أصول الفقه المجلد 9

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1432 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-82-9

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء التاسع

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 9-82-5213-600-978/ج9

ISBN 978-600-5213-82-9/VOL 9

الكتاب: أصول الفقه ج 9

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1431 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ مبحث الاستصحاب ]

بسم اللّه الرحمن الرحيم (1)

قوله : وأسدّ ما قيل في تعريفه هو الحكم ببقاء ما كان ... الخ (2).

قد عرّفوا الاستصحاب بتعاريف ، منها : تعريف الكفاية : وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه (3).

ومنها : أنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأوّل.

ومنها : أنّه إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.

ومنها : أنّه التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه بعد ذلك الوقت أو غير تلك الحال.

ومنها : كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق.

ومنها : الحكم على حكم مثبت في وقت أو حال ببقائه بعده من حيث ثبوته في الأوّل ، مع عدم العلم بالبقاء ولو تقديراً.

ص: 3


1- [ بدأنا فيه ] غرّة ربيع الأوّل سنة 1373 ، وقد فرغنا بحمد اللّه تعالى من مباحث الاستصحاب أواخر ذي الحجّة سنة 1374 [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 4 : 306.
3- كفاية الأُصول : 384.

ومنها : إبقاء ما كان في الزمن الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل.

أمّا ما ذكره شيخنا قدس سره من أنّ الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان ، الذي هو تعريف الكفاية ، فقد أورد عليه قدس سره ما أورده ، واختار لتعريف الاستصحاب : أنّه عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشكّ في بقاء متعلّق اليقين.

ولا يخفى أنّ عدم الانتقاض ليس هو الاستصحاب ، فكان التعبير بعدم النقض أولى ، وحيث إنّ عدم النقض إنّما يتحقّق بالجري العملي على طبق الحالة السابقة ، فالأولى تعريفه : بأنّه الأخذ من حيث الأثر العملي بمقتضى المتيقّن السابق من حكم أو موضوع ذي حكم بعد طروّ الشكّ في بقاء ذلك المتيقّن ، فإنّ الاستصحاب ليس من مقولة الأحكام ، وإنّما هو من أعمال المكلّف. نعم إنّ المستند في هذا العمل هو الأخبار أو بناء العقلاء أو الظنّ النوعي أو الشخصي الحاصل من اليقين السابق ، ولو بملاحظة غلبة البقاء بعد الوجود ، كلّ على مسلكه في أدلّة الاستصحاب ، وليس نفس الاستصحاب من الحجج الشرعية أو العقلية ، ولا هو من الأدلّة ، بل هو عمل يحتاج إلى دليل ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، لك أن تقول : إنّه الحكم ببقاء ما كان ، باعتبار كون المكلّف لمّا أخذ من حيث العمل بما كان ، فكأنّه بنى على بقائه ، والبناء على البقاء حكم منه بالبقاء.

ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ الحكم بالبقاء إن كان عبارة عن عقد القلب عليه والاعتقاد به ، بأن يعتقد أوّلاً بقاء الشيء ثمّ يرتّب أثره ويعمل على طبقه ، فذلك عبارة أُخرى عن لزوم الاعتقاد ، وقد حقّق في محلّه عدم لزومه في الأحكام الشرعية الواقعية ، فضلاً عن الأحكام الظاهرية. وعلى أيّ حال ، أنّ ذلك

ص: 4

- أعني عقد القلب على بقاء المستصحب - أمر آخر لا ربط له بالاستصحاب ولا بدليله.

وإن كان المقصود من الحكم بالبقاء هو حكم الشارع بالبقاء ، فذلك عبارة أُخرى عن النهي عن نقض اليقين ، لا أنّه أمر آخر ويكون النهي عن نقض اليقين ونحوه من الإجماع وبناء العقلاء دليلاً عليه كما صرّح به في الكفاية (1).

وبالجملة : أنّ ما أفاده في الكفاية من أنّ الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه ، وإن دفع إشكال شيخنا قدس سره على الشيخ قدس سره من أنّ الحكم ببقاء ما كان الخ لا يكون إلاّحكماً واقعياً ، وهذا الدفع بواسطة إدخال الشكّ في التعريف ، وبذلك يخرج الحكم المذكور عن كونه حكماً واقعياً ، إلاّ أن زيادة لفظ « الحكم » أوجبت الإشكال من ناحية أُخرى ، وهي ما عرفت من أنّ المراد بالحكم إن كان هو حكم الشارع بالبقاء الذي هو عبارة عن النهي عن النقض ، فذلك هو أحد أدلّة الاستصحاب ، لا أنّه نفس الاستصحاب كما أفاده في الكفاية.

وإن كان المراد به هو حكم المكلّف نفسه بأن يحكم ببقاء ما شكّ في بقائه فمن الواضح أنّ حكم المكلّف بالبقاء إنّما هو عبارة عن اعتقاده بالبقاء ، وقد عرفت أنّه أجنبي عن الاستصحاب ، إذ ليس الاستصحاب إلاّما عرفت من الأخذ بمقتضى الحالة السابقة التي طرأ الشكّ في بقائها بعد اليقين بها ، وذلك عبارة أُخرى عن إبقاء ما كان من حيث الجري العملي على طبقه ، كما هو المستفاد ممّا أفاده الشيخ قدس سره عن الأُصوليين بقوله : وهو لغة أخذ الشيء مصاحباً ، ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة. وعند الأُصوليين عرّف بتعاريف

ص: 5


1- كفاية الأُصول : 384.

أسدّها وأخصرها إبقاء ما كان ( لكنّه قدس سره تصرّف في تفسير الابقاء فقال ) والمراد بالابقاء الحكم بالبقاء (1) وحينئذ يتوجّه عليه الإشكال الذي توجّه إلى ما أفاده في الكفاية من توسيط الحكم ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ولا عبرة بيقين المقلّد وشكّه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكّه ، وهو الذي يُجري الاستصحاب ويكون بوحدته بمنزلة كلّ المكلّفين - إلى قوله - ومن هنا كان إعمال الاستصحاب في الشبهات الحكمية من وظيفة المجتهد ، ولا حظّ للمقلّد فيه ، ولا يجوز للمجتهد الفتوى بحجّية الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، لأنّ تطبيقها ليس بيد المقلّد ، بل لابدّ للمجتهد من الفتوى بالحكم المستخرج من إعمال الاستصحاب ... الخ (2).

لا يخفى أنّ كون المجتهد بوحدته بمنزلة كلّ المكلّفين لا يتّضح إلاّبأن يكون المجتهد نائباً عنهم في الشك واليقين ، وقد منع قدس سره من ذلك في أوائل القطع (3) وفي باب التعادل والتراجيح عند التعرّض للتخيير وأنّه وظيفة [ المجتهد ](4) فراجع.

لكن يهوّن الخطب أنّه لا حاجة إلى دعوى كونه بمنزلة كلّ المكلّفين ، بل يكفي في حجّية فتواه التي استخرجها من الاستصحاب على العامي ، كون الاستصحاب إحرازياً ، فيصحّ للمجتهد الحكاية عن الحكم الواقعي الذي أحرزه

ص: 6


1- فرائد الأُصول 3 : 9.
2- فوائد الأُصول 4 : 310 - 311.
3- فوائد الأُصول 3 : 4.
4- راجع المجلّد الثاني عشر الصفحة : 170 وما بعدها.

بواسطة الاستصحاب ، وذلك - أعني الحكاية عن الحكم الواقعي - هو الملاك في الحجّية على العامي.

نعم ، يشكل ذلك في الأُصول غير الاحرازية ، كقاعدة الحل والبراءة الجارية في الشبهات الحكمية ، وكالاحتياط الجاري في الشبهات الحكمية عند الترديد في المكلّف به بين شيئين ، وكذا الحال في أصالة التخيير الجارية في المسألة الفرعية.

ومنشأ الإشكال أنّ موضوع البراءة مثلاً هو الشكّ ، والمفروض أنّه لا يشمل شكّ المقلّد ، إذ لا عبرة بشكّه ، فيكون الحكم بالبراءة مختصّاً بالمجتهد نفسه ولا يشمل العامي ، فيلزمه الاحتياط أو الرجوع إلى مجتهد آخر ممّن لا يقول بالبراءة في تلك المسألة.

ولكن الإشكال كلّ الإشكال في هذه الدعوى ، أعني كون موضوع البراءة هو خصوص شكّ المجتهد ، فإنّا لو سلّمنا ذلك فإنّما نسلّمه في خصوص الاستصحاب ، لأنّه لابدّ فيه من اليقين السابق ، المفروض أنّه لا يتأتّى في ناحية المقلّد ، إلاّ إذا كان ثبوت الحكم سابقاً واضحاً بديهياً لا يحتاج إلى اجتهاد ثمّ طرأ الشكّ في بقائه لبعض الجهات الموجبة للشكّ ، على نحو لا يتوقّف ذلك الشكّ على الاجتهاد والنظر في الأدلّة.

أمّا مثل أصالة البراءة فلا يعتبر فيها أزيد من الشكّ وعدم العلم ، وذلك حاصل من المكلّف العامي بالضرورة ، غايته أنّه لا تجري في حقّه البراءة إلاّبعد الفحص بمقدار الطاقة ، وهو - أعني الفحص من كلّ مكلّف - إنّما يكون بحسبه ، فهو من المجتهد إنّما يكون بالنظر إلى الأدلّة ، ومن العامي إنّما يكون بالسؤال من

ص: 7

المجتهد ، لأنّ ما يكون حجّة عليه منحصر بفتوى المجتهد ، فإذا رجع إلى المجتهد في تلك المسألة فذلك المجتهد إن كان قد حصّل الحكم الواقعي من الأدلّة أفتاه به ، وإن لم يحصّل ذلك الحكم الواقعي ، وكان المورد بحسب نظره مورداً للبراءة ، صحّ له أن يفتيه بالبراءة ، لأنّ البراءة حينئذ جارية في حقّ ذلك المقلّد ، لكونه شاكّاً غير عالم بالحكم ، مع فرض كون شكّه المذكور واجداً لشرط البراءة ، وهو الفحص عن الحجّة على التكليف.

نعم ، ليس له أن يفتيه بعدم الحكم واقعاً ، كما أنّه بنفسه لا يمكنه البناء على عدم ذلك الحكم واقعاً لو كان هو بنفسه محلّ ابتلاء في ذلك التكليف ، غايته أنّ التعبير في الرسالة العملية بنفي الوجوب مثلاً بأن يقول : يجوز شرب التتن وأنّه لا يحرم ، يكون من قبيل التسامح في التعبير ، وإلاّ فإنّ حقّ العبارة أن يقول إنّ من لم يكن عالماً بحرمة شربه يكون مأذوناً بشربه ، أو لا عقاب عليه في شربه ، أو أنّ حرمته الواقعية مرفوعة عنه ، على الاختلاف في مفاد حديث الرفع ، إلاّ أن ذلك لمّا كان موجباً للتطويل أو لعسر فهمه على العامي التجأوا إلى التعبير بالجواز أو عدم الحرمة ، فتأمّل فإنّ شمول دليل هذه الأُصول لشكّ المقلّد وعدم علمه قابل للمنع.

وبالجملة : أنّ عدم علم المقلّد وشكّه في الحكم ولزوم الفحص عن الفتوى ، لا ربط له بما هو موضوع تلك الأُصول من الشكّ في الحكم الواقعي المتوقّف على النظر في الأدلّة الاجتهادية وعدم تحصيل شيء منها ، وأين هذا من الشكّ الذي هو من مجرّد عدم العلم بفتوى المجتهد ، فراجع ما حرّرناه في مبحث التخيير من مباحث التعادل والتراجيح.

ص: 8

قوله : فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اختلاف زمان المتيقّن والمشكوك ، ولا يعتبر فيه اختلاف زمان الشكّ واليقين ، على عكس قاعدة اليقين ... الخ (1).

وحينئذ فالمدار في الاستصحاب على اتّحاد زمان اليقين والشكّ مع اختلاف زمان المتيقّن والمشكوك ، وتقدّم المتيقّن زماناً على المشكوك ، ولا أثر لتقدّم اليقين لو اتّفق تقدّمه كما في المثال المذكور ، أعني ما لو تيقّن بعدالة زيد في يوم الجمعة وحصل الشكّ في يوم السبت في بقاء تلك العدالة ، مع فرض بقاء يقينه بعدالته يوم الجمعة. كما أنّه لا أثر لتقدّم زمان الشكّ كما سيأتي في المثال الذي يذكره في الأمر الرابع (2) أعني ما لو شكّ في عدالة زيد يوم السبت ثمّ في يوم الأحد تيقّن بعدالته يوم الجمعة ، وحصل له الشكّ في بقائها إلى يوم الأحد ، فإنّ ذلك الشكّ السابق لا دخل له بالاستصحاب ، لأنّه شكّ في الحدوث وقد انتقض باليقين بعدالته يوم الجمعة ، وإنّما الموضوع للاستصحاب هو الشكّ الذي حصل له يوم الأحد ، أعني الشكّ في بقاء العدالة التي تيقّن بها وهي عدالة يوم الجمعة مع فرض شكّه في بقائها.

ولا بأس بمراجعة ما حرّرناه عنه قدس سره في هذا المقام (3) ، ولعلّ أن يأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى عند التعرّض لأنّ مثل قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لابدّ أن يكون مسوقاً لإحدى القاعدتين ، ولا يعقل شموله لهما معاً (4)

ص: 9


1- فوائد الأُصول 4 : 314.
2- فوائد الأُصول 4 : 316.
3- مخطوط ، لم يطبع بعدُ.
4- في خاتمة الاستصحاب [ المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 104 وما بعدها ] وقد شرحنا ذلك وأوضحناه فيما علّقناه [ فيما يأتي في الصفحة : 91 وما بعدها من هذا المجلّد ] على ما أفاده قدس سره في الرواية الرابعة من أخبار الاستصحاب وهي قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ [ منه قدس سره ].

قوله : فإنّ المراد من المقتضي والمانع في القاعدة لا يخلو عن أحد وجوه ثلاثة ... الخ (1).

مرجع الأوّل إلى المقتضي والمانع التكوينيين مثل النار والماء ، ومرجع الثاني إلى ما هو موضوع الحكم وما يكون عدمه قيداً فيه ، مثل الملاقاة للنجس التي هي موضوع للنجاسة المقيّدة بعدم الكرّية ، ومثل العلم الذي هو موضوع وجوب الاكرام المقيّد بعدم الفسق ، ومثل الصلاة التي هي واجبة المقيّدة بعدم مصاحبة ما لا يؤكل لحمه. ومرجع الثالث إلى عالم التشريع ، مثل المصلحة المقتضية لتشريع وجوب إكرام العالم الفاسق ، والمفسدة في إكرام الفاسق المانعة من تشريع وجوب إكرامه الموجبة لتشريع حرمة إكرامه ، وفي هذا التحرير بعض الإجمال ، فراجع ما حرّره السيّد سلّمه اللّه (2) فإنّه في هذا المقام أوفى تحريراً.

قوله : وبالجملة لا إشكال في أنّ مفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقّن والشكّ في بقائه ، وهذا المعنى أجنبي عن استصحاب القهقرى ... الخ (3).

فإنّ مفادها هو النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهو إنّما يكون بعد فرض كونه قد انتقض به وجداناً ، ويكون النهي عن النقض تعبّداً صرفاً ، فلا يشمل الاستصحاب القهقرى ، لأنّ الشكّ فيه لم يكن ناقضاً لليقين كي يكون مورداً

ص: 10


1- فوائد الأُصول 4 : 315.
2- أجود التقريرات 4 : 15.
3- فوائد الأُصول 4 : 317.

للنهي التعبّدي ، بل إنّ اليقين المتأخّر فيه ناقض للشكّ السابق.

نعم ، لو كان مفاد الأخبار مقصوراً على مجرّد الأخذ باليقين والنهي عن الأخذ بالشكّ ، لأمكن القول بشمولها للاستصحاب القهقرى ، لكن حينئذ يكون دائماً مبتلى بمعارضة الاستصحاب العدمي ، حيث إنّ جرّ اليقين بالوجود إلى ما قبل يعارضه جرّ اليقين بالعدم فيما تقدّم إلى زمان اليقين بالوجود ، كما لو علمنا فعلاً بأنّ الصلاة صارت اسماً لذات الأركان ، فنريد بالاستصحاب القهقرى إثبات ذلك في عصره صلى اللّه عليه وآله لتكون حقيقة شرعية ، لكن يعارضه أصالة عدم نقلها لذلك من الدعاء ، وجرّ ذلك العدم ممّا قبل زمانه صلى اللّه عليه وآله إلى ما بعد زمانه.

فائدة : ذكر في الجواهر خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام المروي عن قرب الاسناد ، قال : « سألته عن رجل يكون على وضوء ويشكّ على وضوء هو أو لا ، قال عليه السلام : إذا ذكر وهو في صلاته انصرف فتوضّأ وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك » (1) قال في الجواهر في مباحث خلل الوضوء : ولعلّ مراده بقوله : « يكون على وضوء » أنّه اعتقد أنّه على وضوء ثمّ شكّ بعد ذلك ، أي زال اليقين الأوّل ورجع إلى الشكّ ، ويستفاد منه حينئذ التنبيه على أنّ من اعتقد الوضوء مثلاً ثمّ زال عنه اليقين إلى الشكّ كان الحكم للأخير ، وإن كان لا تجب عليه إعادة العمل الذي أوقعه (2) لقاعدة الفراغ ، وعدم الاعتناء باليقين السابق لكون المسألة من قبيل الشكّ الساري ، فيكون المفروض في الرواية من موارد قاعدة اليقين ، وقد حكم عليه السلام بعدم اعتبارها ، فيكون الخبر من أدلّة عدم حجّية قاعدة اليقين.

ص: 11


1- قرب الاسناد : 177 / 651 ، وسائل الشيعة 1 : 473 / أبواب الوضوء ب 44 ح 2.
2- جواهر الكلام 2 : 350.

قوله : فإنّه مضافاً إلى ظهور لفظ الشكّ واليقين بل مطلق الألفاظ في فعلية الوصف العنواني وقيام مبدأ الاشتقاق الحقيقي ... الخ (1).

حاصله : الاستدلال على لزوم كون الشكّ فعلياً وعدم الاكتفاء بالشكّ التقديري في باب الاستصحاب بأُمور ثلاثة :

الأوّل : الظهور اللفظي من اليقين والشكّ في قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فإنّ الظاهر منه هو الشكّ الفعلي دون التقديري ( ولكن لا علاقة لذلك على الظاهر بمسألة اعتبار التلبّس الفعلي بالمبدأ في باب المشتق ).

الثاني : أنّ الحكم الاستصحابي وهو النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يتحقّق إلاّعند تحقّق موضوعه الذي هو اليقين والشكّ ، فمع فرض عدم كون الشكّ فعلياً لا يكون موضوع الاستصحاب متحقّقاً ، فلا يكون الحكم الاستصحابي متحقّقاً إلاّمع فعلية الشكّ ، إمّا لما أشار إليه هنا بقوله : بداهة أنّ الجري العملي على أحد طرفي الشكّ ، أو البناء على بقاء الحالة السابقة وترتّب آثار ثبوت المتيقّن ، لا يمكن إلاّمع فعلية الشكّ. وإمّا لما أشار إليه في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) من أنّ فعلية كلّ حكم تتوقّف على فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود ، على ما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، فراجعه (2) لكن هذا الأخير لا ينفي حكم الأصل واقعاً وإنّما ينفي فعليته ، كما أنّ الأوّل لا ينفي الواقعية ، لإمكان أن يكون الموضوع هو الشكّ التقديري ، فيكون المكلّف محكوماً بأحد طرفي ذلك الشكّ التقديري وإن لم يكن شاكّاً فعلاً.

ص: 12


1- فوائد الأُصول 4 : 317.
2- أجود التقريرات 4 : 18.

الثالث : ما يستفاد من الترقي بقوله : بل قد تقدّم منّا (1) وهو أنّ الحكم الظاهري لا يتحقّق إلاّبعد العلم بالحكم والموضوع.

وحاصل الوجه الأوّل هو الاستظهار المحض. وحاصل الثاني هو عدم إمكان تأتّي الحكم الاستصحابي الذي هو الأخذ بالمتيقّن ، وكذا في جميع موارد الأُصول الذي يكون هو الأخذ بأحد طرفي الشكّ لا يكون متحقّقاً أو لا يكون فعلياً إلاّمع الالتفات إلى الشكّ. وحاصل الثالث هو كون الحكم الظاهري مقيّداً بالعلم به وبموضوعه ، فإذا كان نفس الحكم الظاهري مجهولاً أو كان موضوعه مجهولاً ، لم يكن الحكم الظاهري متحقّقاً فعلاً.

قلت : قد تقدّمت الاشارة في بعض مباحث الظنّ أو القطع إلى أنّ الحكم الظاهري كالواقعي غير مقيّد بالعلم ، نعم الآثار العقلية المترتّبة على الحكم الظاهري وهي المعذّرية والمنجّزية لا تتحقّق إلاّعند العلم به ، كما أنّ الآثار العقلية اللاحقة للأحكام الواقعية التكليفية التي هي قبح المعصية وحسن الطاعة ولزومها لا تتحقّق إلاّعند العلم بها أو ما يقوم مقامه.

وإن شئت فقل : إنّ الحجّية من الآثار الوضعية الشرعية ، ولها آثار عقلية ، فهي من هذه الجهة نظير الوجوب الشرعي الذي يكون له أثر عقلي وهو وجوب الاطاعة ، فما لم يحصل العلم بذلك الحكم الشرعي لا يلحقه الأثر العقلي.

أمّا الموضوع ، فإن أُريد به الموضوع الخارجي ، مثل أن تقوم الأمارة على حرمة الخمر ، ويقدم الإنسان على شرب مائع جاهلاً بكونه خمراً ، فحاله حال الجاهل بحجّية تلك الأمارة الذي هو الجاهل بالحكم الظاهري ، في تحقّق الحكم الظاهري في حقّه وعدم ترتّب أثره العقلي عليه. وإن أُريد به الجاهل بقيام الأمارة

ص: 13


1- فوائد الأُصول 4 : 317.

مع علمه بحجّيتها ، كما لو كان عالماً بحجّية خبر الواحد وكان هناك ... (1) المكلّف وارتكب شرب النبيذ جاهلاً بقيام الخبر على ... (2) بالموضوع بل هو خارج عن موضوع الحجّية ، لأنّ موضوعها من قام الخبر عنده. وهكذا الحال في الأُصول ، فإنّ الجهل بالموضوع فيها لا يتصوّر ، إذ لا يتصوّر في حقّ الشخص كونه جاهلاً بأنّه شاكّ ، إلاّعلى تقدير شمول الشكّ للشكّ التقديري.

ومن ذلك يظهر لك أنّ المتيقّن بالحدث الشاكّ في بقائه لو كان ملتفتاً إلى يقينه وشكّه لكنّه كان جاهلاً بحجّية الاستصحاب ، وإن شارك الغافل عن الشكّ واليقين في عدم ترتّب آثار حجّية الاستصحاب عليه ، إلاّ أن الأوّل وهو الجاهل بحجّية الاستصحاب يكون الحكم الاستصحابي متحقّقاً في حقّه ، والثاني وهو العالم بحجّية الاستصحاب الغافل عن اليقين والشكّ لا يكون الحكم في حقّه متحقّقاً ، لكن لمّا كان أثر الحكم الظاهري متوقّفاً على العلم به ، لم يكن تحقّق الحكم الاستصحابي في حقّ الأوّل نافعاً في ترتّب أثره ، الذي هو تنجّز الواقع أو المعذورية.

لكن يظهر الفرق بينهما بعد الفراغ من الصلاة مثلاً ، فإنّ الأوّل يلزمه الاعادة لتحقّق الاستصحاب في حقّه قبل الدخول في الصلاة ، وجهله بحجّيته لا يؤثّر في كونه محكوماً من الأوّل بفساد الصلاة وعدم جواز الدخول فيها ، بخلاف الثاني فتأمّل وراجع ما حرّرناه عنه قدس سره في هذا المقام من قياس الأحكام الظاهرية على العقد المؤلّف من الإيجاب والقبول ، وقياس الأحكام الواقعية على الايقاع بجعل العلم بالحكم [ الذي ] هو الموضوع في الأوّل بمنزلة القبول الذي يتوقّف عليه

ص: 14


1- [ هنا سِقط في الأصل فلاحظ ].
2- [ هنا سِقط في الأصل فلاحظ ].

تمامية العقد ، وراجع ما علّقناه هناك (1) وتأمّل.

قوله : وأمّا بناءً على كفاية الشكّ التقديري فينبغي القول ببطلان الصلاة في الفرض المذكور ، لأنّه بمجرّد تيقّن الحدث كان الحكم المجعول في حقّه هو البناء على بقاء الحدث ... الخ (2).

ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّ الظاهر من أدلّتها هو كون الشكّ حادثاً بعد الفراغ ، ومع فرض الاعتناء بالشكّ التقديري يكون ذلك الشكّ حاصلاً من حين الشروع في الصلاة. مضافاً إلى أنّ قاعدة الفراغ إنّما تنفي الاحتمال الذي لم يكن منجّزاً قبل الدخول في الصلاة دون ما لو كان من أوّل الأمر منجّزاً ، ولأجل ذلك نقول ببطلان صلاة من كان متيقّن الحدث ثمّ شكّ في بقائه ثمّ غفل وصلّى ، فإنّه عند الدخول في الصلاة وإن كان غافلاً عن حدثه أو عن الشكّ في بقائه ، إلاّ أنّه بعد الفراغ من الصلاة لمّا لم يكن شكّه حادثاً بعد الصلاة ، وكان احتمال بقاء الحدث منجّزاً عليه قبل الدخول فيها ، لم يمكن إجراء قاعدة الفراغ في حقّه.

نعم ، يمكن المنع من هذه الجهة الثانية أعني كون الاحتمال منجّزاً قبل الدخول في الصلاة (3) ، فإنّه بواسطة الغفلة يمكن القول بأنّ احتمال البطلان لم يكن منجّزاً في الفرع الثاني وكذا في الفرع الأوّل ، بناءً على الاكتفاء بالشكّ التقديري ، فإنّه وإن أوجب جريان الاستصحاب في حقّه ، إلاّ أنه لمّا كان حين العمل غافلاً لم يكن ذلك الاستصحاب منجّزاً في حقّه احتمال البطلان ... (4) وهي

ص: 15


1- مخطوط لم يطبع بَعدُ.
2- فوائد الأُصول 4 : 319.
3- [ في الأصل : في الدخول ، والصحيح ما أثبتناه ].
4- [ في الأصل هنا سِقط فلاحظ ].

كون الشكّ سابقاً فتأمّل. وسيأتي الكلام على هذه الفروع مفصّلاً في المبحث السادس من مباحث قاعدة الفراغ إن شاء اللّه تعالى فلاحظه (1).

قوله : وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أنّ الأحكام العقلية لا يكاد يتطرّق الاهمال والاجمال فيها ، فإنّ العقل لا يستقلّ بقبح شيء أو حسنه - إلى قوله - ولكن للنظر فيه مجال ... الخ (2).

ملخّص ذلك مبني على ثلاث مقدّمات :

الأُولى : أنّ العقل لمّا كان هو الحاكم بالقبح لا يعقل أن يكون شاكّاً فيه ، بمعنى أنّه لو سئل عن فعل لابدّ أن يحكم بقبحه أو بعدم قبحه ، ولا يعقل أن يكون شاكّاً في حكم نفسه ، بحيث يقول إنّي لا أحكم بقبحه ويجوز أن يكون قبيحاً في الواقع ، لأنّ ذلك ممّا لا معنى له بالنسبة إلى الحاكم نفسه.

المقدّمة الثانية : أنّه لو حكم بقبح فعل فلا يعقل أن لا يميّز بين ما له الدخل في حكمه ممّا ليس له الدخل ، وحينئذ فلا يعقل أن يطرأ الشكّ في البقاء على حكمه ، لأنّ القيد الذي حصل انتفاؤه إن كان ممّا له الدخل كان موجباً لقطع العقل بانتفاء حكمه ، وإلاّ لم يكن انتفاؤه موجباً للشكّ في بقاء الحكم.

وبعبارة أُخرى : أنّ ملاك الحكم العقلي وما يكون له الدخل فيه يكون عين موضوعه ، فيكون الشكّ في أنّ القيد الفلاني هل له المدخلية في ذلك الحكم العقلي راجعاً إلى الشكّ في أنّ [ موضوع ] هذا القبح هل هو ذلك القيد أو هو نفس المقيّد.

الثالثة : أنّ الحكم الشرعي المستكشف بقاعدة الملازمة من الحكم

ص: 16


1- راجع الحاشية الآتية في المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 404.
2- فوائد الأُصول 4 : 320 - 321.

العقلي لا يعقل أن يختلف مع ذلك الحكم العقلي سعة وضيقاً ، فإذا كان الحكم العقلي بقبح الكذب دائراً مدار كونه مضرّاً ، كان الحكم الشرعي المستكشف به أيضاً كذلك.

قوله : أمّا أوّلاً : فلأنّ دعوى كون كلّ خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لابدّ وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعاً ممنوعة ، بداهة أنّه ربما لا يدرك العقل دخل الخصوصية في مناط الحسن والقبح واقعاً ، وإنّما أخذها ... الخ (1).

هذا الإيراد وما بعده نقلهما شيخنا قدس سره عن أُستاذه العلاّمة الشيرازي قدس سره. ويمكن التأمّل فيه ، فإنّ العقل بعد أن كان هو الحاكم كيف يمكن أن نتصوّر أنّه يشكّ في مدخلية القيد الفلاني في حكمه ، سيّما بعد القول بأنّه لا معنى للأحكام العقلية إلاّ الملائمة والتنفّر ، وهل يعقل أن يتنفّر العقل من الكذب الضارّ ويتنزّه منه ولا يعرف أنّ تنفّره كان من أجل ذات الكذب ، أو أنّه كان من أجل كونه مضرّاً وهل لدى العقل أحكام عقلية واقعية كما يكون لدينا من جانب الشارع أحكام واقعية ، وهل واقع الحكم العقلي عند العقل إلاّما يحكم هو به ، بحيث يكون العقل يحتمل أنّ للضرر دخلاً في ذلك الحكم العقلي الواقعي المفروض أنّه لا يحكم به إلاّهو. هذه جهات لم أتوفّق لفهمها والتصديق بها.

قوله : وثانياً : سلّمنا أنّ كلّ خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ، ويكون بها قوام الموضوع ، إلاّ أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي ... الخ (2).

لا يخفى أنّ حاصل الايراد الأوّل هو منع المقدّمة الأُولى ، وحاصل الايراد

ص: 17


1- فوائد الأُصول 4 : 321.
2- فوائد الأُصول 4 : 322.

الثاني هو منع المقدّمة الثالثة بعد تسليم المقدّمتين الأوّليتين ، وذلك أنّا لو سلّمنا أنّ العقل لا يعقل أن يكون شاكّاً فيما له الدخل في ملاك حكمه ، بحيث كان ذلك موجباً لعدم قابلية أحكامه لأن يطرأ عليها الشكّ في البقاء ، إلاّ أن ذلك لا يمنع الشكّ في الحكم الشرعي المستكشف بذلك الحكم العقلي.

وفيه أيضاً تأمّل ، فإنّ العقل (1) بعد أن حكم بقبح الكذب الضارّ ، بحيث كان

ص: 18


1- ويمكن اختصار هذا البحث بحذف حكومة العقل بالحسن والقبح ، ولو بدعوى أنّه لا واقع للعقل إلاّما يجده الإنسان من شعور ، وليس في البين حكومة عقلية ومحكمة وقوانين ، نعم نحن معاشر العدلية نقول بأنّ الأحكام الشرعية [ ناشئة ] عن ملاكات ومصالح ومفاسد ، والمكلّف وإن لم يشعر بتلك المفاسد وهاتيك المصالح ، إلاّ أنه ينتقل إليها من معلولها الذي هو الحكم الشرعي انتقالاً إنّياً من المعلول إلى العلّة. ثمّ بعد هذا نقول : إنّ الإنسان ربما أدرك مفسدة في بعض الأفعال ، كالمفسدة في شرب الخمر وهي الاسكار وإذهاب الشعور ، على نحو يكون قاطعاً بهذه المفسدة وإن خالفه بقيّة الناس وهذا هو معنى حكم عقله ، وعن هذا الإدراك والشعور يتنفّر من شرب الخمر ، وعن هذه المفسدة ينتقل إلى معلولها وهو التحريم الشرعي انتقالاً لمّياً من العلّة التي هي المفسدة إلى معلولها الذي هو التحريم الشرعي. نعم ، ربما كانت في شرب الخمر مفسدة أُخرى لم يطّلع عليها المكلّف ولم يعرفها ، كما هو شأنه في أغلب التحريمات من عدم الاطّلاع على المفسدة التي هي علّتها إلاّبواسطة معلولها الذي هو التحريم الشرعي ، وحينئذ نقول : من الممكن أن يكون في شرب الخمر مفسدة أُخرى غير إذهاب الشعور ، ولو بأن يكون الخمر مشتملاً على مقدار من السم ولم نطّلع عليه ، على وجه يكون التحريم معلولاً لكلّ من العلّتين ، ويكون كلّ منهما كافياً في تحقّقه ، ويكون حاله حال اجتماع العلل المتعدّدة على معلول واحد في كون العلّة هو القدر الجامع ، ويتفرّع على ذلك أنّه [ لو ] ارتفعت العلّة الأُولى من بعض الناس وهي الاسكار وإذهاب الشعور ولو لتعوّده عليه ، لكانت الأُخرى كافية في بقاء التحريم ، وعن ذلك يتولّد الشكّ في بقاء التحريم عند القطع بذهاب العلّة الأُولى ، وينفتح باب استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي [ منه قدس سره ].

قد اطّلع على أنّ للضرر دخلاً في ملاك حكمه المذكور ، فليس ذلك إلاّعبارة أُخرى عن أنّ الكذب مجرّداً عن الضرر غير محكوم لدى العقل بالقبح المذكور ، ولازم ذلك هو قطع العقل بعدم قبح الكذب المجرّد عن الضرر ، إذ لو كان يحتمل قبحه كان ذلك خلفاً لما فرضنا من أنّه لم يكن شاكّاً في مدخلية كلّ ما يأخذه في ملاك حكمه.

وحينئذ نقول : إنّه إذا استكشف بقاعدة الملازمة حكم الشارع بحرمة الكذب الضارّ ، لم يكن وجه لاحتمال كون دائرة موضوع الحكم الشرعي أعمّ ، إذ لو كانت كذلك ، بحيث كان الشارع قد حكم بالحرمة على مطلق الكذب وإن لم يكن ضارّاً ، لم يكن لنا محيص عن الالتزام بكون حكمه بحرمة ما لم يكن ضارّاً ناشئاً عن ملاك وهو القبح ، ولا يمكننا أن نصدّق بذلك إلاّ أن نحتمل قبح الكذب غير الضارّ ، وقد فرضنا أنّا لم نحتمل ذلك.

ولا يمكن تصحيح ذلك بأنّه يجوز أن يكون الشارع قد حكم بحرمته لملاك آخر غير الملاك الذي اطّلع عليه العقل ، فإنّ ذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام ، لأنّه إنّما هو في ذلك الحكم الشرعي الذي نستكشفه من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة ، دون غيره من الأحكام الشرعية.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ مسألة التسامح العرفي ، وأنّ ماذا يكون المدار في وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ، والقياس على مسألة النجاسة والتغيّر ، كلّ ذلك لا ينفع في جهة الإشكال ، لأنّ جهة الإشكال إنّما هي في قابلية الحكم

ص: 19

العقلي للشكّ في البقاء ، بل إنّه دائماً إمّا مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع.

ومن الواضح أنّ تلك الجهات كلّها أجنبية عن هذه الجهة ، فإنّ تلك الجهات إنّما تنفع بعد فرض قابلية الحكم العقلي للشكّ في البقاء بعد فرض انتفاء بعض القيود ، فيقال في مقام دفع إشكال عدم اتّحاد القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة إنّه يكفي الاتّحاد العرفي بحسب ما يستفاد عرفاً من الدليل الدالّ على الحكم ، أو بحسب ما يستفاد عرفاً من النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل.

وخلاصة الكلام : أنّ ما هو الملاك في الأحكام العقلية هو عين موضوعها ، فعند انتفاء الموضوع ينتفي الملاك قطعاً ويرتفع الحكم العقلي جزماً ، وكذلك الأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية بقاعدة الملازمة ، فالأحكام العقلية وكذلك الأحكام الشرعية التي يكون أدلّتها الأحكام العقلية بقاعدة الملازمة ، لا يعقل أن يطرأها الشكّ في البقاء بعد ارتفاع بعض ما أُخذ فيها من القيود.

نعم ، الأحكام الشرعية التي تكون أدلّتها أُموراً أُخر غير الأحكام العقلية لا يكون الملاك فيها عين الموضوع ، بل يكون الملاك في حرمة شرب الخمر أمراً آخر غير ما هو موضوعه الذي هو الخمر ، فعند انتفاء بعض قيود الموضوع يكون ذلك الحكم الشرعي قابلاً للبقاء ، لاحتمال كون ذلك القيد أجنبياً عن المدخلية في الحكم ، أو أنّ له المدخلية لكن كان على نحو علّة الحدوث الموجبة لبقاء المعلول بعد ارتفاعها ، وحينئذ فيكون استصحاب مثل تلك الأحكام بمكان من الامكان.

بخلاف الأحكام العقلية والأحكام الشرعية المنحصر دليلها بتلك الأحكام العقلية ، فإنّها لا يمكن بقاؤها بعد ارتفاع بعض قيود موضوعها ، لعدم الشكّ في

ص: 20

مدخلية تلك القيود ، ولا في كيفية دخله فيها من حيث العلّة المحدثة والعلّة المبقية ، وحيث لا يتصوّر الشكّ فيها في تلك الجهات لم يعقل أن تكون تلك الأحكام قابلة للشكّ في البقاء ، فلا يعقل أن يجري الاستصحاب فيها.

لا يقال : إنّ العقل وإن حكم بقبح الكذب الضارّ وأدرك أنّ للضرر مدخلية في حكمه بالقبح المذكور ، إلاّ أنه يحتمل أنّ الكذب عند انتفاء الضرر يكون قبيحاً أيضاً بملاك آخر غير ملاك الضرر ، فينشأ عن ذلك احتمال كونه حراماً أيضاً ، إذ معنى إدراك العقل واطّلاعه على ملاك حكمه أنّه حيث يحكم بالقبح لابدّ أن يكون مطّلعاً على ملاك حكمه ، أمّا بعد ارتفاعه فلا يلزم أن يكون العقل قاطعاً بعدم القبح ، وأقصى ما فيه هو أن لا يكون حاكماً بالقبح المجتمع مع احتمال القبح ، لا أن يكون حاكماً بعدم القبح غير المجتمع مع احتمال القبح ، وحينئذ يتولّد احتمال حرمة الكذب مع عدم الضرر.

لأنّا نقول أوّلاً : قد عرفت في المقدّمة الأُولى من مقدّمات حاصل كلام الشيخ قدس سره أنّ العقل لا يعقل أن يكون شاكّاً في حكمه ، فبعد ارتفاع الضرر لا يعقل أن يكون العقل شاكّاً في قبح الكذب.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّه يكون حينئذ شاكّاً لأجل احتماله ملاكاً آخر في القبح غير ذلك الملاك المرتفع وهو الضرر ، فنقول : إنّ ذلك الملاك المحتمل الموجب لقبح الكذب مع فرض عدم الضرر إن كان حادثاً عند ارتفاع الضرر ، كان الحكم الشرعي بحرمته حكماً آخر غير ذلك الحكم الشرعي الناشئ عن ملاك الضرر ، فلا يمكن الاستصحاب ، لأنّ المفروض أنّ ذلك الحكم بالحرمة على تقدير وجوده واقعاً هو حكم آخر غير الحكم السابق ، ولا تنفع المسامحة العرفية ، لأنّ تلك إنّما تؤثّر في ناحية الموضوع لا في ناحية اختلاف الحكم.

ص: 21

وإن كان ذلك الملاك الآخر موجوداً في حال وجود الضرر ، كان ذلك منافياً لما فرضناه من اطّلاعه على ملاك حكمه ، وأنّ ملاكه هو الضرر ، لأنّه لو كان هناك ملاك آخر يكون مقتضياً للقبح ، لم يكن العقل قد أدرك ملاك حكمه ، لأنّ ملاكه حينئذ هو الضرر مع ذلك الملاك الآخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في صدق كونه مدركاً للملاك هو إدراك أنّ الضرر له المدخلية في القبح ، وإن كان من المحتمل أن يكون هناك ملاك آخر مع الضرر يكون موجباً للحكم بالقبح ، فعند ارتفاع الضرر يحتمل بقاء القبح ، فيكون موجباً لاحتمال بقاء الحكم الشرعي بالحرمة ، غاية الأمر أنّه في حال وجود الضرر يكون القبح بملاكين ، كما تكون الحرمة بملاكين ، وبعد ارتفاع الضرر يكون كلّ من القبح والحرمة بملاك واحد ، فيكون ذلك من قبيل الاختلاف في الشدّة والضعف ، وبه يتمّ الاستصحاب ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا كلّه مبني على أنّ ما أُفيد ثانياً راجع إلى دعوى أنّه مع فرض اطّلاع العقل على ملاك حكمه ، نحتمل بقاء الحرمة بملاك آخر غير الملاك الأوّل المحتمل ، كما هو الظاهر من هذا التقرير ومن التقرير المطبوع في صيدا (1) وممّا حرّرته عنه قدس سره في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب (2) وكما يظهر ذلك من الكفاية أيضاً (3).

ولكن الذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام ، هو أنّ المراد ممّا أُفيد ثانياً هو أنّ العقل وإن أحرز أنّ ملاك حكمه هو الضرر ، وأنّ للضرر دخلاً في

ص: 22


1- أجود التقريرات 4 : 21 - 22.
2- مخطوط لم يطبع بعدُ.
3- كفاية الأُصول : 386.

حكمه بالقبح ، ولكن العقل يحتمل أنّ مدخلية الضرر في الحكم بالقبح نظير مدخلية التغيير بالنجاسة في كونه بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة من قبيل العلّة المُبقية ، فبعد ارتفاع الضرر يحتمل بقاء القبح ، فيكون محصّل الفرق بين ما أُفيد أوّلاً وما أُفيد ثانياً هو أنّ ما أُفيد أوّلاً راجع إلى عدم اطّلاع العقل على مدخلية الضرر في القبح ، غايته أنّ حكمه بقبح الكذب الضارّ من باب القدر المتيقّن ، وأنّ ما أُفيد ثانياً راجع إلى تسليم اطّلاع العقل على مدخلية الضرر في حكمه بالقبح ، لكنّه لا يعلم أنّ مدخليته فيه هي على نحو مدخلية التغيير في الحكم بالنجاسة ، أو هي على نحو العدالة في جواز الاقتداء ، وحينئذ يتمّ الاستصحاب ، ونحتاج إلى ما أُفيد من التسامح العرفي ، فتأمّل لأنّ هذا يرد عليه أيضاً إشكال عدم معقولية الشكّ في موضوع الحكم العقلي ، والأمر سهل لعدم الأثر العملي لهذه المسألة ، فأين الحكم العقلي المستقل ، وأين الحكم الشرعي الذي ينحصر دليله بذلك الحكم العقلي ، ثمّ بعد هذا كلّه أين الفرع الذي يحصل فيه الشكّ في البقاء ، كلّ ذلك لا وجود له في الفقه على الظاهر ، فلاحظ وتتبّع وتأمّل. هذا ما كنت حرّرته سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّا وإن كنّا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وقلنا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، إلاّ أنا لم نلتزم باطّلاع العقل على جميع جهات الحسن والقبح ، إذ كثيراً ما حكم الشرع بوجوب شيء ولم يدرك العقل حسنه ابتداءً منه ، كما أنّه كثيراً ما حكم العقل بحرمة شيء ولم يدرك العقل قبحه ابتداءً منه.

وحينئذ فيمكن أن يدرك العقل قبح شيء في حال القيد الفلاني في حين أنّ فيه جهة أُخرى توجب قبحه لم يطّلع العقل عليها ، وفي هذه الصورة يجوز بقاء الحكم الشرعي بعد زوال ذلك القيد ، لأنّ زواله يوجب زوال القبح الناشئ من

ص: 23

جهته ، دون القبح الناشئ عن الجهة التي لم يدركها العقل ، وعدم إدراك العقل القبح من تلك الجهة مع زوال ذلك القيد ليس معناه الحكم العقلي بعدم القبح ، بل ليس في البين إلاّعدم حكم العقل بالقبح ، فمع تمامية الاستصحاب من ناحية وحدة الموضوع عرفاً لا مانع من جريانه في الصورة المفروضة ، بأن يكون ذلك القيد بالنظر العرفي من قبيل علّة الحكم ، وإن كان بحسب النظر العقلي هو عنوان الحكم ومركبه وموضوعه ، إلاّ أنه قد تحقّق أنّ النظر العقلي غير معتبر في الاتّحاد المذكور.

ثمّ إنّ الشكّ في البقاء ليس من جهة أنّ تلك العلّة علّة محدثة أو علّة مبقية كي يقال إنّ العقل لا يشكّ في ذلك ، بل إنّما كان الشكّ في البقاء من جهة ما عرفت من احتمال وجود جهة موجبة للقبح الذي اطّلع عليه الشارع ولم يطّلع عليه العقل ، وأنّ تلك الجهة باقية بعد زوال ذلك القيد الذي أدرك العقل قبحه ، غايته أنّ الحكم الشرعي مع وجود ذلك القيد يكون بملاك أقوى منه مع انتفائه ، مع وحدة الحكم والموضوع عرفاً. أمّا احتمال تجدّد جهة توجب القبح بعد زوال ذلك القيد الذي أدركه العقل فلعلّه لا يصحّح الاستصحاب ، إذ الحكم حينئذ لا يصدق عليه البقاء ، بل هو من قبيل حدوث حكم جديد بعد زوال الحكم الأوّل ، إلاّ أن يدّعى الاتّحاد عرفاً ، وهو قابل للمنع ، فتأمّل.

وهذه الجهة - أعني احتمال كون ملاك الحكم الشرعي أعمّ ، وأنّ تلك الخصوصية التي قد ارتفعت كانت زائدة على أصل الملاك وإن كانت موجبة للقبح ، إلاّ أن الذي أدركه العقل من القبح هو الناشئ من تلك الجهة المرتفعة - هي الحجر الأساسي في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، وهي التي أشار إليها في الكفاية بقوله : أو احتمال أن يكون معه

ص: 24

ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً ، وإن كان لها دخل فيما اطّلع عليه من الملاك (1) ولعلّها هي المراد ممّا أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّره في هذا التحرير بقوله : إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي الخ (2) وأمّا باقي الجهات ممّا عبّر عنه في الكفاية بقوله : لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه (3) ونحو ذلك ممّا ظاهره أنّ العقل يشكّ في ملاك حكمه ، وأنّ القدر المتيقّن هو الواجد لتلك الجهة التي ارتفعت ونحو ذلك ، فقد عرفت المنع منها ، وأنّ العقل لا يعقل أن يشكّ في موضوع ما حكم به.

ولكن مع ذلك كلّه فالاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل محل تأمّل ، لأنّ الحكم الشرعي وإن كان واحداً وإنّما يختلف بالشدّة والضعف لو كان له في البين ملاك آخر غير ذلك الملاك الذي أدركه العقل ، إلاّ أن المتيقّن الوجود منه هو بمقدار كاشفه ، وأمّا ما هو زائد عليه فلم يكن متيقّناً وذلك المقدار المتيقّن منه قد زال قطعاً.

وبعبارة أُخرى : أنّ المتيقّن من الحكم الشرعي المنكشف وجوده بالحكم العقلي إنّما هو حرمة الضرر أو الكذب المضرّ ، أعني الحرمة بلحاظ إضافتها إلى عنوان الكذب المضرّ أو عنوان نفس الضرر ، أمّا الحرمة بلحاظ إضافتها إلى نفس الكذب وإن لم يكن مضرّاً ، فهذه الجهة من الحرمة لم تكن متيقّنة ، وتلك الجهة المتيقّنة قد ارتفعت يقيناً.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بعد فرض كون الحكم واحداً ، وأنّه يختلف شدّة

ص: 25


1- كفاية الأُصول : 386.
2- فوائد الأُصول 4 : 322.
3- كفاية الأُصول : 386.

وضعفاً ، وقد علم بوجود مرتبة منه مردّدة بين الضعيفة والقوية ، فلو كانت هي الضعيفة المستندة إلى نفس الضرر فقد زال الحكم من أصله ، وإن كانت هي القوية المستندة إلى نفس الضرر وإلى نفس الكذب ، فقد بقي الحكم ولكن بالمرتبة الضعيفة المستندة إلى نفس الكذب (1) ، وحينئذ يمكن استصحاب نفس ذلك الحكم ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الكلام في هذه المسألة إشكالاً وجواباً ليس منحصراً بدعوى الاختلاف في الشدّة والضعف ، بل يجري ذلك كلّه حتّى لو قلنا بعدم كون الاختلاف في الشدّة ، بل قلنا إنّ الحكم الناشئ عن ملاكه واحد من جميع الجهات وأنّه لا يختلف شدّة وضعفاً ، وأقصى ما في البين هو الاختلاف بالملاك ، وأنّه إن كان مقصوراً على الملاك الذي أدركه العقل وهو الضرر يكون ذلك الحكم ناشئاً عن ملاك واحد ، وإن كان له ملاك آخر وهو مجرّد الكذب كان الحكم ناشئاً عن ملاكين ، وعلى الأوّل يرتفع الحكم عند انتفاء الضرر ، بخلافه على الثاني ، ولعلّ هذا أسهل في جريان الاستصحاب من الاختلاف بالشدّة والضعف ، لكون الحكم بناءً على ذلك لا تعدّد فيه حتّى من ناحية الشدّة والضعف كي يقال إنّ المرتبة الشديدة لم تكن معلومة ، بخلاف ما لو قلنا بكونه بسيطاً فإنّه ينحصر التمسّك لعدم جريان الاستصحاب بدعوى التعدّد الاضافي ، فيقال : إنّ الحكم باضافته إلى ملاك الضرر هو المعلوم ، بخلاف جهة إضافته إلى نفس الكذب ، والحكم العقلي إنّما يكشف من ناحيته ، دون ما لم يكن من ناحيته ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم قابلية الأحكام العقلية للشكّ في البقاء مبني على أنّه لا واقعية للحسن والقبح إلاّميل العقل ونفرته ، ومن الواضح أنّ هذا

ص: 26


1- [ في الأصل نفس الضرر ، والصحيح ما أثبتناه ].

المعنى لا يتصوّر الشكّ في بقائه من جهة ضرورة العلم بما هو منشؤه ، فإن كان موجوداً كان ذلك الميل أو تلك النفرة باقياً ، وإن ارتفع ارتفع ذلك الميل أو تلك النفرة ، ويكون حال الأحكام العقلية حينئذ حال التصويب الصرف ، فلا معنى لتخطئة بعض العقلاء بعضاً في تقبيح شيء أو تحسينه.

أمّا لو قلنا بأنّ قبح الفعل من الأُمور الواقعية كسائر الصفات اللاحقة للذوات ، غايته أنّ العقل يدرك ذلك القبح ويعبّر عن ذلك الإدراك العقلي بالحكم العقلي ، يكون حال هذه الأحكام حال التخطئة يصحّ لبعض العقلاء أن يخطّئ البعض فيه ، فذلك وإن كان في غاية البعد ، إلاّ أنه بناءً عليه يمكن أن يقال : بأنّ العقل ربما أدرك قبح الفعل الموصوف بالصفة الكذائية ولكنّه لم يدرك أنّ لتلك الصفة مدخلية في قبحه ، فهو يحتمل أنّ لها المدخلية ، ويكون حكمه بالقبح في حال تحقّق الصفة من قبيل القدر المتيقّن ، فحينئذ يمكن أن يطرأ الشكّ في البقاء على ذلك الحكم العقلي بعد ارتفاع تلك الصفة.

لكن مع ذلك أنّ الأمر يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ المستصحب ليس هو نفس القبح الواقعي ، بل هو الحكم العقلي أعني إدراك العقل قبح الفعل ، وحينئذ يكون الإشكال بعدم قابلية الأحكام العقلية للشك باقياً بحاله.

وإن شئت قلت : إنّ القبح لون وصفة لاحقة لبعض الأفعال ، غايته أنّها تدرك بالعقل لا بالبصر ، وكما أنّه لا يمكن أن يتردّد البصر فيما هو معروض اللون الذي يحسّ به ، فكذلك العقل لا يمكن أن يتردّد في معروض تلك الصفة التي أدركها لاحقة للفعل الذي أدرك قبحه.

قوله : وتوضيح ذلك ... الخ (1).

إنّ ما أُفيد من محدودية العمر لعلّه لا وجه [ له ] لما حقّقناه في محلّه من أنّ

ص: 27


1- فوائد الأُصول 4 : 326.

مقتضى التركيب والأخذ في التنمية من الخارج والاعطاء بالفضلات [ أنّه ] قابل للبقاء ما دام الانتظام في الحياة ، وأنّ الموت لا يكون إلاّبطار وعارض دفعي أو تدريجي يكلّل بعض الأعضاء من تحميلها فوق ما تطيق ، فيحصل الخلل فيها ، ويسري الخلل إلى باقي الأعضاء إلى أن تنعدم حياة الجميع ، فلا يكون الموت إلاّ لعارض طار على الحياة ، لا أنّه مثل انتهاء النفط في السراج ، وبذلك دفعنا الإشكال عن استمرار حياة الخضر وحياة الحجّة ( عج ). وبذلك يتّضح أنّ استصحاب الحياة لا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي حتّى عند انتهاء العمر الذي نعيش إليه عادة ، بل هو دائماً من قبيل الشكّ في الطارئ الذي يهدم هذه الحياة ، فيكون من قبيل الشكّ في الرافع ، واختلاف الحيوانات في الأعمار إنّما هو من جهة اختلافها في التعرّض لتلك الطوارئ التي تقضي على الحياة تدريجاً.

وأمّا ما أفاده في الحكم الشرعي وأنّه محدود ، ففيه أنّه ليس جميع الأحكام كذلك ، بل لعلّ الغالب منها غير محدود ، غايته أنّه إذا حصل أمد مصلحتها يرفعها الشارع ، وعليه أوضحنا أنّ النسخ من قبيل الرفع ، فيكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في الرافع ، وإن أمكن كونه من قبيل الدفع ويكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المقتضي.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم المحدود أو المرفوع لابدّ أن تكون مصلحته إلى ذلك الحدّ ، لكن الشارع ربما يجعل الحكم محدوداً على طبق مصلحته ، وربما يكتفي بجعل الحكم ، وهو بطبعه يبقى لكنّه يرفعه عند انتهاء مصلحته ، فإن كان على النحو الأوّل كان النسخ من قبيل الدفع ، وإن كان الثاني كان النسخ من قبيل الرفع ، ويكون الشكّ في الأوّل من قبيل الشكّ في المقتضي ، وفي الثاني من قبيل الشكّ في الرافع.

ص: 28

وهذان الوجهان جاريان في عقد التزويج ، إذ ربما كانت المصلحة وهي احتياج الزوج إلى الزوجة بمقدار سنة مثلاً ، لأنّه جاء إلى هذه البلدة ليبقى سنة فيها ، فهو تارةً يتزوّجها منقطعاً إلى مدّة سنة ، وأُخرى يتزوّجها دواماً ولكن يطلّقها عند انتهاء السنة ، وعلى الأوّل يكون الانتهاء من قبيل الدفع ، وعلى الثاني يكون من قبيل الرفع ، ويكون الشكّ في البقاء في الأوّل لاحتمال أنّه عقدها لأزيد من سنة مثلاً من قبيل الشكّ في المقتضي ، وعلى الثاني يكون الشكّ من قبيل الشكّ في الرافع عندما يشكّ في وقوع الطلاق منه عليها.

قوله : كما يشهد له التمثيل بالشكّ في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ... الخ (1).

كون المثال من باب الشكّ في الرافع واضح ، ولعلّ من منع إجراء الاستصحاب فيه يستند في حجّية الاستصحاب إلى الظنّ ، وهو غير حاصل في البلد المذكور ، أو لعلّه يستند إلى عمل العقلاء ، ولم يثبت عملهم في أمثال هذه الموارد على البناء على البقاء.

قوله : وعلى الثاني فإمّا أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعمّ جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدّمات الحكمة ، وإمّا أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاصّ وينقطع بعده ... الخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ استمرار الحكم في الزمان لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، بل إنّ طبع الحكم يقتضي البقاء حتّى يوجد له رافع كالنسخ أو تتحقّق له غاية مجعولة ، غايته أنّ الشكّ في الأوّل يكون من قبيل الشكّ في الرافع ، وفي

ص: 29


1- فوائد الأُصول 4 : 327.
2- فوائد الأُصول 4 : 328.

الثاني من قبيل الشكّ في المقتضي ، نعم إذا ثبت عمومه الأزماني ينحصر الشكّ في زواله بالشكّ في الرافع ، دون الشكّ في الغاية.

ثمّ إنّ الغاية إذا كانت زماناً كان الحكم في مقام الثبوت ممّا يستحيل عليه الاهمال بالقياس إليها ، بل هو إمّا أن يكون مغيىً بها أو يكون مطلقاً بالقياس إليها ، ولأجل ذلك لا يكون الشكّ في مقام الغاية التي هي من قبيل الزمان إلاّشكّاً في المقتضي ، من دون فرق في ذلك بين كون المجعول الشرعي أحد الأحكام التكليفية ، أو كونه أحد الأحكام الوضعية المعبّر عنها بالمسبّبات. أمّا إذا كانت الغاية غير الزمان ففيها إشكال.

والذي يظهر من قوله فيما بعد : فإنّ الأمر الزماني الذي أُخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعاً أيضاً الخ (1) هو أنّ الشكّ فيها من قبيل الشكّ في الرافع.

ولكن يظهر ممّا حرّرته عنه قدس سره إجراء حكم الزمان عليها في كون الشكّ من قبيل الشكّ في المقتضي ، ببرهان استحالة الاهمال عليها في مقام الثبوت ، فإنّ الحكم إذا قيس إليها ، فإمّا أن يكون مقيّداً بها أو يكون مطلقاً بالقياس إليها ، فإذن يدور الأمر في الشكّ فيهما بين كون الحكم مطلقاً [ بالقياس ] إليها أو كونه مقيّداً بعدمها ، وحينئذ ينحلّ الشكّ فيها إلى الشكّ في المقتضي ، لكنّه قدس سره أفاد على ما حرّرته عنه أنّ ذلك - أعني استحالة الاهمال بالقياس إليها - إنّما هو في خصوص الأحكام التكليفية ، دون الأحكام الوضعية التي هي المسبّبات ، لإمكان كون المسبّب بالنسبة إلى ما هو غير الزمان مهملاً في مقام الثبوت ، بحيث إنّه لا يكون مقيّداً بعدمها ولا مطلقاً بالقياس إليها ، وحينئذ فينحصر اعتبارها بصورة الرافعية ،

ص: 30


1- فوائد الأُصول 4 : 330.

فلا يكون الشكّ فيها إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع ، كما في المذي بالنسبة إلى الطهارة من الحدث.

والأولى أن يقال : إنّ غير الزمان لمّا كان صالحاً لأن يؤخذ على نحو الرافع ، ولأن يؤخذ على نحو التقييد بعدمه ، فعلى الأوّل يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في الرافع ، وعلى الثاني يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، من دون فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية. نعم في الأحكام الوضعية يكون احتمال الرافعية أقرب منه في الأحكام التكليفية.

ثمّ إنّ ما حرّر عنه قدس سره في ملاك خروج الشكّ في المقتضي عن أخبار الاستصحاب لعلّه لا يخلو عن غموض واختلاف فيما حرّر عنه قدس سره ، فالذي يظهر ممّا في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) هو أنّ الملاك في ذلك هو كون المتيقّن مقتضياً للجري العملي على طبقه لولا الشكّ ، بحيث يكون رفع اليد عن ذلك المتيقّن لأجل الشكّ المزبور نقضاً لليقين بالشكّ ، فلو كان الشكّ في المقتضي لم يكن المتيقّن السابق في حدّ نفسه مقتضياً للجري العملي على طبقه لولا الشكّ ، فلا يكون رفع اليد عنه من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، بل يكون هو - يعني المتيقّن - منتقضاً بنفسه مع قطع النظر عن الشكّ ، وبناءً على ذلك تكون الغاية التي هي غير الزمان كالغاية التي هي من الزمان ، في كون الشكّ فيها من قبيل الشكّ في المقتضي.

لكن يظهر من التحريرات الأُخر أنّ الملاك والميزان في ذلك على بقاء المتيقّن في عمود الزمان ، بحيث إنّه لو لم يحدث حادث ولم يكن في البين إلاّ استمرار الزمان لكان المتيقّن السابق باقياً ، وبناءً عليه تكون الغاية التي ليست من

ص: 31


1- أجود التقريرات 4 : 67 - 69.

مقولة الزمان داخلة في الرافع ، ويكون الشكّ فيها من قبيل الشكّ في الرافع ، وعلى هذين الملاكين تترتّب مسألة الشبهة المصداقية في الغاية التي هي من مقولة الزمان.

ويمكن أن يقال : بدخولها في الشكّ في المقتضي على كلا الوجهين. لكنّه لا يخلو عن تأمّل وإشكال ، ولعلّ أن يأتي إن شاء اللّه تعالى عند الكلام على الاستدلال على هذا التفصيل ما يوضّح هذه الجهات.

وحاصل ما نحن متوقّفون فيه فعلاً هو الشبهة المصداقية فيما لو كانت الغاية من مقولة الزمان ، والغاية الزمانية مثل الحكم المغيّى بمجيء زيد ، والقيد اللاحق للموضوع إذا حصل انتفاؤه ، بل يجري هذا التوقّف في استصحاب نفس الزمان أيضاً ، فإنّ الحكم في جميع هذه الأمثلة ممّا لا يمكن بقاؤه في عمود الزمان ، ومجرّد أنّ عدم بقائه لأجل عروض مجيء زيد في الثاني أو لمجرّد انتفاء قيده كما في الثالث ، وأنّ ذلك من قبيل الشكّ في البقاء لأجل بعض الطوارئ ، غير نافع بعد فرض قصور ذات الحكم عن إمكان الاستمرار في عمود الزمان بعد تحقّق غايته وانتهاء أمده أو انتفاء قيده.

ولعلّ الأولى في التخلّص هو إنكار دعوى اختصاص دليل الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، إذ لا أساس لهذه الدعوى إلاّ الأخذ من مادّة النقض في قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين » من جهة أنّها تعطي الاستحكام المختصّ بصورة الشكّ في الرافع لعدم تحقّقه في الشكّ في المقتضي. ويمكن منع هذه الدعوى بأنّ استعمال النقض كان بلحاظ أنّ الجري العملي الذي كان عليه المكلّف لا ينبغي له هدمه ونقضه بما طرأ عليه من حالة الشكّ ، من دون فرق في ذلك بين كون الشكّ من جهة الرافع أو كونه من جهة المقتضي.

ص: 32

قوله : وليس عملهم على ذلك لأجل حصول الاطمئنان لهم بالبقاء أو لمحض الرجاء ... الخ (1).

قال في الكفاية في الردّ على الاستدلال بالسيرة العقلائية : وفيه أوّلاً : منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّداً ، بل إمّا رجاءً واحتياطاً ، أو اطمئناناً بالبقاء ، أو ظنّاً ولو نوعاً ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً الخ (2).

أمّا الاحتياط فقد أجاب عنه شيخنا قدس سره بما حاصله : أنّه ربما كان العمل على البقاء مخالفاً للاحتياط ، لكون عدم البقاء هو مورد الأثر الالزامي ، لكن لعلّ مراد الكفاية هو إنكار جريان السيرة على الأخذ بالحالة السابقة إلاّفيما وافق الاحتياط ، وحينئذ ينحصر الجواب عنه بإثبات جريانها حتّى فيما خالف الاحتياط.

وأمّا الغفلة فالجواب عنها واضح ، إذ لا وجه لدعوى كون جميع ما جرت به السيرة العقلائية على البقاء ناشئاً عن الغفلة وعدم الالتفات إلى احتمال عدم البقاء وإلاّ لم تكن سيرة عقلائية.

وأمّا الاطمئنان والظنّ النوعي بالبقاء فهو إنّما يضرّ لو قلنا بحجّية الاستصحاب تعبّداً صرفاً من دون جهة تقتضيه ، أمّا لو قلنا بحجّيته من باب الاطمئنان والظنّ فلا يكون ذلك مضرّاً بالاستدلال ، لكن لا يلزم ذلك أن يكون كلّ ظنّ نوعي حجّة ، بل هو خصوص ما جرت الطريقة العقلائية على الاعتناء به وترتيب الأثر عليه ، ما لم يكن هناك ما يوجب الردع عنه شرعاً ، سواء كان من موارد الاستصحاب ، أو غيره ممّا جرت السيرة على العمل به من موارد الاطمئنان

ص: 33


1- فوائد الأُصول 4 : 332.
2- كفاية الأُصول : 387.

أو الظنّ النوعي.

ثمّ لا يخفى أنّ الاستناد إلى السيرة العقلائية الناشئة عن الظنّ النوعي لا يلزمه القول بكون حجّية الاستصحاب من باب الأمارة ، على وجه يكون مثبته حجّة ، لما سيأتي في محلّه (1) إن شاء اللّه تعالى من أنّ ذلك ليس بلازم ، لإمكان أن يكون بناؤهم على حجّيته من ذلك الباب أي الظنّ النوعي ، ولكنّه بمقدار ما قامت به السيرة وجرى عليه العقلاء ، وهم إنّما يأخذون في ذلك بآثار خصوص المستصحب دون لوازمه العقلية أو العادية ، ومعه لا يحتاج إلى دعوى أنّ الشارع قد ألغى الكاشفية إن قلنا بأنّ بناءهم على حجّيته من باب الظنّ النوعي ، أو دعوى أنّ ذلك من باب الالهام الإلهي إن قلنا بأنّ بناءهم عليه من باب التعبّد الصرف ، كما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه اللّه ، فراجع قوله : ولا يخفى - إلى قوله - وعلى كل حال (2) وتأمّل.

وأمّا ما أُفيد هنا بقوله : إنّه لا وجه لحصول الاطمئنان مع فرض الشكّ في البقاء ، وكذا ما أُفيد في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) بقوله : كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شيء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع الخ (3) فيمكن الجواب عنه بأنّ مجرّد حصول الشيء يوجب الظنّ النوعي ببقائه ، وهو كاف في الاحراز والكاشفية ، وهذا الظنّ النوعي بالبقاء يجتمع مع الشكّ الفعلي ، على أنّه لا داعي إلى الالتزام بوجود الشكّ في البقاء ، بل هو على وتيرة الظنّ النوعي الحاصل بالبقاء.

ص: 34


1- لاحظ المجلّد العاشر من هذا الكتاب مبحث الأصل المثبت.
2- أجود التقريرات 4 : 29 - 30.
3- أجود التقريرات 4 : 30.

قوله : فما أفاده المحقّق الخراساني قدس سره في المقام من أنّ الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم تصلح لكونها رادعة عن السيرة العقلائية فيما نحن فيه ، ينافي ما تقدّم منه في حجّية الخبر الواحد من أنّ تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائية ... الخ (1).

لا يخفى أنّه في مسألة حجّية خبر الواحد (2) استدلّ بالسيرة العقلائية ، ومنع من كون الآيات رادعة عنها ، أوّلاً : من جهة كون الآيات الناهية واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في أُصول الدين.

وثانياً : بأنّ المتيقّن منها - لولا أنّه المنصرف من إطلاقها - هو خصوص الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة.

وثالثاً : أنّ الردع بها مستلزم للدور ، لأنّ الردع بها يتوقّف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وعدم تخصيصها بها يتوقّف على الردع عنها بتلك الآيات ، إذ لولا الردع لكانت السيرة مخصّصة لتلك الآيات أو مقيّدة لها.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ إثبات حجّية خبر الواحد بالسيرة موجب للدور ، من جهة أنّ حجّية الخبر بالسيرة يتوقّف على عدم الردع ، وعدم الردع يتوقّف على التخصيص ، والتخصيص يتوقّف على عدم الردع.

وأجاب بما ظاهره الاعتراف بالدور من هذه الناحية ، لكنّه أقصى ما فيه أنّه لم يثبت الردع ولا عدمه ، فيكون الحاصل أنّ هذه السيرة لم يثبت الردع عنها ، وهو - أعني مجرّد عدم الثبوت - كافٍ في الحجّية وفي مخصّصية الآيات الناهية ، هذا حاصل مطلبه في مسألة حجّية خبر الواحد.

ص: 35


1- فوائد الأُصول 4 : 333.
2- كفاية الأُصول : 303 - 304.

ولا يخفى أنّه بعينه يتأتّى في السيرة على الاستصحاب ، نعم لو قلنا بعدم كفاية عدم ثبوت الردع ، بل قلنا بالاحتياج إلى أصالة عدم الردع ، أمكن الفرق بين المسألتين ، فإنّه إذا وصلت النوبة إلى أصالة عدم الردع أمكن إتمام المطلب بها في حجّية خبر الواحد ، لكنّه لا يتمّ في باب الاستصحاب ، لأنّ أصالة عدم الردع هي من جملة الاستصحاب الذي هو المدّعى.

ثمّ لا يخفى أنّ نسبة السيرة على العمل بخبر الواحد أو الاستصحاب إلى الآيات المذكورة ، إمّا أن تكون من قبيل التخصيص ، بأن يكون ما دلّ على حجّية السيرة مخصّصاً لتلك العمومات ، وإمّا أن تكون من قبيل الحكومة ، بأن يكون ما دلّ على حجّية السيرة حاكماً على تلك العمومات ، لكون ذلك الدليل موجباً لخروج العمل بخبر الواحد أو الاستصحاب عن كونه عملاً بغير حجّة وعلم.

وعلى كلّ من هذين التقريرين - أعني تقرير التخصيص أو الحكومة - يتوجّه الدور المذكور من الطرفين ، ويكون الأمر بالأخرة راجعاً إلى التمسّك بأصالة عدم الردع ، الذي عرفت أنّه لا يتمّ في الاستصحاب لكونه من الدور الواضح ، ضرورة توقّف المدّعى على نفسه.

أمّا لو قلنا بالتخصّص بأن نقول : إنّ ظاهر تلك الآيات هو المنع عن العمل بغير حجّة عقلائية ، لكونها مسوقة للتقبيح العقلائي ، فيكون ما جرى عليه العقلاء في عملهم خارجاً عن ذلك خروجاً موضوعياً تكوينياً ، وحينئذ فلا محل للدور المذكور ، ولا يكون لتلك العمومات دخل في الردع عن تلك السيرة ، بل لابدّ في الردع عنها من قيام الدليل الخاصّ ، نظير الظنّ القياسي.

لكن يبقى إشكال الاحتياج إلى أصالة عدم الردع ، لأنّ مجرّد جريان السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب مثلاً ، لا يسوّغ لنا معاشر المتشرّعة العمل به

ص: 36

في أُمور الشريعة ما لم يكن ممضى من جانب الشارع ، ولو بواسطة كون تلك السيرة بمرأى من الحجّة عليه السلام ومسمع وعدم ردعه عنها ، فلا محالة تنتهي النوبة إلى لزوم إجراء أصالة عدم الردع ، الذي عرفت أنّ الرجوع إليه في باب الاستصحاب موجب للدور ، فلابدّ لنا حينئذ إمّا من دعوى القطع بعدم الردع ، ولو بواسطة معروفية تلك السيرة وعدم معروفية الردع عنها على وجه لو كان لبان ، أو دعوى الاكتفاء بجواز الركون إلى تلك السيرة بمجرّد عدم العلم بالردع وإن لم يكن عدمه محرزاً. وعهدة الأوّل على المدّعي ، وأمّا الثاني فقد التزم به في الكفاية كما هو ظاهر قوله : يكفي في حجّيته بها عدم ثبوت الردع عنها لعدم نهوض ما يصلح لردعها - إلى قوله - فافهم (1). ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك لا يكون مانع من الاستدلال بالسيرة على حجّية الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّ لنا إشكالاً في أصالة عدم الردع في جميع موارد السيرة ، حيث إنّه بعد إحراز التمكّن من الردع تكون أصالة عدم الردع مثبتاً لما هو المطلوب من إمضاء السيرة ، أمّا إذا لم يكن [ إحراز ] التمكّن من الردع ممكناً فالأمر فيه أشكل ، إذ لا يكون أصالة عدم الردع ملازماً للامضاء ، فراجع ما علّقناه في مبحث حجّية خبر الواحد عند الاستدلال عليه بالسيرة (2).

قوله : ولكن القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في الرافع ... الخ (3).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الظاهر بناء العقلاء على الأخذ باستصحاب

ص: 37


1- كفاية الأُصول : 303 - 304 / مبحث حجّية خبر الواحد.
2- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 454 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 333.

الحياة في معاملاتهم وإرسالياتهم التجارية وغيرها ، من دون فحص عن حال من يستصحبون حياته من حيث بلوغ سنّه إلى حدّ يشكّ في اقتضاء حياته للبقاء ، ولو كان بناء العقلاء مختصّاً بالشكّ في الرافع ، لكان استصحاب الحياة مختصّاً عندهم بخصوص ما لو كان الشكّ في بقاء الحياة ناشئاً عن الشكّ في طروّ طارٍ يوجب إعدام الحياة ، مع إحراز قابلية الشخص الذي يستصحبون حياته للبقاء من حيث العمر الطبيعي ، بل يمكن أن يقال : إنّ العمر الطبيعي للنوع لا يكفي ، لاختلاف الأشخاص من حيث الاستعداد الطبيعي للبقاء بحسب التركيب والبُنية الطبيعية.

والحاصل : أنّ الشكّ في بقاء حياة الإنسان يكون على صور :

الأُولى : أن يكون منشأ الشكّ هو احتمال عارض يوجب إعدام الحياة ، وهذا من قبيل الشكّ في الرافع.

الثانية : أن يكون منشأ الشكّ هو عدم إحراز مقدار استعداد ذلك الشخص بحسب بنيته الطبيعية ، بحيث إنّه لو لم يكن في البين احتمال وجود عارض من العوارض لكان الشكّ في بقاء الحياة متحقّقاً ، وهذا من قبيل الشكّ في المقتضي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يكفي إحراز المقتضي بالنسبة إلى مقدار عمر نوع الإنسان الطبيعي ، وإن لم يحرز ذلك بالنسبة إلى ذلك الشخص الخاصّ ، فبالنسبة إلى ذلك الشخص لا يكون الشكّ في بقاء حياته إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع بعد فرض عدم وصوله إلى حدّ العمر الطبيعي لنوع الإنسان.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ إحراز المقتضي بالنسبة إلى النوع لا يكفي بالنسبة إلى الأشخاص ، لما نشاهده من اختلاف الأشخاص بحسب الاستعداد الطبيعي الخاصّ بكلّ واحد منهم.

على أنّ ضبط المقدار الطبيعي بالنسبة إلى النوع أو إلى الشخص فهو إنّما

ص: 38

يكون بمثل السنين ، أمّا مثل الشهور والأسابيع والأيّام بل الساعات ، فلايخرج الشكّ في بقاء الحياة بالنسبة إليها بعد فرض إحراز عدم الوصول إلى منتهى العمر الطبيعي (1) فإنّا لو قلنا إنّ أمد العمر الطبيعي هو مائة سنة مثلاً ، فبالنسبة إلى قبل المائة بأيّام أو بعدها بأيّام أو ساعات ، لا يكون الشكّ إلاّمن قبيل الشكّ في المقتضي.

الثالثة : أن يكون منشأ الشكّ هو عدم الاطّلاع على حال ذلك الشخص لعدم مشاهدته ، فيحتمل أنّه بسنّ الشباب ويحتمل أنّه بسنّ الشيخوخة ، وهذا من قبيل الشكّ في المقتضي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه من قبيل الشبهة الموضوعية في تحقّق الغاية ، مثل ما لو علم أنّ أمد الحكم هو الزوال وقد شكّ في تحقّقه.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، إذ ليس الشكّ في تحقّق أمد الحياة ، بل الشكّ إنّما هو في أنّ ذلك الشخص هل هو بسنّ الشباب فيكون الباقي من أمد حياته ولو بحسب نوع الإنسان هو أربعين سنة ، أو أنّه بسنّ الشيخوخة فيكون قد انتهى أمد حياته ، ففي الحقيقة يكون الشكّ في استعداد ذلك الشخص للبقاء في تلك الأربعين سنة ، فلا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في المقتضي.

وقد يقال : إنّ ذلك من قبيل [ الشكّ ] في وصول المرأة إلى سنّ اليأس ، فينحلّ إلى الأصل العدمي.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ استصحاب الحياة ليس من الأُصول العدمية ، ولو كان من هذا القبيل لكان مثبتاً ، إذ لا يترتّب على عدم بلوغ الإنسان سنّ الشيخوخة التامّة أثر شرعي إلاّباعتبار لازمه ، وهو بقاء حياته.

نعم ، قد يقال في الجواب عن أصل الإشكال : بأنّ العرف يرى أنّ الموت

ص: 39


1- [ كذا في الأصل ، والمقصود واضح ].

بجميع أنحائه من قبيل هادم الحياة ورافعها ، وإن كان بعضه بالدقّة راجعاً إلى انتهاء أمد الحياة باعتبار انتهاء الاستعداد الطبيعي. ولا يخفى أنّ ذلك لو سلّم في الحياة فلا نسلّمه في نضارة الورد والنبات وعدم انتهاء أمد زهرته ونضارته. وعلى الظاهر أنّه لا إشكال في استصحاب بقاء تلك الزهرة والنضارة ولو مع الشكّ في انتهاء أمدها الطبيعي ، وهكذا الحال في نضارة الشباب وزهرته.

لا يقال : لا ريب في عدم الأخذ بالاستصحاب فيما لو تردّد النفط الموضوع في الضياء بين كونه ربع أو نصف أوقية.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن من جهة أنّ الربع الثاني مشكوك الوجود منفي بالأصل ، وهذا بخلاف ما لو كان معلوم المقدار ولكن لم نعلم مقدار مدّة إضائته ، أو كان مردّداً بين النفط وما هو أبقى منه ، فإنّه في مثل ذلك يكون الشكّ في المقتضي والظاهر جريان الاستصحاب فيه.

فتلخّص : أنّ استصحاب حياة الإنسان أو الحيوان لا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، إمّا لما يراه العقلاء أو العرف من كون الموت هادماً للحياة وإن كانت في آخر أدوارها من الشيخوخة ، وإمّا لدعوى كونه هادماً لها حقيقة ، باعتبار أنّ الحياة عبارة عن كون النفس الناطقة حالّة في تلك المادّة المتبادلة المستمرّة في أخذ ودفع.

وإن شئت فقل : إنّ الحياة بمنزلة شعلة النار على أرض من الحطب تسير أينما وجد ذلك الحطب ، بل إنّها أوضح بقاء من النار ، فإنّ ما تأخذه النار تعدمه وتجعله رماداً ، بخلاف الحياة فإنّ ما تأخذه من المادّة وتفرزه يعود إلى حالته الأصلية من المادّة التي هي قوام هذه الحياة ، فيوشك أن تعود إليها ، ومن الواضح أنّ ما هذا شأنه يكون قابلاً للبقاء ، غير أنّ المشيئة الإلهية اقتضت انعدام تلك

ص: 40

الشعلة الحيوية بتسليط ما يهدمها ، كالماء يسلّط على النار فيطفئها ، وبذلك نستريح من شبهة بقاء الحياة على ما هو أزيد من العمر المتعارف ، مثل الخضر عليه السلام ومثل نوح عليه السلام ومثل إمامنا ( أرواحنا فداه ) فإنّ ذلك ليس من خوارق الطبيعة ، وإن كان من خلاف العادة التي جرت في مخلوقاته تعالى على الغالب.

وعلى كلّ حال ، لا يكون الموت انتهاءً لأمد الحياة ، بل هو هادم لها ورافع فلا يكون الشكّ في بقائها إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع.

ويمكن جريان هذا التقريب في النباتات بل في كثير من الجمادات كالجواهر ، فإنّ لكلٍ أمداً وانتهاءً وانحلالاً ولو كان ذلك بعد مدّة ، فهل حياة الجميع إلاّ اجتماع تلك الأجزاء المتناسبة وتركّبها وصيرورتها شيئاً واحداً ، ثمّ انحلالها وعود كلّ جزء منها إلى حالته الأصلية ، كلّ ذلك بتقدير مقدّرها وخالقها تبارك وتعالى ، وإلاّ فلماذا هذا الاجتماع والتواصل والالتئام بين هاتيك الأجزاء ثمّ يتبدّل بالتنافر والتباعد وانصدام البعض بالبعض ، وعن ذلك ينشأ التبدّل والتحوّل والتجدّد والفساد ، سنّة اللّه تعالى في جميع هذه الموجودات المادّية ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا ، فسبحان من قدّر ذلك وعظمت حكمته.

والغرض أنّ هذا الاجتماع لا يؤول إلى التفرّق والانحلال إلاّبقاسر خارجي أو داخلي ، ولو بحيف بعض الأجزاء على بعض ، وهذا القاسر هو الذي أوجب ذلك الانحلال ، وإلاّ فإنّ الأجزاء موجودة والاستمداد ممّا كانت تستمدّه بحاله ، فدعوى كون جميع ذلك من قبيل الانتهاء لا من قبيل الهادم والرافع ممنوعة أشدّ المنع.

نعم ، هذه كلّها لها أمد مقدّر قدّره اللّه تعالى حسبما اقتضته حكمته تعالى لكن ذلك الأمد هو تحديد بالرافع والهادم لا تحديد بالمقتضي والاستعداد ، وما

ص: 41

يصنعه الجُدد من بيمة (1) الأعمار فهو مبني على ملاحظة الغالب من هذا السن وهذا البدن باعتبار تناسب أعضائه وتحمّل بعضها البعض في الامداد والاستمداد ، وبالأخرة يرجع ذلك إلى الهادم والرافع باعتبار حيف بعض الأعضاء على البعض في جهة الامداد والاستمداد وإن عبّر معبّرهم باستعداد البقاء ، أو أنّه قياس على الغالب ، ولو خرج عن أحد هذين الوجهين فليس هو إلاّمجازفة شبيهة بالقمار أو اليانصيب ، كما في بيمة الأموال المنقولة في البحار أو القطار أو الموجودة في محال التجّار (2)

ص: 42


1- كلمة فارسية يراد بها عقد التأمين.
2- [ وجدنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس سره بهذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش ، وإليك نصّ ما في الأوراق : ] لا ريب في أنّ استصحاب عدم الرافع حاكم على استصحاب بقاء المرفوع ، فإنّ بقاء المرفوع من الآثار الشرعية لعدم الرافع ، وليس الغرض أنّه يكون هو مرتّباً على نفس عدم الرافع كي يقال إنّه - أعني المرفوع - وإن كان أثراً شرعياً إلاّ أن ترتّبه على عدم الرافع عقلي ، فيكون أصالة عدم الرافع بالقياس إلى الحكم ببقاء المرفوع مثبتاً ، بل الغرض من أصالة عدم الرافع هو طرد الآثار المترتّبة على وجوده ، وهي ارتفاع الموجود الذي هو الطهارة بالقياس إلى عدم الحدث ، لا ترتيب آثار العدم كي يقال إنّ ترتيب بقاء الطهارة عليه لا يكون إلاّبالأصل المثبت. لا يقال : إنّ طرد رافعية الحدث عين بقاء الطهارة ، فلا يكون أصالة عدم الحدث بالنسبة إلى بقاء الطهارة من قبيل الأصل السببي والمسبّبي ، بل إنّ أحدهما عين الآخر. لأنّا نقول : لا شكّ في أنّ الفسخ رافع للملكية ، فلو سقط أصالة عدم الفسخ بالمعارضة مع أصالة عدم الامضاء ، كما لو حصل منه ما هو مردّد بين الفسخ والامضاء ، أو حصل كلّ منهما وشكّ فيما هو المقدّم منهما ، فإنّه بعد تعارض الأصلين يكون المرجع هو استصحاب الملكية ، ولو كان بقاء الملكية عين عدم رافعها الذي هو الفسخ ، لكان استصحاب الملكية ساقطاً بسقوط أصالة عدم الفسخ. لا يقال : لو كان أصالة عدم الرافع حاكماً على استصحاب بقاء المرفوع ، لكان ينبغي أن يكون الأصل الأوّلي هو أصالة عدم الحدث ، فلماذا عبّر الإمام عليه السلام بقوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » بل كان ينبغي أن [ يقول : ] وإلاّ فإنّه على يقين من عدم النوم. لأنّا نقول : إنّ عدم النوم بخصوصه لا يترتّب عليه في المقام بقاء الوضوء ، لأنّ المفروض أنّه لم يحصل منه غير النوم من النواقض ، وحينئذ يكون ترتّب بقاء الوضوء على عدم النوم باللازم العقلي ، فيكون الأصل مثبتاً. ( لكن ذلك يحتاج إلى التأمّل ، إذ لا ريب في صحّة الاستصحاب في بعض أجزاء الموضوع إذا كانت البواقي محرزة بالوجدان ، وليس ذلك من الاثبات في شيء. والأولى أن يقال : إنّ المانع هو كون المقام من قبيل الشكّ في كون تلك الحالة نوماً ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعية أو بنحو الشبهة الحكمية أو بنحو الشبهة المفهومية ، وفي مثله لا يجري أصالة عدم النوم ، إذ هو من قبيل الشكّ في رافعية الموجود بنحو الشبهة الموضوعية أو بنحو الشبهة الحكمية ، فإنّه لا يجري استصحاب عدم الرافع ، نعم يكون الجاري هو استصحاب [ الطهارة ]. وهكذا الحال فيما لو شكّ في أنّ الخارج بول أو مذي ، أو خرج منه شيء يشكّ في شمول مفهوم البول له ، فإنّ ذلك كلّه لا يجري فيه أصالة عدم حدوث البول ، سواء كان بمفاد ليس التامّة أو بمفاد ليس الناقصة ، لعدم كونه مزيلاً للشكّ في هذا الخارج ، ولا يكون مثبتاً لبقاء الطهارة بل لا يكون المرجع في ذلك إلاّ استصحاب الطهارة ). لا يقال : ولماذا لم يعبّر عليه السلام بقوله : وإلاّ فإنّه على يقين من عدم الحدث ، وعبّر بقوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ». لأنّا نقول : إنّ حقّ العبارة وإن كان هو العبارة الأُولى ، إلاّ أنه عليه السلام تسامح وعبّر بالعبارة الثانية ، ومن الواضح أنّ هذا الكلام جارٍ على نحو من التسامح العرفي ، وليس مثل هذا الكلام من الخطابات العرفية مبنياً على الدقّة. لا يقال : إنّ عدم الرافع ليس من آثاره الشرعية بقاء المرفوع ، بمعنى أنّ الرافعية ليست مجعولة ، بل هي منتزعة من الحكم ببقاء المرفوع عند عدم الرافع فتكون الرافعية منتزعة نظير المانعية. لأنّا نقول : فرق بين الرافع والمانع ، فإنّ الثاني من قبيل الدفع والأوّل من قبيل الرفع ، ولمّا كان المرفوع بنفسه من المجعولات الشرعية ، كان من الضروري أنّه لا يرتفع إلاّبما يكون رافعاً له شرعاً ، فتكون الرافعية للحدث والفسخ مثلاً بجعل من الشارع ، بمعنى أنّ الشارع جعلهما رافعين لما قد جعله وهو أثر الوضوء والملكية ، فتأمّل. ثمّ إنّ الطهارة والحدث إن قلنا بكونهما من الأُمور الواقعية التي كشف عنهما الشارع ولم تكن مجعولة من جانبه ، فإن قلنا بأنّ تقابلهما تقابل الضدّين ، لم يكن أحدهما رافعاً للآخر ، وإن قلنا بكون أحدهما عدمياً والآخر وجودياً ، كان ما هو العلّة في العدمي رافعاً لذلك الآخر المفروض كونه وجودياً ، فلو قلنا بأنّ الطهارة حالة نفسانية تعقب الوضوء كالنور النفساني مثلاً ، والحدث عبارة عن الظلمة النفسانية التي تعقب النوم مثلاً التي هي عدم ذلك النور ، كان النوم رافعاً للطهارة لكنّه رفع تكويني لا تشريعي. لكن هذا الاحتمال ساقط ، وإنّما يكون ممكناً في الجملة في مثل الطهارة من الخبث والنجاسة ، لأنّ مزيل النجاسة والذي يكون سبباً للطهارة منها هو الغَسل مثلاً ، ويمكن القول بأنّ سببيته تكوينية ، بخلاف الطهارة من الحدث فإنّ سببها هو الغسل أو الأفعال الوضوئية ، المفروض اعتبار قصد القربة فيها الكاشف عن أنّ سببيته لها شرعية ، وأنّ المسبّب من المجعولات الشرعية. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لا مانع من كون ذلك الفعل القربي الشرعي مؤثّراً في النفس أثراً تكوينياً لا يعرفه البشر ، وكشف عنه الشارع. ولو قلنا بأنّهما من مقولة المجعولات الشرعية نظير الأحكام الوضعية ، فسواء قلنا بأنّهما من قبيل الضدّين ، أو قلنا بأنّهما من قبيل الوجود والعدم ، لم يكن هذا التضادّ أو التناقض بجعل من الشارع ، إذ التضادّ والتناقض غير قابلين للجعل الشرعي ، فإنّ أقصى ما عند الشارع أنّه رتّب الطهارة على الوضوء ورتّب الحدث على النوم ، وذلك بمجرّده لا يقتضي التناقض أو التضادّ بينهما ، لإمكان اجتماع هذه السببية مع كونهما مختلفين ، فيكون الطهارة خلاف الحدث لا أنّها ضدّه ولا نقيضه ، كما أنّ هذا التناقض والتضادّ بينهما ليس ذاتياً لهما كي يتحقّق بمجرّد جعلهما ، نظير تناقض الايجاب والتحريم وتضادّ الاستحباب والاباحة. وحينئذ لابدّ أن يكون المنشأ في عدم اجتماعهما أمراً آخر غير التضادّ والتناقض الشرعيين أو الذاتيين ، وليس ذلك إلاّمن جهة أنّ الشارع قد جعل سبب كلّ منهما رافعاً للآخر ، فإن قلنا بأنّ الحدث عبارة عن عدم الطهارة كان ذلك ناشئاً عن جعل الشارع النوم رافعاً للطهارة ، وإن قلنا بكونهما وجوديين كان عدم اجتماعهما ناشئاً عن جعل الشارع سبب كلّ منهما رافعاً للآخر مضافاً إلى كونه محقّقاً لمسبّبه ، ولا يكفي في الحكم بعدم اجتماعهما مجرّد جعل الشارع لكلّ منهما عند وجود سببه ، لما عرفت من أنّ معنى جعل السببية لكلّ منهما هو مجرّد الحكم بكلّ منهما عند وجود سببه ، وهذا بمجرّده لا يقتضي عدم الاجتماع ، لإمكان كونهما متخالفين لا ضدّين ولا نقيضين ولا مثلين. وبالجملة : أنّ عدم الاجتماع بين الحدث والطهارة بعد فرض كونهما من المجعولات الشرعية ، وبعد فرض أنّ التضادّ والتناقض بينهما ليس باقتضاء ذاتيهما كما في الوجوب والحرمة ، لابدّ أن يكون ناشئاً عن جعل الشارع سبب كلّ منهما رافعاً للآخر ، أو جعل ما هو سبب العدمي منهما رافعاً للوجودي ، وحينئذ تكون رافعية ما هو الرافع منهما من المجعولات الشرعية ، ويكون استصحاب عدمه جارياً باعتبار طرد تلك الرافعية المترتّبة على وجوده ، ويكون هذا الأصل سببياً بالنسبة إلى الحكم ببقاء نفس المرفوع ، لأنّ الشكّ في بقاء المرفوع مسبّب عن الشكّ في وجود رافعه ، فإذا طردنا وجود الرافع كنّا بطردنا لوجود الرافع قد طردنا رفع ذلك الموجود ، لا أنّا حكمنا بوجوده استناداً إلى التعبّد بعدم رافعه ، كي يقال إنّ ذلك الموجود وإن كان شرعياً إلاّ أن ترتّب بقائه على عدم رافعه لا يكون إلاّعقلياً ، كما أنّ الحكم ببقاء ذلك الموجود ليس هو عين طرد رافعه ، كي يكون لازم ذلك هو سقوط استصحاب بقائه بسقوط استصحاب عدم رافعه بالمعارضة فتأمّل. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّهما مجعولان شرعاً متضادّان أو متناقضان ذاتاً ، لكن هذا التناقض الذاتي بينهما واقعي كشف عنه الشارع ، ولا منافاة بين كون أصلهما مجعولاً وكون تدافعهما ذاتياً كشف عنه الشارع ، وبناءً على ذلك فلا ترافع بينهما ولابدّ حينئذ في كلّ منهما من الرجوع إلى استصحاب الوجود لكونهما حينئذ من الضدّين. وكذا لو قلنا بأنّه لا معنى للطهارة إلاّنفس الأفعال ، فإنّه أيضاً لا يكون أحدهما رافعاً للآخر ، إذ ليس في البين حينئذ إلاّ أن مثل النوم يكون موجباً لوجوب الاتيان بهذه الأفعال لمن أراد الصلاة مثلاً ، ويكون المرجع في الشكّ في كلّ منهما إلى أصالة العدم ، ولا معنى لاستصحاب الوجود في كلّ منهما ، بل عند الشكّ في الطهارة بعد الحدث لا يكون المرجع إلاّ أصالة عدم صدور تلك الأفعال ، كما أنّه بعد صدورها لا يكون المرجع إلاّ أصالة عدم صدور النوم مثلاً ، ولا يكون للرجوع إلى استصحاب بقاء الحدث في الأوّل أو استصحاب بقاء الطهارة في الثاني معنى متحصّلاً. إلاّ إذا قلنا بأنّ الطهارة وجودية والحدث عدمي ، فإنّه حينئذ يكون استصحاب عدم الحدث كافياً في ثبوتها ، وذلك إنّما يجري في خصوص الطهارة والحدث. لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ الظاهر منها هو الرافعية لا مجرّد مقابلة التضادّ أو التناقض. وبالجملة : أصل الإشكال فيما ثبت كونه رافعاً ، وأنّه هل يترتّب على التعبّد بعدمه الحكم ببقاء المرفوع ، وهل يكون الحكم ببقاء المرفوع عين الحكم بعدم الرافع ، أو أنّهما من قبيل السببي والمسبّبي ، أو أنّ الحكم ببقاء المرفوع لا يترتّب على التعبّد بعدم الرافع إلاّبالأصل المثبت ، وقد عرفت أنّ الظاهر أنّه يترتّب عليه وأنّه ليس عينه بل هو من قبيل السببي والمسبّبي ، فلاحظ وتأمّل ، وكيف يمكن [ القول ] بأنّ الطهارة هي عين عدم الحدث ، مع أنّ المفروض جريان استصحاب عدم مثل البول في أثناء اشتغاله بالوضوء ولو كان ذلك عين الطهارة لم يكن جارياً لعدم استقرار الطهارة فيه. لكن الظاهر أنّ هذا النزاع لا تترتّب عليه ثمرة عملية ، لأنّ استصحاب عدم الرافع دائماً مجتمع مع استصحاب بقاء المرفوع إلاّفي مثل المثال الذي تقدّم أعني سقوط أصالة عدم الرافع ، فإنّه بناءً على الاتّحاد والعينية لا مجال للرجوع إلى استصحاب بقاء المرفوع ، بخلافه على تقدير التغاير والسببية والمسبّبية ، لكن الظاهر أنّه ينبغي الجزم بعدم الاتّحاد ، إذ لا ريب في أنّ التعبّد بعدم الرافع ليس هو عين بقاء المرفوع. ينبغي مراجعة ما أفاده الشيخ قدس سره [ في فرائد الأُصول 3 : 107 ] في مقام نقل الأقوال في الاستصحاب ، ومن جملتها التفصيل بين العدميات فيجري بخلاف الوجوديات ، فإنّه عند ذلك أفاد احتمال رجوعه إلى ما يختاره من انحصار الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، لأنّ مرجعه حينئذ هو البناء على عدم الرافع.

ص: 43

ص: 44

ص: 45

ص: 46

قوله : مع أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو نفس قوله عليه السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية ... الخ (1).

لا يخفى أنّ تأويل هذه الجملة الخبرية إلى الانشائية يخرجها عن الصلاحية لصغرى الشكل الأوّل ، فلابدّ من كون الجواب مقدّراً بعد الفاء ، ليكون الشكل الأوّل المؤلّف من هذه الصغرى وتلك الكبرى برهاناً على ذلك الجواب الذي هو عين نتيجة ذلك الشكل.

ص: 47


1- فوائد الأُصول 4 : 336.

وأمّا ما أُفيد من الإشكال على تقدير الجواب بقوله : بداهة أنّه على هذا يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسؤول عنه مرّتين بلا فائدة الخ (1) ففيه تأمّل ، لأنّ الجواب وهو قوله عليه السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام » (2) هو الذي كان جواباً لسؤال السائل ، وأمّا هذا المقدّر فليس هو جواباً لسؤال ، وإنّما هو جواب للشرط الذي فرضه عليه السلام وهو قوله عليه السلام : « وإلاّ » يعني وإن لا يكون قد استيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه الخ.

ثمّ إنّ هذا الإشكال - أعني لزوم التكرار - لو تمّ لكان متوجّهاً إلى ما أفاده قدس سره من كون الجواب هو قوله : « فإنّه على يقين » الخ ، بتأويله إلى الجملة الانشائية.

قوله : فتأخير قوله عليه السلام : « من وضوئه » عن « اليقين » كتقديمه عليه لا يستفاد منه أزيد من كونه طرف الاضافة ، من دون أن يكون له دخل في الحكم ... الخ (3).

يمكن أن يقال : إنّ مركز هذه الأحكام - أعني اليقين والشكّ وعدم الوجوب أو عدم جواز نقض اليقين - إنّما هو الوضوء ، وعليه فيكون هو الموضوع في الصغرى الذي هو الأصغر ، ويكون حاصل الشكل هو أنّ الوضوء متيقّن وكلّ متيقّن لا ينقض بالشكّ ، فلا حاجة إلى ما أُفيد من التكلّف لاخراج الوضوء عن المدخلية في الحكم. نعم لو كان الموضوع في الصغرى هو المكلّف لكان ذلك التكلّف في محلّه ، فإنّ تركيب الشكل حينئذ يكون أنّ هذا المكلّف

ص: 48


1- فوائد الأُصول 4 : 336.
2- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.
3- فوائد الأُصول 4 : 337.

متيقّن من وضوئه ، وكلّ من تيقّن لا ينقض يقينه بالشكّ ، وحينئذ لابدّ من إعمال عناية توجب خروج الوضوء عن حدّ الأوسط المتكرّر المحمول في الصغرى والموضوع في الكبرى ، لكن ذلك - أعني كون موضوع الصغرى هو المكلّف - خلاف الظاهر ، والظاهر هو ما ذكرناه من كون موضوعها هو الوضوء.

قوله : هذا ، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع - إلى قوله - فإنّ القابل للنقض وعدمه هو اليقين من دون دخل لتعلّقه بالوضوء ... الخ (1).

لا يخفى أنّه مع قطع النظر عمّا تقدّم يمكن المناقشة في هذه الاضافة ، لأنّ الحكم الاستصحابي بعد أن فرضناه على خلاف القاعدة ، فيحتمل كونه مقصوراً على باب الوضوء ، كما أنّ قاعدة التجاوز مختصّة بالصلاة ولا تشمل الوضوء ، مع أنّه يتأتّى فيها ما أُفيد في هذه الاضافة من مناسبة الحكم والموضوع ، وأنّ الذي له دخل في عدم الاعتناء بالشكّ هو الخروج عن الفعل والدخول في غيره ، من دون أن يكون لخصوصية أفعال الصلاة مدخلية في ذلك ، فكيف قلنا بعدم جريانها في الوضوء بل وفي مقدّمات الأجزاء ، مثل ما لو شكّ في السجود في حال النهوض.

ولا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ الموضوع في الصغرى هو المكلّف لا الوضوء ، فلا محيص من الالتزام بما يقتضيه الظاهر من الاختصاص بباب الوضوء ، إلاّ أنه بملاحظة ما أُفيد أخيراً من كون هذه الجملة واردة على ما هو المألوف العرفي الذي جرى عليه ديدن العقلاء من عدم الاعتناء باحتمال انتقاض الحالة السابقة ، يكون ذلك قرينة على عدم مدخلية الوضوء في الحكم المذكور.

ص: 49


1- فوائد الأُصول 4 : 337 - 338.

قوله : ربما يتوهّم أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشكّ ، وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد ... الخ (1).

لا يخفى أنّ نتيجة سلب العموم هو السالبة الجزئية ، ومن الواضح أنّ المقام لا يناسب السلب الجزئي ، إذ ليس الكلام مسوقاً لبيان أنّ بعض اليقين لا ينقض بالشكّ ، فإنّ ذلك لا يصلح برهاناً لعدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشكّ فيه.

وبالجملة : أنّ السلب الجزئي أو رفع الايجاب الكلّي لا يصلح لكبروية الشكل الأوّل ، فلابدّ حينئذ من لزوم كون القضية الواقعة كبرى في هذا الشكل الذي أفادته الرواية الشريفة كلّية ، إمّا سالبة كلّية بأن يكون المراد : ولا شيء من اليقين يجوز نقضه بالشكّ ، أو موجبة كلّية معدولة المحمول ، بأن يكون المراد : أنّ كلّ يقين لا ينقض بالشكّ ، والظاهر الثاني.

وعلى أي حال ، فإنّ سلب العموم أجنبي عمّا هو مفاد الرواية ، فما أُفيد في بيان موارد سلب العموم وعموم السلب وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنه لا حاجة إليه في المقام بعد فرض كون الرواية غير صالحة للحمل على سلب العموم وما أدري كيف توهّم هذا المتوهّم إمكان حملها على سلب العموم الموجب لإفساد كون الجملة برهاناً على المطلوب المذكور ، هذا.

مضافاً إلى ظهور قوله عليه السلام : « أبداً » في السلب الكلّي. إلاّ أن يقال : إنّه مسوق لدوام السلب ، وهو كما يتأتّى في السالبة الكلّية يتأتّى أيضاً في السالبة الجزئية ، لكن ذلك على تقدير التسليم إنّما يكون في السلب الجزئي ، دون رفع

ص: 50


1- فوائد الأُصول 4 : 338.

الايجاب الكلّي.

والحاصل : أنّ قوله : « أبداً » إنّما يصحّ إذا كانت القضية سالبة كلّية أو كانت صريحة في السلب الجزئي ، أمّا رفع الايجاب الكلّي الذي يلزمه السلب الجزئي فلا يناسبه التعبير بقوله : « أبداً ». ولا يرد على ما ذكرناه من كون الكلّية موجبة معدولة المحمول ، فإنّ لفظة « أبداً » لا تنافيه ، بل تكون مفيدة لاستمرار النفي المأخوذ في ناحية المحمول.

قوله - في الرواية الشريفة - : « قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه السلام : تغسله وتعيد » (1) ... الخ (2).

لابدّ أن نفرض أنّه قد علم بالنجاسة في ثوبه إجمالاً ، لكنّه لم يعثر على محلّها بعد الفحص مع بقاء علمه الاجمالي بها ، وإلاّ فلا وجه للزوم الاعادة لو كان عند الفحص قد قطع بالعدم أو طرأ له الشكّ فيها. نعم يبقى الإشكال في وجه إقدامه على الصلاة فيه مع فرض علمه الاجمالي بها ، وهذا سهل.

وقد يقال : إنّه بعد أن طلبه ولم يقدر عليه حصل له الشكّ الساري إلى العلم الاجمالي بالاصابة ، فكان من موارد قاعدة اليقين ، ولكن السائل اعتمد على قاعدة الطهارة فصلّى ، لكن الإمام عليه السلام أمره بالاعادة ، فيكون ذلك من باب قاعدة اليقين الجارية في حقّه قبل الصلاة.

ص: 51


1- وسائل الشيعة 3 : 477 ، 482 / أبواب النجاسات ب 41 ، 44 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
2- فوائد الأُصول 4 : 340. [ سيأتي التعليق ثانياً على بعض هذه العبارة في الصفحة 54 ].

لكن هذا التوجيه بعيد جدّاً ، لأنّه يقول : « ولم أقدر عليه » ولم يقل : لم أره ، والأُولى تدلّ على بقاء العلم الاجمالي غايته أنّه لم يقدر على التعيين.

قوله - في الصحيحة الثانية لزرارة - « قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ، فنظرت ولم أر شيئاً فصلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال عليه السلام : تغسله ، ولا تعيد الصلاة » ... الخ (1).

إنّ هذا المكلّف بعد أن نظر ولم ير شيئاً إمّا أن يحصل له القطع بالعدم وإمّا أن يبقى على حاله من الشكّ ، ثمّ إنّ قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » يحتمل أنّه قد علم أنّ تلك النجاسة التي رآها هي تلك النجاسة السابقة ، ويحتمل أنّه لم يعلم بذلك ، بل كان يحتمل أنّها نجاسة جديدة وقعت بعد الصلاة ، فتكون الصور أربعاً :

الأُولى : حصول العلم بعد النظر بعدم النجاسة ، وحصول العلم بعد الفراغ بأنّ تلك المرئية هي النجاسة السابقة. وفي هذه الصورة لا يجب الاعادة لكون الصلاة مع الجهل بالنجاسة ، وهي أجنبية عن كلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين.

الثانية : هي حصول العلم بعدم النجاسة ، لكنّه بعد الفراغ يحتمل أنّ ما رآه نجاسة جديدة ، وفي هذه الصورة ينطبق على الاعادة أنّها نقض لليقين بالشكّ ، فإن كان المراد باليقين هو اليقين الحاصل بعد النظر كانت قاعدة اليقين ، وإن كان المراد به اليقين السابق الذي كان قبل ظنّ الاصابة كانت عبارة عن الاستصحاب ، والظاهر هو الثاني ، ولكن لا إشكال في انطباق النقض على الاعادة على كلّ من القولين.

والصورة الثالثة : هي أن لا يحصل له العلم بعدم النجاسة بعد النظر ، بل

ص: 52


1- فوائد الأُصول 4 : 340 ( مع اختلاف يسير ).

يبقى شاكّاً ثمّ بعد الفراغ يحتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها هي السابقة أو غيرها. وفي هذه الصورة ينطبق النقض على الاعادة ، ويكون المورد من صغريات الاستصحاب ، لأنّ المراد به حينئذ هو اليقين بالطهارة السابقة على ظنّ الاصابة ، ولا دخل لذلك بقاعدة اليقين.

الصورة الرابعة : هي هذه الصورة لكن يقطع بأنّ ما رآه هو نفس ما تقدّم ، وفي هذه الصورة لا مورد لقاعدة اليقين ، وإنّما المورد مورد للاستصحاب ، لكن لا ينطبق النقض على الاعادة ، بل إنّ الذي ينطبق عليه النقض هو الامتناع من الدخول في الصلاة. وهذه الصورة هي التي استظهرها شيخنا قدس سره وغيره ، ولأجل ذلك وقعوا في إشكال عدم انطباق النقض على الاعادة.

وعمدة ما يمكن أن يعيّن الصورة الرابعة أمران :

الأوّل ، ما يوجد في بعض النسخ من قوله : « فرأيته فيه » الظاهر في رجوع ضمير « رأيته » إلى النجاسة السابقة من الدم أو المني.

الثاني : سؤال زرارة عن الفرق بين هذه المسألة وسابقتها ، مع كون كلّ منهما قد [ انكشف ] للمكلّف أنّه صلّى مع النجس ، فلو حملت النجاسة على ما يحتمل حدوثها بعد الصلاة كان الفرق بين هذه المسألة وسابقتها في غاية [ الوضوح ] ولم يحتج إلى سؤال الفرق بين المسألتين.

أمّا الأمر الأوّل ، فيمكن الجواب عنه : بأنّ الضمير راجع إلى مطلق الدم كما في قوله : « فرأيته رطباً » غايته أنّ ذلك التصرّف كان بقرينة قوله : « رطباً » وقوله : « لعلّه أُوقع عليك » فليكن هذا التصرّف جارياً في هذه المسألة ، والقرينة هي تطبيق النقض على الاعادة ، لأنّه لا يتم مع كون النجاسة المرئية جديداً هي عين السابقة.

ص: 53

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّه لم يظهر من زرارة السؤال عن الفرق بين المسألتين وإنما كان سؤاله عن وجه الحكم بعدم الاعادة ، فيمكن أن تكون النجاسة التي رآها بعد الصلاة مردّدة عنده بين السابقة والجديدة ، فأمره الإمام عليه السلام بعدم الاعادة فسأل عن وجه الحكم بعدم الاعادة لأجل مجرّد استفادة الوجه في ذلك ، لا لأجل الإشكال وأنّه توهّم اتّحاد المسألتين في الحكم فوجّه السؤال عن الفرق بينهما وإن أمكن أنّ زرارة يعرف الفرق بين المسألتين ، لأنّ تلك كان الإقدام فيها على الصلاة فيما هو معلوم النجاسة تفصيلاً ، وإن لم يكن المعلوم النجاسة هو الأعلى أو الأسفل من ثوبه مثلاً ، وهذه كان الإقدام فيها مع عدم العلم بالنجاسة ، إلاّ أنه إنّما سأل ليتّضح الفرق لمن يسمع مثلاً ونحو ذلك من البواعث على السؤال.

أمّا أنّ زرارة كيف دخل في الصلاة في الصورة الأُولى مع علمه بالنجاسة ، وفي الصورة الثانية مع شكّه فيها وعدم استناده إلى الاستصحاب لأنّه لم يكن عالماً بحجّيته ، فذلك ممّا لا أهميّة له ، لأنّ زرارة هو أجلّ من هذه الإقدامات ، وإنّما يسأل أسئلة فرضية كما هو الحال في التلميذ مع أُستاذه.

قوله : « قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه » (1).

لو دخل في الصلاة مع بقاء العلم الاجمالي كانت صلاته باطلة ، ولو انقلب بعد الفحص إلى اليقين بالطهارة لم تجب عليه الاعادة ، لكونه حينئذ من الجهل بالنجاسة.

ولو انقلب علمه الاجمالي بعد الفحص إلى الشكّ في الاصابة كان من الشكّ الساري ، وبناءً على قاعدة اليقين يكون وجوب الاعادة عليه واضحاً ، لأنّها

ص: 54


1- فوائد الأُصول 4 : 340. [ مرّ التعليق على هذه العبارة في الصفحة : 51 ].

طابقت الواقع ، ويكون الوجه في دخوله في الصلاة هو عدم اعتنائه بقاعدة اليقين ورجوعه إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها ، ويكون حكم الإمام عليه السلام بوجوب الاعادة عليه بمنزلة ردعه عن عدم الأخذ بقاعدة اليقين.

لكن ذلك بعيد ، لأنّ السائل يقول : فلم أقدر عليه ، فهو يعترف ببقاء العلم الاجمالي ، لكنّه لم يقدر على التعيين ، وهذا بخلاف عبارته في الثانية أعني قوله : لم أر شيئاً.

1 - (1) بعد الفحص تيقّن بعدم النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة رأى النجاسة وعلم أنّها السابقة. [ وهذه الصورة ] خارجة عن مفاد قوله عليه السلام : « لأنّك » الخ ، وعن كلّ من قاعدة اليقين والاستصحاب ، وهي من الجهل بالنجاسة.

2 - بعد الفحص شكّ في النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة احتمل أنّها النجاسة السابقة. ولا يقين له حينئذ إلاّما هو السابق على ظنّ الاصابة ، فيكون مورداً للاستصحاب ، ويكون النقض منطبقاً على الاعادة ، على إشكال في انطباق النقض على الاعادة تأتي الاشارة إليه (2).

3 - بعد الفحص شكّ في النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة علم أنّها السابقة. وهذه الصورة لا مورد فيها لقاعدة اليقين ، بل إنّ الجاري في حقّه هو استصحاب الطهارة التي تيقّن بها قبل ظنّ الاصابة ، والجاري في حقّه قبل الصلاة هو استصحاب تلك الطهارة ، وينطبق عليه النقض قبل الصلاة ، ويقع الإشكال في تطبيقه على الاعادة.

4 - بعد الفحص تيقّن عدم النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة وجد نجاسة يحتمل

ص: 55


1- [ لا يخفى أنّ هذه الصفحة ( المشتملة على صور سبق ذكرها ) وما بعدها إلى آخر الحاشية جاءت ضمن ملحقات أضافها المصنّف قدس سره إلى الأصل ].
2- في الصفحة : 58.

أنّها السابقة ، فإن كانت سابقة لم تجب إعادة الصلاة لكونها مع الجهل بالنجاسة ، وإن كانت متأخّرة لم يكن لها أثر في صلاته. نعم مع قطع النظر عن الحكم بصحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة ، بحيث نفرض أنّ من اعتقد طهارة ثوبه فصلّى فيه ثمّ بعد الفراغ تبيّن أنّه نجس يجب عليه الاعادة ، نقول حينئذ : إنّا إن نظرنا إلى حالته بعد الفحص كان من قاعدة اليقين ، وإن نظرنا إلى حالته قبل ظنّ الاصابة كان الاستصحاب. وعلى أيّ حال ، يكون النقض منطبقاً على الاعادة.

والأولى أن يقال : إنّ الرواية الشريفة لا تشمل الصورة الأُولى ، بل ولا الرابعة ، لأنّ الموجب للصحّة فيهما هو اليقين بالطهارة عند دخوله في الصلاة ، وأنّ انكشاف وقوعها مع النجاسة كما في الصورة الأُولى لا يضرّ بصحّتها ، لكونها من الجهل بالنجاسة ، فضلاً عمّا إذا احتمل بعد الفراغ وقوعها فيها كما في الصورة الرابعة ، ولا مدخلية في هاتين الصورتين للاستصحاب ولا لقاعدة اليقين.

نعم ، لو لم يحصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص ، بل بقي على شكّه الحاصل من ظنّ الاصابة في قوله : « فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك » الخ ، ودخل على ذلك الشكّ في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ حصل له العلم بأنّه قد صلّى مع النجاسة كما في الصورة الثالثة ، أو لم يحصل له ذلك بل احتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي نجاسة جديدة وقعت عليه بعد الصلاة كما في الصورة الثانية ، كان المورد قبل الدخول إلى الفراغ مورداً لاستصحاب الطهارة المتيقّنة قبل ظنّ الاصابة ، وحينئذ تكون صلاته صحيحة لأنّه محرز للطهارة وجاهل بالنجاسة ، فلا يضرّه العلم بعد الصلاة بأنّها كانت مع النجاسة كما في الثالثة ، فضلاً عن الشكّ في ذلك كما في الثانية. وبالجملة : أنّ الرواية الشريفة ناظرة إلى صورة بقاء الشكّ بعد الفحص ، سواء حصل له العلم بالنجاسة بعد الصلاة أو لم يعلم.

ص: 56

ويمكن التفرقة بين الصورتين ، فإنّه في الصورة الثالثة وهي ما لو بقي على شكّه بعد الفحص ، وبعد الفراغ من الصلاة رأى تلك النجاسة التي كان قد شكّ فيها قبل الصلاة ، ففي هذه الصورة لا يكون له إلاّ استصحاب واحد ، وهو الذي كان قد أجراه من أوّل الدخول في الصلاة إلى الفراغ منها ، وهو قد انقطع بعد الفراغ برؤيته تلك النجاسة ، فلا يكون المصحّح لصلاته إلاّ استصحابه السابق الذي انكشف له خلافه ، فلو أراد أن يعيد لم تكن إعادته نقضاً لذلك الاستصحاب السابق. نعم ، أقصى ما في المسألة أنّه صلّى معتمداً على الاستصحاب ، فيدخل في من صلّى جاهلاً بالنجاسة ، فيكون عدم وجوب الاعادة عليه لأجل هذه الجهة أعني الجهل بالنجاسة ، لا لأنّ الاعادة تكون نقضاً لاستصحاب فعلي.

وهذا بخلاف الصورة الثانية وهي ما لو بقي على شكّه بعد الفحص ، وبعد الفراغ احتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها هي السابقة أو أنّها جديدة طرأت بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّه في هذه الصورة وإن كان له استصحاب أجراه من أوّل دخوله في الصلاة إلى الفراغ منها ، لكنّه بعد الفراغ ورؤيته لتلك النجاسة المحتمل كونها هي السابقة يبقى الاستصحاب جارياً في حقّه بعد رؤيته لتلك النجاسة ، فبالنظر إلى هذا الاستصحاب الفعلي الذي يجريه بعد رؤيته النجاسة تكون إعادته نقضاً لهذا الاستصحاب الفعلي الجاري في حقّه بعد رؤيته النجاسة ، وظاهر الرواية أنّه عليه السلام استند في عدم إعادته إلى الاستصحاب الفعلي ، لا إلى الاستصحاب الذي أجراه من أوّل الدخول إلى الفراغ ، وبناءً على ذلك تكون الرواية مختصّة بهذه الصورة أعني الصورة الثانية ، وليس لها نظر إلى الصورة الثالثة.

ولكن ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّه في هذه - أعني صورة الشكّ في

ص: 57

النجاسة المرئية بعد الصلاة - لا موقع للاستصحاب الفعلي بعد رؤيته النجاسة المذكورة ، فإنّ استصحابه السابق الذي كان جارياً في حقّه من أوّل الدخول في الصلاة إلى الفراغ منها قاضٍ بأنّه لا أثر للنجاسة لو كانت موجودة في حال الصلاة وأنّ صلاته صحيحة للجهل بالنجاسة مع فرض إحرازه الطهارة حينما كان في الصلاة إلى الفراغ ، ومع الحكم بصحّة الصلاة المذكورة استناداً إلى ذلك الاحراز السابق لا يبقى موقع لانكشاف وقوعها مع النجاسة ، فضلاً عن احتمال وقوعها فيه كي نحتاج إلى نفيه بالاستصحاب الفعلي الذي نريد إجراءه في حقّه بعد رؤيته النجاسة.

وحينئذ لا يكون القاضي بصحّة الصلاة إلاّ استصحابه السابق ، سواء انقطع بالعلم بأنّ النجاسة المرئية هي السابقة كما في الصورة الثالثة ، أو لم ينقطع لعدم العلم بكونها هي السابقة كما في الصورة الثانية ، وحينئذ تكون الرواية الشريفة شاملة للصورتين المذكورتين ، ولا تكون الاعادة فيها نقضاً ، بل يكون حاصل الرواية هو عدم وجوب الاعادة ، لكونه كان من أوّل الصلاة إلى آخرها مورداً لاستصحاب الطهارة المتيقّنة قبل ظنّ الاصابة.

ويمكن استفادة ذلك من قوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً » الخ (1) ، لأنّ محصّل قوله : « كنت على يقين فشككت » الخ ، أنّ موضوع الاستصحاب وهو اليقين المتعقّب بالشكّ كان متحقّقاً في حقّك ، فكان الاستصحاب جارياً في حقّك قبل الصلاة ، وهو قاضٍ بصحّتها ولو انكشف بعد ذلك خطؤه ، فضلاً عمّا احتمل خطؤه ، فلاحظ وتأمّل. وليس المراد تطبيق الاستصحاب - وهو عدم النقض - على الاعادة ، بل

ص: 58


1- تقدّم استخراجه في الصفحة : 51 ( مع اختلاف عمّا في المصدر ).

الغرض أنّك لا تعيد لأنّك كنت مستصحباً للطهارة ، وهذا هو الفارق بين هذه المسألة والمسألة السابقة المتضمّنة لقوله في السؤال : « وعلمت أنّه أصابه » فإنّه في تلك المسألة - أعني مسألة العلم بأنّه أصابه - لم يكن عنده موضوع الاستصحاب وهو اليقين والشكّ ، بخلاف هذه المسألة ، فلاحظ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ السؤال والجواب منصبّ على ما بعد الفراغ من الصلاة ، أمّا حاله من حين الشروع في الصلاة إلى الفراغ منها ، فلم يكن عنده حينذاك إلاّ اليقين السابق على ظنّ الاصابة والشكّ الحاصل من ظنّ الاصابة المفروض بقاؤه بحاله بعد الفحص ، لكنّه لم يستند في الإقدام على الصلاة إلى استصحاب الطهارة ليدخل تحت المحرزين للطهارة ببركة الاستصحاب ، لفرض عدم علمه بحجّية الاستصحاب ، فلا يكون إقدامه على الصلاة إلاّمثل إقدامه في صورة العلم الاجمالي باصابة الثوب ، لابدّ أن يكون عن غفلة ونحوها ممّا أمكن فيه قصد التقرّب ، وبعد الفراغ ورؤيته النجاسة فإن علم أنّها كانت هي السابقة لم يكن لصلاته ما يصحّحها ، أمّا الاستصحاب حينها فلفرض أنّه لم يستند إليه ، بل ولا إلى قاعدة الطهارة ، وأمّا الاستصحاب بعد رؤية النجاسة السابقة فلفرض علمه بها حينئذ. نعم يتولّد عنده الاستصحاب إذا كان شاكّاً في تلك النجاسة وأنّها لعلّها غير السابقة ، وحينئذ يجري الاستصحاب من جديد ، فلا تنطبق الرواية إلاّعلى هذه الصورة ، أعني صورة ما لو بقي شكّه بعد الفحص وبعد الفراغ ورؤيته النجاسة لم يعلم أنّها السابقة.

ثمّ إنّه مع قطع النظر عن الإجماعات والروايات الدالّة على عدم الاعادة على من صلّى مع النجاسة جاهلاً لو كان محرزاً لها (1) قبل الدخول ، لا يبعد أن

ص: 59


1- [ الظاهر أنّه من سهو القلم والصحيح : « محرزاً لعدمها » أو « محرزاً للطهارة » ].

يقال : إنّ هذه الرواية منصبّة الصدر والذيل على لزوم الاعادة على من تبيّن له أنّ صلاته كانت مع النجاسة ، فإنّ قوله عليه السلام في جواب قوله : « إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » الخ (1) ، ويبعد التفرقة بين الانكشاف في أثناء الصلاة والانكشاف بعد الفراغ منها ، وعلى ذلك جرى في الصدر في صورة النسيان ، فإنّها أيضاً من باب انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة ، وكذلك مع الصورة الثانية وهي صورة العلم الاجمالي ، فإنّه بعد الفراغ يعلم تفصيلاً أنّ صلاته كانت مع الثوب النجس ، غايته أنّ النجاسة لم تعلم أنّها في الطرف الأعلى أو في الطرف الأسفل ، وعلى ذلك يمكن أن تنزّل الصورة الثالثة ، وهي جواب قول السائل : « فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن - إلى قوله - أبداً » ولابدّ حينئذ أن نحمل الحكم بعدم الاعادة على ما لو لم يكن عالماً بأنّ النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة السابقة ، إذ لو علم ذلك لزمه الاعادة ، سواء كان قد حصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص أو كان قد بقي شاكّاً بناءً على الممشى المذكور أعني وجوب الاعادة على من صلّى مع النجاسة سواء كان محرزاً للطهارة من أوّل الدخول أو لم يكن ، وحينئذ يكون الحكم بعدم الاعادة مختصّاً بما لم يعلم ذلك بل احتمل بعد الفراغ أنّ النجاسة المرئية هي السابقة ، ولا أثر ليقينه بعد الفحص ولا لعدمه ، فيكون الحكم بعدم الاعادة شاملاً للصورتين ، ويكون الاعتماد في طرد احتمال وقوعها مع النجاسة السابقة على اليقين السابق على ظنّ الاصابة فتكون المسألة من الاستصحاب ، أو على اليقين الحاصل بعد الفحص إن كان ، فتكون المسألة من قاعدة اليقين.

ولقائل أن يقول : إنّ مسلّمية بطلان قاعدة اليقين يوجب كون الاعتماد على

ص: 60


1- وسائل الشيعة 3 : 482 / أبواب النجاسات ب 44 ح 1.

اليقين السابق على ظنّ الاصابة ، سواء بقي على شكّه بعد الفحص أو حصل اليقين بالعدم ، فإنّ ذلك اليقين بعد أن زال بالشكّ الحاصل بعد الصلاة لا أثر له ، فلا يكون الاعتماد إلاّعلى قاعدة الاستصحاب بالأخذ باليقين السابق على ظنّ الاصابة ، وبناءً على ذلك تكون الرواية شاملة لما إذا لم يحصل له اليقين بعد الفحص ولما إذا حصل ، ومنحصرة بما إذا لم يحصل له اليقين بعد الفراغ ، وحينئذ يكون مورد تلك الإجماعات والروايات خارجاً عن مفاد الرواية ، وهذا لا يضرّ بأصل الاستدلال بالكبرى الذي تضمّنته الرواية ، أعني أنّ اليقين لا ينقضه الشكّ ، وإن كان أحد موردي الرواية وهو ما لو حصل له اليقين بعد الفحص غير محتاج إلى كبرى الاستصحاب ، فإنّ ذلك لا يضرّ بأصل الكبرى.

قوله في الحاشية : ومن الفروع المترتّبة على الوجهين الأخيرين ... الخ (1).

هذا الفرع ذكره شيخنا الأُستاذ قدس سره في الدورة الأخيرة وفي الدورة السابقة عليها. أمّا في الدورة السابقة فقد اقتصر فيها على الإشكال ، لكن أفاد قدس سره في الدورة الأخيرة ما ملخّصه على ما حرّرته عنه قدس سره (2) : أنّه بناءً على أنّ المانع هو النجاسة المنجّزة لا يلزمه إلاّ إعادة الأُولى فقط ، إذ لا يتنجّز بالعلم الاجمالي إلاّما تعلّق به ذلك العلم. وبعبارة أُخرى : لا يتنجّز به إلاّ المعلوم بالتفصيل الذي هو ملاك منجّزية العلم الاجمالي ، وليس ذلك إلاّنجاسة أحدهما غير معلّم بعلامة خاصّة ، وهذا يصدق بأوّل وجود منه ، ويكون الآخر من قبيل الزائد على ما تعلّق

ص: 61


1- فوائد الأُصول ( الهامش ) 4 : 344.
2- ينبغي ملاحظة التقرير المطبوع في صيدا ص 367 و 368 [ منه قدس سره ، راجع أجودالتقريرات 4 : 47 - 49 ].

به العلم ، ويكون المرجع فيه هو قاعدة الطهارة.

ولا وجه لتوهّم وجوب إعادة الفرضين ، فإنّا وإن قلنا إنّ المانع هو النجاسة المنجّزة ، إلاّ أن ذلك لا يوجب إعادتهما معاً ، إذ لم يكن في البين ما يوجب تنجّز كلا النجاستين ، لما عرفت من أنّ ملاك منجّزية العلم الاجمالي هو ذلك العلم التفصيلي المتعلّق بالقدر المشترك ، ومن الواضح أنّ ذلك العلم إنّما تعلّق بنجاسة أحد الطرفين ، فلابدّ أن تكون نجاسة الآخر خارجة عن حيّز ذلك العلم إلخ (1).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ نجاسة الآخر وإن لم تكن منجّزة بالعلم إلاّ أنه لم يكن في البين ما يوجب المعذورية منها ، لعدم إمكان الرجوع إلى قاعدة الطهارة في أطراف العلم الاجمالي ، وذلك كافٍ في التنجّز الذي هو استحقاق العقاب على المخالفة ، لأنّ الارتكاب كان بلا مبرّر على ما تقدّم نظيره في مسألة الفحص ، هذا كلّه بناءً على أنّ المانع هو النجاسة المنجّزة.

وأمّا بناءً على أنّ المانع هو إحراز النجاسة ، فكذلك على الظاهر يلزمه إعادتهما ، بناءً على كفاية الاحراز الاجمالي الموجب للاجتناب عن كلا الطرفين فيكون حاله حال ما لو قلنا إنّ المانع هو النجاسة الواقعية مع فرض العلم الاجمالي بها في أحد الطرفين ، فإنّ ارتكاب كلا الطرفين يوجب تنجّز نجاسة كلّ منهما على ما عرفت من الاكتفاء في لزوم العقاب والاعادة بعدم المعذورية.

وأمّا بناءً على أنّ الشرط هو إحراز الطهارة ، فعلى الظاهر أنّه لا إشكال في

ص: 62


1- لكن قد يقال : إنّ الصلاة الثانية لم تكن واجدة للشرط الذي هو إحراز الطهارة ، فيلزم إعادتها. وفيه : أنّ أصل فرض المسألة إنّما هو في عروض الغفلة بعد العلم وقد عرفت سقوط الشرطية في مقام الغفلة [ منه قدس سره ].

لزوم إعادتهما معاً.

ثمّ لا يخفى أنّ الأولى في الفرع المذكور هو إسقاط قوله : ثمّ غفل فصلّى (1) ، لأنّ الظاهر من الغفلة هو سقوط تأثير العلم الاجمالي ، إلاّ أن يراد بها ما لا يكون موجباً لخروج العلم عن كونه علماً وجدانياً ، وفي تحقّق هذا الفرض من الغفلة إشكال ، فالأولى إسقاطها وإبدالها بقوله : ثمّ صلّى وتأتّت منه نيّة القربة. ولعلّ نظره في ذلك إلى مسألة العلم وطروّ النسيان ثمّ بعد الفراغ من الصلاة يتذكّر المعلوم الاجمالي ، فراجع ما حرّرناه على صفحة 31 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب (2).

قوله : أمّا على الوجه الأوّل وهو كون العلم بالطهارة شرطاً لصحّة الصلاة ، فالتعليل بالاستصحاب - إلى قوله - يتوقّف على أن يكون التعليل لبيان كبرى كلّية ، وهي عدم وجوب الاعادة على كلّ من كان محرزاً للطهارة ... الخ (3).

لا يخفى أنّ كلاً من هذه الوجوه الثلاثة راجع إلى أنّ تعليل عدم الاعادة بقوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين » الخ (4) من قبيل التعليل بصغرى لكبرى مطوية ، غايته أنّه بناءً على كون الشرط هو إحراز الطهارة ، تكون الصغرى أنت محرز للطهارة بالاستصحاب ، وتكون الكبرى المطوية هي أنّ كلّ محرز للطهارة

ص: 63


1- ونصّه في هامش فوائد الأُصول 4 : 344 هكذا : « ثمّ غفل المكلّف عن ذلك وصلّى ».
2- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : 237 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 345 - 346.
4- وسائل الشيعة 3 : 477 / أبواب النجاسات ب 41 ح 1.

لا يجب عليه الاعادة ، وبناءً على أنّ المانع هو النجاسة المحرزة تكون الصغرى إنّك لم تحرز النجاسة ، وتكون الكبرى المطوية أنّ كلّ من لم يحرز النجاسة لم تجب عليه الاعادة ، وبناءً على أنّ المانع هي النجاسة المنجّزة تكون الصغرى أنّك لم تتنجّز في حقّك النجاسة ، لأنّك مستصحب الطهارة ، وكلّ من لم تتنجّز في حقّه النجاسة لا تجب عليه الاعادة.

نعم ، بناءً على الأوّل تكون الصغرى هي نفس الاستصحاب ، وكذلك بناءً على الثالث ، فإنّ الاستصحاب يكون نافياً للتنجّز وموجباً لالغاء الشكّ في النجاسة. وأمّا بناءً على الثاني فالمورد في نفسه كافٍ في تحقّق الصغرى وهي عدم إحراز النجاسة ، وغاية الفائدة في استصحاب الطهارة هو أنّ إحراز الطهارة يكون ملازماً لنفي نقيضه وهو إحراز النجاسة ، فكأنّه إنّما استند في الحكم بعدم الاعادة إلى استصحاب الطهارة لأجل أنّ إحراز الطهارة به يكون نافياً لنقيضه الموجب للاعادة وهو إحراز النجاسة.

وفيه تأمّل ، لأنّ المانعية حينئذ مقطوعة العدم عند عدم إحراز النجاسة ، فلا مورد فيه لاستصحاب الطهارة ، بل يكون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

ثمّ لا يخفى أنّ في كون تنجّز النجاسة هو المانع من صحّة الصلاة إشكالاً ، وهو أنّ المراد بتنجّز النجاسة ليس هو تنجّز سائر آثارها من حرمة الأكل والشرب ونحو ذلك ، إذ لا مدخلية لتلك الآثار في باب الصلاة ، بل المراد هو تنجّز خصوص هذا الأثر وهو المانعية من صحّة الصلاة ، وحينئذ لا يعقل تقييد المانعية بتنجّز نفسها إلاّبنحو من التقييد غير اللحاظي بمثل متمّم الجعل ونحوه ممّا يصحّح أخذ العلم بالحكم قيداً فيه ، بل هذا أشكل من أخذ العلم قيداً ، بل هو من

ص: 64

قبيل أخذ تحقّق الحكم قيداً فيه ، وهو محال.

ثمّ الظاهر من أخذ التنجيز في المانعية هو أنّه على نحو جزء الموضوع ، فلا أثر للنجاسة الواقعية في إبطال الصلاة إذا لم تكن منجّزة ، كما أنّه لو كان في البين منجّز للنجاسة ولم تكن النجاسة موجودة في الواقع وتأتّت منه نيّة القربة ، كما لو صلّى صاحب الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما وبعد فراغه من الأوّل ظهر أنّه هو الطاهر ، كانت صلاته صحيحة أيضاً. نعم لو أخذنا التنجّز المذكور تمام الموضوع لكانت الصلاة المذكورة باطلة. وهكذا الحال في أخذ إحراز النجاسة مانعاً.

أمّا أخذ إحراز الطهارة شرطاً فلا يتمّ فيه كونه جزء الموضوع ، لأنّ لازمه هو بطلان الصلاة في صورة إحراز الطهارة مع تبيّن الخلاف بعد ذلك ، وهو مورد الرواية الشريفة ، كما أنّ لازمه هو البطلان أيضاً في صورة عدم إحراز الطهارة مع تبيّن تحقّقها واقعاً ، كما لو غفل وصلّى في النجس غافلاً عن طهارته ونجاسته ، أو كان قد صلّى في أحد طرفي العلم الاجمالي وتأتّت منه نيّة القربة ، بل لو صلّى معتمداً على قاعدة الطهارة في الشبهة البدوية وقد صادف الواقع ، لم تصحّ صلاته لعدم تحقّق الاحراز بناءً على أنّ قاعدة الطهارة ليست من الاحرازيات.

أمّا أخذه تمام الموضوع فهو وإن لم يتوجّه إليه الإشكال في صورة ما لو تحقّق الاحراز ولم يكن مطابقاً للواقع ، إلاّ أنه يتوجّه إليه الإشكال الثاني ، وتكون النتيجة أنّ الشرط هو الأعمّ من إحراز الطهارة وإن لم تكن في الواقع ، أو نفس الطهارة الواقعية وإن لم تكن حين الصلاة محرزة.

وخلاصة المبحث أو تفصيله : هو أنّه ينبغي الجزم ببطلان الوجه الثاني وهو كون المانع إحراز النجاسة ، لما عرفت من أنّ لازمه القطع بعدم المانع بمجرّد عدم العلم بالنجاسة والشكّ ، فلا معنى للرجوع إلى استصحاب الطهارة كما في

ص: 65

الرواية أو إلى قاعدتها ، بل يكون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

كما أنّه ينبغي الجزم ببطلان الوجه الثالث ، وهو كون المانع هو النجاسة المنجّزة ، لما عرفت في أخذ إحراز النجاسة مانعاً ، فإنّ المانع لو كان هو تنجّز النجاسة لكان مقطوعاً بعدمه في مورد الرواية ، فلا يبقى في موردها محل للاستصحاب ، هذا. مضافاً إلى ما فيه من محالية تقيّد الحكم بتنجّزه ، إذ لا معنى لتنجّز النجاسة إلاّتنجّز آثارها ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه لا أثر لنجاسة الثوب إلاّ المانعية ، فلو كانت المانعية موقوفة على التنجّز لكان ذلك عبارة أُخرى عن توقّف الحكم على تنجّزه ، وذلك محال لا يصلحه التقييد الذاتي ولا اللحاظي ولا التقييد بمتمّم الجعل ونحو ذلك من أنحاء التقييد.

فلم يبق إلاّ الوجه الأوّل وهو أخذ الشرط إحراز الطهارة ، وقد عرفت أنّه لابدّ أن يكون على نحو تمام الموضوع ، ولازمه هو ما عرفت من بطلان الصلاة عند الغفلة ، وقد وردت الرواية بصحّتها ، كما في من صلّى في عذرة إنسان أو سنّور وهو لا يعلم (1) ، وعدم جواز الاعتماد على قاعدة الطهارة لعدم كونها من الأُصول الاحرازية.

ولو سلّمنا إصلاح الأوّل بما أُفيد من أنّ شرطية الاحراز مختصّة بحال الالتفات ، وإصلاح الثاني بما أُفيد من تعميم الطهارة إلى الطهارة الواقعية التي يؤدّي إليها الاستصحاب والطهارة الظاهرية التي تؤدّي إليها قاعدة الطهارة ، فلا يخفى ما فيه ، مضافاً إلى التكلّف بل عدم الصحّة خصوصاً الثاني ، أنّ هناك نقضاً آخر وهو ما لو صلّى صاحب الثوبين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما الباني على

ص: 66


1- وسائل الشيعة 3 : 475 / أبواب النجاسات ب 40 ح 5.

تكرار الصلاة فيهما ، لكنّه بعد الفراغ من الأوّل تبيّن أنّ الطاهر هو هذا الذي صلّى فيه ، وأنّ ذلك الآخر هو النجس ، فإنّ مقتضى كون إحراز الطهارة شرطاً هو بطلان الصلاة المفروضة ، هذا. مضافاً إلى أنّ الواقع إذا لم يترتّب عليه [ أثر ] كيف يمكن التعبّد ببقائه في استصحاب الطهارة ، وهو إشكال قيام الأصل مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو تمام الموضوع ، فراجع وتأمّل.

وربما يقال : إنّ الشرط هو الطهارة الواقعية ، لكن عند خطأ القطع أو الأصل القائم على الطهارة يكون الشرط هو الاحراز الأعمّ من التعبّدي والوجداني ، أو نقول : بسقوط شرطية الطهارة عند خطأ إحرازها أو عند الغفلة ، لكنّه لا يخلو عن شبهة تقييد اشتراط الطهارة الواقعية بصورة اتّفاق وجودها.

ويمكن أن يقال : إنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإحرازها ، ولابدّ أن يكون المراد باحراز الطهارة الأعمّ من إحرازها الوجداني أو إحرازها بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة. وإن شئت فقل : إنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية أو إحرازها أو الطهارة الظاهرية.

أمّا الغفلة فلو خلّينا نحن وتلك الرواية فلا يبعد القول بعدم دلالتها على الغفلة ، لأنّ الظاهر هو القطع بعدم النجاسة واتّفق في الواقع إحدى تلك النجاسات.

ولو سلّمنا دلالتها على الاغتفار حال الغفلة لقلنا بسقوط الشرطية حالها ، فيكون شرطية الأعمّ من الطهارة الواقعية أو إحرازها مختصّة بحال الالتفات.

وما يقال : من عدم الجامع إنّما هو إشكال على ما لو عبّر عن ذلك الشرط الأعمّ بعبارة واحدة ، أمّا إذا كان ذلك بعبارات مختلفة من مجموع روايات متعدّدة فأيّ بأس في القول بأنّ المستفاد من مجموع تلك الروايات هو هذا المعنى ، لكنّه

ص: 67

لا يخلو من خدشة في وجه قيام استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، فإنّ الشرط إذا كان هو الطهارة الواقعية كان لقيامها معنى محصّل ، وهو لزوم ترتيب آثار الطهارة الواقعية ، أمّا إذا كان الشرط هو الأعمّ فأيّ معنى محصّل يترتّب على قيام الاستصحاب أو قاعدة الطهارة.

وقد يقال : إنّ الشرط هو الطهارة الواقعية ليس إلاّ ، لكن لو اتّفق انخرام هذا الشرط لجهل أو خطأ أصل أو غفلة ، يكون الفاقد في ذلك الحال وافياً بمقدار من المصلحة ، وموجباً لعدم التمكّن من المصلحة الباقية ، ويكون إيجابه لعدم التمكّن من استيفاء مصلحة الواجد لذلك الشرط مختصّاً بتلك الأحوال ، أعني أحوال الجهل العذري.

لكن يتوجّه عليه : أنّ وفاء الفاقد في ذلك الحال بمصلحة نفسه إذا لم يكن متوقّفاً على الشرط كان مرجعه إلى عدم الشرطية في ذلك الحال ، وإن كان متوقّفاً عليه كان مرجعه إلى أنّ الفاقد للشرط في ذلك الحال خال من المصلحة ، وأنّه أجنبي عن المأمور به ، غايته أنّه بوجوده يمنع من التمكّن من استيفاء مصلحة المأمور به ، على حذو ما تقدّم تفصيله في مسألة الجهر والاخفات (1). ولا يخفى أنّ هذا البحث راجع إلى ما ذكره بعنوان تذييل (2) فنحن نؤخّر الكلام فيه إلى ذلك البحث (3)

ص: 68


1- راجع المجلّد الثامن الصفحة : 550 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 353 وما بعدها.
3- [ وجدنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس سره بهذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش ، وإليك نصّ ما في الأوراق : ] تلخّص : أنّه لو قلنا إنّ المانع هو إحراز النجاسة يلزم عليه القطع بصحّة الصلاة بمجرّد الشكّ في النجاسة ، ولا يحتاج إلى استصحاب الطهارة كما هو مورد الرواية ولا إلى قاعدة الطهارة ، بل يكون كلّ ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. ولو قلنا إنّ المانع تنجّز النجاسة توجّه عليه أنّه ليس المراد بها إلاّتنجّز أثرها ، وليس المراد بالأثر إلاّ المنع من الصلاة فيه دون أكله وشربه مثلاً ، وحينئذ يلزم أن يكون تنجّز المانعية موضوعاً لنفس المانعية ، وهذا لا يصلحه التقيّد الذاتي ولا متمّم الجعل. ولو قلنا إنّ الشرط هو إحراز الطهارة لزمه بطلان الصلاة عند الغفلة ، وعدم الاعتماد على قاعدة الطهارة لعدم كونها من الأُصول الاحرازية ، وأنّه لا يصحّ الاحتياط لذي الثوبين بالتكرار ، وأنّه لو صلّى في المشكوك الذي لم تجر فيه قاعدة الطهارة ولا استصحابها وتبيّن أنّه طاهر ، كانت صلاته باطلة لعدم الاحراز من أوّل الدخول. ولو أصلحناه بأن دفعنا الأوّل بأنّ هذا الشرط مقيّد بحال الالتفات إن كانت الرواية وهي قوله عليه السلام : « وهو لا يعلم » شاملة لحال الغفلة ، ودفعنا البواقي بأنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإن لم تكن محرزة أو إحرازها بالعلم أو الاستصحاب وإن لم تكن موجودة واقعاً أو الطهارة الظاهرية بقاعدة الطهارة ، لبقي عليه إشكال قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ تمام الموضوع في أنّه لا أثر للواقع ، فكيف يقوم الاستصحاب مقامه ، فتأمّل. ثمّ بعد فرض أنّ المحرز للطهارة لا يعيد وإن انكشف أنّه صلّى مع النجاسة ، يكون محصّل قول مدّعي لزوم الاعادة في المقام هو أنّي تلزمني [ الاعادة ] لأنّي كنت غير محرز ، ومرجع كونه غير محرز إلى إنكار الاستصحاب ، ومحصّل إنكار الاستصحاب هو جواز نقض اليقين بالشكّ ، وحينئذ تكون الاعادة سبباً للقول بأنّه غير محرز ، والقول بأنّه غير محرز سبب للقول بأنّ الاستصحاب الذي كان جارياً في حقّه ليس بحجّة ، والقول بأنّه ليس بحجّة سبب للقول بجواز نقض اليقين بالشكّ ، فيكون القول بلزوم الاعادة في المقام سبباً للقول بجواز نقض اليقين بالشكّ ، وبهذا التقريب ينطبق على الاعادة أنّها نقض لليقين بالشكّ ، كلّ ذلك بعد فرض المفروغية عن أنّ المحرز لا يعيد وأنّ المستصحب محرز ، ليكون طريق القول بالاعادة في المقام منحصراً بانكار حجّية الاستصحاب ، الذي هو عبارة عن جواز نقض اليقين بالشكّ ، فلاحظ وتأمّل. هذا ما كنّا نشكل به وبنحوه سابقاً ، ولكن في هذه الدورة ( ربيع الثاني 24 سنة 1380 ) حرّرنا ما يلي : وهو أنّه يمكن أن يختار الوجه الأوّل أعني كون الشرط هو الأعمّ من إحراز الطهارة بنحو تمام الموضوع أو وجودها الواقعي ، فيتّضح الوجه في الصحّة فيما لو أقدم محرزاً للطهارة ثمّ انكشف الخلاف ، وفيما لو أقدم صاحب الثوبين على التكرار وعند فراغه من الأوّل ظهر أنّه الطاهر ، وفي الحقيقة أنّ الشرط بالدرجة الأُولى هو الطهارة الواقعية ، وهو المصحّح لاجراء الاستصحاب في إحرازها ، لكن بعد اجراء الاستصحاب وانكشاف الخلاف يكون ذلك من باب انكشاف الخطأ في الأمر الظاهري ، ويكون مرجع الدليل في خصوص المقام على كونه مجزياً إلى قناعة الشارع بالبدل ، أو من باب كونه وافياً بمقدار من المصلحة على وجه لا يمكن استيفاء الباقي ، وهذا جارٍ حتّى لو لم يكن في البين أمر ظاهري كما لو قطع بالطهارة ثمّ انكشف الخلاف ، بل يجري في مورد الغفلة وإن لم يكن إحراز للطهارة بالأمر الظاهري أو بالقطع ، كما في رواية من كان على ثوبه [ نجاسة ] وهو لا يعلم ، ففي مقام التعبير يصحّ لنا أن نقول : إنّ الشرط - يعني المصحّح - هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإن لم يكن إحراز ، أو تحقّق الاحراز أو الغفلة وإن لم يكن طهارة واقعية ، ذلك إن قلنا إنّ مورد الرواية المشار إليها هو الغفلة ، وإلاّ فلا حاجة إلى إدخال الغفلة بناءً على أنّ موردها هو القطع بالطهارة. كما أنّه يمكن أن يختار الوجه الثاني ، وهو كون المانع إحراز النجاسة أو تنجّزها ، ويكون ذلك على نحو جزء الموضوع ، فلا أثر للنجاسة الواقعية إذا لم تكن محرزة ولا نام كتاب : أصول الفقه نویسنده : الحلي، الشيخ حسين جلد : 9 صفحه : منجّزة كما في مثال انكشاف الخلاف ، كما أنّه لا أثر للتنجّز إذا لم يكن في البين نجاسة واقعية ، كما في مثال أحد ثوبي العلم الاجمالي ، وكما لو صلّى مستصحب النجاسة وتأتّت منه القربة ثمّ ظهر أنّه طاهر ، وبعد أن تبيّن أنّ إحراز النجاسة أو تنجّزها جزء الموضوع ، وأنّ الجزء الآخر هو النجاسة الواقعية ، يمكن إجراء استصحاب النجاسة باعتبار كونها جزء الموضوع ، كما يمكن إجراء استصحاب الطهارة باعتبار طرده لما هو جزء الموضوع ، الذي هو النجاسة الواقعية ، وحينئذ يصحّح التعليل في الرواية الشريفة. وإن أبيت عن قبول ذلك ، وأنّ مجرّد طرد استصحاب الطهارة لاحتمال النجاسة لا يخلو عن نحو من الأصل المثبت ، فقل إنّ اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة يلازمه اليقين بعدم النجاسة ، فنحن نجعل مركز الاستصحاب هو عدم النجاسة المتيقّن سابقاً ، غايته أنّه في مقام التعبير يصحّ أن نعبّر عن اليقين بعدم النجاسة باليقين بالطهارة ، كما عبّرت الرواية الشريفة بقوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » حيث إنّه كناية عن لازمه وهو اليقين بعدم النجاسة ، وهذا المعنى جارٍ بناءً على الأوّل وهو كون الطهارة شرطاً ، فإنّه لو كان متيقّن النجاسة لا يتوجّه عليه أنّه لا مورد فيه لاستصحاب النجاسة لعدم الأثر لها ، وحينئذ يكون المرجع قاعدة الطهارة ، ولا يخفى بشاعته وعدم استقامته في المقام ، وذلك لإمكان القول بأنّ المتيقّن بالنجاسة سابقاً يلازمه اليقين بعدم الطهارة ، وحينئذ يكون هو - أعني عدم الطهارة - هو المستصحب لا النجاسة. ويمكن أن ينزّل خبر [ وسائل الشيعة 3 : 428 / أبواب النجاسات ب 18 ح 1 ] غسل الجارية الثوب والحكم ببطلان الصلاة فيه على هذا القبيل ، أعني استصحاب النجاسة الذي هو عين استصحاب عدم الطهارة ، بناءً على أنّ فعل الجارية أو إخبارها غير نافع في رفع اليد عن الاستصحاب المذكور ، لعدم الاعتماد عليها ، خصوصاً إذا فرضنا عدم علمها بأنّ النجاسة منيّ ، وحينئذ يكون إقدام السائل على الصلاة لا من جهة القطع بحصول الطهارة ، بل من جهة تخيّله أنّ أصالة الصحّة جارية في غسل الجارية ، أو من جهة تخيّله أنّ إخبارها حجّة ، والإمام عليه السلام أمره بالاعادة لعدم حجّية ذلك وتخطئته في تخيّل ذلك ، وبيان أنّ الحجّة عليه هو استصحاب النجاسة ، الذي عرفت أنّه عبارة عن استصحاب عدم الطهارة. وحيث انتهى البحث إلى هنا فلنا أن نرجّح الأوّل على الوجه الثاني ، باعتبار ما عرفت من كونه مستلزماً للتسامح في الرواية بالتعبير عن عدم النجاسة بالطهارة ، بخلاف الوجه الأوّل فإنّه لا يحتاج إلى مثل هذا التسامح في لفظ الرواية الشريفة ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ثمّ لا يخفى أنّ أصل الإشكال كان في توجيه ظاهر الرواية من تطبيق النقض على الاعادة ، ومن الواضح أنّ كلاً من هذه الوجوه الثلاثة - أعني كون الشرط هو إحراز الطهارة ، أو أنّ المانع هو إحراز النجاسة ، أو تنجّز النجاسة - بعد فرض جريان استصحاب الطهارة ، إنّما يصحّح عدم وجوب الاعادة ، وليس شيء منها موجباً لانطباق النقض على الاعادة إلاّبتكلّف بعيد ، وهو أنّه بعد الالتزام بأحد هذه الوجوه يكون مرجع الاعادة إلى عدم حجّية الاستصحاب في ظرفه ، إذ لو كان حجّة في ظرفه لم يكن محل للاعادة ، فإذا قلنا بلزوم الاعادة مع قولنا بأحد الوجوه المذكورة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن عدم حجّية الاستصحاب ، وهو عبارة أُخرى عن جواز نقض اليقين بالشكّ.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف ، بل عدم انطباق النقض حقيقة على الاعادة هذا. مضافاً إلى أنّ الظاهر من سؤال السائل هو أنّه كان جاهلاً بحجّية الاستصحاب ، فكيف يصحّ الحكم بصحّة صلاته الواقعة في ظرف جهله بحجّية الاستصحاب الملازم لعدم استناده إليه ، وقد مرّ فيما سبق من المباحث أنّ الحكم

ص: 72

الظاهري لا يؤثّر في المعذورية ما لم يكن المكلّف مستنداً إليه في ظرفه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ زرارة لم يكن جاهلاً بحجّية الاستصحاب ، وإنّما كان جاهلاً باقتضائه عدم الاعادة مع فرض تبيّن وقوع الصلاة مع النجاسة.

ولكن لا يخفى أنّ فرض كون زرارة عالماً بحجّية الاستصحاب ، وأنّه إنّما كان جاهلاً باقتضائه عدم الاعادة ، لا يناسب تعليل عدم الاعادة بنفس الاستصحاب بل كان المناسب أو الأنسب تعليل ذلك بمثل أنّ المحرز لا يعيد ونحو ذلك من الكبريات. والحاصل : أنّ الاقتصار في التعليل على الصغرى وهي الاستصحاب ، وجعل الكبرى مطوية ، إنّما يناسب الجهل بتلك الصغرى مع مسلّمية الكبرى ، ولو كان الأمر بالعكس ، بحيث كانت الصغرى مسلّمة وكان محلّ الجهل هي الكبرى ، فالمناسب هو ذكر الكبرى لها مع طيّ الصغرى أو مع ذكرهما.

وهذا الإشكال - أعني الإشكال في تطبيق النقض على الاعادة - إنّما جاء من ناحية حمل قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » على أنّ المرئي هو النجاسة السابقة الملازم لعدم إجراء الاستصحاب فعلاً ، بل غايته أنّ الاستصحاب كان جارياً في حقّه عند دخوله في الصلاة.

ولم أجد نسخة مصحّحة ، ففي بعض النسخ : « فصلّيت فيه فرأيت فيه » وبناءً على هذه النسخة يمكن حمل المرئي على مجرّد النجاسة المرئية بعد الصلاة ، المردّدة بين كونها من السابق أو أنّها جديدة ، وحينئذ فيمكن في هذا الحال إجراء الاستصحاب في حقّه بعد الصلاة ، بمعنى أنّه قبل ظنّ الاصابة كان ثوبه طاهراً ، والآن بعد الصلاة لمّا رأى نجاسة على ثوبه فشكّ في كونها من

ص: 73

السابق أو من الآن ، فهو الآن يستصحب الطهارة التي كانت قبل ظنّ الاصابة إلى حين رؤيته لتلك النجاسة ، ولا يعيد صلاته إلاّمن جهة احتمال كون تلك النجاسة كانت من حين الدخول في الصلاة ، فيتوجّه المنع من الاعادة لأنّها نقض لليقين بالشكّ ، سواء كان قبل الصلاة قد حصل له القطع بعدم النجاسة أو كان قد بقي على شكّه ، إذ ليس المراد من اليقين اليقين بالعدم الحاصل قبل الصلاة ليكون من قاعدة اليقين ، بل المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بها الحاصل قبل ظنّ الاصابة وهو فعلاً موجود لم يسر الشكّ إليه.

لكن في بعض النسخ : « فصلّيت فرأيته فيه » وهو ظاهر في أنّ المرئي هو النجاسة السابقة ، إلاّ أن هذه النسخة غير معتبرة ، ومع ذلك يمكن التصرّف فيه برجوع الضمير إلى مطلق الدم أو المني ، كما في قوله عليه السلام : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً » (1) فإنّ المراد هو مطلق الدم المحتمل كونه هو السابق أو كونه جديداً (2) ولكن لا يخفى بُعد ذلك في قوله : « فصلّيت فيه فرأيته فيه ».

فالأولى الالتزام بكون المرئي هو النجاسة السابقة ، وأنّ المراد من الاستصحاب هو الاستصحاب السابق ، ويقال : إنّ الرواية الشريفة ليست صريحة في تطبيق النقض على الاعادة ، بل هي مسوقة لبيان أنّك كنت مستصحب الطهارة ، فقوله عليه السلام : « وليس ينبغي لك » الخ ، ليس المقصود به أنّك الآن ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين الخ ، كي يكون النقض منطبقاً على الاعادة ، بل

ص: 74


1- وسائل الشيعة 3 : 482 - 483 / أبواب النجاسات ب 44 ح 1.
2- وقد نقل الآشتياني عن الشيخ قدس سره ترجيحه للوجه الثاني [ بحر الفوائد 3 : 31 ] لكن الظاهر من كلامه هو أنّ النسخة « فرأيت فيه » [ منه قدس سره ].

المقصود أنّك حال دخولك في الصلاة كنت متيقّناً بالطهارة السابقة وشاكّاً في بقائها ، وكنت بحالة لا ينبغي لك أن تنقض ذلك اليقين بذلك الشكّ ، ومن كانت حاله عند الدخول في الصلاة كذلك ، لم يجب عليه الاعادة بعد الفراغ وانكشاف [ الخلاف ] ، إمّا لكونه واجداً للشرط وهو إحراز الطهارة ، أو لأنّه فاقد للمانع وهو إحراز النجاسة أو تنجّزها ، فيكون قوله عليه السلام : « وليس ينبغي لك » داخلاً في ضمن قوله : « كنت » فلا دخل له بانطباق النقض على الاعادة.

وبالجملة : أنّ الرواية الشريفة لا تعرض لها لأزيد من تعليل عدم الاعادة بأنّك كنت عند الدخول مستصحب الطهارة ، وقوله عليه السلام : « لأنّك كنت » وقوله عليه السلام : « وليس ينبغي لك » كلّ هذه الجمل مسوقة لبيان تحقّق الاستصحاب في حقّه قبل الدخول في الصلاة ، فيكون الحاصل هو التعليل بصغرى لكبرى مطوية ، وحاصله : أنّك كنت مستصحب الطهارة ، ومن الواضح أنّ مستصحب الطهارة لا يعيد لو انكشف الخلاف.

نعم ، يبقى الكلام في توجيه الحكم بأنّ مستصحب الطهارة لا يعيد توجيهاً علمياً لا دخل له بأصل الحكم لكونه معلوماً ، وبأيّ شيء وجّهنا الحكم المزبور لم يكن له دخل في فهم المراد من هذه الرواية الشريفة.

قوله : فعلى الأوّل يجب نقض الصلاة وإعادتها ... الخ (1).

المراد من الأوّل هو ما لو علم بالنجاسة ولم يعيّن موضعها ثمّ رآها في أثناء الصلاة ، فإنّه تجب فيه الاعادة سواء رآها في الأثناء أو أنّه لم يرها حتّى فرغ وذلك للعلم الاجمالي بنجاسة ثوبه.

ص: 75


1- فوائد الأُصول 4 : 353.

قوله : وعلى الثالث يجب نقض الصلاة أيضاً واستئنافها بعد إزالة النجاسة. وهذا الفرض وإن لم يكن مذكوراً في الرواية صريحاً ، إلاّ أنه يستفاد منها ذلك ، لأنّ ما حكم فيها بعدم نقض الصلاة ... الخ (1).

الظاهر أنّه يحمل قول السائل في قوله : « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » (2) على ما إذا تقدّم العلم بالنجاسة ، فيكون دليلاً على الحكم الأوّل دون الثالث ، ولأجل ذلك احتاج في الحكم الثالث إلى الاستفادة المذكورة من قوله عليه السلام : « لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك » الخ ، وهذه الاستفادة وإن كانت صحيحة ، إلاّ أن قول السائل : « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » الخ ، لا وجه لحمله على ما إذا تقدّم العلم ، لعدم القرينة على ذلك ، فإنّ قوله : « قلت : فإنّي قد علمت أنّه أصابه » الخ ، لا يصلح لذلك لانقطاعه بقوله : « قلت : هل عليَّ إن شككت » الخ ، وحينئذ فيكون قوله بعده « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » الخ ، متعيّناً للحمل على المسبوقية بالشكّ ، خصوصاً مع ضمّ قوله عليه السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه » الخ ، لأنّ المراد هو الشكّ في أصل تنجّس الثوب بقرينة قوله عليه السلام : « وإن لم تشكّ » فإنّ المراد به القطع بعدم النجاسة.

وكيف كان ، فإنّ هذا الحكم وهو لزوم الاعادة فيما لو رأى في أثناء الصلاة نجاسة يعلم أنّها كانت من السابق مع فرض عدم العلم بها عند الدخول في الصلاة محلّ خلاف ، والمشهور هو الصحّة مع إمكان التبديل أو التطهّر في الأثناء ، وهو

ص: 76


1- فوائد الأُصول 4 : 353.
2- وسائل الشيعة 3 : 482 و 466 / أبواب النجاسات ب 44 ح 1 وب 37 ح 1.

المختار لشيخنا قدس سره فراجع التقرير المطبوع في صيدا ص 362 (1) وراجع حاشية العروة (2).

ثمّ لا يخفى أنّ قوله عليه السلام في آخر هذه الرواية : « فليس ينبغي » الخ من أدلّة الاستصحاب أيضاً ، بناءً على ما هو الظاهر منها من كون المراد من اليقين هو اليقين السابق على احتمال تنجّس الثوب ، لا اليقين الحاصل بعد الفحص ليكون من قبيل قاعدة اليقين. والحاصل : أنّك كنت طاهر الثوب قبل حدوث ذلك الاحتمال ، فيلزم البقاء على ذلك اليقين إلى حين رؤيتك النجاسة. وما أدري لِمَ [ لم ] يتعرّض الأُستاذ قدس سره لبيان الاستدلال بهذه الفقرة الشريفة.

قوله : وللقوم في الجمع بين الأدلّة في هذه الموارد مشارب ، الأوّل : هو أن يكون العلم بموضوع الشرط له دخل في الاشتراط واقعاً ، فالشرطية الواقعية تدور مدار العلم بالموضوع ، فلو لم يعلم بنجاسة الثوب ... الخ (3).

لا يخفى أنّ ما تقدّم عنه من الوجوه الثلاثة ، أعني كون الشرط هو إحراز الطهارة ، أو كون المانع هو إحراز النجاسة أو تنجّزها ، هو عين هذا المبحث المعبّر عنه بالتذييل.

ثمّ لا يخفى أنّ أخذ العلم بالنجاسة شرطاً في مانعيتها له صورة في الجملة وإن كان فيه ما فيه ، إلاّ أن أخذ العلم بالنجاسة شرطاً في شرطية الطهارة غير معقول

ص: 77


1- أجود التقريرات 4 : 39.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 197 - 198 فصل : الصلاة في النجس.
3- فوائد الأُصول 4 : 354.

بل غير متصوّر ، إذ كيف نتصوّر أنّه عند العلم بنجاسة هذا الثوب المعيّن الذي صلّى فيه المكلّف تكون طهارته شرطاً في صحّة الصلاة. أمّا لو كان المنظور إليه هو الثوب قبل الصلاة فيه ، فإن أُريد أنّ العلم بنجاسته يكون شرطاً في اشتراط كلّية الطهارة في لباس المصلّي فهو غريب ، وإن أُريد أنّ العلم بنجاسته يكون شرطاً في اشتراط طهارة نفس ذلك الثوب في صحّة الصلاة فيه فهو أغرب.

وعلى كلّ حال ، فقد عرفت فيما تقدّم ما يرد على هذا الوجه من أنّه بناءً عليه لا يمكن أن يبقى محل لجريان استصحاب الطهارة أو لجريان قاعدة الطهارة ، بل يكون إجراء الأُصول في ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. كما أنّه لو أغضينا النظر عن ذلك - أعني لزوم الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان - لتوجّه عليه ما أُفيد هنا من أنّه خلاف مبنى الفقهاء من إجرائهم هذه الأُصول عند الشكّ في النجاسة.

وأيضاً يرد عليه ما أُفيد هنا من أنّ مقتضاه صحّة الصلاة في أحد أطراف الشبهة المحصورة ، لكن لا داعي لتقييده بالغفلة ، لإمكان التخلّص من ناحية قصد القربة بالبناء على التكرار ، فإذا جاء المكلّف بالأُولى نحكم بصحّة صلاته ، لعدم إحرازه النجاسة فيما صلّى فيه ، بل بناءً على ما أُفيد هنا من أنّ العلم السابق - يعني العلم الاجمالي - لم يتعلّق بهذا الثوب بخصوصه ، ينبغي على هذا الوجه إسقاط قيد الغفلة وإسقاط قيد البناء على التكرار ، إذ بناءً على الوجه المذكور لا مانع من الإقدام على الصلاة في أحد الثوبين ، لعدم تحقّق شرطية الطهارة ولا مانعية النجاسة ، لأنّ ذلك معلّق ومشروط بالعلم بنجاسة الثوب المذكور ، والمفروض أنّها لم تكن معلومة.

ص: 78

قوله : الثاني : هو أن يكون الشرط في مثل هذه الموارد هو الوجود العلمي ، أو الأعمّ منه ومن الوجود الواقعي ... الخ (1).

أمّا أخذ الشرط هو الوجود العلمي فهو عبارة أُخرى عمّا تقدّم من كون الشرط هو إحراز الطهارة ، وقد تقدّم الكلام فيه. وأمّا أخذ الشرط هو الأعمّ من الوجود الواقعي والوجود العلمي فهو أيضاً قدّمنا الكلام فيه ، وهل المراد أنّ الشرط أوّلاً هو الطهارة الواقعية لكن عند خطأ المحرزات يكون الشرط هو الاحراز ، أو أنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإحرازها ، أو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعية وعند خطأ الأصل أو الاعتقاد يسقط الشرط المذكور ، كلّ ذلك قد تقدّم الكلام فيه (2).

ثمّ لا يخفى أنّ الغرض من هذه الوجوه يحصل بمجرّد الامكان العقلي لأنّ المطلوب بها إنّما هو رفع التناقض بين دليل الاعتبار ودليل الإجزاء ، فلو انحصر الأمر في وجه كفى فيه مجرّد إمكانه وإن كان مخالفاً لظاهر الأدلّة. نعم لو كان غيره أقرب منه إلى الاعتبار أو إلى ظاهر الدليل ، كان هو المتعيّن ، هذا كلّه مع قيام الدليل على الإجزاء.

ولو حصل الشكّ فيه فمقتضى ظاهر دليل الاعتبار هو الاعادة ، لكن لو لم يكن لذلك الدليل ظهور واحتملنا الإجزاء ، كانت النتيجة مختلفة ، فعلى تقدير بعضها يكون المرجع هو البراءة ، وعلى بعضها الآخر يكون المرجع هو أصالة الاشتغال ، لاختلاف هذه الوجوه ، فبعضها يرجع الحكم بالإجزاء فيها إلى عدم الشرطية في حال أحد الاعذار ، وبناءً عليه يكون المرجع هو البراءة من الشرطية في حال العذر ، وبعضها يرجع إلى سقوط الشرطية في ذلك الحال أو إلى الاكتفاء

ص: 79


1- فوائد الأُصول 4 : 354.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 63 وما بعدها.

بالناقص ، وبناءً عليه يكون المرجع عند الشكّ المزبور هو الاحتياط بالاعادة.

وأمّا ما أُفيد من الوجه الثالث وهو القناعة بالناقص بدلاً عن التامّ ، فإن كان ذلك عبارة عن إسقاط الشرطية في ذلك الحال فقد تقدّم الكلام فيه ، وإن كان مع بقاء الشرطية فلا وجه للقناعة بالناقص إلاّمن جهة أنّه يوجب عدم إمكان استيفاء التامّ ، إمّا لأجل أنّ هذا الفاقد يذهب المصلحة في التامّ ، أو أنّه يكون وافياً بالمهمّ من مصلحته مع بقاء شيء منها لا يمكن استيفاؤه ، بل يمكن القول بأنّ الناقص في هذا الحال - أعني حال المعذورية - يكون وافياً بتمام مصلحة التامّ ، غايته أنّ ذلك على وجه الطولية ، بمعنى أنّه مع عدم تحقّق ذلك العذر لا يكون وافياً بالمصلحة ، لكنّه عند تحقّق العذر يكون وافياً بها ، فالشرط هو الطهارة الواقعية حتّى في حال العذر المذكور ، لكن الفاقد للطهارة إذا كان ذلك لأحد الأعذار المذكورة يكون وافياً بالمصلحة.

ويرد على هذا الأخير : أنّ الفاقد لو كان وافياً بتمام المصلحة في ذلك الحال لكان ذلك موجباً لسقوط الشرطية في ذلك الحال. وكذا يرد على الثاني أنّه لو كان الفاقد وافياً بمقدار من المصلحة ، لكان وفاؤه بتلك المصلحة في ذلك الحال غير متوقّف على الطهارة ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى سقوط الشرطية في ذلك الحال ، فيتعيّن الأوّل وهو كون الفاقد موجباً لذهاب المصلحة في الواجد مع عدم وفائه بشيء من المصلحة ، أو أنّ له مصلحة أُخرى يتدارك بها ما فات من مصلحة الواجد.

قوله : فالتقية إنّما تكون في الاستشهاد لا في الاستصحاب ... الخ (1).

ربما يقال : إنّا نعلم إجمالاً أنّ في البين تقية إمّا في نفس الكبرى ، أعني

ص: 80


1- فوائد الأُصول 4 : 361.

قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أو في تطبيق هذه الكبرى على صغرى المورد وهي مسألة الشكّ في عدد الركعات ، وحينئذ يسقط الأصل الجهتي في كلا طرفيه.

وأجاب عنه الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته بما حاصله : أنّه لا أثر للأصل الجهتي في ناحية التطبيق ، لسقوطه فيه على كلّ حال ، فقال قدس سره : فيبقى الأصل المزبور في أصل الكبرى بلا معارض بلا إحراز العلم الاجمالي بوجود التقية في البين كما لا يخفى (1). وهذه العبارة - أعني قوله : بلا إحراز الخ - كعبارته في صدر الجواب ، أعني قوله : مدفوع بأنّه كذلك لو كان أصل الجهة في طرف ومعه لم ينطبق حتّى مع فرض كون الكبرى تقية الخ ، لم أتوفّق لمعرفة المراد منها ، ولعلّ فيها سقطاً أو تحريفاً.

وعلى كلّ حال ، إن كان المراد - كما هو الظاهر - هو أنّ الأصل الجهتي لا يجري في ناحية التطبيق على المورد ، لسقوطه فيه على كلّ من تقديري العلم الاجمالي ، فهو إنّما يصحّ على مسلك شيخنا قدس سره من أنّ الموجب لتأثير العلم الاجمالي هو تعارض الأُصول ، أمّا على مسلكه ففيه تأمّل ، إلاّ أن يكون المراد هو أنّ المسألة ليست من العلم الاجمالي في مخالفة التقية في أحد الطرفين ، كما ربما يعطيه قوله : « بلا إحراز العلم الاجمالي بوجود التقية » بل إنّ المسألة من باب العلم الخارجي بأنّ مسألة الشكّ في عدد الركعات لا يجري فيها الاستصحاب ، وحينئذ يبقى الشكّ منحصراً في كون الكبرى تقية ، فيجري فيها الأصل الجهتي بلا معارض.

والحاصل : أنّه ليس المقام من قبيل العلم التفصيلي بسقوط الأصل الجهتي

ص: 81


1- مقالات الأُصول 2 : 352.

في ناحية التطبيق ، المولّد ذلك العلم التفصيلي من العلم الاجمالي المردّد بين سقوطه في خصوص التطبيق ، أو في سقوطه في نفس الكبرى ، ليتوجّه عليه أنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يحقّق انحلاله ، بل إنّ المقام من قبيل العلم الخارجي بأنّ مسألة الشكّ في عدد الركعات لا يجري فيها الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّ اتّصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنّما يقتضيه إطلاق الاستصحاب - إلى قوله - نعم ( إنّ ) إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بها موصولة - إلى قوله - فغاية ما يلزم في الرواية هو تقييد قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بفعل ركعة الاحتياط مفصولة - إلى قوله - فظهر أنّه لا يلزم في الرواية أزيد من تقييد الاطلاق ... الخ (1).

كلّ هذه العبائر متّحدة المفاد مع ما أفاده العلاّمة الخراساني بقوله : غاية الأمر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض الخ (2) وهذه الجهة من التقييد هي التي ردّها شيخنا قدس سره على صاحب الكفاية حسبما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : فأدلّة وجوب البناء على الأكثر غير منافية لإطلاق دليل الاستصحاب كما توهّمها المحقّق صاحب الكفاية قدس سره فضلاً عن المنافاة لأصله الخ (3) ، وقوله في هذا التحرير : بل يمكن أن يقال : إنّ هذا أيضاً لا يلزم ، فإنّا لا نسلّم أنّ إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، وأمّا الوظيفة بعد ذلك ما هي فهي

ص: 82


1- فوائد الأُصول 4 : 362 - 363.
2- كفاية الأُصول : 396.
3- أجود التقريرات 4 : 51.

تتبع الجعل الشرعي الخ (1). وهذا هو الذي بنى عليه شيخنا قدس سره في قبال ما بنى عليه في الكفاية من كون المقام من تقييد « لا تنقض » ، وحاصله : أنّ التقييد إنّما يكون بالنسبة إلى الأدلّة الأوّلية القاضي إطلاقها بالوصل. وهذا المطلب هو الذي أشار إليه الأُستاذ العراقي بقوله في المقالة : ثمّ لو أغمض عن تلك الجهة يمكن بطريق آخر توجيه الاستدلال بالرواية على وفق مذهب الخاصّة الخ (2).

لكنّه أشكل عليه بما حاصله : أنّ الوجوب اللاحق للركعة في ضمن الكل متّصلة مغاير عرفاً للوجوب اللاحق لها منفصلة ، ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتوجّه لو كان المستصحب هو وجوب الركعة ، أمّا لو كان المستصحب هو مجرّد عدم الاتيان بها فلا يتّجه الإشكال المزبور ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه التوجيهات راجعة إلى شرح قاعدة البناء على الأكثر في مورد الشكّ في عدد الركعات ، وأنّها في الحقيقة عمل بالاستصحاب الحاكم بعدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، مع زيادة تصرّف بتبديل الحكم من الوصل إلى الفصل ، لما لاحظه الشارع من محذور الوقوع في زيادة الركعة لو اتّفق خطأ الاستصحاب ، وإن وقع في محذور الفصل بالتشهّد والتسليم والتكبيرة ، بل وباختلاف الكيفية من القيام إلى الجلوس في بعض موارده لو اتّفق مطابقة الاستصحاب للواقع ، لما لاحظه الشارع من كون هذا الثاني أقلّ المحذورين ، مع حكمه باغتفار هذا المقدار من الخلل لو اتّفق.

كلّ ذلك في قبال ما قيل من أنّ قاعدة البناء على الأكثر عندنا حاكمة على الاستصحاب ، نظير حكومة قاعدة التجاوز أو الفراغ على استصحاب عدم الاتيان

ص: 83


1- فوائد الأُصول 4 : 363.
2- مقالات الأُصول 2 : 352.

بما هو المشكوك ، لكن مع ذلك التصرّف الزائد على مجرّد الحكومة الحاصلة في قاعدة التجاوز والفراغ ، وذلك التصرّف الزائد هو ما عرفت من لزوم الاتيان بالركعة المحتملة النقصان بعد الفراغ ، وأنّه لو اتّفق خطأ قاعدة البناء على الأكثر وأنّ صلاته كانت ناقصة ، كان ما أتى به مكمّلاً لها واغتفر ما وقع من الفواصل ، وإن اتّفق مطابقة القاعدة للواقع كان ما أتى به نفلاً مستقلاً.

وكأنّ العمدة في العدول عن كون المطلب من باب حكومة قاعدة البناء على الأكثر على الاستصحاب إلى دعوى كونها عملاً بالاستصحاب ، مع كثرة الأخبار (1) المصرّحة بالبناء على الأكثر الظاهر في الحكومة المذكورة ، هو النظر

ص: 84


1- عمّار « متى شككت فخذ بالأكثر ، فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » [ وسائل الشيعة 8 : 212 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 8 ح 1 ]. عمّار الساباطي « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم وصلّ » الخ [ المصدر المتقدّم ح 3 ]. عمّار بن موسى « كلّما دخل عليك من الشكّ في صلاتك فاعمل على الأكثر ، فإذا ... » الخ [ المصدر المتقدّم ح 4 ]. محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل صلّى ركعتين ، فلا يدري ركعتين هي أو أربع ، قال : يسلّم ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد وينصرف ، وليس شيء عليه » [ المصدر المتقدّم : 22 / ب 11 ح 6 ]. إسحاق بن عمّار « إذا شككت فابن على اليقين ، قلت : هذا أصل؟ قال عليه السلام : نعم » [ المصدر المتقدّم : 212 / ب 8 ح 2 ]. عن أبي الحسن عليه السلام « عن الرجل لا يدري ثلاثاً صلّى أم اثنتين؟ قال : يبني على النقصان ويأخذ بالجزم ، ويتشهّد بعد انصرافه تشهّداً خفيفاً كذلك في أوّل الصلاة وآخرها » [ المصدر المتقدّم ح 6 ]. زرارة عن أحدهما في حديث قال « قلت له : رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثاً ، قال عليه السلام : إن دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة ، مضى في الثالثة ثمّ صلّى الأُخرى ولا شيء عليه ويسلّم » [ المصدر المتقدّم : 214 / ب 9 ح 1 ]. الطيالسي عن العلاء « رجل صلّى ركعتين وشك في الثالثة ، قال : يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهّد وقام فصلّى ركعة بفاتحة القرآن » [ المصدر المتقدّم ح 2 ]. الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه قال عليه السلام « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعاً ، ولم يذهب وهمك إلى شيء ، فتشهّد وسلّم ثمّ صلّ ركعتين وأربع سجدات ، تقرأ فيهما بأُمّ الكتاب ، ثمّ تشهّد وسلّم فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع ، وإن كنت صلّيت أربعاً كانتا هاتان نافلة » [ المصدر المتقدّم : 219 / ب 11 ح 1 ] ومثلها غيرها [ منه قدس سره ].

إلى ما تضمّنته هذه الصحيحة ، أعني قوله : « إذا لم يدر أنّه في ثلاث هو أو أربع » الخ (1) ، لأجل اشتمالها على الأخذ بالاستصحاب مع تلك الفقرات الأُخر ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذا المقدار - أعني كون المسألة من باب الأخذ بأصالة عدم الزيادة ، أو كونها من باب حكومة قاعدة البناء على الأكثر على أصالة عدم الزيادة كما هو ظاهر التعبير في كثير من الأخبار بالبناء على الأكثر - لا يترتّب عليه أثر عملي ، وسواء قلنا بالأوّل أو قلنا بالثاني لم يكن التبدّل من الاتّصال إلى الانفصال لو صادف الاحتياط الحاجة إلاّحكماً واقعياً لا ظاهرياً ، غايته أنّ الظاهر أنّه حكم اغتفاري ، فلا يضرّه الحكم بالصحّة فيما لو كان المكلّف جاهلاً وبنى على الأقل وأتى بالركعة متّصلة ثمّ تبيّن الحاجة إليها مع فرض تأتّي قصد القربة منه ، وفي

ص: 85


1- وسائل الشيعة 8 : 216 - 217 / أبواب الخلل في الصلاة ب 10 ح 3.

الحقيقة يكون المكلّف به واقعاً هو نفس الركعة لا بشرط من حيث هذه الفواصل بل من حيث التبديل إلى الركعتين من الجلوس ، وحاصل الأمر أنّه عند الشكّ المذكور واتّفاق النقصان مكلّف بالركعة ، سواء أتى بها متّصلة أو منفصلة بما ذكر ، أو مبدّلة إلى الركعتين من الجلوس ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا ما ربما يبنى على الخلاف في هذه المسألة من بعض فروع أحكام الخلل ، في مثل ما لو كان قائماً وعلم بأنّه إمّا في القيام قبل ركوع الرابعة أو في القيام بعد ركوع الثالثة ، من الحكم بأنّه يبني على الرابعة ويركع ويصلّي الاحتياط ، في حين أنّه يعلم بأنّ الاحتياط في غير محلّه ، إمّا لكون صلاته أربعاً وإمّا لبطلانها بزيادة الركوع ، وجواب شيخنا قدس سره بأنّ ذلك من الوظائف الواقعية للشاكّ وإن علم ذلك العلم ، فالظاهر أنّ ذلك توسعة في التبدّل إلى الانفصال ، لا أنّه على تقدير التبدّل يكون الحكم كذلك ، وعلى تقدير كون الحكم لم يتبدّل يكون الحكم هو غير ذلك من لزوم البناء على الأكثر والركوع وعدم الاتيان بالاحتياط أو بطلان الصلاة ونحو ذلك ، فراجع المسألة الثانية عشرة من فروع الختام من العروة (1).

والحاصل : أنّ هذا الحكم - وهو أنّه لو أتى بصلاة الاحتياط ، وبعد الفراغ منها علم أنّ صلاته كانت ناقصة ، لم تجب عليه إعادة الصلاة - حكم مسلّم عند الكل ، وهو مضمون روايات الباب (2) ، فلابدّ من القول باغتفار تلك الزيادة واقعاً ، وليس ذلك من مختصّات شيخنا قدس سره ، وليس ذلك إلاّعبارة عن أنّ الانفصال حكم واقعي ، وحينئذ يرد المثال المذكور ، وهو ما لو كان جاهلاً بحكم الشكّ في عدد الركعات وبنى على الثلاث وأتى بالرابعة متّصلة وصادف الحاجة إليها أن تكون

ص: 86


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 334.
2- وسائل الشيعة 8 : 219 / أبواب الخلل في الصلاة ب 8 وغيره.

صلاته باطلة (1).

وهكذا الحال فيما لو كان عالماً بحكم الشكّ ، ولكنّه لم يعتن به وعمد وعمل على الأقل ، وأتى بالركعة متّصلة وصادف الواقع وتأتّت منه نيّة القربة ، والالتزام بالبطلان في مثل ذلك خصوصاً في الجاهل المعذور بعيد.

فلابدّ من الالتزام بما تقدّمت الاشارة إليه من كون الشخص الشاكّ مكلّفاً بالرابعة مطلقة من حيث الاتّصال والانفصال ، فيكون مخيّراً بينهما ، وليس ذلك براجع إلى قول الصدوق بالتخيير (2) ، فإنّ ذلك القول هو القول بالتخيير في الحكم الظاهري ، بمعنى أنّه يتخيّر في البناء على الأقل والاتيان بالركعة موصولة ، والبناء على الأكثر والاتيان بالركعة مفصولة.

وليس مرادنا بهذا التخيير الذي أصلحنا به المسألة هو هذا التخيير في الحكم الظاهري ، بل مرادنا هو تخيير الشاكّ واقعاً لو كانت صلاته ناقصة بين الاتّصال والانفصال. أمّا حكمه الظاهري فهو حكم واحد تعييني ، وهو البناء على الأكثر والاتيان بالركعة مفصولة حذراً من احتمال زيادة الركعة لو كانت صلاته تامّة ، فهذا الشخص الشاكّ إن كانت صلاته تامّة كان حكمه الواقعي هو التشهّد والتسليم فقط ، وإن كانت صلاته ناقصة فهو بحسب الحكم الأصلي مكلّف بالاتيان بالركعة موصولة ، لكن لأجل كونه فعلاً شاكّاً في العدد مع فرض كون صلاته ناقصة في الواقع ، يكون حكمه الواقعي هو التخيير بين الوصل والفصل ، فليس موضوع هذا التخيير هو مطلق الشاكّ ، بل هو خصوص الشاكّ الذي كانت صلاته في الواقع ناقصة.

ص: 87


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والمعنى واضح ].
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 351 ذيل ح 1024.

وحينئذ نقول : لو اتّفق أنّه قد أوصل وتأتّت منه القربة صحّت صلاته لو صادفت النقصان ، لكنّه مع التفاته إلى حكمه الظاهري وهو لزوم البناء على الأكثر ولزوم الفصل خوفاً من محذور زيادة الركعة في الصلاة مع عدم علمه بالنقصان لا يجوز له اختيار الوصل ، وإن كان لو أقدم على اختياره وتأتّت منه نيّة القربة وصادف أنّ صلاته كانت ناقصة كانت صلاته المذكورة صحيحة ، لكن كلّ ذلك لو أحرز النقصان ، فما دام هو لم يحرز النقصان لا يمكن الحكم بصحّة صلاته ، بل إنّ الحكم الظاهري حاكم بفسادها ، ملاحظة لاحتمال أنّها كانت تامّة وأنّ الركعة المتّصلة كانت زيادة فيها ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الفرع المذكور ، وهو ما إذا شكّ في أنّه بعد الركوع من الثالثة أو قبل الركوع من الرابعة ، فقد قال في العروة في المسألة الثانية عشرة إنّه يجب عليه الركوع ، لأنّه شاكّ فيه مع بقاء محلّه ، وأيضاً هو مقتضى البناء على الأربع في هذه الصورة.

لكن يرد عليه : أنّه بعد الصلاة يعلم أنّه لا موقع لركعة الاحتياط ، لأنّ صلاته إن كانت ثلاثاً فقد بطلت صلاته بزيادة الركوع ، ولا يصلحها الاحتياط بالركعة ، وإن كانت أربعاً فلا محلّ فيها للركعة الاحتياطية ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه على مسلكه من إعمال استصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، لا يجوز له فعل الركوع ، لأنّه قد علم أنّه دخل في الثالثة وأنّه قد ركع لها ويشكّ في الرابعة ، ومحصّل شكّه في الرابعة هو الشكّ في أنّه بعد ركوعه للثالثة هل سجد لها وقام إلى الرابعة ، أو أنّه الآن بعد ركوع الثالثة ، ومقتضى أصالة عدم الاتيان بالسجود لها وبالقيام إلى الرابعة أن يسجد لها ، فإن سجد كان

ص: 88

عليه أن يقوم إلى الرابعة متّصلة ، لكن الروايات (1) قالت إنّه يسلّم على ذلك ويأتي بعده بالركعة منفصلة ، وبناءً على ذلك يتخلّص من الإشكال المذكور ، لأنّ صلاته حينئذ تدور بين الثلاثة الصحيحة فتكون هذه الركعة تكملة لها ، وبين الأربعة الباطلة بنقص الركوع ، وأصالة عدم الرابعة ينفي هذا الاحتمال. نعم لو اتّفق أن علم بعد ذلك أنّ صلاته كانت أربعاً ، كان لازمه الاعادة لبطلانها حينئذ بنقص الركوع ، وهذا أمر آخر غير ما نحن بصدده ، أعني صورة عدم انكشاف الخلاف ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الكلام في عكس هذا الفرع ، بأن يتردّد قيامه بين كونه قبل ركوع الثالثة أو كونه بعد ركوع الرابعة ، فإنّه يسهل الأمر فيه على مسلك شيخنا قدس سره ، لأنّه في ذلك الحال يجري أصالة عدم الاتيان بركوع الثالثة وما بعده إلى ما بعد ركوع الرابعة ، وحينئذ يلزمه الركوع والسجود ، ثمّ يبقى عليه الرابعة ولكن لا يأتي بها متّصلة بل يأتي بها منفصلة ، ولا يكون فيه إشكال ، لدوران الأمر حينئذ بين كون صلاته ثلاثاً تامّة فيصلحها الاحتياط ، وكونها أربعاً باطلة بزيادة الركوع فيها ، وهذا الاحتمال منفي بأصالة العدم في ركوع الثالثة وما بعدها إلى ركوع الرابعة. نعم ، لو انكشف الحال قبل صلاة الاحتياط أو بعدها وأنّ صلاته كانت أربعاً قد زاد فيها الركوع ، فحينئذ يكون اللازم عليه الاعادة.

بخلاف ما لو قلنا بمسلك الجماعة فإنّه - كما في العروة - يلزمه البناء على الأربع بعد الركوع فلا يركع ، وحينئذ يقع في العلم بأنّه لا موقع لاحتياطه ، لأنّها إن كانت ثلاثاً فهي باطلة بنقص الركوع ، وإن كانت أربعاً لم تكن محتاجة إلى الاحتياط. نعم لو قيل إنّه يركع لكونه شاكّاً في ركوع هذه الركعة ، لم يحصل العلم

ص: 89


1- وسائل الشيعة 8 : 216 / أبواب الخلل في الصلاة ب 10.

بأنّه لا موقع لاحتياطه ، لإمكان كون صلاته ثلاثاً قد أكمل ركوعها ، لكن يقابله احتمال كونها أربعاً باطلة بزيادة الركوع ، ولا نافي لهذا الاحتمال عندهم لعدم اعتمادهم على أصالة العدم ، لكنّهم أشكلوا على ذلك - كما في العروة - بالعلم الاجمالي المردّد بين نقص صلاته ركعة وبين بطلانها بزيادة [ الركوع ] ، وفي كونه موجباً للبطلان نظر لسدّ ثغرة النقص بالاحتياط. نعم يبقى احتمال بطلانها بزيادة الركوع ولا نافي له ، وهذا هو العمدة في الحكم بالبطلان. وبالجملة لا أثر لاحتمال النقص الذي هو طرف هذا الاحتمال ، وعمدة الإشكال إنّما هو من ناحية الاحتمال المذكور ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، وأمّا الوظيفة بعد ذلك ما هي فهي تتبع الجعل الشرعي ... الخ (1).

توضيحه : أنّ قاعدة البناء على الأكثر الملزمة بالاتيان بالنقص المحتمل منفصلاً ، لمّا كانت متكفّلة لأنّ الصلاة إن كانت ناقصة كان الاحتياط مكمّلاً لها ، وإن كانت تامّة كان ذلك الاحتياط نافلة ، كان محصّلها هو أنّه على تقدير النقص لم يكن الفصل مضرّاً ، ولازم ذلك أنّ الحكم الواقعي على تقدير مصادفة النقص هو الاتيان بالمكمّل منفصلاً ، فلابدّ أن يكون تسويغ الانفصال في صورة اتّفاق النقص مقيّداً للأدلّة الأوّلية الحاكمة بلزوم وصل الركعات بعضها ببعض ، وحينئذ فلا تكون قاعدة البناء على الأكثر مقيّدة لدليل الاستصحاب ، بل تكون مقيّدة للدليل الأوّلي الحاكم بلزوم وصل الركعات ، وأقصى ما يفيده دليل الاستصحاب هو إحراز النقص الذي [ هو ] موضوع لوجوب الاتيان بالباقي ، ومقتضى تقيّد الدليل الأوّلي هو لزوم الاتيان بالناقص مفصولاً.

ص: 90


1- فوائد الأُصول 4 : 363.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده في الكفاية من أنّ الاتيان بالركعة مفصولة منافٍ لاطلاق النقض الخ (1) ولعلّ قوله في الكفاية : فافهم ، إشارة إلى ذلك. وينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه اللّه (2) في هذه الصحيحة لعلّه أوفى.

وعلى كلّ حال ، ففي هذا التوجيه تأمّل ، لأنّ مقتضاه بطلان صلاة الشاكّ بين الثلاث والأربع مثلاً لو بنى على الثلاث ولو جهلاً منه بالحكم على وجه لا يخلّ بقصد القربة ، وأتى بركعة رابعة متّصلة ، ثمّ بعد الفراغ علم بأنّ هذه الركعة المتّصلة وقعت في محلّها ، وأنّ صلاته كانت ثلاثاً ، والالتزام بالبطلان في هذه الصورة بعيد كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن نقول : إنّه لم ينقلب حكمه من الاتّصال إلى الانفصال بقول مطلق ، بل إنّ الشارع المقدّس لاحظ في مقام الشكّ احتمال التمام كما لاحظ احتمال النقصان ، وجمع بينهما بهذه الطريقة ، ولا ينافي أن يكون ذلك من باب الترخيص في الانفصال لأجل هذه العناية ، مع أنّه لو وصل الركعة واتّفق أن صادفت الواقع صحّت صلاته.

قوله : وقد أُورد على الاستدلال بها بما حاصله : أنّ الظاهر من الرواية هو اختلاف زمان الشكّ واليقين ، وسبق زمان اليقين على زمان الشكّ بقرينة قوله عليه السلام : « من كان فشكّ » (3) ... الخ (4).

وجه دلالة الرواية على تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ هو تخلّل الفاء

ص: 91


1- كفاية الأُصول : 396.
2- أجود التقريرات 4 : 49 وما بعدها.
3- وسائل الشيعة 1 : 246 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 6 ( مع اختلاف عمّا في المصدر ).
4- فوائد الأُصول 4 : 364.

بينهما. ولكن لا يخفى أنّ مجرّد تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ لا يوجب انحصار مدلول الرواية بقاعدة اليقين ، بل هي صالحة مع ذلك للانطباق على الاستصحاب ، ولا تكون منحصرة بقاعدة اليقين ، إلاّ إذا قلنا بأنّ الفاء تعطي انقطاع ما قبلها ، بحيث يكون مفادها هو ارتفاع اليقين وانقطاعه عند حصول الشكّ ، ومن الواضح أنّ الفاء لا تدلّ على الانقطاع المذكور ، كما ترى في قولك : من كان محدثاً فمسّ المصحف ، ونحو ذلك ، وحينئذ فلابدّ من القول بأنّ الرواية صالحة للانطباق على قاعدة اليقين وعلى الاستصحاب ولو في القسم الغالب ، وهو ما إذا تقدّم زمان اليقين المفروض بقاؤه في حال الشكّ ، لكن لابدّ حينئذ من القول بأنّها مسوقة لأحدهما ، لما تقدّم في صدر البحث من عدم الجامع بينهما.

وحينئذ فلو خلّينا نحن وصدر هذه الرواية لكانت مجملة مردّدة بينهما ، لكن بواسطة الذيل الظاهر في بقاء اليقين في حال الشكّ ، للحكم عليه بالبناء على يقينه الملازم لبقائه كما هو الشأن في القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على ما هو مفروض الوجود ، يكون ذلك من القرينة المعيّنة لإرادة الاستصحاب ، إذ لا يمكن حملها على قاعدة اليقين إلاّ إذا أُريد من اليقين في قوله : « فليض على يقينه » اليقين السابق باعتبار ما كان ، وهو خلاف الظاهر في المشتقّات فضلاً عمّا هو في غير المشتقّات كالمصادر وأسماء الأعيان ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه من قبيل المصادر.

ثمّ لا يخفى أنّه قد تقدّمت الاشارة (1) إلى أنّ مثل « لا تنقض اليقين بالشكّ » إنّما يكون مسوقاً للتعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ مع فرض كونه قد انتقض به وجداناً ، وحينئذ نقول : إنّ لنا في كلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين يقيناً وشكّاً

ص: 92


1- في الصفحة : 10 - 11.

وأنّ الأوّل قد انتقض بالثاني وجداناً ، وأنّ الشارع عبّدنا بعدم النقض ، كما أنّ لنا في كلّ منهما شيئاً يكون قد تعلّق به اليقين وتعلّق به الشكّ أيضاً ، وذلك مثل قيام زيد مثلاً ، وحينئذ لابدّ أن يكون هناك اختلاف في الزمان في الجملة ، وإلاّ لم يعقل أن يكون الشيء الواحد من جميع الجهات يتعلّق به كلّ من اليقين والشكّ في زمان واحد ، بأن يحصل لك الآن يقين وشكّ متعلّقان بنفس قيام زيد ، من دون اختلاف في الزمان في نفس الشكّ واليقين ، أو في متعلّقهما الذي هو قيام زيد.

وحينئذ نقول : إنّ قيام زيد بالأمس مثلاً إن كان بالأمس متعلّقاً لليقين ، وكان في هذا اليوم متعلّقاً للشكّ ، بأن أكون قد تيقّنت بالأمس بقيام زيد بالأمس ، لكن في هذا اليوم حدث لي شكّ في قيامه بالأمس ، فكان زمان اليقين والشكّ مختلفاً وكان زمان القيام الذي هو المتيقّن والمشكوك متّحداً وهو الأمس ، فهذا هو مورد قاعدة اليقين المعبّر عن الشكّ فيها بالشكّ الساري ، ومن الواضح أنّ اليقين فيها قد انتقض وانهدم وجداناً ، وحينئذ يمكن التعبّد بعدم النقض ، وهذه هي الصورة الأُولى من صور الاختلاف بحسب الزمان.

الصورة الثانية : أن يحصل الاختلاف في كلّ منهما ، بأن يكون قد تيقّن بالأمس بقيام زيد بالأمس ، وفي هذا اليوم حصل له الشكّ بقيامه في هذا اليوم ، وهذه الصورة لا تكون مورداً لقاعدة الشكّ الساري ، إذ لم يسر الشكّ فيها إلى اليقين السابق ، بل إنّ يقينه السابق الذي تعلّق بقيام زيد بالأمس باقٍ إلى اليوم بحاله فهو اليوم متيقّن بقيام أمس ، كما أنّه في هذا اليوم شاكّ ، لكن لا بقيام أمس بل بقيام اليوم ، فقد اجتمع عنده اليقين والشكّ في هذا اليوم ، لكن متعلّق اليقين هو قيام أمس ومتعلّق الشكّ هو قيام اليوم ، فكانت هذه الصورة الثانية راجعة إلى الصورة

ص: 93

الثالثة ، وهي عكس الصورة الأُولى.

وهذه الصورة الثالثة لو أبقيناها على ظاهرها من الاختلاف بحسب الزمان في القيام ، فكان متعلّق اليقين هو قيام أمس ومتعلّق الشكّ هو قيام اليوم ، لم يكن الشكّ فيها هادماً وناقضاً لليقين لاختلاف متعلّقهما ، فكما لا تكون مورداً لقاعدة اليقين فكذلك لا تكون مورداً للاستصحاب ، ولو جرّدنا متعلّق الشكّ فيها عن الزمان وأخذنا نفس القيام متعلّقاً لكلّ من اليقين والشكّ الحاصلين في هذا اليوم ، كان راجعاً إلى الصورة الأُولى التي قلنا إنّه لا يعقل اجتماع كلّ من اليقين والشكّ في آن واحد مع فرض وحدة متعلّقهما ، لكن إذا نظرنا إلى صحاح زرارة رأيناها قد طبّقت « لا تنقض اليقين بالشكّ » على مثل هذه الصورة التي كان زمان اليقين والشكّ فيها واحداً ، وكان الاختلاف فيها بالزمان في ناحية المتعلّق فقط.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما في الكفاية (1) من تصحيح النقض بتجريد المتعلّق ، مضافاً إلى أنّه مع التجريد لا وجه لكون الشكّ ناقضاً وجداناً لليقين ، فلِمَ لا نقول إنّ اليقين ناقض وجداناً للشكّ ، فلم يبق إلاّدعوى كون كلّ منهما ناقضاً وجداناً للآخر ، مع نهي الشارع عن نقض اليقين بالشكّ ، فيتعيّن نقض اليقين للشكّ ، فتأمّل.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّه ليس المسوّغ لاجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد هو اختلاف المتعلّق في الزمان ، بأن يكون المتيقّن هو قيام زيد بالأمس والمشكوك هو قيام زيد اليوم ، مع فرض تخلّل العدم بين القيامين ، وإلاّ لم يكن من الاستصحاب في شيء ، كما أنّه لم يكن من باب قاعدة اليقين ، أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّ الشكّ في الاستصحاب لم يتعلّق بقيام زيد اليوم

ص: 94


1- كفاية الأُصول : 390 - 391.

في قبال قيامه بالأمس ، على وجه يكون قيامه اليوم حادثاً جديداً بعد أن انقضى قيامه بالأمس ، بل إنّ المشكوك في الحقيقة في باب الاستصحاب هو قيام الأمس ، لكن باعتبار بقائه واستمراره ، فالشكّ في الحقيقة إنّما تعلّق ببقاء قيام زيد واستمراره إلى اليوم ، فيكون اليقين في باب الاستصحاب متعلّقاً بنفس القيام أمس أو بحدوثه ، ويكون الشكّ فيه متعلّقاً ببقاء ذلك القيام الذي كان بالأمس أو الذي حدث بالأمس ، وحينئذ ففي الحقيقة لم يكن أحدهما هادماً للآخر ، لكن لمّا كان اليقين بقيام الأمس موجباً ادّعاء لليقين ببقائه إلى اليوم ، فكان هذا الشكّ الوجداني ناقضاً لليقين الادّعائي ، فصحّح ذلك توجّه النهي عن ذلك النقض ، ولأجل هذه الجهة من الادّعاء نقول باختصاص الاستصحاب بموارد الشكّ في الرافع ، فكأنّ الشارع نزّل اليقين بحدوث القيام أمس منزلة اليقين ببقائه إلى اليوم ، فأطلق على الشكّ الحاصل في اليوم أنّه ناقض لليقين ونهى عن ذلك النقض ، ولا ريب أنّ هذا التنزيل يقوى فيما لو كان الحادث له اقتضاء البقاء.

ولعلّه لأجل هذه الجهة من التنزيل زعم البعض شمول « لا تنقض » لقاعدة المقتضي ، بتوهّم أنّ اليقين بوجود المقتضي - بالكسر - ينزّل تعبّداً منزلة اليقين بوجود المقتضى ، وأنّ الشكّ في وجود المقتضى - بالفتح - لأجل الشكّ في وجود المانع يكون ناقضاً لذلك اليقين الادّعائي المتعلّق بالمقتضى - بالفتح - وحينئذ يكون عمدة ما يبطل هذا القول هو عدم الدليل على هذا التنزيل ، أعني تنزيل اليقين بالمقتضي - بالكسر - منزلة اليقين بالمقتضى - بالفتح - ، بخلاف تنزيل اليقين بوجود الشيء منزلة اليقين ببقائه ، لأنّ في تطبيق « لا تنقض » على مسألة الوضوء والطهارة من الخبث وعدم الركعة الرابعة كما تضمّنته صحاح زرارة دلالة واضحة على التنزيل المذكور - كما عرفت تقريبه - من ناحية إطلاق النقض

ص: 95

على الشكّ في البقاء.

وخلاصة المبحث : هي أنّ الإمام ( عليه الصلاة والسلام ) في هذه الصحاح الثلاث قد استعار اليقين بالحدوث للازمه الادّعائي ، الذي هو اليقين بالبقاء ، وأطلق عليه شيئاً من لوازم المستعار له وهو كون الشكّ ناقضاً له ، نظير استعارة الأسد للرجل الشجاع وإثبات شيء من لوازمه وهو « يرمي ». هذا على طريقة السكاكي.

وأمّا على طريقة أهل المجاز المفرد فهو أن يقال : إنّه عليه السلام استعمل اليقين بالحدوث - أعني حدوث الوضوء مثلاً - في اليقين بالبقاء ، بعلاقة الملازمة بينهما ملازمة ادّعائية أو ملازمة ناشئة من الغلبة ، لأنّ الغالب أنّ الموجود يبقى ، فيكون اليقين بالوجود ملازماً لليقين بالبقاء ، فصحّ إطلاق اليقين بالوضوء على اليقين ببقائه ، والقرينة على هذا التجوّز وأنّه عليه السلام لم يرد بقوله عليه السلام : « على يقين من وضوئه » (1) اليقين بأصل الوضوء ، بل أراد اليقين ببقائه ، هو إطلاق النقض أعني كون الشكّ ناقضاً لذلك اليقين.

والأولى أن يخرّج ذلك على طريقة الكناية بأن يقال : إنّ المراد باليقين في مثل قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » هو اليقين بالحدوث ، لكنّه شبّهه باليقين بالبقاء ونزّله منزلته في إثبات لازمه الذي هو النقض ، فيكون من قبيل : أنشبت المنيّة أظفارها ، فإنّه لمّا شبّه المنيّة بالأسد جعل لها أظفاراً.

ويمكن أن يخرّج على التجريد ، بأن يكون قد جرّد من اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء ، ونسب إليه النقض باعتبار ما جرّده واستخلصه منه ، نظير قوله :

ص: 96


1- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.

وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرجل

غير أنّه ذكر المجرّد منه ولم يذكر المجرّد ، ولو قلنا بأنّ المراد من اليقين هو اليقين بالبقاء ، مع أنّه لم يكن في الواقع إلاّ اليقين بالحدوث ، كان من قبيل ذكر المجرّد مع عدم ذكر المجرّد منه.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الجهات - أعني كونه من قبيل الكناية ، أو كونه من قبيل التجريد ، أو كونه من قبيل الاستعارة ، أو كونه من قبيل المجاز المفرد - ليست براجعة إلى التعبّد بالبقاء في مقام الشكّ فيه الذي هو حكم شرعي ، بل هي راجعة إلى مرحلة لفظية مصحّحة لاستعمال اليقين بالحدوث في مقام اليقين بالبقاء ، وأنّ المقصود الأصلي هو النهي عن نقض اليقين بالبقاء بالشكّ فيه ، كما هو مقتضى تطبيق هذه الكبرى على ما هو مورد الاستصحاب.

ومن هذا البيان يتّضح لك دفع ما ربما يتوهّم في المقام من أنّ تنزيل اليقين بالحدوث منزلة اليقين بالبقاء إنّما جاء من النهي المذكور بقوله : لا تنقض ، فلا يعقل أن يكون هو المصحّح للنقض المذكور. وبيان الدفع هو ما عرفت من أنّه ليس المراد من تنزيل اليقين بالحدوث منزلة اليقين بالبقاء هو التنزيل التعبّدي الناشئ من الحكم التعبّدي ، أعني النهي عن النقض ، بل المراد هو التنزيل العرفي الاستعمالي الناشئ عن دعوى الملازمة ولو للغلبة بين حدوث الشيء وبقائه ، فالتنزيل المذكور إنّما هو في مرحلة النظر العرفي المصحّح لاستعمال اليقين بالحدوث في اليقين بالبقاء ، فلا يكون هذا التنزيل إلاّراجعاً إلى جهة استعمالية في مقام الاثبات ، دون قيام التعبّد الشرعي في مقام الثبوت.

لا يقال : إنّكم إذا جعلتم اليقين بأصل الوجود كناية عن اليقين بالبقاء عاد الإشكال ، وهو تعلّق الشكّ واليقين بشيء واحد وهو البقاء.

ص: 97

لأنّا نقول : ليس المراد من هذه الكناية أنّ اليقين استعمل في اليقين بالبقاء حقيقة ، بل المراد هو رفع اليد عن اليقين بأصل الوجود استناداً إلى الشكّ في البقاء. وبعبارة أُخرى : العمل على طبق الشكّ في البقاء وعدم الالتفات إلى اليقين بأصل الوجود يكون بمنزلة هدم ذلك اليقين ونقضه ، وحيث إنّه في محلّه لم ينهدم ولم ينتقض ، نقول : إنّ المصحّح لاطلاق النقض على ترك الجري على وفقه والأخذ بطرف الشكّ ، هو لحاظ أنّ اليقين بأصل الحدوث يستدعي اليقين بالبقاء ، فالمكلّف لمّا يريد عدم العمل على طبق اليقين بالحدوث مستنداً في ذلك إلى الشكّ في البقاء ، فكأنّه بذلك هادم لليقين السابق وناقض له بالشكّ المزبور ، وبهذه العناية أُطلق على ذلك الترك أنّه نقض ونهي عنه ، وإلاّ ففي الحقيقة لم يكن في البين إلاّ اليقين بأصل الوجود وهو باقٍ مستمرّ ، ولكن بقاء اليقين بأصل الحدوث لا ينافي طروّ الشكّ في البقاء ، والمكلّف لمّا صار يعتني بالشكّ ويرتّب الأثر على الشكّ لم يكن بذلك تاركاً للعمل على طبق اليقين بأصل الحدوث ، بل لو كان لليقين بأصل الحدوث أثر لرتبه فعلاً ، لكن الشارع أطلق على الاعتناء بالشكّ وعدم ترتيب أثر اليقين بالبقاء أنّه هدم ونقض لليقين بأصل الحدوث ، في حين أنّ المكلّف لم يهدم اليقين بأصل الحدوث ، فلابدّ أن نقول إنّ المصحّح لاطلاق نقض اليقين بالحدوث على الأخذ بالشكّ المزبور ، هو ما عرفت من دعوى الملازمة الادّعائية بين اليقين بأصل الحدوث واليقين بالبقاء ، فكأنّ المكلّف باعتنائه بالشكّ قد هدم يقينه بأصل الحدوث.

ويمكن أن يقال : إنّ صحّة نسبة النقض إلى الشكّ في البقاء بالنسبة إلى اليقين بأصل الوجود لا تتوقّف على أخذ اليقين بالوجود كناية عن اليقين بالبقاء بل إنّ نفس الشكّ في البقاء بالنظر العرفي يكون شكّاً في نفس الشيء ، وبهذا

ص: 98

الاعتبار صحّ جعله ناقضاً لليقين بنفس الشيء.

وعلى أيّ حال ، لا يكون المنهي عنه واقعاً في هذه الصحاح الثلاث إلاّ الاعتناء بالشكّ في البقاء في قبال اليقين بأصل الحدوث ، فهي منصبّة على الشكّ في البقاء مع اليقين بأصل الحدوث ، فلا تشمل قاعدة المقتضي التي هي منصبّة على اليقين بالمقتضي - بالكسر - مع الشكّ في المقتضى - بالفتح - ولا قاعدة اليقين التي هي منصبّة على الشكّ في وجود الشيء بعد اليقين بوجوده ، مع فرض وحدة المتعلّق وتأخّر الشكّ عن اليقين وانتقاض ذلك اليقين وزواله وتبدّله إلى الشكّ في نفس ما تعلّق به اليقين ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين الشكّ في البقاء عند اليقين بأصل الحدوث ، وبين أحد الأمرين أو كليهما ، أعني اليقين بوجود المقتضي - بالكسر - والشكّ في وجود المقتضى - بالفتح - أو الشكّ في وجود الشيء بعد اليقين بوجوده ، كما أنّه لا جامع بين الأمرين المذكورين.

فقد اتّضح من ذلك كلّه أنّ قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لو خلّيت ونفسها لكانت منطبقة على مورد اختلاف اليقين والشكّ بحسب الزمان واتّحاد المتيقّن والمشكوك بحسبه انطباقاً حقيقياً ، غير محتاج إلى نحو من العناية والتسامح ، لكن صحاح زرارة قد طبّقت هذه القضية على عكس المورد ، وهو ما لو اتّحد اليقين والشكّ زماناً وكان زمان المتيقّن متقدّماً على زمان المشكوك ، الذي قد عرفت أنّ انطباق النقض فيه محتاج إلى العناية إمّا بتجريد المتعلّق عن الزمان فكأنّه نظر فيه إلى نفس الوضوء ورآه متيقّناً مشكوكاً ، ولابدّ حينئذ أن يكون أحدهما ناقضاً للآخر فقال لا تنقض اليقين بالشكّ ، وعبّر في بعض الروايات بالأمر بنقض الشكّ باليقين (1). لكنّك قد عرفت أنّ اختلاف المتعلّق

ص: 99


1- وسائل الشيعة 8 : 216 - 217 / أبواب الخلل في الصلاة ب 10 ح 3.

بحسب الزمان لا واقعية له ، وإنّما الواقع هو الاختلاف بينهما في جهة الحدوث والبقاء ، فلابدّ أن تكون العناية متوجّهة إلى ناحية البقاء بالغائها من ناحية الشكّ ، أو إلى دعوى وجود اليقين الادّعائي أو التقديري اللولائي متعلّقاً بجهة البقاء.

وأيّاً من هذه العنايات أخذنا بها تكون مانعة من شمول تلك القضية الواردة في ذلك المورد لقاعدة اليقين ، لما عرفت من عدم الاحتياج فيها إلى العناية ، ولا جامع بين ما يتوقّف على العناية وما لا يتوقّف.

أمّا باقي الأخبار فقد عرفت الكلام فيها ، وأنّها أجنبية أيضاً عن قاعدة اليقين ، هذا كلّه ، مضافاً إلى ما هو واضح من عدم سياق تلك الأخبار مساق التعبّد الصرف ، بل هي مسوقة مساق الامضاء لما جرت به الطريقة العقلائية ، ونحن لو رجعنا إلى طريقة العقلاء لم نجدهم يعتمدون على اليقين في موارد الشكّ الساري ، بل إنّما يعتمدون عليه في موارد الشكّ الطارئ ، ولا أقل من الشكّ في اعتمادهم على ذلك ، وهو كاف في الحكم بعدم الحجّية ، وهكذا الحال في ناحية قاعدة المقتضي.

ومن جملة تلك الأخبار قوله عليه السلام : « إذا شككت فابن على اليقين » (1) لو لم نحملها على الأخذ بالقدر المتيقّن وإلغاء المشكوك ، كما في الشكّ في عدد الركعات ، فيكون مرجعه إلى البناء على الأقل والتسليم عليه ، ويكمل لزوم الاحتياط بالاتيان بمحتمل النقصان منفصلاً بباقي أخبار الشكّ في عدد الركعات ، وحينئذ تكون مختصّة بباب الاستصحاب ، ولا دلالة لها على شيء من قاعدة اليقين ولا قاعدة المقتضي ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الجملة الشريفة وهي قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين

ص: 100


1- وسائل الشيعة 8 : 212 / أبواب الخلل في الصلاة ب 8 ح 2.

بالشكّ » لو خلّيت ونفسها لم تكن منطبقة إلاّعلى مورد قاعدة اليقين ، لما عرفت من حصول النقض الوجداني فيها الذي هو مورد التعبّد بعدم النقض ، لكن لمّا طبّقها الإمام عليه السلام على موارد الاستصحاب ، وكان ذلك التطبيق قاضياً بتجريد المتعلّق عن الزمان ، لم يكن ذلك المورد الذي طبّقها عليه السلام عليه مساوياً لموارد قاعدة اليقين ، فإنّ مورد قاعدة اليقين لو جرّدناه عن الزمان لم يكن قد اجتمع فيه الشكّ واليقين ، بل كان مورداً للشكّ الصرف ، بخلاف مورد الاستصحاب فإنّه قد اجتمع فيه الشكّ واليقين حتّى بعد تجريده عن الزمان أو عن جهة الحدوث والبقاء ، من دون أن يكون أحدهما ناقضاً وجداناً للآخر.

وحينئذ يدور أمر المكلّف بين أن يطبّق عمله على اليقين ويطرح الشكّ ، أو أن يعمل على طبق الشكّ ويطرح اليقين ، وأيّاً منهما قد جرى على طبقه يكون قد نقض الآخر ، من دون أن يكون في البين انتقاض وجداني من أحدهما للآخر ، والإمام عليه السلام بقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وبقوله عليه السلام : « ولكنّه ينقض الشكّ باليقين » قد عيّن له التكليف في ذلك ، وأمره بأن يجعل اليقين هادماً وناقضاً للشكّ ونهاه عن العكس.

وبهذا البيان يتّضح لك خروج قاعدة اليقين عن مفاد الأخبار الشريفة ، لما عرفت من أنّها حينئذ مسوقة لمورد اجتماع الشكّ واليقين ، بل لو لم يكن إلاّهذه الجملة الشريفة من دون تطبيق منه عليه السلام على مورد الاستصحاب لقلنا باختصاصها به ، لما هو معلوم من ظهورها في اجتماع الشكّ واليقين فعلاً مع وحدة المتعلّق ، وذلك لا يكون إلاّفي موارد الاستصحاب فلاحظ (1)

ص: 101


1- هذه القطعة ينبغي إلغاؤها والاعتماد على السابق ، وقد حرّرنا ذلك جديداً في ورقة مستقلّة بتاريخ 15 / ع 2 سنة 80 [ منه قدس سره. ولا يخفى أنّ المقصود بالقطعة التي ينبغي إلغاؤها هو قوله قدس سره : هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ... الخ. والظاهر أنّ المقصود بما حرّره قدس سره جديداً في ورقة مستقلّة هي الحاشية اللاحقة ، فإنّه قدس سره كتبها في أوراق مستقلّة ألحقها بالمتن ].

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره قد تعرّض مفصّلاً لعدم شمول قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لكلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين في خاتمة الاستصحاب (1) ، وينبغي إلحاق هذا الذي حرّرناه هنا بما علّقناه هناك في مبحث الخاتمة إن شاء اللّه تعالى.

قوله : فإنّه ليس في الرواية ما يستفاد منه وحدة زمان متعلّق الشكّ واليقين ... الخ (2).

عرفت الفرق بين مورد الاستصحاب ومورد قاعدة اليقين ، وأنّ الأوّل مورده اختلاف المتعلّق بحسب الزمان مع وحدة زمان اليقين والشكّ ، وأنّ سبق اليقين فيه لا يضرّ مع فرض بقائه واجتماعه مع الشكّ ، بخلاف مورد الثاني فإنّ مورده اتّحاد المتعلّق بحسب الزمان مع اختلاف زمان اليقين والشكّ ، وأنّ زمان الشكّ فيه يكون بعد انقضاء زمان اليقين.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ ما تقدّم من روايات الباب قد ذكر فيها المتعلّق مثل قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال عليه السلام : لا » الخ (3) فكان متعلّق اليقين فيها هو وجود الطهارة ومتعلّق الشكّ فيها هو بقاءها ، وأنّ تلك الحالة التي حدثت لا توجب إلاّ الشكّ في البقاء ، فكان لزاماً علينا القول بأنّها

ص: 102


1- فوائد الأُصول 4 : 586 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 365.
3- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

مسوقة للاستصحاب دون قاعدة اليقين.

أمّا هذه الرواية فلم تتعرّض لذكر المتعلّق لنتعرّف حاله وأنّه واحد بحسب الزمان أو مختلف ، وأقصى ما في عدم التعرّض هو أنّا لا نقدر على إثبات كونه واحداً بحسب الزمان ، لكن ذلك لا يوجب الالتزام بالتعدّد كي نقول إنّها مسوقة للاستصحاب ، بل لابدّ لنا في ذلك من النظر فيها إلى اليقين والشكّ ، وهل هما في زمان واحد كي تكون منزّلة على الاستصحاب ، أو أنّ زمانهما مختلف لتكون منزّلة على قاعدة اليقين.

فنظراً إلى لفظة « الفاء » ربما نقول إنّها تعطي انقضاء اليقين ، نظير قولك : كان قائماً فقعد ، ولازمه كونها مسوقة لقاعدة اليقين ، لكن قوله عليه السلام : « فليمض على يقينه » (1) يعطي اليقين الفعلي ، فلابدّ من تأويله بكون صدق اليقين باعتبار ما كان ، وهو بعيد بل لا وجه له ، لأنّ ذلك إنّما هو في المشتقّات دون الجوامد فضلاً عن المصادر ، ولأجل قوّة هذا الظهور في فعلية اليقين لابدّ لنا من رفع اليد عن ظهور « الفاء » في الانقضاء لو سلّمنا أنّ لها ظهوراً في ذلك في حدّ نفسها ، بأن نقول إنّها وإن كانت صالحة لقاعدة اليقين إن زال اليقين ليكون نظير من كان قائماً فقعد ، ولقاعدة الاستصحاب إن بقي اليقين بحاله ليكون نظير قولك من كان محدثاً فصلّى كانت صلاته باطلة ، لكن قوله : « فليمض على يقينه » يعيّن الوجه الثاني ، فلا يكون مفادها إلاّ الاستصحاب ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ظهور قوله : « فليمض على يقينه » في اليقين الفعلي قابل للمنع ، فإنّ إضافته إلى الضمير لا تقتضي ذلك ، فكأنّه قال : فليمض على اليقين ، وحينئذ لا ظهور فيه في اليقين الفعلي بل يكون للعهد ، والمراد هو اليقين السابق.

ص: 103


1- وسائل الشيعة 1 : 246 - 247 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 6.

نعم ، إنّ ظهور قوله : « فشكّ » في الانقضاء أيضاً ممنوع ، فإنّه في مثل كان على قيام فقعد ، إنّما كان لأجل التضادّ بين الفعلين ، واليقين والشكّ وإن كانا كذلك إلاّ أنّ التضادّ بينهما إنّما يتمّ مع وحدة المتعلّق ، أمّا مع إمكان تعدّده فلا تضادّ بينهما ، وحينئذ تكون الرواية صالحة لأحد الأمرين - أعني قاعدة اليقين والاستصحاب - ولا جامع ، لأنّ الاستصحاب محتاج إلى عناية في النقض كما سيأتي بيانه من التوقّف على النقض الوجداني ، وعليه تكون الرواية مجملة مردّدة بين الأمرين ، وإن كان الحمل على قاعدة اليقين (1) لعدم احتياجه إلى تلك العناية ، بخلاف الاستصحاب فإنّه محتاج إليها ، لكن بقرينة تطبيق هذه القضية في باقي الروايات على موارد الشكّ في البقاء بعد اليقين بأصل الحدوث المحتاج إلى العناية الآتي ذكرها ، يلزمنا القول بأنّ المراد بالكبرى في هذه الرواية هو المراد بها في باقي الروايات من موارد اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، ويؤيّد ذلك أنّها ظاهرة في أمر عقلائي ، وهو إنّما يجري في موارد الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث.

أمّا العناية المشار إليها فحاصلها : هو أنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ إنّما يحسن بعد فرض كونه منهدماً به وجداناً ، وهذا إنّما يتمّ في قاعدة اليقين دون الاستصحاب ، لكن لمّا طبّق الإمام عليه السلام هذه القضية على موارد الاستصحاب التي يكون اليقين فيها متعلّقاً بالحدوث ، ويكون الشكّ فيها متعلّقاً بالبقاء ، فلا هدم ولا انهدام ، فكيف تمّ التعبّد في موارد تلك الروايات.

وعلاجه في ذلك هو أن يقال : إنّ اليقين بالحدوث يلازم اليقين بالبقاء ولو ادّعاءً لا حقيقة ، وهذا ممّا يؤيّد مسلك الشيخ قدس سره (2) من اختصاص الاستصحاب

ص: 104


1- [ لا يخفى أنّ العبارة ناقصة ولكن المقصود واضح ].
2- فرائد الأُصول 3 : 51 وما بعدها.

بموارد الشكّ في الرافع ولا يشمل الشكّ في المقتضي ، لضعف الملازمة الادّعائية فيه ، وهذه الملازمة الادّعائية تخلق لنا يقيناً ادّعائياً بالبقاء ، فكان هذا الشكّ ناقضاً وجداناً لذلك اليقين الادّعائي ، وإن شئت فقل : إنّه ناقض لليقين بأصل الحدوث ولو باعتبار نقضه للازمه الادّعائي ، فالمكلّف لو أخذ بطرف الشكّ لكان هادماً لذلك اليقين ولو بالاعتبار المذكور ، بخلاف ما لو أخذ بطرف ذلك اليقين فإنّه يكون قد هدم الشكّ باليقين بالاعتبار المذكور ، فالشارع قد أمره بجعل اليقين هادماً للشكّ ، ونهاه عن جعل الشكّ ناقضاً وهادماً لليقين المذكور ولو بالاعتبار المذكور ، أعني هدمه باعتبار هدم لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء.

فإن شئت فخرّجه على المجاز في الكلمة ، بجعل اليقين بالحدوث مجازاً في لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء. وإن شئت فخرّجه على الاستعارة ، أعني استعارة اليقين بالحدوث لليقين بالبقاء ، بعلاقة الملازمة الادّعائية ونسبة شيء من لوازم الأصل وهو النقض إلى فرعه. وإن شئت جعلت ذلك من باب الكناية ، بجعل اليقين الذي هو اليقين بالحدوث كناية عن لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء مع ذكر شيء من لوازم المكنّى عنه وهو النقض. وإن شئت جعلته من قبيل التجريد بأن نقول جرّد من اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء ، نظير قوله :

وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى *** بمستلئم مثل الفنيق المرجل

وإن شئت فاجعل مركز التجوّز لفظ النقض ، بجعل رفع اليد عن اليقين بالحدوث نقضاً له باعتبار عدم الالتزام بلازمه الادّعائي ، إمّا من قبيل المجاز في الكلمة ، أو من قبيل التجوّز في الاسناد ، ونحو ذلك من الطرق العنائية.

وعلى أيّ حال ، تلك أبحاث لفظية ، والغرض منها هو صحّة جعل اليقين

ص: 105

بالحدوث يقيناً بالبقاء ، وهذا كلّه بعد فرض الحاجة إلى هذه العناية من جهة أنّه عليه السلام طبّقها على ما يحتاج تطبيقها عليه إلى هذه العناية ، أمّا إذا لم يكن في البين هذا التطبيق ، ولم يكن في البين إلاّقوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ (1) فقد عرفت أنّ انطباقه على قاعدة اليقين لا يحتاج إلى ارتكاب هذه العناية ، لكن بقرينة تطبيق عين هذه الكبرى على تلك الموارد المحتاجة إلى العناية ، يمكننا القول بأنّ المراد بها ما لو بقي اليقين بعد عروض [ الشكّ ] ليكون حالها حال باقي تلك الكبريات. مضافاً إلى أنّ المستفاد منها هو الإيكال إلى أمر عقلائي قد جرى عليه العقلاء ، وهم إنّما يجرون على طبق الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

ويمكن أن يقال : إنّ العناية التي سوّغت إطلاق النقض في مثل قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » (2) هي تجريد الطهارة - التي هي متعلّق اليقين باعتبار حدوثها ومتعلّق الشكّ باعتبار بقائها - عن كلّ من الحدوث والبقاء ، بدعوى أنّ العرف يفهم من أمثال ذلك أنّ متعلّق اليقين ومتعلّق الشكّ هو نفس الطهارة ، غير أنّه بحسب الدقّة يكون الأوّل هو حدوث الطهارة والثاني هو بقاءها ، لكنّها بحسب النظر العرفي واحدة ، وبهذا الاعتبار العرفي صحّ أن يقال : إنّ اليقين بالطهارة منتقض بالشكّ فيها ، وبهذا الاعتبار العرفي صحّ للشارع أن ينهاه عن نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها ، وأمره أن يجعل اليقين بالطهارة ناقضاً للشكّ فيها.

وبالجملة : أنّ صحّة كون الشكّ ناقضاً لليقين في الاستصحاب متوقّف على هذه العناية ، أعني عناية تجريد المتعلّق عن الحدوث والبقاء ، وهذا بخلاف

ص: 106


1- تقدّمت الإشارة إلى مصدره في الهامش من صفحة : 103.
2- تقدّمت الإشارة إلى مصدره في الهامش (3) من صفحة : 102.

قاعدة اليقين ، فإنّ كون الشكّ فيها ناقضاً لليقين لا يتوقّف على عناية أصلاً ، ولأجل ذلك لا يمكن أن يكون كلّ من الموردين مشمولاً لهذه القضية ، لعدم الجامع بينهما.

وحينئذ نقول : إنّ هذه [ القضية ] بعد تطبيقها على موارد الاستصحاب المحتاج إلى العناية تكون مختصّة بالاستصحاب ، أمّا [ لو ] لم يكن قد طبّق على مورد من الموارد مثل هذه الرواية الشريفة ، أعني قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ ، فلا يمكن أن يكون للقدر الجامع ، إذ لا جامع بين ما يحتاج إلى العناية وما لا يحتاج إليها.

مضافاً إلى أنّه لابدّ أن يكون قوله : « فشكّ » مسوقاً للانقطاع فيتعيّن كونه للقاعدة ، أو لمجرّد السبق مع البقاء مع الشكّ فيتعيّن كونه للاستصحاب ، وحينئذ يكون مردّداً بين القاعدتين ، لكن احتياج الثانية - وهي الاستصحاب - إلى العناية يعيّن كون المراد هو الأوّل أعني قاعدة اليقين ، فيكون مفاد « الفاء » هو الانقطاع ، لكن بقرينة تلك الروايات المطبّقة على موارد الاستصحاب ، وبقرينة أنّها إشارة إلى ما عليه العقلاء المفروض اختصاصه بالاستصحاب ، يتعيّن حملها على الاستصحاب وارتكاب تلك العناية ، وحمل « الفاء » على مجرّد تأخّر الشكّ عن اليقين مع فرض بقائه بحاله بعد الشكّ ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن الاستصحاب.

نعم ، إنّه القسم الغالب منه وهو ما تقدّم اليقين ولحقه الشكّ واستمرّ ذلك اليقين معه ، بخلاف ما لو حصلا معاً ، أعني اليقين بالطهارة والشكّ في بقائها ، ولا دلالة فيها على الانحصار في الأوّل ، بل يمكن أن يقال بالحاق الثاني غير الغالب بالأوّل الذي هو الغالب ودخوله في كبراه ، لأنّ محصّله أنّ من كان على يقين

ص: 107

فشكّ مع فرض استمرار يقينه مع الشكّ ، فكان شكّه ناقضاً ليقينه المجامع مع شكّه ، لا يجوز له أن ينقضه به ، بل يجب عليه جعل ذلك اليقين المجامع مع الشكّ ناقضاً للشكّ استناداً إلى الكبرى المطوية ، فهذا الفرد غير الغالب وإن لم يكن داخلاً في الصغرى إلاّ أنه مشمول للكبرى المطوية ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : ومنها مكاتبة علي بن محمّد القاساني (1) ، قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه السلام : اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (2).

المتحصّل : أنّ قوله عليه السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » يحتمل انطباقه على الاستصحاب ، بمعنى أنّ الشكّ لا يدخل على اليقين ليكون هادماً له وناقضاً ، فمحصّله حينئذ لا تنقض اليقين بالشكّ ، كما أنّه يحتمل انطباقه على ما ادّعي استفادته من الأخبار ممّا حاصله : أنّ ما يجب صومه وهو رمضان وما يجب إفطاره وهو العيد لا يدخله الشكّ ، بمعنى أنّه لابدّ في ذاك وهذا من العلم واليقين ، وحينئذ فيوم الشكّ من الأوّل لا يدخل في رمضان ، ويوم الشكّ من الآخر لا يكون عيداً ، ويكون وزان ذلك وزان أنّ الركعتين الأُوليين لا يدخلهما الشكّ لأنّهما فرض اللّه (3).

وهل هذه الجهة حكم واقعي ، على وجه لو صامه بعنوان أنّه مشكوك لا يحسب من رمضان ولو تبيّن بعد ذلك أنّه منه ، كما أنّه لو أفطر في الآخر مع كونه مشكوكاً ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّه عيد لم يكن إفطاره صحيحاً ، بل كان يجب قضاؤه

ص: 108


1- وسائل الشيعة 10 : 255 - 256 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 13.
2- فوائد الأُصول 4 : 366.
3- وسائل الشيعة 8 : 187 / أبواب الخلل في الصلاة ب 1 ح 1 ، 4 ، وغيرهما.

ثمّ إنّه يبقى المكلّف في تمام الحيرة في يوم الشكّ من الآخر لأنّه لا يمكنه إدراجه في رمضان ، لأنّه يعتبر فيه اليقين ولا يجوز إدخال المشكوك فيه ، ولا يمكنه جعله عيداً لأنّه لابدّ فيه أيضاً من اليقين ، فهل يرى القائل بذلك أنّه يفطره ولكن لا يجعله عيداً ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اعتبار اليقين في رمضان إنّما هو في أوّله لا في آخره.

أو أنّها حكم ظاهري ، بمعنى أنّه ما دام مشكوكاً لا يمكن أن يحسب من رمضان ، بأن يصام على أنّه من رمضان ، وحينئذ يكون من أوضح الواضحات لا يحتاج إلى جعل وتشريع ، فإنّه من التشريع الواضح لو كان من الأوّل ، ومن الافطار بلا مسوّغ لو كان من الثاني ، فلابدّ أن يكون أساس هذه الجهة هو الاستصحاب ، وأنّ يوم الشكّ الأوّل محكوم بأنّه من شعبان ، ويوم الشكّ الآخر محكوم بأنّه من رمضان ، فلا يجب صيام الأوّل بل يحرم لو كان بنيّة رمضان ، كما أنّه لا يجوز الافطار في الثاني لكونه محكوماً بكونه من رمضان.

وحينئذ ننقل الكلام إلى قوله عليه السلام : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » بعد الفراغ عن أنّ مفاد قوله عليه السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » هو الاستصحاب ، فنقول : إنّ اللام تارةً نجعلها بمعنى « عند » أو للتعليل نظير قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) ويكون مفاد انحصاره وجوب الصوم عند الرؤية من الأوّل ووجوب الافطار عند الرؤية من الآخر ، ويكون هذا الانحصار حكماً ظاهرياً ناشئاً عن الحكم السابق ، وهو الاستصحاب في كلّ من الموردين.

ويمكن أن تكون اللام بمعنى « إلى » نظير قوله تعالى : ( سُقْناهُ لِبَلَدٍ

ص: 109


1- الإسراء 17 : 78.

مَيِّتٍ ) (1) وحينئذ يكون عين الاستصحاب السابق ، ومحصّله وجوب الصوم واستمراره إلى الرؤية ، وهكذا الحال في الافطار ، ويكون مفاد « صم للرؤية » استصحاب الصوم أو الشهر إلى روية هلال شوّال ، ومفاد « وأفطر للرؤية » هو استصحاب جواز الافطار إلى رؤية هلال رمضان ، ولا ضير فيه سوى اختلاف مفاد الصيغة في صم وأفطر ، ففي الأوّل هي للوجوب وفي الثاني هي للجواز والاباحة.

والذي يظهر من شيخنا قدس سره (2) هو أخذ اليقين بمعنى المتيقّن ، وكون ذلك من قبيل شرط الصحّة في الواجب.

ولكن الذي يظهر من الكفاية هو أخذ اليقين شرطاً في الوجوب فإنّه قال : إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنّه لابدّ في وجوب الصوم أو وجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب ، فراجع ما عقده في الوسائل (3) لذلك من الباب تجده شاهداً عليه (4) فإن كان ذلك الاشتراط واقعياً كان لازمه هو أنّ المشكوك لا يجب صومه وإن كان في الواقع من رمضان ، حتّى أنّه لو تبيّن ذلك لم يجب القضاء ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه عند الانكشاف يتبدّل حكمه من عدم الوجوب إلى وجوب الصوم ولو قضاء. وإن كان حكماً ظاهرياً كان محصّله هو أنّ ما شكّ في كونه رمضاناً لا يجب صومه على أنّه من

ص: 110


1- الأعراف 7 : 57.
2- فوائد الأُصول 4 : 366.
3- وسائل الشيعة 10 : 252 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3.
4- كفاية الأُصول : 397 - 398.

رمضان ، وهو من أوضح الواضحات فلابدّ أن يرجع إلى مفاد الاستصحاب.

وممّا يؤيد حمل اليقين في قوله عليه السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » على اليقين الاستصحابي دون الواجب الذي يعتبر فيه اليقين ويمنع من دخول المشكوك فيه ، أنّ ظاهر اليقين هو كون اليقين موجوداً وأنّه لا يدخل عليه الشكّ فيهدمه ، وأنّه مطلب واضح يعرفه المخاطب وجميع العقلاء ، ولا يحتاج إلى تشريع جديد أو إخبار بتشريع سابق ، وذلك - أعني أخذ فرض وجود اليقين وكون القضية واضحة - إنّما يلائم الحمل على الاستصحاب ، بخلاف ما لو حملناه على المعنى الثاني ، فإنّه بناءً عليه تكون الرواية مسوقة لبيان تشريع جديد ، وهو أنّ رمضان مبدأً ومنتهى يعتبر فيه اليقين ، ولا يجوز للمكلّفين إدخال المشكوك من الأيّام فيه ، وليس في البين إلاّقوله عليه السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » فلابدّ حينئذ من جعل ذلك إشارة إلى بيان كبرى مسلّمة مشرّعة سابقة أو نشرّعها الآن ، وهي أنّ رمضان يعتبر فيه اليقين أن (1) يتمّ اعتبار اليقين في صحّته لا يجوز إدخال المشكوك فيه ، وهذا بعيد للغاية ، بل يكاد ذو الذوق يقطع بعدم كون الرواية مسوقة لبيانه ، هذا. مضافاً إلى ما عرفت ممّا فيه.

أمّا الأخبار التي أُشير إليها في الكفاية (2) فلا دلالة فيها على تقييد وجوب الصوم واقعاً باليقين أو الرؤية ، ولا على تقييد صحّة الواجب بذلك ، مثل قوله عليه السلام في رواية الخزاز : « إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه فلا تؤدّوا بالتظنّي » وهذه الرواية عن الخزاز ذكرها في الوسائل في باب علامة شهر رمضان وغيره رؤية الهلال ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال : « إنّ شهر رمضان فريضة من

ص: 111


1- [ كذا في الأصل فلاحظ ].
2- كفاية الأُصول : 397.

فرائض اللّه فلا تؤدّوا بالتظنّي » (1) وقوله : في حديث ، إشارة إلى رواية الخزاز الآتية فيما نقلناه عن باب إنّه يثبت بشهادة رجلين عدلين. وقوله عليه السلام في رواية إسحاق ابن عمّار : « صم لرؤيته وأفطر لرؤيته ، وإيّاك والشكّ والظن ، فإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين » (2) وقوله عليه السلام في رواية محمّد بن مسلم : « إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية » (3).

فإنّ الظاهر أنّ مساقها الردّ على إثبات الهلال بما لا يوجب العلم ، وأقصى ما فيه هو الشكّ والظنّ ، وأنّه لا يجوز الاعتماد في ذلك على تلك الأُمور ، وإنّما يجوز الاعتماد على الرؤية وإكمال العدّة.

ولو سلّمنا أنّ فيها دلالة على التقييد المزبور ، فهو غير مناف لجريان الاستصحاب في شعبان ، إذ لا منافاة بين كون وجوب الصوم مشروطاً باليقين وكون ما لم يتيقّن أنّه منه مورد لاستصحاب شعبان. نعم لو قلنا بجريان التقييد المزبور في الآخر ، أمكن أن يكون ذلك سادّاً لاستصحاب رمضان ، وإن أمكن القول بجريانه أيضاً لكونه محصّلاً لليقين العقلائي ، فلاحظ وتدبّر.

وممّا يشهد بأنّ مساق تلك الروايات هو الردّ على ما لا يوجب العلم : ما عن محمّد بن الفضيل ، قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن اليوم الذي يشكّ فيه ولا يدرى أهو من شهر رمضان أو من شعبان؟ فقال : شهر رمضان شهر من الشهور ، يصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان ، فصوموا للرؤية وأفطروا

ص: 112


1- وسائل الشيعة 10 : 256 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 16.
2- وسائل الشيعة 10 : 255 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 11.
3- وسائل الشيعة 10 : 252 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 2.

للرؤية ، ولا يعجبني أن يتقدّمه أحد بصيام » الحديث (1) ومثله ما عن رفاعة أو سماعة قال : « صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ ، وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين ، ويصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان » (2) ذكرهما في باب جواز كون رمضان تسعة وعشرين يوماً ، وهذه ونحوها ردّ على أخذ الميزان عدم نقصان شهر رمضان.

وما في باب إنّه يثبت بشهادة رجلين عدلين ، عن الخزاز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال « قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال؟ فقال عليه السلام : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه ، فلا تؤدّوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد قد رأيته ويقول الآخرون لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة » الخ (3) وعن محمّد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، قال عليه السلام : « إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ، ولكن بالرؤية ( قال ) والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف » الخ (4) وعن أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الصوم للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون » (5).

وجميع روايات هذا الباب ناظرة إلى بيان الرؤية التي يثبت بها الهلال ، ولا دخل لهذه الروايات في هذا الباب ولا في الباب السابق لكون اليقين شرطاً في

ص: 113


1- وسائل الشيعة 10 : 263 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 7.
2- وسائل الشيعة 10 : 263 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 5 ح 6.
3- وسائل الشيعة 10 : 289 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 10.
4- وسائل الشيعة 10 : 289 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 11.
5- وسائل الشيعة 10 : 290 / أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 12.

التكليف ، أو شرطاً في المكلّف به.

ثمّ إنّ لشيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره كلاماً في درسه حسبما حرّرته عنه ، محصّله الميل إلى كون مفاد الرواية هو الاستصحاب ، لكنّه استشكل من ناحية عدم الأثر له وحاصله : هو الإشكال في الأُمور غير القارة ، فإنّ ما نحن فيه عين مسألة الشكّ في حصول المغرب وطلوع الفجر بالنسبة إلى بقاء وجوب الصوم ، وبقاء جواز الأكل والشرب وعدم وجوب الصوم ، كما تعرّض لذلك في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب ، وأنّ موضوع الأثر هو كون هذا الآن ليلاً أو نهاراً بمفاد كان الناقصة ، فلا يثبت باستصحاب وجود النهار أو وجود الليل بمفاد كان التامّة.

ولكنّه أخيراً أفاد ما حرّرته عنه وهذا نصّ العبارة : ويمكن دفع هذا الإشكال بأنّه بعد الفراغ عن تطبيق الاستصحاب من الإمام عليه السلام على هذا المورد فدفعاً للزوم اللغوية يحكم بلزوم ترتيب خصوص هذا الأثر تعبّداً ، ولا يتسرّى إلى غيره من هذا القبيل.

لكن في مقالته المطبوعة عقّب الإشكال المزبور بقوله : وعليه فلا مجال لتطبيق مثل هذا المقام على مفاد الاستصحاب ، بل من الممكن كونه ضرب قاعدة مستقلّة دالّة على [ ترتّب ] وجوب الصوم على اليقين بالرمضانية لا عدمه على بقية الشعبانية ، وإلى ذلك أيضاً نظر الطوسي في الكفاية (1).

ولا يخفى أنّ نظر صاحب الكفاية قدس سره لم يكن من جهة الفرار عن إشكال مفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة ، بل كان ما أفاده فيها من صرف هذه الرواية عن الاستصحاب إلى تقييد وجوب الصوم والافطار باليقين ناشئاً عن ملاحظة الأخبار

ص: 114


1- مقالات الأُصول 2 : 354 - 355.

الواردة في يوم الشكّ ممّا يدلّ على اعتبار اليقين في كلّ من وجوب الصوم والافطار ، وقد عرفت ما في ذلك من التأمّل ، وأنّ تلك الأخبار ليست واردة ذلك المورد ، وإنّما كان موردها هو التعرّض لما يثبت الهلال ، وأنّه منحصر بالرؤية ، وأنّه لا يفيد في إثباته الشكّ والظنّ ، وأنّ الميزان في الرؤية أنّه إذا رأته عين فقد رأته عيون.

وعلى أيّ حال ، فإنّ ما أفاده في الكفاية راجع إلى دعوى اعتبار اليقين بالهلال في وجوب الصوم ، وظاهره أنّ ذلك حكم واقعي ، لا أنّه حكم ظاهري مفاده عدم الاعتناء بالشكّ بالدخول في الحكم بوجوب الصوم ، على وجه يكون مفاده قاعدة ظاهرية خاصّة بالمقام ، كما هو ظاهر قول المقالة : بل من الممكن كونه ضرب قاعدة مستقلّة دالّة على [ ترتّب ] وجوب الصوم على اليقين بالرمضانية لا عدمه على بقية الشعبانية الخ ، فإنّ الشقّ الثاني عبارة عن الاستصحاب ، والشقّ الأوّل عبارة عن القاعدة الخاصّة بوجوب الصوم غير راجعة إلى البراءة ، ولا إلى استصحاب عدم الدخول أو عدم الوجوب.

وعلى أيّ حال ، فبناءً على ما ذكره شيخنا قدس سره يكون المراد باليقين في قوله عليه السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » هو المتيقّن ، أعني الصيام في شهر رمضان والافطار في العيد ، وبناءً على ما ذكره في الكفاية يكون المراد باليقين هو اليقين الذي هو شرط وجوب الصوم واقعاً. وأمّا بناءً على ما أفاده في المقالة فهل يكون المراد به اليقين الذي هو شرط للوجوب ظاهراً ، أو أنّ المراد به معنى آخر ، لأنّ محصّل ما أفاده هو براءة خاصّة في مقام الشكّ في دخول رمضان ، وليس في البين يقين حينئذ يدخل فيه الشكّ. نعم إنّ هذه البراءة الخاصّة كالبراءة العامّة موضوعها الشكّ بدخول الشهر ، ويرفعها اليقين بالدخول ، فلا معنى لأن يقول إنّ

ص: 115

ذلك اليقين الرافع للبراءة لا يدخله الشكّ ، فتأمّل.

وأمّا قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (1) فقد أعربوا الشهر مفعولاً فيه ، وحينئذ [ يكون ] خارجاً عمّا نحن فيه. قال الجزائري في آيات الأحكام : وربما يدلّ على ذلك ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : قول اللّه عزّوجلّ : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ؟ قال عليه السلام : ما أبينها ، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه » (2) إذ الظاهر أنّه عليه السلام قصد بيان جزء الآية. وقيل : نصب الشهر على أنّه مفعول به ، ويكون ذكر المريض والمسافر من قبيل المستثنى من عموم من شهد ، ولعلّ في ذلك دلالة على اعتبار قيد الصحّة في وجوبه على من شهد الخ (3).

ولو بنينا على كون الشهر مفعولاً به كان من المشاهدة بالرؤية ، فيكون مساقه مساق « صم للرؤية » الذي عرفت أنّه في مقام أنّه لا يثبت إلاّبالرؤية. ولكنّه بعيد ، بل الظاهر هو الكناية عن الحضور كما هو صريح الرواية ، ويكون عدم الوجوب على المريض لأنّه مريض وإن كان حاضراً ، وعلى المسافر لأنّه غير حاضر ، ولا يكون المقام مقام استثناء ، بل هو بيان أحكام استقلالية ، غايته أنّه بالنسبة إلى الأوّل - أعني المريض - يكون من قبيل التخصيص بالمتّصل بالنسبة إلى عموم من كان حاضراً يجب عليه الصوم.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة فيما قاله أبو البقاء ، فإنّه قال : ومفعول شهد محذوف أي شهد المصر ، والشهر ظرف أو مفعول به على السعة ، ولا يجوز أن

ص: 116


1- البقرة 2 : 185.
2- وسائل الشيعة 10 : 176 / أبواب من يصحّ منه الصوم ب 1 ح 8.
3- قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر 1 : 359 - 360.

يكون التقدير فمن شهد هلال الشهر ، لأنّ ذلك يكون في حقّ المريض والمسافر والمقيم الصحيح ، والذي يلزمه الصوم الحاضر بالمصر إذا كان صحيحاً. وقيل :

التقدير هلال الشهر ، فعلى هذا يكون الشهر مفعولاً به صحيحاً لقيامه مقام الهلال. وهذا ضعيف لوجهين : أحدهما : ما قدّمنا من لزوم الصوم على العموم ، وليس كذلك ، والثاني : أنّ شهد بمعنى حضر ، ولا يقال : حضرت هلال الشهر ، وإنّما يقال : شاهدت الهلال (1).

فإنّك قد عرفت أنّه يمكن أن يكون قوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) ، بمعنى [ من ] رأى الهلال يجب عليه الصوم ، فيشمل المريض والمسافر والحاضر الصحيح ، ويكون قوله : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً ) الخ ، بمنزلة التخصيص بالمخصّص المتّصل ، فيخرج عن ذلك العموم المريض والمسافر.

أمّا إيراده الثاني وهو أنّ شهد بمعنى حضر ، ولا يقال حضرت الهلال ، ففيه : أنّ شهد ربما تتضمّن معنى الرؤية ، لا لأنّها بمعنى المشاهدة ، بل إنّ المشاهدة منها ، ومن ذلك قولهم : شهدت فلاناً يوم كذا وقد فعل كذا وكذا ، فإنّه بمعنى رأيت ، قال في المصباح : وشهدت الشيء اطّلعت عليه وعاينته (2) وقال في تاج العروس مازجاً عبارته بعبارة القاموس : ( وشاهده ) مشاهدة ( عاينه ) كشهده (3).

والشهادة أيضاً مأخوذة من ذلك على نحو التوسعة من المنظور إلى مطلق المحسوس ولو سماعاً ، بل ولو علماً بواسطة الاحساس بالسبب مثل الشهادة

ص: 117


1- التبيان في إعراب القرآن 1 : 152.
2- المصباح المنير 1 - 2 : 324 / مادّة الشهد.
3- تاج العروس 2 : 393 / مادّة شهد.

بالأعلمية والعدالة.

وقال الطبرسي قدس سره في جامع الجوامع : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي فمن كان حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر ، والشهر منصوب على الظرف ، وكذا الهاء في ( فَلْيَصُمْهُ ) ولا يكون مفعولاً به ، لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر الخ (1) وبنحوه صرّح في مجمع البيان (2) فراجع. وقد عرفت التأمّل في ذلك.

وقال البيضاوي : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافراً فليصم فيه ، والأصل : فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوّل للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ، ونصب الضمير الثاني على الاتّساع. وقيل : فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنّه مفعول به ، كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها ، فيكون ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) مخصّصاً له ، لأنّ المسافر والمريض ممّن شهد الشهر ، ولعلّ تكراره لذلك ، أو لئلاّ يتوهّم نسخه كما نسخ قرينه (3).

وقال في الكشّاف : فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر ، والشهر منصوب على الظرف ، وكذا الهاء في ( فَلْيَصُمْهُ ) ، ولا يكون مفعولاً به كقولك : شهدت الجمعة ، لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر (4)

ص: 118


1- تفسير جوامع الجامع 1 : 184 - 185.
2- مجمع البيان 2 : 13 ، 15 - 16.
3- تفسير البيضاوي 1 : 168.
4- الكشّاف 1 : 336.

وفي تفسير المنار : قال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالشهر هنا الهلال وكانت العرب تعبّر عن الهلال بالشهر. ويردّه : أنّهم لا يقولون شهد الهلال ، وإنّما يقولون رآه ، ومعنى شهد حضر. وقال بعضهم : إنّ المعنى فمن كان حاضراً منكم حلول الشهر فليصمه (1).

قوله : ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعمّ من المرسل والمشكوك - إلى قوله - فإنّ الشيء المشكوك متأخّر في الرتبة عن الشيء المرسل ... الخ (2).

من دون فرق في ذلك بين ما هو معلوم العنوان مشكوك الحكم أو ما هو مشكوك العنوان ، فإنّ ما هو مشكوك العنوان متأخّر عن نفس العنوان برتبة واحدة وما هو مشكوك الحكم متأخّر عن العنوان برتبتين ، فإنّ الشكّ في الحكم متأخّر عنه والحكم نفسه متأخّر عن العنوان.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من التأخّر الرتبي في هذا المقام ليس هو التأخّر الخارجي كما في العلّة والمعلول ، ضرورة إمكان الجامع بين هذين الترتّبين مثل عنوان الموجود والشيء مثلاً ، بل المراد به التأخّر اللحاظي ، يعني أنّ الحاكم بقوله : كلّ شيء طاهر مثلاً ، يلزمه أن يلاحظ الشيء أوّلاً بعنوانه وثانياً بعنوان كونه مشكوك العنوان أو مشكوك الحكم.

ثمّ إنّي حرّرت عنه قدس سره أنّ في البين مانعاً آخر غير ما تقدّم ، وهو أنّ لفظ الشيء وإن كان هو جامعاً بين جميع الموجودات ، إلاّ أنه إذا أُخذ موضوعاً لحكم لابدّ أن يكون دخول الفرد تحته بعنوان كونه شيئاً ، لا بعنوان آخر مثل كونه

ص: 119


1- تفسير المنار 2 : 130 - 131.
2- فوائد الأُصول 4 : 368.

مشكوك الحكم ، وذلك نظير ما لو أُخذ الإنسان موضوعاً لحكم فإنّه وإن كان شاملاً للانسان العالم وغيره ، إلاّ أنه لا مدخلية لكونه عالماً في ذلك الحكم ، بل يكون دخوله في ذلك الحكم بعنوان كونه إنساناً لا بعنوان كونه عالماً.

والحاصل : أنّ دعوى كون مثل « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (1) مسوقاً لبيان الحكم الواقعي والظاهري يأباه الموضوع وهو « كلّ شيء » ، والمحمول وهو « طاهر » ، وأداة الغاية وهي لفظ « حتّى » ، ونفس الغاية وهو ما بعد حتّى.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت الوجه فيه.

وأمّا الثاني فلعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في لفظ « طاهر » ، لأنّ الطهارة الظاهرية متأخّرة رتبة عن الواقعية ، لأخذ الشكّ بالطهارة الواقعية موضوعاً للطهارة الظاهرية ، فتكون الثانية متأخّرة في مقام اللحاظ عن الأُولى ، فكيف يعقل أن يجمعهما لفظ واحد.

وأمّا الثالث ، فلأنّ لفظ « حتّى » تكون قيداً للموضوع في الطهارة الواقعية وللحكم في الطهارة الظاهرية ، كذا أُفيد. وفيه تأمّل ، لإمكان كونها غاية للحكم أو للموضوع في كلّ من الطهارتين.

وأمّا الرابع ، فلأنّ الغاية في الطهارة الواقعية هو نفس القذارة لا العلم بها ، فلا يكون العلم مأخوذاً في ذلك إلاّبنحو الطريقية والكاشفية الصرفة ، بمعنى أنّه لا دخل له ولا وجه لذكره إلاّلكونه كاشفاً عمّا هو الغاية الحقيقية ، وفي الطهارة الظاهرية يكون للعلم الكاشف عن القذارة مدخلية في ارتفاع الطهارة الظاهرية ، فيكون العلم بالقذارة هو الغاية الحقيقية ، وحيث إنّ الثاني هو الظاهر ، يتعيّن

ص: 120


1- وسائل الشيعة 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4 وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».

حمل الرواية على مفاد قاعدة الطهارة دون الطهارة الواقعية.

تنبيه : ينبغي ملاحظة ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام (1) ، وكذلك ما حرّره في التقريرات المطبوعة في بيروت (2) فإنّه وفّى المقام حقّه في هذا المقام وفي بعض الروايات السابقة أيضاً.

قوله : ومنهم من قال بدلالة الصدر على الحكم الواقعي والقاعدة معاً ودلالة الغاية على حجّية استصحاب الطهارة والحلّية ، وهو الذي اختاره المحقّق الخراساني قدس سره ... الخ (3).

هذا في الحاشية على الرسائل (4) وأمّا في الكفاية (5) فقد اختار دلالة الصدر على الحكم الواقعي والذيل على الاستصحاب ، فراجع تحرير السيّد سلّمه اللّه تعالى (6).

قوله : غايته أنّه يكون من العمومات المخصّصة كقوله تعالى : وأُحل لكم ما في الأرض جميعاً (7).

وكرّر ذلك في ص 134 (8) وفي ص 294 (9) وليست الآية بهذا اللفظ ، بل هي

ص: 121


1- مخطوط لم يطبع بعدُ.
2- [ هذا من سهو القلم ، والصحيح : في صيدا ، راجع أجود التقريرات 4 : 57 ومابعدها ].
3- فوائد الأُصول 4 : 367.
4- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 185 - 186.
5- كفاية الأُصول : 398.
6- أجود التقريرات 4 : 58 وما بعدها.
7- فوائد الأُصول 4 : 368.
8- فوائد الأُصول 4 : 369.
9- فوائد الأُصول 4 : 792.

قوله تعالى في آية 29 في سورة البقرة : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

وليست هذه الآية مسوقة للحلّية ، وإلاّ لكانت من أقوى الأدلّة على الاباحة في الشبهات الحكمية التحريمية ، بل هي مسوقة لبيان نعمته تعالى ، وأنّه خلق ما في الأرض لأجل انتفاع بني آدم من وجوده بشتّى الانتفاعات اللائقة بذلك الشيء لكنّها لا تخلو عن الدلالة على حلّية الأكل والشرب فيما هو مأكول ومشروب ، وحلّية اللبس والركوب فيما هو ملبوس ومركوب ، وهكذا الحال في باقي الموجودات والانتفاعات. وعلى كلّ حال ، فليس لهذه الآية ذكر فيما حرّره السيّد سلّمه اللّه ولا فيما حرّرته عنه قدس سره ، فراجع.

والأولى إبدالها بمثل قوله تعالى في سورة البقرة : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) الخ (1) ومثلها آيات أُخر ذكرها الجزائري في أوّل المكاسب من آيات الأحكام (2).

قوله : ودعوى أنّ كلمة « حتّى » تدلّ على استمرار حكم ما قبلها - إلى قوله - واضحة الفساد ... الخ (3).

لا يخفى أنّ الوجوه المحتملة في تقريب دلالة هذه الأخبار على الاستصحاب أربعة :

الأوّل : أن لا يكون مفادها إلاّ الاستصحاب ، بتقريب أنّها تتضمّن استمرار الحكم بالطهارة إلى العلم بالنجاسة ، بعد فرض كون مورد الحكم المذكور هو

ص: 122


1- البقرة 2 : 168.
2- قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر 2 : 208 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 371.

الشكّ كما هو لازم أخذ العلم غاية له ، وليس المتحصّل من الحكم باستمرار الطهارة في مقام الشكّ إلى حين العلم بالنجاسة إلاّ الاستصحاب.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الحكم الاستصحابي يحتاج إلى جهتين : اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذه الأخبار لمّا لم يكن لها تعرّض ليقين سابق لم يمكن دلالتها على الاستصحاب ، فلا يكون مفادها الذي هو الحكم بالطهارة في مقام الشكّ إلى حين العلم بالنجاسة إلاّعبارة عن قاعدة الطهارة.

وما أفاده الشيخ قدس سره (1) في خصوص قولهم عليهم السلام : الماء طاهر حتّى يعلم بقذارته ، من تحقّق اليقين السابق ارتكازاً ، لما هو المرتكز في الأذهان من كون الماء طاهراً بحسب الخلقة الأصلية.

غير نافع في تمامية دلالته على الاستصحاب ، أمّا أوّلاً : فلأنّ الطهارة بحسب الخلقة الأصلية لا اختصاص لها بالماء ، بل هي متحقّقة في جميع الأشياء ما عدا نجس العين ، فينبغي أن يتمّ ما أفاده قدس سره في قولهم عليهم السلام : « كلّ شيء لك طاهر » مضافاً إلى إمكان كون الماء بحسب خلقته الأصلية نجساً ، كما في الماء المصعّد الملاقي للنجاسة حين تصعيده.

على أنّ الطهارة بحسب الخلقة الأصلية لا تنفع في كثير من الموارد التي لا يجري فيها استصحاب الطهارة ، كما في صورة تعاقب الحالتين ، وكما لو تنجّس الماء ثمّ طهّرناه ثمّ شككنا في نجاسته ، فإنّ الطهارة المستصحبة فيه ليس هي الطهارة بحسب الخلقة ، وكما في الماء المردّد بين المأخوذ ممّا هو باق على طهارته والمأخوذ ممّا قد عرضته النجاسة قطعاً ، بناءً على ما أفاده شيخنا

ص: 123


1- فرائد الأُصول 3 : 77.

الأُستاذ قدس سره (1) من عدم جريان الاستصحاب في مثل هذا الأخير لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قاعدة الطهارة في الماء في أمثال هذه الموارد مستفادة من قولهم : « كلّ شيء طاهر » لا من قولهم : « الماء طاهر » فتأمّل.

وأمّا ثانياً : فلأنّ مجرّد الطهارة بحسب الخلقة الأصلية لا تنفع في تحقّق ما هو الركن الأوّل للاستصحاب ، أعني اليقين السابق ، إذ لا يكون الحكم بالطهارة من باب الاستصحاب إلاّ إذا أُخذ اليقين السابق بالطهارة في موضوع الحكم في لسان الدليل ، والمفروض أنّ الدليل المذكور خال من أخذ اليقين السابق. فالحقّ أنّ قولهم عليهم السلام : الماء طاهر حتّى يعلم بنجاسته ، لا تعرّض لها لأزيد من الحكم على الماء بالطهارة عند الشكّ فيها ، فيكون حاله حال « كلّ شيء لك طاهر » في عدم دلالته إلاّعلى قاعدة الطهارة.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا كانت الطهارة بحسب خلقته الأصلية متيقّنة دائماً أغنى ذلك عن أخذ اليقين بها في لسان الدليل.

وأمّا ثالثاً : فلأنّه يرد عليه ما ورد على الكفاية من لزوم الجمع بين الاستصحاب والطهارة الواقعية الأوّلية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّها لا تعرّض لها إلاّ للاستصحاب دون الطهارة الواقعية الأوّلية. وفيه ما لا يخفى.

الثاني : أن يكون مفادها قاعدة الطهارة والاستصحاب ، بأن يكون صدرها متضمّناً للحكم على المشكوك بالطهارة وهو عبارة عن قاعدة الطهارة ، وذيلها متضمّناً لاستمرار الحكم بالطهارة إلى حين العلم بالنجاسة وهو معنى الاستصحاب.

وفيه أوّلاً : أنّه لا معنى لاستصحاب الطهارة الظاهرية المستفادة من قاعدة

ص: 124


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 511 وما بعدها.

الطهارة ، لأنّ الشكّ في بقاء الطهارة الظاهرية لا يكون إلاّمن جهة النسخ ، أعني نسخ الحكم بالطهارة الظاهرية على المشكوك. أمّا احتمال طروّ نجاسة أُخرى فهو لا يخرج الموضوع عن كونه مشكوك الطهارة ، فلا يكون الحكم عليه بالطهارة إلى أن يتحقّق العلم بنجاسته إلاّعين ذلك الحكم السابق ، أعني الطهارة الظاهرية التي يكون موضوعها هو الشكّ في أصل الطهارة ، لا الشكّ في بقائها.

وثانياً : أنّه بعد فرض كون قوله عليه السلام : « طاهر » محمولاً على الشيء ، لا يكون محمولاً عليه إلاّبما له من القيد أعني الغاية ، فلا يكون محصّله إلاّ الحكم على الشيء بأنّه طاهر إلى حين العلم بنجاسته ، ولا يمكن حمله على الاستصحاب إلاّبفصل تلك الغاية عن المحمول المذكور ، ليكون محصّله أنّ الشيء محكوم عليه بالطهارة ، وأنّ الطهارة المذكورة مستمرّة إلى حين العلم بالنجاسة ، فلابدّ من تكرّر لفظ « طاهر » ليكون اللفظ الأوّل محمولاً على شيء ، ويكون الثاني موضوعاً للحكم عليه بالاستمرار إلى حين العلم بالنجاسة.

وثالثاً : أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ حمل « كلّ شيء طاهر » على الطهارة الظاهرية لا يكون إلاّبقرينة جعل غاية ذلك الحكم هي العلم بالنجاسة ، فإذا أخرجنا الغاية عن كونها غاية لقوله : « كلّ شيء طاهر » وجعلناها دخيلة في الحكم الثاني القائل إنّ تلك الطهارة تستمرّ وتبقى إلى حين العلم بالنجاسة ، لم يكن الصدر متضمّناً للطهارة الظاهرية (1)

ص: 125


1- هذا لو أُريد من كون الأخبار جامعة بين القاعدة والاستصحاب أنّ صدرها يدلّ على القاعدة وذيلها يدلّ على الاستصحاب ، أمّا لو أُريد أنّ مجموع الصدر والذيل يدلّ على الأمرين أعني القاعدة والاستصحاب ، فقد تعرّض له في التقرير المطبوع في صيدا [ أي أجود التقريرات 4 :62- 63 ] وأجاب عنه بأنّ الملحوظ في القاعدة هو حدوث الحكم بالطهارة وبالاستصحاب هو بقاؤها ، ولا يمكن الجمع بينهما. قلت : لا يخفى أنّه لو كان المراد هو ذلك لكان في غاية الغرابة ، ولا يكون فساده مقصوراً على الجهة المذكورة ، بل يكون فساده واضحاً من جهات عديدة ، أقلّها عدم تقدّم اليقين الذي هو الركن في باب الاستصحاب ، بل عدم تعيّن المستصحب وهل هو الطهارة الواقعية أو الطهارة الظاهرية [ منه قدس سره ].

الثالث : أن يكون مفاد الصدر هو الطهارة الواقعية ، ومفاد الذيل - أعني الغاية - هو الاستصحاب ، قال في الكفاية في تقريبه ما نصّه : إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّية ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه ، لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شكّ في طهارته أو حلّيته ، وذلك لظهور المغيّى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها ، لا بما هي مشكوكة الحكم كما لا يخفى (1) فراجع ما أفاده إلى آخر كلامه قدس سره.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلاً : فلما تقدّم من الايراد ثانياً على الوجه الثاني ، فإنّ قوله : « طاهر » بعد أن كان هو الطهارة الواقعية المحمولة على الأشياء بعناوينها الأوّلية ، لا يمكن أن يتعلّق بها قوله : « حتّى تعلم » ولا يمكن أن يستفاد منها الحكم بالاستمرار إلاّ إذا تكرّر اللفظ ، بأن يراد من اللفظ الأوّل الطهارة الواقعية التي أُخذت محمولة على الشيء بعنوانه الأوّلي ، ويراد بالثاني الطهارة الظاهرية الاستصحابية التي أُخذت موضوعاً للحكم بالاستمرار ، فيقال : كلّ شيء طاهر واقعاً وهذه الطهارة باقية مستمرّة بحكم الاستصحاب إلى حين العلم بالنجاسة.

ص: 126


1- كفاية الأُصول : 398.

وأمّا ثانياً : فلما أوردناه على الوجه الأوّل من أنّ أحد ركني الاستصحاب هو اليقين السابق ولم تتكفّله الرواية ، وما لم يكن اليقين السابق مأخوذاً في الحكم بالطهارة لم يكن الحكم ببقائها واستمرارها منطبقاً على الاستصحاب.

وبالجملة : أنّ الطهارة الواقعية إنّما يمكن استصحابها إذا كانت متيقّنة سابقاً وقد طرأ الشكّ في تحقّق ما يوجب ارتفاعها ، أمّا إذا لم تكن متيقّنة سابقاً فلا يمكن استصحابها ، فلو جعلنا قوله عليه السلام : « حتّى تعلم » الخ متضمّناً للحكم الاستصحابي ، بدعوى أنّ مفاده هو أنّ تلك الطهارة الواقعية محكوم عليها بالبقاء والاستمرار إلى حين العلم بالنجاسة ، لم يكن ذلك منطبقاً على الاستصحاب ، لعدم أخذ اليقين فيه إلاّبإضافة قيد آخر ، وهو أن نقول : إنّ مفاده هو أنّ تلك الطهارة الواقعية إذا علمت بها وحصل لك اليقين بها فلا يرفع اليد عنها ولا يحكم بارتفاعها إلاّبعد العلم بطروّ النجاسة ، وهذا كلّه أجنبي عمّا تكفّلت به الرواية الشريفة. ثمّ إنّ من البحث في هذه الوجوه الثلاثة يظهر لك البحث في :

الوجه الرابع : وهو كون الروايات مسوقة لبيان الأُمور الثلاثة ، أعني الطهارة الواقعية وقاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيه ، لأنّه مركّب من الوجهين الأخيرين اللذين عرفت فسادهما.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على الوجه الأوّل والوجه الثالث الذي أفاده في الكفاية لا يبقى لنا دليل على قاعدة الحل والطهارة ، بل يكون الجاري فقط هو الاستصحاب لكلّ من الحل والطهارة ، ولازم ذلك أنّه لو لم تكن الحالة السابقة للشيء المشكوك طهارته أو حلّيته معلومة ، أو لم يمكن فيه جريان الاستصحاب لبعض موجبات سقوطه ، لا يمكن الركون في ذلك المورد إلى قاعدة الطهارة أو

ص: 127

قاعدة الحل ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة المبحث : أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم » مشتمل على صدر وهو « كلّ شيء لك طاهر » وذيل وهو « حتّى تعلم » وإذا قصرنا النظر إلى نفس الصدر نراه قد حكم على كلّ شيء بالطهارة ، وهذا الشيء كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الأحكامية ، مثل قولك : كلّ إنسان حكمه الطهارة ، غير أنّ عنوان الشيء أوسع من كلّ عنوان ، وظاهر أخذ العنوان في القضية أنّه هو موضوع الحكم ، وأنّ الحكم يتبعه أينما وجد ، لا أنّ موضوع الحكم عناوين أُخر وهذا العنوان الموجود يكون لحاظه آلة ومشيراً إلى تلك العناوين التي هي مراكب الحكم ، مثل ما أُفيد من أنّ « ما لا يؤكل » إشارة إلى عناوين أُخر هي مركز الحكم بعدم جواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، وتلك العناوين هي الأرنب والثعلب وابن آوى إلى غير ذلك من العناوين.

وعلى أيّ ، لو قلنا بمثل ذلك فيما نحن فيه ، يكون الشيء إشارة إلى كلّ عنوان من أي العناوين ، وتكون تلك العناوين مراكز الحكم بالطهارة ، فربما كان للشيء الواحد كالماء مثلاً عناوين متعدّدة ، مثل الجسم والسيّال والرطب والشفّاف إلى غير ذلك ، فيكون كلّ منها مركباً للطهارة ، ويكون له طهارات متعدّدة حسب تعدّد تلك العناوين التي يمكن الاشارة لها بعنوان شيء ، ومن ذلك مشكوك المائية والبولية ، ومنها مشكوك الطهارة ، فإنّها أيضاً عناوين داخلة تحت ذلك العنوان المشير وهو عنوان الشيء ، فيكون لكلّ واحد منها حكم الطهارة.

وهذا أوّلاً : خلاف الظاهر ، لما عرفت من أنّ الظاهر هو أنّ العنوان المأخوذ يكون هو بنفسه مركب الحكم ، وأنّ الحكم يسري معه أينما سار ، ويوجد

ص: 128

ويتحقّق أينما وجد ذلك العنوان ، فلو صدق عنوان الشيء على هذا الجسم كان حكمه الطهارة ، وكانت طهارته واحدة بمقدار ما فيه من عنوان الشيئية ، وإن كان ذلك الجسم مصداقاً لأُلوف من العناوين ، فإنّ الطهارة إنّما تلحقه باعتبار كونه مصداق الشيء ، وكون وجوده وجوداً لعنوان الشيء.

وثانياً : ما عرفت من لزوم التعدّد في الحكم في الشيء الواحد الذي يكون مجمعاً لعناوين يشار إليها بالشيء.

وثالثاً : أنّ إدخال عنوان مشكوك العنوان أو عنوان مشكوك الحكم في عرض نفس العنوان الأوّلي يلزمه الجمع في لحاظ واحد بين لحاظين طوليين ، فإنّ لحاظ العنوان سابق على لحاظ مشكوك ذلك العنوان ، وفي عنوان الشكّ في الحكم يكون التأخّر في مقام اللحاظ بدرجتين ، وليس المانع هو الطولية بين الذاتين كالطولية بين العلّة والمعلول ، لإمكان جمعهما في مقام اللحاظ بلحاظ واحد وإن كانا بوجودهما الواقعي طوليين ، بل المانع هو الطولية في مقام اللحاظ الآبية عن جمعهما بلحاظ واحد.

أمّا لزوم كون الطاهر المحمول طاهراً واقعياً وطاهراً ظاهرياً كما أُفيد ، فيمكن التخلّص بالالتزام بأنّ الطهارة الطارئة على مشكوك العنوان وعلى مشكوك الطهارة طهارة واقعية ، مثل أن تقول : إذا شككت في وجوب الشيء حرم عليك فعله ، وليس فيه إلاّ إشكال الجمع بين الطهارتين الواقعيتين ، وهو الإشكال الذي ذكرناه ثانياً ، فلاحظ.

ثمّ بعد الفراغ عن أنّ هذه القضية كسائر القضايا الأحكامية ، وأنّ الحكم بالطهارة وارد على الشيء أينما تحقّق الشيء ، وأنّه لا يكون عندنا إلاّطهارة

ص: 129

واحدة لاحقة لما هو مصداق الشيء من جهة لحوقها لنفس عنوان الشيء ، ولو أنّا إذا نظرنا إلى ذلك المصداق لوجدناه مصداقاً لأُلوف من العناوين ، إلاّ أنه إنّما تلحقه الطهارة باعتبار كونه مصداقاً لعنوان الشيء ، فلا تكون إلاّطهارة واحدة.

نعم ، نفس ذلك المصداق للشيء لو تردّد بين كونه من البول المفروض خروجه عن كلّ شيء ، أو من غيره كالماء ، لا يمكننا تحكيم هذا العموم فيه لكونه من الشبهة المصداقية ، ولو احتملنا بدوياً خروجه عن ذلك العموم بدليل ، كما لو احتملنا خروج الحديد عن عنوان كلّ شيء ، أمكننا التمسّك على طهارته بأصالة العموم.

هذا كلّه نظراً إلى قصر النظر على مجرّد الصدر. أمّا بعد لحوق الذيل المذكور ، فقد يقال : إنّ ل- « طاهر » في هذه الجملة جهتين ، الأُولى : جهة الحكم به على كلّ شيء ، ومن هذه الجهة لا يكون إلاّحكماً واقعياً. والثانية : جهة استمراره إلى العلم بالنجاسة ، ومن هذه الجهة يكون حكماً ظاهرياً مفاده الاستصحاب.

ولا يخفى أنّ ذلك لو سلّم لم يكن استصحاباً ، لعدم تقدّم اليقين فيه ، بل لا يكون محصّله إلاّ الاستمرار الظاهري في مقام الشكّ ، فلا يكون إلاّمتكفّلاً للجهة الثانية من أركان الاستصحاب وهي الشكّ في البقاء ، دون الجهة الأُولى وهي اليقين بالحدوث.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذه الجهة مستفادة من ضمّ الصدر إلى الذيل ، فإنّ الصدر لمّا تكفّل بجعل الطهارة للشيء ، والذيل أفاد استمرارها في مقام الشكّ في بقائها واستمرارها ، كان ذلك مفيداً لما حاصله تقدّم اليقين بالحدوث ، لأنّ الشكّ في بقائها واستمرارها يعطي تقدّم اليقين بحدوثها. وكيف كان ، فإنّ هذا المعنى

ص: 130

- أعني كون لفظ « طاهر » الموجود ذا جهتين : جهة جعله محمولاً على الشيء ، وجهة بقائه - لا محصّل له ، بل لابدّ حينئذ من تكرار « طاهر » بجعل الأُولى صفة للشيء والثانية خبراً له ، أو جعل الأُولى خبر الشيء والثانية استئناف خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو.

ومن ذلك يظهر لك أنّ قوله : « حتّى تعلم » ليس بمتعلّق ب- « طاهر » كي يكون غاية للمحمول ، بل هو قيد للموضوع أعني كلّ شيء ، فلابدّ أن يكون الشيء موصوفاً بالشكّ ، فيختصّ المفاد بمفاد قاعدة الطهارة ليس إلاّ.

ولا يخفى أنّ الأوجه أن يقال : إنّ قوله : « حتّى تعلم » قرينة على توصيف الشيء بالشكّ ، والتقدير : كلّ شيء مشكوك طاهر ما دام مشكوكاً ، فإذا تبدّل إلى العلم بالنجاسة فقد تبدّل الموضوع وخرج عن كونه مشكوكاً ، فيكون « حتّى » مربوطاً بنسبة طاهر إلى الشيء المشكوك.

ثمّ إنّ ممّا ذكرناه من كون الحكم سارياً إلى الأفراد ، وأنّ محصّل القاعدة هو أنّ كلّ شيء مشكوك هو طاهر ، يظهر لك عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعية ، وأنّها شاملة للشبهات الحكمية كما حرّره السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره (1). لكن يمكن أن يتأمّل في ذلك ، بلحاظ أنّ ظاهر تعلّق الشكّ بالشيء أنّه بنفسه مشكوك هل هو بول أو ماء ، فلا يشمل ما يكون بنفسه معلوماً وإنّما حصل الشكّ في حكمه كالحديد إلاّبنحو من التوسّع والتساهل ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك فيما لو كان لفظ الشكّ متعلّقاً بالشيء ، دون ما لو استفدناه من قرينة الغاية القاضية بأنّه لابدّ من عناية الشكّ ، ولعلّ قوله عليه السلام : « حتّى تعلم أنّه قذر »

ص: 131


1- أجود التقريرات 4 : 64.

شاهد على هذه التوسعة ، إذ لو كانت مختصّة بالشبهات الموضوعية لكان الأنسب أن يقول : حتّى تعلم أنّه من القذر ، فتأمّل.

قوله : بداهة أنّ اليقين من الأُمور التكوينية الخارجية وقد انتقض بنفس الشكّ ، فلا معنى للنهي عن نقضه ، وليس المراد من عدم نقض اليقين عدم نقض الآثار والأحكام الشرعية المترتّبة على وصف اليقين ... الخ (1).

هذا المقدار - أعني انتقاض اليقين وجداناً بالشكّ - ممّا لا ريب فيه ، كما أنّ المراد من عدم النقض هو عدم نقض الآثار اللاحقة لليقين أيضاً ممّا لا ريب فيه ، لكن العمدة هي الجهة الأخيرة ، وهي كون تلك الآثار ليست آثاراً لنفس اليقين على نحو يكون هو تمام الموضوع أو جزء الموضوع فيها ، بل هي إنّما تلحقه بلحاظ ما يستتبعه اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقّن ، حكماً كان أو موضوعاً.

قوله : فأخذ اليقين في الأخبار إنّما يكون باعتبار كونه كاشفاً وطريقاً إلى المتيقّن ، لا بما أنّه صفة قائمة في النفس ... الخ (2).

وهذا - أعني عدم أخذ اليقين بمعنى الصفتية وأخذه بمعنى الطريقية - أيضاً ممّا لا ريب فيه ، ولكن ذلك وحده لا يتمّم المطلب ، بل لابدّ من أن لا يكون تمام الموضوع ولا جزء الموضوع وإن أُخذ بنحو الطريقية. والحاصل : أنّ اليقين هنا [ أُخذ ] طريقاً صرفاً إلى ذي الأثر ، ولم يؤخذ موضوعاً أو جزء موضوع على نحو الطريقية ، فضلاً عن أخذه بنحو الصفتية.

ص: 132


1- فوائد الأُصول 4 : 373.
2- فوائد الأُصول 4 : 374.

قوله : فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن ، بل يمكن أن يقال : إنّ شيوع إضافة النقض إلى اليقين دون العلم والقطع إنّما يكون بهذا الاعتبار ... الخ (1).

هذا غريب ، فإنّ عناية النقض ليس باعتبار المتعلّق ، بل إنّما هي باعتبار الخصوصية للإدراك اليقيني لما أشرب فيه من معنى الإحكام دون العلم والقطع وإن كان متعلّقهما واحداً من حيث الأحكام وتمامية الاقتضاء. نعم هنا جهتان هما العمدة فيما أفاده قدس سره من تصحيح عناية النقض :

إحداهما : دعوى كون اليقين المتعلّق بالمقتضي مع الشكّ في الرافع مقتضياً للجري العملي على طبقه ، بخلاف موارد الشكّ في المقتضي ، فإنّ اليقين بأصل وجود المقتضي مع الشكّ في مقدار اقتضائه ليس له بحسب النظر العرفي اقتضاء بقاء للجري العملي على طبقه.

والجهة الثانية : أنّ موارد الشكّ في الرافع لا يكون متعلّقاً للشكّ من أوّل حدوث اليقين ، بخلاف موارد الشكّ في المقتضي فإنّها من أوّل الأمر مشكوكة.

والجهة الأُولى هي التي أفادها بقوله : وبالجملة لا إشكال في أنّ العناية المصحّحة لورود النقض على اليقين إنّما هي باعتبار استتباع اليقين الجري العملي على المتيقّن والحركة على ما يقتضيه الخ (2) بضميمة قوله : إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أنّ أخبار الباب إنّما تختصّ بما إذا كان المتيقّن ممّا يقتضي الجري العملي على طبقه ، بحيث لو خلّي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن ، وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود

ص: 133


1- فوائد الأُصول 4 : 374.
2- فوائد الأُصول 4 : 374 - 375.

الزمان ليتحقّق الجري العملي على طبقه الخ (1).

والجهة الثانية هي التي أفادها بقوله : وبتقريب آخر : يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ الخ (2).

أمّا الجهة الأُولى فيمكن التأمّل فيها باعتبار أنّ اقتضاء المتيقّن البقاء إذا لم يستتبع اقتضاء بقاء اليقين ، لم يكن اليقين السابق مقتضياً لبقاء الجري العملي حتّى بعد انتقاضه بالشكّ ، وحينئذ يرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى أنّ المصحّح لاستعمال النقض هو اليقين التقديري ، حسبما عرفت فيما مرّ وستعرف توضيحه إن شاء اللّه تعالى. وكذلك الحال في الجهة الثانية ، فإنّك ستعرف الحال فيها إن شاء اللّه تعالى (3).

وعلى كلّ حال ، ليس أساس المطلب هو التدافع بين إطلاق اليقين وخصوصية النقض كما أفاده بقوله : فإن قلت وجوابه ، بل أساسه هو ما عرفت وستعرف إن شاء اللّه تعالى من أنّ المصحّح لإطلاق النقض بعد أن امتاز متعلّق اليقين عن متعلّق الشكّ ما هو ، هل هو التجريد بحسب الزمان ، أو هو التجريد عن جهة الحدوث والبقاء ، أو هو اليقين التقديري ، فراجع ما قدّمناه في التعليق على بعض روايات الاستصحاب ، وتأمّل فيما سيأتي فيما علّقناه على قوله : فقد ظهر لك الخ (4).

تنبيه : لو كان الحكم محدوداً بحسب الزمان ولكن شكّ في مبدأ حدوثه ،

ص: 134


1- فوائد الأُصول 4 : 375.
2- فوائد الأُصول 4 : 376.
3- في الصفحة : 136 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 4 : 375 ، راجع الصفحة : 136 وما بعدها من هذا المجلّد.

فهل يكون الشكّ في بقائه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وذلك مثل ما لو شكّ في مبدأ الثلاثة في خيار الحيوان هل هو من حين العقد أو من حين التفرّق ، لكن شيخنا قدس سره حسبما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى رحمه اللّه في هذه المسألة من الخيارات ص 34 لم يشكل على استصحاب الخيار في هذه المسألة بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، بل قال : إنّه لا إشكال فيه لو آل الأمر إلى الأُصول ولم يستظهر الحكم من الأدلّة (1) ، وكذلك الشيخ قدس سره (2).

لكن وجدت في تحريراتي في هذه المسألة : أنّ هذا الاستصحاب أشبه شيء بالشكّ في المقتضي ، إذ لم يكن [ الشكّ ] في الارتفاع من جهة حدوث شيء ، بل كان من جهة كون المبدأ قبل انقضاء المجلس أو بعده. لكنّي وجدت ذلك في هامش التحريرات ، وفعلاً لا أعلم أنّه من الأُستاذ قدس سره أو من النظر القاصر ، ومن هذا القبيل ما لو علم ما في السراج من النفط وأنّه بمقدار ربع ساعة مثلاً ، ولكن شكّ في مبدأ اشتعاله ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فقد ظهر لك أنّ أخبار الباب إنّما تختصّ بما إذا كان المتيقّن ممّا يقتضي الجري العملي على طبقه - إلى قوله - وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقّق الجري العملي على طبقه ... الخ (3).

لا يخفى أنّ اقتضاء المتيقّن للجري العملي على طبقه بحيث إنّه لو خلّي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن ، إنّما هو من جهة اليقين ،

ص: 135


1- منية الطالب 3 : 62.
2- المكاسب 5 : 93.
3- فوائد الأُصول 4 : 375.

بمعنى أنّ اليقين لكونه كاشفاً عن الواقع يكون موجباً للجري العملي على ذلك الواقع الذي انكشف به ، فيكون اقتضاء اليقين لذلك الجري العملي لكونه من قبيل المعدّ لحدوث الداعي في حقّ المكلّف.

والحاصل : أنّ اقتضاء اليقين للجري العملي ليس إلاّمن جهة كونه من مقدّمات الداعي ، ومن الواضح أنّ هذا النحو من الاقتضاء لا دخل له بكون المتيقّن ممّا له اقتضاء البقاء.

وبالجملة : أنّ كون اليقين أو عنوان المتيقّن مقتضياً للجري العملي هو الميزان في صدق النقض ، وهذا المعنى موجود في كلّ يقين وكلّ متيقّن ، سواء كان المتيقّن ممّا له استعداد البقاء أو لم يكن له ذلك الاستعداد.

ولكن العمدة هو تحقّق توارد اليقين والشكّ على شيء واحد ليكون الشكّ ناقضاً وجداناً لليقين ، وليصحّ استعمال النقض في ذلك ، والمفروض في باب الاستصحاب عدم وحدة المتعلّق ، فلابدّ حينئذ من عناية مصحّحة لاستعمال النقض القاضي بالتوارد ، وتلك العناية هل هي تجريد المتعلّق عن الزمان أو تجريده عن جهة الحدوث والبقاء ، أو هي توهّم اليقين التقديري حسبما عرفته مفصّلاً فيما تقدّم (1) وستأتي الاشارة إليه إن شاء اللّه في آخر هذه التعليقة.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو الجهة الثانية التي أشرنا إليها ، وهي التي أفادها بقوله : وبتقريب آخر الخ (2) ، وذلك المطلب هو دعوى أنّ المتيقّن إذا كان له استعداد البقاء يكون قد تعلّق به اليقين في أوّل حدوثه حتّى في زمان الشكّ ، بحيث يكون زمان الشكّ قد تعلّق اليقين به في زمان حدوثه ، ففي زمان الشكّ

ص: 136


1- في الصفحة : 94 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 376.

يصدق عليه أنّه نقض لليقين بوجوده ، بخلاف ما إذا لم يكن له استعداد البقاء ، فإنّه في زمان الشكّ لا يكون متيقّناً في زمان حدوثه بل يكون من أوّل الأمر مشكوكاً ، فلا يصدق عليه النقض ، بل يكون اليقين به منتقضاً في نفسه.

ويمكن التأمّل فيه ، لأنّ من علم بحدوث الشيء الفلاني الذي له استعداد البقاء ، فهو من أوّل الأمر غير متيقّن ببقائه عند حدوث ما يحتمل كونه رافعاً له أو عند احتمال وجود رافعه ، كما أنّ من تيقّن بحدوث ما ليس له استعداد البقاء يكون شاكّاً في بقائه أزيد ممّا تيقّن من استعداده.

مضافاً إلى أنّه لو كان الذي له استعداد البقاء متيقّن البقاء من زمان حدوثه في زمان الشكّ فيه ، لكان الشكّ المذكور من قبيل الشكّ الساري ، لأنّ زمان الشكّ الذي هو زمان احتمال وجود الرافع إذا فرضناه من أوّل زوال يوم الجمعة مثلاً ، وفرضنا أنّ ذلك الشيء كان من أوّل زمان حدوثه متيقّن البقاء في ذلك الزمان أعني ما بعد زوال يوم الجمعة ، كان الشكّ الحادث عند زوال يوم الجمعة سارياً إلى تلك القطعة من اليقين ، لاتّحاد زمان المتيقّن وزمان المشكوك.

اللّهمّ إلاّ أن يراد من اليقين المذكور المتعلّق بما بعد الزوال اليقين اللولائي ، يعني أنّه متيقّن البقاء في تلك القطعة لولا احتمال وجود رافعه في تلك القطعة.

لكن فيه أوّلاً : أنّه يكون من قبيل الشكّ الساري.

وثانياً : أنّ هذا اليقين اللولائي متحقّق في صورة الشكّ في استعداد بقائه في ذلك الزمان ، إذ لولا احتمال انتهاء استعداده في تلك القطعة لكان متيقّن البقاء فيها.

وثالثاً ، وهو العمدة : أنّ المصحّح لاستعمال النقض ليس هو اليقين اللولائي الذي يكون زمان متعلّقه متّحداً مع زمان متعلّق الشكّ ، بل المصحّح لاستعمال

ص: 137

النقض إنّما هو اليقين السابق الذي يكون زمان متعلّقه متقدّماً على زمان متعلّق الشكّ ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة من اليقين التي يكون متعلّقها سابقاً في الزمان على متعلّق الشكّ متحقّقة في صورة كون المتيقّن ممّا ليس له استعداد البقاء.

والحاصل : أنّ الاستصحاب عبارة عن الأخذ بمقتضى اليقين السابق والعمل على ذلك المتيقّن السابق ، وأنّ ذلك اليقين السابق أو المتيقّن السابق لا ينبغي نقضه بالشكّ اللاحق ، وهذا المعنى لا يفرق فيه بين كون ذلك المتيقّن السابق له استعداد البقاء أو ليس له ذلك الاستعداد ، لتحقّق أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وكون ذلك الشكّ اللاحق هادماً لذلك اليقين السابق في كلّ من الصورتين ، حتّى أنّه لو حصل له اليقين ثانياً بانتهاء أمد ذلك المتيقّن السابق ، لكان ذلك اليقين اللاحق هادماً لليقين السابق وناقضاً له ، باعتبار أنّه موجب لانهدام ذلك الجري العملي الذي كان على طبق اليقين السابق.

ولو سلّمنا أنّه لا يصدق على اليقين اللاحق أنّه ناقض وهادم لليقين السابق لكان كذلك في كلا الصورتين ، فإنّه حينئذ يكون اليقين بارتفاع الحادث لأجل حدوث ما يرفعه أيضاً غير ناقض لليقين السابق ، وإن كان الرافع هادماً لذلك الحادث إلاّ أن اليقين بارتفاع ذلك الحادث لا يعدّ هادماً لليقين بوجوده السابق ، بل يكون اليقين بذلك الوجود متبدّلاً إلى اليقين بذلك الانعدام ، وحينئذ لا يكون إطلاق النقض عليه في الأخبار إلاّبالمشاكلة للشكّ ، فيكون حاله حال إطلاق النقض على اليقين بعد الشكّ في جعل اليقين ناقضاً للشكّ ، كما تضمّنته بعض أخبار الباب ، فإنّ إطلاق النقض في ذلك لا يكون إلاّللمشاكلة لنقض الشكّ لليقين.

وبالجملة : أنّ الشكّ اللاحق يكون هادماً لما يقتضيه اليقين السابق من

ص: 138

الجري العملي في كلتا الصورتين ، وأمّا اليقين اللاحق بالعدم فإن صحّحنا كونه ناقضاً حقيقة ففي كلتا الصورتين يكون إطلاق النقض عليه حقيقياً ، وإن لم نصحّحه على نحو الحقيقة ، فهو مجاز في كلّ منهما بعلاقة المشاكلة مع الشكّ وليس ذلك بعزيز في اللغة.

والحاصل : أنّ إطلاق النقض على الشكّ لا يقتضي اختصاص الاستصحاب بغير صورة الشكّ في المقتضي. نعم لو قلنا بأنّ مرجع الاستصحاب في جميع موارده إلى الأصل العدمي ، أعني عدم الاعتناء باحتمال حدوث الممكن ، لكان لاختصاصه بصورة الشكّ في الرافع وجه ، لكن قد تحقّق في محلّه أنّه ليست جميع الاستصحابات راجعة إلى أصالة العدم ، بل هي في الأغلب استصحابات وجودية ، وإنّما هي أخذ بالمتيقّن السابق ، سواء كان وجودياً أو كان عدمياً ، وليس معنى الأخذ بذلك المتيقّن السابق إلاّلزوم الجري العملي على ما يقتضيه اليقين السابق وعدم هدمه لأجل الشكّ بانعدام ذلك المتيقّن ، سواء كان منشأ الشكّ في انعدامه هو الشكّ في الرافع أو كان هو الشكّ في المقتضي ، فإنّ كلاً من هاتين الصورتين يصدق عليها النقض لليقين السابق ، فإنّ اليقين يقتضي الجري على طبق المتيقّن ، وهذا المعنى - أعني اقتضاء اليقين للجري العملي - هو المصحّح لاستعمال النقض ، لا أنّ المصحّح له هو أنّ نفس المتيقّن الواقعي يكون مقتضياً للبقاء ، فسواء نسبنا النقض إلى اليقين أو نسبناه إلى المتيقّن ، فإنّما هو باعتبار نفس اليقين ولو من حيث إحكامه وإبرامه واقتضائه الجري العملي ، وأين هذا من كون نفس الحادث الواقعي ممّا له استعداد البقاء كي يكون الشكّ اللاحق هادماً له.

والحاصل : أنّ الأخبار لم تتعرّض لأنّ الشكّ اللاحق لا يهدم نفس الحادث

ص: 139

السابق كي يقال : إنّ ذلك لا يصحّ إطلاق النقض عليه إلاّ إذا كان ذلك الحادث ممّا له استعداد البقاء ، وإنّما تعرّضت الأخبار لأنّ الشكّ اللاحق لا يهدم ولا ينقض اليقين السابق ، ومن الواضح أنّ هدم الشكّ لليقين إنّما هو باعتبار كون اليقين أمراً محكماً مبرماً ، سواء كان تعلّق النقض به بنفسه ، أو بالمتيقّن ، أو باليقين بما يقتضيه من الجري العملي على طبقه.

ثمّ لا يخفى أنّ الأخبار كلّها وإن كان موردها هو الشكّ في الرافع ، إلاّ أن ذلك بمجرّده لا يوجب اختصاصها به ، بحيث يكون ورودها في ذلك المورد موجباً لعدم شمولها للشكّ في المقتضي بعد أن فرضنا أنّ الكبرى الكلّية شاملة له سيّما إذا قلنا إنّ هذه الأخبار ليست في مقام التأسيس ، بل هي في مقام الإيكال إلى ما جرت به السيرة العقلائية ، وقد عرفت عموم السيرة لصورة الشكّ في المقتضي كما في استصحابهم الحياة في مورد الشكّ في استعداد الشخص ، بل بعد ثبوت عموم السيرة لا تكون تلك الأخبار على تقدير اختصاصها بصورة الشكّ في الرافع مخصّصة للسيرة ، لما عرفت من عدم كون تلك الأخبار في مقام التشريع لا إمضاءً ولا تأسيساً ، بل هي واردة في مقام الإيكال إلى أمر عرفي جرت به سيرة العقلاء ، فلا يضرّ السيرة اشتمال تلك الأخبار على النقض المختصّ بصورة الشكّ في الرافع ، إذ لا يبعد أن يكون ذلك لأجل أنّ موردها كان كذلك ، فتأمّل.

بل يمكن أن يقال : إنّ التعبير باليقين وبالنقض لم يكن لأجل أخذ خصوصيات هذه الألفاظ في ملاك الحكم الاستصحابي ، إذ ليس ملاكه إلاّ أن الإنسان لا ينبغي له أن يرفع اليد عمّا تحقّق عنده لأجل الشكّ في بقائه ، لكن لأجل المبالغة في هذا الحكم عبّر عن تحقّق ذلك الحادث باليقين إشارة إلى أنّ تحقّقه من الأُمور المحكمة المبرمة ، فلمّا تمّ التعبير عن التحقّق باليقين ، ناسب أن

ص: 140

يعبّر عن رفع اليد عنه لأجل الشكّ بالنقض وهدم ذلك المستحكم ، فليست هذه الخصوصيات إلاّجهات راجعة إلى البلاغة والفصاحة البيانية ، من دون أن يكون لها خصوصية في أصل الحكم فتأمّل ، هذا.

ولكن المسألة بعدُ محلّ تأمّل وإشكال ، أمّا نقض السيرة بمسألة استصحاب الحياة ، ودعوى كون جملة من موارد الشكّ فيها لم يحرز فيها المقتضي ، لعدم إحراز مقدار استعداد الشخص بحسب تركّب البنية الطبيعية فيمكن الجواب عنه بأنّ العرف لا يرى الموت إلاّمعدماً ورافعاً للحياة ، وإن كان بالدقّة في بعض الموارد من قبيل انتهاء الاستعداد الطبيعي ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في محلّه التحقيق في ذلك عند الكلام على القسم الثاني من الكلّي (1).

وأمّا الأخبار ودعوى عمومها للشكّ في المقتضي ففيه تأمّل ، وإن قدّمنا تلك المناقشة ، إلاّ أن ها لا توجب لنا الجزم بصحّة إسناد النقض إلى الشكّ في موارد الشكّ في المقتضي ، لقوّة احتمال كون اليقين من أوّل الأمر محدوداً بمقدار ما يحصل به الجزم من البقاء ، على وجه يكون ما زاد على ذلك المقدار من أوّل الحدوث مشكوكاً ، بحيث يكون لنا من أوّل الأمر يقين بالبقاء إلى المقدار المتيقّن من الاستعداد مقرون بالشكّ فيما زاد على ذلك ، بخلاف موارد الشكّ في الرافع فإنّ البقاء عند احتمال وجود الرافع وإن كان مشكوكاً من أوّل الأمر ، إلاّ أنه تعليقي بمعنى أنّ الشكّ في البقاء يكون معلّقاً على تحقّق احتمال وجود الرافع ، وهذا لا يصير فعلياً إلاّعند تحقّق المتيقّن ثمّ طروّ ذلك الاحتمال في أثناء عمود الزمان فتأمّل جيّداً.

والإنصاف : أنّه لم يحصل الجزم بشيء من ذلك ، وهو كاف في الحكم

ص: 141


1- في الصفحة : 311 - 312.

بعدم حجّية الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، لعدم نهوض حجّة على ذلك في تلك الموارد.

وفي هذه الدورة سنة 73 تقدّم لنا كلام مفصّل في كيفية تصحيح استعمال [ النقض ] وخروج قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي وصورة الشكّ في المقتضي عند الكلام على بعض روايات الاستصحاب ، فراجع.

وخلاصة ما قدّمناه في التعليق على بعض روايات الباب : هو أنّه بعد تطبيق قضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » على مثل الوضوء والطهارة السابقة وعدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، ممّا يكون مورده اجتماع اليقين والشكّ بحسب الزمان ، وأنّ الاختلاف بحسب الزمان إنّما كان في المتيقّن والمشكوك ، نقول : ليس المراد هو كون المتيقّن هو الموجود في الزمان الأوّل والمشكوك هو الموجود في الزمان الثاني ، كي يكون تجريدهما من الزمان هو المصحّح لاستعمال النقض ، لأنّ الوجود في الزمان الثاني لم يؤخذ في عرض الوجود في الزمان الأوّل مع فرض تخلّل العدم ، بل إنّ المشكوك في الزمان الثاني هو نفس الموجود في الزمان الأوّل.

فلابدّ أن يكون متعلّق اليقين هو أصل الوجود ومتعلّق الشكّ هو البقاء ، ولأجل عناية تصحيح استعمال النقض نقول : إنّ الملحوظ في هذه العناية إن كان هو اليقين اللولائي ، كانت القاعدة - أعني قاعدة لا تنقض - مختصّة بموارد الشكّ في الرافع. وإن كانت العناية هي التجريد عن جهة الحدوث والبقاء ، كانت شاملة لموارد الشكّ في المقتضي كموارد الشكّ في الرافع. ولكن لو كانت هذه الروايات مسوقة لبيان أو إمضاء الطريقة العقلائية ، كان اللازم هو النظر فيما جرت به السيرة العقلائية ، وهي مختصّة بموارد الشكّ في الرافع ، ولا أقل من الشكّ في

ص: 142

جريان طريقتهم على التعميم لموارد الشكّ في المقتضي ، وذلك كافٍ في الحكم بعدم الحجّية.

وأمّا ما أُفيد من قوله في هذا التحرير : وبتقريب آخر ... إلخ (1) وكذلك ما أشار إليه في تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : وأمّا إذا كان مهملاً من حيث عمود الزمان لتردّد متعلّقه بين أن يكون محدوداً أو مرسلاً ، فالزائد على ( ذلك ) المقدار المحدود لم يتعلّق به يقين في زمان كي يكون رفع اليد عنه نقضاً لليقين بالشكّ الخ (2) فراجعه وما قبله ، فكأنّه هو العمدة في دعوى اختصاص الأخبار بخصوص الشكّ في الرافع وعدم شمولها للشكّ في المقتضي ، لأنّ المستصحب فيها في زمان الشكّ لم يكن قد تعلّق اليقين به أصلاً ، بل هو من أوّل الحدوث مشكوك ، فكيف [ يصحّ ] أن نقول إنّ الشكّ ناقض لليقين ، بخلاف صورة الشكّ في الرافع ، ومقتضى هذه الجملة هو أنّ المستصحب بعد فرض طروّ ما يثير الشكّ فيه في رافعه يكون من أوّل الأمر متيقّناً ، فيصحّ كون الشكّ فيه ناقضاً لليقين.

ولكن قد عرفت التأمّل في ذلك ، وأنّ المستصحب في تلك القطعة من الشكّ لم يتعلّق به اليقين أصلاً ، سواء كان الشكّ في المقتضي أو كان في الرافع أو كان في رافعية الموجود ، ويزيده تأمّلاً ما عرفت من أنّ المستصحب ليس فيه اختلاف بحسب الزمان ، ففي الزمان الأوّل متيقّن وفي الزمان الثاني مشكوك ، وليس الاختلاف فيه إلاّمن ناحية أنّ متعلّق اليقين هو جهة الحدوث ومتعلّق الشكّ هو جهة البقاء ، وهذه الجهة - أعني جهة البقاء - مشكوكة من أوّل اليقين بالحدوث في كلّ واحد من هذه الموارد الثلاثة ، وأنّ العمدة في تصحيح التعبير

ص: 143


1- فوائد الأُصول 4 : 376.
2- أجود التقريرات 4 : 69.

بالنقض هل هو اليقين التقديري ، أو هو تجريد المستصحب من كلّ من جهة الحدوث والبقاء.

قوله في الحاشية : لا يخفى ... الخ (1).

لا يخفى أنّ شيخنا الأُستاذ قدس سره قد تعرّض لهذا الإشكال وأجاب عنه. أمّا عن رواية محمّد بن مسلم فقد أجاب عنها بما أُفيد في هذه الحاشية أخيراً ، من أنّ المضي يقتضي استعداد البقاء ، وحاصله أنّ المضي كالنقض لا يصحّ التعبير به إلاّ مع كون الشكّ في الرافع ، على ما حرّرته عنه قدس سره في الدورة الأخيرة.

وقال في التحريرات المطبوعة في صيدا : أمّا رواية محمّد بن مسلم فإحدى روايتيه وإن لم تكن مشتملة على لفظ النقض ، إلاّ أن ها مشتملة على لفظ المضي ، وهو عبارة عن الجري على طبق اليقين ، وقد عرفت أنّ الجري على طبق اليقين لا يكون إلاّفي موارد الشكّ في الرافع (2).

قلت : لا يخفى أنّه قد ذكر في هذا التقرير عند التعرّض لذكر روايات الباب ما نصّه : ومنها رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال « قال أمير المؤمنين ( صلوات اللّه وسلامه عليه ) : من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » (3) وفي معناها رواية أُخرى عنه عليه السلام : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (4) - (5)

ص: 144


1- فوائد الأُصول 4 ( الهامش ) : 377.
2- أجود التقريرات 4 : 71 [ المنقول هنا موافق مع الطبعة القديمة للأجود ، وأمّا في الطبعة الحديثة فقد ورد هكذا : أمّا رواية محمّد بن مسلم فهي وإن ... ].
3- وسائل الشيعة 1 : 246 - 247 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 6.
4- مستدرك الوسائل 1 : 228 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 4.
5- أجود التقريرات 4 : 54.

ولا يخفى أنّ الرواية الثانية وإن لم تشتمل على لفظ النقض ، إلاّ أن ها مشتملة على لفظ الدفع ، وهو كالنقض في استدعائه اقتضاء البقاء وعدم الشمول للشكّ في المقتضي ، وحينئذ فلا حاجة إلى ما أُفيد من التكلّف بجعل المضي مثل النقض في الاقتضاء المذكور ، فتأمّل.

قوله : فما ينسب إلى المحقّق السبزواري رحمه اللّه من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في رافعية الموجود ، بتوهّم أنّ اليقين بوجود ما يشكّ في رافعيته يكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشكّ ... الخ (1).

قد حرّرت عنه قدس سره في هذا المقام ما نصّه : فصّل المحقّق السبزواري (2) بين الشكّ في الرافع والشكّ في رافعية الموجود ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، مستدلاً على عدم جريانه في الثاني بأنّه ليس من قبيل نقض اليقين بالشك ، بل من قبيل نقض اليقين باليقين بوجود ما يشكّ في رافعيته ، وأنّ هذا الشكّ لا أثر له في انتقاض اليقين السابق ، لكون الشكّ في كون المذي ناقضاً للوضوء موجوداً من أوّل الأمر ، فلا يصلح لأن يكون ناقضاً لليقين ، وإنّما ناقضه هو اليقين بوجود ذلك المشكوك الحال ، فلا يكون مشمولاً لأخبار الاستصحاب.

وفيه أوّلاً : أنّ هذا إنّما يتمّ في خصوص الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية ، فيكون دليله أخصّ من المدّعى.

وثانياً : أنّ الشكّ الموجود من أوّل الأمر إنّما هو الشكّ في الحكم الكلّي ،

ص: 145


1- فوائد الأُصول 4 : 378.
2- راجع ذخيرة المعاد : 115 - 116.

أعني كون المذي ناقضاً أو ليس بناقض ، والمستصحب إنّما هو الطهارة الخاصّة ، والمدّعى كونه ناقضاً لليقين بتلك الطهارة السابقة إنّما هو الشكّ في ناقضية هذا الحادث الخاصّ الذي هو المذي ، وإنّما يكون اليقين بوجوده مقدّمة لتحقّق ارتباط ذلك الشكّ الكبروي بالمورد الخاص ، أعني ما وجد من الطهارة الخارجية ، إذ بدون العلم بوجود ذلك المشكوك لا يكون لذلك الشكّ الكبروي ارتباط بما هو المطلوب بقاؤه من تلك الطهارة الخاصّة.

قوله : لأنّه يلزم على هذا أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة كلّها إخباراً عن الصلاح والفساد ، من دون أن يكون فيها شائبة الانشاء ، وهذا ممّا لا يرضى به المنصف ... الخ (1).

إنّ هذا القائل يمكنه أن يلتزم بكون الأوامر والنواهي الواردة في الشريعة إرشادية إلى ما يحكم به العقل لو اطّلع عليه من ملاك الحسن والقبح من الإقدام على الأوّل والفرار عن الثاني.

ثمّ لا يبعد أن تكون الأحكام الخمسة التكليفية - وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة - من الاعتبارات القابلة للجعل ابتداء ، أو انتزاعاً ، أو تبعاً لجعل نفس البعث والزجر مولوياً وما يتبعهما من البعث الاستحبابي والزجر الكراهتي والبعث الترخيصي.

وعلى الأوّل - أعني على تقدير كون هذه الأحكام الخمسة مجعولة ابتداء - يتبعها البعث والزجر المولوي ، ولا يبعد وقوع كلّ من الطريقتين. وعلى كلّ حال ، فإنّ نفس البعث والزجر المولويين من الأحكام الشرعية المتكوّنة بمجرّد البعث والزجر بالصيغة المخصوصة بهما ، التي لا يكون مفادها إلاّمجرّد البعث

ص: 146


1- فوائد الأُصول 4 : 379 - 380.

إلى المادّة والزجر عنها ، فتكون الصيغة آلة لإيجاد ذلك البعث والزجر ، كما في الدفع والزجر باليد ، غاية الأمر أنّ ذلك البعث والزجر لابدّ أن يكون صادراً عن داعي الانبعاث والانزجار ، فإنّ الانبعاث والانزجار اللذين هما بوجودهما الخارجي بمنزلة المعلول لذلك البعث والزجر ، يكونان بوجودهما العلمي بمنزلة العلّة لذلك البعث والزجر ، كما هو الشأن في العلل الغائية ، فيخرج بذلك البعث والزجر الصادران لا بداعي الانبعاث والانزجار ، بل بداعي التهكّم أو بداعي التهديد أو بداعي التعجيز أو غير ذلك من الدواعي الموجبة لكون البعث والزجر صورياً لا حقيقياً.

وعلى أيّ حال ، فليست الصيغة إلاّ آلة البعث والزجر بأيّ داع كان ، لا أنّ الصيغة تكون آلة لانشاء المادّة ادّعاء كما في « بعت » في كونها آلة لانشاء مادّة البيع حقيقة وإيجاده في الصقع الانشائي أو الصقع الاعتباري ، حتّى لو فسّرنا قولنا اضرب بقولنا كن ضارباً ، فإنّه لا يكون لانشاء وجود الضرب ادّعاء ، بل ليس المفسَّر والمفسّر إلاّ آلة لإيجاد البعث إلى الضرب في الأوّل ، وإلى الكون ضارباً في الثاني ، فلاحظ وتأمّل.

وما أبعد ما بين ذلك ، أعني الالتزام بكون « اضرب » خلقاً لمادّة الضرب ادّعاءً ، وبين التزام من التزم بأنّ مثل « بعت » لا خلق فيه ولا تكوين ، وإنّما يكون تكوين ذلك في النفس ولفظ « بعت » حاك عن البيع الواقع في النفس ، وما أدري هل النفس تخلق البيع قبل قوله : بعت ، ليكون اللفظ حاكياً ، أو أنّها تخلقه في حال قوله : بعت ، فكيف صار اللفظ حاكياً ، وكيف توجّهت النفس في عرض واحد إلى خلق البيع وحكايته.

ثمّ إنّ الذي يظهر من هذا التحرير أنّ الأساس في كون الأحكام التكليفية

ص: 147

مجعولة هو تحقّق الارادة التشريعية في المبدأ الأعلى ، أو لا أقل من تحقّقها في بعض المبادئ العالية كالنفس النبوية صلى اللّه عليه وآله أو الولوية عليه السلام ، وأنّ قوام مجعولية تلك الأحكام هو تلك الارادة.

لكنّك قد عرفت أنّ جعل الأحكام التكليفية لا يتوقّف على الالتزام بتلك الارادة ، لا في نفس الوجوب والتحريم وأخواتهما ، ولا في البعث والزجر الشرعيين المولويين ، غايته أنّ الجعل الابتدائي تارةً يكون للأوّل ويتبعه الثاني أو ينتزع منه وأُخرى يكون الأمر بالعكس.

ولا يبعد أن يكون قوله في تحريرات السيّد ( سلمه اللّه تعالى ) : ولا ريب في صدور الجعل من ( جانب ) الشارع ، وأنّ الأحكام مجعولات تشريعية ، ولا يهمّنا التكلّم في إثبات الارادة التشريعية للمبدأ تعالى أو للمبادئ النازلة بناءً على عدمها في المبدأ الأعلى الخ (1) إشارة إلى ذلك ، وأنّ كون الأحكام مجعولة لا يتوقّف على ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى ، ولا على ثبوتها في المبادئ العالية ، وكان مقتضى ذلك أن يعقّبه بالتصريح بالوجه في عدم هذا التوقّف ، لكنّه عقّبه بالتصريح في ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى فضلاً عن ثبوتها في المبادئ العالية ، فكأنّه يرى أنّ مجعولية الأحكام تتوقّف على ذلك ، فلاحظ وتدبّر.

وربما يتوهّم أنّ لازم ما في الكفاية (2) إنكار كون مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) من كلامه تعالى ، ولا أظنّه قدس سره يقول بذلك ، ولعلّ دفع هذا التوهّم يحتاج إلى فن آخر ، وما أدري ما الباعث لهذه الالتزامات.

ويتلخّص ما حرّرناه في أُمور :

ص: 148


1- أجود التقريرات 4 : 71 - 72.
2- كفاية الأُصول : 277.

الأوّل : أنّ القائل بأنّه ليس في باب الأحكام الشرعية إلاّ العلم بالصلاح ، لا يلزمه القول بكون الجمل الانشائية مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) جملاً خبرية حاكية عن المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، بل يمكنه القول بأنّها على حالها إنشاءات ، ولكنّها ليست مولوية ، بل هي إرشادات إلى ملاكات الأحكام العقلية ، التي لو اطّلع العقل عليها لكان ملزماً بالإقدام عليها وبالتنفّر منها ، أو مدركاً حسنها وقبحها.

الثاني : أنّ كون الأحكام التكليفية مجعولة لا يتوقّف على ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى ، ولا في بعض المبادئ العالية ، بل إنّ نفس الأحكام الخمسة مجعولة ابتداء كالأحكام الوضعية ، ويتبعها البعث والزجر ، أو أنّ الأمر بالعكس.

الثالث : أنّ باب الانشاء قاطبة من بعث وزجر واستفهام وتمنّ وترجّ وبيع وتمليك ، كلّها من قبيل الجعل بالآلة والخلق والتكوين لما هو المجعول والمنشأ بإيجاده في عالم الاعتبار ، نظير إيجاد الفعل الخارجي كالقطع بالآلة القاطعة ، لا أنّ جميع ذلك من أفعال النفس ، وأنّ هذه الانشاءات حاكية عمّا في النفس أو أنّها إظهار لذلك ، وإلاّ لكانت إخباراً عمّا في النفس لا إنشاءً وإيجاداً ، وكيف توجد النفس البيع أم كيف ينوجد فيها ، ومتى تفعله وينوجد فيها ، هل ذلك قبل قوله بعت ، فيكون البيع متحقّقاً قبل قوله بعت ، ويكون قوله بعت إخباراً عمّا مضى ، أو أنّ ذلك حين قوله بعت ، وحينئذ تكون النفس في مرتبة قوله بعت قد عملت عملين في عرض واحد : عمل البيع وعمل الحكاية عنه ، فتكون ناظرة إلى البيع نظرين ، نظر الايجاد ونظر الحكاية.

الرابع : أنّ ما عن الكفاية (1) من أنّه ليس في المبدأ الأعلى إلاّ العلم

ص: 149


1- كفاية الأُصول : 277 - 278.

بالصلاح ، وأنّ عالم الارادة والكراهة إنّما تكون في بعض المبادئ العالية ، ربما يتوهّم المتوهّم منه أنّه ليس في المبدأ الأعلى عالم إنشاء وبعث وزجر ، وأنّ هذه العوالم - أعني عالم الانشاء وعالم البعث والزجر - لا تكون إلاّفي بعض المبادئ العالية ، ولازم ذلك أن لا تكون الجمل الانشائية مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) من كلامه تعالى ، فلابدّ أن نقول : إنّ هذا العالم - أعني عالم الانشاء وعالم البعث والزجر - لا يتوقّف على إرادة وكراهة ، أو نقول : إنّ الانشاء يتحقّق في المبدأ الأعلى ، لكنّه مجرّد عن عالم البعث والزجر بناءً على توقّفهما على الارادة والكراهة. وعلى أيّ حال ، تكون الانشاءات والجمل الانشائية من كلامه تعالى ، ويكفي في تحقّق الحكم وجعله خلقه وإنشاؤه وإن كان مجرّداً عن الارادة والكراهة ، بل وإن كان مجرّداً عن البعث والزجر إن قلنا بتوقّفهما على الارادة [ والكراهة ] ، ولكن هذا الأخير بعيد.

قوله : والثاني كانتزاع السببية من العقد الذي صار ... الخ (1).

في باب السببية كما في سببية العقد للملكية وكما في سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، هل المجعول هو المسبب عند حصول السبب ولا تكون السببية إلاّ انتزاعية ، أو أنّه كما جعل المسبب عند السبب فكذلك جعل السببية؟

أمّا ما ينسب إلى الشيخ (2) من أنّ الوضع منتزع من التكليف وفي قباله أنّ التكليف منتزع من الوضع ، فليس كما ينبغي ، وفي الحقيقة أنّ النزاع بينه وبين غيره واقع في أنّ المجعول ابتداءً والمجعول تبعاً هل هو الوضع أو التكليف ، فليس شيء منهما انتزاعياً ، بل إنّ كلاً منهما متأصّل بالجعل ، إلاّ أن الخلاف قد

ص: 150


1- فوائد الأُصول 4 : 381.
2- فرائد الأُصول 3 : 126 وما بعدها.

وقع في أنّ المجعول ابتداءً هل هو التكليف وعنه ينشأ اعتبار الملكية قهراً ، أو أنّ المجعول هو الوضع وعنه يتولّد موضوع التكليف ، فيكون التكليف في مرحلة الجعل تابعاً للوضع لكونه خالقاً لموضوعه.

قوله : فإنّ الولاية والقضاوة الخاصّة حكمها حكم النيابة والوكالة ، لا ينبغي عدّها من الأحكام الوضعية ... الخ (1).

يمكن المنع من كونها من قبيل الوكالة والنيابة ، بل هي منصب خاصّ ينجعل بالجعل بأسبابه ولو بمثل قوله عليه السلام : جعلتك قاضياً أو والياً ، وحينئذ تكون من سنخ الأحكام الوضعية ، ولعلّ الإمامة والنبوّة من المناصب الإلهية من هذا القبيل ، نعم لا تسمّى اصطلاحاً بالأحكام الوضعية. ثمّ لو سلّمنا كونها من قبيل الوكالة والنيابة ، لكان ذلك ممّا يؤيّد كونها أحكاماً وضعية ومجعولات شرعية ، لأنّ الوكالة بنفسها من هذا القبيل أيضاً تنجعل بالجعل بأسبابها المقرّرة مثل قوله أنت وكيلي.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما حرّره عنه قدس سره في التقريرات طبعة صيدا بقوله : ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه من أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة لابدّ وأن تكون من قبيل القضايا الحقيقية المجعولة على موضوعاتها المقدّرة وجوداتها ، أنّ الماهيات الجعلية لا تكون من الأحكام الوضعية ، كما أنّه ليس منها الولاية والقضاوة لشخص خاصّ في زمان الحضور ، إذ الجعل فيه ليس بنحو القضية الحقيقية كما هو ظاهر الخ (2) وذلك فإنّ كون القضية حقيقية أو خارجية لا يؤثّر في الناحية التي نحن بصددها ، من أنّ المجعول فيها حكم شرعي من مقولة الأحكام

ص: 151


1- فوائد الأُصول 4 : 385.
2- أجود التقريرات 4 : 75.

الوضعية ، هذا.

مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام : أنت قاض ، نظير قول القائل لعبده : « أنت حرّ » في تكفّله لجعل الحرّية وأنّها من الأحكام الوضعية ، وأنّ صدوره من جعل خاصّ لا يوجب كون ذلك الحكم الكلّي كبروياً (1) ، وهو ما يتضمّن أنّ السيّد إذا قال لعبده : أنت حر ، كان حرّاً وخرج بذلك عن الرقية.

ولقد حرّرت عنه قدس سره في هذا المقام ما لعلّه هو غير هذين ، وهذا نصّ ما كنت حرّرته عنه قدس سره : ومنها : ما هو راجع إلى المناصب كالولاية والوكالة والقضاوة ونحو ذلك ، والظاهر أنّ مثل هذه الأُمور أجنبية عن الجعل الشرعي ، فإنّها من وظائف السلطنة الدنيوية ، حيث إنّ الشارعية سلطنة عامّة على الدنيا والدين ، ومن الوظائف الدينية جعل الأحكام الشرعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين التي هي من وظائف الشارع بما أنّ له السلطنة الدينية ، ومن وظائف سلطنته العامّة على الدنيا كونه مالكاً لها مسلّطاً على نظامها ، ومن ذلك جعل الولاية لأحد والقضاوة لآخر ونحو ذلك ، فإنّها من وظائف تلك السلطنة ومن شؤونها ، فكما أنّ أحدنا مسلّط على التصرّف فيما يملكه بأن يبيعه أو يرهنه أو يؤجره إلى غير ذلك من التصرّفات ، فكذلك الشارع مقتضى مالكيته لما في العالم وسلطنته العامّة عليه هو نفوذ تصرّفاته التي يتوقّف عليها نظامه ، من جعل ولاية وقضاوة وغير ذلك ممّا يرجع إلى الشؤون العامّة ، ولا يرتبط بما يخصّ آحاد المكلّفين من الأفعال ، فإنّ جميع هذه التصرّفات ناشئة عن ملكيته العامّة ، كما أنّه لو كان له ملك خاصّ لكانت تصرّفاته فيه نافذة ، فهذه التصرّفات المتعلّقة بما يملكه بالسلطنة العامّة تكون نافذة ، ولكن لا بما أنّه شارع ، بل بما أنّه مالك وله تلك السلطنة العامّة الدنيوية ، انتهى.

ص: 152


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

وحاصله : أنّ المناصب المذكورة من مقولة تصرّف الملاّك في أملاكهم ، وليست من قبيل الجعل الشرعي ، فإنّ المجعول فيها وإن كان نحواً من الاعتبارات العقلائية ، إلاّ أنه ليس من المجعولات الشرعية لا إمضاءً ولا تأسيساً ، بل إنّ النبوّة والإمامة من هذا القبيل ، فإنّ الشارع إنّما يجعلها بما أنّه مالك لا بما أنّه شارع ، ونفوذ جعله إنّما هو باعتبار كونه مالكاً لا باعتبار كونه مشرّعاً ، فلا يكون المجعول فيها من الأحكام الشرعية بل هو من التصرّفات المالكية ، والتصرّفات المالكية وإن كانت محتاجة إلى إمضاء شرعي أو تأسيس شرعي ، إلاّ أن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الملاّك الذين تكون إرادة الشارع فوق إرادتهم ، لا بالنسبة إلى ذلك المالك المطلق الذي لا تكون إرادة فوق إرادته ، وجملة من هذه التصرّفات وإن كانت قد جرت بها الطريقة العقلائية في السلاطين بالنسبة إلى رعاياهم ، وكان نفوذ تلك التصرّفات منهم محتاجاً إلى إمضاء من الشارع ، إلاّ أن إرادة ذلك السلطان المطلق تكون فوق إرادة السلاطين.

ثمّ إنّه قدس سره قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : إنّ مسألة الولاية والقضاوة ونحوهما بمعنى أنّ له عليه السلام السلطنة على نصب الوالي والقاضي وأنّه إذا نصبه كان كذلك ، أمر مجعول ، بمعنى أنّ الشارع جعل هذا الأمر الكبروي الكلّي ، أعني أنّ للإمام عليه السلام نصب هؤلاء وأنّ نصبه يكون نافذاً ، غاية الأمر أنّ هذا الموضوع الكلّي - أعني الإمام عليه السلام - منحصر في فرد. ولا يخفى أنّ الولاية الخاصّة التي جعلها مثلاً لمالك أو لمحمّد بن أبي بكر ، والقضاوة الخاصّة التي جعلها لشريح ، لا ربط لها بهذا الأمر الكلّي ، فإنّها صغريات لذلك الأمر الكلّي ، نظير الملكية الخاصّة التي هي مسبّبة عن العقد الفلاني. نعم في مقبولة ابن حنظلة المتضمّنة

ص: 153

لقوله عليه السلام : « فقد جعلته قاضياً » (1) إشكال منشؤه أنّ هذا نصب خاصّ ، ومقتضى النصب الخاصّ أنّه يبطل بموت من نصبه ، والمفروض أنّ هذا النصب لا يبطل بموته عليه السلام. وقد أجبنا عن هذا الإشكال في محلّه بما ملخّصه : أنّ النصب في هذه الرواية متوسّط بين الصغرى والكبرى ، فمن حيث إنّه نصب صدر من سبب خاصّ يكون نصباً خاصّاً ، ومن حيث إنّ موضوعه أمر كلّي ، وهو كلّي من نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ، يكون المجعول فيه هو النصب الكلّي ، انتهى.

قوله : بل ينبغي أن يقال : إنّ المجعولات الشرعية التي هي من القضايا الكلّية الحقيقية على أنحاء ثلاثة : منها ما يكون من الحكم التكليفي ، ومنها ما يكون من الحكم الوضعي ، ومنها ما يكون من الماهيات المخترعة ... الخ (2).

وبذلك يريد إخراج المناصب الخاصّة مثل الولاية والقضاوة ، فإنّ الجعل فيها ليس براجع إلى القضية الكلّية الحقيقية. نعم جعل المنصب العام مثل جعل القضاء والحكومة لكلّ مجتهد عادل يكون من قبيل الأحكام الوضعية. لكن مع ذلك لم يتّضح الضابط للأحكام الوضعية ، إلاّ أن يقال : إنّه ما لم يتعلّق بأفعال المكلّفين وليس من الماهيات المخترعة وكان جعله على نحو القضية الكلّية الحقيقية ، لكنّك قد عرفت الإشكال في قصر الحكم الوضعي بما يكون على نحو

ص: 154


1- وسائل الشيعة 27 : 136 - 137 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
2- فوائد الأُصول 4 : 386.

الحكم الكلّي فيما تقدّم (1) ممّا علّقناه على مسألة القضاوة والولاية.

قوله : إمّا أن تكون تأسيسية ، وهي التي لا يكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء ، كالأحكام التكليفية الخمسة ... الخ (2).

كون هذه الأحكام معدومة الوجود عند العرف والعقلاء بالمرّة قابل للمنع لأنّ لديهم واجبات ومحرّمات وغيرها ، غايته أنّها ليست هي الواجبات في الشريعة ، بل ربما كانت هي لكن بزيادة بعض القيود وبنحو من التصرّف ، مثل وجوب إطاعة العبد لسيّده بل والزوجة والولد ، ومثل حرمة الظلم ونحو ذلك.

قوله : وقد خالف الشيخ قدس سره في ذلك والتزم بأنّ هذه الأُمور كلّها منتزعة من التكليف ... الخ (3).

لا يخفى أنّ ما تقدّم إنّما هو دعوى كون هذه الأحكام إمضائية لا تأسيسية ، ومسلك الشيخ قدس سره [ و ] هو كونها منتزعة من التكليف لا يكون مقابلاً للدعوى السابقة ، بل حتّى لو قلنا إنّها إمضائية لما عليه العرف يمكننا أن نتكلّم في أنّ ذلك الذي عليه العرف هل هو متأصّل بالجعل ، أو هو منتزع من تكليف عرفي عندهم بناءً على ما عرفت من وجود التكليف عندهم.

نعم ، إنّ تحرير السيّد سلّمه اللّه سالم من توجّه هذا الإشكال ، فإنّه جعل مطلب الشيخ مطلباً مستقلاً غير دخيل في دعوى الامضاء والتأسيس ، فراجع قوله : كما لا وجه للالتزام بأنّ الوضعيات كلّها انتزاعية من أحكام تكليفية في

ص: 155


1- في الصفحة : 151 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 386.
3- فوائد الأُصول 4 : 386.

مواردها كما ذهب إليه العلاّمة الأنصاري قدس سره - ثمّ قال : - نعم بينهما فرق من جهة ، وهي أنّ الأحكام التكليفية تكون مجعولات استقلالية ( والأولى أن يقول تأسيسية ) - ثمّ قال - ولم نعثر على حكم وضعي مجعول ابتدائي (1) ( يعني تأسيساً ).

وفيه تأمّل ، فإنّ كثيراً من الملكيات تأسيسية مثل ملكية الفقراء للزكاة ، إذ ليس المراد من التأسيس أنّ نوع هذا الحكم لم يكن موجوداً عند العرف ، وأنّ الشارع اخترع نوعه.

قوله : مع أنّ هذا أيضاً في بعض المقامات لا يمكن ، فإنّ الحجّية والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجّية ... الخ (2).

هناك حكم تكليفي وهو وجوب العمل على طبقها ، لكن منعه من القول به منافاته للحكم الواقعي الموجود في مواردها ، فراجع ما علّقناه في مبحث جعل الحجّية.

قوله : ولذلك التزم في بعض الوضعيات بأنّها من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع كالطهارة والنجاسة ... الخ (3).

هناك أيضاً حكم تكليفي وهو حرمة الاستعمال وجوازه ، لكن المانع من الاكتفاء به للانتزاع هو كون الطهارة والنجاسة من قبيل الموضوع بالنسبة إلى ذلك الحكم التكليفي ، فيكون هذا الحكم التكليفي متأخّراً عن موضوعه الذي هو

ص: 156


1- أجود التقريرات 4 : 74 - 75.
2- فوائد الأُصول 4 : 387.
3- فوائد الأُصول 4 : 387.

الطهارة والنجاسة ، وهذا المانع جارٍ أيضاً في الملكية ونحوها بالنسبة إلى حرمة تصرّف الغير ونحوها ، وهذا (1) أعني كون نسبة هذه الأحكام الوضعية إلى هاتيك الأحكام التكليفية نسبة الحكم إلى موضوعه المتأخّر عنه رتبة ، فلا يصحّ كونه منتزعاً منه لأنّه موجب لتقدّمه عليه رتبة ، وهكذا الحال في الحجّية ووجوب العمل فتأمّل.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم بالقياس إلى حكم آخر إمّا أن يكون كلّ منهما أجنبياً عن الآخر ، مثل وجوب الصوم مثلاً وكون الحيازة موجبة للملكية.

وإمّا أن يكون أحدهما هو المجعول بالأصالة والآخر هو المجعول بالتبع ، مثل وجوب ذي المقدّمة ووجوب نفس المقدّمة ، فإنّ المجعول بالأصالة هو وجوب ذي المقدّمة ، وأمّا وجوب نفس المقدّمة بناءً على أنّه وجوب شرعي فهو مجعول بالتبع.

وإمّا أن يكون المجعول هو أحدهما ويكون الآخر منتزعاً منه ، مثل الجزئية بناءً على أنّها منتزعة من كون الشيء واجباً ضمنياً في ضمن الوجوب الوارد على الكل ، وفي الحقيقة أنّ هذا النحو ليس من قبيل الأحكام الشرعية ، وإنّما هو أمر انتزاعي لا واقعية له أصلاً إلاّمحض الانتزاع ، فهو غير متحقّق حتّى في عالم الاعتبار ، بل هو منتزع من الاعتبار الذي هو الوجوب الضمني الوارد عليه في ضمن الوجوب الوارد على الكلّ.

وإمّا أن يكون كلّ منهما مجعولاً مستقلاًّ غير أنّ أحدهما يكون هو المجعول أوّلاً ويكون الآخر مجعولاً ثانياً بعد جعل الأوّل ، وذلك مثل وجوب الانفاق على الزوجة ، فإنّه مجعول ثانياً بعد جعل الزوجية ، فالزوجية بالنسبة إلى

ص: 157


1- [ كذا في الأصل فلاحظ ].

وجوب الانفاق تكون من قبيل موضوع الحكم بالنسبة إلى نفس الحكم ، وهذا النحو من الأحكام هي محلّ الكلام مع الشيخ قدس سره ، فينبغي النظر في أنّ مثل الملكية وحرمة التصرّف والزوجية وجواز الوطء ونحو ذلك من الأحكام الوضعية بالقياس إلى التكاليف الموجودة في مواردها ، هل الموضوع هو نفس الحكم الوضعي وحكمه هو ذلك الحكم التكليفي ، ليكون المجعول أوّلاً هو الحكم الوضعي ، أو أنّ الموضوع هو الحكم التكليفي ويكون حكمه هو ذلك الحكم الوضعي ، ليكون المجعول أوّلاً هو الحكم التكليفي ويكون المجعول ثانياً هو الحكم الوضعي ، بحيث إنّ الشارع عند إيجاد المكلّف عقد الزوجية يجعل جواز الوطء ووجوب الإنفاق ، وبعد جعله ذلك الحكم التكليفي يجعل الزوجية لمن جاز وطئها ووجب الإنفاق عليها ، فكأنّ ذلك العقد لا معنى له أصلاً سوى أنّه سبب لأن يتوجّه إليه جواز الوطء ووجوب الإنفاق ، وبعد أن يتوجّه إليه ذلك التكليف ، يجعله الشارع زوجاً ويجعل تلك المرأة زوجة له.

والظاهر بل المتعيّن هو الأوّل ، ولكن بأيّهما قلنا لا يكون أحدهما مجعولاً والآخر منتزعاً ، بل يكون كلّ منهما مجعولاً استقلالياً ، غير أنّ نسبة أحدهما إلى الآخر كنسبة الموضوع إلى الحكم ، وإنّما وقع هذا النزاع الخيالي في أنّ أيّهما هو الموضوع للآخر ، والمتعيّن هو كون الحكم الوضعي هو الموضوع والتكليفي هو الحكم.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ ما نسب إلى الشيخ قدس سره من كون الحكم الوضعي في مثل هذه الأحكام منتزعاً من الحكم التكليفي الموجود في مواردها لا محصّل له.

كما أنّ ما يظهر من شيخنا قدس سره من أنّ الأمر بالعكس ، وأنّ الحكم الوضعي هو المجعول ، وأنّ الحكم التكليفي منتزع منه ، وذلك قوله : فالتحقيق أنّ الاعتباريات

ص: 158

العرفية ليست من المنتزعات ، بل هي متأصّلة بالجعل قد أمضاها الشارع والتكليف إنّما ينتزع منها الخ (1) ، لا يخلو عن تأمّل ، اللّهمّ إلاّ أن يريد بالمنتزع ما يكون مجعولاً ثانياً وإن كان متأصّلاً بالجعل ، وإلاّ فبعد أن كان الحكم الوضعي موجوداً لدى العقلاء وأنّ الشارع قد أمضاه ، كيف يمكن القول بأنّ ذلك الحكم الشرعي التكليفي المجعول في مورده يكون منتزعاً صرفاً على حذو الجزئية المنتزعة من التكليف بالكل.

نعم ، إنّ هذه الجملة وهي كون الحكم التكليفي منتزعاً من الحكم الوضعي ليست موجودة في تحرير السيّد سلّمه اللّه ، بل اقتصر فيه على مجرّد أنّ الحكم الوضعي مجعول ، وأنّه لا داعي إلى الالتزام بكونه منتزعاً من الحكم التكليفي فراجعه في أواخر ص 382 وأوائل ص 383 (2) ، كما أنّها غير موجودة في تحريراتي عنه قدس سره.

كما أنّ قوله قبيل هذه العبارة : والذي يدلّ على ذلك هو أنّ مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرع وشريعة كالدهري والطبيعي ، مع أنّه ليس عنده إلزام وتكليف يصحّ انتزاع هذه الأُمور منه (3) لا يخلو عن تأمّل ، لما تقدّمت الاشارة إليه من أنّ العرف والعقلاء لديهم تكاليف ، وإن لم يكونوا متديّنين بدين ، فهم يحكمون بأنّ للزوج أن يطأ زوجته بخلاف الأجنبية ، ويرون أنّ عليه الإنفاق عليها ، وأنّ من ملك شيئاً يجوز له بحسب قوانينهم العقلائية أن يتصرّف فيه ولا يجوز لغيره أن يتصرّف. نعم هناك قوانين وأحكام مخالفة للشرع

ص: 159


1- فوائد الأُصول 4 : 388.
2- أجود التقريرات 4 : 74 - 75.
3- فوائد الأُصول 4 : 387.

أو مخالفة للقوانين العقلائية الأُخرى في الوضعيات وفيما يجوز وما لا يجوز ، حتّى أنّ الإباحيين لهم حدود وقوانين وضعية ونواميس يجرون عليها فيما يجوز من الأفعال وما لا يجوز.

وبالجملة : أنّ هذا السنخ من الوضعيات موجود لدى العقلاء وإن لم يكونوا أصحاب شريعة ، ولهذا السنخ عندهم جهات تكليفية ، ولكن ليس الأوّل عندهم منتزعاً من الثاني ، بل ولا أنّ الثاني عندهم منتزع من الأوّل ، بل كلّ منهما معتبر عندهم في نفسه استقلالاً ، غير أنّ الأوّل منهما بالنسبة إلى الثاني عندهم من قبيل موضوع الحكم بالنسبة إلى الحكم دون العكس. وقس على ذلك حال الطاهر والنجس ، فإنّ عندهم ما هو نقي وما هو قذر ، ويجوّزون مباشرة الأوّل ويمنعون من مباشرة الثاني ، ويرون أنّ الطهارة والقذارة بالنسبة إلى جواز المباشرة والمنع منها من قبيل الموضوع بالنسبة إلى الحكم ، وليس مرادنا من المنع الذي ننسبه إليهم هو ما يستحقّ عليه العقاب الأُخروي ، بل مرادنا هو عبارة عن زجر بعضهم بعضاً عن الارتكاب زجراً عقلائياً ، وربما كان في البين عقاب لكنّه دنيوي حسبما يجعلونه من الجزاء للجرائم التي يكون في البين قانون دولي أو عشائري يمنع من ارتكابها.

والخلاصة : أنّ الذي يظهر من هذه العبارة وممّا تقدّم في صدر هذا الأمر الرابع هو أنّ العقلاء ليس لديهم تكاليف فيما بينهم ، وأنّ كلّ ما عندهم هو من سنخ الوضعيات ، وقد عرفت التأمّل في ذلك. كما أنّه يظهر من صدر هذا الأمر الرابع حصر المجعولات الشرعية بالتأسيسية وهي التكاليف والامضائية وهي الوضعيات ، وصرّح بذلك السيّد سلّمه اللّه في تحريره بقوله : ولم نعثر على حكم

ص: 160

وضعي مجعول ابتدائي الخ (1). وفيه تأمّل أيضاً ، فإنّ المراد بالتأسيس ليس هو اختراع النوع ، بل هو اعتبار الملكية مثلاً في مورد لم يعتبرها العقلاء كما في ملكية الفقراء للزكاة مثلاً.

قوله : غايته أنّ موضوعات التكاليف إنّما تكون من المخترعات الشرعية كنفس التكاليف (2).

وقوله : وأمّا موضوعات الأحكام الوضعية فقد تكون تأسيسية ، وقد تكون إمضائية كنفس الحكم الوضعي ، فالأوّل كأخذ السيادة والفقر موضوعاً لتملّك السادات والفقراء الخمس والزكاة ، فإنّه لو لم يعتبر الشارع ذلك لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعاً للتملّك ... الخ (3).

يظهر من صدر العبارة أنّ موضوع الحكم التأسيسي لابدّ أن يكون تأسيسياً ومخترعاً شرعياً ، كنفس الحكم المجعول لذلك الموضوع ، لكنّه لم يظهر وجهه والواقع خلافه ، إذ كثيراً ما يكون موضوع الحكم التكليفي أمراً تكوينياً ، مثل الدلوك ورؤية الهلال ، إلى غير ذلك من موضوعات الأحكام الشرعية التكليفية ، وهكذا الحال في الحكم الوضعي التأسيسي ، فإنّ موضوع الملكية في الزكاة هو الفقير وكذا في الخمس هو الهاشمي ، وليسا من المخترعات الشرعية.

نعم ، هنا أمر آخر - أشار إليه بقوله : فإنّه لو لم يعتبر الشارع ذلك ( أي ملكية الزكاة ) لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعاً للتملّك ، وبقوله : فإنّ العاقل البالغ

ص: 161


1- أجود التقريرات 4 : 75.
2- فوائد الأُصول 4 : 388.
3- فوائد الأُصول 4 : 388.

المستطيع لا يكاد يكون موضوعاً لوجوب الحجّ ما لم يجعله الشارع موضوعاً ليترتّب عليه وجوب الحجّ - وهو أنّ موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم وارداً عليه ، نظير السببية والشرطية لما هو شرط التكليف وسببه ، بل سيأتي أنّ موضوعية الموضوع عين سببية السبب وشرطية الشرط ، لكن هذا - أعني كون موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم له - لا دخل له بما هو الظاهر من صدر العبارة ، وهو كون الموضوع للحكم التأسيسي من المخترعات الشرعية ، مضافاً إلى أنّ كون موضوعية الموضوع منتزعة من جعل الحكم له لا يختصّ بكون الجاعل للحكم هو الشارع ، بل هو جارٍ في الأحكام المجعولة عرفاً ، فتأمّل.

وقال السيّد سلّمه اللّه في تحريره : ثمّ إنّ ما ذكرناه من كون الأحكام الوضعية كلّها إمضائية غير تأسيسية إنّما هو بالقياس إلى أنفسها ، وأمّا بالقياس إلى موضوعاتها فقد تكون تأسيسية وقد تكون إمضائية ، مثلاً اعتبار الملكية بنفسه أمر إمضائي ، ولكن اعتبار الفقير أو السيّد موضوعاً لها فهو تأسيسي لا إمضائي ، إذ ليس من هذا الاعتبار عند العقلاء عين ولا أثر ... الخ (1).

وفيه تأمّل ، لما عرفت من أنّ المراد من التأسيس ليس هو اختراع النوع ، بل هو اعتبار الملكية مثلاً في مورد لم يعتبرها العقلاء فيه ، كما في ملكية الزكاة. وعلى كلّ حال ، فحاصل ما أُفيد هو كون التأسيس في الموضوع لا في الحكم ، وذلك عبارة أُخرى عن التأسيس في جعل ذلك الحكم لذلك الموضوع ، فلا يكون قولنا إنّه تأسيس في الموضوع للحكم العرفي إلاّمن قبيل تغيير العبارة ، ومن الواضح أنّ العقلاء عندهم حكم هو الوجوب وهو التحريم ووو ، فنقول : إنّ

ص: 162


1- أجود التقريرات 4 : 75.

الشارع قد أسّس موضوعات تلك الأحكام ومتعلّقاتها بجعله الوجوب وارداً على الصلاة مثلاً ، فيكون لازم ذلك أنّ جميع الأحكام التكليفية إمضائية لا تأسيسية ، لأنّ التأسيس في الحكم بمقتضى هذه العبارة أن يكون بنوعه أو بجنسه مخترعاً ، بحيث إنّه لا يوجد مثله عند العقلاء ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الأمر الخامس قد تقدّم منّا مراراً أنّ المجعولات الشرعية ليست من القضايا الشخصية الخارجية ... الخ (1).

هذا في الأحكام الكلّية ، وأمّا الأحكام الشخصية الخاصّة فهي لا تخرج عن كونها أحكاماً شرعية ، غايته أنّها ليست قانونية عامّة ، بل خاصّة بخصوص بعض المكلّفين مثل أحكامه الخاصّة ، ومثل بعض التكاليف الخاصّة لبعض الصحابة ، سواء كانت وضعية أو كانت تكليفية. وبالجملة : لا وجه لحصر المجعولات الشرعية بالكلّيات ، بل هناك أحكام شرعية ومجعولات شرعية هي غير كلّية. نعم لا بحث لنا عنها وإن وقع فيها البحث في الفقه ، مثل تحريرهم في باب النكاح خصائص النبي صلى اللّه عليه وآله.

قوله : نعم ، جرى الاصطلاح على التعبير عن الأمر الذي رتّب الحكم الوضعي عليه بالسبب ، فيقال : إنّ العقد سبب للملكية والزوجية ... الخ (2).

قد حقّق قدس سره في محلّه أنّ العقود ليست من الأسباب للمعاملة المنشأة بها بل هي آلات إنشائها ، وحينئذ فالأولى للتمثيل للسبب في باب المعاملات بالتنكيل وملكية العمودين فإنّهما سبب للانعتاق ، ونحو ذلك من الأسباب ، والأمر سهل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله في الأمر السادس في التمثيل لشرائط

ص: 163


1- فوائد الأُصول 4 : 388.
2- فوائد الأُصول 4 : 389.

المجعول في الأحكام الوضعية ، بقوله : وكالعقد المؤلّف من الايجاب والقبول الذي جعل موضوعاً للملكية والزوجية (1) ، وهكذا الحال فيما أفاده في التمثيل للجزئية والشرطية المنتزعة عن الوضع بقوله : والثاني كالملكية المترتّبة على العقد المركّب من الايجاب والقبول بما له من الشرائط والموانع (2).

قوله : أمّا الأُولى فكالأُمور الاعتبارية العرفية كالملكية والرقّية والزوجية والضمان وغير ذلك - إلى قوله - وليست منتزعة عن الأحكام التكليفية ... الخ (3).

لكن حيث إنّها من مقولة المسبّبات ، تكون داخلة في الخلاف الآتي في أنّ المجعول هو السببية أو المسبّب.

قوله : وليست منتزعة من الأحكام التكليفية بل في بعضها لا يتصوّر ما يصلح لأن يكون منشأ الانتزاع كالحجّية والطريقية ... الخ (4).

تقدّم الكلام (5) في الحجّية وما هو التكليف في موردها ، كما أنّه تقدّم الكلام (6) على هذا النحو من الأحكام الوضعية أعني الملكية وأخواتها ، وأنّه لا محصّل لكونها منتزعة من التكليف ، ولا محصّل لكون التكليف منتزعاً منها ، وأقصى ما في البين أن يكون هذا النحو من الوضعيات موضوعاً للأحكام

ص: 164


1- فوائد الأُصول 4 : 390.
2- فوائد الأُصول 4 : 393.
3- فوائد الأُصول 4 : 392.
4- فوائد الأُصول 4 : 392.
5- راجع المجلّد السادس ، الصفحة : 298.
6- في الصفحة : 157.

التكليفية في مورده دون [ العكس ].

وربما كان ذلك الحكم الوضعي موضوعاً لحكم وضعي آخر كما عرفت من ملكية أحد العمودين في كونها موضوعاً للانعتاق ، فلو قلنا مثلاً بأنّ مجرّد الملكية لا توجب الانعتاق ، بل اعتبرنا فيه كون المملوك مسلماً مثلاً ، أو كون المالك غير مديون ، أو كون ذلك بعد أداء الثمن الذي اشتراه به ، كان ذلك مثالاً للثاني الذي ذكره ، أعني ما يكون من الجزئية والشرطية منتزعاً من جعل الحكم الوضعي ، فإنّه أولى من المثال بأجزاء العقد وشرائطه ، لما عرفت من أنّ العقد آلة لايجاد ذلك الأمر الاعتباري الذي هو الملكية ، لا أنّه موضوع أو شرط أو سبب لذلك الأمر الاعتباري. ولكن مع ذلك لا يخلو المثال بالعقد وأجزائه وشرائطه من المناسبة ، فإنّ جزئية الايجاب مثلاً وشرطية ماضويته وعدم التعليق فيه أيضاً منتزعة من اعتبار الملكية عند إيجادها بتلك الآلة. والحاصل : أنّ أجزاء العقد وشرائطه من الانتزاعيات ، لكن ليست أجزاء السبب للملكية ولا أجزاء موضوع الملكية ، بل هي أجزاء آلة إيجاد الملكية.

قوله : سواء كان منشأ الانتزاع تكليفاً أو وضعاً ، فالأوّل كالتكليف بعدّة من الأُمور ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الجزئية والشرطية والمانعية في باب التكاليف لا تنحصر في جزء المكلّف به أو شرطه أو مانعه ، بل تجري في جزء موضوع التكليف أو شرطه أو مانعه ، لكن هذه في الحقيقة أجزاء وشرائط وموانع للسبب ، غايته أنّ السبب تارة يكون سبباً لأمر وضعي وأُخرى لأمر تكليفي ، كما في مثل سببية الدلوك للوجوب المتعلّق بالصلاة ، أو سببية السفر بشروطه للزوم القصر ، أو

ص: 165


1- فوائد الأُصول 4 : 393.

سببية الافطار العمدي لوجوب الكفّارة وهكذا.

وبالجملة : الأولى في باب الجزئية والشرطية والمانعية تثليث الأقسام ، فإنّ الجزء إمّا أن يكون جزء المكلّف به ، أو يكون جزء موضوع التكليف ، أو يكون جزء السبب في الوضعيات ، وهكذا الحال في الشرط والمانع ، لكن هذه الأقسام كلّها منتزعة من جعل التكليف أو الوضع.

قوله : فإنّ هذه الأُمور كلّها انتزاعية لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي ، لا استقلالاً كجعل وجوب ذي المقدّمة ، ولا تبعاً كجعل وجوب المقدّمة ... الخ (1).

قد حرّرت في هذا المقام عنه قدس سره ما حاصله : أنّه لم يعلم ماذا أراد القائلون بكون هذه الأُمور - أعني الجزئية والشرطية والمانعية - مجعولة ، فهل المقصود أنّها مجعولة ابتداءً في عرض جعل ما رتّب عليها من وضع أو تكليف ، فهما من قبيل الوجوبين المتعلّقين بالمتلازمين ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي في كون وجوب كلّ منهما مجعولاً بجعل مستقل وارد على القدر المشترك بينهما ، لأنّ جعل الوجوب وارداً على كلّ واحد منهما مستقلاً يوجب كون المجعول ابتداءً هو ما يبدأ به ، ويكون الآخر مجعولاً بالتبع. ومنه يظهر أنّ مثل هذين الوجوبين يمكن أن يجعلا معاً بجعل واحد وارد على القدر المشترك ، ويمكن جعل أحدهما ابتداءً وصيرورة الآخر مجعولاً بالتبع قهراً.

أو أنّ مرادهم أنّ هذه الأُمور هي المجعولة ابتداءً ويكون ما يلحقها من وضع أو تكليف مجعولاً قهراً بالتبع ، أو أنّ الأمر بالعكس.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المختار لنا هو أنّ هذه الأُمور غير مجعولة لا بالأصالة

ص: 166


1- فوائد الأُصول 4 : 392 - 393.

ولا بالتبع ، سواء كانت مضافة إلى سبب الوضع ، كالعقد المؤلّف من إيجاب وقبول والمشروط فيه العربية مثلاً المعتبر فيه عدم الربا ، أو كانت مضافة إلى شرط التكليف ، كما إذا فرض أنّ وجوب إكرام زيد كان مشروطاً بالمركّب من مجيء عمرو ومجيء خالد معه وأن لا يكون معهما بكر مثلاً ، أو كانت مضافة إلى متعلّق التكليف كما في التكليف بالصلاة المركّبة من أجزاء وشرائط وفقد موانع ، فإنّ الجزئية والشرطية والمانعية في هذه الأقسام الثلاثة لا تكون مجعولة لا أصالة ولا تبعاً ، بل تكون منتزعة ، ففي القسمين الأوّلين تكون منتزعة من ترتّب التكليف أو الوضع على ذلك الموضوع المؤلّف من الأجزاء والشرائط وفقد الموانع.

بيان ذلك : أنّا قد بيّنا في العلّة التكوينية المؤلّفة من أجزاء وشرائط وفقد موانع أنّه لا يكون لجزئية تلك الأجزاء وشرطية تلك الشروط ومانعية تلك الموانع ما بحذاء في الخارج وعالم التكوين ، إذ ليس الموجود في ذلك العالم إلاّ تأثير المقتضي الذي هو النار مثلاً في المعلول الذي هو الاحتراق مع قرب النار من الحطب وعدم المانع من التأثير ، فلا يكون اقتضاء المقتضي ولا شرطية الشرط المذكور ولا مانعية المانع المذكور إلاّ أُموراً انتزاعية منتزعة من ذلك التأثير بالكيفية الخاصّة ، نظير انتزاع صفة التقدّم والتأخّر من اتّصاف الشيء بكونه موجوداً في هذا المكان أو في هذا الزمان.

وإذا تحقّق أنّ الجزئية والشرطية والمانعية بالاضافة إلى العلل التكوينية ليست مجعولة في عالم التكوين ، بل هي منتزعة من تكوين العلّة والمعلول ، لعدم ما بازاء لها في عالم التكوين ، نقول : إنّ الشرطية والجزئية والمانعية في عالم التشريع لمّا لم يكن لها ما بازاء في عالم التشريع ، لا تكون إلاّ أُموراً منتزعة عمّا هو المجعول الذي يكون له ما بحذاء في عالم الجعل والتشريع ، وهو ما رتّب

ص: 167

عليها من وضع أو تكليف.

وأمّا نسبة هذه الأُمور إلى متعلّق التكليف فكذلك أيضاً لا تكون إلاّمنتزعة من نفس ذلك التكليف ، مثلاً جزئية السورة من الصلاة قبل تعلّق الأمر بها لا يكون لها تحقّق في عالم التشريع ، فإنّ الشارع وإن أمكنه أن يتصوّر الصلاة مركّبة من السورة ، إلاّ أن هذا التصوّر بالنسبة إلى جعل الجزئية وجوده كعدمه ، فكما أنّ صفحة التشريع قبل هذا التصوّر تكون خالية من جزئية السورة ، فكذلك تكون خالية منها بعد تصوّر الصلاة مركّبة منها ، ولو صرّح ألف مرّة بأني جعلت السورة جزءاً من الصلاة لا تكون السورة جزءاً منها بحيث يصدق عليها أنّها جزء المأمور به ، ما لم يكن ذلك التصريح كاشفاً عن تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة منها ، ولو تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة من السورة كانت السورة جزءاً من المأمور به قهراً ولو صرّح بأنّها ليست عندي جزءاً ، ما لم يكن ذلك عدولاً عن تعلّق الأمر بالمركّب منها.

ثمّ إنّه بعد الأمر بالصلاة المركّبة من السورة تكون السورة جزءاً من الصلاة المأمور بها ، إلاّ أنه لمّا لم يكن للجزئية ما بحذاء في عالم التشريع ، بل لم يكن في ذلك العالم ما له بحذائه شيء سوى تعلّق الأمر بالصلاة المركّبة من السورة ، لم تكن الجزئية المذكورة مجعولة لا بالأصالة ولا بالتبع. أمّا الأوّل فواضح ، لأنّ المجعول الابتدائي إنّما هو الوجوب المتعلّق بالمركّب. وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّه لابدّ في المجعول الشرعي سواء كان أصلياً أو تبعياً من أن يكون له ما بحذاء في عالم التشريع ، وقد عرفت أنّه ليس للجزئية ما بازاء في عالم التشريع ، وأنّه ليس في صفحة ذلك العالم سوى جعل الوجوب المتعلّق بالمركّب من السورة ، وحينئذ لا تكون الجزئية المذكورة إلاّ أمراً انتزاعياً منتزعاً من ذلك المجعول

ص: 168

الشرعي ، وهو تعلّق الوجوب بالمركّب من السورة. وبعبارة أُخرى : تكون الجزئية منتزعة من ذلك الأمر الضمني المتعلّق بالسورة في ضمن تعلّقه بالمركّب منها. وهكذا الحال في الشرطية والمانعية.

واعلم أنّ هذا التقريب بعينه يتأتّى في إضافة هذه الأُمور إلى شرط التكليف وفي إضافتها إلى سبب الوضع ، هذا ما كنت حرّرته سابقاً ، ولكن تقدّم التأمّل في ذلك كلّه فراجع (1).

والذي تلخّص : أنّ الجزئية إمّا أن تكون في عالم التشريع نظير الفوقية المنتزعة من جعل جسم فوق آخر ، بأن تكون الجزئية لا واقعية لها إلاّذلك الأمر الانتزاعي الذي لا واقعية له في عالم التشريع ، فضلاً عن عالم الأعيان. وإمّا أن تكون مجعولة تبعاً لجعل الوجوب الضمني في ضمن وجوب الكل ، مثل وجوب المقدّمة بالنسبة إلى وجوب ذي المقدّمة ، على وجه يكون ذلك الوجوب الضمني الوارد على الركوع مثلاً موجباً لانجعال الجزئية للركوع. وإمّا أن تكون مجعولة ثانياً بعد الجعل الأوّلي الذي هو الوجوب الضمني ، فتكون في ذلك على العكس من الملكية وآثارها التكليفية ، غايتها أنّ الأمر في الجزئية بالعكس ، بمعنى أنّ المجعول أوّلاً هو التكليف الضمني ، وبعد تحقّق الوجوب الضمني للجزء يجعل الجزئية له ، ويكون نسبة ذلك الحكم التكليفي إلى الحكم الوضعي كنسبة الموضوع إلى الحكم. والأوّل هو المختار لشيخنا قدس سره ، لكنّه قدس سره حسب هذا التحرير الذي نقلته عنه لم يتعرّض لإبطال الوجهين الآخرين ، واقتصر في هذا التحرير على بيان مختاره وهو الوجه الأوّل.

فنقول : أمّا الوجه الثاني فهو باطل ، لبطلان أساسه وهو كون الحكم

ص: 169


1- لم يتقدّم ذلك ولكن سيأتي في الحاشية اللاحقة في الصفحة : 172 وما بعدها.

المجعول غير اختياري للجاعل. ومنه يظهر أنّه لا محصّل لانوجاب المقدّمة بإيجاب ذيها ، بل هما وجوبان مستقلاّن غايته أنّهما متلازمان ، بمعنى أنّه إذا أوجب ذا المقدّمة لزمه إيجاب نفس المقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث وهو جعل الجزئية لما هو واجب ضمناً ، بأن يكون مورد الحكم التكليفي موضوعاً لما هو الحكم الوضعي ، فهو وإن كان ممكناً إلاّ أنه ليس بأولى من عكسه ، وهو جعل مورد الوجوب الضمني موضوعاً لما هو الحكم الوضعي (1) ، بأن يجعل الوجوب لما هو جزء في عالم التشريع على ما حرّرناه (2) من أنّ جعل الجزئية سابق في الرتبة على جعل الحكم التكليفي ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما نحن فيه لا يمكن أن يجعل الجزئية حكماً لما هو واجب ضمناً ، لأنّ ما هو واجب ضمناً هو نفس الجزء ، فلابدّ أن تكون الجزئية هي السابقة ، وهذا بخلاف مسألة الملكية وجواز التصرّف ، فإنّه يمكن أن يدّعى أنّ جواز التصرّف حكم وارد على ما وقع عليه العقد من دون أخذ الملكية فيه ، وبعد أن صار يجوز التصرّف فيه يحكم عليه بأنّه ملك ، وإن قلنا فيما تقدّم ببطلانه ، نظراً إلى أنّ جواز التصرّف لم يرد إلاّعلى الملك لا على ما وقع عليه العقد مع قطع النظر عن الملك ، لكنّه على بطلانه لا يمكن تأتّيه فيما نحن فيه ، فتأمّل.

وبالأحرى أن يكون هذا النزاع لفظياً ، فإنّ الجزئية المضافة إلى المأمور به المنتزعة من تعلّق الأمر بالمركّب ، لا أظنّ عاقلاً يدّعي أنّها متحقّقة في عالم الاعتبار على حذو الاعتبارات الشرعية ، بل ليست هي إلاّعبارة عن كون ذلك

ص: 170


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل والظاهر أنّها من سهو القلم ].
2- الظاهر أنّه قدس سره يشير بذلك إلى ما سيأتي في الحاشية اللاحقة في الصفحة : 172 وما بعدها.

الفعل متّصفاً بكونه مأموراً به بالأمر الضمني ، فهي على ذلك مساوقة لكون الكل مأموراً به ، فلا تكون إلاّ أن تزاعية ، نظير انتزاعية صفة المحروقية لهذا القرطاس عند إحراقه ، وانتزاع صفة المحروقية الضمنية لكلّ واحد من أجزائه على وجه يتّصف كلّ واحد من أجزائه بأنّه جزء المحروق.

كما أنّ لحاظ الشارع المركّب بلحاظ كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمنه في الرتبة السابقة على الأمر ممّا لا يمكن إنكاره لعاقل. ولأجل ذلك تراهم يقولون كما في الكفاية حيث [ قال : ] وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً وإن اتّصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة كما لا يخفى (1) وحاصله : أنّ الكلام في جزئية الركوع مثلاً للمأمور به ، لا في جزئيته لما هو المتصوّر قبل الأمر.

ولا يخفى أنّ هذا هو الذي نسمّيه مقام الاختراع أو مقام التصوّر قبل الأمر وهو عالم تشريعي واعتبار ناشٍ عن اللحاظ التشريعي ، وأنّ الشارع لاحظ تلك الأفعال مجتمعة ونظر إليها نظر الشيء الواحد ، وذلك عبارة أُخرى عن النظر إلى كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمن ذلك المركّب ، وهذا هو الذي نسمّيه مقام الجزئية الشرعية ، فهل يمكن إنكاره لأحد من العقلاء ، كلاّ ثمّ كلاّ.

وما أُفيد من أنّ الشارع إذا لاحظها جزءاً قبل الأمر أو صرّح بأنّه جعلها جزءاً لا تكون جزءاً من المأمور به مسلّم ، إلاّ أن ذلك لا ينفي الجزئية في عالم التشريع والاعتبار الشرعي الذي هو قبل عالم الايجاب ، وبهذا نستريح من جملة من الإشكالات المتوجّهة على أنّه لا جعل أصلاً سوى الأمر بالكل المنبسط على كلّ واحد من الأجزاء ، مثل كون جزئية الجزء مطلقة شاملة لحال التعذّر ، فيوجب

ص: 171


1- كفاية الأُصول : 402.

ذلك سقوط الأمر بالكل عند تعذّره ، ونحو ذلك من الإشكالات والأساسات العلمية التي لا تلتئم مع انحصار الجعل بالأمر المذكور ، فلاحظ وتدبّر.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في جزئية السبب أو شرطه ، فإنّها تكون مجعولة بنحو ما ذكرناه في جعل جزئية المأمور به وشرطه ومانعه ، فلاحظ وتأمّل فإنّ الشارع عند جعله الحكم التكليفي أو الوضعي مترتّباً على السبب المركّب الذي هو موضوعه في الحقيقة ، لابدّ أن يكون قد تصوّر ذلك الموضوع المركّب ، وذلك التصوّر عبارة عن اعتباره التركيب في ذلك الموضوع ، واعتبار التركيب فيه عبارة عن اعتبار كل واحد من تلك الأجزاء داخلاً في المركّب المذكور ، فيكون جميع ذلك - أعني التركيب والجزئية - مجعولاً للشارع ، على حذو ما عرفت من تركيب متعلّق التكليف.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس سره في مبحث [ الأقل ] والأكثر فيما لو كان الترديد بين الأقل والأكثر في الأسباب الشرعية فراجع وتأمّل. نعم إنّ جريان الأصل النافي في نفس جزئية الجزء لا تنفع في إحراز سببية الباقي بعد فرض كون السببية في نفسها غير مجعولة فتأمّل ، فراجع ص 47 من هذا التحرير وراجع ما حرّرناه هناك (1).

قوله : فإنّه من تعلّق التكليف بكلّ واحد منها وانبساطه عليها تنتزع الجزئية والشرطية والمانعية ... الخ (2).

لكن هذه المجموعة تكون متعلّقاً للتكليف ، فلابدّ أن تكون سابقة في الرتبة عليه ، ولابدّ من لحاظ اجتماعها واعتبارها شيئاً واحداً قبل لحاظ تعلّق

ص: 172


1- راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 263 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 393.

التكليف بها ، فيكون اتّصاف الركوع مثلاً بكونه جزءاً من هذه المجموعة سابقاً في الرتبة على تعلّق الأمر بها ، وذلك هو المعبّر عنه بالجزئية للماهية المخترعة. نعم إنّ كونه جزءاً من المأمور به لا يكون إلاّمتأخّراً عن الأمر ، وهذا هو محصّل ما أفاده في الكفاية بقوله : وأمّا النحو الثاني - إلى قوله - وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلاً ، وإن اتّصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة كما لا يخفى (1).

وعلى كلّ حال ، لا تكون جزئية الجزء إلاّمنتزعة من لحاظ المجموع المؤلّف منه ومن غيره شيئاً واحداً ، سواء كان ذلك في مقام الاختراع أو في مقام مجرّد التصوّر أو كان في مقام الأمر ، وإن كانت نسبة المقامات السابقة على تعلّق الأمر إلى مقام تعلّق الأمر كنسبة الموضوع إلى الحكم. ولعلّ من قال : إنّ الجزئية مجعولة ، وأنّ الأمر مجعول بالتبع أو هو منتزع ، ناظر إلى هذه الجهة أعني لابدّ أن يكون قبل الأمر لحاظ تركيب وجزئية وشرطية ثمّ يعلّق الأمر بذلك المركب ، ويكفي في هذه القبلية القبليةُ الرتبية ، حتّى أنّه لو تصوّر المركّب وعلّق الأمر لكان ذلك كافياً في القبلية المذكورة ، فهذه الجزئية الملحوظة في حال تعلّق الأمر لا تكون متأخّرة عن الأمر ، بل لابدّ أن تكون سابقة عليه ، فليس لنا أن نقول إنّها منتزعة من تعلّق الأمر على وجه تكون متأخّرة عنه رتبة ، بل هي سابقة عليه سبق الموضوع للحكم. نعم بعد تعلّق الأمر بالمجموع المركّب يتّصف قهراً كلّ جزء منه بأنّه جزء المأمور به ، كما أنّ نفس المجموع المركّب يتّصف بأنّه مأمور به ، فإن كان الكلام في أنّ الجزئية مجعولة يراد به أنّ هذه الجزئية - أعني اتّصاف الجزء بأنّه جزء المأمور به كاتّصاف الكل بأنّه مأمور به - مجعولة للشارع بجعل

ص: 173


1- كفاية الأُصول : 401 - 402.

زائد على جعله الأمر المتعلّق بالكل ، فذلك ممّا لا يقوله عاقل.

وإن كان المراد هو أنّه قبل تعلّق الأمر هناك تركيب وهناك مجموع لوحظ مجموعاً ثمّ تعلّق به الأمر ، فهذا أيضاً غير قابل للانكار ، إذ لا يمكن أن ينكره عاقل ، وحينئذ ننقل الكلام إلى جميع تلك الأفعال المتفرّقة ولحاظها شيئاً واحداً مرتبطاً بعضها ببعض ، فلنا أن نقول إنّه جعل وخلق ، ولنا أن نعبّر عنه بمقام الاختراع ، وهو لا يحتاج إلى خطبة أو إعلان وصعود منبر يقول فيه إنّي قد ركّبت هذا المجموع من كذا وكذا ، بل يكفي فيه ما عرفت من لحاظ تلك المجموعة شيئاً واحداً ولو في الرتبة السابقة على إيجاد الأمر المتعلّق بها ، بل يكفي فيه أن يتصوّرها كذلك في مقام إيراده الأمر عليها ، ولنا حينئذ أن نسمّي ذلك المجموع الملحوظ في ذلك المقام بالماهيات المخترعة ، وأن نسمّي ذلك المقام مقام اختراع ، وإن شئت فعبّر عنه بمقام خلق ذلك المجموع وجعله كأنّه ماهية بسيطة في عرض سائر الماهيات ، لكنّه ليس بحقيقي ، بل هو تشريعي لا تحقّق له إلاّفي وعاء الاعتبار التشريعي.

وحينئذ فلنا أن نقول : إنّ الجزئية لذلك الجزء مجعولة ، وبعد الفراغ من ذلك الاختراع يعلّق الأمر بالمجموع ، فيكون ذلك الاختراع بالنسبة إلى ذلك الأمر كنسبة الموضوع إلى الحكم. وحاصل ما ندّعيه أنّ التركيب سابق على الأمر ، وهو - أعني التركيب - اعتبار شرعي حاصل باعتبار الشارع ، وذلك عبارة أُخرى عن جعله ، فيكون من المجعولات الشرعية ، وليس هو إلاّ اعتبار أنّ هذا الفعل مربوط بذلك الفعل ، وأنّ هذا جزء وهذا جزء وذلك جزء وهكذا ، فتكون الجزئية مجعولة شرعية ، وتكون من جملة الاعتبارات الشرعية ، وذلك عبارة أُخرى عن كونها حكماً شرعياً ، غايته أنّه وضعي في قبال التكليفي ، إذ ليس المراد من الحكم

ص: 174

الوضعي إلاّ الاعتبار المشار إليه.

لا يقال : لو سلّمنا أنّ لحاظ التركيب السابق على تعلّق الأمر بالمجموع من الاعتبارات الشرعية ، فلا نسلّم أنّ جزئية الجزء من ذلك المركّب مجعولة شرعاً ، بل هي منتزعة من اعتبار الوحدة في ذلك المجموع ، فلا تكون الجزئية مجعولة شرعاً.

لأنّا نقول : ليس اعتبار التركيب في ذلك المركّب إلاّعبارة عن اعتبار كلّ واحد من ذلك المجموع جزءاً من ذلك المجموع ، إذ ليست الجزئية إلاّعبارة عن لحاظ هذا الجزء مثلاً منضمّاً إلى الباقي ، وذلك هو عين التركيب الذي هو عبارة عن لحاظ كلّ واحد منضمّاً إلى البواقي ، أعني لحاظ هذه الأفعال المتفرّقة منضمّاً بعضها إلى بعض.

نعم ، هذا اللحاظ أعني لحاظ كلّ واحد جزءاً من المجموع أو لحاظ الانضمام والاتّحاد في تلك الأفعال المتفرّقة لابدّ أن يكون في مقام أعني مقام الاختراع أو مقام تصوّره ليورد الأمر عليه ويعلّقه به ، فاضافة الجزئية إلى ذلك المقام لا تكون إلاّ أن تزاعية ، فيقال إنّ هذا جزء المخترع أو جزء المتصوّر في مقام الأمر أو جزء المأمور به ، ولا ريب في أنّ هذه الاضافة انتزاعية ، كاضافة نفس الكل إلى نفس ذلك المقام ، فيقال مجموع المخترع أو مجموع المتصوّر أو مجموع المأمور به.

ثمّ لا يخفى أنّه لو أُريد من التركيب مقام المصلحة ، بمعنى كون ذلك المجموع المركّب ذا مصلحة موجبة لأن يأمرنا الشارع به ، فلا يخفى أنّ ذلك المقام من التركيب مقام واقعي ، ومدخلية كلّ واحد من أجزاء ذلك المركّب وقيوده مدخلية واقعية ، وحينئذ تكون الجزئية بهذا المعنى واقعية غير مجعولة بل

ص: 175

ولا انتزاعية.

ولكن هذا التركّب الواقعي لا يغني عن التركّب الشرعي الذي هو عبارة عن لحاظ المجموع شيئاً واحداً ، غايته أنّ الشارع يجري في ذلك اللحاظ على ذلك المجرى الواقعي ، ولأجل [ ذلك ] لو فرضنا محالاً أنّ الشارع لا يجري على ذلك المجرى ، بل عند تعليق أمره بتلك الأفعال لم يلاحظ اجتماعها ووحدتها ، بل لاحظها متفرّقة وعلّق أمره بها على ما هي عليه من التعدّد والتفرّق ، بل لم يكن أمره بها إلاّكما ينظر إلى الصلاة والصوم والزكاة والحجّ على ما هي عليه من التفرّق ويقول افعلوها ، إذ لا يكون في البين حينئذ كلّية ولا جزئية ، بل لا يكون إلاّ أفعال متعدّدة ذات أوامر متعدّدة ، جمعها بأمر واحد وهو قوله : افعلوها.

وبالجملة : أنّ الشارع حينما يأمر بذلك المجموع إن لاحظه شيئاً واحداً كان ذلك عبارة أُخرى عن اختراع التركيب بينها ، على وجه يكون كلّ واحد من تلك الأجزاء داخلاً في ذلك المجموع ، ويكون هذا التركيب عين جزئية كلّ واحد من تلك الأجزاء ، لأنّ لحاظ المجموع شيئاً واحداً عبارة أُخرى عن لحاظ تلك الأجزاء منضمّاً بعضها إلى بعض ، فليس لحاظ الكلّية إلاّلحاظ الأجزاء مجتمعة ، وليس لحاظ الأجزاء مجتمعة إلاّلحاظ الجزئية لكلّ واحد منها ، وحينئذ فبعد كون ذلك اللحاظ عبارة عن الاعتبار الشرعي كانت الجزئية مجعولة بعين جعل الكل ، لكن هذه الجزئية ليست هي عبارة عن الجزئية لما هو المأمور به المتأخّرة عن تعلّق الأمر بالمركّب ، فإنّ تلك انتزاعية صرفة كما أفادوه ، بل إنّ الجزئية التي ندّعي جعلها في عالم التشريع هي التابعة للماهيات الاختراعية بالنحو الذي ذكرناه من الاختراع ، أعني به اعتبار المركّب ولحاظه مركّباً في الرتبة السابقة على التركيب ، التي هي عين لحاظ كلّ واحد من تلك الأفعال داخلاً في ضمن ذلك

ص: 176

المركّب.

قوله : وبعد انبساط التكليف عليها تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية قهراً ، ولا يعقل بعد ذلك جعل شيء آخر جزءاً أو شرطاً للمأمور به أو مانعاً عنه إلاّبنسخ التكليف الأوّل وإنشاء تكليف آخر يتعلّق بما يعمّ ذلك الشيء ... الخ (1).

هذه الأوامر الواردة على بعض الأجزاء والشرائط مثل أن يقول : فإذا فرغت من الفاتحة والسورة فاركع ، لا تكون إلاّ إرشاداً إلى أنّ الركوع جزء من المأمور به ، وليست هي نفس ذلك الأمر الضمني الحاصل في ضمن الأمر المتعلّق بالكل ، لاستحالة كون الضمني استقلالياً ، وإلاّ لخرج عن كونه ضمنياً وصار واجباً استقلالياً في ظرف الواجب ، وحينئذ لو أمر الآمر بالصلاة المجرّدة عن الركوع مثلاً ، ثمّ أراد أن يجعل الركوع جزءاً منها ، ففي مقام التشريع وعالم الثبوت لا يكفي أن يجعل له الأمر الضمني ، لما عرفت من استحالة كونه استقلالياً ، ولا يكون قوله اركع في الصلاة إلاّمن قبيل الواجب الاستقلالي في الواجب ، كما أنّه لا يكفي أن يجعل الركوع جزءاً من الصلاة ، فإنّ هذا الجعل لا يحقّق ما هو المقصود له ، وهو كون الركوع مأموراً به ضمناً في ضمن الأمر المتعلّق بالصلاة ليكون جزءاً من المأمور به ، وحينئذ ينحصر الطريق في التوصّل إلى جعل الركوع جزءاً من الصلاة بالعدول عن الأمر الأوّل والتزام خلق أمر جديد يعلّقه بالصلاة المشتملة على الركوع ، وهو عبارة عن النسخ المشار إليه ، وعلى هذا الأساس يجري ما نقول من أنّ الاطلاق والتقييد والعموم والتخصيص لا يكون إلاّفي مقام الاثبات ، وأنّ مقام الثبوت شيء واحد ، وأنّه ليس هناك تعميم وتخصيص ولا

ص: 177


1- فوائد الأُصول 4 : 393.

إطلاق وتقييد ، فلو كان الحكم في مقام الثبوت عاماً ثمّ أُريد تخصيصه احتيج إلى ارتكاب طريقة النسخ ، وهكذا الحال فيما لو كان مطلقاً في مقام الثبوت وأُريد تقييده.

وممّا ذكرناه في الجزئية والشرطية والمانعية - أعني جزء المؤثّر في الصلاح - وأنّها في هذه المرحلة واقعية ، أو جزء المخترع وهذه المرحلة تكون الجزئية مجعولة فيها للمخترع ، أو جزء المتصوّر حين تعلّق الأمر ، وفي هذه المرحلة تكون الجزئية مجعولة ابتداءً إن قلنا إنّها عين كون الجزء منظوراً إليه في ضمن النظر إلى الكل ، وإن قلنا إنّها منتزعة من ذلك النظر فهي انتزاعية ، وأمّا المرتبة المتأخّرة عن الأمر فليست هي إلاّكون الجزء مأموراً به في ضمن تعلّق الأمر بالمركّب ، وأين ذلك من كونه جزءاً من المأمور به كي يقال إنّها منتزعة من الأمر.

وهذه المراحل بعينها جارية فيما نسمّيه بالصحّة والفساد ، إذ ليست الصحّة إلاّ التمامية أعني نفس الكل ، فإنّ هذه الكلّية لذلك المجموع المركّب هي توأم مع جزئية الجزء ، يجتازان معاً هذه المراحل التي ذكرناها للجزئية ، وبذلك نستغني عمّا أفادوه في الصحّة والفساد من التشقيقات الآتي ذكرها في التحرير ص 145 وص 146 (1) ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وإنّما الخلاف وقع في جعل السببية ... الخ (2).

مثال السببية الشرعية للتكليف سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، ومثال السببية الشرعية للوضع سببية التنكيل بالعبد لانعتاقه. أمّا سببية الأفعال الوضوئية

ص: 178


1- فوائد الأُصول 4 : 398 - 400.
2- فوائد الأُصول 4 : 393.

للطهارة من الحدث ، أو سببية الغسل للطهارة من الخبث ، أو سببية ملاقاة النجس لنجاسة الملاقي ، أو سببية الجنابة أو النوم للحدث الأكبر أو الأصغر ، فكونها ممّا نحن فيه متوقّف على كون هذه المسبّبات من المجعولات الشرعية أو كونها من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، فعلى الأوّل تدخل فيما نحن فيه ، بخلافه على الثاني فإنّها بناءً عليه تكون من الأسباب الواقعية التي لا مدخل فيها للجعل الشرعي. نعم تلك المسبّبات الواقعية لها آثار تكليفية مثل حرمة مس المصحف وحرمة الأكل وجواز الصلاة ونحو ذلك ، وذلك مطلب آخر لا دخل له بما نحن فيه.

وعلى أيّ ، فقد اختلفوا في الأسباب الشرعية مثل ما عرفت من الدلوك بالنسبة إلى وجوب الصلاة ، ومثل التنكيل بالنسبة إلى الانعتاق ، والأقوال في ذلك أربعة :

الأوّل : أنّ نفس السببية مجعولة ، وأنّه لا جعل للشارع إلاّهذا المقدار ، فيجعل الدلوك سبباً لوجوب الصلاة والتنكيل سبباً للانعتاق.

الثاني : أنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب عند وجود ذات السبب ، فليس المجعول إلاّ الوجوب عند الدلوك والحرّية عند التنكيل.

الثالث : أنّ المجعول كلّ منهما ، فيجعل الدلوك سبباً لوجوب الصلاة ويجعل وجوب الصلاة عند الدلوك.

الرابع : أنّ السببية ذاتية غير قابلة للجعل ، فالدلوك بذاته علّة لوجوب الصلاة وهكذا ، ولازمه أنّه لا جعل للشارع أصلاً لا في ناحية السببية ولا في ناحية المسبّب. أمّا الأوّل فلكونها ذاتية للدلوك ، وأمّا الثاني فلأنّ حصول المسبّب عند

ص: 179

حصول سببه قهري ، وهذا هو مسلك صاحب الكفاية (1) ، لكنّه لم يصرّح بالثاني ، إلاّ أنّه لازم كلامه ، لكنّه إنّما يكون لازماً لكلامه لو كان مراده أنّ الدلوك سبب للمجعول ، أمّا لو كان مراده أنّه سبب للجعل فلا يكون لازم كلامه انتفاء الجعل الشرعي إلاّمن الطرف الأوّل دون الطرف الثاني.

أمّا الوجه الثالث فقد أبطله شيخنا قدس سره بأنّ أحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر فيلزم لغوية أحدهما. مضافاً إلى ما أورد عليه على الوجه الأوّل من أنّ لازمه انسلاخ الوجوب عن المجعولية وأنّه يستحيل جعل السببية.

ولا يخفى أنّ الأنسب في الايراد على الوجه الأوّل هو جعل الايراد الثاني أوّلاً والايراد الأوّل ثانياً ، فيقال : إنّه يرد على القول بجعل السببية أوّلاً : أنّها غير قابلة للجعل التشريعي ، بل ولا للجعل التكويني إلاّتبعاً أو عرضاً كما أفاده في الكفاية (2). وثانياً : أنّ لازم جعل السببية هو انسلاخ مثل الوجوب عند الدلوك عن المجعولية الشرعية ، فإنّ المراد من جعل الشارع السببية للدلوك هو جعل الدلوك سبباً للوجوب ذاته ، لا أنّه يجعله سبباً لجعل الوجوب كما ربما يكون هو مراد الكفاية من السببية الذاتية ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في الايراد الأوّل ، فإنّ جعل السببية إنّما يكون غير ممكن في الأسباب والمسبّبات التكوينية ، أمّا السببية الاعتبارية فحيث إنّ قوامها الاعتبار والاعتبار خفيف المؤونة ، فلا مانع من جعلها الذي هو عبارة عن اعتبارها لكن ذلك لا يتأتّى فيما لو كان المسبّب من الموجودات العينية ، وإنّما يتأتّى فيما يكون المسبّب اعتبارياً ، سواء كان السبب اعتبارياً كما في سببية ملكية أحد

ص: 180


1- كفاية الأُصول : 400 - 401.
2- كفاية الأُصول : 400 - 401.

العمودين لانعتاقه ، أو كان السبب غير اعتباري كما في سببية التنكيل للحرّية والدلوك للوجوب.

نعم ، يبقى الايراد الثاني وهو أنّ الشارع بعد أن اعتبر مثل الدلوك سبباً في الوجوب ، يكون الوجوب مستنداً إلى نفس الدلوك ، لأنّ ذلك مقتضى سببيته المجعولة وإلاّ لم يكن سبباً ، وحينئذ تخرج الأحكام الشرعية الوضعية والتكليفية عن كونها مجعولات شرعية.

ولكن لابدّ من النظر إلى السببية الاعتبارية التي هي محلّ كلامنا ، فهل هي عبارة عن التأثير والتأثّر الحقيقي بحيث إنّه بجعل السببية للدلوك يكون الدلوك مولّداً للوجوب وخالقاً له ، فهذا لا يعقل ، لا لمجرّد ما أُفيد في الايراد الأوّل ، بل إنّا لو سلّمنا إمكان جعل السببية فهي هنا غير ممكنة الجعل ، لأنّ الدلوك يستحيل منه خلق ذلك الوجوب وإفاضته نظير إفاضة النار الاحراق.

وهكذا الحال في التنكيل بالنسبة إلى الحرّية والانعتاق ، فإنّ الحرّية إنّما تكون بالانشاء من المعتق والاعتبار ممّن له الاعتبار ، سواء كان المعتبر هو العقلاء أو كان هو الشارع إمضاءً أو تأسيساً ، أو تكون بالاعتبار فقط كما في الحرّيات القهرية مثل حرّية غير المملوك ، ومن الواضح أنّ التنكيل لا يتأتّى منه الإنشاء ولا الاعتبار ، ولو فرض محالاً أنّه يتأتّى منه ذلك لكانت السببية حقيقية لا اعتبارية.

وبالجملة : أنّ اعتبار كون الدلوك سبباً للوجوب وكون التنكيل سبباً للانعتاق ليس معناه جعل الافاضة له ، وإلاّ لكانت سببيته حقيقية لا اعتبارية ، فإنّ إفاضة الأمر الاعتباري سببيته حقيقية كافاضة الأمر الحقيقي الموجود في عالم الأعيان ، وحينئذ لابدّ من القول بأنّ السببية الاعتبارية للدلوك بالنسبة إلى الوجوب لا واقعية فيها ولا تأثير ولا تأثّر ، وإنّما هي مجرّد اعتبار ، ولا يكون ذلك إلاّعبارة

ص: 181

عن كونه موضوعاً للوجوب أو كونه شرطاً له ، لا أنّه مؤثّر وموجد وخالق ومفيض للوجوب ، وإلاّ لزم خروج جميع الأحكام الشرعية عن كونها مجعولات شرعية ، إذ ما من حكم شرعي تكليفي أو وضعي إلاّوله موضوع ، فإذا كان الموضوع هو السبب الموجد لحكم نفسه ، كانت جميع الأحكام مجعولة لموضوعاتها لا لمشرّعها.

وهذا المعنى من الموضوعية أو الشرطية حاصل بجعل الشارع الوجوب وخلقه واعتباره مربوطاً به ربط الحكم بموضوعه أو ربط الحكم بشرطه ، ولا ريب أنّ هذا الربط ربط شرعي ، فيكون مجعولاً بعين جعل الحكم مربوطاً به ومنوطاً وجوده بوجوده.

أمّا السببية بمعنى كون الدلوك خالقاً للوجوب ، فقد عرفت أنّها غير قابلة للجعل ، لأنّ الدلوك غير قابل للافاضة ، حتّى أنّا لو قلنا بمقالة الشيخ قدس سره (1) التي اختارها شيخنا قدس سره من أنّ المجعول هو المسبّب وهو الوجوب والانعتاق عند حصول ذات الدلوك وذات التنكيل ، فلا يكون جعل المسبّب موجباً لانتزاع السببية للدلوك والتنكيل ، لأنّ الدلوك والتنكيل لا يعقل أن يكونا متّصفين بالسببية الافاضية حتّى بالانتزاع أو بالجعل التبعي القهري ، وإلاّ لكان الانتزاع مناقضاً لما انتزع منه ، فإنّ المنتزع منه هو جعل الشارع الوجوب عند الدلوك ، فإذا قلنا إن جعل الوجوب عند الدلوك ينتزع منه كون الدلوك خالقاً للوجوب كان ذلك المنتزع مناقضاً للمنتزع منه ، وإلى ذلك يرجع ما أفاده في الكفاية بقوله : ومنه انقدح أيضاً عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم

ص: 182


1- فرائد الأُصول 3 : 126 وما بعدها.

اتّصافه بها بذلك ضرورة. نعم لا بأس باتّصافه بها عناية وإطلاق السبب عليه مجازاً الخ (1).

ويمكننا أن نقول حينئذ : إنّ هذه العناية في اتّصافه بالسببية الادّعائية هي عبارة عمّا ذكرناه من السببية الاعتبارية ، التي هي راجعة إلى كونه مرتبطاً بالحكم والحكم مرتبطاً به ربط الحكم بشرطه أو ربطه بموضوعه ، ولعلّه إلى ذلك يشير شيخنا قدس سره بقوله : وحاصل الكلام : أنّ السببية لا يمكن أن تكون مجعولة لا تكويناً ولا تشريعاً ، لا أصالة ولا تبعاً ، وإنّما هي تنتزع من ذات العلّة التكوينية في التكوينيات ، ومن ترتّب المسبّب الشرعي على سببه في التشريعيات الخ (2). لكنّا نقول : إنّ هذا الترتّب عبارة عن الربط بينهما ، وهذا الربط اعتبار شرعي قد أوجده الشارع بجعله الحكم منوطاً به بإحدى الاناطتين.

ومن جميع ذلك يظهر لك : أنّ ما أفاده في الكفاية (3) من كون سببيته للحكم ذاتية ، محال عقلاً ، وهو أردأ من دعوى جعل السببية والافاضة له.

نعم ، هناك معنى آخر للسببية الذاتية التي يدّعيها في الكفاية ، وهي كونه سبباً لجعل الحكم وإنشائه من قبل الشارع بالتقريب الذي أفاده شيخنا قدس سره من كونه من دواعي الجعل ، بأن يقال : إنّ في الدلوك خصوصية ذاتية توجب كون الصلاة ذات مصلحة عنده ، والشارع يريد حصول تلك المصلحة للمكلّف ، فهي - أعني مصلحة الصلاة عند الدلوك - وإن كانت بوجودها الخارجي معلولة لصدور الايجاب من الشارع ، لأنّ صدوره منه يكون بمنزلة العلّة في إقدام المكلّف على

ص: 183


1- كفاية الأُصول : 401.
2- فوائد الأُصول 4 : 395.
3- كفاية الأُصول : 401.

إيجاد الصلاة ، وإيجاد الصلاة يكون علّة في حصول المصلحة ، وبالأخرة يكون حصول تلك المصلحة خارجاً معلولاً للايجاب ، لكنّها بوجودها العلمي تكون باعثة وداعية على تشريع ذلك الايجاب ، وبهذا الاعتبار أطلق صاحب الكفاية السببية على الدلوك ، باعتبار كون ما في الصلاة عنده من المصلحة من دواعي التشريع ، فكان سبباً لتشريع الأمر.

لكن أين هذه السببية من سببيته لذات الوجوب المجعول التي لا تكون إلاّ عبارة عن كونه شرطاً أو موضوعاً للوجوب ، وأين علّة التشريع من علّة المشرَّع التي لا محصّل لها إلاّكونه موضوعاً له أو شرطاً في تحقّقه ، وهل يعقل أن يكون الدلوك علّة في نفس الوجوب بمعنى كون الوجوب من إفاضته ، نظير الاحراق الذي يكون من إفاضة النار.

ثمّ إنّك بعد أن عرفت أنّه لا معنى لسببية الدلوك للوجوب إلاّكونه شرطاً له أو كونه موضوعاً له ، تعرف أنّه لا وجه لما رتّبه عليه في مسألة الشرط المتأخّر (1) من كونه بوجوده العلمي مؤثّراً لا بوجوده الخارجي ، بل لا يكون الدلوك شرطاً حينئذ إلاّبوجوده الخارجي ، فلا يعقل كونه مؤثّراً إلاّبوجوده الخارجي ، وإلاّ لم يكن شرطاً ولا موضوعاً إلاّ إذا أخذت القضية خارجية كما شرحه شيخنا قدس سره.

ثمّ لا يخفى أنّ الدلوك لا يمكن أن يكون من دواعي التشريع ، لما عرفت من أنّ الداعي للفعل الاختياري الذي هو التشريع فيما نحن فيه هو ما يكون بوجوده الخارجي معلولاً للفعل ، وبوجوده العلمي علّة له ومن مقدّمات الارادة المتعلّقة بذلك الفعل الذي هو التشريع فيما نحن فيه ، ومن الواضح أنّ الدلوك ليس من ثمرات هذا الفعل ومعلولاته كي يكون بوجوده العلمي داعياً ومحرّكاً

ص: 184


1- كفاية الأُصول : 93.

على التشريع. نعم ينطبق ذلك على المصلحة الحاصلة من الصلاة عند الدلوك فإنّها بوجودها الخارجي من معلولات التشريع وبوجودها العلمي من علله ومقدّمات إرادته ، وأقصى ما في الدلوك أنّه يكون علّة في صيرورة الصلاة ذات مصلحة عند حصوله ، وكون تلك المصلحة بوجودها الخارجي من معلولات التشريع وبوجودها العلمي من علل التشريع لا يكون موجباً لكون الدلوك نفسه كذلك.

نعم ، إنّ الدلوك لمّا كان علّة في اتّصاف الصلاة بكونها ذات مصلحة عند حصوله ، صحّ للشارع أن يجعله شرطاً في وجوبها ، لأنّه محقّق للمصلحة فيها التي هي الشرط الحقيقي لوجوبها ، فإن كان الموجب لكون الصلاة ذات مصلحة هو تقدّم الدلوك عليها ، كان الشرط هو تقدّمه عليها ، وإن كان الموجب لكونها ذات مصلحة هو مقارنته لها ، كان الشرط هو المقارنة ، وإن كان الموجب لكونها ذات مصلحة هو تأخّره عنها ، كان الشرط في وجوبها هو تأخّر الدلوك عنها ، وأيّاً كان لا يكون الشرط هو نفس الدلوك كي يدّعى أنّه من الشرط المتقدّم أو المتأخّر ، بل لا يكون الشرط في وجوب الصلاة إلاّعنوان تقدّم الدلوك عليها أو مقارنته لها أو تأخّره عنها ، ولا يكون ذلك بالنسبة إلى الوجوب المشروط إلاّمن قبيل الشرط المقارن ، لا المتقدّم ولا المتأخّر ، فتأمّل.

والذي تلخّص لك من هذا كلّه : أنّ الدلوك نفسه لا يعقل أن يكون بذاته ونفسه من أسباب المجعول الذي هو الوجوب ، بمعنى كونه علّة وسبباً مفيضاً وخالقاً لذلك الوجوب ، كما أنّه لا يعقل كونه من دواعي إنشاء الوجوب بمعنى كونه من مقدّمات علل التشريع كي يكون بوجوده العلمي مؤثّراً ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يكون مأخوذاً بالنسبة إلى ذلك الوجوب شرطاً أو موضوعاً ، حسب كيفية

ص: 185

تأثيره في صيرورة الصلاة ذات مصلحة ، من تقدّمه عليها أو مقارنته لها أو تأخّره عنها ، ويكون الشرط هو هذه العناوين ، أعني عنوان التقدّم والمقارنة والتأخّر ، وهي على أي حال مقارنة للوجوب ، لا نفس الدلوك بوجوده الخارجي كي يكون من باب الشرط المتأخّر أو المتقدّم.

وبالجملة : أنّ حاصل ما أفاده شيخنا قدس سره خصوصاً قوله : فالخصوصية التي تكون في موضوع التكليف والوضع إنّما تكون من علل التشريع ودواعي الجعل ، وهي كما أفاده من الأُمور الواقعية التكوينية التي لا تنالها يد الجعل التشريعي لا استقلالاً ولا إمضاءً ، لا أصالة ولا تبعاً ، ولا يمكن انتزاعها عن التكليف الذي كان إنشاؤه بلحاظها ، إلاّ أن ذلك كلّه خارج عن محلّ الكلام ، لما عرفت من أنّ محلّ الكلام إنّما هو في موضوع التكليف والوضع ، وسببيته إنّما تنتزع من ترتّب التكليف والوضع عليه (1).

هو أنّا نسلّم أنّ في الدلوك خصوصية تكون داعية لانشاء التكليف وجعله على ذلك الموضوع ، وتلك الخصوصية تكوينية غير مجعولة شرعاً ولا منتزعة من جعل ذلك التكليف على ذلك الموضوع الذي هو الدلوك ، إلاّ أن ذلك كلّه راجع إلى دواعي جعل ذلك الحكم على ذلك الموضوع.

ثمّ إنّه بعد أن جرى الشارع على طبق ذلك الداعي وجعل التكليف على ذلك الموضوع الذي هو الدلوك ، صار الدلوك موضوعاً لذلك الوجوب ، ونعبّر عن ذلك بأنّه صار سبباً لذلك المجعول ، فتكون سببيته لذلك المجعول منتزعة عن ترتّب التكليف عليه ، فلا تكون سببيته المذكورة لذلك التكليف المجعول ذاتية ، وإن كانت سببية تلك الخصوصية لجعل ذلك التكليف على ذلك الموضوع

ص: 186


1- فوائد الأُصول 4 : 397.

ذاتية ، فالدلوك بواسطة تلك الخصوصية وإن كان علّة وسبباً في ذلك الجعل لكون الخصوصية فيه من دواعي ذلك الجعل ، إلاّ أنه لا يكون سبباً وعلّة للمجعول ، بل لا يكون إلاّموضوعاً أو شرطاً لذلك المجعول.

وحاصل تأمّلنا : أنّ نفس الدلوك كما لا يكون علّة ذاتية لذلك المجعول ، فكذلك لا يكون علّة وسبباً وداعياً إلى ذلك الجعل لعدم كونه من فوائده ، وإنّما الذي هو سبب الجعل وعلّته والداعي إلى جعله هو المصلحة الباعثة على تشريع ذلك الحكم وجعله على تقدير الدلوك ، وليس المراد أنّ الدلوك قيد للجعل بحيث إنّه قبله لا يكون جعل أصلاً ، بل إنّ الجعل والانشاء والتشريع حالي والمجعول وهو نفس الوجوب مقيّد بالدلوك ، بمعنى أنّه الآن يجعل ويشرّع ، لكنّه ماذا يشرّع ، يشرّع الوجوب المربوط بالدلوك ، وهو حاصل القضية الحقيقية الراجعة إلى قالب الشرط ، بأن يقول : تجب الصلاة إن دلكت الشمس ، أو إلى قالب الموضوع بأن يقول : الدلوك تجب الصلاة عنده ، والمآل واحد وهو كون الوجوب المجعول مربوطاً بالدلوك ، ومترتّباً على وجوده.

قوله : وإنّما الخلاف وقع في جعل السببية ، فعن بعض أنّ السببية بنفسها ممّا تنالها يد الجعل ، بل هي المجعولة في باب الوضع والتكاليف وإنّما الوضع والتكليف ينتزع عنها ... الخ (1).

لا يخفى أنّه على القول بجعل السببية تتأتّى التصوّرات السابقة من كونها هي المجعول ابتداءً والتكليف أو الوضع منتزع منها ، أو أنّهما - أعني السببية والوضع أو التكليف - يكونان معاً مجعولين ابتداءً ، أو أنّ المجعول ابتداءً هو أحدهما والآخر مجعول بالتبع. فإن أُريد الأوّل توجّه عليه ما أُفيد أوّلاً : من لزوم

ص: 187


1- فوائد الأُصول 4 : 393 - 394.

كون الوجوب والوضع غير شرعيين ، وثانياً : من استحالة جعل العلّية حتّى للعلّة التكوينية فضلاً عن التشريعية. وإن أُريد الثاني توجّه عليه لغوية أحد الجعلين ، فإنّ أحدهما يغني عن الآخر. وإن أُريد الثالث توجّه عليه ما تقدّم من أنّه ليس في صفحة عالم التشريع إلاّ المسبّب دون السببية.

والإيراد المتين المتوجّه على هذين الوجهين الأخيرين هو ما توجّه على الأوّل ، من استحالة جعل السببية أصالة وتبعاً ، ولزوم عدم كون الوضع والتكليف شرعياً.

قوله : فإنّه قال قدس سره ما حاصله : إنّ السببية لا يمكن انتزاعها عن التكليف أو الوضع ، فإنّهما متأخّران عن وجود السبب - إلى قوله - فالتكليف أو الوضع المتأخّر عن وجود السبب لا يعقل أن يكون منشأً لانتزاع السببية (1).

هذا هو ما أفاده في الكفاية بقوله : حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً ، حدوثاً وارتفاعاً (2).

وحاصل ما يريد في الكفاية : هو أنّ انتزاع صفة السببية للدلوك من وجود الوجوب خارجاً مناف لكونه سبباً في الوجوب ، لأنّ سببيته للوجوب هي العلّة في وجود الوجوب بعده ، فكيف يكون وجود هذا الوجوب الخارجي الموجود بعد الدلوك هو العلّة في كونه سبباً للوجوب المذكور.

ومحصّله : أنّ السببية للدلوك موقوفة على وجود ذلك الوجوب بعده لكونها منتزعة عن ذلك الوجود للوجوب الموجود بعده ، ووجود ذلك الوجوب

ص: 188


1- فوائد الأُصول 4 : 395.
2- كفاية الأُصول : 401.

بعده متوقّف على كونه سبباً لوجوده ، فتكون السببية متوقّفة على السببية ، ويكون الحاصل أنّ وجود الوجوب بعد الدلوك حاصل من كونه سبباً له ، وكونه سبباً له حاصل من وجوده بعده ، لكون السببية منتزعة عن وجوده بعده.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يمكن الجواب عن هذا الذي أفاده في الكفاية بأنّه لا استحالة في تأخّر وصف السببية عن ذات المسبّب ، وإنّما المستحيل تأخّر ذات السبب عنه (1) ، فإنّك بعد ما عرفت من مراد الكفاية ، يتّضح لك استحالة تأخّر وصف السببية عن وجود ذات المسبّب ، لأنّ وجود ذات المسبّب إنّما يكون ناشئاً عن كون ذات الدلوك سبباً ، بمعنى أنّ اتّصافه بالسببية أوجب وجود ذات المسبّب بعده ، إذ لا ينوجد المسبّب بعد السبب إلاّبعد صيرورته سبباً له ، وإلاّ فقبل كونه سبباً له لا يكون المسبّب موجوداً بعده.

نعم ، يرد على ما في الكفاية ما قد عرفته سابقاً ، من أنّ القائل بانتزاع السببية لا يقول بأنّها منتزعة من الوجود الخارجي للوجوب بعد الدلوك ، بل هي منتزعة من القضية الكلّية الحاصلة من قوله : إذا دلكت الشمس وجبت الصلاة ، فوجود الوجوب خارجاً وإن كان ناشئاً عن كونه سبباً له ، إلاّ أن كونه سبباً له لم يكن ناشئاً ومنتزعاً عن الوجود الخارجي للوجوب ، بل إنّه - أعني كونه سبباً له - إنّما ينشأ وينتزع عن ذلك الحكم الكلّي. نعم يرد على هذا القول ما عرفت من أنّ مقتضى الكلّية المذكورة هو أنّ الوجوب المجعول على تقدير الدلوك إنّما يكون مفاضاً ومخلوقاً من جانب الشارع ، فلا يعقل أن يكون هذا الجعل علّة في كون الدلوك سبباً مفيضاً للوجوب ، إلاّ أن يكون المراد من السببية هو السببية غير الافاضية أعني بذلك موضوعية الحكم أو شرطه ، وقد عرفت أنّها بهذا المعنى تكون

ص: 189


1- حقائق الأُصول 2 : 435.

مجعولة للشارع بعين إناطته الوجوب بالدلوك ، لا أنّها منتزعة من تلك الاناطة ، إذ لا معنى لموضوعية الدلوك أو شرطيته للوجوب إلاّ أن اطته به.

ويدلّك على ما ذكرناه - من أنّ القائلين بأنّ السببية منتزعة من جعل الحكم على ذات السبب ليس مرادهم بها السببية الافاضية ، بل مرادهم بها هو السببية الادّعائية التي هي عبارة عن الموضوعية - قول شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) : أمّا السببية بالقياس إلى الحكم المجعول فهي بمعناها الحقيقي مستحيلة ، فراجعه إلى قوله : وأمّا بمعناها المسامحي - أعني به مجرّد ترتّب الحكم على موضوعه خارجاً - فقد عرفت أنّ السببية بهذا المعنى عين الشرطية والموضوعية - إلى قوله - وعليه تكون السببية منتزعة من جعل الحكم على موضوعه الخ (1).

قلت : وعليه يكون المراد بالسببية هو الموضوعية ، وما أدري أيّ داع للاصرار على التعبير بالسببية ، أهو لأجل أن يتوهّم المتوهّم أنّها السببية الافاضية فيكثر النزاع والقيل والقال. نعم هناك مطلب سهل لو عبّروا بالموضوعية ، وهو أنّ موضوعية الموضوع هل هي مجعولة بعين جعل الحكم عليه ، أو أنّها منتزعة من ذلك ، أو أنّها مجعولة تبعاً لذلك.

قوله : فسببية العقد للملك والدلوك لوجوب الصلاة إنّما تنتزع من ذات العقد والدلوك - إلى قوله - وإلاّ لزم أن يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء ... الخ (2).

هذا هو ما أفاده في الكفاية بقوله : كما أنّ اتّصافها بها ليس إلاّلأجل ما عليها

ص: 190


1- أجود التقريرات 4 : 78.
2- فوائد الأُصول 4 : 395.

من الخصوصية المستدعية لذلك تكويناً - إلى قوله - ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلاً (1).

وقد عرفت توضيح ما أفاده شيخنا قدس سره في الايراد عليه ، من أنّ هذا إنّما يستقيم لو كان المراد من السببية سببية الجعل والتشريع ، وهي خارجة عمّا نحن بصدده من سببية المجعول ، فإنّه لو كان مراده أنّ كون الدلوك سبباً للمجعول الذي هو الوجوب باقتضاء ذات الدلوك الوجوب ، بحيث كان الدلوك بالنسبة [ إلى ] ذات الوجوب كالنار بالنسبة إلى الاحراق ، لكان الوجوب صادراً عن الدلوك ومخلوقاً لنفس الدلوك لا للشارع ، ولكان في ذلك من المحالات ومخالفة الشريعة ما لا يخفى ولا يحصى.

قوله : فليست السببية ممّا تنالها يد التشريع لا استقلالاً ولا تبعاً ، أي لا تكون بنفسها من المجعولات الشرعية ولا منتزعة عن المجعول الشرعي ... الخ (2).

هذا أيضاً ممّا أفاده في الكفاية ، وذلك قوله في العبارة السابقة أعني قوله : حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ، وقوله فيما بعد : ومنه انقدح أيضاً عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتّصافه بها بذلك ضرورة الخ (3).

غايته أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى ردّ دعوى كون السببية مجعولة أو منتزعة من وجود الوجوب خارجاً بعد الدلوك ، والثانية إشارة إلى ردّ دعوى كون السببية

ص: 191


1- كفاية الأُصول : 401.
2- فوائد الأُصول 4 : 395 - 396.
3- كفاية الأُصول : 401.

منتزعة من القضية الكلّية المتضمّنة لجعل الوجوب على تقدير الدلوك ، وقد عرفت الكلام على العبارة الأُولى ، كما أنّك قد عرفت أنّ مفاد العبارة الثانية حقّ لو كان المراد هو السببية الحقيقية ، ونعني بها السببية الافاضية ، دون ما لو كان المراد بها السببية الاعتبارية التي هي المراد بقوله : نعم لا بأس باتّصافه بها عناية ، أو التي سمّاها الشيخ وشيخنا قدس سرهما بالسببية الانتزاعية من جعل الحكم على موضوعه ، وهي عبارة عن الاناطة التي عرفت الحال فيها.

قوله : بل هي مجعولة تكويناً بتبع جعل الذات ... الخ (1).

هذا هو ما أفاده في الكفاية في صدر المبحث بقوله : منها ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً ، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك (2) غايته أنّه في الكفاية سمّاه الجعل التكويني العرضي ، وفي التحرير سمّاه الجعل التبعي ، وقد عرفت شرح هذا الجعل التكويني وأنّه لا دخل له فيما نحن فيه من الجعل الشرعي ، ويمكن أن يكون المراد به أنّ السببية الذاتية غير قابلة للجعل التكويني إلاّعرضاً ، فكيف تقبل الجعل التشريعي الاستقلالي أو التبعي.

قوله : بل هي مجعولة تكويناً بتبع جعل الذات ، وكذا جزء السبب وشرطه ومانعه ، فإنّ جزئية شيء للسبب أو شرطيته أو مانعيته تتبع نفس المركّب ... الخ (3).

الظاهر أنّ صاحب الكفاية لم يتعرّض لجزئية جزء السبب وشرطه ومانعه ، وإنّما تعرّض لسبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه ، فإنّه قال : أمّا النحو الأوّل

ص: 192


1- فوائد الأُصول 4 : 396.
2- كفاية الأُصول : 400.
3- فوائد الأُصول 4 : 396.

فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه. وبعد أن تكلّم عن سبب التكليف وفرغ من إقامة البرهان على عدم جعله ، قال : فظهر بذلك أنّه لامنشأ لانتزاع السببية وسائرما لأجزاء العلّة للتكليف إلاّماهي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كلّ فيه على نحوغيردخل الآخرفتدبّرجيّداً (1).

ومراده من سائر أجزاء علّة التكليف هو الشرط والمانع بالنسبة إلى التكليف دون ما هو شرط السبب ومانعه ، ولو قلنا بأنّ شرط التكليف ومانعه هو شرط سببه ومانعه ، فلا ريب أنّ جزء السبب غير داخل في ذلك.

وبالجملة : لا أقل من أنّ صاحب الكفاية قدس سره لم يتعرّض لجزء السبب وراجعت الحاشية على الرسائل فلم أجده تعرّض لجزء السبب.

وعلى كلّ حال ، أنّ جزء السبب قد تقدّم الكلام على إمكان دعوى كون جزئية جزء السبب أو شرطيته أو مانعيته مجعولة ، وإن لم تكن نفس السببية مجعولة ، فضلاً عمّا احتملناه أخيراً من إمكان كون السببية مجعولة بعين جعل الحكم منوطاً بالسبب ، هذا في غير السببية الافاضية ، وأمّا السببية الافاضية بالنسبة إلى نفس المجعول ، فقد عرفت أنّها لا أصل لها في باب الأحكام الشرعية ، وأنّ كلاً من القول بكونها ذاتية ، والقول بكونها مجعولة أصالة أو تبعاً أو انتزاعاً لا أصل له أيضاً ، ولا ينبغي نسبته لأحد.

قول صاحب الكفاية قدس سره : والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء : منها ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً ، وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً بعين جعل موضوعه كذلك - ثمّ قال - أمّا النحو الأوّل فهو كالسببية والشرطية ... الخ (2).

لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره بنى على أنّ السببية في مثل قوله : الدلوك

ص: 193


1- كفاية الأُصول : 400 - 401.
2- كفاية الأُصول : 400 - 401.

سبب لوجوب الصلاة ، سببية حقيقية نظير سببية النار للاحراق ، ولأجل ذلك قال إنّها لا يتطرّق إليها الجعل التشريعي استقلالاً لتكون من قبيل الملكية والوجوب مثلاً ، ولا تبعاً لجعل شرعي لتكون من قبيل وجوب المقدّمة المجعول تبعاً لجعل وجوب ذيها. نعم يتطرّق إليها الجعل التكويني عرضاً لا أصالة ، وذلك بأن يوجد ويكوّن نفس الشيء الذي ينطبق عليه السبب أعني موضوع السببية ، وبواسطة إيجاده لنفس العلّة تكون علّيتها مجعولة بالعرض ، كما هو الشأن في خلق العلّة كالنار ، فإنّ إيجادها يكون إيجاداً بالعرض لما هو لازمها الذاتي وهو علّيتها ، كما أنّ إيجاد الأربعة وتكوينها يكون إيجاداً وتكويناً لزوجيتها ، هذا حاصل ما أفاده بقوله : وإن كان مجعولاً تكويناً عرضاً الخ.

لكنّه كما لا يخفى خارج عمّا هو محلّ الكلام من الجعل الشرعي والتكوين في عالم الاعتبار ، فإنّ الايجاد التكويني لا دخل له بالايجاد التشريعي الذي هو محلّ الكلام ، وكأنّه يريد أنّ السببية بعد أن كانت حقيقية فهي غير قابلة للجعل التكويني إلاّعرضاً ، فضلاً عن قابليتها للجعل التشريعي الاستقلالي أو التبعي وعلى هذا الأساس من كون السببية حقيقية ، قد أبطل القول بكونها مجعولة تبعاً لجعل التكليف المتأخّر عنها نظير وجوب المقدّمة بالنسبة إلى وجوب ذيها.

وبيان الإبطال هو أنّ المجعول التبعي كوجوب المقدّمة معلول لأصله الذي هو وجوب ذي المقدّمة ، فلا يعقل أن ينوجد وجوب المقدّمة قبل تحقّق وجوب ذيها ، وعلى هذا القياس ينبغي أن لا تتحقّق السببية للدلوك إلاّبعد أن يتحقّق وجوب الصلاة ، ونحن نرى أنّ الدلوك متّصف فعلاً بأنّه سبب لوجوب الصلاة وإن لم يكن دلوك ، كما نقول إنّ النار متّصفة بأنّها علّة في الاحراق وإن لم يكن فعلاً نار ولا إحراق ، وهكذا نقول إنّ الأربعة متّصفة بالزوجية وإن لم تنوجد

ص: 194

الأربعة فعلاً ، فلابدّ أن تكون السببية للوجوب حقيقية ، وأنّها باقتضاء ذات الدلوك فلا يكون اتّصاف ذات الدلوك بأنّه سبب للوجوب متوقّفاً على تحقّق الوجوب كما لو قلنا بأنّ السببية مجعولة للدلوك تبعاً لجعل الوجوب عنده.

وحاصل الكلام : أنّ القول بكون السببية مجعولة تبعاً لجعل الوجوب عند الدلوك مناقض لكون الدلوك سبباً للوجوب.

وبذلك يظهر لك أنّه لا يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّه لا استحالة في تأخّر وصف السببية عن ذات المسبّب ، وإنّما المستحيل تأخّر ذات السبب عنه ، إذ مع الاعتراف بالسببية بين الدلوك والوجوب ، لا يعقل القول بأنّ اتّصافه بالسببية متأخّر عن تحقّق الوجوب الذي هو المسبّب ، لأنّ اتّصاف العلّة بالعلّية لا يعقل تأخّره عن وجود المعلول خارجاً.

فالعمدة حينئذ في الإشكال على صاحب الكفاية قدس سره هو إنكار السببية الذاتية ، بل ليس في البين إلاّجعل الوجوب عند الدلوك ، فيصحّ لهذا القائل أن يقول إنّ جعل الوجوب عند الدلوك يتبعه جعل السببية للدلوك جعلاً شرعياً اعتبارياً ، ولا يتوقّف اتّصافه بالسببية على تحقّق الوجوب فعلاً ، بل يكفي في هذا الانجعال التبعي - أعني اتّصاف الدلوك بالسببية - ذلك الجعل الكلّي ، أعني جعل الوجوب على تقدير الدلوك ، وإن لم يكن فعلاً دلوك ولا وجوب ، فلو أمر الشارع بالحجّ على تقدير الاستطاعة ، كانت الاستطاعة سبباً شرعياً لوجوب الحج وإن لم يكن في البين استطاعة فعلية.

وبالجملة : أنّ من يدّعي أنّ السببية مجعولة تبعاً لجعل الوجوب على تقدير السبب ، إنّما يقول إنّ الجعل الكلّي يكون علّة لجعل السببية ، لا أنّ الوجوب الخارجي الذي ينوجد عند وجود ذات السبب يكون علّة في السببية ، ولعلّ هذا

ص: 195

أحد موارد الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، وهذا بخلاف وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، فإنّ وجوب المقدّمة معلول لذات وجوب ذيها ، فلا يتحقّق وجوب المقدّمة إلاّبعد تحقّق وجوب ذيها. أمّا السببية للدلوك فهي ليست معلولة لذات وجوب الصلاة كي يقال إنّها لا تتحقّق إلاّبعد تحقّق وجوب الصلاة ، بل إنّها معلولة للقضية الكلّية الحقيقية المتكفّلة لجعل الوجوب على تقدير الدلوك ، ومن هذا الجعل الكلّي تنجعل السببية للدلوك ، لا أنّها تنجعل عن ذات الوجوب الخارجي المتحقّق عند الدلوك ، كي يكون اتّصاف الدلوك بالسببية متوقّفاً على وجود الوجوب خارجاً ، ولأجل ذلك قلنا إنّ هذا من جملة موارد الخلط بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، فتأمّل.

نعم ، يرد على هذا القائل أنّ هذه السببية المدّعى انجعالها إن كان المراد من انجعالها هو أنّها انتزاعية كما هو مسلك الشيخ قدس سره (1) فلا إشكال ، وإن كانت حكماً شرعياً فلا وجه لكونه قهرياً على الشارع.

ثمّ قال في الكفاية : ومنه انقدح أيضاً عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتّصافه بها بذلك ضرورة ، نعم لا بأس باتّصافه بها عناية وإطلاق السبب عليه مجازاً الخ (2). وهذا أيضاً ناشٍ عن كون السببية عنده حقيقية كما هو صريح قوله : صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة ، وإلاّ فلو أخذنا السببية سببية اعتبارية تشريعية ، لكان اتّصاف الدلوك بها حقيقة ، ولكن هل هذه الصفة - أعني السببية - حكم شرعي ينجعل تبعاً لجعل الوجوب على تقدير الدلوك ، أو أنّه انتزاع ، إذ ليس معنى كون الدلوك سبباً للوجوب إلاّعبارة

ص: 196


1- فرائد الأُصول 3 : 126 وما بعدها.
2- كفاية الأُصول : 401.

عن كونه موضوعاً له ، ومن الواضح أنّ موضوعية الموضوع ليست مجعولة أصلاً ، وإنّما هي عنوان منتزع من جعل الوجوب على تقديره.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الذي أشار إليه هنا بقوله : ومنه انقدح عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة الخ ، هو غير ما أشار إليه أوّلاً بقوله : حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتاً الخ ، فإنّ ذلك الذي أشار إليه أوّلاً مبني على تخيّل أنّ الدعوى هي كون السببية معلولة لذات الوجوب المتأخّر ذاتاً عن السبب ، وهذا الذي أشار إليه ثانياً مبني على كون الدعوى هي انتزاع وصف السببية من نفس القضية الحقيقية ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين علل التشريع وموضوعات التكاليف ، وبين كون المجعولات الشرعية من القضايا الخارجية الجزئية أو كونها من القضايا الحقيقية الكلّية ... الخ (1).

أمّا الفرق بين ما هو موضوع التكليف في القضايا الحقيقية وما هو من قبيل علّة التشريع فيها ، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان.

وأمّا الفرق بين القضية الحقيقية الكلّية والقضية الخارجية الشخصية فهو أيضاً واضح لا يخفى ، فإنّ تحقّق الشرط في القضية الحقيقية لا يوجب خروج ذلك الحكم الذي تضمّنته تلك القضية عن كونه مشروطاً بذلك الشرط ، غايته أنّ وجود ذلك الشرط يوجب فعلية ذلك الحكم ، لا أنّه يوجب انقلابه من المشروط إلى المطلق ، لأنّ المراد بالمشروط ما يكون بحسب جعله الشرعي مشروطاً ومعلّقاً على وجود ذلك الشرط الذي هو موضوعه أو شرطه أو سببه ما شئت فسمّ بخلاف المطلق ، فلا يخرج الوجوب المشروط عن كونه مشروطاً بواسطة وجود

ص: 197


1- فوائد الأُصول 4 : 397.

شرطه ، سواء كان الآمر عالماً بوجود ذلك الشرط أو كان غير عالم بذلك.

وهذا بخلاف القضية الخارجية كالوجوب المتوجّه إلى شخص خاصّ ، فإنّه عند علم الآمر بتحقّق ما له الدخل في الوجوب لا يكون انشاؤه لذلك الوجوب إلاّمطلقاً ، ويكون علم الآمر بتحقّق ذلك الذي له الدخل في ذلك الوجوب علّة لانشائه مطلقاً ، من دون فرق في ذلك الذي له المدخلية في ذلك الوجوب بين كون تحقّقه متقدّماً على جعل ذلك الوجوب المطلق ، أو كونه مقارناً له ، أو كونه متأخّراً عنه ، كما إذا علم المولى بأنّه في غد يضيف ، فإنّ علمه بذلك يكون علّة وسبباً بأن يأمر عبده في هذا اليوم بتهيئة ما يكون من لوازم الضيف ، وهذا المعنى - أعني إنشاء الوجوب مطلقاً عند العلم بتحقّق ما له الدخل فيه - غير ما تقدّم من صيرورة الحكم المشروط بشيء فعلياً عند تحقّق ذلك الشيء ، للفرق الواضح بين إنشاء التكليف الكلّي مشروطاً بشيء واتّفق حصول ذلك الشيء ، وبين إنشاء تكليف مطلق خارجي شخصي لأجل العلم بتحقّق ما له الدخل في ذلك التكليف ، فإنّ الأوّل - أعني الشرط - لا يكون إلاّمن قبيل موضوع الحكم ، الذي يتوقّف تحقّقه في الخارج وفعليته على تحقّق ذلك الشرط وفعليته ، بخلاف الثاني فإنّه لا يكون إلاّمن قبيل الداعي والعلّة في جعل ذلك الحكم ، الذي يكون مؤثّراً بوجوده العلمي دون الوجود الخارجي ، فإنّ النحو الأوّل لا يحتاج إلاّ إلى جعل واحد ، وهو جعل ذلك التكليف الكلّي مشروطاً بذلك الشرط ، حتّى أنّه إذا مات الآمر أو غفل أو عرض له أيّ عارض يكفي فيه الجعل الأوّل ، ولا يحتاج الحكم في صيرورته فعلياً على المكلّف إلى جعل جديد عند اتّفاق وجود شرطه ، بخلاف النحو الثاني فإنّه يحتاج إلى انشاءات متعدّدة ، فكلّما تحقّق ذلك الذي له

ص: 198

الدخل في الحكم ، يعني كلّما علم الآمر بما هو مقتض لجعل ذلك الحكم يلزمه جعله وإنشاؤه.

وحاصل الفرق : أنّ الشرط في القضايا الحقيقية لا يكون إلاّعبارة عن موضوع الحكم ، أمّا القضايا الخارجية فلا يكون ما له الدخل في الحكم الذي تتضمّنه إلاّمن قبيل علّة التشريع لذلك الحكم ، وفرق واضح بين ما هو موضوع الحكم وما هو علّة التشريع في ذلك الحكم ، وقد اختلط النوعان على صاحب الكفاية قدس سره في مقامات :

منها : ما أفاده في الترتّب (1) فإنّ محاليته التي ادّعاها هناك إنّما تتفرّع على كون الأمر بالمهم أمراً شخصياً أُنشئ عند عصيان الأمر بالأهمّ ، فكان مطلقاً حينئذ في ظرف كون الأمر بالأهم مطلقاً أيضاً ، فيجتمع الأمران المطلقان ، بخلاف ما لو قلنا بأنّ الأمر بالمهمّ أمر كلّي قد أُنشئ مشروطاً بالعصيان المذكور على نحو القضية الحقيقية ، فإنّه وإن صار فعلياً عند تحقّق العصيان المذكور ، إلاّ أنه لا يخرج بذلك عن كونه مشروطاً بالعصيان الذي أوجب رفع المطاردة بين الأمرين ، كما شرحناه في ذلك الباب فراجع.

ومنها : ما أفاده في تصحيح الشرط المتأخّر (2) من كون الشرط مؤثّراً بوجوده العلمي فلا يضرّ تأخّره ، فإنّه إنّما يتمّ في القضية الخارجية التي لا يكون ما له الدخل فيها إلاّمن قبيل علّة التشريع ، دون القضية الحقيقية التي لا يكون ذلك فيها إلاّموضوعاً للحكم فيها المفروض استحالة تأخّره عن محموله.

ص: 199


1- كفاية الأُصول : 134 - 135.
2- كفاية الأُصول : 93.

ومنها : ما أفاده قدس سره في هذا المقام (1) من أنّ السببية من لوازم الماهية ، فإنّه إنّما يتمّ في التكاليف الشخصية المأخوذة على نحو القضايا الخارجية ، ليكون العلم بتحقّق ما له الدخل في التكليف علّة وسبباً لجعل ذلك التكليف ، ويكون سببية ذلك السبب من لوازم الماهية غير القابلة للجعل ، بخلاف الأسباب في الأحكام الكلّية المجعولة على نحو القضايا الحقيقية ، فإنّها لا تكون من لوازم الماهية ، بل تكون السببية فيها منتزعة من جعل الحكم مرتّباً ومشروطاً بها ، بحيث يكون ذلك السبب عبارة عن كونه موضوعاً لذلك الحكم.

وإن شئت فقل : إنّ ما أفاده في هذا المقام وكذا في المقام الثاني - أعني مسألة الشرط المتأخّر - مبني على عدم الفرق بين علل التشريع وموضوعات الأحكام ، وإن شئت فقل : إنّه مبني على عدم الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، فإنّ الشرط في القضايا الحقيقية عبارة عن موضوع الحكم فيها ، وفي القضايا الخارجية عبارة عن علّة التشريع ، فيكون عدم الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية عبارة أُخرى عن عدم الفرق بين موضوعات الأحكام وعلل التشريع ، هذه خلاصة ما كنت حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام.

ويمكن أن يقال : إنّ الداعي في القضية الخارجية على قسمين :

الأوّل : ما يكون من سنخ المصالح ، وتكون داعويته لجعل الحكم في القضية الخارجية على حذو داعويته في القضية الحقيقية.

القسم الثاني : ما يكون من سنخ موضوع الحكم في القضية الحقيقية ، مثلاً بعد جعل القضية الحقيقية القائلة : يجب الحج على كل مستطيع ، لو التفت الشارع إلى شخص يعلم بأنّه مستطيع ، فيأمره بوجوب الحج أمراً مطلقاً لكونه عالماً بأنّ

ص: 200


1- كفاية الأُصول : 400.

ذلك الشخص مستطيع ، فهذه الاستطاعة وإن كانت بوجودها العلمي داعية إلى جعل ذلك الوجوب وتوجيهه إلى ذلك الشخص ، إلاّ أن تلك الداعوية لا يكون المنشأ فيها هو ذات الاستطاعة كما كانت ذات المصلحة داعية إلى جعل ذلك الوجوب في القسم الأوّل ، بل لا يكون المنشأ في هذه الداعوية إلاّ الجعل الشرعي الحاصل بتلك القضية الحقيقية السابقة في الجعل على هذه القضية الخارجية. وما نحن فيه من القسم الثاني ، فإنّ الآمر بعد علمه بتحقّق الدلوك لو وجّه إلى شخص خاص أمراً مطلقاً بالصلاة ، لم يكن داعوية الدلوك في هذه القضية الخارجية ناشئة عن ذات الدلوك.

نعم ، إنّ صاحب الكفاية لمّا بنى على أنّ الشرط إنّما يؤثّر بوجوده العلمي ، كان لازم كلامه هو إنكار القضايا الحقيقية ، وإرجاع الكل إلى الاخبار بأنّه ينشئ الوجوب عند وجود الدلوك ، فتكون إخباراً عن قضايا خارجية ، فلا يكون عنده قضية حقيقية تكون هي المنشأ في أخذ الدلوك داعياً في هذه القضية الخارجية التي فرضناها ، فلا يكون داعوية الدلوك فيها ناشئة عن جعل الشارع ، فيتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه لو كانت القضية خارجية لم تكن مدخلية الدلوك بجعل من الشارع.

قوله : وكذا يقال إنّ هذه الصلاة صحيحة ، أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها من الملاك والمصلحة القائمة بها - إلى قوله - والصحّة والفساد بهذا المعنى إنّما تنتزعان عن مقام الذات قبل تعلّق الأمر بها ، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلّق الأمر بالذات ... الخ (1).

ربما يتأمّل في ذلك من جهة أنّ المصلحة في ذات الصلاة متوقّفة على

ص: 201


1- فوائد الأُصول 4 : 398.

الاتيان بها بداعي الأمر ، فهي قبل الأمر غير وافية بالمصلحة ، فلا يكون الاتيان بداعي الأمر في توقّف وفاء الصلاة بالمصلحة إلاّككونها مع الطهارة أو إلى القبلة ، غايته أنّ داعي الأمر لا يمكن أن يكون قيداً في متعلّق الأمر ، بخلاف باقي القيود والشرائط.

وبالجملة : أنّا لا نتعقّل في ذات الصلاة مصلحة مع قطع النظر عن الأمر بها واشتمالها على قيد داعي الأمر ، نعم يتمّ ذلك في التوصّليات وفي العبادات الذاتية مثل الخضوع والسجود والدعاء ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ ذات الصلاة بذاتها عبادة ، لكنّه لو تمّ فيها لم يتمّ في مثل الصوم والحجّ والزكاة وباقي العبادات التي يكون قوام عباديتها بالاتيان بها بداعي الأمر ، فلاحظ ، وتمام الكلام في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

قوله : هذا ، ولكن التحقيق أنّ الصحّة والفساد ليسا من الأحكام الوضعية المتأصّلة بالجعل ، بل في بعض الموارد يمكن ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الصحّة بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به واقعاً لا تدخل في الأحكام كي يتكلّم في أنّها مجعولة أصالة أو تبعاً أو أنّها منتزعة ، وقد تقدّم ما ينبغي مراجعته في بحث الجزئية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى الصحّة والفساد في حواشي ص 143 (2) فراجع.

وأمّا المطابقة للأمر الظاهري بلحاظ الكفاية عن الواقع ، فكذلك أيضاً لا تكون إلاّعبارة عن المطابقة للواقع الثابت بدليل الأمر الظاهري ، فما يقال في باب اقتضاء النهي للفساد من كون الصحّة في هذه المرحلة مجعولة ، لرجوعها إلى

ص: 202


1- فوائد الأُصول 4 : 400.
2- راجع الصفحة : 177.

إجزاء المأتي به ظاهراً عن الواقعي الذي هو عبارة عن تنزيله منزلة الواقعي ، لا يدفع الإشكال ، إذ بعد ذلك التنزيل لا يثبت لنا إلاّ أن الأمر الظاهري مطابق للواقع ، ولازم ذلك هو تحقّق الواقع لدى المكلّف ، وأنّ هذا الذي أتى به مطابق للواقع.

والحاصل : أنّ التصرّف الشرعي لم يقع في المطابقة بل في نفس الواقع ، ولا تخرج الصحّة في ذلك عن كونها عبارة عن المطابقة الوجدانية ، غايته أنّها تارةً تكون عبارة عن المطابقة للواقع الحقيقي ، وأُخرى تكون عبارة عن المطابقة للواقع التنزيلي ، وفي كلّ من الصورتين لا تكون من الأحكام الشرعية ، بل هي فيهما عبارة عن تلك الاضافة بين المطابق - بالكسر - والمطابق - بالفتح - وكون المطابق - بالفتح - حكماً شرعياً لا يوجب كون نفس تلك الاضافة الانتزاعية بينهما حكماً شرعياً. وأمّا ما أُفيد من كونها منتزعة من نفس فعل المكلّف ففيه تأمّل ، لما عرفت من كونها منتزعة من لحاظه بالاضافة إلى المأمور به واقعاً أو ظاهراً. نعم إنّ هذه الاضافة الانتزاعية واقعية وليست من الأحكام الشرعية. هذا كلّه قبل انكشاف الخلاف.

وأمّا بعده فقد يقال : إنّ مرجع الحكم بالإجزاء إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد. وفيه : أنّ الأمر كذلك أيضاً ، إذ لا محصّل لذلك التنزيل إلاّ إسقاط لزوم ذلك الذي انفقد ، ومن الواضح أنّه بعد إسقاطه يكون أمره الواقعي متعلّقاً بما عداه ، ويكون ما أتى به مطابقاً للواقع. وأمّا القول بأنّ الإجزاء من باب اكتفاء الشارع بالفاقد عن الواجد ، فقد عرفت أنّه راجع إلى الأوّل وهو الاسقاط لما انفقد ، وإن كان مرجعه إلى أنّ المأتي به يكون موجباً لفوت مصلحة الواجد ، على ما تقدّم تفصيله في أواخر البراءة (1) ، فمن الواضح حينئذ أنّه ليس في البين صحّة

ص: 203


1- راجع الجزء الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 553 وما بعدها.

كي يتكلّم في أنّها مجعولة أو منتزعة أو أنّها ليست من الأحكام أصلاً.

قوله : وأمّا الثاني فهو عبارة عن المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم كمصاديق الملكية والزوجية ، غايته أنّ تطبيق المفهوم على المصداق تارةً ممّا يدركه العرف ، وأُخرى لا يدركه إلاّ العالم بالواقعيات ، كما إذا لم يدرك العرف أنّ العقد الكذائي يكون سبباً للملكية إلاّ أن الشارع يرى تحقّق الملكية عقيب العقد ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ الطهارة والنجاسة من قبيل الاعتبارات العرفية ، لا يكون الاختلاف بين العرف والشرع فيها راجعاً إلى التخطئة ، بل يكون راجعاً إلى الامضاء وعدمه ، ولا يصحّ القول بأنّ النجاسة في مثل الكافر لم يدركها العرف ، وإنّما أدركها العالم بالواقعيات ، لأنّ ذلك إنّما يناسب القول بأنّ الطهارة والنجاسة من الأُمور الواقعية التي يكون مرجع الاختلاف فيها بين الشرع والعرف إلى تخطئة الشارع العرف ، لاطّلاعه على الواقعيات وعدم اطّلاعهم عليها.

نعم بناءً على أنّ الطهارة والنجاسة من الأُمور الاعتبارية نظير الملكية والزوجية ، وبناءً على تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، يصحّ أن يقال : إنّ الشارع لم يمض حكم العرف بطهارة الكافر ، لما يراه من المصلحة أو المفسدة الموجبة للحكم بنجاسته ، لكن هذا غير راجع إلى ما أُفيد من أنّ العرف لم يطّلعوا على المصداق ، بل هو راجع إلى أنّ العرف لم يطّلعوا على ملاك الحكم ، يعني أنّ حكمهم بطهارة بعض الأشياء التي خالفهم فيها الشارع ، وكذلك حكمهم بنجاسة البعض الآخر كان بلا جهة تقتضيه ، بل كانت الجهة فيه تقتضي العكس ، وهذا نظير حكمهم بصحّة المعاملة الربوية ونكاح زوجة الأب ، وعدم حكم الشارع

ص: 204


1- فوائد الأُصول 4 : 402.

بذلك لأجل اطّلاعه على المفسدة في الربا ونكاح زوجة الأب ، الموجبة للحكم بالفساد.

وبالجملة : أنّ التخطئة في المصاديق وعدم اطّلاع العرف على بعضها لا يناسب الأحكام الوضعية ، وإنّما يناسب العناوين الواقعية التي يقع الخطأ في تعيين مصاديقها من العرف ، فلاحظ وتأمّل.

وتوضيح ذلك : أنّ الاختلاف في المصاديق مع الاتّفاق على المفهوم يكون على أنحاء :

الأوّل : أن يكون من باب التخطئة ، وذلك في المفاهيم الواقعية مثل مفهوم المضرّ والنافع والمصلحة والمفسدة ، فإنّه ربما يقع الخلاف في شرب اللبن للمحموم ، فترى بعض الأطباء يقول بأنّه مضر وبعضهم يقول إنّه نافع.

والثاني : أن لا يكون من باب التخطئة ، بل يكون من باب الاختلاف في الاعتبار ، وذلك في الأُمور الاعتبارية مثل التحية والتعظيم ، فبعضهم يعتبر السلام والقيام تحية وتعظيماً ، وطائفة أُخرى يعتبرون رفع ما على الرأس تحية وتعظيماً ، ولكن لا يكون في البين تخطئة من الطرفين.

ومن ذلك الاختلاف بين الشرع والعرف ، فالشرع لا يعتبر الملكية في البيع الربوي ، لكن العرف يعتبرها من دون تخطئة في البين.

نعم ، ربما ردع الشارع عمّا يعتبره العرف ، كما في المثال وكما في الحجّية فإنّ العرف يرون القياس وخبر الفاسق المأمون الكذب حجّة ، والشارع ردعهم عن ذلك ، لكن لو ورد دليل رتّب الشارع فيه حكماً على الملكية أو الحجّية ، لم يكن ذلك الدليل شاملاً لما لا يكون ملكاً أو حجّة في نظر الشارع ، إلاّ إذا فهمنا من ذلك الدليل أنّ المدار في ذلك الحكم على ما هو عند العرف ، كما ذكرناه في

ص: 205

مسألة بيع المجهول والغرر ، فقد جوّزنا الاعتماد في رفع الجهالة ورفع الغرر على ما لا يكون حجّة شرعية كالقياس وخبر الفاسق ، لأنّا فهمنا من الدليل الدالّ على مانعية الجهل أو الغرر هو ما يكون مجهولاً وغررياً عرفاً ، ومن الواضح أنّ إحراز صفة المبيع أو مقداره بالقياس أو بخبر الفاسق يخرجه عن الجهالة العرفية والغرر العرفي.

النحو الثالث : أن يكون من باب الاختلاف بحسب الذوق أو الطبع ، كما تراه في اختلافهم في الصوت الحسن ، فبعضهم يستحسن الصوت الفلاني وبعضهم يستهجنه ، وهكذا الحال في المذوقات والمرئيات ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وأنت بعد اطّلاعك على هذا التفصيل تعرف أنّ التخطئة وكون الشارع مطّلعاً على الواقعيات إنّما تقال في الأُمور الواقعية ، دون الأُمور الاعتبارية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام من إجراء هذه الجمل في الأُمور الاعتبارية ، وكذلك ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس سره في باب الصحيح والأعمّ في أسامي المعاملات بقوله : والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى ، بل الاختلاف في المحقّقات والمصاديق وتخطئة الشرع العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره محقّقاً لما هو المؤثّر ، كما لا يخفى ، فافهم (1).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ عدم اعتبار الشارع الملكية في العقد الربوي مثلاً من باب التخطئة للعرف ، لكن ليس المراد تخطئتهم في المصداق ، بل بمعنى تخطئتهم في الاعتبار وجعل ذلك الحكم الوضعي - أعني الملكية - في مورد البيع

ص: 206


1- كفاية الأُصول : 33.

الربوي ، باعتبار كون الحكم بالملكية في ذلك المورد فيه مفسدة توجب عدم جعل الملكية وعدم اعتبارها في ذلك ، ولعلّ هذا [ هو ] المراد بالتعبير بأنّ الشارع مطّلع على الواقعيات على ما هي عليه ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، فالطهارة والنجاسة لا إشكال في أنّهما ليستا من المخترعات الشرعية ، على وجه لا يكون لهما عين ولا أثر في العرفيات ، ولا تكون هذه الألفاظ عندهم إلاّمهملة أو موضوعة لمعانٍ أُخر لا ربط لها بهذا المعنى الشرعي ، بل هما موجودان عند العرف ، غاية الأمر أنّ بين الشرع والعرف اختلافاً في بعض المصاديق ، فإن قلنا إنّ الطاهر والنجس من الأُمور الواقعية نظير النافع والضارّ ، كان ما قرّره الشارع من باب تخطئة الشارع العرف لأجل أنّه اطّلع على ما لم يطّلع عليه العرف. وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا إنّهما من الاعتبارات العرفية ، نظير اعتبارهم الملكية والزوجية والرقّية والحرّية ونحوها من الأحكام الوضعية العرفية ، لم يكن ما قرّره الشارع تخطئة للعرف ، بل كان من قبيل الاختلاف في الاعتبار. والظاهر هو الثاني ، بمعنى أنّ الطهارة والنجاسة عند العرف من الاعتبارات العقلائية ، لا أنّهما من الأُمور الواقعية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ كون ذلك من قبيل الأُمور الواقعية إنّما يمكن في خصوص الطهارة والنجاسة ، دون مثل الملكية والزوجية ، ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس سره هو التسوية بين الجميع في ثاني الوجهين ، على الرغم ممّا يظهر من هذا التحرير والتحرير الآخر من أنّ الشيخ قدس سره فرّق بين الملكية والطهارة.

والأولى نقل عبارة الشيخ قدس سره على طولها ليتّضح للقارئ مراد الشيخ قدس سره ، فإنّه قدس سره في مسألة الصحّة والفساد بعد أن فرغ من البحث في الصحّة والفساد في العبادات قال ما هذا لفظه : وأمّا في المعاملات فهما ترتّب الأثر عليها وعدمه ،

ص: 207

فمرجع ذلك إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك ، فإن لوحظت المعاملة سبباً لحكم تكليفي كالبيع لإباحة التصرّفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات ، فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها ، وإن لوحظت سبباً لأمر آخر كسببية البيع للملكية والنكاح للزوجية والعتق للحرّية وسببية الغسل للطهارة ، فهذه الأُمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية.

نعم ، الحكم بثبوتها شرعي ، وحقائقها إمّا أُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب والصلاة نقيض النجاسة ، وإمّا أُمور واقعية كشف عنها الشارع.

فأسبابها على الأوّل في الحقيقة أسباب للتكاليف ، فتصير سببية تلك الأسباب في العادة كمسبّباتها أُموراً انتزاعية.

وعلى الثاني يكون أسبابها كنفس المسبّبات أُموراً واقعية مكشوفاً عنها ببيان الشارع (1).

وظاهر العبارة أنّ الترديد بين كونها أُموراً اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية وبين كونها أُموراً واقعية كشف عنها الشارع إنّما هو في الجميع ، لا أنّ الشقّ الأوّل منحصر بما هو مثل الملكية ، والشقّ الثاني منحصر بالطهارة والنجاسة كيف وقد صرّح في الشقّ الأوّل بدخولهما ، ولم أتوفّق لمعرفة المراد بقوله قدس سره : فهذه الأُمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعي. أمّا عدم كونها أحكاماً شرعية لأنّها إمّا أن تكون منتزعة من التكليف في موردها ، وإمّا أن تكون من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، وعلى أيّ حال ، فهي بذاتها

ص: 208


1- فرائد الأُصول 3 : 129 - 130.

ليست حكماً شرعياً ، لكن لم أتوفّق لمعرفة المراد بقوله : نعم الحكم بثبوتها شرعي ، لكن أفاد الآشتياني قدس سره أنّ المراد من الحكم في المقام هو الإخبار والتصديق ، لا الجعل الشرعي المقابل له ، فراجع (1).

وقال المرحوم الميرزا موسى في حاشيته على قول الشيخ قدس سره : نعم الحكم بثبوتها شرعي الخ : لا يقال : إنّ بعض الأُمور المذكورة إذا كان اعتبارياً كما صرّح به فكيف يكون ثبوته شرعياً ، إذ الأمر الاعتباري لا يكون ثبوته شرعياً ، بل يكون بحسب اعتبار العقل لا محالة. لأنّا نقول : إنّ المراد بثبوته ليس ثبوت نفس الأمر الاعتباري ، بل ما انتزع منه الأمر الاعتباري ، أعني الحكم التكليفي الذي هو شرعي (2)

ص: 209


1- بحر الفوائد 3 : 70.
2- أوثق الوسائل : 477.

[ تنبيهات الاستصحاب ]

قوله : فإنّ المراد من « اليقين » في أخبار الاستصحاب ليس هو اليقين الوجداني ، بل كلّ ما يكون محرزاً للمستصحب بأحد وجوه الاحراز من اليقين الوجداني أو ما هو بمنزلته ، بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع الطريقي ... الخ (1).

الخلاصة : هي أنّ الشارع لو أوجب الاجتناب عن الخمر فهذا أثر تابع للخمر الواقعي ، فلا يكون القطع بالخمرية إلاّطريقاً صرفاً بالنسبة إلى هذا الأثر. ولو قال : إذا قطعت بأنّ هذا خمر وجب عليك إراقته ، بحيث كان موضوع وجوب الاراقة هو الخمر الواقعي المقطوع ، كان القطع في مثل ذلك جزء الموضوع. ولو قال : إذا قطعت بأنّ هذا خمر وجب عليك التصدّق بدرهم ، بحيث كان موضوع وجوب التصدّق هو نفس القطع سواء أصاب الواقع أو أخطأ ، كان القطع في مثل ذلك تمام الموضوع ، وقد تقدّم لشيخنا قدس سره (2) تشكيك في تصوّر ذلك ، أعني أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع.

وعلى كلّ حال ، فقد تقدّم أنّ الأمارات والأُصول تقوم مقام القسم الأوّل من القطع ، وأنّ في قيامها مقام القسم الثاني والثالث خلافاً ، فصاحب الكفاية قدس سره (3)

ص: 210


1- فوائد الأُصول 4 : 403 - 404.
2- فوائد الأُصول 3 : 11 ، وراجع أيضاً الصفحة : 20 وما بعدها من المجلّدالسادس من هذا الكتاب.
3- كفاية الأُصول : 263.

منع من ذلك ، وأجازه شيخنا قدس سره (1) ، هذه خلاصة ما تقدّم في مباحث القطع.

ولكن حدثت هنا عندنا مسألة لعلّها راجعة إلى ذلك المبحث ، وهي أنّ الشارع قد قال : إذا قطعت بوجود شيء وحصل لك الشكّ في بقائه فلا تنقض يقينك بالشكّ المذكور ، بل يلزمك الجري على طبق يقينك السابق إلى أن يحصل لك القطع بارتفاع ذلك الشيء الذي قطعت بوجوده ، فاليقين في هذه القضية قد أُخذ موضوعاً للحكم المذكور ، أعني لزوم البقاء عليه وعدم نقضه بالشكّ ، فلو لم يكن عندنا يقين بوجود ذلك الشيء ، لكن كان لدينا أمارة قائمة على وجوده ، أو كان لنا أصل يحكم بوجوده ، فلا شبهة في حجّية تلك الأمارة أو ذلك الأصل ، وأنّ ذلك يكون قائماً مقام القطع بوجود ذلك الشيء إمّا في خصوص النحو الأوّل من الآثار السابقة الذكر كما يدّعيه صاحب الكفاية ، أو في جميع الآثار حتّى الثاني والثالث كما يدّعيه غيره ، وليس هذا التعميم من باب أنّ موضوع تلك الآثار هو الأعمّ من اليقين الوجداني واليقين التعبّدي ، بل هو من باب حكومة دليل اعتبار الأمارة والأصل على الأدلّة المتكفّلة لتلك الآثار. والظاهر أنّ هذه الحكومة ظاهرية بالنسبة إلى الأثر الأوّل ، وواقعية بالنسبة إلى الأثر الثاني والثالث ، نظير « الطواف بالبيت صلاة » (2).

ولكن لو شككنا في بقاء ذلك الشيء الذي ثبت وجوده بالأمارة أو بالأصل ، فهل نكون بذلك داخلين في القضية المشار إليها ، أعني مفاد « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، بدعوى أنّ مفاد حجّية الأمارة أو الأصل المذكور هو كون الاحراز الحاصل منهما بمنزلة اليقين ، حتّى في هذا الأثر وهو عدم جواز نقضه بالشكّ ،

ص: 211


1- فوائد الأُصول 3 : 21.
2- مستدرك الوسائل 9 : 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2.

على وجه يكون اليقين في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » شاملاً لليقين التعبّدي بوجود الشيء الحاصل من الأمارة أو الأصل ، أو أنّ قوله : « لا تنقض اليقين » مختصّ باليقين الوجداني ، ودليل التعبّد بحجّية الأمارة والأصل إنّما يوجب ترتّب آثار اليقين عليها الراجعة إلى أحد الآثار الثلاثة السابقة ، دون هذا الأثر وهو عدم جواز نقضه بالشكّ ، فالأمارة والأصل وإن قاما بدليل حجّيتهما مقام القطع المأخوذ في ترتّب الأثر إمّا على نحو تمام الموضوع أو على نحو جزء الموضوع ، إلاّ أنّه لا دليل على قيامهما مقام القطع المأخوذ موضوعاً لهذه القضية أعني « لا تنقض اليقين بالشكّ » إذ ليس لدليل حجّيتهما إطلاق يقضي بذلك.

والظاهر أنّ اليقين في هذه القضية هو اليقين الوجداني ، ودليل تنزيلهما منزلة اليقين الوجداني إنّما هو بالنسبة إلى أحد تلك الآثار الثلاثة. وليس ذلك راجعاً إلى دعوى كون اليقين في باب الاستصحاب مأخوذاً بنحو الصفتية ، بل إلى دعوى كون الظاهر هو القطع واليقين الوجداني ، فلم يبق بأيدينا إلاّحكومة دليل حجّية الأمارة ، وقد عرفت قصورها عن الشمول لهذا الأثر.

نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الظاهر من اليقين في قوله : « لا تنقض اليقين » مطلق الاحراز العقلائي ولو من الأمارة أو الأصل الاحرازي ، فالحجر الأساسي لدعوى جريان الاستصحاب فيما شكّ في بقائه ممّا قام الطريق أو الأصل على وجوده هو هذه الجهة ، وهي أنّ اليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » شامل لليقين التعبّدي الحاصل من قيام الطريق أو الأصل على وجود الشيء. أمّا ما تقدّم في باب جعل الطرق وفي باب مبحث القطع من قيام الطرق والأُصول الاحرازية مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو الموضوعية من حيث

ص: 212

المحرزية أو من حيث التنجيز والمعذّرية ، فهو بمجرّده لا ينفع في تمامية الجهة المطلوبة فيما نحن فيه من شمول اليقين لليقين التعبّدي.

والحاصل : أنّ جريان هذا الحكم لليقين - وهو أنّه لا ينقضه الشكّ - على الاحراز الحاصل من الأمارة أو الأصل يتوقّف على أحد أمرين :

الأوّل : كون المراد من اليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هو الاحراز العقلائي ، سواء كان هو اليقين الوجداني ، أو كان هو الاحراز العقلائي الحاصل من قيام الأمارة أو الأصل الاحرازي.

الثاني : أنّ اليقين في الجملة المذكورة وإن كان هو اليقين الوجداني ، إلاّ أن دليل حجّية الأمارة والأصل الموجب لجعل الاحراز في مواردهما يكون حاكماً على دليل « لا تنقض » ، وموجباً لتوسعة الموضوع الذي هو اليقين إلى ما هو أعمّ من اليقين الوجداني ، نظير « الطواف بالبيت صلاة » بالنظر إلى الدليل القائل بأنّه تجب الطهارة في الصلاة ، ولو استبعدنا الوجه الثاني فالوجه الأوّل غير بعيد ، بالنظر إلى أنّ قوله عليه السلام : « لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » قضية عقلائية إمضاءً لما عليه الطريقة العقلائية من عدم اعتنائهم بالشكّ في قبال ما هو يقين عندهم ، ولا ريب في أنّهم يعتبرون الاحراز من الأمارة والأصل يقيناً.

نعم ، على هذا ينبغي التعميم لكلّ ما هو محرز للواقع عندهم حتّى مثل القياس ، لكن الشارع بعد أن ردعهم عن ذلك يكون هذا الردع قرينة على خروجه عن عموم « لا تنقض اليقين ». وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّ قضية « لا تنقض اليقين » قضية تأسيسية ، لا لمجرّد الجري على الطريقة العقلائية ، بل هي قضية شرعية تأسيسية أو إمضائية ، فإنّه لا مانع من دعوى شمولها لكلّ ما هو يقين عند

ص: 213

الشارع وإن لم يكن يقيناً وجدانياً ، فلاحظ وتأمّل.

والنتيجة : أنّ هذا الحكم المجعول لليقين وهو عدم نقض الشكّ له ، كسائر الأحكام المجعولة لليقين ممّا يكون اليقين فيه تمام الموضوع أو جزء الموضوع في عدم جريانه في غير اليقين من سائر الاحرازات ، إلاّبدعوى كون الظاهر من الدليل المتكفّل لذلك الحكم المجعول لليقين هو الأعمّ من اليقين الوجداني ، فلا نحتاج إلى ارتكاب طريقة الحكومة ، ولا إلى دعوى كون الأمارة والأصل قائمة مقام القطع الوجداني. بل بناءً عليه تكون هي موضوعاً لذلك الحكم في عرض القطع الوجداني ، أو بدعوى أنّ الظاهر من ذلك الدليل وإن كان هو اليقين الوجداني إلاّ أن أدلّة حجّية الأمارة والأصل الاحرازي حاكمة عليه ، وموجبة لتوسعة موضوع ذلك الحكم إلى ما هو الأعمّ من اليقين الوجداني ، نظير « الطواف بالبيت صلاة ». والإنصاف اختلاف الموارد ، ولا يبعد أنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل.

ولا يخفى أنّ ظاهر قول شيخنا قدس سره : إنّ المراد باليقين كلّ ما هو محرز (1) هو الوجه الأوّل ، لكن ظاهر قوله : بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع (2) هو الثاني ، إذ بناءً على الوجه الأوّل لا يصحّ قولنا إنّ الأمارة والأصل المحرز قائمة مقام القطع ، بل بناءً عليه تكون هي موضوعاً للحكم في عرض القطع الوجداني ، إلاّبنحو من التوسّع والتساهل في التعبير فلاحظ.

والذي يظهر من الشيخ قدس سره هو الوجه الأوّل ، حيث إنّه في الأمر الخامس

ص: 214


1- تقدّم مصدرها آنفاً.
2- تقدّم مصدرها آنفاً.

من الأُمور التي ذكرها في أوائل الاستصحاب [ قال ] ما هذا لفظه : إنّ المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرّد الوجود السابق أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين : أحدهما وجود الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا ، نعم لابدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم أو الظنّ المعتبر الخ (1) لكن الآشتياني قدس سره حملها على الوجه الثاني فقال : ويلحق باحراز الوجود السابق باليقين إحرازه بالظنّ المعتبر ، من باب تحكيم دليل اعتباره ، لا من جهة دخوله موضوعاً حقيقة كما ربما يستظهر من الكتاب (2).

ولا يخفى أنّ قوله في هذا التحرير : بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع الطريقي ... الخ (3) محتاج إلى زيادة مثل قولنا : المأخوذ في الموضوع ، إذ لا نزاع في قيامهما مقام القطع الطريقي الصرف ، وإنّما النزاع بينه وبين صاحب الكفاية قدس سرهما في القطع الطريقي المأخوذ في موضوع الحكم ، وكأنّه إنّما ترك هذا القيد اعتماداً على وضوح المراد ، وهكذا الحال في العبارات الآتية ، مثل قوله : فإنّ منشأ الإشكال هو تخيّل عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي (4). وقوله : نعم ، بناءً على مسلكه من عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي (5)

ص: 215


1- فرائد الأُصول 3 : 24.
2- بحر الفوائد 3 : 11 مبحث الاستصحاب.
3- فوائد الأُصول 4 : 404.
4- فوائد الأُصول 4 : 409.
5- فوائد الأُصول 4 : 410.

قوله : فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدّى الأمارة والطريق ، لأنّ المستصحب قد أُحرز بقيام الأمارة عليه ، خصوصاً بناءً على ما هو الحقّ عندنا من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الطريقية والاحراز ... الخ (1).

لا يخفى أنّه تقدّم منه قدس سره (2) في أوائل القطع تقسيمه إلى الطريق الصرف وما أُخذ في الموضوع ، وأنّ ما أخذ في الموضوع من القطع الطريقي لابدّ أن يكون على نحو جزء الموضوع ، ولا يعقل كونه تمام الموضوع ، لأنّه موجب للجمع في لحاظ ذلك القطع بين الآلية والاستقلالية ، وتقدّم منّا التأمّل في ذلك ، ولكن مع قطع النظر عن ذلك التأمّل نقول : إنّ الموضوع المحكوم عليه في مثل قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هو اليقين المأخوذ موضوعاً لهذا الحكم - أعني الحجّية وعدم نقضه بالشكّ - على نحو الطريقية ، وقد تقرّر أنّه لا يصلح أن يكون موضوعاً إلاّبنحو يكون جزء الموضوع لا تمامه ، ولازم ذلك أنّه لو حصل اليقين بالطهارة مثلاً ثمّ تعقّبها الشكّ في بقائها ، وعمل المكلّف على طبق الاستصحاب في ذلك ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وأنّ ذلك الشيء كان قد عرضت له النجاسة ، أن لا يكون من قبيل الأمر الظاهري ، بل يكون من باب تخيّل الحكم الظاهري ، لأنّ الحكم الظاهري منوط باليقين والواقع ، والمفروض تخلّف الواقع.

والحاصل : أنّ اليقين السابق المحكوم عليه بالحجّية وعدم نقضه بالشكّ هو اليقين المطابق للواقع ، ومع فرض انكشاف الخلاف يتّضح أنّه في وقت عمله

ص: 216


1- فوائد الأُصول 4 : 404.
2- فوائد الأُصول 3 : 11 ، وراجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : 20 وما بعدها.

على طبق ذلك اليقين السابق لم يكن لديه حجّة أصلاً ، وكان من قبيل تخيّل الحجّية ، لا أنّه [ من ] قبيل انكشاف الخطأ في تلك الحجّية مع فرض كونها حجّة واقعاً في ظرفها.

وبالجملة : أنّ اليقين السابق كغيره من الحجج الشرعية المجعولة للمكلّف في مقام الجهل بالواقع ، لا تكون مقيّدة بإصابة الواقع كي يكون انكشاف الخلاف فيها من قبيل انكشاف عدم الحجّية ، لا من قبيل انكشاف الخطأ في تلك الحجّة مع فرض كونها حجّة في الواقع.

والحاصل : أنّ انكشاف الخلاف في الواقع لا يكون كاشفاً عن عدم الحجّية ، بل يكون من قبيل تحقّق ما هو رافع للحجّية وقاطع لها من حينه ، وبناءً على أخذ الواقع في هذه الطرق ، أعني خبر الواحد واليقين السابق ونحوهما ، بحيث يكون الحجّة هو الخبر أو اليقين السابق مع قيد كونه مطابقاً للواقع ، يكون انكشاف الخلاف كاشفاً عن عدم الحجّية رأساً ، فلابدّ من القول بأنّ المجعول حجّة هو نفس هذه الطرق وإن لم تكن مصيبة للواقع ، غايته أنّ حجّيتها مقصورة على صورة عدم العلم بالواقع ، فتكون هي تمام الموضوع للحجّية المزبورة ، ومن ذلك اليقينُ السابق المأخوذ موضوعاً للحجّية وعدم نقضه بالشكّ ، فإنّه لابدّ أن يكون تمام الموضوع.

وتوضيح هذه المسألة ودفع الإشكال فيها يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الأُولى : أنّ الحجّة العقلية كالقطع وكذلك الحجّة الشرعية كالطرق والأمارات ليست حجّيتها لدى العقل أو الشرع مقيّدة بالواقع ، يعني أنّ العقل يحكم بحجّية القطع من دون تقييد له بإصابة الواقع ، غايته أنّه عند انكشاف الخلاف تنقطع هذه الحجّية ويرتفع موضوعها.

ص: 217

وهكذا الحال في الحجّة الشرعية ، مثلاً لو كان هناك مائع قطعنا بأنّه خل ، أو قامت الأمارة كالبيّنة على أنّه خل ، وعملنا على طبق ذلك مدّة ثمّ انكشف أنّه خمر فنحن من حين انكشاف الخلاف تنقطع عنّا تلك الحجّية ويرتفع موضوعها ، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي من قبيل انكشاف الخلاف ، فيكون ذلك الطارئ - أعني انكشاف أنّ ذلك المائع خمر - بالنسبة إلى أصل الحجّية من قبيل تبدّل الموضوع ، وبالنسبة إلى الواقع نفسه من قبيل انكشاف الخلاف.

المقدّمة الثانية : أنّه لو أُخذ القطع بخلّية ذلك المائع في حلّية شربه وطهارته ، وإن شئت فقل أُخذ القطع بخلّية هذا المائع موضوعاً لوجوب التصدّق بدرهم مثلاً على نحو الطريقية ، وعلى نحو يكون القطع المذكور هو تمام الموضوع من دون تقييد له بإصابة الواقع ، وحصل لنا القطع بذلك وعملنا عليه مدّة ثمّ تبيّن أنّه خمر ، كان ذلك من قبيل تبدّل الموضوع بالنسبة إلى كلّ من الحكم الواقعي وحجّية ذلك القطع. وهكذا الحال فيما لو قامت البيّنة على خلّية ذلك المائع ، ودلّ الدليل الشرعي على حجّية تلك الأمارة ، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي المأخوذ في موضوع ذلك الحكم الذي هو وجوب التصدّق على نحو تمام الموضوع ، فإنّا عند تبيّن أنّه خمر يحصل لنا التبدّل من حينه بالنسبة إلى كلّ من الحجّية وموضوعية ذلك الحكم.

المقدّمة الثالثة : أنّه لو أُخذ القطع الطريقي في الحكم المذكور على نحو يكون جزء الموضوع ، بحيث كان وجوب التصدّق مرتّباً على المجموع من كون هذا المائع خلاً والقطع به ، بأن يكون موضوع وجوب التصدّق هو خصوص القطع بالخلّية المصيب للواقع ، وحصل لنا القطع بأنّ هذا المائع خل ، فقد وجب علينا التصدّق لاحرازنا جزأي موضوعه وهما الخلّية الواقعية والقطع بها ، أمّا

ص: 218

الثاني فبالوجدان ، وأمّا الأوّل وهو الخلّية الواقعية فبالقطع نفسه ، لأنّ من قطع بأنّ هذا المائع خل فقد أحرز خلّيته وجداناً. وبعبارة أُخرى : أنّ من قطع بأنّ هذا المائع خل فقد قطع بالخلّية الواقعية ، وبكونه قاطعاً بأنّه خلّ واقعي. ثمّ لو تبيّن لنا بعد ذلك أنّ ذلك المائع كان خمراً ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى حجّية ذلك القطع من قبيل التبدّل ، لكنّه بالنسبة إلى الحكم الواقعي المترتّب على الخل الواقعي المقطوع كونه خلاً يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، لأنّه قد تبيّن بذلك فقدان أحد جزأي ذلك الموضوع وهو الخلّية الواقعية.

ولو قامت الأمارة كالبيّنة على كون ذلك المائع خلاً ، وقد دلّ الدليل على قيام تلك الأمارة مقام القطع الطريقي المأخوذ في موضوع ذلك الحكم الواقعي أعني وجوب التصدّق على نحو جزء الموضوع ، لزمنا العمل على طبقها من وجوب التصدّق ، لأنّا بواسطة دليل حجّيتها قد أحرزنا كلا جزأي ذلك الموضوع بالنحو الذي ذكرناه في القطع المذكور ، حسبما شرحناه في مبحث حجّية القطع (1) من توجيه لزوم العمل على طبق تلك الأمارة المفروض قيامها مقام القطع الطريقي المأخوذ جزءاً من موضوع الحكم ، لكونها محرزة لكلا جزأي الموضوع ، فراجع.

ثمّ إنّه لو تبيّن بعد ذلك أنّ ذلك المائع لم يكن خلاً بل كان خمراً ، فذلك التبيّن يكون بالنسبة إلى حجّية تلك الأمارة من قبيل التبدّل ، وبالنسبة إلى الحكم الواقعي المترتّب على الموضوع المركّب المذكور من قبيل انكشاف الخلاف.

إذا عرفت هذه المقدّمات فاعلم أنّا لو كنّا عالمين بالأمس بأنّ هذا المائع خل ، وفي هذا اليوم شككنا في بقاء خلّيته واحتملنا انقلابه خمراً ، وحكم الشارع

ص: 219


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 85 - 89.

علينا بعدم نقض ذلك اليقين السابق بذلك الشكّ اللاحق ، وكان محصّل ذلك هو حجّية ذلك اليقين السابق ، بمعنى أنّ الشارع نزّل حالتنا تلك التي حالة الشكّ في بقاء الخلّية منزلة اليقين الحالي ببقاء الخلّية ، فصرنا بواسطة ذلك الحكم الشرعي بمنزلة القاطع ببقاء الخلّية ، وعملنا على طبق الحكم الشرعي وأخذنا بمقتضى ذلك التنزيل ، ثمّ بعد ذلك تبيّن الخلاف ، وأنّ ذلك الذي كان خلاً قد انقلب من الخلّية إلى الخمرية.

فإن قلنا بأنّ مفاد ذلك الدليل الشرعي الذي سمّيناه حجّية الاستصحاب مقصور على قيامه مقام القطع الطريقي في الأثر المترتّب على الواقع الذي هو بقاء الخلّية ، أعني الأثر المذكور في المقدّمة الأُولى ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى ذلك الأثر الواقعي من قبيل انكشاف الخلاف ، وبالنسبة إلى حجّية الاستصحاب من قبيل التبدّل وارتفاع الموضوع.

وإن توسّعنا في مفاد ذلك الدليل وسريناه إلى الأثر الثاني من آثار القطع المذكور في المقدّمة الثانية ، بأن قلنا بقيامه بمقتضى ذلك الدليل مقام القطع الطريقي الذي هو تمام الموضوع ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى كلا الجهتين من قبيل التبدّل.

وإن وسّعنا المنطقة إلى أزيد من ذلك ، وسرينا ذلك الدليل إلى الأثر الثالث المذكور في المقدّمة الثالثة ، وقلنا بأنّه يستفاد من ذلك الدليل قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو جزء الموضوع ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى حجّية الاستصحاب من قبيل التبدّل وانقطاع الحجّية ، وكان بالنسبة إلى ذلك الأثر من قبيل انكشاف الخلاف ، ولا ضير في الالتزام بذلك ، كما التزمنا به في الأمارة القائمة مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو جزء

ص: 220

الموضوع. ولو لم يكن لنا في السابق قطع بأنّ ذلك المائع خل ، بل قامت لنا أمارة على أنّه خل بالأمس ، ثمّ شككنا في بقاء خلّيته التي كان ثبوتها بالأمارة المذكورة ، جرت تلك الأمارة السابقة مجرى اليقين السابق في كونها مورداً للمنع عن نقض اليقين التعبّدي السابق بالشكّ اللاحق ، وترتّب على قيامها ما كنّا رتّبناه على ذلك اليقين السابق ، هذا كلّه في صورة انكشاف الخلاف في نفس ذلك الحكم الطريقي ، الذي هو إبقاء ما كان والأخذ ببقاء ذلك اليقين السابق تعبّداً.

وأمّا في صورة انكشاف الخلاف في نفس ذلك اليقين السابق ، بأن انكشف لدينا خمرية ذلك المائع الذي كنّا بالأمس قاطعين بأنّه خل وحصل لنا الشكّ في بقاء خلّيته وحكمنا ببقاء خلّيته ، على وجه حصل لنا بعد ذلك كلّه أنّ ذلك المائع كان خمراً من أوّل الأمر ، ونحن كنّا مخطئين في اعتقادنا بأنّه بالأمس خل ، بل كان هو من أوّل الأمر خمراً ، فذلك أمر آخر لا دخل له بما نحن بصدده ، بل هو راجع إلى موضوع الاستصحاب الذي هو اليقين السابق ، فإنّ هذا اليقين السابق هو موضوع النهي عن النقض بالشكّ ويجري فيه الاحتمالات الثلاثة ، فإنّ عدم النقض فيه إنّما هو باعتبار الأثر الشرعي المرتّب عليه ، وذلك الأثر تارةً يكون لاحقاً لذلك اليقين السابق بما أنّه طريق محض إلى الواقع المتيقّن ، بحيث لا يكون لليقين السابق مدخلية في ذلك الأثر سوى كونه طريقاً صرفاً إلى ذلك الواقع الذي هو موضوع ذلك الأثر ، وأُخرى يكون الأثر مترتّباً على نفس ذلك اليقين ، بحيث يكون اليقين موضوعاً لذلك الأثر على نحو تمام الموضوع ، وثالثة يكون على نحو جزء الموضوع.

ففي الصورة الأُولى يكون موضوع هذا الحكم الظاهري المتحصّل من قوله « لا تنقض » هو الواقع نفسه ، وبهذه الجهة يكون الاستصحاب قائماً مقام القطع

ص: 221

الطريقي الصرف ، كما هو القدر المتيقّن من دليله والغالب في موارده وحيث ... (1) متيقّناً بوجوده سابقاً ، يكون مفاده التنزيل من ناحية البقاء ، ويكون المكلّف محرزاً لبقاء ما كان إحرازاً تعبّدياً ويكون ذلك قائماً مقام الإحراز الوجداني لبقاء ما كان ، ومن الواضح أنّ ذلك يتوقّف على تحقّق أصل الوجود ، ونفس التنزيل الاستصحابي لا يحرز ذلك بل لابدّ من إحرازه من الخارج ، وحينئذ فعند انكشاف عدم تحقّق ذلك الواقع ينكشف للمكلّف أنّ ذلك الحكم الظاهري لم يكن متوجّهاً إليه.

وهكذا الحال في الصورة الثالثة ، لأنّ موضوع ذلك الحكم الظاهري هو الواقع مع القطع به ، وهذه الجهة لو تمّت وقلنا باستفادتها من أدلّة الاستصحاب تكون مصحّحة لقيامه مقام القطع الطريقي المأخوذ جزءاً من موضوع الحكم ولازمها أنّه عند انكشاف عدم الواقع ينكشف عدم تحقّق أحد جزأي ذلك الموضوع ، وبه ينكشف عدم توجّه ذلك الحكم الظاهري ، وأنّه كان من قبيل تخيّل توجّه الحكم الظاهري ، لا أنّه قد كان الحكم الظاهري قد توجّه إليه ، وأنّه تبيّن له خطأ ذلك الحكم الظاهري وعدم إصابته.

وبالجملة : أنّه على هاتين الصورتين يكون من قبيل انكشاف عدم الحجّية لا من قبيل خطأ الحجّة.

نعم ، على الصورة الثانية يكون موضوع ذلك الحكم الظاهري هو نفس اليقين السابق ، وهذه الجهة لو تمّت وقلنا بأنّه يستفاد من دليل الاستصحاب أنّ الاستصحاب منزّل منزلة القطع حتّى في الآثار المرتّبة على القطع الطريقي ، التي يكون القطع الطريقي مأخوذاً فيها على نحو تمام الموضوع ، لكان الاستصحاب

ص: 222


1- [ في الأصل هنا سِقط فلاحظ ].

قائماً مقام القطع الطريقي المأخوذ على نحو تمام الموضوعية. وعند انكشاف عدم الواقع ينقلب الموضوع ويتبدّل ، وترتفع الحجّية من حين الانكشاف.

وهذه الجهات الثلاث تتفرّع على المراد باليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وهل المراد به هو خصوص ما يكون طريقاً صرفاً إلى متعلّقه ، أو أنّه الأعمّ من ذلك وممّا يكون اليقين الطريقي جزء الموضوع ، أو الأعمّ منهما وممّا يكون اليقين الطريقي تمام الموضوع. وعلى الأوّل لا يجري الاستصحاب إلاّ فيما يكون فيه الأثر الشرعي مترتّباً على الواقع. وعلى الثاني يجري الاستصحاب في ذلك وفي الآثار المترتّبة على الواقع المعلوم ، بحيث يكون العلم الطريقي فيها جزءاً من موضوع تلك الآثار. وعلى الثالث يجري الاستصحاب فيها وفي الآثار المترتّبة على نفس اليقين والقطع الطريقي ، على وجه يكون اليقين فيها تمام الموضوع ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : على ما تقدّم سابقاً من أنّه يمكن أخذ العلم موضوعاً من حيث اقتضائه التنجيز والمعذورية ... الخ (1).

تقدّم هذا عند الكلام على الصحيحة الأُولى من روايات زرارة (2) ، ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما ينفع في قيام الأُصول غير المحرزة مقام العلم الطريقي الصرف ، ومقام العلم المأخوذ في الموضوع من ناحية كونه منجّزاً أو كونه معذّراً ، كما تقدّم في مسألة النجاسة بالنسبة إلى الصلاة ، أمّا فيما نحن فيه من العلم المأخوذ موضوعاً لعدم جواز نقضه بالشكّ فلا أثر له ، لأنّ العلم المذكور مأخوذ في ذلك من حيث الاحراز والطريقية ، لا من حيث التنجيز والمعذّرية ،

ص: 223


1- فوائد الأُصول 4 : 404.
2- فوائد الأُصول 4 : 343 [ ولا يخفى أنّ الصحيح هو الصحيحة الثانية من روايات زرارة ].

فلابدّ أن يقال : إنّ اليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » شامل لكلّ يقين حتّى المأخوذ من حيث التنجيز والمعذّرية ، وحينئذ يكون مثل الأصل غير الاحرازي القائم مقام هذا النحو من القطع داخلاً في قوله : « لا تنقض ».

ولكن ينبغي التأمّل فيما أفاده في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) بقوله : ولذا لا مانع من جريانه في كلّ مورد لم يكن دليل الأصل متكفّلاً للبقاء ، بل كان متمحّضاً في الحدوث ، ولذا لو حكمنا بطهارة شيء متنجّس مغسول بالماء إمّا بقاعدة الصحّة أو بقاعدة الفراغ ، ثمّ شكّ في عروض النجاسة له ، فلا مانع من التمسّك بالاستصحاب ، لما ذكرناه سابقاً من أنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما أُخذ في الموضوع من حيث إنّه مقتض للجري العملي ، فلا مانع من قيام الأُصول فضلاً عن الأمارات مقامه ، إلاّ أن ذلك مشروط بوجود اليقين والشكّ في نفس هذا الحكم الظاهري الخ (1).

وهكذا الحال في صحّة الوضوء والغسل المحرزين بقاعدة الفراغ لو حصل الشكّ في الحدث بعدهما ، بل وكذا في عقد النكاح مثلاً لو أحرزنا صحّته بأصالة الصحّة لو حصل الشكّ في طروّ ما يبطله من الرضاع المتأخّر ، فإنّ الجواب عن الجميع واحد ، فإنّ المتيقّن الوجود والمشكوك البقاء هو الصحّة الظاهرية كما أفاده بقوله : إلاّ أن ذلك مشروط بوجود اليقين والشكّ في نفس هذا الحكم الظاهري ، انتهى. ومن الواضح أنّ هذا لا دخل له بقيام هذا الأصل غير المحرز - أعني مثل قاعدة الفراغ - مقام القطع في عدم جواز نقضه بالشكّ ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عن جميع موارد الطرق والأمارات والأُصول غير الاحرازية ، فإنّها بعد جريانها في مواردها يتولّد منها الحكم الظاهري ، وهذا

ص: 224


1- أجود التقريرات 4 : 84 - 85.

الحكم الظاهري يكون مقطوعاً ومتيقّناً ، فيدخل اليقين به تحت قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وهذا اليقين طريق صرف ، فلا يتوقّف جريان الاستصحاب فيه على دعوى أنّ تلك الأمارات والأُصول قائمة مقام القطع المأخوذ موضوعاً لحرمة النقض ، فلاحظ وتأمّل.

والذي تلخّص من جميع ما تقدّم : هو أنّ جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارات والأُصول عند الشكّ في بقائه لا يتوقّف على ما تقدّم (1) الخلاف فيه من صاحب الكفاية قدس سره من قيام هذه الأُمور مقام القطع الموضوعي ، بل يكفي فيه إثبات أنّ المراد باليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » مطلق الاحراز ولو لم يكن وجدانياً. ومع التنزّل نقول إنّه يكفي فيه إجراء الاستصحاب فيما تولّده هذه الأُمور من الأحكام الظاهرية ، فإنّ تلك الأحكام الظاهرية تكون متيقّنة في مواردها ، وعند طروّ الشكّ في بقائها يجري فيها « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، وهذه الطريقة لو تمّت تكون أوسع من الأُولى ، لعدم شمول الأُولى للأُصول غير الاحرازية ، بخلاف الثانية ، فلاحظ.

ثمّ إنّا في محلّه وإن حقّقنا أنّه ليس في موارد هذه الأُمور أحكام تكليفية كي يتوجّه إشكال الجمع بينها وبين الأحكام الواقعية في مواردها ، لكن هذا لا يضرّ بما ندّعيه من إجراء الاستصحاب في نفس تلك الأحكام ، إذ لا ريب في أنّ الأمارة أو الأصل الاحرازي أو الأصل غير الاحرازي من المجعولات الشرعية ، فلابدّ أن يكون في البين شيء قد جعله الشارع عند قيام أحد هذه الأُمور ، وذلك المجعول الشرعي نعبّر عنه بالأثر الشرعي ، فلابدّ أن يكون في البين أثر شرعي قد جعله الشارع عند قيام أحد هذه الأُمور ، بمعنى أنّها بقيامها تحدث شيئاً لم يكن موجوداً

ص: 225


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : 78 وما بعدها.

قبل قيامها ، وهذا الذي تحدثه يرتفع بما يكون رافعاً للأمر الواقعي ، كالحدث عقيب إحراز الطهارة بأصالة الصحّة في الوضوء أو قيام البيّنة على صحّة ذلك الوضوء ، فلو شككنا في طروّ ذلك الرافع الذي يكون وجوده رافعاً وقاطعاً لما أحدثه ذلك الأصل أو هاتيك الأمارة ، فذلك الذي تيقّنا بوجوده وحدوثه عند قيام أحدهما نشكّ في بقائه فنجري فيه الاستصحاب ، أيّ شيء كان ذلك الذي حدث بقيام أحدهما ، سواء كان هو الحكم التكليفي الظاهري ، أو كان هو الاحراز ، أو كان هو البناء العملي ، أو كان هو مجرّد الجري العملي ، فإنّ أيّ واحد من هذه الأُمور لو قلنا به يكون مشكوك البقاء بعد اليقين بوجوده فيستصحب ، وينطبق عليه قضية « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

وينبغي أن يعلم أنّ نتيجة هذا الأخير - أعني كون المستصحب هو الحكم الظاهري - موافقة لما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ دليل حجّية هذه الأُمور - أعني الأمارات والأُصول الاحرازية والأُصول غير الاحرازية - يخوّلها لأن تقوم مقام اليقين المأخوذ موضوعاً لحرمة نقضه بالشكّ ، في أنّه على كلّ من الطريقتين تكون موارد هذه الأُمور الثلاثة صالحة لجريان الاستصحاب ، بخلاف الطريقة الأُخرى وهي دعوى كون المراد من اليقين هو مطلق الاحراز ، فإنّها لا تنفع في إجراء الاستصحاب في موارد الأُصول غير الاحرازية ، وإنّما تنفع في إجرائه في خصوص موارد الأمارات والأُصول الاحرازية.

ويمكن التوسعة في هذه الطريقة على وجه تكون شاملة للأُصول غير الاحرازية ، وذلك بجعل اليقين كناية عن مطلق الحجّة ، كما نقله المرحوم الشيخ عبد الحسين الرشتي رحمه اللّه في شرحه للكفاية عن مجلس درس المصنّف قدس سره ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وقد قرّر المصنّف في مجلس البحث جواباً آخر عن الإشكال ،

ص: 226

وهو أنّ شمول دليل الاستصحاب مورد الأمارات ، إنّما هو لأجل أنّ المراد من اليقين هو الحجّة ، فالمعنى أنّه لا تنقض ما قامت الحجّة عليه إلاّباليقين سواء كانت الحجّة منجعلة كالقطع والظنّ عند الانسداد حكومة ، أو مجعولة كالأمارات والأُصول حتّى الاستصحاب ، مثلاً إذا كان زيد في الصبح متيقّن الطهارة فشكّ في الحدث فاستصحب الطهارة ، ثمّ شكّ في الظهر في الحدث مع التفاته إلى الاستصحاب الأوّل دون اليقين والشكّ ، فحينئذ يستصحب المستصحب الأوّل وإن كان فيه إشكال.

ثمّ قال : ولكنّك خبير بأنّ هذا الجواب محتاج إلى عناية ، وهو جعل اليقين بمعنى الحجّة ، ولا قرينة عليه لا من نفس دليل الاستصحاب ولا من الخارج ، ولا يقاس بحال اليقين الناقض الذي يكون المراد منه الحجّة بقرينة مقابلته بالشكّ ، حيث يعلم من المقابلة أنّ الأمر البيّن الذي غير الشكّ يكون قاطعاً لليقين (1) ، انتهى ما في الشرح المذكور.

قلت : لم يتّضح الفرق ، إذ كما أنّ المقابلة للشكّ في المرحلة الثانية يكون قرينة على أنّ المراد من اليقين الناقض هو الحجّة ، فكذلك ينبغي أن تكون هذه المقابلة قرينة على أنّ المراد من اليقين الممنوع نقضه بالشكّ هو الحجّة.

والإنصاف أنّ هذا الذي نقله عن المصنّف قدس سره في مجلس البحث لا بأس به ، ولعلّه أحسن الوجوه وأعمّها وأتمّها ، بل لعلّه يمكن القول بالشمول للحجّة العقلية ، حتّى في أحد طرفي العلم الاجمالي بالنجاسة بعد تلف الباقي وقد طرأ احتمال التطهير على ذلك الباقي ، على تأمّل في ذلك.

ويمكن أن يستشهد لما ذكرناه من شمول اليقين الأوّل لما عرفت من

ص: 227


1- شرح كفاية الأُصول 2 : 250.

الحجّة العقلية على التكليف بما هو واضح من شمول اليقين الثاني لذلك ، كما لو كان هذا الاناء مستصحب الطهارة ثمّ علم إجمالاً بوقوع نجاسة مردّدة بينه وبين إناء آخر ، فلاحظ.

وكيف كان ، فقد ظهر أنّ طريقة شيخنا قدس سره كبقية الطرق قاضية بجريان الاستصحاب في موارد الأمارات والأُصول الاحرازية والأُصول غير الاحرازية ، إلاّ أنّه قدس سره قد استثنى من ذلك موارد الاستصحاب ونحوه ممّا هو مغيّى بالعلم كقاعدة الطهارة وقاعدة الحل ، وذلك لجهة أُخرى ، وتلك الجهة هي دعوى كون الركون إلى استصحاب الثابت بالاستصحاب أو استصحاب الثابت بقاعدة الطهارة من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، لأنّ الاستصحاب السابق أو قاعدة الطهارة السابقة كافيان في إزالة الشكّ الطارئ بعد إجرائهما.

وهذا الذي أفاده يتمّ فيما لو كان المستند الأوّل هو قاعدة الطهارة ، فإنّا لو حكمنا على هذا المائع بقاعدة الطهارة إمّا لأجل الشبهة الحكمية أو لأجل الشبهة الموضوعية ، ثمّ طرأ الشكّ في تنجّسه لعارض من العوارض ، كان ذلك المانع بعد طروّ ذلك الشكّ بنفسه مورداً لقاعدة الطهارة ، فيحكم بطهارته لأجل قاعدة الطهارة ، من دون حاجة إلى استصحاب تلك الطهارة الظاهرية التي كانت له قبل طروّ ذلك الشكّ ، فإنّ استصحاب الطهارة وإن كان حاكماً على قاعدة الطهارة ، إلاّ أنّ ذلك في استصحاب الطهارة الواقعية دون استصحاب الطهارة الظاهرية ، لأنّ قاعدة الطهارة فعلاً حاكمة بالطهارة الظاهرية ، فتكون الطهارة الظاهرية بواسطتها محرزة بالوجدان ، فالركون إلى استصحاب الطهارة الظاهرية من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

أمّا لو كان المستند الأوّل هو الاستصحاب ، كما لو زال تغيّر الماء المتغيّر

ص: 228

بالنجاسة واستصحبنا نجاسته ، ثمّ طرأ الشكّ في طهارته من جهة احتمال ملاقاته للكر ، أو من جهة وقوع قطرة من المطر فيه مع احتمال كون القطرة الواحدة مطهّرة ، فالأوّل على نحو الشبهة الموضوعية والثاني من قبيل الشبهة الحكمية ، فكان لذلك الماء آنات ثلاثة : الأوّل آن تغيّره بالنجاسة ، وذلك هو آن اليقين بنجاسته ، الثاني هو آن زوال تغيّره ، والثالث هو آن احتمال اتّصاله بالكرّ أو وقوع قطرة المطر فيه ، وبالاستصحاب سحبنا الحكم بنجاسته من الآن الأوّل إلى الآن الثاني ، أمّا في الآن الثالث فلو أردنا سحب النجاسة الواقعية من الآن الأوّل إليه ، توجّه إشكال عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لكون الآن الثاني فاصلاً ، ولو قلنا بأنّ تلك النجاسة نسحبها من الآن الأوّل إلى مجموع الآنين بعده ، توجّه الإشكال بأنّ معنى بقاء تلك النجاسة هو أنّها لا تزول بزوال التغيير ، فلا يكفي في أنّها لا تزول باحتمال اتّصاله بالكرّ بعد زوال التغيير.

وبالجملة : لابدّ لنا أن نقول : إنّ الآن الثاني ينسحب إليه الحكم من الآن الأوّل ، والآن الثالث ينسحب إليه الحكم من الآن الثاني. أمّا دعوى انسحاب الحكم من الآن الأوّل إلى مجموع الآنين المتأخّرين مع فرض اختلاف منشأ الشكّ فيهما ، فهي في غاية الإشكال.

والحاصل : أنّ الشكّ في الآن الثالث إنّما هو في بقاء حكم الآن الثاني والشكّ في الآن الثاني إنّما هو في بقاء حكم الآن الأوّل ، ولو قلنا إنّا في الآن الثالث شاكّون في بقاء حكم الآن الأوّل لم يتّصل زمان الشكّ بزمان اليقين ، والقول بأنّ الشكّ في مجموع الآنين المتأخّرين واحد وهو الشكّ في بقاء حكم الآن الأوّل ، يدفعه أنّ علّة الشكّ في الآنين مختلفة ، وذلك عبارة أُخرى عن تعدّد الشكّ فيهما ، فإنّ كلّ علّة لها معلول مستقل غير المعلول للعلّة الأُخرى.

ص: 229

والحاصل : أنّه فرق واضح بين قاعدة الطهارة ومفاد الاستصحاب ، فإنّ كلاً منهما وإن كان عاماً ، فالأوّل شامل لكلّ ما شكّ في طهارته والثاني شامل لكلّ يقين وشكّ ، إلاّ أن الثاني لابدّ فيه من اتّصال الشكّ باليقين ، ومن هذه الجهة من الفرق نقول إنّا لو حكمنا على هذا الموجود المشكوك الطهارة بقاعدة الطهارة سواء كان للشبهة الموضوعية أو كان للشبهة الحكمية ، كعرق الجنب من الحرام أو ماء الغسالة ، ثمّ طرأ الشكّ في ملاقاته للنجاسة ، كان ذلك الشيء في هذه الحالة الثانية مورداً لقاعدة الطهارة ، وكان بنفسه موضوعاً لها.

وهكذا الحال لو طرأ عليه شكّ ثانٍ وثالث وهكذا ، فإنّه في جميع هذه الحالات يتولّد فيه موضوع قاعدة الطهارة ، فتجري فيه كما جرت فيه في حالته السابقة ، وهذا بخلاف الاستصحاب ، كما عرفت في مثال الماء المتغيّر الذي زال تغيّره ثمّ عرض احتمال ملاقاته للكرّ ، فإنّه أيضاً يحتاج إلى تطبيق لا تنقض اليقين بنجاسته الواقعية الأوّلية التي كانت له عندما كان متغيّراً ، بالنظر على شكّه في حالته الثانية وهي حالة زوال التغيير ، ثمّ بعد طروّ الشكّ الثاني في ملاقاته للكرّ نحتاج أيضاً إلى تطبيق لا تنقض عليه ثانياً ، فنكون قد نهينا عن نقض اليقين بتلك النجاسة الأوّلية مرّتين ، في المرّة الأُولى وهي حالة زوال تغيّره ، وفي المرّة الثانية وهي حالة احتمال اتّصاله بالكرّ.

وحينئذ لو نظرنا إلى النهي الثاني المتوجّه إلينا في تلك الحالة الأخيرة ، أعني حالة احتمال اتّصاله بالكرّ ، لرأينا أنّ محصّله هو النهي عن نقض هذا الشكّ وهو الشكّ في اتّصاله بالكرّ لليقين السابق بتلك النجاسة التي كانت حاصلة عندما كان متغيّراً ، وجرياً على ما عرفت من اعتبار اتّصال الشكّ باليقين نرى أنّ شكّنا الفعلي الذي هو مورد النهي عن النقض غير متّصل باليقين السابق ، فلا يجري فيه

ص: 230

النهي المذكور ، وهو معنى عدم جريان استصحاب تلك النجاسة فيه.

وهكذا الحال في موارد استصحاب الطهارة ، بأن كانت يدي طاهرة مثلاً ثمّ لاقت بجفاف ميّت الإنسان ، فقد قيل بالنجاسة ، ونحن نرجع إلى استصحاب الطهارة ، ثمّ بعد هذا لاقت عرق الجنب من الحرام ثمّ لاقت ماء الغسالة ، ثمّ احتمل ملاقاتها للبول وهكذا. وكذلك الحال لو كان الأمر بالعكس بأن كانت الطهارة المستصحبة أوّلاً هي الموضوعية ، بأن احتملنا ملاقاتها للبول ثمّ لاقت ميّت الإنسان وهكذا.

نعم يظهر تعدّد النهي عن النقض فيما لو كان الأوّل حكمياً والثاني موضوعياً أو بالعكس ، لكن الحكميين أو الموضوعيين مثله أيضاً في تعدّد النهي حتّى لو كانا من سنخ واحد ، بأن علم الحدث صباحاً وشكّ في الوضوء ظهراً واستصحب الحدث ، ثمّ أيضاً شكّ في حدوث الوضوء عصراً ، فإنّ حالته العصرية لو استقاها من حالته صبحاً لم يتّصل زمان شكّه بذلك اليقين ، فلابدّ أن يستقيها من حالته الظهرية التي هي اليقين التعبّدي بحدثه ، ولا يمكنه الآن يعني في حالته العصرية أن يجمع الحالتين - أعني حالته الظهرية وحالته العصرية - ويستقيهما من حالته الصباحية ، لأنّه لابدّ من عبور حالته الصباحية على حالته الظهرية ومنها إلى حالته العصرية ، والمفروض أنّ عبور حالته الصباحية على حالته الظهرية ، وعبورها على حالته الظهرية يجعلها حالة يقين بالحدث التعبّدي ، فلا تصل إلى حالته العصرية إلاّبعد الانقلاب إلى الحدث التعبّدي. نعم إنّما يمكن ذلك فيما لو احتمل الوضوء ظهراً وبقي على ذلك الاحتمال إلى العصر ، فإنّه حينئذ يستقي من حالته صباحاً إلى الظهر فيكون في الظهر محدثاً تعبّداً ، ويبقى حدثه التعبّدي وجدانياً إلى العصر ، فتأمّل. ولا يخفى أنّه لابدّ من

ص: 231

تعيين المرجع بعد سقوط الاستصحاب السابق ، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ هذه الجهة - أعني عدم اتّصال زمان الشكّ في الآن الثالث بزمان اليقين الحاصل في الآن الأوّل - هي العمدة في الوقفة عن إجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي وإلاّ لكان هو المتعيّن ، فإنّ إطلاق عدم رفع اليد عن اليقين بالنجاسة التي كانت عند التغيّر إلى أن يعلم ارتفاعها قاض بالاعتماد عليه في الآن الثالث ، إذ هو لم يعلم فيه ارتفاع تلك النجاسة ، وهو قاض بتحقّق النجاسة الظاهرية في الآن الثالث تحقّقاً وجدانياً ، فيكون الركون في الآن الثالث إلى استصحاب النجاسة الظاهرية الثابتة في الآن الثاني من قبيل الاحراز التعبّدي للنجاسة الظاهرية ، المفروض أنّها في الآن الثالث محرزة وجداناً ببركة استصحاب النجاسة الواقعية ، القاضي بالنجاسة الظاهرية وجداناً ، فلاحظ.

بقي الكلام في الفرع الذي كرّرنا الكلام عليه في الدورة السابقة ، وهو ما لو فقد أحد طرفي العلم الاجمالي بالنجاسة بعد حصول العلم الاجمالي وبقي الطرف الآخر ، فيلزم الاجتناب عنه بحكم العلم الاجمالي ، لكن احتملنا عروض التطهّر عليه ، فماذا يكون الجاري فيه ، ويجري ذلك بعينه فيما لو كان الطرف الآخر موجوداً لكن فرضنا فقده لنستريح من شبهة دعوى أنّ قاعدة الطهارة فيه معارضة بها في الآخر ، وإن كانت هذه الشبهة واهية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الظاهر أنّه لا يمكن استصحاب حالته السابقة لأنّها غير معلومة ، ولا تجري فيه الطرق الثلاث التي تقدّمت. أمّا دعوى شمول اليقين للاحراز العقلائي أو التعبّدي فواضح ، لعدم إحراز نجاسته. وأمّا استصحاب الحكم الظاهري فواضح أيضاً ، إذ ليس في البين حكم ظاهري شرعي ، وأمّا الحكم العقلي بوجوب الاجتناب بحكم العلم الاجمالي فهو - أعني هذا الحكم

ص: 232

العقلي - غير قابل للاستصحاب ، إذ ليس هو بأثر شرعي ولا يترتّب عليه أثر شرعي. وأمّا طريقة الحكومة وقيام المجعول الشرعي مقام العلم ولو باعتبار كونه منجّزاً للواقع فواضح أيضاً ، لعدم الجعل الشرعي في المقام ، إذ ليس إلاّحكم العقل بلزوم الاجتناب الذي ليس هو من الحجج الشرعية.

وحينئذ ينحصر التخلّص في هذا الفرع بما أُفيد في الكفاية (1) من استصحاب النجاسة على تقدير ثبوتها ، الذي محصّله هو الملازمة بين وجود النجاسة وبين بقائها ، وبعد تطبيق هذه الملازمة في المقام نقول يلزم الاجتناب لأنّ نجاسة هذا الاناء لو كانت فهي باقية ، وحينئذ يلزم الجري على احتمال وجودها قضية للعلم الاجمالي ، أو بما نقله عنه المرحوم الشيخ عبد الحسين الرشتي في مجلس البحث من كون المراد من اليقين في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » مطلق الحجّة سواء كانت مجعولة أو منجعلة ، بناءً على تعميم الحجّة لاقتضاء العلم الاجمالي كما عرفت التفصيل في ذلك فيما تقدّم ، فإنّه قد عمّم الحجّة المنجعلة للظنّ عند الانسداد على تقدير الحكومة ، ومن الواضح أنّه لا محصّل لحجّية الظنّ على هذا التقدير إلاّ العمل بالاحتياط في بعض أطراف العلم الاجمالي وهو خصوص المظنونات ، ولأجل ذلك نعبّر عنه بأنّه من باب تبعيض الاحتياط.

والحاصل : أنّ جريان الاستصحاب في أمثال هذا الفرع الذي ذكرناه وفي موارد الظنّ بالتكليف على القول بالانسداد والحكومة ، لا يمكن إصلاحه بما تقدّم من الطرق التي شرحناها ، وينحصر التخلّص عن الإشكال في ذلك بما أفاده قدس سره في الكفاية ، أو بما نقله عنه المرحوم في مجلس البحث.

ص: 233


1- كفاية الأُصول : 404 - 405.

اللّهمّ إلاّ أن نسلك طريقة أُخرى في ذلك ، وهي أن نقول : إنّا نستصحب عدم التطهير ، وبعد إحرازنا عدم عروض التطهير ينفتح باب تأثير العلم الاجمالي. وبعبارة أُخرى : أنّ وجود التطهير يرفع أثر العلم الاجمالي وينسدّ به باب تأثيره في وجوب الاجتناب عن هذا الاناء ، وحينئذ يكون إحراز عدم طروّ التطهّر رافعاً لحصول الطهارة الجديدة ، وبذلك يتنقّح موضوع الحكم العقلي ، وهو وجوب الاجتناب عن طرف العلم الاجمالي.

وهذا المعنى لو تمّ لجرى في موارد الظنّ بالتكليف على الانسداد والحكومة ، حتّى في مثل ما لو ظننا بنجاسة الماء المتغيّر ثمّ زال تغيّره ، فإنّا نستصحب عدم طروّ الطهارة عليه ، بل يمكن إجراء ذلك في جميع موارد الطرق والأمارات والأُصول الشرعية الاحرازية وغير الاحرازية ، فنتّكل فيها على هذا الأصل العدمي ، وهو منقّح لموضوع هذه الوظائف الشرعية ، ففي مثل الماء المتغيّر بالنجاسة الذي زال تغيّره لو شككنا في عروض الطهارة عليه باحتمال اتّصاله بالكرّ بعد زوال تغيّره ، نستصحب عدم اتّصاله بالكرّ ، فيكون هذا الماء غير المتّصل بالكرّ موضوعاً لجريان استصحاب النجاسة السابقة الثابتة قبل زوال التغيير ، ولا يبقى شكّ في بقاء نجاسته إلاّمن ناحية زوال التغيّر فنحكم ببقاء تلك النجاسة.

وهكذا الحال فيما لو قامت البيّنة على نجاسة هذا الماء ، ثمّ بعد قيام البيّنة المذكورة حصل لنا الشكّ في اتّصاله بالكرّ الموجب لخروجه عن اقتضاء البيّنة ، فنستصحب عدم اتّصاله بالكرّ ، فيكون هذا الماء غير المتّصل بالكرّ موضوعاً لما قامت البينة على نجاسته ، فتنحلّ المشكلة في جميع موارد هذا التنبيه من دون حاجة إلى شيء من الوجوه الثلاثة ، بل الأربعة بضمّ مسلك صاحب الكفاية قدس سره ،

ص: 234

فيسقط هذا التنبيه بالمرّة.

لا يقال : إنّ هذا الاناء الموجود من طرفي العلم الاجمالي إن كان طاهراً في الواقع لم يكن للشكّ في وقوع المطر فيه أو في اتّصاله بالكرّ أثر ، فلا مورد فيه لأصالة عدم ذلك ، وإنّما يكون ذلك ذا أثر إذا كان في الواقع نجساً والفرض أنّه لم يحرز ، فكانت النتيجة هي عدم إمكان إجراء أصالة عدم تطهيره ، أو عدم وقوع المطر فيه ، أو عدم اتّصاله بالكرّ.

لأنّا نقول : يكفي في جريان أصالة العدم في هذه الأُمور طرد أثرها وهو التطهير لو كان ذلك الاناء نجساً ، وكثيراً ما تجري الأُصول على الفرض والتقدير ، كما لو وجب عليه تكرار الصلاة إلى أربع جهات وقد شكّ في واحدة معيّنة منها بعد الفراغ ، أو وجب عليه الظهر والجمعة من جهة العلم الاجمالي وقد فعل الظهر وبعد الفراغ منها شكّ في صحّتها ، فإنّ محصّل جريان قاعدة الفراغ في ذلك هو أنّ هذه الصلاة لو كانت هي الواجبة فهي غير فاسدة ، فالحكم بعدم فسادها استناداً إلى قاعدة الفراغ إنّما هو على تقدير كونها هي الواجبة ، وإلاّ فلا أثر للشكّ في فسادها.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال مختص بأصالة العدم الجارية في مورد العلم الاجمالي كما عرفت ، أمّا ما هو قبل هذا الاحتمال مورد للأمارة أو الأصل الاحرازي أو غير الاحرازي ، واحتمل طروّ ما يكون رافعاً لما سبق ، فلا يحتاج الاعتماد على أصالة العدم إلى ما ذكر من الفرض والتقدير ، بل إنّ مقتضى تلك الوظيفة السابقة كون ذلك المحتمل مؤثّراً لو تحقّق ، فإنّ مقتضى استصحاب النجاسة إلى حين طروّ احتمال ملاقاة الكر محقّق ومصحّح لجريان أصالة العدم في تلك الملاقاة ، لأنّها حينئذ توجب انقلابه إلى الطهارة ، وهكذا الحال في بقيّة

ص: 235

الموارد ، فلاحظ.

قوله : نعم ربما يستشكل في استصحاب مؤدّى الاستصحاب ، أي استصحاب ما كان محرزاً بالاستصحاب ... الخ (1).

مثلاً لو تغيّر الماء بالنجاسة فتنجّس ثمّ زال التغيّر وحكمنا ببقاء نجاسته للاستصحاب ، وبعد ذلك عرض الشكّ في بقاء ذلك الحكم بالنجاسة لأجل الشكّ في ملاقاته الكر ، أو لأجل الشكّ في كون النقطة الواقعة فيه من المطر مطهّرة له. ومثل ما لو كان الماء القليل طاهراً وقد شككنا في بقاء طهارته لاحتمال وقوع قطرة من البول فيه واستصحبنا طهارته ، ثمّ عرض الشكّ في ملاقاته للدم ، أو في نجاسة عرق الجنب من الحرام المفروض كونه قد لاقاه.

والحاصل : أنّ الاستصحاب السابق إمّا أن يكون جارياً في الشبهة الحكمية وإمّا في الشبهة الموضوعية ، والشكّ الحادث في قباله إمّا أن يكون حكمياً أو يكون موضوعياً ، فتكون الصور أربعاً ، وقد عرفت أمثلتها.

والكلام في أنّ المستصحب في المثال الأوّل عند الشكّ في ملاقاة ذلك الماء الكرّ مثلاً هل هو النجاسة المستصحبة ، يعني النجاسة الظاهرية الثابتة باستصحاب النجاسة الحادثة عند التغيّر بالنجاسة ، أو أنّ المستصحب هو تلك النجاسة المذكورة يعني النجاسة التي كانت عند التغيّر ، ولكن هل هو استصحاب ثانٍ ، أو أنّه ليس في البين إلاّذلك الاستصحاب السابق ، بمعنى أنّه بعد فرض كون المستصحب هو تلك النجاسة التي كانت متيقّنة الحصول عند التغيّر ، هل يكون استصحابها إلى ما بعد احتمال ملاقاة الكرّ هو غير استصحابها إلى ما بعد ارتفاع التغيّر ، نظراً إلى أنّ الشكّ في أحدهما مغاير للشكّ في الآخر ، لكون الشكّ في

ص: 236


1- فوائد الأُصول 4 : 404 - 405.

أحدهما ناشئاً عن احتمال ملاقاة الكرّية ، وفي الآخر ناشئاً عن احتمال كون ارتفاع التغيّر موجباً لارتفاع النجاسة ، أو أنّه لا يكون الاستصحاب إلاّواحداً ، إذ ليس الاستصحاب إلاّ الأخذ بالمتيقّن السابق ، ولا يتعدّد بتعدّد منشأ الشكّ بعد فرض كون الأخذ بالمتيقّن السابق لازماً لا يرفع اليد عنه إلاّبيقين آخر؟

والمتعيّن الأوّل أعني تعدّد الاستصحاب ، لتدرّج الشكّ وكلّ شكّ محكوم بعدم النقض. نعم لو حصل كلّ من الشكّين دفعة واحدة لكان الحكم وهو عدم النقض واحداً ، وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا المقدار أعني أنّه بعد فرض كون المستصحب هو النجاسة الحاصلة عند التغيّر ، هل يكون لنا استصحابان أو أنّه ليس لنا إلاّ استصحاب واحد ، لا أهميّة له ، وإنّما عمدة الكلام في أنّ المستصحب هل هو تلك النجاسة السابقة المتيقّنة عند التغيّر ، أو أنّ المستصحب هو النجاسة المستصحبة ، لأنّ إحراز النجاسة بالاستصحاب كافٍ في تحقّق اليقين بها ، وبعد اليقين الحاصل من الاستصحاب لو طرأ الشكّ في بقائها نستصحبها.

ويرد عليه - مضافاً إلى ما أُفيد من أنّ مقتضى الاستصحاب الأوّل هو عدم رفع اليد عن اليقين بالنجاسة الحاصلة عند التغيّر إلاّباليقين بالطهارة الذي يكون مقتضاه إلغاء الشكّ في بقاء تلك النجاسة السابقة من أيّ جهة كان الشكّ - أنّ الرجوع في الحكم ببقاء النجاسة إلى استصحاب النجاسة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب ، من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، حيث إنّ النجاسة الظاهرية الاستصحابية ثابتة بالوجدان عند طروّ احتمال ملاقاة الكرّ ، وذلك بواسطة استصحاب النجاسة التي كانت عند التغيّر إلى ما بعد زوال التغيّر وإلى ما بعد احتمال ملاقاة الكرّ ، فلا حاجة في إحراز تلك النجاسة الاستصحابية إلى استصحابها ممّا بعد زوال التغيّر إلى ما بعد [ احتمال ] ملاقاة الكرّ ، هذا.

ص: 237

مضافاً إلى ما يرد على استصحاب النجاسة الاستصحابية ، من كون الحكم محرزاً لموضوعه ، فإنّ الاستصحاب الذي هو عبارة عن المنع عن نقض اليقين بالشكّ يتوقّف على تحقّق اليقين ، والمفروض أنّ اليقين بالنجاسة الاستصحابية لا يحصل إلاّبهذا الحكم ، أعني المنع عن نقض اليقين بالشكّ. وهذا الإشكال نظير الإشكال في سلسلة الرواية بالنسبة إلى لزوم تصديق العادل ، وهذا الإشكال وإن أُجيب عنه في محلّه كما عرفته في محلّه (1) إلاّ أنه لا داعي للايقاع في هذه المضايق بعد سهولة الأمر بالركون إلى استصحاب نفس النجاسة السابقة الواقعية المتيقّنة عند حصول التغيّر. لكن سيأتي (2) أنّ مقتضى تعدّد الشكّ هو عدم إمكان الرجوع في الآن الثالث إلى استصحاب النجاسة السابقة المتيقّنة عند حصول التغيير ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وأنّه لابدّ من الرجوع إلى استصحاب النجاسة المستصحبة.

واعلم أنّ الصور الأربع التي عرفتها في استصحاب المستصحب تجري في استصحاب الحكم الظاهري الثابت بقاعدة الطهارة ، فإنّ قاعدة الطهارة قد تجري في الشبهات الحكمية كما في عرق الجنب من الحرام ، وقد تجري في الشبهات الموضوعية كما في الماء المشكوك النجاسة مع فرض عدم العلم بحالته السابقة ، ثمّ بعد الحكم بالطهارة في الصورتين المذكورتين قد يحصل الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشبهة الحكمية ، كأن يقع فيه ماء الاستنجاء المفروض كونه مشكوك النجاسة على نحو الشبهة الحكمية ، أو على نحو الشبهة الموضوعية كأن يشكّ في وقوع قطرة بول فيه ، فهل المرجع في ذلك هو استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة

ص: 238


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 427 وما بعدها.
2- في الصفحة : 245 وما بعدها.

بقاعدة الطهارة ، أو أنّ المرجع هو قاعدة الطهارة ، إمّا القاعدة السابقة نفسها أو أنّها تجري ثانياً بلحاظ الشكّ الثاني الجديد؟

ويرد على الاستصحاب المذكور أوّلاً : أنّ قاعدة الطهارة ليست من الأُصول الاحرازية كي يقال إنّها محصّلة لليقين بالطهارة الواقعية.

وثانياً : أنّ الركون إلى الاستصحاب المذكور من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وثالثاً : أنّ قاعدة الطهارة السابقة لا يرفع اليد عنها إلاّبالعلم بالنجاسة المفروض عدم حصوله. ومن هذا الأخير يعلم أنّه لو كان المدرك للطهارة الظاهرية السابقة أصلاً آخر غير استصحاب الطهارة وقاعدتها ممّا لا يكون مغيّى بالعلم ، مثل ما لو أقدم المسلم على غسل الثوب من النجاسة وشككنا في صحّة تطهيره ، وقلنا بجريان أصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ ، ثمّ طرأ الشكّ في تنجّسه ، فإنّه لا إشكال في استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة بأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ. ومثله ما لو توضّأ أو اغتسل وبعد الفراغ شكّ في صحّة طهارته وأجرى قاعدة الفراغ ، ثمّ بعد ذلك حصل له الشكّ في حدوث الناقض ، وفي الحقيقة ليس هذا من استصحاب الطهارة الظاهرية ، بل هو من استصحاب الطهارة الواقعية التي أحرزناها بأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ ، فإنّها من الأُصول الاحرازية.

والفرق بين هذه المسألة ومسألة الاستصحاب السابقة هو أنّ استصحاب الحكم السابق يزيل الشكّ الجديد ، كما يزيل الشكّ السابق عليه ، بخلاف قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة ، فإنّها لا تزيل إلاّ الشكّ السابق الناشئ عن احتمال عدم صحّة الغسل ، دون الشكّ الجديد الناشئ عن احتمال ملاقاة النجاسة.

ولو علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ فقد أحدهما وبعد ذلك احتمل تطهير

ص: 239

الباقي ، فهل يكون المرجع في الباقي قاعدة الطهارة لعدم جريان استصحاب النجاسة فيه ، أو أنّه يلزم الاجتناب عنه بمقتضى العلم الاجمالي الذي مقتضاه وجوب الاجتناب عن الباقي إلاّ أن يعلم بتطهّره ، فيكون هذا الفرع عكس ما لو كان المورد في حدّ نفسه مجرى لقاعدة الطهارة وقد طرأ احتمال تنجّسه ، ويكون اقتضاء العلم الاجمالي فيما نحن فيه بازاء مقتضى قاعدة الطهارة ، في أنّه لا يرفع اليد عنه حتّى يعلم بخلافه.

ثمّ لا يخفى أنّي قد حرّرت عن شيخنا الأُستاذ قدس سره ما هذا نصّه : وهو أنّه قد تقدّم منّا استدراك على تقسيم الشيخ قدس سره للقطع إلى ما أُخذ في الموضوع من حيث الصفتية وما أُخذ من حيث الطريقية ، فذكرنا قسماً ثالثاً وهو ما أُخذ من حيث التنجّز والمعذورية ، وبيّنا أنّ الأمارات والأُصول الاحرازية تقوم مقام القسم الثاني من القطع ، وأنّ الأُصول الاحرازية تقوم مقام القسم الثالث من القطع ، وبذلك يتمّ قيام قاعدة الطهارة مقام القطع بها فيما لو ثبت طهارة شيء بقاعدة الطهارة إذا كان الشكّ فيه من حيث الشبهة الحكمية ، ثمّ بعد ذلك حصل الشكّ في عروض النجاسة عليه ، فإنّه يجري فيه استصحاب الطهارة السابقة التي كانت ثابتة من حيث الشبهة الحكمية ، فإنّ أصالة الطهارة الجارية فيه من حيث الشبهة الحكمية تكون قائمة مقام القطع ، فيكون بذلك داخلاً في متيقّن الطهارة ، باعتبار أنّ الحكم على مشكوك الطهارة بأحد طرفي الشكّ يكون موجباً لكونه محكوماً عليه بالطهارة الواقعية التي هي أحد طرفي الشكّ ، فإذا شكّ في زوال تلك الطهارة جرى الاستصحاب في بقائها ، وكان الاستصحاب المذكور حاكماً على قاعدة [ الطهارة ] من حيث الشكّ الثاني أعني الشبهة الموضوعية. نعم لا يجري مثل هذا في قاعدة الحل لعدم جريانها في الشبهات الحكمية. ومنه يظهر أنّ مثل هذا

ص: 240

الاستصحاب لا يجري فيما لو كانت الطهارة السابقة ثابتة بقاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الموضوعية ، لأنّ ما هو المستصحب هو عين ما يثبت بالطهارة الجارية في الشكّ الثاني ، انتهى.

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّه بعد البناء على أنّ اليقين في قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يشمل اليقين الحاصل من قاعدة الطهارة ، لم يظهر الفرق بين القاعدة المذكورة في الشبهات الحكمية وبين القاعدة في الشبهات الموضوعية في جريان الاستصحاب عند احتمال طروّ النجاسة الجديدة في خصوص القاعدة في الشبهات الحكمية دون الشبهات الموضوعية ، كما أنّ ما أُفيد من اختصاص قاعدة الحل في خصوص الشبهات الموضوعية تقدّم منه قدس سره المنع منه إلاّفي خصوص قولهم عليهم السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » (1) المشتمل على لفظ « فيه » فراجع ما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا (2).

وأمّا ما يقال : من أنّ القاعدة الجارية من حيث الشبهة الحكمية لا تكون مزيلة للشكّ الحادث الناشئ عن الشبهة الموضوعية ، ففيه أوّلاً : أنّها إذا لم تكن مزيلة للشكّ بنفسها كيف يكون استصحابها مزيلاً له.

وثانياً : أنّه بعد البناء على كون كلّ من الشبهات الحكمية والموضوعية داخلاً في قوله : « كلّ شيء لك طاهر » يكون مفاد القاعدة في الشبهة الحكمية متّحداً مع مفادها في الشبهة الموضوعية ، وأنّ المعيار في ذلك هو كون الشيء الخارجي الخاص مشكوك الطهارة ، وأنّ منشأ الشكّ أجنبي عمّا هو موضوع الحكم ، أعني الشيء المشكوك الطهارة ، هذا.

ص: 241


1- وسائل الشيعة 17 : 87 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1.
2- أجود التقريرات 4 : 64.

ولكن لا يخفى أنّ مراده قدس سره هو أنّ اليقين المأخوذ موضوعاً لعدم النقض في باب الاستصحاب ، ليس المراد به خصوص اليقين الوجداني حتّى لا يقوم مقامه شيء حتّى الأمارات ، بل اليقين المذكور قد أُخذ من حيث المنجّزية والمعذّرية ، فيقوم مقامه كلّ ما يكون منجّزاً للواقع ومصحّحاً للعذر في مخالفته ، سواء كان ذلك أمارة أو كان أصلاً عملياً ، إحرازياً كان أو غير إحرازي ، فيدخل فيه جميع الوظائف المقرّرة ، بل يدخل فيه العلم الاجمالي المنجّز للتكليف فيما لو فقد بعض الأطراف وبقي الآخر وقد شكّ في بقاء التكليف لو كان متحقّقاً في الطرف الباقي ، وحينئذ فلا إشكال في جميع ما ذكرناه وما سيأتي من الفروع.

وأمّا ما أفاده قدس سره من الفرق بين قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية وقاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعية ، فهو أمر آخر راجع إلى مسألة الاحراز بالتعبّد لما هو محرز بالوجدان ، من جهة أنّ التعبّد ببقاء الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة في الشبهة الموضوعية يكون لغواً ، لكون المورد فعلاً مورداً لقاعدة الطهارة الموضوعية ، فلا حاجة إلى إحراز ذلك بالتعبّد ، وهذا بخلاف ما لو كان الحكم سابقاً بالطهارة مستنداً إلى قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية ، فإنّ طروّ الشكّ الموضوعي والحكم على ذلك الشكّ بقاعدة الطهارة الموضوعية محكوم باستصحاب الطهارة الحكمية.

نعم ، يرد على هذا التوجيه : أنّ دعوى كون اليقين المأخوذ في باب الاستصحاب قد أُخذ فيه من حيث المنجّزية والمعذّرية محتاجة إلى دليل ، وأقصى ما يمكننا المساعدة عليه هو كونه مأخوذاً من حيث الاحراز ، فيقوم مقامه كلّ أصل محرز لا غير ، فتأمّل.

والميزان في هذا البحث هو أنّ الأصل السابق إن كان مزيلاً للشكّ اللاحق

ص: 242

لم يكن محلّ لاستصحاب مؤدّاه ، بل كان المرجع في ذلك الشكّ اللاحق هو نفس ذلك الأصل السابق ، ولو باجرائه ثانياً بلحاظ الشكّ اللاحق. ولو لم يكن الأصل السابق مزيلاً للشكّ اللاحق ، كما مثّلنا له بقاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة الجارية في الغُسل أو الغَسل ، وقد طرأ بعد ذلك الشكّ في عروض الحدث أو الخبث ، كان المرجع في ذلك الشكّ اللاحق هو استصحاب مؤدّى الأصل السابق ، إمّا لما ذكرناه من كون مفاد قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة هو الاحراز ، أو لما أفاده الأُستاذ قدس سره من صحّة قيام [ الأُصول غير الاحرازية ] مقام العلم الطريقي المأخوذ في الموضوع من حيث التنجيز والمعذورية ، على إشكال في ذلك في خصوص ما نحن فيه الذي هو اليقين السابق في باب الاستصحاب ، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال فيه هو أخذ اليقين من حيث الاحراز ، فلا يقوم مقامه من الأُصول إلاّ ما كان إحرازياً ، فلو لم يكن الأصل السابق إحرازياً لم يتّضح الوجه في قيامه مقام ذلك اليقين.

وحينئذ يشكل الأمر فيما قدّمناه ، أعني ما لو علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ فقد أحدهما وحصل بعد فقده احتمال تطهّر الباقي ، فإنّه حينئذ يلزمنا القول بعدم جريان استصحاب النجاسة في الباقي لعدم إحرازها ، ولابدّ حينئذ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة وهو مشكل.

اللّهمّ إلاّ أن نقول : إنّ العلم الاجمالي موجب لحكم العقل بلزوم الاجتناب عن كلّ من الطرفين ، إلاّ أن يعلم بعروض الطهارة عليه ، فيكون هذا الحكم العقلي بمنزلة الأصل السابق المزيل للشكّ اللاحق ، فلاحظ وتأمّل فإنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز النجاسة لو كانت موجودة في هذا الطرف ، فغاية ما ينفي احتمال عدم

ص: 243

وجودها في هذا الطرف ، أمّا احتمال ارتفاعها في الطرف المذكور فالعلم الاجمالي لا يتعرّض للتنجّز من ناحيته ، بل لابدّ من جهة أُخرى تثبت لنا بقاء تلك النجاسة.

وإن شئت قلت : إنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز جهة الحدوث ، وأمّا جهة البقاء واحتمال أنّ النجاسة قد ارتفعت أو بقيت فإنّ العلم الاجمالي لا تعرض له لهذه الجهة ، إذ لا دخل لجهة الحدوث التي هي مركز العلم الاجمالي بجهة البقاء التي هي محل [ الكلام ].

وبالجملة : ليس العلم الاجمالي في هذا المقام بأقوى من العلم التفصيلي بأنّ هذا الطرف الباقي هو الذي كان النجس ، فإنّ هذا العلم التفصيلي بأنّ هذا الطرف هو النجس مع فرض كون بقاء نجاسته مشكوكاً لاحتمال ارتفاعها ، لا ينفع في التنجّز ما لم ينضمّ إليه الحكم بالبقاء من جهة الاستصحاب ، هذا.

ولكن الذوق لا يساعد على جواز ارتكابه ، فلابدّ إمّا من الركون إلى ما في الكفاية (1) من كون الاستصحاب حاكماً بأنّ النجاسة على تقدير ثبوتها باقية تعبّداً والعلم الاجمالي يتكفّل بتنجّزها على تقدير ثبوتها ، أو إلى ما نقلناه (2) عن المرحوم الرشتي في شرحه الكفاية فيما نقله عنه في مجلس الدرس ، من كون المراد من اليقين في أخبار الاستصحاب هو مطلق الحجّة وإن كانت هي كون المورد أحد طرفي العلم الاجمالي ، أو الركون إلى ما ذكرناه أخيراً من الرجوع إلى أصالة عدم ملاقاته للكرّ ، وبه يتنقّح تأثير العلم الاجمالي ، فراجع ما حرّرناه فيما

ص: 244


1- كفاية الأُصول : 404 - 405.
2- في الصفحة : 226 - 227.

تقدّم ، فإنّ هذا الذي حرّرناه هنا كان من الدورة السابقة.

ثمّ لا يخفى أنّا وإن أشكلنا على استصحاب المستصحب بما تقدّم ذكره ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا محيص عنه ، فإنّ في المثال المتقدّم كان الماء عند طلوع الشمس متغيّراً بالنجاسة فكان نجساً قطعاً ، ثمّ في الآن الثاني زال تغيّره وشككنا في بقاء نجاسته وحكمنا ببقائها بمقتضى الاستصحاب ، ثمّ في الآن الثالث احتملنا اتّصاله بالكرّ ، فلأجل تعدّد الشكّ وكون الثاني غير الأوّل ، لابدّ أن يكون الجاري في الآن الثالث غير الاستصحاب الجاري في الآن الثاني ، بمعنى أنّ « لا تنقض » تجري أوّلاً في الآن الثاني لازالة الشكّ في أنّ زوال التغيّر موجب للطهارة ، ثمّ تجري ثانياً في الآن الثالث لازالة الشكّ في أنّه قد لاقى الكر.

وحينئذ نقول : إنّ المستصحب في الآن الثالث إن كان هو النجاسة المتيقّنة في الآن الأوّل ، بمعنى أنّ تلك النجاسة التي كانت متيقّنة حين التغيّر سحبناها إلى الآن الثالث من دون تعرّض لحال الآن الثاني ، لزم عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وإن كان المستصحب في الآن الثالث هو النجاسة التي حكمنا ببقائها في الآن الثاني ، كان ذلك المستصحب هو النجاسة المستصحبة وهو المطلوب.

وهذا الإشكال مختصّ بالاستصحاب ، لأنّه الجرّ في عمود الزمان الذي مقتضاه لزوم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، بخلاف ما لو كان الحكم السابق ثابتاً بمثل قاعدة الطهارة ، فإنّ الحكم في الشكّ اللاحق يكون جارياً باجراء القاعدة ثانياً فيه ، من دون حاجة إلى استصحاب الحكم الثابت بقاعدة الطهارة ، بل يكون لنا في كلّ آن شكّ في الطهارة ، ويكون ذلك الشكّ محكوماً بقاعدة الطهارة.

ص: 245

قوله : وإن أُريد استصحاب الطهارة الظاهرية فموضوعها نفس الشكّ في الطهارة ، ولا يمكن استصحاب الأثر المترتّب على نفس الشكّ ، فإنّه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان أو بالتعبّد - إلى قوله - فإنّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه ، والمدّعى في المقام أنّه لا يجري ، لأنّه لا أثر له ... الخ (1).

هذه الجملة وهي أنّه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبّد ، لم أجدها في تحريراتي ولا في تحريرات السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) ، وهي العمدة في عدم جريان استصحاب الطهارة في المورد الذي جرت فيه قاعدة الطهارة ثمّ طرأ الشكّ في تنجّسه ، حيث إنّ ذلك الموضوع بعد طروّ الشكّ في تنجّسه هو مورد لقاعدة الطهارة ، وبها تكون طهارته الظاهرية محرزة بالوجدان ، فلا يكون استصحاب مفاد قاعدة الطهارة التي جرت فيه سابقاً - الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب الطهارة الظاهرية - إلاّمن قبيل إحراز الطهارة الظاهرية باستصحابها مع فرض كونها محرزة بالوجدان ، وعليه فلابدّ أن يكون المراد بقوله : والمدّعى في المقام أنّه لا يجري لأنّه لا أثر له ، هو ما عرفت من كونه من الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

نعم ، لو كان الجاري هو استصحاب الطهارة الواقعية لكان حاكماً على قاعدة الطهارة الجارية عند الشكّ الثاني ، لكن المفروض أنّ الجاري إنّما هو استصحاب الطهارة الظاهرية التي ثبتت فيه بجريان قاعدة الطهارة عند الشكّ الأوّل ، فلا أثر له إلاّ الاحراز التعبّدي للطهارة الظاهرية ، والمفروض أنّها في حال الشكّ محرزة بالوجدان بواسطة كونه في حال الشكّ الثاني مورداً لقاعدة الطهارة.

ص: 246


1- فوائد الأُصول 4 : 406.

وليس المراد أنّ نفس قاعدة الطهارة التي جرت فيه في حال الشكّ الأوّل قاضية بطهارته في حال الشكّ الثاني ، كما ربما يتوهّم من عبارة السيّد ( سلّمه اللّه ) في تحريره وذلك قوله : فنفس الدليل الدالّ على الحلّية والطهارة في الآن الأوّل دالّ على بقائهما أيضاً إلى زمان العلم بارتفاعهما الخ (1) فإنّ جريان قاعدة الطهارة فيه في الشكّ الأوّل لا يكون قاضياً ببقائها إلى حال الشكّ الثاني ، إذ ليس ذلك إلاّ عبارة عن استصحاب تلك الطهارة الظاهرية ، بل المراد أنّه في الآن الثاني مورد لقاعدة الطهارة كما كان مورداً لها في حال الشكّ الأوّل ، فلو أردنا سحب الطهارة الظاهرية من الآن الأوّل إلى الآن الثاني بالاستصحاب ، لم يكن أثره إلاّ التعبّد ببقاء الطهارة الظاهرية في الآن الثاني ، وقد عرفت أنّ طهارته الظاهرية في الآن الثاني محرزة بالوجدان بواسطة كونه في الآن الثاني مورداً لقاعدة الطهارة ، كما أنّه في الآن الأوّل مورد لها ، وهذا معنى الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

ويمكن إبقاء عبارة تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) على ظاهرها ، بأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة في حال الشكّ الأوّل عبارة عن الحكم على ذلك المشكوك بأنّه طاهر إلى أن يعلم نجاسته على وجه تكون الغاية قيداً للموضوع ، فيقال هذا المشكوك إلى أن يعلم نجاسته طاهر ، وحينئذ يدخل فيه حال الشكّ الثاني ، وبذلك يكون حال الشكّ الثاني داخلاً في موضوع القاعدة في الشكّ الأوّل ، وتكون النتيجة أنّه في حال الشكّ الثاني تكون طهارته الظاهرية محرزة بالوجدان ، وبه ينسدّ باب استصحاب الطهارة الظاهرية في حال الشكّ الثاني ، لكون ذلك من باب الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهذا المعنى - أعني الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان - جارٍ أيضاً

ص: 247


1- أجود التقريرات 4 : 84.

فيما لو كانت الطهارة فيما سبق ثابتة بالاستصحاب ، فإنّ المرجع فيه بعد طروّ الشكّ ثانياً في عروض النجاسة له من جديد هو نفس ذلك الاستصحاب ، وجرّ الطهارة الواقعية إلى حالة عروض الشكّ الثاني في تنجّسه من جديد ، وهذا الاستصحاب محقّق لطهارته الظاهرية وجداناً ، ومعه لا مجال لاستصحاب الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب الأوّل إلى حين الشكّ الثاني ، لما عرفت من أنّ الطهارة الظاهرية في حال الشكّ الثاني ثابتة فيه وجداناً ، ببركة نفس استصحاب الطهارة الواقعية إلى حين الشكّ الثاني ، ومع تحقّق الطهارة الظاهرية وجداناً لا مجال لاحرازها تعبّداً باستصحاب الطهارة الظاهرية التي ولّدها استصحاب الطهارة الواقعية فيما قبل الشكّ الثاني.

نعم ربما يقال - كما عرفت - إنّ استصحاب الطهارة الواقعية لا يجري إلى حال الشكّ الثاني ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ولكن لو تمّ هذا الإشكال ، أعني إشكال عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في استصحاب الطهارة الواقعية إلى حين الشكّ الثاني ، وسقط لأجل ذلك استصحاب الطهارة الواقعية ، فهل المرجع في الشكّ الثاني هو استصحاب الطهارة الظاهرية التي كانت حاصلة في حال الشكّ الأوّل باعتبار استصحاب الطهارة الواقعية فيه ، أو أنّ المرجع في الشكّ الثاني هو قاعدة الطهارة؟

ربما يقال : بتعيّن الثاني ، فإنّها تحرز الطهارة الظاهرية وجداناً ، فلا مورد للتعبّد ببقائها من حال الشكّ الأوّل إلى حال الشكّ الثاني. نعم لو كان الجاري في الشكّ الأوّل هو استصحاب النجاسة ، كما في مثال الماء الذي زال تغيّره ثمّ احتمل تطهيره بالاتّصال بالكرّ بعد زوال تغيّره ، لا يمكن الرجوع في الشكّ الثاني إلى قاعدة الطهارة ، لأنّها لا مورد لها مع جريان استصحاب النجاسة الظاهرية الثابتة

ص: 248

قبل احتمال اتّصاله بالكرّ ، وهذا نظير ما حقّقناه في محلّه (1) من أنّ استصحاب عدم الحجّية لا يجري عند الشكّ في الحجّية ، لأنّ الشكّ في الحجّية يوجب القطع الوجداني بعدم الحجّية ، بخلاف استصحاب الحجّية فإنّه حاكم على مقتضى الشكّ في الحجّية ، فتأمّل فإنّ الظاهر أنّه لا مانع في الفرض الأوّل من استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة باستصحاب الطهارة الواقعية ، وهذا الاستصحاب يكون حاكماً على قاعدة الطهارة. نعم إنّ استصحاب الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة لا يجري في مورد قاعدة الطهارة كما تقدّم ، هذا.

وقد عرفت فيما سبق أنّه يمكن الرجوع حال الشكّ الثاني في الفرع الأوّل إلى أصالة العدم في ملاقاة النجس مثلاً ، وفي الفرع الثاني إلى أصالة عدم الاتّصال بالكرّ مثلاً ، وبعد جريان أصالة العدم ينفتح لنا باب إجراء استصحاب الطهارة الواقعية في الفرع الأوّل واستصحاب النجاسة الواقعية في الفرع الثاني ، وتكون أصالة العدم في حال الشكّ الثاني مزيلة للشكّ الثاني ، وموجبة لبقاء الموضوع على حاله ، أعني أنّه ماء لم تطرأه النجاسة الثانية ، أو أنّه ماء متغيّر زال تغيّره ولم يتّصل بالكرّ ، فيندرج الأوّل في موضوع استصحاب الطهارة الواقعية ، والثاني في موضوع استصحاب النجاسة الواقعية ، ويكون الجاري في حال كلا الشكّين هو الجاري في حال الشكّ الأوّل ، حتّى لو كان الجاري في الشكّ الأوّل هو قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، بأنّ شكّ في نجاسة عرق الجنب من الحرام وأجرينا قاعدة الطهارة فيه ، ثمّ طرأ الشكّ في ملاقاته للنجاسة ، فإنّ أصالة العدم الجارية في الشكّ الثاني الذي هو من قبيل الشبهة الموضوعية ينفتح به إجراء قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، فيقال : هذا العرق الذي لم يلاق النجاسة نشكّ في

ص: 249


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 366.

نجاسته وطهارته من جهة الشبهة الحكمية فهو محكوم بقاعدة الطهارة ، فلاحظ وتدبّر.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته : ثمّ إنّه قد أشرنا كراراً أنّ من نتائج تعلّق حرمة النقض بنفس اليقين بضميمة استفادة تتميم الكشف من الأمارة ، حكومتها على هذا الأصل ( يعني الاستصحاب ) بإثبات اليقين السابق ورفع الشكّ اللاحق ... (1).

فالأمارة بناءً على هذا الوجه تكون حاكمة على الاستصحاب من الجهتين ، بمعنى كونها منقّحة لموضوعه الذي هو اليقين ، لأنّ الشارع قد جعل الكشف الحاصل منها يقيناً ، فلو قامت على طهارة الشيء مثلاً وعرض الشكّ في بقاء تلك الطهارة ، كان المورد مورداً لقضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، بناءً على ظاهرها من كون موضوعه المحكوم عليه بعدم النقض هو اليقين. كما أنّ الأمارة أيضاً تحكم على الاستصحاب ، فترفع موضوعه عندما يجري استصحاب الطهارة مثلاً ثمّ تقوم الأمارة على نجاسة ذلك الشيء ، لأنّ اليقين التعبّدي الحاصل من الأمارة داخل تحت قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر ».

قوله : كما أنّه بناءً على إرجاع حرمة النقض إلى المتيقّن واقعاً بضميمة اقتضاء الأمارة تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، لا يلزم أيضاً محذور في جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على الحالة السابقة ، إذ مرجعه حينئذ إلى التعبّد بالمؤدّى بلحاظ آثاره التي منها حرمة نقض اليقين بالشكّ (2).

كان الأنسب أن يقول : التي منها حرمة نقض المتيقّن بالشكّ ، لأنّ ذلك هو

ص: 250


1- مقالات الأُصول 2 : 375.
2- مقالات الأُصول 2 : 375 - 376.

المفروض ، ولأنّ نقض اليقين ليس من آثار المؤدّى. وعلى أيّ حال ، فإنّ صورة الفرض أن نقول : إنّ مفاد دليل حجّية الأمارة هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، ومفاد دليل الاستصحاب هو أنّ الواقع لا ينقضه الشكّ ، وبعد ذلك يكون قيام الأمارة حاكماً على دليل الاستصحاب ، بمعنى كونها منقّحة لموضوعه الذي هو الواقع ، فالشارع لمّا نزّل الطهارة التي قامت عليها الأمارة منزلة الطهارة الواقعية في ترتيب آثار الطهارة الواقعية ، كان ذلك محقّقاً لموضوع الاستصحاب وهو الواقع ، فيجري على مؤدّاها حكمه وهو حرمة نقضه ، فإنّ من آثار الواقع هو أنّه لا ينقضه الشكّ ، لكن ذلك لا يكفي في الحكومة الثانية ، وهي كون الأمارة الطارئة على الاستصحاب رافعة لموضوعه ، فلو جرى في مورد استصحاب طهارة الشيء لم تكن الأمارة القائمة على نجاسته حاكمة عليه.

ويمكن التأمّل في هذا الأخير ، فإنّ الأمارة القائمة على النجاسة إن كانت قائمة على نجاسته سابقاً ، فليس ذلك هو مورد الحكومة المذكورة ، لأنّ ذلك حينئذ من قبيل الشكّ الساري ، أمّا الأمارة القائمة على النجاسة الجديدة فهي حاكمة بأنّ مؤدّاها وهو النجاسة الجديدة بمنزلة النجاسة الواقعية ، وأنّ طهارته الواقعية التي هي محكومة بحرمة نقضها بالشكّ قد تبدّلت إلى النجاسة الواقعية ، وبذلك يرتفع موضوع الاستصحاب الذي هو الطهارة الواقعية ، وبعبارة أُخرى أنّ حكم الشارع بأنّ هذا الشيء قد طرأته النجاسة يكون رافعاً للشكّ في بقاء طهارته الواقعية ، هذا.

ولكن العمدة في الإشكال هو أن يقال : لا محصّل لدعوى كون مفاد الاستصحاب هو مجرّد أنّ الواقع لا ينقضه الشكّ ، فلو صرفنا اليقين فيه إلى الواقع

ص: 251

المتيقّن ، لزمنا القول بمقالة الكفاية (1) من أنّ مفاد الاستصحاب هو جعل الملازمة بين وجود الشيء وبقائه ، وهو ما يأتي في الشقّ الآتي.

وبالجملة : أنّ عدم النقض بالشكّ ليس من آثار نفس الواقع ، كي يتمّ لنا أن نقول إنّ قيام الأمارة على طهارة الشيء لمّا كان مفاد دليل حجّيتها هو تنزيل الطهارة التي أدّت إليها الأمارة منزلة الطهارة الواقعية ، كان ذلك مقتضياً لأن تكون هذه الطهارة التي أدّت إليها ممّا يحرم نقضها بالشكّ ، وحينئذ لا تتمّ الحكومة الأُولى ، فلاحظ.

قال قدس سره : نعم ، لو كان مفاد الأمارة مجرّد جعل الحجّية بلا لسان تنزيل فيه مثبت للواقع ، إذ فيه ربما يشكل أمر الاستصحاب ، سواء تعلّق النقض بنفس اليقين أو الواقع (2).

أمّا الأوّل ، فلأنّ مجرّد جعل حجّية الأمارة القائمة على الطهارة لا يولّد يقيناً بالطهارة كي تدخل بذلك في مفاد « لا تنقض اليقين ». وجوابه هو أنّ معنى جعل الحجّية هو جعل الوسطية في الإثبات ، وذلك عبارة أُخرى عن جعل العلم واليقين كما شرحه شيخنا قدس سره ، فراجعه وما علّقناه عليه (3).

وأمّا الثاني ، فلأنّ جعل الحجّية لا يوجب تنزيل الطهارة التي هي مؤدّى الأمارة منزلة الطهارة الواقعية ، كي بذلك يترتّب عليها أثر الطهارة الواقعية وهو حرمة نقضها بالشكّ. وفيه : أنّ جعل الحجّية يوجب تنجيز آثار الواقع عند

ص: 252


1- كفاية الأُصول : 405.
2- مقالات الأُصول 2 : 376 [ لا يخفى أنّ لفظ « إذ فيه » لم يرد في الطبعة الحديثة من المقالات وإنّما هو موجود في الطبعة القديمة ].
3- فوائد الأُصول 3 : 17 و 106 ، راجع أيضاً المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 81 وما بعدها.

الاصابة والمعذورية عند الخطأ ، فإذا فرضنا أنّ من آثار الطهارة الواقعية هو حرمة النقض بالشكّ كما مرّ في العبارة السابقة ، كانت حجّية الأمارة القائمة على الطهارة الواقعية منجّزة لذلك الأثر ، وهو حرمة النقض بالشكّ.

قال : وربما يجاب عن الإشكال على التقدير الثاني بأنّ شأن الاستصحاب بعد ما كان إثبات الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه تعبّداً ، أنّ الحجّة على الملزوم حجّة على اللازم ... الخ (1).

هذا هو محصّل ما في الكفاية ، قال في الكفاية : إنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشكّ فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبّد به على هذا التقدير ، فيترتّب عليه الأثر فعلاً فيما كان هناك أثر ، وهذا هو الأظهر. ثمّ قال : إنّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً الخ (2).

وبيان ذلك : هو أنّ مفاد الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء وبين بقائه تعبّداً ، والأمارة لمّا كانت مثبتة لذلك الشيء كانت بضميمة الاستصحاب دالّة بالالتزام على الحكم بالبقاء ، فالاستصحاب يجعل الملازمة والأمارة تثبت الملزوم ، وهي في ذلك - أعني إثباتها الملزوم - دالّة بالملازمة الحاكم بها الاستصحاب على ذلك اللازم التعبّدي وهو البقاء تعبّداً ، وبالجملة : هي تثبت اللازم مع تحقّق نفس الملازمة بالاستصحاب ، فهي في ذلك نظير القياس

ص: 253


1- مقالات الأُصول 2 : 376 [ لا يخفى أنّ في الطبعة القديمة والحديثة من المقالات ورد هكذا : أو الحجّة على الملزوم ... ].
2- كفاية الأُصول : 404 - 405.

الاستثنائي المتعرّض لاثبات المقدّم ، نظير قولنا : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، لكن الشمس طالعة فالنهار موجود ، وهكذا نقول فيما نحن فيه : لو كانت الطهارة الواقعية موجودة لبقيت تعبّداً في مقام الشكّ في بقائها ، وهذا بدليل الاستصحاب ، لكن الطهارة الواقعية موجودة وهذا بحكم الأمارة ، فتكون النتيجة أنّ الطهارة الواقعية هنا باقية تعبّداً.

قال قدس سره : ولكن لا يخفى ما فيه ، من أنّ لازم ذلك وقوع المعارضة بين قاعدة الشكّ بعد الفراغ والبيّنة السابقة على الحدث السابق ، فلا وجه لتخصيص تعارضه بالاستصحاب كي يرفع اليد عن الاستصحاب بالقاعدة من جهة لزوم قلّة الموارد أو انتفائها (1).

من شكّ بعد الفراغ في أنّ صلاته كانت مع الطهارة أو الحدث ، فالاستصحاب قاض بحدثه ، لكن قاعدة الفراغ حاكمة عليه بالنسبة إلى صحّة صلاته ، وإن بقي جارياً فيما يأتي من الصلوات الآتية ، فيلزمه الوضوء لها. أمّا لو قامت عنده بيّنة بعد الفراغ بأنّ صلاته كانت مع الحدث ، كانت تلك البيّنة حاكمة على قاعدة الفراغ ، هذا حال البيّنة والاستصحاب الجاريين بعد الفراغ من الصلاة. وأمّا لو كان أحدهما جارياً قبل دخوله في الصلاة ، بأن قامت عنده البيّنة أو الاستصحاب على أنّه محدث ، فغفل وصلّى وقد علم أنّه لم يتوضّأ في حال غفلته لم يكن مورداً حينئذ لقاعدة الفراغ ، وكانت البيّنة السابقة والاستصحاب السابق قاضيين بفساد صلاته ، كما شرحناه في مسألة اعتبار الشكّ الفعلي في الاستصحاب (2)

ص: 254


1- مقالات الأُصول 2 : 376.
2- مرّ شرحه في الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : 12 و 15.

أمّا لو كانت عنده بيّنة على الحدث ثمّ غفل وصلّى ، وبعد الفراغ التفت واحتمل أنّه قد توضّأ بعد قيام تلك البيّنة ، فقد تولّد عنده بعد فراغه استصحاب الحدث الذي قامت عليه البيّنة ، وهذا الاستصحاب محكوم لقاعدة الفراغ فيحكم بصحّة صلاته ، وليس هو بأسوأ ممّن كان قد حصل له القطع بعد صلاته بأنّه قد كان محدثاً واحتمل أنّه توضّأ قبل الصلاة ، في جريان قاعدة الفراغ في حقّه.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية قدس سره في هذا الفرض لا يريد أن يجعل قاعدة الفراغ حاكمة على البيّنة السابقة كي يتوجّه إليه السؤال عن الوجه في هذه الحكومة ، ولعلّ الشبهة في هذا السؤال إنّما نشأت من ذلك الذي أفاده في الكفاية وهو أنّ الحجّة على الملزوم حجّة على اللازم ، فإنّه بناءً على ذلك تكون البيّنة السابقة قاضية بمدلولها الالتزامي ببقاء الحدث تعبّداً إلى حين الصلاة ، فيكون مقتضاها فساد الصلاة ، فنحتاج في الحكم بصحّة صلاته استناداً إلى قاعدة الفراغ إلى دعوى كون قاعدة الفراغ حاكمة على البيّنة في ذلك اللازم.

وفيه : ما عرفت من أنّ البيّنة ليست بأقوى من العلم الوجداني في اقتضاء ذلك اللازم. والجواب الحقيقي هو سقوط الملازمة المذكورة ، فإنّ أساسها إنّما هو الاستصحاب ، وهو محكوم لقاعدة الفراغ.

لا يقال : إنّ البيّنة سابقة على الصلاة ، فتكون دلالتها الالتزامية متحقّقة قبل الصلاة ، والمفروض أنّ منشأ الدلالة الالتزامية هو الاستصحاب ، فيكون الاستصحاب متحقّقاً قبل الصلاة ، فلا يسقط بقاعدة الفراغ ، لما ذكرتموه من عدم حكومتها على الاستصحاب المتحقّق قبل الصلاة.

لأنّا نقول : إنّ فعلية تلك الدلالة الالتزامية إنّما تكون عند الشكّ ، والشكّ إنّما كان بعد الفراغ ، فكان الاستصحاب متحقّقاً بعد الفراغ لا قبل الصلاة ، وقد

ص: 255

تحقّق أنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ من الصلاة وهذا - أعني كون القاعدة حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ - هو العمدة في اندفاع الإشكال على مسلكه المبني على كون مفاد دليل حجّية الأمارة هو تتميم الكشف ، وعلى المسلك الآخر المبني على تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع.

أمّا على مسلكه فإنّ أقصى ما فيه أنّ قيام الأمارة يولّد اليقين التعبّدي ، فيدخل في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » الذي هو دليل الاستصحاب ، لكن قاعدة الفراغ حاكمة على دليل الاستصحاب.

وأمّا على المسلك الآخر فلأنّ دليل الأمارة وإن كان مفاده ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، ومن جملة تلك الآثار الثابتة للواقع هو أنّه لا ينقضه الشكّ وهو مفاد دليل الاستصحاب ، لكن دليل قاعدة الفراغ حاكم بسقوط هذا الأثر ، فلا يبقى لمفاد دليل الأمارة إلاّباقي الآثار المترتّبة على الواقع ، ولأجل ذلك قال : ولا يرد هذا الإشكال على تقريبنا أو التقريب الآخر الموجب للحكومة ، لإمكان دعوى كون جريان القاعدة موجباً لتخصيص دليل البيّنة بلحاظ بعض آثاره الذي هو حرمة نقض يقينه بالشكّ ، فتبقى البيّنة على حجّيتها بالنسبة إلى سائر الآثار ( لكنّه قدس سره قال ) وذلك بخلاف فرضنا ( يعني به ما فرضه صاحب الكفاية من كون مفاد دليل الأمارة هو مجرّد جعل الحجّية ، وكون مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً والحكم التعبّدي ببقائه ) إذ الملازمة الثابتة بالاستصحاب إنّما هي بين البقاء التعبّدي وبين الثبوت الحقيقي على الاطلاق ، ولازمها وقوع المعارضة بالفرض (1) بين دليل البيّنة حتّى بلحاظ سائر الآثار وبين تلك القاعدة ( الفراغ ) أيضاً ( وإنّما قال : حتّى بلحاظ سائر الآثار ، لأنّ المفروض

ص: 256


1- في المصدر المطبوع حديثاً صحّحت العبارة هكذا : وقوع المعارضة [ بالعرض ].

أنّ التعبّد بالبقاء لازم للثبوت الحقيقي الذي هو منبع سائر الآثار ، فقاعدة الفراغ المعارضة للتعبّد بالبقاء لابدّ أن تكون معارضة للبيّنة التي هي حجّة على الثبوت الواقعي ) فيدور الأمر بين رفع اليد عن ذلك العام ( الذي هو مفاد قاعدة الفراغ ) أو رفع اليد عن الاستصحاب أو البيّنة ، ولا أظنّ التزامه من أحد ( كان عليه أن يعطف البيّنة على الاستصحاب بلفظ الواو ، لأنّ الدوران إنّما هو بين عموم قاعدة الفراغ وبين الاثنين أعني الاستصحاب والبيّنة ، ولعلّ الإبدال بلفظة « أو » غلط من الناسخ. وعلى كلّ حال فإنّه قد ظهر لك أنّ أساس معارضة القاعدة للبيّنة إنّما هو من جهة الدلالة الالتزامية الآتية من ناحية الاستصحاب ، فإذا فرضنا سقوط الاستصحاب في المقام لأجل قاعدة الفراغ ، فقد فرضنا سقوط الملازمة المذكورة التي هي الأساس في الدلالة الالتزامية للأمارة على التعبّد ببقاء ما قامت عليه ، فلاحظ وتدبّر. قال قدس سره ) ولعمري إنّ تلك الجهة ( من الإشكال إنّما جاءت ) من ثبوت جعل مؤدّى الأمارات مجرّد جعل الحجّية ( وقد عرفت أنّ جعل الحجّية عبارة عن جعل الوسطية في الاثبات ومحرزية الواقع والعلم التعبّدي ، وهو بعينه ما بنى هو قدس سره عليه من تتميم الكشف الذي عرفت أنّه رافع للإشكال ، قال قدس سره ) ونظير الإشكال المزبور أيضاً يرد بناءً على كون مفاد الأمارة جعل حكم تكليفي بلا لسان تنزيل ، ومفاد دليل الاستصحاب أيضاً حرمة نقض الواقع بالشكّ فيه ، والجواب السابق مع دفعه جارٍ في المقام أيضاً (1).

الذي يرد على هذا التأليف - أعني دعوى كون مفاد دليل الأمارة هو الحكم الظاهري ، وكون مفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً

ص: 257


1- مقالات الأُصول 2 : 376 - 377 [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو من توضيح المصنّف لكلام المحقّق العراقي قدس سرهما ].

والحكم ببقائه تعبّداً - أنّ مجرّد الملازمة لا تنفع ما لم يكن في البين ما نحرز به الملزوم ، وهو ثبوت الشيء واقعاً ، وحينئذ يكون مراده من الإشكال هو أصل إشكال جريان الاستصحاب في موارد الأمارات ، ومراده من الجواب هو ما أفاده في الكفاية من جعل الملازمة ، ومراده بدفع ذلك الجواب هو ما عرفت من أنّ جعل الملازمة لا ينفع في هذا الفرض لعدم إحراز الملزوم ، لكن هذا الدفع لم يتقدّم له في كلامه ذكر ، وإنّما كان إيراده على الكفاية هو ما تقدّم من لزوم كون قاعدة الفراغ معارضة للبيّنة ، والظاهر أنّه لا يتأتّى في هذا التأليف ، وإنّما يتأتّى فيما تقدّم من كون مفاد دليل الأمارة هو الحجّية ، ومفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة ، ولأجل ذلك قال هناك : ولعمري إنّ تلك الجهة من ثبوت جعل مؤدّى الأمارات مجرد جعل الحجّية.

قال قدس سره : نعم لو كان مفاد دليل الاستصحاب حرمة نقض اليقين ، قد يتوهّم إحراز اليقين بالوجوب المردّد بين الظاهري الزائل أو الواقعي الباقي ، كما لا يخفى على المتأمّل و [ من ] دقّق النظر ، فيستصحب الكلّي المشترك (1).

كلّما تأمّلت ودقّقت النظر القاصر لم أتوفّق لمعرفة كون المقام من قبيل التكليف المردّد بين الزائل والباقي ، مثلاً لو قامت الأمارة على وجوب الفعل الفلاني ، ثمّ شككنا في بقاء ذلك الوجوب لاحتمال طروّ رافعه فنقول : إنّ تلك الأمارة لو كانت مطابقة للواقع كان كلّ من الواقعي الواقعي (2) والوجوب الظاهري

ص: 258


1- مقالات الأُصول 2 : 377.
2- [ كان في الأصل : التكليف الواقعي ، ولكنّ المصنّف قدس سره شطب عليه وأبدله ب : الواقعي الواقعي ].

مشكوك البقاء ، وإن كانت مخالفة للواقع فلم يكن في البين إلاّ الوجوب الظاهري وهو أيضاً مشكوك البقاء مع فرض كونه معلوم الحدوث ، هذا إذا قلنا بكون الوجوب الظاهري حكماً حقيقياً إمّا مطلقاً وإمّا في صورة الخطأ ، لأنّه في صورة الاصابة يندكّ مع الوجوب الواقعي. وإن قلنا بأنّه لا حقيقة للوجوب الظاهري ، وأنّه صوري محض لحفظ الواقع ، ففي صورة الاصابة لا يكون إلاّ الوجوب الواقعي وهو مشكوك البقاء ، وفي صورة الخطأ لا يكون في البين وجوب أصلاً.

نعم ، قد يقال : إنّ طروّ الشكّ في البقاء يوجب سقوط الحكم الظاهري ، لأنّ قوامه هو الحجّية والاحراز وقد زال ذلك بالشكّ. وبعبارة أُخرى أنّ قوام الحكم الظاهري منوط بالعلم بوجوده ، وفي ظرف الشكّ ببقائه لا قطع بوجوده فينعدم الحكم الظاهري ، لكن الحكم الواقعي لو كان لا يكون معلوم البقاء ، وحينئذ يدور الأمر في المثال بين وجوب ظاهري مقطوع الزوال ووجوب واقعي مشكوك الارتفاع لا مقطوع البقاء.

لا يقال : إنّه وإن كان في حدّ نفسه مشكوك البقاء ، إلاّ أنه بالنظر إلى الاستصحاب يكون معلوم البقاء تعبّداً.

لأنّا نقول : إنّ النظر إلى الاستصحاب لا يكون نافعاً ، لأنّ الكلام إنّما هو قبل النظر إلى الاستصحاب ، بمعنى أنّ نفس الشيء المستصحب إذا كان مردّداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، يكون مورداً لاستصحاب الكلّي ، لا أنّه بالنظر إلى الاستصحاب يكون كذلك.

نعم ، هنا شيء آخر وهو أنّه لو تردّد الحادث بين البقّة المقطوعة الارتفاع بعد أيّام ، والفيل المحتمل البقاء لاحتمال موته في هذه الأيّام ، يمكن إجراء استصحاب الكلّي في مثل ذلك ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الوجوب

ص: 259

الظاهري يكون بالشكّ في بقائه مقطوع الارتفاع ، وحيث إنّه يحتمل إصابته الواقع فيكون الوجوب الواقعي الحادث مشكوك البقاء ، فيكون ما نحن فيه من قبيل المردّد بين مقطوع الارتفاع ومشكوك البقاء ، فيجري استصحاب الكلّي الجامع بينهما.

ولعلّ هذا هو المراد من الوجوب المردّد بين الظاهري الزائل والواقعي الباقي ، بأن يكون المراد بالباقي ما يمكن بقاؤه ، فإن كان هذا هو المراد توجّه عليه أنّ الحكم الظاهري لا يكون بالشكّ في بقائه مقطوع الارتفاع ، بل يكون مشكوك البقاء ، لأنّ الحكم الظاهري وإن كان متقوّماً بالعلم بوجوده ، لكن ذلك في أصل حدوثه ، أمّا بعد العلم بحدوثه وطروّ احتمال رفعه ، فلا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في البقاء حتّى لو قلنا إنّه صوري ، فإنّ ذلك - أعني كونه صورياً - إنّما هو في قبال الواقعي الحقيقي ، لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه أثراً شرعياً ومجعولاً من المجعولات الشرعية ، أيّاً كان ذلك الأثر المترتّب على قيام الأمارة ، وهذا المعنى الذي حدث بقيام الأمارة نشكّ في بقائه بعد طروّ الشكّ المذكور ، وعليه يكون كلّ من الظاهري والواقعي على تقدير وجوده مشكوك البقاء.

وحينئذ لا يرد عليه ما أفاد بقوله قدس سره : لكن فيه أوّلاً : أنّ المقام من قبيل اليقين بحكم ظاهري شخصي يشكّ في مقارنته مع فرد آخر باق ، وهو من القسم الثالث غير الجاري فيه الاستصحاب (1) ، لما عرفت من أنّ كلاً منهما مشكوك البقاء. نعم بناءً على هذا الذي ذكرناه من أنّ كلاً منهما مشكوك البقاء لا نحتاج إلى استصحاب الكلّي ، بل يكفينا استصحاب شخص الوجوب الذي كان معلوماً قبل طروّ الشكّ ،

ص: 260


1- مقالات الأُصول 2 : 377.

وما ذلك إلاّمن قبيل التردّد بين كون الموجود زيداً أو كونه عمراً ، مع فرض كون كلّ منهما مشكوك البقاء في صلاحيته لاستصحاب الشخص واستصحاب الكلّي ، فهو من القسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

كما أنّه لا يرد عليه ما أفاده قدس سره ثانياً بقوله : مع أنّ اليقين بالوجوب الحقيقي الجامع إنّما يتمّ لو بنينا على موضوعية الأمارات ، وإلاّ فبناءً على طريقيتها فلا نقطع بالجامع - إلى قوله - والجامع بين الحقيقي والصوري لا أثر له الخ (1) لما عرفت من أنّ الحكم الظاهري ولو على الطريقية لا يخرج عن كونه مجعولاً شرعياً ، وقد حصل الشكّ في بقائه ، فيجري فيه استصحاب الشخص والكلّي.

قال : نعم لا بأس حينئذ بجريان الاستصحاب [ في ] الترخيص المردّد بين ما هو في ضمن الالتزام وغيره ، وهذا المقدار إنّما يثمر لرفع شبهة (2) المخالفة ، لا إثبات الوجوب المزبور الملزم للطاعة كما هو ظاهر (3).

لو قلنا بأنّه لا أثر للوجوب الظاهري الصوري ، فأين الترخيص الذي جعله قدس سره مجرى الاستصحاب ، فإنّه لا معنى للترخيص في المقام إلاّ القدر الجامع بين الوجوب الواقعي والوجوب الظاهري الصوري (4)

ص: 261


1- مقالات الأُصول 2 : 377. [ في المصدر المطبوع قديماً وحديثاً هكذا العبارة : والجامع بين الوجود الحقيقي والصوري ... ].
2- في المقالات المطبوعة قديماً هنا فراغ ، وفي الطبعة الحديثة العبارة هكذا : شبهة [ حرمة ] المخالفة.
3- مقالات الأُصول 2 : 377.
4- ينبغي مراجعة المستمسك في شرح م 8 من مسائل طريق ثبوت النجاسة [ منه قدس سره. مستمسك العروة الوثقى 1 : 459 وما بعدها ].

قوله : وقد أثبتنا في محلّه أنّه لا يعقل جعل التنجيز والمعذورية ، بل التنجيز والمعذورية تدور مدار وصول التكاليف وعدمها ... الخ (1).

لا يخفى أنّ القدر الثابت هو أنّ التنجيز والمعذورية من لوازم وصول التكليف ، فإذا حصل إحراز التكليف ولو بالتعبّد بواسطة جعل الحجّية لزمه عقلاً التنجيز والمعذورية ، وأمّا أنّه لا يعقل التنجيز والمعذورية بدون الإحراز الوجداني أو التعبّدي فهو ممنوع ، لما عرفت من إمكان الحكم الشرعي بالتنجيز من دون الإحراز ، كما في موارد الاحتياط الشرعي. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط من قبيل ما يكون واصلاً بطريقه ، فيكون التنجيز غير محكوم به شرعاً ، بل هو لازم لجعل الاحتياط ، فتأمّل. كما أنّه يمكن المعذورية مع عدم إحراز عدم التكليف ، كما في موارد البراءة العقلية والشرعية ، ولأجل ذلك أفاد قدس سره في بعض المباحث السابقة (2) أنّه يمكن قيام الأُصول غير الاحرازية مقام العلم من حيث التنجيز والمعذورية. وبالجملة : أنّ التنجيز والمعذورية لازم أعمّ للاحراز التعبّدي والوجداني ، فمتى تحقّق الاحراز تبعه التنجيز والمعذورية ، ويمكن تحقّق التنجيز والمعذورية بدون الاحراز الوجداني والتعبّدي.

قوله : ولا يخفى أنّه على هذا لا يمكن الذبّ عن الإشكال ... الخ (3).

قد حرّرت عنه قدس سره ما محصّله : أنّه إذا قلنا بما هو المختار من قيام الطرق والأُصول مقام القطع الطريقي ، سواء قلنا بكون المجعول ابتداءً هو الحجّية كما هو المختار ، أو قلنا بكون المجعول ابتداءً هو وجوب العمل على طبقها وتكون

ص: 262


1- فوائد الأُصول 4 : 409.
2- كما مرّ في المضمرة الثانية لزرارة ص 123 [ منه قدس سره فوائد الأُصول 4 : 343 ].
3- فوائد الأُصول 4 : 410.

الحجّية مجعولة بالتبع ، أو أنّها تكون انتزاعية ، فإنّه لا إشكال على هذه الأقوال في الاستصحاب في موارد الشكّ في بقاء ما قامت عليه الأمارة.

وأمّا بناءً على عدم قيامها مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية ، فيشكل الاستصحاب في تلك الموارد ، بل لا يمكن إجراؤه ، لأنّ المأخوذ فيه هو عدم نقض اليقين الطريقي ، فيختصّ مورده حينئذ بخصوص ما كان اليقين وجدانياً.

ولو بنينا مع ذلك على كون المجعول في باب الحجّية هو التنجّز فيما أصاب والعذر فيما أخطأ ، كان الأمر في إجراء الاستصحاب في تلك الموارد أشكل ، فإنّه - مضافاً إلى ما عرفت من أنّه إذا قلنا بعدم قيام تلك الأمارات مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية ، يكون ذلك موجباً لانحصار الاستصحاب في موارد القطع الوجداني - يكون المانع من جريان الاستصحاب في تلك الموارد أمراً آخر ، وهو كون المجعول هو التنجّز والعذر ، وهذا ممّا لا ربط له بما هو مفاد الاستصحاب من عدم نقض اليقين بالشكّ.

وحيث إنّ صاحب الكفاية قدس سره (1) قد بنى على هذا الوجه ، فقد وقع في توجيه الاستصحاب في تلك الموارد في تمحل ، فإنّه قدس سره قد التزم بأنّ محصّل الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً وبين بقائه ، ففي مثل قيام البيّنة على أنّ هذا نجس مثلاً ثمّ الشكّ في حصول ما أوجب طهارته ، يقول إنّ النجاسة على تقدير ثبوتها وتحقّقها واقعاً هي باقية إلى الآن بحكم الاستصحاب ، ثمّ نثبت الجزء الأوّل من هذه القضية الشرطية بالبيّنة ، فكأنّه يجري الاستصحاب أوّلاً ثمّ يجري البيّنة ثانياً.

ولا يخفى ما في ذلك من التمحّل والغرابة ، ومخالفته لما هو صريح أدلّة

ص: 263


1- كفاية الأُصول : 404 - 405.

الاستصحاب من أنّه عدم نقض اليقين بالشكّ ، وأين هذا من الملازمة بين تحقّق الشيء واقعاً وبقائه تعبّداً. ولقد أورد على نفسه بهذا الإيراد وأجاب عنه : بأنّ اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب مأخوذ على نحو الطريقية ، وليس مراده من الجواب المذكور أنّ اليقين لمّا كان مأخوذاً على نحو الطريقية صحّ أن يقوم مقامه كلّ ما هو مجعول الطريقية والحجّية ، فإنّه هدم لما بنى عليه من عدم قيام تلك الأُمور مقام القطع الطريقي ، ومن أنّه ليس المجعول هو الحجّية وإنّما المجعول هو التنجّز والمعذورية ، كما أنّه بناءً عليه لا حاجة إلى دعوى كون مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة.

بل مراده من الجواب المذكور أنّ اليقين لمّا أُخذ على نحو الطريقية كان عبارة عن المتيقّن ، فيكون محصّل الاستصحاب هو المنع عن نقض الأمر الواقعي الذي هو المتيقّن ، ومرجعه إلى أنّ الواقع لا ينقض بالشكّ ، بل يلزم الحكم ببقائه على تقدير تحقّقه ، وهو ما ذكره من الملازمة.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الجواب بعد تفسيره بهذا التفسير يكون مناقضاً لما أفاده في مقام الاستدلال على عدم الفرق بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، من أنّ الملحوظ في عدم النقض هو اليقين لا نفس الأمر الواقعي الذي تعلّق به اليقين.

قلت : ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده في الكفاية من كون مفاد الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت [ شيء ] وبقائه ، لا ينفع في تصحيح الاستصحاب في موارد قيام الأمارة بناءً على ما أفاده من كون مفاد حجّيتها هو مجرّد التنجيز والمعذورية ، فإنّ ذلك - أعني التنجيز والمعذورية - لا يثبت الواقع كي يتحقّق بذلك أحد طرفي الملازمة أعني ثبوت الشيء ، وحينئذ فلا يتمّ ما أفاده بقوله : ووجه الذبّ بذلك أنّ

ص: 264

الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً الخ (1). وليت شعري إذا كان مفاد الحجّية هو مجرّد التنجيز كيف يكون حجّة على ثبوت الواقع.

والإنصاف : أنّه لم يتحقّق لنا بعدُ ما هو المراد له قدس سره وما هو مسلكه في جعل الحجّية ، فهل المجعول ابتداءً هو الحجّية والتنجيز والمعذورية تتبعها ، أو أنّ الأمر بالعكس ، أو أنّ المجعول ابتداءً هو التنزيل والحجّية تابعة كما لعلّه يظهر ممّا ذكره في وجه عدم قيامها مقام القطع الطريقي المأخوذ في الموضوع ، فإنّه ذكر هناك (2) أنّ المانع منه هو الجمع بين اللحاظين في التنزيل الواحد ، وحينئذ يكون ذلك - أعني عدم قيامها مقام القطع المذكور - هو الموجب له قدس سره أن يدّعي أنّ مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة ، وأنّ الأمارة لا تكون قائمة مقام اليقين الذي هو الموضوع لحرمة النقض ، حيث إنّه بناءً على أنّ مفاده هو الملازمة لا يكون القطع موضوعاً بل يكون الموضوع هو الواقع ، ويكون ذكر اليقين في دليله من باب الطريقية الصرفة ، ولا يكون فائدة الأمارة إلاّمجرّد تنجيز ذلك الواقع الذي يكون محكوماً بالبقاء على تقدير ثبوته عند الشكّ في بقائه.

ولكن حرّرت عن شيخنا الأُستاذ قدس سره ما هذا نصّه : ولقد كان قدس سره ( يعني صاحب الكفاية ) قبل أن يكتب الكفاية لا يقول بجعل الحجّية ، ولمّا ظهر منه القول بجعلها تخيّلنا أنّه يقول بجعلها على نحو ما كان يقول به سيّدنا الأُستاذ الشيرازي قدس سره ، ولكنّه ( يعني صاحب الكفاية قدس سره ) صرّح بخلافه وأنّ المجعول هو ذلك اللازم أعني التنجيز والمعذورية ، وحيث إنّه التزم بذلك كان اللازم له ما ذكره من عدم صحّة قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية

ص: 265


1- كفاية الأُصول : 405.
2- كفاية الأُصول : 265 - 266.

وما ذكره في هذا التنبيه ، انتهى.

قلت : لكن الظاهر أنّ المانع له من جعلها قائمة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية هو ما أفاده في ذلك المبحث من عدم إمكان الجمع بين التنزيلين ، ومقتضى ذلك هو كون مفاد الحجّية عنده هو التنزيل ، لا أنّ المجعول بها هو التنجيز والمعذورية ، وأمّا ما ذكره في هذا التنبيه فقد عرفت أنّ الظاهر منه هو إخراج المسألة عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي الموضوعي ، وذلك بجعل مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة ، وجعل مفاد الأمارة تنجيز الواقع المفروض أنّه محكوم بالبقاء عند الشكّ في بقائه ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما نقله قدس سره عن السيّد العلاّمة الشيرازي قدس سره في جعل الحجّية فهو ما اختاره هو قدس سره في جعل الحجّية من كون المجعول هو نفس الحجّية بلا تنزيل في البين ، لكن قد أشكلنا في محلّه على قيامها مقام العلم الموضوعي الطريقي بأنّ مجرّد جعل الحجّية لا يفي إلاّبقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، إلاّ إذا كانت في البين قرينة تدلّ على أنّ الموضوع هو الأعمّ من الاحراز الوجداني والتعبّدي ، ولا يبعد أن يكون ذلك التعميم مستفاداً من قولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » خصوصاً إذا جعلناه إمضاءً للسيرة العقلائية ، بعد فرض كون السيرة جارية على الأخذ بما قام عليه الطريق ، وعدم الاعتناء باحتمال الرافع له.

وينبغي مراجعة الكفاية في مسألة البقاء في باب التقليد وذلك قوله : فلا مجال لاستصحاب ما قلّده لعدم القطع به سابقاً ، إلاّعلى ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب الخ (1) فإنّ الشكّ في تلك المسألة لم يكن فعلاً في الحكم الواقعي ، إذ لا إشكال في بقاء الحكم الواقعي في تلك المسألة لو كان موجوداً ، وإنّما كان الشكّ فيها ممحّضاً للشكّ في بقاء الحكم الظاهري ، فراجع وتأمّل.

ص: 266


1- كفاية الأُصول : 478.

[ استصحاب الكلّي ]

قوله : وإمّا أن يكون ( فرداً ) مردّداً بين فردين أو أفراد من طبيعة واحدة أو من طبيعتين أو طبائع ... الخ (1).

لابدّ في تلك الأفراد من كون كلّ واحد منها بخصوصه ذا أثر خاصّ به ، إذ لو اشتركت الأفراد في أثر واحد ، كان المستصحب هو القدر الجامع بينها لا الأفراد أنفسها ، ثمّ لابدّ في ذلك أيضاً من كون كلّ واحد من الأفراد في حدّ نفسه مشكوك البقاء ، إذ لو كان بعضها معلوم البقاء وبعضها معلوم الارتفاع ، لم يمكن استصحاب الفرد ، بل تعيّن استصحاب القدر الجامع بينها ، وكان من قبيل القسم الثاني من الكلّي.

قوله : فإنّ استصحاب الفرد المردّد معناه بقاء الفرد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو ترتيب آثار بقاء كلّ من الفردين ، وهذا ينافي العلم بارتفاع أحد الفردين ، وقد تقدّم تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ... الخ (2).

وقال في مبحث الاشتغال : وإلاّ ( يعني لو جرى استصحاب الفرد المردّد بعد العلم بارتفاع أحد الفردين ) لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردّد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكلّ من الظهر والجمعة ، لأنّ هذا هو

ص: 267


1- فوائد الأُصول 4 : 411.
2- فوائد الأُصول 4 : 411 - 412.

أثر بقاء الوجوب المردّد ، مع أنّ المفروض تحقّق فعل الجمعة أو الظهر ، فلا يبقى موقع لفعل المأتي به ثانياً ، فالاستصحاب الشخصي لا يجري (1).

وقد علّقنا عليه هناك ما نصّه : الأولى أن يقال : إنّه إن أُريد من استصحاب شخص التكليف بقاء نفس وجوب صلاة الظهر ، بحيث إنّه يترتّب عليه الاتيان بها بداعي وجوبها المحرز بالاستصحاب ، ففيه أنّ الشكّ إنّما هو في حدوث وجوبها لا في بقائه. وإن أُريد منه استصحاب الشخص المردّد بين الوجوبين ، ففيه : أنّ الشخص لم يكن متيقّناً ، لأنّ الخصوصية خارجة عن حيّز اليقين ، وإنّما المتيقّن هو عنوان أحدهما ، وإن كان لا ينفكّ عن الخصوصية ، لكن لمّا لم تكن الخصوصية البدلية داخلة في حيّز اليقين ، لم تكن داخلة في المنع عن نقض اليقين. ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّه إن أُريد من استصحاب بقاء الفرد المردّد إثبات وجوب الباقي كان الأصل المذكور مثبتاً ، وإن أُريد من الحكم ببقاء ذلك الفرد المردّد هو لزوم الاتيان بالباقي لأنّه أحد الفردين ، كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالأصل ، لكن هذا الطريق لا ينفع فيما لو كان العلم الاجمالي حاصلاً بعد الاتيان بأحدهما ، فالجواب الحاسم هو الأوّل.

وأمّا ما أُفيد من الايراد عليه بأنّ لازمه الاتيان بكلا الفردين ، فيمكن دفعه بأنّه وإن كان الأثر المترتّب على بقاء الفرد المردّد هو الاتيان بكلا الفردين ، إلاّ أنه لمّا كان قد أتى بالفرد السابق كان له الاكتفاء بالاتيان بالفرد الباقي.

قوله : فيصحّ استصحاب كلّ من الفرد والكلّي ، ويترتّب عليه آثار كلّ منهما إن كان لكلّ منهما أثر خاصّ ... الخ (2).

لكن لا يترتّب آثار الشخص على استصحاب الكلّي ، وإنّما يترتّب على

ص: 268


1- فوائد الأُصول 4 : 131.
2- فوائد الأُصول 4 : 412.

استصحابه آثار نفس الكلّي. نعم في استصحاب الشخص يترتّب آثار الشخص ، لكن هل يترتّب على استصحاب الشخص آثار نفس الكلّي؟ فيه تأمّل وإشكال ، لكنّه لا أهميّة له ، إذ الاستصحاب يجري في كلّ من الطرفين يعني الشخص والكلّي ، وبجريانه فيهما يترتّب آثار كلّ منهما ، هذا إذا كان الفرد معيّناً.

ولو كان مردّداً بين فردين مختلفين في الأثر ، وقد حصل الشكّ في ارتفاعه على ما هو عليه من التردّد لا من جهة العلم بارتفاع أحدهما ، فقد تقدّم منه أنّه يجري الاستصحاب فيه ، إذ لا إشكال في استصحاب الفرد المردّد في هذه الصورة ، وبعد الحكم ببقاء الفرد المردّد يلزم ترتيب أثر كل من الفردين كما في صورة العلم الوجداني ، لكن لو كان الفرد المردّد من قبيل الوجوب المردّد بين وجوب الجمعة أو وجوب الظهر ، وقد حصل الشكّ في الاتيان بهما جرياً على الاحتياط ، هل يكون المرجع هو أصالة الاشتغال أو استصحاب الوجوب المردّد أو الكلّي ، تقدّم الكلام فيه مفصّلاً فيما علّقناه في مبحث الاشتغال على ما أُفيد في ص 43 (1) فراجع وتأمّل.

قوله : الأوّل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن الفرد المعيّن أو الفرد المردّد ... الخ (2).

المراد من الفرد المردّد هو ما تقدّم من كون كلّ منهما مشكوك البقاء ، أمّا الأثر فإن كان للأفراد تعيّن فيه استصحاب الأفراد ، وإن كان للقدر الجامع فلا إشكال في استصحاب الكلّي ، وأمّا استصحاب الأفراد فهل يجدي في ترتيب أثر

ص: 269


1- راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 239 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 412.

الكلّي ، فيه تأمّل ، سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

قوله : فيصحّ استصحاب كلّ من الفرد والكلّي ، ويترتّب عليه آثار كل منهما إن كان لكلّ منهما أثر خاصّ ... الخ (1).

ونحو ذلك عبّر الشيخ قدس سره فقال : أمّا الأوّل فلا إشكال في جواز استصحاب الكلّي ونفس الفرد ، وترتيب أحكام كلّ منهما عليه (2).

وقال في الكفاية : فإن كان الشكّ في بقاء ذاك العام من جهة الشكّ في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه ، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام (3).

ففي الأثر المترتّب على الخاص الذي هو الفرد الخاصّ لا ينفع إلاّ استصحاب ذلك الفرد ، ولا يجدي فيه استصحاب الكلّي ، فإنّ ذلك لا يثبت بقاء ذلك الفرد إلاّبالأصل المثبت ، بعد العلم بأنّه لم يوجد ذلك الكلّي إلاّفي ضمن ذلك الفرد ، أمّا الأثر المترتّب على الكلّي فلا إشكال في ترتّبه باستصحاب وجود الكلّي ، وهل يترتّب أثر الكلّي باستصحاب الفرد؟ فيه تأمّل ، من جهة أنّ بقاء نفس الفرد الخاصّ ليس هو عين بقاء موضوع ذلك الأثر ، إلاّباعتبار أنّ بقاء الفرد يلزمه بقاء الكلّي ، فاحراز بقاء الفرد لا يكون إحرازاً لبقاء الكلّي ، وبناءً على ذلك يشكل الأمر في استصحاب نفس الكلّي لأنّه لا يقين بوجوده ، وإنّما المتعلّق لليقين هو الفرد ، واليقين بوجود الفرد لا يكون يقيناً بوجود الكلّي ، وربما يسري الإشكال إلى كون نفس الكلّي موضوعاً للأثر ، إذ لا وجود للكلّي.

ص: 270


1- فوائد الأُصول 4 : 412.
2- فرائد الأُصول 3 : 191.
3- كفاية الأُصول : 406.

ولكن يدفع هذه التأمّلات أنّ استصحاب الفرد تارةً يكون المنظور فيه هو الخصوصية الخاصّة ، وفي هذه الصورة لا يترتّب عليه أثر الكلّي ، وأُخرى يكون المنظور إليه في الاستصحاب المذكور هو الفرد بما أنّه فرد لذلك الكلّي ، بما اشتمل عليه من كونه حصّة من ذلك الطبيعي بما أنّه حصّة له ، وبعبارة أُخرى يؤخذ الفرد في هذا الاستصحاب بما أنّه فرد لذلك الكلّي ، فيكون حينئذ عين وجود الكلّي ، بمعنى أنّه وجود لذلك الكلّي لا بما أنّه حصّة خاصّة ، فضلاً عن خصوصية الفردية مثل الطول والقصر ونحو ذلك ممّا يدخله تحت كلّي آخر ، وحينئذ يترتّب على استصحاب الفرد بهذا المعنى آثار نفس الكلّي ، إذ لا أثر لنفس الكلّي بما أنّه كلّي مجرّد ، فإنّ الآثار اللاحقة للكلّي إنّما تلحقه باعتبار وجوده ، ومن الواضح أنّ الفرد عين وجود الكلّي عرفاً حتّى لو قلنا إنّه منتزع من الفرد ، أو قلنا بأنّه لا وجود له أصلاً وإنّما الفرد محقّق لعنوان كلّي ، فإنّ هذه أبحاث عقلية لا دخل لها بما هو موضوع الاستصحاب من كون المنظور فيه هو المتفاهم العرفي.

وإن شئت التوضيح فراجع ما أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه ص 391 وذلك قوله : ثمّ إنّ استصحاب الكلّي على القول الخ (1) ، وذلك المحرّر هناك هو المشار إليه في هذا التحرير بقوله : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق الخ (2) فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ التحقيق هو أنّ استصحاب الفرد بما أنّه فرد لذلك الكلّي هو عين استصحاب الكلّي ، واستصحاب الفرد بما أنّه فرد مخصوص لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاصّ ، واستصحابه بجميع شؤونه من كونه فرداً لذلك

ص: 271


1- أجود التقريرات 4 : 88.
2- فوائد الأُصول 4 : 413.

الكلّي وكونه خاصّاً عبارة أُخرى عن الاستصحابين. وعلى كلّ حال ، أنّ استصحاب الخاصّ بما أنّه خاصّ لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاص ، كما أفاده شيخنا قدس سره في تحرير السيّد سلّمه اللّه أوّل ص 392 وما قبلها ، وكما أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم في غرره (1) فراجع.

والذي تلخّص : أنّ استصحاب الفرد بما أنّه فرد للكلّي وأنّه صرف وجود ذلك الكلّي عبارة أُخرى عن استصحاب الكلّي ، إذ ليس المقصود من استصحاب الكلّي هو استصحاب ذاته ، بل المقصود هو استصحاب وجوده وهو عين الفرد ، إذ ليس فرد الطبيعي إلاّوجود ذلك الطبيعي ، ولا يترتّب على هذا الاستصحاب إلاّ أثر ذلك الكلّي ، فإنّه إنّما يلحق وجوده لا ذاته مجرّداً عن لحاظ الوجود والعدم ، واستصحاب الفرد الخاصّ بما أنّه خاصّ لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاصّ دون أثر الكلّي ، فلا يكون لنا استصحاب واحد كافٍ في ترتيب كلا الأثرين ، فلا يكفي استصحاب الجنابة في عدم جواز مسّ المصحف الذي هو حكم مطلق المحدث مع عدم جواز المكث في المسجد الذي هو أثر خصوص الجنابة ، إلاّ إذا [ كان ] راجعاً إلى استصحاب الحدث الكلّي في ضمن استصحاب حدث الجنابة.

قوله : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق بحدوث الكلّي من حيث هو ، وإنّما تعلّق اليقين بحدوث حصّة من الكلّي ... الخ (2).

قال الشيخ قدس سره : وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك ، من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث ، وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل ، مدفوع بأنّه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه

ص: 272


1- درر الفوائد 1 - 2 : 533 - 534.
2- فوائد الأُصول 4 : 413.

وارتفاعه ، كتوهّم كون الشكّ في بقائه مسبّباً عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك ، لأنّه من آثاره ، فإنّ ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ، ولذا ذكرنا أنّه يترتّب عليه أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم (1).

فقد ذكر قدس سره توهّمين وأجاب عن كلّ منهما ، غير أنّ قوله قدس سره في بيان التوهّم الأوّل : وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل ، أجنبي عن بيان التوهّم الأوّل ، وهو من أجزاء التوهّم الثاني. وعلى كلّ حال ، فإنّ قول شيخنا قدس سره : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق بحدوث الكلّي من حيث هو الخ ، هو بيان للتوهّم الأوّل الموجود في كلام الشيخ قدس سره وجوابه ، غايته أنّه بنحو أوضح. كما أنّ ما أفاده في الكفاية بقوله : وتردّد ذاك الخاصّ الذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه ويكون وجوده بعين وجوده ، بين متيقّن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه ، غير ضائر باستصحاب الكلّي المتحقّق في ضمنه الخ (2) هو بيان لذلك التوهّم الأوّل الموجود في كلام الشيخ قدس سره وجوابه ، فلاحظ.

وأمّا التوهّم الثاني الموجود في كلام الشيخ قدس سره أعني ما أشار إليه بقوله : كتوهّم كون الشكّ في بقائه مسبّباً عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الخ ، فقد أشار إليه شيخنا قدس سره بقوله : فلأنّ المانع الذي يمكن توهّمه ليس إلاّ أن

ص: 273


1- فرائد الأُصول 3 : 192 - 193 ( مع اختلاف بين النُسخ ).
2- كفاية الأُصول : 406.

وجود القدر المشترك إنّما يكون مسبّباً الخ (1) وقد أشار إليه في الكفاية بقوله : وتوهّم كون الشكّ في بقاء الكلّي الذي في ضمن ذاك المردّد مسبّباً عن الشكّ في حدوث الخاصّ المشكوك حدوثه الخ (2).

ثمّ لا يخفى أنّ في استصحاب الكلّي في القسم الثاني شبهة أُخرى ، وهي شبهة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، لاحتمال انتقاض اليقين السابق باليقين بارتفاع ما يعلم بارتفاعه ، وهذه الشبهة لم يتعرّض لها الشيخ قدس سره ولا شيخنا ولا صاحب الكفاية قدس سرهم لوضوح الجواب عنها ، حيث إنّ اليقين السابق إنّما كان متعلّقاً بوجود الكلّي ، وهذا اليقين لم يحصل اليقين بانتقاضه ، وإنّما حصل لنا اليقين بارتفاع الفرد الثاني ، واليقين بارتفاع الفرد الثاني إنّما يوجب اليقين بارتفاع الكلّي الذي هو ناقض لليقين بوجود الكلّي إذا حصل لنا اليقين بأنّه هو الذي كان موجوداً ، أمّا مع عدم حصول اليقين بأنّ الموجود كان هو الفرد الثاني ، فنحن فعلاً لم يحصل لنا القطع بارتفاع الكلّي ، فيكون الاستصحاب فيه ، وأقصى ما فيه أنّا نحتمل أنّه قد ارتفع الكلّي لاحتمال كون الحادث هو الفرد الثاني ، وهذا موجب لتحقّق أركان الاستصحاب فيه ، ولا محصّل للقول بأنّا نحتمل أنّ يقيننا السابق قد انتقض باليقين بارتفاع الفرد الثاني لو كان هو الموجود ، فإنّ احتمال اليقين لا يكون إلاّشكّاً ، فلا يكون التمسّك بقوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (3)

ص: 274


1- فوائد الأُصول 4 : 415.
2- كفاية الأُصول : 406.
3- [ هكذا في الأصل ، ولعلّ في العبارة سقطاً ، والساقط هو : تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ].

وهذه الشبهة هي عين الشبهة في جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي بالخلاف ، بدعوى لزوم التناقض التي تولّد منها كون التمسّك بعموم دليل الاستصحاب في كلّ واحد من الأطراف تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية. ونظيرها شبهة المنع من جريان الاستصحاب في تعاقب الحالتين ، بدعوى عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين الراجعة إلى دعوى التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، كما أوضحناه في محلّه في مسألة الحادثين في مورد الشكّ في المتقدّم منهما (1).

لكن أُستاذنا المحقّق العراقي قدس سره في مقالته قد اهتمّ بهذه الشبهة بقوله : نعم في القسم الثاني من الكلّي شبهة أُخرى في جريانه الخ (2) وأجاب عنها بما حاصله : أنّ اليقين بانعدام الفرد الثاني لو كان هو الموجود لا يوجب اليقين بانعدام الكلّي ، لجواز وجوده في ضمن فرده الآخر ، فإنّ انعدام الفرد لا يوجب انعدام الكلّي ، فلا يكون اليقين بانعدام الفرد يقيناً بارتفاع الكلّي وانعدامه ، إلاّ إذا كان يقيناً بعدم جميع الأفراد.

وهذا الجواب وإن كان واضحاً إلاّ أنه تنشأ منه شبهة أُخرى ، وهي أن يقال : إنّا نقطع بأنّ الكلّي لم يكن موجوداً في ضمن فرد ثالث ، وأحد هذين الفردين وهو البقّة لو كان هو الموجود لكان قد ارتفع يقيناً ، فنحن فعلاً قاطعون بأنّ الكلّي لا وجود له في ضمن فرد ثالث ، كما أنّه لا وجود له فعلاً في ضمن البقّة ، وإنّما نحتمل وجوده في ضمن الفيل ، فإذا أجرينا أصالة العدم في الفيل كنّا محرزين لعدم وجود الكلّي فعلاً ، بعضه بالوجدان وهو وجوده في ضمن الفرد الثالث

ص: 275


1- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 178 وما بعدها.
2- مقالات الأُصول 2 : 380.

ووجوده في ضمن البقّة ، وبعضه بالأصل وهو وجوده في ضمن الفيل ، فيلزمنا فعلاً أن نرتّب آثار عدم الكلّي.

وهذه الشبهة قد ذكرها قدس سره في درسه حسبما حرّرته عنه ، وأوضحها بما لا مزيد عليه ، وأجاب عنها بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه (1) : والجواب عن هذا الإشكال : أنّ ما هو مورد الأثر إنّما هو صرف عدم وجود الطبيعة ، وهو أمر وحداني بسيط غير مقيّد بكونه عدم هذا الفرد وذاك الفرد. نعم يلزم ذلك الأمر الوحداني كونه محدوداً بعدم هذا الفرد وعدم ذلك الفرد ، وحينئذ فعدم كلّ واحد من تلك الأفراد لا أثر له ، وإنّما هو ملازم لما هو ذو الأثر وهو عدم صرف الطبيعة ، فيكون أصالة العدم غير نافعة إلاّعلى تقدير الأصل المثبت ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

والجواب الحاسم هو ما أشار إليه بقوله : مع أنّه على فرض التسليم (2) وذلك ما عرفت من عدم جريان أصالة العدم في الفيل ، إذ ليس بقاء الكلّي من آثارها الشرعية ، فلا يندفع بها استصحاب بقاء الكلّي ، ولو كان بقاء الكلّي من آثار وجود الفيل شرعاً ، لكان أصالة عدم وجوده بضميمة القطع بعدم البواقي قاضية بالحكم بارتفاع الكلّي وعدم وجوده فعلاً ، فلاحظ.

ولكن هذا كلّه فيما لم يكن الكلّي حكماً شرعياً ، أمّا لو كان الكلّي حكماً شرعياً مثل الحدث ، فلا إشكال فيه في أصالة عدم الجنابة ، لكنّها لا تنفع في الحكم بعدم وجود الكلّي ، فإنّ انتفاء أحد فردي الكلّي وإن كان شرعياً لا يوجب الحكم بانتفاء نفس الكلّي ، إلاّمن جهة كون الفرد الآخر مقطوع العدم أو مقطوع

ص: 276


1- في درس ليلة الاثنين 20 ج 1 / 1341 [ منه قدس سره ].
2- مقالات الأُصول 2 : 381.

الزوال ، فلا يكون الأصل المذكور إلاّمثبتاً ، ولا يبقى إلاّدعوى ضمّ الوجدان إلى الأصل ، وجوابه هو ما أفاده قدس سره من بساطة عدم الكلّي ، لا أنّه مركّب من أعدام كي يقال إنّ بعضها محرز بالأصل وبعضها محرز بالوجدان ، نعم إنّ الأعدام المتكثّرة يتولّد منها عدم واحد وهو عدم نفس الكلّي لا أنّه عينها ، فلا يكون الأصل حينئذ إلاّ مثبتاً ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) توضيح ذلك في المناقشة فيما أفاده السيّد قدس سره في حاشيته على المكاسب.

وحاصله : أنّ الأثر لمّا كان مترتّباً على صرف وجود الكلّي ، فكما أنّه لا يترتّب على استصحاب الفرد ولا ينفع فيه إلاّ استصحاب نفس الكلّي ، فكذلك هذا الأثر لا ينتفي إلاّبنفي ذلك الكلّي ، ونفي الفرد لا ينفيه ، وإن اقترن بانتفاء الباقي وجداناً ، إلاّفيما كنّا قاطعين بعدم الكلّي وشككنا بحدوثه ولو في ضمن فرد واحد ، فحينئذ نقول الأصل عدم وجود الكلّي لا عدم وجود ذلك الفرد المحتمل ، فتأمّل فإنّ هذا التقريب ربما كان غير راجع إلى ما أفاده الأُستاذ العراقي فيما نقلته عن درسه ، ولا أقل من أن يكون أوضح ، فراجع وتأمّل. بل لو كان الأثر مترتّباً على عدم جميع الأفراد لا عدم صرف الطبيعة ، لم يكن أصلنا المذكور - أعني أصالة عدم الفرد الفلاني - نافعاً وإن انضمّ إليه انعدام باقي الأفراد وجداناً ، إذ لا يكون انعدام الفرد الواحد ولو بانضمام انعدام باقي الأفراد انعداماً لجميع الأفراد إلاّ بالملازمة.

وبالجملة : لا يكون لأصالة انعدام الفرد الخاصّ أثر أصلاً ، انضمّ إليه انعدام الباقي أو لم ينضمّ ، كان الأثر مترتّباً على انعدام صرف الطبيعة أو كان مترتّباً على انعدام جميع الأفراد ، وإنّما يترتّب الأثر على أصالة انعدام هذا الفرد فيما لو كان

ص: 277


1- يأتي في الصفحة : 285 - 286.

نفس الفرد موضوعاً للأثر ، أو كان نفس عدمه موضوعاً للأثر ، أو كان عدمه جزءاً من موضوع الأثر وقد أُحرز الباقي بالوجدان ، سواء كان الباقي أمراً وجودياً أو كان أمراً عدمياً ، ومنها ما لو تركّب الموضوع من أعدام متعدّدة متعلّقة بأفراد متعدّدة.

قوله : نعم بناءً على انتزاعية الكلّي يتوجّه الإشكال المذكور ... الخ (1).

فيه تأمّل ، أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم وجود الكلّي الطبيعي وكونه انتزاعياً لا يؤثّر على النظر العرفي الذي عليه المدار في باب الاستصحاب ، بعد فرض أنّ العرف يرون أنّ الكلّي موجود بوجود أفراده. وأمّا ثانياً : فلأنّ الكلّي وإن لم يكن موجوداً حتّى بالنظر العرفي ، إلاّ أنه ممّا يتعلّق به اليقين ولو تبعاً لمنشأ انتزاعه ، فإذا فرضنا كونه ممّا يترتّب عليه الأثر ، تمّت أركان الاستصحاب فيه من اليقين والشكّ وكون ذلك المتيقّن ممّا يترتّب عليه الأثر. والحاصل أنّا لو سلّمنا كون الكلّي الطبيعي انتزاعياً لا وجود له في الخارج ، إلاّ أنه ممّا يتعلّق به اليقين قطعاً ولو تبعاً لمنشأ انتزاعه ، فإن كان في البين أثر شرعي مترتّب على ذلك الكلّي ، كانت أركان الاستصحاب فيه تامّة. وبالجملة أنّ الانتزاعيات لها تقرّر في وعائها ولو تبعاً لمنشأ انتزاعها ، فتقع متعلّقاً لكل من العلم والشكّ ، وليست هي من الخياليات الصرفة مثل أنياب الأغوال كي لا يمكن أن تتمّ فيها أركان الاستصحاب.

قوله قدس سره : ولكنّه ضعيف ، لما فيه أوّلاً : أنّ ارتفاع القدر المشترك ليس مسبّباً عن عدم حدوث الفرد الباقي ، بل هو مسبّب عن ارتفاع الفرد الزائل ... الخ (2).

مراده أنّ الغرض من إجراء أصالة العدم في الفيل مثلاً هو إثبات ارتفاع

ص: 278


1- فوائد الأُصول 4 : 415.
2- فوائد الأُصول 4 : 415 - 416.

الكلّي بعد القطع بموت البقة ، ومن الواضح أنّ ارتفاع الكلّي ليس مسبّباً ومعلولاً لعدم حدوث الفيل ، بل هو معلول لكون الحادث هو البقة التي علم بارتفاعها. ثمّ إنّه لو سلّمت هذه السببية فهي غير شرعية. ولو سلّمنا كونها شرعية فليس كلّ أصل جرى في السبب الشرعي يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب ، بل لابدّ في ذلك من كون ذلك الأصل الحاكم مزيلاً للشكّ فيما هو مجرى الأصل المحكوم على ما يأتي تفصيله.

والأولى أن يقال : إنّ الشكّ والتردّد في بقاء الكلّي وارتفاعه مسبّب عن الشكّ والتردّد بين كون الحادث هو الفيل فيترتّب عليه بقاء الكلّي ، وكون الحادث هو البقة فيترتّب عليه ارتفاع الكلّي ، وحينئذ يكون أصالة عدم حدوث الفيل قاضياً بارتفاعه وعدم بقائه ، كما أنّ أصالة عدم حدوث البقة يكون قاضياً ببقائه وعدم ارتفاعه ، لكن الأصل الأوّل معارض بالأصل الثاني ، ومقتضاه الرجوع إلى الأصل في المسبّب القاضي بالبقاء وعدم الارتفاع ، لكن يبقى الإشكال بأنّ السببية ليست بشرعية ، مضافاً إلى الإشكال بأنّ الأصل في هذا السبب لا يزيل الشكّ في المسبّب.

قوله : والسرّ في ذلك : هو أنّ أصالة الحل لا تثبت كون الحيوان المتّخذ منه اللباس من الأنواع التي خلقها اللّه تعالى مأكولة اللحم ... الخ (1).

لا يخفى أنّه قدس سره قد أشكل في مسألة اللباس المشكوك (2) على التمسّك بأصالة حلّ أكل لحم الحيوان لجواز الصلاة فيما يؤخذ منه أوّلاً : بأنّ عدم جواز الصلاة في شعره وحرمة أكل لحمه ، وكذا جواز الصلاة في شعره وحلّية أكل لحمه

ص: 279


1- فوائد الأُصول 4 : 417.
2- رسالة الصلاة في المشكوك : 320 وما بعدها.

حكمان كلّ منهما في عرض الآخر ، واردان على الحيوان الكذائي كالأرنب ، وهما معاً ناشئان عن علّة ثالثة ، لا أنّ أحدهما مسبّب عن الآخر كي يكون الأصل في أحدهما حاكماً على الأصل في الآخر.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّ جواز الصلاة مشروط بحلّية الأكل ، بحيث كانت حلّية الأكل بمنزلة الموضوع لجواز الصلاة ، فكانت سببية جواز الأكل لجواز الصلاة سببية شرعية ، لم تكن قاعدة الحل في الحيوان مسوّغة للصلاة في شعره ، من جهة أنّ جواز الصلاة مرتّب على الحلّية الواقعية الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي ، وهذا لا يمكن إحرازه بقاعدة الحل. نعم لو كان الجاري هو الاستصحاب لأمكن الاعتماد عليه في جواز الصلاة من جهة كونه من الأُصول الاحرازية ، فأصالة الحل لا تنفع في جواز الصلاة إلاّ إذا قلنا بأنّ جواز الصلاة مرتّب على الأعمّ من الحلّية الذاتية الواقعية أو الحلّية الترخيصية الظاهرية ، بحيث كان دليل الشرط يشمل الحلّية الثابتة بقاعدة [ الحل ] فإنّه حينئذ يمكن الاعتماد عليها في جواز الصلاة ، ويكون المكلّف حينئذ ببركة قاعدة الحل واجداً لما هو الشرط واقعاً.

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده إنّما يصحّ مثالاً لما نحن بصدده بما أُفيد ثانياً لا بما أُفيد أوّلاً ، فإنّ ما أُفيد أوّلاً لا يكون فيه سببية ولا مسبّبية ، بل يكون كلّ من الحكمين المذكورين واقعاً في عرض الآخر ، ويكونان معاً ناشئين عن ملاك واحد وهو المفسدة الموجبة لحرمة الأكل ولعدم جواز الصلاة فيما يؤخذ منه الذي هو عبارة عن المانعية ، فلا يكون الأصل الجاري في حرمة الأكل نافعاً في ناحية جواز الصلاة في شعره ، حتّى لو كان ذلك الأصل هو الاستصحاب. نعم بناءً على الوجه الثاني يكون استصحاب الحرمة أو استصحاب حلّ الأكل نافعاً في الناحية المذكورة.

ص: 280

أمّا أصالة الحل فإن قلنا إنّ كون الحيوان مأكول اللحم شرط في صحّة الصلاة ، كانت المسألة مبنية على أنّ الشرط إن كان هو حلّ الأكل بعنوانه الواقعي لم تنفع أصالة الحل في صحّة الصلاة فيه ، لا لما أُفيد من كون الأصل المذكور غير مزيل للشكّ في جواز الصلاة وصحّتها بعد تسليم كون الجواز مسبّباً شرعياً لحلّ الأكل ، بل لعدم السببية الشرعية ، لأنّ جواز الصلاة لم يرتّب على الحلّ الثابت بقاعدة الحل. وإن كان الشرط هو حلّ الأكل ولو بعنوان كونه مشكوكاً كانت أصالة الحل مصحّحة لجواز الصلاة فيه ، وموجبة لوجدان ما هو الشرط واقعاً ، على وجه لا يؤثّر فيه انكشاف الخلاف بعد الفراغ من الصلاة ، بل يكون من قبيل تبدّل الموضوع.

وإن قلنا بمانعية حرمة الأكل كان عدم ترتّب جواز الصلاة على أصالة الحل أوضح ، لا لما أُفيد من أنّ أصالة الحل لا تزيل الشكّ في الحرمة الواقعية التي هي المانع ، بل لأنّ الحل الثابت بأصالة الحل ليس هو السبب في رفع المانعية إلاّ على الأصل المثبت ، فتأمّل فإنّ هذا الإشكال مندفع ، لأنّ المفروض هو أنّ الشرطية أو المانعية مسبّبة شرعاً عن حلّية الأكل وحرمته ، والأصل الجاري في نفس الشكّ في السبب المذكور وهو أصالة الحل لا ينفع في إزالة الشكّ في ناحية المسبّب ، فإنّ هذا الأصل لا يكون مجراه إلاّنفس الشكّ في السبب أعني الحلّية أو الحرمة ، لكن نتيجة هذا الأصل لا تنفع في رفع الشكّ في ناحية المسبّب وهو الشرطية أو المانعية. ولكن لا يخفى أنّ ذلك جار في قاعدة الطهارة الجارية في الماء عند إرادة الوضوء منه ، فإنّ الشرط إن كان هو الطهارة الواقعية لم تكن قاعدة الطهارة في الماء نافعة في جواز الوضوء منه ، وإن كان الشرط هو الأعمّ منها ومن الطهارة الثابتة بمثل قاعدة [ الطهارة ] كان لازمه صحّة الوضوء واقعاً عند

ص: 281

تبيّن الخلاف.

وقد تعرّضنا لهذا الإشكال في باب الاجزاء (1) وذكرنا أنّ الإشكال إنّما يتوجّه لو قلنا إنّ قاعدة الطهارة وكذا قاعدة الحل مفادها مجرّد جعل الحكم في مورد الشكّ ، وأنّها لا تتضمّن التنزيل ، وذكرنا أنّه يتوجّه على هذا القول لوازم أُخر لا يمكن الالتزام بها ، وبيّنا هناك أنّها تتضمّن الحكم بتنزيل ما شكّ في طهارته منزلة الطاهر الواقعي ، وبه يندفع الإشكال بحذافيره ، ولازم ذلك هو أنّه لو كانت الشرطية فيما نحن فيه مرتّبة على حل الأكل ، لكانت قاعدة الحل نافعة في جواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، ولا يمكن القول بأنّها غير نافعة ، إلاّبأن نقول بأنّ كلاً من الشرطية وجواز الأكل وكذلك المانعية وعدم جواز الأكل حكمان كلّ منهما واقع في عرض الآخر ، فلا يكون الأصل الجاري في أحد الحكمين نافعاً في إزالة الشكّ في الحكم الآخر لعدم السببية الشرعية ، لا أنّ السببية محقّقة وعدم [ الحكومة ] لعدم إزالة الشكّ ، فتأمّل.

ثمّ إنّه لم يتّضح للنظر القاصر مدخلية ما أُفيد بقوله : ثانيهما الخ (2) فيما نحن فيه من استصحاب عدم حدوث الفرد الباقي ، فإنّا لو سلّمنا الترتّب والسببية الشرعية لم يمكن الخدشة في الأصل المذكور بكونه غير مزيل للشكّ المسبّبي ، بل يكون الأصل المذكور بعد تسليم السببية الشرعية مزيلاً للشكّ في بقاء الكلّي ، وموجباً للحكم بارتفاعه ، وأمّا ما أُفيد من المعارضة فتلك جهة أُخرى ، غير أنّ الأصل المذكور لا يكون مزيلاً للشكّ ، فتأمّل.

ص: 282


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 377 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 416.

قوله : ثمّ لو سلّم الترتّب الشرعي بين وجود الكلّي ووجود الفرد في بعض المقامات كترتّب الحدث على الجنابة ، ولكن سقوط الأصل المسبّبي فرع جريان الأصل السببي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ السببية التي هي محلّ كلامنا إنّما هي سببية وجود الفرد الطويل لبقاء الكلّي ، بأن يكون حدوث الفرد الطويل سبباً لبقاء الكلّي ، أو يكون عدم حدوثه أو حدوث الفرد القصير سبباً في ارتفاعه ، وهذه الجهة لا دخل لها بكون ترتّب ذلك الفرد على سببه ترتّباً شرعياً ، فلا أثر فيما نحن فيه لكون ترتّب حدث الجنابة على الانزال مثلاً ترتّباً شرعياً ، لأنّ كلامنا إنّما هو في أنّ حدث الجنابة هل يكون سبباً شرعياً لبقاء كلّي الحدث المشترك بينه وبين الحدث الأصغر ، بحيث يكون عدم بقاء ذلك الكلّي مترتّباً شرعاً على عدم تحقّق حدث الجنابة.

وهكذا الحال في مثل الوجوب المردّد بين وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر ، فإنّ نفس الوجوب وإن كان شرعياً ، إلاّ أن الكلام فيما نحن فيه إنّما هو في أنّ ترتّب ارتفاع الكلّي المشترك بين الوجوبين بعد الفراغ من صلاة الجمعة على عدم حدوث وجوب صلاة الظهر هل هو شرعي ، أو أنّه عقلي لا شرعي. وبالجملة : أنّ ترتّب الكلّي على الفرد بقاء وارتفاعاً لا شبهة في كونه غير شرعي ، ولا دخل لذلك بكون الفرد بنفسه شرعياً كالوجوب أو الحدث مثلاً.

ومن ذلك يظهر لك أنّ قوله قبيل هذه العبارة : إلاّ أن الترتّب في الوجود بين الكلّي والفرد إنّما هو عقلي الخ (2) ، لا يخلو عن تسامح ، وكان حقّ التعبير أن يقول : إنّ الترتّب بين بقاء الكلّي ووجود الفرد ، لأنّ هذا هو محلّ توهّم المتوهّم ،

ص: 283


1- فوائد الأُصول 4 : 418.
2- فوائد الأُصول 4 : 417.

لأنّه قد توهّم أنّ أصالة عدم وجود الفرد الطويل قاضية بعدم بقاء الكلّي ، متخيّلاً أنّ بقاء الكلّي من الآثار لأصل وجود الفرد الطويل ، فيقال له أوّلاً : إنّ بقاء الكلّي وارتفاعه ليس من آثار وجود ذلك الفرد وعدمه. وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّه من آثار وجوده فهو من الآثار العقلية. وثالثاً : لو سلّمنا أنّه من آثاره الشرعية ، فأصالة عدم وجود القصير القاضية بعدم ارتفاع الكلّي معارضة له.

هكذا ينبغي أن يكون نظم الكلام في جواب هذا التوهّم كما صنعه في الكفاية فقال بعد ذكر هذا التوهّم : فاسد قطعاً لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه - ثمّ قال - على أنّه لو سلّم أنّه ( يعني البقاء والارتفاع ) من لوازم حدوث المشكوك ، فلا شبهة في كون اللزوم ( يعني ترتّب البقاء والارتفاع على حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ) عقلياً ، ولا يكاد يترتّب بأصالة عدم الحدوث إلاّما هو من لوازمه وأحكامه شرعاً (1) فجعل مركز الردّ والبدل ترتّب البقاء وعدمه على حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ، فأوّلاً أنكر كون ذلك من المسبّبات عن حدوث الطويل وعدم حدوثه ، بل إنّ البقاء من المسبّبات عن حدوث الطويل ، والارتفاع من المسبّبات عن حدوث القصير لا عن عدم حدوث الطويل ، ثمّ بقوله : على أنّه لو سلّم أنّه الخ ، أنكر كونه من الآثار الشرعية ، لأنّه لو كان من آثاره ومسبّباته فهو من المسبّبات والآثار العقلية.

والذي يغلب على ظنّي أنّ شيخنا قدس سره إنّما غيّر التعبير عن كون الأثر هو البقاء إلى التعبير عن كون الأثر المترتّب على الفرد هو وجود الكلّي ، لأنّه قدس سره ناظر إلى مطلب آخر ، وهو الردّ على ما أفاده المرحوم السيّد الطباطبائي اليزدي قدس سره في

ص: 284


1- كفاية الأُصول : 406 [ لا يخفى أنّ ما بين القوسين هو من توضيح المصنّف قدس سره لكلام الآخوند قدس سره ].

حاشيته على المكاسب في أوائل المعاطاة ، عند تعرّض الشيخ قدس سره (1) للتمسّك لها باستصحاب الملكية ، التي هي القدر الجامع بين الملكية الجائزة التي ترتفع بالفسخ والملكية اللازمة التي لا يرفعها الفسخ ، فإنّه هناك أشار إلى أصالة عدم وجود الفرد الطويل وإلى جواب الشيخ عنها في أُصوله (2) بما عرفته (3).

واعترض على جواب الشيخ قدس سره بما محصّله : أنّ ذلك الجواب إنّما يتمّ لو كان الأثر مترتّباً على بقاء الكلّي وارتفاعه ، لكن الأمر ليس كذلك ، بل الأثر إنّما هو مترتّب على وجود الكلّي بوجود الفرد الطويل ، فإنّ الإنسان بعد فراغه من الوضوء يشكّ في وجود الجنابة المانعة من الدخول في الصلاة والأصل عدمها. فليس المانع هو بقاء الحدث حتّى يقال إنّه لا يترتّب على أصالة عدم وجود الجنابة ، بل المانع بعد فراغه من الوضوء إنّما هو الجنابة المحتملة الوجود والأصل عدمها.

ثمّ قال بعد بيان ذلك ما هذا لفظه : ومن المعلوم أنّ وجود الكلّي إنّما هو بوجود فرده وانعدامه بعدمه ، فوجوده علّة لوجوده وعدمه علّة للعدم ، من حيث إنّ عدم علّة الوجود علّة للعدم ، فالشكّ في وجوده بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين على تقديره ناش عن الشكّ في وجود الآخر من الأوّل وعدمه ، وإذا كان الأصل عدمه فلا يبقى بعد ذلك شكّ في الوجود ، بل ينبغي أن يبنى على العدم ، نعم لو كان الحكم في مقام معلّقاً على عنوان الارتفاع والبقاء تمّ ما ذكره المصنّف ، لأنّ أصالة عدم وجود الفرد الآخر لا يثبت عنوان الارتفاع كما هو واضح. ثمّ إنّ ما

ص: 285


1- كتاب المكاسب 3 : 51.
2- فرائد الأُصول 3 : 193.
3- في الصفحة : 273.

ذكره المصنّف قدس سره لا وجه له فيما إذا كان الشكّ في المقتضي أصلاً ، إذ حينئذ لا ارتفاع حتّى يقال إنّ الشكّ فيه مسبّب عن وجود الفرد القصير مثلاً والأصل عدمه. نعم ما ذكرناه أيضاً إنّما يتمّ فيما إذا كان القدر المشترك من الأحكام الشرعية ، حتّى يمكن نفيه بأصالة عدم حدوث الفرد الآخر ، وإلاّ فيكون من الأصل المثبت كما لا يخفى (1).

فشيخنا قدس سره إنّما عدل عن التعبير عن أثر الفرد بالبقاء إلى التعبير عنه بوجود الكلّي لأجل هذه الجهة ، فكأنّه يقول : إنّ وجود الطبيعي وإن كان مسبّباً ومعلولاً لوجود الفرد ، إلاّ أنه ليس من آثاره الشرعية ، ولو سلّمنا أنّه من آثاره الشرعية في بعض المقامات كترتّب الحدث على الجنابة ، وهو الذي أشار إليه السيّد قدس سره بقوله : نعم ما ذكرناه أيضاً إنّما يتمّ فيما إذا كان القدر المشترك من الأحكام الشرعية الخ ، فهو معارض بأصالة عدم حدوث الفرد القصير.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده السيّد قدس سره لو تمّ لجرى فيما كان الكلّي من الموضوعات ذات الأثر الشرعي ، فإنّه تجري فيه أصالة العدم كما لو كان بنفسه حكماً شرعياً ، اللّهمّ إلاّ أن يكون مراده هو أنّ ترتّب عدم الكلّي الذي هو من الموضوعات للأحكام الشرعية على أصالة عدم حدوث الفرد ترتّب عقلي ، فلا ينفع فيه أصالة عدم حدوث الفرد ، بخلاف ما لو كان الكلّي بنفسه حكماً شرعياً ، لكن هذا إشكال آخر غير إشكال المثبتية ، إلاّ أن يكون مراده من المثبتية هو أنّ أصالة عدم الفرد يلزمها عقلاً عدم الكلّي ، وبواسطة إثباتها هذا اللازم العقلي يترتّب الحكم الشرعي ، وهو نفي الأثر الشرعي لذلك الكلّي. ولا يخفى أنّ هذا النحو من الإثبات وإن لم يتأت في صورة كون الكلّي بنفسه حكماً شرعياً ، إلاّ أن

ص: 286


1- حاشية كتاب المكاسب 1 : 355 - 356.

الأصل فيها أيضاً يكون مثبتاً ، لأنّ ذلك الكلّي وإن كان حكماً شرعياً ، إلاّ أنه لا يرتّب الحكم بعدمه على مجرّد أصالة عدم أحد فرديه ، بل لابدّ من ضمّ ارتفاع الفرد الآخر إلى ذلك العدم ، فلا يكون أصالة عدم ذلك الفرد حينئذ إلاّمثبتاً ، إلاّ أن يتشبّث بشبهة ضمّ الوجدان إلى الأصل ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى (1).

وينبغي أن يعلم أنّ صاحب الكفاية قدس سره قد أجاب عن هذا التوهّم الذي ذكره الشيخ قدس سره في حاشيته على الرسائل بجواب كأنّه غير الجواب الذي ذكره في الكفاية ، فإنّه في الحاشية بعد توضيحه التوهّم المذكور قال ما هذا لفظه : وتوضيح دفعه أنّ الشكّ فيه ( يعني في بقائه وارتفاعه ) إنّما هو ناش من الشكّ في أنّ الحادث هو هذا أو ذاك ، ولا أصل في البين أصلاً يوجب تعيين أحدهما كما لا يخفى ، لعدم سبق إحدى الحالتين فيه ، وأصالة عدم حدوث مقطوع البقاء منهما معارضة بأصالة عدم حدوث الآخر ، مع أنّ هذا الأصل بالاضافة إلى الأثر المهمّ مثبت ، وأنّه لا يترتّب عليه إلاّبتوسّط ما يستلزمه عقلاً من كون الحادث ذاك الآخر (2).

وجوابه الأوّل راجع إلى مفاد ليس التامّة وليس الناقصة كما حرّرناه عن الأُستاذ العراقي قدس سره ، وجوابه الثاني راجع إلى المعارضة على تقدير غضّ النظر عن الإشكال الأوّل ، والثالث راجع إلى المثبتية ، لكن لا من جهة كون البقاء أثراً عقلياً ، بل من جهة أنّ الارتفاع إنّما هو من آثار حدوث القصير ، وإثبات حدوث القصير بأصالة عدم حدوث الطويل من قبيل إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر.

ص: 287


1- في الصفحة : 299 وما بعدها.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 203.

وهذه الأجوبة الثلاثة مغايرة لما في الكفاية. نعم يمكن بعيداً أن يدّعى أنّ ما أفاده أوّلاً في الكفاية راجع إلى الإشكال الأوّل في الحاشية ، بدعوى كون المنظور إليه هو مفاد ليس التامّة وليس الناقصة ، لا ما أفاده الشيخ قدس سره (1) من [ أنّ ] الارتفاع من آثار وجود القصير لا من آثار عدم حدوث الطويل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ السيّد قدس سره أجاب عن الأوّل بما عرفت من أنّ المدار على وجود الكلّي لا على بقائه ، وعن الثالث بما عرفت من اختصاص المسألة بكون الجامع حكماً شرعياً ، ليكون نفي الفرد الطويل نفياً لذلك الجامع من دون توقّف على نفي القصير.

وأمّا الثاني قد ذكره السيّد قدس سره بقوله : فإن قلت ، وأجاب عنه بعدم جريان الأصل في الفرد القصير.

والذي يتلخّص لك من هذا وممّا أفاده شيخنا قدس سره في الجواب عن شبهة السيّد قدس سره : أنّ الجواب في خصوص كون القدر الجامع حكماً شرعياً ينحصر بالمعارضة المذكورة ، لأنّا بعد فرض كون الجامع حكماً شرعياً كالحدث المترتّب على القدر الجامع بين البول والجنابة مثلاً ، لا يمكننا إنكار ترتّب وجود ذلك الجامع بعد ارتفاع الآخر على الجنابة ، كما لا يمكننا إنكار الترتّب الشرعي ، وحينئذ ينحصر الجواب بالمعارضة المذكورة التي ذكرها السيّد في حاشيته بقوله : فإن قلت : إنّ أصالة عدم الفرد الطويل معارضة بأصالة عدم الفرد الآخر. قلت : نمنع ذلك ، لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على الأصل الثاني أثر شرعي مثبت للتكليف حتّى يصلح للمعارضة ، مثلاً أصالة عدم وجود النجاسة بالدم لا يثبت تكليفاً ، فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض ، ولازمها نفي

ص: 288


1- فرائد الأُصول 3 : 193.

وجوب الغسلة الأُخرى وهكذا (1).

وقد أورد عليه شيخنا قدس سره بما أفاده بقوله : وتوهّم عدم جريان الأصل في الفرد الزائل لخروجه عن مورد الابتلاء بامتثال أو تلف أو نحو ذلك الخ (2) وحاصله : أنّ عدم ترتّب الأثر على أصالة عدم الفرد القصير في صورتين : الأُولى كون الأثر فيه أقلّ منه في الكثير ، كما مثّل به من دوران النجاسة بين الدم الذي حكمه الغسلة الواحدة ، والبول الذي حكمه الغسلتان. الثانية : أن يكون العلم الاجمالي المردّد بين الفردين المتباينين في الأثر حاصلاً بعد الفراغ عن فعل أحد المقتضيين الذي هو الوضوء مثلاً ، ثمّ علم أنّ حدثه السابق مردّد بين الأصغر والأكبر ، دون ما لو كان العلم حاصلاً قبل فعل أحدهما ثمّ فعل أحدهما ، وبناءً على ذلك يكون الأمر كما ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه في الهامش من التفصيل بين حصول العلم الاجمالي قبل الوضوء وحصوله بعده ، فاستصحاب كلّي الحدث لا يجري في الصورة الثانية ، لحكومة أصالة عدم الجنابة فيها على استصحاب كلّي الحدث ، وهي غير معارضة بأصالة عدم الأصغر ، بخلاف الصورة الأُولى ، ولكن الالتزام بسقوط استصحاب كلّي الحدث في الصورة المزبورة - أعني ما لو كان العلم الاجمالي حاصلاً بعد الوضوء - بعيد غايته.

فالأولى في الجواب عن أصل المطلب وهو جريان أصالة عدم الجنابة بأن يقال : إنّها لا ترفع الشكّ في بقاء كلّي الحدث ، وإن شئت المجاراة مع السيّد قدس سره في تعبيره فقل إنّها لا ترفع الشكّ في وجود كلّي الحدث ، فإنّ كلّي الحدث وإن كان

ص: 289


1- حاشية كتاب المكاسب 1 : 356.
2- فوائد الأُصول 4 : 418.

حكماً شرعياً ، وكان حدوث أحد فرديه علّة لحدوثه ، إلاّ أن عدم أحد فرديه لا يكون علّة في عدمه ، إلاّ إذا انضمّ إليه القطع الوجداني بارتفاع أو انتفاء الفرد الآخر وحينئذ يكون الأصل المذكور مثبتاً ، إلاّ أن ترجع الشبهة إلى ما تقدّم (1) نقله والجواب عنه عن الأُستاذ العراقي قدس سره من إحراز عدم الكلّي بعدم أحد فرديه بالوجدان والآخر بالتعبّد. وعلى كلّ حال لا يكون أصالة عدم الجنابة في نفي كلّي الحدث إلاّمثبتاً فلاحظ ، وحاصل ذلك هو أنّه قد تقدّم أنّ استصحاب الفرد لا يترتّب عليه الأثر اللاحق للكلّي ، فكيف يمكن أن يدّعى أنّ نفي أثر الكلّي مترتّب على نفي الفرد حتّى لو ضمّ إليه انعدام باقي الأفراد بالوجدان.

ومن ذلك يظهر لك الحال في تردّد النجاسة بين البول والدم ، سواء كان ذلك بعد الغسل مرّة أو قبله ، فإنّ أصالة عدم نجاسة الدم وإن لم تكن معارضة لأصالة عدم نجاسة البول لكون الأثر فيهما من قبيل الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، إلاّ أنّ أصالة عدم نجاسة البول لا يترتّب عليها الحكم بعدم حدوث كلّي النجاسة إلاّ بما عرفت من الإثبات ، أو التشبّث بالاحراز الوجداني والتعبّدي بعد الغسل مرّة وأصالة البراءة من الغسلة الثانية محكومة لاستصحاب بقاء كلّي النجاسة ، كما أنّ استصحاب عدم نجاسة البول وإن ترتّب عليه نفي الغسلة الثانية ، إلاّ أنه بعد فرض أنّه لا يحكم على استصحاب كلّي النجاسة ، لا يكون حاله من هذه الجهة إلاّكحال أصالة البراءة في عدم منافاته لاستصحاب كلّي النجاسة وعدم حكومتها عليه ، وبناءً على ذلك تكون النتيجة هي أنّه وإن لم يجب عليه الغسلة الثانية ، إلاّ أنه مع ذلك لا يجوز له الصلاة في ذلك المتنجّس ، نظراً إلى استصحاب كلّي النجاسة.

وهكذا الحال فيما لو توضّأ ثمّ علم أنّ حدثه مردّد بين البول والجنابة ، فإنّا

ص: 290


1- في الصفحة : 275 وما بعدها.

وإن قلنا إنّه لا يجب عليه الغسل بالنظر إلى أصالة عدم الجنابة أو أصالة البراءة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يجوز له مسّ المصحف أو الدخول في الصلاة ، نظراً إلى استصحاب كلّي الحدث ، وحينئذ لا يبقى معنى محصّل لأصالة البراءة أو أصالة عدم البول في التردّد بين البول والدم ، كما أنّه لا محصّل لذلك في مسألة التردّد بين البول والجنابة بالنسبة إلى أثر القدر المشترك ، أعني مسّ المصحف وعدم جواز الدخول في الصلاة. نعم لذلك أثر بالنسبة إلى ما يخصّ الجنابة نفسها ، أعني عدم جواز اللبث في المساجد مثلاً ، والغسلة الثانية في مسألة التردّد بين البول والدم وإن كانت من خصائص البول ، إلاّ أن نفيها بأصالة البراءة أو بأصالة عدم البول لا ينفع ولا يجدي جواز أكله أو الصلاة فيه بعد الغسلة الأُولى ، بعد بقاء جريان استصحاب كلّي النجاسة فيه بحاله.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد عن شيخنا قدس سره بقوله : نعم لو اختصّ أحد الفردين بأثر زائد كان استصحاب عدم حدوث ذلك الفرد لنفي ما اختصّ به من الأثر جارياً بلا معارض (1) وهكذا الحال في قوله : فكما يجري استصحاب بقاء الكلّي ، كذلك يجري استصحاب عدم حدوث الفرد الباقي ، وينفى بذلك الآثار المترتّبة على وجود الفرد الخ (2) فلاحظ وتأمّل.

قال في العروة في فصل كيفية تنجّس المتنجّسات : ( مسألة 10 ) إذا تنجّس الثوب مثلاً بالدم ممّا يكفي فيه غسله مرّة ، وشكّ في ملاقاته للبول أيضاً ممّا يحتاج إلى التعدّد ، يكتفى فيه بالمرّة ويبنى على عدم ملاقاته للبول. وكذا إذا علم نجاسة إناء وشكّ في أنّه ولغ فيه الكلب أيضاً أم لا ، لا يجب فيه التعفير ، ويبنى

ص: 291


1- فوائد الأُصول 4 : 418.
2- فوائد الأُصول 4 : 419.

على عدم تحقّق الولوغ. نعم لو علم تنجّسه إمّا بالبول أو الدم ، أو إمّا بالولوغ أو بغيره ، يجب إجراء حكم الأشد من التعدّد في البول والتعفير في الولوغ (1). ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره ولا المرحوم الشيخ عبد الكريم ولا غيرهما. ولو أصلحنا مسألة التردّد بين البول والدم بأنّ نظر شيخنا قدس سره هو التعدّد في كلّ منهما ، فلا يمكن إصلاح مسألة التردّد بين الولوغ وغيره من النجاسات.

وبالجملة : أنّ هذه الفتوى - أعني التزام الأشدّ - مبنية على استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، وعدم جدوى أصالة عدم البول أو عدم الولوغ في الحكومة على استصحاب كلّي النجاسة ، فما أفاده السيّد والمرحوم الشيخ عبد الكريم قدس سرهما وكذلك شيخنا قدس سره من جريان أصالة عدم البول أوالولوغ مخالف للفتوى المزبورة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ما أفاداه من الرجوع إلى أصالة عدم البول وعدم معارضته بأصالة عدم الدم ، إنّما كان على تقدير التسليم ، وإلاّ فهما يمنعان جريان أصالة عدم البول في حكومتها على استصحاب كلّي النجاسة ، من جهة عدم كون وجود الكلّي ونفيه من الآثار الشرعية للفرد ونفيه ، فلاحظ.

مضافاً إلى أنّ هذه الجملة أعني قوله : نعم الخ ، لم يكن لها ذكر في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) ولا في تحريرات الأقل. ويبقى الإشكال متوجّهاً على السيّد قدس سره في منافاة ما أفاده هنا مع ما أفاده في العروة في المسألة الثانية من المسألة العاشرة.

وأمّا ما أفاده السيّد قدس سره في المسألة الأُولى من هذه المسألة ، وهي التنجّس بالدم مع احتمال ملاقاته للبول أو احتمال ولوغ الكلب من الاكتفاء بالأقل ، فهو

ص: 292


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 172 - 173.

خارج عمّا نحن فيه من استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، بل هو من استصحاب القسم الثالث من الكلّي ، لكن اعتماده على أصالة عدم البول أو الولوغ محلّ تأمّل ، إذ ليس المدرك في عدم جريان استصحاب هذا القسم الثالث من الكلّي هو أصالة عدم وجود الفرد الآخر لتكون حاكمة على استصحاب الكلّي ، بل إنّ هذا الأصل لا ينفع في الحكومة على استصحاب الكلّي لو كان في حدّ نفسه جارياً ، بل إنّه بنفسه غير جار ، لا أنّه في حدّ نفسه يجري وإنّما يرفع اليد عنه لأجل حكومة أصالة عدم وجود الفرد الآخر عليه. إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب الكلّي وإن كان غير [ جار ] في حدّ نفسه ، إلاّ أن الابدّ لنا من إزالة الشكّ في وجود الفرد الآخر ، فإنّما تجري أصالة العدم في الفرد الآخر لأجل هذه الجهة ، لا لأجل حكومتها على استصحاب الكلّي ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الذي ذكرناه مبني على كون الغسل واجباً غايته أنّه مردّد بين المرّة والمرتين ، أمّا بناءً على عدم وجوب ذلك ، وأنّه ليس في البين إلاّ أنّ النجاسة التي [ هي ] حكم شرعي أو موضوع شرعي حكمها عدم جواز الأكل أو عدم جواز الصلاة معه ، وأنّها ترتفع بالغسل مرّة أو مرّتين ، فلا تكون المسألة من قبيل الأقل والأكثر.

وحينئذ لو حدث هذا العلم الاجمالي المردّد بين الدم والبول قبل الغسل مرّة ، تعارض الأصلان إن رجع كلّ منهما إلى أصالة عدم كلّي النجاسة ، وإلاّ فلا أثر لنفي كلّ واحد منهما بخصوصه ، حيث إنّ الأثر وهو حرمة الأكل أو عدم جواز الصلاة إنّما هو أثر الكلّي دون الخصوصية. وعلى أيّ ، يسقط كلّ من الأصلين إمّا لنفسه أو للتعارض ، فلو غسله مرّة بعد هذا العلم الاجمالي جرى استصحاب كلّي النجاسة أو بقي العلم الاجمالي مؤثّراً بحاله.

ص: 293

ولو كان حدوث هذا العلم الاجمالي بعد الغسل مرّة ، جرى في حقّه استصحاب كلّي النجاسة ، ولا يكون أصالة عدم البول حاكمة عليه لما عرفت ، بل إنّ أصالة عدم البول بخصوصه لا تجري من جهة أنّه لا أثر لخصوص البول.

ومن ذلك يظهر لك أنّه يكون الأمر كذلك لو قلنا بوجوب غسل النجاسة إمّا مرّة أو مرتين ، لانحلال هذا العلم لكونه مردّداً بين الأقل والأكثر ، فلا يبقى إلاّ أثر كلّي النجاسة.

أمّا مسألة التردّد بين الحدث الأصغر والأكبر ، فإن قلنا بعدم وجوب الوضوء أو الغسل ، وإنّما هما رافعان لذلك الحكم أو الموضوع أعني الحدث ، جرى في حقّه بعد الوضوء استصحاب كلّي الحدث ، ويترتّب عليه أثره الذي هو حرمة مسّ المصحف مثلاً ، ولا يجري في حقّه أصالة عدم الأصغر ، لأنّه بمعنى نفي القدر الجامع معارض بأصالة عدم الأكبر ، وبمعنى نفي خصوص الأصغر لا أثر له. نعم يجري في حقّه - مضافاً إلى استصحاب كلّي الحدث - أصالة عدم الأكبر بخصوصه لنفي أثره الخاصّ به وهو حرمة اللبث في المساجد ، إلاّ أن يقال إنّهما لا يجتمعان لكونهما إحرازيين ، وإليه أشار صاحب الدرر قدس سره بقوله : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ إجراء الأصل في الكلّي لا يثبت الفرد وإن كان ملازماً له ، لأنّ هذه الملازمة ليست شرعية ، وحينئذ فلو كان للفرد أثر خاصّ ينفى بالأصل ، إلاّ إذا كان للفرد الآخر أيضاً أثر خاصّ فيتعارض الأصلان. وكذا لو علم أنّ الحكم ببقاء الكلّي في الأثر والحكم بعدم الفرد كذلك ممّا لا يجتمعان في مرحلة الظاهر أيضاً (1) لكونهما إحرازيين لا يجتمعان مع العلم بالخلاف في أحدهما ، لكن هذا الإشكال جارٍ في جميع الأُصول المثبتة ، فإنّ استصحاب الحياة لا يجتمع مع أصالة عدم

ص: 294


1- درر الفوائد 1 - 2 : 536.

نبات اللحية ، ولبيان الفرق بين مثل هذا ومثل استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين النجسين اللذين علم بتطهّر أحدهما مقام آخر ، تعرّضنا له في محلّه من الأُصول المثبتة (1) فراجع ، هذا كلّه لو قلنا بعدم وجوب الغسل أو الوضوء.

أمّا لو قلنا بذلك تنجّزت الآثار كلّها ، فأثر الحدث الأصغر هو وجوب الوضوء ، وأثر الحدث الأكبر هو وجوب الغسل وحرمة اللبث في المساجد ، وأثر القدر الجامع هو حرمة مس المصحف ، وبناءً على هذا القول لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الأكبر في نفي حرمة اللبث كما شرحناه مفصّلاً فراجع. لكن هذا التحرير قد حكم بالرجوع إلى أصالة عدم الأكبر في نفي أثره وهو حرمة اللبث مع ذكره لوجوب الوضوء والغسل ، وهو صريح ما أفاده الشيخ قدس سره في عبارته الآتي نقلها (2) إن شاء اللّه تعالى ، وقد عرفت التأمّل فيه.

نعم ، في تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) لم يتعرّض لوجوب الوضوء والغسل ، فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى أصالة عدم الأكبر في نفي حرمة اللبث ، إذ مع إسقاط وجوب الغسل والوضوء لا يبقى في البين إلاّ أثر القدر المشترك وهو حرمة مس المصحف ، والأثر الخاصّ بالأكبر وهو حرمة اللبث ، ولا يكون لنا أثر خاصّ بالحدث الأصغر ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة عدم الحدث الأكبر في نفي أثره الخاص به ، ولا مانع من الجمع بين استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، وبين أصالة عدم الأكبر فتأمّل. هذا كلّه فيما لو كان في البين قدر جامع ، وكان ذلك القدر الجامع حكماً شرعياً أو كان موضوعاً لحكم شرعي.

أمّا إذا لم يكن في البين قدر جامع ، أو كان لكنّه لم يكن حكماً شرعياً ولا

ص: 295


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- في الصفحة : 305.

موضوعاً لحكم شرعي ، كما في مسألة الظهر والجمعة بناءً على أنّه لا جامع بين الوجوبين ، أو أنّه ليس بحكم شرعي ولا موضوعاً لحكم شرعي ، فإن كان العلم الاجمالي حاصلاً قبل فعل أحدهما ، فلا إشكال في أنّه لو فعل أحدهما يلزمه فعل الآخر بحكم العلم الاجمالي ، من دون حاجة إلى استصحاب الكلّي أو استصحاب الفرد المردّد.

أمّا لو كان حصول العلم الاجمالي بعد فعل أحدهما ، فلا إشكال في سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، لأنّه من قبيل ما لو حصل بعد تلف أحد الطرفين ، ولكن هل يجري في حقّه استصحاب الفرد المردّد؟ إشكال تعرّض له الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته ص 148 وص 149 (1) وقد تقدّم الكلام عليه في حاشية ص 150 (2) وسيأتي الكلام عليه أيضاً إن شاء اللّه تعالى في حاشية ص 153 (3) ، وحاصله أنّه لا مورد فيه لاستصحاب الكلّي ، لعدم القدر الجامع أو لعدم كونه حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، ولا يجري فيه استصحاب الفرد المردّد ، لأنّ عنوان أحدهما لا أثر له ، والخصوصية الخاصّة المعيّنة لم تكن مركباً لليقين ، والخصوصية المردّدة أيضاً ليست موضوعاً للأثر. وقد تعرّض شيخنا قدس سره لذلك في ص 41 وص 43 وص 150 من هذا التحرير (4) فراجع ، وتعرّض لها أيضاً في تحرير السيّد سلّمه اللّه ص 280 (5)

ص: 296


1- مقالات الأُصول 2 : 382 وما بعدها.
2- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 267 - 268. راجع أيضاً الحاشية التي بعدها.
3- وهي الحاشية الآتية في الصفحة : 308 - 311.
4- فوائد الأُصول 4 : 125 وما بعدها ، 131 وما بعدها ، و 411 التنبيه الثالث.
5- أجود التقريرات 3 : 479.

وحاصل الأمر : أنّ شيخنا قدس سره قد علّل عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد بأنّه ليس من قبيل الشكّ في البقاء ، بل هو من قبيل الشكّ في حدوث الباقي ، لأنّ الفرد المردّد لا شكّ في بقائه ، لأنّ أحدهما مقطوع البقاء والآخر مقطوع الارتفاع ، فحقيقة الشكّ فيه متوجّهة إلى أنّ الحادث ما هو ، وهل هو الباقي أو هو المرتفع ، فلا مورد فيه للتعبّد بالبقاء ، ولأنّ مقتضى التعبّد ببقاء الفرد المردّد بين الظهر والجمعة بعد فرض الاتيان بالظهر هو لزوم التكرار في الظهر ، إلى غير ذلك من التعليلات التي أفادها قدس سره فيما تقدّم في أصالة الاشتغال ، ولعلّ بعضها لا يخلو عن إشكال.

والذي أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره فيما حرّرته عن درسه وفيما حرّره هو قدس سره في مقالته ص 148 وص 149 هو الاعتراف بسراية اليقين إلى الخصوصية ، لكن الشكّ لا يسري إليها ، بل هو مقصور على الجامع بين الخصوصيتين ، وهو حسب الفرض لا أثر له.

وفيه تأمّل ، فإنّ اليقين المتعلّق بوجود أحد الفردين إنّما يعتبر بمقدار كاشفيته وإضافته لمتعلّقه ، وهي - أعني إضافته وكاشفيته - مقصورة على القدر الجامع ، نظير ما لو رأيت شبحاً وتردّدت بين كونه زيداً وكونه عمراً ، فإنّ مقدار ما رأيته هو نفس الشبح لا خصوصية زيد ولا خصوصية عمرو ولا إحدى الخصوصيتين كلّ بخصوصيته ، ومجرّد أنّه يصدق على زيد لو انكشف الواقع أنّه هو ذلك الذي رأيته لا يكون محقّقاً لكون خصوصية زيد كانت منكشفة وكانت معلومة لديك ، وحينئذ فبعد أن كان العلم مقصوراً على تلك الصورة المبهمة المردّدة ، ولا تكون الخصوصية الخاصّة منكشفة ولا إحدى الخصوصيتين ، كان كلّ من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء مقصوراً على تلك الصورة المهملة ، فلا

ص: 297

يكون مورد التعبّد إلاّتلك الصورة المبهمة المجملة ، والمفروض أنّها لا أثر لها ، فلا يجري فيها الاستصحاب ، وإنّما يجري فيما لو كانت تلك الصورة الاجمالية الجامعة بين الخصوصيتين بنفسها أثراً شرعياً ، أو كانت موضوعاً لأثر شرعي ، ومن الواضح أنّ الجامع بين الخصوصيتين في مورد العلم بحدوث أحدهما ليس هو إلاّذلك الكلّي الانتزاعي المعبّر عنه بأحدهما مفهوماً أو مصداقاً ، وهو لا أثر له ، فلا يكون مورداً للتعبّد بالبقاء ، فليست المسألة من باب أنّه لا جامع بينهما وإلاّ لم يعقل تعلّق العلم ، إذ لابدّ لكلّ علم من معلوم ، بل هي من باب أنّ الجامع الذي انكشف بالعلم لا أثر له ، وحينئذ يتعيّن فيه كون المرجع هو البراءة عن الباقي ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون التلف قبل العلم. نعم في خصوص المقام ربما يقال بأنّه ملزم بالاتيان بالفرد الثاني ، نظراً إلى لزوم تحصيل العلم بشرط العصر وهو ترتّبها على سابقتها من الظهر أو الجمعة ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الإشكال فيما أفاده السيّد قدس سره في حاشيته المشار إليها بقوله : ثمّ إنّ التحقيق إمكان استصحاب الفرد الواقعي المردّد بين الفردين الخ (1) نعم لو كان للكلّي أثر وسقط استصحاب نفس الكلّي ربما يأتي فيه توهّم استصحاب الفرد المردّد ، لكنّك قد عرفت أنّ استصحاب الفرد لا ينتج ترتيب أثر الكلّي ، ولم يظهر ذلك من الشيخ قدس سره في القسم الأوّل فكيف نسبه إليه فإنّ عبارة الشيخ قدس سره هي قوله : أمّا الأوّل فلا إشكال في جواز استصحاب الكلّي ونفس الفرد وترتيب أحكام كلّ منهما عليه (2) ومن الواضح أنّ العبارة ظاهرة في ترتيب أثر الكلّي على استصحاب الكلّي وأثر الفرد على استصحاب الفرد ، وأين

ص: 298


1- حاشية كتاب المكاسب 1 : 356.
2- فرائد الأُصول 3 : 191.

ذلك من ترتيب أثر الكلّي على استصحاب الفرد حتّى ينقض بالفرد المردّد ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّ المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره قال في درره ما هذا لفظه : نعم منع بعض علماء العصر ( دام ظلّه ) جريان هذا النحو من الاستصحاب مطلقاً في حاشيته التي علّقها على مكاسب شيخنا المرتضى قدس سره ، وحاصل ما أفاده هناك : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في وجود الفرد الطويل ، وحيث إنّ مقتضى الأصل عدمه ، فلا يبقى شكّ في بقاء الكلّي. ثمّ أورد على نفسه بأنّ أصالة عدم وجود الفرد الطويل معارض بأصالة عدم وجود الفرد القصير. وأجاب ( عنه ) بأنّه ليس في طرف القصير أصل حتّى يعارض ذلك الأصل ، لعدم الأثر الشرعي للأصل الجاري في طرف القصير ، هذا. وفيه أوّلاً : أنّ تقدّم الأصل الجاري في السبب على المسبّب إنّما يكون فيما إذا كان الترتّب شرعياً ، كالأصل الجاري في الماء بالنسبة إلى الثوب المغسول به ، فإنّ غسل الثوب بالماء الطاهر شرعاً يوجب طهارة الثوب شرعاً ، بخلاف ترتّب عدم الكلّي على عدم الفرد في المثال ، فإنّه من جهة العلم بانحصار الموجود في فرد واحد ، وأنّه على تقدير عدم وجود الطويل وجد القصير وارتفع (1) وأجاب ثانياً عن جواب المعارضة بما يرجع إلى ما أفاده شيخنا قدس سره.

قلت : لا يخفى أنّ حاصل ما أفاده السيّد قدس سره في حاشيته على المكاسب هو ما عرفت من إنكار عنوان البقاء ، وأنّه لو كان الأثر مترتّباً على البقاء لتمّ ما أفاده الشيخ قدس سره من الجواب عن أصالة عدم وجود الفرد الطويل ، وأنّ جلّ غرض السيّد وصريح عبارته هو أنّ مركز الأثر هو وجود الكلّي ، وأنّه موجود بوجود فرده ، وأنّه

ص: 299


1- درر الفوائد 1 - 2 : 534 - 535.

إذا جرت أصالة العدم في الفرد الطويل كانت كافية في نفي ذلك الأثر بعد فرض العلم بارتفاع القصير لو كان هو الموجود ، كلّ ذلك بعد فرض كون الكلّي بنفسه حكماً شرعياً ، وأنّه لو كان الكلّي موضوعاً خارجياً لم يكن أصالة عدم الفرد الطويل إلاّمن قبيل الأصل المثبت ، وأين هذا التفصيل ممّا نقله عنه صاحب الدرر قدس سره من كون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّباً عن الشكّ في حدوث الطويل ، وأنّ أصالة عدم الفرد الطويل مزيلة للشكّ في بقاء الكلّي ، وهل ذلك إلاّعين التوهّم الذي ذكره الشيخ قدس سره وأجاب عنه بإنكار السببية ، واعترض عليه السيّد بأنّ إيراد الشيخ متوجّه لو كان الكلام في البقاء المفروض أنّه لا أثر له ، وأنّ الأثر إنّما هو مترتّب على وجود الكلّي ، وبعد فرض كون الكلّي بنفسه حكماً شرعياً تتمّ السببية والمسبّبة الشرعية ، ويتمّ كون أصالة عدم الفرد الطويل مزيلة للشكّ المسبّبي ، هذا.

ولكن ما أفاده صاحب الدرر قدس سره من الايراد على السيّد قدس سره بعد هذا البيان متّجه ، غير أنّه يحتاج إلى توضيح أزيد فيقال : إنّ القدر المشترك الذي هو الحدث مثلاً بعد فرض كونه بنفسه شرعياً ، يكون ترتّبه على وجود أحد فرديه كالجنابة مثلاً شرعياً ، لكن عدم الجنابة لا يترتّب عليه عدم الحدث إلاّمع فرض عدم فرده الآخر وهو البول مثلاً ، أو فرض وجوده وارتفاعه بالوضوء ، وحينئذ يكون الأصل المذكور مثبتاً ، إلاّ أن يرجع إلى مطلب إحراز انعدام أحد الفردين بالأصل والآخر بالوجدان ، هذا لو كان المراد من الفرد هو سبب ذلك القدر الجامع.

وهكذا الحال لو كان المراد به المسبّب أعني نفس الحدث ، فإنّ له فرداً وهو الأكبر وفرداً آخر وهو الأصغر ، وبعد العلم الوجداني بانتفاء الأصغر إمّا لعدمه أصلاً أو لحدوثه وارتفاعه بالوضوء ، لا تكون أصالة عدم وجود الحدث الأكبر

ص: 300

نافعة في الحكم بعدم كلّي الحدث إلاّبضمّ ذلك المعلوم الوجداني إليه.

ثمّ لا يخفى أنّ عبارة السيّد قدس سره في الحاشية في بيان الجواب عن معارضة أصالة العدم في الفرد الطويل بأصالة العدم في الفرد القصير هي قوله : قلت نمنع ذلك ، لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على الأصل الثاني أثر شرعي مثبت للتكليف حتّى يصلح للمعارضة ، مثلاً أصالة عدم وجود النجاسة بالدم لا يثبت تكليفاً فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض ، ولازمها نفي وجوب الغسلة الأُخرى ، وهكذا (1).

وهذه العبارة لا تخلو عن قصور في بيان المراد ، فإنّ مراده أنّ نجاسة الدم في مورد التردّد بينها وبين نجاسة البول ، لا توجب تكليفاً زائداً على ما علم من وجوب الغسل المردّد بين المرّة والمرتين ، فإنّ وجوب الغسل مرّة معلوم على كلّ حال ، لكون المسألة من قبيل الأقل والأكثر ، وذلك موجب لعدم جريان أصالة العدم في ناحية الأقل ، لعدم كون هذا الأصل صالحاً لنفي التكليف المترتّب على المنفي فيه.

لكن العلاّمة المرحوم الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية أخذ بظاهر العبارة فقال : وأمّا ما عن بعض الأجلّة في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأجل قدس سره من فرض المثال فيما إذا دار أمر النجس الحادث بين أن يكون بولاً يوجب الغسل مرتين ، أو دماً لا يوجب الغَسل مرتين ، وأنّ الأصل في طرف البول ينفي وجوب الغسلة الثانية ، وأنّ الأصل في طرف الدم لا يثبت وجوب الغسلة الثانية ، فلا معارضة (2) ، فحمل عدم المعارضة في كلام السيّد قدس سره على أنّه يمكن

ص: 301


1- حاشية كتاب المكاسب 1 : 356.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 149.

الجمع بين أصالة العدم في طرف البول وأصالة العدم في طرف الدم ، لأنّ الأُولى تنفي وجوب الغسلة الثانية ، والثانية لا تثبت وجوب الغسلة الثانية ، وحينئذ يمكن الجمع بينهما ، إذ لا تدافع بينهما ، فلأجل ذلك أورد عليه بأنّه لا يمكن الجمع بين الأصلين لاقتضائهما نفي وجوب الغسل مع العلم بأنّه قد وجب في الجملة ، وحينئذ يقع التعارض بينهما من جهة اقتضائهما نفي الجامع وهو معلوم الوجود ، ومن جهة اقتضائهما نفي كلّ من الخصوصيتين ، والمفروض أنّ إحدى الخصوصيتين معلومة الوجود ، هذا كلّه إنّما يتوجّه على السيّد لو كان مراده من عدم التعارض هو إمكان الجمع بينهما.

والإنصاف : أنّ عبارته وإن كانت ظاهرة في ذلك ، لكن المراد معلوم ، وهو ما عرفت من أنّ عدم التعارض إنّما هو لأجل عدم الأثر لأصالة عدم الدم ، إذ لا يمكن الحكم بنفي أثره الذي هو الغَسل مرّة ، للعلم التفصيلي بوجوبها على كلّ من طرفي العلم الاجمالي ، كما هو الشأن في كلّ علم إجمالي مردّد بين الأقل والأكثر.

ويشهد بذلك قوله : فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض الخ. فإنّ هذه الجملة إنّما تقال في الأصل الواحد لا في الأصلين اللذين لا تعارض بينهما ، ولعلّ مراد المحشي في إيراده على السيّد هو أنّه لابدّ لنا من نفي القدر الجامع ، وهو لا يحصل إلاّبإجراء الأصل في الدم وإجرائه في البول ، وحينئذ يقع التعارض بين الأصلين للعلم بتحقّق القدر الجامع ، ولعلّ مراد السيّد هو حصول نفي الجامع من الوجدان بالغسلة الواحدة وأصالة عدم البول كما أفاده الأُستاذ العراقي ، لكن ذلك متوقّف على أن يكون لنا موضوع واحد قد حصل أحد جزأيه بالأصل والآخر بالوجدان ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فلاحظ.

ص: 302

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ المطلوب من إجراء الأصل في الأقل هو نفي القدر الجامع لا نفي أثره الخاصّ ، وهذا لا يفرق فيه بين كون حصول العلم الاجمالي قبل انتفاء الأقل بالوجدان أو بعده ، كما أنّه لا يتوقّف على إجراء الأصل فيه قبل خروجه عن الابتلاء كما في التحرير عن شيخنا قدس سره (1).

وكأنّه لأجل هذه الملاحظة أفاد المرحوم الشيخ محمّد حسين إلحاقاً بما تقدّم ، فقال : ومنه يعلم أنّ دعوى عدم المعارضة من حيث تيقّن الأقل فلا يجري فيه الأصل ، ويختصّ الأصل بعدم موجب الأكثر ، مدفوعة بأنّ أثر الدم ليس وجوب الغسل المجامع مع جواز الاكتفاء وعدم جواز الاكتفاء ، فإنّه أثر الجامع ، بل أثر الدم هو وجوب الغسل اللاّ بشرط القسمي المساوق لجواز الاكتفاء فيه بالمرّة ، وهو مباين للغسل بشرط شيء ، فإنّهما تعيّنان متقابلان ليس أحدهما متيقّناً بالاضافة إلى الآخر. نعم وجود الجامع متيقّن لا يجري فيه الأصل ، إلاّ أن جريان الأصلين في الفردين بنحو العدم المحمولي منافٍ للقطع بوجود الجامع أيضاً كما عرفت (2).

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة أعني شبهة إرجاع مسألة الأقل والأكثر إلى مسألة التباين ، بدعوى كون الأقل مأخوذاً لا بشرط القسمي والأكثر مأخوذاً بشرط شيء وهما لحاظان متباينان داخلان تحت اللاّ بشرط المقسمي ، هي شبهة المحقّق صاحب حاشية المعالم قدس سره وقد تقدّم الكلام عليها وعلى الجواب عنها في مباحث الأقل والأكثر (3) فراجع. والسيّد وكلّ من وافقه في هذه المسألة - أعني مسألة تردّد

ص: 303


1- فوائد الأُصول 4 : 418.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 150.
3- راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 269.

النجاسة بين الدم والبول - على عدم جريان أصالة العدم في ناحية الدم كشيخنا قدس سره والمرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم قدس سره لم يعتمدوا على الشبهة المذكورة ، فلا يتّجه الإيراد على السيّد بما هو مبني على هذه الشبهة ، هذا.

مضافاً إلى أنّه هو أيضاً ممّن تصدّى لدفع تلك الشبهة في مباحث الأقل والأكثر ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل ص 265 من مباحث الأقل والأكثر ، فإنّه ذكر هناك شبهة عدم الانحلال الراجعة إلى دعوى أنّ المعلوم تفصيلاً إنّما هو وجوب الأقل بنحو اللاّ بشرط المقسمي - الذي هو الجامع بين الأقل على نحو اللاّ بشرط القسمي والأقل على نحو البشرط شيء - لا يوجب الانحلال ، لتباين الماهية لا بشرط القسمي مع الماهية على نحو البشرط شيء.

وأجاب عنها بما هذا لفظه : أنّ الاعتبار اللاّ بشرطي ( يعني القسمي ) والاعتبار البشرط شيء وإن كانا متقابلين ، إلاّ أن تقابل الاعتبارات لا يقتضي تقابل ما له الاعتبار ، ولذا اشتهر أنّ الماهية اللاّ بشرط شيء يجتمع مع ألف شرط ، ومن المعلوم أنّ ذات الماهية اللاّ بشرط هي الواجبة بالحمل الشايع لا بما لها من الاعتبار ، وهذه الذات معلومة الوجوب تفصيلاً الخ (1) فإذا كانت ذات الغسلة الواحدة المردّدة بين اللاّ بشرط والبشرط شيء فيما نحن فيه معلومة تفصيلاً فكيف يمكن نفيها بالأصل كي يكون أصالة عدم الدم معارضاً لأصالة عدم البول ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا فرق في عدم جريان الأصل في طرف الأقل بين التردّد بين الدم والبول على نحو الشبهة الموضوعية ، وبين كون التردّد على نحو الشبهة الحكمية ، بأن يحصل لنا الشكّ في أنّ هذه النجاسة - أعني نجاسة الخمر -

ص: 304


1- نهاية الدراية 4 : 297 - 298.

هل تحتاج إلى غسلتين أو يكفيها الغسلة الواحدة.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : مدفوعة بأنّ أثر الدم ليس وجوب الغسل المجامع مع جواز الاكتفاء وعدم جواز الاكتفاء فإنّه أثر الجامع الخ (1) ، لعلّه مناف لما تقدّم منه في قوله : بيانه أنّه أثر النجاسة الجامعة بين جميع أنحاء النجاسات الخ ، فإنّ ذلك الكلام كان مفاده هو أنّ أصالة عدم الدم يترتّب عليها عدم الجامع ولو من ناحيته ، ولأجل ذلك يكون معارضاً لأصالة عدم البول. نعم لعلّ مناقشته في هذه الجملة الأخيرة أعني قوله : مدفوعة الخ ، متّجهة إلى الأثر الخاصّ بالدم ، وأنّه داخل في أثر البول أو لا.

فائدة : قال الشيخ قدس سره في بيان القسم الثاني من استصحاب الكلّي : وأمّا الثاني فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقاً على المشهور. نعم لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ، سواء كان الشكّ فيه من جهة الرافع كما إذا علم بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة وجب الجمع بين الطهارتين ، فإذا فعل إحداهما وشكّ في رفع الحدث فالأصل بقاؤه ، وإن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ، أم كان الشكّ من جهة المقتضي (2). ومثّل لذلك بالبقّة والفيل ، وقد عرفت أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير ينحو هذا المنحى.

ولا يخفى أنّ من خرج منه البلل المردّد بين البول والمني إن كانت حالته السابقة المعلومة لديه هي الطهارة من الحدثين ، كانت حالته الفعلية بعد خروج ذلك البلل مردّدة بين الحدثين ، فيكون داخلاً فيما نحن بصدده. ولا ينبغي

ص: 305


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 149.
2- فرائد الأُصول : 3 : 191 - 192.

إخراجه ، إلاّ أن يكون مراده قدس سره من قوله : ولم يعلم الحالة السابقة ، هو أنّه لم يعلم أنّ حالته السابقة كانت هي أحد الحدثين ، وحينئذ يكون شاملاً لمن علم أنّ حالته السابقة هي الطهارة من الحدثين ، ولكنّه تكلّف بعيد عن ظاهر العبارة. نعم لو كانت حالته السابقة المعلومة لديه هي الحدث الأكبر ، لم يكن لخروج ذلك البلل المردّد أثر ، ولا يكون حينئذ من قبيل التردّد بين الحدثين. ولو كانت حالته السابقة هي الحدث الأصغر ، كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه من القسم الثاني ، وكان داخلاً في القسم الثالث ، على تأمّل وتفصيل يأتي التعرّض له في القسم الثالث إن شاء اللّه تعالى.

وحينئذ يكون القسم الثاني شاملاً لمن كانت حالته السابقة المعلومة هي الطهارة من الحدثين ، ولمن لم تكن حالته السابقة معلومة لديه ، فإن كلاً منهما تكون حالته الفعلية بعد خروج ذلك البلل المردّد مردّدة بين الحدثين ، وحينئذ فبعد البناء على وجوب الوضوء على المحدث بالأصغر ووجوب الغسل على المحدث بالأكبر ، كما هو ظاهر الآية الشريفة ، أعني قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) - إلى قوله تعالى - ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (1) وكما هو مفروض كلام الشيخ قدس سره حيث إنّه أوجب الجمع بين الطهارتين ، وظاهره هو فرض حصول العلم الاجمالي قبل الوضوء.

وحينئذ نقول : إنّه في ذلك الحال - أعني حال ما قبل الوضوء - قد تنجّز عليه بواسطة العلم الاجمالي كلّ من حرمة مسّ المصحف ووجوب الوضوء ووجوب الغسل وحرمة اللبث في المساجد ، وليس المقام بالقياس إلى هذا الأخير - أعني حرمة اللبث - من قبيل الأقل والأكثر كما شرحناه غير مرّة ، وبعد أن

ص: 306


1- المائدة 5 : 6.

توضّأ تبقى البواقي على تنجّزها من دون حاجة إلى استصحاب الكلّي.

نعم ، لو لم يحصل له ذلك العلم الاجمالي إلاّبعد أن فرغ من الوضوء ، لم يكن العلم الاجمالي المذكور مؤثّراً ، لكونه بعد تلف بعض الأطراف ، وينحصر الأمر حينئذ بالرجوع إلى استصحاب كلّي الحدث القاضي بترتيب آثار القدر الجامع ، وهي حرمة مسّ المصحف والمنع من الدخول في الصلاة ، ولا يسوغ له ذلك إلاّبعد الغسل ، فلا يكون إيجاب الغسل عليه إلاّمن باب تحصيل إحراز الشرط في الصلاة ، لا من باب أنّ استصحاب كلّي الحدث يقتضيه ، ولا من باب العلم الاجمالي.

أمّا حرمة اللبث فالمرجع فيها هو البراءة أو أصالة عدم الجنابة القاضي بعدم وجوب الغسل وعدم حرمة اللبث ، وهذا لا ينافي لزوم الغسل عليه من باب تحصيل إحراز شرط الصلاة ، كما أنّه لا ينافي استصحاب كلّي الحدث بعد فرض أنّه قد صدر منه الوضوء على ما عرفت الوجه فيه. هذا كلّه على تقدير القول بوجوب الوضوء ووجوب الغسل.

أمّا على تقدير القول بعدم ذلك وأنّه ليس في البين إلاّكونهما رافعين ، فقد تقدّم تفصيل الكلام فيه فراجع (1). والذي تلخّص : أنّه بناءً على عدم وجوب الغَسل مرّة أو مرتين وعدم وجوب الوضوء أو الغسل لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الدم أو أصالة عدم البول ، أو أصالة عدم الحدث الأصغر أو أصالة عدم الحدث الأكبر ، لأنّ هذه الخصوصيات حينئذ لا أثر لها ، وإنّما الأثر للكلّي ، فلا يجري إلاّ استصحاب كلّي النجاسة أو استصحاب كلّي الحدث. نعم يجري استصحاب عدم الجنابة في نفي أثرها المختصّ بها ، وهو حرمة اللبث في

ص: 307


1- راجع الصفحة : 294 وما بعدها.

المسجد ، ولا منافاة بينها وبين استصحاب كلّي الحدث بعد فرض ارتفاع الأصغر بالوضوء.

لا يقال : يكفي في أصالة العدم في كلّ من هذه الأُمور نفي أثرها الوضعي وهو الارتفاع بالغسلة الواحدة أو الغسلتين أو الوضوء أو الغسل.

لأنّا نقول : لا أثر لنفي مثل الدم إلاّنفي أثره وهو الارتفاع بالغسلة الواحدة وهذا الأثر لا يكون انتفاؤه عند انتفاء الدم بأصالة العدم إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا أثر لها في رفع الشكّ في هذا الفرد من النجس المردّد بين الدم والبول ، وهذا إشكال آخر غير إشكال مفاد ليس الناقصة وليس التامّة ، إذ لو فرضنا أنّ الأثر هو وجوب الغسل مرّة ، لقلنا إنّ نفي وجود الدم ولو بمفاد ليس التامّة كافٍ في نفي ذلك الوجوب عن عاتق المكلّف ، بخلاف ما لو كان الأثر هو كونه يرتفع بالغسل مرّة ، فإنّه ليس في البين شيء على عاتق المكلّف حتّى يكون نفي الدم نافياً له عن عاتق المكلّف ، وإنّما هو ذلك الحكم الوضعي ، أعني ارتفاع نجاسة الدم بالغسلة الواحدة ، ونفيه بانتفاء موضوعه لا يكون إلاّمن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، التي لا تكون منشأ لشيء من الآثار.

قوله : ففي مثال الحدث يحرم مسّ المصحف لاستصحاب بقاء الحدث ويجب الغسل للعلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو الغسل ، والمفروض أنّ المكلّف قد توضّأ فيبقى عليه الغسل مقدّمة للعلم ... الخ (1).

الآثار في باب الحدث ثلاثة : الأوّل حرمة مسّ المصحف ، وهذا تابع لكلّي الحدث ، لا لخصوص أحد الحدثين ولا لكلّ منهما بخصوصه. الثاني : الغسل والوضوء ، والأوّل تابع لحدث الجنابة ، والثاني تابع للحدث الأصغر. الثالث :

ص: 308


1- فوائد الأُصول 4 : 420.

حرمة اللبث في المسجد ، وهو تابع لخصوص حدث الجنابة دون الحدث الأصغر ، فعند العلم الاجمالي بأحد الحدثين وقبل العلم بارتفاع أحدهما ، يعني قبل فعل أحد الأمرين من الغسل أو الوضوء ، تتنجّز هذه الآثار الثلاثة كلّها.

أمّا الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف فللعلم التفصيلي. وأمّا الثاني وهو كلّ من الغسل والوضوء فللعلم الاجمالي. وكذلك الثالث وهو حرمة اللبث في المسجد ، فإنّه بعد أن كان حرمة مسّ المصحف متنجّزاً بالعلم التفصيلي ، يبقى العلم الاجمالي مردّداً بين الجنابة وأثرها كلّ من وجوب الغسل وحرمة اللبث في المسجد ، والحدث الأصغر وأثره وجوب الوضوء فقط ، فيكون من قبيل الدوران بين ذي الأثرين وذي الأثر الواحد ، مع فرض عدم دخول الواحد في الاثنين ، فلا يكون من قبيل الأقل والأكثر ، بل يكون من قبيل المتباينين ، فيتنجّز عليه كلّ من الغسل وحرمة اللبث في المسجد والوضوء ، هذا حاله قبل فعل أحد الأمرين من الغسل أو الوضوء.

وأمّا بعد فعل الوضوء مثلاً فبالنسبة إلى الأثر الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف يجري استصحاب كلّي الحدث الموجب لحرمة المسّ ، فيكون تركه لمسّ المصحف مستنداً إلى ثبوت الحدث في حقّه بواسطة الاستصحاب المذكور ، لا إلى احتمال كونه محدثاً بالجنابة الذي كان منجّزاً عليه بالعلم الاجمالي السابق ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الغسل فلا يجري الاستصحاب المذكور ، إذ لا يكون ذلك الاستصحاب حاكماً بأنّ إتيانه بالغسل بداعي الجنابة ، بل إنّه إنّما يأتي به بداعي احتمال الجنابة ، وهذا متحقّق وجداناً بواسطة العلم الاجمالي السابق ، فلا يكون الاستصحاب جارياً بالنسبة إلى هذا الأثر ، وهكذا الحال بالنسبة إلى حرمة اللبث في المسجد ، فإنّ العلم الاجمالي السابق كافٍ في

ص: 309

تنجّزه ، هذا كلّه لو كان علمه الاجمالي سابقاً على الاتيان بالوضوء.

وأمّا لو كان حصول علمه الاجمالي بعد أن فرغ من الوضوء ، فبالنسبة إلى الأثر الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف يجري استصحاب كلّي الحدث ، وبالنسبة إلى الأثر الثالث وهو حرمة اللبث في المسجد تجري البراءة ، لعدم منجّزية العلم الاجمالي المتأخّر عن ارتفاع أحد الطرفين. أمّا بالنسبة إلى الأثر الثاني وهو وجوب الغسل ، فالعلم الاجمالي وإن لم يكن موجباً لتنجّزه ، لأنّ المفروض حصول هذا العلم بعد الوضوء الذي هو بمنزلة تلف أحد طرفي العلم الاجمالي ، إلاّ أنّه يكفي في لزوم الاتيان به لزوم إحراز الطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، فيكون متنجّزاً من هذه الجهة ، فيكون حاله حال ما لو كان العلم سابقاً في عدم جريان استصحاب كلّي الحدث بالنسبة إلى هذا الأثر ، وذلك بناءً على شرطية الطهارة.

وأمّا بناءً على كون الحدث مانعاً فيمكن القول بأنّه لا يجب عليه الغسل لأصالة عدم الجنابة ، ولا يعارضها أصالة عدم الأصغر ، لأنّ المفروض هو حصول العلم الاجمالي بعد الوضوء ، ولكن استصحاب كلّي الحدث قاض بأنّه لا يصحّ له الصلاة لكونه قد أحرز المانع. وهذا التفصيل مبني على كون الغسل والوضوء واجبين ، وإلاّ فقد عرفت التفصيل على تقدير عدم وجوبهما وأنّهما من مجرّد الرافع فلاحظ ، هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة الحدث المردّد بين الجنابة والحدث الأصغر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجوب المردّد بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فقبل الاتيان بأحدهما يلزمه الاتيان بهما للعلم الاجمالي ، وبعد الاتيان بأحدهما يلزمه الاتيان بالباقي ، لا للاستصحاب بل للعلم الاجمالي ، ولو كان العلم الاجمالي

ص: 310

حادثاً بعد فعل أحدهما فلا أثر له في لزوم الاتيان بالباقي ، وهل يجري استصحاب كلّي الوجوب المردّد بين الوجوبين؟ فيه تأمّل وإشكال ، إذ لا أثر في البين يترتّب على القدر الجامع بين الوجوبين ، وعليه فينبغي أن يكون المرجع هو البراءة من وجوب الباقي ، ويكون حاله حال من علم بنجاسة أحد الاناءين بعد تلف أحدهما ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إحراز ترتّب العصر على سابقتها لازم ، فيلزمه الاتيان بالباقي لأجل إحراز الشرط المذكور ، فتأمّل فإنّه كالعلم الاجمالي الأصلي.

قوله : وأمّا مثال البقّة والفيل فلا يجري فيه استصحاب بقاء القدر المشترك عند العلم بانتهاء عمر البقّ ، لأنّه من الشكّ في المقتضي ، وقد تقدّم عدم جريان الاستصحاب فيه ... الخ (1).

قد تقدّم في محلّه (2) النقض على القول بعدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي باستصحاب الحياة في مورد الشكّ في استعداد الشخص ، وقد أجبنا عن ذلك في محلّه بما محصّله : أنّ العرف لا يرى الموت إلاّمعدماً ورافعاً للحياة ، وإن كان بالدقّة في بعض الموارد من قبيل انتهاء الاستعداد الطبيعي ، ولكن ذكرنا في بعض تحريراتنا في أوائل المعاطاة عند الكلام على أصالة اللزوم إشكال العلاّمة الخراساني قدس سره في حاشيته (3) على استصحاب القدر الجامع بين الملكيتين ، بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وقلنا إنّه ليس من ذلك القبيل ، وأنّ شيخنا قدس سره سلّم الإشكال في القسم الثاني من الكلّي في مثال البقّة والفيل ، وأنّه يمكن التأمّل في ذلك حتّى في مثل البقّة والفيل ، فإنّ استصحاب

ص: 311


1- فوائد الأُصول 4 : 420 - 421.
2- الصفحة : 27 فما بعدها.
3- حاشية كتاب المكاسب : 13.

القدر المشترك ليس من قبيل الشكّ في المقتضي ، وإلاّ لكان استصحاب الحياة ساقطاً من أصله ، أو يكون مختصّاً بخصوص ما لو طرأ الشكّ لحدوث حادث غير انتهاء العمر الطبيعي كالقتل ونحوه.

وفي هذا الأخير ما لا يخفى ، إذ لا شكّ في جريان استصحاب الحياة في الشخص مطلقاً ، سواء كان الشكّ ناشئاً عن وقوع القتل عليه أو كان ناشئاً عن الموت العادي ، فإنّ الموت العادي لابدّ أن يكون ناشئاً عن حدوث شيء في الطبيعة يكون موجباً لاعدام الحياة ، وليس الموت العادي من قبيل انتهاء علّة الحياة نظير النفط بالنسبة إلى السراج حتّى بالنسبة إلى البقّة نفسها ، وما يذكره علماء الطب أو الطبيعة كلّه تخرّص لا عبرة به ، بعد اطّلاعنا على الكثير ممّن بقي ويبقى إلى ما شاء اللّه تعالى ، كما في كثير من المعمّرين ، بل مثل الخضر والمهدي ( عجّل اللّه تعالى فرجه ) ، نعم الكثرة والغلبة حاصلة في ذلك الجانب ، على وجه توجب العلم العادي بعدم بقاء الحياة إذا تجاوزت المدّة ما هو الأكثر من المقدار العادي الغالب بالنسبة إلى نوعه ، لكن تلك الكثرة لا توجب كون الموت من قبيل انتهاء قوّة الحياة.

وحينئذ نقول : إنّ أفراد الإنسان مثلاً متفاوتة ، فبعضهم نراه يعيش إلى ما فوق المائة ، وبعض يعيش إلى ما دون المائة ، فلو غاب شخص ونحن نعلم أنّه حتّى الآن قد بلغ المائة أو لم يزد على المائة من عمره ، فلا شبهة في جريان استصحاب حياته ، مع أنّا لو قلنا بأنّ الموت العادي من قبيل انتهاء أمد الحياة وانتهاء العمر والاستعداد الطبيعي له نظير النفط بالنسبة إلى السراج ، لكان الشكّ في حياته في [ هذه ] الصورة من قبيل الشكّ في المقتضي. نعم لو بقي إلى مدّة طويلة تزيد على المائة يحصل لنا العلم العادي بموته ، يعني بحدوث ما أوجب

ص: 312

انعدام حياته ، فتأمّل.

وبناءً على ذلك نقول : إنّه في مثال البقّة والفيل وإن كنّا نعلم عادة بأنّه لو كان بقّة لكان منعدم الحياة بعد الثلاثة ، نظراً إلى العلم العادي المذكور ، لكن لمّا لم يكن انعدام حياته بانتهاء القوّة والأمد بل بالعوارض الطارئة حتّى على مثل البقّة بعد الثلاثة ، لم يخرج عن كون انعدام حياته بالطوارئ الرافعة للحياة حتّى في مثل البقّة ، فلا يكون الشكّ في بقاء الكلّي المشترك بينهما من قبيل الشكّ في المقتضي فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الذي يظهر من الشيخ قدس سره (1) تسليم كون مثال البقّة والفيل من قبيل الشكّ في المقتضي ، وفي كلامه الاشارة إلى أنّ إدخاله في مسألة استصحاب الكلّي المردّد فرده بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع إنّما هو على مسلك المشهور كما تقدّم نقل كلامه قدس سره فراجع ، وراجع ما حرّرناه أخيراً في أوائل الاستصحاب (2) في ضابط الشكّ في المقتضي.

قوله : لأنّ المتيقّن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنّما الترديد في المحل والموضوع ، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من استصحاب الكلّي ، ومنه يظهر ... الخ (3).

الإنصاف أنّه لم يظهر الجواب عن المسألة (4) ، بل إنّ ما أُفيد بقوله : لأنّ

ص: 313


1- فرائد الأُصول 3 : 192.
2- في الصفحة : 27 فما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 422.
4- ينبغي التأمّل في من رأى على ثوبه منياً وتردّد بين كونه من الجنابة السابقة التي اغتسل لها ، أو أنّه من جنابة جديدة ، فهل هو من هذا القبيل أعني التردّد في المحل ، أو أنّه من قبيل الشكّ في المقدّم والمؤخّر من الحادثين ، أو أنّه من قبيل الدم المردّد بين كونه من الدم المسفوح أو الباقي في الذبيحة ، راجع العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 501 / غسل الجنابة مسألة 1. ] وطهارة المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره [ مصباح الفقيه ( الطهارة ) 3 : 168 وما بعدها. ] وما حرّرناه بعنوان تنبيه في مبحث الحادثين المجهولي التاريخ أو المعلوم أحدهما [ منه قدس سره راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 224 وما بعدها ].

المتيقّن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه وإنّما الترديد في المحل ، تقريب قوي لإجراء الاستصحاب ، فإنّ المستصحب حينئذ هو نفس ذات زيد ، وكونها في الجانب الشرقي أو الجانب الغربي أجنبي عن حقيقة الذات ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه مثير للشكّ في بقاء تلك الذات ، وما أُفيد من قوله : فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع ... ، لم نعرف وجه الشبه فيه ، مع أنّ المشابهة لا تقتضي الالحاق في الحكم إلاّبعد تأتّي نفس الملاك ، ومن الواضح أنّ ملاك المنع في الفرد المردّد لا ينطبق على الذات المتيقّنة ، أو النجاسة المتيقّنة في الثوب المردّدة بين كونها في الأعلى وكونها في الأسفل.

وقد نقلنا عنه قدس سره في مسألة العباءة ما هذا نصّه : وهو أنّ المتيقّن في هذه المسألة من قبيل الكلّي في المعيّن المردّد بين تلك الأطراف ، ومن الواضح أنّ قوام الكلّي في المعيّن إنّما هو بحفظ الأفراد التي كان ذلك الكلّي مردّداً بينها ، فإذا زال أحد تلك الأطراف فقد زال ذلك الكلّي ، فمن علم أنّ درهماً من تلك الدراهم العشرة التي هي عنده مثلاً مغصوب ، ثمّ تلف أحد تلك الدراهم ، لم يمكنه استصحاب وجود ذلك الدرهم في الباقي ، حيث إنّ المتيقّن إنّما هو الفرد المردّد بين العشرة دون التسعة ، فإنّ هذه التسعة من أوّل الأمر لم يتيقّن بوجود

ص: 314

المغصوب بينها ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ الفرد المردّد بين الأفراد غير مسألة الكلّي في المعيّن ، وسواء كان من قبيل الكلّي في المعيّن أو كان من قبيل الفرد المردّد بين الأفراد ، لا مانع من جريان الاستصحاب لذلك الفرد الموجود بين تلك الأفراد ، أو لذلك الكلّي في المعيّن ، وليس الغرض من الاستصحاب هو استصحاب المغصوب في التسعة كي يتوجّه عليه أنّ وجوده في التسعة مشكوك من أوّل الأمر ، بل الغرض هو مجرّد الحكم ببقاء ما كان من تلك الأفراد مغصوباً أو كان نجساً منها ، وبناءً عليه فلا مانع من استصحاب كلّي النجاسة التي كانت موجودة في العباءة بعد تطهير أحد طرفيها.

لكنّه يلزم منه ما لا يخلو من الغرابة ، فإنّ ملاقي ما لم يجر عليه التطهير من أطرافها لا إشكال في عدم نجاسته ، لأنّ ملاقاة أحد أطراف الشبهة لا يوجب نجاسة الملاقي - بالكسر - وحينئذ فلو لاقى بعد ذلك الطرف الذي جرى عليه التطهير [ فلابدّ ] أن يحكم بنجاسته ، فتكون ملاقاة الطاهر موجبة للحكم بنجاسة الملاقي - بالكسر -. وأغرب منه ما لو كان العلم الاجمالي قد حصل بعد تطهير الطرف الأسفل ، فإن ضمّ ملاقاة ما هو مقطوع الطهارة إلى ملاقاة ما هو مجرى القاعدة كيف يكون موجباً للنجاسة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو كلّي النجاسة في العباءة ، وأمّا نجاسة الملاقي - بالكسر - فإنّما هي من آثار كون الملاقى - بالفتح - نجساً ، وهذه الجهة أعني كون الملاقى - بالفتح - نجساً لا تترتّب على استصحاب كلّي النجاسة في العباءة إلاّبالأصل المثبت.

والحاصل : أنّ نجاسة هذه العباءة ليست من آثار كلّي النجاسة ، فلا يترتّب

ص: 315

على استصحاب كلّي النجاسة في العباءة كي يثبت بذلك الحكم بنجاسة ملاقي العباءة إلاّبالأصل المثبت.

وبالجملة : أنّ ثبوت كلّي النجاسة في العباءة بالاستصحاب يلزمه ما هو موضوع نجاسة الملاقي - بالكسر - أعني اتّصاف العباءة بكونها نجسة ، لا أنّ اتّصاف العباءة بالنجاسة هو عين المستصحب الذي هو كلّي النجاسة في العباءة.

وبتقريب آخر : أنّ تنجّس الملاقي - بالكسر - تابع للنجاسة الشخصية في الملاقى - بالفتح - الذي هو العباءة ، دون كلّي النجاسة ، لأنّ الملاقاة إنّما تكون في الشخص لا في نفس الكلّي. نعم يلزم الحكم ببقاء الكلّي كون الشخص نجساً لا أنّه عينه ، ولعلّ هذا هو المراد ممّا حكاه عنه قدس سره في التقرير المطبوع في صيدا بقوله : وأمّا نجاسة الملاقي فهي مترتّبة على أمرين : أحدهما إحراز الملاقاة.

وثانيهما : إحراز نجاسة الملاقى - بالفتح - ، ومن المعلوم أنّ استصحاب النجاسة الكلّية المردّدة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقّق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي ، والمفروض أنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما (1).

وأمّا ما أفاده قبيل هذه العبارة بقوله : لعدم أثر شرعي مترتّب عليها ، إذ عدم جواز الدخول في الصلاة وأمثاله إنّما يترتّب على نفس الشكّ بقاعدة الاشتغال ، ولا يمكن التمسّك بالاستصحاب في موردها (2). ففيه تأمّل ، لأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان العلم الاجمالي قد حصل قبل تطهّر الأسفل ، فإنّ قاعدة الطهارة حينئذ في الأعلى تكون ساقطة ، ومقتضى عدم العلم بالطهارة هو المنع من دخوله في

ص: 316


1- أجود التقريرات 4 : 95.
2- أجود التقريرات 4 : 94.

الصلاة لعدم إحراز الشرط ، فعدم إحراز الشرط موجب وجداناً لعدم جواز الدخول في الصلاة ، فيكون استصحاب النجاسة الذي لا يترتّب عليه في المقام إلاّ مجرّد المنع من الدخول في الصلاة من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. أمّا لو كان هذا العلم الاجمالي قد حصل له بعد غسله الطرف الأسفل من باب الاتّفاق ، فلا إشكال في ترتّب الأثر على استصحاب كلّي النجاسة ، فإنّه لولا استصحاب النجاسة في العباءة المذكورة لكانت قاعدة الطهارة جارية فيها ، وهي مسوغة للدخول في الصلاة فيها ، وحينئذ فيكون أثر استصحاب النجاسة هو المنع من الدخول في الصلاة ، وهو كاف في جريان الاستصحاب المذكور ، وإنّما يكون الاستصحاب المذكور ممنوعاً إذا لم يكن في البين ما يسوّغ الدخول في العمل ، كما في الصورة الأُولى ، وكما في موارد الشكّ في إطلاق الماء وإضافته بالنسبة إلى الوضوء فيما لو كان الماء مستصحب الاضافة ، لأنّ هذا الاستصحاب لو لم يكن موجوداً لكان الوضوء من ذلك المائع ممنوعاً منه ، لعدم إحراز الشرط فيه الذي هو إطلاقه. على أنّ المنع من الاستصحاب المذكور ممنوع ، لأنّ أثره هو ترك الوضوء استناداً إلى إحراز عدم الشرط ، وهو غير تركه لعدم إحراز الشرط ، وإنّما يمنع من إجراء الاستصحاب في موارد أصالة الاشتغال إذا لم يترتّب عليه إلاّ نفس ما يجري عليه المكلّف عند الركون إلى أصالة الاشتغال ، وهو العمل الاحتياطي ، فراجع المسألة في باب الاشتغال.

والذي تلخّص : أنّ مثال الحيوان الشخصي الذي دخل الدار وتردّد مكانه بين الغرفتين ، وكذلك الدرهم الواحد المغصوب الموجود بين الدراهم ، ليس من قبيل استصحاب الكلّي ، ولا من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، بل إنّ المستصحب فرد واحد شخصي قد وجد ونشكّ في انعدامه ، فلا ينبغي الإشكال

ص: 317

في استصحاب بقاء ذلك الدرهم المغصوب بين الدراهم ، مع قطع [ النظر ] عن كون الخلط موجباً للاشاعة ، ومع قطع النظر عن معارضة استصحاب بقاء ذلك الدرهم باستصحاب بقاء الواحد من الدراهم التي انضمّ إليها. وهكذا الحال في استصحاب بقاء ذلك الحيوان الشخصي الذي دخل تلك الدار ، وقد شكّ في أنّ محلّه في تلك الدار كان هو الغرفة التي انهدمت أو أنّه هو الغرفة التي لم تنهدم ، وما ذلك إلاّمن قبيل ما لو علمنا بأنّ زيداً لو كان قد دخل ميدان الحرب فقد قتل ، ولو لم يدخله فهو حي باق ، ولا شكّ في مثل ذلك في استصحاب حياة ذلك الشخص المعيّن أعني زيداً المذكور.

أمّا النجاسة الواقعة على أحد طرفي العباءة فتارة يكون المنظور إليه في ذلك هو نفس تلك القطرة من الدم التي رأيناها قد وقعت على العباءة وتردّدنا في محلّها ، وأُخرى يكون المنظور إليه أنّ أحد طرفي العباءة قد تنجّس بتلك القطرة.

فإن كان المنظور إليه هو الجهة الأُولى ، كان حالها حال الأمثلة السابقة في جريان استصحاب وجود عين تلك القطرة في العباءة ، فبعد غسل الطرف الأسفل من العباءة نشكّ في بقاء عين تلك القطرة ، فنستصحب بقاءها ، وأثر ذلك هو عدم جواز الصلاة فيها ، ويكون ذلك نظير ما لو علمنا بوقوع شعرة ممّا لا يؤكل لحمه على أحد طرفي العباءة وقد نقّينا الطرف الأسفل ، فإنّ استصحاب وجود تلك الشعرة قاض بعدم جواز الصلاة بتلك العباءة ، لكن في مسألتنا لو لاقت يدي الطرف الأعلى ثمّ لاقت الطرف الأسفل بعد تطهّره ، لم نحكم بنجاسة اليد ، إذ لم يثبت باستصحاب وجود تلك القطرة من الدم في العباءة أنّ يدي لاقت تلك القطرة إلاّبالأصل المثبت ، من جهة أنّ بقاء القطرة في العباءة بعد غسل الطرف الأسفل يلزمه بقاؤها في الأعلى وقد لاقت يدي الأعلى ، ولو قلنا بحجّية هذا

ص: 318

الأصل المثبت حكمنا بنجاسة اليد بمجرّد ملاقاة الأعلى ، ولا يتوقّف ذلك على ملاقاتها للطرف الأسفل الذي قد طهّرناه ، هذا كلّه لو كان المنظور إليه هو الجهة الأُولى.

وأمّا لو كان المنظور إليه هو الجهة الثانية ، فلا إشكال في أنّه لا يكون الاستصحاب حينئذ من قبيل استصحاب الشخص المعيّن ، بل لابدّ أن يكون المستصحب هو الكلّي ، أو الفرد من المتنجّس المردّد بين الأعلى والأسفل ، وأثر الكلّي هنا هو عدم جواز الصلاة في تلك العباءة لوجود كلّي المتنجّس فيها ، لكن لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد المذكورة ، لعين ما ذكرناه في استصحاب وجود نفس تلك القطرة من الدم ، إذ بعد غسل الطرف الأسفل لا يترتّب على استصحاب كلّي المتنجّس كون المتنجّس هو الأعلى كي يثبت بذلك تنجّس اليد إلاّبالأصل المثبت. وكذلك الحال لو قلنا بصحّة استصحاب الفرد المردّد ، فإنّه لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد إلاّبالأصل المثبت.

وأمّا استصحاب كلّي النجاسة فيما نحن فيه فلا واقعية له ، إذ ليس في البين إلاّ نجاسة شخصية قد تردّدت بين الطرف الأعلى والأسفل ، من دون اختلاف في هوية الذات ، فلا قدر جامع في البين إلاّمطلق الجامع بين المكانين وهو لا أثر له ، فهذه المسألة - أعني مسألة التردّد في المتنجّس من العباءة بين الطرف الأعلى والطرف الأسفل - ليست من قبيل الأمثلة الأُولى في كون المعلوم شخصاً معيّناً - أعني ما هو مثل زيد - الذي دخل الدار وتردّدنا في مكانه فيها ليجري فيها استصحاب ذلك الشخص الموجود ، لأنّ ذلك - أعني زيداً المذكور - لم يكن الترديد فيه بين شخصين ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المتنجّس فيه مردّد بين شخصين الطرف الأعلى والطرف الأسفل ، ومنشأ التشخّص فيهما ليس براجع إلى

ص: 319

نحو من التنجّس بحيث كان نحو هذا التنجّس مغايراً للنحو الآخر ، ليكون الجامع بينهما كلّي النجاسة ، بل إنّما كان منشأ التشخّص خصوصيات أُخر خارجة ، والجامع بين هذه الخصوصيات الخارجة لا أثر له كي يكون ذلك الجامع مورداً للاستصحاب.

وهذا البحث جار في جميع أطراف الشبهة المحصورة ، فلا يجري فيها استصحاب الكلّي لو حصل التطهير لبعض الأطراف ، سواء كان العلم الاجمالي سابقاً أو لاحقاً لذلك التطهّر. نعم فيما لو كان العلم الاجمالي سابقاً على التطهير ، منع فيما نحن فيه من الصلاة في تلك العباءة بعد تطهّر طرفها الأسفل ، فتأمّل.

لا يقال : لابدّ في كلّ علم إجمالي من قدر جامع بين الطرفين ليكون العلم بذلك القدر الجامع هو المنجّز ، ولأجل ذلك نقول : إنّ كلّ علم إجمالي يرجع إلى علم تفصيلي متعلّق بالقدر الجامع وشكّ يتعلّق بكلّ واحد من الأطراف ، وحينئذ نقول إنّ ذلك القدر [ الجامع ] يقع مورداً للاستصحاب بعد ارتفاع أحد الأطراف ، سواء كان العلم حادثاً قبل الارتفاع أو كان حادثاً بعده.

لأنّا نقول : فرق واضح بين القدر الجامع في باب العلم الاجمالي الذي ادّعينا أنّه معلوم بالتفصيل ، وبين القدر الجامع الذي نروم أن نجري الاستصحاب فيه ، فإنّ القدر الجامع في باب العلم الاجمالي يكتفى فيه بالجامع الانتزاعي من الطرفين ، وإن لم [ يكن ] في حدّ نفسه موضوعاً لحكم شرعي ، مثل القدر الجامع المنتزع من العلم الاجمالي المردّد بين كون هذا الاناء خمراً أو كون ذلك الاناء مغصوباً ، أو العلم الاجمالي المردّد بين كون المكلّف نفسه جنباً أو أنّه قد فاته صوم يوم من رمضان ، فإنّ العقل ينتزع منهما قدراً جامعاً يكون هو المتنجّز ، ولكن لو اتّفق أنّه قد اغتسل مثلاً ثمّ طرأ العلم المذكور ، لم يكن القدر الجامع

ص: 320

العقلي مورداً للاستصحاب ، لأنّه ليس بأثر شرعي ولا بموضوع لأثر شرعي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ ملاك الاستصحاب هو كون المستصحب بنفسه أثراً شرعياً أو كونه بنفسه موضوعاً لحكم شرعي ، حتّى أنّه لو كان قدراً جامعاً بين حكمين شرعيين لم يجر فيه الاستصحاب ، كما عرفت في مثال الظهر والجمعة لو حصل العلم الاجمالي المردّد بينهما بعد فعله أحدهما.

نعم ، لو كان القدر [ الجامع ] في باب العلم الاجمالي قد اتّفق أنّه بنفسه موضوع لحكم شرعي ، كما في كلّي النجاسة المردّدة بين الدم والبول ، وكلّي الحدث المردّد بين الأكبر والأصغر ، جرى فيه استصحاب ذلك الكلّي بعد ارتفاع الدم بالغسلة الواحدة وارتفاع الأصغر بالوضوء ، وليس كذلك النجاسة المردّدة بين طرفي العباءة أو بين إناءين ، لما عرفت من أنّه لا اختلاف بينهما بالهوية ، بل الاختلاف بينهما إنّما هو في المحل ، والقدر الجامع إنّما هو الجامع بين المحلّين وهو ليس بموضوع أثر لحكم شرعي ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ ما أُفيد في تحرير السيّد سلّمه اللّه (1) من عدم ترتّب الأثر الشرعي على استصحاب الكلّي ، لأنّ عدم جواز الدخول في الصلاة مترتّب على نفس الشكّ ، لا يخلو عن تأمّل أوّلاً : لأنّه مختصّ بما إذا حصل العلم الاجمالي قبل التطهير. وثانياً : أنّ عدم جريان الاستصحاب في موارد أصالة الاشتغال لا دخل له بما نحن فيه ، فإنّ المستصحب فيما نحن فيه هو النجاسة ، ومع ثبوت النجاسة بالاستصحاب لا موقع لأصالة الاشتغال بلزوم إحراز الشرط الذي هو الطهارة ، وهذه القاعدة إنّما هي في مثل استصحاب بقاء التكليف مع أصالة الاشتغال به ، كما في مورد التردّد بين الظهر والجمعة ثمّ صلّى الظهر مثلاً.

ص: 321


1- أجود التقريرات 4 : 94.

وحينئذ فما تضمّنه تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه (1) من إنكار كون المسألة من استصحاب الكلّي ، وأنّها من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، لعلّه أولى ، وإن كان محتاجاً إلى بيان كونه من قبيل الفرد المردّد لا من قبيل الكلّي كما أوضحناه ، فتأمّل.

قوله : والحصّة من الكلّي الموجودة في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الموجودة في ضمن فرد آخر ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الحصّة من الكلّي ليست هي الموجودة في الخارج ليكون الكلّي منتزعاً عنها ، بل ليس الموجود إلاّنفس الكلّي. نعم ذلك الموجود من الكلّي ينتزع عنه الحصّة ، وحينئذ نقول : إنّ الكلّي الموجود في ذلك الفرد لو كان هو عين الكلّي الموجود في الفرد الآخر ، بحيث إنّه لو وجد الكلّي في ضمن فردين لكان الفردان المذكوران وجوداً واحداً ، على وجه يكون الموجود في هذا الفرد صادقاً على الفرد الآخر ، لأمكن القول بأنّ وجود الكلّي كان متيقّناً ، غايته أنّا تردّدنا في أنّه وجد في ضمن فرد واحد وهو الذي قد ارتفع ، أو أنّه وجد في ضمن فردين ، وحينئذ يصحّ لنا استصحاب وجود الكلّي ، لكن ذلك - أعني كون وجود الكلّي في ضمن فردين وجوداً واحداً - باطل قطعاً ، فإنّ الفردين وجودان للكلّي لا وجود واحد.

وحينئذ نقول : إنّ المتيقّن إنّما هو وجوده في ضمن ذلك الفرد الذي ارتفع يقيناً ، وأمّا وجوده الآخر في ضمن الفرد الآخر فهو مشكوك من أوّل الأمر ، فكان المتيقّن هو وجوده في ضمن زيد ، وهذا قد ارتفع قطعاً وليس بمشكوك البقاء ،

ص: 322


1- فوائد الأُصول 4 : 422.
2- فوائد الأُصول 4 : 425.

وأمّا وجوده في ضمن عمرو فهو من أوّل الأمر مشكوك الحدوث ، لا أنّه مشكوك البقاء بعد اليقين بالحدوث ، وبذلك يتمّ الفرق بين هذا القسم وبين القسم الثاني الذي تقدّم البحث فيه ، فإنّ الشكّ في البقاء في ذلك القسم وارد على نفس المتيقّن الحدوث ، أعني الوجود المردّد بين الفردين.

لا يقال : إنّ المستصحب لو كان هو وجود القدر المشترك بين زيد وعمرو لتمّ ما ذكرتم من أنّ المتيقّن إنّما هو الوجود في ضمن زيد ، لا الوجود في ضمن عمرو بعد فرض تباين الوجودين ، أمّا لو كان المستصحب هو القدر المشترك بين الوجود الواحد وبين الوجودين ، ليكون الحاصل أنّ المتيقّن هو نفس وجود الكلّي الذي هو الأعمّ من الوجود الواحد والوجودين ، فهذا القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين لا مانع من استصحابه ، لأنّه متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

لأنّا نقول : لا معنى لنسبة الوجود إلى القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين ، إذ الوجود لا وجود له كي نقول إنّ ذلك القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين كان متيقّن الوجود وقد شكّ في بقائه ، ولو سلّم صحّة نسبة الوجود إلى ذلك القدر الجامع المذكور لما كان ذلك كافياً في صحّة استصحابه ، إذ لا أثر للقدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين ، وإنّما الأثر مترتّب على القدر الجامع بين الفردين أعني زيد وعمرو ، وقد عرفت أنّ المتيقّن من وجود ذلك الكلّي الذي هو القدر الجامع بين زيد وعمرو إنّما هو وجوده في ضمن زيد ، وأمّا وجوده في ضمن عمرو فهو وجود آخر مشكوك الحدوث ، فما هو متيقّن الحدوث مقطوع الارتفاع ، وما يشكّ في بقائه مشكوك الحدوث.

لا يقال : قد التزمتم في باب الأوامر بأنّ الاتيان بالطبيعة المأمور بها في

ص: 323

ضمن فردين دفعة واحدة لا يكون إلاّ امتثالاً واحداً.

لأنّا نقول : ذلك لأنّ الامتثال يحصل بتحقّق ما هو المطلوب ، وهو إيجاد الطبيعة وإخراجها من العدم ، المفروض تحقّقه في إيجادها بفردين وإن كانا وجودين ، لأنّ وحدة الإيجاد لا تنافي تعدّد الوجود ، هذا.

ولكن في النفس بعدُ شيء من ذلك ، لأنّ المستصحب إنّما هو الطبيعة وهي قد تحقّقت يقيناً ، وقد حصل الشكّ في بقاء نفس ذلك الذي قد تحقّق وهو صرف الطبيعة ، والوجود وإن كان قد تعدّد بتعدّد الأفراد ، بمعنى أنّ الوجود في ضمن زيد لا ينطبق على الوجود في ضمن عمرو ، إلاّ أنه وجود واحد كالخط الطويل والقصير ، والمسألة بعدُ محلّ إشكال وللتأمّل فيها مجال ، والعمدة هو النظر العرفي ، ومجال التشكيك فيه واسع ، إذ يمكن المنع من دعوى المباينة عرفاً ، بل لعلّ النظر العرفي إلى الاتّحاد - بعد اطّلاعه على أنّ موضوع الحكم هو الكلّي الطبيعي - أقرب منه إلى المباينة ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ من هذا القبيل ما لو تنجّس الصوف أو الشعر بنجاسة عارضية مع احتمال كونه من نجس العين كالكلب ، فإنّه بعد تطهيره من تلك النجاسة العارضية يحتمل بقاء النجاسة ، فبناء على عدم الاستصحاب الكلّي يكون المرجع فيه قاعدة الطهارة. ومثله ما لو تردّد الحيوان بين الغنم وما يحرم أكله بالذات لكونه كلباً ، فإنّه لو طرأته الحرمة العارضية كالجلل مثلاً ، ثمّ زالت الحرمة العارضية بالاستبراء ، فبناءً على عدم جريان استصحاب الكلّي يكون المرجع فيه قاعدة الحل. ومثله ما لو كان متطهّراً من الحدثين واحتمل الجنابة ، ثمّ أحدث بالأصغر وتوضّأ.

ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى أنّ الجميع من قبيل القسم الثاني من

ص: 324

استصحاب الكلّي ، وأنّه فيها محكوم بقاعدة الطهارة وقاعدة الحل وأصالة عدم الجنابة الجارية في حقّه سابقاً ، هذا هو ما كنّا حرّرناه فيما تقدّم.

ولا يخفى أنّه قد تقدّم مراراً أنّه لا معنى لنسبة الوجود إلى الفرد ، بل لا معنى للفرد إلاّوجود الطبيعي ، غايته أنّ الفرد يكون وجوداً لكلّيات متعدّدة ، لكنّه إنّما يكون وجوداً للكلّي المعيّن بلحاظ إضافته إلى ذلك الكلّي ، فليس الفرد إلاّحصّة من الكلّي ووجوداً لذلك الكلّي ، ونقطة النزاع بين الشيخ قدس سره وبين صاحب الكفاية قدس سره هي أنّ الفردين هل هما وجود واحد للكلّي ، أو أنّهما وجودان؟

والذي يظهر من الشيخ قدس سره (1) هو الأوّل ، فالفرد الواحد عنده وجود للكلّي كما أنّ الفردين أيضاً وجود واحد لذلك الكلّي ، غايته يختلف الوجودان بالضيق والسعة ، وذلك هو السبب في بقاء الكلّي في صورة الفردين عند انتفاء أحدهما ، ولأجل ذلك أرجع الشكّ في الفرد الواحد أو الفردين إلى الشكّ في مقدار استعداد الكلّي للبقاء ، ولذلك أورد عليه شيخنا قدس سره في آخر كلامه (2) بأنّه حينئذ يكون من الشكّ في المقتضي.

ولكن يمكن دفع هذا الإيراد بأنّ الشيخ قدس سره ليس مراده أنّه من قبيل الشكّ في الاستعداد حقيقة ، بل أطلق عليه ذلك تسامحاً منه قدس سره ، ومراده هو كون المقام من قبيل التردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة لو تمّت لأمكن التفصيل فيها بين ما لو كان وجود الفرد المشكوك على تقديره مقارناً لوجود المقطوع ، بخلاف ما لو كان وجوده متأخّراً عن وجوده وإن اجتمعا في الوجود ، ويشهد بذلك ما تقدّمت الاشارة إليه

ص: 325


1- فرائد الأُصول 3 : 195 - 196.
2- فوائد الأُصول 4 : 426.

من كون الفردين امتثالاً واحداً ، وإن أمكن المنع من هذه التفرقة لعدم الأثر للمقارنة والتدرّج فيما نحن فيه بعد أن كان قد تعلّق اليقين في آن بوجود الطبيعي في ضمن الفردين أو في ضمن الفرد ، وأمّا باب الأوامر فلأنّ المدار فيها على الايجاد وهو واحد ، فلا يكون الامتثال إلاّواحداً ، وإن كان الموجود بل الوجود متعدّداً ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المدار فيه على وجود الطبيعي ، وحينئذ لابدّ من النظر في أنّ هذا الوجود واحد ولو مع الفردين ، أو أنّه متعدّد مع الفردين.

والذي يظهر من الشيخ قدس سره هو اختيار الأوّل ، والذي بنى عليه في الكفاية (1) هو الثاني ، وهذه نقطة النزاع بينهما ، وهي التي حتّمت على الشيخ قدس سره اختيار جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الكلّي بكلا صورتيه ، أعني الاقتران والتدرّج (2) ، كما أنّها حتّمت على صاحب الكفاية قدس سره اختيار المنع من ذلك نظراً إلى تعدّد وجود الطبيعي مع الفردين ، هذا.

ولكن شيخنا قدس سره في هذا التحرير (3) قد سلك في قبال الشيخ قدس سره مسلكاً آخر وهو إنكار وجود الكلّي في الفرد ، بل الموجود هو الحصّة ، ولا إشكال في مباينة الحصص وتعدّدها حسب تعدّد الأفراد.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) أنّه قدس سره قد عدل عن هذه الطريقة في قبال الشيخ قدس سره وسلك في ذلك مسلك الكفاية ، فإنّ قوله : لا لأنّ

ص: 326


1- كفاية الأُصول : 406 - 407.
2- [ لا يخفى أنّ المراد بالقسم الأوّل من الكلّي هو القسم الأوّل من القسم الثالث من الكلّي ، كما أنّ المراد بصورتي الاقتران والتدرّج هو اجتماع الوجودين في آنٍ سواء اقترن حدوثهما أو تدرّجا في الحدوث ، وهذا يستفاد من اطلاق كلام الشيخ قدس سره فراجع فرائد الأُصول 3 : 196 ].
3- فوائد الأُصول 4 : 424 - 425.

الموجود في الخارج - إلى قوله : - بل (1) كأنّه تعريض وردّ لما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي ، ومن قوله : لأنّ الكلّي ... الخ (2) هو عين ما في الكفاية فلاحظ وتأمّل.

وفي هذا العدول تأمّل ، لأنّ الكلّي لو كان بنفسه وجوداً للفرد لا الحصّة ، لكان لازمه انحصار الطبيعي في الفرد وانعدامه بانعدامه ، ولا يخفى بطلانه.

ولصاحب الدرر (3) في هذا المقام كلام يؤيّد به كلام الشيخ قدس سره ، أو أنّه أوسع من ذلك حتّى في صورة كون المحتمل مقارناً لارتفاع الفرد المعلوم ، وحاصله : أنّ موضوعنا هو صرف الوجود الذي هو ناقض عدم الطبيعة ، وقد تحقّق هذا الموضوع قطعاً ، ولا نرفع اليد عنه إلاّبالعلم بانعدام تمام الأفراد ، إذ لا ينعدم صرف الوجود إلاّبذلك ، ومع احتمال وجود الفرد الآخر وبقائه لا قطع لنا بانعدام صرف الوجود ، وقد كنّا قاطعين بتحقّقه فلا مانع من استصحابه ، ونحن باحتمالنا وجود الفرد الآخر نكون قد احتملنا بقاء صرف الوجود ، لأنّ وجود ذلك الفرد لو كان لا يكون حدوثاً وناقضاً لعدم الطبيعة ، لأنّه مسبوق بناقض العدم المذكور ، بل يكون تحقّق ذلك الفرد الثاني بقاءً لصرف الطبيعة ، فليس الفرد الثاني حدوثاً لصرف وجود الطبيعة كي يتوجّه الإيراد بأنّه لم يكن داخلاً تحت اليقين لكونه مشكوكاً ، بل إنّ حدوث الفرد الثاني بعد حدوث الفرد الأوّل يكون واقعاً في مرتبة البقاء بالنسبة إلى صرف الطبيعة ، وبه تتمّ أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.

ص: 327


1- أجود التقريرات 4 : 96.
2- أجود التقريرات 4 : 96.
3- درر الفوائد 1 - 2 : 537.

ولا يخفى عليك الفرق بين هذه الطريقة وطريقة الشيخ قدس سره ، فإنّ طريقة الشيخ مبنية على أساس أنّ وجود الفردين لا يزيد على وجود الطبيعة ، وأنّ وجود الطبيعة في الفرد ووجودها في الفردين وجود واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما في السعة والضيق ، ولأجل ذلك توجّه عليه إيراد الكفاية بأنّهما وجودان لا وجود واحد ، وإيراد شيخنا قدس سره بأنّ الطبيعي لا وجود له ، وإنّما الموجود هو الحصّة والحصص متباينة ، بخلاف هذه الطريقة فإنّها مبنية على أنّ موضوع الحكم هو صرف الوجود ، وهو ناقض العدم ، وهذا المعنى - أعني صرف الوجود وناقض العدم المطلق - لا اختلاف فيه بين وجود الفرد الواحد ووجود الفردين ، لا من حيث السعة والضيق ، ولا من حيث التعدّد والتكثّر.

وعلى كلّ حال ، فقد أورد عليه صاحب نهاية الدراية بما هذا لفظه : والجواب أنّ الوجود المضاف إلى شيء بديل لعدمه وطارد له بحسب ما أُخذ في متعلّقه من القيود ، فناقض العدم المطلق مفهوم لا مطابق له في الخارج ، وأوّل الوجودات ناقض للعدم البديل له والقائم مقامه ، وما يرى من أنّ عدم مثله يوجب بقاء العدم كلّية على حاله ليس من جهة كونه ناقضاً للعدم المطلق ، بل لأنّ عدم أوّل الوجودات يلازم عدم ثاني الوجودات وثالثها إلى الآخر الخ (1).

[ ولا ] يخفى أنّ ناقض الشيء إنّما هو نقيضه ، فالعدم ناقض للوجود لكونه نقيضاً له ، والوجود ناقض للعدم لكونه نقيضاً له ، وحينئذ نقول : إنّ العدم المطلق ليس إلاّعبارة عن عدم الطبيعة ، وهو المعبّر عنه بالسلب الكلّي ، ونقيضه هو الإيجاب الجزئي ، وهو عبارة أُخرى عن صرف الوجود ، ولو كان كلّ وجود نقيضاً لعدم ذلك الوجود الخاصّ ، بقي عدم الطبيعة المعبّر عنه بالعدم المطلق بلا

ص: 328


1- نهاية الدارية 5 - 6 : 151 - 152.

نقيض ، فلابدّ أن نقول إنّ نقيضه هو صرف الوجود وهو المنطبق على أوّل وجود ، فلو لاحظنا أوّل الوجود بما أنّه وجود خاصّ كان نقيضاً لعدم نفسه ، لكن لو لاحظناه باعتبار كونه صرف الوجود الطارد لعدم الطبيعة ، يكون نقيضاً للعدم المطلق. وهذه الملاحظة الثانية لا تتأتّى في الوجود الثاني بعد الوجود الأوّل المفروض بقاؤه ، لأنّه ليس بطارد للعدم المطلق ، وإنّما يطرد عدم نفسه ، فلا يكون نقيضاً إلاّلعدم نفسه ، ومن هذه العناية يكون وجوده ثانياً مؤكّداً لانطراد العدم المطلق الحاصل بالوجود الأوّل ، وحيث إنّ انطراد العدم المطلق بالوجود الأوّل إنّما هو من جهة كون الوجود الأوّل صرف الوجود ، فيكون هذا الوجود الثاني مؤكّداً ومقرّراً لصرف الوجود.

فمن هذه الجهة صحّ لصاحب الدرر قدس سره أن يقول : إنّ الوجود الثاني على تقدير تحقّقه بقاء لصرف وجود الطبيعة ، فلا يرد عليه أنّ هذا الوجود الثاني لو كان بقاءً لصرف الطبيعة لم يكن نقيضاً لشيء ، وهذا غير معقول.

وبيان عدم توجّه هذا الإيراد عليه : هو أنّ هذا الوجود الثاني يكون نقيضاً لعدم نفسه ، ومع ذلك هو داخل في كونه من شؤونات صرف الوجود في كونه نقيضاً للعدم المطلق.

والحاصل : أنّ نقيض العدم المطلق هو صرف الوجود ، وهذا قد حدث بأوّل الوجود ، ويبقى مستمرّاً ما دامت الوجودات متعاقبة ، فكلّ وجود يأتي بعد الوجود الأوّل وينضمّ إليه يكون بقاء واستمراراً لما هو نقيض العدم المطلق ، وسرّه أنّ صرف الوجود واحد مهما تكثّرت أفراده وتعاقبت آحاده ، وأنّه - أعني صرف الوجود - غير قابل للتعدّد والتكثّر ، لكن هذا إذا لم يتخلّل العدم بين تلك الآحاد ، وحينئذ يخرج القسم الثاني وهو ما لو كان الوجود الثاني المحتمل مقارناً

ص: 329

لارتفاع الأوّل وانعدامه ، بل يكون الوجود الثاني حينئذ حدوثاً لصرف الوجود ، ولا يكون بقاءً لصرف الوجود ، فلا يتمّ ما هو ظاهر عبارة الدرر ، أعني قوله : وممّا ذكرنا يظهر حال القسم الآخر ، وهو ما لو شكّ في وجود فرد آخر مقارناً لارتفاع الموجود من دون تفاوت أصلاً (1).

ويمكن على بُعد إرجاع قوله : « وممّا ذكرنا » إلى قوله : « نعم لو أُريد استصحاب الوجود الخاصّ - إلى قوله - فاختلّ أحد ركني الاستصحاب ». وحينئذ يكون قائلاً بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني لاختلال أحد ركني الاستصحاب فيه ، لأنّ الفرد الثاني لو جاء عند ارتفاع الأوّل فقد جاء في ظرف ارتفاع صرف الوجود ، ويكون الشكّ فيه شكّاً في حدوث صرف الوجود بعد انعدامه ، فلا يجتمع فيه أركان الاستصحاب ، لكن ذلك بعيد عن مساق العبارة فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا لصاحب الحاشية المذكورة ما ذكره من أنّ أوّل الوجود ليس بناقض للعدم المطلق ، وإنّما هو ناقض لعدم نفسه ، فهل خرج بذلك عن كونه صرف الوجود ، فلو كان لنا أثر مترتّب على صرف الوجود أفلا نرتّبه على هذا الذي هو أوّل وجود ، لا أظنّه يدّعي ذلك ، وإلاّ لتوقّفت أحكامنا المترتّبة على صرف الوجود.

ثمّ بعد تسليم تحقّق صرف الوجود بأوّل وجود ، فهل لو انضمّ إليه فرد آخر مقارن لأوّل الوجود أو متأخّر عنه ، فهل ذلك الوجود الثاني إلاّمنضم للوجود الأوّل في تحقّق صرف الوجود وانطباقه عليهما ، أليس إنّ صرف الوجود مستمرّ من حين الوجود الأوّل إلى ما بعد الوجود الثاني. فإذا تمّت هذه الجهات فقد تمّ ما

ص: 330


1- درر الفوائد 1 - 2 : 538.

رامه صاحب الدرر قدس سره من كون المسألة حينئذ من قبيل اليقين بصرف الوجود والشكّ في بقائه.

والذي أخاله أنّ هذا المعنى ، أعني كون موضوع الحكم هو صرف وجود طبيعة الإنسان مثلاً ، وأنّه يتحقّق بأوّل وجود ، وأنّه يبقى ويستمرّ ما دامت الأفراد متعاقبة ، وأنّه عند الشكّ في تحقّق الفرد الثاني مقارناً لوجود الفرد الأوّل الذي علم بارتفاعه ، تكون المسألة من باب الشكّ في بقاء صرف الوجود بعد اليقين بحدوثه وتحقّقه ، لا يتفاوت الحال فيها بين القول بوجود الطبيعة والكلّي الطبيعي في ضمن أفراده ، وبين القول بأنّه ليس بموجود ، وأنّ هذا الوجود وجود للحصّة منه ، أو أنّ هذا الوجود هو عبارة عن نفس الفرد ، فإنّا لو قلنا بذلك لم يخرج هذا الفرد عن كونه بالنظر العرفي من باب صرف وجود الإنسان ، أمّا أنّه كيف صار هذا صرف وجود الإنسان ، وهل الإنسان حالّ فيه أو أنّه حصّة من الإنسان أو أنّه فرد من الإنسان ، كلّ هذه الجهات أجنبية عمّا هو مفاد الدليل عرفاً. وهكذا الحال في أصالة الوجود أو أصالة الماهية ، فإنّ جميع هذه الجهات راجعة إلى أُمور أُخر فلسفية.

وبأيّ قلنا لا يمكننا إخراج تلك الأدلّة عن مقتضياتها العرفية كيف ما كانت حقيقتها الواقعية ، فإنّ هذه المقتضيات العرفية تتمشّى مع هذه الأقوال كلّها ، غايته أنّه بنحو من التسامح العرفي الذي هو الملاك في استفادة الأحكام من تلك الأدلّة.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده المحشي بقوله : ولا بشرطية وجود شيء الخ (1) ممّا ظاهره إنكار وجود الطبيعي ، وأنّه ليس في البين إلاّ الانطباق على الوجود الخارجي. وهكذا ما أفاده في الإشكال الثاني وجوابه الذي انتهى بقوله :

ص: 331


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 152.

وصرف الوجود بهذا المعنى لا مطابق له إلاّوجود الباري عزّ اسمه ، وفيضه المقدّس المنبسط على ما سواه ، وأمّا صرف حقيقة الوجوب أو الندب ، أو صرف حقيقة الماء أو النار ، فلا مطابق له خارجاً حتّى يكون لكلّ طبيعة من الطبائع - مضافاً إلى وحدتها الماهوية وصرافتها في الماهية - وحدة وصرافة في الوجود ، فتدبّره فإنّه حقيق به (1) فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : ثمّ إنّه لو فرض محالاً الخ (2) فإنّ العرف بعد أن عرف أنّ موضوع الحكم هو صرف وجود الطبيعة وأنّه ليس إلاّناقض عدمها ، وأنّ ذلك لا يتكثّر ولا يتكرّر بتكثّر الأفراد وتكرّر وجودها ، فحينئذ قهراً يعرف أنّه لا ميز بين الفرد الواحد والفردين في الموضوعية لذلك ، ولا يرى المباينة بين الواحد والآخر ، وأنّه يرى تحقّق البقاء لنفس ذلك الموضوع لو وجد أحد الأفراد وانتفى وبقي الآخر ، فعند احتمال وجود الآخر يحتمل البقاء بعد العلم بأصل حدوث صرف الطبيعة ، فيلزمه إجراء الاستصحاب.

قوله : يكون الشكّ في بقاء الكلّي دائماً من الشكّ في المقتضي (3).

لا يخفى أنّه ليس من الشكّ في المقتضي ، وليس لهذه الدعوى أثر فيما حرّره المحرّر في المطبوع في صيدا (4) ولا فيما حرّرته عنه قدس سره.

ص: 332


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 152.
2- فوائد الأُصول 4 : 426.
3- فوائد الأُصول 4 : 426.
4- أجود التقريرات 4 : 96.

قوله : ولكن الظاهر أنّه يجوز للمكلّف في المثال فعل كلّ مشروط بالطهارة - إلى قوله - لا لأنّ الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث ... الخ (1).

لا يخفى أنّ المكلّف لو كان محدثاً بالأصغر ثمّ عرضته الجنابة فالاحتمالات في ذلك ثلاثة :

الأوّل : أن يكون طروّ الجنابة موجباً لزوال الحدث الأصغر وتبدّله بالحدث الأكبر ، لا من جهة أنّ الحدث الأكبر رافع شرعي للحدث الأصغر ، بل من جهة اندكاكه فيه ، فيكون من قبيل الرافع التكويني للحدث الأصغر.

الثاني : أن يكون ذلك من قبيل الاختلاف بالشدّة والضعف ، فيكون من قبيل ما لو كان في البين سواد ضعيف ثمّ طرأ عليه ما يوجب اشتداده ، فكأنّ تلك المرتبة بقيت بحالها غير أنّها زادت واشتدّت ، ولعلّ هذا عبارة أُخرى عمّا تقدّم من الاندكاك.

الثالث : أن يكون ذلك من قبيل الفردين المتباينين ، بحيث إنّه كان طبيعة الحدث موجودة في ضمن الأصغر وهي باقية إلى الآن ، لكن وجد الحدث في ضمن فرد آخر وهو الأكبر ، فهو نظير ما لو وجد زيد أوّلاً ثمّ وجد عمرو واجتمعا في الوجود.

والظاهر أنّ هذا الوجه بعيد في الغاية ، ولا يرد عليه أنّه يلزم عليه الوضوء والغسل ، فإنّه وإن كان مقتضاه ذلك ، إلاّ أن الدليل دلّ على كفاية الغسل عن الوضوء.

وقد عرفت أنّ الوجه الثاني راجع إلى الأوّل ، لأنّ اجتماع المرتبة الضعيفة

ص: 333


1- فوائد الأُصول 4 : 426.

مع المرتبة القوية يوجب الاندكاك وارتفاع المرتبة الضعيفة بحدّها وإن بقيت بذاتها.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد بالأوّل هو كون الحدث الأكبر موجباً لارتفاع الأصغر ، فإنّ الحدث الأصغر عندما يطرأ عليه الأكبر لا يبقى موجوداً بذاته في ضمن الأكبر ، بل كما ينعدم بحدّه في ضمنه ، كذلك ينعدم بذاته وتتبدّل حالة المكلّف من الحدث الأصغر إلى الأكبر ، فهما في ذلك نظير ما لو ملك الزوج زوجته في كون الملكية مزيلة للزوجية.

والحاصل : أنّ الوجوه المحتملة في طروّ الأكبر على الأصغر ثلاثة : التبدّل والاشتداد واجتماع فردين من طبيعة واحدة ، فبعد الفراغ من الوضوء لو أردنا استصحاب كلّي الحدث ، لم يكن من قبيل القسم الأوّل من الثالث من استصحاب الكلّي إلاّعلى الوجه الثالث ، فإنّه بناءً عليه يكون المتيقّن حين احتمال طروّ الجنابة هو كلّي الحدث المردّد بين الوجود في ضمن فرد واحد وهو الأصغر ، والوجود في ضمن فردين وهما الأصغر والأكبر.

وأمّا بناءً على الوجه الأوّل ، فلا يكون الاستصحاب المذكور إلاّمن قبيل القسم الثاني من الكلّي ، فهو نظير ما لو كان مسبوقاً بالطهارة من الأصغر والأكبر وطرأه حدث مردّد بينهما.

وهكذا الحال بناءً على الوجه الثاني أعني كونه من قبيل الاشتداد ، فإنّه بعد فرض أن كان مسبوقاً بالأصغر فاحتمل طروّ الأكبر ، يكون في ذلك الحال متردّداً بين كون حدثه الفعلي هو الأصغر أو الأكبر.

لا يقال : إنّه بناءً على الأوّل يكون المقام من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي ، يعني من قبيل ما لو علم بارتفاع الموجود واحتمل أنّه قام غيره

ص: 334

مقامه عند ارتفاعه ، بتقريب أنّه بعد الوضوء يحصل له العلم بارتفاع حدثه الأصغر إمّا بالجنابة أو بالوضوء ، وعلى تقدير ارتفاعه بالجنابة يكون قد قام مقامه الحدث الأكبر.

لأنّا نقول : إنّ المستصحب ليس هو كلّي الحدث الذي كان متيقّناً قبل احتمال طروّ الجنابة ، كي يقال إنّا نقطع بارتفاعه ، بل المستصحب إنّما هو الكلّي المتيقّن من حين احتمال طروّ الجنابة إلى حين الوضوء ، وهذا لم يحصل القطع بارتفاعه ، كما أنّه على تقدير ارتفاعه لا يحتمل أن يكون عند ارتفاعه قد قام غيره مقامه (1).

ثمّ لا يخفى أنّه قبل الوضوء لا إشكال في عدم وجوب الغسل عليه ، أمّا على الوجه الثالث فواضح ، للعلم التفصيلي بالحدث الأصغر والشكّ البدوي في الحدث الأكبر. وأمّا على الأوّل وكذا على الثاني فلأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحد الحدثين في ذلك الحال ، ومقتضاه وجوب كلّ من الغسل والوضوء ، إلاّ أن أحد الحدثين وهو الأصغر كان مجرى للأصل المثبت ، والآخر وهو الأكبر مجرى للأصل النافي ، وكان العلم الاجمالي المذكور منحلاً فلا يلزمه إلاّ الوضوء ، وهذا

ص: 335


1- والأولى أن يقال : إنّه بعد الوضوء لو لاحظ حالته قبل احتمال طروّ الجنابة ، كان من القسم الثاني من القسم الثالث ، وإن لاحظ حالته ما بعد احتمال الجنابة كان من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، يعني من المردّد بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع هذا ، ولكن قد حقّقنا في مبحث استصحاب الأحكام التعليقية [ في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 41 وما بعدها ] أنّ هذا النحو من الاستصحاب راجع إلى القسم الثالث من الكلّي فراجع [ منه قدس سره ].

هو الفارق بين هذه الصورة وبين ما لو كانت حالته السابقة غير معلومة أو كانت هي الطهارة من الحدثين ، فإنّه في هاتين الصورتين يكون قبل الوضوء محكوماً بلزوم كلّ منهما للعلم الاجمالي.

وإنّما الإشكال فيما بعد الوضوء ، فإنّه بعد الفراغ من الوضوء يجري استصحاب كلّي الحدث ، غايته أنّه على الوجه الأوّل وكذا على الثاني يكون من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، وعلى الثالث يكون من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث بناءً على جريان استصحاب الكلّي فيه ، وحينئذ يحكم عليه بحرمة مسّ المصحف لأجل الاستصحاب المذكور ، وبلزوم الغسل تحصيلاً لما هو الشرط في الصلاة ، وهذا ممّا لم يلتزموا به. مضافاً إلى ما فيه من الغرابة ، وهو كونه قبل الوضوء لا يحكم عليه بلزوم الغسل لكن بعد الوضوء يحكم عليه بذلك.

ولأجل ذلك تصدّى شيخنا قدس سره (1) للجواب عن هذا الإشكال بما يرجع إلى جهات ثلاث : الجهة الأُولى : دعوى دلالة الآية الشريفة على أنّ موضوع وجوب الوضوء هو النوم مع عدم الجنابة. الثانية : إلحاق بقية موارد الحدث الأصغر بالنوم. الثالثة : دعوى أنّه إذا وجب عليه الوضوء لم يجب عليه الغسل ، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون حكمه الواقعي هو وجوب كلّ منهما ، إمّا لأجل ما أُفيد من التناقض ، وإمّا لأجل أنّه إذا كان حكم عليه شرعاً بأنّه داخل في من يجب عليه الوضوء ، لم يمكن أن يحكم ثانياً عليه بوجوب الغسل ، بدعوى أنّه ليس في الشريعة الجمع في الواقع بين الطهارتين.

ويمكن التأمّل في سقوط استصحاب الكلّي ، إذ أقصى ما فيه أنّه حينئذ يقع التدافع بينه وبين استصحاب عدم الجنابة ، هذا. مضافاً إلى لزوم إحراز الشرط في

ص: 336


1- فوائد الأُصول 4 : 426 - 427.

الصلاة.

وقد يقال : ما الداعي للالتزام بهذه الجهات مع أنّه قدس سره في غنى عنها بما تقدّم منه قدس سره في المسألة السابقة - أعني القسم الثاني من الكلّي - من كون أصالة عدم الأكبر ممّا يترتّب عليه شرعاً عدم بقاء الكلّي ، لكون السببية في باب الحدث شرعية ، غايته أنّه في ذلك البحث قد أسقط أصالة عدم الجنابة بمعارضتها بأصالة عدم الحدث الأصغر ، أمّا في هذا البحث فحيث إنّ أصالة عدم الأصغر غير جارية في حقّه ، بل كان الجاري في حقّه هو استصحاب الحدث الأصغر ، فلا مانع حينئذ من جريان أصالة عدم الجنابة في حقّه لكونه بلا معارض ، وهي حاكمة على استصحاب بقاء الكلّي وموجبة للحكم بارتفاعه ، لما عرفت من أنّه قدس سره بناؤه على كون السببية في باب الحدث شرعية ، فإنّ الحدث وإن كان موضوعاً لأحكام شرعية إلاّ أنه بنفسه حكم شرعي وضعي مترتّب على موضوعه ، فإنّ موضوع الأكبر منه هو الجنابة ، وموضوع الأصغر منه هو البول مثلاً ، فأصالة عدم الجنابة قاضية شرعاً بنفي الحكم الشرعي المرتّب عليها وهو الحدث الأكبر.

ولعلّ الوجه في عدم اعتماده قدس سره على ذلك في دفع الإشكال المزبور من جهة أنّه بناءً على الوجه الثالث والثاني يكون المستصحب هو الحدث الأصغر ، لعدم ارتفاعه بالوضوء لو كان قد وجد مع الأكبر ، ولا ريب أنّ أصالة عدم الأكبر حينئذ لا تنفع في رفع استصحاب الحدث الأصغر ، وإن نفعت في رفع استصحاب كلّي الحدث ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك (1).

نعم ، بناءً على ما قدّمناه في ذلك البحث من أنّ ترتّب الحدث الأكبر على الجنابة وإن كان شرعياً ، إلاّ أن ترتّب عدم بقاء الكلّي على عدم الحدث الأكبر ليس

ص: 337


1- في الصفحة : 343 - 344.

بشرعي ، يكون الإشكال علينا متّجهاً ، فلا محيص لنا إلاّعن دفعه بأحد وجوه :

الأوّل : أن نلتزم بذلك التكلّف الذي أفاده قدس سره في مفاد الآية الشريفة ، وقد عرفت ما فيه.

الثاني : أن نقول : إنّ ترتّب خصوص الحدث الأكبر على الجنابة لمّا كان شرعياً ، كان ترتّب الكلّي الموجود في ضمنه على الجنابة أيضاً شرعياً وجوداً وعدماً ، فيكون الأصل الجاري في نفي الجنابة حاكماً بارتفاع الكلّي بعد الوضوء.

الثالث : أن نقول : إنّ استصحاب كلّي الحدث وإن جرى في حقّه فيما بعد الوضوء ، إلاّ أن استصحاب عدم الجنابة لمّا كان جارياً في حقّه قبل الوضوء وبعده فلا يترتّب أثر شرعي على بقاء كلّي الحدث بعد فرض أنّ الأكبر كان محكوماً بالعدم ، وأنّ الأصغر الذي كان استصحابه جارياً قبل الوضوء قد ارتفع بالوضوء.

وبالجملة : أنّ الحكم عليه فعلاً ببقاء كلّي الحدث لمّا كان مقروناً بالحكم بعدم الجنابة وباليقين بارتفاع الأصغر ، يكون لغواً لا أثر له حتّى بالنسبة إلى آثار كلّي الحدث الذي هو حرمة المس ، لأنّا نعلم بأنّ غير المجنب وغير المحدث بالأصغر ليس يحرم عليه المس.

لكن هذا الوجه منقوض بما لو كان متطهّراً من الحدثين ، ثمّ صدر منه شيء اعتقده بولاً فتوضّأ ، ثمّ علم إجمالاً بأنّ ذلك الشيء إمّا بول أو جنابة ، فإنّك قد عرفت في ذلك البحث أنّه يجري في حقّه استصحاب كلّي الحدث بالنسبة إلى حرمة المس ، ويلزمه الغسل تحصيلاً لشرط الصلاة ، مع أنّه مثل ما نحن فيه من كونه غير محدث بالأصغر للقطع بالوضوء ، وغير محدث بالأكبر لأصالة عدم الجنابة غير المعارضة بأصالة عدم الأصغر ، لسقوط أصالة عدم الأصغر لعدم الأثر

ص: 338

له بعد الوضوء.

الرابع (1) : أن نقول : إنّ اختلاف الأصغر والأكبر من قبيل الاختلاف بالشدّة والضعف ، فلو كان متطهّراً من الحدث الأصغر والأكبر ، وعلم بانتقاض طهارته إمّا بالأصغر أو بالأكبر ، كانا من قبيل المتباينين ، لأنّ وجود المرتبة الضعيفة من السواد مثلاً مباين لوجود المرتبة الشديدة. أمّا لو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر ، واحتمل أن قد طرأه الأكبر ، فحيث إنّ طروّ المرتبة الشديدة من السواد على المرتبة الضعيفة منه لا يوجب إعدام ذات المرتبة الضعيفة ، بل تبقى الضعيفة بذاتها في ضمن المرتبة الشديدة وإن انعدم حدّها ، ففي هذه الصورة يكون من الأقل والأكثر ، واليقين إنّما تعلّق بذات الأقل ، أمّا الزائد عليه فهو مشكوك من أوّل [ الأمر ] فالمتيقّن من وجود السواد هو المرتبة الضعيفة ، وحينئذ فبعد العلم بزوال المرتبة الضعيفة لا يمكن استصحاب كلّي السواد ، ففيما نحن فيه نقول إنّ المتيقّن من الحدث قبل الوضوء هو تلك المرتبة الضعيفة ، ولا يقين بأزيد منها ، وبعد الوضوء يحصل القطع بارتفاع تلك المرتبة ، وما زاد على تلك المرتبة لم يتعلّق به اليقين ، فلا يكون الاستصحاب جارياً.

لكن هذا الوجه لو تمّ لكان مقتضاه عدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الثالث ، فإنّ هذا التقريب هو عين التقريب الذي تقدّم لمنع جريان الاستصحاب في القسم المذكور ، والمفروض أنّا نريد أن ندفع الإشكال عن الشيخ الذي يقول بجريان الاستصحاب في هذا القسم.

مضافاً إلى أنّ تلك المرتبة الضعيفة لا نقطع بزوالها بالوضوء ، لأنّها على

ص: 339


1- هذا الوجه هو ما استفدناه من الأُستاذ العلاّمة العراقي ( سلّمه اللّه ) في درسه على ما حرّرته عنه في درس 29 ج 1 سنة 1341 [ منه قدس سره ].

تقدير اشتدادها بالجنابة لا يكون الوضوء مؤثّراً في رفع شيء حتّى نفس تلك المرتبة الضعيفة.

وهذا الإشكال بعينه متوجّه فيما لو قلنا بالوجه الثالث وهو اجتماع الحدث الأصغر والأكبر ، وقلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الكلّي ، فإنّه حينئذ يحتمل أنّ حدثه الأصغر قد اجتمع مع الأكبر ، وعلى هذا التقدير لا يرتفع حدثه الأصغر بالوضوء ، بل لا يرتفع إلاّبالغسل ، وحينئذ فبعد الوضوء وإن لم يجر في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، إلاّ أنه يشكّ في ارتفاع حدثه الأصغر بذلك الوضوء ، لاحتمال اجتماعه مع الأكبر ، فلا أقل من استصحابه لحدثه الأصغر بعد البناء على أنّ أصالة عدم الجنابة لا تثبت أنّ حدثه الأصغر كان وحده ، إلاّ أن نعتمد على ما أفاده الأُستاذ قدس سره (1) من كون موضوع وجوب الوضوء هو المركّب من الأصغر وعدم الجنابة ، وأنّه إذا تحقّق وجوب الوضوء لم يجب الغسل ، وهو ما عرفت من الوجه الأوّل.

أمّا الوجه الثاني فهو غير نافع ، لأنّه لو تمّ فإنّما ينفع في إسقاط استصحاب كلّي الحدث ، ولسنا نريد استصحاب كلّي الحدث ، وإنّما نريد استصحاب الحدث الأصغر ، وهكذا الحال في الوجه الثالث ، فتأمّل.

وممّا ذكرناه في هذا الفرع ، أعني ما لو كان محدثاً بالأصغر ثمّ احتمل الجنابة وتوضّأ ، يظهر لك الجواب عن جريان الاستصحاب في فرع آخر وهو عكس الفرع المذكور ، بأن يكون متطهّراً من الحدثين ثمّ احتمل الجنابة وجرى في حقّه استصحاب عدمها ، ثمّ إنّه أحدث بالأصغر ، فإنّه حينئذ يعلم إجمالاً بأنّه محدث إمّا بالأصغر أو بالأكبر ، لكن استصحاب طهارته إلى ما قبل الحدث

ص: 340


1- فوائد الأُصول 4 : 427.

الأصغر ، وأصالة عدم الجنابة الجارية في حقّه حتّى فيما بعد الحدث الأصغر ، يوجبان انحلال العلم الاجمالي ، لكون الثاني نافياً للتكليف ، والأوّل وإن كان في حدّ نفسه نافياً ، إلاّ أنه بواسطة اقتضائه لزوم الوضوء بعد الحدث الأصغر يكون مثبتاً للزوم الوضوء ، وذاك نافٍ لوجوب الغسل ، فينحلّ العلم الاجمالي ، ثمّ بعد الوضوء يجري استصحاب القسم الثاني ، أعني استصحاب الحدث المتحقّق ما بين الحدث الأصغر والوضوء المردّد بين الأصغر والأكبر ، إلاّ أن أصالة عدم الجنابة حاكمة على الاستصحاب المذكور ، على ما عرفت تفصيله في الفرع السابق.

ومن جملة هذه الفروع ما لو احتملنا كون هذا الصوف أو الشعر مأخوذاً من الكلب مثلاً ، وجرت فيه قاعدة الطهارة ، ثمّ بعد ذلك عرضته نجاسة عارضية ، ثمّ طهّر من تلك النجاسة العارضية ، فإنّه حينئذ يجري فيه استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، أعني استصحاب النجاسة المتحقّقة ما بين عروض النجاسة العارضية والتطهير ، لكن قاعدة الطهارة السابقة الجارية في نفي النجاسة الذاتية حاكمة على الاستصحاب المذكور ، لأنّ الشكّ في بقاء كلّي النجاسة مسبّب عن الشكّ في تلك النجاسة الذاتية ، المفروض أنّها قد حكم بعدمها بواسطة قاعدة الطهارة قبل طروّ النجاسة العارضية.

ومثله لو احتملنا كون هذا الحيوان كلباً فأجرينا فيه قاعدة الحل ، ثمّ طرأه الجلل الموجب للحرمة العارضية ، ثمّ زالت تلك الحرمة العارضية بالاستبراء ، فإنّه لا يجري فيه استصحاب كلّي الحرمة الثابتة بعد طروّ الجلل المردّدة بين الذاتية والعارضية ، لأنّ قاعدة الحل الجارية فيه قبل طروّ الجلل حاكمة عليه ، فإنّ قاعدة الطهارة وكذلك قاعدة الحل وإن لم تكن موجبة لإحراز عدم النجاسة

ص: 341

الذاتية ، أو عدم الحرمة الذاتية ، إلاّ أن ها لمّا كانت متضمّنة للتنزيل ، أعني تنزيل هذا المشكوك النجاسة الذاتية منزلة الطاهر الذاتي ، كان ذلك كافياً في حكومتها على استصحاب كلّي النجاسة المشكوك البقاء ، بواسطة دفعها لاحتمال النجاسة الذاتية الذي هو السبب في الشكّ في بقاء كلّي النجاسة ، فتكون القاعدة الجارية سابقاً حاكمة بزوال النجاسة بعد ارتفاع النجاسة العارضية.

وإن شئت فقل : إنّ من آثار الطهارة هو أنّه يطهر لو تنجّس وطهّر ، بل إنّ من آثار الطهارة هو أنّه يتنجّس بنجاسة عارضية لو لاقته نجاسة أجنبية ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن مسبوقاً بجريان قاعدة الطهارة ، بأن حصل لنا العلم الاجمالي الابتدائي المردّد بين كون هذا الصوف صوف كلب أو أنّه صوف غنم متنجّس ، فيحصل لنا العلم التفصيلي حينئذ بنجاسته المردّدة بين الذاتية والعارضية ، فحيث إنّه لم يكن مسبوقاً بقاعدة الطهارة ، يكون استصحاب النجاسة بعد غسله محكّماً لا محيص عنه ، فتأمّل جيّداً.

ومن جملة الفروع ، ما لو تنجّس الثوب بالدم الذي يكفي فيه الغسل مرّة واحدة ، واحتملنا تنجّسه بالبول بعد الدم ، فإنّه بعد غسله مرّة واحدة يجري فيه استصحاب كلّي النجاسة ، وقد حكم في العروة في م 10 بأنّه يكفي فيه المرّة الواحدة ، فراجع (1).

تنبيه : قد تقدّم لنا البحث فيما نقل عن الفاضل التوني في بعض مباحث البراءة (2) ، فلا حاجة لنا إلى إعادته.

ص: 342


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 172 - 173 / فصل في كيفية تنجّس المتنجّسات.
2- تقدّم البحث في أصالة عدم التذكية في المجلّد السابع من هذا الكتاب فراجع حواشيه قدس سره في الصفحة : 185 وما بعدها من المجلّد المذكور.

وخلاصة البحث هي : أنّه ربما ادّعي التخلّص من الإشكال بجعل المسألة من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث من الكلّي ، بدعوى عدم التضادّ بين الحدثين ، فلو حدث الأكبر على الأصغر اجتمعا ، وعند الشكّ في طروّ الأكبر على الأصغر لو توضّأ يكون حدثه الأصغر مرتفعاً قطعاً ، ولكنّه يشكّ في مقارنة حدثه الأصغر لحدثه الأكبر ، وحينئذ يكون المرجع هو استصحاب كلّي الحدث ، وحيث قلنا بمنع الاستصحاب في القسم المذكور كنّا في راحة من هذا الإشكال ، وبه قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره فيما حرّرته عنه في الدرس.

وقال في مقالته : وأمّا إن كان الحدث المعلوم هو الأصغر كما لو رأى الإنسان بعد نومه رطوبة مردّدة بين المذي والمني ، ففي هذه الصورة إن قلنا بعدم التضادّ بين الحدثين واجتماعهما في زمان واحد ، غاية الأمر لا أثر للأصغر حين وجود الأكبر ، فلا إشكال أيضاً في الاكتفاء بموجب الأصغر ، فلا مجال لجريان استصحاب الكلّي ، لأنّه من القسم الثالث الراجع إلى الشكّ في مقارنة فرد إلى المعلوم تفصيلاً ، وفي مثله لا يكون مشكوك البقاء عين المتيقّن الحادث كي يشمله عموم حرمة النقض (1).

ولا يخفى ما فيه : فإنّه بناءً على عدم التضادّ بين الحدثين وإمكان اجتماعهما وعدم اندكاك أحدهما بالآخر ، لا تكون المسألة من هذا القسم أعني الأوّل من الثالث ، لأنّ الشرط في كونها من هذا القبيل هو العلم بارتفاع ما علم وجوده أعني الحدث الأصغر ، والمفروض أنّا لا نعلم بارتفاع الأصغر على كلّ حال ، بل إنّه على تقدير انضمام الأكبر إليه لا يكون الوضوء موجباً لارتفاعه ، بل لا يرتفع حينئذ إلاّبالغسل ، وحينئذ يكون الاستصحاب جارياً في الأصغر نفسه لا

ص: 343


1- مقالات الأُصول 2 : 385.

في القدر الجامع بينه وبين الأكبر ، لأنّ حدثه الأصغر إنّما يرتفع بالوضوء لو كان منفرداً ولم ينضمّ إليه الحدث الأكبر ، وعند انضمام الحدث الأكبر إليه لا يكون الرافع له إلاّ الغسل الذي يكون رافعاً لهما معاً ، وحيث قد شككنا في الانفراد والانضمام فقد شككنا في ارتفاع نفس الأصغر بالوضوء ، فيجري فيه الاستصحاب ، لا في الكلّي كي يقال إنّا لا نقول بالاستصحاب في القسم الأوّل من الثالث ، لما عرفت من أنّه ليس من هذا القسم ، وكأنّه لأجل هذه الجهة لم يعتمد شيخنا قدس سره في دفع الإشكال في المقام على استصحاب عدم الأكبر ، القاضي بإسقاط جريان الاستصحاب في كلّي الحدث لكونه حاكماً عليه ، مع فرض أنّه لا معارض له من جانب الأصغر.

لا يقال : لا محصّل هنا لاستصحاب الحدث الأصغر ، لأنّ أثره المختصّ به هو وجوب الوضوء وقد حصل ، فلم يبق إلاّ أثر الجامع وهو المنع من الصلاة وحرمة مسّ المصحف ونحو ذلك من آثار القدر المشترك ، وقد مرّ أنّ استصحاب الشخص لا يجري في ترتيب أثر الكلّي.

لأنّا نقول : مرادنا من استصحاب الحدث الأصغر في المقام هو استصحاب الحصّة من الحدث ، وهي كافية في ترتيب أثر الكلّي.

أمّا شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره فقد عرفت أنّه دفع الإشكال بدعوى كون الاختلاف بين الحدثين من قبيل الشدّة والضعف ، والمرتبة الضعيفة من الحدث موجودة بذاتها عند طروّ المرتبة الشديدة ، غير أنّ المنعدم هو حدّها ، ونحن عند علمنا بالحدث الأصغر نكون قد علمنا بوجود ذات تلك المرتبة الضعيفة ، فإذا احتملنا عروض الأكبر فقد احتملنا اشتداد الحدث ، فبعد الوضوء تكون المسألة من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، لأنّ الموجود قبل الوضوء إن كان هو تلك

ص: 344

المرتبة الضعيفة فقد ارتفعت قطعاً ، وإن كان قد حصل اشتدادها بطروّ الأكبر عليها فهي باقية قطعاً.

لكن مع ذلك لا يكون استصحاب الكلّي جارياً ، لعين المانع في القسم الأوّل من الثالث ، بتقريب أنّ متعلّق اليقين هو نفس تلك المرتبة الضعيفة ، ومتعلّق الشكّ في البقاء هو الجامع بين المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة ، فلم يكن متعلّق الشكّ متّحداً مع متعلّق اليقين. هذا خلاصة ما حرّرته عنه قدس سره في دروس جمادى الأُولى سنة 1341 ، وقد عرفت ما فيه من جريان الاستصحاب في شخص تلك المرتبة.

لكنّه قدس سره في مقالته بعد الفراغ من العبارة السابقة التي نقلناها ، وبعد أن أفاد أنّ استصحاب الكلّي لا يجري فيما لو احتملنا التضادّ وعدمه ، قال ما هذا لفظه : وإنّما المجزي له (1) هو خصوص فرض العلم الاجمالي بأحد الحادثين على سبيل منع الخلو والجمع كليهما ، وذلك لا يمكن إلاّبفرضهما متضادّين غير مجتمعين في زمان واحد ، وتلك المضادّة أيضاً تارةً في حدّيهما وأُخرى في ذاتيهما ، وعلى الأوّل تارةً ضعف الأصغر بالنسبة إلى الأكبر ليس بمقدار يصدق عليه الانعدام عرفاً بانقلاب حدّه إلى الأكبر ، وأُخرى كان بتلك المثابة ، كضعف الاصفرار من اللون بالإضافة إلى الاحمرار ، فإن كان من قبيل الأوّل فلا شبهة في جريان استصحاب شخص الحدث المعلوم المحفوظ بين الحدثين ( الحدّين ) بعد الوضوء ، لاحتمال عدم صلاحيته لرفعه ، كما أنّه لا بأس باستصحاب طبيعة الحدث أيضاً ، وإن كان من قبيل الثاني والثالث فلا يجري الاستصحاب

ص: 345


1- [ في الطبعة الحديثة المصحّحة أُبدل « المجزي له » ب : المجرى له ، وهوالصحيح ].

الشخصي ، ولكن لا بأس بجريان الكلّي منه (1).

ولا يخفى أنّ جريان الاستصحاب في شخص الحدث الأصغر لو قلنا بعدم التضادّ بينهما أولى منه في الصورة التي أفادها ، إذ لا يكون استصحابه إلاّشخصياً غير محتاج إلى عناية المحفوظ بين الحدّين.

ثمّ إنّه قدس سره بعد دفع بعض الإشكالات قال ما هذا لفظه : وعليه فلا محيص على ذلك الفرض إلاّ الابتلاء باستصحاب الكلّي ، الموجب لإثبات المانع عن الصلاة ، والحال أنّ ظاهرهم بل وسيرتهم على الاكتفاء بالوضوء الواحد في مثل ذلك الفرض ، وعليه فلا محيص في حلّ ذلك إمّا من كشف بنائهم في المقام على عدم المصير إلى الأصل المزبور عن عدم تضادّ بين الحدثين ، أو لا أقل من احتماله (2).

قلت : لكنّك قد عرفت أنّه بناءً على عدم التضادّ يكون الجاري استصحاب نفس الحدث الأصغر.

قال قدس سره : أو من دعوى معارضة هذا الاستصحاب الكلّي باستصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، إذ من آثاره كون الوضوء مؤثّراً في الطهارة الموجب لصحّة الصلاة فعلاً ، إذ مثل هذا الأصل معارض باستصحاب الحدث المانع من صحّة الصلاة فعلاً فيتساقطان ، فيبقى استصحاب الطهارة على تقدير الوضوء بلحاظ الأثر المزبور باقياً بحاله ، لأنّ الأصل في السبب إذا كان معارضاً بمثله ، يبقى الأصل في المسبّب المحكوم جارياً بلا حاكم ولا معارض (3)

ص: 346


1- مقالات الأُصول 2 : 385 - 386.
2- مقالات الأُصول 2 : 387.
3- مقالات الأُصول 2 : 387 - 388.

لا يخفى أنّه قدس سره لم يذكر استصحاب شخص الحدث المعلوم بين الحدّين ، وأين هو من هذه الاستصحابات المتعارضة ، ولعلّه قدس سره يرى أنّ استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاص إلى ما قبل الوضوء يكون حاكماً على استصحاب ذات الحدث المعلوم بين الحدّين بعد الوضوء ، ولكن هذه الحكومة إنّما تنفع لو سلم استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاص عن المعارض ، ومع ابتلائه بالمعارض الذي هو استصحاب كلّي الحدث لابدّ أن نقول بالتساقط والرجوع بعد ذلك إلى استصحاب الحدث الأصغر المعلوم بين الحدّين ، لا إلى ما ذكره من استصحاب الحكم التعليقي ، فالأولى أن يقال : إنّه قدس سره يرى أنّ استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ كما يعارض استصحاب كلّي الحدث بناءً على كون المسألة من استصحاب الكلّي ، فكذلك يعارض استصحاب شخص الحدث المعلوم المحفوظ بين الحدّين ، لأنّ كلاً منهما يقتضي البقاء بعد الوضوء ، واستصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ يقتضي الارتفاع بعد الوضوء.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من الحدّ الخاصّ إنّما هو تلك الجهة العدمية أعني عدم الأكبر ، فإن أُخذ هذا العدم قيداً في الحدث الأصغر لم يكن أثره إلاّ أن الوضوء رافع لنفس ذلك الحدث الأصغر ، وذلك بمجرّده لا ينافي استصحاب كلّي الحدث ، ولو تنافيا كان الأوّل - أعني استصحاب بقاء الأصغر بحدّه الخاصّ - حاكماً على الثاني أعني استصحاب كلّي الحدث ، وإن أُخذت تلك الجهة العدمية على نحو التركّب الانضمامي بمفاد ليس التامّة ، لم يكن محصّله إلاّ استصحاب عدم الأكبر في ظرف تحقّق الأصغر ، وحينئذ يكون إحراز الأصغر وجداناً وعدم الأكبر بالأصل ، وبذلك يتمّ ما هو موضوع رافعية الوضوء الحاكمة على

ص: 347

استصحاب الكلّي ، كما قرّره شيخنا قدس سره على ما سيأتي توضيحه (1) إن شاء اللّه تعالى ، لا أنّ هذا الاستصحاب يكون معارضاً لاستصحاب كلّي الحدث ، بل هو بعد تمامية تلك الجهات يكون منتجاً لأنّ الوضوء رافع لحدثه ، وأنّ حدثه الفعلي حدث أصغر ، وبذلك يكون حاكماً على استصحاب كلّي الحدث.

والحاصل : أنّ الأُستاذ العراقي قدس سره بعد أن حكم بإسقاط الاحتمال الثالث وهو إمكان الاجتماع بقي عنده احتمال كون الأكبر رافعاً لذات الأصغر واحتمال كونه من قبيل الاشتداد ، وهذا الأصل أعني استصحاب الأصغر بحدّه إلى ما قبل الوضوء بناءً على الوجه الأوّل لا محصّل له ، إذ لاحدّ حينئذ للحدث الأصغر. مضافاً إلى أنّ استصحاب الأصغر إلى ما قبل الوضوء لا ينفع في تحقّق الطهارة على تقدير الوضوء ، لأنّ استصحاب وجود الأصغر أو استصحاب اتّصاف المكلّف بالحدث الأصغر لا يثبت أنّ حدثه الفعلي الذي هو من حين خروج البلل إلى حين الوضوء هو حدث أصغر إلاّبالأصل المثبت ، لأنّ الأوّل من قبيل استصحاب وجود الكلب في هذه الغرفة وهو لا يثبت أنّ هذا الموجود فعلاً فيها كلب إذا احتملنا تبدّله إلى الخروف مثلاً ، والثاني - أعني استصحاب الاتّصاف - من قبيل استصحاب اتّصاف الشخص بأحد الضدّين لنفي اتّصافه بالضدّ الآخر. وأمّا بناءً على الثاني أعني الاشتداد ، ففيه ما عرفت من أنّ استصحاب اتّصاف ذات الأصغر الموجودة بحدّه العدمي إلى ما قبل الوضوء يكون حاكماً على استصحاب ذات الأصغر بين الحدّين إلى ما بعد الوضوء ، وبعد المعارضة بين استصحاب الأصغر بحدّه العدمي إلى ما قبل الوضوء مع استصحاب كلّي الحدث فيما بعد الوضوء يسقط كلا الاستصحابين ، فيكون المرجع بعد سقوطهما هو استصحاب

ص: 348


1- في الصفحة : 359 وما بعدها.

الحدث الأصغر بين الحدّين.

ومع قطع النظر عن هذا الاستصحاب الشخصي ، أعني استصحاب ذات الحدث الأصغر بين الحدّين إلى ما بعد الوضوء ، نقول : إنّ أقصى ما في استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ فيما قبل الوضوء هو انتاج أنّ الوضوء يكون مطهّراً من ذلك الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، وذلك بمجرّده لا يكون منافياً لاستصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، ولو نافاه بأن كان قضية استصحابه بحدّه الخاصّ هو استصحاب عدم الأكبر مع فرض إحراز ذات الأصغر ، ومقتضاه حينئذ عدم تحقّق الحدث بعد الوضوء ، كان الاستصحاب المذكور حاكماً على استصحاب كلّي الحدث ، ورجع التوجيه إلى ما أفاده شيخنا قدس سره وهو ما نقله في المقالة بقوله : وتوهّم الخ (1) على ما عرفت شرحه من أنّ المراد به هو الشقّ الثاني ممّا ذكره في المقالة.

ثمّ إنّا لو سلّمنا التعارض بين استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ فيما قبل الوضوء ، وبين استصحاب كلّي الحدث فيما بعد الوضوء ، فلا وجه للرجوع بعد تساقطهما إلى ذلك الحكم التعليقي ، أعني تحقّق الطهارة لو توضّأ ، كما أفاده بقوله : فيتساقطان فيبقى استصحاب الطهارة على تقدير الوضوء بلحاظ الأثر المزبور باقياً بحاله الخ (2).

وذلك لأنّ موضوع ذلك الحكم التعليقي هو الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، ومع سقوط استصحابه بالمعارضة مع استصحاب الكلّي لا يكون موضوع ذلك الحكم التعليقي محرزاً حينئذ ، فلا يجري استصحاب نفس الحكم

ص: 349


1- مقالات الأُصول 2 : 386.
2- مقالات الأُصول 2 : 388.

المذكور ، للشكّ في بقاء موضوعه الذي هو الحدث الخاصّ بحدّه العدمي ، فلاحظ تمام كلامه وتأمّل فإنّ الذي يظهر منه قدس سره في آخر جواب « إن قلت » الأُولى أنّه يستشكل من الاكتفاء بذلك الاستصحاب التعليقي بعد التساقط ، حيث قال : نعم لا يترتّب على مثل الأصل المزبور ( يعني استصحاب وجود الحدث وعدم الأكبر ) نفي الكلّي في الحدث ، إذ هو من لوازم نفي الزائد عقلاً ، كما أنّ ثبوت الطهارة التعليقية أيضاً لا يقتضي نفي الطبيعة في الحدث أيضاً إلاّبالملازمة العقلية الثابتة بين وجود كلّ شيء مع عدم ضدّه ، ولذا نقول إنّ مثل تلك الاستصحابات لا تكفي لنفي الشكّ عن بقاء الجامع الحدثي ، غاية الأمر كانا متعارضين بحسب الأثر (1) ولم أتوفّق لمعرفة المراد من هذه الجملة الأخيرة أعني قوله : كما أنّ ثبوت الطهارة التعليقية أيضاً لا يقتضي نفي الطبيعة في الحدث أيضاً إلاّبالملازمة.

ولعلّ المراد هو أنّا بعد أن تعارض أصالة بقاء الحدث الأصغر بحدّه المذكور - أعني عدم الأكبر - مع أصالة بقاء كلّي الحدث وتساقطا ، ورجعنا إلى استصحاب ذلك الحكم التعليقي الذي كان متحقّقاً قبل خروج البلل ، وهو أنّ ذلك المكلّف لو توضّأ لارتفع حدثه وجاز له الدخول في الصلاة ، لم يكن هذا الاستصحاب مجدياً في إزالة الشكّ في بقاء كلّي الحدث ، لأنّ ثبوت هذه الصحّة التعليقية لا تقتضي نفي طبيعة الحدث ، إذ أقصى ما في البين هو الحكم فعلاً على ذلك المكلّف بأنّه لو توضّأ لارتفع حدثه الأصغر ، وارتفاع الحدث الأصغر لا يرفع كلّي الحدث إلاّباعتبار الملازمة العقلية بين وجود الطهارة عند الوضوء وعدم الحدث ، وحينئذ لا يكون ثبوت تلك الطهارة قاضياً بعدم الحدث الكلّي ، فلا تكون مزيلة للشكّ في بقاء الحدث ، ومع الشكّ في بقائه لا يجوز له الدخول في

ص: 350


1- مقالات الأُصول 2 : 388.

الصلاة ، وإن لم يجر فيه استصحاب كلّي الحدث لسقوطه بالمعارضة المذكورة فلاحظ.

وبناءً على ذلك لا يكون استصحاب تلك الطهارة التعليقية نافعاً في الاكتفاء بالوضوء للدخول في الصلاة ، اللّهمّ إلاّ أن يكون مراده أنّه مجوّز للدخول في الصلاة وإن بقي شكّه في بقاء كلّي الحدث.

وتوضيح ذلك : أنّه قدس سره (1) بانٍ على أنّ الطهارة شرط والحدث مانع ، لكن تحقّق الطهارة مثلاً فعلاً ولو ظاهراً ملازم لتحقّق الصحّة من ناحية المانع ، لأنّ فعلية الصحّة من ناحية الشرط ملازمة عقلاً واقعاً وظاهراً لفعليتها من ناحية

ص: 351


1- قال فيما حرّرته عنه : وقد يقال : إنّ أثر بقاء الحدث الأصغر بحدّه إلى حين الوضوء هو الحكم بصحّة الوضوء شرعاً الملازم شرعاً لصحّة الصلاة ، فيكون أثر أصالة بقاء الحدث الأصغر إلى حين الوضوء صحّة الصلاة مع الوضوء فيتمّ المطلوب. ولكن لا يخفى أنّه كما أنّ الطهارة من الحدث شرط في صحّة الصلاة فكذلك الحدث مانع ، وحينئذ فكما يجري أصالة بقاء الحدث الأصغر بحدّه إلى حين الوضوء ، يجري أصالة بقاء القدر المشترك بين الحدثين ، فلا يجوز له الدخول فعلاً في الصلاة ، ولا تعارض بين الاستصحابين ، لأنّ الصحّة التي يثبتها الاستصحاب الأوّل صحّة تعليقية معلّقة على عدم المانع ، والاستصحاب الثاني متكفّل لإثبات المانع. بل قد يقال : إنّ الاستصحاب الأوّل لا يجري مع الاستصحاب الثاني. نعم لو كان مفاد الأوّل الصحّة الفعلية ، لكان الاستصحابان متعارضين ، وبعد التساقط يرجع إلى أصل آخر وهو استصحاب ما كان عليه المكلّف حين كونه قاطعاً بحدثه الأصغر قبل عروض ذلك البلل المشتبه عليه من كونه لو توضّأ جاز له الدخول في الصلاة ، إلاّ أنك قد عرفت أنّه لا يترتّب عليه إلاّ الصحّة التعليقية. هذا بعض ما حرّرته عن الأُستاذ العراقي قدس سره. ثمّ إنّه بعد هذا دفع الإشكال بما تقدّم نقله عن درسه ، ولكنّه في المقالة دفع الإشكال بهذا الذي نقلناه عنه في مقالته قدس سره [ منه قدس سره ].

المانع.

ومن ذلك تعرف المراد في قوله : فإن قلت : إنّ المترتّب على الطهارة الخ (1) فإنّ حاصله هي أنّ صحّة الصلاة المترتّبة على تلك الطهارة المستصحبة لابدّ أن تكون فعليتها متوقّفة على عدم الحدث ، لما عرفت من كونه مانعاً ، وحينئذ يكون استصحاب الحدث رافعاً لأثر تلك الطهارة ، بل يكون حاكماً على استصحاب موضوعها أعني الحدث الأصغر بحدّه. وحاصل قوله : قلت : ذلك كذلك الخ (2) أنّه يكفي في جريان الاستصحاب المذكور ترتّب الصحّة عليه من ناحية الشرط ، وهذه لو تحقّقت وصارت فعلية ولو باستصحاب موضوعها ، تكون فعليتها ملازمة للفعلية من باقي الجهات أعني الصحّة من ناحية المانع.

وقوله : وتوهّم الخ (3) حاصله : أنّ استصحاب الحدث لمّا كان مثبتاً للمانع يكون رافعاً للصحّة المذكورة ، فيكون حاكماً على استصحاب الطهارة.

وقوله : مدفوع جدّاً الخ (4) حاصله : أنّ استصحاب الحدث وإن أوجب فعلية عدم الصحّة من ناحيته ، إلاّ أن فعلية عدم الصحّة من ناحية المانع تكون موجبة لفعلية عدمها من ناحية الشرط أيضاً بنحو ما ذكرناه في فعلية الصحّة من ناحية الشرط الذي هو الطهارة ، وحينئذ يتعارض الأصلان ، ويكون المرجع هو استصحاب تلك الصحّة المعلّقة على الشرط ، أعني الطهارة على تقدير الوضوء فتكون تلك الصحّة من ناحية الشرط فعلية ، وهي ملازمة واقعاً وظاهراً للصحّة من ناحية الحدث الذي هو المانع.

ص: 352


1- مقالات الأُصول 2 : 388.
2- مقالات الأُصول 2 : 389.
3- مقالات الأُصول 2 : 389.
4- مقالات الأُصول 2 : 389.

وأمّا الصورة التي استثناها بقوله : نعم لو لم تحرز الصحّة الفعلية الخ (1) فلعلّ أن يكون المراد منها هي ما لو كان متطهّراً من الحدثين وخرج منه البول واحتمل خروج المني ، وكان مردّداً في أنّه على تقدير خروجه هل خرج قبل البول أو بعده أو معه ، فإنّه حينئذ لا يمكنه تطبيق استصحاب الصحّة التعليقية من ناحية الوضوء ، إذ لا يمكن أن يقال في حقّه إنّه كان في زمان محكوماً بأنّه لو توضّأ لحصلت له الطهارة ، فلا تتحقّق فيه الطهارة الفعلية عند الوضوء حتّى مع فرض الشكّ في وجود الحدث ، فضلاً عمّا لو أحرزه بالاستصحاب.

وأمّا قوله : لا يبقى مجال دعوى أُخرى الخ (2) فحاصل هذه الدعوى هو أنّ كلّي الحدث لا أثر له قبل الوضوء للعلم بالحدث الأصغر ، فلا يترتّب أثر عملي على كلّي الحدث كي يجري فيه الاستصحاب ، ويكون العلم بكلّي الحدث عند طروّ ذلك البلل المردّد بين الأصغر والأكبر منحلاًّ بجريان الأصل المثبت في الأصغر والنافي في الأكبر. وحاصل الجواب هو أنّه لا يعتبر في المستصحب ترتّب الأثر عليه في حال اليقين به ، إذ يكفي ترتّب الأثر عليه في حال الشكّ في بقائه وهو ما بعد الوضوء ، لانقطاع استصحاب الأصغر حينئذ بالوضوء.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في هذه الملازمة بين الصحّة من ناحية الشرط الذي هو الطهارة وبين الصحّة من ناحية المانع الذي هو الحدث ، فإن كان المنشأ فيها هو التضادّ بين الطهارة والحدث ، فهذا لا يخرجه عن الأصل المثبت إن كان المراد أنّ ثبوت الطهارة يوجب الحكم بعدم الحدث.

وإن كان المراد أنّ الحكم بالصحّة من ناحية الشرط يلازم الحكم بالصحّة

ص: 353


1- مقالات الأُصول 2 : 389.
2- مقالات الأُصول 2 : 390.

من ناحية المانع فلم يتّضح وجهه ، مضافاً إلى أنّه لا معنى لكون الشرط محصّلاً للصحّة الفعلية كي تكون هذه الصحّة ملازمة للصحّة الفعلية من ناحية المانع ، فإنّ الشرط لو كان موجوداً وجداناً لم يكن محصّلاً للصحّة الفعلية ، وإنّما أقصى ما فيه هو حصول الصحّة من ناحيته ، ومن الواضح أنّه لا ملازمة بين كون الشيء صحيحاً من ناحية الشرط مع فرض طروّ المانع عليه ، كما لو كان ثوب المصلّي مثلاً طاهراً لكن كان هو أو غيره ممّا لا يؤكل لحمه.

وحينئذ نقول : إنّه قدس سره لو اقتصر في بيان التعارض بناءً على كون الطهارة شرطاً والحدث مانعاً على كون استصحاب الحدث الأصغر بحدّه يقتضي صحّة الصلاة مع الوضوء ، واستصحاب الحدث الكلّي يقتضي بطلانها ، توجّه عليه الإشكال الذي تضمّنته « إن قلت » الثانية ، فإنّ وجود الشرط لا يحقّق الصحّة من جميع الجهات ، وإنّما يحقّق الصحّة من ناحية نفسه ، فلا يصلح لمعارضة استصحاب كلّي الحدث القاضي ببطلان الصلاة بقول مطلق.

ثمّ إنّه لو سلّمنا التعارض والتساقط لم يتمّ الرجوع إلى ذلك الحكم التعليقي كما أنّه لا يتمّ قوله : وجود المانع أيضاً ينتج بأنّ عدم الصحّة من قبله لا عدمها من جميع الجهات (1).

وبالجملة : أنّ الصحّة قابلة لأن تكون مضافة ، بمعنى أنّ هذا الموجود صحيح لو لم يكن في البين وجود المانع ، نظير ما نقول إنّ هذه الأجزاء صحيحة

ص: 354


1- مقالات الأُصول 2 : 389 [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة : وجود المانع أيضاً ينتج بأنّ عدم الصحّة من قبله لا فتحها من جميع الجهات. وفي الطبعة الحديثة صحّحت العبارة هكذا : وجود المانع أيضاً ، وهو يفتح باب عدم الصحّة من قبله ، لا فتحها من جميع الجهات ].

لو انضمّ إليها باقي الأجزاء والشرائط ، لكن البطلان وعدم الصحّة لا يعقل فيه ذلك ، وحينئذ يكون استصحاب كلّي الحدث حاكماً على استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، الذي يكون أثره أنّه لو توضّأ لحصلت له الطهارة ، ولو قلنا إنّ أثره هو أنّه لو توضّأ لارتفع حدثه ، لم ينفع في إحراز الشرط الذي هو الطهارة بناءً على المبنى المذكور ، أعني الجمع بين كون الطهارة شرطاً وكون الحدث مانعاً ، مضافاً إلى أنّه لا يعارض استصحاب الحدث ، لأنّ الحكم عليه بأنّ حدثه الأصغر مرتفع بالوضوء لا ينافي استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، ولعلّه لأجل هذه الجهات غيّر السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) مركز المعارضة فجعلها بين استصحاب كلّي الحدث وأصالة عدم الأكبر ، وجعل المرجع بعد التساقط أصالة عدم وجوب الغسل ، فأورد على استصحاب كلّي الحدث بأنّه يعارضه استصحاب عدم الأكبر ، فإنّه ينفي وجوب الغسل لأنّه من أحكامه ، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم وجوب الغسل ( الذي كان محكوماً به قبل طروّ احتمال الجنابة ) فإنّه حاكم على قاعدة الاشتغال ، إلخ (1) ولا تأتي هذه الطريقة فيما لو كان مسبوقاً بالطهارة من الحدثين ، أو كانت حالته السابقة غير معلومة ، لعدم جريان أصالة عدم الأكبر لكونها معارضة بأصالة عدم الأصغر.

ولكن لا يخفى أنّا فيما نحن فيه أعني من كان محدثاً بالأصغر ثمّ طرأه البلل المردّد ، بعد أن فرضنا أنّ أصالة عدم الأكبر لا تكون حاكمة على استصحاب كلّي الحدث ، لم يكن لها حينئذ أثر إلاّنفي وجوب الغسل ، وهذا لم يثبته استصحاب كلّي الحدث لتحصل المعارضة بينهما ، وأقصى ما في استصحاب كلّي الحدث هو ترتّب أثر ذلك الكلّي ، وهو المنع من مسّ المصحف والمنع من الصلاة إن قلنا إنّ

ص: 355


1- مستمسك العروة الوثقى 2 : 232 - 233.

الحدث مانع ، أو عدم إحراز شرط الصلاة إن قلنا إنّ الطهارة شرط ، وهذه المقادير لا ينافيها عدم الجنابة القاضي بعدم وجوب الغسل الذي هو أثر الحدث الخاصّ أعني الجنابة.

لا يقال : إنّ الطهارة شرط للصلاة ، وحينئذ يكفي في عدم جواز الدخول فيها مجرّد عدم إحراز الشرط ، فمن هذه الجهة لا يترتّب على استصحاب كلّي الحدث إلاّمجرّد المنع من الدخول في الصلاة ، لعدم إحراز الشرط وهذا وجداني ، فيكون المقام من قبيل الإحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وحينئذ لا يبقى بأيدينا ما يقضي بالمنع من الدخول في الصلاة إلاّقاعدة الاشتغال وأصالة عدم الجنابة باعتبار رفعها لوجوب الغسل حاكمة عليها.

لأنّا نقول : إنّ هذا المقدار لا يتولّد منه المعارضة مع استصحاب الكلّي ، بل يبقى استصحاب الكلّي جارياً ولو باعتبار أنّه لا يجوز له مسّ المصحف ، وحينئذ يكون الحكم أنّه يحرم عليه مسّ المصحف ولكن يجوز له الدخول في الصلاة ، ولا يخلو عن غرابة ، نعم إنّ استصحاب عدم الأكبر لا يجتمع مع استصحاب كلّي الحدث بعد فرض تحقّق الوضوء ، ولعلّ ذلك هو المشار إليه في عبارة صاحب الدرر ، وذلك قوله : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ إجراء الأصل في الكلّي لا يثبت الفرد وإن كان ملازماً له ، لأنّ هذه الملازمة ليست شرعية ، وحينئذ فلو كان للفرد أثر خاصّ ينفى بالأصل ، إلاّ إذا كان للفرد الآخر أيضاً أثر خاصّ ، فيتعارض الأصلان - ثمّ قال - وكذا لو علم أنّ الحكم ببقاء الكلّي في الأثر والحكم بعدم الفرد كذلك ممّا لا يجتمعان في مرحلة الظاهر أيضاً (1).

والشاهد في هذه العبارة الأخيرة ، فإنّها تنطبق على ما نحن فيه ، فيقال إنّه

ص: 356


1- درر الفوائد 1 - 2 : 536.

بعد فرض التضادّ الذاتي بين الحدثين ، لو كان الشخص محدثاً بالأصغر ثمّ طرأه احتمال الجنابة ، فلو توضّأ جرى في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، وحينئذ يكون استصحاب عدم الأكبر معارضاً لاستصحاب كلّي الحدث ، لعدم إمكان اجتماعهما بعد فرض تحقّق الوضوء منه ، لأنّه إن كان محدثاً بالأصغر فقد ارتفع حدثه قطعاً ، فلو بقي كلّي الحدث فإنّما يبقى في ضمن الأكبر ، فيكون الحكم ببقاء الحدث الكلّي منافياً لأصالة عدم الأكبر ، لأنّهما لا يجتمعان في مرحلة الظاهر لكونهما إحرازيين مع العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع.

وفيه : أنّ أغلب الأُصول الاحرازية متنافية ، كما في مثل استصحاب الحياة واستصحاب عدم نبات اللحية ، ونحن وإن قلنا بتعارض الأُصول الاحرازية التي يعلم بمخالفة أحدها للواقع ، إلاّ أن له ضابطاً وتفصيلاً تعرّض له شيخنا قدس سره في خاتمة الاستصحاب.

ثمّ إنّا لو سلّمنا التعارض فيما نحن فيه والتساقط لم يكن المرجع هو استصحاب عدم وجوب الغسل ، إذ أنّه لا يكون حاكماً على قاعدة الاشتغال في الصلاة ، لأنّ استصحاب عدم وجوب الغسل لا يرفع الشكّ في إحرازه لشرط الصلاة ، نعم يكون حاكماً على أصالة الاشتغال بالطهارة ، وهذا - أعني حكومته على قاعدة الاشتغال بالطهارة - لا يوجب حكومته على قاعدة الاشتغال بالصلاة.

ثمّ إنّ عدم وجوب الغسل إنّما كان لأجل عدم الجنابة ، ومع الشكّ فيها وعدم إحراز الموضوع لا يجري استصحاب ذلك الحكم - أعني عدم الوجوب - إلاّ بواسطة أصالة عدم الجنابة ، والمفروض أنّها قد سقطت بالمعارضة.

ثمّ بعد البناء على جريان استصحاب عدم وجوب الغسل وأنّه حاكم على قاعدة الاشتغال ، لو قلنا إنّ الطهارة الواجبة عليه في حال احتماله الجنابة هي

ص: 357

المعنى النفساني الناشئ من الوضوء والغسل ، فهل يكون استصحاب وجوب ذلك المعنى النفساني لشكّه في حصوله لاحتمال توقّف حصوله هنا على الغسل معارضاً لاستصحاب عدم وجوب الغسل أم لا؟ فيه تأمّل ، لأنّه بناءً على هذا القول - أعني كون الواجب هو ذلك المعنى النفساني - لا يكون الغسل واجباً كي يكون مورداً لاستصحاب عدم الوجوب. نعم إنّ الغسل حينئذ محصّل لذلك الواجب النفساني ، فهو قبل طروّ احتمال الجنابة لم يكن متوقّفاً على الغسل ، وعند احتمالها يحتمل توقّفه عليه ، فلا يكون المستصحب إلاّعدم التوقّف وعدم الوجوب المقدّمي للغسل ، وحينئذ يكون استصحاب عدم التوقّف حاكماً على استصحاب وجوب ذلك الأمر النفساني أو على استصحاب عدم حصوله ، فتأمّل.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره : وتوهّم أنّ الوضوء في حال عدم الجنابة كان رافعاً لأصل طبيعة الحدث ، فإذا فرض في تلك الصورة الوضوء بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، فلا يبقى مجال الشكّ في بقاء الكلّي ، مدفوع الخ (1).

لعلّ هذا تعريض بما أفاده شيخنا قدس سره في طريقة التخلّص عن الإشكال بما تضمّنه هذا التحرير ممّا تقدّم (2) التعليق عليه ، وذلك قوله : ولكن الظاهر أنّه يجوز للمكلّف في المثال فعل كلّ مشروط بالطهارة الخ (3) وقد تقدّم (4) أنّ حاصل ما أفاده قدس سره من الجواب ينحلّ إلى جهات ثلاث : الأُولى دعوى دلالة الآية الشريفة على أنّ موضوع وجوب الوضوء هو النوم مع عدم الجنابة. الثانية : إلحاق بقيّة

ص: 358


1- مقالات الأُصول 2 : 386.
2- في الصفحة : 333.
3- فوائد الأُصول 4 : 426.
4- في الصفحة : 336.

موارد الحدث الأصغر بالنوم. الثالثة : دعوى أنّه إذا وجب عليه الوضوء لم يجب عليه الغسل ، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون حكمه الواقعي هو وجوب كلّ منهما ، إمّا لأجل ما أُفيد من التناقض ، وإمّا لأجل أنّه إذا حكم عليه شرعاً بأنّه داخل في من يجب عليه الوضوء ، لم يمكن أن يحكم عليه ثانياً بوجوب الغسل ، بدعوى أنّه ليس في الشريعة الجمع في الواقع بين الطهارتين ، انتهى. وقد تقدّم أيضاً أنّ هذه الجهات لو تمّت فلا تنفع في إسقاط استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء.

لكن الإنصاف أنّ الجهة الأُولى هي الأساس في طريقة شيخنا قدس سره ، وهي أنّ الحدث الأصغر ليس هو ذات النوم مثلاً ، بل هو ذات النوم وعدم الجنابة على نحو الاجتماع في الزمان من وجود النوم وعدم الجنابة بمفاد ليس التامّة ، والآية الشريفة حاكمة بأنّ الوضوء رافع للحدث عمّن نام ولم يجنب ، بحيث يستفاد منها رافعية الوضوء للحدث عمّن نام ولم يجنب.

وهذه الجهة - أعني كون الوضوء المذكور رافعاً للحدث - لابدّ من رعايتها ، ولأجل ذلك قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وحينئذ يكون ترتّب ارتفاع الحدث على وجود الوضوء مع عدم الجنابة ترتّباً شرعياً ، فإذا توضّأ بعد أن جرت في حقّه أصالة عدم حدوث الجنابة ، ترتّب ارتفاع حدثه ، ولا يبقى معنى حينئذ لاستصحاب كلّي الحدث. وبعبارة أوضح يكون متوضئاً غير مجنب ، فيدخل في قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) الخ (1) ويكون ممتثلاً لهذا الأمر ، وتصحّ له الصلاة وكلّ ما هو مشروط بالطهارة ، وكذا يسوغ له ما يكون سائغاً للمتوضّي غير الجنب كمسّ المصحف ممّا يكون الحدث فيه مانعاً ، انتهى.

ص: 359


1- المائدة 5 : 6.

وقال السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) فيما حرّره عنه قدس سره : فإذا أُحرز أحد الجزأين بالوجدان والآخر بالأصل ، فلا محالة يتحقّق موضوع وجوب الوضوء شرعاً الرافع للحدث والمبيح لكلّ ما هو مشروط بالطهارة ، فالشكّ في بقاء الحدث ناشٍ عن الشكّ في تحقّق الجنابة المأخوذ عدمها في موضوع التكليف بالوضوء ، فمع إحرازه بضمّ الوجدان إلى الأصل يكون التكليف الفعلي هو وجوب الوضوء الرافع للحدث شرعاً ، فلا يبقى مجال لاستصحابه (1).

وهذه الكلمات كلّها ظاهرة في أنّ مراده هو كون موضوع وجوب الوضوء الذي هو رافع الحدث هو الحدث مع عدم الجنابة ، فلابدّ من إدخال رافعية الوضوء للحدث في جملة كلماته ، لكن هذا التحرير خال منها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ موضوع رافعية الوضوء للحدث ليس هو مجرّد عدم الجنابة كما ذكره شيخنا العراقي في قوله : وتوهّم أنّ الوضوء في حال عدم الجنابة كان رافعاً لأصل طبيعة الحدث الخ ، بل هو الحدث الأصغر مع عدم الجنابة كما أفاده في آخر هذه العبارة بقوله : وإن كان الموضوع المحدثَ بالأصغر الذي لم يكن جنباً الخ.

وبناءً على ذلك لا يتوجّه على شيخنا قدس سره ما أفاده في المقالة بقوله : مدفوع بأنّ رفع الوضوء الحدث - إلى قوله - وحينئذ فمع الشكّ في وجود الطبيعي المردّد بينهما وجداناً ، لا يجدي الأصل المزبور مع الوجدان المذكور في رفع الشكّ عن بقاء أصل الطبيعة الخ (2) فإنّ إحراز النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل قاضٍ بأنّ حدثه الفعلي هو الأصغر ، ومع الحكم بأنّ حدثه الفعلي بعد طروّ احتمال الجنابة

ص: 360


1- أجود التقريرات 4 : 98.
2- مقالات الأُصول 2 : 386.

هو الأصغر ، ليس عليه إلاّرفع الأصغر برافعه وهو الوضوء ، ولا يبقى مجال للشكّ والترديد في أنّ حدثه المذكور هل هو الأصغر أو الأكبر.

ولا يخفى أنّه لابدّ في دفع الإشكال من توليد الحكم الشرعي عليه بأنّ حدثه الفعلي هو الأصغر ، وذلك بضمّ الوجدان إلى الأصل ، وذلك هو مدلول الآية الشريفة بعد فرض أخذ عدم الجنابة في من قام من النوم ، فيكون أحد القسمين هو من نام ولم يجنب ، والقسم الآخر هو من أجنب سواء انضمّ إليه النوم أو لم ينضمّ ، وقد جرى الاصطلاح على تسمية القسم الأوّل بالمحدث بالحدث الأصغر والثاني بالمحدث بالحدث الأكبر ، وإلاّ فالقسم الأوّل هو من نام أو بال ولم يجنب على نحو مجرّد الاجتماع في الزمان ، لا على نحو تقييد النوم بشرط لا.

وحينئذ نقول : إنّ هذا المحدث بالنوم بعد أن أحرز النوم بالوجدان ، وضمّ إليه أصالة عدم الجنابة ، يكون هذا الأصل - أعني أصالة عدم الجنابة - منقّحاً لكون حدثه داخلاً في القسم الأوّل ، ونافياً لكونه من القسم الثاني أعني الجنابة ، فكان حدثه بواسطة هذا الأصل من القسم الأوّل الذي نصطلح عليه بأنّه الأصغر ، ولم يكن من القسم الثاني الذي هو الأكبر.

والحاصل : أنّ الشارع بواسطة هذا الأصل يكون قد حكم بأنّ حدثه من الأصغر وأنّه ليس من الأكبر ، ومع هذين الحكمين أعني كون حدثه من القسم الأوّل الذي نصطلح عليه أنّه الأصغر ، وعدم تحقّق القسم الثاني الذي هو الأكبر ، لا يبقى مجال للشكّ في بقاء القدر الجامع بعد فرض تحقّق الوضوء منه.

فلا يتوجّه عليه ما أفاده في المقالة من : أنّ رفع الوضوء الحدث في تلك الحال من جهة انحصار الطبيعة بالأصغر وجداناً ، وإلاّ فشأنه ليس إلاّرفع الحدث

ص: 361

الأصغر الخ (1).

لما عرفت من كون الأصل المذكور نافياً للحدث الأكبر ، ومحقّقاً بضمّ الوجدان للحدث الأصغر الذي هو عبارة عن أثر النوم وعدم الجنابة ، فصار الحاصل هو نفي الأكبر وإثبات الأصغر ، ولا ريب في أنّ أثر نفي ذاك وإثبات هذا هو ارتفاع الأصغر بالوضوء وانتفاء الأكبر بأصالة عدمه ، فكأنّه قد جرى فيه أصلان أحدهما منقّح لكون حدثه أصغر ، والآخر نافٍ للأكبر ، ومع فرض جريان هذين الأصلين لا يبقى لنا شكّ في ارتفاع طبيعة الحدث بالوضوء ، غايته أنّ هذا الأصل الواحد - أعني أصالة عدم الجنابة - بضميمة الوجدان يكون قد أدّى وظيفة الأصلين ، وليس ذلك من الأصل المثبت ، وذلك واضح لا غبار عليه ، لأنّه إنّما يكون مثبتاً لو كان القدر الجامع بينهما نظير الجامع بين البقّة والفيل في كونه من الطبائع الخارجية ، أمّا لو كان كلّ من الفردين والقدر الجامع حكماً شرعياً ، فلا يكون ترتّب نفي الكلّي على نفي أحدهما بالأصل والآخر برافعه من قبيل الأصل المثبت ، على تأمّل في ذلك تقدّمت الإشارة إليه ، هذا.

ويمكن إتمام مطلب شيخنا قدس سره أعني إسقاط استصحاب القدر الجامع بعد الوضوء من دون حاجة إلى هذا التقريب الذي قرّبناه به من كون هذا الأصل منقّحاً للحدث الأصغر ونافياً للأكبر ، بتقريب آخر مرجعه إلى أنّه بعد فرض كون القسم الأوّل هو القيام من النوم وعدم الجنابة ، وكون القسم الثاني هو الجنابة نفسها ، لم يعقل وجود الجامع بين القسمين المذكورين كي يجري فيه الاستصحاب المذكور ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى التأمّل فيما تفيده الآية الشريفة ، فنقول بعونه

ص: 362


1- مقالات الأُصول 2 : 386.

تعالى : إنّ قوله تعالى (1) : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) الخ بعد أن فسّرت بالقيام من النوم ، فقد يتوهّم أنّ مفادها هو أنّ القيام من النوم يوجب الوضوء ، وأنّه إن كان القائم من النوم جنباً وجب عليه الغسل مضافاً إلى ما أوجبه القيام من النوم من الوضوء ، بناءً على أنّ قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ليس بشرط مستقل ، بل هو في مورد القيام من النوم ، بل لو قلنا إنّه شرط مستقل كان أدلّ على هذا التوهّم ، لأنّ كلاً منهما يكون شرطاً وسبباً مستقلاً ، ومسبّب الأوّل هو الوضوء ، ومسبّب الثاني هو الغسل ، فعند اجتماع السببين يتعيّن الجمع بين المسبّبين ، حتّى أنّا لو قلنا بتداخل الأسباب لم يكن ذلك موجباً لوحدة المسبّب ، لأنّ ذلك إنّما هو فيما لو تعدّدت الأسباب واتّحد المسبّب ، دون ما لو تعدّد السبب والمسبّب.

ص: 363


1- في سورة المائدة : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ المائدة 5 : 6 ]. [ وفي ] سورة النساء : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) [ النساء 4 : 43 منه قدس سره ].

ولكن هذا - أعني الجمع بين الوضوء والغسل عند اجتماع السببين - ممّا لا إشكال في بطلانه لوجوه : منها الإجماع على أنّه لا يجب عليه إلاّ الغسل. ومنها : ظهور الأخبار في أنّه لا وضوء مع الغسل (1). ومنها : أنّ نفس الآية لعلّها تدلّ على ذلك بمقتضى إطلاق قوله تعالى : ( فَاطَّهَّرُوا ) في الظهور في الاكتفاء بالغسل وحده سيّما بالنظر إلى أنّ مورده هو اجتماع الجنابة مع النوم.

وحينئذ لابدّ أن يكون الأوّل ليس هو النوم بذاته ، بل هو النوم وعدم الجنابة ، فيكون محصّل الآية الشريفة : إذا قمتم إلى الصلاة ولم تكونوا جنباً فاغسلوا الخ ، وإن كنتم جنباً فاغتسلوا ، وبذلك نستغني عن طريقة أنّ التفصيل قاطع للشركة ، إذ لو فرضنا أنّ الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) لم تكن موجودة ، وبقينا نحن وقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) كان الإجماع وتلك الأخبار كافيين في خروج المجنب عن عموم « من نام » ، وحينئذ يكون هذا الحكم - أعني وجوب الوضوء - مختصّاً بمن نام ولم يكن جنباً ، فكان القسم الأوّل هو النوم وعدم الجنابة ، والقسم الثاني هو وجود الجنابة ، وقد اصطلحوا على تسمية القسم الأوّل بالحدث الأصغر والثاني بالحدث الأكبر ، فليس الحدث الأصغر هو ذات النوم ، بل هو مع عدم الجنابة.

وحينئذ نقول : إنّ من نام ولم يجنب كان من القسم الأوّل ، سواء كان ذلك محرزاً بالوجدان بكلا جزأيه ، أو كان أحدهما وهو النوم وجدانياً والآخر وهو عدم الجنابة بالأصل كما فيما نحن فيه ، أو كان الأمر بالعكس ، بأن كان عدم الجنابة وجدانياً وكان الآخر محرزاً بالتعبّد وجوداً كما في مستصحب الحدث الأصغر ، أو عدماً كما في من توضّأ واحتمل صدور البول منه مع قطعه بعدم الجنابة ، وحينئذ

ص: 364


1- وسائل الشيعة 2 : 244 / أبواب الجنابة ب 33 و 34.

بعد أن تمّ أنّ القسم الأوّل هو من نام ولم تصدر منه جنابة إمّا بالأصل أو بالوجدان ، يكون بعد الوضوء محكوماً بعدم الحدث ، لأنّه لا قدر جامع بين القسمين ، إذ لا جامع بين الوجود والعدم.

فلا يبقى حينئذ معنى محصّل لاستصحاب الكلّي بناءً على جميع الاحتمالات من التبدّل والاشتداد والاجتماع وعدم التضادّ ، كما أنّه لا يبقى محصّل لاستصحاب ذات القسم الأوّل بناءً على الاشتداد أو الاجتماع ، بل التحقيق أنّه لابدّ أن يكون دخول الجنابة على النوم من قبيل التبدّل ، لانقلاب عدم الجنابة المأخوذ في القسم الأوّل إلى وجود الجنابة ، وحينئذ يكون اجتماعهما من المحال.

والمراد هو محالية اجتماع القسم الأوّل مع القسم الثاني لا ذات النوم وذات الجنابة ، لما عرفت من أنّ القسم الأوّل ليس هو ذات النوم ، بل هو النوم وعدم الجنابة ، ومن الواضح أنّه لا يمكن اجتماعه مع الجنابة ، وهذا هو المستفاد من قوله في هذا التحرير : فإنّ النائم الذي احتمل الجنابة قد أحزر - إلى قوله - لأنّ سبب وجوب الوضوء لا يمكن أن يجتمع مع سبب وجوب الغسل ، فإنّ من أجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة ، فلا يعقل أن يجتمع مع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل ، فإنّه يلزم اجتماع النقيضين الخ (1).

ثمّ لا يخفى أنّه لا يفرق في هذه الطريقة بين أخذ عدم الجنابة في موضوع وجوب الوضوء على نحو مفاد ليس التامّة ، وبين أخذه على نحو ليس الناقصة ، أمّا [ على ] الأوّل فواضح كما شرحناه ، وأمّا على الثاني فكذلك سواء أخذنا هذا العدم في المكلّف نفسه أو أخذناه في نفس أثر النوم ، لأنّ كلاً منهما - أعني

ص: 365


1- فوائد الأُصول 4 : 427.

المكلّف أو أثر النوم - لمّا كان مسبوقاً بعدم الجنابة صحّ فيه استصحاب حالته العدمية السابقة ، فيكون هذا المكلّف الذي قد نام أو هذا الأثر للنوم متّصفاً سابقاً بعدم الجنابة والآن كما كان ، فيكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر وهو الإتصاف بعدم الجنابة بالأصل.

وهكذا الحال من ناحية دعوى عدم الجامع ، فإنّ الجامع الذي يترتّب عليه مثل حرمة مسّ المصحف إنّما هو الجامع بين أثر النوم المقيّد بعدم الجنابة وبين الجنابة نفسها ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين أثر النوم المقيّد بعدم الجنابة وبين الجنابة نفسها.

نعم ، هاهنا جامع بين أثر النوم المأخوذ بالقياس إلى الجنابة بشرط لا وأثر النوم المأخوذ بالقياس إليها بشرط شيء ، لكن هذا الجامع بين أثر النوم المقيّد بعدم الجنابة وبين أثر النوم المقيّد بوجود الجنابة لا أثر له كي يصحّ لنا استصحابه ، فإنّ حرمة مسّ المصحف ومثل عدم جواز الدخول إنّما هي مترتّبة على الجنابة أو على أثر النوم المقيّد بعدم الجنابة ، لا أنّه مترتّب على أثر النوم المقيّد بوجود الجنابة ، ولو استشكل مستشكل في ذلك تعيّن إسقاط هذا الاحتمال ، أعني احتمال كون القيد العدمي مأخوذاً بمفاد ليس الناقصة ، ولزم المصير إلى كونه مأخوذاً بمفاد ليس التامّة ، ولو بقرينة ما ورد من عدم وجوب الغسل على من احتمل الجنابة في نومه ، كما تضمّنته رواية مستطرفات السرائر (1) فلاحظ وتأمّل.

ص: 366


1- صحيح ابن مسلم المروي عن مستطرفات السرائر « عن رجل لم ير في منامه شيئاً فاستيقظ فإذا هو ببلل ، قال عليه السلام : ليس عليه غسل » [ السرائر 3 : 558 ، وسائل الشيعة 2 : 199 / أبواب الجنابة ب 10 ح 4 ]. رواية أبي بصير « عن رجل يصيب بثوبه منياً ولم يعلم أنّه احتلم ، قال عليه السلام : ليغسل ما وجده بثوبه وليتوضّأ » [ وسائل الشيعة 2 : 198 / أبواب الجنابة ب 10 ح 3 ]. حملها الشيخ قدس سره على الثوب المشترك ، وربما تحمل على من يحتمل كون المني عن جنابة سابقة قد اغتسل منها [ منه قدس سره ].

ولو أغضينا النظر عن ذلك كلّه ، لأمكننا القول بأنّ محصّل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر أعني عدم الجنابة بالأصل ، أو محصّل استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة ، أعني استصحاب أثر النوم المتّصف بعدم الجنابة ، هو أنّه داخل في القسم الأوّل من الآية الشريفة ، وذلك عبارة أُخرى عن كون حدثه بالاصطلاح هو الحدث الأصغر ، وذلك قاضٍ بارتفاعه بالوضوء ، وأنّه غير داخل في القسم الثاني الذي هو الجنابة ، فلا يبقى مورد لاستصحاب الكلّي.

نعم ، هذه الطريقة الأخيرة أعني الاعتماد على استصحاب أثر النوم المتّصف بعدم الجنابة ، لا تتأتّى في من كان متطهّراً من الحدثين ثمّ احتمل الجنابة وأجرى أصالة العدم فيها ثمّ إنّه حصل منه البول مثلاً ، فإنّه لا يمكنه أن يقول إنّ حدثي الحاصل من البول كان متّصفاً بعدم الجنابة ، فلابدّ في مثل ذلك حينئذ من الاعتماد على أنّ استصحاب طهارته من الجنابة وغيرها إلى حين صدور البول منه قاضٍ بأنّه داخل في القسم الأوّل وخارج عن القسم الثاني ، وذلك قاض بعدم جريان استصحاب الكلّي بعد الوضوء ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ذلك كلّه من باب التسليم والمماشاة ، وإلاّ فإمّا أن يكون الاعتماد على طريقة شيخنا من أخذ هذا القيد العدمي من المقابلة بين قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) وبين قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (1) فيكون

ص: 367


1- المائدة 5 : 6.

القسم الأوّل مركّباً من النوم أو أثره وعدم الجنابة ، وإمّا أن يكون الاعتماد على ما ذكرناه من طريقة التخصيص وإخراج الجنابة عن القيام من النوم الشامل لحال الجنابة وعدمها ، ويكون القيام من النوم مقيّداً بانضمام عدم الجنابة.

وعلى أيّ حال ، يكون هذا العدم مأخوذاً بمفاد ليس التامّة ، لما حقّق في محلّه من أنّ التركّب من العرضين يكون من محض الاجتماع في الزمان ، فإنّهما وإن كانا عرضين لمحلّ واحد إلاّ أنه لو أُخذ الموضوع هو المكلّف المتّصف بهما لكان التركّب بما هو مفاد كان أو ليس الناقصتين ، أمّا إذا كان المأخوذ في الموضوع هو نفس العرضين ، فلا ريب في أنّ التركّب منهما يكون من قبيل الاجتماع في الزمان وبما هو مفاد كان وليس التامّتين ، إذ لم يؤخذ أحد العرضين صفة للعرض الآخر ، فعلى كلا الطريقتين يكون القسم الأوّل هو القيام من النوم وعدم الجنابة ، وتكون المسألة داخلة في إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، ولا يكون في البين جامع أصلاً ، لعدم الجامع بين الموضوع المركّب من النوم أو أثره وعدم الجنابة وبين الجنابة نفسها.

وهكذا الحال لو أخذنا الموضوع ذات المكلّف الجامع بين صفة النوم وصفة عدم الجنابة كما هو ظاهر الآية الشريفة. نعم لو أُخذ الموضوع هو عنوان النائم المتّصف بعدم الجنابة ، كان ذلك من باب التقييد وعلى نحو مفاد كان وليس الناقصتين ، لكن ذلك لا دليل عليه ، وإنّما أقصى ما تضمّنته الآية الشريفة هو الحكم على المكلّفين بأنّهم إذا قاموا من النوم ولم يكونوا جنباً بالوضوء ، وهذا التركيب لا يكون إلاّمن مجرّد اجتماع الوصفين في الزمان القابل لإحراز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، مع فرض عدم الجامع بين وجدان الوصفين - أعني النوم وعدم الجنابة - وبين وجدان الجنابة نفسها.

ص: 368

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ مفاد الآية الشريفة بعد التقييد المزبور الحاصل من المقابلة ، أو من الدليل الخارجي الدالّ على خروج الجنابة عن قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ ) هو ما عرفت من القيام من النوم مع عدم الجنابة ، وأنّ ذلك هو المراد لشيخنا قدس سره لا ما ذكره في المقالة بعنوان التوهّم (1).

وحينئذ لا يرد على شيخنا قدس سره ما أفاده في المقالة بقوله : مدفوع بأنّ رفع الوضوء الحدث في تلك الحال من جهة انحصار الطبيعة بالأصغر وجداناً الخ (2).

ولا يرد عليه أيضاً ما أفاده من أنّ ظاهر الآية الشريفة هو مجرّد أنّ الوضوء رافع لأثر النوم على حذو كون الغسل رافعاً لأثر الجنابة ، وأنّ رفع الطبيعة في كلّ منهما بالملازمة العقلية الناشئة من انحصار الفرد من آثار النوم في حال عدم الجنابة شرعاً ، وحينئذ فمع الشكّ في وجود الطبيعي المردّد بينهما وجداناً ، لا يجدي الأصل المزبور مع الوجدان المذكور في رفع الشكّ عن بقاء أصل الطبيعة الخ (3) فإنّ هذه الكلمات إنّما تتوجّه لو كان مراد شيخنا قدس سره هو مجرّد الاعتماد على أصالة عدم الجنابة في حال أثر النوم ، وقد عرفت مراده بما لا تتوجّه عليه هذه الكلمات ، كما أنّك قد عرفت أنّ مفاد الآية الشريفة ليس هو مجرّد كون الوضوء رافعاً لأثر النوم ، بل هو أمر آخر ، ويكون المتحصّل هو دخول المسألة في إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، وأنّه لا يتصوّر القدر الجامع بين القسمين اللذين تضمّنتهما الآية الشريفة ، كي يكون المرجع بعد الوضوء هو استصحاب ذلك القدر الجامع.

وإنّما قلنا إنّ مفاد الآية الشريفة بعد التقييد بالعدم المزبور من قبيل التركّب

ص: 369


1- مقالات الأُصول 2 : 386.
2- مقالات الأُصول 2 : 386.
3- مقالات الأُصول 2 : 386.

من العرضين اللذين أحدهما وجودي وهو القيام من النوم والآخر عدمي وهو عدم الجنابة ، لأنّ ذلك هو ظاهرها ، حيث إنّ المخاطب بالوضوء وإن كان هو المكلّف ، لكن الشرط فيه هو القيام من النوم بضميمة عدم الجنابة ، فيكون مركز الحكم هو القيام وعدم الجنابة ، وهذا المركب هو الشرط في وجوب الوضوء على المكلّف.

نعم ، لو كان الحكم المذكور قد برز بقالب أيّها القائم من النوم توضّأ ، لكان ذلك من قبيل العناوين ، وكان ضمّ بعضها إلى بعض من قبيل مفاد كان وليس الناقصتين ، لكن الظاهر من الآية الشريفة كون الشرط هو نفس القيام ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون المسألة من قبيل إحراز أحد الجزأين بالوجدان والآخر بالأصل ، ويتمّ أيضاً ما ذكرناه من عدم الجامع.

والذي تلخّص من جميع ذلك : أنّ إتّمام مطلب شيخنا قدس سره يحتاج إلى أُمور أربعة :

الأوّل : هو كون القسم الأوّل الذي أفادته الآية الشريفة هو المركّب من أثر النوم وعدم الجنابة.

والثاني : أنّ هذا التقيّد بعدم الجنابة مستفاد من الأدلّة الخارجية الدالّة على خروج حال الجنابة من قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ ) .

الثالث : أنّ هذا التقييد إنّما هو بمفاد ليس التامّة لا بمفاد ليس الناقصة.

الرابع : أنّه لا قدر جامع بين مفاد القسم الأوّل الذي هو أثر النوم مع عدم الجنابة ، ومفاد القسم الثاني الذي هو الجنابة نفسها.

وبعد تمامية هذه الأُمور الأربعة تكون المسألة من باب إحراز أحد الجزأين بالوجدان والآخر بالأصل ، وأنّه بعد الفراغ من الوضوء لا يبقى مجال للإشكال

ص: 370

باستصحاب القدر الجامع ، لما ذكر في هذا الأمر الرابع من أنّه لا يعقل الجامع بينهما كي يجري فيه الاستصحاب.

نعم ، لازم ذلك هو عدم جريان استصحاب الكلّي فيما لو تخيّل مثلاً أنّه محدث بالبول مثلاً مع عدم الجنابة فتوضّأ ، ثمّ بعد الوضوء التفت إلى أنّه كان متطهّراً ، وأنّه قبل وضوئه هذا قد طرأته حالة مردّدة بين البول والمني ، فإنّا قد قلنا فيما سبق أنّه وإن لم يكن هذا العلم الاجمالي المتأخّر عن الوضوء منجّزاً لكونه قد حدث بعد ارتفاع أحدهما المعيّن ، لكنّه يجري في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، وأنّه من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، ولو نزّلنا ذلك أعني النوم أو البول على الأثر الحاصل منهما يكون الأمر كذلك ، يعني أنّ القسم الأوّل يكون عبارة عن الأثر الحاصل من النوم وعدم الجنابة أو عدم الأثر الحاصل من الجنابة ، وبناءً على هذا الذي حرّرناه الآن لا يكون في البين قدر جامع كي يكون مورداً لاستصحاب الكلّي.

نعم ، يكون ذلك من قبيل الفرد المردّد بين البول مع عدم الجنابة والجنابة وحدها ، وقد تحقّق أنّه لا يجري الاستصحاب في الفرد المردّد. ولكن مع ذلك لا يجوز له الدخول في الصلاة بدون الغسل ، للشكّ في حصول الشرط الذي هو الطهارة ، لعدم إحرازه الدخول في القسم الأوّل وهو من بال ولم يكن جنباً ، لعدم إحرازه الجزء الأوّل وهو البول ، وإن جرى في حقّه أصالة عدم الجنابة. نعم يجوز له مسّ المصحف لعدم إحرازه الحدث فعلاً ، كما يجوز له المكث في المسجد لعدم إحرازه الجنابة ، مضافاً إلى جريان أصالة عدمها في حقّه.

وبذلك يحصل الفرق بين هذه الصورة وبين ما لو كان علمه الاجمالي سابقاً على وضوئه ، فإنّه لا يجوز له مسّ المصحف أيضاً ، كما لا يجوز له الدخول في الصلاة ، بل لا يجوز له المكث في المسجد وإن توضّأ بعد ذلك ، للعلم الاجمالي

ص: 371

المنجّز لهذه التكاليف كلّها قبل الوضوء ، لا لأجل استصحاب كلّي الحدث ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ قال في المقالة : مع أنّ لازمه إمّا الاكتفاء بالوضوء المزبور حتّى في صورة العلم بالطهارة السابقة ، من جهة استصحاب عدم الجنابة الحاكم على الشكّ في صحّة الوضوء ، بناءً على كون موضوع الوضوء الرافع من لم يكن جنباً ، وإن كان الموضوعُ المحدثَ بالأصغر الذي لم يكن جنباً ، يلزم عدم الاكتفاء بالوضوء في فرض العلم بعدم الجنابة سابقاً مع الشكّ في الطهارة أو الحدث الأصغر قبل الرطوبة المردّدة بين البول والمني ، ولا أظنّ التزامه من أحد ، إذ هو أيضاً مثل المعلوم الحالة من الحدث الأصغر في اكتفائهم بالوضوء محضاً بمقتضى قاعدة الاستصحاب ، مع أنّ موضوع رافعية الوضوء من عنوان المحدثية بالأصغر فعلاً بعد الرطوبة غير محرز ، كما لا يخفى الخ (1).

وفيه : أنّا لو اخترنا الشقّ الأوّل لم يتوجّه النقض المذكور ، لأنّ الحكم برافعية الوضوء وإن كان مترتّباً على مجرّد من لم يكن مجنباً من دون إحراز الحدث الأصغر ، إلاّ أن ذلك الحكم إنّما يترتّب لو جرى في حقّه أصالة عدم الجنابة ، والمفروض أنّها في الصورة المزبورة أعني من كان مسبوقاً بالطهارة معارضة بأصالة عدم الحدث الأصغر. نعم لو توضّأ باعتقاد أنّه محدث بالأصغر ثمّ بعد الفراغ من الوضوء تذكّر أنّه قد كان متطهّراً ، وأنّه قد طرأه البلل المردّد قبل وضوئه ، ففي [ مثله ] لا تكون أصالة عدم الأصغر جارية ، ويكون الجاري هو أصالة عدم الأكبر ، فلابدّ حينئذ من اختيار الشقّ الثاني ، وهو كون موضوع رافعية الوضوء مَن كان محدثاً بالأصغر ولم يكن مجنباً ، فلا يرد النقض الأوّل.

وكذلك الثاني ، فإنّ المكلّف في هذه الصورة التي هي مورد النقض الثاني

ص: 372


1- مقالات الأُصول 2 : 386 - 387 ( مع اختلاف في العبائر ).

يكون محرزاً للحدث الأصغر ، لأنّ من تردّد في حالته الفعلية بين الطهارة والحدث الأصغر ثمّ طرأه البلل المردّد ، إن كانت حالته السابقة هي الطهارة جرى في حقّه استصحابها إلى حين عروض البلل ، وكان في الحكم بمنزلة المتطهّر الذي طرأه البلل في وجوب الجمع ، وإن كانت حالته السابقة هي الحدث الأصغر جرى في حقّه استصحابه ، وكان بمنزلة المحدث بالأصغر الذي طرأه البلل المردّد ، غايته أنّه يكون إحرازه لكلّ من جزأي موضوع الرافعية وهما المحدث بالأصغر وعدم الجنابة إحرازاً بالأصل.

ويلحق به من لم يعلم حالته السابقة ، وتردّد في حالته الفعلية بين الطهارة والحدث الأصغر ثمّ طرأه البلل المردّد بين البول والمني ، فإنّ من تردّد في كونه محدثاً بالأصغر أو متطهّراً ولم تكن حالته السابقة معلومة لديه ، يحكم عليه بأنّه محدث بالأصغر ، فإنّ لازم هذا التردّد هو كونه مسبوقاً بالحدث ، فإنّ الطهارة حادثة مسبوقة بالعدم ، سواء كانت حاصلة من وضوء أو كانت حاصلة من غسل.

ولأجل ذلك يتوجّه الإيراد على ما فرضوه في صورة علمه بالحدث والوضوء والشكّ في المقدّم منهما ، من أنّه تارةً يعلم بحالته السابقة وأنّها الوضوء أو أنّها الحدث وتارةً لا يعلم ، من أنّه لا محصّل لفرض الجهل بالحالة السابقة على حالة علمه بكلّ منهما وتردّده في السابق.

وهذا الإيراد متوجّه على الشهيد الثاني قدس سره في الروضة ، حيث قال في مسألة تعاقب الحالتين الوضوء والحدث ما هذا لفظه : ولا فرق بين أن يعلم حاله قبلهما بالطهارة أو بالحدث أو يشكّ (1).

كما أنّه متوجّه أيضاً على السيّد قدس سره في العروة ، فإنّه قال في مسألة 38 : وأمّا

ص: 373


1- الروضة البهية 1 : 82.

إذا كان مأموراً به ( يعني بالوضوء ) من جهة الجهل بالحالة السابقة فنسيه وصلّى ، إلى أن قال : وكذا الحال إذا كان من جهة تعاقب الحالتين والشكّ في المتقدّم منهما (1) فإنّه يرد عليه : أنّ الجهل بالحالة السابقة من حيث الحدث والوضوء لا يتصوّر إلاّمع تعاقب الحالتين ، فكيف جعله مقابلاً لتعاقب الحالتين.

وكأنّ الأُستاذ العراقي قدس سره أخذ هذا الفرض الذي أفاده في النقض من هذه العبارة في العروة ، ولعلّ مراده بالنقض المذكور هو ما لو علم بأنّه قد صدر منه البول والوضوء ولم يعلم السابق منهما ، ثمّ قبل أن يتوضّأ طرأه البلل المردّد بين البول والمني ، فإنّه في هذه الصورة لا يكون حدثه الأصغر محرزاً.

ولكن يمكننا الجواب عنه : أنّه أيضاً لا يلزمه إلاّ الوضوء لو كان التفاته إلى حالته السابقة بعد عروض ذلك البلل المردّد بين البول والمني ، بأن يقال : إنّه بعد عروض ذلك البلل المردّد بينهما التفت إلى حالته السابقة ، فعلم أنّه كان قد بال وقد توضّأ ولم يعلم السابق منهما ، فإنّه حينئذ يعلم بأنّ وضوءه السابق قد ارتفع إمّا بالبول السابق ، وإمّا بهذا المردّد بين البول والمني ، وحينئذ لا يجري في حقّه استصحاب الوضوء. نعم يجري في حقّه استصحاب أثر بوله السابق مع استصحاب عدم الجنابة ، فكان قد أحرز بهذين الأصلين كلا جزأي موضوع رافعية الوضوء ، وهما الحدث الأصغر مع عدم الجنابة ، وحينئذ يكون وضوءه رافعاً لحدثه ، كما لو أحرز الحدث الأصغر بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل.

وفيه تأمّل ، فإنّه وإن لم يلتفت إلاّبعد عروض البلل المردّد ، إلاّ أنه بعد عروض ذلك البلل المردّد يمكن أن يقال : إنّه يتعارض في حقّه استصحاب أثر وضوئه إلى ما قبل عروض ذلك البلل واستصحاب أثر بوله أيضاً إلى ما قبل

ص: 374


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 447 - 448 / شرائط الوضوء.

عروض ذلك البلل ، ومن حال عروض ذلك البلل يكون مردّداً بين الحدث الأصغر والأكبر ، ويسقط احتمال بقاء أثر وضوئه ، وحينئذ يكون حاله حال ما لو التفت قبل عروض ذلك البلل المردّد في أنّه يتعارض في حقّه استصحاب الوضوء واستصحاب أثر البول السابق أعني الحدث الأصغر ، وبعد تساقطهما يشكل الأمر فيه من جهة أنّه لم يحرز حدثه الأصغر كي نضمّ إليه استصحاب عدم الجنابة.

اللّهمّ إلاّ أن نقول : إنّه في ذلك الحال كان محكوماً شرعاً بأنّ وضوءه رافع لحدثه لو كان باقياً ، لأنّه لو كان باقياً يكون عدم الجنابة محرزاً عنده بالوجدان والآن بعد أن طرأه ذلك البلل المردّد نقول إنّ حدثه السابق لو كان باقياً ، لكان الجزء الثاني من موضوع رافعية وضوئه وهو عدم الجنابة محرزاً بالأصل.

وبهذا الأخير يندفع الإشكال فيما لو كان ذلك البلل مردّداً بين المني والمذي ، فإنّ التفاته إلى حالته السابقة لو كان بعد طروّه وإن كان يجري في حقّه استصحاب كلّ من أثر الوضوء السابق وأثر البول السابق ، ويتعارض فيه الأصلان ، إلاّ أنا نقول إنّ أثر بوله السابق لو كان باقياً فهو يرتفع بالوضوء لأصالة عدم الجنابة ، فذلك الحدث الأصغر لو كان باقياً كان الجزء الآخر من رافعية الوضوء له وهو عدم الجنابة محرزاً بالأصل.

وهكذا الحال فيما لو التفت قبل طروّ ذلك البلل ، فإنّه قبل طروّه يكون الجزء الآخر محرزاً بالوجدان ، وبعد طروّه يكون محرزاً بالأصل ، هذا.

ولكن في النفس شيء من التخلّص عن الإشكال في هذه الفروع بهذه الطريقة. والأولى أن يقال : إنّه وإن كان من قبيل التردّد في الحدث بين الأصغر والأكبر ، إلاّ أن هذا العلم الاجمالي منحلّ من جهة تنجّز احتمال الأصغر ، ويكون

ص: 375

المرجع في احتمال الأكبر الذي هو الجنابة هو الأصل النافي ، أعني أصالة عدم الجنابة ، وبعد الوضوء لا يتأتّى في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، لما عرفت من عدم تصوّر القدر الجامع بين الحدث الأصغر الذي هو أثر البول مع عدم الجنابة والحدث الأكبر الذي هو الجنابة نفسها ، ولولا هذه الجهة لكان الواجب عليه هو الجمع بين الوضوء والغسل ولو تخلّصا من استصحاب الجامع ، ولكانت هذه الفروع الأربعة داخلة فيما عنونه الشيخ قدس سره من التردّد بين الحدث الأكبر والأصغر مع عدم العلم بالحالة السابقة ، فلاحظ وتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة - أعني طريقة الانحلال - كما تجري فيما لو كان التفاته إلى حاله من تعاقب الحالتين قبل طروّ البلل المذكور ، فكذلك تجري فيما لو كان التفاته إلى ذلك بعد طروّ البلل المذكور ، لما عرفت من أنّه لو التفت إلى حالته السابقة بعد طروّ البلل المذكور يجري في حقّه استصحاب الوضوء إلى حين طروّ البلل المذكور ، كما يجري استصحاب أثر البول إلى حين طروّ ذلك البلل ، وبعد التساقط يكون محتملاً لكونه حين طروّ البلل محدثاً بالحدث الأصغر ، فيتنجّز في حقّه ، ويكون علمه الإجمالي بين الأصغر والأكبر حين طروّ البلل منحلاً.

ولو سلّمنا أنّ استصحاب الوضوء لا يجري في حقّه كان ذلك أولى بالانحلال ، لأنّه حينئذ ينفرد في حقّه استصحاب أثر البول إلى حين طروّ البلل ، وحينئذ يكون علمه الاجمالي منحلاً ، لأنّ أحد الطرفين وهو الحدث الأصغر يكون متنجّزاً في حقّه لاستصحاب حدثه الأصغر ، ويكون طرفه الآخر وهو الحدث الأكبر منفياً بأصالة عدم الجنابة ، فكان أحد طرفي العلم مجرى للأصل المثبت ، والآخر مجرى للأصل النافي ، وهو أولى بالانحلال فيما لو كان الأصغر

ص: 376

متنجّزاً بالاحتمال السابق.

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر أنّ من قد تعاقبت عليه حالتان الجنابة والغسل ، لو طرأه البلل المردّد بين البول والمني ، فحاله حال من تعاقبت عليه الحالتان البول والوضوء ثمّ طرأه البلل المردّد ، فيكون احتمال الجنابة منجّزاً بما تقدّم وينفى احتمال الحدث الأصغر بالأصل ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه الصور الأربع - وهي ما لو تعاقب البول والوضوء ولم يعلم السابق ثمّ طرأه البلل ، إمّا مردّداً بين البول والمني ، وإمّا مردّداً بين المني والمذي ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون التفاته إلى حالته السابقة وهي تعاقب الحالتين قبل طروّ البلل ، أو يكون التفاته إليها بعد طروّ البلل - يكون الإشكال فيها وارداً على الأُستاذ العراقي ، بل يرد عليه أيضاً الإشكال في الصورة التي ذكرها هو قدس سره نقضاً على ما أفاده شيخنا قدس سره ، ولا يتأتّى فيها الجواب الذي أفاده هو في أصل المسألة ، أعني إلقاء التعارض بين استصحاب كلّي الحدث واستصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، والرجوع بعد التساقط إلى استصحاب الحكم التعليقي ، وهو أنّه كان لو توضّأ لارتفع حدثه ، هذا الجواب لا يتأتّى في هذه المسائل الخمس ، لأنّه قبل طروّ ذلك البلل في هذه الصور لم يكن له يقين بالحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، كي يكون بعد طروّ ذلك البلل مورداً للاستصحاب ، ليعارض استصحاب كلّي الحدث هذا. مضافاً إلى ما عرفت من الإشكال في أصل الجواب المذكور.

نعم من أجاب عن الإشكال في أصل المسألة على تقدير التضادّ بين الحدثين بالقاء المعارضة بين استصحاب كلّي الحدث واستصحاب عدم الأكبر ، والرجوع بعد التساقط إلى استصحاب عدم وجوب الغسل ، يمكنه الجواب بذلك

ص: 377

عن الإشكال في هذه المسائل ، لكنّك قد عرفت المناقشة في الجواب المذكور.

قوله : فيكون المثال المتقدّم من صغريات الموضوعات المركّبة التي قد أُحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالأصل ، فإنّ النائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزأي الموضوع لوجوب الوضوء وهو النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ... الخ (1).

قد يقال : إنّ هذا - أعني كون إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل - إنّما يتمّ لو قلنا بالاشتداد أو الاجتماع ، أمّا لو قلنا بالتبدّل فلا يكون أحدهما وهو الحدث الأصغر محرزاً بالوجدان ، لاحتمال تبدّله إلى الأكبر ، بل يكون كلّ منهما محرزاً بالأصل ، لجريان الاستصحاب في حدثه الأصغر وعدم الجنابة ، فإنّ حدثه الأصغر وإن كان محرزاً وجداناً قبل طروّ البلل ، إلاّ أنه بعد طروّ البلل لا يكون محرزاً وجداناً ، فلابدّ من إجراء الاستصحاب فيه ليكون محرزاً بالأصل كإحراز عدم الجنابة ، وحينئذ يكون تمام الموضوع محرزاً بالأصل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّه إنّما يكون كذلك لو قلنا بأنّ في البين حدثاً أصغر وحدثاً أكبر ، وأنّه عند ورود الأكبر على الأصغر يتبدّل الأصغر إلى الأكبر ، أمّا لو لم نقل بذلك ، بل قلنا إنّه ليس في البين إلاّمثل النوم ، وأنّ هذا النوم لو اقترن بعدم الجنابة كان من القسم الأوّل الذي نصطلح عليه بالأصغر ، فلا ريب أنّ هذا النوم محرز بالوجدان ، وأنّ جزأه الآخر وهو عدم الجنابة محرز بالأصل ، بل قد عرفت أنّه بناءً على هذا التقريب لا تكون المسألة إلاّمن قبيل التبدّل ، بمعنى أنّه لو طرأت الجنابة على النوم يتبدّل الموضوع من القسم الأوّل الذي هو النوم المجتمع مع عدم الجنابة إلى القسم الثاني ، وهو الجنابة وحدها أو هي مع النوم سابقاً أو لاحقاً ، وأنّه

ص: 378


1- فوائد الأُصول 4 : 427.

بناءً على ذلك لا يتصوّر اجتماع القسم الأوّل مع القسم الثاني ، وأنّه لا يتصوّر القدر الجامع بين القسمين كي يكون هو مورداً للاستصحاب ، وهذا الأخير هو الحجر الأساسي في سقوط استصحاب الكلّي في المقام ، فراجع ما حرّرناه أخيراً في بيان ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس سره (1).

ولكن ما أفاده قدس سره من كون المقام من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، إنّما يتمّ بما عرفت من أنّه ليس في البين حدث أصلاً ، وإنّما الموضوع هو النوم المجتمع مع عدم الجنابة ، أمّا لو قلنا بأنّ المراد من النوم هو أثره ، وأنّ الموضوع هو أثر النوم مع عدم الجنابة ، كان إحراز كلا الجزأين بالأصل.

والظاهر أنّ هذا هو المتعيّن ، فإنّا لو أخذنا عدم الجنابة منضمّاً إلى وجود البول ، كان ذلك المجموع سبباً مؤثّراً في مرتبة من الحدث ، كما أنّ الجنابة لو وجدت كانت سبباً مؤثّراً في المرتبة العليا من الحدث ، وحينئذ يكون الجامع بين المرتبتين معقولاً ، وأنّه لو وجدت المرتبة الأُولى ثمّ حدث سبب المرتبة الأُخرى فإمّا أن نقول بالتبدّل أو بالتأكّد أو بالاجتماع.

فتتوجّه حينئذ الإشكالات المتقدّمة من أنّه لو شكّ في حدوث المرتبة الثانية على المرتبة الأُولى ، يكون المورد بناءً على الأوّل من استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، وبناءً على الثاني يكون المورد من استصحاب ذات المرتبة الأُولى ، مضافاً إلى استصحاب القسم الثاني من الكلّي. وبناءً على الثالث يكون المورد من استصحاب شخص المرتبة الأُولى ، ولا ينفعنا استصحاب عدم الجنابة في إسقاط استصحاب الكلّي ، ولا في إسقاط استصحاب الشخص من الحدث

ص: 379


1- راجع الصفحة : 362 وما بعدها.

الذي قد حصل في الزمان السابق عند اجتماع البول وعدم الجنابة وتأثيرهما في المسبّب عن اجتماعهما ، وهو المرتبة الأُولى من الحدث ، فلابدّ في دفع هذه الإشكالات من الالتزام بأحد أمرين :

الأوّل : إنكار سببية هذه الأُمور لحدث ، وأنّه ليس في البين إلاّمجرّد وجود البول مجتمعاً مع عدم الجنابة ، وحكمه الوضوء ، والجنابة وحدها أو منضمّة إلى وجود البول سابقاً أو لاحقاً ، والحكم فيها هو الغسل ، وهكذا الحال في باقي الأحكام ، من حرمة مسّ المصحف وحرمة اللبث في المسجد وعدم جواز الدخول في الصلاة أو عدم تحقّق شرطها.

ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد ، بل مخالفته لظاهر الفتاوى والأدلّة من كون النوم مثلاً ناقضاً للطهارة ، فإنّها ضدّ الحدث ، فلابدّ أن يكون النوم مثلاً مؤثّراً أثراً يكون هو ضدّ تلك الطهارة ، وحينئذ يتعيّن :

الوجه الثاني : وهو أنّ الحدث الأوّل عبارة عن ذات أثر النوم لكن عند اجتماعه مع عدم أثر الجنابة أو عند اجتماعه مع عدم الجنابة ، فيكون الحدث الأوّل مركّباً من أمر وجودي وهو ذات أثر النوم ، وأمر عدمي وهو عدم الجنابة أو عدم أثرها ، فليست المقابلة بين ذات أثر النوم وذات أثر الجنابة ، بل المقابلة تكون بين المجموع المركّب من أثر النوم وعدم الجنابة أو عدم أثر الجنابة وبين أثر نفس الجنابة ، سواء كانت وحدها أو مسبوقة بالنوم أو ملحوقة به ، وحينئذ لا يكون في البين قدر جامع بين المركّب من أثر النوم وعدم أثر الجنابة أو عدم أثر (1) الجنابة ، وبين الجنابة أو أثرها كي يكون ذلك القدر الجامع مورداً لاستصحاب الكلّي.

ص: 380


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر زيادة كلمة : أثر ].

وذات أثر النوم وإن اجتمع مع الأكبر إلاّ أن مجرّد حدث النوم لا أثر له ، وإنّما موضوع الأثر هو المركّب ، ولا يعقل اجتماع المركّب من أثر النوم مع عدم الجنابة أو أثرها مع الجنابة نفسها أو أثرها ، كي تأتي شبهة استصحاب ذلك الشخص من الحدث الذي كان موجوداً قبل طروّ ذلك البلل ، سواء كان الاجتماع من قبيل الاشتداد أو كان من قبيل اجتماع غير المتضادّين ، بل لا تكون المسألة إلاّ من قبيل التبدّل ، لكن ذلك لا يوجب كون المسألة من باب إحراز أحد الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان الذي هو ذات أثر النوم ، لعدم إحرازه وجداناً ، بل لابدّ من إحراز كلّ منهما أو المجموع منهما بالأصل ، فلاحظ.

قال السيّد سلّمه اللّه في الصورة الثانية - بعد أن أرجعها إلى القسم الأوّل من الثالث من الكلّي الذي بنى على عدم جريان الاستصحاب فيه - : فأصالة عدم الحدث الأكبر محكّمة ، ومقتضاها عدم الحاجة إلى الغسل. نعم لو احتمل أنّ الأصغر إذا اجتمع مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، كان بقاء الحدث الأصغر بعد الوضوء محتملاً لاحتمال كون الرطوبة منياً ، وعليه فاستصحاب بقاء الأصغر محكّم ولابدّ من الغسل ، وهذا بعينه جارٍ في الصورة الثالثة ، إذ أنّ مرتبتي الوجود الواحد بمنزلة الوجودين ، ثمّ قال بعد ذكر الروايتين الشريفتين (1) : وحينئذ فإمّا أن يستفاد منهما أنّ الوضوء مطهّر للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً ، أو أنّ الأصغر يرتفع بالوضوء وإن كان مقارناً للأكبر ، وأنّه لا تضادّ بينهما ، وأنّ الصورة الأُولى خلاف الواقع. فعلى الأوّل يكتفى بالوضوء على تقدير كلّ من الصور ، إذ في الأُولى يحرز تمام الموضوع بالاستصحاب ، وفي الأخيرتين يحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل. وعلى الثاني يكتفى بالوضوء على تقدير إحدى

ص: 381


1- المتقدّمتين في هامش الصفحة : 366 - 367.

الأخيرتين كما عرفت الخ (1).

الصورة الأُولى من الصور المحتملة هي التضادّ والتبدّل ، والثانية هي الاجتماع ، كلّ في محلّه ، والثالثة هي الاشتداد.

لا يقال : إنّ كون الوضوء مطهّراً للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً عبارة أُخرى عن أنّ الحدث الأصغر إذا اجتمع مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، وقد تقدّم منه أنّه على هذا التقدير يكون استصحاب بقاء الأصغر بعد الوضوء محكّماً ، ولا ينفعه أصالة عدم الأكبر.

لأنّا نقول : فرق بين كون الحكم الشرعي هو أنّ الحدث الأصغر عند اجتماعه مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، وبين كون الحكم الشرعي هو أنّ الحدث الأصغر يرتفع بالوضوء عند عدم الأكبر ، وذلك هو المعبّر عنه في كلامه بأنّ الوضوء مطهّر للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً ، فلو كان الحكم الشرعي هو الأوّل كان استصحاب الحدث الأصغر محكّماً في الصورة الثانية والثالثة ، بل يضاف إلى ذلك في الصورة الثالثة استصحاب الكلّي الجامع بين الحدّين ، وهو من القسم الثاني.

وهذا بخلاف ما لو كان الحكم الشرعي هو الثاني ، فإنّ استصحاب عدم الأكبر على التقدير الثاني يكون محقّقاً لموضوع رافعية الوضوء ، غايته أنّه على الصورة الأُولى نحتاج إلى استصحاب نفس الحدث الأصغر واستصحاب عدم الأكبر ، فيكون كلّ من الجزأين محرزاً بالأصل ، وعلى الثانية والثالثة يكون أحد الجزأين وهو ذات الحدث الأصغر محرزاً بالوجدان ، وإنّما نحتاج إلى الأصل في الجزء الآخر وهو عدم الأكبر ، وهذا هو المراد من أنّه في الأُولى نحرز تمام

ص: 382


1- مستمسك العروة الوثقى 2 : 233 - 234.

الموضوع بالاستصحاب ، وليس مراده من ذلك أنّ استصحاب عدم الأكبر وحده محرز لتمام الموضوع ، إذ لا ريب حينئذ أنّ تمام الموضوع ليس هو مجرّد عدم الأكبر.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الطريقة هي طريقة شيخنا قدس سره وحاصلها هو ما عرفت من أنّ من يجب عليه الوضوء أو من يكون الوضوء رافعاً لحدثه وبعبارة الاصطلاح المحدث بالأصغر ليس هو مجرّد أثر النوم ، بل هو المركّب منه ومن عدم الجنابة ، وهذا - أعني المركّب من أثر النوم وعدم الجنابة - هو الذي عليه المدار في هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي الاحتمالات الثلاثة التي تصوّرناها عند ورود الجنابة على حدث النوم ، فإنّ هاتيك الاحتمالات لا تكون إلاّمن قبيل التصوّرات العقلية لكيفية الاجتماع ، ولا دخل لها في ترتّب تلك الأحكام وإجراء تلك الأُصول ، بل المدار في تلك الأحكام وإجراء هاتيك الأُصول على كون حدث النوم مجتمعاً مع عدم الجنابة وهو الحدث الأصغر حينئذ ، بخلاف ما إذا لم يكن مجتمعاً مع العدم المذكور ، بل كان مجتمعاً مع وجود الجنابة ، أو كانت الجنابة وحدها ، وهذه الطريقة متعيّنة بمقتضى الآية الشريفة ، فيتعيّن حينئذ حمل الروايتين عليها.

وأمّا الطريقة الأُخرى المؤلّفة من دعوى بطلان الصورة الأُولى لعدم التضادّ بين الحدثين ، ودعوى أنّ الحدث الأصغر عند اجتماعه مع الجنابة يكون الوضوء مؤثّراً في رفعه ، فالظاهر أنّه لا شاهد عليها ، ومجرّد إمكان حمل الروايتين عليها لا يكون دليلاً على صحّتها ، بعد أن كانت الآية الشريفة ناطقة بمقتضى الطريقة الثانية الموجبة لتعيّن حمل الروايتين عليها.

وأمّا مسألة استحباب الوضوء للنوم بعد الجنابة أو رافعيته للكراهة ، فلا

ص: 383

شاهد فيه على كونه رافعاً لأثر الحدث الأصغر ، بل هو حكم تعبّدي صرف ، نظير استحبابه للأكل والشرب المقرون بغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق أو غسل اليدين فقط على نحو التخيير أو الترتيب ، سيّما إذا نظرنا إلى وجود هذا الحكم عند الجنابة وحدها من دون أن يكون في البين حدث أصغر ، فإنّ الظاهر أنّ الوضوء مستحبّ في حقّه أو هو رافع للكراهة ، فليس ذلك الوضوء رافعاً لأثر الحدث الأصغر.

ثمّ بعد تسليم هاتين الدعويين تدخل المسألة في القسم الأوّل من الثالث من الكلّي ، وقد تقدّم الإشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، سيّما إذا قلنا بالصورة الثالثة ، وأنّ الاختلاف بينهما في الشدّة والضعف الذي بنى الأغلب على جريان الاستصحاب فيه ، لعدم الفرق في ذلك بين كون الشكّ في قوّة الطارئ وتردّده بين كونه مزيلاً للموجود بجميع مراتبه وكونه لا يزيل إلاّبعض مراتبه ، كما لو اتّصف الجسم بالسواد الشديد ، وقد وقع عليه الماء وشككنا في أنّه أزال تمام ذلك السواد ، أو أنّه لم يزل به إلاّ المرتبة الشديدة ، وبين كون الشكّ في قوّة الموجود ، وأنّه هل هو بالمرتبة الشديدة التي لا يزيلها بتمامها هذا المقدار من الماء بل إنّما يزيل مقداراً منها ويبقى منها مقدار آخر ، أو أنّه بالمرتبة الضعيفة التي يزيلها هذا المقدار ، كما لو علمنا بوجود النور في الغرفة وهبّت ريح عاصفة ، فإن [ كان ] الموجود فيها هو السراج النفطي فقط فقد زال النور فيها ، وإن كان معه ضياء كهربائي فقد ارتفع منها مقدار وهو المستند إلى النفطي ، وبقي المستند إلى الكهربائي.

وما نحن فيه من الحدث الأصغر والأكبر على تقدير الصورة الثالثة التي هي الاشتداد عند الاجتماع ، لو قلنا بأنّ الوضوء رافع لتلك المرتبة من الأصغر

ص: 384

المجتمعة مع الأكبر ، من قبيل النحو الثاني أعني كون منشأ الشكّ في الارتفاع هو الشكّ فيما هو الموجود من الحدث ، وهل هو المرتبة الشديدة المولّفة من الأصغر والأكبر ، أو هو خصوص المرتبة الضعيفة أعني الأصغر وحده ، وحينئذ يكون داخلاً في النوع الثالث من أقسام القسم الثالث من الكلّي الذي قال الأغلب بجريان الاستصحاب فيه ، إلاّ أن يقال : إنّهم إنّما يجرون الاستصحاب في ذلك للوحدة العرفية ، ويمكن منعها في المقام بدعوى كونهما متباينين بالنظر العرفي.

وهذا الأخير أعني دعوى كون المسألة من قبيل النوع الثالث من القسم الثالث ، وأنّ الاستناد في منع الاستصحاب فيها إنّما هو إلى التباين العرفي بينهما ، بعد البناء على أنّ مرتبة الحدث الأصغر ترتفع بالوضوء عند اجتماعها مع الأكبر من فوائد سيّدنا الأُستاذ المرحوم السيّد أبي الحسن الأصفهاني قدس سره حسبما حرّرته عنه في درسه تعليقاً على الكفاية.

ولكن يمكن التأمّل فيما أُفيد في النحو الأوّل ، أعني ما لو كان الموجود هو المرتبة الشديدة من السواد ، وقد شككنا في ارتفاعها بالتمام أو بقاء مقدار منها فإنّها خارجة عمّا نحن فيه ، لأنّ المستصحب فيها يمكن أن يكون هو الكلّي الصادق على الضعيف والشديد ، ويكون ذلك من قبيل القسم الأوّل من استصحاب الكلّي. ويمكن أن يكون المستصحب هو تلك المرتبة الضعيفة ، فإنّها كانت بذاتها موجودة في ضمن الشديدة ، بل لا يحتاج الاستصحاب فيها إلى تقدّم وجود المرتبة الضعيفة ، لجريانه فيما لو كان الموجود مردّداً من أوّل الأمر بين القوي والضعيف ، على وجه لو كان هو القوي لكان الضعيف موجوداً في ضمنه ، فكان الاستصحاب المذكور جارياً فيه.

وقد مثّل سيّدنا قدس سره لذلك بنجاسة الاناء المردّدة بين الولوغ وغيره من

ص: 385

النجاسات وقد غسل بالماء ، فإن كانت ولوغاً فقد ارتفع مقدار منها وبقي مقدار يتوقّف على التعفير ، وإن كانت غير الولوغ فقد ارتفعت بتمامها.

وفرق بين هذا المثال وبين مثال البقّة والفيل ، فإنّ الحادث في مثال البقّة والفيل يكون مردّداً بين الارتفاع وبين البقاء بتمامه ، بخلاف المثال فإنّ الحادث فيه لو كان هو غير الولوغ فقد ارتفع بتمامه ، وإن كان هو الولوغ فلم يرتفع بتمامه ، بل يبقى منه مرتبة.

وفيه : أنّها لو كانت ولوغاً كان المقدّم هو التعفير ، ولا أثر فيه لتقدّم الماء وحينئذ يدور بين الباقي بتمامه والمرتفع بتمامه. نعم في الحدث الأصغر لو احتمل ورود الأكبر عليه وقلنا بأنّه يرتفع بالوضوء ، يكون من قبيل ما لو تردّد بين المرتفع بتمامه والباقي ببعض مراتبه ، ولكن مع ذلك لا يكون من قبيل الشديد من السواد عند ورود الماء عليه الذي يشكّ في كثرته على وجه يكون قد رفعه بتمامه ، أو أنّه قليل لم يرفع منه إلاّمرتبة الشدّة وبقيت منه مرتبة ضعيفة ، فإنّ المرتبة الضعيفة كانت موجودة قطعاً ويشكّ في ارتفاعها ، بخلاف مسألة الحدث الأصغر والأكبر فإنّ المرتبة الضعيفة وهي الأصغر وإن كانت موجودة قطعاً ، إلاّ أن ها قد ارتفعت بالوضوء قطعاً ، وإنّما الذي يشكّ فيه هو تلك الزيادة التي تحصل من ورود الأكبر على الأصغر ، فالمرتبة التي يشكّ في بقائها ليست هي المتيقّنة ، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر ، والمتيقّن من المرتبة الضعيفة قد ارتفع قطعاً ، فيرجع الاستصحاب فيها إلى القسم الأوّل من الثالث.

وما أفاده سيّدنا قدس سره من أنّه من قبيل السواد المردّد بين الضعيف والشديد وقد وقع عليه قليل من الماء ، فإن كان ضعيفاً فقد ارتفع وإن كان شديداً فقد بقي مقدار منه ، فإنّ الأصغر عند اجتماعه مع الأكبر يشتدّ ، فإن كان وحده فقد ارتفع

ص: 386

الحدث بتمامه ، وإن كان قد اشتدّ مع الأكبر لم يكن الوضوء رافعاً إلاّلشدّته.

ففيه : أنّه لا يكون من هذا القبيل أيضاً ، للفرق الواضح بين المثالين ، ففي مثال السواد المردّد يكون الضعيف معلوم الوجود ، فإن كان وحده فقد ارتفع ، وإن كان في ضمن الشديد فالمرفوع هو الشدّة ويبقى ذلك الضعيف بحاله ، فيجري فيه الاستصحاب ، بخلاف الأصغر والأكبر فإنّ الأصغر وإن كان معلوم الوجود على كلّ حال ، إلاّ أنه يرتفع بالوضوء على كلّ حال ، سواء كان وحده أو كان قد انضمّ إليه الأكبر ، لأنّ الوضوء لا يرفع الشدّة الآتية من ناحية الأكبر ، وإنّما يرفع نفس الأصغر ، فلا يكون إلاّمن قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، ويكون حال احتمال كونهما من قبيل الاشتداد حال احتمال كونهما من قبيل الاجتماع من دون اشتداد.

كلّ ذلك بناءً على ارتفاع الأصغر بالوضوء عند اجتماعه مع الأكبر في كون ذلك من استصحاب النوع الأوّل من القسم الثالث ، وإلاّ كان الجاري على تقدير كونهما من الاشتداد استصحاب شخص الأصغر واستصحاب النحو الثاني من الكلّي ، وعلى تقدير الاجتماع من دون اشتداد كان الجاري هو استصحاب شخص الأصغر دون الكلّي ، كما عرفت تفصيله.

قوله : وأمّا الوجه الثاني وهو ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارناً لارتفاع الفرد المتيقّن ، فعدم جريان الاستصحاب فيه أوضح ... الخ (1).

ومن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم يندفع الإشكال في الفرع المعروف بالإشكال المشهور بفرع المخدع (2) وهو ما لو كان محدثاً بالأصغر

ص: 387


1- فوائد الأُصول 4 : 428.
2- المِخدَع ، المُخدَع ، المَخدَع : بيت داخل البيت الكبير [ غرفة النوم ] المنجدمادّة « خدع ».

فدخل المخدع ، وبعد أن خرج شكّ في أنّه عند دخوله في المخدع هل كان قد توضّأ وصلّى ، أو أنّه لم يفعل شيئاً من ذلك بل قد أجنب ، فإنّ منشأ الإشكال فيه هو أنّه بعد فرض جريان استصحاب الحدث الأصغر في حقّه ، لو أراد الوضوء والصلاة بدون غسل الجنابة - إذ لم يثبت موجبه بل كان استصحاب عدمها جارياً في حقّه - يعلم بعدم كونه مأموراً بهما ، إمّا لأنّه على جنابة وإمّا لأنّه قد امتثلهما.

والجواب عنه : هو المنع من جريان استصحاب الحدث الأصغر في حقّه ، للعلم بارتفاعه إمّا بالوضوء أو بالجنابة ، بناءً على ما قدّمناه من عدم اجتماع الحدث الأصغر مع الجنابة ، وحينئذ فمقتضى أصالة الاشتغال في الصلاة السابقة المحتملة ولزوم إحراز الشرط في الصلوات اللاحقة ، هو لزوم الغسل وإعادة الصلاة السابقة المحتملة. وأمّا استصحاب عدم الجنابة فهو وإن اقتضى عدم لزوم الغسل ، إلاّ أنه إنّما يقتضي ذلك إذا أمكنه الوضوء ، فبفعل الوضوء وأصالة عدم الجنابة يكون محرزاً للشرط في الصلوات الآتية ، أمّا إذا لم يمكنه الوضوء لما عرفت من العلم بعدم كونه مأموراً به ، فلا ينفعه أصالة عدم الجنابة.

ولو كان متطهّراً من الأصغر والأكبر ، وتردّد في الحادث بين الصلاة والحدث الأكبر ، جرى في حقّه استصحاب الطهارة ، لكنّه لا ينفعه في هذه الصلاة المعادة للعلم بعدم مطلوبيتها ، فلابدّ له حينئذ من الغسل ، نعم ينفعه بالنسبة إلى الصلوات الأُخر إذا أراد فعلها قبل إعادة تلك الصلاة. وينبغي مراجعة أوّل حاشية من حواشي ص 16 وحاشية ص 259 (1) فيما لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء الطاهر.

والأولى في هذا الفرع - أعني فرع المخدع - أن يقال : إنّه لا يجري في حقّه

ص: 388


1- راجع المجلّد السابع ، الصفحة : 520 وما بعدها ، وكذا المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 539.

استصحاب كلّي الحدث ، لكونه من القسم الثاني من القسم الثالث ، ولما عرفت فيما تقدّم من عدم القدر الجامع بين الحدثين ، كما أنّه لا يجري في حقّه استصحاب الحدث الأصغر ، لعلمه بارتفاعه إمّا بالوضوء أو بالجنابة.

ومن ذلك تعرف أنّه لا يتمّ فيه ما ذكرناه من إحراز الحدث الأصغر بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، ليتوجّه الإشكال حينئذ بأنّه كيف يتوضّأ ويصلّي الصلاة المحتملة مع علمه أنّه إمّا قد امتثلهما أو أنّه فعلاً على جنابة ، وذلك لوضوح أنّ حدثه الأصغر الوجداني قبل دخوله المخدع لا يفيده ، بل لابدّ من جرّه إلى حالته الفعلية بعد خروجه من المخدع ، ولا يكون ذلك إلاّبالاستصحاب ، وقد علم بسقوطه وارتفاع حدثه الأصغر ، وحينئذ يبقى هو وأصالة عدم الجنابة وأصالة عدم الاتيان بالوضوء والصلاة ، فإن تعارضا كما هو الظاهر لكونهما إحرازيين يعلم بكذب أحدهما ، وحينئذ يبقى هو واحتماله الجنابة واحتمال بقاء اشتغال ذمّته بالصلاة ، فيجري البراءة في كلّ ما يحرم على المحدث والجنب ، لكن بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة يلزمه إحرازها ، وذلك لا يكون إلاّبالغسل أمّا الوضوء فهو قاطع بعدم مطلوبيته.

نعم ، لو قلنا بعدم المعارضة بين أصالة عدم الجنابة وأصالة عدم الاتيان بالصلاة ، وأجريناهما معاً لعدم لزوم مخالفة قطعية ، أو لأنّ الجاري في ناحية الصلاة هو أصالة الاشتغال ، كان محكوماً عليه فعلاً بأنّه مشغول الذمّة بالصلاة وأنّه لم يجنب.

وإن شئت فقل : إنّه محكوم بأنّه لم يصدر منه الوضوء والصلاة ولم تصدر منه الجنابة ، وهذا المقدار لا يكفيه في صحّة صلاته التي يصلّيها ، سواء كانت هي تلك التي احتملها أو غيرها ، فإنّ هذين الأصلين لا يحرزان له الطهارة التي هي

ص: 389

شرط الصلاة ، فلأجل لزوم إحراز الشرط يلزمه الغسل.

ومنه يظهر لك الحال في الفرع الآخر ، وهو ما لو كان متطهّراً وتردّد فيما صدر منه بين الجنابة والصلاة ، فلو قلنا بتعارض الأصلين أعني أصالة عدم الجنابة - الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب الطهارة - وأصالة عدم الصلاة ، كان اللازم عليه هو الطهارة بالغسل وإعادة الصلاة.

وهكذا الحال فيما لو توضّأ وتردّد فيما صدر منه بين الحدث الأصغر والصلاة ، لأنّا لو قلنا بالتعارض بين استصحاب وضوئه واستصحاب عدم الاتيان بالصلاة ، كان بعد التعارض شاكّاً في طهارته وصلاته من دون أصل محرز ، فيلزمه الوضوء والصلاة ، لكن لو لم نقل بتعارض هذين الأصلين لعدم لزوم المخالفة القطعية ، أو قلنا إنّ الجاري في ناحية الصلاة أصالة الاشتغال وفي الطهارة الاستصحاب ، أُشكل الأمر فيها ، لأنّ مقتضى استصحاب طهارته هو إحرازه للشرط ، وحينئذ لو صلّى يعلم أنّها غير مطلوبة ، إمّا لأنّه قد فرغ منها ، وإمّا لأجل أنّه غير متطهّر.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره وإن قال بتعارض الأُصول الاحرازية وتساقطها وإن لم يلزم المخالفة القطعية ، إلاّ أنه لا يقول بذلك في جميع ما يكون من موارد العلم بالخلاف ، بل إنّما يقول به في موارد خاصّة وضابط مخصوص ، حتّى أنّه التزم بجريانها في من توضّأ غفلة بمائع تردّد عنده بعد الوضوء بين الماء والبول ، فأجرى في حقّه استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، مع أنّه يتوجّه فيه نظير ما نحن فيه ، فإنّه لو توضّأ ثانياً من ماء طاهر يعلم أنّ وضوءه غير مأمور به ، إمّا لكونه متوضئاً أو لكون أعضائه نجسة ، فراجع ما علّقناه على ص 16 وص 259.

لو علم بأنّه تكلّم في حال قيامه كثيراً ، ولكنّه تردّد في أنّه كان من كلام

ص: 390

الآدميين أو كان هو القراءة ، وكان ذلك قبل الدخول في الركوع.

لو كان في حال القيام وتردّد في أنّه هل ركع أو أنّه استدبر القبلة.

لو شكّ بين الأقل والأكثر من حيث الركعات ، وعلم أنّه على تقدير الأقل قد ترك ركوعاً ، كمن شكّ بين الثلاث والأربع ، وعلى تقدير الثلاث فقد نقص ركوعاً أو قد زاد ركوعاً ، فلاحظ مسألة 12 ، ومسألة 43 من ختام العروة (1) ، ولاحظ ما حرّرناه في المجموعة (2) فيما لو تردّد بين الاستدبار وبين الركوع ، أو بين السكوت الطويل أو كلام الآدميين وبين القراءة ، فإنّ جميع هذه المسائل يكون اللازم هو العلم بأنّ ما يأتي به غير مأمور به لو لم نقل بتعارض مثل أصالة العدم في الركوع وأصالة العدم في ذلك المبطل ، إلاّ أن نقول : إنّ أصالة العدم في الركوع لا تجري ، إذ لا يمكن ترتيب أثرها عليها وهو وجوب الركوع ، فتنفرد أصالة عدم الاتيان بذلك المبطل ويمضي في صلاته من غير ركوع.

والتحقيق في فرع المخدع هو أن يقال : إنّه لا يجري في حقّه استصحاب حدثه الأصغر الذي كان قبل دخوله المخدع ، للعلم بارتفاعه إمّا بالحدث الأكبر وإمّا بالوضوء ، كما أنّه لا يجري في حقّه استصحاب عدم الوضوء ، لأنّ أثره هو وجوب الوضوء ، وهذا الأثر ينعدم في المسألة لأنّه لا يمكنه الوضوء ، لأنّه إمّا على جنابة أو على وضوء ، فلم يبق إلاّ أصالة عدم الجنابة ، وهذا لو سلّمنا جريانه لا ينفعه في إحراز شرط الصلاة ، إذ لو بنى على عدم الجنابة ولم يغتسل لم يمكنه الدخول في الصلاة ، فإنّ ذلك إنّما ينفعه لو كان قد أحرز صدور الوضوء ، ومجرّد عدم الجنابة لا يوجب الحكم بكون الصادر منه هو الوضوء إلاّبالأصل المثبت ،

ص: 391


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 334 و 377.
2- مجموعته قدس سره الفقهية مخطوطة لم تطبع بعدُ.

فلم يبق بيده ما يحرز به الطهارة ، فاللازم عليه إحرازها للصلاة التي يريد أن يأتي بها ، وذلك لا يكون إلاّبالغسل ، وعند صدور الغسل منه يعلم بأنّه على طهارة ، لأنّ الصادر منه إن كان هو الجنابة فقد ارتفعت بالغسل ولا يحتاج معه إلى الوضوء وإن كان الصادر منه هو الوضوء لم يحتج إلى إعادته ، أمّا الوضوء وحده بدون غسل فهو يعلم بأنّه غير واجب عليه. فتلخّص : أنّه لا يجب عليه الوضوء لا وحده ولا منضمّاً إلى الغسل ، ولا يحرز شرط الطهارة إلاّبالغسل ، وهو وحده كاف في ذلك.

ومن ذلك يظهر لك الحال في دوران أمره بين الركوع والتحوّل إلى عكس القبلة ، فإنّ أصالة عدم الالتفات والتحوّل لا تجري في حقّه ، لأنّها لا تثبت عدم (1) إتيانه بالركوع ، بل أقصى ما فيها أنّها تقضي عليه بالمضي في صلاته وهو لا يمكنه المضي فيها ، أمّا مع الاتيان بالركوع فلعلمه بأنّه غير واجب عليه ، إمّا لأنّه قد أدّاه وإمّا لأنّه في صلاة باطلة بالالتفات ، وأمّا مع عدم الركوع فلأنّه لا يمكنه ترك الركوع لكونه شاكّاً في الاتيان به. كما أنّ أصالة عدم الاتيان بالركوع أو قاعدة الشكّ في المحل لا تجري في حقّه ، لأنّها تقضي عليه بالاتيان بالركوع وهو لا يمكنه الاتيان به ، إمّا لأنّه قد أدّاه ، وإمّا لأنّه في صلاة باطلة ، وأصالة عدم الاتيان بالركوع لا تثبت أنّه قد حصل منه الالتفات إلاّبالأصل المثبت ، فبقي المكلّف في صلاة يحتمل بطلانها بالالتفات ، ولا أصل يحرز له عدم الالتفات ، فيلزمه قطعها والاستئناف.

ومن ذلك ما لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول ، فإنّه لا يمكنه إجراء استصحاب الحدث ، لأنّه يقضي عليه بالاتيان بالوضوء وهو لا يقدر عليه ،

ص: 392


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر زيادة : عدم ].

لأنّه إمّا وضوء على وضوء وإمّا وضوء على أعضاء نجسة ، وحينئذ يبقى هو والشكّ في الوضوء ، فيلزمه الاتيان به من باب لزوم تحصيل شرط الصلاة الذي هو الطهارة من الحدث ، لكن ذلك وحده لا يحصّل الشرط ، بل لابدّ من إحرازه طهارة أعضائه بغسلها ، وقاعدة الطهارة لا تجري في حقّه ، لأنّ جريانها يسدّ باب الوضوء الذي لزمه بمقتضى إحراز الشرط.

والخلاصة : هي أنّه لا يجري في حقّه كلّ من قاعدة الطهارة في الأعضاء واستصحاب الحدث ، لا أنّهما يجريان في حدّ أنفسهما كي نتكلّم في أنّهما متعارضان أو أنّهما غير متعارضين.

لا يقال : لِمَ لا يكون المرجع هو قاعدة الفراغ في الوضوء وقاعدة الطهارة في الأعضاء ، فيحكم بصحّة وضوئه لقاعدة الفراغ وبطهارة أعضائه لقاعدة الطهارة.

لأنّا نقول : قد حقّق في مبحث قاعدة الفراغ أنّها لا تجري فيما لو كانت صورة العمل محفوظة ، كما لو صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة ثمّ شكّ في أنّها هي القبلة ، وقد تعرّضنا لهذا الفرع في حواشي ص 16 من أصالة الاشتغال (1) ، وفي حواشي ص 256 و 259 من مباحث الاستصحاب (2) ، فراجع.

قوله : وليس السواد الشديد والضعيف كزيد وعمرو ، بحيث يكون وجود الإنسان في ضمن زيد نحواً يغاير وجوده في ضمن عمرو عقلاً وعرفاً ... الخ (3).

قد حرّرت عنه قدس سره في هذا المقام ما هذا نصّه : وضابط الفرق بينه وبين

ص: 393


1- راجع المجلّد السابع الصفحة : 520 وما بعدها.
2- راجع المجلّد الحادي عشر الصفحة : 524 و 539.
3- فوائد الأُصول 4 : 429.

القسم الثاني ، هو أنّ القسم الثاني من قبيل الانعدام والانوجاد ، وفي اصطلاحهم من قبيل النزع واللبس ، بخلاف القسم الثالث فإنّه من قبيل التبدّل مع وحدة مستمرّة ، فلا يكون من قبيل النزع واللبس ، بل من قبيل اللبس فاللبس مع وحدة مستمرّة ، ولأجل هذه الوحدة يكون الاستصحاب فيه جارياً ، وهو على قسمين : لأنّه إمّا أن يكون من قبيل التدريجيات كالزمان ونحوه ممّا يكون تدريجياً كالحركة والتكلّم ، وإمّا أن يكون من قبيل المراتب ، فالأوّل يجري فيه الاستصحاب ، لأنّه شيء واحد مستمرّ وإن تبدّل من شخص إلى آخر ، والثاني أيضاً يجري فيه الاستصحاب ، من جهة كون الفرد الثاني منه وهو الضعيف موجوداً في ضمن الفرد الأوّل وهو الشديد ، غاية الأمر أنّه عند وجود الفرد الشديد يكون الفرد الضعيف مندكّاً في ضمنه ، بمعنى أنّه لا يكون بحدّه موجوداً ، بل يكون في حدّ ذاته متحقّقاً في ضمنه ، وبعد ارتفاع الفرد الأوّل لو احتمل بقاء الفرد الثاني يتحدّد الفرد الثاني ، فإنّ السواد الضعيف موجود مندك في ضمن السواد الشديد ، وعند ارتفاع السواد الشديد يتحدّد السواد الضعيف ، فمع احتمال أنّ المرتفع هو المرتبة الشديدة لا مانع من استصحاب كلّي السواد الذي كان قد حصل اليقين بوجوده ، مع فرض الشكّ في بقائه ولو في ضمن المرتبة الضعيفة ، التي على تقدير بقائها تتحدّد بحدّها الضعيف.

قوله : لا أقول إنّ العدم الأزلي يتبدّل إلى عدم آخر ، فإنّ ذلك واضح البطلان ، بل العدم في حال حياة الحيوان هو العدم الأزلي قبل حياته ، غايته أنّه قبل الحياة كان محمولياً لعدم وجود معروضه ، وبعد الحياة صار نعتياً لوجود موضوعه ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كون العدم السابق على وجود الحيوان ليس بموضوع للحكم لا

ص: 394


1- فوائد الأُصول 4 : 433.

يوجب المنع من استصحابه إذا فرض ترتّب الأثر عليه بعد وجود الحيوان ، وكان استصحابه بعد وجوده. نعم يتمّ ذلك فيما لو قلنا إنّ الموضوع مركّب من وجود الحيوان وعدم التذكية ، من دون أن يكون الثاني نعتاً للأوّل ، أمّا بعد فرضه نعتاً له فلا يكون من هذا القبيل ، بل إنّ الموضوع فيه هو وجود الحيوان الذي هو متصّف بعدم التذكية ، ولأجل ذلك منعنا من الركون إلى مثل أصالة عدم القرشية ، فالعدم المحمولي وإن لم يتبدّل إلى العدم النعتي ، بل كان المأخوذ وصفاً هو ذلك العدم لكن لمّا زيد عليه اتّصاف الحيوان به في موضوعية الحكم ، لم يكن مجرّد أصالة العدم المحمولي نافعاً في تحقّق ذلك الموضوع إلاّبالأصل المثبت ، فلا يرد على شيخنا قدس سره أنّ هذه الجمل من قوله : لا أقول ، إلى آخرها ، منافية لمسلكه من عدم الركون إلى مثل أصالة عدم القرشية ، بل هي ملائمة لمسلك صاحب الكفاية قدس سره من الاعتماد على الأصل في مورد ترتّب الأثر على العدم النعتي.

ص: 395

[ استصحاب الزمان والزماني ]

قوله : وعلى كلّ حال ، المنع عن الاتّحاد الحقيقي لا يضرّ بصحّة الاستصحاب بعد الاتّحاد العرفي الذي عليه المدار ... الخ (1).

إجراء الاستصحاب في الزمان يحتاج إلى اعتبار الوحدة فيما بين الحدّين كالنهار مثلاً ، وإلى اعتبار كون الموجود بوجود أوّل جزء منه ، بحيث إنّه يصدق في أوّل النهار أنّه وجد النهار ليكون وجوده معلوماً ، ويكون الشكّ في انقضائه شكّاً في بقائه.

والظاهر أنّ كلاً من هذين الاعتبارين ليس بمبني على التسامح العرفي ، بل هما اعتباران عقلائيان نظير باقي الأُمور العقلائية التي يجرون عليها بعد الاعتبار من دون تسامح ولا تساهل عرفي.

نعم ، إنّما يتمّ جريان الاستصحاب في ذلك إذا كان الحكم مترتّباً على الوجود أو العدم بمفاد كان أو ليس التامّة ، لا ما إذا كان مترتّباً على كون هذا الآن نهاراً أو عدم كونه نهاراً كما أفاده قدس سره فيما سبق هذه العبارة ، وكما أنّ ذلك خارج عمّا يجري فيه الاستصحاب ، فكذلك تخرج عنه ما لو كانت الشبهة حكمية مفهومية ، بأن يشكّ في أنّ ما بين غروب الشمس إلى ذهاب الحمرة من النهار ، لكن ليس ذلك من جهة كون المقام حينئذ من المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع

ص: 396


1- فوائد الأُصول 4 : 436.

الارتفاع كما يظهر من الأُستاذ العراقي قدس سره في درسه وفي مقالته (1) ، ومثله جارٍ في جميع موارد الشبهات المفهومية ، مثل تردّد العدالة بين ترك مطلق الذنوب صغيراً وكبيراً ، أو كونها عبارة عن ترك خصوص الكبائر ، وتردّد الكرّ بين ما يزيد على الأربعين أو ما هو أقلّ من ذلك كالسبعة والعشرين ، إلى غير ذلك من الشبهات المفهومية ، بل لأنّ الاستصحاب لا يجري في موارد الشكّ فيها ولو بمفاد كان التامّة ، حيث إنّ هذه المفاهيم الوصفية بمنزلة الحكم لكونها محمولات وموضوعها المحمولة عليه مردّد بين الأقل والأكثر ، فلا يجري فيها الاستصحاب لعدم إحراز موضوعها ، فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة لاختلافهما في المحمول عليه.

وإن شئت فأبدل العدالة بوجوب الإكرام واجعل مركبه وموضوعه مردّداً بين تارك كلّ من الصغيرة والكبيرة وتارك الكبيرة فقط ، وافرض كون زيد بالأمس تاركاً لهما معاً ، وأنّه في هذا اليوم قد ارتكب الصغيرة فقط ، فإنّك تجد أنّ قضيّتك المتيقّنة هي الوجوب الوارد على تارك الاثنين ، وقضيّتك المشكوكة هي الوجوب الوارد على تارك خصوص الكبيرة ، فلا يمكنك الاستصحاب لاختلاف الموضوع في قضيّتك المشكوكة عمّا هو الموضوع في قضيّتك المتيقّنة.

نعم ، لو كان ذلك المحمول عليه - أعني تارك الكبيرة أو تارك الكبيرة والصغيرة - بمنزلة العلّة لتحقّق ذلك الوصف أو الحكم على وجه يكون صفة العدالة أو الوجوب كلون للشخص ، وتكون علّته مردّدة بين تركهما أو ترك خصوص الكبيرة منهما ، نظير حرارة الماء المردّدة بين كون علّتها هي الكهرباء أو النار العادية ، لأمكن القول بأنّ المستصحب فيها من قبيل الفرد المردّد بين مقطوع

ص: 397


1- مقالات الأُصول 2 : 394 - 395.

البقاء ومقطوع الارتفاع.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، فإنّه لو كان من قبيل تباين العلّة كما في النار والكهرباء بالنسبة إلى الحرارة ، لأمكن دعوى كون الحرارة من قبيل الفرد المردّد ، أمّا لو كانت العلّة المعلومة مردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في ترك مطلق الذنب أو ترك خصوص الكبائر بالنسبة إلى العدالة ، فلا تكون العدالة فيه إلاّشخصاً واحداً مردّداً بين البقاء والارتفاع ، ولعلّ مثله ما لو علمنا بوجود الحرارة للجسم ، وتردّد الحال في العلّة الموجدة لذلك الشخص من الحرارة هل هي اجتماع الكهرباء والنار أو هي النار وحدها ولم يكن الكهرباء موجوداً أصلاً ، ثمّ علمنا بارتفاع النار ولإن أمكن ادّعاء ذلك في مثل العدالة فهو في مثل الكرّية ممنوع ، ولإن أمكن ادّعاؤه في الكرّية فهو في مثل النهار ممنوع أشدّ المنع ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : ويكون كلّ آن جزءاً من الليل أو النهار لا جزئي ... الخ (1).

إذ لو كان النهار مثلاً كلّياً وكانت الآنات التي هي ما بين الحدّين أفراداً له ، لكان من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي ، للعلم حينئذ بارتفاع الفرد الأخير والشكّ في قيام فرد آخر مقامه ، لأنّ الآن المشكوك كونه من الليل أو النهار على تقدير كونه من النهار يكون من أفراد النهار ، ويكون قائماً مقام ذلك الفرد النهاري الذي انقضى ، وعلى تقدير كونه من الليل تكون أفراد النهار قد تصرّمت ، والباقي يكون من أفراد الليل ، فهو نظير ما لو وجد الكلّي في ضمن زيد ثمّ بعده في ضمن بكر ثمّ بعده في ضمن خالد ، ثمّ جاء الفرد الأخير المشكوك كونه من أفراد الإنسان.

ثمّ لا يخفى أنّ الكل وأجزاءه وإن لم يكن الكل مقطوع الوجود إلاّبعد تمام

ص: 398


1- فوائد الأُصول 4 : 436.

أجزائه كالسرير ، إلاّ أن ذلك إنّما هو في الكل القار الذات ، أمّا الكل غير القار فلا يكون وجوده إلاّبوجود أوّل أجزائه ، ويكون ارتفاعه بانقضاء تلك الأجزاء ، وحينئذ فمعنى الشكّ في انقضائه هو الشكّ في بقائه ، فيجري فيه استصحاب البقاء (1).

قوله : ولا يندفع الإشكال باستصحاب نفس الحكم كما يظهر من الشيخ قدس سره في هذا المقام ... الخ (2).

حاصل ما أشكله قدس سره في الدورات السابقة على هذا الاستصحاب أوّلاً : بأنّه إذا لم يجر الاستصحاب الموضوعي الذي هو استصحاب الوقت كيف يمكن إجراء الاستصحاب الحكمي مع فرض الشكّ في الموضوع. وثانياً : أنّ هذا الاستصحاب الحكمي لا فائدة فيه ولا أثر يترتّب عليه ، إذ لا يمكنه الاتيان بالفعل الواجب ، لعدم إحراز قيده وهو وقوعه في الوقت المضروب له.

ولكنّه قدس سره في الدورة الأخيرة أجاب عن الإشكال الأوّل بالفرق بين موضوع الحكم الذي يكون معروضاً له ، فلا يجري الاستصحاب عند الشكّ في بقائه ، وموضوع الحكم الذي يكون بمنزلة العلّة له ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه مع الشكّ في بقائه ، ولو كان أخذه فيه من قبيل العلّة حدوثاً وبقاء ، وبيان ذلك : هو أنّ قيد الحكم بعد أن أخرجناه عن كونه موضوعاً للحكم وجعلناه من قبيل العلّة للحكم ، فتارةً يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن كون تلك العلّة هل هي

ص: 399


1- فهو من حيث إنّ وجوده يتحقّق بأوّل آن من تلك الآنات يحذو حذو الكلّي ، ومن حيث إنّه يكون باقياً مستمرّاً ما دامت تلك الآنات باقية مستمرّة ... [ منه قدس سره. ولا يخفى أنّ في الأصل سقطاً في آخر العبارة ].
2- فوائد الأُصول 4 : 438.

علّة للحدوث والبقاء ، أو أنّ حدوثها علّة للحدوث وبقاءها علّة للبقاء ، كما في مثال تغيّر الماء الموجب لنجاسته بعد زوال التغيير ، وأُخرى يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن الشكّ في بقاء تلك العلّة ، كما في الشكّ في بقاء النور في الغرفة لأجل الشكّ في بقاء علّته التي هي وجود السراج فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وعن الثاني بأنّ استصحاب نفس الحكم نافع في الجهة المطلوبة ، لكون المستصحب هو الحكم بما له من المتعلّق المفروض كونه مقيّداً بالوقوع في الزمان الخاصّ ، فراجع التقريرات المطبوعة في صيدا (1).

لكن الجواب عن الإشكال الثاني لا يخلو من تأمّل ، لأنّ حدود متعلّق التكليف لا تدخل في المستصحب الذي هو نفس التكليف ، ولو سلّمنا دخول حدود متعلّق التكليف في الوجوب المستصحب ، بأن قلنا إنّ المتيقّن السابق هو الوجوب المتعلّق بالصوم الواقع في النهار ، وهذا المتيقّن برمّته نستصحبه ونجرّه إلى حالتنا الفعلية التي هي حالة الشكّ في بقاء النهار ، لم يندفع الإشكال المزبور ، فإنّ استصحاب الوجوب المتعلّق بالصوم المظروف للنهار لا يحقّق لنا أنّ صومنا في هذا الآن المشكوك هو صوم في النهار ، وذلك نظير ما لو كان يجوز أكل ذلك الحيوان الذي كان موجوداً في الغرفة لكونه من الغنم ، لكن احتملنا زوال ذلك الحيوان ووجود الأرنب مكانه ، فإنّ استصحاب جواز أكل ذلك الحيوان الموجود لا ينقّح لنا أنّ هذا الموجود من الغنم يجوز أكله.

وأمّا ما أُفيد في المستمسك في مقام تصحيح استصحاب الحكم ونفعه في إزالة الإشكال بقوله : ولا يقال عليه : إنّ المعلوم الثبوت سابقاً هو وجوب الصوم

ص: 400


1- أجود التقريرات 4 : 104 - 106.

في النهار ، والمقصود إبقاؤه هو وجوب نفس الصوم - إلى قوله - وأمّا بناءً على اعتباره بحسب نظر العرف فلا إشكال فيه ، كما أوضحناه فيما علّقناه على مباحث الاستصحاب من الكفاية ، فراجع (1).

فيمكن التأمّل فيه ، من جهة أنّه لم يكن الإشكال من ناحية أنّ المعلوم سابقاً هو وجوب الصوم في النهار ، وأنّ المقصود إبقاؤه هو وجوب نفس الصوم ، ليجاب عنه بالتسامح العرفي المذكور ، بل إنّ منشأ الإشكال هو أنّ المطلوب إحراز كون صومنا الفعلي صوماً في النهار ، بناءً على اعتبار الظرفية في المتعلّق ، كما قرّره في الصفحة السابقة ، فلاحظ.

والحاصل : أنّ هذه الجملة إنّما تقال في قبال من يريد إثبات وجوب نفس الصوم فعلاً استناداً إلى أنّ الوجوب كان متعلّقاً بالصوم في النهار ، فيورد عليه باختلاف المتيقّن مع المشكوك ، فإنّ المتيقّن السابق هو وجوب الصوم في النهار والمشكوك هو وجوب نفس الصوم فعلاً ، لا وجوب الصوم في النهار ، لعدم إحراز كون الآن الحاضر نهاراً ، أو لاحراز انقضاء النهار والشكّ في بقاء وجوب الصيام بعده ، كما سيأتي التعرّض له في من علم بوجوب القيام عليه نهاراً وقد انقضى النهار ولكنّه يحتمل بقاء وجوب القيام عليه في الليل أيضاً. وحينئذ يمكن الجواب عن هذا الإيراد : بأنّ المدار في الاتّحاد على النظر العرفي.

أمّا من يريد من استصحاب وجوب الصوم في النهار إثبات وجوب الصوم في هذا الآن المشكوك كونه نهاراً ، وأنّه بذلك يحرز القيد في هذا الصوم وهو كونه في النهار ، فمن الواضح أنّ هذه الجهة لا يصلحها التسامح العرفي وأنّ الاتّحاد المعتبر إنّما هو بالنظر العرفي لا بالنظر إلى لسان الدليل.

ص: 401


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 395.

وأمّا ما أشار إليه ممّا أفاده في الحاشية على الكفاية ، فالظاهر أنّ المراد به ما أفاده في المجلّد الثاني في مسألة ما لو وجب القيام في النهار مثلاً وقد علم بانقضاء النهار وشكّ في بقاء الوجوب بعده ، فإنّ صاحب الكفاية قدس سره قيّد الرجوع في ذلك إلى استصحاب الوجوب بخصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلاّظرفاً لثبوته لا قيداً مقوّماً لموضوعه الخ (1) وأجاب عنه بقوله : وفيه أنّ قيد الزمان كسائر القيود التي تؤخذ في موضوعات الأحكام لا يوجب انتفاؤه تعدّد الموضوع (2) ، وقاس ذلك على مثال التغيّر والنجاسة وزوال التغيّر.

ومن الواضح أنّ هذا إنّما ينفع في تصحيح استصحاب التكليف بعد العلم بارتفاع الظرف الذي هو النهار مثلاً والشكّ في بقاء نفس وجوب الصوم بعده ، ولا دخل له بما عرفت من الإشكال الراجع إلى أنّ استصحاب الحكم المذكور لا يترتّب عليه الجهة المطلوبة ، أعني إحراز قيد الفعل المأمور به الذي هو مقارنته للزمان المذكور أو وقوعه فيه ، فلاحظ.

ثمّ إنّ قياس المسألة على مسألة التغيّر لعلّه مع الفارق ، لأنّ باب التسامح في مسألة التغيّر راجع إلى دعوى كون التغيّر علّة في النظر العرفي على ما عرفت تفصيله ، وباب التسامح في المسألة المذكورة - أعني القيام في النهار - راجع إلى دعوى التسامح العرفي في القيد الذي هو الزمان ، وأنّه من باب الظرفية الصرفة لا من باب القيدية.

ولو سلّمنا كون التسامح في المسألتين واحداً فهو غير مربوط بما نحن فيه ، لأنّ المفروض فيما نحن فيه أنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً للصوم الواجب ، وأنّ الصوم

ص: 402


1- كفاية الأُصول : 409.
2- حقائق الأُصول 2 : 464.

المذكور مقيّد بكونه واقعاً في الزمان ، فدعوى عدم كونه قيداً خلاف المفروض في المسألة التي نحن فيها ، فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ تلك الجملة التي أفادها وهي قوله : ولا يقال عليه إنّ المعلوم الثبوت سابقاً هو وجوب الصوم في النهار ، والمقصود ابقاؤه هو وجوب نفس الصوم الخ ، وكذلك الجواب عنها بما هو راجع إلى

التسامح العرفي إنّما تناسب هذه المسألة ، وهي ما لو علم بوجوب القيام نهاراً وقد علم بانقضاء النهار وشكّ في استمرار الوجوب بعده ، فكان المتيقّن هو وجوب القيام في النهار والمشكوك هو بقاء وجوب نفس القيام ، ولا أخال هذه الجمل مناسبة لما نحن فيه ، فلاحظ.

قوله : فإنّ شيخنا مدّ ظلّه تعرّض للإشكال في المقام وأوعد الجواب عنه (1).

في الدورة الأخيرة أجاب قدس سره عن الإشكال المزبور بمنع كون الظرفية مأخوذة في متعلّق التكليف ، بل إنّ القيد هو الاجتماع مع الزمان المضروب ، فراجع ما حرّرته وحرّره عنه قدس سره في التقريرات المطبوعة في صيدا (2) ، إلاّ أنه خلاف فرض الإشكال ، لأنّه إنّما توجّه الإشكال على فرض كون الواجب مقيّداً بالظرفية المزبورة ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال لا يتأتّى فيما يكون الزمان شرطاً في التكليف وإن قلنا بأنّ ما هو شرط للوجوب يكون شرطاً للواجب ، لأنّ شرطية الواجب حينئذ على حذو شرطية الوجوب الذي يكفي فيها مجرّد وجود الزمان وإن لم تثبت

ص: 403


1- فوائد الأُصول 4 : 439.
2- أجود التقريرات 4 : 106 - 107.

بذلك الظرفية. ويمكن أن يقال : إنّ الزمان قيد للمكلّف ، وحينئذ يجري الاستصحاب في ناحية كونه في الزمان ، وهو كاف في حصول القيد المزبور.

ولا يخفى أنّ كلّ فعل واجب يكون مقيّداً بالزمان لابدّ أن يكون ذلك الزمان شرطاً في وجوب ذلك الفعل على ما حقّق في محلّه (1) من إبطال الواجب المعلّق ، وحينئذ نقول : إنّه عند الشكّ في بقاء ذلك الزمان نستصحب وجوده ، فيترتّب عليه وجوب ذلك الفعل ، ولا أثر للشكّ في صحّة ذلك الفعل الناشئ عن الشكّ في حصول قيده الذي هو وقوعه في ذلك الزمان ، إذ لا يترتّب أثر عملي على الفساد الآتي من هذه الناحية ، أعني ناحية عدم حصول القيد المذكور ، إذ على تقدير عدم حصول ذلك القيد لا يكون الوجوب متحقّقاً ، فعند استصحاب بقاء رمضان يجب صوم ذلك اليوم المشكوك ، ولا أثر للشكّ في صحّته من ناحية احتمال عدم وقوع ذلك الإمساك في رمضان ، إذ على تقدير هذا العدم لا يكون الصوم واجباً.

وبالجملة : أنّ كلّ قيد يكون احتمال عدمه ملازماً لعدم وجوب المقيّد لا أثر للشكّ في تحقّقه ، بعد فرض قيام الاستصحاب الموضوعي القاضي ببقاء الوجوب وإن لم يحرز به تحقّق قيد الواجب ، فلاحظ وتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو كان أصل الوجوب محقّقاً ولكن كان الشكّ في وجوب تلك القطعة المشكوكة ، بأن كان عليه صوم يوم بنذر أو قضاء وقد صامه وإلى آخره شكّ في دخول الليل ، فإنّه يجب عليه بحكم استصحاب بقاء النهار استمرار الصوم في القطعة الأخيرة المشكوكة إلى أن يعلم دخول الليل ، ولا يضرّه عدم إحراز كون ذلك الصوم في القطعة المذكورة واقعاً في النهار ، لأنّه على تقدير

ص: 404


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب الصفحة : 60 وما بعدها.

عدم كونها من النهار لا يكون ذلك مخلاً في صحّة صومه فيما مضى ، ولا يكون إمساكه في القطعة الأخيرة إلاّ إمساكاً خارجاً عن ذلك اليوم ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ قصده إلى الفعل بداعي ذلك الأمر الذي أحرزه باستصحاب بقاء الزمان كافٍ ، ولا يكون إحراز كون هذا الفعل مشتملاً على قيده المعتبر فيه - وهو وقوعه في الزمان الخاصّ - محتاجاً إليه في صحّة عمله المذكور لو صادف الوجوب الواقعي ، وإلاّ فلا وجوب في البين.

وهكذا الحال فيما لو شكّ في طلوع الشمس بالنسبة إلى صلاة الصبح مثلاً ، فإنّ استصحاب بقاء الوقت قاضٍ بوجوب الأداء ، ولا يضرّه عدم إحرازه القيد الذي هو كون الصلاة واقعة في الوقت ، لأنّه على تقدير عدم ذلك لا يكون موجباً إلاّ لعدم صحّة نيّة الأداء ، فإن قلنا بأنّه من قبيل الخطأ في التطبيق صحّت صلاته ولا حاجة إلى القضاء ، وإن لم نقل بذلك لزمه القضاء ، وذلك أمر آخر لا دخل له بما هو المراد من أنّه عند الشكّ في بقاء الوقت كان يلزمه نيّة الأداء ، ولو بقي على شكّه ولم ينكشف له الحال لم يلزمه شيء ، وفيه تأمّل.

ولو قلنا بأنّه يلزمه القضاء لعدم إحرازه صحّة ما أتى به بنيّة الأداء ، لم يكن ذلك أيضاً مخلاً بما هو المراد المذكور ، فتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّ شرط الوجوب في صلاة الظهر والعصر هو الزوال ، وأنّ كونهما واقعين فيما بينه وبين المغرب هو شرط الواجب ، فإنّ هذا القيد لكونه غير اختياري يكون موجباً لأن يكون وجود ذلك الزمان المستمرّ من الزوال إلى الغروب شرطاً في الوجوب.

وإن شئت فقل : إنّ حدوث ذلك الزمان شرط في حدوث الوجوب ، وبقاءه شرط في بقاء ذلك.

ص: 405

وأمّا ما في المستمسك (1) من كون النهار عبارة عن حركة الشمس وسيرها من المشرق إلى المغرب ، وهو لا يصلح لظرفية الإمساك ، وإنّما يصلح للمقارنة مع الإمساك ، نظير مقارنة الطهارة للصلاة ، وهما معاً مظروفان للأمد الموهوم ، ففيه أوّلاً : المنع من كون النهار بمعنى تلك الحركة ، وإنّما هو عبارة عن أمدها. وثانياً : لو سلّمنا كونه بمعنى نفس تلك الحركة فلا أقل من كونه - أعني الامساك - مظروفاً للأمد الذي هو ظرف لهما ، كما يعطيه قوله : فمعنى قوله صم في النهار ، صم في زمان فيه النهار (2) وحينئذ لا يكون استصحاب النهار بمعنى تلك الحركة كافياً في تحقّق القيد المذكور ، أعني كون الامساك واقعاً في الزمان الخاصّ ، أعني الزمان الذي فيه النهار.

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد هو أنّ القيد المأخوذ في فعل المكلّف هو مقارنته لحركة الشمس من المشرق إلى المغرب ، وهما معاً مظروفان للأمد الموهوم ، إلاّ أنّ هذه الظرفية قهرية ولم تكن مأخوذة قيداً في فعل المكلّف. وفيه تأمّل ، لأنّ المدار على النظر العرفي لا الدقّة. ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه السيّد من هذا القبيل ، فإنّه قال : ويمكن أن يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة ، بأن تعتبر الظرفية وحيثية وقوع العبادة فيه الخ (3) فراجعه.

ولا يخفى أنّا لو أخذنا الزمان الخاصّ قيداً في الفعل الواجب على نحو الظرفية ، بأن كان الواجب هو الفعل الواقع في الزمان الخاصّ ، فاستصحاب بقاء الزمان الخاصّ لا ينقّح لنا هذا القيد أعني وقوع الفعل فيه ، لأنّ استصحاب وجود

ص: 406


1- مستمسك العروة الوثقى 8 : 394 ، 473.
2- مستمسك العروة الوثقى 8 : 473.
3- أجود التقريرات 4 : 107.

الزمان الخاصّ بمفاد كان التامّة لا يوجب كون هذا الآن الذي نحن فيه هو ذلك الزمان الخاصّ كي يكون فعلنا واقعاً في ذلك الزمان الخاصّ ، وهذا هو أصل الإشكال.

وهذه الجهة من الإشكال غير مبنية على دعوى كون ذلك الزمان الخاصّ صفة للفعل كي يجاب عنها بقوله : إذ ليس الزمان والعبادة من قبيل العرض ومحلّه الخ (1) بل هي مبنية على أخذ الزمان المذكور ظرفاً للفعل الواجب ، واستصحاب وجود ذلك الزمان بمفاد كان التامّة لا ينقّح الظرفية المذكورة ، بل لابدّ من إثبات أنّ هذا الزمان الذي نحن فيه هو ذلك الزمان الخاصّ ، كي يكون إيقاع فعلنا في هذا الآن الذي نحن فيه إيقاعاً له في ذلك الزمان الخاصّ ، وحينئذ لابدّ في إجراء الاستصحاب في ذلك من دعوى استصحاب اتّصاف هذا الآن الذي نحن فيه بأنّه هو ذلك الزمان ، بأن نقول إنّ هذا الآن آن نهاري مثلاً ، ولا أصل في البين يحرز لنا هذا المفاد الذي هو مفاد كان الناقصة ، وليس استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة لإثبات كون هذا الآن الذي نحن فيه نهاراً إلاّمن قبيل استصحاب وجود الإنسان في هذه الغرفة لإثبات كون هذا الحيوان الموجود فيها فعلاً إنساناً.

والذي تلخّص : هو أنّه لا مخلص من هذا الإشكال إلاّبانكار قيدية الظرفية وأخذ القيد مجرّد الاجتماع ، أعني اجتماع فعلنا مع وجود النهار بمفاد كان التامّة. نعم بعد تمامية ما قدّمناه من كون تقيّد الفعل بوقوعه مظروفاً للنهار موجباً لكون وجوبه مشروطاً بذلك ، لا يبقى للشكّ في صحّة هذا الفعل لو أوقعناه في هذا الآن المشكوك كونه نهاراً أثر ، لما عرفت من أنّ فساده حينئذ ملازم لعدم وجوبه على

ص: 407


1- أجود التقريرات 4 : 107.

ما عرفت تفصيله فلاحظ ، بل لو لم نقل بأنّ الوجوب مشروط لم يكن أثر لفساد الفعل ، إذ لا ريب في عدم وجوب الزائد على القيد المذكور ، أعني الامساك من أوّل الفجر إلى الغروب.

وإن شئت فقل : إنّه لا دليل على لزوم إحراز الشرط ، وإنّما الواجب هو الاتيان بالعمل واجداً للشرط وإن لم يكن الشرط حين العمل محرزاً. نعم في مورد يكون الشكّ في حصول الشرط موجباً للشكّ في حصول الامتثال كما فيما لا يكون ذلك الشرط شرطاً في نفس التكليف أيضاً ، فإنّه يكون العقل حاكماً بلزوم إحرازه ، لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، حذراً من اتّفاق فقدان الشرط الموجب لفساد العمل مع فرض بقاء التكليف الموجب لاستحقاق العقاب ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى - وهو الفرار من احتمال العقاب على تقدير مصادفة انعدام الشرط - لا يتأتّى فيما نحن فيه.

وبالجملة : أنّ قاعدة شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني إنّما تقتضي لزوم إحراز الشرط في المورد الذي يتوقّف فيه الفراغ اليقيني على إحراز الشرط ، أمّا لو لم يتوقّف الفراغ اليقيني على لزوم إحراز الشرط ، فلا يكون في البين ما يوجب إحرازه.

نعم ، إنّ هذه الطريقة لا تأتي في الحكم التحريمي أو الجواز ، كما لو فرضنا أنّ دخول يوم الجمعة كان شرطاً في حرمة الاكتساب والبيع على نحو ما دام ، وكان البيع المحرّم هو البيع الواقع في يوم الجمعة ، فيكون الحاصل أنّه إذا دخل يوم الجمعة فما دام اليوم موجوداً يحرم البيع الموجود في ذلك اليوم ، فلو شكّ في بقاء اليوم جرى استصحابه القاضي ببقاء حرمة البيع في يوم الجمعة ، لكنّه لا يوجب الحكم على هذا البيع الذي يوجده الآن بالحرمة ، لعدم إحراز قيد الفعل

ص: 408

المحرّم وهو كونه في يوم الجمعة ، ولعلّه يمكنه حينئذ الرجوع في ذلك البيع الذي يوجده الآن إلى أصالة البراءة.

وهكذا الحال فيما لو قلنا بأنّ دخول الليل شرط في حلّية الأكل على نحو ما دام ، ولكن يكون الأكل الحلال مقيّداً بكونه واقعاً في الليل ، فإنّه بعد أن لم يكن استصحاب بقاء الليل قاضياً بحلّية الأكل الواقع في الآن المشكوك ، يمكنه الرجوع فيه إلى أصالة البراءة. لكن هذه فروض لا أساس لها ، فإنّ أقصى ما في البين هو كون حلّية الأكل مشروطة بدخول الليل ، وتبقى هذه الحلّية مستمرّة إلى دخول الفجر كما هو ظاهر الآية الشريفة ، وذلك قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) وسيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى توضيح الجواب وأنّه يستحيل تقييد الوجوب بالنهار مثلاً بنحو ما دام مع تقييد الصوم الواجب بكونه واقعاً في النهار أو كونه نهارياً أو كونه مقارناً لوجود النهار ، لأن التقييد الأوّل يوجب لغوية التقييد الثاني ، والتقييد الثاني لا يغني عن التقييد الأوّل وإن كان لازماً له ، بمعنى أنّ الشارع إذا أوجد التقييد الثاني فلابدّ له من التقييد الأوّل ، وحينما يشرّع يشرّعهما معاً ، لا أنّه يشرّع الثاني فيراه محتاجاً إلى الأوّل فيشرّعه.

وحينئذ نقول : إنّه إذا شرّعهما معاً كان التشريع الثاني لغواً ، وحينئذ فلا يكون لنا في هذا النحو من الموقتات إلاّ التشريع الأوّل من دون التشريع الثاني ، فلا يكون الفعل الواجب مقيّداً شرعاً بشيء وإن كان تحقّقه في النهار قهرياً ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 409


1- البقرة 2 : 187.
2- في الصفحة : 416 - 418.

نعم ، هنا مطلب آخر تعرّض له شيخنا قدس سره في الواجب المعلّق (1) وفي مباحث الواجب الموقت وغيره من المباحث ، وهو أنّ شرطية الزمان في الوجوب فيما تكون المصلحة متقوّمة بالفعل المقيد به ، تكون موجبة لتقيّد الوجوب به خطاباً لا ملاكاً ، بخلاف ما لو كان الزمان دخيلاً في المصلحة فإنّها تكون موجبة لتقييد الوجوب به خطاباً وملاكاً ، لكن هذا المقدار من الفرق لا يضرّ بالجهة التي نحن بصددها ، من أنّه مع تقيّد الوجوب بالزمان سواء كان خطاباً فقط أو كان خطاباً وملاكاً ، يكون موجباً للغوية تقييد الفعل الواجب بالوقوع في ذلك الزمان.

قول السيّد سلّمه اللّه : إنّ الزمان إذا كان متمحّضاً في الشرطية للحكم فلا محالة يكون مأخوذاً بنحو مفاد كان التامّة ، إذ اعتبار وقوع العبادة في زمان مخصوص الذي هو مفاد كان الناقصة إنّما يكون متأخّراً عن التكليف وواقعاً في مرتبة الامتثال ، فكيف يعقل أن يكون شرطاً للتكليف المتقدّم عليه رتبة ، وعليه فلا إشكال في استصحابه وترتيب أثره الشرعي عليه (2).

لا يخفى أنّ الزمان لو أُخذ شرطاً في التكليف يمكن أن يؤخذ بمفاد كان التامّة ، بأن يقال : إذا وجد النهار وجب الصوم ، فيجري فيه استصحاب وجود النهار عند الشكّ في بقائه. ويمكن أن يؤخذ بمفاد كان الناقصة شرطاً في التكليف ، بأن يقال : إذا كان الزمان نهاراً وجب الصوم ، ومثل هذا لا يجري فيه الاستصحاب. وأمّا كون الصوم واقعاً في النهار فهو ممّا لا ريب في امتناع أخذه شرطاً في وجوب الصوم ، لما أُفيد من أنّ كيفية وقوع المكلّف به لا يعقل أخذها شرطاً في التكليف ، وإنّما يمكن أخذها شرطاً في المكلّف به ، لكن ذلك - أعني

ص: 410


1- أجود التقريرات 1 : 209.
2- أجود التقريرات 4 : 106.

كون الصوم واقعاً في النهار - مطلب آخر غير أخذ النهار بمفاد كان الناقصة أعني كون الزمان نهاراً شرطاً في التكليف.

نعم لو أُخذت هذه الجهة - أعني كون الصوم واقعاً في النهار - شرطاً في المكلّف لم يكن استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة نافعاً في إحرازها ، بل يتوقّف إحرازها على استصحاب النهار بمفاد كان الناقصة ، بأن يقال كان الزمان نهاراً والآن كما كان ، وهذا الأصل لا أصل له ، وهذا هو عين الإشكال في استصحاب الزمان لأجل إحراز الظرفية المذكورة ، فلاحظ.

وحاصل الجواب عن الإشكال المذكور : هو أنّه لا ريب في أنّه قد أُخذ الزمان قيداً في الواجب الذي هو الصوم ، إلاّ أن أخذ الزمان قيداً في الصوم تارةً يكون من مجرّد الاجتماع مع الزمان في الوعاء الدهري ، وأُخرى يكون على وجه يكون الزمان ظرفاً للفعل الواجب ، وعلى الأوّل يكفي فيه استصحاب وجود النهار بمفاد كان التامّة ، بخلافه على الثاني فإنّه لا يكفي استصحاب النهار بمفاد كان التامّة ، بل لابدّ من استصحابه بمفاد كان الناقصة ، ولا أصل للاستصحاب المذكور حينئذ. وأمّا أخذ نفس الزمان بالنسبة إلى الفعل بمفاد كان الناقصة فهو غير معقول ، لعدم معقولية أخذ الزمان صفة للفعل لعدم كونهما من قبيل العرض ومحلّه ، إلاّ إذا أُخذ وصفاً بأن يقال إنّ الواجب هو الصوم النهاري.

ثمّ إنّ في التحرير المذكور بعض العبائر التي لا تخلو عن تسامح ، والأمر فيها سهل بعد وضوح المراد ، مثل قوله : ويمكن أن يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة ، بأن يعتبر الظرفية وحيثية وقوع العبادة فيه الخ (1) ، فإنّ الظرفية هي غير أخذ الزمان بمفاد كان الناقصة ، نعم لا ينفع في إحرازها إلاّ الاستصحاب بمفاد كان

ص: 411


1- أجود التقريرات 4 : 107.

الناقصة ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ ملخّص هذا الجواب الذي نقله السيّد سلّمه اللّه هو عبارة أُخرى عن الجواب الذي نقله المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ أدلّة التوقيت لا تقتضي أزيد من اعتبار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقّق معنى الظرفية الخ ، وأشكل عليه بقوله : هذا ولكن الظاهر أنّه لا سبيل إلى هذه الدعوى ، فإنّه لا يمكن إنكار دلالة أدلّة التوقيت على اعتبار الظرفية ووقوع الفعل في الزمان المضروب له - ثمّ قال : - وليكن هذا الإشكال على ذكر منك لعلّه يأتي بعد ذلك ما يمكن الذبّ عنه ، فإنّ شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) تعرّض للإشكال في المقام ، وأوعد الجواب عنه (1).

وحينئذ لابدّ أن يكون في البين جواب آخر غير هذا الجواب المشار إليه بقوله : اللّهمّ إلاّ أن يدّعى ، الذي فصله السيّد سلّمه اللّه في تحريره الذي [ هو ] عين المشار إليه بقول الشيخ محمّد علي : اللّهمّ إلاّ أن يدّعى.

والذي وجدته في تحريراتي هو أنّ شيخنا ( دام ظلّه ) ذكر أنّ هذا الإشكال ذكره الشيخ قدس سره في آخر التنبيهات ، وأوعد ( دام ظلّه ) أن يتعرّض له عند الوصول إلى ذلك المقام إن شاء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ الشيخ قدس سره في هذا التنبيه المعقود لجريان الاستصحاب في الزمان والزماني وهو التنبيه الثاني في كلامه - بعد أن وجّه جريان الاستصحاب باعتبار الوحدة - قال : إلاّ أن هذا المعنى - على تقدير صحّته والإغماض عمّا فيه - لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفاً بكونه من النهار أو من الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّعلى

ص: 412


1- فوائد الأُصول 4 : 437 - 439.

القول بالأصل المثبت مطلقاً أو على بعض الوجوه الآتية - إلى أن قال - فالأولى التمسّك في هذا المقام باستصحاب الحكم المرتّب على الزمان لو كان جارياً فيه ، كعدم تحقّق حكم الصوم والإفطار عند الشكّ في هلال رمضان أو شوال الخ (1).

ولا يخفى أنّ قوله : لا يكاد يجدي في إثبات الخ ، هو عين الإشكال المزبور ، فهو قدس سره إنّما ذكره في هذا التنبيه لا في مقام آخر الذي هو آخر التنبيهات أو غيره.

كما أنّ قوله قدس سره : فالأولى الخ ، إنّما هو إشارة إلى التمسّك باستصحاب عدم وجوب الصوم في الأوّل وعدم جواز الافطار في الثاني ، لا استصحاب وجوب الصوم في مثل الشكّ في بقاء النهار ، ومع ذلك قد قيّده هو قدس سره بقوله : لو كان جارياً فيه الخ ، ولعلّه احتراز ممّا ربما يتوجّه عليه ممّا أفاده هو بقوله : إلاّ أن جواز الافطار الخ ، فراجع تمام كلامه قدس سره.

ثمّ لا يخفى أنّ دعوى كون القيد هو مقارنة الصوم مع اليوم لا أنّ اليوم يكون ظرفاً للصوم ، وإن كانت مطابقة للدقّة ، حيث إنّه لا معنى لليوم إلاّمسير الشمس من المشرق إلى المغرب ، وهذا ليس من الظروف ، إلاّ أن العرف يرى المسألة من قبيل الظرف والمظروف ، والمتّبع في باب الاستصحاب وصدق اليقين والشكّ والبقاء إنّما هو النظر العرفي.

وأمّا قوله فيما تقدّم : فإن كان الزمان الجاري فيه الاستصحاب متمحّضاً في كونه شرطاً للحكم فقط من دون أن يكون قيداً للواجب ، إمّا من جهة كون الواجب موسّعاً ، أو من جهة كون وقوع الفعل فيه قهرياً ولو كان مضيّقاً من

ص: 413


1- فرائد الأُصول 3 : 204 - 205.

دون الخ (1) ، فحاصله هو أنّ أخذ الزمان شرطاً في الوجوب من دون أن يكون قيداً في الواجب يكون على نحوين :

الأوّل : أن يكون الواجب فيه غير منحصر بوقت خاصّ ، كأن يكون حدوث يوم الجمعة مثلاً شرطاً في وجوب التصدّق بدرهم في أيّ وقت وقع ذلك التصدّق ، وقد اصطلح على هذا بالموسّع ، فالمراد بالموسّع هنا ما يكون وقته العمر ، لا ما يكون وقته المضروب أوسع منه مثل ما بين الزوال والغروب بالنسبة إلى الظهرين.

والثاني : ما يكون أخذ الزمان شرطاً في الوجوب بنحو ما دام ذلك الزمان مثل أن يقول : إن دخل شهر رمضان وجب الصوم ما دام الشهر موجوداً ، ونتيجة هذا النحو من الاشتراط تضييق الواجب وكونه واقعاً قهراً في ذلك الزمان الذي أُخذ شرطاً في وجوبه ، من دون أن يكون ذلك الزمان قيداً في ذلك الفعل الواجب ، وهذا النحو يجري فيه استصحاب الشهر لو شكّ في بقائه ، وأثر هذا الاستصحاب هو بقاء وجوب الصوم.

لكن الظاهر أنّ هذا الاستصحاب لا موقع له في النحو الأوّل ، لأنّ وجود يوم الجمعة كافٍ في الحكم بوجوب التصدّق ، سواء انقضى اليوم المذكور أو لم ينقض. نعم لو كان الشكّ من ناحية أُخرى بأن بلغ المكلّف وقد شكّ في بقاء اليوم ، فإنّه يستصحب بقاءه ويجب عليه التصدّق ، ونظيره ما [ لو ] طهرت المرأة من الحيض وقد شكّت في بقاء الوقت ، بأن يكون الشرط هو إدراك الوقت ولو بعضه.

لكن الظاهر أنّه لا يوجد لذلك - أعني النحو الأوّل - مثال في الفقه بحيث

ص: 414


1- أجود التقريرات 4 : 103.

يكون الزمان المأخوذ شرطاً ممّا له بداية ونهاية وله نحو سعة مثل اليوم ونحوه.

قول السيّد سلّمه اللّه في تحريره : وأمّا إذا كان الزمان قيداً للواجب الخ (1).

لابدّ في ذلك الزمان الذي أُخذ قيداً في الواجب من كونه قيداً في الوجوب إمّا لما حقّق في محلّه من أنّ القيد في الواجب إذا كان خارجاً عن الاختيار لابدّ من كونه شرطاً في الوجوب ، وإمّا لأجل تصريح الدليل بأنّه قيد في كلّ من الوجوب والواجب.

وبالجملة : لو فرضنا كون الزمان ممحّضاً لقيدية الواجب من دون أن يكون قيداً في الوجوب ، لم يكن استصحابه موجباً لترتّب ذلك الوجوب ، بل لا يكون الشكّ في بقائه موجباً للشكّ في بقاء الوجوب ، إذ ليس ذلك الوجوب مربوطاً بذلك الزمان كي يكون الشكّ في بقاء ذلك الزمان موجباً للشكّ في بقاء ذلك الوجوب ، فلا يصحّ ما فرّعه على ذلك بقوله : فغاية ما يترتّب على استصحاب بقاء النهار هو إثبات بقاء وجوبهما الخ ، بل لا يصحّ استصحاب نفس الوجوب الذي ركن إليه الشيخ قدس سره ، وهذا ممّا يؤيّد ما قدّمناه من أنّ الشكّ في بقاء الزمان المأخوذ ظرفاً للفعل الواجب الذي ينشأ عنه الشكّ في صحّة ذلك الفعل ، يكون فساده المحتمل ملازماً لعدم وجوبه ، فلا أثر للشكّ في فساده المذكور الملازم لعدم وجوبه ، وحينئذ يكون المكلّف متمكّناً من الاتيان بذلك الفعل الواجب بداعي [ أمره ] بعد إحرازه وجوبه باستصحاب الزمان المأخوذ شرطاً في وجوبه ، وإن لم يحرز قيد ذلك الواجب وهو وقوعه في ذلك الزمان ، لأنّ عدم إحرازه لذلك القيد الذي هو الظرفية لذلك الزمان لا يكون مضرّاً بذلك ، لأنّ أقصى ما في

ص: 415


1- أجود التقريرات 4 : 103.

ذلك هو فساد ذلك الفعل لعدم كونه مظروفاً لذلك الزمان ، ومع عدم كونه مظروفاً لذلك الزمان لا يكون واجباً ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه بعد فرض أن أخذنا الزمان شرطاً في الوجوب على نحو ما دام ، بأن كان الشرط في وجوب الصوم هو وجود النهار ، فيكون حدوثه شرطاً في حدوث وجوب الصوم وبقاؤه شرطاً في بقائه ، لا يبقى معنى محصّل لاعتبار كون الصوم واقعاً في النهار ، بل ولا لاعتبار كونه مقارناً للنهار ، لأنّ أخذ النهار شرطاً في وجوب الصوم على نحو ما دام يكون - كما عرفت - موجباً لكون الصوم واقعاً قهراً في النهار ، من دون حاجة إلى أخذ الظرفية أو الاقتران في الواجب الذي هو نفس الصوم ، بل يكون أخذ ذلك في الصوم الواجب لغواً صرفاً ، فلاحظ وتأمّل ، فإنّ هذا بمجرّده غير نافع في حلّ الإشكال في جميع الصور ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو أُخذ الزمان على نحو الدوام شرطاً في التكليف ، فإنّه يوجب تقيّد الفعل بذلك الزمان على نحو الظرفية تقيّداً قهرياً ، أمّا لو كان الأمر بالعكس بأن تعلّق الأمر بالامساك في النهار ، فإنّه يوجب تقيّد الوجوب بذلك الزمان تقيّداً قهرياً ، وحينئذ يكون اللازم إحراز ما دلّ عليه الدليل ابتداءً ، وهو تقيّد الفعل بالوقوع في ذلك الزمان فلاحظ ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذين التشريعين - أعني تشريع تقييد وجوب الصوم بوجود النهار بنحو ما دام ، على نحو يكون حدوثه علّة لحدوث الوجوب وبقاؤه علّة لبقائه ، وتشريع تقييد نفس الصوم بالوقوع في النهار المذكور - لا يمكن اجتماعهما في عالم الثبوت ، لأنّ التشريع الأوّل يغني عن التشريع الثاني ، بل إنّه يوجب لغوية التشريع الثاني.

ولو فرضنا ولو محالاً أنّ المشرّع قد أقدم على التشريع الثاني قبل التشريع

ص: 416

الأوّل ، فإنّه لا يكون مستغنياً عن التشريع الأوّل ، غايته أنّه لو شرّع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، لا أنّ التشريع الثاني يغني عن التشريع الأوّل ، فإنّ انحصار الوجوب بوجود النهار لا يتحقّق إلاّ إذا قيّده الشارع ، وبدون تقييد من جانب الشارع لا يتقيّد الوجوب المذكور ، بل يبقى على إطلاقه ، فيكون الحاصل أنّ الواجب هو الصوم في النهار سواء وجد النهار أو لم يوجد ، ومثل هذا الاطلاق لا يصدر من الشارع ، إذ لا يمكن أن يطلب الصوم في النهار في حال عدم وجود النهار ، ولأجل دفع هذا المحذور لابدّ له من تقييد الوجوب بوجود النهار بنحو ما دام ، وإذا شرّع هذا التقييد كان تشريعه الثاني لغواً ، فصار الحاصل أنّ التقييد الأوّل يغني عن التقييد الثاني ، بخلاف التقييد الثاني فإنّه لا يغني عن التقييد الأوّل ، وإن كان لابدّ منه ، وحينئذ يكون المتعيّن هو التشريع الأوّل لكفايته عن الثاني.

والمتحصّل من قولنا : إنّ التشريع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، هو أنّه يشرّعهما معاً ، لما عرفت من عدم صحّة التشريع الثاني ما لم يشرّع الأوّل ، إذ لا محصّل لأن يشرّع أوّلاً تشريعاً باطلاً ثمّ يتبعه بتشريع آخر يكون مصلحاً للتشريع الأوّل ، وإذا انتهت النوبة إلى أنّه قد شرّعهما معاً ، جاء إشكال لغوية التشريع الثاني مع التشريع الأوّل ، وحينئذ يكون المتعيّن في مقام الثبوت هو التشريع الأوّل.

لا يقال : إنّ التشريع الأوّل اللازم للتشريع الثاني ليس هو تقييد وجوب الصوم في النهار بوجود النهار بنحو ما دام ، على وجه يكون حدوثه شرطاً في حدوث الوجوب المذكور ودوامه شرطاً في دوامه ، بل يكفي لدفع إشكال عدم القدرة أن يجعل حدوث النهار شرطاً في الوجوب الوارد على الصوم المقيّد بكونه في النهار ، فإنّ النهار إذا حدث صار الصوم المقيّد بكونه فيه مقدوراً.

لأنّا نقول : لا يكفي أخذ حدوث اليوم شرطاً في الوجوب المذكور ، فإنّ

ص: 417

الحدوث لا يوجب القدرة إلاّعلى الصوم الموجود في آن الحدوث ، أمّا الصوم الموجود في الآنات المتأخّرة فلا يكون مقدوراً إلاّعند وجود تلك الآنات ، وحينئذ لابدّ أن يكون كل آن من آنات اليوم شرطاً في وجوب الصوم المقيّد بالوجود في ذلك الآن ، وحينئذ تكون النتيجة في التشريع الأوّل هي أنّ الشرط في الوجوب هو اليوم بنحو ما دام ، على وجه يكون حدوثه شرطاً لحدوث الوجوب وبقاؤه واستمراره شرطاً في بقاء الوجوب واستمراره ، وهذا التشريع يوجب لغوية التشريع الثاني ، لأنّه يوجب كون الصوم واقعاً في النهار وقوعاً قهرياً ، ومعه يكون تقييد الصوم الواجب بكونه واقعاً في النهار أو بكون وجوده مقارناً لوجود النهار أو بكونه متّصفاً بالصوم النهاري لغواً صرفاً ، وما ذلك إلاّمن قبيل تقييد الواجب المطلق الذي يكون وقته العمر بأنّه الفعل الواقع في زمانٍ ما أو في مكانٍ ما ، مع أنّ المفروض أنّه لابدّ من أن يقع في زمان ومكان ، وصار الحاصل أنّ التشريع الأوّل يوجب لغوية التشريع الثاني ، وأنّ التشريع الثاني يلزمه التشريع الأوّل ، وحينئذ يكون تشريعهما معاً محالاً ، فيتعيّن التشريع الأوّل.

وبعد أن تبيّن أنّه في مقام الثبوت لا يكون المقيّد بالنهار إلاّنفس الوجوب لم يكن مقام الاثبات ذا أهميّة ، حتّى أنّه لو كان لنا دليل ظاهره كون المقيّد هو نفس الواجب ، كان اللازم علينا صرفه إلى كون المقيّد هو الوجوب ، وحينئذ يرتفع موضوع الإشكال بحذافيره ، إذ لا يكون لنا في ناحية المكلّف به تقييد ، سواء قلنا إنّ القيد هو اقترانه مع الزمان ، أو قلنا إنّ القيد هو الوقوع في الزمان الذي هو النهار ، أو قلنا بأنّ القيد هو كون الامساك نهارياً ، فلاحظ وتأمّل. والظاهر أنّ ذلك لا يتأتّى في أخذ المكان قيداً في الفعل الواجب ، فإنّ أصل وجوده وإن كان شرطاً في الوجوب إلاّ أن بقاءه ليس شرطاً في بقاء الوجوب.

ص: 418

قال الأُستاذ العراقي في مقالته : ثمّ لا يخفى أنّ الاستصحاب الجاري في الزمان وغيره من التدريجيات إنّما يكون بنحو مفاد ليس التامّة ، وإلاّ بنحو مفاد كان الناقصة المقتضية لإثبات نهارية الآن المخصوص فلا يكاد يجري أبداً ، لعدم إحراز الحالة السابقة لهذا المعنى ، وحينئذ فكلّ أثر يترتّب على مثله لا يكاد يثبت ببركة الاستصحاب كما هو ظاهر. نعم لا بأس بترتيب الآثار المترتّبة على المعنى الأوّل ( يعني مفاد كان التامّة ) من دون فرق بين كون مورد الاستصحاب نفس القيد أو المقيّد الخ (1).

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية (2) أطلق إجراء الاستصحاب في كلّ من القيد والمقيّد ، ولم يقيّده بما يكون من قبيل مفاد كان التامّة ، وهذا التفصيل الذي أفاده الأُستاذ العراقي هنا في قبال ذلك الاطلاق.

ثمّ إنّ تصوير كون القيد بمفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة واضح. ومثال الأوّل هو كون القيد الاجتماع في الوجود بين الصوم وبين النهار ، ومثال الثاني هو كون الواجب هو الامساك في زمان هو النهار ، بحيث يعتبر في ظرف الامساك الاتّصاف بكونه نهاراً ، ففي الأوّل يجدينا استصحاب وجود النهار بخلاف الثاني.

وأمّا تصوير كون المقيّد بمفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة ، فمثال مفاد كان التامّة هو أن يقول كما أفاده في حقائق الأُصول : إن كان الإمساك في رمضان فهو واجب ، فإنّ استصحاب كون الامساك في رمضان يوجب كونه واجباً ، أمّا إذا كان بنحو مفاد كان الناقصة كما إذا قيل : الامساك في زمان هو رمضان واجب ، فلا

ص: 419


1- مقالات الأُصول 2 : 394.
2- كفاية الأُصول : 409.

مجال ( فيه ) للاستصحاب ، لعدم اليقين بالحالة السابقة الخ (1).

ولا يخفى أنّ قوله : إن كان الامساك في رمضان فهو واجب الخ ، إن كان مرجعه إلى أنّ الوجوب الوارد على الامساك مشروط بكون الامساك واقعاً في رمضان ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه يجب الامساك إن وقع في شهر رمضان ، فيكون وقوع الامساك في رمضان شرطاً في وجوبه ، وهو محال لأنّ وقوع الفعل لا يعقل أخذه شرطاً في وجوبه ، وهو ما أشار إليه الأُستاذ قدس سره فيما حرّره السيّد سلّمه اللّه (2) من استحالة أخذ مرحلة الامتثال شرطاً في أصل التكليف.

وإن كان مرجعه إلى أنّ الواجب هو الامساك المظروف لشهر [ رمضان ] ، فهو عبارة أُخرى [ عن ] أنّ الواجب مقيّد بالوقوع في شهر رمضان ، وكما لا يمكن إثبات هذا القيد باستصحاب وجود الشهر ، فكذلك لا يمكن إثباته باستصحاب كون الامساك واقعاً في رمضان ، لأنّ المتّصف من الامساك بكونه واقعاً في رمضان هو ما مضى ، أمّا الامساك الحالي فليس له حالة سابقة ، والنظر الوحداني للامساك إنّما هو بالنسبة إلى الامساك المستمرّ من أوّل الشهر إلى آخره ، وأمّا الخارج عن الشهر فهو غير داخل في هذا النظر الوحداني ، فالمشكوك كونه في رمضان لم يعلم أنّه كان في رمضان.

ومن ذلك يظهر لك عدم تمامية ما أفاده المرحوم صاحب الدرر في الجواب عن هذا الإشكال بقوله : وأمّا المستقرّ الذي أُخذ الزمان قيداً له ، فإن أُريد استصحابه في حال الشكّ في انقضاء الزمان المأخوذ قيداً ( فيه ) كما هو ظاهر كلامه قدس سره ( يعني الشيخ قدس سره ) هنا ، فحاله حال استصحاب نفس الزمان ، كمن وجب

ص: 420


1- حقائق الأُصول 2 : 463.
2- أجود التقريرات 4 : 106.

عليه الجلوس في النهار مثلاً فجلس إلى أن شكّ في انقضاء الزمان أو بقائه ، إذ يصحّ أن يقال : إنّ جلوسه كان سابقاً جلوساً في النهار والآن كما كان ، فيترتّب ( عليه ) حكمه أعني الوجوب. لا يقال : إنّ الجلوس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة ضرورة كونه مردّداً من أوّل الأمر بين وقوعه في الليل أو النهار. لأنّا نقول : المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار موضوعاً مستقلاً ، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقّق في النهار موضوعاً واحداً للوجوب ، وهذا واضح (1).

قلت : لا يخفى أنّه قدس سره كفانا مؤونة الجواب عمّا أفاده بقوله : فحاله حال استصحاب نفس الزمان الخ ، فإنّا قد شرحنا فيما تقدّم أنّ استصحاب نفس الزمان كالنهار والحكم ببقائه لا يوجب الحكم بأنّ هذا الآن نهاري ، فكذلك استصحاب الجلوس المحدود بكونه مظروفاً للنهار ، أعني به الجلوس المستمرّ من أوّل النهار إلى آخره ، فإنّ استصحاب بقائه لا يوجب الحكم على هذا الجلوس الأخير بأنّه جلوس في النهار.

نعم لو صحّ لنا أن نقول إنّ زماننا كان نهاراً والآن أيضاً هو نهار لصحّ لنا أن نقول إنّ جلوسنا كان متّصفاً بأنّه في النهار أو بأنّه نهاري والآن أيضاً هو في النهار أو هو نهاري ، لكن ذلك - أعني قولنا إنّ زماننا كان نهارياً والآن كما كان - غير صحيح ، ولقد كان شيخنا الأُستاذ العراقي يقول بذلك كما حرّرته عنه في درسه ، إلاّ أنّا قد علّقنا عليه المناقشة في ذلك بأنّه من قبيل قولنا إنّ حيواننا الموجود في هذه الغرفة كان خروفاً ، والآن عند احتمال تبدّله إلى الأرنب أنّه - أعني الحيوان الموجود في هذه الغرفة - هو كما كان أعني كونه خروفاً ، لنثبت بذلك أنّ الحيوان

ص: 421


1- درر الفوائد 1 - 2 : 540.

الموجود فعلاً هو خروف.

ولا يخفى أنّ هذا لو تمّ فإنّما ينفع في مثل الصوم ونحوه ممّا يستمرّ باستمرار النهار ، دون مثل الصلاة عند الشكّ في بقاء الوقت.

ثمّ إنّ العلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية أفاد أنّ المقوّم على قسمين : فتارةً يكون بوجوده المحمولي قيداً وأُخرى يكون بوجوده الناعتي ، ثمّ قال : فالأُولى كما إذا قيل أمسك في النهار ، فإذا كان الامساك محقّقاً بالوجدان والنهار محقّقاً بالتعبّد ، كفى في كون الامساك في النهار ، فإنّه إمساك بالوجدان في النهار التعبّدي. وهكذا قوله : وأمّا إذا كان الامساك في النهار موضوعاً فلا حاجة فيه إلى استصحاب كونه في النهار ، لما عرفت من أنّ التعبّد بذات القيد يكفي ، لأنّ التقيّد وجداني لا حاجة فيه إلى التعبّد حتّى يقال بأنّه لا يثبت بالتعبّد بذات القيد الخ (1).

ففيه ما لا يخفى ، فإنّ القيد إن كان هو نفس وجود الزمان كان استصحابه بمفاد كان التامّة نافعاً ، وأمّا إن كان القيد هو وقوع الفعل فيه ، فقد عرفت أنّ استصحاب نفس الزمان بمفاد كان التامّة لا ينفع فيه ، إذ لا يكون التعبّد ببقاء نفس الزمان موجباً لتحقّق كون هذا الآن الذي نحن فيه هو ذلك الزمان ، كي يكون وقوع الفعل فيه قهرياً لا يحتاج إلى التعبّد ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا الصورة الثانية فهي الوجود الناعتي ، بأن يكون الصوم النهاري هو المطلوب فقد منع فيها من جريان استصحاب وجود النهار ، بل اعتمد فيها على استصحاب اتّصاف الصوم بأنّه كان في النهار ، ويكون ما أفاده فيها هو عين ما أفاده صاحب الدرر ، والأُستاذ العراقي في درسه بل في مقالته ، بل العلاّمة

ص: 422


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 157 - 158.

الخراساني قدس سره في كفايته والسيّد سلّمه اللّه في حقائقه ، وقد عرفت التأمّل في ذلك فراجع كلماتهم.

لا يقال : إنّا إذا لاحظنا الامساك شيئاً واحداً مستمرّاً من أوّل النهار إلى أن ينتهي نفس الامساك ، فكما يصحّ لنا أن نقول إنّه وجد الامساك من أوّله إلى آخره بوجود أوّل جزء منه ، ولأجل ذلك نستصحب وجوده عند الشكّ في انقضائه لو تصوّرنا الشكّ في انقضائه ، كما لو كان الممسك غيرنا ، وتقدّم نظيره في نفس الزمان ، فكذلك يصحّ لنا أن نقول إنّ إمساكنا متّصف بأنّه نهاري ، أو أنّه موجود في النهار عند وجود أوّل جزء منه ، وحينئذ فعند الشكّ في انقضاء النهار نشكّ في بقاء إمساكنا على ما كان عليه من كونه نهارياً ، فنجري الاستصحاب في اتّصافه ، ولعلّ هذا هو المراد للعلاّمة الأصفهاني قدس سره في حاشيته بقوله : فيقال هذا الامساك الواحد كان نهارياً والآن كما كان الخ (1) ، وكذا ما أفاده صاحب الدرر في جواب لا يقال المذكورة فيما تقدّم (2) من نقل كلامه ، وكذا ما في الحقائق من قوله (3) : فإنّ استصحاب كون الامساك في رمضان يوجب كونه واجباً الخ.

لأنّا نقول : إن اعتبار الوحدة للامساك المستمرّ إنّما هي بالنسبة إلى ما يكون من أوّل النهار إلى آخره ، وهذا المقدار من الامساك ممّا لم يحصل الشكّ في بقاء اتّصافه بكونه نهارياً ، ولو كان الملاحظ وحدته هو الإمساك من أوّل وجود نفسه إلى آخر وجود نفسه وإن لم يكن آخره هو آخر النهار ، فهذا الامساك الواحد لم يكن بتمامه متّصفاً بكونه نهارياً ، وإنّما المتّصف بكونه نهارياً هو

ص: 423


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 158.
2- في الصفحة : 421.
3- المتقدّم في الصفحة : 419.

خصوص ما كان منه واقعاً في النهار. ولا يقال : إنّ هذا الامساك الواحد المستمرّ نلاحظه مجرّداً عن الزمان ، فنقول : إنّه قد اتّصف بكونه في النهار أو نهارياً ، والآن كما كان. لما عرفت من أنّه لم يتّصف بتمامه بكونه نهارياً. نعم يمكن التجوّز والتسامح في النسبة ، بأن ينسب الاتّصاف بالنهارية إلى مجموع ذلك الامساك في حين أنّ المتّصف هو بعضه ، إلاّ أن تلك النسبة التجوّزية باقية بحالها لم يطرأها الشكّ ، وليست هو موضوع الأثر ، وإنّما موضوعه هو الامساك الذي يتّصف في حدّ نفسه بكونه نهارياً وصفاً حقيقياً ، بمعنى أنّ نسبة وصف النهارية إليه نسبة حقيقية ، وليست النسبة المجازية التي هي من نحو المجاز العقلي منشأ لحكم شرعي ، فإنّ ذلك - أعني التجوّز في النسبة بنحو المجاز العقلي - شيء والتوسّع العرفي المصحّح لاتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة شيء آخر.

ولو كان هذا التوسّع وذلك النظر الوحداني إلى ما بين المبدأ والمنتهى مصحّحاً للاستصحاب ، بحيث يصحّ لنا أن نقول إنّ إمساكنا كان متّصفاً بأنّه نهاري فالآن هو كذلك ، لتمّ ذلك في نفس الزمان ، فنقول إنّ زماننا كان نهاراً فالآن هو كما كان ، فيثبت بذلك أنّ الساعة التي نحن فيها ساعة نهار ، ويكون الامساك فيها إمساكاً في النهار ، فلماذا رفضوا ذلك في نفس الزمان وأجروه بعينه في الامساك ، فلاحظ وتدبّر.

نعم ، يظهر من الكفاية الالتزام بذلك ، وأنّ الاستصحاب كما يجري في نفس الامساك الخاصّ ، فكذلك يجري في الزمان الخاصّ ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وأمّا الفعل المقيّد بالزمان ، فتارةً يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده ، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة - إلى أن قال - فإن كان من جهة الشكّ في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان كالنهار الذي قيّد به

ص: 424

الصوم مثلاً ، فيترتّب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيّد ، فيقال : إنّ الامساك كان قبل هذا الآن في النهار والآن كما كان فيجب ، فتأمّل (1).

قوله : مع وحدة الداعي ومجلس التكلّم ... الخ (2).

الظاهر أنّ منشأ انتزاع الوحدة العرفية هو وحدة الداعي ، وأنّه لا دخل لوحدة المجلس في انتزاع تلك الوحدة ، على أنّ كون الداعي دائماً هو منشأ الوحدة محلّ تأمّل وإشكال ، إذ ربما لا يكون في البين داع أصلاً كما في حركة الحيوان ونحوه. وعلى كلّ حال ، فإنّ أمثال هذه الأُمور ما لم يكن في البين وحدة عرفية لا يمكن الاستصحاب فيها.

ويمكن المنع من عدم جريانه ، نظراً إلى أنّ أمثال هذه الأُمور إذا لم يكن وحدة تجمعها ، نقول إنّ المتكلّم كان مشغولاً بالكلام والآن كما كان ، ولو باعتبار نوع الكلام شيئاً واحداً أو الحركة أو المشي أو الوقوف والسكون ونحو ذلك من الأفعال ، من دون فرق في ذلك بين كون المستصحب هو اتّصاف الفاعل بها ، أو كونه هو نفس ذلك الفعل وتحقّقه في الخارج.

قوله : فالشكّ في بقائه يرجع بتقريب إلى القسم الأوّل أو الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث ... الخ (3).

لا يخفى أنّ مفروض الكلام إنّما هو الوجه الأوّل ، وهو ما إذا أُحرز الداعي

ص: 425


1- كفاية الأُصول : 409.
2- فوائد الأُصول 4 : 440.
3- فوائد الأُصول 4 : 440 - 441.

ومقدار اقتضائه لكن شكّ في حدوث الرافع ، وهذا لا يكون الاستصحاب فيه إلاّ شخصياً أو كلّياً من القسم الأوّل ، ولا يكون من القسم الثاني إلاّ إذا كان الداعي المعلوم مردّداً بين أمرين أحدهما يقتضي الفرد الطويل والآخر يقتضي الفرد القصير ، أو كان مردّداً بين ما يكون هذا الحادث رافعاً له وما لا يكون الحادث المذكور رافعاً له ، وأمّا رجوعه إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من الكلّي فإنّما يتمّ فيما لو علم بالحركة مثلاً ، وعلم بحدوث أمر تردّد بين كونه رافعاً لها من أصلها أو كونه رافعاً لمقدار السرعة فيها. وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الاحتمالات لا تتوارد على مورد واحد ، بحيث إنّه يمكن أن يوجّه الاستصحاب فيه بأحد التوجيهات المزبورة (1).

قوله : الثاني : الشكّ في بقاء الزماني المتصرّم كالتكلّم والحركة ، وقد أطلق ( يعني الشيخ ) جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدّم (2).

لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره ذكر في آخر كلامه على هذا القسم ما لفظه : ثمّ إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمراً واحداً موكولة إلى العرف ، فإنّ المشتغل بقراءة القرآن لداع يعدّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمراً واحداً ، فإذا شكّ في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشكّ في حدوث الصارف الخ (3) وهذا

ص: 426


1- ولأجل ذلك قال السيّد سلّمه اللّه في تحريراته : وتوهّم رجوع هذا القسم إلى استصحاب الكلّي بعد فرض وحدة الوجود الخارجي واضح الفساد. [ منه قدس سره راجع أجود التقريرات 4 : 109 ].
2- فوائد الأُصول 4 : 442.
3- فرائد الأُصول 3 : 206 - 207.

تصريح بأنّه تارةً الشكّ في البقاء لأجل الشكّ في الرافع ، وأُخرى يكون لأجل الشكّ في المقتضي ، وأُخرى يكون من باب احتمال حدوث مقتض آخر ، فراجع تمام كلامه.

قوله : الثالث : الشكّ في بقاء الزماني المقيّد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثمّ شكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال ... الخ (1).

لا يخلو هذا التحرير من تسامح ، لأنّ المشكوك في المسألة المفروضة إنّما هو بقاء حكم ذلك الزماني وهو الوجوب ، لا بقاء نفس الزماني أعني الجلوس المقيّد بالزمان الخاصّ ، إذ لاشكّ في عدم بقاء ذلك الجلوس ، سواء أُخذ الزمان الخاصّ ظرفاً له أو أُخذ قيداً فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ نفس الوجوب المذكور زماني وقد شكّ في بقائه.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ المراد من الزماني هو نفس الفعل لا حكمه ، والأمر سهل بعد وضوح المراد ، فإنّ المراد هو المسألة المعروفة ، وهي ما لو وجب الجلوس إلى الزوال وقد شكّ في بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : وقد جزم ( الشيخ قدس سره ) بعدم جريان الاستصحاب فيه والحق فيه أيضاً التفصيل بين كون الزمان قيداً للجلوس الخ (2) الإنصاف أنّه تحرير لغير أوانه ، فإنّ الشيخ قدس سره كما سيأتي قد فصّل هذا التفصيل ، على أنّ شيخنا قدس سره قد منع من جريان استصحاب الوجوب سواء كان الزمان ظرفاً أو كان قيداً ، أمّا الأوّل فلرجوعه إلى الشكّ في المقتضي ، وأمّا الثاني فلتبدّل الموضوع ، فراجع تحرير السيّد سلّمه اللّه ، وذلك قوله : ويرد على ما ذكره ( الشيخ ) قدس سره أوّلاً : أنّ ما أفاده من

ص: 427


1- فوائد الأُصول 4 : 442.
2- فوائد الأُصول 4 : 442.

التمسّك باستصحاب الوجود فيما إذا أُخذ الزمان ظرفاً غير مستقيم ، لما عرفت من رجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المقتضي الخ (1) وأشار بقوله : لما عرفت ، إلى ما حرّره من قوله : فإنّ الشكّ في بقاء الحكم السابق فيما بعد ذلك الزمان المأخوذ ظرفاً لا قيداً ، لا ينفكّ لا محالة عن احتمال كونه مغيّى بالجزء الأخير من الزمان الخ (2).

وإن كنت لم أتوفّق لمعرفة كون ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي ، فإنّ الزمان - أعني اليوم مثلاً - إن جرّدنا الجلوس منه وربطناه بالوجوب ، فإن أُخذ ظرفاً لنفس الوجوب لا قيداً أو شرطاً فيه ، فلا محصّل حينئذ لاحتمال كونه مغيّى بالجزء الأخير ، وحينئذ يكون استصحاب الوجوب بلا مانع. وكأنّه ناظر في ذلك إلى أنّ الشكّ في كون الحكم مغيّى بالغاية الفلانية التي هي من الزمان لا الزماني ، يوجب كون الشكّ في بقائه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما تقدّم في تفسير الشكّ في المقتضي من احتمال كون الحكم محدوداً بالزمان.

ولكن لا يخفى أنّ معنى كون الزمان فيما نحن فيه ظرفاً للحكم كما سيأتي ، هو أنّ ذلك الزمان يكون ظرفاً لوجود الحكم لا قيداً فيه ، ويكون محصّل ذلك هو أنّ وجوب الجلوس كان متحقّقاً في النهار ، وبعد انقضاء النهار نشكّ في بقاء الحكم ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يجتمع مع كون آخر النهار غاية للحكم ، فإنّ كونه مغيّى بذلك عبارة أُخرى عن كون نفس النهار قيداً وشرطاً في الحكم على نحو ما دام ، بحيث يكون حدوثه شرطاً في حدوثه وبقاؤه شرطاً في بقائه ، وحينئذ فلا مجال فيه لاستصحاب بقائه بعد العلم بانتهاء ذلك ، لعدم الشكّ في

ص: 428


1- أجود التقريرات 4 : 112.
2- أجود التقريرات 4 : 109.

بقائه ، وإنّما أقصى ما في البين هو احتمال حدوث وجوب آخر بعد انقضاء ذلك الوجوب السابق.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو أُخذ النهار قيداً في الجلوس ، كان ذلك موجباً لتقييد الوجوب به على نحو ما دام على ما تقدّم شرحه (1) ، وحينئذ لا يكون المقيّد إلاّ الوجوب ، ومع تقيّد الوجوب لا يبقى لنا شكّ في عدم بقائه عند انقضاء ذلك الزمان.

نعم ، لو أُخذ الزمان ظرفاً في الحكم بالنحو الذي عرفت ، ولو بأن يكون قول الشارع قم في النهار على [ وزان ] قوله صلّ في السفر ، في قبال توهّم اختصاص الوجوب بغير مورد الظرف الذي هو الليل في مثل قوله قم في النهار ، أو الحضر في مثل قوله صلّ في السفر ، لا يكون الشكّ في بقائه ملازماً للشكّ في الغاية ، بل لا يكون مجتمعاً مع الشكّ في الغاية ، وينحصر الشكّ في بقائه بالشكّ في وجود رافعه من الزمانيات أو رافعية الموجود ، ومعه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

وأمّا إن أخذناه شرطاً في الحكم فقد تقدّم منه قدس سره (2) أنّه على نحو العلّة لا على نحو الموضوعية ، وحينئذ فإن كان في البين غاية ، تعيّن أنّه على نحو ما دام ، ولا مورد فيه حينئذ للاستصحاب بعد حصول الغاية ، وإن لم يكن في البين غاية وقد شككنا في بقاء الحكم بعد ارتفاع تلك العلّة ، لاحتمال أن يكون الشرط هو نفس حدوثها ، فيبقى المعلول وهو الوجوب ولو بعد انقضائها ، كان استصحاب الوجوب جارياً ، وليس ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي على تأمّل في ذلك ،

ص: 429


1- في الصفحة : 404 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 399 وما بعدها.

لأنّ مرجع الشكّ في العلّة المذكورة إلى الشكّ في تحديد الحكم وعدمه ، فيكون من قبيل الشكّ في المقتضي.

ولو تردّدنا بين الظرفية والقيدية فالظاهر أنّه لا يجري الاستصحاب أيضاً إن كانت القيدية المحتملة مردّدة بين الاحتمالين المذكورين.

ولا يرد على ذلك : بأنّ لازمه عدم جريان الاستصحاب في مسألة النجاسة والتغيير عند زوال التغيير ، للفرق الواضح بين الحدّ هنا والحدّ في مسألة التغيير ، فإنّ الحدّ هنا لمّا كان بحسب الزمان دَخَل فيما يكون الحكم غايته الزمان ، وهو من الشكّ في المقتضي ، بخلاف زوال التغيير فإنّه ليس بزمان ، فلا يكون الحكم فيه مغيى بالزمان ، فيخرج عمّا يكون غايته [ الزمان ] ويدخل فيما يكون غايته زماني ، وهو ارتفاع التغيير وزواله ، فلا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، بل يكون من قبيل الشكّ في الرافع.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا أعني كون المسألة من قبيل الشكّ في المقتضي فيكون سقوط استصحاب الحكم لأجله لا لأجل مجرّد التقييد ، لا يتوجّه على شيخنا قدس سره ، لأنّ مراده من التقييد ليس هو ما عرفت من كون الزمان شرطاً في الوجوب ، بل مراده من التقييد هو أخذ الزمان في الوجوب ، فيكون المراد من الوجوب السابق هو الوجوب المقيّد بكونه في الزمان الأوّل ، ومن الواضح أنّه بعد أخذ الوجوب عبارة عن خصوص وجوب الزمان الأوّل ، يمتنع جرّه إلى الزمان الثاني كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه عند التعرّض لبيان المانع من استصحاب العدم (1).

نعم ، يرد على شيخنا قدس سره وعلى الشيخ أيضاً أنّه لا موجب لأخذ الموضوع في الحكم المستصحب كي يكون هو المانع من استصحابه ، فإنّ الشرط وإن كان

ص: 430


1- في الصفحة : 434 وما بعدها.

علّة للوجوب ، إلاّ أن الوجوب المعلول لا يكون مقيّداً بشرطه وعلّته كما حقّق في محلّه من أنّ المحمول لا يؤخذ في موضوع الحكم ، كما أنّ الموضوع لا يؤخذ في المحمول ، وإن كان كلّ منهما منحصراً في مورد الآخر ، فإنّ الانحصار القهري شيء والتقييد المانع من الاستصحاب شيء آخر ، لأنّ ذلك يتوقّف على أخذ القيد في لسان الدليل وكيفية جعله الوجوب ، ومن الواضح أنّ الوجوب المشروط بالزمان الذي هو الساعة الأُولى لا يكون مقيّداً بحسب الجعل بذلك الزمان ، وإن كان هو - أعني الوجوب المذكور - منحصراً بذلك الزمان.

مضافاً إلى أنّ ذلك الانحصار القهري إنّما هو فيما أُخذ الاشتراط بنحو ما دام الزمان ، أمّا إذا كان حدوث الزمان شرطاً في حدوث الحكم وبقائه ، فلا يكون الحكم المقرون منه بذلك الزمان إلاّحدوثه دون بقائه ، فتأمّل.

واعلم أنّ الإشكال على التقييد المزبور لا يتأتّى في أخذ الزمان مربوطاً بالفعل على نحو القيدية لا الظرفية ، فإنّه حينئذ لابدّ من أخذ القيام الواجب هو خصوص القيام في الساعة الأُولى ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن سحب الوجوب من القيام المقيّد بالساعة الأُولى إلى القيام في الساعة الثانية ، لكن قد تقدّم أنّ تقييد الواجب بالساعة الأُولى يوجب كون المقيّد بذلك هو الوجوب بنحو ما دام ، وحينئذ يكون عدم الانسحاب لأنّ الوجوب مقيّد بالساعة الأُولى بنحو ما دام الموجب لارتفاع الوجوب وانتهائه بانتهاء الساعة الأُولى ، ومعه لا مجال لانسحابه إلى الساعة الثانية.

وتفصيل ذلك : أنّا إن جعلنا النهار متعلّقاً بالجلوس ، كانت [ المسألة ] محلّ النزاع مع الفاضل النراقي قدس سره ، لكن لو تمّ استصحاب الوجوب فيها بأن قلنا إنّ ذكر النهار من باب الظرفية للجلوس لا من باب القيدية ، جرى استصحاب الوجوب ،

ص: 431

ولم يكن ذلك من باب الشكّ في المقتضي ، ويكون معنى ظرفية النهار للجلوس الواجب جارياً على نحو ما عرفت في ظرفيته للوجوب ، بأن يكون قول الشارع : الجلوس في النهار واجب ، في قبال توهّم اختصاص الواجب بما يكون في الليل ، فيكون نظير قوله : الصلاة في السفر واجبة ، في قبال من يتوهّم أنّ الصلاة الواجبة هي ما يكون منها في الحضر ، وبعد ثبوت الظرفية للجلوس بالمعنى المذكور لا مانع من استصحاب الوجوب إلى الليل ، ولا يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المقتضي بل ينحصر الشكّ في بقاء الوجوب بالشكّ في الرافع.

وربما يقال : إنّ المراد من الظرفية هي الظرفية بحسب الذوق العرفي ، وإن كان مقتضى لسان الدليل هو القيدية.

وفيه تأمّل ، لأنّه إن كان المراد من ذلك هو أنّ العرف يفهمون من لسان الدليل الظرفية ، فذلك عبارة أُخرى عن أنّهم يفهمون لغوية القيد المذكور ، وإن كان المراد أنّهم بحسب ذوقهم يرون أنّ الفاقد لذلك الظرف متّحد مع الواجد ، فيطبّقون حديث « لا تنقض » وإن اعترفوا أنّ ظاهر الدليل هو القيدية ، فذلك أمر آخر غير مسألة كون النهار ظرفاً أو قيداً ، بل هو راجع إلى دعوى التسامح العرفي في الاتّحاد مع الاعتراف بالقيدية ، وعهدة ذلك على من يدّعي هذه الدعوى على العرف ، فإنّ المسلّم من التسامح العرفي هو فهم العلّية في قبال فهم الموضوعية ، ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى التعرّض لتفصيل هذه الجهة عند الكلام على اعتبار الاتّحاد بين القضيتين (1).

لا يقال : لعلّ المراد من كون يوم الجمعة ظرفاً لوجوب الجلوس هو أنّ الوجوب المعلوم هو الوجوب في يوم الجمعة ، فيستصحب ذلك الوجوب الذي

ص: 432


1- حواشيه قدس سره على هذا المطلب تأتي في بداية المجلّد الحادي عشر. راجع الحاشيتين المذكورتين في ذلك المجلّد في الصفحة : 86 وما بعدها والصفحة : 99 وما بعدها.

كان موجوداً في يوم الجمعة إلى يوم السبت.

لأنّا نقول : هذه الظرفية متحقّقة في كلّ مستصحب لأنّه هو المعلوم وجوده في الزمان السابق ، فبالاستصحاب نسحب وجوده إلى الزمان اللاحق ، ولا خصوصية حينئذ للوجوب فيما نحن فيه. على أنّ هذا المعنى لا يتأتّى في أخذ الزمان ظرفاً لنفس الجلوس ، وإنّما تتأتّى الظرفية المذكورة فيما لو كان بقاء الجلوس في الزمان اللاحق مشكوكاً ، دون محلّ كلامنا ممّا يكون المراد به استصحاب الوجوب الذي كان وارداً على الجلوس ، لأنّ الزمان السابق لا يكون ظرفاً بهذا المعنى لنفس الجلوس ، بل إنّما يكون ظرفاً للوجوب ، إذ لا يقال إنّ الجلوس في الزمان السابق كان واجباً والآن نشكّ في بقاء وجوبه ، لأنّ الجلوس الموجود في الزمان السابق لا شكّ لنا في بقاء وجوبه ، وإنّما نشكّ في بقاء الوجوب الذي كان في الزمان السابق وارداً على نفس الجلوس.

وبالجملة : أنّ الظرفية بهذا المعنى لا تكون إلاّبالنسبة إلى نفس المستصحب الذي هو الوجوب ، دون ما تعلّق به ذلك الوجوب أعني الجلوس.

على أنّ هذه الظرفية في الحقيقة إنّما تكون بالنسبة إلى المعلوم والمتيقّن ، وهي متحقّقة في كلّ مستصحب ، فلاحظ وتأمّل.

هذا إن أخذنا الزمان الذي هو متعلّق بالجلوس ظرفاً بالمعنى الذي عرفت ، وإن أخذناه قيداً فيه رجعت المسألة إلى تقييد الوجوب بالزمان المذكور على نحو ما دام ، وامتنع استصحاب الوجوب حينئذ.

تنبيه : قد ذكرنا أنّه لو أُخذ الزمان الخاص مثل النهار شرطاً في وجوب القيام وعلّة في الوجوب ، وشككنا في أنّه بنحو ما دام ، أو أنّ حدوثه يكون علّة في حدوث الوجوب وبقائه وإن انقضى النهار ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في

ص: 433

المقتضي ، لرجوع الشكّ المذكور إلى الشكّ في كون الوجوب محدوداً بانقضاء النهار أو غير محدود. فاعلم أنّ هذا الإشكال لا يجري فيما يكون علّة من غير الزمان مثل التغيّر بالنسبة إلى النجاسة ، لأنّ النجاسة حينئذ وإن كانت مردّدة بين المحدود بارتفاع التغيّر وغير المحدود بذلك ، إلاّ أن ها لا يكون الشكّ في بقائها من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما عرفت في محلّه من أنّ الحدّ المحتمل إن كان هو الزمان كان المورد من قبيل الشكّ في المقتضي ، وإن كان الحدّ هو غير الزمان لم يكن من هذا القبيل ، سواء كان الحدّ هو حدوث زماني أو كان هو ارتفاعه.

قوله : والعدم المقيّد بما بعد الزوال كالوجود المقيّد به قوامه وتحقّقه إنّما يكون بما بعد الزوال ، ولا يكون له تحقّق قبل الزوال ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه - بعد بيان هذا الإشكال بمثل هذه العبائر - ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : والحاصل أنّ الاستصحاب إنّما يجري بعد تجريد المستصحب عن الزمان ، وحينئذ فبعد تقييده بالزمان لا يمكن فيه جريان استصحاب الوجود ولا العدم ، فإنّ ما هو مقيّد بالزمان كما لا يتحقّق وجوده إلاّفي ذلك الزمان ، فكذلك لا يتحقّق عدمه إلاّفي ذلك الزمان ، والعدم أو الوجود السابق لا يكون هو المقيّد بذلك الزمان ، بل هو أمر آخر ، فالوجوب المقيّد بكونه واقعاً في اليوم المشكوك لا يكون معدوماً فيما قبل ذلك الزمان ، كما أنّه لا يكون موجوداً فيما قبله ، فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، فلا يجري استصحاب العدم ولا الوجود ، انتهى.

قلت : ولتوضيح المطلب لنأخذ مثالاً خارجياً وهو القيام في الساعة الثانية من النهار ، فتارة نأخذ القيام مجرّداً عن التقييد بالساعة الثانية ، ونحكم عليه بأنّه

ص: 434


1- فوائد الأُصول 4 : 446 [ سيأتي تعليق آخر على هذا المتن في الصفحة : 444 ].

موجود في الساعة الثانية أو معدوم فيها ، وهذا هو الذي نصطلح عليه بأخذ الزمان ظرفاً. وأُخرى نأخذ القيام مقيّداً بالساعة الثانية ، ونقول إنّ القيام المقيد بالساعة الثانية متحقّق مثلاً في وعاء الدهر أو غير متحقّق ، وهذه الصورة نصطلح عليها بأخذ الزمان قيداً ، وحاصل الفرق بين الصورتين هو أنّ الساعة الثانية في الصورة الأُولى تكون مربوطة بوجود القيام أو عدمه لا بنفس القيام ، وفي الصورة الثانية تكون الساعة الثانية مربوطة بنفس القيام.

وحينئذ نقول في الصورة الأُولى : إنّ نفس القيام لو كان وجوده أو عدمه في الساعة الثانية مشكوكاً ، كان علينا أن ننظر [ إلى ] الساعة الأُولى ، فإن كانت فارغة من القيام صحّ لنا استصحاب ذلك العدم ، فنقول : إنّ القيام كان معدوماً في الساعة الأُولى فنجرّ عدمه إلى الساعة الثانية ، ونحكم بأنّ نفس القيام منعدم في الساعة الثانية ، أمّا لو كانت الساعة الأُولى مظروفة للقيام امتنع علينا ذلك الحكم ، سواء كان ذلك القيام الذي انشغلت به الساعة الأُولى قد أُخذت الساعة الأُولى ظرفاً له أو أنّها أُخذت قيداً فيه ، فإنّ ذلك لا يوجب تفاوتاً في امتناع استصحاب العدم إلى الساعة الثانية المفروض كونها مأخوذة ظرفاً للقيام ، وإنّما يوجب التفاوت في استصحاب وجود القيام إلى الساعة الثانية ، لأنّ الأُولى لو كانت ظرفاً صحّ استصحاب وجود القيام إلى الثانية ، وإن أُخذت قيداً لم يصحّ كما لم يصحّ استصحاب العدم أيضاً ، إلاّ أن علّة عدم صحّة استصحاب العدم هو مجرّد الوجود في الساعة الأُولى وإن لم تكن قيداً ، فلا تكون القيدية في الأُولى هي المانعة من استصحاب العدم في الثانية.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إن أخذ الساعة الأُولى قيداً يوجب كون الثانية أيضاً كذلك ، لكنّه ممنوع ، لعدم الدليل على هذه الملازمة ، هذا حال الصورة الأُولى.

ص: 435

أمّا على الصورة الثانية ، وهي أخذ القيام مقيّداً بالساعة الثانية على وجه يكون منشأ الأثر والمنظور إليه هو القيام المقيّد بالساعة الثانية ، امتنع جريان استصحاب العدم فيه حتّى لو كانت الساعة الأُولى خالية من القيام ، لأنّ العدم الذي نجرّه من الساعة الأُولى إلى الثانية ليس هو عدم القيام المقيّد بالساعة الثانية الذي هو مورد الأثر حسب الفرض ، بل العدم المنجرّ من الأُولى إلى الثانية هو عدم ذات القيام ، والمفروض أنّ المأخوذ ليس هو ذات القيام ، بل القيام المقيّد بكونه في الثانية ، وكما لا يجري في هذه الصورة استصحاب العدم فيما لو كانت الساعة الأُولى خالية من القيام ، فكذلك لا يجري فيها استصحاب الوجود لو كانت الساعة الأُولى مشغولة ، سواء كان القيام بالنسبة إلى الساعة الأُولى مقيّداً بها ، أو كان غير مقيّد بها ، بأن كانت الأُولى ظرفاً له ليس إلاّ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ المدار في المسألة على النظر في حال الزمان المشكوك ، وأنّه هل أُخذ قيداً في القيام أو أُخذ ظرفاً ، لا على حال الزمان السابق ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لو ثبت كون الزمان السابق قيداً في القيام ، كان في اللاحق أيضاً كذلك ، وقد عرفت المنع من هذه الملازمة.

وعلى كلّ حال ، أنّ القيام المقيّد بالساعة الثانية لا أصل له ، لأنّ قيام الساعة الثانية غير مسبوق بالوجود في الساعة الأُولى ولا بالانعدام ، وليس شكّنا في قيام الساعة الثانية باعتبار أنّه لا أصل له إلاّكشكّنا في نفس الساعة الثانية ، وأنّها هل هي ساعة قيام أو ساعة عدم قيام في عدم الأصل له ، فلاحظ.

إذا عرفت تفصيل ذلك في المثال المذكور فطبّقه على الوجوب في الساعة الثانية ، وقل إنّ الوجوب فيها إن لوحظ مجرّداً عنها وأُخذت هي ظرفاً لوجوده أو عدمه ، كان علينا ملاحظة الساعة الأُولى ، فإن كانت فارغة من الوجوب سحبنا

ص: 436

عدمه فيها إلى الثانية ، وحكمنا بمقتضى الاستصحاب بعدم الوجوب في الساعة الثانية ، وإن كانت الساعة الأُولى مشغولة بالوجوب لم يمكن استصحاب العدم إلى الساعة الثانية ، سواء كان ذلك الوجوب الموجود في الساعة الأُولى مقيّداً بها أو لم تكن الساعة الأُولى إلاّظرفاً له ، فإنّ ذلك لا يؤثّر على استصحاب العدم إلى الثانية ، وإنّما يؤثّر على استصحاب وجود الوجوب إلى الساعة الثانية ، فعلى القيدية لا يجري ، بخلاف الظرفية ، هذا لو أخذنا الوجوب في الثانية مجرّداً عن الزمان ، وكانت الساعة الثانية ظرفاً لوجوده أو عدمه.

أمّا لو أخذناه مقيّداً بالساعة الثانية ، وأردنا أن نعرف هل تحقّق الوجوب المقيّد بكونه في الساعة الثانية أو لم يتحقّق ، لم يكن لنا أصل يحرز عدم الوجوب المقيّد بالقيد المذكور ، وكان هذا الشكّ بمنزلة شكّنا في الساعة الثانية وأنّها هل هي ساعة وجوب أو هي ساعة عدم وجوب ، فكما لا أصل لنا يحرز أنّ هذه الساعة الثانية هي ساعة عدم وجوب ، وأنّ عدم وجود الساعة الثانية فيما تقدّم لا يوجب الحكم على هذه الساعة الثانية بأنّها ساعة عدم وجوب ، فكذلك لا أصل لنا يحرز أنّ الوجوب المقيّد بالساعة الثانية متّصف بالعدم ، وأنّ عدم وجود الوجوب فيما تقدّم لا يوجب الحكم على الوجوب المقيّد بالساعة الثانية بأنّه منعدم ، من دون فرق في ذلك بين كون الساعة الأُولى خالية من الوجوب أو كونها مشغولة به ، سواء كان الوجوب الموجود في الساعة الأُولى مقيّداً بها أو كانت ظرفاً صرفاً.

هذا كلّه بناءً على ما عرفت من تفسير قيدية الساعة الثانية للوجوب ، أعني أخذ الوجوب المقيّد بالساعة الثانية والحكم عليه بأنّه محقّق أو غير محقّق ، لكنّك قد عرفت المراد من القيدية وأنّها في المقام بمعنى آخر غير ما ذكر ، وذلك هو

ص: 437

عبارة عن كونها شرطاً فيه حدوثاً أو حدوثاً وبقاءً ، وحينئذ تكون الساعة الثانية بمنزلة العلّة والوجوب بمنزلة المعلول ، وهو وإن كان موجوداً في الساعة الثانية سيّما إذا أُخذت بنحو الدوام شرطاً له ، إلاّ أنه لا يكون الوجوب المذكور مقيّداً بها ، بمعنى أنّ الوجوب الحادث عند الساعة الثانية إنّما هو نفس الوجوب وذاته ، لا الوجوب المقيّد بالساعة الثانية ، وإن كان هو لا يوجد إلاّفيها ، وحينئذ فلو كانت الساعة الأُولى فارغة من الوجوب لم يكن مانع من استصحاب عدمه إلى الساعة الثانية. نعم لو كانت الأُولى مشغولة بالوجوب امتنع استصحاب العدم ، لا لأنّ عدم الوجوب في الساعة الثانية لا أصل له ، بل لانقلاب الأصل فيه في الساعة الأُولى.

لا يقال : هذا لو كان الوجوب مشروطاً بالساعة الثانية ، أمّا لو لم يكن إلاّ أن الساعة الثانية قيد في متعلّق الوجوب وهو الجلوس ، فلازمه هو اتّصاف ذلك الوجوب بأنّه في الساعة الثانية.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّك قد عرفت أنّ أخذ الزمان قيداً في المتعلّق يوجب كون المقيّد به هو الوجوب بمعنى كونه هو المشروط به. وثانياً : لو أُغضي النظر عن ذلك ، إنّ تقييد المتعلّق لا يوجب إلاّكون الساعة الثانية ظرفاً لوجود الوجوب ، لا أنّه يكون عبارة عن الوجوب المتّصف بالساعة الثانية ، على نحو تكون الساعة الثانية قيداً في نفس الوجوب ، بحيث يكون هو الوجوب الملحوظ وجوده في الساعة الثانية ليمتنع استصحاب عدمه فيها.

وبالجملة : ليس كلّ ما يحتمل وجوده في الساعة الثانية يكون ملحوظاً به الوجود فيها بحيث إنّه لا يمكن استصحاب عدمه ، كما لو احتمل القيام في الساعة الثانية مع فرض خلو الساعة الأُولى عنه ، وكما في من توضّأ في الساعة الأُولى واحتمل أنّه قد أحدث في الساعة الثانية ، وهكذا في كلّ حادث محتمل فإنّه على

ص: 438

تقدير وجوده لابدّ أن ينوجد في زمان خاصّ من الأزمنة ، لكن هذا لا يوجب تقيّده به على وجه يمنع من استصحاب عدمه فيما لو كان الزمان السابق خالياً منه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد من وجهين :

الأوّل : أنّ جعل المدار على القيدية والظرفية في الساعة الأُولى لم يظهر وجهه ، بل الذي ينبغي هو جعل المدار في ذلك على الساعة الثانية ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى التلازم بين القيدية في الأُولى والقيدية في الثانية ، وقد عرفت المنع من هذه الدعوى. نعم القيدية في الساعة الأُولى بمعنى كونها شرطاً في الوجوب الحاصل عندها ربما أوجب كون الساعة الثانية كذلك ، إلاّ أن هذه القيدية بهذا المعنى لا تنتج عدم صحّة استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، كما يتّضح لك من التأمّل.

والثاني : وهو أنّ القيدية التي توجب كون الوجوب في الساعة الثانية لا أصل له هي القيدية بالنحو الثاني من النحوين اللذين عرفتهما في مثال القيام في الساعة الثانية ، والمفروض أنّ قيدية الساعة الثانية للوجوب الموجود فيها لم تكن بهذا النحو ، بل هي بنحو الشرطية ، وهي لا توجب تقيّد الوجوب بالساعة الثانية ، وإن كان هو لا يقع قهراً إلاّفي الساعة الثانية لو كان أخذها شرطاً بنحو الدوام ، على نحو يكون حدوثها علّة لحدوث الوجوب وبقاؤها علّة لبقائه ، بخلاف ما لو أُخذت بغير هذا النحو بأن كان حدوثها علّة للحدوث والبقاء ، فإنّه وإن كان بأوّل وجوده مظروفاً لها ، إلاّ أنه باستمراره وبقائه لا يكون مظروفاً لها.

وبالجملة : أنّ مرجع الشكّ في حدوث الوجوب عند الزوال إلى الشكّ في سببية الزوال للوجوب ، والمرجع في ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر ، وما هو إلاّ من قبيل أصالة الفساد في المعاملة عند الشكّ في تأثيرها ، الراجعة إلى أصالة عدم

ص: 439

ترتّب الأثر عليها ، ومن قبيل أصالة اللزوم عند الشكّ في تأثير الفسخ التي كان أحد أدلّتها هو استصحاب بقاء أثر المعاملة ، الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب عدم حصول أثر الفسخ الذي هو حلّ المعاملة ، وقد مرّ تفصيل ذلك في مباحث الأحكام الوضعية عند الكلام على السببية والشك في سببية الشيء الفلاني للحكم الفلاني (1).

ولا فرق بين هذه الموارد وبين ما نحن فيه إلاّفي أنّ السبب المشكوك السببية فيما نحن فيه هو الزمان نفسه ، وكما أنّ سببية الافطار العمدي مثلاً لوجوب الكفّارة لا تكون موجبة لتقيّد الوجوب بأخذه ملحوظاً به الافطار أو الواقع بعده ، وإن كان هو كذلك ، فكذلك سببية الساعة الثانية للوجوب الواقع بعدها لا تكون موجبة لتقييده بكونه الوجوب الواقع في تلك الساعة ، وإن كان هو قهراً واقعاً فيها ، وحينئذ لا مانع من استصحاب عدمه لو كانت الساعة الأُولى خالية من الوجوب.

نعم ، لو كانت الساعة الأُولى مشغولة بالوجوب امتنع استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، سواء كان الوجوب الذي كان واقعاً في الساعة الأُولى مقيّداً بها بمعنى كونها شرطاً فيه ، أو لم يكن مقيّداً بها ، بأن كان ذلك الوجوب السابق بسبب آخر غير الساعة الأُولى ، بل حتّى لو فرضنا أخذ الوجوب السابق مقيّداً بالساعة الأُولى ، بمعنى كونه عبارة عن الوجوب الملحوظ كونه في الساعة الأُولى ، فإنّه يمنع من استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، وإن كان هذا الفرض لا واقعية له.

ص: 440


1- لعلّه قدس سره يقصد بذلك ما تقدّم في المجلّد الثامن في الصفحة : 263 وما بعدها. وعلى أي حال فإنّ بحث السببيّة تقدّم في هذا المجلّد ، فراجع الحواشي المتقدّمة في الصفحة : 178 وما بعدها.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وحاصل الكلام ، وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثاً مسبوقاً بالعدم ، إلاّ أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال الخ (1) فإنّ المراد من وجوب الجلوس بعد الزوال إن كان هو كونه مشروطاً ببعد الزوال ، وأنّ الزوال سبب في ذلك الوجوب ، كان المانع من استصحاب عدمه منحصراً بما أُفيد من انتقاض ذلك العدم بالوجوب الحاصل قبل الزوال ، وإلاّ بأن كان المراد بذلك هو أخذ الوجوب بعد الزوال مقيّداً ببعد الزوال ، بحيث يكون هو الوجوب المقيّد بأنّه الحاصل بعد الزوال ، لم يكن المانع من استصحاب عدمه هو مجرّد وجود الوجوب فيما قبل الزوال ، بل كان استصحاب عدمه ممتنعاً حتّى لو لم يكن الوجوب موجوداً فيما قبل الزوال ، والسبب في امتناعه هو ما شرحناه من أنّ الوجوب المقيّد بالزمان المذكور ليس له حالة سابقة ، وهو ما أشار إليه بقوله : فقبل الزوال ليس الوجوب المقيّد بما بعد الزوال متحقّقاً ، ولا عدم الوجوب المقيّد بذلك متحقّقاً ، إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع الخ (2) وبقوله في العبارة السابقة : وبعبارة أوضح : العدم المقيّد بقيد خاصّ من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد ، كما أنّ الوجود المقيّد بقيد خاصّ إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاصّ عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقّق في يوم

ص: 441


1- فوائد الأُصول 4 : 446.
2- فوائد الأُصول 4 : 447.

الجمعة الخ (1) ومن الواضح أنّ الإشكال من هذه الناحية لا يكون من جهة تحقّق الوجوب في الزمان السابق ، بل هذا الإشكال جارٍ حتّى لو كان الزمان السابق خالياً من الوجوب ، فلاحظ.

قوله : فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلاّ إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الإشكال إنّما يتّجه لو كان المنظور إليه هو ما بعد الزوال الخاصّ على نحو القضية الشخصية ، فإنّ هذا الزوال الخاصّ من حين وجوده إمّا أن يكون مقروناً بوجود الحكم فيه ، أو يكون مقروناً بعدم وجود الحكم فيه ، ولم تكن له حالة سابقة كان فيها مقروناً بعدم الحكم كي يجري استصحاب تلك الحالة فيه. أمّا إذا أُخذ كلّياً وهو كلّي ما بعد الزوال من يوم الجمعة الصادق على كلّ يوم من أيّامها ممّا قد مضى وممّا يأتي ، فهذا الزمان الكلّي الجامع بين تلك الأفراد قد كان ولم يكن الوجوب موجوداً فيه ، فأي مانع من استصحاب عدم الحكم في ذلك الكلّي من الزمان.

نعم ، يتوجّه عليه الإشكال الذي أفاده قدس سره في باب استصحاب البراءة (3) ، أمّا هذا الإشكال وهو أنّه لم تمض على هذا الزمان مدّة لم يكن الوجوب متحقّقاً فيه ، فلا يرد عليه إلاّ إذا كانت القضية شخصية خارجية ، والمفروض أنّ محلّ الكلام إنّما هو القضايا الأحكامية ، ومن الواضح أنّ كلّي ما بعد الزوال من يوم الجمعة قد

ص: 442


1- فوائد الأُصول 4 : 445.
2- فوائد الأُصول 4 : 446.
3- فوائد الأُصول 4 : 182 وما بعدها.

كان ولو قبل الشريعة الإسلامية ، ولم يكن الوجوب موجوداً فيه ، فلِمَ لا يجري فيه الاستصحاب المذكور ، وهل هو إلاّكما إذا شككنا في وجوب الفعل الفلاني في الزمان الفلاني ، وأيّ أثر لتقدّم الوجوب على الزمان المشكوك فيه في ناحية الاستصحاب المذكور.

ولكن لا يخفى عدم ورود هذا الإشكال ، لأنّ المستصحب عدمه إن كان هو الجعل فقد تعرّض شيخنا قدس سره لجوابه ، وإن كان هو نفس الوجوب المجعول فهو وإن كان وارداً على نفس الكلّي وهو كلّي ما بعد الزوال ، إلاّ أن المفروض تقييده بكونه الوجوب المقيّد بكونه بعد الزوال ، وهذا لا أصل له ، ولا يمكن استصحاب عدمه إلاّ إذا أُخذ مجرّداً عن الزمان ، وقيل إنّ وجود الوجوب فيما بعد الزوال مشكوك ، وهذا عبارة أُخرى عن أخذ الزمان المذكور ظرفاً لا قيداً ، فلاحظ.

وبالجملة : أنّ الذي يدّعي شيخنا قدس سره عدم جريان الاستصحاب في عدمه إنّما هو فيما لو أُخذ الزمان المذكور قيداً في الوجوب ، وهذا الذي توهّمناه من جريان الاستصحاب في عدمه إنّما هو نفس الوجوب لا الوجوب الخاص ، وذلك لا يمنع منه شيخنا قدس سره ، وإنّما يمنع من استصحاب عدم الوجوب الخاصّ ، أعني المقيّد بكونه فيما بعد الزوال ، وهذا الوجوب المقيّد بكونه واقعاً بعد الزوال لا يكون إلاّشخصياً ، وإن أخذناه كلّياً كان استصحاب العدم فيه عبارة أُخرى عن عدم الجعل لا عدم المجعول ، فلاحظ.

نعم ، العمدة إنّما هو في هذا التقييد ، وهل مفاده كما أُفيد من لحاظ الوجوب الموجود في الزمان الخاصّ ، أو أنّه ليس إلاّعبارة عن كون الزمان الخاصّ شرطاً في تحقّق الوجوب ، من دون أن يكون المشروط هو الوجوب

ص: 443

الموجود في ذلك الزمان ، وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

قوله (1) : والعدم المقيّد بما بعد الزوال كالوجود المقيّد به قوامه وتحقّقه إنّما يكون بما بعد الزوال ... الخ (2).

لا يخفى أنّه ليس لنا في البين عدم مقيّد ، بل العدم إنّما هو مطلق وقد سلّطناه على الوجوب بعد الزوال ، وحاصل مراد الشيخ قدس سره (3) أنّا إذا أخذنا قبل الزوال قيداً في الواجب أو الوجوب كان مكثّراً للموضوع ، فكان لنا وجوب جلوس مقيّد بقبل الزوال ، وآخر مقيّد بما بعد الزوال ، وكلّ من الوجوبين وارد على موضوع يخصّه ، نظير الوجوب الوارد على إكرام زيد والوجوب الوارد على إكرام عمرو ، فانتقاض العدم في الأوّل لا يوجب انتقاضه في الثاني ، بل يبقى الوجوب الثاني على ما هو عليه من العدم الأصلي حتّى ينوجد ويتحقّق.

ولكن شيخنا قدس سره (4) وسّع المسألة إلى كلّ وجوب مشكوك الحدوث ، بل كلّ تكليف مشكوك الحدوث ، ويقول إنّا عند الشكّ في حدوثه لو أجرينا أصالة العدم انسدّ علينا باب البراءة الشرعية عند الشبهات الحكمية ، بل كان المرجع في ذلك دائماً إلى استصحاب العدم ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

ص: 444


1- جمادى الثانية سنة 1380 وينبغي الاعتماد على هذه الصفحة وترك التفاصيل السابقة [ منه قدس سره ولا يخفى أنّه قدس سره يقصد بهذه الصفحة صفحة من المخطوط تشتمل على هذه الحاشية بأكملها ].
2- فوائد الأُصول 4 : 446.
3- فرائد الأُصول 3 : 210 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 4 : 445.

ولابدّ في توجيه ذلك من الركون إلى ما حقّقناه في مباحث البراءة (1) من أنّ المستصحب عدمه إن كان هو الجعل لم يترتّب عليه أثر إلاّبلازمه العقلي وهو عدم المجعول ، وإن كان المستصحب عدمه هو المجعول أعني نفس الوجوب ، فإن كان المراد هو أنّ نفس الوجوب من دون النظر به إلى موضوع خاصّ حادث من الحوادث والأصل عدمه ، فهذا حقّ لكن أين هذا من عدم الوجوب على هذا المكلّف ، فإنّ الوجوب عرض من عوارضه وعارض الشيء بما أنّه عارض ذلك الشيء لا يتّصف بالوجود والعدم قبل تحقّق موضوعه ، ألا ترى أنّه قبل وجود زيد لا يمكننا القول بأنّ قيامه موجود ، وكذلك لا يمكننا القول بأنّ قيامه منعدم إلاّ على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وهكذا الحال في الوجوب الوارد على الجلوس الذي يكون موضوعه بعد الزوال ، فما لم يتحقّق بعد الزوال لم يكن هناك وجوب ولا جلوس ، كما أنّه لم يتحقّق عدم وجوب الجلوس ولا نفس عدم الجلوس بعد الزوال إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولأجل ذلك يكون عدم عارض الشيء توأماً مع وجوده ، وكما لا يمكن وجود العارض قبل وجود المعروض ، فكذلك لا يمكن تحقّق عدم العارض قبل وجود المعروض إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ولا يخفى أنّ هذا المطلب سيّال في كلّ تكليف بالنسبة إلى موضوعه الخاصّ ، بل في كلّ عارض بالنسبة إلى معروضه ، ومرجع ذلك إلى عدم الجدوى في أصالة العدم بمفاد ليس التامّة في مقام مطلوبية العدم بمفاد ليس الناقصة ، إذ انعدام كلّ عارض عن معروضه إنّما يكون بمفاد ليس الناقصة ، فلا يجدي فيه

ص: 445


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 370 ، وأشار إليه أيضاً في الصفحة : 451 وما بعدها من هذا الكتاب.

العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامّة ، فإنّ عدم وجود القيام بقول مطلق لا دخل له بعدم وجود القيام لزيد ، وهكذا.

قوله : نعم جعل الوجوب بعد الزوال وإنشاؤه إنّما يكون أزلياً كعدم الجعل والانشاء - إلى قوله - فالأصل عدم الجعل ، لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم ... الخ (1).

لابدّ أن يكون مراده من الأزلية في هذه العبائر هو أنّ جعل الوجوب على تقدير الزوال يكون سابقاً على وجود الزوال خارجاً ، لا الأزلية الاصطلاحية بمعنى القديم الذي لا مبدأ لوجوده ، فإنّ ذلك واضح الفساد ، مع أنّه لا يلتئم مع قوله : لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم.

قوله : غايته أنّه إن أُخذ الزمان قيداً لوجوب الجلوس ... الخ (2).

مراده من الزمان المذكور هو ما قبل الزوال ، ويدلّ على ذلك أيضاً قوله : فإنّه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله.

والأولى إسقاط قوله : نعم جعل الوجوب بعد الزوال وإنشاؤه إنّما يكون أزلياً كعدم الجعل والانشاء الخ (3) وتبديله بهذه العبارة وهي : نعم إنّ عدم الجعل والانشاء أزلي ، فإذا شكّ في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدم الجعل ، لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم الأزلي الخ ، وحينئذ لا نحتاج إلى ذلك التكلّف في تفسير الأزلية ، فلاحظ.

ص: 446


1- فوائد الأُصول 4 : 447.
2- فوائد الأُصول 4 : 447.
3- فوائد الأُصول 4 : 447.

قوله : ولكن قد تقدّم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلاّباعتبار ما يلزمه من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت ... الخ (1).

وأمّا عدم جريان استصحاب عدم المجعول فقد قال عنه في مبحث الأقل والأكثر : والسرّ في ذلك هو أنّ ظرف وجود المجعول الشرعي إنّما هو ظرف تحقّق الموضوع خارجاً ، وهو الإنسان بجميع ما اعتبر فيه من القيود من البلوغ والعقل والقدرة وغير ذلك من الشرائط - إلى أن قال - فقبل وجود الموضوع خارجاً لا مجال لجريان استصحاب عدم المجعول ، لأنّه ليس رتبة وجوده ، بل الاستصحاب الجاري هو استصحاب عدم الجعل الأزلي ، وأمّا بعد وجود الموضوع وتحقّق شرائط التكليف ، فالاستصحاب إنّما يجري بالنسبة إلى نفس المجعول الشرعي وجوداً وعدماً ، فإنّه إذا زال الزوال وشكّ المكلّف في وجوب الصلاة عليه ، فالعدم الذي كان قبل الزوال هو عدم المجعول وهو المستصحب ، ولا معنى لاستصحاب عدم الجعل ، لأنّه قبل الزوال ليس رتبة الجعل والانشاء ، فإنّه أزلي رتبته سابقة على خلق العالم ، ومن المعلوم أنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم الجعل ، وبعد وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم المجعول الخ (2) وهذه العبارة لا تخلو من الخلط الذي اشتملت عليه العبارة الموجودة هنا ، فمن ذلك قوله : فالعدم الذي كان قبل الزوال الخ.

وعلى كلّ حال ، المراد هو أنّ استصحاب عدم الجعل لا ينفع ،

ص: 447


1- فوائد الأُصول 4 : 447.
2- فوائد الأُصول 4 : 185 - 186.

واستصحاب عدم المجعول لا يجري ، لأنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلاّعدم الجعل وهو غير نافع ، وإنّما النافع هو استصحاب عدم المجعول وهو غير جار ، إذ لا تحقّق لعدم المجعول قبل مرتبته التي هي الزوال ، فإنّ الزوال لمّا كان موضوعاً كان مرتبة وجود الوجوب وعدمه منحصرة فيه ، ولا يعقل تقدّم عدم الوجوب المجعول للزوال على ما قبل الزوال ، كما لا يعقل تقدّم وجوده على ذلك ، والسرّ في ذلك هو أنّه قدس سره يأخذ الموضوع الذي هو الزوال مثلاً في ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، ومن الواضح أنّ الوجوب المقيّد بالزوال لا يكون متّصفاً بالعدم فيما قبل الزوال.

ولعلّ المراد من قوله : وبعد وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم المجعول الخ ، أنّه إنّما يتصوّر عدم المجعول في مرتبة إمكان وجوده وهي مرتبة وجود موضوعه ، وإن لم يمكن استصحاب عدمه ، إذ لا يكون مسبوقاً بذلك العدم حينئذ ، وليس المراد هو أنّه عند وجود الموضوع يكون استصحاب عدم الحكم جارياً ، لأنّ ذلك ناقض لما يرومه من عدم جريان استصحاب العدم في المجعول ، فلاحظ.

لكن في تحرير السيّد سلّمه اللّه في هذا المقام من الأقل والأكثر ما هذا لفظه : وإن كان المستصحب هو عدم المجعول - وهو الوجوب الفعلي عند تحقّق موضوعه - فيرد عليه إشكال المعارضة لا غير (1) ومراده بالمعارضة معارضة استصحاب عدم وجوب الأكثر باستصحاب عدم وجوب الأقل.

ولا يخفى أنّ هذا مناف لمسلكه قدس سره في استصحاب عدم الوجوب ، قال هو

ص: 448


1- أجود التقريرات 3 : 506.

( أعني السيّد سلّمه اللّه في مبحث البراءة في مقام الردّ على تصحيح التمسّك للبراءة بأصالة عدم التكليف الثابت في حال الصغر ) ما هذا لفظه : والحقّ فيه العدم ، فإنّ عدم الحرمة الثابت حاله ليس إلاّبمعنى اللاّ حرجية العقلية ، وهذا قد ارتفع يقيناً إمّا بجعل الترخيص أو الحرمة بعد البلوغ - إلى أن قال - هذا مع أنّ عدم الحرمة إذا كان باقياً بعد البلوغ أيضاً فهو حينئذ عدم مستند إلى الشارع ومضاف إليه ، لما ذكرناه من أنّ عدم الحكم كنفس الحكم بيده وبتصرّفه ، وهذا بخلاف العدم السابق فإنّه أجنبي عن الشارع بالكلّية ، فاستصحاب العدم السابق وإثبات إضافته إلى الشارع داخل في الأُصول المثبتة - إلى أن قال - والحاصل أنّ العدم السابق لكونه غير مستند إلى الشارع غير محتمل البقاء ، وما هو محتمل بعد البلوغ وهو العدم المضاف مشكوك الحدوث ولم يكن متيقّناً سابقاً (1) ، وكأنّه يفرق بين ما إذا تحقّق عدم التحريم بعد البلوغ في زمان طويل أو قصير ثمّ شكّ بعد ذلك في طروّ التحريم ، صحّ استصحاب عدم التحريم ، لأنّ المستصحب هو العدم الثابت بعد البلوغ ، وهو أثر شرعي باعتبار البقاء ، بخلاف ما لو كان الشكّ من أوّل البلوغ ، فإنّه لا يصحّ استصحاب العدم الثابت قبل البلوغ.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ العدم السابق على البلوغ وإن لم [ يكن ] في السابق أثراً شرعياً ، إلاّ أن بقاءه لمّا كان أثراً شرعياً صحّ استصحابه ، لما تقدّم من قوله في هذه الصفحة : من أنّ الأعدام وإن لم تكن مقدورة في الأزل إلاّ أن ها مقدورة بقاء واستمراراً ، فكما أنّ التحريم بيد الشارع فكذلك عدمه بيده الخ (2) ، غايته أنّ هذه العبارة كانت في مقام بيان أنّ نفس العدم مقدور بقاء واستمراراً ،

ص: 449


1- أجود التقريرات 3 : 331.
2- أجود التقريرات 3 : 330.

وإذا صحّحنا نسبة العدم إلى الشارع بهذا الاعتبار أعني البقاء والاستمرار ، نقول فيما نحن فيه : إنّ العدم السابق الذي كان متحقّقاً قبل البلوغ في ظرف كونه غير مستند إلى الشارع لا حدوثاً ولا بقاء نحكم ببقائه إلى ما بعد البلوغ ، ومن الواضح أنّ بقاءه فيما بعد البلوغ مستند للشارع ، فنجرّ ذلك العدم من الظرف الذي هو فيه غير مستند للشارع إلى الظرف الذي يكون فيه مستنداً إليه ، وهو ظرف ما بعد البلوغ أو بعد الشريعة.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في ذلك المبحث - أعني مبحث البراءة والاستدلال عليها باستصحاب عدم التكليف - ما هذا لفظه حسبما حرّرته : ولازم هذا الاستدلال سقوط البراءة في جميع الشبهات الحكمية ، لجريان الاستصحاب المذكور وحكومته عليها ، وتوضيح ما أفاده الشيخ قدس سره في الايراد عليه : هو أنّ الاستصحاب وإن لم ينحصر بما إذا كان المستصحب أثراً شرعياً قابلاً للتعبّد بنفسه أو باعتبار كونه ذا أثر عند حدوثه ، بل يجري فيما لو كان نفس بقائه قابلاً للتعبّد والحكم بالبقاء وإن لم يكن عند حدوثه أثراً شرعياً ولا ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، فلا مانع من هذه الجهة من استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فإنّ ذلك العدم وإن لم يكن في زمان اليقين به - أعني حال الصغر - أثراً شرعياً ولا ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، إلاّ أنه في مرحلة الحكم ببقائه - أعني حال الكبر - أثر شرعي قابل للحكم بالبقاء ، فلا إشكال من هذه الجهة على استصحاب عدم التكليف.

إلاّ أنّ فيه إشكالاً من جهة أُخرى ، وهي أنّ العدم المطلق ليس بنفسه أثراً شرعياً ولا ذا أثر شرعي ، فالحكم ببقائه إلى ما بعد البلوغ لا ينفع إلاّباعتبار مقارنته وملازمة بقائه مع العدم المضاف ، فإن أُريد إثبات العدم المضاف كان الأصل

ص: 450

مثبتاً ، وإن أُريد القدر المشترك بين العدم المطلق والعدم المضاف ، فلا أثر له إلاّ عدم العقاب ، وهو حاصل يقيناً بنفس الشكّ في التكليف ، فيكون الركون إلى الأصل المذكور من قبيل الركون إلى الأصل في إثبات الأمر المتحقّق وجداناً ، هذا.

مضافاً إلى العلم بانتقاض العدم السابق بالعلم بورود أحد الأحكام الخمسة عليه ، سواء كان المستصحب هو العدم في حال الصغر أو العدم قبل الشريعة ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

قلت : أمّا العلم بالانتقاض فلا ينافي الحكم ببقاء عدم التحريم إذا لم يكن الغرض منه إلاّمجرّد إثبات عدم التحريم ، وإن كان في الواقع لا يخرج عن أحد الأحكام الأربعة الباقية. وأمّا أنّ استصحاب العدم المطلق لا ينفع في إثبات العدم المضاف ، فإن كان المراد هو الاضافة إلى الشارع فقد عرفت الجواب عنه ، وأنّه يكفينا في تحقّق الاضافة والاستناد إلى الشارع جهة البقاء ، وإن لم يكن فيما سبق مستنداً ومضافاً إليه.

ولا أستبعد أنّا جميعاً لم نفهم مراده قدس سره من هذه الاضافة وذلك الاطلاق ، فجعلنا الاضافة هي إضافة العدم إلى الشارع ، بل المراد من الاضافة هي إضافة التحريم أو الوجوب إلى ما بعد البلوغ ، وذلك بأخذ الحكم مقيّداً بموضوعه ، وذلك موجب لكون العدم مقيّداً ومضافاً إلى الزمان الذي يمكن أن يتوجّه فيه الحكم ، كما قاله المرحوم الشيخ محمّد علي في عبارته في مسألة الأقل والأكثر ، أعني قوله : ومن المعلوم أنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء الخ (1).

وحينئذ يتوجّه إشكاله قدس سره الذي حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي في

ص: 451


1- فوائد الأُصول 4 : 186.

مبحث الأقل والأكثر ، وهو أنّ عدم الوجوب المقيّد بما بعد البلوغ لا أصل له ، والثابت في حال الصغر هو عدم الوجوب المطلق ، واستصحاب عدم الوجوب المطلق لا ينفع في إثبات عدم الوجوب المقيّد بما بعد البلوغ ، لأنّ ذلك العدم الثابت فيما قبل البلوغ لا يكون إلاّبمعنى عدم الجعل لا بمعنى عدم المجعول ، أو لأنّ عدم الوجوب فيما قبل البلوغ لا يكون إلاّعدماً مطلقاً ، أمّا بعد البلوغ فلا يكون إلاّبمعنى عدم الملكة ، والمطلوب هو الثاني ، أعني عدم الوجوب في مورد يمكنه جعل الوجوب ، كما حرّرته عنه قدس سره في مبحث الأقل والأكثر فراجع (1).

نعم ، يمكن التأمّل في أخذ الوجوب الذي يراد إثبات عدمه مقيّداً بكونه الوجوب بعد البلوغ ، إذ لا داعي إلى هذا التقييد ، ولا دليل عليه ولا حاجة تدعو إليه ، لما عرفت من إمكان جرّ عدم ذات الوجوب من محلّ اليقين به إلى محلّ الشكّ فيه وهو ما بعد البلوغ ، وبذلك يكون بقاء العدم مستنداً إلى الشارع ، وبه أيضاً يقابل وجود الوجوب مقابلة العدم والملكة إن كنّا مضطرّين إلى جعله من قبيل العدم والملكة ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذه النظرية لو تمّت لم يفرّق فيها بين العدم الثابت قبل البلوغ وبين العدم الثابت بعد البلوغ ، فيما لو احتمل المكلّف البالغ أنّه قد حدث له تكليف بواسطة طروّ السبب الفلاني ، فلا وجه لقول السيّد فيما نقلناه (2) عن تحريره أعني قوله : مع أنّ عدم الحرمة إذا كان باقياً بعد البلوغ الخ.

وكيف كان ، نقول فيما نحن فيه : إنّ الوجوب إن لم يكن موجوداً في الساعة الأُولى لا مانع من استصحاب عدمه إلى الساعة الثانية ، إلاّ إذا أخذنا

ص: 452


1- الظاهر أنّه قدس سره يرجع إلى تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سره. وعلى أيّ حال راجع فوائد الأُصول 4 : 186 وما بعدها.
2- في الصفحة : 449.

الوجوب مقيّداً بكونه في الساعة الثانية ، ولا دليل على هذا التقييد سوى تلك النظرية ، وهي أخذ الموضوع في الحكم. نعم لو كان الوجوب موجوداً في الساعة الأُولى وكان محدوداً بها ، كان ذلك ملازماً لكون الوجوب المحتمل في الساعة الثانية وجوباً آخر غير الوجوب الذي كان في الساعة الأُولى ، الذي قد انتهى قطعاً بانتهائها ، ولا ريب أنّ ذلك الوجوب الآخر الذي نحتمله في الساعة الثانية ملحوظ به التقييد بالساعة الثانية ، فيمتنع استصحاب عدمه ، إذ لا أصل حينئذ لعدمه.

وهكذا الحال فيما لو كانت الساعة الأُولى ظرفاً للوجوب الثابت فيها لا قيداً فإنّه حينئذ لا يشكّ في بقائه إلاّمن جهة الشكّ في طروّ رافع يرفعه ، فالوجوب في الساعة الثانية لا يحتمل عدمه إلاّمن جهة احتمال حدوث رافع الوجوب السابق ، وعلى تقدير ذلك الرافع لا يكون الوجوب في الثانية إلاّوجوباً آخر ، فلابدّ أن يكون مقيّداً بأنّه في الثانية ، وحينئذ يعود المحذور وهو أنّ عدم الوجوب المقيّد بالثانية لا أصل له.

والذي تلخّص : هو أنّه لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الوجوب في الساعة الثانية بعد فرض الوجوب في الساعة الأُولى ، سواء كان الوجوب السابق مقيّداً بالساعة الأُولى ، أو كانت الساعة الأُولى ظرفاً صرفاً ، فلاحظ.

وخلاصة البحث : أنّ الساعة الأُولى إن كانت مأخوذة على نحو الظرفية في نفس الوجوب أو في متعلّقه الذي هو الجلوس بالمعنى المتقدّم من الظرفية ، لم يكن لنا شكّ في بقاء الحكم في الساعة الثانية إلاّلأجل احتمال طروّ الرافع ، وإن أخذناها علّة في الحكم على نحو ما دام ، كان ذلك موجباً للقطع بعدم ذلك الحكم في الساعة الثانية ، وإن أخذناها على وجه يكون علّة لحدوث الوجوب وبقائه لم يكن شكّ في بقائه إلاّمن جهة الرافع ، وإن تردّدت العلّة بين هذين النحوين امتنع

ص: 453

الاستصحاب لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وكذلك لو انضمّ إليهما احتمال الظرفية ، لكن شيخنا قدس سره لم يمنعه في صورة عدم انضمام احتمال الظرفية من هذه الجهة ، بل منعه من جهة أخذ الساعة الأُولى قيداً في الوجوب ، وأنّه لا يمكن سحب الوجوب المقيّد بالساعة الأُولى إلى الثانية لاختلاف الحكمين حينئذ.

وأمّا إذا أخذنا الساعة الأُولى قيداً في المتعلّق ، فقد منع شيخنا قدس سره الاستصحاب فيها لأجل اختلاف الموضوع ، للتغاير بين القيام المقيّد بالساعة الأُولى مع القيام في الساعة الثانية ، فلابدّ أن يكون الوجوب المتعلّق بالثاني مغايراً للوجوب المتعلّق بالأوّل ، وحينئذ ربما يتوجّه عليه إمكان التسامح العرفي على نحو ما شرحناه ، ونحن قد منعناه لأجل أنّ تقيّد الواجب بالساعة الأُولى يوجب تقييد الوجوب بها على نحو ما دام ، بل قد أقمنا البرهان على أنّه لا يكون المقيّد في مقام الثبوت إلاّنفس الوجوب ، وحينئذ يكون الوجوب في الساعة الأُولى محدوداً بها ، ولو كان الوجوب موجوداً في الثانية لكان وجوباً آخر ، وحينئذ يمتنع الاستصحاب.

أمّا استصحاب عدم الوجوب في الثانية ، فقد منعه شيخنا قدس سره لتلك النظرية القائلة بأخذ الموضوع في الحكم ، ونحن وإن تأمّلنا في هذه النظرية فيما لو كان الوجوب مسبوقاً بالعدم ، إلاّ أنا لابدّ لنا من الالتزام بها فيما نحن فيه ، أعني ما لو كان الوجوب موجوداً في الساعة الأُولى ، سواء كانت الساعة الأُولى ظرفاً أو كانت قيداً ، وسواء كانت على نحو العلّة بما دام أو كانت علّة في الحدوث والدوام ، لأنّ وجود الوجوب في الساعة الأُولى يوجب كون الوجوب المحتمل عدمه في الثانية وجوباً آخر غير الوجوب الأوّل ، وهذه الغيرية إنّما تكون من جهة أخذ الساعة الثانية فيه ، وحينئذ يمتنع استصحاب العدم بالنسبة إلى الوجوب المقيّد بالساعة

ص: 454

الثانية ، كما يمتنع استصحاب وجوده ، إذ لا أصل لكلّ من وجوده وعدمه.

وهذا واضح على تقدير القيدية في الساعة الأُولى ، سواء كانت قيداً للواجب ، أو كانت قيداً في الوجوب على نحو العلّية بما دام. أمّا لو كانت الساعة الأُولى قيداً في الحكم على نحو العلّية للحدوث والبقاء ، أو لم تكن إلاّظرفاً للحكم أو للمتعلّق من دون قيدية في البين ، فالظاهر أنّه كذلك ، لأنّ الشكّ في البقاء حينئذ لابدّ أن يستند إلى احتمال وجود الرافع ، وفي هذه المرحلة وإن كان الحكم السابق محتمل الانعدام في الساعة الثانية ، إلاّ أن عدم الحكم السابق لا معنى لكونه هو الأصل حتّى لو لم يمكن إجراء الاستصحاب في بقاء الحكم السابق.

وبالجملة : لم يتوهّم أحد بأنّ الحكم السابق الأصل عدمه في الساعة الثانية ، وإنّما الذي يتوهّم جريان الأصل في عدمه هو الحكم الجديد المغاير للحكم السابق لا الحكم السابق ، وحينئذ تدخل المسألة في أنّ المستصحب هو عدم الحكم المقيّد بأنّه في الساعة الثانية ، الذي عرفت أنّه لا أصل لكلّ من وجوده وعدمه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك إشكال آخر على الفاضل النراقي قدس سره وهو أنّه لو سلّمنا جريان الاستصحاب في وجود الحكم وصحّحنا استصحاب العدم ، لم يكن ذلك موجباً للتعارض ، إذ لا منافاة بين الحكم في الساعة الثانية ببقاء الوجوب السابق وانعدام وجوب آخر فيها ، فلاحظ.

والحاصل : أنّه بعد أن كان الوجوب متحقّقاً في الساعة الأُولى ، لم يكن معنى محصّل لأصالة عدم الوجوب في الساعة [ الثانية ] إلاّ أصالة عدم وجوب جديد فيها ، لأنّ إجراء أصالة عدم الوجوب السابق في الساعة الثانية من الأغلاط

ص: 455

الواضحة ، وإنّما الكلام في استصحاب بقائه فيها ، ولا يتوهّم عاقل بأنّ الأصل بقاء انعدام ذلك الوجوب فيها ، كما أنّه لا يتوهّم أحد بعد وجود الوجوب في الساعة الأُولى أنّ الأصل بقاء عدم طبيعة الوجوب ، لأنّه قد انتقض بالوجوب السابق ، فلابدّ أن يكون المراد من استصحاب العدم في الساعة الثانية هو استصحاب عدم حدوث وجوب جديد فيها غير الوجوب الأوّل الذي كان متحقّقاً في الساعة الأُولى.

وحينئذ نقول : لو صحّ استصحاب عدم حدوث وجوب جديد في الساعة الثانية ، فإن كان استصحاب بقاء الوجوب السابق إلى الساعة الثانية ممنوعاً ، لما تقدّم من القيدية ، أو لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، انفرد استصحاب العدم في الساعة الثانية ، وإن لم يكن استصحاب الوجوب السابق ممنوعاً ، بل كان جارياً إمّا لأجل كون الساعة الأُولى ظرفاً للحكم أو لمتعلّقه ، وإمّا لأجل أنّها قيد في الوجوب على نحو العلّة المحدثة المبقية ، لكون الشكّ حينئذ من قبيل الشكّ في الرافع ، كان محصّل ذلك الاستصحاب هو بقاء الوجوب السابق في الساعة الثانية ، وهذا لا ينافيه استصحاب عدم وجوب جديد فيها لو سلّمنا جريانه ، فأين المعارضة بين الاستصحابين.

ولو كان المراد أنّ أصالة عدم الوجوب المطلق قد انتقض في الساعة الأُولى ولم يعلم انتقاضه في الساعة الثانية ، فيجري فيها استصحاب عدم الوجوب المطلق ، كان محصّله هو لحاظ الساعات موضوعات متعدّدة متباينة ، لكلّ منها وجوب مستقل مباين لوجوب الساعة الأُخرى ، وكان ذلك موجباً لعدم جريان استصحاب الوجوب من الساعة الأُولى إلى الثانية ، وانفراد استصحاب العدم في الساعة الثانية لو سلّمنا صحّة استصحاب العدم في ذلك ، وأغضينا النظر عن أنّ

ص: 456

الوجوب المختصّ في الساعة الثانية لا أصل له.

وإن لوحظت الساعات ظرفاً واحداً بأن نظرنا إلى آنات النهار بنظر وحداني ، فإن كان الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم في تمام تلك الآنات لاحتمال طروّ رافع له في أثناء النهار ، جرى استصحاب وجود الحكم ، ولا محصّل لاستصحاب عدمه. وإن كان الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم فيما بعد تلك الآنات كالليل مثلاً ، فإن كان النهار ظرفاً أو علّة مبقية جرى استصحاب الحكم ، لكون الشكّ حينئذ في بقائه من جهة احتمال الرافع ، وإن كان علّة دوامية أو شكّ في ذلك وتردّد بين الظرفية والعلّية بقسميها ، لم يجر استصحاب الوجود كما لم يجر استصحاب العدم.

ومن ذلك يظهر لك النظر فيما أفاده في المقالة من قوله : ثمّ في فرض قيدية الزمان في الحكم أو موضوعه - إلى قوله - كما هو ظاهر (1) فإنّه جعل المدار على أخذ الآنات واحدة أو متعدّدة ، فعلى الأوّل قال : لا يبقى محلّ إلاّ لاستصحاب الوجود (2) ، وعلى الثاني قال : فلا يكاد يجري الأصل في القيد ، بل ولا في المقيّد أيضاً ، بل المشكوك حينئذ تحت استصحاب العدم الخ ، ونفى التعارض في الثاني حتّى لو كان الزمان ظرفاً ، فقال : ولو لم يكن الزمان إلاّظرفاً محضاً الخ.

ووجه النظر هو ما عرفت من عدم جريان أصالة العدم في الثاني ، وأنّ المراد على الأوّل إن كان هو إجراء استصحاب الوجود في آنات النهار فلا ريب

ص: 457


1- مقالات الأُصول 2 : 395 - 396.
2- [ في الطبعة القديمة والحديثة : لا يبقى محلّ الاستصحاب للوجود ، لكنّ المصنّف قدس سره صحّح العبارة ، فلاحظ ].

فيه ، لكنّه ليس هو محلّ كلمات الجماعة ، ولا هو المنظور إليه في كلمات النراقي ، وإن كان المراد هو إجراء استصحاب الوجود فيما بعد آنات النهار ، فهذا هو المتنازع فيه ، ولابدّ حينئذ من أخذ النهار ظرفاً أو بما عرفت من العلّة المبقية ، فلا يمكن الجزم باطلاق جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ على مسلكه قدس سره من جريان استصحاب العدم في الآنات المتعدّدة ينبغي له إجراؤه هنا ، لأنّ العدم فيما زاد على النهار لم ينتقض إلاّبالوجود في النهار.

وحاصل مراده هو أنّ المجموع من زمان اليقين وزمان الشكّ إن لوحظ شيئاً واحداً جرى استصحاب الوجود ، ولا مورد فيه لاستصحاب العدم ، وإن لوحظا متعدّدين ولم تلاحظ الوحدة بينهما لم يجر إلاّ استصحاب العدم ، ولا أثر لأخذ الزمان ظرفاً. وإن لوحظت أجزاؤه وآناته متعدّدة لم يجر إلاّ استصحاب العدم في كلّ من القيد والمقيّد ، ولا أثر لأخذ الزمان ظرفاً.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ أخذ كلّ آن موضوعاً مستقلاً هو عبارة أُخرى عن التقييد به في قبال الظرفية ، كما أنّه لو لوحظ المجموع من الزمان المتيقّن فيه والمشكوك شيئاً واحداً عبارة عن القيدية ، لا يشكّ أحد في جريان الاستصحاب فيما لو ثبت الحكم في أوّله ، وليس ذلك إلاّمن جهة كون الأوّل ظرفاً لما أُخذ فيه لا قيداً ، وإنّما النزاع فيما لو نظر إلى مجموع آنات واعتبرت الوحدة بينها مثل آنات النهار وأُطلق عليها اسم النهار ، وقد تحقّق الحكم في تلك المجموعة وكان الكلام في تسريته إلى ما بعدها ، فهنا يقال إنّ مجموع آنات النهار إن أُخذت ظرفاً للحكم بالمعنى الذي شرحنا ، لم يكن ما يمنع من استصحاب الوجود إلى ما بعدها ، وإن أُخذت قيداً وموضوعاً لذلك الحكم ، لم يجر استصحاب الوجود ،

ص: 458

أمّا استصحاب العدم ففيه البحث المتقدّم (1) عن شيخنا قدس سره مع الشيخ قدس سره ، ولازم لحاظ النهار قيداً هو لحاظ التباين بين المجموع من آناته وبين ما بعده من الآنات ، ولازم لحاظه ظرفاً هو عدم لحاظ التباين بين مجموع آناته وبين ما بعده من الآنات. نعم عند ملاحظة النهار قيداً بمعنى كونه شرطاً يمكن أن يكون بنحو العلّية المحدثة المبقية ، فلو كان كذلك فلازمه هو بقاء الحكم بعد انقضائه كما لو لوحظ ظرفاً ، لكن لو شكّ في بقائه لأجل الشكّ في طروّ رافع لذلك جاز استصحاب بقائه.

والخلاصة : أنّه قدس سره جعل المدار على لحاظ الوحدة والتعدّد في الآنات ، فعلى الأوّل لا يجري إلاّ استصحاب الوجود ، وعلى الثاني لا يجري إلاّ استصحاب العدم ، ومع قطع النظر عمّا أفاده من التسوية في ذلك بين الظرفية والقيدية حتّى فيما لو لوحظت الآنات متعدّدة ، فإنّه يمكن أخذ الآن الأوّل ظرفاً للحكم ، فلا مانع من سحبه إلى الآن الثاني ، نقول : إنّ هذا الضابط لا ينطبق على ما هو محلّ النزاع ، وهو ما لو لوحظت آنات متعدّدة بنحو الوحدة ولكن حصل الشكّ في بقاء الحكم بعد انتهاء تلك الوحدة.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الصورة داخلة في القسم [ الثاني ] ممّا ذكره ، حيث إنّه قد لوحظت المباينة والتعدّد بين تلك المجموعة وبين ما بعدها من الآنات ، فينبغي أن يكون الجاري فيها هو استصحاب العدم وحده دون استصحاب الوجود ، لكن ذلك فيما لو أُخذت المجموعة السابقة ظرفاً لا قيداً ، بل حتّى لو أُخذت قيداً بمعنى الشرطية للوجوب على نحو العلّة المبقية ، وحصل الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في الرافع ، فلاحظ.

ص: 459


1- في الصفحة : 444 وما بعدها.

قوله : وأمّا ما ذكره من مثال الصوم ففيه أوّلاً : أنّه لابدّ من فرض الصحّة والمرض من حالات الموضوع والمكلّف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كانت الشبهة في عروض المرض موضوعية لو أمكن تصوّرها ، فبعد فرض كونهما موضوعين لا يمكن الرجوع إلى استصحاب الحكم وهو وجوب الصوم للشكّ في الموضوع ، كما لا يمكن الرجوع إلى استصحاب عدم وجوبه ، نعم يمكن الرجوع إلى الأصل الموضوعي وهو استصحاب الصحّة. وبالجملة : يكون حال الشبهة الموضوعية فيما نحن فيه حال ما لو وجب إكرام العادل وقد شكّ موضوعياً في بقاء عدالة زيد ، فإنّ المرجع في ذلك هو استصحاب الموضوع أعني العدالة ، لا استصحاب الحكم أعني وجوب الاكرام.

ولكن الظاهر من الفرض في الكلمات التي نقلها الشيخ قدس سره عن النراقي قدس سره كون الشبهة مفهومية ، بأن حصل الشكّ في كون الحمّى مثلاً مشمولة للمرض الذي يجوز معه الافطار ، فإنّه قال : ثمّ أجرى ما ذكره - من تعارض استصحابي الوجود والعدم - في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في بقاء وجوب الصوم معه - إلى أن قال - فحكم في الأوّل بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم الخ (2).

وحينئذ ففي الفرض المذكور لا يجري استصحاب الحكم ، لعدم إحراز بقاء الموضوع. أمّا استصحاب الموضوع الذي هو الصحّة ففيه تأمّل ، لتردّدها حينئذ بين مطلق عدم المرض فيقطع بارتفاعها ، أو خصوص عدم المرض

ص: 460


1- فوائد الأُصول 4 : 448.
2- فرائد الأُصول 3 : 209.

الصعب مثلاً فيقطع ببقائها ، فتكون الصحّة حينئذ نظير العدالة المردّدة بين ترك مطلق الذنوب صغيرها وكبيرها ، أو ترك خصوص الكبير منها ، فلو ارتكب الصغيرة حصل القطع بارتفاع العدالة على الأوّل وببقائها على الثاني ، وحينئذ يكون الاستصحاب في المقام من قبيل الاستصحاب عند التردّد في الحادث بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، كما نقلناه في حاشية ص 160 (1) عن الأُستاذ العراقي قدس سره في درسه وفي مقالته ص 154.

بل قد يقال : إنّ الحكم يكون مردّداً بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، ويكون عدم جريان الاستصحاب فيه من هذه الجهة.

ولكن لا يخفى أنّ المانع من عدم (2) جريان الاستصحاب في الحكم هو ما عرفت من الشكّ في بقاء الموضوع ، بل إنّ عدم جريانه في الموضوع إنّما هو لهذه الجهة ، فإنّ الصحّة أو العدالة لم تحمل على ذات الشخص بعلّة عدم المرض بقول مطلق أو عدم الارتكاب ، بل إنّ المحمول عليه هو المقيّد بذلك العدم ، والمتيقّن منه هو الواجد للعدم المطلق ، أمّا بعد عروض الحمّى أو بعد عروض الصغير فهو مغاير لذلك المتّصف بالعدم المطلق ، فلا يمكن حمل الصحّة عليه ، فلا يقال إنّ هذا المحموم أو المرتكب للصغيرة كان متّصفاً بالصحّة أو بالعدالة ، لعدم انحفاظ المتيقّن من موضوع الصحّة والعدالة ، وهو المنعدم فيه مطلق المرض أو مطلق الذنب.

وبالجملة : أنّ الصحّة والعدالة بمنزلة الحكم والعدم المطلق بمنزلة الموضوع ، ومع الانتقاض بالحمّى أو بارتكاب الصغيرة يكون استصحاب الصحّة

ص: 461


1- راجع الصفحة : 397.
2- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ كلمة « عدم » من سهو القلم ].

والعدالة من قبيل استصحاب الحكم في مورد مخالفة موضوع القضية المشكوكة مع الموضوع في القضية المتيقّنة ، فلاحظ.

قوله في الكفاية : وأمّا الفعل المقيّد بالزمان - إلى قوله - كما إذا احتمل أن يكون التعبّد به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله ... الخ (1).

هذا أحد الموارد التي يحتمل فيها بقاء التكليف بعد فرض كون متعلّقه مقيّداً بالزمان الذي قد انقضى ، لا أنّ ذلك منحصر به.

قوله : وإن كان من الجهة الأُخرى (2).

كما لو وجب الجلوس في الساعة الأُولى من النهار واحتمل بقاء الوجوب في الساعة الثانية.

قوله : فلا مجال إلاّلاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلاّظرفاً لثبوته لا قيداً مقوّماً لموضوعه (3).

هذا فيما لو أُخذت الساعة الأُولى متعلّقة بالوجوب على نحو الظرفية ، وهو خارج عن عنوان المسألة الذي هو الفعل المقيّد بالزمان كما صدّره به.

قوله : وإلاّ فلا مجال إلاّلاستصحاب عدمه فيما بعد ذلك الزمان (4).

وقد عرفت فيما أفاده شيخنا قدس سره امتناع استصحاب العدم في ذلك أيضاً.

قوله : لا يقال إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله (5).

مع فرض كون الزمان متعلّقاً بالحكم وأنّه قد أُخذ ظرفاً له بالمعنى الذي ذكرناه من كون الكلام في قبال من يتوهّم انحصار الحكم بغير ذلك الزمان ، كيف يحتمل أنّه قيد للموضوع فضلاً عن كونه كذلك لا محالة وفضلاً عن ضرورة دخله

ص: 462


1- كفاية الأُصول : 409.
2- كفاية الأُصول : 409.
3- كفاية الأُصول : 409.
4- كفاية الأُصول : 409.
5- كفاية الأُصول : 409.

في مناط ثبوته.

قوله : فإنّه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ... الخ (1).

هذه الجملة إنّما تقال بعد تسليم كون الظرف في لسان الدليل متعلّقاً وقيداً للفعل الواجب ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يجتمع مع كونه ظرفاً لثبوت الحكم ، أمّا التسامح العرفي في المقام فقد عرفت أنّه إنّما يتوجّه لو لم نلتزم بما قدّمناه من كون المقيّد في مقام الثبوت هو الوجوب ، وأبقيناه قيداً في الفعل ، فيدّعى التسامح العرفي حينئذ ، وأنّ العرف وإن فهم من لسان الدليل القيدية ، إلاّ أنه بحسب ذوقه يرى الاتّحاد بين القضيتين ، وقد تقدّم الكلام (2) على هذه المسامحة العرفية فراجع.

قوله : وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أُخذ الزمان ظرفاً واستصحاب العدم فيما إذا أُخذ قيداً (3).

أمّا الأوّل فنعم ، سواء كان الظرف ظرفاً للوجوب أو كان ظرفاً للواجب ، وأمّا الثاني فقد عرفت عدمه ، سواء كان القيد متعلّقاً بالحكم أو كان متعلّقاً بمتعلّق ذلك الحكم.

قوله : من جهة الشكّ في أنّه بنحو التعدّد المطلوبي الخ (4).

ظاهره أنّ مراده من التعدّد المطلوبي هو قوّة الطلب لقوّة ملاكه وتعدّد جهاته ، وحينئذ يكون انقضاء الوقت المضروب موجباً للشكّ في ارتفاع أصل الطلب أو ارتفاع مرتبة منه وبقاء الباقي ، نظير ما قيل في نسخ الوجوب.

ويمكن أن يكون مراده هو كون المقام من قبيل الطلب في ضمن الطلب ،

ص: 463


1- كفاية الأُصول : 409.
2- في الصفحة : 432.
3- كفاية الأُصول : 410.
4- كفاية الأُصول : 410.

بمعنى أنّ دخول الوقت كالزوال مثلاً يكون سبباً لوجوب طبيعة الصلاة ، وهناك مصلحة تقتضي لزوم كونها في الوقت ، فإذا سقط المطلوب الثاني بقي المطلوب الأوّل بحاله.

أمّا الوجه الأوّل فقد حقّق في محلّه أنّ الطلب لا يختلف بالشدّة والضعف ، مضافاً إلى اختلاف المتعلّق ، حيث إنّ الطلب الأكيد إنّما يتعلّق بالصلاة المقيّدة بالوقت ، والطلب الضعيف إنّما يتعلّق بنفس الصلاة ، وهذا بخلاف الوجوب والاستحباب فإنّ المتعلّق فيهما واحد ، وحينئذ يكون استصحاب بقاء الطلب مثبتاً لتعلّقه بنفس الصلاة ، فنحتاج إلى التسامح العرفي في اتّحاد الصلاة الفاقدة لقيد الوقت مع واجدته ، وإذا تمّت هذه المسامحة كانت كافية في تصحيح الاستصحاب من دون حاجة إلى دعوى تعدّد المطلوب ، أو الاختلاف في مرتبة الطلب.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسامحة لا ربط لها بالمسامحة في مسألة التغيّر والنجاسة ، لأنّ تلك عبارة عن إخراج التغيير عن موضوعية الحكم وإدراجه في العلّة ، والمسامحة المدعاة هنا هي دعوى أنّ الزمان المأخوذ قيداً في المتعلّق في لسان الدليل هو بحسب النظر العرفي ظرف له أو للحكم.

نعم ، على ما ذكرناه من رجوع أخذ الزمان قيداً في المتعلّق إلى كونه شرطاً وعلّة في الحكم بالدقّة ، ينفتح باب الاستصحاب لأجل التردّد بين كونه على نحو ما دام أو على العلّة المحدثة والمبقية ، لكنّه يكون من قبيل الشكّ في المقتضي.

وأمّا الثاني فعليه يبتني كون القضاء بالأمر السابق ، لكنّه لا يصحّح الاستصحاب ، لعدم العلم بتعلّق الطلب بنفس ماهية الصلاة عند التردّد بين طلبها في الوقت على نحو تعدّد المطلوب أو على نحو وحدته ، إلاّ أن يدّعى أنّه على

ص: 464

تقدير الوحدة تكون ذات الصلاة أيضاً مطلوبة في ضمن طلب الصلاة المقيّدة وهو ممنوع. ولو سلّم ذلك يكون الحاصل هو أنّ ذات الصلاة كانت مطلوبة ، أمّا ضمنياً فقد ارتفع يقيناً ، وأمّا استقلالياً فقد بقي يقيناً ، فنضطر حينئذ إلى استصحاب القدر الجامع بين ما هو المرتفع قطعاً والباقي قطعاً ، وهو كلّي الطلب ، ومع ذلك لا يكون نافعاً أيضاً ، لأنّ استصحاب كلّي الطلب المشترك بين الاستقلالي والضمني لا يثبت وجوب الباقي.

وإن شئت فقل : إنّ متعلّق كلّي الطلب المشترك بين الضمني والاستقلالي ليس هو ذات الصلاة لا بشرط من حيث الوقت ، ولا هو ذات الصلاة بشرط الوقت ، بل إنّ المتعلّق لذلك القدر الجامع بين الطلبين هو الصلاة المهملة ، أعني لا بشرط المقسمي الجامع بين الصلاة لا بشرط القسمي والصلاة بشرط شيء وهو الوقت ، وسيأتي (1) في الايراد على صاحب الدرر قدس سره أنّ الشيء لا بشرط المقسمي غير قابل لأن يتعلّق به الطلب ، حتّى لو كان الطلب المذكور هو القدر الجامع بين الاستقلالي والضمني ، فتأمّل.

ومع قطع النظر عن ذلك كلّه نقول : إنّ استصحاب ذلك القدر الجامع من الطلب المتعلّق بالصلاة المهملة - أعني الصلاة لا بشرط المقسمي - لا ينفع في إثبات وجوب الصلاة المجرّدة عن الوقت إلاّبالملازمة المبنية على الأصل المثبت.

نعم ، هناك طريقة أُخرى لبناء كون القضاء بالأمر السابق ، وهو كون تقييد الصلاة بالوقت هل هو مطلق ، أو أنّه مقيّد بما دام الوقت ، أو بمورد القدرة على القيد ، وعند انقضاء الوقت تسقط القيدية ويبقى أصل الطلب ، فلو تردّد القيد بين

ص: 465


1- في الصفحة : 482.

كون قيديته مطلقة فيكون موجباً لسقوط الطلب بانقضاء الوقت ، أو كونها مقيّدة بما دام الوقت فيكون الطلب باقياً ، فيمكن استصحاب بقاء الطلب ، ولكنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّ ذلك إنّما يصحّح الرجوع إلى إطلاق دليل أصل الطلب لو كان ، أمّا مع عدمه فلا يمكن الاستصحاب ، لأنّ الوجوب الثابت في السابق إنّما هو وارد على المقيّد ، وليس هناك وجوب وارد على المطلق يكون بقاؤه مشكوكاً كي نستصحبه ، وتمام الكلام في محلّه (1) من مباحث الموقّتات ومبحث قاعدة الميسور.

تنبيه : ذكر العلاّمة الأصفهاني رحمه اللّه في حاشيته على قول المصنّف : نعم لا يبعد الخ (2) ما هذا لفظه : استدراك من القيد المقوّم بنظر العرف ، إلاّ أن القيد إذا فرض كونه مقوّماً للموضوع لا يمكن أن يتفاوت فيه الأمر بنظر العرف من حيث احتمال قيام مصلحة أُخرى بذات الفعل ( ليتولّد منها وجوب جديد ) ومن حيث احتمال قيام مرتبة من المصلحة بذات الفعل ( ليكون ذلك من بقاء مرتبة من الوجوب السابق ) فإنّ منشأ الشكّ في بقاء الحكم لا يوجب التفاوت في نظر العرف من حيث اتّحاد المقيّد مع المجرّد تارةً وعدمه أُخرى ، كما هو واضح (3).

وقد فهم من تعدّد المطلوب المعنى الأوّل الذي ذكرناه ، وحاصل مراده أنّه بعد فرض كون الواجب مقيّداً بالوقت لا يمكننا الاستصحاب ، سواء كان لأجل احتمال وجوب جديد عن مصلحة أُخرى ، أو كان لأجل احتمال بقاء مرتبة من الوجوب السابق ، لأنّ المتعلّق قد اختلف حسب الفرض.

ص: 466


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 305 وما بعدها ، وكذا الحاشية المذكورة في الصفحة : 309 وما بعدها. وراجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثامن ، الصفحة : 455 وما بعدها وكذا الحاشية المفصّلة في الصفحة : 411 وما بعدها من المجلّد المذكور.
2- كفاية الأُصول : 410.
3- نهاية الدراية 5 - 6 : 164.

ولا يخفى أنّه مع فرض فتح باب المسامحة من ناحية الطلب واختلاف مراتبه ، لا مانع من استصحابه عند الشكّ في زواله من أصله أو زوال مرتبة منه وبقاء مرتبة أُخرى. نعم يرد عليه أنّ استصحاب بقاء الطلب ولو بمرتبة منه لا ينفع في إثبات تعلّقه بالباقي الفاقد للقيد إلاّبالأصل المثبت. ولا يبعد أن يكون هذا هو المراد للمحشّي ، وحاصله أنّه مع المحافظة على كون القيد مقوّماً ، لا ينفعنا بقاء مرتبة من الطلب في إثبات وجوب الفاقد ، لأنّه نقل الحكم من موضوع إلى آخر ، إلاّ بالأصل المثبت.

ولعلّ مراد صاحب الكفاية قدس سره هو أنّ قوامية القيد إنّما هو بالنسبة إلى تلك المرتبة الأكيدة التي قد زالت قطعاً بزوال القيد ، وأمّا المرتبة الضعيفة لو كانت فهي ليست بمتقوّمة بالقيد ، بل قوامها هو نفس الذات ، وحينئذ يندفع عنه كلا الإشكالين ، أعني إشكال المثبتية وإشكال المقوّمية ، وإن كان أحدهما راجعاً إلى الآخر. نعم يتوجّه المنع من اختلاف الطلب في الشدّة والضعف. مضافاً إلى أنّه يتوقّف على دعوى وجود المرتبة الضعيفة في المرتبة القوية ، فتكون هي المستصحبة - أعني المرتبة الضعيفة - لا نفس الطلب بدعوى التسامح فيه بين مرتبتيه ، لأنّ ذلك يتوجّه عليه اختلاف المتعلّق ، فتأمّل.

وهذا نظير ما يقال : إنّه عند ورود الحدث الأكبر على الأصغر يشتدّ الحدث فبناءً على أنّ الوضوء لا يرفع مرتبة الأصغر عند اجتماعها مع الأكبر ، لو احتمل ورود الأكبر على الأصغر كما لو انتبه من النوم واحتمل الجنابة وتوضّأ ، يجري في حقّه استصحاب الحدث الأصغر.

وينبغي أن يعلم أنّ فرض المسألة فيما نحن فيه هي وحدة المرتبة ، بمعنى أنّ طلب الصلاة في الوقت يكون له مرتبته ، غير أنّه إن قلنا إنّه بملاك واحد كان

ص: 467

انقضاء الوقت موجباً للقطع بارتفاع تلك المرتبة من الطلب بتمامها ، وإن قلنا إنّه بملاكين لم يكن انقضاء الوقت رافعاً إلاّمرتبة الشدّة من ذلك الطلب ، ويبقى من الطلب مرتبة ضعيفة ، ونصطلح على الأوّل بوحدة المطلوب وعلى الثاني بتعدّد المطلوب ، والمراد وحدة الملاك وتعدّده.

ولو شككنا في ذلك قلنا إنّ تلك المرتبة من الطلب كانت مشتملة على المرتبة الضعيفة في ضمن القوي ، لكن لو كان الطلب من النحو الأوّل كان انقضاء الوقت موجباً لارتفاع تلك المرتبة بتمامها ، ولو كان من النحو الثاني كان انقضاء الوقت موجباً لارتفاع مقدار من مرتبة ذلك الطلب مع بقاء مقدار منه ، وحينئذ نقول إنّ المرتبة الضعيفة كانت موجودة ونشكّ في ارتفاعها ، والوقت وإن كان مقوّماً للواجب ، إلاّ أنه إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى الطلب القوي ، أمّا تلك المرتبة الضعيفة فليس قوامها الوقت كما هو المفروض ، لأنّ المرتبة الضعيفة هي مرتبة طلب نفس الصلاة ، فلا مانع من استصحابها ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّه لو كان من وحدة الملاك كان الوقت قواماً في تمام ذلك المقدار من الطلب ضعيفه وقويّه. نعم لو كان من تعدّد الملاك لم يكن الوقت داخلاً في قوام المرتبة الضعيفة ، بل كانت قواميته مقصورة على المرتبة القوية ، وحينئذ يعود محذور عدم إحراز الموضوع ، فالإشكال على صاحب الكفاية وارد لا محيص عنه.

وأوّل من أخذت عنه هذا الإشكال هو المرحوم السيّد أبي الحسن الأصفهاني كما حرّرته عن درسه. نعم هو أبرزه بقالب الإثبات باعتبار أنّ استصحاب نفس الطلب يثبت تعلّقه بالباقي ، وذلك ناش عن عدم انحفاظ الموضوع الذي أشكل به المحشي وغيره ، فتأمّل.

ص: 468

وخلاصة البحث : هو أنّ من المقرّر اعتبار الوحدة بين القضيتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً ومحمولاً ، والاختلاف الآتي من ناحية الموضوع تصوّره واضح ، بأن يثبت الحكم للعنب مثلاً ويشكّ في سرايته إلى الزبيب فيدّعى الوحدة عرفاً ، وأنّ الزبيبية في نظرهم من الحالات لا من المقوّمات على ما هو نظر صاحب الكفاية قدس سره (1) في بيان التسامح العرفي الموجب لوحدة الموضوع. أمّا الاختلاف من ناحية المحمول فهو إنّما يتأتّى بعد الفراغ عن الاتّحاد بحسب الموضوع ، بأن نفرض الشكّ في بقاء حكم العنب نفسه في صورة عدم تغيّره إلى الزبيبية ، وهذا لا يكون إلاّمن جهة النسخ ، بأن يقال إنّ هذا النسخ لم نعلم أنّه رفع الحكم بالتمام أو رفعه بمرتبة وبقيت منه مرتبة أُخرى ، كما يقال في أنّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الاستحباب أو لا.

لكن التسامح في ذلك ممنوع ، لأنّ الاستحباب في نظر العرف مباين للوجوب ، وإن كان بالدقّة هو مرتبة من الطلب ، لكن لو فرضنا أنّ المرتبة الباقية هي مرتبة وجوبية أيضاً غايته أنّها مرتبة نازلة ، بأن نفرض أنّ الوجوب قد كان بعشر درجات ، وبعد النسخ هل نسخ بتمامه أو نسخ مقداره الأكيد وبقي مرتبة منه ، فحينئذ يقال : اختلف المحمول مع فرض وحدة الموضوع ، والاختلاف في المحمول من جهة أنّ الوجوب المتيقّن هو الشديد ، وهذا الباقي على تقدير بقائه ضعيف ، فاختلف المحمول شدّة وضعفاً ، والعرف يتسامحون في ذلك ويرون الضعيف متّحداً مع الوجوب القوي على وجه يقولون إنّ الوجوب باقٍ ، كما تراهم يتسامحون في الألوان ، بأن كان اللون شديداً فطرأت حالة يشكّ معها في زوال ذلك اللون من أصله أو بقاء مرتبة منه ، فيقال كان الجسم أسود مثلاً والآن

ص: 469


1- كفاية الأُصول : 427 - 428.

كما كان ، هذا.

ولكن هذا النحو من الاختلاف في المحمول في الشدّة والضعف مع فرض وحدة الموضوع لا يتصوّر إلاّفي هذا الفرض ، أعني فرض النسخ ، وهو فرض بعيد لا واقعية له. نعم فيما نحن فيه له تصوّر ، وذلك بأن نقول بإخراج الزمان عن قيدية الفعل وإرجاعه إلى نفس الوجوب إمّا ظرفاً أو قيداً له ، بمعنى كونه شرطاً وعلّه في الوجوب الوارد على ذات الصلاة ، وحينئذ لو شككنا في أنّ هذا الوجوب الوارد على الصلاة الذي يكون شرطه وعلّته هو الوقت المفروض أنّه بعشر درجات مثلاً ، هل هو ناشٍ عن ملاك واحد وهو دخول الوقت المفروض أعني أنّ في الوقت صلاحاً يقتضي إيجاب الصلاة إيجاباً بعشر درجات ، ومقتضاه أنّه إذا خرج الوقت فلا صلاح فلا وجوب فيرتفع الوجوب بتمامه ، أو أنّ هناك ملاكاً آخر يقتضي هذا الوجوب ، بحيث إنّ الوقت يقتضي إيجاباً بأربع درجات ، وذلك الملاك الآخر المنضمّ إليه يقتضي وجوباً بست درجات ، ولمّا اجتمعا اقتضيا وجوباً بعشر درجات ، وحينئذ نقول إذا خرج الوقت يبقى الوجوب لكن بأربع درجات (1) ، وعند الشكّ والتردّد في أنّ هذا الوجوب الذي كان حادثاً وكان بعشر درجات هل هو بملاك واحد أو بملاكين ، يمكننا استصحاب الوجوب ، وإن كان الوجوب المشكوك بقاؤه مغايراً في المرتبة للوجوب المتيقّن بالشدّة والضعف إلاّ أن هذا الاختلاف في المحمول ممّا يتسامح به العرف ويرون الوجوب واحداً ، فلا مانع من الاستصحاب ، ولعلّ هذا هو مراد الكفاية ، وإن كانت عبارته ظاهرة في كون الزمان قيداً للواجب ، لكن لو كان هذا مراده لم يرد عليه إشكال الجماعة باختلاف الموضوع أو الأصل المثبت.

ص: 470


1- [ هكذا في الأصل ، والصحيح : بست درجات ].

نعم ، ربما ورد عليه أنّ هذا مبني على عدم اعتبار الصلاح في المتعلّق والاكتفاء بالصلاح في نفس الحكم ، وإلاّ فلو التزمنا بالصلاح في المتعلّق كان ذلك عبارة أُخرى عن تقييد الواجب بالزمان ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله : لا يقال إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله الخ (1).

ولا يخفى أنّ هذه الجهة لا ترد على ما ذكرناه من أنّ المقيّد هو الوجوب لا الواجب ، لما هو واضح من أنّه لا ريب في كون الصلاح في الفعل المقيّد بالزمان ، لكنّه لمّا لم يكن القيد اختيارياً لزم أخذ القيد في الوجوب ، وكان انحصار الواجب بمورد الصلاح وهو وقوع الفعل في الزمان قهرياً غير محتاج إلى الجعل الشرعي ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يلزمه خلوّ الفعل من الصلاح ، بخلاف هذا المسلك فإنّه عبارة عن أنّ الملاك علّة في الوجوب ، فيكون المتعلّق أجنبياً عنه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الملاك الواحد قائم بالقيد ، والملاك الآخر قائم بنفس الصلاة ، لكن لم يؤخذ الزمان قيداً في الفعل ، بل أُخذ قيداً في الوجوب على نحو ما ذكرتموه من كون الملاك في المتعلّق ، لكن لمّا لم يكن اختيارياً كان من اللازم جعل القيد شرطاً في التكليف ، وهو يغني عن أخذه قيداً في المتعلّق ، بل يوجب لغوية التقييد الثاني.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه الجهة الموجبة للشكّ في بقاء الحكم باعتبار التردّد بين كونه ذا ملاك واحد أو كونه ذا ملاكين ، لا تتوقّف على الالتزام باختلاف الحكم في الشدّة والضعف ، بل تتأتّى لو قلنا ببساطة الوجوب ، وأنّه لا يختلف شدّة وضعفاً بسبب وحدة ملاكه أو تعدّده ، بل لا تتوقّف على استصحاب القدر

ص: 471


1- كفاية الأُصول : 409.

الجامع بدعوى تردّد الحكم في ذلك بين كونه مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، لأنّ ذلك الاختلاف لا يكون في شخص الحكم ، بل إنّما يكون في علّته وملاكه ، وهو لا يوجب تعدّداً في ذاته.

نعم ، ربما يقال : إنّه من قبيل الشكّ في المقتضي. ويمكن المنع عن كونه من هذا القبيل ، إذ لا يكون وحدة الملاك موجباً لتحديد في الحكم الناشئ عنه ، بل يكون انعدام ذلك الملاك موجباً لارتفاع ذلك الحكم ، كما لو حكم الشارع بحرمة الكذب في مورد كونه مضرّاً ، وشككنا في أنّ ملاكه هو الضرر وحده فيرتفع بارتفاع الضرر ، أو هو مع كونه قولاً بخلاف الواقع على وجه يكون كلّ واحد منهما لو انفرد كافياً في ملاكية التحريم ، فلو ارتفع الضرر يكون ارتفاعه موجباً لارتفاع الحرمة على الأوّل دون [ الثاني ] فيمكن استصحاب الحرمة ، ولا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، كلّ ذلك بعد الفراغ عن عدم مدخلية الضرر في موضوع الحكم ، وإن كان له الدخل في علّته وملاكه ، وقد تقدّم بعض الكلام على بعض هذه الجهات فيما علّقناه أخيراً على جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية ، فراجع (1) وتأمّل.

ثمّ قال في الكفاية - في بيان كون الشكّ في كون المذي ناقضاً ، وأنّه من قبيل الشكّ في الرافع الذي لا مجال فيه لاستصحاب العدم بعد حدوث ذلك الذي يشكّ في رافعيته - ما هذا لفظه : ضرورة أنّها إذا وجدت بها ( يعني بأسبابها ) كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها ، كانت من الأُمور الخارجية أو الأُمور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية الخ (2)

ص: 472


1- الصفحة : 22 وما بعدها.
2- كفاية الأُصول : 410.

وأورد عليه الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته بما حاصله : أنّ هذا - أعني كون المسبّب قابلاً للبقاء بحسب استعداد ذاته بعد ارتفاع علّته ما لم يطرأ عليه ما يرفعه - إنّما يتمّ في الأسباب والمسبّبات الخارجية ، دون الأسباب والمسبّبات الاعتبارية التي يكون قوامها بالاعتبار ، فإنّها تارةً يكون مثلها بوجودها الآني منشأ اختراع المنشأ إلى الأبد بلا صلاحية شيء لرفع مثله ، وتارةً يكون بحدوثه منشأ اعتبار بقاء الشيء كذلك مع صلاحية اعتبار رفعه برافع مخصوص ، ومرجع هذا الاعتبار أيضاً إلى دخل عدم الشيء المزبور في اعتبار بقائه ، وتارة أُخرى يكون الشيء بحدوثه منشأ اعتبار حدوث الشيء وبقاؤه منشأ اعتبار بقائه ، وأمّا فرض كون الشيء بحدوثه منشأ اعتبار حدوث الشيء محضاً وأمّا بقاؤه إذا كان مستنداً إلى استعداد ذاته (1) ، فهو في مثل الأُمور الاعتبارية غير متصوّر لاستحالة استعداد لذاتها بلا دخل لمنشأ اعتبارها فيها ، لأنّها في الحقيقة فيء منشئها ، فلا جرم يكون منشؤها دخيلاً بحدوثه في بقاء الشيء ، غاية الأمر في ظرف عدم الأمر الفلاني الخ (2).

ولا يخفى أنّ الأُمور الاعتبارية وإن لم يكن بقاؤها متقوّماً باقتضاء ذلك ، بل هو متقوّم باعتبارها ، لكن الاعتبار الذي هو قوامها يكون على أنحاء كما أفاده في التفصيل المذكور ، غير أنّ النحو الثاني يكون على قسمين : القسم الأوّل ما يكون اعتبارها مقيّداً بعدم حدوث الشيء الفلاني ، فيكون نسبة ذلك الشيء إليها نسبة

ص: 473


1- [ عبارة : « وأمّا بقاؤه إذا كان مستنداً إلى استعداد ذاته » وردت في الطبعة القديمة ، وقد صُحّحت في الطبعة الجديدة بما يلي : « وكون بقائه مستنداً إلى استعداد ذاته » فلاحظ ].
2- مقالات الأُصول 2 : 396 - 397.

الغاية أو نسبة المانع ، والقسم الثاني يكون في الحقيقة عبارة عن اعتبارها الموجب لتحقّقها في عالم الاعتبار ، وهذا العالم كسائر العوالم لو وجد الشيء فيه يبقى على حاله ما لم يكن في البين ما يرفعه ويهدمه ، وحيث إنّ العالم عالم اعتبار فيمكن لذلك المعتبر الذي اعتبر وجود الملكية مثلاً في عالم الاعتبار أن يجعل لها رافعاً وهو الفسخ ، يرفع على وجه تكون رافعيته لها أيضاً اعتبارية ، وليس ذلك من باب أنّ اعتبارها محدود بعدم الفسخ لتكون الملكية المجعولة محدودة بعدمه ، وتكون نسبة الفسخ إليها كنسبة الغاية إلى ذي الغاية ، ليكون حال ما بعد الفسخ حال ما بعد الزوال ، ليكون مورداً لتوهّم المعارضة بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم ، كما أفاده النراقي من تعارض استصحاب الملكية أو الطهارة إلى ما بعد الفسخ وعروض المذي مع استصحاب عدم جعل العقد سبباً للملكية فيما بعد الفسخ ، وأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة فيما بعد المذي.

ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس سره من قوله : إنّ رتبة جعل المذي رافعاً لأثر الطهارة أو غير رافع له إنّما تكون متأخّرة عن رتبة جعل الوضوء سبباً للطهارة ، فلا يعقل أخذ عدم رافعية المذي قيداً في سببية الوضوء للطهارة ، فتأمّل جيداً (1) ناظر إلى جواب هذا الايراد ، ولكن ذلك إنّما يتمّ لو سلّم الخصم الرافعية ولم يسقها مع الغاية بعصا واحدة ، ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى ذلك ، وأنّ الخصم لا يسلّم الرافعية في الأُمور الاعتبارية ، ويدّعي عدم الفرق بين الرافع والغاية في أنّه عند حدوث كلّ منهما ينقطع الاعتبار ، فيكون الاعتبار عنده محدوداً بعدم الرافع كما يكون محدوداً بعدم الغاية ، وإلاّ فمع تسليمه الفرق بين الرافعية والغاية بما عرفت فكيف يعقل أن يكون الحكم مقيّداً برافعه المتأخّر عنه رتبة ، بل كيف يعقل

ص: 474


1- فوائد الأُصول 4 : 449.

اجتماع الرافعية وقيدية العدم في شيء واحد ، وما هما إلاّكالمتناقضين.

والحاصل : أنّه لابدّ أن يكون المستشكل مثل الأُستاذ العراقي ناظراً إلى أنّ الرافعية بمعناها الحقيقي غير متصوّرة في الاعتباريات وأنّ المراد بها ما يكون عدمه معتبراً ، وحينئذ يتعيّن الجواب عنه بما قدّمناه من إمكان اعتبار الشيء الفلاني رافعاً للاعتبار الفلاني ، وهذا لا يوجب التحديد في الاعتبار المرفوع ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّ إرجاع الأحكام إلى الاعتبار الصرف قابل للانكار ، بل هي تنوجد بالجعل والانشاء ، ولا فرق بينها وبين الموجودات الخارجية في أنّها تنوجد بالايجاد وتنخلق بالخلق ، وأقصى ما بينهما من الفرق هو أنّ الموجودات الخارجية يكون وجودها في عالم الحس والعيان أو في عالم العقل كما في الموجودات المجرّدة كالعقل مثلاً ، والاعتباريات تكون موجودة في عالم الاعتبار ، والانشائيات تكون موجودة في عالم الانشاء ، ونعني بوجود الأحكام الشرعية في عالم الاعتبار أنّها موجودة ومتحقّقة في قانون الشريعة وعالم التشريع ، كالأحكام الدولية الموجودة في القانون الدولي.

وعلى كلّ حال ، فإنّ تلك الاعتبارات أو الموجودات في عالم الاعتبار أو في عالم التشريع لها قيود عدمية وغايات زمانية وروافع جعلية ، فليس اصطلاح الشريعة على الحدث بالناقض للطهارة وعلى الطلاق بالهادم للنكاح ونحو ذلك من الروافع والنواقض للمجعولات الشرعية بالجزاف الذي لا واقعية له سوى مجرّد الاصطلاح.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك الجواب عمّا أفاده العلاّمة الأصفهاني في حاشيته على الكفاية في الجواب عن إشكال شيخنا قدس سره بقوله : وتخيّل أنّ الشيء لا يعقل أن

ص: 475

يعلّق على عدم رافعه ، لأنّ فرض الرافع فرض وجود المرفوع ، فكيف يعلّق وجوده على عدم ما يتوقّف على وجوده ، مدفوع بأنّ المعلّق ليس أصل الوجود حتّى يلزم المحال ، بل بقاء الوجود ، والرافع لا يقتضي إلاّ أصله ، والتعليق لا يقتضي إلاّتوقّف البقاء ، مع أنّ الوجوب أيضاً كذلك. فتسليم صلاحية الحكم التكليفي لكلا النحوين من التقييد دون الحكم الوضعي بلا فارق (1) فإنّ الرافع وإن رجع إلى عالم البقاء إلاّ أنه يجري إشكال شيخنا قدس سره في البقاء أيضاً ، فإنّه - أعني البقاء - بعد فرض أنّه ليس باقتضاء الذات وأنّه يحتاج إلى جعل من الشارع ، فهو يجعل الحكم ويجعل بقاءه ، وحينئذ يتّجه الإشكال بأنّه كيف يقيّد الحكم بالبقاء بعدم رافع البقاء.

وإصلاح هذا الجواب بدعوى أنّ الرافع المعتبر عدمه في البقاء هو رافع الوجود لا رافع البقاء ، لا يخلو من تكلّف. مضافاً إلى أنّ كون الشيء رافعاً للوجود أو كونه رافعاً للبقاء لا يكون من ذاتياته التكوينية ، بل هو محتاج إلى جعل من الشارع ، ومع تحقّق جعل الرافعية لذلك الشيء ، سواء كانت هي رافعية الوجود أو هي رافعية البقاء ، يكون اعتبار عدمه في البقاء أو في أصل الوجود لغواً صرفاً ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما ذكره اعتراضاً على ما أفاده شيخنا قدس سره في مسألة الصوم والصحّة والمرض ، فقال في تتمّة العبارة التي نقلناها عنه ما هذا لفظه : ودعوى أنّ القيد هنا راجع إلى الموضوع وهو الايجاب على الصحيح والحاضر دون المريض والمسافر ، فلا تعليق للوجوب على عدم أمر زماني ، مدفوعة بأنّ مثله ممكن الجريان في الوضع ، بأن يقال قد اعتبرت الملكية لغير

ص: 476


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 167.

المفسوخ عليه ، والزوجية قد اعتبرت لمن لم يوقع عليها الطلاق الخ (1) فإنّك قد عرفت أنّه بعد أن جعل الشارع الفسخ رافعاً للملكية والطلاق رافعاً للزوجية ، يكون تقييد الحكم بالملكية بعدم الفسخ والزوجية بعدم الطلاق ولو بجعل موضوع الحكم هو من لم يفسخ عليه أو من لم يوقع عليها الطلاق لغواً صرفاً ، هذا.

مضافاً إلى ما يشهد به الوجدان من أنّ الفاسخ يقصد بالفسخ إنشاء رفع الملكية ، والمطلّق يقصد بالطلاق إنشاء رفع الزوجية ، والشارع بامضائه لذلك يكون قد جعل الرافعية لهما ، لا أنّه لم يصدر من الشارع إلاّتقييد الملكية بعدم الفسخ وتقييد الزوجية بعدم الطلاق.

والتحقيق : أنّ هذه الأُمور الثلاثة - أعني المانع والغاية والرافع - مختلفة ، فالأوّل يكون عدمه قيداً في أصل حدوث الحكم ، والثاني يكون عدمه قيداً في بقائه ، والثالث غير راجع إلى التقييد ، بل هو راجع إلى جعل ثان فوق جعل الحكم ، بأن يجعل الحكم ثمّ يجعل الرافعية لذلك الشيء على وجه يعتبر هادميّة ذلك الشيء لذلك الحكم. والظاهر جريان هذه الاعتبارات الثلاثة في كلّ من الأحكام التكليفية والوضعية ، ولم يظهر من شيخنا قدس سره في هذا المقام التفصيل بين الأحكام على وجه تكون الأحكام التكليفية قابلة للتقييد بالغاية وللرافعية ، بخلاف الأحكام الوضعية فلا تقبل إلاّ الرافعية ، نعم ربما يظهر ذلك من عبارة الكفاية التي تقدّم (2) نقل بعضها.

وكيف كان ، فنقول بعونه تعالى : إنّهم وإن ذكروا ذلك في الملكية والوقف

ص: 477


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 167.
2- في الصفحة : 472.

كما لا يخفى على من راجع كلماتهم في البابين ، فذكروا أنّهما غير قابلين للتحديد بالغاية ، إلاّ أنه لا يبعد أن يكون مرادهم بذلك عدم الدليل وعدم معهودية الملكية الموقّتة ، ونحو ذلك ممّا يرجع إلى مقام الاثبات لا مقام الثبوت ، وإلاّ فلا إشكال عندهم في أنّ النكاح من قبيل الزوجية الموقّتة لا من قبيل ملكية المنفعة. نعم لازم ذلك هو عدم جريان استصحاب الزوجية فيما لو شكّ في أنّ الغاية هي نصف الشهر مثلاً أو آخره ، بل وكذلك الحال فيما شكّ في كون العقد دائمياً أو منقطعاً محدوداً بآخر الشهر مثلاً ، ولا يبعد الالتزام بذلك بناء على ما سلكوه من منع الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، التي يكون منها الشكّ في الغاية التي هي نفس الزمان ، بل إنّ كلماتهم في الوقف على الذرّية ظاهرة في قبول الملكية بناءً على تلقّي الطبقات المتأخّرة الملك عن الواقف.

واعلم أنّ المستفاد من كلامه السابق على قوله : وتخيّل الخ ، هو تقسيم تقييد الحكم بعدم الشيء إلى قسمين ، لأنّ ذلك الشيء الذي يعتبر عدمه في الحكم ، تارةً تكون نسبته إلى الحكم نسبة الغاية ، وأُخرى تكون نسبته إليه نسبة الرافع ، ويقول : إنّ هذين النحوين جاريان في الحكم الوضعي كما يجريان في الحكم التكليفي.

وكأنّه فهم من عبارة شيخنا في هذا المقام أنّ النحو الثاني - وهو التقييد بعدم الرافع - لا يجري في الوضعيات للمحالية التي ذكرها ، وهذه المحالية لمّا كانت جارية في الأحكام التكليفية أورد عليه بقوله : مع أنّ الوجوب أيضاً كذلك (1) كما في المرض والسفر الرافعين لوجوب الصوم مع أنّه مقيّد بعدمهما ، ثمّ تخيّل أنّه ربما يجاب من قبل شيخنا بأنّه لا يوجد في التكاليف تقييد بعدم الرافع ، وأنّ مثل

ص: 478


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 167.

الصحّة والمرض والحضر والسفر ليست من باب التقييد بعدم الرافع ، بل هي من قبيل تعدّد الموضوع ، وسنده في هذا التخيّل هو التفرقة التي ظهرت من شيخنا قدس سره فإنّه أجاب عن مسألة الصوم بأنّها من قبيل تبدّل الموضوع ، وعن مسألة المذي بأنّها من قبيل الرافع ، ولأجل ذلك نقض بامكان ذلك ، أعني تبدّل الموضوع في الوضعيات ، ثمّ قال : مع أنّه لا حاجة إلى هذا التوجيه والتصحيح ، لما يراه من إمكان التوجيه بقيدية العدم بعد فرض أنّها لا محذور فيها ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره لم يحصر المحالية بالأحكام الوضعية ، بل هي جارية في جميع الأحكام بل في كلّ شيء ورافعه ، وأنّ عدم الرافع لا يكون قيداً في ذلك الشيء.

نعم هنا مطلب آخر وهو أنّه هل يتصوّر التحديد والتقييد بعدم الغاية في الوضعيات ، وقد عرفت التفصيل فيه ، وأنّه هل يتصوّر الرافع في التكاليف ، والظاهر أنّه لا مجال لانكاره ، ولم يصرّح أحد بانكاره لا شيخنا ولا غيره ، ويشهد بذلك ما يعدّونه من مسقطات الأمر. نعم إنّ في الصوم والصحّة والمرض والسفر والحضر خصوصية فقاهتية ، حتّمت على شيخنا قدس سره الالتزام بكون المسألة في الصوم من قبيل تبدّل الموضوع لا من قبيل الرافع ، وهي ما تفيده الآية الشريفة وهي قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) الخ (1).

ولو أغضى شيخنا قدس سره النظر عن هذه الجهة لكان المرض عنده رافعاً لوجوب الصوم ، ولكان حاله بالنسبة إلى مواضع الشكّ منه حال المذي بالنسبة إلى الطهارة ، في عدم كون عدمه قيداً في الحكم الذي هو وجوب الصوم ، لعين

ص: 479


1- البقرة 2 : 185.

المحالية التي ذكرها في مسألة المذي.

والحاصل : أنّ هذه الأُمور الثلاثة - أعني المانع والغاية والرافع - جارية في جميع الأحكام وضعية كانت أو تكليفية ، والأوّل ما يكون عدمه معتبراً في أصل حدوث الحكم ، والثاني ما يكون عدمه معتبراً في بقائه ، وهما لا يحتاجان إلى أزيد من جعل الحكم مقيّداً بعدم كلّ منهما ، غير أنّ تقيّد الحكم بعدم الأوّل يكون مقصوراً على مرحلة الحدوث ، وتقيّده بعدم الثاني يكون في مرحلة البقاء ، ومرجعه إلى تحديد بقاء الحكم بعدمه ويعبّر عنه بغاية الحكم ، أمّا الثالث فهو أمر آخر يحتاج إلى جعل مستقلّ بعد جعل الحكم ، بأن يجعل الحكم ويجعل الأمر الفلاني رافعاً له ، ولازم كونه رافعاً للحكم هو عدم بقاء الحكم بعد وجود ذلك الشيء ، لا أنّ عدمه مع ذلك يكون قيداً في البقاء ، لكون هذا التقييد بعد جعل الرافعية لغواً ، ومع عدم جعل الرافعية يكون تقييده بعدمه بلا جهة توجبه ، إذ ليست رافعيته ذاتية حتّى يكون ارتفاع الحكم عند وجوده موجباً لجعل الحكم مقيّداً بعدمه.

بل يمكن أن يقال : إنّ الرافعية إذا كانت ذاتية كان التقييد بالعدم أيضاً لغواً ، اللّهمّ إلاّ أن يكون من قبيل الارشاد لا من قبيل التقييد الشرعي المولوي.

وعلى الإجمال أنّ الرافعية اعتبار من الاعتبارات القابلة للجعل الشرعي سواء قلنا إنّ الجعل الشرعي هو عين الاعتبار ، أو قلنا إنّه خلق وإيجاد في عالم الاعتبار الذي نعبّر عنه بعالم الشريعة أو عالم التشريع ، فلا مانع من جعلها ، وبعد جعلها للشيء يكون تقييد الحكم بعدم ما جعلت له لغواً.

ومن ذلك يتّضح لك الإشكال فيما أفاده من منع الاحتياج في الرافعية إلى الجعل المستقل بقوله : وتوهّم أنّ جعل بقاء الاعتبارات - إلى قوله - مدفوع بأنّ

ص: 480

نفس الاعتبار الوحداني غير معلّق - إلى قوله - فالمعتبر تارةً هو الملكية الغير المحدودة بعدم الفسخ ، وأُخرى هي الملكية المحدودة بعدم الفسخ الخ (1) فإنّ ذلك كلّه لو سلّمناه يكون خروجاً عن فرض الرافعية ، وكلامنا إنّما هو مع فرض كون الشيء رافعاً هل يمكن أن يتقيّد المرفوع بعدمه ، وقد عرفت أنّ ثبوت الرافعية لبعض الأشياء هي من الارتكازيات الشرعية ، فلأجل ذلك تراهم ينشئون رفع الملكية بالفسخ ورفع النكاح بالطلاق.

قوله في الحاشية : وتخيّل أنّ الشيء لا يعقل أن يعلّق على عدم رافعه ، لأنّ فرض الرافع فرض وجود المرفوع ، فكيف يعلّق وجوده على عدم ما يتوقّف على وجوده ، مدفوع بأنّ المعلّق ليس أصل الوجود حتّى يلزم المحال ، بل بقاء الوجود ، والرافع لا يقتضي إلاّ أصله ، والتعليق لا يقتضي إلاّتوقّف البقاء الخ (2).

أيّ محالية في توقّف ج على عدم ب وتوقّف ب على ج؟ إلاّ أن يقال : إنّ عدم ب يكون في رتبة وجود ب ، فإذا كان وجود ب متوقّفاً على ج كان عدم ب متوقّفاً على ج. أو يقال : إنّ توقّف ب على ج عبارة أُخرى عن كون ب معلولة لج ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ وجود ج متوقّف على عدم معلوله. وفي كلا التوجيهين تأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من المحالية ليست براجعة إلى هذا ولا إلى ذاك ، بل هي في مقام اللحاظ ، وأنّ الجاعل عند جعله الشيء ففي مرتبة جعله لا يكون الملحوظ إلاّهو ، ولحاظ رافعه وعدم رافعه إنّما هو بعد الوجود ، فلا يمكن أن يؤخذ في مرتبة الجعل التي هي سابقة على ذلك.

ص: 481


1- نهاية الدراية 5 - 6 : 167.
2- نهاية الدراية 5 - 6 : 167.

وللمرحوم صاحب الدرر قدس سره (1) في المقام كلام لا بأس بنقله ، فإنّه بعد أن نقل ملخّص ما أفاده الشيخ قدس سره في الجواب عن إشكال النراقي قدس سره بأنّ ما قبل الزوال إن كان قيداً لم يجر إلاّ استصحاب عدم الوجوب ، وإن كان ظرفاً لم يجر إلاّ استصحاب الوجوب ، أفاد أنّه يمكن اختيار الشقّ الأوّل ، ولكن نأخذ الجلوس مهملاً من حيث التقييد بالزمان وعدمه كما قدّمنا في مسألة الأقل والأكثر فنقول : إنّه كان واجباً والآن كما كان ، ويمكن اختيار الشق الثاني فنستصحب الوجوب ، فكذلك نستصحب العدم ، بأن نأخذ الزمان قيداً فيما بعد الزوال فنقول الأصل عدم وجوب الجلوس المقيّد.

ثمّ أورد على الأوّل بأنّه من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، للعلم بارتفاع وجوب الجلوس المقيّد بانقضاء قيده ، والشكّ في قيام وجوب آخر مقامه ، وإنّا وإن قلنا بجريان الاستصحاب في ذلك إلاّ أنه هنا ممنوع ، لأنّ الشكّ في بقاء ذلك الوجوب الذي أخذناه متعلّقاً بالجلوس مسبّب عن حدوث الوجوب المتعلّق بما بعد الزوال ، فالأصل عدمه ، وهو حاكم على استصحاب البقاء.

قلت : لا يخفى أنّ الجلوس المهمل من حيث القيد وعدمه ليس إلاّ الجلوس لا بشرط المقسمي ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يقبل حكماً من الأحكام ، فلا محصّل لاستصحاب وجوبه. وأمّا ما ذكره في مسألة الأقل والأكثر وأنّ تعلّق الوجوب بالمهمل معلوم والخصوصية منفية بالبراءة ، فقد تقدّم التأمّل فيه في تلك المسألة ، وأنّه لا محصّل لذلك الاهمال إلاّذلك الاجمال ، أعني العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر.

مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا إمكان تعلّق الوجوب بالجلوس لا بشرط المقسمي ،

ص: 482


1- درر الفوائد 1 - 2 : 541 - 542.

لقلنا إنّ ذلك الوجوب قد ارتفع في المقام قطعاً ، لأنّ المفروض أنّ الجلوس الذي كان متّصفاً به هو المقيّد ، وحينئذ نحتاج إلى الفرض الثاني من تعدّد المطلوب الذي تقدّم ذكره (1) في تفسير عبارة الكفاية ، أو إلى دعوى كون المستصحب هو القدر الجامع بين الوجوب السابق المتعلّق بالمقيّد والوجوب الجديد المحتمل المتعلّق بالفاقد ، وهذا سهل لا يحتاج إلى التشبّث بالاهمال المذكور.

ولا يرد عليه إلاّ أن القدر الجامع بين الوجوبين ليس من الأحكام الشرعية ، ومع قطع النظر عن هذه لا يكون إلاّمن قبيل القسم الثالث من الكلّي الذي يقول هو بصحّة استصحابه ، وأمّا حكومة أصالة عدم الحادث فقد عرفت ما أفاده شيخنا قدس سره من عدم جريانه ، إذ لا أصل له.

ثمّ أفاد في الايراد على ما ذكره في الشقّ الثاني ما هذا لفظه : وأمّا الشقّ الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض ، فإنّ مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيّد بالزمان الخاصّ أنّ هذا المقيّد ( بالزمان الخاصّ ) ليس مورداً للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيداً ، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك الزمان الخاصّ على نحو لوحظ الزمان ظرفاً للوجوب (2).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ بقاء الوجوب في الزمان الثاني متعلّقاً بالجلوس منافٍ لعدم وجوبه ، لأنّه حينئذ يقال : إنّ هذا الجلوس واجب باعتبار كونه مصداقاً للجلوس المطلق ، وليس بواجب باعتبار كونه خاصّاً بالزمان الثاني ، ولعلّ المراد - كما هو غير بعيد - أنّ الوجوب المنفي عن الجلوس هو وجوب جديد وارد عليه بخصوصه ، والوجوب المثبت هو الوجوب السابق ، فيكون الحاصل أنّ هذا

ص: 483


1- في الصفحة : 463.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 543 - 544.

الجلوس واجب بذلك الوجوب السابق المتعلّق بالجلوس المطلق ، وليس بواجب بوجوب جديد ، ولا منافاة بينهما كما عرفت فيما قدّمناه سابقاً في الأخذ بنظرية شيخنا قدس سره من لزوم كون الوجوب المنفي في الزمان الثاني وجوباً آخر غير الوجوب السابق هذا ، مضافاً إلى بطلان الرجوع إلى أصالة العدم في الوجوب الثاني ، فلاحظ.

قوله : فخلاصة الكلام فيه : هو أنّ الشكّ في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع فلا إشكال أيضاً في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفاً ، ولا يضرّ انتفاؤها ببقائه في نظر العرف ... الخ (1).

لا يخفى أنّ استصحاب بقاء الموضوع في جميع الأحكام إنّما يجري عند الشكّ في بقائه لاحتمال ارتفاعه ، كأن يكون الموضوع مثلاً هو الكذب المقيّد بالضرر وقد شكّ في بقاء الضرر كما هو مورد الصورة الثانية ، أمّا هذه الصورة التي يكون ارتفاع الخصوصية فيها معلوماً لكن كان المكلّف يحتمل عدم دخلها في الموضوع ، فليست هي من موارد استصحاب الموضوع ، بل هي مورد استصحاب الحكم ، ويدفع إشكال اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة بما أُفيد من عدم كون تلك الخصوصية بحسب النظر العرفي ركناً.

أمّا استصحاب نفس الموضوع في هذه الصورة ، فإن أُريد به استصحاب عنوان الموضوعية لتلك الذات التي زالت عنها تلك الخصوصية ، فذلك عبارة أُخرى عن استصحاب الحكم ، وإن أُريد بذلك استصحاب وجود الموضوع على

ص: 484


1- فوائد الأُصول 4 : 452.

نحو مفاد كان التامّة ، من دون تعرّض لاثبات صفة الموضوعية لتلك الذات التي زالت عنها تلك الخصوصية ، فذلك راجع إلى الصورة الثانية ، وهي غير محتاجة إلى ما أُفيد من النظر العرفي ، ولا يبعد أن يكون عدّ الصورة المذكورة - أعني الصورة الأُولى - من صور استصحاب الموضوع من سهو القلم ، ولم أجد ذلك في تحريراتي ولا في التحريرات المطبوعة في صيدا ، فراجع وتأمّل.

ولعلّ ذلك مأخوذ من عبارة الشيخ في التنبيه الثالث ، فإنّه بعد أن ذكر أنّ الحكم العقلي لا يجري فيه الاستصحاب لعدم تطرّق الشكّ إليه قال : وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع فإن كان لاشتباه خارجي - إلى قوله - وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً واحتمال مدخلية موجود مرتفع - إلى قوله - هذا حال نفس الحكم العقلي ، وأمّا موضوعه كالضرر ، إلى آخره (1) ، فتخيّل أنّ قوله : وإن كان لعدم تعيين الموضوع ، يراد به استصحاب الموضوع ، لكن الشيخ قدس سره إنّما أراد به الحكم ، فتأمّل.

ثمّ إنّا قد قدّمنا الكلام على استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي في أوائل الاستصحاب (2).

قوله : سواء كان الشكّ في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ... الخ (3).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في جريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، ومنشأ الشكّ فيه إنّما هو من جهة ارتفاع بعض

ص: 485


1- فرائد الأُصول 3 : 215 - 217.
2- في الصفحة : 16 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 450.

القيود التي كانت مورداً للحكم العقلي ، مثل ارتفاع الضرر في مورد حكم العقل بقبح الكذب الضارّ ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس من قبيل الشكّ في الغاية أو الرافع. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ انعدام الضرر وارتفاعه بعد فرض مدخليته يكون من قبيل الرافع ، فيكون الشكّ في مدخليته في القبح من قبيل الشكّ في رافعية الموجود.

والذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام بعد الفراغ عمّا أفاده أوّلاً وثانياً في جواب الإشكال ، وبعد الفراغ عمّا أفاده قدس سره من المسامحة العرفية ، هذا نصّه : هذا على تقدير كون الشكّ في بقاء الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل ناشئاً عن غير الشكّ في حصول الغاية أو الرافع لذلك الحكم الشرعي ، وأمّا إذا كان الشكّ في بقائه ناشئاً عن الشكّ في حصول الغاية أو الرافع ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى ذلك الحكم الشرعي حتّى بناءً على اعتبار الوحدة في الموضوع عقلاً ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الشكّ في الغاية والرافع يتصوّر فيه أن يكون من قبيل الشكّ في رافعية الموجود ، فيكون حاله حال الشكّ في مدخلية مثل الضرر في قبح الكذب ، وأن يكون من قبيل الشكّ في وجود الرافع ، فيكون حاله حال الشكّ في بقاء الضرر بعد الفراغ عن مدخليته في القبح ، والأوّل من قبيل الشبهة الحكمية والثاني من قبيل الشبهة الموضوعية.

قوله : وثانياً : سلّمنا أنّ كلّ خصوصية أخذها العقل ... الخ (1).

ص: 486


1- فوائد الأُصول 4 : 451.

لا يخفى أنّ مرجع الإشكال الأوّل إلى دعوى احتمال عدم مدخلية الخصوصية الزائلة في موضوع الحكم العقلي ، ومرجع الإشكال الثاني إلى تسليم مدخليتها في الحكم العقلي ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ملاك آخر هو العلّة في الحكم الشرعي لم يطّلع العقل [ عليه ] ، بحيث يكون ذلك الحكم الشرعي ناشئاً عن ملاكين ، أحدهما ما أدركه العقل وهو قائم بالخصوصية الزائلة ، والآخر ما لم يدركه العقل وهو باقٍ لم يزل ، فيدور الأمر في ذلك الحكم الشرعي بين ذي الملاكين وذي الملاك الواحد الزائل ، ولا مانع من استصحاب ذلك الحكم الشرعي بعد فرض خروج الملاك عن موضوعية ذلك الحكم ودخوله في علّته ، فيكون المستصحب هو الحكم الشخصي ، لتردّد علّته بين تلك الواحدة الزائلة وبين العلّتين اللتين قد زالت إحداهما وبقيت الأُخرى ، من دون توقّف في ذلك على الالتزام بالشدّة والضعف ، فراجع ما حرّرناه في أوائل الاستصحاب (1) في مبحث الاستصحاب في الحكم الشرعي الناشئ عن الأحكام العقلية ، وراجع ما حرّرناه قريباً (2) في شرح عبارة الكفاية في التسامح من ناحية وحدة المطلوب وتعدّده.

وبالجملة : بعد فرض كون الحكم مردّداً بين كونه عن ملاك واحد وكونه عن ملاكين ، يكون المستصحب نفس ذلك الحكم الشخصي ، وليس هو من قبيل المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، كي نحتاج إلى استصحاب القدر الجامع بينهما ، لما عرفت من خروج الملاك عن موضوعيته ودخوله في علّته ،

ص: 487


1- في الصفحة : 26.
2- في الصفحة : 463 وما بعدها.

وحينئذ يكون حاله حال النور الواحد المردّد بين كونه معلولاً لسراجين أو لسراج واحد ، أو نظير الحرارة في الماء المردّدة بين كونها معلولة لنار واحدة أو نارين ، مع فرض عدم الاختلاف في الشدّة والضعف ، فالاستصحاب فيما نحن فيه لا يحتاج إلى استصحاب القدر الجامع ، ولا إلى التعلّق بمسألة الاختلاف في الشدّة والضعف ، ولا إلى التعلّق بمسألة التسامح العرفي ، لأنّ المفروض أنّ مورد الشكّ إنّما هو في الملاك ، وهو أجنبي عن موضوعية الحكم ، حيث إنّ هذا الحكم الشرعي لم يكن ناشئاً عن دليل لفظي يدلّ على أنّ الكذب الضارّ محرّم ، كي نقول إنّ استصحاب الحرمة بعد ارتفاع الضرر يحتاج إلى التسامح المذكور ، بل إنّ هذا الحكم ناشٍ عن حكم العقل بالكذب الضارّ ، وليس ذلك الوصف قيداً في موضوع حكم العقل ، بل إنّه يكون علّة في حكم العقل على الكذب بأنّه قبيح ، فيكون الحكم الشرعي المستكشف به على وتيرته ، والمفروض أنّ العنوان لم يكن موضوعاً لذلك الحكم العقلي ، لما عرفت من كونه ملاكاً للحكم العقلي بالقبح ، فيكون من قبيل علّة الحكم.

ولا وجه لما يقال : من أنّ ملاكات الأحكام العقلية هي موضوعاتها ، كما أفاده صاحب الدرر قدس سره بقوله : وأمّا القضية الملقاة من العقل ، فليست مشتملة على شيء آخر خارج عن الموضوع يسمّى ظرفاً أو حالاً وواسطة في ثبوت الحكم ، كما كان في القضية الملقاة من الشرع الخ (1) لما هو واضح من أنّه ليس في الأحكام العقلية قوانين كلّية وقضايا حملية ، وإنّما هو محض الاستقذار والاستنكار والتنفّر

ص: 488


1- درر الفوائد 1 - 2 : 515.

الخارجي ، وهو لا يقع إلاّعلى ذات الكذب لأجل أنّه ضارّ. ولو سلّمنا موضوعية الضرر في ذلك الحكم العقلي فهو بالنظر العرفي علّة ، وحينئذ نلتزم بالاحتياج إلى التسامح العرفي ولا ضير فيه.

وعلى كلّ حال ، لا يكون المقام من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما عرفت من أنّ ارتفاع بعض القيود لا يكون موجباً للتحديد بوجوده ، ولو سلّم هذا الاحتمال فلا [ يكون ] التحديد بارتفاع ذلك القيد من قبيل التحديد بالزمان ، كي يكون من قبيل الشكّ في المقتضي.

قوله : وأمّا المقام الثالث وهو استصحاب بقاء الموضوع - إلى قوله : - إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات - وإلى قوله : - وإن كان الشكّ في بقاء الموضوع لبعض الأُمور الخارجية ... الخ (1).

مرجع النحو الأوّل إلى ما هو من قبيل الشبهة المفهومية ، لأجل احتمال مدخلية الخصوصية المفروض انتفاؤها في موضوعية ذلك الحكم العقلي ، فتكون الشبهة مفهومية ، نظير التردّد في المفهوم بين الأقل والأكثر ، ومعه لا مجال لاستصحاب وجود الموضوع ، كما مرّ فيما لو تردّدت العدالة بين ترك مطلق الذنب أو ترك خصوص الكبائر ، وكما لو تردّد المرض المسوّغ للافطار بين مطلق المرض وعدم الصحّة ، أو هو خصوص المرض الصعب مثلاً ، وقد تقدّم (2) أنّه لا يجري فيه استصحاب الموضوع ، وإنّما الجاري هو استصحاب الحكم بعد تمامية التسامح العرفي ، وحينئذ يكون هذا القسم الأوّل من المقام الثالث راجعاً إلى

ص: 489


1- فوائد الأُصول 4 : 452 - 453.
2- في الصفحة : 460.

المقام الأوّل إن أُريد استصحاب الحكم العقلي ، أو إلى المقام الثاني إن أُريد استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي ، فلاحظ.

قوله : فإنّ العقل إنّما يستقلّ بقبح الإقدام على الضرر المظنون فعلاً ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظنّ الفعلي ... الخ (1).

لو كان للعقل استقلال في المقام فهو إنّما يستقلّ بقبح الإقدام على محتمل الضرر وهو متحقّق وجداناً ، فلا محصّل لاستصحاب الضرر ، نعم يشكل الأمر في استصحاب عدم الضرر لو كان المورد منه ، ومنشأ الإشكال هو أنّ استصحاب عدم الضرر لا ينفي الاحتمال الوجداني للضرر الذي هو تمام ملاك حكم العقل ، بل ملاك حكم الشرع بالاحتياط طبقاً للحكم العقلي الاحتياطي الطريقي ، فراجع ما تقدّم في مباحث حجّية الظنّ (2). أمّا لو كان لنا حكم شرعي مستقل مترتّب على الظنّ بالضرر ثابت لدليل خاصّ غير حكم العقل ، فذلك مقام آخر ، وهو لا ينفع فيه استصحاب الضرر ولا استصحاب عدم الضرر ، فتأمّل.

قوله : ليس في الأحكام العقلية ما يستقلّ العقل بالبراءة فيها عند الشكّ في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه ... الخ (3).

لو تصوّرنا الشكّ في قبح فعل من الأفعال بنحو الشبهة الحكمية لا الموضوعية ، فهل يكون عند العقل مورد للاحتياط الطريقي كما في الشبهة الموضوعية.

ص: 490


1- فوائد الأُصول 4 : 453.
2- لاحظ المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 514.
3- فوائد الأُصول 4 : 453.

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العقل إذا استقلّ بحسن شيء أو قبحه ، فتارةً يكون له حكم واحد بمناط واحد ... الخ (1).

الظاهر أنّ الغرض من هذا التقسيم الايراد على ما أفاده الشيخ قدس سره بأن يقال : إنّ الضرر من قبيل القسم الثاني من الأحكام العقلية التي يجري فيها الاستصحاب عند الشكّ في البقاء.

وفيه تأمّل ، فإنّ الغرض من الاستصحاب إن كان هو ترتّب الحكم الشرعي وهو الحرمة فذلك لا ينكره الشيخ ، فإنّه صرّح بترتّب الحرمة على الاستصحاب المذكور ، فراجع الرسائل في التنبيه الثالث (2) وإن كان الغرض من الاستصحاب هو ترتّب الحكم العقلي وهو القبح ، فهذا لا تقولون به أنتم ولا الشيخ ، وقد صرّح به الشيخ أيضاً.

وأمّا ما تقدّم نقله عن الشيخ من الابتناء على كون الاستصحاب من باب الظنّ ، فهو مطلب آخر حاصله : أنّا لو قلنا بأنّ الاستصحاب مفيد للظنّ ، وقلنا بأنّ موضوع حكم العقل بالقبح شامل للظنّ بالضرر ، فإنّ موضوع حكمه بالقبح هو إدراك الضرر إدراكاً راجحاً ، كان ذلك الاستصحاب موجباً لتحقّق موضوع الحكم العقلي ، فيترتّب الحكم العقلي ترتّباً قهرياً ، ولأجل ذلك عبّر بقوله : فيحمل عليه الحكم العقلي (3) ، فلا يتوجّه عليه شيء حينئذ سوى دعوى أنّه لم يقل أحد بحجّية الاستصحاب من باب الظنّ الشخصي حتّى يبتني الكلام عليه ، وذلك سهل ،

ص: 491


1- فوائد الأُصول 4 : 456.
2- فرائد الأُصول 3 : 217.
3- فرائد الأُصول 3 : 217.

وسوى أنّ العقل في مورد احتمال الضرر يلزم بالاحتياط ، وهذا لم يظهر من الشيخ إنكاره ، وإنّما الذي صرّح هو أنّه لو قلنا بكون موضوع حكم العقل بالقبح هو الظنّ بالضرر ، لكان ذلك متحقّقاً بالاستصحاب بناء على حجّيته من باب الظنّ فتأمّل.

والحاصل : أنّ الشيخ قدس سره ليس بصدد الحكم العقلي الاحتياطي في هذا القسم من الأحكام العقلية ، ولعلّه قدس سره ينكر هذا الحكم الاحتياطي ، وإنّما جلّ غرضه هو أنّا لو قلنا بأنّ موضوع الحكم العقلي بلزوم دفع الضرر منوط بالاعتقاد الراجح ، لكان ذلك الحكم العقلي ثابتاً ثبوتاً واقعياً عند استصحاب الضرر بناءً على كون حجّيته من باب [ الظنّ ] ولابدّ حينئذ من التوفيق بين الظنّين ، أعني ما هو موضوع الحكم العقلي وما هو حاصل بالاستصحاب من حيث كونه نوعياً أو شخصياً.

قوله : إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّه في القسم الأوّل من الأحكام العقلية لا تجري الأُصول العملية في موارد الشكّ في الموضوع ولا مجال للتعبّد بها ... الخ (1).

لا يخفى أنّ أظهر موارد القسم الأوّل حكم العقل بقبح التشريع الذي يكون موضوعه هو عدم العلم ، بمعنى عدم الحجّة الشرعية ، حيث إنّه يكون استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها ساقطاً ، لكفاية مجرّد الشكّ في تحقّق القبح المذكور ، لكن قد تقدّم في محلّه (2) أنّ استصحاب عدم الحجّية وإن لم يكن

ص: 492


1- فوائد الأُصول 4 : 457.
2- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 366 وما بعدها.

جارياً لما ذكر ، إلاّ أن استصحاب الحجّية فيه جارٍ كجريان الأمارة النافية والأمارة المثبتة ، فلاحظ ما قدّمناه في ذلك الباب.

قوله : وأمّا إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكماً ومقدّماً في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لأنّ موردهما أعمّ من المستقلات العقلية ، فلو قدّم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ... الخ (1).

قال السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) فيما حرّره عن شيخنا قدس سره : بل لا محالة يحكم العقل في الموارد المشكوكة بحكم آخر طريقي. ومنه يظهر أنّه لا مجال في هذه الموارد للرجوع إلى أصالتي البراءة والحلّية ، فإنّ الحكم العقلي بالقبح في تلك الموارد المشكوكة طريقياً يكون مخصّصاً لأدلّة البراءة والحلّية ، بل يكون حاكماً عليها ، إذ لا يبقى مع حكم العقل بالقبح مجال للشكّ في الحلّية حتّى يكون مورداً لها الخ (2).

ولا يخفى أنّ ما أُفيد في هذا التحرير لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ صدر الكلام هو دعوى حكومة هذا الحكم العقلي الطريقي وتقدّمه في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، فلا وجه لتعليله بأنّ هذا الحكم العقلي أخصّ فيلزم تقديمه على دليل البراءة وقاعدة الحل إذ لو عكس الأمر لزم كون ذلك الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، بل الذي ينبغي هو أن يعلّل هذه الدعوى بما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه اللّه

ص: 493


1- فوائد الأُصول 4 : 457.
2- أجود التقريرات 4 : 118.

من كون هذا الحكم العقلي الطريقي رافعاً للشكّ الذي هو موضوع البراءة وقاعدة [ الحل ] وذلك قوله : بل يكون حاكماً عليها ، إذ لا يبقى مع حكم العقل بالقبح مجال للشكّ في الحلّية حتّى يكون مورداً لها.

وإن كان هو أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ وجود الحكم العقلي الطريقي لا يرفع موضوع البراءة وقاعدة [ الحل ] وهو الشكّ في الحكم الواقعي ، بل ينبغي العكس ، لأنّ حكم الشارع بالترخيص وعدم الاعتناء باحتمال وجود المنع الواقعي رافع لموضوع الحكم العقلي الطريقي ، وأقصى ما فيه هو أن لا يبقى لذلك الحكم العقلي الطريقي مورد ، وقد حقّق في محلّه أنّه مع الحكومة لا تلاحظ النسبة بين الدليلين ، فيقدّم العام على الخاصّ لو كان الأوّل حاكماً على الثاني. نعم لو كان الخاصّ دليلاً لفظياً كالعام كان ذلك مستهجناً ، أمّا مع كون الخاص من الأحكام الطريقية العقلية ، فلا يبعد الالتزام باسقاط هذه الحكومة العقلية.

والذي وجدته فيما حرّرته عنه كان مقصوراً على مجرّد الإشكال وهذا نصّه : وما كان من قبيل القسم الأوّل كانت الأمارات والأُصول جارية في مورد الشكّ في تحقّق موضوعه ، سواء كانت موافقة أو مخالفة ، فإنّ العقل وإن استقلّ بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مع الاقدام عليه من الوقوع فيما هو قبيح واقعاً ، إلاّ أن الأمارة أو الأصل يكون مؤمّناً من ذلك ، فتكون الأمارة والأصل رافعة لموضوع ذلك القبح الاحتياطي الطريقي ، نعم في مورد البراءة الشرعية وقاعدة الحل إشكال من حكومتهما على ذلك القبح الطريقي ، أو كونه مقدّماً عليهما ، وقد تقدّم ذلك في محلّه مفصّلاً ، انتهى. ومراده بمحلّه هو ما أفاده في الموارد التي وقع

ص: 494

الكلام فيها على وجوب دفع الضرر الدنيوي ، كما في أوائل حجّية الظنّ المطلق ، وفي الاستدلال على الاحتياط بدفع الضرر المحتمل ، فراجع.

والأولى أن يستند في توجيه التقديم - أعني تقديم هذا الحكم العقلي الطريقي على البراءة وقاعدة الحل - إلى دعوى الملازمة بين الحكم العقلي الطريقي وبين الحكم الشرعي الطريقي ، أعني الاحتياط الشرعي ، وعند ثبوت الاحتياط الشرعي المستكشف من ذلك الاحتياط العقلي بطريق الملازمة ، يكون هذا الاحتياط الشرعي مقدّماً على أصالة البراءة وقاعدة الحل لكونه أخصّ ، أو لأجل حكومته عليهما بدعوى كون المراد من المشكوك وما لا يعلمون هو الأعمّ من عدم العلم بالواقع وعدم العلم بالوظيفة الشرعية.

وبالجملة : يكون حال هذا الاحتياط الشرعي المستكشف من الاحتياط العقلي حال الاحتياط الشرعي في باب الدماء والفروج والأموال ، بل هو هو بعينه فلاحظ.

وأمّا حكومته على البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان فواضح حتّى لو اقتصرنا على مجرّد الاحتياط العقلي ، ولم نلتزم بالاحتياط الشرعي المستكشف به ، فلاحظ وتأمّل ، وراجع ما في الجزء الأوّل من هذا التحرير ص 134 وص 79 تجده صريحاً فيما ذكرناه ، وراجع ما علّقناه هناك على ص 79 (1) في كيفية حكومته على الاستصحاب سواء كان طريقياً أو كان موضوعياً.

قال في ص 134 من الجزء الأوّل - بعد أن ذكر حكم العقل بلزوم دفع

ص: 495


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 515 وما بعدها.

الضرر المحتمل الدنيوي ، وهل هو من قبيل ذي الحكم الواحد أو من قبيل ذي الحكمين - ما هذا لفظه : وعلى كلّ تقدير سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه ، يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه الخ (1).

وقال في ص 79 : وعلى كلّ حال ، سواء قلنا بأنّ حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعاً في سلسلة علل الأحكام ، فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فإن كان الحكم العقلي طريقياً فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضاً يكون طريقياً ، نظير إيجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعياً فالحكم الشرعي أيضاً يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة ، وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكماً على أدلّة الأُصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ، كما يكون وارداً على البراءة العقلية ، فإنّه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » ، وعن نقض اليقين بالشكّ ، وعن كون العقاب عليه بلا بيان ، بل يكون ممّا يعلمون ، ومن نقض اليقين باليقين ، ومن كون العقاب عليه عقاباً مع البيان الواصل ، ويأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى (2).

هذا ما حرّرناه سابقاً فيما يرجع إلى هذا التنبيه الراجع إلى استصحاب

ص: 496


1- فوائد الأُصول 3 : 367.
2- فوائد الأُصول 3 : 218.

الأحكام الشرعية الثابتة بالحكم العقلي - أعني التحسين أو التقبيح العقليين - بواسطة الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي ، فيكون الانتقال إلى الحكم الشرعي من قبيل الاستدلال على المعلول بعلّته.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه لم يكن لدينا من الأحكام الشرعية ما هو من ذلك القبيل وما هو إلاّفرض محض ، وأغرب منه التكلّم في موضوع الأحكام العقلية لو كانت الشبهة مفهومية ، مثل ما لو حكم العقل بقبح الكذب الضار ثمّ تجرّد عن الضرر ، فهل يبقى قبحه أو لا. ليت شعري إذا كان الحاكم هو العقل فمن هو الشاكّ ، وكيف يرجع الحاكم الذي هو العقل في تنقيح موضوعات أحكامه إلى العرف ، وأنّ القيد الفلاني في نظرهم ممّا له دخل في الموضوع أو هو أجنبي في نظرهم عن الموضوع.

وبعد هذا كلّه ننقل الكلام إلى ما أُفيد من الحكم العقلي الذي هو ذو الحكم الواحد والحكم العقلي الذي هو ذو الحكمين ، وأنّ الأوّل لا مجال فيه للأُصول بخلاف الثاني ، فيجري فيه الاستصحاب المثبت والنافي ، ويكون حاكماً على الاحتياط الذي يحكم به العقل حكماً ثانوياً. ولو لم يكن إلاّقاعدة الحل والبراءة وقبح العقاب من دون بيان ، هل يقع التعارض بينها وبين الاحتياط العقلي ، أو أنّه حاكم عليها لكونه أخصّ منها ، كلّ هذه التفاصيل لا واقعية لها في الأحكام العقلية.

نعم ، إنّ بعض الأحكام الشرعية مثل حرمة الكذب وحرمة التشريع وحرمة القول على الشارع ، وهذه موضوعها عدم العلم ، كما في الحجّية لو شككنا في أنّ الشهرة حجّة شرعية ، في مثل هذه الأحكام يكون الشكّ كافياً في القطع بالحرمة ،

ص: 497

ولا يكون استصحاب عدم الحجّية جارياً ، إذ لا تزيد بذلك على ما هو الموضوع أعني عدم العلم الذي هو أعمّ من العلم بالعدم. نعم يجري استصحاب الحجّية ، لأنّه يخرج المسألة عن موضوع عدم العلم بأنّه من الشارع ويدخلها في العلم بأنّه من الشارع.

كما أنّ لنا أحكاماً واقعية لكن قام الدليل على لزوم الاحتياط فيها ولو مثل ما لو علّق الترخيص على عنوان وجودي ، القاضي بلزوم التوقّف ما لم يحرز ذلك العنوان الوجودي ، إلى غير ذلك ممّا يوجب انقلاب الأصل من البراءة مثلاً إلى الاحتياط ، كما في باب أموال الناس والدماء والفروج ، فإنّه بناءً على ذلك الانقلاب يكون الاستصحاب من الطرفين - أعني مثبته ونافيه - جارياً وحاكماً على دليل الاحتياط ، وما لم يكن هناك استصحاب يكون المتعيّن هو الاحتياط الذي دلّ عليه الدليل في خصوص ذلك الباب ، أعني باب الدماء مثلاً ، ويكون ذلك الدليل لو تمّ مقدّماً على دليل البراءة الشرعية لكونه أخصّ منه ، وحاكماً على البراءة العقلية أعني حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ ذلك الدليل الدالّ على لزوم الاحتياط كافٍ في كونه بياناً وحجّة مصحّحة للعقاب.

نعم ، الشأن كلّ الشأن في تمامية ذلك الدليل الموجب للخروج عن عمومات البراءة الشرعية ، وهو أمر آخر لا دخل له بما نحن في صدده من إنكار هذا التفصيل في الأحكام العقلية ، بل إنكار أصل قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقاعدة الملازمة. ولو سلّمناها فلا صغرى لها في أحكامنا الفقهية الثابتة في الشريعة الإسلامية ، فلاحظ وتأمّل لتستريح من انتقادات المحدّثين الموجّهة إلى الأُصوليين في هذا الدليل العقلي الراجع إلى ذلك.

ص: 498

أمّا الأحكام العقلية كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وقاعدة امتناع اجتماع الأمر والنهي ونحو ذلك من الملازمات العقلية ، فإنّها لا مجال للإشكال فيها ، ولا تدخل فيما يورده المحدّثون على الأُصوليين في التعلّق بالأحكام العقلية لإثبات الأحكام الشرعية.

ص: 499

ص: 500

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

مبحث الاستصحاب...

تعاريف الاستصحاب... 3

إجراء المقلّد الاستصحاب وسائر الأُصول العملية... 6

الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين... 9

حول ما يعتبر في الاستصحاب من الأركان... 10

حول ما أفاده الشيخ الأنصاري في استصحاب حكم العقل... 16

حول التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع... 27

الاستدلال ببناء العقلاء على حجّية الاستصحاب... 33

الاستدلال بصحيحة زرارة الأُولى على حجّية الاستصحاب... 47

الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية على حجّية الاستصحاب... 51

الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة على حجّية الاستصحاب... 80

الاستدلال برواية محمّد بن مسلم على حجّية الاستصحاب... 91

الاستدلال بمكاتبة علي بن محمّد القاساني على حجّية الاستصحاب... 108

ص: 501

الاستدلال بروايات الحل والطهارة على حجّية الاستصحاب... 119

بمناسبة التفصيل بين الأحكام الوضعية والتكليفية بحث مفصّل حول الأحكام الوضعية 146

تنبيهات الاستصحاب...

الكلام في استصحاب مؤدّى الأمارات والأُصول... 210

الكلام في استصحاب الكلّي... 267

الكلام في استصحاب الفرد المردّد... 267

الكلام في القسم الأوّل من استصحاب الكلّي... 268

الكلام في القسم الثاني من استصحاب الكلّي... 272

الكلام في القسم الثالث من استصحاب الكلّي وهو يتصوّر على وجوه :... 322

الوجه الأوّل... 322

الوجه الثاني... 387

الوجه الثالث... 393

الكلام في استصحاب الزمان والزماني... 396

الكلام فيما نُسب إلى الفاضل النراقي قدس سره من تعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الأحكام 434

استصحاب الأحكام العقلية... 484

ص: 502

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.