طروّ الحرمة واستصحاب ما يقتضي طروّ الحرمة يكون بواسطة قضائه بطروّ الحرمة قاضياً بارتفاع الاباحة.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا أفاده الشيخ قدس سره بقوله : لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الاباحة قبل الغليان الخ (1) فأوجز العبارة ولم يشرح هذه الحكومة ، نظراً إلى وضوحها ، وحاصله الفرق بين استصحابي الحكمين الابتدائيين ، أو الحكمين اللذين يكون كلّ منهما طارئاً على الآخر كما في توارد الحالتين ، وبين ما إذا كان أحدهما طارئاً على الآخر دون العكس كما نحن فيه ، فإنّ استصحاب ما يقتضي طروّ الحكم الطارئ يكون حاكماً على استصحاب بقاء ذلك الحكم المطروّ عليه ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه ليس المنشأ في هذه الحكومة هو السببية والمسبّبية ، ولا كون الاستصحاب التعليقي قاضياً بتوسعة دليل حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان إلى العصير الزبيبي ، ولا كون الحلّية محدودة شرعاً بالغليان ، بل ليس المنشأ فيها إلاّما عرفت من كون التحريم الطارئ على ما هو مباح رفعاً شرعياً للحلّية الموجودة ، كما هو الشأن في سائر الأضداد الاختيارية.

ولعلّ هذه الطريقة من كيفية الحكومة هي المشار إليها فيما حرّرته عنه قدس سره

ص: 69


1- فرائد الأُصول 3 : 223.

فيما تقدّم نقله (1) ، وذلك قوله فيما حرّرته عنه في مقام الجواب عن إشكال المثبتية : لأنّا نقول قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو العكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به ، انتهى فلاحظ.

وإن شئت فقل : إنّ ما هو المعروف من أنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر إلاّبالأصل المثبت وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ عكسه وهو أنّ استصحاب وجود أحد الضدّين لا يثبت عدم الآخر يمكننا القول بعدم صحّته ، لأنّ استصحاب وجود أحد الضدّين يكون دائماً مقروناً باستصحاب عدم الضدّ الآخر ، حيث إنّ كلّ وجود للضدّ لابدّ أن يكون مقروناً بعدم الآخر.

وبناءً على ذلك يكون استصحاب الحرمة دائماً مقروناً باستصحاب عدم الوجوب ، كما أنّ استصحاب الوجوب يكون مقروناً دائماً باستصحاب عدم الحرمة ، فلو تعاقب على الشيء حالتان في إحداهما كان واجباً وفي الآخر كان محرّماً ، تعارض فيه الاستصحابان ، بمعنى أنّ استصحاب الوجوب المقرون باستصحاب عدم الحرمة يكون معارضاً لاستصحاب الحرمة المقرون باستصحاب عدم الوجوب ، أمّا لو كان أحدهما الذي هو التحريم التعليقي مثلاً طارئاً على الآخر الذي هو الوجوب أو الاباحة كما فيما نحن فيه ، فلا يعقل المعارضة بينهما ، لأنّ محصّل استصحاب الحرمة التعليقية هو وجود الحرمة عند الغليان ، وهي - أعني الحرمة - تكون رافعة شرعاً للاباحة ، ومع تحقّق رافع الحلّية بحكم الشارع لا مجال لاستصحاب بقائها.

ص: 70


1- في الصفحة : 65.

وأمّا استصحاب نفس تلك الحلّية السابقة عندما كان عنباً أو زبيباً ، فهو وإن كان مقروناً باستصحاب عدم الحرمة ، إلاّ أنّ استصحاب الحرمة يكون رافعاً لتلك الحلّية ، وناقضاً لعدم الحرمة الذي كانت الحلّية مقرونة به ، فمحصّل استصحاب الحرمة التعليقية إلى ما بعد الغليان هو كون ذلك الوجود من الحلّية قد ارتفع بوجود رافعه الشرعي وهو الحرمة ، وكون ذلك العدم - أعني عدم الحرمة المقارن لتلك الحلّية - قد انتقض وتبدّل إلى وجود الحرمة ، كلّ ذلك من جهة كون الحرمة طارئة على الحلّية التي هي ضدّها ، وكون إيجاد الشارع للحرمة على ما هو حلال في نفسه يكون رفعاً تشريعياً لتلك الحلّية.

وهذا بخلاف تعاقب الحالتين ، فإنّه لمّا كان كلّ منهما محتملاً لأن يكون هو الطارئ على الآخر ، لم يتعيّن كون أحدهما المعيّن هو الرافع للآخر ، فيتعارض فيه الاستصحابان ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الحرمة على تقديرها تكون هي الرافعة للحلّية ، لكونها هي الطارئة على الحلّية ، أمّا الحلّية فلا يكون استصحابها قاضياً بارتفاع الحرمة ، بل أقصى ما فيه أنّه مقرون باستصحاب عدم الحرمة ، وقد عرفت أنّ الحكم ببقاء الحلّية وببقاء عدم الحرمة محكوم لاستصحاب الحرمة الرافعة لذلك الوجود من الحلّية ، والناقضة لذلك العدم من الحرمة المقارن لتلك الحلّية ، ولا يكون استصحاب تلك الحلّية وذلك العدم من الحرمة المقارن لتلك الحلّية قاضياً بعدم طروّ الحرمة بالغليان إلاّباعتبار لازم بقاء تلك الحلّية وذلك العدم المقرون بها.

وبالجملة : إنّ استصحاب الحرمة التعليقية بواسطة كون الحرمة طارئة على تلك الحلّية ، القاضي بكون الشارع قد رفعها بالحرمة ، يتعرّض لنفس الحلّية المستصحبة ولنفس العدم المقرون بها ، أعني عدم الحرمة المقارن لعدم الحلّية ،

ص: 71

بخلاف استصحاب تلك الحلّية وذلك العدم المقرون ، فإنّه لا تعرّض فيه لعدم حصول الحرمة عند الغليان ابتداءً ، بل بواسطة أنّ الحكم ببقاء الحلّية وعدم الحرمة إلى ما بعد الغليان يكون اللازم هو عدم ارتفاع تلك الحلّية ، وعدم انتقاض ذلك العدم.

تكميل : قد تقدّم أنّ قولهم إنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يترتّب عليه وجود الضدّ الآخر إلاّبالأصل المثبت صحيح ، وأنّ الإشكال الذي ذكرناه إنّما هو في عكسه.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه أيضاً يجري فيه نظير الإشكال في عكسه ، وذلك فإنّ الضدّين اللذين جرى الاستصحاب في عدم أحدهما إمّا أن يكونا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فلا ريب في أنّ تحقّق عدم أحدهما يكون مقروناً بوجود الآخر ، فيكون استصحاب عدم أحدهما دائماً مقروناً باستصحاب وجود الآخر ، وإن لم يكونا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما بل كان لهما ثالث مثلاً ، فلا ريب أنّ استصحاب عدم أحد الأضداد لا يلازم وجود الآخر المعيّن كي يمنع منه من جهة الاثبات ، وإن أُريد بذلك أحد الأضداد الأُخر غير هذا الذي تحقّق عدمه وجرى استصحاب العدم فيه ، فلا ريب في أنّ استصحاب عدم هذا الضدّ الخاصّ يكون دائماً مقروناً بما هو المطلوب ، وهو استصحاب أحد الأضداد الباقية من غير تعيين لها ، فتأمّل.

نعم ، فيما لو كان الموجود سابقاً هو أحد الأضداد ، ثمّ علمنا تبدّله إلى ضدّ آخر مردّد بين ضدّين معينين ، كان استصحاب العدم في أحد هذين الضدّين غير مقرون باستصحاب وجود الضدّ الآخر منهما ، وهنا يصحّ أن يقال : إنّ استصحاب عدم أحد الضدّين لا يترتّب عليه لازمه وهو كون الذي وجد هو الضدّ الآخر إلاّ

ص: 72

بالأصل المثبت ، وأنّه لو أُغضي النظر عن هذه الجهة من الإثبات فهو معارض بمثله من الطرف الآخر ، فيقال الأصل عدمه ، فيترتّب عليه لازمه وهو كون الموجود هو طرفه المقابل له.

وهكذا الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما إذا فرض كونهما معاً مسبوقين بالعدم ثمّ حصل العلم بطروّ أحدهما ، كما لو قلنا بالتضادّ بين الميتة والمذكّى بدعوى كون كلّ منهما ضدّاً وجودياً للآخر ، وعلمنا بطروّ أحدهما على هذا الحيوان ، فإنّ أصالة عدم الموت حتف الأنف لا يترتّب عليه وجود ضدّه الآخر وهو الموت بالتذكية إلاّبالأصل المثبت ، لكون وجود التذكية حينئذ لازماً عقلياً لعدم الموت حتف الأنف ، ومع قطع النظر عن ذلك هو معارض بالمثل من الطرف الآخر.

والخلاصة : هي أنّ تعارض الأُصول العدمية في الأضداد الوجودية ينحصر بما إذا كانت الأضداد مسبوقة بالعدم ، وقد علم بوجود أحدها وتردّد بين الاثنين أو الثلاثة مثلاً ، أمّا تعارض الأُصول الوجودية في الأضداد فينحصر في تعاقب الحالتين من الأضداد ، وقد ادّعي تأتّي هذا التعارض فيما نحن فيه ممّا كان أحد الضدّين فعلياً وكان الآخر معلّقاً على أمر ، وقد حصل تبدّل في بعض حالات الموضوع الموجب للشكّ في بقاء ذلك الحكم التعليقي والحكم الفعلي ، بأن تبدّل الموضوع من العنبية إلى الزبيبية ، فقيل : إنّ استصحاب ذلك الحكم الفعلي الذي هو ضدّ لذلك الحكم التعليقي معارض لاستصحاب ذلك الحكم التعليقي بعد حصول المعلّق عليه الذي هو الغليان.

والجواب : هو أنّ ذلك ليس من التعارض ، بل إنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على استصحاب الحكم الفعلي ، لكون المستصحب في التعليقي وهو

ص: 73

التحريم رافعاً للمستصحب في الفعلي ، لكون الحكم فيه طارئاً على الحكم في الفعلي ، والضدّ الطارئ رافع للضدّ الموجود ، والأمر في تعاقب الحالتين وإن كان كذلك لكون إحدى الحالتين طارئة على الأُخرى ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن الطارئ في تعاقب الحالتين متعيّناً ، لم يكن الاستصحاب في أحدهما المعيّن متعيّناً لأن يكون مؤدّاه رافعاً لمؤدّى الآخر ، بل كان كلّ منهما محتمل الرافعية للآخر.

وإن شئت فقل : إنّ نتيجة الاستصحاب في تعاقب الحالتين هو بقاء كلّ من الحالتين بحاله ، من دون تعرّض لكون إحداهما رافعة للأُخرى ، لعدم تعيّن كونها هي المتأخّرة ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الضدّ المعلّق هو المتعيّن لكونه رافعاً وطارئاً على الضدّ الفعلي ، لكونه هو المتأخّر والطارئ على الضدّ الفعلي ، فيكون استصحاب الضدّ المعلّق حاكماً بارتفاع ذلك الضدّ الفعلي ، بخلاف استصحاب ذلك الضدّ الفعلي فإنّه لا يحكم بعدم حصول الضدّ المعلّق إلاّبالملازمة المتوقّفة على بقاء ذلك الضدّ الفعلي ، وعدم حصول رافعه الذي هو الضدّ المعلّق ، فكان جريان الاستصحاب في ذلك الفعلي متوقّفاً على عدم جريان الاستصحاب في المعلّق ، بخلاف الاستصحاب في المعلّق فإنّه يجري الاستصحاب فيه بلا توقّف على عدم جريان الاستصحاب في الفعلي ، وإن كان جريان المعلّق موجباً لعدم جريان الفعلي ، فكان عدم جريان الفعلي بمنزلة المعلول لجريان المعلّق ، فيكون جريان الفعلي موقوفاً على عدم جريان المعلّق ، لأن جريان المعلّق يكون علّة لعدم جريان الفعلي ، بخلاف جريان المعلّق فإنّه لا يكون متوقّفاً على عدم جريان الفعلي ، لعدم كون جريان الفعلي علّة في عدم جريان المعلّق ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا التفصيل الذي حرّرناه هو المراد لشيخنا قدس سره فيما نقلناه (1) عنه قدس سره من

ص: 74


1- في الصفحة : 65.

تلك العبارة المختصرة ، أعني قوله قدس سره في الجواب عن إشكال المعارضة : قد حقّقنا في محلّه في مسألة اللباس المشكوك أنّ ارتفاع الحلّية عند الحكم بالحرمة أو بالعكس لا يكون موجباً لكون الأصل مثبتاً ، بل إنّ ارتفاع أحدهما عين ثبوت الآخر ، ولا أقل من كونه مترتّباً شرعاً على الحكم به. فإنّ هذا الجواب ذكره في درس مستقل بعد أن أفاد الجواب في سابقه بما هو موجود في التحارير ، أو ما هو قريب منه ، وقد تقدّم نقل ذلك مفصّلاً ، وهذا التأخّر ممّا يشهد بأنّ المتأخّر مشتمل على نحو عدول أو شرح لما سبقه.

وأمّا ما أشار إليه في مسألة اللباس المشكوك فإنّي لم أتوفّق للعثور عليه صريحاً في رسالته المطبوعة ، ولكن فيما حرّرته عنه في تلك المسألة في التعرّض لتقريب الجواز بقاعدة الحل أفاد أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر ، وليس ذلك من الأصل المثبت (1)

ص: 75


1- قال قدس سره فيما حرّرته عنه في مسألة اللباس المشكوك : وقد يشكل أيضاً على الأصل المذكور أعني قاعدة الحل في الحيوان المأخوذ منه اللباس بأنّه مثبت ، بتقريب أنّ الحرمة والحل ضدّان ، فجريان الأصل في أحدهما وهو الحل لاحراز عدم الآخر وهو الحرمة يكون مثبتاً ، فلا يترتّب على أصالة حل الأكل في الحيوان عدم حرمة الصلاة في وبره الذي هو محصّل المانعية إلاّعلى تقدير الأصل المثبت. وفيه : أنّه بعد تسليم السببية والمسبّبية لا ورود لهذا الإشكال ، فإنّ التعبّد بأحد المتضادّين بعد الفراغ عن كون كلّ منهما مجعولاً شرعياً يغني عن التعبّد بعدم الآخر ، بل يكون التعبّد بوجود أحدهما عين التعبّد بعدم الآخر ، وهذا مطلب سيّال في كلّ أمرين متضادّين مجعولين شرعاً إذا كان الأثر المطلوب في المورد مترتّباً على عدم أحدهما ، فإنّه لا حاجة في إحراز ذلك العدم إلى تعبّد فيه بالخصوص ، بل يكفي فيه التعبّد بوجود الآخر لكون التعبّد بوجوده عين التعبّد بعدم الآخر ، انتهى. ثمّ إنّه كرّر ذلك بعد هذا المبحث بنحو أوضح ، فراجع [ منه قدس سره ].

ولكن قد عرفت أنّ التعبّد بوجود أحد الأضداد سواء كانت شرعية أو من الموضوعات الخارجية يكون مقروناً دائماً بالتعبّد بعدم الآخر ، لأنّ وجود أحد الضدّين خارجاً يكون مقروناً بعدم الآخر ، فلا نحتاج إلى هذه القضيّة وهي أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر ، وإن كانت صحيحة في نفسها ، والغرض أنّ هذا الذي أفاده من أنّ التعبّد بأحد الأضداد الشرعية عين التعبّد بعدم الآخر قد تقدّم إقامة البرهان عليه ، وهو كون ذلك العدم المقارن لذلك الوجود مستنداً إلى الشارع.

ومن هذا البرهان يمكننا إتمام ما حرّرناه في وجه الحكومة من طريقة الرافعية الناشئة عن كون إيجاد الطارئ رفعاً لما هو طار عليه ممّا هو ضدّه ، وبه يمكننا أن نصحّح ما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه من تلك الجملة أعني مثل قوله : إذ لا معنى للتعبّد بالنجاسة أو الحرمة إلاّ إلغاء احتمال الحلّية والطهارة (1) ، ونحو ذلك من الجمل التي تقدّم نقلها ، بأن نقول : إنّ الغرض من إلغاء احتمال الحلّية هو تحقّق الموجب لارتفاعها وهو الحرمة ، فلاحظ وتدبّر. ولعلّ سلوك طريقة حكومة ذي العنوان الثانوي على ذي العنوان الأوّلي أسهل ، فإنّ حرمة العصير إنّما هي بعنوانه الثانوي وهو الغليان ، وحلّيته إنّما هي بعنوانه الأوّلي ، فكما أنّ الأوّل حاكم على الثاني في غير مورد الشكّ في البقاء فكذلك يكون حاكماً عليه في مورد الشكّ في البقاء عند إثبات كلّ منهما بالاستصحاب ، ولعمري إنّ هذه الطريقة مع كونها أسهل من الطريقة الأُولى التي أطلنا الكلام

ص: 76


1- فوائد الأُصول 4 : 477.

عليها يمكن القول بتعيّنها ، إذ لا تخلو الطريقة الأُولى من دعوى كون الشارع بجعله أحد الضدّين يلزمه جعل عدم الآخر ، فترجع الشبهة في الإثبات بحالها ، حيث إنّ استصحاب الحرمة المجعولة يلزمها بقاء لازمها وهو جعل عدم الحلّية.

ولا يمكن الجواب عنه إلاّبأن يقال : كما أنّا نجري الاستصحاب في الحرمة المعلّقة ، فكذلك نجري الاستصحاب في عدم الحلّية الملازم لجعل الحرمة ، وحينئذ يكون الحاكم على استصحاب الحلّية هو استصحاب عدمها لا استصحاب الحرمة ، وحينئذ يقع التعارض بين استصحاب عدم الحلّية المعلّق على الغليان وبين استصحاب نفس الحلّية المطلقة ، ولا يندفع هذا التعارض إلاّ بدعوى كون عدم الحلّية لاحقاً للعصير بعنوانه الثانوي ، وكون الحلّية لاحقة له بعنوانه الأوّلي ، والأوّل حاكم على الثاني.

قوله : أمّا الوجه الأوّل ففيه : أنّ توهّم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعية أحكاماً جزئية بنحو القضايا الخارجية ، فيكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين موضوعاً مستقلاً قد أُنشئ في حقّه حكم يختصّ به ولا يتعدّاه ... الخ (1).

الظاهر أنّ المراد من القضية الخارجية حيث يطلقها الأُستاذ قدس سره هي التي يكون الحكم فيها وارداً ابتداءً على أشخاص موجودين بلا توسّط عنوان ، فيكون هناك أحكام متعدّدة متباينة على موضوعات متعدّدة متباينة ، لكن في مقام الحكاية عن تلك الأحكام لأجل صعوبة التكرار يحكي تلك الأحكام المتباينة على الموضوعات المتباينة بعبارة واحدة ، بأن يقول : يجب إكرام هؤلاء ، مشيراً به إلى تلك الأفراد الموجودة ، أو يقول : قتل من في العسكر ، في مقام الحكاية

ص: 77


1- فوائد الأُصول 4 : 478.

عوضاً عن أن يقول : قتل فلان وقتل فلان ، إلى آخر الأفراد ، وبناءً على ذلك لا يكون الإشكال في استصحاب عدم النسخ منحصراً بتبدّل الموضوع ، بل هناك إشكال آخر وهو انحصار الأحكام بمن كان موجوداً في حال جعلها ، وعدم سرايته إلى من يوجد بعد ذلك إلاّبنحو الإجماع على الاشتراك في الحكم ونحوه.

ولأجل ذلك قال في الكفاية : وإلاّ لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها (1) فإنّ الحكم إذا كان مختصاً بالموجودين لم يمكن تسريته بالاستصحاب إلى المعدومين ، وكذلك لم يكن ارتفاعه عن المعدومين من قبيل النسخ.

ولعلّه لأجل ذلك أفاد شيخنا قدس سره في التحرير المطبوع في صيدا (2) ما محصّله أوّلاً : إجراء الإشكال في المعدومين في هذه الشريعة بل في الغائبين ، ثمّ قاس عليه الاستصحاب في أحكام الشريعة السابقة ، فلاحظ.

وربما يقال : إنّ المراد من القضية الخارجية هو ما ذكرتموه ، ولكن لا تكون الأفراد المحكومة عليها مختصّة بالموجودين ، بل يكون المحكوم عليه هو جميع الأفراد حتّى من يأتي بعد ذلك ، بأن يكون الحاكم قد تصوّر جميع تلك الأفراد الموجودة والتي توجد فيما بعد ، وجعل لكلّ واحد منها حكماً مستقلاً ، وفي مقام الحكاية عن تلك الأحكام التي جعلها المفروض تباينها وتباين موضوعاتها يحكيها بعبارة واحدة ، بأن يقول : حرّمت شرب الخمر مثلاً على كلّ فرد من تلك الأفراد الموجودة والتي توجد فيما بعد ، أو يقول : حرّمته على جميعهم ، أو يقول : على جميع المكلّفين ، أو يقول : على الأفراد التي هي من أهل شريعتي ،

ص: 78


1- كفاية الأُصول : 413.
2- لاحظ أجود التقريرات 4 : 127 - 128.

ونحو ذلك من العبائر الحاكية عن تلك الأفراد المتباينة التي حكم عليها بأحكام متباينة.

وعلى هذا فيكون الفرق بين القضية الخارجية بهذا المعنى والقضية الحقيقية هو أنّ المحكوم عليه في هذه القضية هو الفرد بجميع خصوصياته ، فيكون كلّ واحد موضوعاً مستقلاً مبايناً للموضوع الآخر ، بخلاف القضية الحقيقية فإنّه لا يكون الموضوع فيها إلاّذلك الكلّي الطبيعي الموجود في ضمن تلك الأفراد ، والخصوصيات الفردية خارجة عنه ، فلا يكون الموضوعات متباينة ، وانحلال الحكم الوارد على الكلّي الطبيعي المأخوذ على نحو القضية الحقيقية إلى أحكام متعدّدة لا ينافي ما ذكرناه ، فإنّه لا يكون ذلك الانحلال إلاّ عبارة عن كون كلّ واحد من تلك الأفراد سارياً إليه الحكم بمقدار ما فيه من حصّة ذلك الكلّي الطبيعي.

وبناءً على ذلك ينبغي أن ينظر الحكم الذي كان موجوداً في تلك الشريعة السابقة ، فإن كان بعنوان المكلّفين أو بعنوان البشر ونحو ذلك ممّا يكون أهل الشريعة اللاحقة واجدين له ، وكان المحكوم عليه هو كلّ واحد من أفراد البشر الموجودين في الشريعة السابقة والمعدومين ، جرى استصحاب البقاء في حقّنا بالنسبة إلى ذلك ، من دون فرق في ذلك بين كون القضية خارجية أو كونها حقيقية ، ولو كان بعنوان أهل الشريعة السابقة لم يجر الاستصحاب المذكور ، من دون فرق أيضاً بين كون القضية خارجية أو كونها حقيقية.

والذي يظهر من مثل قوله : فيكون كلّ فرد من أفراد المكلّفين موضوعاً مستقلاً قد أُنشئ في حقّه حكم يختصّ به الخ ، وكذا من مثل قوله : فإنّه يلزم أن تكون الأدلّة الواردة في الكتاب والسنّة كلّها أخباراً عن إنشاءات لاحقة عند وجود

ص: 79

آحاد المكلّفين بعدد أفرادهم (1) أنّ القضية الخارجية قد أُخذت على النحو الثاني الشامل للموجودين حين الحكم والمعدومين.

نعم ، ربما يقال : إنّ الحكم وإن كان كلّياً شاملاً للمعدومين كما هو شامل للموجودين ، إلاّ أنّه مختصّ بأتباع تلك الشريعة ، ولا يشمل من لم يكن منهم تابعاً لتلك الشريعة.

وفيه : ما لا يخفى ، حيث إنّ أحكام كلّ شريعة ليست مختصّة بمن هو تابع لتلك الشريعة ، بل هو شامل لجميع المكلّفين ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الكفّار مكلّفون بالفروع ، ولو كانت أحكام الشريعة مختصّة بمن هو من أتباعها ، كان لازمه عدم تكليف الكفّار بفروع شريعتنا ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسألة لا يترتّب عليها أثر عملي ، للقطع بأنّ شريعتنا المقدّسة قد نسخت الشرائع السابقة ، على وجه لو كان لنا حكم موافق للشريعة السابقة لم يكن ذلك من باب الامضاء وعدم النسخ ، بل هو من باب جعل المماثل كما في مثل قوله تعالى : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) الخ (2) ونحو ذلك.

ويمكن إقامة الدليل على هذه الدعوى من النسخ الكلّي ، من ناحية الأخبار الواردة مثل قوله صلى اللّه عليه وآله : « ما عمل يقرّبكم إلى اللّه » الخ (3) ومثل قوله صلى اللّه عليه وآله لعمر : لو

ص: 80


1- فوائد الأُصول 4 : 478.
2- المائدة 5 : 45.
3- ورد مضمونه في وسائل الشيعة 17 : 45 / أبواب مقدّمات التجارة ب 12 ح 2 ، بحار الأنوار 20 : 126 / 50.

كان موسى وعيسى حيّين لاتّبعاني. بل يمكن تحصيل الاتّفاق العملي من جميع طوائف المسلمين ، فإنّك ترى الفقيه منهم يتتبّع النصّ في المسألة ، فإن عثر على نصّ أخذ به ، سواء كان الحكم في الشريعة السابقة على طبقه أو كان على خلافه ، وما لم يجد فيه رجع فيه إلى قاعدته فيما لا نصّ فيه من براءة أو احتياط أو استحسان أو قياس ، ونحو ذلك ممّا أسّسوه لما لا نصّ فيه ، ولو كان أحدهم يحتمل بقاء جملة من أحكام الشرائع السابقة لكان اللازم فيما لا نصّ فيه أن يراجع الشرائع السابقة ، فلعلّ أن تتضمّن حكماً لتلك المسألة ، فيلزمه الأخذ به واستصحاب عدم نسخه ، ولم نر أحداً منهم صنع ذلك ، فهذا دليل على تسالمهم على النسخ الكلّي ، فراجع.

ولا يخفى أنّه بعد البناء على ذلك لا يكون لنا معنى محصّل لاستصحاب الحكم السابق أو لاستصحاب عدم نسخه ، فإنّا لو بنينا على النسخ الكلّي لم يعقل بقاء حكم من الأحكام السابقة لم ينسخ ، بل تكون كلّها منسوخة وغير باقية ، غايته أنّ نسخها تارةً يكون بجعل ضدّها وأُخرى يكون بجعل المماثل ، وفي كلّ منهما لا وجه لاحتمال البقاء وعدم النسخ كي يجري استصحابه.

نعم ، يجري استصحاب عدم جعل الضدّ ، لكنّه مثبت ومعارض باستصحاب عدم جعل المماثل. أمّا الامضاء فهو راجع إلى جعل المماثل. نعم لو قلنا إنّ الامضاء مرجعه إلى إبقاء الحكم السابق من باب الرضا ببقائه ، لا من باب جعل مثله ، ففيه أوّلاً : أنّه حينئذ عبارة أُخرى عن عدم النسخ ، وقد فرضنا النسخ الكلّي. وثانياً : أنّا لو أخرجناه حينئذ عن عدم النسخ ، وقلنا إنّه ليس من بابه ولا من

ص: 81

باب جعل المماثل بل من باب الرضا بالبقاء ، ويكون نفس الحكم السابق باقياً لكن برضا من صاحب شريعتنا ، لكان استصحاب بقائه وعدم نسخه مثبتاً لما هو المطلوب من رضا صاحب شريعتنا ببقائه ، على أنّ الرضا إذا لم يكن راجعاً إلى جعل المماثل ولا إلى مجرّد عدم النسخ ، كان غير معقول كما هو واضح.

قوله : وما أجاب به الشيخ قدس سره عن دعوى اختلاف الموضوع : بأنّا نفرض كون الشخص مدركاً للشريعتين فيجري في حقّه استصحاب عدم النسخ ، لا يحسم مادّة الإشكال - إلى قوله - وذلك واضح ... الخ (1).

لا يخفى أنّ دعوى عدم انحسام مادّة الإشكال تارةً يكون مستندها هو اختصاص الاستصحاب المذكور بنفس ذلك المدرك للشريعتين ، لكونه هو المتيقّن والشاكّ ، دون غيره ممّن لم يدرك الشريعة السابقة لعدم تحقّق اليقين والشكّ في حقّه كما يعطيه قوله : فإنّ مؤدّيات الأُصول إنّما تختصّ بمن يجري في حقّه الأصل الخ (2).

وفيه : أنّ الحكم المستصحب وإن كان هو حكم من أدرك الشريعتين ، إلاّ أنّ من لم يدرك الشريعة السابقة يمكنه استصحاب حكم ذلك المدرك ، ويرتّب أثر بقائه وهو اشتراكه معه في التكليف ، وذلك نظير استصحاب المجتهد حكم الحائض مثلاً ويرتّب أثر بقائه وهو إخباره ببقاء حكمها.

وتارةً يكون عدم انحسام مادّة الإشكال لأجل أنّ استصحاب غير المدرك حكم المدرك لا يترتّب عليه أثر بالنسبة إلى غير المدرك ، إلاّبالملازمة بين الحكمين كما هو قضية الاشتراك ، وحينئذ يكون الأصل مثبتاً.

ص: 82


1- فوائد الأُصول 4 : 479 - 480.
2- فوائد الأُصول 4 : 480.

ويمكن الجواب عنه : بأنّا لا نريد من استصحاب حكم المدرك إثبات لازمه الواقعي وهو حكم غير المدرك ، بل نريد من استصحاب حكم المدرك إثباته ظاهراً ، وننتقل من إثباته ظاهراً إلى إثبات الحكم ظاهراً في حقّ غير المدرك بدعوى أنّ دليل الاشتراك كما يقضي بالملازمة بين الحكمين واقعاً ، فكذلك يقضي بالملازمة بينهما ظاهراً ، وهذا هو الذي أجاب عنه بقوله : بداهة أنّ الاشتراك إنّما يكون في التكاليف الواقعية ، وأمّا التكاليف الظاهرية التي تؤدّي إليها الأُصول العملية فليس محلّ لتوهّم الاشتراك فيها الخ (1) وحاصله إنكار الملازمة بين [ الحكمين ] الظاهريين ، فإنّ الملازمة إنّما جاءت من دليل الاشتراك ، وهو مختصّ بالأحكام الواقعية هذا ، مضافاً إلى أنّ الملازمة بين الحكمين الظاهريين إنّما تنفع بعد إثباتنا الحكم الظاهري في حقّ المدرك ، والمفروض أنّا لا يمكننا إثباته بالاستصحاب لعدم الأثر في حقّنا ، فلاحظ.

قوله : وأمّا الوجه الثاني ففيه : أنّ العلم الاجمالي بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة ... الخ (2).

لكن هذا إنّما ينفع بعد العثور على المقدار المذكور ، أمّا قبله فينبغي أن يكون العلم الاجمالي مانعاً من إجراء استصحاب عدم النسخ ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 83


1- فوائد الأُصول 4 : 479 - 480.
2- فوائد الأُصول 4 : 480.

[ الأصل المثبت ]

قوله : إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات إنّما هو الطريقية والكاشفية - إلى قوله - فالأمارات تكون كالعلم من حيث الاحراز والكاشفية ... الخ (1).

هذه جهات تقدّم الكلام عليها في جعل الطرق ، وحاصل التأمّل فيها : أنّ العلم لا يعقل جعله إلاّتنزيلاً - أعني تنزيل الأمارة أو الظنّ الحاصل منها منزلة العلم - فيرجع ذلك إلى جعل آثار العلم ، والمفروض أنّ العلم الطريقي لا أثر له شرعاً ، فلابدّ من إرجاع ذلك إلى تنزيل المؤدّى منزلة المعلوم في ترتيب آثاره الشرعية ، وحينئذ يتوجّه إشكال التناقض بين الحكم الواقعي والظاهري ، إذ لا محصّل للعلم التعبّدي إلاّ العلم التنزيلي ، ولا محصّل للتنزيل في العلم إلاّ التنزيل في ناحية المعلوم والمؤدّى ، ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّبالالتزام بجعل الحجّية ، فإنّها من الأحكام الوضعية القابلة للجعل ، ويكون الوجه في ترتيب اللوازم في الأمارات دون الأُصول هو الاطلاق في الأمارات والتقييد في الأُصول المستفاد من مادّة نقض اليقين على ما شرحناه ، فلاحظ.

نعم ، لو كان العلم من مقولة الأحكام الوضعية كالملكية والرقّية والزوجية لكان قابلاً للجعل والاعتبار عند العقلاء وعند الشارع إمضاءً أو تأسيساً ، لكن المفروض أنّه ليس كذلك ، بل هو من الصفات الواقعية غير القابلة للجعل

ص: 84


1- فوائد الأُصول 4 : 484 - 485.

الاعتباري ، وأقصى ما في ذلك هو التنزيل منزلة العلم ، وقد عرفت ما يلزم عليه ، فراجع ما حرّرناه في التعليق على الجزء الأوّل في مباحث جعل الطرق (1) وفي مباحث العلم الصفتي والطريقي خصوصاً حواشي ص 9 من الجزء الأوّل (2).

قوله : فهي عندهم محرزة للمؤدّى وكاشفة عنه وواسطة لإثبات مقاصدهم كالعلم ، والشارع قد أبقاها على حالها وأمضى ما عليه العرف ... الخ (3).

توضيحه : أنّ الأمارات العقلائية وإن كانت في حدّ ذاتها كاشفة عن الواقع ، لكنّه كشف ناقص مقرون باحتمال الخلاف ، ومع ذلك فالعقلاء يرون أنّها محرزة للواقع ، ويثبتون بها مقاصدهم ويجرون عليها في مقام العمل ، حتّى لو لم تكن مفيدة للظنّ الشخصي فضلاً عن العلم القطعي ، بل يكون الظنّ النوعي كافياً عندهم في الكاشفية ، بحيث إنّهم يجعلونها كاشفة عن الواقع كشفاً تامّاً ، ويلتزمون بالغاء احتمال الخلاف فيها ولا يعتنون به ، وما ذلك إلاّلتعبّدهم عقلائياً بتتميم كشفها وجهة نقصها في الكاشفية ، وهذا المعنى - أعني حكمهم بتتميم كشفها وإلغاء احتمال الخلاف فيها وإلحاقها بالعلم - هو الذي أمضاه الشارع ، وبواسطة أنّ مرجع الامضاء إلى جعل المماثل يكون الشارع قد تمّم كشفها ، وألغى احتمال الخلاف فيها ، وبعد ذلك الحكم العقلائي الذي قد أمضاه الشارع يكون الجري العملي على طبقها قهرياً ولازماً ذاتياً لانكشاف الواقع ، وهذا

ص: 85


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 299 وما بعدها.
2- لاحظ المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 82 - 89.
3- فوائد الأُصول 4 : 485.

بخلاف الأُصول إحرازية كانت أو غير إحرازية ، فإنّها لا تكون كاشفة عن الواقع ذلك الكشف الناقص الذي تمّمه الشارع ، بل أقصى ما فيها هو أنّ الحكم فيها يتضمّن الجري العملي على طبق أحد طرفي الشكّ فيها ، فإن كان ذلك الجري العملي الذي تضمّنه الحكم الشرعي مقروناً بالبناء على أنّ أحد طرفي الشكّ هو الواقع ، كانت من الأُصول التنزيلية ، وإن لم يكن مقروناً بذلك البناء ، بل اقتصر فيه على مجرّد العمل على طبق أحد طرفي الشكّ ، كانت من الأُصول غير التنزيلية.

وحاصل ما أُفيد من الفرق بين باب الأمارات وباب الأُصول الاحرازية وباب الأُصول غير الاحرازية ، هو أنّ الجري العملي في الأمارات يكون لازماً عقلياً لما هو المجعول الشرعي فيها وهو تتميم كشفها ، فيكون حال الجري العملي فيها حال الجري العملي في باب القطع في كونه لازماً عقلياً للكشف العلمي. أمّا باب الأُصول الاحرازية فيكون المجعول فيها ابتداءً هو لزوم الجري على مؤدّاها ، غايته أنّه معنون بعنوان أنّه هو الواقع ، فيكون مرجعه إلى البناء على أحد طرفي الشكّ من حيث الجري العملي على طبقه ، بخلاف الأُصول غير الاحرازية فإنّها فاقدة لهذه الجهة من البناء على أنّه هو الواقع ، وممحضة للزوم الجري العملي على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع ، وحينئذ فيكون مرجع الجعل فيها منتهياً إلى مقام التنجّز والمعذورية ، لا أنّ التنجّز والمعذورية هي المجعولة ابتداءً ، بل بمعنى أنّ المجعول الابتدائي هو الجري على طبق أحد طرفي الشكّ ، فإن كان هو ثبوت التكليف كان ذلك ملازماً لتنجّز الواقع ، وإن كان هو نفي التكليف كان ذلك ملازماً للمعذورية في مخالفة الواقع لو كان في البين تكليف واقعي.

ص: 86

قوله : فإنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل ... الخ (1).

الظاهر أنّه لا ريب في أنّ للعقلاء أُصولاً عقلائية يركنون إليها في مقام العمل والمفروض أنّ باب الأُصول العملية عنده قدس سره راجع إلى التطبيق العملي ، فلا يتمّ ما أُفيد من أنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل.

والحاصل : أنّ هذه الجملة مع قوله فيما تقدّم : كما لا يبعد أن تكون قاعدة التجاوز وأصالة الصحّة بل الاستصحاب في وجه من هذا القبيل (2) ، وقوله فيما يأتي : إذ ليس في الأُصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز الخ (3) ، كالمتنافيات إذ لا ريب عنده قدس سره أنّ هذه الأُصول أُصول عقلائية أمضاها الشارع ، وأنّ العقلاء يبنون عليها في مقام العمل ، فإن لم تكن عندهم محرزة للواقع لم يتمّ ما أفاده من أنّه ليس في بناء العقلاء تعبّد في مقام العمل ، كما أنّه لا يتمّ ما تقدّم من أنّها في حدّ نفسها محرزة للواقع وكاشفة عنه ، وإن كانت هذه الأُصول عندهم محرزة للواقع لم يتمّ ما أفاده قدس سره بقوله : ليس في الأُصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز ، فتأمّل.

قوله : نعم ، المجعول في باب الأُصول العملية مطلقاً هو مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل ... الخ (4).

لا يخفى أنّه لا محصّل لنسبة الجعل الشرعي إلى تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلاّ الأمر بتطبيق العمل عليه ، وهو قدس سره لا يسلّم وجود الأمر الشرعي في

ص: 87


1- فوائد الأُصول 4 : 485.
2- فوائد الأُصول 4 : 482.
3- فوائد الأُصول 4 : 486.
4- فوائد الأُصول 4 : 486.

جميع الأُصول الشرعية ، كما أنّه قدس سره لا يسلّم اشتمالها على التنزيل منزلة الواقع ، لأنّه يستلزم جعل المماثل ، وحينئذ فلا محيص من القول بأنّ المجعول في باب الأُصول الشرعية التنزيلية مثل الاستصحاب إنّما هو حجّية اليقين السابق ، أو الظنّ النوعي الحاصل من اليقين السابق ، غايته أنّ ذلك مقيّد بحيثية العمل على المتيقّن السابق ، فيكون الفارق بين الأمارات والأُصول التنزيلية هو أنّ المجعول في الأمارات هو مجرّد تتميم كشفها من دون تقييد بحيثية العمل ، بخلاف باب الأُصول التنزيلية فإنّ ذلك الجعل مقيّد فيها بحيثية العمل على طبق مؤدّاها ، الذي هو الجهة الثالثة من جهات العلم الطريقي ، ولأجل هذا التقييد لم يكن مثبتها حجّة كما تقدّم تفصيله في باب جعل الطرق والأُصول الشرعية (1) ، وقد ذكرنا هناك أنّ المجعول في الأُصول غير التنزيلية هو الحجّية أيضاً - أعني حجّية الاحتمال - لكن من حيث المعذورية أو التنجّز ، وقد ذكرنا في الأُصول التنزيلية أنّ محصّل هذه الدعوى راجع إلى أمرين : الأوّل كون المجعول في باب الأُصول الاحرازية هو نفس حجّية اليقين السابق. والثاني كون الحجّية المذكورة مقصورة على العمل الذي يكون عملاً على بقاء المتيقّن ، دون غيره ممّا يكون عملاً بلوازمه ممّا لا يعدّ عرفاً عملاً ببقاء ذلك المتيقّن ، بل يكون بحسب النظر العرفي عملاً على أمر آخر غير ذلك المتيقّن ، مثل نبات اللحية في استصحاب الحياة.

أمّا الدعوى الأُولى ، فيمكن أن يقال باستفادتها من النهي عن نقض اليقين السابق ، بأن يجعل النهي كناية عن حجّية اليقين السابق ، لا أنّه نهي مولوي مستقل بنفسه ، ولو سلّمنا أنّ لذلك النهي ظهوراً في النهي المولوي الاستقلالي لأمكننا رفع اليد عن هذا الظهور بالقرينة العقلية ، بأن يقال : لا يمكن حمل النهي المذكور

ص: 88


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 299 وما بعدها.

على كونه نهياً مولوياً ، لما يلزمه من الجمع بين الحكمين المتناقضين ، الذي هو إشكال الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية بعد إبطال ما قيل في ذلك من وجوه الجمع ، فإنّه حينئذ يلزم الالتزام بكون ذلك النهي كناية [ عن ] جعل الحجّية لليقين السابق تخلّصاً من المحذور المذكور ، خصوصاً بعد البناء على أنّ هذا النهي إمضاء أو إرشاد إلى البناء العقلائي على الأخذ باليقين السابق ، إذ لا شبهة في أنّه ليس عند العقلاء في ركونهم إلى اليقين السابق نهي ولا أمر مولوي ، وإنّما هو مجرّد كون ذلك اليقين حجّة في نظرهم يلزم البناء عليه ما لم يثبت ناقضه.

وأمّا الثاني ، فالأمر فيه أسهل ، لأنّ أخذ عنوان النقض يكون قرينة على أنّ المنظور إليه في ذلك النهي هو ما كان يعدّ في العرف نقضاً ، فيكون الممنوع عنه هو ما يكون نقضاً لليقين السابق ، وتكون الأعمال المترتّبة على ما هو لازم اليقين السابق خارجة عنه ، إذ ليست هي نقضاً.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب الذي قرّبناه كلّه مبني على كون المجعول له الحجّية هو اليقين السابق بعد طروّ الشكّ عليه ، ولو نوقش في ذلك بأنّ اليقين السابق في حدّ نفسه غير قابل لجعل الحجّية لكونه علماً في ظرفه وبعد الشكّ لا وجود له ، وأغضينا النظر عن الجواب عنه بأنّه لا مانع من جعل ذلك اليقين السابق حجّة ، لكن لا في الزمان السابق بل في الزمان اللاحق الذي هو زمان الشكّ ، لكنّا في فسحة عن هذا الإشكال بصرف الحجّية إلى الظنّ النوعي الحاصل من اليقين السابق الذي يكون متعلّقاً ببقاء المتيقّن ، وتكون حجّيته مقصورة على ترتيب البناء العملي على طبق المتيقّن السابق ، إمّا لدعوى كون أخذ العقلاء بذلك الظنّ النوعي مختصّاً بهذا المقدار ، ولا أقل من كونه هو القدر المتيقّن ، أو لدعوى كون

ص: 89

دليل الامضاء وهو قولهم عليهم السلام : « لا تنقض » الخ (1) مختصاً بذلك على التفصيل الذي حرّرناه فلا نعيد.

قوله : فإنّ قياس المساواة إنّما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية ، بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلّها شرعية كما سيأتي بيانه ... الخ (2).

هذا فيما لو كان مبدأ تلك الآثار المتسلسلة الشرعية محرزاً بأحد الأُصول الاحرازية كالاستصحاب ، فإنّ نسبة كلّ واحد منها إلى سابقه نسبة الحكم إلى موضوعه ، وإذا أُحرز الموضوع بالأصل الاحرازي ترتّب عليه حكمه ، وكذا إذا لم يكن الأصل المذكور إحرازياً بل كان غير إحرازي ، لكن كان المتأخّر عمّا جرى فيه الأصل تابعاً شرعاً لما هو الأعمّ من الواقعي والظاهري حتّى لو كان الأصل احتياطاً ، كما لو كان مقتضى الأصل في وجوب ذي المقدّمة هو الاحتياط ، فإنّه يتبعه الاحتياط في وجوب المقدّمة ، أمّا إذا لم يكن الثاني تابعاً للأوّل إلاّبوجوده الواقعي ، فما لم يحرز الأوّل بالأصل الاحرازي لا يترتّب عليه الثاني ، فلاحظ.

قوله : وكذا لا يمكن أن يثبت به ملزوم المؤدّى أو ما يلازمه شرعاً ... الخ (3).

يعني أنّ الأصل الجاري في الملزوم يترتّب عليه لازمه الشرعي ، أمّا الأصل الجاري في اللازم الذي هو الحكم فلا يترتّب عليه اللازم الآخر وإن كان شرعياً كما مثّل به ، فإنّه بعد البناء على أنّ حرمة الأكل وحرمة الصلاة أثران متقابلان

ص: 90


1- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.
2- فوائد الأُصول 4 : 489 [ ستأتي حاشية أُخرى على هذا المتن في الصفحة الآتية ].
3- فوائد الأُصول 4 : 490.

لاحقان للحيوان الخاص أعني الأرنب مثلاً ، فلا يترتّب على الأصل الجاري في أحد الحكمين الحكم الآخر ، وكما أنّه لا يترتّب عليه الحكم الآخر الذي هو الملازم لا يترتّب عليه الملزوم وإن كان شرعياً ، فإنّ استصحاب طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الطهارة ، أو استصحاب نجاسة ذلك الثوب ، لا يترتّب عليه ملزومه وهو طهارة ذلك الماء أو نجاسته.

والحاصل : أنّ طهارة الماء ملزوم ، ولازمه - أعني أثره الشرعي - هو طهارة الثوب النجس المغسول فيه ، فلو أجرينا الأصل في ذلك الملزوم ، وحكمنا بطهارة الماء لأجل استصحاب الطهارة أو قاعدة الطهارة ، ترتّب عليه ذلك اللازم أعني طهارة الثوب ، لكن لو أجرينا الأصل في اللازم - أعني نجاسة الثوب - لا يترتّب عليه الملزوم أعني نجاسة الماء.

والحاصل : أنّ الأصل في الموضوع يترتّب عليه حكمه الشرعي ، لكن الأصل في نفس ذلك الحكم لا يترتّب عليه موضوعه ، ولو كان نفس ذلك الموضوع حكماً شرعياً.

قوله : فإنّ قياس المساواة إنّما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلّها شرعية ... الخ (1).

وذلك مثل جواز الصلاة في جلد الحيوان المترتّب على حلّية أكل لحم ذلك الحيوان ، فإنّ استصحاب الحلّية في الحيوان موجب لترتّب جواز الصلاة في جلده.

ص: 91


1- فوائد الأُصول 4 : 489 [ تقدّمت حاشية للمصنّف رحمه اللّه على هذا المتن في الصفحة السابقة ].

ولا يخفى أنّ الأثر الثاني وهو جواز الصلاة إن كان موضوعه هو مطلق ثبوت الأوّل وهو حلّية الأكل وإن كان بالاستصحاب أو بقاعدة الحل ، كان تحقّقه بجريان الأصل في الأوّل تحقّقاً واقعياً لتحقّق موضوعه بذلك الأصل ، حتّى أنّه لو انكشف الخلاف لم تجب الاعادة ، بل لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، لأنّ الأصل قد حقّق موضوع الأثر الثاني وهو جواز الصلاة تحقّقاً واقعياً ، هذا إن كان الأصل جارياً في نفس الأثر الأوّل.

ولو كان جارياً في موضوعه كان ترتّب الأثر الثاني حينئذ محتاجاً إلى توسعة أُخرى في دليل الأثر الثاني ، بأن يكون موضوعه هو مجرّد العمل بالأثر الأوّل ، وإن لم يكن الأثر الأوّل ثابتاً في حدّ نفسه ، بل كان الثابت بالأصل هو موضوعه ، ولا يكفي في تحقّق الأثر الثاني ما ذكرناه من المسامحة الأُولى ، أعني كون موضوعه هو ثبوت الأثر الأوّل ولو بالأصل ، كما لا يخفى.

وإن كان موضوع الأثر الثاني هو الحلّية الواقعية لم ينفع في ترتّب الأثر الثاني مجرّد الأصل العملي في الأثر الأوّل ، مثل قاعدة الحل والبراءة ونحوهما من الأُصول غير الاحرازية ، بل لابدّ حينئذ من كون الأصل إحرازياً مثل استصحاب الحلّية ونحوه ممّا يكون مفاده إحراز الحلّية الواقعية ، فيكون جريان الاستصحاب حينئذ موجباً لترتّب الثاني ترتّباً ظاهرياً ، يجري فيه انكشاف الخلاف وعدم الاجزاء عند انكشاف الخلاف ، وغير ذلك من آثار الحكم الظاهري ، وفي ترتّب الأثر الثاني ولو ظاهراً على جريان الاستصحاب في موضوع الأثر الأوّل تأمّل وإشكال.

وعلى أي حال ، فلا يكون ترتّب الأثر الثاني على الأصل في نفس الأثر الأوّل أو في موضوعه من باب أنّ أثر الأثر أثر ، بل هو إمّا من باب تحقّق موضوع

ص: 92

الأثر الثاني وجداناً ، أو لكون الأصل محرزاً تعبّداً لموضوعه الذي هو الأثر الأوّل ، ولا يكون شيء منهما من باب أثر الأثر ، بل إنّ أصل الفرض وهو كون الأثر الثاني أثراً للأثر الأوّل يعطي أنّ جعل أثر الأثر أثراً خروج عن الفرض ، فإنّ معنى الأثر هنا هو الحكم الشرعي ، ومن الواضح أنّ الحكم الثاني مترتّب على الحكم الأوّل ، والحكم الأوّل مترتّب على موضوعه ، فليس الحكم الثاني لاحقاً لموضوع الحكم الأوّل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ قياس المساواة إنّما ينتج النتيجة المطلوبة بعد تألّف قياسين ، ففي مثل العلل والمعلولات يقال : إنّ المعلول الثاني وهو ج معلول لباء ، وهو - أعني باء - معلول لألف ، فيكون النتيجة أنّ ج معلول لمعلول الف ، فتضمّ هذه النتيجة إلى كبرى مسلّمة وهي أنّ المعلول لمعلول الشيء معلول لذلك الشيء ، وحينئذ تتحقّق النتيجة المطلوبة وهي أنّ ج معلول لألف ، فالمدار حينئذ على تلك الكبرى ، فلو لم تكن تلك الكبرى مسلّمة لا يكون قياس المساواة تامّاً ، مثل الاثنين نصف الأربعة والأربعة نصف الثمانية ، فإنّه ليس لنا أن نقول إنّ نصف نصف الشيء نصف لذلك الشيء.

وما نحن فيه من أثر الأثر الشرعي من هذا القبيل ، فإنّ الحكم الثاني وإن كان حكماً للحكم الأوّل فيكون حكماً لحكم الموضوع ، ومن الواضح أنّه ليس لنا أن نقول إنّ حكم حكم الشيء حكم لذلك الشيء ، مثلاً وجوب الصيام حكم للمكلّف ، وحكم هذا الوجوب أنّه يحكم ببقائه عند الشكّ في رافعه مثلاً ، أو أنّه تجب مقدّمته أو أنّه يقتضي النهي عن ضدّه ، ومن الواضح أنّ هذه الأحكام لا تكون أحكاماً للمكلّف ، فتأمّل.

ثمّ إنّ حاصل ما أُفيد في مسألة الملزومات الشرعية ولوازمها الشرعية

ص: 93

المترتّبة على ملزوماتها الشرعية بلا واسطة أجنبية عقلية أو عادية ، هو أن يقال : إنّ الأُصول العملية لمّا كان المجعول فيها هو البناء العملي ، لم يترتّب عليها إلاّما كان أثراً عملياً لاحقاً لنفس المجرى ، دون لوازمه العقلية والعادية ، ودون ملزوماته وملازماته وإن كانت شرعية.

مثال الأوّل الأصل المسبّبي بالنسبة إلى الأصل السببي ، كما في مسألة اللباس المشكوك ، فإنّا لو قلنا بأنّ ترتّب جواز الصلاة على حلّية الأكل ترتّب شرعي ، بحيث يكون جواز الصلاة وعدم المانعية من أثار الحلّية ، لكان الأصل المحرز لحلّية الأكل حاكماً على الشكّ في المانعية من دون العكس ، يعني أنّ الأصل في المانعية لا يكون مسوّغاً لأكل اللحم الذي هو ملزوم شرعي لجواز الصلاة فيما أُخذ من ذلك الحيوان ، لأنّ أكل اللحم ليس أثراً شرعياً لجواز الصلاة فيما أُخذ من ذلك الحيوان ، بل الأمر بالعكس.

ومثال الثاني أيضاً في مسألة اللباس ، بناءً على أنّ حرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة فيما أُخذ من الحيوان ليس أحدهما أثراً شرعياً متفرّعاً عن الآخر ، بل كلّ منهما متفرّع عن أمر ثالث وهو كون الحيوان من أحد العناوين المذكورة في الأخبار ، أعني الأرنب والثعلب مثلاً ، بحيث إنّ الأرنب له حكمان أحدهما في عرض الآخر ، وهما حرمة أكل لحمه وعدم جواز الصلاة في شيء منه ، بخلاف الغنم فإنّ له حكمين أيضاً أحدهما في عرض الآخر ، وهما حلّية أكل لحمه وجواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، وحينئذ لا يكون الأصل الجاري في أحد الحكمين موجباً لترتّب الحكم الآخر الذي هو ملازم له ، وإن كان ذلك الملازم في حدّ نفسه أثراً شرعياً.

وملخّص هذا المبحث : أنّ التلازم في الأشياء الخارجية لابدّ أن يكون

ص: 94

ناشئاً عن كون أحد المتلازمين علّة للآخر ، فيكون الملزوم هو العلّة ويكون اللازم هو المعلول ، أو عن كون كلّ منهما معلولاً لعلّة ثالثة ، فيكون المتلازمان معلولين لتلك العلّة ، ويكونان لازمين لتلك العلّة ، وتكون العلّة ملزومة لهما ، ويكونان في حدّ أنفسهما متلازمين في الوجود.

وفي هذا الأخير إشكال من جهة أنّ الأمرين المتباينين لا يعقل صدورهما عن علّة واحدة ، فلابدّ من القول بأنّ المعلول هو القدر المشترك بينهما ، أو القول بأنّ العلّة مختلفة بالحيثية ، فمن جهة إحدى الحيثيتين يصدر أحد المعلولين ، ومن جهة الحيثية الأُخرى يصدر المعلول الآخر ، وعلى كلّ حال فإنّ التلازم المذكور بجميع أنحائه لا يكون موجباً لصحّة الترتّب في باب الاستصحاب ، بمعنى أنّ استصحاب العلّة لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء المعلول ، واستصحاب المعلول لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء العلّة ، واستصحاب أحد المعلولين لا يترتّب عليه الحكم التعبّدي ببقاء المعلول الآخر.

وأمّا الأُمور الشرعية المتلازمة فيتأتّى فيها عين هذا التفصيل من كونه ناشئاً عن كون أحد الأمرين الشرعيين معلولاً للآخر ، أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمراد بالمعلول هو اللازم ، والمراد بالعلّة هو الملزوم ، والمراد بالمعلولين لعلّة ثالثة هما اللازمان لملزوم ثالث ، ولكن المراد بالأمر الشرعي الذي نقول إنّه معلول ولازم للآخر هو أنّ ذلك الأمر الشرعي يكون حكماً لذلك الآخر ، كما أنّ المراد من الأمرين الشرعيين اللذين نقول إنّهما معلولان ولازمان لأمر آخر هو أنّهما حكمان عرضيان لاحقان لذلك الأمر الآخر.

ويتّضح ذلك بالمثال المعروف في مسألة لباس المصلّي ، فإنّ جواز الصلاة في جلد الحيوان وحلّية أكل لحمه كلاهما حكمان شرعيان ، فقيل إنّ الأوّل وهو

ص: 95

جواز الصلاة في الجلد معلول للثاني وهو حلّية أكل لحمه ، يعني أنّ جواز الصلاة في الجلد حكم شرعي لاحق للحكم الشرعي الآخر وهو حلّية الأكل ، فيكون اللازم هو جواز الصلاة ، ويكون الملزوم هو حلّية الأكل ، وبناءً على هذا القول يكون الأصل الجاري في الحلّية نافعاً في الحكم التعبّدي بجواز الصلاة على ما مرّ تفصيله ، بخلاف العكس ، يعني أنّ الأصل الجاري في الثاني وهو جواز الصلاة غير نافع في الحكم التعبّدي في الأوّل وهو الحلّية.

أمّا لو قلنا بأنّ هذين الحكمين كليهما معلولان لأمر آخر وهو كون الحيوان من الغنم ، يعني أنّ كلاً من جواز الصلاة في الجلد وحلّية الأكل يكون من أحكام الغنم ، فيكونان معاً معلولين لعلّة ثالثة ولازمين لتلك العلّة الثالثة ، فهذان الأمران الشرعيان وإن كانا متلازمين لكن لا يكون الأصل الجاري في أحدهما موجباً للحكم التعبّدي بالآخر.

فتلخّص : أنّ المتلازمات الشرعية لا يكون الأصل الجاري في أحدها موجباً للحكم التعبّدي بالآخر ، سواء كانا معلولين لعلّة ثالثة أو كان أحدهما معلولاً للآخر ، إلاّفي صورة واحدة وهي ما لو كان الأصل جارياً في العلّة ، فإنّه يترتّب عليه الحكم التعبّدي بالمعلول إذا لم يتوسّط بينهما أمر أجنبي عقلي أو عادي ، والسرّ في ذلك هو ما أشرنا إليه من أنّ معنى كون الأمر الشرعي معلولاً للآخر أنّه يكون حكماً شرعياً لاحقاً للآخر ، ويكون ذلك الآخر موضوعاً لذلك الحكم الذي عبّرنا عنه بأنّه لازم له أو بأنّه معلول له ، ومن الواضح أنّ استصحاب الموضوع يكون موجباً لترتّب حكمه عليه ، بخلاف العكس فإنّ استصحاب نفس الحكم لا يوجب ترتّب موضوعه ، بل لابدّ من إحراز موضوعه من دليل آخر ، وهكذا الحال في استصحاب أحد الحكمين اللاحقين لموضوع واحد ، فإنّ

ص: 96

استصحاب أحدهما لا يوجب الحكم التعبّدي بالآخر ، بل لابدّ من إحراز ذلك الآخر من دليل آخر غير الاستصحاب الجاري في مقابله ، فتأمّل.

قوله : نعم ، إذا ورد في مورد بالخصوص التعبّد بأصل مع أنّه ليس لمؤدّاه أثر شرعي إلاّبواسطة عقلية أو عادية ، فلابدّ من ثبوت الأثر الشرعي وإلاّ يلزم لغوية التعبّد بالأصل ... الخ (1).

كما إذا فرضنا أنّه ليس لنفس حياة زيد أثر شرعي أصلاً ، وإنّما كان الأثر الشرعي مترتّباً على نبات لحيته ، ومع ذلك دلّ الدليل الخاصّ وقال : لا تنقض اليقين بحياة زيد عند شكّك في بقائها ، كان من اللازم علينا أن نحكم بترتّب ذلك الأثر اللاحق لنبات اللحية ، إخراجاً لذلك الدليل المتكفّل للتعبّد ببقاء حياة زيد عن اللغوية ، لا بمعنى أن نقول : إنّ أثر نبات اللحية مشمول لقوله : لا تنقض اليقين بحياة زيد ، فإنّ ذلك لا يدخل فيه أصلاً ، بل بمعنى أنّ المصحّح للتعبّد بالمنع عن نقض اليقين بحياته هو أنّ الشارع جعل وجوب التصدّق جعلاً تعبّدياً باقتضاء النهي عن نقض اليقين بحياته ، ويكون ذلك الجعل التعبّدي مصحّحاً لذلك النهي عن النقض ومخرجاً له عن اللغوية.

ثمّ إنّ لهذا المطلب تتمّة ، وهي أنّه بعد أن صحّ ورود « لا تنقض » في خصوص هذا المثال ، ولو بالنظر إلى تلك العناية وهي الحكم التعبّدي بوجوب التصدّق ، بحيث كان لازم ورود « لا تنقض » في حقّ زيد المذكور هو الحكم التعبّدي بوجوب التصدّق ، نقول : إنّ أصالة العموم في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين » الخ (2) حاكمة بشمولها لزيد المذكور ، وحينئذ نحكم بتحقّق ذلك الحكم

ص: 97


1- فوائد الأُصول 4 : 490.
2- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

التعبّدي ، لأنّ أصالة العموم من الأمارات تكون مثبتة للوازم.

والجواب عنه مذكور في بحث العموم ، وهو أنّه لو توقّف فردية فرد للعام على إعمال عناية ، لا نقول إنّ العام يشمله وإنّ تلك العناية متحقّقة ، لأنّ أصالة العموم وإن كانت من الأمارات ، إلاّ أنّها لمّا كانت مأخوذة من بناء العقلاء كان اللازم هو اتّباعهم في موارد إعمالها ، ولم يثبت أنّهم يبنون على الأخذ بأصالة العموم في مثل ذلك المورد الذي يتوقّف شمول العام له على إعمال تلك العناية ، نعم لو ورد دليل بالخصوص في ذلك الفرد لقلنا بتحقّق تلك العناية إخراجاً لذلك الدليل عن اللغوية ، هذا.

ولكن في النفس من أصل هذا المطلب شيء ، فإنّه لو كان عبد مملوك لشخص ، وشككنا في بقاء حياة ذلك العبد ولم يكن لحياته أثر أصلاً ، غير أنّا نحتمل أنّ الشارع أوجب علينا شراءه ، ومع ذلك ورد دليل بالخصوص يقول لا تنقض اليقين بحياة ذلك العبد ، لأمكن أن نرتّب هذا الأثر وهو وجوب شرائه إخراجاً للتعبّد الخاص الوارد في حياته عن اللغوية ، وفي الحقيقة أنّ وجوب الشراء من الآثار الشرعية لحياة العبد المذكور ، وجعله له من لوازم جعل الاستصحاب في المقام ، فيكون الوجوب من اللوازم العقلية لجعل الاستصحاب أمّا إذا فرضنا أنّه لم يكن هناك أثر أصلاً إلاّوجوب التصدّق عند نبات لحيته ، وقد فرضنا أنّ ذلك الأثر ليس من آثار حياته بل كان أجنبياً عنه ، نظير وجوب الإنفاق على هذه المرأة المشكوك بقاؤها على الزوجية في كونه غير مربوط بحياة ذلك العبد بوجه من الوجوه ، فهل ترى أنّه يلزمنا ترتيب ذلك الأثر المفروض كونه أجنبياً عن حياة ذلك العبد بالمرّة ، كلاّ ثمّ كلاّ ، ولو بقي ذلك القول - أعني لا تنقض اليقين بحياة ذلك العبد - على اللغوية.

ص: 98

وبالجملة : لا يصحّ ذلك القول إلاّبأن يكون ذلك الأثر أثراً لحياة ذلك العبد والمفروض أنّه ليس أثراً له بل هو أجنبي عنه. والحاصل : أنّ الخروج عن اللغوية لا يتمّ إلاّبجعل أثر مرتّب على حياة ذلك العبد ، ومجرّد ترتّب أثر على موضوع آخر يكون ذلك الموضوع مشكوك الوجود لا يخرجه عن اللغوية إلاّبنحو من التسامح ، بأن ندّعي أنّ ذلك الأثر الشرعي المفروض كونه لاحقاً لنبات اللحية يكون لاحقاً للحياة بالعرض والمجاز ، ليكون مصحّحاً للشارع أن يتعبّدنا ببقاء الحياة في مورد لا يترتّب عليها أثر شرعي إلاّهذا الأثر الذي لا يكون أثراً لها إلاّ بالعرض والمجاز.

قوله : وإمّا أن يكون جواز الصلاة في الجلد وحلّية أكل الحيوان لازمين لكون الحيوان مسوخاً أو ذا ناب ومخلب ... الخ (1).

هذه العبارة كغيرها من العبائر الآتية تحتاج إلى تصحيح بتقدير لفظ « العدم » على لفظ « كون الحيوان مسوخاً » الخ ، أو على لفظ « جواز الصلاة » ولفظ « حلّية أكل الحيوان » ، والأمر في ذلك سهل بعد اتّضاح المراد.

قوله : وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلّة اعتبار الأمارات ... الخ (2).

قد عرفت قوّة تقريب طريقة الاطلاق والتقييد بما لا يرد عليه ما أُفيد بقوله : وجه الضعف هو أنّ الخ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لا يقاس المقام بمسألة عموم المنزلة في باب الرضاع ومسألة الكشف الحكمي ، فإنّ كلاً من المسألتين راجع إلى جعل المماثل

ص: 99


1- فوائد الأُصول 4 : 491.
2- فوائد الأُصول 4 : 492.

وهو الحرمة في باب الرضاع وآثار الملكية في باب الكشف الحكمي المبنية على التنزيل ، بخلاف الأُصول العملية فإنّها بناءً على مسلكه قدس سره معرّاة عن كلّ من جعل المماثل والتنزيل ، وأنّها ممحضة لجعل الحكم الوضعي وهو الحجّية ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأولى أن يجعل الحكم الذي هو محلّ الكلام في باب الكشف الحكمي في مثل عقد النكاح هو الحرمة الأبدية فيما لو وطئ الزوجة المذكورة أجنبي كما تضمّنه ما حرّرته عنه قدس سره ، أمّا ما تضمّنه هذا التحرير (1) من الرجم على الواطئ فإنّما يترتّب إذا كان الواطئ محصناً ، نعم رجم الموطوءة يترتّب أيضاً على كونها محصنة ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة فيما أُفيد من تضعيف توجيه حجّية الأمارة في اللوازم بأنّها حاكية عنها أيضاً بما أُفيد من وجه الضعف بعدم تحقّق الحكاية ، لغفلة المخبر عن اللوازم ، ووجه المناقشة هو أنّ الحكاية القصدية وإن توقّفت على القصد إلاّ أنّ الدلالة القهرية لا تتوقّف عليه ، كما في مثل دلالة الآيتين (2) على أقل الحمل ، فتكفي الحكاية الارتكازية ، على أنّ الأمارة لا تنحصر بالحاكي كالأخبار ، بل هي كلّ ما يكون كاشفاً عن الواقع كشفاً ظنّياً كاليد مع فرض عدم القصد فيها ، ومن الواضح أنّ الكشف عن الواقع كشف عن لوازمه وملزوماته ، ولعلّ ذلك هو المراد بالحكاية ، لا الحكاية القصدية المختصّة بالدلالة اللفظية ، بل

ص: 100


1- فوائد الأُصول 4 : 493.
2- وهما قوله تعالى في سورة الأحقاف 46 : 15 ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) وقوله تعالى في سورة البقرة 2 : 233 ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) .

المراد بالحكاية هو الكاشفية المتحقّقة في مثل اليد ونحوها.

قوله : وألحق بعض الأعاظم الواسطة الجلية بالواسطة الخفيّة ، وقال باعتبار الأصل المثبت فيها أيضاً ... الخ (1).

هو صاحب الكفاية قدس سره قال فيها - بعد أن منع من حجّية الأصل المثبت من جهة أنّ المتيقّن من أخبار الاستصحاب إنّما هو التنزيل بلحاظ آثار نفس المتيقّن لا آثار لوازمه - : نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّه أيضاً حقيقة فافهم. كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً ، كما لا تفكيك بينهما واقعاً ، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثراً لهما ، فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً فافهم (2).

ومن هذه العبارة تعرف أنّ مراده من خفاء الواسطة هو خفاؤها بالنظر العرفي ، بحيث إنّهم يرون أنّ ذلك الأثر - اللاحق لنفس الواسطة بحسب الدليل الدالّ على ذلك الحكم - لا حق لذي الواسطة ، على وجه يعدّ رفع اليد عنه في مقام الشكّ في بقاء ذي الواسطة نقضاً لليقين ، فالتسامح العرفي لا يكون في ناحية موضوع ذلك الدليل الدالّ على الحكم ، بل إنّما هو في ناحية صدق النقض على رفع اليد عن مثل تلك الآثار.

وحينئذ لو قلنا إنّ مفاد دليل التعبّد بالاستصحاب هو مجرّد البناء العملي

ص: 101


1- فوائد الأُصول 4 : 494.
2- كفاية الأُصول : 415 - 416.

على طبق المستصحب ، لتوجّه على هذا الاستدلال ما أُفيد من أنّ عدّ العرف ترتيب آثار الواسطة ترتيباً على ذي الواسطة ، بحيث إنّهم يجعلون الأثر اللاحق للواسطة أثراً لذي الواسطة ، من التسامحات العرفية غير المقبولة شرعاً.

أمّا لو قلنا إنّ مفاد دليل التعبّد بالاستصحاب هو عدم نقض اليقين والمنع عن هدمه ، وكان عدم ترتيب آثار الواسطة بحسب نظرهم نقضاً لليقين بذي الواسطة ، لم يكن ذلك الإشكال متوجّهاً عليه ، فإنّ المراد بالنقض وإن لم يكن هو النقض الوجداني لأنّ اليقين قد انتقض وجداناً ، بل كان المراد به هو النقض العملي ، ولكن مع ذلك لا يكون ذلك النقض العملي مقيّداً بكونه النقض للعمل على خصوص آثار المتيقّن ، بل يكون ذلك النقض العملي باقياً على إطلاقه ، فيشمل ما يعد بحسب العرف نقضاً عملياً لليقين أو المتيقّن السابق ، كما لو كان ذلك عند العرف معدوداً من النقض العملي لليقين السابق.

ولكن مع هذا كلّه لا يكون هذا التوجيه خالصاً من الإشكال المزبور ، لأنّ العرف بعد فرض اعترافهم بأنّ تلك الآثار لم تكن آثاراً لذي الواسطة الذي هو المتيقّن ، بل كانت آثاراً للواسطة نفسها ، لم يكن عدّ ترك العمل بها عندهم نقضاً لليقين المتعلّق بذي الواسطة إلاّمن المسامحات العرفية غير المعتنى بها شرعاً ، ولعلّ قول صاحب الكفاية قدس سره : فافهم ، إشارة إلى ذلك.

ثمّ إنّ المراد بجلاء الواسطة ليس هو ما يتراءى من ظاهر مقابلتها بخفاء الواسطة ، بل المراد بجلائها هو وضوح ملازمتها لذي الواسطة على [ نحو ] يكون أحدهما عين الآخر في النظر العرفي ، كما في مثل زوجية الأربعة وكونها منقسمة بمتساويين ، فإنّ الملازمة بين الزوجية والانقسام بمتساويين ملازمة جلية واضحة على وجه يتخيّل أنّ أحدهما عين الآخر ، بحيث يصحّ أن ينسب ما هو الثابت

ص: 102

لأحدهما من الآثار إلى الآخر ، ولكنّه مع ذلك لا يخرج عن كونه من المسامحات العرفية التي لا عبرة بها شرعاً ، بعد فرض قيام الدليل على اختصاص تلك الآثار بأحد المتلازمين المذكورين.

وأمّا ما في الكفاية من قوله قدس سره : كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً كما لا تفكيك بينهما واقعاً (1) فهو إشارة إلى أمر آخر على تقدير ثبوته يكون خارجاً عن الأصل المثبت ، ومرجعه إلى أنّه ربما كان التلازم ثابتاً بين الأمرين في تمام مراحلهما حتّى في مرحلة التعبّد ، وهو مختصّ بخصوص ما لو كانت هناك آثار لذي الواسطة مصحّحة للتنزيل في ناحيته ، وكان التنزيل في ناحية ذي الواسطة مستلزماً عرفاً للتنزيل في نفس الواسطة ، لأجل الملازمة بين الأمرين حتّى في وجودهما التعبّدي.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الملازمة بين الأمرين مهما بلغت من القوّة أو الوضوح فهي لا تكون إلاّفي واقعهما دون وجودهما التنزيلي ، فلا يكون عدّ العرف أنّ وجود أحدهما تعبّداً ملازم للتعبّد بالآخر إلاّمن قبيل الاعتبارات العرفية التي لا عبرة بها. مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص ما لو جرى التعبّد في نفس ذي الواسطة ليكون التعبّد به ملازماً للتعبّد بالواسطة ، ولا يجري التعبّد بذي الواسطة إلاّ إذا كان له في حدّ نفسه آثار شرعية ومترتّبة على نفسه ، لتكون مصحّحة للتعبّد فيه ، فلا يتمّ برهاناً على الأصل المثبت فيما لم يكن لذي الواسطة أثر شرعي وكان الأثر الشرعي منحصراً بالواسطة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الإشكال على الشيخ قدس سره - أعني ما ملخّصه أنّ النظر

ص: 103


1- كفاية الأُصول : 415.

العرفي غير معتبر في تعيين المصاديق - نقله صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل عن بعض السادة من الأجلّة ولعلّه هو السيّد الشيرازي قدس سره وأجاب عنه في الحاشية المزبورة بقوله : إنّ ذلك من باب تعيين مفهوم الخطاب بمتفاهم العرف ، لا من ( باب ) تطبيق المفاهيم على مصاديقها العرفية خطأ أو مسامحة - إلى أن قال - وكأنّه ( يعني السيّد قدس سره ) توهّم من مطاوي كلماته ( يعني الشيخ ) قدس سره أنّه استظهر من الخطاب وجوب ترتيب الآثار بلا واسطة بالاستصحاب ، ومع ذلك ألحق به ما ( يترتّب عليه ) بالواسطة الخفية لتطبيقه عليه بالمسامحة العرفية ، وإن لم يكن منطبقاً عليه حقيقة ، وغفل عن أنّه بصدد ادّعاء أنّ الظاهر منه هو وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة عرفاً ، فيكون تطبيقه على ما يكون بلا واسطة كذلك تطبيقاً حقيقياً دقيقاً بلا مسامحة الخ (1).

ومرجع ذلك كلّه إلى أنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب هو لزوم ترتيب الآثار اللاحقة للمستصحب لحوقاً حقيقياً أو لحوقاً ادّعائياً عرفياً ، بحيث كانت آثاراً له بحسب النظر العرفي وإن لم تكن آثاراً له حقيقة ، فيكون ذلك من باب التوسعة في مفهوم الأثر ، وأنّه الأعمّ من الأثر اللاحق له حقيقة واللاحق له عرفاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن باب التوسعة في مفهوم الأثر ، والفهم العرفي متّبع في ذلك ، وحينئذ فلا يتوجّه عليه ما أورده السيّد قدس سره بما شرحه شيخنا الأُستاذ قدس سره.

نعم ، يتوجّه عليه أنّ هذه التوسعة لا دليل عليها ، بل قام الدليل على خلافها ، إذ ليس لنا في أدلّة الاستصحاب لفظ الأثر كي يقال إنّ العرف يفهم منه الأعمّ من اللاحق حقيقة واللاحق عرفاً ، بل ليس لنا إلاّ النهي عن نقض اليقين ، وحيث إنّ النقض الممنوع ليس هو النقض الوجداني ، بل هو النقض التعبّدي

ص: 104


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 212.

الراجع إلى التنزيل ولزوم ترتيب الأثر ، ومن الواضح أنّ التنزيل إنّما يصحّ بلزوم ترتيب آثار المنزّل عليه ، وهي منحصرة في الآثار اللاحقة لنفس المنزّل عليه ، فإنّها هي التي تكون مصحّحة للتنزيل دون الآثار اللاحقة لغيره ، إذ لا وجه للتعبّد ببقاء شيء بترتيب آثار غيره ، وعدّ العرف لها من آثاره لا يصحّح التنزيل إلاّبأن يخرجها الشارع عن ذلك الغير ، ويحكم بالحاقها بذلك المنزّل عليه ، وحينئذ فمع فرض بقائها عند الشارع لاحقة بذلك الغير لا تكون مصحّحة للتعبّد ببقاء المتيقّن.

والحاصل : أنّ المصحّح للتنزيل في ناحية المتيقّن إنّما هو خصوص آثاره الشرعية اللاحقة لنفس المتيقّن ، دون الآثار اللاحقة لغيره وإن عدّها العرف من آثاره ، لأنّ عدّ العرف لها من آثاره لا يصحّح الحكم ببقائه في مقام الشكّ في بقائه الراجع في الحقيقة إلى جعل آثاره ، إذ لا معنى للجعل التعبّدي للشيء إلاّجعل ذلك الشيء في عالم التشريع ، ولا معنى لجعله في عالم التشريع إلاّجعل آثاره ، وأمّا جعل آثار لوازمه فلا تكون مصحّحة لجعل نفس ذلك الشيء في عالم التشريع.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره في الحاشية جعل المتلازمين في الجعل والتنزيل ناشئاً عن جلاء الواسطة ، بأن يكون وضوح التلازم الواقعي بينهما موجباً للتلازم بينهما في مقام التعبّد ، لا أنّ التلازم في مقام التعبّد أمر آخر غير جلاء الواسطة كما يظهر من الكفاية.

وكيف كان ، فإنّ التلازم بين التنزيلين لو صحّ وتم لم يكن راجعاً إلى الأصل المثبت. مضافاً إلى اختصاصه بخصوص ما ترتّب الأثر على كلّ من المتلازمين ، ولا يشمل ما كان الأثر مترتّباً على اللازم فقط وكان الملزوم خالياً من الأثر الشرعي

ص: 105

وبالأخرة أجاب عن ذلك بأنّه يكفي الأثر اللاحق له بالواسطة. ولا يخفى ما فيه من أنّه حينئذ يكون راجعاً إلى دعوى اغتفار الواسطة لخفائها أو جلائها.

ثمّ إنّه في آخر هذه الحاشية يظهر منه التفصيل بين كون الواسطة لازمة لمؤدّى الأصل فيجري فيها حينئذ اغتفارها لخفائها ، دون ما لو كانت ملزومة أو ملازمة ، ولعلّ منشأ هذا التفصيل هو دعوى أنّ أثر الأثر أثر ، ومع صحّة هذه القضية لا نحتاج إلى التمسّك للاغتفار بخفاء ولا بجلاء ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أثر الأثر إنّما يعدّ عرفاً أثراً في خصوص الواسطة الخفية أو الجلية ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما استدلّ به في الحاشية بقوله : وسرّه أنّه قد مرّ أنّ تعيينه بمقدّمات الحكمة ، وليس ما لا واسطة له أصلاً بالاضافة إلى ما لا واسطة له عرفاً بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب كما لا يخفى ، ولا اعتبار بالقطع بإرادة مقدار من الخارج ، فإنّ المدار فيها إنّما هو على القطع به في مقام التخاطب كما حقّقناه في البحث غير مرّة فتأمّل تعرف سرّه (1). وقد اختصره في الكفاية بقوله : أنّ مفاد الأخبار عرفاً ما يعمّه أيضاً حقيقة ، فافهم (2) وذلك بعد أن أفاد أنّ المانع من ترتيب أثر الواسطة غير الخفية هو أنّ المتيقّن إنّما هو التنزيل بلحاظ آثار نفسه ، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً الخ.

ففيه : ما عرفت الاشارة إليه من أنّه ليس لنا في أدلّة الاستصحاب ما يتضمّن لفظ الآثار حتّى يتأتّى فيها مسألة القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، كي يدّعى أنّ آثار ما بالواسطة غير الخفية خارجة ويكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو غير تلك الآثار ، ويبقى الآثار اللاحقة لنفس ذي الواسطة حقيقة والآثار اللاحقة له

ص: 106


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 212 - 213.
2- كفاية الأُصول : 415.

عرفاً وإن كان بالواسطة الخفية ، وأنّه لا ميز للأوّل على الثاني بكونه قدراً متيقّناً في مقام التخاطب ، بل كلّ منهما قدر متيقّن في مقام التخاطب ، إذ كما عرفت أنّه ليس لنا إلاّ المنع من نقض اليقين المنزّل على التعبّد ببقائه ببقاء أثره ، وقد عرفت أنّ المصحّح لهذا التعبّد إنّما هو آثار نفسه دون آثار غيره ، وإن كان بالواسطة الخفية المصحّحة لعدّها آثاراً عرفية للمتيقّن.

ومن ذلك تعرف الخدشة فيما استدلّ به لدخول القسم الثاني من الآثار من الطريقة الأُخرى التي استدلّ بها في الكفاية بقوله : فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشكّ أيضاً بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً فافهم (1) حيث إنّك قد عرفت أنّ النقض في المقام تعبّدي باعتبار آثار نفس المتيقّن ، وأنّ آثار الواسطة وإن كانت خفية أو جلية لا تكون مصحّحة لهذا التعبّد وإن عدّها العرف من آثاره ، فإنّ عدّ العرف لها من آثاره لا يوجب إلحاقها بآثاره الحقيقية في كونها مصحّحة للتنزيل المذكور ، كما عرفته تفصيلاً فيما مرّ ، فراجع وتأمّل ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّا بعد البناء على أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو جعل حجّية اليقين السابق ، أو جعل حجّية الظنّ النوعي بالبقاء الحاصل من اليقين بالوجود سابقاً ، يكون حاله حال الأمارة ، وإنّما أخرجنا الأصل المثبت لدعوى كون هذه الحجّية ليست مطلقة كما في الأمارات ، بل هي مقيّدة بالجري على طبق المتيقّن السابق ، كما هو المستفاد من أخذ النقض في دليله ، وحينئذ فيكون حجّية الاستصحاب منوطة بذلك القيد أعني النقض ، فما عدّه العرف نقضاً لليقين السابق وجب ترتّبه وإن لم يكن هو من آثار المتيقّن ابتداءً ، بل كان من آثار

ص: 107


1- كفاية الأُصول : 416.

الواسطة بحسب لسان الدليل الدالّ على ذلك الحكم.

نعم ، يبقى إشكال التفكيك بين نظر العرف إلى دليل الحكم فيرون أنّه من أحكام الواسطة ، ونظرهم إلى مفاد دليل الاستصحاب فيرون أنّ عدم ترتّبه نقضاً ، ولازم أنّهم يرون ذلك نقضاً هو كون ذلك الأثر في نظرهم أثراً لذي الواسطة ، وليس ذلك من قبيل مسامحتهم في مسألة الماء والتغيّر ، وأنّهم بحسب لسان الدليل يرون الحكم وارداً على المتغيّر لكن بحسب مفاد دليل الاستصحاب يرونه مصداقاً للنقض ، فإنّ مرجع تلك المسامحة إلى دعوى أنّهم وإن قالوا إنّ التغيّر له المدخلية في نجاسة الماء ، إلاّ أنّهم بحسب ذوقهم يتسامحون ويرون التغيّر علّة لا مركباً ، وهذه المسامحة هي المسوّغة لهم دعوى اتّحاد القضيتين وصدق مادّة النقض ، بخلاف التسامح المدّعى هنا فإنّه لا يخرج عن التناقض ، فتأمّل.

والسرّ في ذلك : هو أنّ التسامح العرفي تارةً يكون من باب التجوّز في الكلمة ، وهذا لا إشكال في عدم الاعتبار به كما مثّل به قدس سره في الأوزان ، فإنّ إطلاقهم الكرّ على ما ينقص عن الوزن المعلوم تجوزاً في لفظ الكرّ لا عبرة به ، ولا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، أمّا التسامح فيما نحن فيه فكذلك لا عبرة به غير أنّه مجاز في الاسناد ، لأنّ الأثر الذي هو وجوب التصدّق مثلاً لو كان مركبه بحسب ما فهمه العرف من لسان الدليل هو نبات اللحية ، لم يكن تسامحهم في نسبته إلى ذات الولد الذي هو ابن الناذر مثلاً إلاّمن قبيل المجاز في الاسناد في نسبة العارض الذي هو وجوب التصدّق إلى غير ما هو له ، ولو من جهة كونه من قبيل نسبة العارض إلى أحد ملابسات معروضه ، أو من جهة ادّعاء كون نبات اللحية من قبيل العلّة في ورود ذلك الحكم على ذات الابن ، وإن كان هو - أعني نبات اللحية - في الحقيقة هو المعروض لذلك الحكم ، وأقصى ما في هذه النسبة

ص: 108

المجازية هو تصحيح نسبة النقض ، لكنّها أيضاً نسبة مجازية ، فهي غير داخلة في عموم « لا تنقض ».

وكذلك الحال فيما لو قال الشارع : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، وقد فهم العرف أنّ هذه النسبة مجازية من قبيل المجاز العقلي ، وأنّ ما هو معروض النجاسة حقيقة إنّما هو ذات الماء ، وأنّ التغيّر إنّما يكون علّة في ورود النجاسة على ذات الماء ، فعلى هذا التقدير يكون موضوع الحكم حقيقة هو ذات [ الماء ] ويكون التجوّز في النسبة الواقعة في كلام الشارع وأنّها ليست على حقيقتها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان ما أفاده الشارع من النسبة المذكورة هي النسبة الحقيقية بحسب ما يفهمه العرف ، لكنّهم مع ذلك ينسبون النجاسة إلى الماء من قبيل التجوّز المعبّر عنه بالتسامح العرفي ، فإنّه حينئذ لا عبرة بهذا التسامح المبني على التجوّز ، ولا يكون مولّداً لصحّة نسبة النقض إلاّمجازاً ، ولا عبرة بها فيما يستفاد من قوله عليه السلام : « لا تنقض » الخ ، فإنّ المراد هو النقض الحقيقي لا المجازي ، فلاحظ.

قوله : وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتّب الأثر على مؤدّى الأصل ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لابدّ من سدّ هذا الاحتمال بالقطع بعدمه ، وإلاّ فمع احتمال مدخلية السريان مثلاً في التنجيس بالملاقاة مثلاً لا يكاد ينفعنا استصحاب الرطوبة في النجس الملاقي. ثمّ إنّه لو كان ذلك الذي احتمل مدخليته لم يكن من قبيل المدخلية في العلّة ، كما في مثال الرطوبة والملاقاة ، بل كان من قبيل المدخلية في الموضوع ، كما في مثل مسألة احتمال مدخلية العنبية في حرمة

ص: 109


1- فوائد الأُصول 4 : 494.

العصير ، لم تكن مدخليته المحتملة إلاّمن قبيل مدخلية العلّة المحدثة أو المبقية التي لابدّ من إحرازها ولا يكفي احتمالها ، غايته أنّه بعد زوالها يشكّ في بقاء الحكم من جهة احتمال أنّ مدخليتها من قبيل العلّة المحدثة ، أو من قبيل المبقية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بعد أسطر من قوله : وكانت الواسطة العقلية أو العادية علّة الخ (1) فإنّها لو كانت علّة لكان الواجب إحرازها في مثل الملاقاة والرطوبة ، إلاّ أن يكون المراد هو تقدّم العلم بالذات مقرونة بتلك العلّة ثمّ طرأ الشكّ في بقاء الذات ، سواء كان بقاء تلك العلّة مشكوكاً أيضاً أو كانت معلومة الارتفاع.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : وإن فرض أنّ العرف يتسامح الخ ، على الظاهر أنّه لا محصّل له في المقام ، فتأمّل.

قوله : وما قرع سمعك من اتّباع نظر العرف في باب الاستصحاب وأخذ الموضوع منه ... الخ (2).

لا يخفى أنّ من يدّعي المسامحة العرفية في الواسطة الخفية لا يريد بها التوسعة في موضوع الحكم ، بل لا يريد بها إلاّ المسامحة بحسب اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بحيث إنّ الأثر وإن كان مترتّباً على تلك الواسطة ، ومقتضاه اختلاف القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، إلاّ أنّ العرف يتسامح لأجل خفاء الواسطة في التغاير المذكور ، ويعدّ الجري العملي الراجع في الحقيقة إلى الواسطة جرياً عملياً على اليقين السابق في ذي الواسطة ، بناءً على ما ذكرناه من الوجه في عدم حجّية الأُصول المثبتة من تقييد حجّيتها بحيثية الجري العملي

ص: 110


1- فوائد الأُصول 4 : 495.
2- فوائد الأُصول 4 : 495.

على طبق اليقين السابق ، وينبغي مراجعة ما أُفيد في مسألة الذباب بقية التقارير (1) ، والظاهر أنّه لا يتمّ شيء ممّا أُفيد فيها.

قوله : وإن كان الحكم الشرعي مترتّباً في الواقع على ذي الواسطة ، وكانت الواسطة العقلية أو العادية علّة لثبوت الحكم لمؤدّى الأصل ، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت ، وإن فرض أنّ العرف يتسامح ويجعل الموضوع للحكم نفس الواسطة ... الخ (2).

وقال في تحرير السيّد سلّمه اللّه : فإن كان معنى خفاء الواسطة أنّ العرف بحسب المستفاد من الدليل ، أو بحسب ما ارتكز في أذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع يفهمون من الدليل أنّ الحكم ثابت لذي الواسطة ، ويرون الواسطة من علل الحكم ، بحيث لا يكون له دخل في قوام الموضوع ، فهذا يرجع إلى إنكار الواسطة حقيقة وثبوت الحكم لنفس ذي الواسطة (3).

لكن ذلك لا يصحّح الاستصحاب فيما نحن فيه ، نعم إنّ ذلك نافع فيما لو وجد الموضوع ووجدت تلك الواسطة ثمّ زالت مثل زوال تغيّر الماء ، وحصل الشكّ في بقاء نجاسته من جهة الشكّ في كيفية تلك العلّة ، وأنّها هل هي محدثة ومبقية أو محدثة فقط ، فإنّه حينئذ يجري استصحاب نجاسة الماء ، لبقاء الموضوع الذي هو ذات الماء ، وأنّ مدخلية التغيّر فيه مدخلية العلّة لا قيد الموضوع.

وأمّا إذا شككنا في بقاء نفس الموضوع ، وعلى تقدير بقائه إلى الآن فهو قد

ص: 111


1- راجع أجود التقريرات 4 : 137 - 138.
2- فوائد الأُصول 4 : 495.
3- أجود التقريرات 4 : 136.

طرأ عليه ما هو علّة ورود الحكم عليه ، بأن فرضنا أنّ موضوع وجوب التصدّق هو ذات زيد مثلاً ، ولكن كان نبات لحيته علّة في طروّ ذلك الحكم عليه ، فأقصى ما عندنا هو استصحاب بقاء ذات زيد ، ولكن مجرّد الحكم ببقاء ذاته لا يكون حكماً بطروّ تلك العلّة عليه كي يلحقه وجوب التصدّق ، وإن كان طروّ تلك العلّة عليه - أعني نبات اللحية - من لوازم بقائه عقلاً ، فنحن وإن أخرجنا هذه الواسطة عن كونها موضوعاً لذلك الأثر وجعلناها علّة للحوق ذلك الأثر لزيد المذكور ، لكن لا يخرج استصحاب حياته لترتيب ذلك الأثر عليه - أعني وجوب التصدّق - عن كونه مثبتاً ، فإنّ لحوق الحكم لتلك الذات يتوقّف على تحقّق العلّة المذكورة ، واستصحاب بقاء ذاته لا يحقّقها إلاّبالأصل المثبت ، فلاحظ.

نعم ، لو علمنا بوجود أصل الذات وعلمنا بطروّ تلك العلّة عليها ، ثمّ طرأ الشكّ لنا في بقاء تلك الذات ، كان استصحاب بقاء تلك الذات كافياً في الحكم بترتّب ذلك الحكم عليها ، سواء كان بقاء تلك العلّة مشكوكاً أو كانت معلومة الارتفاع ، بل حتّى لو كانت العلّة معلومة البقاء على تقدير بقاء الذات ، نعم في صورة العلم بارتفاعها لا ينفعنا استصحاب بقاء الذات لو كان بقاء الحكم منوطاً ببقاء تلك العلّة حتّى لو قلنا بحجّية الأصل المثبت. وعلى كلّ حال ، حيث جرى استصحاب الذات لا يكون ذلك من الأصل المثبت ، والظاهر أنّ هذا الفرض هو المراد له قدس سره.

قوله : إذ ما من مورد إلاّويمكن فيه دعوى كون الواسطة خفية أو جلية ... الخ (1).

قد عرفت أنّ معنى خفاء الواسطة هو خفاؤها في التوسّط ، بحيث إنّ

ص: 112


1- فوائد الأُصول 4 : 495 - 496.

العرف يرى أنّ الأثر لاحق لذي الواسطة لدقّة توسّط تلك الواسطة ، كما في مثل توسّط السريان في تنجّس الملاقي ، فإنّ العرف يرى أنّ التنجيس مترتّب على الملاقاة مع الرطوبة ، ولا يلتفت إلى مدخلية السريان المذكور. ومعنى جلاء الواسطة هو وضوح اللزوم بينها وبين ذي الواسطة على وجه يرى العرف أنّ أحدهما عين الآخر ، وأنّ الأثر اللاحق لأحدهما لاحق للآخر ، وقد مثّل لذلك في حاشيته على الرسائل بالأُبوّة والبنوّة (1) ، ومن الواضح أنّ هذين الدعويين لا يجريان في جميع الأُصول المثبتة ، فإنّه لم يتوهّم أحد في مثل الحياة ونبات اللحية مثلاً أنّ مدخلية نبات اللحية في وجوب التصدّق مدخلية خفية على وجه لا يلتفت إليها العرف ، ويعدّون وجوب التصدّق لاحقاً لنفس الحياة ، كما أنّه لم يتوهّم أحد أنّ الملازمة بينهما هي نظير الملازمة بين الزوجية والانقسام بمتساويين في الجلاء والوضوح على وجه يكون الأثر اللاحق لنبات اللحية لاحقاً للحياة.

قوله : فإن قلنا بالأوّل فالمثال يندرج في باب الموضوعات المركّبة المحرزة بعض أجزائها بالوجدان والآخر بالأصل - إلى قوله - فإنّ المفروض أنّ الحكم بنجاسة الطاهر مترتّب على نفس ملاقاته للنجس الرطب ، فباستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس يحرز أحد جزأي الموضوع والجزء الآخر وهو المماسة محرز بالوجدان ... الخ (2).

لا يخفى أنّا لو قلنا بكفاية الرطوبة في النجس ولم نعتبر السريان ، لم يكن استصحابها بمفاد كان التامّة محرزاً لموضوع التنجّس ، سواء قلنا إنّه ملاقاة الطاهر

ص: 113


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 213.
2- فوائد الأُصول 4 : 496.

للرطوبة النجسة أو قلنا إنّه ملاقاة الطاهر للنجس الرطب ، إذ لا يحرز بمجرّد استصحاب بقاء الرطوبة بمفاد كان التامّة ملاقاة الطاهر للرطوبة أو للنجس الرطب إلاّ بالأصل المثبت.

أمّا على الأوّل - أعني كون المدار في النجاسة على ملاقاة الطاهر للرطوبة النجسة - فلأنّ استصحاب وجود الرطوبة بضمّ ملاقاة الطاهر للجسم لا يثبت ملاقاته للرطوبة ، ويكون ذلك من قبيل استصحاب وجود كرّ الماء في هذا الحوض لإثبات تطهّر المتنجّس الذي أُلقي فيه.

وأمّا على الثاني - أعني كون المدار على ملاقاة الطاهر للنجس الرطب - فلأنّ استصحاب وجود الرطوبة في الجسم النجس بعد إحراز الملاقاة لا يثبت كون الملاقى - بالفتح - رطباً إلاّبالأصل المثبت ، أعني كون الأثر مترتّباً على مفاد كان الناقصة ، مع أنّ الأصل لا يكون إلاّبمفاد كان التامّة ، ويكون ذلك من قبيل استصحاب وجود الكرّ لإثبات كون هذا الماء الموجود كرّاً.

وحينئذ لابدّ من استصحاب الرطوبة في الجسم النجس بمفاد كان الناقصة ، فيقال حينئذ : إنّ هذا الجسم كان رطباً وقد لاقته اليد الطاهرة فنستصحب كونه رطباً إلى حين ملاقاته للطاهر ، وحينئذ يتمّ كونه من باب إحراز أحد جزأي الموضوع للنجاسة وهو ملاقاة الطاهر للجسم النجس الرطب بالأصل ، والآخر وهو الملاقاة بالوجدان ، هذا إن قلنا بالأوّل وهو الاكتفاء في الحكم بالتنجّس بملاقاة النجس الرطب.

وأمّا لو قلنا بالثاني وهو اعتبار السريان فذلك الاستصحاب ولو كان بمفاد كان الناقصة لا ينفع في إثبات تلك الواسطة وهي السريان ، ولا يكون ذلك من قبيل استصحاب وجود الماء في هذا الحوض ، ولا من استصحاب وجود الكرّ

ص: 114

فيه ، بل هو من قبيل استصحاب الحياة لترتيب آثار لازمها الذي هو نبات اللحية.

قوله : وإن قلنا بالثاني فاستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس لا أثر له ، لأنّه لا يثبت التأثير والتأثّر وانتقال النجاسة من النجس إلى الطاهر لأنّ ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين ... الخ (1).

ستأتي الاشارة (2) إلى أنّه بناءً على اعتبار السريان لا يكون استصحاب بقاء الرطوبة المسرية في النجس كافياً في الحكم بتنجّس الملاقي الطاهر لو كان الطاهر جافّاً ، والظاهر أنّ الأمر كذلك في صورة العكس ، بأن يكون النجس جافّاً ويكون الطاهر مورداً لاستصحاب الرطوبة المسرية ، أمّا لو كان الطاهر رطباً رطوبة مسرية وقد لاقى ما هو مستصحب النجاسة وكان جافّاً ، فالظاهر أن يكون استصحاب النجاسة في ذلك الملاقى كافياً في الحكم بالنجاسة ، لأن كلاً من الرطوبة والسريان محرز بالوجدان ، والجزء الآخر - وهو كون الملاقى نجساً - محرز بالأصل.

والإنصاف : أنّي لم أتوفّق إلى الآن لمعرفة ما هو المقصود من هذا السريان الذي يتوقّف عليه الحكم بتنجّس الملاقي الطاهر ، فإن كان المراد به هو سريان أجزاء من النجس أو المتنجّس إلى الجسم الطاهر كما هو ظاهر التعبير هنا وفي الرسائل (3) ، ففيه أوّلاً : أنّ هذا يوجب أن لا يتنجّس الجسم الرطب رطوبة مسرية بملاقاته للنجس الجاف ، لأنّ تلك الرطوبة حينئذ لا تتنجّس فضلاً عن تنجّس الجسم ، إذ لا ينتقل من أجزاء النجس إلى شيء من أجزاء تلك الرطوبة ، اللّهمّ إلاّ

ص: 115


1- فوائد الأُصول 4 : 496.
2- في الصفحة : 121 - 122.
3- فرائد الأُصول 3 : 244.

أن يريد به مجرّد اختلاط الأجزاء ، سواء كانت من النجس إلى الطاهر أو من الطاهر إلى النجس. وثانياً : أنّ اللازم على ذلك هو لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة ، لأنّه قدس سره رتّب في الوسيلة طبع النجف لزوم الاجتناب عن الملاقي على القول بالسريان المذكور ، وهو قدس سره لا يقول باعتبار هذا المعنى من السريان ، فراجع الوسيلة (1) مع أنّه قدس سره قائل هنا باعتبار السريان كما يظهر من حاشيته على العروة في المسألة السابقة (2) على المسألة التي قدّمنا نقلها.

اللّهمّ إلاّ أن يريد بالسريان هناك هو سراية الحكم الذي هو النجاسة من النجس إلى الطاهر ، فلا يكون الملاقى موضوعاً جديداً ، بل يكون من باب اتّساع الموضوع الأوّل ، وهذا بخلاف السريان الذي يعلّق عليه حكم التنجيس بالملاقاة فإنّه عبارة عن اختلاط الأجزاء في الرطوبة التي على أحد المتلاقيين.

وبالجملة : لم أتوفّق لمعرفة السريان هنا ، فإنّ أخسّ الصور هو أن يكون النجس رطباً لا أقل [ من ] أنّه ماء ، فلو لاقته يدك الجافّة فقد انتقلت أجزاء من الماء إلى يدك ، ولكن كيف نجّست تلك الأجزاء يدك الطاهرة ، هل نجّستها بالانتقال أيضاً أو بمجرّد الملاقاة مع الرطوبة؟ لا سبيل إلى الأوّل ، إذ لا انتقال في تلك الأجزاء ، فينحصر الأمر حينئذ بالثاني ، وهو كون الملاقاة مع الرطوبة منجّسة ، فحينئذ نقول بذلك في الأوّل ، يعني نقول إنّ يدنا إنّما تنجّست بواسطة ملاقاة ذلك الماء المفروض كونه مع الرطوبة ، من دون أن نقول بأنّ للانتقال مدخلية ، فتأمّل لإمكان الجواب عن هذه الجهة الأخيرة بالالتزام بأنّ المنجّس هو الماء لكن بشرط سراية أجزاء منه إلى اليد ، لا أنّ المنجّس هو تلك الأجزاء

ص: 116


1- وسيلة النجاة : كو - كز [ لا يخفى أنّه قد رمز إلى الصفحات الأُولى منهابالحروف ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 168 مسألة (1).

السارية المنتقلة إلى اليد كي يتأتّى فيها الإشكال بأنّها كيف نجّست اليد.

والحاصل : أنّ هذا - أعني تنجّس الملاقي الذي هو اليد - حكم شرعي لاحق له عند ملاقاته لنجس تسري من أحدهما أجزاء رطبة إلى الآخر ، بحيث إنّا فهمنا من الدليل على ذلك ولو بمعونة العرف أنّ المدار في الحكم بالتنجيس هو سراية الرطوبة من أحد المتلاقيين إلى الآخر مع كون المنجّس هو الملاقى ، لا الأجزاء المنتقلة منه إلى الملاقي أو الأجزاء المنتقلة من الملاقي إليه.

قال في العروة في فصل كيفية تنجّس المتنجّسات : وكذا لا ينجس إذا كان فيهما أو في أحدهما رطوبة غير مسرية (1) ثمّ قال في مسألة 12 : قد مرّ أنّه يشترط في تنجّس الشيء بالملاقاة تأثّره ، فعلى هذا لو فرض جسم لا يتأثّر بالرطوبة أصلاً كما إذا دهن على نحو إذا غمس في الماء لا يتبلّل أصلاً ، يمكن أن يقال إنّه لا ينجس بالملاقاة ولو مع الرطوبة المسرية ، ويحتمل أن تكون رجل الزنبور والبق والذباب من هذا القبيل (2) فهل المراد من السريان هو التأثّر المذكور ، الظاهر من قوله ولو مع الرطوبة المسرية ، أنّ التأثّر غير السريان ، إلاّ أن يكون المراد أنّ التأثّر هو السريان ، ويكون المراد من قوله : ولو مع الرطوبة المسرية ، أنّها في حدّ نفسها مسرية لو لاقت ما لا مانع فيه من السريان ، فتأمّل.

ثمّ إنّه في مثل الأمثلة في غنى عن دعوى اعتبار التأثّر ، نعم لو كانت يد الإنسان المتنجّسة مدهونة على النحو المسطور ، ولاقت الرطب أو الماء القليل أمكن القول بعدم تنجّسه بملاقاتها ، فتأمّل. ولعلّ المراد من المسرية الاحتراز عمّا إذا لم تكن منتقلة كما في رطوبة الجدار الذي وراءه بالوعة ، راجع ما في

ص: 117


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 167.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 174 - 175.

المستمسك ج 1 ص 212 (1) ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ملاقاة الطاهر للنجس وإن أمكن أن تكون منجّسة بقول مطلق ، إلاّ أنّه قد خرج الجافّان بلا شبهة ولا ارتياب ، وحينئذ ينحصر التنجّس فيما لو كان بينهما رطوبة في كلّ منهما أو في أحدهما ، والسرّ في ذلك هو أنّ القابل للتنجّس بملاقاة النجس إنّما هو نفس الرطوبة ، كما أنّها بنفسها تنجّس الطاهر لو كانت نجسة أو متنجّسة.

وحينئذ فعند ملاقاة الطاهر للنجس وبينهما رطوبة في كلّ منهما تكون رطوبة النجس منجّسة لرطوبة الطاهر ، وهي - أعني رطوبة الطاهر بعد تنجّسها - تنجّس نفس سطح الجسم الطاهر ، ولو كانت الرطوبة على النجس فقط فهي عند ملاقاة الطاهر الجافّ تنجّس سطحه ، كما أنّها لو كانت على الجسم الطاهر ولاقت سطحاً نجساً تنجّست هي ابتداءً بالملاقاة ، وتنجّس سطح الطاهر أيضاً بملاقاتها.

وحينئذ يكون المدار في النجاسة على ملاقاة الرطوبة ، ومن الواضح أنّ استصحابها في أحدهما لا يثبت كون تلك الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، مثلاً لو كان هذا السطح الطاهر جافّاً ولكن كان في سطح ذلك النجس رطوبة ، كانت الملاقاة موجبة لملاقاة السطح الجاف للرطوبة النجسة فتنجّسه ، أمّا لو لم يكن في طرف السطح النجس إلاّ استصحاب الرطوبة ، لم يكن استصحابها فيه محقّقاً لملاقاة السطح الطاهر للرطوبة النجسة ، فلا نحكم بتنجّسه إلاّبالأصل المثبت. وأشدّ منه ما لو كان الأمر بالعكس ، بأن كان النجس جافّاً وكان ما هو مستصحب الرطوبة هو الطاهر ، فإنّ استصحاب بقاء الرطوبة فيه لا يوجب الحكم بنجاسته ، إلاّبعد ثبوت أنّ رطوبة الطاهر لاقت النجس وتنجّست فنجّست السطح الطاهر.

ص: 118


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 467 - 468.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ كون هذا الأصل مثبتاً لا يتوقّف على مدخلية السريان في التنجيس ، بل ولا على مدخلية انتقال الرطوبة ، بل يتوقّف على إثبات كون الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، واستصحاب بقائها لا يثبت ملاقاتها ، من دون فرق في ذلك بين كون الرطوبة المستصحبة هي رطوبة النجس أو هي رطوبة الطاهر.

والحاصل : أنّه لا يعتبر السريان ولا الانتقال ولا قابلية الانتقال ، بل ليس المعتبر والمنجّس إلاّملاقاة الرطوبة ، واستصحاب بقائها لا يثبت أنّ ذلك التلاقي بين الجسمين قد اشتمل على ملاقاة أحدهما للرطوبة ، وإنّما لم نقل بالنجاسة إذا فرضنا أنّ عين النجاسة لا تقبل التلوّث بالرطوبة التي على العين الطاهرة ، كما لو فرضنا هناك دسومة مانعة من تلوّث الجسم الدسم النجس بالرطوبة التي على الطاهر ، وهكذا الحال فيما لو فرضنا عدم تلوّث الطاهر برطوبة الجسم النجس ، فإنّه لا ينجس لعدم تحقّق ملاقاة الرطوبة ، لا لأجل أنّ الملاقاة تحقّقت في الصورتين لكنّها فاقدة الانتقال الفعلي. نعم لابدّ من صدق الرطوبة على وجه تكون الملاقاة ملاقاة للرطوبة ، ليخرج ما يكون من قبيل النداوة ، على ما عرفت تفصيله في مبحث الطهارة في شرح الفروع المتعلّقة بقوله : فصل في كيفية التنجيس ، فراجع (1).

تنبيه : قد أُورد على القول بالأصل المثبت بالمعارضة. وأجاب الشيخ قدس سره (2) عن ذلك بالحكومة ، وقد تعرّض لذلك شيخنا قدس سره فيما حرّرناه عنه بما حاصله : أنّه إن كان مناط دعوى صحّة الأُصول المثبتة هو كون مثل استصحاب الحياة مثبتاً للازمه وهو نبات اللحية ، وبعد ثبوت اللازم يترتّب عليه أثره وهو

ص: 119


1- لعلّه قدس سره يريد بذلك أبحاثه الفقهية المخطوطة.
2- فرائد الأُصول 3 : 237.

وجوب التصدّق ، وردّ عليه ما أفاده الشيخ قدس سره من عدم المعارضة حينئذ ، لكون استصحاب الحياة حاكماً على أصالة عدم نبات اللحية لكونه مسبّباً عنه حينئذ ، ولو كان مناط دعوى صحّة الأُصول المثبتة هو دعوى كون أثر الأثر أثراً ، بأن يكون وجوب التصدّق من آثار الحياة لكونه أثراً لأثره الذي هو نبات اللحية ، بلا أن يكون مثبتاً لنبات اللحية ، لم يرد على التعارض المذكور ما أورده الشيخ قدس سره من الحكومة ، حيث إنّه حينئذ يكون وجوب التصدّق أثراً لكلّ من الحياة ونبات اللحية ، ويكون استصحاب بقاء الأوّل مقتضياً لثبوته ، واستصحاب عدم الثاني مقتضياً لعدمه.

لا يقال : يكون أصالة عدم نبات اللحية حاكماً على أصالة بقاء الحياة بالقياس إلى هذا الحكم أعني وجوب التصدّق ، لكونه رافعاً لموضوع هذا الحكم ، من دون أن يكون أصالة بقاء الحياة مثبتة لموضوعه الذي هو النبات ، فيكون من قبيل حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.

لأنّا نقول : كلا الأصلين بالقياس إلى هذا الأثر - أعني وجوب التصدّق - أصل موضوعي ، أمّا أصالة عدم نبات اللحية فواضح ، وأمّا أصالة بقاء الحياة فإنّه بعد فرض تسليم هذه الدعوى وهي أنّ أثر الأثر أثر ، يكون وجوب التصدّق من آثار الحياة ومن أحكامها ، فتكون الحياة موضوعاً لهذا الأثر ، فيكون كلا الأصلين موضوعياً بالقياس إلى هذا الأثر.

قوله : نعم ، في خصوص مثال الذباب احتمال آخر مال إليه بعض ، وهو عدم نجاسة الذباب بملاقاته للنجس ، ولعلّه لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقاة الذباب الطائر من المحل النجس إلى المحل الطاهر ... الخ (1).

اعلم أنّ الشيخ قدس سره بعد أن أشكل على استصحاب بقاء الرطوبة في أحد

ص: 120


1- فوائد الأُصول 4 : 497.

المتلاقيين بأنّه لا يثبت السريان الذي هو المدار والعلّة في التنجيس ، ونظّر ذلك بمسألة استصحاب بقاء الماء في الحوض الذي غسل فيه الثوب النجس ، قال ما هذا لفظه : وحكى في الذكرى (1) عن المحقّق تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه.

فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرناه ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب ، إغماضاً عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض الخ (2).

ولا يخفى أنّه لو كان المدرك هو اعتبار السريان لكان ينبغي التفصيل بين وجود الرطوبة المسرية في الثوب الطاهر وبين عدمها ، فإنّه على تقدير عدم وجود الرطوبة المسرية في الثوب لا يكون استصحاب النجاسة مجدياً ، لعدم إحراز السريان ، لكن على تقدير وجود الرطوبة المسرية في الثوب يمكن القول بكفاية استصحاب النجاسة في بدن الحيوان ، لأنّه من قبيل احراز أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر وهو السريان بالوجدان ، لكن سيأتي (3) إن شاء اللّه أنّه إن كان أحد المتلاقيين واجداً للرطوبة المسرية فعلاً ، لم يكن الشكّ في نجاسة الملاقي - بالكسر - ناشئاً عن الشكّ في الرطوبة ، بل كان الشكّ فيها منحصراً بالشكّ في نجاسة الملاقى - بالفتح - ، واستصحاب نجاسته كافٍ في ذلك ، لكنّه خارج عمّا هو محل الكلام من استصحاب الرطوبة ، فإنّه منحصر في الشكّ في بقائها ، وإثباتها باستصحابها لا يترتّب عليه النجاسة المتوقّفة على تحقّق السريان.

ص: 121


1- ذكرى الشيعة 1 : 83.
2- فرائد الأُصول 3 : 244.
3- في الصفحة : 128 - 130.

نعم لو لم نقل باعتبار السريان ، كان استصحاب الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين كافياً في الحكم بنجاسة الملاقي ، مع فرض كون الملاقى نجساً فعلاً ، أو أنّه محكوم بالنجاسة للاستصحاب.

وأراد شيخنا قدس سره توجيه ما عن المحقّق قدس سره بمطلب آخر غير مسألة توسّط السريان ، وذلك الوجه مبني على مسألة فقهية ، وهي أنّه لا ريب في طهارة جسم الحيوان بعد زوال عين النجاسة منه ، ولكن هل أنّه يتنجّس مورد النجاسة منه ويطهر بزوالها ، فيكون زوال عين النجاسة عنه مطهّراً ، أو أنّه لا ينجس أصلاً نظير البواطن ، وقد فرّعوا على ذلك الحكمَ بنجاسة ملاقيه مع الشكّ في بقاء عين النجاسة على جسم الحيوان على الأوّل ، دون الثاني فيحكم فيه بطهارة الملاقي ، لأنّه بناءً على الثاني لا يكون لنا إلاّ استصحاب بقاء النجاسة ، وهو لا يوجب الحكم بنجاسة الملاقي ، للشكّ في أنّ الملاقى هو نفس النجاسة أو الجسم الطاهر ، نظير ما لو كان في هذا المكان كلب مثلاً ، ثمّ احتملنا أنّه بدّل بشاة ، وقد لاقت يدنا ذلك الجسم الموجود مع الرطوبة ، فإنّ استصحاب بقاء الكلب لا يوجب الحكم بأنّ يدنا قد لاقت كلباً إلاّبالأصل المثبت ، وهذا بخلاف الوجه الأوّل ، فإنّه بناءً عليه يكون لنا استصحاب آخر وهو استصحاب متنجّسية جسم الحيوان ، وأشار إليه في الجواهر في مبحث الأسآر (1) وهو موجب للحكم بنجاسة ملاقيه ، وذكر ذلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في مبحث الأسآر (2) فإنّه هناك ذكر القولين وأنّ الثمرة تظهر في الاستصحاب.

قال في العروة : الذباب الواقع على النجس الرطب إذا وقع على ثوب أو

ص: 122


1- جواهر الكلام 1 : 376 - 377.
2- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 1 : 363 - 364.

بدن شخص وإن كان فيهما رطوبة مسرية لا يحكم بنجاسته إذا لم يعلم مصاحبته لعين النجس ، ومجرّد وقوعه لا يستلزم نجاسة رجله لاحتمال كونها ممّا لا تقبلها ، وعلى فرضه فزوال العين يكفي في طهارة الحيوانات (1).

وقال شيخنا قدس سره في الحاشية : ولكن مع الشكّ في زوالها يحكم ببقاء ما تلوّث بها من أعضاء الحيوان على النجاسة ، وتنجّس ما يلاقيه على الثاني دون الأوّل ، والأظهر الثاني (2).

وحينئذ فيمكن أن يكون الوجه فيما نقله في الذكرى عن المحقّق قدس سرهما هو بناءه قدس سره على الوجه الأوّل وهو عدم تنجّس بدن الحيوان ، ويكون استصحاب بقاء النجاسة لا أثر له إلاّبالأصل المثبت.

ثمّ لا يخفى أنّا لو بنينا على الثاني يمكن المناقشة في الاستصحاب المزبور للعلم التفصيلي بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لم تؤثّر في نجاسة الملاقي ، لأنّ النجاسة إن كانت باقية عليه فتنجّس الملاقي يكون مستنداً إليها ، لأنّ الملاقاة إنّما تكون أوّلاً مع النجاسة التي هي على بدن الحيوان ، ثمّ بعد ذلك تكون مع نفس بدن الحيوان ، مثلاً لو كان على منقار الحيوان شيء من الدم أو العذرة وقد أدخل منقاره في الماء القليل ، فقد تنجّس ذلك الماء القليل بأوّل ملاقاته للدم ، فلا يكون

ص: 123


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 169 مسألة (2).
2- وقد تعرّض في العروة في العاشر من المطهّرات [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 287 - 288 ] لهذين القولين في الحيوان والبواطن ، ورتّب على ذلك ثمرات لكنّها في البواطن ، ولم يذكر الثمرة في الحيوانات ، وعلّق عليه شيخنا هناك ما مفاده اختيار نجاسة الحيوان وطهارته بزوال عين النجاسة ، وعدم تنجّس البواطن ، فراجع [ منه قدس سره ].

ملاقاة ذلك الماء بعد ذلك لجسم الحيوان مؤثّرة في تنجّسه ، لأنّه قد تنجّس بملاقاة الدم في الدرجة الأُولى ، فلا تؤثّر فيه ملاقاته في الدرجة الثانية للمتنجّس الذي هو بدن الحيوان ، ولو أُغضي النظر عن ذلك فلا أقل من أنّ ملاقاة المتنجّس لا أثر لها مع فرض ملاقاة النجاسة. وإن لم تكن باقية فلم يتنجّس الملاقي ، وعلى أي حال لا يمكن الحكم التعبّدي بتنجّس الملاقي لجسم الحيوان وتأثّره منه.

وبعبارة أوضح : أنّا نقطع بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لم تؤثّر في الملاقي فكيف يصحّ التعبّد ببقائها ، والمفروض أنّها لا أثر لها إلاّتنجيس الملاقي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا المقدار من العلم لا يكون موجباً لسقوط الأصل التعبّدي ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال - أعني العلم التفصيلي بأنّ متنجّسية بدن الحيوان لا أثر لها - إنّما يكون متوجّهاً فيما لو كان الموجود هو عين النجاسة ، أمّا مثل الرطوبة المتنجّسة ففي توجّه الإشكال المزبور تأمّل وإشكال ، منشؤه أن ملاقاة المتنجّس الذي على بدن الحيوان وإن أثّر في تنجّس الملاقي في الدرجة الأُولى ، إلاّ أنّ ملاقاته لنفس بدن الحيوان بعد ذلك هل تكون مؤثّرة في ناحية ذلك الملاقي ، أو أنّه لا أثر للملاقاة بعد ذلك؟ والظاهر الثاني.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه فيما لو كان الأثر منحصراً بما ذكرناه من تنجيس ملاقيه ، أمّا لو كان هناك أثر آخر مثل جواز الصلاة فيه فلا غبار فيه على الاستصحاب المذكور ، مثلاً لو وقع الدم على صوف الحيوان ثمّ جزّ ذلك الصوف ، واحتملنا أنّ الدم قد زال منه قبل الجز ، وحينئذ نقول : بناءً على التنجّس نستصحب تنجّس ذلك الصوف فلا يجوز لنا الصلاة فيه ، أمّا لو قلنا بعدمه فلنا الصلاة فيه ، ولا يمنع استصحاب وجود الدم لأنّه ملحق بالمحمول ، أو لإمكان

ص: 124

التخلّص منه بفركه وإزالة الدم المحتمل عنه (1).

قوله : ولعلّه لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقاة الذباب الطائر من المحل النجس ... الخ (2).

لو ثبتت هذه السيرة وتمّت لم تكن كاشفة عن عدم تنجّس بدن الحيوان ، بل لعلّها ناشئة عن عدم إحراز السريان ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى تحقّقها حتّى مع إحراز السريان وجداناً في الملاقي الطاهر ، بأن كان ماء أو كان ثوباً مشتملاً على الرطوبة المسرية.

تكميل (3) في ذكر جملة من الفوائد المترتّبة على كلا القولين ذكرها شيخنا الخال قدس سره (4) في مجلس درسه الشريف :

الفائدة الأُولى : فيما لو شرب حيوان ماء نجساً ، ثمّ أدخل فمه في ماء طاهر واحتمل بقاء النجاسة والبلل على فمه ، وحينئذ فعلى القول بتنجّس بدن الحيوان تستصحب نجاسته ، لاحتمال عدم زوال المتنجّس عنه ، ويحكم بنجاسة الماء الثاني ، وعلى القول الآخر لا يجري الاستصحاب لعدم اليقين من النجاسة حدوثاً ، واستصحاب بقاء البلل على فمه لا يثبت نجاسة الماء الثاني إلاّبنحو مثبت.

ص: 125


1- ينبغي مراجعة كلام الشيخ قدس سره في مبحث الأسآر [ من كتاب الطهارة 1 : 379 - 380 ] في إنكار الثمرة المذكورة ، وقد نقلناها فيما حرّرناه على العروة في هذه المباحث [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 4 : 497.
3- [ في الأصل هنا بياض بمقدار صفحة ، وبعده كتب المصنّف قدس سره هذا التكميل المنقول عن السيّد إسماعيل الصدر قدس سره ].
4- هو المرحوم الشيخ محمّد رضا آل ياسين قدس سره [ منه قدس سره ].

الفائدة الثانية : فيما لو يبست (1) النجاسة على بدن الحيوان وبعد ذلك ذبح ، فعلى القول بالنجاسة لا تجوز الصلاة فيه لنجاسته ، وعلى الثاني تجوز بناءً على جواز الصلاة في الثوب الحامل للنجس ، إذ أنّ نفس الثوب لا يكون نجساً وإنّما النجس ما علق به.

الفائدة الثالثة : نقلها (2) عن أحد تلامذته ، إذ كان قد قرّر له الثمرة قبل مجلس الدرس فنقلها عنه في البحث ، وهي أنّه لو علم بملاقاة النجاسة لبدن حيوان معيّن وزوالها ، ثمّ علم إجمالاً بموت أحد الحيوانين المردّد بينه وبين غيره قبل زوال النجاسة ، فإنّه على القول بالنجاسة تستصحب نجاسة بدن ذلك الحيوان الذي يحتمل موته ، للشكّ في بقاء نجاسته ، إذ هو على فرض كونه هو الميّت فقد خرج عن كونه حيواناً فلا يجدي زوال النجاسة في تطهير بدنه ، وعلى فرض كونه حياً يكون قد طهر بدنه بإزالة النجاسة ، فيجري استصحاب النجاسة. ولا يجري

ص: 126


1- هذه الفائدة والخامسة مبنية على أنّ اليبس لا يوجب الطهارة ، وأنّ النجاسة لاترتفع إلاّبزوال عين النجاسة ، ولا حاجة إلى توسّط الذبح ، بل يمكن الفرض بوقوع الدم على صوف الحيوان ثمّ بعد جفافه يجزّ صوفه ، ويفرك الدم وينسج الصوف [ منه قدس سره ].
2- ومثل ذلك لو جزّ الصوف من أحد الحيوانين ولم يعلم أنّه هو الذي زالت عنه النجاسة قبل الجزّ ، أو أنّه هو الذي يبست نجاسته ولم تزل وقد وقع الجزّ بعد اليبس وهذا الاستصحاب من قبيل استصحاب نجاسة الدم المردّد بين كونه من المسفوح وكونه من المتخلّف في الذبيحة ، وقد أفاد شيخنا الأُستاذ قدس سره أنّه لا يجري فيه الاستصحاب ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، فراجع ما حرّرناه عنه [ الظاهر أنّ المقصود بذلك هو تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سره. وعلى أي حال راجع الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : 178 و 191 ] وما علّقناه عليه في التنبيه المتعلّق بذلك [ منه قدس سره ].

استصحاب حياته الحاكم على استصحاب النجاسة ، لأنّه معارض بمثله في الحيوان الآخر فيما لو فرض لموته أثر إلزامي كنجاسة بدنه ، ليجري الاستصحاب بلحاظه ويسقط بالمعارضة. وأمّا على القول بعدم التنجّس ، فلا يجري استصحاب النجاسة بل أصالة الطهارة ، إذ لا نجاسة حدوثاً حتّى تستصحب.

الفائدة الرابعة : أنّ ما يشكّ (1) في كونه من نجس العين إذا أصابته نجاسة وزالت عنه ، فعلى القول بالتنجّس يجري استصحاب نجاسته المردّدة بين الذاتية والعرضية ، دونه على القول الآخر.

الفائدة الخامسة : فيما لو يبست (2) النجاسة على بدن الحيوان ثمّ ذبح ، فإنّه على القول بالنجاسة لا يطهر بالفرك والازالة لأنّه قد تنجّس ، والازالة بعد الموت لا ترفع نجاسته. وعلى الثاني يمكن الاكتفاء بالفرك وإزالة النجاسة ، لأنّه حال حيوانيته لم يتنجّس ، وحين موته كانت النجاسة يابسة بحسب الفرض. انتهى منقولاً عن خط جناب السيّد إسماعيل نجل المرحوم السيّد حيدر الصدر ، وذكر لي أنّ مأخذ ذلك عن درس جدّه المرحوم السيّد إسماعيل الصدر قدس سره.

ص: 127


1- ونظير ذلك ما لو أصابت النجاسة الجسم المردّد بين كونه دماً منجمداً مثلاً أوكونه جسماً طاهراً ثمّ غسلناه بالماء ، في أنّ الجاري هو استصحاب الكلّي من النجاسة المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، فراجع ما حرّرناه في المثال المزبور في التنبيه الثالث [ منه قدس سره. قد تعرّض قدس سره لنظير هذا الفرع في حواشيه على التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب فراجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 324 والصفحة : 341 ].
2- يمكن القول بأنّ النجاسة لبدن الحيوان أو صوفه وإن بقيت بعد اليبس ، إلاّ أنّه من الممكن غير البعيد أن لا يكون موته أو تذكيته أو جزّ صوفه موجباً لتأكّد نجاسته ، على وجه لا ترتفع إلاّبالغسل ولا يكفي فيها الفرك والإزالة المجرّدة [ منه قدس سره ].

قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في الجزء الأخير من الطهارة : تنبيه : عدّ بعض الأصحاب من جملة المطهّرات غيبة الإنسان وزوال العين من باطنه ومن بدن الحيوان. أقول : أمّا طهارة بدن الحيوان بعد زوال العين فقد عرفت في مبحث الأسآر أنّها ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه ، لكن لو منعنا سراية النجاسة من المتنجّسات الجامدة الخالية من العين - كما نفينا عنه البعد عند التكلّم في مسألة السراية - أشكل استفادة طهارة الحيوان من الأدلّة المتقدّمة في ذلك المبحث ، فإنّها لا تدلّ إلاّعلى طهارة السؤر التي لا ينافيها بقاء الحيوان على نجاسته على هذا التقدير ، فليس حكم الحيوان حينئذ مخالفاً لحكم سائر المتنجّسات ، ومقتضى الأصل انفعاله بالملاقاة وبقاء نجاسته إلى أن يغسل ، فلا يجوز اتّخاذ جلده أو صوفه ثوباً للمصلّي (1).

ذكر السيّد قدس سره في العروة في المسألة الأُولى من مسائل المطهّر العاشر - أعني زوال عين النجاسة عن بدن الحيوان والبواطن - أنّه عند الشكّ في كون الشيء من البواطن يكون المرجع فيه هو استصحاب النجاسة على القول الأوّل واستصحاب الطهارة على القول الثاني (2) ، وحينئذ يكون هذا الحكم في الفرع - أعني فرع الشكّ - من ثمرات القولين ، فراجع ما حرّرناه (3) هناك.

قوله في تحريرالسيّد سلّمه اللّه : هذاكلّه في غيرالحيوان المتلطّخ بعض أجزائه بالرطوبة النجسة أوالمتنجّسة ، وأمّا فيه فقد يقال بالتفصيل ... الخ (4).

لا يخفى أنّ هذا التفصيل جار بعينه فيما لو كان النجس غير الحيوان بناءً

ص: 128


1- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 8 : 312.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 289.
3- مخطوط لم يطبع بعدُ.
4- أجود التقريرات 4 : 137 - 138.

على اعتبار السريان ، فإنّ الماء الطاهر أو الثوب الطاهر المشتمل على الرطوبة المسرية لو لاقى ما هو مستصحب النجاسة يحكم بنجاسته ، وإن كان الملاقى - بالفتح - جافّاً ، لتحقّق الملاقاة والسريان بالوجدان ، وثبوت النجاسة في الملاقى - بالفتح - بالاستصحاب ، من دون حاجة في الملاقى - بالفتح - إلى رطوبة فعلية أو إلى استصحابها كي يقال : إنّ استصحاب الرطوبة فيه مثبت للسريان.

نعم ، لو كان الثوب الطاهر جافّاً وقد لاقى النجس المستصحب الرطوبة لم يحكم بنجاسته استناداً إلى استصحاب كون النجس الملاقى - بالفتح - رطباً ، بناءً على اعتبار السريان ، بخلاف ما لو قلنا بعدم اعتبار السريان ، لإمكان الحكم بالنجاسة حينئذ استناداً إلى الاستصحاب المذكور. ومن ذلك تعرف أنّه لا حاجة إلى الرطوبة في طرف الملاقى - بالفتح - ، فينبغي إبدال لفظ « الرطوبة » في قوله : « مع الشكّ في بقاء الرطوبة » بلفظ « النجاسة » ، وكذلك لفظ « رطوبته » في قوله : « للشكّ في بقاء رطوبته » فإنّ اللازم إبدالها بلفظ « النجاسة » الموجودة فيه وإن كانت جافّة.

والذي تلخّص : أنّ أحد المتلاقيين لو كان مشتملاً على الرطوبة المسرية ، وكان أحدهما نجساً سابقاً وقد تلاقيا الآن ، يحكم بنجاسة الطاهر منهما حتّى لو قلنا باعتبار السريان ، لكن ذلك خارج عمّا نحن فيه من أنّ المستصحب هو الرطوبة المسرية ، لأنّ المفروض أنّ الرطوبة في أحدهما وجدانية ، وإنّما المستصحب هو نجاسة الملاقى - بالفتح - ، والذي نحن فيه هو كون النجاسة لأحد المتلاقيين فعلية وجدانية ، ولكن المستصحب هو الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين ، والمدّعى عدم جدوى استصحاب الرطوبة في أحدهما استناداً إلى دعوى اعتبار السراية ، وأنّ استصحاب الرطوبة المسرية سواء كانت في النجس

ص: 129

الملاقى - بالفتح - أو كانت في الطاهر الملاقي - بالكسر - لا تثبت السراية كي يترتّب عليه الحكم بالنجاسة ، بخلاف ما لو قلنا بعدم اعتبار السراية والاكتفاء بمجرّد الملاقاة للنجس مع الرطوبة ، فإنّ الملاقاة للنجس وجدانية ، وكون الملاقي أو الملاقى رطباً بالأصل ، فيتمّ الموضوع ويحكم بالنجاسة.

بل لو كان الملاقى مستصحب النجاسة وكانت الرطوبة في أحد المتلاقيين أيضاً استصحابية ، كان ذلك كافياً في الحكم بالنجاسة ، بناءً على القول المزبور أعني عدم اعتبار السريان.

ومنه يعلم أنّه بناءً على تنجّس بدن الحيوان بعلوق النجاسة به لو كانت رطوبته من تلك النجاسة أو رطوبة ملاقيه الطاهر مستصحبة كما أنّ نجاسته مستصحبة أيضاً ، كان داخلاً فيما نحن فيه من الحكم بنجاسة ملاقيه ، بناءً على عدم اعتبار السريان ، بخلافه بناءً على اعتباره ، أمّا لو كانت رطوبة ملاقيه وجدانية كما فرضه في هذا التحرير ، فهو خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس المستصحب حينئذ هو الرطوبة ، بل المستصحب هو نجاسة الملاقى الذي هو بدن الحيوان ، كما أنّه لو كانت الرطوبة في بدن الحيوان وجدانية كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه ، إذ لا يكون محتاجاً إلى استصحاب النجاسة فضلاً عن استصحاب الرطوبة ، لأنّ كلاً منهما وجداني ، فيكون الحكم بتنجّس ملاقيه وجدانياً أيضاً ، فلاحظ.

قوله : فاستصحاب الرطوبة لا يترتّب عليه أثر شرعي بنفسه ، فلا يكون جارياً ... الخ (1).

الوجه في ذلك هو ما عرفت فيما تقدّم من أنّ استصحاب الرطوبة النجسة في جسم الحيوان أو استصحاب كون جسم الحيوان رطباً لا يترتّب عليه ما هو

ص: 130


1- أجود التقريرات 4 : 138.

موضوع نجاسة الملاقي ، أعني ملاقاته للنجس ، حتّى لو قلنا بكفاية الملاقاة للنجس مع الرطوبة من أحد المتلاقيين ولم نعتبر السريان.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : ولكن يمكن أن يقال - إلى قوله - مع إحراز الجزء الآخر - وهو الملاقاة - بالوجدان (1) فإنّ الموضوع هو ملاقاة النجس ، وقد عرفت أنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الحيوان أو استصحاب كون جسمه رطباً لا يثبت الملاقاة للنجس ، إلاّباعتبار الملازمة بين بقاء الرطوبة النجسة وبين كون هذه الملاقاة ملاقاة للنجاسة التي هي على جسم الحيوان ، من دون فرق في ذلك بين اعتبار السريان وعدمه ، وهكذا الحال فيما لو كانت الرطوبة المستصحبة هي رطوبة الطاهر الملاقي له ، بل لو كانت رطوبة الطاهر وجدانية لم يكن استصحاب وجود النجاسة على بدن الحيوان نافعاً في الحكم بنجاسة ملاقيه ، فإنّ استصحاب كون بدن الحيوان حاملاً للنجاسة لا يترتّب عليه نجاسة ما لاقى ذلك البدن وإن كان الملاقي ماءً ، إذ لا يثبت بذلك كون الماء قد لاقى النجاسة التي كان الحيوان حاملاً لها. نعم على القول باعتبار السريان يكون الأصل في الرطوبة مثبتاً من الجهتين ، إحداهما كون الملاقاة ملاقاة للنجس والأُخرى إثبات السريان. ومنه أيضاً يظهر التأمّل فيما أُفيد من قوله : فلا فرق الخ ، فلاحظه وتأمّل.

قوله : لأنّ التركيب إنّما يعقل في موضوعات الأحكام لا في مداليل الألفاظ ، فإنّ مداليل الألفاظ كلّها تكون ... الخ (2).

توضيح هذا المبحث : هو أن يقال إنّه لا شبهة في كون يوم العيد الواقعي هو

ص: 131


1- نفس المصدر السابق.
2- فوائد الأُصول 4 : 499.

أوّل يوم من شهر شوّال ، كما لا شبهة في أنّ ذلك اليوم هو من أيّام شوال ، ولكن بماذا امتاز به ذلك اليوم حتّى صار يستحقّ أن يسمّى بالأوّل من شهر شوال ، فنقول : إنّ لذلك اليوم جهتين من الاضافة : الأُولى : إضافته لما بعده من تمام الباقي من أيّام الشهر باعتبار كونه سابقاً عليه ، وأنّ وجوده قبل وجوده ، وهذه الجهة جهة وجودية. والثانية إضافته لما قبله ، ويعني باضافته لما قبله لحاظه بالنسبة إلى ما قبله باعتبار كونه غير مسبوق بمثله من أيّام شوال ، وهذه الجهة جهة عدمية منتزعة من عدم وجود مثله قبله. وهاتان الجهتان هما اللتان ميّزتا ذلك اليوم عن بقيّة أيّام شوال ، على وجه صار يستحقّ إطلاق لفظ « الأوّل » عليه دون باقي الأيّام ، فهل الملاك في ذلك هو الجهة الأُولى فقط دون الثانية ، أو أنّ الملاك فيه هو الجهة الثانية دون الأُولى ، أو أنّ الملاك في ذلك هو كلا الجهتين؟

لا يبعد القول بأنّ الملاك في ذلك هو الجهة الثانية فقط دون الأُولى ، لأنّ مجرّد كون ذلك اليوم سابقاً في الوجود على ما بعده لا يحقّق كونه أوّلاً ، لأنّ كلّ واحد من تلك الأيّام سابق في الوجود على ما قبله.

إلاّ أن يقال : إنّ أسبقيته بالوجود إنّما هي بالنظر إلى تمام أيّام شوال لا خصوص ما بعده ، وحينئذ تعود الأسبقية بهذا المعنى الذي هو السابق على جميع الأيّام إلى الجهة الثانية ، أعني أنّه لم يسبق بمثله ، ولا أقل من الفهم العرفي من لفظ الأوّل ، فإنّ العرف يفهم منه ما لم يكن مسبوقاً بمثله ، كما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : فالأوّل عندهم هو ما لم يسبق بمثله (1) ويتّضح ذلك بمقابلة الأوّل والوسط والآخر ، فإنّ الظاهر من الآخر ما لم يكن بعده شيء مثله ، والوسط ما كان مقروناً بمثله من قبله ومن بعده ، والمراد بالأوّل ما لم يكن مسبوقاً بشيء مثله من قبله. وإذا تمّ لنا

ص: 132


1- فرائد الأُصول 3 : 245.

هذا الفهم العرفي كان كافياً فيما نحن بصدده من تعيين موضوع الدليل بحسب الفهم العرفي ، وليس ذلك من قبيل التصرّف منهم في المصداق كي لا يكون متّبعاً ، بل هو من باب تعيين مفهوم « الأوّل » الموضوع في الدليل الدال على ترتيب جملة من الأحكام على عنوان « الأوّل » ، وبذلك يكون مفهوم « الأوّل » مؤلّفاً من جهة وجودية وهي كون اليوم من شوال ، وأُخرى عدمية وهي عدم مسبوقيته بمثله.

ثمّ إنّ انضمام هذه الجهة العدمية إلى تلك الجهة الوجودية ليس من قبيل مفاد ليس الناقصة ، بل هو من قبيل مفاد ليس التامّة ، لأنّ هذا التركّب من قبيل التركّب من عرضين لموضوعين ، فلا يكون إلاّمن قبيل الاجتماع في الوعاء المناسب دون التركّب الوصفي ، وبناءً عليه يكون استصحاب عدم دخول شوال إلى ذلك اليوم كافياً في ترتّب الآثار اللاحقة للأوّل على ذلك اليوم ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان وهو كونه من شوال ، وإحراز الآخر بالأصل وهو عدم وجود شوال قبله.

أمّا ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الواقع وإن كان كذلك من التركّب المذكور إلاّ أنّ مفهوم « الأوّل » ليس هو عين ذلك المركّب ، بل هو أمر بسيط منتزع من ذلك المركّب ببرهان أنّ مدلولات الألفاظ لمّا كانت مدركات ذهنية وموجودات عقلية كانت من البسائط لا محالة ، فيمكن التأمّل فيه :

أوّلاً : بأنّ كون المفهوم البسيط منتزعاً عن المركّب لا يوجب المباينة واقعاً بينه وبين المركّب ، لأنّ نسبة ذلك المفهوم البسيط إلى ذلك المركّب المنتزع عنه ليست من قبيل نسبة المسبّبات إلى أسبابها ، بل هي نسبة الاتّحاد والعينية واقعاً ، ولو أوجب ذلك المباينة لم يمكن الرجوع فيما يشكّ في كونه جزءاً من الصلاة أو

ص: 133

شرطاً إلى البراءة ، بل كان من قبيل الشكّ في المحصّل ، والظاهر أنّه لا فرق في هذه الجهة بين ما هو متعلّق التكليف وبين ما هو موضوع للحكم الشرعي ، ولعلّ ذلك هو المشار إليه في التنبيه الثامن في الكفاية وهو : أنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّباً عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلّي ينطبق ( عليه ) ويحمل عليه بالحمل الشائع ( الصناعي ) ، الخ (1). هذا في موضوعات الأحكام ، وأمّا ما يكون في متعلّقاتها فلعلّه هو المشار إليه في مبحث الصحيح والأعمّ في الكفاية بقوله : مدفوع بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات الخ (2) فراجع.

وثانياً : بأنّ المفاهيم وإن كانت بسيطة إلاّ أنّ ما هو متعلّق التكليف أو ما هو من موضوعات الأحكام ليست هي نفس المفاهيم العقلية ، بل إنّما هي الأُمور الواقعية المحكية بتلك المفاهيم العقلية الذهنية.

وثالثاً : أنّ الصور الذهنية المعبّر عنها بالمفاهيم تكون تابعة في البساطة والتركيب للأُمور الواقعية التي تحكيها ، فإن كان ما تحكيه الصورة مركّباً كانت تلك الصورة الذهنية الموجودة منه في الذهن مركّبة أيضاً ، وإلاّ لم يكن مايز بين المفهوم الحاكي عن هذه الصورة عن المفهوم الحاكي عن الصورة الأُخرى (3).

وما أُفيد في الجواب عنه بأنّ ما به الامتياز في البسائط العقلية هو عين ما به الاشتراك (4) ممّا [ لم ] أتوفّق لفهمه ، على أنّه إنّما يكون ذلك في الكلّيات العقلية

ص: 134


1- كفاية الأُصول : 416.
2- كفاية الأُصول : 25.
3- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والظاهر أنّ المراد : وإلاّ لم يكن مايز بين المفهوم الحاكي عن هذا الواقع وبين المفهوم الحاكي عن واقع آخر ].
4- [ في الأصل : « الامتياز » بدل « الاشتراك » ].

دون الصور الذهنية الحاكية عن الموضوعات الخارجية ، فإنّها تابعة لا محالة لذي الصورة.

ورابعاً : أنّ هذا لو تمّ لكان جارياً في جميع الموضوعات المركّبة ، مثل صلّ خلف العادل أو قلّد العادل ، فيما إذا شكّ في بقاء عدالته ، لأنّه حينئذ يقال : إنّ العادل وإن كان مركّباً من الحياة والعدالة ، إلاّ أنّ مدلول العادل لمّا كان مفهوماً بسيطاً لم يمكن إحراز أحد جزأيه بالأصل والآخر بالوجدان.

على أنّه يمكن التأمّل والتشكيك في أصل وجود هذه الصورة المعبّر عنها بأنّها صورة ذهنية منطبعة في النفس ، فإنّ جميع هذه الأُمور قابلة للمنع ، إذ ليس لنا إلاّ الواقع وانكشافه لدى النفس ، وهذه الألفاظ التي نوردها ونحكم عليها لا تحكي إلاّنفس ذلك الواقع المفروض انكشافه لنا.

ودعوى أنّها تحكي أوّلاً عن نفس الصور الذهنية ، وأنّ الصور الذهنية تكون هي الحاكية عن الواقع ، قابلة للمنع والتأمّل ، إذ لا نجد في أنفسنا في القضايا التي نوردها إلاّ الحكاية عن الواقع المنكشف لنا.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : بل لابدّ من أن يكون « الأوّل » موضوعاً للمعنى البسيط الحاصل منهما ، ولو كان ذلك المعنى البسيط نفس اجتماع المفهومين في الزمان ، كما إذا فرض أنّ الواضع تصوّر مفهوم اجتماع المفهومين في الزمان ووضع لفظ « الأوّل » بازاء مفهوم الاجتماع ، ومن المعلوم أنّ ضمّ الوجدان إلى الأصل لا يثبت عنوان الاجتماع إلاّعلى القول بالأصل المثبت (1) ، فإنّه لا ريب في أنّ « الأوّل » ليس هو عبارة عن نفس الاجتماع ، وإنّما أقصى ما في البين هو أن يقال : إنّ لفظ « الأوّل » هو ما اجتمع فيه

ص: 135


1- فوائد الأُصول 4 : 499.

الأمران ، كونه من شوال وعدم مثله في الزمان السابق ، بمعنى أنّ « الأوّل » هو المتّصف بعدم المسبوقية بمثله ، وذلك لا يخرجه عن التركيب إلى البساطة ، فإشكال بساطة المفهوم المقتضية لبساطة المعنى المحكي به بعدُ باق بحاله ، لأنّ أخذ الاجتماع صفة لليوم أو أخذ عدم المسبوقية بالمثل صفة له لا تخرجه عن التركيب ، فكيف انطبق عليه المفهوم البسيط.

نعم ، قد يقال : إنّ اليوم الموصوف بهذا الوصف إنّما هو على مفاد ليس الناقصة ، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الجهة ، لكنّك قد عرفت أنّ هذا التركّب ليس من هذا القبيل ، بل هو من قبيل مفاد ليس التامّة كما هو الشأن في كلّ موضوع مركّب من عرضين لموضوعين ، فإنّ أحد العرضين وهو كونه من شوال عرض لليوم نفسه ، والآخر وهو عدم وجود مثله قبله أو وجود ضدّه قبله عرض لليوم الذي قبله ، وقد حقّق هو قدس سره أنّ التركّب في مثل ذلك لا يكون إلاّمن قبيل الاجتماع في الزمان لا من قبيل التركّب الوصفي الذي هو هنا مفاد ليس الناقصة.

كما أنّه قد ظهر لك أنّه لا يمكن القول بأنّ « الأوّل » موضوع للعنوان المنتزع من هذين الجزأين إن كان المقصود من العنوان المنتزع هو عبارة عن الاجتماع المذكور ، إذ لا ريب أنّ « الأوّل » لم يكن عبارة عن نفس الاجتماع ، وإن كان المقصود من العنوان المنتزع هو العنوان الوصفي اللاحق لذات اليوم باعتبار اتّصافه بعدم وجود مثله قبله ، فذلك العنوان وإن كان بسيطاً إلاّ أنّه ليس الموضوع للأحكام إلاّ المعنون لا العنوان نفسه ، وقد عرفت أنّ المعنون مركّب لا بسيط ، وأنّ التركيب فيه من باب محض الاجتماع في الزمان لا من باب التركب الوصفي.

والذي يتلخّص من مجموع ما أُفيد في هذا التحرير : هو عدم الجدوى في استصحاب بقاء رمضان أو عدم دخول شوال لاثبات كون ما بعد يوم الشكّ أوّل

ص: 136

شوال ، لأحد أُمور ثلاثة مستفادة من مجموع كلماته : الأوّل : أنّ الأوّلية ليست هي عين ذلك المركّب ، بل هي منتزعة منه. الثاني : أنّ ما هو موضوع الحكم هو مدلول لفظ « الأوّل » ، وليس ذلك إلاّ الصورة الذهنية البسيطة. الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ « الأوّل » عبارة عن اجتماع أجزاء ذلك المركّب ، لكن ذلك - أعني الاجتماع - لا يثبت بالأصل المذكور والوجدان المزبور.

وقد عرفت التأمّل في ذلك كلّه. أمّا الوجه الأوّل ، فلما عرفت من أنّ مجرّد الانتزاع لا يوجب التعدّد والمباينة بين العنوان وما هو المنتزع منه. وأمّا الثاني ، فلأنّ مداليل الألفاظ لو قلنا إنّها الصور الذهنية وهي بسائط ، إلاّ أنّ موضوع الحكم ليس هو نفس الصورة الذهنية على نحو الموضوعية ، بل إنّ الموضوع هو ما تحكيه تلك الصور وهو مركّب. وأمّا الثالث ، فلأنّ الموضوع ليس هو عنوان « الاجتماع » ، بل الموضوع هو نفس الأجزاء ، فإذا وجدت تلك الأجزاء في الوعاء المناسب لها ولو بواسطة الأصل في بعضها أو كلّها ، كان ذلك كافياً في تحقّق الموضوع المركّب ، إذ ليس وجودها في الوعاء المناسب لها إلاّعبارة عن اجتماعها في ذلك الوعاء ، هذا.

ولكن تحرير السيّد سلّمه اللّه لم يشتمل إلاّعلى الأمر الثاني من هذه الأُمور فراجع ، وهذا نصّ عبارته : وإن قلنا بأنّه مفهوم بسيط لازم لهذين الأمرين - كما هو الصحيح ، لما ذكرناه مراراً من أنّ المفاهيم والمدركات العقلية بسيطة في أعلى مراتب البساطة ، وليس شيء منها مركّباً من مفهومين متغايرين - فيتوقّف إثبات عنوان الأوّلية أو الثانوية - مثلاً - بالاستصحاب على القول بالأُصول المثبتة (1).

ووجه التأمّل فيه ما عرفت من أنّ ما هو موضوع التكليف أو ما هو متعلّقه

ص: 137


1- أجود التقريرات 4 : 139.

ليس هو تلك الصور الذهنية ، بل إنّ الموضوع أو متعلّق التكليف إنّما هو الواقعيات المحكية بتلك الصور الذهنية ، ومن الواضح أنّ بساطة الحاكي لا توجب بساطة المحكي ، وإلاّ لاستحال امتثال تلك التكاليف واستحال تعلّق الأحكام بها ، فلم يبق إلاّدعوى أخذ تلك الصور الذهنية في موضوعات الأحكام وهو محال ، كما قاله في الكفاية (1) في مبحث المعاني الحرفية وغيره من المباحث ، وكيف يمكن أن تكون الصورة الذهنية للعالم في مثل أكرم العالم وقلّد المجتهد ، موضوعاً لوجوب الاكرام ووجوب التقليد ، بل قد جعل في الكفاية هذه الاستحالة برهاناً على عدم أخذ الوجود الذهني قيداً في كلّ من المعاني الاسمية والحرفية.

والذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام لعلّه يختلف بعض الاختلاف عن هذين التحريرين ، فإنّه بعد أن حرّر الوجه في التركيب قال ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس سره : ولا يخفى أنّ المفاهيم التي وضعت الألفاظ بازائها وإن كانت حاكية عن مركّب خارجاً ، إلاّ أنّها لمّا كانت هي الصور الذهنية المنتزعة منها فلا محالة تكون بسيطة ، وحينئذ فلفظ « الأوّل » لا يمكن أن يكون موضوعاً إلاّلذلك المفهوم البسيط المنتزع من ذينك الأمرين ، ويستحيل أن يكون مفهومه مركّباً من ذينك المفهومين ، إذ لا يمكن الحكاية عن ذينك المفهومين إلاّبلفظين يكون أحدهما حاكياً عن أحد المفهومين والآخر حاكياً عن المفهوم الآخر ، وإذا كان مفهوم « الأوّل » أمراً بسيطاً منتزعاً عن ذلك المركّب لا أنّه عينه مفهوماً وإن كان عينه خارجاً ، وكانت نسبته إليه نسبة المسبّبات إلى أسبابها التوليدية ، لم يكن إحراز أحد ذينك الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان كافياً في تحقّق مفهومه إلاّ بالأصل المثبت.

ص: 138


1- كفاية الأُصول : 11.

ثمّ أفاد ما حاصله : أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان موضوع الحكم هو عنوان « الأوّل » ، فإنّه يتوجّه حينئذ أنّ مفهوم « الأوّل » لابدّ أن يكون بسيطاً منتزعاً عن ذلك المركّب ، ولكن الأحكام الشرعية لم تترتّب على هذا المفهوم ، بل إنّما رتّبت على الواحد والثلاثين أو رؤية الهلال ، وحينئذ فيجري فيه الاستصحاب للشهر السابق في يوم الشكّ ، ويترتّب عليه أوّلية ما بعده للشهر اللاحق لكونه الواحد والثلاثين ، ويكون ممّا أحرز فيه أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان انتهى.

قوله : ولكن يمكن دفع الإشكال بأنّ الظاهر كون المراد من « أوّل الشهر » في موضوع الأحكام هو يوم رؤية الهلال أو اليوم الذي انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوماً - إلى قوله - فيكون اليوم الواحد والثلاثون أوّل الشهر المستقبل ، وبعده ثانيه ، وهكذا ... الخ (1).

ظاهره أنّ الشارع تصرّف في مفهوم أوّل الشهر واعتبره كونه الواحد والثلاثين من الشهر السابق ، فهل المراد أنّه يكون أوّلاً واقعياً أو ليس في البين إلاّ أنّه أوّل بحسب الحكم الظاهري ، والظاهر من هذه العبارة أنّه أوّل واقعي ، وحينئذ يمكن التأمّل فيه من جهة أنّ هذا التصرّف إنّما استفيد من أدلّة اعتبار الرؤية وأدلّة إكمال العدّة ، وكلامنا إنّما هو مع عدم الرؤية ، فينحصر الأمر حينئذ بإكمال عدّة الثلاثين من الشهر السابق ، وذلك مثل قوله عليه السلام - كما في الوسائل وغيرها - : « فإذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد والثلاثين » (2) ، ومثل

ص: 139


1- فوائد الأُصول 4 : 499 - 500.
2- وسائل الشيعة 10 : 266 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 16 ( مع اختلاف يسير ).

قوله عليه السلام : « وإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوماً ثمّ أفطروا » (1). ونحوهما غيرهما مثل قوله عليه السلام : « وإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين » (2) ، وقوله عليه السلام : « وإن كان علّة فأتمّ شعبان ثلاثين يوماً » (3) إلى غير ذلك من الروايات.

ولا يخفى أنّ الأمر باكمال الثلاثين بالنسبة إلى يوم الشكّ الذي [ هو ] اليوم الثلاثون ليس بحكم واقعي ، وإلاّ لزم عدم وجوب القضاء لو انكشف كون شعبان تسعة وعشرين يوماً ، وإذا ثبت كون الأمر المذكور ظاهرياً بالقياس إلى اليوم الثلاثين الذي هو يوم الشكّ ، فما لذلك الأمر الظاهري منشأ إلاّ الاستصحاب ، فإذا فرضنا دلالة هذه الأدلّة على كون الأوّل من الشهر اللاحق هو اليوم الواحد والثلاثون ، كان ذلك هو عين أصل المطلب الذي هو المنشأ في النزاع ، وهو ترتّب عنوان « الأوّل » على الاستصحاب المزبور ، ولا يكون الحكم عليه بأنّه أوّل إلاّ ظاهرياً لا واقعياً ، فلا يكون ذلك من قبيل التصرّف في معنى « الأوّل ».

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد هو ثبوت « الأوّل » ظاهراً بحكم الاستصحاب ، بحيث كانت هذه الأخبار دالّة على الأخذ باستصحاب الشهر السابق أو استصحاب عدم دخول اللاحق ، وأنّ ذلك وإن كان في حدّ نفسه لا يثبت عنوان « الأوّل » لكونه من قبيل الأصل المثبت ، لكن تكون هذه الأخبار نصوصاً خاصّة في ترتيب هذا الأثر بالخصوص على خصوص هذا الاستصحاب ، فكأنّه قال :

ص: 140


1- وسائل الشيعة 10 : 264 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 11 ، 278 / ب 8 ح 1.
2- وسائل الشيعة 10 : 265 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 12.
3- وسائل الشيعة 10 : 263 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 5 ، 289 / ب 11 ح 11.

رتّب أثر « الأوّل » على استصحاب عدم دخول الشهر فيما قبل ذلك اليوم ، فيكون ذلك تصرّفاً خاصّاً في استصحاب خاصّ ، فلا يثبت به عموم حجّية الأصل المثبت ، بل لا يثبت حجّيته إلاّفي هذا المورد الخاصّ ، ولعلّ المنشأ في هذه الخصوصية هو أنّ « الأوّل » وإن كان عنواناً وجودياً ، إلاّ أنّه في خصوص هذه الأحكام أخذه مؤلّفاً من أمر وجوديّ وهو كونه من شوال وعدمي وهو عدم وجود مثله قبله ، أو يقال : إنّ الشارع في خصوص هذا المقام - أعني مقام الشكّ في اليوم الثلاثين أنّه من الشهر السابق أو أنّه أوّل اللاحق ، وفي اليوم الواحد والثلاثين أنّه أوّل اللاحق أو أنّه ثانيه - حكم حكماً ظاهرياً بأنّ اليوم الثلاثين هو من الشهر السابق ، وأنّ اليوم الواحد والثلاثين هو أوّل اللاحق ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره من دون أن يكون هذا الحكم راجعاً إلى الاستصحاب المذكور ، ولا إلى التصرّف في معنى « الأوّل » ، هذا.

ولكن لم أعثر على رواية في هذا الباب تدلّ على أنّ اليوم الذي بعد الثلاثين هو أوّل الشهر ، فإنّها كما عرفت ليس فيها إلاّ التعبّد ببقاء وجوب الصوم إلى إكمال الثلاثين ، أمّا أنّ ما بعد هذه الثلاثين هو أوّل الشهر اللاحق فلا دلالة لها على شيء من ذلك ، وحبّذا لو كانت دالّة عليه ، لأنّها حينئذ تدلّ على نفس ما قدّمنا تحريره من إثبات أوّل الشهر باستصحاب عدم وجود مثله قبله أو باستصحاب بقاء ما قبله.

أمّا قوله عليه السلام : « ثمّ أفطروا » فليس الأمر بالافطار وجوبياً كي يكون ملازماً لحرمة الصوم الذي هو عبارة أُخرى عن كونه يوم العيد وأوّل الشهر ، بل أقصى ما فيه هو دلالتها على ارتفاع وجوب الصوم ، لكون ما بعد يوم الشكّ من شوال قطعاً غايته أنّه يحتمل كونه الثاني منه كما يحتمل كونه الأوّل منه. كما أنّ قوله عليه السلام في

ص: 141

الرواية الأُخرى : « فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد والثلاثين » لا دلالة فيه إلاّعلى أنّه يجب الصوم في الواحد والثلاثين لكونه من رمضان وجداناً ، ولا دلالة فيه على أنّ ذلك اليوم هو أوّل رمضان ، إلاّبما ذكرناه من أنّ نفي رمضان قبله ولو بالاستصحاب يكون محقّقاً للتعبّد بأنّه أوّل رمضان.

وفي التقريرات المطبوعة بصيدا ما لفظه - بعد تقرير المطلب - : أنّ ثبوت الشهر مع عدم الرؤية يتوقّف بحكم الشارع على مضي ثلاثين يوماً من شعبان ، فهذه الأدلّة تكون حاكمة على الأدلّة المثبتة للأحكام على اليوم الأوّل والثاني والثالث وهكذا ، ومثبتة لموضوعاتها ، فالالتزام بهذه الأحكام لا يكشف عن القول باعتبار الأُصول المثبتة كما توهّم الخ (1).

وفيه : أنّ هذه الحكومة ليست إلاّحكومة ظاهرية منشؤها استصحاب البقاء إلى إكمال الثلاثين ، فلو كان ترتّب « الأوّل » على هذا الأصل من قبيل اللوازم لكان ذلك من قبيل الأصل المثبت لا محالة.

فقد تلخّص لك : أنّ طريقة شيخنا قدس سره في إثبات الأوّلية من هذه الأخبار إن فسّرت كما هو ظاهر التقارير بالأوّلية الواقعية ، وأنّ « الأوّل » الواقعي هو أحد الأمرين ليلة الهلال أو ليلة الواحد والثلاثين ، توجّه عليها أنّها حينئذ غير قابلة لظهور الخطأ ، وأنّه لو أفطر اليوم الثلاثين من شعبان ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّه أوّل رمضان لم يجب عليه القضاء ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

وإن فسّرناها بأنّ الشارع تصرّف هنا في معنى « الأوّل » وأخذه بمعنى عدمي وإن كان هو في غير هذا المورد وجودياً لا يثبت بالأصل ، أو أنّ الشارع هنا لم يتصرّف في معنى « الأوّل » ، بل حكم حكماً تعبّدياً ظاهرياً على يوم الشكّ

ص: 142


1- أجود التقريرات 4 : 139.

الذي هو اليوم الثلاثون بأنّه من الشهر السابق ، وعلى اليوم الواحد والثلاثين بأنّه أوّل اللاحق ، لم يرد عليه شيء سوى ما أشرنا إليه من عدم دلالة الروايات إلاّعلى الجزء الأوّل وهو الحكم على اليوم الثلاثين بأنّه من السابق ، ولم تتعرّض لإثبات أوّلية اليوم الواحد والثلاثين بشيء من الوجوه سوى أنّه لم يجب صومه ، كما في قوله عليه السلام : « فعدّوا ثلاثين يوماً ثمّ أفطروا » أو أنّه يجب صومه كما في قوله : « فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد والثلاثين » ، إنّ ذلك بمجرّده لا يثبت الأوّلية لليوم المذكور.

ثمّ إنّ الفرق بين الطريقة التي سلكناها وبين طريقة شيخنا قدس سره هي اختصاص طريقته قدس سره في خصوص أوائل الشهور ، ولا تجري في كلّ أوّلٍ لكلّ شيء بخلاف طريقتنا ، كما أنّ طريقته قدس سره لا تجري في الشهور إلاّفي خصوص ما لو كان يوم الشكّ هو اليوم الثلاثون كما هو الغالب ، لأنّ المكلّف حينئذ يمكنه سلوك طريقة إكمال العدّة ، أمّا لو فرض أنّه قد رأى هلال أوّل رمضان لكنّه ضاع عليه الحساب ، بحيث لا يتمكّن من سلوك طريق إكمال العدّة ، فإنّه لا ريب في هذه الصورة في أنّه يلزمه البقاء على الصوم حتّى يعلم بانقضاء رمضان ، لكن هل يحكم على اليوم الأخير الذي هو أوّل يوم ممّا علمه من شوال أنّه يوم العيد ، وأنّه أوّل يوم من شوال كما هو مقتضى ما ذكرناه من جريان استصحاب العدم فيما قبل ذلك اليوم؟ أمّا بناءً على ما أفاده قدس سره من سلوك طريق إكمال العدّة فمشكل ، لأنّ الفرض أنّ هذا المكلّف لم يتمكّن من سلوك هذا الطريق ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يمكنه ذلك ، بأن يحصل له القطع بمضي ثلاثين وإن كان يحتمل قد مضى ما هو أكثر من ذلك.

لا يقال : إنّه يلزم هذا المكلّف الأخذ باكمال عدّة شعبان ، وبه يتعيّن عنده أوّل رمضان ، وعنه يكمل عدّة رمضان.

ص: 143

لأنّا نقول : إنّ ذلك غير نافع أيضاً ، لأنّ المفروض أنّ آخر شعبان معلوم لديه برؤية هلال رمضان ، وإنّما كان شكّه في أنّه من أوّل رمضان إلى الآن هل صار له ثلاثون يوماً أو أقل أو أكثر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الطريقة التي سلكناها كما تثبت عنوان « الأوّل » ، فكذلك تثبت عنوان الثاني والثالث والرابع وهكذا ، لا لأنّه إذا ثبت عنوان « الأوّل » لهذا اليوم يثبت عنوان « الثاني » لما بعده ، لأنّ ذلك من الأصل المثبت ، بل لأنّ استصحاب عدم شوال إلى ذلك اليوم يثبت به عنوان « الأوّل » للأوّل و « الثاني » للثاني وهكذا ، لأنّ « الأوّل » بعد ما فرضنا كونه مركّباً من أمر وجودي وجداني وهو كونه من شوال وعدمي ، فكذلك « الثاني » يكون مركّباً من أمر وجودي وهو كونه من شوال ، وعدمي وهو عدم تحقّق شوال قبل اليوم الذي قبله ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ هذا من باب التلازم بين التنزيلين ، فإنّ الحكم التعبّدي بكون هذا اليوم أوّل شوال يلازم الحكم التعبّدي بكون ما بعده ثانياً لشوال. أو يقال إنّ الشكّ في جميع هذه الأيّام ناش عن الشكّ في حدوث الشهر فيما قبل ذلك اليوم ، فإذا جرى الأصل في عدم ذلك أخذ كل واحد من تلك الأيّام عنوانه الخاص به من الثاني والثالث وهكذا ، وهذا الأخير راجع إلى التقريب الأوّل ، إذ لا عبرة بهذه السببية لأنّها تكوينية غير شرعية ، فلابدّ من القول بأنّ كلّ واحد من هذه العناوين مركّب من أمر وجودي وآخر عدمي ، وهو في الأوّل عدم وجود شوال قبله وفي الثاني هو عدم وجوده قبل ما قبله ، وهكذا في الثالث والرابع إلى آخر الشهر ، فتأمّل.

قال الشيخ قدس سره : ومنها أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشكّ ، المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما ، فإنّ

ص: 144

مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريته ولا أوّلية غده للشهر اللاحق ، لكن العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوال إلاّ ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر وأوّلية غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يُسبق بمثله ، والآخر ما اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر. وكيف كان فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقلي بحيث يعدّ آثاره آثاراً لنفس المستصحب (1).

والأولى أن يقال : إنّ « الآخر » هو اليوم من الشهر مع عدم مثله أو مع وجود ضدّه بعده ، فهو عكس « الأوّل » ، وحينئذ يكون الجزء الثاني منه - الذي هو عدم مثله أو وجود ضدّه بعده - ثابتاً بالوجدان ، ويكون الجزء الأوّل - وهو كونه من الشهر السابق - ثابتاً بالأصل وهو استصحاب بقاء الشهر السابق.

لكن لا يخفى أنّ استصحاب بقاء الشهر السابق لا يثبت به كون يوم الشكّ من الشهر السابق إلاّبالأصل المثبت ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ آخر رمضان مثلاً عبارة عن اليوم المقارن لوجود رمضان ، وليس بعده رمضان ، وحينئذ يكون الجزء الأوّل منه وهو كونه مقارناً مع رمضان قابلاً للاحراز باستصحاب بقاء رمضان ، ولكنّه في غاية البعد ، وكأنّه لأجل ذلك التجأ الشيخ قدس سره إلى جعل « الآخر » عبارة عمّا اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر (2).

ويمكن التأمّل فيه أوّلاً : أنّ مجرّد الاتّصال بما حكم بكونه أوّلاً لا يترتّب عليه ما هو المعتبر في الآخر من كونه من الشهر السابق ، والمفروض أنّ ذلك - أعني كون يوم الشكّ من الشهر السابق - لم يحرز لا وجداناً ولا بالأصل.

ص: 145


1- فرائد الأُصول : 3 : 245.
2- فرائد الأُصول 3 : 597.

وثانياً : أنّ آخر الأوّل إنّما هو ما اتّصل بالأوّل الواقعي للثاني ، وأقصى ما عندنا هو إثبات كون ما بعد يوم الشكّ أوّلاً للثاني بأصالة عدم مثله قبله أو باستصحاب بقاء ضدّه ، وهذا الأصل وإن كان مقتضاه كون ما بعد يوم الشكّ أوّلاً للثاني ، إلاّ أنّه لا يترتّب عليه كون يوم الشكّ آخراً للسابق إلاّبالأصل المثبت.

والحاصل : أنّ الآخرية من لوازم الأوّلية الواقعية ، وليست الآخرية عبارة عن المتّصل بالأوّل التعبّدي ، أو هي المتّصل بالأعم من الأوّل الواقعي والأوّل التعبّدي ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ صدر ما قرّر به الإشكال وهو قوله : « فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريته ولا أوّلية غده للشهر اللاحق » يدلّ على أنّ عنوان « الآخر » وكذلك عنوان « الأوّل » لا يتحقّق بمجرّد أصالة عدم الهلال في يوم الشكّ ، وليس ذلك إلاّمن جهة أنّ عنوان « الآخر » وكذلك عنوان « الأوّل » من العناوين الوجودية الملازمة لذلك العدم ، فلا ينفع في إثباتها أصالة العدم المذكور.

وقوله : لكن العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان الخ ، أنّه اعتراف بالواسطة المذكورة ، ولكن المصحّح لترتيب الآثار هو خفاء الواسطة ، وكذلك قوله : وكيف كان ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي الخ.

لكن قوله : فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله الخ ، يدلّ على نفي الواسطة ، وأنّ العرف يفهمون من عنوان « الأوّل » أنّه مركّب من أمر وجودي وهو كون الغد من شوال ، وأمر عدمي وهو عدم سبقه بمثله ، وهذا - أعني التركّب المزبور - يخرج المورد عن كونه من باب الواسطة الخفية ، فإنّه راجع إلى أنّ العرف يفهم أنّ المراد من - الأوّل - الذي هو موضوع الأثر في لسان الدليل هو ما يكون من

ص: 146

شوال ولم يسبق بمثله ، ومن الواضح أنّ فهم العرف من - الأوّل - في لسان الدليل هو المتّبع ، فلاحظ.

قوله قدس سره : نعم ، ربما يدّعى قيام السيرة على عدم الاعتناء بالشكّ في الحاجب ، ومن هنا لم يعهد من أحد الفحص عن وجود دم القمل أو البق في بدنه عند الغسل ، مع أنّ البدن مظان لوجود ذلك فيه - إلى قوله - ولكن للمنع عن قيام سيرة المتدينين ... الخ (1).

الأولى أن يجاب عن هذه الدعوى كما في تحريراتي وتحريرات غيري (2) عنه قدس سره أوّلاً : بالمنع من جريان السيرة على عدم الاعتناء باحتمال الحاجب إلاّفيما كان عدمه مظنوناً بالظنّ القوي اللاحق بالعلم العادي ، ولو علم أنّها جرت في الأعمّ من العلم العادي ، بحيث ثبت عدم الاعتناء في مورد الظنّ بالعدم وإن لم يكن بمرتبة العلم العادي ، لكان ذلك كاشفاً عن حجّية تلك المرتبة من الظنّ في خصوص هذه المسألة.

وثانياً : بالمنع من اتّصال تلك السيرة بزمان المعصوم.

وثالثاً : بأنّ أقصى ما في البين هو كون السيرة بمنزلة دليل بالخصوص يدلّ على حجّية الأصل المثبت في خصوص هذه المسألة ، ونحن لا نمنع منه كما مرّ ذكره في أوّل هذا التنبيه.

قلت : ولكن قد عرفت (3) أنّ ذلك ممنوع حتّى في القضية الخاصّة ، فلابدّ حينئذ من الالتزام بأنّ الشارع بواسطة هذه السيرة قد جعل الظنّ بالعدم الناشئ من

ص: 147


1- فوائد الأُصول 4 : 500.
2- راجع أجود التقريرات 4 : 140.
3- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 97 وما بعدها.

اليقين السابق حجّة كالأمارات ، ولم تكن حجّيته مقصورة على خصوص الجري العملي على ما مرّ عليك تفصيله ، فراجع (1).

قوله : ولكن للمنع عن اعتبار الاضافة وحكاية الحال مجال ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الموضوع للتوارث نفس اجتماع حياة المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، فيندرج المثال في الموضوعات المركّبة المحرز أحد جزأيها بالوجدان ... الخ (2).

لعلّ هذا مأخوذ من قوله عليه السلام في بعض روايات الباب : « لو أنّ رجلاً ذمّياً أسلم وأبوه حي ولأبيه ولد غيره ثمّ مات الأب ، ورثه المسلم جميع ماله ، ولم يرثه ولده ولا امرأته مع المسلم شيئاً » (3) فيكون المدار على إسلام الوارث في حياة المورّث ، لكن يمكن المناقشة بأنّ هذا وحده لا يكفي في الارث ، بل لابدّ من ضمّ الموت إليه كما يستفاد من قوله عليه السلام : « ثمّ مات الأب » يعني مات في حال إسلام الوارث.

وبالجملة : أنّ الارث إنّما يترتّب على الموت لا على الحياة كي يقال إنّه يكفي في التوارث اجتماع حياة المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، بل لابدّ من أخذ الموت ، فإن كان إسلام الوارث شرطاً فليس محصّله إلاّ أنّ موضوع الارث هو موت المورّث مع إسلام الوارث ، أو موت المورّث في حال إسلام الوارث ، واستصحاب الحياة وعدم الموت إلى ما بعد إسلام الوارث لا يمكن أن يثبت به

ص: 148


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 87 - 88 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 501.
3- وسائل الشيعة 26 : 24 / أبواب موانع الارث ب 5 ح 1.

كون موت المورّث في حال إسلام الوارث فلا يحكم بإرثه ، لكن كما أنّه لا يحكم بإرثه كذلك لا يمكن الحكم بعدم إرثه ، وحينئذ يمكن القول بتنصيف النصف بينه وبين أخيه المعلوم إسلامه سابقاً لتردّد ذلك النصف بينهما ، أو يقرع على النصف بينهما أو على أحد المحتملين من كون إسلامه قبل أو بعد ، فتأمّل.

والذي يظهر من الجواهر اختيار المانعية ، فإنّه قدس سره قال - في هذه المسألة بعد نقل عبارة المتن المتضمّنة لقوله : كان الأصل بقاء الحياة والتركة بينهما نصفين - :

بلا خلاف ولا إشكال ، وإن كان المدرك عندنا عدم ثبوت المانع فالمقتضي حينئذ بحاله لا استصحاب الحياة ، فتأمّل (1).

ولو بنينا على ما أفاده قدس سره من أنّ المستفاد من الأدلّة هو كون الكفر مانعاً من الارث بعد فرض كون البنوّة مقتضية له ، لكنّا في غنىً عن التمسّك بعدم ثبوت المانع ، بل يكون استصحاب الحياة وعدم الموت إلى حين إسلام الوارث محرزاً لعدم المانع ، وهو موت المورّث في حال كفر الوارث ، ولكن مجرّد إحراز عدم المانع لا يوجب الحكم بالارث الذي هو أثر المقتضي ، إلاّ أن يقال : إنّ أدلّة إرث الولد من أبيه عامّة لم يخرج منها إلاّمن مات أبوه في حال كفره ، واستصحاب حياة الأب في حال كفر الولد إلى ما بعد إسلامه مخرج للمسألة عن هذا المخصّص ، وموجب لبقائه تحت العموم المذكور ، هذا بناءً على أن يكون المخصّص لذلك العموم هو موت المورّث في حال كفر الوارث ، لا كون الوارث كافراً في حال موت المورّث ، فإنّ ذلك وإن كان ممكناً إلاّ أنّ الإجماع الذي ادّعاه في الجواهر يلجئنا إلى الالتزام بأنّ المخصّص هو على النحو الأوّل دون الثاني ، فتأمّل.

ص: 149


1- جواهر الكلام 40 : 506.

قوله : ولو انعكس الفرض وكان الاختلاف في زمان إسلام الوارث مع الاتّفاق على تاريخ موت المورّث ، فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورّث ويلزمه عدم التوارث ... الخ (1).

قال في الجواهر ما ملخّصه : أنّ ذلك الأصل يقتضي عدم الحكم بإسلامه قبل موت الأب ، وذلك لا يكفي في نفي الإرث المقتضي له نفس الولدية ، والكفر مانع لا الإسلام شرط حتّى يكفي فيه عدم تحقّق الشرط ، راجع ما ذكره في المسألتين في كتاب القضاء في المقصد الثالث في دعوى المواريث (2).

ويمكن الجواب عنه بناءً على المانعية بالطريقة السابقة ، بأن يقال : إنّ عمومات الإرث وإن كانت حاكمة بإرث الولد ، إلاّ أنّه خرج منها من مات أبوه في حال كفره ، ولمّا لم يكن لنا في البين ما يحرز لنا حال هذا الولد من كونه باقياً تحت العموم أو أنّه داخل في الخاص ، لا يكون التمسّك بعموم هذا العام إلاّمن قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، ولأجل ذلك نقول بعدم الإرث في هذه المسألة حتّى بناءً على المانعية التي أفادها.

بل يمكن أن يقال : إنّه داخل في الخاص وهو من مات أبوه في حال كفره لأنّ استصحاب بقائه على الكفر إلى زمان موت أبيه يحقّق ذلك الموضوع ، وهو موت الأب وكفر الابن. نعم لو أُخذ موت الأب مقيّداً بكونه واقعاً في حال كفر الابن على نحو الاقتران ، لم يكن الاستصحاب المذكور محرزاً له ، فنحتاج حينئذ إلى ما ذكرناه من الحكم بعدم إرثه استناداً إلى المنع عن التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، هذا كلّه بناءً على مانعية الكفر ، وأمّا بناءً على الشرطية فالأمر

ص: 150


1- فوائد الأُصول 4 : 501.
2- جواهر الكلام 40 : 504.

في الحكم بعدم الإرث واضح ، خصوصاً على ما أفاده قدس سره من أنّ الشرط هو اجتماع حياة المورّث وإسلام الوارث ، فإنّ ذلك حينئذ يكون من باب إحراز عدم الشرط ، لا من باب عدم إحراز الشرط ، كما هو الحال بناءً على ما ذكرناه من كون الشرط هو موت المورّث في حال إسلام الوارث ، فتأمّل.

قال في الشرائع : المقصد الثالث في دعوى المواريث ، وفيه مسائل : الأُولى : لو مات المسلم عن ابنين فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب وادّعى الآخر مثله فأنكر أخوه ( ولم يعلم تاريخ أحدهما أو علم تاريخ موت الأب دون الآخر ) فالقول قول المتّفق على تقدّم إسلامه مع يمينه أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه ، وكذا لو كانا مملوكين فاعتقا واتّفقا على تقدّم حرّية أحدهما واختلفا في الآخر (1).

قال في الجواهر : إذ المناط في الجميع - وهو استصحاب البقاء على دينه وعلى رقّيته - واحد ، كذا ذكره من تعرّض لذلك. لكن يشكل الأوّل بل الثاني بناءً على أنّ أصالة تأخّر الحادث لا تفيد تأخّر نفس المدّعى به عن نفس الآخر المعلوم تاريخه ، بأنّ ذلك يقتضي عدم الحكم بإسلامه قبل موت الأب ، وذلك لا يكفي في نفي الإرث المقتضي له نفس الولدية ، والكفر والرق مانعان لا الإسلام والحرّية شرطان حتّى يكفي فيه عدم تحقّق الشرط (2).

ثمّ قال في الشرائع : الثانية لو اتّفقا أنّ أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرّة رمضان ، ثمّ قال المتقدّم مات الأب قبل ( دخول ) شهر رمضان ، وقال المتأخّر : مات بعد دخول رمضان ، كان الأصل بقاء الحياة ، والتركة بينهما

ص: 151


1- شرائع الإسلام 4 : 124.
2- جواهر الكلام 40 : 504.

نصفين (1).

قال في الجواهر : بلا خلاف ( أجده ) ولا إشكال ، وإن كان المدرك عندنا عدم ثبوت المانع ، فالمقتضي حينئذ بحاله لا استصحاب الحياة (2).

ولا يخفى أنّا لو استندنا في الصورة الثانية إلى استصحاب حياة الأب إلى حين إسلام الابن القاضي بإرثه ، لزمنا القول بالتعارض حتّى فيما لو كانا مجهولي التاريخ ، فإنّ استصحاب عدم إسلام الابن إلى موت الأب قاضٍ بعدم إرثه ، واستصحاب عدم موت الأب إلى حين إسلام الابن قاضٍ بإرثه ، فيتعارض الاستصحابان ، وحينئذ نقول لابدّ من إخراج صورة الجهل بالتاريخين عن الصورة الأُولى ، إذ أنّ صاحب الشرائع قدس سره بانٍ على عدم جريان الاستصحابين في صورة الجهل بتاريخهما ، لأجل شبهة عدم اتّصال اليقين بالشكّ ، وهو بعيد.

وعلى كلّ حال ، فحيث لم يكن لنا من الأُصول ما هو قاضٍ بالارث ولا ما هو قاضٍ بعدم الإرث ، يتعيّن القرعة أو التنصيف في النصف ، وليس ذلك من قبيل ما لو علم بوجود هذا الابن وشكّ في وجود ابن آخر في الحكم بكون المال بتمامه للابن الموجود ، لإمكان الرجوع في ذلك إلى أصالة العدم في الابن المحتمل ، وإن أشكل عليه في الجواهر في مسائل دعوى المواريث من كتاب القضاء بأنّه مثبت ، لكن الظاهر عدم كونه مثبتاً ، لكفاية الولدية في هذا وعدم غيره ، وقد دلّت بعض الروايات على ذلك ، وقد تقدّم ذكرها في أوائل القطع في جواز الشهادة استناداً إلى الأصل (3).

ص: 152


1- شرائع الإسلام 4 : 124.
2- جواهر الكلام 40 : 506.
3- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، صفحة : 93 وما بعدها.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التفصيل إنّما هو في صورة وجود وارث مسلم واحد ، وأمّا لو كان المسلم متعدّداً فالمدار فيه على كون الإسلام قبل القسمة أو بعدها وفيما لم يكن وارث إلاّهذا المشكوك يكون المدار على كون إسلامه قبل إدخال الإمام عليه السلام التركة في بيت المال ، كما سيأتي في الحاشية الآتية (1).

قوله : ومنها ما ذكره جماعة تبعاً للمحقّق في كرّ وجد فيه نجاسة ... الخ (2).

لم أتوفّق للعثور على هذا الفرع في الشرائع ولا في المعتبر (3) ، نعم قال العلاّمة قدس سره في القواعد : الثالث لو وجد نجاسة في الكر ، وشكّ في وقوعها قبل بلوغ الكرّية أو بعدها فهو طاهر ، ولو شكّ في بلوغ الكرّية فهو نجس (4). وقال الشيخ قدس سره في الرسائل : ومنها ما ذكره جماعة تبعاً للمحقّق في كرّ وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرّية وتأخّرها ، فإنّهم حكموا بأنّ استصحاب عدم الكرّية قبل الملاقاة الراجع إلى استصحاب عدم المانع عن الانفعال حين وجود المقتضي له معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّية. ولا يخفى أنّ الملاقاة معلومة ، فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة وإلاّ فالأصل عدم التأثير ، لم يكن وجه لمعارضة الاستصحاب الثاني بالاستصحاب الأوّل ، لأنّ أصالة عدم الكرّية قبل الملاقاة لا تثبت كون الملاقاة قبل الكرّية وفي زمان القلّة حتّى تثبت النجاسة ، إلاّمن باب عدم انفكاك عدم الكرّية حين الملاقاة عن وقوع

ص: 153


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 160.
2- فوائد الأُصول 4 : 501.
3- لاحظ المعتبر 1 : 51 - 52.
4- قواعد الأحكام 1 : 184.

الملاقاة حين القلّة ، نظير عدم انفكاك عدم الموت حين الإسلام لوقوع الموت بعد الإسلام ، فافهم (1).

قلت : لا يخفى أنّه لو كانا مجهولي التاريخ كان استصحاب القلّة وعدم الكرّية إلى حين الملاقاة حاكماً بالنجاسة ، لتحقّق الملاقاة وجداناً والقلّة بالاستصحاب ، وليس ذلك من الأصل المثبت. نعم إنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرّية لا يوجب الحكم بالطهارة إلاّبإثبات وقوع الملاقاة بعد الكرّية ، وحينئذ يكون المثبت هو الاستصحاب الثاني دون الاستصحاب الأوّل ، وعلى ذلك يكون الحكم في مجهولي التاريخ هو النجاسة. وكذلك فيما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ والكرّية مجهولة التاريخ. نعم لو كان الأمر بالعكس بأن كانت الكرّية معلومة التاريخ والملاقاة مجهولة التاريخ ، كان الحكم مبنياً على كون القلّة شرطاً في الانفعال أو كون الكرّية مانعة منه ، فعلى الأوّل يحكم بالطهارة ركوناً إلى قاعدة الطهارة ، لعدم إحراز شرط الانفعال ، وعلى الثاني يحكم بالنجاسة أخذاً بقاعدة المقتضي وعدم إحراز المانع.

ولا يخفى أنّ الظاهر من قول العلاّمة في القواعد : ولو شكّ في بلوغ الكرّية فهو نجس ، هو البناء على الثاني أعني قاعدة المقتضي ، وحينئذ يشكل الأمر في حكمه بالطهارة في الصورة الأُولى أعني مجهولي التاريخ ، لأنّا لو أغضينا النظر عمّا تقدّم من انفراد استصحاب القلّة إلى حين الملاقاة القاضي بالنجاسة ، وسلّمنا المعارضة بين الأصلين ، يتعيّن الحكم بالنجاسة بناءً على ما هو ظاهره أخيراً من الأخذ بقاعدة المقتضي.

ص: 154


1- فرائد الأُصول 3 : 239 - 240.

نعم ، لو تمّ ما أفاده الشيخ قدس سره من أنّ استصحاب القلّة إلى حين الملاقاة لا يعارض استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرّية ، وقلنا إنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرّية قاضٍ بالطهارة ، صحّ الحكم فيه بالطهارة استناداً إلى الاستصحاب المذكور مع القول بقاعدة المقتضي ، حيث إنّ الرجوع إلى قاعدة المقتضي للنجاسة كالرجوع إلى قاعدة الطهارة إنّما يكون بعد سقوط الاستصحاب القاضي بالنجاسة ، أو الاستصحاب القاضي بالطهارة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح وتنقيح إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : ومنها ما ذكره في التحرير (2) من أنّه لو اختلف الولي والجاني في سراية الجناية ... الخ (3).

هنا مسألتان : الأُولى مسألة دعوى الولي السراية ودعوى الجاني أنّ المجني عليه شرب سمّاً فمات به ، والأصل وإن كان هو استصحاب عدم شرب السمّ ، إلاّ أنّه لا يترتّب عليه الحكم بالسراية إلاّبالأصل المثبت ، وحينئذ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة من الضمان ليكون القول قول الجاني.

الثاني : مسألة دعوى الجاني أنّ المجني عليه كان حين الجناية ميتاً ، ودعوى الولي أنّه كان حيّاً ، واستصحاب الحياة إلى حين الجناية لا يثبت ضمان القتل ، إذ لا يتحقّق القتل بهذا الاستصحاب إلاّعلى الأصل المثبت ، فيكون المرجع حينئذ هو أصالة براءة ذمّة الجاني من جناية القتل ، وقد أدخل في الكتاب إحدى المسألتين في الأُخرى.

ص: 155


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 242 وما بعدها.
2- تحرير الأحكام 5 : 524.
3- فوائد الأُصول 4 : 502.

قوله : وهما عرضان لمحلّين : أحدهما صاحب اليد وثانيهما صاحب المال ... الخ (1).

قد يقال : إنّ كون اليد يد أمانة من عوارضها ، فاستصحاب عدم إذن المالك لا يترتّب عليه نفي عنوان كون اليد يد أمانة الذي هو العنوان الخارج من عموم « على اليد » (2) ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من مجموع الأدلّة هو أنّ الخارج من عموم « على اليد » صورة إذن المالك لا اليد المتّصفة بكونها يد أمانة ، بخلاف اليد التي أخذت أمارة على الملكية ، فإنّ الخارج منها هو اليد الموصوفة بكونها يد أمانة أو يد عادية ونحو ذلك من أحوال اليد ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ خروج يد الأمانة والعارية ونحوها عن عموم « على اليد ما أخذت » تارةً نقول إنّه بالتخصيص ، وأُخرى بالتخصّص ، بدعوى أنّ يد الأمانة يد المالك فتكون خارجة عن عموم « على اليد » ، فعلى الأوّل يكون أصالة عدم الإذن نافية لعنوان الخاصّ وهو يد الأمانة ويد العارية ، فإنّ الجامع في ذلك هو ما يكون بإذن المالك ، أمّا على الثاني فالظاهر أنّه كذلك ، حيث إنّ مفاد « على اليد » يكون عبارة أُخرى [ عن ] أنّ ما أخذته اليد من المالك يكون على عهدتها ، وأصالة عدم الإذن من المالك في هذه اليد المشكوك كونها أمانة أو عادية ينقّح أنّها يد أخذت من المالك.

والحاصل : أنّ يد المالك لا إشكال في أنّها لا محصّل لكونها مضمّنة ، وكذلك اليد التي تكون بإذن المالك فإنّها يد المالك لكونها فرعاً عنها ، ولأجل

ص: 156


1- فوائد الأُصول 4 : 503.
2- مستدرك الوسائل 14 : 7 / كتاب الوديعة ب 1 ح 12.

ذلك نقول إنّها لا تكون أمارة على الملكية ، فهذه اليد المشكوكة إنّما تكون يد المالك وخارجة بالتخصّص عن عموم « على اليد » بواسطة كونها بإذن المالك ، وأصالة عدم الإذن من المالك ينقّح عدم كونها يد المالك ، فتكون محكومة بالضمان ، فتأمّل.

ص: 157

[ الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره ]

قوله : فتارةً يكون الشكّ في التقدّم والتأخّر بالاضافة إلى أجزاء الزمان ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الزمان حادث من الحوادث ، فلو نسبنا إليه حادثاً آخر كما في مثل خروج الشخص من بلده وسفره عنه في أيّام رمضان قبل الزوال ، يتأتّى فيه ما سيأتي من التفصيل في الموضوع المركّب من الحادثين اللذين ليس أحدهما بالنسبة إلى الآخر من قبيل العرض ومحلّه ، في أنّه إذا لم يؤخذ فيه العنوان الانتزاعي من التقدّم والتأخّر يجري فيه أصالة عدم الخروج إلى ما بعد الزوال ، بخلاف ما لو كان الأثر مترتّباً على تقدّم الخروج على الزوال أو على تأخّره عنه ، فإنّه لاينفع فيه استصحاب الحضر أوعدم الخروج إلى مابعد الزوال ، فضلاً عمّا إذا كان الموضوع هوالخروج المتّصف بكونه قبل الزوال أوبعد الزوال ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وأمّا فيما عدا العرض ومحلّه ، فلا يمكن لحاظ التوصيف فيه ، فإنّه لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفاً للآخر مع أنّه لا رابط بينهما ... الخ (2).

فلا يتأتّى فيه الأخذ بمفاد كان الناقصة أو ليس الناقصة ، والكفاية (3) وإن

ص: 158


1- فوائد الأُصول 4 : 503.
2- فوائد الأُصول 4 : 505.
3- كفاية الأُصول : 419.

تضمّنت ذلك لكنّه ليس في هذا المقام ، بل هو في مقام آخر ، وهو أنّه لو أخذنا صفة التقدّم في أحد الحادثين على الآخر أو صفة التأخّر أو صفة التقارن ، فتلك الصفات الانتزاعية تارةً تكون مأخوذة في موضوعية الأثر الشرعي على نحو مفاد كان التامّة ، بأن يكون الأثر الشرعي مترتّباً على نفس تقدّم إسلام الوارث مثلاً على موت المورّث أو تأخّره عنه أو مقارنته له ، وأُخرى تكون مأخوذة على نحو مفاد كان الناقصة ، بأن يكون الأثر مترتّباً على كون الإسلام متقدّماً أو متأخّراً أو مقارناً لموت المورّث.

وهكذا الحال في عدم أحدهما في زمان الآخر ، فإنّه ليس المراد من كونه مأخوذاً على نحو ليس التامّة أو ليس الناقصة أنّ عدم أحدهما يكون منسوباً إلى الآخر بما هو مفاد ليس التامّة أو ليس الناقصة ، بل المراد أنّ نسبة العدم إلى أحدهما في زمان الآخر تارةً تكون مأخوذة على مفاد ليس التامّة ، بأن يكون الأثر مترتّباً على نفس عدم كفر الوارث في زمان موت المورّث ، وأُخرى يكون على مفاد ليس الناقصة ، بأن يكون الأثر مترتّباً على كون كفر الوارث منعدماً في زمان موت المورّث.

ومن الواضح أنّ صفة التقدّم أو التأخّر أو المقارنة بالنسبة إلى أحد الحادثين من قبيل العارض ومعروضه ، وكذلك صفة العدم لأحدهما ، فإنّها من قبيل العارض ومعروضه ، فلو أخذ ذلك بمفاد كان التامّة أو ليس التامّة جرى الأصل فيه ، بمعنى أنّه لو أُخذت صفة تقدّم إسلام الوارث على موت المورّث جرى فيه أصالة عدم تحقّق تلك الصفة ، كما أنّه لو أُخذت فيه صفة عدم الكفر من الوارث في حال موت المورّث ، لكان استصحاب الكفر نافعاً في ذلك ، بخلاف ما لو كان

ص: 159

ذلك من قبيل مفاد كان الناقصة أو ليس الناقصة فإنّها لا تنفع فيه. ولا يخفى أنّ هذا الذي شرحناه هو مفاد ما في الكفاية.

ولا يخفى أنّه لو أُخذت صفة التقدّم مثلاً بمفاد كان التامّة أو ليس التامّة فليس لنا أصل يحرزه ، لأنّ أصالة عدم التقدّم لا أصل لها ، فتأمّل.

قوله : كما إذا علم بموت المورّث في غرّة رمضان وشكّ في تقدّم إسلام الوارث ... الخ (1).

ينبغي أن يكون فرض المسألة فيما إذا كان في البين وارث واحد مسلم غير هذا الذي شكّ في تقدّم إسلامه ، فإنّه لو لم يكن في البين مسلم إلاّهذا الذي شكّ في تقدّم إسلامه ، لا يكون المدار على إسلامه حين الموت ، بل يكون المدار على كون إسلامه قبل إدخال الإمام عليه السلام للتركة في بيت المال أو مطلقاً ، على خلاف فيه ، وهذا يختصّ بما لو كان المورّث مسلماً ، وكذا لو تعدّد الوارث المسلم فإنّ المدار في إرث هذا الذي حصل الشكّ في تقدّم إسلامه على كون إسلامه قبل القسمة أو بعدها ، لا على كون إسلامه حين الموت أو بعده ، من دون فرق في ذلك بين كون المورّث كافراً أو كونه مسلماً.

وإنّما محل المثال هو ما لو كان الوارث الذي هو غير هذا المشكوك واحداً ، فإنّه لا يجري فيه ما عرفت من كون إسلامه قبل القسمة أو بعدها ، أو كون إسلامه قبل إدخال التركة في بيت المال ، بل المدار فيه على كون إسلامه متقدّماً على الموت أو متأخّراً عنه ، على التفصيل الآتي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 160


1- فوائد الأُصول 4 : 508.

قوله : وما قيل من أنّ العلم بالتاريخ إنّما يمنع عن حصول الشكّ في بقاء المستصحب بالاضافة إلى أجزاء الزمان ، ولا يمنع عن حصول الشكّ في البقاء بالاضافة إلى زمان وجود الحادث الآخر ... الخ (1).

لعلّ القائل بذلك هو المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في غرره فإنّه بعد أن منع من جريان استصحاب العدم في معلوم التاريخ لأنّه ليس له زمان شكّ في بقاء عدمه ، قال : نعم وجوده الخاصّ - أعني وجوده المقارن لوجود ذاك - مشكوك فيه ، فيمكن استصحاب عدمه بنحو ليس التامّة لأنّه مسبوق بالعدم الأزلي ، فيترتّب عليه الأثر إن كان له أثر بهذا النحو من الوجود ، وأمّا إن كان الأثر لعدمه في مورد الوجود المفروض للآخر بنحو ليس الناقصة ، فليس له حالة سابقة ، لأنّ أصل وجوده معلوم في زمان معلوم ، وأمّا كون هذا الوجود في زمان وجود الآخر فلا يعلم نفياً وإثباتاً (2). ثمّ فصّل ذلك وأوضحه بمثال طروّ الملاقاة والكرّية وعلم بتاريخ الملاقاة ، فراجع.

والذي يتلخّص : هو أنّه عند لحاظ ما هو معلوم التاريخ الذي هو موت المورّث بالاضافة إلى ما هو مجهول التاريخ الذي هو إسلام الوارث ، فتارةً : تكون نتيجة هذه الملاحظة هو أخذ الموت مقترناً بإسلام الوارث ، وهذا هو الظاهر من عبارة الغرر ، إمّا بأن يؤخذ الاقتران بمفاد كان التامّة وإمّا بأن يؤخذ بمفاد كان الناقصة (3) ، وأُخرى تكون نتيجة هذه الملاحظة هي أخذ زمان الإسلام قيداً في

ص: 161


1- فوائد الأُصول 4 : 508.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 563.
3- ولا يخفى أنّه لو أخذنا الاجتماع أو المقارنة بمفاد كان التامّة ، وقلنا إنّه يجري فيه أصالة العدم ، فليس ذلك من قبيل جريان أصالة العدم في نفس ما هو معلوم التاريخ كي تكون معارضة بها فيما هو مجهول التاريخ [ منه قدس سره ].

موت المورّث ، بأن يكون المراد هو الموت المقيّد بالوقوع في زمان إسلام الوارث ، وهذا هو الظاهر من عبارة هذا التحرير في تقريب الإشكال.

وثالثة : يلاحظ موت المورّث مظروفاً لزمان إسلام الوارث ، بمعنى أنّ اليوم الواقعي المشار إليه بإسلام الوارث لا يعلم بوجود موت المورّث فيه ، بأن نقول : لو نظرنا إلى اليوم الواقعي الذي أسلم فيه الوارث نقول إنّ ذلك اليوم لا يقين بموت المورّث فيه وفيما قبله إلى يوم ولادة ذلك الوارث ، فلنا أن نقول باستصحاب عدم موت المورّث إلى ذلك اليوم الواقعي الذي أسلم فيه الوارث ، وهذا الاحتمال الثالث هو الذي شرحناه (1) بقولنا : وقد يجاب عن أصل الإشكال الخ ، ولعلّه هو المراد بما أفاده في هذا التحرير بقوله : وإن أُريد من لحاظه الخ (2) ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّه في تحرير السيّد سلّمه اللّه (3) أشكل بجريان الأصل في المركّب من الإسلام والحياة ، وأجاب عنه بأنّ استصحاب عدم الموت إلى حين الإسلام حاكم عليه. ولا يخفى ما فيه من التأمّل ، إذ لا أصل يجري في الموضوع المركّب إلاّما عرفت من مثل أصالة عدم الاقتران ، وهذا الأصل لا يحكم عليه استصحاب عدم الموت إلى حين الإسلام إلاّبلازمه ، وهو انتفاء مقارنة الإسلام للحياة ، فتأمّل وراجع جميع ما حرّره فإنّه لا يخلو عن تأمّل بل تأمّلات.

ص: 162


1- في صفحة : 166.
2- فوائد الأُصول 4 : 509.
3- أجود التقريرات 4 : 146 - 147.

قوله : فهو واضح الفساد ، فإنّه إن أُريد من لحاظ معلوم التاريخ بالاضافة إلى زمان حدوث الآخر ، لحاظه مقيّداً بزمان حدوث الآخر ، فهو وإن كان مشكوكاً للشكّ في وجوده في زمان وجود الآخر ، إلاّ أنّه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان ، لأنّ عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقّناً سابقاً ، فلا يجري فيه الأصل ... الخ (1).

محصّل كون زمان إسلام الوارث قيداً في موت المورّث هو جعله قيداً في المنفي ، ومحصّل أخذه ظرفاً هو جعله ظرفاً للنفي ، وبعبارة أوضح أنّ زمان الإسلام إمّا أن يكون متعلّقاً بالمنفي ، وإمّا أن يكون متعلّقاً بالنفي ، ويصطلح على الأوّل بالتقييد وعلى الثاني بالظرفية.

ثمّ لا يخفى أنّه لو كان موت المورّث واقعاً في أوّل شهر رمضان ، وكان تاريخ إسلام الوارث مجهولاً ، وأردنا أن ننسب موت المورّث إلى الزمان الواقعي الذي وقع فيه إسلام الوارث وأخذناه قيداً فيه ، لم يكن محصّل ذلك إلاّكون موت المورّث مقترناً بزمان إسلام الوارث ، فلا يجري فيه حينئذ أصالة عدم كون موت المورّث مقترناً بزمان إسلام الوارث بما هو مفاد ليس الناقصة ، إذ لا أصل لهذا الأصل. نعم يجري فيه أصالة عدم تحقّق المقارنة بينهما بما هو مفاد ليس التامّة ، حيث إنّ صفة المقارنة بينهما حادث من الحوادث وهو مسبوق بالعدم ، فيجري فيه استصحاب العدم ، فلو كان الأثر مترتّباً على صفة التقارن بمفاد كان التامّة بحيث كان الأثر مترتّباً على تقارن موت المورّث وإسلام الوارث ، كان الأصل المذكور نافعاً فيه ، لكن لو كان الأثر مترتّباً على صفة التقارن بمفاد كان الناقصة

ص: 163


1- فوائد الأُصول 4 : 508 - 509.

بحيث كان الأثر مترتّباً على كون موت المورّث مقارناً لإسلام الوارث ، لم يكن أصالة عدم تحقّق المقارنة بمفاد ليس التامّة نافعاً ، فإنّ أصالة عدم التقارن بمفاد ليس التامّة إنّما تكون نافعة إذا كان الأثر مترتّباً على وجود التقارن بما هو مفاد كان التامّة ، ولا يتوقّف جريان هذا الأصل حينئذ على كونه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا يعارضه الأصل من الجانب الآخر كما أُفيد في الحاشية.

أمّا الأوّل فواضح ، لأنّه لو كان الأثر مترتّباً على وجود التقارن الذي هو حادث من الحوادث المفروض أنّه مسبوق بالعدم كسائر العوارض ، لم يكن أصالة عدمه مبنياً على السالبة بانتفاء الموضوع ، نعم لو كان الأثر مترتّباً على كون الموت مقارناً لإسلام الوارث ، كان استصحاب عدم التقارن بالنسبة إليه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التقارن لمّا كان عرضاً لاحقاً للحادثين وكان منتزعاً من نحو وجودهما في الزمان ، لم يكن عدمه قبل وجودهما إلاّمن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، نظير فوقية الجسم على جسم آخر ، فإنّ الفوقية وإن كانت معدومة قبل وجود الجسمين ، إلاّ أنّ انعدامها لا يكون إلاّبنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولكن هذا إنّما يكون فيما لو أُخذت الصفة المعدومة مضافة إلى الموضوع ، بأن يكون المنعدم هو صفة تقارن موت المورّث لإسلام الوارث ، وأمّا لو أُخذت نفس الصفة بما أنّها عارض من العوارض وإن كان معروضها هو الحادثين المذكورين ، لم يكن انعدامها قبل وجودهما من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فتأمّل.

وأمّا الثاني فلأنّ الأثر لمّا كان مترتّباً على مقارنة موت المورّث لإسلام الوارث وجرى الأصل في عدمه - يعني أصالة عدم مقارنة موت المورّث لإسلام الوارث - لم يكن معنى محصّل للأصل من الناحية الأُخرى إلاّ أصالة عدم مقارنة

ص: 164

إسلام الوارث لموت المورّث ، وهذا هو عين الأصل المذكور.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا ينحصر بما إذا أرجعنا التقييد إلى التقارن ، بل هو متأتّ لو قلنا إنّه لا يرجع إلى التقارن ، بل يكون عبارة عن كون مجرى الأصل هو عدم الموت المقيّد بزمان إسلام الوارث ، فإنّ مرجع الأصل حينئذ إلى أصالة عدم وجود الموت المقيّد بزمان إسلام الوارث ، ، ولا تعارضه أصالة عدم وجود إسلام الوارث المقيّد بزمان موت المورّث ، لأنّ الأصل الثاني أيضاً عبارة أُخرى عن الأصل الأوّل ، فتأمّل.

قوله : وإن أُريد من لحاظه بالاضافة إلى زمان الآخر لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفاً لوجوده ، فهو عبارة أُخرى عن لحاظه بالاضافة إلى نفس أجزاء الزمان ، وقد عرفت أنّه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشكّ في وجوده في الزمان ... الخ (1).

لو كان المراد هو الثاني فليس المراد به نسبة موت المورّث إلى زمان نفسه ، بل المراد به هو نسبة موت المورّث إلى الزمان الواقعي لإسلام الوارث المفروض كونه - أعني موت المورّث - مشكوك الوجود في ذلك الزمان الواقعي لإسلام الوارث ، وإن كان منشأ الشكّ في وجوده في ذلك الزمان الواقعي هو الشكّ في ذلك الزمان الواقعي لإسلام الوارث هل هو قبل رمضان في المثال السابق أو أنّه بعده ، وحينئذ فلا مانع من أن يقال : إنّ الأصل هو عدم تحقّق موت المورّث في ذلك الزمان الواقعي وإن كان موت المورّث في حدّ نفسه معلوم التاريخ.

لكن يرد عليه حينئذ أنّه لا معنى لاستصحاب عدم موت المورّث إلاّجرّ ذلك العدم من زمان اليقين به إلى زمان الشكّ فيه ، ومحصّله هو الحكم ببقاء ذلك

ص: 165


1- فوائد الأُصول 4 : 509.

العدم مستمرّاً في عمود الزمان ، ومن الواضح أنّ الحكم ببقاء عدم موت المورّث المفروض كونه معلوم التاريخ في عمود الزمان غير معقول.

وبعبارة أُخرى لا يمكن جرّ هذا العدم من زمان اليقين به إلى زمان الشكّ فيه إذ لا شكّ فيه في شيء من أجزاء الزمان ، وإنّما كان الشكّ في الزمان الواقعي لإسلام الوارث.

والحاصل : أنّ القول بأنّ وجود موت المورّث في الزمان الواقعي لإسلام الوارث مشكوك محض تعبير لا واقعية له ، لأنّ وجود موت المورّث لم يكن مشكوكاً في شيء من أجزاء الزمان ، وإنّما كان المشكوك فيه هو الزمان الواقعي لإسلام الوارث.

وقد يجاب عن أصل الإشكال بما حاصله : أنّا إذا أضفنا موت المورّث المفروض كونه واقعاً في أوّل رمضان إلى الزمان الواقعي لإسلام الوارث وإن حصل لنا الشكّ في وجود الموت في ذلك الزمان الواقعي ، لأنّك لو نظرت إلى اليوم الذي وقع فيه الإسلام الذي لا نعرفه بأزيد من أنّه وقع فيه الإسلام ، وأخذت نظرك من ذلك اليوم إلى ما قبله إلى حين ولادة ذلك الولد ، لا تجد أنّك عالم بوجود موت أبيه في ذلك الزمان المستمرّ من حين الولادة إلى اليوم الواقعي الذي وقع فيه إسلام الولد ، وحينئذ يكون موت الوالد في ذلك اليوم الذي أسلم فيه ابنه المذكور مشكوكاً ، فنستصحب عدم موت الأب إلى يوم الإسلام.

لكن هذا الزمان الواقعي المفروض فيه الشكّ المذكور لا يمكن فيه أن يجرّ عدم الموت إليه الذي كان متعلّقاً لليقين ، وهنا تنفع مسألة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لأنّ يقيننا بعدم موت المورّث كان متّصلاً إلى أوّل رمضان ، وذلك الزمان الواقعي لإسلام الوارث الذي فرضنا صورة أنّ وجود الموت فيه كان

ص: 166

مشكوكاً لم يكن متّصلاً بزمان اليقين المذكور.

وهذا الوجه - أعني عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين - لا يتأتّى فيما لو كان موت المورّث مجهول التاريخ ، لأنّ زمان اليقين بعدم كلّ من الحادثين كان قبل حدوث أحدهما ، وبعد حدوث أحدهما يكون الشكّ حاصلاً ، فيمكن أن نوصل زمان هذا الشكّ بزمان اليقين ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ ذلك غير ممكن فيه ، فتأمّل.

وفيه : أنّ اليوم الواقعي الذي وقع فيه إسلام الوارث إنّما يكون الموت مشكوكاً فيه لتردّد ذلك اليوم الواقعي بين كونه من رمضان وكونه من شعبان ، وحينئذ ننقل الكلام إلى ما قبل ذلك اليوم ، فإن كان متردّداً أيضاً بين كونه من شعبان وكونه من رمضان كان تحقّق الموت فيه أيضاً مشكوكاً ، وهكذا الذي قبله إلى أن نصل إلى يوم مردّد بين يومين من أيّام شعبان ، وحينئذ يكون عدم الموت في ذلك اليوم متيقّناً ، فنجرّ ذلك اليقين إلى ما بعده إلى أن نوصله إلى يوم الإسلام الذي هو يوم الشكّ في تحقّق الموت فيه ، وبذلك يتّصل اليقين بالشكّ ونحكم ببقاء المتيقّن في عمود الزمان بالنسبة إلى الأيّام ، يعني من اليوم الواقعي المفروض كونه مردّداً بين يومين من أيّام شعبان إلى اليوم الواقعي الذي هو اليوم الواقعي للإسلام ، المفروض كونه مردّداً بين كونه من شعبان وكونه من رمضان ، ولكنّه مع ذلك لا مجال فيه لاستصحاب العدم في معلوم التاريخ ، إذ لابدّ في جريان الاستصحاب من كون استمرار المستصحب الذي هو عدم الموت مشكوكاً ، والمفروض هو عدم تعلّق الشكّ باستمرار ذلك المستصحب ، وإنّما كان الشكّ في انطباق الزمان الذي وقع فيه الإسلام على الزمان المعلوم الذي وقع فيه الموت واستمرّ عدمه إليه ، ولعلّ ذلك هو المراد ممّا أفاده قدس سره فيما حرّرته

ص: 167

عنه قدس سره في هذا المقام وهذا نصّه :

وهو أنّ زمان ما هو مجهول التاريخ في نسبة ما هو معلوم التاريخ إليه إن أُخذ موضوعياً ، بحيث كان الملحوظ في النسبة المذكورة هو نسبة ما هو معلوم التاريخ إلى نفس زمان ما هو مجهول التاريخ من التقدّم والتأخّر والمقارنة ، ونحو ذلك من العناوين الانتزاعية ، ولو مثل كون ما هو معلوم التاريخ في حال ما هو مجهول التاريخ ، فذلك خروج عن الفرض ، حيث إنّ فرض الكلام إنّما هو إذا لم يكن الأثر مترتّباً على ذلك الأمر الانتزاعي ، بل كان الأثر مترتّباً على نفس الاجتماع في الزمان.

وإن أُخذ زمان مجهول التاريخ في نسبة ما هو معلوم التاريخ إليه طريقاً إلى زمان معلوم التاريخ ، ففيه أنّ زمان مجهول التاريخ وإن كان مجهولاً ، إلاّ أنّه لمّا أُخذ طريقاً إلى زمان معلوم التاريخ ، وكان زمان ما هو معلوم التاريخ معلوماً لا شكّ فيه ، لم يكن حينئذ مجرى للأصل ، لعدم تعلّق الشكّ به وإن كان طريقه والمرآة إليه مجملاً ، حيث إنّ المرئي إذا كان معلوماً لا محلّ للأصل فيه وإن كانت مرآته مجملة مجهولة ، وهذا بخلاف مجهولي التاريخ فإنّه لمّا كان الزمان في كلّ منهما مجهولاً فقد صار المرآة والمرئي مجهولاً ، وإذا كان المرئي الذي هو زمان كلّ منهما مجهولاً صحّ إجراء الأصل فيه. والحاصل : أنّ زمان كلّ من مجهولي التاريخ لمّا كان مجهولاً ، صحّ إجراء أصالة العدم في كلّ واحد في كلّ زمان شكّ في حدوثه فيه ، انتهى.

وحاصله : أنّه بعد أن فرضنا أنّ الموت لا شكّ في زمان حدوثه وهو أوّل رمضان ، فلحاظنا الموت منسوباً إلى زمان الإسلام ليتفرّع على ذلك اللحاظ جريان أصل العدم فيما يتحصّل من تلك النسبة ، إن كان الغرض منه هو تعرّف

ص: 168

حال الموت بنسبته إلى الإسلام من حيث التقدّم والتأخّر والتقارن ، فذلك خروج عن الفرض ، إذ الفرض أنّه لم يترتّب أثرنا على شيء من هذه العناوين الانتزاعية ، وإن كان الغرض من لحاظنا الموت منسوباً إلى زمان الإسلام هو تعرّف زمان الموت بجعل زمان الإسلام طريقاً لمعرفة زمان الموت ، بحيث يكون حكمنا بأصالة عدم وجوده في زمان الإسلام حكماً على عدم وجود الموت في الزمان المشكوك وجوده فيه ، فذلك ممتنع في الفرض ، لأنّ الفرض هو أنّ زمان الموت معلوم فكيف يمكن أن يجعل زمان الإسلام طريقاً إليه ، ونحكم عليه بواسطة ذلك الطريق بأصالة العدم ، وهذا بخلاف لحاظ ما هو مجهول التاريخ إلى معلومه كالإسلام ، فإنّ لحاظه منسوباً إلى زمان الموت إنّما هو لتعرف زمان الإسلام والحكم عليه بالعدم في ذلك الزمان ، وهكذا يكون الحال في لحاظ مجهول التاريخ إلى آخر مثله مجهول التاريخ.

وإن شئت قلت : إنّ الموت بعد أن كان زمان حدوثه معلوماً ، فلا معنى للحكم التعبّدي عليه بعدم الوجود في زمان من الأزمنة ، وإن كان ذلك الزمان الذي حكمنا تعبّداً بعدم وجوده فيه مردّداً بين كونه قبل حدوثه أو بعد حدوثه ، إذ أنّ هذا الشكّ والترديد إنّما هو في نفس ذلك الزمان المردّد لا في زمان الموت ، وهو ما ذكرناه من أنّ قولنا إنّ الموت مشكوك الوجود في ذلك الزمان المردّد صورة عبارة لا واقعية لها ، إذ لا شكّ في زمان الموت وإنّما كان الشكّ في نفس ذلك الزمان المفروض تردّده.

قوله : ففي المثال المتقدّم يستصحب عدم إسلام الوارث إلى غرّة رمضان الذي هو زمان موت المورّث ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بناءً على كون كفر الوارث مانعاً من الارث في قبال عمومات

ص: 169


1- فوائد الأُصول 4 : 509.

الارث مثل قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ ) (1) الخ ، ينبغي أن ينظر الدليل المخصّص الذي جعل الكفر مانعاً ، فإن كان المستفاد منه أنّ المانع هو محض موت المورّث وكفر الوارث ، بمعنى أنّ اجتماعهما في الزمان كان هو المانع ، وهو الذي خرج من ذلك الدليل العام ، فلا ريب حينئذ في أنّ استصحاب كفر الوارث إلى ما بعد موت المورّث محقّق لهذا المانع ، وموجب لدخول هذا الوارث في حيّز الدليل المخصّص للعام ، ويكون من قبيل إحراز أحد الجزأين وهو الكفر بالأصل والآخر وهو موت المورّث بالوجدان.

وإن كان المستفاد من ذلك الدليل المخصّص هو أنّ الخارج من ذلك العموم هو تقيّد موت المورّث بكون الوارث كافراً ، أو قل إنّه يستفاد منه خروج صورة كون موت المورّث مقارناً لكفر الوارث ، فهذا العنوان الانتزاعي وإن لم يمكن إحرازه بالأصل ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن التمسّك بالعموم المذكور ، لكونه من قبيل التمسّك به في الشبهات المصداقية.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الخارج ليس هو كون موت المورّث مقارناً لإسلام الوارث بما هو مفاد كان الناقصة ، بل الخارج هو صورة تحقّق المقارنة بينهما بما هو مفاد كان التامّة ، فإنّه حينئذ يجري أصالة عدم تحقّق المقارنة ، وبذلك الأصل يخرج المورد عن الدليل المخصّص ، ويتحكّم فيه الدليل العام ، هذا كلّه بناءً على المانعية.

وأمّا بناءً على شرطية الإسلام ، بأن كان المستفاد من ذلك الدليل المخصّص أنّ إسلام الوارث شرط في الحكم بالارث ، فتارةً نقول : إنّ الشرط هو اجتماع إسلام الوارث وحياة المورّث كما أفاده شيخنا قدس سره ، وأُخرى نقول : إنّ الشرط هو

ص: 170


1- النساء 4 : 11.

موت المورّث عن إسلام الوارث أو مقارنته به أو غير ذلك من العناوين الانتزاعية ، والمقارنة إمّا بمفاد كان التامّة أو بمفاد كان الناقصة ، ففي جميع هذه الوجوه والاحتمالات لا يمكن إحراز الشرط ، بل في بعضها [ يمكن ] إحراز عدمه ، وهو ما لو أُخذت المقارنة بمفاد كان التامّة. وعلى كلّ حال ، يكون الحكم هو عدم الارث ، هذا كلّه في صورة العلم بتاريخ الموت والشكّ في تاريخ الإسلام.

ولو انعكس الأمر بأن كان تاريخ الإسلام معلوماً في أوّل شهر رمضان مثلاً وكان تاريخ موت المورّث مجهولاً ، فعلى الأوّل من وجوه المانعية وهو كون الخارج من العمومات اجتماع موت المورّث وكفر الوارث ، ينبغي أن يحكم بالارث ، لأنّ استصحاب عدم الموت إلى ما بعد إسلام الوارث محرز لعدم المانع ، وكذلك الحال على الوجه الثاني وهو كون المانع هو كون الموت متّصفاً أو مقترناً بكفر الوارث.

وفيه تأمّل ، لإمكان القول بعدم إحراز عدم المانع ، ومع الشكّ في تحقّق المانع يكون التمسّك بالعموم ساقطاً لكونه من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، خلافاً لما قدّمناه (1) في المناقشة مع صاحب الجواهر قدس سره. نعم على الوجه الثالث من الوجوه المانعة ، وهو كون المانع هو نفس المقارنة بمفاد كان التامّة ، التي يكون أصالة عدمها بمفاد ليس التامّة محرزاً لعدم المانع ، فتجري عمومات الارث ، هذا كلّه على تقدير المانعية.

وأمّا على تقدير شرطية الإسلام ، فإن كان الشرط هو مجرّد اجتماع الإسلام وحياة المورّث كما أفاده شيخنا قدس سره ، كان استصحاب الحياة إلى ما بعد إسلام

ص: 171


1- في الصفحة : 149.

الوارث محقّقاً لهذا الشرط ، فيحكم حينئذ بالإرث ، وإن كان الشرط هو التقارن بين الموت وإسلام الوارث ، كان محكوماً بعدمه بأصالة عدم هذه المقارنة ، فيحكم بعدم الارث. وإن كان الشرط هو كون موت المورّث مقارناً لإسلام الوارث ، لم يكن استصحاب عدم الموت إلى ما بعد الإسلام نافعاً فيه ، فيسقط العموم حينئذ ، لكونه تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية ، ولا أقل من الشكّ في تحقّق الشرط ، فلا يمكن الحكم حينئذ بالارث ، وأنت بعد أن عرفت هذه الوجوه تقدر على استخراجها من صورة الجهل بالتاريخين.

قوله : ففي المثال المتقدّم يستصحب عدم إسلام الوارث إلى غرّة رمضان الذي هو زمان موت المورّث ، ويثبت به بضمّ الوجدان اجتماع عدم إسلام الوارث وموت المورّث في الزمان (1).

لا يخفى أنّه قدس سره بنى على كون الإسلام شرطاً ، وأنّ الشرط هو مجرّد اجتماع موت المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، لكن تقدّم منه قدس سره (2) ، وسيأتي منه قدس سره (3) في صورة العكس أنّ الشرط هو اجتماع إسلام الوارث وحياة المورّث لا موته. وكيف كان ، فلو كان الشرط هو اجتماع الإسلام مع موت المورّث في الزمان ، نقول إنّ جريان أصالة عدم الإسلام إلى زمان موت المورّث يحرز لنا عدم الشرط ، لأنّ الشرط هو كما عرفت اجتماع موت المورّث وإسلام الوارث ، والموت وإن أحرزناه بالوجدان ، إلاّ أنّا قد أحرزنا بالأصل عدم الجزء الثاني وهو عدم الإسلام ، وكما أنّا لو أحرزنا الجزء الثاني بالأصل ، نقول إنّا قد أحرزنا أحد الجزأين

ص: 172


1- فوائد الأُصول 4 : 509.
2- فوائد الأُصول 4 : 501.
3- فوائد الأُصول 4 : 509.

بالوجدان والآخر بالأصل ، فنكون قد أحرزنا الموضوع المركّب منهما ، فكذلك لو أحرزنا عدم الجزء الثاني بالأصل نقول إنّا قد أحرزنا عدم الشرط أو عدم الموضوع المركّب منهما.

قوله : ولا يثبت به عنوان آخر متولّد من اجتماعهما في الزمان - حتّى عنوان التقارن أو عنوان الحال ونحو ذلك - فلا يصحّ أن يقال : إنّه مات المورّث في حال عدم إسلام الوارث (1).

لا يخفى أنّه لو كان الشرط في الارث هو العنوان المنتزع أعني التقارن ، فإن أُخذ التقارن بمفاد كان الناقصة ، بمعنى أنّ الشرط هو كون موت المورّث مقترناً بإسلام الوارث ، لم يكن أصالة عدم الإسلام إلى موت المورّث محرزاً لهذا الشرط فنحكم حينئذ بعدم الارث من باب عدم إحراز الشرط ، لا من باب إحراز عدم الشرط ، ويكون الفرق بين هذه الصورة وبين ما قبلها - وهو كون الشرط الاجتماع في الزمان - هو أنّ الحكم في الأُولى بعدم الارث لاحراز عدم الشرط ، وفي الثانية لعدم إحراز الشرط ، وحاصله : أنّ أصالة عدم الإسلام إلى موت المورّث تجري على الأُولى ويحرز بها عدم الشرط ، بخلافه على الثانية فإنّ الأصل المذكور لا يجري فيها.

ولو كان التقارن المفروض كونه شرطاً قد أُخذ بمفاد كان التامّة ، يعني أنّ الشرط في الارث هو وجود التقارن بين موت المورّث وإسلام الوارث ، كان الحكم أيضاً هو عدم الارث ، لاحراز عدم الشرط بأصالة عدم وجود التقارن بينهما بمفاد ليس التامّة ، هذا كلّه بناءً على كون الإسلام شرطاً.

ص: 173


1- فوائد الأُصول 4 : 509.

ومنه يظهر الحال لو قلنا بأنّ الكفر مانع ، فإنّه إن كان المانع هو اجتماع كفر الوارث مع موت المورّث في الزمان ، كان استصحاب عدم إسلام الوارث إلى موت المورّث كافياً في إحراز المانع ، فنحكم حينئذ بعدم الارث ، لاحراز المانع الذي هو المخصّص لعمومات أدلّة الارث. وإن كان المانع هو كون الموت مقترناً بالكفر ، لم يكن الأصل المذكور جارياً ، وحكمنا بعدم الارث من باب عدم إحراز المانع ، لكون التمسّك بالعموم حينئذ تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية. وإن كان المانع هو مجرّد التقارن بين موت المورّث وكفر الوارث بمفاد كان التامّة ، كان الحكم حينئذ هو الارث ، لأصالة العدم في هذه المقارنة بمفاد ليس التامّة ، ويترتّب عليه إحراز عدم المانع الذي هو المخصّص ، وتتحكّم فيه عمومات الارث ، فهذه صور ست في صورة كون الموت معلوم التاريخ.

قوله : ولو انعكس الأمر وكان إسلام الوارث معلوم التاريخ وموت المورّث مجهول التاريخ ، يجري استصحاب حياته إلى زمان إسلام الوارث ، ويثبت به اجتماع الإسلام والحياة في الزمان ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كان الشرط هو اجتماع موت المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، لم يكن استصحاب الحياة إلى زمان إسلام الوارث نافعاً في إحراز هذا الشرط ، إذ لا يحرز بهذا الأصل اجتماع الموت وإسلام الوارث في الزمان. نعم لو كان الشرط هو اجتماع الإسلام مع حياة المورّث في الزمان ، لكان استصحاب حياة المورّث إلى ما بعد الإسلام محقّقاً لكون الإسلام مجتمعاً في الزمان مع حياة المورّث.

ص: 174


1- فوائد الأُصول 4 : 509.

قوله : وإن قلنا إنّه لا يكفي هذا المقدار في التوارث ، بل لابدّ من موت المورّث في حال إسلام الوارث ... الخ (1).

يعني أنّا لو أخذنا الشرط هو العنوان المنتزع - أعني المقارنة - بمفاد كان الناقصة أعني كون الموت مقترناً بالإسلام ، لم يكن استصحاب الحياة إلى زمان الإسلام نافعاً فيه وهذا واضح ، وحينئذ لا يكون هذا الأصل جارياً ، ويحكم بعدم الارث لعدم إحراز الشرط ، لكن لو كان الشرط هو وجود الاقتران بينهما ، حكم أيضاً بعدم الارث ، لإحراز عدم الشرط بأصالة عدم وجود الاقتران بمفاد ليس التامّة ، هذا كلّه على الشرطية.

وأمّا بناءً على مانعية الكفر ، فإن كان المانع هو اجتماع الكفر والموت في الزمان ، لم يكن استصحاب الحياة إلى ما بعد الإسلام جارياً ، لأنّ ذلك لا يثبت به المانع المذكور وهو اجتماع الموت والكفر في الزمان ، ويكون الحكم بعدم الارث لعدم إحراز المانع الموجب لكون التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. وإن كان المانع هو كون الموت مقترناً بكفر الوارث ، كان الأمر كذلك من عدم إحراز المانع وعدم الارث. وإن كان المانع هو مجرّد وجود الاقتران بين الكفر والإسلام بمفاد كان التامّة ، كان أصالة عدم هذا الاقتران بمفاد ليس التامّة محرزة لعدم المانع ، ويحكم حينئذ بالارث ، فهذه صور ست أيضاً في صورة كون المعلوم التاريخ هو الإسلام.

قوله : وإن كان كلّ منهما مجهول التاريخ وشكّ في التقدّم والتأخّر ، فالأقوى جريان الاستصحاب في كلّ منهما ويسقطان بالمعارضة ... الخ (2).

لا يخفى أنّه لو كان الاقتران بين هذين الحادثين هو موضوع الأثر بمفاد كان

ص: 175


1- فوائد الأُصول 4 : 509.
2- فوائد الأُصول 4 : 510.

التامّة ، كان أصالة عدم الاقتران بمفاد ليس التامّة محكّماً ، ويترتّب عليه الحكم بعدم الارث إن قلنا إنّ شرط الارث هو الاقتران بين الموت والإسلام ، والحكم بالارث إن قلنا إنّ المانع هو الاقتران بين الموت والكفر ، من دون تعارض في البين.

ولو كان الاقتران المذكور بمفاد كان الناقصة - أعني كون الموت مقترناً بإسلام الوارث بناءً على الشرطية ، أو كون الموت مقروناً بكفر الوارث بناءً على المانعية - لم يكن الأصل جارياً من كلّ من الطرفين على كلّ من القولين ، ويكون الحكم بعدم الارث لعدم إحراز الشرط أو لعدم إحراز المانع.

ولو كان موضوع الأثر هو مجرّد الاجتماع في الزمان ، فقد عرفت أنّه بناءً على المانعية تكون أصالة عدم إسلام الوارث إلى موت المورّث جارية ، ويترتّب عليها إحراز المانع والحكم بعدم الارث ، ولا يجري أصالة عدم الموت إلى حين إسلام الوارث ، لأنّها لا يترتّب عليها اجتماع الموت والكفر ، ولا اجتماع الموت وعدم الكفر ، فلا تعارض حينئذ بين الأصلين.

وبناءً على الشرطية لو كان الشرط هو اجتماع موت المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، يجري استصحاب عدم الإسلام إلى موت المورّث ، ويكون محرزاً لعدم الشرط ، ويحكم بعدم الارث ، ولا يجري استصحاب عدم الموت إلى إسلام الوارث الموجب للارث ، لأنّه لا يترتّب على هذا الأصل ما هو المفروض كونه شرطاً وهو اجتماع موت المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، وحينئذ لا تعارض بين الأصلين. نعم لو كان الشرط هو اجتماع حياة المورّث وإسلام الوارث في الزمان ، كان من تعارض الأصلين ، لأنّ استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد موت المورّث حاكم بعدم الارث ، لكونه رافعاً لإسلام الوارث

ص: 176

عند كون المورّث حيّاً ، واستصحاب عدم موت المورّث إلى ما بعد إسلام الوارث حاكم بالارث ، لأنّه محرز للشرط وهو اجتماع حياة المورّث مع إسلام الوارث في الزمان.

تنبيه : ينبغي التأمّل في اقتصارهم في هذا المقام على مثال إسلام الوارث وموت المورّث ، ولِمَ لم يمثّلوا بموت كلّ من الوارث والمورّث مع الشكّ في المقدّم منهما ، والظاهر أنّه يجري الأصل في كلّ منهما بلا معارضة ، فيستصحب عدم موت المورّث وبقاؤه على الحياة إلى موت ولده ، كما يستصحب حياة الولد إلى ما بعد موت أبيه ، فيرث كلّ منهما الآخر ، وينتقل ما ورثه إلى ورثته كالغرقى ، ولكنّهم في الغرقى اقتصروا على مورد النصّ ، وذكروا أنّه على خلاف الأصل ، وأنّ الأصل هو عدم التوارث في مجهولي التاريخ ، هذه جهات ينبغي مراجعة كلماتهم فيها وتنقيح المراد من هذه الكلمات ، وإلاّ فإنّ الظاهر أنّ التوارث هو على القاعدة.

نعم ، بناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره من عدم جريان الأُصول الاحرازية في مورد العلم الاجمالي بالخلاف ، يتّجه التعارض والتساقط في استصحاب الحياة في كلّ منهما ، وقد تعرّضنا لتفصيل ذلك وتوضيحه في آخر خاتمة الاستصحاب ، فراجع (1).

فرع : لو طلّق زوجته رجعياً فسافر ومات في سفره ، وادّعت الزوجة موته في أثناء العدّة وأنكر الوارث ذلك ، فإن كان موته معلوم التاريخ بأن كان موته أوّل الشهر الفلاني ، وشكّ في بقاء عدّتها إلى ذلك التاريخ ، فاستصحاب بقاء العدّة يوجب الحكم بالارث ، لأنّ الموت بالوجدان وكونه في حال العدّة بالأصل

ص: 177


1- المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : 543 وما بعدها.

فيكون القول قولها.

ولو انعكس الأمر بأن كان خروجها من العدّة معلوم التاريخ وهو أوّل الشهر ، وقد شكّ في موته قبل ذلك ، فاستصحاب عدم موته إلى ما بعد الخروج لا أثر له ، لأنّه لا يثبت به أنّه مات بعد العدّة. نعم يمكن أن يقال : إنّ الحكم بعدم إرثها لا يتوقّف على إحراز كون موته بعد العدّة ، بل يكفي فيه مجرّد إحراز عدم الموت في العدّة ، لأنّ استصحاب بقائها في العدّة إلى ما بعد موته لمّا كان موجباً للحكم بارثها ، يكون نفي موته في أثناء عدّتها بالأصل كافياً في معارضة الأصل السابق عند الجهل بالتاريخين ، فتأمّل.

والظاهر أنّ انقلاب العدّة والانتقال إلى عدّة الوفاة حاله من جهة التعارض وعدمه كحال الحكم بالارث.

قوله : إلاّ أنّه لا يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأنّ المفروض أنّه قد انقضى على أحد الاناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشكّ فيها ، فكيف يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين ... الخ (1).

إن كان هذا هو المانع من جريان الاستصحاب في كلّ منهما فهو راجع إلى المانع في الصورة الأُولى ، وهو العلم بخلاف مؤدّى الأصل في أحد الطرفين ، وإن كان بينهما فرق في الجملة ، وهو أنّه في الصورة الأُولى يكون المانع هو العلم بأنّ أحد الطرفين في الواقع كان على خلاف مؤدّى الأصل ، وفي الصورة الثانية يكون المانع هو العلم بأنّه في أحد الطرفين لم يكن زمان اليقين متّصلاً بزمان الشكّ ، لكن المانع ليس هو ما يقتضيه ظاهر العبارة ، بل هو كما أشار إليه بقوله : ففي كلّ

ص: 178


1- فوائد الأُصول 4 : 514.

منهما يحتمل انفصال الشكّ عن اليقين الخ (1) ، وحاصله : أنّه لمّا كان اليقين بالنجاسة في أحدهما المعيّن قد انتقض باليقين بالطهارة ، وقد مضى على ذلك زمان يعلم فيه بطهارة ذلك المعيّن ثمّ حصل الاشتباه بينهما ، لم يمكن إجراء الأصل في هذا الاناء ولا في ذلك الاناء ، لأنّ أيّاً منهما نضع يدنا عليه لا نحرز أنّه من نقض اليقين بالشكّ ، بل نحتمل أنّه من نقض اليقين باليقين ، لاحتمال كونه هو الذي كنّا عالمين بطهارته ، فيكون التمسّك فيه بعموم « لا تنقض » من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

لكنّه أيضاً محل تأمّل ، لأنّ الشكّ في كون هذا الاناء مصداقاً لنقض اليقين بالشكّ لا يخرجه عن كونه مشكوكاً. وبعبارة أُخرى : أنّه لمّا كان كلّ من الاناءين معلوم النجاسة يوم السبت ، ثمّ طرأ العلم بطهارة هذا الاناء المعيّن يوم الأحد ، ثمّ في يوم الاثنين حصل الاشتباه بينهما ، فنحن في يوم الاثنين شاكّون في بقاء نجاسة كلّ منهما ، فإذا وضعنا يدنا على هذا الاناء نقول : إنّا شاكّون الآن في طهارته ، كما أنّنا الآن شاكّون في طهارته يوم الأحد ومتيقّنون بنجاسته يوم السبت ، فشكّنا الآن - يعني يوم الاثنين - في طهارته يوم الأحد متّصل بيقيننا الآن بنجاسته يوم السبت.

والحاصل : أنّ الاستصحاب إنّما نجريه في حال الشكّ وهو يوم الاثنين ، ونحن في هذا اليوم الذي هو يوم الاثنين شاكّون في بقاء نجاسته يوم الأحد ، كما أنّا متيقّنون الآن بنجاسته يوم السبت ، فنحن الآن نحكم ببقاء نجاسته فنجرّ النجاسة من يوم السبت إلى يوم الاثنين ، ونحكم ببقائها في عمود الزمان من يوم السبت إلى يوم الاثنين ، ولا يقف في قبال ذلك الحكم إلاّ احتمال أنّه في يوم

ص: 179


1- فوائد الأُصول 4 : 514.

الأحد قد انتقض اليقين بنجاسته باليقين بطهارته ، وهذا المقدار لا يوجب إلاّ الشكّ الفعلي - يعني يوم الاثنين - بطهارته يوم الأحد ، إذ لا يكون ذلك الاحتمال إلاّ عبارة عن احتمال كون هذا الاناء هو الذي كنّا نعلم يوم الأحد بطهارته ، وهذا الاحتمال هو الذي أوجب لنا الشكّ فعلاً في طهارته يوم الأحد الذي هو مدرك الاستصحاب ، وجرّ نجاسة يوم السبت التي هي متيقّنة فعلاً ، والحكم ببقائها في عمود الزمان من يوم السبت إلى يوم الاثنين.

ولا يخفى (1) أنّ نظير ما نحن فيه خاتم الفضة مثلاً الذي صاغه الذمّي وعلمنا بنجاسة سطحه الظاهر والباطن ، فلو طهّرنا سطحه الظاهر واحتملنا أنّه بالاستعمال قد ذهب ذلك السطح وخرج له سطح آخر ممّا هو نجس من الباطن ، فإنّ استصحاب بقاء ذلك السطح الذي طهّرناه لا يثبت طهارة هذا السطح الموجود فعلاً لاحتمال أنّه غيره ، إلاّبالأصل المثبت ، وهكذا الحال لو كان المستصحب هو كون هذا الخاتم طاهر السطح ، فإنّه لا معنى لاستصحاب كون هذا الخاتم طاهر السطح إلاّ استصحاب بقاء السطح الطاهر ، إذ لم يكن الشكّ في بقاء طهارة ذلك السطح ، وإنّما كان في بقاء ذات السطح الطاهر ، فيعود محذور المثبتية ، فإنّا لو أجرينا الاستصحاب في نفس الخاتم ولو باعتبار وصف متعلّقه ، وقلنا إنّ هذا الجسم كان متّصفاً بأنّه طاهر السطح ، لم يكن ذلك نافعاً لنا في إثبات طهارة هذا السطح إلاّبالأصل المثبت.

وحينئذ نقول : إنّ هذا السطح الموجود فعلاً قد كان نجساً ، ولا نعلم بأنّه قد

ص: 180


1- وقد ذكر في العروة مسألة الاناءين ص 63 مسألة 2 ، وذكر مسألة الدمين في ص 26 مسألة 7 ، وراجع ص 50 في دم البق. [ منه قدس سره. راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 299 مسألة 2، 138 مسألة 7 ، 282 مسألة 1 ].

وقع التطهّر عليه ، لاحتمال كونه قد خرج جديداً فنستصحب نجاسته ، لأنّ هذا السطح الموجود مردّد بين السطح الذي طهّرناه وبين سطح آخر لم نطهّره ، فهذا السطح الموجود فعلاً تحت يدنا نعلم أنّه كان نجساً ولم نعلم بأنّا قد طهّرناه ، فنستصحب نجاسته. ولا يرد عليه إلاّما عرفت من دعوى عدم اتّصال الشكّ الفعلي باليقين السابق ، لتوسّط العلم بطهارة السطح الذي كان موجوداً قطعاً ، وقد عرفت أنّ ذلك غير مضرّ في اتّصال الشكّ في بقاء نجاسة هذا السطح الموجود فعلاً باليقين بنجاسته.

وهكذا الحال فيما لو تردّدت هذه المرأة بين كونها زوجته التي عقد عليها وكونها أجنبية في استصحاب كونها أجنبية أو لم يعقد عليها.

والحاصل : أنّ العبرة في اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين إنّما هو بحال إجراء الاستصحاب ، ومن الواضح فيما نحن فيه أنّ الاتّصال المذكور حال الاستصحاب الذي هو يوم الاثنين فيما ذكرناه من المثال متحقّق بالنسبة إلى كلّ من المشكوك والمتيقّن ومن الشك واليقين. أمّا الأوّل فواضح ، لأنّ المشكوك وهو نجاسة هذا الاناء يوم الأحد متّصل بالمتيقّن وهو النجاسة يوم السبت ، بمعنى أنّ هذه النجاسة في يوم الأحد لو كانت متحقّقة في الواقع لكانت هي عين النجاسة التي كانت يوم السبت لا غيرها ، فيكون المشكوك فيه حينئذ هو عين المتيقّن ، وهو معنى اتّصال المشكوك بالمتيقّن. وأمّا الثاني فواضح أيضاً ، لما عرفت من أنّ نجاسة يوم السبت متيقّنة يوم الاثنين ، بمعنى أنّ يقينه السابق المتعلّق بالنجاسة يوم السبت هو موجود ومتحقّق يوم الاثنين ، فتكون نجاسة يوم السبت متيقّنة له يوم الاثنين ، كما أنّ نجاسة يوم الأحد مشكوكة في اليوم المذكور أعني يوم الاثنين.

ص: 181

وإن شئت فقل : إنّه في يوم الاثنين متيقّن بالنجاسة السابقة إلى يوم الأحد ، وهو شاكّ في بقائها من ذلك اليوم - أعني يوم الأحد - إلى الآن ، فكان شكّه بالنجاسة المذكورة متّصلاً بيقينه لحصولهما معاً في آن واحد ، وليس حاله إلاّكمن التفت إلى ثوبه مثلاً في آخر الشهر ، وتيقّن أنّه كان نجساً في أوّل الشهر ، وشكّ في بقاء نجاسته المذكورة إلى الآن ، أو إلى نصف الشهر إن فرض أنّه طهّره يقيناً من نصف الشهر إلى الآن.

ولا فرق بين المثال وبين ما نحن فيه إلاّمن حيث إنّه فيما نحن فيه كان الشكّ الفعلي في نجاسة هذا الاناء مسبوقاً بيقين سابق بطهارة إناء كان معيّناً عنده وهو الآن يحتمل أنّه هو هذا الاناء ، وهذا لا يوجب إلاّ احتمال انتقاض يقينه السابق المتعلّق بالنجاسة السابقة ، وقد عرفت أنّه لا يضرّ بالاستصحاب ، فإنّ ذلك اليقين بالطهارة لأجل طروّ التردّد يكون شكّاً فعلياً ، ولو كان مضرّاً لكان اللازم اختصاص الاستصحاب في الأُمور الماضية بما إذا كان الشكّ في البقاء ناشئاً عن الغفلة ، دون ما إذا كان ناشئاً عن احتمال الالتفات والنسيان ، كما لو علم أنّ ثوبه نجس سابقاً واحتمل أنّه طهّره فيما سبق ، بحيث إنّه لو طهّره لكان حين تطهيره له عالماً ملتفتاً ، فإنّه من هذه الجهة مثل ما نحن فيه ، حيث إنّه يحتمل أنّه قد انتقض يقينه بنجاسة ثوبه باليقين بطهارته.

ومثل ذلك ما لو كان قد تيقّن الحدث وشكّ في الوضوء ، فإنّ الوضوء على تقديره يكون ملتفتاً إليه ، وأنّه على تقدير صدور الوضوء منه فيما تقدّم يكون يقينه بالحدث السابق منتقضاً باليقين بالوضوء.

ولا فرق بين هذه الأمثلة وبين ما نحن فيه إلاّ أنّ المكلّف فيما نحن فيه عالم حين الاستصحاب أنّ يقينه السابق المتعلّق بالنجاسة قد انتقض باليقين بالطهارة

ص: 182

في أحد الاناءين معيّناً سابقاً ، مع فرض أنّه في حال الاستصحاب غير معيّن عنده.

وفيه أوّلاً : أنّه منقوض بما لو علم أنّه قد صدر منه عمل ملتفتاً إليه سابقاً ولكنّه نسيه فعلاً ، وتردّد بين كونه تطهيراً لثوبه أو كونه عملاً آخر لا دخل له بذلك ، أو تردّد بين كونه هو الوضوء أو عملاً آخر لا أثر له فعلاً مع فرض كونه ملتفتاً إليه حين العمل ، وإن لم يكن لذلك العمل الآخر أثر شرعي ، إذ ليس المدرك في الإشكال هو تعارض الأُصول ، بل إنّ المدرك فيه هو احتمال انتقاض اليقين السابق وعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين. وهكذا الحال فيما لو كان لذلك العمل أثر شرعي ، كما لو علم أنّه قد صدر منه إمّا الوضوء أو تطهير ثوبه مع فرض كونه كان ملتفتاً إليه سابقاً ولكنّه فعلاً نسيه وتردّد بين كونه هو الوضوء أو هو غسل الثوب وتطهيره من الخبث.

وثانياً وهو العمدة : أنّ هذا المقدار من العلم الاجمالي بانتقاض اليقين السابق لا أثر له في الأخذ بالحالة السابقة في أحد الطرفين ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه إنّ هذا المقدار من العلم الاجمالي بانتقاض اليقين السابق في أحد الاناءين لا يؤثّر على إجراء الاستصحاب في هذا الاناء المعيّن ، لأنّه بالنسبة إليه لا يكون إلاّمن احتمال انتقاض اليقين الذي يشاركه فيه هذه الأمثلة.

ومن ذلك كلّه تعلم أنّه لو تمّ ما أُفيد فيما نحن فيه لكان جارياً في مسألة الحادثين ، كما في مسألة موت المورّث وإسلام الوارث أو موت المتوارثين ، فإنّه غالباً يكون المكلّف حال حدوث كلّ منهما ملتفتاً إلى ذلك ، بحيث إنّه يكون في وقته عالماً بأنّ الحادث أوّلاً مثلاً هو موت المورّث والحادث ثانياً هو إسلام الوارث أو بالعكس ، لكن بعد مضي مدّة يطرؤه النسيان ويحصل له الشكّ في أنّ

ص: 183

الحادث أوّلاً هو أيّهما ، فتأمّل.

وممّا ذكرناه يظهر لك الحال في الدم المردّد بين كونه من الدم الخارج بالذبح وبين كونه من الباقي في الذبيحة. وهكذا الحال في القليل من الماء المأخوذ من أحد الاناءين المسبوقين بالنجاسة ، المفروض أنّه قد طرأ التطهير على أحدهما المعيّن مع فرض عدم الاشتباه بينهما ، وأنّ الاشتباه إنّما وقع في ذلك الماء القليل في أنّه مأخوذ من أي الاناءين المعلوم تفصيلاً طهارة أحدهما المعيّن وبقاء الآخر على نجاسته ، مع كونهما مسبوقين بالنجاسة.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الذي أفاده قدس سره يمكن أن يقرب بوجهين :

أحدهما راجع إلى أنّ المورد من قبيل عدم إحراز اتّصال الشكّ باليقين ، بتقريب أنّ هذا الاناء لمّا كان يحتمل كونه هو ذلك الاناء الذي كنّا يوم الأحد متيقّنين بطهارته ، بحيث كان اليقين بنجاسته يوم السبت منتقضاً باليقين يوم الأحد بطهارته ، ولازم ذلك هو عدم إحراز كون البناء على طهارته يوم الاثنين من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، كما عرفت تفصيله.

الوجه الثاني : أن يقال : إنّ ذلك من قبيل إحراز عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، فإنّ هذا الاناء وإن كان مشكوك النجاسة يوم الاثنين ، إلاّ أنّ يوم اليقين بنجاسته إنّما هو يوم السبت ، ويوم الأحد فاصل بين زمان اليقين وزمان الشكّ ، لأنّ هذا الاناء إن كان هو الشرقي فهو في يوم الأحد متيقّن الطهارة ، وإن كان هو الاناء الغربي فهو في يوم الأحد متيقّن النجاسة ، وعلى كلّ حال فهو في يوم الأحد غير مشكوك النجاسة ، فيكون يوم الأحد فاصلاً بين زمان اليقين بنجاسته الذي هو يوم السبت وزمان الشكّ في نجاسته وهو يوم الاثنين.

ولا يخفى أنّ عبارة هذا التحرير مضطربة ، فصدرها صريح في الوجه الثاني

ص: 184

لكن ذيلها صريح في الوجه الأوّل ، لأنّه يقول : إلاّ أنّه لا يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأنّ المفروض أنّه قد انقضى على أحد الاناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشكّ فيها ، فكيف يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين (1). وهذا صريح في أنّ الدعوى هي إحراز عدم الاتّصال لا عدم إحراز الاتّصال.

ثمّ يقول : فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كلّ منهما ، لأنّه في كلّ إناء منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي تعلّق العلم بطهارته ، ففي كلّ منهما يحتمل انفصال الشكّ عن اليقين ، فلا يجري الاستصحاب (2). وهذا صريح في أنّ الدعوى هي عدم إحراز الاتّصال ، وهكذا الحال في باقي عباراته.

نعم ، إنّ عبارة السيّد سلّمه اللّه (3) خالية من هذا الاضطراب ، وهي بتمامها صريحة في أنّ الدعوى هي عدم إحراز الاتّصال ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ الشبهة بالنحو الأوّل يمكن أن تقرّر بنحو ثالث يكون موجباً لخروج المقام عن مسألة عدم الاتّصال أو عدم إحراز الاتّصال ، وذلك بأن يقال : إنّا نحتمل انطباق الاناء الشرقي الذي كنّا علمنا بطهارته يوم الأحد على هذا الاناء الذي هو تحت يدنا ، وعلى هذا التقدير تكون طهارته باقية إلى الآن ، فيكون حاصل الشبهة هو أنّا نحتمل أنّ هذا الاناء الذي تحت يدنا الذي كان نجساً يوم السبت قد حصل لنا اليقين بطهارته ، وأنّ اليقين بنجاسته قد ارتفع وانتقض باليقين بطهارته الباقية قطعاً حتّى الآن ، فلا تكون المسألة إلاّمن باب احتمال

ص: 185


1- فوائد الأُصول 4 : 514.
2- فوائد الأُصول 4 : 514.
3- أجود التقريرات 4 : 153 - 154.

انتقاض اليقين بالنجاسة باليقين بالطهارة المتيقّن بقاؤها على تقديرها حتّى الآن ، فلا تكون الشبهة شبهة عدم الاتّصال أو عدم إحراز الاتّصال ، بل تكون شبهة احتمال الانتقاض الجارية في جميع موارد العلم الاجمالي في ارتفاع الحالة السابقة في بعض الأطراف ، ولو قرّرت الشبهة بهذا النحو لم يرد عليها إلاّما ورد على الشبهة الواردة في موارد العلم الاجمالي بالانتقاض في أحد طرفي العلم الاجمالي.

وحاصل الايراد عليها : أنّ احتمال انطباق المتيقّن الكلّي على هذا الفرد لا يخرجه عن كونه مشكوكاً فعلاً ، نعم لو كان الانطباق معلوماً لخرج هذا الفرد عن كونه مشكوكاً ، أمّا إذا لم يكن إلاّمجرّد احتمال الانطباق ، فإنّ احتمال انطباق الفرد المردّد الذي علم بعروض الطهارة عليه على هذا الفرد المعيّن لا يخرج هذا الفرد المعيّن عن كونه مشكوك الطهارة فعلاً ، فإنّ احتمال انطباق ما هو المعلوم عليه لا يخرجه عن كونه فعلاً مشكوكاً ، إذ لا معنى لاحتمال كونه هو المعلوم إلاّكونه مشكوكاً فعلاً.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الاستغناء عمّا أجاب الأُستاذ العراقي عن الشبهة في مقام العلم الاجمالي ، وعن الشبهة في الحادثين المسبوقين بالعدم - كما قرّرها في الكفاية (1) - بقوله في المقالة : ومن البديهي أنّ العلم الاجمالي لا يسري إلى طرفيه بخصوصياتهما أصلاً الخ (2) فإنّا لو سلّمنا السراية فإنّما هي فيما لو كان الانطباق معلوماً ، دون ما لو لم يكن في البين إلاّ احتمال الانطباق ، فإنّه لا يؤثّر في احتمال المعلومية ، فإنّ احتمال المعلومية ممّا لا يعقل تحقّقه ، لكون صفة العلم

ص: 186


1- كفاية الأُصول : 420.
2- مقالات الأُصول 2 : 421.

دائرة بين الوجود والعدم ، ولا يعقل فيها الاحتمال ، ولعلّ هذا هو مراده من عدم السراية.

وقد يورد على ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره من عدم سراية العلم من الماهية إلى أفرادها ، بأنّه موجب لسدّ باب الاستدلال بالشكل الأوّل ، إذ ليس ملاك الشكل الأوّل إلاّ أنّ العلم بالكبرى بعد العلم بالصغرى موجب للعلم بالنتيجة ، فيقال : إنّ العلم بكون كلّ متغيّر حادث بعد العلم بانطباق المتغيّر على العالم في قولنا العالم متغيّر ، يكون موجباً للعلم بأنّ العالم حادث ، فالعلم بحدوث العالم سرى إليه من العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث بعد العلم بانطباق المتغيّر على العالم.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ العلم بأنّ المتغيّر حادث لم يسر بنفسه إلى العلم بأنّ العالم حادث ، نعم بعد العلم بالكبرى والعلم بانطباق الأوسط على العالم يحصل لنا علم جديد بأنّ العالم حادث ، لا أنّ نفس العلم بأنّ المتغيّر حادث سرى بنفسه إلى العالم ، فلاحظ. هذا كلّه لو قرّرت الشبهة بما عرفت.

أمّا لو قرّرت بأحد النحوين السابقين فقد عرفت الجواب عنها ، وحاصله هو أنّك قد عرفت أنّ المدار في الاستصحاب على اليقين والشكّ في حال إجرائه ، لا على ما مضى قبل إجرائه أو قبل الالتفات ، [ وبه ] تعرف الجواب عن كلّ واحد من التقريبين.

أمّا الأوّل ، فلأنّ هذا الاناء وإن احتملنا أنّه هو الذي كنّا متيقّنين بطهارته يوم الأحد ، إلاّ أنّا فعلاً شاكّون في نجاسته يوم الأحد ، بحيث إنّا لو طهّرناه فعلاً أو نجّسناه لم يكن ذلك رافعاً لشكّنا الآن في نجاسته يوم الأحد.

وبالجملة : إنّه في يوم الاثنين يكون مشكوك النجاسة في يوم الأحد ، كما أنّه في يوم الاثنين متيقّن النجاسة يوم السبت ، وحينئذ يجري استصحاب نجاسته

ص: 187

من يوم السبت إلى يوم الأحد إلى يوم الاثنين ، ولا يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشكّ حاصلاً في يوم الأحد ، بل يكفي فيه تعلّق الشكّ الآن بيوم الأحد كيف ما كان حاله يوم الأحد من غفلة أو يقين بالطهارة أو يقين بالنجاسة ، ولا معنى للقول بأنّ اليقين السابق يحتمل أنّه قد انتقض ، لأنّ الانسان له في كلّ آن يقين وشكّ ، فيقينه الآن بنجاسة يوم السبت محكوم عليه بالمنع من نقضه بالشكّ في نجاسته يوم الأحد.

ومنه يظهر لك الجواب عن التقريب الثاني ، فإنّ الاناء في يوم الأحد سواء كان معلوم الطهارة في ذلك اليوم أو كان معلوم النجاسة في ذلك ، لا ينفعنا ولا يضرّنا في استصحاب نجاسته يوم الاثنين ، بل علينا أن ننظر يوم الاثنين إلى حاله يوم الأحد ، وهل نحن الآن - يعني يوم الاثنين - متيقّنون بنجاسته يوم الأحد أو شاكّون ، وحيث إنّنا الآن - يعني يوم الاثنين - شاكّون في نجاسته يوم الأحد ، كان علينا أن نجرّ اليقين بنجاسته من يوم السبت إلى يوم الأحد إلى يوم الاثنين.

والحاصل : أنّ المدار في اليقين والشكّ على حال الاستصحاب لا على ما مضى من يقين أو شكّ ، بل على اليقين الموجود حال إجراء الاستصحاب وإن لم يكن موجوداً فيما مضى ، بحيث إنّا لو كنّا في يوم الجمعة مسبوقين بسفر زيد ، والآن الذي هو يوم الجمعة مثلاً علمنا أنّه سافر يوم السبت الماضي ، وشككنا في رجوعه يوم الأحد الماضي ، فنحن في هذا الآن الذي هو الجمعة متيقّنون بسفره يوم السبت وشاكّون في رجوعه يوم الأحد ، سواء علمنا برجوعه فيما بعد الأحد وشككنا في تأخّره عن يوم الأحد أو لم نعلم برجوعه ، فاليقين بسفره والشكّ في بقائه على حالة السفر كلاهما حصلا دفعة واحدة يوم الجمعة ، ومع ذلك

ص: 188

نستصحب سفره من يوم السبت إلى ما بعد يوم الأحد ، فليس المراد من اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين هو كون الشكّ حادثاً لنا في الزمان الماضي المتّصل بزمان اليقين الماضي ، بل المراد أنّ الزمان الذي تعلّق به الشكّ الآن متّصل بالزمان الذي تعلّق به اليقين الآن ، وإن حصل الشكّ مقارناً لليقين ، بل قد حقّق في أوائل الاستصحاب (1) أنّه لابدّ فيه من كون الشكّ مقارناً لليقين في الزمان الذي يحصلان فيه ، وأنّه لو كان حصول الشكّ بعد حصول اليقين كان من قبيل قاعدة اليقين.

وحينئذ نقول : إنّ هذا الاناء الذي وضعنا اليد عليه نحن فعلاً متيقّنون بنجاسته يوم السبت ، وشاكّون في طهارته يوم الأحد ، فنحن الآن نجرّ نجاسته من يوم السبت إلى يوم الأحد وإن كنّا فعلاً في يوم الاثنين ، فواقع يوم الأحد - أعني حينما كنّا فيه - لم يكن حين وقوعه زمان شكّ في طهارته إلاّ أنّا فعلاً في الاثنين لا نعلم بطهارته في يوم الأحد.

وهذا هو الذي صرّح به قدس سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه في مقام الردّ على شبهة مطلب الكفاية بقوله : قلت قد ذكرنا مراراً أنّه لا يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ ، فلو شكّ في عدالة زيد يوم الجمعة ثمّ علم يوم السبت بعدالته يوم الخميس ، فلا ريب في جريان الاستصحاب ، كما أنّه لو حصل اليقين والشكّ في زمان واحد مع تقدّم زمان المتيقّن على المشكوك يجري الاستصحاب أيضاً الخ (2).

وبالجملة : إنّ حاصل الجواب هو أنّ العبرة باليقين والشكّ في حال

ص: 189


1- فوائد الأُصول 4 : 316.
2- أجود التقريرات 4 : 157.

الاستصحاب ، لا فيما مضى من اليقين الذي قد ارتفع بطروّ الشكّ فعلاً من جهة اشتباه الاناءين أو الدمين أو المتقدّم والمتأخّر من الحادثين ، فنسبة هذا الشكّ المتأخّر إلى اليقين الذي طرأ فيما مضى ، كنسبة الشكّ الساري إلى ذلك اليقين السابق الذي هو غير موجود فعلاً.

قوله : والحاصل أنّه فرق واضح بين العلم الاجمالي بطهارة أحد الاناءين وبين العلم التفصيلي بطهارة خصوص الاناء الشرقي ، فإنّ العلم بالطهارة في الأوّل إنّما يصير سبباً ... الخ (1).

حاصل هذا الفرق : هو أنّ الشكّ في طهارة كلّ من الاناءين ونجاسته في الصورة الأُولى مسبّب عن العلم الاجمالي ، وهو - أعني العلم الاجمالي - في الصورة الأُولى حاصل في يوم الأحد ، فيكون يوم الأحد الذي هو يوم الشكّ متّصلاً بيوم اليقين بنجاسة كلّ منهما الذي هو يوم السبت ، بخلاف الصورتين الأخيرتين ، فإنّ الشكّ في كلّ واحدة من الصورتين مسبّب عن اشتباه الاناءين اللذين علم في يوم الأحد بطهارة أحدهما تفصيلاً ونجاسة الآخر ، فيكون الشكّ حاصلاً في يوم الاثنين ، لأنّ سببه الذي هو اشتباه أحدهما بالآخر إنّما حصل في يوم الاثنين ، وحينئذ يكون يوم الأحد فاصلاً بين يوم اليقين الذي هو يوم السبت ويوم الشكّ الذي هو يوم الاثنين.

وفيه : أنّ هذا كلّه مسلّم ، إلاّ أنّ الشكّ في طهارة كلّ منهما يوم الاثنين لم يكن متعلّقه الذي هو الطهارة مظروفة ليوم الاثنين ، بل إنّ متعلّقه هو الطهارة يوم الأحد ، لأنّ حاصل شكّنا هو أنّا في يوم الاثنين شاكّون في طهارة هذا الاناء يوم

ص: 190


1- فوائد الأُصول 4 : 515.

الأحد فكان المشكوك لنا متّصلاً بزمان المتيقّن ، وإن كان اليقين والشكّ كلّ منهما في يوم الاثنين ، وليس المدار على حدوث الشكّ وإنّما المدار على متعلّقه.

قوله : وكذا الكلام في الدم المردّد بين كونه من البدن أو من البق ، فإنّه لا يجري فيه استصحاب النجاسة أيضاً ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لابدّ من كون المفروض أنّ هناك دماً من البق قد أخرجه من بدن إنسان ، ونشكّ في هذا الدم الذي على الثوب هل هو من ذلك الدم الذي من البق ، أو أنّه خرج ابتداءً من جسم الإنسان ، ليتمّ العلم الاجمالي بين ما طرأه الطهارة وما هو باقٍ على النجاسة ، ومنه يعلم أنّ هذا الفرع لا يترتّب على القول بنجاسة الدم في الباطن ، بل يمكن أن يتأتّى مع القول بطهارته ولكنّه ينجس بالخروج ، سواء أخرجه البق أو خرج بغير البق ، غايته أنّه لو أخرجه البقّ لو استقرّ في جوفه تطرؤه الطهارة ، وحينئذ فهذا الدم الذي على الثوب لو تردّد بين كونه ممّا علمنا أنّه قد طرأته الطهارة بعد الخروج وكونه ممّا علمنا أنّه لم تطرأه الطهارة ، فيكون أيضاً ممّا نحن فيه.

ولكن لا يخفى أنّ مطهّرية انتقال الدم من بدن الإنسان إلى جوف البق ليست على حذو مطهّرية بقاء الدم في الذبيحة بعد خروج الدم المسفوح منها ، فإنّ الدم الباقي في الذبيحة يكون تطهيره بالذبح وخروج الدم المسفوح على النحو المتعارف ، فيكون ذلك الدم الباقي هو بعينه الذي كان موجوداً قبل الذبح ، غايته أنّه طرأ عليه التطهير ، وحينئذ يجري الاستصحاب في الدم المردّد بين كونه من الباقي أو من المسفوح بناءً على ما قدّمناه.

ص: 191


1- فوائد الأُصول 4 : 517.

وهذا بخلاف الدم المردّد بين كونه من الإنسان أو من البق بعد أن كان كلّ من الدمين مسبوقاً بالنجاسة ، فإنّه لا يجري فيه استصحاب النجاسة السابقة على طروّ المطهّر وهو الانتقال إلى البق ، لأنّه على تقدير كونه من البق وأنّه تطهر عندما خرج من بدن الإنسان ودخل في جوف البقة على وجه صار يعدّ جزءاً منها ، لا يكون إلاّمن قبيل الاستحالة ، وحينئذ فمع التردّد المذكور لا يكون استصحاب النجاسة التي كانت متحقّقة له عندما كان في بدن الإنسان جارياً فيه ، لما عرفت من أنّه على تقدير كونه من البق يكون قد استحال من دم الإنسان إلى دم البق ، فهذا الدم المردّد لا يمكننا الحكم ببقاء نجاسته بالاستصحاب ، لأنّه حينئذ من قبيل عدم إحراز الموضوع ، فيكون عدم جريان الاستصحاب فيه من هذه الجهة ، لا من جهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ولعلّه لأجل ذلك أطلق في العروة قوله : فإذا رأى في ثوبه دماً لا يدري أنّه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بالطهارة (1) فإنه شامل لما إذا كان منه على تقدير كونه من البق ، مع أنّه ممّن يجري الاستصحاب في الدم المردّد بين المسفوح والمتخلّف ، فراجع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المستصحب هو الموضوع ، وهو كون هذا الدم الذي على الثوب دم إنسان وأنّه لم يتبدّل إلى دم البق ، بعد العلم بأنّ ما امتصّه البق قد تبدّل ، وحينئذ يشكل الأمر في إطلاق عبارة العروة ، خصوصاً في البرغوث الذي لا يكون دمه إلاّمن دم صاحب الثوب.

ثمّ لا يخفى أنّ الدم المردّد بين كونه من المسفوح أو من الباقي إنّما يجري

ص: 192


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 138 مسألة 7.

فيه استصحاب النجاسة على القول بنجاسة الدم في الباطن ، أمّا على القول بطهارته فالذي ينبغي جريانه في هذا الدم هو استصحاب الطهارة في قبال احتمال تنجّسه بصيرورته مسفوحاً. نعم لا أهميّة في هذا الاستصحاب ، لكونه على وفق قاعدة الطهارة ، فيكون الحكم في ذلك الدم هو الطهارة على كلّ حال.

ومن هذا القبيل ما لو تردّدت المرأة الحاضرة بين كونها هي تلك الأجنبية أو كونها هي زوجته المعلومة لديه ، فإنّ استصحاب كون هذه المرأة أجنبية وأنّه لم يعقد عليها لا أهميّة له ، لحرمة الإقدام عليها حتّى لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب استناداً إلى أصالة الحرمة في الفروج ، اللّهمّ إلاّ أن ننكر هذا الأصل وندّعي أنّ الابتلاء بمسألة الفروج غالباً يكون مقروناً بأصل موضوعي ينقّح موضوع الحرمة كما في هذه الصورة (1) ، وإلاّ فلو احتملنا حرمة بنت الجار مثلاً كانت أصالة حلّ نكاحها بمعنى العقد عليها جارية ، وقد نقل السيّد قدس سره في ربا العروة (2) عن صاحب الجواهر قدس سره (3) ما يظهر منه أوّلاً الاتّفاق على المنع من إجراء قاعدة [ الحل ] في موارد الشكّ في كون المرأة محرّمة نسباً ، هذا.

ولكن كثيراً ما يكون الجاري هو الأصل المنقّح للحل ، مثل ما لو شكّ في كون الارضاع خمساً موجباً للتحريم ، أو كون النظر من الأب الذي يعبّرون عنه بمنظورة الأب موجباً للتحريم.

ص: 193


1- هذه الصورة ذكرها الشيخ قدس سره في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة الرابعة من مسائل دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب [ منه قدس سره. راجع فرائد الأُصول 2 : 127 ].
2- العروة الوثقى 6 : 37 / مسألة 15.
3- جواهر الكلام 23 : 339 - 340.

قوله : وأمّا الشكّ في كلّ منهما بالاضافة إلى زمان حدوث الآخر فهو لا يحصل إلاّفي اليوم الثالث ، فإنّه ما لم يعلم بحدوث كلّ من الحادثين لا يكاد يحصل الشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، وموطن العلم بحدوث كلّ منهما إنّما يكون في اليوم الثالث ، والاستصحاب إنّما يتبع زمان الشكّ ، فاستصحاب عدم كلّ منهما في زمان الآخر إنّما يجري في اليوم الثالث أيضاً - إلى قوله - فاليوم الثاني يكون فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذه المقدّمة وهي أنّ الشكّ في حدوث كلّ منهما بالاضافة إلى زمان حدوث الآخر لا يحصل إلاّفي اليوم الثالث ، لو سلّمت لكانت نتيجتها هو إحراز عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما أفاده بقوله : فاليوم الثاني يكون فاصلاً بين زمان اليقين وزمان الشكّ ، ولأجل ذلك أجاب في التقريرات المطبوعة في صيدا عن هذه الشبهة بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ الخ (2).

ولا يخفى أنّه في التحريرات المذكورة قرّب الشبهة أوّلاً بما سيأتي بيانه ، وأجاب عنها بقوله : ولا يخفى عليك أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كانت قضية « لا تنقض » مسوقة لبيان المنع عن انتقاض المتيقّن بالمشكوك الخ (3) ، ثم قرّب الشبهة في قوله : فإن قلت الخ ، بهذا النحو المذكور في هذا التحرير ، وأجاب عنها بقوله :

ص: 194


1- فوائد الأُصول 4 : 518.
2- أجود التقريرات 4 : 157.
3- أجود التقريرات 4 : 151.

قلت قد ذكرنا مراراً أنّه لا يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان اليقين الخ (1).

ولا يخفى أنّ تقريب الشبهة بهذا التقريب هو عين تقريب الشبهة في الاناءين الشرقي والغربي ، وهذا الجواب المذكور بقوله : قلت ، يصلح للجواب عن الشبهة في الاناءين ، بل الظاهر أنّ الجواب عن الشبهة الأُولى في الحادثين وهو ما أُفيد بقوله : لا يخفى عليك أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان الخ ، صالح أيضاً للجواب عن شبهة عدم إحراز الاتّصال في الاناءين الشرقي والغربي ، فلاحظ وتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ شبهة صاحب الكفاية قدس سره (2) في الحادثين لا تكون نتيجتها عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، بل إنّ نتيجتها هي عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

وحاصل التقريب : هو أنّه بعد فرض كون مورد الأثر هو عدم أحدهما في زمان الآخر ، لابدّ أن يكون الآخر مفروض الوجود ، ليكون الموت مثلاً مشكوكاً فيه في زمان تحقّق الإسلام ، وكذلك الحال من ناحية العكس ، فإنّ الشكّ متعلّق بالإسلام في زمان الموت ، فلا يكون الشكّ في كلّ منهما متحقّقاً إلاّبعد تحقّق كلّ من الحادثين ، ويكون زمان الشكّ منحصراً بزمان العلم بتحقّقهما ، وذلك بعد اليوم الثالث فإنّه هو زمان العلم بتحقّقهما ، ويكون اليوم الثاني فاصلاً بين اليوم الأوّل الذي هو زمان اليقين بعدم كلّ منهما ، واليوم الثالث الذي هو زمان الشكّ في وجود كلّ منهما في زمان وجود الآخر.

والحاصل : أنّ الشكّ في وجود الموت في زمان الإسلام إنّما يكون بعد

ص: 195


1- أجود التقريرات 4 : 156 - 157.
2- كفاية الأُصول : 420.

فرض تحقّق الإسلام ، وهو - أعني تحقّق الإسلام - لا يكون إلاّفي اليوم الثالث ، فيكون اليوم الثاني فاصلاً بين اليوم الأوّل الذي هو زمان اليقين بعدم الموت ، وبين اليوم الثالث الذي هو الزمان الذي فيه يوجد الشكّ في وجود الموت في زمان تحقّق الإسلام. وهكذا الحال في ناحية الشكّ المتعلّق بوجود الإسلام في زمان الموت ، فإنّه أيضاً ينحصر بزمان العلم بتحقّق الموت ، إذ لا يكون الإسلام في زمان الموت مشكوكاً فيه إلاّفي ذلك الزمان.

والجواب عن هذا التقريب حينئذ : هو أنّ الشكّ في وجود كلّ منهما في زمان الآخر وإن لم يحصل إلاّبعد تحقّقهما ، وهو - أعني تحقّق الإسلام والموت - لا يكون إلاّفي اليوم الثالث ، إلاّ أنّ متعلّق هذا الشكّ وهو الموت في زمان الإسلام لمّا كان سابقاً على اليوم الثالث ، لأنّ زمان الإسلام سابق على اليوم الثالث ، وكان ذلك السابق متّصلاً بزمان اليقين لأنّ الزمان المحتمل وقوع الإسلام فيه مستمر من اليوم الأوّل إلى اليوم الثالث ، كان ذلك الاتّصال كافياً في جريان الاستصحاب وإن لم يكن ذلك الشكّ غير حاصل إلاّبعد اليوم الثالث ، فذلك نظير ما لو حصل له الشكّ الآن بطهارته في الساعة السابقة مع فرض مسبوقية تلك الساعة بالحدث.

والحاصل : أنّ المشكوك إذا كان متّصلاً بالمتيقّن ، وكان في هذا الحال متيقّناً فيما مضى على ذلك المشكوك وشاكّاً فيما لحقه ، كان ذلك كافياً في جريان الاستصحاب وفي تحقّق اتّصال الشكّ باليقين ، وإن كان حدوث كلّ من ذلك الشكّ وذلك اليقين في الزمان المتأخّر عن كلّ من المتيقّن والمشكوك ، فالعبرة حينئذ باتّصال المشكوك بما أنّه مشكوك بالمتيقّن بما أنّه متيقّن ، وإن كان كلّ من اليقين والشكّ حصلا دفعة واحدة بعد مضي زمان كلّ من المشكوك والمتيقّن.

أمّا ما أُفيد من الجواب عن الشبهة بأنّ زمان الإسلام لم يؤخذ قيداً في عدم

ص: 196

الموت وإنّما أخذ ظرفاً ، فالظاهر أنّه غير نافع ، فإنّ ذلك الإسلام وإن أخذناه ظرفاً ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه بأنّ زمان الشكّ هو زمان وجود الإسلام المفروض أنّه لم يتحقّق إلاّفي اليوم الثالث.

ولكن يمكن أنّ تقرّب الشبهة بنحو آخر لا تكون نتيجته إلاّكون المورد من باب عدم إحراز اتّصال الشكّ باليقين - لا من باب إحراز العدم - كما هو الظاهر من الكفاية وحاشيتها ، إذ لا ريب في أنّ روح هذه الشبهة راجعة إلى عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما هو مصرّح به في الكفاية وفي هذه التقريرات وفي التقريرات المطبوعة في صيدا (1). فالأولى حينئذ هو نقل نصّ عبارة حاشية صاحب الكفاية التي كتبها قدس سره على هذا المقام من الكفاية ، ليتّضح المراد من الشبهة المذكورة ، قال قدس سره : وإن شئت قلت : إنّ عدمه الأزلي المعلوم قبل الساعتين وإن كان في الساعة الأُولى منهما مشكوكاً ، إلاّ أنّه حسب الفرض ليس موضوعاً للحكم والأثر ، وإنّما الموضوع هو عدمه الخاصّ ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر المحتمل كونه الساعة الأُولى المتّصلة بزمان يقينه أو الثانية المنفصلة عنه ، فلم يحرز اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه ، ولابدّ منه في صدق « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانية لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر إلاّعلى الأصل المثبت فيما دار الأمر بين التقدّم والتأخّر ، فتدبّر (2).

ومراده أنّه إذا فرضنا أنّ اليقين بعدم كلّ من الإسلام والموت كان قبل الساعة الأُولى ، وكان قد علم بحدوث أحدهما في الساعة الأُولى وحدوث الآخر في الساعة الثانية ، وكان الأثر مترتّباً على عدم الموت في زمان الإسلام ، فأقصى ما

ص: 197


1- أجود التقريرات 4 : 153 - 154.
2- كفاية الأُصول : 420 ( الهامش ).

في البين هو أن نقول : إنّ حدوث الموت في زمان الإسلام مشكوك ، فنستصحب عدمه الذي كنّا متيقّنين به قبل الساعة الأُولى ، لكن حيث كان حدوث الإسلام مردّداً بين كونه في الساعة الأُولى وكونه في الساعة الثانية ، فذلك الزمان الواقعي للإسلام الذي فرضنا أنّه زمان الشكّ في الموت ، والذي أردنا أن نحكم بعدم الموت فيه بالاستصحاب ، إن كان هو الساعة الأُولى كان متّصلاً بزمان اليقين بعدم الموت ، لكنّه إن كان هو الساعة الثانية لم يكن متّصلاً بزمان اليقين بعدم الموت المفروض كونه قبل الساعة الأُولى ، فذلك الزمان الواقعي للإسلام لم نحرز اتّصاله بزمان اليقين بعدم الموت ، لاحتمال كونه هو الساعة الثانية ، فتكون الساعة الأُولى فاصلة بين زمان اليقين به الذي هو ما قبل الساعة الأُولى وزمان الشكّ فيه الذي هو الساعة الثانية ، وحينئذ فلم يبق بأيدينا إلاّ أن نأخذ عدم الموت مضافاً إلى نفس الزمان ، ونحكم بجرّه في عمود الزمان ممّا قبل الساعة الأُولى إلى الساعة الثانية التي هي زمان اليقين بكلّ منهما.

وهذا الاستصحاب وإن كان في حدّ نفسه صحيحاً ، إلاّ أنّه لا يترتّب عليه إلاّ الحكم بعدم الموت ممّا قبل الساعة الأُولى إلى حين العلم بتحقّقه ، وهذا لم يكن هو موضوع أثرنا ، وإنّما كان موضوع أثرنا هو عدم الموت في زمان الإسلام ، وذلك - وهو عدم الموت في زمان الإسلام - يكون لازماً لجرّ عدم الموت من زمان اليقين به إلى زمان اليقين بانتقاضه الذي هو زمان حدوث الموت ، وحينئذ لا يكون استصحابنا لعدم الموت إلى زمان اليقين بحدوث الموت نافعاً لنا إلاّعلى الأصل المثبت ، هذا حاصل توضيح ما أفاده قدس سره في هذه الحاشية في تقرير الشبهة.

وقد عرفت من هذا التوضيح أنّه ليس بصدد أخذ زمان الإسلام قيداً في الموت على نحو العنوان المنتزع الذي هو التقارن أو التقدّم والتأخّر ، كي يتوجّه

ص: 198

عليه ما أُفيد من أنّه خارج عن مفروض الكلام من عدم أخذ مثل هذه العناوين الانتزاعية فيما هو موضوع الحكم ، بل هو بصدد بيان أنّ الأثر فيما نحن فيه لم يكن مترتّباً على عدم الموت في عمود الزمان ، بل هو مترتّب على تحقّق عدمه في زمان خاصّ وهو زمان حدوث الإسلام ، مع فرض كون ذلك الزمان - أعني زمان الإسلام - لم يؤخذ إلاّظرفاً لعدم الموت ، لا أنّه مقيّد به.

وبالجملة : إنّ هذه الشبهة يكفي فيها أخذ زمان الإسلام ظرفاً لعدم الموت ، فإنّه يترتّب على ذلك أنّ ذلك الزمان الذي هو الزمان الواقعي للإسلام وإن كان الموت مشكوكاً فيه ، إلاّ أنّه - أعني ذلك الزمان الواقعي - لم يحرز اتّصاله بزمان اليقين بعدم الموت الذي كان قبل الساعة الأُولى ، لاحتمال كون ذلك الزمان الواقعي للإسلام المفروض كونه زمان الشكّ في الموت متأخّراً عن الساعة الأُولى وكونه هو الساعة الثانية ، فتكون الساعة الأُولى حينئذ فاصلة بين زمان اليقين بعدم الموت الذي هو قبل الساعة الأُولى وزمان الشكّ فيه الذي هو الساعة الثانية.

ولا يخفى أنّه على هذا التقدير - أعني تقدير كون زمان الإسلام هو الساعة الثانية - لا تكون المسألة من باب انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين ، بل من باب اليقين بالانتقاض ، فإنّا لو فرضنا انطباق ذلك الزمان الواقعي للإسلام على الساعة الثانية ، بمعنى أنّا فرضناه أنّه هو المتأخّر ، كان انتقاض اليقين بعدم الموت فيه محقّقاً.

وبالجملة : لو كان زمان الإسلام منطبقاً على الساعة الأُولى كان عدم الموت فيه متيقّناً ، ولم يكن من اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وإن كان زمان الإسلام منطبقاً على الساعة الثانية كان الموت فيه محقّقاً ، ولم يكن من قبيل انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين ، فتكون المسألة من باب احتمال انتقاض اليقين باليقين لا

ص: 199

من باب احتمال الانفصال ، ويكون حال هذه الشبهة في هذا المقام حال الشبهة في العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأطراف ، والجواب عنها في المقام هو الجواب عنها في ذلك المقام.

وإن أمكن الجواب عنها في خصوص هذا المقام بأن يقال : إنّ محلّ الكلام في الحادثين المسبوقين بالعدم مع فرض الشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فيكون لنا حينئذ شكّان أحدهما الشكّ في أنّ الموت هل هو موجود في زمان الإسلام أو لا ، والشكّ الثاني هو أنّ الإسلام هل هو موجود في زمان الموت أو لا ، ونحن إذا أردنا أن نجري الاستصحاب في أحد هذين الحادثين لابدّ أن نجريه بالقياس إلى الشكّ الذي هو في ناحيته ، دون الشكّ الذي هو في ناحية الآخر فنقول :

إذا أردنا أن نجري الاستصحاب في عدم الموت إلى زمان حدوث الإسلام يكون منظورنا هو نفس [ كون ] عدم الموت باقياً في عمود الزمان إلى زمان حدوث الإسلام ، أمّا كون زمان الإسلام نفسه مشكوكاً ومردّداً بين كونه الساعة الأُولى أو الساعة الثانية ، فذلك إنّما هو في ناحية استصحاب عدم الإسلام لا في ناحية استصحاب عدم الموت.

وبالجملة : إنّ كون زمان الإسلام مردّداً إنّما هو مولّد للشكّ في حدوثه في الساعة الأُولى الذي يكون موجباً لجريان الاستصحاب في عدمه ، ونحن في هذه المرتبة - أعني مرتبة إجراء استصحاب العدم في الموت إلى زمان الإسلام - لا ننظر إلى زمان الإسلام مردّداً ومشكوكاً ، بل ننظر إليه مفروض التحقّق في الواقع في زمانه الذي وقع وحدث فيه ، ونقول : إنّ عدم الموت مشكوك إلى ذلك الزمان ، فنجرّ عدم الموت الذي كنّا متيقّنين به قبل الساعة الأُولى إلى ذلك الزمان

ص: 200

الواقعي الذي حدث فيه الإسلام.

وإن شئت قلت : إنّ التردّد في زمان الإسلام بين كونه هو الساعة الأُولى وكونه هو الساعة الثانية في حدّ نفسه لا يضرّ في جرّ عدم الموت إليه ، ولا يكون بينه وبين زمان اليقين بعدم الموت فاصل زماني ، لأنّ وقوع الإسلام في الساعة الثانية في حدّ نفسه لا يوجب كون الساعة الأُولى فاصلة ، لإمكان كون الساعة الأُولى هي زمان شكّ أيضاً بالنسبة إلى حدوث الموت ، كما إذا فرضنا أنّ الموت لم يكن معلوم الحدوث أصلاً وأردنا أن نستصحب عدمه إلى ما بعد الإسلام ، وكان زمان الإسلام مردّداً بين الساعة الأُولى والثانية ، وإنّما جاءت الشبهة من ناحية أنّ تحقّق الإسلام في الساعة الثانية يوجب كون الموت سابقاً عليه وكونه واقعاً في الساعة الأُولى ، وبهذه الواسطة لا يكون زمان الشكّ في الموت الذي هو زمان تحقّق الإسلام متّصلاً بزمان اليقين بعدم الموت ، وحينئذ فتنتهي المسألة إلى أنّا نحتمل أنّ الموت الذي تعلّق به يقيننا فعلاً كان سابقاً على الإسلام ، فيكون يقيننا بعدم الموت منتقضاً في الواقع بحدوث الموت المفروض كونه متيقّناً لنا فعلاً ، وهذا جارٍ في كلّ مستصحب حصل اليقين بوجوده وشكّ في مبدأ حدوثه.

وحاصل الشبهة : أنّا لا يمكننا أن نجرّ عدم الموت ممّا قبل الساعة الأُولى إلى ما بعد زمان الإسلام ، لأنّا نحتمل أنّ الإسلام كان هو آخر الحادثين ، وعلى تقدير كونه هو الحادث الأخير يكون الموت واقعاً فيما قبله من الزمان ، ويكون ذلك الزمان فاصلاً بين زمان اليقين بعدم الموت وبين زمان الشكّ فيه.

ولا يخفى ما فيه ، لأنّا فعلاً بالوجدان شاكّون في بقاء عدم الموت من أوّل الآن الأوّل إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا نحتمل تأخّر الموت عن الإسلام ، فنحن الآن إذا نظرنا إلى كلّ آن من تلك الآنات إلى ما هو الزمان الواقعي

ص: 201

للإسلام ، نكون شاكّين في وقوع الموت فيه ، ولا يضرّ في ذلك احتمال كون الإسلام هو آخر الحادثين الملازم لكون الموت سابقاً عليه وواقعاً في الآنات التي هي قبله ، لأنّ ذلك الشكّ والاحتمال إنّما هو في ناحية نفس الإسلام باعتبار جريان الاستصحاب فيه بعين التقريب الذي أجريناه في عدم الموت.

وبالجملة : لو فرضنا أنّ لنا أصلاً تعبّدياً أو عقلائياً مؤدّاه هو البناء على عدم التقدّم ، وشككنا في تقدّم كلّ من الموت والإسلام على طرفه ، وأردنا أن نقول الأصل عدم تقدّم الموت على الإسلام ، فإنّ هذا الأصل لا يمنع من جريانه احتمال كون الإسلام متأخّراً عنه ، لأنّ هذا الاحتمال إنّما هو موجب لجريان الأصل المذكور في ناحيته ، لا أنّه يكون موجباً لعدم جريانه في طرفه الذي هو الموت.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّا لمّا احتملنا تأخّر الموت عن الإسلام ، كان كلّ واحد من الآنات السابقة على الإسلام ممّا يشكّ فيه في تحقّق الموت ، وتلك الآنات متّصلة بزمان اليقين بعدم الموت ، وحينئذ نحكم بجرّ ذلك المتيقّن إلى زمان الإسلام ، ونحكم ببقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ، وبذلك يتحقّق عندنا ما هو موضوع الإرث وهو عدم الموت في زمان الإسلام ، أمّا كون الإسلام ممّا يحتمل أن يكون هو الحادث الأخير ، بحيث يكون الموت سابقاً عليه ، ويكون موجباً لاحتمال انتقاض اليقين بعدم الموت في تلك الآنات ، فذلك لا يضرّ بالاتّصال الوجداني الذي كان بين شكّنا ويقيننا ، لأنّا في هذه المرحلة لا ننظر إلاّ إلى نفس عدم الموت إلى زمان الإسلام على ما هو عليه ، وأنّ ذلك الاحتمال إنّما يكون مولّداً لنفس هذه العملية في استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد الموت.

نعم ، لو لم يكن لنا إلاّ استصحاب واحد عدمي نجريه دفعة في الآنين

ص: 202

اللذين علمنا بوقوع أحد الحادثين في أحدهما والآخر في الآخر ، لتمّ ما ذكر من الشبهة ، لكن فرض الكلام أنّ لكلّ حادث من هذين الحادثين أصلاً برأسه.

وتقريب الشبهة بنحو أوضح وأخصر : هو أن نفرض لنا ثلاثة آنات لا فاصل بينها ، ففي الآن الأوّل كان اليقين بعدم كلّ منهما ، وفي الآن الثاني كان قد تحقّق أحد الحادثين ، وفي الآن الثالث بلا فاصل تحقّق الحادث الآخر ، ونحن إذا أردنا أن نجرّ عدم الموت إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، نحتمل أنّه قد كان في الآن الثالث ، فيكون الآن الثاني فاصلاً بين آن اليقين بعدم الموت وآن الشكّ فيه.

وفيه أوّلاً : أنّ الفصل بالآن الثاني لا يكون مضرّاً إلاّمن جهة الملازمة بين تأخّر الإسلام إلى الآن الثالث وبين وقوع الموت في الآن الثاني ، فلا يكون المانع في الحقيقة هو مجرّد كون الآن الثاني فاصلاً حتّى لو كان الآن الثاني ممّا يشكّ في وقوع الموت فيه ، بل المانع في الحقيقة هو احتمال كون الموت المتيقّن الوقوع واقعاً في الآن الثاني ، ومن الواضح أنّ هذا جارٍ في كلّ مستصحب علم بوقوعه وشكّ في مبدأ حدوثه ، وحينئذ يتأتّى هذا الإشكال فيما لو أُضيف الحادث وهو الموت إلى نفس الزمان لا إلى الحادث الآخر ، وقد اعترف قدس سره بعدم جريان الإشكال فيه.

وثانياً : بالحل ، وهو أن يقال : إنّ ذلك الاحتمال لا يمنع من الاستصحاب بالنظر إلى نفس عدم الموت وجرّه من الآن الأوّل إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا فعلاً شاكّون في تحقّق الموت من الآن الأوّل إلى ذلك الآن الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، وبذلك نحرز عدم الموت في الآن الذي وقع فيه الإسلام ، لأنّا في حال استصحاب عدم الموت إلى آن الإسلام لا ننظر إلى الإسلام مفروض

ص: 203

الوقوع في الآن الثاني تارةً وفي الآن الثالث أُخرى ، لأنّ النظر إليه بهذين الحالين يوجب خروج المورد عن الشكّ في تحقّق الموت ، بل يكون الموت على الأوّل مقطوع العدم وعلى الثاني مقطوع الوجود ، بل لابدّ لنا في حال إجرائنا الاستصحاب في ناحية عدم الموت في زمان الإسلام من النظر إلى نفس الزمان الواقعي الذي وقع فيه الإسلام على ما هو عليه من التردّد ، غير ناظرين إلى كلّ واحد من شقّي الترديد ، لأنّ هذا الترديد هو الذي يكون مولّداً لنا للشكّ في تحقّق الموت في زمانه الواقعي ، ومن الواضح أنّه لا معنى لأخذ كلّ من طرفي الشكّ في مجرى الاستصحاب.

ومن تقرير الشبهة وجوابها في هذه الصورة يتّضح تقريرها وجوابها فيما لو احتملنا المقارنة بينهما ، فإنّه أيضاً تتأتّى فيه الشبهة المذكورة ، بأن يقال : إنّا نحتمل كون الإسلام متأخّراً عن الموت ، ومع هذا الاحتمال لا يكون من قبيل إحراز الاتّصال ، ويقال أيضاً في جوابها : إنّ هذا الاحتمال لا يمنع من جريان الاستصحاب بعد فرض الشكّ في تحقّق الموت في الآن الذي وقع فيه الإسلام على ما هو عليه من التردّد بين الآنين.

وربما يقرّر الإشكال في المقام بنحو آخر غير شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ومرجع ذلك إلى دعوى أنّ العرف لا يعدّ الشكّ في المقام من قبيل الشكّ في بقاء العدم ، للعلم بانتقاض العدم في كلّ من الموت والإسلام ، بل لا يعدّ العرف هذا الشكّ إلاّشكّاً في التقدّم والتأخّر.

وفيه : أنّ العرف إنّما لا يرونه شكّاً في البقاء من جهة لحاظ حال يوم الاثنين الذي يحصل القطع فيه بانتقاض كلّ من العدمين ، ولكنّهم لو نظروا إلى الموت بالقياس إلى زمان الإسلام لكان من قبيل الشكّ في البقاء [ وليس مثل ] ما نحن فيه

ص: 204

من هذه الجهة إلاّكمثل من كان على وضوء من الصبح ثمّ صلّى ثمّ أحدث ، ثمّ شكّ في بقاء وضوئه إلى حين صلاته ، فهو في حالته الفعلية قاطع بانتقاض وضوئه ، لكنّه بالقياس إلى حالته عند الصلاة يشكّ في بقاء وضوئه ، فيستصحبه إلى حين الصلاة.

وبالجملة : أنّ المقام في حال يوم الاثنين وإن كان من قبيل الشكّ في التقدّم والتأخّر ، لكنّه بالقياس إلى حاله من يوم السبت إلى اليوم الواقعي للإسلام شاكّ في بقاء عدم الموت ، وحينئذ يكون ذلك الشكّ في التقدّم والتأخّر مانحاً للشكّ في بقاء عدم الموت إلى حين الإسلام. وهكذا من طرف العكس ، فالعرف لو سألناهم عن الحالة من يوم الشكّ إلى اليوم الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، لقالوا : إنّ الشكّ فيه من قبيل الشكّ في البقاء ، ومركز استصحابنا هو هذه الجهة من الشكّ التي هي وليدة الشكّ في التقدّم والتأخّر.

وقد يقرّب هذا الوجه العرفي بنحو آخر لا يخلو عن دقّة ، وذلك بأن يقال : إنّ الشكّ في اقتران الإسلام مثلاً بعدم الموت ، تارةً يكون منشؤه وسببه ممحّضاً في امتداد عدم الموت واستمراره إليه ، بحيث إنّا باستصحاب عدم الموت إليه نكون قد زدنا على ما علمناه من بقاء عدم الموت الذي كان معلوماً لدينا أنّه مستمر إلى يوم السبت ، فباستصحاب العدم المذكور الذي هو عبارة عن استصحاب الحياة إلى الزمان المعيّن الذي وقع فيه الإسلام الذي هو يوم الاثنين مثلاً ، نكون قد زدنا في حياة الأب وعدم موته ، وحكمنا بامتداده زائداً على يوم السبت بيومين.

وأُخرى يكون السبب والمنشأ في شكّنا في اقتران الإسلام بعدم الموت وحياة الأب ممحّضاً في الشكّ في تقدّم الإسلام وقصر خط بقاء عدمه ، بأن علمنا

ص: 205

بموت الأب في يوم الاثنين مثلاً ، وحصل الشكّ لنا في إسلام الابن وأنّه هل كان متقدّماً على يوم الاثنين فقد قصر خط بقاء عدمه ، أو أنّه لم يقع إلاّبعد يوم الاثنين فقد طال خط بقاء عدمه.

وفي هذه الصورة لا محصّل للحكم ببقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ، إذ لا شكّ لنا في خط عدم الموت وفي امتداده وعدم امتداده ، وإنّما كان الشكّ في قصر خط عدم الإسلام وامتداده المعبّر عنه بأنّه هل وقع قبل زمان الموت الذي هو يوم الاثنين أو بعده ، بخلاف الصورة الأُولى فإنّها هي مورد الاستصحاب لعدم الموت والشكّ في طول خطّه وقصره المعبّر عنه بالشكّ في امتداد عدم الموت ، أمّا لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ فقد اجتمع فيه السببان للشكّ المذكور ، والعرف لا يرون المسألة من قبيل الشكّ في الامتداد ، فإنّهم لا يرونها من قبيل الشكّ في امتداد الحياة وعدم الموت ، بل يرونها من قبيل الشكّ في تقدّم الإسلام على الموت وعدم تقدّمه ، هذا ملخّص ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في درسه على ما حرّرته عنه ، وإن كان نفس ما حرّرته عنه غير خال عن الإجمال ، إلاّ أنّ شرحه وإيضاحه هو هذا الذي حرّرناه الآن.

وأنت بهذا الشرح والإيضاح تقدر على الجواب عنه ، فإنّا عندما يكون الحادثان مجهولي التاريخ نأخذ الإسلام بوجوده الواقعي في ذلك الزمان الواقعي ، وننسب إليه [ عدم ] الموت ونراه هل امتدّ إلى ذلك الزمان الواقعي الذي وقع فيه الإسلام ، بحيث إنّ خطّ الحياة وعدم الموت قد طال واستمرّ إلى ذلك الزمان الواقعي للإسلام ، أو أنّه قد قصر عنه ولم يستمرّ إليه. نعم إنّ نظرنا إلى الإسلام في هذه المرحلة من النسبة - أعني نسبة الموت إليه - خال من الشكّ في قصر خط عدمه ، وإن كان هو في الواقع كذلك ، إلاّ أنّا في نسبة الموت إليه لا ننظره إلاّ

ص: 206

مستقرّاً في زمانه الواقعي ثابتاً فيه ، ويتوجّه شكّنا في هذه المرحلة إلى محض قصر خط الحياة وطوله الذي هو عبارة أُخرى عن الشكّ في تقدّمه على ذلك الزمان الواقعي للإسلام وتأخّره عنه ، وهكذا الحال في نسبة [ عدم ] الإسلام إلى الموت.

والحاصل : أنّ الشكّ في كلّ ما هو مجهول التاريخ بالقياس إلى طرفه لا يكون إلاّشكّاً في طول خط عدمه وقصره بالقياس إلى الآخر ، وإذا كان كلّ منهما مجهول التاريخ يكون خط [ عدم ] كلّ منهما بالقياس إلى الآخر مردّداً بين الطول والقصر المعبّر عنه بالامتداد والاستمرار إلى وجود الآخر ، ولازم ذلك جريان استصحاب العدم في كلّ منهما إلى الزمان الواقعي للآخر. ولا محصّل لأخذ الشكّ في طول خط أحدهما وقصره ملاحظاً في الآخر ، بل كلّ منهما يكون الشكّ فيه ملحوظاً بحدّ نفسه إلى طرفه.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في امتداد [ عدم ] كلّ منهما إلى الزمان الذي وقع فيه الآخر هو عبارة أُخرى عن الشكّ في تقدّمه عليه وتأخّره عنه ، فإنّ الشكّ في امتداد الحياة وعدم الموت إلى الزمان الذي وقع فيه الإسلام إنّما يكون ناشئاً أو مقارناً للشكّ في تقدّم الموت على الإسلام ، لا أنّه عين الشكّ في تقدّم الموت ، ونحن في حال استصحابنا الحياة وعدم الموت إلى حين الإسلام لا ننظر إلاّ إلى نفس الحياة وعدم الموت ، وهل هي ممتدّة إلى الإسلام أو غير ممتدّة ، ونظرنا في هذه المرحلة إلى الإسلام ليست نظرة شكّ في امتداد [ عدمه ] أو تقدّمه وتأخّره ، بل لا ننظر إليه إلاّكونه متحقّقاً وموجوداً في زمانه الواقعي لا يزول عنه ولا يحول ، كما أنّ نظرنا في حال استصحاب عدم الإسلام إلى حين الموت يكون على العكس من هذا النظر ، ولا يعقل أن نكون في حال نظرنا إلى الحياة وأنّها هل هي

ص: 207

ممتدّة إلى الإسلام ناظرين إلى الإسلام ، وأنّه هل هو ممتد العدم إلى حين الموت.

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة نقلها عنه السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) في الحقائق (1) في مسألة الحادثين اللذين يراد استصحاب عدم أحدهما في زمان الآخر ، وقال في ص 507 : وهذه الشبهة في غاية المتانة ، وكفى بها مانعاً من جريانه في المقام لإثبات عدم أحد الحادثين إلى زمان حدوث الآخر إجمالاً (2) ثمّ نقلها عنه في الحادثين المترافعين اللذين يراد استصحاب كلّ منهما مثل الحدث والوضوء ، وضعّفها بقوله : وفيه أنّ مرجع الشكّ في الامتداد إلى احتمال كلّ الخ (3) ، كما أنّه نقلها عنه في المستمسك في تعاقب مثل الحدث والوضوء ، وضعّفها بقوله : وفيه أنّه لا ريب في حصول الشكّ في امتداد الخ (4). والظاهر أنّها إنّما تتأتّى في الحادثين المراد استصحاب عدم كلّ منهما ، مثل موت المورّث وإسلام الوارث ، ولا تجري في مثل الوضوء والحدث ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأُستاذ العراقي قدس سره قد تعرّض في مقالته (5) للشبهة في مثل موت المورّث وإسلام الوارث ، وقرّرها بنحو آخر نقلناه عنه في هذه الأوراق الآتية رقم 15 (6) فلاحظ.

ص: 208


1- حقائق الأُصول 2 : 506.
2- حقائق الأُصول 2 : 507.
3- حقائق الأُصول 2 : 511.
4- مستمسك العروة الوثقى 2 : 499.
5- مقالات الأُصول 2 : 421 - 422.
6- [ لم نعثر على هذا الذي أشار قدس سره إليه ، ولعلّه كان ضمن السقط في عبارته الآتية في الصفحة : 232 فلاحظ ].

قوله : وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة ... الخ (1).

جعل هذين المثالين من توارد جريان أصالة العدم لا يخلو عن تأمّل ، فإنّه وإن أمكن إجراء عدم الوضوء إلى ما بعد الحدث ، وإجراء عدم الحدث إلى ما بعد الوضوء ، إلاّ أنّه سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى أنّه لا يترتّب أثر على هذا الأصل إلاّ على الأصل المثبت ، وأنّ الأصل في مثل ذلك ينحصر بالاستصحاب الوجودي لكلّ من الوضوء - أعني الطهارة - والحدث.

قوله : وذلك في كلّ مقام كان الشكّ في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشكّ في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر الخ. وكذا قوله في آخر هذه المسألة : فإنّ الشكّ في تلك المسألة ( يعني مسألة إسلام الوارث وموت المورّث ) إنّما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث إنّما يكون في البقاء ... الخ (3).

ليس مراده بذلك هو الفرق بين المسألتين بمجرّد أنّ تلك المسألة - يعني إسلام الوارث وموت المورّث - كان الشكّ فيها في الحدوث ، وهذه المسألة - يعني مسألة الطهارة والحدث - كان الشكّ فيها في البقاء ، وذلك لما هو واضح من إمكان عقد تلك المسألة للشكّ في البقاء ، بأن يكون المشكوك هو بقاء كفر الوارث وحياة المورّث ، كإمكان عقد هذه المسألة للشكّ في الحدوث ، بأن يكون المشكوك هو حدوث الوضوء بعد تحقّق الحدث ، أو حدوث الحدث بعد تحقّق

ص: 209


1- فوائد الأُصول 4 : 521.
2- فوائد الأُصول 4 : 525.
3- فوائد الأُصول 4 : 522 - 524 ، 525.

الوضوء.

بل المراد هو أنّ الشكّ في هذه المسألة ممحّض للشكّ في بقاء كلّ من الحادثين بعد فرض حدوثه ، وتلك المسألة لم يكن الشكّ فيها في بقاء أحد الحادثين ، بل كان إمّا للشكّ في بقاء الأمر السابق أو عدم حدوث الأمر اللاحق منهما ، نعم التعبير بقوله في هذه المسألة : كان الشكّ في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا يخلو من خلل ، فإنّ الشكّ في بقاء الطهارة من الحدث لم يكن واقعاً في زمان حدوث الحدث ، وهكذا من ناحية العكس ، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

والأولى في الفرق بين المسألتين هو ما أفاده قدس سره فيما حرّرته عنه : من أنّ محصّل تلك المسألة هو كون مجرى الأصل أحد جزأي الموضوع المركّب ، أعني إسلام الوارث وعدم موت المورّث ، أو موت المورّث وعدم إسلام الوارث ، فيكون كلّ واحد من الحادثين فيها جزءاً من الموضوع المركّب ولو باعتبار عدمه ، بخلاف هذه المسألة فإنّ كلّ واحد من الحادثين فيها يكون رافعاً للآخر ، فإنّ كلاً من الحدث والوضوء لو كان هو المتأخّر لكان رافعاً للآخر المتقدّم عليه ، وهكذا الحال في مسألة الطهارة والنجاسة.

وحاصل الفرق بين المسائل الثلاث : أنّ المسألة الأُولى - وهي مسألة إسلام الوارث وموت المورّث - يكون المستصحب فيها جزءاً من موضوع الأثر الشرعي. والمسألة الثانية يكون كلّ من المستصحبين موضوعاً مستقلاً للحكم الشرعي لكن يكون كلّ من الحادثين رافعاً لأثر الحادث الآخر. والمسألة الثالثة - وهي مسألة الكرّية والملاقاة - يكون أحدهما وهو الكرّية رافعاً لأثر الآخر وهو الملاقاة دون العكس ، مع كون كلّ منهما موضوعاً مستقلاً للحكم الشرعي

ص: 210

كالمسألة الثانية.

ويمكن أن يقال : إنّ مسألة الكرّية والملاقاة لا تخرج عن أمثلة إسلام الوارث وموت المورّث ، فإنّ بقاء الكرّية يكون مانعاً من ترتّب الأثر على الملاقاة كما أنّ بقاء كفر الوارث يكون مانعاً من ترتّب الأثر على موت المورّث ، وحينئذ ينحصر الفرق بينهما بترتّب الأثر على كلّ من الأصلين ، فيجري في كلّ منهما أو في خصوص أحد الطرفين ، فيجري فيه دون الطرف الآخر ، أو أنّه لا أثر للأصل في كلّ من الطرفين فلا يجري في كلّ منهما ، والمدّعى هو أنّه في مسألة الكرّية والملاقاة لا يترتّب الأثر على شيء من الأصلين ، فلا يجري في كلّ من الطرفين بخلاف مسائل إسلام الوارث وموت المورّث.

قوله : فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشكّ وبقاء الحدث أيضاً إلى زمان الشكّ ، فلو كان زمان الشكّ في تقدّم الحدث على الوضوء وتأخّره عنه هو أوّل الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه (1).

قد يتوهّم الإشكال عليه بأنّه لا معنى لاستصحاب الحدث إلاّ استصحاب عدم الوضوء بعده ، والمفروض أنّ الوضوء فيما نحن فيه معلوم التاريخ ، وقد تقدّم أنّ أصالة العدم لا تجري فيما هو معلوم التاريخ.

والجواب عن هذا التوهّم واضح ، أمّا أوّلاً : فللمنع عن كون معنى استصحاب الحدث هو استصحاب عدم الوضوء بعده ، بل إنّ استصحاب الحدث استصحاب وجودي مستقل ، لا يرجع إلى استصحاب عدم وقوع الوضوء بعده.

وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا كون استصحاب الحدث هو عبارة أُخرى عن

ص: 211


1- فوائد الأُصول 4 : 524.

استصحاب عدم الوضوء بعده ، إلاّ أنّه ليس هو عبارة عن استصحاب عدم ذلك الوضوء الذي كان قد تيقّن بتحقّقه أوّل النهار ، بل هو عبارة عن استصحاب عدم الوضوء الكلّي بعد الحدث ، فإنّ الأمر فيما هو المفروض وإن كان انحصار الوضوء المحتمل بالوضوء الذي كان قد وقع أوّل النهار ، إذ لا يحتمل المكلّف أنّه توضّأ وضوءاً آخر غير ذلك الوضوء ، إلاّ أنّ ذلك الانحصار الاتّفاقي فيما نحن فيه لا يوجب أن يكون المراد من استصحاب الحدث الراجع إلى استصحاب عدم الوضوء هو استصحاب عدم ذلك الوضوء الواقع أوّل النهار ، بل أقصى ما فيه هو أن يكون المراد من استصحاب الحدث استصحاب عدم تحقّق كلّي الوضوء بعد ذلك الحدث ، لا استصحاب عدم وقوع خصوص ذلك الوضوء الواقع أوّل النهار.

قوله : ودعوى عدم اتّصال زمان الشكّ في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين قد عرفت ضعفها ... الخ (1).

ظاهره أنّ شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين جارية فيما لو كان أحد الحادثين معلوم التاريخ كالوضوء وكان الآخر وهو الحدث مجهول التاريخ ، فإنّها تجري فيما هو مجهول التاريخ وإن لم تكن جارية فيما هو معلوم التاريخ ، وقد صرّح بذلك المرحوم السيّد قدس سره في العروة ، فإنّه قال : وإن علم الأمرين وشكّ في المتأخّر منهما ، بنى على أنّه محدث إذا جهل تاريخهما أو جهل تاريخ الوضوء ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الوضوء بنى على بقائه ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتّى يعارضه ، لعدم اتّصال الشكّ باليقين به حتّى يحكم ببقائه ، والأمر في صورة جهلهما أو جهل تاريخ الوضوء وإن كان

ص: 212


1- فوائد الأُصول 4 : 524.

كذلك ، إلاّ أنّ مقتضى شرطية الوضوء وجوب إحرازه ، ولكن الأحوط الوضوء في هذه الصورة أيضاً (1) فإنّه يعلم من قوله : إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الوضوء بنى على بقائه ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتّى يعارضه لعدم اتّصال ( زمان ) الشكّ باليقين الخ ، أنّ شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين جارية فيما هو مجهول التاريخ ، وإن كان طرفه الآخر معلوم التاريخ.

وبالجملة : أنّ ظاهر هذه الكلمات أنّ هذه الشبهة جارية في كلّ ما هو مجهول التاريخ ، سواء كان طرفه الآخر مجهول التاريخ أيضاً أو كان طرفه الآخر [ معلوم ] التاريخ ، لكن يتوجّه عليه حينئذ أنّه في صورة كون الحدث معلوم التاريخ والوضوء مجهول التاريخ ينبغي الحكم عليه بأنّه محدث ، فيلزمه الوضوء من باب أنّه محدث لا من باب لزوم إحراز الشرط ، وحينئذ فالحكم بلزوم الوضوء من باب لزوم إحراز الشرط ينحصر بما لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ ، فإنّه لا يمكن الحكم عليه بأنّه محدث ، كما لا يمكن الحكم عليه بأنّه متطهّر ، لعدم جريان الاستصحاب في كلّ من هذين الحادثين حينئذ ، ففيما لو كان الحدث مانعاً كما في مسّ كتابة القرآن ، ينبغي الحكم بجوازه استناداً إلى أصالة البراءة ، وفيما كان الوضوء شرطاً يلزمه الاحتياط بالوضوء إحرازاً للشرط ، كما في الإقدام على الصلاة مثلاً. أمّا لو كان الوضوء معلوم التاريخ فإنّه محكوم بأنّه محرز للطهارة ، لجريان استصحاب الوضوء وعدم جريان استصحاب الحدث ، وكذلك ما لو كان الحدث معلوم التاريخ فإنّه محكوم بأنّه محدث ، لجريان استصحاب الحدث وعدم جريان استصحاب الوضوء ، وليس هذا الأخير من باب لزوم إحراز

ص: 213


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 445 - 447 / مسألة (37) من شرائط الوضوء.

الشرط ، ولأجل ذلك علّق بعض أجلّة العصر (1) على قوله : والأمر في صورة جهلهما أو جهل تاريخ الوضوء وإن كان كذلك الخ ما نصّه : في صورة الجهل بتاريخ الوضوء لا مانع من استصحاب الحدث.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من هذه الكلمات هو جريان هذه الشبهة في صورة استصحاب الحادث المجهول التاريخ ، وإن كان الحادث الآخر معلوم التاريخ ، لكن الذي يظهر من الكفاية هو اختصاصها بصورة كونهما معاً مجهولي التاريخ ، فإنّه قال : كما انقدح أنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً فيما إذا تعاقب حالتان متضادّتان كالطهارة والنجاسة ، وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما للشكّ في المقدّم والمؤخّر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ في ثبوتهما وتردّدها بين الحالتين ، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم (2).

فإنّ قوله : لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ الخ ، يعطي أنّ هذه الشبهة مختصّة بما كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ ، حيث إنّه حينئذ لا تكون حالته السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكّ محرزة ، بخلاف ما لو كان أحدهما معلوم التاريخ فإنّ حالته السابقة تكون حينئذ معلومة.

وأمّا ما أفاده قبل هذا في الحادثين الذي يراد استصحاب العدم في كلّ منهما بقوله : وإمّا يكون مترتّباً على عدمه الذي هو مفاد ليس التامّة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جارياً ، لاتّصال زمان

ص: 214


1- وهو السيّد أبو الحسن الأصفهاني رحمه اللّه. راجع المصدر المتقدّم.
2- كفاية الأُصول : 421 - 422.

شكّه بزمان يقينه ، دون معلومه لانتفاء الشكّ فيه في زمانٍ الخ (1) فليس هو في مقام لحاظ أحد الحادثين بالقياس إلى الحادث الآخر ، بل إنّما هو بلحاظ أحد الحادثين بالقياس إلى زمان الآخر.

وكيف كان ، فالذي يظهر من جميع هذه الكلمات أنّ شبهة عدم الاتّصال فيما نحن فيه لا تجري في استصحاب ما هو معلوم التاريخ ، وإنّما تجري في خصوص استصحاب ما هو مجهول التاريخ ، إمّا مطلقاً وإن كان طرفه الآخر معلوم التاريخ كما يظهر من العروة ، أو في خصوص ما لو كان الطرف الآخر مجهول التاريخ ، كما ربما يظهر من الكفاية هنا.

لكنّه قال في الكفاية في التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي : ومن هنا انقدح أنّه ليس منه ترك الوضوء من الاناءين ، فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلاّتشريعياً ، ولا تشريع فيما لو توضّأ منهما احتياطاً ، فلا حرمة في البين غلب جانبها ، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك ، بل إراقتهما كما في النصّ (2) ، ليس إلاّمن جهة التعبّد ، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب ، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّئ من الاناء الثانية ، إمّا بملاقاتها أو بملاقاة الأُولى وعدم استعمال مطهّر بعده ، ولو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأُولى. نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرّد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدّد وانفصال الغسالة ، لا يعلم تفصيلاً بنجاستها ، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً ، فلا مجال لاستصحابها ، بل كانت قاعدة

ص: 215


1- كفاية الأُصول : 421.
2- وسائل الشيعة 1 : 151 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 2 ، 14.

الطهارة محكّمة (1).

فإنّ ظاهره أنّه في الصورة الأُولى تكون النجاسة معلومة التاريخ ، ولا يعارضها استصحاب الطهارة المجهولة التاريخ لكي يرجع بعد التعارض إلى القاعدة كما في الصورة الثانية ، فلاحظ وتأمّل.

والظاهر أنّ الشبهة في كلّ من المقامين - أعني الحادثين المراد استصحاب العدم فيهما ، والحادثين المراد استصحاب البقاء فيهما - بجميع تقاريرها لا تختصّ بمجهولي التاريخ ، بل هي جارية في كلّ ما هو مجهول التاريخ وإن كان مقابله معلوم التاريخ ، فلاحظ وتتبّع (2)

ص: 216


1- كفاية الأُصول : 179 ( مع اختلاف يسير ).
2- ينبغي مراجعة الكفاية ] : 179 ] في آخر التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي في مسألة الوضوء من الاناءين المشتبهين ، فإنّ ظاهره هناك هو عدم جريان استصحاب ما هو مجهول التاريخ في قبال ما هو معلوم التاريخ. وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ السيّد قدس سره لم يتعرّض لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين سوى مسألة الحدث والوضوء ، ولم يشر إليها في أغلب موارد الشكّ في التقدّم والتأخّر ، مثل موت المورّث وإسلام الوارث وغير ذلك من موارد الشكّ في المقدّم والمتأخّر ، فراجع أواخر كتاب القضاء من العروة بل مسألة الوضوء من الاناءين المشتبهين بالنجاسة ، ومسألة الكرّ والملاقاة ، وغير ذلك من موارد الشكّ في التقدّم والتأخّر. ألمّ في الكفاية بمسألة جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بالانتقاض. في ص 10 من طبعة بغداد في الأمر الخامس من مباحث القطع. وص 30 من طبعة بغداد الأمر الأوّل من الوجوه العقلية التي أُقيمت على حجّية الخبر الواحد. وص 35 من طبعة بغداد المقدّمة الرابعة من مقدّمات دليل الانسداد. وص 102 من طبعة بغداد في تعارض الاستصحابين من خاتمة الاستصحاب. وتعرّض له الشيخ قدس سره في المبحث المذكور [ فراجع فرائد الأُصول 3 : 410. منه قدس سره ].

وكيف كان فالذي ينبغي هو تحرير الشبهة في خصوص مجهولي التاريخ. ومنه يعرف الكلام في الفرض الآخر ، فنقول بعونه تعالى : إنّ الذي يظهر من قوله في الكفاية في تقريرها هو أنّا إذا لاحظنا حالتنا الفعلية ، فنرى أنّا في حالة شكّ في الطهارة والحدث ، فإذا أردنا أن نستصحب الحدث مثلاً ، كان علينا أن نوصل حالتنا هذه بحالة سابقة على حالتنا هذه ، ولابدّ أن تكون تلك الحالة السابقة حالة يقين بالحدث لنجرّ اليقين من تلك الحالة إلى حالتنا هذه ، والمفروض أنّ حالتنا السابقة لا نعلم بها ما هي ، لأنّ المفروض أنّه قد تحقّق لنا في السابق حدث ووضوء ، ولا نعلم المتأخّر منهما لنستقرّ عليه ونقول إنّ حالتنا السابقة كانت على مقتضاه.

وإن شئت فقل : إنّ ما تقدّم من الزمانين اللذين وقع الحدث في أحدهما والوضوء في الآخر حيث إنّا لم نعلم منهما ما وقع فيه الحدث مثلاً ، فلم يكن الأوّل منهما زمان يقين بالحدث لاحتمال كونه زمان الوضوء. مضافاً إلى أنّه لو كان آن الحدث هو الآن الأوّل فقد ارتفع بوقوع الوضوء بعده ، كما أنّ الآن الثاني لم يكن زمان يقين بالحدث ، لاحتمال كون الحدث قد وقع في الأوّل ، ليكون الآن الثاني آن وضوء لا آن حدث ، لارتفاع الحدث حينئذ في الآن الثاني لكونه قد وقع الوضوء فيه ، فإنّ أيّ واحد من ذينك الآنين ننظر إليه نرى أنفسنا فيه في حال شكّ في الطهارة والحدث ، فبأي زمان نوصل زماننا هذا الذي نحن فيه الآن حتّى نقول إنّ ذلك الزمان زمان قطع بالحدث مثلاً لنجرّه إلى زماننا الذي نحن فيه فعلاً ، هذا

ص: 217

هو الذي أمكنني استحصاله من تلك العبارة الوجيزة حسب فهمي القاصر ومقتضاه هو إنكار أصل اليقين السابق ، لا إنكار اتّصاله بالشكّ اللاحق.

ولا يخفى الجواب عنه أوّلاً : بأنّه منقوض باستصحاب الحدث القطعي المردّد بين الزمانين المقابل بالاحتمال البدوي بوقوع الوضوء بعده. وثانياً : بالحل وهو أنّا قد علمنا أنّه قد صدر منّا حدث سابق ، ونحن الآن نعلم بأنّا قد كنّا في أثناء صدور ذلك الحدث غير متطهّرين ، فنحن الآن نوصل حالتنا هذه التي هي حالة شكّ بتلك الحالة السابقة على ما هي عليه من أي زمان وقعت فيه ، لعدم علمنا فعلاً بارتفاع تلك الحالة السابقة التي نحن الآن عالمون بها حينما قد صدر منّا الحدث فيما مضى من تلك الأزمنة.

نعم ، يمكن أن تكمل الشبهة بجملة أُخرى بأن يقال : إنّ تلك الحالة التي نحن الآن عالمون بها وهي حالة صدور الحدث منّا ، لا نعلم باتّصال حالتنا الشكّية الفعلية بها ، لأنّ ما علمناه من صدور الوضوء منّا يمكن أن يكون قد وقع بين حالتنا هذه التي هي الشكّية ، وبين حالتنا القطعية السابقة وهي حالة صدور الحدث ، فإنّه على تقدير كون ذلك الوضوء المعلوم واقعاً بعد تلك الحالة السابقة ، تكون تلك الحالة السابقة التي هي حالة الحدث قد انفصلت عن حالتنا هذه الشكّية بيقين بالوضوء ، فلا يحرز اتّصال شكّنا بيقيننا ، ولا يحرز أنّ المقام من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، لاحتمال كونه من قبيل نقض اليقين باليقين.

ولا يخفى أنّ هذا لو تمّ لكان جارياً في الحدث المعلوم التاريخ وكان الوضوء مجهول التاريخ ، فإنّه حينئذ يقال : إنّا وإن كنّا فعلاً شاكّين في الحدث وكنّا سابقاً في أوّل الزوال مثلاً متيقّنين به ، لأنّه قد صدر منّا الحدث أوّل الزوال ، لكن لمّا كنّا عالمين بأنّا قد صدر منّا الوضوء وكان وضوؤنا معلوماً ، ولم نعلم بأنّه متقدّم

ص: 218

على الزوال أو متأخّر عنه ، وعلى تقدير كونه متأخّراً عنه يكون قد انتقض يقيننا بالحدث باليقين بالوضوء ، فلم يكن ذلك من قبيل إحراز الاتّصال ، ولم يكن من قبيل إحراز أنّ رفع اليد عن اليقين السابق بهذا الشكّ الحاصل لنا فعلاً رفع لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون يقيننا السابق مرتفعاً باليقين. وهكذا الحال في كلّ علم إجمالي يكون على خلاف الحالة السابقة في كلّ واحد من الأطراف ، فإنّه تتأتّى فيه الشبهة المذكورة ، ولا أظنّه قدس سره يلتزم بذلك.

والجواب عن هذه الشبهة منحصر بجملة واحدة ، وهي أنّ احتمال انطباق ما هو المعلوم بالاجمال على هذا الفرد لا يخرجه عن كونه مشكوكاً وجداناً ، فإنّ وضوءنا السابق المعلوم المردّد بين كونه قبل الحدث أو بعده لو كان منطبقاً في الواقع على الوضوء الواقع بعد الحدث ، لا يكون موجباً لخروج ذلك الوضوء عن كونه مشكوكاً فيه ، فإنّ صفة المعلومية وإن قلنا بأنّها تسري إلى الواقع ولا تكون مقصورة على الوجود الذهني ، إلاّ أنّ خروج الواقع عن كونه مشكوكاً إلى كونه معلوماً يتوقّف على إحراز شرط السراية وهو الانطباق ، فما لم نحرز الانطباق على الوضوء الواقع بعد الحدث لا يكون ذلك الوضوء متّصفاً في الواقع بأنّه معلوم ، كما أنّه لا يتّصف بذلك عندنا فعلاً.

ولو سلّمنا السراية القهرية ، وقلنا إنّ هذا الانطباق الواقعي يوجب الاتّصاف واقعاً بأنّه معلوم ، وكنّا الآن شاكّين في كون الوضوء هل هو معلوم لدينا أو لا ، لم يكن ذلك موجباً لسقوط الاستصحاب ، لأنّ المدار فيه على الشكّ والعلم الفعليين الموجبين لترتّب العمل ، ومن الواضح أنّا فعلاً وإن كنّا شاكّين في كون الوضوء المذكور معلوماً ، إلاّ أنّا بذلك لا نخرج عن كوننا شاكّين بعد يقين سابق ، ويترتّب علينا آثار الشكّ الفعلي واليقين السابق فتأمّل ، فإنّ احتمال المعلومية إنّما

ص: 219

يضرّ لو كان قد ثبت لنا دليل يقول لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر فإنّه حينئذ يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، وبعض روايات الباب وإن تضمّنت ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه ليس المراد به حكماً مستقلاً في قبال الحكم الأوّل.

وبعين هذا أجاب في الكفاية (1) في خاتمة الاستصحاب عن شبهة لزوم التناقض بين الصدر والذيل لو قلنا بالشمول لأطراف العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ، هذا ، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد باليقين الناقض لليقين السابق هو اليقين الذي يكون محرّكاً على العمل ، بحيث إنّه لا يشمل اليقين الواقعي المشكوك تحقّقه في المورد. وإن شئت فقل : إنّ مناسبة الحكم والموضوع تعطي كون المراد من اليقين الثاني هو اليقين المعلوم اليقينية ، وحينئذ فيكون الشكّ بخلافه وهو ما لم يكن معلوم اليقينية ، فيشمل ما يحتمل كونه متيقّناً ، فتأمّل.

وقد توجّه الشبهة بتقريب آخر : وهو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الحدث لم يكن متيقّناً في شيء من الزمانين - أعني الآن الأوّل قبل الزوال والآن الثاني بعده - لما تقدّم في التقريب السابق ، فلم يبق عندنا إلاّ أن نقول : إنّ الحدث قد وقع في أحد الآنين ونشكّ في ارتفاعه ، ولكن لمّا كان الاستصحاب هو الجرّ بحسب أجزاء الزمان ، لا يمكننا أن نجرّ الحدث في الأجزاء الزمانية ، لما عرفت من أنّه في الجزء الأوّل غير متيقّن ، كما أنّه في الجزء الثاني أيضاً غير متيقّن ، فلم يبق عندنا إلاّ أن نجرّ الحدث المذكور في الزمان الواقعي المردّد بين الآنين المذكورين ، ولكن إلى متى؟ لا يمكننا أن نجرّه من ذلك الآن الكلّي المردّد بين الآنين إلى زماننا الذي

ص: 220


1- لاحظ كفاية الأُصول : 432.

نحن فيه ، لأنّ ذلك الزمان الكلّي الذي سحبنا إليه الحدث ليس هو نفس هذا الآن الذي نحن فيه ، ولا يكاد ينطبق عليه إلاّبالأصل المثبت الناشئ عن الملازمة بين بقاء الحدث في الزمان الكلّي وبقائه إلى ذلك الزمان الذي نحن فيه الآن.

والجواب أوّلاً : أنّ هذا منقوض بكلّ حادث يقيني وقع الشكّ في مبدأ حدوثه وتردّد بين كونه في الآن الأوّل بعد الزوال مثلاً والآن الثاني منه ، واحتملنا طروّ الرافع له على كلّ من التقديرين ، كما لو علمنا فعلاً بأنّه قد صدر منّا الحدث ، ولكن لم نعلم بأنّ مبدأ هذا الحدث هل هو الآن الأوّل المذكور أو الآن الثاني ، فلو احتملنا الوضوء بعد هذا الحدث لتأتّى فيه الإشكال المزبور ، فإنّه لا يمكننا أن نقول إنّ حدثنا قد وقع في الآن الأوّل ، لاحتمال كونه كان قد وقع في الآن الثاني ، كما لا يمكننا أن نقول بأنّه قد وقع في الآن الثاني ، لاحتمال كونه قد وقع في الأوّل وأنّه قد ارتفع بالوضوء في الآن الثاني ، فإنّ الآن الثاني لو خلي ونفسه لكان الحدث فيه مقطوعاً به ، إمّا لحدوثه فيه وإمّا لبقائه من الأوّل ، لكن حيث إنّا نحتمل الوضوء بعده ولو بنحو الشبهة البدوية ، فنحن لا يمكننا القول بأنّا قاطعون بأنّا محدثون في الآن الثاني ، لاحتمال كون الحدث منّا قد وقع في الآن الأوّل ، وعلى تقدير وقوعه في الآن الأوّل نحتمل أنّا قد رفعناه بالوضوء في الثاني ، فيكون الآن الثاني آن وضوء لا آن حدث.

وثانياً : بالحل ، وهو ما أشرنا إليه في الجواب عن التقريب الأوّل وحاصله : أنّ هذه الآنات من الآن الذي نحن فيه إلى الآن الواقعي الذي وقع فيه الحدث هي آنات متّصلة متعاقبة وجداناً ، غايته أنّ ذلك الآن الذي وقع فيه الحدث لا نعرفه بعينه ، فلو سحبنا الحدث منه على ما هو عليه إلى الآن الذي نحن فيه ، نكون قد سحبناه في آنات متّصلة متعاقبة ، ويكون ذلك عبارة عن الحكم

ص: 221

ببقاء الحدث في عمود الزمان إلى ما نحن فيه.

وثالثاً : أنّه ليس لنا دليل لفظي يقول لابدّ من بقاء المستصحب في الأجزاء الزمانية الشخصية المتعاقبة ، بل إنّ أدلّة الاستصحاب ليست إلاّعبارة عن لزوم الأخذ بالمتيقّن وعدم هدم اليقين بالشكّ ، حتّى أنّها تجري في الزمان نفسه ، ولو قلنا إنّه لابدّ من وقوع المستصحب في الآنات الزمانية لم يعقل إجراء الاستصحاب في الزمان نفسه ، بل أقصى ما في البين هو الحكم ببقاء المتيقّن في وعاء نفسه من الزمان أو الواقع أو الدهر أو الأبد أو السرمد إلى غير ذلك من ألفاظ ، وحينئذ نقول إنّ الحدث قد وقع في وعائه ، وبقي إلى الآن في ذلك الوعاء لم يصدر ما يوجب رفعه عن وعائه كيف ما كان وعاؤه ، وهذا المقدار كافٍ في إجراء الاستصحاب.

ولا يخفى ما في هذا الجواب الثالث من الخلل ، والعمدة هو الأوّل والثاني.

تنبيه : قد تقدّم (1) لشيخنا قدس سره أنّه ليس من قبيل الكلّي المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ما لو تردّد زيد بين كونه في شرقي الدار فقد مات لسقوطه عليه ، وكونه في غربي الدار فلم يمت لعدم سقوط الغربي ، وأنّه من قبيل الفرد المردّد. وقد علّقنا عليه أنّه من قبيل الفرد المعيّن ، وهو زيد نفسه معرّى عن كونه في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ، وإذا عرفت ذلك فلعلّك تقدر أن تخرّج ما نحن فيه على ذلك ، بأن تقول : إنّ المستصحب هو شخص الحدث معرّى عن كونه قبل الزوال وبعده ، فيكون حاله حال زيد المردّد بين المكانين.

ويمكن أن يقال : إنّ الذات - أعني ذات زيد - وإن لم تختلف بحسب المكان بل ولا بحسب الزمان ، إلاّ أنّ العرض مثل القيام والقعود ومنه الحدث

ص: 222


1- فوائد الأُصول 4 : 421 - 422.

الذي هو النوم مثلاً يمكن القول باختلافها بحسب الزمان ، فالنوم الموجود قبل الزوال مباين لما هو موجود بعد الزوال ، بمعنى أنّهما فردان متباينان ، بخلاف زيد الموجود في هذا الزمان وزيد الموجود في الزمان الآخر ، فإنّه لا يخرج بذلك عن كونه فرداً واحداً من أفراد الإنسان ، وحينئذ يمكننا القول بأخذ الحدث مجرّداً عن الزمان ، وهو الكلّي الجامع بين الحدثين ، وإجراء الاستصحاب فيه وإلحاقه بالكلّي المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، ولا نحتاج إلى النظر في الأزمنة والآنات ، لأنّ المفروض أنّه قد أُخذ مجرّداً عنها ، فلا يكون استصحابه إلاّ كاستصحاب نفس الزمان ، ولعلّ هذا هو الأوجه في دفع شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين بتقريبها الأخير ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : غايته أنّ الاستصحاب في طرف الوضوء إنّما يكون شخصياً من حيث الزمان للعلم بزمان وجوده ، وفي طرف الحدث يكون كلّياً لعدم العلم بزمان حدوثه ، وهذا لا يوجب فرقاً بين الاستصحابين ... الخ (1).

سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنّ التردّد في الزمان لا يوجب الكلّية ، وسرّه أنّ الزمان كالمكان ، فكما أنّ التردّد فيه لا يوجب الكلّية فكذلك التردّد في الزمان ، ألا ترى أنّه لو كان قد حصل التردّد في مكان زيد مثلاً هل كان هو المكان الشرقي فقد أصابته الطلقة ومات منها ، أو كان في المكان الغربي فلم تصبه ، لم يكن استصحاب حياته من قبيل الكلّي. وهكذا الحال في الاناء النجس هل كان تحت السماء فقد أصابه المطر ، أو كان تحت السقف فلم يصبه ، لم يكن ذلك التردّد موجباً لكون استصحاب نجاسته من قبيل استصحاب الكلّي ، فكذلك الحال في

ص: 223


1- فوائد الأُصول 4 : 525.
2- فوائد الأُصول 4 : 527 ، وراجع أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : 236.

تردّد ذلك الفرد من الحدث بين كونه قبل الوضوء أو بعده لا يخرجه عن الشخصية إلى الكلّية. ولو قيل : إنّ الكلّية لم تكن من ناحية التردّد في زمان الحدث بل من ناحية تردّده بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، لقلنا : إنّ الوضوء مردّد بين كون الحدث واقعاً قبله فيكون مقطوع البقاء ، أو واقعاً بعده فيكون مقطوع الارتفاع ، فيكون كلّياً حينئذ.

وهكذا الحال فيما سيأتي من غسل الثوب بالاناءين القليلين ، فإنّ الثوب عند ملاقاة الثاني منهما يكون نجساً قطعاً وتستصحب نجاسته ، وفي قباله استصحاب الطهارة. وقد يقال : إنّ النجاسة شخصية والطهارة كلّية ، لتردّدها بين الوقوع في الغسل من الأوّل والوقوع في الغسل من الثاني. ويجاب عنه حينئذ بأنّ الطهارة ليست كلّية ، ولو كانت كلّية لكانت النجاسة في المثال كلّية ، لتردّدها بين كونها من الأوّل فترتفع قطعاً أو من الثاني فتبقى قطعاً.

تنبيه : إنّ جميع ما ذكر في مسألة الحدث الأصغر والوضوء عند العلم بهما والشكّ فيما هو المقدّم يتأتّى في مسألة الجنابة والغسل ، وحينئذ فلو كان الغسل معلوم التاريخ والجنابة مجهولة التاريخ ، كان من تعارض الاستصحاب في كلّ منهما ، وبعد التساقط يكون المرجع هو لزوم إحراز الشرط فيما هو مشروط بالطهارة ، والبراءة فيما تكون الجنابة فيه مانعة. وقد تعرّض لذلك في العروة في باب غسل الجنابة مسألة 2 (1) وأفتى بإمكان جريان استصحاب الطهارة فيما لو علم تاريخ الغسل دون الجنابة ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره كما علّق على مسألة الوضوء والحدث فيما لو كان الوضوء معلوم التاريخ م 37 (2).

ص: 224


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 501 - 502.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 445 - 447.

ثمّ إنّه في العروة تعرّض لمسألة أُخرى قبل هذه المسألة وهي ما لو وجد المني في ثوبه ، فقال : وإذا علم أنّه منه ولكن لم يعلم أنّه من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة أُخرى لم يغتسل لها ، لا يجب عليه الغسل أيضاً لكنّه أحوط (1).

وهذه المسألة وإن كان بينها وبين مسألة الحادثين المجهولي التاريخ أو المجهول أحدهما فرق ، وهو أنّ الجنابة في مسألة مجهولي التاريخ ليست إلاّ واحدة مردّدة بين كونها قبل الغسل أو بعده ، وفيما نحن فيه يكون للمكلّف جنابة قد اغتسل منها قطعاً ، ويحتمل مع ذلك أنّه أجنب بعد ذلك الغسل ، للتردّد في ذلك المني بين كونه من الجنابة الأُولى التي اغتسل أو كونه جنابة جديدة ، فيكون من قبيل التردّد بين كونه مكلّفاً بتكليف جديد غير ذلك الذي فرغ منه ، أو أنّه لم يكن مكلّفاً إلاّبذلك التكليف الذي قد فرغ منه ، فأمره دائر بين جنابتين قد اغتسل للأُولى منهما أو لم يكن إلاّ الجنابة الأُولى التي قد اغتسل لها ، ولا ريب في أنّ المرجع في ذلك إلى الأُصول النافية بالنسبة إلى ذلك التكليف الجديد المحتمل.

وإن شئت فقل : إنّه عند الزوال قد اغتسل وارتفعت جنابته قطعاً ، وليس في البين إلاّ احتمال جنابة جديدة فهي منفية بالأصل.

ولكن فيه تأمّل ، فإنّه يعلم فعلاً أنّه عندما خرج منه ذلك المني الموجود فعلاً على ثوبه كان هو مجنباً ، وتلك الجنابة الواقعية التي أعقبت خروج ذلك المني لا يعلم بارتفاعها بوقوع الغسل بعدها ، غايته أنّ ذلك المني إن كان من الجنابة الأُولى فقد ارتفعت بالغسل قطعاً ، وإن كانت جنابة جديدة فهي باقية ، فهي من هذه الجهة نظير ما لو عقد على هذه المرأة وهي هند ، وبذلك العقد قد ارتفع حرمة النظر إليها وجاز له وطؤها بعد ما كان حراماً ، لكنّه الآن يجد أمامه امرأة

ص: 225


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 501 مسألة (1).

يحتمل أنّها هي هند ويحتمل أنّها امرأة أُخرى ، فإن كانت هنداً فقد ارتفعت الحرمة فيها بالعقد عليها ، وإن كانت غيرها فقد بقيت حرمتها ، فيجري في حقّه استصحاب عدم العقد على هذه الامرأة الموجودة أمامه.

ونظير ذلك ما لو علمنا بموت زيد ، ورأينا شخصاً نائماً في هذه الغرفة ، فإن كان هو زيداً فقد مات ، وإن كان هو غيره فهو باقي الحياة. وكذا لو ذكّينا هذه الذبيحة ثمّ رأينا حيواناً مذبوحاً ، فإن كان هو ذلك الحيوان فقد ذكّيناه ، وإن كان غيره فقد مات حتف أنفه. وكذا لو علمنا بأنّ زيداً العادل قد فسق ثمّ رأينا شخصاً يصلّي ، فإن كان هو زيداً فلا يمكننا الصلاة خلفه ، وإن كان هو عمراً جازت الصلاة خلفه لبقاء عدالته ، إلى غير ذلك من الأمثلة المشتملة على طروّ ناقض الحالة السابقة مع الاشتباه بما لم يطرأه ذلك الناقض.

ومن الواضح أنّ تلك الجنابة الواقعية التي كانت عند خروج هذا المني من قبيل الحرمة التي كانت على هذه المرأة الموجودة أمامه ، فيجري فيها الاستصحاب ، ويكون معارضاً لاستصحاب الطهارة الحاصلة له من غسله عند الزوال ، وليس استصحاب الجنابة في ذلك من قبيل استصحاب الفرد المردّد مثل الجمعة والظهر بعد فعل أحدهما ، أو الأصغر والأكبر بعد واحد من الغسل أو الوضوء ، لأنّ الجنابة هنا على تقديرها تكون فرداً ثانياً بعد الفرد الأوّل الذي فرغ من الاغتسال [ منه ] ، ويكون الاغتسال واقعاً في محلّه ، لا أنّه يكون لغواً كما في مسألة التردّد بين الفريضتين أو الحدثين (1).

ص: 226


1- وحاصل الفرق : أنّه في مثل مسألة الفريضتين أو الحدثين لا يكون الواقع إلاّ أحد الأمرين ، من دون احتمال اجتماعهما ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ تلك الجنابة التي أعقبت خروج ذلك المني لو كانت هي الأُولى لا تكون إلاّواحدة ، ولو كانت بعد لغسل يكون له جنابتان قد اغتسل من الأُولى منهما وبقيت الثانية ، فلا يكون على هذا التقدير غسله لغواً ، بل هو يعلم أنّ غسله الأوّل كان في محلّه ، غايته أنّه يحتمل أنّه قد طرأت عليه جنابة ، والقاعدة وإن اقتضت نفيها بالأصل ، إلاّ أنّ استصحاب حالته بعد خروج هذا المني منه قاضٍ بجنابته فعلاً ، فيكون هذا الاستصحاب معارضاً لاستصحاب طهارته حينما فرغ من غسله الأوّل ، وبعد تساقطهما تكون حالته الفعلية مردّدة بين الحدث الأكبر والأصغر لو كان في البين حدث أصغر ، فيلزمه الجمع ، وبعد إقدامه على إحدى الطهارتين لو أردنا استصحاب الحدث يكون من قبيل الفرد المردّد ، ولو لم يكن في البين حدث أصغر لم يلزمه إلاّ الغسل لما هو مشروط بالطهارة ، وتجري في حقّه البراءة بالنسبة إلى ما يحرم على الجنب مثل دخول المساجد. واعلم أنّ مسألة توارد الحالتين التي أشار إليها في العروة في مسألة 2 ص 114 [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 501 - 502 ] إنّما تتصوّر فيما لو أصبح جنباً وعلم أنّه قد اغتسل ، لكنّه يعلم أنّه قد واقع بعد الاصباح ، ولكنّه يشكّ هل كان وقاعه قبل الغسل أو أنّه كان بعد الغسل ، وبعد تعارض الاستصحابين يكون المرجع هو لزوم إحراز الشرط. ومسألتنا هذه أولى بذلك من تلك المسألة ، لأنّ تلك المسألة لا يعلم فيها أنّ وقاعه كان مؤثّراً ، لاحتمال كونه قبل الغسل ، بخلاف مسألتنا هذه ، لأنّ هذا المني الموجود الآن في ثوبه يعلم أنّه عند صدوره منه كان مؤثّراً ويشكّ في ارتفاع أثره. نعم إنّ تلك المسألة تشارك هذه المسألة في أنّه كان متّصفاً بالجنابة في كلّ ممّا بعد وقاعه وممّا بعد خروج هذا المني منه ، وإن لم يكن في الوقاع عالماً بأنّ ذلك الوقاع كان مؤثّراً. وقد يقال : إنّ الغسل الذي ذكره في العروة في المسألة المذكورة - أعني الثانية - ليس هو الغسل من الجنابة ، بل هو من قبيل غسل الجمعة ونحوه ، وحينئذ لا يكون نظيراً لمسألتنا هذه. ولكن لا يخفى أنّه مبني على أنّ غسل الجمعة ونحوه لو كان مصادفاً للجنابة يكون رافعاً لها ، ولا يقول به المصنّف [ وسيلة النجاة : 46 / الأغسال المندوبة. العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 148 مسألة 13. ولا يخفى أنّ هذه المسألة بعينها قد تقدّمت في العروة 1 : مسألة 16 من دون أن يعلّق قدس سره عليها ]. مع أنّ مادّة النقض حاصلة بتعاقب الحالتين في باب الحدث والوضوء ، فراجع وتأمّل. وبالجملة : لا ينبغي أن يتخيّل أنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، بدعوى أنّ الجنابة المستصحبة مردّدة بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث ، فإنّ هذا المني الموجود وإن علمنا بالجنابة عند خروجه ، إلاّ أنّ تلك الجنابة قد ارتفعت بالغسل وإن كانت هي الأُولى ، وأقصى ما في البين هو احتمال أن تكون جنابة جديدة غير الأُولى ، فيكون المقام من قبيل استصحاب القدر الجامع بين تلك السابقة المقطوعة الحدوث والارتفاع ، وبين جنابة جديدة حدثت بعد ارتفاع تلك السابقة ، فلا يكون إلاّمن قبيل القسم الثالث من الكلّي ، ولا يمكن الجواب عنه بما سيأتي في مسألة التطهّر من الاناءين ، من كون المستصحب هو الأعمّ من الحدوث والبقاء. ولكن هذا المقام من هذه الناحية يمكننا القول بأنّه كذلك ، فلا يمكننا استصحاب القدر الجامع بين الجنابة السابقة المقطوعة الحدوث والارتفاع وبين الجنابة المحتملة الحدوث بعدها ، إلاّ أنّا من الناحية الأُخرى نقول : إنّ ذلك الشخص من الجنابة الحاصلة عند خروج هذا المني الموجود إن كانت هي ذلك الشخص السابق فقد ارتفعت يقيناً ، وإن كانت غيره فقد بقيت يقيناً ، فنحن نستصحب كلّي الجنابة الذي علمنا بوجوده مجرّداً عن خصوصية كونه هو السابق أو هو اللاحق المحتمل ، فيكون من قبيل القسم الثاني من أقسام الكلّي لا من قبيل الثالث. وسرّ كونه من الثاني لا من الثالث هو أنّك في الثالث ليس لك فرد مشار إليه تقول إنّ هذا قد وجد وأشكّ في ارتفاعه ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ لنا أن نشير إلى هذه الجنابة التي كانت عند خروج هذا المني الموجود قد وجدت ونشكّ في ارتفاعها ، غايته أنّ تلك الجنابة الشخصية التي نشير إليها لا نعلمها أنّها هي السابقة أو جديدة ، فلنا أن نستصحبها معرّاة عن كونها هي السابقة أو جديدة ، فإن شئت فسمّ ذلك المستصحب شخصياً خاصّاً لكونه فرداً معيّناً ، وإن شئت فسمّه قدراً جامعاً مردّد الوجود بين الفردين ، فهو نظير ما لو تركت زوجتك في مكان ثمّ جئت ووجدت امرأة احتملت أنّها زوجتك وأنّها أجنبية ، فلا يجوز لك الإقدام عليها ، لاستصحاب عدم العقد على شخصها ، فتأمّل. وعلى أي حال ، يكون الحكم عليه بأنّه لا يجب عليه الغسل صحيحاً على مسلك صاحب العروة [ كما أشار إليه في مسألة الوضوء والحدث في العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 445 - 447 مسألة : 37. وصرّح به في حاشيته قدس سره على فرائد الأُصول 3 : 292 - 293 ] وغيره من سقوط الاستصحاب في مجهول التاريخ لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وجريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، لأنّ هذه الجنابة المشار إليها بوجود هذا المعيّن مجهولة التاريخ بخلاف الغسل ، وكذلك على مسلك شيخنا قدس سره ، يعني أنّه لا يجب عليه الغسل ولا يجري في حقّه استصحاب الجنابة ، لكونه من قبيل الدم المردّد ، لما عرفت من أنّه يكون حاله حال المرأة الموجودة المردّدة بين كونها هي زوجته التي عقد عليها ، أو هي أجنبية عنه ولم يعقد عليها ، في عدم جريان استصحاب عدم العقد عليها ، وحينئذ ينفرد فيه استصحاب الطهارة الحاصلة عند فراغه من الغسل ، لكنّك قد عرفت في محلّه المناقشة في كلّ من المسلكين ، فالحقّ فيما نحن فيه هو تعارض الاستصحابين وسقوطهما ، ولزوم الجمع بين الغسل والوضوء إن كان فعلاً محدثاً بالأصغر ، وإلاّ اقتصر على الغسل ، فلاحظ وتدبّر. ثمّ إنّه تقدّمت الاشارة إلى أنّ تعاقب الجنابة والغسل إنّما يمكن فرضه فيما لو كان مسبوقاً بالجنابة ، بأن أصبح جنباً فاغتسل ثمّ علم بصدور مواقعة منه بعد الاصباح المذكور وتردّد فيها بين كونها قبل الغسل المذكور أو بعده ، ولا يتصوّر فيه المسبوقية بالطهارة من الحدث ، لأنّ وقوع الغسل منه كاشف عن كونه بعد ذلك الوقاع ، ولكن يمكن فرضه ولو نادراً بأن يكون قد اعتقد أنّه مجنب فاغتسل ثمّ بعد مدّة من غسله حصل له الشكّ الساري في ذلك الاعتقاد ، لأنّه علم من نفسه الجنابة ولكنّه تردّد بين كونها قبل الغسل ليكون غسله في محلّه ويكون الآن طاهراً من الحدث ، أو أنّه قد وقعت منه الجنابة بعد غسله المذكور ليكون غسله السابق في غير محلّه إن حصل له القطع بأنّه لم يكن جنابة سابقة على غسله المذكور ، أو شكّ في كونه في محلّه إن احتمل أنّه كان قبله مجنباً ، وعلى كليهما هو الآن مجنب لكون هذه الجنابة المعلومة واقعة بعد غسله حسب الفرض. ومن ذلك يظهر لك أنّه كما يمكن أن تكون حالته السابقة قبل هاتين الحالتين هي الجنابة فكذلك يمكن فرض حالته السابقة هي الطهارة أو مجهولة ، فلاحظ. ومن ذلك يظهر لك الإشكال فيما أفاده في الروضة ، فإنّه قدس سره بعد أن قال في مسألة توارد الحالتين : ولا فرق بين أن يعلم حاله قبلهما بالطهارة أو بالحدث أو يشكّ ، قال بعد ذلك ما هذا لفظه : نعم لو كان المتحقّق طهارة رافعة وقلنا بأنّ المجدّد لا يرفع أو قطع بعدمه ، توجّه الحكم بالطهارة في الأوّل ( يعني فرض كونه متطهّراً قبلهما ) كما أنّه لو علم عدم تعاقب الحدثين بحسب عادته أو في هذه الصورة ، تحقّق الحكم بالحدث في الثاني ، إلاّ أنّه خارج عن موضع النزاع ، بل ليس من حقيقة الشكّ في شيء إلاّبحسب ابتدائه الخ [ الروضة البهيّة 1 : 82 - 83 ]. فائدة : قال في العروة في م 37 في باب الوضوء : وإن علم الأمرين وشك في المتأخّر منهما بنى على أنّه محدث إذا جهل تاريخهما أو جهل تاريخ الوضوء ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الوضوء بنى على بقائه ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتّى يعارضه ، لعدم اتّصال الشكّ باليقين به حتّى يحكم ببقائه. والأمر في صورة جهلهما أو جهل تاريخ الوضوء وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ مقتضى شرطية الوضوء وجوب إحرازه الخ [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 445 - 447 ]. يتوجّه عليه : أنّ صورة جهل تاريخ الوضوء يكون استصحاب الحدث فيها جارياً ، فيحكم عليه بلزوم الوضوء لأنّه محدث بحكم الاستصحاب ، فلا يكون ذلك من جهة أصالة الاشتغال ولزوم إحراز الشرط ، نعم يجري ذلك في صورة جهلهما. وأمّا ما يقال من ابتناء ذلك على جريان الاستصحاب في مورد أصالة الاشتغال ، فلا يخفى أنّ ذلك إنّما هو في استصحاب الحكم ، لا في استصحاب الموضوع الذي هو الحدث فيما نحن فيه ، فلاحظ [ منه قدس سره ].

ص: 227

ص: 228

ص: 229

ص: 230

وما حرّره الحاج آغا رضا قدس سره (1) في باب الوضوء من حكومة أصالة عدم الجنابة بعد الغسل على استصحاب بقاء تلك الجنابة التي أعقبت خروج ذلك المني ، يمكن الجواب عنه أنّه لا معنى لاستصحاب عدم الجنابة بعد الغسل إلاّ استصحاب الطهارة الذي قد عرفت أنّه معارض باستصحاب تلك الجنابة. وثانياً :

أنّه كما لنا في هذه الناحية أصل ينفي الجنابة بعد الغسل هو غير استصحاب الطهارة ، فكذلك يكون لنا في الناحية الأُخرى استصحاب عدم الغسل بعد تلك الجنابة الواقعية ، فيتعارض الأصلان أيضاً ويتساقطان. وثالثاً : أنّ هذا جارٍ في صورة العلم بكلّ منهما مع الشكّ في المقدّم ، سواء علم بتاريخ الغسل أو علم بتاريخ الجنابة أو جهل التاريخين.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه وكذلك مثال المرأة التي عقد عليها من

ص: 231


1- مصباح الفقيه ( الطهارة ) 3 : 172.

قبيل الدم المردّد بين كونه من المسفوح أو من الباقي في الذبيحة فيقال ... (1).

قوله : وكذا الكلام في الطهارة الخبثية ، فلو غسل الثوب في ماءين أحدهما طاهر والآخر نجس ... الخ (2).

يمكن التمثيل لذلك بما لو علم بوقوع الثوب في الكرّ وملاقاته للنجاسة ولم يعلم المقدّم منهما ، فيتّضح حينئذ صورة كون أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ ، بأن يكون ملاقاته للنجاسة هو المعلوم التاريخ ، أو يكون وقوعه في الكرّ هو المعلوم التاريخ. أمّا هذا المثال فهو إنّما يتأتّى فيه العلم بتاريخ النجاسة فقط وهو ما لو كان الماء الثاني قليلاً ، فيكون تاريخ النجاسة معلوماً وهو في حال غسله بالثاني قبل تمامية الغسل ، أمّا العلم بتاريخ الطهارة فلا يكون متصوّراً فيه.

وإنّما تعرّضوا لهذا المثال فقط لأنّ البحث في هذا المثال فيه فائدة خاصّة ، وهي بيان أنّ النصّ الوارد في الاناءين المشتبهين المتضمّن للأمر باهراقهما والتيمّم (3) هل هو على القاعدة لأجل التخلّص من الابتلاء بنجاسة أعضاء الوضوء فيما لو توضّأ بالأوّل منهما وغسل أعضاء وضوئه بالثاني ثمّ توضّأ منه ، بناءً على أنّ استصحاب النجاسة لكونه معلوم التاريخ مقدّم على استصحاب الطهارة لكونه مجهول التاريخ ، أو أنّ النصّ المذكور تعبّدي محض لتعارض الأصلين وتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة في أعضاء الوضوء ، وحينئذ يقتصر في النصّ المذكور على القدر المتيقّن منه ، وهو ما لو لم يكن المكلّف متمكّناً من

ص: 232


1- [ كذا في الأصل ، ناقص ].
2- فوائد الأُصول 4 : 525.
3- وسائل الشيعة 1 : 151 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 2 ، 14.

التكرار بالطريقة المذكورة من الوضوء بالأوّل وغسل أعضائه بالثاني والوضوء منه ، أمّا لو كان متمكّناً من ذلك فلا يشرع له إراقتهما والتيمّم ، بل يلزمه الطريقة المذكورة.

ثمّ إنّ بعض أجلّة العصر (1) أفتى في وسيلته وحاشيته على العروة بأنّه يتوضّأ من الأوّل ويصلّي ، ثمّ يغسل أعضاءه بالثاني ويتوضّأ منه ويعيد الصلاة.

والحاصل : أنّ القائل بتقدّم استصحاب النجاسة لكونها معلومة التاريخ أو لكونها شخصية على استصحاب الطهارة لكونها مجهولة التاريخ أو كونها كلّية مردّدة بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، يمكنه أن يحصل على الصلاة بطهارة واقعية ، بأن يتوضّأ من الأوّل ويصلّي ثمّ يغسل أعضاء وضوئه بالثاني ويتوضّأ منه ويعيد صلاته ، وليس فيه شيء سوى إشكال تأتّي قصد القربة بالصلاة الأُولى مع فرض جريان استصحاب الحدث في حقّه ، للشكّ في صحّة وضوئه للشكّ في طهارة مائه ، كما أنّ الأمر كذلك - أعني إشكال قصد القربة - جار في الصلاة الثانية ، فإنّه يكون حينئذ مستصحباً للخبث ، ولكن كلّ ذلك لا يضرّ بالاتيان بالصلاة بداعي الاحتمال ، لاحتمال خطأ الاستصحاب الأوّل وخطأ الثاني.

أمّا الإشكال في قصد القربة بوضوئه الأوّل فالأمر فيه أسهل ، لأنّه لم يكن في ذلك إلاّعدم إحراز الشرط وهو طهارة الماء. نعم في الوضوء الثاني يتأتّى عين الإشكال في الصلاة ، لأنّه بعد غسله أعضاءه بالثاني يجري في حقّه استصحاب نجاسة الأعضاء ، وطهارتها شرط في صحّة الوضوء ، ثمّ بعد هذا كلّه يبقى مبتلياً

ص: 233


1- وهو السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره ، راجع وسيلة النجاة 1 : 34 / م (2) من شرائط الوضوء ، العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 116 - 117 / م (10) من الماء المشكوك النجاسة.

بنجاسة أعضائه حتّى يحصل على ماء يغسلها به ، هذا كلّه على تقدير القول بتقدّم استصحاب النجاسة ، وبناءً عليه لابدّ لهؤلاء القائلين من القول بأنّ النصّ ورد على خلاف القاعدة ، لامكان التخلّص بالطريقة المذكورة ، أو يقولون بأنّه منصرف عنها إلى خصوص صورة ما لو لم يتمكّن من العملية المزبورة ، وعلى كلّ حال ، لا غبار في هذه العملية على هذا القول سوى الابتلاء بنجاسة الأعضاء.

أمّا القائلون بتعارض الاستصحابين وتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة فعليهم أن يلتزموا بتلك الطريقة ، ولكن يبقى عندهم الإشكال في النصّ ، فإن حملوه على خصوص صورة عدم التمكّن من هذه العملية فهو ، وإلاّ كان اللازم عليهم هو الالتزام به وعدم الركون إلى هذه العملية ، لأنّ النصّ التعبّدي يلزم بالتيمّم والاهراق ، ولأجل ذلك قوّى شيخنا قدس سره في حواشيه على العروة (1) وفي الوسيلة (2) لزوم التيمّم ، وإن احتاط بضمّ هذه العملية إليه ، فراجع وتأمّل.

لا يقال : لعلّ نظر شيخنا قدس سره في ترك هذه الطريقة والركون إلى التيمّم من جهة تقدّم الاطاعة التفصيلية الحاصلة بالتيمّم على الاطاعة الاجمالية الحاصلة بتلك العملية.

لأنّا نقول : إنّ لزوم الاطاعة التفصيلية حينئذ معارض بلزوم الطهارة المائية ، وهو قدس سره لا يرى تقدّم الأوّل على الثاني كما يشاهد من فتواه قدس سره بلزوم

ص: 234


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 117 / م (10).
2- وسيلة النجاة : كو / ضمن المسألة الرابعة [ لا يخفى أنّه رمز في أوّلها للصفحات بالحروف ].

التكرار في مسألة الاناءين المعلوم كون أحدهما مضافاً والآخر مطلقاً (1) ، ولا يفتي بلزوم تركهما والانتقال إلى التيمّم مع الانحصار ، وكما في مسألة الثوبين المنحصر ساتره بهما (2) ، فإنّه قدس سره لا يوجب عليه الصلاة عارياً ، بل يلزم بتكرار الصلاة بهما ، فإنّ ذلك من قبيل مزاحمة الاطاعة التفصيلية بلزوم الساتر في الصلاة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ التزامه قدس سره بالتيمّم في هذه الصورة لأجل مجرّد التعبّد بالنصّ الشامل لصورة إمكان العملية المذكورة ، غاية الأمر أنّه قدس سره يمكنه أن يقول : إنّه يستفاد من النصّ اشتراط عدم كون ماء الوضوء مشتبهاً بالنجاسة بالشبهة المحصورة. وينبغي مراجعة ما حرّرناه على هذه المسألة من العروة ، فإنّ فيه تفاصيل أُخر أزيد ممّا حرّرناه هنا ، فراجعه (3).

قوله : وقد يتوهّم عدم جريان استصحاب الطهارة إذا كان الثوب قبل غسله بالماءين طاهراً ... الخ (4).

هذا التوهّم راجع إلى القول بالأخذ بضدّ الحالة السابقة ، من دون فرق في ذلك بين كون الحالة السابقة هي طهارة الثوب أو نجاسته ، وهو متأتّ فيما مرّ من مثال الحدث والوضوء ، من دون فرق أيضاً بين كون أحدهما معلوم التاريخ وكونهما معاً مجهولي التاريخ ، فراجع بقيّة التقريرات المحرّرة عنه قدس سره ، والجواب عنه هو ما عرفت من أنّ المستصحب هو الأعمّ من جهة الحدوث وجهة البقاء ،

ص: 235


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 110 / م (2).
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 203 / م 5 ، 2 : 356 / م 47.
3- مخطوط لم يطبع بعد.
4- فوائد الأُصول 4 : 526.

وبه أجاب في تحرير السيّد سلّمه اللّه (1).

قوله : فإنّه يعلم وجداناً بطهارة الثوب في أحد الحالين إمّا في حال غسله بالماء الأوّل ، وإمّا في حال غسله بالماء الثاني ... الخ (2).

غايته أنّه لو كان مسبوقاً بالطهارة يكون المتيقّن هو الأعمّ من حدوث الطهارة أو بقائها ، فإنّه لو كان الاناء الأوّل هو الطاهر تكون الطهارة المستصحبة هو الطهارة بجهة البقاء ، وعلى كونه هو الثاني يكون الطهارة المستصحبة هي الطهارة بجهة الحدوث. وهكذا الحال في استصحاب النجاسة لو كانت حالته السابقة هي النجاسة. وهكذا الحال في مسألة الحدث والوضوء فيما لو كانت حالته السابقة هي الوضوء أو كانت هي الحدث ، فإنّ المستصحب في جميع ذلك يكون هو الأعمّ من جهة الحدوث وجهة البقاء ، وهذا هو الجواب عن دليل القول بلزوم الأخذ بضدّ الحالة السابقة استناداً إلى العلم بارتفاعها والشكّ في قيام فرد آخر مقامها ، لا ما أُفيد من انكار الكلّية ، فتأمّل.

ولا يبعد أن يكون هذا الذي أُفيد من إنكار كلّية الطهارة ، وادّعاء كونها شخصية من جهة أنّ التردّد في الزمان لا يكون موجباً للكلّية ، إنّما قاله قدس سره في مقام الجواب عن دعوى كون استصحاب الطهارة لا يمكن أن يكون معارضاً لاستصحاب النجاسة ، لأنّ النجاسة المستصحبة شخصية ، لكونها حاصلة يقيناً عن أوّل الغسلة الثانية ، بخلاف الطهارة المستصحبة فإنّها كلّية لتردّدها بين حصولها بعد الغسلة الأُولى فتكون مرتفعة قطعاً ، وحصولها بعد الغسلة الثانية فتكون باقية قطعاً ، فتكون من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، وحينئذ يجاب عن

ص: 236


1- أجود التقريرات 4 : 160 - 161.
2- فوائد الأُصول 4 : 527.

ذلك بأنّ الطهارة المستصحبة أيضاً شخصية ، وتردّدها بحسب الزمان الذي وقعت فيه لا يوجب كلّيتها ، ومن الواضح أنّ هذا لا دخل [ له ] في الجواب عمّا استدلّ به للأخذ بضدّ الحالة السابقة ، فإنّ ذلك الاستدلال إنّما يحسن الجواب عنه بما ذكرناه ، من أنّ المستصحب ليس هو الطهارة المحتمل وقوعها بعد ارتفاع الطهارة الأُولى كي يكون ذلك من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، بل إنّ المستصحب هو الطهارة بالأعمّ من جهة الحدوث وجهة البقاء كما عرفت.

قوله : وإن كان كثيراً ، فزمان وجود كلّ من طهارة الثوب ونجاسته لم يكن معلوماً بالتفصيل ... الخ (1).

قد يقال : إنّه عند غمسه الثوب تدريجاً في الماء الكثير - أعني الماء الثاني - يعلم إجمالاً بنجاسة الثوب إمّا جزئه الأعلى إن كان النجس هو الماء الأوّل ، أو جزئه الأسفل الذي انغمس في الماء إن كان النجس هو الماء الثاني ، وهذه النجاسة المعلومة بالاجمال معلومة التاريخ ، لكن ذلك من قبيل ما لو كان المتيقّن مردّداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، لأنّ النجس إن كان هو الأعلى فقد ارتفعت نجاسته قطعاً ، وإن كان هو الأسفل فقد بقيت قطعاً ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : يكفي استصحاب القدر المشترك بينهما ، فتأمّل.

نعم ، لو كان التطهير بالماء الثاني دفعياً ، لم يكن النجاسة معلومة التاريخ ، كما لو فرضنا العلم بنجاسة أحد الكرّين ، وكان لنا ماء قليل قد اتّصل بالأوّل منهما ثمّ بالثاني منهما ، فإنّه حينئذ يعلم بنجاسة ذلك الماء القليل في أحد الاتّصالين وطهارته في الاتّصال بالآخر ، ولم يكن زمان كلّ من الحالتين معلوماً بالتفصيل ، وكذلك الحال لو علمنا بوقوع البول والمطر في الاناء القليل ولم يعلم السابق

ص: 237


1- فوائد الأُصول 4 : 527.

منهما.

بقي في المقام إشكال : وهو أنّه قدس سره فيما لو كان أحد طرفي العلم الاجمالي في حدّ نفسه مورداً لاستصحاب الطهارة ، والطرف الآخر مورداً لقاعدة الطهارة ، لم يبن على الرجوع فيما هو مورد استصحاب الطهارة بعد التعارض والتساقط إلى قاعدة الطهارة ، لما حقّقه في محلّه (1) من أنّ الحكم بطهارة هذا الطرف من أيّ أصل كان يكون معارضاً بالحكم بطهارة الطرف الآخر ، وحينئذ ففيما هو مورد لاستصحاب الطهارة يكون الحكم بطهارته لكلّ من الاستصحاب وقاعدة الطهارة معارضاً للحكم بطهارة الطرف الآخر لقاعدة الطهارة ، وحينئذ فلِمَ لا يجري هذا المبنى فيما نحن فيه ، بأن يقال : إنّ الحكم بطهارة الثوب المغسول في كلّ من الاناءين لكلّ من استصحاب الطهارة وقاعدتها معارض باستصحاب نجاسة الثوب المزبور ، فلا يمكن الحكم بطهارته بعد التعارض والتساقط ، لأنّ ذلك إنّما هو لقاعدة الطهارة بعد تعارض استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة ، والمفروض أنّ قاعدة الطهارة فيه ساقطة بسقوط استصحاب الطهارة.

والجواب عن هذا الإشكال : هو أن يقال بالفرق الواضح بين المقامين ، فإنّ المانع في ذلك المقام من جريان الأصل في كلّ واحد من الطرفين هو لزوم المخالفة القطعية العملية ، فيتأتّى فيه ما أفاده قدس سره من أنّ الحكم بطهارة هذا الطرف كان معارضاً للحكم بطهارة الطرف الآخر ، بخلاف ما نحن فيه من الأصلين المثبت أحدهما لنجاسة الثوب والآخر لطهارته ، فإنّه لا يلزم من إجرائهما معاً مخالفة عملية قطعية ، للعلم الاجمالي ببقاء أحد الأمرين من الطهارة والنجاسة ، إذ

ص: 238


1- فوائد الأُصول 4 : 47 ، راجع أيضاً حواشي المصنّف قدس سره في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 518 وما بعدها.

ليس ذلك من قبيل العلم الاجمالي بالتكليف ، كي يكون إجراء الأُصول على خلافه موجباً للمخالفة القطعية للتكليف المعلوم في البين ، بل لا يكون في البين ما يمنع من جريانهما معاً سوى كونهما على خلاف العلم بارتفاع أحد الأمرين المذكورين ، وهذا إنّما يكون مانعاً في خصوص الأُصول الاحرازية ، دون غيرها على ما أفاده قدس سره في محلّه.

وحينئذ فنقول : إنّ العلم الاجمالي هنا إنّما يمنع من الجمع بين التعبّد بإحراز الطهارة والتعبّد بإحراز النجاسة ، ومن الواضح أنّ إحراز الطهارة إنّما هو باستصحابها لا بقاعدتها ، فالمانع المذكور لا يمنع إلاّمن الجمع بين استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة ، لأنّ التعبّد باحراز كلّ من الطهارة الواقعية والنجاسة الواقعية مخالف للعلم الاجمالي بارتفاع أحدهما ، فلا يمكن الجمع في التعبّد بين الاحرازين المذكورين ، ونتيجة عدم إمكان الجمع بينهما هو تعارضهما وتساقطهما ، أمّا قاعدة الطهارة فلا يكون في البين ما يمنع عنها أصلاً.

نعم ، لو فرض أنّها من الأُصول الاحرازية ، لكانت هي مع استصحاب الطهارة معارضين لاستصحاب النجاسة ، لكن قد تقرّر في محلّه أنّها ليست من الأُصول الاحرازية ، وحينئذ نقول : إنّه بعد تعارض استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة وبعد تساقطهما ، يكون المرجع في الثوب المذكور هو قاعدة الطهارة.

وهناك فرق آخر بين المقامين : وهو أنّه في مثل الاناءين المذكورين تكون قاعدة الطهارة فيما هو مستصحبها قابلة لمعارضة قاعدة الطهارة في الطرف الآخر بخلاف ما نحن فيه حيث إنّ مجرى الأصلين المتعارضين فيه شيء واحد وهو الثوب ، وقاعدة الطهارة فيه لا تصلح لمعارضة استصحاب النجاسة ، كي نقول إنّ

ص: 239

المجموع من استصحاب الطهارة وقاعدتها معارض لاستصحاب النجاسة ، لما هو واضح من أنّ الصالح لمعارضة استصحاب النجاسة في الثوب المذكور إنّما هو استصحاب الطهارة فقط ، ولا يمكن أن ينضمّ إليه في هذه المعارضة قاعدة الطهارة ، لكونها محكومة باستصحاب النجاسة ، فلا تصلح لمعارضته. نعم بعد سقوط استصحاب النجاسة بمعارضته باستصحاب الطهارة ، تكون قاعدة الطهارة في الثوب المذكور جارية بلا حاكم ولا مزاحم.

وهذا الأخير هو الجواب الحقيقي للنقض المذكور ، أمّا ما ذكرناه أوّلاً فيمكن الخدشة فيه بأنّ قاعدة الطهارة وإن لم تكن من الأُصول الاحرازية ، إلاّ أنّ الأُصول غير الاحرازية إذا كانت مجرّدة عن استلزام المخالفة القطعية إنّما يمكن الجمع بينها إذا لم يكن المورد واحداً ، أمّا إذا كان المورد واحداً كما فيما نحن فيه فلا يمكن الجمع بينها للزوم التناقض ، فلابدّ حينئذ من الالتزام بتحقّق المعارضة بينها وإن لم يكن في البين مخالفة عملية ، ولا الجمع بين الاحرازين على خلاف الواقع.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما أفاده قدس سره في محلّه من جريان الأُصول غير الاحرازية في مورد العلم الاجمالي إذا كانت مجرّدة عن استلزام المخالفة القطعية ليس على إطلاقه ، بل لابدّ من تقييده بما إذا لم يكن المورد واحداً. ومنه يظهر لك أنّه لا يمكن النقض على القائلين بجواز إجراء الأُصول الاحرازية بما نحن [ فيه ] من توارد الحالتين الطهارة والنجاسة على مورد واحد ، فإنّه خارج عن إطلاقهم القول بعدم المانع من جريان الأُصول الاحرازية المجرّدة من استلزام المخالفة القطعية ، حيث إنّه منحصر بما إذا كانا في موردين ، فلا يشمل ما إذا كانا في مورد واحد.

ص: 240

نعم ما ذكرناه أوّلاً من الجواب نافع فيما لو كان أحد الاناءين معلوم الطهارة تفصيلاً وكان الآخر معلوم النجاسة ، ثمّ علم إجمالاً بأنّه إمّا قد طهر النجس منهما أو قد نجس الطاهر ، فإنّه بعد تعارض استصحاب النجاسة فيما كان نجساً باستصحاب الطهارة فيما كان طاهراً ، يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في كلّ منهما ، ولا تكون قاعدة الطهارة في الثاني ساقطة بسقوط استصحاب الطهارة فيه ، لما ذكرناه من الجواب الأوّل ، وهكذا الحال في من توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء ، لكن شيخنا قدس سره يوافق المشهور في أمثال هذه الفروع في جريان الأصلين ولو كانا إحرازيين ، فراجع ما أفاده قدس سره في آخر الاستصحاب (1).

ولو دار الأمر بين الحدث وتنجّس الثوب مثلاً ، سقط استصحاب الطهارة في كلّ من الطرفين للمخالفة القطعية ، وبسقوط الاستصحاب في الثوب تسقط قاعدة الطهارة فيه ، لما عرفت من أنّ الموجب للسقوط هو المخالفة القطعية ، فلا يتأتّى في ذلك الوجه الأوّل ولا الوجه الثاني ، وحينئذ يكون المرجع هو لزوم إحراز الشرط وعدم جواز استعمال الثوب ، لعدم المسوّغ.

ولكن لا يخفى أنّ في قبال قاعدة الطهارة في الثوب أصالة البراءة من حرمة مسّ المصحف ، فلا يظهر فيه أثر لما أفاده شيخنا قدس سره ، حيث إنّ كلاً من الطرفين يبقى بلا أصل. أمّا على مسلكه قدس سره فلأنّ قاعدة الطهارة تسقط بسقوط الاستصحاب فيه ، كما أنّ أصالة البراءة من حرمة المس تسقط أيضاً بسقوط استصحاب الوضوء. وأمّا على مسلك الجماعة فلأنّه بعد سقوط الاستصحابين يسقط كلّ من قاعدة الطهارة والبراءة أيضاً ، وحينئذ يبقى العلم الاجمالي بارتفاع أحد الأمرين ، أعني طهارته من الحدث وطهارة ثوبه من الخبث ، فيلزمه الوضوء

ص: 241


1- راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : 543 وما بعدها.

وتطهير ثوبه على كلّ حال ، وينبغي مراجعة ما علّقناه على ص 16 (1).

قوله : الفرض الثالث : عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه كما إذا علم بكرّية الماء ... الخ (2).

الذي استقرّ عليه رأيه قدس سره أخيراً في حواشي العروة وغيرها (3) ، هو أنّ الحكم في جميع صور الكرّية والملاقاة هو النجاسة إلاّفي مسألة واحدة ، وهي ما لو كان مسبوقاً بالكرّية وكان تاريخ الملاقاة معلوماً ، فحكم فيها بالطهارة لاستصحاب الكرّية إلى ما بعد الملاقاة ، ولا يجري فيها استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية ، لكون الملاقاة معلومة التاريخ.

أمّا في صور المسبوق بالقلّة ، ففي صورة الجهل بتاريخ كلّ من الكرّية والملاقاة ، يكون استصحاب القلّة أو عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة مقتضياً للنجاسة ، ولا يعارضه استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية ، إذ لا أثر لعدم الملاقاة قبل الكرّية إلاّباعتبار لازمها ، وهو كون الملاقاة بعد الكرّية.

ومنه يظهر الحال في صورة العلم بتاريخ الملاقاة ، فإنّ استصحاب القلّة إلى ما بعد الملاقاة قاضٍ بكون الملاقاة في حال القلّة ، وهو موجب للحكم بالنجاسة ، ولا يجري الاستصحاب في طرف الملاقاة لكونها معلومة التاريخ ، فلا يجري فيها الأصل فضلاً عمّا عرفت من عدم ترتّب الأثر على استصحاب عدم الملاقاة فيما قبل الكرّية.

ص: 242


1- راجع الحاشيتين المتقدّمتين في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 518 و 522.
2- فوائد الأُصول 4 : 528.
3- كما سيذكر في الصفحة : 244.

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الكرّية ، فلأنّ استصحاب العدم في طرف الكرّية وإن لم يكن جارياً لكونها معلومة التاريخ ، إلاّ [ أنّ ] استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا يجري أيضاً ، لما عرفت من أنّه لا أثر له ، وحينئذ فتدخل المسألة فيما أُحرزت الملاقاة فيه ولم يحرز فيه الكرّية حال الملاقاة ، والمختار له قدس سره هو الحكم بالنجاسة في مثل ذلك ، لعدم إحراز ما علّق عليه الحكم بالطهارة وعدم الانفعال ، وهو عنوان الكرّية الذي هو عنوان وجودي.

وأمّا في صور المسبوق بالكرّية الذي طرأه الملاقاة والقلّة ، فقد عرفت أنّه في صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ القلّة أنّ الحكم عنده قدس سره هو الطهارة ، لاستصحاب الكرّية إلى ما بعد الملاقاة.

وأمّا عكسها وهي صورة العلم بتاريخ القلّة والجهل بتاريخ الملاقاة ، فالاستصحاب لا يجري في طرف القلّة لكونها معلومة التاريخ ، كما أنّه لا يجري في طرف الملاقاة بأن يقال : الأصل هو عدم الملاقاة إلى ما بعد القلّة ، لعدم ترتّب الأثر على عدم الملاقاة قبل القلّة إلاّباعتبار لازمه ، وهو وقوعها في زمان القلّة ، وحينئذ فتدخل هذه المسألة في العنوان المشار إليه ، ويكون الحكم عنده قدس سره هو النجاسة لعدم إحراز عنوان الكرّية عند الملاقاة.

أمّا لو كان كلّ من القلّة والملاقاة مجهول التاريخ ، فإنّ الظاهر هو الحكم بالطهارة ، لما عرفت من استصحاب بقاء الكرّية إلى ما بعد الملاقاة ، القاضي بكون الملاقاة في حال الكرّية ، وأنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد القلّة لا يجري لعدم ترتّب الأثر عليه ، لكنّه قدس سره قد حكم في هذه الصورة بالنجاسة كما

ص: 243

يظهر من حواشيه على العروة (1) ورسالته الوسيلة (2) بعد التغيير المشار إليه في الكتاب (3) في صور المسبوق بالقلّة.

ولا يخفى أنّه قدس سره أشار إلى صور المسبوق بالكرّية إشارة إجمالية ، وكنت أتخيّل أنّ الحكم عنده قدس سره في صورة الجهل بتاريخ كلّ من القلّة والملاقاة هو الطهارة ، لما عرفته من جريان أصالة بقاء الكرّية إلى حين الملاقاة ، وعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى حين النقصان لكونه مثبتاً ، ولكن حينما عرضت ذلك بخدمته قدس سره ، أفاد أنّ الحكم في هذه الصورة هو النجاسة لتعارض الأصلين فيها وهما أصالة بقاء الكرّية إلى حين الملاقاة وهو مقتض للطهارة ، وأصالة عدم هذه الملاقاة إلى حين النقصان وهو مقتض للنجاسة ، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى قاعدة المقتضي والمانع ، أعني ما عرفت من لزوم إحراز الكرّية عند الملاقاة في الحكم بالطهارة ، وليس هذا الأصل - أعني أصالة عدم حدوث هذه الملاقاة في حال الكرّية - مثبتاً ، لعدم توقّف الحكم بالنجاسة على لازمه الذي هو وقوع الملاقاة بعد النقصان ، وذلك لأنّ هذه الملاقاة معلومة بالوجدان ، ويكفي في الحكم بالنجاسة أصالة عدم وقوع هذه الملاقاة في حال الكرّية ، لأنّ العاصم هو وقوع الملاقاة في حال الكرّية ، فإذا جرى أصالة عدم هذه الملاقاة في حال الكرّية ، لم يتحقّق كون هذه الملاقاة مع العاصم الذي هو الكرّية ، فيترتّب الحكم بالنجاسة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الحكم بالنجاسة في الصورة الأخيرة - أعني ما لو

ص: 244


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 84 م 8 / الماء الراكد.
2- وسيلة النجاة : يز [ لا يخفى أنّه قد رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].
3- فوائد الأُصول 4 : 530.

علم تاريخ النقصان وكان تاريخ الملاقاة مجهولاً - لأصالة عدم هذه الملاقاة في زمان الكرّية ، لا لقاعدة المقتضي والمانع المشار إليها.

والحاصل : أنّه بعد العلم بحدوث كلّ من النقصان والملاقاة تكون الملاقاة معلومة ، فإن كانت قبل الحادث الآخر الذي هو النقصان كان الماء طاهراً ، لوقوع ملاقاته للنجاسة في حال كرّيته ، وإن لم تكن الملاقاة المذكورة واقعة في حال الكرّية كان الماء نجساً ، لعدم كون ملاقاته للنجاسة في حال كونه واجداً للعاصم ، ولا حاجة في الحكم بنجاسته إلى إثبات كون هذه الملاقاة واقعة في حال نقصانه عن الكرّية ، ليكون أصالة عدم وقوع هذه الملاقاة في حال الكرّية مثبتاً ، هذا ما كنت حرّرته عنه قدس سره ولعلّ الاشتباه منّي في النقل.

وكيف كان ، فإنّا لو كنّا محتاجين إلى إحراز حال هذه الملاقاة وأنّها هل كانت موجودة في حال الكرّية أو لم تكن موجودة في ذلك الحال ، لم يكن أصالة عدم وجودها في ذلك الحال نافعاً في إحراز كون هذه الملاقاة متّصفة بأنّها لم تكن موجودة في حال الكرّية ، لأنّ اتّصافها بعدم كونها موجودة في حال الكرّية إنّما هو على نحو مفاد ليس الناقصة ، والأصل المذكور إن أُخذ بمفاد ليس الناقصة فهو لا أصل له ، لأنّ هذه الملاقاة الشخصية لم يسبق لها حالة سابقة في الاتّصاف بعدم كونها موجودة في ذلك الحال ، وإن أُخذ بمفاد ليس التامّة بمعنى أنّ كلّي الملاقاة لم يكن موجوداً في حال الكرّية ، بحيث يكون حال الكرّية ظرفاً للنفي لا قيداً في النفي ، فهذا لا ينفع في إحراز حال هذه الملاقاة إلاّعلى الأصل المثبت.

وهكذا الحال فيما لو أُريد من أصالة عدم الملاقاة في حال الكرّية أصالة عدم المجموع المركّب من الملاقاة الموجودة في حال الكرّية ، بحيث يكون حال الكرّية قيداً في المنفي وهو الملاقاة ، فإنّ أصالة عدم ذلك المجموع المركّب من

ص: 245

الملاقاة المقيّدة بحال الكرّية ، لا ينفع في إحراز حال هذه الملاقاة الشخصية المعلومة في البين.

ثمّ إنّ ما أُفيد من لزوم إحراز حال هذه الملاقاة قابل للتأمّل ، لأنّا إن قلنا بالقاعدة المشار إليها ، أعني لزوم إحراز العنوان الوجودي المعبّر عنها بقاعدة المقتضي والمانع ، بناءً على أنّ الكرّية مانعة من الانفعال ، فلا حاجة إلى إحراز حالها ، بل يكفي في الحكم بالنجاسة مجرّد عدم إحراز الكرّية حال الملاقاة ، هذا.

مضافاً إلى أنّا قد أحرزنا حال هذه الملاقاة بأصالة بقاء الكرّية إلى حين الملاقاة ، فإنّ ذلك كافٍ في إحراز حال هذه الملاقاة وأنّها كانت في حال الكرّية فيكون هذا الأصل حاكماً على القاعدة المزبورة ، بعد البناء على ما عرفت من عدم جريان أصالة عدم الملاقاة في حال الكرّية وقبل النقص ، نعم لو كان تاريخ النقص معلوماً لم تكن أصالة بقاء الكرّية إلى حين الملاقاة [ جارية ] ، لكون النقص معلوم التاريخ ، فلم يبق إلاّ أصالة عدم الملاقاة قبل النقص ، وقد عرفت أنّه لا أثر له ، فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى القاعدة المزبورة.

فقد تلخّص لك : أنّ الحكم في صور المسبوق بالقلّة هو النجاسة ، وفي صور المسبوق بالكرّية يكون الحكم بالنجاسة منحصراً في صورة كون النقصان معلوم التاريخ ، وأمّا في صورة كون الملاقاة معلومة التاريخ أو كونهما مجهولي التاريخ فيكون الحكم هو الطهارة ، ولعلّ هذا هو الذي بنى عليه أخيراً ، ويكون ما أُفيد في حواشي العروة والوسيلة من الحكم بالنجاسة في صورة الجهل بتاريخهما محتاجاً إلى التغيير.

ثمّ إنّ الذي يظهر من هذا التقرير هو الحكم بالطهارة في الصور الثلاث ،

ص: 246

وأنّ عدوله قدس سره إنّما هو في بعض صور المسبوق بالقلّة ، لكن الذي يظهر من التقريرات المطبوعة في صيدا (1) هو ما ذكرناه من انحصار الحكم بالنجاسة في صورة العلم بتاريخ النقص ، وأنّ الحكم في صورة الجهل بتاريخهما وفي صورة العلم بتاريخ الملاقاة هو الطهارة ، فلاحظ وتأمّل.

وتحرير هذا المبحث بنحو أوضح هو أن يقال : إنّ القول في هذا المقام يستدعي تقديم مقدّمات :

الأُولى : أنّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة الأُولى هو ما قدّمناه من كون المسألة الأُولى هي عبارة عن كون عدم أحد الحادثين بضمّ الحادث الآخر موضوعاً لحكم شرعي ، وهذه المسألة يكون أحد الحادثين فيها وهو الكرّية رافعاً لأثر الآخر وهو الملاقاة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ تلك المسألة أيضاً يكون عدم إسلام الوارث رافعاً لأثر الحادث الآخر وهو موت المورّث ، كما أنّه يمكن أن يقال : إنّ موضوع الأثر الشرعي هنا وهو النجاسة مؤلّف من أحد الحادثين وهو الملاقاة وعدم الآخر وهو الكرّية ، هذا في صورة الكرّ المسبوق بالقلّة. وفي صورة القلّة المسبوقة بالكرّية يكون موضوع الطهارة هو الملاقاة وبقاء الكرّية ، كما أنّه لا يتمّ ما أُفيد من الفرق بينهما بعدم جريان الأصل هنا لا في معلوم التاريخ ولا في مجهوله ، لفرض جريان أصالة عدم الكرّية إلى حين الملاقاة ، وكذلك استصحاب الكرّية إلى حين الملاقاة ، ويترتّب على الأوّل النجاسة وعلى الثاني الطهارة ، كما أنّ الفرق بينهما بعدم التعارض بين الأصلين هنا ، إذ ليس الجاري في هذه المسألة إلاّ أصلاً واحداً في ناحية الكرّية دون الملاقاة ، لا يكون فارقاً ، لأنّ الأصل الجاري في تلك

ص: 247


1- أجود التقريرات 4 : 163 - 164.

المسألة أيضاً واحد ، وهو استصحاب عدم الإسلام إلى ما بعد موت المورّث ، ولا يجري استصحاب عدم الموت إلى ما بعد الإسلام ، لما تقدّم في تلك المسألة من كون هذا الأصل مثبتاً. فالذي تلخّص أنّه لا فرق بين المسألتين ، وإنّما خصّص الكلام على هذه المسألة لأجل أهميّتها وكثرة الابتلاء بها.

المقدّمة الثانية : أنّه قد اتّضح لك أنّ الأصل الوحيد الجاري في هذه المسألة إنّما هو في ناحية الكرّية ، فيكون المستصحب هو القلّة وعدم الكرّية في صورة المسبوق بالقلّة ، ويترتّب عليه الحكم بالنجاسة ، وفي صورة القلّة المسبوقة بالكرّية يكون الأصل الجاري هو استصحاب الكرّية ، ويترتّب عليه الحكم بالطهارة ، أمّا استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية أو إلى ما بعد القلّة فلا يجري ، لعدم ترتّب الطهارة على الأوّل والنجاسة على الثاني إلاّبالأصل المثبت.

المقدّمة الثالثة : أنّ صورة جريان الأصل في هذه المسألة لا يظهر أثر فيه للقول بمانعية الكرّية أو شرطية القلّة ، لأنّ النتيجة في صورة جريان الأصل واحدة على كلّ من هذين القولين. نعم في الصورة التي لا يجري فيها الأصل ، وهي ما لو كان تاريخ الكرّية معلوماً وتاريخ الملاقاة مجهولاً ، أو كان تاريخ القلّة معلوماً وتاريخ الملاقاة مجهولاً ، يظهر الفرق بين القولين ، فإنّه بعد فرض عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية في الأوّل أو إلى ما بعد القلّة في الثاني يكون المورد من قبيل ما أُحرزت فيه الملاقاة ولم يحرز فيه الكرّية ولا القلّة ، فعلى القول بمانعية الكرّية يكون الحكم هو النجاسة ، وعلى القول بشرطية القلّة يكون الحكم هو الطهارة لقاعدة الطهارة.

أمّا في صورة الجهل بتاريخ الكرّية أو الجهل بتاريخ القلّة ، فإنّ الأصل

ص: 248

يجري ويكون مقتضاه في الأوّل هو النجاسة وفي الثاني هو الطهارة ، سواء كان تاريخ الملاقاة مجهولاً أيضاً ، أو كان تاريخها معلوماً ، من دون فرق في ذلك بين القول بمانعية الكرّية أو القول بشرطية الملاقاة ، وإن شئت التفصيل فلاحظ الجدول المرسوم.

ص: 249

صور المسبوق بالقلّة (1)

الصورة

ص: 250


1- ولا يخفى أنّ ما حرّرناه في هذا الجدول مبنيٌّ على غضّ النظر عن شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وأمّا بناءً على الشبهة المذكورة وأنّها جارية في كلّ ما هو مجهول التاريخ ، سواء كان مقابله معلوم التاريخ أو كان مجهول التاريخ ، فالذي ينبغي هو الحكم بالنجاسة في جميع هذه الصور الست بناءً على المانعية ، والحكم بالطهارة في الجميع أيضاً بناءً على كون القلّة شرطاً ، فلاحظ [ منه قدس سره ].

الصورة

(1) (1) [ لا يخفى أنّه في الطبعة الحديثة من المستمسك لم تدرج هذه الاضافة التي أشار إليها قدس سره بين قوله : « المقتضية للنجاسة » وقوله : « هذا على المشهور » وإنّما ذكرت في آخر التعليقة ، فلاحظ ].(2)

ص: 251


1- من ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما يظهر من المستمسك ج 1 ص 80 [ مستمسك العروة الوثقى 1 : 166 ] من الاعتماد على أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية ، في إثبات الطهارة في صورة الجهل بتاريخ كلّ من الكرّية والملاقاة ، وفي صورة العلم بتاريخ الكرّية والجهل بتاريخ الملاقاة ، كما تضمّنه ما في الهامش من التصحيح الخطّي بقوله : وأمّا في صورة العلم بتاريخ الكرّية والجهل بتاريخ ... الخ ، هذا. مضافاً إلى أنّه بعد البناء على أنّ استصحاب العدم لا يجري في مجهول التاريخ ، لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، أو ما هو نحوها ، كما قرّره بقوله : أمّا بناءً على ما هو التحقيق من عدم جريانه ذاتاً ... الخ ، لا يبقى موقع لما أفاده في التصحيح المشار إليه من الاعتماد على أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية ، كما أنّه لا يبقى موقع للاعتماد على أصالة عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة المعلومة التاريخ ، القاضي بالنجاسة ، وهكذا الحال في صور المسبوق بالكرّية ، اللّهمّ إلاّ أن تكون هذه الشبهة عنده مختصّة بخصوص مجهولي التاريخ ، دون ما يكون مجهول التاريخ في قبال ما هو معلوم التاريخ ، لكن الظاهر جريان هذه الشبهة في كلّ ما هو مجهول التاريخ ، وإن كان في قبال ما هو معلوم التاريخ. فراجع نفس الكتاب ص 472 [ مستمسك العروة الوثقى 2 : 497 - 501 ] والحقائق 2 : 506. لكنّه ( سلّمه اللّه تعالى ) أخيراً قدّم هذا الذي حرّره في الهامش ، وجعله بين قوله : « المقتضية للنجاسة » وقوله : « هذا على المشهور » ، ليكون الجميع شرحاً لما عليه المشهور (*
2- ) ، ويكون مبناه في جميع المسائل على عدم جريان الأصل كما تضمّنه قوله : أمّا بناءً على التحقيق ... الخ ، وكان ذلك بعد المذاكرة معه في وجه ما حرّره في الهامش في آخر الحاشية ليلة 3 صفر 1376. لكن ذلك لا يلتئم مع ما ذكره في صورة القليل المسبوق بالكرّية ، من أنّه عند الجهل بتاريخ القلّة والملاقاة يكون المرجع هو أصالة الطهارة ، وعند العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ القلّة يجري استصحاب الكرّية إلى الملاقاة ، ولا يعارضه استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة ، لكون الملاقاة معلومة التاريخ ، ولو جرى لم ينفع لكونه مثبتاً. ولا يخفى أنّ أصالة عدم الملاقاة إلى زمان القلّة لو كان مثبتاً ، كان الجاري في صورة الجهل بالتاريخين هو استصحاب الكرّية إلى الملاقاة فقط. فيكون المستند في الحكم بالطهارة هو استصحاب الكرّية لا قاعدة الطهارة ، وهذا ممّا يكشف عن أنّ هذه الشبهة عنده غير جارية في صورة كون أحد الحادثين معلوم التاريخ ، وحينئذ يكون الموجب لسقوط الأصلين في الجهل بتاريخ القلّة والملاقاة هو شبهة عدم الاتّصال ، ويكون المرجع فيها هو أصالة الطهارة ، بخلاف ما لو كان أحدهما معلوم التاريخ ، فلاحظ [ منه قدس سره ].

ص: 252

الصورة

ص: 253

الصورة

(1) (1)

ص: 254


1- محصّل قاعدة المقتضي الصغيرة التي أشرنا إليها في هذا الجدول هو أنّ السيّد قدس سره وإن لم يلتزم بأنّ مطلق الملاقاة مقتضية للتنجيس وأنّ الكرّية مانعة ، لكنّه في مورد إحراز كون الماء قليلاً يقول إنّ القلّة مع الملاقاة مقتضية للتنجيس إلاّ أن يحرز اتّصال ذلك القليل بالمادّة ، كما أفتى بذلك في مسألة 2 من ص 14 [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 76 / الماء الجاري ] ، ففيما نحن فيه من كون الماء فعلاً قليلاً وقد لاقته نجاسة ، وقد كان كثيراً ، ونحتمل أنّه حينما وقعت فيه كان معه ذلك المقدار الذي نقص منه ، يكون من هذا القبيل. أو أنّه قدس سره يقول في ذلك بالنجاسة استناداً إلى عموم متصيّد من الموارد الخاصّة ، وحاصل ذلك العموم أنّ القليل ينجس بالملاقاة ، وقد خرج منه ما كان متّصلاً بالمادّة أو كان مع غيره ممّا يجعل المجموع كرّاً ، وحينئذ ففيما نحن فيه وفي مسألة 2 المشار إليها يكون المرجع هو ذلك العموم ، وإن كانت الشبهة مصداقية. وعلى كلّ حال ، يكون هذا المسلك شبيهاً بمسلك شيخنا قدس سره ، غير أنّ منطقة مسلك شيخنا قدس سره أوسر. لأنّ المدار فيها على أنّ نفس الملاقاة مقتضية للتنجيس ، فيشمل ما لم يحرز فيه القلّة ، والمدار في هذا المسلك ، على ملاقاة خصوص القليل ، فيختصّ بما أُحرزت فيه القلّة وشكّ فيه من ناحية الاتّصال بالعاصم أو بما يكون معه عاصماً ، فلا يشمل ما لم تحرز فيه القلّة ، [ منه قدس سره ].

والمتلخّص من جميع ذلك : هو أنّه في صورة الكرّية المسبوقة بالقلّة لو كانت الكرّية مجهولة التاريخ ، يكون المرجع هو استصحاب القلّة إلى ما بعد الملاقاة ، وهو قاضٍ بالتنجيس سواء كانت الملاقاة معلومة التاريخ أو كانت مجهولة التاريخ. وفي صورة القلّة المسبوقة بالكرّية ، لو كانت القلّة مجهولة التاريخ يكون المرجع هو استصحاب الكرّية إلى ما بعد الملاقاة ، وهو قاضٍ بالطهارة سواء كانت الملاقاة معلومة التاريخ أو كانت مجهولة التاريخ ، والذي لا يجري فيه الأصل ويكون المرجع فيه قاعدة المقتضي أو قاعدة الطهارة هو صورة واحدة من الأوّل وأُخرى من الثاني ، وهما صورة العلم بتاريخ الكرّية من الأوّل وصورة العلم بتاريخ النقص من الثاني ، وهذا هو الذي يظهر من تحريرات السيّد سلّمه اللّه تعالى ، فراجع (1).

فائدة : قال المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره في الوسيلة : مسألة : إذا اتّفقا على الرجوع وانقضاء العدّة واختلفا في المتقدّم منهما ، فادّعى الزوج أنّ المتقدّم هو الرجوع ، وادّعت هي أنّ المتقدّم انقضاء العدّة ، فإن تعيّن زمان الانقضاء وادّعى الزوج أنّ رجوعه كان قبله فوقع في محلّه ، وادّعت هي وقوعه بعده فوقع في غير محلّه ، فالأقرب أنّ القول قوله بيمينه. وإن كان بالعكس ، بأن تعيّن زمان الرجوع وأنّه يوم الجمعة مثلاً ، وادّعى ( الزوج ) أنّ انقضاء العدّة كان في يوم السبت ، وادّعت هي أنّه كان في يوم الخميس ، فالقول قولها بيمينها (2).

أمّا المسألة الأُولى : فحيث إنّ زمان انقضاء العدّة كان مفروض التعيين ، فلا مجال فيه لتصديقها في الانقضاء ، وحينئذ يكون المرجع هو استصحاب عدم

ص: 255


1- أجود التقريرات 4 : 161 - 164.
2- وسيلة النجاة 2 : 456 / م (5) من : القول في الرجعة.

الرجوع إلى ما بعد زمان الانقضاء ، ومقتضاه عدم الحكم بنفوذ الرجوع ، بل يحكم بالبينونة لخروج الزوجة عن العدّة بالوجدان ، وإحراز عدم الرجوع في زمان العدّة بالأصل ، إلاّ أنّ أصالة صحّة الرجوع قاضية بنفوذه ، وهي حاكمة على مقتضى الأصل المزبور ، لكن الإشكال في جريان أصالة الصحّة في الرجوع ، لكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في الركن الذي لا يجري فيه أصل الصحّة ، فتأمّل.

وأمّا المسألة الثانية : فإنّ المرجع الأوّلي فيها وإن كان هو استصحاب بقائها في العدّة إلى حين الرجوع الذي كان زمانه معلوماً ، وهو موافق لأصالة الصحّة في اقتضاء نفوذ ذلك الرجوع ، إلاّ أنّ تصديق قولها في انقضاء العدّة الذي يكون مقتضاه هو انقضاء العدّة قبل ذلك الزمان الذي وقع الرجوع فيه قاضٍ بعدم نفوذ الرجوع ، وذلك مقدّم على الاستصحاب وأصالة الصحّة لكونه من قبيل الأمارة ، لكن في شمول أدلّة تصديقها في انقضاء العدّة لمثل المورد تأمّل ، ولو شمله ففي لزوم اليمين عليها تأمّل أيضاً ، لأنّ قولها لو كان حجّة وأمارة لم يحتج إلى يمين ، فتأمّل فإنّه وإن قيل بسقوط اليمين في أمثال هذه المقامات ، إلاّ أنّه محل تأمّل وإشكال ، إذ لا تزيد هذه المقامات ونحوها من موارد ما لا يعلم إلاّمن قبله على موارد اليد ، فإنّها مع كونها أمارة يحتاج صاحبها إلى اليمين ، فلاحظ.

ولم يتعرّض لصورة الجهل بتاريخهما ، ولعلّ نظره هو إلحاقه بالصورة الثانية ، بمعنى أنّه بعد تعارض الاستصحابين يكون المرجع هو أصالة الصحّة في الرجوع ، لكن تصديق قولها يكون حاكماً على أصالة الصحّة ، فتأمّل.

وقد تعرّض السيّد قدس سره في كتاب القضاء من ملحقات العروة مسألة 5 لهذه المسألة ، وحكم بأنّ القول فيها هو قول الزوجة في المسائل الثلاثة ، لكونها

ص: 256

مصدّقة في العدّة بقاء وانقضاء. ونقل عن الشيخ قدس سره (1) وغيره (2) التفصيل بين ما إذا سبقت دعواها بالانقضاء أو دعواه بالرجوع ، قال : فلو ادّعت الانقضاء ثمّ ادّعى هو الرجوع يقدّم قولها ، ولو ادّعى الرجوع ثمّ ادّعت الانقضاء يقدّم قوله حملاً لرجوعه على الصحّة. وأنت خبير بما فيه ، لعدم الفرق بين الصورتين بالنسبة إلى الحمل على الصحّة أو عدمه ، مع أنّه لا معنى لحمل فعل شخص على الصحّة وجعله حجّة على الطرف المقابل ، وفي المقامات التي يقدّم قول مدّعي الصحّة إنّما يكون حمل فعله على الصحّة حجّة عليه للطرف المقابل ، وهذا واضح (3).

الإنصاف : أنّه لم يعلم ما هو مراد الشيخ قدس سره من هذا التفصيل ، فإن كان مورده هو ما لو علم بكلّ من الرجوع وانقضاء العدّة ، توجّه عليه ما أفاده من عدم الفرق بين الصورتين في إجراء أصالة الصحّة. نعم فيما لو كان تاريخ الرجوع معلوماً وتاريخ الانقضاء مجهولاً سقطت أصالة الصحّة ، لتقدّم حجّية قولها بالانقضاء. وعلى كلّ حال ، لا أثر لسبق دعواه أو دعواها. ولعلّ تفصيل الشيخ قدس سره ناظر إلى صور أُخر ، مثل أن يكون المراد من سبق دعواها أنّها قالت : انقضت عدّتي ، فادّعى الزوج الرجوع قبل ذلك ، فإنّه حينئذ لا مجال فيه لأصالة الصحّة ، لعدم ثبوت رجوعه.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره من قوله : مع أنّه لا معنى لحمل فعل شخص على الصحّة وجعله حجّة على الطرف المقابل الخ ، لعلّه ناظر إلى أنّ المراد من أصالة الصحّة هو حمل فعل المسلم على الصحّة ، أمّا لو كان المراد كما هو الظاهر هو أصالة

ص: 257


1- المبسوط 5 : 107.
2- شرائع الإسلام 3 : 26 ، قواعد الأحكام 3 : 134.
3- العروة الوثقى 6 : 695.

الصحّة في المعاملة عقداً كانت أو إيقاعاً ، فالظاهر أنّه لا وجه للتوقّف فيه ، كما لو ادّعت الزوجة فساد الطلاق وأنكر الزوج ذلك وقال إنّه كان صحيحاً ، فإنّ حمل طلاقه على الصحّة يكون حجّة عليها ، بمعنى أنّه يجعلها مدّعية ويجعله منكراً.

ثمّ إنّه ممّا قدّمناه في شرح عبارة الوسيلة يظهر لك أنّه إنّما يكون القول قولها استناداً إلى تصديقها في دعوى الانقضاء فيما لو كان تاريخ الانقضاء مجهولاً وكان تاريخ الرجوع معلوماً أو كان مجهولاً ، أمّا لو كان تاريخ الانقضاء معلوماً وكان تاريخ الرجوع مجهولاً ، فلا محصّل لتصديقها في دعوى الانقضاء إلاّ أن يحمل على تصديقها في دعوى أنّها عند صدور الرجوع منه في الواقع كانت عدتها منقضية ، ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، لأنّ محصّل هذه الدعوى لا يرجع إلى دعوى الانقضاء ، وإنّما يرجع إلى أنّ الرجوع في زمانه الواقعي لم يكن في أيّام عدّتها ، وهذا أمر آخر غير ما دلّت الأدلّة على تصديقها فيه وهو دعوى انقضاء العدّة ، فتأمّل.

نعم ، في هذه الصورة - أعني صورة العلم بتاريخ انقضاء العدّة والجهل بتاريخ الرجوع - يكون القول قولها استناداً إلى أصالة عدم وقوع الرجوع فيما قبل انقضاء العدّة ، إلاّ أن يستند إلى أصالة الصحّة في الرجوع ، فتكون حاكمة على أصالة عدم الرجوع فيما قبل انقضاء العدّة ، ويكون القول قول الزوج ، لكن قد عرفت التأمّل في أصالة الصحّة في أمثال المقام من مقامات الشكّ في الركنية. وينبغي مراجعة الجواهر في هذه المسألة ، وذلك قبل قوله : المقصد الرابع في جواز استعمال الحيل. وكأنّ ما أفاده في العروة عين ما أفاده في الجواهر.

قال في الجواهر - في كتاب الطلاق قبيل قوله : المقصد الرابع في جواز استعمال الحيل - : ودعوى أنّ تقدّم انقضاء العدّة على الرجوع من أحوال العدّة

ص: 258

التي لم تجعل إليها ، وإنّما الذي جعل إليها نفس العدّة انقضاء وبقاء لا تقدّمه على الرجوع ونحوه ، يدفعها إطلاق النصوص المتضمّنة لكون العدّة إليها (1) ، الذي منه قولها : قد انقضت العدّة قبل زمان رجوعك ، من غير فرق بين الاتّفاق على تعيين يوم انقضاء العدّة واختلافهما في يوم الرجوع ، بأن قالت : قد انقضت عدّتي يوم الجمعة ، وصدّقها على ذلك ، ولكن قال هو : رجوعي يوم الخميس ، وقالت هي مثلاً : يوم السبت ، فإنّ القول قولها ، وكذا لو اتّفقا على وقت الرجعة يوم الجمعة ، وقالت هي انقضت عدّتي يوم الخميس ، وقال الزوج : قد انقضت يوم السبت ، فإنّ القول قولها في العدّة المجعول أمرها إليها ، وبين عدم الاتّفاق على يوم الرجوع أو الانقضاء ، بل هي تقول : قد انقضت عدّتي قبل رجوعك ، وهو يقول : قد وقع رجوعي قبل انقضاء عدّتك ، ولو أنّ اعترافها بالرجعة يقتضي الحكم بها عليها لأصالة الصحّة ، لاقتضى فيما لو قال : رجعت ، منشئاً ، فقالت هي : قد انقضت عدّتي ، ضرورة كون الأصل الصحّة أيضاً ، والاعتراف هنا لا مدخلية له ، لكون الفعل من جانب واحد ، بل نظيره قول المطلّق : هي طالق ، والمرأة تقول : أنا حائض ، وليس هو كقول المشتري : بعتني وأنت غير بالغ ، لكون البيع مشترك الوقوع من الجانبين ، فقوله مناف لفعله ، نحو قول البائع : بعتك وأنا صبيّ ، وحينئذ فأصالة الصحّة بعد فرض كون الفعل من جانب واحد لا يقتضي الحكم به على آخر. مضافاً إلى ثبوت الفساد ، لقبول قولها في تقدّم الانقضاء المقتضي له - إلى أن قال قدس سره - وبذلك يظهر لك النظر في كثير من الكلمات المسطورة في المقام ، ضرورة أنّك قد عرفت عدم قبول قول الزوج في حال من الأحوال ، من غير فرق بين اعترافها بأصل الرجعة وعدمها ، واتّفاقهما على تعيين زمانها

ص: 259


1- وسائل الشيعة 22 : 222 / أبواب العِدَد ب 24.

واختلافهما في زمن الانقضاء أو بالعكس ، وبين إطلاقهما الدعوى من كلّ منهما ، بل إن لم نقل بقبول قولها في الأخير كان كلّ منهما مدّعياً منكراً ، فيتحالفان ، فلا تتحقّق رجعة أيضاً إلاّمع فرض النكول ، وأصل الصحّة لا يحكم به على الآخر بعد فرض كون الفعل من جانب واحد ، مع أنّه معارض باطلاق ما دلّ على قبول قولها ( مطلقاً ) فتأمّل (1) انتهى ما أفاده قدس سره.

قلت : يمكن المنع من كون القول قولها في الصورة الأُولى ، وهي ما لو اتّفقا في تعيين يوم الانقضاء واختلفا في يوم الرجعة ، استناداً في ذلك إلى إطلاق كون العدّة إليها ، فإنّ هذا الاطلاق إنّما هو فيما لو كان النزاع في نفس العدّة ، وهذه الصورة لا نزاع فيها من ناحية العدّة ، وإنّما كان النزاع في الرجوع وهل كان مقارناً للعدّة ، بعد فرض معلومية تاريخ الانقضاء ، ومن الواضح أنّ كون العدّة إليها لا يوجب كون الرجوع إليها ، ولعلّ هذا هو المراد من الدعوى التي أشار إليها بقوله قدس سره : ودعوى الخ ، وحينئذ يكون المرجع في هذه الصورة هو أصالة عدم الرجوع إلى ما بعد انقضاء العدّة ، فيكون القول قولها من هذه الجهة ، لا من جهة كون العدّة إليها ، هذا إن لم نقل بجريان أصالة الصحّة في الرجوع ، وإلاّ كان القول قول الزوج.

ولا يخفى أنّا لو قلنا بأصالة الصحّة في هذه الصورة ، فلا يلزمه القول بها في صورة العكس ، فإنّها - أعني أصالة الصحّة - في صورة العكس وإن كانت في حدّ نفسها جارية ، إلاّ أنّها محكومة بكون أمر العدّة إليها ، المنطبق على الصورة المذكورة.

ومنه يظهر لك الوجه في عدم جريان أصالة الصحّة فيما لو أنشأ الرجوع

ص: 260


1- جواهر الكلام 32 : 198 - 199.

فقالت هي : قد انقضت عدّتي ، أو أنشأ الطلاق فقالت هي : أنا في هذا الحال حائض ، فلا يرد النقض بهما على من يدّعي الرجوع إلى أصالة الصحّة ، لأنّ ذلك إنّما يقول به فيما لم يكن مورداً لكون العدّة أو الحيض إليها. أمّا مستنده قدس سره في المنع من جريان أصالة الصحّة في أمثال المقام ، فحاصله هو أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في الفعل المشترك بينهما ، لأنّ دعوى فساده من أحدهما منافية لاشتراكه فيه. ومثله ما لو كان الفعل من أحدهما ولكنّه - أعني الفاعل - يدّعي فساده ، فإنّه محكوم بصحّة عمله ، بخلاف ما لو لم يكن في البين إلاّفعل واحد صادر من أحدهما ، فادّعى الآخر بطلانه وادّعى الفاعل صحّته. ولعلّ ما أفاده السيّد قدس سره في قضاء العروة فيما تقدّم نقله عنه راجع إلى هذا التفصيل ، وقد تعرّضنا لذلك مفصّلاً في مبحث أصالة الصحّة ، فراجع (1).

وعلى كلّ حال ، إنّ هذا - أعني عدم جريان أصالة الصحّة - لو تمّ لكان موجباً لسقوط أصالة الصحّة في المقام في كلّ من الصور الثلاث ، وحينئذ لا يبقى ما يحكم على الأُصول في المقام إلاّما دلّ على كون العدّة إليها ، وجريانه إنّما يتّضح في الصورة الثانية ، وهي ما لو علم تاريخ الرجعة ووقع النزاع في تاريخ الانقضاء ، دون الصورة الأُولى وهي ما لو علم تاريخ الانقضاء ووقع النزاع في تاريخ الرجعة ، لما عرفت من أنّ الشكّ فيها لم يتعلّق بانقضاء العدّة ، وإنّما كان الشكّ فيها في ناحية الرجعة ، وذلك ممّا لا يدخل في الشكّ في انقضاء العدّة ، وذلك هو الذي أشار إليه السيّد قدس سره في الوسيلة فيما تقدّم نقله (2) أعني قوله : فإن تعيّن زمان الانقضاء وادّعى الزوج أنّ رجوعه كان قبله فوقع في محلّه ، وادّعت

ص: 261


1- المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : 458 وما بعدها.
2- في الصفحة : 255.

هي وقوعه بعده فوقع في غير محلّه ، فالأقرب أنّ القول قوله بيمينه.

وإنّما حكم فيها بأنّ القول قول الزوج اعتماداً على أصالة الصحّة في الرجوع ، أمّا لو قلنا بعدم جريان أصالة الصحّة في أمثال ذلك ، إمّا لما ذكرناه من الركنية ، أو لما ذكره السيّد قدس سره في قضاء العروة ، أو لما أفاده في الجواهر ، فلا ينبغي الريب في كون القول قولها حينئذ ، لاستصحاب عدم الرجوع إلى ما بعد انقضاء العدّة ، فهي قد انقضت عدّتها بالوجدان ، ولم يتحقّق الرجوع منه في عدّتها بالأصل ، فيحكم ببينونتها منه إلاّ إذا أقام البيّنة على تحقّق الرجوع منه في عدّتها.

وأمّا لو كان كلّ منهما مجهول التاريخ ، فإنّ الشكّ فيها يكون جامعاً للجهتين أعني جهة انقضاء العدّة قبل الرجوع ، وهذه الجهة راجعة إليها ، وجهة الرجعة وأنّها هل وقعت بعد الانقضاء أو قبله ، وهذه الجهة غير راجعة إليها ، لكن المقابلة بين الجهتين من قبيل مقابلة الاقتضاء مع عدم الاقتضاء ، ويكون المحكّم هو ما تقتضيه الجهة الأُولى من الرجوع إليها ، ولولا ذلك لكانت المسألة من باب التداعي ، كما أفاده في الجواهر بعد فرض سقوط أصالة الصحّة ، فإن استصحاب عدم الرجوع في العدّة قاضٍ بكون القول قول الزوجة ، لما عرفت من كفاية خروجها من العدّة بالوجدان وعدم رجوع منه فيها بالأصل في تحقّق بينونتها منه ، ولا تحتاج في ذلك إلى إثبات أنّ رجوعه كان بعد انقضاء عدّتها كي يقال إنّ استصحاب عدم رجوعه في العدّة يكون مثبتاً ، وأمّا من ناحية الزوج فإنّ استصحاب بقائها في العدّة إلى ما بعد الرجوع قاضٍ بكون القول قول الزوج فيكون كلّ منهما مدّعياً منكراً ، فلاحظ.

ولبعض سادة أجلّة العصر ( سلّمه اللّه تعالى ) حاشية خطّية على هامش

ص: 262

الجواهر في هذا المقام على قوله : واتّفاقهما على تعيين زمانها (1) ، هذا لفظها : لا يخفى أنّه إذا اتّفقا على زمان الانقضاء واختلفا في زمان الرجوع ، فالأخذ بقول الزوجة ليس أخذاً بقولها في العدّة ، وإنّما هو أخذ بقولها في الرجوع الذي لا دليل على الرجوع إليها فيه ، وأمّا ما ذكره من أنّه لو لم نقل بقبول قولها في هذه الصورة يكونان متداعيين ، ففيه : أنّ دعواها وقوع الرجوع بعد العدّة ليس موضوع أثر ، وإنّما تسمع بملاحظة لازمها من عدم الرجوع في أثناء العدّة ، واللازم المذكور مرجعه إلى النفي والإنكار ، فتكون الزوجة بملاحظته منكرة ، فيكونان من المدّعي والمنكر ، انتهى.

قلت : أمّا ما أُفيد في صدر هذه الحاشية فهو القوي المتين ، وقد عرفت أنّه هو المراد من الدعوى التي أشار إليها صاحب الجواهر قدس سره بقوله : ودعوى الخ ، وهو الذي اعتمد عليه سيّد الوسيلة فيما عرفت من كلامه.

ولا يخفى أنّ الصورة التي أفاد في الجواهر أنّها لو لم يقبل قولها فيها تكون من التداعي إنّما هي صورة عدم الاتّفاق بينهما على زمان الرجعة وزمان الانقضاء ، وهي التي عبّرنا عنها بصورة الجهل بالتاريخ في كلّ منهما ، وكما أنّ قول الزوجة فيها يكون على وفق الأصل - أعني أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة - فكذلك يكون قول الزوج فيها على وفق الأصل ، أعني أصالة بقاء العدّة إلى ما بعد الرجوع القاضي بكون الرجوع في العدّة ، فالرجوع محرز بالوجدان وكونه في العدّة بالأصل ، بناءً على أنّ الأثر مترتّب على الاجتماع في الزمان. نعم لو كان الأثر مترتّباً على كون الرجوع متّصفاً بكونه في العدّة ، لكان الأصل مثبتاً من ناحيته دونه من ناحيتها ، وحينئذ تخرج المسألة عن التداعي ، ويكونان من باب كون الزوجة

ص: 263


1- تقدّم نقل تمام العبارة في الصفحة : 259.

منكرة.

ثمّ لا يخفى أنّه في الصورة الأُولى وإن لم يكن قولها مقبولاً من ناحية العدّة إلاّ أنّها يكون القول قولها من ناحية أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة ، القاضي كما عرفت بالحكم ببينونتها ، فتكون هي المنكرة ، ويكون الزوج مدّعياً ، إلاّ أن نقول بأصالة الصحّة ، فيكون [ القول ] قول الزوج حينئذ ، لكن لازم ذلك كون القول قوله أيضاً في الصورة الأخيرة - أعني صورة الجهل بالتاريخين - فإنّا وإن قلنا بأنّه لا أصل فيها من ناحية الزوج لكونه بالنسبة إليه مثبتاً ، وأنّ الأصل إنّما يجري في ناحية الزوجة فقط ، وهو أصالة عدم الرجوع إلى انقضاء العدّة ، إلاّ أنّ أصالة الصحّة التي هي من ناحية الزوج حاكمة على الأصل المذكور في ناحية الزوجة.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الكلام في هذه الأُصول الجارية في مجهول التاريخ إنّما هو مع قطع النظر عن شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وإلاّ فمع فرض كون ذلك مانعاً في مجهول التاريخ كما استقرّ عليه نظر المحشّي سلّمه اللّه ، فالذي ينبغي هو إسقاط هذه الأُصول بالمرّة ، وانحصار المرجع في المقام بأصالة الصحّة ، أو بأنّ القول قولها في انقضاء العدّة إلاّفي الصورة الأخيرة ، فإنّ الأُصول فيها وإن كانت ساقطة لعدم اتّصال زمان [ الشكّ ] بزمان اليقين ، إلاّ أنّه سلّمه اللّه يمكنه أن يجعل القول قولها ، لا من جهة كون قولها متّبعاً فحسب ، بل من جهة أصالة عدم الرجوع في العدّة بمفاد ليس التامّة ، فإنّه عنده جارٍ وإن كان الأثر مترتّباً على مفاد ليس الناقصة ، وكأنّه لأجل ذلك بنى في الصورة الثالثة على كونها منكرة حتّى لو أغضينا النظر عن اتّباع قولها في العدّة ، كما احتمله هو حينما ذاكرته في وجه ما أفاده في الحاشية. وفيه تأمّل ، لأنّ أصالة عدم الرجوع في العدّة

ص: 264

الذي أسقطناه بالمعارضة ، أو لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، هو هذا الأصل الذي رجعنا إليه أعني مفاد ليس التامّة ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى هذا الحساب يتخرج النزاع في دعوى الزوجة فساد الطلاق بدعوى كونه مصادفاً لحيضها ، فإنّهما لو اتّفقا على أنّها حائض من أوّل الشهر إلى عاشره لكن الزوج يدّعي وقوع الطلاق قبل ذلك ، أو أنّه يدّعي وقوعه بعده ، والزوجة تدّعي وقوعه في أثناء العشرة ، فلا يكون قولها في الحيض متّبعاً في هذه الصورة ، إذ ليس النزاع منها في نفس الحيض ، وإنّما النزاع في الطلاق.

ولو كان الزوج في هذه الصورة يدّعي تقدّم الطلاق على الحيض ، فالذي ينبغي هو الرجوع إلى أصالة الصحّة في الطلاق ، ولو قلنا بعدم جريانها فيه لما أفاده في الجواهر كانت المسألة من التداعي ، لأنّ أصالة عدم وقوع الطلاق قبل الحيض لا تثبت ما تدّعيه الزوجة من وقوعه في أيّام الحيض ، فإنّ ما يدّعيه وإن كان على خلاف الأصل فيكون مدّعياً ، إلاّ أنّ قول الزوجة ليس على وفق الأصل لتكون منكرة ، وحينئذ يكون كلّ منهما مدّعياً ، لعدم كون قوله على وفق الأصل.

أمّا لو كان الزوج يدّعي تأخّر الطلاق عن الأيّام المذكورة ، فالظاهر أنّه كذلك - أعني أنّه من باب التداعي بعد سقوط أصالة الصحّة - فإنّ الزوجة وإن خالفت الأصل في دعواها وقوع الطلاق في الأيّام المذكورة ، إلاّ أنّ هذا الأصل لا ينفع الزوج ، إذ لا يثبت به وقوع هذا الطلاق في أيّام الطهر إلاّباللازم.

نعم ، لو قلنا بحجّية أصالة العدم بمفاد ليس التامّة في مورد مفاد ليس الناقصة لكان القول قول الزوج ، لكفاية استصحاب عدم الطلاق في أيّام الحيض في إثبات عدم وقوع هذا الطلاق في أيّام الحيض ، وذلك كافٍ في الحكم بعدم فساده فتأمّل.

ص: 265

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن اتّفقا على وقوع الطلاق في أوّل الشهر مثلاً ، فادّعت الزوجة أنّها حائض في ذلك اليوم ، وادّعى الزوج أنّ حيضها قد انقضى قبله أو أنّه ابتدأ بعده ، كان القول قولها ، لأنّ النزاع حينئذ في نفس الحيض إمّا في انتهائه أو في ابتدائه ، وقولها حجّة في ذلك ، ويكون قولها حاكماً على استصحاب حيضها إلى حين الطلاق أو استصحاب طهرها إلى ما بعد الطلاق ، كما أنّه يكون حاكماً على أصالة الصحّة في الطلاق لو قلنا بجريانها فيه.

والظاهر أنّ الحكم كذلك - أعني حجّية قولها - في الصورة الثالثة ، وهي ما لو لم يكن بينهما اتّفاق على تاريخ أحد الأمرين من الطلاق والحيض ، على حذو ما ذكرناه في صورة النزاع في الرجوع وانقضاء العدّة عند كونهما مجهولي التاريخ ، فلاحظ وتأمّل واللّه العالم.

تنبيه : قال السيّد قدس سره في العروة في مسألة 7 : الماء المشكوك كرّيته مع عدم العلم بحالته السابقة في حكم القليل على الأحوط ، وإن كان الأقوى عدم تنجّسه بالملاقاة الخ (1). والظاهر منه البناء على كون القلّة شرطاً في الانفعال ، لا أنّ الكرّية مانعة من الانفعال ، لكنّه قال في مسألة 8 في صورة كون الماء القليل مسبوقاً بالكرّية مع العلم بوقوع النجاسة فيه : وإن علم تاريخ القلّة حكم بنجاسته (2) هذا مبني على إجرائه أصالة عدم الملاقاة في حال الكرّية وهي قاضية بالنجاسة ، كما أجرى أصالة عدم الملاقاة في حال القلّة ، ولكن لو لم يكن قائلاً بجريان الأصل المذكور ، كان الحكم بالنجاسة منافياً لمذهبه من عدم الأخذ بكون الملاقاة مقتضية والكرّية مانعة ، فإنّ مقتضى ذلك هو الحكم بالطهارة في هذه الصورة ،

ص: 266


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 83 / الماء الراكد.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 84 / الماء الراكد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يقول بكون الملاقاة مع القلّة مقتضية للتنجيس كما أفتى به في مسألة 2 من أنّه إذا شكّ في أنّ له مادّة أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة (1).

وحينئذ ففيما نحن فيه نقول : إنّ هذا الموجود من الماء القليل قد علم بكونه لاقته النجاسة ، ولم يعلم أنّه حين ملاقاتها له كان معتصماً بالجزء الذي فقده بأن كانت الملاقاة قبل انفقاد ما فقد منه ، يعني حينما كان كرّاً ، أو أنّه لم يكن معتصماً ، بأن كانت الملاقاة بعد انفقاد ما فقد منه ، يعني كانت الملاقاة بعد صيرورته قليلاً ، وحينئذ نقول : إنّ هذا الماء الموجود قد لاقته النجاسة قطعاً ، إمّا وحده أو بضميمة ذلك المقدار الذي انفقد منه ، وحينئذ تكون الملاقاة للقليل التي هي مقتضية للتنجيس محرزة ، مع فرض عدم إحراز المانع وهو اجتماع هذا القليل الموجود مع ما فقد منه ، فيكون محكوماً بالنجاسة.

نعم ، إنّه قدس سره بعد إسقاطه كون نفس الملاقاة مقتضية للتنجيس يطالَب بالدليل على كون الملاقاة للماء القليل مقتضية للتنجيس ، وأنّ اتّصال ذلك القليل بالمادّة العاصمة كما في المسألة السابقة - أعني مسألة القليل المحتمل كونه جارياً ومتّصلاً بالمادّة - مانع من ذلك ، أو أنّ المجموع من هذا الماء القليل وما قد فقد منه مانع من ذلك.

وبعبارة أُخرى : لا دليل على لزوم الأخذ بمثل هذا المقتضي مع الشكّ في المانع منه ، وأنّ أقصى ما يمكن هو الأخذ بكون نفس الملاقاة مقتضية للتنجيس وأنّ الكرّية مانعة ، من جهة ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أنّ تعليق الحكم الترخيصي على عنوان وجودي يوجب التوقّف حتّى يحرز ذلك العنوان الوجودي ، ولعلّ

ص: 267


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 76 / الماء الجاري.
2- فوائد الأُصول 4 : 529 - 530.

نظر الماتن قدس سره في ذلك إلى ما ينقل عنه (1) من جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص المنفصل ، بأن يكون لنا عموم ولو كان متصيّداً من الموارد الخاصّة يدلّ على انفعال الماء القليل ، خرج منه ما كان متّصلاً بالمادّة ، وبقي الباقي تحت ذلك العام ، فعند الشكّ في أنّ هذا القليل المفروض كونه ملاقياً للنجاسة هل هو جارٍ متّصل بالمادّة أو هل كان حين ملاقاته للنجاسة متّصلاً بما يكون معه كرّاً ، يكون المرجع هو عموم العام ، فتأمّل. أو يكون نظره في ذلك إلى أصالة عدم اتّصاله بالمادّة ، نظير أصالة عدم القرشية ، ولكن لِمَ لا تجري في مسألة 7 أصالة عدم كونه كرّاً ، إلاّ أن يقال : إنّها لا تجري في المسألة السابعة لأنّ الكرّية ليست صفة زائدة على الذات ، بخلاف الاتّصال بالمادّة ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الكرّية بمفاد ليس التامّة في مسألة 7 ، فلا ينبغي الريب في عدم جريانها في صورة العلم بحدوث القلّة والملاقاة مع العلم بتاريخ القلّة فيما هو مسبوق بالكرّية ، فلا يتمّ قوله في المسألة 8 : وإن علم تاريخ القلّة حكم بنجاسته. إذ لا ريب في سقوط أصالة عدم الكرّية ولو بمفاد ليس التامّة في الصورة المزبورة ، لأنّ هذا الماء قد طرأته الكرّية قطعاً ، وانقطع فيه عدم الكرّية ، ولو ذلك العدم التامّ الذي هو قبل وجوده بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

والخلاصة : هي أنّ حكمه بالنجاسة في مسألة 2 بقوله : إذا شكّ في أنّ له مادّة أم لا وكان قليلاً ينجس بالملاقاة (2) إن كان هو قاعدة المقتضي التي يقول بها الشيخ وشيخنا قدس سرهما فلِمَ لا يجريها في مسألة 7 وذلك قوله : وإن كان الأقوى عدم

ص: 268


1- راجع العروة الوثقى 6 : 34 - 35 / مسألة 15 من كتاب الربا ، حيث ذكر قدس سره جوازالتمسّك بالعموم.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 84 / الماء الراكد.

تنجّسه بالملاقاة (1) وهكذا الحال فيما لو كان المدرك هو التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. وإن كان المدرك هو الركون إلى أصالة عدم الاتّصال بالمادّة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ هذا الماء قبل وجوده لم يكن متّصلاً بالمادّة ، فما هو الوجه في حكمه بالنجاسة في الصورة المزبورة من مسألة 8 ، حيث إنّ هذا الماء وإن كان قبل وجوده لم يكن متّصفاً بالكرّية ، إلاّ أنّه بعد وجوده قد اتّصف بها ، وإنّما الشكّ في الملاقاة وأنّها هل كانت قبل نقصانه عن الكرّية أو بعد نقصانه ، فلم يبق إلاّدعوى قاعدة [ المقتضي ] الصغيرة التي حاصلها أنّه بعد إحراز قلّة الماء وملاقاته للنجاسة يحكم بنجاسته إلاّ أن يحرز اتّصاله بالمادّة ، وهذه القاعدة وإن لم يكن لها مورد في المسألة السابعة ، إلاّ أنّ الصورة المذكورة في المسألة الثانية من مواردها ، حيث قد أحرزنا فيها قلّة الماء فعلاً وأنّه قد لاقته النجاسة ، غايته أنّا نحتمل أنّه عند ملاقاتها له كان كرّاً ، هذا.

ولكن يمكن القول بأنّا لو سلّمنا قاعدة المقتضي الصغيرة فإنّما نسلّم جريانها في خصوص المسألة 2 ، أمّا جريانها في الصورة المزبورة ففيه تأمّل ، لأنّا وإن أحرزنا أنّ هذا الماء قليل فعلاً ، إلاّ أنّا لم نحرز ملاقاته للنجاسة ، إذ لعلّ الملاقاة كانت حينما [ كان ] كرّاً ، فلم نحرز حينئذ ملاقاة النجاسة للقليل مع الشكّ في اعتصامه كي يكون مورداً لقاعدة المقتضي الصغيرة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الماء القليل الموجود قد لاقته النجاسة ، غايته أنّا نحتمل أنّها إنّما لاقته حينما كان منضمّاً إلى تلك المقادير التي أخذت منه التي كان انضمامها إليه عاصماً له ، فلا يكون حاله إلاّكحال القليل الذي كان متّصلاً بالمادّة ثمّ انفصل عنها ولاقته النجاسة ، وشككنا في المقدّم من الانفصال والملاقاة ، في

ص: 269


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 76 / الماء الجاري.

كون المرجع عند العلم بتاريخ الانفصال والشكّ في تاريخ الملاقاة هو هذه القاعدة الصغيرة ، وفيه تأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره لم يتعرّض في المسألة الثانية لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، بل لم أعثر له على ذكر هذه الشبهة في أغلب ما عثرت عليه ممّا حرّره من مسائل الحادثين ، حتّى في القضاء الملحق بالعروة من مسائل النزاع في تقدّم إسلام الوارث على موت المورّث أو موت المتوارثين ، وغير ذلك ممّا حرّره هناك من مسائل الشكّ في التقدّم والتأخّر ، ولم أجد في كلماته قدس سره ذكراً لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين إلاّفيما عرفت (1) من مسائل الحدث والوضوء ، فما هو السرّ في ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على شبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ينبغي القول بسقوط الاستصحاب فيما هو مجهول التاريخ في تمام الصور الست ، أعني صور الكرّ المسبوق بالقلّة ، وصور القليل المسبوق بالكرّية ، الذي حصل العلم فيه بالملاقاة والتبدّل من القلّة إلى الكرّية أو من الكرّية إلى القلّة ، وبعد سقوط الاستصحاب في تمام الصور المذكورة نبقى نحن والملاقاة وعدم إحراز الكرّية حينها ، فعلى القول بكون الملاقاة مقتضية [ للانفعال ] ينبغي الحكم بالنجاسة في جميع هذه الصور ، وعلى القول بكون الملاقاة شرطاً في الانفعال كما هو مسلك السيّد قدس سره في مسألة 7 ينبغي الحكم بالطهارة في جميعها ، فلا وجه لحكمه بالنجاسة فيما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ والكرّية مجهولة التاريخ ، لأنّه بناءً على هذه الشبهة ينبغي أن لا يكون استصحاب عدم الكرّية إلى حين الملاقاة جارياً ، لكونه مجهول التاريخ ، وإن كان المقابل للملاقاة وهو حدوث الكرّية

ص: 270


1- في الصفحة : 212.

معلوم التاريخ ، فهما في ذلك نظير ما لو كان الوضوء معلوم التاريخ ، وكان الحدث مجهول التاريخ ، الذي حكم فيه (1) بعدم جريان الاستصحاب في الحدث لكونه مجهول التاريخ.

وكما يرد عليه الإشكال في الصورة المزبورة - أعني ما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ والكرّية مجهولة التاريخ - فكذلك يرد عليه الإشكال فيما حكم فيه أيضاً بالنجاسة فيما لو كان مسبوقاً بالكرّية وكانت القلّة معلومة التاريخ والملاقاة مجهولة التاريخ (2) ، اللّهمّ إلاّ أن يجاب عنه في هذه الصورة بما عرفت من قاعدة المقتضي الصغيرة ونحوها ، هذا.

ولكن قد عرفت أنّه في جميع ما عثرت عليه من نظره في هذه المسائل هو عدم التعرّض لشبهة عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في جميع ما عثرت عليه ممّا تعرّض له من مسائل الشكّ في التقدّم والتأخّر في أُخريات قضائه وفي أصل العروة ، فلاحظ.

ثمّ يبقى الإشكال فيما أفاده في العروة في المسألة 8 من أنّه لو كان مسبوقاً بالقلّة وطرأته الكرّية والملاقاة وكانا مجهولي التاريخ يكون حكمه الطهارة.

وفيه : ما عرفت من أنّ مقتضى ذلك هو الحكم بالنجاسة لجريان استصحاب القلّة إلى حين الملاقاة القاضي بالنجاسة كما لو كانت الملاقاة معلومة التاريخ ، ولا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية كي تعارضه ، لعدم الأثر عليه إلاّبالاثبات ، وملازمة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لحدوث الملاقاة بعد

ص: 271


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 445 - 446 / م 37 من شرائطالوضوء.
2- كما تقدّم في الصفحة : 266 - 267.

الكرّية ، هذا.

وقد عرفت توجيه ما أفتى به في الصورة المزبورة بالرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في حال القلّة ، النافي لموضوع النجاسة وهو الملاقاة في حال القلّة ، فيتعارضان ويكون المرجع بعد تعارضهما هو قاعدة الطهارة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ موضوع النجاسة هو الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة ، والمنفي بالأصل هو نفس الملاقاة ، غايته أنّ نفيها يكون في حال القلّة ، والمطلوب إنّما هو نفي الملاقاة التي تكون في حال القلّة ، أعني بذلك أنّ موضوع النجاسة هو الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة ، وليس لنا أصل ينفي هذا المقيّد ، وأمّا كون الملاقاة منفية في حال القلّة فلا يكون نافعاً بنفسه إلاّباعتبار لازمه ، لأنّ كون الملاقاة منفية في حال القلّة ملازم لكون الملاقاة المقيّدة بكونها في حال القلّة منفية.

والحاصل : أنّ القلّة إن أخذناها ظرفاً للملاقاة فلا أصل ينفي الملاقاة المظروفة للقلّة ، وإن أخذناها ظرفاً للنفي بأن نفينا في حال القلّة الملاقاة ، لم يكن ذلك نفياً لموضوع النجاسة الذي هو الملاقاة في حال القلّة إلاّبلازمه ، فتأمّل.

تكميل : لا يخفى أنّ الماء المشكوك الكرّية بناءً على أنّ حكمه حكم القليل إلى أن تحرز كرّيته لو غسل فيه ثوب نجس يحكم بنجاستهما ، أمّا بناءً على أنّه لا يجري عليه حكم القليل ، فلو غسل فيه ثوب نجس جرى في الثوب استصحاب النجاسة وفي الماء استصحاب الطهارة.

وربما يقال : إنّه يحكم بطهارتهما. فإن كان مدرك ذلك هو تعارض الاستصحابين من جهة أنّهما وإن لم تترتّب المخالفة القطعية على إجرائهما معاً ، إلاّ أنّهما لمّا كانا إحرازيين لم يمكن إجراؤهما مع العلم الاجمالي بكون أحدهما

ص: 272

مخالفاً للواقع ، لأنّهما في الواقع إمّا طاهران معاً أو أنّهما نجسان معاً ، فكون أحدهما طاهراً والآخر نجساً ممّا يعلم إجمالاً بأنّه خلاف الواقع ، فجوابه أنّ ذلك - أعني سقوط الأُصول الاحرازية في مثل ذلك - إنّما يكون فيما لو كانا على خلاف ما هو القدر المشترك بينهما ، بحيث إنّهما يرجعان إلى جامع بينهما كما حقّق في محلّه (1) من الفرق بين استصحاب نجاسة كلّ من الاناءين المعلوم عروض الطهارة على أحدهما وبين أمثال هذه الفروع من موارد التلازم.

وإن كان المدرك في ذلك هو حكومة استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب المغسول فيه ، ففيه - مضافاً إلى أنّ مجرّد طهارة الماء لا يكفي في طهارة المغسول فيه ما لم يكن محرز الكرّية ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل المائع الذي يشكّ في كونه ماء مطلقاً أو مضافاً وقد غسل فيه النجس ، فالحكم ببقاء طهارة ذلك المائع لا يتولّد منه الحكم بطهارة ما غسل فيه إلاّمع إحراز كونه مطلقاً - أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا لم يكن الشكّ في طهارة الماء ناشئاً عن غسل ذلك النجس فيه ، أمّا لو كان الشكّ في طهارته ناشئاً عن غسله فيه ، فهذه الحكومة لا مورد لها ، لأنّ هذه الطهارة متولّدة عن الشكّ في بقائها ، الناشئ عن غسل ذلك الثوب فيه ، فلا يعقل أن تكون مزيلة للشكّ في بقاء نجاسة الثوب التي هي متأخّرة رتبة عن الشكّ في بقائها.

وبعبارة أوضح : أنّ زوال نجاسة هذا الثوب متوقّفة على غسله في ماء محكوم عليه في حدّ نفسه بالطهارة مع قطع النظر عن غسله فيه ، وهذه الطهارة للماء فيما نحن فيه ناشئة عن الشكّ الناشئ عن غسله فيه. وإن شئت فقل : إنّ الطهارة للماء التي نريد أن نجعلها مزيلة لنجاسة الثوب إن كانت هي الطهارة

ص: 273


1- راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 543 وما بعدها.

الوجدانية اللاحقة له قبل غسله فيه ، فتلك لا نعلم ببقائها عند الغسل ، لاحتمال زوالها بمجرّد الغسل ، وإلاّ لم نكن محتاجين إلى استصحابها ، وإن كانت هي الطهارة الاستصحابية ، ففيه أنّ ذلك عبارة عن الحكم بأن تلك الطهارة الواقعية السابقة باقية إلى ما بعد الغسل ، وحينئذ يكون الحكم بها متأخّراً عن وقوع الغسل ، فكيف يعقل أن تكون هذه الطهارة المتأخّرة منقّحة لكون الثوب قد غسل بماء طاهر.

تنبيه : قوله : هو أنّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرّية ولو آناً ما الخ (1).

ظاهره اعتبار السبق الزماني ، وقد حقّقنا عن شيخنا قدس سره في حواشي آخر الكتاب ص 260 (2) أنّ المدار على التقدّم الرتبي ، فراجع.

استطراد (3) : ممّا يمكن أن يكون من قبيل هذا المبحث - أعني العلم بتحقّق الحادثين مع الشكّ في التقدّم والتأخّر - ما لو علم بتحقّق الذبح على هذا الحيوان وموته والشكّ في أنّ موته كان قبل الذبح ليكون ميتة ، أو كان بالذبح ليكون مذكّى ، فيقال : إنّ استصحاب حياته إلى حين الذبح الذي يترتّب عليه التذكية معارض باستصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت الذي يترتّب عليه كونه ميتة ،

ص: 274


1- فوائد الأُصول 4 : 528.
2- وهي الحاشية الآتية في المجلّد الحادي عشر ، الصفحة : 575 وما بعدها.
3- هذا الاستطراد ذكرناه في التعليق على الجزء الأوّل في حاشية ص 139 فراجعه هناك فإنّه أوضح ممّا هنا [ منه قدس سره. راجع الحاشية المذكورة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة 203 وما بعدها و « تكميل أو استطراد » المذكور ضمنها في الصفحة : 213 ].

فبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة وحلّ الأكل. وكذلك الحال في السمك الذي تحقّق فيه الموت والاخراج من الماء ، لو شكّ في أنّ موته كان قبل الإخراج فيكون ميتة ، أو أنّه كان بعد الاخراج فيكون مذكّى.

وقد يقال : إنّ هذا التعارض مبني على كون التذكية معنى مركّباً من الذبح والحياة ، أمّا بناءً على كونها أمراً بسيطاً حاصلاً من اجتماع الشرائط وهو الذبح مع الحياة ، فلا يجري فيه إلاّ استصحاب عدم التذكية ، ولا يجري فيه استصحاب الحياة إلى حين طروّ التذكية لكونه مثبتاً ، وفيه تأمّل.

وينبغي مراجعة مباحث التذكية ، وأنّ أصالة عدم التذكية هل يشمل مثل ما نحن فيه ممّا علم فيه الذبح والموت وشكّ في المقدّم منهما ، أو أنّه مختصّ بخصوص ما لو شكّ في أصل الذبح على نحو الشبهة البدوية.

وقد يقال أيضاً : إنّ التذكية هي أن يكون زهوق روح الحيوان بالذبح على وجه يكون موته مستنداً إليها ، فلا ينفع فيه استصحاب الحياة إلى حين الذبح ، ولعلّ في كلمات الجواهر في المسألة الثالثة من خاتمة الذباحة إيماءً إلى ذلك فراجع (1) ، وكذلك كلماتهم في اعتبار استقرار الحياة. بل في رواية حمران ، قال : « سألته عن الذبح ، فقال عليه السلام : إن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكل ولا تطعم ، فإنّك لا تدري التردّي قتله أو الذبح » (2) وإن قال صاحب الجواهر : لم نجد العامل به ممّن يعتدّ بقوله (3) ، ومراده بذلك ما تضمّنه صحيح زرارة : « وإن ذبحت فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت

ص: 275


1- جواهر الكلام 36 : 190 - 191.
2- وسائل الشيعة 24 : 26 / أبواب الذبائح ب 13 ح 2 ( مع اختلاف يسير ).
3- جواهر الكلام 36 : 150.

الذبح فكل » (1) فإن عدم العمل به في المورد المذكور - وهو ما لو تأخّر عن الذبح - سبب آخر يحتمل استناد الموت إليه ، وذلك لا ينافي ما ربما يستفاد منه أنّه لو وقع عليه الذبح ولم يعلم أنّه كان ميتاً حين الذبح يكون ميتة ، فتأمّل.

لكن ذلك - أعني دعوى اعتبار كون زهوق الروح مستنداً إلى الذبح - لا يتأتّى في تذكية [ السمك ] التي هي مجرّد أخذه من الماء حيّاً ، على وجه التزموا بجواز أكله حيّاً وبجواز أخذ القطعة منه بعد الأخذ وإن عاد إلى الماء ومات فيه ، وحينئذ يمكن الاعتماد على استصحاب حياته إلى حين الأخذ ، وبذلك ترتفع الشبهة في دهن السمك المجلوب من أُورپا ، ولا يجري استصحاب عدم أخذه إلى ما بعد الموت ، لكونه لا أثر له إلاّبلازمه وهو كون الأخذ بعد الموت.

ولكن صاحب الجواهر قدس سره منع من الركون إلى استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فراجعه في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى الذي هو مورد رواية السكوني (2) والمرسلة (3) على الحلّية ، فقد قال في الشرائع : وربما كانت الرواية أرجح استصحاباً لحال الحياة الخ (4). وقال صاحب الجواهر : إنّه من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه الأصل الخ (5).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في معارضة هذا الأصل باستصحاب الحرمة مع كونه موضوعياً منقّحاً للتذكية الرافعة للحرمة. مضافاً إلى أنّ هذه الحرمة غير متحقّقة ، إلاّ أن يدّعى حرمة أكل السمك وهو في الماء قبل أخذه منه ، ولا يخفى

ص: 276


1- وسائل الشيعة 24 : 26 / أبواب الذبائح ب 13 ح 1.
2- وسائل الشيعة 24 : 86 / أبواب الذبائح ب 36 ح 2. 1.
3- وسائل الشيعة 24 : 86 / أبواب الذبائح ب 36 ح 2. 1.
4- جواهر الكلام 36 :3. 256 ، شرائع الإسلام 3 : 198.
5- جواهر الكلام 36 :3. 256 ، شرائع الإسلام 3 : 198.

ما فيه.

وأمّا المعارضة بأصالة عدم التذكية الخ ، ففيه أنّ التذكية ليس إلاّ الأخذ حيّاً ، وأصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ منقّح له ، وليس في البين شرط غير الحياة حين الأخذ. نعم ربما كان ما ورد من علامة الذكي من السمك شاهداً على عدم الاعتناء بهذا الأصل ، فراجع هذه المباحث في كتاب الأطعمة. ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الأمارة المذكورة لا ينافي كون الأصل هو ما ذكرناه ، كما أنّ جعل الأمارة في اللحم على النار لا ينافي كون الأصل هو عدم التذكية.

ثمّ إنّ مقتضى الأصل المذكور جواز أخذ السمكة من المجوسي ، لكن المصنّف في صيد السمك قال : لا يحلّ أكل ما يوجد في يده حتّى يعلم ولو شرعاً أنّه مات بعد إخراجه من الماء (1).

ويمكن أن يقال : إنّ تقييد صيد المجوسي بالنظر إليه مشعر بعدم العناية بهذا الأصل ، فراجع مبحث ذكاة السمك ، كما تضمّنه قوله عليه السلام : « ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » (2) وقوله : « فإن اعطوكه حيّاً فكله » (3) ، إلاّ أن يحمل هذا الحكم على الاستحباب ونحو من التنزيه ، فتأمّل. أو يقال : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية وإن كان مقتضى الأصل هو التذكية.

ولعلّ دعوى كون هذا الأصل مثبتاً مبني على عدم الاكتفاء في تذكية السمك بالأخذ من الماء ، بل لابدّ فيه من اعتبار موته خارج الماء ، وذلك لا يثبت باستصحاب حياته إلى حين الأخذ.

ص: 277


1- جواهر الكلام 36 : 168.
2- وسائل الشيعة 24 : 75 / أبواب الذبائح ب 32 ح 1 ، 2.
3- وسائل الشيعة 24 : 76 / أبواب الذبائح ب 32 ح 3 ( نقل بالمضمون ).

وفيه أوّلاً : أنّه مناف لما تقدّم من جواز أكله حيّاً ، وجواز أكل ما قطع منه خارج الماء في حال حياته وإن عاد إلى الماء.

ويمكن الجواب عن النقض الأوّل بعدم الالتزام بحلّ أكله حيّاً. وعن النقض الثاني بأنّه يصدق على القطعة المبانة من الحي أنّها ميتة خارج الماء ، فالعمدة حينئذ هو الاعتراض :

ثانياً : بأنّه لا دليل على اعتبار القيد المزبور ، وإنّما أقصى ما عندنا في قبال الاكتفاء بالأخذ حيّاً هو اعتبار عدم رجوعه إلى الماء وموته فيه ، كما يدلّ عليه قوله : « مات فيما فيه حياته » (1) فيكون القيد المعتبر في الأخذ هو عدم موته في الماء ، وهذا القيد حاصل باستصحاب حياته وعدم موته في الماء إلى حين الأخذ منه ، حتّى أنّه لو أخذ منه ثمّ عاد إليه واحتمل أنّه مات في الماء ، أو أنّه انحسر عنه الماء في عوده إليه ومات في خارجه من ذات نفسه من دون أخذ ثمّ طرأه الأخذ ، لكان استصحاب حياته إلى حين الأخذ الثاني كافياً في حصول القيد المزبور - أعني عدم موته في الماء أو في خارجه إلى حين الأخذ الثاني - من دون فرق في ذلك بين القول بأنّ التذكية هي نفس الأخذ حيّاً وعدم موته في الماء أو في خارجه قبل الأخذ ، أو نقول : إنّ التذكية هي المسبّب عن ذلك الأخذ المذكور. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ الأصل وإن كان هو عدم المسبّب المذكور ، إلاّ أنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ يكون حاكماً على أصالة عدم ذلك المسبّب ، لكونه بالنسبة إلى أصالة عدم المسبّب من قبيل الأصل الموضوعي المنقّح لحصول السبب الذي ينشأ عنه ذلك المسبّب.

ص: 278


1- وسائل الشيعة 24 : 79 / أبواب الذبائح ب 33 ح 2 ، 6 ( مع اختلاف يسير ).

ومن ذلك تعرف أنّه لا مانع من أكل دهن السمك المجلوب من أُوروپا ما دام منشأ الإشكال فيه هو احتمال عدم التذكية مع إحراز كونه من المأكول ، إلاّ أن نقول : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

نعم ، لو كان في البين احتمال أنّه مأخوذ ممّا لا يحلّ أكله كالجري ، فإن كانت التذكية بمعنى السبب ، كفى في حلّ أكله الأصل المزبور أعني بقاء حياته إلى حين الأخذ من حيث الشكّ في التذكية ، ومن حيث الشكّ في كونه مأخوذاً ممّا لا يحلّ أكله كالجري يكون المرجع هو قاعدة الحلّ ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ لا تكفي في تحقّق التذكية بمعنى السبب ، بل لو شوهد أخذه حيّاً لم يكن ذلك كافياً في الحكم بتذكيته ، لعدم إحراز الشرط الآخر وهو القابلية ، وحينئذ لا تكون التذكية محرزة ولا عدمها محرزاً ، ويكون المرجع هو قاعدة الحل.

نعم ، لو قلنا إنّ التذكية عبارة عن المسبّب ، وهي موضوع حل الأكل لو أخذ حيّاً ، يكون المرجع هو أصالة عدمها حتّى لو أحرز بالمشاهدة أخذه حياً ، فضلاً عن استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، وحينئذ لا تكون قاعدة الحلّ جارية بعد فرض جريان أصالة عدم تحقّق ذلك المسبّب البسيط الذي يكون موضوعاً للحلّية ، ويكون حاله حال ما لو شكّ في قابلية الحيوان للتذكية الذبحية مع تحقّق الذبح بناءً على كون التذكية هي ذلك المعنى البسيط المسبّب عن الذبح ، في أنّ الجاري فيه أصالة عدم التذكية ، ولا يجري فيه قاعدة الحل إلاّعلى تقدير القول بأنّ التذكية اسم للسبب ، وحينئذ لا يكون وجودها ولا عدمها محرزاً ويكون المرجع هو قاعدة الحل.

ص: 279

قوله : أمّا في صورة الجهل بتاريخهما ، فلأنّ أصالة عدم كلّ منهما في زمان الآخر لا تقتضي سبق الكرّية ، وكذا إذا علم بتاريخ الملاقاة ، فإنّ أصالة عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة تقتضي عدم تحقّق موضوع الطهارة (1).

لا يخفى أنّه في صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكرّية ، يكون استصحاب عدم الكرّية الذي هو عبارة عن استصحاب القلّة إلى ما بعد الملاقاة قاضياً بوقوع الملاقاة حال القلّة ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي موضوع النجاسة وهو الملاقاة بالوجدان ، والآخر وهو كون الملاقي قليلاً بالأصل. وحينئذ يكون الماء محكوماً بالنجاسة من جهة الأصل المذكور ، لا من جهة عدم تحقّق موضوع الطهارة والرجوع إلى قاعدة المقتضي والمانع ، بل من جهة إحراز موضوع النجاسة وهو الملاقاة وكون الماء الملاقي للنجس قليلاً ، وليس ذلك من قبيل استصحاب الحياة إلى حين وقوع الضرب الذي هو أصل مثبت بالنسبة إلى تحقّق القتل ، فإنّ نسبة النجاسة إلى الماء بالملاقاة وإن كانت كنسبة المقتولية إلى الحيوان بوقوع الضرب عليه ، إلاّ أنّ الفرق بينهما هو أنّ النجاسة حكم شرعي موضوعها الملاقاة للماء القليل وقد تحقّق ، بخلاف القتل فإنّه لازم عادي لا يترتّب على وقوع الضرب على الحيوان الحي إلاّبالأصل المثبت ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الحال في صورة الجهل بتاريخهما ، فإنّه بعد أن لم يجر فيها استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية ، ينفرد فيها استصحاب القلّة وعدم الكرّية إلى ما بعد الملاقاة ، وقد عرفت أنّه حاكم بالتنجيس لكونه منقّحاً لموضوعه.

ص: 280


1- فوائد الأُصول 4 : 529.

قوله : وأمّا إذا علم بتاريخ الكرّية ، فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية لا تثبت تأخّر الملاقاة عن الكرّية ، ومع عدم إثبات ذلك لم يحرز موضوع الطهارة مع أنّه لابدّ منه ، فإنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز وجوده في ترتّب الحكم عليه ، ومع الشكّ في وجوده يبنى على عدم الحكم ... الخ (1).

لا يخفى أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا يراد منه إلاّ إحراز الطهارة الواقعية ، وهي متوقّفة على كون هذه الملاقاة واقعة بعد الكرّية ، وأصالة عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا تثبت ذلك ، وذلك واضح. كما أنّ استصحاب عدم وقوع الملاقاة في حال القلّة لا يكفي في الحكم بالطهارة ، لأنّه من قبيل ليس التامّة والمطلوب هو مفاد كان الناقصة ، فإنّ الحكم بالطهارة لا يمكن إلاّ إذا كانت هذه الملاقاة متصفة بأنّها لم تقع في حال القلّة ، إذ لابدّ من إحراز حال هذه الملاقاة وأنّها هل كانت في حال القلّة أو لم تكن واقعة في حال القلّة ، فهذه الجملة - أعني قوله : إنّ تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز وجوده الخ - إن كان المراد منها هو هذا الذي ذكرناه من أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد الكرّية لا تثبت موضوع الطهارة ، وهو كون الملاقاة بعد الكرّية ، أو كونها غير واقعة في حال القلّة ، كما لا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بها فيما تقدّم من قوله : وكلّ موضوع لابدّ وأن يكون مقدّماً على الحكم الخ ، فذلك مسلّم ، إلاّ أنّه لا يحسن أن يترتّب عليه قوله : ومع الشكّ في وجوده يبنى على عدم الحكم الخ ، فإنّ الشكّ في وجود الموضوع لا يوجب البناء على عدم

ص: 281


1- فوائد الأُصول 4 : 529 - 530.

الحكم ، بل إنّما أقصى ما فيه هو عدم تحقّق الحكم والتوقّف من هذه الناحية.

نعم ، هنا أمر آخر وهو مسألة المانعية التي يشرحها قدس سره في محلّها (1) من أنّ تعليق الحكم الترخيصي على أمر وجودي ، كالطهارة فيما نحن فيه المعلّقة على أمر وجودي وهو الكرّية ، يستفاد منه أنّ الحكم الترخيصي بالأعمّ من الترخيص الظاهري والواقعي يتوقّف على إحراز ذلك الأمر الوجودي ، فما لم يكن ذلك الأمر الوجودي - الذي هو الكرّية فيما نحن فيه - محرزاً يكون الحكم هو الاجتناب ، لأنّ ذلك التعليق يكون موجباً لانقلاب الأصل في المسألة من البراءة مثلاً أو قاعدة الطهارة فيما نحن فيه ، إلى الاحتياط. وهذا الانقلاب هو الذي أوجب عدم الرجوع في هذه المسألة - أعني مسألة العلم بتاريخ الكرّية والجهل بتاريخ الملاقاة - إلى قاعدة الطهارة. وكان ذلك الأصل هنا مساوقاً للأصل الناشئ عن الأخذ بالمقتضي الذي هو الملاقاة مع الشكّ في وجود المانع الذي هو الكرّية.

قوله : نعم ، لو كان الماء مسبوقاً بالكرّية ثمّ طرأ عليه القلّة ، فاستصحاب بقاء الكرّية إلى زمان الملاقاة يجري ويحكم عليه بالطهارة (2).

هذا فيما إذا كانا مجهولي التاريخ أو كانت الملاقاة معلومة التاريخ ، أمّا لو كانت القلّة معلومة التاريخ فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى ما بعد القلّة لا يجري ، إذ لا يثبت بها وقوع الملاقاة في حال القلّة ، وحينئذ نبقى نحن والملاقاة والشكّ في الكرّية عندها ، فإن قلنا بالمانعية كما هو مسلكه قدس سره كان الحكم حينئذ هو

ص: 282


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- فوائد الأُصول 4 : 530.

التجنّب والنجاسة ، لعدم إحراز المانع من النجاسة ، وإن قلنا بأنّ القلّة شرط في تحقّق النجاسة ، كان المرجع في هذه الصورة هو قاعدة الطهارة ، كما مرّ عليك تفصيل ذلك كلّه.

ص: 283

[ استصحاب حكم المخصّص ]

قوله : لا إشكال في أنّ الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفاً لوجود الزماني ، إلاّ أن يقوم دليل بالخصوص على القيدية ... الخ (1).

كون الأصل كذلك يحتاج إلى تأمّل أو تتبّع ، ولعلّ الموارد مختلفة ، وإلاّ فإنّ الزماني بعد فرض كون وجوده في الزمان قهرياً ، لا يكون ذكره من دون مدخلية له فيما هو متعلّق الحكم أو في الحكم نفسه إلاّلغواً ، وعليه فيكون الأصل في ذكر الزمان هو القيدية ، نعم ربما كان الزمان دخيلاً في العلم لا في المعلوم ، مثل ما لو ثبت الخيار وكان القدر المتيقّن منه هو في أوّل أزمنة الامكان ، صحّ فيه الاستصحاب لكون الزمان غير مأخوذ في نفس المعلوم ، وإنّما كان هو ظرف معلوميته.

ولعلّ المراد من كون الأصل في الزمان هو الظرفية لا القيدية هو كون الأصل كذلك مع قطع النظر عن أخذه في لسان الدليل ، بمعنى أنّه مع قطع النظر عن أخذه في لسان الدليل لو بقينا نحن وكون ذلك الزماني واقعاً في الزمان قهراً ، يكون الأصل هو مجرّد الظرفية القهرية ، ولا يحكم بكونه له المدخلية فيما هو واقع فيه إلاّ بدليل يدلّ على ذلك ، ولو كان ذلك هو مجرّد أخذه في لسان الدليل. وعلى كلّ حال فالأمر سهل ، ولعلّ أن يأتي ما يوضّحه في طي المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

ص: 284


1- فوائد الأُصول 4 : 532.

قوله : الأمر الثاني إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيداً في الحكم أو المتعلّق ، فتارةً يلاحظ الزمان على وجه الارتباطية أي يلاحظ قطعة من الزمان مجتمعة الآنات ... الخ (1).

لا يخفى مدخلية الأمر الأوّل في هذا التنبيه ، فإنّ أخذ الزمان قيداً في الخاصّ الخارج عن العموم يوجب منع جريان استصحاب حكم الخاصّ إلى ما بعد ذلك الزمان ، بخلاف أخذ الزمان ظرفاً فيه. أمّا ما تضمّنه هذا الأمر الثاني من كون العموم الأزماني عموماً مجموعياً ، أو كونه عموماً استغراقياً ، فلا دخل له على الظاهر في هذا التنبيه. أمّا الاستصحاب فواضح ، وأمّا التمسّك بالعام فكذلك أيضاً لصحّة التمسّك بالعموم الأزماني فيما عدا القدر المتيقّن خروجه ، سواء كان العموم الأزماني استغراقياً ، أو كان مجموعياً. كما صرّح به قدس سره فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن من المكاسب في أوّل ص 88 (2) ، وكما صرّح به في تحرير السيّد سلّمه اللّه ص 439 وص 440 (3). أمّا الاستغراقي فواضح ، وأمّا المجموعي فكذلك ، فإنّه لو كان لنا عموم أزماني مجموعي ، وكان قد خرج بعض أفراد ذلك العام عن حكم العام في بعض الأزمان ، لا ينبغي الريب في الرجوع إلى عموم ذلك العام الأزماني فيما عدا ذلك الزمان المفروض خروج ذلك الفرد فيه ، كما صرّح به في تحرير السيّد سلّمه اللّه (4) ، سواء كان ذلك الزمان من الأوّل ، أو كان من الآخر ، أو كان من الوسط. أمّا الأوّلان فواضح ، وأمّا الأخير

ص: 285


1- فوائد الأُصول 4 : 533.
2- منية الطالب 3 : 164.
3- أجود التقريرات 4 : 169.
4- أجود التقريرات 4 : 170.

فكذلك ، لإمكان بقاء المجموعية بالنسبة إلى ما عدا ذلك الوسط ، إذ ليست المجموعية إلاّعبارة عن الارتباطية بين الأجزاء التي لا ينافيها خروج الوسط ، كما يشاهد في صوم الثلاثة أيّام بدل الهدي بناءً على الارتباطية ، فإنّ خروج الليالي في الوسط لا ينافي اعتبار المجموعية بالنسبة إلى آنات النهارات الثلاثة.

نعم ، هناك أمر آخر يترتّب عليه عدم جواز التمسّك بالعموم الأزماني بعد خروج بعض الأفراد في بعض الأزمان عن ذلك العموم الأزماني ، وهو ما يأتي في الأُمور الآتية من أخذ العموم الأزماني دوامياً ، وكونه وارداً على الحكم ، لا أنّ الحكم واردٌ عليه.

ثمّ لا يخفى أنّ أخذ العموم الأزماني مجموعياً أو أخذه استغراقياً ، يتأتّى مع كون العموم الأفرادي استغراقياً أو كونه مجموعياً ، فتأمّل.

ومن جميع ما حرّرناه يتّضح لك أنّ كون العموم الأزماني مجموعياً أو كونه استغراقياً ، لا يتفرّع على أخذ الزمان قيداً في الخاصّ ، بل إنّما يترتّب المجموعية والاستغراقية في العموم الأزماني على ثبوت العموم الأزماني في الحكم العام ، فكان عليه أن يبدّل قوله : إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيداً في الحكم أو المتعلّق الخ ، بقوله : إذا ثبت العموم الأزماني فتارةً يكون على نحو الارتباطية والمجموعية ، وأُخرى يكون على نحو الاستقلالية والاستغراق.

قوله : وثالثة يستفاد من دليل الحكمة ومقدّمات الإطلاق ... الخ (1).

لا يخفى أنّه ليس المراد من دليل الحكمة هنا هو مقدّمات الإطلاق التي من جملتها أنّ المتكلّم في مقام البيان ولم يبيّن ، فإنّ ذلك إنّما يقال في مقابل احتمال التقييد ، سواء كان نفي احتمال التقييد منتجاً للعموم البدلي ، أو كان منتجاً للعموم

ص: 286


1- فوائد الأُصول 4 : 535.

الشمولي ، بل المراد من دليل الحكمة هنا هو نفي احتمال إرادة العموم البدلي من مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ، بإرادة بيع مّا أو إرادة وجوب الوفاء آناً مّا ، فإنّه يوجب لغوية الحكم وذلك مناف للحكمة ، فلابدّ أن يريد حلّية جميع أفراد البيع ، ووجوب الوفاء بالعقد في جميع الآنات ، وأين هذا من مقدّمات الإطلاق. نعم يمكن أن يقال : إنّ لزوم اللغوية يدفع العموم البدلي ، ثمّ يدور الأمر بين كون وجوب الوفاء دائمياً ، أو كونه في زمان خاصّ مثل شهر وسنة ونحوهما ، وحيث إنّه لم يبيّن ذلك ، كشف عن كون المراد هو الدوام والاستمرار ، فتكون النتيجة حاصلة من دليل الحكمة الذي هو لزوم اللغوية ومن مقدّمات الإطلاق.

قوله : وأُخرى يستفاد العموم الزماني من دليل لفظي آخر ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد صلى اللّه عليه وآله حرام إلى يوم القيامة » (3) ... الخ (4).

عدّ هذه الجملة من أدلّة العموم الأزماني في ناحية الحكم أو في ناحية المتعلّق ، لا يخلو عن تأمّل وإشكال ، إذ ليست هي في مقام التشريع وتوسعة الحكم أو متعلّقه ، كما أنّها ليست حكماً شرعياً بعدم النسخ ، وإلاّ كانت قابلة للنسخ ، بل هي من الإخبار منه صلى اللّه عليه وآله بأنّ أحكامه لا تنسخ بعده ، إذ لا نبيّ بعده.

ولو سلّمنا أنّها حكمٌ شرعيٌ بعدم النسخ ، فليس مفادها الاستصحاب ، بل

ص: 287


1- البقرة 2 : 275.
2- المائدة 5 : 1.
3- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.
4- فوائد الأُصول 4 : 534 - 535.

لا يكون مفادها إلاّ الحكم الشرعي الواقعي بأنّ أحكامه باقية بعده لا ناسخ لها. وهذه يكون مفادها وارداً على الحكم الشرعي حتّى ما يكون مقيّداً بالاستمرار والدوام أو بالوجود في كلّ زمان ، وهي غير نافعة إلاّفي مقام الشكّ في نسخ الحكم ، أمّا الشكّ في كيفية الحكم وأنّه دائمي أو آني ، أو أنّه موجود في كلّ آن أو غير موجود إلاّفي بعض الآنات فلا مورد لها فيه ، بل بناءً على كون مفادها التشريع والحكم الشرعي بعدم النسخ ، ينحصر مفادها في مقام الشكّ في نسخ الحكم ، ويكون مفادها مطابقاً لمفاد استصحاب عدم النسخ ، غير أنّ مفاده هو الحكم الظاهري بالبقاء ومفادها هو الحكم الواقعي بالبقاء.

ثمّ لا يخفى أنّ مفاد الصورة الأُولى وهي مثال أكرم العلماء في كلّ يوم أو دائماً ، لا يمكن أن يكون عند شيخنا قدس سره من التعميم في ناحية الحكم ، بل لابدّ أن يكون عنده من التعميم في ناحية المتعلّق ، لاستحالة النظر في حال جعل الحكم إلى الحكم عليه بالعموم الأزماني. وأمّا الصورة الثالثة وهي لزوم لغوية الحكم لو لم يكن مقيّداً بالعموم الأزماني ، فلمّا أمكن دفع اللغوية بأخذ العموم في ناحية المتعلّق ، لم يكن في البين ما يوجب أخذه في ناحية الحكم. ثمّ لو أغضينا النظر عن ذلك لم يكن ذلك دليلاً على كون هذا العموم أو الدوام فوق الحكم ليكون تشريعاً جديداً فوق تشريع أصل الحكم ، بل يمكن جعله كاشفاً عن سعة التشريع الأوّل ، فلا يكون حكماً جديداً فوق الحكم الأوّل كما يرومه شيخنا قدس سره ، إلاّ أن نقول باستحالة التوسعة في التشريع الأوّل ، وسيتّضح التأمّل فيه (1) ، وقد

ص: 288


1- [ لعلّه قدس سره يريد بذلك ما ذكره في حاشيته المفصّلة الآتية في الصفحة : 311 ومابعدها ].

تعرّض شيخنا قدس سره في باب التعادل والتراجيح ص 275 (1) للفرق بين العموم المستفاد من الطريقة الثانية والعموم المستفاد من الثالثة.

قوله : الأمر الرابع : مصبّ العموم الزماني تارةً يكون متعلّق الحكم ، وأُخرى يكون نفس الحكم ، بمعنى أنّه تارةً يلاحظ الزمان في ناحية متعلّق التكليف والفعل الصادر عن المكلّف ، كالوفاء والإكرام والشرب ونحو ذلك من متعلّقات التكاليف ... الخ (2).

الظاهر أنّ مرجع هذا الأمر إلى أنّ الزمان المفروض كونه عاماً ، تارةً يكون متعلّقاً بالفعل الذي تعلّق به التكليف كالإكرام في قولنا : أكرم كلّ عالم ، وأُخرى يكون متعلّقاً بنفس الحكم الذي تعلّق بذلك الفعل ، ففي مثل قول الآمر : يجب إكرام كلّ عالم في كلّ آن ، تارةً نجعل قوله : كلّ آن ، الذي هو ظرف عام متعلّقاً بقوله إكرام ، وأُخرى نجعله متعلّقاً بقوله : يجب. فعلى الأوّل يكون مصبّ العموم الأزماني هو الفعل الذي تعلّق به التكليف ، وفي الثاني يكون مصبّ العموم المذكور هو نفس التكليف الذي هو الوجوب ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يكون موجباً لكون العموم في الثاني فوق الحكم ، بل أقصى ما فيه أن يكون قيداً فيه ، فلا يكون العموم الأزماني في ذلك إلاّكسائر القيود من قبيل الاستطاعة والدلوك ، فإنّها على تقدير تعلّقها بالوجوب تكون قيداً له.

نعم ، لو أُخذ الوجوب موضوعاً في قضية حملية ، وجعل الزمان العام محمولاً عليه ، بأن نقول : الوجوب ثابت في كلّ آن ، لكان العموم الأزماني فوق الوجوب. كما أنّا لو جعلنا الاستطاعة أو الدلوك قيداً في الوجوب ، وجعلناه

ص: 289


1- فوائد الأُصول 4 : 739 - 740.
2- فوائد الأُصول 4 : 535.

محمولاً عليه ، وقلنا : الوجوب ثابت في حال الاستطاعة أو عند الدلوك ، لكان فوق الوجوب.

ومنه يظهر التأمّل فيما أُفيد في الجهة الأُولى من الأمر الخامس ، من أنّه على تقدير كون مصبّ العموم الأزماني هو الوجوب ، لم يعقل أن يكون دليل ذلك الوجوب متكفّلاً له ، بل لابدّ أن يتكفّله دليل آخر مفاده أنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، ووجه التأمّل فيه هو ما أشرنا إليه من أنّ الاحتياج إلى الدليل الآخر إنّما يتمّ لو أبرزنا ذلك العموم الأزماني بالقضية الحملية القائلة إنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، فإنّ ذلك لا يتمّ حينئذ إلاّبقضية أُخرى غير القضية القائلة إنّ اكرام العلماء واجب ، لأنّ الوجوب في القضية القائلة إنّ إكرام العلماء واجب قد أُخذ محمولاً على الاكرام ، والقضية القائلة إنّ الوجوب ثابت في كلّ آن قد أُخذ فيها الوجوب موضوعاً ، ولا يعقل أن يجتمع اللحاظان ، أعني لحاظ الوجوب محمولاً على الاكرام ولحاظه موضوعاً لقولنا : ثابت في كلّ آن.

وإن شئت فقل كما أُفيد : أنّ العموم الأزماني المحمول على الوجوب إنّما هو فرع ثبوت الوجوب ، فلا يعقل أن يكون الدليل المتكفّل لأصل جعل الوجوب متكفّلاً للحكم على ذلك الوجوب بأنّه ثابت في كلّ آن. ولكن ذلك كلّه فرع أخذ العموم الأزماني الوارد على الحكم بصورة القضية الحملية ، أمّا إذا أُخذ بصورة القيد للوجوب المذكور ، فأيّ مانع يمنع من جعل الوجوب الذي هو في كلّ آن وارداً على الاكرام ، بأن يقول : يجب في كلّ آن اكرام العلماء ، أو يقول : إنّ إكرام العلماء واجب في كلّ آن.

وبعبارة أُخرى : أنّ الآمر في مرتبة جعله الحكم كما يمكن أن يجعله مقيّداً بالزمان الخاصّ ، بأن ينشئ الوجوب المقيّد بالزمان الخاصّ ويورده على إكرام

ص: 290

العلماء ، بأن يقول : أوجبت عليك في يوم الجمعة إكرام العلماء ، فكذلك له أن يجعله مقيّداً بالزمان العام ، بأن يقول : أوجبت عليك في كلّ زمان إكرام العلماء ، بحيث إنّه في حال جعله الوجوب المذكور ينظر إليه مفروض الوجود في كلّ آن ، ويجعله وارداً على اكرام العلماء ، إذ ليس وجود الحكم في الزمان الخاص أو وجوده في كلّ زمان من التقسيمات اللاحقة للحكم بعد فرض أصل جعله كالعلم به والجهل ، كي لا يمكن لحاظه مقيّداً أو عاماً في مرتبة جعله ، وأنّه لابدّ في تقييده بالعلم أو توسعته إلى كلّ من حال العلم والجهل من جعلٍ آخرٍ يكون متمّماً للجعل الأوّل. بل إنّ ذلك - أعني كونه موجوداً في الزمان الخاصّ ، أو كونه موجوداً في كلّ آن - من التقسيمات القابلة لأن تلاحظ حين جعله. نظير الاستطاعة وعدمها ، في أنّ الحكم عند جعله قابلٌ لأن يلاحظه الجاعل مقيّداً بحال الاستطاعة حين الجعل ، ولأن يلاحظه غير مقيّدٍ بالاستطاعة ، بل يلاحظه حين الجعل مفروض الوجود عند كلّ من حالتي الاستطاعة وعدمها.

وحينئذ فيمكن للآمر أن يلاحظ الوجوب حين جعله مظروفاً لكلّ آن ويجعله وارداً على إكرام العلماء ، بأن يقول : أوجبت في كلّ آن إكرام العلماء ، أو يقول : إنّ اكرام العلماء واجب في كلّ آن ، من دون حاجة إلى تعدّد الجعل ، بأن يجعل الوجوب أوّلاً وارداً على إكرام العلماء ثمّ يوسّعه ويجعل تحقّقه في كلّ آن ، فإنّ ذلك تطويلٌ بلا طائل وتبعيد للمسافة بلا جهة توجب ذلك. بل يمكن أن يقال : إنّه لابدّ من وحدة الجعل ، بأن يكون المجعول في مقام الثبوت هو الوجوب في كلّ آن ، لاستحالة الاهمال في الواقع وفي مقام الثبوت. هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات فقد عرفت أنّه يمكن إبراز ذلك العموم الأزماني بصورة

ص: 291

المركّب التقييدي ، فيكون المتكفّل للدلالة على أصل الوجوب وعلى عموم الأزماني دليلاً واحداً ، فيقول : أوجبت في كلّ آن إكرام العلماء ، كما أنّه يمكنه أن يبرزه بصورة المركّب الخبري أعني الجملة الحملية ، بأن يقول أوّلاً : أوجبت عليك إكرام العلماء ، ويكون ذلك الدليل في مقام الاثبات مهملاً من حيث الزمان ، ثمّ يقول : إنّ هذا الوجوب ثابت في كلّ آن ، فيكون المتكفّل للدلالة على أصل الوجوب هو الدليل الأوّل ، والمتكفّل للدلالة على عمومه الأزماني هو الدليل الثاني ، مع أنّ المحكي عنه في الواقع أمر واحد ، وهو الوجوب الثابت في كلّ آن الوارد على إكرام العلماء.

ولا يمكن أن يكون أمرين ، أحدهما جعل وجوب إكرام العلماء ، والآخر جعل ذلك الوجوب واسعاً ومتحقّقاً في كلّ آن ، بأن يكون في الجعل الأوّل غير ناظر إلى توسعة الوجوب وضيقه ، وفي الجعل الثاني يجعل توسعته وتحقّقه في كلّ آن ، لما عرفت من أنّ ذلك التعدّد في مقام الجعل غير ممكن ، لعدم إمكان الإهمال في الواقع بالنسبة إلى مثل هذه الجهات ، القابلة لأن تكون لاحقة للمجعول في مرتبة جعله ، وإنّما يمكن ذلك في الجهات التي لا يعقل أن تكون لاحقة له في مرتبة جعله ، لتأخّرها رتبة عن أصل وجود المجعول ، كما في العلم والجهل المتعلّقين به ، فإنّهما لمّا كانا متأخّرين رتبة عن الجعل لم [ يمكن ] النظر إليهما في مرتبة الجعل ، فلا يمكن أن يتّصف ذلك المجعول في مرتبة جعله بالاطلاق والتقييد من مثل تلك الناحية ، بخلاف ما نحن فيه ممّا كان من الجهات قابلاً للحاظ في مرتبة الجعل ، فإنّه يستحيل في مثلها الخروج به في مقام الجعل عن حيّز الاطلاق والتقييد من ناحيتها.

ثمّ لا يخفى أنّ هاتين الجهتين - أعني أخذ العموم الأزماني في ناحية

ص: 292

المتعلّق الذي هو الاكرام ، وأخذه في ناحية الحكم الذي هو نفس الوجوب الوارد على الاكرام - متلازمتان ، وأيّ من هاتين تحقّقت بالقصد تكون الأُخرى متحقّقة قهراً ، كما قلناه في مسألة دوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى المادّة ورجوعه إلى مفاد الهيئة ، فإنّك لو أخذت العموم الأزماني - أعني قولك : في كلّ زمان - مربوطاً ومتعلّقاً بالاكرام ، ليكون محصّله أنّ الاكرام في كلّ آن واجب ، كان ذلك موجباً قهراً لوجود الوجوب في كلّ آن ، كما أنّك لو أخذته في ناحية الوجوب وقلت : يجب في كلّ آن الاكرام ، كان ذلك موجباً قهراً لكون الاكرام موجوداً في كلّ آن ، وحينئذ لا يتمّ الفرق بين الجهتين في أنّ الثانية منهما وهي تقيّد الوجوب بوجوده في كلّ آن لابدّ أن يتكفّلها دليل آخر غير دليل وجوب الاكرام ، بخلاف الجهة الأُولى منهما وهي تقيّد الاكرام بكونه في كلّ آن ، بدعوى أنّها يتكفّلها الدليل الدالّ على وجوب الاكرام ، وكيف تتمّ هذه التفرقة مع فرض أنّ الجهتين متواردتان على جملة واحدة ، وهي قولنا : يجب الاكرام في كلّ آن ، وأنّ هذه الجملة يمكن أن يكون قولنا فيها : في كلّ آن ، متعلّقاً بالاكرام ، ويمكن أن يكون متعلّقاً بالوجوب.

وحاصله : أنّ الآمر في مقام جعله الوجوب وخلقه له تشريعاً ، يمكنه لحاظ « كلّ آن » في ناحية الإكرام كما يمكنه لحاظه في ناحية الوجوب. ودعوى أنّ لحاظه الوجوب في كلّ آن متأخّر عن جعله ، فلا يمكن أن يكون الدليل المتكفّل لأصل جعل الوجوب متكفّلاً لعمومه الأزماني الذي هو عبارة عن كونه موجوداً في كلّ آن لا تخلو عن تأمّل ، فإنّ الآمر عندما يورد الوجوب على الاكرام لابدّ أن يلاحظ الاكرام في ذلك الحال ، وهل لاحظه موجوداً في كلّ آن وحكم عليه بالوجوب ، أو لاحظه موجوداً في بعض الآنات ، أو لاحظه موجوداً في آن معيّن وحكم عليه؟ ويستحيل أن يكون الاكرام في حال إيراد الوجوب عليه في مقام

ص: 293

الثبوت مهملاً من هذه الجهات ، فكذلك الحال في نفس الوجوب ، فإنّ الآمر عندما يجعله للاكرام لابدّ أن يلاحظه ، إذ لابدّ للحاكم في حال جعله الحكم من ملاحظة كلّ من الحكم والمحكوم عليه ، وحينئذ ففي مقام جعله الوجوب للاكرام لابدّ أن يلاحظ الوجوب الذي هو بصدد جعله للاكرام ، وهل لاحظه موجوداً في زمان معيّن ، أو لاحظه موجوداً في كلّ آن؟ ولا يمكن التجريد عن كلّ من هاتين الملاحظتين إلاّللغافل.

وإن شئت فقل : إنّه في مقام خلقه للوجوب تشريعاً هل خلقه قصيراً ، وذلك محصّل كونه مقصوراً في زمان معيّن ، أو خلقه طويلاً وذلك عبارة عن كونه موجوداً ومستمرّاً في جميع الأزمنة ، ولا يعقل أن يكون الوجوب في مقام خلقه وإيجاده مهملاً معرّى عن كلّ من القصر والطول ، كما أنّ إيجاد الشيء تكويناً يستحيل أن يكون ذلك الشيء الذي كوّنه المكوِّن معرّى عن كلّ من القصر والطول ، وليس القصر في الوجوب منحصراً بوجوده في آن خاص كي يقال : يمكن أن يكون في البين شقّ ثالث ، وهو الوجود في بعض الآنات أيّ آن كان ، فإنّ ذلك - أعني وجوده في أيّ آن من الآنات - عبارة عن القصر أيضاً في قبال الطول الذي هو عبارة عن الوجود في كلّ آن.

والخلاصة : أنّ الآمر في مقام جعله الوجوب على الاكرام يمكنه لحاظ الوجوب موجوداً في كلّ آن فيجعله للاكرام ، وبذلك يكون الوجوب المجعول موجوداً في كلّ آن ، وهو معنى العموم الأزماني في ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، كما يمكنه أن يلاحظ الاكرام موجوداً في كلّ آن ويعلّق الوجوب به ، وهو معنى العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، وأحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر لما عرفته من الملازمة بين الجهتين ، فتأمّل.

ص: 294

قوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون بمجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ ، بل العموم الزماني إنّما أُخذ على نحو العام الأُصولي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ العموم الأزماني كما يمكن أخذه في ناحية المتعلّق على نحو الاستغراق المعبّر عنه بالعام الأُصولي ، فكذلك يمكن أخذه فيه على نحو المجموعية الملازمة للارتباط بين الأفراد الزمانية طاعةً وعصياناً. نعم لو قيل : إنّ الظاهر من كلّ عموم هو الاستغراق لا المجموعية ، ولو من جهة أنّ اعتبار المجموعية والارتباط بين الأفراد يحتاج إلى مؤونة زائدة على أصل تعلّق الحكم بالأفراد ، لكان وجهه واضحاً ، وذلك هو المراد لشيخنا قدس سره ، فإنّه لا يريد أزيد من إثبات الاستظهار من ناحية تعليق الحكم على الأفراد. فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن ، وذلك قوله : ثمّ لا يخفى أنّ لفظ الاستمرار والدوام والأبد مثل لفظ « كلّ آن » في أنّ الظاهر من الجميع هو العموم الأُصولي الخ (2).

نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّه لو فرضنا كون العموم مجموعياً ، لم يكن ذلك مانعاً من التمسّك به في مورد الشكّ في التخصيص أو في مقداره كما أشرنا إليه في حاشية 196 (3) فلاحظ. نعم لو أُخذ المتعلّق شيئاً واحداً مستمرّاً مع الزمان ، كما في الامساك المستمرّ في يوم الصوم من أوّل الفجر إلى الغروب لو وقع الشكّ في التخصيص الزائد ، بأن جاز في بعض الأيّام الأكل في آن من آنات

ص: 295


1- فوائد الأُصول 4 : 537 - 538.
2- منية الطالب 3 : 166 - 167.
3- راجع الصفحة : 285 وما بعدها.

النهار ، يمكن القول بأنّه لا محصّل للرجوع إلى العموم الأزماني فيما زاد على ذلك الآن ، لأنّه في الحقيقة لا يكون في البين عموم أزماني في ناحية الامساك ، وإنّما هو وجوب واحد وارد على فعل واحد وهو الامساك المستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب ، فإذا جاز الأكل وعدم الامساك في بعض الآنات يسقط ذلك الامساك المستمرّ.

والحاصل : هو أنّه ينبغي التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ الخ ،

أوّلاً : أنّه لا وجه لنفي العموم المجموعي بعد فرض كون العموم الأزماني متعلّقاً بنفس فعل المكلّف أعني الاكرام مثلاً. نعم يمكن ادّعاء استظهار كون العموم المذكور استغراقياً لا مجموعياً من جهة كونه محتاجاً إلى مؤونة زائدة ، وذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام من تصوير كيفية أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق أو في ناحية نفس الحكم.

وثانياً : أنّ الذي يظهر منه هو أنّه لو كان العموم المذكور مجموعياً ، لم يمكن التمسّك به في مقام الشكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد ، بل إنّ العموم المجموعي كالاستغراقي من هذه الناحية ، أعني كونه مرجعاً عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، ولا دخل في ذلك لمسألة الفرق بينهما بأنّه لو عصى في بعض الأفراد يسقط العموم المجموعي في الباقي دون العموم الاستغراقي. وكذلك لو تعذّر بعض الأفراد ، فإنّ ذلك لا دخل له فيما نحن فيه من إمكان التمسّك بالعام المجموعي عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، فإنّ التخصيص لا يوجب سقوط العموم المجموعي ، بل إنّ

ص: 296

التخصيص يكشف عن كون اعتبار المجموع واقعاً هو فيما عدا ذلك الخارج.

وثالثاً : أنّ من يدّعي سقوط العموم الأزماني عند الشكّ في التخصيص أو في التخصيص الزائد ، ليست دعواه مبنية على كون العموم مجموعياً ، بل هي مبنية على دعوى استفادة الاستمرار والدوام ، وذلك مثل ما عرفت من الامساك المستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب. وتقريب هذه الدعوى هو أن يقال : إنّ [ في ] مثل الوجوب الوارد على الوفاء بالعقد في كلّ آن ، لا نقول إنّ في البين وفاءات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات من حين وقوع العقد إلى آخر الدهر ، بل لا يكون لنا إلاّ وفاء واحد مستمرّ من حين العقد إلى آخر الدهر ، فلا يكون المطلوب إلاّذلك الوفاء الواقع في تمام ذلك الوقت الذي هو من حين العقد إلى آخر الدهر ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل الواجب الموقّت المنطبق على تمام وقته. والحاصل : أنّ المطلوب هو الوفاء الذي يملأ ذلك الوقت الذي هو من أوّل العقد إلى آخر الدهر.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمر الخ ، فإنّ قوله : بحيث الخ ، الذي أراد أن يشرح به العموم المجموعي ليس بشارح له ، بل هو شارح لهذا الاحتمال الذي يعتمد عليه من يدّعي عدم إمكان التمسّك بالعموم الزماني ، وإنّما شرح العموم المجموعي هو أن يكون في البين لحاظ إكرامات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات ، فتلاحظ تلك الاكرامات في هاتيك الآنات مرتبطاً بعضها ببعض فيعلّق التكليف. وهذا ما شرحناه من رجوع العام المجموعي إلى المركّب الارتباطي أو رجوع المركّب الارتباطي إليه ، وأين هذا من فرض فعل واحد مستمر كالإمساك أو الوفاء

ص: 297

مالئاً لزمان خاصّ كالنهار أو زمان واحد واسع من حين العقد إلى آخر الدهر مثلاً.

وعلى كلّ حال ، بناء على هذا الاحتمال لا يكون عموم أزماني لا مجموعي ولا استغراقي ، بل لا يكون لنا إلاّفعل واحد مالئ لزمان واحد واسع المنطقة كالدهر أو ضيّق المنطقة كالنهار ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس من العموم الأزماني ، ولا أنّ ما يقع فيه من الأفراد الطولية ، كلّ ذلك لم يكن ، وبناءً عليه ليس لنا عموم زماني نتمسّك به في صورة الشكّ ، فلاحظ وتدبّر.

ولعلّ من هذا القبيل ما لو أُخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم وقلنا يجب في كلّ آن إكرام العالم ، أو أنّ وجوب إكرامه موجود في كلّ آن ، فإنّه لا يكون لنا إلاّ وجوب واحد مستمرّ لا وجوبات متعدّدة ، بل لا يكون في البين آنات متعدّدة ، وإنّما هو وجوب واحد مستمرّ مع الزمان من أوّله إلى نهايته ، كما لو قلنا إنّ النهار في باب الصوم يكون ظرفاً للوجوب ومتعلّقه هو نفس الامساك معرّىً من الزمان ، فإنّه حينئذ لا يكون لنا إلاّوجوب واحد مستمرّ من الفجر إلى الغروب ، فلا يكون هناك تعدّد أو عموم لا في ناحية المظروف الذي هو الوجوب ، ولا في ناحية الظرف ، بل لا يكون في البين إلاّمظروف واحد وهو الوجوب وظرف واحد وهو تمام اليوم. ومعنى وجود الوجوب في ذلك اليوم هو كون الوجوب مستمرّاً معه من أوّله إلى آخره. فلا وجوبات ولا امساكات ولا آنات يكون كلّ واحد منها ظرفاً لكلّ واحد من هاتيك الوجوبات أو تلك الامساكات. وبناءً على ذلك لا يكون لنا عموم أزماني في ناحية الوجوب نرجع إليه في مقام [ الشكّ ] ، كما أنّ الحال كذلك لو أخذنا ذلك الزمان العام في ناحية نفس الامساك ، وحينئذ يكون المدار في إمكان التمسّك بالعموم الأزماني وعدمه على أخذ الدوام فيما يقع فيه أو أخذه بنحو التعدّد الأفرادي ، سواء كان ذلك هو متعلّق الوجوب أو كان

ص: 298

هو نفس الوجوب.

قال الشيخ قدس سره في الرسائل : الحقّ هو التفصيل في المقام بأن يقال : إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفرادياً ، بأن أخذ كلّ زمان موضوعاً مستقلاً لحكم مستقل لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ، كقوله : أكرم العلماء كلّ يوم ، فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة ، ومثله ما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً يوم الجمعة ، إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فرداً مستقلاً ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الأُصول لعدم قابلية المورد للاستصحاب. وإن أخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائماً ، ثمّ خرج فرد في زمان وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الأفرادُ دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الأُصول الأُخر. ولا فرق في استفادة الاستمرار من اللفظ كالمثال المتقدّم ، أو من الاطلاق كقوله : تواضع للناس ، بناءً على استفادة الاستمرار منه ، فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فرداً مستقلاً لمتعلّق الحكم استصحب حكمه بعد الخروج (1).

وظاهره بل لا يبعد أن يقال : إنّ صريحه هو أنّ المائز بين القسمين هو مجرّد لحاظ التعدّد في الأوّل والاستمرار والدوام في الثاني ، وأنّه بناءً على الثاني لا يكون في البين عموم أزماني صالح لأن يرد عليه التخصيص أو يتمسّك به في

ص: 299


1- فرائد الأُصول 3 : 274 - 275.

مقام الشكّ. والتخصيص الواقع ليس براجع إلى العموم الأزماني ، بل هو إخراج من العموم الأفرادي ، فالخارج هو فرد من العالم في خصوص يوم السبت مثلاً ، لا أنّ يوم السبت خارج من عموم الزمان ، ولأجل ذلك قال في تعليل جريان الاستصحاب في الفرد المذكور : إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان - يعني يوم السبت مثلاً - تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص هو الأفراد دون الأزمنة بخلاف القسم الأوّل ، انتهى.

وسرّ الفرق هو وجود العموم الأزماني في الأوّل وعدمه في الثاني ، لا أنّ الفارق هو كون العموم في الأوّل تحت الحكم وفي الثاني فوق الحكم مع فرض تحقّق العموم الأزماني في القسمين ، وأنّ المانع من الأخذ به في الثاني هو كونه فوق الحكم ، وأنّه يتوقّف على إحراز الحكم ، كلّ ذلك أجنبي عمّا هو صريح عبارته ، فلاحظ.

وأمّا عبارته في المكاسب ، فهي قوله : ثمّ لا يخفى أنّ مناط هذا الفرق ليس كون عموم الزمان في الصورة الأُولى من الاطلاق المحمول على العموم بدليل الحكمة ، وكونه في الصورة الثانية عموماً لغوياً ، بل المناط كون الزمان في الأوّلي ظرفاً للحكم وإن فرض عمومه لغوياً ، فيكون الحكم فيه حكماً واحداً مستمرّاً لموضوع واحد ، فيكون مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في استمرار حكم واحد وانقطاعه فيستصحب. والزمان في الثانية مكثّر لأفراد موضوع الحكم ، فمرجع الشكّ في وجود الحكم في الآن الثاني إلى ثبوت حكم الخاصّ لفرد من العام مغاير للفرد الأوّل ، ومعلوم أنّ المرجع فيه إلى أصالة العموم ، فافهم واغتنم ، انتهى (1). فإنّ هذه العبارة بقرينة ما تقدّمها من قوله : والسرّ فيه ما عرفت من تبعية

ص: 300


1- كتاب المكاسب 5 : 208.

العموم الزماني للعموم الأفرادي الخ ، ظاهرة في أنّ المدار على النظر إلى الدوام والاستمرار أو إلى تعدّد الأفراد ، لا على الفوقية والتحتية.

نعم ، هي تزيد على عبارة الرسائل بظهورها في أنّ الدوام والاستمرار إنّما [ هو ] فيما لو كان الملحوظ بعموم الزمان هو الحكم ، وأنّ التعدّد والتكثّر إنّما هو فيما لو كان الملحوظ بعموم الزمان هو متعلّق الحكم المعبّر عنه بموضوع الحكم ، وهذا أمر آخر لا دخل [ له ] بكون المانع هو الفوقية.

وهذه الزيادة لا يبعد القول بها ، فإنّه مع ملاحظة عموم الزمان في ناحية الحكم ، لا معنى للتعدّد والتكثّر ، لأنّ الحكم الموجود في آنات الزمان لا تعدّد فيه ولا تكثّر ، وأقصى ما في ذلك أن يكون مستمرّاً دائمياً ، بخلاف ما لو لوحظ العموم الأزماني في ناحية الفعل الصالح للتعدّد والتكثّر ، فإنّه لا يلزمه كونه فعلاً واحداً مستمرّاً إلاّ إذا كان نفس الفعل غير ظاهر فيه التعدّد والتكثّر ، كالوفاء والامساك ونحوهما ، وإلاّ فأغلب الأفعال المتجدّدة مثل الاكرام والضرب ونحوهما ممّا يحدث ويتجدّد فإنّه ظاهر في التعدّد والتكثّر. وعلى كلّ حال ، هذه جهة أُخرى للفرق بين نفس الوجوب ونفس ما تعلّق [ به ] من عدم ظهور للأوّل في التعدّد والتكثّر بخلاف الثاني ، فتأمّل هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الجهة - أعني كون الحكم أو كون الوفاء غير قابل للتعدّد - قابلة للمنع. فإنّهما وإن لم يكونا قابلين للتعدّد حقيقة ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من قابليتهما للتعدّد اعتباراً ، باعتبار تعدّد آنات الزمان الذي أخذ ظرفاً للوفاء أو ظرفاً للوجوب ، بعد فرض كون الزمان مأخوذاً على نحو التقطيع ، كما يعطيه قوله : بل المناط كون الزمان في الأوّلي ظرفاً للحكم وإن فرض عمومه لغوياً فيكون الحكم فيه حكماً واحداً مستمرّاً لموضوع واحد الخ ، إذ لا محصّل لكون

ص: 301

عموم الزمان لغوياً إلاّ إذا أُبرز بقالب « كلّ » ، بأن يقال : يجب في كلّ آن الوفاء بالعقد. ومن الواضح أنّه مع ذلك لا مجال لدعوى الوحدة إلاّبنحو من التأويل لقوله كلّ آن بإرادة الدوام والوحدة والاستمرار. وهذا التأويل لا يصار إليه إلاّبعد عدم معقولية وجود الحكم في كلّ آن ، وقد عرفت الإشكال في عدم المعقولية. وهكذا الحال فيما لو قال : يجب الوفاء في كلّ آن ، فإنّ الوفاء قابل للوجود في كلّ آن. ومتى تمّ هذا العموم الكبروي الذي حاصله أنّ كلّ آن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو كلّ آن ينوجد فيه الوفاء الواجب ، كان مرجعاً عند الشكّ في بعض الآنات بتشكيل الصغرى والكبرى ، فيقال : هذا آن ، وكلّ آن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو كلّ آن ينوجد فيه الوفاء الواجب ، وتكون النتيجة أنّ هذا الآن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو ينوجد فيه الوفاء الواجب.

والإنصاف : أنّ هذه العبارة - أعني قوله في المكاسب : ثمّ لا يخفى أنّ مناط هذا الفرق الخ - ظاهرة في أنّ تمام الفارق بين النحوين هو أنّ الزمان في النحو الأوّل قد أُخذ ظرفاً للحكم ، وفي النحو الثاني قد أخذ ظرفاً لمتعلّق الحكم ، غايته أنّه قدس سره يدّعي الملازمة بين أخذه ظرفاً للحكم وبين الوحدة والدوام ، وقد عرفت المنع من هذه الملازمة. نعم لو تمّت الطولية التي ادّعاها شيخنا قدس سره - ولعلّه هي التي أُشير إليها في كلامه بالتبعية - [ كانت ] هي المانعة من إمكان التمسّك لا الوحدة والدوام فلاحظ ، هذا.

وللشيخ قدس سره عبارة أُخرى فيما طبع عنه في النكاح من ملحقات المكاسب في مسألة خيار الأمة المزوّجة لو طرأها العتق ، وأنّ خيارها في فسخ النكاح على الفور ، فقد ردّ الفور بعضهم باستصحاب الخيار ، قال هناك قدس سره في ردّه ما هذا لفظه : أقول : وهذا الردّ غير صحيح ، لأنّه إذا كان مقتضى عموم وجوب الوفاء

ص: 302

بالعقود شاملاً لجميع الأفراد في جميع الأزمان ، والمفروض أنّه لم يخرج بالإجماع إلاّفرد واحد في بعض الأزمنة وهو أوّل أزمنة عتق الأمة وما في حكمه ، بقي الباقي تحت العموم ، فلا وجه للاستصحاب. إلاّ أن يقال : إنّ عموم أدلّة الوفاء ليس فيها دلالة أصلية على عموم الأزمان حتّى يكون كلّ فرد في كلّ زمان فرداً له ، بل مدلولها هي الأفراد ، وإنّما يجيء عموم الأزمان تبعاً ، فإذا خرج فرد واحد فلم يلزم في العموم إلاّتخصيص واحد ، سواء كان الحكم الثابت للفرد ثابتاً له في كلّ الأزمان أم في زمان واحد ، وليس الفرد الخارج في الزمان الثاني فرداً آخر حتّى يلزم من خروجه زيادة التخصيص ، وحينئذ فإذا شكّ في استمرار حكم الفرد الخارج وارتفاعه في الزمان الثاني ، جاز إثباته بحكم الاستصحاب ، فافهم واغتنم (1).

وهذه العبارة كصدر عبارته في المكاسب ، أعني قوله : والسرّ فيه ما عرفت من تبعية العموم الزماني للعموم الأفرادي ، فإذا فرض خروج بعضها فلا مقتضي للعموم الزماني فيه حتّى يقتصر فيه من حيث الزمان على المتيقّن ، بل الفرد الخارج واحد ، دام زمان خروجه أو انقطع الخ (2) ، يمكن أن يستند إليها شيخنا قدس سره في حكمه أنّ مراده كون العموم الأزماني متفرّعاً على إحراز الحكم ، فمع الشكّ في الحكم لا مجال للتمسّك بالعموم الأزماني ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد بها هو أنّه إذا لم يكن إلاّ الدوام والاستمرار ، ولم يكن في البين لحاظ تعدّد وتكثّر ، لا يكون لدينا إلاّحكم واحد مستمر وارد على كلّ واحد من أفراد العام أعني العقود أو العلماء ، فلا يكون الخروج من العموم الأزماني ، إذ ليس لنا حينئذ عموم

ص: 303


1- كتاب النكاح : 140 - 141.
2- كتاب المكاسب 5 : 207.

أزماني ، بل لا يكون الخروج إلاّمن العموم الأفرادي ، فإذا خرج الفرد سقط العموم الأفرادي فيه ، سواء كان خروجه دائمياً أو كان في بعض الآنات. ولا يمكن التمسّك بذلك العموم الأفرادي في ذلك الفرد الخارج بالنسبة إلى الآن الثاني ، لعدم كونه في الزمان الثاني فرداً آخر مغايراً له في الزمان الأوّل كي يتمسّك على بقائه بذلك العموم الأفرادي ، وحينئذ ينحصر المرجع في ذلك الآن الثاني بالاستصحاب إن كان ، وإلاّ كان المرجع فيه هو الأُصول العملية ، فلاحظ.

قوله : الجهة الثانية : لو كان مصبّ العموم الزماني متعلّق الحكم ، فعند الشكّ في التخصيص وخروج بعض الأزمنة عن العموم ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لا معنى لكون مصب العموم الأزماني هو متعلّق الحكم إلاّكون العموم في ناحية المتعلّق بحسب أفراده الطولية عموماً شمولياً أو مجموعياً لا بدلياً ، فإنّ المتعلّق للحكم مثل الإكرام في قولك : أكرم كلّ عالم ، له أفراد عرضية وهي الإكرام بالإطعام أو الاكرام بالإعطاء أو الإكرام بالتعظيم ونحو ذلك ، وله أفراد طولية وهي الإكرام في الآن الأوّل ثمّ الآن الثاني ثمّ الآن الثالث وهكذا إلى آخر الأزمنة ، وبالنسبة إلى الأفراد العرضية لو كان التكليف تحريمياً لابدّ أن يكون عمومه شمولياً ، وفي التكاليف الايجابية كالأمر لا يكون العموم فيها إلاّبدلياً ، إلاّ في بعض الصور ، بأن يأمره باكرامه بجميع أنواع الاكرامات. أمّا بالنسبة إلى الأفراد الطولية فالعموم قابل لكلّ من البدلية والاستغراقية والمجموعية ، خصوصاً في باب الأوامر ونحوها من الأحكام الايجابية.

ثمّ بعد البناء على عدم إرادة البدلية نقول : إنّه لو شكّ في خروج بعض تلك الأفراد الطولية كالإكرام مغرباً مثلاً ، كان ذلك العموم محكّماً فيه ، سواء كان ذلك

ص: 304


1- فوائد الأُصول 4 : 537.

بعد فرض خروج ما قبله أم لم يكن.

أمّا الرجوع إلى الاستصحاب فإن كان المراد به هو استصحاب حكم الخاص ، بأن كان الزمان في الخاص ظرفاً لا قيداً مانعاً من استصحاب حكمه إلى ما بعده ، وكان الاخراج من الأوّل أو الوسط ، دون ما إذا [ كان ] الاخراج من آخر الأزمنة ، فالاستصحاب وإن كان في حدّ نفسه لا مانع منه ، إلاّ أنّه مع وجود الدليل الاجتهادي وهو العموم ، لا يمكن إجراؤه ، لتقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، من دون فرق في ذلك بين كون العموم مجموعياً أو انحلالياً.

وما يظهر ممّا أُفيد من كون المانع من استصحاب حكم الخاص هو عين المانع من استصحاب حكم العام ، وهو تسرية الحكم من موضوع [ إلى ] آخر ، لم يتّضح وجهه ، فإنّ تعدّد الموضوع في الحكم العام وإن كان محقّقاً ، إلاّ أنّ تحقّق الحكم الخاص في بعض الأفراد بالنسبة إلى بعض الآنات ليس من هذا القبيل ، إلاّ إذا أُخذ ذلك الآن قيداً في ذلك الحكم الخاص لا ظرفاً.

وبالجملة : إنّ أخذ الزمان قيداً في الحكم العام لا يوجب كونه كذلك في الحكم الخاص ، بل إنّ الحكم الخاص تابع لما يستفاد من دليله ، فإن دلّ على أخذ الزمان قيداً فيه لم يجر الاستصحاب فيما بعده ، وإلاّ كان جارياً.

وإن كان المراد بالاستصحاب هو استصحاب حكم العام ، ففيه أنّه مع قطع النظر عن كون العام مقدّماً على الاستصحاب ، أنّه لا معنى للرجوع إلى الاستصحاب المذكور ، لأنّ المفروض أنّ مصبّ العموم الأزماني هو المتعلّق ، وأنّ المولى لاحظ الاكرام في الآن الأوّل والآن الثاني والآن الثالث ، وأمر بجميع تلك الاكرامات إمّا انحلالياً أو مجموعياً ، ولم نعلم أنّ الاكرام في الآن الرابع هل هو داخل في تلك الاكرامات أم لا ، فكيف لنا أن نعدّي الوجوب من تلك

ص: 305

الاكرامات إلى هذا الاكرام الذي هو في الآن الرابع بالاستصحاب؟ وليس ذلك إلاّ نظير تعدية الحكم الوارد على العلماء وهم زيد وعمرو وبكر بالاستصحاب إلى العالم الرابع وهو خالد ، مع فرض الشكّ في خروجه عن عموم أكرم العلماء. نعم لو لم يكن المتعلّق مصبّاً للعموم الأزماني ، لأمكن جريان الاستصحاب بأن نقول : كان الاكرام واجباً والآن كما كان ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بما نحن فيه من وجود العموم الأزماني وأنّ مصبّه هو المتعلّق ، من دون فرق في ذلك بين أخذ العموم المذكور انحلالياً أو أخذه مجموعياً.

وإن شئت فقل : إنّ الآمر بعد أن لاحظ الأفراد الطولية للاكرام وحكم بوجوبها ، إمّا على نحو الاستغراق أو على نحو المجموعية ، لو شكّ في وجوب الإكرام الموجود في الآن الفلاني مع فرض عدم جريان العموم الأزماني فيه ، لا يمكن الحكم بوجوبه استصحاباً للوجوب الثابت لغيره من الاكرامات الموجودة في غير ذلك الآن المشكوك ، لأنّ الاكرام في ذلك الآن المشكوك الوجوب لم يكن مسبوقاً بالوجوب ، فلا يكون إجراء إستصحاب الوجوب فيه إلاّمن تسرية الحكم من أحد أفراد الإكرام إلى الفرد الآخر. هذا فيما لم يكن مسبوقاً بالتخصيص.

أمّا ما يكون مسبوقاً به فالأمر فيه أشكل ، لأنّ الآن الذي هو مورد الشكّ حينئذ لا يكون مسبوقاً بالوجوب ، بل يكون مسبوقاً بعدم الوجوب. لكن هذا لا يرد عليه قدس سره ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص الزائد لا من قبيل الشكّ في أصل التخصيص.

نعم ، يرد عليه قدس سره الإشكال فيما يكون احتمال عدم الوجوب فيه هو أوّل الآنات ، فإنّه لا يكون مسبوقاً بالوجوب كي يستصحب فيه حكم العام ، وإنّما

ص: 306

المسبوق بالوجوب هو الآن المتوسّط أو الآن الأخير غير المسبوقين بالتخصيص ، فيتأتّى فيه احتمال إجراء استصحاب الوجوب الذي هو حكم العام ، لكنّه منعه قدس سره لكونه من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى آخر. ولا يخفى أنّ كون ذلك من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع ، مبني على أنّ أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق عبارة أُخرى عن أخذ الزمان قيداً فيه.

ويمكن التأمّل في ذلك ، فإن أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، يجتمع مع احتمال أخذه فيه على نحو الظرفية ، وحينئذ فلا مانع من جريان استصحاب حكم العام فيه.

والحاصل : أنّ الذي يظهر ممّا أُفيد في هذه الجهة الثانية أمران :

الأوّل : أنّ أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ملازم لكون ذلك العموم استغراقياً لا مجموعياً ، وقد عرفت أنّه يمكن المنع منه لإمكان أخذه مجموعياً ، كما في الصوم المعتبر فيه التتابع مثل صوم الشهرين في الكفّارة ، وصوم الأيّام الثلاثة في الحجّ والسبعة بعد الرجوع من الحجّ ، بل في صوم اليوم الواحد ، فإنّ عمومه لكلّ واحد من آنات اليوم لا يكون إلاّمجموعياً ، مع كون الزمان مأخوذاً في المتعلّق الذي هو الامساك لا في الوجوب ، لكن قد عرفت أنّ جلّ غرضه قدس سره هو استظهار الاستغراقية لا تعيّنها ، فلاحظ.

الأمر الثاني : أنّه لو أُخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، كان ذلك موجباً لعدم إمكان إجراء الاستصحاب فيه ، لا استصحاب حكم الخاصّ ولا استصحاب حكم العام ، وقد عرفت أنّ عدم إمكان إجراء استصحاب الحكم الخاصّ مبنيّ على أخذ الزمان في الخاصّ قيداً لا ظرفاً ، فلو أُخذ الزمان فيه ظرفاً لم يكن مانع من استصحاب حكم الخاصّ ، أمّا استصحاب حكم العام فهو لا

ص: 307

يجري في الزمان الأوّل ، لأنّه لم يكن مسبوقاً بحكم العام ، أمّا في الوسط أو الأخير فهو مبني على كون الزمان في المتعلّق قيداً لا ظرفاً ، أمّا لو أخذ ظرفاً فالظاهر أنّه لا مانع من استصحابه فتأمّل ، كما في استصحاب وجوب الصوم فيما بين الغروب والمغرب.

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد هو أنّ الزمان لمّا كان مفرّداً للفعل الواحد ، وموجباً لتعدّده حسب تعدّد الآنات ، كان كلّ واحد من أفراد الاكرامات موضوعاً مستقلاً ، فيكون الزمان فيه قيداً لا ظرفاً. فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه لأنّه من قبيل إجراء حكم من فرد إلى فرد آخر ، ثمّ لمّا كان الدليل قد أخرج الاكرام الواقع في الآن الأوّل ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون آنات الزمان قيداً فيه ، لأنّه إخراج من تلك الاكرامات التي فرّدها الزمان ، وحينئذ يكون الزمان في حكم الخاصّ قيداً ، فلا يجري الاستصحاب في كلّ من حكم الخاصّ عند الشكّ في التخصيص الزائد ، وحكم العام عند الشكّ في أصل التخصيص ، هذا.

ولكن قال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه قدس سره : توضيح ذلك : أنّ الزمان إذا أُخذ في ناحية المتعلّق ظرفاً أو قيداً استغراقياً أو مجموعياً ، فقد عرفت أنّ الحكم يرد عليه ، والعموم الزماني كالأفرادي يكون في مرتبة سابقة عليه ، فكما أنّ خروج بعض الأفراد لا يضرّ بالتمسّك به في غيره ، فكذلك خروج بعض الأزمنة لا يضرّ بالتمسّك به في غيره ، فإنّ المفروض أنّ كلّ زمان مشمول للحكم كالأفراد ، فإذا خرج بعض الأزمنة عن العموم كما في مورد خيار الغبن ، فلا مانع عن التمسّك في غيره بالعموم. ولو فرضنا مانعاً عن التمسّك به فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب أيضاً في الآن الثاني فيما كان الزمان مأخوذاً قيداً ، فإنّ الشكّ حينئذ لا يكون في البقاء ، بل في حدوث حكم آخر لفرد آخر كما هو

ص: 308

ظاهر (1).

هذه العبارة تنادي بأُمور :

الأوّل : أنّ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق يمكن أن يكون مجموعياً كما يمكن أن يكون استغراقياً ، خلافاً لما في هذا التحرير من حصره بالعموم الاستغراقي.

الثاني : أنّه لو كان العموم المذكور مجموعياً كان التمسّك به في موارد الشكّ ممكناً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير من حصر إمكان التمسّك بما إذا كان العموم المذكور استغراقياً.

الثالث : أنّه لو أُغضي النظر عن التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في التخصيص الزائد ، يكون استصحاب حكم الخاصّ ممكناً إن أخذ الزمان فيه ظرفاً ، نعم لا يمكن الاستصحاب المذكور لو كان الزمان فيه قيداً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير ، من أنّه مع قطع النظر عن العموم لا يكون التمسّك باستصحاب حكم الخاصّ ممكناً ، وحصر الزمان في ناحية الخاصّ بكونه قيداً لا ظرفاً.

الرابع : أنّه مع فرض كون العموم الأزماني في ناحية المتعلّق استغراقياً أو مجموعياً ، يمكن أن يكون مأخوذاً فيه على نحو الظرفية ، كما يمكن أن يكون مأخوذاً فيه على نحو القيدية. ويتفرّع على الأوّل أنّه مع قطع النظر عن العموم يكون التمسّك باستصحاب حكم العام فيما يكون الشكّ فيه شكّاً في أصل التخصيص ممكناً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير من حصر العموم الأزماني في ناحية المتعلّق بكونه على نحو القيدية ، الذي يتفرّع عليه عدم إمكان استصحاب حكم العام في مورد الشكّ المزبور مع قطع النظر عن العموم المذكور ، فلاحظ

ص: 309


1- أجود التقريرات 4 : 170.

وقابل بين التحريرين وتأمّل.

والعمدة من هذه الأُمور هو الأمر الأوّل ، فإنّا لو تسامحنا في عبارة هذا التحرير أعني قوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ الخ (1) ، وحملنا العام المجموعي على الدوام والاستمرار ، بمعنى كون الاكرام إكراماً واحداً مستمرّاً ، كما فسّره به بقوله : بحيث الخ ، كما ستعرف في مثال الامساك الواحد المظروف لزمان واحد وهو ما بين الفجر إلى الغروب (2) ، أو الوفاء الواحد من حين العقد إلى آخر الدهر كما سيأتي شرحه في التعليق الآتي إن شاء اللّه ، لم يكن مجال للتمسّك بذلك العام الأزماني ، إذ لا يكون في البين عام أزماني ، وإنّما هو فعل واحد منطبق على زمان واحد ، فلا عموم في ناحية الزمان كي يتمسّك به في مقام الشكّ في أصل الخروج ، أو في المقدار الزائد على ما تيقّن خروجه ، ولازم ذلك هو انحصار العموم الأزماني بالاستغراقي والمجموعي المصطلح ، الذي هو عبارة عن نفس ما في العام الاستغراقي من لحاظ آنات الزمان آناً فآناً ، ولحاظ الاكرامات الموجودة في هاتيك الآنات المتكثّرة بتكثّرها كلاً على حدة ، وتعلّق الأمر بها.

غايته أنّه يعتبر في العام المجموعي زيادة على اللحاظ المذكور لحاظ تلك الآنات وهاتيك الاكرامات مجتمعة ومنضمّاً بعضها إلى بعض في مقام الإيجاد ، على حذو لحاظ أجزاء الواجب الارتباطي التي لا يكون معنى الارتباط فيها إلاّ عبارة عن تقيّد كلّ منها بالاجتماع مع البواقي ، ولا ريب أنّه بعد لحاظ الآنات

ص: 310


1- فوائد الأُصول 4 : 537 - 538.
2- راجع ما يذكره قدس سره في الحاشية الآتية في الصفحة : 407 وما بعدها.

والإكرامات متعدّدة متكثّرة ، سواء لوحظت مجتمعة ومنضمّاً في الوجود بعضها إلى بعض الذي هو عبارة عن العموم المجموعي ، أو لوحظت مستقلاً الذي هو عبارة عن العموم الاستغراقي ، لا يمكن التفوّه بأنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً ، لأنّ ذلك ينافي لحاظ التكثّر والتعدّد في هاتيك الآنات والإكرامات التي تقع فيها ، فكانت كالعام الأفرادي المجموعي أو الاستغراقي الذي هو في ناحية نفس العلماء ، ولا ريب أنّه لا يمكننا أن نسحب بالاستصحاب الحكم من أحد هاتيك الأفراد إلى فرد آخر.

وحينئذ فلو أغضينا النظر عن ذلك العموم الأزماني ، لم يمكنّا جرّ الوجوب الذي هو الحكم العام بالاستصحاب من أحد تلك [ الأفراد ] إلى فرد آخر منها ، كما أنّه لو وقع تخصيص وإخراج بعض الآنات عن حكم العام لم يكن الخارج إلاّ فرداً واحداً أو أفراداً من ذلك العام ، فلو شكّ في خروج ما بعده أيضاً ، لم يمكن التمسّك في ذلك المشكوك بالاستصحاب وسحب حكم الفرد الخارج إلى ذلك الفرد الآخر المشكوك الخروج ، وحينئذ يكون الصواب هو ما أُفيد في هذا التحرير ، لولا ما فيه من التسامح في إطلاق لفظ العام المجموعي على ما عرفت من الفعل الواحد المستمرّ في زمان واحد.

قوله : وأمّا إذا كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم ، فلا مجال للتمسّك فيه بالعموم إذا شكّ في التخصيص أو مقداره - إلى قوله : - والسرّ في ذلك هو أنّ الشكّ في التخصيص أو في مقداره فيما إذا كان الحكم مصبّ العموم الزماني يرجع إلى الشكّ في الحكم ، وقد تقدّم أنّ الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني ... الخ (1).

لا يخفى أنّ فرض الكلام إنّما هو تجرّد المتعلّق عن الزمان ، وأنّ الزمان إنّما

ص: 311


1- فوائد الأُصول 4 : 539.

لوحظ في نفس الوجوب ، بحيث إنّه كان من قبيل الحكم على ذلك الوجوب بأنّه دائمي أو أنّه ثابت في جميع الأزمنة والآنات ، وحينئذ نقول : إنّ قول الآمر : أكرم العلماء ، يتضمّن جعل إيجابات متعدّدة حسب تعدّد أفراد العالم ، بحيث يكون قوله : أكرم كلّ عالم ، بمنزلة قوله : جعلت وجوب إكرام زيد ووجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد ، إلى آخر الأفراد ، سواء كان ذلك على نحو الاستغراق أو كان على نحو المجموعية ، ويكون كلّ واحد من هذه الأحكام الواردة على تلك الأفراد مهملاً من حيث الزمان ، بحيث إنّه لا يفيد إلاّثبوت الحكم في الجملة ، من دون تعرّض لكونه في جميع الآنات أو في بعض دون بعض ، وقد تقرّر في محلّه أنّ القضية المهملة في قوّة الموجبة الجزئية.

ثمّ إنّه لو قال بعد ذلك : إنّ هذا الحكم الذي هو الوجوب ثابت في كلّ آن أو إنّه ثابت دائماً ، كان محصّل ذلك هو الحكم على كلّ واحد من تلك الوجوبات بأنّه ثابت في كلّ آن أو أنّه ثابت دائماً ، ويكون ملخّص ذلك أنّ وجوب إكرام زيد ثابت في كلّ آن أو أنّ وجوب إكرامه دائمي. وهكذا وجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد ، إلى آخر الأفراد ، ويكون كلّ واحد من هذه الأحكام الواردة على تلك الأفراد بالنسبة إلى الزمان من قبيل الموجبة الكلّية.

فلو ورد دليل ثالث يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد العالم دائماً ، بحيث يكون بالنسبة إلى الزمان من قبيل السالبة الكلّية المناقضة للمهملة التي هي في حكم الجزئية ، كان زيد المذكور خارجاً موضوعاً عن الدليل الثاني المتكفّل لكون وجوب إكرام العلماء دائمياً ، لفرض عدم وجوب إكرام زيد المذكور ، فلا يكون داخلاً فيما يفيده الدليل الثاني من كون وجوب إكرام العالم دائمياً ، بل يكون خارجاً عنه خروجاً موضوعياً. نعم خروجه عن الدليل الأوّل القائل إنّه يجب

ص: 312

إكرام كلّ عالم يكون بالتخصيص لا بالتخصّص. وبالجملة : إنّ هذا الدليل الثالث لا تعرّض له بالنسبة إلى الدليل الثاني ، ويكون مخصّصاً للدليل الأوّل.

أمّا لو كان مفاد الدليل الثالث عدم وجوب إكرام زيد في خصوص يوم السبت ، بحيث إنّا فهمنا منه أنّ عدم وجوب إكرامه مختصّ بيوم السبت دون غيره من الأيّام ، على وجه كان في باقي الأيّام محكوماً بوجوب الإكرام ، كان حال هذا الدليل على العكس من حال السابق ، يعني أنّه يكون غير متعرّض للدليل الأوّل ، ويكون مخصّصاً للدليل الثاني ، فإنّه يكون بالنسبة إلى الدليل الأوّل غير مخصّص ، بمعنى أنّ الدليل الأوّل القاضي بوجوب إكرام كلّ عالم يكون باقياً بحاله من شموله لزيد ، لفرض أنّ إكرامه في باقي الأيّام باقٍ على ما هو عليه من الوجوب ، وإنّما لم يجب إكرامه في خصوص يوم السبت فقط ، وذلك لما تقرّر في محلّه من أنّ السالبة الجزئية لا تنافي الموجبة الجزئية ، فلا تنافي بين كون زيد لا يجب إكرامه في خصوص يوم السبت كما هو مقتضى ذلك الدليل ، وبين كونه واجب الإكرام في الجملة كما هو مقتضى الدليل الأوّل ، وحيث إنّه أمكن الجمع بين هذا الدليل الثالث والدليل الأوّل ، فلا يكون لهذا الدليل الثالث أثر ، إلاّ أنّه يكون مخصّصاً للدليل الثاني القائل إنّ كلّ واحد من تلك الوجوبات ثابت في كلّ آن أو إنّه دائمي ، ويكون محصّل الجمع بين الدليل الثالث والدليل الثاني هو أنّ وجوب إكرام زيد ثابت في كلّ آن إلاّفي يوم السبت ، فإنّه لا يكون وجوب إكرامه ثابتاً فيه.

ثمّ بعد هذا نقول : إنّه لو شككنا في خروج زيد العالم في جميع الأزمنة بمعنى أنّا احتملنا أنّه في جميع الأزمنة غير واجب الإكرام ، لكان العموم الأفرادي - أعني الدليل الأوّل - متكفّلاً بأنّه واجب الإكرام ، وبعد دخوله تحت من يجب

ص: 313

إكرامه يكون وجوب إكرامه دائمياً بمقتضى الدليل الثاني ، فالدليل الثاني وإن كان جريانه متوقّفاً على تحقّق وجوب إكرامه ، إلاّ أنّ الدليل الأوّل متكفّل بهذه الجهة ، وهو قاضٍ بوجوب إكرامه في الجملة ، وبعد ما ثبت به وجوب إكرامه في الجملة يتحقّق فيه ما هو الموضوع للدليل الثاني ، ويكون بذلك محكوماً بأنّ وجوب إكرامه ثابت في كلّ آن ، أو يكون محكوماً بأنّ وجوب إكرامه دائمي.

ولو علمنا بوجوب إكرامه في الجملة لكن احتملنا أن لا يكون الوجوب المذكور ثابتاً في يوم السبت فقط ، كان علمنا بوجوب إكرامه في الجملة ولو بواسطة الدليل الأوّل كافياً في تحقّق موضوع الدليل الثاني وكان مقتضى العموم الأزماني الذي تكفّله الدليل الثاني ، هو وجوب إكرامه دائماً ، أو في كلّ آن حتّى يوم السبت.

وبالجملة : أنّ أصالة العموم الأزماني الذي تكفّله الدليل الثاني قاضية بتحقّق وجوب إكرامه يوم السبت ، وهذا العموم الأزماني - أعني كون وجوب الاكرام ثابتاً في كلّ آن - وإن توقّف إعماله في المورد على إحراز موضوعه الذي هو الوجوب ، إلاّ أنّ هذا الموضوع محرز ببركة الدليل الأوّل ، لأنّ المفروض أنّ الدليل الثاني القائل إنّ وجوب الإكرام ثابت في كلّ آن ، ليس موضوعه هو الوجوب يوم السبت كي يقال إنّ ذلك غير محرز ، بل الموضوع إنّما هو الوجوب المتعلّق بالإكرام المفروض تجرّد كلّ منهما - أعني الوجوب والإكرام - عن الزمان ، فلا يكون موضوعه إلاّ الوجوب الوارد على إكرام زيد في ضمن وروده على إكرام جميع العلماء. وهذا المقدار يتكفّل به الدليل الأوّل القائل إنّه يجب إكرام كلّ عالم ، غايته أنّا احتملنا أنّ زيداً العالم لا يجب إكرامه يوم السبت ، بحيث إنّه على تقدير أنّه لا يجب إكرامه يوم السبت يكون الذي يطرأ عليه التخصيص هو الدليل

ص: 314

الثاني ، وحينئذ فأصالة العموم في الدليل الثاني قاضية بتحقّق وجوب إكرامه يوم السبت.

وهكذا الحال لو علمنا بأنّه ليس بواجب الإكرام في يوم السبت ، واحتملنا أنّه كذلك في يوم الأحد ، فإنّ الدليل الثاني وإن طرأه التخصيص وخرج عنه يوم السبت ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى يوم الأحد يكون باقياً على عمومه ، ومقتضى أصالة العموم فيه يكون أنّ يوم الأحد من جملة الآنات التي يتحقّق فيها وجوب الإكرام.

والحاصل : أنّ الدليل الأوّل لا يكون إلاّبنحو القضية المهملة ، وهي لا تزيد على الموجبة الجزئية ، فإنّه لا يتكفّل إلاّجعل الوجوب لإكرام كلّ عالم في الجملة من دون نظر فيه إلى كون الإكرام في كلّ آن أو كون وجوبه في كلّ آن ، وهذا المقدار لا يطرأ عليه التخصيص إلاّ إذا كان الدليل الخاصّ حاكماً بأنّ زيداً العالم لا يجب إكرامه بالمرّة في جميع الأزمنة على نحو السالبة الكلّية ، أمّا إذا كان الدليل الخاصّ متكفّلاً لإخراج زيد في يوم خاصّ مع القطع ببقاء الوجوب في باقي الأيّام ، فلا يكون مخصّصاً للدليل الأوّل ، لعدم التنافي بين السالبة الجزئية والموجبة الجزئية ، وإنّما يكون مخصّصاً للدليل الثاني لتحقّق التنافي بين السالبة الجزئية والموجبة الكلّية. وفي هذه الصورة لا حاجة لنا إلى إعمال أصالة العموم في الدليل الأوّل.

نعم ، إن احتملنا أنّ زيداً مع عدم وجوب إكرامه يوم السبت أنّه غير واجب الإكرام في باقي الأيّام أيضاً ، كانت أصالة العموم الأفرادي - أعني مفاد الدليل الأوّل - محكّمة فيه ، وكان زيد المذكور محكوماً بوجوب الإكرام في الجملة ، وبعد أن ثبت وجوب إكرامه في الجملة يدخل تحت الدليل الثاني ، ويكون وجوب إكرامه ثابتاً في كلّ آن ما عدا الآن الذي دلّ الدليل على خروجه فيه.

ص: 315

والخلاصة : هي أنّ الشكّ في خروج زيد يكون على أنحاء :

الأوّل : ما يكون على النحو الأوّل ، بأن يحتمل خروج زيد في جميع الأيّام ، وهذا الشكّ يزيله الدليل الأوّل القاضي بلزوم إكرامه في الجملة ، ثمّ الدليل الثاني القاضي بأنّ الوجوب ثابت في كلّ يوم.

الثاني : ما يكون على النحو الثاني ، بأن يحتمل خروج زيد يوم السبت فقط مع بقائه في باقي الأيّام على وجوب الإكرام ، وهذا ينفرد الدليل الثاني في إزالته والحكم بأنّه يجب إكرامه حتّى في يوم السبت.

الثالث : ما يكون على النحو الثالث ، بأن علمنا بخروج زيد يوم السبت واحتملنا خروجه في باقي الأيّام وبقائه فيها ، وهذا يزيله الدليل الأوّل القاضي بإكرامه في الجملة ، ثمّ الدليل الثاني القاضي بأنّ الوجوب في كلّ يوم ، غايته أنّه خرج منه يوم السبت ، فيكون ذلك تخصيصاً للدليل الثاني. ففي الفرض الأوّل يشترك الدليلان في إزالة الشكّ ، ولا يكون في البين تخصيص لا أفرادي ولا أزماني. وفي الثاني ينفرد الدليل الثاني ولا يكون تخصيص أصلاً. وفي الثالث يشترك الدليلان في إزالة الشكّ ، ولكن تكون المسألة من باب التخصيص الأزماني بالنسبة إلى ما علم خروجه وهو يوم السبت.

والظاهر أنّ مسألة فورية الخيار من هذا القبيل ، أعني النحو الثالث من أنحاء الشكّ ، فإنّه قد علم فيها بعدم وجوب الوفاء بالعقد في الآن الأوّل ، واحتمل أنّ عدم وجوب الوفاء به يكون مستمرّاً وباقياً في باقي الآنات ، فعلى تقدير كونه كذلك يعني أنّه ليس بواجب الوفاء في جميع الآنات ، يكون التخصيص واقعاً على قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ، وحينئذ تكون أصالة العموم الأفرادي حاكمة

ص: 316


1- المائدة 5 : 1.

بأنّه يجب الوفاء به في الجملة ، ومقتضى ذلك أن يتحكّم فيه العموم الأزماني ، أعني ما دلّ على كون ذلك الوجوب ثابتاً في جميع الآنات ، ولو كان ذلك الدليل هو دليل الحكمة الذي هو بمنزلة الدليل المتّصل بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وتكون النتيجة هي تطرّق التخصيص إلى هذا العموم الأزماني ، وأنّه لم يخرج منه إلاّ الآن الأوّل ، فتكون النتيجة هي فورية الخيار.

وتوضيح ذلك : أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بمنزلة قوله : يجب الوفاء بكلّ عقد ومنها هذا العقد الغبني الخاصّ ، فيكون محصّل ذلك هو أنّ هذا العقد الخاصّ يجب الوفاء به. لكن هذا الحكم في حدّ نفسه معرّى عن الزمان ، إذ لم يؤخذ الزمان فيه ولا في متعلّقه الذي هو الوفاء ، ثمّ إذا لاحظنا دليل الحكمة وجدناه يقول إنّ كلّ وجوب من تلك الوجوبات يكون ثابتاً في كلّ آن ، فيكون مقتضى ذلك أنّ وجوب الوفاء بهذا العقد الخاصّ ثابت أيضاً في جميع الآنات ، فإذا لاحظنا دليل الغبن القائل بعدم وجوب الوفاء بهذا العقد ، المفروض أنّه لم يعلم منه أنّ هذا الحكم - أعني عدم وجوب الوفاء بذلك العقد - هل هو ثابت في جميع الآنات أو أنّه في خصوص الآن الأوّل ، فعلى تقدير أنّه في جميع الآنات يكون مخصّصاً للعموم الأفرادي المستفاد من الآية الشريفة ، لكن أصالة ذلك العموم الأفرادي نافية لذلك الاحتمال ، وحاكمة بأنّه يجب الوفاء به في الجملة ، ثمّ بعد ذلك نلاحظ دليل الحكمة ونخصّصه بدليل الغبن ، ونرفع اليد عن العموم الأزماني فيه بمقدار ما ثبت من دليل الغبن وهو في الآن الأوّل ، وفي باقي الآنات يكون دليل الحكمة محكّماً فيه ، وفي الحقيقة يكون ثبوت الفورية بواسطة كلّ من العموم الأفرادي والعموم الأزماني ، فالعموم الأفرادي ينفي خروجه بالمرّة عن وجوب الوفاء بكلّ عقد ويتعرّض لإثبات وجوب الوفاء به في الجملة ، والعموم

ص: 317

الأزماني يثبت أنّ وجوب الوفاء به في كلّ آن ، وأنّه لم يخرج هذا العقد عن هذا العموم الأزماني إلاّفي الآن الأوّل ، فلا يكون المتطرّق إليه التخصيص بدليل الغبن إلاّ ذلك العموم الأزماني ، ولا يكون تخصيصه به إلاّبالمقدار المتيقّن من دليل الغبن ، وهو الآن الأوّل دون باقي الآنات ، فإنّها تكون باقية تحت أصالة ذلك العموم الأزماني.

وقد يقال : لا حاجة إلى تجشّم الرجوع أوّلاً إلى الدليل الأوّل ، ثمّ بعد الرجوع إليه وثبوت أصل الوجوب به يرجع إلى الدليل الثاني المتكفّل لكون الوجوب موجوداً في جميع الآنات ، بل يكفي الرجوع من أوّل الأمر إلى الدليل الثاني ، وهو وحده كافٍ في إزالة الشكّ بحذافيره.

وبيان ذلك هو أن يقال : إنّه وإن كان من المسلَّم أنّ القضية لا تتكفّل بإحراز وجود موضوع نفسها ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما كان المحمول في القضية أمراً زائداً على أصل وجود موضوعها ، كما في قولك : العالم عادل ، فإنّ هذه القضية لا تحرز وجود موضوع نفسها الذي هو العالم ، بل لابدّ في إحراز وجود موضوعها من دليل آخر غير نفس هذه القضية ، وإلاّ فإنّ نفس هذه القضية لا تدلّ على وجود العالم الذي هو موضوعها.

أمّا إذا كان المحمول في القضية هو نفس الوجود ، بأن يكون صورة القضية هو قولك : العالم موجود ، فلا ريب في أنّ نفس هذه القضية محرزة لوجود الموضوع الذي هو العالم ، بل إنّ مدلولها المطابقي هو عين وجود موضوعها ، وحينئذ نقول : إنّ الدليل الثاني وهو قوله : وجوب إكرام العالم دائمي أو إنّه موجود في جميع الآنات ، لا يكون المحمول فيه إلاّعبارة عن وجود الموضوع فيه - الذي هو الوجوب - في جميع الأزمنة ، فتكون محرزة لموضوع نفسها في زمان الشكّ ،

ص: 318

لأنّ ذلك هو مفادها ومدلولها المطابقي ، وليس هذا الدليل بالنسبة إلى زمان الشكّ في وجود الحكم إلاّكقولنا : القيام موجود في كلّ آن ، بالنسبة إلى زمان الشكّ في وجود القيام ، فكما أنّ قولك : القيام موجود في كلّ آن ، يكون محرزاً لوجود القيام في زمان الشكّ فيه ، لكون ذلك هو عين مدلوله المطابقي من دون أن يتوقّف على جهة أُخرى تحرز أصل وجود القيام ، فكذلك قوله : الوجوب موجود في كلّ آن ، يكون محرزاً لوجود الوجوب في زمان الشكّ فيه ، لكون ذلك هو عين مدلوله المطابقي ، من دون أن يتوقّف على جهة أُخرى تحرز وجود أصل الوجوب ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون المحمول في الدليل هو الثبوت في كلّ آن أو هو الدوام والاستمرار ، فإنّ جميع هذه المحمولات راجعة إلى مفاد واحد وهو وجود الوجوب في كلّ آن ، ومن الواضح أنّ مدلوله المطابقي هو عين وجود الحكم في زمان الشكّ فيه.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين مثل قولنا : القيام موجود في كلّ آن ، وبين ما تضمّنه الدليل الثاني فيما نحن فيه ، فإنّ قولنا : القيام من القوم موجود في كلّ آن متعرّض لجهتين ، الأُولى : إثبات أصل وجود القيام منهم ، والثانية : كون وجوده منهم مستمرّاً ومتحقّقاً في كلّ آن. وبواسطة تضمّنه لكلتا الجهتين يكون نافياً للشكّ في وجود القيام من زيد في يوم السبت مثلاً ، فإنّه بالجهة الأُولى يثبت أصل وجود قيامه ، وبعد ثبوت أصل وجود القيام بالجهة الأُولى تكون الجهة الثانية مثبتة لوجود القيام منه يوم السبت ، ولو كان قد علم عدم قيامه يوم السبت وشكّ في قيامه يوم الأحد ، كان العلم بعدم قيامه يوم السبت موجباً للتصرّف في الجهة الثانية ، مع بقاء الجهة الأُولى في حقّ زيد المذكور من ثبوت وجود قيامه في الجملة بحالها ، وهذه الجهة تكون مصحّحة لانطباق الجهة الثانية عليه وحاكمة

ص: 319

بأنّ وجود قيامه ثابت في يوم الأحد ، فلا يكون خروجه عن الجهة الثانية إلاّفي يوم السبت فقط.

وهذا بخلاف مفاد الدليل الثاني فيما نحن فيه ، فإنّه لم يتعرّض إلاّللجهة الثانية ، لأنّ الدليل الأوّل قد تعرّض لإثبات أصل وجود وجوب إكرام العلماء في الجملة ، من دون تعرّض لكون ذلك الوجوب دائمياً أو غير دائمي ، والدليل الثاني ناظر إلى هذا الوجوب المفروغ عن أصل وجوده ، فكأنّه يقول إنّ هذا الوجوب المفروض الوجود ثابت وموجود في جميع الآنات ، وحينئذ ففي مورد الشكّ في وجوب إكرام زيد العالم في باقي الأيّام مع فرض ثبوت عدم وجوب إكرامه يوم السبت ، لا يمكننا الاعتماد في إزالة هذا الشكّ على الدليل الثاني فقط ، لأنّه حكم على الوجوب المفروض الوجود في الجملة ، والمفروض أنّ أصل وجود وجوب الإكرام في الجملة بالنسبة إلى زيد المذكور مشكوك ، فلابدّ حينئذ من الاعتماد أوّلاً على الدليل الأوّل المتعرّض لإثبات أصل وجود الوجوب في الجملة ثمّ بعد أن ثبت بذلك الدليل الأوّل أصل وجود الوجوب في الجملة ننقل الكلام إلى الدليل الثاني ونقول : إنّ الذي خرج عن مقتضاه إنّما هو الوجوب في يوم السبت ، وأمّا الوجوب في باقي الأيّام فهو باقٍ على ما يقتضيه الدليل الثاني من كون الوجوب موجوداً في كلّ آن.

نعم ، لو كان الدليل الثاني متعرّضاً لأصل وجود وجوب الإكرام ولكون وجوده دائمياً وفي كلّ آن ، كان ذلك الدليل وحده كافياً في إزالة الشكّ ، وكانت الجهة الأُولى منه مثبتة لأصل وجود وجوب الإكرام ، والجهة الثانية مثبتة لكونه مستمرّاً وموجوداً في كلّ آن ، لكنّك قد عرفت أنّ الدليل الثاني لا تعرّض له إلاّ للجهة الثانية ، وأنّ الدليل الأوّل هو المتكفّل للجهة الأُولى ، لما عرفت من أنّ

ص: 320

الدليل الثاني ناظر إلى الوجوب المذكور في الدليل الأوّل ، فيقول إنّ هذا الوجوب المفروض أصل وجوده في الجملة هو ثابت في جميع الأزمنة.

والحاصل : أنّ لنا جهتين طوليتين ، الأُولى : إثبات أصل وجود الشيء في الجملة. والثانية : أنّ وجوده متحقّق وثابت في جميع الآنات. والجهة الثانية وحدها لا تكون مزيلة لما نحن فيه من الشكّ لتوقّفها على الجهة الأُولى ، لكن لمّا كان قولنا : القيام موجود في جميع الآنات ، متكفّلاً لكلتا الجهتين ، كان بنفسه نافعاً في إزالة الشكّ المذكور ، بخلاف الدليل الثاني فيما نحن فيه فإنّه لم يتعرّض إلاّ للجهة الثانية ، وقد أخذت فيه الجهة الأُولى مفروضة الوجود ، لكونه ناظراً إلى الحكم الذي تضمّنه الدليل الأوّل وهو أصل وجود الوجوب ، فيقول إنّ ذلك الوجوب المفروض الوجود في الجملة هو متحقّق وثابت في جميع الآنات ، فلأجل ذلك لم يمكن الاعتماد عليه وحده في إزالة ما نحن فيه من الشكّ ، بل لابدّ من الاعتماد أوّلاً على الدليل في إثبات الجهة الأُولى ، ثمّ بعد ذلك نركن إلى الدليل الثاني في إثبات الجهة الثانية.

ولا يخفى أنّه لو كان لنا دليل واحد يتكفّل الجهتين معاً ، بحيث كان لنا دليل يدلّ على العموم الأفرادي وعلى العموم الأزماني الذي مصبّه الحكم بناءً على ما حرّرناه سابقاً من كون ذلك ممكناً ، فإنّه يجري فيه عين ما ذكرناه في الدليلين فيؤخذ العموم الأفرادي مكان الدليل الأوّل والعموم الأزماني مكان الدليل الثاني ، ثمّ تجري عين العملية التي أجريناها في الدليلين.

وتوضيح ذلك : أنّه لو قال : يجب في كلّ آن إكرام العلماء بحيث فهمنا منه أنّ قوله : في كلّ آن ، متعلّق بقوله : يجب ، كان حاله حال قوله : القيام موجود في كلّ آن ، في أنّه متعرّض لإثبات أصل وجوب الإكرام وكونه دائمياً ، فبالجهة الأُولى

ص: 321

نثبت أصل الوجوب وبالثانية نثبت استمراره ، وتكون الجهة الأُولى مزيلة للشكّ في أصل وجوب إكرام زيد العالم ، والثانية مزيلة للشكّ في دوامه واستمراره بعد أن تحقّق بالأُولى أصل الوجوب في الجملة ، على نحو ما ذكرناه في قولنا : القيام موجود في كلّ آن.

والأولى في الجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّ القضية التي لا يحتاج فيها إلى إحراز وجود الموضوع من الخارج ، بل هي تكون محرزة لوجود موضوعها ، هي التي يكون المحمول فيها متكفّلاً لأصل وجود الموضوع ، من دون تعرّض لجهة زائدة على أصل وجوده ، مثل قولنا : القيام موجود ، ومثل قولنا : وجوب إكرام العلماء موجود ، ونحو ذلك من القضايا التي لا يكون المحمول فيها متعرّضاً لأمر زائد على أصل وجود الموضوع ، لأنّ مثل تلك القضايا لا يكون معناه المطابقي إلاّمجرّد وجود الموضوع ، فهي بنفسها تحرز موضوعها ، بل هي عين إحراز موضوعها ، فإنّ قولنا : القيام موجود ، كقولنا : القيام محرز ، لا تعرّض لها لأمر آخر زائد على أصل الوجود أو على إحراز الوجود.

أمّا لو انضمّ إليها أمر آخر زائد على أصل الوجود ، مثل أن نقول : القيام موجود في كلّ زمان ، فلا شبهة حينئذ في أنّها متعرّضة لأزيد من وجود الموضوع ، وهو كون ذلك الوجود مستمرّاً ومتحقّقاً في كلّ آن ، فتكون مثل هذه القضية متعرّضة لجهتين طوليتين : الأُولى إثبات أصل وجود القيام ، والثانية إثبات أنّ ذلك الوجود يكون مستمرّاً ودائمياً ومتحقّقاً في كلّ زمان.

وحينئذ فلو شككنا في تحقّق القيام في آن من الآنات ، كانت الجهة الأُولى من هذه القضية محرزة لأصل وجود القيام ، والجهة الثانية المعبّر عنها بالعموم الأزماني محرزة لتحقّقه في ذلك الآن المشكوك ، فحينئذ نقول : إنّ الدليل الثاني

ص: 322

المتعرّض للعموم الأزماني في ناحية الحكم لو كان متعرّضاً لكلتا الجهتين المذكورتين ، أعني إثبات أصل وجود الوجوب وإثبات كونه في كلّ آن ، بأن يكون لسانه بهذه الصورة : إنّ وجوب إكرام العلماء ثابت ومتحقّق في كلّ آن ، بحيث يكون متعرّضاً لأصل وجود الوجوب ولكونه ثابتاً في كلّ آن ، لكان كافياً لنا في مقام الشكّ المذكور ، بأن تكون الجهة الأُولى ممّا أفاده الدليل الثاني مثبتة لأصل وجود الوجوب ومحرزة للموضوع الذي هو الوجوب ، وتلك الجهة هي عين ما استفدناه من الدليل الأوّل ، ثمّ بعد إحرازه بالجهة الأُولى تلحقه الجهة الثانية ، لكن فرض الكلام هو أنّ دليلنا الثاني لم يكن بهذه المثابة ، سيّما على رأي شيخنا قدس سره من عدم إمكان الجمع بين الجهتين في دليل واحد ، لما يراه قدس سره من تأخّر الجهة الثانية عن الأُولى ، بل المفروض أنّ دليلنا الثاني لم يكن متعرّضاً إلاّللجهة الثانية ، وأنّ الجهة الأُولى مأخوذة فيه مفروضة الوجود ، بأن يكون لسانه بهذه الصورة وهي : أنّ الوجوب المفروض الوجود الذي جعلناه على إكرام العلماء هو عام لكلّ آن ، وحينئذ ففي مقام الشكّ لابدّ من إحراز وجود ذلك الوجوب من دليل آخر ، وهو الدليل الأوّل حسبما حرّرنا تفصيله.

والسرّ في ذلك : هو أنّ هذا العموم لم يكن مستفاداً من دليل لفظي ، وإنّما التزمنا به من ناحية حكم العقل بعدم اللغوية في أحكام الشارع الحكيم ، وذلك المقدار الذي نلتزم به من هذه الناحية هو مجرّد كون ذلك الوجوب عاماً لجميع الأزمنة ، فلا يكون محصّل العموم الأزماني الراجع إلى ناحية ذلك الوجوب إلاّ عبارة عن قولنا : إنّ هذا الوجوب عام وشامل لجميع الأزمنة ، ومن الواضح أنّ هذه القضية لا تكون مشتملة إلاّعلى الجهة الثانية ، وهي كون ذلك الوجوب عاماً ، فيكون تطبيقها على مقام الشكّ متوقّفاً على إحراز موضوعها الذي هو الوجوب ،

ص: 323

ولا طريق لنا في إحرازه إلاّ التمسّك بالدليل الأوّل كما عرفت تفصيله.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه ليس من قبيل الحكم على الوجوب بأنّه عام كي يكون من قبيل العوارض بعد الوجود ، كي يتوقّف الحكم بالعموم المذكور على إحراز أصل الوجوب ، بل أقصى ما في البين هو الحكم على الوجوب بأنّه موجود في كلّ آن ، فلا يكون ذلك إلاّنظير قولنا : الضياء موجود في كلّ غرفة من غرف البيت ، فإذا شككنا في وجوده في هذه الغرفة كان قولنا : إنّه موجود في كلّ غرفة كافياً في الحكم بأنّه موجود فيها ، بل هو عينه. وهكذا فيما لو علمنا بأنّه غير موجود في هذه الغرفة لكن شككنا في غيرها.

ثمّ إنّ هناك طريقاً لو تم أغنانا عن الرجوع إلى الدليل الأوّل ، كما يغنينا عن كون مفاد القضية هو الحكم بالوجود ، لجريان هذا الطريق فيما لو لم يكن المحمول أصل الوجود ، بل كان المحمول من العوارض الطارئة على الوجود ، مثل قولنا : الوجوب متأكّد في كلّ آن. وكيفية إجراء هذا الطريق فيما نحن فيه هو أن يقال : إنّ العموم الأزماني في ناحية الحكم إنّما التزمنا به من ناحية اللغوية وطريق الحكمة ، وهذا المعنى لا ينحصر بإبراز قالب ذلك العموم الأزماني بالصورة التي ذكرناها من جعل الوجوب موضوعاً للحكم عليه بالعموم الأزماني ، بل يكفي في رفع اللغوية المذكورة هو أخذ نفس العموم الأزماني موضوعاً ، وجعل وقوع الوجوب فيه محمولاً ، بأن يكون ذلك العموم بهذه الصورة وهي أنّ كلّ زمان وآن يكون الوجوب موجوداً فيه فإنّ ذلك رافع للغوية ، وموجب لصحّة التمسّك بهذا العموم في مقام الشكّ ، إذ لو شككنا في وجوب الإكرام يوم السبت مثلاً كان ذلك اليوم آناً من الآنات التي هي موضوع هذه القضية ، فيكون داخلاً بقولنا : إنّ كلّ آن يجب فيه الإكرام ، بل يمكننا أن نقول : إنّ هذه الطريقة جارية

ص: 324

حتّى لو كان لسان الدليل الثاني بالصورة السابقة ، وهي أنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، حيث إنّ كلّ آن وإن كان ظرفاً للوجوب ، إلاّ أنّه يكون بمنزلة المحكوم عليه ، حيث إنّ كلّ متعلّق للفعل من ظرف أو مفعول به ونحوهما يكون بمنزلة المخبر عنه ، فإذا قيل : يجب يوم الخميس - مثلاً - إكرام زيد ، كان ذلك بمنزلة قولك : إنّ يوم الخميس يجب فيه إكرام زيد ، وحينئذ فقولنا : الوجوب موجود في كلّ آن ، بمنزلة قولنا : إنّ كلّ آن من الآنات يتحقّق فيه الوجوب.

وبالجملة : أنّ المتمسّك به هو عموم « كلّ آن » باعتبار وقوع الوجوب فيه ، سواء كان بصورة الظرف أو كان بصورة المبتدأ ، ولا نحتاج إلى التمسّك بعموم الوجوب المحكوم عليه بأنّه موجود في كلّ آن كي يقال إنّ هذه القضية لا تتكفّل بإحراز هذا الموضوع.

وإن شئت الاختصار فقل : إنّ كلّ عنوان موجود في عالم الجملة المشتملة على الحكم كالوجوب في مثل أكرم العلماء ، من نفس الاكرام ونفس العلماء والمكان والزمان ونحو ذلك ممّا له دخل وربط وتعلّق بذلك الحكم الذي تضمّنته تلك الجملة ، لو فرضناه عاماً ، كان صالحاً لأن نأخذه مبتدأ بإضافة لفظ « كل » إليه ونخبر عنه بباقي الجملة ، فإن كان الإكرام عاماً قيل : إنّ كلّ إكرام للعلماء واجب ، وإن كان العالم عاماً قيل : إنّ كلّ عالم واجب الإكرام ، وإن كان المكان عاماً قيل : إنّ كلّ مكان يجب فيه إكرام العالم ، وإن كان الزمان عاماً قيل : إنّ كلّ زمان يجب إكرام العالم فيه ، هذا إن أخذنا الزمان ظرفاً للإكرام. وإن أخذناه ظرفاً لنفس الوجوب قيل : إنّ كلّ زمان يجب فيه إكرام العالم بمعنى أنّ كلّ زمان يتحقّق فيه وجوب الإكرام ، وهذا هو محصّل العموم الأزماني لو أخذناه في ناحية الوجوب ، وحينئذ فأيّ زمانٍ نفرض الشكّ في وجود الوجوب فيه ، نتمسّك فيه بهذا العموم القائل

ص: 325

إنّ كلّ زمان يتحقّق فيه وجوب الإكرام ونحكم بأنّه يجب فيه الاكرام ، ولا يتوقّف التمسّك بالعموم المذكور على إحراز الوجوب.

وهكذا الحال لو كان مفاد العموم الأزماني هو أنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، فإنّه عبارة أُخرى عن قولنا : إنّ كلّ زمان موجود فيه الوجوب.

نعم لو قيل : إنّ الوجوب لإكرام كلّ عالم يمنع عن ضدّه في كلّ آن ، امتنع التمسّك بهذا العموم في الزمان الذي نشكّ في تحقّق الوجوب فيه ، والسرّ في ذلك : هو أنّ العموم الأزماني لم يؤخذ في نفس الوجوب ، وإنّما أُخذ في أثر من آثاره وهو اقتضاؤه النهي عن ضدّه ، وهذا بخلاف ما نحن فيه من أخذ العموم الأزماني في ناحية نفس الوجوب ، وحينئذ فلو أردنا صوغ قضية كلّية من هذا المثال لقلنا إنّ كلّ زمان من الأزمنة يكون وجوب الشيء فيه قاضياً بحرمة ضدّه ، فلو حصل لنا الشكّ في ذلك في زمان من الأزمنة ، تمسّكنا بذلك العموم الأزماني وحكمنا عليه بأنّ الوجوب فيه قاض بالنهي عن الضدّ. وهذا لا يكون إلاّبعد إحراز وجود الوجوب في ذلك الزمان ، وهكذا الحال في كلّ ما يدخل في الجملة وكان دخوله فيها بنحو العموم ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : أنّ محصّل التمسّك بالعموم في مورد الشكّ هو أخذ المورد صغرى وأخذ ذلك العموم كبرى ، فلو قال : يجب في كلّ آن أو أنّ الوجوب ثابت في كلّ آن ، وحصل لنا الشكّ في هذا اليوم وأنّه هل يتحقّق فيه الوجوب أو لا ، أخذناه صغرى وأخذنا ذلك العموم كبرى ، وقلنا : هذا اليوم آن من الآنات ، وكلّ آن فيه وجوب ، فهذا الآن فيه وجوب. وهكذا في العموم المكاني فيما لو قلنا : الرمّان - مثلاً - موجود في كلّ بستان ، وشككنا في وجوده في بستان خاصّ ، لقلنا : إنّ هذا المحلّ بستان ، وكلّ بستان فيه رمّان ، فهذا المحل فيه رمّان. وهكذا الحال

ص: 326

في كلّ عموم نرجع إليه في مقام الشكّ.

فقد تلخّص : أنّ التمسّك بعموم القضية وإن توقّف على إحراز موضوعها ، ففي : كلّ عالم يجب إكرامه ، لو أردنا التمسّك بعمومه لابدّ من إحراز كون مورد التمسّك عالماً ، لكن هذا فيما هو مدخول لفظ [ كل ] الذي هو العالم في قولنا : يجب إكرام كل عالم ، وقد عرفت أنّ الموضوع الحقيقي في قولنا : الوجوب موجود في كلّ يوم مثلاً إنّما هو مدخول لفظة « كل » وهو اليوم لا الوجوب نفسه ، إذ ليس الوجوب هو مدخول لفظة « كل » كي يتوقّف التمسّك بعمومه على إحراز الوجوب ، بل المدخول للفظة « كل » إنّما هو اليوم ، وهو مورد التمسّك بالعموم ، فيقال : إنّ يوم الجمعة - مثلاً - يوم من الأيّام ، وكلّ يوم موجود فيه الوجوب ، فهذا اليوم - أعني يوم الجمعة - موجود فيه الوجوب أعني وجوب إكرام كل عالم ، وحينئذ لو علمنا بأنّ زيداً لا يجب إكرامه يوم [ السبت ] وشككنا في وجوبه يوم الأحد ، لقلنا : إنّ يوم الأحد يوم من الأيّام ، وكلّ يوم يجب فيه إكرام كلّ عالم ، فهذا اليوم يجب فيه إكرام كل عالم ومنهم زيد المذكور ، وحينئذ تكون المسألة من قبيل التمسّك بالعموم الأزماني لا الأفرادي ، وذلك لأنّ قولنا : يجب إكرام كل عالم ، بمنزلة قولنا : يجب إكرام زيد وإكرام عمرو وإكرام خالد الخ ، وقولنا : إنّ هذا الوجوب موجود في كلّ يوم ، بمنزلة قولنا : إنّ وجوب إكرام زيد موجود في كلّ يوم ووجوب إكرام عمرو موجود في كلّ يوم وهكذا ، وحينئذ كان وجوب إكرام زيد معلوماً ، وإنّما وقع الشكّ في كون يوم الأحد من تلك الأيّام ، فنتمسّك بعموم « كلّ يوم » على كون يوم الأحد من تلك الأيّام ، كما أنّا لو علمنا بأنّه في يوم السبت لا يجب إكرامه كان ذلك تخصيصاً لذلك العموم الأزماني للأيّام بإخراج يوم السبت منه.

ص: 327

ولكن مع هذا كلّه لابدّ من إعمال الدليل الأوّل المتكفّل للعموم الأفرادي القائل إنّه يجب إكرام كلّ عالم ومنهم زيد ، فنحتاج إلى قياسين : الأوّل أن يقال : إنّ زيداً عالم وكلّ عالم يجب إكرامه ، والنتيجة أنّ زيداً يجب إكرامه ، ثمّ لأجل استنتاج أنّه يجب إكرامه في يوم الأحد نركّب القياس الثاني ونقول : إنّ يوم الأحد يومٌ من الأيّام ، وكلّ يوم يوجد فيه وجوب إكرام كلّ عالم ومنهم زيد ، والنتيجة أنّ يوم الأحد يجب فيه إكرام كلّ عالم ومنهم زيد. ولو علمنا بأنّه لا يجب إكرامه في يوم السبت ، كان ذلك تخصيصاً أو تقييداً لكبرى القياس الثاني ، وحاصله : أنّ كلّ يوم يجب فيه إكرام كلّ عالم غير يوم السبت بالنسبة إلى زيد فقط ، فيلزمنا في استنتاج الحكم ليوم الأحد أن نقول : إنّه يومٌ غير يوم السبت ، وكلّ يوم هو غير يوم السبت يجب فيه إكرام كلّ عالم.

وكيف كان ، فقد ظهر لك من جميع ما تقدّم أنّ ما أُفيد من قوله : فلا يمكن التمسّك بعموم ما دلّ على استمرار وجوب الوفاء في كلّ زمان الخ (1) لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ ذلك إرجاع للمسألة إلى الدوام والاستمرار وهو مطلب آخر غير العموم الأزماني ، وحاصله : أنّ الزمان إن لوحظ قطعة واحدة من أوّله إلى آخره كان ذلك مانعاً من التمسّك بالعموم الأزماني ، سواء أُخذ في ناحية المتعلّق أو أُخذ في ناحية الحكم ، إذ لا عموم حينئذ ، وإنّما هو زمان واحد طبّق عليه فعل واحد أو حكم واحد ، بخلاف ما لو لوحظت آنات الزمان قطعات متعدّدة كان التمسّك به ممكناً ، سواء أُخذ في ناحية المتعلّق أو أُخذ في ناحية الحكم ، وسواء قلنا بأنّ أخذه في ناحية الحكم يكون فوق الحكم ، بحيث يكون متوقّفاً على إحراز نفس الحكم كما يراه شيخنا قدس سره ، أو قلنا بأنّ أخذه فيه لا يوجب تأخّره عنه رتبة كما

ص: 328


1- فوائد الأُصول 4 : 542.

عرفت تفصيله ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : أنّه بعد فرض كون العموم أزمانياً لوحظ فيه قطعات الزمان ، كما لو لاحظ الأيّام مترتّبة متدرّجة وربطها بالحكم ، وبعد تسليم أنّ ربطها به وحملها عليه إنّما يكون فوقه وفي المرتبة المتأخّرة ، نقول : إنّ ذلك العموم الأزماني لا يسقط عن الحجّية. وإمكان التمسّك به في موارد الشكّ بأحد طرق ثلاث : الأوّل : الاعتماد على الدليل الأوّل في إحراز أصل وجود الحكم. الثاني : أخذ الكبرى من كلّ يوم والتمسّك بها لليوم الذي هو يوم الشكّ. الثالث : التمسّك بنفس القضية القائلة إنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، فإنّ نفس هذا الحكم هو عبارة عن وجود الحكم ، فلاحظ.

وعلى أيّ حال ، فقد ظهر لك من جميع ما حرّرناه أنّ مثل الأيّام لو كانت مورداً للعموم ، بحيث إنّها اعتبرت هي مدخولة لفظة [ كل ] يكون هي محطّ التمسّك ، وهي الكبرى التي نرجع إليها في مقام الشكّ ، سواء جعلناها مربوطة بالإكرام أو جعلناها مربوطة بوجوبه ، إذ لا فرق بينهما إلاّفي الصورة ، فإنّها على الأوّل يكون المتحصّل هو أنّ كلّ يوم يجب إكرام العالم فيه ، وعلى الثاني يكون المتحصّل هو أنّ كلّ يوم يجب فيه إكرام العالم.

وعلى كلا الصورتين لا تكون كبرانا هي كل إكرام واجب أو كل وجوب لإكرام العالم موجود ، إذ لا يكون لنا إكرامات متعدّدة هي مدخولة للفظ « كل » ، ولا وجوبات متعدّدة هي مدخولة للفظة « كل » ليكون العموم المتمسّك به الذي هو عبارة عن الكبرى في الشكل الأوّل منصبّاً على الاكرامات أو على الوجوبات ، بل لا يكون العموم إلاّواحداً بحسب آنات الزمان ، وهو الذي تدخل عليه لفظة « كل » وهو الذي يصاغ منه الكبرى التي نتمسّك بها في يوم الشكّ ، سواء أخذناه

ص: 329

في ناحية المتعلّق أو أخذناه في ناحية الوجوب ، كما أنّا لو لم نلاحظ الآنات ولاحظنا الزمان شيئاً واحداً ، فسواء أخذناه في الوجوب أو أخذناه في ناحية المتعلّق ، لا يكون لدينا إلاّحكم واحد على متعلّق واحد في زمان واحد ، ولا يكون لدينا عموم أزماني نرجع إليه في مقام الشكّ.

نعم ، هناك جهات استظهارية ، وهي كون الوجوب نفسه الموجود في أزمنة متعدّدة وجوباً واحداً مستمرّاً ، أو كون الوفاء وفاءً واحداً مستمرّاً ، أو كون الإكرام قابلاً للحدوث والتجدّد ، فتكون لنا إكرامات متعدّدة حسب تعدّد الآنات ، فما كان من قبيل الأوّل كان من قبيل الوحدة والدوام والاستمرار ، بخلاف ما يكون من قبيل الثاني. أمّا بعد التصريح مثلاً بالدوام والاستمرار بأن قيل : يجب إكرام كلّ عالم دائماً أو أبداً أو مستمراً ، فسواء جعلنا هذا الظرف - أعني دائماً أو أبداً - متعلّقاً بالإكرام أو جعلناه متعلّقاً بالوجوب نفسه ، لا يكون لنا كبرى مؤلّفة من الأيّام ، ولا مؤلّفة من الإكرامات ولا من الوجوبات ، بل تنحصر كبرانا بالكبرى المؤلّفة من نفس الموضوع أعني العلماء ، وحاصلها أنّ كلّ عالم يجب له الإكرام الدائمي ، أو أنّ كلّ عالم له الوجوب الدائمي للإكرام ، فنقول : إنّ زيداً عالم ، وكلّ عالم له وجوب الإكرام الدائمي أو له الوجوب الدائمي ، فلو فرضنا أنّ زيداً قد خرج من هذه الكبرى يوم السبت ، واحتملنا خروجه بالمرّة أو أنّ خروجه منحصر بيوم السبت ، لم يمكننا التمسّك له فيما عدا يوم السبت بتلك الكبرى ، للعلم بخروجه عن محمولها الذي هو وجوب الإكرام الدائمي أو الوجوب الدائمي للاكرام ، من دون فرق في ذلك بين كون يوم السبت هو أوّل أيّام زيد أو وسطها أو آخرها.

ص: 330

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده في الكفاية (1) من التفصيل بين الأوّل والوسط.

وعلى الظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين كون هذا الدوام والاستمرار مستفاداً من أخذه صريحاً في الدليل كما مثّلنا ، وبين كونه مستفاداً من الحكمة ولغوية الحكم لو لم يكن مشتملاً على الدوام المذكور - وإن أشكلنا عليه بأنّ الخروج عن اللغوية لا يلزم الدوام - أو كونه مستفاداً من الإطلاق وعدم التقييد بزمان خاصّ ، كما أفاده المرحوم الشيخ عبد الكريم قدس سره في غرره ، ولا تصل النوبة إلى ما أفاده من إرجاع المسألة إلى الدوران بين التخصيص والتقييد ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى نقل عبارته (2).

وإن أشكلنا نحن عليه أوّلاً بأنّ الإطلاق لا يستنتج منه الدوام والاستمرار ، بل ربما كان منزّلاً على الاكتفاء ببعض الآنات ، لأنّ عدم التقييد بيوم مخصوص يعطي الاكتفاء بأيّ يوم كان ، وثانياً لو أغضينا النظر عن ذلك وقلنا بالتعميم ، فأيّ دليل يدلّ على الاستمرار والدوام؟ ولعلّ ذلك الإطلاق منزّل على التعميم الشمولي لكلّ يوم. وبعد هذا وذاك تندرج المسألة في الدوران بين التخصيص والتقييد ، فإنّ زيداً المذكور بعد العلم بأنّه لا يجب إكرامه يوم السبت ، يدور الأمر فيه بين خروجه عن عموم العلماء فلا يبقى فيه مورد للتمسّك بالإطلاق المذكور ، وبين أن نقول إنّه باقٍ تحت عموم العلماء لكن إطلاق وجوب إكرامه القاضي بالدوام مقيّد بما عدا يوم السبت ، ويبقى في غير يوم السبت على حاله من كونه داخلاً تحت عموم العلماء الواجب إكرامهم الذين يكون هذا الحكم فيهم مورداً

ص: 331


1- كفاية الأُصول : 424.
2- راجع الصفحة : 356 وما بعدها وكذا الصفحة : 381 وما بعدها.

للإطلاق القاضي بالدوام ، فتكون النتيجة هي الدوام والاستمرار في غير ما علم خروجه.

وأجاب عنه بما حاصله : هو أنّ الكلام إنّما هو بعد فرض عدم التقطيع في الزمان ، وأنّه لم يكن في البين إلاّ الإطلاق القاضي بالدوام ، والمفروض أنّه قد خرج عن الدوام ، فبأيّ شيء يمكننا أن نتمسّك به لإكرامه فيما عدا يوم السبت؟ والحاصل : أنّه لا يكون حاصل الجملة إلاّ أنّ هذا الحكم دائمي وهو قد ثبت في حقّه أنّ حكمه ليس بدائمي ، فسقط فيه ما دلّ على الحكم المزبور أعني دوام إكرام العلماء.

ويمكن أن يتأمّل في ذلك بأن يقال : إنّ هذا الدوام لمّا كان متولّداً من الاطلاق الذي محصّله أنّ الشارع لم يفرّق في كلّ عالم بين يوم ويوم ، فكانت النتيجة هي الاستمرار والدوام في تمام الأيّام ، ولمّا ثبت في زيد أنّه في يوم السبت لا يجب إكرامه فقد ثبت فيه التفرقة ، وصار يوم السبت فقط خارجاً عن عدم التفرقة فتبقى باقي الأيّام على حالها من كون الإطلاق قاضياً بعدم التفرقة فيها.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ ليس عدم الوجوب في يوم السبت متضمّناً للتفرقة ، وإلاّ لكان دالاً على الوجوب في الباقي ، وإنّما أقصى ما في البين هو ثبوت عدم وجوب إكرامه في يوم السبت ، ونحن نحتمل أنّه في باقي الأيّام كذلك ، وحينئذ يكون خروجه عن الكبرى - أعني وجوب إكرام كلّ عالم دواماً - معلوماً ، غايته أنّه خارج عن أصل وجوب الإكرام أو عن دوامه ، وهذا لا أثر له في الخروج عن الكبرى المذكورة.

وإن شئت [ قلت ] : إنّه ليس المقام من قبيل احتمال التقييد ، إذ لا تقييد في البين ، غايته أنّه استفيد كون هذا الحكم مقيّداً بالدوام ، وحاصله أنّ كلّ عالم

ص: 332

محكوم بدوام وجوب الإكرام أو وجوب الإكرام الدائمي ، وزيد ليس كذلك ، فهو خارج عن الحكم المزبور ، لا أنّه مقيّد للإطلاق المقيِّد للدوام ، ولا فرق في ذلك بين الخروج من الأوّل أو من الوسط أو من الآخر.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته بقوله : نعم ، لو كان المطلق متكفّلاً لإثبات حكم شخصي غير قابل للتحليل بحسب الزمان ، وإن كان مقتضى إطلاقه طول امتداد شخصه بطول الزمان ، بحيث لو فرض تخلّل عدم في البين ما كان الدليل بعدُ متكفّلاً لحكم آخر ، لا يبقى مجال التشبّث به بعد فرض خروج آن من وسط الآنات. نعم ، لو فرض خروج أوّله أو آخره أمكن التشبّث بالإطلاق المزبور لإثبات الحكم الشخصي المحدود بحدّ خاصّ ملازم لخروج ما خرج (1).

فإنّك بعد أن عرفت وحدة الحكم ووحدة المتعلّق ووحدة الظرف ، تعرف أنّ ما يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد في يوم السبت يكون موجباً لخروجه عن تلك الكبرى ، ولا يكون لدينا كبرى أُخرى في ناحية الزمان ولا في ناحية الإكرام ولا في ناحية الوجوب نفسه يمكننا التمسّك بها لوجوب إكرامه في باقي الأيّام ، من دون فرق في ذلك بين كون الخروج من أحد الطرفين أو كون الخروج من الوسط.

وللمرحوم الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية كلام مفصّل ، ومن جملته إمكان التمسّك بالإطلاق فيما عدا مورد العلم بالخروج ، سواء كان الخروج من أحد الطرفين أو من الوسط ، وقد نقلناه فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2).

ص: 333


1- مقالات الأُصول 2 : 428.
2- في الصفحة : 379 وما بعدها.

وبعد إسقاط التمسّك بالإطلاق يكون المدار في المسألة على كون الزمان مأخوذاً على نحو التقطيع ، أو مأخوذاً على نحو الدوام والاستمرار ، فعلى الأوّل يكون الرجوع إليه ممكناً في مقام الشكّ بخلافه على الثاني ، من دون فرق في ذلك بين أخذه في ناحية المتعلّق أو أخذه في الحكم.

نعم ، ربما كان أخذه في ناحية الحكم ملازماً لأخذه على نحو الدوام والاستمرار ، إذ لا معنى لوجود الحكم في كلّ آن إلاّدوامه واستمراره كما حرّرته عن شيخنا قدس سره ، ولعلّه يومئ إلى ذلك قوله في هذا التحرير : فسواء قال : الحكم موجود في كلّ زمان ، أو قال : الحكم يستمرّ في جميع الأزمنة ، يكون المعنى واحداً الخ (1).

أمّا كون العموم فوق الحكم ، وأنّه يكون حكماً على الحكم فقد عرفت التأمّل فيه ، وأنّ الطريقة الأُولى لهذا العموم وهي ما أفاده (2) في مثل قوله : أكرم العلماء في كلّ زمان ، فقد عرفت أنّها لا تلائم مسلكه قدس سره ، وأنّها لا يكون عنده إلاّ من باب كون مصب العموم هو المتعلّق لا الحكم.

وأمّا الطريقة الثانية وهي ما يكون من قبيل « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (3) فقد عرفت أنّها ليست من أدلّة التشريع وإنّما هي من قبيل الإخبار بعدم طروّ النسخ بعده إذ لا نبي بعده صلى اللّه عليه وآله.

وأمّا الطريقة الثالثة وهي طريقة الحكمة ولزوم اللغوية ، فهي لا تدلّ على كون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية الحكم ، لإمكان دفع اللغوية بأخذه في

ص: 334


1- فوائد الأُصول 4 : 545.
2- فوائد الأُصول 4 : 534.
3- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

ناحية المتعلّق الذي هو الوفاء. نعم ، لو علمنا من الخارج أنّ الوفاء غير مربوط بالزمان ، كما علمنا من الخارج أنّه ليس المراد وجوب الوفاء ولو في بعض غير معيّن للزوم اللغوية ، وحينئذ يدور الأمر بين كون وجوب الوفاء محدوداً بزمان خاصّ مثل شهر أو سنة من حين وقوع العقد ، أو أنّه غير محدود بحدّ وأنّه دائمي مستمرّ ، وحيث إنّه لم يعيّن لنا زماناً خاصّاً ، نقول بمقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة إنّ المراد هو الدوام والاستمرار.

تنبيه : لا يخفى أنّ كون المقام من قبيل الدوران بين تخصيص العام وبين تقييد الإطلاق ، مغالطة صرفة ، أمّا أوّلاً : فلأنّ ذلك فيما لو لم يكن الإطلاق في طول العام ، وإلاّ كان الخاصّ مخصّصاً للعام لكونه سابقاً في الرتبة. وأمّا ثانياً : فلأنّ هذا الخاص لا ينافي ما تكفّله العام من وجوب الإكرام في الجملة لكلّ عالم ، فإنّ السالبة الجزئية لا تنافي الموجبة الجزئية المستفادة من المهملة التي تضمّنها العام ، وفي الحقيقة أنّ هذا العام بضميمة ذلك الإطلاق لا يتضمّن إلاّحكماً واحداً وهو وجوب الإكرام الدائمي لكلّ عالم ، أو الوجوب الدائمي لإكرام كلّ عالم ، وزيد المذكور خارج عن هذا الحكم ، فلاحظ.

ولشيخنا الأُستاذ قدس سره بحثٌ مع صاحب الكفاية قدس سره حرّرته عنه فيما حرّرته عنه في هذا المبحث ، فلا بأس بإيراده برمّته تكميلاً للفائدة ، قال قدس سره فيما حرّرته عنه هناك : إنّ العمدة في صحّة التمسّك فيما شكّ فيه بعد زمان التخصيص بعموم العام أو استصحاب حكم المخصّص ، هو ما ذكرناه من كون العموم الأزماني تحت الحكم العام وأنّه مأخوذ في متعلّق الحكم المذكور ، أو أنّ العموم الأزماني فوق الحكم العام وأنّه مأخوذ في الحكم نفسه ، لا ما أُفيد في الكفاية (1) من أنّ مفاد

ص: 335


1- كفاية الأُصول : 424 - 425.

العام إن أُخذ بملاحظة الزمان ثبوت حكمه لموضوعه على الدوام والاستمرار لم يمكن التمسّك بالعموم ، وإن أُخذ كلّ فرد من الأيّام فرداً لموضوع ذلك العام جاز التمسّك بالعموم ، انتهى.

وحاصله : أنّ الزمان إن أُخذ على نحو الدوام كان الحكم أمراً واحداً مستمرّاً ، فإذا انقطع استمراره سقط العموم الأزماني عن صحّة التمسّك فيه في ذلك المورد ، لكونه حينئذ أمراً واحداً مستمرّاً وقد انقطع استمراره ، فيسقط التمسّك به في ذلك المورد إذا كان الانقطاع من الوسط ، بخلاف ما إذا كان من الأوّل أو من الآخر ، فإنّه لأجل عدم الانقطاع فيه - بل يكون الاستمرار متحقّقاً فيه بالنسبة إلى ما بقي - يصحّ التمسّك فيه بالعموم الأزماني ، الذي يكون مفاده دوام الحكم فيما بقي من الزمان. وإن لم يؤخذ الزمان على نحو الدوام بل أُخذ كلّ فرد من آنات الزمان فرداً لموضوع ذلك العام ، وخرج بعض تلك الآنات عن ذلك العموم ، اقتصر في الخروج عن ذلك الحكم على القدر المتيقّن ، وجرى الحكم العام فيما عداه من الآنات ، سواء كان الخارج من الأوّل أو الوسط أو الآخر.

وفيه : أنّك قد عرفت أنّ العموم الأزماني سواء أُخذ في ناحية المتعلّق أو أُخذ في ناحية الحكم ، كان ظرفاً لذلك المأخوذ فيه أعني المتعلّق أو الحكم ، ولا معنى لكون ذلك المتعلّق أو الحكم موجوداً في كلّ واحد من آنات الزمان إلاّ دوامه واستمراره ، سواء أُخذ كلّ واحد من الآنات على نحو العام المجموعي ، بأن لوحظ جميع الآنات شيئاً واحداً ، ويكون كلّ آن منها بمنزلة الجزء من مجموع تلك الآنات ، أو كان أُخذ كلّ واحد من الآنات على نحو العام الأُصولي ، بأن لوحظ كلّ آن على حدة ، ويكون كلّ آن منها فرداً من كلّ واحد من تلك الآنات. فلا فرق بين هذين اللحاظين في الآنات المذكورة في أنّ محصّل وجود المتعلّق

ص: 336

أو الحكم فيها عبارة عن دوامه واستمراره ، فليس دوام الشيء عبارة عن لحاظ آنات ما يقع فيه من الزمان شيئاً واحداً ، وعدم دوامه عبارة عن لحاظ كلّ واحد من تلك الآنات لحاظاً مستقلاً ، المعبّر عن الأوّل بكونها على نحو العام المجموعي وعن الثاني بكونها على نحو العام الأُصولي ، بل الدوام ليس إلاّ أمراً منتزعاً من وجود الشيء في تلك الآنات ، سواء لوحظت على نحو العام المجموعي أو على نحو العام الأُصولي ، فبعد فرض كون الشيء موجوداً في جميع تلك الآنات لا يكون إلاّقسماً واحداً وهو كونه مستمرّاً ودائماً.

وبالجملة : إنّ ما أُخذ فيه العموم الأزماني لا يكون إلاّمستمرّاً ودائماً ، وإنّما يختلف الحال في نفس ذلك الذي أُخذ فيه العموم الأزماني ، فإن كان هو متعلّق الحكم كان المتعلّق المذكور هو المتّصف بالدوام والاستمرار ، وإن كان هو نفس الحكم كان الحكم المذكور هو المتّصف بالدوام والاستمرار.

وعلى ذلك يتفرّع صحّة التمسّك بالعموم الأزماني وعدم صحّته فيما شكّ فيه من الآنات التي هي بعد آن التخصيص ، فعلى الأوّل يصحّ التمسّك بالعموم المذكور ، وعلى الثاني لا يصحّ التمسّك بالعموم المذكور ، ويكون المرجع هو استصحاب حكم المخصّص ، لا أنّه في المورد الذي يصحّ التمسّك فيه بالعموم الأزماني لا يكون الحكم مأخوذاً فيه على نحو الدوام والاستمرار ، وفي المورد الذي لا يصحّ التمسّك فيه بالعموم المذكور يكون الحكم فيه على نحو الدوام والاستمرار ، كما ربما يتراءى ذلك من عبارة الشيخ قدس سره في الرسائل (1) ، فإنّ هذه العبارة من الشيخ قدس سره هي التي أوقعتهم في هذه الشبهة ، خصوصاً بعض الأمثلة التي مثّل بها الشيخ للصورة التي لا يصحّ التمسّك فيها بالعموم الأزماني ، إلاّ أنّ

ص: 337


1- تقدّم نقل العبارة في الصفحة : 299.

عبارته قدس سره في المكاسب (1) أوضح في الجملة من عبارة الرسائل ، فإنّ الظاهر أنّ ما ذكره في الرسائل كان عند عروض هذا المطلب في خاطره الشريف ، ولا ريب أنّ المطلب عند أوّل خطوره في الذهن لا يكون متّضحاً تمام الاتّضاح.

ولو كان المدار في صحّة التمسّك بالعموم الأزماني هو ما ذكروه من كون الانقطاع في بعض الآنات المتوسّطة موجباً لارتفاع الحكم الدائم المستمر ، لما صحّ الحكم باللزوم في خيار الشرط ، الذي يجعل لأحد المتبايعين في ثلاثة أيّام مثلاً من رأس كلّ سنة إلى أربع سنين مثلاً ، فإنّه لو كان الانقطاع موجباً لسقوط اللزوم الدائم المستمرّ ، لما صحّ الحكم باللزوم فيما عدا الثلاث التي هي رأس السنة الأُولى.

والحاصل : أنّ المدار في عدم صحّة التمسّك بالعموم الأزماني إنّما هو على أخذه في ناحية الحكم ، فيكون الحكم موجوداً في كلّ آن من آنات الزمان ويكون دائماً مستمرّاً ، بل التعبير بالعموم الأزماني والدوام إنّما هو لضيق الخناق ، وإلاّ فإنّه ليس لنا إلاّ أنّ هذا الحكم لو كان قصير العمر وكان آنياً لكان لغواً صرفاً ، وإنّا نستكشف من عدم اللغوية في أحكامه تعالى أنّ الحكم المذكور ليس بآنيّ ، وأنّه يكون عمر ذلك الحكم باقياً ، وأنّه يكون باقياً أبداً ، نظير « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » ، غاية الأمر أنّ ذلك - أعني بقاء حلاله وحرامه صلى اللّه عليه وآله إلى يوم القيامة - إنّما كان في مقابل النسخ ، وهذا المعنى الذي استكشفناه من دليل العقل الحاكم بعدم اللغوية في أحكامه تعالى كان في قبال كون الحكم آنياً ، وأنّه لا يصحّ كون هذا الحكم آنياً من جهة لزوم اللغوية ، ولابدّ أن يكون الحكم المذكور باقياً في جميع الآنات ، فأين هذا من العموم الأزماني.

ص: 338


1- تقدّم نقل العبارة في الصفحة : 300.

وإذا تبيّن لك أنّه ليس لنا في البين إلاّكون الحكم باقياً في قبال كونه آنياً ، يتّضح لك تمام الاتّضاح أنّه في مورد الشكّ لا معنى للرجوع إلى العموم الأزماني ، إذ ليس في البين عموم أزماني ، وإنّما أقصى ما عندنا هو أنّ الحكم باقٍ وأنّه غير آني ، فإذا شككنا في تحقّقه في زمان فليس لنا ما يثبت بقاءه إلاّ الاستصحاب ، فإن كان الشكّ بدوياً حكم ببقاء الحكم بالاستصحاب ، وإن كان بعد زمان التخصيص سقط الاستصحاب المذكور وتعيّن الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص ، بأن لم يكن الزمان مأخوذاً في ذلك المخصّص على نحو القيدية ، وإلاّ فلابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول الأُخر العملية. انتهى ما حرّرته عنه قدّس اللّه نفسه الطاهرة الزكية.

قلت : لا يخفى أنّ استصحاب حكم العام لا يجري أيضاً فيما كان احتمال الخروج هو الآن الأوّل ، وكذا لا يجري عنده قدس سره فيما كان هو الوسط أو الأخير إذا كان منشأ الشكّ هو احتمال كون الحكم قصير الأمد ، لكونه حينئذ من قبيل الشكّ في المقتضي ، بناءً على ما سلكه قدس سره من عدم جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، وعلى أنّ ما يكون من هذا القبيل هو من قبيل الشكّ في المقتضي ، فإنّ الضابط الذي أفاده قدس سره لموارد الشكّ في المقتضي ربما كان شاملاً لمثل هذا ، فراجعه في محلّه (1).

وأمّا البحث مع صاحب الكفاية قدس سره فينبغي أن نقدّم له مقدّمة : وهي أنّ وجود المظروف في كلّ آن سواء كان هو المتعلّق أو كان هو الحكم ، هو عبارة أُخرى عن دوامه كما أفاده شيخنا قدس سره. ولكن هذا الوجود في كلّ آن إذا لم يخرج منه آن من آنات الوسط ، له لازم وهو اتّصال أجزاء ذلك المظروف ، وكونه واحداً

ص: 339


1- فوائد الأُصول 4 : 324 وما بعدها.

مستمرّاً من أوّل تلك الآنات إلى آخرها من دون تخلّل عدم في الأثناء ، مثلاً لو كان القيام موجوداً في كلّ آن من آنات النهار من دون أن يخرج آن من تلك الآنات عن وجود القيام فيه ، كان لازمه هو كونه قياماً واحداً مستمرّاً من أوّل النهار إلى آخره وعدم تخلّل العدم بين أجزائه.

فالدوام إن كان عبارة عن نفس ذلك الملزوم الذي هو مجرّد وجود القيام في كلّ واحد من أجزاء النهار ، لم يكن خروج بعض الآنات ولو في الوسط منافياً لصدقه ، لأنّه حينئذ لا يكون إلاّعبارة عن وجود القيام في كلّ واحد من آنات النهار. وهذا المعنى متحقّق ، غايته أنّه يخرج منه ذلك الآن الذي هو الوسط بالتخصيص ، ويكون ذلك المعنى وهو الوجود في كلّ آن من آنات النهار محكّماً في الباقي من طرفي ذلك الوسط.

وبعبارة أُخرى : أنّ الدوام بهذا المعنى الذي هو مجرّد الملزوم - أعني الوجود في كلّ آن من آنات النهار - لا يكون إلاّعبارة عن العموم الأزماني الذي لا ينافيه التخصيص وإن كان من الوسط ، سواء كان العموم المذكور على نحو المجموعية أو كان على نحو الاستغراق.

وإن كان المراد بالدوام في هذا المقام هو عبارة عن ذلك اللازم - أعني اعتبار الاتّصال وعدم تخلّل العدم وكونه قياماً واحداً مستمرّاً من أوّل النهار إلى آخره - كان خروج الوسط منافياً له ، لكونها حينئذ جهة زائدة على أصل العموم الأزماني حتّى لو أخذناه مجموعياً ، إذ لا معنى للمجموعية إلاّ التلازم والارتباط بين الأفراد في مقام الاطاعة والعصيان ، فلا يضرّه خروج الوسط ، بخلاف هذه الجهة التي هي عبارة عن اعتبار اتّصال الأجزاء وعدم تخلّل العدم بينها ، وكون المظروف أمراً وحدانياً مستمرّاً من أوّل النهار إلى آخره ، فإنّها جهة زائدة على

ص: 340

اعتبار المجموعية ، ويكون تخلّل العدم في أثنائها بخروج الوسط مُخلاً بها على وجه لو خرج الوسط لم تبق تلك الوحدة بين طرفيه بحالها ، بخلاف المجموعية فإنّ خروج الوسط فيها لا يكون مضرّاً بالمجموعية في الباقي من طرفي الوسط ، ولو كان ذلك مخلاً لكان خروج الأوّل أو الآخر مخلاً. فكأنّ صاحب الكفاية قدس سره ينظر في أخذ الدوام في العموم الأزماني إلى هذه الجهة ، أعني اعتبار اتّصال أجزاء المظروف وعدم تخلّل العدم بينها ، وكونه أمراً وحدانياً متّصلاً من أوّل النهار إلى آخره ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة وإن كانت لازمة للعموم الأزماني بالنسبة إلى ذلك المظروف ، إلاّ أنّها جهة زائدة عليه يضرّ فيها خروج الوسط ، بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل المتعرّض لحكم الوسط على خلاف ذلك الحكم العام لا يكون مخصّصاً ، بل يكون معارضاً له. وشيخنا قدس سره ينظر إلى الدوام بالمعنى الأوّل الذي هو عبارة عن نفس الملزوم الذي هو نفس العموم الأزماني ، سواء كان استغراقياً أو كان مجموعياً. وبناءً عليه لا يكون خروج الوسط مخلاً فيه ، فما أشبه هذا النزاع بالنزاع اللفظي.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » الخ ، أجنبي عن إفادة العموم الأزماني ، وأنّه إنّما هو في قبال طروّ احتمال النسخ ، وأنّ مفاده أنّه صلى اللّه عليه وآله ما تركه حلالاً يبقى حلالاً إلى يوم القيامة ولا يمكن أن ينسخه ناسخ بعده صلى اللّه عليه وآله ، هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، فلا ينبغي عدّه في جملة أدلّة العموم الأزماني.

وأمّا ما أفاده قدس سره من أنّه ليس لنا في البين عموم أزماني وإنّما أقصى ما عندنا هو عدم كون الحكم آنياً خروجاً عن اللغوية ، فهو إنّما يتمّ في خصوص ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، لعدم ما يدلّ على بقاء ذلك الحكم إلاّمسألة عدم اللغوية ، وهذا لا يمنع

ص: 341

أن يكون لنا أحكام قد دلّت الأدلّة على تحقّقها وثبوتها في كلّ آن ، ولا أقل ممّا يدلّ على بقائها ودوامها واستمرارها. وإنّي فعلاً وإن لم أستحضر له مثالاً فقهياً ، إلاّ أنّه لو كان الأمر كذلك ، بأن كان لنا حكم شرعي يتعلّق بعام أفرادي ، وقام دليل آخر متّصل أو منفصل يدلّ على كون ذلك الحكم باقياً ومستمرّاً وموجوداً في كلّ آن ، ماذا يكون المرجع في مورد الشكّ؟ هل هو عموم العام الأزماني أو هو استصحاب حكم المخصّص؟

ثمّ إنّ كون دليل الحكمة لا يفيد العموم الأزماني قابل للتشكيك ، حيث إنّه كسائر الأدلّة العقلية التي يكون حكمها حكم التقييد المنفصل.

وبالجملة : إنّ لغوية الحكم الآني وقبح صدوره من الحكيم يكون دليلاً على أنّ الشارع جعله عاماً لجميع الأزمنة ، بحيث كان ذلك الحكم مجعولاً في كلّ آن ، وهذا المقدار كافٍ في التمسّك لإزالة الشكّ.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا المقدار إنّما يطرد احتمال سقوط وجوب الوفاء بتحقّق الوفاء آناً ما ، وأمّا احتمال عدم وجوب الوفاء به بعد فرض الحكم بعدم وجوب الوفاء به في الآن الأوّل ، فلا يكون الدليل المذكور وافياً به ، لاحتمال عدم وجوب الوفاء به في جميع الأزمنة ، إذ لا يكون حينئذ في البين لغوية أصلاً.

وحينئذ ندفع الإشكال والشكّ المزبور بطريق آخر هو نظير الطريق الذي ذكرناه مع فرض وجود الدليل على العموم الأزماني ، وذلك بإعمال كلّ من الدليل اللفظي المشتمل على العموم الأفرادي وهو وجوب الوفاء في الجملة بكلّ عقد ، والدليل العقلي المانع من كون ذلك الوجوب آنياً ، بأن نقول لو كان هذا العقد لا يجب الوفاء به في جميع الأزمنة لكان خارجاً عن العموم الأفرادي لكلّ عقد ، فأصالة العموم الأفرادي تحكم بأنّه داخل تحت عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فيكون

ص: 342

محكوماً بوجوب الوفاء في الجملة بعد فرض كونه في الآن الأوّل غير واجب الوفاء ، ثمّ نقول : إنّ هذا الوجوب لو كان آنياً لكان لغواً ، فلابدّ من كونه غير آني وأنّه باقٍ بعد ذلك الزمان الذي فرضنا عدم وجوب الوفاء به فيه.

وهكذا الحال لو تردّد العقد بين كون الوفاء [ به ] واجباً في جميع الأزمنة ، وبين كونه في جميع الأزمنة غير واجب الوفاء ، فإنّ أصالة العموم الأفرادي تدخله في جملة العقود التي كان الوفاء بها واجباً في الجملة ، وبعد ثبوت كون الوفاء به واجباً في الجملة ننقل الكلام إلى ذلك الوجوب ونقول إنّه غير آني ، وإلاّ لكان لغواً ، فلابدّ أن يكون غير آني ، وهو معنى بقاء الوجوب مستمرّاً وفي جميع الآنات ، فلاحظ وتأمّل.

وقد يقال : إنّ المراد بالعموم الأزماني المدّعى في هذا المقام كونه مأخوذاً في ناحية الحكم ، ليس هو عبارة عن كلّ آن من آنات الزمان ، بل المراد بذلك (1) هو النظر إلى جهة البقاء من ناحية الحكم ، والحكم عليه بأنّه باقٍ دائماً ، لا أنّه آني مثلاً ، وذلك فإنّ للحكم جهة حدوث وجهة بقاء ، ولا ريب أنّ جهة البقاء متأخّرة رتبة عن جهة الحدوث ، والحكم في مقام جعله إنّما يكون منظوراً به إلى جهة حدوثه ، ويستحيل النظر في هذا المقام - أعني مقام جعله وحدوثه - إلى جهة بقائه ، فإنّها إنّما تكون بعد جهة حدوثه.

ص: 343


1- لا يخفى أنّه ينبغي الجزم بأنّ هذا المعنى من العموم الأزماني في ناحية الحكم هو الذي يريده شيخنا قدس سره كما يشهد بذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في حواشي خيار الغبن من المكاسب من أواخر ص 89 إلى أواسط ص 90 [ راجع منية الطالب 3 : 167 - 169 ] وهذا هو الذي قدّمنا نقله عنه قدس سره في البحث مع صاحب الكفاية [ منه قدس سره. راجع صفحة : 335 المتقدّمة ].

وإن شئت فقل : إنّ هذا الحكم الذي يريد الحاكم جعله على أن يكون باقياً بعد حدوثه ، لا يكفي فيه جعل واحد بل لابدّ فيه من جعلين ، فيجعل أوّلاً نفس الحكم ، وهذا الجعل يكون متكفّلاً لحدوثه ، ثمّ بعد جعل حدوثه يجعل بقاءه ، كما أنّ الدليل المتكفّل لجهة الحدوث يستحيل أن يكون ناظراً إلى جهة البقاء ، فإنّه يستحيل أن يكون لنا دليل واحد متكفّل لكلّ من جهة الحدوث وجهة البقاء ، بل كما أنّه في مقام أصل الجعل والتشريع الذي هو مقام الثبوت يكون المجعول أوّلاً هو جهة الحدوث ، ثمّ بعد ذلك يحكم على ذلك الحادث بأنّه باقٍ ، فكذلك في مقام الاثبات يكون الدليل أوّلاً مثبتاً لحدوث الحكم ، وثانياً يكون لنا دليل آخر مثبتاً بقاءه بعد حدوثه.

ومن ذلك يظهر أنّ هذا المعنى من العموم الأزماني الذي نعبّر عنه بجهة البقاء يكون متأخّراً رتبةً عن أصل ثبوت الحكم الذي هو عبارة عن جهة الحدوث ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، ويكون هذا المعنى من العموم الأزماني - أعني به جهة البقاء - فوق الحكم وهو واضح. كما أنّه لا ريب في أنّ هذا المعنى من العموم الأزماني لا يمكن الرجوع إليه في مقام الشكّ في تحقّق الحكم في زمان من الأزمنة ، سواء كان ذلك بعد خروج واحد من الآنات أو قبل خروجه ، فإنّه مع الشكّ في تحقّق الوجوب في آن من الآنات لا يمكن الحكم على ذلك الوجوب ببقائه في ذلك الآن ، لأنّ الحكم على الحكم بالبقاء فرع تحقّق الحكم وثبوته ، فكيف يحكم ببقائه في ذلك الآن مع الشكّ في أصل ثبوته في ذلك الآن!

وسرّ ذلك هو ما عرفت من كون رتبة هذا المعنى من العموم الأزماني متأخّرة عن رتبة أصل حدوث الحكم ، بل إنّ هذه المرتبة من العموم الأزماني المعبّر عنها بجهة بقاء الحكم متأخّرة عن نفس العموم الأزماني لو أُخذ في ناحية

ص: 344

الحكم وقيل إنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، لأنّ ذلك الوجوب في كلّ آن له جهة حدوث وله جهة بقاء ، فلو قيل إنّ الوجوب الموجود في كلّ آن هو باقٍ لكان صحيحاً ، وذلك لأنّ الوجوب الموجود في كلّ آن قابل لأن يكون باقياً ولأن لا يكون باقياً ، فيصحّ الحكم عليه بأنّه باقٍ مستمرّ في قبال كونه قصير الأمد ، ولو لأجل كون مصلحته الباعثة على جعله مصلحة قصيرة لا تقتضي بقاءه.

وبالجملة : إنّ الحكم على ذلك الحكم بأنّه باقٍ ، تارةً يكون في مقابل احتمال نسخه ، ويكون معنى الحكم عليه بأنّه باقٍ في مقابل أنّه قد يعرضه الارتفاع ويكون مفاد الحكم عليه بالبقاء مفاد قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ». وتارةً يحكم عليه بالبقاء في مقابل احتمال كون مصلحته قصيرة الأمد ، وأنّها تنتهي إلى بعض الأزمنة فيرتفع الحكم بانتهائها من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب قد أُخذ فيه العموم الأزماني ، وكونه لم يؤخذ فيه ذلك العموم الأزماني ، لما عرفت من صحّة الحكم عليه بأنّه باقٍ على كلا التقديرين ، وإن كان صحّة الحكم عليه بالبقاء على التقدير الثاني أوضح منها على التقدير الأوّل.

والحاصل : أنّ العموم الأزماني تارةً يؤخذ بمعنى الوجود في كلّ زمان ويعلّق ذلك العموم الأزماني بمتعلّق الوجوب الذي هو الاكرام أو يعلّق بنفس الوجوب ، فيقال : يجب الإكرام في كلّ آن ، أو يقال : يجب في كلّ آن الإكرام ، وتكون النتيجة واحدة ، فإنّه لو علّق قولنا : في كلّ آن ، بالاكرام وقيل : الاكرام في كلّ آن واجب ، يلزمه أن يكون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، كما أنّه لو علّق قولنا : في كلّ آن ، بالوجوب وقيل : الاكرام يجب في كلّ آن ، يلزمه أن يكون الاكرام موجوداً في كلّ آن بمعنى أنّه لو كان الوجوب المتعلّق بالاكرام موجوداً في كلّ آن

ص: 345

كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ الاكرام في كلّ آن متّصف بالوجوب ، هذا كلّه لو كان المراد بالعموم الأزماني هو الوجود في كلّ آن.

أمّا لو كان بمعنى البقاء في قبال جهة الحدوث فهو لا يكون ملحوظاً إلاّفي ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، فإنّه بعد حدوثه يحكم عليه بأنّه باقٍ ، ويكون نتيجته هي نفي احتمال ارتفاع ذلك الوجوب بانتهاء أمد مصلحته ، كما يحكم ببقائه في قبال احتمال نسخه ، ومن الواضح أنّ ذلك أعني الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ في قبال احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته ، لا يفرق فيه بين كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب قد أُخذ فيه العموم الأزماني أو أُخذ العموم الأزماني في ناحية متعلّقه ، أو كون ذلك الحكم الذي هو الوجوب لم يؤخذ فيه العموم الأزماني ولا في متعلّقه ، لصحّة الحكم عليه في جميع هذه الصور الثلاث بأنّه باقٍ لا يرتفع. أمّا في الصورة الثالثة وهي صورة عدم أخذ العموم الأزماني لا فيه ولا في متعلّقه فواضح ، وكذلك صورة أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، لصحّة أن تقول : إنّ الوجوب المتعلّق بالاكرام في كلّ آن باقٍ لا يرتفع ، في قبال كون الوجوب المذكور آنياً.

ومنه يظهر الحال في صورة أخذ العموم الأزماني في ناحية الوجوب نفسه فإنّه يصحّ لك أن تحكم على ذلك الوجوب في كلّ آن بأنّه باقٍ في قبال كونه آنياً فيكون ذلك القول طارداً لاحتمال ارتفاع الوجوب المذكور بانتهاء أمد مصلحته ، فإنّه إذا صحّ لك الحكم على الوجوب المتعلّق بالاكرام الموجود في كلّ آن بالبقاء صحّ لك الحكم على الوجوب الموجود في كلّ آن بالبقاء ، لما عرفت من أنّ كون الوجوب متعلّقاً بالاكرام الموجود في كلّ آن ملازم لكون ذلك الوجوب موجوداً في كلّ آن من تلك الآنات.

ص: 346

فقد تلخّص لك : أنّ العموم الأزماني بهذا المعنى - أعني به المتكفّل لجهة بقاء الحكم واستمراره في قبال احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته - يكون فوق الحكم وفوق العموم الأزماني المأخوذ في متعلّقه ، بل هو فوق العموم الأزماني المأخوذ في نفس الحكم ، لأنّ محصّل هذه الجهة هو أنّ ذلك الوجوب الموجود في كلّ آن أو أنّ ذلك الوجوب المتعلّق بالاكرام في كلّ آن هو باقٍ لا يرتفع.

وخلاصة ذلك : هو أنّ أمد مصلحة ذلك الوجوب الباعثة على جعله لا تنتهي فهو باقٍ لبقاء مصلحته. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا المعنى من العموم الأزماني ، وأنّه فوق الحكم ، وأنّه لا يمكن التمسّك به في مقام الشكّ في الحكم في زمان من الأزمنة.

ولكن بقيت في المقام جهات لم تتّضح :

الأُولى : جهة الفرق بين العموم الأزماني بهذا المعنى وبين عدم النسخ ، فإنّ النسخ لا يكون إلاّلأجل انتهاء أمد الحكم بانتهاء مصلحته ، أو بقيام مصلحة أُخرى تقتضي رفع ذلك هي أقوى من مصلحة نفس الحكم ، ولكن لا يخرج الحكم في مقام احتمال نسخه عن كونه من قبيل الشكّ في الرافع ، حتّى لو كان احتمال النسخ ناشئاً عن احتمال انتهاء مصلحة الحكم ، فإنّ الحكم بحسب ذاته لا يرتفع بعد حدوثه إلاّبرافع وناسخ يرفعه ، حتّى أنّه لو لم يكن الحاكم به حكيماً وكان لا يراعي المصالح في أحكامه يكون ذلك الحكم باقياً بعد انتهاء مصلحته ، غايته أنّه لمّا كان حاكمنا وهو الشارع حكيماً مراعياً للمصالح في أحكامه ، فعليه عند انتهاء مصلحة حكمه أن يرفعه بنسخه له عند انتهاء مصلحته ، أو يجعله من أوّل الأمر محدوداً بزمان مطابق لانتهاء مصلحته ، حسبما يراه من المصلحة في سلوك أحد الطريقين ، من جعله أوّلاً مطلقاً ثمّ بعد ذلك يرفعه ، أو جعله من أوّل

ص: 347

الأمر محدوداً بالحدّ المذكور ، وحينئذ فلا يكون ذلك العموم الأزماني بالمعنى المشار إليه الذي هو عبارة عن الحكم عليه بالبقاء بعد الحدوث إلاّعبارة أُخرى عن عدم النسخ ، لا أنّه أمر آخر مغاير لعدم النسخ.

الجهة الثانية : أنّك بعد أن عرفت أنّ العموم الأزماني بهذا المعنى مساوق لعدم النسخ ، تعرف أنّه لا دليل عليه إلاّ استصحاب نفس الحكم الراجع إلى استصحاب عدم نسخه ، أو التمسّك بمثل « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » الذي هو بمنزلة عموم يدلّ على عدم النسخ ، لا أنّه أمر آخر في قبال عدم النسخ ، كي يتكلّم عليه في أنّه هل يصحّ الرجوع إليه في مقام الشكّ في الحكم في زمان من الأزمنة ، كي يدخل في عنوان المسألة من أنّه بعد التخصيص هل يكون المرجع هو استصحاب حكم المخصّص ، أو العموم الأزماني الذي هو عبارة عن الحكم على ذلك الوجوب مثلاً بالبقاء ، بل ينبغي حينئذ أن يجعل عنوان المسألة هو أنّه هل يرجع إلى استصحاب حكم المخصّص ، أو يرجع إلى استصحاب عدم نسخ ذلك الحكم العام ، أو إلى عموم « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » ، ولا يخفى بشاعة هذا التحرير وعدم استقامته.

الجهة الثالثة : أنّك بعد ما عرفت ما ذكرناه في الجهة الأُولى والجهة الثانية ، تعرف أنّ هذا العموم الأزماني بالمعنى المذكور لا يمكن أن يستدلّ عليه بالحكمة وعدم اللغوية في مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، لأنّا بعد فرض عدم أخذ العموم الأزماني المعبّر عنه بالوجود في كلّ آن في ناحية المتعلّق الذي هو الوفاء ، ولا في ناحية الحكم الذي هو الوجوب نفسه ، لم يكن الحكم بالبقاء على ذلك الوجوب المتعلّق بالوفاء مخرجاً له عن اللغوية ، لوضوح بقاء لغوية الوجوب المتعلّق بالوفاء بحالها حتّى مع الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في

ص: 348

مقابل احتمال ارتفاعه بانتهاء أمد مصلحته ، لكفاية تحقّق الوفاء به في وقت من الأوقات في صحّة الحكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لم ينتهِ أمد مصلحته ، فإنّ الوجوب إذا لم يكن الوقوع في كلّ آن من آنات الزمان مأخوذاً فيه ، بل كان المجعول هو الوجوب الصادق بتحقّقه في آن من الآنات ، وكان متعلّقه أيضاً صرف طبيعة الوفاء مجرّدة عن اعتبار وقوعها في جميع الآنات ، كان الالتزام بالوفاء في آن من الآنات كافياً في امتثاله ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لا ينتهي أمد مصلحته ولا يرتفع بانتهاء أمد مصلحته لا يخرجه عن اللغوية ، فإنّ ذلك الحكم عليه بالبقاء لا يوجب تكرار الوفاء وتعدّده بتعدّد الآنات كي يخرج بذلك عن اللغوية ، فإنّ البقاء وعدم انتهاء أمد الحكم شيء ، وكون ذلك الحكم موجوداً في كلّ آن أو كون متعلّقه موجوداً في كلّ آن أمر آخر ، لما عرفت من أنّ الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ عبارة أُخرى عن كونه لا ينسخ ، ومن الواضح أنّ الحكم على الوجوب بأنّه باقٍ وأنّه لا يرتفع وأنّه لا ينسخ لا ينافي سقوطه بالامتثال في آن من الآنات.

ألا ترى أنّه لو أمر بإكرام زيد ، ولم يكن ذلك الوجوب مقيّداً بوقوعه في جميع الآنات ، كما أنّه لم يكن الاكرام مقيّداً بذلك ، كان لازم ذلك حصول الامتثال بالاكرام في آن من الآنات ، فلو حكم على ذلك الوجوب بأنّه باقٍ لا ينسخ ، لم يكن ذلك موجباً لعدم تحقّق الامتثال وسقوط الأمر بالاكرام آناً ما ، بل يكون ذلك الوجوب ساقطاً بذلك ، وإن صحّ أن يقال : إنّ ذلك الوجوب المعرّى هو ومتعلّقه عن العموم الأزماني باقٍ لا ينسخ.

وحينئذ فلو كان الامتثال وسقوط الوجوب بالوفاء آناً ما موجباً لكون ذلك الوجوب المتعلّق بالوفاء [ لغواً ] كانت لغويته باقية حتّى مع التصريح بأنّه باقٍ لم

ص: 349

ينسخ ، وحينئذ فلابدّ في الإخراج عن اللغوية من الالتزام بأنّ الوجوب نفسه مقيّد بكونه في جميع الأزمنة ، أو الالتزام بأنّ متعلّقه وهو الوفاء مقيّد بذلك.

وإذا انتهت النوبة إلى كون الوقوع في جميع الأزمنة معتبراً في نفس الوجوب أو في متعلّقه ، صحّ لنا التمسّك بالعموم الأزماني في مقام الشكّ ، أمّا على تقدير كون المتعلّق هو المقيّد بذلك فواضح ، وأمّا على تقدير كون الوجوب نفسه معتبراً فيه ذلك القيد أعني الوقوع في جميع الآنات ، فلما عرفت من الرجوع إلى ذلك العموم الأزماني المعتبر في ناحية الوجوب ، بعد فرض إثبات أصل الوجوب بالدليل المتكفّل لجعل الوجوب في الجملة الذي هو القضية المهملة على ما مرّ عليك توضيحه ، فراجع وتأمّل (1).

الجهة الرابعة : أنّك بعد أن عرفت أنّ الحكم بحسب ذاته وطبعه يبقى بعد تحقّق حدوثه ، وأنّه لا يرتفع إلاّبرافع يرفعه وناسخ ينسخه حتّى لو كانت مصلحته قصيرة الأمد ، لأنّ ارتفاعه عند انتهاء أمد مصلحته لا يكون إلاّبرفعه بالنسخ ، غايته أنّ ذلك يكون لازماً على الحكيم ، تعرف أنّ جهة البقاء لا تحتاج إلى جعل مستقل ، بل يكون مجرّد جعل حدوثه كافياً في بقائه ، وإنّما المحتاج إلى جعل آخر زائد على أصل الحدوث ، هو الرافع والناسخ لو كان قصير الأمد لقصر مصلحته.

نعم ، لو كان المراد من الحكم عليه بالبقاء هو عدم سقوطه بمجرّد الامتثال ولو في آنٍ ما ، لكان ذلك محتاجاً إلى جعل آخر ، بمعنى أن يجعل لنا وجوباً ثانياً في الآن الثاني والثالث وهكذا ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء لا يكون

ص: 350


1- ينبغي في هذه المباحث مراجعة ما أفاده شيخنا قدس سره في بعض مباحث التعادل والتراجيح ص 275 [ منه قدس سره. راجع فوائد الأُصول 4 :738- 740 ].

متكفّلاً لطرد ذلك الاحتمال ، لأنّ نفي ذلك الاحتمال لا يتحقّق إلاّبما عرفت من جعل وجوب ثانٍ وثالث وهكذا ، أو بأخذ العموم الأزماني متعلّقاً من أوّل الأمر بالوجوب ، بأن يكون المجعول أوّلاً هو الوجوب في كلّ آن ، كي يكون شاملاً للآن الثاني الذي هو بعد آن الامتثال الأوّل ، ومجرّد الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في قبال أصل الحدوث لا يكفي فيه ، كما يشاهد ذلك في مثل ما لو قال : أكرم العلماء وبعد ذلك حكم على ذلك الوجوب بالبقاء ، فإنّ الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء لا ينافي سقوطه بالامتثال في الآن الأوّل ، لأنّ الحكم على الوجوب بالبقاء إنّما هو حكم عليه حسبما يقتضيه طبعه ، فإنّ الوجوب المذكور لمّا كان بحسب طبعه [ يقتضي ] السقوط بالامتثال في الأوّل ، لم يكن الحكم عليه بالبقاء مخرجاً له عمّا يقتضيه طبعه.

والحاصل : أنّ الوجوب المحكوم عليه بالبقاء هو نفس ذلك الوجوب على ما هو عليه من سقوطه بالامتثال في الآن الأوّل ، ولا يكون الحكم عليه بالبقاء مغيّراً له عمّا يقتضيه طبعه ، إلاّ أن نرجع الحكم عليه بالبقاء إلى كون ذلك باقياً في كلّ آن حتّى بعد الامتثال في الآن الأوّل ، وهو عبارة أُخرى عن كون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، فيعود المحذور السابق من أنّ وجود الوجوب في كلّ آن لا يكون متأخّراً عن أصل جعل الوجوب ، بل يمكن ابتداءً أن يجعل الوجوب في كلّ آن.

الجهة الخامسة : أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه ، بحيث سلّمنا كفاية الحكم على الوجوب بالبقاء في نفي احتمال سقوطه بالامتثال آناً ما ، فهو لا يكون مانعاً عن التمسّك به فيما لو احتمل الخروج من الوسط أو من الآخر ، فإنّه إنّما يكون مانعاً عن التمسّك بالعموم المذكور - الذي هو الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء - في

ص: 351

خصوص الشكّ في مقدار المخصّص ، وفي خصوص ما لو احتمل التخصيص من الأوّل ، أمّا لو كان احتمال التخصيص من الوسط أو من الآخر ، فلا مانع من التمسّك بقولنا إنّ الوجوب باقٍ ، في نفي التخصيص من الوسط أو من الآخر لفرض تحقّق الحكم فيما قبله الموجب لاحراز الحكم ، فيدخل تحت قولنا الوجوب باقٍ حتّى في هذا الزمان ، الذي هو الوسط أو الآخر.

وحاصل هذه الجهات : أنّ الوجوب المتعلّق بالوفاء بالعقد بعد فرض عدم أخذ العموم الأزماني لا فيه ولا في متعلّقه ، يكون لازمه لغوية ذلك الوجوب لسقوطه بالامتثال آناً ما ، نظير سقوط وجوب إكرام العالم باكرامه في آن من الآنات ، وحيث كان ذلك - أعني السقوط بالامتثال آناً ما - في مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) موجباً للغوية ذلك الوجوب ، كان مقتضى الحكمة هو طرد ذلك المعنى الموجب للغوية أعني السقوط بمجرّد الامتثال آناً ما ، ولا ريب في أنّ الحكم ببقاء ذلك الوجوب في قبال احتمال نسخه أو في قبال احتمال انتهاء أمد مصلحته الراجع إلى احتمال نسخه ، لا يطرد ذلك المعنى ، بل لابدّ في طرد ذلك المعنى من الحكم على الوجوب المذكور بأنّه باقٍ ولو بعد تحقّق امتثاله آناً ما ، فيكون محصّله هو الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء في كلّ آن حتّى الآنات التي هي بعد الآن الأوّل الذي وقع فيه الوفاء ، ويكون ذلك عبارة أُخرى عن الحكم على ذلك الوجوب بأنّه موجود في كلّ آن ، بمعنى أنّ هناك وجوباً ثانياً موجوداً في الآن الثاني غير الوجوب الموجود في الآن الأوّل ، المفروض سقوطه بالامتثال في الأوّل ، وهكذا في باقي الآنات ، فيكون هناك وجوبات متعدّدة بحسب تعدّد الآنات ، ويكون كلّ واحد وجوباً مستقلاً له إطاعة مستقلّة ، وذلك هو عين ما تقدّم من أخذ العموم الأزماني المعبّر عنه بكلّ آن في ناحية الوجوب ، الذي عرفت أنّه لا مانع من أخذه

ص: 352

فيه ابتداءً عند جعله ، وأنّه ليس أمراً آخر هو فوق الحكم ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي قدّمناها في المباحث السابقة.

ثمّ لو تنزّلنا وقلنا إنّ الحكم على ذلك الوجوب بالبقاء كافٍ في طرد احتمال سقوطه بالوفاء آناً ما ، من دون أن نجعل الوجوب واقعاً ومتحقّقاً في كلّ زمان ، لم يكن هناك مانع من التمسّك بالبقاء المذكور في مقام الشكّ في التخصيص بخروج الوسط أو بخروج الآخر. نعم ، لا يمكن التمسّك بالحكم بالبقاء في خصوص ما لو احتملنا الخروج من الأوّل ، أو الخروج فيما بعد ما دلّ عليه المخصّص.

وبالجملة : أنّ الحكم على الوجوب بالبقاء بهذا المعنى يكون حاله حال استصحاب نفس ذلك الوجوب في كونه مرجعاً عند الشكّ في سقوطه بالامتثال ، وعند الشكّ في الخروج من الوسط والآخر ، دون الشكّ في الخروج من الأوّل والخروج في الآن الثاني لما ثبت خروجه أعني الشكّ في مقدار المخصّص.

وفي التقريرات المطبوعة في صيدا في مبحث الخاتمة فيما يتعلّق باعتبار اتّحاد القضيتين ، أفاد أنّ مسألة دوران الأمر في الخيار بين الفورية وغيرها ، أنّ الشكّ في ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي ، فليراجع (1).

لكن [ في ] كون ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي تأمّل ، لما عرفت من أنّ الحكم وإن كان قصير المصلحة لكنّه لا يرتفع إلاّ إذا رفعه الناسخ ، إلاّ أن يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في كون الحكم الخاصّ محدوداً ، وذلك عبارة أُخرى عن احتمال كون الزمان الخاصّ قيداً ، فتأمّل.

وحاصل البحث : أنّ إرجاع العموم الأزماني في ناحية الحكم إلى الحكم

ص: 353


1- أجود التقريرات 4 : 184 - 185.

عليه بالبقاء ، وإن سلم من إشكال إمكان أخذه في ناحية الحكم لتأخّر جهة البقاء عن جهة الحدوث ، لكنّه يتوجّه عليه إشكالات :

الأوّل : أنّ الحكم على وجوب الوفاء بالعقد بأنّه باقٍ لا ينافي إمكان التمسّك به عند الشكّ في التخصيص من الوسط أو الآخر ، لتحقّق الحكم فيما قبل زمان الشكّ ، فيحكم عليه بأنّه باقٍ في زمان الشكّ أيضاً. نعم ، لا يمكن التمسّك بالحكم على الوجوب بالبقاء فيما كان احتمال التخصيص من الأوّل أو كان الشكّ في مقدار التخصيص.

الثاني : أنّ الحكم على الوجوب بالبقاء إن كان في مقابل احتمال نسخه فهذا لا يحتاج إلى الحكم المذكور ، بل يكفي فيه مجرّد جعل الحكم ، فإنّه بطبعه يبقى إلاّ أن يجعل له ناسخ ينسخه ، وإن كان في مقابل احتمال انتهاء أمد مصلحته فلا يخفى أنّه عند كون مصلحة الحكم قصيرة يلزم الحكيم أحد أمرين ، إمّا جعله من الأوّل محدوداً بمقدار أمد مصلحته ، أو جعله غير محدود ولكن يلزمه أن ينسخه ويرفعه عند انتهاء أمد مصلحته ، ولو فرض محالاً أنّه لم يرفعه لكان مقتضى طبع الحكم هو البقاء ، وحينئذ تكون الطريقة الثانية راجعة إلى النسخ والأُولى راجعة إلى جعل الحكم محدوداً من أوّل الأمر ، وطرد كلّ من هذين الاحتمالين لا يحتاج إلى جعل البقاء ، بل يكفي فيه جعله غير محدود مع عدم جعل نسخه.

الثالث : أنّ الحكم على الوجوب بأنّه يبقى ، في مقابل كونه محدوداً من أوّل الأمر ، وفي مقابل النسخ ، لا يكون محقّقاً لما نحن بصدده من رفع اللغوية الناشئة من تحقّق امتثال قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالوفاء بالعقد آناً ما ، وسقوط الوجوب بذلك كما هو مقتضى تجرّد الوجوب والوفاء عن العموم

ص: 354

الأزماني ، ومجرّد الحكم على الوجوب المذكور بأنّه باقٍ غير محدود ولا منسوخ ، لا يرفع سقوطه بالامتثال آناً ما ، كما لو حكمنا على وجوب إكرام العلماء بأنّه باقٍ غير محدود بأمد مصلحته ولا منسوخ بناسخ لا يكون منافياً لسقوطه بإكرام العالم آناً ما ، فإنّ الحكم على الوجوب المذكور بالبقاء بالمعنى المزبور لا يكون موجباً للتصرّف فيه ، والخروج به عمّا يقتضيه تجرّده وتجرّد متعلّقه عن العموم الأزماني ، إلاّ أن يكون معنى البقاء هو وجود وجوب ثانٍ في الزمان الثاني بعد سقوط الوجوب الأوّل في الزمان الأوّل بالاتيان بمتعلّقه فيه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، الراجع إلى جعل وجوبات متعدّدة حسب تعدّد الآنات يكون لكلّ منها إطاعة وعصيان خاصّ به ، فيعود حينئذ المحذور السابق في العموم الأزماني المأخوذ في ناحية الحكم ، من عدم تأخّره عن الحكم ، وعدم كونه فوقه ، وإمكان جعله في ضمن جعل أصل الوجوب ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي قدّمناها في المباحث السابقة ، هذا.

ولكن ينبغي التأمّل في هذا المبحث من ناحية أُخرى شرحناها في آخر مباحث العموم والخصوص (1) في المبحث المتعرّض لكون النسخ من قبيل الرفع أو الدفع ، وأنّه عند الدوران بين النسخ والتخصيص ما هو المقدّم ، فإنّ ما جرينا عليه في هذه المقامات وإن كان كلّه مبنياً على كون النسخ رفعاً ، إلاّ أنّ فيه إشكالاً أشرنا إليه في ذلك المبحث ، وهو أنّ الحكم في مقام الثبوت إمّا أن يكون محدوداً لكون مصلحته كذلك ، وإمّا أن لا يكون محدوداً لكون مصلحته أيضاً كذلك ، ولا يتصوّر فيه الإهمال من هذه الجهة بعد أن فرضنا إمكان أخذ العموم الأزماني في ناحيته ، وعلى كلّ من هاتين الصورتين لا مورد للنسخ ، وحينئذ ينحصر مورده

ص: 355


1- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 389.

بالصورة الأُولى فيما لو كانت هناك مصلحة تقتضي إظهار كون الحكم غير محدود ، وعند انتهاء أمد مصلحته ينشأ نسخه ، وحينئذ لا يكون النسخ إلاّمن قبيل الدفع. ويشكل الأمر حينئذ في استصحاب الحكم في مقام الشكّ في نسخه لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن كان كذلك بالدقّة ، إلاّ أنّه لمّا كان النسخ بحسب النظر العرفي رافعاً للحكم كان الاستصحاب جارياً فيه ، وفيه تأمّل.

نعم ، لو سلّمنا ما أفاده الأُستاذ قدس سره من عدم إمكان أخذ العموم الأزماني ثبوتاً في ناحية الحكم ، وأنّه إنّما يثبت العموم الأزماني من ناحية الحكمة أو دليل آخر ، كان الإهمال فيه من هذه الناحية في مقام الثبوت ممكناً ، لعدم إمكان كلّ من الإطلاق والتقييد في ذلك المقام ، وحينئذ فالحاكم يجعل الحكم بذاته ، وهو بطبعه يقتضي البقاء ، ولو كانت مصلحته محدودة يلزمه نسخه عند انتهاء أمد مصلحته ويكون نسخه حينئذ رفعاً ، وإن كان بالقياس إلى الدليل الدالّ على دوام ذلك الحكم واستمراره ممّا أثبتنا به العموم الأزماني من قبيل التخصيص الأزماني ، فراجع وتأمّل.

ملخّص ما أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي في غرره هو أنّه إن لاحظ المتكلّم آنات الزمان وقطعاته وربطها بالفعل الواجب وجب التمسّك بالعموم في موارد الشكّ ، وكذلك الحال لو ربطها بالنسبة بين الوجوب والفعل الواجب ، فإنّه حينئذ يكون بمنزلة قضايا متعدّدة ، فكأنّه قال : يجب في يوم الجمعة إكرام كلّ عالم ، ويجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، وهكذا.

وحينئذ فلو خرج زيد يوم الجمعة تمسّكنا له في يوم السبت بعموم قوله : يجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، أمّا إذا لم يكن في البين لحاظ الآنات

ص: 356

والقطعات ، بل لم يكن في البين إلاّقوله : أكرم كلّ عالم ، وقلنا إنّ مقتضى الإطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا خرج زيد يوم الجمعة وشككنا في حكم زيد المذكور في يوم السبت ، دار الأمر بين تخصيص العام بالنسبة إلى زيد ، أو التصرّف في ظهور الاطلاق الذي يقتضي استمرار الحكم ، ولو فرضنا أنّ الثاني متعيّن من جهة أنّ ظهوره إطلاقي يرفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي ، فلا يجوز أن يقيّد موضوع الحكم بما عدا ذلك الزمان الخارج ليقال بثبوت الحكم لذلك الموضوع دائماً ، لأنّ ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة إلى الأزمان حتّى تحفظ فيما لم يعلم بالخروج والمفروض خلافه ، بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة ، القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم (1).

قلت : لا يخفى أنّ ما أفاده أوّلاً من التمسّك بعموم قوله : يجب في يوم السبت إكرام كلّ عالم ، محصّله إرجاع التمسّك إلى العموم الأفرادي ، ولكنّه لا يتمّ إلاّ بعد التمسّك بالعموم الأزماني بأن يقال : إنّ يوم السبت يوم من الأيّام ، وكلّ يوم يجب فيه إكرام كلّ عالم ، فهذا اليوم يجب فيه إكرام كلّ عالم ، ثمّ بعد ذلك نتمسّك بعموم إكرام كلّ عالم في يوم السبت على وجوب إكرام زيد فيه.

وأمّا ما أفاده أخيراً في صورة أخذ الزمان قطعة واحدة ، فلا يخفى أنّه قدس سره بعد أن التزم بعدم التخصيص وبقاء زيد داخلاً تحت العموم ، وأقصى ما صنعنا هو تقييد الاطلاق الدالّ على دوامه بما عدا يوم الجمعة ، فيبقى حاله في باقي الأيّام التي ثبت فيها وجوب إكرامه في الجملة على حاله من الاطلاق القاضي بالدوام ،

ص: 357


1- درر الفوائد 1 - 2 : 568 - 573.

لكنّه قال قبل ذلك : ومقتضى هذا الاطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة مثلاً فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول يوم السبت ، إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق (1).

وظاهر العبارة أنّه يرى أنّ لازم دخول الفرد هو استمرار الحكم فيه ، فلو ثبت عدم استمراره كان ذلك ملازماً لعدم دخوله في العام الأفرادي.

وفيه : أنّ الاستمرار إنّما هو فرع الدخول ، وبعد فرض كونه مشمولاً للعام الذي مقتضاه وجوب إكرامه في الجملة ، لا يكون خروجه في يوم الجمعة منافياً لوجوب إكرامه في الجملة ، فإذا ثبت وجوب إكرامه ولو مع ثبوت عدم وجوبه يوم الجمعة ، كان مقتضى الاطلاق هو دوامه فيما بعد الجمعة ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى ما أفاده الشيخ قدس سره من أنّ الدوام فرع شمول العموم الأفرادي له ، ومع فرض خروجه عنه ولو في الجملة لم يبق محل لما يدلّ على الدوام ، أو أنّه لا محصّل للدوام في المقام وإن كان بحكم الاطلاق إلاّعبارة أُخرى عن أنّ كلّ عالم يدوم فيه وجوب الاكرام ، فمع خروجه في يوم الجمعة لابدّ من القول بأنّه خارج عن هذه الكبرى ، وقد تقدّم التفصيل في شرح ما أفاده (2) ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الاطلاق يمكن منع دلالته على الدوام ، بل يمكن القول بأنّ مقتضاه الاكتفاء بالاكرام ولو في بعض الآنات ، فإنّ كونه دائمياً محتاج إلى البيان لكونه نحواً من التقييد ، أمّا كون نفس الوجوب دائمياً فلا إطلاق يقتضيه ، نعم

ص: 358


1- درر الفوائد 1 - 2 : 571.
2- في الصفحة : 299 وما بعدها.

ربما كان الوجوب في بعض الآنات لغواً كما في مثل وجوب الوفاء بالعقد ، ومقتضى الحكمة هو كون الوجوب دائمياً ، وحينئذ يمكن أن يكون من قبيل القسم الثاني المنحل إلى قضايا في كلّ يوم ، الذي أفاد أنّه يكون المرجع فيه العموم الأفرادي في كلّ قضية في كلّ يوم ، فتأمّل.

قوله : والحاصل أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان عام أفرادي يستتبع عموماً زمانياً ، فالعموم الزماني إنّما يكون في طول العموم الأفرادي ومتأخّر عنه رتبة ، سواء كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم الشرعي أو متعلّقه ... الخ (1).

لم يتّضح الوجه في هذه الطولية فيما لو كان العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، الذي هو الاكرام في مثل أكرم العلماء في كلّ آن ، فإنّ الفعل وهو الإكرام كما يتعلّق بالمفعول به وهو العلماء الذي هو العموم الأفرادي ، فكذلك يتعلّق بالظرف وهو قولنا : كلّ آن ، وليس تعلّقه بالمفعول به مقدّماً رتبة على تعلّقه بظرف الزمان ، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الطولية فيما لو أُخذ الزمان ظرفاً للمتعلّق لا أثر لها ، إذ لا يترتّب أثر فيما نحن بصدده على كون تعلّق الاكرام بظرف متأخّراً رتبة على تعلّقه بالعموم الأفرادي الذي هو المفعول به أو كونه في عرضه.

نعم ، فيما لو كان ذلك العموم الأزماني متعلّقاً بنفس الحكم ، يكون ذلك العموم الأزماني في طول العموم الأفرادي ، لأنّ متعلّق العموم الأزماني لمّا كان هو الحكم نفسه ، وكان مرتبة ذلك العموم الأزماني متأخّرة عن مرتبة أصل الحكم ، كان لازم ذلك قهراً كون العموم الأزماني واقعاً في طول العموم الأفرادي.

ص: 359


1- فوائد الأُصول 4 : 540.

قوله : لأنّ الدليل إنّما كان متكفّلاً لعموم أزمنة وجود الحكم ، فلا يتكفّل أصل وجود الحكم ، والشكّ في التخصيص الزماني يستتبع الشكّ في وجود الحكم ، فلا يصحّ التمسّك بعموم ما دلّ على العموم الزماني - إلى قوله - فلو شكّ في وجوب الوفاء بعقد من العقود في زمان فلا يمكن التمسّك بعموم ما دلّ على استمرار وجوب الوفاء في كلّ زمان ... الخ (1).

لا يقال : إنّ هذا العموم الأزماني الذي اعتبرناه بحسب دليل الحكمة وارداً على الحكم الذي هو وجوب الوفاء ، لو لم يكن قابلاً للتمسّك به في مقام الشكّ في وجوب الوفاء من جهة الشكّ في التخصيص أو الشكّ في مقدار المخصّص فأيّ فائدة فيه؟ إذ أنّه حينئذ لا يكون مخرجاً لذلك الحكم الذي هو جوب الوفاء عن اللغوية.

لأنّا نقول : يكفي في فائدة ذلك العموم الأزماني كونه نافياً لاحتمال سقوط ذلك الوجوب بالوفاء بالعقد آناً ما ، فيكون ذلك العموم الأزماني في قبال ذلك الاحتمال أعني احتمال كون الوجوب المذكور آنيّاً ، فإنّ ذلك الاحتمال هو عبارة أُخرى عن كون الحكم المذكور لغواً لا فائدة [ فيه ] فالعموم الأزماني المعتبر في ناحية الحكم يكون مخرجاً لذلك الحكم عن هذه اللغوية الناشئة عن كون الوجوب آنياً ، الموجب لتحقّقه بالوفاء بالعقد آناً ما ، ومن الواضح أنّ إخراج الحكم عن اللغوية بهذا المقدار لا يوجب الرجوع إلى ذلك العموم فيما لو شكّ في التخصيص أو مقداره ، بل يكون ذلك الشكّ باقياً بحاله مع فرض ذلك العموم وخروج الحكم به عن اللغوية المذكورة.

والحاصل : أنّ عدم إمكان التمسّك بهذا العموم في مقام الشكّ في

ص: 360


1- فوائد الأُصول 4 : 540 - 542.

التخصيص أو في مقداره مرحلة ، وكون ذلك العموم الأزماني مخرجاً للحكم المذكور عن اللغوية الناشئة عن كونه معرّى هو ومتعلّقه عن العموم الأزماني ، وأنّه آني يحصل امتثاله بالوفاء به آناً ما مرحلة أُخرى ، ولا تلازم بين المرحلتين ، فارتفاع تلك اللغوية بذلك العموم لا يوجب صحّة الرجوع إليه في مقام الشكّ المزبور بعد ما عرفت أنّه لا يصحّ الرجوع في مقام الشكّ المزبور ، لما عرفت من توقّف التمسّك بذلك العموم على إحراز نفس الحكم الذي هو بمنزلة الموضوع لذلك العموم الأزماني.

لا يقال : إنّكم قد ذكرتم أن ذلك العموم الأزماني لو كان راجعاً إلى متعلّق الوجوب لصحّ التمسّك به في مقام الشكّ في التخصيص وفي مقداره ، ومن الواضح أنّ أخذ ذلك العموم الأزماني في ناحية الوجوب نفسه يوجب كون متعلّقه واقعاً في كلّ واحد من تلك الأزمنة التي أخذت في ناحية الوجوب ، فإنّه إذا كان الحكم الذي هو الوجوب واقعاً في كلّ آنٍ من تلك الآنات ، يلزمه أن يكون الوفاء الذي هو متعلّق ذلك الوجوب واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات ، كما أنّه لو كان ذلك العموم الأزماني راجعاً ابتداءً إلى المتعلّق الذي هو الوفاء ، يكون الوجوب قهراً واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات.

وحينئذ نقول : إنّ العموم الأزماني لو كان راجعاً ابتداءً إلى الحكم الذي هو الوجوب ، كان لازم ذلك هو كون الوفاء أيضاً واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات ، والعموم الأزماني الواقع ابتداءً على الحكم وإن لم يمكن التمسّك [ به ] لما عرفت من توقّفه على إحراز موضوعه الذي هو الحكم ، إلاّ أنّ لازمه وهو عموم المتعلّق لكلّ واحد من تلك الآنات لمّا كان يمكن التمسّك به في مقام الشكّ ، كان ذلك كافياً في رفع الشكّ المزبور.

ص: 361

لأنّا نقول : إنّ هذا اللازم - وهو كون المتعلّق الذي هو الوفاء واقعاً في كلّ واحد من تلك الآنات - لمّا كان غير ابتدائي ، بل كان ناشئاً عن اعتبار الوجوب موجوداً في كلّ آن ، المعبّر عنه بكون العموم الأزماني واقعاً ابتداءً على الحكم ، كان تحقّق ذلك العموم الأزماني في ناحية المتعلّق بالنسبة إلى زمان الشكّ متوقّفاً على تحقّق ذلك الحكم فيه.

وبعبارة أُخرى : أنّ العموم القائل إنّ الوجوب موجود في كلّ آن ، لمّا لم يمكن التمسّك به في مقام الشكّ ، كان لازمه الذي هو عبارة عن كون الوفاء موجوداً في كلّ آن غير قابل للتمسّك به بعد فرض كونه ناشئاً عنه ومتولّداً منه ، لتوقّفه على ثبوت منشئه وملزومه في ذلك المقام ، نعم لو كان العموم الأزماني راجعاً ابتداءً إلى المتعلّق كان ذلك عموماً مستقلاً ، وكان يمكن التمسّك به في مقام الشكّ المذكور.

قوله : فإن كان الشكّ في أصل العموم الزماني فلا إشكال في أنّ الأصل يقتضي عدمه - إلى قوله - ففيما عدا اليوم الأوّل لا يجب الاكرام ، لأصالة البراءة عنه ، وذلك واضح (1).

الذي ينبغي هو التمسّك باطلاق المتعلّق في نفي تقييده بالعموم الأزماني وباطلاق الحكم أيضاً في نفي تقييده المزبور ، ومع فرض عدم إمكان التمسّك باطلاق الحكم لأنّ إرجاع العموم الأزماني إليه ليس من قبيل التقييد ، بل هو عنده قدس سره من قبيل الحكم على ذلك الحكم بأنّه موجود في كلّ زمان ، لابدّ من القول بأنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدم جعل ذلك الحكم على الحكم ، وعلى أي حال لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة.

ص: 362


1- فوائد الأُصول 4 : 546.

نعم ، لو لم يكن في البين أصالة الاطلاق ولا أصالة العدم ، كان المرجع هو استصحاب الحكم السابق ، أعني الحكم العام إن أمكن اجراؤه ، ولو ادّعي عدم جريان الاستصحاب المذكور من جهة كونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، كان المرجع فيما عدا اليوم الأوّل هو البراءة لو كان الحكم وجوباً أو تحريماً ، ولو كان غيرهما من الأحكام التكليفية كالاباحة والاستحباب ، أو كان الحكم من الأحكام الوضعية ، كان المرجع هو غيرها من الأُصول الجارية في مورد الشكّ ، كلٌ بحسبه.

قوله : وإن كان الشكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلّق مصب العموم الزماني ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه من إمكان كون الحكم نفسه مصب العموم الزماني يقع التعارض بين إطلاقه وإطلاق متعلّقه ، لكن بناءً على ما ذكرناه من إمكان التمسّك بالعموم الزماني الواقع في ناحية الحكم لا يظهر للشكّ في كون العموم الأزماني راجعاً إلى الحكم أو إلى متعلّقه [ أثر ] ، إلاّعلى فرض سقوط العموم والرجوع إلى الاستصحاب ، فإنّه حينئذ يظهر الفرق بين كونه في جانب الحكم أو في جانب متعلّقه ، لإمكان استصحاب حكم العام على الأوّل دون الثاني على ما عرفت تفصيله (2).

ص: 363


1- فوائد الأُصول 4 : 546 [ ستأتي حاشية أُخرى له قدس سره على هذا المتن في الصفحة : 370 ].
2- راجع فوائد الأُصول 4 : 537 وما بعدها وراجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 304 وما بعدها.

وأمّا بناءً على ما أفاده قدس سره من عدم إمكان أخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم ، وعدم إمكان التمسّك بالعموم الأزماني الواقع على الحكم ، فيظهر أثره في الشكّ في أنّ المرجع هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص ، ولكن التردّد بين كون العموم الأزماني راجعاً إلى الحكم أو إلى متعلّقه لا يتأتّى في العموم الأزماني المتّصل ، لأنّه يتعيّن عنده قدس سره رجوعه إلى المتعلّق ، لأنّ المفروض عدم إمكان رجوعه إلى الحكم ، وكذا لو كان بالدليل اللفظي المنفصل ، فإنّه أيضاً يظهر الحال فيه في كون مصبه هو الحكم أو هو متعلّقه.

وإنّما الإشكال في الدليل العقلي المقصور على مجرّد لغوية الحكم الآني المتعلّق بالفعل المجرّد من الزمان ، لأنّ رفع اللغوية كما يحصل بالحكم على ذلك الحكم بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، فكذلك يحصل بكون المتعلّق شاملاً لجميع الأفراد الطولية ، فلا يكون المقابل لأصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق هو الاطلاق في ناحية [ الحكم ] ، لما عرفت من أنّ المفروض هو عدم إمكان كون ذلك الحكم الذي تضمّنه الدليل الأوّل مراداً به الحكم في جميع الأزمنة ، بل أقصى ما في البين أن يحكم الحاكم حكماً ثانياً على الحكم السابق ، بأن يجعله موجوداً في جميع الأزمنة ، فيكون مرجع الشكّ المزبور بعد فرض لغوية الآنية هو أنّ الآمر لمّا أمرنا بالوفاء بالعقود ، هل قيّد الوفاء بكونه في جميع الأزمنة ، أو أنّه بعد ذلك الحكم قد حكم على وجوب الوفاء بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، والطرف الأوّل يكون مجرى الأصل اللفظي وهو إطلاق المتعلّق ، والطرف الثاني مجرى الأصل العملي وهو أصالة البراءة من الوجوب ثانياً ، أو أصالة عدم جعل الحكم الثاني ، لكن لمّا كان الاطلاق من الأدلّة الاجتهادية التي يكون مثبتها حجّة ، كان مقتضى إطلاق المتعلّق هو أنّ ارتفاع اللغوية إنّما كان بجعل الشارع الحكم

ص: 364

الثاني.

لكن في جريان الأصل اللفظي هنا إشكال ، وهو أنّه سواء كان ارتفاع اللغوية بتقييد الوفاء بكونه في كلّ آن أو كان بالجعل الثاني ، لا يكون الوفاء باقياً على ما هو عليه من مجرّد الوجود ، بل في الواقع لابدّ أن يكون هو في جميع الآنات ، لأنّ كون وجوبه ثابتاً في جميع الأزمنة يوجب تحقّقه في جميع الأزمنة ، وإن لم يكن ذلك داخلاً تحت الدلالة اللفظية ، وحينئذ فلا يكون الشكّ شكّاً فيما هو المراد الواقعي من الوفاء من قوله : يجب الوفاء بالعقد ، بل إنّما يكون الشكّ في كيفية الدلالة اللفظية ، والأصل اللفظي إنّما يجري في مقام الشكّ في المراد الواقعي ، لا في المراد اللفظي الاستعمالي بعد فرض الفراغ عن الواقع ، فتأمّل فإنّ هذا الدليل العقلي يكون بمنزلة الدليل المتّصل ، وقد عرفت في الدليل المتّصل أنّه يتعيّن الرجوع عنده قدس سره إلى المتعلّق ، هذا.

مضافاً إلى أنّ مرتبة تعلّق العموم الأزماني لمّا كانت عنده قدس سره متأخّرة عن جعل الحكم ، فحينئذ نقول : إنّ الحكم في مرتبة جعله يكون لغواً ، ولا معنى لبقاء هذه اللغوية إلى أن يرفعها الحاكم بإيراد العموم الأزماني على الحكم بالجعل الثاني.

وبالجملة : أنّ الحكم في مرتبة جعله لمّا كان عدم تقييد متعلّقه موجباً للغويته ، لعدم إمكان تقييد نفس الحكم في تلك المرتبة ، كان إطلاق المتعلّق ساقطاً في تلك المرتبة ، ولا يبقى الحكم على ما هو عليه من اللغوية حتّى يرفعها الحاكم بإيراده العموم الأزماني على نفس ذلك الحكم.

والحاصل : أنّ هذا الدليل العقلي يوجب تقييد متعلّقه بالعموم الأزماني قبل الوصول إلى مرتبة حكمه على ذلك الحكم بالعموم الأزماني ، فلا تصل النوبة إلى

ص: 365

المرتبة الثانية كي يحصل التعارض بين أصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق وأصالة عدم جعل ذلك الحكم الثاني ، فصار الحاصل هو أنّه عند الدوران بين رجوع العموم الأزماني إلى ناحية المتعلّق ورجوعه إلى ناحية [ الحكم ] بالنحو الذي أفاده قدس سره من التأخّر الرتبي ، يتعيّن الرجوع إلى ناحية المتعلّق.

أمّا أوّلاً : فلأنّ مرتبة إطلاق المتعلّق وتقييده بالعموم الأزماني سابق على مرتبة إطلاق الحكم وتقييده ، فيكون تقييد المتعلّق سابقاً في الرتبة على إطلاق الحكم.

وثانياً : أنّ هذا الدليل العقلي يكون بمنزلة الدليل المتّصل ، ومع الدليل المتّصل يكون القيد راجعاً إلى المتعلّق كما أفاده قدس سره.

وثالثاً : أنّ إطلاق المتعلّق يكون ساقطاً قطعاً ، لتقيّده بالوجود في كلّ آن سواء أرجعنا القيد إليه أو جعلناه راجعاً إلى الحكم ، بأن حكمنا عليه ثانياً بأنّ ذلك الحكم موجود في كلّ آن ، وسقوط إطلاق المتعلّق وتقيّده بالوقوع في كلّ زمان وإن أوجب وقوع الحكم في كلّ زمان ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بما نحن بصدده من أنّه لو رجع القيد إلى المتعلّق يصحّ لنا التمسّك بعمومه في مقام الشكّ ، بخلاف ما لو أرجعناه ابتداء إلى الحكم كما شرحناه فيما تقدّم (1).

لا يقال : إنّ وجوب الوفاء إنّما يكون لغواً بعد فرض ثبوت الاطلاق في ناحية المتعلّق الذي هو الوفاء ، فإنّ الوفاء لو كان مقيّداً بالوقوع في كلّ آن لم يكن وجوبه لغواً ، فكون الوجوب المذكور لغواً إنّما يكون بعد فرض ثبوت الاطلاق في ناحية الوفاء وعدم تقييده بكلّ زمان ، وبذلك يندفع الإشكال الأوّل الراجع إلى أنّ الحكم العقلي بلزوم التقييد بكلّ زمان يكون سابقاً في الرتبة على مرتبة الحكم

ص: 366


1- راجع الحاشية السابقة.

على ذلك الوجوب بأنّه موجود في كلّ زمان ، فيكون ذلك الحكم العقلي موجباً لتقييد الوفاء بكلّ زمان قبل الوصول إلى مرتبة الحكم على الوجوب بالوجود في كلّ زمان ، كما أنّه يندفع الإشكال الثاني أيضاً الراجع إلى أنّ هذا الحكم العقلي بمنزلة الدليل المتّصل الذي يتعيّن فيه رجوع العموم إلى المتعلّق ، وكأنّ قوله : ومن جملة مقدّمات الحكمة في المقام إطلاق المتعلّق وعدم تقييده بالعموم الزماني ، فإنّه مع تقييد المتعلّق بذلك لا تصل النوبة إلى التمسّك بمقدّمات الخ (1) ، إشارة إلى ذلك ، فلاحظه وتأمّل فيه.

لأنّا نقول : إنّ الأمر في الوفاء الذي هو متعلّق الوجوب بعد فرض كون الاهمال في مقام الثبوت محالاً ، يدور بين كون المراد منه هو الوفاء في زمان مخصوص ، أو الوفاء في جميع الأزمنة ، أو الوفاء في زمان ما. ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ المفروض عدم البيان عليه ، كما أنّه لا سبيل إلى الثالث لكونه موجباً للغوية ، فيتعيّن الثاني.

ولا معنى للقول بأنّ الشارع يجعل الوجوب وارداً على الوفاء المطلق الواقع في زمان ما ، ثمّ بعد ذلك يرى لغوية الحكم المذكور ، فدفعاً أو رفعاً للغوية التي لزمت حكمه المذكور يجعل حكماً آخر على الحكم المذكور ، بأن يوسّعه ويحكم عليه بأنّه موجود في كلّ زمان ، بل هو من أوّل الأمر يجعل حكمه وارداً على الوفاء المقيّد بوجوده في كلّ زمان.

فنحن من أجل لزوم لغوية الحكم نقول : لابدّ أن يكون حكمه هذا وارداً على الوفاء المقيّد بالوجود في كلّ زمان ، وقد اكتفى عن ذكر هذا القيد اعتماداً على حكم العقل به من جهة لزوم اللغوية بعد فرض أنّه لم يقيّده بزمان خاصّ ،

ص: 367


1- فوائد الأُصول 4 : 547.

نظير اكتفائه بحكم العقل بلزوم العموم الشمولي في كلّ بيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) بعد فرض أنّه لم ينصب قرينة على إرادة بيع مخصوص ، فيكون ذلك من قبيل القرينة العقلية على إرادة التعميم.

أو نقول : إنّه بعد فرض العلم بأنّه لم يرد الوفاء في زمان مخصوص لأنّه لم يبيّن ذلك الزمان المخصوص ، وبعد فرض أنّه لا يمكن أن يكون مورد الحكم هو الوفاء في زمان ما لأنّه لغو ، وأنّه لم يرد التقييد للوفاء بالوجود في جميع الأزمنة لأنّه نحو من التقييد ، يكون المحكوم عليه بالوجوب هو طبيعة الوفاء السارية في تمام الزمان ، على ما شرحه المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره (2). وعلى أي تكون النتيجة هي وجوب الوفاء الدائمي أو وجوب الوفاء في كلّ آن ، فلا يكون العموم الأزماني إلاّفي ناحية المتعلّق ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يقع التردّد في ذلك العموم بين كونه دوامياً أو أفرادياً ، والظاهر الثاني لأنّ الأوّل يتوقّف على لحاظ أمر زائد على أصل تعلّق الوجوب بطبيعة الوفاء ومقتضى عدم البيان عدمه ، فلاحظ. وفيه تأمّل وتردّد.

ولا يخفى أنّ الدليل المنفصل الدالّ على العموم الأزماني ، بناءً على ما حقّقناه من إمكان كون نفس الحكم الذي تضمّنه الدليل الأوّل مقيّداً بالوقوع في كلّ زمان ، يكون قابلاً للرجوع إلى نفس ذلك الحكم الذي تكفّله الدليل الأوّل ، ويكون مقيّداً له بالوقوع في كلّ زمان ، ويكون الترديد حينئذ بين رفع الاطلاق في ناحية الحكم نفسه أو رفعه في ناحية متعلّقه ، ولكن لا يمنع من الأخذ بذلك

ص: 368


1- البقرة 2 : 275.
2- راجع حاشية فرائد الأُصول : 429 - 431 وراجع أيضاً حاشية كتاب المكاسب : 505.

العموم الأزماني وإن لم نعرف رجوعه إلى الحكم أو المتعلّق ، لما حرّرناه من صحّة الرجوع إلى ذلك العموم على كلّ من التقديرين.

وأمّا بناءً على ما أفاده شيخنا قدس سره من عدم إمكان تقيّد الحكم في الدليل الأوّل بكونه موجوداً في كلّ آن فلا تكون المسألة عنده من الترديد بين الاطلاقين ، بل تكون من قبيل الترديد بين الاطلاق في ناحية المتعلّق وأصالة عدم الحكم على الحكم الأوّل بأنّه موجود في كلّ آن ، لأنّ ذلك العموم الأزماني المستفاد من الدليل الآخر لو كان مصبّه هو الحكم ، لم يكن من باب التقييد لذلك الحكم المستفاد من الدليل الأوّل بالوجود في كلّ زمان ، بل يكون من قبيل الحكم على الحكم المذكور بأنّه موجود في جميع الأزمنة.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه ما توضيحه : ولا ريب في أنّ هذه القرينة أعني قرينة الحكمة ( يعني بذلك الدليل العقلي الحاكم بلغوية الحكم الآني ) ليس حالها حال سائر القرائن في كشفها عن أنّ المراد باللفظ على طبق القرينة ، ليكون العموم الأزماني على تقدير رجوعه إلى الحكم موجباً للتصرّف في المراد بالحكم المستفاد من الدليل الأوّل ، بل هي من قبيل الدليل العقلي على مطلب مستقل ، وهو أنّ وجوب الوفاء ثابت في كلّ آن وإلاّ لكان لغواً. ولا يخفى أنّ ذلك لا يكون دليلاً على أنّ المراد من وجوب الوفاء في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) هو الوجوب دائماً ، بل أقصى ما فيه أن يكون موجباً لحكم جديد على ذلك الحكم الأوّل ، بأن ينظر إلى الوجوب المستفاد من قوله تعالى : ( أَوْفُوا ) ، ويحكم عليه بأنّه موجود في جميع الأزمنة ، انتهى.

ولأجل ذلك قلنا إنّه بناءً على مسلكه قدس سره لا يكون الترديد بين رجوع العموم

ص: 369


1- المائدة 5 : 1.

الأزماني إلى المتعلّق أو رجوعه إلى حكمه من قبيل الترديد بين الاطلاقين ، أعني الاطلاق في ناحية المتعلّق والاطلاق في ناحية حكمه ، بل يكون ذلك عنده من قبيل الترديد بين الاطلاق في ناحية المتعلّق ( بناءً على رجوع العموم الأزماني إليه ) وأصالة العدم في ذلك الحكم الجديد ( بناءً على رجوعه إلى الحكم ) ، وحيث إنّ إطلاق المتعلّق من الأدلّة الاجتهادية التي يكون مثبتها حجّة ، يتعيّن بواسطة إطلاق المتعلّق كون ذلك العموم الأزماني حكماً جديداً على ذلك الحكم السابق ، ويكون العموم الأزماني راجعاً إلى ناحية الحكم.

قوله : وإن كان الشكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به ، فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلّق مصب العموم الزماني ... الخ (1).

لمّا كان رجوع العموم الأزماني إلى الحكم متفرّعاً عنده قدس سره عن أصل الحكم فكان إطلاق الحكم أو عدم تقييده بالعموم الأزماني متأخّراً رتبةً عن إطلاق متعلّقه ، فالذي ينبغي هو كون التقييد بذلك العام الأزماني راجعاً إلى إطلاق المتعلّق ، لكونه هو السابق في الرتبة ، فيقيّده العام الأزماني قبل الوصول إلى رتبة الحكم وأنّه هل هو محكوم عليه بالعموم الأزماني أو لا ، ولو سلّم فلا أقلّ من كون وجود ذلك العموم الأزماني بالنسبة إلى إطلاق المتعلّق من قبيل وجود ما يحتمل التقييد لاطلاقه ، فيسقط إطلاقه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما [ هو ] فيما لو كان العام الأزماني متّصلاً دون ما لو كان منفصلاً (2).

ص: 370


1- فوائد الأُصول 4 : 546 [ تقدّمت حاشية أُخرى له قدس سره على هذا المتن في الصفحة : 363 ].
2- وأمّا دعوى كون المرجع في ناحية الحكم هو أصالة عدم الحكم عليه بالدوام ، وهذا الأصل محكوم بأصالة الاطلاق في ناحية المتعلّق ، لكونه من الأدلّة الاجتهادية التي يترتّب عليها لازمها ، وهو كون ذلك العموم الموجود باليد حكماً على الحكم. مدفوعة : بأنّ ذلك كلّه فرع بقاء الاطلاق في ناحية المتعلّق ، ومن الواضح أنّ وجود ما دلّ على العموم الأزماني موجب لسقوط ذلك الاطلاق عن الحجّية إن لم يكن موجباً لتقييده ، هذا. مضافاً إلى أنّ فرض المسألة هو وجود العموم الأزماني ، لكنّه مردّد بين الرجوع إلى المتعلّق والرجوع إلى الحكم ، وعلى أيٍّ يكون المتعلّق موجوداً في كلّ زمان ، أمّا على رجوع ذلك العموم الأزماني إلى المتعلّق فواضح ، وأمّا على رجوعه إلى الحكم فلملازمة ذلك لوجود المتعلّق في كلّ زمان ، وحينئذ تكون المسألة من باب العلم بتقيّد المتعلّق ، وإنّما يكون الشكّ في كيفية إرادته ، وفي مثله لا تجري أصالة الاطلاق فلاحظ ، بل هو أردأ من موارد الشكّ في كيفية الارادة بعد العلم بالمراد ، لأنّ الجمع بين إرجاع العموم الأزماني إلى الحكم مع إبقاء المتعلّق على إطلاقه القاضي بأنّ الوفاء مطلق غير مقيّد واقعاً بالوجود في كلّ زمان تناقضٌ ظاهر ، فلاحظ وتدبّر [ منه قدس سره ].

هذا على سبيل الإجمال ، وسيأتي إن شاء اللّه تفصيله (1) ، كما أنّه سيأتي (2) إن شاء اللّه أنّه بناءً على ما أفاده الشيخ قدس سره وقرّبناه من أنّه لا فرق في العموم الأزماني بين كونه لاحقاً للحكم أو للمتعلّق في إمكان التمسّك ، كما أنّه لا فرق فيما أُخذ بعنوان الدوام والاستمرار بين كونه لاحقاً للحكم أو كونه لاحقاً للمتعلّق في عدم إمكان التمسّك به ، نعم فيما ظاهره أنّه بنحو العام الأزماني مثل « كلّ يوم » لو أخذناه متعلّقاً بالحكم ، بناءً على ما نقلناه (3) عن شيخنا قدس سره من أنّه لا معنى لوجود الحكم في كلّ آن أو يوم إلاّدوامه واستمراره ، يظهر الأثر في مثل « كلّ يوم »

ص: 371


1- أشار قدس سره إلى ذلك في الصفحة : 407 - 408 إشارة عابرة.
2- راجع الإلحاق والتكميل الذي يذكره قدس سره في الصفحة : 429 وما بعدها.
3- راجع ما نقله قدس سره عن تحريراته عن شيخه قدس سره في الصفحة : 335 وما بعدها.

المأخوذ في قولنا : أكرم العلماء في كلّ يوم ، بين كون مصبّه هو الاكرام وكون مصبّه هو الوجوب ، فإنّه على الأوّل يبقى على ما هو ظاهر فيه من كون العموم شمولياً ، بخلاف ما لو قلنا إنّ مصبّه هو الوجوب ، فإنّه حينئذ ينقلب إلى معنى دوام الوجوب واستمراره. لكن يمكن القول حينئذ بأنّ ظهور هذه الكلمة في العموم الشمولي القاضي بتكثّر ما هو المظروف لها حسب تعدّدها ، يمنع من احتمال كونها راجعة إلى نفس الوجوب القاضي برفع اليد عن مقتضاها من تعدّد ما هو المظروف لها وتكثّره بتكثّرها ، كلّ ذلك مع تسليم ما أُفيد من أنّه لا معنى للتكثّر في الوجوب ولو بحسب ما يتعلّق به ، فتأمّل.

قوله : لأنّ مفاد قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ليس وجوب الوفاء به تكليفاً ، وحرمة التصرّف فيما انتقل عن المتعاقدين ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ مفاده الأمر بالوفاء بابقاء العقد بحاله وعدم فسخه ، وذلك - أعني المنع التكليفي من الفسخ - موجب لعدم نفوذه ، لكون المنع الشرعي المولوي من الفسخ موجباً لسلب السلطنة عليه شرعاً ، فلا يتوقّف الالتزام بكون الأمر بالوفاء تكليفياً مولوياً على الالتزام بتعلّقه بالمنع من التصرّفات فيما انتقل عنه ، ليكون التمسّك باطلاقه إلى ما بعد الفسخ تمسّكاً به في الشبهة المصداقية.

ولو بنينا على ما أفاده قدس سره من رجوع العموم الأزماني إلى نفس الحكم التكليفي أو الحكم الوضعي ، لسقط التمسّك بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) إلاّفيما يكون من قبيل احتمال التخصيص الأفرادي ، وانحصر الرجوع في موارد الشكّ في التخصيص الأزماني أو في المقدار الزائد إلى استصحاب حكم العام في الأوّل

ص: 372


1- فوائد الأُصول 4 : 549.

واستصحاب حكم الخاصّ في الثاني ، كما أفاده بقوله : ففي باب الوضعيات لو شكّ في تخصيص العموم الزماني أو في مقداره لا مجال للرجوع إلى العموم ، بل لابدّ من الرجوع إلى استصحاب حكم العام في الأوّل واستصحاب حكم الخاصّ في الثاني (1).

ثمّ على مسلك الشيخ قدس سره (2) من كون المدار على كون العموم الزماني تقطيعياً أو كونه دوامياً ، لابدّ من الالتزام بكونه في مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على نحو التقطيع والعموم الشمولي أو المجموعي ، لا الدوام والاستمرار ، وإلاّ لسقط التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في التخصيص الزائد بمثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في باب البيع لخروج زمان المجلس والثلاثة في بيع الحيوان عن ذلك العموم الأزماني ، فلاحظ وتأمّل.

والذي يظهر من الشيخ قدس سره هو الثاني أعني الدوام والاستمرار ، كما أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس سره هو كون العموم الأزماني فوق الحكم ، وأنّه لا يصلح للتمسّك به في مقام الشكّ ، وحينئذ يتوجّه النقض عليهما قدس سرهما بخيار المجلس والحيوان ، فإنّه لا ريب في التمسّك بعموم الآية في مقام الشكّ في اللزوم في باب البيع من غير جهة المجلس والحيوان.

ويمكن الجواب عن ذلك ، أمّا من ناحية شيخنا قدس سره فلأنّ أقصى ما أفاده هو سقوط العموم الأزماني المأخوذ في ناحية الحكم عن التمسّك به في مقام الشكّ وذلك لا ينافي التمسّك بالعموم الأفرادي إذا كان الشكّ في اللزوم من ناحية أُخرى غير مسألة الفورية والتراخي.

ص: 373


1- فوائد الأُصول 4 : 549.
2- كما تقدّم في الصفحة : 299 وما بعدها.

وأمّا من ناحية الشيخ قدس سره فلأنّه وإن قال إنّ هذا الفرد من البيع - أعني البيع المشتمل على الغبن - بعد أن قام دليل الغبن على أنّه غير لازم ، وأنّ القدر المتيقّن هو أوّل أزمنة الامكان ، يكون ذلك موجباً لخروج البيع المذكور عن العموم الأفرادي من قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ومع خروجه عن العموم المذكور لا يمكن الحكم بعوده ثانياً بعد أوّل أزمنة الامكان ، لكن هذا فيما إذا لم يكن في البين دليل يدلّ على عوده ، والمفروض أنّ نفس دليل خيار المجلس وخيار الحيوان قاضٍ بلزومه بعد انقضاء المجلس وانقضاء الثلاثة ، ومقتضى ذلك هو أنّه فيما عدا المجلس والثلاثة باقٍ تحت عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلاحظ وتأمّل في ذلك.

وسيأتي إن شاء اللّه التعرّض لذلك في آخر هذا التنبيه (1) عند التعرّض لما أفاده المرحوم السيّد في حاشيته على المكاسب ، ومن جملة ذلك هو أنّ مثل قوله عليه السلام : « إذا افترقا وجب البيع » (2) لا دلالة فيه على رجوع البيع إلى عموم الوفاء بالعقود ، بل أقصى ما في ذلك هو كون العقد بعد المجلس لازماً ، وحينئذ يكون المرجع عند الشكّ في لزوم البيع من بعض الجهات كما لو شكّ في خيار بائع الحيوان ، هو هذه الجملة أعني « إذا افترقا وجب البيع » ، لا عموم الآية الشريفة ، وهو خلاف ما جرى عليه الشيخ قدس سره.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ المنظور إليه في كلام الشيخ قدس سره هو أنّ المانع ليس هو الوحدة ، بل إنّ المانع هو التبعية الناشئة من أخذ العموم الأزماني ظرفاً للحكم ، وحينئذ يتمّ ما أفاده الأُستاذ قدس سره في تفسير مطلب الشيخ ، ولا يرد عليه النقض بخيار

ص: 374


1- في الصفحة : 429 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 18 : 6 / أبواب الخيار ب 1 ح 4.

المجلس ، وقد تقدّم في حاشية ص 198 (1) نقل عبائر الشيخ قدس سره في المكاسب ، فراجع ما ذكرناه هناك في شرح المراد منه ، وراجع أيضاً ما أشرنا إليه ممّا سيأتي في ملحق هذا التنبيه وتأمّل.

ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس سره هو الالتزام بالإشكال ، وأنّ التمسّك بعموم الآية في حقّ بائع الحيوان موقوف على عدم ثبوت خيار المجلس ، قال قدس سره في تلك المسألة : لعموم قوله عليه السلام : « إذا افترقا وجب البيع » خرج المشتري وبقي البائع ، بل لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالنسبة إلى ما ليس فيه خيار المجلس بالأصل أو بالاشتراط ، ويثبت الباقي بعدم القول بالفصل (2).

وهناك طريقة أُخرى للتمسّك بالاطلاق بعد العلم بالخروج في يوم السبت أوضحها المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره (3) في حاشيته على قول الشيخ قدس سره : ولا فرق في استفادة الاستمرار من اللفظ كالمثال المتقدّم ( يعني قوله : أكرم العلماء دائماً ) ، أو من الاطلاق كقوله : تواضع للناس ، بناءً على استفادة الاستمرار منه ، فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فرداً مستقلاً لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج (4).

ومحصّل هذه الطريقة : هو التمسّك بإطلاق نفس المتعلّق الذي هو

ص: 375


1- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 295 وما بعدها. راجع الصفحة : 300 ومابعدها.
2- كتاب المكاسب 5 : 86.
3- حاشية فرائد الأُصول : 429 - 431.
4- فرائد الأُصول 3 : 275.

التواضع في مثاله قدس سره ، أو الوفاء في الآية الشريفة ، فإنّه بعد فرض أنّ المتكلّم لم يأخذ الزمان ظرفاً للفعل في لسان الدليل ، كي نتكلّم عنه أنّه لاحظ القطعات أو لاحظه زماناً واحداً مستمرّاً مستطيلاً ، بل لم يتكفّل الدليل إلاّتعليق الوجوب بالوفاء ، فأوّل درجة يحكم بها إطلاق المتعلّق هو الاكتفاء بأوّل وجود من الوفاء في أيّ زمان كان ، كما أنّ هذا شأنه في أفراد الوفاء العرضية ، لكن هذا المقدار من التعميم البدلي من حيث الأفراد الطولية التي يفرّدها الزمان غير مراد قطعاً ، لكون وجوبه لغواً ، فتنزيهاً للحكم المذكور عن اللغوية نحكم بسقوط هذا الاحتمال ، وحينئذ يدور الأمر بين كون المراد هو الوفاء في زمان خاصّ كسنة من حين العقد ، وبين إرادة مطلق الوفاء الذي يلزمه الاستمرار والدوام ، والاحتمال الأوّل ساقط لكونه محتاجاً إلى البيان ، فيتعيّن الاحتمال الثاني.

ثمّ لابدّ من بيان الفرق بين كون المراد هو الوفاء المطلق الموجود في تمام الأزمنة المعبّر عنه بالوفاء الدائم الذي هو أمر وحداني ، وبين كون المراد هو مطلق الوفاء الذي عرفت أنّه بعد القطع بعدم إرادة فردٍ ما منه لكونه موجباً للغوية الحكم يكون عبارة عن تعليق الوجوب بمطلق الوفاء ، الذي يكون لازمه الدوام والاستمرار ، وآنات الوفاء على الأوّل أجزاء المكلّف به وعلى الثاني أفراده.

والمراد بالاطلاق في المقام هو الثاني دون الأوّل ، لأنّ الأوّل عبارة أُخرى عن التقييد الذي عرفت أنّه يحتاج إلى بيان ، فهو على حدّ سواء مع تقييد الوفاء بسنة مثلاً ، إذ لا فرق بين أن يقيّد الوفاء بسنة أو يقيّده بتمام الزمان من أوّل العقد إلى آخر الدهر ، وإذا كان المتعيّن هو الثاني كان قابلاً للتمسّك به فيما عدا ما ثبت خروجه.

قلت : وفيه : أنّ الأوّل وإن كان راجعاً إلى التقييد ، إلاّ أنّه لمّا كان غير محتاج

ص: 376

إلى البيان ، وكان مقابله وهو التقييد بزمان خاصّ كسنة مثلاً هو المحتاج إلى البيان كان عدم البيان كافياً في الحكم بإرادته ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون فيه أحد النحوين محتاجاً إلى البيان وكان النحو الآخر غير محتاج إلى البيان.

ثمّ إنّه لو أُغضي النظر عن ذلك وقلنا بأنّ المراد هو الثاني ، لم يكن ذلك إلاّ عبارة عن استنتاج العموم في الأفراد الطولية للوفاء من الاطلاق المذكور ، سواء كان على نحو الشمول أو المجموعية ، فيخرج حينئذ ممّا هو محلّ الكلام ، لكنّه قدس سره مع تسميته له بالعموم السرياني بحسب الأزمان قال : إنّه غير مستلزم كون الأحوال أو قطعات الزمان أفراداً مستقلّة للعموم الناشئ من الاطلاق ، لأنّ معروض الحكم هو صرف طبيعة التواضع ، فتواضعه دائماً مصداق واحد ، لكن أبعاض ما هو مسمّى باسم الطبيعة محكوم بحكمها - إلى أن قال : - والحاصل : أنّ الاستمرار الذي يفهم من إطلاق مثل « أكرم كلّ عالم » هو أنّ كلّ عالم يجب إكرامه مطلقاً لا بشرط شيء ، لا إكرامه المشروط بالاطلاق ، وبينهما فرق بيّن ، فإنّ أجزاء الإكرام المستمرّ ممّا هو مسمّى باسم هذه الطبيعة على الأوّل جزئي للواجب ، وعلى الثاني من أجزائه (1) انتهى ملخّصاً.

ولعلّ مراده من نفي لحاظ القطعات مستقلاً هو نفي أخذها على نحو العموم الشمولي ، فلا ينافي كون كلّ منها فرداً من الواجب من جهة كونها على نحو العموم المجموعي ، أو من [ جهة ] كون المطلوب هو صرف الطبيعة وكلّ من القطعات فرد منها ، غايته أنّه لا يكفي في مقام الامتثال ، لأنّ إطلاقه اقتضى الدوام والاستمرار.

وعلى كلّ حال ، لا مشاحّة في الاصطلاح ، ولا مناقشة في التعبير ، وأنّ ما

ص: 377


1- حاشية فرائد الأُصول : 430.

أفاده من الوجه الثاني قابل للتمسّك به في مقام الشكّ بعد خروج ما خرج ، كما أنّ الأوّل غير قابل له ، والشيخ قدس سره ينزّل الاطلاق على الأوّل ، وهو قدس سره ينزّله على الثاني ولا ريب في أنّ عدم البيان قرينة على إرادة ما لا يحتاج إلى بيان ، فالعمدة هي أنّ أيّهما المحتاج إلى البيان ، ولا شكّ في عدم احتياج الثاني إليه ، وإنّما الإشكال في الأوّل ، والظاهر أنّه كذلك ، أعني أنّه يكفي في أخذ الاطلاق قيداً عدم التقييد بقيد خاصّ ، لكنّه إنّما يتمّ فيما لو دار الأمر بينهما ، بأن دار الأمر فيما نحن فيه بين التقييد بسنة والتقييد بالدوام الذي هو عبارة عن التقييد بالاطلاق ، ولم يكن في البين شقّ ثالث ، وهو صرف الطبيعة القاضي بالسريان والاستمرار.

والذي أظن أنّ تعلّق الوجوب بصرف الطبيعة لا يقتضي السريان ، وإنّما ذلك في النواهي ، وأمّا باب الأوامر فلا يكون تعلّقها بالطبيعة إلاّقاضياً بمطلوبية صرف الوجود المنطبق على أوّل وجود ، وهو المعبّر عنه بالعموم البدلي ، وبعد امتناع إرادته في المقام يتعيّن حمل الاطلاق وعدم البيان على عدم إرادة التقييد بما يحتاج إلى البيان كسنة ونحوها من حين العقد ، ومن الواضح انحصار المراد - بعد ثبوت عدم إرادة صرف الوجود وبعد عدم إرادة المقيّد بزمان خاصّ - بما يكون دائمياً ، غايته أنّه مراد بما أنّه مصداق لصرف الطبيعة ، لا بما أنّه مقيّد بالدوام ، ولعلّ هذا هو مراده من النحو الثاني ، لكنّه على هذا لا يتعيّن الدوام ، بل يمكن اختيار الوفاء بمدّة طويلة مثل سنة في قبال اختيار الدوام ، لأنّه ليس من قبيل الوفاء آناً ما لتلزم اللغوية ، ولا من قبيل التقييد بتلك المدّة الخاصّة ليقال إنّ التقييد بها محتاج إلى البيان ، مع أنّه من مصاديق صرف الطبيعة ، فلا مانع من الاكتفاء به ، ويؤيّد ذلك أنّه جعله جزئياً وفرداً من الواجب ، إذ مع كونه فرداً ينبغي الاكتفاء به ، ولكنّه غير ممكن ، وإلاّ عاد محذور اللغوية ، وحيث إنّه لم يمكن الاكتفاء به دلّ

ص: 378

ذلك على أنّ المراد هو العموم الشمولي أو المجموعي أو هو الدوام والاستمرار ، ولا ثالث في البين ، وحيث إنّ العموم الشمولي أو المجموعي يتوقّف على لحاظ القطعات مجتمعة أو متفرّقة ، والمفروض أنّ المتكلّم لم يلاحظ قطعات الوفاء بحسب تقطيع الزمان كان المتعيّن هو الثاني ، لأنّ الدوام لا يتوقّف على أزيد من لحاظ طبيعة الوفاء الواحد المالئ للزمان الواحد ، وهذا يمكن إحرازه بعد انسداد احتمال مطلوبية صرف الوجود ومطلوبية الوفاء في زمان مخصوص ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي مراجعة ما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في كتاب البيع (1) ، ولعلّ فيه بعض المنافاة لما ذكره في حاشية الرسائل.

قال المرحوم الأصفهاني في حاشيته : إنّ للعام الذي لوحظ الزمان الواحد ظرفاً لاستمرار حكمه - إلى قوله - ومقتضى إطلاقه أنّ هذا الحكم ثابت لهذا الفرد كسائر الأفراد في هذا الزمان المستمرّ ، من دون تخصّصه بوجود خصوصية محدّدة ولا بعدمها (2).

لا يخفى أنّ مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لا تعرّض فيه للزمان ، فمن أين جاء هذا المعنى وهو أنّ كلّ فرد من أفراد العقود يثبت له هذا الحكم - أعني وجوب الوفاء - في الزمان المستمرّ ، كي نتكلّم على إطلاقه وأنّه لم يتخصّص بخصوصية خاصّة من وجود أو عدم.

نعم ، إنّ الوفاء زماني لابدّ أن يكون واقعاً في زمانٍ ما ، فوجوبه على هذا النحو من الاطلاق القاضي بأنّ المطلوب هو وفاءٌ ما في زمانٍ ما يكون لغواً ، فلابدّ

ص: 379


1- راجع حاشية كتاب المكاسب : 504 - 507.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 219 - 220.

من استكشاف أنّ المطلوب هو الوفاء في كلّ آن ، أو الوفاء المستمرّ ، أو أنّ وجوبه موجود في كلّ آن ، أو أنّ وجوبه مستمر من أخذ العموم الأزماني مقطّعاً أو دواماً في الحكم أو في المتعلّق. ومن الواضح أنّ هذا أمر آخر لا دخل له بالاطلاق المفيد للدوام والاستمرار ، ولو سلمت القضية من هذه اللغوية كما في مثل أكرم كلّ عالم ، لم يكن الاطلاق فيها قاضياً إلاّبوجوب طبيعة الإكرام غير مقيّدة بنحو خاصّ من الاكرام ، ولا بمكان خاصّ ولا بزمان خاصّ ، فلا تكون نتيجة هذا الاطلاق إلاّ العموم البدلي من هذه النواحي الثلاثة ، وقضية ذلك هو الاكتفاء بإكرام العالم في أيّ زمان شاءه المكلّف ، فلا يكون نتيجته إلاّ الايجاب الجزئي ، فلو ثبت أنّ زيداً لا يجب إكرامه أو يحرم إكرامه في يوم السبت ، لم يكن ذلك منافياً لما تضمّنته القضية الأُولى من وجوب إكرامه في زمان ما ، فلا يكون في البين دخول ولا خروج لو تمسّكنا بعموم قوله : يجب إكرام كلّ عالم ، في حقّ زيد بالنسبة إلى غير يوم السبت كي يترتّب عليه قوله : فإن أُريد التمسّك بحيثية عمومه فالأمر كما مرّ ، حيث إنّ الواحد لا يعقل أن يكون خارجاً وداخلاً ، بل خروج الواحد إذا ثبت فبالملازمة العقلية يقال بخروجه بقول مطلق ، ولا يعقل الشكّ في شمول هذا الحكم المجعول له أصلاً (1).

نعم ، لو تمّ ما أفاده بقوله : ومقتضى إطلاقه أنّ هذا الحكم ثابت لهذا الفرد كسائر الأفراد في هذا الزمان المستمرّ من دون تخصّصه بوجود خصوصية محدّدة ولا بعدمها ، انتهى لكان حاصل الاطلاق هو كون مركز الحكم هو الدوام والاستمرار في عمود الزمان ، وحينئذ يكون زيد المذكور في يوم السبت خارجاً عن العموم قطعاً ، لا أنّه داخل في غير يوم السبت وخارج في يوم السبت كي يلزم

ص: 380


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 220.

منه أن يكون الفرد الواحد خارجاً وداخلاً. ولا يخفى أنّه بعد فرض خروجه عن العموم المذكور لا يبقى مجال للتمسّك بذلك الاطلاق ، وعلى الظاهر أنّه ليس المقام من قبيل التزاحم بين عموم العام وإطلاق المطلق ، لأنّ ذلك فيما لو لم يكن بينهما ترتّب وطولية كما في المقام ، لما عرفت من أنّ الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار فرع الدخول والشمول لزيد المذكور.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه إنّما هو من جهة كون حرمة إكرامه في يوم السبت منافياً لما أفاده الاطلاق من الدوام والاستمرار ، فنحن نرفع اليد فيه عن هذا الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار فيبقى مشمولاً للعام الأفرادي ، لكنّه حينئذ لا يكون الحكم في زيد المذكور بعد يوم السبت مستمرّاً ودائماً ، بل يبقى على ما يقتضيه وجوب الإكرام من الاكرام في الجملة من دون دوام. وفي الحقيقة أنّ هذا ليس من قبيل التزاحم بين العام والمطلق ، لأنّ ما يدلّ على حرمة إكرام زيد يوم السبت لا يعارض ما دلّ على وجوب إكرام العلماء مع قطع النظر عن الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار ، لأنّ السالبة الجزئية في حقّ زيد لا تنافي الموجبة الجزئية المأخوذة من العموم الأفرادي الذي مقتضاه إكرام كلّ فرد في الجملة ، فلو كان مفاد الاطلاق هو الاكرام في كلّ آن ، كان ما دلّ على عدم وجوب إكرام زيد في يوم السبت مقيّداً أو مخصّصاً له في زيد بما عدا يوم السبت ، وإلاّ فإن لم يكن إلاّ الدوام والاستمرار كان المتعيّن خروج زيد من العام ، لأنّ محصّل العام هو أنّه يجب إكرام كلّ عالم ومنهم زيد إكراماً دائماً أو مستمرّاً إلاّزيد لأنّه لم يثبت في حقّه هذا الحكم الدائم.

وهذا هو الذي أشار إليه في الغرر بقوله : ولو فرضنا أنّ الثاني متعيّن من جهة أنّ ظهوره إطلاقي برفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي ، فلا يجوز أن

ص: 381

يقيّد موضوع الحكم بما عدا ذلك الزمان الخارج ليقال بثبوت الحكم لذلك الموضوع دائماً ، لأنّ ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة إلى الأزمان حتّى تحفظ فيما لم يعلم بالخروج والمفروض خلافه ، بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم (1).

وحاصله : أنّ لازم دخول زيد تحت العموم الأفرادي هو تحكّم الاطلاق فيه القاضي بالدوام والاستمرار ، فحيث إنّه قد ثبت أنّ الحكم فيه غير مستمرّ كان مقتضى ذلك هو خروجه عن العموم الأفرادي ، ولو سلّمنا بقاءه تحت العموم الأفرادي القاضي بإكرامه في الجملة ، وأسقطنا فيه الاطلاق القاضي بالدوام ، لم يتحصّل من ذلك إلاّوجوب إكرامه بعد يوم السبت في الجملة من دون دوام واستمرار ، والسرّ في ذلك : هو أنّ هذا الاطلاق ليس على حدّ غيره من الاطلاقات يقبل التبعيض في التقييد بحسب ما يدلّ عليه الدليل المقيّد ، بل إنّ إطلاقنا المذكور يدور بين الوجود والعدم ، فإن تحكّم اقتضى الدوام والاستمرار ، وإن خدشنا فيه أدنى خدشة بإخراج يوم السبت ارتفع من أصله ، ولم يبق بيدنا منه شيء نتمسّك به فيما عدا يوم السبت ليقضي علينا بالدوام والاستمرار فيما عدا اليوم المذكور ، ولعلّ المراد من قوله في الغرر : بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم ، هو أنّه لو كان مفاد وجوب إكرام كلّ عالم هو الاكرام في الجملة أو الوجوب في الجملة انسلخت القضية بالمرّة من الدلالة على الزمان ، وكان المطلوب بها هو مطلق الاكرام على نحو العموم البدلي من حيث الكيفيات والزمان والمكان ، وهو ما ذكرناه من العموم البدلي ، فلا تعرّض فيها للاستمرار ولا للدوام ، فيكون ذلك

ص: 382


1- درر الفوائد 1 - 2 : 573.

خروجاً عن الفرض ، لأنّ المفروض هو دلالتها ولو بالاطلاق على الدوام.

وعلى أي حال ، ليس حال هذا الاطلاق كحال باقي الاطلاقات في أنّه إذا سقط منه جانب تمسّكنا فيه بالجانب الآخر بعد فرض كون العموم البدلي منافياً للحكمة ، ليكون الحاصل هو أنّه بعد فرض انسداد باب العموم البدلي لكونه منافياً للحكمة لو ثبت الخروج في بعض الأزمان كيوم السبت مثلاً ، يتعيّن خروجه من تحت العموم الأفرادي ، ولو أبقيناه تحت العموم الأفرادي وتصرّفنا في الاطلاق كان محصّله لزوم إكرامه في الجملة وهو خلف ، لما فرضناه من كون وجوب إكرامه في الجملة منافياً وموجباً لعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، لأنّ الاكتفاء بالعموم البدلي عبارة أُخرى عن أنّ المطلوب هو صرف طبيعة الاكرام من دون دلالة على الزمان ، فتأمّل.

ومن هنا تبدأ المعركة بين صاحب الغرر والمحشّي قدس سرهما ، فإنّ المحشّي في قبال ذلك يدّعي أنّه لا فرق بين هذا الاطلاق وبقيّة الاطلاقات ، فلو سقط الاطلاق في يوم السبت لم يسقط في غيره ، فيكون قاضياً بالدوام فيما عدا يوم السبت ويكون الحاصل عنده هو الدوام فالدوام ، فكلّ ما خرج عن هذا الاطلاق يحكم بالدوام فيما عداه ، من دون فرق عنده في ذلك بين كون الخارج من الأوّل أو الأخير أو الوسط.

ثمّ إنّه ذكر الوجه الفارق بين الاطلاق فيما نحن فيه وبينه في المقامات الأُخر بقوله : وربما يتخيّل الفرق بين هذا المطلق وسائر المطلقات ، بتقريب أنّ سائر المطلقات لها جهات عرضية - إلى قوله - وبمجيء المقيّد ولو في الجملة يختلّ هذا الاطلاق (1)

ص: 383


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 220.

وحاصله : أنّ تحقّق الاطلاق المتعارف فيما نحن فيه يتوقّف على لحاظ قطعات الزمان قطعة قطعة ، ويكون محصّل الاطلاق في يوم السبت مثلاً أنّ الحكم لم يقيّد بوجوده ولا بعدمه ، وهكذا في يوم الأحد وفي يوم الاثنين وهكذا ، فإذا قام الدليل على أنّ الحكم مقيّد بعدم يوم السبت ، بقي إطلاق الحكم فيما عداه من الأيّام بحاله من عدم كونه مقيّداً بعدمه ولا بوجوده ، ولازمه وجود ذلك الحكم في تلك الأيّام القاضي بالدوام والاستمرار ، لكن هذا خلف ، لأنّ المتكلّم حسب الفرض لم يلاحظ القطعات قطعة قطعة ، بل لم يلاحظ إلاّذلك الزمان المستطيل ، فإذا خرج يوم السبت لم يبق محل لتلك الملاحظة للزمان المستطيل.

ثمّ إنّه دفع تخيّل الفرق المذكور بقوله : ويندفع بأنّ الاطلاق ليس جمعاً بين القيود حتّى يكون مرجعه إلى جعل الحكم في كلّ قطعة قطعة ليكون خلفاً ، بل إلى ملاحظة خصوصيات هذا الطبيعي الوحداني وعدم جعل وجودها ولا عدمها دخيلاً في الحكم ، كما هو معنى الاطلاق اللاّ بشرط المقسمي (1) ، فالنظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها وجوداً أو عدماً معنى ، والنظر إليها وجعلها ظروفاً للحكم معنى آخر ، وما هو خلف هو الثاني دون الأوّل ، وإلاّ فملاحظة الزمان الوحداني المستمرّ مهملاً في مقام جعل الحكم الحقيقي جدّاً محال ، وملاحظته متقطّعاً خلف ، وملاحظته لا بشرط قسمياً لا يعقل إلاّبالنظر إلى الخصوصيات الموجبة وجوداً وعدماً لكونه بشرط شيء ولكونه بشرط لا الخ (2)

ص: 384


1- [ هكذا فيما يتراءى من الطبعة القديمة من نهاية الدراية 3 : 117 السطر 16 ولكن في الطبعة الحديثة : القسمي ، فلاحظ ].
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 220 - 221.

وحاصل ذلك : هو أنّ إطلاق طبيعي الزمان الذي وجد الحكم فيه ، إن كان هو عبارة عن أخذ الزمان جامعاً بين التقييد باليوم الأوّل وباليوم الثاني وباليوم الثالث وهكذا ، كان محصّله هو التقطيع بحسب الأيّام مثلاً ووجود الحكم في كلّ قطعة ويوم منها وهو الخلف ، وإن كان مرجعه إلى أخذ طبيعي الزمان غير مقيّد باليوم الأوّل ولا بعدمه وهكذا في اليوم الثاني والثالث الخ ، فقد لوحظت القطعات ولم يلاحظ في كلّ واحدة منها تقييد ذلك الطبيعي بوجود تلك القطعة ولا بعدمها وحينئذ تكون النتيجة هي الاستمرار ، وإذا ثبت تقيّد ذلك الزمان الطبيعي بعدم قطعة خاصّة - أعني يوم السبت مثلاً - لزمنا رفع اليد عن إطلاقه بذلك المقدار دون غيره من باقي القطعات ، بل تبقى باقي القطعات على ما هي عليه من عدم أخذ وجودها ولا عدمها في طبيعي الزمان ، وهو محصّل الدوام فالدوام ، وقد سمّى هذا الاطلاق باللاّ بشرط المقسمي ، ثمّ أفاد أنّ أخذ الزمان مهملاً محال ، والظاهر أنّ الاهمال هو المنطبق على اللاّ بشرط المقسمي ، والاطلاق فيما نحن فيه لو تمّ فهو اللاّ بشرط القسمي ، بمعنى أنّ طبيعي الزمان لم يؤخذ مقيّداً بوجود اليوم الأوّل ولا بعدمه ، فكان المأخوذ منه هو القدر الجامع بين وجود ذلك اليوم وعدمه ، مثل ما إذا أخذنا الرقبة باللاّ بشرط القسمي بالنسبة إلى وجود الإيمان وعدمه.

وعلى أيّ حال ، فلا تكون النتيجة إلاّ أخذ طبيعي الزمان غير مقيّد بوجود اليوم الأوّل ولا بعدمه ، وهكذا في الثاني والثالث الخ ، ويكون الحاصل أنّ طبيعي الزمان لم يلاحظ فيه القطعات ، ولا لوحظ فيه التقييد بوجود أيّ قطعة منها ولا بعدمها ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي الدوام والاستمرار ، وإنّما جُلّ ما فيه هو كون الحكم أو الاكرام مظروفاً لطبيعي الزمان ، وذلك يحصل بالوجود في أيّ

ص: 385

قطعة منه الذي قلنا إنّ نتيجته هي العموم البدلي ، لا الشمولي ولا الدوام والاستمرار.

ثمّ لا يخفى أنّه لا محصّل لملاحظة طبيعي الزمان مقيّداً بوجود بعض قطعاته أو بعدمها أو أخذه مطلقاً من هذه الناحية ، إذ لا محصّل لأخذ الطبيعة مقيّدة بوجود بعض أفرادها وحصصها أو مقيّدة بعدم تلك الحصّة ، أو لحاظها مطلقة بالقياس إلى وجود بعض حصصها ، فإنّ ذلك - أعني أخذ الطبيعة مطلقة أو مقيّدة بوجود الشيء أو عدمه - فيما لا يكون من أفرادها ، بل كان ممّا يقارنها في الوجود مثل تقييد القيام بكونه مقارناً لوجود الضحك أو لعدمه ، أو كان ممّا يلحقها من الصفات والعوارض ، كتقييدها أو إطلاقها بلحاظ صفاتها مثل كون الرقبة مؤمنة أو غير مؤمنة ، أمّا تقييدها بلحاظ أفرادها وبعض حصصها فإنّما هو باعتبار الانطباق كتقييد الإنسان بكونه منطبقاً على الفرد الفلاني منه أو غير منطبق عليه ، وما نحن فيه - أعني الزمان - من هذا القبيل ، غير أنّ أفراده القابل الانطباق عليها طولية تدريجية ، فلو أخذنا الزمان الطبيعي مقيّداً باليوم الأوّل ، كان محصّله هو أنّ موضوع الحكم هو طبيعي الزمان المنطبق على الحصّة الأُولى منه ، وإذا أخذناه مطلقاً كان محصّله هو أنّ موضوع الحكم هو طبيعي الزمان الصالح للانطباق على اليوم الأوّل منه ، وللانطباق على اليوم الثاني منه ، وهكذا إلى آخر الأيّام ، فإن أُريد من الاطلاق المذكور صرف الطبيعة الصالحة على الانطباق على أيّ يوم من الأيّام ، لم تكن النتيجة إلاّ التقطيع والعموم البدلي ، وإن أُريد من الاطلاق المذكور هو الطبيعة المنطبقة على كلّ واحد من الأيّام ، كان محصّله هو التقطيع والعموم الشمولي فيما أمكن فيه العموم البدلي مثل وجوب الإكرام.

أمّا ما لم يمكن فيه ذلك مثل وجوب الوفاء ، لكون الحكم فيه على نحو

ص: 386

العموم البدلي لغواً ، فحينئذ يدور الأمر فيه بين كون المراد الوفاء في زمان معيّن مثل شهر أو سنة من حين العقد ، وبين كون المراد هو الوفاء في كلّ آن ، أو الوفاء دائماً ومستمرّاً ، ولمّا لم يبيّن التعيين وكان المفروض أنّه لم يلاحظ القطعات ، تعيّن الدوام والاستمرار الموجب لوحدة الحكم وعدم إمكان التمسّك في مورد الشكّ.

وملخّص ذلك : أنّ الاطلاق بالقياس إلى حصص الزمان لا يعقل إلاّمع التقطيع ، سواء كان من قبيل العموم البدلي أو كان من قبيل العموم الشمولي ، وأمّا الدوام والاستمرار فهو لا يتحصّل إلاّمن أخذ الزمان واحداً من دون نظر إلى قطعاته.

وأمّا [ ما ] أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم قدس سره بقوله : ومقتضى هذا الاطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة - مثلاً - فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت ، إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق (1) ، فليس المراد به هو لحاظ طبيعي الزمان باعتبار وجود القطعة الفلانية منه وعدمها ، ولا باعتبار انطباقه على القطعة الفلانية منه وعدم انطباقه عليها ، بل المراد به هو أنّ لحاظ نفس الزمان ظرفاً من دون نظر فيه إلى قطعة خاصّة ، يعطي الدوام والاستمرار من أوّل وجود الفرد من العلماء إلى آخره بعد فرض سقوط التعيين والعموم البدلي ، بحيث إنّ نتيجة ذلك الاطلاق هو لحاظ ذلك الزمان على طوله قطعة واحدة ، وقد حكم بأنّه يجب فيه الاكرام ، أو بأنّه يجب الاكرام فيه ، فلا تقطيع ولا إطلاق ولا تقييد ، وإنّما أُطلق عليه

ص: 387


1- درر الفوائد 1 - 2 : 571.

الاطلاق مسامحة ، بل لا يكون إلاّحكماً بوجوب طبيعة الاكرام في هذا الزمان الشخصي المستطيل ، أو حكماً بأنّ طبيعة الاكرام واجبة في هذا الشخص المستطيل من الزمان.

وما أفاده المحشّي من قوله : إذ ليست وحدة الزمان المجعول ظرفاً لثبوت طبيعي الحكم لطبيعي الوفاء مثلاً وحدة شخصية ، كي يتوهّم أنّ الواحد الشخصي غير قابل للتقييد ، فإنّ طبيعي الحكم المنحل إلى أحكام متعدّدة يستحيل أن يكون ظرفه شخصياً ، بل واحد طبيعي ، فيكون طبيعي الحكم المتعلّق بطبيعي الموضوع في طبيعي زمان وحداني بوحدة طبيعية كمظروفه ومتعلّقه ، والواحد الطبيعي قابل للتقييد الذي يجعله حصّة ، والحصّة وحدتها الطبيعية واستمرارها محفوظة ، فيكون المطلق والمقيّد بمنزلة دالّ واحد من الأوّل على ظرفية حصّة طبيعية للحكم الطبيعي الثابت لموضوع كذلك (1) كلّ هذه الهزاهز والرعود منوطة بقوله : فإنّ طبيعي الحكم المنحلّ إلى أحكام متعدّدة يستحيل أن يكون ظرفه شخصياً. ومراده بذلك الردُّ على من يدّعي أنّ الزمان لوحظ واحداً شخصياً مستمرّاً من أوّله إلى آخره ظرفاً للحكم الكلّي المتعلّق بفعل كلّي ، كالوجوب المتعلّق باكرام كلّ عالم.

وليت شعري أيّ استحالة فيما لو أُخذ لهذا الحكم الكلّي ظرف مكان خاصّ ، وقيل : أكرم كلّ عالم في هذا المسجد الخاصّ ، بأن يكون ذلك المسجد ظرفاً للوجوب أو للواجب ، وما الفرق بين كون الظرف مكاناً أو كونه زماناً؟ وما المانع من وجوب اللُبود أو حرمة إقامة الحدود في زمان الغيبة على طوله واستمراره؟ كلّ ذلك لا أدري ، إذ لم أتوفّق لأن أدري أسرار ذلك ، ومنه تعالى

ص: 388


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 220.

أستمدّ التوفيق لأن أدري ما لا أدري.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ المانع من التمسّك بالاطلاق في مثل زيد المذكور بعد قيام الدليل على عدم وجوب إكرامه يوم السبت ليس هو وحدة الظهور الاطلاقي ، كما نقله بقوله : كما أنّ تخيّل عدم صحّة التقييد لكونه فرع انعقاد ظهورات للعام المطلق من حيث قطعات الزمان ، والمفروض أنّ المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، وبعد رفع اليد عنه لا ظهور يتمسّك به (1) كي يندفع ذلك المانع بقوله : مندفع بأنّه لا تعدّد للظهور هنا ولا في سائر المطلقات ولا في العمومات - إلى قوله : - مع بقاء الظهور الوحداني على حاله في جميع المقامات (2) ، وذلك لما عرفت من أنّ المانع إنّما وحدة المعنى المستفاد من الاطلاق وبساطته ، وهو كون الحكم دائمياً ومستمرّاً في الزمان الواحد على سعته وطوله ، كما أشار إليه بقوله : والمفروض أنّ المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، ومع فرض خروج زيد عن وجوب الاكرام يوم السبت لم يثبت في حقّه ذلك المعنى الوحداني البسيط ، فمن أين لنا ما يدلّ على وجوب إكرامه في باقي الأيّام ، فلاحظ.

ثمّ إنّك بعد أن عرفت وحدة الحكم الدائمي بوجوب الاكرام أو وحدة وجوب الاكرام الدائمي ، تعرف أنّه واحد واقعاً وخارجاً وإنشاءً وثبوتاً وإثباتاً وإطاعة وعصياناً ، وأنّ الخروج من أحد الطرفين يباينه كالخروج من الوسط ، وليس نسبة ذلك إليه نسبة الخاصّ إلى العام ، ولا نسبة المقيّد إلى المطلق ، وكذلك فيما لو قال : أكرم العالم في كلّ جمعة ، وفهمنا منه وحدة الحكم واستمراره في

ص: 389


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 221.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 221.

أيّام الجمع ، بحيث إنّا فرضنا أنّ الآمر لاحظ أيّام الجمع شيئاً واحداً وحكم بوجوب الاكرام فيها ، أو أوجب فيها الاكرام ، فإنّ وحدة الحكم حينئذ تكون بوحدة تلك الأيّام ، ولا دخل لهذه الأيّام بما يفصل تلك الجمع بعضها عن بعض بسائر أيّام الاسبوع ، ولا ينقص تلك الوحدة إلاّبخروج بعض الجمع ، ولا يتوقّف ذلك على لحاظ العموم في الجمع مجموعياً ، بل المفروض أنّه قد لاحظ الدوام والاستمرار في الحكم الوارد على الاكرام في أيّام الجمع ، أو أنّه لاحظ الدوام والاستمرار في الاكرام الذي أوجبه أيّام الجمع ، على إشكال في ذلك.

وبالجملة : أنّ الظاهر في أمثال ذلك هو العام الأزماني الشمولي أو المجموعي ، لكن لو ادّعى مدّع أنّه لوحظ الدوام في الحكم المذكور كان له معنى آخر غير ما نحن بصدده ، وذلك المعنى هو المعبّر [ عنه ] في كلمات شيخنا قدس سره بكونه فوق الحكم ، وأين هذا من الدوام الذي نحن بصدده ، الذي أخذناه في وجوب الاكرام أو في الاكرام المتعلّق به الوجوب ، الذي قلنا إنّه مباين لما يدلّ على عدم الوجوب في بعض الأيّام ، سواء كان من أحد الطرفين أو من الوسط ، وأنّه لا يتصوّر فيه التبعيض في الاطاعة والعصيان ، وأنّه حكم واحد من جميع الجهات خارجاً وواقعاً وثبوتاً وإثباتاً وإطاعة وعصياناً.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وأمّا حديث تعدّد الواحد والاتّصال بعد الانفصال - إلى قوله - فتدبّره فإنّه حقيق به (1) ، خصوصاً ما أحال به على ما تقدّم منه (2) من تصوير الاطاعة والعصيان في مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 390


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 221 - 222.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 218.

ولا يخفى أنّه لو كان الدوام ظرفاً للفعل الذي هو الوفاء ، لم يكن محصّله إلاّ تعلّق الوجوب بهذا الفعل الواحد المنطبق أوّله على أوّل الزمان وآخره على آخره نظير الامساك الواحد فيما بين الفجر والغروب ، ولا ريب في عدم إمكان التبعيض في الاطاعة والمعصية في مثل ذلك ، إذ ليس هو بأقل من العام المجموعي ، أمّا لو أُخذ الدوام في نفس الوجوب ، فقد عرفت أنّ دوامه يستلزم دوام متعلّقه ، وبواسطة ذلك لا يمكن التبعيض فيه من حيث الاطاعة والعصيان ، ولو فرضنا كون المتعلّق حدوثياً وتجدّدياً مثل الضرب والاكرام وقيل : يجب دائماً الاكرام أو الضرب ، فكذلك الحال ، لصيرورة الاكرام المتعدّد المستمرّ في الزمان بمنزلة فعل واحد تعلّق به وجوب واحد ، إلاّ أن يقال : إنّ تعدّد الفعل خارجاً يكون كالقرينة على تعدّد حكمه الذي هو الوجوب ، فيكون الدوام كناية عن تعدّد الوجوب بتعدّد متعلّقه ، فيخرج بذلك عن الوحدة الاستمرارية.

ثمّ لا يخفى أنّ الوفاء في الآية الشريفة لو كان كناية عن الحكم الوضعي الذي هو اللزوم ، فهذا لا يتصوّر فيه التعدّد بالاطاعة والعصيان ، نعم لو أُريد منه الجري على مقتضى العقد أو وجوب الابقاء وعدم الحل والفسخ ، بحيث إنّه يكون مفاده الحكم التكليفي بالجري على طبق العقد وعدم حلّه وفسخه ، فهو ممّا يدخله الاطاعة والعصيان وإن لم يترتّب الأثر على فسخه ، إلاّ أنّه بعد أخذ الدوام فيه لا يتصوّر فيه الاطاعة مرّة والعصيان أُخرى ، فلاحظ.

قوله : وأمّا الأحكام الوضعية فليس لها متعلّقات لكي يبحث فيها عن مصب العموم الزماني ، فينحصر أن يكون مصب العموم فيها نفس الحكم الوضعي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الأحكام الوضعية وإن لم يكن لها متعلّق ، إلاّ أنّ لها موضوعاً

ص: 391


1- فوائد الأُصول 4 : 548 - 549.

قابلاً لكونه مصبّاً للعموم الأزماني ، ففي مثل لزوم العقد كما يمكن أن يكون العموم راجعاً إلى نفس اللزوم ، فمن الممكن أن يكون راجعاً إلى نفس العقد بحيث يكون العقد في كلّ آن واجب الوفاء ، في قبال تقييد العقد بكونه في الآن الأوّل واجب الوفاء. نعم إنّ الرجوع إلى نفس العقد لا يخلو عن بعد ، ولكن ذلك - أعني ظهور رجوعه إلى نفس الحكم الذي هو اللزوم - لا يضرّ بالتمسّك بذلك العموم الأزماني في مورد الشكّ على ما عرفت تفصيله.

ثمّ لا يخفى أنّ الكثير من الأحكام الوضعية مثل الطهارة والنجاسة والملكية والحرّية والرقّية والزوجية ونحو ذلك ، لا يتصوّر فيها التخصيص الأزماني ، بل إنّ المتصوّر فيها هو التخصيص الأحوالي ، وحينئذ فالنافع إنّما هو العموم الأحوالي دون العموم الأزماني ، أمّا ما يكون رافعاً للغويتها لو كانت آنية فليس هو العموم الأزماني ، بل هو ما يقتضيه طبع الحكم من البقاء في جميع الآنات ، وهو المقدار من البقاء الرافع للغوية ، فإنّه ليس في البين امتثال آناً ما كي يقال إنّها هل تسقط به أو لا ، ونحتاج إلى رفع احتمال السقوط بالامتثال آناً ما إلى جعل ذلك الحكم موجوداً في كلّ آن الذي هو العموم الأزماني ، فتأمّل.

قوله : هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ النهي أو النفي بنفسه لا يدلّ على أزيد من ترك الأفراد العرضية ... الخ (1).

الظاهر أنّ متعلّق النهي هو صرف الطبيعة كما أنّ متعلّق الأمر هو صرف الطبيعة أيضاً ، ومن الواضح أنّ صرف الطبيعة يصدق على الفرد الموجود منها في الآن الثاني كما يصدق على الفرد الموجود منها في الآن الأوّل ، ولأجل ذلك يكون المأمور ممتثلاً بالاتيان بواحد من تلك الأفراد الطولية كما يحصل الامتثال منه

ص: 392


1- فوائد الأُصول 4 : 551.

بواحد من الأفراد العرضية ، ومن [ ذلك ] تعرف أنّ النهي يشمل متعلّقه الأفراد الطولية كما يشمل الأفراد العرضية ، ويكون مقتضى تسلّط النهي على صرف الطبيعة هو انتفاء تلك الأفراد أجمع ، لأنّ أيّاً منها جاء به يكون مصداقاً للطبيعة فيكون مشمولاً للنهي ، وبذلك تعرف أنّ عموم النهي للأفراد الطولية لا يتوقّف على أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، ولا في ناحية الحكم ، وقد صرّح قدس سره بذلك تفصيلاً (1) فيما حرّرته عنه فليراجع هناك. وهنا أبحاث تعرّضنا لجملة منها في أوائل النواهي (2) وفيما علّقناه على أوائل مسألة الأقل والأكثر (3).

قوله : فإنّه لا معنى لاشتراط الحكم في أوّل النهار بتعقّبه بالحكم في آخر النهار ... الخ (4).

يمكن أن يكون الأمر كذلك بعد فرض كون الوجوبات المستمرّة ارتباطية في مقام الامتثال وفي مقام التكليف. نعم إنّ ذلك محتاج إلى الدليل ، فراجع ما حرّرناه في كيفية وجوب الصوم في باب الأوامر في بعض مباحث الواجب التعليقي ممّا حرّرناه ص 207 (5) وفيما علّقناه على ص 125 (6).

ص: 393


1- في درس ليلة السبت 18 ج 1 سنة 1344 [ منه قدس سره ].
2- راجع أوّل المجلّد الرابع من هذا الكتاب.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 248 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 4 : 553.
5- لعلّه قدس سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه المحقّق النائيني قدس سره.
6- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 93 وما بعدها. وراجع أيضاً ما قبلها.

قال قدس سره فيما نقلته عنه قدس سره (1) : لا يخفى أنّه إذا كان في ناحية المتعلّق ما يكون مؤدّياً مؤدّى العموم الأزماني كان كافياً عن العموم الأزماني في ناحية الحكم ، بل يكون أخذ العموم الأزماني حينئذ في ناحية الحكم لغواً ، وعمدة الإشكال في النواهي هو ما يقال من أنّ المتعلّق فيها هو الطبيعة المطلقة الشاملة للأفراد الطولية والعرضية ، فيكون ذلك الاطلاق في ناحية المتعلّق مغنياً عن أخذ العموم في ناحية الحكم.

وقد يشكل على ذلك بأنّ الاطلاق إنّما هو بالنسبة إلى الأفراد العرضية ، وأمّا الأفراد الطولية التي يكون المفرّد لها هو الزمان فلا يكفي فيه الاطلاق المذكور وحينئذ فلابدّ من أخذ العموم الأزماني إمّا في ناحية المتعلّق أو في ناحية الحكم وحيث إنّه لم يدلّ دليل على أخذه في ناحية المتعلّق ، لاحتياجه إلى مؤونة زائدة وبيان زائد ولم يبيّن ذلك ، فلابدّ أن يكون مأخوذاً في ناحية الحكم.

والجواب عن ذلك : أنّ النهي والنفي ضدّ الأمر والايجاب ، فكما أنّ الحكم الايجابي يكون متعلّقاً بصرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، فكذلك الحكم بالنهي أو النفي يكون متعلّقه هو الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، وكما يكون نتيجة تعلّق الحكم الإيجابي بصرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان هو الاكتفاء في مقام الامتثال بمجرّد وجود تلك الطبيعة وإن كان بفرد واحد ، فكذلك في مقام النهي تصدق الطبيعة الصرفة المعرّاة عن الزمان على أيّ واحد من أفرادها في أيّ زمان كان ذلك الفرد ، وحينئذ فيكون مقتضى تعلّق الحكم العدمي بصرف الطبيعة هو انعدام جميع أفرادها الطولية والعرضية ، فيكون الطبيعة المتعلّقة للنهي شاملة للأفراد الطولية كما تكون شاملة للأفراد العرضية ، فيكون مثل الشرب في قوله : لا تشرب

ص: 394


1- في درس ليلة السبت 18 ج 1 سنة 1344 [ منه قدس سره ].

الخمر شاملاً للشرب في كلّ آن ، ويكون كلّ واحد من أفراد الشرب للخمر الموجود مشمولاً لقوله : لا تشرب الخمر ، ويكون هذا العموم للأفراد التي يكون مفرّدها هو الزمان المعبّر عنه بالعموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، فيكون المرجع فيما شكّ في خروجه هو العموم الأزماني المأخوذ في ناحية المتعلّق ، لا استصحاب حكم العام فيما كان الشكّ فيه بدوياً ، ولا استصحاب حكم المخصّص فيما كان الشكّ فيه بعد ما يكون خروجه قدراً متيقّناً ، كما إذا كان مريضاً على وجه لو لم يشرب الخمر لتلفت نفسه ، ثمّ إنّه لم يشربه إلى أن خفّ مرضه ، على وجه تنزّل من تلك المرتبة إلى مرتبة يكون لو لم يشرب لطال مرضه مثلاً ، فإنّ خروج المرتبة الأُولى هو القدر المتيقّن ، والمرتبة الثانية التي حدثت بعد المرتبة الأُولى يكون خروجها مشكوكاً ، فبناءً على ما ذكرناه من كون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، لكون المتعلّق هو صرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، وأنّ مقتضى تعلّق النهي بها هو شمولها لجميع الأفراد الطولية كالعرضية ، يكون المرجع في الفرض المذكور إلى عموم لا تشرب الخمر ، لا استصحاب حكم المخصّص ، ولا يبعد أن يكون نظر الفقهاء في مثل الفرع المذكور هو البناء في مورد الشكّ المذكور على التحريم ، دون الحكم بالترخيص.

هذا تمام الكلام في النواهي ، ولا فرق فيها بين أن يكون للمتعلّق فيها موضوع خارجي كما مثّلنا ، أو لم يكن له موضوع خارجي كما في مثل لا تكذب ولا تغتب ، سوى أنّ الدوام في مثل لا تشرب الخمر يكون ما دام الموضوع الخارجي موجوداً ، وفي مثل لا تكذب يكون الدوام ما دام المكلّف جامعاً لشرائط التكليف ، وكذا لا فرق فيما يكون لمتعلّقه موضوع خارجي بين أن يكون ذلك الموضوع الخارجي شرطاً للتكليف خطاباً وملاكاً ، أو يكون شرطاً للتكليف

ص: 395

خطاباً لا ملاكاً ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

وقال أيضاً فيما حرّرته عنه قدس سره قبيل هذا الدرس : أمّا النواهي فيترتّب على كون العموم الأزماني فيها مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، أو في ناحية الحكم الذي هو نفس النهي فائدة مهمّة ، وهي أنّه لو خرج بعض الأزمنة عن عموم النهي لأجل ضرورة ونحوها ممّا يوجب سقوط النهي ، وشكّ في بقاء الترخيص فيما بعد ذلك الزمان ، فهل يكون المرجع هو عموم النهي ، أو يكون المرجع هو استصحاب حكم المخصّص ، فبناءً على كون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق يكون المرجع في مورد الشكّ المذكور إلى العموم ، وبناءً على أخذه في ناحية الحكم يكون المرجع في مورد الشكّ المذكور هو استصحاب حكم المخصّص.

وقبل تنقيح أحد الأمرين ينبغي أن نقدّم لذلك مقدّمة ، فنقول : إنّ كلّ عموم أفرادي مثل أكرم كلّ عالم يكون له جهة أزمان وجهة أحوال ، فقد يكون عامّاً أيضاً من جهة الأزمان والأحوال ، بأن يكون المطلوب هو إكرام كلّ عالم في كلّ آن وفي كلّ حال ، سواء كان قائماً أو قاعداً أو نحو ذلك من الحالات ، فباعتبار العموم الأزماني يكون شاملاً لأفراد الإكرام الطولية ، وباعتبار العموم الأحوالي يكون شاملاً لجميع أفراد الاكرام العرضية. وقد يكون عاماً من إحدى هاتين الجهتين ويكون مطلقاً من الجهة الأُخرى ، بأن يكون المطلوب هو إكرام كلّ عالم في كلّ آن من دون تعرّض لأحواله ، فلا دلالة فيه على كون إكرام العالم مطلوباً في جميع حالاته ، بل يكون مطلقاً من هذه الجهة.

وبالجملة هناك جهات ثلاث : الأفراد والأزمان والأحوال ، وكلّ جهة كان العموم فيها محقّقاً يصحّ التمسّك في موارد الشكّ فيها بأصالة العموم ، وما لم

ص: 396

يكن العموم فيها محقّقاً من إحدى هذه الجهات لا يكون أصالة العموم في الجهة الأُخرى نافعاً في إزالة الشكّ الواقع فيه ، فإنّه إذا ثبت العموم لكلّ عالم وشككنا في وجوب إكرام زيد العالم يوم السبت مثلاً ، لم تكن أصالة العموم في ناحية العلماء نافعة في إدخال مورد الشكّ تحت عموم وجوب الإكرام.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا قيل : لا تشرب الخمر ، فهذا عموم أفرادي ، فإن شككنا في حرمته في زمان أو في حال مثل حال المرض الخفيف ، وكان في البين عموم أزماني وعموم أحوالي ، بأن قال : لا تشرب الخمر في كلّ آن وفي كلّ حال صحّ التمسّك بأصالة العموم الأزماني على إدخال زمان الشكّ تحت العموم ، وبأصالة العموم الأحوالي على إدخال الشرب في تلك الحالة المخصوصة المشكوكة تحت العموم الأحوالي ، أمّا إذا لم يكن في البين ذلك العموم الأحوالي وطرأت حالة يشكّ في حرمة شرب الخمر معها ، لم يمكن التمسّك بأصالة العموم الأفرادي ولا بأصالة العموم الأزماني على دخول الشرب في تلك الحالة تحت الحكم المذكور أعني الحرمة ، وحينئذ فإن كان ذلك العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق لم يمكن التمسّك أيضاً على الحرمة بالاستصحاب ، لأنّه من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، وينحصر المرجع حينئذ في أصالة البراءة ، أمّا إذا كان ذلك العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية الحكم أعني النهي ، كان التمسّك بالاستصحاب المذكور على التحريم في مورد الشكّ المذكور صحيحاً ، ومن الواضح لمن له أدنى تتبّع أنّ ديدن الفقهاء في أمثال ذلك على الحكم بالتحريم ، فهذا كاشف عن أنّ نظرهم إلى أنّ العموم الأزماني مأخوذ في ناحية الحكم لا في ناحية المتعلّق ، لأنّه لو كان في نظرهم مأخوذاً في ناحية المتعلّق كان المرجع في صورة هذا الشكّ هو البراءة ، انتهى.

ص: 397

قلت : لا يخفى أنّه هنا أفاد أنّ حالة المرض لم تكن داخلة في العموم الأزماني ، وبعد سقوط العموم الأحوالي لعدم تحقّقه يتعيّن الرجوع إلى استصحاب الحرمة الثابتة في الزمان السابق ، وإذا كان العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق لم يمكن استصحاب الحرمة من زمان إلى ما بعده ، لأنّه حينئذ من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، لكنّه قدس سره بعد ذلك كأنّه عدل عن هذا الطريق ، فأفاد بعد ذلك فيما نقلناه عنه أنّ حالة المرض داخلة في العموم الأزماني.

والأولى أن يقال : إنّ حالة المرض لمّا كانت موجبة للّحوق بالأفراد العرضية ، فهي داخلة تحت عموم الشرب ، لما عرفت من عمومه وشموله للأفراد العرضية ، وحينئذ فيكون الحكم بالحرمة في مورد الشكّ المذكور إنّما هو لأجل التمسّك باطلاق الطبيعة في حيّز النهي ، الشامل للأفراد العرضية التي منها ما يتحصّل بحسب الأحوال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذه الأحوال - أعني حالة المرض ونحوه - إنّما تدخل في أحوال المكلّف ، لا في أحوال الشرب الذي هو المكلّف به ، وحينئذ نقول : إنّه بناءً على ذلك يكون المرجع هو استصحاب الحكم في حقّ المكلّف ، بأن يقال : إنّه كان يحرم عليه الشرب والآن كما كان ، أو نتمسّك بالعموم والاطلاق الأحوالي بالنسبة إلى المكلّف نفسه. وعلى أيّ حال ، لا يكون صحّة ذلك منوطاً بأخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق أو في ناحية الحكم ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ كون متعلّق النهي هو صرف الطبيعة الصادقة على جميع الأفراد الطولية كالعرضية وإن كان بالنتيجة يوافق أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، إلاّ أنّه بحسب الصناعة مغاير له ، لأنّ ذلك - أعني أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق - يكون كتقييد للشرب بأنّه الموجود في كلّ آن ، ولأجل ذلك

ص: 398

جعلنا هذا التقييد في متعلّقات الأوامر في مقابل بقاء تلك المتعلّقات على إطلاقها الذي يكون مقتضاه الاكتفاء بواحد من الطبيعة ، وهذا بخلاف كون المتعلّق للنهي هو صرف الطبيعة ، فإنّما هو تمسّك باطلاق الطبيعة الموجب لانطباقها على أيّ فرد من أفرادها ، لكن لمّا كانت واقعة في سياق النهي كان مقتضاه هو انتفاء جميع تلك الأفراد ، طولية كانت أو عرضية ، وكان تحقّق أيّ فرد منها مخالفاً لذلك النهي وناقضاً له ، وحينئذ فاطلاق المتعلّق في باب الأوامر مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يوجب لغويتها ، لأنّه موجب لحصول الامتثال بالاتيان بواحد من تلك الطبيعة ، فلابدّ من تقييده بالعموم الأزماني ليخرج مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عن اللغوية ، بخلاف إطلاق المتعلّق في باب النواهي ، فإنّه يخرجها عن اللغوية ويلزمه عدم السقوط بالاجتناب عن الطبيعة آناً ما ، بل لابدّ من اجتناب كلّ واحد من أفرادها الطولية.

وحاصل الفرق بين وجوب الوفاء بالعقد وقوله لا تشرب الخمر ، أنّ المتعلّق في الأوّل وهو الوفاء لو أبقيناه على إطلاقه ولم نقيّده بالعموم الأزماني والوجود في كلّ زمان ، يكون ذلك الوجوب المتعلّق به لغواً ، لأنّه موجب لسقوطه بالوفاء آناً ما ، بخلاف المتعلّق في لا تشرب الخمر ، فإنّا لو أبقيناه على إطلاقه ولم نقيّده بالعموم الأزماني والوجود في كلّ زمان ، لكان مقتضاه هو انتفاء جميع الأفراد الطولية كالعرضية ، فلا يسقط بترك الشرب آناً ما ، فكان إطلاق المتعلّق هنا هو الرافع للغوية ، بخلاف إطلاق المتعلّق في باب الأوامر مثل يجب الوفاء ، فإنّه يكون محقّقاً للغوية.

والحاصل : أنّ لنا في باب النواهي أمراً آخر ندفع به لغوية الحكم ، غير أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق الذي هو عبارة أُخرى عن تقييد المتعلّق بالوقوع في كلّ زمان ، وغير أخذ ذلك العموم الأزماني في ناحية الحكم الذي هو

ص: 399

عبارة عن الحكم عليه بأنّه موجود في كلّ زمان أو عن تقييده بالوجود في كلّ زمان وذلك الأمر الآخر الذي ندفع به اللغوية في باب النواهي هو التمسّك باطلاق متعلّقها الشامل للأفراد الطولية كالأفراد العرضية ، وذلك الأمر الآخر متوافق بالنتيجة مع أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، إلاّ أنّه بحسب الصناعة أمر آخر غير تقييد المتعلّق ، بل هو تمسّك بإطلاق المتعلّق ، فإنّه دافع للغوية ، بخلاف باب الأوامر مثل وجوب الوفاء ، فإنّ التمسّك باطلاق المتعلّق فيها يكون محقّقاً للغوية ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا الأمر الآخر لمّا كان بنفسه رافعاً للغوية الحكم كان موجباً للاستغناء عن أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق وفي ناحية الحكم ، فلا يكون في باب النواهي عموم أزماني كي نتكلّم عليه في أنّه راجع إلى المتعلّق أو أنّه راجع إلى الحكم ، وأنّه على الثاني لا يصحّ التمسّك به في مقام الشكّ بخلافه على الأوّل ، بل يكون هذا البحث في باب النواهي ساقطاً بالمرّة ، ويكون المرجع عند الشكّ في بعض الأزمنة هو إطلاق المتعلّق لا العموم الأزماني في ناحيته ، ولو فرض سقوط ذلك الاطلاق عن الحجّية في مورد الشكّ لجهة أوجبت سقوطه ، كان المرجع هو استصحاب الحرمة ، ولا وجه لمنعها إلاّكون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، وقد عرفت أنّه بناءً على هذا الوجه لا يكون في البين عموم أزماني ، لا في الحكم ولا في ناحية المتعلّق كي يكون أخذه في ناحية المتعلّق مانعاً من الاستصحاب ، وهذا العموم الذي ندّعيه ليس المنشأ فيه إلاّ وقوع الطبيعة في سياق النهي وهو وإن كان من صيغ العموم الأفرادي ، لما تقرّر في محلّه (1) من أنّ وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي يفيد العموم الاستغراقي ،

ص: 400


1- أجود التقريرات 2 : 299 ، وللمصنّف قدس سره حاشية على ذلك في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 94.

إلاّ أنّه لمّا كان المنفي هنا هو صرف الطبيعة ، بحيث كان المنهي عنه والمحرّم هو صرف الطبيعة ، لم يكن استصحاب الحكم في مورد الشكّ وعدم إمكان التمسّك بذلك العموم من قبيل جرّ الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بل لا يكون المستصحب إلاّحكم الطبيعة ، وهي واحدة لا تعدّد في مصاديقها ، وإن كان تعلّق هذا الحكم بها موجباً للشمول لجميع أفرادها الطولية والعرضية ، كما يظهر ذلك بمقايسة باب النهي بباب الأمر ، حيث إنّ تعلّق الأمر بالشرب يكون شاملاً للأفراد الطولية ، غايته أنّ الشمولي بدلي ، ومقتضاه الاكتفاء بواحد من تلك الأفراد الطولية ، ويكون ذلك الفرد محقّقاً للامتثال.

وحينئذ نقول في باب النواهي إنّ كلّ واحد من تلك الأفراد الطولية يكفي في صدق الطبيعة ، ويكون محقّقاً للعصيان كما كان محقّقاً للاطاعة في باب الأوامر ، ولا يكون منشأ ذلك إلاّصدق الطبيعة المنهي عنها ، وإذا صدقت عليه الطبيعة المنهي عنها ، كان ذلك هو عين ما ذكرناه من شمول الشرب في مثل لا تشرب للأفراد الطولية كالأفراد العرضية ، ومع هذا كلّه لا يكون استصحاب الحكم الوارد على الطبيعة من قبيل جرّ الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ثمّ إنّه عند الشكّ في بعض الحالات مثل حالة المرض ونحوه ، يكون المرجع هو الاطلاق الأحوالي في ناحية المكلّف إن جعلناه من حالات المكلّف ، وإن جعلناه من حالات المكلّف به ، أعني بذلك أنّ حالة المرض من حالات الشرب المنهي عنه ، يكون المرجع هو الاطلاق الأحوالي لنفس الشرب المذكور.

وإن شئت فقل : إنّ المرجع في هذه الصورة هو شمول الطبيعة المنهي عنها للأفراد العرضية ، ولو لم يكن في البين إطلاق أحوالي بحيث يشمل حالة المرض كان المرجع هو استصحاب حرمة الشرب ، وليس الرجوع إلى هذا الاستصحاب مبنياً على أخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم لا في ناحية المتعلّق ، كي

ص: 401

يستكشف من رجوعهم إليه أن نظرهم إلى أخذه في ناحية الحكم ، لما عرفت من أنّه بناءً على هذه الطريقة لا يكون في البين عموم أزماني أصلاً كي يكون أخذه في ناحية المتعلّق مانعاً من الاستصحاب ، وأخذه في ناحية الحكم غير مانع منه.

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بأنّ العموم الأزماني في باب الأوامر في مثل وجوب الوفاء بالعقد مأخوذ في ناحية المتعلّق ، لم يكن ذلك راجعاً إلى الوجوب المعلّق بمعنى أنّه يجب الآن الوفاء الذي هو في الآن الثاني ، بل إمّا أن نقول بأنّ الوجوب مستمرّ مع استمرار الوفاء حسب الآنات التي يكون الوفاء مظروفاً لها ، فيكون أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ملازماً لأخذه في ناحية الحكم ، أو نقول بأنّ الوجوب الوارد على تلك الوفاءات المتدرّجة حسب تعدّد الآنات ، يكون بالنسبة إلى كلّ واحد من تلك الوفاءات مشروطاً بحضور زمانه ، وهذا الأخير هو الأصوب ، فإنّ الوفاء الذي تعلّق به الوجوب لمّا كان قد أُخذ مظروفاً للأزمنة المتتالية ، كان لازم ذلك هو كون الوجوب المتعلّق به مشروطاً بذلك الزمان ، كما هو الشأن في كلّ واجب مقيّد بالزمان.

وأنت إذا عرفت الحال في باب الأوامر تعرف منه الحال في باب النواهي فإنّ شرب الخمر عند تعلّق النهي به لمّا كان قد أُخذ بمعنى صرف الطبيعة المنطبقة على الأفراد الطولية كانطباقها على الأفراد العرضية ، كان كلّ واحد من الأفراد الطولية متعلّقاً للنهي بما أنّه مصداق لتلك الطبيعة ، ولا ريب أنّ تعلّق النهي بتلك الأفراد المتصوّرة الحصول في الآنات المتأخّرة لا يكون إلاّمشروطاً بحصول ذلك الزمان المتأخّر ، وعند حصوله يكون ذلك الفرد المتصوّر وقوعه فيه مورداً لذلك النهي المشروط بحصول ذلك الزمان.

أمّا الالتزام باستمرار النهي حسب استمرار الشرب ، بحيث إنّه يكون لنا نواهٍ متعدّدة أو نهي واحد مستمر ، فلا يخلو من مقدار من الغموض والإشكال ، لأنّ

ص: 402

تلك القطعة من النهي الموجودة في الزمان الآتي أيضاً يكون متعلّقها صرف الطبيعة الصادقة على الأفراد الطولية ، فيقع الإشكال في شموله للأفراد الطولية ، وأنّه لا يكون ذلك إلاّمن قبيل الواجب المعلّق.

وحينئذ فلا محيص من الالتزام بما ذكرناه من أنّ تعلّق النهي بصرف الطبيعة يوجب الشمول للأفراد الطولية ، ومقتضى ذلك الشمول هو تعلّق ذلك النهي بتمام تلك الأفراد ، وحيث إنّ زمان تلك الأفراد لم يحصل بعد ، فلا محيص من الالتزام بأنّ ذلك النهي المتعلّق بها يكون مشروطاً بحصول زمانها ، فهذا الاشتراط ناشئ عن الشمول للأفراد الطولية ، فلا يعقل أن يكون ذلك النهي المشروط أيضاً شاملاً للأفراد الطولية ، فتأمّل فإنّ هذا تطويل بلا طائل ، لما حقّقناه وأفاده شيخنا قدس سره من أنّ تعلّق العموم الأزماني بالمتعلّق يوجب قهراً تعلّقه بالتكليف ، سواء كان وجوبياً أو كان تحريمياً ، بل في خصوص التحريمي لا نحتاج إلى العموم الأزماني ، بل يكفينا كون المتعلّق وهو طبيعة الشرب الذي هو مورد النهي شاملاً للأفراد الطولية.

وعلى أي حال ، يكون كلّ واحد من تلك الأفراد الطولية متعلّقاً للتكليف ويكون كلّ واحد من تلك التكاليف مشروطاً بزمان متعلّقه ، فلاحظ.

قوله : فقد يقال : إنّ مصبّ العموم الأزماني في باب النواهي إنّما يكون متعلّق النهي ، بتقريب أنّ تعلّق النهي أو النفي بالطبيعة المرسلة بنفسه يقتضي ترك جميع الأفراد الطولية والعرضية - إلى قوله - وقد تقدّم أنّ دليل الحكم إنّما يمكن أن يتكفّل ... الخ (1).

كأنّه يريد أن يجعل تعلّق النهي بالطبيعة المرسلة قرينة على العموم

ص: 403


1- فوائد الأُصول 4 : 550.

الأزماني في الجملة ، من دون تعرّض لكونه في الحكم أو في المتعلّق ، ولكن بواسطة أنّ دليل الحكم لا يمكن أن يتكفّل بالعموم الأزماني في ناحية الحكم نلتزم بأنّ ذلك العموم الأزماني الذي أفاده ذلك الدليل بواسطة تلك القرينة إنّما يكون راجعاً إلى المتعلّق لا إلى الحكم ، على وجه لولا هذه الجهة بأن قلنا بأنّه يمكن أن يكون دليل الحكم متكفّلاً للعموم الأزماني في ناحية الحكم ، لكان من الممكن إرجاع ذلك العموم الأزماني الذي أفادته تلك القرينة - التي هي تعلّق النهي بالطبيعة المرسلة - إلى الحكم نفسه.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ هذه القرينة تعيّن كون العموم الأزماني إنّما هو في المتعلّق ، ولا دخل لهذا العموم المستفاد من هذه القرينة بالحكم نفسه ، على أنّك قد عرفت أنّ مقتضى هذه القرينة هو العموم والشمول لجميع أفراد الشرب ، وأنّ هذا المعنى لا يرجع إلى العموم الأزماني وإن أفاد فائدته وهي إخراج الحكم عن اللغوية ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا ترك الأفراد الطولية فهو إنّما يستفاد من دليل الحكمة وإطلاق النهي ... الخ (1).

المراد من دليل الحكمة هو حكم العقل بلزوم إخراج حكم الشارع عن اللغوية ، ولا ريب أنّ ذلك لا دخل له باطلاق النهي ، فلا وجه لإقحام هذه الكلمة هنا إلاّسهو القلم.

قوله : غايته أنّه في الأوّل يدوم النهي بدوام وجود الموضوع خارجاً وفي الثاني يكون دوامه ببقاء المكلّف على شرائط التكليف (2).

لا يخفى أنّ الأوّل - أعني النهي عن شرب الخمر - يكون دوام النهي منوطاً

ص: 404


1- فوائد الأُصول 4 : 551.
2- فوائد الأُصول 4 : 551.

أيضاً ببقاء المكلّف على شرائط [ التكليف ] ، فيكون دوامه منوطاً بدوام الموضوع وبقاء المكلّف على شرائط التكليف ، بخلاف الثاني ، فإنّه لمّا لم يكن في البين موضوع خارجي ، يكون دوامه منحصراً ببقاء المكلّف على شرائط التكليف ، والغرض من الدوام هنا هو دوام فعلية النهي ، وإلاّ فإنّ الحكم الكلّي المعلّق على وجود الموضوع وعلى بقاء شرائط التكليف باقٍ مستمر وإن لم يتحقّق موضوعه في الخارج.

قوله : فليس النهي بمدلوله اللفظي يدلّ على العموم الزماني (1).

لم أعرف الوجه في تفريع هذه الجملة على ما نقله عن الأُستاذ قدس سره من ميله أخيراً إلى أنّ النهي إنّما يتعلّق بالقدر المشترك بين الأفراد الطولية والعرضية ، فإنّ مقتضى ميله قدس سره إلى ذلك ممّا يوجب دلالة النهي على العموم الأزماني ، غايته أنّه في ناحية المتعلّق لا في ناحية الحكم ، اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد هو ما شرحناه فيما تقدّم (2) من أنّه بناءً على شمول الطبيعة في مورد النهي للأفراد الطولية لا يكون ذلك من قبيل أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، بل هو من قبيل الشمول لجميع الأفراد من دون فرق بين الطولية والعرضية.

قوله : وقد حكي عن الأصحاب أنّ بناءهم على التمسّك بالاستصحاب في موارد الشكّ في التخصيص الزماني أو في مقداره ، وكأنّهم جعلوا مصبّ العموم الزماني نفس الحكم لا متعلّقه ... الخ (3).

قد عرفت الوجه في حكم الأصحاب ، كما قد عرفت مراده قدس سره من

ص: 405


1- فوائد الأُصول 4 : 551.
2- في الصفحة : 398.
3- فوائد الأُصول 4 : 551.

الاستدلال بما حكم به الأصحاب رضوان اللّه عليهم ، فراجع (1).

قوله : ثمّ لا يخفى عليك أنّه لو بنينا على أنّ النهي بمدلوله اللفظي يدلّ على العموم الزماني ، وأنّ مصبّ العموم هو المتعلّق ، فالتمسّك به في موارد الشكّ في التخصيص أو في مقداره إنّما يصحّ إذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الحالات ... الخ (2).

إن كان الشكّ في التخصيص راجعاً إلى الشكّ في التخصيص الأحوالي ، كان التمسّك بالدليل متوقّفاً على إطلاقه بالنسبة إلى الحالات ، ولم ينفع فيه مجرّد العموم الأزماني. وإن كان الشكّ في التخصيص ممحضاً لاحتمال الخروج في بعض الزمان ، كان العموم الزماني نافعاً في إزالته من دون توقّف على الاطلاق الأحوالي كما سيصرّح به.

قوله : فإنّ العموم الزماني إنّما يكون في طول العموم الأفرادي والأحوالي ... الخ (3).

قد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّه لا وجه لهذه الطولية ، مضافاً إلى أنّ ما هو المراد هنا لا يتوقّف عليها ، فإنّ كون العموم الأزماني لا ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأحوال لا يتوقّف على كون العموم الأزماني في طول الاطلاق الأحوالي ، كما أنّ كون الاطلاق الأحوالي لا ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأزمان لا يتوقّف على هذه الطولية ولا على عكسها ، بأن نقول إنّ الاطلاق الأحوالي في طول العموم الأزماني.

ص: 406


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 393 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 551.
3- فوائد الأُصول 4 : 552.

وبالجملة : أنّ العموم الأفرادي والاطلاق الأحوالي والعموم الأزماني جهات لاحقة للحكم لا ربط لكلّ واحدة منها بالأُخرى ، وكلّ واحدة من هذه الجهات إنّما هي في عرض الجهة الأُخرى ، والشكّ في أيّ ناحية من هذه الجهات لا يزيله إلاّ العموم والاطلاق من ناحيتها ، ولا يزيله العموم والاطلاق من الناحية الأُخرى ، وهذا المطلب لا يتوقّف على طولية بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر كما شرحناه وأفاده قدس سره فيما تقدّم نقله في المباحث السابقة ، فراجع (1).

قوله : ولا يتوهّم أنّ العموم الزماني يغني عن الاطلاق الأحوالي ، بل نحتاج في رفع الشكّ إلى كلّ منهما ... الخ (2).

قد اتّضح أنّ العموم الزماني ينفع في إزالة الشكّ من حيث الزمان من دون حاجة إلى الاطلاق الأحوالي ، كما أنّ الاطلاق الأحوالي ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأحوال من دون حاجة إلى العموم الأزماني ، ولا وجه للاحتياج إلى كلّ منهما في إزالة الشكّ الواحد.

قوله : فإن كان في البين قرينة على كونه قيداً للمتعلّق فهو ، وإلاّ فلابدّ وأن يكون قيداً للحكم ... الخ (3).

القيد هنا لفظي متّصل وهو قوله تعالى : ( إِلَى اللَّيْلِ ) في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) ، وعنده قدس سره أنّ القيد إذا كان متّصلاً يتعيّن رجوعه إلى المتعلّق ، كما أنّ الظاهر أنّ هذا القيد ليس على حدّ سائر العمومات الأزمانية ، فإنّه

ص: 407


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 393 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 552.
3- فوائد الأُصول 4 : 553.
4- البقرة 2 : 187.

ليس إلاّعبارة عن تعيين الزمان الذي يصحّ فيه الصوم ، وأنّه إنّما هو النهار ، فلا مانع من أخذه في الحكم ، إذ ليس ذلك من قبيل الحكم على الحكم كي يكون متأخّراً عنه رتبة ، كما لا مانع من أخذه في المتعلّق ، غايته أنّ ذلك الزمان الخاصّ منحلّ إلى آنات متعدّدة نعبّر عنها بالعموم الأزماني ، هذا.

مضافاً إلى أنّه لو فرضنا كون دليل التقييد بالنهار منفصلاً لكان مقتضى القاعدة هو كونه قيداً للمتعلّق ، لكونه سابقاً في الرتبة ، فلا وجه لتعلّق الوجوب بالامساك المطلق الذي لا يوافق المصلحة ، ثمّ بعد ذلك يحتاج الشارع إلى جعلٍ ثان يعمّم به الحكم ويقيّده بكونه في النهار ، ليكون موافقاً لمصلحته ، على حذو ما مرّ في مسألة اللغوية ، ولا وجه حينئذ للتمسّك باطلاق الامساك على كون النهار قيداً في الوجوب لا في الامساك ، لكون المسألة حينئذ من الشكّ في كيفية الارادة بعد العلم بالمراد ، لا من قبيل الشكّ في المراد ، مضافاً إلى أنّ تقييد الوجوب مع بقاء إطلاق الامساك يكون كالمتهافت ، مضافاً إلى أنّ الموجب للتقييد بالنهار لمّا كان هو المصلحة ، كان ذلك موجباً لكون المقيّد هو الامساك ، إذ لا مصلحة في الامساك غير النهاري ، فيكون انحصار المصلحة بالامساك النهاري هو الدليل على كونه هو المقيّد ، فإنّ الأحكام تابعة للمصالح في المتعلّقات لا في نفس الأحكام.

وكيف كان ، نقول إنّه لو كان هذا القيد راجعاً إلى الحكم فليس محصّله هو الوجوبات المتعدّدة حسب تعدّد الآنات ، على وجه يكون كلّ آن فيه وجوب متعلّق بالامساك ، ويكون ذلك الوجوب وجوباً مستقلاً لا ربط له بالوجوب الآخر على وجه لو سقط الوجوب الآخر لعروض ما يسقطه يبقى الوجوب الأوّل بحاله ، ليتفرّع عليه أنّ مقتضى القاعدة هو لزوم الكفّارة في الصورة المفروضة ، بل إنّه لا يكون إلاّوجوباً واحداً مستمرّاً من أوّل الفجر إلى الغروب ، بحيث إنّه ينحلّ ذلك

ص: 408

الوجوب ويسقط بتمامه عند سقوطه في قطعة واحدة ، كما يشاهد ذلك فيما لو كان انتفاء بعض الشروط في أوّل الوقت ثمّ في أثنائه حصل الشرط الذي كان مفقوداً ، والظاهر أنّه لا فرق بين السقوط من الأوّل والسقوط من الآخر في كون كلّ منهما يكون موجباً لانحلال ذلك الوجوب وسقوطه في تمام الوقت.

أمّا الكفّارة فلا دليل عليها يعتدّ به سوى الإجماع المنقول في بعض فروع المسألة وهي مسألة تأخّر السفر ، أو الشهرة في غيرها وهي ما لو طرأ الحيض أو الجنون في آخر النهار.

وعلى كلّ حال ، فلو ثبتت الكفّارة لم يكن ثبوتها كاشفاً عن أنّ تلك القطعة هي قطعة صوم حقيقي واقعي ، بل أقصى ما فيه أن نقول : يجب الامساك لمن علم أنّه يطرؤه العذر لأجل الاحترام ليس إلاّ ، وأنّ هذا المقدار من الحكم الاحترامي تترتّب الكفّارة على تعمّد مخالفته لا أنّه صوم شرعي.

والحاصل : أنّ من طرأه العذر في آخر الوقت خصوصاً مثل الحيض والجنون لا يكون الصوم في الواقع واجباً عليه من أوّل الوقت ، سواء قلنا بأنّ المقيّد بالزمان هو نفس الوجوب ، أو قلنا بأنّ المقيّد به هو الواجب الذي هو الامساك.

أمّا الثاني فواضح ، لأنّ مقتضى تعلّق الوجوب الآن بالامساك الحاصل في جميع أجزاء النهار يوجب أن تكون الشروط في الآنات اللاحقة شروطاً في نفس ذلك الوجوب السابق ، غايته أنّها لمّا كانت متأخّرة قلنا إنّ الشرط هو العنوان المنتزع أعني التعقّب ، كما أنّ تعلّق الوجوب الآن بالامساك الذي هو في آخر النهار لا يكون من قبيل المعلّق ، لأنّه بالنسبة إلى تلك القطعة من الامساك يكون مشروطاً بحصول زمانها ( وهذا هو الأولى في دفع إشكال التعليق ، فراجع ما

ص: 409

حرّرناه عن شيخنا قدس سره في المسألة المذكورة ) (1).

وأمّا على الأوّل فلما عرفت من ارتباط الوجوب الذي هو في الآن الأوّل بالوجوب الذي هو في الآن الثاني على وجه التلازم بينهما حدوثاً وسقوطاً ، لأنّ الارتباطية في المتعلّق وإن لم تكن موجبة إلاّ التلازم في مرحلة الامتثال دون التلازم بين التكليفين ، بحيث إنّه لو كان التكليف بالجزء الثاني موجوداً كالتكليف بالجزء الأوّل ، لكان مقتضى الارتباطية هو توقّف صحّة الامتثال في الأوّل على الامتثال في الثاني كالعكس ، ولو كان التكليف بالثاني ساقطاً سقطت الارتباطية كما نراه في تعذّر بعض أجزاء الصلاة ، فإنّه لا يوجب سقوط الباقي ، وحينئذ فلا تكون الارتباطية بنفسها موجبة للتلازم بين التكليفين إلاّ إذا كان المتعذّر ركناً كما في الطهور ، فإنّ ارتباطيته مع باقي الأجزاء والشرائط كانت على نحو الركنية على وجه لو تعذّر يكون تعذّره موجباً لسقوط الأمر بالباقي ، فهذه الارتباطية توجب كون القدرة على الثاني واجتماع الشرائط فيه معتبرة في التكليف الأوّل ، والامساك المتأخّر بالنسبة إلى المتقدّم يكون من هذا القبيل ، بمعنى أنّا ولو قلنا إنّ الزمان قيد في الوجوب ، إلاّ أنّ شرائط الوجوب المتأخّر تكون معتبرة في الوجوب المتقدّم ، لأنّ نسبة الامساك المتأخّر إلى مجموع الامساك في تمام النهار يكون من قبيل الركن الذي يكون انتفاؤه موجباً لانتفاء الكل ، إذ لا يتبعّض الصوم ، وحينئذ فبالأخرة تكون القدرة واجتماع شرائط الوجوب في الزمان المتأخّر شروطاً في التكليف الموجود في الزمان المتقدّم.

ص: 410


1- [ يحتمل أن يكون مراده قدس سره تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سره ، وعلى كلّ حال فهذه العبارات تقدّمت بعينها في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 98 وما بعدها فراجع ].

فالأولى أن تجعل ثمرة هذا النزاع هو الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند سقوط العموم ، كما لو شككنا في القطعة التي هي ما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، فإنّه بناءً على كون المقيّد بالزمان هو الحكم يمكن استصحاب ذلك الحكم إلى تلك القطعة ، بناءً على أخذه ظرفاً لا قيداً ، بخلاف [ ما ] لو قلنا إنّ الزمان قيد للمتعلّق الذي هو الامساك ، فإنّه بعد سقوط ذلك العموم للشكّ في شموله لتلك القطعة لا يمكن الرجوع إلى استصحاب نفس الحكم في تلك القطعة ، بناءً على أنّ رجوع هذا القيد إلى المتعلّق يكون موجباً لأن يكون محصّل الحكم هو وجوب كلّ واحد من تلك الامساكات ، فيكون كلّ واحد موضوعاً برأسه [ و ] يكون الاستصحاب من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، وقد تقدّمت الاشارة إلى هذه المسألة في بعض المباحث السابقة ، وقلنا بأنّ رجوع العموم الأزماني إلى المتعلّق لا يكون موجباً لتقيّد كلّ واحد من [ أجزاء ] ذلك الفعل بزمان خاصّ ، بل لا يخرج بذلك عن الظرفية ، فلا يكون في البين حينئذ مانع من الاستصحاب حتّى بناءً على رجوع القيد فيما نحن فيه إلى المتعلّق ، ويكون النهار ظرفاً للامساك لا للوجوب ، فراجع وتأمّل.

والحاصل : أنّه لا ريب في ارتباطية الصوم ، وأنّه لا يتبعّض من حيث الاطاعة والعصيان ، بحيث إنّه لو أمسك في أوّل [ النهار ] ثمّ إنّه أكل في آخره أو بالعكس ، لم يكن مطيعاً فيما أمسك فيه ، وهذا المقدار مسلّم لا ريب فيه ، فإنّا لو قلنا بأنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً للوجوب لا للامساك يكون لنا وجوبات متعدّدة حسب تعدّد تلك الآنات ، أو يكون لنا وجوب واحد مستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب ، وعلى أيّ حال يكون لنا إمساكات متعدّدة حسب تعدّد تلك الوجوبات ، أو إمساك واحد مستمر حسب استمرار ذلك الوجوب ، وحينئذ نقول

ص: 411

إنّه لا ريب في ارتباطية تلك الامساكات أو ارتباطية أجزاء ذلك الامساك الواحد المستمرّ.

وبالجملة : أنّا لو أخذنا الزمان قيداً في الوجوب لم يكن ذلك موجباً للخروج عن مقتضى هذه الارتباطية التي عرفت أنّها مسلّمة لا ريب فيها ، وعليه نقول : إنّ ارتباط بعض الأجزاء ببعض تارةً يكون في مقام الاطاعة والعصيان فقط فلو طرأ على بعض هذه الأجزاء ما يوجب سقوط التكليف بها ، ولم يكن اعتبار ذلك البعض مطلقاً على وجه يكون تعذّره موجباً لتعذّر المجموع ، بحيث يكون سقوط التكليف به موجباً لسقوط الأمر بالباقي ، ففي مثل ذلك لم يكن مقتضى هذه الارتباطية إلاّمجرّد التلازم في مقام الاطاعة والعصيان ، من دون أن يكون سقوط التكليف في بعضها موجباً لسقوطه في الباقي ، أمّا لو كان اعتبار ذلك البعض المتعذّر مطلقاً ويعبّر عنه بالركن ، كما في مثل مطلق الطهور بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ تعذّره يوجب تعذّر الصلاة ، ويكون سقوط الأمر به موجباً لسقوط الأمر بالصلاة ، ففي مثل ذلك تكون الارتباطية موجبة للتلازم بين التكليفين في مقام البقاء والسقوط ، مضافاً إلى التلازم في مقام الامتثال.

وقد فهمنا من مجموع الأدلّة الواردة في باب الصوم أنّ كلّ جزء من أجزاء النهار لو طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف بالامساك فيه ، كان ذلك موجباً لسقوط الأمر به في باقي أجزاء النهار ، كما يستفاد ذلك من أدلّة اشتراط عدم الحيض والجنون والسفر ، فيكون نسبة كلّ إمساك من تلك الامساكات إلى باقيها ، كنسبة الركن إلى المركّب في أنّ سقوط التكليف به يكون موجباً لسقوط التكليف بالبواقي ، وبناءً على ذلك يكون الوجوب في الآن الأوّل - بناءً على كون الزمان قيداً للوجوب - مشروطاً باجتماع الشرائط فيه وفيما بعده من الآنات ، فلابدّ

ص: 412

حينئذ من الالتزام بكون الشرط هو التعقّب فراراً من الالتزام بالشرط المتأخّر ، كما هو الحال فيما لو قلنا بأنّ الزمان قيد للامساك لا لوجوبه ، ومقتضاه هو أن لا يكون الوجوب في الآن الأوّل متحقّقاً لمن كان في آخر النهار خارجاً عن هذه الشروط ، فلا وجه حينئذ لوجوب الكفّارة عليه ، بل لا وجه للالتزام بكون الامساك واجباً عليه فيما لو كان قد علم بأنّه في آخر النهار يطرؤه زوال بعض الشرائط ، اللّهمّ [ إلاّ ] أن يستفاد من الإجماع ونحوه وجوب الامساك عليه وجوباً احترامياً ، لا أنّه صيام حقيقي ، والشاهد على ذلك هو عدم التزامهم بوجوب القضاء في مثل الموت والجنون ونحوهما ، أمّا الكفّارة فمقتضى القاعدة هو عدم وجوبها في مخالفة ذلك الحكم الاحترامي ، إلاّ أن يدّعى أنّه يستفاد من أدلّتها التوسعة لمثل هذه الجرأة على المخالفة ، وإن لم يكن ذلك الذي خالفه وهو الأمر بالامساك صوماً حقيقة.

وقد استدلّ الجماعة قدس سرهم لوجوب الكفّارة عليه في بعض فروع المسألة وهي مسألة السفر بعد الافطار العمدي فراراً من الكفّارة ، بما اشتملت عليه صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم - في حديث طويل - قالا « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أيّما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنّه يزكّيه. قلت له : فإن وهبه قبل حلّه بشهر أو يومين؟ قال : ليس عليه شيء أبداً ». قال وقال زرارة عنه إنّه قال : « إنّما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوماً في إقامته ثمّ خرج في آخر النهار في سفر ، فأراد بسفره ذلك إبطال الكفّارة التي وجبت عليه ». وقال : « إنّه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ولكنّه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء بمنزلة من خرج ثمّ أفطر » (1) انتهى (2).

ص: 413


1- وسائل الشيعة 10 : 134 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 58 ح 1.
2- عن الحدائق [ منه قدس سره. الحدائق الناضرة 13 : 234 ].

والمشار إليه بقوله عليه السلام : « هذا » هو الفرض الأوّل ، وهو من أراد الفرار من الزكاة بعد تعلّقها بتمام الحول عليه ، ولم أتوفّق للوجه في دلالة هذه الجملة الشريفة لما نحن فيه ، فإنّ المفروض فيها هو السفر في آخر النهار ، ولا إشكال في أنّه لا يسقط وجوب الصوم فيما قبله ، وإنّما الذي يسقطه هو السفر قبل الزوال ، فإنّ ذلك هو محلّ الكلام في أنّه لو طرأ هل يوجب سقوط الكفّارة ، دون ما لا يكون مسقطاً للصوم الذي هو السفر بعد الزوال.

ولم أعثر على من استشكل في دلالة الرواية من هذه الجهة إلاّ المرحوم الحاج الشيخ عبد اللّه المامقاني في حواشيه على كتابة والده في الصوم (1) ، ولم أعثر لهذا الإشكال على إشارة من أحد الأصحاب أو تلويح إليه. ولعلّهم فهموا منها أنّ قصد الفرار بالسفر لا يكون رافعاً للكفّارة.

وحاصله : أنّ الرواية تعطي المقابلة بين السفر والهبة وبين الزكاة ووجوب الكفّارة ، فإن كانت الهبة قبل أوان وجوب الزكاة والسفر قبل أوان وجوب الكفّارة فلا شيء عليه ، وإن كان السفر بعد أن وجبت عليه الكفّارة وكانت الهبة بعد أن وجبت عليه الزكاة ، لم يكن ذلك مسقطاً لهما.

والحاصل : أنّه يستفاد من مجموع الرواية أنّ المدار في الكفّارة على كون موجب الكفّارة قبل السفر ، سواء كان السفر قبل الزوال أو بعده بحيث يكون السفر بعد الافطار ، فالإمام عليه السلام في مقام بيان أنّ السفر الذي هو في حدّ نفسه موجب لسقوط وجوب الصوم لو أقدم عليه المكلّف بعد أن أقدم على موجب الكفّارة ، وكان إقدامه على السفر لأجل الفرار والتخلّص من وجوب الكفّارة ، لا يكون اختياره لذلك السفر موجباً لتخلّصه من وجوب الكفّارة. وربما يؤيّد كون

ص: 414


1- منتهى مقاصد الأنام في شرح شرائع الإسلام : 486 / تعليقة رقم 37.

المراد هو هذا المعنى قوله عليه السلام في الفقرة الثانية وهي قوله عليه السلام : « بمنزلة من خرج ثمّ أفطر » فإنّه يتعيّن حمله على من خرج قبل الزوال ، وإلاّ فإنّ الخروج بعد الزوال ثمّ الافطار بعد الخروج لا يكون موجباً لسقوط الكفّارة.

ولا يخفى أنّ استفادة هذا الاطلاق من الرواية مع تصريحها بأنّ السفر في آخر النهار ، يحتاج إلى فقاهة قوية يقصر عنها ذهني القاصر ، فإنّ المقابل للهبة في الرواية إنّما هو السفر في آخر النهار ، وهو الذي يكون بعد تحقّق الكفّارة ، لأنّه واقع بعد أن تمّ وجوب الصوم عليه في تمام النهار ، فلا يكون وقوعه رافعاً للكفّارة ، ولا تعرّض للرواية للسفر قبل الزوال ، بل قد يقال : إنّ تقييد السفر المحكوم عليه بأنّه لا يسقط الكفّارة بكونه في آخر النهار لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أنّه لو كان قبل الزوال لم يكن محكوماً عليه [ بأنّه ] لا يسقط الكفّارة ، بل كان محكوماً عليه بأنّه مسقط لها ، ويكون حاله حال من وهب قبل وجوب الزكاة عليه.

ولا يخفى أنّ هذه الرواية طويلة ذكرها في الجواهر في كتاب الزكاة في شرح قول المصنّف : لا زكاة في السبائك ، وقيل : إذا عملهما كذلك فراراً وجبت الزكاة ولو كان قبل الحول. قال في الجواهر بعد ذكر بعض متن الرواية : والظاهر من قوله عليه السلام : « هذا » الاشارة إلى قوله : « أيّما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنّه يزكّيه » والصواب : « ثمّ وهبه فإنّه يزكّيه » ، ولعلّه سقطت كلمة « ثمّ وهبه » من قلم النسّاخ ، أو اكتفي عنها بدلالة ما بعدها الخ (1).

أمّا ما ذكر في كتاب الصوم فهو ما في الشرائع والجواهر : فرع : من فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط فرض الصوم بسفر قهري أو حيض أو جنون وشبهه ،

ص: 415


1- جواهر الكلام 15 : 188.

قيل : تسقط الكفّارة ، واختاره الفاضل في جملة من كتبه (1) إن لم يكن فعل المسقط للتخلّص منها ، وقيل كما في فوائد الشرائع (2) : تسقط إن لم يكن المسقط اختيارياً كسفر ونحوه ، وإن كنت لم أتحقّق قائله. وقيل لا تسقط مطلقاً ، كما هو خيرة الأكثر ، بل في الخلاف (3) الإجماع عليه ، وهو الأشبه ، لذلك ( يعني الإجماع المنقول ) لا لصدق الافطار ، إذ التحقيق انتفاء الأمر بالمشروط مع العلم بانتفاء شرطه ، نعم يمكن أن يكون مبنى الكفّارة ولو بمعونة الإجماع السابق المعتضد بفتوى الأكثر التكليف ظاهراً الذي به يحصل هتك الحرمة بالجرأة ، بل قد يظهر ذلك أيضاً من صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام الوارد في الفرار من الزكاة بعد تعلّقها ، وأنّه كالفارّ من الكفّارة بالافطار بالسفر في آخر النهار ، وإلاّ فهو دالّ على بعض الدعوى ، وهو ما إذا كان المسقط من فعل المكلّف مقصوداً به إبطال الكفّارة الخ (4).

قال المرحوم السيّد أبو تراب الخونساري رحمه اللّه في شرحه النجاة : والرواية أيضاً في العكس أظهر ، بديهة أنّ الإضمار أو السقوط على خلاف الأصل ، بل الظاهر أنّ المشار إليه إنّما هو قوله عليه السلام : « فإن وهبه » والمراد التشبيه في الجواز ، ولا ينافيه تنزيله في الذيل منزلة من خرج ثمّ أفطر ، فإنّه قد يذكر لشيء نظيران

ص: 416


1- تذكرة الفقهاء 6 : 83 / م 46 ، قواعد الأحكام 1 : 377 ، مختلف الشيعة 3 : 318 / م 62.
2- حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) 10 : 310.
3- لاحظ الخلاف 2 : 219 / مسألة (79) ، فإنّ مثاله المسقط غير الاختياري. وسيشير المصنّف قدس سره إلى الإجماع في الصفحة : 421.
4- جواهر الكلام 16 : 306 ، شرائع الإسلام 1 : 223.

ويقرّر النظير بوجهين الخ.

قلت : لا يخفى أنّه سدّ باب الاحتمال الذي أفاده في الجواهر بأصالة العدم ليمتنع إرجاع الاشارة إلى قوله : « أيّما رجل » ، ويتعيّن إرجاعه إلى قوله : « فإن وهبه » الخ.

وفيه : أنّه بعد البناء على أنّ قوله عليه السلام : « إنّما هذا » الخ إشارة إلى قوله : « فإن وهبه قبل حلّه بشهر » الخ ، أعني من وهب ثمّ حال الحول ، فإنّه لا يجب عليه الزكاة ، فهو في ذلك نظير من أفطر ثمّ سافر في أنّه لا يجب عليه الكفّارة ، وكما أنّ هذا يجوز له السفر بعد الافطار فكذلك ذلك يجوز له الهبة قبل الحول ، أو أنّه لو وهب قبل الحول يجوز له ترك الزكاة ، وحاصله : أنّه عليه السلام أوّلاً شبّه من وهب قبل الحول ثمّ حال عليه الحول في عدم وجوب الزكاة عليه بمن أفطر ثمّ سافر في عدم وجوب الكفّارة عليه ، ثمّ ثانياً شبّهه بمن سافر ثمّ أفطر بعد السفر في عدم وجوب الكفّارة عليه.

ولكن لا يخفى أنّه إنّما يصحّ التشبيه الأوّل إذا كان خروجه قبل الزوال ، وحينئذ فيدلّ على ما أفاده السيّد من أنّ الوجوب للامساك غير متحقّق قبل الخروج المذكور ، بأن يكون ذلك الخروج كاشفاً عن أنّه لم يكن الصوم واجباً عليه فيما مضى من النهار ، ولكن الرواية دلّت على تقييد السفر بكونه في آخر النهار الكاشف عن تحقّق وجوب الصوم فيما مضى المستلزم لوجوب الكفّارة ، وحينئذ لابدّ من إرجاع الاشارة إلى قوله السابق : « أيّما رجل له مال فحال عليه الحول فإنّه يزكّيه » الخ ، ليتساويا في كون ذاك تجب عليه الزكاة وهذا تجب عليه الكفّارة ، وأنّ الفرار بعد تعلّق الوجوب غير نافع ، وحينئذ لابدّ من فرض ذاك قد

ص: 417

وهب بعد الحول ، بتخيّل أنّ ذلك مسقط لوجوب الزكاة ، كتخيّل هذا أنّ خروجه في آخر النهار مسقط لوجوب الكفّارة ، ولكن لو لم يكن القيد المذكور موجوداً في اللفظ وأسقطه النسّاخ فلا أقل من دلالة القرينة المقامية عليه.

لكن هذا المقدار لا بأس به ، وليس هو بمناف لما ذكرناه من الارتباطية في ناحية التكليف وجوداً وعدماً زيادة على الارتباطية في ناحية الاطاعة والعصيان ، فإنّ تلك الارتباطية التي ندّعيها في أجزاء الصوم إنّما هي بمعنى أنّ سقوط الوجوب من الآخر يكون موجباً لسقوطه من الأوّل ، والمفروض أنّه قد قامت الأدلّة على أنّ الخروج بعد الزوال لا يسقط وجوب الصوم ولا إبطاله ، فلا تكون في الرواية شهادة على ما رامه الجماعة من تصحيح الكفّارة فيما لو طرأ باقي الأعذار على القاعدة ، ولا يكون الامساك في القطعة السابقة صوماً حقيقة.

والذي يظهر من الجواهر أنّه قدس سره ملتزم بأنّ هذه القطعة من الامساك السابق لم تكن صوماً واجباً حقيقة ، بل لزوم الامساك فيها والكفّارة بتركه لمجرّد الاحترام وعدم هتك الحرمة ، وأنّ هذا المعنى هو الظاهر من الصحيحة المذكورة ، ولم أتوفّق للوجه في ظهوره من الصحيحة بعد البناء على أنّ قوله : « إنّما هذا » الخ إشارة إلى قوله : « أيّما رجل » الخ ، وبعد كون المفروض فيها هو كون الخروج في آخر النهار ، اللّهمّ إلاّ أن يكون الوجه في ذلك هو تقييد الخروج بكونه في آخر النهار احترازاً عن الخروج قبل الزوال مثلاً ، لكن الاحترازية تدلّ على أنّه لا تجب الكفّارة حينئذ لا أنّها تجب احتراماً ، ولعلّ المراد بقوله : بل قد يظهر ذلك من الصحيح ، هو ظهورها في التوسعة ، وأنّ الكفّارة لا تسقط بما يطرأ بعد إيجاد سببها ممّا يكون مسقطاً للوجوب ، سواء كان اختيارياً أو كان غير اختياري ، وسواء كان الاختياري قد قصد به الفرار أو لم يقصد ، فلاحظ.

ص: 418

قال في النجاة : ولا كفّارة في إفطار ما وجب قضاؤه بترك مراعاة ونحوها وإن وجب الامساك في شهر رمضان ، نعم لو فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط بعد ذلك فرض الصوم بحيض أو جنون أو نحوهما من المفسدات لم تسقط على الأصحّ ، ومنه إفطار المسافر قبل وصوله إلى محلّ الترخّص ، وأولى بعدم السقوط من سافر بعد الافطار بقصد الفرار من الكفّارة الخ (1).

وقال في الحدائق : المسألة الرابعة : لو فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط فرض الصوم بسفر أو حيض أو شبهه ، فهل تسقط الكفّارة أم لا؟ قولان ، ثانيهما للشيخ في الخلاف وأكثر الأصحاب ، وادّعى عليه في الخلاف إجماع الفرقة (2). ثمّ إنّ صاحب الحدائق قال في آخر المسألة : وكيف كان ، فالظاهر أنّه لو كان المكلّف إنّما فعل ذلك لأجل إسقاط الكفّارة بعد أن وجبت عليه ، فإنّه لا يدخل في محلّ الخلاف ، وإلاّ لزم إسقاط الكفّارة عن كلّ مفطر باختياره ثمّ السفر لاسقاط الكفّارة ، ويدلّ على ذلك صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (3). ثمّ ذكر الصحيحة.

وعلى كلّ حال ، أنّ المستفاد من مجموع هذه الكلمات هو أنّه لم يحم أحد حول كون وجوب الصوم قابلاً للتقطيع ، وإنّما جلّ نظرهم إلى أنّ الوجوب احترامي والكفّارة على خلاف القاعدة ، وأنّها ليست على حذو كفّارة إفطار الصوم الواجب أصالة محتاجة إلى دليل خاصّ غير الدليل الدالّ عليها في إفطار الصوم.

وتقريب هذا البحث بنحو أوضح هو أن يقال : بناءً على أخذ الزمان فيما نحن فيه في متعلّق الحكم الذي هو الامساك ، لا وجه لكون اجتماع [ شرائط

ص: 419


1- نجاة العباد : 201.
2- الحدائق الناضرة 13 : 231.
3- الحدائق الناضرة 13 : 234.

الوجوب ] في الجزء الأخير معتبراً في الوجوب من الأوّل إلاّ ارتباطية أجزاء ذلك الامساك ، والارتباطية في حدّ نفسها لا تقتضي كون سقوط التكليف في بعض الأجزاء موجباً لسقوطه في البواقي ، كما في مثل تعذّر بعض أجزاء الصلاة غير الركنية ، وإنّما تكون مقتضية لذلك فيما هو من قبيل الركن كالطهور بالنسبة إلى الصلاة ، ولا دليل فيما نحن فيه على ركنية كلّ واحد من تلك الامساكات إلاّقاعدة عدم تبعّض الصوم ، المستفادة من مجموع النصوص والفتاوى التي من جملتها وجوب قضاء تمام اليوم الذي طرأ العذر في أثنائه ، إذ لو أمكن التبعيض لكان الواجب هو القضاء من حدّ طروّ العذر ، دون ما تقدّمه ممّا تمّ فيه الامساك جامعاً لباقي الشرائط ، وهذه القاعدة - أعني قاعدة عدم تبعّض الصوم - مسلّمة عندهم لا ريب فيها ، ولولاها لما تمّ لنا هنا ما أُفيد من أنّه على تقدير رجوع الزمان إلى المتعلّق الذي هو الامساك كان مقتضاه الشرط المتأخّر ، والجواب عنه بالتعقّب.

وحينئذ نقول : إنّ هذه القاعدة بنفسها تكون محكّمة فيما لو قلنا بأنّ الزمان راجع إلى الوجوب نفسه لا إلى الامساك ، فإنّ رجوعه إلى الوجوب وإن كان مقتضاه لو خلّي ونفسه هو عدم اشتراط السابق بالشرائط في اللاحق ، ولازمه تحقّق الوجوب من الفجر إلى حين طروّ العذر ، إلاّ أنّ قاعدة عدم تبعّض الصوم قاضية عليه بأنّه لابدّ من ارتباط الوجوب المتحقّق في الآن الأوّل بالوجوب في الآن الثاني من حيث اجتماع الشرائط ، على وجه تكون الشرائط في الوجوب المتأخّر معتبرة في الوجوب المتقدّم ، ولابدّ من إرجاعها إلى عنوان التعقّب ، ولابدّ أيضاً من الالتزام بأنّه عند طروّ العذر في آخر الوقت يكون الوجوب ساقطاً من الأوّل ، ويكون الحكم بوجوب الامساك على من علم بأنّه يطرؤه العذر بعد ذلك على خلاف القاعدة إن تمّ الإجماع عليه ، ويكون ذلك حكماً احترامياً ، لا أنّه

ص: 420

صوم حقيقي.

نعم ، يبقى إشكال الفرق بين كون العذر طارئاً في آخر الوقت ، وبين ما كان موجوداً في أوّل الوقت ثمّ ارتفع في أثناء النهار ، إلاّ أن يلتزم في ذلك أيضاً بالوجوب الاحترامي.

أمّا الكفّارة فلا دليل عليها إلاّدعوى الإجماع في بعض صور المسألة ، وهي الطوارئ غير الاختيارية ، وعلى تقديره فيكون لزوم الكفّارة محتاجاً إلى ارتكاب خلاف القاعدة من جهتين : الأُولى ما أشرنا إليه من أنّ القاعدة تقتضي عدم وجوب الامساك ، فيكون وجوبه الاحترامي على خلاف القاعدة. الجهة الثانية : هي أنّ الكفّارة إنّما دلّت أدلّتها على لزومها في مخالفة أوامر الصوم. أمّا الامساك الاحترامي الذي هو ليس بصوم حقيقي فيحتاج ثبوت الكفّارة في مخالفته إلى دليل أو توسعة في دليلها ، بأن يدّعى أنّه يستفاد منه لزومها على مخالفة مطلق وجوب الامساك ولو لم يكن صوماً حقيقة ، أمّا الرواية عن الصادق عليه السلام فقد عرفت عدم دلالتها على لزوم الكفّارة فيما نحن بصدده.

والخلاصة : أنّ الوجوب في باب الصوم واحد قد تعلّق بفعل واحد في زمان واحد ، ولا تبعيض ولا تفكيك فيه من ناحية الاطاعة والعصيان ولا من ناحية الوجود والعدم ، ولا ترفع [ اليد ] عن ذلك إلاّبالدليل الدالّ على خلافه ، وقد تقدّم في الجزء الأوّل في مباحث الواجب المشروط فيما علّقناه على ص 125 (1) فراجع.

وأمّا احتمال كون عدم السفر أو الحضر من قيود الواجب لا من شرائط

ص: 421


1- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 93 ومابعدها. وراجع أيضاً ما قبلها.

الوجوب ، فلا يكون انتقاضه قبل الزوال مخلاًّ بتحقّق الوجوب عند الافطار القاضي بلزوم الكفّارة ، ففيه : أنّه لو سلّم كونه قيداً في الواجب فهو ليس كسائر القيود ممّا يجب تحصيله على وجه يكون السفر محرّماً عليه ، بل يكون أخذه فيه من قبيل القيود الاختيارية المأخوذة في الواجب على نحو لا يترشّح عليها الطلب فيكون الحضر من هذه الجهة - أعني جهة أخذه على نحو لا يترشّح عليه الطلب - مشاركاً لما يكون قيداً في الوجوب من القيود غير الاختيارية في أنّ الطلب لا يحصل إلاّفي ظرف وجوده ، فيعود المحذور في وجوب الكفّارة في المقام كما شرحه في صوم المستمسك ص 109 وص 110 لكنّه دفع الإشكال أخيراً بقوله : اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دعوى كون السفر ونحوه إذا وقع في أثناء النهار كان مبطلاً للصوم من أوّل الأمر ممّا لا شاهد عليها ، إذ يحتمل كونه مبطلاً له وناقضاً له من حينه ، فإذن لا يبعد البناء على وجوب الكفّارة مطلقاً (1).

وفيه تأمّل ، لأنّ محصّل كونه مبطلاً من حينه بعد فرض كونه شرطاً في وجوبه أو ملحقاً بالشرط في الوجوب هو انقطاع شرط الوجوب عند تحقّق السفر وبواسطة ما تقدّم من الارتباطية بين الوجوب في أوّل النهار والوجوب في آخره وإصلاح ذلك بكون الشرط هو العنوان المنتزع ، يكون تحقّق السفر في أثناء النهار كاشفاً عن عدم تحقّق الوجوب في أوّله ، وبالأخرة لا يكون الابطال من حينه ، بل يكون السفر في أثناء النهار كاشفاً عن عدم وجوبه من أوّله وعدم صحّته وبطلانه من حين الشروع في ذلك الصوم ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه ( سلّمه اللّه تعالى ) قرّب أوّلاً كون الحضر وعدم السفر شرطاً للواجب وهو الصوم ، بأنّ ذلك يقتضيه صدق الفوت والقضاء في حقّ المسافر ،

ص: 422


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 360 - 361.

فيقال : فاته الصوم ويجب عليه قضاؤه ، إذ الفوت إنّما يصدق في ظرف وجود الملاك ، والقضاء فرع وجوب الأداء وفوته الخ (1).

ويمكن التأمّل في ذلك ، إذ لا ريب في أنّ عدم الحيض من شرائط الوجوب وهو دخيل في ملاكه ، ومع ذلك يلزم القضاء ويصدق عليه الفوت ، فتأمّل.

واعلم أنّ هذه الجملة - وهي أنّ القيد الفلاني قد أُخذ في الواجب على نحو لا يترشّح عليه الوجوب - قد وقعت في كلمات الشيخ في باب الواجب المشروط (2) بعد بنائه قدس سره على رجوع القيد إلى المادّة لا إلى مفاد الهيئة ، وقد تقدّم (3) تفسيرها بأنّ القيد الراجع إلى المادّة تارةً تكون المادّة ملحوظة مقيّدة به ، ثمّ بعد لحاظها كذلك يتعلّق بها الوجوب ، وحينئذ يترشّح ذلك الوجوب على ذلك القيد ، وأُخرى يكون لحاظها مقيّدة بالقيد المذكور في مرتبة عروض الطلب عليها ، فلا يكون الوجوب حينئذ مترشّحاً على القيد المذكور ، ويكون تقيّد المادّة بذلك في مرتبة عروض الطلب عليها أو تقييد المادّة بذلك القيد من حيث عروض الطلب عليها موجباً لتقيّد الطلب قهراً بذلك القيد وانحصار الطلب بمورد القيد ، ولازمه عدم ترشّح الطلب على ذلك القيد ، ويكون الوجوب في الحقيقة مشروطاً بوجود ذلك القيد.

وربما تفسّر بأنّ المأخوذ قيداً في المادّة هو فرض حصول القيد من باب

ص: 423


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 360.
2- مطارح الأنظار 1 : 249 - 250 و 267 - 268.
3- راجع الحاشيتين المتقدّمتين في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 12 وما بعدها و 19 وما بعدها.

الاتّفاق ، ولازمه عدم ترشّح الطلب على ذلك القيد ، بل يكون ترشّح الطلب عليه خلفاً لما فرض من أنّ قيد المادّة هو اتّفاق حصول ذلك القيد لا ذات القيد نفسه.

وهذا التفسير على إجماله هو ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره في تلك المباحث (1) ولكن الأُستاذ العراقي قدس سره (2) قد شرح ذلك أو فسّره أو ابتكر له أساساً وذلك هو التبعيض في أبواب عدم ذلك الواجب ، فإنّ الإمساك في النهار عن حضر وعن طهارة من الجنابة أو طهارة من الحيض لو فرضنا تعلّق الطلب به كان مقتضى ذلك الطلب هو سدّ أبواب عدم الامساك من جميع نواحيه ، فالمولى لا يرضى بعدمه الناشئ عن مجرّد اختيار المكلّف تركه ، ولا بعدمه الناشئ عن عدم الطهارة من الجنابة مثلاً ، أمّا عدمه الناشئ عن ترك الحضر ، فالمولى لا يمنع منه ولا يسدّ باب عدمه الناشئ عن عدم هذا القيد الذي هو الحضر ، وحينئذ يكون الوجوب من أوّل النهار متعلّقاً بالامساك ، ويكون إعدامه الناشئ عن عدم اختيار المكلّف له واختياره لعدم الامساك ممنوعاً منه عند المولى ، فيكون موجباً للكفّارة ، فلو اختار المكلّف السفر قبل الزوال بعد أن ارتكب ترك الامساك وتحقّق منه الافطار ، يكون عدم الامساك مستنداً إلى اختيار المكلّف لا إلى السفر وعدم الحضر.

وحاصل ذلك : أنّ إعدام الامساك سابقاً الحاصل من إعدام ما كان عدمه الناشئ عنه ممنوعاً منه عند المولى ، وذلك هو اختيار المكلّف وإقدامه على الترك باختياره الافطار ، كان قد أسقط التكليف بالعصيان ، فلا يكون الوجوب باقياً عندما سافر.

ص: 424


1- كفاية الأُصول : 99.
2- مقالات الأُصول 1 : 318 - 319.

وإن شئت قلت : إنّ السفر وعدم الحضر المتأخّر عن الاقدام على إعدام الامساك بما يكون إعدامه من ناحيته ممنوعاً عنه وإن أوجب عدم الصوم لو خلي ونفسه ولم يكن مسبوقاً باعدامه من الجهة الممنوعة ، إلاّ أنّه لمّا كان مسبوقاً بذلك لم يكن له أثراً أصلاً ، هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لم يكن الانعدام مستنداً إليه بل قد عرفت أنّ الانعدام من ناحية عدم الحضر لا يكون ممنوعاً عنه. وعلى أي حال ، لا يكون لذلك السفر أثر ، ولا يكشف عن عدم تحقّق الوجوب فيما مضى ، بل لو لم يكن مسبوقاً بالافطار الاختياري لكان الوجوب متحقّقاً ، غايته أنّه لا يكون سادّاً لباب عدم الامساك الناشئ عن عدم الحضر. وعلى أي حال ، لا يكون هذا الوجوب مشروطاً بالحضر ولا بحكم ما هو مشروط به.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو قرّبنا وجوب الكفّارة بهذا التقريب ، أعني كون معنى وجوب الامساك عن حضر راجعاً إلى سدّ أبواب عدمه غير العدم الآتي من ناحية عدم الحضر ، أو قرّبناه بما تقدّم نقله عن صاحب الكفاية قدس سره في الواجب المشروط ليكون معنى التقييد بالحضر هو أنّ الوجوب تعلّق بالامساك الذي اتّفق معه وجود الحضر ، لتمّ وجوب الكفّارة فيما نحن فيه. ولا يرد عليه ما أفاده سلّمه اللّه بقوله : هذا ولكن سيأتي في فصل شرائط وجوب الصوم - إلى قوله - فيكون التكليف بالصوم كالمنوط بعدمه ، فلا يثبت إلاّفي ظرف عدمه من باب الاتّفاق الخ (1). والظاهر منه اختيار مسلك الكفاية ، وقد عرفت أنّه بناءً عليه لا يرجع الوجوب إلى الوجوب المشروط.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مسلك الكفاية راجع إلى الوجوب المشروط أو هو بحكمه ، باعتبار أنّ تعلّق الوجوب بالامساك المقيّد باتّفاق تحقّق الحضر عبارة

ص: 425


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 360.

أُخرى عن أنّه لا يثبت الوجوب إلاّفي ظرف انعدام السفر من باب الاتّفاق ، فيكون بمنزلة الوجوب المشروط بعدم السفر إن لم يكن هو عينه ، فلاحظ وتأمّل. وعبارته في فصل شرائط وجوب الصوم هي أظهر في التعريج على مسلك صاحب الكفاية من هذه العبارة فراجع ص 161 (1).

بل يمكن القول بأنّ التبعيض من حيث الأعدام الذي هو مسلك الأُستاذ العراقي لا يخلو من كونه من قبيل الواجب المشروط ، فإنّ محصّل عدم منع الشارع من عدم الامساك الناشئ من عدم الحضر والرضا بترك الامساك الحضري الناشئ عن عدم الحضر ، هو أنّه لا طلب في مورد عدم الحضر ، وذلك عبارة أُخرى عن انحصار الطلب بصورة وجود الحضر ، وذلك هو عين كون الوجوب مشروطاً.

وعلى أيّ حال ، فإنّه بعد البناء على رجوع المسألة إلى الوجوب المشروط أو ما هو بحكمه لا يكون السفر مبطلاً للصوم من حينه ، بل يكون كاشفاً عن عدم الوجوب من أوّل الفجر.

قوله : فقد يتوهّم أنّ العموم الزماني لا يمكن أن يكون قيداً للحكم ، فإنّ استمرار الحكم في جميع الأزمنة يقتضي اشتغال المكلّف بالصلاة مثلاً في كلّ زمان. ولا يخفى ضعفه ، فإنّ استمرار الحكم إنّما يعتبر في الأزمنة التي تكون ظرفاً لايجاد المتعلّق فيها - إلى قوله - واستمراره في أزمنة إيجاد المتعلّق ... الخ (2).

لا يخفى أنّه ليس لنا في وجوب الصلاة عموم أزماني بمعنى الوجوب في

ص: 426


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 439 - 440.
2- فوائد الأُصول 4 : 554 - 555.

كلّ آن كي نتكلّم في أنّ هذا العموم الأزماني هل يكون ظرفاً للحكم الذي هو وجوب الصلاة أو أنّه ظرف للمتعلّق الذي هو الصلاة نفسها ، فإنّه لو كان لنا مثل هذا العموم لتوجّه التوهّم المذكور ، سواء قلنا بأنّه راجع إلى الحكم أو قلنا بأنّه راجع إلى المتعلّق ، بل ليس لنا في ذلك الباب إلاّ أزمنة خاصّة وأوقات معيّنة وهي الأوقات التي حدّدها الشارع ، والظاهر أنّ تلك الأوقات قد أُخذت ظرفاً للمتعلّق ، ولكن أخذها ظروفاً للمتعلّق يوجب كون إيجابه مشروطاً بتلك الظروف ، فلا فرق حينئذ بين أخذها في المتعلّق أو في حكمه ، وليس لنا مورد تخصيص أو شكّ في التخصيص من حيث الزمان كي نتكلّم في أنّه على الأوّل ماذا يكون المرجع وعلى الثاني ماذا يكون المرجع ، كما أنّ أوقاتها الموسعة المضروبة لها مثل كون ما بين الطلوعين وقتاً لصلاة الصبح ، وما بين الزوال والغروب وقتاً للظهرين ، فليس فيه عموم شمولي ولا مجموعي ، بل ليس في البين إلاّ العموم البدلي الذي هو نتيجة تعلّق الأمر بصرف الطبيعة من صلاة الصبح - مثلاً - بعد الفراغ عن أنّه ليس في ذلك الوقت إلاّصلاة واحدة ، فلا فرق فيه بين أخذ ذلك الوقت المضروب لها - أعني ما بين الطلوعين - ظرفاً للوجوب أو ظرفاً للواجب.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : فإنّ استمرار الحكم إنّما يعتبر في الأزمنة التي تكون ظرفاً لايجاد المتعلّق فيها الخ ، فإنّه مع أخذ تلك الظروف ظروفاً للمتعلّق لا يكون استمرار الحكم إلاّبمعنى بقائه وعدم نسخه كما يصرّح به في قوله : فمعنى استمرار الحكم هو بقاء وجوب الصلاة في جميع الأيّام في تلك الأوقات ، وعدم اتّصال أزمنة امتثال الصلوات لا يضرّ باتّصال الحكم واستمراره في أزمنة إيجاد المتعلّق الخ.

ولا يخفى أنّه مع فرض كون المراد من استمرار الحكم ودوامه هو بقاءه

ص: 427

وعدم نسخه ، لا معنى لأخذه في المتعلّق ، فكيف فرّع عليه قوله : ففي باب الصلاة أيضاً يمكن أن يكون مصبّ العموم الزماني نفس الحكم ، ويمكن أن يكون المتعلّق ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا مسألة وجوب القصر والافطار ، فعلى الظاهر أنّ المرجع فيها هو عموم أدلّة لزوم القصر والافطار على المسافر ، فإنّه قد خرج منه من نوى الاقامة عشرة في بلد - بناءً على كونه من قبيل التخصيص المعبّر عنه بأنّ الاقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه - والشكّ إنّما هو فيما لو خرج من ذلك البلد ولم يكن قاصداً في خروجه إلاّمقدار الأقل من الأربعة فراسخ ، فهذا المورد من الشكّ وإن أمكن فيه استصحاب حكم المخصّص من وجوب التمام والصيام ، إلاّ أنّه لمّا كان عنوان المسافر محفوظاً فيه ، وكان القدر المتيقّن من المخصّص هو ما دام موجوداً في بلد الاقامة ، كان المرجع فيه هو عموم أنّ المسافر يقصّر ويفطر ، من دون حاجة إلى عموم أزماني في البين.

والحاصل : أنّه لا حاجة في المقام إلى العموم الأزماني ، بل يكون العموم الأفرادي القائل إنّه يجب قصر الصلاة على كلّ مسافر كافياً في مورد الشكّ المذكور وهو من خرج عن بلد الاقامة ، ومن تبدّل من المعصية إلى الطاعة ولم يكن في البين مسافة.

والأولى التمسّك بالعموم الأحوالي القائل إنّه يجب القصر على المسافر في جميع أحواله إلاّحالة إقامته في البلد الذي نوى فيه العشرة أو في حالة معصيته.

لا يقال : إذا لم يكن في البين عموم أزماني يقول إنّ المسافر يقصّر الصلاة دائماً أو في كلّ وقت من أوقاتها ، لكان يكفي فيه قصر صلاة واحدة ، فلابدّ من العموم الأزماني دفعاً لهذا التوهّم.

ص: 428

لأنّا نقول : يكفي في دفع هذا التوهّم نفس عموم أنّ المسافر حكمه القصر ، فإنّ ظاهره هو أنّه حكمه القصر للصلاة في أزمانها ما دام مسافراً ، ولعلّ هذا هو المراد من العموم الأزماني ، لكن هذا العموم الأزماني لو كان مأخوذاً في الحكم لم يكن فوق الحكم بل كان في درجته ، لأنّ محصّله هو أنّ الحكم بالقصر على المسافر منوط بما دام مسافراً ، كما هو الشأن في كلّ قضية علّق الحكم فيها على عنوان من العناوين ، وحينئذ فلا فرق بين أخذ ذلك الدوام في الحكم نفسه أو أخذه في متعلّقه من صحّة التمسّك به في مقام الشكّ ، إذ لا فرق بين أن يقول : القصر في كلّ أزمنة السفر واجب ، أو أن يقول : يجب في كلّ أزمنة السفر قصر الصلاة في أوقاتها ، في صحّة التمسّك بكلّ من هاتين عند الشكّ المزبور ، فتأمّل وقس على ذلك حال المعصية في السفر والعدول عنها قبل أن ينوي طيّ مسافة جديدة تزيد على أربعة فراسخ.

إلحاق وتكميل : قال السيّد قدس سره في حاشيته على المكاسب بعد أن قرّر مطلب الشيخ قدس سره بالدوام والانحلال ما هذا لفظه : قلت : لا يخفى أنّ الواجب في القسم الأوّل أيضاً إكرامات عديدة بعدد الأيّام ، غاية الأمر أنّها ملحوظة بلحاظ وحداني ، ولهذا لو أكرم في بعض الأيّام دون بعض يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأوّل والمخالفة بالنسبة إلى الثاني ، وليس من قبيل التكليف الارتباطي كالامساك في الصوم الواجب إلى الغروب ، حيث إنّه أمر واحد مستمرّ مرتبط ، فلو لم يمسك بعض اليوم يسقط الامتثال رأساً ، وفيما نحن فيه لو وفى بالعقد في بعض الأوقات حصل الامتثال بالنسبة إليه قطعاً ، وإن حصل المخالفة أيضاً بالنسبة إلى البعض المتروك. ثمّ قال في أثناء إيراده الأوّل ما هذا لفظه : فنقول : لا شكّ في أنّ العموم في القسم الأوّل أيضاً ناظر إلى جميع الأزمنة وجميع الأيّام ، بل جميع

ص: 429

الآنات ، لأنّ هذا معنى قوله : أبداً ، غاية الأمر أنّ تلك الأجزاء ملحوظة بلحاظ وحداني لا بلحاظات عديدة ، فهي أبعاض لا أفراد - إلى أن قال : - فحال هذا القسم من العموم الأزماني حال العام المجموعي كما إذا قال : أكرم مجموع العلماء (1).

قلت : لا يخفى أنّ العام المجموعي لا يتصوّر فيه التبعيض في الاطاعة والعصيان ، وإنّما يتصوّر ذلك في العام الانحلالي ، وكلّ من النحوين - أعني العموم الأزماني المجموعي والعموم الأزماني الانحلالي - مشتمل على لحاظ التقطيع في أجزاء الزمان أيّاماً أو ساعات أو آنات ، غايته أنّه في المجموعي يلاحظ الارتباط في الأجزاء فيكون العام المجموعي كالمركّب الارتباطي ، وهذا بخلاف العام الانحلالي فإنّه لم يلاحظ فيه هذه الجهة من الارتباط ، مع اشتراك كلّ منهما بلحاظ القطعات ، وهما معاً داخلان على الظاهر في القسم الثاني الذي أفاده الشيخ قدس سره على ما شرحناه وعلّقناه على ما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه (2) ممّا ظاهره التفرقة بينهما في إمكان التمسّك وعدمه.

أمّا القسم الأوّل في كلام الشيخ قدس سره فقد عرفت ممّا حرّرناه أنّه خارج عن كلّ من العموم المجموعي والانحلالي ، بل إنّ تحقيقه أنّه لا عموم أزماني في البين ، وليس في البين إلاّوجوب واحد وارد على وفاء واحد في زمان واحد ، وهو تمام اليوم أو تمام الشهر فيما لو قال : يجب الوفاء في هذا اليوم أو في هذا الشهر ، أو هو تمام الزمان من أوّل العقد إلى آخر الدهر فيما لو قال : يجب الوفاء أبداً أو دائماً أو في تمام العمر ونحو ذلك من عبارات التأبيد التي لم يلاحظ فيها قطعات

ص: 430


1- حاشية كتاب المكاسب 2 : 570 - 571.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 295 وما بعدها.

الزمان ، وأنّه إنّما لاحظ فيه الزمان بتمامه قطعة واحدة وأخذه ظرفاً للفعل الواحد الذي هو الوفاء أو للوجوب الواحد المتعلّق للوفاء الواحد.

والحاصل : أنّ في مثل عموم العلماء يمكن أن يتصوّر العموم الانحلالي والعموم المجموعي ، حيث إنّ الأفراد فيه متباينة خارجاً ، فإن لاحظها الحاكم على ما هي عليه من التعدّد والتباين وحكم عليها كان العموم انحلالياً ، وإن لاحظ اجتماعها كمركّب من أجزاء كان العموم مجموعياً ، أمّا نفس الزمان الواسع مثل الشهر والدهر فلا يكون هناك أفراد كي يقال إنّها لوحظت متباينة أو لوحظ مجموعها ، وإنّما يحلّله العقل إلى آنات أو ساعات أو أيّام ، فلو لاحظها الحاكم أيّاماً مثلاً يتأتّى حينئذ الانحلالية والمجموعية ، فلا يتأتّى الانحلالية ولا المجموعية إلاّبعد لحاظ الأيّام ، أمّا مع عدم لحاظ الأيّام مثلاً بل لم يلاحظ إلاّما بين المبدأ والمنتهى من أوّل الشهر إلى آخره فلا يكون في البين إلاّموضوع واحد لا أفراد له ولا أجزاء.

ومن ذلك كلّه يتّضح الجواب عن الايرادات التي أوردها السيّد قدس سره (1) على الشيخ قدس سره وأهمّها الأوّل ، فإنّه بناءً على ما حقّقناه من معنى الدوام وأنّه راجع إلى وحدة الزمان ، فلا عموم في البين كي يتمسّك به في مقام الشكّ. ودعوى كفاية النظر اللفظي الاستعمالي في التمسّك وإن لم يرجع إلى عدم التخصيص غريبة جدّاً ، فإنّ محصّل النظر اللفظي الاستعمالي إلى المورد هو كون المتكلّم ناظراً إلى دخوله تحت الحكم وأنّه لم يخرج عنه ، فلا تجري أصالة العموم إلاّفي مورد احتمال الخروج ، ليكون محصّلها هو الحكم بأنّ المورد باقٍ تحت العموم وأنّه لم يخرج عنه ، فلا تجري إلاّفي المورد الذي يكون عدم إجرائها موجباً لزيادة

ص: 431


1- حاشية كتاب المكاسب 2 : 570 - 574.

الخارج ، فلاحظ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك معنى التبعية التي وقعت في كلام الشيخ قدس سره ، وأنّ محصّلها هو أنّ الدوام إنّما يكون بعد فرض جريان أصل الحكم في الفرد ، ولعلّ هذه العبارة من الشيخ قدس سره أقرب إلى ما أفاده شيخنا قدس سره في شرح مطلب الشيخ قدس سره من كون العموم الأزماني فوق الحكم ، وإن كنا قد تأمّلنا في هذا التفسير فلاحظ ما حرّرناه. وعلى كلّ حال ، فإنّه قد ظهر لك عدم توجّه الإيراد الثاني.

وأمّا الإيراد الثالث ، فقد شرحناه فيما تقدّم (1) بما حاصله : أنّ المراد من أخذ الزمان قيداً هو أخذ قطعاته مورداً للحكم ، فيكون من قبيل التعدّد ، بخلاف ما لو أُخذ الزمان واحداً فإنّه لا يكون إلاّمن باب مجرّد الظرفية ، لا بمعنى أنّها غير دخيلة ، بل بمعنى أنّه لا يكون في البين موضوعات من الزمان متعدّدة حسب تعدّد أجزائه التي وقع التقطيع بحسبها.

وأمّا الإيراد الرابع ، فقد شرحنا أنّه لو أخذ التقطيع وكان الاخراج من تلك القطع لزمه أنّ الخارج فرد واحد من تلك القطع ، فلا يمكن تسرية الحكم من ذلك الفرد إلى الفرد الآخر. ومن ذلك يظهر الوجه فيما أفاده الشيخ في الرسائل من كون الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فرداً مستقلاً الخ (2) ، وحاصله أنّ الاستثناء قرينة على التقطيع ، وقد شرحناه فيما تقدّم (3). ومنه يظهر لك أنّه لا يرد عليه ما أفاده السيّد قدس سره في قوله بقي شيء - إلى قوله - وأنت خبير بأنّ قوله يوم

ص: 432


1- لاحظ المصدر المتقدّم في الصفحة : 430 ، وكذا لاحظ ما ذكره قدس سره من كلمات المحقّقين الهمداني والحائري والأصفهاني قدس سرهم في الصفحة : 375 وما بعدها.
2- فرائد الأُصول 3 : 274.
3- في الصفحة : 299.

الجمعة الخ ، فراجع (1).

وأمّا الإيراد الخامس ، فهو راجع إلى التفرقة بين كون الخروج من الوسط أو كونه من أحد الطرفين ، وهو مطلب الكفاية ، وقد شرحناه وشرحنا ما فيه وما علّقه عليه المحقّقون كصاحب [ الدرر ] والعلاّمة الأصفهاني قدس سرهما فراجع (2).

نعم ، يبقى الإشكال في خروج خيار المجلس وخيار الحيوان عن عموم ( أَوْفُوا ) وقد أشرنا إلى ذلك فيما علّقناه على ص 202 من هذا التحرير وشرحنا الجواب عن توجّه هذا النقض على ما أفاده شيخنا والشيخ قدس سرهما فراجع (3).

والمتحصّل ممّا أفاده الشيخ قدس سره في هذا المقام من المكاسب والرسائل : هو أنّه على الوجه الأوّل لا يكون في البين عموم أزماني قابل لأن يرد عليه التخصيص ليقتصر فيه على القدر المتيقّن ويرجع في الباقي إلى العموم ، وحينئذ فلو كان في البين تخصيص كان تخصيصاً أفرادياً كما قال في الرسائل : لأنّ مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة (4) وقال في مثل قوله « تواضع للناس » : بناءً على استفادة الاستمرار منه : فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فرداً مستقلاً لمتعلّق الحكم (5). وقال قبل هذا في بيان العموم الأزماني : ومثله ما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً

ص: 433


1- حاشية كتاب المكاسب 2 : 574.
2- راجع الصفحة : 335 وما بعدها ، وكذا الصفحة : 356 وما بعدها ، وكذا الصفحة : 379 وما بعدها.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 372 وما بعدها.
4- فرائد الأُصول 3 : 274 - 275.
5- المصدر المتقدّم : 275.

يوم الجمعة ، إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فرداً مستقلاً (1). فتمام الفارق عنده بين الوجه الأوّل والوجه الثاني هو أنّه على الثاني يكون لنا عموم أزماني بلحاظ الأيّام أو الآنات ، ويكون ذلك العموم قابلاً للاستثناء ، بخلاف الوجه [ الأوّل ] فإنّه لا يكون في البين إلاّحكم واحد على موضوع واحد ومتعلّق واحد في زمان واحد ، فلو كان في البين إخراج وتخصيص لم يكن إلاّ إخراجاً من العموم الأفرادي ، فلو حصل التردّد في مقدار الخارج من ناحية أنّ خروج العقد الغبني مثلاً والحكم عليه بعدم وجوب الوفاء هل هو في الآن الأوّل أو أنّه جار في الآن الثاني والثالث مثلاً ، فالقدر المتيقّن وإن كان هو الآن الأوّل ، إلاّ أنّ المرجع فيما عداه ليس هو العموم الأزماني ، إذ لا عموم أزماني في البين ، بل المرجع فيه هو استصحاب حكم الخاصّ ، هذا فيما كان الزمان في الخاصّ مردّداً بين الأقل والأكثر.

أمّا لو كان محدوداً مضبوطاً مثل ما داما في المجلس أو الثلاثة في الحيوان مع التصريح باللزوم فيما بعد ، فذلك التصريح عبارة أُخرى عن تحديد مقدار الخروج ، وأنّه بعده يبقى العقد على ما كان تقتضيه ذاته من كونه داخلاً تحت العقود في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) . وإن شئت فقل : إنّ الخروج عبارة عن كون الفرد محكوماً بحكم مخالف للحكم في العام ، فإن كان الحكم المخالف في ذلك الفرد مطلقاً كان خروجه مطلقاً ، وإن كان محدوداً بزمان خاصّ كان خروجه مقصوراً على ذلك الزمان ، وليس ذلك التزاماً بالعموم الأزماني.

ولا يخفى أنّ ذلك لو تمّ لوجب في الصورة الأُولى - أعني صورة التردّد - الاقتصار في الخروج على القدر المتيقّن والرجوع فيما عداه إلى العموم الأفرادي ،

ص: 434


1- المصدر المتقدّم : 274.

وحينئذ يكون المتعيّن هي الطريقة الأُولى ، أعني دعوى كون دليل خيار المجلس متكفّلاً لكون العقد فيما بعده مشمولاً للعموم الأفرادي.

ولا يخلو عن تأمّل ، إذ لا يتكفّل قوله عليه السلام : « فإذا افترقا وجب البيع » (1) إلاّ لزوم العقد بعد الافتراق ، فيكون هو بنفسه دليلاً على اللزوم ، لا أنّه يكون موجباً لارجاع العقد بعد انقضاء المجلس إلى عموم آية الوفاء وهو - أعني العموم - يتكفّل بلزوم العقد ، فالأولى هو المنع من سدّ باب العموم الأزماني ، فإنّ رفع اللغوية كما يجتمع مع الوجه الأوّل فكذلك يجتمع مع الثاني.

ولم يتّضح الوجه في قول الشيخ قدس سره في المكاسب بعد تقريره الوجهين بما لا مزيد عليه ما هذا لفظه : إذا عرفت هذا فما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ العقد المغبون فيه إذا خرج عن عموم وجوب الوفاء فلا فرق بين عدم وجوب الوفاء به في زمان واحد وبين عدم وجوبه رأساً ، نظير العقد الجائز دائماً ، فليس الأمر دائراً بين قلّة التخصيص وكثرته حتّى يتمسّك بالعموم فيما عدا المتيقّن ، فلو فرض عدم جريان الاستصحاب في الخيار على ما سنشير إليه لم يجز التمسّك بالعموم أيضاً ، نعم يتمسّك فيه بأصالة اللزوم الثابتة بغير العمومات الخ (2) وقد تقدّم في حاشية ص 198 (3) نقل عبارة المكاسب وشرحها ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّه لو سلّمنا أنّه ليس مفاد الزمان المأخوذ في مثل يجب الوفاء بالعقد في تمام العمر أو في تمام السنة مثلاً إلاّ الوجوب الواحد المتعلّق بالوفاء في

ص: 435


1- وسائل الشيعة 18 : 6 / أبواب الخيار ب 1 ح 4.
2- كتاب المكاسب 5 : 209.
3- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 295 وما بعدها. راجع الصفحة : 300 وما بعدها.

الزمان الواحد ، سواء علّقناه بالوجوب أو علّقناه بالوفاء [ و ] أنّه ليس من قبيل العموم الأزماني ، فلا نسلّم أنّه غير قابل للتخصيص وإخراج بعض أجزائه ، إذ لا إشكال في أنّه لو قال : يجب التواضع في تمام هذا الشهر أو دائماً مدى العمر ، فله إخراج بعض الأيّام عنه وإبقاء الباقي حتّى لو كان ذلك بمفاد قوله : دائماً ، إذ لا ريب في صحّة إخراج بعض الأزمنة من الدوام أو من الأبد ونحو ذلك ممّا كان الظرف واسعاً ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون إخراج بعض أجزاء الزمان بالقياس إلى تمام العقود وأن يكون بالقياس إلى عقد خاصّ ، فلا فرق بين أن يقول : يجب الوفاء بالعقود دائماً أو أبداً إلاّفي يوم الجمعة ، أو أن يقول : إلاّفي العقد الغبني في أوّل أيّامه أو آناته ، فإنّه يقتصر في الخارج عن الأبد على ذلك اليوم ، ويبقى الأبد بحاله في الباقي ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، هناك جهة أُخرى وهي الطولية وكون الأبدية والدوامية في طول العموم الأفرادي وكونها فوق الحكم أو تحته ، وهذه الجهة هي التي اعتمد عليها شيخنا قدس سره في المنع من التمسّك بالعموم الأزماني حتّى لو كان بمفاد كلّ آن ، وقد عرفت التأمّل في ذلك بما شرحناه في الأبحاث السابقة خصوصاً في الحواشي على ص 199 فراجع (1).

تنبيه : قد يقال : إنّ من فروع هذا التنبيه ما ذكره الفقهاء من الحرام الطارئ على النكاح مثل الزنا بأُمّ الزوجة أو بنتها ، ومثل زنا الابن بزوجة الأب وبالعكس ، ومثل وطء ابنها أو أخيها أو أبيها - بناءً على أنّ ذلك لا يوجب إبطال النكاح السابق - ثمّ حصل الطلاق والخروج عن العدّة وأراد زوجها التزويج بها بعقد

ص: 436


1- وهي الحواشي المتقدّمة في الصفحة : 311 و 359 و 360.

جديد ، فقد يقال بالرجوع إلى استصحاب حكم الخاصّ كما في الجواهر (1) وتردّد في العروة (2).

لكن يمكن أن يقال : إنّ هذه الفروع خارجة عن هذا التنبيه ، لأنّ الدليل الدالّ على عدم الحرمة في حال الزوجية السابقة إنّما يدلّ على أنّ ذلك الحرام لا يوجب إبطال ذلك النكاح السابق عليه ، لقولهم عليهم السلام : « الحرام لا يحرّم الحلال » (3) فهو إنّما أخرجه بعنوان كونه لا يحرّم الحلال ، لا أنّ تلك المرأة خارجة بذاتها عن أدلّة التحريم ، فأقصى ما في دليل الحلّية هو أنّ وقوع ذلك الحرام في أثناء الزوجية لا يوجب إبطال الزوجية السابقة عليه لا أنّه لا يحرّمها ، فلو طلّقها كانت باقية على ما هي عليه من الدخول تحت الدليل على التحريم. وفيه تأمّل واضح ، إذ لا معنى لعدم إبطال الزوجية إلاّ الحلّية وعدم استلزام التحريم ، وأنّ ذلك الوطء الحرام لا أثر له في تحريم تلك الزوجة بقول مطلق.

وبالجملة : الظاهر من عدم التحريم والبقاء على الحلّية هو الحلّية مطلقاً ، لعدم الدليل على تقييدها بما دامت الزوجية السابقة ، فليست المسألة من مسائل العموم الأزماني ، بل هي من مسائل العموم الأفرادي ، فإنّ العموم الأوّل هو حرمة موطوأة الأُمّ مثلاً ، وقد خرج منها ما لو كان وطء أُمّها في حال زوجيتها فإنّها لا

ص: 437


1- قال في الجواهر : كما أنّ الأحوط عدم تجديد العقد لو طلّق مثلاً بعد الايقاب ، بل مال بعض الأفاضل إلى عدم الجواز ، لكن يقوى الجواز للاستصحاب الذي لا يقدح في جريانه انقطاع ذلك النكاح بالطلاق [ منه قدس سره. راجع جواهر الكلام 29 : 449 ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء قدس سرهم ) 5 : 551 - 552 مسألة : 34 وكذا 5 : 535 - 536 مسألة : 21.
3- وسائل الشيعة 20 : 426 / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب 6 ح 11 وغيره.

تحرم على الواطئ ، والظاهر من هذا المخصّص هو عدم الحرمة بقول مطلق ، فإنّ محصّله هو أنّ هذا الوطء لا أثر له في التحريم ، ومقتضاه أنّها لا تحرم عليه حتّى بعد طلاقها وخروجها من العدّة.

وبالجملة : أنّ احتمال كون عدم الحرمة مقيّداً بكونها ما دامت في حبالته بعيد جدّاً ، إذ المقصود من هذه الحرمة المنفية هي الحرمة الذاتية غير القابلة للتقييد بما دامت الزوجية ، ولو احتملنا ذلك كان المرجع هو عموم العام الدالّ على التحريم ، لا استصحاب حكم الخاصّ لحكومة العام عليه ، بل لو سقط العام عن الحجّية لجهة من الجهات لم يمكن الرجوع إلى استصحاب حكم الخاصّ ، للشكّ في مدخلية الزوجية السابقة في الحكم بالحلّية ، إلاّ أن يقال بالتسامح في ذلك ، وأنّ العرف يرى كون الزوجية السابقة من قبيل علّة الحكم لا من قبيل قيد الموضوع ، فتأمّل جيداً.

قوله : وإن لم يكن للزمان دخل في ذلك ... الخ (1).

إنّ هذه الجملة إنّما هي في مقابل قوله فيما تقدّم : فإن كان للزمان دخل في ملاك الحكم والمصلحة التي اقتضت تشريع الوجوب كالصوم الخ (2) ، ومن الواضح أنّه إذا لم يكن للزمان دخل في ملاك الحكم ومصلحته لم يكن لدينا إلاّ وجوب متعلّق بفعل كالقيام مثلاً أو الاكرام ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يقتضي إلاّوجوب صرف الطبيعة ، وهو حاصل بأوّل وجود ، إذ لا يكون لنا ما يوجب الدوام والاستمرار لا في الحكم ولا في متعلّقه.

نعم ، هناك أمر آخر وهو أنّ كلّ حكم هو باقٍ لا ينسخ ، وهذا بمجرّده لا

ص: 438


1- فوائد الأُصول 4 : 554.
2- فوائد الأُصول 4 : 552.

يقتضي التكرار ولا الاستمرار لا في المتعلّق ولا في الحكم ، إذ لا دخل لهذه الجهة - أعني بقاء الحكم وعدم نسخه - في عدم سقوطه بامتثاله الحاصل بأوّل وجود من وجودات الطبيعة التي تعلّق بها ، وأمّا الوجوب المتعلّق بالصلوات اليومية فأجنبي عن هذه الجهة من الدوام والبقاء وعدم النسخ ، بل إنّ لنا في باب الصلوات الموقّتة في كلّ يوم وكلّ وقت وجوباً مستقلاً لا ربط له بالوجوب في اليوم الآخر ولا بالوقت الآخر.

ولا يخفى أنّ هذه الجهة من الدوام التي هي بمعنى البقاء وعدم النسخ لا يعقل إرجاعها إلى المتعلّق ولا دخل لها بالمتعلّق ، بل يتعيّن لحوقها للحكم ، وكأنّها هي التي عناها قدس سره بقوله : إنّها فوق الحكم ، وقد تقدّم (1) ذلك مشروحاً عندما احتملنا أنّ مراده قدس سره من العموم الأزماني في ناحية الحكم هو هذه الجهة أعني بقاءه وعدم نسخه ، وقد عرفت أنّ بقاء الحكم وعدم نسخه الذي تعرّض له قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (2) لا دخل له بما هو محلّ الكلام من العموم الأزماني الصالح في حدّ نفسه للرجوع إلى المتعلّق كما هو صالح للرجوع إلى الحكم ، فلاحظ وتدبّر.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه إذا لم يكن لدينا إلاّوجوب متعلّق بصرف الطبيعة لم يكن في البين ما يقتضي العموم الأزماني لا في الحكم ولا في المتعلّق ، وكان قضية ذلك هو الاكتفاء بأوّل وجود ، أمّا إذا زيد على ذلك العمومُ الأزماني سواء كان في ناحية الحكم أو كان في ناحية المتعلّق ، فلا ريب في أنّ مقتضاه هو لزوم التكرار ، أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلأنّه لا معنى لقوله : يجب

ص: 439


1- في الصفحة : 343 وما بعدها.
2- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

في كلّ آن الاكرام - مثلاً - إلاّلزوم التكرار وعدم سقوط ذلك الوجوب بأوّل وجود ، لأنّ الفرض هو كون الوجوب موجوداً في كلّ آن ، وهذا هو ما عرفته من التلازم بين كون العموم الأزماني راجعاً إلى المتعلّق وكونه راجعاً إلى الحكم ، وأمّا باب الصلاة اليومية فقد عرفت أنّها أجنبية عن باب العموم الأزماني ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ السيّد سلّمه اللّه في تحريره (1) جعل التكاليف أقساماً : فالأوّل : ما لا عموم أزماني فيه ولا في متعلّقه. وفي هذا الحكم حكم بعدم ثبوت الحكم إلاّبالمقدار المتيقّن.

الثاني : ما كان هناك دليل على العموم الأزماني كلزوم اللغوية لولاه. وحكم فيه برجوع العموم الأزماني إلى ناحية الحكم ، وقد تقدّم الكلام في ذلك (2) ، لكنّه فرّع عليه مسألة الخروج إلى ما دون المسافة ، وقد عرفت التفصيل في هذه المسألة ، ثمّ ذكر التوهّم المذكور بطريق : وقد يقال ، وأجاب عنه بنظير ما أجاب به في هذا التحرير (3).

الثالث : ما دلّ الدليل على الاستمرار فيه إلى حدّ محدود ، وجعل منه الصوم وقد عرفت (4) الكلام فيه مفصّلاً.

وربما يقال : إنّ هذا التوهّم لا مورد له في الأحكام الشرعية ، إذ ليس فيها ما يكون قد اعتبر فيه الدوام والاستمرار في جميع الأزمنة في المتعلّق أو في الحكم ، ولو ثبت ذلك في بعض الأحكام كان مقتضاه هو ما توهّمه المتوهّم من لزوم

ص: 440


1- أجود التقريرات 4 : 173 - 174.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 426 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 554.
4- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 407 وما بعدها.

الاشتغال بذلك الفعل دائماً ، وقد مثّل (1) شيخنا قدس سره لذلك بالأوامر الاعتقادية ، فإنّ المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار ، وتلك الأفعال القلبية قابلة لذلك ، فلاحظ ما أفاده قدس سره في مبحث خيار الغبن حسبما حرّرناه عنه (2)

ص: 441


1- ويمكن التمثيل له بوجوب الوفاء ونحوه ممّا يكون المتعلّق والاشتغال به غيرمانع من الأفعال الخارجية ، فتأمّل [ منه قدس سره ].
2- مخطوط لم يطبع بعد.

[ استصحاب وجوب الباقي عند تعذّر بعض الأجزاء ]

قوله : وثانياً : أنّ استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا يجري ، فإنّ الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدّمي سنخاً ويباينه حقيقة ، وليست النفسية والمقدّمية من قبيل الشدّة والضعف ، فاستصحاب القدر المشترك في المقام يرجع إلى استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وقد تقدّم عدم جريان الاستصحاب فيه ... الخ (1).

القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي هو ما لو علم بوجود فرد من الكلّي وعلم بارتفاعه ، واحتمل وجود فرد آخر يقوم مقامه عند ارتفاعه.

ولكن لا يخفى أنّه يمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، ولا هو من قبيل الاختلاف في الشدّة والضعف ، بل هو نحو آخر وهو احتمال التبدّل إلى فرد آخر ، ومثال ذلك أن يعلم بوجود الجسم هنا في ضمن الحيوان الفلاني كالغنم مثلاً ، ثمّ علم بمرور تيار البرق عليه ، واحتمل أنّ ذلك البرق أحاله إلى بخار أو دخان فتلاشى ، أو أنّه أحاله إلى فحم أو حجر مثلاً ، ففي مثل ذلك لا مانع من استصحاب بقاء الجسم هنا إذا كان هناك أثر يترتّب على وجود الجسم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالأجزاء الأربعة عندما كان

ص: 442


1- فوائد الأُصول 4 : 557.

الواجب النفسي هو الخمسة لو تعذّر الخامس وقلنا ببقاء الوجوب على الأربعة الباقية يتحوّل من الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي ، وحينئذ نقول : إنّ القدر المشترك بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي بالنسبة إلى الأربعة الذي هو عبارة عن مجرّد المنع من الترك كان موجوداً في ضمن الوجوب الغيري ، وبعد تعذّر الخامس وإن علمنا بارتفاع الغيرية إلاّ أنّا لمّا كنّا نحتمل تبدّله إلى الوجوب النفسي بالنسبة إلى الأربعة ، فنحن نشكّ في ارتفاع ذلك القدر الجامع فنستصحب بقاءه.

وبعبارة أُخرى : أنّ تلك الأربعة كانت ممنوعاً من تركها حينما كانت واجبة من باب المقدّمة للخمسة ، والآن بعد تعذّر الخامس نشكّ في ارتفاع المنع من تركها فنستصحبه ، فنحكم ببقاء المنع من الترك بالنسبة إلى تلك الأربعة ، وإن كان لازم بقائه هو تحوّل ذلك المنع من الترك من كونه غيرياً إلى كونه نفسياً ، إلاّ أنّا لا نحتاج إلى إثبات ذلك اللازم كي يقال إنّه من الأصل المثبت ، بل يكفينا في لزوم الاتيان بالأربعة بعد تعذّر الخامس مجرّد الحكم بالمنع من تركها ، وإن كان لازم بقاء المنع من تركها هو تحوّله من الغيرية إلى النفسية.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مجرّد بقاء المنع من الترك معرّى عن لحاظ النفسية والغيرية لا أثر له ، بل لابدّ في المقام من إحراز كونه بالنسبة إلى الأربعة الباقية من قبيل النفسي.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المطلوب إنّما هو لزوم الاتيان بالباقي وهو الأربعة وعدم الترخيص في تركها ، ومن الواضح أنّ مجرّد المنع من الترك الذي هو القدر الجامع بين الغيرية والنفسية كافٍ في ذلك المطلوب وإن لم يثبت به كونه نفسياً.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يتوجّه على هذا التقريب ما أُفيد من قوله : بل لو

ص: 443

فرض أنّ النفسية والمقدّمية يكونان من مراتب الوجوب كالشدّة والضعف ، ولكن لا إشكال في تباينهما عرفاً ، فلا يجري استصحاب القدر المشترك (1) فإنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه لو كان المراد أنّهما من قبيل اختلاف المراتب ، أمّا لو كان المراد أنّ ذلك من قبيل التحوّل من فرد إلى فرد آخر مباين له مع فرض تحقّق القدر المشترك بينهما الذي هو المطلوب أعني مجرّد المنع من الترك ، فلا يتوجّه عليه شيء من ذلك.

ولكن لا يخفى أنّ بقاء القدر المشترك مع تبدّل الفرد محال. فالحقّ أنّ ذلك كلّه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وليس نسبة الأفراد إلى الكلّي كنسبة العلّة إلى المعلول كي يمكن أن يقال ببقاء نفس المعلول وإن تبدّلت علّته ، كما في عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها القائمة بها كما أفاده في المقالة في مباحث الأقل والأكثر (2).

نعم ، هنا طريقة أُخرى غير راجعة إلى استصحاب القدر الجامع وتلك الطريقة هي أن يقال : إنّ هذه الأربعة كانت لازمة وكان المكلّف يعاقب على تركها ، والآن بعد تعذّر الخامس هي باقية على حالها من اللزوم والعقاب على الترك. وحاصل هذه الطريقة هو التسامح في نفس الوجوب ، بدعوى أنّ العرف لا يفرّقون بين الوجوب الغيري الطارئ على الأربعة عندما كان الخامس مقدوراً والوجوب النفسي الطارئ عليها عند تعذّر الخامس.

نعم ، يرد على هذه الطريقة أوّلاً : المنع من التسامح المذكور ، بل إنّهم يرون الوجوب الغيري مغايراً للوجوب النفسي.

ص: 444


1- فوائد الأُصول 4 : 557.
2- مقالات الأُصول 2 : 273.

وثانياً : لو سلّمنا تسامحهم المذكور فهو غير متّبع على ما سيأتي (1) تفصيله في الوجه الثاني ، بل في الوجه الثالث أيضاً.

وثالثاً : أنّ هذه الطريقة لا تغني عن استصحاب القدر الجامع ، للعلم بارتفاع ذلك المنع من الترك ، ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنّ هذه الطريقة هي المراد للشيخ قدس سره في الوجه الأوّل ، لأنّه بعد أن أفاد أنّ الوجوب الغيري معلوم الارتفاع وأنّ الوجوب النفسي معلوم الانتفاء قال : ويمكن توجيهه - بناءً على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقاً - بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبية المتحقّقة سابقاً لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبية الكل ، إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبية الجزء في نفسه (2) ، بأن يكون المستصحب عنده هو نفس الطلب الوارد على الأربعة ، لا القدر الجامع بين الوجوب النفسي والغيري ، وإلاّ لم يكن محتاجاً إلى دعوى التسامح العرفي. لكن هذا التفسير لا يلائم قوله : بناءً على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقاً.

فالأولى أن يقال : إنّ مراده هو استصحاب القدر [ الجامع ] وأنّه محتاج إلى المسامحة بادّعاء كونه من قبيل القسم الثالث من القسم الثالث أعني اختلاف المراتب ، وهذا هو الذي فهمه شيخنا قدس سره من كلام الشيخ قدس سره ، ولأجل ذلك أورد عليه بقوله : فإنّ الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدّمي - إلى قوله - وليست النفسية والمقدّمية من قبيل الشدّة والضعف - إلى قوله - بل لو فرض أنّ النفسية والمقدّمية يكونان من مراتب الوجود كالشدّة والضعف ولكن لا إشكال في

ص: 445


1- في الصفحة : 451 و 456.
2- فرائد الأُصول 3 : 279 - 280.

تباينهما عرفاً الخ (1) ، فلاحظ وتأمّل.

ويمكن أن يكون المقام من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، وهو ما لو احتمل مقارنة وجود ذلك الفرد المرتفع لفرد آخر معه ، وبيانه موقوف على النظر فيما لو قام الدليل على وجوب الأربعة بعد تعذّر الخامس ، فإنّه يمكن أن يكون بملاك جديد ووجوب جديد يحدث عند سقوط الأمر بالخمسة ، بأن تكون قيدية الخامس مطلقة ويكون مقتضاها سقوط ملاك الخمسة ووجوبها عند تعذّر الخامس ، لكن بسقوط ملاك الخمسة ووجوبها يحدث ملاك آخر يقتضي وجوب الأربعة ، فيكون وجوبها حينئذ وجوباً جديداً بملاك جديد.

ويمكن أن لا يكون بملاك جديد ووجوب جديد ، وذلك مبني على عدم إطلاق قيدية الخامس وشمولها لحال تعذّره ، بل تكون قيديته مقصورة على حال التمكّن منه ، ويكون محصّل ذلك هو كون الأربعة في حدّ نفسها ذات ملاك ، لكن عند التمكّن من الخامس يكون استيفاء ملاكها موقوفاً على الاتيان بها منضمّة إلى الخامس ، أو أنّه عند التمكّن من الخامس يتحقّق ملاك يوجب انضمامه إلى الأربعة ، فيتحقّق لنا حينئذ وجوب متعلّق بالخمسة ، وحينئذ يكون وجوب الأربعة في ضمنه وجوباً غيرياً مضافاً إلى وجوبها النفسي.

وبناءً على ذلك نقول : لو ورد الوجوب على الخمسة ثمّ تعذّر الخامس كانت الأربعة حينما كنّا متمكّنين من الخامس واجبة وجوباً غيرياً ، وهذا الوجوب الغيري قد ارتفع قطعاً ، لكنّا نحتمل أنّها عندما كان وجوبها الغيري متحقّقاً كانت واجبة وجوباً نفسياً أيضاً مجتمعاً مع وجوبها الغيري ، نظير اجتماع الوجوب الغيري لصلاة الظهر مقدّمة للعصر مع وجوبها النفسي ، فعند القطع بارتفاع

ص: 446


1- فوائد الأُصول 4 : 557.

الوجوب الغيري يمكننا استصحاب القدر الجامع بين الوجوبين ، بناءً على جريان استصحاب الكلّي في هذه الصورة الراجعة إلى القسم الأوّل من القسم الثالث.

ولعلّ هذا التفصيل هو المراد لما أفاده في المقالة بقوله : ولكن في المقام ليس الأمر كذلك ( يعني من قبيل التردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ) للجزم بالوجوب الغيري للأجزاء سابقاً ، وإنّما المحتمل وجوبه نفسياً من جهة احتمال مقارنة مناطه بمناط الغيرية أو قيامه مقامه الخ (1) ، فالأوّل إشارة إلى الاحتمال الثاني الذي ذكرناه ، والثاني إشارة إلى الاحتمال الأوّل ، فلاحظ.

لا يقال : إنّ استصحاب كلّي الوجوب هنا محكوم لاستصحاب جزئية الخامس إلى حال تعذّره القاضي بأنّه لو وجبت الأربعة لكان وجوبها جديداً بملاك جديد.

لأنّا نقول : قد حقّق في محلّه (2) أنّ الجزئية ليست هي المجعولة ، وإنّما المجعول منشأ انتزاعها ، وحيث إنّها في المقام خالية من منشأ انتزاعها لفرض عدم إمكان الأمر بالخمسة كان استصحابها ساقطاً.

والحاصل : أنّ المحتمل في وجوب الأربعة بعد تعذّر الخامس أحد وجوه :

الأوّل : أن يكون بوجوب جديد وملاك جديد يحدث عند تعذّر الخامس.

الثاني : أن تكون الأربعة في حدّ نفسها ذات ملاك وصلاح ، ولكن وفاؤها بملاكها إنّما يكون عند تعذّر الخامس ، أمّا عند التمكّن منه فلا تكون وافية بملاكها بل يكون وفاؤها به متوقّفاً على انضمام الخامس معها.

ص: 447


1- مقالات الأُصول 2 : 271.
2- راجع فوائد الأُصول 4 : 392 وما بعدها ، ولاحظ حواشي المصنّف قدس سره على المطلب في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 172 وما بعدها.

الثالث : أن لا يكون وفاؤها بملاكها متوقّفاً على انضمام الخامس ، بل عند التمكّن من الخامس تحدث هناك مصلحة توجب انضمام الخامس إليها ، ونعبّر عن مجموع المصلحتين بالمصلحة الأوفى.

فعلى الأوّل لا تكون الأربعة عند التمكّن من الخامس إلاّواجبة بالوجوب الغيري بخلافه على الثالث. وأمّا على الثاني فالظاهر أنّه كالأوّل في عدم كونها واجبة في نفسها عند التمكّن من الخامس ، نعم على الثالث يجتمع فيها عند التمكّن من الخامس الوجوب الغيري والوجوب النفسي ، ولا ضير في اجتماعهما. أو نقول بالاندكاك لكن مع بقاء ذات الوجوب النفسي والوجوب الغيري ، نظير ما قلناه في اجتماع الوجوب والاستحباب في بقاء ذات الاستحباب مع زوال حدّه الذي هو الترخيص في الترك. وعلى أيّ حال ، فعند احتمال وجوب الأربعة مع تعذّر الخامس يكون المقام من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، وهذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب كونه من هذا القبيل.

وفيه ما لا يخفى ، من أنّه على الثالث يكون اللازم اجتماع المثلين ، والاندكاك الموجب لزوال الحدّ مع بقاء الذات غير متأت في المقام ، إذ ليس الوجوب الغيري والنفسي من قبيل المختلفين في الشدّة والضعف ، أو من قبيل التحديد بجواز الترك كما في الاستحباب والوجوب ، بل إنّ الوجوب الغيري مباين بالهوية للوجوب النفسي ، أمّا صلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر فليس مركب الوجوب الغيري فيها هو ذات الفعل ، بل إنّ مركبه هو امتثال الأمر النفسي المتعلّق بذات صلاة ، ومن الواضح أنّ مركب الوجوب الغيري فيما نحن فيه ليس هو امتثال الأمر النفسي الاستقلالي ، بل إنّ مركبه عين مركب الأمر النفسي ، هذا كلّه ، مضافاً إلى بطلان الوجوب الغيري فيما نحن فيه من أجزاء المركب.

ص: 448

وهذه الاطالة إنّما ارتكبناها لأجل شرح ما أشار إليه في المقالة فيما تقدّم نقله من عبارتها السابقة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ لشيخنا قدس سره إيراداً ثالثاً على استصحاب القدر الجامع بين الطلب النفسي والغيري ، وهو كما حرّرته عنه قدس سره : أنّ القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري بعد فرض سقوط وجوب ذي المقدّمة الذي هو وجوب الكل لا أثر له ، وقد تقدّم في باب الأقل والأكثر وفي مسألة استصحاب الكلّي أنّه لا أثر للقدر المشترك بين الوجوبين ، وأنّ القدر الجامع بين الحكمين الشرعيين إنّما يترتّب عليه [ الأثر ] في خصوص الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، انتهى.

ونقل السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) في ص 444 نحو ذلك فراجعه (1).

قلت : وهو مشكل ، فإنّه لو علم وجوب الغسل يوم الجمعة مثلاً وتردّد بين كونه مقدّمة لصلاة الجمعة وكونه واجباً نفسياً ، فلا إشكال في لزوم الاتيان به ما دامت صلاة الجمعة باقية على الوجوب ، لكن لو اتّفق بعد ذلك سقوط وجوبها ، فهل يمكن القول بعدم إجراء استصحاب وجوب الغسل ، فيه تأمّل.

قوله : فإنّ تشخيص ذلك ليس بيد العرف ، ففي المركّبات الشرعية لا يمكن العلم بما يكون من حالات المركّب أو مقوّماته إلاّمن طريق السمع. وهذا الإشكال بعينه يرد على قاعدة الميسور أيضاً ، فإنّه يعتبر فيها أن تكون الأجزاء الميسورة ممّا لا تعدّ عرفاً مباينة ... الخ (2).

ولأجل ذلك قيل : إنّه لابدّ في القاعدة المذكورة من كونها مجبورة بعمل الأصحاب. ولكن لا يخفى أنّ عمل الأصحاب إن كان واصلاً إلى درجة الإجماع

ص: 449


1- أجود التقريرات 4 : 177.
2- فوائد الأُصول 4 : 558.

كان خارجاً عمّا نحن فيه ، وإلاّ لم يكن في حدّ نفسه حجّة ، حيث إنّ الفقيه الذي عمل بالقاعدة في مورد إن كان قد تحقّق عنده عدم ركنية ذلك الجزء المتعذّر ولو من إطلاق دليل التكليف بالمركّب وعدم إطلاق دليل لزوم ذلك الجزء ، كان ذلك خارجاً عن التمسّك بقاعدة الميسور ، وإن لم يكن قد تحقّق ذلك عنده بحيث إنّه لم يمكنه أن يحصل من الأدلّة الاجتهادية ركنية الجزء المتعذّر ولا عدم ركنيته ، كان رجوعه حينئذ إلى قاعدة الميسور مبنياً على ذوقه العرفي ، وأنّ ذلك الجزء المتعذّر بحسب نظره وذوقه ليس من المقوّمات.

وبالجملة : أنّ النظر العرفي في كون الجزء المتعذّر مقوّماً وعدم كونه كذلك يكون متّبعاً ما لم يقم دليل اجتهادي على خلافه ، وما أُفيد من المنع من اتّباعه إن كان مرجعه إلى أنّ العرف لا يمكنه الحكم في المركّبات الشرعية على بعض الأجزاء بالمقوّمية وعلى بعضها بالعدم ، لأنّ تشخيص ذلك ليس بيده ، فهذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّا نراهم يحكمون بهذه الأحكام وجداناً ، وإن كان مرجعه إلى أنّهم وإن حكموا بذلك إلاّ أنّ حكمهم لا يكون متّبعاً بل ينحصر الرجوع في ذلك إلى الشارع ، ففيه أنّه لابدّ من الرجوع أوّلاً إلى ما تقتضيه الأدلّة ، لكن بعد أن لم يمكن استفادة شيء من الأدلّة فيما يتعلّق بركنية ذلك المتعذّر ، يكون النظر العرفي متّبعاً ، لا بمعنى أنّا نرجع إليهم في تحقيق الركنية وعدمها كي نستغني بذلك عن كلّ من الاستصحاب وقاعدة الميسور ، بل بمعنى أنّا نرجع إليهم في تحقيق الاتّحاد بين الفاقد لذلك الجزء والواجد له المصحّح لأن نقول إنّ هذا الموجود فعلاً كان واجباً فنجري الاستصحاب ، أو نقول إنّ هذا ميسور لذاك فنجري قاعدة الميسور.

والحاصل : أنّ النظر العرفي في تحقيق الوحدة المذكورة وعدم تحقيقها

ص: 450

يكون متّبعاً ما لم يقم الدليل الشرعي على خلافها ، وما وجه الرجوع إلى جبر القاعدة بعمل الأصحاب إلاّ اتّباع نظرهم العرفي في ذلك ، فإنّهم إنّما نتبعهم في ذلك لأنّهم من أهل العرف ، فإنّ عمل الفقيه بها في المورد الذي فرضنا عدم قيام الدليل الشرعي على شيء من الأمرين لا يكون إلاّمن جهة أنّه يرى بذوقه العرفي أنّ ذلك المتعذّر لا يكون فقده موجباً للمباينة للواجد ، هذا.

ولكن يرد على ذلك أوّلاً : أنّ هذا التسامح العرفي لا يرجع إليه في مثل المقام ، لأنّه من قبيل مسامحتهم في إطلاق الكرّ على الناقص قليلاً عن المقدار الذي قرّره الشارع ، لا من قبيل المسامحة في الماء الذي كان معلوم الكرّية وقد نقص منه مقدار يحتمل فيه أنّه نقص به عن الكرّية ، ولعلّ مسامحتهم هنا مبنية على القول بالأعمّ ، وإن أمكن منع كونها مبنيّة على ذلك ، لأنّ المسامحة المذكورة واقعة في معروض الوجوب ، وأنّ هذا الناقص هو معروضه ، نظراً إلى أنّ ذلك الجزء المفقود من الحالات غير المقوّمة.

وثانياً : أنّهم بعد اعترافهم بأنّه ربما كان المفقود ممّا له الدخل شرعاً في قوام المركب كيف يمكنهم المسامحة في دعوى كون الفاقد له متّحداً مع الواجد له. ولو سلّمنا مع ذلك أنّهم تسامحوا لم يمكن لنا الاعتماد على هذه المسامحة المبنية على تصرّفهم فيما لم يكن لهم التصرّف فيه ، فتأمّل.

ويمكن الفرق بين قاعدة الميسور والاستصحاب ، فإنّ قاعدة الميسور بنفسها تتضمّن الاعتراف بنقص الفاقد وتحكم بعدم سقوطه حكماً واقعياً ثانوياً ، وأقصى ما فيه هو أن يكون هذا الفاقد معدوداً ميسوراً من ذلك الواجد ، وهذا المقدار تكفي فيه المسامحة العرفية في عدّ هذا الفاقد ميسوراً لذلك الواجد. وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّه مبني على عدم المباينة بين الواجد والفاقد ، وأنّ

ص: 451

هذا الفاقد متّحد مع الواجد ليسري إليه الوجوب المتعلّق بالواجد ويحكم حكماً ظاهرياً بأنّ ذلك الوجوب الذي كان متعلّقاً بالواجد باقٍ بعد تعذّر الجزء الخامس ، والمسامحة العرفية في الاستصحاب لابدّ أن يكون مرجعها إلى الاتّحاد والعينية بين الواجد والفاقد بعدّ المفقود من الحالات ، وهذه الدعوى من العرف لا يمكن قبولها بعد الاعتراف بأنّهم لا خبرة لهم بما هو الركن وما هو من قبيل الحالات ، فتأمّل.

قوله : الوجه الثالث : استصحاب الوجوب النفسي المردّد بين كونه متعلّقاً سابقاً بالواجد للجزء المتعذّر مطلقاً حتّى مع تعذّره ليسقط التكليف عن الفاقد للجزء المتعذّر ، وبين كونه متعلّقاً بالواجد له مقيّداً بحال التمكّن منه ليبقى التكليف بالفاقد ، فيستصحب بقاء التكليف ويثبت به اختصاص جزئية الجزء المتعذّر بحال التمكّن منه (1).

قال الشيخ قدس سره (2) : وهنا توجيه ثالث ، وهو استصحاب الوجوب النفسي المردّد بين تعلّقه سابقاً بالمركّب على أن يكون المفقود جزءاً له مطلقاً فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءاً اختيارياً يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني ، وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكر في هذا الاناء لإثبات كرّية الباقي فيه - إلى قوله - وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( يعني الثاني والثالث ).

ص: 452


1- فوائد الأُصول 4 : 558 - 559.
2- فرائد الأُصول 3 : 280 - 282 ( لا يخفى أنّ بين نسخ الفرائد اختلافاً أشار إليه المصنّف قدس سره في الصفحة : 460 الآتية ).

وحاصل الفرق بين الوجه الثاني والثالث أنّ الوجه الثاني مبني على المسامحة في متعلّق الوجوب ، بأن نقول : إنّ العرف يرون أنّ الفاقد متّحد مع الواجد ، فيكون ذلك من قبيل استصحاب كرّية هذا الماء بعد تنقيص شيء منه ، والوجه الثالث مبني على المسامحة في نفس الوجوب ، بأن نقول : إنّ العرف يرون أنّ الوجوب الذي كان متعلّقاً بالواجد هو عين الوجوب المتعلّق بالفاقد ، فيكون ذلك نظير استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء بعد أن نقصنا شيئاً منه ، فتكون المسامحة على الوجه الثاني جارية في متعلّق التكليف ، وهي مبنية على أنّ الجزء المفقود من قبيل الحالة لا من قبيل المقوّم ، يعني أنّ الجزء المفقود لم يكن اعتباره في الواجب على أن يكون جزءاً له مطلقاً ، بل إنّ جزئيته مقيّدة بحال التمكّن ، بخلاف المسامحة على الوجه الثالث فإنّها جارية في نفس الوجوب (1) ،

ص: 453


1- وحاصل هذه المسامحة هو دعوى الاتّحاد بين الوجوب الطويل الذي كان متعلّقاًبالخمسة وبين الوجوب القصير المتعلّق بالأربعة بعد تعذّر الخامس ، إذ لو لم يسقط الوجوب بتعذّره لكان قد قصر ، والعرف لا يرى الفرق بين الوجوب الطويل المتعلّق بالخمسة والوجوب القصير المتعلّق بالأربعة ، فيقولون إنّ الوجوب قد كان موجوداً ونشكّ الآن في بقائه ، فهم يتسامحون في نفس الوجوب فيرونه بنفسه باقياً ولو اختلف حقيقة من حيث الطول والقصر. وينبغي أن يعلم أنّ هذا الوجه بعد تمامية هذه المسامحة ليس براجع إلى الوجه الذي أفاده شيخنا قدس سره ، فإنّ المستصحب على هذا الوجه هو الوجوب الوارد على الخمسة ، والدعوى هي التسامح العرفي ، بدعوى أنّ الوجوب الوارد على الخمسة هو عين الوجوب الوارد على الأربعة ، وهذا بخلاف الوجه الآتي الذي أفاده شيخنا قدس سره فإنّ المستصحب فيه هو عين وجوب الأربعة الذي كان وارداً عليها حينما كان الخامس مقدوراً ، فيقال : إنّ وجوب الأربعة الذي كان مستطيلاً إلى الخامس حينما كان الخامس مقدوراً هو بعينه موجود حينما انفصل عنه وجوب الخامس عند طرو التعذّر على الخامس ، فلا يحتاج إلى المسامحة في المتعلّق ولا في الوجوب ، بخلاف هذا الوجه فإنّه محتاج إلى المسامحة في نفس الوجوب ، لأنّ المستصحب فيه هو الوجوب الوارد على الخمسة ، فيقال : كان الوجوب موجوداً عند كون الخامس مقدوراً والآن بعد تعذّر الخامس نشكّ في بقاء ذلك الوجوب فنستصحبه ، ومن الواضح أنّ الوجوب الوارد على الخمسة غير الوجوب الوارد على الأربعة ، فلابدّ من التسامح الموجب لكون أحدهما عين الآخر بحسب النظر العرفي المسامحي [ منه قدس سره ].

ولازم هذه المسامحة هو أنّ الجزء المفقود من قبيل الحالة ، وأنّ جزئيته مقيّدة بحال التمكّن ، لا أنّ ذلك هو عين مورد المسامحة ، بل إنّ مورد المسامحة هو الوجوب نفسه وأنّ الطويل منه بنظرهم عين القصير.

ولكن لا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون جزئية المفقود مقيّدة بحال التمكّن كما أنّها لازم المسامحة على الوجه الثالث فكذلك تكون على الوجه الثاني ، فإنّ دعوى كون الفاقد متّحداً مع الواجد ليست هي عين كون جزئية المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، بل إنّ ذلك لازم لهذه الدعوى لا أنّها عينها.

قوله : وهذا الوجه أضعف الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ قدس سره في تقريب استصحاب بقاء الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فإنّه يكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت ... الخ (1).

هذا الإشكال - أعني إشكال المثبتية - إنّما نشأ عن قول الشيخ قدس سره : والأصل بقاؤه فيثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني (2) ، يعني كون الجزء جزءاً اختيارياً.

ص: 454


1- فوائد الأُصول 4 : 559.
2- فرائد الأُصول 3 : 280 - 281.

ولا يخفى أنّه لو تمّت المسامحة في ناحية الوجوب وقلنا إنّ الوجوب المتعلّق بالفاقد هو عين الوجوب المتعلّق بالواجد ، كان ذلك - أعني استصحاب نفس الوجوب - كافياً في المطلوب من دون حاجة إلى إثبات لازمه الذي هو كون جزئية الجزء المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، فإنّ ما هو المطلوب لنا من وجوب الاتيان بالفاقد يترتّب على ذلك الاستصحاب من دون توقّف على لازمه المذكور كي يتوجّه عليه أنّ هذا الاستصحاب مثبت.

نعم ، يتوجّه على هذا الاستصحاب أنّ استصحاب وجود الوجوب لا يترتّب عليه أثر ما لم يترتّب عليه لازمه وهو كون الأربعة الباقية واجبة ، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الناحية ، فإنّ حاصل الاستصحاب على الوجه الثالث هو أنّه كان لنا وجوب متعلّق بالأجزاء الخمسة ، وبعد تعذّر الخامس نشكّ في بقاء الوجوب ، وعلى تقدير تعلّق الوجوب بالأربعة يكون ذلك الوجوب بنفسه بالنظر العرفي المسامحي باقياً ، فنحن نستصحب بقاء وجود ذلك الوجوب الذي كان موجوداً حينما كنّا متمكّنين من الجزء الخامس على نحو مفاد كان التامّة ، ولا ريب أنّ الأثر وهو لزوم الاتيان بالأربعة الباقية لا يترتّب على ذلك المستصحب إلاّ باعتبار لازمه ، فإنّ لازم بقاء وجود الوجوب بمفاد كان التامّة هو كونه متعلّقاً بالأربعة الباقية ، لعدم معقولية بقاء وجود الوجوب بلا واجب يتعلّق [ به ] ، والأثر المطلوب وهو لزوم الاتيان بالأربعة الباقية إنّما يترتّب على هذا اللازم دون نفس المستصحب الذي هو وجود الوجوب بمفاد كان التامّة ، فذلك نظير المثال الذي ذكره الشيخ قدس سره (1) أعني استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء ، فإنّه لا يترتّب عليه الأثر المطلوب إلاّباعتبار لازمه وهو كون هذا الماء كرّاً ، فيكون مثبتية الأصل من

ص: 455


1- فرائد الأُصول 3 : 281.

هذه الناحية لا من ناحية اللازم الآخر وهو كون جزئية الجزء المفقود مقيّدة بحال التمكّن ، فإنّ هذا اللازم لا يتوقّف عليه الأثر المطلوب وهو لزوم الاتيان بالأربعة فتأمّل ، هذا.

مضافاً إلى ما يرد عليه ممّا توجّه على التوجيه الثاني من عدم العبرة بالمسامحة العرفية في المركّبات الشرعية ، فإنّه يتوجّه عليه بطريق الأولوية ، إذ لا ينبغي الريب في عدم العبرة بالمسامحة العرفية في نفس الأحكام الشرعية ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ استصحاب وجود الوجوب بمفاد كان التامّة بعد أن كان بنفسه لا يترتّب عليه الأثر المطلوب وهو وجوب الاتيان بالأربعة إلاّبأحد أمرين : الأوّل هو الانتقال من مفاد كان التامّة إلى مفاد كان الناقصة. والثاني الانتقال من الحكم ببقاء الوجوب بعد تعذّر الخامس إلى الحكم بأنّ قيدية الخامس ليست قيدية مطلقة ، وأيّ واحد من هذين الأمرين التزمنا به كان نافعاً في الحكم بلزوم الاتيان بالأربعة بعد تعذّر الخامس ، فلا وجه لما ذكرتموه من تعيّن الأوّل لإصلاح المسألة.

لأنّا نقول : الوجه في تعيّن الأوّل هو الاحتياج إليه حتّى لو التزمنا بالثاني ، فإنّ استصحاب بقاء الوجوب بمفاد كان التامّة لا يترتّب عليه اللازم الثاني وهو كون قيدية الخامس غير مطلقة إلاّبعد اتّصاف الأربعة بالوجوب الذي هو مفاد كان الناقصة ، وإذا صحّ لنا الانتقال من مفاد كان التامّة إلى مفاد كان الناقصة ، ترتّب ما هو المطلوب من وجوب الأربعة من دون حاجة إلى اللازم الثاني.

والحاصل : أنّ اللازم الثاني لا يترتّب على استصحاب الوجوب ابتداءً ، بل إنّما يترتّب على اللازم الأوّل ، وحيث كان اللازم الأوّل كافياً في ترتّب ما هو

ص: 456

المطلوب كنّا غير محتاجين إلى اللازم الثاني ، فلاحظ وتأمّل.

وربما يقال : إنّ هذا الوجه الثالث الذي أفاده الشيخ قدس سره - أعني استصحاب وجود الوجوب بمفاد كان التامّة - لا يحتاج إلى التسامح العرفي قياساً على استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة ، إذ لا يحتاج إلى التسامح العرفي.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة وإن كان غير محتاج إلى التسامح العرفي ، لأنّ الكرّ معلوم المقدار ، وقد علمنا بوجوده ونشكّ في بقاء وجوده لاحتمال انعدامه بالمرّة ، أو بقاء شيء من الماء وإن كان قليلاً ، أو بقاء شيء يشكّ في كونه كرّاً ، كلّ تلك الاحتمالات ينفيها استصحاب وجود الكرّ بمفاد كان التامّة ، إذ لو كان الكرّ باقياً بما هو مفاد كان التامّة لكان باقياً على حدة لم ينقص منه شيء. ودعوى صدق الكرّ عرفاً على الناقص قليلاً لا دخل لها بما نحن فيه من استصحاب الكرّية بمفاد كان التامّة ، بل لا دخل لها باستصحابه بمفاد كان الناقصة ، فإنّا عندما ندّعي أنّ نفس هذا الموجود من الماء كان متّصفاً بالكرّية حينما كان معه غيره ممّا أُخذ منه بنحو من التسامح القاضي بأنّ هذا الماء هو ذلك الماء ، فمن الواضح أنّ هذا التسامح الراجع إلى دعوى العرف اتّحاد الماءين لا دخل [ له ] بدعوى أُخرى للعرف وهي أنّ الكرّ المعلوم الحدّ لديهم الذي هو ألف ومائتا رطل صادق بنحو التسامح على ما ينقص عن ذلك المقدار بمثقال مثلاً ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، نحن باستصحاب الكرّ بمفاد كان التامّة لا نكون محتاجين إلى شيء من التسامح ، لأنّ ذلك المقدار الذي علمنا بوجوده سابقاً نحكم بأنّه باقٍ لحدّ الآن لم ينتقض أصل وجوده ولم ينقص شيء من حدّه ، وهذا بخلاف الوجوب الذي كان موجوداً حينما كنّا متمكّنين من الخامس ، فإنّا لو استصحبناه

ص: 457

بمفاد كان التامّة وحكمنا ببقائه يكون الباقي منه مغايراً لذلك الذي كان موجوداً فيما سبق ، لسعة الأوّل وانبساطه على الخامس ، بخلاف الباقي ، وحينئذ لابدّ من إزالة هذا المقدار من الاختلاف بين الوجوبين ، بدعوى أنّ العرف يرون بقاء الوجوب في ظرف تعذّر الخامس بقاءً للوجوب الذي كان وارداً على الخمسة على وجه يكون أحدهما عندهم عين الآخر ، وأنّه لو بقي الوجوب في ظرف تعذّر الخامس لكان هو هو لا غيره ، ولأجل ذلك قال الشيخ قدس سره : وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( التوجيهات ) ثمّ قال : لكن الإشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق (1).

وأنت بعد اطّلاعك على ما أفاده شيخنا قدس سره تعرف الفرق بين المسامحة في هذا الماء والمسامحة في هذه الأربعة من أجزاء الصلاة ، وليست المسامحة في هذا الماء براجعة إلى التسامح في صدق الكرّ على الناقص لكي يتطرّق إليها المنع من هذه الجهة ، بل المسامحة إنّما هي في اتّحاد هذا الماء بذلك الماء الذي كان ، وهذه قابلة للقبول من العرف ، بخلاف المسامحة في هذه الأربعة وتلك الخمسة فإنّ تسامحهم في اتّحادهما غير مقبول ، بل لعلّهم لا يتسامحون في شيء من ذلك بعد أن علموا بأنّ في البين ملاكات ومناطات في الركنية هم عنها أجانب بالمرّة ، وهكذا الحال في دعواهم اتّحاد الوجوب الوارد على الأربعة بالوجوب المنبسط على الخمسة.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي يمكن دعوى تسالمهم عليه في باب الكرّية إنّما هو

ص: 458


1- فرائد الأُصول 3 : 282.

استصحاب الكرّية بمفاد كان الناقصة لا بمفاد كان التامّة ، فتسالمهم على المسامحة في مفاد كان الناقصة لا دخل له بالمسامحة بالوجوب بمفاد كان التامّة.

نعم يمكن أن يقاس عليه الوجوب بمفاد كان الناقصة ، لكنّك قد عرفت فيما أفاده شيخنا قدس سره أنّ القياس لا وجه له.

ومن بيان الاحتياج إلى المسامحة في نفس الوجوب على التوجيه الثالث ، يظهر لك أنّه لو لم يبق إلاّ القليل من أجزاء المركّب ، يكون الوجه الثالث مشاركاً للوجه الثاني في عدم الجريان ، حيث إنّ العرف كما لا يرى الاتّحاد بين هذا القليل من الأجزاء وبين تمام المركّب ، فكذلك لا يرى الاتّحاد بين الوجوب الوارد على هذا القليل وبين الوجوب المنبسط على تمام المركّب ، فلا يتمّ قوله قدس سره : وتظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلاّ القليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث دون الثاني (1) فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّا لو شككنا في أنّ الكرّ هل هو ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ، أو أنّه ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصف وكان لنا ماء واجداً للحدّ الثاني ، ثمّ أخذنا منه إلى أن بلغ إلى الحدّ الأوّل الذي هو الحدّ الأقل ، لم يمكن القول باستصحاب الكرّية ، سواء كان بمفاد كان التامّة أو بمفاد كان الناقصة.

والظاهر أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ وجوبنا السابق لم نعلم كيفيته على نحو الشبهة الحكمية ، وهل هو محدود بالخامس ومقيّد به بقول مطلق ، أو أنّ قيدية الخامس مقصورة على حال التمكّن منه ، فلا يحسن قياسه بالشكّ في بقاء الكرّية على نحو الشبهة الموضوعية ، وإنّما يصحّ قياسه بالمثال المذكور الذي

ص: 459


1- فرائد الأُصول 3 : 281.

لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه.

مثلاً لو علمنا أنّه يعتبر في الكرّ أن يكون بذلك الحدّ الأكثر الذي كان الماء واجداً له ، ولكن احتملنا أن يكون اعتبار ذلك الأكثر مقيّداً بما إذا كان الماء موفوراً لدينا دون ما إذا كان وجوده قليلاً على وجه يصعب تحصيله أو لا يمكن ، وقد وجد لنا ماء كثير في حال التمكّن ، ثمّ إنّه تعذّر وجود الماء ، وقد نقص هذا الماء الذي لدينا إلى حدّ القلّة ، فهل ترى أنّا نستصحب الكرّية بمفاد كان التامّة أو بمفاد كان الناقصة ، الظاهر أنّه لا يوافق الشيخ قدس سره على ذلك ولا غيره.

ثمّ لا يخفى أنّ في نسخ الرسائل اختلافاً في التفاضل بين هذه الوجوه الثلاثة ، ففي بعض النسخ ما نصّه : وأمّا الوجه الثالث فهو مبني على الأصل المثبت وستعرف بطلانه فتعيّن الوجه الثاني (1). ولكن في بعض هذه النسخ قد ضرب على هذه العبارة ، وفي بعض النسخ : وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( التوجيهات ) لكن الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة الخ (2).

وأنت خبير بأنّه بنفسه قدس سره بناءً على هذه النسخ قد أبطل الوجه الثالث بالمثبتية ، كما أنّه قد أبطل باب التسامح العرفي ، فلا وجه لتوجّه الإشكال عليه بشيء من الوجهين ، فلاحظ.

ثمّ إنّه قبل هذه العبارة قال ما هذا لفظه : وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية دون الذات المتّصف بها كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين الخ.

والظاهر أنّ مراده هو أنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية بمفاد كان

ص: 460


1- فرائد الأُصول 3 : 282.
2- فرائد الأُصول 3 : 282.

التامّة دون مفاد كان الناقصة.

ولا يخفى أنّ هذا لو تمّ لكان مقتضاه بطلان الوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين ، وصحّة الوجه الثاني منهما الذي هو ثالث الوجوه الثلاثة ، فلاحظ.

تنبيه : قال السيّد ( سلّمه اللّه ) في تحريراته بعد أن فرغ من تحرير الوجه الثاني الذي هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي أفادها الشيخ قدس سره ما هذا لفظه : وفيه - مضافاً إلى ابتنائه على القول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث - : أنّ إثبات وجوب الباقي به من أوضح أنحاء المثبت كإثبات كرّية الماء الموجود في الحوض باستصحاب بقاء الكرّ فيه (1).

فقد قرّر الاثبات بما ذكرناه من الانتقال إلى مفاد كان الناقصة من مفاد كان التامّة الذي أثبته الاستصحاب ، وقد عرفت أنّ الشيخ قدس سره قد أشار إلى هذا الإشكال أعني إشكال المثبتية بقوله : وأمّا الوجه الثالث فهو مبني على الأصل المثبت وستعرف بطلانه الخ وإن كان قد ضرب على ذلك في بعض النسخ ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الضرب في غير محلّه ، فلاحظ.

وأمّا الإشكال على ذلك بابتنائه على القسم الثالث ، فلم أعثر عليه فيما حرّرته عنه قدس سره ، كما أنّه غير موجود في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه ، نعم هو موجود في كلام الشيخ قدس سره ، فإنّه في مقام المقابلة بين الاستصحاب فيما نحن فيه ممّا ثبت فيه وجوب الخامس بالدليل الاجتهادي ، وبين الاستصحاب فيما لو لم يثبت وجوب الخامس إلاّبأصالة الاشتغال ، قال ما هذا لفظه : وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق سابقاً في ضمن فرد معيّن بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ،

ص: 461


1- أجود التقريرات 4 : 177.

وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن ( الفرد ) المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الأُولى إلاّفي بعض مواردها بمساعدة العرف (1).

فالشيخ قدس سره يعترف بأنّ الاستصحاب فيما نحن فيه من قبيل القسم الثالث ، لأنّ الفرد من الوجوب الذي كان موجوداً سابقاً هو وجوب الخمسة قد علم بارتفاعه ، غايته أنّه قد حصل الشكّ في قيام وجوب الأربعة مقامه عند ارتفاعه بتعذّر الخامس ، غايته أنّه حاول تصحيحه بالتسامح العرفي ، بدعوى عدم الفرق بين الوجوبين عرفاً ، وأنّه لو وجبت الأربعة بعد تعذّر الخامس لكان وجوبها معدوداً في نظرهم بقاءً للوجوب السابق ، فقال : وقد عرفت أنّه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ( يعني الثاني والثالث ). والمحتاج إلى التسامح العرفي في الموضوع هو الثاني ، والمحتاج إليه في المستصحب نفسه هو الثالث. وفي بعض النسخ الضرب على لفظ « الوجهين » وإبدالها ب- « التوجيهات » ليشمل الوجه الأوّل ، فإنّه أيضاً محتاج إلى التسامح في المستصحب وهو القدر الجامع بين الوجوب النفسي والغيري ، بدعوى كون اختلافهما من قبيل الاختلاف في المراتب.

ثمّ أشكل على هذه المسامحة العرفية فقال : لكن الإشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق (2).

ولعلّ السرّ في كون استصحاب كلّي التكليف في موارد استصحاب

ص: 462


1- فرائد الأُصول 3 : 283.
2- فرائد الأُصول 3 : 282.

الاشتغال من قبيل الفرد المردّد بين المرتفع والباقي هو أنّ المكلّف بعد تعذّر الخامس يعلم أنّه قد تحقّق الوجوب في حقّه قبل تعذّر الخامس ، ولكنّه يشكّ في أنّ ذلك الوجوب السابق هل كان هو وجوب الخمسة فقد ارتفع ، أو كان هو وجوب الأربعة وأنّ الخامس لم يكن واجباً أصلاً فقد بقي ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ المسامحة المدعاة لو تمّت في الوجه الثالث لكنّا في غنى عن استصحاب الكلّي ، بل يكون المستصحب هو شخص الوجوب السابق ، وهكذا الحال في الوجه الأوّل ، بل إنّ ذلك - أعني الاستغناء عن استصحاب الكلّي - جار حتّى في مثل السواد الشديد والضعيف ، فإنّهما بعد أن كانا شيئاً واحداً بنظر العرف يكون المستصحب هو نفس السواد الموجود سابقاً ، غايته نأخذه معرّى عن مرتبة الشدّة ، ولعلّ ذلك - أعني التعرية المذكورة - هو المراد من كونه كلّياً فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ السيّد ( سلّمه اللّه ) ذكر الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ قدس سره ، لكنّه جعله ثالثاً ، فقال : الثالث استصحاب الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب - إلى قوله - وهذا الوجه وإن كان أحسن ما يمكن أن يقال في المقام. ثمّ أشكل عليه بما تضمّنه تحرير الشيخ محمّد علي رحمه اللّه فقال : إلاّ أنّه إنّما يصحّ التمسّك به في الموضوعات العرفية - ثمّ قال - ولكنّه يمكن أن يقال : إذا كان الباقي هو معظم أجزاء العبادة الخ (1).

ولا يخفى أنّه مع فرض عدم اطّلاع العرف على ما هو الركن في العبادة كيف يمكن الجزم بأنّ ما هو المفقود غير ركن كي ينفعه الركون إلى كون الباقي هو المعظم.

ص: 463


1- أجود التقريرات 4 : 177 - 178.

وقال قدس سره فيما حرّرته عنه بعد تقريب ما أفاده الشيخ قدس سره من الوجه الثاني المحتاج إلى التسامح في الموضوع ، وبعد بيان كيفية التسامح في ذلك في المركّبات الخارجية قال ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : أمّا ما يكون من المركّبات الشرعية كما في مثل الصلاة ، فحيث إنّ العرف لا يكون نظره فيها متّبعاً لعدم اطّلاعه على ما هو العمدة من أجزائها وما هو الفضلة منها ، فالمتّبع فيها هو نظر الفقهاء ، فما كان مسلّماً عندهم جريان قاعدة الميسور فيه أو لم يكن مسلّماً ولكن عمدة الفقهاء وأساطينهم عملوا فيه بقاعدة الميسور ، كشف ذلك عن كون الجزء المتعذّر ليس من العمدة فيها ، بل يكون ذلك الجزء فضلة ، ولذلك أجروا فيما بقي قاعدة الميسور ، وحينئذ كان الاستصحاب جارياً فيه ، وما لم يجروا فيه القاعدة ولم يعملوا بها فيما بقي منه من الأجزاء الممكنة كشف ذلك عن كون ذلك الجزء المتعذّر هو العمدة ، وأنّه بانحلاله ينحلّ المركّب ، فلا يكون الاستصحاب جارياً. ثمّ ذكر صورة كون العمل من بعض وعدم العمل من بعض آخر ، واحتمل جريان الاستصحاب فيه ، وأنّه بذلك يحصل التفكيك بينهما. ثمّ استشكل في ذلك ، ثمّ قال : وحينئذ فالتحقيق في تقريب جريان الاستصحاب مع عدم جريان القاعدة أن يقال : إنّ قاعدة الميسور لو جرت كانت حاكمة على الاستصحاب ، فأي فائدة لتكلّف الزحمة في استكشاف عدم الركنية من إجرائهم قاعدة الميسور التي هي موجبة لسقوط الاستصحاب لكونها حاكمة عليه ، فالعمدة إنّما هو الاعتماد على الاستصحاب في المورد الذي لا تجري فيه القاعدة. ولأجل ذلك قال قدس سره بعد المبحث المتقدّم ما هذا لفظه : وحينئذ فالتحقيق في تقريب جريان الاستصحاب مع عدم جريان القاعدة أن يقال الخ ، ثمّ أخذ في بيان ما هو عين ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي ، فراجع.

ص: 464

ولا يخفى أنّ السيّد ( سلّمه اللّه ) لم يذكر هذا الوجه الرابع ، وهو الذي حكاه عنه المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : نعم ، يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعلّه يسلم عن الإشكال - ثمّ عقّبه بقوله - فإن قلت : بناءً على هذا ينبغي عدم الفرق بين أن يكون الباقي معظم الأجزاء أو بعض الأجزاء الخ (1). وكأنّ عمدة همّ شيخنا هو هذه الجهة ، وهي إثبات إجراء الاستصحاب في خصوص ما لو كان الباقي هو المعظم ، مع أنّ مقتضى الوجه الرابع هو إمكان إجراء الاستصحاب حتّى لو بقي جزء واحد ضئيل ، فراجع.

قوله : نعم يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعلّه يسلم عن الإشكال ، وهو أنّ جزئية المتعذّر لو كانت ثبوتاً مختصّة بحال التمكّن ... الخ (2).

ملخّص هذا التوجيه : هو أنّ الوجوب النفسي الوارد على الأربعة في ضمن وروده على الخمسة متّحد مع الوجوب الوارد على الأربعة وحدها ، وإنّما يكون الاختلاف في ذلك في حدّ الوجوب لا في ماهية نفس الوجوب ، فإذا شككنا في بقاء الوجوب الوارد على الأربعة بعد تعذّر الخامس كان الاستصحاب جارياً فيه.

لا يقال : إنّ دعوى الاتّحاد بين الوجوبين ينافي ما أفاده قدس سره في منع انحلال العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر.

لأنّا نقول : إنّ منعه قدس سره الانحلال لم يكن من جهة المباينة بين الوجوبين ، بل من جهة الارتباطية الموجبة للشكّ في سقوط الوجوب الوارد على الأربعة بالاتيان بها مجرّدة عن الخامس ، لاحتمال وجوب ذلك الخامس الموجب لتوقّف

ص: 465


1- فوائد الأُصول 4 : 559 - 560.
2- فوائد الأُصول 4 : 559.

امتثال الأمر بالأربعة على الاقتران بالخامس ، وذلك لا ينافي وحدة الوجوب الوارد على الأربعة في ضمن وجوب الخمسة مع وجوبها منفردة.

لا يقال : إنّ الخامس المتعذّر لو كان اعتباره مطلقاً حتّى في حال تعذّره لكان وجوب الأربعة مشروطاً بالقدرة عليه ، بخلاف ما لو كان اعتباره مختصّاً بحال التمكّن منه فإنّ وجوب الأربعة حينئذ لا يكون مشروطاً بالقدرة على الخامس ، بل يكون وجوبها مطلقاً من هذه الجهة ، وحينئذ يكون مرجع التردّد في إطلاق اعتبار الخامس لحال تعذّره أو اختصاصه بحال التمكّن منه ، إلى التردّد في إطلاق وجوب الأربعة أو تقييده بحال التمكّن من الخامس ، وبذلك يكون وجوب الأربعة في ضمن الخمسة المفروض كون خامسها معتبراً مطلقاً مبايناً لوجوب الأربعة وحدها ، لأنّه على الأوّل يكون مشروطاً بالقدرة على الخامس ، وعلى الثاني مطلقاً من هذه الجهة.

لأنّا نقول : إنّ المغايرة في الوجوب بين الاطلاق والاشتراط لا يوجب المغايرة بحسب الذات ، فلا يمنع من الاستصحاب ، ألا ترى أنّه لو وجب علينا الحجّ في حال الاستطاعة ودار الأمر بين كونه مشروطاً بالاستطاعة أو كونه مطلقاً مع فرض تحقّق الاستطاعة سابقاً ، فلو فرض ارتفاعها بعد ذلك كان استصحاب الوجوب الشخصي الفعلي جارياً بلا كلام ، نعم يتوقّف على مقدار من المسامحة ، فإنّ احتمال مدخلية القيد السابق لا يندفع إلاّبدعوى المسامحة العرفية ، وأنّ ذلك القيد السابق بحسب النظر العرفي أجنبي عن الدخل في ذلك الوجوب.

قلت : لا يخفى أنّ المتيقّن السابق إن كان هو الوجوب المضاف إلى الصلاة كان محتاجاً إلى التسامح في الأربعة وأنّها بنظر العرف متّحدة مع مجموع الخمسة

ص: 466

فيقال : إنّ هذا الفعل كان واجباً والآن نشكّ في بقاء وجوبه ، وندّعي أنّ الباقي عين السابق عرفاً ، فتتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، وحينئذ يكون هذا الوجه هو عين الوجه الثاني.

وإن لم نأخذ الوجوب السابق مضافاً إلى الصلاة - بل نقول : إنّ الوجوب كان موجوداً والآن نشكّ في بقائه من جهة الشكّ في بقائه مع تعذّر بعض أجزاء متعلّقه ، فعلى تقدير بقائه وإن كان مختلفاً مع السابق بالحدّ إلاّ أنّه لمّا لم يكن اختلافاً بالهوية ، صحّ لنا عرفاً أن نقول إنّ نفس ذلك الوجوب باقٍ ، وحينئذ تكون المسامحة في نفس الحكم المستصحب لا في متعلّقه - كان راجعاً إلى الوجه الثالث ، فيتجّه عليه ما توجّه على الثالث من كون استصحاب الوجوب بمفاد كان التامّة لا ينفع في إثبات وجوب الباقي إلاّبالأصل المثبت. مضافاً إلى ما توجّه على الوجه الثاني من أنّه لا عبرة بالمسامحة العرفية في المركّبات الشرعية ، فإنّ هذا الإشكال يتوجّه على هذا التقريب بطريق الأولوية ، إذ لا ينبغي الشكّ في أنّه لا عبرة بالمسامحة العرفية في نفس الأحكام الشرعية فتأمّل ، كما عرفت في توجّهه أيضاً على التوجيه الثالث ، فتأمّل.

أمّا لو كان المراد هو أنّ نفس الوجوب الوارد على الأربعة في ضمن الخمسة هو المستصحب بعد تعذّر الخامس ، فلا ريب في الاتّحاد حينئذ ، إذ ليس الموجب للشكّ في بقاء الوجوب النفسي الذي كان وارداً على الأربعة إلاّ احتمال كونه مشروطاً بالقدرة على الخامس الناشئ عن احتمال إطلاق قيدية الخامس الموجب للارتباط بين وجوب الأربعة ووجوب الخامس وجوداً وعدماً ، وهو ما ذكرناه من الارتباطية بين الوجوبين وجوداً وعدماً زيادة على الارتباطية بين المتعلّقين إطاعة وعصياناً ، ومن الواضح أنّ ذلك - أعني الارتباطية بين وجوب

ص: 467

الأربعة ووجوب الخامس وجوداً وعدماً أو عدم الارتباطية بينهما - لا يكون موجباً للاختلاف في هوية وجوب الأربعة.

ومن ذلك يتّضح لك صحّة المقايسة بين ما نحن فيه وبين البياض الطارئ على الجسم الطويل فيما لو نقص بعض طوله ، في كون البياض الباقي على الباقي هو عين البياض السابق ، فإنّ ما كان من البياض طارئاً على ذلك المقدار الباقي من الجسم هو عين ما كان طارئاً عليه حينما كان طويلاً ، فإذا عرض ما أوجب نقصان الجسم في طوله وشككنا في إزالته لوصف البياض عن الجسم ، لم يكن لنا مانع عن استصحاب البياض الذي كان طارئاً على الباقي ، وحينئذ فمقتضى المقايسة هو أن يكون المستصحب فيما نحن فيه هو الوجوب الذي كان طارئاً على الباقي ، أعني الوجوب النفسي الضمني الذي كان طارئاً على الأربعة في ضمن طروّه على الخمسة ، ولا يكون راجعاً إلى أحد الوجوه السابقة فيما نقله عن الشيخ قدس سرهما.

نعم ، يبقى في المقام إشكال آخر ، وهو أنّ وجوب الأربعة المشروط بالقدرة على الخامس وإن كان متّحداً مع الوجوب غير المشروط بذلك ، لكن يكون استصحابه مع التردّد المذكور من قبيل الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي ، لأنّ وجوب الأربعة المشروط بالقدرة على الخامس يكون محدوداً بطروّ العجز عن الخامس ، فيكون الشكّ في كونه مشروطاً بالقدرة على الخامس أو غير مشروط بذلك من قبيل الشكّ في المقتضي بالنسبة إلى وجوب الأربعة ، اللّهمّ إلاّ أن يوسّع الشكّ في الرافع إلى ما يكون ارتفاعه بحدوث حادث كوني ، وهو فيما نحن فيه طروّ العجز عن الخامس ، فيكون هذا الوجوب المحتمل كونه محدوداً بالعجز المذكور ملحقاً بالشكّ في الرافع كما شرحه شيخنا قدس سره (1) في بيان

ص: 468


1- فوائد الأُصول 4 : 324 وما بعدها / الأمر السادس.

ضابط الشكّ في المقتضي والرافع ، فراجع.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجوب الذي كان وارداً على الأربعة في ضمن وجوب الخمسة إن كان مشروطاً بالقدرة على الخامس فقد ارتفع قطعاً ، وإن لم يكن مشروطاً بالقدرة عليه غايته أنّه كان امتثاله في مقام القدرة على الخامس منوطاً بامتثال الوجوب المتعلّق بالخامس [ فهو باق قطعاً ] ، وحينئذ يكون ذلك الوجوب الوارد على الأربعة مردّداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، فلابدّ من الرجوع إلى كون المستصحب هو القدر الجامع بين الوجوبين ، فيتّجه عليه ما أشكله شيخنا قدس سره في القدر الجامع بين الوجوب النفسي والغيري. اللّهمّ إلاّ أن يقال : ليس كلّ ما يتردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع من قبيل الفرد المردّد ما لم يكن في البين اختلاف بحسب الذات والهوية ، وإلاّ لكان كلّ ما هو مشكوك البقاء مردّداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، ومن الواضح أنّ تردّد الوجوب بين كونه مشروطاً بالقدرة على الخامس وكونه غير مشروط بذلك لا يوجب اختلافاً في هوية ذاته ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإن قلت : بناءً على هذا ينبغي عدم الفرق بين أن يكون الباقي معظم الأجزاء أو بعض الأجزاء ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الكلام في استصحاب وجوب الباقي إنّما هو مع قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على ركنية المتعذّر ، ولم يعلم من مذاق الفقهاء المنع من الأخذ بمقتضى الاستصحاب فيما لو كان الباقي جزءاً واحداً إذا لم يثبت كون المتعذّر ركناً ، وإنّما يمنعون من ذلك في باب الصلاة وأمثالها ممّا يكون جملة من أجزائها مشتملاً على الركنية وكان المتعذّر أحد الأركان ، بل لم يعلم من مذاقهم المنع من

ص: 469


1- فوائد الأُصول 4 : 560.

ذلك حتّى فيما لو كان المتعذّر هو ما يسمّونه ركناً ، ألا ترى أنّه لو أمر باكرام العلماء على نحو العموم المجموعي ، واتّفق بعد توجّه هذا التكليف أن تعذّر إكرام الجميع إلاّفرداً واحداً أو فردين من العلماء ، هل نشكّ أو يشكّ أحد في وجوب إكرام الباقي ولو كان فرداً واحداً أو فردين بعد أن كان الجميع مائة فرد مثلاً ، وهل نشكّ في أنّ هذا الوجوب الوارد على الواحد الباقي هو عين الوجوب الذي كان وارداً عليه في ضمن المائة.

وإنّما فرضنا تعذّر إكرام البعض لا فقد البعض لأنّ فقد البعض خارج عن الاستصحاب ، لأنّه إنّما يجب فيه إكرام الباقي لأجل أنّ انضمام المفقود لم يكن اعتباره إلاّبشرط وجوده ، لكون القضية حقيقية ، فلا يكون وجوب الباقي إلاّمن جهة سقوط اعتبار المفقود لا من جهة الاستصحاب ، وكون القضية حقيقيّة يكون الحكم فيها ولو ضمنياً منوطاً بوجود ما يتعلّق به ذلك الوجود الضمني لا ينافي المجموعية. وإن شئت فقايس ما نحن فيه ببياض الجزء الباقي من الجسم الأبيض.

نعم ، في الواجبات العددية مثل إطعام ستّين مسكيناً قد يقال بعدم وجوب الباقي ، وعدم جريان استصحاب وجوبه حتّى لو كان المتعذّر واحداً ، وكذا في صيام الشهرين المتتابعين ونحو ذلك ، لا من جهة أنّ الاستصحاب لا يجري في الباقي لو تعذّر المعظم ، لما عرفت من عدم وجوب الباقي حتّى لو كان المتعذّر واحداً ، بل لما عرفت من اعتبار العدد الخاصّ الموجب لركنية كلّ واحد من تلك الآحاد.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الاستصحاب أوسع دائرة من قاعدة الميسور لاختصاصها بما إذا كان الباقي هو معظم الأجزاء ، بخلاف الاستصحاب فإنّه على

ص: 470

هذا التوجيه يجري حتّى لو كان الباقي أقلّ قليل بالنسبة إلى المتعذّر ، بل إنّ القاعدة تكون أخصّ من الاستصحاب حتّى بناءً على ما أفاده قدس سره من الجواب عن هذا الاعتراض بما حكي عنه قدس سره بقول قلت الخ ، لأنّ أقصى ما في الجواب هو أنّه لابدّ أن لا يكون المتعذّر هو المعظم ، وهذا أعمّ من مورد القاعدة التي اعتبر فيها أن يكون الباقي هو المعظم. ويظهر ذلك فيما لو لم يكن كلّ من الباقي والمتعذّر معظماً ، بل كان الباقي غير المعظم ، كما أنّ المتعذّر هو غير المعظم ، فإنّه يجري الاستصحاب لعدم كون المتعذّر معظماً ، ولا تجري فيه القاعدة لعدم كون الباقي هو المعظم ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ النظر العرفي لا يقتضي كون الباقي هو المعظم ، بل أقصى ما فيه هو أن لا يكون المتعذّر هو المعظم ، لأنّه إذا كان المتعذّر هو المعظم وكان الباقي فضلة يكون وجوب الباقي بحسب النظر العرفي مبايناً مع وجوبه في ضمن الكل ، وحينئذ يكون مورد الاستصحاب أعمّ من مورد القاعدة ، لاختصاص مورد القاعدة بما يكون الباقي هو المعظم ، وشمول مورد الاستصحاب لما كان الباقي غير المعظم إذا كان المتعذّر غير المعظم أيضاً ، بأن كان الباقي مساوياً للمتعذّر في عدم كونه هو المعظم.

قوله : لأنّه لو كان التشهّد في الواقع واجباً كان وجوبه بعين وجوب الكلّ - وكذلك قوله في الجواب - قلت : نعم ، وإن كان وجوب الباقي هو عين الوجوب السابق الذي كان متعلّقاً بالكلّ ... الخ (1).

هذه التعبيرات وكذلك الجواب نفسه إنّما يناسب الوجه الثالث من الوجوه التي أفادها الشيخ قدس سره. أمّا على الوجه الذي أفاده شيخنا قدس سره من أنّ المستصحب هو

ص: 471


1- فوائد الأُصول 4 : 560 ، 561.

نفس وجوب الأربعة الذي كان طارئاً عليها عندما كان طارئاً على الخمسة ، نظير بياض هذا الجزء بعد أن زالت بعض أجزاء الجسم فإنّه عين بياض ذلك الجزء قبل أن تزول بقيّة الأجزاء ، فلا يكون وجوب التشهّد الذي نريد أن نحكم ببقائه إلاّ ذلك الوجوب الذي كان طارئاً عليه عند التمكّن من باقي الأجزاء ، وهو بعينه باقٍ بحكم الاستصحاب ، وحينئذ فلا تصحّ هذه التعبيرات ، بل الصحيح هو قوله في الجواب : فيكون وجوبه قبل تعذّر بقيّة الأجزاء نحواً يغاير وجوبه بعد تعذّرها عرفاً وإن كان هو هو حقيقة الخ.

ولكن بعد تسليم الاتّحاد الحقيقي هل تسمع دعوى التغاير العرفي ، وهل يفرّق العرف بين بياض هذا الجزء الحقير الباقي من ذلك الجسم وبين بياض نفس ذلك الجزء عندما كان الجسم موجوداً بتمامه ، ولو سلّمنا الفرق بين نظرهم في مثل البياض ونظرهم في مثل الوجوب فيقال : إنّ الوجوب في نظرهم مختلف بخلاف البياض ، فهل يعتنى بهذا النظر منهم ، مع أنّا قد سددنا باب تسامحهم في الشرعيات ، وهذا كلّه إنّما نشأ من البناء على أنّ ذوق الفقهاء على عدم إجراء الاستصحاب في باب الصلاة فيما لو تعذّر المعظم ، وقد عرفت إمكان تطرّق الانكار إلى ذلك ، نعم لعلّهم إنّما منعوا من الاستصحاب لكون المتعذّر المعظم هو عبارة عن أغلب الأركان ، بل قد عرفت إمكان إنكار منعهم حتّى في هذه الصورة التي يكون المتعذّر هو أغلب ما يسمّونه بالأركان.

ويبقى الكلام في النقض الآخر الذي ذكره الشيخ قدس سره (1) وهو ما لو كان المتعذّر هو الشرط ، بناءً على أنّ الذات المجرّدة عن القيد لا تكون مركباً للوجوب النفسي في مورد تعلّق الوجوب بالذات المقيّدة ، إلاّ أن يدفع بدعوى

ص: 472


1- فرائد الأُصول 3 : 281.

كونها مورداً له أيضاً كنفس التقييد على ما هو مسلك شيخنا قدس سره (1).

ولو التزمنا بخروج مورد تعذّر الشرط لا يتّجه علينا الالتزام بخروج تعذّر بعض الأجزاء من جهة سقوط التقييد الناشئ عن الارتباطية ، لما ستعرفه (2) من الفرق بين التقييد بالشرط والتقييد بالجزء الذي هو عبارة عن الارتباطية ، فإنّه لا ينافي كون الوجوب كان وارداً على ذات الأجزاء المتمكّن منها ، والارتباطية عبارة أُخرى عن التركّب ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة هذه المباحث : هو أنّه ربما يورد على ما أفاده شيخنا قدس سره من استصحاب نفس وجوب الأربعة حينما كان متمكّناً من الخامس بأُمور :

الأوّل : أنّه مناف لإنكاره الانحلال في مسألة الأقل والأكثر. وقد عرفت الجواب عنه بما حاصله : أنّه لو كان منعه الانحلال هناك راجعاً إلى دعوى المباينة بين الوجوب بشرط شيء والوجوب لا بشرط ، لكان منافياً لما أفاده هنا من أنّ وجوب الأربعة حينما كانت مع الخامس عين وجوبها حينما يتعذّر الخامس ، أمّا لو كان راجعاً إلى أنّ الخامس لو كان واجباً لكان الأمر بالأربعة غير ساقط عند الاتيان بها وحدها للارتباطية بينهما في مقام الامتثال ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في الامتثال ، ويكون المرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة ، وحينئذ لا يكون ما أفاده هناك منافياً لما أفاده هنا ، فتأمّل.

الأمر الثاني : أنّ وجوب الأربعة حينما كان متمكّناً من الخامس مردّد بين كونه مطلقاً وكونه مشروطاً بالتمكّن من الخامس. والجواب عنه أنّه وإن كان كذلك إلاّ أنّ أحدهما بالذات عين الآخر ، إذ ليس مرجع الأوّل إلى كون الوجوب

ص: 473


1- وستأتي الاشارة إليه في الصفحة : 475.
2- في الحاشية الآتية في الصفحة : 476.

بشرط عدم القدرة ليكون التردّد بينهما من قبيل الوجوب بشرط شيء وهو القدرة على الخامس والوجوب بشرط لا وهو عدم القدرة على الخامس ، بل إنّما هو من التردّد بين كون الوجوب مشروطاً بالقدرة على الخامس وكونه غير مشروط بذلك فتكون المقابلة بينهما من قبيل المقابلة بين الوجوب المشروط والوجوب المطلق.

الأمر الثالث : أنّه من قبيل الفرد المردّد بين المطلق فهو باقٍ والمشروط فهو مرتفع ، وقد عرفت أنّه أجنبي عن الفرد المردّد ، لما عرفت من كون الوجوب واحداً بالذات ، وإنّما كان الشكّ في بقائه وارتفاعه من جهة أمر آخر زائد على ذات الوجوب وهو كونه مطلقاً أو مشروطاً ، وهذا هو الذي أوجب الشكّ في بقائه وارتفاعه ، وليس هو من قبيل الفرد المردّد وإلاّ لكان كلّ مشكوك البقاء من قبيل الفرد المردّد.

الأمر الرابع : أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وقد عرفت إمكان الجواب عنه بأنّ الشكّ في البقاء لمّا كان مستنداً إلى حادث من الحوادث وهو تعذّر الخامس ، كان من قبيل الشكّ في المسقط وهو المعبّر عنه بكونه من قبيل الشكّ في الرافع ، بمعنى الشكّ في رافعية الموجود.

الأمر الخامس أن يقال : إنّه من قبيل الشكّ في بقاء الموضوع ، لأنّ وجوب الأربعة حينما كان الخامس مقدوراً إنّما هو متوجّه إلى القادر على الخامس ، ونحن نحتمل أنّ كونه كذلك - أعني قادراً على الخامس - قد أُخذ على نحو الموضوعية ، فيكون استصحاب الوجوب المذكور مع هذا الشكّ من قبيل استصحاب الحكم مع الشكّ في الموضوع.

والجواب عن هذا الإشكال : هو أنّ القدرة على الخامس على تقدير كونها

ص: 474

معتبرة في وجوب الأربعة لا يكون من قبيل الموضوع نظير العدالة بالنسبة إلى جواز الاقتداء ، بل هي من قبيل الشرط الذي هو بمنزلة العلّة للحكم نظير التغيّر بالنسبة إلى النجاسة ، وحيث إنّا لم نحرز اعتبارها جاز لنا استصحاب الحكم المزبور. نعم لو ثبت اعتبارها كانت من قبيل العلّة الدوامية ، وهذا لا يضرّ بالاستصحاب عند انتفائها مع الشكّ في اعتبارها ، فلاحظ.

الأمر السادس ممّا يورد به على شيخنا قدس سره : هو هذا الذي تعرّض [ له ] ، وهو أنّ لازمه وجوب الباقي حتّى لو لم يبق إلاّجزء واحد. والذي هو في النظر القاصر أنّ هذا اللازم ليس باللازم الباطل حتّى في باب الصلاة مع قطع النظر عن الأدلّة الأُخرى القاضية بسقوطها عند عدم التمكّن من الطهور مثلاً. نعم هنا شيء آخر وهو انحفاظ عنوان الصلاة ، وهو مطلب آخر لا ربط له بما نحن فيه من تعلّق الأمر بذات المركّب مع طروّ التعذّر على بعض أجزائه أو على أغلب أجزائه مع فرض عدم اعتبار عنوان في البين لا ينطبق على الباقي من الأجزاء.

وبالجملة : أنّ الكلام في محلّ البحث مقصور على مجرّد كون المأمور به مركّباً قد تعذّر بعض أجزائه ، أمّا ما يكون من المركّبات ذا عنوان خاصّ وقد حصل تعذّر بعض أجزائه مع الشكّ في صدق العنوان على الباقي أو مع فرض عدم صدقه ، وكذلك ما يكون من قبيل الأعداد والأوزان مثل ستين مسكيناً في باب الكفّارة أو المدّ في باب الفدية ونحو ذلك ، فكلّه خارج عن محلّ البحث.

وبقي الايراد السابع : وهو صورة تعذّر الشرط. ويمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ عدم جريان الاستصحاب في صورة تعذّر الشرط لعدم كون الذات مطروّة للوجوب لا يكون موجباً لعدم جريانه في صورة تعذّر بعض الأجزاء.

ص: 475

وثانياً : أنّه من الممكن القول بوجوب الذات كما حقّقه شيخنا قدس سره في مباحث مقدّمة الواجب (1).

وإن شئت فلاحظ ما فصّل في مباحث الأقل والأكثر من تقسيم ذلك إلى الأقل والأكثر الخارجيّين ، مثل التردّد بين كون الواجب هو أربعة أجزاء أو خمسة ، أو التحليليّين مثل التردّد بين كون الواجب هو المطلق وكونه هو المقيّد ، أو المفهومين المتباينين مفهوماً كما في التردّد بين كون الواجب هو العام كالجنس مثلاً أو الخاصّ كالنوع مثلاً ، فإنّهم قد جعلوا الثاني من مباحث الأقل والأكثر ، ولا يكون ذلك إلاّباعتبار كون الوجوب عندما يطرأ على المقيّد يكون طارئاً على الذات فلاحظ.

قوله : فإنّ وجوب التشهّد مثلاً يكون مندكّاً عرفاً في ضمن وجوب البقيّة ... الخ (2).

يمكن التأمّل في تحقّق هذا النظر العرفي الموجب لمباينة الوجوبين ، نعم فيما لو كان المتعذّر شرطاً يمكن القول بالمباينة العرفية بين الواجد للشرط وفاقده ، فلا يكون الوجوب الثابت للواجد هو عين الثابت للفاقد ، وتحصل المباينة العرفية بينهما من جهة التباين العرفي بين متعلّقيهما ، ولكن هذه المباينة العرفية لا تتأتّى في شرطية الانضمام التي هي عبارة عن الارتباطية ، لأنّ ذلك التباين العرفي منحصر بالشرائط الخارجة عن أصل التركيب ، دون مثل الانضمام الذي هو عين التركيب ، فتأمّل.

ص: 476


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى ما ذكره المحقّق النائيني قدس سره من تقسيم المقدّمة إلى داخلية وخارجية ، فراجع أجود التقريرات 1 : 313 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 561.

قوله : أقول المراد من استصحاب الحكم الشخصي هو استصحاب الحكم الجزئي الفعلي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الحكم الكلّي قبل وجود موضوعه لا يكون له وجود أصلاً وإنّما يكون وجوده حينئذ وجوداً تعليقياً ، ووجوده الحقيقي إنّما يكون بعد وجود موضوعه ، وحينئذ فبعد وجود موضوعه لو شككنا في بقاء ذلك الحكم لأجل تبدّل حالة من حالات ذلك الموضوع أو حالات المكلّف ، نستصحب ذلك الحكم ، وهذه وظيفة عملية راجعة إلى المقلّد ، وأمّا وظيفة المجتهد فهي الحكم الكلّي ، أعني أنّه ينظر إلى ذلك الحكم الكلّي ويفرض موضوعه موجوداً ثمّ يفرض تغيّر حالة من حالات المكلّف ، فيكون حينئذ ذلك الحكم مشكوك البقاء فيحكم ببقائه استصحاباً ، وحينئذ فما يصدر عن المجتهد إنّما هو الحكم بابقاء الحكم المفروض الوجود بعد فرض وجود موضوعه إذا تبدّلت حالة من حالات ذلك الموضوع أو حالات المكلّف ، ففيما نحن فيه يكون الحكم الصادر من المجتهد هو الحكم بابقاء الوجوب الوارد على الأربعة عند دخول الوقت ، بمعنى أنّ المجتهد يفرض دخول الوقت وتوجّه الخطاب إلى المكلّف ، ثمّ يفرض عروض العجز عليه عن الخامس ، فيكون ذلك الحكم حينئذ مشكوك البقاء بعد فرض تحقّقه فيحكم ببقائه ، ويكون حكمه بالبقاء معلّقاً على هذه الأُمور ، وحاصل حكمه هو أنّه لو دخل الوقت ووجبت الأجزاء الخمسة وتحقّق وجوب الأربعة في ضمن وجوب الخمسة وطرأ العجز عن الخامس ، لكان وجوب الأربعة المتحقّق سابقاً محكوماً بالبقاء ، وهذه القضية الكلّية الصادرة من المجتهد يأخذها المقلّد ويطبّقها على عمل نفسه عند ابتلائه بتلك التقادير الذي هو عبارة

ص: 477


1- فوائد الأُصول 4 : 561.

أُخرى عن تحقّق الصغرى لتلك الكلّية ، ويكون محصّل حكم المجتهد هو أنّه لو تحقّقت تلك الصغرى لكان الوجوب باقياً بالاستصحاب ، فالفرق بين الاستصحاب الذي يجريه المقلّد والاستصحاب الذي يجريه المجتهد مع اشتراكهما في كون نفس الحكم المستصحب غير تعليقي ، هو أنّ نفس الاستصحاب - أعني الحكم ببقاء ما كان - يكون تعليقياً في استصحاب المجتهد وتنجيزياً في استصحاب المقلّد.

وعلى كلّ حال ، لا يكون الاستصحاب جارياً فعلاً إلاّبعد فرض دخول الوقت ومضي مدّة يتحقّق فيها وجوب الأربعة في ضمن وجوب الخمسة ، أمّا لو كان التعذّر قبل دخول الوقت فليس في البين إلاّ الحكم التعليقي ، أعني أنّه لو دخل الوقت لوجبت الأربعة في ضمن الخمسة ، وهذا الحكم التعليقي غير قابل للاستصحاب كما مرّ في محلّه.

والحاصل : أنّ وجوب الأربعة في ضمن الخمسة في تعليقه على دخول الوقت بمنزلة الحكم بنجاسة هذا العنب في تعليقه على الغليان ، وطروّ العجز عن الخامس قبل الوقت بمنزلة تبدّل العنب إلى الزبيب قبل الغليان في أنّ غليانه في حال الزبيبية لا يحقّق النجاسة ، فلا يكون دخول الوقت في حال التعذّر موجباً لتحقّق وجوب الأربعة ، وكما لا يجري هناك استصحاب ذلك الحكم التعليقي القائل بأنّ هذا حينما كان عنباً كان لو غلى لتنجّس ، فكذا لا يجري هنا استصحاب هذا الحكم التعليقي القائل بأنّ هذه الأربعة قبل دخول الوقت حينما كان متمكّناً من الخامس كانت محكومة بأنّها لو دخل الوقت لوجبت. فلابدّ حينئذ من كونه عند دخول الوقت متمكّناً من الخامس ، بحيث إنّه تمضي مدّة بعد الوقت بمقدار أداء الخمسة المحقّق لوجوبها الموجب لتحقّق وجوب الأربعة في ضمن وجوبها

ص: 478

لكي يتسنّى لنا بعد التعذّر استصحاب وجوب الأربعة الذي كان في ضمن وجوب الخمسة ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ولكن فرض وجود الموضوع لا يتوقّف على فرض تمكّن المكلّف من الجزء في أوّل الوقت وطروّ العجز بعد انقضاء مقدار من الوقت ، فإنّ المفروض أنّ التمكّن من الجزء المتعذّر ليس من مقوّمات الموضوع وإلاّ لم يجر الاستصحاب رأساً ، فالذي يحتاج إليه في المقام هو فرض دخول الوقت مع كون المكلّف واجداً لشرائط التكليف ، فيستصحب وجوب بقيّة الأجزاء عند تعذّر البعض ولو في أوّل الوقت - إلى قوله - فتأمّل (1).

لا يخفى أنّه كيف يمكن أن يستصحب وجوب بقيّة الأجزاء مع عدم سبق اليقين به ، وفرض دخول الوقت لا ينفع ما لم يكن دخوله موجباً لتكليفه ، وإنّما نحتاج إلى فرض التمكّن من الجزء الخامس عند دخول الوقت لا من جهة أنّه من مقوّمات الموضوع ، بل من جهة أنّه بدونه لا يمكن فرض التكليف بالخمسة كي يمكننا أن نقول : وجبت الأربعة في ضمن الخمسة والآن هي باقية على وجوبها بحكم الاستصحاب ، فإنّ المستصحب وإن كان هو الحكم الكلّي إلاّ أنّه لابدّ في مقام الحكم ببقائه بالاستصحاب من فرض وجوده ولو على نحو القضية الحقيقية بحيث يكون الحكم ببقائه معلّقاً على فرض تحقّقه سابقاً ، بمعنى كون الاستصحاب تعليقياً لا أنّ الحكم المستصحب تعليقي ، والمفروض أنّ فرض وجود الحكم سابقاً يتوقّف على فرض التمكّن من الجزء الخامس. وأمّا الحكم الكلّي التعليقي مع قطع النظر عن فرض وجوده فهو غير قابل للاستصحاب فيما نحن فيه إلاّفي قبال احتمال النسخ.

ص: 479


1- فوائد الأُصول 4 : 562.

نعم ، يمكن استصحابه على نحو التعليق على الوقت إذا كان قبله متمكّناً من الخامس ، لكن ذلك راجع إلى الاستصحاب التعليقي الذي يكون مرجعه إلى استصحاب الحكم التعليقي الثابت قبل دخول الوقت ، ومحصّله : أنّ هذا المكلّف كان قبل الوقت يصدق عليه أنّه لو دخل الوقت لوجب عليه الخمسة. لكنّه قدس سره قد صرّح بعدم إرادته.

وإن كان المستصحب هو الحكم الثابت بعد دخول الوقت بحيث كان المعلّق هو نفس الاستصحاب الذي هو الحكم ببقاء ما كان ، فهذا يتوقّف على فرض كونه عند دخول الوقت متمكّناً من الجزء الخامس ، وإلاّ لم يكن الحكم متحقّقاً كي يمكن استصحابه ، من دون فرق في ذلك بين الوجوه التي أفادها الشيخ قدس سره (1) في تقريب الاستصحاب والوجه الذي أفاده شيخنا قدس سره أخيراً.

وبالجملة : المراد إن كان هو استصحاب الحكم الكلّي القائل إنّه عند دخول الوقت تجب الصلاة ، فهذا لا شكّ فيه ولا يحتاج إلى الاستصحاب. وإن كان المراد هو استصحاب الحكم الثابت لذلك الشخص بدخول الوقت ، ففيه أنّ ذلك المستصحب لم يكن بمتيقّن حينئذ ، فإنّه لو كان في أوّل الوقت غير متمكّن من الجزء الخامس لم يحرز ثبوت وجوب الأربعة في حقّه ولا غيره من الوجوبات التي ذكرها الشيخ قدس سره ، ولو ثبت لكان باقياً بلا استصحاب ، لأنّ فرض ثبوته حينئذ يكون في حال عدم التمكّن ، وإنّما يحصل الشكّ في بقائه لو كان ثابتاً قبل طروّ عدم التمكّن ثمّ بعد طروّ عدم التمكّن يحصل الشكّ في بقائه.

وإن شئت فقل : إنّ منشأ الشكّ في وجوب الباقي هو الشكّ في كيفية جزئية ذلك المتعذّر وأنّها هل هي مطلقة نظير الطهور ، أو أنّها مختصّة بحال التمكّن نظير

ص: 480


1- فرائد الأُصول 3 : 279 وما بعدها.

الساتر ، وعلى الأوّل يكون التمكّن من ذلك الجزء شرطاً في التكليف بالكل ، فإن كان في أوّل الوقت متمكّناً منه ثمّ طرأ عدم التمكّن ، كان للاستصحاب مجال ، وإلاّ بأن كان عند دخول الوقت غير متمكّن منه ، لم يكن الوجوب حينئذ ثابتاً ومحقّقاً حتّى نستصحبه ، بل كان وجوده من أوّل الأمر مشكوكاً.

وبالجملة : أنّ التمكّن من الجزء المذكور يكون من جملة الشرائط التي قال عنها إنّه لابدّ من فرض دخول الوقت مع اجتماع شرائط التكليف ، وحينئذ فلابدّ من فرضه متمكّناً من ذلك الجزء ، ولا يكفي مجرّد فرض دخول الوقت ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الحكم الكلّي إنّما يجري فيه الاستصحاب في مورد الشكّ في النسخ ، لأنّه حينئذ يكون الحكم الكلّي مشكوك البقاء فيستصحب نفس ذلك الحكم الكلّي ، أمّا إذا كان منشأ الشكّ في البقاء هو اختلال بعض القيود والحالات فلا يكون المستصحب فيها إلاّ الحكم الفعلي المترتّب على ذلك الموضوع ، فإنّ المستصحب في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره ليس هو الحكم الكلّي ، لأنّ ذلك الحكم الكلّي لا شكّ لنا في بقائه ، وإنّما المستصحب هو النجاسة الفعلية الخارجية المفروضة الوجود بفرض وجود موضوعها وهو الماء المتغيّر ، ولا فرق بين هذا الاستصحاب والاستصحاب الذي يعمله المقلّد فيما لو ابتلي بالماء المتغيّر الزائل تغيّره سوى أنّ المستصحب في مسألة المقلّد هو الصغرى المحقّقة وفي مسألة المجتهد هو الصغرى المفروضة ، بل إنّ المقلّد بنفسه لا يستصحب ولا يعرف ما الاستصحاب ، وأقصى ما فيه هو أنّ المجتهد ينقّح له الكبرى ويعطيها بيده والمقلّد يعمل بها في مواردها ، من دون فرق في ذلك بين كون مأخذ تلك الكبرى هو الدليل الاجتهادي الذي يكون مصحّحاً للمجتهد أن يخبر المقلّد بما هو الواقع الذي يراه ، أو يكون مأخذها هو الاستصحاب الجاري في

ص: 481

الشبهات الحكمية ، فإنّه يصحّ للمجتهد الإخبار عن الحكم الواقعي اعتماداً على ذلك الاستصحاب ، بل إنّ الأمر كذلك في الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية مثل من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث ، فإنّ اليقين والشكّ وإن كان هو يقين المقلّد وشكّه ، لكن المجتهد يخبره عن حكمه بواسطة ذلك الشكّ واليقين ، على إشكال في ذلك وفي الأُصول العملية الأُخرى مثل أصالة البراءة ونحوها.

وحاصل الإشكال في الأوّل : أنّ المقلّد وإن كان هو المتيقّن وهو الشاكّ إلاّ أنّه لا يمكن أن يتوصّل من يقينه وشكّه إلى حكمه وهو البناء على ذلك المتيقّن ، بل الذي يوصله إليه هو المجتهد ، مع أنّ ذلك المجتهد ليس له ذلك اليقين ولا ذلك الشكّ.

وحاصل الإشكال في الثاني هو عكس الإشكال في الأوّل ، فإنّ منشأ الإشكال فيه هو أنّ الشاكّ في حرمة شرب التتن مثلاً هو المجتهد ، فإنّه هو الذي يصدق عليه أنّه غير عالم ، أمّا العامي فليس له نصيب في العلم بذلك ولا بعدم العلم ، فكيف يكون الحكم المنطبق على المجتهد الذي استفاده من حديث الرفع مثلاً الذي يكون موضوعه مختصّاً به منطبقاً على العامي المقلّد له ، ولتحقيق ذلك مقام آخر.

قول الشيخ قدس سره : ثمّ إنّه لا فرق بناءً على جريان الاستصحاب بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف كما إذا زالت الشمس متمكّناً من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ، لأنّ المستصحب هو الوجوب النوعي المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصي المتوقّف على تحقّق الشرائط

ص: 482

فعلاً ، نعم هنا أوضح (1).

الظاهر أنّه يومئ في القسم الثاني إلى استصحاب الحكم التعليقي ، فيجعل الأربعة بمنزلة العصير ، ويجعل دخول الوقت بمنزلة الغليان ، ويجعل الوجوب بمنزلة الحرمة ، ويجعل التحوّل من القدرة على الخامس إلى عدم القدرة عليه من قبيل التحوّل من العنبية إلى الزبيبية ، فكما يقال للعصير بعد أن تحوّل إلى الزبيبية هذا كان حينما كان عنباً لو غلى يحرم فالآن هو كذلك ، فكذلك يقال للأربعة بعد أن تعذّر الخامس هذه كانت عندما كان الخامس مقدوراً لو دخل الوقت لوجبت ، والآن عندما تعذّر الخامس كذلك باقية على ما كانت عليه من الحكم ، وهو أنّها لو دخل الوقت لوجبت ، وحيث قد دخل الوقت فهي الآن واجبة بحكم ذلك الاستصحاب التعليقي. ولا يلتفت إلى ذلك التحوّل ، لكونه من الحالات نظير التحوّل من العنبية إلى الزبيبية ، فلا يتوجّه الإشكال بأنّها قبل الوقت حينما كان الخامس مقدوراً وإن صدق عليه أنّها لو دخل الوقت لوجبت ، إلاّ أنّ المراد هو أنّها وجبت مع الخامس والآن بعد التعذّر ودخول الوقت لا يكون وجوبها مع الخامس ، لما عرفت (2) من دفع هذا الإشكال بالتسامح ، نعم لابدّ من أن يمرّ زمان على المكلّف يكون فيه قادراً على الخامس ثمّ لا يضرّه التعذّر الواقع قبل الوقت كما هو الظاهر من فرض المصنّف قدس سره بقوله : وبين ما إذا فقده قبل الزوال ، هذا.

ولكن الإنصاف وضوح الفرق بين التحوّل من العنبية والتحوّل من القدرة على الخامس ، فإنّ القدرة على الخامس هي القوام في قولنا هذه الأربعة لو دخل الوقت كانت واجبة ، بخلاف العنبية لإمكان دعوى كونها من حالات الموضوع لا

ص: 483


1- فرائد الأُصول 3 : 282.
2- راجع الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : 449 و 452.

من مقوّماته.

وبالجملة : أنّ العنبية بحسب النظر العرفي تعدّ من الحالات الأجنبية عن المدخلية في الحكم ، بخلاف القدرة على الخامس بالنسبة إلى وجوب الأربعة في ضمن وجوب الخمسة ، فإنّها لا ريب في كونها لها المدخلية في ذلك الوجوب غايته هل أنّها بنحو العلّية أو بنحو الموضوعية ، والمصحّح لاستصحاب وجوب الأربعة هو دعوى كون القدرة على الخامس لو كان لها المدخلية فمدخليتها بنحو العلّية لا بنحو الموضوعية ، فلا يكون الشكّ في مدخليتها من قبيل الشكّ في الموضوع. وعلى أيّ حال ، ليست القدرة من قبيل العنبية التي تعدّ بالنظر العرفي من الحالات الأجنبية عن المدخلية في الحكم بالمرّة ، فلا يرد الإشكال علينا بأنّكم إذا اعترفتم بمدخلية القدرة كيف يصحّ لكم استصحاب وجوب الأربعة فيما لو دخل وكان متمكّناً من الخامس ثمّ طرأه تعذّر الخامس.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي يظهر من هذا التحرير هو شرح ما أفاده الشيخ قدس سره وأنّه لا يبتني على استصحاب الحكم التعليقي ، لكن الذي يظهر من تحرير السيّد ( سلّمه اللّه ) هو ابتناء ما أفاده على مسلكه قدس سره من جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي. ولكن يمكن توجيه ما رامه من عدم الفرق بما لا يتوقّف على صحّة الاستصحاب التعليقي ، فإنّه بعد أن وجّه الاستصحاب فيما نحن فيه من صورة كون التعذّر ابتدائياً ، أفاد ما هذا نصّه : ومنه يظهر أنّ جريان الاستصحاب في فرض التعذّر الابتدائي لا يتوقّف على القول بحجّية الاستصحاب التعليقي كما لعلّه يظهر من كلام العلاّمة الأنصاري قدس سره في المقام ، فراجع (1).

ص: 484


1- أجود التقريرات 4 : 179.

قوله : التنبيه الرابع عشر : المراد من « الشكّ » الذي أُخذ موضوعاً في باب الأُصول العملية ومورداً في باب الأمارات ... الخ (1).

حيث قد حرّرت عنه قدس سره في هذا التنبيه ما هو أبسط من ذلك ، وفيه تعرّض لما أفاده الشيخ قدس سره فلا بأس بنقله برمّته ، قال : إنّ ما أفاده الشيخ قدس سره في الكتاب (2) من أنّ الظنّ غير المعتبر تارةً يكون قد قام الدليل الخاصّ على عدم اعتباره كالقياس ، وأُخرى لا يكون كذلك بل أقصى ما فيه أنّه لم يقم على اعتباره دليل ، فما كان من قبيل الأوّل لا شبهة في عدم مزاحمته للاستصحاب إذا كان على خلافه ، لحكم الشارع بالغائه وعدم الاعتناء به ورفع اليد لأجله عمّا يقتضيه الأصل اعتناءٌ به ، وما كان من قبيل الثاني يكون مشكوك الاعتبار ، فلو قدّمناه على الاستصحاب رجع الأمر إلى رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ ، فيكون مشمولاً لأخبار الاستصحاب. هذه خلاصة ما أفاده الشيخ قدس سره.

وفيه : أنّ ما أفاده في الأوّل إنّما يتمّ إذا كان رفع اليد عمّا يقتضيه الاستصحاب لأجل الظنّ الحاصل من القياس ركوناً إليه وعملاً به ، والمفروض أنّ الأمر ليس كذلك ، بل إنّ دليل الاستصحاب لمّا كان مقيّداً بالشكّ فبعد الجمود على ما هو حقيقة الشكّ الذي هو تساوي الطرفين يكون الظنّ الحاصل من القياس القائم على خلاف مقتضى الاستصحاب رافعاً لموضوع الاستصحاب رفعاً وجدانياً تكوينياً ، وحينئذ فلا تكون الأدلّة الدالّة على إلغاء القياس دالّة على عدم الاعتناء بالظنّ الوجداني الحاصل منه في قبال الاستصحاب ، وإنّما أقصى ما فيها هو أنّ القياس لا يعمل به في الشريعة ، ومن الواضح أنّ ارتفاع الشكّ الذي

ص: 485


1- فوائد الأُصول 4 : 563.
2- فرائد الأُصول 3 : 286.

هو موضوع الاستصحاب بالظنّ الوجداني الحاصل من القياس لا يكون عملاً بالقياس ، بل يكون الارتفاع قهرياً وجدانياً.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تلك الأدلّة يستفاد منها أنّ الظنّ الحاصل منه وجوده كعدمه وأنّه بمنزلة الشكّ ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون هذا المعنى مصحّحاً لجريان الاستصحاب بعد فرض كون الظنّ الوجداني القائم على خلافه رافعاً لموضوعه وجداناً رفعاً قهرياً ، وحينئذ فلا فرق فيما نحن فيه بين كون الظنّ ممّا قام الدليل على عدم اعتباره أو كونه ممّا لم يقم.

وأمّا ما أفاده قدس سره في الثاني ففيه : أنّ المدافعة والمزاحمة إنّما وقعت بين نفس الظنّ الذي قام على موت زيد مثلاً وبين الاستصحاب الذي قام على بقاء حياته ، ولا ريب أنّ موت زيد يكون مظنوناً بالوجدان ، ومقتضاه ارتفاع موضوع الاستصحاب الذي هو الشكّ في بقاء الحياة ، ومجرّد كون الظنّ مشكوك الاعتبار لا يوجب كون نفس الموت مشكوكاً ، وإنّما أقصى ما فيه أن يكون الحكم التعبّدي بالبناء على موته مشكوكاً ، وأين هذا من كون نفس الموت مشكوكاً كي يكون مشمولاً لأخبار الباب.

وحينئذ فعمدة الجواب هو ما ذكره قدس سره ثانياً (1) من كون المراد من الشكّ ليس هو خصوص تساوي الطرفين ، بل هو عبارة عن عدم العلم ، ولو سلّم كونه عبارة عن تساوي الطرفين لكنّه لمّا كان مأخوذاً كاليقين من حيث الطريقية ، فيقوم مقامه كلّ ظنّ لم يكن معتبراً ، لا أنّا نقول إنّ اليقين الناقض والمنقوض أعمّ من اليقين الوجداني والتعبّدي ، والشكّ عبارة عن عدم العلم الأعمّ من الوجداني والتعبّدي كي يكون تقديم الأمارات عليه من باب التخصّص والورود لا الحكومة ، بل إنّا

ص: 486


1- فرائد الأُصول 3 : 285.

نقول إنّ الغرض من اليقين ناقضاً ومنقوضاً هو اليقين الوجداني ، والغرض من الشكّ هو خصوص تساوي الطرفين ، ولكن لمّا كان اليقين في هذا الباب معتبراً من باب الطريقية قامت مقامه الأمارات ، وكان محصّل ذلك أنّ الشكّ الذي هو عبارة عن تساوي الطرفين معتبر من حيث عدم الطريق ، فيقوم مقامه الظنّ غير المعتبر.

ثمّ إنّ هذا الذي تقدّم من جريان الاستصحاب في مورد الظنّ غير المعتبر على خلافه لا يفرق فيه بين كون الاستصحاب معتبراً من باب التعبّد أو أنّه من باب الظنّ ، أمّا الأوّل فواضح كما تقدّم ، وأمّا الثاني فلأنّ الغرض من كونه معتبراً من باب الظنّ ليس هو الظنّ الفعلي ، وإلاّ فلا ريب في كون مجرّد الحدوث فيما تقدّم قد لا يكون موجباً للظنّ الفعلي بالبقاء ، بل الغرض منه الظنّ النوعي كسائر الأمارات التي يقال إنّها معتبرة من باب الظنّ النوعي ، وحينئذ فلا مانع من قيام الظنّ الفعلي على خلافها.

قلت : لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره (1) ذكر لعدم رفع اليد عن الاستصحاب بالظنّ غير المعتبر وجوهاً ثلاثة : أوّلها الإجماع. ثانيها : أنّ المراد بالشكّ في باب الأُصول هو عدم اليقين. الثالث : أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده ، وإن كان ممّا شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ. واستند الشيخ قدس سره إلى ما أفاده في الثاني من كون المراد بالشكّ هو عدم اليقين إلى النقل عن

ص: 487


1- فرائد الأُصول 3 : 285 وما بعدها.

الصحاح (1). ثمّ ذكر أنّ دعوى انصرافه إلى خصوص تساوي الطرفين لا شاهد لها وأنّ الشاهد على خلافها ، وذكر شواهد تدلّ على أنّ المراد بالشكّ هو خلاف اليقين منها : قوله : « لا ، حتّى يستيقن » الخ (2) ، ومنها قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » (3) فإنّ ظاهره حصر ناقض اليقين باليقين. ومنها قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم » (4) فإنّ ظاهره فرض ما يوجب الظنّ بالنوم. ومنها قوله : « لعلّه شيء أُوقع عليك » (5) فإنّه لمجرّد إبداء الاحتمال وإن كان موهوماً. ومنها قوله : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » (6) إلى غير ذلك من الشواهد التي ذكرها لما هو المطلوب من كون المراد من الشكّ هو عدم اليقين لا خصوص تساوي الطرفين.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قوله : مضافاً إلى ما تقدّم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من أنّ الشكّ إنّما أُخذ موضوعاً في الأُصول العملية من جهة كونه موجباً للحيرة وعدم كونه محرزاً وموصلاً للواقع ، لا من جهة كونه صفة قائمة في النفس في مقابل الظنّ والعلم ، فكلّ ما لا يكون موصلاً ومحرزاً للواقع ملحق بالشكّ حكماً وإن لم يكن ملحقاً به موضوعاً ، كما أنّ كلّ ما يكون موصلاً للواقع ومحرزاً له ملحق بالعلم حكماً وإن لم يكن ملحقاً به موضوعاً الخ (7) إن كان هذا راجعاً إلى ما استفاده الشيخ قدس سره من قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » من

ص: 488


1- الصحاح 4 : 1594 مادّة « شكك ».
2- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
3- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
4- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
5- وسائل الشيعة 3 : 482 - 483 / أبواب النجاسات ب 44 ح 1.
6- وسائل الشيعة 10 : 255 - 256 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 13.
7- فوائد الأُصول 4 : 563.

حصر ناقض اليقين باليقين ، وأنّ الظنّ لا ينقض اليقين السابق ، لم يكن ذلك وجهاً آخر في قبال ما نقله من الصحاح ، بل أقصى ما فيه أنّه مؤيّد له ، بل هو من جملة الشواهد على ردّ دعوى الانصراف.

وإن كان راجعاً إلى دعوى أنّ المراد بالشكّ هو عدم الإحراز ، وأنّ المراد من اليقين الناقض لليقين السابق هو مجرّد الاحراز ، توجّه عليه أنّ مقتضاه كون الأمارات الشرعية واردة على الأُصول لا حاكمة ، وأنّ الظنّ غير المعتبر ملحق موضوعاً بالشكّ ، كما أنّ الظنّ المعتبر ملحق موضوعاً باليقين ، لا أنّهما ملحقان بهما حكماً.

ولعلّه يريد بهذه الاضافة ما تقدّم ذكره وحاصله : أنّ الشكّ وإن كان هو عبارة عن تساوي الطرفين إلاّ أنّه أخذ من حيث لازمه الأعمّ الذي هو التحيّر و [ عدم ] الإحراز ، و [ لمّا ] كان الظنّ غير المعتبر غير رافع لذلك التحيّر لم يكن موجباً لسقوط الاستصحاب ، وحينئذ فتكون هذه الاضافة مغايرة لما أفاده أوّلاً من النقل عن الصحاح ، لأنّ تلك دعوى مرجعها إلى الاستعمال ، ولأجل ذلك استدلّ الشيخ عليها واستشهد لها بموارد الاستعمال ، وهذه دعوى مرجعها إلى أنّ الشكّ لم يستعمل إلاّفي معناه الذي هو نفس تساوي الطرفين ، ولكن أخذه موضوعاً للاستصحاب لا من حيث ذاته وكونه صفة خاصّة قائمة بنفس الشاكّ ، بل من حيث كونه موجباً للتحيّر وعدم إحراز الواقع به ، وحينئذ يكون قيام الأمارة الشرعية مقام الاستصحاب من باب الحكومة لا من باب الورود ، فتأمّل.

ولعلّ المنشأ في كونه من باب الحكومة هو أنّ الاحراز في الأمارات الشرعية لمّا لم يكن وجدانياً كاليقين بل كان بجعل الشارع ، كان تقدّمها على الاستصحاب من باب الحكومة ، لأنّ المايز بين الحكومة والورود هو الاحتياج

ص: 489

إلى الحكم الشرعي وعدمه ، فتأمّل.

تنبيه : لا يخفى أنّه لو قلنا إنّ الظنّ غير المعتبر مسقط للاستصحاب ، فليس معناه أنّا نعمل بذلك الظنّ ، بل إنّ المراد هو مجرّد إسقاط الاستصحاب ، فلابدّ من الرجوع إلى أصل آخر غير مقيّد بالشكّ مثل حديث الرفع الذي يكون المدار فيه على عدم العلم ، ولو لم يكن في المسألة مثل هذا الأصل كانت المسألة ممّا سقط فيه جميع الأُصول ، ويتعيّن الاحتياط إن أمكن وإلاّ فالتخيير.

ص: 490

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

التنبيه السادس : الاستصحاب التعليقي... 3

اختلاف الأسماء والعناوين المأخوذة في الدليل من حيث دخلها في الموضوع وعدمه... 3

الشكّ في بقاء الحكم الجزئي وصور الشكّ في بقاء الحكم الكلّي... 5

ما يبتني عليه منع جريان الاستصحاب التعليقي... 7

نقل كلام صاحب المقالات في المقام... 10

نقل كلام العلاّمة الأصفهاني في المقام... 16

نقل كلام السيّد الحكيم قدس سره ودفع ما أورده على المحقّق النائيني قدس سره... 22

نقل كلام العلاّمة الخراساني في حاشية الرسائل وما يمكن أن يفسّر به... 23

وجوه تقرير المستصحب في المقام... 25

تنبيه : لو كان الشرط أمراً تكوينياً غير الغليان... 32

الكلام في حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي... 33

تنبيه : الإشكال على استصحاب الحلّية المنجّزة بأنّه من القسم الثالث من استصحاب الكلّي 40

ص: 491

الكلام في كون الحلّية محدودة شرعاً بالغليان وعدمه... 48

تنبيه : التعرّض لكلام صاحب حقائق الأُصول في المقام... 52

حول التمسّك بالاستصحاب التعليقي في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك... 56

تنبيه : في حكومة الاستصحاب التعليقي على الاباحة الفعلية... 60

تكميل : فيما اشتهر من أنّ استصحاب عدم الضدّ لا يثبت وجود الضدّ الآخر والمناقشة فيه 72

التنبيه السابع : استصحاب بقاء أحكام الشرائع السابقة... 77

التنبيه الثامن : الكلام في حجّية الأصل المثبت... 84

الاشارة إلى أنّ المجعول في باب الأمارات هي الحجّية لا الطريقية... 84

الاشارة إلى ما هو المجعول في باب الأُصول العملية... 87

الاستدلال بقياس المساواة على ترتّب آثار المستصحب وموارد جريانه... 91

دعوى دلالة إطلاق أدلّة اعتبار الأمارات على إثبات اللوازم والملزومات... 99

الكلام في التفصيل بين الواسطة الجلية والخفية والبحث في فروع فقهية ذكرت كأمثلة لخفاء الواسطة 101

التعليق على كلمات أجود التقريرات في المقام... 128

تحقيق معنى « أوّل الشهر » ومثبتية استصحاب بقاء رمضان أو عدم هلال شوال... 139

ذكر بعض الفروع التي توهم ابتناؤها على الأصل المثبت... 148

التنبيه التاسع : مقتضى الأصل عند الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره... 158

الكلام في الشكّ في التقدّم والتأخّر بالاضافة إلى أجزاء الزمان... 158

التعليق على ما ذكره النائيني قدس سره في الموضوعات المركّبة... 158

ص: 492

الكلام في منع جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ... 160

تحقيق جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ... 169

تحقيق جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ... 175

القول بعدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فيه 178

ما ذكره صاحب الكفاية في المقام والتعليق عليه... 194

تفصيل الكلام في معلوم التاريخ ومجهوله... 209

تفصيل الكلام في صور الشكّ بين الكرّية والملاقاة... 242

فائدة : ما إذا اتّفقا على الرجوع وانقضاء العدّة واختلفا في المتقدّم منهما... 255

تنبيه : التعرّض لمسألة في العروة حول الماء المشكوك كرّيته... 266

تكميل : في غسل الثوب النجس في الماء المشكوك الكرّية... 272

استطراد : فيما لو علم بتحقّق الذبح والموت وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما... 274

عود إلى مسألة الشكّ بين الكرّية والملاقاة... 280

التنبيه الثاني عشر : استصحاب حكم المخصّص... 284

التأمّل في كون الأصل في باب الزمان الظرفية... 284

أنحاء لحاظ الزمان قيداً للحكم أو المتعلّق والتأمّل في دخله في المطلب... 285

ما يدلّ على اعتبار العموم الزماني في الحكم أو متعلّقه... 286

الكلام في مصب العموم الزماني من حيث إنّه متعلّق الحكم أو نفس الحكم... 289

الكلام في العموم الزماني المأخوذ في ناحية المتعلّق... 295

كلام مفصّل حول ضابط جريان الاستصحاب وضابط التمسّك بالعموم... 311

ص: 493

ذكر جهات مختلفة مرتبطة بالبحث... 347

التعرّض لما أفاده المحقّق الحائري قدس سره في المقام ونقده... 356

تأسيس الأصل عند الشكّ في أصل العموم الزماني أو في مصبّه بعد العلم به... 362

مصبّ العموم الزماني في الأحكام الوضعية... 372

مصبّ العموم الزماني في التكاليف... 392

إلحاق وتكميل : ذكر كلام للسيّد اليزدي قدس سره في حاشية المكاسب والتعليق عليه... 429

التنبيه الثالث عشر : استصحاب وجوب الباقي عند تعذّر بعض أجزاء المركّب... 442

التنبيه الرابع عشر : المراد بالشكّ في موضوع الأُصول والأمارات... 485

فهرس الموضوعات... 491

ص: 494

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.