أصول الفقه المجلد 8

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1431 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-73-7

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الثامن

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 7-73-5213-600-978/ج8

ISBN 978-600-5213-73-7/VOL 8

الكتاب: أصول الفقه ج 8

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1431 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ ملاقي أطراف العلم الاجمالي ]

قوله : وتفصيل ذلك : هو أنّه لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية على كلّ واحد من الأطراف ، تحصيلاً للقطع بالامتثال والفراغ عمّا اشتغلت الذمّة به ، فكما لا يجوز شرب كلّ واحد من الاناءين اللذين يعلم بخمرية أحدهما ، كذلك لا يصحّ بيع كلّ واحد منهما ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الاناءين ، فلا تجري أصالة الصحّة في بيع أحدهما ... الخ (1).

لا يخفى أنّ لزوم تحصيل القطع بالامتثال والفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة لا دخل له بصحّة البيع وفساده ، ونحو ذلك من الآثار الوضعية ، إذ ليس في مثل ذلك اشتغال للذمّة بشيء كي يتأتّى فيه أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فإنّ هذه القضية إنّما تقال في الأحكام التكليفية الالزامية ، وأين ذلك من الأحكام الوضعية كالصحّة والفساد. كما أنّ حديث سلب السلطنة لا دخل له أيضاً بتنجيز العلم الاجمالي لما تعلّق به من التكليف الالزامي ، ولا ربط له بكون المبيع أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية كي يتكلّم فيما لو كان بيع أحدهما متأخّراً عن بيع الآخر ، وأنّ ذلك من قبيل تنجّز الحكم قبل وجود موضوعه الذي هو بيع الآخر ، إلى آخر ما أُفيد من الجمل المسطورة في هذه الصفحة إلى قوله : وعلى هذا يتفرّع

ص: 3


1- فوائد الأُصول 4 : 68.

وجوب الاجتناب عمّا للأطراف من المنافع والتوابع المتّصلة والمنفصلة الخ (1) ، فإنّ كلّ واحدة من هذه الجمل له مورد ومأخذ غير مورد الجملة الأُخرى ومأخذها.

أمّا عدم صحّة بيع أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية أو بالنجاسة ، فإنّ مأخذه هو أنّ النهي عن التصرّف بالخمر أو النجس يوجب سلب منافعه الموجب لإسقاطه عن المالية ، فمع العلم الاجمالي به وسقوط الأصل في جواز التصرّف فيه يكون ملحقاً بما يشكّ في ماليته ، ولا دخل لسلب السلطنة في ذلك ، ولا لكون التكليف المعلوم بالاجمال ممّا اشتغلت به الذمّة. نعم لو كان بيع الخمر أو النجس محرّماً شرعياً مولوياً ، وكان تحريم المعاملة موجباً لفسادها لكونه موجباً لسلب السلطنة عليها ، كان المقام من موارد شغل الذمّة ، وكان من قبيل سلب السلطنة ، إلاّ أنّ المرجع فيه ليس هو أصالة الصحّة ، بل أصالة البراءة من الحرمة ، وهي مورد التعارض لا أصالة الصحّة.

وربما كان العلم الاجمالي موجباً للشكّ في مملوكيته ، كما لو علم بأنّ أحد هذين الشخصين المعروضين للبيع حرّ ، وربما كان موجباً للشكّ في السلطنة عليه ، كما لو علم بأنّ أحد المعروضين للبيع مرهون أو متعلّق لحقّ شخص آخر بغير الرهانة ، فإنّ جميع ما كان من هذا القبيل يكون العلم الاجمالي فيه موجباً للشكّ في تحقّق شرط من شروط البيع فيه مع عدم الأصل المحرز له ، لكونه حسب الفرض مورداً للعلم الاجمالي الموجب لسقوط الأصل المذكور فيه ، ومع عدم إحراز الشرط المذكور يكون البيع فيه مورداً لأصالة الفساد ، بمعنى أصالة عدم ترتّب الأثر ، وهذا هو الحجر الأساسي في هذين المثالين.

ص: 4


1- فوائد الأُصول 4 : 73.

نعم ، في الأوّل منهما جهة تكليفية راجعة إلى البائع توجب منعه من بيع أحدهما إذا فرض كونه يعلم إجمالاً أنّه غير مالك لأحد الشخصين ، وتلك الجهة هي منعه من التصرّف فيما لا يملكه ، كما أنّه في المثال الثاني جهة تكليفية راجعة إليه توجب سلب سلطنته عن بيع أحد الأمرين المذكورين ، وتلك الجهة هي علمه بأنّه مسلوب السلطنة عن بيع المرهون منهما الناشئة عن حرمة تصرّفه بالبيع فيما هو متعلّق لحقّ الغير.

ثمّ إنّه في خصوص النحو الأوّل ، أعني العلم الاجمالي بالخمرية أو النجاسة ، الموجب للشكّ في المالية من جهة الشكّ في جواز الانتفاع به ، وقع البحث في أنّ المدار فيه على المنع الشرعي الواقعي المعلوم في البين ، كي يكون الحكم بفساد البيع حكماً ظاهرياً محتاجاً إلى أصالة عدم ترتّب الأثر ، بحيث إنّه لو وقع البيع عليه ثمّ انكشف أنّه غير الخمر أو أنّه ليس هو النجس المعلوم في البين ، ينكشف خطأ ذلك الحكم ، أو أنّ المدار فيه على المنع من الانتفاع الذي يحكم به العقل من جهة العلم الاجمالي ، كي يكون الحكم بفساد البيع حينئذ حكماً واقعياً على وجه لو انكشف بعد بيع الطرف أنّه لم يكن هو الخمر أو أنّه لم يكن هو النجس ، يكون ذلك من قبيل تبدّل الموضوع ، نظير الخمر ينقلب خلاً بعد البيع.

وهذا البحث عام لصورة العلم الاجمالي ولغيره من مجاري الأُصول المانعة من الانتفاع ، مثل أصالة عدم التذكية في الجلد أو اللحم ، بل يشمل حتّى مثل القطع المتعلّق بنجاسة ما هو طاهر واقعاً إذا انكشف الخلاف بعد البيع. وحاصل البحث يرجع إلى أنّ المدار في سلب المنافع على النهي الشرعي الواقعي ، أو على مجرّد المانع من الانتفاع ، سواء كان هو العلم الاجمالي أو الأصل المانع أو القطع بالنجاسة ، ولازم ذلك اختلاف الأشخاص في كون الشيء الواحد مالاً بالنسبة إلى

ص: 5

من كان عالماً بحاله ، وغير مال واقعاً بالنسبة إلى الشاكّ ، وربما كان أحدهما هو البائع والآخر هو المشتري ، ولا يخفى غرابته.

ولا يخفى أنّ هذا البحث إنّما يتأتّى فيما يكون الإشكال في تحقّق المالية من جهة المنع من الانتفاع ، وأمّا ما يكون من قبيل ما ليس له منفعة واقعية مثل الخنافس والديدان ، فلا شبهة في عدم تأتّي البحث المزبور فيه ، إذ لا ريب في أنّ القطع بكون هذا المبيع مالاً أو أنّه بالذات ليس بمال ، أو قيام الأصل أو الأمارة مثل البيّنة على أنّه مال ذاتاً أو ليس بمال ذاتاً ، لا يكون مغيّراً للواقع وموجباً لقلبه من المالية إلى عدمها ، أو من عدم المالية إلى المالية ، فلا يكون الصحّة والفساد في مثل تلك الموارد إلاّظاهراً ، وعند تبيّن الخلاف ينكشف الخلاف أيضاً في الصحّة والفساد ، وقد شرحنا ذلك بما لا يمكننا فعلاً الزيادة عليه في شرحنا لعبارته قدس سره في الوسيلة ، فراجعه (1).

قوله : فأصالة الصحّة في بيع كل من الاناءين من أوّل الأمر ولو قبل صدور البيع تجري وتسقط بالمعارضة ... الخ (2).

قد اتّضح ممّا قدّمناه أنّه لا مجرى في مثل ذلك لأصالة الصحّة ، بل المرجع في جميع ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر المعبّر عنها بأصالة الفساد ، حتّى في مثل العلم الاجمالي بأنّ أحد الطرفين مغصوب وليس بمملوك للبائع ، لعدم إحراز الشرط الذي هو الملكية ، ولأصالة الحرمة في الأموال ، بل لو قلنا بأصالة الحلّية لكان المانع هو عدم إحراز الشرط ، ولو قلنا بتقدّم أصالة الحلّية على قاعدة عدم إحراز الشرط وأصالة الفساد ، لم يكن المرجع حينئذ هو أصالة الصحّة ، بل كان

ص: 6


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- فوائد الأُصول 4 : 69 - 70.

المرجع هو أصالة الحل في التصرّف الذي هو البيع. وهذا الأصل وإن كان موافقاً في النتيجة لأصالة الصحّة ، إلاّ أنه لكونه حاكماً عليها يكون هو المرجع لا أصالة الصحّة.

وبالجملة : أنّه لم يظهر الوجه في كون المرجع في كلّ واحد من الطرفين هو أصالة الصحّة ، وأنّها إنّما تسقط بالمعارضة على جميع التقادير وفي جميع فروض العلم الاجمالي بانتفاء شرط من شروط البيع ، وإن شئت [ قلت : ] إنّ مورد أصالة الصحّة إنّما هو بعد وقوع الفعل المشكوك لا قبل الإقدام عليه.

قوله : وعلى هذا يتفرّع وجوب الاجتناب عمّا للأطراف من المنافع والتوابع المتّصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنّه كما يجب ... الخ (1).

الأولى أن يقال : إنّ ما هو التابع لأحد الأطراف أعني ما يكون له نحو تعلّق به على وجه يكون لذلك التابع حكم ، لو كان المعلوم بالاجمال منطبقاً على متبوعه يكون على أنحاء :

أحدها : ما يكون من قبيل اتّساع وجود ذلك الطرف المتبوع له كما في نموّها بل وثمرتها ، فإنّ الشجرة المغصوبة وإن كان التحريم عند الغصب وارداً على نفسها ، لكنّها لو كبرت أو أثمرت كانت تلك الزيادة فيها محرّمة بعين تلك الحرمة الواردة على الشجرة ، لا حرمة جديدة على موضوع جديد ، وهكذا الحال في ثمرتها وحمل الحيوان المغصوب ونحو ذلك ، فإنّه يلزم الاجتناب عنه عند وجوده وإن لم يكن موجوداً حين العلم الاجمالي ، لما عرفت من كون الاجتناب عنه عين الاجتناب عن أصله ، لأنّه من قبيل اتّساع ذلك المعلوم بالاجمال.

ص: 7


1- فوائد الأُصول 4 : 73.

وبذلك يتّضح لك الخدشة فيما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا في توجيه وجوب الاجتناب عن مثل الثمرة المذكورة بمسألة تمامية الملاك ، وذلك قوله : ومجرّد تأخّر وجود الشيء عن ظرف وجود العلم بعد تمامية ملاك حكمه لا يكون مانعاً عن تنجيزه الخ (1) إذ لو كان تمامية الملاك كافياً في التنجيز لكان العلم الاجمالي المردّد بين المقدور وغير المقدور منجّزاً ، اللّهمّ إلاّ أن يريد بالملاك هو غصبية الأصل الذي يتّسع بالاثمار ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : فكذلك يوجب ( العلم الاجمالي ) تنجّز الأحكام المترتّبة على ما يعد من شؤونها التابعة لها خطاباً وملاكاً الخ.

النحو الثاني : ما يكون من قبيل السراية ، بحيث إنّ التابع يكون موضوعاً جديداً لا أنّه من قبيل اتّساع الموضوع السابق ، ولكن الحكم الذي هو الحرمة يسري إليه من أصله الذي هو المتبوع ، ولك أن تسمّي هذا القسم بأنّه من قبيل الاتّساع في الحكم ، وإن كان ذلك ملازماً للاتّساع في الموضوع ، وذلك مثل الحرمة الطارئة على أُمّ الشخص الرضاعية ، فإنّها بالرضاع تطرأ عليها ، ولكنّها تسري منها إلى فروعها وأُصولها وحواشيها ، وإن كنّ متأخّرات عن طروّ الحرمة عليها أو متقدّمات عليها. ولك أن تجعل هذا المثال من قبيل النحو الأوّل أعني اتّساع الموضوع ، نظراً إلى أنّ حدوث الرضاع يكون موجباً لحرمة سلسلة هذا النسب وحواشيه ، غايته أنّ تلك المجموعة النسبية تتّسع وتتضيّق بواسطة كثرة أفرادها وقلّتهم. وهكذا الحال في سراية الرقّ من المملوك إلى أولاده المتأخّرين عن ملكيته ، فإنّه أيضاً يمكن أن يكون من قبيل الاتّساع ، فيكون أولاد الرقّ رقّاً كأولاد الحيوان وثمرة الشجرة.

ص: 8


1- أجود التقريرات 3 : 441.

وبالجملة : لا أتخطّر فعلاً مثالاً يتعيّن كون الحكم فيه من قبيل السراية من أحد الموضوعين إلى الآخر ، بحيث يكون أشبه شيء بالعدوى ، بل إنّ شيخنا الأُستاذ قدس سره (1) جعل السراية في ملاقي النجس من قبيل اتّساع دائرة النجس الملاقى ، بل إنّ السراية الحقيقية التي هي من قبيل العدوى لا تكون إلاّمن قبيل الموضوع الجديد.

ثمّ إنّ تنزيل حرمة الأُصول والحواشي والفروع بالنسبة إلى حرمة الأُمّ على السراية والاتّساع سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى أنّه في غاية البعد ، وأنّه ينبغي الجزم بعدمه ، فإنّ ضابط الاتّساع والسراية هو أن يكون حرمة التابع فيها مستفاداً من دليل الحرمة في أصله ، ومن الواضح أنّ حرمة الأُصول والحواشي والفروع لا تكون مستفادة من دليل حرمة الأُمّ ، بحيث إنّا لو خلّينا نحن وقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (3) لكانت هذه الجملة الشريفة وحدها دليلاً على حرمة الجدّة للأُمّ والخالة والأُخت ، كما يستفاد حرمة ثمرة الشجرة المغصوبة من حرمة نفس الشجرة وغصبها.

وعلى أيّ حال فإنّ هذين النحوين لو وقع المتبوع فيهما طرفاً للعلم الاجمالي يكون مؤثّراً في ناحية التابع ، ويوجب الاجتناب عنه.

والأولى أن يقال : إنّ الأوّل من قبيل اتّساع الفرد ، والثاني من قبيل اتّساع الأفراد تحت عنوان واحد ، والثالث من قبيل الاتّساع في العناوين المتعدّدة ، أعني عناوين النسب مثلاً.

ص: 9


1- فوائد الأُصول 4 : 77.
2- في الصفحة : 19 وما بعدها.
3- النساء 4 : 23.

النحو الثالث : أن لا يكون من قبيل اتّساع الموضوع ولا من قبيل السراية ، بل يكون موضوعاً جديداً محكوماً بحكم جديد ، غايته أنّه قد يكون الحكم فيه من سنخ الحكم في المتبوع ، وربما كان مخالفاً له ، كما في وجوب الغسل على من مسّ الميّت المفروض أنّ حكمه النجاسة لكونه ميتة ، ووجوب الحدّ على من شرب الخمر ، لكن في جميع ما كان من هذا القبيل لا يكون المتبوع أجنبياً عن حكم التابع ، بل يكون له المدخلية فيه على نحو يكون جزء الموضوع ، غايته تارةً يكون تحقّق ذلك المتبوع والتابع كافيين في تحقّق الحكم في التابع ، كما في وجوب الغسل على من مسّ الميّت ، وأُخرى يكون متوقّفاً على جهة أُخرى مثل العلم كما في وجوب الحدّ ، فإنّه لا يكفي فيه مجرّد تحقّق الخمرية وشربها ، بل لابدّ فيه أن يكون الشرب عن علم وعمد.

أمّا علم الحاكم فالظاهر أنّه أيضاً له المدخلية في الموضوع ، وإلاّ لكان علمه الاجمالي بأنّ أحد الشخصين قد ارتكب ما يوجب الحدّ موجباً لزوم الاحتياط ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما للعلم مدخلية فيه يكون دائراً مداره ، فلو كان حين الشرب مجهولاً أو مشكوك الخمرية ، لكن علم به بعد ذلك ، لم يكن له أثر في وجوب الحدّ ، بخلاف القسم الأوّل الذي يكفي فيه مجرّد تحقّق المتبوع والتابع ، فإنّه لو مسّ الميّت جاهلاً بكونه ميتاً ثمّ علم بعد ذلك وجب عليه الغسل بلا إشكال على الظاهر. وعلى أيّ حال فإنّ المتبوع في هذا النحو لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي لم يكن ذلك مؤثّراً في تنجيز حكم التابع ، لما عرفت من كونه حكماً جديداً على موضوع جديد ، هذا في القسم الأوّل.

أمّا الثاني فلا ريب فيه في عدم تحقّق موضوع الحكم في التابع ، لما عرفت

ص: 10

من توقّفه على العلم والعمد ، فلا أثر فيه للعلم الاجمالي حتّى فيما يكون ذلك الأثر لاحقاً لنفس المتبوع ، فضلاً عمّا إذا كان لاحقاً لتابعه.

ثمّ إنّ الحكم في القسم الأوّل - أعني مثل وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة بناءً على أنّه منه - وإن كان حكماً جديداً على موضوع جديد ، لكن حيث كان المتبوع جزءاً من الموضوع في الحكم التابع ، كان الأصل الجاري فيه حاكماً على الأصل الجاري في التابع ، فلو كان الشيء مشكوك النجاسة ولاقاه شيء آخر برطوبة ، كانت قاعدة الطهارة في المشكوك حاكمة على قاعدة الطهارة في ملاقيه ، وإن كانا متوافقين. ولو كان المشكوك ممّا تجري فيه الأُصول المثبتة ، مثل الجلد المشكوك الذي هو في حدّ نفسه مجرى لأصالة عدم التذكية الموجبة للحكم بكونه نجساً لكونه ميتة ، أو كان مستصحب النجاسة ، كان الأصل فيه حاكماً على قاعدة الطهارة في ملاقيه ، وكان الملاقي له محكوماً بالنجاسة. وفي مثل القطعة التي لا يعلم أنّها من إنسان أو غيره ممّا لا يكون نجساً ، لمّا لم يكن لنا أصل ينقّح به حالها ، يكون ملاقيها مجرى لاستصحاب الطهارة من الخبث أو لقاعدتها ، كما أنّه لو كان الملاقي لها إنساناً يكون مجرى لاستصحاب الطهارة من الحدث أيضاً ، أو لأصالة البراءة من وجوب الغسل.

ولو وقع الملاقى في المثال الأوّل طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة ، سقطت قاعدة الطهارة فيه وجرت قاعدة الطهارة في ملاقيه. وكذا في المثال الثاني لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي المردّد بينه وبين ما هو من سنخه ممّا يكون في نفسه مجرى للأصل المثبت ، بناءً على سقوط الأُصول الاحرازية في مورد العلم الاجمالي. ولو كانت مثبتة للتكليف ، فإنّه أيضاً يكون المرجع في ملاقيه هو قاعدة الطهارة.

وأمّا بناءً على عدم سقوط الأُصول المذكورة في أطراف العلم الاجمالي ،

ص: 11

فإنّه يكون الحكم في ملاقيه هو الحكم فيما لو لم يكن الملاقى طرفاً للعلم الاجمالي في سقوط قاعدة الطهارة فيه ، لكونها محكومة لاستصحاب النجاسة أو أصالة عدم التذكية.

ومنه يعلم الحال فيما لو كان المورد المذكور طرفاً في العلم الاجمالي لما هو في نفسه مجرى لقاعدة الطهارة أو استصحابها ، فإنّه ينحلّ العلم الاجمالي ، ويبقى المورد على ما كان عليه قبل العلم الاجمالي من كونه مجرى لاستصحاب النجاسة أو أصالة عدم التذكية الموجبة للحكم بنجاسة ملاقيه.

ومن ذلك يعلم الحال في المثال الثالث ، فإنّه لو وقع مورداً للعلم الاجمالي ، فبالنسبة إلى وجوب الغسل بمسّه يكون حاله حال ملاقي الشبهة في عدم وجوب الغسل على من مسّه.

لكن قال في العروة : مسألة 4 : إذا كان هناك قطعتان يعلم إجمالاً أنّ أحدهما من ميّت الإنسان ، فإنّ مسّهما معاً وجب عليه الغسل ، وإن مسّ أحدهما ففي وجوبه إشكال ، والأحوط الغسل (1). وكتب شيخنا قدس سره على قوله « إشكال » : أقواه عدم وجوبه.

ولا ريب في أنّ المنشأ في استشكاله ليس راجعاً إلى الشكّ في طهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، فإنّه حكم هناك بأنّه لا يحكم بنجاسته (2)

ص: 12


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 7.
2- لا يخفى أنّ نصّ عبارته في الملاقي هو قوله في م 6 : ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة ، لكن الأحوط الاجتناب [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 :114- 115 ]. ولا ريب أنّ عدم الحكم بالنجاسة ملازم في المقام للحكم بالطهارة ، ركوناً إلى قاعدة الطهارة ، فهو كقوله في مسألة 3 من فصل النجاسات : إذا لم يعلم كون حيوان معيّن أنّه مأكول اللحم أو لا ، لا يحكم بنجاسة بوله وروثه - إلى أن قال : - ففي جميع هذه الصور يبني على طهارته [ المصدر المتقدّم :123- 125 ]. فما قيل من : أنّ ظاهر عبارة المتن التوقّف في المسألة ، لأنّ الاحتياط الذي ذكره لم يكن مسبوقاً بالفتوى بالجوار. إلى آخر ما في المستمسك [ 1 : 261 ] لا يخلو عن تأمّل [ منه قدس سره ].

كما أنّه لا يمكن أن يكون المنشأ في إشكاله هو احتمال كون وجوب غسل المسّ من قبيل السراية أو الاتّساع ، لأنّ ذلك ممّا لا يمكن نسبة احتماله إلى مثله ، إذ لا ريب في أنّ وجوب الغسل على من مسّ الميّت من قبيل الحكم الجديد على موضوع جديد.

كما أنّه لا يمكن أن يكون المنشأ في إشكاله هو احتمال كون الحكم الجديد الطارئ حكماً على نفس الملاقى ، بأن يكون حكم الميّت هو وجوب الغسل على من مسّه ، فإنّا لو فتحنا هذا الاحتمال بحيث كان وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحقاً لنفس الملاقى ، لم يكن لنا في البين حدّ خاصم ، فإنّ كلّ حكم يكون قابلاً للجهتين حتّى الحكم في ملاقي النجس ، فكما أنّه يصحّ أن يقال : إنّ النجس يجب الاجتناب عن ملاقيه ، فكذلك يصحّ أن يقال : إنّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس.

وهكذا الحال في غسل المسّ ، فإنّه كما يصحّ أن نقول : إنّ الميّت يجب الغسل بمسّه ، كذلك نقول : إنّ الحي يجب عليه الغسل بمسّ الميّت ، وهذه ليست إلاّمن باب محض التعبير التي لا تكاد تؤثّر في الواقع ، ولا يمكن أن تجعل هي المنشأ في الإشكال المزبور. ولا يمكن أن ننسب إلى هذين العلمين قدس سرهما أنّ

ص: 13

منشأ الخلاف بينهما هي هذه الجهة.

ويمكن أن يقال : إنّ منشأ الإشكال والخلاف بينهما مطلب آخر ، وذلك هو أنّ الحكم اللاحق للتابع تارةً يكون حكماً مجرّداً ناشئاً عن ملابسته للمتبوع ، وأُخرى تكون الملابسة موجبة لتحقّق صفة في التابع ويكون الحكم فيه لاحقاً لتلك الجهة ، مثلاً غسل المسّ على من مسّ الميّت تارةً نقول إنّه وجوب صرف تعبّدي لاحق لمن مسّ الميّت ، فيكون أشبه شيء بالكفّارة لمن وطئ زوجته الحائض ، وأُخرى نقول إنّ المسّ يوجب تحقّق الحدث للماس ، ويكون حكم ذلك الحدث هو وجوب الغسل ، فمثل ملاقي النجس من هذا القبيل قطعاً ، لكونه موجباً لنجاسة ملاقيه ، وهذه الجهة أعني النجاسة في الملاقي - بالكسر - يكون حكمها وجوب الاجتناب ، فإذا قلنا إنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - ليست بالسراية بل من باب حدوث نجاسة جديدة ، بناءً على ما تقدّم ويأتي من عدم كون ذلك من قبيل سراية النجاسة واتّساعها ، بل إنّ نجاسة الملاقي تكون نجاسة جديدة حدثت بالملاقاة ، فيكون المرجع فيها هو قاعدة الطهارة في الملاقي وجواز ارتكابه. ومنشأ الإشكال في غسل المسّ هو هذه الجهة ، وهي أنّه هل يكون مسّ الميّت موجباً لتحقّق صفة الحدث للماس حتّى يكون حكمه في مقام العلم الاجمالي حكم ملاقي النجس ، أو أنّه لا يوجب حدثاً بل هو تكليف صرف حدث بالمسّ ، فلا يكون حكمه حكم ملاقي النجس ، بل يكون هذا الحكم من الأحكام المنجّزة بالعلم الاجمالي لكونه في الحقيقة لاحقاً للميّت.

ولكنّي في شكّ من نسبة هذا المطلب - أعني عدم كون المسّ موجباً للحدث - إلى السيّد قدس سره ، وسيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى في الفرع الأخير ما هو الأولى

ص: 14


1- في الصفحة : 22 وما بعدها.

في تنزيل إشكاله قدس سره.

وأمّا مسألة الوطء في حال الحيض ، فهو وإن كان من حيث إيجاب الكفّارة على الواطئ من هذا القبيل ، ومقتضى ذلك هو لزوم الكفّارة على من وطئ إحدى زوجتيه مع العلم بأنّ إحداهما حائض ، إلاّ أنهم قيّدوا وجوب الكفّارة بالعلم التفصيلي ، فلذلك أسقطوا عنه الكفّارة وإن كان ممنوعاً من الوطء للعلم الاجمالي كما صرّح به في النجاة (1).

والمثال الواضح لما يكون الحكم على التابع حكماً مجرّداً ناشئاً عن ملابسته للمتبوع ، ولم تكن فيه الملابسة موجبة لجهة وضعية في التابع ، لكي تكون تلك الجهة الوضعية موضوعاً لحكم ذلك التابع - نظير موضوعية نجاسة الملاقي - بالكسر - الحادثة من ملاقاة النجس لوجوب الاجتناب عنه ، ونظير الحدث الحاصل للماس الناشئ عن مسّه للميّت في كونه موضوعاً لوجوب الغسل - هو وجوب سجود السهو على من سها في واحدة معيّنة من الصلوات المتعدّدة التي يأتي بها احتياطاً من جهة العلم الاجمالي ، كمن كان وظيفته تكرار الصلاة من جهة القبلة أو من جهة كون ساتره منحصراً في ثوبين يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ، أو فاتته فريضة واحدة مردّدة بين اثنتين ، أو ثلاث كما لو كان الفائت مردّداً بين المغرب والعشاء والصبح ، فإنّه لو سها في واحدة معيّنة من تلك الصلوات المكرّرة ، يلزمه سجود السهو لها ، مع أنّ سجود السهو إنّما يجب في الفريضة الواقعية دون ما لم يكن مصادفاً للواقع ، ولأجل ذلك ذكروا أنّ من سها

ص: 15


1- [ لعلّه قدس سره استفاد ذلك من قوله : ويتبع التكفير الحكم بالحيضية شرعاً ... لا تحريم الوطء ، فلو حرم الوطء لاحتمال الحيضية لم يلحقه حكم التكفير. راجع نجاة العباد : 16 ].

في فريضة وتبيّن بطلانها أو أبطلها ، لم يجب عليه سجود السهو ، وإن أوجبه بعضهم ، وبعضهم فصّل بين ما لو كان عروض [ المبطل ] بعد طروّ السهو وما لو كان قبله.

وعلى أي ، فإن هذا المثال مبني على ما عرفت من عدم لزوم سجود السهو إذا لم تكن الفريضة التي وقع فيها السهو فريضة واقعية ، فهو وإن لم يحرز أنّ تلك الفريضة التي سها فيها هي فريضته الواقعية ، إلاّ أن كونها طرفاً للعلم الاجمالي يوجب تنجّز وجوب سجود السهو لها.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ لو كان وجوب سجود السهو من أحكام الفريضة الواقعية ، فإنّه حينئذ يتنجّز بتنجّز تلك الفريضة ، أمّا لو كان هو من أحكام السهو أو من أحكام الساهي وإن كان سببه هو السهو في الفريضة الواقعية ، فلا يكون العلم الاجمالي المذكور منجّزاً له.

لأنّا نقول : هذا ما تقدّمت الاشارة [ إليه ] من أنّ مثل هذه الأحكام يصحّ نسبتها إلى كلّ من الطرفين ، ولكن نقول إنّ نسبتها إلى ما هو الطرف في المعلوم بالاجمال أعني به المتبوع ، لمّا كانت موجبة لتنجّزها ، لم يكن أثر لنسبتها إلى التابع ، لأنّ أثره إنّما هو عدم التنجّز ، فيكون ذلك من قبيل المقتضي واللاّ مقتضي ، ومن الواضح أنّ الثاني لا ينافي الأوّل ولا يزاحمه. ومن هذا القبيل قضاء الأجزاء المنسية بناءً على ما هو غير بعيد من عدم كونها أجزاء ، بل إنّ التكليف بقضائها يكون جديداً.

ومن ذلك يظهر لك وجه آخر في تنجيز وجوب الاجتناب عن البنت النسبية أو الرضاعية ، فيما لو كانت أُمّها أحد طرفي الشبهة المحصورة بالأُمومة الرضاعية أو النسبية للشخص ، فإنّه يجب على ذلك الشخص الاجتناب عن تلك

ص: 16

البنت كما يجب عليه الاجتناب عن أُمّها ، لكن لا من جهة السراية أو اتّساع الموضوع ، بل من جهة أنّ الحرمة المذكورة هي حكم لكلّ من الأُمّ والبنت ، فكما يمكنك أن تقول إنّ حكم أُمّ ذلك الشخص هو حرمة بنتها المذكورة ، يصحّ لك أن تقول إنّ حكم بنت تلك الأُمّ هي الحرمة لكونها أُخته.

وفي الحقيقة أنّ هذا الحكم الشرعي إضافة بينهما يصحّ إضافته لكلّ منهما ، وهذا الحكم يعرضه التنجّز بالاضافة الأُولى ، لأنّها مقتضية لتنجّزه ، لكونه حينئذ من الأحكام اللاحقة لطرف الشبهة المحصورة ، بخلاف الاضافة الثانية ، فإنّها لا تقتضي تنجّزه لكونها مشكوكة بدواً ، حيث إنّ الأُختية بينه وبين تلك البنت لم تكن طرفاً في الشبهة المحصورة ، ولا ريب أنّ تنجّز الحكم المذكور من الجهة الأُولى لا ينافيه عدم تنجّزه من الجهة الثانية.

ولكنّه لا يخلو عن تكلّف ، مضافاً إلى إمكان نقضه بمسألة الملاقي ، فإنّه يصحّ أن يقال : إنّ وجوب الاجتناب يمكن أن يضاف إلى نفس النجس ، فيقال إنّه يجب الاجتناب عن ملاقيه لكونه نجساً أيضاً ، ويمكن أن يضاف إلى الملاقي - بالكسر - فيقال إنّ ملاقي النجس يجب الاجتناب عنه ، إلى آخر التقريب المزبور.

فلابدّ حينئذ في الجواب عن هذا النقض بأنّ إضافة مثل هذه الأحكام إلى الأصل إضافة صورية لا واقعية ، والاضافة الحقيقية إنّما هي إضافتها لموردها وموضوعها الذي هو الفرع ، وبناءً على ذلك فيكون اللازم هو القول بعدم لزوم سجود السهو فيما مرّ من المثال. نعم في قضاء مثل السجدة المنسية يكون العلم منجّزاً ، لأنّه من آثار الأصل وهو الصلاة الواقعية ، فتأمّل فإنّه يمكن الفرق بين مسألة ملاقي النجس وبين مسألة الأُخت ، فإنّ إضافة وجوب الاجتناب عن

ص: 17

الملاقي إلى أصله إضافة صورية باعتبار ملابسة الفرع له بالملاقاة ، فيكون من قبيل وصف الشيء بحال متعلّقه ، لما عرفت من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - إنّما هو لأجل نجاسته ، وليست هذه النجاسة حكماً من أحكام المعلوم بالاجمال الذي هو نجاسة ما لاقاه ، وإن كانت معلولة له ، بخلاف حرمة البنت فإنّها من الآثار الشرعية اللاحقة لنفس الأُمّ ، فتكون نسبة حرمة الأُخت إلى نفس الأُمّ إضافة حقيقية للحكم الشرعي على تلك الأُمّ بحرمة بنتها ، بمعنى أنّ تحقّق الأُمومة عبارة أُخرى عن حرمتها وحرمة بنتها. وهكذا الحال في سجود السهو ، فإنّ إضافة وجوبه إلى الصلاة الواقعية إضافة حقيقية.

ولكن مع هذا كلّه فللتأمّل في المسألة مجال واسع. والأولى هو ما سيأتي (1) في الفرع الأخير.

فرع : لو اشتبهت ذات البعل المزني بها في محصور ، فلا إشكال في تنجّز وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، ولكن لو كان لأحد هذه المحصورات بنت نسبية أو رضاعية ، بناءً على أنّ الزنا بالأُمّ يوجب حرمة بنتها نسبية أو رضاعية ، فهل يجب الاجتناب عنها نظراً إلى أنّ حرمتها من آثار أُمّها المزني بها ، أو أنّه لا يجب الاجتناب عنها نظراً إلى أنّ حرمتها من عوارض البنت بواسطة تولّدها من المزني بها أو رضاعها منها ، فيكون حالها حال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة بالنجاسة؟

الظاهر الثاني ، لأنّ الحرمة المنجّزة في أطراف العلم الاجمالي في صورة اشتباه ذات البعل المزني بها إنّما هي حرمة ذات البعل من حيث كونها ذات البعل ، ولأجل ذلك لا يكون للعلم الاجمالي أثر لو كان مجرّداً عن كونها ذات بعل ، ومن

ص: 18


1- راجع الصفحة : 21 - 22.

الواضح أنّ حرمة ذات البعل لا دخل لها بحرمة البنت ، وإنّما الذي يوجب حرمة البنت هو الزنى بأُمّها وإن لم تكن ذات بعل ، وهذه الحرمة وإن قلنا إنّها لاحقة للأُمّ ، إلاّ أنها لم تكن من آثار المعلوم بالاجمال الذي هو الزنا من حيث إنّه بذات البعل. ولكن المسألة مشكلة فلا يترك الاحتياط بالترك.

ولعلّ من جملة فروع هذه المسألة ما لو عقد على من هي إحدى طرفي العلم الاجمالي بالعدّة ، فإنّه وإن كان ممنوعاً من العقد عليها للعلم الاجمالي ، لكن لو صادف كونها هي المعتدة هل تحرم عليه مؤبّداً ، الظاهر أنّ حرمتها أبداً من قبيل وجوب الحدّ على من شرب أحد طرفي العلم الاجمالي بالخمرية.

والأولى أن يقال : إنّ العلم بكونها ذات عدّة مأخوذ موضوعاً في الحرمة الأبدية ، فإن شمل ذلك العلم المأخوذ موضوعاً للعلم الاجمالي ترتّبت الحرمة الأبدية ، وإلاّ كان ترتّبها متوقّفاً على دعوى قيام المنجّز للحرمة مقام العلم التفصيلي بالعدّة ، بمعنى أنّ العلم بالعدّة المأخوذ موضوعاً في الحرمة الأبدية يقوم مقامه الطرق والأمارات ، بل والاستصحاب. أمّا قيام منجّزية العلم الاجمالي فهو موقوف على أخذ العلم بالعدّة موضوعاً من حيث المنجّزية ، فيقوم مقامه كلّ ما هو منجّز لحرمة العقد على ذات [ العدّة ] ، وإن كان هو من جهة كونها طرفاً للعلم الاجمالي بالعدّة.

فرع أو تكميل لأغلب ما تقدّم من الفروع : وهو أنّه لو تردّد المعلوم بالاجمال بين ذي التكليفين وذي التكليف الواحد ، وكان أحد تكليفي ذي التكليفين مشروطاً بشرط لم يكن حاصلاً عند حصول العلم الاجمالي ، سواء كان الشرط من قبيل القدرة العقلية ممّا هو أجنبي عن الملاك ، أو كان من الشروط الشرعية الدخيلة في الملاك ، ثمّ إنّ ذلك الشرط حصل بعد العلم الاجمالي وبعد

ص: 19

حصول نفس المعلوم بالاجمال أيضاً ، مع بقاء كلّ من طرفي العلم الاجمالي بحاله ، كما لو كان هناك إناء صغير وآخر كبير ، وعلم إجمالاً بحرمة الشرب من أحدهما ، إمّا لكون الصغير من الذهب أو لكون ما في الكبير نجساً ، فإن كان الثاني وجب عليه الاجتناب عن الشرب منه فقط ، وإن كان الأوّل وجب عليه الاجتناب عن الشرب فيه ووجب عليه أيضاً كسره لكن بشرط التمكّن من ذلك أو بشرط كون الاناء مملوكاً له ، مع كونه حين طروّ العلم الاجمالي غير متمكّن من كسره أو كونه غير مالك للاناء المذكور ، ولكن بعد ذلك صار متمكّناً من كسره أو أنّه تملّكه بإرث ونحوه مع فرض بقاء كلّ من الاناءين بحاله ، فالظاهر لزوم كسره ، لتحقّق العلم الاجمالي حينئذ المردّد بين وجوب الاجتناب عن الشرب بالصغير مع لزوم كسره أو وجوب الاجتناب عن الشرب من الكبير ، لأنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن الشرب بالصغير مع لزوم كسره لا طولية بينهما ولا سببية ومسبّبية توجب حكومة الأصل الجاري في الأوّل على الأصل الجاري في الثاني ، لكي يجاب عن هذا العلم الاجمالي بما سيأتي (1) من الجواب عن العلم الاجمالي في مسألة ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة. فإن تمّ هذا المطلب في هذا الفرع كما هو الظاهر ، ينحلّ الإشكال في جملة من الفروع السابقة حتّى مسألة الأُصول والفروع والحواشي لأحد طرفي الشبهة المحصورة بالأُمومة النسبية أو الرضاعية ، فإنّ تنزيل تلك المسألة على دعوى السراية أو الاتّساع في غاية البعد ، بل ينبغي الجزم بعدمه ، فإنّ ضابط الاتّساع أو السراية هو أن تكون حرمة الفرع مستفادة من دليل الحرمة في أصله ، ومن الواضح أنّ حرمة الأُصول والحواشي والفرع لا تكون مستفادة من دليل حرمة الأُمّ ، بحيث إنّا لو بقينا نحن وقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ

ص: 20


1- ستأتي الإشارة إليه في الصفحة : 23.

أُمَّهاتُكُمْ ) (1) كانت هذه الجملة الشريفة وحدها دليلاً على حرمة الجدّة للأُمّ والخالة والأُخت ، كما يستفاد حرمة ثمرة الشجرة المغصوبة من حرمة نفس الشجرة وغصبها.

لا يقال : إنّكم لو أخرجتموه من باب الاتّساع والسراية لكان ملحقاً بباب ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة بالنجاسة ، لأنّ الشكّ في تحقّق الأُختية مثلاً مسبّب عن الشكّ في الأُمومة.

لأنّا نقول : إنّه وإن كان مسبّباً عنه تكويناً ، إلاّ أنه ليس بشرعي يوجب الحكومة ، بل إنّ كلاً من الشكّ في الأُختية والأُمومة يكون مجرى للأصل في حدّ نفسه ، سواء كان الأصل هو عدم النسب بينهما بالأُخوّة والأُمومة ، أو كان هو أصالة الحل ، من دون حكومة للأصل في أحد الطرفين على الأصل في الآخر ، حتّى فيما لو كانت الأُمومة رضاعية ، فإنّا لو قلنا بجريان أصالة عدم الرضاع بينه وبين الأُمّ ، لم يكن ذلك الأصل مزيلاً للشكّ في ناحية بنتها من حيث الأُخوّة ، بل لابدّ مع ذلك من الرجوع فيها [ إلى الأصل ] الجاري فيها بنفسها مثل أصالة عدم تحقّق الأُخوّة الرضاعية بينه وبينها ، أو أصالة الحل فيما لو كانت البنتية بالولادة لا بالرضاع ، ونحو ذلك.

على تأمّل في خصوص هذا الأخير ، أعني ما لو كانت الأُمومة للشخص بالرضاع ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الأُخوّة بينه وبين بنت المرضعة من الآثار الشرعية لرضاعه منها ، لقوله عليه السلام : « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (2) فإنّ الشارع

ص: 21


1- النساء 4 : 23.
2- [ لم يرد عنهم عليهم السلام حديث بهذا النصّ ، نعم روي : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » راجع وسائل الشيعة 20 : 371 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب 1 ].

جعل ذلك الرضاع من الأُمّ موضوعاً للأُخوّة بينه وبين بنتها.

ولكن يمكن أن يقال أيضاً : إنّ الشارع لم يجعل الأُخوّة ولا البنوّة ، فإنّ الرضاع محقّق وجداناً للأُمومة الرضاعية والأُخوّة الرضاعية ، والتصرّف إنّما هو في جعل تلك الأُمومة الرضاعية وهاتيك الأُخوّة الرضاعية بمنزلة الأُمومة النسبية والأُخوّة النسبية. والأظهر والأوجه هو الوجه الثاني.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المطلب لو تمّ وقلنا بتنجّز التكليف الآخر عند حصول شرطه ، فالظاهر أنّه يحتاج إلى التقييد المزبور ، أعني بقاء الطرفين بحالهما ، فلو كان حصول الشرط المذكور بعد تلف الطرف الآخر أو بعد سقوط التكليف الأوّل في ذي التكليفين بإراقة ما فيه أو بموت الأُمّ كما في المسألة المزبورة ، لم يكن ذلك العلم مؤثّراً.

وحينئذ فتكون مسألة سجود السهو خارجة عن هذا الضابط ، فإنّ السهو إن وقع فيما بعد الأُولى من الصلوات كان العلم الاجمالي حينئذ غير مؤثّر لكونه واقعاً بعد خروج أحد الأطراف عن الابتلاء وهي الصلاة الأُولى ، وإن كان السهو في الأُولى كان العلم أيضاً غير مؤثّر ، لكونه واقعاً بعد سقوط التكليف الأوّل من ذي التكليفين ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ موجب سجود السهو لمّا كان واقعاً في أثناء الأُولى كان التكليفان بحالهما ، وهما وجوب الاتمام ووجوب سجود السهو. ولو كان السهو في الأخيرة أمكن القول بجريان قاعدة الفراغ في الفريضة الواقعية من تلك الصلوات ، وفيه تأمّل.

لكن الاحتياج إلى التقييد المزبور محل تأمّل ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يكون منشأ إشكال السيّد قدس سره في العروة (1) هو النظر

ص: 22


1- تقدّم هو وتعليقة الميرزا النائيني رحمه اللّه عليه في الصفحة : 12.

إلى هذا المطلب أو إلى الإشكال في كونه من صغرياته ، ويكون منشأ القوّة التي أفادها شيخنا قدس سره راجعاً إلى المنع من هذا المطلب من أصله ، أو المنع من كون غسل مسّ الميّت بالنسبة إلى أحكام الميّت ولزوم تجهيزه من صغريات هذا المطلب ، بدعوى أنّ الأصل الجاري في التجهيز يكون حاكماً على الأصل الجاري في غسل المسّ منه ، وفيه تأمّل ، فإنّ أصالة البراءة من وجوب تجهيز تلك القطعة المفروضة ليست برافعة للشكّ في وجوب غسل المسّ على من مسّها ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ العلم الاجمالي المقرّر في مسألة ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة بالنجاسة له تقريبان :

الأوّل : هو العلم الاجمالي المردّد بين ذي التكليفين وهما وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، وذي التكليف الواحد وهو وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.

وقد أُجيب عنه بأنّ الأصل في التكليف الأوّل من ذي التكليفين لمّا كان حاكماً على الأصل في التكليف الثاني ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في التكليف الثاني ، لأنّه بعد سقوط الأصل في التكليف الأوّل الذي هو في الملاقى - بالفتح - لمعارضته بالأصل في الطرف الآخر ، تنتهي النوبة إلى الأصل في التكليف الثاني الذي هو في الملاقي - بالكسر - ، فيجري فيه الأصل النافي الذي هو أصل الطهارة ، لكونه حينئذ بلا معارض.

وهذا العلم الاجمالي بهذا التقريب يجري فيما ذكرتموه من الأمثلة ، فيكون منجّزاً للتكليف الثاني الجديد. ولا يمكن الجواب عنه بطريق الحكومة المذكورة ، لأنّه مختصّ بباب الملاقي ، لكون الأصل فيه الجاري في ناحية التكليف الأوّل حاكماً على الأصل الجاري في ناحية التكليف الثاني ، لكون

ص: 23

أحدهما مسبّباً عن الآخر ، بخلاف الأمثلة المذكورة فإنّ باب الحكومة فيها منسدّ ، لما عرفت من كون كلّ من التكليفين فيها في عرض التكليف الآخر.

التقريب الثاني للعلم الاجمالي في باب الملاقي : هو كون الملاقي وحده في قبال الطرف الآخر.

وهذا قد أُجيب عنه هناك بأنّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي بين نجاسة الملاقي وطرف أصله ، لأنّ طرف أصله قد تنجّز فيه التكليف من العلم الاجمالي الأوّل المردّد بين الأصل الذي هو الملاقى - بالفتح - وذلك الطرف ، فيكون ذلك من قبيل ما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة مردّدة بين الاناء الصغير والاناء الكبير ، ثمّ وقعت نجاسة أُخرى مردّدة بين الكبير وطرف ثالث ، فقد حقّق في محلّه (1) أنّه لا أثر للعلم الاجمالي الثاني ، فكذلك مسألة العلم الاجمالي المردّد بين الملاقي وطرف أصله لا أثر له بعد أن كان التكليف منجّزاً في طرف أصله بالعلم الاجمالي السابق المردّد بين الأصل وذلك الطرف. وسقوط هذا العلم الاجمالي بهذا التقريب جارٍ بعينه هنا ، فإنّ العلم الاجمالي المردّد بين التكليف الثاني من ذي التكليفين والتكليف الآخر الذي هو الطرف ، لا يكون منجّزاً ، لأنّه أعني ذلك التكليف الآخر الذي هو في طرف ذي التكليف الواحد ، كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق المردّد بين التكليف الأوّل من ذي التكليفين وذلك التكليف الآخر الذي هو التكليف في ذي التكليف الواحد.

والحاصل : أنّ عمدة الإشكال إنّما هو في أنّ العلم الاجمالي السابق على حصول الشرط ، الذي كان مردّداً بين التكليف الأوّل من التكليفين والتكليف في الطرف المقابل ، كان متقدّماً زماناً على العلم الاجمالي الحاصل بعد حصول

ص: 24


1- راجع ما تقدّم في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 370 - 371.

الشرط ، المردّد بين مجموع التكليفين في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وحيث إنّ العلم الاجمالي السابق قد نجّز التكليف في الطرف الآخر ، فلا يكون العلم الثاني المتأخّر عنه زماناً المردّد بين مجموع التكليفين والطرف الآخر مؤثّراً ، لكون طرفه الذي هو التكليف في الطرف الآخر كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق.

لأنّا نقول : إنّ هذا العلم الثاني لم يكن علماً جديداً كي يقال إنّ أحد طرفيه كان منجّزاً قبله ، بل إنّه عين العلم السابق ، ومعلومه عين المعلوم السابق ، غايته أنّه كان في مرتبة حدوثه متعلّقاً بالقدر الجامع بين التكليف في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وصار في مرتبة بقائه متعلّقاً بالقدر الجامع بين مجموع التكليفين في هذا الطرف والتكليف الآخر في الطرف الآخر ، وهذا المقدار من التفاوت لا يوجب أن يكون لنا هناك علمان يكون أحدهما سابقاً وموجباً لانحلال الآخر اللاحق وعدم تأثيره.

ولكن فيه تأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّ جهة البقاء للعلم المذكور أيضاً نقول إنّها لا أثر لها ، لأنّ أحد الطرفين فيها كان منجّزاً بجهة الحدوث. ولو تمّت هذه الجهة من التأمّل لأوجبت عدم تنجيز التكليف الثاني الذي قد حصل شرطه بعد حصول العلم الاجمالي. أمّا لو كان حصول الشرط المذكور سابقاً على العلم الاجمالي ، بأن يكون قد مسّ القطعة المعيّنة من إحدى القطعتين مثلاً ، ثمّ بعد المسّ حصل له العلم الاجمالي بكون إحداهما من ميّت الإنسان ، فإنّه يلزمه غسل المس ، وبهذا المقدار يحصل الفرق بينه وبين ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة في النجاسة ، فإنّه لا يلزمه الاجتناب عن الملاقي حتّى لو كانت الملاقاة سابقة على العلم الاجمالي بالنجاسة بين الطرفين.

ص: 25

فرع : لو كان لنا إناءان في كلّ منهما مائع يعلم أنّ أحد المائعين بول ، فيكون نفس الاناءين مورد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاة البول ، فلو اتّفق أنّ شيئاً لاقى أحد المائعين ، يكون ذلك الشيء في عرض الاناءين ، ويحصل حينئذ العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة ذلك الشيء مع نفس الاناء وبين نفس الاناء الآخر ، فينبغي التأمّل في هذا الفرع ، فإنّ مقتضاه وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد المائعين المعلوم بولية أحدهما.

إلاّ أن يقال : إنّ المنجّز هو تنجّس أحد الاناءين بالملاقاة ، وأمّا الشيء الآخر فلا يكون وجوب الاجتناب عنه إلاّتكليفاً جديداً يُنفى بقاعدة الطهارة ، خصوصاً فيما لو كانت الملاقاة متأخّرة عن العلم الاجمالي بين المظروفين ، أمّا لو كانت الملاقاة سابقة ففيه إشكال يأتي إن شاء اللّه تفصيل الكلام فيه (1).

والأولى أن يقال : إنّ مسألة ملاقي أحد طرفي العلم الاجمالي بغير هذه الصورة ، وذلك مثل أن يكون الطرفان جامدين وكان الملاقي لأحدهما رطباً مثلاً ، أو كان أحد الطرفين الذي هو الملاقى - بالفتح - جامداً والآخر مائعاً ، فيكون آنية المائع واليد الملاقية للجامد ملاقيين للطرفين ، فيحصل العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

قوله : غايته أنّ الأوّل يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ، والثاني يوجب انحلاله ، لأنّ المدار على سبق المعلوم لا على سبق العلم ... الخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ الثاني وهو ما لو كانت الملاقاة سابقة على العلم

ص: 26


1- في الحاشية الآتية.
2- فوائد الأُصول 4 : 82.

الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين ، يكون أيضاً من باب عدم تأثير العلم الاجمالي لا من باب الانحلال ، وذلك فإنّ الانحلال إنّما يكون في مثل ما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة في أحد الاناءين الصغير والكبير ، ثمّ علم تفصيلاً أنّ الصغير كان متنجّساً بنجاسة سابقة على تلك النجاسة ، أو علم إجمالاً أنّه كان طرفاً لآخر في العلم الاجمالي بنجاسة سابقة ، فإنّ العلم الثاني يوجب انحلال الأوّل ، لأنّه يكون العلم المنحل سابقاً في الزمان على العلم الذي حلّه ، بخلاف ما لو كان العلم المنحل مقارناً للعلم الذي حلّه ، بأن يكون حصول العلم بنجاسة أحد الاناءين مقارناً للعلم بأنّ الصغير كان متنجّساً بنجاسة سابقة ، فإنّ ذلك لا يعدّ على الظاهر من قسم الانحلال ، بل يكون العلم بأنّ الصغير متنجّس بنجاسة سابقة موجباً لعدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

وما نحن [ فيه ] من هذا القبيل ، فإنّ الملاقاة لمّا حصلت أوّلاً ثمّ حصل العلم الاجمالي بالنجاسة ، يكون ذلك العلم الاجمالي عبارة عن علمين ، أحدهما مردّد بين الطرفين والآخر مردّد بين الملاقي وطرف أصله ، وهذان العلمان حصلا دفعة واحدة ، وحيث كان المعلوم بالأوّل منهما سابقاً في الزمان على المعلوم بالثاني ، كان الأوّل موجباً لعدم تأثير الثاني ، لا أنّه يوجب انحلاله بعد استقراره ، ولكن الأمر في ذلك سهل.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه يمكن منع تأثير العلم الثاني حتّى لو قطعنا النظر عن كون المعلوم به متأخّراً زماناً عن المعلوم بالأوّل ، فإنّه يكفي في عدم تأثيره تأخّره رتبة عن العلم الأوّل ، لكون المعلوم به متأخّراً رتبة ، بحيث إنّا لو قلنا بامكان كون الملاقاة مقارنة زماناً لوقوع النجاسة في أحد الطرفين ، لكان لنا أن نقول إنّه لا أثر للعلم الاجمالي المردّد بين الملاقي وطرف أصله ، لكونه متأخّراً رتبة عن العلم

ص: 27

الاجمالي المردّد بين الأصل وطرفه ، وهذا التأخّر الرتبي كافٍ في عدم تأثير المتأخّر بحسب الرتبة ، وإن كان العلمان والمعلومان متقارنين زماناً.

لا يقال : إنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - وإن كانت متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى ، إلاّ أن العلم بنفس النجاسة لا أثر له ما لم يترتّب عليها حكم تكليفي كوجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي - بالكسر - ليس بمتأخّر رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - إذ لا علّية بينها ولا معلولية ، وإنّما هي بين نجاستيهما.

لأنّا نقول : قد عرفت من الجواب عن الشبهة السابقة (1) أنّ نجاسة الثاني من الأحكام الوضعية اللاحقة لنجاسة الأوّل ، فتكون متأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه أو المسبّب عن سببه ، وحينئذ تكون هي في عرض وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ كلاً من نجاسة الثاني ووجوب الاجتناب عن الأوّل من آثار نجاسة الأوّل ، وحينئذ يكون وجوب الاجتناب عن الثاني متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ ما هو متأخّر عمّا هو في عرض الشيء متأخّر عن نفس الشيء.

والحاصل : أنّ نجاسة الأوّل متقدّمة على نجاسة الثاني ، ونجاسة الثاني متقدّمة على وجوب الاجتناب عنه ، فيكون هو - أعني وجوب الاجتناب عن الثاني - واقعاً في الدرجة الثالثة من نجاسة الأوّل ، ويكون وجوب الاجتناب عن الأوّل واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل ، فيكون متقدّماً عليه رتبة وإن لم يكن بين نفس الوجوبين علّية ولا معلولية ، فيكون العلم الاجمالي المنجّز

ص: 28


1- [ هكذا فيما يتراءى من الأصل ، لكنّ الظاهر أنّ المقصود هو الشبهة الآتية التي يتعرّض لها في الحاشية القادمة في الصفحة : 36 وما بعدها ].

لوجوب الاجتناب عن الأوّل سابقاً في الرتبة على العلم الاجمالي الذي نريد أن نجعله منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الثاني ، وحينئذ يكون تنجّز وجوب الاجتناب في طرف الأوّل سابقاً في الرتبة على مقتضى العلم الثاني بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً ، لكون الوجوب في أحد طرفيه الذي هو طرف الأوّل متنجّزاً بالعلم الأوّل بين الملاقى - بالفتح - وطرفه.

وهذه المسألة أعني تأخّر ما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء عن نفس ذلك الشيء من المشكلات ، وقد تعرّضنا لها في أوائل مسألة الضدّ في الحاشية على ص 216 من التحريرات المطبوعة في صيدا (1) ، وفي أوائل حجّية القطع من هذا التحرير في مسألة أخذ العلم بالحكم موضوعاً ، فراجعه في حاشية ص 6 من هذا التحرير (2).

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الصورة ، أعني ما لو كانت الملاقاة والعلم بها سابقاً على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى - بالفتح - وطرفه ، هي عبارة عن الصورة الثالثة من الصور التي ذكرها في الكفاية (3) ، وهي التي يكون المتلاقيان فيها طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة في قبال الطرف الآخر الذي لم تدخله الملاقاة ، فالأولى إسقاطها فيما نحن فيه الآن ، وجعل ما نحن فيه الآن منحصراً بما لو كانت الملاقاة والعلم بها متأخّراً عن العلم الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين ، ثمّ بعد الفراغ عن عدم تأثير العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - لتأخّره

ص: 29


1- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 128.
2- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 40.
3- كفاية الأُصول : 363.

زماناً وتأخّر المعلوم فيه زماناً ورتبة ، نتعرّض للفرق الذي أفاده في الكفاية بين الصورة الأُولى والصورتين الأخيرتين.

قوله : وأمّا الثاني منهما وهو العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كانت الملاقاة سابقة على العلم بنجاسة أحد الطرفين ، يتّجه الإشكال على ضمّ الملاقي إلى الملاقى في جعلهما معاً طرفاً للاناء الآخر من جهات ثلاث :

الأُولى : من الجهة المذكورة في الأصل ، وهي جهة حكومة الأصل في الملاقى على الأصل في الملاقي ، فلا يمكن أن يقف في عرضه لمقابلة الأصل في الطرف الآخر.

الجهة الثانية : هي أنّ ضمّه إليه من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان ، لأنّ نجاسته على تقديرها تكون متأخّرة زماناً عن نجاسة الملاقى - بالفتح - ، فتكون تلك - أعني نجاسة الملاقى - سابقة في التنجّز ، نظير ما تقدّم في جعل كلّ من المتلاقيين طرفاً على حدة للطرف الآخر. ومن هذه الجهة تعرف :

الجهة الثالثة : وهي جهة التأخّر الرتبي ، لكن سيأتي الإشكال في التأخّر الرتبي.

وحاصل الجهات الثلاث : أنّ المقابلة إنّما هي بين الملاقى - بالفتح - وطرفه ، والملاقي أجنبي لا يصحّ مقابلته بطرف أصله ، سواء أُريد جعله طرفاً مستقلاً أو هو بضميمة أصله.

ولو كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحد الطرفين انضاف إلى

ص: 30


1- فوائد الأُصول 4 : 82.

هذه الجهات جهة رابعة ، وهي جهة التقدّم الزماني للعلم أيضاً ، والمنشأ في تلك الجهات الثلاث هو تأخّر نجاسة الملاقي عن نجاسة أصله رتبة وزماناً.

قوله : ولا وجه لما ذكره المحقّق الخراساني قدس سره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين ، وإن كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتّبة شرعاً على نفس النجس ، وذلك لأنّه بعد الاعتراف بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الأحكام المترتّبة على نفس النجس ، لا يبقى مجال للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين ... الخ (1).

الظاهر أنّ المشار إليه بذلك هو ما أفاده في الكفاية بقوله قدس سره : الرابع : أنّه إنّما يجب عقلاً رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم باتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً الخ (2).

ولا يخلو نسبة ذلك إليه قدس سره بمجرّد هذه العبارة عن تأمّل ، لأنّ الظاهر أنّ مراده بذلك هو أنّ الملاقي للنجس وإن كان محكوماً بمثل حكم الملاقى - بالفتح - الذي هو النجاسة ، إلاّ أنه فرد آخر من النجس ، لا أنّه محكوم بعين حكم الملاقى ، بحيث يكون وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - عين وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - ليكون تنجّزه عين تنجّزه.

وأمّا قول صاحب الكفاية قدس سره في الفوائد : سواء كان دليل نجاسته هو دليل نجاسة الملاقى أو دليلاً آخر - إلى قوله : - وتبعية نجاسة الملاقي في الاستفادة

ص: 31


1- فوائد الأُصول 4 : 78.
2- كفاية الأُصول : 362.

لنجاسة الملاقى لا تقتضي تبعيتها لها في الموافقة الخ (1) ونحوه عبارته في الحاشية (2) فليس بناظر إلى ذلك ، بل هو ردّ على من قال إنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - لمّا كان مستفاداً من دليل وجوب الاجتناب عن النجس الذي هو الملاقى - بالفتح - كان تنجّزه موجباً لتنجّزه ، فردّ عليه بما حاصله أنّ التبعية في دلالة الدليل لا توجب ذلك ، كما أنّ التبعية في الخارج لا توجبه.

ثمّ لا يخفى أنّ النسخ من الكفاية (3) إنّما هي بهذه الصورة ، وهي أنّه : وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكم واقعاً ، بتنكير قوله : بحكم ، وبناء عليه يكون مفادها أجنبياً بالمرّة عمّا أُشير في هذا التحرير ، فراجع وتأمّل.

ولا يخفى أنّ نظير هذه النسبة المذكورة في هذا التحرير هو ما في تحرير السيّد سلّمه اللّه ، فإنّه بعد أن أفاد أنّه بناء على كون التنجيس بالسراية يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - متنجّزاً بتنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - أفاد بقوله : فما عن المحقّق صاحب الكفاية قدس سره في تعليقته من أنّ تأخّر زمان الملاقاة عن العلم الاجمالي يوجب الشكّ في حدوث تكليف آخر مختصّ بأحد الطرفين ، فيتمسّك فيه بالبراءة ، مدفوع بأنّ تأخّر الوجود لا يمنع عن التنجّز بالعلم السابق إذا كان من آثار المعلوم إجمالاً ، كما عرفت توضيحه في

ص: 32


1- الفوائد ( مطبوعة في ذيل حاشية كتاب فرائد الأُصول ) : 321.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 146 - 147.
3- كما في طبعة بغداد والنسخة المحشّاة بحاشية المحقّق القوچاني قدس سره ونسخة حقائق الأُصول والنسخة القديمة المحشّاة بحاشية المحقّق المشكيني قدس سره ، لكن في نسخة المحقّق المشكيني قدس سره المطبوعة حديثاً وسائر النسخ المحقّقة حديثاً ورد : « بحكمه ».

المقدّمة (1).

فاعلم أنّه قال الشيخ قدس سره : ولو كان العلم الاجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ففُقد ، فالظاهر طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولا يخفى وجهه (2).

وقال المحقّق صاحب الكفاية قدس سره في الحاشية على قول الشيخ « فالظاهر الخ » : وجهه سلامة أصالة الطهارة فيه وعدم معارضتها بأصالة الطهارة في صاحب الملاقى ، لبقائها على ما كانت عليه من السقوط بمعارضتها بما في الملاقى المفقود ، وإلاّ لجاز ارتكاب أحد المشتبهين بمجرّد فقد الآخر (3).

ولا يخفى أنّ هذا الكلام منهما ليس بمبني على السراية ، بل إنّ جلّ كلامهما قدس سرهما في الملاقي - بالكسر - على خلاف السراية ، بل على أنّ الملاقي موضوع جديد من النجس ، وعلى تقدير كونه كذلك لا ينبغي الإشكال في كون الملاقي - بالكسر - محكوماً بالطهارة إذا كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي ، فراجع وتأمّل.

قوله : والتقييد بانحصار سبب نجاسة الملاقي بالملاقاة ، وإن لم يصرّح به في متن الكفاية ، إلاّ أنه صرّح بذلك في حاشية الكفاية ، ووجه الحاجة إلى القيد واضح (4).

نصّ عبارة متن الكفاية في بيان الصورة الثانية هذا : وأُخرى يجب

ص: 33


1- أجود التقريرات 3 : 444 - 445.
2- فرائد الأُصول 2 : 244.
3- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 147.
4- فوائد الأُصول 4 : 85.

الاجتناب عمّا لاقاه دونه ، فيما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شيء آخر ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذلك الشيء أيضاً ، فإنّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة الخ (1).

ولا يبعد ظهورها في القيد المزبور ، بمعنى أنّ مفادها هو أن يعلم أوّلاً بنجاسة الثوب أو إناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك يعلم بأنّ ثوبه كان قد لاقى إناء زيد ، والعلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، فظاهره أنّ العلم المردّد بين الاناءين مولّد من العلم بالملاقاة.

وأمّا ما أشار إليه ممّا في الحاشية ، فإنّ الموجود في طبعة بغداد (2) وفي الطبعة التي عليها حاشية المرحوم القوچاني (3) هو هذا اللفظ : وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلاّمن قبل ملاقاته.

وهذه العبارة ظاهرة في الاطلاق والتعميم لا في التخصيص والتقييد ، ولعلّ المحرّر المرحوم يرى أنّ لفظة « إن » زائدة بين الواو و « لم » ، ولكنّه بعيد ، بل المتعيّن وجودها ، وبيان مضمونها هو أنّ سير صاحب الكفاية قدس سره في هذه المسائل ونحوها ممّا يتخيّل فيه اجتماع العلمين الاجماليين مع تلاقيهما في طرف واحد ، مثل أن يعلم بنجاسة مردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ويعلم أيضاً بنجاسة مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، فكان إناء عمرو ملتقى خطّي العلم الاجمالي ، وكان طرفاً في كلّ من العلمين ، وحينئذ يكون المدار على السبق الزماني ، فلو كان السابق في الزمان هو العلم بين إناء زيد وإناء عمرو تنجّزا ، ولم يكن العلم الثاني

ص: 34


1- كفاية الأُصول : 363.
2- كفاية الأُصول 2 : 61 و 130.
3- كفاية الأُصول ( مع تعليقة المحقّق القوچاني قدس سره ) 2 : 66.

المردّد بين إناء خالد وإناء عمرو مؤثّراً ، لأنّ أحد طرفيه وهو إناء عمرو مسبوق بالتنجّز ، ولو كان الأمر بالعكس كان الحكم هو العكس ، ولو حصل العلمان دفعة واحدة أثّرا معاً ، ووجب الاجتناب عن الجميع.

ولا يخفى أنّ جلّ همّ صاحب الكفاية في مسألة الملاقي والملاقى هو جعلهما من صغريات هذه الكبرى ، وأنّ المدار على سبق أحد العلمين على الآخر زماناً ، لا على تقدّم المعلوم زماناً على المعلوم الآخر ، بل ولا على تقدّم أحد العلمين رتبة على الآخر ، ولا على تقدّم أحد المعلومين رتبة على الآخر من جهة أنّ نجاسة الثوب مثلاً مولّدة ومسبّبة عن نجاسة إناء زيد الملاقى.

وغرضه أنّ نجاسة الثوب وإن كانت متولّدة من نجاسة إناء زيد ، وأنّ السبب في نجاسة الثوب هو نجاسة الملاقى الذي هو إناء زيد ، إلاّ أنه لو فرضنا أنّه لم يكن كذلك ، بل كان حاله حال إناء خالد - فيما ذكرناه من المثال - في كون المدار على التقدّم الزماني مع فرض كون نجاسته لم تكن بسبب نجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، وحينئذ لابدّ من النظر إلى المتقدّم زماناً ، فإن كان هو العلم المردّد بين الاناءين ، كان هو المؤثّر ، وسقط العلم المتأخّر المردّد بين نجاسة الثوب وإناء عمرو. وإن كان الأمر بالعكس ، بأن كان العلم المتقدّم هو العلم المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، كان هو المؤثّر وسقط العلم المتأخّر المردّد بين الاناءين ، وهذا لا يتوقّف على كون نجاسة الثوب مسبّبة عن نجاسة إناء زيد كما هو المفروض ، بل لو فرضنا أنّها لم تكن مسبّبة عنها ، لم يكن المؤثّر أيضاً إلاّما هو المقدّم من أحد العلمين ، ولا خصوصية لكون المعلوم في أحدهما مسبّباً عن المعلوم في الآخر.

ص: 35

قوله : والذي قيل فيه أو يمكن أن يقال أحد وجهين ... الخ (1).

هنا شبهة تقتضي كون نجاسة الفرع الذي هو الملاقي - بالكسر - من أحكام الأصل الذي هو نجاسة الملاقى - بالفتح - بتقريب حاصله هو حكومة الأصل في الأصل على الأصل في الفرع ، فلو جرت قاعدة الطهارة في الأصل كانت حاكمة على قاعدة الطهارة في الفرع ، ولو كان الأصل مورداً لاستصحاب النجاسة كان استصحاب النجاسة في الأصل حاكماً أيضاً على قاعدة الطهارة في الفرع ، وكان مقتضى الاستصحاب المذكور هو الحكم بنجاسة الفرع الذي هو الملاقي - بالكسر - ، ولا منشأ لهذه الحكومة إلاّكون نجاسة الفرع من الآثار الشرعية اللاحقة لنجاسة الأصل ، وحيث كان الحكم في الفرع من الآثار الشرعية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون الحكم في الفرع من الآثار الشرعية اللاحقة لأصله ، فيكون الحكم في الفرع متنجّزاً بتنجّز أحكام الأصل ، ولأجل ذلك لو كانت الشبهة في نجاسة الأصل شبهة حكمية بدوية ، وكانت متنجّزة لكونها قبل الفحص ، لم تكن قاعدة الطهارة جارية في فرعه الذي هو ملاقيه ، بل كان احتمال النجاسة فيه متنجّزاً كاحتمالها في أصله الذي هو الملاقى - بالفتح -.

وهذه الشبهة لو تمّت لكان مقتضاها التنجّز في جميع ما هو من فروع الأصل حتّى في مثل غسل المسّ ونحوه من حرمة بنت إحدى طرفي الشبهة بالزنا وغير ذلك ، ولا اختصاص لها بمسألة الملاقي لأحد طرفي الشبهة في النجاسة ، لتحقّق منشأ الشبهة فيها وهي حكومة الأصل الجاري في الأصل على الأصل الجاري في الفرع ، إذ لا ريب في أنّ الممسوس لو جرى فيه أصل يقتضي الحياة مثلاً ، بأن شككنا في بقاء حياة هذا الإنسان المطروح وأجرينا فيه استصحاب

ص: 36


1- فوائد الأُصول 4 : 76.

الحياة ، لكان مقتضاها الحكومة على الشكّ في وجوب الغسل بمسّه. وهكذا لو كان مقتضى الأصل فيه هو وجوب الغسل بمسّه ، بأن تحقّقنا موته وشككنا في عروض التغسيل عليه. وهكذا الحال لو جرى الأصل في أُمّ البنت مثل أصالة عدم طروّ الزنا عليها ، أو شككنا عند عروض الوطء عليها في وقوع عقد النكاح عليها ، ونحو ذلك من الأُصول النافية أو الأُصول المثبتة الحاكمة على الأصل في الشكّ في حرمة بنتها.

والجواب عن هذه الشبهة هو أن يقال : لا يكفي (1) تنجّز الحكم في الأصل في تنجّز الحكم في الفرع الذي هو الملاقي - بالكسر - مثلاً ، مجرّد كون الأصل في الأصل حاكماً على الأصل في الفرع الذي كان منشؤه كون الحكم في الفرع من آثار الحكم في الأصل ، بل لابدّ في التنجّز من كون الحكم في الفرع عين الحكم في الأصل ، على وجه يكون من قبيل الاتّساع في الموضوع ، نظير النماء المتّصل أعني مثل كبر الشجرة المغصوبة وثمرتها ، وفي مثل عمود النسب وحواشيه في الأُمّ الرضاعية أو الأُمّ النسبية لابدّ من الالتزام بأنّه من قبيل الاتّساع في الموضوع ، بأن يكون المحرّم عند الرضاع من الأُمّ هو الأُمّ بمجموع عموديها وحواشي نسبها ، وفي ذلك لا معنى للحكومة ولا لتعدّد الأصل ، إذ لا يكون لنا إلاّحكم واحد جارٍ في الأصل يختلف سعة وضيقاً باعتبار سعة موضوعه وضيقه ، فإن تنجّز ذلك الحكم تنجّز في الجميع وإلاّ فلا.

أمّا الحكومة فيما نحن [ فيه ] من مسألة ملاقي النجس ، فليس منشؤها إلاّ كون نجاسة الأصل موضوعاً لنجاسة الفرع ، فإنّ نجاسة الفرع وإن كانت بنفسها موضوعاً لوجوب الاجتناب عنه ، إلاّ أنها حكم وضعي موضوعه هو نجاسة

ص: 37


1- [ لا يخفى ما في تركيب العبارة ، لكن المقصود واضح ].

الأصل ، فإذا جرى الأصل في نجاسة الأصل كان ذلك الأصل الجاري في الأصل - أعني قاعدة الطهارة في الأصل أو استصحاب نجاسته - أصلاً موضوعياً بالنسبة إلى ذلك الحكم الوضعي في الفرع أعني نجاسته ، فيكون حاكماً على الأصل الجاري في الفرع حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، وحيث قد سقط الأصل الحاكم بالتعارض ، يكون المرجع في الفرع هو الأصل المحكوم ، أعني قاعدة الطهارة فيه ، إذ بعد سقوط الأصل في الأصل يبقى ذلك الحكم الوضعي في فرعه مشكوكاً ، لعدم إحراز موضوعه الذي هو نجاسة الأصل أو طهارته ، فيكون المرجع في ذلك الحكم الوضعي في الفرع هو الأصل الجاري فيه وهو قاعدة الطهارة.

ولا معنى لتنجّز النجاسة في الأصل ولا في الفرع كي يقال إنّ تنجّزها في الأصل موجب لتنجّزها في الفرع ، لما عرفت غير مرّة من أنّه لا معنى لنسبة التنجّز إلى نفس الحكم الوضعي ، وإنّما القابل للتنجّز هو الآثار التكليفية اللاحقة لذلك الحكم الوضعي ، ومن الواضح أنّ تنجّز الأحكام التكليفية في نجاسة الأصل - أعني وجوب الاجتناب عنه - لا دخل له بتنجّز الحكم التكليفي اللاحق للفرع أعني وجوب الاجتناب عنه ، بل إنّ تنجّز هذا الحكم التكليفي في الفرع تابع لاحراز موضوعه الذي [ هو ] نجاسته ، المتوقّفة على إحراز موضوعها الذي هو نجاسة الأصل.

وأمّا ما ذكر من الشبهة في ملاقي مشتبه النجاسة بالشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص ، فهي وإن كانت موضوعية بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - إلاّ أنه لمّا كان المنشأ في هذه الشبهة الموضوعية هو الشبهة الحكمية في نجاسة الأصل ، لم يمكن الرجوع فيها إلى الأصل - وهو قاعدة الطهارة - قبل الفحص عن أصلها الذي

ص: 38

هو نجاسة الأصل ، الذي هو حسب الفرض من الشبهات الحكمية قبل الفحص ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : الأوّل : أن تكون نجاسته لمحض التعبّد الشرعي ، من دون أن تكون نجاسته ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والأحكام المترتّبة على نفس نجاسة الملاقى - بالفتح - ووجوب الاجتناب عنه ، بل الملاقي للنجس فرد آخر من النجس حكم الشارع بوجوب الاجتناب عنه في عرض وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - (1). فإنّه قد ظهر لك أنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - في طول نجاسة الملاقى - بالفتح - ، فإنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - من الأحكام الوضعية اللاحقة له بسبب ملاقاته للنجس ، فكانت نجاسة الملاقى - بالفتح - لها الدخل في نجاسة الملاقي - بالكسر - على وجه يكون الأصل الجاري في الملاقى - بالفتح - حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - ، فيكون وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - متأخّراً رتبة عن نجاسته المتأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى - بالفتح - ، ويكون هذا الوجوب متأخّراً رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ، لكون موضوعه الذي هو نجاسة الملاقي - بالكسر - واقعاً في مرتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ، لأنّ كلاً من نجاسة الملاقي - بالكسر - ووجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - متأخّران عن نجاسة الملاقى - بالفتح - ، وما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء متأخّر رتبة عن نفس ذلك الشيء.

وإنّما تتمّ العرضية فيما لو كان نجاسة أحد الأمرين ملازمة لنجاسة الآخر اتّفاقاً من دون أن يكون تفرّع ولا ترتّب ولا طولية ، فيما لو علم بنجاسة أحد

ص: 39


1- فوائد الأُصول 4 : 76 - 77.

الاناءين مثلاً ولكن كانت نجاسة إناء زيد مثلاً من باب الاتّفاق ملازمة لنجاسة إناء ثالث ، بأن علم بوقوع النجاسة في أحد الاناءين إناء زيد وإناء عمرو ، ولكن كانت على تقدير وقوعها في إناء زيد قد وقعت هي أيضاً أو مثلها في إناء خالد ، فإنّه حينئذ يكون بين نجاسة إناء زيد ونجاسة إناء خالد ملازمة اتّفاقية ، من دون طولية بينهما توجب كون الأصل الجاري في إناء زيد حاكماً على الأصل الجاري في إناء خالد.

وقد تضمّن تحرير السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره نظير هذه العبارة في هذا التحرير فقال : إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ نجاسة الملاقي للنجاسة إمّا أن تكون حكماً شرعياً تعبّدياً ثابتاً لموضوعه في عرض الحكم بنجاسة ما لاقاه ، أو تكون من شؤون نجاسته ومن جهة سراية النجاسة من الملاقى إلى الملاقي (1). فراجعه إلى آخر المبحث.

ولم أعثر على هذه الجملة - أعني كون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) في عرض نجاسة الملاقى ( بالفتح ) - فيما حرّرته عنه قدس سره ، بل الذي وجدته فيه هو أنّه قدس سره قسّم المعلوم بالاجمال إلى قسمين ، الأوّل أن يكون تمام الموضوع ، والثاني أن يكون جزء الموضوع ، ثمّ قال : إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ ما نحن فيه أعني نجاسة الملاقي لأحد الطرفين وعدم نجاسته ، يتفرّع على هذه المقدّمة ، فهل نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه حكم مترتّب على النجس الملاقى - بالفتح - ، وأنّ الملاقى يكون تمام موضوعه ، أو أنّه مترتّب على ملاقي النجس ، فيكون النجس الملاقى جزء الموضوع.

ثمّ قال بعد ذلك : وغرضنا من السريان سعة دائرة النجس بواسطة الملاقاة ،

ص: 40


1- أجود التقريرات 3 : 441.

فتكون الملاقاة من المقدّمات العقلية لحصول نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه ، كالثمرة الحادثة بالنسبة إلى الشجرة المغصوبة ، فلا يكون تأخّر الحكم المذكور منافياً لكون الملاقى تمام الموضوع. كما أنّ الغرض من كونها بالملاقاة أنّها - أي الملاقاة - تكون جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو النجس الملاقى ، فلا يكون ذلك منافياً لكون ذلك من قبيل السببي والمسبّبي وكون الأصل في الملاقى حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي ، إذ يكفي في ذلك كون نجاسة الملاقى جزء الموضوع لنجاسة الملاقي ، ولا تتوقّف الحكومة المذكورة على كون مجرى الأصل الأوّل تمام الموضوع لمجرى الأصل الثاني.

ثمّ قال قدس سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ثمّ إنّا قد حقّقنا في محلّه أنّه لا يعقل تأخّر الشرط عن وجود مشروطه ، وأبطلنا الشرط المتأخّر ، وبسبب ذلك ربما يشكل علينا بأنّه بعد البناء على عدم معقولية تقدّم الحكم على موضوعه وشرطه ، كيف قلتم إنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس يثبت للنجس قبل حصول متعلّقه وهو ملاقي النجس.

والجواب : أنّ وجوب الاجتناب الثابت للنجس لم يكن مقيّداً ومشروطاً شرعاً بملاقي النجس. نعم لمّا كان محصّل وجوب الاجتناب عن النجس بناءً على السراية والاتّساع هو الاجتناب عنه وعن فروعه ، لم يتحقّق الخطاب بالاجتناب عن ذلك الملاقي إلاّبعد وجود الملاقي ، من جهة حكم العقل بتوقّف تحقّق ذلك الخطاب على تحقّق موضوعه ، لا بمعنى أنّ هناك حكمين أحدهما للنجس والآخر لملاقيه ، بل بمعنى أنّه ليس لنا إلاّحكم واحد وارد على النجس ، وهذا النجس تتّسع دائرته بواسطة تعدّد ملاقيه ، والحكم في محلّه على وحدته لم يحصل له تعدّد وكثرة.

ص: 41

قلت : وإن شئت فقل : إنّ اتّساع الموضوع ليس من قبيل تجدّد الموضوع ، فحرمة التصرّف الواردة على الشجرة في أوّل نشوئها تكون بعينها واردة على تلك الشجرة في حال كبرها وزيادتها جسماً بمقدار أزيد من أصلها بل أضعافه ، ومع ذلك ليست تلك الزيادة من قبيل حدوث موضوع جديد. وهكذا الحال في زيادة سلسلة الأُمّ الرضاعية التي كان الرضاع منها موجباً لحرمة تلك السلسلة ، سواء كانت من العمودين أو كانت من الحواشي ، وهكذا الحال في ثمرة الشجرة. والمدّعى أنّ ملاقي النجس من هذا القبيل ، أعني السعة في موضوع النجس بكثرة ملاقياته ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته المطبوعة قد أفاد نحو ما أفاده شيخنا قدس سره في العرضية المذكورة ، غير أنّه جعل ما يقابله من السراية على نحوين : الأوّل : أنّه من قبيل العدوى وترشّح النجاسة من الملاقى - بالفتح - إلى الملاقي - بالكسر - ، مع الالتزام بكونه موضوعاً جديداً ، غايته أنّه في طول نجاسة الملاقى - بالفتح -. والثاني : من قبيل الاتّساع في الموضوع ، فقال : أحدها : أنّ وجه نجاسة الملاقي - بالكسر - هل هو من جهة صرف التعبّد به ، غاية الأمر مشروطاً بملاقاته مع النجس بلا التزام بالسراية من الملاقى - بالفتح - إليه بوجه من الوجهين الآتيين ، أم ليس إلاّمن جهة سرايتها ممّا لاقاه إليه ، وعلى الأخير هل معنى سرايته كون نجاسة الملاقى - بالفتح - سبباً لنجاسة ملاقيه - بالكسر - ، نظير سراية الحركة من اليد إلى المفتاح ، أو أنّ معناه انبساط نجاسة الملاقى - بالفتح - بحيث شملت الملاقي - بالكسر - أيضاً ، فتكون نجاسة الملاقي - بالكسر - من مراتب وجود نجاسة الملاقى - بالفتح - ، لا أنّه مسبّب عنه وفي طوله (1)

ص: 42


1- مقالات الأُصول 2 : 247 [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة : « لأنّه مسبّب عنه » وفي الطبعة الحديثة : « لأنّها مسبّبة عنه » والصحيح ما أثبته المصنّف قدس سره ].

ثمّ أفاد : أنّ هذه الوجوه الثلاثة جارية في اعتبار الملكية في المنافع والنماءات بالنسبة إلى ملكية الأعيان.

قلت : ومقتضاه جريانها في غصبية المنافع والنماءات ، بل جريانها أيضاً في حرمة البنت على الشخص بالنسبة إلى أُمّها لو كانت الأُمّ مرضعة للشخص المذكور.

ثمّ قال : ثانيها : أنّ كلّ مورد يكون للمعلوم بالاجمال أثران - إلى أن قال : - وإنّما الكلام في طولية الأثر المترتّب على نفس المعلوم مع الأثر المترتّب على الغير الذي هو من تبعات وجود المعلوم ، كنجاسة الملاقي - بالكسر - أو ملكية النماء مثلاً التابعين لنجاسة الملاقى - بالفتح - أو ملكية العين ، أو كونهما عرضيين على التصوّرات السابقة ، فإنّه على الطولية يصير الأثر في أحدهما مسبّباً عن الآخر ، وعلى العرضية يكون الأثران في عرض واحد بلا سببية ومسبّبية في البين (1).

ثمّ إنّه ذكر في ثالثها ما مفاده راجع إلى إشكال العلم الاجمالي وجوابه ، وذكر الإشكال على ما أفاده الشيخ قدس سره.

ثمّ قال : هذا كلّه في فرض طولية المعلومين بذاتهما ، وأمّا لو كانا عرضيين - كما بيّنا وجهه في الأمثلة السابقة - فنقول (2). وتعرّض لدفع توهّم كون العلم الاجمالي بأثر الملزوم كافياً في تنجّز لازمه ، وأنّه لا يحتاج إلى علم آخر بما حاصله : أنّه لابدّ من العلم الاجمالي بالنسبة إلى اللازم وأنّ العلم بالملزوم غير مرتبط بالعلم باللازم ، إذ هما تكليفان غير مرتبط أحدهما بالآخر ، غاية الأمر

ص: 43


1- مقالات الأُصول 2 : 248.
2- مقالات الأُصول 2 : 251.

عرضيان ، ومجرّد عرضيتهما في الوجود لا يقتضي وحدة العلم بهما كي يكفي في تنجيز اللازم مجرّد العلم بالملزوم (1).

ثمّ قال : وبعد ذلك لا محيص أيضاً بهذا المناط من تعدّد العلم بهما وجوداً ، لأنّ وحدة العلم وتعدّده أيضاً متقوّم بوحدة معلومه وتعدّده ، ثمّ أفاد أنّه لو سلّمنا وحدة العلم لكان قابلاً للتحليل بقطعة فقطعة ، وكانت كلّ قطعة منجّزة لما تعلّقت به ، إلى أن قال : نعم الذي يسهّل الخطب في المقام ( عدم ) صحّة العرضية في التكليفين أو انبساطه ، سواء في باب نجاسة الملاقي - بالكسر - مع نجاسة ما لاقاه ، أو في ملكية النماء والمنافع لملكية العين ، وأنّ التحقيق فيهما كون كلّ واحد من الملزومين ناشئين عن الآخر ، كنشوء حركة المفتاح عن حركة اليد ، وبهذا المعنى نلتزم بالبراءة (2) في المقامين ، لا بمعنى انبساط الأثر من الملزوم إلى اللازم بحيث كأنّهما وجود واحد منبسط على الجميع ، وعليه فمقتضى التحقيق في التشقيقات السابقة هو الالتزام بالمعنى الوسط لا الأوّل ولا الأخير ، ولازمه ليس إلاّطولية الأثرين ، وفي مثله لا محيص من إجراء الأصل في المسبّب عند سبق العلم بالسبب ، وإلاّ فلابدّ من الاجتناب في المسبّب وطرفه وإجراء الأصل في السبب ، كما أنّه لابدّ من الاجتناب عن كليهما عند عرضية علمهما ، كما تصوّرنا كلّ ذلك بملاحظة جريان التفصيل في طولية العلمين أو عرضيتهما ، ولازمه عدم كون المدار في أمثال الباب على جريان الأصل في المسبّب بلا معارض كما لا يخفى ، فتأمّل في أطراف الكلام فإنّه من مزال أقدام الأعلام (3)

ص: 44


1- مقالات الأُصول 2 : 251.
2- [ أُبدلت كلمة « البراءة » في الطبعة الحديثة بكلمة « السراية » ].
3- مقالات الأُصول 2 : 252 - 253.

والذي ينبغي هو التعرّض لكلّ واحدة من هذه الجمل ، فنقول بعونه تعالى :

قوله في المقالة : غاية الأمر مشروطاً بملاقاته مع النجس ... الخ (1).

قد عرفت أنّ هذا المقدار كافٍ في الطولية على وجه يكون الحكم في الملاقي - بالكسر - في طول نجاسة الملاقى ، على وجه يكون الأصل الجاري في الملاقى - بالفتح - حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - ، حتّى لو فرضنا أنّ حكم الثوب الملاقي للنجس وجوب حرقه أو التصدّق به أو التصدّق بدرهم مثلاً ، بأن يقول الآمر إذا لاقى ثوبك النجس فتصدّق بدرهم ، فإنّ هذا الحكم لا يخرج عن كونه في طول نجاسة الملاقى - بالفتح - على وجه لو جرت قاعدة الطهارة في الملاقى - بالفتح - كانت حاكمة على الأصل الجاري في هذا الحكم ، وهو وجوب التصدّق بدرهم مثلاً.

قوله : وعلى الأخير هل معنى سرايته كون نجاسة الملاقى - بالفتح - سبباً - إلى قوله : - أو أنّ معناه انبساط نجاسة الملاقى بالفتح (2).

الأولى أن يقال : إنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - هل هي بالتعبّد أو بالسراية من العلّة إلى المعلول ، أو هي بالاتّساع وانبساط النجاسة ، وهو الذي نعبّر عنه باتّساع الموضوع ، ولا فرق بين الأوّل والثاني من حيث الطولية ، سوى أنّ القسم الأوّل لا يلزم فيه أن يكون الحكم في الفرع من سنخ حكم الأصل ، لأنّه حكم تعبّدي ثابت لملاقي النجس ، بخلاف القسم الثاني ، فإنّ الحكم فيه يلزم أن يكون من سنخ الحكم في الأصل ، لكونه بسرايته وعدواه ، أمّا السببية والطولية فعلى الظاهر أنّها مشتركة بينهما ، فإنّ الحكم في الفرع الذي هو الملاقي - بالكسر - في

ص: 45


1- مقالات الأُصول 2 : 247.
2- مقالات الأُصول 2 : 247.

القسم الأوّل وإن لم يكن من سنخ حكم الأصل ، بل كان مثل وجوب الاحراق أو وجوب التصدّق ، إلاّ أن نجاسة الأصل من أجزاء موضوعه ، فتكون سبباً شرعياً في ذلك الحكم ، كما هو الحال في القسم الثاني ، اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد هو السببية التكوينية ، فتأمّل.

قوله : ثالثها : في أنّ العلم الحاصل بمعلول شيء ... الخ (1).

محصّله : أنّ الانتقال تارةً يكون من العلّة إلى المعلول ، وأُخرى بالعكس ، وثالثة يكون العلم بكلّ من المعلول والعلّة حاصلاً دفعة واحدة من سبب ثالث أوجب العلم كإخبار معصوم ، وحينئذ فأيّ العلمين سبق كان المؤثّر ، ولو اجتمعا أثّرا معاً.

ولا يخفى أنّ هذا التقسيم لا يختصّ بكون أحد المعلومين معلولاً للآخر وفي طوله ، بل يجري في العرضيين ، كما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة ولو كانت العلّية اتّفاقية ، فإنّه تارةً يكون الانتقال من أحد المعلولين إلى الآخر ، وتارةً يكون الانتقال من العلّة إليهما معاً ، كما لو كان إناء زيد بجنب إناء خالد ، وكان إناء عمرو بعيداً عنهما في الجملة ، على وجه لو وقعت نجاسة على إناء زيد كانت واقعة عليهما معاً ، فهو تارةً يعلم بوقوع النجاسة في إناء زيد وينتقل من ذلك إلى العلم بنجاسة إناء خالد أيضاً ، وتارةً بالعكس ، وثالثة يحصل له العلم الدفعي بنجاستهما معاً ، بل يكون الانتقال من أحد المعلولين إلى الآخر أبعد مسافة من الانتقال عن العلّة إلى المعلول أو بالعكس ، لأنّ العلم بأحد المعلولين ينتقل إلى العلم بالعلّة ، وعن العلم بها يحصل الانتقال إلى المعلول الآخر ، ويكون المدار في ذلك كلّه على التقدّم الرتبي لا الزماني حتّى في العلّة والمعلول ، فإنّ محصّل الانتقال من

ص: 46


1- مقالات الأُصول 2 : 248.

العلم بالعلّة إلى العلم بالمعلول أنّ الذي حصل له أوّلاً هو العلم بالعلّة ، ثمّ بعد حصول العلم بالعلّة يحصل له العلم بالمعلول ، ويكون العلم بالعلّة علّة للعلم بالمعلول ، فلا يكون بين العلمين تأخّر زماني ، لاستحالة ذلك في العلّة والمعلول.

نعم ، ربما حصل التأخّر الزماني ، كما لو علم بالعلّة ولكن حينما علم بها لم يعلم بكونها علّة للشيء الفلاني ، وبعد مدّة علم بذلك وانتقل من علمه بها إلى العلم به. وهكذا الحال فيما لو علم بوجود المعلول ولم يكن حينئذ عالماً بأنّه معلول للعلّة الفلانية ، ثمّ بعد مدّة علم بذلك فانتقل من العلم به إلى العلم بها. وهكذا الحال في الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر. بل يكون المدار هو ذلك - أعني التقدّم الرتبي لأحد العلمين على الآخر - حتّى في غير المتلازمين اللذين لا يكون بينهما طولية ، لكن كانت الطولية فيهما بين العلمين ، وذلك كما إذا علم بنجاسة مردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ علم بنجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء خالد من تلازم ولو اتّفاقي بين نجاسة إناء زيد وإناء خالد ، وحينئذ لا اختصاص للانحلال بما إذا كان بين المعلومين طولية.

فما يظهر منه من الاختصاص لا وجه له على الظاهر ، كما يظهر ذلك من قوله : هذا كلّه في فرض طولية المعلومين بذاتهما ، وأمّا لو كانا عرضيين - إلى قوله : - نعم الذي يسهّل الخطب في المقام ( عدم ) صحّة العرضية في التكليفين أو انبساطه ، سواء في باب نجاسة الملاقي - بالكسر - مع نجاسة ما لاقاه ، أو في ملكية النماء والمنافع لملكية العين ، وأنّ التحقيق فيهما كون كلّ واحد من الملزومين ناشئين عن الآخر ، كنشوء حركة المفتاح عن حركة اليد ، وبهذا المعنى نلتزم بالبراءة في المقامين ، لا بمعنى انبساط الأثر من الملزوم إلى اللازم بحيث

ص: 47

كأنّهما وجود واحد منبسط على الجميع الخ (1).

ولا يخفى غرابة الالتزام بالبراءة (2) في مسألة المنافع والنماء فيما لو علم إجمالاً غصبية إحدى العينين اللتين يكون لإحداهما منافع أو ثمرة ، فإنّ التحقيق فيه أنّه من قبيل الاتّساع والانبساط.

وأغرب من ذلك دعوى التمحّل في تقطيع العلم على تقدير كون ذلك من قبيل الاتّساع وجعل العلم المنبسط على الكل بمنزلة علمين ، تعلّق أحدهما بأحد الجزأين والآخر بالجزء الآخر ، وإلحاقه من هذه الجهة بالعلم المردّد بين تكليف واحد وتكليفين.

ولا يخفى أنّ جميع ما ذكره في قوله ثالثها إلى آخر هذا المبحث إنّما هو مسوق لردّ اعتراض شيخنا قدس سره (3) على ما أفاده في الكفاية (4) من الفرق بين الصور الثلاثة.

ولكن يمكن أن لا يكون الوجه في اعتراض شيخنا قدس سره هو مجرّد تقدّم المعلوم رتبة ، بل إنّ الوجه فيه هو عدم كون العلم المردّد بين نجاسة الفرع وطرف أصله علماً حقيقياً ، إذ لا مقابلة بين نجاسة الفرع وطرف أصله ، وإنّما هو علم صوري حقيقته هو العلم بين الأصلين ، فعند حصول العلم أوّلاً بين الفرع وطرف أصله ، ثمّ حصول العلم بين الأصلين ، ينكشف صورية العلم الأوّل كما شرحناه ،

ص: 48


1- مقالات الأُصول 2 : 251 - 253.
2- [ لا يخفى أنّ كلمة « البراءة » أُبدلت في الطبعة الحديثة من المقالات ب- « السراية » فلاحظ ].
3- فوائد الأُصول 4 : 86.
4- كفاية الأُصول : 362 - 363.

فلاحظ وتأمّل.

قوله : فلو فرض سبق وجوده على المعلوم الآخر - مع تأخّر علمه عن علمه - موجباً لسبق تنجّزه يلزم انفكاك ... الخ (1).

أشار بهذه الجملة إلى الصورة الثانية ممّا ذكره في الكفاية ، وهي ما لو علم أوّلاً بنجاسة مردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ علم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، وأنّ نجاسة الثوب لو كان هو النجس في العلم الاجمالي الأوّل فإنّما هي من جهة ملاقاته لإناء زيد ، فكان المعلوم بالعلم الثاني وهو النجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو سابقاً في الرتبة على المعلوم بالعلم الأوّل المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو ، فلو كان تقدّم ذلك المعلوم وهو النجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو موجباً لتقدّم تنجّزه ، لكان العلم بين الثوب وإناء عمرو منفكّاً عن التنجّز ، لأنّه مسبوق بتنجّز أحد طرفيه وهو إناء عمرو ، فيلزم انفكاك العلّة التي هي العلم بين الثوب وإناء عمرو عن معلولها الذي هو التنجّز. وهذا تطويل.

فالأولى أن يقال : إنّ العلم الثاني وهو المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، لا يعقل أن يكون أثره وهو التنجّز سابقاً عليه وعلى العلم الأوّل المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، ليكون ذلك التنجّز السابق موجباً لانحلال العلم الأوّل. وكأنّه يريد بذلك الاعتراض على شيخنا قدس سره في دعواه انحلال العلم السابق المذكورة ، وقد عرفت أنّه يمكن أن يقال : إنّ دعوى شيخنا قدس سره ليست مبنية على سبق التنجّز ، بل على انكشاف كون العلم السابق صورياً لا واقعية له ، وحينئذ لا يكون جريان الأصل في الثوب مربوطاً بكون الموجب لسقوط الأصل النافي هو نفس العلم ، أو كونه هو تعارض الأُصول.

ص: 49


1- مقالات الأُصول 2 : 249.

قوله في المقالة : ومقتضاه حينئذ اختصاص التنجّز بالمعلوم بالعلم السابق ولو كان المعلوم في الرتبة اللاحقة ، ولا يصلح المعلوم بالعلم اللاحق للتنجّز ولو كان المعلوم بذاته في الرتبة السابقة ، لقيام علمه بطرفيه المنجّز أحدهما بعلمه السابق (1).

وذلك كما في الصورة الثانية ، أعني العلم أوّلاً بالنجاسة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ العلم ثانياً بالنجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو ، مع العلم بأنّه لا مستند لنجاسة الثوب لو كانت إلاّملاقاته لإناء زيد ، وحينئذ يكون العلم الثاني غير مؤثّر ، لأنّ أحد طرفيه وهو نجاسة إناء عمرو قد تنجّزت بعلمه السابق بين الثوب وإناء عمرو ، ويكون الأصل النافي جارياً في السبب وهو نجاسة إناء زيد ، ويكون ذلك على العكس من الصورة الأُولى وهي ما أشار إليها ب :

قوله : نعم ، لو كان الأمر بعكس هذا الفرض ... الخ (2).

بأن علم أوّلاً بالنجاسة المردّدة بين الاناءين ، ثمّ لأجل ملاقاة الثوب لإناء زيد حصل له العلم ثانياً بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، فإنّ العلم الثاني فيها لا يكون منجّزاً ، لأنّ أحد طرفيه وهو نجاسة إناء عمرو قد تنجّز بالعلم السابق بين الاناءين ، وحينئذ يكون الأصل النافي جارياً في المسبّب وهو نجاسة الثوب.

وعلى أيّ ، لا يكون المصحّح لجريان الأصل النافي في الموردين المذكورين هو مجرّد كونه بلا معارض ، لأنّ ذلك غير نافع بناءً على كون العلم الاجمالي علّة في المنع من جريان الأُصول النافية في الأطراف لا مجرّد التعارض ،

ص: 50


1- مقالات الأُصول 2 : 249.
2- مقالات الأُصول 2 : 250.

بل يكون المصحّح لذلك هو كون العلم الاجمالي اللاحق غير مؤثّر في التنجيز.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان العلمان قد حصلا دفعة واحدة بلا أن يكون في البين طولية بين نفس العلمين ، فإنّهما منجّزان حينئذ ، ويكون اللازم هو الاجتناب عن الثلاثة ، هذا.

ولكن قد عرفت أنّ شيخنا قدس سره يرى أنّه لا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - في الصور الثلاثة ، وأنّه يمكن أن يوجّه ما أفاده بما ربما يظهر من مطاوي الكلمات المنقولة عنه في هذا التحرير وغيره ، وهو دعوى كون العلم المردّد بين الثوب وإناء عمرو ليس بعلم حقيقة ، وإنّما هو صوري لا واقعية له ، وإنّما حقيقة الأمر هو التردّد بين نجاسة إناء زيد ونجاسة إناء عمرو ، ومنشأ هذه الدعوى هو الطولية بين المعلومين ، الموجبة لعدم صلاحية نجاسة الثوب لأن تكون طرفاً للترديد بينها وبين نجاسة إناء عمرو (1).

ونظير هذه الطولية ما التزم به فيما لو علم بوقوع نجاسة مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم بأنّه قد وقعت قبلها نجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء زيد ، فإنّ هذا العلم الثاني وإن كان متأخّراً ، لكن يستكشف منه أنّ العلم السابق ليس بعلم بحدوث تكليف بين إناء خالد وإناء عمرو ، بل لا يكون إلاّمن قبيل احتمال حدوث تكليف بالنسبة إلى إناء خالد ، أمّا بالنسبة إلى إناء عمرو فعلى تقدير أن تكون النجاسة الثانية واقعة فيه لا يعلم بتأثيرها.

ص: 51


1- نعم لو تلف إناء زيد وبعد تلفه حصل العلم الاجمالي ، يكون الثوب واقعاً في عرض نجاسة إناء عمرو ، ويكون الترديد بينهما ترديداً حقيقياً لا صورياً ، ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ التلف لا يقلب العلم الصوري إلى العلم الحقيقي ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

وحاصله أنّ هذه النجاسة التي علمها أوّلاً مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ينكشف أنّها دائرة بين حدوث وجوب اجتناب في إناء خالد وبين تحقّق وجوب الاجتناب في إناء عمرو بالأعمّ من الحدوث والبقاء ، فلو كان السابق هو العلم بين إناء زيد وإناء عمرو ، ولحقه العلم بين إناء خالد وإناء عمرو ، فلا إشكال في عدم تأثير اللاحق بالنسبة إلى إناء خالد ، لكن لو كان الأمر بالعكس ، فالعلم السابق وهو بين إناء خالد وإناء عمرو وإن حكم العقل بتأثيره في وقته بالتنجيز بينهما ، إلاّ أنه بعد أن لحقه العلم اللاحق بالنجاسة السابقة المردّدة بين إناء عمرو وإناء زيد يسري الخلل إلى العلم السابق ، ويكون ذلك من قبيل الشكّ الساري الموجب لبطلان أثر العلم التفصيلي فضلاً عن العلم الاجمالي.

وإلى ذلك يشير شيخنا قدس سره بقوله : إنّ العلم لا يكون منجّزاً إلى الأبد ، بل يكون حدوث التنجّز تابعاً لحدوثه وبقاؤه تابعاً لبقائه (1) ، وحينئذ يكون أثر العلم الأوّل الذي وقع مردّداً بين إناء خالد وإناء عمرو ساقطاً بالنسبة إلى إناء خالد ، ويكون المدار في التنجّز على العلم الثاني بالنجاسة السابقة على النجاسة الأُولى ، أعني المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، لأنّ هذا المكلّف لو سألته الآن بأنّك فعلاً هل تعلم بأنّ تلك النجاسة التي علمتها أوّلاً بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت تكليفاً على كلّ حال ، لقال إنّي فعلاً غير عالم بذلك ، لكنّي كنت معتقداً بذلك ، والآن قد زال اعتقادي ، لأنّي فعلاً أحتمل أنّ تلك النجاسة وقعت فيما هو نجس في الواقع ، فأنا لا أعلم أنّ تلك النجاسة التي كنت علمت أنّها وقعت بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت على كلّ حال ، فأنا كنت معتقداً أنّها قد أثّرت على كلّ حال ،

ص: 52


1- الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، راجع فوائد الأُصول 4 : 86 - 87.

والآن زال اعتقادي بذلك ، لأنّي أحتمل فعلاً أنّها لم تؤثّر ، هذا.

ولكن هناك جهة أُخرى ، وهي أنّ هذا المكلّف وإن حصل له الشكّ فعلاً في أنّ تلك النجاسة الثانية التي علمها أوّلاً بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت على كلّ حال ، لكنّه فعلاً إذا قابل بين إناء خالد وإناء عمرو يرى ويعتقد أنّه إمّا أن يجب عليه الاجتناب عن إناء خالد أو عن إناء عمرو ، غايته أنّه لو كان الأوّل يكون حدوثاً قطعاً ، ولو كان الثاني يكون الوجوب أعمّ من الحدوث والبقاء ، فإنّ تلك النجاسة التي وقعت ثانية إن كانت في إناء خالد فقد حدث وجوب الاجتناب عنه ، وإن كانت في إناء عمرو فهو أيضاً يجب الاجتناب عنه حدوثاً إن لم تكن السابقة واقعة فيه ، أو بقاء إن كانت السابقة واقعة فيه ، فيلزمه الاجتناب عنهما. وإذا تأمّل بين إناء زيد وإناء عمرو يرى أنّه بالأمس توجّه إليه وجوب الاجتناب عن أحدهما ، وهذا العلم - أعني علمه الآن بأنّه قد توجّه إليه بالأمس وجوب الاجتناب عن أحدهما - باقٍ بحاله لم يتغيّر ، غايته أنّه يحتمل أنّ إناء عمرو قد زاد على ذلك ، بأن وقعت فيه نجاسة أُخرى ، وهذا الاحتمال لا يضرّ بتنجيز ذلك العلم ، بل إنّه يزيد في الطين بلّة ، وحينئذ يلزمه الاجتناب عن الثلاثة.

لكن هذا التقريب جارٍ فيما لو وقعت نجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو وعلم بها المكلّف ، ثمّ علم بأنّ نجاسة ثانية وقعت بعد الأُولى إمّا في إناء خالد أو في إناء عمرو ، وهذه الثانية وإن لم يعلم بأنّها مؤثّرة على كلّ حال ، إلاّ أنه تجري فيه المقابلة المذكورة ، ومقتضاها حينئذ الاجتناب عن الثلاثة.

والجواب عن هذه الجهة من الإشكال هو أن يقال : إنّ الانحلال تارةً يكون حقيقياً بأن يكون إناء عمرو معلوم النجاسة تفصيلاً ، ويحصل العلم بوقوع نجاسة

ص: 53

مردّدة بينه وبين إناء زيد ، وقد يكون حكمياً بأن يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن إناء عمرو ، لكونه طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين إناء زيد ، ثمّ يحصل العلم الاجمالي بين إناء عمرو وإناء خالد ، فذلك الحكم العقلي بوجوب الاجتناب عن إناء عمرو يكون موجباً لعدم تأثير العلم الاجمالي الثاني ، فيكون بحكم الانحلال ، وفي صورة العكس ينكشف أنّه بحكم الانحلال.

والشاهد على ذلك أنّه لو كان المتأخّر هو العلم التفصيلي بأنّ إناء عمرو كان متنجّساً قبل حصول العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين إناء زيد ، وهكذا الحال فيما لو كانت البيّنة قائمة مقام العلم التفصيلي المذكور ، فإنّه لا ينبغي الريب في انحلال العلم الاجمالي السابق بذلك ، غايته أنّه في صورة العلم التفصيلي يكون الانحلال حقيقياً كما شرحناه ، وفي صورة قيام البيّنة يكون الانحلال حكمياً ، لكونه بواسطة حكم الشارع بحجّية البيّنة ، وفي صورة تأخّر العلم الاجمالي يكون الانحلال بحكم العقل.

لا يقال : إنّ الفرق بين قيام البيّنة وبين العلم الاجمالي واضح ، لأنّ البيّنة تكشف عن أنّ العلم المردّد بين الإناءين لم يكن علماً بتكليف على كلّ حال ، بخلاف العلم الاجمالي اللاحق ، فإنّه لا يكشف عن أنّ إناء عمرو لم يكن قد تنجّز وجوب الاجتناب فيه ، لأنّه قد تنجّز بالوجدان بواسطة العلم الاجمالي السابق.

لأنّا نقول : بالعلم الثاني ينكشف أنّ العلم الاجمالي السابق لم يكن علماً بحدوث وجوب الاجتناب على كلّ تقدير ، وبذلك يكون العلم الاجمالي الثاني موجباً لتبدّل العلم الاجمالي الأوّل من كونه علماً بتوجّه وجوب الاجتناب على كلّ تقدير إلى احتمال توجّه وجوب جديد ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 54

قوله في المقالة : وحينئذ فما عن شيخنا العلاّمة من جعل المدار على الأصل المسبّبي بقول مطلق ، لا يناسب مع علّية العلم للتنجّز حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، اللّهمّ [ إلاّ ] أن يجعل مبنى كلامه هذا على اقتضاء العلم اللاحق للتنجّز ولو في المعلوم السابق ذاتاً ، ولو بخيال أنّ العلم الطريقي الملحوظ بالنظر المرآتي عين معلومه ، فقهراً سبق معلومه يسري إليه حسب سراية صفات المرئي إلى المرآة ، فيصير علمه بهذا النظر أيضاً سابقاً على المعلوم الآخر ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره لم ينصّ إلاّعلى الصورة الأُولى ، وهي ما لو علم النجاسة بين الاناءين ثمّ علم بملاقاة الثوب لإناء زيد ، فأفاد أنّ قاعدة الطهارة في الثوب بلا معارض. وقال في أواخر المبحث بعد أن أفاد وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - فيما لو لاقى الآخر ثوب آخر لتعارض قاعدة الطهارة في الثوبين ، وأنّه لو فقد الملاقى - بالفتح - ثمّ حصل العلم بالملاقاة ، سقطت قاعدة الطهارة في الثوب بالمعارضة مع الاناء الباقي : فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة (2) ، ثمّ ذكر أنّه لو كان فقد الملاقى - بالفتح - بعد العلم الاجمالي ، فالظاهر طهارة الملاقي - بالكسر - ووجوب الاجتناب عن الإناء الآخر الباقي.

ومن ذلك يظهر أنّ كلامه ناظر إلى أنّ المانع هو تعارض الأُصول ، لا إلى أنّ العلم الطريقي المتقدّم معلومه يكون تنجّزه متقدّماً عليه ، فإنّ ذلك إنّما نحتاج إليه في الصورة الثانية أو الثالثة ، وهو قدس سره لم يتعرّض لهاتين الصورتين ، وإنّما تعرّض

ص: 55


1- مقالات الأُصول 2 : 250.
2- فرائد الأُصول 2 : 244.

للصورة الأُولى فقط ، وعدم وجوب الاجتناب فيها عن الثوب يلتئم مع القول بكون العلم الاجمالي علّة تامّة حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وإن علّله هو قدس سره بعدم المعارض لأصالة الطهارة فيه ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في المقالة : فهذا الكلام إنّما يتمّ في الأُصول غير التنزيلية مثل قاعدة الحلّية على وجه ، بضميمة كون حلّية اللازم أيضاً من آثار حلّية الملزوم ولو ظاهرياً - إلى قوله : - فإنّه لا مجال لجريان الأصل في التالف ، لعدم صلاحية التالف لجعل الحلّية الظاهرية - إلى قوله : - وأمّا لو كان الأصل تنزيلياً كالاستصحاب مثلاً ، فلا شبهة في جريانه حتّى في التالف أو الخارج عن محلّ الابتلاء بلحاظ ما له من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلّف ... الخ (1).

يتوجّه هنا سؤال عن الوجه في عدوله عن التمثيل للأُصول غير التنزيلية بقاعدة الطهارة إلى قاعدة الحلّية مع أنّها مثلها في لسان الدليل ، وهو قولهم عليهم السلام : « كلّ شيء لك طاهر » (2) وقولهم عليهم السلام : « كلّ شيء لك حلال » (3) مع أنّ الأنسب بالمقام هو التمثيل بقاعدة الطهارة ، لأنّ الكلام في طهارة الملاقى وطهارة الملاقي.

ثمّ إنّه بعد الاعتراف بكون حلّية اللازم من آثار حلّية الملزوم ، وإن شئت فقل : بعد الاعتراف بأنّ طهارة الثوب الملاقي للاناء من آثار طهارة الاناء ، ولذلك كانت قاعدة الطهارة في الاناء حاكمة عليها في الثوب الملاقي له ، يكون حالها

ص: 56


1- مقالات الأُصول 2 : 254.
2- ورد مضمونه في وسائل الشيعة 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4.
3- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

حال استصحاب الطهارة في التالف بلحاظ ما له من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلّف ، إذ ليس المراد من الآثار الفعلية لاستصحاب الطهارة في الاناء التالف إلاّ طهارة ملاقيه ، وحينئذ فكما تتحقّق المعارضة بين استصحاب طهارة الاناء التالف واستصحاب طهارة طرفه ، فكذلك تتحقّق المعارضة بين قاعدة الطهارة في الاناءين.

وإن شئت فقل : إنّ الحكم بطهارة الثوب المستند إلى طهارة الاناء التالف ، يكون معارضاً بقاعدة الطهارة في الاناء الموجود ، وبعد التعارض والتساقط نحكم بطهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة فيه في نفسه ، وهي في هذه المرحلة لا معارض لها ، وإن كانت طهارته في المرحلة الثانية - أعني بذلك طهارته الحاصلة من إجراء قاعدة الطهارة في الاناء التالف - مورداً للمعارضة. ولا فرق في ذلك بين القاعدة والاستصحاب.

وما أُفيد من عدم صلاحية التالف لجعل الحلّية الظاهرية ، إنّما يتمّ إذا كان المراد إجراءها فيه لمحض إثبات حلّية نفسه ، أمّا لو أُريد بها إثبات آثارها من حلّية ما يتفرّع عليه ، فلا مانع من جعلها للتالف بالقياس إلى هذا الأثر الفعلي المترتّب على حلّيته الظاهرية ، كما أفاده في الاستصحاب حرفاً بحرف ، ولأجل ذلك عدل في المستمسك (1) عن هذا التخصيص ، وأفاد أنّه لا مانع من جريان قاعدة الطهارة في التالف باعتبار الأثر في ملاقيه ، فتقع المعارضة بينها فيه وفي طرفه.

ويمكن أن يكون نظر المقالة إلى شرح مطلب الكفاية في مبحث اقتضاء الأمر الظاهري الاجزاء من قوله : والتحقيق أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو

ص: 57


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 260.

شرط التكليف أو شطره (1) فراجع. وحاصل ذلك : هو أنّ بعض الأُصول يكون مفاد لسانه جعل الحكم على المشكوك ، فكما يجعل الشارع الطهارة للماء بعنوانه الأوّلي مثلاً ، فكذلك يجعلها للشيء بعنوان كونه مشكوكاً ، وفي الحقيقة تكون حكماً واقعياً ثانوياً لاحقاً للشيء بعنوان كونه مشكوكاً ، ولذلك يقول في الكفاية إنّه لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، بل يكون من قبيل التبدّل من حينه. وبعض الأُصول يكون مفاده التنزيل ، بأن يكون مفاده نزّل هذا المشكوك منزلة الطاهر في ترتيب آثار الطاهر عليه ، فيكون حال قوله عليه السلام : كلّ شيء لك طاهر أو حلال ، حال قوله عليه السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (2) والمعنى الأوّل لا يتأتّى في التالف ، لعدم قابليته لجعل الحكم ، بخلاف المعنى الثاني.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل لا ينافي الحكومة ، لأنّ جعل الطهارة للشيء المشكوك يوجب الحكم بطهارة ملاقيه ، فيكون هذا الجعل في الملاقى - بالفتح - حاكماً على قاعدة الطهارة في الملاقي - بالكسر - ، ومع ذلك لا يكون مفاده إلاّ جعل الطهارة للملاقى - بالفتح - المفروض كونه مشكوك الطهارة ، ولأجل ذلك ينحصر مورده بالموجود ولا يجري في التالف. وهذا المعنى من الجعل هو الذي أشار إليه بقوله في المقالة : مثل قاعدة الحلّية على وجه.

وأمّا وجه العدول عن التمثيل بقاعدة الطهارة إلى التمثيل بقاعدة الحل ، فلعلّه هو كون قاعدة الحل في نظره أقرب إلى هذا اللسان من قاعدة الطهارة ، وأنّ لسان قاعدة الطهارة أقرب إلى التنزيل من كونه جعلاً للحكم في مورد الشكّ ، ولكن الفرق لا يخلو عن تأمّل مع فرض كون لسان الدليل فيهما واحداً.

ص: 58


1- كفاية الأُصول : 86 ( نقل بالمضمون ).
2- مستدرك الوسائل 9 : 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2.

بقي الكلام في الايراد المتقدّم (1) على ما أفاده الشيخ قدس سره من قيام الملاقي - بالكسر - مقام التالف الملاقى فيما لو حصلت الملاقاة والتلف ثمّ حصل العلم الاجمالي (2).

ويمكن الجواب عنه : بأنّك قد عرفت أنّ الحكم بطهارة الثوب الملاقي للاناء المستند إلى قاعدة الطهارة في الاناء يكون من آثار قاعدة الطهارة في الاناء ، بمعنى أنّه يحكم بطهارة الاناء ، وحيث إنّ طهارته موضوع لطهارة الثوب ، يكون الثوب بهذه الواسطة محكوماً بالطهارة ، فيكون الثابت أوّلاً بواسطة قاعدة الطهارة في الاناء هو طهارة الاناء ، وبواسطة ذلك وعنه يتفرّع الحكم بطهارة الثوب ، فتكون طهارته المذكورة واقعة في الدرجة الثانية من طهارة الاناء ومتأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه ، وهذا التأخّر هو الذي ولّد حكومة قاعدة الطهارة في الاناء على قاعدة الطهارة في الثوب ، بحيث إنّه بعد جريان قاعدة الطهارة في الاناء يزول الشكّ في طهارة الثوب ، ويكون حكمه الطهارة الناشئة عن طهارة الاناء لا الطهارة الناشئة عن كونه - أعني الثوب - مشكوك الطهارة ، وعندما يكون الاناء موجوداً تكون قاعدة الطهارة فيه معارضة بمثلها في الاناء الآخر فتسقط ،

ص: 59


1- في الصفحة : 55.
2- وهذا الايراد إنّما وجّهه على الشيخ قدس سره باعتبار اعتماده في التنجيز على تعارض الأُصول ، أمّا بناءً على مسلك المورد - أعني صاحب المقالة قدس سره - فلا إشكال عنده في قيام الملاقي - بالكسر - مقام الملاقى ، باعتبار العلم الاجمالي بالنجاسة بينه وبين طرف أصله مع فرض كون أصله خارجاً عن محل الابتلاء قبل العلم الاجمالي ، وبناءً على ذلك لو عاد الأصل إلى محلّ الابتلاء لا يجب الاجتناب عنه ، من جهة كون طرفه في العلم الاجمالي الحادث برجوعه إلى محلّ الابتلاء قد تنجّز فيه التكليف بالعلم الاجمالي السابق عندما كان هو - أعني الأصل - خارجاً عن محلّ الابتلاء [ منه قدس سره ].

وبسقوطها ينعدم أثرها في الثوب ، لا أنّ أثرها في الثوب كان هو مع طهارة نفس أصله مورد المعارضة مع قاعدة الطهارة في طرف أصله ، بل إنّ مورد المعارضة مقصور على طهارة أصله.

وإن شئت فقل : إنّ مورد المعارضة هو الحكم الأوّل من قاعدة الطهارة في الأصل ، وأنّ الحكم الثاني لها وهو الطهارة في الفرع خارج عن مورد المعارضة وإنّما سقط لسقوط أصله ، وبعد سقوط الفرع - أعني الطهارة في الثوب الناشئة عن الطهارة في الاناء - يكون الثوب مشكوكاً ، فيكون هو بنفسه مورداً لقاعدة الطهارة ، وهي فيه بلا معارض. هذا كلّه لو كان الاناء الملاقى - بالفتح - موجوداً.

وأمّا لو كان قد تلف ، فلا إشكال في أنّه لا مورد فيه لقاعدة الطهارة من حيث أثرها الأوّل ، بل يبقى جريانها فيه باعتبار أثرها الثاني وهو طهارة الثوب المستندة إلى طهارة الاناء ، وهي أعني طهارة الاناء بهذا الأثر الثاني مورد المعارضة بها في الطرف الآخر فتسقط ، ولكن بسقوطها يسقط الحكم بطهارة الثوب بقول مطلق حتّى الطهارة التي هي من ناحية كونه مشكوكاً وكونه بنفسه مورداً لقاعدة الطهارة ، فإنّ الحكم بطهارة الثوب من أيّ مدرك كان يكون معارضاً للحكم بطهارة الطرف الآخر.

ولعلّ هذا أهون ممّا التزم به شيخنا قدس سره (1) من سقوط استصحاب الطهارة وقاعدتها في قبال قاعدة الطهارة في الطرف الآخر مع الطولية بينهما فيما لو كان أحد طرفي العلم الاجمالي مورداً لاستصحاب الطهارة وكان الطرف الآخر مورداً لقاعدة الطهارة ، لإمكان منع الطولية فيما نحن فيه ، فإنّ طهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة في الاناء وإن كانت في طول طهارة الاناء ، إلاّ أن طهارة الثوب

ص: 60


1- فوائد الأُصول 4 : 47 - 49.

المستندة إلى قاعدة الطهارة فيه ليست في طول طهارته المستندة إلى طهارة الاناء. ولو سلّمنا كونها في طولها نظراً إلى حكومة طهارة الاناء على طهارة الثوب ، لم يكن ذلك بمانع من الجري في هذه المسألة على ما جرى عليه شيخنا في تلك المسألة من سقوط كلّ من استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة دفعة واحدة في قبال قاعدة الطهارة في الطرف الآخر.

ولسنا نريد أن نقول : إنّ قاعدة الطهارة في الثوب تسقط بسقوط قاعدة الطهارة في الاناء كي يفرق بين ذلك وبين المثال بأنّ ما نحن فيه من قبيل الموضوعين ، والمدّعى هو السقوط في الموضوع الواحد كما أفاده شيخنا قدس سره ، بل نريد أن نقول إنّ طهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة في الاناء ، وطهارته المستندة إلى قاعدة الطهارة في نفسه يسقطان معاً بمعارضة قاعدة الطهارة في الاناء الآخر ، وهما حكمان لموضوع واحد وهو الثوب ، لا أنّ أحدهما في موضوع والآخر في موضوع آخر.

لا يقال : يرد على هذا الجواب أنّ لازمه هو أنّه في صورة بقاء الاناء الملاقى يكون الحكم بطهارة الثوب مستنداً إلى قاعدة الطهارة في الاناء باعتبار أثرها الثاني وإن سقط أثرها الأوّل بالمعارضة.

لأنّا نقول أوّلاً : لا مانع من الالتزام بذلك. وثانياً : أنّ قاعدة الطهارة في الاناء ما دام موجوداً تجري فيه بحسب أثرها الأوّل ويتبع ذلك أثرها الثاني لكونه في طوله ، لإمكان جعل الأثر الأوّل ما دام الاناء موجوداً ، غايته أنّها تسقط بالمعارضة فيسقط أثرها الثاني ، فلا معنى للقول بأنّها بعد سقوط أثرها الأوّل بالمعارضة يبقى لها الأثر الثاني ، وهذا بخلاف صورة التلف ، فإنّ وجه جريانها ينحصر في الأثر الثاني وهو الحكم بطهارة ملاقيه ، فتجري وتسقط بالمعارضة ، وبسقوطها من

ص: 61

حيث هذا الأثر - أعني طهارة الثوب - يسقط أيضاً الحكم بطهارته من جهة كونه مشكوك الطهارة ، وسيأتي له مزيد إيضاح وتحقيق إن شاء اللّه تعالى. هذا كلّه في حالة خروج الأصل عن الابتلاء.

وأمّا لو عاد بعد ذلك ، فالظاهر أنّ الأمر كما أفاده في الكفاية (1) من عدم وجوب الاجتناب عنه ، ولا تجري فيه نظرية شيخنا قدس سره (2) من كون المدار على تقدّم المعلوم ، فإنّ النجاسة في الأصل وإن كانت سابقة ، إلاّ أنها كما عرفت ليست هي المدار في التنجّز ، بل المدار إنّما هو على التكليف الناشئ عنها وهو وجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ هذا التكليف إنّما يتوجّه أو إنّما يكون فعلياً ملقىً على عاتق المكلّف إذا كان داخلاً في محلّ الابتلاء المفروض أنّه بعد العلم الاجمالي السابق وبعد الوجوب المعلوم في ذلك العلم السابق ، وحينئذ لا يكون العلم الثاني المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو مؤثّراً ، لكونّه هو ومعلومه متأخّرين عن العلم الأوّل ومعلومه ، وحينئذ يكون إناء زيد بعد رجوعه إلى محل الابتلاء مورداً لقاعدة الطهارة ، وهي - أعني قاعدة الطهارة الجارية فيه بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء - لا تكون حاكمة على قاعدة الطهارة في الثوب ، التي جرت فيه سابقاً وسقطت بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في إناء عمرو.

وإن شئت فقل : إنّ قاعدة الطهارة وإن جرت في إناء زيد بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء ، إلاّ أنا لا يمكننا أن نرتّب عليها إلاّ أثرها الأوّل أعني كون إناء زيد بنفسه يجوز شربه مثلاً ، أمّا أثرها الثاني وهو كون ملاقيه طاهراً فلا ، وذلك لأنّه لا يمكننا الحكم بطهارته ولو من هذه الجهة ، لا لكون ذلك معارضاً بقاعدة الطهارة

ص: 62


1- لاحظ كفاية الأُصول : 363.
2- فوائد الأُصول 4 : 86.

في إناء عمرو ، لأنّ المفروض سقوط قاعدة الطهارة في إناء عمرو بمعارضتها مع قاعدة الطهارة في الثوب نفسه ، بل لأنّ ذلك العلم الاجمالي الذي كان موجوداً عندما كان إناء زيد خارجاً عن الابتلاء ، يكون مانعاً من أي مرخّص في ناحية الثوب ، ولو من ناحية جريان قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء.

نعم ، بناءً على أنّ المنشأ في التنجّز هو تعارض الأُصول ، لا مانع من اقتضاء قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء الحكم بطهارة ملاقيه ، وإن كانت قاعدة الطهارة في الثوب نفسه ساقطة بالتعارض ، وعليه فيكون الحكم في هذه الصورة هو جواز ارتكاب كلّ من الملاقي والملاقى ، وهو غريب ، إلاّ أن نقول كما تقدّم : إنّ الثوب في حال كون إناء زيد خارجاً عن الابتلاء قد سقط الحكم فيه بالطهارة بقول مطلق ، سواء كان منشأ ذلك هو قاعدة الطهارة فيه أو قاعدة الطهارة التي يراد إجراؤها في إناء زيد بعد رجوعه إلى الابتلاء ، وحينئذ يبقى أثر قاعدة الطهارة في إناء زيد منحصراً بجواز شربه ، ولا يتعدّى إلى طهارة ملاقيه على كلّ من القولين : القول بكون العلم علّة ، والقول بكون العلّة هي التعارض.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن إناء زيد خارجاً عن محلّ الابتلاء ، فإنّ الحكم بطهارته بكلا أثريها اللذين هما جواز شربه وطهارة ملاقيه المؤثّرة في جواز الصلاة فيه وإن كانا طوليين ، يكون معارضاً بالحكم بطهارة إناء عمرو ، وحينئذ تسقط قاعدة الطهارة في إناء زيد بكلا أثريها وإن كانا طوليين ، ولكن سقوط الأثر الثاني في هذه المرحلة لا يوجب سقوط الحكم بطهارة الثوب بالطهارة الأصلية الناشئة عن كونه في حدّ نفسه مشكوك الطهارة ، لأنّ مدرك طهارة الثوب التبعية التي هي عبارة عن الأثر الثاني لقاعدة الطهارة في الماء إنّما هو قاعدة الطهارة في

ص: 63

الماء ، ومدرك الحكم بطهارة الثوب الاستقلالية إنّما هو قاعدة الطهارة في الثوب لا في الماء ، فكان من قبيل اختلاف الموضوع في الحاكم والمحكوم ، بخلاف إجراء قاعدة الطهارة في إناء زيد بعد تلفه ، الممحّض للأثر الثاني وهو طهارة ملاقيه ، فإنّ سقوطه موجب لسقوط قاعدة الطهارة فيه.

والحاصل : أنّ الطهارة الظاهرية في الثوب الناشئة عن الطهارة الظاهرية في أصله في صورة وجود الأصل ، لا تكون إلاّتبعية ، وسقوطها لا يوجب سقوط الطهارة الظاهرية الاستقلالية ، بخلاف الطهارة الظاهرية في الثوب الناشئة عن الحكم بطهارة أصله في صورة انعدام الأصل وانحصار أثر طهارته بهذه الطهارة أعني طهارة الثوب ، فإنّها تكون بمنزلة أصل مستقل ممحّض للحكم بطهارة الثوب ، فعند سقوطه يسقط فيه كلّ أصل يوجب الحكم بطهارته الظاهرية.

ويمكن أن يقال : إنّ قاعدة الطهارة في إناء زيد حينما كان خارجاً عن محلّ الابتلاء ، لمّا سقطت ولو باعتبار أثرها الثاني الذي هو طهارة الثوب ، لا يمكن إجراؤها فيه ثانياً بعد رجوعه إلى محلّ الابتلاء ولو باعتبار أثرها الأوّل الذي هو جواز شربه ، والمسألة مبنية على إمكان التبعيض في الآثار في مقام التعارض بين الأُصول وعدم إمكانه ، بدعوى أنّ سقوط الأصل بالتعارض يوجب سقوط تمام آثاره ، بحيث إنّه لا يعود ثانياً باعتبار أثر بعد فرض أنّه بنفسه قد سقط قبل هذا باعتبار أثر آخر كان جريانه ممحّضاً له ، فتأمّل.

لكن لو تمّ هذا لأمكن الرجوع في جواز شربه حينئذ إلى أصالة البراءة ، إذ لا مانع منها لا من ناحية العلم الاجمالي الحادث بعد عوده إلى الابتلاء ، لسبقه بتنجّز طرفه الذي هو إناء عمرو ، ولا من ناحية التعارض ، لأنّ المفروض أنّ إناء عمرو قد سقط فيه كلّ أصل مسوّغ للارتكاب بالتعارض مع الثوب قبل رجوع إناء زيد

ص: 64

إلى محلّ الابتلاء حتّى البراءة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه التشكيكات إنّما نشأت من جهة الطولية بين الآثار في الأصل الذي هو إناء زيد والفرع الذي هو الثوب الملاقي له ، وإلاّ فلو علم بوقوع نجاسة إمّا في إناء زيد وإناء خالد معاً ، وإمّا في إناء عمرو ، وكان إناء زيد إذ ذاك خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ثمّ بعد ذلك عاد إلى محلّ الابتلاء ، سواء كان رجوعه إلى محلّ الابتلاء بعد فقدان إناء خالد ، أو كان رجوعه مع بقاء إناء خالد ، فإنّه على الظاهر لا أثر لرجوعه ، ويكون المرجع فيه هو قاعدة الطهارة ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ صاحب المقالة ملتزم بأنّ رجوع الأصل إلى محلّ الابتلاء لا يوجب الاجتناب عنه ، لأنّ العلم الاجمالي الذي كان موجوداً بين فرعه وطرفه قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء قد نجّز الحكم في طرفه ، فلا يكون العلم الاجمالي الحادث بعد رجوعه بينه وبين طرفه منجّزاً ، فلا مانع عنده من الرجوع فيه حينئذ إلى قاعدة الطهارة على ما مرّ تفصيل الكلام فيه.

قال الأُستاذ المرحوم العراقي قدس سره فيما حرّرته عنه في الدرس ، بعد أن بيّن الوجه في جريان قاعدة الطهارة في الملاقي - بالكسر - على القول بكون العلم مقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، ما هذا لفظه (1) : وأمّا إذا قلنا بأنّه علّة تامّة ، وأنّه لا يجوز ارتكاب بعض الأطراف حتّى لو لم تكن الأُصول في الطرفين ساقطة بالتعارض ، فيشكل الأمر فيما نحن فيه ، فإنّ الأصل في الملاقي - بالكسر - وإن كان بعد تساقط الأصلين في الطرفين بلا معارض ، إلاّ أن الملاقي - بالكسر - لمّا كان طرفاً للعلم الاجمالي بينه وبين ذلك الطرف المقابل للملاقى - بالفتح - ، وكان العلم الاجمالي علّة تامّة في سقوط الأصل وإن كان بلا معارض ، فمقتضى ذلك

ص: 65


1- فيما حرّرته عنه في درس ليلة 26 ذي القعدة 1340 [ منه قدس سره ].

عدم جواز الارتكاب في الملاقي - بالكسر - ، وحينئذ فلابدّ من إعمال حيلة موجبة لسقوط العلم الاجمالي بالنجاسة بين الملاقي - بالكسر - وبين ذلك الطرف عن التنجّز ، فنقول : إنّ الصور في المقام ثلاث :

إحداها : هي الصورة الواضحة ، وهي ما إذا حصل العلم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ثمّ علم بملاقاة شيء لإناء زيد ، ففي هذه الصورة يحصل لنا علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة إناء عمرو وإمّا بتنجّس ذلك الشيء الملاقي لإناء زيد ، والعلم الثاني يكون متأخّراً في الرتبة عن العلم الأوّل ، لكونه معلولاً له ، فكما أنّ علمك التفصيلي بنجاسة إناء زيد وعلمك بملاقاة ذلك الشيء له ، يكون علّة للعلم التفصيلي بتنجّس ذلك الشيء ، فكذلك علمك الاجمالي بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو وعلمك بملاقاة ذلك الشيء لإناء زيد ، يكون علّة للعلم الاجمالي بنجاسة إناء عمرو أو تنجّس ذلك الشيء.

وإذا ثبت أنّ العلم الاجمالي الثاني متأخّر في الرتبة عن العلم الاجمالي الأوّل ، فنقول : إنّ التكليف على تقدير كونه في إناء عمرو فهو منجّز في رتبة العلم الاجمالي الأوّل ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً في تنجّز التكليف في ذلك الشيء الملاقي لإناء زيد ، لما تقدّم من أنّه لابدّ في تنجيز العلم الاجمالي من أن يكون تنجّز التكليف في كلّ واحد من الطرفين مستنداً إلى ذلك العلم الاجمالي ، والمفروض أنّ التكليف في إناء عمرو لا يستند تنجّزه إلى العلم الثاني ، بل إنّما يستند إلى العلم الأوّل ، فلا يكون تنجّز متعلّق العلم الاجمالي الثاني مستنداً إليه على كلّ تقدير ، إلى أن قال :

الصورة الثانية : هي عكس الصورة الأُولى ، وهي ما لو علم إجمالاً إمّا

ص: 66

بنجاسة إناء عمرو أو ذلك الشيء ، وعلم أنّ المستند في نجاسة ذلك الشيء على تقدير كونه هو النجس المعلوم ليس إلاّملاقاته لإناء زيد ، ففي هذه الصورة أيضاً يحصل لنا علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة [ إناء ] عمرو أو بنجاسة إناء زيد ، والعلم الثاني متأخّر في الرتبة عن الأوّل ، لكونه معلولاً له ، فكما أنّك إذا علمت تفصيلاً بنجاسة ذلك الشيء وعلمت أنّه لا مستند لنجاسته إلاّملاقاته لإناء زيد ، يكون علمك المذكور علّة لعلمك بنجاسة إناء زيد ، فكذلك علمك الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، وعلمك بأنّ ذلك الشيء على تقدير كونه هو النجس لا مستند له إلاّملاقاته لإناء زيد ، يكون علّة لعلمك الاجمالي إمّا بنجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً في تنجّز وجوب الاجتناب عن إناء زيد بالتقريب المتقدّم ، ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح -.

الصورة الثالثة : أن يكون العلمان معلولين لعلّة ثالثة ، فيكونان في مرتبة واحدة. وفي الحقيقة يكون العلمان علماً واحداً مردّداً بين طرف واحد وطرفين كما لو أخبر الصادق بنجاسة إناء عمرو أو نجاسة إناء زيد وذلك الشيء ، وأنّ نجاسة ذلك الشيء على تقديرها لا مستند لها إلاّملاقاته لإناء زيد ، ففي هذه الصورة أيضاً يكون لنا في الصورة علمان إجماليان : أحدهما العلم الاجمالي إمّا بنجاسة إناء زيد أو نجاسة إناء عمرو ، والآخر العلم الاجمالي إمّا بنجاسة ذلك الشيء أو نجاسة إناء عمرو ، إلاّ أنه لمّا لم يكن أحد العلمين معلولاً للآخر ، بل كان كلاهما معلولين لعلّة ثالثة وهي إخبار ذلك الصادق ، لم يكن أحدهما متقدّماً في الرتبة على الآخر ، بل كان كلّ منهما في رتبة الآخر. وفي الحقيقة لا يكون لنا

ص: 67

إلاّ علم واحد مردّد بين الواحد والاثنين ، فيكون التكليف في كلّ من الثلاثة منجّزاً بالعلم المذكور ، ففي هذه الصورة يجب الاجتناب عن كلا المتلاقيين.

فظهر لك أنّ المدار في وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى - بالفتح - أو بالعكس أو عنهما ، على كون أحد العلمين متأخّراً عن الآخر ومعلولاً له ، أو كونهما في رتبة واحدة ومعلولين لعلّة ثالثة. وأمّا تقدّم العلم بالملاقاة على العلم بالنجاسة أو تأخّره عنه أو حدوثهما دفعة واحدة فلا أثر له فيما نحن بصدده ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

وقد ذكر عين هذا التفصيل في مقالته المطبوعة ، بقوله : ثالثها : في أنّ العلم الحاصل بمعلول شيء الخ (1) ، وأفاد فيها أنّ العلم يكون علّة للتنجّز ، فيكون التنجّز متأخّراً عنه وإن كان معلومه سابقاً على العلم ، إلى آخر ما أفاده فيها. ووجهه واضح ، من جهة أنّ العلم وإن كان طريقاً إلى متعلّقه ، إلاّ أنه بالنسبة إلى تنجّز متعلّقه يكون علّة وموضوعاً ، فيستحيل تقدّم التنجّز عليه ، فلو تعلّق العلم بنجاسة الثوب كان تنجّز أحكام نجاسته متأخّراً عن العلم بها ، وإن كانت تلك النجاسة معلولة لنجاسة الاناء الذي هو الملاقى - بالفتح - ، المفروض سبقها على العلم بنجاسة الثوب ، فلا يكون المدار في التنجّز على سبق المعلوم كما ربما يظهر من التحرير عن شيخنا قدس سره (2) ، بل المدار في التنجّز على سبق العلم.

وقال شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه في مقدّمة الكلام على صور تلف الملاقى - بالفتح - وأنّ الملاقي - بالكسر - يقوم مقامه : وتنقيح الحكم في هذه الأقسام الثلاثة يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ العلم وإن كان طريقاً للأحكام

ص: 68


1- مقالات الأُصول 2 : 248.
2- فوائد الأُصول 4 : 86 - 87.

الشرعية ، إلاّ أنه بالنسبة إلى الأحكام العقلية كالتنجّز وتعارض الأُصول وتساقطها يكون على نحو الموضوعية. وبذلك صرّح فيما نقله عنه قدس سره في هذا التحرير فيما يأتي في مبحث الاضطرار (1) ، فراجع.

وحينئذ يتفرّع على ذلك : أنّه لو حصل العلم الاجمالي أوّلاً بين نجاسة الثوب وإناء عمرو ، ثمّ حصل العلم الاجمالي ثانياً بين نجاسة إناء زيد وإناء عمرو ، وأنّ علّة نجاسة الثوب على تقديرها هو نجاسة إناء زيد الذي قد لاقاه الثوب ، لم يكن هذا العلم الاجمالي الثاني مؤثّراً ، لسبقه بتنجّز نجاسة إناء عمرو بواسطة العلم الاجمالي الأوّل ، وإن كان المعلوم فيهما على العكس من العلم ، لتأخّر المعلوم في الأوّل رتبة عن المعلوم في الثاني.

ومنه يظهر الحال فيما لو فرض كون العلمين معلولين لعلّة ثالثة ، وهي الصورة الثالثة ممّا حرّرناه عنه في الدرس ، وهي التي أشار إليها في المقالة بقوله : ومن هذا البيان ظهر حال عرضية العلمين كما فرضناه ، فإنّه حينئذ يجب الاجتناب عن المعلوم الملزوم واللازم كليهما الخ (2) ، فراجعه إلى آخر المبحث ، هذا.

ولا يخفى أنّ ما نقلناه عنه في الدرس صريح في أنّ المدار على التقدّم الرتبي بين العلمين ، ولذا التزم (3) في الصورة الثانية أعني ما لو تقدّم العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو ثمّ حصل العلم بملاقاة الثوب لإناء زيد وأنّه لو كان الثوب هو النجس لكان المستند في نجاسته هو نجاسة ما لاقاه الثوب أعني إناء زيد ، فيكون العلم المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو علّة للعلم بنجاسة إناء زيد أو إناء

ص: 69


1- فوائد الأُصول 4 : 95.
2- مقالات الأُصول 2 : 250.
3- [ لم يُذكر متعلّق « التزم » في العبارة ، لكن المقصود واضح ].

عمرو ، ويكون الانتقال من العلم الأوّل إلى العلم الثاني من قبيل الانتقال الإنّي ، بخلافه في الصورة الأُولى فإنّ الانتقال من العلم بنجاسة أحد الاناءين إلى العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو انتقال من العلّة إلى المعلول ، فيكون الانتقال فيه لمّياً. كما أنّ الذي يظهر من عبارة المقالة أنّ التقدّم رتبي أيضاً ، وأنّ المدار في الفرق بين الصورتين هو التقدّم الرتبي (1).

وعلى أي حال ، فيمكن الجواب عنه بما حاصله : أنّ المقام في الصورة الثانية من قبيل انكشاف الخطأ في العلم السابق على نحو الشكّ الساري ، فإنّه وإن حصل له العلم المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو ، إلاّ أنه بعد الاطّلاع على أنّه لا مستند لنجاسة الثوب لو كان هو النجس إلاّملاقاته لإناء زيد ، ينكشف لديه أنّه ليس المقابل لاناء عمرو هو الثوب ، بل إنّ المقابل له هو إناء زيد ، وأنّ نجاسة الثوب ليست في قبال إناء عمرو ، بل إنّما هي متفرّعة على نجاسة إناء زيد لو كان هو النجس.

وبذلك يتبيّن له أنّ النجاسة المتردّدة إنّما هي بين إناء زيد وإناء عمرو ، وأنّ الثوب ليس في الحقيقة أحد طرفي العلم ، وإنّما هو موضوع جديد من النجس مترتّب على تقدير كون النجس هو إناء زيد ، فإنّ الترديد بين الثوب وإناء عمرو ليس في عرض الترديد بين الاناءين ، بل إنّ الترديد بين الاناءين سابق في الرتبة على الترديد بين الثوب وإناء عمرو ، فلا يبقى أثر للترديد الثاني بين الثوب وإناء عمرو ، لأنّ أحد طرفيه وهو إناء عمرو كان أحد طرفي الترديد الأوّل ، وفي

ص: 70


1- لكن الظاهر من الكفاية [ 362 - 363 ] أنّ العبرة بالتقدّم الزماني وأنّه هو الفارق بين الصور الثلاث. وبناءً على ما أفاده صاحب المقالة أنّ الملاقي - بالكسر - لا يجب الاجتناب عنه في الصورة الثالثة التي ذكرها في الكفاية [ منه قدس سره ].

الحقيقة أنّ الترديد الثاني صوري لا واقعية له ، والترديد الحقيقي إنّما هو بين الاناءين ، فلو وقع أوّلاً الترديد الثاني وحصل بعده الترديد الأوّل ، ينكشف أنّ ما كان قد حصل له من الترديد الأوّل بين الثوب وإناء عمرو صوري لا واقعية له ، فيكون ذلك أشبه شيء بانكشاف الخطأ على نحو الشكّ الساري ، فينعدم العلم الأوّل ويرتفع أثره من التنجّز بين الثوب وإناء عمرو ، فلا يكون العلم الأوّل باقياً مع حصول العلم الثاني ، كي يقال إنّه يجتمع العلّتان على تنجّز نجاسة إناء عمرو ، ويكون استناد تنجّزه إلى الأوّل ترجيحاً بلا مرجّح.

ولا يخفى أنّ كلمات شيخنا قدس سره في مقام ردّ ما أفاده صاحب الكفاية وإن كان ظاهر الكثير منها منصبّاً على أنّ المدار في التنجّز على سبق المعلوم وتأخّره ، وأنّ العلم طريق محض كما أشرنا إليه ، إلاّ أن الكثير منها صريح في أنّ العلم الثاني في الصورة الثانية يوجب انعدام الأوّل بنحو انكشاف الخلاف أو الشكّ الساري بالنحو الذي عرفته ، فلا يتوجّه ما أشرنا إليه وصرّح به في المقالة من كون العلم علّة في التنجّز ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الأُستاذ العراقي قدس سره فيما حكيناه عن درسه ، جعل ملاك الفرق بين الصور الثلاث هو التقدّم والتأخّر الرتبي بين العلمين ، بل إنّ كلامه في المقالة أيضاً ناظر إلى ذلك. نعم إنّ صاحب الكفاية جعل الملاك هو التقدّم الزماني بين العلمين.

وأمّا التقدّم الرتبي بين المعلومين كما يظهر من شيخنا قدس سره الاعتماد عليه في عدم تأثير أحد العلمين ، فقد أورد عليه في المستمسك (1) بما حاصله : أنّ نجاسة الملاقي - بالكسر - وإن كانت متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى - بالفتح - ، إلاّ أن

ص: 71


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 254 - 255.

العلم بنفس النجاسة لا أثر له ما لم يترتّب عليها حكم تكليفي كوجوب الاجتناب ، ومن الواضح أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي - بالكسر - ليس بمتأخّر رتبة عن وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ، إذ لا علّية بينهما ولا معلولية ، وإنّما هي بين نجاستيهما.

ويمكن الجواب عن هذا الايراد بما تقدّم في الجواب عن الشبهة السابقة (1) وحاصله : أنّ نجاسة الثاني أعني الملاقي - بالكسر - من الأحكام الوضعية لنجاسة الأوّل أعني الملاقى - بالفتح - ، فتكون متأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه أو المسبّب عن سببه ، وحينئذ تكون هي في عرض وجوب الاجتناب عن الأوّل من آثار نجاسة الأوّل ، فيكون وجوب الاجتناب عن الثاني متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب عن الأوّل ، لأنّ ما هو متأخّر عمّا هو في عرض الشيء متأخّر عن نفس الشيء.

والحاصل : أنّ نجاسة الأوّل متقدّمة على نجاسة الثاني ، ونجاسة الثاني متقدّمة على وجوب الاجتناب عنه ، فيكون هو - أعني وجوب الاجتناب عن الثاني - واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل (2) فيكون متقدّماً عليه رتبة وإن لم يكن بين نفس الوجوبين علّية ولا معلولية ، فيكون العلم الاجمالي المنجّز لوجوب الاجتناب عن الأوّل سابقاً في الرتبة على العلم الذي نريد أن نجعله منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الثاني ، وحينئذ يكون تنجّز وجوب الاجتناب في

ص: 72


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 36 وما بعدها.
2- [ تقدّمت هذه العبارة في الصفحة : 28 وقد ورد فيها : فيكون هو - أعني وجوب الاجتناب عن الثاني - واقعاً في الدرجة الثالثة من نجاسة الأوّل ، ويكون وجوب الاجتناب عن الأوّل واقعاً في الدرجة الثانية من نجاسة الأوّل ... ].

طرف الأوّل سابقاً في الرتبة على مقتضى العلم الثاني بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - ، فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً ، لكون الوجوب في أحد طرفيه الذي هو طرف الأوّل متنجّزاً بالعلم الأوّل بين الملاقى - بالفتح - وطرفه.

ولكن هذه المسألة - أعني تأخّر ما هو متأخّر عمّا هو في رتبة الشيء عن نفس ذلك الشيء - من المشكلات ، وقد تعرّضنا لها في أوائل مسألة الضدّ في الحاشية على ص 216 من التحريرات المطبوعة في صيدا (1) ، وفي أوائل حجّية القطع من هذا الكتاب في مسألة أخذ العلم بالحكم موضوعاً ، فراجعه في حاشية ص 6 من هذا التحرير (2).

وحاصله : أنّ الشيئين إمّا أن يكون أحدهما في طول الآخر كما إذا كان معلولاً له ، وإمّا أن يكون أحدهما في عرض الآخر كما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة ، وإمّا لا يكون أحدهما في طول الآخر ولا في عرضه ، كما إذا لم يكن بينهما ربط العلّية ولا ربط المعلولية كالكتاب والدار مثلاً.

إلاّ أن يقال : إنّ العرضية هي عبارة عن عدم الطولية. ولا يخفى ما فيه ، فنقول : إنّه لو كان ألف مثلاً علّة لكلّ من الباء والجيم ، وكان الجيم علّة لدال ، فهل يكون الدال في عرض الباء لعدم العلّية والمعلولية بينهما ، أو أنّهما لا يكونان إلاّ مثل الكتاب والدار في أنّه لا طولية بينهما ولا عرضية ، أو أنّ تأخّر الدال عن الجيم بحسب الرتبة يكون موجباً لتأخّره رتبة عن الباء ، لأنّ صقع الباء هو صقع الجيم ، والمفروض أنّ صقع الدال متأخّر عن صقع الجيم ، فيكون قهراً متأخّراً عن صقع الباء ، وبناءً على ذلك نقول إنّه لو كان للباء معلول يكون الدال واقعاً في مرتبة ذلك

ص: 73


1- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 128.
2- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 40.

المعلول ، لأنّ كلاً من المعلولين يكون متأخّراً عن علّته ، والعلّتان وهما الباء والجيم واقعان في عرض واحد لكونهما معاً معلولين لألف.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب الاجتناب في الملاقي - بالكسر - وإن لم يكن متأخّراً في الرتبة عن وجوب الاجتناب في الملاقى - بالفتح - ، إلاّ أنه لا أقل من التلازم بينهما ولو لم يكن بينهما طولية ، وحينئذ يتمّ ما أفاده في المقالة من تقدّم أحد العلمين على الآخر ، كما لو علم أوّلاً بوجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - فإنّه ينتقل عنه إلى ملازمه وهو وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر -. ولو كان الذي علمه أوّلاً هو وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - ، كان الأمر بالعكس. نعم لو حصل العلم بهما دفعة لم يكن العلم بأحدهما متقدّماً رتبة على الآخر.

ويظهر أثر ذلك في الصورة الثالثة ممّا ذكره في الكفاية فيما لو كان العلمان يقترنان زماناً ، فإنّه بناءً على طولية المعلومين يكون في البين تقدّم رتبي للعلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو على العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، كما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى شرحه ، بخلاف ما لو أنكرنا التقدّم الرتبي بين المعلومين وقلنا بأنّهما من قبيل المتلازمين فقط ، فإنّه حينئذ لا يكون لأحد العلمين في الصورة المزبورة تقدّم رتبي على الآخر.

هذا ما يتعلّق بالتقدّم الرتبي ، وأمّا ما يتعلّق بالتقدّم الزماني الذي هو مسلك الكفاية فقد نقله في المستمسك ونقل بعض الايرادات عليه وأجاب عنها. فالأولى نقل ذلك ، فنقول بعونه تعالى :

قال في المستمسك : وقد يشكل بأنّه إنّما يتمّ لو بني على أنّ العلم بحدوثه

ص: 74


1- في الصفحة : 84 وما بعدها.

يوجب تنجّز المعلوم إلى الأبد ... الخ (1).

قال شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، بعد أن ذكر التفصيل عن الكفاية ما هذا لفظه : ولا يخفى عليك أنّ هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنّه علم وصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف ، وإن تبدّلت صورته وانقلبت عمّا حدثت عليه ، لأنّه يكون المدار حينئذ على حال حدوث العلم ، فراجعه إلى قوله : فنقول إنّه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقاؤه على صفة حدوثه ، إلى آخر المبحث (2).

وهذه العبائر وإن كانت مقاربة لما عبّر به هذا المشكل في صدر الإشكال إلاّ أنّ مراد شيخنا قدس سره هو انقلاب العلم الأوّل في الصورة الثانية إلى العلم الثاني ، فلا يبقى أثر للعلم الأوّل. لكن مراد المشكل هو أنّ العلم الأوّل وإن كان سابقاً في الزمان ، إلاّ أنه بعد أن لحقه العلم الثاني يكون التنجّز مستنداً إليهما ، سواء كان السابق هو العلم بنجاسة الثوب أو إناء عمرو أو كان السابق هو العلم بين الاناءين إناء زيد الذي لاقاه الثوب وإناء عمرو.

لكن هذا المقدار من دعوى الاشتراك في التنجّز بين العلم السابق والعلم اللاحق ، لا يتناسب مع صدر الإشكال من أنّ حدوث العلم لا يوجب تنجّز المعلوم إلى الأبد ، إلاّ أن يكون المراد هو الاستقلال في التنجّز ، بمعنى أنّ العلم السابق وإن كان في حال حدوثه مستقلاً في التنجّز ، إلاّ أنه بعد حدوث العلم الثاني يخرج عن الاستقلالية ، ويكون التنجّز معلولاً لكلا العلمين ، فلو علم بالنجاسة

ص: 75


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 255.
2- فوائد الأُصول 4 : 86 - 87.

بين إناء زيد وإناء عمرو ثمّ علم بالنجاسة بين الثوب الملاقي لإناء زيد وبين إناء عمرو ، كان العلم الأوّل مستقلاً حال حدوثه في تنجّز نجاسة إناء عمرو ، إلاّ أن العلم الثاني المردّد بين الثوب وإناء عمرو بعد حدوثه يوجب استناد تنجّز نجاسة إناء عمرو إلى كلا العلمين ، فلا يبقى العلم الأوّل مستقلاً في تنجّز إناء عمرو ، كي لا يكون للعلم الثاني أثر في تنجّز تلك النجاسة في إناء عمرو ، بل يكون تنجّزها فيه مستنداً إلى كلا العلمين.

وهكذا الحال فيما لو كان العلم السابق هو المردّد بين الثوب وإناء عمرو ثمّ حدث العلم المردّد بين الاناءين.

وأجاب في المستمسك عن الإشكال المذكور بما حاصله : هو أنّ تبعية التنجّز للعلم حدوثاً وبقاءً لا تقتضي إلاّ استناد التنجّز إلى العلم الثاني.

ولا يخفى أنّ مقتضى التبعية هو استناد التنجّز إلى كلا العلمين ، لا انفراد الثاني في العلّية ، فإنّ العلم الأوّل إذا فرضنا عدم زواله بحدوث العلم الثاني ، كانا من قبيل اجتماع العلّتين لا استقلال العلم الثاني. ولعلّ مراده من الاستناد إلى العلم الثاني هو أنّ علّية الأوّل غير مانعة من علّية الثاني ، فيجتمع العلّتان ، ولأجل ذلك يكون ما نحن فيه من قبيل ما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث.

ثمّ إنّه فرّق بينهما بأنّ الانحلال ليس بعقلي بل هو عقلائي ، وفي تعبير الأُستاذ العراقي قدس سره (1) أنّه حكمي ، وقد جمع بينهما في المستمسك فقال : بل هو حكمي عقلائي (2).

وحينئذ يمكن الفرق بين المثال وبين ما نحن فيه ، ففي المثال لا يكون

ص: 76


1- لاحظ مقالات الأُصول 2 : 188.
2- مستمسك العروة الوثقى 1 : 258.

انحلال ، لأنّ العقلاء يرون العلم المذكور منجّزاً في أطرافه الثلاثة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ العقلاء لا يرون العلم المتأخّر منجّزاً بعد سبق العلم السابق في التنجّز. ومع قطع النظر عن هذه الجهة من الفرق لابدّ من الالتزام باشتراك اللاحق مع السابق في التنجّز ، ويكون تنجّز نجاسة إناء عمرو مستنداً إلى كلا العلمين ، ويكون ذلك من قبيل اجتماع العلّتين على معلول واحد ، ويكون حال السبق واللحوق كحال مقارنة أحد العلمين للآخر.

ولا يمكن الفرق بين صورة الاقتران وصورة السبق واللحوق ، بأنّ التنجّز في صورة الاقتران مستند إلى علم ثالث وهو القائم بين طرفين وطرف ثالث ، لأنّ هذا العلم الثالث عين العلمين ، لانحلاله إليهما ، فيكون حاله بالنسبة إليهما حال الكل بالنسبة إلى أجزائه كما يظهر بالتأمّل (1) ، فإنّ العلم بين المتلاقيين والطرف بمنزلة الكل ، والعلم بين الاناءين والعلم بين الثوب وإناء عمرو بمنزلة أجزاء ذلك الكل ، فيكون العلم الأوّل عين العلمين المذكورين.

لكن قد عرفت (2) فيما نقلناه عن الأُستاذ العراقي في الصورة الثالثة أنّ العلمين فيها يكونان مستندين إلى علّة ثالثة ، فلا يكون أحدهما في طول الآخر ، بل يكون كلّ منهما في عرض الآخر. نعم هذه طريقة أُخرى في توجيه الفرق بين الصورة الثالثة والصورتين الأُوليين ، وهي غير هذه الدعوى المبنية على الفرق بينهما بكون التنجّز في الصورة الثالثة مستنداً إلى علم ثالث ، فتأمّل.

ثمّ إنّه في المستمسك (3) اختار ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره من كون المدار على

ص: 77


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 256.
2- في الصفحة : 67.
3- مستمسك العروة الوثقى 1 : 257.

السبق الزماني ، فيجب في الصورة الأُولى الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وطرفه دون الملاقي - بالكسر - ، وفي الثانية يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - دون الملاقى - بالفتح - ، وفي الثالثة يجب الاجتناب عن الجميع ، بدعوى بناء العقلاء على ذلك في الأُوليين. أمّا الثالثة فلأنّ استناد التنجّز إلى أحد العلمين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيستند إليهما معاً ، ويكون الحال كما لو قسّم أحد الاناءين قسمين.

وأجاب عن دعوى الفرق بينهما بالتقدّم الرتبي فيما نحن فيه بخلاف التقسيم ، بما نقلناه عنه وتأمّلنا فيه ، فراجع.

ثمّ ذكر ما أفاده شيخنا قدس سره في الصورة الثانية بطريق إن قلت. والظاهر أنّه حمل ما أفاده شيخنا قدس سره على كون المدار في التنجّز على الواقع المعلوم استناداً إلى كون العلم طريقياً. وأجاب عنه بما يرجع إلى ما تقدّمت الاشارة إليه من كون العلم بالنسبة إلى التنجّز علّة وموضوعاً. ثمّ ذكر المعنى الثاني لما أفاده شيخنا قدس سره فيما ذكرناه سابقاً من انقلاب العلم على نحو انكشاف الخطأ بقوله : ودعوى كون العلم اللاحق الخ ، وأجاب عن هذه الدعوى بأنّها ليست أولى من دعوى العكس ، بل هي المتعيّنة ، لما قدّمه من الانحلال العقلائي وأنّ المدار فيها على السبق الزماني.

قوله في المستمسك : وقد عرفت أنّ انحلال اللاحق بالسابق ليس حقيقياً - إلى قوله - بل هو حكمي عقلائي ، بمعنى أنّه لا يكون حجّة عند العقلاء ، وإلاّ فالانحلال قد يكون بحجّة غير العلم من أمارة أو أصل - إلى قوله - وبالجملة : العلم إنّما يتعلّق بالصور الذهنية ولا يسري إلى الخارج ، فكيف يرفع أحد العلمين الآخر مع اختلاف الصورتين الخ (1)

ص: 78


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 258 - 259.

وقال المرحوم الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته المطبوعة في الردّ على القول بالانحلال الحقيقي : وفيه أوّلاً : بأنّ ذلك لا يتمّ في الطرق غير العلمية - إلى أن قال - ثمّ على فرض علمية الطريق لا يجدي وجوده في انقلاب المعلوم بالاجمال إلى التفصيلي ، إذ كلّ واحد من العلمين متعلّق بصورة غير الأُخرى ، إذ الصور الاجمالية مباينة مع التفصيلية ذهناً ، وإن كانا متّحدين أحياناً في الخارج - إلى أن قال - ولا يقاس المقام بباب الأقل والأكثر ، إذ الاجمال هناك في حدّي الأقل والأكثر ، وإلاّ ففي نفس الذات ما يتحقّق (1) من الأوّل إلاّعلم تفصيلي بالأقل والشكّ في الأكثر ، وأين هذا ومقامنا الذي كان الإجمال في نفس الذات باقياً على حاله وإن تحقّق علم تفصيلي بأحد الطرفين كما هو ظاهر ، وحينئذ فليس مقامنا بقول مطلق من باب الانحلال بنحو الحقيقة ، علمية كانت الطرق التفصيلية أم ظنّية ، وحينئذ فالتحقيق أن يقال : إنّه مع قيام المنجّز - أيّما كان - في أحد الطرفين ، يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثّرية في هذا الطرف ، فقهراً يصير جزء مؤثّر ، ومن البديهي أنّ شأن الجزئية خروجه عن الاستقلال في التأثير ، ولازمه عدم استقلاله على تأثيره في الجامع الاجمالي - إلى أن قال - وعليه فليس المقام بالنسبة إلى جميع أنحاء الطرق بل والأُصول المثبتة إلاّبمنوال واحد ، من كون الانحلال في الجميع حكمياً لا حقيقياً (2).

وحاصل ما أفاده في هذا التحقيق : هو أنّه إذا كان التكليف متنجّزاً في طرف معيّن من طرفي العلم الاجمالي بسبب هناك أوجب تنجّزه في ذلك الطرف ، لم

ص: 79


1- [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة « ما يحقّق » وفي الحديثة صحّحت ب- « ما تحقّق » ].
2- مقالات الأُصول 2 : 187 - 188.

يكن العلم الاجمالي بالنسبة إلى ذلك الطرف المعيّن تمام المؤثّر في التنجّز ، وأقصى ما في ذلك أن يكون التنجّز في ذلك الطرف المعيّن مستنداً إلى سببه الخاصّ به وإلى العلم الاجمالي المردّد بينه وبين الطرف الآخر ، فيكون العلم الاجمالي في ذلك الطرف المعيّن جزء المؤثّر ، وحينئذ لا يكون العلم الاجمالي في ذلك الطرف مستقلاً في التنجّز ، وإذا سقط عن الاستقلال في التنجّز في أحد الطرفين لم يعقل القول بكون العلم الاجمالي مستقلاً في التنجّز ، فإنّ لازم ذلك هو سراية الاستقلالية إلى كلّ واحد من الطرفين ، وقد عرفت عدم الاستقلالية في ذلك المعيّن ، فلابدّ أن نقول إنّ نفس العلم الاجمالي بما أنّه متعلّق بالقدر [ الجامع ] ليس له استقلالية التنجّز ، وإذا ثبت عدم استقلاله في التنجّز كان ذلك عبارة أُخرى عن كونه غير مؤثّر في الطرف الآخر ، وحينئذ يكون سقوطه عن التأثير عقلياً ، وحيث إنّه بعد باقٍ على ما هو عليه من الإجمال وعدم الانحلال الحقيقي ، نقول إنّه بحكم الانحلال الحقيقي في عدم تأثيره.

ولا يخفى أنّ من يقول بالانحلال في مسألة الأقل والأكثر ولو في غير الارتباطيين ، لا يقول بأنّ هناك علماً إجمالياً حقيقيّاً ، وأنّه انحلّ إلى العلم التفصيلي بالأقل والشكّ البدوي في الزائد ، بل يقول إنّه علم إجمالي صوري خيالي ، وأنّه لا واقعية إلاّللعلم التفصيلي بالأقل والشكّ البدوي في الزائد.

ومنه يعلم الحال في العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعيّن ، فإنّه أيضاً لا يكون العلم الاجمالي المردّد بينهما إلاّصورياً خيالياً ، وأنّه ليس في البين إلاّ العلم التفصيلي بنجاسة ذلك المعيّن والشكّ البدوي في نجاسة الطرف الآخر ، فلا يكون الانحلال إلاّحقيقياً ، بل لا يكون العلم الاجمالي إلاّصورياً كما عرفت ، وكيف يعقل بقاء صورة العلم

ص: 80

المردّد مع فرض العلم التفصيلي بنجاسة ذلك المعيّن ، كي يقال إنّهما اجتمعا في ذلك المعيّن ، فكان التنجّز فيه مستنداً إلى كلّ من العلم الاجمالي والتفصيلي ، ليكون سقوط العلم الاجمالي عن التأثير مستنداً إلى سقوطه عن الاستقلال في التنجّز ، وأنّه يعود بواسطة ذلك العلم التفصيلي إلى كونه جزء العلّة في التنجّز ، كي يقال إنّ الانحلال في ذلك حكمي أو أنّه عقلائي ونحو ذلك من العبارات.

نعم ، لو كان المنجّز التفصيلي في ذلك الطرف المعيّن هو غير العلم الوجداني ، بل كان هو أحد الطرق أو الأُصول المثبتة ولو من قبيل مجرّد المنجّز العقلي ، كما لو كان ذلك المعيّن من أطراف علم إجمالي آخر ، لم يكن الانحلال حقيقياً ، بل كان بحكم الانحلال إمّا بحكم الشارع كما لو كانت حجّية ذلك المنجّز شرعية ، أو بحكم الانحلال عقلاً كما لو كانت منجّزية ذلك المنجّز التفصيلي عقلية ، بأن كان أحد الطرفين مورداً لأصالة الاشتغال.

ومنه ما لو كان أحد الطرفين طرفاً لعلم إجمالي آخر ، مثل أن يعلم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ثمّ علم بنجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء خالد ، فإنّ هذا العلم الاجمالي الثاني منحل بحكم العلم الاجمالي الأوّل ، وما نحن فيه من العلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو والعلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب الملاقي لإناء زيد وبين إناء عمرو من هذا القبيل ، فيقال إنّ نجاسة إناء عمرو قد تنجّزت بالعلم السابق رتبة أو زماناً أو زماناً ورتبة.

لكن الظاهر أنّه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل الانحلال الحقيقي ، بمعنى أنّه ليس في البين علم إجمالي حقيقي بين الثوب وإناء عمرو ، بل هو صوري خيالي ، ينكشف كونه خيالياً بواسطة العلم بأنّه لا مستند لنجاسة الثوب على تقديرها إلاّملاقاته لإناء زيد ، وأنّ العلم الاجمالي الحقيقي إنّما هو بين

ص: 81

الاناءين ، وأنّ نجاسة الثوب لا تكون إلاّموضوعاً جديداً من النجس أجنبياً عن دائرة العلم الاجمالي الحقيقي ، وأنّ العلم بين الاناءين لا يكون سبباً للعلم الحقيقي بين الثوب وإناء عمرو ، بل أقصى ما فيه أن يكون سبباً للعلم بنجاسة الثوب على تقدير كون النجس في العلم الأوّل هو إناء زيد. نعم في مقام التعبير يصحّ لنا أن نقول إنّه يتولّد من العلم الاجمالي الأوّل العلم الاجمالي الثاني ، لكنّه من مجرّد التعبير المبني على المسامحة.

ثمّ لا يخفى أنّ المثال الذي ذكرناه أعني العلم بالنجاسة المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ العلم بها بين إناء عمرو وإناء خالد ، ليكون إناء عمرو ملتقى خطي العلمين ، تارةً يكون العلم الثاني علماً بوقوع نجاسة جديدة بين إناء عمرو وإناء خالد ، لكنّه يحتمل أنّ الثانية لم تؤثّر ، بأن كان يحتمل أنّ كلا النجاستين في إناء عمرو ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء زيد والثانية في إناء عمرو ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء زيد والثانية في إناء خالد ، ويحتمل أنّ الأُولى في إناء عمرو والثانية في إناء خالد.

وأُخرى هو هذا الفرض لكنّه يعلم أنّ الثانية قد أثّرت ، بأن يكون الاحتمال الأوّل ساقطاً وهو وقوع كلّ منهما في إناء عمرو ، ويكون التردّد بين الاحتمالات الثلاثة. وعلى أي حال لا يكون العلم الثاني منجّزاً لو كان متأخّراً بحسب الزمان. نعم لو حصل العلمان دفعة واحدة وجب الاجتناب عن الاناءات الثلاثة ، على تفصيل شرحناه في شرح عبارة شيخنا قدس سره في الوسيلة. ومثل هذين النحوين ما لو كان العلم بالنجاسة الثانية مردّداً بين الأطراف الثلاثة.

وثالثة يعلم أنّ الثانية لم تقع في إناء عمرو ، بل هي إمّا واقعة في إناء خالد أو واقعة خارج الاناءات الثلاثة ، لكن وقوعها في إناء خالد مقيّد بما إذا لم تقع الأُولى

ص: 82

في إناء عمرو ، ووقوعها خارج الاناءات مقيّد بكون الأُولى واقعة في إناء عمرو ، فهو أوّلاً يعلم بأنّه قد تنجّس إناء زيد أو إناء عمرو ، ثمّ علم بأنّ الأُولى إن لم تقع في إناء عمرو فقد تنجّس إناء خالد بنجاسة جديدة ، وإن كانت الأُولى واقعة في إناء عمرو فإنّ إناء خالد لم تقع فيه تلك النجاسة الجديدة بل وقعت خارج الاناءات الثلاثة ، ويكون محصّل العلمين أنّ النجاسة الأُولى إن كانت في إناء زيد فقد وقعت نجاسة أُخرى في إناء خالد وبقي إناء عمرو على طهارته وتنجّس الاناء الأوّل والثالث ، وإن كانت في إناء عمرو فلم يتنجّس إناء خالد ولا إناء زيد. وفي الحقيقة يكون حاصل العلمين هو التردّد بين نجاسة الاناءين - أعني إناء زيد وإناء خالد - وبين نجاسة إناء عمرو فقط.

والظاهر أنّ هذه الصورة الأخيرة مقاربة لما نحن فيه من الثوب الملاقي لإناء زيد ، فيكون التردّد بين نجاسة الثوب وإناء عمرو واقعاً موقع التردّد بين نجاسة إناء خالد وإناء عمرو ، في كون نجاسة إناء عمرو التي هي في قبال نجاسة الثوب أو نجاسة إناء خالد هي ليست بنجاسة جديدة ، بل إنّ إناء عمرو على تقدير كونه هو النجس في هذه المقابلة بينه وبين الثوب أو بينه وبين إناء خالد ، لا تكون نجاسته إلاّتلك النجاسة التي كانت معلومة بالعلم الاجمالي الأوّل المردّد بينه وبين إناء زيد. وغاية الفرق بين ما نحن فيه وبين المثال ، هو أنّه في المثال يكون نجاسة إناء خالد في عرض نجاسة إناء زيد ، وفيما نحن فيه يكون نجاسة الثوب في طول نجاسة إناء زيد ، وهذا المقدار من الفرق هو الذي أوجب كون العلم الثاني فيما نحن فيه صورياً لا واقعية له ، وفي المثال يكون العلم الثاني علماً حقيقياً ، ويكون مرجع العلمين فيه إلى العلم المردّد بين الأوّل والثالث وبين الثاني ، فيكون اللازم هو الاجتناب عن الجميع ، إلاّ إذا كان أحد العلمين سابقاً في

ص: 83

الزمان على الآخر ، فيكون هو المؤثّر دون لاحقه ، فتأمّل.

قوله في المستمسك : ثمّ إنّ مقتضى الوجه الثاني الذي ذكره غير واحد من الأعيان في تقريب جواز الرجوع إلى الأصل في الملاقي - إلى قوله - فهذا التفصيل يكون نظير التفصيل الذي ذكره الأُستاذ قدس سره في كفايته ، غايته أنّ هذا تفصيل بين صور تقدّم أحد العلمين رتبة على الآخر وتأخّره عنه وكونهما في رتبة واحدة وذلك تفصيل من حيث تقدّم أحدهما على الآخر زماناً وتأخّره واقترانهما (1).

ويظهر أثر الخلاف بينهما في الصورة الثالثة من الصور التي ذكرها في الكفاية (2) ، فإنّه بناءً على كون المدار على التقدّم الزماني يكون الاجتناب واجباً فيها عن الثلاثة ، بخلاف التقدّم الرتبي ، فإنّه بناءً عليه لا يكون الواجب إلاّ الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وطرفه ، دون الملاقي - بالكسر -.

ويظهر أيضاً في الصورة الثانية فيما لو كان التأخّر رتبياً لا زمانياً ، وذلك بأن تحصل ملاقاة ثوبه لإناء زيد مع فرض العلم بأنّه لو كان ثوبه نجساً لم تكن نجاسته إلاّمن ملاقاته لإناء زيد ، ثمّ يخبره المخبر بأنّ أحد الأمرين من ثوبه أو إناء عمرو نجس ، فإنّه في هذه الصورة يحصل له في الرتبة السابقة العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بين ثوبه وإناء عمرو ، وعن هذا العلم ينتقل إلى العلم الاجمالي المردّد بين الاناءين ، من دون أن يكون في البين تقدّم زماني ، بل لا يكون بين العلمين إلاّ التقدّم الرتبي ، لكون الأوّل علّة في حصول الثاني ، فإنّه في هذه الصورة يجب الاجتناب عن الثلاثة بناءً على كون المدار هو التقدّم الزماني ، وعن الثوب وإناء عمرو فقط دون إناء زيد بناءً على كون المدار هو التقدّم الرتبي.

ص: 84


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 259.
2- كفاية الأُصول : 363.

نعم ، لو علم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ بعد مضي مقدار من الزمان التفت إلى أنّ هذا الثوب لو كان هو النجس المعلوم لكانت نجاسته معلولة لكونه قد كان ملاقياً لإناء زيد ، وعند ذلك يحصل له العلم الاجمالي الثاني المردّد بين الاناءين ، ففي هذه الصورة لا يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - الذي هو إناء زيد على كلا القولين ، لحصول كلّ من التقدّم الرتبي والزماني فيها لأحد العلمين ، وهو العلم بين الثوب وإناء عمرو على العلم الآخر وهو العلم بين الاناءين. وهذه هي الصورة الثانية ممّا ذكره في الكفاية. أمّا التي هي مختصّة بالمقالة ، فهي ما عرفت من كون التأخّر فيها مقصوراً على التأخّر الرتبي.

ولا يخفى الفرق بين هذه الصورة المشتملة على التأخّر الرتبي فقط وبين الصورة الثالثة من الكفاية ، فإنّ السابق رتبة في هذه الصورة يكون هو العلم الاجمالي المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، فيكون هو المنجّز ، بخلاف الصورة الثالثة في الكفاية فإنّ السابق رتبة فيها يكون هو العلم الاجمالي المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، فتكون على العكس من الصورة المذكورة ، ويكون حال هذه الصورة الثالثة في كلام الكفاية حال الصورة الأُولى ، غير أنّها يكون التأخّر فيها رتبيّاً فقط ، وفي الأُولى يكون التأخّر رتبياً وزمانياً.

واعلم أنّ هذه الصورة - أعني ما لو تقدّم العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو على العلم بالنجاسة المردّدة بين الاناءين ، سواء كان التقدّم رتبياً فقط أو انضمّ إليه التقدّم الزماني - لا يكون مسلك تعارض الأُصول نافعاً فيها في تسويغ الارتكاب بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - الذي هو الثوب ، وذلك لأنّه بمجرّد حصول العلم بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو تقع المعارضة بين الأصلين فيسقطان ، وبعد حصول العلم الثاني رتبة أو زماناً المردّد بين إناء زيد

ص: 85

وإناء عمرو يكون الأصل في إناء زيد بلا معارض ، فلا محيص حينئذ في هذه الصورة بكلا شقّيها لمن يدّعي جريان الأصل في الثوب كما هو مسلك شيخنا قدس سره من دعوى كون العلم الثاني موجباً لانقلاب العلم الأوّل ، على ما شرحناه غير مرّة.

والذي تلخّص لك في هذه الصورة : أنّ الشقّ الثاني منها يكون الواجب فيها هو الاجتناب عن الثوب وإناء عمرو ، سواء قلنا إنّ المدار على التقدّم الزماني أو على التقدّم الرتبي ، أو على تعارض الأُصول ، إلاّعلى دعوى كون العلم الثاني موجباً لانقلاب العلم الأوّل. وأمّا الشقّ الأوّل ، فعلى تقدير كون المدار على التقدّم الزماني كما هو مسلك الكفاية ، ينبغي القول فيها بوجوب الاجتناب عن الثلاثة. وعلى تقدير الاكتفاء بالتقدّم الرتبي لأحد العلمين على الآخر ، يكون وجوب الاجتناب منحصراً بالثوب وإناء عمرو ، دون إناء زيد. وعلى تقدير مسلك التعارض يكون الأمر كذلك ، إلاّعلى دعوى الانقلاب.

أمّا الصورة الثالثة ممّا أفاده في الكفاية ، فقد عرفت أنّها يجب الاجتناب فيها عن الثلاثة على مسلك صاحب الكفاية ، وأنّه على مسلك صاحب المقالة يكون وجوب الاجتناب منحصراً بالاناءين دون الثوب ، لكون العلم بين الاناءين سابقاً في الرتبة على العلم بين الثوب وإناء عمرو ، وكذلك على مسلك التعارض لحصول التعارض في طرفي العلم السابق رتبة بين الاناءين ، ويبقى الثوب الذي هو طرف العلم الاجمالي المتأخّر رتبة مورداً لقاعدة الطهارة بلا معارض ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا الصورة الثالثة ممّا أفاده صاحب المقالة (1) ، وهي ما لو حصل العلمان في رتبة واحدة ، بأن أخبرنا الصادق بالنجاسة المتردّدة بين المتلاقيين وبين إناء

ص: 86


1- مقالات الأُصول 2 : 248.

عمرو ، فيلزم الاجتناب فيها عن الثلاثة على كلّ من مسلكه ومسلك صاحب الكفاية. أمّا على مسلكه فلعدم التقدّم الرتبي بين العلمين ، لأنّ المفروض حصولهما من سبب وعلّة واحدة ، وهي إخبار الصادق بنجاستهما أو نجاسة إناء عمرو ، ولم يكن في البين انتقال من أحد العلمين إلى العلم الآخر كي يكون بينهما تقدّم رتبي. وأمّا على مسلك صاحب الكفاية فلعدم التقدّم الزماني بين العلمين.

والظاهر أنّ الحال كذلك على مسلك التعارض الذي هو مسلك الشيخ قدس سره ومسلك شيخنا قدس سره ، إلاّ أن يلتزم بالانقلاب ، على تأمّل في ذلك سيأتي ذكره.

فتلخّص : أنّ مسلك التعارض محتاج في جواز ارتكاب الملاقي - بالكسر - الذي هو الثوب في مثالنا إلى دعوى الانقلاب في الصورة الثانية بكلا شقّيها ، وفي الصورة الثالثة ممّا ذكره صاحب المقالة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مسلك التعارض نافع في هذه الصورة أيضاً ، فإنّ العلمين وإن حصلا دفعة ، ولا تقدّم ولا تأخّر فيهما لا بحسب الزمان ولا بحسب الرتبة ، لكنّا لا يمكننا إيقاع التعارض دفعة واحدة بين قاعدة الطهارة في إناء زيد وفي الثوب الملاقي له ، وبين قاعدة الطهارة في إناء عمرو ، لأنّ قاعدة الطهارة في الثوب ليست في عرض قاعدة الطهارة في إناء زيد كي يكونا معاً معارضين لقاعدة الطهارة في إناء عمرو ، بل إنّ قاعدة الطهارة في الثوب متأخّرة رتبة عنها في إناء زيد ، فالمعارض حينئذ لقاعدة الطهارة في إناء عمرو هو القاعدة في إناء زيد ، وبعد تساقطهما تبقى قاعدة الطهارة في الثوب بلا معارض ، فيكون مسلك التعارض نافعاً في هذه الصورة من دون حاجة إلى دعوى الانقلاب ، إلاّعلى تقدير كون العلم علّة تامّة في التنجّز وإن لم تتعارض الأُصول في أطرافه. هذا كلّه بناءً على كون المدار على تعارض الأُصول.

ص: 87

وأمّا بناءً على ما ربما يظهر من كلمات شيخنا قدس سره من أنّ المدار في مسألة الملاقي والملاقى على تقدّم المعلوم وإن كان العلم به متأخّراً ، فقد عرفت أنّه بظاهره لا يستقيم مع كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى التنجّز على نحو الموضوعية والعلّية ، الموجب لاستحالة أن يتقدّم عليه أثره الذي هو التنجّز ، ولا شكّ أنّ شيخنا قدس سره لا يريد ذلك ، كيف وهو بنفسه قد صرّح بأنّ العلم وإن كان بالنسبة إلى متعلّقه على نحو الطريقية ، لكنّه بالنسبة إلى التنجّز على نحو الموضوعية والسببية ، كما صرّح به فيما نقلناه (1) في مقدّمة المسألة التي أفاد فيها الشيخ قدس سره أنّ الملاقي - بالكسر - يقوم مقام الملاقى - بالفتح - فيما لو فقد الملاقى - بالفتح - ثمّ حصل العلم الاجمالي ، وبذلك صرّح أيضاً فيما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي في مبحث الاضطرار (2) فراجع. بل المراد بما أفاده من أنّ المدار على تقدّم المعلوم ، هو كون العلم الثاني المتعلّق بما هو مقدّم على المعلوم بالعلم الأوّل ، يوجب الخلل بالعلم الأوّل وانقلابه من كونه علماً بتوجّه التكليف على كلّ من الطرفين إلى كونه من الدوران بين الأمرين اللذين يكون لأحدهما أثر ، ولا يكون للآخر أثر.

وتقريبه يحتاج إلى مقدّمات :

الأُولى : أنّه لو علم بنجاسة إناء زيد تفصيلاً ، ثمّ انتقض ذلك العلم التفصيلي بالعلم بأنّه كان طاهراً أو بالشكّ الساري ، فإنّ هذا العلم وإن كان بحدوثه مؤثّراً إلاّ أنه ما دام موجوداً ، فإذا حصل ما أزاله من أصله وتبدّل إلى العلم بالطهارة السابقة أو إلى الشكّ فيها بنحو الشكّ الساري ، يزول أثره وينكشف أنّه لا واقعية

ص: 88


1- في الصفحة : 68 - 69.
2- فوائد الأُصول 4 : 95.

له.

الثانية : أنّه لو علم بنجاسة إناء عمرو تفصيلاً ، ثمّ علم بنجاسة إمّا فيه أو في إناء زيد ، لم يكن ذلك العلم الاجمالي الثاني إلاّصورياً ، ولا يكون إلاّمن قبيل العلم التفصيلي بنجاسة إناء عمرو والشكّ البدوي في نجاسة إناء زيد ، فإنّه بالنسبة إلى وقوع النجاسة وإن كان من العلم الاجمالي ، إلاّ أن نفس وقوع النجاسة لا اعتبار بها ، وإنّما الاعتبار بالحكم التكليفي الناشئ عن وقوعها ، وهو وجوب الاجتناب ، والمفروض أنّ وجوب الاجتناب عن إناء عمرو معلوم تفصيلاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل الشكّ البدوي في وجوب الاجتناب عن إناء زيد ، وهو ما ذكرناه من كون العلم بالنسبة إلى وجوب الاجتناب في العلم الثاني صورياً لا واقعية له. وكذا لو علم بوقوع قطرتين إمّا كلاهما في إناء عمرو ، أو أنّ إحداهما فيه والأُخرى في إناء زيد.

والمثال الثاني يكون العلمان مقترنين في الزمان بخلاف المثال الأوّل ، وفي المثال الثاني يكون حاصل العلمين راجعاً إلى الأقل والأكثر ، بخلاف الأوّل فإنّه وإن كان الحاصل منهما هو ذلك ، لكن بعد حصول الثاني وبعد مضي مدّة على تنجّز الأوّل ، فتأمّل.

الثالثة : لو علم إجمالاً بالنجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم تفصيلاً بأنّ إناء عمرو قد وقعت فيه نجاسة قبل النجاسة المردّدة بينهما ، كان هذا العلم التفصيلي المتأخّر سارياً إلى ذلك العلم الاجمالي السابق ، ومبدّلاً له من العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، بخلاف ما لو كانت النجاسة التفصيلية حادثة بعد العلم الاجمالي ، فإنّ العلم بها لا أثر له في العلم الاجمالي السابق ، بل يكون التبدّل من حين العلم بها إلى ما بعد ، ولا يسري إلى ما قبل ، أمّا

ص: 89

لو كانت تلك النجاسة التفصيلية سابقة على ما هو المعلوم أوّلاً ، فإنّ العلم بها تفصيلاً ثانياً يسري إلى العلم الاجمالي السابق ويكشف عن حاله وأنّه صوري ، وأنّه لم يكن إلاّمن قبيل تخيّل ورود التكليف على كلّ حال.

وإن شئت فقل : إنّ العلم بها ثانياً يوجب التبدّل في المعلوم السابق ، وانكشاف أنّه لم يكن علماً بتكليف مردّد بين المتباينين ، بل ينكشف أنّه من قبيل الأقل والأكثر ، بمعنى أنّا كنّا متخيّلين أنّ معلومنا الاجمالي بين المتباينين ، ولكنّه انكشف أنّه بين الأقل والأكثر.

الرابعة : أنّه لو علم بالنجاسة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم بوقوع نجاسة سابقة إمّا في إناء زيد أو إناء عمرو ، فنسبة هذا العلم الاجمالي الثاني إلى العلم الاجمالي الأوّل كنسبة العلم التفصيلي الثاني في المقدّمة السابقة إلى العلم الاجمالي الأوّل ، في كونه كاشفاً عن كونه لم يكن المعلوم فيه مؤثّراً على كلّ تقدير ، فيكون موجباً لسقوطه ، ويكون المدار على العلم الاجمالي الثاني وإن كان متأخّراً زماناً أو رتبة عن الأوّل ، أو كان مقارناً له زماناً ورتبة ، وقد تقدّم توضيح ذلك مراراً (1).

بل قد تقدّم (2) ما محصّله : أنّا لو قلنا إنّ المدار على العلم الاجمالي السابق فيما ذكرناه في المثال ، إلاّ أنه يمكننا عدم الالتزام به فيما نحن فيه من مثال العلم الاجمالي بين الثوب وإناء عمرو ثمّ يلحقه العلم الاجمالي بين إناء زيد وإناء عمرو ، بدعوى عدم المقابلة حقيقة بين الثوب وإناء عمرو وإنّما هي بين الاناءين ، ويتفرّع على نجاسة الأوّل منهما نجاسة الثوب ، لا أنّه دخيل في المقابلة

ص: 90


1- راجع الحاشية الثانية المتقدّمة في الصفحة : 50.
2- راجع ما تقدّم في الصفحة : 81 - 82.

بينهما ، وحينئذ فالعلم الحاصل أوّلاً بين الثوب وإناء عمرو لو لحقه العلم الثاني ينكشف خطؤه وأنّ العلم الاجمالي الذي كان مردّداً بينهما كان خطأ ، وأنّ الترديد إنّما هو بين الاناءين لا بين الثوب وإناء عمرو.

وعلى أيّ حال ، فإنّ مرجع هذه الدعوى إلى أنّ العلم الاجمالي الثاني يخرج العلم الأوّل عن كونه علماً بالتكليف الفعلي على كلّ حال ، أو أنّه يخرجه عن كونه علماً إجمالياً حقيقياً ، وينكشف أنّه كان صورياً لا واقعية له.

ولا معنى للقول بأنّ هذا ليس بأولى من العكس ، كما تضمّنته عبارة المستمسك بقوله : ودعوى كون العلم اللاحق يخرج به العلم السابق عن كونه علماً بالتكليف الفعلي ليست بأولى من دعوى العكس ، بل هي المتعيّنة ، لما عرفت من استناد التنجّز إلى أسبق العلمين الخ (1) لما عرفت من أنّ هذه الدعوى ليست براجعة إلى أنّ المنجّز هو العلم المتأخّر ، وأنّ العلم المتأخّر يرفع تنجّز العلم السابق ، كي يتّجه عليها أنّها ليست بأولى من دعوى العكس بل إنّ العكس هو المتعيّن ، بل إنّ هذه الدعوى راجعة إلى أنّ العلم الثاني كاشف عن خطأ العلم الأوّل على نحو الشكّ الساري ، ولا ريب أنّ العلم الأوّل لا يعقل أن يكون كاشفاً عن خطأ الثاني ، لأنّ الثاني علم بتوجّه تكليف مردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، لأنّ النجاسة في أيّ واحد وقعت تحدث وجوب اجتناب فيه ، وهذا المقدار من العلم بتوجّه وجوب اجتناب مردّد بين الاناءين لا يرفعه العلم السابق المردّد بين الثوب وإناء عمرو.

نعم ، إنّ العلم الثاني بالنجاسة السابقة المردّدة بين الاناءين يرفع العلم الأوّل المردّد بين وجوب الاجتناب عن الثوب أو إناء عمرو ، ويكشف عن أنّه

ص: 91


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 258.

ليس بعلم بوجوب اجتناب جديد بين الثوب وإناء عمرو ، بل إنّه خيال ، وأنّه ليس هناك في الأوّل إلاّ التردّد بين وجوب الاجتناب عن الثوب الذي هو موضوع مستقل ، أو الاجتناب عن إناء عمرو الذي كان متحقّقاً قبل هذا واقعاً ، فتأمّل.

وخلاصة هذه الأبحاث على ما فيها من التطويل ولعلّه بلا طائل : هي أنّ الشبهة المتقدّمة في عدم انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى الأصل المثبت غير الاحرازي ، كما تقدّم (1) في مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غير ركن ، وكما تقدّم في الاناء الكبير الذي هو ملتقى خطي العلم الاجمالي الأوّل بين الصغير والكبير والعلم الاجمالي الثاني بين الكبير والمتوسّط ، جارية في ملاقي الصغير عندما تجعله طرفاً للكبير ، فإنّ الكبير هنا يكون حسابه حساب ذلك الكبير ، والعلم الثاني المردّد بين الثوب الملاقي للصغير وبين الكبير لا ينحلّ ، سواء تأخّر زماناً عن الأوّل الذي هو بين الصغير والكبير ، بأن علم بنجاسة أحدهما ثمّ إنّ ثوبه لاقى الصغير منهما ، أو لم يكن في البين إلاّ التأخّر الرتبي بأن علم بنجاسة أحدهما بعد العلم بالملاقاة ، أو علم بنجاسة أحدهما ثمّ علم بسبق الملاقاة على علمه بنجاسة أحدهما ، فإنّ العلم الثاني بين الثوب والكبير لا يخرج عن كونه بين المتباينين. وكون الكبير مجرى الأصل المثبت سابقاً على العلم الاجمالي الثاني لا يوجب الانحلال إلى الأقل والأكثر.

اللّهمّ إلاّ أن نرجعه إلى الأقل والأكثر ، بدعوى أنّ النجس لو كان هو الصغير وجب الاجتناب عنه وعن الثوب ، وإن كان هو الكبير وجب الاجتناب عنه فقط ، فالقدر الجامع بين الاناءين أعني أحدهما هو الأقل ، والزائد عليه هو الاجتناب

ص: 92


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : 363 وما بعدها.

عن الثوب. لكن التخريج على ذلك مشكل ، إذ يعتبر في الأقل أن يكون داخلاً في الأكثر ، وليس الأقل كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ له تقديرين يكون بأحدهما داخلاً في الأكثر ، ويكون بالآخر خارجاً عنه.

وهل يمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه مثل ما لو وقعت القطرة مردّدة بين الصغير والكبير ، ثمّ أُخرى مردّدة بين الكبير وحده أو توزّعت بين الصغير والمتوسّط ، وذلك عبارة أُخرى عن الاتّساع. أو هو مثل ما لو وقعت القطرة مردّدة بين الصغير والكبير ، ثمّ علمنا بأنّها على تقدير عدم وقوعها في الكبير فهي قد وقعت موزّعة بين الصغير والمتوسّط ، فنقايس الثوب الملاقي للصغير في مسألتنا بالاناء المتوسّط ، وذلك أيضاً مبني على الاتّساع.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه المسألة خارجة عن كون العلم الاجمالي علّة في التنجّز ، لأنّه علّة في تنجيز ما تعلّق به ، دون الزائد ، فإنّ نجاسة الملاقي - أعني الثوب - زائدة على أصل النجاسة التي تعلّق بها العلم ، فإنّ الثوب وإن ضممناه إلى الكبير إلاّ أنه ضمّ صوري ، والنجس المعلوم هو ما بين الاناءين ، لا ما بين الصغير والثوب وبين الكبير ، ولا ما بين الثوب والكبير.

وبالجملة : إدراج الثوب في أطراف العلم مغالطة ، والطرفية إنّما هي بين الاناءين والثوب خارج عنهما. نعم لو كانت النجاسة واقعة في الصغير لكانت ملاقاة الثوب له موجبة لتنجّس الثوب ، وكانت نجاسة الثوب متفرّعة عن نجاسة الصغير ، فأين ذلك من كون نجاسة الثوب طرفاً أو جزءاً من الطرف. وهذا كلّه ناش عن التفرّع المذكور ، ولولا التفرّع بأن كانت نجاسة الثوب ملازمة لنجاسة الصغير ملازمة اتّفاقية من دون تفرّع ، ولو من جهة أنّ تلك النجاسة على تقدير عدم وقوعها في الكبير فهي موزّعة بين الصغير والثوب ، أو أنّها تقارن قطرة

ص: 93

أُخرى تقع في الثوب مضافاً إلى القطرة الواقعة في الصغير ، لصحّ لنا جعل الثوب طرفاً أو جزءاً من الطرف في مقابل الكبير. والسرّ في ذلك هو أنّ التلازم مع المعلوم يدخله تحت العلم ، بخلاف التفرّع فإنّ نجاسة الثوب المتفرّعة على نجاسة الاناء الصغير لا تدخل تحت العلم المتعلّق بالصغير ، لكونها موضوعاً آخر ، وليس في عرض الموضوع الأوّل بل هو في طوله ، فيحتاج تنجّز التكليف فيه إلى منجّز غير العلم المتعلّق بأصله ، ولو بأن يكون العلم تفصيلاً بنجاسة الصغير موجباً للعلم التفصيلي بنجاسة الثوب ، بخلاف ما لو لم يكن إلاّ العلم الاجمالي بنجاسة الصغير والكبير. وبالجملة : فرق واضح بين الملازم العرضي كما في المثالين ، والملازم الطولي كما فيما نحن فيه ، فإنّ الأوّل يدخل تحت العلم بخلاف الثاني ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي - بالكسر - ليست في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقى - بالفتح - لتسقط بسقوطها ... الخ (1).

لا يقال : إنّ هذه الجملة مخالفة لمسلكه قدس سره (2) في مسألة الاناءين اللذين يكون أحدهما مستصحب الطهارة والآخر مجرى قاعدة الطهارة ، فإنّه قدس سره التزم هناك بأنّ القاعدة في مورد الاستصحاب ساقطة بسقوطه.

لأنّا نقول : فرق بين المقام وذلك الفرع ، فإنّ ذلك الفرع يكون ما هو مجرى الحاكم والمحكوم موضوعاً واحداً ، وحيث إنّ الحكم بطهارته ولو بحسب

ص: 94


1- فوائد الأُصول 4 : 84.
2- فوائد الأُصول 4 : 47 - 49.

المراتب النازلة يكون منافياً للحكم بطهارة الفرد الآخر ، لاستلزام ذلك للمخالفة القطعية ، كان المحكوم في ذلك الموضوع ساقطاً بسقوط الحاكم ، بخلاف مقامنا ، فإنّ ما هو مجرى الحاكم موضوع وهو الملاقى - بالفتح - ، وما هو مجرى المحكوم موضوع آخر وهو الملاقي - بالكسر - ، ويكون كلّ منهما في حدّ نفسه محكوماً بقاعدة الطهارة بحكم مستقل ، فلا يتأتّى فيه ما أفاده قدس سره في ذلك الفرع من كون الحكم بالطهارة في أحد الطرفين الذي هو مستصحبها يكون بجميع مراتبه معارضاً للحكم بالطهارة في الطرف الآخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكمين الموجودين في الملاقى والملاقي وإن كان الثاني منهما متأخّراً عن الأوّل رتبة ، إلاّ أنهما معاً على اختلاف رتبتهما واقعان في حيّز المعارضة للحكم في الطرف الآخر. وفيه تأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجهة - أعني الحكومة - لو لم تتمّ في إسقاط العلم الاجمالي المذكور ، لكان في الجهتين الباقيتين كفاية ، وهما تقدّم المعلوم زماناً وتقدّمه رتبة لو لم يكن متقدّماً زماناً كما عرفت تفصيله فيما تقدّم. ولا يخفى أنّ هذا الإشكال وجوابه مذكوران في تحريرات السيّد سلّمه اللّه (1) عنه قدس سره فراجعه.

قوله : ولا يخفى عليك أنّ هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي ... الخ (2).

الإنصاف : أنّ ما أُفيد في هذه الجملة إلى قوله : تذييل ، إنّما ينفع في إبطال

ص: 95


1- أجود التقريرات 3 : 447.
2- فوائد الأُصول 4 : 86.

الصورة الثالثة التي ذكرها في الكفاية (1) لوجوب الاجتناب عن المتلاقيين. وكذلك ينفع في إبطال الصورة الأُولى التي ذكرها لوجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - دون الملاقى. وأمّا الصورة الثانية من ذلك ، وهي ما لو كان الملاقى - بالفتح - خارجاً عن الابتلاء حين العلم الاجمالي ، ثمّ بعد الملاقاة عاد إلى الابتلاء ، فلا ينفع في إبطالها ما أُفيد في هذه الجملة من كون التكليف المعلوم بين الملاقى - بالفتح - وطرفه سابقاً في الزمان أو في الرتبة على التكليف المعلوم بالاجمال بين الملاقي - بالكسر - وطرف أصله ، وذلك لأنّ النجاسة في الملاقى - بالفتح - وإن كانت سابقة في الزمان أو في الرتبة على نجاسة الملاقي - بالكسر - ، إلاّ أنّ نفس النجاسة ليست من التكاليف كي يكون العلم بها منجّزاً قبل نجاسة الملاقي - بالكسر - ، وإنّما المدار في ذلك على وجوب الاجتناب ، والمفروض أنّه لم يتحقّق إلاّبعد العود إلى محلّ الابتلاء الذي هو متأخّر زماناً عن الملاقاة.

وهكذا الحال فيما لو كان الملاقى - بالفتح - عند حصول العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين طرفه مضطرّاً إلى ارتكابه ، ولكن بعد الملاقاة ارتفع الاضطرار المذكور ، فإنّه أيضاً نقول فيه : إنّ نجاسة المضطرّ إليه وإن كانت سابقة زماناً على نجاسة ملاقيه ، إلاّ أن المدار على وجوب الاجتناب ، وهو في الملاقى - بالفتح - متأخّر زماناً عن وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - ، فلا يمكن أن يكون العلم المردّد بين وجوب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - بعد رفع الاضطرار إليه وبين طرفه موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وطرف أصله.

ص: 96


1- كفاية الأُصول : 363.

قوله : فنقول : إنّه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقاؤه على صفة حدوثه وعدم تعقّبه بما يوجب انحلاله وتبدّل المنكشف به لأنّ اعتبار العلم الاجمالي إنّما هو لكونه طريقاً وكاشفاً عن التكليف المولوي ... الخ (1).

توضيح ذلك : هو أنّه لو دار المعلوم بالاجمال بين كونه تكليفاً سابقاً وكونه تكليفاً لاحقاً ، مثل أن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين الصغير والكبير ، بأن يعلم بوقوع نجاسة إمّا الآن في الصغير أو بالأمس في الكبير ، فكان التكليف بالاجتناب المردّد بينهما مردّداً بين كونه قد توجّه إليه فعلاً أو أنّه كان متوجّهاً إليه من الأمس ، فلا شبهة في تأثير العلم الاجمالي المذكور ، لكونه علماً بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب ، إمّا من الآن أو من الأمس. لكن لو فرضنا أنّ الكبير كان معلوم النجاسة وأنّه يجب الاجتناب عنه من الأمس ، ثمّ بعد ذلك العلم التفصيلي حصل له العلم الاجمالي بوقوع نجاسة في أحد الاناءين المذكورين ، فهو حين العلم بوقوع النجاسة في أحدهما وإن علم وجداناً بأنّه إمّا مكلّف بوجوب الاجتناب عن الصغير أو بوجوب الاجتناب عن الكبير ، لكنّه لمّا كان قبل هذا يعلم تفصيلاً بوجوب الاجتناب عن الكبير ، لم يرجع علمه الاجمالي المذكور إلى العلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب على كلّ من طرفي هذا العلم ، بل يرجع ذلك العلم الاجمالي إلى العلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بوجوب الاجتناب عن الكبير والشكّ في انشغالها بوجوب الاجتناب عن الصغير ، وفي الواقع أنّ هذا العلم الاجمالي بوجوب الاجتناب صوري محض ، ولا حقيقة له إلاّ الشكّ في اشتغال ذمّته بوجوب الاجتناب عن الصغير مضافاً إلى ما كان يعلمه من

ص: 97


1- فوائد الأُصول 4 : 87.

وجوب الاجتناب عن الكبير.

ثمّ ننقل الكلام إلى درجة ثانية ، وهي ما لو تأخّر ذلك العلم التفصيلي زماناً عن ذلك العلم الاجمالي مع فرض كون المعلوم التفصيلي سابقاً في الزمان على ذلك المعلوم الاجمالي ، بأن علم اليوم بوقوع نجاسة إمّا في الصغير أو الكبير ، ثمّ علم تفصيلاً أنّ الكبير كان متنجّساً من الأمس ، فهذا العلم الاجمالي الذي حدث صباح هذا اليوم مثلاً وإن كان حين حدوثه موجباً للحكم بانشغال ذمّته بأحد الوجوبين ، إلاّ أنه بعد ذلك لمّا علم تفصيلاً بأنّ الكبير كان نجساً وكان يجب الاجتناب عنه من الأمس ، كان هذا العلم التفصيلي كاشفاً عن خطأ علمه الاجمالي المذكور ، لأنّه يتبيّن له بذلك العلم التفصيلي أنّه لم يكن وقوع تلك النجاسة في أحدهما موجباً لانشغال ذمّته على كلّ حال ، كي يكون عالماً بأنّه قد لحقه تكليف على كلّ حال ، لاحتمال وقوع تلك النجاسة في الكبير الذي لا تؤثّر فيه وجوب الاجتناب وجوباً جديداً. وحاصل ذلك : أنّه تبيّن له بواسطة ذلك العلم التفصيلي أنّ انكشاف انشغال ذمّته بالاجتناب على كلّ حال كان خطأ. هذا حال العلم التفصيلي المتأخّر إذا كان متعلّقه متقدّماً زماناً على المعلوم بالاجمال.

ومنه يعلم الحال في العلم الاجمالي المتأخّر لو كان متعلّقه أيضاً متقدّماً زماناً على علم إجمالي سابق ، بأن يعلم صباح هذا اليوم بوقوع نجاسة إمّا في الصغير أو الكبير ، ثمّ بعد ذلك ينكشف أنّ هناك نجاسة وقعت بالأمس إمّا في الكبير أو في إناء ثالث ، فكما أنّ هذا العلم الاجمالي الثاني لو كان سابقاً في الزمان على العلم الاجمالي الأوّل يوجب سقوط العلم الاجمالي الأوّل ، لأنّه لا يكون حينئذ علماً بانشغال ذمّته على كلّ حال ، لاحتمال وقوع النجاسة المعلومة فيه في الكبير الذي يحتمل كونه متنجّساً بالعلم الاجمالي السابق ، فكذلك الحال فيما لو

ص: 98

كان العلم الاجمالي الثاني متأخّراً زماناً عن العلم الاجمالي الأوّل ، فإنّه يكون كاشفاً عن أنّه لم يكن علماً بانشغال ذمّته على كلّ حال.

ثمّ بعد ذلك ننقل الكلام إلى ما نحن فيه ، ونجعل الملاقي - بالكسر - عوض الإناء الصغير ، ونقول : إنّ علمنا السابق المردّد بين الملاقي - بالكسر - وبين طرف الملاقى - بالفتح - يسقط عن التأثير بواسطة علمنا اللاحق المردّد بين الملاقى - بالفتح - وبين طرفه ، فلا يكون تقدّم العلم بين الملاقي - بالكسر - وطرف أصله باقياً على ما هو عليه بعد أن لحقه العلم المردّد بين الملاقى - بالفتح - وبين طرفه ، لكون المعلوم بالعلم الثاني سابقاً بحسب الزمان على المعلوم بالعلم الأوّل.

قوله : وأُخرى يكون بين الشيئين واسطة ... الخ (1).

لابدّ من الضدّية بين الشيئين ، وإلاّ فإنّ دوران الأمر بين شرطية مثل الاستعاذة ومانعية قول آمين ممّا لا ضدّية بينهما ، لا يرجع فيه إلى أصالة البراءة من الشرطية وإن كان بينهما ثالث بأن يتركهما معاً ، بل يلزمه في مثل ذلك الاحتياط بالاتيان بالاستعاذة وترك قول آمين ، وإنّما يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة من الشرطية إذا كان بين الشيئين ضدّية ، وذلك مثل ما لو دار الأمر في الواجب كسجود السهو بين شرطية الاستقبال ومانعية الاستدبار ، فإنّ شرطية الاستقبال تتكفّل المنع عن الجهات الثلاث ، بخلاف مانعية الاستدبار فإنّها لا تمنع إلاّمن نفس الاستدبار دون باقي الجهات ، فكانت الشرطية - أعني شرطية الاستقبال - مشتملة على زيادة التكليف ، فإنّ المنع عن الاستدبار متحقّق على كلّ من شرطية الاستقبال ومانعية الاستدبار ، وتزيد شرطية الاستقبال على مانعية الاستدبار بالمنع عن الجهتين

ص: 99


1- فوائد الأُصول 4 : 89.

الأُخريين أعني الشرق والغرب ، فيكون المرجع في هذه الجهة الزائدة من التكليف هو البراءة.

وأمّا ما أُفيد من مثال الدوران بين شرطية الوحدة ومانعية القران بالنسبة إلى السورة ، فليست المقابلة فيه بين قيدية السورة وشرطيتها بعدم الثانية ومانعية الثانية بعد الفراغ عن وجوب السورة وكونها جزءاً ، وإلاّ كانا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل المقابلة إنّما هي بين شرطية نفس السورة الواحدة ومانعية السورة الثانية ، ليكونا حينئذ من الضدّين اللذين لهما ثالث ، ويكون شرطية السورة الواحدة متكفّلاً لجهة زائدة من التكليف على مانعية السورة الثانية ، فإنّ مانعية السورة لا تتكفّل إلاّبالمنع عن السورة الثانية بعد الأُولى ، بخلاف شرطية السورة الواحدة فإنّها تتكفّل بالمنع عن السورة الثانية وبالمنع عن عدم السورة رأساً ، فتجري البراءة من الشرطية لأجل هذه الكلفة الزائدة.

وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما فلا يكون شرطية أحدهما مشتملة على كلفة زائدة على مانعية الآخر كي يرجع في ذلك إلى البراءة ، بل لا يترتّب أثر عملي على الدوران المذكور ، لأنّه على كلّ من شرطية أحد الضدّين المذكورين ومانعية الآخر يلزمه ترك الضدّ الآخر ، وترك الضدّ الآخر المحتمل المانعية هو عين الاتيان بالضدّ المحتمل الشرطية ، لأنّ المفروض أنّه لا واسطة بينهما.

نعم ، في مقام الشكّ يترتّب على الدوران المذكور أثر عملي بناءً على صحّة الرجوع إلى أصالة عدم المانع ، يعني البناء على عدمه ، بحيث يكون الشكّ فيه كافياً في صحّة العمل وإن لم يكن في البين استصحاب عدمه ، بخلاف الشرطية فإنّه لابدّ من إحرازها ، فعند كون اللباس أو جزء منه من الحيوان ولم يعلم أنّه من مأكول اللحم أو من غير مأكول اللحم ، لو دار الأمر بين شرطية

ص: 100

المأكولية ومانعية غير المأكول ، نقول : إنّه بناءً على الشرطية لا يمكن الحكم بجواز الصلاة فيه لعدم إحراز الشرط ، بخلاف مانعية غير المأكول ، فإنّه يمكن الحكم بجواز الصلاة فيه لعدم إحراز المانع ، وهو - أعني عدم إحراز المانع - كافٍ في البناء على عدمه ، بناءً على صحّة دعوى البناء على أصالة العدم عند الشكّ في وجود المانع ولو لم تكن الحالة السابقة معلومة ، لكنّه قد حقّق في محلّه فساد هذه الدعوى.

ولكن نقول : لو فرضنا صحّتها يظهر أثر للشرطية والمانعية في مورد الشكّ المذكور ، وأنّ الأوّل - أعني الشرطية - يوجب الكلفة الزائدة بلزوم إحرازه في مقام الشكّ ، بخلاف الثاني - أعني المانعية - فإنّها لا يلزم فيها إحراز عدم وجود المانع ، فهل تكون هذه الكلفة التي يحكم بها العقل في مقام الشكّ المزبور كافية لجريان البراءة في الشرطية بالنسبة إلى هذا المقدار من الضيق الذي يحكم به العقل في مقام الشكّ على تقدير الشرطية ، أو أنّ هذا المقدار من الكلفة ليست بالحكم الشرعي المجعول من جانب الشارع ، فلا يكون مصحّحاً لجريان البراءة.

وفي الدورات السابقة كان شيخنا الأُستاذ قدس سره يختار الثاني كما أُفيد في هذا التقرير (1) ، لكنّه في الدورة الأخيرة اختار الأوّل على ما في تحريراتي والتقرير المطبوع في صيدا (2) ، وتقريبه : هو أنّ نفس هذه الكلفة وإن لم تكن بحكم الشارع ، بل كانت بحكم العقل ، إلاّ أن المنشأ فيها لمّا كان هو الحكم الشرعي وهو الشرطية ، كان ذلك كافياً في صحّة رفعها ، فراجع التقريرات المطبوعة في صيدا وتأمّل ، فإنّ هذا التقريب لا يخلو عن تأمّل ، حيث إنّ الشرطية وكذلك المانعية

ص: 101


1- فوائد الأُصول 4 : 91 - 92.
2- أجود التقريرات 3 : 448 - 449.

على نظره قدس سره ليست من الأحكام الوضعية المجعولة ، وإنّما المجعول هو الأمر بالشرط فينتزع عنه الشرطية ، والنهي عن المانع وينتزع عنه المانعية.

فنقول : إنّه لو دار الأمر بين وجوب لبس المأكول نفسياً وحرمة لبس غير المأكول نفسياً أيضاً ، فلا إشكال في تنجّز كلا هذين التكليفين ، فلو شكّ حينئذ في مأكولية هذا اللباس ، فلا إشكال في جريان البراءة من حرمة لبسه لجريانها حتّى مع العلم التفصيلي بحرمة لبس غير المأكول ، وذلك لأجل الشكّ في كونه غير مأكول ، لكن هل له أن يكتفي بلبسه ، مع أنّه لو لبسه لم يحصل له الفراغ اليقيني من الوجوب الذي هو أحد التكليفين اللذين وقعا مورداً للعلم الاجمالي المفروض أنّه في نفسه لا تجري فيه البراءة. وهل يمكن أن يقال : إنّ الوجوب وإن لم يمكن جريان البراءة فيه من حيث نفسه ، لكنّه لمّا كان موجباً للضيق على المكلّف في مقام الشكّ زائداً على احتمال التحريم كانت البراءة جارية فيه بهذا المقدار.

ولا يخفى أنّه لو أُشكل على ما مثّلنا به للضدّين اللذين لا ثالث لهما بلباس المأكول ولباس غير المأكول ، بأنّه من قبيل ما لهما ثالث ، لإمكان اللباس من غيرهما أو عدم اللباس أصلاً ، فبدّل ذلك بمثال الكون في المسجد والكون في خارجه بالنسبة إلى الاعتكاف ، إذا دار الأمر بين أن يكون الكون في المسجد شرطاً أو يكون الكون في خارجه مانعاً ، وفرّع على ذلك فيما لو كان هناك قطعة من الأرض يشكّ في كونها مسجداً. ومثّل أيضاً بذلك لدوران الأمر بين الوجوب النفسي والحرمة النفسية ، وأنّه عند الدوران المذكور وإن جرت البراءة من حرمة الكون في ذلك المكان المشكوك ، إلاّ أنه لا تجري في ناحية الوجوب النفسي ، بل يلزم الاحتياط بالكون بما يحرز مسجديته فتأمّل ، هذا.

ص: 102

ولكن كلامه قدس سره في هذه المقدّمة من باب المثال ، وأنّه من قبيل الفرض في الفرض ، وإنّما جرى فيه على مذاق القائلين بجعل الشرطية والمانعية ، وأنّه عند الشبهة الموضوعية في ذلك يكون الأصل لزوم إحراز الشرط بناءً على الشرطية ، وبناءً على المانعية يكتفى بعدم إحراز المانع.

أمّا بناءً على أنّ المتأصّل في ذلك هو الأمر الضمني والنهي الضمني ، فلا يستقيم ذلك كلّه حتّى ما أُفيد في الصورة الأُولى ، أعني ما لو كان في البين ضدّ ثالث ، مثل ما لو شكّ في أنّ الواجب في سجود السهو هو الاستقبال أو أنّ الاستدبار يكون ممنوعاً عنه ، إذ لا ريب حينئذ أنّ المسألة تكون من باب العلم الاجمالي المردّد بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، واللازم حينئذ هو الاحتياط بترك ما احتمل حرمته وفعل ما احتمل وجوبه ، نظير ما لو علم أنّه مكلّف في هذه الساعة بتكليف هو إمّا وجوب وطء زوجته الكبرى وإمّا حرمة وطء زوجته الصغرى ، فإنّه يلزمه في هذه الساعة وطء الأُولى وترك وطء الأُخرى.

ولا محصّل للقول بأنّ ذلك من قبيل الأقل والأكثر ، بدعوى أنّ ذلك التكليف إن كان هو حرمة وطء الثانية فلا يلزمه إلاّترك وطئها ، بخلاف ما لو كان التكليف المتوجّه إليه هو وجوب وطء الأُولى ، فإنّه يلزمه ترك وطء الثانية وترك وطء الثالثة وغيره من باقي الأضداد الوجودية لوطء الأُولى حتّى الأكل والشرب والنوم ، بل حتّى الترك المجرّد ، فإنّ ذلك مبني على أنّ الأمر بوطء الأُولى عبارة عن النهي عن جميع أضداده.

وهكذا الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، مثل الكون في المسجد والكون في خارج المسجد ، وتوجّه إليه تكليف مردّد بين وجوب الكون في

ص: 103

المسجد وحرمة الكون في خارجه ، وكانت هناك قطعة خاصّة يشكّ في كونها من المسجد ، فإنّ مقتضى هذا العلم الاجمالي عدم الكون في تلك القطعة تحصيلاً للفراغ اليقيني ممّا اشتغلت به ذمّته ، سواء كان ذلك التكليف المردّد استقلالياً أو كان شرطياً ضمنياً ، كما لو دار الأمر في الاعتكاف بين كون الكون في المسجد شرطاً في صحّته أو كون الكون في خارجه مانعاً فيه ، فإنّ اللازم عليه هو اجتناب الكون في تلك القطعة الخاصّة المشكوكة ، إلاّعلى القول بكون المجعول هو الشرطية والمانعية ، وأنّه يكفي في المانعية مجرّد عدم إحراز المانع. وكلّ من القولين خلاف مسلكه قدس سره.

وحينئذ فلا يكون كلامه قدس سره في هذه المقدّمة إلاّمن باب المثال لما هو بصدده ، وهو أنّ المجعول المردّد بين المتباينين لو كان في حدّ نفسه ممّا لا تجري فيه البراءة ولو باعتبار العلم الاجمالي المردّد بين ذينك المتباينين ، لكن اتّفق في بعض صور ذلك الترديد أنّ أحد الوجهين يوجب الكلفة الزائدة دون الآخر ، فهل تجري البراءة في ذلك بالنظر إلى تلك الكلفة الزائدة أو لا ، كما فيما نحن فيه ، فإنّه لا إشكال في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس ، غايته أنّه تردّد وجوبه المذكور بين كونه موضوعاً جديداً من النجس أو كونه بنفس وجوب الاجتناب عن أصله.

ولا ريب أنّ شيئاً من هذين الوجهين لا مورد فيه للبراءة ، للعلم بوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس على كلّ من الوجهين ، لكن في صورة كون الملاقى - بالفتح - أحد طرفي العلم الاجمالي بالنجاسة ، يكون مقتضى الوجه الأوّل هو عدم وجوب الاجتناب عن ملاقيه لخروجه عن العلم الاجمالي ، بخلاف مقتضى الثاني لدخوله في العلم الاجمالي القاضي بلزوم الاحتياط ، فهل تجري البراءة عن

ص: 104

الوجه الثاني ولو باعتبار كونه موجباً للضيق الزائد على المكلّف في هذه الصورة ، فيه تأمّل.

ولا يبعد القول بعدم الجريان ، فإنّ هذه الكلفة الزائدة لم تكن بجعل الشارع وإنّما جاءت من حكم العقل بلزوم الاحتياط في مورد العلم الاجمالي ، وهل ذلك إلاّ من قبيل من علم بأنّه يجب عليه إكرام عمرو أو إكرام زيد ، وكان عمرو معروفاً عنده بشخصه وكان زيد مردّداً بين أشخاص متعدّدين ، فيقال : إنّ المجعول الشرعي لو كان هو وجوب إكرام زيد لكانت الكلفة فيه أزيد من الكلفة لو كان المجعول الشرعي هو وجوب إكرام عمرو ، فتجري البراءة في إكرام زيد من هذه الجهة الموجبة للكلفة الزائدة ، لا أظنّ أحداً يلتزم بذلك ، والظاهر أنّه لا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة البحث : أنّ دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعية آخر يكون على صور :

الأُولى : أن لا يكون بينهما ضدّية ، مثل دوران الأمر بين شرطية الاستعاذة ومانعية قول آمين. وفي هذه الصورة لا ينبغي الإشكال في كون العلم الاجمالي موجباً للاتيان بالاستعاذة وترك قول آمين ، نظير سائر المقامات التي يدور الأمر فيها بين وجوب شيء وتحريم شيء آخر.

الثانية : أن يكون ذلك بين الضدّين اللذين لهما ثالث ، مثل دوران الأمر في سجود التلاوة مثلاً بين كون الاستقبال فيها شرطاً وكون الاستدبار فيها مانعاً. وفي هذه الصورة يكون الأمر كذلك ، يعني لزوم الاستقبال وترك الاستدبار ، لكن قيل بحلّ العلم الاجمالي ، لكونه بالنسبة إلى الترك من قبيل الأقل والأكثر ، نظراً إلى أنّه لو كان الواقع هو المانعية فلا يكون المطلوب إلاّترك الاستدبار ، بخلاف ما

ص: 105

لو كان الواقع هو شرطية الاستقبال فإنّ المطلوب حينئذ هو ترك الاستدبار وترك مواجهة المغرب وترك مواجهة المشرق ، فلو قيل بذلك كان المرجع هو أصالة البراءة من لزوم التركين الأخيرين ، وحينئذ لا يظهر لذلك أثر في مقام الشكّ على نحو الشبهة الموضوعية.

الثالثة : أن يكون ذلك بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما مثّلنا بمسألة الاعتكاف ، وأنّ الكون في المسجد شرط فيه أو أنّ الكون في خارج المسجد مانع فيه. وفي هذه الصورة يكون العلم الاجمالي القاضي بلزوم الكون في المسجد وترك الكون في خارجه بحاله ، ولا يمكن القول بحلّه باعتبار التروك ، لأنّ ترك الكون في خارج المسجد يكون عين الكون في داخله. لكن في صورة الشبهة الموضوعية كما في القطعة المشكوك كونها من المسجد أو من خارجه ، بناءً على الاكتفاء بعدم إحراز المانع يمكن القول بالانحلال ، بدعوى كون الشرطية فيها كلفة زائدة في المقام ، وهي لزوم إحراز الشرط ، بخلاف المانعية فإنّه بناءً عليها لا تكون الكلفة المذكورة موجودة ، فتجري البراءة في الشرطية باعتبار هذه الكلفة الزائدة.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب لا يتوقّف على جعل الشرطية والمانعية ، وإنّما يتوقّف على القول بالاكتفاء بعدم إحراز المانع في مسألة المانعية ، ولعلّ هذا هو مراد شيخنا قدس سره من هذه المقدّمة ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 106

[ الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ]

قوله : الأمر الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض الأطراف ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف تارةً يكون اضطراراً إلى إتلافه وصرفه فيما لا يكون مشروطاً بالطهارة ، مثل الاضطرار إلى إطفاء النار به ، أو إلى سقيه لحيوان يلزم حفظ حياته ونحو ذلك. وأُخرى يكون اضطراراً إلى استعماله فيما يشترط فيه الطهارة ، وهذا على نحوين ، لأنّ استعماله فيما يشترط فيه الطهارة إمّا أن يكون باتلافه فيه كأن يضطرّ إلى شربه ، وإمّا أن لا يكون ذلك إتلافاً له كما في الاضطرار إلى لبس الثوب في حال الصلاة.

أمّا القسم الأوّل وهو الاضطرار إلى إتلافه فيما لا يشترط فيه الطهارة ، فهو وإن أوجب سقوط العلم الاجمالي ، إلاّ أنه إنّما يسقطه من جهة كونه من قبيل الخروج عن الابتلاء ، على ما تقدّم (2) من أنّ العلم الاجمالي لا يكون مؤثّراً لو كانت مخالفة التكليف في أحد طرفيه غير مقدورة عقلاً أو عادة أو شرعاً ، وهذا من قبيل ما تكون المخالفة غير مقدورة شرعاً ، لأنّه بواسطة الأمر بصرف ذلك الماء في إطفاء النار لا يكون شربه أو الوضوء به مقدوراً شرعاً ، فلا يصحّ النهي عن شربه أو الوضوء به.

ومن ذلك يعلم أنّه لابدّ في هذا القسم من كون الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب

ص: 107


1- فوائد الأُصول 4 : 93.
2- في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 539 وما بعدها.

ولا ينفع فيه مجرّد العسر والحرج ، لكن هل يمكن أن يكون منهياً عن الوضوء به أو شربه ولو على نحو الترتّب؟ الظاهر نعم ، وقد حقّقنا ذلك في شرح عبارة الوسيلة فراجع (1). ولا يخفى أنّه لو أمكن فيه الترتّب كان العلم الاجمالي منجّزاً وموجباً لسقوط الأصل في كلّ من الطرفين ، فتأمّل.

وأمّا القسم الثاني وهو ما كان مضطرّاً إلى استعماله فيما يشترط فيه الطهارة ، وكان الاستعمال المذكور موجباً لإتلافه ، فإن كان له أثر آخر وكان مشروطاً بالطهارة ، كما لو كان أحدهما ماء وكان مضطرّاً إلى شربه وكان له أثر آخر وهو المنع عن الوضوء به ، كان ملحقاً بالقسم الأوّل في كون وجوب صرف ذلك الطرف في الشرب موجباً لعدم القدرة شرعاً على الوضوء به ، فيكون سقوط العلم الاجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الأثر الأوّل من باب الاضطرار ، وبالنسبة إلى الأثر الثاني من باب الخروج عن محلّ الابتلاء ، لكن بالنظر إلى الترتّب يكون العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إلى الأثر الثاني ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الترتّب لا يصحّح التكليف من ناحية الوضوء ، لكونه مشروطاً بالقدرة التي لا مجال فيها للترتّب.

لأنّا نقول : إنّ المشروط بالقدرة الشرعية إنّما هو وجوب الوضوء ، لا النهي عنه الذي نريد أن نقول إنّه مترتّب على عصيان الأمر بالشرب ، بحيث يكون المحصّل اشرب هذا الاناء وإن عصيت ولم تشربه فلا تتوضّأ به ، ومن الواضح أنّ النهي عن الوضوء بالنجس ليس بمشروط بالقدرة الشرعية كي يقال إنّه لا يتأتّى فيه الترتّب ، وإن شئت فاترك النهي عن الوضوء واجعل الأمر الثاني كحرمة بيعه مثلاً.

ص: 108


1- مخطوط لم يطبع بعد.

وإن لم يكن له أثر آخر ، كما لو كان أحد الطرفين ميتة ما لا نفس له كالسمكتين اللتين يعلم أنّ إحداهما ميتة ، فإنّ الأثر المترتّب على الميتة من السمك منحصر بحرمة الأكل ، فلو فرضنا اضطراره إلى واحدة معيّنة ، أو فرضنا العلم الاجمالي بنجاسة هذا الاناء أو كون هذه السمكة ميتة ، وكان مضطراً إلى أكل السمكة ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً على التفصيل المرقوم في المتن ، وشرحناه أيضاً في شرح عبارة الوسيلة.

ومنه يعلم الحال في القسم الثالث ، وهو ما لو كان مضطرّاً إلى استعمال الطرف فيما يشترط فيه الطهارة ، ولم يكن الاستعمال موجباً لإتلافه ، كما لو كان أحدهما ثوباً واضطرّ إلى لبسه في الصلاة ، فإن لم يكن أثر آخر مترتّب على نجاسة الثوب ممّا يشترط فيه الطهارة ، كان حاله [ حال ] النحو الثاني من القسم الثاني في كونه موجباً لسقوط العلم الاجمالي. وإن كان له أثر آخر ولو مثل حرمة البيع ، لم يكن الاضطرار إلى اللبس موجباً لسقوط العلم الاجمالي بالنجاسة بين الثوب المذكور وغيره ممّا يكون طرفاً له في العلم الاجمالي بالنجاسة بينهما.

فقد تلخّص لك : أنّ الداخل فيما نحن فيه من الاضطرار الموجب لسقوط العلم الاجمالي ، هو ما لو كان الأثر المترتّب على المعلوم بالاجمال في أحد الطرفين منحصراً فيما اضطرّ إلى مخالفته ، سواء كان الاستعمال المضطرّ إليه موجباً لإتلافه كما لو كان أحد الطرفين ميتة السمك وكان مضطراً إلى أكلها ، أو كان غير موجب لإتلافه كما لو كان أحدهما ثوباً وعلم بالنجاسة بينه وبين طرف آخر ، ولم يكن لنا أثر يترتّب على نجاسة الثوب إلاّحرمة الصلاة فيه ، وكان مضطرّاً إلى الصلاة فيه ، من دون فرق في ذلك بين كون الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب أو كونه غير بالغ لحدّ الوجوب ، بل كان من مجرّد العسر والحرج

ص: 109

الموجبين لرفع ذلك الأثر على تقدير انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الطرف المضطرّ إليه.

قال الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته - بعد أن أفاد أنّ الاضطرار إلى واحد معيّن قبل العلم الاجمالي أو مقارناً يوجب سقوط العلم الاجمالي - ما هذا لفظه : نعم لو كان الاضطرار المزبور ناشئاً عن تقصير في مقدّماته بنحو يخرج عن صلاحية العذر ، لا بأس بدعوى بقاء العلم الاجمالي على منجّزيته وإن لم يكن فعلاً علم بالخطاب الفعلي ، إذ مثل هذه الجهة بعد ما لا يكون مانعاً عن تنجيز الخطاب - بمحض تمكّنه من حفظه سابقاً - فلا يصلح مانعيته عن فعلية الخطاب [ للمنع ] عن تنجّز الخطاب بطريقه ، وكأنّه يصير من قبيل إلقاء النفس عن الشاهق. والظاهر أنّ إطباق كلماتهم أيضاً على مانعية مثل هذا الاضطرار عن منجّزية العلم بل عن وجوده منصرف عن صورة التقصير المزبور كما لا يخفى (1).

قلت : لا يخفى أنّ الاضطرار إنّما يكون غير منافٍ للتنجّز بحيث يكون من قبيل الاضطرار بسوء الاختيار إذا كان بعد توجّه الخطاب وبعد تنجّزه ، وهو هنا لا يكون إلاّبالعلم الاجمالي الذي صرّحوا بأنّ الاضطرار فيه لا يكون موجباً لسقوط العلم عن التنجّز ، أمّا لو كان قبل العلم أو كان مقارناً للعلم ، بأن كان له إناءان من الماء فأراق أحدهما عمداً وبقي الآخر ، ثمّ حدث اضطراره إلى شرب الباقي وحدث العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة الاناء الباقي وبين ثوبه مثلاً ، فهذا الاضطرار ممّا لا ينبغي الريب في كونه خارجاً عن التقصير وعن كونه اضطراراً بسوء الاختيار ، فلاحظ وتأمّل.

والحاصل : أنّ كون الاضطرار بسوء الاختيار موجباً لبقاء العقاب وإن سقط

ص: 110


1- مقالات الأُصول 2 : 244.

معه الخطاب ، إنّما هو فيما لو ألقى نفسه بالاضطرار بعد العلم بالتكليف ، كما لو دخل الفجر وصنع ما يوجب اضطراره إلى الافطار وعدم قدرته على الصوم ، ويلحق به ما لو صنع ذلك في أوّل الليل وكان عالماً بأنّه لا يقدر مع ذلك الصنع على الصوم في نهار غد ، أمّا لو كان قبل العلم بالتكليف بل قبل توجّه التكليف بل قبل حدوث سببه كما فيما نحن فيه فيما عرفته من المثال ، فلا يكون لذلك الاقدام أثر في إسقاط الاضطرار عن كونه مسقطاً لكلّ من التكليف والعقوبة على مخالفته ، فلاحظ وتأمّل. هذا كلّه فيما لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن.

وأمّا لو كان الاضطرار إلى واحد من الطرفين غير معيّن ، كما لو علم إجمالاً بأنّ إحدى هاتين السمكتين ميتة ، ولم يكن لنا من الآثار المترتّبة على ميتة السمك إلاّ حرمة الأكل ، وكان مضطرّاً إلى أكل واحدة غير معيّنة منهما ، فإن كان الاضطرار بالغاً حدّ الوجوب بأن أشرفت نفسه على التلف ، بل ولو لم يكن في البين تلف نفسه ، بل كان يجب عليه الأكل مقدّمة لصوم غد ، بحيث إنّه لو لم يأكل شيئاً لم يقدر على الصوم الواجب ، ولم يكن له من المأكول إلاّهاتان السمكتان ، فلا ريب في وجوب أكل إحداهما وعدم جواز أكل الأُخرى ، لكونه حينئذ ملحقاً بدوران الأمر بين وجوب أحد الطرفين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، كما لو نذر أحدهما المعيّن وحرم عليه الآخر معيّناً واشتبها ، فيكون ممنوعاً من أكلهما معاً ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية للتحريم ، كما أنّ ترك أكلهما معاً موجب للمخالفة القطعية للوجوب ، فينحصر أمره بحكم العقل بأكل إحداهما وترك الأُخرى ، ويكون ذلك من قبيل تبعيض الاحتياط ، بل ما نحن فيه أولى بذلك من مسألة دوران الأمر بين وجوب أحد الطرفين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، فإنّه لو أكل إحدى السمكتين وترك الأُخرى يحصل على الموافقة القطعية للوجوب مع

ص: 111

الموافقة الاحتمالية للتحريم.

ويمكن أن يقال : إنّ ما نحن فيه هو عين مسألة العلم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر مع اشتباههما ، نظراً إلى أنّ الوجوب لا يتوجّه إلاّ إلى ما هو المباح واقعاً ، وحيث إنّهما قد اشتبها يكون عين مسألة اشتباه الواجب بالحرام ، ولا فرق بينهما إلاّفي أنّ الوجوب في تلك المسألة يكون قبل الاشتباه وفيما نحن فيه يكون بعد الاشتباه. ويمكن فرضه فيه قبل الاشتباه ، بأن يعلم بعين ما هو الحرام وعين ما هو المباح ثمّ يحصل له الاضطرار الموجب لإيجاب الارتكاب ثمّ يحصل الاشتباه بينهما.

فتلخّص : أنّ الاضطرار لو كان بالغاً إلى حدّ الوجوب الشرعي لم يكن لنا محيص من القول بتبعيض الاحتياط ، ومثله لو كان ذلك بحكم العقل ، بأن حكم العقل بلزوم الارتكاب في بعض الأطراف ، كما ذكروا ذلك في دليل الانسداد فيما لو كان الاحتياط التامّ مخلاًّ بالنظام ، فإنّ نتيجة ذلك حينئذ هي تبعيض الاحتياط. هذا إذا كان الاضطرار بالغاً إلى هذا الحدّ من الوجوب العقلي أو الشرعي.

أمّا إذا كان الاضطرار غير بالغ إلى ذلك الحدّ ، بل كان من قبيل مجرّد العسر والحرج ففيه تأمّل ، من جهة أنّ دليل العسر والحرج لا يجري في المباحات ، وإنّما يتأتّى في التكاليف الالزامية إذا كانت موجبة للعسر والحرج ، والمفروض أنّ التكليف الالزامي فيما نحن فيه الذي هو حرمة أكل الميتة الموجودة في البين لم يكن مصطدماً مع العسر والحرج ، كما أفاده الأُستاذ قدس سره (1) في وجه وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ، وما لم يكن العسر والحرج مصطدماً بالتكليف الواقعي لم يمكن أن يتحكّم عليه ، فلم يبق لنا إلاّ أن نقول إنّ التكليف الواقعي وإن

ص: 112


1- فوائد الأُصول 4 : 98 وما بعدها.

لم يكن بنفسه حرجياً ، إلاّ أنه لمّا كان الجمع بين محتملاته حرجياً ، كان ذلك كافياً في تحكيم أدلّة الحرج عليه ، لكن لازم ذلك هو سقوط الاحتياط بالمرّة ، لسقوط نفس ذلك التكليف الواقعي بكون الجمع بين محتملاته حرجياً.

وهكذا الحال لو قلنا بأنّ التكليف الواقعي في حدّ نفسه لم يكن حرجياً ، إلاّ أنّه لو كان منطبقاً على ذلك الفرد الذي يختاره المكلّف لرفع الحرج عنه يكون دليل الحرج رافعاً له ، كما أفاده في الكفاية (1) وكما ذكره في التقرير (2) في توجيه كون الترخيص واقعياً ، وكونه من قبيل التوسّط في التكليف ، فإنّه وإن لم يكن مسقطاً للتكليف وموجباً للقطع بعدمه كما في التوجيه الأوّل ، إلاّ أنه إذا كان سابقاً على العلم الاجمالي يكون موجباً لسقوط الاحتياط ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الاضطرار إلى المعيّن في كونه من قبيل التوسّط في التكليف في ملاك سقوط الاحتياط ، وهو أنّه إن كانت الميتة الواقعية منطبقة على هذا الفرد المعيّن الذي اضطرّ إليه ، أو كانت منطبقة على هذا الفرد الذي اختاره المكلّف لسدّ ضرورته ، كانت حرمتها مرتفعة بدليل العسر والحرج ، وإن كانت منطبقة على الطرف الآخر تكون حرمتها باقية.

ومن ذلك تعرف أنّ ما أُفيد في آخر البحث من هذا التقرير من أنّه لا أثر يترتّب على كون المقام من قبيل التوسّط في التكليف ، أو من قبيل التوسّط في التنجيز ليس كما ينبغي ، بل إنّ ذلك هو العمدة والأساس في وجوب الاحتياط في الباقي.

وخلاصة المبحث : أنّا نحتاج في جريان دليل العسر والحرج إلى حكم

ص: 113


1- كفاية الأُصول : 360.
2- فوائد الأُصول 4 : 107.

شرعي إلزامي يكون دليل الحرج حاكماً عليه ، فإن كان ذلك الحكم الشرعي هو الحكم الواقعي المعلوم أعني حرمة الميتة الموجودة في البين ، ففيه أنّها ليست حرجية ، وإنّما الحرجي هو الاحتياط والجمع بين محتملاتها. ولو سلّم اتّصاف تلك الحرمة بأنّها حرجية ولو باعتبار استدعائها الاحتياط المذكور ، كان ارتفاعها موجباً للقطع بارتفاع التكليف ، ومستلزماً لارتفاع الاحتياط بالمرّة. والقول بأنّها ترتفع بمقدار اقتضاء وجوب الموافقة القطعية دون اقتضاء حرمة المخالفة القطعية ، ممّا لم يظهر وجهه وانطباقه على الصناعة ، فإنّ هذه الجهات أحكام عقلية ناشئة عن وجود التكليف الواقعي ، فإن كان موجوداً ترتّبت وإلاّ لم يترتّب شيء منها.

وإن شئت قلت : إنّ اقتضاء التكليف الواقعي لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية ، لم يكن بحكم من الشارع كي يكون مرتفعاً عند كونه حرجياً ، وارتفاع التكليف بالقياس إلى هذا الأثر العقلي له دون الأثر الآخر ممّا لم نتعقّله.

هذا إن أُريد تحكيم دليل العسر والحرج على نفس التكليف الواقعي المعلوم في البين بقول مطلق ، وإن أُريد تحكيمه عليه على تقدير انطباقه على الطرف الذي يختاره المكلّف لسدّ ضرورته ، كما أفاده في الكفاية وجعله برهاناً على عدم وجوب الاحتياط في الطرف لكونه راجعاً إلى التوسّط في التكليف ، ففيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلاً : فلأنّ هذه السمكة التي قدّمها المكلّف لنفسه ليسدّ بها ضرورته لو كانت هي الميتة واقعاً لم تكن حرمتها ضررية ولا حرجية ، لوجود السمكة الأُخرى.

ص: 114

وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا ذلك لكان حاله حال الاضطرار إلى المعيّن في عدم إسقاط الاحتياط فيما لو تأخّر عن العلم ، لكونه حينئذ من قبيل التردّد بين الطويل والقصير.

وأمّا ثالثاً : فلما ستأتي الاشارة إليه من عدم الدليل على كون المكلّف مخيّراً في ارتكاب أيّهما شاء.

وما أُفيد في التقرير المذكور وحرّرناه نحن أيضاً في التقرير وفي الشرح المشار إليه من أنّ المسوّغ له والموقع له في أكل الميتة على تقدير كونها هي التي أكلها هو جهله لا اضطراره ، غير خال عن التأمّل والإشكال ، إذ ليس الكلام في سبب معذوريته ، وإنّما الكلام في كيفية تحكيم دليل العسر والحرج ، والحيرة إنّما هي في الحكم الشرعي الذي يصطدم به ويكون حاكماً عليه ، بعد ما قدّمناه من تلك المقدّمة القائلة بأنّه لابدّ في جريان دليل العسر والحرج من وجود حكم شرعي يكون موجباً للعسر والحرج ، ومن الواضح أنّ كون الجهل عذراً لا دخل له بهذه الجهة أصلاً.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ ما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، وذلك قوله : وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعيّن ، فإنّ رافع التكليف فيه منحصر باختيار المكلّف في مقام التطبيق ، فإنّه على تقدير انطباق الحرام على مورد اختياره يكون التكليف فيه ساقطاً ، فلا مقتضي للسقوط قبله ، وعليه فالتكليف قبل الاختيار - ولو كان الاضطرار سابقاً على حدوث التكليف أو العلم به - يكون فعلياً على كلّ تقدير ، ويشكّ في سقوطه عن الطرف الآخر بعد اختيار المكلّف أحد الطرفين الخ (1)

ص: 115


1- أجود التقريرات 3 : 464 - 465.

ووجه الإشكال والتأمّل ، هو أنّه ليس الكلام فيما لو ارتكب ما يسدّ به ضرورته قبل العلم الاجمالي ، وإلاّ لكان من قبيل العلم الاجمالي بعد تلف أحد الطرفين ، وإنّما محل الكلام هو أنّه لو حصل له العلم الاجمالي المذكور وكان مضطراً إلى ارتكاب أحد الطرفين لا بعينه باضطرار سابق على ذلك العلم الاجمالي. كما أنّه ليس الكلام فيما يكون حاله بعد الفراغ من ارتكاب أحد الطرفين لسدّ ضرورته ، فإنّها من قبيل الشكّ في المسقط حتّى لو لم يكن في البين اضطرار ، لاحتمال كون الحرام هو الذي ارتكبه فيكون من قبيل المسقط ، ويكون الشكّ في انطباق ذلك المعلوم بالاجمال على ذلك الذي ارتكبه موجباً لكونه من قبيل الشكّ في المسقط ، كان في البين اضطرار أو لم يكن. وإنّما عمدة الكلام هو في المسوّغ له ارتكاب ذلك الطرف الذي اختاره ، وقد عرفت أن لا مسوّغ إلاّدليل العسر والحرج ، وهو يحتاج إلى أن يصطدم بالتكليف الواقعي ليتحكّم عليه ، والمفروض أنّه لا يصطدم به.

وكما يتوجّه الإشكال المزبور على ما أفاده شيخنا قدس سره ، فهو يتوجّه على ما في الكفاية ، فإنّ الاضطرار لو كان بالغاً إلى حدّ الوجوب كان المكلّف مخيّراً في ارتكاب أيّهما شاء ، أمّا إذا لم يكن في البين إلاّ العسر والحرج فلا دليل على هذا التخيير ، وعليه يكون اللازم هو الاحتياط وعدم إعمال دليل العسر والحرج. وهذا المبحث عين المبحث في دليل الانسداد من سقوط الاحتياط إذا بلغ العسر فيه اختلال النظام ، أمّا إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد العسر والحرج ، فإنّ دليل نفيهما لا يوجب سقوطه إلاّ إذا طبّقناه على نفس التكليف المعلوم في البين.

ويمكن الجواب عن أصل الإشكال ، بأنّ الحرج إنّما جاء من جهة الجمع بين الاجتناب عن هذا الطرف والاجتناب عن الطرف الآخر كما هو مقتضى العلم

ص: 116

الاجمالي ، فإنّ مقتضى العلم الاجمالي بوجود الميتة بين السمكتين ، هو أنّ الميتة لو كانت هي هذه السمكة لوجب الاجتناب عنها بقول مطلق ، سواء اجتنب عن السمكة الأُخرى أو لم يجتنب ، وهكذا الحال من طرف العكس ، وهذا الجمع إنّما نشأ من إطلاق التكليف الواقعي المعلوم في البين ، وحيث كان الجمع المذكور حرجياً ، كان المرفوع بدليل رفع الحرج هو إطلاق التكليف المعلوم في البين ، لا أصل وجوب الاجتناب ، فيكون الحاصل أنّه إن كانت هذه هي الميتة لكان وجوب الاجتناب عنها مقيّداً بعدم الاجتناب عن الأُخرى ، وهكذا الحال من طرف العكس ، إذ لو كانت هذه هي الميتة لكان وجوب الاجتناب عنها عند الاجتناب عن تلك حرجياً ، فيكون مرفوعاً بدليل الحرج ، فلا يكون المرفوع حينئذ إلاّوجوب الاجتناب عن كلّ واحدة منهما لو كانت هي الميتة عند الاجتناب عن تلك ، أمّا عند ارتكاب إحداهما فلا يكون الاجتناب عن الأخرى حرجياً لو كانت الميتة هي الأُخرى.

والحاصل : أنّ العسر إنّما نشأ عن الجمع بين الاجتنابين ، وهو - أعني الجمع المذكور - لم ينشأ عن نفس ذلك التكليف الواقعي ، وإنّما نشأ عن إطلاقه وشموله لما إذا اجتنب عن الأُخرى وما إذا لم يجتنب عنها ، فيكون المرفوع هو الاطلاق المزبور.

وإن شئت فقل : إنّ الميتة لو كانت منطبقة على هذه السمكة لكان وجوب الاجتناب عنها عند الاجتناب عن الأُخرى مرفوعاً.

وهذا التقريب هو المستفاد ممّا أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في درسه ، وأشار إليه في مقالته (1) ونتيجته هي تبعيض الاحتياط كما أفاده شيخنا قدس سره ، وقد تعرّض

ص: 117


1- مقالات الأُصول 2 : 245.

لذلك في ملحق الجزء الثاني من المستمسك في مبحث القبلة (1).

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الميتة لو كانت هي هذه السمكة لكانت الأُخرى مباحة ، فلا يكون إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة وشموله لصورة ترك الأُخرى حرجياً ، كما هو الشأن في كلّ واجب قوبل بمباح يكون الجمع بينه وبينه حرجياً ، مثل أن يكون الصوم حرجياً عند التعرّض للشمس ، فإنّ ذلك لا يرفع إطلاق وجوب الصوم وشموله لصورة التعرّض ، بل يبقى وجوب الصوم على حاله من الاطلاق وشموله لصورة التعرّض ، ويكون اللازم على المكلّف هو اجتناب التعرّض.

وإنّما تتأتّى هذه الطريقة - أعني طريقة التقييد - فيما لو كان كلّ منهما واجباً مع فرض اتّفاق عدم القدرة على الجمع بينهما ، أو كون الجمع المذكور حرجياً ، أمّا لو كان أحدهما واجباً والآخر مباحاً فلا يلتزم بتقييد الوجوب بعدم ذلك المباح ، بل يبقى ذلك الوجوب بحاله ، ويلتزم بعدم ذلك المباح ، لعدم كون إطلاق ذلك الوجوب وشموله لوجود المباح حرجياً ، إذ لم يكن الحرج آتياً من إطلاق الوجوب ، وإنّما هو آت حينئذ من ناحية المكلّف مع فرض تمكّنه من ترك ذلك المباح.

ففيما نحن فيه نقول : إنّ هذه السمكة لو كانت هي الميتة لم يكن إطلاق وجوب الاجتناب عنها وشموله لترك أكل الأُخرى حرجياً ، لفرض كون ترك الأُخرى حينئذ مباحاً ، فيمكنه أن لا يترك أكل الأُخرى ، فلا يكون وجوب الاجتناب عن هذه حرجياً. وهكذا الحال من طرف العكس ، هذا.

ولكن يمكن إتمام هذه الطريقة - أعني طريقة التقييد المذكور - بما تقدّمت

ص: 118


1- مستمسك العروة الوثقى 5 : 202.

الاشارة إليه ، وحاصل ذلك أن نقول : إنّ إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة لو كانت هي الميتة وإن لم يكن في نفسه حرجياً ، إلاّ أنه بواسطة العلم الاجمالي بوجود الميتة بين هاتين السمكتين الموجب عليه الاجتناب عن كلّ منهما ، يكون إطلاق وجوب الاجتناب عن هذه السمكة لو كانت هي الميتة وشموله لصورة الاجتناب عن الأُخرى حرجياً ، بمعنى أنّه بعد العلم الاجمالي بوجود الميتة في البين ، الذي يكون مقتضاه بحكم العقل هو وجوب الاجتناب عن كلّ منهما ، وبعد فرض أنّ المكلّف يعسر عليه الاجتناب عنهما معاً نقول : إنّ هذه السمكة لو كانت في الواقع هي الميتة ، يكون إطلاق وجوب الاجتناب عنها وشموله لما إذا اجتنب عن الأُخرى حرجياً ، فنحكّم دليل العسر والحرج على ذلك الاطلاق ، ويكون محصّله هو رفع وجوب الاجتناب عن هذه عند الاجتناب عن الأُخرى ، وهكذا من ناحية العكس ، ويكون هذا التحكيم بعد العلم الاجمالي ، ويكون الفرق بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غير المعيّن ، أنّه في صورة الاضطرار إلى المعيّن يكون تحكيم دليل العسر والحرج على التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على الفرد المضطرّ إليه قبل العلم الاجمالي ، فيكون العلم الاجمالي وارداً على تكليف محكوم لدليل العسر والحرج أو تكليف غير محكوم لذلك الدليل ، بخلاف صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، فإنّه قبل العلم الاجمالي لو كانت الميتة هي هذه السمكة لم يكن دليل العسر والحرج وارداً وحاكماً على إطلاق وجوب الاجتناب عنها ، إذ لم يكن حينئذ ذلك الاطلاق حرجياً ، وإنّما يكون الاطلاق المذكور حرجياً بعد تحقّق العلم الاجمالي الذي مقتضاه الجمع بين الاجتنابين الذي هو حرجي.

وبالجملة : أنّ كون إطلاق التكليف حرجياً ناشئ عن لزوم الجمع ، وهو

ص: 119

ناشئ عن العلم الاجمالي ، فيكون اتّصاف ذلك الاطلاق بالحرجية متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي وعن تأثيره في لزوم كلا الاجتنابين ، فلا يعقل أن يرفع أثره بالمرّة ، ويكون حاله حال الاضطرار إلى المعيّن الواقع بعد العلم الاجمالي ، فكما أنّ ذلك لا يسوّغ له إلاّ ارتكاب ما اضطرّ إليه ، فكذلك الاضطرار إلى غير المعيّن السابق في الزمان على العلم الاجمالي ، فإنّه وإن كان سابقاً في الزمان على العلم الاجمالي ، إلاّ أن اتّصاف إطلاق التكليف الواقعي بالحرجية لمّا كان متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي ، لم تكن حرجية ذلك الاطلاق مسوّغة له إلاّرفع ذلك الاطلاق الذي يكون مقتضاه وجوب الاجتناب عن كلّ منهما عند الاجتناب عن الأُخرى ، وحينئذ فلا يكون موجباً للخدشة في ذلك العلم الاجمالي إلاّ بمقدار تلك الحرجية ، وهو أنّه عند اجتناب تلك يجوز له ارتكاب هذه ، لا أنّه يجوز له ارتكاب كلّ منهما بقول مطلق ، فراجع ما حرّرناه (1) في شرح عبارة الوسيلة في هذا المقام ، وتأمّل في هذه الجهة التي ذكرناها هنا أيضاً ، وهي أنّ المائز بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غير المعيّن فيما لو كان الاضطرار سابقاً بحسب الزمان على العلم الاجمالي ، هو تأخّر عملية دليل العسر والحرج عن عملية العلم الاجمالي في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، وتقدّمها عليه في صورة الاضطرار إلى المعيّن ، وأنّ هذه الجهة هي التي أوجبت سقوط العلم الاجمالي في صورة الاضطرار إلى المعيّن ، وعدم سقوطه في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن ، بحيث كان الاضطرار إلى غير المعيّن السابق بحسب الزمان على العلم الاجمالي ملحقاً بما إذا كان متأخّراً عن العلم الاجمالي ، وسرّ الإلحاق هو ما عرفت من تأخّر عمليّته عنه.

ص: 120


1- مخطوط لم يطبع بَعدُ.

وخلاصة الفرق : أنّ العلم الاجمالي المسبوق بالاضطرار إلى المعيّن يكون وارداً على ما يصدمه ويحكم عليه ، بخلاف المسبوق بالاضطرار إلى غير المعيّن فإنّه مؤثّر أثره من وجوب الاجتناب على كلّ تقدير ، فلم يبق بأيدينا إلاّتحكيم دليل الاضطرار على الاطلاق الأحوالي في كلّ منهما ، وتكون هذه العملية من التحكيم متأخّرة في الرتبة عن تأثير العلم الاجمالي ، ويكون الحاصل حينئذ هو التبعيض (1).

لا يقال : بعد أن فرضتم سقوط الاطلاق بدليل الحرج ، لا تكون الميتة الواقعية الموجودة في البين حراماً في الواقع قبل الإقدام على إحدى السمكتين لحصول ما هو الشرط في كون الاجتناب عنها حرجياً ، وهو عدم الإقدام على طرفها الذي هو مباح واقعاً ، وحينئذ نقول : إنّه عند إقدامه على إحدى السمكتين يعلم تفصيلاً بأنّها غير محرّمة واقعاً ، لأنّها إن لم تكن هي الميتة فواضح ، وإن كانت هي الميتة ، فلأنّ فرض الإقدام عليها في ظرف ترك مقابلها ، وقد قرّرتم أنّه في ظرف ترك أحد الطرفين يكون الطرف الآخر مسلوب الحرمة حتّى لو اتّفق أنّه هو الميتة واقعاً ، بمعنى أنّ حرمة الميتة الموجودة في البين ووجوب الاجتناب عنها يكون مقيّداً بعدم الاجتناب عن تلك الأُخرى التي هي مباحة في الواقع ،

ص: 121


1- هذا ولكن المطلب بعدُ لا يخلو عن إشكال ، فإنّ سقوط تأثير العلم الاجمالي في هذا الذي يختاره لسدّ ضرورته موقوف على كون العلم الاجمالي مانعاً من ارتكابه الطرف الآخر ، ولا يكون العلم مانعاً عن ارتكاب ذلك الطرف الآخر إلاّمن جهة كونه منجّزاً على كلّ حال ، سواء كان المعلوم في الطرف الآخر أو كان في هذا الطرف الذي يختاره ، فكان سقوط تأثير العلم الاجمالي في هذا الطرف الذي يختاره متوقّفاً على تأثيره التنجيز فيه [ منه قدس سره ].

فقبل الإقدام على إحداهما تكون الميتة الواقعية الموجودة في البين غير محرّمة واقعاً ، لحصول الشرط في ارتفاع الحرمة في كلّ منهما لو كانت هي الميتة واقعاً ، وعند الإقدام على إحداهما لا يكون مقدماً إلاّعلى ما هو مباح واقعاً ، إمّا بذاته أو بواسطة ارتفاع حرمته بسبب الحرج الآتي من ناحية ترك الأُخرى المتحقّق قبل الإقدام على الأُخرى. وحينئذ نقول : بعد فراغه من أكل الأُولى يكون الشكّ في حرمة الباقية بدوياً ، لأنّها إن لم تكن هي الميتة فلا شبهة في إباحتها ، وإن كانت هي الميتة وإن كانت هي محرّمة في الواقع إلاّ أنها حرمة آتية من الإقدام على السابقة ، لما عرفت من أنّ الميتة الموجودة قبل الإقدام على الأُولى ليست بحرام ، وحيث إنّ ذلك غير محرز للمكلّف ، كانت أصالة البراءة في حرمتها جارية بلا معارض ، لعدم كون ذلك من قبيل الشكّ في السقوط ، بل هو من قبيل الشكّ في حدوث الحرمة في الثانية بعد الإقدام على الأُولى.

نعم ، لا يتأتّى الإشكال المزبور فيما لو كانت الشبهة وجوبية ، كما لو فرض تعسّر الجمع بين الصلاة والصوم وعلم إجمالاً بوجوب أحدهما ، فإنّه بناءً على كون الساقط هو إطلاق الوجوب الواقعي الوارد على أحدهما لما إذا أتى بالآخر ، يكون الشرط في وجوب كلّ منهما حاصلاً قبل الإقدام على أحدهما ، فيلزمه الاحتياط بالإقدام على أحدهما وترك الآخر ، لكونه حرجياً حينئذ.

لأنّا نقول : أوّلاً : أنّه قبل الإقدام على إحدى السمكتين وإن كانت الميتة الواقعية مباحة في الواقع ، لتحقّق ما هو الشرط في سقوط حرمتها ، إلاّ أنه مع ذلك يعلم إجمالاً بأنّ إحدى السمكتين تكون محرّمة عليه عند الإقدام على الأُخرى ، وهذا المقدار من العلم الاجمالي المتعلّق بحرمة إحداهما على تقدير الإقدام على الأُخرى كافٍ في لزوم الاجتناب عن الثانية بعد ارتكاب الأُولى ، لاحتمال كونها

ص: 122

هي الميتة المنجّزة حرمتها عليه بذلك العلم الاجمالي المتعلّق بحرمة إحداهما على تقدير الإقدام على الأُخرى.

ومن ذلك يتّضح لك فساد ما ذكر في الإشكال من جريان أصالة البراءة من حرمة الثانية بلا معارض ، فإنّ أصالة البراءة من حرمتها المعلّقة على الإقدام على الأُولى كانت ساقطة بالتعارض قبل الإقدام على الأُولى ، لما عرفت من أنّه قبل الإقدام على الأُولى كان عالماً بحرمة كلّ منهما على تقدير الإقدام على الأُخرى ، فتكون الأُولى في ذلك الحين أيضاً مجرى لأصالة البراءة من حرمتها على تقدير الإقدام على الثانية.

ونظير ذلك ما لو علم إجمالاً بوجوب أحد الفعلين كالقيام والصدقة معلّقاً على الآخر ، بأن يكون قد علم أنّه وجب عليه إمّا القيام إن حصلت منه الصدقة ، أو الصدقة إن حصل منه القيام ، فإنّه قبل الإقدام على أحدهما وإن لم يكن أحدهما واجباً عليه في الواقع ، وكان عند الإقدام على القيام شاكّاً في وجوب الصدقة ، إلاّ أنّ ذلك العلم الاجمالي السابق كافٍ في الحكم بتنجّزها عليه وعدم جريان البراءة فيها ، لسقوطها سابقاً بالمعارضة مع أصالة البراءة من القيام على تقدير الصدقة.

لكن ذلك لا يخلو من تأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّه قبل الإقدام على شيء منهما لا تجري في حقّه البراءة في كلّ من الطرفين ، إذ لا أثر لها إلاّعند تحقّق الشرط لذلك الواجب المشروط. نعم بعد القيام وبعد الإقدام على الصدقة أيضاً يلزمه القيام ثانياً ، وهو كافٍ في حصول البراءة اليقينية.

وقد يقال : لا حاجة إلى القيام ثانياً ، بل يكون إقدامه على الصدقة بعد القيام الأوّل كافٍ في الخروج من عهدة كلا التكليفين ، لأنّ الواجب عليه إن كان هو الصدقة على تقدير القيام فقد حصلت ، وإن كان هو القيام على تقدير الصدقة فقد

ص: 123

حصل أيضاً ، بناءً على أنّ المراد من وجوب القيام على تقدير الصدقة هو وجوبه على تقدير اتّفاق حصولها في هذا اليوم مثلاً ، فيكفي في الخروج عن عهدته اتّفاق وجوده ولو قبلها ، فتأمّل.

وثانياً ، وهو العمدة في حلّ الإشكال المزبور : أنّه ليس مجرّد ترك المباح هو الموجب لاسقاط حرمة الميتة واقعاً ، لما عرفت من الإشكال عليه فيما تقدّم ، وحاصله أنّ ترك الحرام وإن كان حرجياً عند ترك المباح ، إلاّ أن ذلك الحرج لا يوجب سقوط حرمة ذلك الحرام ، بل يوجب بحكم العقل إلزام المكلّف بالإقدام على ذلك المباح ليرتفع الحرج في ترك الحرام ، بل إنّ الترك الموجب لاسقاط حرمة الميتة لكونها معه حرجية هو الترك الذي يلزم به المكلّف ، وهو ترك المباح الناشئ عن انسداد باب وجوده في وجهه ، من جهة العلم الاجمالي بوجود الميتة والجهل بها عيناً ، الموجب لحكم العقل عليه بلزوم ترك كلّ منهما ، وبعد أن صار ترك المباح لازماً على ذلك المكلّف ، يكون إطلاق حرمة الميتة وشموله للزوم تركها في حال ترك الطرف الآخر حرجياً فيرتفع ، فلم يكن ارتفاع حرمة الميتة واقعاً بازاء مجرّد كون المكلّف تاركاً لطرفها ، بل بازاء كونه ملزماً بترك ذلك الطرف على وجه ينسدّ عليه باب وجود ذلك الطرف إلى آخر الأبد ، فلا يكفي في ارتفاع حرمة الميتة مجرّد أنّه تارك للطرف قبل الإقدام عليها ، بل لابدّ فيه من كون المكلّف تاركاً للطرف إلى آخر الأبد ، ويكون باب وجوده منسدّاً في وجهه ولو من جهة العلم الاجمالي ، إذ لو تسنّى له وجوده لم يكن تحريم تلك الميتة حرجياً عليه ، وحينئذ نقول : إنّ صحّة ارتكابه للأُولى يتوقّف على كون تركها حرجياً ، ولا يكون حرجياً إلاّمن جهة لزوم ترك الأُخرى عليه ، وأنّه ملزم بذلك الترك من ناحية حكم العقل الناشئ عن العلم الاجمالي ، وهذه الجهة باقية بحالها بعد فراغه

ص: 124

من الأُولى ، فلو أراد أن يرتكب الثانية بعد ذلك يكون ممنوعاً بذلك العلم الاجمالي السابق الذي ألزمه بتركها ، وأوجب حرجية ترك الأُولى وسوّغ له الإقدام عليها.

وبالجملة : أنّ جواز ارتكابه للأُولى مشروط بانسداد باب وجود الثانية ، فإن كان في الواقع وفي علم اللّه تعالى لا يقدم على الثانية إلى آخر الأبد ، صحّ له الإقدام على الأُولى ، ويكون ارتفاع الحرمة الواقعية عن الميتة الواقعية مشروطاً بكونها حرجية ، ولا تكون حرجية إلاّبعد كونه ملزماً بترك طرفها ، فالقول بأنّ إلزامه بترك الثانية بعد الأُولى إلزام جديد خلف لكون الاجتناب عن الميتة حرجياً عليه ، لأنّ حرجية الاجتناب عنها هو عين كونه ملزماً بحكم العقل بترك طرفها ، فتأمّل فإنّ في النفس شيئاً من ذلك.

والذي يهوّن الخطب هو قلّة الجدوى لهذا المبحث ، لما عرفت من أنّ الإشكال فيه إنّما هو في الشبهات التحريمية دون الوجوبية ، ويمكننا أن نقول إنّ دليل العسر والحرج لا يجري في المحرّمات ، فيكون البحث فيها حينئذ ساقطاً بالمرّة.

أمّا الشبهات الوجوبية فهي غالباً يكون الطرفان تدريجيي الحصول ، مثل أن يعلم إجمالاً وجوب الظهر أو الجمعة ، وقد اتّفق أنّ المكلّف يعسر عليه الجمع بينهما ، فهذا العلم يؤثّر أثره من تنجّز الطرفين فيلزمه الاتيان بهما ، لكنّه عند فراغه من الجمعة مثلاً تسقط عنه الظهر ، لأنّ الواجب الواقعي إن كان هو الجمعة فقد أدّاه ، وإن كان الواجب الواقعي هو الظهر فهي في هذا الحال يعسر عليه الاتيان بها ، فيسقط وجوبها لأجل العسر والحرج.

نعم ، لو اتّفق مثل هذا العلم الاجمالي بالنسبة إلى فعلين يكون أوّلهما

ص: 125

وآخرهما متطابقين ، كما لو [ علم ] بوجوب صوم هذا اليوم أو وجوب بقائه طول ذلك اليوم في مسجد الكوفة مثلاً ، واتّفق عسر الجمع بينهما ، ففي مثل ذلك نحتاج إلى ارتكاب تلك الطريقة المبنية على التقييد ، بأن نقول إنّ مقتضى العلم الاجمالي هو الاتيان بهما ، لكنّه يقول إنّ الواجب الواقعي لو كان هو الصوم مثلاً لكان إيجابه عليه في حال بقائه في مسجد الكوفة حرجاً عليه ، فيكون مرتفعاً في حال بقائه في مسجد الكوفة ، فعند كونه في مسجد الكوفة يرتفع وجوب الصوم عليه لكونه حرجياً في ذلك [ الحال ] ، وحينئذ لابدّ أن يكون وجوب الصوم عليه مقيّداً بأن لا يكون في مسجد الكوفة ، وهكذا الحال بالنسبة إلى كونه في مسجد الكوفة ، وتكون النتيجة أنّ كلاً منهما لو كان هو الواجب الواقعي لكان وجوبه مقيّداً بعدم الاتيان بالآخر ، ومحصّله هو التخيير ، الموافق عملاً لتبعيض الاحتياط ، بعد فرض أنّه بالنظر إلى العلم الاجمالي ملزم بكلّ منهما ليكون إيجاب الصوم مثلاً عليه مقيّداً بعدم الاتيان بالآخر ، وأنّ الآخر وهو الكون في مسجد الكوفة وإن كان في الواقع مباحاً على هذا التقدير ، أعني كون الواجب الواقعي هو الصوم ، لكنّه مع ذلك هو ملزم بأن يأتي بذلك الآخر بسائق العلم الاجمالي ، فيكون الحاصل أنّك عند إتيانك بالكون في مسجد الكوفة لكونك ملزماً به بسائق العلم الاجمالي يكون وجوب الصوم حرجياً عليك ، فيسقط عنك عند ما تأتي بالكون في مسجد الكوفة ، ويكون وجوب الصوم عليك واقعاً - لو كان هو الواجب الواقعي - منحصراً بما إذا لم تأت بالكون في مسجد الكوفة ، وهكذا الحال في طرف العكس ، وبالأخرة تكون النتيجة هو سقوط الاحتياط فيما يرتكبه وبقاءه فيما لم يرتكبه ، ولا يكون ذلك مسقطاً للعلم الاجمالي بالمرّة ، لأنّ هذه العملية متأخّرة عن تأثير العلم الاجمالي أثره ، لكن حيث إنّ دليل نفي الحرج لمّا

ص: 126

لم يمكن تحكيمه على نفس الاحتياط العقلي ، جعلناه وارداً على الوجوب الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف مع فرض إتيانه بالطرف الآخر بسائق من العلم الاجمالي.

ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك يكون قبل الشروع فيهما عالماً بوجود التكليف الواقعي بينهما ، لحصول شرط وجوبه وهو عدم الاتيان بالآخر ، سواء كان الواجب الواقعي هو الصوم أو كان الواجب الواقعي هو الكون في المسجد ، وعند إقدامه على كلّ منهما مع الحرج في الجمع بينهما لا يكون واحد منهما متّصفاً بالوجوب الواقعي ، لأنّ كلّ واحد منهما يكون وجوده رافعاً لوجوب الآخر ، سواء كان هو الصوم أو كان هو الكون في المسجد ، ولو جاء بأحدهما وترك الآخر كان من الموافقة الاحتمالية ، ولو تركهما معاً كان من المخالفة القطعية.

وربما يقال : إنّ هذا لا يحتاج إلى ما ذكر في الشبهة التحريمية من التشبّث بأذيال العلم الاجمالي ، بل يكون حاله حال التدريجيين ، فإنّه بمجرّد إقدامه على أحدهما يتعيّن الآخر للسقوط لو كان هو الواجب الواقعي ، نعم في صورة الاتيان بهما معاً يكون الحكم بكون كلّ منهما غير واجب مبنيّاً على ما تقدّم ، فإنّ فعله الصوم مقارناً لكونه في مسجد الكوفة يكون حرجياً عليه ، بواسطة كون العلم الاجمالي ملزماً له بالكون في مسجد الكوفة الموجب لكون الصوم حرجياً عليه ، فتأمّل.

وربما يقال في صورة الاضطرار إلى واحد غير معيّن : بالمنع من ارتكاب الطرفين دفعة ، وجواز ارتكابهما تدريجاً ، والوجه فيه هو أنّ المنع من ارتكاب النجس الموجود بينهما يكون مقيّداً بارتكاب أحد الطرفين الرافع لاضطراره ،

ص: 127

وحينئذ ففي حال ارتكابهما لمّا كان قد ارتفع اضطراره بارتكابه لأحدهما ، كان وجوب الاجتناب عن النجس الموجود في البين غير موقع له في الاضطرار ، فيكون بذلك قد ارتكب النجس في حال كونه غير مضطرّ إليه ، وهذا بخلاف ما لو ارتكب أحدهما فإنّه عند ارتكابه كان مضطرّاً إليه ، فلو كان هو النجس لم يكن اجتنابه واجباً ، لتحقّق شرط ارتفاع التكليف بالاجتناب عن النجس ، وهو عدم الارتكاب الرافع لاضطراره ، وحينئذ فعند إقدامه على الثاني لا يكون إلاّمن قبيل الإقدام على ما يحتمل كونه هو النجس (1)

ص: 128


1- بل ربما يقال : إنّه في مرتبة ارتكابهما دفعة واحدة لا يكون الاجتناب عن النجس الذي هو بينهما منجّزاً عليه ، لأنّ تنجّزه إنّما يكون معلولاً لارتفاع اضطراره ، وهو - أعني ارتفاع الاضطرار - إنّما يكون معلولاً للارتكاب ، وحينئذ لابدّ أن يكون توجّه الاجتناب عن النجس متأخّراً عن الارتكاب رتبة ، فلا يعقل أن يكون في عرض الارتكاب. بل قد يقال : إنّ توجّه وجوب الاجتناب متأخّر زماناً عن الارتكاب فضلاً عن كونه متأخّراً عنه رتبة ، لأنّه إنّما يتوجّه في حال كونه غير مضطرّ إليه ، ولا يكون ذلك إلاّبعد تحقّق الارتكاب ، ولا يكفي في توجّهه وقوعه في زمان الارتكاب ، فنحن وإن أمكننا دفع إشكال التأخّر الرتبي ، بدعوى أنّ ارتكاب غير النجس وإن وقع مقارناً في الزمان مع ارتكاب النجس ، إلاّ أنه لا مانع من كون ارتكاب غير النجس متقدّماً رتبة على ارتكاب النجس ، ليصحّ أن يكون ارتكاب غير النجس شرطاً في توجّه وجوب الاجتناب عن النجس الذي هو - أعني الوجوب المذكور - سابق في الرتبة على ارتكاب النجس ، ليكون ارتكاب النجس عصياناً لذلك الوجوب ، إلاّ أنه - أعني توجّه وجوب الاجتناب عن النجس - لابدّ أن يكون متأخّراً زماناً عن ارتكاب غير النجس ، والمفروض أنّ ارتكاب النجس لم يتأخّر زماناً عن ارتكاب غير النجس ليكون ارتكابه - أعني النجس - عصياناً لوجوب الاجتناب عنه [ منه قدس سره ].

وهذا هو الظاهر من المستمسك في ملحقّ الجزء الثاني من مباحث القبلة ، فإنّه قال : والعمدة في ذلك أنّ الارتكاب إنّما أُخذ شرطاً للتكليف من جهة أنّه رافع للاضطرار ، فلا مانع من ثبوت التكليف معه ، بخلاف الارتكاب غير الرافع للاضطرار ، فإنّه إذا فرض غير رافع للاضطرار لا يجدي التقييد به في كون التكليف غير اضطراري ، بل هو على حاله اضطراري فلا يمكن ثبوته. وعليه فالتقريب المذكور إنّما يقتضي المنع من ارتكابهما دفعة ، لتحقّق الارتكاب الرافع للاضطرار فيتحقّق معه التكليف كما عرفت ، ولا يمنع من ارتكابهما تدريجاً ، فإنّه إذا ارتكب أحدهما ارتفع اضطراره حينئذ ، فلا يكون ارتكاب الثاني ارتكاباً رافعاً للاضطرار ، فتكون المخالفة فيه احتمالية من أجل احتمال كونه النجس لا قطعية ، لاحتمال كون النجس هو الذي ارتكبه أوّلاً ، والتكليف باجتنابه منتف لعدم تحقّق شرطه ، وهو ارتكاب غيره الرافع للاضطرار كما لا يخفى بالتأمّل (1).

قوله : فلا يكون ارتكاب الثاني ارتكاباً رافعاً للاضطرار (2).

يمكن التأمّل فيه ، فإنّ ارتكاب الثاني وإن لم يكن هو الرافع للاضطرار ، إلاّ أنّ الاضطرار قد ارتفع بارتكابه الأوّل ، ومعه لا يكون وجوب الاجتناب عن النجس حكماً اضطرارياً. نعم هناك جهة أُخرى وهي أنّه لا ريب في أنّه يجوز ارتكاب الأوّل حتّى لو كان هو النجس ، لأنّ وجوب الاجتناب عن النجس كان إلى أن شرع في ارتكاب الأوّل ضررياً عليه ، فيكون مرفوعاً ، وبعد فراغه منه نقول إنّه لو كان الثاني هو النجس كان وجوب الاجتناب عن النجس متوجّهاً إليه ، لكنّه لا يعلم ذلك إجمالاً ولا تفصيلاً ، لاحتمال كون النجس هو ما ارتكبه أوّلاً.

ص: 129


1- مستمسك العروة الوثقى 5 : 203.
2- مستمسك العروة الوثقى 5 : 203.

ولكن وجوب الاجتناب عن النجس إنّما يكون ضررياً قبل الارتكاب بواسطة الجهل بعينه وتردّده بين الطرفين ، الموجب بحكم العقل لاجتنابهما ، وحينئذ يكون ذلك الوجوب الواقعي بواسطة انتهائه إلى الاجتناب عن الاثنين ضررياً عليه ، لكن لا يرتفع بقول مطلق ، بل في خصوص حال كونه ضررياً وهي ما لو لم يرتكب البعض ، وذلك عبارة أُخرى عن قولنا إنّ النجس لو كان هو الآنية الصغرى لكان وجوب الاجتناب عنها مع فرض كونه مجتنباً عن الكبرى باقتضاء العلم الاجمالي ضررياً عليه فيكون مرتفعاً. وحاصله : هو أنّه عند ارتكاب الكبرى يلزمه الاجتناب عن الصغرى لو كانت هي النجسة ، وهكذا الحال من ناحية الكبرى ، ويكون الحاصل هو علمه الاجمالي بأنّه إمّا يجب عليه الاجتناب عن الكبرى عند ارتكابه للصغرى ، وإمّا أن يجب عليه الاجتناب عن الصغرى إن ارتكب الكبرى ، وهذا العلم الاجمالي حاصل قبل ارتكابهما ، لكنّه لا يوجب الترخيص في كلّ منهما نظراً إلى حصول شرطه ، بدعوى أنّه يعلم بأنّه مرخّص في هذه على تقدير ترك تلك وفي تلك على تقدير ترك هذه ، وحينئذ فعند تركهما يكون مرخّصاً في كلّ منهما ، فإنّ ذلك خلاف العلم الوجداني الحاصل قبل ارتكابهما ، فإنّه في ذلك الحال يعلم بأنّ أحدهما نجس يجب عليه اجتنابه.

نعم ، إنّه في ذلك الحال مرخّص في أحدهما على البدل ، وهو معنى الترخيص في أحدهما المقيّد بترك الأُخرى ، وقد حقّق في محلّه (1) أنّ الترخيص وغيره من الأحكام المشروطة لا ينقلب إلى الاطلاق عند وجود شرطه ، فإنّ الترخيص في هذه على تقدير ترك تلك لا يكون ترخيصاً مطلقاً إن وجد شرطه ، وكذلك الترخيص في تلك ، بل هو قبل ارتكابهما متوجّه إليه أحد الترخيصين ،

ص: 130


1- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 317 وما بعدها.

كما أنّه متوجّه إليه أحد التكليفين ، وهو الاجتناب عن هذه لو ارتكب تلك ، أو الاجتناب عن تلك لو ارتكب هذه ، فلو فعلهما معاً فقد ارتكب المعصية قطعاً ، بمعنى أنّه لم يجتنب عن النجس في حين علمه بوجوب الاجتناب عنه. ولو ارتكب أحدهما وهي الصغرى ثمّ أراد ارتكاب الكبرى كان ممنوعاً عنه عقلاً ، لأنّه قد علم أوّلاً بأنّه إمّا أن يجب عليه اجتنابها إن ارتكب الصغرى ، أو الاجتناب عن الصغرى إن ارتكب الكبرى ، فهذا وهو اجتنابه للكبرى عند ارتكابه للصغرى هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، فيكون متنجّزاً عليه قبل أن يرتكب الصغرى ، فيكون ارتكابها ممنوعاً عنه عقلاً ، فإنّ المخالفة في ارتكاب الكبرى بعد الصغرى وإن كانت احتمالية ، إلاّ أنها أحد طرفي العلم الاجمالي ، فتكون منجّزة مستحقّاً عليها العقاب لو صادفت الواقع ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت الوجه في قولنا : إنّ الصغرى لو كانت هي النجسة لكان وجوب الاجتناب عنها ضررياً عند تركه للكبرى ، مع أنّ ذلك الوجوب على تقديره لا يكون ضررياً ، لأنّ الكبرى في ذلك الحال تكون مباحة ، ولا ريب أنّ ترك المباح لا يوجب كون وجوب الاجتناب عن الصغرى ضررياً.

وحاصل ذلك الوجه هو كون الترك للكبرى مستنداً للعلم الاجمالي بوجود النجس بينهما الموجب بحكم العقل لتركه لكلّ منهما ، وحينئذ فيكون الترخيص في ارتكابه للصغرى معلولاً لمنجّزية العلم الاجمالي في الكبرى ، فكيف يعقل أن يكون هذا الترخيص مسقطاً لما يقتضيه العلم الاجمالي في الكبرى ، وهل ذلك إلاّ من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه ، أعني أنّه يلزم من منجّزية العلم الاجمالي في الكبرى الترخيص في الصغرى ، وهو يوجب عدم منجّزية العلم في الكبرى ، هذا خلف فتأمّل. هذا في المحرّمات.

ص: 131

وأمّا الواجبات ، فإن كانت اقترانية كما مثّلنا به من وجوب صوم يوم بعينه أو البقاء في المسجد تمام ذلك اليوم ، فإنّه بعد العملية المذكورة يكون عالماً بوجوب أحدهما عند تركه الآخر ، فلا يجوز له تركهما معاً ، لأنّه حينئذ عالم بأنّه يترك واجباً متنجّزاً عليه. نعم يجوز له ترك الآخر إن فعل أحدهما.

وإن لم تكن اقترانية بل كانت تدريجية ، كما في مثل الصلاة إلى الجهات الأربعة التي يعلم أنّ القبلة فيها وقد ضاق الوقت عن إتمام الأربع ، وكما في مثال الدرهم الذي يعلم بأنّه يجب دفعه إلى زيد وقد تردّد زيد بين أشخاص أربعة ، وليس عنده إلاّثلاثة دراهم ، فلا يحتاج التبعيض فيه إلى هذه العملية ، بل يلزمه الجري على مقتضى العلم الاجمالي حتّى يعجز أو يبلغ العسر والحرج أو الضرر ، فيكون التكليف ساقطاً لو كان في الباقي.

نعم ، لو كان العذر في طرف معيّن ، كان العلم الاجمالي ساقطاً لو كان ذلك العذر سابقاً أو مقارناً ، بخلاف ما لو كان بعد العلم ، وإن كان للشيخ قدس سره كلمة في ذيل الشبهة الوجوبية غير المحصورة ربما كان ظاهرها منافياً لذلك.

وللمرحوم الحاج آغا رضا قدس سره كلام في هذا المقام نقلناه فيما سيأتي إن شاء اللّه فيما علّقناه على ما أفاده شيخنا في التنبيه الأوّل ، ونقلنا هناك كلمة الشيخ المشار إليها ، فراجع (1).

ويمكن أن يوجّه ما ذكرناه ، من أنّ الساقط بدليل العسر والحرج هو إطلاق التكليف بالاجتناب عن الميتة الواقعية وشموله لما إذا اجتنب عن الطرف الآخر وتركه ، بعد تكميله بما ذكرناه من اقتضاء العلم الاجمالي للزوم الترك المذكور ، بأن يقال : ليس المراد بسقوط وجوب الاجتناب عن الميتة الواقعية عند ترك

ص: 132


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 213 وما بعدها.

الطرف الآخر هو سقوط وجوب الاجتناب عنها بالمرّة ، ليكون مقتضاه هو أنّه قبل ارتكاب أحد الطرفين تكون الميتة الواقعية محكومة بالإباحة واقعاً ، ويكون لازمه أنّ تحريم الطرف الباقي على تقدير كونه هو الميتة بعد ارتكاب الطرف الأوّل تحريم جديد لينفى بالبراءة ، بل المراد بذلك هو سقوط حرمة الميتة وجواز ارتكابها لخصوص رفع الحرج لا مطلقاً ، بناءً على أنّ تحريم أكل الميتة يقتضي المنع من ذلك الأكل وسدّ جميع أبواب وجوده ، فينحلّ المنع من أكلها إلى المنع من جميع أنحاء وجود الأكل ، ويكون دليل نفي الحرج رافعاً للمنع من وجود الأكل إذا كان بنحو رفع الحرج به ، فيبقى تحريم الميتة الموجودة في البين على ما هو عليه من اقتضائه سدّ أنحاء وجود أكلها ، إلاّنحواً واحداً من تلك الأنحاء وهو كونه سادّاً للضرورة ورافعاً للحرج عن المكلّف ، فلا يرتفع بدليل نفي الضرر والعسر والحرج إلاّهذا المقدار من أثر التحريم ، دون باقي الآثار وهو المنع من وجوده الذي لا يكون لأجل سدّ الضرورة ورفع الحرج.

فنقول : إنّ الميتة الموجودة هي حرام واقعاً ، ويلزم الاجتناب عن جميع أنحاء أكلها إلاّ النحو الذي يسدّ به الضرورة ، وهو لا ينطبق إلاّعلى أكل الطرف الأوّل دون أكل الطرف الثاني بعد أكل الطرف الأوّل ، فيبقى أكل الطرف الثاني على ما هو عليه من اقتضاء حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه ، لكونه طرفاً للعلم الاجمالي بالميتة بين الطرفين ، الذي يكون حكمها المنع من جميع أنحاء أكلها ما عدا ما يرتفع به الحرج وتنسدّ به الضرورة ، المفروض انحصار انطباقه على أكل الأُولى في ظرف عدم أكل الأُخرى ، وعدم انطباقه على أكل الثانية بعد أكل الأُولى ، فتأمّل جيّداً.

لا يقال : يمكن إتمام هذه الطريقة - أعني طريقة تبعيض الاحتياط فيما

ص: 133

نحن فيه - بما ذكرتموه في باب الترتّب في مسألة الغريقين اللذين لا يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، مع فرض عدم قدرة المكلّف على إنقاذهما معاً ، من أنّ العقل يقيّد إطلاق وجوب الإنقاذ في كلّ منهما بعدم إنقاذ الآخر ، أو أنّه يسقط كلا الخطابين وينتزع خطاباً تخييرياً بينهما ، فيلزم إنقاذ أحدهما وترك الآخر ، فلِمَ لا تجرون هذه الطريقة فيما نحن فيه ، فإنّ الحكم الواقعي الشرعي وهو وجوب الاجتناب عن النجس الموجود في البين وإن لم يكن في حدّ نفسه تكليفاً بغير المقدور ، إلاّ أن العلم الاجمالي بذلك التكليف الواقعي في البين يولّد حكمين عقليين احتياطيين وهو حكم العقل بوجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن ذلك الطرف ، وهذان الوجوبان العقليان لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما ، فقهراً يحكم العقل ثانياً بتقييد كلّ من الاجتنابين بعدم الاجتناب عن الآخر ، أو يحكم ثانياً بحكم تخييري بينهما ، وهو معنى تبعيض الاحتياط.

وهذه الطريقة جارية في كلّ ما يكون من هذا القبيل ، كما لو علم إجمالاً على نحو الشبهة الوجوبية بأنّه يجب عليه عصر الجمعة إمّا الكون في مسجد الكوفة أو الكون في حرم سيّد الشهداء مثلاً ، أو أنّه كان قد نذر أحدهما واشتبها عليه ، بل هذا جارٍ في الشبهة قبل الفحص فيما لو احتمل وجوب هذا الضدّ واحتمل أيضاً وجوب ضدّه الآخر ، أو احتمل وجوب هذا الفعل واحتمل وجوب الفعل الآخر واتّفق أنّه لم يقدر على الجمع بينهما ، فإنّ الحكم في جميع ذلك هو التبعيض.

لأنّا نقول : إنّ ذلك مسلّم لا ريب فيه ، ولكنّه إنّما يتمّ فيما لو كان الاضطرار بالغاً حدّ عدم القدرة عقلاً ، دون ما لم يكن في البين إلاّمجرّد العسر والحرج ، الذي ينحصر رافعيته للتكليف بحكم الشارع ، الموقوف على كون المرفوع حكماً

ص: 134

شرعياً يكون هو الموجب للعسر والحرج.

قوله : قلت : العلم الاجمالي وإن كان بالنسبة إلى متعلّقه لا يكون إلاّ كاشفاً وطريقاً ، إلاّ أنه بالنسبة إلى التنجيز وجريان الأُصول في الأطراف وتعارضها وتساقطها يكون تمام الموضوع ... الخ (1).

محصّله : أنّ كون العلم الاجمالي منجّزاً إمّا من جهة نفس علّية العلم لذلك ، وإمّا من جهة تعارض الأُصول ، وكلّ منهما غير متحقّق في المقام.

أمّا الأوّل ، فلأنّ العلم وإن كان منجّزاً بنفسه إلاّ أنه في المقام لا يكون كذلك ، أمّا بالنظر إلى ما بعد حصول العلم الذي هو بعد الاضطرار إلى الطرف المعيّن الذي هو الآنية الكبرى مثلاً ، فلأنّ المفروض أنّه ليس له أثر بالنسبة إليها ، لفرض كونه مضطرّاً إليها. وأمّا بالنسبة إلى ما قبل الاضطرار فلاستحالة كون التنجيز الذي هو أثر العلم سابقاً عليه وإن كان نفس المعلوم سابقاً.

وأمّا الثاني أعني تعارض الأُصول ، فلأنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي اضطرّ إليه أعني الآنية الكبرى ، لأنّ جريان الأصل فيها إن كان قبل الاضطرار الذي هو قبل العلم الاجمالي فلأنّها في ذلك الظرف مقطوعة الطهارة وإن كانت في الواقع إحدى طرفي العلم الاجمالي. وإن كان المراد إجراء الأصل فيها الآن بالنظر إلى ظرف ما قبل الاضطرار ، فذلك لا يترتّب عليه أثر. وإن كان المراد إجراء الأصل فيها الآن بالنظر إلى هذا الظرف أعني ظرف ما بعد العلم والاضطرار ، فذلك لغو ، لأنّها جائزة الارتكاب في هذا الحال أعني حال ما بعد الاضطرار. فعلى أيّ لا تكون الآنية الكبرى مجرى للأصل في شيء من هذه الظروف ، ويكون الأصل جارياً في الصغرى بلا معارض ، هذا ملخّص الجواب عمّا تضمّنه قوله : إن قلت.

ص: 135


1- فوائد الأُصول 4 : 95.

لكن بقيت جهة أشار إليها في ضمن قوله : « إن قلت » لم يصرّح في الجواب عنها ، وهي قوله : ولم يعلم وقوع الاضطرار إلى متعلّق التكليف ليسقط الخ (1) ، لم يتعرّض في الجواب (2) ، وشرح هذه الجهة ما تضمّنه ما حرّرته عنه فيها والجواب عنها ، وذلك هو قوله فيما حرّرته عنه : ودعوى أنّه فعلاً يعلم بوجود ملاك التكليف وتوجّهه إليه فيما قبل الاضطرار ، ويشكّ في كون هذا الاضطرار مسقطاً له ، فيكون العلم منجّزاً ، لكونه من قبيل من علم بوجود ملاك التكليف وشكّ في تحقّق مسقطه ، ومعه يجب الفحص أو الاحتياط ، ممنوعة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم الاضطرار ليس من قبيل الشروط العقلية كعدم القدرة العقلية في كون ملاك التكليف موجوداً في مورده بتمامه ، وأنّ العجز العقلي يكون مسقطاً للتكليف من دون تأثير في ناحية الملاك ، كي يكون من قبيل الشكّ في السقوط مع إحراز تحقّق الملاك التامّ ، بل هو - أعني عدم الاضطرار - شرط شرعي يكون وجوده موجباً لنقصان ملاك التكليف ، فلا يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المسقط مع إحراز ملاك التكليف ، إذ ليس المراد من الاضطرار ما يكون بالغاً إلى درجة العجز وعدم القدرة العقلية ، بل المراد منه ما يكون مجامعاً للقدرة العقلية وموجباً لحكم الشارع بجواز الارتكاب ، وحينئذ فلابدّ أن يكون المصحّح لحكم الشارع بجواز ارتكاب مورده هو نقصان ملاك وجوب الاجتناب عنه عن أن يكون قابلاً للتأثير في ذلك الوجوب.

وأمّا ثانياً : فلأنّ هذه الدعوى بمسألة الخروج عن الابتلاء أولى منها بمسألة الاضطرار ، لما عرفت من رجوع الابتلاء إلى التمكّن العادي الملحق

ص: 136


1- فوائد الأُصول 4 : 94.
2- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والأمر سهل بعد وضوح المراد ].

بالتمكّن العقلي في كونه من الشروط العقلية ، التي يكون انتفاؤها موجباً لسقوط التكليف دون نقصان ملاكه ، فيكون جريان هذه الدعوى فيها من العلم بملاك التكليف والشكّ في مسقطه أولى من جريانها في مسألة الاضطرار ، لما عرفت من كون عدم الاضطرار من الشروط الشرعية التي يكون انتفاؤها موجباً لنقصان الملاك ، مع أنّهم لم يلتزموا بذلك في مسألة الابتلاء.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ملاك التكليف والشكّ في مسقطه إنّما يوجب الاحتياط حيث يكون ملاك التكليف محرزاً بالقياس إلى المكلّف كما تقدّم من المثال ، والوجه فيه هو أنّ بناء العقلاء على الفحص عن المسقط ولزوم الاحتياط مع عدم إحرازه يكون طريقاً عقلائياً حاكماً على مثل أصل البراءة من الأُصول النافية ، وفي مثل الابتلاء كما إذا كان أحد الأطراف خارجاً عن الابتلاء ، لا يكون ملاك تكليف ذلك المكلّف محرزاً عنده ، لتردّد الأمر بين كون النجس هو هذا الطرف الذي هو داخل في ابتلائه ، فيكون الموجود هو ملاك تكليفه ، وبين كونه ذلك الطرف الخارج عن ابتلائه ، فلا يكون الموجود هو ملاك تكليفه ، بل ملاك تكليف شخص آخر ممّن يدخل ذلك الطرف في ابتلائه ، فلا يكون المعلوم هو ملاك تكليفه.

قلت : وكذا من اضطرّ إلى واحد معيّن فإنّه يدور الأمر عنده بين كون الموجود ملاك تكليفه إن كان النجس هو ما لم يضطرّ إليه ، وبين كونه ملاك شخص آخر ممّن لم يكن مضطرّاً إن كان النجس هو ما اضطرّ إليه ، انتهى.

ولكن الظاهر أنّ ذلك كلّه إذا لم يكن الاضطرار أو الابتلاء بعد التكليف الواقعي ، بأن يكون الطرف حين توجّه التكليف به واقعاً خارجاً عن الابتلاء أو مضطرّاً إليه كما في الصورة الأُولى.

ص: 137

أمّا لو كان التكليف الواقعي قد توجّه إليه في حال كونه غير عالم به ، ثمّ بعد مدّة خرج الطرف عن الابتلاء أو صار مضطرّاً إليه ، ثمّ بعد الخروج أو الاضطرار علم بسبق التكليف الواقعي ، فإنّ الإشكال في هذه الصورة لا يندفع بما أُفيد أوّلاً وثالثاً ، بل يكون الجواب هو ما أُفيد في أصل المطلب الذي تضمّنه قوله : « قلت » ، وهو أنّ العلم لا يعقل أن يكون منجّزاً فيما قبل حدوثه ، والمفروض أنّ ما بعد حدوثه كان مقروناً بعدم الابتلاء بالطرف المذكور أو بالاضطرار إليه ، وما ذلك إلاّنظير من صلّى الظهر معتقداً أنّها هي الواجبة ثمّ بعد الفراغ علم إجمالاً بالوجوب المردّد بينها وبين الجمعة ، ولا مجرى في ذلك لأصالة الاشتغال ، لانحصار موردها بالتكليف المنجّز بأحد طرق التنجيز ثمّ الشكّ في سقوط ذلك الذي تنجّز وانشغلت ذمّته به ، وفيه تأمّل.

وهذه الأجوبة الثلاثة التي حرّرناها عنه قدس سره قد حرّرها السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) في تحريره (1) ، ولكن على اختلاف في ذلك بينه وبين ما حرّرناه ، فإنّ الجواب الأوّل كأنّه راجع إلى دعوى كون المقام من قبيل التردّد بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وأنّ ما هو مقطوع البقاء غير معلوم الحدوث ، ولكن هذا بمجرّده غير نافع ، فإنّه آت فيما لو كان الاضطرار إلى المعيّن بعد حصول العلم الاجمالي.

وأمّا الجواب الثاني ، فهو راجع إلى عدم تعارض الأُصول على ما عرفت توضيحه ، ولكن ذلك أيضاً بمجرّده غير نافع بعد أن [ كان ] مقتضى الشكّ في السقوط هو لزوم الاجتناب عن غير المضطرّ إليه ، فلابدّ في إتمامه من أنّ قاعدة الطهارة في الباقي حاكمة على أصالة الاشتغال بالتكليف بالاجتناب ، حيث إنّ هذا

ص: 138


1- أجود التقريرات 3 : 454 - 456.

التكليف متفرّع على احتمال كون الباقي نجساً ، وحاصل ذلك أنّ نسبة أصالة الطهارة في الباقي إلى أصالة الاشتغال نسبة الأصل الموضوعي إلى الأصل الحكمي.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ أصالة الاشتغال إنّما تجري بعد الفراغ عن الاشتغال المتوقّف على تنجّز ما تشتغل به الذمّة ، وذلك لا يكون إلاّبالعلم أو ما يقوم مقام العلم ، والمفروض أنّه ليس في البين إلاّهذا العلم المتأخّر الذي لا يكون أثره وهو التنجّز سابقاً عليه ، فأين الاشتغال المنجّز حتّى تجري أصالة الاشتغال.

وأمّا الثالث ، فحاصله الركون إلى حديث الرفع فيما اضطرّ إليه (1) ، وهي إنّما ترفعه من حين الاضطرار ، فما أشكل به المشكل من أصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما قبل الاضطرار باقٍ بحاله ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّه في التحرير المذكور (2) ذكر صورة المقارنة وأشكل فيها بما مفاده : أنّ للاضطرار مرتبتين : مرتبة صدوره وتلبّس المضطرّ به الذي نعبّر عنه بالمعنى المصدري ، ومرتبة تحقّقه أعني كون المكلّف مضطرّاً ، وهو الذي نعبّر عنه بالاسم المصدري ، وهذه الثانية هي مرتبة سقوط التكليف ، لأنّ أثر الاضطرار الذي هو سقوط التكليف يكون متأخّراً رتبة عن نفس الاضطرار وصدوره ، وحينئذ ففي المرتبة السابقة يكون العلم بالتكليف متحقّقاً ، إذ في هذه المرتبة لا سقوط ، وإنّما السقوط في المرتبة اللاحقة ، فعند الوصول إلى المرتبة اللاحقة تكون المسألة من قبيل الشكّ في السقوط. وأجاب عنها بما محصّله : أنّه لا يعقل

ص: 139


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
2- أجود التقريرات 3 : 456 - 457.

التكليف في المرتبة الأُولى التي يحصل السقوط معها غايته أنّه متأخّر رتبة ، ففي المرتبة الأُولى لا علم بتكليف على كلّ حال.

بل حسبما أشار إليه في الوسيلة (1) أنّه لابدّ في تأثير العلم من مضي زمان يمكن فيه المخالفة ، فلو علم بالنجاسة بين الاناء والثوب وكان أثر نجاسة الاناء منحصراً بالشرب مثلاً ، لم يكن العلم المذكور مؤثّراً إلاّ إذا كان بعد العلم يمكنه الشرب ، فلو كان قد حصل له العلم المذكور ، وبعده بلا فصل زمان يسع الشرب اضطرّ إلى الشرب ، لم يكن العلم المذكور مؤثّراً ، فراجع وتأمّل.

قوله : وما قيل في المقام من الفرق بين تلف البعض بعد العلم والاضطرار إليه بعده - إلى قوله - واضح الفساد ، فإنّه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجّز بين أن يتعلّق بالتكليف المطلق الغير المحدود شرعاً ، وبين أن يتعلّق بالتكليف المردّد بين المحدود وغير المحدود مع تعدّد المتعلّق ... الخ (2).

ينبغي أن لا يفرّق في ذلك بين علمه من أوّل الأمر بطروّ الاضطرار إلى ذلك الواحد المعيّن أو طروّ التلف عليه ، وبين عدم علمه بذلك لكن بعد مدّة اتّفق عروض الاضطرار أو عروض التلف. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلعلمه بتوجّه تكليف فعلي ، غايته أنّه مردّد بين الطويل على تقدير كونه في الطرف الذي يعلم أنّه لا يعرضه الاضطرار ، والقصير على تقدير كونه في الطرف الذي يعلم بأنّه يضطرّ إليه بعد ساعة مثلاً ، فيكون ذلك التكليف الطويل في قبال هذا التكليف القصير في مقام العلم المتعلّق بوجود أحدهما ، فأيّ منهما كان هو الواقع كان

ص: 140


1- وسيلة النجاة : كد - كه [ لا يخفى أنّه قد رُمز للصفحات الأُولى بالحروف ].
2- فوائد الأُصول 4 : 97.

متنجّزاً بحدّه الذي هو عليه.

ولا يبعد أن يقال : إنّ تنجّز الطويل بحدّه لا يبتني على التنجّز في التدريجيات ، إذ ليس في البين إلاّتكليف واحد ، غايته أنّه على الأوّل يكون باقياً مستمرّاً ، فلا حاجة إلى الالتزام بكون التكليف المتأخّر في الأوّل يكون منجّزاً فعلاً بناءً على التنجّز في التدريجيات ، لأنّ ذلك إنّما هو فيما لو كانت تكليفات متعدّدة متعاقبة من الآن إلى ما بعد فإلى ما بعد ، وهكذا بحيث يكون لكلّ آن تكليف مستقل ، وحينئذ نقول : إنّا نحتاج إلى القول بأنّ التكليف المتأخّر الموجود في الآن المتأخّر يتنجّز الآن بالعلم المردّد بين الطويل والقصير ، أمّا مع فرض كونه تكليفاً واحداً مستمرّاً وباقياً في قبال التكليف الآخر الذي ينتهي أمده بالاضطرار ، فعلى الظاهر أنّ الحكم بتنجّزه من أوّل الأمر لا يحتاج إلى مسألة التنجّز في التدريجيات ، لأنّ المقابلة بين وجوب الاجتناب في هذا ووجوبه في الآخر ، غايته أنّه لو كان الوجوب في هذا لكان باقياً ، ولو كان في ذلك لكان محدوداً بالاضطرار.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّه لو كان نقصان أحدهما من أوّل الأمر ، كما لو كان فعلاً مضطرّاً إلى لبس هذا الثوب في الصلاة وقد علم نجاسته أو نجاسة ذلك الاناء ، ولكنّه يعلم أنّ اضطراره يرتفع بعد ساعة مثلاً أو أكثر ، فإنّه بناءً على ذلك يكون عالماً بأنّه قد توجّه إليه أحد التكليفين أعني وجوب الاجتناب عن الاناء من الآن إلى آخره ، أو وجوب الاجتناب عن الثوب ممّا بعد الاضطرار إليه. لكن هذا متوقّف على القول بالتنجّز في التدريجيات ، كما لو علم بوجوب صوم هذا اليوم أو صوم اليوم الذي بعده.

نعم ، لو لم يكن عالماً بارتفاع اضطراره فيما بعد ، لم يكن علمه بنجاسة

ص: 141

أحدهما علماً بتوجّه تكليف على كلّ حال ، فلا يكون علمه المذكور موجباً لاجتنابه فعلاً عن الاناء. نعم لو ارتفع اضطراره وكان الاناء باقياً لزمه اجتنابهما ، لصيرورته حينئذ عالماً بتوجّه تكليف فعلي على كلّ حال.

وهكذا الحال في مسألة الخروج عن الابتلاء عند العلم الاجمالي ، فيفصّل فيها بين ما يكون عالماً بعوده بعد ذلك فيلزمه الاجتناب فعلاً عن الطرف الآخر ، بخلاف ما لو لم يكن عالماً بذلك فإنّه لا يلزمه فعلاً الاجتناب عن ذلك الطرف ، إلاّ إذا اتّفق العود إلى الابتلاء مع بقاء الطرف الآخر ، فإنّه حينئذ يلزمه الاجتناب عنهما.

واعلم أنّ صاحب الكفاية (1) في المتن بنى على سقوط العلم الاجمالي في مورد الاضطرار إلى بعض أطرافه ، سواء كان إلى المعيّن أو كان إلى غير المعيّن ، وسواء كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو كان بعده ، وأساس ما أفاده في ذلك هو المنافاة بين الترخيص الفعلي في طرف معيّن أو غير معيّن مع العلم الاجمالي بوجود التكليف الفعلي بينهما ، وحينئذ لو كان الاضطرار إلى المعيّن سابقاً على العلم الاجمالي ، كان مقتضاه الترخيص الفعلي في ذلك الذي اضطرّ إليه ، وحينئذ لا يكون علمه الاجمالي علماً بتكليف فعلي على كلّ من طرفي العلم الاجمالي ، بل لا يكون إلاّمن قبيل احتمال وجود التكليف في الطرف غير المضطرّ إليه ، فيكون المرجع فيه هو الأصل ، ولا يكون العلم منجّزاً ، لأنّه ليس بعلم بتكليف فعلي على كلّ حال.

وهكذا الحال فيما لو كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن ، فإنّه يوجب الترخيص الفعلي في ارتكاب أحدهما ، فأيّ منهما اختاره لسدّ ضرورته لا يكون

ص: 142


1- كفاية الأُصول : 360.

التكليف فيه فعلياً ، فلا يكون العلم المتأخّر علماً بتكليف فعلي على كلّ حال ، لاحتمال كون التكليف منطبقاً على ذلك الذي يختاره لسدّ ضرورته ، فلا يكون المقام إلاّمن قبيل احتمال وجود التكليف الفعلي في ذلك الطرف الآخر ، فيجري فيه الأصل النافي.

ولكن هذا منافٍ لمسلكه من أنّ احتمال وجود التكليف الفعلي ولو في الطرف الباقي يكون مانعاً من الترخيص فيه ولو بعنوان كونه مجهولاً ، لأنّه من قبيل احتمال اجتماع المتنافيين : فعلية التكليف وفعلية الترخيص.

إلاّ أن يدّعى أنّ الترخيص الاضطراري يكون مستلزماً لعدم الفعلية حتّى في الطرف الآخر ، كما صرّح (1) به قبيل هذا التنبيه فتأمّل. هذا حال ما لو كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي.

وأمّا لو كان بعده ، فهو بالنسبة إلى زمان ما قبل الاضطرار عالم بوجود تكليف فعلي ، فيلزمه الاجتناب ، ويكون العلم منجّزاً في ذلك المقدار من الزمان. وأمّا ما بعد الاضطرار فحيث إنّه موجب للترخيص فهو من الآن ليس بعالم بوجود تكليف فيما بعد الاضطرار ، من دون فرق في ذلك بين كون الاضطرار الطارئ اضطراراً إلى معيّن أو كونه اضطراراً إلى غير معيّن ، لاشتراكهما في استلزام عدم العلم بالتكليف بعد الاضطرار ، هذا ما في المتن.

ولكنّه قدس سره عدل في الحاشية في خصوص الاضطرار المتأخّر إلى المعيّن ، نظراً إلى أنّه من أوّل الأمر مردّد بين التكليف الطويل الذي هو في غير المضطرّ إليه والتكليف القصير المحدود بالاضطرار الذي هو في الطرف المضطرّ إليه ، وهذا العلم السابق منجّز لكل من طرفيه الطويل والقصير ، بحيث تكون تلك الزيادة

ص: 143


1- كفاية الأُصول : 359 - 360.

التي اشتمل عليها الطويل داخلة في العلم ، لا أنّها زيادة مستقلّة لم تكن داخلة في العلم السابق ، وحينئذ فعند طروّ الاضطرار لا يعلم به (1) إلاّعدم فعلية التكليف لو كان منطبقاً على المضطرّ إليه لوجود الترخيص حينئذ ، أمّا الطرف الآخر فإنّه قد تنجّز بالعلم السابق. وبالجملة : بالعلم السابق صار كلّ من الطويل والقصير فعلياً منجّزاً ، هذا فيما لو كان الاضطرار الطارئ اضطراراً إلى معيّن.

أمّا لو كان الاضطرار المذكور اضطراراً إلى غير المعيّن فهو مسقط للعلم الاجمالي كما صرّح به في الحاشية بقوله : إنّ ذلك ( يعني إسقاط الاضطرار للعلم الاجمالي ) إنّما يتمّ فيما إذا كان الاضطرار لأحدهما لا بعينه ( إلى أن قال بعد الفراغ من بيان الوجه في عدم تأثير الاضطرار إلى المعيّن في إسقاط العلم الاجمالي ) وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فإنّه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً ، فافهم وتأمّل (2).

ولم يزد في بيان الفرق بينهما على ذلك ، ولا يخلو من تأمّل ، فإنّ الاضطرار إلى المعيّن أيضاً مانع عنده من فعلية التكليف ، وإنّما قلنا إنّه ليس بمانع من جهة دخول تلك القطعة الزائدة التي هي في الطويل في العلم الاجمالي السابق ، ولأجل ذلك قلنا إنّه قد علم من أوّل الأمر بالتكليف المردّد بين الطويل والقصير.

وحينئذ لنا أن نقول : كما أنّ الاضطرار إلى المعيّن يرفع الفعلية في ذلك المعيّن ، ويوجب التردّد بين الطويل والقصير ، فكذلك الاضطرار إلى غير المعيّن يوجب الترخيص فيما يختاره ، فيكون تكليفه من أوّل الأمر مردّداً بين الطويل وهو ما لا يختاره والقصير وهو ما يختاره.

ص: 144


1- [ هكذا في الأصل ].
2- كفاية الأُصول ( الهامش ) : 360.

وإن قلت : إنّ الترخيص لا يرد على ما يختاره ، بل يرد على أحدهما ، فقهراً يكون الترخيص الواقعي متّجهاً إلى المباح منهما ، فلا يصادم التكليف الواقعي الموجود بينهما ، وحينئذ ينبغي القول بأنّ الاضطرار إلى المعيّن لا يسقط العلم الاجمالي مطلقاً حتّى لو كان قبل العلم أو مقارناً له كما أفاده شيخنا قدس سره ، غايته أنّ المكلّف لجهله ربما يقع في مخالفة التكليف ، لكن المسوّغ له ذلك حينئذ هو الجهل بما هو النجس واقعاً ، لا اضطراره إلى شرب النجس.

ثمّ إنّ لصاحب الكفاية قدس سره في مقدّمات الانسداد في كيفية تحكيم أدلّة العسر والحرج على مقتضى العلم الاجمالي من الاحتياط الحرجي كلاماً حاصله تحكيم تلك الأدلّة على نفس التكليف الواقعي وسقوط الاحتياط بالمرّة. ولم أتوفّق للوجه في العدول عنها في المقام وسلوك هذه الطريقة التي عرفت الإشكال فيها ، اللّهمّ إلاّ أن تكون تلك الطريقة غير تامّة عنده كما أشار إليه هناك بقوله : نعم لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل ، لكانت قاعدة نفيه محكّمة على قاعدة الاحتياط ، لأنّ العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة المنفية بنفيه الخ (1) ، فإنّ قوله : « كما قيل » يشعر بأنّه لا يرتضيه ، ولذلك نسبه إلى القيل.

وعلى أيّ حال ، فبناءً على هذه الطريقة يكون الاضطرار إلى غير المعيّن موجباً لسقوط الاحتياط بالمرّة حتّى لو كان حادثاً بعد العلم الاجمالي ، فإنّه يكون موجباً لسقوط العلم الاجمالي من حين الاضطرار ، وإن كان العلم قبل طروّه منجّزاً في الطرفين كما لا يخفى ، وقد تقدّم ما فيه مزيد توضيح لهذه الجهات ، أعني بيان كيفية المصادمة بين دليل العسر والحرج ودليل الحكم الواقعي المعلوم وجوده في البين.

ص: 145


1- كفاية الأُصول : 313 [ وفيها : فتكون منفية بنفيه ].

وليس غرضنا الآن إلاّ التأمّل فيما أفاده في حاشية الكفاية من الفرق بين كون الاضطرار الحاصل بعد العلم الاجمالي اضطراراً إلى واحد معيّن ، فلا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير فيما لم يضطرّ إليه ، وبين كونه اضطراراً إلى غير المعيّن ، فيكون مسقطاً للعلم الاجمالي عن التأثير فيما لا يختاره لسدّ اضطراره.

فنقول : لنفرض الآن أنّ له آنيتين صغرى وكبرى ، وقد وقعت الآن نجاسة مردّدة بينهما ، ولنفرض أيضاً أنّه فعلاً عالم بأنّه بعد يوم يضطرّ إلى إحداهما غير المعيّن ، فهو إن وسّط الاختيار يقول أنا الآن عالم بأني يجب عليَّ الآن الاجتناب عن النجس الموجود في البين ، لكنّه إن كان في الذي أختاره بعد ذلك لسدّ ضرورتي فذلك الوجوب عمره محدود باليوم المذكور ، وإن كان في الذي لا أختاره فيما بعد فهو غير محدود ، فيرجع حاله إلى حال الاضطرار إلى المعيّن في كونه مردّداً بين الطويل والقصير ، الذي اعترف أنّه لا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير في الطويل.

وإن لم يوسّط الاختيار يقول أنا فعلاً عالم بأنّي يجب عليَّ فعلاً الاجتناب عن النجس الموجود في البين ، فإن كان في الكبرى كان ذلك باقياً إلى ما بعد الاضطرار ، إذ لا يكون اضطراري مصادماً له ، بل يكون اضطراري الآتي متّجهاً في الواقع إلى غير ذلك النجس الذي هو الكبرى ، وكذلك الحال لو كان ذلك التكليف في الصغرى ، وحينئذ يكون الاضطرار إلى غير المعيّن غير مصادم مع التكليف الواقعي الموجود في البين ، ولازم ذلك أن لا يكون الاضطرار المذكور مزاحماً مع التكليف الفعلي الواقعي المعلوم في البين ، فلا يؤثّر في إسقاط العلم ، سواء كان سابقاً على العلم أو كان متأخّراً عنه ، ولا يكون لذلك الاضطرار أثر إلاّفتح باب احتمال ارتكاب النجس الواقعي لسدّ ضرورته عن جهل بنجاسته ، ويكون

ص: 146

المسوّغ لذلك الارتكاب هو الجهل الطارئ بعد العلم ، الموجب لعدم إسقاط العلم عن التأثير ، فتأمّل.

قوله : كما إذا علم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في تأثير العلم الاجمالي في وجوب صلاة الظهر بعد انقضاء ساعة من الزوال ... الخ (1).

لا يخفى أنّ تطبيق هذا المثال على ما نحن فيه مشكل ، لأنّه إن كان بالنظر إلى أوّل الزوال والمفروض أنّ التكليف بأحدهما موجود قطعاً في ذلك الحال ، لكن يكون في هذا الحال كحال قبل الاضطرار. ثمّ بعد مضي الزمان المعيّن لصلاة الجمعة ، فإن كان قد صلاّها لزمه الاتيان بالظهر بعدها ، لكن ليس ذلك إلاّمن جهة العلم الاجمالي في ظرف واحد ، لا من جهة الطول والقصر ، ولأجل ذلك يلزمه الاتيان بالظهر بعد الفراغ من الجمعة وإن كان وقت الجمعة بعدُ لم ينته. أمّا لو مضى الزمان المذكور ولم يكن قد صلّى الجمعة ، فلا إشكال في وجوب الظهر ، فإنّها حينئذ معلومة بالتفصيل ، لأنّها إن كانت هي الواجبة فواضح ، وإن كان الواجب هو الجمعة فقد فات وقتها ولا قضاء لها ، والواجب عليه حتّى لو كانت معلومة بالتفصيل هو الظهر كما صرّحوا به في الفقه في مبحث صلاة الجمعة ، وأنّه لو فاتته في وقتها لزمه الاتيان بالظهر ، فلا يحسن ما في ظاهر هذا التحرير وصريح تحرير السيّد سلّمه اللّه (2).

وبالجملة : أنّ المثال المطابق لما نحن فيه إنّما هو لو علم إجمالاً أوّل الزوال وأقدم على الاتيان بالجمعة ، والظاهر لزوم الاتيان بالظهر ، لكن ليس ذلك إلاّمن

ص: 147


1- فوائد الأُصول 4 : 97.
2- أجود التقريرات 3 : 457 - 458.

جهة العلم الاجمالي في ظرف واحد ، لا من جهة الطول والقصر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما نحن فيه يكون المكلّف به وهو الاجتناب مستمرّاً من أوّل زمان العلم إلى آخره في كلّ من الطرفين ، غايته أنّه في أحدهما وهو ما اضطرّ إليه قصير الأمد ، وفي الآخر وهو ما لم يضطرّ إليه ليس بقصير الأمد ، وحينئذ يقال : إنّ تلك القطعة الزائدة في ذلك الآخر لم تكن متعلّقة للعلم ، فيتخيّل أنّها خارجة عن المقابلة بين الاناءين في القطعة السابقة ، وهذا بخلاف مثال الظهر والجمعة فإنّ المكلّف به فعل واحد هو إمّا الظهر أو الجمعة ، وهذا الفعل إذا فرضنا كونه هو الواجب يكون زمان تأديته فيه أوسع منه في الجملة ، فيكون المكلّف مخيّراً في الاتيان به في أيّ قطعة شاء من ذلك الزمان ، غايته أنّ مدّة التخيير في الظهر أوسع منها في الجمعة ، فليس في البين قطعة زائدة يكون التكليف بالنسبة إليها زائداً على ما هو مورد التقابل بين المعلومين ، كي يقال إنّها غير داخلة في العلم كالقطعة الزائدة في الطرف غير المضطرّ إليه على ما يساوي حدّ الاضطرار ممّا هو مورد التقابل في العلم الاجمالي بين الاناءين (1).

أمّا هذه الجملة التي ذكرها ، وهي الجملة المتعلّقة بكون الارتكاب الرافع للاضطرار هو المحقّق لوجوب الاجتناب ، بخلاف ما لو لم يكن رافعاً للاضطرار فإنّه لا يحقّق وجوب الاجتناب ، فالظاهر أنّ مراده بذلك هو حال ما قبل الارتكاب ، وأنّه لو كان الارتكاب دفعياً كان محقّقاً لوجوب الاجتناب ، لأنّ أحد الارتكابين يكون كافياً في رفع الاضطرار الموجب لتحقّق وجوب الاجتناب ،

ص: 148


1- [ في الأصل هنا بياض بمقدار صفحة أو أكثر ، والظاهر أنّ العبارات التي تأتي بعد ذلك وهي قوله قدس سره : أمّا هذه الجملة ... الخ تعليق منه قدس سره على ما في مستمسك العروة الوثقى 5 : 202 وما بعدها ].

بخلاف ما لو كان الارتكاب تدريجياً ، فإنّه قبل ارتكاب شيء منهما وإن كان عالماً بأنّه لو ارتكب أحدهما يتحقّق في حقّه وجوب الاجتناب عن النجس ، إلاّ أنه مع ذلك يقول : إنّي لو ارتكبت الأوّل فلا شبهة في كونه رافعاً للاضطرار ، وأنّه لو كان هو الطاهر لكان ارتكابه موجباً لتحقّق وجوب الاجتناب عن النجس ، لكن بعد ارتكابي للأوّل لا يكون ارتكابي للثاني رافعاً للاضطرار ليكون موجباً لتحقّق وجوب الاجتناب في الأوّل ، ليكون الحاصل فعلاً - أي قبل الارتكاب التدريجي - هو أنّي أعلم إجمالاً إمّا بالمنع عن الثاني بعد ارتكابي الأوّل ، وإمّا بالمنع من الأوّل بعد ارتكابي للثاني ، ليكون علمي الاجمالي المذكور مانعاً لي فعلاً من حصول العلم التفصيلي بحلّية الأوّل ، وذلك لما عرفت من سقوط هذا العلم الاجمالي ، لأنّ الارتكاب المحقّق لوجوب الاجتناب هو خصوص الرافع للاضطرار ، والمفروض أنّ ارتكابي للثاني بعد ارتكاب الأوّل لا يكون رافعاً للاضطرار ، فأنا الآن لا أحتمل أنّ ارتكابي للأوّل إذا عقّبته بارتكابي للثاني يكون ممنوعاً عنه. ولكن هذا كلّه لو لاحظهما مترتّبين ، لكن لو لاحظ أنّي أعلم بأنّ ارتكاب كلّ منهما محقّق للوجوب في الآخر ، لم يكن في ذلك العلم خدشة.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم أنّ ما هو محلّ كلام العروة من ضيق الوقت عن تمام الأربع ، خارج عن مسألة الخلاف في الاضطرار إلى غير المعيّن قبل العلم أو مقارناً له ، لأنّ ضيق الوقت من قبيل طروّ الاضطرار بعد العلم ، وهو ممّا لا خلاف في أنّه لا يرفع تنجّز العلم السابق.

ولا يخفى الجواب عن هذا التوهّم ، فإنّ عمدة الكلام إنّما هو في الوجه في تحكيم دليل الاضطرار في المقام ، مع أنّ التكليف الواقعي الشرعي ليس في حدّ نفسه ضررياً ولا حرجياً ، وحكم العقل بجميع الأطراف ليس بشرعي كي يرتفع

ص: 149

بالدليل الشرعي ، الذي هو نفي الضرر أو نفي الحرج أو رفع ما اضطرّوا إليه ، وحينئذ يكون اللازم هو ما ذكر من التقييد ورفع إطلاق التكليف الشرعي الموجود في البين.

نعم ، يتوجّه عليه أنّ المقام - أعني ضيق الوقت - من قبيل عدم القدرة عقلاً على الاتيان بجميع الأطراف ، وهذا - أعني عدم القدرة عقلاً على الاتيان بجميع الأطراف - لا يحتاج في تحكيمه إلى الالتزام بتقييد الحكم الشرعي الواقعي ، بل إنّ هذا الحكم العقلي يكون مقدّماً على حكم العقل بالاتيان بجميع [ الأطراف ] ، فإنّ الحاكم واحد وهو العقل ، وهو إنّما يحكم بالاتيان بجميع أطراف العلم الاجمالي إذا كان ذلك مقدوراً عقلاً ، أمّا إذا لم يكن ذلك مقدوراً فالعقل يحكم بسقوط المقدار الذي هو خارج عن القدرة ، وبلزوم الاتيان بما يقدر عليه من الأطراف.

قول الشيخ قدس سره : فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريماً (1).

لو كان أحد الطرفين المتدرّجين في حدّ نفسه مجرى لأصالة الحرمة ، انحلّ العلم الاجمالي ، وخرجت المسألة عن النزاع في كون العلم الاجمالي بين التدريجيات منجّزاً أو غير منجّز ، ولعلّ نظره في ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر في مثل المعاملة المحتمل كونها ربوية.

قوله قدس سره : فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الاباحة ... الخ (2).

هذا فيما فرضه من المثال ، وهو ما لو علم بحيضها في ثلاثة أيّام مردّدة بين

ص: 150


1- فرائد الأُصول 2 : 249.
2- فرائد الأُصول 2 : 249.

جميع أيّام الشهر ، إذ يجري استصحاب الطهر من أوّل الشهر إلى ما قبل آخره بثلاثة ، وحينئذ ينقطع استصحاب الطهر ، إمّا فيما سبق أو في هذه الثلاثة الأخيرة. أمّا لو فرض التردّد في الثلاثة المذكورة بين كونها هي أوائل الشهر أو هي أواخره ، فالظاهر جريان استصحاب [ الطهر ] من أوّله إلى أن تنقضي الثلاثة الأُولى ، ثمّ بعد القطع بطهرها في وسطه يستصحب طهرها إلى آخر الشهر ، فلا يحتاج في آخره إلى أصالة الاباحة.

قوله قدس سره : وفي المثال الثاني إلى أصالة الاباحة والفساد ... الخ (1).

هذا هو محلّ النظر في الجمع بين الحكم بالحلّية والفساد ، وقد تعرّض له شيخنا قدس سره فراجع التحريرات (2).

قوله قدس سره : ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر ... الخ (3).

ثبوت الفساد في حقّ الجاهل القاصر محلّ إشكال ، وقد ذكره الفقهاء فراجع.

قوله قدس سره : وليس هنا مورد التمسّك بعموم ... الخ (4).

هذا العموم موجود في المثال الأوّل ، وهو قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (5).

ص: 151


1- فرائد الأُصول 2 : 249.
2- فوائد الأُصول 4 : 112 وما بعدها ، أجود التقريرات 3 : 468 وما بعدها.
3- فرائد الأُصول 2 : 249.
4- فرائد الأُصول 2 : 250.
5- البقرة 2 : 223.

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره تعرّض في أصالة العموم لناحية العلم الاجمالي ، وهذه الناحية مشتركة بين الشبهة الحكمية والشبهة المصداقية المقرونة بالعلم الاجمالي ، وسكت عن ناحية كون الفرد الأوّل الذي هو محلّ الابتلاء فيما نحن فيه من قبيل الشبهة البدوية المصداقية ، التي لا إشكال عنده في عدم صحّة الرجوع فيها إلى العموم ، بخلاف الأصل العملي الجاري عنده وعند غيره في الشبهات البدوية المصداقية ، وهذه الجهات هي التي تعرّض لها شيخنا قدس سره في كلام الشيخ قدس سره ، مضافاً إلى الكلام على الجمع بين أصالة الحل وأصالة الفساد.

والتحقيق : هو ما أفاده شيخنا قدس سره أخيراً من أنّ مانعية العلم الاجمالي من التمسّك بالعموم - سواء كانت الشبهة حكمية أو كانت مصداقية - حالها حال مانعيته من التمسّك بالأُصول العملية في سقوط هذه المانعية فيما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن ابتلاء المكلّف ، من دون فرق في ذلك بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية.

نعم ، في المقام مانع آخر تختصّ به الأُصول اللفظية ، وهو كون المورد الذي هو أحد الأطراف من قبيل الشبهة المصداقية غير المانعة من الرجوع إلى الأُصول العملية لو كان الطرف الآخر خارجاً عن محلّ [ الابتلاء ] ، بخلاف الأُصول اللفظية كالعموم فيما نحن فيه ، فإنّ كون الشبهة مصداقية يكون مانعاً من الرجوع في هذا الطرف إلى العموم اللفظي ، سواء كان الطرف الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء أو كان خارجاً ، بل كان المورد الموجود من قبيل الشبهة البدوية ، فإنّ كون الشبهة مصداقية يمنع من الرجوع فيها إلى الأُصول اللفظية في البدوية وغيرها بنسبة واحدة. ولعلّ هذا هو المراد للشيخ قدس سره بقوله أخيراً : لكن الظاهر

ص: 152

الفرق بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية ، فتأمّل (1) ، ويكون حينئذ إشارة إلى مانعية الشبهة المصداقية ، وهي فارقة بين الأُصول اللفظية والأُصول العملية كما عرفت.

لكن هذا الفرق لا يتوقّف على خروج الطرف الآخر عن الابتلاء ، بل هو موجود حتّى فيما لو كان الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء ، بمعنى أنّا لو قلنا إنّ العلم الاجمالي بين الطرفين الداخلين في محلّ الابتلاء لا يكون مانعاً من إجراء الأُصول العملية واللفظية في الأطراف ، لكان بينهما فرق من هذه الناحية ، أعني ناحية كون الشبهة مصداقية ، فإنّها تمنع من الأُصول اللفظية وإن لم تمنع من الأُصول العملية ، ولعلّ قوله قدس سره : « فتأمّل » إشارة إلى هذه الجهة. والمطلب واضح بعد هذه المباني ، وكأنّه لأجل ذلك لوّح إليه الشيخ قدس سره تلويحاً ، وأوكل توضيحه بما عرفت إلى ما حقّقه في محلّه في باب العموم والخصوص ، فراجع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير من المناقشة مع الشيخ في كلا المقامين ، أعني مقام كون العلم الاجمالي مانعاً عن التمسّك بالعموم في أطرافه ، ومقام إجراء أصالة الحل.

أمّا المقام الأوّل ، فهو قوله : والحقّ أنّه يمنع ، للفرق بين الأُصول العملية والأُصول اللفظية - إلى قوله - والعلم الاجمالي بالمخصّص يمنع عن كونها كاشفة كما لا يخفى ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس سره أخيراً من إبداء الفرق بين الأُصول العملية والأُصول اللفظية الخ (2) ، فإنّ ظاهره هو أنّ العلم الاجمالي بالمخصّص يمنع من التمسّك بالعموم في بعض أطرافه وإن كان الطرف الآخر

ص: 153


1- فرائد الأُصول 2 : 250.
2- فوائد الأُصول 4 : 114.

خارجاً عن محلّ الابتلاء. والظاهر خلافه ، ولأجل ذلك أجابوا عن العلم الاجمالي بوجود المخصّص للعمومات الكتابية بأنّ ذلك لعلّه في عمومات القصص لا في عمومات الأحكام ، كما ذكره في تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : ويمكن الخدشة في هذا الوجه الخ (1) ، فراجع.

وأمّا الفرق الذي أشار إليه الشيخ قدس سره ، فلعلّه كما عرفت من أنّه إشارة إلى مانعية الشبهة المصداقية ، وأنّ قوله قدس سره : « فتأمّل » إشارة إلى أنّ هذه المانعية غير منوطة بالعلم الاجمالي ولا بكونه منجّزاً.

وأمّا المقام الثاني ، فهو ما أفاده أخيراً من تصحيح كلام الشيخ قدس سره في عدم الملازمة بين الحلّية والصحّة بقوله : ولكن يمكن أن يقال : إنّ فساد المعاملة الربوية ليس لأجل حرمتها التكليفية الخ (2) ، فإنّ الفساد تارةً : يكون لأجل مانعية الحرمة المنجّزة مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، وأصالة الحل في مثل ذلك تكون موجبة للقطع بالصحّة. وأُخرى : يكون هو والحرمة معلولين لعلّة ثالثة ، كما في حرمة أكل لحم الحيوان وبطلان الصلاة في وبره ، وفي مثل ذلك لا يمكن الحكم بصحّة الصلاة اعتماداً على أصالة الحل في أكل لحمه ، فإنّها لا تثبت الصحّة الظاهرية فضلاً عن الواقعية. وثالثة : يكون الفساد ناشئاً عن حرمة المعاملة بمعنى المسبّب ، وهذا يكون معلولاً عن الحرمة ، وتكون أصالة الحل المثبتة للحلّية الظاهرية مثبتة للصحّة الظاهرية ، فإذا انكشف الخلاف يكون من قبيل انكشاف خطأ الحكم الظاهري في كلّ من الحلّية والصحّة. وعلى كلّ حال ، لا يكون الحكم بالفساد في موارد الجهل بعد انكشاف الخلاف دليلاً على كون المقام من النحو

ص: 154


1- أجود التقريرات 3 : 470.
2- فوائد الأُصول 4 : 116.

الثاني ، بل هو ملائم مع كونه من النحو الثالث ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّه ربما يدّعى أنّ باب الربا مشتمل على كلا الجهتين في عرض واحد ، أعني أنّه في بيع المتجانسين مع الزيادة يجتمع الحرمة التكليفية مع المانعية ، أو مع عدم تحقّق الشرط الذي هو التساوي. والمسألة فقهية من هذه الجهة ، فراجع ما في ربا ملحق العروة للسيّد قدس سره (1) من ص 17 إلى ص 20.

أمّا ما حرّره السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) عن شيخنا قدس سره بقوله : ويرد على ما أفاده أوّلاً : أنّ تفكيكه بين الحكم التكليفي وهو الاباحة والوضعي وهو الصحّة غير مستقيم على مذهبه قدس سره من كون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، فإنّ حرمة المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أعني به المبادلة بين المالين - إلى قوله - نعم على المختار من كون الفساد في المعاملات الفاسدة غير مترتّب على حرمتها ، وأنّه ليس في طولها - إلى قوله - إلاّ أن أصالة الاباحة لا تثبت بها الآثار المترتّبة على الحلّية الواقعية (2) ، فهو لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ القول بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية عبارة عن أنّ الجزئية مثلاً منتزعة من الأمر بالجزء في ضمن الأمر بالكل ، أو أنّ الملكية منتزعة من جواز التصرّف في العين لمن هو مالكها ، أو من حرمة تصرّف غيره فيها إلاّبرضاه ، وعلى تقدير كون الشيخ قدس سره قائلاً بذلك فهو لا دخل له بما أفاده الشيخ قدس سره هنا من أنّ ثبوت حلّية نفس البيع تكليفاً بأصالة الحل لا تثبت صحّته وتحقّق النقل والانتقال.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : فإنّ حرمة المعاملة بالمعنى الاسم

ص: 155


1- العروة الوثقى 6 : 34 وما بعدها / المسألة 15.
2- أجود التقريرات 3 : 469 - 470.

المصدري الخ ، فإنّ ذلك على تقديره لا دخل له بكون الحكم الوضعي منتزعاً من الحكم التكليفي ، بل إنّ ذلك ناشٍ ممّا أفاده من كون النهي المذكور موجباً لسلب السلطنة تشريعاً على تلك المعاملة ، الذي عرفت أنّه من اللوازم الذاتية للنهي المذكور.

وقوله : وعلى ذلك يبتني الاستدلال على صحّة المعاملة بقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) الخ (2) أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ الاستدلال المذكور لا يبتني على القول بكون الوضع منتزعاً من التكليف ، ولا على كون النهي موجباً لسلب السلطنة.

وبالجملة : أنّه يومئ في ذلك إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في أوائل المعاطاة من الاستدلال على كون المعاطاة مفيدة للملك لكونها بيعاً عرفاً ، فإنّه قال في ذلك المبحث ما هذا لفظه : ويدلّ عليه أيضاً عموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) حيث إنّه يدلّ على حلّية جميع التصرّفات المترتّبة على البيع ، بل قد يقال : بأنّ الآية دالّة عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا مجرّد الحكم التكليفي ، لكنّه محل تأمّل ، وأمّا منع صدق البيع عليه عرفاً فمكابرة (3). فالشيخ قدس سره هناك أخذ الحلّية بمعنى الجواز التكليفي ، لكنّه لم يجعله مسلّطاً على نفس المعاملة ، لأنّ جوازها تكليفاً لا يدلّ على صحّتها ، لما ذكره هنا من عدم الملازمة بين الحلّية التكليفية والصحّة ، بل صرف تلك الحلّية التكليفية إلى التصرّفات المترتّبة على البيع في المبيع والثمن ، فتكون كاشفة عن تحقّق الملكية ، وتأمّل في الوجه الآخر وهو كون الحلّية وضعية

ص: 156


1- البقرة 2 : 275.
2- أجود التقريرات 3 : 469.
3- كتاب المكاسب 3 : 40.

بمعنى الانفاذ والامضاء.

وهذا التقريب وإن ورد عليه أنّ جواز نفس المعاملة تكليفاً بمقتضى الآية الشريفة ملازم لصحّتها وعدم فسادها ، وإن لم تكن الصحّة من الآثار الشرعية للجواز التكليفي ، إلاّ أنه لا أقل من التلازم بينهما بناءً على كونهما معلولين لعلّة ثالثة كما أفاده شيخنا قدس سره من كون حرمة المعاملة مع فسادها معلولين لعلّة ثالثة ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بالاستدلال فيما لو ثبت الجواز التكليفي بالدليل الاجتهادي كالآية الشريفة. نعم يضرّ بالاستدلال لو كان الجواز ثابتاً بالأصل العملي ، أعني أصالة الحل كما فيما نحن فيه.

وأمّا قوله : نعم على المختار من كون الفساد في المعاملات الفاسدة غير مترتّب على حرمتها ، وأنّه ليس في طولها الخ (1) ، فهو أيضاً لا يخلو من تأمّل ، إذ ليس كلّ معاملة فاسدة يكون فسادها من جهة النهي عنها ، بل إنّ للفساد فيها أسباباً ، ومن تلك الأسباب هو كونها منهياً عنها. ثمّ إنّ ما كان السبب فيه هو النهي عنها ليس بمنحصر بما يكون الفساد والحرمة عرضيين ، بل بعض ذلك يكون الفساد فيه في طول النهي ، كما في النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر وبيع المصحف منه ونحو ذلك ، وإنّما هو مختصّ بما نحن فيه ممّا يكون الفساد فيه والحرمة ناشئين عن علّة ثالثة ، بناءً على ما ذكرناه من كون المعاملة الربوية بنفسها محرّمة بقوله : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (2) فإنّه مسوق للحرمة التكليفية التي هي من أعظم المحرّمات التي هدّد فيها تعالى بقوله : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (3) ، ومع

ص: 157


1- أجود التقريرات 3 : 469.
2- البقرة 2 : 275.
3- البقرة 2 : 279.

ذلك دلّت الأخبار على كون التفاضل مانعاً من الصحّة أو التساوي شرطاً في الصحّة من مثل قوله عليه السلام : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم » (1) وقوله عليه السلام : « لا يصلح إلاّمثلاً بمثل » (2) ونحو ذلك ممّا دلّ على الفساد الوضعي من جهة شرطية التساوي أو مانعية التفاضل ، ولكن مع ذلك لا يكون هذا النهي التكليفي المتعلّق بالمعاملة الربوية مجرّداً عن اقتضاء الفساد الذي عرفت أنّه من لوازمه الذاتية ، بل هو على ما هو عليه من اقتضاء سلب السلطان الموجب للفساد ، وإنّما في البين فساد آخر آت من ناحية عدم الشرط أو من ناحية وجود المانع ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 158


1- مستدرك الوسائل 13 : 341 / أبواب الربا ب 12 ح 4.
2- وسائل الشيعة 18 : 149 / أبواب الربا ب 14 ح 3 ، ب 8 ح 2.

[ الكلام في الشبهة غير المحصورة ]

قوله : بل لابدّ في الشبهة الغير المحصورة (1) من اجتماع كلا الأمرين وهما كثرة العدد وعدم التمكّن من جمعه في الاستعمال ... الخ (2).

لا يخفى أنّ ملاك سقوط حرمة المخالفة إنّما هو القيد الثاني ، وهو عدم التمكّن من الجمع بين المحتملات في الاستعمال ، فإنّه هو الذي يوجب عدم التمكّن من المخالفة القطعية الموجب لسقوط حرمتها. نعم إنّ ذلك - أعني عدم التمكّن من الاستعمال - يكون في الشبهة غير المحصورة ناشئاً عن كثرة الأطراف الموجبة لكثرة الاحتمالات.

قوله : أمّا عدم حرمة المخالفة القطعية فلأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها ... الخ (3).

لا يخفى أنّ حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ليست من الأحكام الشرعية ، كي يكون الخطاب بها قبيحاً عند عدم التمكّن العادي من مخالفتها ، بل هي - أعني حرمة المخالفة القطعية - من الأحكام العقلية ، إذ ليست هي إلاّعبارة عن قبح المعصية ، ولا ريب في أنّ حكم العقل بقبح المعصية وتنفّره

ص: 159


1- [ في الطبعة الحديثة هنا زيادة ليست في محلّها ، بل محلّها بعد قوله : وبهذاتمتاز الشبهة الغير المحصورة ].
2- فوائد الأُصول 4 : 117 - 118.
3- فوائد الأُصول 4 : 119.

منها ليس منوطاً بالتمكّن العادي من المعصية ، إذ لا يكون الحكم العقلي إلاّكلّياً كبروياً غير منوط بتحقّق موضوعه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحسن والقبح العقليين تابعان للقدرة. وفيه تأمّل ، لأنّ ذلك إنّما هو في استحقاق المدح والذمّ ، دون مجرّد الحسن والقبح.

وفيه : ما لا يخفى ، فالأولى أن يقال : إنّ حكم العقل بالقبح منوط بالقدرة والاختيار ، وحيث لا يكون الفعل مقدوراً كالطيران إلى السماء مثلاً ، لا يحكم العقل بقبحه ، لكنّه لا يحكم بعدم قبحه ، بل يكون ذلك خارجاً عن الصلاحية للحكم بالقبح والحكم بعدم القبح ، بل أقصى ما فيه هو عدم الحكم بالقبح لا الحكم بعدم القبح.

وبالجملة : أنّ العقل يحكم بقبح المعصية القطعية وبالتنفّر منها وبالزجر عنها ، لكنّها لو كانت غير مقدورة لا تكون مورداً لحكمه ، لا أنّه يحكم بعدم قبحها ، والمخالفة القطعية إذا لم تكن مقدورة عقلاً تكون من هذا الوادي ، أعني وادي عدم الحكم بالقبح ، لا من وادي الحكم بعدم القبح ، ومن الواضح أنّ مجرّد ذلك - أعني عدم حكمه بالقبح من باب السالبة بانتفاء الموضوع - لا يوجب حكم العقل بالترخيص في المخالفة القطعية ، غايته أنّه لا يحكم بالترخيص ، على حدّ عدم حكمه بالزجر ، يعني أنّه من باب خروج المورد عن تحت سيطرة الحكم العقلي منعاً وترخيصاً ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل من علم بحرمة أحد فعلين لا يسع الزمان إلاّ أحدهما ، كما لو علم بحرمة إنقاذ أحد الغريقين وإباحة إنقاذ الآخر لا وجوبه ، فإنّ المخالفة القطعية في أمثال ذلك غير مقدورة عقلاً ، لكن ذلك لا يوجب سقوط لزوم الموافقة القطعية بترك إنقاذهما ، بناءً على كون العلم الاجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعية. أمّا بناءً على أنّ لزوم الموافقة القطعية

ص: 160

ناشئة من تعارض الأُصول الناشئ عن عدم جواز الجمع بين الأصلين ، فالظاهر أنّه لا مانع من إجراء الأصل في واحد منهما حسبما يختاره ، ونتيجة ذلك هو التخيير.

إلاّ أن يقال : إنّ التعارض الناشئ عن لزوم الترجيح بلا مرجّح يتحقّق في المقام ولو لم يمكن إجراء الأصل في كلّ منهما ولو على التدريج.

وبالجملة : أنّ المانع من الجمع بين الأصلين تارةً يكون هو لزوم المخالفة القطعية ، وأُخرى يكون هو أنّ الجمع بنفسه غير ممكن عقلاً كما فيما نحن فيه ، فإنّ الجمع في الترخيص العملي في الطرفين غير ممكن عقلاً ، وحينئذ تنتهي النوبة إلى إجرائه في أحدهما دون الآخر ، وبعد وصول النوبة إلى ذلك ينتهي الأمر إلى برهان التساقط وهو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، هذا كلّه فيما لو كانت المخالفة القطعية غير مقدورة عقلاً ولو بأن تكون محتاجة إلى زمان لا يسعه العمر.

أمّا لو [ لم ] تكن كذلك ، بل لم يكن في البين إلاّكونها غير مقدورة عادة ، بأن كانت محتاجة إلى كلفة لم تجر العادة بارتكابها مع فرض إمكانها عقلاً ، فالعقل لا يتنازل بمجرّد ذلك عن حكمه بقبحها والتنفّر منها والزجر عنها ، ولو سلّم ذلك فلا أقل من كونها في نظر العقل من قبيل غير المقدور عقلاً ، وقد عرفت الحال فيه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في تحرير السيّد سلّمه اللّه فإنّه بعد أن أفاد في ضابط الشبهة غير المحصورة بقوله : بل المدار فيه هو عدم إمكان الجمع في الارتكاب بحسب العادة وإن كان ممكناً عقلاً ، قال : أمّا من جهة حرمة المخالفة القطعية ، فلأنّ المفروض عدم التمكّن منها لكثرة الأطراف ، فلا يمكن

ص: 161

أن يتّصف بالحرمة عقلاً أو شرعاً الخ (1). أمّا الحرمة شرعاً فلا محل لها في المقام ، إذ ليست حرمة المخالفة القطعية شرعية كي يتكلّم عليها. وأمّا الحرمة العقلية فليست هي إلاّعبارة عن حكم العقل بقبحها والتنفّر منها والانزجار منها والزجر عنها ، وذلك متحقّق فيما يكون ممكناً عقلاً وإن كان غير ممكن عادة. نعم لو كانت غير ممكنة عقلاً كما فرضه فيما لو احتاج ارتكاب الجميع إلى ما هو أزيد من العمر الطبيعي ، فقد عرفت أنّ ذلك من باب عدم حكم العقل بالقبح والزجر ، لا من باب الحكم بعدم القبح ، على وجه يكون العقل مسوّغاً للمخالفة القطعية ، ليكون ذلك موجباً لسقوط لزوم الموافقة القطعية.

وبالأحرى أن نقول : إنّ هذا العلم الاجمالي ليس له مخالفة قطعية كي تكون مورداً لحكم العقل بحسن أو قبح أو تسويغ أو زجر ، وهل هي بعد فرض عدم القدرة عليها عقلاً إلاّمن قبيل الجمع بين الضدّين أو النقيضين في أنّه لا مورد للحكم العقلي بها إلاّبالامتناع والاستحالة ، دون ما هو من مقولة الحسن أو القبح ونحوهما.

نعم ، لو كان لنا دليل شرعي يدلّ على أنّ المخالفة القطعية محرّمة شرعاً ، لكان ذلك التكليف الشرعي المتعلّق بترك المخالفة القطعية قبيحاً عند عدم التمكّن العادي منها ، كما يقبح النهي عن مثل شرب الخمر عند عدم التمكّن العادي من الإقدام عليه ، كما مرّ تفصيله في مبحث الخروج عن الابتلاء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو أنّ التكليف الواقعي بمثل الاجتناب عن النجس يكون قبيحاً عند عدم التمكّن من ارتكاب جميع الأطراف الكثيرة التي يعلم إجمالاً بوجود النجس فيما بينها.

ص: 162


1- أجود التقريرات 3 : 472.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ ترتّب حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية على التكليف الواقعي لا يكون موجباً لقبحه ، إذ ليس ذلك مثل الحرج المترتّب على الحكم الواقعي بواسطة حكم العقل. مضافاً إلى أنّا قد منعنا ذلك في مثل الحرج فمنعه فيما نحن فيه أولى. مع أنّه لو تمّ فيما نحن فيه لكان موجباً لسقوط ذلك التكليف الواقعي بتاتاً ، فلا حاجة حينئذ إلى تكلّف سقوط لزوم الموافقة القطعية بما أُفيد من أنّه بعد سقوط حرمة المخالفة القطعية لا يبقى مانع من الجمع بين الأُصول النافية في الأطراف ، فإنّه بعد البناء على سقوط التكليف الواقعي بتاتاً لا معنى للتكلّم في وجوب موافقته الاحتمالية فضلاً عن موافقته القطعية.

لا يقال : لعلّ المراد هو أنّ عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية لا يوجب سقوط التكليف الواقعي بتاتاً ، بل إنّما يوجب سقوطه من حيث اقتضائه لحرمة المخالفة القطعية ، وحينئذ يبقى الكلام في سقوطه من حيث اقتضاء الموافقة القطعية ، فنحتاج في توجيه سقوطها بما أُفيد من أنّه لا مانع من الجمع بين الأُصول النافية في الأطراف.

لأنّا نقول : قد تقدّمت (1) الاشارة في مباحث الاضطرار إلى غير المعيّن إلى أنّه لا معنى لاسقاط التكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية دون حيث وجوب الموافقة القطعية ، فإنّ التكليف الواقعي واحد لا تعدّد فيه من هذه الحيثيات العقلية.

لا يقال : يمكن أن ينزّل ما أُفيد هنا في وجه سقوط العلم الاجمالي على ما أُفيد في مسألة الخروج عن الابتلاء ، من أنّه لو كان بعض الأطراف معيّناً غير مقدور الارتكاب عادةً لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً ، حيث إنّ الحال فيما نحن

ص: 163


1- في الصفحة : 114.

فيه كذلك ، لأن بعض الأطراف بواسطة عدم إمكان الجمع لا يتمكّن عادةً منها.

لأنّا نقول : إنّ العلم الاجمالي إنّما يسقط عن التأثير في تلك المسألة لكون المعلوم على تقدير انطباقه على ذلك الطرف الخارج عن الابتلاء يكون التكليف بالاجتناب عنه قبيحاً ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يتأتّى فيما نحن فيه ، لأنّ المفروض أنّ أيّ طرف من هذه الأطراف لا يكون التكليف بالاجتناب عنه لو كان هو النجس قبيحاً ، لفرض التمكّن منه عقلاً وعادة ، وإنّما كان عدم التمكّن العادي بالنسبة إلى جهة الجمع التي هي المعبّر عنها بالمخالفة القطعية ، وقد عرفت الإشكال في اتّصاف حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية بالقبح المذكور.

ولعلّه قدس سره أشار إلى ذلك بقوله في حاشية العروة في ضابط الشبهة غير المحصورة بما هذا لفظه : لو بلغت المشتبهات من الكثرة حدّاً لا يتمكّن عادة من جميعها وإن تمكّن من آحادها على البدل ، كان ذلك من غير المحصور (1) فقوله : وإن تمكّن من آحادها الخ ، إشارة إلى أنّه ليس الميزان والضابط في الشبهة غير المحصورة هو كون الكثرة موجبة لعدم التمكّن من ارتكاب تلك الأطراف على البدل ، ليرجع الملاك في الشبهة غير المحصورة إلى الملاك فيما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن الابتلاء ، بل إنّ الملاك في غير المحصورة هو عدم إمكان ارتكاب الجميع بواسط كثرة الأطراف ، وحينئذ فيكون مختصّاً بالكثرة البالغة إلى هذا الحدّ ، ولا يشمل الخروج عن الابتلاء ، فلاحظ وتدبّر.

تنبيه : ربما يتوهّم الايراد على ما أفاده قدس سره في ملاك الشبهة غير المحصورة بعدم القدرة على المخالفة القطعية بما إذا كان عدم القدرة شرعياً ، مثل الأُختين اللتين يعلم بحرمة إحداهما من جهة كونها ذات زوج لو عقد بكر عليها وشكّ في

ص: 164


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ) 1 : 109 مسألة «1».

المعقود عليها منهما ، فإنّ زيداً مثلاً يعلم بكون إحداهما ذات زوج ، وبمقتضى عدم قدرته على الجمع بينهما شرعاً ينبغي أن يقال إنّه يجوز لزيد أن يتزوّج إحداهما.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه وإن لم يكن قادراً على الجمع بينهما من جهة حرمة الجمع بين الأُختين ، إلاّ أنه قادر على المخالفة القطعية لذلك العلم الاجمالي بأن يتزوّج إحداهما ثمّ يطلّقها ويتزوّج الأُخرى.

والأولى أن يمثّل لذلك بالاناءين المملوكين لزيد ، وقد أذن لعمرو في شرب واحد منهما وترك الآخر ، فصار جواز شرب كلّ منهما مقيّداً بترك الآخر ، وحرمة شرب كلّ منهما مقيّدة بشرب الآخر ، وحينئذ فلو علم عمرو بوقوع نجاسة في أحدهما كان من موارد عدم القدرة شرعاً على ارتكابهما ، لكنّها لا تؤثّر في حكم العقل بالمنع من شربهما معاً ، لكونه مخالفة قطعية لكلّ من التكليفين المفروض كونها مقدورة عقلاً ، وحينئذ تكون الموافقة القطعية لازمة على كلّ من القول بكون العلّة هي العلم الاجمالي والقول بأنّ العلّة هي التعارض.

قوله : وأمّا الوجه الثاني ، وهو دعوى استلزام الموافقة القطعية فيها للعسر والحرج غالباً ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو كان المراد هو سقوط الموافقة القطعية في الشبهات غير المحصورة التي لا يكون الاجتناب عن أطرافها حرجياً لأجل كون ذلك هوالغالب في الشبهات غير المحصورة ، فهو كما أُفيد من أنّ ذلك لا يكون إلاّمن قبيل حكمة التشريع الذي لا يصدر الحكم على طبقه إلاّمن الشارع ، وأمّا لو كان المراد هو إسقاط الموافقة القطعية في خصوص الشبهات غير المحصورة التي تكون

ص: 165


1- فوائد الأُصول 4 : 120.

الموافقة القطعية فيها مستلزمة للعسر والحرج ، فلا يتوجّه عليه الايراد المذكور ، لكن لابدّ في كيفية تحكيم دليل نفي العسر والحرج من أحد وجهين :

أحدهما : تسليطه على نفس التكليف الواقعي ، بدعوى أنّه يكفي في كونه حرجياً هو استلزامه للحرج ولو بواسطة حكم العقل بلزوم الاحتياط ، فتكون النتيجة حينئذ هي سقوط الاحتياط بالمرّة ، وعدم حرمة المخالفة القطعية كما يوجب عدم لزوم الموافقة القطعية.

ثانيهما : ما تقدّم (1) من طريقة تقييد إطلاق التكليف الموجود في هذا الطرف سواء اجتنب البواقي أو لم يجتنب ، ولازم ذلك تبعيض الاحتياط وسقوطه بمقدار ما يرتفع به الحرج.

ولا يخفى أنّه لو خلّينا نحن والعسر والحرج لكان مقتضاه تعيّن الوجه الثاني ، للزوم الاقتصار على ما يرتفع به العسر والحرج ، ومع ارتفاع العسر والحرج بتقييد الاطلاق المزبور لا وجه للوجه الأوّل الذي يكون مقتضاه رفع التكليف بتاتاً.

أمّا الإجماع فالظاهر أنّه لا ريب فيه. وما أُفيد من أنّه ليس في البين إجماع تعبّدي لا يخلو عن تأمّل ، لأنّا لو خلّينا نحن ودليل العسر والحرج لكان مقتضاه هو الطريقة الثانية - أعني طريقة إسقاط الاطلاق - التي يكون مقتضاها الاقتصار على ما يرتفع به العسر والحرج ، والظاهر من الإجماع أنّه إجماع على جواز ارتكاب الأطراف بقول مطلق من دون اختصاص بالمقدار الذي يرتفع به العسر والحرج.

نعم ، يبقى الكلام حينئذ في أنّ ذلك الإجماع هل يشمل الشبهات غير

ص: 166


1- في الصفحة : 116 وما بعدها.

المحصورة التي لا تكون الموافقة القطعية فيها مستلزمة للعسر والحرج ، أو أنّ القدر المتيقّن منه هو خصوص ما كانت الموافقة القطعية فيه مستلزمة للعسر والحرج ، والقدر المتيقّن من الإجماع المذكور وإن كان هو خصوص ما كان مستلزماً للعسر والحرج ، إلاّ أن الإنصاف أنّه لا يخلو عن ظهور في الاطلاق ، وبناءً على ذلك تكون النتيجة هي قيام الإجماع على سقوط التكليف في جميع الشبهات غير المحصورة وإن لم تكن موافقتها القطعية مستلزمة للعسر والحرج.

وحينئذ يكون كلّ من وجوب موافقته القطعية وحرمة مخالفته القطعية ساقطاً ، ولا يمكن تخصيص ذلك السقوط بالموافقة القطعية ، لأنّها حكم عقلي لا تتمشّى فيه حجّية الإجماع ، فلابدّ أن نصرفه إلى جهة شرعية وهي سقوط نفس التكليف الواقعي ، إمّا في جميع الشبهات المذكورة أو في خصوص ما كانت الموافقة القطعية فيه حرجية ، وبأيّ أخذنا يكون جواز الإقدام في كلّ واحد من أطراف الشبهة غير المحصورة غير محتاج إلى إجراء الأصل النافي ، لأنّه بعد الاعتراف بسقوط التكليف الواقعي المعلوم وجوده فيما بينها ، لا يبقى شكّ في آحاد الأطراف من ناحية العلم الاجمالي. وبعبارة أُخرى : لا يكون ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً حتّى في توليد الشكّ في آحاد الأطراف ، بل يكون ذلك العلم بمنزلة العدم ، بل لا يكون علماً بوجود التكليف أصلاً.

ومع قطع النظر عن الإجماع المزبور فالرواية الشريفة المتضمّنة لقوله عليه السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض » الخ (1) بعد فرض العمل على طبقها ، كافية في إتمام المطلب المزبور ، فإنّها ظاهرة بل صريحة في

ص: 167


1- وسائل الشيعة 25 : 119 / أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 5 ( مع اختلاف يسير ).

عدم لزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة. وما أفاده الشيخ قدس سره (1) في ردّها بكون المراد هو أنّ جعل الميتة في مكان خاصّ لا يوجب العلم بوجودها فيه في باقي الأمكنة بعيد غاية البعد ، بل يكاد يقطع بعدم إرادته.

نعم ، لو كان ذلك المكان معيّناً عند السائل لأمكن أن يقال : إنّ مفاد الرواية حينئذ هو أنّ علمك بوجود الحرام في ذلك المكان لا يوجب الاجتناب عن جميع ما في الأرض ، لكن المفروض أنّه لم يعيّن مكاناً خاصّاً ، وإنّما أقصى ما عنده هو أنّه قد علم بوجود المحرّم في جملة الجبن الموجود في الأرض من جهة أنّه أخبره من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فصار بسبب ذلك يعلم إجمالاً بأنّ ما في الأرض بعضه محرّم ، هذا.

مضافاً إلى تصريح الإمام عليه السلام بأنّه عليه السلام يشتري اللحم من السوق ، وأنّه عليه السلام لا يظنّ أنّ كلّهم يسمّون ، الظاهر في أنّ المراد من نفي الظنّ نفي الاحتمال ، كما أفاده الشيخ نفسه في بيان معنى قوله عليه السلام : « ما أظن كلّهم يسمّون » ، فإنّ إرادة نفي الاحتمال من نفي الظنّ شائع كثير.

وبالجملة : أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في الاستنكار على من يلتزم بالاجتناب عن الجبن الموجود في الأرض لوجود الميتة في بعض أطرافه ، وهو عين ما نحن فيه من الشبهة غير المحصورة.

ولا يبعد أن يكون مدرك ذلك الإجماع هو هذه الرواية الشريفة ، وحيث إنّها لم تقيّد جواز الارتكاب بمقدار ما يرتفع به العسر والحرج ، كان تنزيلها على الوجه الثاني من وجهي إعمال العسر والحرج مقطوعاً بعدمه. ونظراً إلى أنّ الاجتناب عن الجبن الموجود في جميع أقطار الأرض ممّا يحتمل أنّه فيه الميتة

ص: 168


1- فرائد الأُصول 2 : 262 - 263.

ليس بحرجي ، بل يمكن أن يقال : إنّه لا حرج في ترك أكل الجبن حتّى ما علم أنّه ليس فيه الميتة فضلاً عن ترك خصوص ما يحتمل فيه الميتة على نحو الشبهة غير المحصورة ، وبواسطة هذه الجهة تكون الرواية دليلاً على جواز ارتكاب الأطراف وإن لم تكن الموافقة القطعية فيها حرجية.

نعم ، يمكن أن تكون الحكمة في ذلك هو رفع الحرج ، نظراً إلى أنّ الغالب من موارد الشبهات غير المحصورة يكون فيه الحرج ، وحينئذ يصحّ ما ذكره البعض من التعليل بأغلبية العسر والحرج ، لكنّه حكمة لا دليل.

وكيف كان ، فالرواية الشريفة بناءً على ذلك تكون دالّة على سقوط التكليف في الشبهات غير المحصورة بقول مطلق ، وعدم حرمة المخالفة القطعية فضلاً عن لزوم الموافقة القطعية.

وما يقال في الإجماع من تنزيله على جعل البدل فلا يدلّ على سقوط حرمة المخالفة القطعية ( كما حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي ) لا يتأتّى في الرواية الشريفة ، لما عرفت من إطلاقها ودلالتها على جواز الارتكاب بقول مطلق ، من غير تقييد بعدم استلزام المخالفة القطعية ، إذ لو كانت منزّلة على ذلك لكان اللازم أن يشار إليه في الرواية الشريفة ، وكون الغالب هو بقاء مقدار الحرام المعلوم لا يصحّح إطلاق الحكم بجواز الارتكاب.

والحاصل : أنّ جعل البدل إنّما يتأتّى في مثل قاعدة الفراغ ونحوها دون أمثال هذه الموارد ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوائل العلم الاجمالي (1) ، وأنّ أمثال البراءة ونحوها لا تتكفّل بجعل البدل.

ص: 169


1- في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، فراجع الحاشية المذكورة في الصفحة : 370 ، وكذا راجع الصفحة : 414 وما بعدها ، وكذا الحاشية المذكورة في الصفحة : 425.

ومنه يظهر لك أنّ طريقة جعل البدل مخدوش فيها حتّى في الإجماع المزبور.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على اختصاص الإجماع والرواية بخصوص ما كانت فيه الموافقة القطعية مستلزمة للعسر والحرج ، يكون الضابط واضحاً. أمّا بناءً على التعميم لجميع الشبهات غير المحصورة فلابدّ أن نقول : إنّ الضابط فيها هو كثرة الأطراف عرفاً ، على وجه يكون ملاحظة العلم الاجمالي فيها مورداً للاستنكار والاستغراب كما تضمّنته الرواية الشريفة بقوله عليه السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض » ، ولعلّه يكفي فيه أن تكون الأطراف من الكثرة بحيث تكون كثرتها موجبة لضعف الاحتمال ، وعدم اعتناء العقلاء به.

لكن في النفس شيء من هذه التوسعة ، والذي يظهر ممّا راجعته في شروح الشرائع والقواعد كمفتاح الكرامة (1) وكشف اللثام (2) والجواهر (3) والمسالك (4) وصلاة المرحوم الحاج آغا رضا (5) في مكان المصلّي عند الكلام على الشبهة المحصورة وغيرها في مبحث مسجد الجبهة ، هو تعليل أغلبهم بالمشقّة والعسر والحرج ، فراجع كلماتهم في هذا المقام ونحوه.

ثمّ لا يخفى أنّ المتحصّل ممّا ذكرناه في كيفية سقوط الاحتياط في موارد الشبهة غير المحصورة وجوه ثلاثة ، بعضها أوسع من بعض :

ص: 170


1- مفتاح الكرامة 3 : 443.
2- كشف اللثام 3 : 349.
3- جواهر الكلام 8 : 445.
4- مسالك الأفهام 1 : 180 - 181.
5- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 11 : 206 - 207.

أوّلها : أن نقول باطلاق الرواية ومعقد الإجماع وشموله لجميع الشبهات غير المحصورة ، سواء كان الاجتناب عن أطرافها حرجياً أو لم يكن ، ونقول بأنّ مفاد الإجماع والرواية هو رفع التكليف في موارد الشبهة المذكورة مطلقاً.

الثاني : أن نخصّص ذلك بخصوص ما كان فيه العسر والحرج ، ونقول بأنّ المرفوع في ذلك هو نفس التكليف الواقعي لا إطلاقه.

الثالث : أن نقول بأنّ المرفوع من ذلك هو إطلاق التكليف ، فلا يسوغ لنا إلاّ ارتكاب المقدار الذي يكون ارتكابه رافعاً للعسر والحرج.

وبأيّ من هذه الوجوه أخذنا لم نكن محتاجين إلى إجراء الأصل النافي فيما ساغ لنا ارتكابه ، وذلك واضح.

ومنه يتّضح لك الحال فيما لو كانت الشبهة غير المحصورة متعلّقة بوجود المضاف في ضمن إناءات كثيرة كلّها مطلقة ما عداه ، فإنّه لا يتوقّف الإقدام على الوضوء من أحدها على إجراء الأصل ، بل لو توقّف لكان الأصل هو المنع ، لعدم إحراز الشرط. ولكن هذا المثال إنّما يكون ممّا نحن فيه لو قلنا بحرمة الوضوء من المضاف ، أمّا لو قلنا كما هو الظاهر بأنّه ليس بحرام ، غايته أنّه باطل ، فلا يكون المثال المزبور داخلاً فيما نحن فيه.

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ هذا - أعني ارتفاع الحكم الواقعي الذي هو التحريم في المورد الذي ساغ لنا ارتكابه وعدم الاحتياج في ارتكابه إلى الأصل النافي - إنّما هو من حيث وجوب الاجتناب ليس إلاّ ، فلا يكون جواز ارتكابه موجباً لصحّة العمل ، بحيث إنّه لو تبيّن أنّ ذلك الماء الذي توضّأ به كان هو النجس أو كان هو المضاف أو كان ذلك الموضع الذي سجد عليه هو النجس ، لم يكن ما حكمنا به أوّلاً من جواز الإقدام عليه موجباً لصحّة الوضوء أو الصلاة ، بل

ص: 171

لابدّ من أخذ ذلك - أعني الحكم بصحّة الوضوء أو الصلاة - من دليل آخر إن كان ، وإلاّ كان اللازم هو الاعادة ، ولا منافاة بين الحكم بالفساد ولزوم الاعادة ، وبين ما حكمنا به أوّلاً من جواز الإقدام وارتفاع الحكم بوجوب الاجتناب بلا حاجة إلى الأصل العملي.

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بالوجه الثالث لكان جارياً في الشبهات الوجوبية التي لا يمكن فيها الجمع بين المحتملات ، سواء كان من جهة كثرتها أو كان من جهة أُخرى غير الكثرة.

أمّا الوجه الثاني ، فإن استندنا فيه إلى حديث نفي العسر والحرج ، كان أيضاً جارياً في الشبهات الوجوبية ، وإن استندنا فيه إلى الإجماع أو الرواية الشريفة ، فالظاهر انحصار موردهما في الشبهات التحريمية دون الوجوبية. وهكذا الحال في الوجه الأوّل.

ولم أعثر في كلمات الجماعة المارّ ذكرهم على إشارة إلى حال الشبهة الوجوبية غير المحصورة ، بل ظاهر كلماتهم متّجه نحو الشبهات التحريمية ، ولكن الشيخ قدس سره قد تعرّض لذلك في التنبيه الخامس من تنبيهات مسألة الشبهة الوجوبية الموضوعية المتردّدة بين المتباينين (1) ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى التعرّض لذلك في كلام شيخنا الأُستاذ قدس سره (2). هذا غاية ما أمكنني تنقيحه في مفاد هذا الإجماع والرواية الشريفة.

ولكنّ في النفس شيئاً من ذلك ، فإنّ تنزيل الإجماع المزبور والرواية

ص: 172


1- فرائد الأُصول 2 : 308.
2- فوائد الأُصول 4 : 141 - 142 ، وللمصنّف قدس سره حاشيتان على ذلك إحداهما في الصفحة : 223 والأُخرى هي الحاشية الثانية في الصفحة : 243.

الشريفة على سقوط التحريم واقعاً بعيد يأباه الذوق ، فإنّ لازمه كون الشبهة غير المحصورة أقوى تأثيراً من الشبهة البدوية ، فإنّ الرفع في الشبهة البدوية لا يكون إلاّ ظاهرياً ، فكيف نقول إنّه في الشبهة غير المحصورة يكون واقعياً. بل ربما كانت الشبهة البدوية مورداً للأُصول المثبتة للتكليف مثل أصالة عدم التذكية ، ولو كانت الشبهة غير محصورة كما لو كانت ذبائح غير محصورة كلّها مذكاة إلاّواحدة منها ميتة ، فإنّ الالتزام فيها برفع حرمة الميتة واقعاً مع أنّها لو كانت شبهة بدوية لكانت مجرى أصالة عدم التذكية ، ممّا يأباه الذوق السليم.

مضافاً إلى أنّه لو كان الرفع واقعياً ، وكان مفاده إثبات الحلّية الواقعية ، لكان مقتضاه الصحّة ولو انكشف الخلاف بحيث إنّه لو تبيّن لمرتكب أحد أطراف الشبهة غير المحصورة ، بأن توضّأ فانكشف له أنّه كان ذلك الماء هو النجس أو المضاف ، أو اشترى أو باع فانكشف له أنّ ذلك الذي اشتراه أو باعه كان هو الميتة ، كان وضوءه وبيعه وشراؤه صحيحاً ، وهذا أيضاً ممّا يأباه الذوق.

وما ذكرناه من أنّ الرفع والسقوط إنّما يتوجّه إلى نفس الحكم التكليفي مع بقاء الحكم الوضعي بحاله ، لا يكاد يجتمع مع قوله عليه السلام في الرواية المشار إليها (1) : « وما لم تعلم فاشتر وبع وكل » ، فإنّ ظاهره هو الحكم بصحّة البيع والشراء ، فلابدّ حينئذ من الحمل على السقوط الظاهري ليكون صحّة البيع والشراء ظاهرية لا واقعية.

نعم ، يتوجّه على الالتزام في الرواية والإجماع بالترخيص الظاهري ، أنّه لا يجتمع مع العلم الاجمالي بالتكليف المنجّز كما حرّرناه في بعض مباحث العلم

ص: 173


1- في الصفحة : 167 ، وسيأتي ذكرها في هامش الصفحة : 200.

الاجمالي من مباحث القطع (1) ، وأنّ الترخيص ولو في بعض الأطراف لا يجتمع مع العلم الاجمالي بالتكليف ، وحقّقنا هناك أنّ تنزيل ذلك الترخيص على جعل البدل لا يتأتّى في الأُصول النافية للاشتغال ، بل إنّما يتأتّى في الأُصول الجارية في وادي الفراغ مثل قاعدة التجاوز والفراغ ، أمّا مثل أصالة البراءة أو قاعدة الحل والطهارة ، فلا يكون مفادها إلاّنفي الاشتغال ، فلا تجري في مورد العلم بالاشتغال.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الترخيص فيما نحن فيه ليس هو مفاد البراءة أو مفاد قاعدة الطهارة أو الحل أو حديث الرفع ونحو ذلك ممّا يرجع إلى نفي الاشتغال ، بل هو أصل آخر غير تلك الأُصول ، يكون مفاده الاكتفاء في امتثال ذلك التكليف المعلوم بترك جملة من أطرافه ، ويكون مفاد هذا الأصل هو جواز الارتكاب لجملة من الأطراف ، لا لأجل الأُصول النافية فيها ، لأنّه ربما كان الأصل في كلّ واحد من تلك الأطراف مثبتاً للتكليف ، كما في موارد الشبهة بالماء المضاف ، وكما في موارد الشبهة في الميتة مع فرض عدم السوق ، بأن كان هناك ذبائح غير محصورة مع فرض العلم بأنّ بعضها ميتة ، مع فرض عدم كونها في سوق المسلمين ولا تحت يد المسلم ، ونحو ذلك ممّا يكون أطرافه في حدّ نفسها مجرى للأصل المثبت.

والحاصل : أنّ هذا الأصل الجاري في أطراف الشبهة غير المحصورة المستفاد من الرواية والإجماع المذكورين يكون فوق الأُصول الكلّية الجارية في الشبهات البدوية ، بل هو أصل مستقل برأسه ، ويكون المصحّح لجعله في مورد العلم الاجمالي هو كونه راجعاً إلى جعل البدل واكتفاء الشارع في اجتناب ذلك

ص: 174


1- راجع المصادر المشار إليها في هامش الصفحة : 169.

المعلوم بالاجمال باجتناب جملة من أطرافه ، ويكون لازم ذلك هو عدم جواز المخالفة القطعية.

ولكن يتوجّه عليه ما تقدّم آنفاً من لزوم كون الشبهة غير المحصورة أقوى في جواز الترخيص من الشبهة البدوية ، فإنّ في هذا المثال تكون جملة من الأطراف جائزة الارتكاب مع أنّها لا يجوز ارتكابها في الشبهة البدوية ، نظراً إلى الأصل المثبت وهو أصالة عدم التذكية. وأيضاً يعود إشكال أمره عليه السلام بالبيع والشراء ، فإنّ مجرّد جعل البدل واكتفاء الشارع به لا يوجب إحراز شرط البيع في الأطراف التي يرتكبها المكلّف ، فلا يمكن الحكم بصحّته لا واقعاً ولا ظاهراً ، هذا.

مع أنّ ظاهر الرواية والإجماع أجنبي عن جعل البدل ، بل ليس مفاده إلاّ الترخيص ، بل إنّ ظاهرهما هو أنّ المستند في ذلك الترخيص هو عين المستند في الشبهات البدوية أعني تلك الأُصول النافية الكلّية الجارية في الشبهات البدوية ، وهذا ممّا يوجب الحيرة في توجيه الإجماع والرواية المذكورة.

ولكن الإنصاف أنّه يمكن الجواب عن هذه المناقشات. أمّا لزوم كون الشبهة غير المحصورة أقوى من الشبهة البدوية ، فيمكن الالتزام به إذا دلّ الدليل عليه ولو من جهة حفظ النظام وتوقّف سوق المسلمين إذا الزم بالاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، ويكشف عن الأقوائية هذا اللازم المذكور ، فإنّ الشارع سوّغ الارتكاب في شبهة السمن في الشبهة المحصورة كما يستفاد من الروايات الآتية ، مع أنّ الشبهة البدوية فيه لا يسوغ فيها الارتكاب. وبذلك يندفع الإشكال المبني على دعوى أنّ هذا الترخيص عين الترخيص في باقي الشبهات ، فإنّه بعد البناء على ما ذكر يكون هذا الترخيص أعلى من تلك الترخيصات.

ص: 175

وأمّا إشكال البيع والشراء ، فيمكن أن يقال : إنّ هذا الترخيص مرجعه إلى جعل البدل ، لكنّه ترخيص ظاهري أقصى ما فيه أنّه يحرز صحّة البيع ظاهراً ، فلا ينافيه أنّه هو وجعل البدل منوط بالجهل ، فإذا انكشف الخلاف ينكشف بطلان البيع ، فتأمّل.

نعم ، يمكن المناقشة في دلالة الرواية السابقة على كون المورد من موارد الشبهة غير المحصورة ، بحمل قوله عليه السلام : « أمن أجل مكان واحد » الخ على صورة عدم العلم باختلاط ما كان في ذلك المكان الذي أخبر السائل به بالجبن الموجود في هذه البلدة مع كونه خارجاً عن الابتلاء ونحو ذلك ممّا يسوغ معه الرجوع إلى أصالة البراءة وقاعدة [ الحل ] ، وقولِه عليه السلام : « واللّه لا أظنّ أنّ كلّهم يسمّون » على معنى عدم العلم ، واستعمال الظنّ بمعنى العلم كثير شائع ، أو حمله على مجرّد الاستبعاد بأن يكون المراد من نفي الظنّ الذي هو طرف راجح إثبات نقيضه وهو الاستبعاد والاحتمال المرجوح ، نظير ما يستفاد الرجحان من نفي البأس. ولكن الحمل الأوّل أعني نفي العلم أقرب ، هذا كلّه.

مضافاً إلى الخدشة في سندها بواسطة أبي الجارود ، بل ناقش بعضهم في البرقي ، وإن لم تكن مناقشته فيه مقبولة إلاّ أن المناقشة في أبي الجارود مسلّمة على الظاهر.

والحاصل : أنّ الرواية المذكورة لا تخلو من مناقشة في كلّ من دلالتها وسندها ، فلا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس هذا الأمر المهمّ ، وهو إسقاط التكليف في موارد الشبهة التحريمية غير المحصورة ، سواء أُريد به الاسقاط الواقعي أو الاسقاط الظاهري.

وأمّا الإجماع فلم يعلم حاله خصوصاً بعد استدلال الكثير منهم بالمشقّة

ص: 176

والعسر والحرج ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ الشبهة غير المحصورة لا خصوصية لها من بين الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، ولعلّ وجه الإجماع هو كون عدم الحصر ملازماً لخروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

ثمّ إنّي بعد هذا كلّه عثرت على أخبار أُخر يمكن الاستدلال بها لعدم لزوم الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، منها : ما ذكره في الحدائق في المسألة الرابعة من البحث الأوّل من المقصد الثاني من الباب الخامس في الطهارة من النجاسات ، وذلك موثّقة حنّان بن سدير عن الصادق عليه السلام « في جدي رضع من خنزيرة حتّى شبّ واشتدّ عظمه ، استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ، ما تقول في نسله؟ فقال عليه السلام : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأمّا ما لم تعرفه فإنّه بمنزلة الجبن » (1). وحمله في الحدائق على الشبهة غير المحصورة لكثرة تلك الغنم. ولا يخفى أنّ تنظيره بالجبن يعطي أنّ مسألة الجبن وأنّ في جملته الميتة كان من المطالب المعروفة لدى أهل ذلك العصر.

ثمّ قال في الحدائق : ويمكن - ولعلّه الأقرب - أنّ الوجه فيه إنّما هو عدم معلومية بقاء ما خرج من نسله في تلك الغنم لكثرتها ، فلعلّه قد ذهب منها بأحد وجوه الذهاب كما يشير إليه التنظير بالجبن من حيث عدم معلومية الحرام منه بعينه (2).

ولا يخفى بعده بل عدم صحّة الحكم بجواز الارتكاب حينئذ ، إذ لا يكون التلف مؤثّراً إلاّ إذا كان قبل العلم الاجمالي بوجود النسل ، مع أنّ مفروض الرواية الشريفة هو العلم الاجمالي قبل احتمال التلف.

ص: 177


1- وسائل الشيعة 24 : 161 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 25 ح 1 ( مع اختلاف ).
2- الحدائق الناضرة 5 : 284.

ونظير هذه الموثّقة ما ذكره في الجواهر (1) في كتاب الأطعمة عند الاستدلال على ما ذكره الماتن من أنّ الحيوان إذا شرب لبن الخنزيرة فإن اشتدّ حرم لحمه ولحم نسله ، وذلك موثّق بشر بن سلمة (2) عن أبي الحسن عليه السلام « في جدي يرضع من خنزيرة ثمّ ضرب في الغنم ، فقال عليه السلام : هو بمنزلة الجبن ، فما عرفت أنّه ضَرْبُه فلا تأكله ، وما لم تعرفه فكل » (3).

ويبعد كلّ البعد أن يكون مفروض الرواية هو عدم العلم بتحقّق النسل ، بل الظاهر من التعبير بالمعرفة وقوله عليه السلام : « أنّه ضَرْبُه » المشتمل على الضمير في « أنّه » الراجع إلى النسل المتصيّد من الكلام ، هو العلم الاجمالي بوجود النسل. ولا يمكن حمله على أنّ المقدار المعروف أنّه نسله هو بمقدار المعلوم بالاجمال لينحلّ بذلك العلم الاجمالي ، إذ لم يكن ذلك ظاهراً من الرواية ، بل الظاهر منها أنّ المدار في عدم وجوب الاجتناب هو عدم معرفة المكلّف بأنّ ما يرتكبه هو من ذلك النسل ، سواء عرف بعضها أو لم يعرف. وبقرينة قوله : « ضرب في الغنم » من دون تقييد لها بمقدار خاصّ ، وقوله عليه السلام : « هو بمنزلة الجبن » يحمل على خصوص الشبهة غير المحصورة (4)

ص: 178


1- جواهر الكلام 36 : 282 - 283.
2- [ في الجواهر : بشير بن مسلمة ، وفي الطبعات الحديثة من الوسائل والكافي والتهذيب والاستبصار : بشر بن مسلمة ].
3- وسائل الشيعة 24 : 162 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 25 ح 2.
4- وفيه تأمّل ، فإنّ إحدى الموثّقتين تشتمل على قوله : « في غنمه » أو على « في غنم له » ولا ريب في كونها محصورة. وأمّا اشتمال الأُخرى على قوله « ثمّ ضرب في الغنم » فالظاهر أنّها أيضاً محصورة ، لأنّ المراد بالغنم هي غنم صاحبه لا غنم جميع الناس. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا الذي دلّت عليه الموثّقتان مقصور على مورد النصّ ، فلا يشمل الرضاع من الكلبة ولا من الكافرة ، بل ربما قيل بأنّه لا يشمل الشرب من لبن الخنزيرة من دون رضاع. وحينئذ يمكن أن يقال : إنّ ما تضمّنتاه من جواز الأكل إذا لم يعلم كونه من ضربه ، مع فرض العلم الاجمالي وكون الشبهة محصورة ، مختصّ بمورده أعني اشتباه نسله ، فلا يجري في غير المورد المذكور ، بل إنّ غيره يجري عليه قواعد العلم الاجمالي أو يعمل فيه القرعة ، كما لو اشتبه موطوء الإنسان بغيره من قطيع الغنم. نعم ، ربما قيل : إنّ الحمل على ذلك لا يلائم قوله عليه السلام : « إنّه بمنزلة الجبن » المتعيّن حمله على غير المحصورة ، فلاحظ وتأمّل. أمّا روايات الجبن فقد قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره بعد ذكره هذه الأخبار في الجبن : ويظهر من مثل هذه الروايات وجود قسم حرام في الجبن ، والمراد به - على الظاهر - ما يطرح فيه إنفحة الميّت ، لمعروفية حرمتها لدى العامّة ، فالظاهر جريها مجرى التقية ، والأجوبة الواقعة فيها ربما يتراءى منها التورية ، واللّه العالم. قال ذلك في الجزء الأخير من طهارته ، وذكر هناك طهارة الإنفحة وحلّيتها ، وذكر الرواية المفصّلة التي يرويها أبو حمزة عن الباقر عليه السلام في الإنفحة وأنّها حلال كالبيضة [ فراجع مصباح الفقيه ( الطهارة ) 7 : 95 ، 91 وما بعدها ، وسائل الشيعة 24 : 179 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 33 ح 1 ]. وبناءً على ذلك وعلى ما ذكرناه في روايات الجدي لا يبقى لنا من الروايات ما يمكن الركون إليه في سقوط العلم الاجمالي في الشبهات غير المحصورة [ منه قدس سره ].

ومن تلك الروايات صحيحة ضريس ، قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم ، أفآكله؟ فقال عليه السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وما لم يعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (1) ذكرها في

ص: 179


1- وسائل الشيعة 24 : 235 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 64 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

الحدائق في المقدّمات عند الكلام على الشبهة غير المحصورة (1).

ولا يخفى ظهورها في العلم الاجمالي مع كون الشبهة غير محصورة. أمّا الأوّل ، فلأنّ موردها - وهو السمن والجبن الموجودان في أرض المشركين وأرض الروم - ممّا يعلم إجمالاً بوجود الميتة فيه ، فإنّ ذلك - أعني خلطه بالميتة - واقع [ في ] ذلك العصر في بلاد المسلمين كما تضمّنته رواية المحاسن وغيرها (2) ، فكيف حال بلاد المشركين والروم الذين لا يرون البأس في الميتة.

وأمّا الثاني فواضح ، إذ لا ريب في عدم حصر الجبن والسمن الموجود في تلك البلاد ، ولعلّ المتتبّع يعثر على روايات أُخر.

وكيف كان ، فإنّ المتتبّع للنصوص والفتاوى والإجماعات المنقولة يكاد يحصل له القطع في أنّ الشبهات التحريمية غير المحصورة لا يجب الاحتياط في تمام أطرافها. ولا يبعد تنزيل تلك الأدلّة على أنّ في خصوص الشبهة غير المحصورة أصلاً مختصّاً بها ، وهو ما ذكرناه من الترخيص الظاهري المقرون بجعل البدل ، وأنّ ذلك الترخيص والبدلية كلاهما ظاهريان ، كما أنّه يكاد يحصل له القطع بأنّ هذا الترخيص ليس ترخيصاً واقعياً ، وأنّه ليس ملاكه هو الاضطرار أو العسر والحرج ، وإن وقع التعبير في عبائر جملة من الأساطين بالمشقّة ونحو ذلك ، لأنّ ظاهر تلك الأخبار أنّ موجب الترخيص هو عدم العلم وعدم معرفة أنّ ما يرتكبه هو الحرام ، لا الاضطرار أو العسر والحرج ، كما أنّ حمل ذلك كلّه على كون بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء يكاد يحصل القطع بعدمه.

وأحسن ما عثرت عليه في توجيه هذا الترخيص هو ما أفاده المرحوم

ص: 180


1- الحدائق الناضرة 1 : 150 وقد ذكر متنها في ص 141.
2- الآتية في هامش الصفحة : 200 - 201.

الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره في حاشيته على الرسائل (1) وفي كتاب الطهارة عند الكلام على الشبهة غير المحصورة في أحكام المياه (2) ، وفي صلاته عند الكلام في مسجد الجبهة (3) ، وذلك وإن كان مجملاً ، إلاّ أنا نوضّحه ونبرهن عليه بترتيب أُمور :

الأوّل : أنّه لا ريب في أنّ الأُصول الجارية في الشكّ في حرمة الشيء مثلاً أو نجاسته تتوقّف على إحراز وجود ذلك الشيء ، إذ مع عدم العلم بوجوده وفرض الشكّ في تحقّقه لا يمكن الحكم عليه بمثل تلك الأحكام ، فلو احتملنا وجود حيوان مثلاً في هذه الدار ، وكانت حرمته على تقدير وجوده مشكوكة ، لا نجري فيه قاعدة الحل ، إذ لا أثر يترتّب على إجرائها فيه. وهكذا الحال في قاعدة الطهارة وغيرها من الأُصول العملية.

وبعبارة أُخرى : أنّ جريان الأصل يتوقّف على فعلية الشكّ في الحكم ، وفعليته متوقّفة على إحراز وجود الموضوع الذي يتعلّق به الحكم المشكوك ، فما لم يكن وجود الموضوع محرزاً لا يكون الأصل جارياً فيه. ولا ينتقض ذلك بالملاقي - بالكسر - بعد تلف الملاقى - بالفتح - ، أو في الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة بعد فرض تلف الماء ، لأنّ ذلك من قبيل التلف بعد إحراز الوجود ، مضافاً إلى أنّه يترتّب الأثر بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - والثوب ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ أصل الوجود غير محرز ، مع فرض أنّه لا يترتّب أثر عملي على ذلك الأصل إلاّعدم وجوب الاجتناب عن ذلك المفروض كونه

ص: 181


1- حاشية فرائد الأُصول : 227 - 228.
2- مصباح الفقيه ( الطهارة ) 1 : 256.
3- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 11 : 206.

مشكوك الوجود.

الأمر الثاني : أنّا لو علمنا بوجود إناء زيد في هذه الحجرة أو شاهدنا وجوده فيها ، وعلمنا بوقوع نجاسة ، لكن لو كان الموجود هو إناء زيد وحده لكانت النجاسة واقعة فيه قطعاً ، ولو كان معه إناء آخر لكنّا نعلم إجمالاً بوقوع تلك النجاسة في أحدهما ، ونحن فعلاً لا نعلم بوجود إناء ثانٍ غير إناء زيد ، فالظاهر أنّه لا أثر لهذا العلم ، ولا يجب علينا الاجتناب عن إناء زيد. أمّا على كون الموجب للاحتياط وسقوط الأصل في الأطراف هو تعارض الأُصول فواضح ، لأنّ قاعدة الطهارة لا تجري في ذلك الاناء الآخر الذي نحتمل وجوده مع إناء زيد ، لعدم إحراز وجوده ، فتبقى قاعدة الطهارة في إناء زيد سليمة عن المعارض. وأمّا على تقدير كون الموجب لسقوط الأصل في الأطراف هو نفس العلم الاجمالي ، فلأنّ العلم الاجمالي إنّما يوجب سقوط الأصل لكونه علماً بتكليف فعلي منجّز على كلّ من الطرفين ، والمفروض أنّ التكليف في الطرف الآخر غير قابل للتنجّز ، لعدم إحراز موضوعه.

وإن شئت فقل : إنّ عدم العلم بوجود الاناء الثاني يلحقه بالخارج عن الابتلاء في قبح النهي عنه ، إذ لا معنى للنهي عن ارتكاب شيء هو تارك له بواسطة عدم علمه به ، على ما شرحناه (1) في وجه قبح النهي عمّا هو خارج عن الابتلاء.

الأمر الثالث : أنّه لو كان عوض إناء زيد إناءين ، ووقعت نجاسة ، فإن لم يكن لهما ثالث كانت النجاسة واقعة في أحدهما ومردّدة بينهما ، وإن كان لهما ثالث كانت النجاسة المذكورة مردّدة بين الثلاثة. ومقتضى ما شرحناه في إناء زيد

ص: 182


1- في الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : 539 وما بعدها.

أنّه لا يجب الاجتناب عن هذين الاناءين مع فرض عدم العلم بوجود الثالث ، فيكون الضابط هو أنّه لو كنّا نحتمل وجود طرف آخر للأطراف الموجودة لم يكن العلم الاجمالي منجّزاً في الأطراف الموجودة.

الأمر الرابع : أنّ المراد بالشبهات غير المحصورة هو هذا المعنى الذي ذكرناه في الاناءين ، إذ ليس المراد بعدم الحصر عدم العدّ ، بل المراد بعدم الحصر عدم العلم بالأطراف ، فأيّ آحاد من الأطراف جمعها المكلّف والتفت إليها لا يحصل له القطع بأنّه ليس غيرها موجوداً ، بل يحتمل وجود آحاد أُخر هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، وحينئذ فيكون حال الآحاد التي ضبطها المكلّف والتفت [ إليها ] حال الاناءين ، وحال ما يحتمل وجوده من الآحاد حال الاناء الثالث ، وحينئذ فتدخل في الضابط المتقدّم ، وهو أنّه لو كنّا نحتمل وجود أطراف أُخر للأطراف الموجودة لم يكن العلم الاجمالي منجّزاً في الأطراف الموجودة ، ولازم ذلك هو جواز ارتكاب جميع الأطراف الموجودة ، لكن ليس ذلك من المخالفة القطعية ، كما أنّ جواز الارتكاب إنّما يكون اعتماداً على الأصل النافي ، لا لأجل أنّ الشكّ في أطراف الشبهة غير المحصورة بمنزلة العدم ، بحيث لا يكون ذلك العلم الاجمالي مولّداً للشكّ في هذه الأطراف.

والظاهر أنّ المنظور إليه في تلك الأخبار والاجماعات هو [ هذا ] المعنى ، دون ما لو كانت هذه الأطراف الموجودة المعلومة لدينا المضبوطة عندنا ممّا يعلم إجمالاً بأنّ ما بينها محرّم ، فإنّ ذلك العلم الاجمالي يكون منجّزاً وإن بلغت الأطراف ما بلغت من الكثرة ، إلاّ أن يكون الاجتناب عن جميعها حرجياً ، فيجوز ارتكاب ما يرتفع الحرج بارتكابه ، أو كان بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء وكان بمقدار المعلوم بالاجمال ، كان ارتكاب الباقي جائزاً.

ص: 183

لكن يتوجّه على هذا الضابط ما عرفت الاشارة إليه ، من أنّه لابدّ في تلك الأطراف التي يحتمل وجودها أن تكون بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلاّ عاد المحذور في جواز ارتكابه للأطراف التي علم بوجودها ، مثلاً لو علم بوجود عشر شياه محرّمة في جملة غنم البلد المفروض أنّها غير محصورة ، لم يجز له ارتكاب بعض الأطراف التي ضبطها وعلم بوجودها ، إلاّ إذا كان يحتمل وجود أطراف أُخر هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، بمعنى أنّه يحتمل أنّ الذي شذّ عنه ولم يحط علمه بوجوده كان بمقدار المعلوم بالاجمال الذي هو العشر ، أمّا إذا لم يحتمل ذلك بل أقصى ما عنده أنّه يحتمل أنّه قد شذّ عنه مقدار خمس شياه مثلاً ، لم يجز له ارتكاب شيء ممّا علم بوجوده ، للعلم بأنّ فيه خمساً محرّمة.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على كون ذلك هو الضابط في الشبهة غير المحصورة ، لا يمكن أن يتصوّر لنا صورة يشكّ في كونها من المحصور أو غير المحصور ، وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.

كما أنّ هذا الضابط لا يجري في الشبهات الوجوبية ، لأنّ العلم بوجوب وارد إمّا على أحد هذه الأشياء أو على شيء آخر لا أعلم بوجوده ، لا يكون من العلم غير المؤثّر ، بل يكون مؤثّراً ، غايته أنّ ذلك الذي لا نعلمه يسقط فيه الاحتياط بمقدار العسر والحرج كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى (1).

وفيه تأمّل ، فإنّه لو علم بوجوب إكرام العالم وتردّد بين أطراف كثيرة وكان يحتمل وجود أطراف أُخر لا يعلم بوجودها ، كان الملاك الذي ذكرناه في الشبهة التحريمية جارياً فيه.

لكن هذا الضابط لا يخلو من الخدشة والتأمّل ، فإنّ عدم العلم بوجود

ص: 184


1- في الحاشية الثانية في الصفحة : 243 وما بعدها.

أطراف أُخر وأنّها على تقدير وجودها يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها ، ينافي العلم الاجمالي بوجود محرّم عليه ، فما ذكرناه في الأمر الأوّل والأمر [ الثاني ] لا يخلو عن مناقضة ، لأنّه مشتمل على العلم بوجود المحرّم مع دعوى احتمال انطباقه على ما يحتمل عدم وجوده ، فلاحظ وتأمّل.

مضافاً إلى إمكان دعوى كون أطراف العلم هو ما في الكرة الأرضية ، وهي محصورة بالمعنى المذكور وإن لم يعلم مقدار عددها. لكن هذه الإشكالات إنّما تتوجّه لو كان الملاك في التنجيز هو العلم دون ما لو قلنا بأنّه تعارض الأُصول.

قال المرحوم الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته : وأمّا في المحرّمات المقصود منها التروك فكثيراً ما يتصوّر كثرة الأطراف عارياً عن هذه المحاذير ( يعني الاضطرار أو العسر والحرج أو الخروج عن الابتلاء ونحوها من مسقطات العلم الاجمالي ) فلم يبق فيها إلاّمحذور كثرة الأطراف الملازم لضعف الاحتمال على ما أشرنا ، وحينئذ أمكن أن يقال : إنّ ضعف الاحتمال في كلّ واقعة ملازم مع وجود العلم المزبور للاطمئنان بكون المعلوم في غيره. وتوهّم اقتضاء ضعف كلّ طرف وجود الاطمئنان بالعدم فيه ، وهو مستلزم للاطمئنان بعدم التكليف في جميع الموارد ، وهو مع وجود العلم الاجمالي بوجوده في بعضها مستحيل ، مدفوع بأنّه كذلك لو كان ضعف الاحتمال في كلّ واحد ملازماً للاطمئنان بعدمه في هذا المورد تعييناً ، وأمّا لو كان ملازماً للاطمئنان بوجوده في غيره ، فلا يكون لازم الاحتمال المزبور إلاّ الاطمئنان بالعدم في كلّ طرف بنحو التبادل ، ولا بأس حينئذ بالجمع بين هذا النحو من الاطمئنان بالعدم بالنسبة إلى جميع الأطراف مع العلم المزبور ، وحينئذ إن بنينا على حجّية هذا الاطمئنان لدى العقلاء بشهادة بنائهم على إلغاء الاحتمال البالغ في الضعف بهذه المثابة وأخذهم بالاطمئنان القائم على

ص: 185

طرفه ، فقهراً يصير لازم كثرة الأطراف وجود جعل بدل في البين ، إذ مرجعه حينئذ إلى العلم الاجمالي على تعيين المعلوم بالحجّية (1) في بقية الأطراف ، وهذا المعنى مستتبع لعدم وجوب الموافقة القطعية ، وأمّا بالنسبة إلى المخالفة القطعية فالعلم باقٍ على تأثيره الخ (2).

والذي يظهر منه في هذه المقالة أنّه قدس سره قد بنى على هذه الطريقة التي هي مأخوذة من الوجه الخامس الذي ذكره الشيخ قدس سره لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة ، التي أشار إليها في أثناء الكلام على هذا الوجه الخامس بقوله قدس سره : ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات - إلى قوله : - وحاصل هذا الوجه : أنّ العقل إذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل الخ (3) ، فراجع.

ص: 186


1- [ في النسخة الحديثة أُبدلت « الحجّية » ب : الحجّة ].
2- مقالات الأُصول 2 : 242.
3- قال الشيخ قدس سره : الخامس : أصالة البراءة بناءً على أنّ المانع من إجرائها ليس إلاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ( فلا مسوّغ للارتكاب ) لكنّه إنّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلمية التي لا تجب إلاّلأجل وجوب دفع الضرر ، وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لا يجري في المحتملات الغير المحصورة ، ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات. ثمّ أخذ في ذكر الأمثلة من السم في ألف إناء وسب أهل البلد والإخبار بموت أحد ، وفرّق بين ما لو كان بين محصورين أو كان بين غير محصورين. ثمّ قال : وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة الغير المحصورة لا يكون عند العقلاء إلاّكارتكاب الشبهة الغير المقرونة بالعلم الاجمالي. ثمّ أفاد أنّ الرواية الشريفة ناظرة إلى ذلك. ثمّ قال : وحاصل هذا الوجه : أنّ العقل إذا لم يستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب عن كلّ محتمل ، فيكون عقابه حينئذ عقاباً من دون برهان ، فعلم من ذلك أنّ الآمر اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم إتيانه ، فتأمّل. ثمّ بعد أن تعرّض لجواز ارتكاب الجميع قال : وأمّا الوجه الخامس فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من أوّل الأمر ، وأمّا معه فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام فيستحقّ العقاب. ثمّ قال في بيان الضابط : ويمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها [ فرائد الأُصول 2 : 263 - 271 ]. قال شيخنا قدس سره : أمّا الوجه الخامس ... ففيه : أنّ قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأُخروي على الأحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محلّه ، كما لا يخفى على المتأمّل [ منه قدس سره. فوائد الأُصول 4 : 121 ].

لكن الذي كان قد بنى عليه في الدرس في الوقت الذي كنت أحضره هو عدم الاعتماد على هذه الطريقة ، لأجل هذه الجهة التي أشار إليها بقوله هنا : وتوهّم الخ ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه (1) في أثناء الكلام على الشبهة الغير المحصورة :

وقد يقال : إنّه بعد الفراغ عن كون احتمال الانطباق في كلّ واحد من الأطراف ضعيفاً عند العقلاء ، يكون بناء العقلاء على عدم الانطباق وعدم اعتنائهم باحتماله مستلزماً لحصول الظنّ بانطباق المعلوم بالاجمال على الطرف الآخر ، وحينئذ يكون ذلك الظنّ حجّة ، لبناء العقلاء عليه ، فيكون المقام نظير ما لو قامت

ص: 187


1- في درس ليلة الاثنين 6 ذي القعدة سنة 1340 [ منه قدس سره ].

أمارة معتبرة كالبيّنة مثلاً على تعيين ما هو المعلوم بالاجمال ، الذي عرفت في الشبهة المحصورة أنّه من قبيل جعل البدل المستلزم لتحقّق الفراغ الجعلي ، الموجب لعدم وجوب الموافقة القطعية.

وفيه أوّلاً : أنّه مستلزم لكون كلّ واحد من الأطراف مظنون الانطباق وموهومه ، حيث إنّ كلّ واحد منها يكون موهوماً لضعف الاحتمال فيه ، وهو مستلزم لكون الآخر مظنوناً ، فيكون كلّ واحد منها مظنوناً وموهوماً.

قلت : ويمكن الجواب عنه : بأنّ كون هذا الطرف موهوماً لأجل كثرة الأطراف إنّما يوجب الظنّ بالوجود في باقي الأطراف على الإجمال ، لا الظنّ في كلّ واحد منها كي تكون النتيجة هي أنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم ومظنون ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ الظنّ في باقي الأطراف على الجملة لا يوجب الظنّ في كلّ واحد منها بخصوصه ، بل يجتمع الظنّ فيها على الجملة مع الوهم في كلّ واحد منها بخصوصه ، كما أنّ العلم في الأطراف على الجملة لا يوجب العلم في كلّ واحد منها بخصوصه ، فيجتمع العلم فيها على الجملة مع احتمال العدم في كلّ واحد منها بخصوصه ، وكما لا يسري العلم على الجملة إلى الخصوصيات فكذلك لا يسري الظنّ على الجملة إلى كلّ واحد من الخصوصيات ، فلا تكون النتيجة هي أنّ كلّ واحد بخصوصه يكون موهوماً ومظنوناً ، كما لا تكون النتيجة في سائر موارد العلم الاجمالي هي أنّ كلّ واحد من الأطراف بخصوصه محتمل العدم ومعلوم الوجود. نعم العمدة هو الإشكال الثاني ، وهو ما حرّرناه عنه قدس سره بقولنا :

وثانياً : أنّه مناقض للعلم الاجمالي ، فإنّ الظنّ بعدم الانطباق في كلّ واحد

ص: 188

من الأطراف يناقض العلم بوجود المحرّم بينها ، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية لا يجتمع مع الظنّ بالسالبة الكلّية. نعم يتصوّر ذلك إذا لاحظنا كلّ واحد من الأطراف مع الذهول عن الآخر كما في التدريجيات ، أمّا في الدفعيات والالتفات إلى جميع الأطراف فلا يمكن القول بأنّ كلّ واحد منها يكون مظنون العدم مع العلم بالوجود إجمالاً ، فإنّ ذلك ينتهي إلى اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسالبة الكلّية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

وهذا الإشكال موجود في درر المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره فإنّه بعد أن وجّه سقوط الاحتياط بضعف الاحتمال بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي ، فيكون في كلّ طرف يقدم عليه الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه. وبعد أن أفاد أنّ هذا التوجيه أحسن ممّا أفاده الشيخ قدس سره من كون الضرر موهوماً ، لأنّ العقوبة ولو كانت موهومة لا يكون العقل حاكماً بجواز الإقدام عليها ما لم يحصل القطع بعدمها ، قال : لكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها ، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسلب الكلّي (1) ، انتهى كلامه قدس سره.

ص: 189


1- قال المرحوم في درره : فنقول : غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط : هو أنّ كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلاً في طرف خاصّ ، بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشكّ البدوي ، فيكون في كلّ طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه. وهذا التقريب أحسن ممّا أفاده شيخنا المرتضى قدس سره من أنّ وجه عدم وجوب الاحتياط كون الضرر موهوماً ، فإنّ جواز الإقدام على الضرر الأُخروي الموهوم لو سلّم لا يوجب القطع بكونه غير معاقب كما لا يخفى ، هذا. ولكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها ، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظنّ بالسلب الكلّي ، فحينئذ فإنّ تمّ الإجماع في المسألة ، وإلاّ فالقول بعدم وجوب الاحتياط مشكل ، لعين ما ذكر في الشبهة المحصورة من دون تفاوت [ منه قدس سره. راجع درر الفوائد 1 - 2 : 471 - 472 ].

ولعلّ الأصل في هذا الإشكال من المرحوم السيّد محمّد الأصفهاني قدس سره ، فإنّ المعروف أنّ الدرر تقريرات عن درسه. وعلى كلّ حال ، أنّ مراده بقوله : ولكن فيما ذكرنا تأمّل الخ ، هو ما ذكره بقوله : فيكون في كلّ طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه الخ بناءً على أنّ المراد من الطريق العقلائي هو ضعف الاحتمال الذي هو عبارة عن الظنّ بالعدم ، وحينئذ يتوجّه عليه التأمّل المذكور.

وحينئذ يكون كلّ ممّا أفاده هو وما أفاد الشيخ قدس سره مبنياً على أنّ المسوّغ للارتكاب هو الظنّ بالعدم وأنّ احتمال الحرمة والعقاب فيما يرتكبه موهوم ، وإنّما كان ما ذكره هو أحسن ممّا أفاده الشيخ قدس سره مع اشتراكهما في ورود التأمّل المذكور ، هو أنّ ما أفاده الشيخ قدس سره كان مقصوراً على مجرّد الظنّ بالعدم ، وأنّ احتمال الحرمة والعقاب موهوم ، فيرد عليه حينئذ أنّ العقاب الموهوم يلزم التحرّز عنه ، بخلاف ما أفاده هو فإنّه مستند إلى دعوى بناء العقلاء على العدم في ذلك ، فيكون الاستناد في الارتكاب إلى حجّة عقلائية ، وهي مصحّحة للعذر ، فلا يبقى حينئذ إلاّهذا الإشكال وهو إشكال التناقض.

ولا يخفى أنّ إشكال المناقضة المذكورة جارٍ حتّى في الشبهة المحصورة ،

ص: 190

لأنّ المكلّف يحتمل العدم في هذا الطرف ، ويحتمله أيضاً في ذلك الطرف ، فيكون الحاصل أنّه يحتمل السالبة الكلّية مع علمه بالموجبة الجزئية ، وما الجواب عنه إلاّبأنّ احتمال العدم في هذا الطرف مقرون بالقطع بالوجود في الطرف الآخر ، بمعنى أنّه لو كان احتمال العدم في هذا الطرف مطابقاً للواقع لكان الموجود في الطرف الآخر مقطوعاً به ، وهكذا العكس. وإن شئت فقل : إنّ احتمال السلب في كلّ واحد على حدة مع قطع النظر عن غيره ليس هو عبارة عن احتمال السالبة الكلّية ، فإنّ السلب في كلّ واحد على حدة عبارة عن الوجود في الطرف الآخر.

وهذا بعينه آت في ظنّ العدم في هذا الطرف ، فإنّه مقرون بالقطع بالوجود في الطرف الآخر ، إذ ليس الظنّ إلاّ الاحتمال غايته أنّه راجح ، وحينئذ فلا مانع من أن يكون كلّ واحد مظنوناً فيه العدم بهذا النحو من الظنّ المقرون بالعلم بالوجود في بقية الأطراف على الاجمال ، ولا يكون نتيجته الظنّ بالسالبة الكلّية ، بل يكون نتيجته ظنّ العدم في كلّ واحد بخصوصه مقروناً بالقطع بالوجود في غيره على تقدير مطابقة ظنّه للواقع ، ولازمه القطع بخطأ بعض ظنونه التفصيلية المذكورة ، وهذا لا ينقض الظنّ التفصيلي الوجداني في كلّ واحد بخصوصه مع قطع النظر عن الأطراف الأُخر. ومع قطع النظر عن هذا فنقول : إنّه لو سلّم الاجتماع فهو ليس بأعظم من قطع الإنسان من أوّل بلوغه بأنّ بعض قطعياته المستمرّة إلى حين موته خطأ ، مع أنّه عند حصول كلّ قطع له لا يحتمل فيه الخطأ.

وأمّا ما أفاده في المقالة (1) من الجواب عن هذا التوهّم ، فالظاهر أنّه غير دافع له ، فإنّ دعوى صرف الظنّ إلى الوجود في الغير مجرّد تغيير عبارة ، لأنّ الظنّ

ص: 191


1- المتقدّم نقله في الصفحة : 185.

بالوجود في الغير ملازم للظنّ بعدم الوجود في هذا الطرف بل هو عينه ، إلاّ أن مراده شيء آخر وهو ما سيأتي شرحه في آخر البحث.

ولكن الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا الوادي أعني الظنّ بعدم الوجود في هذا الطرف أو الظنّ بالوجود في غيره من الأطراف ، بل إنّ أساسها أمر عقلائي آخر غير حجّية الظنّ ، وذلك الأمر العقلائي ما أشار إليه الشيخ قدس سره بقوله : ضرورة أنّ كثرة الاحتمال توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات (1) وحاصله هو ضعف هذا الاحتمال في هذا الطرف بواسطة كثرة الاحتمالات الراجعة إلى احتمالات وجوده في غيره على وجه لا يعتني به العقلاء في عادياتهم ، والمراد من ضعفه في قبال تلك الاحتمالات هو ضعفه في نظر العقلاء ، لا أنّه يكون موهوماً وهي تكون مظنونة ، كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه تعالى.

وحينئذ فلم يبق في البين إلاّما أشار إليه الشيخ قدس سره بالتأمّل ، وحاصله ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : إنّ قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأُخروي على الأحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محلّه الخ (2) ، ولكن الأمر كذلك لو خلّينا نحن وهذه الطريقة العقلائية الجارية في أُمورهم العرفية ، أمّا بعد أن أمضاها الشارع بدليل الإجماع أو ببركة الروايات الآتية (3) التي مفادها هو تجويز الارتكاب استناداً إلى هذه الطريقة العقلائية ، فلا يبقى في البين إشكال أصلاً ، فإنّ

ص: 192


1- فرائد الأُصول 2 : 263.
2- فوائد الأُصول 4 : 121.
3- في الصفحة : 200 - 201 ، وقد تقدّم ذكرها والمناقشة فيها ، راجع الصفحة : 176 وما بعدها.

هذا البناء العقلائي يكون حينئذ من قبيل الأمارة الشرعية على عدم ثبوت التكليف في هذا الطرف ، ولازمها ثبوته في الجملة في باقي الأطراف ، وحينئذ يجوز ارتكاب هذا الطرف بل وغيره من الأطراف إلى أن يخرج الاحتمال عن هذا الضعف بواسطة كثرة ما ارتكبه وقلّة ما بقي ، فلو اتّفق ذلك على بُعده بل يمكن القطع بعدم اتّفاقه ، نقول حينئذ إنّه عند وصول النوبة إلى ذلك يكون التردّد بين كونه في الباقي أو فيما تقدّم ارتكابه ، فلا يعود العلم مؤثّراً ، والنتيجة حينئذ هي جواز المخالفة القطعية لو اتّفقت.

وعلى أيّ حال ، فليست المسألة من وادي الظنّ بالعدم في هذا الطرف ، ولا من الظنّ بالوجود في الطرف الآخر ، بل إنّ أساسها هو ضعف احتمال الخطر لو كان مقروناً باحتمالات كثيرة خالية من الخطر ، مثلاً لو كان النجس واحداً في ضمن مائة إناء ، فلو وضعت يدك على هذا الإناء الصغير مثلاً كان هناك مائة احتمال لوجود النجاسة ، أحدها وجودها في هذا الاناء الصغير في قبال احتمال وجودها في الأكبر منه وغيره وغيره إلى تسعة وتسعين احتمالاً ، فكان احتمال وجود النجاسة في هذا الاناء الصغير احتمالاً واحداً من أصل مائة احتمال ، وتلك الاحتمالات كلّها ناشئة عن العلم القطعي بوجود النجاسة في واحد من تلك المائة إناء ، وليس لبعضها قوّة على البعض الآخر ، لأنّ كلّ واحد منها مساوٍ للآخر في كونه معلولاً لذلك العلم الاجمالي ، من دون أن تكون خصوصية في البين توجب قوّة أحد تلك الاحتمالات على الآخر.

وهذه الاحتمالات المتساوية كلّها قد اجتمعت لدى المكلّف ، وليس كلّ واحد منها إلاّمن قبيل الشكّ المتساوي الطرفين ، من دون فرق في ذلك بين كثرة الاحتمالات وقلّتها ، حتّى لو كانت الأواني أربعاً كان كلّ واحد منها احتمالاً

ص: 193

متساوي الطرفين ، غير أنّه احتمال واحد في قبال ثلاثة احتمالات ، ويكون احتمال الخطر هنا عند الإقدام على واحد منها من قبيل ما يصطلح عليه المتجدّدون أنّه خمسة وعشرون في المائة في قبال احتمال عدمه وهو خمسة وسبعون بالمائة ، ومن الواضح أنّه ليس الواحد مظنون العدم في قبال ثلاثة ، فلا تكون الكثرة موجبة لخروج الواحد منها من تساوي الطرفين إلى الظنّ بالعدم ، غايته من قبيل القلّة والكثرة ، وهذه القلّة قد تصل إلى حدّ لا يعتني بها العقلاء ، وقد أخذ المتجدّدون المقياس في الكثرة هو المائة.

وليس هذا من قبيل تقسيم الدائرة مهما كانت سعتها إلى 360 درجة ، ولا من قبيل السانتيم في قولهم سانتي غرام سانتي متر ليكون باعتبار ما يضاف إليه ، بل هو أمر واقعي شبيه بدرجة الحرارة ، فإنّها - أعني درجة الحرارة - واحدة لا تختلف باعتبار ما تضاف إليه ، فالاحتمال الواحد لا يخرج عن كونه احتمالاً واحداً ، سواء كان في مقابله احتمال واحد أو كان احتمالان أو كان ثلاثة ، ويعبّر عن الأوّل بكونه خمسين بالمائة ، وعن الثاني بكونه ثلث المائة ، وعن الثالث بكونه خمسة وسبعين بالمائة (1) وهكذا إلى الواحد بالمائة ، فكان هذا - أعني الواحد بالمائة - آخر ميزان الاحتمال عندهم ، على وجه لو كان احتمال الخطر واحداً في ألف أو في مليون لم يكن احتمالاً عندهم.

ولعلّ هذا الميزان مقصور عندهم في دوران الأمر بين المحذورين ، كما في العمليات الجراحية التي يكون المريض أو وليّه مردّداً بين الإقدام عليها وفيها خطر الموت ، أو تركها وفيه أيضاً خطر الموت ، بل لعلّ ذلك من قبيل احتمال التخلّص من الموت ، نظراً إلى أنّه لو ترك العملية يكون واقعاً في الموت لا

ص: 194


1- [ الأنسب بسياق العبارة أن يقال : خمسة وعشرين بالمائة ، والأمر سهل ].

محالة ، وحينئذ يكون الإقدام على العملية راجحاً في نظرهم - بل لعلّه واجب شرعاً - حتّى لو كان من قبيل الواحد بالمائة.

وعلى كلّ حال ، لابدّ للطبيب القائل بأنّ احتمال النجاح بالمائة تسعون مثلاً مستنداً إلى استقراء ، بأن يكون هناك إحصاء طبّي استقرائي قد وقع على مثل هذه العملية في مائة شخص ، فكان الناجح فيهم تسعين بالمائة والهالك عشرة ، لكن هذا لا أصل له على الظاهر ، ولو كان له أصل فهو لا يقبل النزاع ، فإنّك ترى أنّ أحدهم يقول في قضية واحدة إنّ النجاح بالمائة تسعون ، وآخر يقول إنّه بالمائة ستّون وهكذا ، بل الظاهر أنّ هذه التعبيرات تسامحية حتّى كان الطبيب يرى وجوه الاحتمالات في القضية مائة ، ويرى أنّ تسعين منها نجاح تنزيلاً لقوّة الاحتمال وضعفه منزلة عدد وجوه الاحتمالات.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الميزان - أعني المائة - إنّما هو في العمليات ونحوها ممّا يدور الأمر فيها بين المحذورين ، وحينئذ يختار الشخص ما هو أكثر احتمالاً للنجاح ، وهكذا الحال في مسائل مجرّد النفع من دون مقابلة للضرر ، بل من باب الإقدام على النفع المحتمل في قبال عدم النفع ، أمّا في قبال الضرر المحتمل في قبال عدم الضرر كما في الإقدام على ما يحتمل فيه السمّ ، بأنّ علم وجوده إجمالاً في أوانٍ كثيرة ، أو الإقدام على ما يحتمل فيه العقوبة الأُخروية ، فالمسألة تحتاج إلى مقياس أعلى حتّى عند العقلاء.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لو سلّمنا قيام الدليل الشرعي على إمضاء تلك الطريقة العقلائية مثل الإجماع أو الروايات ، لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا يجري عليه العقلاء في محتملات الضرر بالنسبة إلى قلّة الاحتمالات وكثرتها.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المطلب - أعني بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخطر في

ص: 195

مورد ضعف الاحتمال الواحد في ضمن الاحتمالات الكثيرة - لو تمّ إمضاء الشارع له يكون من قبيل الأمارة العقلائية على عدم التكليف في مورد ذلك الاحتمال الضعيف الممضاة من جانب الشارع ، ومعها لا يحتاج إلى أصالة البراءة ونحوها من الأُصول النافية ، بل كان كسائر الأمارات حاكماً على الأصل في موردها حتّى لو كان ممّا لا يجري فيه الأصل النافي ، كما في الشبهة في المضاف في الأطراف غير المحصورة ، بل حتّى لو كان المورد من قبيل الدماء والفروج ممّا تكون الشبهة فيها في حدّ نفسها مورداً للأصل الموجب للاحتياط ، مثل اشتباه المحرّم نكاحها في أطراف غير محصورة ، بل حتّى لو كان المورد ممّا يجري [ فيه ] الأصل الموضوعي المنقّح للتحريم ، مثل الشبهة الموضوعية في التذكية التي هي مجرى أصالة عدم التذكية كما تضمّنته بعض روايات (1) المسألة.

بل إنّ هذا الحكم - وهو جواز الإقدام على أحد الأطراف استناداً إلى ضعف الاحتمال - يكون مقدّماً على جميع هذه الأُصول الجارية في مورد حتّى لو لم نقل بأنّه من سنخ الأمارات ، بل قلنا إنّه من سنخ الأُصول العملية ، وذلك لما يستفاد من أدلّته من التقديم المذكور ، إمّا لأجل التنصيص في بعضها كما عرفت من موارد أصالة عدم التذكية ، وإمّا لأجل أنّ لسان أدلّته لسان عدم الاعتناء بالاحتمال الموجب للتوقّف في المسألة. وعلى أي حال ، لا يكون هذا الحكم إلاّحكماً ظاهرياً يترتّب الأثر على خلافه لو انكشف الخطأ فيه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الخطأ فيما علّقناه في الدورة السابقة على قوله : وأمّا الوجه الثاني الخ من الحاشية المفصّلة (2) ، وينبغي الضرب عليها ، لكنّي أبقيتها

ص: 196


1- يأتي ذكرها في الصفحة : 200 - 201.
2- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 165 وما بعدها.

للمراجعة تشريحاً للذهن في مراجعتها ، سيّما ما حرّرناه (1) في توجيه ما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره وجوابه ، فراجعه فإنّه لا يخلو من فائدة.

قال المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني قدس سره في الحاشية على قول المصنّف قدس سره في الرسائل : هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ الخ ما هذا لفظه : هذا على تقدير تفسير الشبهة الغير المحصورة بما كثرت أفراد الشبهة بحيث يعسر عدّها ، أو يكون احتمال مصادفة كلّ واحد من أطراف الشبهة للحرام المعلوم بالاجمال موهوماً في الغاية ، أو غير ذلك ممّا ستسمعه ، فيكون تسمية الشبهة غير محصورة على جميع تلك التفاسير مبنية على المسامحة ، وإقامة الدليل على جواز ارتكابها على جميع تلك التفاسير لا يخلو عن إشكال.

والحقّ أن يقال في تفسيرها : الشبهة الغير المحصورة هي ما لم تكن أطرافها محدودة مضبوطة غير قابلة للزيادة والنقصان ، والمحصورة ما كانت كذلك ، فلو علم مثلاً بحرمة شاة من قطيع غنم محدودة معيّنة ، بحيث لو سئل عن الحرام لجعله مردّداً بين آحاد تلك القطيع ، فيقول : هذا أو هذا أو ذاك إلى آخرها ، لكانت الشبهة محصورة ، سواء قلّت أطراف الشبهة أم كثرت ، ولكن الغالب مع كثرة أطرافها أن يكون بعضها خارجاً عن مورد ابتلائه ، فلا يجب الاجتناب فيها لذلك ، لا لكونها غير محصورة.

وهذا بخلاف ما لو علم بأنّ ما يرعاه هذا الراعي بعضها موطوءة ولكن لم يكن له إحاطة بجميع ما يرعاه ( هذا الراعي ) ممّا هو من أطراف الشبهة ، فليس له حينئذ جعل الحرام مردّداً بين آحاد معيّنة ، بل لو سئل عن حال كلّ فرد لأجاب بأنّ هذا إمّا حرام أو الحرام غيره ممّا يرعاه هذا الراعي على سبيل الإجمال ، من غير أن

ص: 197


1- في الصفحة : 180 وما بعدها.

يكون له إحاطة بأطراف الشبهة ، فحينئذ لا يجب عليه الاجتناب عن كلّ ما يحيط به من الأطراف ، حيث إنّه يحتمل أن يكون الحرام فرداً آخر غير ما أحاط به ، إذ الأصل فيما أحاط به في مثل الفرض سليم عن المعارض ، فإنّه لا يعارضه أصالة عدم حرمة غيره ، إذ لا أثر لهذا الأصل ما لم يحرز أنّ ذلك الذي يمكن أن يكون طرفاً للشبهة ممّا يعلمه ويبتلى به ، فعمدة المستند لجواز ارتكاب الشبهة الغير المحصورة بناءً على هذا التفسير الذي هو في الحقيقة إبقاء للفظ على حقيقته ، إنّما هي سلامة الأصل فيما أحاط به من الأطراف عن المعارض ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين قلّة الأطراف وكثرتها ، فلو دخل في قرية مثلاً وعلم إجمالاً بأنّ واحداً ممّن يبيع الطعام في هذه القرية أمواله محرّمة ، وأطراف مثل هذه الشبهة عادة لا تتجاوز عن العشرة ، فإن أحاط بجميع من يبيع الطعام فيها كانت الشبهة محصورة ، وإن أحاط بعدّة منهم ولم يعلم بانحصارهم فيه ، كانت الشبهة غير محصورة. وفي العبارة المتقدّمة عن صاحب الحدائق في صدر المبحث إشارة إلى ما اخترناه من التفسير ، فلاحظ وتدبّر (1).

وقال المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني قدس سره أيضاً في كتاب الصلاة عند الكلام على مسجد الجبهة : وقد بيّنا في محلّه أنّ الأشبه بالقواعد تحديد المحصور بما إذا كان أطراف الشبهة أُموراً معيّنة مضبوطة ، بأن يكون الحرام المشتبه مردّداً بين أن يكون هذا أو هذا أو هذا وهكذا ، بحيث يكون إجراء أصالة الحل والطهارة في كلّ منها معارضاً بجريانها فيما عداه. وغير المحصور ما لا إحاطة بأطراف الشبهة على وجه يجعل الحرام مردّداً بين هذا وهذا وهذا ، كما لو علم إجمالاً بحرمة أموال بعض التجّار الذي في بلده ، ولم يعلم بانحصارهم في

ص: 198


1- حاشية فرائد الأُصول : 227 - 228.

من يعلمهم ويبتلى بمعاملتهم ، فيكون حكم الشبهة الغير المحصورة - وهو جواز الارتكاب في أطرافها التي أحاط بها وأراد تناولها - بناءً على هذا التفسير على وفق الأصل السليم عن المعارض (1). ثمّ ذكر بعض الضوابط ، ومنها ما كان كثرة المحتملات إلى حدّ يوهن احتمال مصادفة كلّ منها لذلك الحرام المعلوم بالاجمال بحيث لا يعتنى به لدى العقلاء ، ثمّ قال : ولا يخفى عليك أنّ إثبات الرخصة في ارتكاب الشبهة على أغلب هذه التفاسير لا يخلو عن إشكال.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر منه قدس سره في كتاب الطهارة هو الاعتماد على هذا الضابط ، أعني كون الكثرة موجبة لضعف الاحتمال. نعم في آخر المبحث قال : ويمكن أن يفرّق بين الشبهة المحصورة وغيرها ببيان آخر ربما يلوح من كلام صاحب الحدائق في عبارته المتقدّمة ، وهو أنّه إذا كان الحرام المحتمل مردّداً بين أُمور معيّنة الخ (2) ، وهذا هو عين ما أفاده في كتاب الصلاة وفي حاشيته على الرسائل ، هذا.

ولكنّه في أحكام الخلوة ذكر ما لو تردّدت القبلة بين الجهات مطلقاً بحيث أيّ جهة تفرض احتمل كونها قبلة ، فالظاهر كونها من الشبهة الغير المحصورة التي قام النصّ والإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها ، كما تقدّمت الاشارة إليه في مبحث الاناءين ، وقد أشرنا في ذلك المبحث إلى ما يظهر منه كون مثل الفرض من الشبهة الغير المحصورة ، فراجع (3).

ولا يخفى أنّ كلاً من الضابطين اللذين ذكرهما في ذلك المبحث لا ينطبق

ص: 199


1- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 11 : 206.
2- مصباح الفقيه ( الطهارة ) 1 : 256.
3- مصباح الفقيه ( الطهارة ) 2 : 58.

على مسألة جهات القبلة ، المفروض أنّها منحصرة في الدائرة المحيطة ببدن الشخص ، التي لا يكون محيطها زائداً على مقدار ما يساوي سبعة من مساحة عرض بدنه أو أقل من ذلك ، اللّهمّ إلاّ أن يريد بذلك الوجه الثاني ممّا فرّق به بينها وبين المحصورة وهو خروج بعض أطرافها عن الابتلاء ، بدعوى أنّ بعض الجهات هنا بالنسبة إلى الخلوة خارجة عن الابتلاء ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى الوجه الذي أفاده في الحاشية وفي كتاب الصلاة أنّ الأصل في الأطراف لو كان غير ترخيصي كما في شبهة المضاف وكما في شبهة عدم التذكية ، لكان مقتضى القاعدة هو التوقّف ، وصريح الرواية في السمن بل في اللحم في قوله عليه السلام « فأشتري اللحم » (1) خلاف ذلك ، واليد غير محكّمة ، لأنّ

ص: 200


1- كتاب المآكل من محاسن البرقي في باب الجبن ص 495 / ح 597 عنه عن أبيه عن محمّد بن سنان عن أبي الجارود قال « سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن وقلت له : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان » الخبر في الحدائق الناضرة 1 : 509 [ مع اختلاف يسير. راجع وسائل الشيعة 25 : 119 / أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 5 ]. الضمير في « عنه » راجع إلى أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي عن أبيه محمّد بن خالد البرقي. موثّقة حنّان بن سدير عن الصادق عليه السلام « في جدي رضع من خنزيرة حتّى شبّ واشتدّ عظمه استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول بنسله؟ فقال عليه السلام : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأمّا ما لم تعرفه فإنّه بمنزلة الجبن » في الحدائق الناضرة 5 : 284 في المسألة الرابعة من البحث الأوّل من المقصد الثاني من الباب الخامس في الطهارة من النجاسات [ راجع وسائل الشيعة 24 : 161 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 61 ح 1 ( مع اختلاف ) ]. الجواهر 36 : 283 في الأطعمة عند الكلام على حرمة نسل الحيوان الشارب لبن الخنزيرة : موثّق بشير بن سلمة عن أبي الحسن عليه السلام « في جدي يرضع من خنزيرة ثمّ ضرب في الغنم ، فقال عليه السلام : هو بمنزلة الجبن ، فما عرفت أنّه ضَرْبه فلا تأكله ، وما لم تعرفه فكل » [ راجع وسائل الشيعة 24 : 162 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 61 ح 2 ]. صحيحة ضريس قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال عليه السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام ». ذكرها في الحدائق في المقدّمات عند الكلام على الشبهة الغير المحصورة [ راجع الحدائق الناضرة 1 : 150 ، 141. وراجع أيضاً وسائل الشيعة 24 : 235 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 64 ح 1 ( مع اختلاف يسير ) ]. الرواية الأُولى والرابعة عن أبي جعفر عليه السلام وإحداهما تعضد الأُخرى لاختلاف الراوي مع وحدة المروي عنه وتقارب مضمون المتن ، والثانية عن الصادق عليه السلام ، والثالثة عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، وهما تشيران إلى أنّ مسألة الجبن معروفة لدى الرواة مسلّمة عندهم ، فهما تعضدان الأُولى والرابعة ، وهذا التعاضد يشعر بصحّة السند إلى الإمام عليه السلام وإن كان الراوي عنه في الأُولى أبا الجارود. فلا إشكال في الروايات من حيث السند ، وحيث إنّها متعاضدة كان من اللازم توحيد الدلالة من حيث مضمون المتن ، وإرجاع بعضها إلى بعض ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس سره ].

العلم الاجمالي يسقطها ، إلاّ أن يقال إنّ اليد لا تسقط كما لا تسقط أصالة الحل لو كانت هي المرجع ، لأنّ اليد غير منحصرة بما أحاط به ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ هذا البناء العقلائي سواء جعلتموه من قبيل الأمارات أو جعلتموه من قبيل الأصل العملي ، لا يمكنكم إعماله في كلّ واحد من الأطراف ولو على التدريج ، لأنّ العلم بوجود التكليف بينها موجود ، وهو بحكم العقل مانع

ص: 201

من المخالفة القطعية ، فأنتم إمّا أن تلتزموا بإسقاط العلم المذكور بدعوى كونه في نظر العقلاء كالعدم ، وهذا غير ممكن لأنّ حجّية العلم عقلية صرفة غير قابلة للتخصيص ، ولا محصّل لبناء العقلاء والسيرة العقلائية في الأحكام العقلية الصرفة ، وإلاّ لسهل الأمر في مثل قطع القطّاع ونحوه.

وإمّا أن تلتزموا بجريان هذا البناء العقلائي في البعض دون البعض ، وحينئذ يحصل التعارض والتساقط حتّى لو جعلتموه من قبيل الأمارات ، إذ لا ريب في أنّه لو قامت بيّنة مثلاً على طهارة هذا الطرف من أطراف العلم الاجمالي ، وقامت بيّنة أُخرى على طهارة ذلك الطرف وهكذا ، وأنت تعلم إجمالاً بوجود النجس بينها ، كنت مضطراً إلى إجراء التعارض في تلك البيّنات ، وحيث لا مرجّح كما هو المفروض في المقام ، ينتهي الأمر إلى التساقط.

لأنّا نقول : إنّ الأمر كما ذكرت ، إلاّ أنه لمّا قام الإجماع والروايات على الترخيص الذي هو عبارة أُخرى عن إمضاء ذلك البناء العقلائي ، وقام الدليل العقلي على عدم إجراء ذلك في تمام الأطراف ولو على سبيل التدريج ، لما ذكرتموه من المانع العقلي من ناحية العلم الموجود وجداناً ، كان من الضروري هو حصر ما دلّ على الترخيص في البعض دون البعض ، وحيث إنّ الترخيص نصّ في ارتكاب بعض الأطراف ، لا أنّه عام مثل دليل البيّنة أو سائر الأُصول العملية كي يرجع الأمر إلى التعارض والتساقط ، تعيّن القول بالترخيص في البعض على نحو التخيير ، فإنّ كلّ واحد من الأطراف وإن كان صالحاً لانطباق دليل الترخيص المذكور عليه ، ولازم ذلك هو التعارض والتساقط ، إلاّ أنا في المقام لا يمكننا الالتزام بالتعارض ، لأنّه موجب للغوية ذلك الترخيص ، لما عرفت من كونه مختصّاً بالشبهة غير المحصورة.

ص: 202

وهذا لا إشكال فيه بناءً على أنّ الموجب للموافقة القطعية هو التعارض ، وأنّ الترخيص في بعضها لا يحتاج إلى جعل البدل ، سواء قلنا بكون ذلك البناء العقلائي من قبيل الأمارات ، أو قلنا بأنّه من قبيل الأصل العملي. وكذا لا إشكال فيه بناءً على كون العلم علّة تامّة في الموافقة القطعية ، لو قلنا بكون ذلك البناء العقلائي من قبيل الأمارات لأنّه من قبيل جعل البدل ، وأمّا بناءً على كونه أصلاً فالظاهر أنّه لا إشكال أيضاً فيه ، لأنّ الإشكال إنّما يكون في الأُصول العامّة ، أمّا لو نصّ الشارع على إعمال الأصل الخاصّ في طرف من أطراف العلم الاجمالي ، فلازمه أيضاً جعل البدل ، فلا ينبغي الإشكال فيه حتّى على هذا القول ، فلاحظ وتأمّل.

وحاصله : أنّه لو كان الأصل عاماً كان جريانه في هذا الطرف موقوفاً على جعل البدل ، وإذا توقّف شمول العام لفرد على إعمال عناية ، لا يحكم بتلك العناية بل يحكم بعدم الشمول إلاّبالأصل المثبت ، بأن نقول نجري عموم البراءة في هذا الطرف ، وجريان البراءة مستلزم لجعل البدل ، فعن البراءة في هذا الطرف ننتقل إلى لازمه وهو بدلية الطرف الآخر لا عن العموم ، وهو معنى الأصل المثبت. وهذا لا يجري فيما نحن فيه ، لأنّ المفروض أنّ الترخيص في بعض الأطراف وارد فيه بخصوصه لا بدليل [ عام ] ، ومقتضى هذا الترخيص الالتزام بلازمه وهو جعل البدل ، وإلاّ لكان الترخيص فيه لغواً ، أو ممتنعاً لكونه مناقضاً لما يقتضيه العلم إذا كان مجرّداً من جعل البدل.

ثمّ لا يخفى أنّ ضعف الاحتمال في بعض الأطراف بواسطة كثرة الاحتمالات لو سلّمنا أنّه يوجب الظنّ بعدمه في ذلك البعض ، فليس هو في تمام الأطراف ، بل إنّما هو في عدد خاصّ يكون الاحتمال فيها ضعيفاً بالقياس إلى

ص: 203

الباقي ، مثل واحد في ضمن أُلوف مثلاً ، أو عشرة في ضمن ملايين. نعم هذا المقدار من العدد صالح لأن يطبّقه المكلّف على أي شاء من تلك الأطراف ، وأيّاً منها طبّقه عليه يكون التكليف فيه مظنون العدم ، ولعلّ هذا هو مراد الأُستاذ صاحب المقالة فيما تقدّم من نقل عبارتها (1).

وبتقريب آخر : أنّ ضعف الاحتمال والظنّ بالعدم في كلّ واحد واحد يستمرّ إلى أن يزيد العدد ويبلغ النصف أو أكثر بكثير ، يلتفت الإنسان إلى ما مرّ من الآحاد التي مرّت عليه واستضعف الاحتمال فيها ، فينقلب حاله بالنسبة إليها من الظنّ بالعدم في كلّ واحد منها إلى الظنّ بالوجود بالجملة فيها ، لأنّ الباقي عنده من الأعداد يكون ظنّه فيها ضعيفاً ، ولازمه انقلاب ما مرّ عليه من الظنّ بالعدم إلى الظنّ بالوجود.

وبالجملة : هو لا يبقى على الظنّ بالعدم إلى أن يستوفي تمام الأعداد ، ليكون ذلك من باب الظنّ بالسالبة الكلّية ، بل عند بقاء القليل ينقلب حاله بالنسبة إلى ما مرّ من الظنّ بالعدم إلى الظنّ بالوجود ، فلا يحصل له الظنّ حينئذ بالسالبة الكلّية.

والحاصل : أنّ هذه السالبة الكلّية المدّعى كونها مظنونة ، إن كانت دفعية فلا إشكال في أنّها ليست كذلك ، لأنّ الظنّ بالعدم دفعة إنّما هو في مقدار عدد خاصّ من تلك الأطراف يكون احتمال التكليف فيها ضعيفاً ، فيكون عدمه فيها مظنوناً ، غايته أنّه على نحو التبادل ، فأقصى ما في البين هو الظنّ بالسالبة الجزئية ، غايته أنّه على نحو التبادل. وإن كانت تدريجية ، فهو - أعني الظنّ بالعدم في كلّ واحد من الأطراف على نحو التدريج - إنّما يتمّ ويتمشّى إلى حدّ خاصّ ، وهو المقدار

ص: 204


1- في الصفحة : 185.

القليل ، ثمّ إذا استمرّ التعداد ووصل إلى مقدار النصف ونظر إلى ما تقدّم ممّا حصل له الظنّ بالعدم فيه من الأطراف ، يتبدّل الظنّ بالعدم فيه إلى خلافه ، وهكذا إلى أن يحصل له الظنّ فيما تقدّم بالوجود ، فأين السالبة الكلّية المظنونة التي هي ليست إلاّ اجتماع كلّ واحد من تلك الأعدام والظنّ فيها أجمع بالعدم ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، فلو قلنا بأنّ الضعف يوجب الظنّ بالعدم يكون ذلك من باب الأمارات الظنّية ، ويتأتّى فيه ما تقدّم من كون النتيجة هي التخيير في إعمال تلك الأمارة في ذلك المقدار من العدد الذي يكون الاحتمال فيه ضعيفاً بالقياس إلى البواقي ، لا إعمالها في جميع الأطراف.

والذي تلخّص لنا في هذه الدورة بعد الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس سره ، وبعد بيان أنّ ما أفاده الحاج آغا رضا قدس سره لا يتمّ إلاّعلى كون المدرك في التنجيز هو تعارض الأُصول ، بخلاف ما لو قلنا إنّ المنجّز هو العلم ، وبعد بيان ما أفاده الشيخ قدس سره وإرجاع ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره إليه ، وأنّه يحتاج إلى الدليل الخاصّ مثل السيرة أو الإجماع أو الروايات ، فلو تمّت فهو المطلوب ، وإلاّ كان المتعيّن هو ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس سره في الكفاية (1) من عدم الأثر لعدم الحصر ، إلاّ إذا رجع إلى العسر والحرج ، أو الخروج عن الابتلاء ونحو ذلك ممّا هو من مسقطات العلم الاجمالي عن التأثير. ولو كان في البين إجماع أو كان مورداً لبعض الروايات ، فالقدر المتيقّن إنّما هو فيما يكون راجعاً إلى إحدى المسقطات دون مجرّد عدم الحصر ، فلاحظ وتأمّل. مضافاً إلى ما قد عرفت من أنّ الروايات لا يمكن الاستدلال [ بها ] ، لما ذكره المرحوم الحاج آغا رضا من كون روايات الجبن واردة مورد التقية ، إذ لا إشكال عندنا في حلّية الإنفحة. وأمّا روايات

ص: 205


1- كفاية الأُصول : 359 و 362.

الجدي الشارب لبن الخنزيرة فلما عرفت من أنّ ظاهرها الشبهة المحصورة ، فتكون مقصورة على خصوص المورد ، هذا.

ولكن الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته (1) أتمّ المطلب بدعوى بناء العقلاء على إلغاء الاحتمال في كلّ واحد من الأطراف وتعيّنه في غيره ، وبعد إثبات حجّية هذا البناء العقلائي ولو بأصالة عدم الردع عنه ، يكون مرجعه إلى جعل البدل ، ولكن العمدة في تحقّق هذا البناء العقلائي ، فلاحظ وتأمّل.

ولا يخفى أنّه لو تمّ هذا البناء العقلائي لم يكن مقتضاه إبقاء الواحد الذي هو بمقدار المعلوم بالاجمال ، بل الظاهر أنّ البناء العقلائي على عدم التكليف في هذا الطرف الذي يكون محصّله هو البناء العقلائي على وجوده فيما عداه من الأطراف مختصّ بالأطراف التي لم يرتكبها ، وحينئذ يكون الحاصل هو البناء على ذلك إلى حدّ يخرج الاحتمال عن الضعف ، فيلزمه الاجتناب حينئذ عن الباقي وإن كان كثيراً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله قدس سره : تذييل - إلى قوله - وكان شيخنا الأُستاذ ( مدّ ظلّه ) يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضاً (2).

وقد ذكر ذلك في وسيلته طبع النجف في المسألة العاشرة (3).

ولكن مسلكه قدس سره في سقوط العلم الاجمالي عند كون الشبهة غير محصورة لا يوجب سقوط حكم الشكّ والرجوع إلى الأصل ، اللّهمّ إلاّ أن يكون مبناه على ضعف الاحتمال ، ويكون ما ذكره من سقوط حرمة المخالفة القطعية الموجب

ص: 206


1- مقالات الأُصول 2 : 242.
2- فوائد الأُصول 4 : 122.
3- وسيلة النجاة : كح [ لا يخفى أنّه قد رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

لسقوط وجوب الموافقة القطعية برهاناً على ذلك الأمر الوجداني أعني ضعف الاحتمال ، وكون العلم في غير المحصور بمنزلة العدم في أنظار العقلاء ، فراجع ما شرحناه في هذه المسائل.

تنبيهان : الأوّل : أنّه قد تلخّص أنّ في الشبهة غير المحصورة مبنيين ، أوّلهما : ضعف الاحتمال وبناء العقلاء الممضى من جانب الشارع على إلغاء احتمال وجود التكليف في بعض غير معيّن من الأطراف. الثاني : ما هو نقلناه عن المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره من احتمال وجود أطراف أُخر بحيث إنّه يوجب عدم العلم الاجمالي فيما أحاط به من الأطراف.

وهذان المبنيان بينهما عموم من وجه ، إذ ربما اجتمعا بحيث كانت كثرة الأطراف موجبة لكلا الأمرين ، وربما وجد المبنى الأوّل دون الثاني ، كما لو كانت الأطراف من الكثرة بالغة حد ضعف الاحتمال في بعضها ، وإن كانت مضبوطة محصورة في أطراف كثيرة العدد ولو بالملايين. وربما وجد الثاني دون الأوّل ، كما لو كانت الأطراف المحصورة التي أحاط بها المكلّف قليلة العدد مثل طرفين أو ثلاثة ، ولكنّه يحتمل وجود طرف آخر لها لم يحصل له العلم بوجوده فيما بينها.

الثاني : أنّه لو شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة ، فعلى المبنى الأوّل لا إشكال في لزوم الاحتياط ، للشكّ في وصول ضعف الاحتمال إلى حدّ يبني العقلاء على عدم التكليف في البعض ، فيكون من قبيل الشكّ في قيام الأمارة أو الأصل العقلائي على الترخيص في بعض الأطراف.

أمّا على المبنى الثاني ففيه إشكال ، لأنّ مرجع الشكّ في الحصر وعدمه بناءً على المبنى المذكور إلى الشكّ في وجود طرف آخر. وإن شئت قلت : إنّ مرجع

ص: 207

هذا المبنى إلى الشكّ في وجود أطراف أُخر ، وهذا المعنى لا يقبل الشكّ ، فالذي ينبغي أن يقال إنّه بناءً عليه لا يكون الحصر وعدمه قابلاً للشكّ ، بل إنّ الشبهة حينئذ إمّا أن تكون معلومة الحصر ، وإمّا أن تكون معلومة عدم الحصر. ولو سلّم جدلاً أنّها تكون محلّ الشكّ ، كان مرجع الشكّ المتوهّم إلى الشكّ في تحقّق التكليف فيما أحاط به من الأطراف ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى عدم العلم الاجمالي فيما أحاط به من الأطراف.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره بقوله على قول الشيخ قدس سره : فإذا شكّ في كون الشبهة محصورة الخ (1) ، ما هذا لفظه : بناءً على ما اخترناه من الضابط ، حاله حال ما لو شكّ في كون بعض الأطراف مورداً للابتلاء وعدمه ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه فراجع (2). إذ قد عرفت أنّه بناءً على ما أفاده من الضابط على ما شرحناه في المقدّمات الثلاث ، لا يكون عدم الحصر بالمعنى المزبور قابلاً للشكّ ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وما ينسب إلى المحقّق الخونساري ... الخ (3).

يمكن أن يكون نظر هذا المحقّق إلى اعتبار نيّة الوجه ، وأنّ الاحتياط بالتكرار مسقط لها ، فإذا قلنا باعتبارها في العبادة حتّى في مورد عدم التمكّن منها ، كان لازم ذلك هو سقوط التكليف بتلك العبادة في مورد العلم الاجمالي في الشبهة الوجوبية المردّدة بين العبادتين المتباينتين.

ص: 208


1- فرائد الأُصول 2 : 273.
2- حاشية فرائد الأُصول : 230.
3- فوائد الأُصول 4 : 124.

لكن الظاهر ممّا حرّره الشيخ قدس سره (1) ونقله من كلماته وكلمات صاحب القوانين هو أنّ نظرهم إلى ما حرّره الشيخ قدس سره ونقله شيخنا قدس سره من دعوى مدخلية العلم التفصيلي في التنجيز ، وأنّ المعلوم بالاجمال غير صالح للبعث والتنجّز ، فراجع وتأمّل.

قوله : ربما يتوهّم أنّ وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عند الاتيان بأحد المحتملين ممّا يقتضيه استصحاب بقاء التكليف ... الخ (2).

الظاهر أنّ ما هو محلّ الكلام مقرون بتنجّز المعلوم بالاجمال ، بأن كان قد علم بوجوب إحدى الصلاتين قبل الاتيان بإحداهما ، أمّا لو كان قد أتى بإحداهما باعتقاد أنّها هي الواجبة ثمّ بعد فراغه منها حصل له العلم الاجمالي المذكور ، فالظاهر سقوط أصالة الاشتغال في مثل ذلك ، وانحصار المرجعية بالاستصحاب ، وهل الجاري هو استصحاب انشغال ذمّته أو أنّ الجاري هو استصحاب الكلّي أو الفرد المردّد. والحاصل : أنّ المنظور إليه هو الصورة الأُولى وهي صورة منجّزية العلم الاجمالي ، دون الثانية ، وحين إذ اتّضح ما هو محلّ الكلام فنقول بعونه تعالى :

إنّه بناءً على كون العلم الاجمالي علّة تامّة في وجوب الموافقة القطعية كما هو كذلك بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، لا يكون النزاع في الرجوع إلى استصحاب الاشتغال بمعنى استصحاب شغل الذمّة القاضي بلزوم الاتيان بالثانية من باب الاحتمال والاشتغال بعد الاتيان بالأُولى إلاّعلمياً صرفاً ، إذ لا إشكال حينئذ في لزوم الاتيان بالثانية ، ولكن هل الموجب لذلك هو مجرّد قاعدة

ص: 209


1- فرائد الأُصول 2 : 284 - 286 ، 279 - 280.
2- فوائد الأُصول 4 : 125.

الاشتغال الناشئة عن العلم الاجمالي ، أو أنّ الموجب له هو مجرّد استصحاب الاشتغال.

نعم ، لو ادّعي أنّ الاستصحاب يسوّغ الاتيان بالثانية بنيّة الجزم والوجه على أنّها واجبة ، يكون للنزاع حينئذ ثمرة عملية ، وهي هل الموجب لذلك هو الاستصحاب فيصحّ إتيانها بداعي الأمر المحرز ، أو أنّ الموجب له هو الاحتياط فلا يصحّ الاتيان بها إلاّبداعي الاحتمال ، لكن ذلك مبني على الاستصحاب المثبت ولا نقول به ، بل لا يقول به القائل بالاستصحاب هنا أيضاً ، إلاّعلى دعوى خفاء الواسطة كما صنعه المحقّق الخراساني قدس سره فيما سيأتي من نقل كلامه.

أمّا لو قلنا بأنّ العلم الاجمالي لا يوجب إلاّحرمة المخالفة القطعية وإنّما يلزمنا بالموافقة الاحتمالية فراراً من المخالفة القطعية ، فإنّه حينئذ يكون للنزاع المذكور ثمرة عملية ظاهرة ، فإنّه بناءً على جريان الاستصحاب يجب الاتيان بالثانية بعد الأُولى ، بخلاف ما لو بقينا نحن والعلم الاجمالي فإنّه حينئذ لا يجب الاتيان بها ، لحصول الفرار عن المخالفة القطعية بالاتيان بالأُولى.

واعلم أنّه لا فرق في سقوط الاستصحاب بناءً على لزوم الموافقة القطعية بين القول بكون العلم الاجمالي علّة تامّة في ذلك ، وبين القول بكونه مقتضياً إلاّ أنّه بعد تعارض الأُصول تكون الموافقة القطعية لازمة ، إذ على أيّ حال يكون اللازم عقلاً هو الاتيان بالثانية بعنوان الاحتمال بعد الاتيان بالأُولى ، فلا يكون لاستصحاب بقاء التكليف أثر عملي من هذه الجهة ، إذ لا يغيّر شيئاً من حالنا إلاّ إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت ، وأنّه بعد جريان الاستصحاب المذكور نحكم بأنّ الواجب هو الباقي ، فنأتي به من باب إحراز وجوبه.

فظهر لك أنّه ينبغي سدّ باب الاستصحاب المذكور بناءً على القولين

ص: 210

المذكورين من هذه الجهة ، أعني عدم ترتّب الأثر العملي عليه. مضافاً إلى ما أفاده شيخنا قدس سره فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

قوله : الأوّل : يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشكّ راجعاً إلى بقاء الحادث ، لا إلى أنّ الباقي هو الحادث ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وأمّا إذا كان الشكّ في أصل الحدوث وأنّ الحادث ما هو ، لتردّده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل لا معنى لجريان الاستصحاب فيه ، لعدم كونه من قبيل الشكّ في بقاء الحادث ، وإنّما هو من قبيل الشكّ في نفس الحادث ما هو ، وهل هو الذي يكون مقطوع البقاء أو هو مقطوع الارتفاع.

وبالجملة : إذا كان الحادث مردّداً بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، لا يصحّ أن يضاف الشكّ في البقاء إلى الشكّ في الحدوث ويجري الاستصحاب بالنظر إلى الشكّ في البقاء ، إذ ليس الشكّ في البقاء في مثل ذلك إلاّعين الشكّ في الحدوث ، بل في الحقيقة لم يكن البقاء متعلّق الشكّ ، وإنّما تعلّق الشكّ بأنّ هذا الذي يبقى على تقدير كونه هو الحادث هل هو الحادث ، ويكون الشكّ شكّاً في حدوث ما يبقى لا في بقاء ما حدث ، فجعله من قبيل الشكّ في بقاء الحادث مغالطة نشأت من قلب الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً ، فإنّ حقيقة القضية هي الشكّ في حدوث ما يبقى ، فقلَبها المغالط إلى الشكّ في بقاء ما حدث ، ومحصّل الأُولى أنّ ما يبقى حادث أو لا ، ومحصّل الثانية أنّ ما حدث باقٍ أو لا ، وبين القضيتين بون بعيد ، والثانية هي مورد الاستصحاب ، والأُولى ليست مورداً له ، وهي المنطبقة على ما نحن فيه دون الأُخرى ، انتهى.

ص: 211


1- فوائد الأُصول 4 : 126.

وبالجملة : أنّه بعد العلم بارتفاع أحدهما لو كان هو الحادث ، لا معنى لاستصحاب الفرد المردّد بينهما ، إذ لم يكن الشكّ حينئذ شكّاً في البقاء ، وإنّما هو شكّ في حدوث ما يبقى ، ففي مثل ما نحن فيه أعني العلم بوجوب أحد الأمرين من الظهر والجمعة ، لو شكّ في الاتيان بهما ، يمكن الرجوع إلى استصحاب وجوب ما حدث وجوبه ، سواء كان هو الظهر أو الجمعة ، ويكون هذا الاستصحاب حاكماً على أصالة الاشتغال ، كما لو علم تفصيلاً بأنّه مكلّف بالظهر وشكّ في الاتيان بها ، فإنّه مع قطع النظر عن الاستصحاب مورد لقاعدة الاشتغال ، لكن استصحاب بقاء وجوب الظهر حاكم على أصالة الاشتغال. أمّا إذا كان ذلك بعد الاتيان بالظهر فيما نحن فيه ، فإنّ استصحاب الفرد المردّد لا مورد له فيه ، إذ ليس الشكّ في هذه الصورة شكّاً في البقاء ، وإنّما هو شكّ في حدوث ما يبقى وهو صلاة الجمعة.

ولو أُغضي النظر عن هذه الجهة ففيه إشكال آخر ، وهو أنّه إن أُريد من هذا الاستصحاب إثبات وجوب الجمعة ، فهو مبني على الأصل المثبت ، وإن أُريد منه مجرّد لزوم الاتيان بالباقي الذي هو صلاة الجمعة من باب احتمال أنّها هي ذلك الفرد المردّد ، فهذا حاصل بالوجدان نظراً إلى أصالة الاشتغال ، ويكون الأمر حينئذ من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهكذا الحال لو كان المستصحب هو بقاء الكلّي أعني القدر الجامع بينهما ، فإنّه بعد فرض أنّه لا أثر للقدر الجامع في المقام ، يتردّد الأمر بين أن يكون الغرض من استصحاب ذلك الكلّي هو إثبات وجوب الباقي فيكون الأصل حينئذ مثبتاً ، أو يكون الغرض منه هو لزوم الاتيان بالباقي لاحتمال كون الكلّي كان حادثاً في ضمنه ، فيؤتى به من باب احتمال كونه هو الحادث وجوبه ، فيكون من قبيل

ص: 212

الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وسيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى توضيحه في بيان كون حكم العقل بلزوم تفريغ الذمّة على نحوين : واقعي محصّله لزوم تفريغ الذمّة في قبال عدم التفريغ ، وآخر ظاهري محصّله لزوم تحصيل العلم بالفراغ في قبال الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي ، والثاني هو مورد قاعدة الاشتغال.

فالأصل إن كان مفاده هو هذا الأثر الثاني كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وإن كان مفاده هو إثبات بقاء اشتغال الذمّة كان حاكماً على قاعدة الاشتغال إن كان له مورد ، بأن علم بوجوب الظهر وشكّ في الاتيان بها ، أو علم بوجوب إحدى الفريضتين من الظهر والجمعة وشكّ في الاتيان بهما ، أمّا لو أنّه علم بذلك وقد أتى بالظهر مثلاً ثمّ أراد استصحاب ما وجب عليه ، فلا مورد للاستصحاب المذكور ، لما عرفت من أنّه لا معنى لاستصحاب الحادث المردّد ، كما أنّه لا معنى لاستصحاب الكلّي هنا أيضاً ، لعدم الأثر له. وإن أُريد بذلك الاستصحاب إثبات أنّ الباقي وهو صلاة الجمعة هو الواجب فهو مثبت ، وإن أُريد مجرّد لزوم الاتيان بالجمعة لاحتمال أنّها هي الواجبة كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

قوله : فالأقوى أنّه لا فرق بين الشرائط وغيرها في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع وتردّده بين أُمور محصورة ، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس أو الحرير بغيره ... الخ (2).

لو أبدل الحرير بغير المأكول كان أولى ، لأنّ الحرير محرّم فيكون حاله حال

ص: 213


1- في الصفحة : 237 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 135.

الذهب والمغصوب في أنّ الشبهة المحصورة منه مانعة عقلاً من اللبس ، فيلزمه الصلاة عارياً.

ثمّ إنّ هذا فيما لو تمكّن من الجمع بين الصلوات ، أمّا مورد عدم التمكّن إلاّ من البعض ، فإن كان ذلك من قبيل العسر والحرج الآتي من الجمع بين محتملات الوجوب ، فإن كانت الأطراف تدريجية لزمه الاحتياط حتّى يبلغ العسر والحرج فيسقط في الباقي ، لأنّ الباقي إن كان هو الواجب الواقعي كان التكليف به حرجياً وإن كان الواجب غيره ممّا أتى به كان الباقي غير واجب. وإن لم تكن الأطراف تدريجية بل كانت دفعية ، كما مرّ من مثال الصوم والكون في المسجد تمام اليوم لزمه الاتيان بأحدهما ، وأيّاً منها اختاره سقط الباقي وكان حاله حال الاضطرار إلى واحد غير معيّن في الشبهات التحريمية. هذا في الاضطرار الحرجي.

أمّا لو كان بالغاً حدّ عدم القدرة العقلية ، كان حكمه التخيير وتبعيض الاحتياط من أوّل الأمر ، من دون فرق بين التدريجيات وغيرها ، لأنّ الحاكم بلزوم الاتيان بالطرفين هو العقل ، وهو أيضاً حاكم بعدم لزوم الاتيان بهما في مورد عدم القدرة ، ويكون نتيجة ذلك هو لزوم الاتيان بأحدهما فراراً من المخالفة القطعية.

أمّا لو كان ذلك من جهة عدم سعة الوقت ، فإن كان لا قضاء له كما في صلاة الآيات غير الزلزلة ، فالظاهر أنّ حكمه كذلك ، أعني التخيير. أمّا ما يكون له القضاء كما في الصلوات اليومية ، فلا إشكال في التخيير في الوقت وأنّه فعلاً يصلّي إلى إحدى الجهات ، أو في أحد الثياب ، ولكن هل يسقط عنه الاتيان بالباقي في خارج الوقت ، أو أنّه يلزمه الاتيان بالباقي في خارجه؟ الظاهر الثاني ، لأنّه فعلاً مكلّف بالصلاة إلى القبلة الواقعية أو مع اللباس الصحيح ، وعدم تمكّنه من الجمع بين المحتملات في الوقت للحصول على ما هو مقدوره من القبلة

ص: 214

الواقعية أو مع اللباس الصحيح لا يلحقه بمن لم يتمكّن من تحصيل القبلة أو من لم يتمكّن في الوقت من الصلاة مع غير المتّخذ من غير المأكول ، كي يكون ذلك مجزياً عن الاتيان بالباقي خارج الوقت ، كما أفاده شيخنا قدس سره هنا بقوله : وقياس باب العلم والجهل الخ (1).

وبالجملة : أنّ ذلك ليس من قبيل سقوط شرطية القبلة أو سقوط مانعية ما لا يؤكل لحمه كما إذا انحصر لباسه فيه ، فإنّ ذلك يسقط الشرطية بالنسبة إلى الساتر ويصلّي عارياً ، ولا يمكننا القول بأنّه في صورة دوران اللباس بين ثوبين أحدهما ممّا لا يؤكل وقد ضاق الوقت إلاّعن صلاة واحدة ، أنّه يصلّي عارياً ، إذ الظاهر أنّ ذلك لا وجه له. ولو قلنا به لم يكن لنا بدّ من الاكتفاء به وعدم لزوم القضاء خارج الوقت ، فالجمع بين الصلاة عارياً في مسألة اشتباه غير المأكول مع الالتزام بلزوم القضاء خارج الوقت كما يظهر من بعضهم ممّا لم يظهر له وجه ، فراجع العروة وحواشيها في هذه المسألة (2) وتأمّل. هذا فيما لو كان من قبيل الاضطرار إلى غير المعيّن.

وأمّا لو كان إلى المعيّن بأن لم يتمكّن من الاتيان بواحد معيّن من طرفي العلم الاجمالي بالوجوب ، فلا شبهة في سقوط التكليف المحتمل فيما اضطرّ إليه ، ولكنّه هل يسقط العلم الاجمالي في الباقي فيما لو كان الاضطرار سابقاً على العلم الاجمالي أو كان مقارناً له ، كما في الاضطرار إلى المعيّن في الشبهة التحريمية؟ الظاهر أنّه كذلك ، كما لو رأى الشخص غريقين يعلم بأنّ أحدهما لا بعينه واجب الانقاذ ، وكان الآخر غير واجب الانقاذ ، ولكنّه لم يقدر على الشرقي

ص: 215


1- المصدر المتقدّم.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 356 / المسألة «47».

منهما لكونه بعيداً عنه مثلاً عند التفاته إليهما ، بخلاف ما لو طرأ البعد الموجب لعدم القدرة بعد التفاته إليهما. ولو علم بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة ، ولكنّه كان عاجزاً عن الجمعة ، فالظاهر لزوم الاتيان بالظهر مطلقاً ، لكون التكليف المعلوم المردّد بينهما سابقاً على طروّ عدم القدرة. وكذلك الحال فيما لو علم بوجوب أحد الأمرين من جلسة الاستراحة والاستعاذة ، واتّفق عدم قدرته على الأوّل منهما مثلاً ، كان العلم الاجمالي المذكور ساقطاً في الآخر.

أمّا باب الشرائط والموانع ففيه تفصيل ، وهو أنّه لو لم يقدر على الصلاة إلى جهة معيّنة ، لم يسقط عنه الصلاة إلى باقي الجهات ، ولا يكتفي بصلاة واحدة ، ولعلّ السرّ في ذلك هو تقدّم العلم بالتكليف في أمثال ذلك على طروّ الاضطرار. وهكذا الحال في الثياب المتعدّدة المشتبهة بالنجس ، والمفروض أنّه لا يقدر على الصلاة في واحد معيّن منها. ولو كانا ثوبين فقط ولم يقدر على الصلاة في أحدهما المعيّن فالظاهر أنّه كذلك ، بل ربما قلنا إنّه تجري قاعدة الطهارة في الآخر ، فيلزمه الصلاة فيه لا من باب العلم الاجمالي. ولو كان أحدهما ممّا لا يؤكل لحمه تردّد الباقي بين وجوب لبسه لاحتمال كونه ممّا يؤكل ، ولزوم تركه لاحتمال كونه ممّا لا يؤكل ، فيكون المقام بالنسبة إلى الباقي من قبيل الدوران بين الشرطية والمانعية ، لكن أصالة البراءة من مانعيته الانحلالية توجب حلّ الشبهة وتلزمه بالصلاة فيه ، فلاحظ وتدبّر.

وتفصيل الكلام في هذا المقام أن يقال : إنّه لو توجّه تكليف إلى الشخص باكرام عالم مثلاً على نحو العموم البدلي ، واتّفق أنّ مصداق العالم انحصر في أربعة أشخاص يعلم أنّ أحدهم لا بعينه عالم بخلاف الباقين ، واتّفق أيضاً أنّ ذلك الشخص لا يقدر على إكرام واحد معيّن من أُولئك الأربعة وهو زيد مثلاً ، فإن كان

ص: 216

زيد هو العالم منهم سقط عنه التكليف باكرام عالم ، لفرض انحصاره في هؤلاء الأربعة وفرض أنّ زيداً العالم منهم لا يقدر على إكرامه ، وحينئذ يكون المقام من قبيل الشكّ في السقوط ، ويتعيّن عليه بمقتضى علمه بوجوب إكرام عالم إكرام الباقين. ولا يكون المقام من قبيل الشكّ في التكليف ، بدعوى عدم علمه بوجود العالم بين الثلاثة الباقين ، وأنّه إن كان العالم منهم هو زيداً فهو غير مكلّف باكرامه ، وأنّ كون العالم منهم غيره غير معلوم ، فيكون حاله حال الاضطرار إلى ارتكاب واحد معيّن من موارد الشبهة المحصورة التحريمية.

وفيه : ما لا يخفى ، للفرق الواضح بين مفروض المقام وبين مسألة الشبهة التحريمية ، لما عرفت من أنّه في مفروض المقام قد علم تفصيلاً بأنّه يجب عليه الحصول على ما اشتغلت به ذمّته من إكرام عالم ، وإنّما حصل التردّد بين الأربعة للعلم بانحصار العالم فيما بينهم ، فيكون اضطراره إلى ترك إكرام زيد من قبيل الشكّ في السقوط ، فيلزمه الحصول على إكرام الباقين ، لاحتمال كون أحدهم عالماً ، فهو نظير الشكّ في القدرة بالنسبة إلى الباقين الذي قد حقّق في محلّه لزوم الاحتياط ، غايته أنّه في سائر الموارد يكون الاحتياط بلزوم الفحص ، وفي المقام يكون الاحتياط بلزوم إكرام الباقين وإن احتمل عدم وجود العالم بينهم ، بل لو كان من أوّل الأمر قد علم بأنّه لا عالم غير هؤلاء الثلاثة واحتمل أن يكون أحد هؤلاء الثلاثة عالماً ، لوجب عليه إكرامهم جميعاً ، بل لو علم أنّه لا عالم أصلاً سوى أنّه احتمل أن يكون هذا الشخص عالماً ، لوجب عليه إكرامه.

ونظير ذلك ما لو وجب عليه الوضوء وكان عنده مائع يحتمل كونه ماء مطلقاً ويحتمل أنّه مضاف ، لوجب عليه الوضوء منه وإلحاقه بالتيمّم ، قال السيّد قدس سره في العروة : مسألة 3 : والأولى الجمع بين التيمّم والوضوء به. وقال

ص: 217

شيخنا قدس سره في الحاشية : بل هو الأحوط (1).

وهذا بخلاف الشبهة التحريمية ، فإنّ انشغال الذمّة إنّما يتولّد من العلم بوجود النجس فيما بين الأواني الأربعة ، فإذا اقترن ذلك بالاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، وكان ذلك الاضطرار مقارناً للعلم الاجمالي أو سابقاً عليه ، كان المقام بالنسبة إلى ما عدا ما اضطرّ إليه من قبيل الشكّ في التكليف.

ومثله ما لو علم بوجوب إكرام كلّ عالم على نحو العموم الانحلالي الاستغراقي وقد علم بوجود عالم بين هؤلاء الأربعة ، واقترن ذلك العلم بوجوده بينهم بعدم القدرة على إكرام واحد معيّن منهم وهو زيد ، فإنّه بالنسبة إلى الباقين يكون من قبيل الشكّ في التكليف ، فلا يلزمه فيهم الاحتياط.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ باب الشرائط مثل القبلة وطهارة اللباس وكونه ممّا يؤكل لحمه ، أو كون ما لا يؤكل مانعاً ، لو انحصر في أربعة وكان الطاهر أو الذي ليس ممّا لا يؤكل واحداً ، مع فرض نجاسة الباقي أو كونه ممّا لا يؤكل ، واتّفق أنّه لا يقدر على واحد معيّن من ذلك ، يكون من قبيل القسم الأوّل ، أعني ما يكون المكلّف به واحداً من اللباس الطاهر أو واحداً من اللباس غير المأكول (2) أو من الصلاة إلى القبلة ، فإنّ اضطراره المذكور لا يسقط عنه التكليف بذلك الواحد ، ويلزمه تكرار الصلاة إلى باقي الجهات ومع باقي الثياب ، خروجاً عن عهدة قوله : صلّ إلى القبلة أو البس الثوب الطاهر أو البس الثوب الذي ليس هو ممّا لا يؤكل.

نعم ، هو في مثل طهارة الثوب وعدم كونه ممّا لا يؤكل يكتفي من الباقي

ص: 218


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 112.
2- [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : « واحداً من اللباس المأكول » أو « واحداًمن اللباس الذي ليس من غير المأكول » ].

بواحد ، استناداً إلى قاعدة الطهارة وأصالة البراءة من مانعية ذلك الثوب ، ولا يعارضها بمثله في غيره ممّا قد اضطرّ إلى عدم لبسه ، لأنّها لا أثر لها فيه ، وليس المنجّز هو العلم الاجمالي بينها ، بل إنّ المنجّز هو علمه التفصيلي بوجوب الصلاة إلى القبلة ، وبوجوب لبس الثوب الطاهر ، أو الذي ليس ممّا لا يؤكل لحمه.

هذا ملخّص ما استفدته حسب فهمي القاصر ممّا أفاده المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره في صلاته في مبحث القبلة (1) من الفرق بين الشبهات التحريمية وما نحن فيه من الشرائط ، فراجعه لعلّك تفهم منه شيئاً آخر.

ولكنّ في النفس شيئاً من ذلك ، فإنّه لو تمّ فإنّما يتمّ فيما لو كان الموجب للسقوط في الطرف المعيّن هو عدم القدرة عقلاً ، لكونه من قبيل السقوط. أمّا لو كان من قبيل العسر والحرج ونحوهما ممّا هو من حدود التكليف ، وكان قد اتّفق وجود ذلك المانع قبل صدور التكليف ، بأن كان الاستقبال مثلاً إلى هذه الجهة المعيّنة مشتملاً على العسر والحرج ونحوهما قبل الوقت ، وقد دخل عليه وتوجّه إليه الأمر بالصلاة وهو على تلك الحال ، فإنّ توجّه وجوب الاستقبال إليه في ذلك الحال يكون مشكوكاً من أوّل الأمر ، لاحتمال انطباقه على تلك الجهة التي كان الاستقبال إليها حرجياً مثلاً ، الموجب لعدم وجوب الاستقبال عليه لو كانت هي القبلة الواقعية ، وحينئذ يكون الاستقبال مشكوك الوجوب ، فلا يلزمه إلاّصلاة واحدة إلى أي جهة شاء ، نظراً إلى أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، لكن هذا إنّما يظهر أثره في القبلة ونحوها ممّا لا يكون في البين أصل موضوعي منقّح للتكليف. ومثله ما لو اشتبه الماء المطلق بين أوانٍ أربعة مثلاً وكان الوضوء من أحدها المعيّن متعذّراً عليه.

ص: 219


1- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 10 : 101 وما بعدها.

أمّا لو كان في البين أصل موضوعي كما عرفت من اشتباه الطاهر من اللباس أو ما يؤكل لحمه وقد تعذّر عليه الصلاة في أحدها المعيّن ، فإنّ أصالة الطهارة أو البراءة من مانعية غير ما تعذّر عليه ، تنقّح موضوع وجوب الصلاة فيه من دون حاجة إلى التكرار في تمام الباقي ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ أساس ما أفاده هو الفرق بين مثل أكرم عالماً ومثل أكرم كلّ عالم ، في أنّ وجود مصداق العالم في الثاني شرط في فعلية وجوب إكرامه ، بخلاف الأوّل فإنّه يكون من قبيل المقدّمة الوجودية ، وقال فيه : ومن هذا القبيل ما لو قال الشارع : يجب إكرام كلّ عالم من أهل البلد أو تجب الصلاة على كلّ ميّت مسلم أو نحو ذلك ، فإنّ هذا النحو من التكاليف كلّها واجبات مشروطة بتحقّق موضوعاتها ، فلو لم يعلم المكلّف بوجود عالم في البلد لا يتنجّز في حقّه التكليف ، ولا يجب الفحص عنه ما لم يعلم بوجوده إجمالاً ، ويرجع في موارد الشكّ إلى أصل البراءة ، ومع العلم الاجمالي بوجود عالم مردّد بين أشخاص محصورة إلى قاعدة الاحتياط ، بشرط أن يكون العلم الاجمالي صالحاً للتأثير لا مطلقاً ، وهذا بخلاف ما لو تعلّق طلب مطلق باكرام عالم مثلاً ، فإنّه يجب حينئذ الفحص عن مصداق العالم والخروج عن عهدة التكليف بالموافقة القطعية مع الامكان ، وإلاّ فما هو الأقرب إليه فالأقرب ، حتّى أنّه لو لم يوجد عالم وتمكّن من تعليم أحد بحيث اندرج في موضوع العالم من غير مشقّة رافعة للتكليف وجب عليه ذلك من باب المقدّمة ، وهذا بخلاف الفرض الأوّل الذي جعل العالم فيه بنفسه موضوعاً لوجوب الاكرام ، لا إكرامه من حيث هو متعلّقاً للطلب كي يكون تحصيل العالم من المقدّمات الوجودية للواجب المطلق كما في الفرض الثاني ، فليتأمّل (1)

ص: 220


1- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 10 : 102 - 103 ( مع اختلاف يسير ).

ويمكن المناقشة في هذا الفرق ، فإنّ الذات التي هي متعلّق الفعل المأمور به لابدّ أن يكون وجودها الخارجي شرطاً في فعلية ذلك الوجوب ، غايته أنّه في القضية الانحلالية الحقيقية يكون وجود كلّ شخص شرطاً في فعلية الحكم المتعلّق به ، وفي القضية التي يكون الموضوع فيها هو فرداً ما يكون وجود صرف الطبيعة شرطاً في فعلية أصل الحكم. ولعلّ ما أفاده من الفرق الذوقي بين الأُولى والثانية في وجوب الفحص في الثانية دون الأُولى ناشٍ عن أنّ وجود صرف الطبيعة يكون غالباً معلوماً ، فيكون تحقّق موضوع أصل الحكم معلوماً ، وهذا المقدار من العلم يكون موجباً لتنجّز التكليف وتوجّه المكلّف إلى الخروج عن عهدته وتطلّب مصداقه ، ليتحقّق باكرامه الفراغ عمّا علم اشتغال ذمّته به ، بخلاف القضية الأُولى التي يكون فيها كلّ مصداق موضوعاً مستقلاً للتكليف الخاصّ به.

وعلى أي حال ، فإنّ ما التزم به من أنّه لو لم يوجد صرف الطبيعة من العالم وأمكن إيجاده بالتعليم وجب ، لا يخلو من غرابة ، وأساسه هو اعتقاد كون وجود العالم في مثل أكرم عالماً مقدّمة وجودية واجبة التحصيل من باب مقدّمة الواجب المطلق. وقد تقدّم الكلام (1) على صورة الاضطرار إلى غير المعيّن في مسألة الشبهة الوجوبية عند الكلام على ذلك في الشبهة التحريمية ، ونقلنا هناك ما قيل أو يمكن أن يقال ، فراجع.

وعلى أي حال ، فإنّي لم أجد في كلمات الشيخ قدس سره في مسألة العلم الاجمالي في الشبهات الوجوبية تعرّضا لمسألة الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف المحتملة الوجوب ، إلاّما أفاده في آخر التنبيه الخامس الذي عقده للشبهة الوجوبية غير المحصورة ، بعد أن اختار فيها لزوم الجري على طبق العلم

ص: 221


1- في الصفحة : 125 وما بعدها.

الاجمالي إلى أن يبلغ العسر والحرج ، فإنّه قال هناك ما هذا لفظه :

وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد المانع من الاتيان ببعض غير معيّن من المحتملات ، ولو طرأ المانع من بعض معيّن منها ، ففي الوجوب كما هو المشهور إشكال ، من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ، والأصل البراءة (1). وهل نظره في ذلك إلى طروّ الاضطرار بعد العلم ، أو إلى طروّه قبله ، فيه تأمّل وإشكال.

قال المحقّق الآشتياني قدس سره - بعد أن نقّح عدم الفرق بين الشبهة الوجوبية والتحريمية في موارد الاضطرار - : فما عن المشهور في الكتاب وإن لم نتحقّقه من إطلاق القول بوجوب الاحتياط فيما طرأ المانع عن المعيّن لا وجه له ، كالإشكال فيه عن شيخنا قدس سره ، إلاّ أن يحمل كلامهم على طروّ المانع بعد العلم الاجمالي (2) فلاحظ كلماته من أوّلها إلى آخرها ، وراجع كلمات المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في حاشيته (3) المفصّلة التي كتبها على هذا المقام من كلام الشيخ قدس سره ، فإنّه قد حرّر فيها ما حرّره في مبحث القبلة من كتاب الصلاة وزاد في آخرها ما يظهر منه التفصيل بين ما لو طرأ التعذّر قبل العلم الاجمالي ، وما لو طرأ بعده وبعد مضي مقدار من الوقت يمكنه فيه الأداء ، فلاحظ وتأمّل. وينبغي ملاحظة الجزء الثاني من المستمسك في مبحث القبلة ص 128 (4) ، وقد نقلناه فيما تقدّم في أواخر

ص: 222


1- فرائد الأُصول 2 : 309.
2- بحر الفوائد 2 : 147.
3- حاشية فرائد الأُصول : 240.
4- مستمسك العروة الوثقى 5 : 202 ، وقد نقل المصنّف قدس سره بعض عبارات هذه التعليقة في الصفحة : 129 وربما يكون ما ذكره المصنّف قدس سره في الصفحة : 148 بقوله : أمّا هذه الجملة التي ذكرها ... الخ إشارة إلى هذه التعليقة.

الاضطرار إلى غير المعيّن في الشبهة التحريمية.

قوله (1) : وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإنّ المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ... الخ (2).

الذي ينبغي في الشبهة الوجوبية غير المحصورة هو النظر في ضابط عدم الحصر فيها ، فإن كان هو بلوغ الأطراف من الكثرة على وجه يكون احتمال الانطباق على هذا الطرف ضعيفاً لا يعتني به العقلاء ، بل يبنون على عدمه ، كما لو اشتبه العالم الذي يجب إكرامه في أطراف كثيرة تعدّ بالملايين ، كان العلم الاجمالي ساقطاً بالمرّة. وإن كان الضابط فيها هو عدم الحصر والضبط على وجه أنّ أيّ عدد يحصل عليه يحتمل أنّ وراءه أشخاصاً أُخر هم من جملة الأطراف أيضاً ، كان العلم الاجمالي أيضاً ساقطاً ، لعدم العلم بوجود العالم فيما ضبطه من الأفراد. وإن كان الضابط هو العسر والحرج في الحصول على الموافقة القطعية ، كان اللازم هو الاحتياط والجري على مقتضى العلم الاجمالي حتّى يبلغ العسر والحرج ، وهذا جارٍ حتّى لو لم تكن الأطراف كثيرة ، بل كانت مردّدة بين طرفين أو ثلاثة ولكن لم يمكنه الجمع بينهما للعسر والحرج أو لضيق الوقت ، فإنّ مقتضى ذلك هو الاحتياط حتّى يتحقّق العذر المانع. نعم في الفعلين الدفعيين كما في مثال صوم اليوم المعيّن أو الكون في المسجد في تمام اليوم لو اتّفق أنّه لا يمكنه الجمع بينهما ، فإنّه يكون في ذلك مخيّراً في ترك أحدهما وفعل الآخر من

ص: 223


1- [ لا يخفى أنّ بين المتون التي حشّى عليها المصنّف قدس سره في هذه المباحث تقديماًوتأخيراً بحسب ترتيب الفوائد ، وقد آثرنا نقلها هنا على ما وجدناها في الأصل المخطوط ، فلاحظ ].
2- فوائد الأُصول 4 : 142.

أوّل الأمر كما قد قدّمناه مراراً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأمر الثاني : يظهر من الشيخ قدس سره التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية ... الخ (1).

قال الشيخ قدس سره : التنبيه الثاني : أنّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة ، وحاصله : أنّه ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً لاحراز الواجب الواقعي المردّد بينها وبين صاحبتها تقرّباً إلى اللّه ، على أن يكون القرب علّة للاحراز الذي جعل غاية للفعل ، ويترتّب على هذا أنّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر ، إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك ، فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً ، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها. نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة - كغسل الجنابة إن احتمل الجنابة - اكتفى فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقّق الأمر به ، لكن ليس هنا تقدير آخر يراد منه التعبّد على ذلك التقدير ، فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبّد على طريق الاحتمال ، فهذا غاية ما يمكن قصده هنا ، بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ، فإنّه لابدّ فيه من الجزم بالتعبّد (2).

وقال فيما تقدّم من مسألة الظهر والجمعة - في جواب قوله : إن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة - قلت : له في

ص: 224


1- فوائد الأُصول 4 : 136.
2- فرائد الأُصول 2 : 303 - 304 ( جملة : فهذا غاية ما يمكن قصده هنا ، لم ترد في بعض النسخ ومنها النسخة المعتمد عليها في الاستخراج ).

ذلك طريقان ، أحدهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ، لكونه بحكم العقل مأموراً بالاتيان بكلّ منهما. وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّباً إلى اللّه ، فيفعل كلاً منهما فيحصل الواجب الواقعي ، وتحصيله لوجوبه - إلى أن قال - بل يقصد ( في كلّ منهما ) أنّي أُصلّي الظهر لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي أُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك الخ (1).

وعلى كلّ حال ، ليس مراد الشيخ قدس سره هو أنّه يأتي بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه كما في الشبهة البدوية ، وأنّه يعتبر فيهما شيء زائد على داعي الاحتمال في الشبهة البدوية ، وهو أن يكون ناوياً للاتيان بطرفه بعده ، بل مراده شيء آخر هو أعلى من ذلك ، وهو شعبة من اعتبار الجزم بالنية ، وحاصله أنّه في الشبهة البدوية لا يكون في البين إلاّ احتمال الأمر بذلك الفعل ، فهو لا يمكنه إلاّ أن يأتي به بداعي الامتثال الاحتمالي ، وهذا بخلاف ما لو كان الأمر قطعياً وكان متعلّقه متردّداً بين الظهر والجمعة مثلاً ، فإنّ العلم بوجود الأمر بينهما وإن أوجب احتمال وجود الأمر بالظهر واحتمال وجود الأمر بالجمعة ، وحينئذ يأتي بالظهر بداعي الامتثال الاحتمالي لاحتمال وجود الأمر بها ، ويأتي بالجمعة بداعي الامتثال الاحتمالي لاحتمال وجود الأمر بها ، كما إذا كان احتماله لكلّ منهما على نحو الشبهة البدوية ، بحيث إنّه يحتمل وجود الأمرين معاً ، ويحتمل عدمهما معاً ، ويحتمل وجود أحدهما دون الآخر ، فهو في هذه الصورة لا يمكنه الفعل إلاّ بداعي الامتثال الاحتمالي ، لكنّه في صورة العلم الاجمالي بوجود الأمر مردّداً بينهما يكون الأمر المذكور قطعياً ، فيحتاج في امتثاله إلى الاتيان بداعي الامتثال القطعي ، بأن يأتي بالظهر بداعي الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، وهذا لا

ص: 225


1- فرائد الأُصول 2 : 289 - 291.

يكون إلاّ إذا كان ناوياً أن يأتي بكلّ منهما بحيث يكون الداعي له على الاتيان بهما هو الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، فهو يأتي بالظهر ليكون الاتيان بها وبالجمعة بعدها امتثالاً قطعياً لذلك الأمر القطعي.

وبعبارة أُخرى : لابدّ أن يكون المحرّك له والباعث له على الفعلين هو حصول الامتثال القطعي وإن كان الامتثال في كلّ منهما احتمالياً ، فإنّ ذلك لا ينافي لزوم الامتثال القطعي.

وإن شئت فقل : إنّ الأمر القطعي الموجود في الواقع يستدعي قصد امتثاله ، بحيث يكون الداعي على العمل هو امتثال ذلك الأمر القطعي ، فلابدّ أن يتحرّك إلى الاثنين بداعي امتثال ذلك الأمر القطعي ، فلو لم يكن قاصداً امتثال ذلك الأمر القطعي ، بل كان قد أتى بالظهر فقط لعلّها أن تكون هي الواجبة واقعاً من دون قصد إلى الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، ولم يكن من قصده أن يأتي بعدها بالجمعة ، ثمّ بعد الفراغ منها تبيّن أنّها هي الواجبة لم يكن ذلك كافياً.

وهكذا الحال فيما لو كان قد أتى بها بداعي مجرّد الاحتمال ، ثمّ أتى بالأُخرى كذلك ، لم يكن ذلك كافياً مطلقاً حتّى لو كان في نيّته أنّه يفعل الثانية بعد الأُولى من باب مجرّد النيّة ، لا من باب أنّه من أوّل الأمر قاصد للامتثال القطعي ، بحيث إنّه لم يحرّكه على الاتيان بكلّ منهما إلاّمجرّد الاحتمال ، من دون أن يكون قاصداً بهما الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، بمعنى أنّه لم ينبعث عن ذلك الأمر القطعي ، بل انبعث في كلّ منهما عن الأمر الاحتمالى فيها ، لم يكن ذلك كافياً لأنّه لم يحصل منه من أوّل الأمر الجزم بالامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر المعلوم ، غايته أنّه بعد الفراغ منهما يحصل له القطع بأنّه قد أتى بما هو متعلّق ذلك الأمر ، لكن من دون تقدّم قصد جزمي إلى امتثاله وإطاعته.

ص: 226

ومن ذلك يظهر لك أنّ كونه من أوّل الأمر ناوياً الاتيان بالثانية بعد الأُولى لازم أعمّ لما هو الواجب عليه ، وهو الانبعاث القطعي عن ذلك الأمر القطعي ، إذ لم يحصل بذلك إلاّمجرّد الانبعاث الاحتمالي عن الأمر الاحتمالي كما سيتّضح لك شرح ذلك إن شاء اللّه تعالى (1).

وبعبارة أُخرى : لابدّ أن يقصد امتثال ذلك الأمر الواقعي الذي علمه ، غايته أنّه عن قصده امتثال ذلك الأمر الواقعي يترشّح قصد هذه لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها ذلك الأمر ثمّ قصده لتلك لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها الأمر ، ويكون الأصل في القصد هو قصد الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، وبدونه لا يحصل الجزم بالامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر الواقعي بمعنى أنّه لم ينبعث عن ذلك الأمر ، بل إنّما انبعث إلى هذه عن احتمال وجود أمر بها ، وإلى تلك عن احتمال وجود أمر بها ، وهذا وحده إنّما يكفي فيما لم يكن له علم بوجود أمر واقعي يبعثه فعلاً إلى امتثال نفسه.

وقد أجاب عنه شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه بقوله : فإنّ الانبعاث في محلّ البحث لا يمكن أن يكون عن شخص الأمر على كلّ تقدير ، ضرورة أنّ كلّ تكليف إنّما يدعو إلى متعلّقه دون غيره ، فالاتيان بمجموع الأطراف لا يمكن أن يكون بدعوة الأمر المعلوم بالضرورة ، وأمّا الاتيان بكلّ واحد واحد منها فهو أيضاً من جهة عدم العلم بتعلّق التكليف به ، لا يمكن أن يكون بداعويته ، فلم يبق إلاّ التنزّل إلى الانبعاث عن احتماله في كلّ طرف ، من دون أن يكون الامتثال في بعض الأطراف مرتبطاً به في الطرف الآخر. نعم عدم قصد الامتثال اليقيني من أوّل الأمر فضلاً عن قصد العدم نوع من التجرّي بعد

ص: 227


1- في الصفحة : 233 - 234.

الفراغ عن تنجيز العلم الاجمالي ، لكنّه أجنبي عمّا هو محطّ كلامه قدس سره (1). وإلى ذلك أشار في هذا التحرير بقوله : وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء حتّى يقال : العلم بتعلّق التكليف بالفعل الواحد قصد امتثال الأمر المعلوم الخ (2).

ولكن مع ذلك يمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين الشبهة البدوية بما لا يرجع إلى ما يكون عدم القصد فيه تجرّياً ، فإنّه في الشبهة البدوية لا يكون سوى الاحتمال الصرف ، فلا يكون الغاية فيه إلاّ احتمال الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث إنّ الأمر موجود وجداناً فيمكنه الاشارة إليه ، ويجعل الغاية من فعله الظهر مثلاً هو امتثاله لذلك الأمر لو كان متعلّقاً بها وهكذا الحال في فعل الجمعة ، على وجه يتحرّك إلى فعل الظهر وإلى فعل الجمعة بعدها عن نفس ذلك الأمر ، ولا يلزم منه أن يكون فعلهما معاً بقصد واحد وإرادة واحدة ، لكي يرد عليه أنّه من قبيل الاتيان بمجموع الأطراف بدعوة الأمر المعلوم ، والمفروض أنّه لا يدعو إلى المجموع وإنّما يدعو إلى واحدة منهما ، بل يكون هناك إرادتان وقصدان يتعلّق أحدهما بفعل الظهر والآخر بفعل الجمعة ، وكلّ من هذين القصدين بداعي امتثال ذلك الأمر الموجود ، لاحتمال كونه متعلّقاً بذلك المقصود فعله ، فلا يكون ذلك من قبيل الامتثال الاحتمالي ، بل من قبيل الامتثال القطعي ، غايته أنّ الاحتمال واقع في الممتثل به ، وبذلك ينفرد عن الشبهة البدوية ، فإنّ الامتثال فيها احتمالي صرف.

والحاصل : أنّ الأمر فيما نحن فيه يكون بوجوده العلمي محرّكاً ، ولكن

ص: 228


1- أجود التقريرات 3 : 484 - 485.
2- فوائد الأُصول 4 : 137.

حيث تردّد متعلّقه بينهما فهو يتحرّك إلى كلّ واحدة منهما لاحتمال كون ذلك الأمر المعلوم متعلّقاً بها ، وهذا بخلاف الشبهة البدوية فإنّ الأمر لا يكون محرّكاً بوجوده العلمي ، وإنّما يكون المحرّك هو وجوده الاحتمالي.

والخلاصة : هي أنّه في صورة العلم الاجمالي يكون ذلك الأمر الموجود مولّداً في نفس المكلّف إرادة امتثال ذلك الأمر والتحرّك عنه بداعي الحصول على امتثاله ، وهذا المقدار من توليد الارادة المذكورة في نفس المكلّف يشترك فيه الأمر المعلوم تفصيلاً والأمر المعلوم إجمالاً ، ولكن في الأمر المعلوم بالاجمال يتولّد في نفس المكلّف عن تلك الارادة الأُولى إرادتان هما من قبيل إرادة الامتثال الاحتمالي ، تتعلّق إحداهما بأحد الفعلين لاحتمال كونه هو الذي تعلّق به ، وأنّه هو المحقّق لما قد رغب فيه العبد من الحصول على تلك الغاية المعلومة وهي امتثال ذلك الأمر المعلوم ، وتتعلّق الأُخرى بالآخر كذلك ، ويكون كلّ من الارادتين والقصدين ناشئاً عن ذلك القصد الأوّلي وهو امتثال ذلك الأمر المعلوم ، ويكون ذلك القصد الأوّلي مستمرّاً مع كلّ من القصدين إلى الفراغ من الفعلين.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن عالماً إجمالاً بوجود ذلك الأمر ، بل كان يحتمل وجود أمر متعلّق بصلاة الظهر ، ويحتمل أيضاً وجود أمر متعلّق بصلاة الجمعة مع احتمال عدم وجود أمر أصلاً ، فإنّه أيضاً تنقدح في نفسه إرادة امتثال احتمالي في ناحية صلاة الظهر ، وإرادة امتثال احتمالي في ناحية صلاة الجمعة ، لكنّهما لا تكونان ناشئتين عن إرادة امتثال لأمر قطعي ، إذ لا قطع له بالأمر ، فلو أراد الاطاعة لم يتمكّن إلاّمن هاتين الارادتين الاحتماليتين.

أمّا في صورة العلم الاجمالي فهو متمكّن من الارادة القطعية التي تنقدح في

ص: 229

نفسه وجداناً عند علمه بذلك الأمر ، وعن تلك الارادة القطعية تنشأ الارادتان الاحتماليتان ، فإذا اعتبرنا الاطاعة الجزمية ببرهان أنّ الأمر يقتضي الانبعاث عن نفسه ، كان من الضروري أن نقول إنّه لابدّ من اعتبار التحرّك عن ذلك الأمر ، وأنّه لابدّ أن تتولّد في نفس العبد إرادة امتثال نفس ذلك الأمر ، وهي إرادة جزمية خالية من شائبة الاحتمال ، غايته أنّه يقع الاحتمال فيما يتولّد عن تلك الارادة الجزمية من الارادتين الاحتماليتين.

فنحن إن قلنا إنّ هذا الأمر الواقعي المعلوم بالاجمال عاجز عن أن يولّد إرادة امتثاله في حقّ المكلّف ، كان محصّله أنّ هذا الأمر لا يقتضي الامتثال ، فيكون العلم الاجمالي به ساقطاً لا أثر له ، وذلك عبارة أُخرى عمّا تقدّم نقله عن المحقّق الخونساري في أوّل المبحث الثالث ص 40 (1). وحيث قد أبطلنا ذلك القول كان من الضروري أن نقول : إنّ ذلك الأمر المعلوم صالح لأن يولّد إرادة امتثاله في حقّ المكلّف ، ولا ريب أنّ تلك الارادة إرادة جزمية ، وإذا انقدحت إرادة امتثال ذلك الأمر في نفس المكلّف ، كان من الضروري أن تتولّد في نفسه الارادتان الاحتماليتان ، وتكون تلك الارادة الجزمية مستمرّة مع الارادتين إلى ما بعد الفراغ عن متعلّق كلّ منهما.

وهذا بخلاف الشبهة البدوية بالنسبة إلى كلّ من الفعلين ، فإنّه لو فرضنا وجود أمر واقعي متعلّق بالظهر أو أمر واقعي متعلّق بالجمعة ، أو فرضنا وجود الأمرين معاً ، فإنّ ذلك الأمر بوجوده الواقعي عاجز عن أن يولّد في نفس المكلّف إرادة متعلّقة بامتثاله ، بحيث يكون امتثاله بوجوده العلمي داعياً ومحرّكاً على إرادة

ص: 230


1- فوائد الأُصول 4 : 124 ، راجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 208 من هذا المجلّد.

الفعل المتعلّق به ، كما هو الشأن في الدواعي في كونها بوجودها الواقعي الخارجي معلولات للأفعال وبوجودها التصوّري العلمي عللاً لتعلّق الارادة بتلك الأفعال ، بل أقصى ما فيه هو أن يتولّد في حقّ المكلّف إرادة الفعل ناشئة عن داعي الامتثال بوجوده الاحتمالي لا بوجوده العلمي.

وإن شئت فقل : لا معنى لكون الأمر بوجوده الواقعي داعياً لارادة المكلّف ، وحينئذ فعدّ الأمر داعياً لارادة المكلّف عبارة تسامحية ، وفي الحقيقة أنّ الداعي هو امتثاله واطاعته ، فإنّها - أعني الاطاعة والامتثال - هي الداعي ، لما عرفت من شرح حقيقة الداعي على الفعل ، وأنّه ما يكون بوجوده الواقعي معلولاً للفعل وبوجوده العلمي التصوّري باعثاً وحاملاً للمكلّف على إرادة الفعل ، لما يتصوّره من ترتّبه على الفعل وأنّه من فوائد فعله. وإنّما صحّ لهم ذلك التسامح في قولهم : إنّ الأمر يكون داعياً للمكلّف ، باعتبار كونه مولّداً لذلك الداعي في نفس المكلّف. ومحصّل اعتبار الجزم بالنيّة هو أن يكون الاتيان بالعمل بداعي ما علمه من ترتّب الاطاعة والامتثال ، في قبال كون الاتيان به بداعي احتمال ترتّب الطاعة والامتثال ، ففي صورة كون الأمر معلوماً تفصيلاً يكون ذلك الداعي وهو الامتثال معلوماً بالتفصيل ، وفي صورة كونه محتملاً يكون الوجود الاحتمالي للامتثال المذكور هو المحرّك له على العمل.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ مسألة الدوران بين الاطاعة التفصيلية والاطاعة الاحتمالية ليست من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر ، بل هي من قبيل المتباينين ، لأنّ الامتثال هو الداعي والمحرّك على الارادة بوجوده التصوّري ، هل يكون المعتبر في ذلك الوجود التصوّري هو الوجود الجزمي العلمي ، أو يكفي الوجود الاحتمالي ، وهما متباينان. فقيل بتعيّن الأوّل ، وقيل بالتخيير بينه وبين الثاني ،

ص: 231

فيكون النزاع من الدوران بين التخيير والتعيين. نعم قيل إنّ العقل يحكم بالتخيير ، إذ لا يفرّق بين الاطاعتين ، وهي دعوى تحتاج إلى إثبات.

وعلى أيّ حال ، لا يكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ، إلاّ إذا قلنا إنّ المحرّك هو نفس الأمر بوجوده الواقعي سواء كان معلوماً أو كان محتملاً ، فتكون ذات الأمر هي الباعثة والمحرّكة والداعية ، سواء كانت معلومة أو كانت مشكوكة ، فمن لا يقدّم الاطاعة التفصيلية يكتفي بكون العمل حاصلاً بداعوية الأمر سواء كان معلوماً أو كان مشكوكاً ، ومن يقول بتقدّم الاطاعة التفصيلية يعتبر زيادة على داعوية ذات الأمر أن يكون وجود ذلك الأمر الذي هو بذاته داعيك على الفعل معلوماً لديك ، فيكون المقام من قبيل الأقل والأكثر. لكن قد عرفت أنّه لا محصّل لكون ذات الأمر داعياً ومحرّكاً ، وإنّما الداعي والمحرّك هو امتثاله ، وهو بوجوده العلمي أو بوجوده الاحتمالي ، فلا يكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ، بل يكون من قبيل المتباينين ، ويكون النزاع من قبيل النزاع في التعيين والتخيير ، وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في أوائل القطع عند الكلام على الامتثال الاجمالي (1) ، فراجع.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه في صورة العلم الاجمالي بالأمر لابدّ أن يكون امتثال ذلك الأمر المعلوم هو المحرّك له ، فلو كان من قصده عند الاتيان بالظهر هو الامتثال الاحتمالي ، لم يكن ذلك نافعاً في صحّة الاطاعة عقلاً حتّى لو انكشف له بعد الفراغ منها أنّها هي المأمور به ، إذ لم يكن المحرّك له حينئذ هو امتثال ذلك الأمر الذي علمه ، بل كان المحرّك له هو احتمال الامتثال.

وإن شئت فقل : إنّ المحرّك له هو احتمال الأمر ، بمعنى كون المحرّك له هو الوجود الاحتمالي لذلك الأمر ، والمفروض أنّ ذلك الأمر موجود في خزانة

ص: 232


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 181 وما بعدها.

نفسه ، ولم يتحرّك عن وجوده العلمي ، وإنّما تحرّك عن الوجود الاحتمالي لخصوص الأمر بالظهر فاتّفق أنّ ذلك الاحتمال صادف الواقع ، وإنّما نقول بكفايته في الشبهة البدوية لعدم التمكّن إلاّعن التحرّك عن الوجود الاحتمالي ، وهذا بخلاف العلم الاجمالي فإنّه يمكنه فيه التحرّك عن الوجود العلمي فتكون إطاعته جزمية ، فلو اتّفق بعد الفراغ من الظهر انكشاف كونها هي الواجبة فقد حصل على الاطاعة الجزمية ، أعني كون التحرّك عن تلك الارادة الصادرة عمّا علمه من الأمر ، وقد عرفت أنّها مستمرّة مع كلّ من الارادتين الاحتماليتين ، وهذا بخلاف ما لو اقتصر على مجرّد تلك الارادة الاحتمالية ، فإنّه لا يكفيه ذلك ولو بعد تبيّن أنّها هي الواجبة بعد الفراغ من الظهر ، فإنّها - أعني الظهر - قد جاءت عارية من ذلك المقدار من الجزم الذي كان المكلّف متمكّناً منه ، بل لو أتى بالظهر بذلك الاحتمال ثمّ جاء بعدها بالجمعة بذلك الاحتمال ، لم يكن ذلك كافياً ما لم يكن قد تحرّك عن ذلك الأمر الذي علمه ، بل لو كان من قصده من أوّل الأمر الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر ، ولم يكن تحرّكه إليهما ناشئاً عن ذلك الأمر الذي علمه ، لم يكن ذلك كافياً ، فلاحظ وتأمّل لتعرف أنّ نيّة الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر لازم أعمّ بالنسبة إلى المطلوب الحقيقي ، أعني قصد الانبعاث عن ذلك الأمر الذي علمه ، إذ ربما كان من نيّته الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر ، ولا يحصل ما هو المطلوب الذي هو الانبعاث عن الأمر المعلوم بقصده امتثال ذلك الأمر.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ الاكتفاء في المقام بمجرّد الاتيان بكلّ من الفرضين المحتملين بداعي الاحتمال أردأ من الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في [ فرض ] التمكّن من تحصيل العلم بما هو الواجب ، وذلك لأنّ المفروض هو تحقّق

ص: 233

الوجود العلمي للأمر وعدم التحرّك عنه. ولا يقاس ما نحن فيه بما لو احتمل على نحو الشبهة البدوية وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، واحتمل أيضاً على نحو الشبهة البدوية وجوب صلاة أوّل الشهر ، وكان ذلك قبل الفحص ، ولكن لا يمكنه الفحص فعلاً لأنّ الوقت لا يسع ذلك ، فإنّه حينئذ يجب عليه الاحتياط بفعل كلّ من الدعاء وصلاة أوّل الشهر ، لكن لا ربط لأحدهما بالآخر بحيث إنّه عند الأوّل ينوي أن يأتي بالثاني ، وذلك للفرق الواضح بين هذا المثال وما نحن فيه ، لأنّه في هذا المثال لا يعلم بوجود أمر يلزمه التحرّك عنه ، بخلاف ما نحن فيه ، فتأمّل.

ثمّ إنّه يمكن أن يدّعى أنّ جريان ما ذكرناه في الشبهة الموضوعية كما في تردّد القبلة أولى وأوضح منه في الشبهات الحكمية كما في الظهر والجمعة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الأمر الرابع : لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على قاعدة الاشتغال والبراءة ، سواء توافقا في المؤدّى أو تخالفا ... الخ (1).

لا إشكال في ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال لو تخالفا ، وكذا في وروده على البراءة لو تخالفا أيضاً ، وإنّما الإشكال في صورة التوافق ، كما في مورد استصحاب عدم الحكم بالنسبة إلى البراءة ، وكما في مورد استصحاب الحكم بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال. والضابط في عدم جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد هو أنّه إذا لم يترتّب على المستصحب إلاّنفس مفاد البراءة العقلية أو نفس قاعدة الاشتغال ، لم يكن الاستصحاب جارياً ، وذلك كما نحن فيه فيما لو أُريد من استصحاب بقاء القدر المشترك بين وجوب صلاة الظهر ووجوب

ص: 234


1- فوائد الأُصول 4 : 129.

صلاة الجمعة ، هو لزوم الاتيان بالجمعة بعد الفراغ من صلاة الظهر تحصيلاً للفراغ اليقيني ، فإنّه لا يكون الاستصحاب في مثل ذلك إلاّمن قبيل التعبّد بوجود ما هو محرز بالوجدان.

وبالجملة : إن أُريد من الاستصحاب المذكور هو الحكم بوجوب صلاة الظهر كان من الأُصول المثبتة ، وإن أُريد منه لزوم الاتيان بها لأنّ ذلك هو مقتضى بقاء القدر المشترك بين الوجوبين ، بحيث إنّه لا يترتّب على بقاء القدر المشترك بين الوجوبين إلاّلزوم الاحتياط بالاتيان بصلاة الظهر لاحتمال كونها هي الواجبة ، فهذا هو ما ذكرناه من كونه من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهكذا الحال في مقابلة استصحاب عدم الوجوب بالبراءة العقلية ، فإنّه لا ريب في حكومته عليها ، كما لو شكّ المكلّف في توجّه تكليف عليه لأجل الشكّ في صدور سببه أو تحقّق شرطه مع فرض عدم جريان الأصل في السبب أو الشرط ، فإنّه يجري فيه استصحاب عدم الوجوب ويكون الوجوب محكوماً بالعدم ، فلا يبقى معه مورد للبراءة العقلية. نعم ، إذا فرض أنّه لم يترتّب على استصحاب العدم إلاّمجرّد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، لكونه من قبيل إحراز ما هو وجداني بالتعبّد كما تقدّم ويأتي إن شاء اللّه في مسألة الأقل والأكثر (1) من عدم جريان استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فراجع وتأمّل.

ومن هذا القبيل استصحاب عدم الحجّية ، فإنّه لا يترتّب عليه إلاّحكم العقل بقبح التشريع ، الذي يكون موضوعه مجرّد عدم الاحراز الذي هو الأعمّ من

ص: 235


1- فوائد الأُصول 4 : 186 - 188.

إحراز العدم ، بناءً على ما تقدّم في محلّه (1) من كون حكم العقل بقبح التشريع من قبيل ذي الملاك الواحد ، إذ لو كان من ذي الملاكين ، بأن كان للعقل حكم واقعي في مورد إحراز عدم الحجّية وحكم احتياطي في مورد عدم الاحراز ، لكان استصحاب عدم الحجّية جارياً وموجباً لحكم العقل بالقبح حكماً واقعياً ، وبه يرتفع موضوع حكمه الطريقي الاحتياطي الذي يكون موضوعه عدم الاحراز.

قوله : فإنّه لو أُريد من الاستصحاب استصحاب شخص التكليف المعلوم بالاجمال ، فقد عرفت في الأمر الأوّل أنّ الاستصحاب الشخصي لا يجري مع العلم بزوال أحد فردي المردّد ، لأنّ الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في حدوث الفرد الباقي ، لا في بقاء الفرد الحادث على ما تقدّم بيانه ، وإلاّ لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردّد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكلّ ... الخ (2).

الأولى أن يقال : إنّه إن أُريد من استصحاب شخص التكليف استصحاب بقاء نفس وجوب صلاة الظهر ، بحيث إنّه يترتّب عليه الاتيان بها بداعي وجوبها المحرز بالاستصحاب ، ففيه أنّ الشكّ إنّما هو في حدوث وجوبها لا في بقائه. وإن أُريد منه استصحاب الشخص المردّد بين الوجوبين ، ففيه أنّ الشخص لم يكن متيقّناً ، لأنّ الخصوصية خارجة عن حيّز اليقين ، وإنّما المتيقّن هو عنوان أحدهما ، وإن كان لا ينفكّ عن الخصوصية ، لكن لمّا لم تكن الخصوصية البدلية داخلة في حيّز اليقين لم تكن داخلة في المنع عن نقض اليقين.

ص: 236


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 359 - 361.
2- فوائد الأُصول 4 : 131.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّه إن أُريد من استصحاب بقاء الفرد المردّد إثبات وجوب الباقي كان الأصل المذكور مثبتاً ، وإن أُريد من الحكم ببقاء ذلك الفرد المردّد هو لزوم الاتيان بالفرد الباقي لأنّه أحد الفردين ، كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالأصل ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّ استصحاب الفرد المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع لا يجري في حدّ نفسه ، لأنّ الشكّ إنّما هو في حدوث ما يبقى لا في بقاء ما حدث ، نعم قبل الاتيان بأحد الفردين يمكن استصحاب الفرد المردّد فيما لو شكّ في أنّه أتى بهما أو لم يأت بشيء منهما.

وأمّا ما أُفيد من الايراد عليه بأنّ لازمه الاتيان بكلا الفردين ، فيمكن دفعه بأنّه وإن كان الأثر المترتّب على بقاء الفرد المردّد هو الاتيان بكلا الفردين ، إلاّ أنه لمّا كان قد أتى بالفرد السابق كان له الاكتفاء بالاتيان بالفرد الباقي ، فتأمّل فإنّ هذا إنّما يتمّ فيما لو كان العلم الاجمالي حاصلاً قبل فعل أحدهما ، وأمّا لو كان حصوله بعد فعل أحدهما ففيه إشكال تعرّضنا له في حاشية ص 153 (1) من مباحث الاستصحاب ، فراجع.

قوله : ولا يقاس ما نحن فيه على ما إذا علم بمتعلّق التكليف تفصيلاً وشكّ في امتثاله ، حيث إنّه يجري استصحاب بقاء التكليف بلا كلام ... الخ (2).

الأولى أن يقال : إنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين :

أحدهما : الحكم بلزوم الاطاعة بعد إحراز تنجّز التكليف ، سواء كان تنجّزه

ص: 237


1- وهي الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 308 ومابعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 133.

بالعلم التفصيلي كأن يعلم بوجوب صلاة الظهر ، أو كان بالأمارة أو الاستصحاب القائمين على وجوب صلاة الظهر ، أو كان بالعلم الاجمالي كما في مورد العلم بوجوب أحد شيئين عليه أحدهما صلاة الظهر ، أو كان ذلك من قبيل الاحتمال في الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فإنّ حكم العقل في جميع هذه الموارد بلزوم الاتيان بصلاة الظهر إنّما هو من باب حكمه بلزوم الاطاعة وقبح المعصية ، بمعنى أنّ مثل هذه الأُمور تكون حجّة على اشتغال الذمّة الموجب لحكم العقل بلزوم تفريغها.

الحكم الثاني للعقل : هو الحكم بلزوم الفراغ اليقيني بعد إحراز تنجّز التكليف بأحد الطرق السابقة.

وملاك الحكم الأوّل هو لزوم الطاعة بعد إحراز تنجّز التكليف في قبال عدم الطاعة رأساً ، وملاك الحكم الثاني هو لزوم اليقين بالفراغ عمّا كان قد تنجّز في قبال الاكتفاء باحتمال الفراغ.

وحينئذ نقول : إنّه لو علم تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر عليه وشكّ في أنّه أتى بها ، فمع قطع النظر عن الاستصحاب يكون العقل حاكماً بلزوم الاتيان بها ، لكن ذلك من قبيل النحو الثاني ، وبالنظر إلى الاستصحاب يكون العقل أيضاً حاكماً بلزوم الاتيان بها ، لكن ذلك من قبيل النحو الأوّل ، لأنّ استصحاب بقاء التكليف يحرز بقاء اشتغال ذمّته فيتبعه حكم العقل بتفريغها ، ويترتّب على ذلك أنّه مع قطع النظر عن الاستصحاب يأتي بها بعنوان الاحتمال والاحتياط ، بخلاف نتيجة الاستصحاب فإنّه يأتي بها بداعي أمرها المحرز البقاء.

وبالجملة : أنّ الاستصحاب في مثل ذلك يسقط موضوع حكم العقل بالاشتغال وطرد الاكتفاء بالاحتمال ، بل إنّه يولّد حكماً آخر أعلى من ذلك ، وهو

ص: 238

حكم العقل بلزوم الفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة ، وهذا حكم آخر غير الحكم الحاصل بأصالة الاشتغال ، وإنّما يكون الاستصحاب ساقطاً إذا لم يترتّب عليه أثر إلاّ الحكم الحاصل بأصالة الاشتغال الذي هو الحكم الثاني.

ومنه يظهر لك أنّه لو علم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين الظهر أو الجمعة ، وحصل له الشكّ في الاتيان بهما ، فإنّ الظاهر أنّه يجري في حقّه استصحاب بقاء التكليف ، ويترتّب عليه الحكم الأوّل ، وهو حكم العقل بلزوم الاطاعة ، وبه يرتفع موضوع الحكم الثاني وهو لزوم الفراغ اليقيني.

ومن ذلك يظهر لك أنّ العمدة في جريان الاستصحاب وعدمه هو ما أُفيد في الأمر الثالث ، وأمّا ما أُفيد في الأمر الثاني فيمكن القول بعدم الحاجة إليه ، لما عرفت من أنّ الحكم الثاني للعقل فيما ذكرناه من المثال وإن ترتّب على إحراز نفس الحدوث والشكّ في الامتثال ، لكن لمّا كان الاستصحاب يجري ويثبت البقاء ، كان حاكماً على ذلك الحكم العقلي ، وكان محقّقاً لموضوع الحكم الأوّل من حكمي العقل.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما لو أتى بصلاة الجمعة وحصل له الشكّ في أنّه هل أتى بصلاة الظهر بعدها ، فإنّه يمكن أن يجري في حقّه استصحاب وجوب صلاة الظهر ، بمعنى أنّها لو كانت هي الواجبة فهو يشكّ في إسقاط أمرها.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوجّه على جريان الأُصول الاحرازية المثبتة للتكليف في موارد العلم الاجمالي بارتفاع التكليف في بعضها ، كما لو علم بطهارة أحد الاناءين المعلومي النجاسة ، فإنّه يتوجّه على استصحاب النجاسة في كلّ منهما بأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب ، لأنّ المكلّف يلزمه الاجتناب عنهما للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، فلا يترتّب على استصحاب النجاسة في

ص: 239

كلّ منهما أثر عملي ، إذ لا يترتّب على هذين الاستصحابين إلاّلزوم الاجتناب عن كلا الاناءين وذلك حاصل بالعلم الاجمالي بوجود النجس بينهما.

وهكذا الحال فيما لو علم بوجوب المغرب والعشاء وقد فعل إحداهما ولا يعلمها بعينها ، فإنّه يلزمه الاتيان بهما للعلم الاجمالي ببقاء الوجوب في أحدهما ، فلا يترتّب على استصحاب الوجوب في كلّ منهما أثر عملي.

والجواب : أمّا عن مسألة الاناءين المعلومي النجاسة ، فلأنّه يكفي في صحّة استصحاب نجاسة كلّ منهما الحكم بنجاسة ملاقي أحدهما ، فإنّه ملاق للنجس بحكم الاستصحاب فيحكم بنجاسته ، بخلاف ما لو اقتصرنا على العلم الاجمالي فإنّه لا يكون إلاّمن قبيل ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة ، فلا يحكم بنجاسته. وأمّا مسألة المغرب والعشاء بعد العلم بأنّه قد أتى بواحدة منهما ولا يعلمها بعينها ، فيكفي في استصحاب وجوب كلّ منهما ترتّب الاتيان بما جرى فيه الأصل بعنوان كونه واجباً لا بعنوان الاحتياط ، إذ لو بقينا نحن والعلم الاجمالي ببقاء وجوب إحداهما وإن كان مقتضاه هو الاتيان بهما ، إلاّ أنه إنّما يأتي بكلّ واحدة منهما حينئذ بعنوان احتمال الوجوب لا بعنوان كونها واجبة ، وحينئذ يترتّب الأثر العملي على استصحاب الوجوب في كلّ منهما ، وهو الاتيان بها بعنوان الوجوب الثابت بالاستصحاب.

نعم ، بناءً على عدم جريان الأُصول الاحرازية في مورد العلم الاجمالي بالخلاف في بعضها ، يحصل التعارض بين الاستصحابين ، أعني استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين أو استصحاب بقاء الوجوب في كلّ من الفريضتين ، وبعد التساقط نبقى نحن والعلم الاجمالي ، فلا يحكم بنجاسة الملاقي لأحد الاناءين ، ولا يمكن الاتيان بكلّ من الفريضتين بعنوان الوجوب. وهذا كلام وقع

ص: 240

في البين ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه.

فنقول بعونه تعالى : إنّ حاصل ما تقدّم هو أنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين : أحدهما : ما يمكن أن نسمّيه واقعياً ، وهو حكمه بالاطاعة وتفريغ الذمّة عمّا تنجّز على المكلّف ، بحيث إنّه لو كان له لسان لعبّر عن ذلك الحكم بقوله أطع الحكم.

الثاني : ما نسمّيه ظاهرياً احتياطياً ، وهو حكمه بعدم الاتّكال في مقام الاطاعة وتفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به على الاحتمال ، وهو مانعبّر عنه بمفاد قاعدة الاشتغال ، وأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحاصله : حصّل العلم بفراغ ذمّتك عمّا اشتغلت به ، في قبال الاكتفاء باحتمال الفراغ.

وحينئذ نقول : إنّ الاستصحاب - أعني استصحاب التكليف الذي نريد إجراءه في مقام قاعدة الاشتغال - إن لم يكن يترتّب عليه إلاّنفس ذلك الأثر الموجود وجداناً بحكم قاعدة الاشتغال ، لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، وإن ترتّب عليه أثر آخر وهو حكم العقل بالاطاعة وإلزامه المكلّف بتفريغ ذمّته عمّا اشتغلت به ذمّته ، كان الاستصحاب المذكور جارياً ، وكان جريانه رافعاً لموضوع قاعدة الاشتغال. وعليك بتطبيق هذا الضابط على ما ذكرناه من الأمثلة.

قوله : بيان ذلك ... الخ (1).

ملخّص ما أفاده قدس سره في درس الفقه وفي هذا المقام هو : أنّ مقتضى تقدّم الاطاعة التفصيلية على الاحتمالية ، هو لزوم تقليل دائرة الاحتمال مهما أمكن ، فلو صلّى كلاً من الفريضتين إلى كلّ جهة ، بحيث إنّه لا ينتقل من الجهة الأُولى مثلاً إلى الجهة الثانية إلاّبعد الفراغ من كلا الفريضتين فيها وهكذا ، يكون

ص: 241


1- فوائد الأُصول 4 : 138.

الاحتمال في فساد العصر ناشئاً عن احتمالين : أحدهما من جهة احتمال كون هذه الجهة ليست قبلة ، والآخر من جهة احتمال أنّه لم يفرغ من الظهر ، فلم يكن المكلّف حاصلاً على إحراز كلّ من الشرطين ، بخلاف ما لو صلّى إحدى الفريضتين إلى جميع الجهات ثمّ بعد الفراغ منها يصلّي الثانية إلى الجهات المذكورة ، فإنّ فساد صلاة العصر حينئذ ينحصر باحتمال واحد ، وهو احتمال عدم كون هذه الجهة قبلة ، فيكون بذلك قد حصل على إحراز أحد الشرطين وهو الترتيب.

ويمكن أن يقال : إنّ تقليل الاحتمال وإن كان لازماً ، إلاّ أنه في مثل المقام غير لازم ، إذ لا يكون مرجع الاحتمالين إلاّ إلى احتمال واحد ، وهو عدم كون هذه الجهة قبلة ، ويلزمه حينئذ بطلان كلّ من الظهر والعصر.

وبعبارة أُخرى : إن كانت تلك الجهة قبلة فقد حصل على كلّ من الترتيب والقبلة وصحّت الصلاتان ، وإن لم تكن هي القبلة فسدت الصلاتان معاً ، وفساد صلاة العصر حينئذ وإن كان من جهتين إلاّ أنه لا دخل لذلك بأصل المطلب وهو لزوم تقليل الاحتمال ، لأنّ معنى تقليل الاحتمال هو تقريب الاطاعة الاحتمالية إلى الاطاعة التفصيلية ، والمدار في ذلك على احتمال الصحّة والأمر ، بمعنى أنّه يلزم أوّلاً أن يكون الأمر والصحّة محرزين ، فإن لم يحصل على إحراز ذلك يلزمه تقليل الاحتمال في ناحية الأمر والصحّة ، فلو كان احتمال كون هذه الجهة هي القبلة مقروناً باحتمال عدم الأمر من ناحية أُخرى ، بأن يكون على تقدير كونها قبلة يحتمل أنّها غير مأمور بها لجهة يمكن إزالتها ، كما لو وجب عليه صلاة الصبح مثلاً وكان متردّداً في القبلة إلى أربع جهات ، وكان عنده ثوبان أحدهما تصحّ الصلاة فيه والآخر لا تصحّ فيه لكونه نجساً مثلاً ، وكان يمكنه إزالة الشكّ

ص: 242

الثاني بالفحص عن الطاهر منهما أو الصلاة في ثوب آخر يعلم بطهارته ، وكما لو تردّد في القبلة بين جهتين مثلاً وتردّد في الفريضة بين كونها الظهر أو الجمعة وأمكنه إزالة الشكّ الثاني ، لكان ذلك لازماً ، بل هو عين الالتزام بتقدّم الاطاعة التفصيلية من هذه الجهة ، أمّا إذا كان احتمال عدم الأمر من تلك الناحية ملازماً لعدم إحرازه من الناحية الأُخرى ، لم يكن ذلك من قبيل تقليل الاحتمال.

قوله : وكأنّه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ... الخ (1).

لعلّ نظر المحقّق القمي قدس سره إلى التفصيل بين الشرط المنتزعة شرطيته من الأمر والشرط الذي تكون شرطيته أصلية ، وحيث إنّه يرى عدم وجوب الموافقة القطعية أو عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهات المحصورة الوجوبية ، التزم بسقوط شرطية الشرط فيما لو كانت شرطيته منتزعة من الأمر الوجوبي.

قوله : والضرورات إنّما تتقدّر بقدرها ، فلابدّ من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ... الخ (2).

الأولى أن يقال : إنّ الشبهة الوجوبية لا يكون الامتثال في اطرافها غالباً إلاّ تدريجياً ، وحينئذ نقول : إنّ العسر والحرج لا يجري دليلهما قبل الإقدام على الاحتياط ، وإنّما يجري دليلهما بعد أن يأخذ المكلّف بالاحتياط ويلتزم بالاتيان بكلّ ما يحتمل أنّه المأمور به إلى أن يعسر عليه الاتيان بالباقي فيسقط حينئذ ، لأنّ التكليف الواقعي لو كان موجوداً في ذلك الباقي لكان حرجياً ، فيسقط التكليف الواقعي لو كان موجوداً في تلك البواقي ، وبعد الحكم بسقوطه يسقط الاحتياط

ص: 243


1- فوائد الأُصول 4 : 135.
2- فوائد الأُصول 4 : 142.

في تلك البواقي. وهذه الطريقة موافقة في النتيجة لطريقة التقييد.

ومن ذلك يعلم الحال فيما أشرنا إليه أخيراً في الشبهة التحريمية غير المحصورة ، من عدم تأتّي الضابط المتقدّم في الشبهة الوجوبية (1) ، فإنّ العلم الاجمالي بوجوب أحد هذه الأشياء مع احتمال وجود طرف آخر لا نعلمه ، لا يكون غير مؤثّر ، بل يؤثّر في لزوم الاحتياط حتّى في الطرف المحتمل الطرفية ، غايته أنّه يكون الاحتياط فيه حرجياً ، فيلزم إسقاطه بمقدار رفع العسر والحرج. وفيه تأمّل ، فإنّه لو علم بوجوب إكرام العالم وتردّد العالم بين أطراف كثيرة واحتمل أنّ في البين أطرافاً لا يعلم بوجودها ، يتأتّى فيه الملاك الذي ذكرناه في الشبهة التحريمية من عدم تنجّز التكليف لو كان في تلك الأطراف التي لا يعلم بوجودها. نعم طريقة العسر والحرج مسقطة للاحتياط أيضاً.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده قدس سره من الضابط في الشبهة التحريمية غير المحصورة من عدم التمكّن من المخالفة القطعية ، يمكن جريانه في بعض الشبهات الوجوبية ، كما لو فرض أنّ المكلّف لا يتمكّن عادةً من ترك جميع أطراف الشبهة الوجوبية إمّا لكثرتها أو لجهة أُخرى ، ولازم ما أُفيد من التلازم بين سقوط حرمة المخالفة القطعية وسقوط وجوب الموافقة القطعية ، هو أنّه في مثل الفرض يجوز له ترك بعض الأطراف حتّى إذا لم يكن فعلها جميعاً حرجياً عليه.

ص: 244


1- الظاهر أنّه قدس سره يقصد بالضابط المتقدّم ما نقله عن المحقّق الهمداني قدس سره وأوضحه في الصفحة : 181 وما بعدها ، وقد ذكر قدس سره في الصفحة : 184 أوّلاً أنّ هذا الضابط لا يجري في الشبهات الوجوبية ، ثمّ تأمّل فيه وحكم بجريانه فيها كما هو الحال في هذه الحاشية. كما أنّه قدس سره في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 223 صرّح بجريان الضابط المذكور في الشبهات الوجوبية ، فلاحظ.

[ دوران الأمر بين الأقل والأكثر ]

قوله : فهذه جملة الأقسام المتصوّرة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كلّ قسم ... الخ (1).

لا يخفى أنّ مقتضى هذه التقسيمات هو أن تكون الأقسام المتصوّرة عبارة عن 192 قسماً ، لكن لا يخفى أنّ جملة منها غير متصوّر وجملة منها متصوّر لكنّه داخل في غيره.

قوله في وجه التأمّل : وجهه هو أنّه قد يختلج في البال ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الذي ينبغي أن يقال : هو أنّ لنا في كلّ من السببية ومتعلّق التكليف مقامين ، ففي السببية يكون لنا مقام جعل السببية ومقام تأثير ذلك المجعول سبباً ، وفي متعلّق التكليف يكون لنا مقام جعل التكليف وإيراده على المركّب الذي هو المكلّف به ومقام إيجاد ذلك المركّب الذي هو مقام الامتثال. والإنصاف : أنّ كلاً من السببية ومتعلّق التكليف بالنسبة إلى المقام الثاني منهما يكون الأكثر هو المتيقّن ، ويكون الأقل مشكوكاً ، فإنّه كما يكون تأثير الأكثر في السببية معلوماً ويكون تأثير الأقل مشكوكاً ، فكذلك يكون حصول الامتثال بالاتيان بالمركّب الأكثر معلوماً وحصوله بالأقل مشكوكاً.

أمّا بالنسبة إلى المقام الأوّل الذي هو مقام الجعل والتشريع فهما مختلفان ،

ص: 245


1- فوائد الأُصول 4 : 143.
2- فوائد الأُصول 4 ( الهامش ) : 147.

حيث إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب قابل للتقطيع ، فيكون تعلّقه بالأقل معلوماً وتعلّقه بالزائد عليه مشكوكاً. وهذا بخلاف السببية فإنّ نفس السببية المجعولة الواردة على المركّب لا تتقطّع بحسب كثرة الاجزاء وقلّتها ، فهي في الحقيقة خارجة عن التردّد بين الأقل والأكثر ، بل تكون السببية الواردة على الأكثر مباينة للسببية الواردة على الأقل ، لا أنّ السببية الواردة على الأقل موجودة في ضمن السببية الواردة على الأكثر ، فلا يكون في البين قدر متيقّن كي يؤخذ به وينفى الزائد بالأصل كما في التكليف الوارد على ما هو مردّد بين الأقل والأكثر ، حيث إنّ الوجوب الوارد على الأقل يكون حاصلاً في ضمن الوجوب الوارد على الأكثر ، ويكون ورود الوجوب على القدر الزائد مشكوكاً ، فينفى بالأصل.

نعم ، لو قلنا في مسألة التكليف المتعلّق بما هو مردّد بين الأقل والأكثر ، بأنّ التكليف الوارد على الأكثر يباين التكليف الوارد على الأقل ، لم يمكن أن يقال إنّ الأقل معلوم والأكثر مشكوك ، كما لم يمكن أن يقال إنّ سببية الأقل معلومة وسببية الأكثر مشكوكة أو بالعكس ، بل تكون كلّ من سببية الأقل وسببية الأكثر مشكوكة ، كما يكون كلّ من وجوب الأقل ووجوب الأكثر مشكوكاً (1).

وبالجملة : أنّ عمدة الفارق بين السببية والتكاليف ، هو أنّ الوجوب قابل للتقطيع بخلاف السببية ، ولأجل أنّ الوجوب قابل للتقطيع نقول : إنّ تعلّق الوجوب بالأقل معلوم وتعلّقه بذلك المقدار الزائد مشكوك فينفى بالأصل ، فيكون المنفي بالأصل هو وجوب الزائد ، لا أنّ المنفي به هو وجوب الأكثر بتمامه كما ربما يتراءى من ظاهر تعبير هذا التقرير ، فإنّ نفي وجوب الأكثر بتمامه لا يثبت وجوب الأقل ، بل هما حينئذ متباينان.

ص: 246


1- [ في الأصل « معلوماً » بدل « مشكوكاً » والصحيح ما أثبتناه ].

والحاصل : أنّه في متعلّقات التكليف لمّا كان تعلّق الوجوب بالأقل معلوماً وكانت جزئية المشكوك ناشئة عن تعلّق الوجوب بالأكثر ، وهو - أعني تعلّق الوجوب بالأكثر - مشكوك ، كان جريان البراءة من وجوب الأكثر كافياً في الاكتفاء بالأقل لكونه معلوم الوجوب ، وهذا بخلاف الأسباب فإنّ تعلّق جعل السببية للأقل مشكوك ، وحينئذ نقول إنّ مدخلية الجزء المشكوك وإن كانت ناشئة عن جعل السببية للأكثر المفروض كونه مشكوكاً ، لم يكن إجراء البراءة في جعل السببية للأكثر كافياً في الاكتفاء بالأقل ، لأنّ سببية الأقل لم تكن معلومة.

ولكن لا يخفى أنّ رفع وجوب الأكثر لا يصحّح الاكتفاء بالأقل وإن كان تعلّق الوجوب الأعمّ من الوجوب الاستقلالي والضمني به معلوماً ، لكنّه لا ينفع في إثبات الاكتفاء به في مقام الامتثال إلاّبالتقطيع الذي أشرنا إليه ، وهذا التقطيع لا يتأتّى في السببية ، لما عرفت من بساطتها ، فتأمّل.

وحينئذ نقول : إنّ رفع وجوب الأكثر وكذلك رفع سببية الأكثر وإن كان موجباً لرفع جزئية ما شكّ في جزئيته للواجب أو للسبب ، إلاّ أن ذلك لا يوجب تعيّن الأقل للواجب أو للسبب إلاّبالأصل المثبت ، وهكذا الحال لو قلنا بكون الجزئية للواجب أو للسبب مجعولة شرعاً ، وأنّ حديث الرفع يرفعها ، إلاّ أن رفع جزئية المشكوك لا يثبت وجوب الباقي ولا سببيته ، فلم يبق إلاّرفع وجوب المشكوك بناءً على ما ذكرناه من التقطيع غير الجاري في السببية ، لأنّها لا تتقطّع بحسب أجزاء السبب كي يقال إنّ سببية الجزء المشكوك غير معلومة فهي مرفوعة. وأمّا المدخلية في الجملة فهي ليست إلاّجزئية السبب ، وقد عرفت أنّ رفع جزئية السبب عمّا يشكّ في جزئيته لا يثبت سببية الباقي.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أُفيد في الأصل من كون سببية الأكثر معلومة فلأجل

ص: 247

ذلك لا يجري فيها حديث الرفع ، لا يمكن إتمامه ، لما عرفت من أنّ سببية الأكثر غير معلومة كوجوب الأكثر ، فلا يكون عدم جريان حديث الرفع فيها لكونها معلومة (1) ، بل إنّما لا يجري فيها لأنّ رفع سببية المجموع بنفسه لا يثبت سببية الأقل ، وكذلك إذا أُريد من رفعها رفع ما ينشأ عنها وهو جزئية الجزء المشكوك ، فلاحظ وتأمّل. وما أُفيد في الحاشية من أنّ سببية الأقل معلومة أيضاً ، لا يمكن إتمامه ، لما عرفت من عدم معلومية جعل السببية للأقل.

قوله : الفصل الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهات التحريمية ، إلى آخر ما في الفصل الثالث (2).

قد تحرّر في باب العموم والخصوص الفرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بما محصّله وحدة الطلب في العموم المجموعي وتعدّده حسب تعدّد الأفراد في العموم الاستغراقي ، ولازم ذلك هو عدم الارتباط في العموم الاستغراقي والارتباط في العموم المجموعي. أمّا المركّب والعدد فإن أُخذت الأجزاء والآحاد فيهما على نحو العموم الاستغراقي كانت غير ارتباطية ، وإن أُخذت على نحو العموم المجموعي كانت ارتباطية ، وحيث قد رجع الأمر في الواجبات غير الارتباطية إلى أوامر متعدّدة لا ربط بينها في مقام الاطاعة والمعصية ، وأنّ حالها حال العمومات الاستغراقية ، يتّضح لك جلياً صحّة الرجوع إلى البراءة فيما عدا المقدار المعلوم ، فإنّه يكون من قبيل العلم بأنّه قد وجب عليه الصوم والصلاة والزكاة وغيرها من الواجبات القطعية والشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، من دون حاجة في ذلك إلى دعوى الانحلال ، إذ لا يكون علم

ص: 248


1- [ في الأصل : غير معلومة ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- فوائد الأُصول 4 : 148 - 150.

إجمالي بمركّب كي نحتاج إلى حلّه بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي ، وإن كان ذلك صحيحاً في نفسه ، إلاّ أن المسألة أوضح من ذلك ، هذا في الواجبات.

وأمّا المحرّمات فقد حرّرنا أيضاً في باب العموم والخصوص عن الأُستاذ قدس سره أنّ النهي المتعلّق بعنوان كلّي يكون على نحوين ، العموم الاستغراقي والعموم المجموعي ، فلو كان على نحو العموم الاستغراقي وتردّد بين الأقل والأكثر ، مثل ما لو علم بحرمة الغناء وتردّد بين كونه مطلق الترجيع أو كونه مقيّداً بالاطراب ، فالذي يظهر منه قدس سره في هذا التقرير هو أنّ الأقل مطلق الترجيع والأكثر هو الترجيع المقيّد بالاطراب.

وفيه : أنّه وإن كان الأمر كذلك نظراً إلى الاطلاق والتقييد ، إلاّ أنه لا داعي للجمود على ذلك ، بل لنا أن نقول إنّ المراد بالأكثر هنا هو الأكثر تكليفاً ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما يكون في جانب الاطلاق ، وحيث إنّ العموم استغراقي الذي عرفت أنّ لازمه عدم الارتباطية ، يكون تحريم ما هو أقلّ أفراداً - أعني تقييد الحرام بالاطراب - هو القدر المتيقّن ، ويكون الزائد على ذلك ممّا كان مشتملاً على الترجيع بدون إطراب مشكوك التحريم ، فتنفى حرمته بالبراءة من دون حاجة إلى الالتزام بأنّ باب المحرّمات عكس باب الأوامر ، بل يكون كلا البابين على نمط واحد بعد فرض كون العموم في كلّ منهما استغراقياً ، ألا ترى أنّه لو علم بأنّه قد أُمر باكرام كلّ عالم ، ولكنّه احتمل تقييده بخصوص العالم العادل ، كان المتيقّن إيجاب إكرامه هو الأقل أفراداً وهو تقييد العالم بالعادل ، وكان إيجاب إكرام ما زاد على ذلك وهو العالم غير العادل مشكوكاً منفياً بالبراءة.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الأكثر قيوداً في باب العموم الانحلالي يكون أقلّ أفراداً ، والأقل قيوداً يكون هو الأكثر أفراداً ، من دون فرق في ذلك بين كون

ص: 249

الحكم في العموم الانحلالي هو الايجاب مثل أكرم كلّ عالم ، أو أكرم كلّ عالم عادل ، أو يكون الحكم فيه هو النهي والتحريم مثل لا تكرم الفاسق ، أو لا تكرم الفاسق المتجاهر في فسقه ، فإنّ الأوّل في كلّ من البابين يكون هو الأكثر أفراداً من الثاني ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء اللّه في مباحث الأقل والأكثر (1).

نعم ، لو قوبل العموم الاستغراقي في باب النهي بالعموم البدلي في باب الأوامر الذي يكون المطلوب فيه هو صرف الطبيعة مثل أكرم عالماً ، وشكّ في التقييد بالعدالة ، كان الحال فيه على العكس من حال النهي ، بناءً على أنّ القدر المتيقّن هو المطلق ، وأنّ لزوم كونه مقيّداً بقيد العدالة مشكوك منفي بأصالة البراءة ، ويتّضح ذلك بما لو كان مركز التقييد هو نفس الفعل المأمور به دون موضوعه ، كما لو أُمر بالصلاة وشكّ في تقييدها بلبس العمامة مثلاً.

ومن ذلك يتّضح : أنّه لو توقّف أحد في إجراء البراءة في الواجبات المردّدة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا يلزمه التوقّف في إجراء البراءة عن حرمة الصوت المشتمل على الترجيع المجرّد من الاطراب ، لما عرفت من عدم كون ذلك من قبيل الارتباطيات التي هي محلّ التوقّف. ومنه يتّضح الخدشة فيما أُفيد في هذا التقرير بقوله : والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول الخ (2). نعم يجري ذلك في المحرّمات الارتباطية كما سيأتي (3) إن شاء اللّه في محرّمات الصوم. هذا حال النواهي التي يكون عمومها استغراقياً.

وأمّا النواهي التي يكون عمومها مجموعياً فلابدّ أن تكون ارتباطية ، بناءً

ص: 250


1- فوائد الأُصول 4 : 194 ، راجع أيضاً حاشية المصنّف الآتية في الصفحة : 325.
2- فوائد الأُصول 4 : 149.
3- في الصفحة : 255.

على ما عرفت من أنّ المجموعية عين الارتباطية ، لكن قد حرّرنا عنه قدس سره في باب العموم أيضاً أنّ العموم المجموعي في باب الأوامر لا يكون إلاّقسماً واحداً. أمّا العموم المجموعي في باب النواهي فهو على قسمين ، فإنّه إذا قال : لا تكرم الفسّاق مثلاً ، أو قال : لا تأكل هذه الأرغفة ، فتارةً : يكون المراد منه النهي عن أكل جميعها وتمامها على وجه يكون مفاد النهي بمنزلة رفع الايجاب الكلّي ، بحيث يكون المحرّم هو أكل جميع تلك الأرغفة ، فلو أكل بعضها وترك بعضاً لم يكن عاصياً ، وعلى ذلك ينزّل النهي عن تصوير الحيوان بناءً على أنّ المنهي عنه هو تصوير جميع صورة الحيوان بتمام أجزائه ، فلو صوّر بعض أجزائه دون بعض لم يكن عاصياً ، لكن لو صوّره بتمامه أو أكل تمام الأرغفة أو أكرم جميع الفسّاق ، لم يكن منه إلاّعصيان واحد لا عصيانات متعدّدة ، ومن خصوص هذه الجهة نسمّيه ارتباطياً ، فالارتباطية فيه إنّما هي بالنظر إلى العصيان ، بمعنى أنّه لو ارتكب الجميع لا يكون إلاّعصياناً واحداً ، بخلاف ما لو لم يكن ارتباط فإنّه عصيانات متعدّدة ، وإلاّ فإنّك قد عرفت أنّ من خصائص الارتباطية هو أنّه لو فعل بعضاً وترك بعضاً آخر كان عاصياً أيضاً ، لا أنّه مطيع فيما ترك وعاص فيما فعل كما هو شأن عدم الارتباطية ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى - أعني تحقّق العصيان بفعل البعض دون بعض - لا يجري في هذا النحو من العمومات المجموعية.

وأُخرى : يكون المراد من العموم المجموعي في باب النواهي النهي عن أكل المجموع ، بحيث يكون كلّ واحد من تلك الأفراد أو الأجزاء محرّماً ومنهيّاً عنه ، لكن أُخذت تلك التروك كترك واحد وتعلّق به الطلب بهذا اللحاظ ، أعني لحاظه تركاً واحداً ، ولو من جهة دلالة الدليل الخارجي على أنّ تحقّق الاطاعة في كلّ واحد من تلك التروك مشروط بالترك الآخر وهكذا ، ولازم ذلك أنّه لو فعلها

ص: 251

جميعاً يكون عاصياً بعصيان واحد ، ولو ترك بعضاً وارتكب البعض الآخر يكون عاصياً أيضاً ، لا أنّه يكون عاصياً فيما فعله مطيعاً فيما تركه كما هو الشأن في غير الارتباطية.

ويشترك القسمان في أنّ ارتكاب الجميع يكون عصياناً واحداً ، وفي آن ترك البعض وفعل البعض الآخر لا يكون من باب تحقّق كلّ من الاطاعة والمعصية. لكن يفترقان في أنّ الأوّل في هذه الصورة لا يكون عاصياً أصلاً ، بخلاف الثاني فإنّه في هذه الصورة يكون عاصياً صرفاً كما لو ارتكب الجميع.

والحاصل : أنّ عصيان الأوّل يكون في صورة واحدة وهي شرب الجميع ، وإطاعته في صورتين : ترك الجميع وشرب البعض دون البعض ، والثاني بالعكس فإنّ إطاعته تكون في صورة واحدة وهي ترك الجميع ، وعصيانه يكون في صورتين : شرب الجميع وشرب البعض دون البعض.

ويمكننا أن ننزّل الصوم على النحو الثاني بناءً على أنّه مجموعة تروك عرضية ، وهي ترك الأكل وترك الشرب وترك الجماع مثلاً ، وطولية وهي الترك في الساعة الأُولى والساعة الثانية وهكذا ، وأنّ هذه التروك مربوط بعضها ببعض في مرحلة الاطاعة والعصيان ، لكون كلّ ترك مشروطاً بباقي التروك ، ولعلّه لأجل ذلك حكموا بأنّه لو تكرّر منه الافطار في يوم واحد لم تتكرّر الكفّارة وإن وجب عليه الامساك بعد فعل المفطر الأوّل ، لأنّ ذلك ليس من باب الصوم ، بل من باب مجرّد لزوم الامساك كما صرّح به في الجواهر (1).

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إنّه لو شكّ في الأقل والأكثر في النحو الأوّل ، كما لو نهي عن أكل تمام ما في هذه الآنية مثلاً من الأرغفة وكان فيها صغار

ص: 252


1- جواهر الكلام 16 : 304.

وكبار ، واحتمل كون المنهي عن أكل تمامه هو خصوص الكبار ، كان القدر المتيقّن هو تحريم إتمام الكبار والصغار ، وكان تحريم إتمام خصوص الكبار مشكوكاً فينفى بأصالة البراءة.

وإن شئت قلت : إنّ ترك إتمام مجموع الصغار والكبار داخل في ترك خصوص الكبار ، فيكون ترك المجموع المذكور مطلوباً على كلا التقديرين ، وبذلك ينحلّ العلم الاجمالي.

ومنه يظهر الحال فيما لو شكّ في شمول النهي عن تصوير الحيوان لتصوير بعض أجزائه ، فإنّه وإن لم يكن التقابل فيه بين الاحتمالين مثل ما ذكرناه من مثال الأرغفة من كونه من قبيل العموم المجموعي على كلا التقديرين ، بل كان التقابل فيه من قبيل مقابلة العموم الشمولي بالعموم المجموعي ، لأنّه على تقدير كون المحرّم هو تصوير تمام الصورة فهو من العموم المجموعي ، وإن كان المحرّم هو مطلق التصوير المتعلّق بالحيوان ولو كان أيّ جزء منه كان من العموم الاستغراقي ، إلاّ أنّ الحكم في هذا الشكّ هو عين الحكم في مثال الأرغفة ، وهو كون القدر المتيقّن هو تحريم مجموع الصورة ، وأنّ تصوير أجزائه مشكوك التحريم ، وأنّ ترك تمام الصورة حاصل بترك تصوير كلّ واحد من الأجزاء.

وفي هذه الصورة يكون الأكثر هو المتيقّن ويكون تحريم الأقل مشكوكاً ، على العكس في باب الأوامر ، وكأنّ ما في التقريرات المطبوعة في صيدا من قوله : فلا يحرم إيجاد بعض الأجزاء الخ (1) ، ناظر إلى هذه الصورة ، كما أنّ قوله في هذا التحرير : والظاهر أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنّه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقّن الوجوب والأكثر مشكوكاً ، وفي

ص: 253


1- أجود التقريرات 3 : 487.

الشبهات التحريمية الأكثر متيقّن الحرمة والأقل مشكوكاً الخ (1) ، لا ينطبق إلاّعلى هذه الصورة ، فإنّ الأكثر وهو تصوير تمام الصورة أو أكل جميع الأرغفة يكون معلوم الحرمة ، والأقل وهو تصوير بعض الصورة أو أكله خصوص الكبار من الأرغفة يكون مشكوك الحرمة.

ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الأقل والأكثر في هذه الصورة ليس على العكس من الشبهات الوجوبية ، فإنّ حرمة إتمام الصغار والكبار وإن [ كان ] أكثر في الصورة من حرمة إتمام الكبار فقط ، إلاّ أن المكلّف به على تقدير تعلّق النهي باتمام الكبار والصغار يكون أقلّ من المكلّف به على تقدير تعلّق النهي باتمام الكبار فقط ، فإنّه على الأوّل يكون المنهي عنه هو إتمام الكبار في حال انضمامه إلى إتمام الصغار وهو ضيّق الدائرة ، بخلافه على الثاني فإنّه عليه يكون المنهي عنه هو إتمام الكبار سواء ضمّ إليه إتمام الصغار أو أنّه أتمّها وحدها ، فيكون التكليف حينئذ على تقدير الثاني أكثر منه على التقدير [ الأوّل ].

ويتّضح ذلك في مسألة التصوير ، فإنّه على تقدير كون النهي متعلّقاً باتمام الصورة يكون النهي منحصراً بها أعني الصورة التامّة ، بخلاف ما لو كان النهي متعلّقاً بتصوير ذي الروح ولو ببعض أجزائه ، فإنّ التحريم يكون حينئذ شاملاً لتمام الصورة ولبعضها ، فتمام الصورة وإن كانت هي أكثر صورة ، إلاّ أن التكليف بتركها يكون أقلّ من التكليف بالترك الشامل لتمام الصورة ولبعض أجزائها ، فيكون الأقل تكليفاً وهو حرمة تمام الصورة هو المتيقّن ، والأكثر تكليفاً وهو حرمة مطلق التصوير ولو ببعض الصورة مشكوكاً ، ويكون القدر المتيقّن هو خصوص المنع عن الاتمام ، والزائد عليه وهو المنع عن البعض مشكوكاً فينفى

ص: 254


1- فوائد الأُصول 4 : 148 - 149.

بالبراءة ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا لو كان الشكّ في الأقل والأكثر في النحو الثاني بأن احتملنا كون الكذب مطلوب الترك في باب الصوم ، أو احتملنا أنّ تلك التروك مطلوبة فيما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، كان ذلك المشكوك زائداً على المقدار المتيقّن ، وكان وجوبه أو حرمة الفعل مشكوكة في ذلك ، ويكون المرجع هو البراءة ، وكان الأقل هو القدر المتيقّن ، ويكون حاله حال الواجب المركّب المردّد الأجزاء بين الأقل والأكثر ، فمن توقّف في إجراء البراءة في الشبهات الوجوبية المردّدة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ينبغي أن يتوقّف في إجرائها في الشبهات التحريمية التي يكون عمومها مجموعياً إذا كانت على النحو الثاني.

ويمكن أن يقال : إنّ النحو الأوّل أيضاً كذلك ، وإن كان الالحاق لا يخلو عن خفاء ، لأنّ ترك الأكثر الذي هو تمام الأرغفة الصغار والكبار منها ليس بداخل في ضمن ترك الكبار فقط. نعم إنّ ترك مجموع الكبار والصغار ملازم لترك خصوص الكبار ، وحينئذ فمن توقّف في إجراء البراءة في الأكثر في باب الواجبات الارتباطية ، لا يلزمه التوقّف في ذلك في هذا النحو من العمومات المجموعية في باب النواهي.

ومن ذلك يتّضح لك : أنّ النحو الثاني (1) هو الذي ينطبق عليه ضابط التحريم الارتباطي ، أعني كون تحريم الأقل الذي هو تحريم ما عدا الكذب مثلاً داخلاً في تحريم الأكثر الذي هو تحريم المجموع حتّى الكذب. ومنه ينقدح الخدشة في قوله في هذا التقرير : والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى (2) ، فإنّه قد

ص: 255


1- [ في الأصل : النحو الأوّل ، لكن سياق العبارة يقتضي ما أثبتناه ].
2- فوائد الأُصول 4 : 149.

ظهر لك أنّ أمثلة التحريم المجموعي الذي يكون على النحو الثاني كلّها ممّا ينطبق عليها الضابط المذكور ، وأمثلته في باب النذر كثيرة إن لم نقل إنّ باب تروك الصوم من هذا القبيل ، والشاهد على ذلك هو ما حكموا به من انحلال النذر والعهد واليمين المتعلّقة بالتروك بأوّل مخالفة ، فراجع الجواهر (1) والمسالك (2) فيما لو حلف على ترك الدخول في الدار ودخلها نسياناً أو إكراهاً ، بل صرّح بعض محشّي الروضة - وهو الشيخ أحمد (3) - بأنّه لم يظهر الخلاف من أحد في انحلال هذه الثلاثة بالمخالفة. ولا يخفى أنّ ذلك لا يتمّ إلاّعلى التنزيل على العموم المجموعي على النحو الثاني ، فتأمّل. بل يظهر من بعضهم أنّ العموم في الايجاب يكون مجموعياً ، وسننقل كلمات بعضهم في آخر المبحث إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة : أنّ أمثلة النهي المجموعي على النحو الثاني أمثلة متصوّرة معقولة وكثير منها واقع في الفقه ، فراجع ما أفاده الأُستاذ قدس سره في رسالة المشكوك المطبوعة في النجف (4).

وأمّا مثال تحريم تصوير الحيوان فليس هو من هذا القبيل ، بل هو من النحو الأوّل من النهي المجموعي ، الذي عرفت أنّ ترك القدر المتيقّن وهو تصوير تمام الصورة ليس بداخل في ترك تصوير بعض الصورة ، نعم هو ملازم له.

لكن يمكن أن يقال : إنّ تحريم تصوير تمام الصورة داخل في تحريم

ص: 256


1- جواهر الكلام 35 : 339 - 340.
2- مسالك الأفهام 11 : 289.
3- تأتي عبارته قدس سره في الصفحة الآتية.
4- رسالة الصلاة في المشكوك : 190 وما بعدها ، وكذا راجع الصفحة : 284.

بعض الصورة ، والأمر سهل في الأمثلة بعد اتّضاح أصل المطلب.

وأمّا ما في التقريرات المطبوعة في صيدا من قوله : الثاني فيما إذا دار متعلّق التكليف التحريمي بين الأقل والأكثر ، وحيث إنّ التحريم إذا كان متعلّقاً بمركّب من أُمور فلا محالة يكون المبغوض هو وجود الأجزاء من حيث إنّها كذلك لا كلّ جزء جزء ، فلا يحرم إيجاد بعض الأجزاء من دون قصد إيجاد المجموع ، وعليه تكون حرمة الأكثر متيقّنة وحرمة الأقل مجرّداً مشكوكاً فيها ، فتجري البراءة العقلية والنقلية في مورده (1) ، فقد عرفت أنّه ناظر إلى خصوص النحو الأوّل من العموم المجموعي في باب النواهي ، وأغفل القسم الثاني مع أنّه في باب العموم ذكر النحوين كليهما ، فقال في المجلّد الأوّل ما نصّه : ثمّ إنّ امتثال الحكم في العام المجموعي إذا كان إيجابياً لا يكون إلاّبالاتيان بجميع الأفراد ، وأمّا إذا كان تحريمياً فيمكن أن يكون المطلوب هو مجموع التروك ، فلو أخلّ بواحد منها كان عاصياً. ويمكن أن يكون ترك المجموع فيتحقّق الامتثال بترك فرد واحد من الأفراد ، فلابدّ في تعيين واحد منهما من قرينة خارجية (2).

قال في الروضة : واعلم أنّ الكفّارة تجب بمخالفة مقتضى الثلاثة ( يعني النذر والعهد واليمين ) عمداً اختياراً ، فلو خالف ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً فلا حنث ، لرفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وحيث تجب الكفارة تنحل ( يعني الثلاثة ). وهل تنحل في الباقي ( يعني ما عدا صورة وجوب الكفّارة ) وجهان ، واستقرب المصنّف في قواعده الانحلال ، لحصول المخالفة وهي لا

ص: 257


1- أجود التقريرات 3 : 487 - 488.
2- أجود التقريرات 2 : 299 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

تتكرّر كما لو تعمّد ، وإن افترقا بوجوب الكفّارة وعدمها (1).

قال الشيخ أحمد في حاشيته على قوله « تنحل » : أي تنحلّ الثلاثة ، بمعنى أنّه إذا خالف مقتضاها عمداً اختياراً لم يعد حكم اليمين فيما سيأتي. وهذا الحكم لم يظهر فيه خلاف ( من أحد ) أحمد رحمه اللّه (2). والظاهر ممّا أفاداه قدس سرهما هو انحلال النذر وأخويه بأوّل مخالفة ، سواء كان المتعلّق إيجابياً أو كان سلبياً.

قال الحاج الكلباسي قدس سره في مناهجه : ولو كان متعلّقه ( أي النذر ) عاماً ، كما لو نذر تهجّد كلّ ليل أو صوم كلّ خميس وترك فرداً منه عمداً ، انحلّ ( النذر ) ولزم عليه الكفّارة ، إلاّ أن الأحوط عدم تركه بعد ذلك بلا عذر. ومثله لو نذر صوم شهر معيّن. وكذا لو نذر ترك عمل عموماً كما لو نذر ترك معصية أبداً ، انحلّ ( نذره ) بفعله مرّة فيجب عليه الكفّارة. وكذا لو نذر ترك الطبيعة. هذا كلّه لو لم ينو في نذره أن يكون كلّ فرد من أفراد المنذور واجباً عليه بالانفراد ، بحيث لو فات وجب عليه آخر إلى آخر العمر ، وإلاّ فحينئذ يتكرّر الكفّارة بتكرّر الترك (3).

وقال المحقّق القمي في أثناء الكلام على جواب سؤال يتعلّق بمثل ما نحن فيه : وبالجملة المشهور أنّ المخالفة للنذر عمداً يوجب الانحلال مطلقاً. ونقل عن بعض الأصحاب القول بعدمه إذا تعدّد أفراد المخالفة كما لو نذر صوم كلّ خميس ، فلا ينحلّ بافطار خميس أو خميسين ، فيلزمه تعدّد الكفّارة بتكرّر المخالفة ، فإنّه يصدق على ترك صوم كلّ يوم أنّه خالف النذر عمداً ووجب عليه الكفّارة - إلى أن قال - والأظهر ما عليه المشهور من إطلاق انحلال النذر ، من غير

ص: 258


1- الروضة البهية 3 : 56 - 57.
2- الروضة البهية ( الطبعة الحجرية ) 1 : 276.
3- منهاج الهداية إلى أحكام الشريعة : صفحة 3 من كتاب النذر والعهد واليمين.

فرق بين ما تعدّدت أفراده وغيره ، ووجهه أنّ بمخالفة النذر عمداً يجب الكفّارة إجماعاً ، وظاهرهم الاتّفاق على أنّ كلّ ما يجب فيه الكفّارة ينحلّ معه النذر ، إنّما الإشكال في أنّ هذا انحلال أم لا ، فنظر المشهور إلى أنّ مخالفة النذر يحصل بالمخالفة في فرد من أفراد ما له أفراد أيضاً ، إذ نقيض الموجبة الكلّية هو السالبة الجزئية ، كما أنّ نقيض السالبة الكلّية هو الموجبة الجزئية ، فمن نذر صوم كلّ خميس إذا أفطر خميساً يصدق عليه أنّه خالف كلّية ، وهكذا من نذر أن لا يضرب أحداً فضرب رجلاً واحداً ، فلم يبق مورد النذر بعد ذلك المخالفة حتّى يصدق مخالفته ، فتحصيل المخالفة بعد ذلك تحصيل الحاصل وهو محال. فلابدّ من حمل الروايتين ( يعني بذلك روايتين تقدّم ذكرهما في كلامه عن علي بن مهزيار وعن إبراهيم بن محمّد ) على فدية النذر - لا ( على ) كفّارة الحنث - على سبيل الاستحباب ، والمدّ أقلّها والصدقة على سبع أكثرها. ثمّ قال : ويلزم هذا القائل القول بتعدّد الكفّارة فيما كان المنذور إيجاباً كلّياً كنذر كلّ خميس ، وما لو كان سلباً كلّياً كترك كلّ كبيرة أو ترك طبيعة كترك الزنا ، فإنّه لا يحصل إلاّبترك الجميع ، ففي كلّ زنا مخالفة (1). ثمّ إنّه نقل كلام صاحب المفاتيح ونقله نقل الإجماع على ذلك ونقله الخلاف عن بعض المعاصرين ، وأفاد المحقّق أنّ المظنون أنّ ذلك المخالف هو البهائي قدس سره. وقد نصّ على ذلك بعض شرّاح المفاتيح وهو ابن أخ المرحوم الفيض ، قال في الشرح : بل ربما ادّعى بعضهم الإجماع عليه ( أي على عدم الانحلال ) إلاّ أن شيخنا البهائي رحمه اللّه جزم بعدم الانحلال إذا كانت المخالفة ممّا تتعدّد أفراده لجواز تكرار المخالفة وعدم لزوم تحصّل الحاصل حينئذ الخ (2)

ص: 259


1- جامع الشتات 2 : 516.
2- [ لم نعثر عليه في مظانه ].

قلت : لا يخفى أنّ ما أفاده في توجيه مذهب المشهور من كون الموجبة الجزئية نقيضاً للسالبة الكلّية والسالبة الجزئية نقيضاً للموجبة الكلّية ، لا ينفع في إثبات الانحلال ، وإنّما أقصى ما فيه هو إثبات أنّ الموجبة الجزئية تكون مخالفة للسالبة الكلّية المنذورة ، والسالبة الجزئية تكون مخالفة للموجبة الكلّية المنذورة ، فلا يثبت بذلك إلاّتحقّق الحنث بذلك ولزوم الكفّارة ، وأمّا أنّ كلّ ما أوجب الكفّارة فقد أوجب انحلال النذر فممّا لم يقم عليه برهان. نعم يمكن أن يقال : إنّ ما أوجب الكفّارة فقد أوجب الانحلال بمقداره ، وهو واضح مسلّم ، إلاّ أن ذلك لا دخل له بانحلال النذر في البواقي.

وبالجملة : أنّ الأمر في الانحلال وعدمه يدور على ما تقدّمت الاشارة إليه من كون العموم استغراقياً أو كونه مجموعياً ، فإن كان استغراقياً لم تكن المخالفة في بعض الأفراد موجبة لانحلال النذر في الباقي ، وإن أوجبت الكفّارة ، لأنّ النذر حينئذ ينحلّ إلى نذور متعدّدة حسب تعدّد ما تعلّق به من الأفراد التي ينحلّ ذلك العام إليها.

وإن كان العموم مجموعياً كانت المخالفة في بعض الأفراد موجبة لانحلال النذر ، لعدم تعدّده حينئذ إلى نذور متعدّدة ، فلابدّ من إقامة البرهان على أنّ العموم في باب النذر لا يكون إلاّمجموعياً ، وهو في غاية الإشكال بعد أن تحرّر في الأُصول أنّ الظاهر والأصل في باب العموم هو الاستغراق والانحلالية سيّما في النواهي ، ولم أتوفّق لمعرفة الوجه الفارق بين باب التكاليف وبين باب النذر. وقد نقلت في بعض تحريراتي عن الأُستاذ الأعظم قدس سره في مسألة اللباس المشكوك ما محصّله : أنّ مطلوبية الترك في النذر إنّما نشأت من وجوب الوفاء به ، فلا ربط له بالمفسدة والمبغوضية حتّى يكون النهي فيه انحلالياً ، وإنّما يكون وجوب الوفاء

ص: 260

تابعاً لنفس النذر ، والمفروض أنّه تعلّق بعدم الطبيعة ، فيكون على نحو السلب الكلّي ، ويسقط وينحلّ بمجرّد الاتيان بفرد واحد من أفراد الطبيعة ، إلاّ أن تكون هناك قرينة على أنّ الناذر لاحظ الأفراد ونذر ترك كلّ واحد منها ، ومجرّد كون غرضه تعلّق بردع نفسه عن الطبيعة لكونها مبغوضة له لا يكون قرينة على ذلك ، لكون وجوب الوفاء بالنذر إنّما يتبع إنشاء الناذر وإن كان على خلاف غرضه وداعيه ، كما هو الشأن في جميع أبواب العقود والايقاعات ، انتهى.

وإنّي فعلاً غير جازم بأنّ هذا التحرير هو الذي أراده الأُستاذ قدس سره ، لأنّي أتّهم نفسي في فهم مراده قدس سره. وكيف كان ، فإنّ هذا التوجيه لا يتمّ على الظاهر في النذر الايجابي. مضافاً إلى أنّه لا يمكن إتمامه حتّى في النذر السلبي ، لأنّ وجوب الوفاء تابع لقصد الناذر ، وقد حقّق في محلّه أنّ الظاهر من نفي الطبيعة هو نفي أفرادها انحلالياً ، وهو وإن انتقض بمجرّد وجود بعض أفرادها إلاّ أنه انتقاض في خصوص ذلك الفرد دون باقي الأفراد.

وبالجملة : أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر بمنزلة حكم العقل بلزوم إطاعة النهي المولوي المتعلّق بالطبيعة ، فكما أنّ ذلك الحكم العقلي موجود بعد الاتيان بفرد منها ، فكذلك ينبغي أن يكون وجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا ما في مباحث النهي ممّا أفاده قدس سره (1) في توجيه ذلك بأنّ الشمول للأفراد الطولية التي تكون في الآنات المترتّبة يتوقّف على العموم الأزماني ، وليس في باب النذر ما يتكفّل بالعموم المذكور ، ففيه : أنّ الذي يتكفّل بالشمول للأفراد الطولية هو إطلاق الطبيعة في سياق النفي أو في سياق أداة العموم ، مثل كل

ص: 261


1- أجود التقريرات 2 : 122 - 124. راجع أيضاً المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة :6- 7.

ونحوها. مضافاً إلى أنّه لو كان النذر غير شامل للأفراد الطولية لكان مقتضاه سقوطه في الآن الثاني بعد إطاعته في الآن الأوّل.

وكذا ما أفاده قدس سره من كون الشمول الاستغراقي في باب التكاليف لكلّ فرد فرد من جهة اشتمال كلّ فرد على المفسدة الموجبة للمبغوضية الملازمة لنظر الآمر إلى كلّ واحد من تلك الأفراد ، وذلك غير موجود في باب النذر ، فإنّه أيضاً قابل للتأمّل ، من إمكان نظر الناذر إلى الأفراد أيضاً ، مع كونه لا يتمّ في النذور الايجابية. مضافاً إلى ما عرفت من أنّ سريان الحكم إلى كلّ فرد إنّما هو قهري بواسطة وقوع صرف الطبيعة المطلقة في حيّز النفي أو في حيّز أداة العموم.

والحاصل : أنّ النظر القاصر قاصر عن توجيه ما عليه المشهور في باب النذر ، فإنّه بحسب النظر القاصر لا يتمّ إلاّبأحد وجهين : دعوى العموم المجموعي ، أو دعوى كون المنذور هو كلّية الايجاب أو كلّية السلب ، والأوّل متوقّف على العناية الزائدة ، والثاني يتوقّف على لحاظ الكلّية اسمياً.

والذي حرّره قدس سره في مسألة المشكوك (1) في أنّ المطلوب بالنهي قد يكون هو آحاد السلوب ، وقد يكون هو السلب الكلّي ، وقد يكون هو الاتّصاف بالسلب ، ونزّل النذر على الثاني ، فلعلّه لا يخلو من تأمّل ، لتوقّفه على النظر إلى كلّية السلب اسمياً. ولعلّ نظر المحقّق القمي قدس سره كان إلى هذه الجهة ، وهي محتاجة إلى التأمّل ، ولعلّها أمتن ما يمكن أن يقال في هذه المسألة ، فتأمّل.

قال الشهيد قدس سره في قواعده : قاعدة ، كلّ يمين خولف مقتضاها نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً فلا حنث فيها ، لظاهر « رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (2) إلى أن قال : فرع ، إذا قلنا بعدم الحنث هنا هل تنحلّ اليمين أم

ص: 262


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 268 - 286.
2- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

لا؟ يظهر من كلام الأصحاب انحلالها ، فلو خالف مقتضاها بعد ذلك لم يحنث ، لأنّ المخالفة قد حصلت والمخالفة لا تتكرّر. ويحتمل أن تبقى اليمين ، لأنّ الاكراه والنسيان لم يدخلا تحتها ، لما قلناه ، فالواقع بعد ذلك هو الذي تعلّقت به اليمين ، والأوّل أقرب (1). وظاهره اختصاص الخلاف أو الوجهين في خصوص المخالفة لعذر ، دون المخالفة عن عمد ، لأنّ منشأ احتمال عدم الانحلال في موارد العذر هو احتمال عدم كون ما صدر مشمولاً لليمين ، وحينئذ يستفاد منه أنّ المخالفة لو كانت عن عمد لا إشكال في انحلال اليمين فيما بعدها ، إذ لا إشكال في كون تلك المخالفة مشمولة لليمين.

وفي الجواهر في شرح قول الماتن : « لا يتحقّق الحنث بالاكراه ولا مع النسيان ولا مع عدم العلم » بعد أن نقل كلام المسالك في أنّ اليمين هل تنحل بذلك كما تنحل بالعمد ، أو لا تنحل لعدم دخول الثلاثة تحتها ، قال : وعدم الحنث الذي يترتّب عليه الكفّارة باعتبار ظهور أدلّتها في غير الفرض لا يقتضي عدم اندراج هذه الأفراد في متعلّق اليمين ، فالأقوى حينئذ الانحلال (2) ، واللّه العالم.

قوله : أمّا في الأسباب العادية والعقلية فواضح ، فإنّ المجعول الشرعي فيها ليس إلاّ المسبّب ولا شكّ فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية ، ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي - إلى قوله - وأمّا في الأسباب الشرعية كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ... الخ (3).

لا يخفى أنّ الأسباب الشرعية إنّما كانت أسباباً شرعية باعتبار كون المسبّب

ص: 263


1- القواعد والفوائد 2 : 207 - 209.
2- راجع جواهر الكلام 35 : 338 - 340.
3- فوائد الأُصول 4 : 144 - 145.

فيها شرعياً ، كالطهارة من الحدث أو الطهارة من الخبث ، سواء قيل بجعل السببية أو بجعل المسبّب ، فلو كان المسبّب في الأسباب العادية والعقلية شرعياً ، لكانت أيضاً أسباباً شرعية ، وكانت داخلة في النزاع المذكور ، وحينئذ فلابدّ في السبب العقلي أو العادي من كون المسبّب فيه أيضاً مثله عادياً أو عقلياً ، كما في سببية الالقاء للاحراق.

والأولى إبدال لفظة « المجعول » بالواجب فيقال : فإنّ الواجب الشرعي فيها ليس إلاّ المسبّب.

ثمّ إنّ السبب تارةً يكون سبباً للتكليف ، وتارةً يكون سبباً للوضع ، وثالثة يكون سبباً للمكلّف به ، وهو المراد في هذا المقام بالشكّ في المحقّق والمحصّل.

أمّا سبب التكليف لو تردّد بين الأقل والأكثر ، فلا ينبغي الريب في عدم الرجوع فيه إلى البراءة من جزئية السبب ، وإنّما المرجع هو البراءة من التكليف عند حصول الأقل أو استصحاب عدم التكليف ، كما لو تردّد المغرب بين غيبوبة القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

وهكذا الحال في سبب الوضع مثل البيع العقدي مثلاً الذي يكون سبباً في الملكية ، لو شككنا في اعتبار القبض فيه ، فإنّ المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر عند عدم ذلك المشكوك الاعتبار.

أمّا ما يكون من قبيل سبب المكلّف به لو تردّد بين الأقل والأكثر ، فإن كانا - أعني السبب والمسبّب - عاديين أو عقليين مثل الضرب بالنسبة إلى القتل لو كان المأمور به هو القتل ، فلا ريب في أنّه لا مورد فيه للبراءة عند التردّد في سببه بين الأقل والأكثر ، ولم يدّعه أحد. نعم لو كان المأمور به هو السبب كان مورداً للبراءة

ص: 264

قطعاً بناءً على كونه من قبيل الأقل والأكثر غير الارتباطيين. ولو قيل إنّه من قبيل الارتباطيين كان الكلام في كون المرجع فيه هو البراءة والاحتياط راجعاً إلى ذلك المبحث.

ولو كان المسبّب شرعياً كما في أفعال الوضوء والغسل بالنسبة إلى الطهارة من الحدث التي هي حكم شرعي ، وكذلك أفعال الغسل - بالفتح - بالنسبة إلى الطهارة من الخبث التي هي حكم شرعي ، وكما في أفعال الذبح بالنسبة إلى الذكاة التي هي حكم شرعي ، أعني حلّية الأكل والطهارة ، وهذا هو المراد بقولهم : المحصّل الشرعي ، كما أنّ الأوّل هو المراد بقولهم : المحصّل العقلي أو العادي.

وكيف كان ، فالذي ينبغي أن يقال : إنّ الأمر في مثل ذلك - أعني المحصّل الشرعي - لا يتوجّه إلاّ إلى السبب ، ولا يعقل توجّهه إلى المسبّب ، لما عرفت من أنّه حكم وضعي هو فعل الشارع. أمّا باب العقود والإيقاعات فكذلك ، بمعنى أنّ التكليف فيها سواء كان أمراً أو نهياً لا يعقل توجّهه إلى نفس الحكم الوضعي الذي هو من المجعولات الشرعية ، وإنّما يتوجّه إلى نفس العقد الذي هو السبب أو إلى نفس المعاملة بوجودها الانشائي ، وهو - أعني الوجود الانشائي - غير ذلك الحكم الوضعي الذي هو من المجعولات الشرعية ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ العقد سبب أو نقول إنّه آلة.

وكذلك الحال لو قلنا بأنّ المسبّبات هي الأحكام العرفية العقلائية ، غايته أنّ الشارع أمضاها ، فإنّ الأمر وكذلك النهي وإن صحّ تعلّقه بالمسبّب الذي هو النقل والانتقال أو الملكية في عالم اعتبار العقلاء ، إلاّ أن ذلك الاعتبار ليس بحكم شرعي كي يكون تعلّق التكليف به تعلّقاً بالحكم الشرعي ، بل إنّه اعتبار عقلائي يرونه متولّداً ومسبّباً عن إيجاد العقد ، فيكون نسبة ذلك الاعتبار إلى العقد نسبة

ص: 265

العناوين الثانوية إلى العناوين الأوّلية ، فيصحّ تعلّق التكليف به ، غايته أنّ ذلك الاعتبار العقلائي المتولّد من العقد قد أمضاه الشارع ، لا أنّ الشارع يجعل ذلك الاعتبار عند وجود العقد ، ويكفي في كونه حكماً شرعياً كونه اعتباراً عقلائياً متولّداً في عالم اعتبار العقلاء من العقد وإمضاء الشارع لذلك الاعتبار.

وعلى أيّ ، لا يكون التكليف متعلّقاً بحكم شرعي يجعله الشارع عند وجود العقد كي يكون من قبيل التكليف بالمسبّبات الشرعية المجعولة للشارع عند وجود أسبابها ، فلاحظ وتأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّ الملكية لو لم تكن إمضائية بل كانت تأسيسية من جانب الشارع ، فليس معنى جعلها تأسيساً من جانبه أنّه يجعلها عند حصول العقد ، بل معنى ذلك هو على نحو ما عرفت من اعتبار العقلاء ، يعني أنّه يعتبرها عنواناً ثانوياً للعقد ، وحينئذ يمكن تعلّق التكليف الشرعي بها على حذو ما عرفت من إمكان الأمر بها لو كانت إمضائية. نعم إنّ ذلك لا يتأتّى في مثل الطهارة من الحدث أو الخبث ، فتأمّل.

فتلخّص لك : أنّ مثل الطهارة من الخبث أو الطهارة من الحدث أو التذكية التي هي موضوع الحل والطهارة لو قلنا إنّها من الأحكام الوضعية الشرعية المجعولة للشارع عند تحقّق أسبابها ، لا معنى للقول حينئذ بتعلّق التكليف بها بنفسها ، ويتعيّن القول حينئذ بتعلّق التكليف بأسبابها ، بل إنّ اطلاق الأسباب والمسبّبات على ذلك لا يبتني على الحقيقة ، إذ في الحقيقة لا سببية في مثل ذلك ولا مسبّبية ، بل ليس في البين إلاّموضوعات هي من أفعال المكلّفين جعلت لها أحكام شرعية - تكليفية كانت أو وضعية - على نحو القضية الحقيقية ، فكلّما تحقّق أحد تلك الموضوعات تحقّق حكمه التكليفي أو الوضعي ، وليست هي من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية كي تكون تلك العناوين الثانوية

ص: 266

صالحة لتعلّق التكليف بها لكونها مقدورة بواسطة القدرة على أسبابها التي هي الأفعال بعناوينها الأوّلية ، وإلاّ لصحّ التكليف بالمسبّبات في أسباب الأحكام التكليفية إذا كانت أسبابها أفعالاً اختيارية ، مثل الافطار الذي هو سبب لوجوب الكفّارة.

نعم - كما هو غير بعيد - لو قلنا بأنّها من الأُمور الواقعية التي لا يعرفها المكلّفون ولا يعرفون أسبابها ، والشارع المقدّس عرّفهم بها وبأسبابها ، أمكن القول بتعلّق التكليف بها كما يمكن تعلّقه بأسبابها ، بل إنّه بناءً على هذا القول لا فرق بين تعلّق التكليف بها أو تعلّقه بأسبابها ، لأنّ أسبابها لو فرض في ظاهر الدليل أنّها هي التي تعلّق التكليف بها ، فهو - أعني التكليف - إنّما يتعلّق بتلك الأسباب باعتبار ترتّب تلك المسبّبات عليها ، لأنّها حينئذ من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية ، فلو شكّ في حصولها عند عدم الاتيان بما يشكّ في مدخليته في ترتّب تلك المسبّبات على تلك الأسباب ، كان اللازم هو الاحتياط والاتيان بكلّ ما يحتمل مدخليته في ذلك. لكنّها تخرج على هذا القول عن كونها من قبيل المسبّبات الشرعية ، وتدخل في المسبّبات العقلية والعادية ، نظير ترتّب الاحراق على الالقاء ، ونظير ترتّب إزهاق الروح على الضرب بالسيف مثلاً ، ونحو ذلك من الأسباب والمسبّبات العقلية والعادية التي لا مورد فيها للجعل ، لا بالنسبة إلى نفس السبب ، ولا بالنسبة إلى نفس المسبّب ، ولا بالنسبة إلى نفس السببية.

وغاية الفرق بينهما أنّ هذه أسباب ومسبّبات توليدية يعرفها المكلّفون ويعرفون أسبابها ، أعني الأفعال الأوّلية التي تتولّد منها ، وتلك لا يعرفها المكلّفون ولا يعرفون أسبابها ، أعني الأفعال الأوّلية التي تتولّد منها هذه العناوين الثانوية ،

ص: 267

بل إنّ الشارع المقدّس المطّلع على الواقعيات كشف ذلك للمكلّفين ، وعرّفهم بها وبأسبابها التي تتولّد منها.

وعلى أيّ حال ، لا يكون للقول بالمحقّق أو السبب الشرعي بالنسبة إلى المكلّف به معنى محصّل ، كي يتكلّم عليه بأنّ المرجع فيه عند الشكّ في المحصّل والمحقّق والسبب بين الأقل والأكثر ، هل هو أصالة الاشتغال وأصالة عدم حصول المسبّب ، أو أنّ المرجع فيه هو أصالة البراءة من جعل الشيء الفلاني جزءاً من ذلك المحقّق وذلك السبب ، وأصالة عدم تحقّق السبب أو أصالة البراءة من سببية الأقل ، ونحو ذلك من الأُصول ، فلاحظ ما أُفيد في هذه المباحث عن شيخنا قدس سره وتأمّل ، فإنّ ذلك لا يستقيم إلاّعلى تقدير الجمع بين كون المسبّب حكماً شرعياً وكونه مأموراً به. والظاهر أنّ ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به ، كي يجعل ذلك محلّ الكلام فيما بينه قدس سره وبين القائلين بأنّ المرجع في الأسباب والمحقّقات الشرعية هو أصالة البراءة من جعل المشكوك جزءاً من ذلك السبب.

ولا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو في الشكّ بين الأقل والأكثر في المكلّف به ، إمّا بنفسه كما في باب الصلاة ، وإمّا بموضوعه كما لو تردّدت الرقبة الواجب عتقها بين مطلق الرقبة أو خصوص [ المؤمنة ] ، وإمّا بسببه كما في الأسباب العقلية والعادية. ولا يتصوّر ذلك في الأسباب الشرعية ، إذ لا يعقل التكليف بمسبّباتها.

ولو تصوّرنا ذلك فيها بأن قلنا إنّه يشترط في لباس المصلّي مثلاً أن يكون واجداً لذلك الحكم الشرعي ، وصحّحنا ذلك بكون ذلك الوجوب الشرطي الشرعي متوجّهاً إلى الأفعال التي تكون موضوعاً لذلك الحكم الشرعي الوضعي أعني الطهارة ، لم يمكن القول باجراء البراءة في الجزء المشكوك ، لأنّ المجموع إنّما وجب باعتبار كونه موضوعاً لذلك الحكم الشرعي ، ومع الشكّ في بعض

ص: 268

أجزائه تكون الموضوعية مشكوكة ، ويتعيّن الرجوع حينئذ إلى الاحتياط ، هذا. مضافاً إلى أنّه لا تصل النوبة إلى الاحتياط أو البراءة ، بل يكون المرجع في هذا الحكم الوضعي كسائر الأحكام الوضعية عند الشكّ في أسبابها هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الفصل الرابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الوجوبية الحكمية ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لابد في أصل المسألة من تقييد ذلك المشكوك الجزئية بأنّه على تقدير عدم اعتباره لا يكون معتبر العدم ، بحيث تكون الصلاة مثلاً على تقدير عدم جزئية ذلك المشكوك الجزئية مقيّدة بعدمه ، وإلاّ لكان من قبيل الدوران بين المحذورين ، وكان من قبيل الدوران بين الشرطية والمانعية ، فلابدّ أن تكون أصل المسألة ممحّضة للشكّ في الجزئية ، وأنّه على تقدير عدم الجزئية لا يكون الاتيان بذلك المشكوك الجزئية ولو من باب الاحتياط لاحتمال جزئيته موجباً لفساد العمل ، وإن أفسده لو جيء به بعنوان الجزئية ، بناءً على كون ذلك من الزيادة الموجبة لبطلان العمل.

قوله في الحاشية : والعبارة التي وقفت عليها في الحاشية ... الخ (2).

قال في الحاشية في أواخر الدليل الأوّل ممّا استدلّ به على لزوم الاحتياط في مسألة الأقل والأكثر ما نصّه : وأمّا إذا لم يتعيّن القدر المذكور لتعلّق التكليف ، ودار الأمر بين تعلّق التكليف به بخصوصه أو بما يزيد عليه ، بحيث لا يكون القدر المذكور مطلوباً بنفسه أصلاً ، بل مطلوباً بطلب الكل في ضمنه فلا ، لدوران

ص: 269


1- فوائد الأُصول 4 : 150.
2- فوائد الأُصول 4 ( الهامش 1 ) : 154.

التكليف إذن بين طبيعتين مختلفتين ، غاية الأمر أن يكون أحدهما أقلّ جزءاً من الآخر ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يقضي بترجيح الأقل كما لا يخفى. ومداخلة أجزاء أحدهما في الآخر غير مجدٍ فيه ، بعد فرض عدم قضاء الأمر بالكلّ بمطلوبية الجزء إلاّفي ضمنه ، فلا يقين إذن بإرادة الأقل لو أُتي به على انفراده ، كما في غير المشاركين في الجزء ، الخ (1).

وله عبارة قبل هذه يقول فيها : فاشتغال الذمّة حينئذ دائر بين طبيعتين وجوديتين لا يندرج أحدهما في الآخر ، وإن اشتمل الأكثر على أجزاء الأقل ، لما عرفت من عدم الملازمة بين الأمرين الخ.

ولا يخفى أنّ هذه العبائر صريحة في أنّه يريد أن يلحق المسألة بالمتباينين ، ويرى أنّ التكليف بالشيء لا بشرط يباين التكليف به بشرط شيء ، فإنّه قال : فإن قلت : إنّ التكليف بالأكثر في المقام قاض بالتكليف بالأقل في الجملة ، فيصدق ثبوت الاشتغال به على طريق اللاّ بشرط ، وحينئذ فيدور الأمر في الزائد بين البراءة أو الشغل وحصول التكليف وعدمه ، فينفى بالأصل. قلت : ليس التكليف بالأقل ثابتاً على طريق اللاّ بشرط ليكون ثبوت التكليف به على نحو الاطلاق ، بل ثبوته هناك على سبيل الاجمال والدوران بين كونه مطلوباً بذاته أو تبعاً للكل في ضمنه الخ.

والمستفاد من مجموع السؤال والجواب أنّ السائل يريد أن يجعل القدر المشترك بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر هو وجوب الأقل لا بشرط المعبّر عنه بالاطلاق لينحلّ العلم الاجمالي ، لأنّ ذلك هو عين كون وجوب الأقل معلوماً بالتفصيل. وهو قدس سره في الجواب يمنع من ذلك ويقول : إنّ القدر المشترك بين

ص: 270


1- هداية المسترشدين 3 : 564 - 565.

وجوب الأقل ووجوب الأكثر ليس هو وجوب الأقل لا بشرط ، بل القدر المشترك هو الوجوب المجمل المردّد بين كون الأقل واجباً بذاته أو في ضمن الأكثر (1) ، ولابدّ أن يكون ذلك القدر المشترك هو الوجوب لا بشرط المقسمي ، نعني بذلك القدر المشترك بين اللاّ بشرط القسمي وبين البشرط شيء ، لا القدر المشترك بين الثلاثة حتّى ما يكون بشرط لا ، لما عرفت من أنّ ما يكون بشرط لا خارج عن محلّ النزاع.

وكيف كان ، فإنّ الوجوب المتعلّق بالأقل بذاته هو اللاّ بشرط القسمي ، وأنّ الوجوب لا بشرط القسمي يباين الوجوب بشرط شيء ، فتكون المسألة من قبيل الدوران بين المتباينين.

قوله : فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء - إلى قوله - والتقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ - إلى أن يقول - فإنّ التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقّن الاعتبار ... الخ (2).

هذه حقائق راهنة ، لكنّه يقول : والعلم التفصيلي بوجوب الأقل المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر ، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنّه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجباً لانحلال نفسه (3).

ولا يخفى أنّه بعد فرض كون الماهية ملحوظة لا بشرط المقسمي ، أو

ص: 271


1- [ في الأصل : أو في ضمن الأقلّ ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- فوائد الأُصول 4 : 154 - 155.
3- فوائد الأُصول 4 : 160.

ملحوظة لا بشرط القسمي ، أو ملحوظة بشرط شيء ، واحدة في الخارج ، لا يكون هذا التغاير الاعتباري موجباً لخروج وجوب الأقل عن كونه معلوماً بالتفصيل ، بل يكون ما يطرأ على الأقل من وجوبه لا بشرط المقسمي الذي هو نفس المعلوم بالاجمال ، ووجوبه لا بشرط القسمي الذي هو أحد طرفي المعلوم بالاجمال متّحداً خارجاً مع وجوبه في ضمن الأكثر ، الذي هو الطرف الآخر للمعلوم بالاجمال ، وحينئذ فيكون المعلوم الاجمالي عين ذلك المعلوم بالتفصيل من وجوب الأقل والشكّ البدوي في الزائد ، لا أنّ المعلوم بالتفصيل هو عين المعلوم بالاجمال ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة فيما أُفيد في العبارة السابقة من قوله : ومن هنا قلنا إنّ الاطلاق ليس أمراً وجودياً ، بل هو عبارة الخ (1) ، فإنّ تقابل الاطلاق والتقييد سواء قلنا إنّه من قبيل العدم والملكة ، أو قلنا إنّه من تقابل الضدّين ، أو قلنا إنّه من تقابل النقيضين ، لا يثمر فيما نحن فيه من إمكان الانحلال أو منعه ، فإنّه يدور على الاتّحاد الخارجي ، فلا يضرّ فيه التباين اللحاظي ، فلا يكون القول بأنّ تقابلهما من قبيل تقابل الضدّين موجباً لكون المقام من قبيل المتباينين ، كي يكون ذلك أساساً للقول بعدم الانحلال العقلي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ ما أُفيد أوّلاً في تقرير مذهب صاحب الحاشية مطابق لما فيها ، لكن ما أُفيد في تقرير مذهب الأُستاذ قدس سره في تقريب عدم الانحلال العقلي هو عين ما ذهب إليه صاحب الحاشية. نعم هناك مطلب آخر طفحت به عبارات الحاشية وعبارات شيخنا الأُستاذ قدس سره في هذا التقرير وغيره ، وصرّح به

ص: 272


1- فوائد الأُصول 4 : 154.

الأُستاذ قدس سره كما أشار إليه في التقرير المطبوع في صيدا (1) وحرّرته عنه قدس سره مفصّلاً فيما حرّرته عنه قدس سره ، وذلك هو أنّ تحقّق العلم التفصيلي بوجوب الأقل إنّما يوجب الانحلال العقلي والرجوع إلى البراءة العقلية فيما هو الزائد على ذلك القدر المعلوم ، إذا لم يكن ذلك الزائد ممّا يتوقّف عليه الفراغ اليقيني عمّا علم وجوبه تفصيلاً وهو الأقل ، وذلك هو المفروض فيما نحن فيه ، فإنّه بعد فرض العلم التفصيلي الوجداني المتعلّق بالأقل ، يكون العقل حاكماً بلزوم الفراغ اليقيني عن ذلك المقدار الذي علم تفصيلاً ، ولا يحصل الفراغ عنه إلاّبالاتيان بذلك الزائد ، ولا يسوّغ له العقل حينئذ الاكتفاء بالخروج الاحتمالي.

قال قدس سره في رسالته في اللباس المشكوك التي طبعت في النجف الأشرف مع تقريرات درسه على المكاسب ص 266 : وإمّا إن نستند في ذلك إلى خصوص ما يدلّ على البراءة الشرعية ، ونمنع عن جريان الحكم العقلي المذكور ( يعني قبح العقاب بلا بيان ) لمنع كفاية مجرّد العلم بتعلّق التكليف المذكور بالأقل في الانحلال العقلي المتوقّف عليه تمامية البراءة العقلية ، نظراً إلى أنّه بعد استقلال العقل بعدم جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية عند قطعية التكليف ، فلا يكاد أن يتمّ الانحلال العقلي بمعلومية التكليف في بعض الأطراف ، ويندرج الآخر في مجاري البراءة العقلية ، إلاّمع عدم استلزامه لهذا المحذور ، ولا يكاد يتحقّق ذلك إلاّ مع كون المعلوم التفصيلي بحيث لا يتوقّف القطع بموافقته على انضمام المحتمل الآخر إليه وإطلاقه بالنسبة إليه ، وإلاّ فمع إهماله من هذه الجهة ، وتردّده بين أن يكون بالنسبة إليه على وجه الاطلاق أو التقييد ، كما هو الحال في الارتباطيات ، فلا يكاد يتحقّق القطع بموافقة القدر الثابت مع عدم انضمام

ص: 273


1- أجود التقريرات 3 : 492 - 493.

المحتمل الآخر إليه ، فضلاً عن أن يوجب الانحلال ، بل ليس إجمال العلم هاهنا إلاّ عبارة أُخرى عمّا ذكر من الإهمال ، فلا يعقل أن يجعل نفس القضية المهملة موجبة للانحلال (1) ، انتهى ما أفاده قدس سره.

وما أفاده من قوله قدس سره : بل ليس إجمال العلم هنا إلاّعبارة أُخرى عمّا ذكر من الاهمال ( يعني القضية المدّعى كونها تفصيلية وهي وجوب الأقل مردّداً بين كونه بنفسه أو في ضمن الأكثر ) هو المشار إليه في التقرير المزبور ، وأساس المطلب هو ما صرّح به أوّلاً من عدم الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال الشغل اليقيني ، وليس المراد به الشغل اليقيني بالنسبة إلى المعلوم بالاجمال كما تضمّنه تعبير التقرير ، بل المراد به كما صرّح به بقوله : إلاّمع كون المعلوم التفصيلي الخ ، هو الشغل اليقيني بالنسبة إلى المعلوم بالتفصيل الذي هو وجوب الأقل ، فإنّه وإن كان معلوماً بالتفصيل ، إلاّ أن الاتيان به وحده لا يكون محصّلاً للفراغ عنه يقينياً ، لاحتمال وجوب الأكثر ، المفروض أنّه على تقدير كونه هو الواجب يكون وجوده شرطاً في سقوط الأمر المتعلّق بالأقل ، كما هو الشأن في الارتباطية.

وكيف [ كان ] فإنّ هذه الشبهة في عدم الانحلال العقلي قويّة ، لأنّ العلم التفصيلي إنّما يوجب الانحلال العقلي إذا أمكن الرجوع إلى البراءة العقلية فيما زاد على ذلك المقدار المعلوم بالتفصيل ، والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان ذلك ، لأنّ ذلك القدر المعلوم تفصيلاً قد اشتغلت به الذمّة يقيناً ، وذلك يستدعي الفراغ اليقيني حتّى عند القائلين بأنّ العلم الاجمالي غير منجّز للتكليف ، لأنّ المفروض أنّ ذلك المقدار قد وقع متعلّقاً للعلم التفصيلي ، ومقتضى العلم التفصيلي بوجوبه هو حكم العقل بلزوم الخروج اليقيني عنه ، ومع كون المورد

ص: 274


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 297 - 301 ( طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم السلام ).

مورداً لحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني وتحقّق احتمال الضرر في الفراغ الاحتمالي ، كيف يمكننا القول بأنّه يحكم بقبح العقاب على ترك ذلك الزائد بلا بيان.

وقد أجاب بعض أجلّة العصر عن هذه الشبهة فيما حرّرته عن درسه سلّمه اللّه (1) ، وهاك نصّ ما حرّرته : وهو أنّ الجواب يتوقّف على مقدّمات :

الأُولى : أنّ محلّ الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين ممحّض لهذه الجهة - أعني الارتباط - مع قطع النظر عن الجهات الأُخر من اعتبار الترتيب أو الموالاة بين الأجزاء ، فإنّ ذلك غير لازم للارتباطية ، إذ ربما اعتبرت الموالاة في الواجبات غير الارتباطية ، وربما اعتبر فيها الترتيب كما في صلاة الظهرين ، كما أنّه ربما لم يعتبر الموالاة في الواجبات الارتباطية كما في الغسل الترتيبي ، بل ربما لم يعتبر الترتيب فيها ، كما قيل في مسح القدمين في الوضوء ، وكما قيل به في غسل الشقّين في الغسل الترتيبي.

المقدّمة الثانية : أنّ كلّ واحد من أجزاء المركّب الارتباطي يكون بنفسه متعلّقاً للوجوب ، بلا اعتبار قيد يوجب مباينته مع الكل. وبعبارة أُخرى : إذا دار الأمر بين وجوب الأجزاء الأربعة وبين وجوب الخمسة ، فالأربعة لا يختلف حالها ، سواء كانت بنفسها متعلّقة للوجوب أو كانت في ضمن الخمسة ، بحيث إنّها على تقدير تعلّق الوجوب بها فقط لا تكون مباينة لنفسها على تقدير تعلّق الوجوب بالخمسة. وبالجملة : فالأربعة لا تكون مقيّدة بشرط لا على تقدير تعلّق الوجوب بها ، كما أنّها لا تكون مقيّدة بشرط انضمام الخامس على تقدير تعلّقه بالخمسة ، فعلى تقدير تعلّق الوجوب بالخمسة لا يكون عدم سقوطه بالاتيان

ص: 275


1- بتاريخ ذي الحجّة 1340 ه ق [ منه قدس سره ].

بالأربعة لقصور في ناحية الأربعة ، بل لقصور في ناحية الوجوب ، لعدم تناوله الأربعة في حال عدم وجود الخامس ، فيكون عدم سقوط وجوب الأربعة على هذا التقدير لأجل عدم امتثال الخامس الملازم لوجوب الأربعة ، لا لأجل عدم الاتيان بمتعلّق وجوب الأربعة.

المقدّمة الثالثة : أنّ محصّل قاعدة الاشتغال هو أنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان بما تعلّق به التكليف ، فإنّما يجب علينا عقلاً الخروج عن عهدة التكليف بالاتيان بموضوعه ومتعلّقه ، ولا يحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الآخر الملازم للتكليف المتعلّق بالأقل على تقدير وجوب الأكثر.

إذا عرفت هذه المقدّمات تعرف أنّ الشبهة المذكورة إنّما تتمّ على تقدير كون قاعدة الاشتغال حاكمة بلزوم امتثال ما يكون ملازماً للتكليف ، أمّا إذا لم يكن محصّلها إلاّلزوم الاتيان بمتعلّق التكليف المعلوم وتحصيل القطع بحصول متعلّقه ، فلا تتمّ الشبهة المزبورة.

وحاصله : أنّه لو فرضنا كون الواجب في الواقع هو الأكثر ، فعدم سقوط الوجوب المتعلّق بالأقل عند الاتيان به لم يكن لعدم حصول متعلّقه أعني الأقل ، بل لعدم سقوط ذلك المقدار من الوجوب المتعلّق بالزائد ، لما هو مقتضى الارتباط من التلازم بين الوجوبين التحليليين الناشئ عن وحدة الوجوب المتعلّق بتلك الأشياء المتعدّدة ، فإنّ هذا - أعني وحدة الوجوب وعدم وحدته - هو المائز بين الارتباطيين والاستقلاليين ، لا أنّ كلّ واحد من أجزاء الواجب في الارتباطيات مقيّد بالانضمام دون الاستقلاليات. وإذا كان المنشأ في عدم سقوط الأقل بالاتيان بنفس الأقل - لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر - هو عدم سقوط المقدار التحليلي من الوجوب المتعلّق بالزائد على الأقل ، ففي الحقيقة يكون عدم

ص: 276

سقوطه بذلك ، لا من جهة عدم حصول متعلّقه ، وإلاّ لكان البعث إلى الأقل ممكناً مع الاتيان به ، ومن الواضح امتناع ذلك ، بل إنّما يكون عدم السقوط من جهة عدم حصول الأجزاء الزائدة.

وبالجملة : فعدم امتثال الأكثر تارةً يكون لعدم الاتيان بالأقل والأكثر جميعاً ، وتارة يكون لعدم الاتيان بالمقدار الزائد وإن أتى بالأقل ، ففي صورة الاتيان بالأقل لا يكون نقصان في ناحية الأقل ، وإنّما النقصان من جهة عدم الاتيان بذلك المقدار الزائد ، وحينئذ ففيما نحن فيه من العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، بعد فرض الانحلال وكون الأقل معلوم الوجوب تفصيلاً ، لا يحكم العقل إلاّبالفراغ اليقيني عن الأقل الذي علم اشتغال الذمّة به ، فإنّ ذلك موجب لسقوطه. انتهى ما حرّرته عنه سلّمه اللّه. وقد أوضح ذلك قدس سره في مقالتيه في مسألة التعبّدي والتوصّلي (1) ، وفي مبحث الأقل والأكثر ، فراجع (2).

ولا يخفى أنّ الحجر الأساسي في هذه المقدّمات إنّما هو المقدّمة الثانية الراجعة إلى دعوى انحصار المائز بين الارتباطيات وغيرها في أنّ الارتباطيات يكون الوجوب فيها واحداً ، وفي غيرها يكون متعدّداً ، وأنّ الارتباطية لا توجب تقييد كلّ جزء بالانضمام إلى الجزء الآخر ، وأنّ عدم سقوط الواجب الارتباطي فيما لو أتى به فاقداً لبعض الأجزاء إنّما هو من جهة عدم امتثال الأمر الضمني المتعلّق بذلك المفقود ، لا من جهة أنّه لم يأت بالمأمور به أصلاً ، وإلاّ كان اللازم عليه التكرار ، بل من جهة أنّ عدم سقوط الأمر المتعلّق بالباقي يوجب عدم سقوط الأمر بذلك المقدار الذي قد أتى به ، لأجل الملازمة بين الوجوب من حيث

ص: 277


1- مقالات الأُصول 1 : 245 - 246.
2- مقالات الأُصول 2 : 261 - 262.

الحدوث والبقاء.

ولكن الظاهر أنّ هذه المقدّمة لا يمكن إثباتها ، لأنّ المأتي به إذا لم يكن فيه خلل لا يعقل عدم سقوط أمره ، فإنّ الاتيان بمتعلّق الأمر علّة تامّة لسقوطه ، فلا يعقل بقاؤه ما لم يكن الباقي قيداً في صحّة المأتي به.

ولا يخفى أنّ جهة التلازم بين الوجوبين في مرحلة الحدوث والبقاء وإن أوجبت توقّف سقوط الوجوب عمّا أتى على الاتيان بالباقي ، إلاّ أن هذه الجهة - أعني جهة التلازم بين الوجوبين - لمّا كانت ناشئة عن وحدة الوجوب الناشئة عن وحدة المتعلّق ، التي ليست هي إلاّ اعتبار كون مجموع تلك الأجزاء شيئاً واحداً الذي ليس هو إلاّعبارة عن كون كلّ من الأجزاء مقيّداً بوجود الجزء الآخر ، كان الأمر بالأخرة منتهياً إلى أنّ المنشأ في عدم سقوط الوجوب عمّا أتى به هو كون كلّ من تلك الأجزاء مقيّداً بالباقي.

وبالجملة : أنّ الارتباطية توجب تقييد بعض الأجزاء ببعض ، بحيث إنّه يكون فقدان المركّب لبعض الأجزاء موجباً للنقص بالأجزاء الموجودة على وجه لا تكون مسقطة للأمر المتعلّق بها نفسها ، وغاية ذلك هو أن يكون المتأخّر من الأجزاء شرطاً في صحّة المتقدّم ، فيكون كسائر ما ظاهره من قبيل الشرط المتأخّر حتّى أنّ بعض الأساطين التزم بأنّ امتثال الأمر المتعلّق بمجموع الصلاة لا يكون إلاّ عند الفراغ من ميم السلام عليكم ، وقد تعرّض لذلك شيخنا الأُستاذ الأعظم قدس سره في بعض مباحث الواجب المعلّق والمشروط (1).

ومن ذلك يتّضح أنّ الارتباطية بهذا المعنى من تقييد بعض الأجزاء ببعض

ص: 278


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 93 وما بعدها ، وكذا راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 15 وما بعدها.

وعدم سقوط الأمر المتعلّق بالأوّل إذا لم يأت بالثاني ، لا يوجب التكرار في الأوّل بل إنّ الأمر المتعلّق بالأوّل يكون سقوطه معلّقاً على الاتيان بالثاني ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون الثاني شرطاً في الأوّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو التزمنا بما أفاده من معنى الارتباطية ، الذي هو التلازم بين الوجوبين في مرحلة الحدوث والبقاء ، من دون أن يكون الجزء الخامس شرطاً في الأجزاء الأربعة ، لم نتخلّص من الشبهة ، إذ لا يكون الاقتصار على الأقل إلاّمن قبيل الشكّ في سقوط الأمر المتعلّق بذلك الأقل ، لأنّ المفروض أنّه لو كان الخامس واجباً في الواقع ، لكان الأمر بالأربعة عند عدم الاتيان به باقياً بحاله لم يسقط إلاّعند الاتيان بالخامس.

ثمّ إنّك حيث قد عرفت أنّ الارتباطية توجب تقييد كلّ من الأجزاء بالبواقي يتّضح لك أنّ الارتباطية في الأجزاء محتاجة إلى تصرّفين : أحدهما جعل وجوب الجزء أو جعل الجزء ، والآخر جعل وجوب الارتباط بين هذا الجزء وبين غيره من الأجزاء ، أو جعل شرطية الارتباط المذكور ، من دون فرق في ذلك بين أن يتصدّى ابتداءً لجعل شرطية الارتباطية ، أو أنّه يعلّق به الأمر الشرطي ، أو أنّه يأمر بالمركّب الواجد لذلك الشرط ، أو أنّه يكون منتزعاً من جعل الوجوب الواحد وارداً على تمام الأجزاء المنظورة بعنوان الوحدة ، أو غير ذلك من الطرق التي ينتزع منها الشرطية.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من أجزاء الواجب الارتباطي يتحمّل تكليفين : التكليف المتعلّق به في ضمن الكل ، والتكليف المتعلّق بربطه بباقي الأجزاء وربط باقي الأجزاء به ، بحيث يكون الجزء مأموراً به من حيث نفسه ولو ضمناً ، ومأموراً به من حيث إنّ وجوده يكون شرطاً في صحّة باقي الأجزاء.

ص: 279

نعم ، إنّ ما هو الشرط في الواجبات الارتباطية مثل الطهارة في حال الصلاة مثلاً لا يتحمّل إلاّوجوباً واحداً ، وهو وجوبه من حيث إنّ وجوده يكون شرطاً في صحّتها ، وذلك هو عين الارتباطية.

وحاصل الفرق : أنّ وجوب الجزء لمّا لم يكن عين الارتباطية ، كانت ارتباطيته محتاجة إلى جعل آخر ، أمّا وجوب الشرط فإنّه لمّا كان عين الارتباطية لم يكن محتاجاً إلى جعلين.

ولا يخفى أنّ عمدة النظر في المقام إنّما هو إلى جعل الارتباطية ، الذي هو الجعل الثاني في الأجزاء والجعل الوحيد في الشرائط ، فإنّ هذا الجعل والتقييد هو المنشأ في الإشكال السابق ، أعني كون المقام من قبيل الشكّ في الامتثال ، وأنّه لا يسوّغ لنا العقل الموافقة بالاحتمال بعد إحراز الشغل اليقيني على ما عرفت تفصيله في الشبهة المتقدّمة.

وحينئذ نقول بعونه تعالى في حلّ الشبهة المرقومة : إنّ الواجب الارتباطي المردّد بين كونه أربعة أجزاء أو خمسة أجزاء ، لو كان في الواقع مركّباً من خمسة أجزاء ، يكون الجزء الخامس واجباً بوجوبين : أحدهما الجزئي المعبّر عنه بالوجوب النفسي الضمني ، والآخر الوجوب الشرطي المعبّر عنه بالوجوب الغيري المقدّمي ، بل يمكن القول بأنّ الوجوب الثاني أيضاً وجوب نفسي على ما حقّقه الأُستاذ قدس سره في مبحث مقدّمة الواجب (1) من كون الشروط ممّا يترشّح عليها الوجوب النفسي.

ولا يخفى أنّ الوجوب الثاني للجزء المذكور وإن كان بعد فرض الارتباطية

ص: 280


1- راجع مبحث الواجب النفسي والغيري في أجود التقريرات 1 : 255 - 256 ، وراجع أيضاً المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 196 وما بعدها.

بين جميع الأجزاء ملازماً للوجوب الأوّل ، إلاّ أنه ليس بمسبّب عنه ، بل يكون كلّ منهما معلولاً للملاك الذي اقتضى تعلّق الوجوب الجزئي بالخامس ، وتعلّق الوجوب الشرطي الذي محصّله تقييد الأربعة بوجود الخامس ، وحينئذ نقول : إذا علمنا تفصيلاً بوجوب الأربعة ، يكون تقييد تلك الأربعة بوجود الخامس واشتراطها بوجوده مشكوكاً ، فيكون مورداً لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما يكون الوجوب النفسي لذلك الخامس أيضاً مشكوكاً ومورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ودعوى أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأربعة يوجب حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني منها ، وإن كانت مسلّمة لا إشكال فيها ، إلاّ أن ذلك الحكم العقلي بلزوم اليقين بالفراغ منها إنّما يكون بمقدار ما قامت الحجّة باشتغال الذمّة به ، وليس هو إلاّنفس ذات الأربعة دون تقيّدها بالخامس ، إذ لم يكن المعلوم التفصيلي إلاّوجوب ذات الأربعة ، وأمّا تقيّدها بالخامس فلم يكن إلاّمشكوكاً.

وإن شئت قلت : إنّ ذلك العلم التفصيلي المتعلّق بوجوب ذات الأربعة لا يقتضي بحكم العقل أزيد من لزوم الاتيان بها والمنع من تركها بنفسها ، أمّا تركها بترك قيدها مع فرض الاتيان بها بنفسها فلم تقم الحجّة على المنع عنه ، فيكون العقاب على تركها بترك ذلك القيد مع فرض الاتيان بها بذاتها عقاباً بلا بيان. وإن شئت قلت : إنّ العقاب على ترك ذلك القيد يكون بلا بيان.

والحاصل : أنّ جهة تقيّد الأربعة بوجود ذلك الخامس لمّا كانت شرعية ناشئة عن جعل الشارع ، وكانت تلك الجهة مستتبعة للعقاب ، فمع فرض كونها مشكوكة يكون العقاب على مخالفتها عقاباً بلا بيان ، ولا يكفي في بيانها وقيام الحجّة عليها العلم التفصيلي بوجوب الأربعة ، فإنّ العلم التفصيلي وإن اقتضى

ص: 281

الفراغ اليقيني ، إلاّ أنه إنّما يقتضي الفراغ اليقيني عمّا هو داخل تحت العلم ، دون ما هو خارج عمّا هو تحت العلم المزبور ممّا هو في حدّ نفسه مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولعلّ هذا هو المراد من التوسّط في التنجّز في كلام الشيخ قدس سره (1) ، فإنّ ذلك المركّب لو كان في الواقع مركّباً من خمسة أجزاء ، بحيث كان كلّ واحد من تلك الأجزاء مقيّداً بوجود الجزء الخامس ، لكانت الأربعة مقيّدة في الواقع بوجود الجزء الخامس ، وكانت بنفسها متنجّزة ، للعلم التفصيلي بطروّ الوجوب عليها ، وكان مقتضى تنجّزها هو استحقاق العقاب على تركها ، إلاّ أن الأربعة التي في ضمن الخمسة يكون تركها على نحوين ، أحدهما تركها بنفسها ، والآخر تركها بترك الخامس المأخوذ قيداً فيها مع فرض الاتيان بها بنفسها ، والمقدار الذي أوجبه العلم هو الأوّل أعني تركها بنفسها ، فإنّا نعلم بكونه ممنوعاً عنه موجباً لاستحقاق العقاب ، وأمّا النحو الثاني فلم يحصل لنا العلم بالمنع عنه ولا باستحقاق العقاب عليه ، فلا يكون العقاب على ذلك النحو من الترك إلاّعقاباً بلا بيان ، ولا يكون مورداً لقاعدة الشغل ، فإنّ العقل إنّما يحكم بلزوم الفراغ اليقيني بمقدار الشغل الذي قامت به الحجّة ، والمفروض أنّ الحجّة لم تقم إلاّعلى اشتغال الذمّة بذات الأربعة ، دون تقيّدها بالخامس ، ولا يمكن للشارع أن يحتجّ على العبد بأنّك بعد أن علمت بوجوب الأربعة كان يلزمك الخروج عن عهدتها يقيناً ، وأن لا تعتمد في ذلك على احتمال الخروج ، لأنّ للعبد أن يقول إنّي لم أعتمد على الخروج الاحتمالي ، وإنّما اعتمدت في الخروج عمّا علمت على

ص: 282


1- الظاهر أنّ هذا الاصطلاح متصيّد من كلمات الشيخ قدس سره عند استدلاله بالبراءة العقلية في مسألة الأقلّ والأكثر ، فراجع فرائد الأُصول 2 : 322 - 323.

الخروج اليقيني ، وأمّا احتمال كون الأربعة مقيّدة بالخامس ، فإنّي لم أعلم به.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في الخروج عن عهدة ما علم اشتغال الذمّة به ، تارةً يكون ناشئاً عن الشكّ في كلفة زائدة على أصل ما علم اشتغال الذمّة به ، بحيث يكون الشكّ في الخروج عن العهدة ناشئاً عن الشكّ في تكليف شرعي آخر جعله الشارع على عاتق المكلّف فوق ما علم به من التكليف ، وأُخرى لا يكون ناشئاً عن ذلك ، بل يكون من باب مجرّد احتمال الخروج لأجل بعض العوارض والطوارئ ، كما في مثل الشكّ في المحصّل ، وكما في موارد الشكّ في الخروج في باب الشبهات الموضوعية ، والعقل إنّما يلزم بالفراغ اليقيني ويمنع من الاعتماد على الفراغ الاحتمالي فيما إذا كان من النحو الثاني ، أمّا النحو الأوّل فإنّا وإن سمّيناه شكّاً في الخروج عن العهدة ، وإنّما هو شكّ في تكليف زائد أوجب الشكّ في الخروج عن العهدة ، فهذا النحو من الاعتماد على الخروج الاحتمالي لا يمنعه العقل ، إذ ليس هو إلاّشكّاً في تكليف زائد ، فلا يكون العقاب عليه إلاّعقاباً بلا بيان ، هذا.

ولكن المطلب بعدُ محتاج إلى تأمّل ، فإنّ قاعدة قبح العقاب بدون بيان إنّما تجري في مقام الشكّ في الاشتغال ، لا في مقام الشكّ في الفراغ حتّى لو كان الشكّ في الفراغ ناشئاً عن الشكّ في الاشتغال ، إلاّ إذا كان هناك أصل ينفي الاشتغال ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه قد انشغلت الذمّة بالأربعة ، ولابدّ من اليقين بالفراغ منها ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان وإن جرت في قيدية الخامس أو في وجوبه ، لكنّها لا تكون نافعة في حصول الفراغ بالاتيان بالأربعة ، لأنّ العقاب الذي يحكم العقل بقبحه إنّما هو على ترك الخامس أو ترك التقيّد به ، وهذا لا يكون منافياً لحكمه بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ ممّا اشتغلت به الذمّة وهو نفس

ص: 283

الأربعة ، وهذا هو المستفاد من كلمات شيخنا قدس سره في هذا التحرير من قوله : وبتقريب آخر - إلى قوله - فتحصّل من جميع ما ذكرنا الخ (1).

ولكن لا يخفى أنّ العقاب الذي حكم العقل بقبحه فيما نحن فيه ليس هو على ترك الخامس أو ترك التقيّد به فيما لو أتى بالأربعة مجرّدة عن الخامس ، فإنّ لازم ذلك هو كون وجود الأربعة مسقطاً للوجوب المتعلّق بها ، وبقاء الوجوب المتعلّق بالخامس أو المتعلّق بالتقيّد بالخامس ، وهذا خلاف الفرض من الارتباطية ، فلابدّ أن يكون العقاب الذي حكم العقل بقبحه عند ترك الخامس هو العقاب على ترك الأربعة المقيّدة بالخامس ، وحينئذ نقول عند الوصول إلى مرتبة الفراغ لو جاء المكلّف بالأربعة فقط لا يحكم عليه العقل بلزوم الخامس من جهة كون شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ ، لأنّه إنّما يستدعي الفراغ اليقيني تخلّصاً من العقاب المحتمل على ترك الأربعة المقيّدة ، وهذا قد طمأنه العقل بعدم العقاب عليه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون المورد حينئذ مورداً لقاعدة شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في بيان جريان البراءة الشرعية ما يزيد ذلك وضوحاً (2).

قوله : لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ ... الخ (3).

كأنّه يقال : دع عنك العلم الاجمالي ، بدعوى أنّه منحل ، أو بدعوى أنّ أحد طرفيه وهو كون الأربعة لا بشرط لا الزام فيه في قبال ما فيه الالزام وهو كونها بشرط شيء ، إلاّ أن هنا أمراً لا مدفع له وهو العلم ولو إجمالاً بانشغال ذمّته

ص: 284


1- فوائد الأُصول 4 : 161 - 162.
2- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 296 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 159.

بالأربعة مردّداً بين الوجهين ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وذلك لا يحصل إلاّبالاتيان بها منضمّة إلى الخامس ، وحينئذ يكون اللازم هو ضمّ الخامس إليها وإن كان تقيّد الأربعة بالخامس أو وجوب نفس الخامس في حدّ نفسه مجرى للبراءة العقلية ، أعني قبح العقاب بلا بيان.

قوله : فإنّ العلم التفصيلي بوجوبه يتوقّف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلاً بوجوب النصب - إلى قوله - وثانياً ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ذلك بمجرّده لا يكون فارقاً بين هذه المسألة وما نحن فيه ، إذ كما أنّ العلم التفصيلي بوجوب النصب يتوقّف على وجوبه على كلّ تقدير ، من وجوبه بنفسه ووجوبه بوجوب ما يتوقّف عليه من الصعود على السطح ، فكذلك نقول : إنّ العلم بوجوب الأربعة يتوقّف على وجوبها على كلّ تقدير من وجوبه بنفسه ووجوبه بوجوب ما هو في ضمنه أعني الخمسة. وإنّما الفارق هو أنّ العلم المردّد بين وجوب نصب السلّم لنفسه وبين وجوبه لغيره لا يكون موجباً للعلم التفصيلي بوجوبه على كلّ حال ، بحيث إنّه يستحقّ العقاب على تركه ، لما حرّرته عنه قدس سره من أنّ العلم بوجوبه إمّا لنفسه أو لغيره لا يوجب انحلال العلم بالوجوب النفسي المردّد بين الكون على السطح أو نصب السلّم ، فإنّه وإن احتمل انطباق الوجوب المعلوم بالاجمال عليه ، إلاّ أن العلم بوجوب نصب السلّم المردّد بين النفسي والغيري لا يكون علماً من سنخ ذلك الوجوب النفسي المعلوم بالاجمال المردّد بينه وبين الكون على السطح.

ص: 285


1- فوائد الأُصول 4 : 157 158 [ يأتي التعليق على هذا المتن أيضاً في الصفحة : 294 ].

قلت : والأولى أن يقال : إنّ العلم الاجمالي المردّد بين وجوب نصب السلّم ووجوب الكون على السطح يكون سابقاً في الرتبة على العلم الاجمالي المردّد بين وجوب نصب السلّم نفسياً أو وجوبه غيرياً ، فلا يكون العلم التفصيلي بلزوم نصب السلّم المتولّد من هذا العلم الاجمالي الثاني موجباً لانحلال العلم الاجمالي الأوّل لتأخّره عنه برتبتين ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل نفسياً إمّا وحده أو في ضمن الأكثر غير متأخّر في الرتبة عن العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر ، بل إنّه عينه.

قوله : فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذا لو تمّ لكان مقتضاه الانحلال في مسألة نصب السلّم ، لكن قد عرفت عدم الانحلال فيها بما هو الفارق بينها وبين ما نحن فيه ، ولعلّ قوله : « فتأمّل » إشارة إلى ذلك.

وتوضيح ذلك : أنّ قول صاحب الكفاية قدس سره في مقام بيان محالية الانحلال : بداهة توقّف لزوم الأقل فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلاّ إذا كان متعلّقاً بالأقل كان خلفاً ، مع أنّه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجّز التكليف على كلّ حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقاً المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال الخ (2) ، إن كان المراد بقوله : لزوم الأقل ، في قوله : « بداهة

ص: 286


1- فوائد الأُصول 4 : 158.
2- كفاية الأُصول : 364.

توقّف لزوم الأقل إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقاً ، ولو كان متعلّقاً بالأكثر » هو مجرّد وجوب الأقل ، فمن الواضح أنّ وجوب الأقل لا يتوقّف على تنجّز وجوب الأكثر ، بل إنّما يتوقّف على وجوبه واقعاً. وهكذا الحال في وجوب نصب السلّم ، فإنّه لا يتوقّف على تنجّز وجوب الكون على السطح ، بل إنّما يتوقّف على الوجوب الواقعي للكون على السطح.

وإن كان المراد بلزوم الأقل هو تنجّز وجوبه ، فمن الواضح أن تنجّز وجوب الأقل لا يتوقّف على تنجّز وجوب الأكثر ، فإنّ تنجّز وجوب الأقل إنّما يتوقّف على العلم بوجوب الأقل وهو حاصل ، غايته أنّه لا يعلم أنّه مستقل بالوجوب أو أنّه في ضمن الأكثر ، وهذا المقدار من التردّد لا يضرّ بكون العلم به في الجملة علّة في تنجّزه ، وهو وإن أوجب عدم تنجّز الأكثر إلاّ أن انحلال العلم به لا يوجب المحال ، لما عرفت من أنّ تنجّز وجوب الأقل لم يكن ناشئاً عن تنجّز الأكثر ، كي يكون من قبيل كون المعلول رافعاً لعلّته ، بل إنّما كان تنجّز وجوب الأقل ناشئاً عن العلم به تفصيلاً.

نعم ، في مسألة نصب السلّم والكون على السطح ، لا يمكننا القول بأنّ العلم التفصيلي بوجوب النصب لنفسه أو لغيره يوجب انحلال العلم الاجمالي المردّد بين كون الواجب نفسياً هو النصب أو الكون على السطح ، لأنّ هذا العلم التفصيلي متأخّر رتبة عن ذلك العلم الاجمالي فلا يعقل انحلاله به ، بخلاف مسألة الأقل والأكثر ، فإنّ وجوب الأقل ضمناً لمّا كان بعين وجوب الأكثر ، لم يكن العلم به متأخّراً رتبة عن العلم بوجوب الأكثر ، بل كان العلم بوجوب الأكثر علماً بوجوب الأقل ، غايته أنّه في ضمنه لا مستقلاً ، فنحن في رتبة علمنا بالوجوب المردّد بين الأقل والأكثر نكون عالمين بوجوب الأقل ، غايته أنّه مردّد

ص: 287

بين الاستقلالية والضمنية ، وهذا بخلاف نصب السلّم فإنّه على تقدير كون الكون على السطح واجباً ، لا يكون بنفس وجوب الكون ، بل يكون معلولاً له ومتأخّراً عنه رتبة.

لكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يكون من تأخّر المعلوم ثانياً عن المعلوم الاجمالي أوّلاً ، والمدار في التنجّز على تقدّم العلم وتأخّره ، وحينئذ لو علم أوّلاً تفصيلاً بكون النصب واجباً إمّا لنفسه وإمّا مقدّمة لواجب فعلي هو الكون على السطح ، وعن هذا العلم التفصيلي انتقل إلى العلم الاجمالي المردّد بين كون الواجب النفسي هو النصب أو هو الكون ، ينبغي أن نقول إنّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي الحاصل ثانياً ، وتمام الكلام في محلّه من مقدّمة الواجب ، فقد التزم شيخنا قدس سره هناك بعدم الأثر للعلم الاجمالي الثاني في هذه الصورة ، فراجع تحريرات السيّد سلّمه اللّه عنه قدس سره في ذلك المبحث ، وهاك نصّ ما قاله هناك في الجزء الأوّل من الطبعة الأُولى : وأُخرى لا يعلم إلاّوجوب ما يدور أمره بين المقدّمية والنفسية ، ويحتمل أن يكون هناك واجب آخر فعلي يكون هذا مقدّمة له ، وحينئذ لا إشكال في وجوب الاتيان به على كلّ حال ، للعلم باستحقاق العقاب على تركه إمّا لنفسه أو لكونه مقدّمة لواجب فعلي ، وأمّا ترك الواجب النفسي المحتمل من غير ناحيته فهو جائز لأصالة البراءة. وبالجملة : تركه المستند إلى ترك معلوم الوجوب ممّا يوجب العقاب ، وأمّا تركه من غير ناحيته فالمكلّف لجهله في سعة منه ، وتشمله أدلّة البراءة.

وأمّا ما في الكفاية (1) من التمسّك بالبراءة في المقام ، فغير سديد بعد البناء

ص: 288


1- ليس ذلك في الكفاية ، كما حرّرناه في محلّه وكما حرّره السيّد سلّمه اللّه في حاشيته ، لكن لم أجد ذلك منسوباً إلى الكفاية في تحريراتي ، وفي تحريرات المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأُصول 1 - 2 : 223 ] بعنوان « فقد قيل » ، وحينئذ فالنسبة إلى الكفاية من مختصّات تحرير السيّد سلّمه اللّه فلاحظ. قال في الكفاية ] : 110 ] هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأمّا إذا لم يكن فلابدّ من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعلياً للعلم بوجوبه فعلاً وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلاّ فلا ، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً كما لا يخفى [ منه قدس سره ].

على التفكيك في التنجّز في مبحث الأقل والأكثر ، وما نحن فيه أيضاً من ذاك القبيل ، للعلم التفصيلي باستحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب إمّا لنفسه أو لتوقّف واجب فعلي عليه وكونه قيداً له ، وإن لم يكن ذاك الوجوب منجّزاً من جهات أُخر ، فإنّ عدم تنجّزه من جهة أُخرى لا ينافي تنجّزه من جهة ، وأصالة البراءة لا تنافي فعليته واقعاً وتنجّزه بمقدار العلم ، فتدبّر جيّداً (1).

لا يقال : يمكن أن يكون مراد صاحب الكفاية من الفعلية ما يكون معلوم الوجوب ، ففي الصورة الأُولى حيث كان ذو المقدّمة معلوم الوجوب ، بأن علم بوجوب الصلاة وعلم أيضاً بوجوب الغسل وتردّد في وجوبه بين النفسية والغيرية مقدّمة للصلاة المعلومة الوجوب ، كان الاتيان به واجباً على كلّ حال. وفي الصورة الثانية لم تكن الصلاة معلومة الوجوب ، بل كانت البراءة جارية في وجوبها ، فلم يبق إلاّ احتمال وجوب الغسل نفسياً المقرون باحتمال الغيرية مقدّمة للصلاة التي جرت البراءة في وجوبها ، وحينئذ تكون البراءة جارية أيضاً في الوجوب النفسي للغسل.

لأنّا نقول : لا يمكن حمل كلامه على هذه الصورة ، لأنّه يقول في مسألة

ص: 289


1- أجود التقريرات 1 : 249 - 250 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشّاة ].

الأقل والأكثر (1) إنّ الوجوب المردّد بين النفسية والغيرية لا يوجب انحلال العلم الاجمالي المردّد بين الوجوب النفسي للأقل والوجوب النفسي للأكثر ، ولازم حمل كلامه هنا على هذه الصورة أن تجري البراءة في كلّ من الوجوبين النفسيين ، ففي مثل الغسل المردّد بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري للصلاة المفروض أنّه يعلم حينئذ بالوجوب النفسي مردّداً بين الغسل والصلاة ، يكون الحاصل هو إجراء البراءة الشرعية في كلّ من وجوب الغسل نفسياً ووجوب الصلاة نفسياً ، مع أنّه عالم إجمالاً بأنّ أحدهما واجب نفسي ، فيكون اللازم من ذلك هو المخالفة القطعية لما علمه من الوجوب النفسي بينهما ، وهذا ممّا لا يظنّ الالتزام به من ذي مسكة ، فكيف يمكن نسبته إليه.

وممّن يظهر منه تفسير العبارة بذلك السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) في حقائقه (2) ، فإنّه ذكر للمسألة - أعني ما لو علم بوجوب الشيء كنصب السلّم مع التردّد بين كون وجوبه نفسياً وكونه غيرياً مقدّمة للصعود - صوراً ثلاثاً : الأُولى ، أن يعلم بعدم وجوب الصعود. الثانية : أن يعلم بوجوب الصعود. الثالثة : أن يشكّ في وجوب الصعود.

وفي الأُولى يكون المرجع هو البراءة من وجوب نصب السلّم. وفي الثانية يجب النصب للعلم بوجوبه على كلّ حال. وفي الثالثة : أيضاً يجب النصب ، واستشكل في إجراء البراءة من وجوب الصعود. ثمّ جعل قول المصنّف : « وإلاّ » شاملاً للصورة الأُولى والصورة الثالثة ، ثمّ أشكل على المصنّف قدس سره بأنّ البراءة إنّما تجري في الصورة الأُولى فقط ، وأمّا الثالثة فلا تجري البراءة فيها من وجوب

ص: 290


1- كفاية الأُصول : 364.
2- حقائق الأُصول 1 : 261 - 262.

النصب.

ولا يخفى أنّ الصورة الأُولى غير داخلة في المقام ، لأنّه مع العلم بأنّ الصعود غير واجب عليه كيف يحصل التردّد في وجوب نصب السلّم بين النفسية والغيرية ، إذ مع العلم بأنّ الصعود غير واجب يحصل القطع بأنّه ليس وجوب النصب من باب الغيرية والمقدّمية للصعود ، إلاّ أن يكون مراده من عدم وجوب الصعود أنّه ليس بواجب فعلاً ، لعدم حضور وقته أو لسقوطه بالاضطرار أو العجز عنه ، ونحو ذلك ممّا يوجب عدم الفعلية.

وأمّا الصورة الثالثة فقد عرفت أنّها ليست مرادة للمصنّف قدس سره ، وإنّما مراده ما لو علم بأنّ النصب واجب نفسي أو مقدّمة لواجب غير فعلي الوجوب لعدم مجيء وقته ، فلاحظ.

وقال بعض الشارحين وهو المرحوم الشيخ عبد الحسين الرشتي في كتابه عند التعرّض لهذه العبارة في مقام تعليل وجوب الاتيان بالطهارة في الصورة الأُولى ، ما هذا لفظه : إذ على تقدير كونها واجبة نفسياً فواضح ، وعلى تقدير كون وجوبها غيرياً لأجل واجب فعلي آخر لأجل أنّا نعلم بوجوب ذلك الغير أي الصلاة فعلاً ، فنستكشف أنّ مقدّمتها أيضاً واجبة بناءً على الملازمة ، وإلاّ لما قطع بوجوبه فعلاً ، وهذا خلف (1).

ثمّ إنّه علّل الحكم بعدم الوجوب في الصورة الثانية التي أشار إليها المصنّف قدس سره بقوله : وإلاّ الخ بما هذا لفظه : إذ على تقدير كون وجوبه غيرياً لا علم بوجوبه ، لعدم كون ما احتمل كونه شرطاً له فعلياً ، فيبقى احتمال الوجوب النفسي

ص: 291


1- شرح كفاية الأُصول 1 : 148 - 149.

فأصالة البراءة عن الوجوب حينئذ محكّمة الخ (1) ، فإنّ هذه العبارة تدلّ على أنّ المدار في وجوب الغسل على العلم بوجوب الصلاة التي احتمل كونه شرطاً لها. فالأُولى ناظرة إلى فرض العلم بوجوب الصلاة ، والثانية ناظرة إلى فرض عدم العلم بوجوبها.

وينبغي مراجعة ما حرّرناه في مباحث الأوامر في مسألة تردّد الواجب بين كونه نفسياً وكونه غيرياً (2).

قول السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عن شيخنا قدس سره : وأمّا إذا كان المعلوم بالاجمال مغايراً مع المعلوم بالتفصيل فيستحيل الانحلال ، كما إذا علم نجاسة أحد الاناءين إجمالاً ، ثمّ علم حرمة أحدهما تفصيلاً إمّا لنجاسته أو غصبيته ... الخ (3).

وقد حرّرت عنه قدس سره نحو ذلك. ولا يخفى أنّ الذي ينبغي هو فرض كون العلم التفصيلي سابقاً أو مقارناً للعلم الاجمالي ، وإلاّ لم يكن إشكال في أنّ العلم التفصيلي المتأخّر لا يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي السابق ، إلاّ إذا كان المعلوم التفصيلي سابقاً على المعلوم الاجمالي ، ليكون كاشفاً عن خطأ ذلك العلم الاجمالي ، على ما عرفت تفصيل الكلام في ذلك في مبحث الملاقي (4).

وكيف كان ، فالذي ينبغي هو أن نفرض العلم التفصيلي بحرمة شرب ما في

ص: 292


1- شرح كفاية الأُصول 1 : 148 - 149.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 190 وما بعدها ، وراجع أيضاً الحواشي السابقة عليها.
3- أجود التقريرات 3 : 491.
4- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 97 وما بعدها.

الاناء الصغير إمّا لكونه نجساً أو لكونه مغصوباً ، ثمّ يحصل العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة ما في الاناء الكبير ، لكن على تقدير نجاسة الصغير فهي تلك النجاسة المردّد بينها وبين الغصبية ، ولأجل التوضيح نقول : لو علم تفصيلاً مغصوبية ما في الصغير ، ثمّ طرأ العلم الاجمالي بوقوع نجاسة فيه أو في الكبير ، لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً بعد أن لم يكن له أثر إلاّحرمة الشرب ، التي كانت محقّقة بواسطة العلم التفصيلي بغصبيته.

ومنه يظهر لك أنّ الوجه في المثال هو القول بأنّ العلم الاجمالي بالنجاسة بين الصغير والكبير بعد فرض كون الصغير قد علم حرمة شربه إمّا لغصبيته أو لنجاسته ، لا يكون مؤثّراً ، فما أُفيد من عدم انحلال القضية المردّدة المنفصلة إلى قضية معلومة وأُخرى مشكوكة مسلّم ، لكن ذلك العلم الاجمالي وإن لم ينحل إلاّ أنّه لم يكن مؤثّراً.

قوله : وحيث إنّ الوجوب المقدّمي وجوب تبعي قهري لا يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب وعقاب ... الخ (1).

كأنّ محصّله : أنّه لا أثر للوجوب المقدّمي إلاّمحض الاسم ، فلا أثر للعلم التفصيلي بأنّ الفعل الفلاني واجب إمّا لنفسه أو لغيره ، لأنّه بمنزلة قولك : إنّه إمّا واجب حقيقة أو أنّه واجب اسماً فقط ، وحينئذ لا يكون هذا العلم موجباً لانحلال العلم الاجمالي المتعلّق بالوجوب النفسي بينه وبين غيره الذي هو ذو المقدّمة.

وفيه أوّلاً : أنّه على تقديره يكون عيباً آخر في هذا العلم التفصيلي لا ربط له بالعيب المسوق له الكلام ، وهو اعتبار الاتّحاد في السنخ بين المعلوم بالاجمال

ص: 293


1- أجود التقريرات 3 : 491.

والمعلوم بالتفصيل. وثانياً : أنّه مخالف لما حرّره عن شيخنا قدس سره في مسألة مقدّمة الواجب من أنّه لو علم إجمالاً وجوب الفعل مردّداً بين النفسية والغيرية ، وجب الاتيان به ، ولا يمكن الرجوع فيه إلى البراءة من وجوبه النفسي ، كما نقله عن بعضهم ، فراجع ما حرّره سلّمه اللّه هناك (1). وكيف كان ، فإنّ هذا الذيل لم أعثر عليه فيما حرّرته عنه قدس سره.

قوله في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي : فإنّ العلم التفصيلي بوجوبه يتوقّف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلاً بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيرياً متولّداً من وجوب الصعود ... الخ (2).

فيه : أنّ الانحلال لا ينتج عدم وجوب الصعود ، وإنّما ينتج عدم تنجّزه ، وهو لا ينافي العلم التفصيلي بوجوب النصب لنفسه أو لغيره الذي هو العلّة في تنجّز وجوب النصب كما أفاده بقوله : فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به ، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز الخ (3).

نعم ، هنا مطلب آخر لعلّه مستفاد من قوله : متولّداً من وجوب الطرف الآخر (4) ، وقوله : وتردّد وجوب نصب السلّم بين كونه نفسياً أو غيرياً متولّداً من

ص: 294


1- أجود التقريرات 1 : 249 - 250 ، وقد تقدّم نقل ذلك في الصفحة : 288 - 289.
2- فوائد الأُصول 4 : 157 [ تقدّم التعليق على هذا المتن أيضاً في الصفحة : 285 ].
3- فوائد الأُصول 4 : 158.
4- فوائد الأُصول 4 : 156.

وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة الخ (1) ، وهو ما شرحناه من أنّ المعلوم بالتفصيل متولّد من المعلوم بالاجمال ، فيكون العلم به متأخّراً في الرتبة عن العلم الاجمالي ، فلا يكون موجباً للانحلال. نعم لازم ذلك أنّه لو تأخّر العلم الاجمالي عن ذلك العلم التفصيلي المذكور لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في تنجّز ذي المقدّمة كما أفاده فيما حرّره عنه السيّد - وغيره - في مقدّمة الواجب ص 144 (2) فراجع.

قوله : فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلاً ... الخ (3).

لو أُبدل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي لكان منطبقاً على الإشكال الذي نقلناه عن الأُستاذ قدس سره.

قوله : وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ... الخ (4).

لا يخفى أنّ العقل وإن لم يكن من وظيفته رفع القيدية ، وأنّ وضعها ورفعها من وظيفة الشارع المقدّس ، إلاّ أن من وظيفة العقل الحكم بعدم استحقاق العقاب على مخالفة تلك القيدية المجهولة ، لكونه بلا بيان ، وذلك كاف في استراحة العبد ، وقد عرفت أنّ هذا الحكم العقلي لا يمنعه حكم العقل بلزوم الفراغ

ص: 295


1- فوائد الأُصول 4 : 157.
2- أجود التقريرات 1 : 249 - 250.
3- فوائد الأُصول 4 : 161.
4- فوائد الأُصول 4 : 161.

اليقيني.

قوله : لأنّ رفع القيدية إنّما هو من وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أنّ وضعها ورفعها إنّما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ظاهر العبائر في هذا التحرير هو إجراء البراءة في نفس وجوب الأكثر ، خصوصاً قوله فيما بعد : ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل للعلم بوجوبه على كلّ تقدير الخ (2). وفيه تأمّل ، لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الأكثر لا يحرز وجوب الأقل. نعم في تحريرات السيّد سلّمه اللّه (3) يظهر منه إجراء البراءة في وجوب الزائد المشكوك ، ونحن جرينا في هذه التعليقة على هذا المبنى.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ لنا في الأجزاء الارتباطية جعلين شرعيين وتكليفين مولويين ، وهما التكليف بالجزء ونعبّر عنه بالوجوب الجزئي ، والآخر التكليف بالشرط ونعبّر عنه بالوجوب الشرطي ، والقيدية إنّما تنتزع من الوجوب الثاني ، وحينئذ فيسهل الأمر في الحكم بارتفاعها برفع الوجوب الشرطي ، من دون حاجة إلى رفع الوجوب الجزئي ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ رفع الوجوب النفسي المتعلّق بالجزء لا يزيل الشكّ في القيدية ، بخلاف رفع الوجوب الشرطي فإنّه يزيل الشكّ فيها قطعاً ، فإن قلنا إنّ الاطلاق عبارة عن عدم القيدية كان الأمر سهلاً جدّاً ، وإن قلنا إنّه عبارة عن أمر وجودي ، وأنّ تقابلهما تقابل الضدّين فكذلك أيضاً ، إذ لا يلزمنا إحراز الاطلاق الذي هو أمر وجودي وهو ضدّ التقييد - بل يكفينا رفع كلفة

ص: 296


1- فوائد الأُصول 4 : 162 - 163.
2- فوائد الأُصول 4 : 164.
3- أجود التقريرات 3 : 494.

التقييد - كي نقول إنّ حديث الرفع مثبت للاطلاق الظاهري بناءً على أنّهما من تقابل العدم والملكة ، ونحتاج في إثباته له ولو ظاهراً بناءً على أنّهما من الضدّين إلى التمسّك بأذيال عدم تحقّق الواسطة في النظر العرفي قياساً على باب الاستصحاب ، فإنّ ذلك كلّه لا حاجة إليه ، لأنّا في باب التكاليف لا نحتاج إلى إثبات الاطلاق ، بل يكفينا نفي الكلفة الزائدة كيف ما كان التكليف في الواقع من حيث الاطلاق وعدمه.

ولا يخفى أنّا لو احتجنا إلى إثبات إطلاق التكليف ، وقلنا بأنّهما من قبيل العدم والملكة ، لم يكن حديث رفع الزائد نافعاً في إثبات الاطلاق ، لما حرّر في محلّه من أنّ رفع الملكة لا يوجب الحكم بعدمها ، كما أنّ نفي البصر بالأصل لا يوجب إثبات العمى ، لأنّهما من هذه الجهة بمنزلة الضدّين.

أمّا قياس ما نحن فيه على الاستصحاب في أنّ المدار في ذلك على النظر العرفي ، فهو ممّا لم أتوفّق لفهمه ، لأنّ المدار في باب الاستصحاب على كون المورد بحسب النظر العرفي داخلاً في النقض المنهي عنه ، وأين ذلك ممّا نحن فيه ممّا لم يكن فيه إلاّ الرفع الشرعي.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ العرف يفهمون من رفع التكليف بالجزء الزائد أنّ ذلك التكليف مطلق من حيث التقييد بذلك الجزء ، وهذه جهة أُخرى لو سلّمناها فهي غير الجهة المذكورة في باب الاستصحاب.

والحاصل : أنّ الذي يظهر من الأُستاذ قدس سره أنّه يريد أن لا يجري حديث الرفع في القيدية ، بل يقول إنّه إنّما يجري في رفع وجوب الجزء الخامس ، وبرفعه بحديث الرفع ترتفع القيدية ، لأنّها منتزعة منه ، وبارتفاع القيدية ظاهراً يثبت الاطلاق الظاهري الذي هو الموجب للانحلال ، فكأنّ رفع القيدية عنده لا يوجب

ص: 297

الانحلال إلاّبتوسّط ثبوت الاطلاق ، ولأجل ذلك وجّه على نفسه الإشكال بالمثبتية ، واحتاج إلى دفعه بأنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة (1)

ص: 298


1- هذا ، ولكن ينبغي مراجعة تمام ما حرّرته عنه قدس سره في ليلة الثلاثاء 29 ع 1 والأربعاء 30 ع 1 سنة 1343 ، وما حرّرناه في هامش ذلك نقلاً عنه قدس سره فيما أفاده في الدورة الأخيرة 13 ج 2 سنة 1350 ، ومراجعة ما صرّح به هو قدس سره في رسالته في اللباس المشكوك من أنّ البراءة الشرعية تثبت الاطلاق الظاهري ، فراجعه فإنّه قدس سره قال هناك بعد بيان جريان دليل البراءة الشرعية ما هذا لفظه : فلا جرم يرتفع قيدية المشكوك في الظاهر ، ويؤول الأمر إلى إطلاق ظاهري في المعلوم التفصيلي لا محالة ، ويجري الارتباطي مجرى غيره في الظاهر الخ [ رسالة الصلاة في المشكوك : 301 - 302 ]. فإنّ مراجعة جميع ذلك تبيّن لك أنّه قدس سره لا يريد بذلك ضمّ أصالة البراءة إلى دليل الأمر المردّد بين الأقل والأكثر ، ويكون الناتج هو تحقّق الاطلاق في دليل الأمر ، ليكون حال أصالة البراءة بالنسبة إلى ذلك الأمر حال أصالة عدم التقييد ، أو استصحاب عدم إلحاق قيد ونحو ذلك من الأُصول الاحرازية التي يكون مفادها إحراز عدم القيد ، ليكون الناتج من ضمّها إلى ذلك الدليل إطلاقاً لفظياً ودليلاً اجتهادياً ، كسائر الاطلاقات اللفظية الواقعية والأدلّة الاجتهادية ، فإنّ ذلك بالنسبة إلى حديث الرفع ممّا لا يمكن التفوّه به لأقل الطلبة فكيف ينسب إليه قدس سره. وإنّما مراده هو ما يظهر من جميع ما حرّرته عنه وما صرّح به في مسألة اللباس المشكوك ، وهو أنّ الناتج من ضمّ البراءة إلى الدليل المذكور هو الاطلاق الظاهري ، بمعنى أنّ ذلك المكلّف الذي جرى في حقّه حديث الرفع يكون الأمر بالقياس إليه محكوماً ظاهراً بالاطلاق ويكون المأمور به في حقّه بحكم المطلق ، أو إن شئت فقل : يكون المأمور به في حقّه مطلقاً ظاهراً. وليس المراد أيضاً إثبات الاطلاق الثبوتي في حقّه ظاهراً ، لأنّ هذا هو عين الاطلاق في مقام الاثبات ، فلا معنى لتسميته إطلاقاً ظاهرياً ، لكونه حينئذ إطلاقاً إثباتياً واقعياً. بل المراد أنّه بعد جريان البراءة في رفع التقييد ، يكون حكم ذلك المكلّف في الظاهر كحكم من قام عنده الدليل المطلق ، أي يكون حكمه في الظاهر هو إطلاق المأمور به. وبالجملة : أنّه لا يعقل القول بأنّ رفع التقييد في مقام الشكّ بمفاد حديث الرفع يكون مثبتاً لكون المأمور به مطلقاً في الواقع ، أو يكون موجباً لتحقّق الاطلاق اللفظي بالنسبة إلى دليل الأمر ، لأنّ ذلك لا يقوله أقل الطلبة ، فلابدّ أن يكون مراده قدس سره كما يظهر ممّا حرّرته عنه وممّا صرّح في اللباس المشكوك هو كون دليل المأمور به في الظاهر بالنسبة إلى ذلك المكلّف بحكم المطلق ، فراجع وتأمّل [ منه قدس سره ].

لكنّك قد عرفت أنّ حديث الرفع كما يجري في رفع وجوب الجزء الخامس ، فكذلك يجري في رفع وجوبه الشرطي ، وليست القيدية منتزعة من الوجوب النفسي للجزء الخامس ، بل هي منتزعة من وجوبه الشرطي ، فتكون القيدية مرتفعة بارتفاع ذلك الوجوب الشرطي ، ويكون رفع تلك القيدية كافياً في الانحلال ، وبه يتحقّق استراحة المكلّف ، من دون حاجة إلى الالتزام باطلاق الأقل إذ لا يترتّب على إطلاقه أثر مهم بعد حكم الشارع ولو ظاهراً بأنّ القيدية مرفوعة ، فلا حاجة إلى تلك التكلفات في دفع مثبتية الأصل المذكور ، إذ لا نريد إلاّرفع اعتبار الجزء الخامس ونفي كلّ من وجوبه النفسي والشرطي ، وحديث الرفع متكفّل بذلك المراد.

بل قد عرفت أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كافٍ في استراحة المكلّف من احتمال قيدية الجزء الخامس ، ومن احتمال وجوبه النفسي الضمني ، ومن وجوبه الشرطي ، فإنّه بعد علمه التفصيلي بوجوب الأقل وإن شكّ في فراغ ذمّته بالاتيان بالأجزاء الأربعة ، إلاّ أنه إنّما يحكم بذلك فراراً من العقاب المحتمل ، والمفروض أنّه مأمون من ناحيته ، إذ العقاب لا يكون ناشئاً إلاّعن

ص: 299

احتمال القيدية المفروض أنّه حاكم بقبح العقاب من جهتها ، لكونه عقاباً بلا بيان ، وبذلك تدخل المسألة في توارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع قاعدة دفع الضرر المحتمل ، الذي هو العقاب على ترك الأقل بترك القيد الذي هو الارتباطية المفروض أنّها مشكوكة ولم يقم بيان عليها ، وقد عرفت في أوائل البراءة (1) أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

والحاصل : أنّ العلم بوجوب الأربعة ولو على نحو الاهمال واللاّ بشرط المقسمي والشكّ في القيدية المزبورة ، كافٍ في الانحلال مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على مخالفة القيدية ، فضلاً عن حكم الشارع المقدّس برفعها ، ولا حاجة إلى أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من أيّ أقسام التقابل ، إذ لا يتوقّف الانحلال على إحراز اطلاق التكليف ، لأنّ المباينة بين أخذ الأربعة باللاّ بشرط المقسمي الذي هو القدر المشترك بين طرفي العلم الاجمالي ، وبين أخذها باللاّ بشرط القسمي الذي هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، وأخذها بشرط شيء الذي هو الطرف الآخر ، إنّما هي في مقام اللحاظ لا في الخارج ، بل تكون الأربعة الخارجية متّصفة بالوجوب على كلّ من هذه الأطوار اللحاظية ، فيكون وجوبها معلوماً تفصيلاً ، ويكون تقيّدها بوجود الخامس الذي هو الجهة الزائدة في الطرف الآخر مشكوكاً ، فيكون مورداً لكلّ من البراءة العقلية والشرعية ، ويكون الانحلال عقلياً فضلاً عن كونه شرعياً.

وإن شئت قلت : إنّ العلم بوجوب الأربعة على نحو الاهمال الذي هو اللاّ بشرط المقسمي كافٍ في الانحلال ، لأنّ ذلك المهمل المردّد بين الطرفين إن كان هو منطبقاً على الاطلاق الذي هو اللاّ بشرط القسمي ، فلا شكّ في كونه

ص: 300


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 366 وما بعدها.

متّحداً معه في الخارج ، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر الذي هو الأربعة بشرط شيء أعني الخامس ، فلا شكّ في كونه متّحداً معه في الخارج أيضاً ، إلاّ أنه لمّا كان مشتملاً على كلفة على المكلّف زائدة على ما في الطرف الآخر ، كان مورداً لكلّ من البراءة العقلية والشرعية. نعم لو كان في كلّ من الطرفين كلفة غير الموجودة في الطرف [ الآخر ] لم يكن الانحلال ممكناً.

لا يقال : إنّكم وإن أجريتم البراءة العقلية والنقلية في تلك الجهة الزائدة ، إلاّ أنّ جريانها فيها لا يرفع الاهمال من ناحية وجوب الأربعة وتردّدها بين الاطلاق والتقييد بالخامس ، فمع عدم ثبوت الاطلاق كيف يمكنكم الاكتفاء بها عن الخامس.

لأنّا نقول : إنّ الاهمال المذكور مع فرض جريان البراءة العقلية والنقلية في الجهة الزائدة - أعني التقييد بالخامس - كافٍ في استراحة المكلّف وأمنه من العقاب على ترك ذلك القيد ، من دون حاجة إلى إثبات إطلاق الأربعة.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا أفاده قدس سره في العبارة السابقة التي نقلناها عن رسالته في اللباس المشكوك وهي قوله : بل ليس إجمال العلم هاهنا إلاّعبارة أُخرى عمّا ذكر من الاهمال ، فلا يعقل أن يجعل نفس القضية المهملة موجبة للانحلال (1). وتوضيح المراد بهذه العبارة : هو أنّه لو كان الواجب هو الأكثر - أعني الخمسة - كان من قبيل الماهية بشرط شيء ، ولو كان الواجب هو الأربعة كان من قبيل الماهية لا بشرط القسمي ، والقدر المتيقّن إنّما هو القدر المشترك بين الأمرين ، أعني اللاّ بشرط المقسمي المعبّر عنه بالماهية المهملة التي هي مورد الاعتبارات الثلاثة ، أعني بشرط شيء وبشرط لا ولا بشرط ، ومن الواضح أنّ العلم

ص: 301


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 300 - 301. تقدّم نقلها في الصفحة : 274.

بوجوب ذلك القدر المشترك - أعني الماهية لا بشرط المقسمي - لا يعقل أن يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الأكثر الذي هو الماهية بشرط شيء ووجوب الأقل الذي هو الماهية لا بشرط القسمي ، فإنّ العلم بوجوب الماهية لا بشرط المقسمي عبارة أُخرى عن العلم الاجمالي المردّد بين القسمين ، فكونه موجباً لانحلاله عبارة أُخرى عن كون العلم الاجمالي موجباً لانحلال نفسه.

وبعبارة أُخرى : أنّ انحلال العلم الاجمالي الذي هو قضية منفصلة عبارة عن انحلاله إلى قضية حملية متيقّنة وأُخرى مشكوكة ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه لم يكن كذلك ، بل هو تخيّل انحلال ، وإلاّ فواقع الأمر أنّ القضية المتيقّنة المتخيّل كونها معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل لا بشرط المقسمي ، هي عين تلك القضية المنفصلة القائلة إنّ الواجب إمّا الأقل بشرط شيء أو الأقل لا بشرط القسمي ، هذا غاية توضيح ما أفاده قدس سره.

وأنت بعد أن عرفت منه قدس سره أنّ المدار في الانحلال على الواقع لا على اختلاف اللحاظات ، وأنّ تباين هذه اللحاظات لا يوجب تباين الأقل لنفسه ملحوظاً لا بشرط المقسمي أو لا بشرط القسمي أو بشرط شيء ، فإذا علمنا بأنّ ذات الأقل التي هي الأربعة قد طرأ عليها الوجوب ، وتردّدنا في أنّها في مرتبة طروّه عليها كانت ملحوظة لا بشرط ، أو كانت مقيّدة بشيء وهو الخامس ، لم يكن ذلك التردّد موجباً لخلل في كون وجوب تلك الأربعة معلوماً لدينا بالتفصيل كيف ما كانت ملحوظة ، وحينئذ يلزمنا أن ننظر في تلك اللحاظات ، فإن كانت متباينة في مقام إلقاء الكلفة على المكلّف ، بحيث كان كلّ واحد منها متضمّناً لالقاء الكلفة عليه بغير الكلفة التي يلقيها اللحاظ الآخر ، كما لو كان أحد اللحاظين

ص: 302

هو لحاظها بشرط لا والآخر لحاظها بشرط شيء ، أو كان أحد اللحاظين هو لحاظها بشرط شيء والآخر هو لحاظها بشرط شيء آخر ، لم يكن العلم الاجمالي منحلاً.

أمّا لو كان أحد اللحاظين هو لحاظها لا بشرط شيء ، والآخر هو لحاظها بشرط شيء ، فحيث كان اللحاظ الأوّل غير متضمّن لالقاء الكلفة على المكلّف بغير الأربعة ، وكان اللحاظ الآخر يتضمّن إلقاء كلفة الخامس وتقييد تلك الأربعة به ، وكان اللحاظ الأوّل متّحداً خارجاً مع القدر المشترك بين اللحاظين الذي هو المعلوم بالتفصيل ، أعني لحاظها لا بشرط المقسمي ، صحّ لنا أن نقول إنّ هذا العلم الاجمالي المردّد بين اللحاظين ينحلّ في الخارج إلى العلم التفصيلي بوجوب ذات الأربعة ، والشكّ البدوي في الزائد عليها الذي هو وجوب الخامس وتقييد الأربعة ، إذ لا ندور في الانحلال مدار الاصطلاح ، بحيث يكون ذلك المعلوم بالاجمال الذي هو قضية مهملة منحلاً إلى قضية مفصّلة وأُخرى مشكوكة ، بل المدار في الانحلال على كون أحد الطرفين يتضمّن كلفة زائدة على ما يتضمّنه الآخر من الكلفة التي هي قدر مشترك بينهما.

ثمّ إنّ هذه الكلفة الزائدة إذا نفيت بالبراءة العقلية أو الشرعية ، يكون المكلّف عند إتيانه بالأقل الذي هو الأربعة مستريحاً من كلفة وجوبه الذي علمه تفصيلاً ، وبذلك يخرج عن حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني والمنع عن الاعتماد على الفراغ الاحتمالي دفعاً للضرر المحتمل الذي هو العقاب ، لكون العقاب حينئذ على ترك الأربعة عند الاتيان بها وترك ربطها بالجزء الخامس من قبيل العقاب بلا بيان. مضافاً إلى أنّ حديث الرفع الذي يكون رافعاً ظاهراً لتلك القيدية ، يكون مؤمّناً من العقاب على مخالفتها الموجبة لمخالفة الأمر المتعلّق

ص: 303

بالأربعة لو كان الواجب في الواقع هو الخمسة كما شرحناه فيما تقدّم.

وبتقرير أوضح : أنّ وجوب الأربعة لا بشرط القسمي عبارة أُخرى عن وجوبها الاستقلالي ، وأنّ وجوب الأربعة بشرط شيء الذي هو انضمام الخامس عبارة أُخرى عن وجوب الاربعة ضمنياً ، والقدر الجامع بينهما هو وجوب ذات الأربعة مردّدة بين الاستقلالية والضمنية ، وهو عبارة أُخرى عن وجوبها لا بشرط المقسمي ، وحيث كان الطرف الثاني - أعني وجوبها الضمني - مشتملاً على كلفة شرعية زائدة على وجوبها الاستقلالي ، وكانت تلك الكلفة الزائدة مورداً للبراءة العقلية والشرعية ، كان إجراء البراءة العقلية أو الشرعية كافياً في تسويغ الاكتفاء بالاتيان بالأربعة ، من دون حاجة إلى إثبات كون وجوبها استقلالياً ، الذي هو عبارة عن وجوبها لا بشرط القسمي ، فليس الانحلال فيما نحن فيه على نحو بقية موارد الانحلال ، التي ترجع إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشك البدوي في الزائد ، كي يقال إنّه لم يحصل لكم في هذا الانحلال العلم التفصيلي بوجوب الأربعة استقلالاً ، الذي هو عبارة عن وجوبها لا بشرط القسمي الذي هو عبارة عن الاطلاق ، بل هذا الانحلال الذي ندّعيه هنا عبارة عن الأخذ بذلك القدر المتيقّن المعلوم بالاجمال ، الذي هو عبارة عن وجوب الأربعة مردّدة بين الضمنية والاستقلالية ، والشكّ في تلك الكلفة الزائدة التي هي في أحد طرفي العلم الاجمالي وهو الضمنية ، وإجراء البراءة في تلك الكلفة الزائدة التي في ذلك الطرف وهي لزوم تقييد الأربعة بالانضمام إلى الخامس ، كافية في الحكم بعدم لزوم إلحاق الخامس بها. أمّا الشرعية فواضح ، وأمّا العقلية فلما ذكرنا من كونها مؤمّنة من العقاب على مخالفة القيدية الموجبة لعدم حصول المقيّد لو كان الوجوب الواقعي ضمنياً.

ص: 304

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقاب على تلك الكلفة الزائدة وإن كان قبيحاً لكونه بلا بيان ، إلاّ أن الأربعة المهملة قد اشتغلت الذمّة بها ، فنحتاج إلى اليقين بالفراغ عنها ، فالعقاب المحتمل إنّما هو على عدم الاتيان اليقيني بما اشتغلت به الذمّة يقيناً ، وعدم العقاب على تلك الكلفة الزائدة لا يوجب اليقين بالفراغ ، فتأمّل جيّداً فإنّا قد أجبنا عن هذا الإشكال بما تقدّم (1) من أنّ الشكّ في الفراغ إذا كان ناشئاً عن الكلفة الزائدة لم يكن مورداً لقاعدة الشغل.

لا يقال : إنّ الوجوب المنبسط على الخمسة وجوب واحد بسيط لا تقطيع فيه ، وهو مباين للوجوب الوارد على الأربعة ، وحينئذ لا يمكنكم رفع الوجوب على الخامس ، بل ولا رفع الوجوب الوارد على تقيّد الأربعة بالخامس ، إذ الوجوب الواحد الوارد على المجموع لا يتقطّع.

لأنّا نقول : إنّ ذات وجوب الأربعة لا بشرط موجود بذاته في ضمن الوجوب الوارد على الخمسة ، كما أن ذات الأربعة لا بشرط موجودة في ضمن الخمسة ، فإنّ الشيء بشرط شيء مصداق للشيء لا بشرط ، وإن كانا بحسب اللحاظ متباينين. وقولكم إنّ الوجوب الوارد على المجموع لا يتقطّع مسلّم ، لكن للشارع رفعه ولو برفع منشئه وهو ورود الوجوب على المجموع ، ولا يعارضه رفع وجوب الأقل ، لأنّ المراد إن كان رفع وجوب الأقل بحدّه فهو كما ذكرتم معارض له ، إلاّ أنه لا محصّل لرفع وجوب الأقل بحدّه ، لأنّ تحديده عبارة عن الأقلّية ، وهي ليست مورداً لحديث الرفع المسوق لرفع الكلفة. وإن كان المراد رفع ذات وجوب الأقل الوارد على ذات الأربعة الملحوظ هو ومتعلّقه لا بشرط ، فهذا موجود قطعاً ، لما عرفت من تحقّق الشيء لا بشرط في ضمن تحقّق الشيء

ص: 305


1- في الصفحة : 280 وما بعدها.

بشرط شيء ، فإنّ الشيء لا بشرط وإن كان مبايناً في اللحاظ لكلّ من الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، إلاّ أن الوجود الخارجي له منحصر بهما ، إذ لا وجود للشيء لا بشرط في الخارج ، وإنّما الموجود هو نفس الشيء مع شيء آخر أو نفس الشيء بلا وجود شيء آخر معه ، وكلّ منهما مصداق لمفهوم الشيء لا بشرط ، ولأجل ذلك نقول فيما نحن فيه إنّ وجوب الأربعة لا بشرط معلوم ، لأنّ وجوب الشيء لا بشرط إنّما يتعلّق بمصداق الشيء لا بشرط لا بمفهومه ، والمفروض أنّ مصداقه متحقّق في مصداق الشيء بشرط شيء ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحاجة إلى ما أُفيد في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (1) من إجراء حديث الرفع في وجوب الأكثر ، وأنّه غير معارض بمثله في وجوب الأقل لا بشرط ، للعلم بوجوبه في ضمن وجوب الأكثر أو في نفسه.

ثمّ إنّ رفع وجوب الأكثر يكون رفعاً لوجوب تقيّد الأربعة بالخامس ، لأنّ وجوب هذا التقيّد حاصل بوجوب الأكثر ، فيكون رفع وجوب الأكثر رفعاً له ، ومع ارتفاع وجوب التقيّد يبقى وجوب الأربعة مطلقة غير واجبة التقيّد بالخامس ، وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ الاستصحاب كافٍ في لزوم الاتيان بالخامس ، حيث إنّه عند فراغه من الأربعة يشكّ في بقاء وجوبها ، وحينئذ يستصحب بقاءه ، وليس المقصود هو استصحاب وجوب الأربعة المأخوذة لا بشرط القسمي كي يقال إنّه لم يكن معلوم الحدوث ، بل المراد هو استصحاب وجوب الأربعة المأخوذة لا بشرط المقسمي ، وهذا نظير استصحاب القدر المشترك بين وجوب الظهر والجمعة بعد الفراغ من الظهر ، لكن أجبنا عن ذاك بأنّه لا يترتّب عليه سوى لزوم

ص: 306


1- فوائد الأُصول 4 : 164.

الاتيان بالجمعة بعنوان الاحتياط ، وذلك كان متحقّقاً وجداناً بحكم قاعدة الشغل اليقيني ، أمّا هذا فلا يمكن الجواب عنه بالجواب المزبور بعد فرض الرجوع في تلك الكلفة الزائدة - أعني التقييد بالخامس - إلى البراءة العقلية والشرعية ، فلا يكون إجراء هذا الاستصحاب هنا من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

لأنّا نقول : إنّ البراءة الشرعية الرافعة لتلك القيدية التي هي منشأ الشكّ في بقاء وجوب الأربعة بعد الاتيان بها تكون حاكمة على الاستصحاب المذكور. أمّا البراءة العقلية فالظاهر أنّها لا يمكن أن تكون حاكمة عليه ، وحينئذ فيكون الأصل الوحيد الجاري في مسألة الشكّ في الأقل والأكثر هو البراءة الشرعية دون العقلية.

لكن قد حرّرت عن درس شيخنا الأُستاذ قدس سره ما نصّه : أنّ البراءة الشرعية مبيّنة لما أُجمل من التكليف ، فيسقط الاستصحاب حينئذ ، لأنّ ملاكه هو إجمال ذلك التكليف وتردّده بين الأقل والأكثر ، هذا في مقابلة الاستصحاب للبراءة الشرعية. وأمّا مقابلته مع البراءة العقلية كما هو المختار للشيخ قدس سره فقد يتوهّم أنّه حاكم عليها ، لعدم تعرّضها لبيان ما أُجمل من التكليف المذكور ، إلاّ أنه توهّم فاسد ، لأنّ القائل بالبراءة العقلية لا يتمّ قوله إلاّبعد فرض انحلال ذلك العلم الاجمالي ، ومع انحلاله لا يبقى مورد للاستصحاب ، لما عرفت من أنّ ملاكه هو إجمال التكليف المعلوم وتردّده بين الأقل والأكثر ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الطريقة التي سلكناها في الانحلال لمّا كانت هي عبارة عن الأخذ بنفس وجوب الأربعة لا بشرط المقسمي ، لم يكن الوجه في حكومة البراءة الشرعية على الاستصحاب بناءً على هذه الطريقة هو كون البراءة رافعة للتردّد وموجبة للحكم بأنّ الواجب هو الأربعة لا بشرط القسمي ، بحيث تكون

ص: 307

مبيّنة لذلك المجمل الذي هو المعلوم بالاجمال ، بل يكون الوجه في حكومتها عليه هو أنّ رفع القيدية بالزائد يوجب رفع الشكّ في البقاء ، وإن لم يكن ذلك الرفع مثبتاً للاطلاق الذي هو اللاّ بشرط القسمي ، لأنّ الشكّ في البقاء مسبّب عن الشكّ في تلك القيدية ، فيكون رفعها كافياً في إزالة الشكّ في البقاء ، وإن لم يكن ذلك الرفع مثبتاً للاطلاق.

أمّا البراءة العقلية فنحن إنّما نقول بها لا من جهة الانحلال المصطلح المبني على دعوى العلم التفصيلي بكون الأربعة واجبة على نحو اللاّ بشرط القسمي ، بل إنّما نقول بها من جهة أنّ نفس القيدية كلفة زائدة في الواقع على أصل وجوب الأربعة لا بشرط المقسمي ، فلا يكون جريانها ملازماً لتفصيل ذلك العلم وتحقّق وجوب الأربعة لا بشرط القسمي كي يكون ذلك عبارة أُخرى عن عدم إمكان جريان الاستصحاب لعدم كون المقام حينئذ من قبيل الشكّ في البقاء ، وحينئذ فالذي ينبغي أن يقال بناءً على الطريقة التي سلكناها هو جريان الاستصحاب وعدم جريان البراءة العقلية في حدّ نفسها ، لكن لمّا كانت البراءة الشرعية جارية وكانت حاكمة على الاستصحاب المذكور ، كانت البراءة العقلية بعد ذلك بلا مانع ، إلاّ أن ذلك لا يكون من قبيل الانحلال العقلي.

وحاصل ذلك : أنّا لو خلّينا نحن والاستصحاب والبراءة العقلية ، يكون الاستصحاب مانعاً من جريانها ، اللّهمّ إلاّ أن يمنع الاستصحاب بأنّه لا يترتّب عليه أثر ، لأنّ أثره منحصر بالحكم ببقاء الوجوب المتعلّق بالأربعة لا بشرط المقسمي أعني بذلك وجوبها النفسي المردّد بين الاستقلالية والضمنية ، وهذا المقدار من الوجوب لو حكمنا ببقائه بالاستصحاب لم يترتّب عليه إلاّلزوم الاتيان بنفس

ص: 308

الأربعة ، إذ هو حينئذ لا يزيد على أصله - أعني العلم الوجداني بذلك الوجوب - في أنّه لا يقتضي إلاّ الاتيان بنفس الأربعة ، إلاّ أن يضمّ إلى الحكم ببقاء ذلك الوجوب المردّد بين الاستقلالية والضمنية أنّه بعد فرض الاتيان بنفس الأربعة يكون اللازم من الحكم ببقائه في الفرض المزبور هو لزوم الاتيان بالخامس ، لأنّ لازم الحكم ببقاء وجوب الأربعة المردّد بين الاستقلالية والضمنية في مورد الاتيان بالأربعة هو أنّ ذلك الوجوب ضمني ، إذ لو كان استقلالياً لم يكن باقياً بعد الاتيان بنفس الأربعة ، فلمّا حكم الشارع بأنّه باقٍ ولو بالاستصحاب كان لازم ذلك الحكم هو أنّ ذلك الوجوب ضمني ، وبعد الحكم بأنّه ضمني يلزمنا إلحاق تلك الأربعة بالخامس ، فيكون الاستصحاب المذكور من أردأ الأُصول المثبتة ، لتوقّفه على هذا القياس الاستثنائي القائل إنّه لو كان ذلك الوجوب المتعلّق بالأربعة استقلالياً لم يمكن الحكم ببقائه بعد الاتيان بنفس الأربعة ، لكنا قد حكمنا بمقتضى ذلك الاستصحاب ببقائه بعد الاتيان بها ، فلابدّ أن لا يكون ذلك الوجوب استقلالياً ، لأنّ رفع التالي لا ينتج إلاّرفع المقدّم ، ثمّ نأخذ نتيجة هذا القياس ونجعلها مقدّماً لتالٍ آخر ، فيتحصّل من ذلك قضية شرطية متّصلة نجعلها صغرى لشرطية أُخرى كبرى ، ونؤلّف من ذلك قياساً اقترانياً ونقول : إذا لم يكن الوجوب المذكور استقلالياً فلابدّ أن يكون ضمنياً لعدم الواسطة بينهما في الواقع ، وإذا كان ضمنياً فلا يسقط إلاّبالحاق الخامس ، وإذا لم يسقط إلاّبالحاق الخامس وجب علينا إلحاقه بها ، فهذا الأثر العملي وهو وجوب إلحاق الخامس لا يترتّب على الاستصحاب المذكور إلاّبعد طي هذه الملازمات المبنية على قياس استثنائي وقياسين اقترانيين ، ولأجل ذلك قلنا إنّه من أردأ الأُصول المثبتة.

ص: 309

قوله : ومن الغريب ما زعمه من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلّة البراءة الشرعية ... الخ (1).

قال قدس سره في حاشيته على هامش الكفاية على قوله في المتن : وأمّا النقل ، ما هذا لفظه : لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنّه ينافيه دفع الجزئية المجهولة ، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً. وبالجملة الشكّ في الجزئية والشرطية وإن كان جامعاً بين الموردين ، إلاّ أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية ، ومورد النقل هو مجرّد الخطاب بالايجاب ، فافهم (2).

ولا يخفى أنّ قوله في ضابط مجرى حكم العقل بالاحتياط : وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي ، إشارة إلى ما ذكره في المقام الأوّل من مبحث دوران الأمر بين المتباينين ، وهو قوله : لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كانا فعل أمر وترك آخر - إن كان فعلياً من جميع الجهات ، بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الاجمال والتردّد الخ (3) ، وهذه الجهة أعني الفعلية من جميع الجهات ، هي التي أوجبت عنده التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وأنّه إذا لم يكن الحكم فعلياً كذلك لم تجب موافقته كما لم تحرم مخالفته ، فراجع ما أفاده هناك وفي الأمر السابع من مباحث القطع (4) ، وعمدة المناقشة معه قدس سره إنّما هي في الفعلية بالمعنى الذي ذكره

ص: 310


1- فوائد الأُصول 4 : 165.
2- كفاية الأُصول : 366.
3- كفاية الأُصول : 358.
4- كفاية الأُصول : 272 - 273.

لها ، وهو الذي حرّره السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره بقوله : وأنت خبير بأنّ الحكم الفعلي بالمعنى الذي ذكره الخ (1).

والذي حرّرته عنه قدس سره في الدورة الأخيرة موافق لذلك ، فإنّه قدس سره قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس سره بعد أن اختار ما اخترناه من جريان البراءة الشرعية ، أشكل في حاشية منه عليها بأنّ جريانها غير ممكن ، للعلم بتحقّق التكليف الفعلي ، سواء كان المكلّف به هو الأقل أو الأكثر ، ولا ريب أنّ جريان البراءة منافٍ للعلم بالتكليف الفعلي ، انتهى. وفيه : أنّه مبني على ما أفاده في معنى فعلية التكليف ، وقد عرفت غير مرّة بطلانه ، كذا أفاد ( دام ظلّه ) في هذه الدورة 13 ج 2 سنة 1350. هذا نصّ ما حرّرته عنه قدس سره بتاريخه المذكور. وعلى أي حال ، يظهر لك أنّ الإشكال إنّما هو في تفسير الفعلية.

وأمّا مسألة حكومة حكم العقل بدفع الضرر المحتمل على البراءة الشرعية ، فلم يكن هو واقعاً في كلام صاحب الكفاية قدس سره ، وإنّما جلّ غرضه هو أنّه لا مورد للبراءة الشرعية بعد فرض كون الحكم فعلياً من جميع الجهات ، لأنّ مفادها مناقض مع الحكم الفعلي الموجود في البين ، لا أنّها جارية في حدّ نفسها ولكن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل حاكم عليها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : اختلفت كلمات شيخنا ( مدّ ظلّه ) في ذلك ، ففي مبحث البراءة جعل المسبّبات التوليدية على قسمين ... الخ (2).

لم أجد هذا التصريح من شيخنا قدس سره في مبحث البراءة. نعم في مبحث مقدّمة الواجب حسبما حرّرته عنه قدس سره في مسألة كون المقدّمة علّة صرّح بذلك ،

ص: 311


1- أجود التقريرات 3 : 495.
2- فوائد الأُصول 4 : 168.

ولكن قد علّقت هناك ما محصّله انحصار الأسباب التوليدية فيما يكون من قبيل العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية ، فراجع ما حرّرته هناك (1).

قوله : ولا يصحّ إطلاق الأمر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبّب ، إلاّ إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولّد المسبّب منه من الأُمور العرفية المرتكزة في الأذهان ... الخ (2).

صرّح شيخنا قدس سره حسبما حرّرته عنه بأنّ الغسل للطهارة من الخبث من قبيل الأوّل ، فإنّ إزالة القذارة من الأُمور العرفية المرتكزة في الأذهان ، أمّا الغسل للطهارة من الحدث فقد صرّح قدس سره بأنّها من قبيل الثاني ، وبناءً عليه فلا يصحّ إطلاق الأمر بتلك الأفعال على الأمر بنفس تلك الطهارة.

قوله في الحاشية : وجهه هو أنّه لو وصلت النوبة ... الخ (3).

لا يخفى أنّ هذا لا يتوجّه على مبنى الأُستاذ قدس سره ، لأنّه يرى الانحلال فيما لو علم الوجوب وشكّ في كونه نفسياً أو غيرياً ، كما صرّح به فيما أورده ثانياً على الكفاية فيما تقدّم من الانحلال (4) ، وكما صرّح به في مبحث الأوامر في مسألة الواجب النفسي والغيري حسبما حرّرته عنه قدس سره في ذلك المبحث فراجع (5). نعم يتّجه هذا الايراد بناءً على ما تقدّم في توجيه عدم الانحلال بذلك من جهة التأخّر

ص: 312


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 9.
2- فوائد الأُصول 4 : 175.
3- فوائد الأُصول 4 : 176.
4- فوائد الأُصول 4 : 158 - 159.
5- مخطوط لم يطبع بعد.

الرتبي حسبما مرّ ذكره ، فراجع (1) وتأمّل.

قوله : وتوضيح ذلك ، هو أنّه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأُريد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام ، بتقريب أن يقال : إنّ لحاظ جزئية السورة وتعلّق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته : إنّه إن كان الوجوب المستصحب عدمه قبل الجعل والتشريع هو وجوب الزائد المشكوك ، كان الأصل مثبتاً من جهتين : الأُولى أنّ الأثر مترتّب على المجعول لا على الجعل. والثانية أنّ الأثر فيما نحن فيه مترتّب على كون الوجوب المتعلّق بذلك المركّب متّصفاً بعدم تعلّقه بالزائد ، فيكون استصحاب عدم جعل وجوب الزائد مثبتاً لكونه بمفاد ليس التامّة ، ومورد الأثر هو مفاد ليس الناقصة.

وبعبارة أُخرى : أنّ كون هذا الوجوب لم يتعلّق بالزائد ليس له حالة سابقة لأنّه من حين تعلّقه بهذا المركّب إمّا أن يكون متعلّقاً بالزائد أو لا يكون متعلّقاً به فما هو المطلوب وهو السلب الناقص لم يكن متحقّقاً قبل صدور هذا الوجوب وما هو متحقّق قبل ذلك هو السلب التامّ ، ولا يترتّب عليه ما هو المطلوب إلاّ بالملازمة والأصل المثبت ، انتهى ملخّصاً.

ثمّ أفاد قدس سره فيما حرّرته : أنّه قد يقرّب استصحاب العدم بما أفاده الشيخ قدس سره (3) وحاصله : أنّ الآمر حين اختراعه لذلك المركّب وحين تصوّره له ، هل تصوّره

ص: 313


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 285 وكذا الحاشية اللاحقة لها.
2- فوائد الأُصول 4 : 182.
3- فرائد الأُصول 2 : 337 - 338.

مقيّداً بذلك الزائد أم لا ، وبعبارة أوضح : هل إنّه حين تصوّره للمركّب تصوّر ذلك الزائد في جملته أم لا ، فبأصالة عدم جزئيته لذلك المركّب التي هي عبارة عن استصحاب عدم تصوّر الآمر ذلك الزائد حينما لاحظ المركّب ، نحكم بأنّه ليس بواجب.

وفيه أوّلاً : أنّا وإن ذكرنا أنّ الأقل داخل في المركّب ، إلاّ أن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى نفس الملحوظ ، وأمّا لحاظ الأقل فهو مباين للحاظ الأكثر ، فإنّ لحاظ كون الزائد داخلاً في المركّب يباين لحاظ عدم دخوله فيه ، فيكون أصالة عدم ملاحظة ذلك الزائد داخلاً في المركّب معارضاً بأصالة عدم ملاحظته خارجاً عنه.

وثانياً : أنّ الأثر إنّما يترتّب على أخذه في مقام الأمر ، لا على أخذه في مقام الاختراع والتصوّر ، فيكون أصالة عدم أخذه في مقام الاختراع لأجل ترتّب عدم أخذه في مقام الأمر مثبتاً.

وثالثاً : لو سلّمنا أنّ مقام الاختراع يترتّب عليه أثر مقام الأمر ، وأغضينا النظر عن المثبتية من هذه الجهة ، كان الأصل المذكور مثبتاً من جهة أُخرى ، فإنّ أقصى ما فيه أن يكون أصالة عدم دخول الزائد في اللحاظ في مقام الاختراع بمنزلة أصالة عدم جعل وجوب الزائد ، وقد عرفت أنّ أصالة عدم جعل الوجوب مثبت.

ورابعاً : أنّه بعد تسليم أنّ أصالة عدم الاختراع بمنزلة أصالة عدم الجعل ، وأصالة عدم الجعل بمنزلة أصالة عدم الوجوب ، وأغضينا النظر عن المثبتية من الجهتين ، ففيه أنّه إن كان المراد عدم اختراع الأكثر فهو معارض بعدم اختراع الأقل ، وإن كان المراد عدم إدخال الزائد في اختراع المركّب ، ففيه أنّ الأثر مرتّب على العدم الناقص ، أعني كون هذا المركّب المخترع لم يكن الزائد حين اختراعه

ص: 314

داخلاً فيه ، فلا ينفع فيه أصالة عدم الزائد الذي هو مفاد ليس التامّة ، انتهى ملخّصاً.

وقد تعرّضنا للاستدلال على البراءة باستصحاب عدم التكليف في التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب في حواشي ص 163 من الجزء الثاني عند الكلام على شبهة النراقي في مسألة من وجب عليه الجلوس إلى الزوال وشكّ فيما بعد ذلك ، من دعواه التعارض بين استصحاب الوجوب واستصحاب عدمه ، فراجع (1).

قوله : فتأمّل. وقوله في الحاشية : وجهه هو أنّه قد يختلج في البال ... الخ (2).

ويؤيد ذلك ما تقدّم في ص 53 : ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل للعلم بوجوبه على كلّ تقدير الخ (3).

لكن الذي يهوّن الخطب هو أنّ أصالة عدم وجوب الأكثر غير جارية في حدّ نفسها ، لأنّ المستصحب عدمه إن كان هو عدم الجعل ، فذلك لا أثر له ، وإن كان عدم المجعول بمفاد ليس التامّة فهو غير نافع في إزالة الشكّ في هذا الوجوب وإن كان بمفاد ليس الناقصة ، بمعنى أنّ هذا الوجوب لم يكن وارداً على الأكثر فهو ليس له حالة سابقة ، ومثله ما لو أُريد استصحاب عدم وجوب الزائد ، فإنّه لا يزيل الشكّ في أنّ هذا الوجوب هل تعلّق بالزائد.

ص: 315


1- ليس له قدس سره حاشية على هذه الصفحة ، نعم له قدس سره حواشٍ على الصفحة : 164 ، فراجع الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب في الصفحة : 447 وما بعدها ، وكذا راجع الحاشية اللاحقة لها.
2- فوائد الأُصول 4 : 184.
3- فوائد الأُصول 4 : 164.

قوله : وهو أنّ منشأ انتزاع الشرطية ... الخ (1).

ينبغي إسقاط لفظ « الشرطية » المتكرّرة في جميع ما حوته هذه الصفحة (2) وإبدالها بلفظ المانعية ، لأنّ هذه الوجوه المذكورة إنّما يكون موردها المانعية لا الشرطية ، ولعلّ المراد من الشرطية في المقام هو عبارة عن شرطية العدم ، فتكون عين المانعية ، لأنّ هذا الكلام ينتهي في آخره إلى المناقشة مع الشيخ ، وهو قدس سره يجعل عدم المانع شرطاً ، فإنّه بعد أن حكم بأنّ الشكّ في الشرطية حكمه حكم الشكّ في الجزئية قال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ مرجع الشكّ في المانعية إلى الشكّ في شرطية عدمه ، ثمّ قال : ثمّ إنّ الشكّ في الشرطية قد ينشأ عن الشكّ في حكم تكليفي نفسي ، فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكماً على الأصل في الشرطية ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبراءة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك في شرطيته أو عدم وجوبه (3). وعلى أيّ حال ، فإنّ كون الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي ممّا يأباه شيخنا قدس سره ، وأنّ ذلك إنّما يكون في المانعية ، فراجع ما في ص 73 من هذا التحرير (4).

قوله : بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي ... الخ (5).

الأولى إبداله بقوله : بناءً على جواز الاجتماع من الجهة الأُولى والامتناع من

ص: 316


1- فوائد الأُصول 4 : 190.
2- يشير بها إلى ص 59 من الطبعة القديمة لفوائد الأُصول ، وهي الصفحة 190 - 193 ( السطر الثالث ) من الجزء الرابع من الطبعة الحديثة.
3- فرائد الأُصول 2 : 359.
4- فوائد الأُصول 4 : 217 - 218.
5- فوائد الأُصول 4 : 190.

الجهة الثانية ، فإنّ كون المقام من باب التزاحم إنّما يكون بناءً على هذا الوجه ، لا على الامتناع من الجهة الأُولى.

والأولى الاقتصار على قوله : وأُخرى يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي ، وإسقاط قوله : وهذا إنّما يكون - إلى قوله - في محلّه.

ثمّ إنّ قوله : وإن كان منشأ انتزاعها هو التكليف النفسي ، فتارةً - إلى قوله - وأُخرى يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي بوجوده الواقعي الخ (1) ، الأوّل إشارة إلى مسلكه قدس سره في مبحث الاجتماع ، والثاني إشارة إلى مسلك غيره في ذلك المبحث ، وهو لزوم التخصيص الواقعي ، وسيأتي الكلام عليه في الحاشية الآتية (2).

قوله : فلو فرض أنّه مورد شكّ في حرمة لبس الحرير وشرطية عدمه في الصلاة ... الخ (3).

المثال الواضح هو الشكّ في كون هذا اللباس حريراً ، لكنّه شبهة موضوعية والكلام الآن في الشبهة الحكمية ، أمّا الكلام على التردّد بين الأقل والأكثر في الشبهات الموضوعية ، فسيأتي فيما عقده له من الفصل السادس (4).

ومنه تعرف أنّ الكلام في تقسيم المانعية إلى هذه الأقسام لغير أوانه ، لأنّ أغلب موارده هو الشبهات الموضوعية. ثمّ إنّ نظير ما أفاده من المانعية الناشئة عن التزاحم - أعني مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية - ما لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، وأنّه يوجب

ص: 317


1- فوائد الأُصول 4 : 191 - 192.
2- في الصفحة : 321.
3- فوائد الأُصول 4 : 191.
4- فوائد الأُصول 4 : 200.

فساده لو كان عبادة ، فإنّ هذه المانعية ترتفع وجداناً بالأصل الجاري في ذلك الأمر ، كما لو شككنا في وجوب إزالة النجاسة عن فرش المسجد أو حصيره ، فإنّ أصالة البراءة عن الوجوب توجب ارتفاع النهي عن الصلاة ، فتكون صحيحة واقعاً فتأمّل.

قوله : بل لا يجب على المكلّف عقلاً الاتيان بما يعلم دخله في الملاك من دون أن يدخل تحت دائرة الطلب ... الخ (1).

لا يخفى أنّ فرض العلم بكون الشيء له مدخلية في الملاك مع عدم دخوله تحت دائرة الطلب لا يمكن تعقّله مع النظر إلى قاعدة الملازمة ، سواء كان عدم دخوله تحت الطلب مشكوكاً أو كان معلوماً ، لأنّ فرض العلم بمدخليته في الملاك حينئذ يوجب العلم بدخوله تحت الطلب. نعم يصحّ ذلك الفرض لو أُغضي النظر عن قاعدة الملازمة ، لكنّه لا يكون إلاّمن مجرّد الفرض الذي لا واقعية له ، لأنّا قائلون بقاعدة الملازمة ، بل إنّه لم يتحقّق لنا في الفقه إثبات حكم بقاعدة الملازمة صرفاً. إلاّ أن ذلك لا يخلّ بأصل المطلب ، وهو أنّه لا يجب على المكلّف الخروج عن عهدة الملاكات ، وأنّه لا يلزمه بحكم العقل إلاّ الخروج عن عهدة التكاليف الشرعية.

قوله : وتوهّم عدم جريان البراءة العقلية ... الخ (2).

تقدّم الكلام في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (3) وفي حديث

ص: 318


1- فوائد الأُصول 4 : 179.
2- فوائد الأُصول 4 : 180.
3- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، فراجع الصفحة : 306 وما بعدها ، وكذا الحاشية المفصّلة المذكورة في الصفحة : 312 وما بعدها من المجلّد المذكور.

الرفع (1) وفي أوائل مباحث القطع (2) أنّ العقاب لا يترتّب إلاّعلى مخالفته ، وأنّ للحكم الواقعي إطلاقاً ذاتياً يشمل حال الجهل به وإن لم يكن له إطلاق لحاظي ، وأنّ البراءة العقلية والشرعية لا يجريان إلاّفي الحكم الواقعي ، وأنّ معنى رفعه التشريعي رفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، وأنّ البراءة لا يعقل أن تكون جارية في رفع نفس إيجاب الاحتياط ، وأنّ إيجاب الاحتياط يكون حكماً ظاهرياً في مقام الشكّ كالبراءة الشرعية ، وإن كان هو وارداً عليها ، إلاّ أنه من المحقّق أنّ البراءة الشرعية لا ترفع وجوب الاحتياط ابتداءً ، فراجع تلك المباحث.

استدراك : لا يخفى أنّ ما أفاده الأُستاذ قدس سره (3) في تفسير ما أراده الشيخ قدس سره بلفظ « الغرض » المعطوف في كلامه على « العنوان » ، بعيد في الغاية عن صريح عبارة الشيخ ، فالأولى في تفسيرها ما أفاده الآشتياني قدس سره (4) فراجعه.

وبالجملة : أنّ عبارة الشيخ قدس سره في هذا المقام صريحة في أنّ الأسباب التوليدية ، تارةً يكون الأمر متعلّقاً بالسبب بما أنّه معنون بالعنوان المنتزع من المسبّب ، مثل أفعال الوضوء بما أنّه منطبق عليها عنوان الطهارة ، كما مثّل به في المسألة الرابعة التي أشار إليها في هذا المقام ، وأُخرى يكون الأمر متعلّقاً بنفس السبب ، ولكن يكون الغرض من ذلك السبب هو العنوان المتولّد منه ، وعلى أيّ

ص: 319


1- في المجلّد السابع من هذا الكتاب فراجع الحاشية المفصّلة في الصفحة : 122 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب في الصفحة : 22 وما بعدها. وكذا راجع ما ذكره قدس سره في مبحث التجرّي في الحاشية المذكورة في الصفحة : 134 وما بعدها والحاشية اللاحقة لها.
3- فوائد الأُصول 4 : 171 وما بعدها.
4- بحر الفوائد 2 : 154.

حال يكون اللازم هو الاحتياط ، وهو عين ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه لا فرق في وجوب الاحتياط بين كون الأمر متعلّقاً بالعنوان الأوّلي أو متعلّقاً بالعنوان الثانوي ، فلا فرق بين أن يقول توضّأ أو يقول تطهّر من الحدث ، غايته أنّ شيخنا سمّى الثاني بكون الأمر متعلّقاً بالعنوان الثانوي ، والأوّل بكون الأمر متعلّقاً بالعنوان الأوّلي ، والشيخ قدس سره يعبّر عن الثاني بكونه من قبيل العنوان للمأمور به ، وعن الأوّل بكونه من قبيل الغرض من المأمور به ، فراجع ما أفاده الشيخ قدس سره في هذا المقام وفي المسألة الرابعة (1).

وأصل عبارة الشيخ قدس سره هو هذا ، أعني قوله قدس سره : نعم قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فإنّ تحصيل العلم باتيان المأمور به لازم كما سيجيء في المسألة الرابعة الخ (2). وهي صريحة في أنّ الغرض معلوم ، لكن يحصل الشكّ في الحصول عليه عند الاتيان بالمركّب فاقداً للجزء المشكوك ، وحينئذ كيف يمكن حمل الغرض على نفس التعبّد ، ومن الواضح أنّه إذا علم أنّ الغرض هو نفس التعبّد فقد علم أنّه عبادي ، فأين هذا من الشكّ في كونه تعبّدياً أو توصّلياً كما هو مقتضى ما أفاده شيخنا قدس سره في تفسير الغرض.

نعم ، يرد على ما أفاده الشيخ في جواب « إن قلت » ما أفاده شيخنا قدس سره. وهناك زيادة ، وهي أنّه بعد فرض تعذّر الحصول على المصلحة المفروض

ص: 320


1- فرائد الأُصول 2 : 352.
2- فرائد الأُصول 2 : 319.

توقّفها على الجزم بالنيّة أو على نيّة الوجه ، ينبغي أن يقال بسقوط الوجوب رأساً ، ولا معنى لبقائه بمقدار استحقاق العقاب على مخالفته ، فراجع ما حرّرته (1) عن شيخنا قدس سره فإنّه مشتمل على هذه الجهة من الإشكال.

قوله : وإن كان من الأُصول غير المحرزة كأصالة الحلّ والبراءة ، فالأصل الجاري في طرف التكليف لا يغني عن إجراء الأصل في طرف الشرطية ... الخ (2).

فيه تأمّل ، فإنّ مثال المسألة هو مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، وقد عرفت في محلّه (3) أنّ لازم تقديم النهي بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى وإن كان هو التخصيص الواقعي ، وخروج مورد الاجتماع عن عموم مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) خروجاً واقعياً ، وهو عبارة أُخرى عن كون الحرمة في مورد الاجتماع من قبيل المانعية الواقعية ، إلاّ أن جريان مثل أصالة البراءة أو قاعدة الحل في ناحية الحرمة الواقعية هو الحكم الظاهري بالحلّية وعدم تحقّق المانع ، ومقتضاه جواز الاقدام على الصلاة ، غايته أنّه لو انكشف الخلاف كان مقتضى القاعدة هو الاعادة لولا مثل حديث « لا تعاد » ، بخلاف ما لو قلنا بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية وكون المانع هو الحرمة المنجّزة ، فإنّه يحكم بالصحّة واقعاً عند الاستناد إلى مثل البراءة الشرعية أو قاعدة الحل ، ولا أثر فيه لانكشاف الخلاف ، هذا كلّه بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى ، الذي لا أثر له

ص: 321


1- مخطوط لم يُطبع بعدُ.
2- فوائد الأُصول 4 : 193.
3- راجع حواشيه قدس سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحات : 80 و 111 و 115 و 301.

إلاّ ما عرفت من مانعية الحرمة الواقعية.

هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، ولكنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بعد البناء على كونه من قبيل التخصيص الواقعي ، يكون حاله حال ما لو قال : أكرم عالماً ، وقال : لا تكرم الفسّاق ، وقدّمنا الثاني على الأوّل ، فإنّه يوجب انحصار مورد الأوّل بغير الفاسق ، ولا تنفع فيه أصالة البراءة من حرمة إكرام المشكوك الفسق. بل ربما يقال إنّه لا ينفع فيه استصحاب الجواز لو كان له حالة سابقة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه على القول بالامتناع يكون حاله حال النهي عن العبادة الخاصّة في كونه مخصّصاً لدليل الأمر ، ومع ذلك لو شكّ في تحريم عبادة للشبهة الموضوعية أو الحكمية ، تكون أصالة البراءة نافعة في الصحّة ، هذا كلّه على تقدير مانعية الغصب.

وأمّا لو قلنا في مثل ذلك بالشرطية ، وأنّ الشرط هو الاباحة الواقعية ، لأمكن القول بما أفاده قدس سره من عدم جواز الاقدام استناداً إلى البراءة أو قاعدة الحل ، بناءً على أنّ الشرط هو الاباحة الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي ، فلا تنفع فيه الاباحة الثابتة بعنوان الشكّ ، لكن لا يكون الأصل حينئذ في ناحية الشرطية هو البراءة ، بل يكون الأصل هو الاحتياط ، فإنّا بعد البناء على أنّه يشترط الاباحة الواقعية في مكان المصلّي ، وأنّ أصالة البراءة أو الحل في المكان لا تنفع في تحقّق الشرط المذكور ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في تحقّق الشرط المفروغ عن كونه شرطاً ، فيكون المرجع حينئذ هو الاحتياط لا البراءة عن الشرطية ، إذ لا يكون المقام حينئذ من قبيل الشكّ في أصل الشرطية ، بل يكون من قبيل الشكّ في تحقّق الشرط بعد فرض إحراز كونه شرطاً.

تنبيه : وهو أنّه لو قلنا بأنّ المانعية فيما يحرم أكله مرتّبة على ما يحرم أكله ، لا أنّهما في عرض واحد ، كان استصحاب الحلّية حاكماً على البراءة من المانعية دون مثل أصالة البراءة من حرمة الأكل ، فإنّها لا يحرز بها الحلّية كي تكون

ص: 322

حاكمة على البراءة من المانعية. أمّا قاعدة الحل فالظاهر حكومتها على البراءة من المانعية ، فإنّها وإن لم تكن من الأُصول الاحرازية ، إلاّ أنها من الأُصول التنزيلية التي يكون مرجع التنزيل فيها إلى الحكم بترتيب آثار الحل ، ومن جملتها جواز الصلاة فيه. نعم لو قلنا بعدم كونها من الأُصول التنزيلية ، بل إنّ مفادها هو جعل الحكم في مورد الشكّ كما أفاده العلاّمة الخراساني قدس سره في مبحث الاجزاء من الكفاية (1) لم يكن وجه للحكومة المذكورة ، فراجع ما حرّرناه في ذلك المبحث (2).

وحاصل الإشكال في الأُصول غير الاحرازية وغير التنزيلية مثل حديث الرفع : هو أنّ اشتراط الحلّية أو مانعية الحرمة إن كانت مترتّبة على ما هو كذلك واقعاً فالبراءة لا تنفع ، وإن كان هو الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فأصالة البراءة [ نافعة ] ولكن مقتضاها الإجزاء وعدم الاعادة ، وهذا لا يمكن الالتزام به. وعلى أي حال فإنّ كون هذه المانعية منتزعة من التكليف النفسي الذي هو حرمة الأكل محلّ تأمّل وإشكال ، بل إنّ موضوع هذه المانعية هو ذلك التكليف النفسي لا أنّها منتزعة منه.

قوله : فظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما أفاده الشيخ قدس سره قبل تنبيهات الأقل والأكثر بأسطر من أنّ الأصل الجاري لنفي التكليف يغني عن جريانه في طرف الشرطية ، على إطلاقه ممنوع ... الخ (3).

بل إنّ الشيخ قدس سره في عبارته المذكورة صرّح بحكومة أصالة البراءة على

ص: 323


1- كفاية الأُصول : 86.
2- راجع الحواشي المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 375 وما بعدها ، وكذا ما ذكره قدس سره في الصفحة : 402 وما بعدها من المجلّد المذكور.
3- فوائد الأُصول 4 : 193.

الأصل في الشرطية ، فقال : فيصير أصالة البراءة في ذلك الحكم التكليفي حاكماً على الأصل في الشرطية الخ (1) ، فراجع ، وراجع ما في هذا التحرير ص 73 من عدم معقولية انتزاع الشرطية من التكليف النفسي ، وإنّما يكون ذلك في المانعية ، وأنّ المراد من الشرطية في كلام الشيخ هو التقييد بعدم المانع (2).

وراجع ما في تحرير السيّد سلّمه اللّه ص 298 (3) فيما لو كانت الحرمة بوجودها الواقعي موجبة للتقييد بالعدم ، وتمثيله لذلك بمسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، ثمّ بعده بأسطر يفيد أنّ المانعية في هذه الصورة إن كانت في عرض الحرمة الواقعية ، لم يكن الأصل الجاري في الحرمة نافعاً في إزالة الشكّ في المانعية ، وإن كانت المانعية في طول الحرمة الواقعية ، كان الأصل الاحرازي نافعاً دون غيره.

والظاهر انطباق الأوّل على مسألة مانعية غير المأكول على نظرية شيخنا قدس سره من كونهما في عرض واحد ، وانطباق الثاني على ذلك على نظرية من يدّعي أنّ المانعية في طول الحرمة المذكورة ، أو على مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، فإن كان المراد هو مسألة الاجتماع فقد عرفت الحكم فيها ، وإن كان المراد هو مسألة غير المأكول بناءً على الطولية ، فقد عرفت إمكان حكومة قاعدة الحل بناءً على كونها من الأُصولية التنزيلية ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه (4) في مسألة النهي عن العبادة.

ص: 324


1- فرائد الأُصول 2 : 359.
2- فوائد الأُصول 4 : 217 - 218.
3- أجود التقريرات 3 : 509 - 510.
4- راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 301 وما بعدها.

قوله : أو كان المتيقّن هو الأكثر ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الاجمال تارة يكون في متعلّق التكليف ، وأُخرى يكون في موضوعه ، والتكليف في كلّ منهما إمّا أن يكون إيجابياً وإمّا أن يكون تحريمياً ، والمرجع في الجميع هو البراءة ، لكن الذي يظهر منه هنا وفي أوّل مباحث الأقل والأكثر ، هو أنّ المتيقّن فيما عدا التكليف الايجابي وكون الشبهة في المتعلّق ، يكون هو الأكثر ، نظراً إلى كون المتيقّن هو الأكثر قيوداً ، لكن قد عرفت فيما تقدّم (2) أنّه لا داعي إلى ذلك ، بل حيث إنّ المكلّف به ليس هو المفاهيم والعناوين ، بل إنّ المكلّف به إنّما هو المسمّيات والمعنونات ، يكون القدر المتيقّن ممّا تعلّق التكليف به هو الأقل وجوداً ، فإنّ الترديد بين كون المطلوب تركه هو مجرّد الاضافة أو الاضافة المقرونة بالتحية ، يوجب أن يكون مطلوبية ترك الاضافة المقيّدة بالتحيّة قدراً متيقّناً ، وطلب ترك الزائد وهو الاضافة المجرّدة عن التحيّة مشكوكاً.

وهكذا في مسألة وجوب إكرام كلّ عالم ، المردّد بين كونه مجرّد العالم بالفقه أو هو مع النحو ، فإنّ القدر المتيقّن هو مطلوبية إكرام العالم النحوي ، والزائد وهو العالم غير النحوي يكون مشكوكاً.

وهكذا الحال في لا تكرم الفاسق ، المردّد بين خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب ولو صغيرة ، فإنّ القدر المتيقّن هو حرمة مرتكب الكبيرة ، ويكون تحريم إكرام مرتكب الصغيرة فقط مشكوكاً ، هذا كلّه في العموم الشمولي الانحلالي.

ص: 325


1- فوائد الأُصول 4 : 194.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 248 وما بعدها.

وقد ظهر لك : أنّ القدر المتيقّن في ذلك هو الأقل أفراداً ، وأنّ التكليف بالزائد على تلك الأفراد يكون مشكوكاً. ومنه يظهر لك أيضاً خروجه عن الأقل والأكثر الارتباطيين وأنّه من قبيل التكاليف غير الارتباطية ، وذلك واضح لا ريب فيه. نعم لو أُخذ العموم في ذلك مجموعياً ، لكان التردّد المذكور من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، لكن القدر المتيقّن هو الأقل لا الأكثر.

وأمّا العموم البدلي مثل أكرم عالماً ، مع الشكّ في مفهوم العالم وتردّده بين الاطلاق والتقييد بمثل العدالة ، فلا شبهة في أنّ المتيقّن فيه يكون هو الأقل قيوداً ، فيكون حاله حال تردّد متعلّق التكليف ، ولعلّه يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى عند الكلام على الأقل والأكثر الانحلاليين (1) ، وأنّه هل هو من قبيل الأقل والأكثر ، أو هو من قبيل الدوران بين التخيير والتعيين ، فانتظر.

قوله : لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطي في باب الأجزاء والشرائط والموانع ، بين أن يكون منشأ الشكّ في وجوب الأكثر فقد النصّ أو إجماله ، فإنّ وجود النصّ المجمل في المسألة ... الخ (2).

بل يمكن أن يقال : إنّ مسألة فقد النصّ في التردّد بين الأقل والأكثر لا يمكن تصوّرها إلاّبعد ثبوت التكليف بالمركّب في الجملة ، وهذا هو عبارة عن إجمال النصّ ، حتّى لو كان ذلك الدليل الدالّ على وجوب المركّب في الجملة لبّياً مثل الإجماع ونحوه ، فمسألة التردّد بين الأقل والأكثر دائماً متقوّمة باجمال في ناحية المركّب المأمور به ، حتّى لو ورد الأمر مثلاً بالاستعاذة قبل الفاتحة وتردّد

ص: 326


1- [ لعلّ المراد هو : التحليليين ، ويأتي التعليق عليه في الصفحة : 333 ].
2- فوائد الأُصول 4 : 193.

الأمر بين كونه وجوبياً أو استحبابياً ، أو أنّه واجب مستقل أو هو جزء من الصلاة ، فإنّ إجمال هذا النصّ ما لم يكن في البين إجمال في ناحية المركّب وتردّد بين كون الاستعاذة جزءاً منه أو غير جزء ، لا يترتّب عليه أثر من ناحية مدخلية الاستعاذة في الصلاة وعدمها.

قوله : نعم ، هنا بحث آخر قد تعرّض له الشيخ قدس سره ... الخ (1).

الأولى في تفصيل هذا البحث هو أن يقال : ليس التعارض في الجزئية أو الشرطية مع وجود العام على طبق أحدهما ، هو أن يدلّ أحد الخبرين على جزئية الاستعاذة مثلاً من الصلاة والآخر على اعتبار عدمها ، فإنّ العام حينئذ لا يكون موافقاً لأحدهما ، بل المراد من صورة التعارض هو أن يدلّ أحد الخبرين على الجزئية ، والآخر يدلّ على مجرّد عدم الجزئية ، مع وجود مثل عموم أقيموا الصلاة الموافق للثاني ، وحينئذ فإن قلنا إنّ موافقة العام لأحد الدليلين مرجّح له على الآخر ، فلا ريب في سقوط دليل الجزئية ، ويكون العمل حينئذ على طبق العموم الموافق للدليل على عدم الجزئية. وإن لم نقل بأنّ العام مرجّح ، فإن قلنا بالسقوط في المتعارضين المتكافئين فلا ريب حينئذ في لزوم القول بسقوط كلا الخبرين ولزوم الرجوع إلى العام ، وإن لم نقل بالسقوط وقلنا بالتخيير كما هو مقتضى قوله عليه السلام : « إذن فتخيّر » (2) فإن قلنا بأنّ التخيير يكون في المسألة الأُصولية ، واخترنا الخبر الدالّ على عدم الجزئية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إسقاط دليل الجزئية وعن الأخذ بالعام.

نعم ، يشكل الأمر على القول بكون التخيير تخييراً في المسألة الفرعية ،

ص: 327


1- فوائد الأُصول 4 : 197.
2- مستدرك الوسائل 17 : 303 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 2.

فإنّه لا يمكن تأتّيه فيما نحن فيه ، فإنّ الظاهر أنّ التخيير في المسألة الفرعية إنّما يمكن أن يتأتّى فيما لو كان كلّ من الخبرين متضمّناً لحكم إلزامي ، أمّا لو كان أحدهما دالاً على الوجوب مثلاً ، وكان الآخر دالاً على مجرّد عدم الوجوب أو على الاباحة ، فلا معنى للقول بالتخيير في العمل وإسقاط الخبرين ، لأنّ التخيير في العمل الفرعي عبارة أُخرى حينئذ عن الأخذ بالخبر الدالّ على عدم الوجوب أو الاباحة ، والمفروض أنّ التعارض فيما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الخبر الدالّ على عدم الجزئية يكون مفاده عين الحكم بالتخيير في المسألة الفرعية ، فلاحظ وتأمّل.

وخلاصة البحث : أنّه لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً ، وورد أيضاً دليل يقول : أكرم زيداً ، فقد تعارض الخاصان في زيد ، فالعام تارةً نقول إنّه مرجّح للثاني منهما ، وحينئذ يسقط قوله : لا تكرم زيداً. وأُخرى نقول إنّه مرجع ، بأن نقول إنّ أدلّة التخيير في باب التعارض لا تشمل صورة وجود العام ، وحينئذ يتساقط الخاصان ، ويكون المرجع هو العموم. وثالثة نقول إنّ العام ليس بمرجّح ولا مرجع ، بل يكون الحكم هو التخيير بين الخاصين ، سواء قلنا إنّه تخيير في المسألة الأُصولية أو تخيير في المسألة الفرعية. ورابعة نقول إنّ العام يكون مرجعاً لو كان التخيير الذي توجبه أخبار التعادل هو التخيير في المسألة الفرعية ، لأنّ ملاكه هو عدم الدليل ، والمفروض وجود الدليل في المسألة وهو العموم ، أمّا لو كان ذلك التخيير تخييراً في المسألة الأُصولية ، فلا مانع منه مع فرض وجود العموم ، وحينئذ فإن اختار المجتهد الخبر الموافق للعام وهو قوله أكرم زيداً ، فواضح ويكون العمل حينئذ بكلّ من العام وموافقه ، وإن اختار الخبر المخالف للعام وهو قوله لا تكرم زيداً ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إسقاط العام في المورد

ص: 328

بجعل قوله لا تكرم زيداً مخصّصاً للعام ، هذا.

ولكن تأتّي هذا التفصيل فيما نحن فيه مشكل ، لأنّ العموم إنّما هو مثل أقيموا الصلاة ، والخاصّ الموافق لذلك العموم أو الاطلاق إنّما هو ما يدلّ على عدم جزئية السورة ، لا ما يدلّ على التقييد بعدمها ، وحينئذ يكون الخبر المخالف لذلك الاطلاق هو ما يدلّ على جزئية السورة ، ويكون وزان مسألتنا وزان ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال يجب إكرام زيد ، وقال أيضاً لا يجب إكرام زيد ، ومن الواضح أنّ التخيير في ذلك لا يتصوّر فيه كونه تخييراً في العمل ، لأنّ التخيير في العمل هو عين الأخذ بقوله لا يجب إكرام زيد ، وإنّما يتصوّر التخيير في العمل فيما لو كان كلّ من الخاصين متضمّناً لحكم إلزامي ، مثل الوجوب في أحدهما والتحريم في الآخر ، في قبال العام الموافق لأحدهما وهو وجوب إكرام العلماء مثلاً ، أمّا لو كان أحد الدليلين ملزماً بالخاصّ وكان الآخر غير ملزم به ، فلا يتصوّر فيه التخيير في العمل بين الخاصين ، سواء كان في قبالهما عموم إلزامي ، أو كان في قبالهما عموم غير الزامي بالنسبة إلى ذلك الخاصّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فتأمّل.

قوله : منها : ما إذا تردّد لباس المصلّي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فإنّ مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقاً على حسب ما لغير المأكول من الأفراد ... الخ (1).

لا يخفى أنّه قدس سره قد حقّق في محلّه في مسألة اللباس المشكوك (2) أنّ المطلوب في باب النهي النفسي مثل لا تشرب الخمر بحسب التصوير العقلي يمكن أن يكون على ثلاثة أنحاء : الأوّل : أن يكون المطلوب فيه هو ترك كلّ

ص: 329


1- فوائد الأُصول 4 : 203.
2- رسالة الصلاة في المشكوك : 268 - 271.

واحد على استقلاله ، ويعبّر عنه بالسلب الانحلالي. الثاني : أن يكون المطلوب هو السلب الواحد المنبسط على الجميع ، ويعبّر عنه بالسلب المجموعي. الثالث : أن يكون المطلوب هو اتّصاف المكلّف بترك شرب الخمر ، ويعبّر عنه بالمعدولة المحمول فإنّه حينئذ بمنزلة قوله : كن غير شارب للخمر.

ثمّ لو شكّ في خمرية مائع خاصّ ، فعلى الاحتمال الثالث يلزم الاحتياط بتركه ، لأنّ المطلوب حينئذ عنوان بسيط يشكّ في تحقّقه عند ارتكاب ذلك المشكوك ، فالشبهة في ذلك وإن كانت موضوعية ، إلاّ أنها من قبيل الشكّ في المحقّق ، ولأجل ذلك تكون مجرى للاحتياط ، بخلافه على الأوّل والثاني ، فإنّ المرجع في ذلك المشكوك هو البراءة ، لكونه من قبيل الأقل والأكثر ، غايته أنّه على الأوّل من قبيل الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، وعلى الثاني من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين.

وهذه الوجوه الثلاثة جارية بعينها في النواهي الغيرية التي هي منشأ انتزاع المانعية ، فعلى الثالث يلزم الاحتياط بترك اللباس المشكوك ، بخلافه على الأوّلين على حذو ما ذكرناه في النواهي النفسية إلاّفي مطلب واحد ، وهو كون المسألة في النواهي الغيرية من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين على كلّ من أخذ السلب مجموعياً أو أخذه انحلالياً ، فإنّه في النواهي النفسية وإن لم يكن ارتباطياً لو أُخذ السلب فيه انحلالياً ، إلاّ أنه في النواهي الغيرية يكون ارتباطياً على كلا التقديرين ، حيث إنّ المنع الغيري عن لبس الحرير مثلاً في الصلاة لو أُخذ انحلالياً وإن لم يكن ارتباطياً بالنسبة إلى كلّ واحد من أفراد الحرير ، إلاّ أنه بالنسبة إلى مجموع أجزاء الصلاة وشرائطها يكون ارتباطياً ، فترك هذا اللباس لو كان حريراً في الواقع وإن لم يكن ارتباطياً بالقياس إلى ترك لبس ذلك اللباس الآخر المفروض كونه

ص: 330

حريراً ، إلاّ أنه بالقياس إلى مجموع الأفعال الصلاتية يكون ارتباطياً ، ضرورة ارتباط ترك كلّ مانع بالنسبة إلى ما جعل مانعاً فيه.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك : أنّ موارد الشكّ في المحقّق كلّها تكون مجرى للاحتياط ، سواء كان منشأ الشكّ فيها هو عدم النصّ أو إجماله أو اشتباه الأُمور الخارجية ، وأنّ موارد الشكّ في الأقل والأكثر كلّها مجرى للبراءة ، سواء كان منشأ الشكّ هو عدم النصّ أو إجماله أو اشتباه الأُمور الخارجية ، ولو كان منشأ الشكّ في المسألتين هو تعارض النصّين ، كان المرجع فيه هو التخيير بين النصّين على نحو ما عرفت.

قوله : نعم ، في الأجزاء لا يمكن أن تتحقّق الشبهة الموضوعية ، لأنّ التكليف بها ليس له تعلّق بالموضوع الخارجي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الأجزاء وإن لم يكن لها تعلّق بالموضوع الخارجي ، إلاّ أنها يمكن تأتّي الشبهة الموضوعية فيها ، بأن يكون قد شكّ في أنّه ركع مثلاً أو لا ، كما يمكن ذلك في الشرائط ، بأن يكون قد شكّ في كون هذه الجهة قبلة ، أو شكّ في كون هذا اللباس طاهراً ، إلاّ أنهما ليسا من قبيل الشكّ في الجزئية أو الشرطية ، بل من قبيل الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط ، واللازم فيه هو الاحتياط ، لرجوع الشكّ في ذلك إلى احتمال امتثال الأمر المتعلّق بالجزء أو الشرط مع فرض الاشتغال به يقيناً ، بخلاف مسألة المانعية فإنّ الشكّ في كون هذا اللباس حريراً مثلاً يرجع بعد الانحلال المزبور إلى الشكّ في مانعية هذا اللباس الخاصّ ، فيكون من قبيل الشكّ في الاشتغال ، وبذلك يكون داخلاً في مسألة الأقل والأكثر ، بخلاف الجزئية والشرطية.

ص: 331


1- فوائد الأُصول 4 : 203 - 204.

والسرّ في ذلك هو ما أفاده من عدم إمكان العموم الشمولي في باب الأجزاء والشرائط ، سواء كان انحلالياً أو كان مجموعياً ، بل لا يتصوّر فيهما إلاّ العموم البدلي ، فدائماً تكون الشبهة الموضوعية فيهما راجعة إلى الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط ، بخلاف المانعية فإنّها لمّا كانت شمولية كان كلّ واحد من أفراد المانع محقّق المانعية ، فيكون الشكّ في كون هذا اللباس حريراً مثلاً راجعاً إلى الشكّ في مانعيته ، وبذلك يكون من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، سواء كان العموم الشمولي في قوله لا تصلّ في الحرير انحلالياً أو كان مجموعياً على ما عرفت تفصيله فيما تقدّم.

ثمّ لا يخفى أنّ الشبهة الموضوعية في جزء الواجب الارتباطي وإن أمكن التمثيل لها بمثل غسل الجنابة ، بناءً على أنّ المطلوب هو نفس غسل البشرة الظاهرة ، وقد حصل الشكّ في ندبة في بدنه مثل ثقب الأُذن أو ندبة أُخرى غير عادية في أنّها من قبيل الظاهر أو الباطن على نحو الشبهة الموضوعية ، لكنّه داخل فيما له تعلّق بموضوع خارجي ، فإنّ الواجب هو غسل الظاهر وقد حصل الشكّ في تلك الندبة في أنّها من الظاهر على نحو الشبهة الموضوعية ، فهو نظير العموم المجموعي مثل أكرم العلماء على نحو العموم المجموعي وقد شكّ في عالمية زيد مثلاً. ومثل ذلك ما لو قلنا بأنّ الشرط في لباس المصلّي ومحموله هو الطهارة إذا كان ممّا تتمّ به الصلاة منفرداً ، وقد حصل [ الشكّ ] في أنّ هذا المحمول هل تتمّ به الصلاة منفرداً للشكّ في كونه في نفسه ساتراً للعورة ، فإنّ المرجع في ذلك إلى البراءة من شرطية طهارة ذلك المحمول ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ المثال الأوّل لا يخلو عن خدشة ، فإنّ الشبهة فيه ليست موضوعية صرفة ، بل هي حكمية لكونها من قبيل الشبهة المفهومية ، للشكّ في

ص: 332

كون الظاهر شاملاً لتلك الندبة.

والأولى التمثيل لذلك بالحدود في باب الوضوء ، مثل حدّ اليد إلى المرفق ، فإنّهم يقولون يجب الغسل فيه من باب المقدّمة العلمية ، وذلك - أعني كونه من باب المقدّمة العلمية - لا يكون إلاّمن جهة الشكّ في كونه جزءاً على نحو الشبهة الموضوعية ، فإنّ المفهوم وهو اليد وحدّها لا شبهة فيه ولا ترديد ، وإنّما وقع الشكّ في هذه النقطة هل هي داخلة في المحدود أو خارجة عنه على نحو الشبهة الموضوعية ، فراجع ما يذكرونه في باب الوضوء وأنّ غسل تلك النقطة هل هو من باب المقدّمة الوجودية ، أو من باب المقدّمة العلمية.

قوله : الفصل السابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المركّبات التحليلية ، والمراد من المركّب التحليلي هو ما إذا لم يتوقّف اعتبار الخصوصية ... الخ (1).

هنا مسائل ربما يختلط بعضها ببعض ، الأُولى : دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي. الثانية : الدوران بين التعيين والتخيير العقلي. الثالثة : الدوران في متعلّق التكليف بين الأقل والأكثر الخارجيين ، سواء كان ذلك من قبيل الجزئية أو الشرطية أو المانعية. الرابعة : دوران متعلّق التكليف بين الأقل والأكثر التحليليين ، مثل أن يعلم بأنّه وجب عليه إخراج هذه الجارية عن ملكه ، ولكنّه تردّد بين كونه بطريق خاصّ كالبيع أو العتق مثلاً ، أو أنّ المطلوب هو مطلق الاخراج عن الملك بأيّ نحو كان. الخامسة : دوران موضوع التكليف بين الأقل والأكثر الخارجيين ، مثل ما لو تردّد في الرقبة التي يجب عتقها بين مطلق الرقبة أو خصوص المقيّدة بالإيمان ، أو تردّد العالم الذي يجب إكرامه بين خصوص العالم

ص: 333


1- فوائد الأُصول 4 : 205.

بالنحو مع الفقه أو هو مطلق العالم بالفقه وإن لم يكن نحوياً. السادسة : دوران موضوع التكليف بين الأقل والأكثر التحليليين ، مثل ما لو تردّد الهدي الذي يجب بين كونه مطلق الحيوان الذي هو مأكول اللحم ، أو هو خصوص البدنة التي هي من الإبل خاصّة.

أمّا المسألة الأُولى ، فهي مباينة للثانية بما تقدّم (1) تحريره في الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، بأنّ الأوّل يكون فيه جامع عرفي قريب يكون هو متعلّق الأمر ، بخلاف الثاني.

وأمّا الثانية ، فهي منطبقة على كلّ واحدة من المسائل التي هي بعدها.

وأمّا الثالثة ، فهي مسألة الأقل والأكثر الخارجيين ، التي تقدّم الكلام عليها مفصّلاً في الفصول السابقة.

وأمّا الرابعة وكذلك السادسة ، فهي المقصود بمسألة الأقل والأكثر التحليليين ، وهي المعنونة في هذا الفصل المبيّن فيه بما لا مزيد عليه عدم جريان البراءة الشرعية فيها.

وأمّا المسألة الخامسة ، فيمكن إلحاقها بالرابعة في عدم جريان البراءة فيها ، ولزوم الاحتياط لأصالة الاشتغال ، وذلك لأنّ مدار البراءة هو أن تكون الجهة المشكوكة على تقدير اعتبارها واقعاً داخلة تحت الطلب ، بحيث يكون منبسطاً عليها ، على وجه لو قطّعناه قطعاً لكانت قطعة منه واردة على تلك الجهة ، كما في جزء نفس المأمور به أو شرطه أو مانعه. أمّا ما يدخل فيما تعلّق به الفعل المأمور به من جزء أو شرط أو مانع ، فلا يكون التكليف منبسطاً عليه ، فإنّ

ص: 334


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 255 وما بعدها.

الوجوب المتعلّق بعتق الرقبة مثلاً على تقدير كونها في الواقع مقيّدة بالإيمان ، لا يكون منبسطاً على تقييدها بالإيمان على وجه لو قطّع ذلك الوجوب لكانت قطعة منه واردة على تقيّد الرقبة بالإيمان ، كي تكون تلك القطعة منه مورداً للبراءة.

ولكن التحقيق جريان البراءة في ذلك ، فإنّ العتق وإن كان في نفسه بسيطاً ، إلاّ أنّه باعتبار كونه عتق مؤمنة يكون مقيّداً ، نظير الصلاة المقيّدة بكونها مع الطهارة ، فيكون التكليف منبسطاً على ذلك التقييد ، أعني تقييد العتق بكونه عتقاً للمؤمنة ، فإنّ التقييد اللاحق لموضوع التكليف وإن كان بحسب الصورة قيداً لمتعلّق الفعل المأمور به ، إلاّ أنه في الحقيقة يكون قيداً لنفس الفعل المأمور به.

قوله : نعم بناءً على مختار الشيخ قدس سره من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر - إلى قوله - لأنّ النوع في التحليل العقلي مركّب من الجنس والفصل ، فينحلّ العلم الاجمالي في نظر العقل ، لأنّ نظره هو المتّبع في الانحلال (1).

لا يخفى أنّ أساس القول بانحلال العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ليس هو التحليل العقلي ، بل هو تعدّد الأمر الشرعي وزيادته في الأكثر ، وأنّ عمدة ما يتوجّه على هذا الانحلال هو ما أفاده قدس سره فيما تقدّم من كون الأكثر على تقدير وجوبه واقعاً ، يكون حصول امتثال الأمر المتعلّق بالأقل مقيّداً بالاتيان بذلك الزائد ، فمع الشكّ في وجوبه يحصل الشكّ في الخروج عن عهدة الأقل بالاتيان به مجرّداً عن ذلك الزائد المشكوك الوجوب ، وقد دفعنا ذلك بما تقدّم من إرجاع الجزئية الارتباطية إلى تقييد الأقل بالزائد ، وكونها حينئذ مأموراً

ص: 335


1- فوائد الأُصول 4 : 208.

بها بالأمر الغيري الشرطي ، وجعلنا مركز البراءة الشرعية والعقلية هو ذلك الوجوب الغيري الشرطي ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي على ما تقدّم تفصيله (1).

وهذه الجهة التي أوجبت الانحلال وهي كون ذلك المقدار من الوجوب مشكوكاً ، ليست متحقّقة في مسألة الدوران بين الجنس والنوع ، لما أُفيد من عدم التقطيع فيها في ناحية الأمر الشرعي ، وإن كان النوع بحسب التحليل العقلي مركّباً من الجنس والفصل ، لأنّ هذا التحليل العقلي لا عبرة به في الأمر المتعلّق بالنوع ، لأنّه لا يكون إلاّ أمراً واحداً بسيطاً لا كثرة فيه ولا تعدّد.

ثمّ إنّ الضابط لهذه المسألة ، بحيث يكون فارقاً مميّزاً بين كون المورد من قبيل الأقل والأكثر الخارجيين وكونه من قبيل الأقل والأكثر التحليليين ، هو عين الضابط الذي أفاده قدس سره (2) في باب البيع من الفرق بين موارد تخلّف الشرط الموجب للخيار وموارد تخلّف المبيع الموجب لبطلان البيع ، وحاصل ذلك الضابط هو أنّ الخصوصية إن كانت حافظة للصورة النوعية كان المورد من قبيل تخلّف المبيع ، وإن لم تكن حافظة للصورة النوعية ، بل كانت جهة زائدة على الصورة النوعية ، كانت من قبيل تخلّف الشرط.

وحينئذ ففيما نحن فيه إن كانت الخصوصية المحتملة هي الصورة النوعية كانت المسألة من الأقل والأكثر التحليليين ، وإن لم تكن تلك الخصوصية المحتملة على تقدير اعتبارها كذلك ، بل كانت على تقدير اعتبارها جهة زائدة على الصورة النوعية ، كانت المسألة من الأقل والأكثر الخارجيين.

ص: 336


1- في الصفحة : 280 وما بعدها ، وكذا الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 296 وما بعدها.
2- منية الطالب 3 : 267 وما بعدها.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الخصوصية النوعية يكون بها قوام شيئية الشيء ، فلا يمكن التقطيع في الأمر المتعلّق بذلك الشيء ليكون مقدار من ذلك الأمر معلوماً ومقدار منه مشكوكاً ، بخلاف الخصوصية الزائدة على الحقيقة النوعية ، فإنّ الأمر بواجدها يكون منحلاً إلى الأمر بنفس الذات وإلى أمر بالزائد على تلك الذات وهو تلك الخصوصية ، ويكون الأمر بتلك الذات معلوماً والأمر بما هو زائد عليها مشكوكاً.

ثمّ إنّه قد يقال بالرجوع إلى البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر التحليليين ، فإنّ نفس الخصوصية وإن لم يمكن إجراء البراءة فيها من باب العلم بوجوب العام والشكّ في وجوب الخصوصية ، لما عرفت من عدم التقطيع في ناحية الأمر ، إلاّ أنه بعد العلم الاجمالي المردّد بين وجوب العام ووجوب الخاص تكون البراءة في وجوب الخاص جارية بلا معارض لها في ناحية وجوب العام ، لعدم إمكان البراءة فيه ، لكونها فيه موجبة للمخالفة القطعية.

وفيه : أنّا إن قلنا بالتباين بين الوجوبين ، لا يكون جريان البراءة في وجوب العام موجبة للمخالفة القطعية ، فإنّها إنّما توجب ذلك إذا كان جريانها فيه موجباً للحكم بعدم وجوب العام لا بنفسه ولا في ضمن الخاصّ ، وهذا - أعني انتفاء وجوب العام في ضمن الخاصّ - عين التركيب في ناحية الخاص الذي كان الكلام مبنياً على عدمه.

وبالجملة : بعد البناء على بساطة الخاصّ وبساطة الأمر المتعلّق به ، لا تكون البراءة في ناحية وجوب العام إلاّنافية لوجوبه في حدّ نفسه ، دون وجوبه في ضمن الخاصّ كي تكون موجبة للمخالفة القطعية ، فتأمّل.

ص: 337

[ تنبيهات الأقل والأكثر ]

قوله : قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني ، وما هو المائز بينه وبين غيره ، فقيل : إنّ الجزء الركني هو ما أوجب الإخلال به سهواً ... الخ (1).

لم يقع الركن في لسان الأدلّة كي يستحسن الخلاف في معناه ، وإنّما هو اصطلاح لا يحسن فيه الخلاف ، لأنّ كلّ جزء بحسب القواعد الأوّلية والأدلّة الخاصّة يمكن أن يكون كلّ من نقيصته السهوية وزيادته السهوية مخلاًّ ، كما أنّه يمكن أن لا يكون شيء منهما مخلاًّ ، أو يكون المخلّ هو النقص السهوي دون الزيادة السهوية ، فلابدّ حينئذ من الرجوع إلى القواعد والأدلّة المزبورة.

نعم ، أفاد شيخنا قدس سره على ما حرّرته عنه هو أنّ الاستقراء في خصوص باب الصلاة يشهد بالملازمة بين كون البطلان بالنقص السهوي والبطلان بالزيادة السهوية.

قوله : وهذا بعد الاتّفاق منهم على أنّ الإخلال بالجزء عمداً يوجب البطلان ... الخ (2).

ربما يستند في عدم البطلان بالاخلال العمدي فيما عدا الأركان في مورد الجهل بالحكم أو في مورد العلم به إذا تأتّى منه قصد القربة إلى حديث « لا تعاد » ، لكن

ص: 338


1- فوائد الأُصول 4 : 209.
2- فوائد الأُصول 4 : 209.

لو تمّ الاستدلال المزبور لكان مقتضاه كون تلك الأجزاء التي أخلّ بها هي من قبيل الواجب في واجب ، فلا يترتّب على تركها عمداً إلاّ الإثم ، وبذلك تخرج عن مفروض الكلام من كون المتروك عمداً هو الجزء ، وحينئذ فيتمّ ما أُفيد من أنّ بطلان العمل بالإخلال العمدي من لوازم الجزئية.

قوله : لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ... الخ (1).

لابدّ أن يكون المراد من السقوط مجرّد المعذورية ، لا ارتفاع الأمر بالمرّة الموجب لارتفاع الجزئية ، سيّما بناءً على أنّها منتزعة من الأمر ، وإلاّ لم يكن وقع للبحث من أصله ، لأنّ ذلك عبارة أُخرى عن اختصاص الجزئية بحال الذكر. والحاصل : أنّ عدم القدرة الحاصل من النسيان لا يوجب ارتفاع أصل التكليف ، بل حال النسيان من هذه الجهة حال الجهل في أنّه لا يوجب إلاّمجرّد عدم العقاب دون ارتفاع التكليف الواقعي ، إذ لو تمّ ذلك من أنّه موجب لارتفاع التكليف واقعاً لم يكن لنا في المركّبات ركن أصلاً.

ويمكن أن يكون المراد هو أنّ سقوط التكليف بالجزء المنسي هل يكون مقصوراً عليه ، وحينئذ تكون باقي الأجزاء باقية على وجوبها في حقّ الناسي ، ونحتاج إلى خطاب يخصّ الناسي بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة ، ويتعلّق ذلك الخطاب بباقي الأجزاء ، أو أنّ سقوط التكليف بالجزء المنسي يوجب سقوط التكليف بالباقي ، فلا يكون الناسي مختصّاً بخصوص خطاب ، وهذا هو محصّل الركنية ، كما أنّ الوجه الأوّل هو عبارة عن عدم الركنية.

ص: 339


1- فوائد الأُصول 4 : 210.

قوله : وثانياً : أنّ العنوان الملازم للنسيان إنّما أُخذ معرّفاً ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لا دليل على أنّه لابدّ من قصد العنوان الواقعي المعرَّف ، ولعلّ قوله : فتأمّل ، إشارة إلى ذلك.

قوله : الوجه الثالث : هو ما أفاده المحقّق الخراساني قدس سره ... الخ (2).

قال في الكفاية : كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً ، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر (3).

ومراده بما شكّ في دخله مطلقاً هو باقي الأجزاء ما عدا الأركان ، وحاصله أنّ الخطاب العام للذاكر والناسي يكون مقصوراً على الأركان خالية من باقي الأجزاء ، ثمّ يقوم دليل آخر يدلّ على جزئية باقي الأجزاء في حقّ خصوص الذاكر.

ولا يخفى أنّ ظاهر العبارة المرسومة هنا غير متّجه ، لأنّ النسيان ليس واقعاً دائماً على جزء خاصّ ، بل كلّ جزء قابل للنسيان ، فلا يصحّ الخطاب العام بما عدا الجزء المنسي ، لكن الأمر سهل ، لأنّ المراد هو ما في الكفاية ، غايته أنّ العبارة قاصرة عن تأدية مطلب الكفاية.

ثمّ إنّه قد يقال : إنّ هذا الوجه يحتاج إلى الخطأ في التطبيق ، لأنّ المكلّف يتخيّل أنّه يأتي بجميع الأجزاء امتثالاً للأمر المتعلّق بها ، لكن فيه تأمّل ، لأنّ نيّة جميع الأجزاء إنّما تكون في أوّل الشروع على نحو الإجمال ، ثمّ بعد ذلك بطروّ النسيان ينقلب تكليفه إلى سقوط المنسي عنه ، فكلّ واحد من الأجزاء لا يأتي به

ص: 340


1- فوائد الأُصول 4 : 213.
2- فوائد الأُصول 4 : 213 - 214.
3- كفاية الأُصول : 368.

إلاّ بداعي أمره الواقعي ، ومن أوّل دخوله في الصلاة وإن نوى امتثال الأمر بالكل إلاّ أنّه كان قبل طروّ النسيان ، فكان مأموراً بالكل ، والتبدّل إلى التكليف بالبعض إنّما طرأ في الأثناء.

وفيه : تأمّل ، لأنّ المقام ليس من قبيل التبدّل ، بل هو من أوّل الأمر لمّا كان في علمه تعالى أنّه ينسى السورة يكون مكلّفاً بما عداها ، وهو يتخيّل أنّه مكلّف بالمركّب منها.

ثمّ لا يخفى أنّ الخطأ في التطبيق يحتاج إلى هذا الوجه ، فإنّ تنويع المكلّف إلى ذاكر السورة فيكون أمره متعلّقاً بالمركّب منها ، وناسي السورة فيكون أمره متعلّقاً بفاقدها ، لا يكون إلاّعبارة أُخرى عن أنّ وجوب السورة وجزئيتها مقيّدة بالذكر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون الجزئية مختصّة بالذاكر إشكالاً آخر ، فإنّه وإن لم يكن عبارة عن ذاكر الجزئية ، بل هو عبارة عن ذاكر الجزء ، إلاّ أن تصوّر ذكر الجزء ونسيانه إنّما هو بعد فرض تحقّق وجوبه وجزئيته ، فيكون ذكر الجزء في محلّه متأخّراً رتبة عن وجوبه وجزئيته ، فلا يعقل أن يكون أصل جزئيته ووجوبه مشروطاً بذكره ، وهو أشبه باشكال أخذ العلم بالحكم في موضوعه ، وهذا الإشكال لا يختصّ بالوجه الثالث ، بل هو جار في الأوّل والثاني ، فإنّ كون الناسي مكلّفاً بالفاقد عبارة أُخرى عن كون الذاكر مكلّفاً بالواجد ، والتعبير عن الناسي بالعنوان الملازم مثل بلغمي المزاج ليس إلاّلأجل إمكان خطابه ، وحينئذ يكون مرجع جميع الوجوه إلى كون الناسي مكلّفاً بالفاقد والذاكر مكلّفاً بالواجد ، ويتأتّى فيه الإشكال في أخذ العلم بالحكم موضوعاً له.

ولا يمكن الجواب عنه بأنّه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل أخذ العلم

ص: 341

بالموضوع موضوعاً للحكم ، ووجه عدم إمكان الجواب بذلك هو الفرق الواضح بين العلم بالموضوع ، فإنّه لا يكون متأخّراً عن وجود الحكم ، بخلاف ذكر مثل التشهّد في محلّه فإنّه عبارة أُخرى عن العلم بوجوب التشهّد في محلّه ، وأنّه متذكّر لذلك الفعل الواجب عليه ، وذلك لا يكون إلاّبعد فرض تعلّق الوجوب بالتشهّد فلاحظ.

ومع قطع النظر عن هذا الإشكال يكون كلّ من الوجوه الثلاثة راجعاً إلى الآخر ، وهي محتاجة إلى طريقة الخطأ في التطبيق ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من استهجان الخطاب الذي لا يؤثّر في حقّ المكلّف ، فإنّ ذلك لو سلّمناه فإنّما هو فيما لو كانت طريقة أُخرى يمكننا سلوكها ، أمّا إذا لم يكن للشارع الحكيم طريقة في تحصيل المكلّف به من المكلّف إلاّبهذه الطريقة ، كان اللازم عليه سلوكها ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الجهة الثانية : في قيام الدليل على كون الناسي مكلّفاً ببقية الأجزاء وسقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي ... الخ (1).

لا شبهة في كون جزئية الجزء من الوضعيات ، ولكن هل هي مجعولة شرعاً ويتبعها التكليف بالجزء كما يظهر ذلك من الشيخ المرتضى قدس سره (2) ، أو أنّ المجعول

ص: 342


1- فوائد الأُصول 4 : 216.
2- [ لاحظ فرائد الأُصول 2 : 363 ، ولعلّه قدس سره استفاد ذلك ممّا ذكره الشيخ قدس سره ( في صفحة 366 ) بقوله : وإن كان تكليفاً غيرياً فهو كاشف - إلى قوله : - إلاّ أن الجزئيّة لا تنتفي بذلك. فلاحظه ولاحظ سائر كلماته قدس سره في المسألة الأُولى من التنبيه الأوّل من تنبيهات الأقلّ والأكثر ، فإنّ الشيخ قدس سره قد صرّح ( في صفحة 367 ) بأنّ جزئيّة السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً. ولاحظ أيضاً ما ذكره قدس سره في الأحكام الوضعيّة في باب الاستصحاب من فرائد الأُصول 3 : 125 وما بعدها ].

إنّما هو الأمر المتعلّق بذلك الجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، فلا تكون الجزئية مجعولة شرعية ، بل لا تكون إلاّ أنتزاعية محضة كما هو مختار شيخنا الأُستاذ قدس سره ، وبناءً عليه يكون المجعول حقيقة هو الأمر المتعلّق بالجزء ، سواء كان الدليل عليها هو الأمر المتعلّق بالكل مثل قوله صلّ ، أو الأمر المتعلّق بخصوص الجزء مثل قوله اركع واسجد ونحو ذلك ، أو كان الدليل عليها هو مثل قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » (1) ، فإنّه حينئذ يكون من قبيل التعبير بلازم ذلك الأمر المتعلّق بالاتيان بالفاتحة في ضمن الصلاة على نحو الارتباطية.

ثمّ بعد البناء على ما أفاده قدس سره من أنّ المجعول إنّما هو الأمر الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، وأنّ الجزئية لا تكون إلاّمنتزعة من ذلك الأمر المتعلّق بالكل الذي يكون متضمّناً لتعلّق الأمر بالجزء ، لابدّ أن تكون الجزئية تابعة لذلك الأمر ، فحيث يتوجّه الأمر الضمني المتعلّق بمثل التشهّد في ضمن تعلّق الأمر بالصلاة ، تنتزع الجزئية للتشهّد ، ويكون التشهّد جزءاً من الصلاة ، وحيث لا يكون الأمر المذكور متوجّهاً لبعض الطوارئ الموجبة لسقوطه وعدم توجّهه ، لا يكون التشهّد المذكور جزءاً من الصلاة ، وتكون الجزئية ساقطة بسقوطه.

ثمّ بعد ذلك نقول : لو طرأ على المكلّف نسيان التشهّد ، فهل يكون النسيان من قبيل التعذّر ، نظراً إلى أنّ الناسي للتشهّد الغافل عنه يكون غير قادر على الاتيان به ، أو أنّه من قبيل عدم العلم ، فيكون ملحقاً بعدم العلم في أنّه لا أثر له إلاّ مجرّد المعذورية مع بقاء التكليف الواقعي بحاله ، فإنّهم ألحقوا نسيان الحكم بالجهل به ، فينبغي أن يلحقوا ناسي الموضوع بالجاهل بالموضوع في عدم كونه

ص: 343


1- مستدرك الوسائل 4 : 158 / أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ح 5.

موجباً لسقوط التكليف الواقعي. والظاهر الثاني ، لأنّ من نسي الصلاة بتمامها لا يكون نسيانه لها موجباً لسقوط الأمر بها واقعاً ، بل يكون الأمر بها محفوظاً في واقعه ، وإن كان المكلّف معذوراً في تركها ، بمعنى أنّه لا يستحقّ العقاب على ذلك الترك الناشئ عن النسيان ، فينبغي أن يكون نسيان جزء من أجزائها أيضاً كذلك ، يعني أنّ الأمر بذلك الجزء المنسي يكون باقياً بحاله ، وإن كان تركه غير موجب للعقاب.

وعلى كلّ حال ، فنحن إن قلنا بمقالة الأُستاذ قدس سره من كون المجعول هو الأمر الضمني ، وأنّ الجزئية انتزاعية ، فإمّا أن نقول بأنّ نسيان الجزء لا يوجب سقوط الأمر الضمني المتعلّق به ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب المعذورية في ترك ذلك الجزء ، بمعنى عدم استحقاق العقاب على ذلك الترك الناشئ من النسيان ، وإمّا أن نقول بأنّه موجب لسقوط الأمر المذكور كالتعذّر.

فإن قلنا بالأوّل ، فإن كان ذلك الأمر الضمني مطلقاً شاملاً للذاكر والناسي كان مقتضاه الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وإن كان ذلك الأمر مقيّداً بحال الذكر كان مقتضاه عدم الاعادة فضلاً عن القضاء ، من دون فرق في ذلك بين كون النسيان مستوعباً للوقت أو غير مستوعب ، إذ لم يكن سقوط جزئية ذلك الجزء المنسي من جهة التعذّر كي يفصّل في ذلك بين الصورتين ، بل هو من جهة عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال الذكر ، فيكون حال الناسي والذاكر من هذه الجهة حال المسافر والحاضر. وهكذا الحال فيما لو كان دليل الجزئية - أعني ذلك الأمر الضمني - مجملاً ، فإنّا بعد الرجوع في الجزئية حال النسيان إلى البراءة ، يلزمنا الحكم الظاهري بعدم الجزئية في حال النسيان ، ومقتضاه الحكم ظاهراً بسقوط الأمر المتعلّق بالصلاة. هذا حال البراءة.

ص: 344

وأمّا حديث « لا تعاد » (1) ، فهو يكشف عن أنّ ما يعتبر في الصلاة كلّه مختصّ بالذاكر ، إلاّ الخمسة المستثنيات فإنّها تعمّ الناسي والذاكر ، هذا كلّه إذا قلنا بأنّ النسيان غير موجب لسقوط الأمر الضمني.

وأمّا لو قلنا بأنّه كالتعذّر كما يظهر من مطاوي كلمات شيخنا قدس سره ... (2) موجب لسقوط ذلك الأمر الضمني الذي هو عين سقوط الجزئية ، وذلك عبارة أُخرى عن ... (3) متعلّق بالمركّب من ذلك الجزء المنسي ، وحينئذ فالذي ينبغي أن يقال : إنّ النسيان إن كان مستوعباً للوقت ، فمقتضى القاعدة الأوّلية هو أنّه لا قضاء على الناسي ، إمّا لأجل أنّه لم يكن مكلّفاً في الوقت بشيء أصلاً ، وإمّا لأجل أنّ تكليفه قد تبدّل إلى ما عدا المنسي ، ويكون ذلك نظير ما لو تعذّر بعض الأجزاء في تمام الوقت. وحينئذ يكون الوجه في لزوم القضاء على من كان في تمام الوقت ناسياً لأحد الخمسة ، كما هو ظاهر حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى جزئه الايجابي ، وشموله في ذلك لما كان النسيان لأحد الخمسة مستوعباً لتمام الوقت ، بمعنى أنّه لم يتذكّر بعد الفراغ إلى أن خرج الوقت ، هو كون عدم القضاء تابعاً للأداء (4) ، بل إنّه يكون بمقتضى الأمر الأوّلي الأصلي ، بحيث إنّ من كان معذوراً في تمام الوقت يلزمه التأخير والاتيان بالمركّب خارج الوقت ، أو نقول : إنّ القضاء في هذه الخمسة على خلاف القاعدة ، ثبت بالدليل وهو إطلاق لا تعاد إلاّ من هذه الخمسة وشموله للقضاء وإن كان التعبير بلفظ الاعادة.

وعلى أي حال ، الظاهر أنّ هذا الحكم فيما نحن فيه - أعني أنّ نسيان أحد

ص: 345


1- وسائل الشيعة 4 : 312 / أبواب القبلة ب 9 ح 1.
2- [ في الأصل سقط في هذين الموردين ].
3- [ في الأصل سقط في هذين الموردين ].
4- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

هذه الخمسة في تمام الوقت يوجب القضاء - إجماعي ، فلا مانع من الالتزام به ولو كان على خلاف القاعدة. أمّا ما فرضه في التحرير (1) من التذكّر في أوّل الوقت والنسيان في باقيه ، فلم أتصوّر له مثالاً فيما نحن فيه ، فإنّ المدار في النسيان على أنّه حين العمل ناس لبعض الأجزاء ، وكونه متذكّراً له قبل العمل لا أثر له.

وإن لم يكن النسيان مستوعباً لتمام الوقت ، بل إنّه بعد الفراغ من العمل تذكّر أنّه قد نسي الجزء الفلاني في أثناء العمل ، كان تكليفه الواقعي بذلك المركّب من المنسي منحصراً بما بعد التذكّر من أفراده كما في سائر موارد التعذّر ، فيلزمه الاتيان به واجداً لذلك الجزء الذي كان قد نسيه ، وهو عبارة عن الاعادة فيما نحن فيه - أعني النسيان - كما هو مفاد حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى جزئه الايجابي ، أعني الخمسة المستثنيات فيما لو كان النسيان لأحدها غير مستوعب للوقت ، وحينئذ يكون ما تضمّنه الحديث من الحكم بلزوم الاعادة في هذه الخمسة على القاعدة. والذي ينبغي أن يكون الحكم كذلك فيما عداها ، أعني لزوم الاعادة في نسيانه غير المستوعب ، لكن لو قام الدليل على أنّ الناسي له مكلّف في حال نسيانه بما عدا الجزء المنسي من ذلك ، كان الحكم حينئذ هو عدم الاعادة كما تضمّنه حديث « لا تعاد » بالنسبة إلى الجزء السلبي ، أعني بالنسبة إلى ما عدا الخمسة ، فإنّ ذلك الحديث كاشف عن أنّ تكليف الناسي فيما عدا الخمسة غير تكليف الذاكر ، وأنّ المشرّع في حقّ الناسي هو وجوب ما عدا المنسي ، سواء كان النسيان مستوعباً للوقت أو لم يكن مستوعباً له ، غايته أنّه بالنسبة إلى غير المستوعب يكون الحكم بعدم الاعادة على خلاف القاعدة ، لأجل الحديث المذكور الكاشف عن أنّ تكليف الناسي غير تكليف الذاكر.

ص: 346


1- فوائد الأُصول 4 : 221.

وعلى أيّ حال ، لا يكون حينئذ محلّ لحديث الرفع ، لا بالنسبة إلى الأمر الضمني المتعلّق بالجزء المنسي ، للعلم بعدم وجوبه على الناسي كما هو الفرض ، ولا بالنسبة إلى الباقي لأنّه خلاف الامتنان ، حيث إنّه لا أثر لرفع وجوب الباقي في حال النسيان إلاّلزوم الاعادة بعد ارتفاع النسيان في أثناء الوقت.

نعم قد يقال : إنّه في حال النسيان يدور أمره بين التكليف بالحاضر الفاقد وبين التكليف بالواجد الآتي ، فتجري البراءة في الزائد الآتي ، لكن سيأتي أنّ البراءة لا تجري في حال النسيان وبعد ارتفاع ... يكون ... مورداً ... اشتغال ... (1) الحال بناءً على الوجه الأوّل ، أعني كون النسيان من مقولة الجهل ، أو أنّه يكون من قبيل العلم الاجمالي بين تكليف سقط أو تكليف لم يسقط.

لا يقال : إنّ النسيان الموجب لتعذّر الجزء المنسي لا يوجب إلاّسقوط ذلك الجزء ، دون غيره من باقي الأجزاء ، وحينئذ يكون الباقي باقياً على وجوبه ، ولمّا قد أتى به الناسي ولو بتخيّل أنّه واجد لما نسيه ، كان ذلك كافياً في الامتثال وموجباً لسقوط أمره المتوجّه إليه واقعاً ، فلا إعادة عليه ، ويكون ما تضمّنه حديث « لا تعاد » من عدم الاعادة في نسيان ما عدا الخمسة وارداً على القاعدة. نعم حكمه بوجوب الاعادة على من نسي أحد الخمسة يكون على خلاف القاعدة.

لأنّا نقول : إنّ سقوط الأمر الضمني المتعلّق بالجزء المنسي عبارة عن سقوط الأمر بالمركّب ، فإنّ تعذّر الجزء المنسي يكون تعذّراً للمجموع المركّب ، ويكون الساقط هو الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب ، ويحتاج وجوب الباقي إلى

ص: 347


1- [ في الأصل سِقط في هذه المواضع ].

دليل آخر كما حقّق في محلّه في مبحث تعذّر بعض الأجزاء (1) ، وحينئذ يكون الحكم بعدم الاعادة في نسيان ما عدا الخمسة على خلاف القاعدة ، بخلاف نسيان أحد الخمسة فإنّ الاعادة فيه على طبق القاعدة.

فقد تلخّص : أنّه بناءً على أنّ النسيان موجب لتعذّر الجزء المنسي ، وأنّ الجزئية منتزعة من الأمر النفسي الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، يتعيّن القول بعدمها في حقّ الناسي ، بل يتعيّن الحكم أوّلاً بسقوط الأمر بالمجموع المركّب منه في حقّه.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه لا يختصّ بالقول بكون المجعول هو الحكم التكليفي وأنّ الجزئية منتزعة ، بل هو جارٍ على القول بكون المجعول ابتداءً هو الجزئية وأنّ التكليف تابع ، وإن كان جريانه على القول الأوّل أوضح ، ولكن شيخنا قدس سره أفاد كما في هذا التحرير : لا موجب لتوهّم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكّن من الجزء أو الذاكر له بل تعمّ العاجز والناسي ، وتثبت الجزئية في حقّهما إذا كان لدليل الجزء إطلاق يشمل حال العجز الخ (2).

وفي التحرير المطبوع في صيدا : إنّ الأمر وإن كان ظاهراً في إفادة الطلب المولوي ، إلاّ أن هناك صارفاً عنه في خصوص الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ، فإنّ الظاهر منها كونها للارشاد ، وبيان دخل متعلّقاتها في الواجب جزءاً أو شرطاً الخ (3).

ولا يخفى أنّ هذه الجمل لا تلائم مسلكه قدس سره بل قد عرفت أنّ الظاهر أنّ

ص: 348


1- راجع الصفحة : 414 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 219 - 220.
3- أجود التقريرات 3 : 530.

ذلك لا يلائم القول بجعل الجزئية وأنّ التكليف تابع لها متفرّع عنها ، لا أنّه لا تكليف مولوي أصلاً. وعلى أي حال ، الظاهر أنّ هذه الجملة غير ملائمة لمسلكه قدس سره من أنّ المجعول هو الأمر الضمني وأنّ الجزئية منتزعة عنه ، فإنّه بناءً عليه تكون تلك الأوامر نفسية مولوية ، غايته أنّها ضمنية لا استقلالية ، ومن الواضح سقوط الأمر المولوي ولو كان ضمنياً بالتعذّر ، فبعد الالتزام بانتزاعية الجزئية ، وبكون الأمر المتعلّق بالجزء ضمنياً مولوياً ، وكون النسيان كالتعذّر ، لا محيص عن الالتزام بسقوط الجزئية عند التعذّر والنسيان ، بل قد عرفت أنّ سقوط ذلك الأمر الضمني عبارة عن سقوط الأمر بالمجموع المركّب ، وهذا هو الذي أشار إليه في التحريرات المذكورة من الجواب ثانياً بقوله : مع أنّا لو سلّمنا دلالة الأوامر الغيرية في خصوص باب العبادات على الطلب ، فلا يترتّب عليها ما توهّم من اختصاص التقييد المستفاد منها بحال القدرة ، وذلك فإنّ الطلب المتعلّق بالجزء أو الشرط حيث إنّه متّحد مع الطلب المتعلّق بأصل الواجب ، وليس طلباً آخر مغايراً معه ، وإلاّ استحال كون متعلّقه قيداً للواجب كما هو ظاهر ، فاشتراطه بالقدرة على متعلّقه بعينه هو اشتراط الأمر بالمركّب بها ، ونتيجة ذلك هو سقوط أصل الواجب مع عدم القدرة عليه ، لا سقوط التقييد وبقاء الأمر متعلّقاً بغيره الخ (1).

لا يقال : إنّ الطلب المتعلّق بالجزء إنّما يكون متّحداً مع الطلب المتعلّق بالكل إذا كان ذلك الطلب المتعلّق بالجزء متوجّهاً إلى المكلّف ، والمفروض أنّ التعذّر يمنع من توجّهه ، فلا يكون ذلك الجزء المتعذّر جزءاً ، لأنّ جزئيته فرع توجّه الطلب الضمني المتعلّق به ، وإذا سقط الطلب الضمني المتعلّق به سقطت

ص: 349


1- أجود التقريرات 3 : 530 - 531.

جزئيته ، وإذا سقطت جزئيته سقط تقيّد الكلّ به ، وإذا سقط تقيّد الكلّ به لم يكن تعذّره موجباً لتعذّر الكلّ كي يكون موجباً لسقوط الأمر بالكلّ.

والحاصل : أنّ سقوط الأمر بالكل فرع تعذّره ، وتعذّره فرع تقيّده بذلك الجزء ، وتقيّده بذلك الجزء فرع عن كونه جزءاً فيه ، وكونه جزءاً فيه فرع عن صحّة تعلّق الأمر الضمني به ، والمفروض أنّ نسيان ذلك الجزء وتعذّره موجب لسقوط ذلك الأمر الضمني ، الموجب لسقوط الجزئية ، الموجب لسقوط تقيّد الكل ، ومع سقوط تقيّد الكل لا يكون الكل متعذّراً ، فهذه الجملة لا تتمّ أيضاً إلاّ على القول بجعل الجزئية ليكون تعذّر الجزء غير موجب لسقوطها ، وإن أوجب سقوط الأمر المتعلّق بذلك الجزء ، وإذا كانت الجزئية باقية كان اللازم هو سقوط الكل.

لأنّا نقول : إنّ الجزئية وإن كانت منتزعة من الأمر المتعلّق بالكلّ المشتمل على ذلك الجزء ، أو أنّها منتزعة من نفس الأمر الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، إلاّ أنّ ذلك المركّب لمّا كان ارتباطياً ، كان مرجعه إلى وجوب تقيّد الكل بذلك الجزء ، فذلك الأمر الضمني الذي هو وجوب تقييد الكل بذلك الجزء ، إن دلّ الدليل الشرعي على تقيّده بالقدرة على متعلّقه الذي هو الجزء ، كان محصّله أنّ إيجاب تقييد ذلك الكل بذلك الجزء مشروط بالقدرة على ذلك ، ولازم ذلك انحصار وجوب التقييد المزبور بما إذا كان قادراً على ذلك الجزء ، ومقتضاه أنّه عند عدم القدرة على ذلك الجزء لا يكون تقييد ذلك الكلّ به واجباً ، بل الأمر بذلك الكل يبقى على إطلاقه من اقتضائه الاتيان بمتعلّقه من دون ذلك القيد ، ومرجع ذلك إلى تنويع المكلّف إلى القادر على ذلك فيلزمه تقييد الكل به ، وغير القادر فلا يلزمه تقييده ، بل يلزمه الاتيان به عارياً عن ذلك القيد ، هذا كلّه إن قام

ص: 350

الدليل على أخذ القدرة على الجزء قيداً شرعياً في وجوب تقييد المأمور به بذلك الجزء.

وإن لم يكن لنا مثل ذلك الدليل ، وبقينا نحن والأمر المتعلّق بالكل المشتمل على ذلك الجزء ، فإن اتّفق لنا العجز عن بعض أجزائه ، لم يكن ذلك إلاّ من مجرّد عدم القدرة على ذلك المركّب ، لأنّ عدم القدرة على الجزء عين عدم القدرة على الكل ، وحيث إنّ العقل حاكم بقبح تكليف العاجز ، فلا محيص حينئذ من القول بسقوط ذلك الأمر المتعلّق بالكل ، وهذا هو المراد من إطلاق الجزئية المنتزعة عن الأمر الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل ، فإنّ ذلك عبارة عن إطلاق ذلك الأمر الضمني ، الذي هو عبارة عن إطلاق الأمر بالكل وعدم تقييده شرعاً بالقدرة وإن كان مقيّداً عقلاً بها ، فإنّ التقييد العقلي الذي مرجعه إلى حكم العقل بسقوط التكليف عن العاجز ، لا ينافي الاطلاق الشرعي ، بمعنى عدم أخذ القدرة قيداً شرعياً في الوجوب ، وبذلك يصحّ لنا القول بأنّ الأمر الضمني الذي هو منشأ انتزاع الجزئية مطلق ، يعني أنّه غير مقيّد شرعاً بالقدرة ، في قبال النحو الأوّل الذي عرفت أنّ لازمه التنويع ، وأنّ المكلّف إن كان قادراً على الجزء وجب عليه تقييد الكل به ، وإن لم يكن قادراً على ذلك الجزء لم يجب عليه تقييده به ، بل لا يلزمه إلاّ الاتيان به مجرّداً عن القيد المزبور ، وهذا بخلاف النحو الثاني ، فإنّ مجرّد حكم العقل بسقوط الخطاب لا يلزمه التنويع المذكور.

لا يقال : إنّ حكم العقل بسقوط الخطاب عند عدم القدرة يكون مقصوراً على المقدار غير المقدور ، وليس غير المقدور إلاّ الجزء ، فلا يكون العقل حاكماً إلاّ بسقوط الخطاب المتعلّق به الذي هو منشأ انتزاع جزئيته ، دون الخطاب المتعلّق بأصل الواجب الذي هو ما عداه من الأجزاء.

ص: 351

لأنّا نقول : هنا يأتي ما أفاده الأُستاذ قدس سره من أنّ القدرة العقلية الموجبة لسقوط الخطاب لم تكن معتبرة في كلّ واحد من الأجزاء كلّ على حدة ، إذ ليست هي مأخوذة فيه في لسان الدليل ، وإنّما هي ناشئة عن حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، وحيث إنّ العجز عن الجزء عين العجز عن الكل ، كان العجز عن الجزء موجباً لسقوط الخطاب بالكل.

والأولى أن يقال : إنّ الاتيان بالباقي إنّما يلزم لو كان لدليل أصل الوجوب إطلاق يشمل حال العجز عن بعض الأجزاء ، وبعد تقييد ذلك الاطلاق بما دلّ على وجوب الجزء ضمنياً ، يسقط ذلك الاطلاق. نعم لو كان الدالّ على تقييد ذلك الاطلاق مقيّداً شرعاً بخصوص حالة القدرة على الجزء ، لكان إطلاق الأمر بالباقي بعد تعذّر ذلك الجزء باقياً بحاله ، وتكون النتيجة حينئذ هي التنويع السالف الذكر.

أمّا إذا لم يكن في البين إلاّ التقييد المطلق ، يعني غير المقيّد شرعاً بحالة القدرة على القيد ، كان ذلك الاطلاق الأصلي ساقطاً بالمرّة ، وكان الواجب هو المجموع المركّب ، فإذا تعذّر ولو لتعذّر بعض أجزائه ، كان العقل حاكماً بسقوط الخطاب به من رأسه ، لا أنّه يحكم بسقوط خصوص الخطاب الضمني مع بقاء الخطاب بالباقي بحاله ، فتأمّل. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في قاعدة الميسور تفصيل البحث عن مقتضى إطلاق أصل الأمر وإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية (1).

والغرض هنا مجرّد بيان أنّه ليس المراد من إطلاق الجزئية هو إطلاق منشأ انتزاعها الذي هو الأمر الضمني المتعلّق بالجزء إطلاقاً خطابياً ، على وجه يكون

ص: 352


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة 455 ، وكذا الحاشية المفصّلة في الصفحة : 411 وما بعدها.

العاجز عن الركن الذي [ هو ] الركوع أو الطهور مثلاً مخاطباً بذلك الأمر الضمني بحيث يتوجّه إلى ذلك العاجز الخطاب بقوله تطهّر للصلاة أو صلّ مع الطهارة ، فإنّ ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به.

بل المراد من الاطلاق المذكور هو مجرّد عدم تقيّد الأمر بالطهارة للصلاة ، أو الأمر بالصلاة مع الطهارة بخصوص حالة التمكّن منها تقييداً شرعياً ، لتكون القدرة على الطهارة مأخوذة في وجوبها المذكور على نحو سائر الواجبات المشروطة شرعاً بشرط خاصّ ، ليكون ذلك الوجوب الضمني المقيّد بتلك القدرة من قبيل ما هو المشروط بالقدرة الشرعية ، ويكون تعذّر القيد المزبور موجباً لسقوط ذلك التكليف الضمني المتعلّق به خطاباً وملاكاً ، بل هو ما عرفت من مجرّد عدم أخذ القدرة المذكورة فيه شرطاً شرعياً ، وإن كانت مأخوذة عقلاً من باب قبح خطاب العاجز ، فيكون الساقط هو الخطاب فقط دون الملاك ، ونظراً إلى بقاء ملاك ذلك الأمر الضمني لك أن تقول باطلاقه لحال عدم القدرة على متعلّقه ، بمعنى إطلاق ذلك التكليف الضمني ملاكاً ، لشمول ملاكه لصورة العجز عن متعلّقه ، بحيث يكون ملاك تقيّد الصلاة بالطهور باقياً بحاله في حال العجز عنه وإن سقط بذلك التعذّر الخطاب به ، ويكون معنى إطلاق ذلك التكليف الضمني هو إطلاقه ملاكاً لا خطاباً ، ولأجل ذلك لا يكون الأمر بالباقي متحقّقاً في حال التعذّر المذكور.

بل يمكن أن يقال باطلاق نفس الجزئية والقيدية وإن لم يكن لمنشأ انتزاعها الذي هو التكليف الضمني إطلاق خطابي ، وذلك لأنّ الجزئية ليست من الانتزاعيات التي لا تحقّق لها في وعائها نظير الفوقية ، بل هي من الأحكام الشرعية الوضعية ، غايته أنّها ليست مجعولة بنفسها ابتداءً ، بل يكون جعلها بجعل منشأ

ص: 353

انتزاعها الذي هو الأمر الضمني ، فلا مانع من بقائها بنفسها بعد سقوط إطلاقه خطاباً بواسطة عدم القدرة على متعلّقه ، وفيه تأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ لازم الاطلاق المذكور هو لزوم الاعادة والقضاء ، وعدم الاكتفاء بما أتى به المكلّف من فاقد الجزء المذكور ، سواء قلنا بأنّ المراد من الاطلاق هو إطلاق الأمر الضمني ، بمعنى أنّه لم تؤخذ القدرة فيه شرطاً شرعياً ، أو كان المراد به هو إطلاقه ملاكاً لا خطاباً ، أو كان المراد بذلك هو إطلاق نفس الجزئية وإن سقط الاطلاق الخطابي عن منشأ انتزاعها ، كما أنّ لازم النحو الآخر وهو تقييد ذلك الأمر الضمني تقييداً شرعياً بالقدرة على متعلّقه ، هو عدم تحقّق ذلك الأمر الضمني عند تعذّر متعلّقه ، وسقوطه بذلك خطاباً وملاكاً ، ومقتضاه إجزاء ما يأتي به المكلّف من فاقد الجزء في حال تعذّره ، أمّا إذا كان التعذّر مستوعباً للوقت فواضح ، وكذا لو كان في أوّله قادراً لكنّه لم يفعله ثمّ تعذّر إلى آخر الوقت وقد فعله فاقداً للجزء حين التعذّر المذكور.

نعم ، لو كان في أوّل الوقت غير قادر وقد فعله في ذلك الحال فاقداً للجزء ، ثمّ بعد ذلك صار قادراً وارتفع التعذّر ، ففي هذه الصورة يكون المتّبع هو الدليل الدالّ على أخذ القدرة المذكورة شرطاً في ذلك التكليف الضمني المتعلّق بذلك الجزء ، فإن دلّ ذلك الدليل على أنّ الشرط هو مطلق القدرة ولو في آخر الوقت ، لم يكن ذلك الذي أتى به مجزياً. وإن دلّ على أنّ الشرط هو القدرة عند الاتيان بالكل ، كان ذلك الفاقد الذي أتى به في حال تعذّر الجزء مجزياً وإن ارتفع التعذّر بعد الاتيان بذلك الفاقد ، بأن صار في آخر الوقت قادراً على الاتيان بذلك الجزء.

ولو تردّدنا بين الوجهين بعد إحراز كون القدرة شرطاً شرعياً في الجملة ، فالظاهر أنّ المرجع فيه هو المرجع فيما لو تردّدنا بين إطلاق ذلك الأمر الضمني وعدم

ص: 354

تقييده بالقدرة على متعلّقه ، أو كونه مقيّداً بالقدرة على متعلّقه عند الاتيان بنفس الكل ، وهذه المسألة هي المعنونة بقوله : ومع عدم الاطلاق يرجع إلى الأُصول العملية الخ (1).

والحاصل : أنّا إذا لم نحرز إطلاق التكليف الضمني المتعلّق بالجزء في ضمن تعلّقه بالكل وشموله لمورد تعذّر ذلك الجزء ، بأيّ معنى فسّرنا الاطلاق المذكور من المعاني الثلاثة المتقدّمة ، كما أنّا لم نحرز كون ذلك التكليف مقيّداً بالقدرة على ذلك الجزء في حال الاتيان بنفس المأمور به المركّب ، كان المرجع في ذلك الشكّ هو الأُصول العملية.

فنقول بعونه تعالى : إنّ إعمال الأصل تارةً يكون في حال التعذّر ، وأُخرى يكون في حال ارتفاع العذر. أمّا بالنسبة إلى الأوّل فلا أثر له لو كان العذر هو النسيان ، لأنّ المكلّف لا يلتفت إلى كونه ناسياً كي يلتفت إلى كونه في هذا الحال متعذّراً عليه الاتيان بالجزء ، بل هو يقدم على الاتيان بالمركّب معتقداً أنّه أتى به بتمامه. ولو كان العذر هو التعذّر الوجداني ، فبالنسبة إلى لزوم الاتيان بالباقي في هذا الحال يكون داخلاً في بحث قاعدة الميسور ، وبالنسبة إلى جواز المسارعة بالاتيان به في أوّل الوقت يكون داخلاً في مسألة جواز البدار لذوي الأعذار.

وعلى أيّ حال ، لا مورد في ذلك لأصالة البراءة من الجزئية في ذلك الحال ، لأنّ أثرها المترتّب على إجرائها في ذلك الحال إن كان هو إسقاط الأمر بالجزء ، فهو ساقط بنفسه بواسطة التعذّر ، وإن كان هو إسقاط الجزئية ليترتّب على ذلك لزوم الاتيان بالباقي كان ذلك خلاف الامتنان ، هذا كلّه بالنسبة إلى حال التعذّر.

ص: 355


1- فوائد الأُصول 4 : 220.

وأمّا بالنسبة إلى حال ما بعد التعذّر بعد فرض الاتيان بالفاقد في حال التعذّر ففرضه فيما لو كان العذر هو النسيان واضح ، أمّا لو كان هو العذر الوجداني - أعني عدم القدرة على الجزء - ففيه غموض ، فإنّه مع شكّه في كون الجزئية مطلقة الذي مقتضاه هو عدم الاقدام على الاتيان بالباقي ، أو كونها مقيّدة الذي مقتضاه هو لزوم الاتيان به ، كيف يقدم على الاتيان به ، ولو فرضنا قيام الدليل على أنّه مأمور في ذلك الحال بالاتيان بالفاقد - حتّى قاعدة الميسور - كان ذلك الدليل كاشفاً عن تقييد الجزئية بالقدرة على ذلك الجزء ، لكن لنفرض أنّه قد أتى به في حال العذر إمّا لكونه من قبيل النسيان ، أو لأنّه أقدم [ على ] ذلك من باب الاحتياط ، أو أنّه إقدام مجرّد وقد تأتّت منه نيّة القربة.

فنقول : إنّ ذلك إمّا أن يكون بعد خروج الوقت بأن كان العذر مستوعباً للوقت ، وإمّا أن يكون قبل خروجه. وبعبارة أُخرى الكلام تارةً من حيث القضاء ، وأُخرى من حيث الاعادة.

أمّا الكلام من حيث القضاء ، فإن قلنا بأنّه بأمر جديد ، فلا محصّل للرجوع إلى البراءة في جزئية ذلك الجزء في حال تعذّره ، بل يكون المرجع هو أصالة البراءة من القضاء ، وإن قلنا إنّه بالأمر السابق ، كان الكلام فيه عين الكلام في الاعادة.

وملخّص الكلام في الاعادة : هو أنّه بعد ارتفاع العذر يكون المكلّف مردّداً بين كونه قد أتى بما كلّف به ، وهو الفاقد إن كانت الجزئية مختصّة بحال القدرة على وجه يكون العذر مسقطاً لها ، أو أنّه قبل هذا لم يكلّف بشيء ، والآن قد توجّه إليه التكليف بالتامّ إن كانت الجزئية مطلقة ، وبناءً على ذلك لا حاجة إلى البراءة عن الجزئية في حال العذر ، بل يجري في حقّه أصالة البراءة من توجّه

ص: 356

التكليف إليه بالتامّ بعد ارتفاع العذر.

نعم ، على تقدير إطلاق الجزئية لو اكتفينا بالملاك الثابت في حال العذر في وجوب التامّ عليه بعد ارتفاع العذر ، أو قلنا في خصوص النسيان بأنّه ملحق بالجهل في عدم كونه مسقطاً للتكليف الواقعي ، نحتاج إلى أصالة البراءة عن الجزئية في حال العذر.

لكن شيخنا الأُستاذ قدس سره أفاد أنّه لا يمكن الرجوع إلى البراءة ، لأنّ الجزئية لو كانت مطلقة يكون تكليفه منحصراً في التامّ المفروض كونه متمكّناً منه ولو في آخر الوقت ، لأنّ تعذّر الفرد في أوّل الوقت يوجب صرف التكليف وانحصار المكلّف به في باقي الأفراد التامّة المتمكّن منها في آخر الوقت ، فعند دوران الأمر في الجزئية بين الاطلاق والتقييد ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في إسقاط التكليف بذلك الفاقد الذي قد أتى به في حال العذر.

وحاصله : أنّه لو كانت الجزئية مقيّدة يكون المكلّف به هو القدر الجامع بين الفاقد في حال العذر والواجد بعد ارتفاع العذر ، وعلى تقدير كونها مطلقة يكون المكلّف به منحصراً في الواجد بعد ارتفاع العذر ، فهو يعلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته بالمكلّف به ، ولكنّه يشكّ في أنّه هل كان تكليفه على النحو الأوّل ، فيكون ذلك الفاقد التي أتى به مسقطاً لما قد اشتغلت به ذمّته ، أو أنّه كان على النحو الثاني فلا يكون ذلك الفاقد مسقطاً له ، ويكون القدر المتيقّن ممّا هو مبرئ لذمّته منحصراً بالتامّ المتمكّن منه بعد ارتفاع العذر.

وفيه تأمّل ، لأنّ هذه المسألة لا تزيد على مسألة الأقل والأكثر ، غايته أنّ في أصل مسألة الأقل والأكثر على تقدير كون المكلّف به هو الأقل ، يكون كلّ من الواجد والفاقد فردين للمكلّف به عرضيين ، وفي هذه المسألة يكونان فردين

ص: 357

طوليين ، فكما أنّه في تلك المسألة نقول إنّ أصالة البراءة عن اعتبار ذلك الجزء الزائد تثبت التخيير بين الفاقد له والواجد ، ويكون بمقتضى أصالة البراءة كلّ منهما مبرئاً لذمّته ، فكذلك نقول هنا : إنّ أصالة البراءة من الجزئية في حال العذر تثبت التخيير بين الفاقد لذلك الجزء في حال التعذّر والواجد له بعد ارتفاع العذر ، ويكون الاتيان بكلّ منهما في محلّه مبرئاً للذمّة.

لكنّه قدس سره قد نظر إلى أنّ الجزئية هنا قد ثبتت في الجملة ، وصار المكلّف مكلّفاً بالواجد في الجملة ، لكن نشكّ في كيفية ثبوتها ، وأنّها هل ثبتت على نحو يكون الفاقد في حال العذر مسقطاً لذلك التكليف ، أو أنّها ثبتت على نحو يكون ذلك الفاقد في ذلك الحال غير مسقط له ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه لو كان في أوّل الوقت قادراً بمقدار أداء الصلاة ، ثمّ طرأ العذر وأتى بالفاقد ، ثمّ ارتفع العذر وقد بقي من الوقت مقدار أداء الصلاة التامّة ، يكون جريان الاستصحاب فيه مبنياً على ما ذكرناه من الملاك ، أو دعوى إلحاق النسيان بالجهل ، وإلاّ فبناءً على الوجه الأوّل وهو دعوى كون النسيان بمنزلة التعذّر ، وعدم الاكتفاء بالملاك ، بحيث يكون العاجز عن الجزء غير مكلّف به حال تعذّره ولو كانت الجزئية مطلقة ، يشكل إجراء الاستصحاب المذكور ، لعدم اتّصال زمان الشكّ وهو الزمان المتأخّر بزمان اليقين وهو الزمان الأوّل ، لانفصاله عنه بالزمان المتوسّط الذي هو زمان العذر ، فتأمّل.

قوله : فلا محيص من رفع اليد عمّا يقتضيه الظاهر الأوّلي بتأويل المصدر بمعنى المفعول ، وجعل النسيان بمعنى المنسي ، فيكون المرفوع نفس الفعل الصادر عن المكلّف نسياناً بأن يفرض ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بعد أن امتنع حمل النسيان المشتمل عليه حديث الرفع على ما

ص: 358


1- فوائد الأُصول 4 : 223 - 224.

هو ظاهره من المعنى المصدري للنسيان ، يمكن أن يحمل على أحد وجهين : الأوّل هو حمله على إرادة المنسي ، والآخر حمله على إرادة الصادر نسياناً. وظاهر صدر العبارة هو الأوّل ، ولكن ذيلها وهو قوله : فيكون ، لا يتفرّع عليه ، بل إنّما يصحّ تفريعه على إرادة المعنى الثاني.

ثمّ إنّ تقريب الاستدلال على سقوط الجزئية في حال النسيان بحديث رفع النسيان إن كان مبنياً على الوجه الأوّل ، ليكون المراد أنّ المرفوع هو الجزء المنسي ورفعه برفع جزئيته ، لم يتوجّه عليه إلاّ أن الجزء المتروك نسياناً لا يعقل تسلّط الرفع عليه ليكون رفعه برفع آثاره ، بل لابدّ في جريان الرفع من كون المرفوع أمراً محقّقاً في نفسه ، ليكون رفعه مع فرض كونه محقّقاً في نفسه كناية عن رفع آثاره.

أمّا ما أُفيد من الايراد ثانياً وثالثاً فعلى الظاهر أنّه غير متوجّه على هذا التقدير ، لأنّا إذا صحّحنا رفع الجزء المنسي وجعلنا رفعه كناية عن رفع أثره الذي هو الوجوب الضمني المعبّر عنه بالجزئية ، كان محصّله أنّ جزئية السورة مثلاً مرفوعة في حال نسيانها ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن أنّ جزئيتها التي هي عبارة عن وجوبها الضمني مختصّة بحال الذكر ، فيكون حاله حال ما دلّ على تقييد الجزئية بحال الذكر ، بل هو هو بعينه ، ولا فرق في سقوط الجزئية بذلك بين النسيان المستوعب وغير المستوعب ، والارتباطية لا تنافي الحكم بسقوط جزئية بعض الأجزاء لبعض الطوارئ والعوارض.

وإن كان الاستدلال المزبور مبنياً على الوجه الثاني الذي هو عبارة عن كون المراد بالنسيان هو الصادر من المكلّف نسياناً ، سواء كان هو الفعل أو الترك ، فقد تقدّم في مباحث حديث الرفع أنّه يمكن تصحيح نسبة الرفع إلى الترك الصادر نسياناً ، برفع أثره الذي هو الحرمة فيما نحن فيه ، المفروض كونها ملازمة

ص: 359

لوجوب الجزء أو أنّها عينه ، فينتهي الأمر بالأخرة إلى رفع جزئية الجزء المنسي ، فلا يتوجّه عليه إلاّما أُفيد ثانياً من عدم تأتّيه في النسيان غير المستوعب.

نعم ، أفاد شيخنا الأُستاذ قدس سره في ذلك المبحث أنّ حديث الرفع لا يجري في نفس الترك إذا كان ممّا يترتّب عليه الأثر ، فراجع ذلك المبحث وتأمّل فيه وفيما علّقناه عليه (1).

وتوضيح هذا المبحث : هو أنّ الشيخ قدس سره أورد على نفسه بطريق « إن قلت » ما محصّله : أنّه يمكن الاستناد في الحكم بالاجزاء إلى حديث رفع النسيان ، بدعوى أنّ جزئية السورة المنسية مرتفعة حال النسيان. وأجاب عنه : بأنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعاً ، بل هي ككلّية الكل ، وإنّما المجعول الشرعي وجوب الكل ، والوجوب مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ، ووجوب الاعادة بعد التذكّر مترتّب على الأمر الأوّل ، لا على ترك السورة (2).

وشيخنا الأُستاذ قدس سره (3) أجاب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة مرتّبة ، والمرتبة الثالثة من تلك الأجوبة هي هذا الذي أجاب به الشيخ قدس سره ، وملخّص ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس سره من المراتب هو أوّلاً : أنّه بعد تعذّر حمل النسيان في الحديث الشريف على معناه المصدري ، لو أردنا تطبيقه فيما نحن فيه على نفس المنسي الذي هو السورة مثلاً ، ليكون المحصّل هو رفع السورة المنسية ورفعها برفع حكمها ، لم يكن ذلك ممكناً ، لعدم إمكان تسليط الرفع على الشيء المعدوم ، لأنّه إنّما يصحّ

ص: 360


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 148 وما بعدها.
2- فرائد الأُصول 2 : 366 - 367.
3- فوائد الأُصول 4 : 225 - 227.

تسليطه على الموجود ، ليكون رفعه كناية عن رفع حكمه ، أمّا المعدوم فلا يعقل نسبة الرفع إليه.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ ما أُفيد من أنّه لابدّ في صحّة الرفع من كونه متوجّهاً إلى ما هو موجود ، إنّما يتمّ في الأشياء التي يكون الأثر الشرعي مترتّباً على وجودها مثل الأكل نسياناً في نهار رمضان بالقياس إلى الأثر الشرعي المترتّب عليه ، أعني وجوب الكفّارة. أمّا الأفعال التي تكون واجبة على المكلّف ولو وجوباً ضمنياً ، فإنّ رفعها يكون كناية عن رفعها عن عاتق المكلّف ، وهو عبارة أُخرى عن رفع الالزام بها ، وفي الحقيقة أنّ السورة بعد فرض وجوبها ولو ضمنياً على المكلّف يكون لها وجود في عالم التشريع ، ويكون رفعها في عالم التشريع رفعاً لوجوبها.

فالأولى في الجواب هو أن يقال : إنّ الظاهر من النسيان المذكور في الحديث الشريف هو الكناية عن الفعل الصادر نسياناً ، أو الترك الصادر نسياناً ، لا الفعل المنسي ، لأنّ ذلك هو مقتضى سياق بقية أخوات هذه الفقرة الشريفة ، أعني ما أُكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه ، فإنّها كناية عن الفعل الذي يكون صادراً عن إكراه أو اضطرار ، فلابدّ أن يكون المراد من النسيان هو الفعل الصادر نسياناً ، لا الفعل المنسي.

ثمّ إنّه قدس سره بعد هذه المرتبة أفاد ما حاصله : أنّا لو سلّمنا أنّ المراد رفع الجزء المنسي ، لم يكن ذلك موجباً لرفع الجزئية في حال النسيان ، إلاّ إذا كان النسيان مستوعباً لتمام الوقت ، فإنّه حينئذ يصحّ أن يقال : إنّ ما هو المجعول جزءاً وهو السورة في تمام الوقت قد صارت منسية ، فتكون جزئيتها مرفوعة. أمّا إذا لم يكن النسيان مستوعباً لتمام الوقت فلا وجه لسقوط الجزئية ، لأنّ المنسي إنّما هو

ص: 361

السورة في أوّل الوقت ، وليست هي بنفسها جزءاً أو مأموراً بها بالأمر الضمني ، بل الجزء والمأمور به بالأمر الضمني إنّما هو طبيعة السورة في مجموع الوقت ، ومع فرض التذكّر في أثناء الوقت لا تكون طبيعة السورة في مجموع الوقت منسية كي [ يكون ] رفعها موجباً لرفع الجزئية التي هي عبارة عن الأمر الضمني.

ويمكن التأمّل فيه : بأنّ الشارع إذا رفع السورة في حال النسيان عن عاتق المكلّف ، كان ذلك عبارة أُخرى عن اختصاص جزئيتها ومدخليتها في المركّب بخصوص حال الذكر ، فيكون رفع جزئية السورة في حال النسيان كتخصيص واقعي وارد على ما دلّ على جزئيتها ، ويكون وزانه وزان ما لو كان الدليل الدالّ على جزئيتها من أوّل الأمر مقيّداً بخصوص حال الذكر.

ثمّ إنّه قدس سره بعد هذه المرتبة أورد بما أورده الشيخ قدس سره وحاصله : أنّه لو سلّمنا أنّ المراد هو رفع الجزء المنسي ، وأغضينا النظر عن أنّ ذلك لا يوجب رفع الجزئية في النسيان غير المستوعب ، بل قلنا إنّ رفع النسيان مصحّح لرفع الجزء المنسي حتّى لو كان النسيان غير مستوعب للوقت ، لم يكن ذلك موجباً لرفع الجزئية ، بل لم يكن موجباً إلاّلرفع وجوب الكل ، سواء كان النسيان مستوعباً للوقت أو لم يكن مستوعباً له.

وتوضيح هذا الجواب على ما حرّرته عنه قدس سره هو أن يقال : إنّه بعد فرض شمول حديث رفع النسيان لرفع أثر الفعل المنسي ، وبعد تسليم أنّ أثر الجزء المنسي هو الجزئية ليكون رفعه رفعاً للجزئية حتّى لو كان النسيان غير مستوعب للوقت ، نقول : إنّ ذلك لا يوجب رفع الجزئية فقط ، بل يكون موجباً لرفع وجوب الكل ، لأنّ نسيان الجزء الارتباطي يوجب نسيان الكل المفروض كونه مركّباً منه ، فيكون حاصل رفع النسيان حينئذ هو رفع ذلك التكليف المتعلّق بالكل

ص: 362

لأجل نسيانه بنسيان بعض أجزائه ، وهذا من الواضحات التي يحكم بها العقل من دون حاجة إلى حديث رفع النسيان.

والفرق بين هذه المسألة أعني مسألة نسيان الجزء ، ومسألة الجهل به ، هو أنّ تلك المسألة لمّا كان تعلّق التكليف فيها بالجزء المشكوك مجهولاً ، وكان تعلّقه بالباقي معلوماً ، فحديث الرفع يكون موجباً لانفصال الجزء المشكوك عن المركّب ، وينحل الارتباط بين الجزء المشكوك وبين الباقي ، بخلاف هذه المسألة فإنّ الكلام فيها بعد فرض عموم الجزئية وشمولها لحال النسيان نتكلّم في أنّ حديث رفع النسيان بعد التنزّل المتقدّم ، يكون موجباً لرفع الجزئية عن الجزء المنسي. وغير خفي أنّه بعد فرض العلم بتعلّق التكليف بالجزء المنسي ، وكون جعل الجزئية له شاملاً لحال النسيان ، يكون نسيان الجزء المفروض الجزئية في حال النسيان موجباً لنسيان المركّب بتمامه.

والحاصل : أنّه بعد فرض شمول الجزئية لحال النسيان ، لا يكون حديث رفع النسيان موجباً لانفصال الجزء المنسي عن الباقي ، ولا تنحل به الارتباطية ، وإذا لم يكن الحديث الشريف موجباً لحل الارتباطية ، فأقصاه أن يرفع التكليف بتمام المركّب الذي نسي بنسيان بعض أجزائه ، انتهى.

وفيه تأمّل ، لأنّ مقتضى دليل الجزئية وإن كان شاملاً لحال النسيان ، إلاّ أن حديث رفع النسيان بعد البناء على أنّ المراد به رفع الجزء المنسي المكنّى به عن رفع الجزئية ، يكون وزانه وزان التقييد والتخصيص لدليل الجزئية باخراج مورد النسيان عن دليل الجزئية ، وحينئذ فالعمدة في الجواب هو ما أشرنا إليه أوّلاً ، من أنّ الظاهر من رفع النسيان هو رفع ما كان صادراً في حال النسيان ، لا رفع الشيء الذي كان منسياً.

ص: 363

ثمّ لو سلّمنا أنّ مفاده هو رفع الجزء المنسي ليكون محصّله هو رفع جزئيته إذا كان متعلّقاً للنسيان ، ويكون وزانه وزان التقييد لدليل الجزئية ، لم يكن ذلك موجباً لرفع الجزئية بمطلق النسيان ، بل يمكن أن يكون الموجب لرفع الجزئية هو نسيان الجزء بقول مطلق ، أعني به نسيانه في تمام الوقت ، وبهذا الأخير نجيب لو أرجعنا نسيان الجزء إلى عدم القدرة عليه ، وأدخلنا المسألة في « ما لا يطيقون » ، فإنّه لا يبعد أن يكون ما هو مطاق في بعض الوقت خارجاً عن عموم ما لا يطيقون وإن كان غير مطاق في بعض الوقت.

ثمّ لو أغضينا النظر عن ذلك لكان لنا أن نجيب ثالثاً بأنّ مثل رفع النسيان ورفع ما لا يطيقون ورفع ما اضطرّوا إليه ، لا يكون موجباً لسقوط التكليف خطاباً وملاكاً ، وإلاّ لكانت جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، بل أقصى ما في هذه العناوين هو أنّها توجب سقوط الخطاب فقط دون الملاك ، فلا يكون حالها إلاّ حال القدرة العقلية ، التي قد عرفت أنّ انتفاءها لا يوجب انحصار التكليف بموردها خطاباً وملاكاً.

وحينئذ فلا يكون رفع النسيان ولا رفع ما لا يطيقون إلاّكحكم العقل بعدم صحّة تكليف العاجز مع بقاء ملاك التكليف بالنسبة إليه بحاله ، وأنّه إن كان مستوعباً للوقت كان موجباً لسقوط التكليف بالمركّب خطاباً ، وإن لم يكن مستوعباً للوقت كان موجباً لانحصار المكلّف به فيما يكون بعد ارتفاع العذر.

ولعلّ هذه المراتب الثلاث التي ذكرناها هي المراد بما أفاده الأُستاذ قدس سره ، ونحن معاشر المحرّرين حرّرناها على الوجه السالف الذكر الذي قد عرفت توجّه الإشكال عليه ، فراجع وتأمّل.

ص: 364

قوله : ولكن يمكن أن يقال : إنّ مقام الامكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي ، ولا إشكال في صدق الزيادة عرفاً على الوجود الثاني ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الزيادة إنّما هي الزيادة على ذات المأمور به ، والظاهر أنّها صادقة على الزيادة صدقاً حقيقياً حتّى فيما أُخذ بشرط لا ، نعم إن صدقها عليه مقرون بانتفاء الشرط وهو القيد العدمي ، بخلاف صدقها فيما أُخذ لا بشرط ، فإنّه لا يقترن بانتفاء الشرط المذكور ، إذ لم يكن العدم قيداً فيه ، وإنّما تصدق الزيادة عليه باعتبار حصول الامتثال بأوّل وجود من الطبيعة ، فيكون الوجود الثاني زائداً على أصل الامتثال ، ومقتضاه عدم صدق الزيادة فيما لو كانا عرضيين ، بخلاف ما أُخذ فيه عدد خاص مثل سجدتين أو إعطاء درهمين ، فإنّ الزيادة تصدق ولو بالعرضيين في مورد إمكان العرضيين ، كما لو أعطى ثلاثة دراهم دفعة واحدة ، لكن يبقى الكلام فيما به يحصل الامتثال في الدفعيات.

ثمّ لا يخفى أنّه ربما كان المطلوب صرف الطبيعة ، ولم يكن الاتيان بالأكثر من واحد مشتملاً على الزيادة ، بل يكون الجميع امتثالاً واحداً كما حرّر ذلك في تصوّر التخيير بين الأقل والأكثر.

ثمّ لا يخفى أنّ غالب أجزاء الصلاة إنّما هي من باب العدد الخاصّ ، كالركوع الواحد في كلّ ركعة ، والسجدتين في كلّ ركعة ، والتشهّد الوسط والأخير ، والسلام والفاتحة والسورة ، وهكذا في عدد الركعات. نعم في ذكر الركوع والسجود لم يعتبر العدد ، وإنّما اعتبر صرف الوجود لا بشرط ، أو أنّه من باب التخيير بين الأقل والأكثر ، وهكذا الحال في التسبيح في الثالثة والرابعة.

ص: 365


1- فوائد الأُصول 4 : 230.

أمّا ما لم يعتبر فيه العدد الخاص ، بل اعتبر صرف الوجود لا بشرط ، فقد عرفت الكلام فيه وأنّه يتحقّق فيه الزيادة على الامتثال ، لكنّه لا يضرّ ، لعدم أخذه بشرط لا.

وأمّا ما اعتبر فيه العدد الخاص فلا إشكال في تحقّق الزيادة فيه ، سواء كان عدمها معتبراً في الجزء من باب شرط الجزء ، أو أنّه لم يعتبر في الجزء وإنّما اعتبر في الكل فيكون من باب شرط الكل ، أو لم يكن عدمها معتبراً لا في الجزء ولا في الكل ، بل أُخذ كلّ من الجزء والكل لا بشرط بالنسبة إلى تلك الزيادة ، ففي جميع هذه الصور تتحقّق الزيادة حتّى فيما لو أُخذ الجزء بشرط لا بالقياس إلى تلك الزيادة ، فإنّه وإن أوجب انعدام الجزء المأمور به لانعدام شرطه (1) إلاّ أنه إنّما أوجبه بالزيادة التي كان الجزء مشروطاً ومقيّداً بعدمها ، فليس انعدام شرط الجزء في ذلك مثل انعدام الطمأنينة في الركوع مثلاً ، فإنّ انعدام ذلك الشرط لا يكون إلاّ انعداماً للواجب بما أنّه واجب ، من دون زيادة على ذاته.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ذلك الركوع الفاقد للطمأنينة يكون زائداً في المجموع المركّب الذي هو مجموع الصلاة ، لكونه أجنبياً عنها ، بخلاف انعدام الشرط فيما نحن فيه ، فإنّ فيه هذه الجهة ، وفيه أيضاً زيادة خارجية ، وهي الركوع الثاني مثلاً بعد فرض كون الركوع مأخوذاً بشرط لا بالنسبة إلى الثاني ، وحينئذ يكون الركوع الأوّل زيادة لكونه أجنبياً عن أجزاء الصلاة ، كما أنّ الركوع الثاني أيضاً زيادة ، ومع هاتين الزيادتين يكون أيضاً من باب نقص الجزء المعتبر.

وأمّا لو كان عدم الثاني أو الثالث معتبراً في الكل لا في الجزء ، بأن كان العدم

ص: 366


1- كما أفاده في الكفاية في التنبيه الثالث من تنبيهات الأقل والأكثر بقوله : وإلاّ لم يكن من زيادته الخ [ منه قدس سره راجع كفاية الأُصول : 368 ].

شرطاً في الكل ، فلا إشكال في أنّ الاتيان به أيضاً يكون زيادة في ذلك المركّب ، بل وكذلك فيما لو لم يؤخذ العدم قيداً في الجزء ولا في الكل ، فإنّه تتحقّق الزيادة بالاتيان به ، غايته أنّها لا تفسد الجزء ولا الكل ، بخلاف ما لو أُخذ العدم قيداً في الجزء أو قيداً في الكل ، فإنّه يوجب الفساد. أمّا قيد الكل فواضح ، وأمّا قيد الجزء فلأنّه موجب لانعدام الجزء الواجب كما عرفت.

نعم ، يمكن الحصول على الجزء الواجب بالاتيان به ثالثاً لو لم تكن الصلاة التي هي المركّب مقيّدة بعدم ذينك الباطلين ، فإنّ الثاني باطل في نفسه ومبطل للأوّل ، فيبقى الأمر بالجزء بحاله.

إلاّ أن يقال : إنّه لا يمكن تلافي الجزء ، لأنّ المفروض أنّه مقيّد بعدم الزيادة ، وكلّما زاد كان فاقداً بحيث كان الركوع مقيّداً بالوحدة ، فإنّه حينئذ لا يمكن التلافي ، وهذا بخلاف مسألة تكبيرة الإحرام في كون الثالثة صحيحة ، لأنّها بعد بطلان الاثنتين تكون الثالثة هي ابتداء الصلاة ، فلاحظ وتأمّل. هذا فيما كان من سنخ أجزاء الصلاة.

وأمّا ما لم يكن من سنخها ، فتحقّق الزيادة فيه موقوفة على قصد الجزئية ، سواء كان عدمه معتبراً في المجموع أو لم يكن عدمه معتبراً فيه ، ويكون البطلان وعدمه منوطاً بذلك ، فإن أُخذ عدمه في المركّب كان موجباً للبطلان ، لأنّ محصّله هو المانعية ، سواء كان المانع هو ذاته أو كان المانع هو ذاته بقصد الجزئية ، وإن لم يؤخذ عدمه في المركّب لا يكون موجباً للبطلان. وعلى أيّ حال ، يكون صدق الزيادة متوقّفاً على قصد الجزئية.

هذا كلّه فيما لو كان الجزء عدداً خاصّاً كالسجدتين وعدد الركعات.

أمّا ما لو كان الجزء هو صرف الطبيعة ، فقد عرفت أنّه يصدق بأوّل وجود ،

ص: 367

وحينئذ يكون الوجود الثاني زائداً كما أفاده شيخنا فيما نقله عنه السيّد في التحرير بقوله : ويرد عليه أوّلاً الخ (1) ، ومثاله في الصلاة ذكر الركوع والسجود بل الفاتحة والسورة ، بناءً على أنّ الجزء هو الطبيعة منهما كما أفاده شيخنا ، بل الركوع لو قلنا إنّ الجزء هو صرف طبيعة الركوع. وهكذا الحال في التشهّد.

ومثاله في غير الصلاة غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين في باب الوضوء.

وبالجملة : لا إشكال في كون الثاني زيادة ، بناءً على أنّ الجزء هو صرف الطبيعة. نعم إنّه بحسب القاعدة الأوّلية لا يكون مبطلاً لعدم أخذه بشرط لا. نعم لو بنى على جزئية الثاني جهلاً أو تشريعاً ، كان داخلاً فيما حرّره في الكفاية في التنبيه الثالث ، فراجع.

وكما أنّه خارج عن الأخذ بشرط لا ، فهل هو خارج عن الأخذ لا بشرط بحيث يكون أخذ الجزء من باب صرف الطبيعة قسماً ثالثاً مقابلاً للقسمين المذكورين ، كما أفاده شيخنا قدس سره في التحرير المشار إليه ، أو أنّه لا يخرج عنهما؟ الظاهر الثاني ، فإنّ صرف الطبيعة من غسل الوجه مثلاً يمكن أن يكون مأخوذاً بشرط لا ، كما يمكن أن يكون مأخوذاً لا بشرط ، فإنّ صرف طبيعة غسل الوجه المنطبق قهراً على أوّل وجود يمكن أن يقيّد بشرط لا بالنسبة على صرف الوجود ، ويمكن أن لا يقيّد بذلك ، بحيث يكون أخذ صرف الوجود لا بشرط من ناحية الزائد على صرف الوجود ، وعلى أي حال يكون الوجود الثاني زائداً. نعم في أخذه لا بشرط لو أمكن الاتيان به في ضمن فردين عرضاً ودفعة واحدة لا يكون أحدهما زائداً ، بخلاف ما لو أخذناه بشرط لا.

ص: 368


1- أجود التقريرات 3 : 524.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ أخذ الجزء هو صرف الطبيعة عبارة أُخرى عن كونه لا بشرط ، ولا يتأتّى فيه أخذه بشرط لا. وعلى أيّ حال فليس أخذ الجزء من باب صرف الطبيعة خارجاً عن كلّ من الاعتبارين ، غايته أنّ المحقّق فيه هو الثاني أعني أخذه لا بشرط.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو بالنسبة إلى نفس الجزء ، وأمّا المجموع المركّب فيمكن أن يكون مقيّداً بشرط لا ، وإن كان الجزء نفسه مأخوذاً من باب لا بشرط ومن باب صرف الطبيعة ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وربما يتمسّك لعدم مانعية الزيادة باستصحاب الصحّة الثابتة قبل فعل الزيادة ، فلا تجري أصالة البراءة ، لحكومة الاستصحاب عليها ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ هذا الاستصحاب ليس بحاكم على البراءة ، بل هي حاكمة عليه ، لأنّ مورد جريان البراءة من مانعية الزائد إنّما هو قبل الاتيان به ، لأنّ المكلّف قبل أن يقدم على الاتيان بالزائد يشكّ في كونه ممنوعاً عنه ومنهياً عنه بالنهي المانعي ، وإن شئت فقل : إنّه يشكّ في أنّه يجب عليه تركه ، وبعد جريان البراءة في ذلك يكون المركّب محكوماً بالصحّة ، على ما تقدّم في كيفية انحلال العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر باجراء البراءة في الأكثر من أنّه يوجب الاكتفاء بما عدا المشكوك ، وذلك هو معنى الصحّة. أمّا الاستصحاب المذكور فلا موقع له إلاّ بعد الاتيان بالزائد المشكوك المانعية ، وحيث إنّه قد أُزيلت مانعيته بالبراءة قبل الإقدام عليه ، فلا يبقى لنا شكّ في بقاء صحّة ما مضى من الاجزاء كي نركن في ذلك الشكّ إلى استصحاب الصحّة ، فتكون البراءة في المقام حاكمة على

ص: 369


1- فوائد الأُصول 4 : 232.

استصحاب الصحّة. بل إنّ هذه الحكومة جارية حتّى لو أنّهما وردا في آن واحد ، بأن أتى بذلك الزائد سهواً ، فإنّ أصالة البراءة من تقيّد الأجزاء بعدم تلك الزيادة ولو السهوية تحقّق لنا صحّة تلك الأجزاء التي طرأتها الزيادة المذكورة ، وبذلك يرتفع موضوع استصحاب الصحّة حتّى في موارد احتمال مانعية الشيء القهري.

ولم أعثر فعلاً على من التفت إلى هذا الإشكال في أصالة الصحّة بمعنى استصحاب الصحّة ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الزيادة السهوية لا تجري البراءة من المنع عنها ، لعدم كونها اختيارية.

لأنّا نقول : تجري البراءة في تقيّد الأجزاء بعدمها ، بمعنى كون المطلوب هو الأجزاء الخاصّة ، أعني المجرّدة من الزيادة ولو السهوية ، نظير كون المطلوب هو الأجزاء المتّصفة بكونها إلى القبلة مثلاً ، أو بعدم الحدث في أثنائها ، ونحو ذلك ممّا يكون نفس الفعل غير اختياري غير المنافي لكون التقيّد اختيارياً.

لا يقال : في الزيادة السهوية يجري حديث رفع النسيان حتّى لو ثبت كون الزيادة مانعة.

لأنّا نقول : إنّ كلامنا في الزيادة السهوية ممحّض لما لم يعلم مانعية الزيادة ، وحينئذ يكون حديث « رفع ما لا يعلمون » بالنسبة إلى احتمال مانعية الزيادة حاكماً على حديث رفع النسيان ، كما أنّه حاكم على استصحاب الصحّة ، وحينئذ يكون مورد استصحاب الصحّة لو قلنا بجريانه وأغضينا النظر عمّا يأتي فيه من الإشكال منحصراً في الشبهات الموضوعية ، بأن حصل له الشكّ بأنّه أتى بالمانع المعلوم المانعية في المورد الذي لا تجري فيه أصالة عدم الاتيان بذلك المانع ، أو ندّعي أنّ أصالة عدم الاتيان بذلك المانع لا تثبت الصحّة ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 370

لا يقال : إنّ البراءة إنّما تجري قبل وقوع ما تجري فيه ، أمّا بعد وقوعه فلا مورد فيه للبراءة ، والزيادة السهوية بعد أن وقعت لا محصّل للبراءة عن التقيّد بعدمها.

لأنّا نقول : بعد أن صرفنا البراءة إلى نفس تقيّد المركّب بعدم الزيادة ، كانت البراءة جارية فيه ولو بعد الوقوع ، وأثرها هو عدم وجوب إعادة ذلك المركّب ، ألا ترى أنّه لو صلّى مستدبراً للمصحف مثلاً ثمّ شكّ في مانعية ذلك الاستدبار ، فإنّه تجري البراءة في مانعيته ، ويكون أثرها هو صحّة تلك الصلاة وعدم إعادتها. وهكذا لو صلّى بلا عمامة ، وحصل له الشكّ في كون التعمّم شرطاً ، فإنّه تجري البراءة من شرطيته ، وأثرها هو صحّة ما مضى من صلواته التي كانت بلا تعمّم.

والذي تلخّص ممّا فصّلناه : هو أنّ أصالة البراءة في موارد الشكّ في مانعية الشيء زيادة كان أو غيرها ، حاكمة على استصحاب الصحّة ، وهذا هو الذي أشرنا إلى أنّه لم نعثر على من صرّح به. نعم إنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في مقام الردّ على استصحاب الجزء الصوري في موارد الشكّ في قاطعية الشيء بقوله : وأمّا ثالثاً الخ (1) ، كافٍ في التصريح به ، بل إنّ فيه زيادة هي كون الاستصحاب مثبتاً ، فلاحظه وتأمّل فيه ، فإنّ فيه الكفاية فيما أردناه من الحكومة.

ولا يخفى أنّ هذه الجملة - أعني حكومة استصحاب الصحّة لو جرى على أصالة البراءة - لم أعثر عليها فيما حرّرته عن شيخنا قدس سره في هذا المقام على ما فيه من التطويل ، كما أنّها لم توجد في تحريرات السيّد سلّمه اللّه في مبحث استصحاب الصحّة من تنبيهات الاستصحاب ، فراجع.

ص: 371


1- فوائد الأُصول 4 : 236.

قوله : ولا يخفى ما فيه ، فإنّه إن أُريد من الصحّة الأثر المترتّب على الاتيان بالمأمور به ، فهذا المعنى من الصحّة لا يكاد يثبت إلاّبعد الفراغ من المأمور به بما له من الأجزاء والشرائط ... الخ (1).

لا يخفى أنّه قد حرّر في بعض مباحث الأوامر (2) النزاع بين العلمين السيّد العلاّمة الشيرازي قدس سره والسيّد العلاّمة السيّد محمّد الأصفهاني قدس سره في أنّ الامتثال في المركّبات الارتباطية هل يكون تدريجياً ، ويكون ذلك بالنسبة إلى الأجزاء السابقة مشروطاً بالعنوان المنتزع من الأجزاء اللاحقة وهو عنوان التعقّب ، أو أنّ الامتثال لا يكون إلاّدفعياً وهو عند الفراغ من الجزء الأخير. اختار الأوّل الأوّل ، والثاني الثاني ، وحينئذ فلو أخذنا الصحّة في هذا المقام بمعنى تحقّق الامتثال ، فهذا لا يمكن استصحابه في الأثناء. أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلأنّ امتثال الأمر المتعلّق بالجزء وإن كان متحقّقاً في الواقع عند الفراغ منه إذا كان واقعاً واجداً لقيد التعقّب بباقي الأجزاء ، إلاّ أنه لمّا لم يكن ذلك متحقّقاً لدينا لم يكن لنا طريق إلى استصحابه.

وبذلك ظهر لك صحّة ما أفاده قدس سره من عدم إمكان الاستصحاب في الأثناء وأنّه لا يثبت الصحّة الفعلية إلاّعند الفراغ من العمل على كلّ من المسلكين المذكورين.

أمّا استصحاب الصحّة التأهّلية التي هي عبارة عن القضية القائلة بأنّ هذا الجزء لو لحقه باقي الأجزاء والشرائط لكان صحيحاً ، فقد أورد عليه شيخنا قدس سره أوّلاً : بأنّه راجع إلى الاستصحاب التعليقي. وثانياً : بأنّه قطعي حتّى بعد انضمام ما

ص: 372


1- فوائد الأُصول 4 : 232.
2- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب صفحة : 15 وما بعدها.

يشكّ في مانعيته أو ما يقطع بمانعيته ، لأنّ النقص إنّما هو في ناحية المعلّق عليه ، مثلاً لو فرغ من السجدتين الأخيرتين نقول : ما تقدّم من الأجزاء لو انضمّ إليه باقي الأجزاء لكان موجباً لحصول الامتثال ، فلو أنّه أوجد المانع الذي هو قطعي المانعية بعد الفراغ من السجدتين ، لم يكن ذلك مضرّاً بتلك القضية القائلة إنّه لو انضمّ باقي الأجزاء والشرائط إلى ما تقدّم من الأجزاء لكان الامتثال حاصلاً بها ، غايته أنّ المعلّق عليه لم يحصل.

وهكذا فيما لو ألحق السجدتين بسجدة ثالثة المفروض كونها مشكوكة المانعية ، لأنّ الشكّ لم يكن واقعاً في تلك القضية التعليقية التي هي عبارة عن الصحّة التأهّلية ، بل كان الشكّ واقعاً في ناحية تحقّق المعلّق عليه ، وهو انضمام باقي الأجزاء والشرائط.

ولا يخفى أنّ هذا الايراد (1) إنّما يتّجه لو قلنا إنّ تلك الأجزاء التي أتينا بها لو لحقها التشهّد والتسليم بما نعلمه من الشرائط لكانت مسقطة للأمر ، فهذه القضية قبل لحوق السجدة الثالثة تكون قطعية يقينية ، وبعد لحوقها تكون نفس تلك القضية مشكوكة ، لا أنّ الشكّ في ناحية المعلّق عليه ، بل كانت نفس القضية التعليقية مشكوكة. والظاهر أنّ ذلك هو مراد المستدل بالاستصحاب المذكور.

نعم ، يتوجّه عليه : أنّ مجرّد لحوق ما علم من الأجزاء والشرائط لا يوجب تحقّق الصحّة بالنسبة إلى ما سبق ، إذ مع تخلّل ما يحتمل مانعيته تكون الصحّة فيما سبق مجهولة لا متيقّنة ، ولو أُغضي النظر عن ذلك لقلنا إنّ المعلّق عليه في تلك القضية التعليقية هو باقي الأجزاء والشرائط الواقعية ، ليكون محصّل القضية هو أنّ تلك الأجزاء السابقة لو لحقها كافّة ما يعتبر واقعاً من الأجزاء والشرائط

ص: 373


1- [ المقصود بهذا الإيراد هو استصحاب الصحّة التأهّلية لا الإيراد عليه ، فلاحظ ].

وعدم الموانع (1) ، فإنّه حينئذ يتمّ ما أُفيد من بقائها يقينية حتّى بعد طروّ المانع المعلوم المانعية ، أمّا لو كان المعلّق عليه هو باقي الأجزاء والشرائط والموانع المعلومة الاعتبار ، بحيث نقول إنّ ذلك المتيقّن قبل الاتيان بالسجدة الثالثة وهو كون تلك الأجزاء لو لحقها التشهّد والتسليم لكانت محقّقة للامتثال ، إن كان حكماً على تلك الأجزاء بقول مطلق حتّى لو لحقتها السجدة الثالثة ، لم يعقل تعلّق الشكّ بوجوده بعد لحوق السجدة الثالثة ، بل كان محصّله هو أنّ الثالثة ليست بمانعة. وإن كان حكماً عليها بشرط عدم لحوق الثالثة ، لم يعقل تعلّق الشكّ بعدمه بعد الثالثة ، بل كان مقطوع العدم. وإن شككنا في أنّ موضوعه هل هو الأوّل أو أنّه الثاني ، كان بعد لحوق السجدة الثالثة من قبيل الشكّ في بقاء الموضوع.

وإن شئت فقل : إنّ المكلّف عندما بلغ إلى الفراغ من السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة ، وزاد عليها سجدة ثالثة ، لو قال إنّ تلك الأجزاء السابقة إلى السجدة الثانية لو لحقها التشهّد والتسليم ، لكانت متمّمة للصلاة ، أو لكان الأمر بها ساقطاً ، أو لحصل الغرض ، أو نحو ذلك ممّا يعبّر به عن الصحّة ، إنّ المشار إليه بقوله تلك الأجزاء ، إن كان هو ما عدا السجدة الثالثة ، بمعنى أنّ تلك الأجزاء لو بقيت بحالها ولحقها التشهّد والتسليم من دون السجدة الثالثة لتمّت الصلاة ، فهذه القضية متيقّنة ، ولا يدخلها الشكّ حتّى لو علمنا أنّ السجدة الثالثة مفسدة لها ، وإن كان المشار إليه هو تلك الأجزاء ، سواء أتبعها بالسجدة الثالثة أو لم يتبعها بها ، لو لحقها التشهّد والتسليم لتمّت الصلاة ، فهذه القضية مشكوكة من أوّل الأمر ، ولم تكن متيقّنة في وقت من الأوقات.

ص: 374


1- [ هكذا في الأصل فلاحظ ].

ولكن هذا الإشكال هو عين الإشكال في استصحاب الحكم التعليقي ، فإنّك لو أشرت إلى العنب وقلت إنّه لو غلى لتنجّس ، إن كان المشار إليه هو نفس العنب بلا أن يتبدّل إلى الزبيبية ، فهذه القضية متيقّنة أبداً ولا يدخلها الشكّ ، وإن كان المشار إليه هو العنب ولو لحقته الزبيبية لم تكن القضية المذكورة متيقّنة.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال جارٍ فيما لو كان الحكم تخييرياً أيضاً كالحلّية فيقال : إنّ المشار إليه بقولنا هذا حلال ، إن كان هو نفس العنب بلا أن يتبدّل إلى الزبيبية ، كانت القضية المذكورة متيقّنة إلى الأبد ، وإن كان المشار إليه هو الذات وإن تبدّلت صورتها إلى الزبيبية ، فهذه القضية مشكوكة من أوّل الأمر ، ولم تكن متيقّنة في وقت من الأوقات. وهكذا الحال فيما لو علمنا أنّ زيداً غير المرتكب لشيء من الصغيرة والكبيرة يجوز الصلاة خلفه ثمّ إنّه قد ارتكب الصغيرة.

ونظيره فيما نحن فيه من الصحّة غير المعلّقة ما لو كان الزائد في الآخر مثل السلام الثاني ، ومثل مسح الرجل اليسرى ثانياً في باب الوضوء ، فإنّ قولنا تلك الأجزاء السابقة على المسح الثاني للرجل اليسرى كانت صحيحة قبل المسح الثاني ، إن كان المشار إليه هو نفس تلك الأجزاء المجرّدة عن المسح الثاني بقيد تجرّدها عنه ، كانت القضية متيقّنة أبداً ، وإن كان المشار إليه هو الأجزاء المذكورة وإن لحقها المسح الثاني ، كانت القضية مشكوكة من أوّل الأمر ، والسرّ في جميع [ ذلك ] هو أنّ وصف الصحّة مشكوك الموضوع من أوّل الأمر ، هل موضوعه هو الأجزاء لا بشرط ، أو هو الأجزاء بشرط لا.

وإن شئت فقل : إنّ شكّنا لم يكن في بقاء وصف الصحّة ، بل إنّه إنّما يكون في أنّ المجعول له وصف الصحّة هل هو الأجزاء بقيد عدم لحوق الزيادة المذكورة ، سواء كانت في الأوّل كالمضمضة قبل إجراء الوضوء مثلاً ، أو كانت في

ص: 375

الوسط ، أو كانت في الآخر ، أو هو الأجزاء غير مقيّدة بالقيد المذكور ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّ الجزء أو المركّب هل مأخوذ بالنسبة إلى تلك الزيادة بشرط لا ، أو أنّه مأخوذ لا بشرط.

وهذا الإشكال عين الإشكال في الاستصحاب التعليقي ، بل هو عينه في استصحاب الحكم ولو منجّزاً فيما لو شكّ في بقائه عند تبدّل صفة من الصفات التي يحتمل كونها قيداً في الموضوع ، ولئن أمكن الجواب عنه هناك بالتسامح العرفي فلا يمكن الجواب بذلك عنه فيما نحن فيه ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الصلاة لها نحو وحدة اعتبارية ، وهي بذلك اللحاظ يمكن جريان استصحاب البقاء فيها فيما لو شكّ في أنّه هل فرغ منها كما هو الشأن في جميع الأُمور التدريجية ، وحينئذ فيمكن أن يقال : كما صحّ أن يقال إنّ المكلّف بعدُ في الصلاة ولم يخرج منها ، نظراً إلى أنّها تتحقّق بمجرّد الشروع ، وأنّ الشكّ في الفراغ يكون عبارة عن الشكّ في بقائها ، فكذلك يمكن أن يقال إنّ هذه الصلاة قد تحقّقت بمجرّد الشروع فيها ، وعند طروّ ما شكّ في مانعيته يحصل الشكّ في بقاء صحّة مجموع الصلاة.

والحاصل : أنّ الصلاة بمجرّد الشروع فيها تكون بحسب النظر العرفي قد تحقّقت بتمامها ، وهذه المانعية تكون منسوبة إلى المجموع. ولكن ذلك التسامح لو تمّ فأقصى ما فيه هو أن تكون الزيادة بمنزلة الزيادة في الآخر ، التي قد عرفت الحال فيها ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ استصحاب الصحّة لو سلم من جميع هذه الإشكالات ، فهو غير سالم من إشكال آخر ، وهو أنّه لا معنى للصحّة إلاّ التمامية وإسقاط الأمر ، وهذه الأُمور ليست بنفسها شرعية ولا يترتّب عليها أثر شرعي ، فلا يمكن أن

ص: 376

تكون مورداً للاستصحاب.

قوله : ولكن مع ذلك كلّه للنظر فيه مجال ، أمّا أوّلاً ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ما نقله قدس سره عن الشيخ قدس سره في إثبات الجزء الصوري يرجع إلى أمرين : الأوّل إطلاق القاطع على مثل الالتفات. والثاني كونه مبطلاً لو كان قد وقع في أثناء السكوتات ، ولم يتعرّض شيخنا قدس سره للجواب عن الأوّل ، ولعلّه لوضوح الجواب عنه بأنّ مجرّد التعبير بالقاطع لا يدلّ على وجود الهيئة الاتّصالية المعبّر عنها بالجزء الصوري ، بل هو من باب المسامحة والتجوّز في التعبير.

قوله قدس سره : أمّا أوّلاً ، فلأنّ مجرّد تعلّق النواهي الغيرية ... الخ (2).

لعلّ حاصله : أنّ مجرّد كون الشيء مفسداً حتّى لو وقع في حال السكوت لا يدلّ على القاطعية الحقيقية ، بل أقصى ما في ذلك هو توسعة المانعية لما إذا وقع في حال السكوت ، ومن ذلك الزيادة لو قلنا إنّها مانعة ، فإنّها لابدّ أن لا تكون واقعة في أثناء الأفعال الصلاتية.

قوله : وقوله عليه السلام : « وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته » ... الخ (3).

قال المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره - بعد ذكر هذه الرواية عن التهذيب خالية من لفظة ركعة - : هكذا رواه في المدارك (4) وغيره ، ولكن في

ص: 377


1- فوائد الأُصول 4 : 235.
2- فوائد الأُصول 4 : 235.
3- فوائد الأُصول 4 : 238.
4- مدارك الأحكام 4 : 220.

الوسائل رواه عن الكليني رحمه اللّه باسناده ( وهو : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أُذينة ) عن زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتدّ بها ، واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان قد استيقن يقيناً » (1) ثمّ قال : محمّد بن الحسن باسناده عن محمّد ابن يعقوب مثله ، فالظاهر أنّ لفظة « ركعة » فيما رووه عن الشيخ ساقطة (2) انتهى ما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره.

لكن راجعت الوافي (3) فوجدته يرويها عن الكافي عن الثلاثة - وهم علي ابن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير - عن ابن أُذينة عن زرارة وبكير عن أبي جعفر عليه السلام خالية من لفظة « ركعة » ، ثمّ راجعت الكافي فوجدت هذه الرواية بهذا السند والمتن ، يعني خالية من لفظة « ركعة » في باب « من سها في الأربع والخمس ولم يدر زاد أم نقص أو استيقن أنّه زاد » (4) ، وفيما قبل هذا الباب وهو باب « السهو في الركوع » ذكر أيضاً هذه الرواية مشتملة على لفظة « ركعة » (5) ، وهي بعين ذلك السند ، سوى أنّ تلك كانت عن زرارة وبكير ابني أعين ، وهذه كانت عن زرارة فقط ، وأمّا التهذيب فقد نقلها عن الكليني بهذا السند إلى زرارة وبكير ابني أعين مع إسقاط لفظ « الركعة » (6)

ص: 378


1- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 1.
2- مصباح الفقيه ( الصلاة ) : 535 ( الطبعة القديمة ).
3- الوافي 8 : 964 / باب السهو في أعداد الركعات ح 25 [7500].
4- الكافي 3 : 354 / 2.
5- الكافي 3 : 348 / 3.
6- التهذيب 2 : 194 / 763.

قوله : وما دلّ على صحّة الصلاة بزيادة السجدة الواحدة سهواً ... الخ (1).

في الوافي : التهذيب : سعد عن ابن عيسى عن علي بن الحكم عن أبان عن (2). الفقيه : منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « سألته عن رجل صلّى فذكر أنّه زاد سجدة ، فقال عليه السلام : لا يعيد صلاة من سجدة ، ويعيدها من ركعة » (3) التهذيب : سعد عن ابن عيسى عن محمّد بن خالد عن ابن فضّال عن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل شكّ فلم يدر أسجد ثنتين أم واحدة ، فسجد أُخرى ثمّ استيقن أنّه زاد سجدة ، فقال : لا واللّه ، لا يفسد الصلاة زيادة سجدة. وقال عليه السلام : لا يعيد صلاته من سجدة ويعيدها من ركعة » (4).

والرواية الأُولى وإن كان متنها مطلقاً شاملاً لكلّ من الزيادة والنقيصة ، إلاّ أنّها لمّا كان موردها هو الزيادة كانت نصّاً في بيان حكم الزيادة ، كصدر الرواية الثانية ، وبذلك تكون أخصّ من الرواية السابقة الدالّة على لزوم الاعادة لمطلق الزيادة ، إلاّ أن مقتضى ذلك هو خروج السجدة فقط دون باقي الأجزاء غير الركنية.

ص: 379


1- فوائد الأُصول 4 : 240.
2- [ أي عن منصور بن حازم ].
3- الوافي 8 : 933 / 7426 ، التهذيب 2 : 156 / 610 ، الفقيه 1 : 346 / 1009 ، وسائل الشيعة 6 : 319 / أبواب الركوع ب 14 ح 2.
4- الوافي 8 : 933 / 7427 ، التهذيب 2 : 156 / 611 ، وسائل الشيعة 6 : 319 / أبواب الركوع ب 14 ح 3.

وما أُفيد بقوله : بعد القطع بعدم الفرق في الأجزاء الغير الركنية بين السجدة الواحدة وغيرها (1) ، قابل للمناقشة ، فالأولى أن يسلك في الجمع بين قوله عليه السلام : « إذا استيقن » (2) وقوله عليه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّمن خمسة » (3) الطريقة التي سلكها في الجمع بين قوله عليه السلام : « من زاد في صلاته فعليه الاعادة » (4) وقوله عليه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّمن خمسة » وتلك الطريقة هي طريقة الحكومة بأن يقال : إنّ قوله عليه السلام : « إذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة » يشمل الركن وغيره ، ويختصّ بالزيادة ، وقوله عليه السلام : « لا تعاد الصلاة » الخ يشمل الزيادة والنقيصة ، ويختصّ بالأجزاء غير الركنية ، لأنّ الركن القابل للزيادة وهو الركوع والسجود داخل في المستثنى منه ، وبعد تحقّق العموم من وجه بينهما نقدّم حديث « لا تعاد » على رواية من استيقن للحكومة المذكورة ، وتكون هذه الطريقة - أعني طريقة الحكومة - جارية في كلا الروايتين ، أعني رواية « من زاد » ورواية « إذا استيقن » ، غايته أنّ عموم « من زاد » أوسع لكونه شاملاً للعمد ، لكن ذلك لا دخل له بكيفية الجمع ، لأنّ مورد المعارضة إنّما هو الزيادة السهوية في غير الأركان ، وهو حاصل في كلا الروايتين ، ثمّ بعد تنقيح العموم من وجه نقدّم حديث « لا تعاد » للحكومة المذكورة ، ولا بأس حينئذ بجعل ما دلّ على عدم بطلان الصلاة بزيادة السجدة مؤيّداً لذلك الجمع ، بدعوى عدم الفرق بين السجدة وغيرها من الأجزاء غير الركنية ، فتأمّل.

ص: 380


1- فوائد الأُصول 4 : 240.
2- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 1.
3- وسائل الشيعة 6 : 313 / أبواب الركوع ب 10 ح 5.
4- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 2.

قوله في الحاشية : في إمكان تعلّق الطلب بكلّ من الجزء الصوري والقواطع نوع خفاء ، فتأمّل (1).

لعلّ منشأ الإشكال هو أنّ الجزء الصوري مسبّب عن عدم القواطع ، فإمّا أن يتعلّق الطلب بالسبب ، وإمّا أن يتعلّق بالمسبّب. ولا يمكن تعلّق الطلب بكلّ منهما ، لأنّ تعلّق الطلب بأحدهما يوجب لغوية طلب الآخر. ثمّ إن كانت هذه السببية شرعية ، كان الأصل الجاري في الاتيان بالقاطع حاكماً على استصحاب الجزء الصوري ، وإن لم تكن شرعية تعيّن الرجوع إلى الأصل فيما هو المطلوب منهما شرعاً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : لحكومة الحديث على أدلّة الأجزاء والشرائط ... الخ (2).

ربما يتأمّل في الحكومة المذكورة ، فإنّ حديث « لا تعاد » إنّما يحكم على الأدلّة الأوّلية الدالّة على الجزئية والشرطية. وأمّا الأدلّة التي يكون مفادها الاعادة صريحاً مثل أدلّة الاعادة بالزيادة ففيه تأمّل ، بل الظاهر هو التعارض ، لأنّ أحد الدليلين يقول أعد والآخر يقول لا تعد.

وهناك إشكال آخر : وهو دعوى اختصاص حديث « لا تعاد » بخصوص النقص ولا يشمل الزيادة ، وحينئذ يكون مقتضى القواعد هو البطلان بالزيادة سواء كانت عمدية أو كانت سهوية ، إلاّما أخرجه الدليل مثل زيادة السجدة الواحدة سهواً (3) ، ولا يعارضه ما ورد في تعليل النهي عن العزائم (4) ، لأنّه ظاهر في

ص: 381


1- فوائد الأُصول 4 : 236.
2- فوائد الأُصول 4 : 239.
3- وهو ما تقدّم في الصفحة : 379.
4- وسائل الشيعة 6 : 105 / أبواب القراءة في الصلاة ب 40 ح 1.

العمد.

كما أنّه لا يعارضه ما دلّ على وجوب سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة (1) من جهة دلالته الالتزامية على الصحّة في مورد الزيادة ، لعدم سياقه إلاّمن جهة وجوب سجود السهو المستدعي للصحّة التي لابدّ لها من مأخذ ، والحاصل : أنّ مفاده هو وجوب سجود السهو فارغاً عن الصحّة ، فكأنّه أوجبها بعد الفراغ عن الصحّة ، فلا ينافيه ما يدلّ على البطلان. نعم لابدّ في تصحيحه وإخراجه عن اللغوية من ثبوت الصحّة في مورد الزيادة في الجملة ، وتمام الكلام في مبحث الخلل.

فقد تلخّص لك : أنّ حديث « لا تعاد » إن كان شاملاً لكلّ من الزيادة والنقيصة كان معارضاً لما دلّ على لزوم الاعادة بالزيادة ، ومورد المعارضة هو الزيادة السهوية فيما عدا ما هو داخل في أحد الخمسة ، ولا يكون الحديث حاكماً على تلك الأدلّة. وإن قلنا إنّه مختصّ بالنقيصة ولا يشمل الزيادة كان الأمر أشكل ، لأنّ الحديث حينئذ أجنبي عمّا دلّ على البطلان بالزيادة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مرجع الزيادة إلى النقص في الشرط ، بمعنى الإخلال بالقيد العدمي أعني عدم الزيادة ، فيكون مقتضى الحديث أنّه لو سها وأتى بالزيادة فقد أخلّ بذلك القيد العدمي إخلالاً سهوياً ، فيدخل في حديث « لا تعاد ».

لكن لا يخفى أنّه لو سلّمنا هذا التكلّف ، لكان ما دلّ على البطلان والاعادة بالزيادة دالاً على البطلان والاعادة بذلك النقص العدمي أيضاً ، وحينئذ يقع التعارض بينه وبين الحديث من هذه الناحية ، أعني ناحية نقص ذلك القيد

ص: 382


1- وسائل الشيعة 8 : 251 / أبواب الخلل في الصلاة ب 32 ح 3.

العدمي.

نعم يمكن أن يقال : إنّه بعد التعارض المذكور أعني تعارض العموم ، يكون الحكم هو التساقط والرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية ، وهي البراءة من تقيّد الصلاة بذلك القيد العدمي في خصوص مورد المعارضة ، أعني الزيادة السهوية في غير ما هو داخل في المستثنى الذي هو الركوع والسجود ، ونحتاج في الحكم بالبطلان في مورد زيادة غيرهما إلى الدليل الخاصّ ، فلاحظ وتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من منع حكومة حديث « لا تعاد » على ما دلّ صريحاً على وجوب الاعادة بالزيادة ، لا يفرق فيه بين أن يكون وجه الحكومة هو ما أفاده شيخنا قدس سره من كونه نافياً للجزئية بلسان نفي لازمها الذي هو الاعادة في مورد ينحصر أثر الجزئية بالاعادة ، أو يكون الوجه في الحكومة هو كون الحديث ناظراً إلى الأدلّة الأوّلية كما قيل ، أو يكون الوجه في الحكومة هو الالتزام بتعدّد مراتب الصلاة كما في المستمسك ج 5 ص 242 (1) ، أو يكون الوجه هو غير ذلك ممّا ذكر في وجه تقديم الحديث على الأدلّة الأوّلية المتكفّلة لأصل الجزئية والشرطية ، فإنّ جميع هذه الوجوه إنّما تتأتّى بالنسبة إلى الأدلّة الأوّلية ، دون ما يكون متّحداً في الرتبة مع حديث « لا تعاد » ممّا يكون لسانه وجوب الاعادة ، حتّى بناءً على أنّ الوجه هو تعدّد مراتب الصلاة ، فإنّهما يتعارضان في مرتبة فوت المصلحة الكاملة ، فالحديث يقول لا تعد لأنّه بعد فوات تلك المرتبة الكاملة لا يمكن التدارك ، وحديث وجوب الاعادة عند الزيادة يقول أعد ، ومفاده حينئذ هو بقاء المجال لاستيفاء ما فات.

نعم ، من يدّعي تقدّم الحديث على تلك الأدلّة لمجرّد أنّ الأصحاب قدّموه

ص: 383


1- مستمسك العروة الوثقى 7 : 385 / فصل في الخلل الواقع في الصلاة.

يمكنه الالتزام في المقام بتقديمه على أدلّة البطلان بالزيادة ، لعين تلك الجهة وهي تقديم الأصحاب ، إلاّ أن ذلك ممنوع كبرى وصغرى ، إذ لا وجه لكون تقديم الأصحاب موجباً للتقديم ، مضافاً إلى المنع من تقديم الأصحاب في خصوص ما نحن فيه ، فلاحظ وتأمّل.

لا يقال : بعد البناء على رجوع الزيادة إلى نقص الشرط أعني قيد عدم الزيادة ، لا يكون حديث « لا تعاد » أعمّ من وجه من الرواية القائلة « من استيقن أنّه زاد » بل يكون الحديث منحصراً بالنقص غير الركني ، ومفاد الرواية هو النقص الشامل للركن وغيره ، فيكون المقدّم حديث « لا تعاد » لكونه أخصّ مطلقاً.

لأنّا نقول : إنّ ذلك لا يخرجهما عن العموم من وجه ، فإنّ النقص تارةً يكون نقصاً مجرّداً ، وأُخرى يكون نقصاً مقروناً بالزيادة ، وكلاهما داخلان في حديث « لا تعاد » ، غايته أنّ ذلك مختصّ بغير الأركان. أمّا مفاد الرواية فهو النقص المقرون بالزيادة لكنّه شامل للركن وغير الركن. وإن شئت فقل : إنّ الرواية متعرّضة لخصوص نقص الشرط الذي هو عدم الزيادة ، سواء كان المعدوم ركناً أو غيره ، والحديث يشمل كلّ نقص سواء كان نقص الأجزاء أو نقص الشرائط الوجودية أو العدمية ، لكنّه يختصّ بما عدا الأركان ، فتكون النسبة بينهما عموماً من وجه.

قوله : وأمّا لو قصد بها الجزئية ، سواء كان ذلك للجهل بالحكم أو للتشريع ، ففي بطلان الصلاة وعدمه وجهان ، أقواهما البطلان لصدق الزيادة على ذلك ، فيندرج فيما تقدّم من أدلّة الزيادة (1).

مراده بذلك الزيادة العمدية. والظاهر أنّ الزيادة في هذا القسم منحصرة

ص: 384


1- فوائد الأُصول 4 : 240 - 241.

بالزيادة العمدية ، وهي منحصرة بما ذكره من الجهل والتشريع ، ولا يتصوّر الزيادة السهوية فيما نحن فيه ممّا يكون تحقّق الزيادة فيه متوقّفاً على قصد الجزئية ، كما أنّ العمد فيه منحصر بصورة الجهل أو التشريع.

ولا يخفى أنّ رواية « من زاد في صلاته » (1) تشمل كلاً من صورتي الجهل والتشريع ، لأنّ كلاً منهما زيادة عمدية قد دلّت الرواية الشريفة على البطلان بها وإن خرجت عنها الزيادة السهوية لمعارضة حديث « لا تعاد » أو حكومته عليها في خصوص الزيادة السهوية ، على ما مرّ تفصيل الكلام فيه.

قوله : فما في بعض الكلمات من أنّ الزيادة التشريعية لا تقتضي البطلان واضح الفساد ... الخ (2).

كأنّ ذلك تعريض بما في الكفاية من قوله في الثالث من تنبيهات مسألة الأقل والأكثر : الثالث أنّه ظهر ممّا مرّ حال زيادة الجزء إذا شكّ في اعتبار عدمها شرطاً أو شطراً في الواجب ، مع عدم اعتباره في جزئيته ، وإلاّ لم يكن من زيادته بل من نقصانه ، وذلك لاندراجه في الشكّ في دخل شيء فيه جزءاً أو شرطاً ، فيصحّ لو أتى به مع الزيادة عمداً تشريعاً أو جهلاً قصوراً أو تقصيراً أو سهواً ، وإن استقلّ العقل لولا النقل بلزوم الاحتياط ، لقاعدة الاشتغال ... الخ (3).

ولكن لا يخفى أنّه إنّما حكم بعدم الفساد في الزيادة العمدية ولو تشريعاً ،

ص: 385


1- وسائل الشيعة 8 : 231 / أبواب الخلل في الصلاة ب 19 ح 2.
2- فوائد الأُصول 4 : 241.
3- كفاية الأُصول : 368 - 369.

نظراً إلى الأصل أعني أصالة البراءة من تقيّد الصلاة بعدم الزيادة ، سواء كانت سهوية أو عمدية جهلية أو تشريعية. وهذا المقدار مسلّم في الجملة لو لم يكن في التشريع جهة أُخرى موجبة للفساد ، وهي ما أشار إليها شيخنا قدس سره بقوله : هذا إذا لم يقصد الامتثال بمجموع الزائد والمزيد فيه ، وإلاّ فلا إشكال في البطلان لعدم قصد امتثال الأمر. وأشار إليه في الكفاية بقوله : نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه ، لكان باطلاً مطلقاً أو في صورة عدم دخله فيه الخ.

وبالجملة : بعد غض النظر عن الدليل الاجتهادي الدالّ على البطلان بالزيادة العمدية في خصوص الصلاة ، وهو حديث « من زاد في صلاته » الخ ، لكانت الزيادة العمدية الجهلية أو التشريعية غير موجبة للفساد استناداً إلى أصالة البراءة من تقيّد المركّب بعدم تلك الزيادة ، وكلام الكفاية ناظر إلى ذلك ، لأنّ كلامه عام لكلّ مركّب ، ولا خصوصية فيه للصلاة ونحوها ، بل إنّ كلامه يشمل حتّى المركّبات التوصّلية ، ولأجل ذلك قال : نعم لو كان عبادة الخ.

وحينئذ يكون ذلك - أعني النظر إلى الجهة العامّة - هو عذر صاحب الكفاية في عدم تعرّضه لحديث « من زاد » ومقابلته بحديث « لا تعاد » واستنتاجه من ذلك مبطلية الزيادة العمدية ، فإنّ ذلك كلّه خاصّ بالصلاة من العبادات ، وصاحب الكفاية أراد أن يجعل محلّ نظره في هذا المبحث أُصولياً صرفاً.

ولكن مع ذلك كلّه كان على صاحب الكفاية قدس سره التنبيه على خصوصية باب الصلاة والأدلّة الواردة فيها ، كما صنعه في الجملة في التنبيه الثاني ، لكن الأمر في ذلك سهل لأنّه تحريري لا علمي ، فتأمّل.

ص: 386

قول صاحب الكفاية قدس سره : نعم ، لو كان عبادة وأتى به كذلك ، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه ، لكان باطلاً مطلقاً أو في صورة عدم دخله فيه (1).

وجه البطلان مطلقاً هو أنّه لم يكن قصده الامتثال على كلّ حال ، ووجه الصحّة فيما لو اتّفق أنّ الواقع كذلك ، هو ما أشار إليه بقوله : لعدم قصور الامتثال في هذه الصورة (2) ، يعني بها صورة دخله فيه المستفادة من مقابلها الموجبة للبطلان وهي صورة عدم دخله فيه ، هذا لو قرئت بالقاف ، وقد صحّحت في بعض النسخ بالتاء ، فلابدّ أن يكون المراد حينئذ بالصورة هي صورة عدم دخله فيه.

ثمّ إنّه لو لم ينكشف الحال ، وغاية ما عنده أنّه كان جاهلاً بجزئية الاستعاذة ولكنّه شرع وجعلها جزءاً وقصد امتثال الأمر المتعلّق بالمركّب منها ، على وجه لو لم تكن الاستعاذة جزءاً لما أقدم على الامتثال ، فكان بعد الفراغ يحتمل أنّ الاستعاذة جزء في الواقع فتكون صلاته صحيحة ، أو ليست بجزء فتكون فاسدة ، فليس المرجع حينئذ هو البراءة ، بل اللازم هو الاحتياط بالاعادة لما أفاده بقوله : مع استقلال العقل بلزوم الاعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال.

قوله : وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أيّ حال كان صحيحاً (3).

ظاهره أنّه صحيح حتّى لو تبيّن في الواقع أنّ الاستعاذة ليست بجزء ، فإنّه لو

ص: 387


1- كفاية الأُصول : 369.
2- المصدر المتقدّم [ المذكور في النسخ المطبوعة حديثاً هو : قصد الامتثال ، نعم في نسخة حقائق الأُصول : تصوّر الامتثال ، وفي طبعة بغداد القديمة : قصور الامتثال ].
3- المصدر المتقدّم.

صادف الواقع فقد حكم بالصحّة حتّى لو كان من قصده التقييد في الامتثال ، ووجه الحكم بالصحّة في الصورة المفروضة هو ما أشار إليه بقوله : فإنّ تشريعه في تطبيق المأتي به مع المأمور به ، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب به على كلّ حال الخ ، وهو لا يخلو عن تأمّل ، إذ لا يخرج بذلك عن كونه تشريعاً في الامتثال.

قوله : وإن كانت من سنخها ، فإن كانت من سنخ الأقوال - كالقراءة والتسبيح - فيعتبر في صدق الزيادة عليها قصد الجزئية بها ، وإلاّ كان ذلك من الذكر والقرآن الغير المبطل ... (1).

كونه غير مبطل واضح ، لكن هل لأجل دلالة الدليل على عدم البطلان بزيادته ، وحينئذ يلزم إثبات ذلك بالدليل ، وهو المخصّص لقوله عليه السلام : « من زاد » ، لكن لازم ذلك عدم البطلان حتّى لو قصد الجزئية جهلاً بالحكم لا تشريعاً. أو لأنّه ليس من الزيادة ، أو لأنّه من قبيل التخيير بين الأقل والأكثر كما قيل في ذكر الركوع والسجود ، بل قيل بذلك في التسبيحات في الثالثة والرابعة. لا يبعد الأوّل ، لأنّ الظاهر صدق الزيادة عليه وإن لم يقصد به الجزئية ، خصوصاً فيما لو قرأ آيات بين الحمد والسورة مثلاً.

وقال السيّد سلّمه اللّه في تحريراته عن شيخنا قدس سره : فإنّه مع قصد الجزئية يكون مبطلاً للعبادة من جهة صدق الزيادة ، لا مع عدمه ، فإنّ العبادة بالقياس إلى بقيّة الأذكار مأخوذة لا بشرط ، فلا يتحقّق عنوان الزيادة الموجبة للبطلان الخ (2) ، وظاهره تحقّق الزيادة ، لكنّها لا تكون مبطلة ، لأنّه مأخوذ فيها لا بشرط ، وإن كان ربما يخالف ذلك قوله : من جهة صدق الزيادة لا مع عدمه ، فإنّه ظاهر في أنّه لو

ص: 388


1- فوائد الأُصول 4 : 241.
2- أجود التقريرات 3 : 525.

لم يقصد الجزئية لا يكون من الزيادة ، وفي ذلك تأمّل تقدّم الكلام فيه (1) ، وأنّه تصدق الزيادة فيما أُخذ لا بشرط بل فيما أُخذ من باب صرف الوجود ، غايته أنّه ربما يدّعى أنّ أخذه من حيث صرف الوجود ملازم لأخذه لا بشرط ، الموجب لعدم البطلان بالزيادة لا لعدم صدق الزيادة ، فراجع وتأمّل.

نعم ، ربما لا تصدق الزيادة على ما يأتي به من القرآن والدعاء في أثناء الأجزاء ، كأن يقرأ سورة من القرآن بين السجدتين ، أو يدعو الدعاء الفلاني بعد السجدتين قبل القيام ، ونحو ذلك.

ثمّ إنّ هذا كلّه في القرآن والأذكار التي هي من غير أجزاء الصلاة ، أمّا لو أتى بما هو الجزء الاستحبابي منها في غير موضعه ، كما لو أتى بالتكبيرات الانتقالية في غير موضعها ، بأن كبّر أو قال سمع اللّه لمن حمده في أثناء الهوي أو النهوض ، أو كرّر ذلك في موضعه بأن قال سمع اللّه لمن حمده في محلّها مرّتين ، وكذلك الحال فيما لو أتى بما هو الواجب منها في غير موضعه ، كما لو سبّح في حال القيام إلى الأُولى أو الثانية ، أو قرأ في حال القيام إلى الثالثة أو الرابعة ، أو تشهّد على الأُولى أو الثالثة ، أو كرّر ذلك في موضعه بأن تشهّد على الثانية مرّتين ، أو قرأ الفاتحة في الأُولى أو الثانية مرّتين ، فهل يعتبر في صدق الزيادة عليه قصد الجزئية ، أو أنّه يتحقّق كونه زيادة وإن لم يقصد به ، كلّ ذلك محل تأمّل.

ولو قلنا بصدق الزيادة في ذلك من دون قصد الجزئية ، أشكل الحكم بالصحّة ، لعموم أدلّة الزيادة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تعمّد الاتيان بهذه الأقوال لا يخرج عن أحد أمرين : قصد الجزئية ، أو القرآن أو الذكر المطلق ، كما لا يبعد تنزيل عبارة هذا التحرير على هذا التوجيه ، وحينئذ نقول : إنّ الأوّل نلتزم بالبطلان

ص: 389


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 365 وما بعدها.

فيه بخلاف الثاني ، لعمومات أدلّة الاستحباب في القرآن والذكر على كلّ حال ، وإن صدق عليه الزيادة. بل يمكن أن يقال : إنّه مع قصد مطلق القرآن والذكر المطلق يكون نظير ما يأتي من الأفعال أعني قصد الخلاف الموجب لخروجه عن الزيادة ، فلا يكون موجباً للبطلان إلاّمع الدليل ، كما في سجدة التلاوة.

نعم ، يبقى الإشكال في التكبيرات الانتقالية في غير موضعها ، كما لو كبّر في حال الهوي مثلاً ، فإنّه يقصد به الجزئية ، وكذلك الحال لو تشهّد في كلّ ركعة معتقداً وجوبه ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في كونه زيادة ، وينبغي فيه الحكم بالبطلان ، إلاّبتخريجه على الخطأ في التطبيق ، بأن يكون قاصداً بذلك الأمرَ الموجود ، لكنّه يعتقد جهلاً أنّه الأمر بالجزء الاستحبابي أو الوجوبي ، وهو في الواقع أمر بمطلق التكبير أو مطلق الذكر.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه في الأجزاء المستحبّة كلّه مبني على تصوّر كون بعض أجزاء الواجب مستحبّاً ، بأن يكون جزءاً من الفرد ، أمّا بناءً على إنكار ذلك ، وأنّه لا يعقل كونه جزءاً من فرد الطبيعة مستحبّاً مع عدم كونه جزءاً في الطبيعة ، فيكون البحث في زيادة هذا النحو من المستحبّات ساقطاً ، لأنّها حينئذ تكون مطلوبة استحباباً في ظرف الصلاة.

قوله : ولكن يظهر من التعليل الوارد - إلى قوله - أنّ السجود زيادة في المكتوبة - إلى قوله - فيكون المنهي عنه في باب الزيادة معنى أعمّ من الزيادة العرفية ... الخ (1).

الأولى أن يقال : إنّ التعليل مجمل فيقتصر على مورده من سجدة التلاوة ، إذ لو أخذنا بهذه التوسعة التي أفادها ، وهي أنّ المنهي عنه والمانع هو الأعمّ من

ص: 390


1- فوائد الأُصول 4 : 242.

الزيادة العرفية ، فهل يقتصر فيه على ما هو من سنخ الأفعال ، أو نسريه إلى ما يكون من سنخ الأقوال ، كما يظهر من تسريته إلى الصلاة في ضمن الصلاة وادّعاء خروجه باعتبار الاستقلالية ، وأنّ هذه التوسعة فيما لا يكون له استقلال ، وحينئذ يكون شاملاً لما يكون من سنخ الأقوال فيما لو أتى بها المكلّف قاصداً بها عدم الجزئية ، بل كان قاصداً بها مطلق الدعاء والقرآنية ، كما وجّهنا به عبارته السابقة في زيادتها العمدية عند عدم الجزئية ، فإنّها بناءً على هذه التوسعة تكون زيادة بجعل الشارع فتكون مبطلة ، وحينئذ يشكل الأمر في ذلك وفيما تقدّم من أنّه لو جاء بالتشهّد مثلاً في كلّ ركعة عن جهل بالحكم متخيّلاً أنّه جزء واجب في كلّ ركعة ، حتّى لو نزّلناه على الخطأ في التطبيق ، بل حتّى لو جاء به قاصداً للأمر الاستحبابي المطلق ، فإنّ أقصى ما يحصل من تنزيله على الخطأ في التطبيق أنّه يكون امتثالاً للأمر الاستحبابي المطلق ، وهذا لا ينفع في الحكم بالصحّة ، لأنّه لا يخرج بذلك عن كونه زيادة بجعل الشارع نظراً إلى التوسعة المذكورة.

وبالجملة : لابدّ من أحد أمرين : الأوّل : دعوى اختصاص هذه التوسعة بخصوص الأفعال فلا تشمل الأقوال. والثاني : أنّها وإن شملت الأقوال إلاّ أنا ندّعي أنّ زيادة الأقوال لا تبطل ، لأنّها قرآن ودعاء ، وأنّه معتبر في الصلاة لا بشرط ، ويكون ذلك مخصّصاً لأدلّة بطلان الصلاة بالزيادة العمدية.

قوله : وأمّا فوات الموالاة فلا ضير فيه إذا كان ذلك لأجل تحصيل واجب أهمّ ... الخ (1).

لا يخفى أنّ مجرّد مزاحمة الموالاة بما هو أهمّ لا يوجب إلاّ أندراجه في غير المقدور ، ومن الواضح أنّ مجرّد عدم القدرة على الشرط لا يوجب الاكتفاء

ص: 391


1- فوائد الأُصول 4 : 243.

بما كان فاقداً له ، بل يكون مبنياً على المسألة الآتية من أنّ تعذّر الشرط هل يوجب سقوطه أو أنّه يوجب سقوط المشروط من أصله ، وحينئذ فلابدّ من إتمام المطلب بحديث « لا تعاد » كما أفاده قدس سره في الفقه (1) وغيره من أنّ محصّله هو سقوط الجزئية والشرطية فيما إذا لم يكن الأمر بهما ممكناً ولم يكن للجزئية والشرطية محصّل إلاّوجوب الاعادة ، وبذلك يتمّ المطلوب وهو الاكتفاء بما كان فاقداً للموالاة ، إذ لا معنى للأمر بالموالاة في هذا المورد إلاّلزوم الاعادة الناشئ عن بقاء الأمر بما هو مشروط بالموالاة.

وقد كنت فيما سبق حرّرت تأمّلاً على هذا الذي أفاده في تقريب جريان حديث « لا تعاد » في صورة تعذّر بعض الأجزاء والشرائط أو نسيانها ، وحاصل ذلك : أنّ الاعادة ليست من الواجبات الشرعية ، بل هي ناشئة عن جعل شرعي ، وذلك المجعول هو الجزئية والشرطية ، إذ لو لم يكن المنسي أو المتعذّر بواسطة المزاحمة جزءاً أو شرطاً ، لما وجبت الاعادة ، فلابدّ أن تكون الجزئية والشرطية منتزعة من جهة أُخرى غير الأمر بالاعادة ، وتلك الجهة هي الأمر بالشرط أو الجزء ، أو نقول : إنّ الجزئية والشرطية مجعولان ابتداءً.

وكلاهما لا يمكن الالتزام به. أمّا الأوّل ، فلأنّه مستلزم لعدم شمول حديث « لا تعاد » للمورد ، لأنّ المفروض حينئذ هو توجّه التكليف بالجزء أو الشرط ، فلا يكون اعتباره منحصراً بالاعادة كي يكون داخلاً في حديث « لا تعاد » بناءً على مسلكه قدس سره فيه من أنّ محصّله هو أنّه إذا لم يكن للجزئية والشرطية محصّل إلاّ الاعادة كانت ساقطة ، ولأجل ذلك أخرج صورة الجهل ، لأنّ الجاهل يكون مأموراً بالجزء والشرط ، فلا ينحصر معنى الجزئية في حقّه بالاعادة كي يكون

ص: 392


1- كتاب الصلاة ( للعلاّمة الآملي ) 1 : 303.

داخلاً في حديث « لا تعاد ». وأمّا الثاني ، فهو خلاف مسلكه قدس سره (1) ، فإنّه لا يقول بجعل الجزئية والشرطية ، هذا.

ويمكن الجواب عن هذا التأمّل بما مرّ سابقاً (2) في الناسي ، وأنّه يمكن في حقّه إطلاق الجزئية والشرطية بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة في ذلك المقام ، ويكون ذلك المقدار من الاطلاق مصحّحاً لتحقّق الجزئية في حقّه ، ولكن لمّا لم يمكن خطابه بالجزء كان داخلاً في من لم يكن للجزئية أثر في حقّه إلاّلزوم الاعادة ، فيدخل في مفاد حديث « لا تعاد » ، وهذا بخلاف العامد والجاهل فإنّه مخاطب بنفس الجزء ، غايته أنّ الجاهل لو كان جهله عن قصور يكون معذوراً ، وذلك لا ينافي كونه مخاطباً.

وقد ذكر في العروة فروعاً متشابهة لا بأس بالاشارة إليها :

منها : ما ذكره في ص 39 طبع بيروت : فيما لو علم في أثناء الصلاة بسبق النجاسة ، أنّه يعيد في سعة الوقت ، ومع العلم بحدوثها في الأثناء أو الشكّ في السبق يعيد إن لم يتمكّن من إزالتها في أثناء الصلاة (3).

ومنها : فيما لو كان مضطرّاً إلى الصلاة مع النجاسة وارتفع العذر في الأثناء ، يعيد في سعة الوقت ، مع تقييده في الحاشية بعدم التمكّن من الازالة في الأثناء (4).

ومنها : ما في مسألة الاضطرار إلى السجود على النجس ، أنّه لا يجب الاعادة ، لكن في الحاشية قيّده قدس سره بما إذا سجد جهلاً أو نسياناً ، فالاحتياط بالاعادة

ص: 393


1- ذكر ذلك في موارد متعدّدة منها ما في فوائد الأُصول 4 : 392 وما بعدها.
2- في الصفحة : 349 وما بعدها.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 197 / فصل : الصلاة في النجس.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 208 / مسألة (11).

لا يترك (1).

ومنها : ص 262 من أنّ ناسي ستر العورة ابتداءً أو بعد انكشافها في الأثناء الأقوى صحّة صلاته ، وكذا لو كان الترك غفلة (2).

ومنها : ص 282 من أنّه إذا فقد ما يصحّ السجود عليه في أثناء الصلاة قطعها في سعة الوقت ، وفي ضيقه يسجد على ثوبه القطن الخ (3). ولو سجد على ما لا يصحّ السجود عليه ، إن كان بعد رفع الرأس مضى ، وإن كان قبله جرّ جبهته إن أمكنه ذلك ، وإلاّ قطع الصلاة في سعة الوقت ، وفي الضيق أتمّ على ما تقدّم (4) ونظير ذلك في مسألة (10) ص 332 (5). وفي ص (411) في حاشية مسألة (10) : لو كان ( يعني ما سجد عليه سهواً ) نجساً ، فالاحتياط لا يترك كما تقدّم (6).

ومنها : ما ذكروه (7) من أنّه لو عجز عن القيام في أثناء الصلاة انتقل إلى ما يمكنه من الجلوس ، حتّى لو كان الوقت واسعاً وأنّه لو قطعها وأخّرها يمكنه

ص: 394


1- العبارة لا تخلو عن قصور ، لكن المراد يتّضح بمراجعة العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 209 مسألة ( 12 ، 13 ).
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 324 / مسألة (12) فصل : في الستر والساتر.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 397 / مسألة (27) فصل : في مسجد الجبهة.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 397 مسألة (28).
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 563.
6- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 213.
7- ذكره السيّد رحمه اللّه في العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 488 / فصل : في القيام مسألة (25).

القيام ، وقد ذكره المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره (1) ، وتعرّض للفرق بينه وما لو كان العذر حاصلاً قبل الصلاة ، حيث إنّهم قد أوجبوا الاتمام في الأوّل والانتظار في الثاني بما هو قابل للمناقشة ، ولم يستدلّ للفرق بجريان حديث « لا تعاد » في الأوّل.

والحاصل : أنّه بناءً على مسلك الأُستاذ قدس سره في حديث « لا تعاد » ينبغي أن يكون جميع هذه الفروع مجرى حديث « لا تعاد » ما عدا ما لو علم في أثناء الصلاة بسبق النجاسة أو علم بحدوثها في الأثناء ، فإنّ المنشأ فيه هو النصوص الخاصّة أو الاجماعات. أمّا الفروع الباقية وهي مسألة الاضطرار إلى السجود على النجس وارتفاع العذر في الأثناء ، ومسألة ما لو سجد على النجس جهلاً بالموضوع أو نسياناً ، ومسألة ما لو فقد في أثناء الصلاة ما يصحّ السجود عليه ، وما لو سجد على ما لا يصحّ السجود عليه جهلاً بالموضوع ، كلّ هذه الموارد وأمثالها ينبغي أن يقال فيها بالصحّة لحديث « لا تعاد » ، وعلى الظاهر أنّه ليس في البين نصوص خاصّة.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس سره في درس الأُصول في أثناء الكلام على مزاحمة الجزم بالنيّة لحرمة الابطال ، من تقسيم الشروط وجملة من الأجزاء إلى ما له البدل وما ليس له البدل ، وكون أدلّة الجزئية والشرطية حاكمة على حرمة الابطال ، حيث إنّها إنّما تتمّ فيما لو كان إتمام العمل بأجزائه وشرائطه ممكناً ، فهو وإن كان في نفسه قوياً متيناً ، إلاّ أنه لا ينفع في الجهة التي نحن فيها من التمسّك بحديث « لا تعاد » ، بناءً على ما أفاده قدس سره من أنّ مفاد الحديث الشريف هو أنّه لو لم يكن للجزئية أو الشرطية محصّل إلاّ الاعادة ، يكون حديث « لا تعاد » مسقطاً

ص: 395


1- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 12 : 81 وما بعدها.

للاعادة الملازم لاسقاط الجزئية والشرطية ، وبذلك حكّم قدس سره هذا الحديث الشريف على أدلّة الأجزاء والشرائط.

وبالجملة : بناءً على ما أفاده قدس سره في معنى الحديث الشريف ، ينبغي أن يقال بسقوط الشرطية والجزئية في الأمثلة المزبورة.

لا يقال : لعلّ الوجه في عدم التمسّك بحديث « لا تعاد » في أمثال هذه المقامات ، هو كون الظاهر منه هو خصوص صورة وقوع الخلل بالجزء أو الشرط دون ما لم يكن واقعاً وقد اضطرّ إلى تركه في أثناء الصلاة. وبعبارة أُخرى المستفاد من الحديث الشريف هو الاغتفار فيما مضى من الخلل دون ما يأتي.

لأنّا نقول : بعد فرض كون مفاده هو عدم لزوم الاعادة للجزء أو الشرط الذي لا محصّل لجزئيته أو شرطيته إلاّ الاعادة ، لا يفرق حينئذ في الخلل بين ما مضى وما يأتي. ويشهد لذلك استدلاله قدس سره (1) بهذا الحديث الشريف على كون ما ورد من لزوم الاتيان بصلاة الآيات المضيّقة في ضمن الصلاة اليومية الموسّعة وارداً على طبق القاعدة ، وأنّ الخلل في الصلاة اليومية من جهة فوات الموالاة بين أجزائها مغتفر بحديث « لا تعاد » ، ولا ريب في كون ذلك من قبيل الخلل المستقبل لا الماضي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مفاد الحديث الشريف وإن كان هو ما تقدّم ذكره من عدم لزوم الاعادة لأجل الجزء أو الشرط الذي لا محصّل لجزئيته أو شرطيته إلاّ الاعادة ، لكن بعد فرض ظهور الحديث الشريف في عدم لزوم الاعادة لترك الجزء أو الشرط الذي تحقّق تركه ، يكون حاصله هو عدم لزوم الاعادة للجزء أو الشرط الذي تحقّق تركه ولم يكن لجزئيته أو شرطيته أثر إلاّ الاعادة ، فيكون

ص: 396


1- كتاب الصلاة ( للعلاّمة الآملي ) 3 : 6 - 7.

الحديث الشريف منحصراً بما مضى من الخلل دون ما يأتي. نعم يبقى الإشكال في شموله للموالاة الفائتة في الاتيان بصلاة الآيات في ضمن الصلاة اليومية.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ شمول الحديث الشريف لذلك إنّما هو بالنظر إلى ما بعد الفراغ من صلاة الآيات ، ولا ريب حينئذ في كون الموالاة ممّا تحقّق فوتها ، وهذا لا ينافي تسويغ الشروع بصلاة الآيات ، إذ لا ريب في لزوم الاتيان بها لكونها أهمّ لتضيّق وقتها ، غاية الأمر يقع الكلام في أنّه بعد الاتيان بها هل تبطل الصلاة اليومية لفوات الموالاة بين أجزائها أو أنّه لا تبطل ، فيمكن حينئذ أن يقال بعدم البطلان ، لأنّه لا معنى لشرطية الموالاة الفائتة في ذلك الحال إلاّلزوم إعادة الصلاة من جهتها ، وحديث « لا تعاد » وافٍ بعدم لزوم الاعادة من هذه الجهة الملازم لسقوط شرطيتها في ذلك الحال. وأمّا من جهة الزيادة في الصلاة اليومية ، فقد حقّق في محلّه عدم انطباق الزيادة على مثل صلاة الآيات ، التي يكون لها وجود استقلالي في حدّ نفسها يكون حافظاً لصورتها النوعية ، وإن كان في أثناء صلاة أُخرى ، فتأمّل جيّداً.

وربما يشكل فيما لو كان عاصياً في أمر الصلاة الحادث في أثناء الأُخرى بناءً على صحّة الترتّب ، بأن يقال له : إن عصيت صلاة الآية فأتمّ الصلاة اليومية ، فلا ينحصر مفاد شرطية الموالاة بالاعادة كي يجري فيه حديث « لا تعاد ». ويمكن الالتزام بذلك على تقدير العصيان ، فيلزمه إتمام صلاته والموالاة في أفعالها ، وإنّما نقول بالسقوط في الرتبة السابقة على العصيان أعني رتبة توجّه الأمر بصلاة الآية ، فإنّه في تلك الرتبة لا يكون معنى لوجوب الموالاة إلاّوجوب الاعادة.

ثمّ إنّ ما بنى عليه الجماعة من عدم سقوط الموالاة ، وأنّ سقوطها في مورد

ص: 397

النصّ خاصّة وهو صلاة الآية ، ينبغي القول بأنّه لا يجوز له قراءة دعاء كميل أو السحر بين السجدتين ، أو بعد رفع الرأس من الركوع ، لكونه مفوّتاً للموالاة كالصلاة في ضمن الصلاة (1).

فائدة لا بأس بالحاقها بهذه المباحث وهي : أنّ كلّ جزء أو شرط جرى فيه حديث « لا تعاد » ، كان مقتضاه هو صحّة الصلاة مع نسيانه وعدم وجوب إعادتها ، ولكن ربما قام الدليل على أنّ الجزء الفلاني كالسجدة الواحدة وكالتشهّد يكون لنسيانه أثر شرعي آخر غير بطلان الصلاة ، وذلك الأثر هو وجوب قضائه بعد الصلاة مع سجود السهو ، أو هو مجرّد وجوب سجود السهو له ، كما في نسيان الفاتحة إن قلنا بوجوب سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة من الأجزاء ، وهذا النحو من الأجزاء لو وقع نسيانه طرفاً في العلم الاجمالي لما هو له أثر أيضاً ، كان ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً في ناحية ذلك الأثر أعني قضاء ذلك الجزء ، أو مجرّد سجود السهو له مع الأثر الآخر الذي لطرفه ، ولكن لا يكون وقوعه طرفاً لذلك العلم الاجمالي موجباً لإعادة الصلاة لو كان الطرف الآخر مثله ، كما لو علم إجمالاً بنسيان التشهّد أو نسيان سجدة واحدة ، إلاّ إذا كان ذلك الطرف الآخر ممّا يوجب الاعادة ، كما لو علم بنسيان التشهّد أو الركوع ، على بحث في مثل ذلك ممّا تردّد

ص: 398


1- ربما أشكل على ما أفاده قدس سره في ص 80 [ فوائد الأُصول 4 : 235 - 236 ] بقوله أوّلاً وثانياً : بأنّه لا معنى للجزء إلاّما تعلّق به الأمر في ضمن المجموع ، والمفروض أنّ الجزء الصوري موجود فيكون جزءاً من المأمور به. ثمّ إنّه بعد الاعتراف بكونه جزءاً ينبغي الاعتراف بكونه مأموراً به ، وقد تعرّض شيخنا قدس سره لذلك في مسألة اللباس [ في رسالة الصلاة في المشكوك : 400 وما بعدها ] ، وأوضحناه فيما حرّرناه عنه في هذه المسألة ، فراجع [ منه قدس سره ].

المتروك سهواً بين الركن وغيره.

أمّا إذا فرضنا أنّ ذلك الجزء أو ذلك الشرط الذي جرى فيه حديث « لا تعاد » لم يقم دليل على وجوب قضائه ولا سجود السهو له ، كما في نسيان الفاتحة لو قلنا بعدم وجوب سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة ، بل حصرناه في موارد خاصّة ، فإنّه لا أثر لوقوعه طرفاً للعلم الاجمالي المردّد بين نسيان القراءة ونسيان السجدة الواحدة ، ومثل هذه الأجزاء والشرائط كما لا أثر للعلم بنسيانها بعد الفراغ ، فكذلك لا أثر للشكّ في ذلك بعد الفراغ ، فلا تجري فيها قاعدة الفراغ كي تتعارض مع قاعدة الفراغ في السجدة الواحدة في المثال المذكور ، ومن هذا القبيل ما لو علم بعد الفراغ أنّه قدّم السورة على الفاتحة ، أو علم إجمالاً إمّا بذلك أو بترك سجدة واحدة.

والحاصل : أنّ جميع ما يجري فيه حديث « لا تعاد » ممّا لا أثر لنسيانه من قضائه بعد الصلاة أو سجود السهو ، نصطلح عليه بأنّه جزء أو شرط علمي أو ذكري ، ولا أثر لوقوعه طرفاً للعلم الاجمالي ، وكذلك ما يكون أثر نسيانه مجرّد سجود السهو ، فإنّه أيضاً جزء علمي أو ذكري وإن ترتّب الأثر على وقوعه طرفاً للعلم الاجمالي بتنجيز سجود السهو له.

نعم ، ما يكون أثر نسيانه قضاءه بعد الصلاة ، يمكننا القول بأنّه جزء واقعي لا علمي ، غايته أنّ محلّه تبدّل من أثناء الصلاة إلى ما بعدها ، وحينئذ تنحصر فائدة جريان حديث « لا تعاد » في هذا النحو من الأجزاء بهذه الجهة ، وهي تبدّل محلّه لا سقوط جزئيته ، فيكون مرجع حديث « لا تعاد » فيه إلى إسقاط شرطية كونه في أثناء الصلاة.

لا يقال : إنّه بناءً على ذلك لو لم يتذكّره إلى أن مات ينبغي القول ببطلان

ص: 399

صلاته ، وهو بعيد.

لأنّا نقول : لا بُعد في ذلك ، وهو نظير من نسي الركوع ولم يذكر ذلك حتّى مات ، بل هو نظير ما لو نسي الصلاة في وقتها ولم يتذكّر حتّى مات. نعم أثر ذلك كلّه هو وجوب القضاء عنه لو علم وليّه بذلك ، إن قلنا بوجوب القضاء على الولي في أمثال ذلك ممّا لم يكن متنجّزاً على الميّت.

ويمكن القول بعدم بطلان الصلاة حتّى مع عدم الموت ، إذ لا يكون المطلوب منه إلاّذلك الجزء. نعم هناك جهة أُخرى وهي أنّه بناءً على كونه جزءاً قد تأخّر ، هل يكون وقوع المنافي بينه وبين الصلاة مبطلاً أو لا يكون ذلك مخلاًّ ، هذا كلّه لو قلنا إنّه جزء تأخّر.

وأمّا لو قلنا بأنّه تكليف جديد نظير سجود السهو ، فلا ينبغي الريب حينئذ في كونه جزءاً علمياً ، فإنّ وجوب قضائه بعد الصلاة لا ينافي عدم كونه جزءاً منها ، وما أشبه هذه المسألة بمسألة كون القضاء تابعاً للأداء وكونه بأمر جديد ، فلاحظ.

وعلى أيّ حال ، أنّ ما لا أثر للعلم التفصيلي بنسيانه ، فلا أثر للعلم الاجمالي بنسيانه أو نسيان السجدة الواحدة ، فهو من أظهر مصاديق الشرط أو الجزء العلمي. ومن هذا القبيل الترتيب بين الفريضتين حيث إنّه لا أثر للعلم التفصيلي بنسيانه ، فلا أثر للعلم الاجمالي المردّد بين نسيانه ونسيان السجدة الواحدة ، ومن الواضح أنّ العلم الاجمالي لا يكون أقوى في التنجيز من العلم التفصيلي.

وإن شئت فقل : بعد فرض أنّه لا أثر لتركه نسياناً ، فأيّ أثر يكون هذا العلم الاجمالي منجّزاً له. ومن هذا القبيل ما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا قد أخفت في قراءة العشاء أو ترك سجدة واحدة منها ، أو أنّه علم إجمالاً بأنّه قد أخفت في إحدى

ص: 400

الأُوليين منها ، وكذلك لو علم بأنّه قد خالف الترتيب إمّا بين ظهره وعصره وإمّا بين مغربه وعشاه ، سواء كان ذلك بعد خروج الوقتين ، أو كان بعد خروج وقت الظهرين فقط.

والخلاصة : هي أنّه لو كان الجزء أو الشرط ممّا لا يترتّب الأثر على نسيانه ، ولا يكون للعلم التفصيلي بنسيانه أثر ، لم يكن وقوعه طرفاً للعلم الاجمالي منجّزاً لشيء ، سواء كان طرفه في ذلك العلم الاجمالي من سنخه ، أو كان ممّا له أثر كالقضاء وسجود السهو ، بل حتّى لو كان طرفه ممّا يوجب الاعادة ، كما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا قد خالف الترتيب بين المغرب والعشاء أو أنّه قد نقص من إحداهما ركوعاً ، أو علم إجمالاً بأنّه إمّا قد أخفت في مغربه أو أنّه نقص منها ركوعاً.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من أنّ ما جرى فيه حديث « لا تعاد » لا تجب الاعادة بعد تذكّره ، لا فرق فيه بين القول بسقوط جزئيته أو شرطيته في حال النسيان ، والقول بأنّه وإن كان جزءاً أو شرطاً ، إلاّ أنه لا يمكن تداركه باعادة الصلاة لفوات المصلحة ، أو لاحتمال أنّ الفاقد يكون في حال النسيان مشتملاً على صلاح يتدارك به صلاح الواجد ، فإنّ هذه الاحتمالات لا تضرّ بما كنّا بصدده من كون مفاد « لا تعاد » هو سقوط الاعادة ، ولازم ذلك أنّه لو كان طرفاً للعلم الاجمالي لم يكن ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً فيما لو كان لا أثر لنسيانه من قضاء أو سجود سهو. نعم هو على الوجه الأوّل يكون جزءاً أو شرطاً علمياً ، بخلافه على الاحتمالين الأخيرين.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بناءً على الوجه الثاني تكون المسألة من قبيل الشكّ في السقوط ، لأنّه قد تكلّف بالصلاة ، وعند إتيانه بها كانت مقرونة بذلك العلم

ص: 401

الاجمالي الراجع إلى التردّد بين سقوطها لأجل عدم قابلية التلافي وبين بقاء وجوبها مع إمكان التلافي بالاعادة ، كما لو تردّد بين أن يكون قد خالف الترتيب بين الصلاتين أو أنّه قد نقص ركوعاً ، ومقتضى أصالة الاشتغال والشكّ في السقوط هو الاعادة ، ولعلّ هذا آت فيما لو كان الطرف ممّا يقضى.

ولكن الذي يهوّن الخطب أنّ ذلك الأصل - أعني أصالة الاشتغال - محكوم بقاعدة الفراغ في جانب الركوع ، مع عدم جريانها في ناحية مخالفة الترتيب.

لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ وإن لم تجر في ناحية مخالفة الترتيب ، إلاّ أن أصالة الاشتغال جارية في ناحية الشكّ المزبور.

لأنّا نقول : لا مورد في هذه الناحية من الشكّ لأصالة الاشتغال ، لأنّه مع الشكّ في مخالفة الترتيب يكون الأمر معلوم السقوط ، إمّا بالامتثال بأن قد جاء بها على وفق الترتيب ، وإمّا بارتفاع الموضوع بأن جاء بها على خلاف الترتيب ، وأيّاً منهما كان يكون الأمر ساقطاً.

ثمّ إنّ هذا الاحتمال - أعني الاحتمال الثاني - احتمال صرف ، وهو خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها هو مجرّد عدم الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، كما يشهد بذلك وجوب قضاء بعض المنسيات ووجوب سجود السهو للبعض الآخر ، وهو ممّا يدلّ على سقوط الجزئية في ذلك الحال ، كما يستفاد ذلك من قوله عليه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّمن الركوع » (1) مثلاً ، فإنّ ظاهره إعطاء الأهمية للركوع دون باقي الأجزاء ، وأنّ الشارع يتسامح فيها عند تركها نسياناً ، ولو نزّلناها على الاحتمال الثاني كانت هي أعظم من الركوع تأثيراً ، واللّه العالم (2)

ص: 402


1- وسائل الشيعة 6 : 313 / أبواب الركوع ب 10 ح 5 ( مع اختلاف ).
2- 21 / رمضان / 1374 [ منه قدس سره ].

قوله : الأمر الثاني : لو تعذّر أحد القيود الوجودية أو العدمية - إلى قوله - إنّما الإشكال فيما هو الصحيح من الوجهين ... الخ (1).

ملخّص هذا التحرير هو الاشارة إلى أنّ الجزئية والشرطية والمانعية وبعبارة أُخرى القيدية ، هل لا تسقط بالتعذّر بناءً على كونها مطلقة وشاملة للتعذّر ومقتضاه سقوط الأمر بالمقيّد ، أو أنّها تسقط بذلك بناءً على اختصاصها بحال التمكّن ، ومقتضاه بقاء الأمر بالمقيّد. هذا فيما لا يكون التقييد مأخوذاً من التكليف بالقيد ، وأمّا لو كان مأخوذاً منه ، فقد قيل بخروجه عن محلّ النزاع ، إذ لا ريب في سقوط التكليف بذلك القيد بمجرّد تعذّره ، وبسقوط التكليف به تسقط قيديته ، فلابدّ من القول بوجوب الباقي. وعمدة همّ شيخنا قدس سره هو مقابلة هذا القول ، ببيان أنّ الأجزاء والشرائط لا يعقل انتزاعها من الأمر النفسي ، وإلاّ كانت واجباً مستقلاً في واجب ، بل لابدّ أن تكون منتزعة من الأمر الغيري وهو عين الجزئية والشرطية ، فيكون داخلاً في محلّ النزاع.

وأمّا المانعية فتارةً تكون منتزعة عن النهي الغيري بحيث لا يكون في البين حرمة نفسية ، فهي أيضاً عين المانعية التي هي عبارة عن اعتبار العدم في الصلاة ، وبذلك تكون داخلة في محلّ النزاع ، وأُخرى يكون في البين حرمة نفسية ، فإن كانت تلك المانعية وتلك الحرمة النفسية معاً معلولين للمفسدة الواقعية ، لم يكن سقوط الحرمة النفسية بالتعذّر موجباً لسقوط المانعية ، بل بقيت تلك المانعية داخلة في محلّ النزاع. نعم لو كانت المانعية معلولة لنفس تلك الحرمة النفسية ، سقطت بسقوطها ، وخرجت تلك المسألة عن محلّ النزاع. هذا لو كان النهي بمثل لا تصلّ في الحرير.

ص: 403


1- فوائد الأُصول 4 : 243 - 245.

وأمّا لو كان بمثل « لا تلبس الحرير في الصلاة » ، فإن كان النهي غيرياً مثل : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ، كان داخلاً في محلّ النزاع ، وإن كان النهي نفسياً كان من قبيل الأمر النفسي في ضمن الصلاة ، فيكون من قبيل الحرام في ضمن الواجب ، وهو لا يوجب المانعية إلاّبنحو مانعية مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية ، أعني عدم إمكان التقرّب بما قارن الحرام وإن كان من مجرّد كونه ظرفاً له.

قوله : وتوضيح ذلك : هو أنّ النهي النفسي الذي يقتضي المانعية إمّا أن يكون هو النهي في باب النهي عن العبادة ، كالنهي عن الصلاة في الحرير بناءً على أن تكون مانعية الحرير لمكان حرمة لبسه ، وإمّا أن يكون هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ مجرّد حرمة لبس الحرير لا يوجب المانعية ، ولذا لم يلتزموا بالمانعية في حرمة لباس الشهرة ، وحرمة لبس الرجال لباس النساء وبالعكس. أمّا حرمة نفس الصلاة مع لباس الحرير ، فإن حملنا النهي عن الصلاة مع الحرير على النهي الغيري ، كان ذلك النهي الغيري عبارة أُخرى عن المانعية ، لا أنّ لنا في البين حكماً آخر يكون في عرض ذلك النهي ، أو يكون معلولاً للنهي المذكور ، وحينئذ ففي مورد الاضطرار في مثل ذلك ، يكون داخلاً في محلّ البحث من أنّ تعذّر القيد هل يوجب سقوط المقيّد أو لا يوجب سقوطه.

وإن حملنا النهي المذكور على النهي النفسي ، لم يكن في البين إلاّحرمة الصلاة بلباس الحرير ، نظير حرمة الصلاة مع الحيض ، من دون أن يكون في البين مانعية شرعية ، بل لا يكون في البين إلاّتلك الحرمة النفسية المتعلّقة بنفس

ص: 404


1- فوائد الأُصول 4 : 244.

الصلاة ، الموجبة لخروجها عن مدلول الأمر بنحو التخصيص خروجاً واقعياً ، ولو تصوّرنا الاضطرار إلى مخالفة ذلك النهي كانت تلك الصلاة خارجة عن دليل النهي ، وذلك (1) لا يوجب دخولها في عموم الأمر ، لأنّها حينئذ كسائر الأفعال المحرّمة التي اضطرّ إليها.

والحاصل : أنّ الخارج هو الصلاة مع الحرير غير المضطرّ إليها ، ولا يكون في البين مانعية ولا ممنوعية ، ولا يلزم منه كون وجود أحد الضدّين علّة لعدم الآخر ، ولا كون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ، إلاّ إذا كان المدّعى هو كون عدم الأمر معلولاً لوجود النهي ، وكون عدم النهي علّة لوجود الأمر ، وذلك مبني على كون وجود أحد الضدّين علّة في عدم الآخر ، وكون عدمه علّة في وجود الآخر ، وهو خلاف ما حقّقوه في مسألة الضدّ.

نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّ إخراج الصلاة مع الحرير عن عمومات الصلاة يوجب قهراً تقيّد العام بما عداه ، كما حقّق في محلّه في باب العموم ، وإذا كان مركب الأمر بالصلاة هو الصلاة المقيّدة بعدم الحرير ، كان ذلك عبارة أُخرى عن المانعية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إخراج الصلاة مع الحرير لا يوجب تقيّد الصلاة بعدم الحرير ، بل إنّما يوجب تقيّدها بعدم الصلاة مع الحرير ، بمعنى أنّ الباقي تحت العام هو كلّ صلاة غير الصلاة مع الحرير ، فيكون القيد هو عدم الصلاة مع الحرير لا عدم الحرير ، وذلك لا يولّد المانعية ، وفيه تأمّل ، فتأمّل.

ولو قال : لا تلبس الحرير في الصلاة ، فإن كان النهي غيرياً كان داخلاً في

ص: 405


1- [ في الأصل كانت العبارة هكذا : وذلك عبارة أُخرى عن بقائها تحت عموم الأمر. والحاصل أنّ الخارج إلخ ، ولكنّ المصنّف قدس سره شطب عليها وأبدلها بالعبارة المذكورة أعلاه ، فلاحظ ].

محلّ النزاع ، وإن كان النهي نفسياً كان من المحرّم في أثناء الصلاة ، ولم يتولّد منه المانعية إلاّبنحو مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الثانية ، بدعوى أنّه لا يمكنه التقرّب بما كان مقروناً بالمحرّم وإن كان خارجاً عنه. وقد حرّرنا تفصيل هذه المباحث في مبحث النهي عن العبادة ، فراجعه (1).

ومن ذلك يتّضح لك الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، فإنّ نتيجته هي التعارض وتقديم جانب النهي ، لكون العموم فيه شمولياً ، ومقتضاه خروج مورد الاجتماع عن حيّز الأمر خروجاً واقعياً. وأمّا بناءً على الجواز من الجهة الأُولى فقد حقّق في محلّه (2) أنّ المسألة تدخل حينئذ في باب التزاحم ، ومقتضاه انحصار البطلان بصورة تنجّز النهي ، دون موارد عدم تنجّزه من الجهل والنسيان والاضطرار ، ولا معنى لعدم المندوحة إلاّ الاضطرار إلى الغصب الموجب لسقوط حرمته.

ومن ذلك يعلم أنّه بناءً على الامتناع من الجهة الثانية لا يكون المقام من قبيل التخصيص ، أعني خروج مورد الاجتماع عن دليل الوجوب ، بل لا يكون في البين إلاّمجرّد تقديم أحد المتزاحمين على الآخر.

ومن ذلك كلّه تعرف الخلل فيما أُفيد من قوله : أو أنّ وجود المندوحة لا يقتضي ذلك ، بل لابدّ من تقييد أحد الاطلاقين كما هو المختار الخ (3) ، إذ ليس ذلك

ص: 406


1- راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : 301 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : 89 ومابعدها ، وكذا الحواشي السابقة عليها واللاحقة لها.
3- فوائد الأُصول 4 : 248.

- أعني التقييد والتخصيص الواقعي - هو المختار لشيخنا الأُستاذ قدس سره ، بل هو قدس سره يقول ببقاء الاطلاق في كلّ منهما ، غايته أنّه يقع بين التكليفين تزاحم في مقام الامتثال ، فيلزم تقديم ما هو المقدّم في باب التزاحم ، وهو النهي فيما نحن فيه لعدم البدل له ، بخلاف الأمر فإنّه له البدل.

اللّهمّ إلاّ أن يراد من التقييد في هذا المقام التقييد العقلي الناشئ عن عدم القدرة ، باعتبار كون كلّ من التكليفين سالباً لقدرة المكلّف على الآخر ، في قبال قول المحقّق الثاني قدس سره بالصحّة في مورد الاجتماع من جهة الانطباق القهري ، فراجع المسألة في محلّها (1).

وبالجملة : أنّ هذا التحرير لا يخلو عن إجمال أو قصور ، وتمام توضيحها في محلّها أعني باب اجتماع الأمر والنهي ، فراجعه وتأمّل ، هذا ما كنّا نورد به سابقاً.

ولكن لا يخلو عن تأمّل وبحث ، والخلاصة : هي أنّه لا يتصوّر كون المانعية منتزعة عن النهي النفسي مع فرض كونهما عن ملاك واحد ، بل حينئذ يكون كلّ منهما في عرض الآخر ، ولا يكون سقوط أحدهما موجباً لسقوط الآخر ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في مانعية ما لا يؤكل بالقياس إلى حرمة الأكل.

ثمّ إنّ مثل قوله : لا تصلّ في الحرير ، يكون نسبته إلى قوله : صلّ ، نسبة المخصّص ، فيكون الخروج واقعياً ولا يؤثّر فيه الجهل والاضطرار ، فما معنى قولهم بالصحّة عند الجهل والاضطرار ، إلاّ أن يدّعى أنّ خروج الصلاة مع الحرير

ص: 407


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : 75 وما بعدها ، وكذا راجع الحاشيتين المتقدّمتين في المجلّد الثالث في الصفحة : 136 وما بعدها والصفحة : 144 وما بعدها.

عن عموم قوله صلّ ، ليس بالخروج الملاكي ، أعني أنّها لم تخرج إلاّمن جهة النهي عنها ، وحيث يسقط النهي بالاضطرار أو الجهل ، لا تكون الصلاة المذكورة خارجة عن العموم المذكور. نعم لو كان خروجها خروجاً ملاكياً نظير أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، لم يمكن الحكم بالصحّة عند الجهل والاضطرار. وبعبارة أُخرى : هل الخروج من باب التزاحم أو أنّه من باب التخصيص الواقعي ، وعبّر شيخنا قدس سره عن الأوّل بكون المانعية منتزعة وناشئة عن النهي النفسي ، وعن الثاني بكونهما معاً ناشئين عن ملاك واحد ، فلاحظ وتدبّر.

ولا يخفى أنّ مثل قوله : « لا تصلّ في الحرير » لابدّ أن يكون النهي فيه ناشئاً عن مفسدة في الصلاة في الحرير ، فتكون تلك المفسدة موجبة لعدم تأثير الصلاح في أصل الصلاة ، ويكون الخروج خروجاً ملاكياً وخطابياً لا خطابياً فقط ، فإنّ ذلك - أعني الخروج الخطابي فقط - إنّما يكون في التزاحم في مقام الامتثال ، كما في الأمر بالازالة مع الأمر بالصلاة ، وكما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى ، بخلاف مثل لا تصلّ في الحرير ونحوه بالقياس إلى عموم الأمر بالصلاة ، فإنّ التزاحم تزاحم ملاكي ، ويكون في مقام الجعل والتشريع لا في مقام الامتثال.

وهذا الإشكال هو الذي ينبغي التشبّث به في قبال ما أفاده في الكفاية (1) في تصحيح العبادة في مسألة الاجتماع عند الجهل والنسيان والاضطرار مع قوله بالامتناع من الجهة الأُولى ، وأمّا ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أنّ لازمه كون عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر ، فيمكن القول بعدم الالتزام بالمقدّمية ، بل

ص: 408


1- كفاية الأُصول : 175.
2- فوائد الأُصول 4 : 245 - 246.

يكفي فيه مجرّد المقارنة مع فرض كونهما معلولين لعلّتين ، فلاحظ.

قوله : إلاّ أن يثبت وجوبه بأمر آخر من أصل أو قاعدة على ما سيأتي بيانه ... الخ (1).

لا يخفى أنّه مع فرض كون دليل التقييد مطلقاً شاملاً لصورة تعذّر القيد الذي يكون مقتضاه سقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد ، يشكل الأمر في الحكم بوجوب الباقي استناداً إلى مثل الاستصحاب أو قاعدة الميسور ، فإنّ إطلاق دليل التقييد يكون دليلاً اجتهادياً على ثبوت التقييد في حال تعذّر القيد ، فيكون مقدّماً على الاستصحاب بلا شبهة ، بل يكون مقدّماً على مفاد قاعدة الميسور ، لأنّ مفادها هو أنّ كلّ قيد أو جزء هو ليس بجزء أو قيد في حال تعذّره ، فيكون إطلاق دليل التقييد في مثل « لا صلاة إلاّبطهور » أخصّ منه ، لاختصاصه بخصوص الطهور فيقدّم على مفاد القاعدة لكونه أخصّ منه.

وقد يقال : إنّه لا منافاة بين إطلاق دليل الجزئية وبين ما يكون مثبتاً لوجوب الباقي ، كالاستصحاب أو قاعدة الميسور ، فإنّ أقصى ما يدلّ عليه إطلاق دليل الجزئية هو سقوط الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب من الجزء المتعذّر وباقي الأجزاء ، أمّا سقوط الأمر بالباقي فلا يقتضيه إطلاق دليل الجزئية ، إذ لا ملازمة بين سقوط الأمر بالمجموع وبين سقوط الأمر بالباقي.

وفيه : ما لا يخفى ، لوضوح الملازمة بين إطلاق الجزئية لحال تعذّر الجزء وبين سقوط الأمر بالباقي ، لأنّ مقتضى الجزئية في حال تعذّر الجزء هو عدم كون الباقي مأموراً به.

والحاصل : أنّ سقوط الأمر بالمجموع إنّما هو لعدم القدرة عليه بعد فرض

ص: 409


1- فوائد الأُصول 4 : 250.

تعذّر جزئه ، وأمّا سقوط الأمر بالباقي فإنّما هو لكون ذلك الجزء في ذلك الحال جزءاً للمأمور به ، فإنّ مقتضاه هو أنّ الفاقد ليس بمأمور به. والحاصل أنّ منطوق إطلاق الجزئية لحال تعذّر الجزء هو ثبوت الجزئية في ذلك الحال ، ولازمه هو سقوط الأمر بالباقي ، ومنطوق قاعدة الميسور هو عدم سقوط الأمر بالباقي ، ولازمه عدم تحقّق الجزئية في ذلك الحال ، وبذلك يحصل التنافي ، لكن حيث كان مفاد لازم القاعدة أعمّ من مفاد منطوق إطلاق دليل الجزئية ، كان اللازم تخصيص لازم القاعدة بما هو مورد منطوق إطلاق جزئية مثل الركوع مثلاً.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مفاد القاعدة وإن كان أعمّ ، وكان مفاد إطلاق دليل الجزئية أخصّ ، إلاّ أن مفاد القاعدة مقدّم على مفاد الاطلاق لكونه حاكماً عليه.

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى إطلاق الجزئية وإن كان هو ثبوت الجزئية في حال تعذّر الجزء ، إلاّ أن قاعدة الميسور تقول إنّ هذا المأمور به المقيّد بذلك الجزء لا يسقط عند تعذّر جزئه ، فهي لا تنفي الجزئية ، بل تعترف بها ، لكنّها تقول حيث إنّ الباقي هو ميسور من ذلك المركّب التامّ ، فلا يسقط بسقوط ذلك المركّب هذا حال لسان القاعدة ، وإن كان مرجعه في اللب والواقع إلى إسقاط الجزئية ، إلاّ أنّه لمّا كان بلسان الاعتراف بها في ذلك الحال كانت مقدّمة عليه.

والحاصل : أنّ مفاد القاعدة هو أنّه بعد فرض ثبوت الجزئية وتحقّق مفاد إطلاق الجزئية تقول إنّه لا يكون سقوط الأمر بالمجموع موجباً لسقوط الأمر بالباقي.

ولكن لا يخفى ما في هذا المضمون من التناقض ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى التفصيل في كيفية تحكيم قاعدة الميسور في مورد إطلاق دليل القيد عند

ص: 410

تعرّضه له (1) ص 89 فلاحظه ولاحظ ما علّقناه هناك (2).

قوله : وهذا بخلاف الخطابات الغيرية المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ... الخ (3).

لا يخفى أنّ الأمر المتعلّق بالجزء مثل قوله اركع في الصلاة ، إمّا أن نحمله على الواجب في ضمن واجب فيخرج عن محلّ الكلام ، وإمّا أن نحمله على الأمر الغيري ، فلا يكون إلاّ إرشاداً لمدخلية متعلّقه في المأمور به ، فإنّا وإن قلنا بكون الجزئية منتزعة إلاّ أنها لا تنتزع من الأمر الغيري ، بل إنّما تنتزع من الأمر الضمني الحاصل في ضمن الأمر بالكل ، وهذا الأمر الضمني لا يبرز في نفسه إلى الانشاء بقالب مخصوص ، بل يكون متحقّقاً في ضمن الأمر بالكل ، غايته أنّ ذلك الأمر المتعلّق بالكل ينحلّ إلى أوامر متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، وبذلك صحّ لشيخنا الأُستاذ أن يقول إنّ الأمر الغيري المتعلّق بالجزء لا يكون إلاّ إرشاداً إلى مدخليته في المركّب ، لكن بعد البناء على أنّ الجزئية منتزعة عن ذلك الأمر الضمني ولو في ضمن الأمر بالكل ، يقع الكلام في ذلك الأمر الضمني المفروض تعلّقه بالجزء في ضمن تعلّق الأمر بالكل ، فيتوجّه الإشكال بأنّه كيف يمكن أن يكون مطلقاً شاملاً لحال عدم القدرة على متعلّقه.

ولابدّ من الجواب حينئذ بما أُفيد بقوله : فالقدرة إنّما تكون معتبرة في المجموع لا في الآحاد (4) ، على ما تقدّم تفصيله من أنّ القدرة ليست مأخوذة في

ص: 411


1- فوائد الأُصول 4 : 259 - 260.
2- راجع الحاشية الآتية صفحة : 455.
3- فوائد الأُصول 4 : 252.
4- فوائد الأُصول 4 : 253 ( مع اختلاف يسير ).

كلّ واحد من تلك الأوامر الضمنية أخذاً مستقلاً ، بل ليس في البين إلاّ الأمر بالمجموع ، وكون القدرة شرطاً عقلياً في ذلك الأمر المتعلّق بالمجموع ، ويكون معنى إطلاق الجزئية هو أنّ منشأ انتزاعها الذي هو ذلك الأمر الضمني غير مقيّد شرعاً بالقدرة ، في قبال ما تكون جزئيته بحسب الجعل الشرعي منحصرة بصورة التمكّن منه ، أو يكون المراد من الاطلاق هو إطلاق الملاك وإن سقط الخطاب بواسطة عدم القدرة (1) ، إلى آخر ما تقدّم في مسألة النسيان (2) فراجع.

ولكن (3) قد يقال : إنّه قدس سره بعد أن بنى على [ أنّ ] الجزئية ليست مجعولة ابتداءً ، وإنّما تكون منتزعة من تعلّق الأمر النفسي بالمجموع ، وأنّ هذا الأمر النفسي وإنّ انحلّ إلى أوامر نفسية ضمنية متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، إلاّ أنه ليس لكلّ من تلك الأوامر النفسية اشتراط بالقدرة على حدة ، وإنّما يكون المشروط بالقدرة هو الوجوب النفسي المنبسط على الجميع ، فبتعذّره أو تعذّر بعض أجزائه يكون ذلك المجموع غير مقدور ، فيسقط الأمر به ، وحينئذ لو ثبت وجوب الباقي كان ذلك من قبيل المرتبة الثانية لذلك الوجوب.

وهكذا الحال لو دلّ دليل على أنّ ذلك الأمر بالمجموع مشروط بالقدرة على الركوع مثلاً ، وأنّه عند تعذّره يسقط الأمر بالمجموع المؤلّف من الركوع وغيره ، لكن مع ذلك يكون الأمر بالباقي بحاله ، على وجه يكون ذلك الدليل دالاً على أنّ الأمر بالباقي يبقى بحاله ، كان لازمه سقوط جزئية الركوع ، فلا يكون

ص: 412


1- وفي الأوّل تأمّل [ منه قدس سره ].
2- في الصفحة : 349 وما بعدها.
3- [ هذه المطالب إلى آخر الحاشية كتبها المصنّف قدس سره في أوراق منفصلة وأمربالحاقها بهذه الحاشية ].

الساقط إلاّ المرتبة الأُولى من ذلك الوجوب ، وذلك كما لو ورد الأمر بالباقي عند تعذّر الركوع مثلاً.

وعلى كلّ حال ، لا يكون سقوط المرتبة الأُولى من ذلك الطلب دالاً على سقوط المرتبة الثانية ، ويكون الحاصل أنّ ما يدلّ على كون الركوع جزءاً حتّى في حال تعذّره ، كاشف عن أنّ الأمر المتعلّق بالمجموع منه ومن غيره ليس مقيّداً شرعاً بالقدرة ، وإن كان العقل حاكماً بذلك التقييد ، بمعنى أنّه يحكم بسقوط الأمر خطاباً لا ملاكاً ، فلا يكون الاطلاق المذكور دالاً إلاّعلى سقوط المرتبة الأُولى ، في قبال ما لو دلّ دليل على كون ذلك الأمر بالمجموع مقيّداً بالقدرة على الركوع فإنّه لو وجد لنا مثل ذلك الدليل كان مقتضاه وجود مرتبة ثانية من ذلك الطلب ، وهي الوجوب المتعلّق بما عدا الركوع في مورد تعذّر الركوع ، ولو لم يوجد لنا مثل ذلك الدليل الخاصّ لم يكن دالاً على نفي تلك المرتبة الثانية ، بل كان من قبيل عدم الدليل عليها ، وحينئذ يكون باب الرجوع إلى القاعدة أو الاستصحاب منفتحاً ، فلا يكون ذلك الاطلاق مانعاً منها.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المرتبة الثانية تعدّ مغايرة للمرتبة الأُولى ، فلا يمكن إثباتها بقاعدة الميسور فضلاً عن الاستصحاب فتأمّل ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة البراءة لا أصالة الاشتغال.

وهنا إشكال ، وهو أنّه كيف يتصوّر الاطلاق في الجزئية ، وقد ذكرنا في باب النسيان (1) وجوهاً ثلاثة :

الأوّل : إطلاق الأمر الضمني. لكن قلنا إنّه لا يعقل أن يكون الأمر بالركوع الذي هو الأمر النفسي الضمني شاملاً لحال تعذّره ، ويزيده إشكالاً ما أفاده قدس سره من

ص: 413


1- في الصفحة : 349 وما بعدها.

أنّه ليس للأمر الضمني قدرة على حدة حتّى يكون مطلقاً أو مقيّداً بالقياس إليها.

الثاني : إطلاق نفس الجزئية ، بدعوى أنّها وإن كانت انتزاعية إلاّ أنها لا تخرج بذلك عن كونها حكماً شرعياً قابلاً للاطلاق والتقييد. وفيه تأمّل ، لأنّها وإن سلّمنا أنّها من الأحكام الوضعية الشرعية ، إلاّ أنها لمّا كانت منتزعة عن التكليف فهي تابعة في الاطلاق والتقييد لمنشأ انتزاعها ، فلا يعقل سقوط منشأ انتزاعها مع بقائها بحالها.

الثالث : إطلاق الأمر بالمجموع إطلاقاً ملاكياً ، وإن سقط خطاباً بواسطة عدم القدرة على بعض أجزائه ، وهذا الاطلاق الملاكي كاشف عن عدم اشتمال الفاقد على الملاك ، فيكشف عن عدم وجوب الباقي.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا كان مشتملاً على الملاك في الجملة ولو بعضه ، كان ذلك الملاك كافياً في وجوبه وإن لم يكن وافياً بتمام الملاك ، لكن فيه تأمّل ، فراجع ما حرّرناه في باب اقتضاء الأوامر الاضطرارية للإجزاء (1).

هذا كلّه لو لم يكن في البين مثل قولهم عليهم السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (2) ممّا يدلّ على توقّف الملاك على وجود ذلك القيد أو ذلك الجزء ، وإلاّ كان مثل هذا الدليل دليلاً اجتهادياً على أنّ الأمر بالصلاة ليس له إلاّمرتبة واحدة ، وأنّ الصلاة عند تعذّر ذلك القيد ساقطة ، فلا يبقى مجال للرجوع إلى أصل البراءة ولا الاشتغال ولا لقاعدة الميسور أو الاستصحاب.

ومع هذا كلّه فالمسألة غير خالية من الإشكال ، فإنّا في باب الجزئية

ص: 414


1- راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : 356 وما بعدها ، وكذا راجع الصفحة : 395 وما بعدها من المجلّد نفسه.
2- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

والشرطية لا نقول إلاّبجعل الأمر متعلّقاً بالمجموع ، فلا جزئية ولا شرطية إلاّ عبارة عمّا ينتزعه العقل من تعلّق الأمر بالمجموع المركّب من الأجزاء والشرائط ، ومقتضى تعلّق الأمر بذلك المجموع هو سقوطه بتعذّر بعضها ، ولا يثبت وجوب الباقي إلاّبدليل خاصّ ، وعلى تقديره لا يكون ذلك الوجوب المتعلّق بالباقي إلاّ مرتبة ثانية ، فلا يمكن إثباتها بالاستصحاب ، نعم يمكن إثباتها بقاعدة الميسور ، أمّا إطلاق دليل الجزئية أو تقييده ، فلا يكون له أساس أصلاً بناءً على ما ذكرناه من أنّه ليس المجعول إلاّ الأمر المتعلّق بالمجموع. هذا ما حرّرناه سابقاً على ما علّقناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ قوله : فلا إشكال في أنّه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولوي وإلاّ خرجت عن كونها غيرية ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة إنّما تعتبر أيضاً في المجموع لا في الآحاد ، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع الخ (1) ، صريح في سدّ باب تقييد وجوب الجزء في نفسه مع قطع النظر عن وجوب الكل بالقدرة ، وحينئذ فلو قلنا إنّه لا معنى للجزئية إلاّما ينتزع عن التكليف الوارد على الكل ، كما هو رأيه ورأي صاحب الكفاية قدس سرهما (2) من أنّها - أعني الجزئية - ليست بمجعولة ، وإنّما المجعول منشأ انتزاعها الذي هو في الحقيقة عبارة عن الأمر النفسي الضمني الحاصل في ضمن الأمر بالمجموع ، لأشكل علينا تصوّر ما تقدّم من الأقسام المتقدّمة ، أعني كون القيدية المستفادة من الدليل المنفصل مطلقة تارةً ، ومقيّدة بحال القدرة أُخرى ، ومجملة ثالثة.

ص: 415


1- فوائد الأُصول 4 : 253.
2- كفاية الأُصول : 401 - 402.

نعم ، لو قلنا إنّ الجزئية والشرطية مجعولة بنفسها ، صحّ انقسامها إلى هذه الأقسام ، أمّا بعد أن قلنا إنّها غير مجعولة ، وأنّ المجعول هو منشأ انتزاعها وهو ذلك التكليف النفسي الضمني ، فلا محيص من القول بأنّ القابل للاطلاق والتقييد هو منشأ انتزاعها ، في قبال إطلاق نفس الأمر بالأصل وإهماله على ما مرّ من الأقسام الأربعة (1)

ص: 416


1- [ وجدنا هنا ورقة منفصلة لم يتّضح لنا موضعها بالدقّة ، ارتأينا إدراجها في الهامش ]. قال في الكفاية ] : 369 - 370 ] : الرابع أنّه لو علم بجزئية شيء ، أو شرطيته في الجملة ، ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه ، فيسقط الأمر بالعجز عنه على الأوّل ، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به ، لا على الثاني ، فيبقى متعلّقاً بالباقي ، ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين من إطلاق دليل اعتباره جزءاً أو شرطاً ، أو إطلاق دليل المأمور به ، مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقلّ العقل بالبراءة عن الباقي ، فإنّ العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان - إلى أن قال - نعم ربما يقال بأنّ قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي - إلى أن قال - كما أنّ وجوب الباقي في الجملة ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله صلى اللّه عليه وآله : إذا أمرتكم الخ [ عوالي اللآلي 4 : 58 / 206 ( مع اختلاف يسير ) ، بحار الأنوار 22 : 31 ]. فجعل مورد الاستصحاب وقاعدة الميسور بعد البراءة منحصراً بصورة الاجمال ، وقال شيخنا قدس سره في هذه الصورة بالبراءة ، إلاّ إذا قلنا بجريان الاستصحاب. وقال شيخنا قدس سره في صورة إطلاق دليل التقييد إنّ مقتضاها سقوط الباقي ، إلاّ أن يثبت وجوبه بأمر آخر من أصل أو قاعدة على ما سيأتي ، وزاد على هذه الصور الأربع ما إذا كانت الجزئية مستفادة من تعلّق الأمر بالمركّب ، وأنّ حكمها هو السقوط عند تعذّر بعض الأجزاء ، إلاّ إذا كان هناك أمر آخر يتعلّق بالباقي بعد سقوط الأمر الأوّل ، وسيأتي البحث عنه في المقام الثاني الذي هو بحث عن الاستصحاب وقاعدة الميسور. قال في الكفاية في مبحث الواجب الموقت : ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدّد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلاّ أنه لابدّ في إثبات أنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلاّفيما عرفت [ كفاية الأُصول : 144 ].

ولابدّ حينئذ في دفع الإشكال من أن يقال : إنّ كلّ ما هو من الأدلّة المنفصلة المتضمّنة لأنّ الركوع مثلاً معتبر في الصلاة ، أو أنّه جزء منها ، أو قوله : اركع في صلاتك ، أو قوله : لا صلاة إلاّبركوع ، كلّ هذه الألسنة تومئ إلى مفاد واحد ، وهو كون الركوع مأموراً به نفسياً ضمنياً في ضمن الأمر بالصلاة ، وحينئذ فلو قلنا إنّ الركوع جزء في الصلاة إذا تمكّنت منه وقدرت عليه ، كان محصّله هو أنّ كون الركوع مأموراً به في ضمن الأمر بالصلاة مشروط بالقدرة عليه ، فلو لم يكن الركوع مقدوراً لم يكن مأموراً به في ضمن الأمر بالصلاة ، وكان الأمر بها منبسطاً على ما عداه من أجزائها ، على وجه أنّ ملاك الأمر النفسي الضمني الذي هو كونه في حدّ نفسه ذا صلاح ، وأنّ صلاح باقي الأجزاء متوقّف على إيجاده في ضمنها ، لا يكون موجوداً عند عدم القدرة ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون من التكاليف مشروطاً شرعاً بالقدرة ، من أنّه عند عدم القدرة عليه يكون ملاكه وخطابه ساقطاً ، وإذا تحقّق سقوط الأمر الضمني بالركوع خطاباً وملاكاً عند عدم القدرة عليه ، كان

ص: 417

محصّله وجوب الباقي وعدم توقّف ملاكها على حصوله ، وحينئذ فتكون الصلاة صحيحة عند عدم الركوع الناشئ عن عدم القدرة عليه.

ويقابل هذا التقييد إطلاق ذلك الدليل الدالّ على جزئية الركوع ، الكاشف عن أنّ منشأ انتزاع تلك الجزئية للركوع وهو التكليف الضمني لا يكون مقيّداً بالقدرة ، بل يكون شاملاً لمورد القدرة عليه وعدم القدرة عليه ، وليس ذلك عبارة عن شمول الخطاب بالركوع في ضمن الأمر بالصلاة لمن هو غير قادر عليه ، لعدم إمكان خطاب غير القادر ، بل إنّه عبارة عن كون ملاك ذلك الأمر الضمني بالركوع الذي هو صلاحه وتوقّف صلاح البواقي على وجوده مطلقاً شاملاً لمورد القدرة عليه وعدم القدرة ، ويكون حال الأمر بالمجموع المنبسط على الركوع وغيره حال بقية الأوامر في كونها غير مقيّدة شرعاً بالقدرة على متعلّقها ، وكونها من حيث الملاك مطلقة شاملة للمقدور وغيره ، وأنّه لم يسقط بواسطة عدم القدرة إلاّ الخطاب ، ويكون تقييد ذلك الخطاب بمورد القدرة على متعلّقه تقييداً عقلياً لا شرعياً ، وإذا ثبت إطلاق ملاك الأمر الضمني بالركوع ، أعني أنّه كان توقّف مصلحة الأجزاء الباقية على وجود الركوع توقّفاً مطلقاً ، سواء كان الركوع مقدوراً أو غير مقدور ، كان ذلك عبارة أُخرى عن عدم صحّة الصلاة عند عدم الركوع ، ولو كان انعدامه لأجل عدم القدرة عليه.

وحينئذ لا تكون تلك البواقي مأموراً بها في ذلك الحال ، أعني حال عدم القدرة على الركوع ، لعدم الصلاح فيها في ذلك الحال ، فلا وجه حينئذ لتصوّر أمر جديد متعلّق بها ، سواء كان من دليل مستقل أو من قاعدة الميسور.

وبالجملة : أنّه مع قيام الدليل على أنّه لا مصلحة في البواقي عند تعذّر الركوع لا يعقل أن تكون مأموراً بها ، سواء كان ذلك بأمر جديد لأجل دليل

ص: 418

خاصّ ، أو كان بابقاء الأمر السابق المتعلّق بها في ضمن تعلّق الأمر بالمجموع منها ومن الركوع استناداً إلى استصحاب ذلك الأمر ، أو كان بابقاء الأمر بالكل استناداً إلى استصحابه أو إلى قاعدة الميسور بنحو من التسامح ، فإنّ هذه الوجوه كلّها إنّما تتصوّر فيما لو كان دليل الجزئية مجملاً مردّداً بين التقييد والاطلاق المذكورين ، أمّا لو كان مطلقاً فقد عرفت حكمها.

ومنه يظهر لك الحال فيما لو كان دليل التقييد مقيّداً بحال التمكّن ، فإنّه يكون كدليل اجتهادي على وجوب الباقي عند تعذّر القيد ، سواء كان دليل المقيّد مطلقاً أو كان مجملاً.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم الصورة [ الثانية ] وهي كون الأمر الضمني بالركوع مطلقاً بالنسبة إلى كونه مقدوراً وكونه غير مقدور ، هو كون الأمر المتعلّق بالمجموع مطلقاً من حيث القدرة على الركوع وعدمها ، وذلك واضح.

كما أنّ لازم الصورة الأُولى ، وهي صورة تقييد الأمر الضمني بالركوع بالقدرة عليه ، هو تقييد الأمر بالمجموع منه ومن الباقي بتلك القدرة ، ولازم ذلك هو سقوط الأمر بذلك المجموع عند عدم القدرة على الركوع ، إلاّ أن ذلك لا ينافي الأمر بما عدا الركوع من ذلك المجموع ، بالنظر إلى أنّ صلاحها لا يتوقّف في حال عدم القدرة على الركوع على وجود الركوع ، فإنّ كون انتفاء الأمر بالمجموع لأجل انتفاء قيده لا يدلّ على وجوب الباقي ، إنّما هو فيما يكون من قيود الأمر بالمجموع الراجعة ابتداءً إلى نفس الأمر بالمجموع ، أمّا قيوده الناشئة عن تقيّد انبساطه على الركوع ، بأن كان المقيّد هو انبساط الأمر بالمجموع على الركوع ، فلا يكون موجباً إلاّلانتفاء انبساطه على الركوع ، وإن صحّ لنا أن نقول إنّه قد انتفى الأمر بالمجموع ، فإنّه بمعنى أن قد انتفى المجموع من حيث المجموع. وبعبارة

ص: 419

أوضح : أنّ المنتفي هو الانبساط على الركوع لا ذات الأمر ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ خلاصة التقييد المذكور هو أنّ صلاح الأمر بالمجموع إنّما يتوقّف على وجود الركوع على وجه يقتضي كون الركوع مأموراً به في ضمن الأمر بالمجموع منحصر بصورة التمكّن من إيجاد الركوع ، أمّا مع عدم التمكّن منه فلا تكون المصلحة في ذلك المجموع موقوفة على وجود الركوع ، بل يكون ذلك المجموع ذا مصلحة في ذلك الحال ، أعني حال عدم الركوع الناشئ عن عدم القدرة عليه ، فيكون المجموع مأموراً به مع فرض عدم الركوع في ضمنه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الباقي مأموراً به ، وذلك نظير وجوب الركعتين الأخيرتين في ضمن وجوب صلاة الظهر على الحاضر ، مع عدم وجوبهما في ضمن ذلك الوجوب على المسافر. ومن ذلك يظهر لك أنّ هذه الطريقة لو تمّت فليست هي من قبيل تعدّد المطلوب ، بل هي من قبيل تنويع المكلّفين.

ولا يخفى أنّ طريقة تعدّد المطلوب وإن كانت أسهل من هذه الطريقة ، إلاّ أنّها تتمّ فيما لو كان في البين واجب أصلي يكون هو المطلوب الأوّلي ، ويكون باقي الأجزاء وتقيّده بها مطلوباً ثانوياً مقيّداً بالقدرة عليه ، دون ما لو كان وجوب كلّ واحد من الأجزاء مقيّداً بالقدرة عليه.

اللّهمّ إلاّ أن نجعل ما هو المطلوب الأصلي هو آخر درجات صلاة المضطرين ، وهي مجرّد النيّة والتوجّه إليه تعالى ، وباقي الأجزاء والشرائط مطلوباً ثانوياً مقيّداً بالقدرة عليه.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم طريقة التقييد المزبورة ، بل لازم طريقة تعدّد المطلوب أيضاً ، هو كون وجوب جميع الأجزاء والشرائط التي دلّ الدليل على سقوطها بالتعذّر من قبيل ما هو المشروط بالقدرة الشرعية ، وحينئذ يشكل الأمر فيما لو

ص: 420

فرض مزاحمة بعضها لبعض ، فما هو المقدّم ، وفيما لو زاحمها غيرها من الواجبات الأُخر ، مثل ما لو زاحمت إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً لبعض تلك الأجزاء ، فما هو المقدّم من ذلك ، وقد تعرّضنا لذلك في باب التزاحم ، ولا يبعد القول بسقوط تلك الأجزاء فيما لو زوحمت بمثل إزالة النجاسة عن المسجد ، فيما لو كان الوقت ضيّقاً لا يسعهما ، دون ما لو كان وقت الصلاة واسعاً ، فإنّ وجوب أجزائها يتحوّل إلى ما بعد هذا الفرد المزاحم على ما أوضحناه في باب التزاحم (1) ، فراجع.

وبتقريب أوضح : أنّه إذا لم يكن لنا إلاّمصلحة واحدة قائمة بالمجموع من الأجزاء والركوع ، أو كان لما عدا الركوع مصلحة خاصّة ، لكنّها متوقّفة على ضمّ الركوع إليها توقّفاً مطلقاً حتّى في حال عدم القدرة على الركوع ، لم يكن لنا في مقام الثبوت إلاّوجوب واحد متعلّق بالمجموع ، ولا وجه لوجوب آخر يتعلّق بما عدا الركوع عند عدم التمكّن منه ، إلاّ إذا كانت هناك مصلحة أُخرى فيما عدا الركوع تحدث عند تحقّق العجز عن الركوع ، مع فرض أنّه ليس في المجموع المركّب إلاّمصلحة واحدة قائمة بالمجموع ، وهذه الصورة المستثناة هي الصورة الثالثة.

أمّا لو كان لما عدا الركوع مصلحة خاصّة ، وكانت تلك المصلحة متوقّفة على وجود الركوع ، لكن ذلك التوقّف منحصر بما إذا تمكّن المكلّف من الركوع ، أمّا إذا لم يتمكّن منه فلا تكون مصلحة ما عداه متوقّفة على وجوده ، كان لنا في مقام الثبوت وجوبان ، أوّلي وهو المتعلّق بما عدا الركوع ، وثانوي وهو وجوب المجموع في خصوص حالة التمكّن من الركوع ، فيكون الحاصل هو إيجاب ما

ص: 421


1- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 140 و 179 و 273.

عدا الركوع ، ثمّ إيجاب الصلاة مع الركوع عند التمكّن منه ، وهو محصّل تعدّد المطلوب ، ويكون وجوب المجموع المركّب من الركوع مشروطاً بالقدرة الشرعية على الركوع.

ولو كان الواقع بالعكس ، بأن كانت المصلحة الأوّلية منوطة بالركوع ، بمعنى أنّ لنا مصلحة واحدة قائمة بالمجموع المركّب من الركوع ، لكن لو عجز عنه كانت هناك مصلحة أُخرى ثانوية قائمة بما عداه ، كان محصّله هو وجوب الصلاة مع الركوع ، وإذا عجز عنه كان الواجب هو ما عدا الركوع ، وفي هذه الصورة يمكن القول بأنّ الوجوب الوارد أوّلاً على الصلاة مع الركوع غير مشروط بالقدرة الشرعية ، ويكون الوجوب الوارد على ما عداه مشروطاً بالعجز عن الركوع (1).

وقالب الصورة الأُولى هو أن يقول : صلّ مع الركوع مطلقاً ، وقالب الصورة الثانية هو صلّ وإن تمكّنت من الركوع فصلّ مع الركوع ، على وجه يكون كونها مع الركوع مقيّداً بحال التمكّن منه ، وقالب الصورة الثالثة هو صلّ مع الركوع وإن عجزت عنه فصلّ بلا ركوع ، هذا هو ما يتصوّر في مقام الثبوت.

وربما كان الواصل إلينا في مقام الاثبات هو أحد هذه القوالب ، وربما لم يصل إلينا شيء من هذه القوالب ، ولكن يكون الواصل إلينا هو قوله : صلّ ، مع وجود دليل آخر يقول : إنّ الركوع جزء من الصلاة ، أو أنّه واجب في الصلاة ، أو نحو ذلك من الأدلّة اللفظية ، التي لا يكون محصّلها إلاّ الاشارة إلى ذلك الأمر النفسي الضمني الوارد على الركوع في ضمن الأمر الوارد على الصلاة ، فإن كان

ص: 422


1- ولا يخفى أنّ في هذه الصورة كما يتأتّى الاحتمال المذكور ، فيمكن أن يتأتّى في الصورة الأُخرى أعني القيدية المطلقة ، بأن يحتمل عند انتفاء قيد المصلحة الأُولى حدوث مصلحة جديدة [ منه قدس سره ].

ذلك الدليل مقيّداً بحال التمكّن منه تنزّل على الصورة الثانية التي يكون مقتضاها وجود الأمر بما عداه عند عدم التمكّن ، وإن كان مطلقاً نزّلناه على الصورة الأُولى التي يكون مقتضاها عدم وجوب الباقي عند تعذّر الركوع ، إلاّ إذا دلّ دليل آخر على وجوبه الكاشف عن حدوث مصلحة جديدة تتعلّق بالباقي عند تعذّر الركوع ، ومع احتمال ذلك يكون المرجع هو البراءة ، وهذه هي الصورة الثالثة المختصّة بما إذا كانت مصلحة المجموع مصلحة واحدة قائمة بالمجموع ، فإنّها هي القابلة لاحتمال حدوث مصلحة جديدة تحدث عند العجز عن الركوع ، بخلاف الصورة الثانية من صورتي الأُولى ، أعني ما لو كان لخصوص ما عدا الركوع مصلحة خاصّة متوقّفة على الركوع توقّفاً مطلقاً ، فإنّها لا مجال فيها لاحتمال الأمر بالباقي بعد تعذّر الركوع كي نحتاج فيها إلى أصالة البراءة.

وبالجملة : مع إطلاق الدليل إن نزّلناه على الصورة الأُولى من الصورة الأُولى ، كان معه مجال لاحتمال التكليف بالباقي عند تعذّر الركوع ، بخلاف ما لو نزّلناه على الثانية منهما ، ولو دار الأمر بينهما كان للبراءة مجال أيضاً ، ولو كان ذلك الدليل مجملاً كان أيضاً للبراءة مجال ، فلاحظ وتدبّر (1)

ص: 423


1- ولكن يمكن تأتّي هذا الاحتمال حتّى على الثانية ، فإنّ مصلحة ما عدا الركوع وإن توقّفت توقّفاً مطلقاً على الركوع ، إلاّ أنه من الممكن أن تحدث لما عدا الركوع مصلحة مختصّة بحال تعذّره تكون علّة في إيجابه ، وحينئذ تستوي الصورتان في هذا الاحتمال ، فينفتح باب الرجوع إلى البراءة في كلّ منهما. وحيث قد ظهر لك أنّه عند كون القيدية مطلقة بكلّ من صورتيها ، يحتمل وجوب الباقي بوجوب جديد لمصلحة جديدة حادثة عند تعذّر الركوع مثلاً ، فيرجع في ذلك إلى أصالة البراءة ، تعرف أنّه عند تردّد الأمر بين كون القيدية مطلقة وكونها مقيّدة بحال التمكّن من الركوع ولم يكن لأصل الأمر إطلاق ، يكون وجوب الباقي محتملاً فينفى بالبراءة ، وإن كان على تقدير كون القيدية مقيّدة يكون وجوب الباقي غير حادث ، بل يكون موجوداً من أوّل الأمر ، لكنّا لمّا كنّا نحتمل إطلاق القيدية الملازم لعدم وجوب الباقي من أوّل الأمر ، وأنّه لو كان في البين وجوب في الباقي لكان حادثاً ، وأنّ ذلك ليس بملازم لاطلاق القيدية ، بل كان من باب الاحتمال ، كان وجوب الباقي عند التردّد في القيدية بين الاطلاق والتقييد مع فرض عدم إطلاق الأمر الأصلي مردّداً بين كونه موجوداً من أوّل الأمر ، وكونه حادثاً بحدوث تعذّر الركور. وبين العدم بحيث لا يكون موجوداً من أوّل الأمر كما هو قضية تقييد القيدية ، ولا حادثاً بحدوث العجز عن الركوع كما هو أحد الاحتمالين في إطلاق القيدية ، فأصالة البراءة تنفي كلاً من الاحتمالين أعني احتمال قيدية التقييد واحتمال الحدوث على تقدير إطلاق التقييد ، وتعيّن الاحتمال الآخر في إطلاق التقييد ، وأنّه عند تعذّر الركوع يسقط الأمر بالمركّب ولا يحدث وجوب جديد للباقي عند تعذّر الركوع. نعم يبقى الكلام في جريان قاعدة الميسور في مورد ثبوت إطلاق دليل التقييد ، وسيأتي [ في الصفحة : 455 ] إن شاء اللّه تعالى الكلام عليه عند تعرّضه له في ص 89 [ منه قدس سره ].

وتوضيح الأقسام : أنّه لو كان لما عدا الركوع مصلحة تخصّه ، لكنّها كانت متوقّفة على وجود الركوع توقّفاً مطلقاً ، كان مقتضاه الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع بقول مطلق ، وهذه هي الصورة الأُولى. وإن كان التوقّف المذكور منحصراً بصورة التمكّن من الركوع ، كان مقتضاه هو الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع إن تمكّن منه ، وإلاّ كان مأموراً بما عداه ، وهذه الصورة الثانية.

ولا مورد للبراءة في هاتين الصورتين. نعم يمكن احتمال ذلك في الصورة الأُولى ولو بعيداً ، بأن تكون هناك مصلحة أُخرى في الباقي تحدث عند عدم التمكّن من الركوع ، غير تلك المصلحة التي كانت مقيّدة مطلقاً بوجود الركوع.

وأمّا لو لم يكن في البين إلاّمصلحة قائمة بالمجموع ، كان مقتضاه الأمر

ص: 424

بالمجموع من دون تقييد بالقدرة على الركوع ، كما هو الحال في الصورة الأُولى ، إلاّ أنّه في هذه الصورة التي هي الصورة الثالثة ، لا مانع من وجود مصلحة أُخرى تحدث عند العجز عن الركوع ، توجب أمراً جديداً متعلّقاً بالصلاة ما عدا الركوع مقيّداً بالعجز عن الركوع ، وعند احتمال ذلك يكون المرجع هو البراءة.

وحينئذ نقول : لو كان دليل الجزئية مطلقاً نزّلناه على الصورة الأُولى ، ويمكن دخول الصورة الثالثة فيه. ولو كان مقيّداً بحال التمكّن من الركوع نزّلناه على الصورة الثانية ، ويمكن أن تدخل فيه الثالثة عند حدوث مصلحة جديدة تقتضي إيجاباً جديداً للباقي ، فتأمّل.

والخلاصة في توجيه إطلاق الجزئية والشرطية ، أو تقييدهما بصورة القدرة بناءً على عدم جعل الجزئية والشرطية وإنكار التقييد في الأوامر الغيرية ، بل إنكاره في الأوامر النفسية الضمنية كما يستفاد من قول شيخنا قدس سره : فالقدرة إنّما تعتبر أيضاً في المجموع لا في الآحاد الخ (1) ، هو أن يقال : إنّه لو أُمر المكلّف بالصلاة ثمّ قيل له : صلّ متطهّراً ، الذي هو عبارة عن الأمر بالمجموع المركّب من الصلاة والطهارة لها ، فهذا القول - وهو قوله : صلّ متطهّراً - يدلّ على مدخلية الطهارة في ملاك الصلاة على وجه لا ملاك لها ولا يؤمر بها لو كانت فاقدة للطهارة ، فلو ألحقه بقوله : إن كنت قادراً على الطهارة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه إن لم يكن قادراً على الطهارة لم يكن مأموراً بالصلاة متطهّراً ، وسقط ذلك الأمر خطاباً لا ملاكاً ، لكن لو جاء بالصلاة فاقدة للطهارة في ذلك الحال أعني في حال تعذّرها ، لم تكن خالية من الملاك ، لأنّ توقّف ملاكها وتوقّف الأمر بها على وجود الطهارة مشروط بالقدرة ، فلو كان هناك إطلاق في الأمر الأوّل أعني قوله صلّ ، كان كافياً في

ص: 425


1- فوائد الأُصول 4 : 253.

وجوب الباقي ، وإن لم يكن لنا ذلك الاطلاق ، كان المرجع إلى مثل قاعدة الميسور ، ولكن يكون ذلك الأمر بالباقي أمراً جديداً ، وكذا لو كانت الصلاة في نفسها خالية من الملاك ، وكان حدوث الملاك لها بانضمام الطهارة إليها في خصوص كون الطهارة مقدورة ، يكون الوجوب للباقي لو قلنا به وجوباً جديداً ، وإن أمكن إثباته بقاعدة الميسور بنحو من المسامحة ، هذا كلّه لو قال : صلّ متطهّراً إن كنت قادراً على الطهارة ، وهذا هو المعبّر عنه بكون دليل التقييد مقيّداً.

ولو جرّده من هذا القيد واقتصر على مجرّد قوله : صلّ متطهّراً ، كانت مدخلية الطهارة في ملاك الصلاة مطلقة ، وعند تعذّر الطهارة يسقط الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة خطاباً وملاكاً ، وكان مقتضاه عدم وجوب الباقي ، لكن لو دلّ دليل على وجوبه فهو وجوب آخر حتّى لو كان من قبيل اختلاف المرتبة ، بأن تكون الصلاة في حدّ نفسها ذات صلاح بعشر درجات ، لكن إذا وقعت مع الطهارة كانت بعشرين ، فهذا الوجوب المتعلّق بالصلاة مع الطهارة الناشئ عن صلاح عشرين يسقط عند تعذّر الطهارة ملاكاً وخطاباً ، ويحدث وجوب آخر متعلّق بالصلاة الفاقدة للطهارة.

والذي تلخّص : أنّ الأمر بالباقي لا يكون إلاّجديداً ، ويكون مبايناً للأمر بالمركّب ، غير أنّه بالنظر العرفي يكون بعض مراتبه ، على وجه يكون الفاقد ميسوراً للواجد ، ولو لاحظنا الدقّة وأنّ الأمر المتعلّق بالفاقد مغاير للأمر المتعلّق بالواجد ، وأنّه أمر جديد لا أنّه باقٍ من الأوّل ، ينسدّ باب قاعدة الميسور.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّهم قصروا الكلام في هذا المقام على قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم » (1) وقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يسقط الميسور

ص: 426


1- عوالي اللآلي 4 : 58 / 206 ( مع اختلاف يسير ) ، بحار الأنوار 22 : 31.

بالمعسور » (1) وقوله عليه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) ولم يتعرّضوا لقاعدة العسر والحرج المستفادة من الآية الشريفة بضميمة رواية عبد الأعلى في المرارة على الإصبع ، وقوله عليه السلام : « إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب اللّه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) » (4) فكانت الآية الشريفة نافية لوجوب الجزء المتعذّر ، ومثبتة لوجوب الباقي ، كما شرحناه في الفقه فيما علّقناه على العروة في وجوب المسح من الوضوء (5) ، فراجع.

قوله : أمّا قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء » الخبر ... الخ (6).

روي أنّه صلى اللّه عليه وآله خطب فقال : « إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك ، فقال : في كلّ عام يارسول اللّه ، فأعرض عنه حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً ، فقال صلى اللّه عليه وآله : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، واللّه لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ( ما تركتكم ) ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (7).

والظاهر أنّه لا يصحّ أن يكون المراد بالاستطاعة الاستطاعة العقلية ، لأنّ قوله : « لو وجب ما استطعتم » الخ ، يعطي الملازمة بين الوجوب وعدم

ص: 427


1- عوالي اللآلي 4 : 58 / 205 ( مع اختلاف يسير ).
2- عوالي اللآلي 4 : 58 / 207.
3- الحج 22 : 78.
4- وسائل الشيعة 1 : 464 / أبواب الوضوء ب 39 ح 5 ( مع اختلاف يسير ).
5- مخطوط لم يطبع بعدُ.
6- فوائد الأُصول 4 : 254.
7- بحار الأنوار 22 : 31 ( مع اختلاف يسير ).

الاستطاعة ، يعني أنّه لو وجب في كلّ عام مرّة لكان ذلك غير مستطاع ، فلو كان المراد من الاستطاعة هنا عدم القدرة العقلية ، لم تكن الجملة المذكورة صحيحة ، إذ ليس وجوب الحجّ في كلّ عام غير مقدور عقلاً. مضافاً إلى أنّه لا يصحّ ما رتّبه صلى اللّه عليه وآله على عدم الاستطاعة من قوله : « ولو تركتم لكفرتم » فإنّ ترك غير المقدور لا يوجب العصيان فضلاً عن الكفر ، فهاتان الجهتان مانعتان من حمل الاستطاعة في هذا المقام على القدرة العقلية ، وهما أيضاً مانعتان من حمل الاستطاعة على ما يقابل العسر والحرج ، فإنّ وجوب الحجّ في كلّ عام وإن كان فيه العسر والحرج بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، إلاّ أنه لا عسر فيه بالنسبة إلى البعض الآخر ، وذلك كافٍ في عدم صحّة الجملة المتضمّنة لقوله صلى اللّه عليه وآله : « ولو وجب ما استطعتم » وهي الجهة الأُولى من الإشكال.

أمّا الجهة الثانية منه ، فهي واردة أيضاً على هذا التقدير ، لأنّ ترك ما فيه العسر والحرج لا يكون موجباً للعقاب ، لقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فكيف يصحّ أن يقول صلى اللّه عليه وآله : « ولو تركتم لكفرتم » فلابدّ أن يكون المراد من الاستطاعة في المقام الاستطاعة العرفية ، في قبال مشقّة التكليف وإن لم يكن حرجياً ، نظير قوله صلى اللّه عليه وآله : « لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك » (1) إذ لا يتضمّن الأمر بالسواك إلاّمجرّد مشقّة التكليف ، من دون أن يكون في البين بالنسبة إلى غالب المكلّفين تكليف بغير المقدور أو بما فيه العسر والحرج ، وحينئذ فيكون محصّل قوله صلى اللّه عليه وآله : « لو قلت في كلّ عام لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم » هو أنّه لو أوجب عليهم الحجّ في كلّ عام لكان في ذلك مشقّة زائدة على مشقّة التكليف به في العمر مرّة ، ولو تركوه لأجل تلك

ص: 428


1- وسائل الشيعة 2 : 17 / أبواب السواك ب 3 ح 4.

المشقّة غير البالغة حدّ عدم القدرة العقلية ، وغير البالغة لحدّ العسر والحرج ، لكان ذلك الترك منجرّاً إلى العصيان والتمرّد والطغيان ، وكان ذلك بالأخرة منتهياً إلى الكفر والارتداد.

ومن ذلك يظهر لك أنّ هذا الحديث الشريف أجنبي عن محلّ البحث بمراحل ، ولعلّ المراد من قوله صلى اللّه عليه وآله : « ما استطعتم » هو عدم توطّن نفوسكم على الامتثال ، وأنّ نفوسكم لا تطيق الصبر على التكليف الزائد على الاتيان بالفعل مرّة ، على حذو قوله : ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) (1).

وعلى كلّ حال ، فإنّ « ما » في قوله صلى اللّه عليه وآله : « إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم » إمّا أن تكون موصولة أو ظرفية مصدرية ، فإن كانت موصولة كانت مفعولاً لقوله صلى اللّه عليه وآله : « فاتوا » وحينئذ يتعيّن في « من » أن تكون بيانية أو تبعيضية ، وعلى هذا التقدير لا يستقيم جعلها بمعنى الباء ، وذلك واضح لا يكاد يخفى.

وإن جعلنا لفظ « ما » مصدرية ظرفية ، تعيّن في لفظ « من » أن تكون صلة لقوله : « ائتوا » على معنى الباء ، ولا يصحّ حينئذ جعلها بيانية ، وذلك واضح. وأيضاً لا يصحّ جعلها للتبعيض لو حمل الشيء على الكلّ ، لأنّ محصّله حينئذ هو أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا بعضه ما دمتم مستطيعين ، وهذا غير مستقيم ، لأنّ التقييد بالاستطاعة إنّما يناسب الأمر بالاتيان بالكلّ ، لا الأمر بالاتيان بالبعض. نعم لو حمل الشيء على الكلّي صحّ جعل « من » للتبعيض ، ليكون المعنى فاتوا البعض من ذلك الكلّي مدّة استطاعتكم. والحاصل : أنّ حمل لفظة « من » على التبعيض من حيث الأجزاء لا يجتمع مع حمل لفظة « ما » على الظرفية المصدرية.

وعلى كلّ حال ، لو حملناها على المعنى الثاني أعني كون « ما » مصدرية

ص: 429


1- محمّد 47 : 37.

وكون « من » بمعنى الباء ، يكون المتحصّل : أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا به ما دمتم مستطيعين له ، ويكون الحديث أجنبياً عن البحث ، وهو أنّه عند تعذّر بعض الأجزاء هل يجب الباقي. ولكن هل فيه دلالة على لزوم تكرار المأمور به ما دام المكلّف مستطيعاً ، أو لا دلالة له على ذلك ، لا يبعد القول الثاني ، إذ لا دلالة فيه على أزيد من لزوم الاتيان بالمأمور به عند الاستطاعة ، فيكون وزانه وزان قولك : ائت بالمأمور به إن كنت مستطيعاً.

ولو منعنا من ذلك وقلنا بأنّ التقييد بالظرفية المصدرية يعطي التكرار بخلاف التقييد بلفظ إن الشرطية ، فلا محيص من حمله على المعنى المستفاد من التقييد بإن الشرطية ، ولو من جهة الإجماع على عدم وجوب التكرار ، بل على عدم استحبابه إلاّفي بعض الموارد مثل الحجّ ، على أنّه لم يثبت أنّ المتكرّر هو الحجّ الأصلي ، أعني حجّة الإسلام ، نعم لو حملت لفظة « من » على التبعيض كانت دالّة على لزوم التكرار مدّة الاستطاعة.

وعلى كلّ حال ، أنّ ذلك بحث آخر هو خارج عمّا نحن بصدده ، ولا يفرق في هذا الذي ذكرناه بين كون الاستطاعة هي القدرة أو معنى آخر ممّا تقدّم ذكره.

هذا كلّه لو حملنا لفظ « ما » على الظرفية المصدرية ، ولو حملناها على الموصول وعلى كون « من » بيانية ، فهذه الجملة في حدّ نفسها وإن كانت صالحة للأفراد كما أنّها صالحة للأجزاء ، بأن يكون المراد بالموصول هو الأفراد المستطاعة ، أو المراد به هو الأجزاء المستطاعة ، لكن المورد موافق للأوّل ، وحينئذ فلا يمكن إرادة الثاني - أعني الأجزاء - إلاّبجعل المراد بالشيء هو الأعمّ من الكلّي والكل ، وجعل المراد من الموصول هو الأعمّ من الأفراد والأجزاء ، والظاهر أنّه لا مانع منه ، إذ لا يلزم من ذلك استعمال لفظ « من » في معنيين ، بل

ص: 430

هي باقية على معناها الذي هو البيانية للموصول.

لكن هذا كلّه مبني على أنّ المراد من الاستطاعة الاستطاعة الراجعة إلى القدرة ، أو الراجعة إلى ما يقابل العسر والحرج ، وقد عرفت فيما تقدّم عدم ملائمته لصدر الحديث ، وحينئذ لابدّ أن يكون المراد بهذه الاستطاعة هي تلك الاستطاعة المذكورة في صدر الحديث الشريف ، وهي المقابلة لمشقّة التكليف ، يعني إذا أمرتكم بشيء فلا تتكلّفوا المشقّة الزائدة على أصل ما يقتضيه التكليف من الاتيان بصرف الطبيعة ، فإنّ التكليف بالطبيعة وإن كان فيه مشقّة الاتيان بها في أوّل دفعة ، إلاّ أن الاتيان بها ثانياً مشقّة أُخرى ، فيقول صلى اللّه عليه وآله : إنّه اذا أمرتكم بشيء فافعلوا ذلك المقدار الذي لا يشتمل على المشقّة الزائدة على المشقّة في أصل التكليف.

وإن شئت قلت : إنّ المراد هو أنّه إذا أمرتكم بشيء فلا تشقّوا على أنفسكم بالتكرار ، بل افعلوا المقدار الذي يحصل به صرف الطبيعة ، وهو ذلك المقدار المستطاع لكم ، يعني الذي لا مشقّة فيه زائدة على أصل مشقّة التكليف بصرف الطبيعة ، فإنّ الأمر بصرف الطبيعة فيه مشقّة الإتيان بها ، وهذه المشقّة لازمة لكلّ أمر ، إلاّ أنكم اقتصروا عليها ولا تتكلّفوا مشقّة أُخرى أي مشقّة التكرار ، فسمّى الفعل الأوّل المأتي به مستطاعاً يعني لا مشقّة فيه ، ويكون تطبيق الاستطاعة عليه بمعنى عدم المشقّة ، من جهة عدم تكلّف المشقّة الأُخرى ، [ و ] الحاصل أنّ هذه الجهة عرفية لسانية يعرفها صاحب الذوق واللسان ، وإن كنت في مقام البيان عاجزاً عن أدائها.

وليس الحديث الشريف حاكماً بالتكرار كي يتكلّف في جوابه بالحمل على الاستحباب الذي لا يقولون به ، إلاّ إذا ورد به دليل يعتدّ به لأنّه من قبيل

ص: 431

الامتثال بعد الامتثال ، ويشهد بهذا الذي ذكرناه قوله صلى اللّه عليه وآله : « وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » في قبال الأمر الذي لا يعطي إلاّمطلوبية صرف الطبيعة ، فقد تعرّض صلى اللّه عليه وآله للفرق بين الأمر والنهي ، وأنّ الأمر بالشيء لا يلزم إلاّبالاتيان بصرف الطبيعة ولو في ضمن فرد واحد ، ولا يقتضي تكلّف المشقّة بالاتيان بباقي الأفراد ، بخلاف النهي فإنّه يوجب الامتناع والاجتناب عن تمام الأفراد ، ولم يتعرّض فيه للاستطاعة ، إذ لا مشقّة في الترك كما هو واضح.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال فيما لو قلنا بأنّ لفظة « ما » موصولة ، وأنّ لفظة « من » تبعيضية ، فإنّه بناءً على ذلك يكون المتحصّل أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا من ذلك الشيء الذي تستطيعونه ، يعني الذي هو مصداق صرف الطبيعة ، ولا تتكلّفوا المشقّة بالتكرار الزائد على ما يقتضيه تعلّق الأمر بصرف الطبيعة ، فلا تشمل المركّب الذي تعذّر بعض أجزائه ، إلاّعلى حمل الاستطاعة على القدرة ، وحمل الشيء على الأعمّ من الكلّي ذي الأفراد أو الكل ذي الأجزاء.

ولا يخفى أنّ حمل لفظة « من » على التبعيض يجتمع مع كونها متعلّقة بقوله : « فاتوا » على حذو قوله عليه السلام : « أنزل الدنيا منزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك » (1) أو كونها متعلّقة بمستقر حال من الموصول. وينبغي أن يكون هذا الثاني - أعني جعلها متعلّقة بمحذوف حالاً من الموصول - هو المراد من كونها بيانية ، إذ ليس المراد بالبيانية هو بيان الجنس نظير قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ) (2) لأنّ ضابط ذلك هو صحّة حذفها وقيام الضمير مقامها وجعل الجملة خبراً للموصول ، فيقال : ما في الأرض هو شجر ، وهذه لا يتأتّى

ص: 432


1- بحار الأنوار 44 : 139 / 6.
2- لقمان 31 : 27.

فيها الضابط المذكور ، بل المراد من البيانية هو جعل الجار والمجرور حالاً من الموصول مع حفظ التبعيض للفظة من ، فيكون محصّله فاتوا الذي تستطيعونه حالة كونه بعض المأمور به لكونه من جملة أفراده.

ويمكن جعلها بيانية صرفة ، لانطباق الضابط المذكور عليها ، فإنّ الضمير في قوله : « منه » لمّا كان راجعاً إلى المأمور به ، صحّ لك أن تقول : إنّ الذي يستطيعونه هو المأمور به ، لكون المأمور به هو صرف الطبيعة ، والفرد المستطاع هو عين المأمور به ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، والانصاف أنّه تطويل بلا طائل.

والذي ينبغي أن يقال أوّلاً : إنّ لفظة « ما » في قوله صلى اللّه عليه وآله : « فاتوا منه ما استطعتم » لا يمكن حملها على كونها موصولة ، لأنّها حينئذ تكون مفعولاً به لقوله : « فاتوا » وهذا الفعل - وهو الاتيان - يتعدّى بنفسه إلى المأتي إليه ، وربما تعدّى إليه بواسطة إلى ، أمّا المأتي به فهو إنّما يتعدّى إليه بالباء ، سواء كان جوهراً مثل قولك : أتيت بالكتاب ، أو كان فعلاً من الأفعال مثل قولك : أتيت بالصلاة أو بالصيام مثلاً ، ولا يتعدّى هذا الفعل إلى المأتي به بنفسه ، فلا يقال : أتيت الكتاب أو أتيت الصيام ، بمعنى جئت به ، وحينئذ يكون المتعيّن في لفظة « ما » أن تكون ظرفية مصدرية ، وبذلك يبطل (1) كون لفظة « من » بيانية ، ويتعيّن حملها على

ص: 433


1- ومن ذلك يظهر لك التأمّل في كثير من العبائر التي ظاهرها الجمع بين كون « من » بيانية وكون « ما » ظرفية مصدرية ، ومن ذلك عبارة الشيخ قدس سره حيث يقول في مقام المناقشة في دلالة الحديث المذكور : لاحتمال كون « من » بمعنى الباء أو بيانياً و « ما » مصدرية زمانية [ فرائد الأُصول 2 : 390 ]. ولا يخفى أنّ هذا - أعني عدم كون لفظة « ما » موصولة وأنّها ظرفية مصدرية - هو المانع من كون لفظة « من » بيانية ، لا أنّ المانع منها هو أنّ الضمير لا يكون بياناً كما في حاشية الإصفهاني [نهاية الدراية 386:4]، كيف وهو كثير في القرآن وغيره، مثل قوله تعالی: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) وغيره وهو كثير. [منه قدّس سرّه]

معنى الباء إن ثبت ذلك أو على التبعيض. ولو حملناها على معنى الباء تعيّن كون المراد بالشيء هو الكلّي لا الكل ، ولو حملناها على التبعيض فهو وإن كان في بادئ النظر يلتئم مع الكل والكلّي ، إلاّ أنه بعد التأمّل لا يلائم الكل ، لأنّ المعنى حينئذ : إذا أمرتكم بكلّ ذي أجزاء فاتوا ببعض تلك الأجزاء مدّة استطاعتكم ، ومن الواضح أنّ التقييد بالاستطاعة إنّما يكون بالنسبة [ إلى ] تمام الكلّ لا بالنسبة إلى بعضه ، وحينئذ يكون المتعيّن حملها على التبعيض من حيث أفراد الكلّي ، ويكون ذلك هو ما يقتضيه لفظ الحديث مع قطع النظر عن مورده.

ويبقى الكلام في دلالته على التكرار. ويمكن دعوى كونه أجنبياً عنه أيضاً ، بما احتملناه من كون عدم الاستطاعة في صدر الحديث كناية عن عدم موافقة نفوسهم للزيادة على ما يقتضيه أصل التكليف من المرّة ، بمعنى أنّ نفوسهم لا تطيق الصبر على ذلك ، فينجرّ ذلك إلى كفرهم وعنادهم ، نظير قوله تعالى : ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) وحينئذ يكون قوله صلى اللّه عليه وآله : فاتوا به أو منه ما استطعتم ، كناية عن الاكتفاء بالمرّة ، التي لا يكون لها أهميّة على وجه تكون نفوسكم لا تطيق الصبر عليها ، ويشهد بذلك مقابله وهو « إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ».

لا يقال : إنّ « أتى » تتعدّى إلى المأتي به بنفسها ، ولأجل ذلك لو زيدت عليه الهمزة تعدّى إلى مفعولين ، مثل : آتاك اللّه الخير ، فإنّ أصله أتيت الخير ، بمعنى أتيت بالخير ، ثمّ زيدت عليه الهمزة فصيّرت الفاعل وهو المخاطب مفعولاً أوّلاً ، وبقي المفعول وهو المأتي به - أعني الخير - مفعولاً ثانياً.

ص: 434

لأنّا نقول : لو كان كذلك لكان محصّل الجملة الأصلية أتيت بالخير ، فيكون محصّلها بعد دخول الهمزة : إنّ اللّه جعلك آتياً بالخير ، وليس هذا بمراد ، إذ ليس المخاطب هو الآتي ، بل الآتي إنّما هو الخير ، والمخاطب مأتي إليه ، ليكون مفاد الأصل أنّك أتيت بالخير ، ويكون مفاده بعد دخول الهمزة أنّ اللّه جعلك آتياً بالخير ، بل الآتي إنّما هو الخير والمخاطب مأتي إليه ، ومحصّل الأصل أتاك الخير ، ومحصّله بعد الهمزة أنّ اللّه جعل الخير آتياً إليك ، فهذه الهمزة صيّرت الخير وهو الفاعل في الأصل مفعولاً أوّلاً ، والمفعول الأصلي الذي هو المخاطب مفعولاً ثانياً ، فكان مقتضى القاعدة تقديمه ، لقوله :

والأصلُ سبقُ فاعلٍ معنىً كَمَن

مِن « ألبسَن مَن زاركم نسجَ اليَمَن » (1)

لكن قدّم المفعول الأصلي وهو المخاطب لكونه ضميراً ، ومهما أمكن الاتّصال لا يجوز العدول عنه إلى الانفصال ، ولأجل [ ذلك ] قدّم على المفعول الأوّل في مثل قوله تعالى : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (2) وأصله ما أتاكموه الرسول ، وقدّم المخاطب لكونه أخصّ ، كما قال : وقدّم الأخصّ في اتّصال (3) ، وكأنّه لمثل هذه الجهات جعل المفعول الأصلي نائباً في مثل ( أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) (4) ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة أن يكون نائب الفاعل هو الفاعل في الأصل وهو الكتاب ، فلاحظ وتدبّر.

قال في القاموس وتاج العروس : وآتى إليه الشيء - بالمدّ - إيتاء : ساقه

ص: 435


1- شرح ابن عقيل 1 : 541.
2- الحشر 59 : 7.
3- شرح ابن عقيل 1 : 106.
4- الإسراء 17 : 71.

وجعله يأتي إليه ، وآتى فلاناً شيئاً إيتاء : أعطاه إيّاه ، ومنه قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) أراد - واللّه أعلم - أُوتيت من كلّ شيء شيئاً ، وقوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) (2). وفي الصحاح : آتاه أتى به ، ومنه قوله تعالى : ( آتِنا غَداءَنا ) (3) أي ائتنا به (4).

وقال في التاج - قبيل هذه العبارة - : وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى ) أي لا يتعاطون ، انتهى.

قلت : قولهما : وآتى إليه الشيء - بالمدّ - إيتاء : ساقه وجعله يأتي إليه ، تصريح بما ذكرناه من أنّ معنى آتاه اللّه الخير ، صيّره وجعله يأتي إليه ، غير أنّهما عدّيا آتى إلى المأتي إليه بإلى ، لكن الغالب هو تعديته بنفسه ، فكان الأنسب على الأغلب أن يقولا : وآتاه الشيء ، بدل قولهما : وآتى إليه الشيء ، وهذا المعنى هو بعينه المراد في قولهم : آتى فلاناً شيئاً إيتاء ، فإنّ المراد ما عرفت من أنّه جعل الشيء آتيا إلى فلان ، وليس المراد هو ما تخيّلاه من أنّه أعطاه إيّاه. وهكذا الحال في قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) وكذلك الحال في قوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) فإنّ مفعوله الآخر مقدّر ، والمراد واللّه العالم : يؤتون الفقير الزكاة ، أي يجعلونها واصلة إليه ، وليس المراد به يعطون ، وإن كان لازمه ذلك.

وعلى كلّ حال ، فليس المراد في قوله تعالى : ( يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) أنّهم يؤتون

ص: 436


1- النمل 27 : 23.
2- المائدة 5 : 55.
3- الكهف 18 : 62.
4- القاموس المحيط 4 : 297 ( لم يَرِد فيه تمام المقطع المذكور ). تاج العروس 10 : 8 مادّة ( أتَى ). الصحاح 6 : 2262 ( أتا ).

بها ، ليكون من تعدية أتى إلى المأتي به بنفسه. وأمّا قوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى ) فليس أيضاً من هذا القبيل ، أعني من قبيل تعدية الاتيان إلى المأتي به ، بل إنّه من قبيل تعديته إلى المأتي إليه ، فإنّ الصلاة في الآية مأتي إليها ، والمراد أنّهم لا يأتون إلى الصلاة.

ومنه يظهر الحال في قوله تعالى : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) (1) وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) فإنّ المراد في جميع ذلك هو المأتي إليه ، تنزيلاً للفاحشة وللبأس منزلة الشيء الموجود الذي يؤتى إليه ، وإن كان هو في الحقيقة من المأتي به ، كما تضمّنته الآية الأُخرى وهو قوله تعالى : ( يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (3) الخ ، ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ص 298 (4).

لا يقال : إنّ الفعل المأتي به وهو مثل الصلاة لو صحّ تعدية الاتيان إليه على معنى كونه مأتياً إليه ، فلِمَ لا تقولون بذلك في قوله صلى اللّه عليه وآله : « فاتوا منه ما استطعتم » على الموصولية ، على معنى فاتوا منه إلى ما استطعتم.

لأنّا نقول : إنّ إرادة الاتيان إليه لا يناسب مورد الحديث ، لكن يناسب مورد الآية الشريفة ، لأنّ المنظور إليه في الآية الشريفة هو حضورهم صلاة الجماعة ، فكأنّها شيء موجود وهم لا يأتون إليه إلاّوهم كسالى ، لأنّ الغالب في الآية الشريفة هو النظر إلى هذه الجهة ، سيّما بمناسبة كونهم كسالى ، فإنّه يناسب فرض

ص: 437


1- النساء 4 : 15.
2- الأحزاب 33 : 18.
3- النساء 4 : 19.
4- نهاية الدراية 4 : 386.

وجود الصلاة وهم يأتونها كسالى ، بخلاف مورد الحديث فإنّ مورده هو الاستطاعة والقدرة ، فهو إنّما يناسب الاتيان بالمستطاع ، لا الاتيان إلى المستطاع ، فإنّه ارتكاب تجوّز بلا جهة تدعو إليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما استطعتم لو كان مأتياً إليه ، لكانت صلته هي ما استطعتم الاتيان إليه ، أو ما استطعتم إتيانه ، لا ما استطعتموه كما هو ظاهر الحديث ، فإنّ العائد فيه إلى الموصول هو ضمير مفعول لاستطعتم ، والتقدير ما استطعتموه ، ولو كان الموصول هو المأتي إليه لكان الحاصل فاتوا إلى الذي استطعتم الاتيان إليه من ذلك الشيء.

واعلم أنّ صاحب الكفاية استظهر كون « من » تبعيضية ، لا بيانية ولا بمعنى الباء ، غير أنّه تردّد في كون التبعيض بحسب الأجزاء أو كونه بحسب الأفراد ، وجزم بأنّها في الحديث للثاني ، لكون مورده هو الأجزاء ، فقال : ودلالة الأوّل ( وهو حديث ما استطعتم ) مبنية على كون « من » تبعيضية لا بيانية ولا بمعنى الباء وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى ، إلاّ أن كونه بحسب الأجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد. ولو سلّم فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد ، حيث ورد جواباً عن السؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به ، فقد روي الخ (1). وبنحو ذلك صرّح في تحرير السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره (2) ، لكنّه في هذا التحرير (3) بنى على أنّ التبعيض إنّما يلائم إرادة الأجزاء ، وأنّ حملها على البيانية أو بمعنى الباء وإن كان بعيداً ، إلاّ أن مورد الحديث يعيّنه بعد فرض أنّه لا

ص: 438


1- كفاية الأُصول : 370.
2- أجود التقريرات 3 : 536.
3- فوائد الأُصول 4 : 255.

يمكن إرادتهما معاً من لفظة « من » ، هذا.

ولكنّك قد عرفت أنّها في الحديث لا تكون إلاّللتبعيض ، وأنّه فيه لا تكون إلاّ للأفراد ، مع قطع النظر عن كون ذلك هو مورد الحديث ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الأفراد ، بل ظاهره أنّ ميسور كلّ شيء لا يسقط بمعسوره (1).

هذا تعريض بما في الكفاية من قوله : حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها (2).

ولا يخفى أنّ كون الميسور بحسب الأفراد في قبال كونه بحسب الأجزاء ، إن كان المراد به أفراد العام البدلي ، فإن كان مع الاختلاف بين الميسور والمعسور في بعض القيود ، مثل أن يجب عليه إكرام عالم هاشمي وقد تعذّر عليه إكرام العالم الهاشمي ، وكان يمكنه إكرام عالم غير هاشمي ، فهذا على تقديره يكون داخلاً في تعذّر الشرط فيما لو كان المأمور به مشروطاً ومقيّداً بقيد خاص وتعذّر عليه الشرط.

وإن كان مع التساوي ، بأن كان الواجب عليه إكرام عالم وقد تعذّر عليه إكرام بعض العلماء ، مع فرض كون إكرام أحد الباقين ميسوراً ، فهذا ليس من الميسور والمعسور ، بل إنّه لم يجب عليه إلاّ إكرام شخص واحد من العلماء وقد تمكّن منه.

وإن كان المراد من الأفراد أفراد العام المجموعي ، بأن كان الواجب عليه

ص: 439


1- فوائد الأُصول 4 : 255.
2- كفاية الأُصول : 371.

إكرام مجموع علماء البلد على نحو العام المجموعي ، بحيث يكون موجباً للارتباط بين الاكرامات في مقام الاطاعة والعصيان ، فهذا راجع إلى المركّب الارتباطي ، غايته أنّ أجزاءه متساوية في الدخول تحت عام واحد ، بخلاف باقي المركّبات فإنّ أجزاءها لا ترجع إلى عام واحد. ويبعد كلّ البعد أن يكون محطّ نظر صاحب الكفاية ونظر شيخنا قدس سرهما في مقام النفي والاثبات هذا النحو من الأفراد.

والظاهر أنّ مرادهما من الأفراد هي أفراد العام الانحلالي ، كما إذا وجب عليه إكرام كلّ عالم ولكن تعذّر عليه إكرام بعضهم ، وهذه الجهة من التحرير موجودة في كلمات الشيخ قدس سره (1) ، ولكن ربما يشكل على ذلك بأنّ الأفراد الانحلالية يكون كلّ واحد منها مكلّفاً به تكليفاً مستقلاً ، فلا يكون داخلاً تحت القاعدة ، إذ لا يتوهّم أحد أنّ تعذّر أحد التكليفين يكون موجباً لسقوط التكليف الآخر ، كي يكون صدور هذه الجملة في مقام دفع هذا التوهّم.

وتوضيح الحال : أنّه لا ريب في أنّ نفس ما هو ميسور غير ما هو معسور ، وإلاّ لم يكن ميسور ومعسور ، ولكن مع ذلك لابدّ من جهة جامعة توجب توهمّ أنّ سقوط المعسور يوجب سقوط الميسور ، لتكون الجملة دفعاً لذلك التوهّم كما في أفراد العام الانحلالي ، والجهة الجامعة الموجبة لذلك التوهّم هي دخولها تحت العام ، فيتوهّم أنّ مثل أكرم العلماء تكليف واحد ، وكما لو وجب الكل المركّب مثلاً من خمسة أجزاء ، فكان كلّ واحد من تلك الأجزاء واجباً ضمنياً ، فهاتيك الواجبات الضمنية لا يكون معسورها موجباً لسقوط ميسورها ، والقدر الجامع بينها الموجب لتوهّم السقوط هو الأمر بالكل.

ص: 440


1- فرائد الأُصول 2 : 392 - 393.

وبناءً على هذا الوجه يكون الحديث شاملاً للأفراد والأجزاء ، ولا يحتاج في شموله للأجزاء إلى التسامح العرفي ، بل يكون الحديث جارياً حتّى لو بقي جزء واحد ، لكن الشأن كلّ الشأن في ظهور الحديث في إرادة هذا المعنى ، لامكان أن يكون المراد منه هو ورود الميسور والمعسور على شيء واحد يكون له ميسور ومعسور ، وذلك أنّه يكون ببعض مراتبه معسوراً وببعض مراتبه ميسوراً ، فالمرتبة الميسورة من ذلك الواجب لا تسقط بسقوط المرتبة المعسورة منه ، وحينئذ يختصّ مفاده بالمركّبات ، فيكون الاختلاف بين ميسور ذلك المركّب ومعسوره اختلافاً في المرتبة ، فإنّ الأمر بالمركّب له مرتبة عليا وهي الأمر بالكل ، وأنزل منها وهي الأمر بالبعض ، فإنّه مرتبة من الأمر المتعلّق بالكل ، فالأمر واحد وإنّما اختلفت مرتبة المأمور به.

وحينئذ يصحّ لنا أن نقول : إنّ ذلك الأمر الواحد أو إنّ ذلك المأمور به الواحد لا يسقط الميسور منه بالمعسور ، وهذا إنّما يكون إذا كان أحدهما بحسب النظر العرفي عين الآخر ، وأنّه لا اختلاف بينهما إلاّبحسب المرتبة القريبة الموجبة لكون المعسور عين الميسور ، بحيث يصدق عليه أنّه ميسور ذلك المركّب ، ولا تشمل القاعدة أفراد العام الانحلالي إلاّبعناية وحدة الأمر بالعام ، وكون البعض من أفراده مرتبة من مراتب ذلك الأمر بالعام ، أو مرتبة من ذلك العام المأمور به ، وهذه عناية بعيدة لا يركن إليها إلاّبدليل قوي ، وحينئذ يكون المتعيّن هو كون هذه الجملة الشريفة مسوقة لبيان أنّ المرتبة الميسورة من المأمور به لا تسقط بسقوط المرتبة المعسورة منه ، وينحصر ذلك بالمركّبات.

ولا يبعد ظهور الجملة في المعنى الأوّل لأنّه هو المنساق منها عرفاً ، وأمّا المعنى الثاني فهو محتاج إلى دقّة نظر ، على وجه لا يكون هو المنسبق إليه بالنسبة

ص: 441

إلى كافّة أهل اللسان ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الجملة لم تكن مسوقة للتشريع أو لبيان حكم شرعي ، بل هي بالمواعظ وكلمات الحكمة أشبه منها بمقام التشريع.

وعلى كلّ حال ، لو قلنا إنّ المراد منها هو المعنى الثاني يكون الجامع هو الأمر بالمركّب في الجملة ، ويكون المتحصّل أنّه إذا كان لذلك الجامع مرتبة عليا ومرتبة ثانية هي أقلّ منها ، وكان الأمر في أوّل الوهلة متعلّقاً بالعليا ، تكون قاعدة الميسور موسعة لذلك الأمر ، وموجبة لتسريته إلى المرتبة الثانية عند تعذّر المرتبة الأُولى ، كما في الأمر بغسل الثوب مثلاً الغسل الموجب لنقاوته التامّة من الأوساخ ، فإذا تعذّر ذلك لم يسقط غسله بما هو أقلّ من ذلك ولو بالماء المجرّد ، لقوله عليه السلام : « لا يسقط الميسور بالمعسور » (1) وحينئذ تدخل فيه المركّبات التي تعذر بعض أجزائها باعتبار أنّ المرتبة الأُولى من ذلك المركّب هي المركّب التامّ ، والمرتبة الثانية هي الفاقد لبعض الأجزاء ، ولأجل ذلك لابدّ من كون الباقي ممّا يصدق عليه ذلك الجامع ، بحيث يعدّ أنّه ميسور له.

وهذا التقريب بعينه جارٍ في « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) ، فإنّ الظاهر أنّ كلاً من « ما لا يدرك » وما « لا يترك » واردان على موضوع واحد يكون هو القدر الجامع ، فلابدّ في موردها من وجود القدر الجامع في البين ، ويكون ذا مرتبتين قد تعذّرت الأُولى منهما ولم يمكن إدراكها ، فلا يكون تعذّرها وعدم إدراكها موجباً لسقوطه بالمرّة بحيث إنّه يكون ذلك موجباً لتركه بكلّه ، فلابدّ أيضاً من كون الباقي ممّا يصدق عليه في ذلك الحال ذلك القدر الجامع ، وغاية ما استفدته من

ص: 442


1- عوالي اللآلي 4 : 58 / 205 ( مع اختلاف يسير ).
2- عوالي اللآلي 4 : 58 / 207.

شيخنا قدس سره في وجه ذلك في خصوص قاعدة « ما لا يدرك » ، هو أنّه يعتبر في صدقها أن يكون الباقي ممّا أدرك من المركّب ، وإذا كان على وجه يعدّ كونه مبايناً له لا يصدق عليه أنّه ممّا أُدرك من ذلك المركّب.

ولكنّ في النفس منه شيئاً ، وهو أنّ الشيء الواحد الذي هو نقطة المقابلة بين « ما لا يدرك » وما « لا يترك » ، غير نقطة المقابلة بين الميسور والمعسور ، فإنّ الشيء الواحد ولو باعتبار مراتبه قابل للانقسام إلى الميسور والمعسور ، وحينئذ صحّ لنا أن نقول : إنّ الميسور من ذلك الشيء لا يسقط بسقوط المعسور منه ، وهذا بخلاف مفاد « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » ، فإنّ نقطة المقابلة فيه هو المركّب ، ولا يلزم أن يكون ذلك المركّب صادقاً على كلّ واحد من الطرفين ، إذ ليس مفادها إلاّ أن ذلك المركّب إذا لم تدركه بتمامه لا تتركه بتمامه ، فيكون وزانه وزان أنّ المركّب إذا لم تقدر على تمام أجزائه لا يكون ذلك موجباً لسقوط باقي الأجزاء منه ، هذا.

ولكن التحقيق أنّ نقطة المقابلة بينهما واحدة وهي المركّب. نعم إنّ التقابل في « ما لا يدرك » إنّما هو بين الكل والبعض ، فإنّ محصّله هو أنّ عدم إدراك الكل بتمامه لا يوجب ترك الكل بتمامه ، بحيث تترك جميع أجزائه حتّى الأجزاء المدركة. وحاصل ذلك أنّ عدم التمكّن من الموجبة الكلّية لا يسوّغ السالبة الكلّية ، بل تكون السالبة الكلّية ممنوعاً عنها بمقتضى قوله : « لا يترك كلّه » ، وإذا كانت السالبة الكلّية ممنوعاً عنها ، كان محصّل ذلك هو الأمر بالموجبة الجزئية ، فكأنّه قال : لا تتركه كلّه بل ائت ببعضه الذي تدركه وتقدر عليه. فيكون محصّله هو المقابلة بين الكل والبعض ، وهو صادق على ما إذا كان الذي يدركه بعضاً من الكل أيّ بعض كان ، بخلاف قاعدة الميسور فإنّ المقابلة فيها بين الميسور

ص: 443

والمعسور من الشيء الواحد ، فلابدّ في الميسور من كونه مصداقاً لكونه ميسوراً من ذلك الشيء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قوله « كلّه » في الفقرتين ، وإن كان هو النائب عن الفاعل لا تأكيداً لضمير مستتر في « لا يدرك » و « لا يترك » إلاّ أنه يستفاد منه عرفاً أنّه بمنزلة التأكيد ، فكأنّه قال : الشيء الذي لا يكون هو مدركاً كلّه لا يكون هو متروكاً كلّه.

وبعبارة أُخرى : أنّ الشيء الذي كان الموصول كناية عنه يكون محفوظاً في المقامين ، بمعنى أنّ الشيء الذي لم يمكن أن يدرك بتمامه لا وجه لتركه بتمامه ، فموضوع الحكم بعدم الترك هو ذلك الشيء ، فلابدّ من حفظه ، فتأمّل.

والإنصاف : أنّ العرف يساعد على هذه الجهة التي أفادها قدس سره ، لكن لا على نحو التضييق في قاعدة الميسور ، بل الأمر في قاعدة « ما لا يدرك » أوسع في الجملة من ذلك ، وإن لم تكن تلك التوسعة بحدّ توجب شمولها لما إذا لم يبق إلاّ الجزء الضعيف الضئيل.

قوله : والمراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي أو الاستحبابي - إلى قوله - عن عموم القاعدة ... الخ (1).

هذا إشكال راجع إلى أنّ القاعدة إمّا أن تكون مختصّة بالواجبات ، ولا يمكن القول به ، وإمّا أن تكون شاملة للمستحبّات فلابدّ أن يكون مفادها الجامع ، فلا تدلّ حينئذ على وجوب الباقي في الواجبات. وتفصيل ذلك : هو أنّ « لا يسقط » قد سلّط على نفس الميسور ، فلابدّ أن يكون نفي سقوطه كناية عن طلبه ، فإن كان طلب الباقي وجوبياً اختصّت القاعدة بالواجبات ولم تشمل

ص: 444


1- فوائد الأُصول 4 : 255.

المستحبّات ، وإن كان المراد بطلب الباقي المكنّى عنه بعدم السقوط هو مطلق الطلب ، شملت المستحبّات ، ولكن لا تدلّ في الواجبات على أزيد من أنّ الباقي مطلوب في الجملة ، فلا تكون دالّة على وجوبه.

والجواب عنه : أنّ عدم السقوط لم ينسب إلى نفس الميسور ، كي نضطرّ إلى صرف التعبّد الشرعي إلى نفس ذلك العدم ونجعله كناية عن طلب الباقي ، بل إنّ عدم السقوط منسوب إلى الباقي باعتبار حكمه ، فيكون ذلك - أعني عدم سقوط الحكم - هو مركز التعبّد ، لأنّه عبارة عن الحكم ببقاء حكم الميسور ، سواء كان ذلك الحكم وجوبياً أو كان استحبابياً ، فتكون القضية شاملة للواجبات والمستحبّات ، وتكون دالّة على بقاء وجوب الباقي في الواجبات ، وعلى بقاء استحباب الباقي في المستحبّات.

ولا يخفى أنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور باعتبار حكمه لا يتعيّن فيها سلوك طريقة مجاز الحذف ، بأن نقول بتقدير الحكم مضافاً إلى الميسور ، ونقول إنّ المراد لا يسقط حكم الميسور ، بل يمكننا الأخذ بها من دون تقدير على نحو المجاز أو الاستعارة ، وأنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور إنّما هي بلحاظ حكمه نظير نفي الضرر لو جعلناه بمعنى الفعل الضرري ، فإنّ نفيه حينئذ يكون كناية عن نفي حكمه ، وهذا ما يقوله صاحب الكفاية قدس سره من أنّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده صاحب الكفاية قدس سره في المقام ، فإنّه قدس سره أوّلاً ذكر الإشكال وأجاب عنه بما يرجع إلى أنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور باعتبار حكمه ، فيكون كناية عن عدم سقوط حكمه ، ثمّ قال : لا أنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف كي لا يكون له دلالة على

ص: 445

جريان القاعدة في المستحبّات على وجه ( وهو ما لو جعلناه كناية عن طلب الباقي وجوباً ) أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر ( وهو ما لو جعلناه كناية عن طلب الباقي بمطلق الطلب ) فافهم (1).

فإنّ الترديد بين هذين الوجهين إنّما يكون لو جعلنا مركز التعبّد في نفي سقوط الميسور هو طلب الميسور ، بأن يكون نفي سقوطه كناية عن طلبه ، وأمّا لو جعلناه كناية عن بقائه على عهدة المكلّف ، كان مركز التعبّد هو بقاء حكمه كما قرّرناه في دفع الإشكال.

وبالجملة : أنّ قوله : وبقائه على عهدة المكلّف ، لا موقع لها في تقرير هذا الإشكال ، بل تكون هي جواباً عنه ، هذا. مضافاً إلى أنّ البقاء على العهدة مختصّ بالواجبات ، ولعلّ قوله : فافهم ، إشارة إلى هاتين الجهتين.

قوله : وأمّا قوله عليه السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (2) فلا يبعد أيضاً أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من الكل والكلّي ... الخ (3).

لم يتعرّض لشبهة الشمول للمستحبّات ، مع أنّ جريانها في هذا الحديث أقوى من جريانها في حديث الميسور ، حيث إنّ نفس « لا يترك » حكم شرعي بعدم جواز الترك الذي هو عبارة عن وجوب الفعل ، فلا تشمل [ إلاّ ] الواجبات ، سواء كانت لفظة « لا » في قوله : « لا يترك » نافية أو ناهية ، وقد تعرّض في الكفاية (4) لهذه الشبهة وسجّلها ولم يجب عنها بما أُجيب به عن الشبهة في حديث

ص: 446


1- كفاية الأُصول : 371 - 372.
2- عوالي اللآلي 4 : 58 / 207.
3- فوائد الأُصول 4 : 255.
4- كفاية الأُصول : 372.

الميسور ، فراجع.

نعم ، في تحرير السيّد سلّمه اللّه أشار إلى الجواب عنها بنحو الجواب عن الشبهة في حديث الميسور فقال : وأمّا الرواية الثانية فظهورها في عدم سقوط الممكن من الكل بما له من الحكم الاستحبابي أو الوجوبي بتعذّر بعضه في غاية القوّة (1).

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ في حديث الميسور بما عرفت من جعل عدم سقوطه كناية عن عدم سقوط حكمه ، والظاهر أنّه لا يتأتّى في هذا الحديث المقصور على المنع عن الترك والنهي عنه الذي هو عبارة عن وجوب الباقي ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا النهي إرشاد إلى بقاء الحكم ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : بل ربما يقال بظهوره في خصوص الكل المركّب من الأجزاء ولا يشمل الكلّي ، ولكنّه ضعيف ، فإنّه لا موجب لاختصاص الموصول بالكل ، بل يعمّ الكلّي أيضاً ... الخ (2).

لم يتّضح المراد من الكلّي ، فإن كان هو الكلّي المجموعي كان راجعاً إلى المركّب ، لكون التكليف حينئذ واحداً ، وكأنّه لأجل ذلك قال في الكفاية : وأمّا الثالث فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي الخ (3) ، وإن كان المراد بالكلّي الانحلالي ، فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر قوله : « كلّه » ، فإنّها ظاهرة في المركّب ، ويلحق به الكلّي المجموعي.

لكن عبارة السيّد سلّمه اللّه ظاهرة في المعنى الأوّل ، فإنّه قال : واحتمال

ص: 447


1- أجود التقريرات 3 : 536.
2- فوائد الأُصول 4 : 255 - 256.
3- كفاية الأُصول : 372.

اختصاصها بموارد العام المجموعي حتّى يكون مفادها عدم سقوط الأفراد الممكنة بتعذّر غيرها في غاية البعد ، بل شمولها لها إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم بالمركّب أيضاً ، فإنّ المفروض أنّ متعلّق الحكم فيها هو المجموع المركّب من الأفراد المتعدّدة (1).

والحاصل : أنّه لا يبعد أن تكون هذه العبائر تعريضاً بما في الكفاية ، لكن قد عرفت أنّ عبارته لم تكن بصدد المقابلة بين المركّب والعام المجموعي ، وإنّما كانت بصدد المقابلة بين العام المجموعي والعام الأفرادي ، ودعوى أنّ حديث « لا يترك » محتمل الاختصاص بالعام الأفرادي ، وحينئذ يتعيّن الجواب عن مطلب الكفاية بما عرفت من أنّ العام الأفرادي خلاف ظاهر لفظ « كلّه » ، فلا يدخل في عموم الحديث فضلاً عن كونه هو المراد ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وقيل إنّه يأخذ من بلل سائر الأعضاء أو من ماء آخر ... الخ (2).

لا يخفى أنّ فرض الكلام إنّما هو في صورة كون المكلّف غير متمكّن من المسح ببلّة الوضوء لحرّ ونحوه ، ففرض الأخذ من بلل سائر الأعضاء خارج عمّا هو محلّ الكلام ، فإنّ ذلك - أعني جواز الأخذ من بلل سائر الأعضاء عند الجفاف - ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما إذا لم توجد البلّة على سائر الأعضاء وكان الهواء حارّاً مثلاً ، على وجه لا يمكن أن تبقى بلّة الوضوء على يده ولا على سائر أعضائه ، فهل يسقط أصل المسح ولا يجب عليه إلاّ الغسلتان ، أو أنّ الساقط هو المسح بالبلّة ، فلا يلزمه إلاّ المسح بيده ولو مع جفافها ، أو أنّ الساقط هو كون البلّة بلّة

ص: 448


1- أجود التقريرات 3 : 536.
2- فوائد الأُصول 4 : 257.

وضوء ، فيأخذ من ماء جديد ، أو أنّه لا يشرع له الوضوء في هذه الصورة وينتقل إلى التيمّم. والمنشأ في هذه الوجوه أو الأقوال هو جريان قاعدة الميسور وتعيين مجراها ، أو أنّها لا تجري أصلاً ، فيلزمه الانتقال إلى التيمّم.

والحاصل : أنّ الواجب أوّلاً هو أصل المسح ، وأن يكون بالبلّة ، وأن تكون البلّة بلّة وضوء ، وحيث قد تعذّر الأخير وجب الانتقال إلى ما قبله ، وهو المسح بالبلّة ولو من ماء آخر إن صدق عليه أنّه ميسور المسح ببلّة الوضوء ، وإلاّ وجب الانتقال إلى ما قبله وهو المسح بدون بلّة إن صدق عليه أنّه ميسور المسح ببلّة الوضوء ، وإلاّ وجب الانتقال إلى ما قبله وهو الوضوء بدون مسح إن صدق عليه أنّه ميسور الوضوء ، وإلاّ انتقل إلى التيمّم لأنّه على هذا التقدير غير متمكّن من الوضوء. ولا يبعد الأوّل ، أعني لزوم المسح بماء جديد والاكتفاء به ، وهو مغنٍ عن الاحتياط فيما قبله ، أعني المسح بدون بلّة ، إذ يبعد أن يكون جلب بلّة جديدة من ماء آخر مضرّاً بالمسح على تقدير القول بلزوم المسح وسقوط كونه بالبلّة.

ومن ذلك يظهر أنّه لو أراد الاحتياط مسح بالماء الجديد ثمّ تيمّم ، من دون حاجة إلى تكرار المسح مرّة بيده الجافّة وأُخرى بماء جديد ، ولعلّ ما في العروة - ونحوه في الوسيلة (1) - من قوله : والأحوط المسح باليد اليابسة ثمّ بالماء الجديد ثمّ التيمّم أيضاً (2) ، وكتب عليه شيخنا قدس سره : هذا الاحتياط لا يترك (3) ، ناظر إلى

ص: 449


1- وسيلة النجاة : 3 / المبحث الثالث من مباحث الوضوء.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 389 مسألة 31 / فصل : في أفعال الوضوء.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 389 مسألة 31 / فصل : في أفعال الوضوء.

احتمال كون المسح بالماء الجديد مضرّاً على القول بأنّ الساقط هو المسح بالبلّة ، فتأمّل.

لكنّه قدس سره قال فيما حرّرته عنه : ففي مورد التمكّن من المسح بماء جديد وجهان ، وجوب المسح بالماء الجديد ، وهو مبني على عدم ركنية ماء الوضوء ، وسقوط الوضوء والانتقال إلى التيمّم ، وهو مبني على ركنيته ، ولضعف الوجه الثاني قولاً ودليلاً يكون الأوّل هو الأقوى ، ولكن لوجود هذا القول - أعني القول بالوجه الثاني - ذكرنا في رسائلنا العملية : أنّ الأحوط هو الجمع وإن كان الاحتياط ضعيفاً ، إلاّ أنا ذكرناه تبعاً لجملة من الفقهاء ، انتهى.

نعم ، لو لم يكن له ماء جديد ، يكون الاحتياط بالجمع بين المسح باليد المجرّدة والتيمّم ، كما أفاده فيما حرّرته عنه قبل هذه العبارة فراجع (1) ، ومع ذلك فلا يبعد أن يكون نظر المحتاطين بالجمع بين الثلاثة - كما في النجاة (2) والعروة - إلى ما ربما يستفاد من المنع عن الأخذ بماء جديد من كونه مبطلاً للوضوء ، ولعلّه لأجله قال العلاّمة قدس سره فيما حكاه عنه في الجواهر عن تحريره : ولو جفّ ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرطة جاز البناء ، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح. ونحوه ما عن النهاية (3).

قال العلاّمة قدس سره في التحرير في ذيل مسألة الموالاة : ولو جفّ ماء الوضوء

ص: 450


1- مخطوط لم يطبع بعدُ.
2- قال في النجاة : ولو فرض عدم إمكان حفظ نداوة الوضوء لشدّة حرّ أو غيره مسح بدونها ، والأحوط المسح بعد ذلك بماء جديد ثمّ التيمّم [ منه قدس سره ، راجع نجاة العباد : 36 / الأوّل من مباحث الوضوء ].
3- جواهر الكلام 2 : 194 ، نهاية الإحكام 1 : 49.

لحرارة الهواء المفرطة جاز البناء ، ومع إفراط حرارته يغسل متوالياً بحيث لو اعتدل لم يحكم بجفاف السابق حينئذ ، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح (1).

وهذه العبارة وإن لم تكن صريحة في المنع عن الماء الجديد في خصوص هذه الصورة ، لاحتمال كونها بياناً لحكم مستقل ، إلاّ أن عبارته في المنتهى صريحة في ذلك ، فإنّه قال : الرابع : لو جفّ ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرطة ، جاز البناء دون استئناف ماء جديد للمسح ، لحصول الضرورة المبيحة للترخّص (2) وليس مراده بقوله : دون استئناف ماء جديد ، مجرّد نفي الوجوب ، بل المراد به نفي الجواز ، لكونه في مقابل قوله : جاز البناء ، بل هو قيد له ، بمعنى أنّه يجوز له البناء مقيّداً بعدم استئناف ماء جديد. ولكن نقل في مفتاح الكرامة عن بعض النسخ لفظ « الواو » مكان لفظة « دون » (3).

قال السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) في تحريره عن شيخنا قدس سره : ومن هنا يظهر دلالة الرواية الثالثة أيضاً ، فإنّ الظاهر منها أنّ الميسور من الشيء لا يسقط بما له من الحكم وجوبياً أو استحبابياً بتعسّر غيره ، فيدلّ على وجوب الباقي ، بل الظاهر منها الشمول للواجب البسيط أيضاً إذا كان له مراتب ، وأنّ تعسّر المرتبة العالية منه لا يوجب سقوط غيرها من المراتب التي تعدّ ميسورة منه (4).

إنّ اختلاف المراتب لا يتأتّى في الواجب البسيط ، بل لابدّ من أن يكون في

ص: 451


1- تحرير الأحكام 1 : 82.
2- منتهى المطلب 2 : 117.
3- مفتاح الكرامة 1 : 440.
4- أجود التقريرات 3 : 536.

البين تركيب ولو من القيود والشروط كي يكون الفاقد لبعض تلك القيود مرتبة ثانية لما هو الواجد لتمام القيود ، وقد مثّل لمثل ذلك في تحرير الشيخ رحمه اللّه بالقيام ، فقال : فإنّ القيام مثلاً الذي أخذ جزءاً للصلاة له معنى عرفي ، وهي الهيئة المقابلة لهيئة الجلوس والمشي والاضطراب الفاحش ، وله خصوصيات أُخر اعتبره الشارع فيه ، من الاستقرار والاعتماد على الأرض والانتصاب وغير ذلك ، فلو تعذّر الاعتماد على الأرض أو الاستقرار يصدق على الباقي المتمكّن منه أنّه ميسور المتعذّر الخ (1) ولعلّ ذلك هو المراد لتحرير السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) من الواجب البسيط إذا كان له مراتب ، لكنّك قد عرفت أنّ هذا حينئذ ليس من الواجب البسيط.

قوله : وأمّا الموضوعات الشرعية فتشخيص الركن عن غيره والميسور عن المباين في غاية الإشكال ، فإنّ كون الركعتين أو الثلاث ميسور الأربع ... الخ (2).

لم يتّضح الوجه في هذا التفصيل وما هو المراد من الموضوعات الشرعية ، فإن كان المراد عدم الاطّلاع على الملاك في مثل عدد الركعات وفي مثل المسح في الوضوء ، فذلك حاصل في مثل القيام ، وأنّ الاعتماد والاستقرار هل يكونان من قبيل الركن بحيث يكون الملاك متوقّفاً عليهما أو لا.

والإنصاف : أنّ باب الملاك شيء وباب المأمور به شيء آخر ، ونحن في مقام التعذّر وصدق الميسور تابعون لصورة المأمور به ، وعن حكم العرف بأنّ

ص: 452


1- فوائد الأُصول 4 : 256 - 257.
2- فوائد الأُصول 4 : 257.

هذا ميسور ذاك نستكشف الملاك ، وعلى الشارع التقييد والإخراج فيما لو عدّه العرف ميسوراً وكان في الواقع غير وافٍ بالملاك ، كما أنّ عليه الحكم بالإدخال فيما تخيّله العرف أنّه ليس بميسور وكان في الواقع وافياً بالملاك ، ولعلّ هذا هو المراد من التخطئة في عبارة الكفاية (1) فراجعها.

قوله : ثمّ إنّه لا فرق في القاعدة بين الأجزاء والشرائط ... الخ (2).

قد يقال بالفرق بناءً على أنّ المراد من الميسور والمعسور هي الأجزاء والأفراد ، بدعوى أنّ ذلك إنّما يكون في الأجزاء لكون كلّ جزء واجباً في ضمن الكل ، بخلاف الشرائط فإنّها لا تجب ضمنياً ، فتأمّل.

قوله : وأمّا التمسّك بالاستصحاب على وجوبه ... الخ (3).

الأولى إيكال الكلام على الاستصحاب المذكور إلى محلّه من تنبيهات الاستصحاب (4) ، فإنّه سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان أنّ المستصحب ليس هو الوجوب الوارد على المجموع حتّى يحتاج إلى تكلّف هذه المسامحات ، من كون القيد من قبيل العنوان أو أنّه من قبيل العلّة المحدثة أو العلّة المبقية ونحو ذلك ، بل إنّ المستصحب هو نفس الوجوب الذي كان وارداً على الباقي في ضمن تعلّقه بالكل. نعم يأتي أيضاً إن شاء اللّه الكلام على أنّه هل يعتبر أن لا يكون الجزء المفقود ممّا له الدخل في قوام المركّب ، أو أنّه لا يعتبر فيه ذلك. وعلى كلّ حال

ص: 453


1- كفاية الأُصول : 372.
2- فوائد الأُصول 4 : 258.
3- فوائد الأُصول 4 : 258.
4- راجع فوائد الأُصول 4 : 556 وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك تأتي في المجلّد العاشر من هذا الكتاب في الصفحة : 442 وما بعدها.

فإنّ هذا الأمر على تقدير اعتباره لا ربط له في التسامح في القيد ، وأنّه بحسب النظر العرفي ليس من قبيل العنوان.

قوله : وإجماله أنّ الوصف العنواني الذي أُخذ موضوعاً في ظاهر الدليل - إلى قوله - وأُخرى يكون معرّفاً ... الخ (1).

وذلك كما لو قال : أكرم هؤلاء الذين في المسجد ، فإنّ هذا العنوان معرّف على وجه لو خرجوا من المسجد لكان إكرامهم واجباً أيضاً ، ولكن هذه المسامحة لا دخل لها بما نحن فيه ، كما أنّ كون العنوان علّة أو كونه موضوعاً لا دخل له فيما نحن فيه ، بل إنّ المسامحة فيما نحن فيه من طريق آخر نظير مسألة كرّية الماء ، فالمستصحب هو الوجوب الوارد على الكل ، وذهاب بعض الأجزاء كذهاب بعض أجزاء الماء الذي كان مجموعه كرّاً في صحّة التسامح ، وإطلاق القول بأنّ هذا المركّب كان واجباً كاطلاق القول بأنّ هذا الماء كان كرّاً ، هذا أحد تقريبات إجراء الاستصحاب ، وله تقريبات أُخر ذكرت في التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب (2) ، منها : استصحاب وجوب الأجزاء المتيسّرة حينما كانت في ضمن الكل ، بالتسامح بين الوجوب الضمني الذي كان لها في ضمن الجميع والوجوب النفسي لها حينما تعذّر بعض ذلك الجميع ، بدعوى كون النظر العرفي هو وحدة الوجوب ، إلى غير ذلك من التوجيهات المبنية على تسامح عرفي خارج عن التسامح في كون العنوان معرّفاً ، أو كونه علّة وواسطة ومن الجهات التعليلية ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 454


1- فوائد الأُصول 4 : 259.
2- راجع الهامش (4) المتقدّم في الصفحة السابقة.

قوله : إذ إطلاق دليل القيد لا يقتضي أزيد من ثبوت القيد حتّى عند العجز عنه ، وهذا لا ينافي قيام دليل آخر على وجوب الخالي عن القيد عند تعذّره ... الخ (1).

لا يبعد أن يكون هذا مبنيّاً على ما تقدّمت الاشارة إليه (2) في ملحق حاشية ص 86 من أنّه عند إطلاق دليل التقييد بكلا صورتيه وإن كان الاطلاق نافياً لبقاء الوجوب عند تعذّر القيد ، إلاّ أنه لا مانع من حدوث ملاك آخر عند تعذّر القيد يكون موجباً لايجاب الباقي ، وأنّه عند الوصول إلى هذا الاحتمال يكون المرجع هو البراءة ، لكن لو قام دليل على ذلك الوجوب الجديد لم يكن معارضاً ومنافياً لما يقتضيه إطلاق التقييد من انتفاء أصل الحكم الوارد على الكل لانتفاء صلاحه ، فإنّ وجود المصلحة الجديدة الباعثة على الوجوب الجديد لا ينافيها ذلك الاطلاق ، إلاّ أن الشأن كلّ الشأن في وجود ما يدلّ على الوجوب الجديد ، وقاعدة الميسور لا تدلّ على وجوب جديد ، بل أقصى ما فيها هو بقاء الوجوب السابق بنحو من التسامح ، فهي إنّما تجري فيما إذا لم يكن في البين إطلاق التقييد ، بل كان دليل التقييد مجملاً من هذه الجهة لتكون قاعدة الميسور كاشفة عن تقييد القيدية الملازم لعدم الركنية ، أمّا مع إطلاق القيدية الكاشف عن كون القيد ركناً فلا مورد فيه لقاعدة الميسور ، كما أنّها لا تجري فيما لو كان لأصل الوجوب إطلاق مع فرض عدم الاطلاق في دليل التقييد ، لأنّ إطلاق أصل الوجوب دليل على بقائه عند تعذّر ما تعذّر من الأجزاء أو الشرائط.

ص: 455


1- فوائد الأُصول 4 : 259.
2- في هامش الصفحة : 423.

والخلاصة : هي أنّه لو كان في البين إطلاق لدليل التقييد كان هو المرجع وكان مقتضاه سقوط الباقي عند تعذّر القيد كما في مثل « لا صلاة إلاّبطهور » (1) ومعه لا وجه للرجوع إلى قاعدة [ الميسور ] ، لثبوت أنّ الفاقد ليس بصلاة ، فكيف يكون ميسوراً. نعم ، يمكن أن يقوم دليل خاصّ على وجوب الباقي ، وذلك مطلب آخر غير قاعدة الميسور. ولو لم يكن في البين إطلاق لدليل التقييد وكان هناك إطلاق لدليل الأمر كان هو المرجع لا قاعدة الميسور ولا غيرها.

ثمّ بعد عدم تحقّق الاطلاق من الطرفين يكون المرجع هو القواعد مثل قاعدة الميسور بعد فرض تحقّق التسامح ، وأنّه يصدق على الباقي أنّه الميسور من الواجب المركّب ، ومعها لا وجه للرجوع إلى الاستصحاب ، بل تكون هي حاكمة عليه. نعم مع قطع النظر عنها يكون المرجع هو الاستصحاب بنفس التسامح الذي صحّحنا به قاعدة الميسور ، بأن يقال : إنّ الصلاة كانت واجبة والآن بعد تعذّر الجزء الفلاني تبقى على وجوبها ، والتسامح في جعل الفاقد عين الواجد ، فيقال إنّه كان واجباً والآن كما كان ، وبعد فرض عدم تمامية هذا التسامح يكون المستصحب هو الوجوب الوارد على الأربعة الذي كان في ضمن الخمسة ، فإنّه إن كان الخامس ركناً كان ذلك الوجوب ممّا لا يبقى ، وإن لم يكن ركناً كان ممّا يبقى ، فيكون استصحابه من قبيل استصحاب الفرد المردّد بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء كالبقّة والفيل. ثمّ بعد فرض كونه ممّا لا يبقى لكن احتملنا قيام وجوب آخر مقامه عند ارتفاعه ، فيكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، وبعد طي هذه المراحل يكون المرجع هو البراءة من وجوب الباقي أو

ص: 456


1- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

أصالة الاشتغال.

قوله : إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط ، بأن تعذّر جمعهما في الامتثال ... الخ (1).

التفصيل في هذا المقام هو أن يقال : إنّهما إن كانا على نحو الركنية فلا شبهة في سقوط الواجب ، وإن كان أحدهما ركناً والآخر غير ركن تعيّن للسقوط ما هو غير الركن ، وإن كان كلّ منهما غير ركن ، فإن كان الشرط شرطاً لنفس الجزء المذكور فقط تعيّن سقوط الشرط ، لدوران الأمر بين سقوطه وحده أو سقوطه مع مشروطه وهو الجزء ، ولا ريب أنّ الأوّل أولى ، لجريان قاعدة الميسور في نفس الجزء ، وفي الحقيقة ليس هذا من الدوران بين الجزء والشرط ، بل هو من قبيل تعذّر شرط الجزء. نعم لو أمكن إيجاد كلّ من الجزء وشرطه بدون الآخر ولم يمكن الجمع بينهما ، كان من قبيل الدوران بين الجزء أو شرطه ، لكنّه فرض محال ، إذ لا يمكن الاتيان بشرط الجزء بدون الجزء.

وإن كان الشرط شرطاً لتمام المركّب ، فإن كان الشرط مستمراً من أوّل العمل إلى آخره ، وكان محلّ الجزء في أثناء العمل ، تعيّن ترك الجزء إن كان الفرض على وجه لو أخذ بالشرط من أوّل العمل تعذّر عليه عند الوصول إلى محلّ الجزء العدول عن الشرط والاتيان بالجزء مجرّداً ، لأنّ وجوب الشرط في ظرفه على هذا الفرض يكون بلا مزاحم. وإن كان الفرض على وجه لو وصل إلى محلّ الجزء يتمكّن من العدول عن الشرط والاتيان بذلك الجزء مجرّداً عن الشرط ، فإن كان على وجه لو أتى بالجزء المجرّد يتمكّن من تحصيل الشرط في

ص: 457


1- فوائد الأُصول 4 : 260.

باقي الأجزاء ، كان في الحقيقة من قبيل الدوران بين الجزء وشرطه ، وإن كان لو أتى بالجزء مجرّداً لا يتمكّن من تحصيل الشرط لباقي الأجزاء اللاحقة ، كان الحكم فيه هو الحكم في الفرض الآتي ، وهو ما لو كان الجزء في أوّل العمل وكان الشرط شرطاً لتمام العمل ، ودار الأمر بين ترك الجزء والاتيان ببقية الأجزاء واجدة لشرطها وبين الاتيان بذلك الجزء وترك الشرط في تمام العمل حتّى ذلك الجزء ، فبالنسبة إلى ذلك الجزء يدور الأمر بين تركه وشرطه أو ترك شرطه فقط ، وقد تقدّم تعيّن الثاني ، وحينئذ يتعيّن سقوط الشرط في باقي الأجزاء ، لكنّه مشكل ، لأنّه من الدوران بين المحافظة على الجزء وإسقاط شرطه وشرط الجميع ، والمحافظة على شرط الجميع وإسقاط الجزء هو وشرطه ، فلا وجه لتقدّم الجزء على شرط الجميع.

نعم ، لو كان الشرط ركناً في ذلك الجزء وإن لم يكن ركناً في تمام ذلك العمل ، ففي هذه الصورة يتعيّن ترك الجزء والاتيان بباقي الأجزاء واجدة لشرطها ، وكذا لو لم يكن ركناً في ذلك الجزء لكن كان ركناً في أحد الأجزاء اللاحقة ، وكان ذلك الجزء ركناً في أصل العمل ، فإنّه حينئذ يكون الشرط ركناً في أصل العمل وقد تقدّم حكمه.

وإن كان الشرط شرطاً لتمام العمل ولكن لم يكن مستمرّاً من أوّل العمل إلى آخره ، بل كان محلّه مقارناً لبعض الأجزاء ، فإن كان محلّه عند فعل ذلك الجزء تعيّن ترك الشرط ، وإن كان محلّه متقدّماً على ذلك الجزء أو متأخّراً عنه ، تعيّن ترك المتأخّر منهما ، وكذا إن لم يكن الشرط شرطاً لنفس ذلك الجزء بل كان شرطاً لما قبله أو لما بعده ، فإنّه إن كان محلّه متقدّماً على الجزء المذكور أو متأخّراً

ص: 458

عنه ، تعيّن تقديم ما هو المتقدّم منهما ، وإن كان محلّه مقارناً لمحلّ نفس ذلك الجزء ، وكان ذلك الشرط ممّا يمكن بقاؤه عند ترك ذلك الجزء ، كان من دوران الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط ، ولعلّ كلام الشيخ قدس سره في الرسائل (1) منحصر في هذه الصورة ، فراجع وتأمّل.

قوله : الفرع الثاني : إذا كان للمركّب بدل اضطراري كالوضوء ... الخ (2).

الذي حرّرته عن شيخنا قدس سره في هذا المقام هذا نصّه : والذي ينبغي أن يقال هو أنّ الفعل الاضطراري لو دلّ الدليل على بدليته ولو بقاعدة الميسور كان مقدّماً على التيمّم ، إلاّ أنه لم يثبت ذلك في باب الوضوء إلاّفي مورد الجبيرة لأخبار الجبيرة ، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها ، وإن كانت رواية عبد الأعلى متضمّنة لقوله عليه السلام : « إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب اللّه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) »(4) إلاّ أنه لمّا كان لفظ « الشبه » مجملاً لم يمكن التعدّي عنه إلى غير مورد الجبيرة حتّى في الرمد والجرح المكشوف ، وحتّى في الحاجب الذي لا يمكن إزالته لضيق الوقت كالقير ونحوه ، بل حتّى ما جاور الجبيرة ممّا لا يمكن وضع الماء عليه إن اتّفق ذلك ، والمسألة في غاية الإشكال ، ومحلّ الكلام عليها في الفقه.

ص: 459


1- فرائد الأُصول 2 : 398.
2- فوائد الأُصول 4 : 261.
3- الحجّ 22 : 78.
4- وسائل الشيعة 1 : 464 / أبواب الوضوء ب 39 ح 5 ( مع اختلاف يسير ).

قوله : بقي من أقسام الشكّ في المكلّف به ما إذا اشتبه الواجب بالحرام ، كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر واشتبه الواجب بالحرام ... الخ (1).

الظاهر أنّ دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع اشتباههما تارةً يكون لأجل العلم بتوجّه الخطابين واشتبه المطلوب تركه بالمطلوب فعله ، إمّا من جهة الشبهة الموضوعية كما لو اشتبه المرتدّ الفطري بالمؤمن ، وكما لو اشتبهت الزوجة المحلوف على وطئها بالأجنبية ، أو بالزوجة المحلوف على ترك وطئها ، وإمّا من جهة الاشتباه في الحكم ، كما لو ورد أمر ونهي وتردّد الأمر في أنّ متعلّق الأوّل هو الفعل الفلاني ومتعلّق الثاني هو الفعل الآخر ، أو أنّ الأمر بالعكس.

وأُخرى يكون دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، لأجل العلم بخطاب واحد مردّد بين الأمر والنهي مع التردّد في متعلّق ذلك الخطاب بين المتباينين ، يعني أنّ ذلك التكليف الذي هو المردّد بين الأمر والنهي هل هو متعلّق بهذا الفعل ، أو أنّه متعلّق بذلك الفعل الآخر ، إمّا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية. وعلى أي حال ، فيكون الأمر في كلّ واحد من المشتبهين من قبيل الدوران بين المحذورين ، ومقتضاه التخيير العقلي في كلّ واحد من ذينك المشتبهين ، وفي إدراجه فيما ذكرناه من دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع اشتباههما تسامح ، فإنّه من دوران الأمر بين الايجاب والتحريم في كلّ منهما.

وعلى كلّ حال ، ففي النحو الأوّل أعني ما لو كان هناك تكليفان أمر ونهي ،

ص: 460


1- فوائد الأُصول 4 : 263.

وحصل التردّد في المتعلّق لتردّده بين المتباينين شبهة حكمية أو موضوعية ، لا يمكن التخيير إلاّبين فعل أحدهما وترك الآخر ، دون التخيير بين تركهما معاً أو فعلهما معاً ، لأنّ ذلك مستلزم للمخالفة القطعية ، بخلاف النحو الثاني وهو ما لم يكن في البين إلاّتكليف واحد مردّد في نفسه بين الايجاب والتحريم ، واتّفق الاشتباه في متعلّقه بأن تردّد بين المتباينين ، إمّا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية ، فإنّه كما يجوز التخيير فيه بين فعل أحدهما وترك الآخر يجوز التخيير فيه بين فعلهما معاً وتركهما معاً ، فيكون فيه المكلّف مخيّراً بين الجهات الأربع : فعلهما معاً ، وتركهما معاً ، وفعل الأوّل وترك الثاني ، وبالعكس.

قوله : هذا ، ولكن الحكم بالتخيير بقول مطلق لا يخلو من إشكال ، بل ينبغي ملاحظة مرجّحات باب التزاحم ، فيقدّم الموافقة القطعية للأهمّ منهما وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ... الخ (1).

هذا ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس سره في الدورات السابقة ، ولكنّه قدس سره في الدورة الأخيرة يظهر منه المنع من تقديم الأهمّ ، بدعوى كون ذلك خارجاً عن باب التزاحم ، لأنّ ذلك إنّما هو في التكليف الواصل ، ليكون شاغليته للمكلّف تعجيزاً مولوياً عن الآخر ، دون مثل هذه المسائل ، من دون فرق في ذلك بين هذه المسألة ومسألة دوران الأمر بين المحذورين في الفعل الواحد ، فإنّ التدافع بين الحكمين في أمثال هذه المسائل كما أنّه لم يكن من باب التعارض ، فكذلك ليس هو من باب التزاحم ، لأنّ ملاك التزاحم هو كون أحد التكليفين شاغلاً مولوياً عن الآخر ، وبواسطة شاغليته للمكلّف يكون سالباً لقدرته على الآخر ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه قسم ثالث وهو ما يكون التدافع ناشئاً عن تناقض الحكمين مع اشتباه

ص: 461


1- فوائد الأُصول 4 : 263.

متعلّقهما الموجب لعدم التمكّن من تحصيل الموافقة القطعية لكلّ منهما ، لأنّ الموافقة القطعية لأحدهما ملازمة للمخالفة القطعية للآخر ، وحينئذ فيدور الأمر فيه بين الموافقة القطعية لأحدهما المقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، وبين الموافقة الاحتمالية لكلّ منهما ، والعقل حاكم بلزوم الثاني وطرح الأوّل ، وتكون النتيجة كما أفاده الشيخ قدس سره (1) من التخيير بين ترك أحد الفعلين وفعل الآخر.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه لا ينحصر التدافع بين الحكمين بباب التعارض وباب التزاحم ، بل إنّ في البين قسماً ثالثاً وهو ما نحن فيه. والحاصل أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كلّ من الحكمين على حدّ سواء ، وأهميّة أحدهما لا توجب انحصار التنجّز به ، هذا حاصل ما فهمته من إفاداته قدّس اللّه سرّه وعطّر رمسه.

ولكنّه إنّما يتمّ في أصل مسألة دوران الأمر بين المحذورين وما يلحق بها ، وهو النحو الثاني ممّا ذكرناه ، لإمكان القول بأنّ أهميّة الايجاب مثلاً لا توجب تنجّزه ، وهذا سهل ، لأنّه لو التزم بجانب الايجاب لم يلزم منه المخالفة القطعية لتكليف آخر منجّز ، بخلاف النحو الأوّل ، فإنّ كلّ واحد من الايجاب والتحريم منجّز بالعلم الاجمالي في متعلّقه المردّد بين المتباينين ، غايته أنّ إطاعة كلّ واحد من هذين التكليفين مزاحمة بعصيان الآخر ، فهو لا يقدر على الجمع بين الاطاعتين ، وتكون إطاعة كلّ منهما مقرونة بمخالفة الآخر ، فينبغي الترجيح بما هو أهمّ.

ثمّ إنّه قدس سره كان قبل هذا يستدلّ على لزوم الترجيح بالأهمية بما هو المعلوم من مذاق الفقهاء أنّهم لا يسوّغون الإقدام على قتل الشخصين اللذين يعلم كون أحدهما مؤمناً والآخر مرتدّاً فطرياً ، ولا الاقدام على وطء كلا المرأتين اللّتين

ص: 462


1- فرائد الأُصول 2 : 403.

يعلم كون إحداهما زوجة محلوفة الوطء والأُخرى أجنبية ، وما ذلك إلاّمن جهة الترجيح بالأهمية المستفادة من حكم الشارع بالاحتياط في مثل ذلك في الشبهات البدوية.

ثمّ بعد أن اختار حسبما نقلنا موافقة الشيخ قدس سره من عدم جريان الترجيح بالأهمية لعدم كون المقام من قبيل التزاحم ، أجاب عن أمثال هذين الفرعين بأنّ لزوم الترك في كلّ من الطرفين لم يكن للأهمية ، بل لأجل أنّ الأصل في الدماء والفروج الحرمة في مقام الشبهة ، ولو كانت مقرونة بالعلم الاجمالي بالايجاب أو التحريم.

وإن شئت فقل : إنّ العلم الاجمالي المردّد بين ذينك الشخصين أو الامرأتين يكون منحلاً ، لأنّ أحد الطرفين ممّا يجري فيه الأصل المثبت للتكليف ، وهو أصالة الحرمة في الدماء وكذا في الفروج ، والآخر في حدّ نفسه مجرى للأصل النافي.

وبالجملة : أنّ احتمال التحريم في باب الدماء والفروج منجّز ، سواء كان في قباله احتمال الاباحة أم كان في قباله احتمال الوجوب فقط ، ويستوي في ذلك باب دوران الأمر بين المحذورين الصرف وما ألحقناه به ، وهو المثال الثاني ، بل وكذلك المثال الأوّل الذي هو محلّ الكلام.

أمّا بقية المرجّحات في باب التزاحم فمنها ما يكون أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة العقلية والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعية ، فلا يبعد جريانها في باب دوران الأمر بين المحذورين وفيما نحن فيه ، مثاله في المحذورين ما لو دار الأمر في زوجته الواحدة المعيّنة بين كونها متروكة الوطء لمدّة أربعة أشهر أو كونها منذورة الترك في هذه الليلة ، فهو مردّد بين وجوب وطئها الآن وحرمة

ص: 463

وطئها ، والأوّل مشروط بالقدرة العقلية والثاني مشروط بالقدرة الشرعية (1) ، فهل يحكم فيه بالتخيير أم يتعيّن الوطء (2).

ومثاله فيما نحن فيه ما لو علم أنّه قد نذر ترك وطء إحدى زوجتيه في هذه الليلة ، وأنّ إحداهما أيضاً واجبة الوطء هذه الليلة ، لأنّها قد مضى عليها أربعة أشهر ، فهل يلزمه وطء إحداهما وترك الأُخرى ، أم يتعيّن عليه وطؤهما وإن لزم مخالفة النذر ، لأنّه مشروط بالقدرة الشرعية ، ووجوب الوطء بعد أربعة أشهر مشروط بالقدرة العقلية.

ومن أمثلة ذلك في المحذورين ما لو كانت جاريته الواحدة مردّدة بين كونها قد نذر التصدّق بها وكونها مرهونة أو كونها أُمّ ولد ، بناءً على ما أفاده قدس سره (3) في بيع أُمّ الولد من كون حقّ أُمّ الولد ، وكذلك الرهانة مقدّماً على نذر التصدّق ، لكونه مشروطاً بالرجحان أو بالقدرة الشرعية ، بخلافهما.

ومثاله فيما نحن فيه ما لو كانت إحدى جاريتيه منذور التصدّق بها والأُخرى أُمّ ولد أو مرهونة.

وكذلك لو كانت جاريته الواحدة مردّدة بين كونها مرهونة وقد حلّ الأجل فوجب البيع وبين كونها أُمّ ولد ، ولو كانت إحداهما مرهونة وقد حلّ الأجل والأُخرى أُمّ ولد واشتبها.

ومن المرجّحات في باب التزاحم ما لو كان أحد التكليفين موسّعاً والآخر مضيّقاً ، فإنّ الثاني يقدّم على الأوّل في باب التزاحم. مثاله في المحذورين لو دار

ص: 464


1- [ في الأصل : بالقدرة العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- [ في الأصل : أم يتعيّن الترك ، والصحيح ما أثبتناه ].
3- منية الطالب 2 : 322 وما بعدها.

الأمر في جاريته المعيّنة بين كونها منذورة الوطء في هذا الاسبوع مرّة واحدة ، أو أنّها منذورة الترك في هذه الليلة ، فالأوّل من قبيل الموسّع والثاني من قبيل المضيّق.

ومثاله فيما نحن فيه لو نذر وطء إحدى زوجتيه في هذا الاسبوع ونذر ترك الأُخرى في هذه الليلة واشتبها.

ومن المرجّحات في باب التزاحم كون أحد التكليفين أهمّ من الآخر ، فيقدّم الأهمّ على المهمّ في باب التزاحم. مثاله في المحذورين لو كان الغريق الواحد مردّداً بين كونه فلاناً المسلم فيجب إنقاذه ، أو فلاناً الكافر فيحرم إنقاذه ، وقلنا إنّ وجوب إنقاذ المسلم أهمّ من حرمة إنقاذ الكافر فيما لو كان إنقاذ المسلم ملازماً لإنقاذ الكافر.

ومثاله فيما نحن فيه فيما لو كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً واشتبها ، فهل يخيّر بين إنقاذ أحدهما وترك الآخر ، أو يتعيّن عليه إنقاذهما معاً؟ الظاهر الثاني. ولو استشكلت في المثال بكون حفظ المسلم من باب الدماء ، فأبدل المثال بقرآن وقابله بكتاب ضلال. أمّا الاستشكال في كون وجوب إنقاذ المسلم أهمّ من حرمة إنقاذ الكافر بمسألة التترّس ، فإنّ جوابه واضح ، فإنّ مسألة التترس مختصّة بباب الجهاد فيما لو توقّف الفتح على ذلك ، أو توقّف حفظ جيش المسلمين على إعدام من تترّس به الكفّار من أسرى المسلمين ، دون ما نحن فيه ممّا لو توقّف إنقاذ المسلم الغريق على إنقاذ الكافر الحربي معه ، الذي يكون إنقاذه في حدّ نفسه محرّماً.

وخلاصة البحث : هو أنّه لا إشكال في التخيير في دوران الأمر بين المحذورين وفيما نحن فيه في الجملة ، فهل هذا التخيير بعد فقد المرجّحات

ص: 465

المذكورة ، أو أنّه جارٍ مطلقاً وأنّ باب الترجيح منسدّ في المحذورين وفيما نحن فيه. وعلى أيّ حال ، لو قلنا بالترجيح فالتخيير في المقامين يكون منحصراً بصورة عدم المرجّح ، ولو قلنا بعدم الترجيح كان التخيير جارياً على كلّ حال في كلّ من المقامين ، وإذا انتهت المسألة إلى التخيير ففي مقام الدوران بين المحذورين صرفاً ينحصر التخيير بين فعل الشيء وتركه ، لكن في مقامنا ( كما لو علم المكلّف بأنّه قد توجّه إليه الأمر والنهي ولكنّه تردّد في أنّ متعلّق الأوّل هو شرب التتن والثاني هو شرب النبيذ ، أو أنّ الواقع بالعكس ) هل يكون التخيير بين الجهات الأربع ، فيتخيّر المكلّف بين فعلهما ، وتركهما ، وفعل الأوّل وترك الثاني ، وترك الأوّل وفعل الثاني.

والظاهر أنّه لا سبيل إلى الأوّلين ، فلا يجوز له فعلهما معاً ، كما أنّه لا يجوز له تركهما معاً ، بل يتعيّن عليه شرب الأوّل وترك الثاني ، أو ترك الأوّل وشرب الثاني ، فإنّ العلم بالوجوب المذكور علّة في المنع عن مخالفته القطعية ، ولنقل إنّه علّة في وجوب موافقته القطعية ، لكن ذلك - أعني كونه علّة لوجوب الموافقة القطعية - إنّما هو إذا لم يمنع منها مانع عقلي ، وعلى ذلك أسّسنا تبعيض الاحتياط في مورد سقوط الموافقة القطعية. وهكذا الحال في ناحية العلم بالتحريم.

وحينئذ نقول : إنّ العلم بكلّ من التكليفين يؤثّر فعلاً في حرمة المخالفة القطعية لكلّ منهما ، ويحكم العقل بالمنع من المخالفة القطعية لكلّ من التكليفين ، ولا يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لكلّ منهما ، لأنّها بنظره ممنوعة بواسطة كونها موجبة للمخالفة القطعية للآخر ، وبذلك يتعيّن التخيير في الوجهين الأخيرين دون الوجهين الأوّلين ، وذلك لا يبتني على كون العلم الاجمالي علّة في حرمة المخالفة القطعية ومقتضياً في وجوب الموافقة القطعية ،

ص: 466

بل إنّه جار حتّى لو قلنا بأنّه علّة بالنسبة إليهما على حدّ سواء ، إذ لا إشكال على القولين في سقوط الموافقة القطعية عند حكم العقل بتعذّرها ، لعدم القدرة عليها أو لقبحها عقلاً لكونها موجبة لاختلال النظام ، كما قرّر في محلّه في مبحث الانسداد في إقامة البرهان على سدّ باب الاحتياط التامّ في جميع محتملات التكاليف ، وليس للموافقة القطعية خصوصية في ذلك ، بل إنّ المخالفة القطعية إذا لم تكن مقدورة لم يحكم العقل بقبحها من باب أنّه لا موضوع لحكمه حينئذ ، كما في دوران الأمر في الفعل الواحد بين المحذورين ، ولو فرض لنا مورد تكون المخالفة القطعية ممكنة ، لكن كان العقل حاكماً بحسنها وقبح تركها ، كانت ساقطة في مورد العلم التفصيلي فضلاً عن العلم الاجمالي ، فلو توقّف إنقاذ الغريق على سلوك قطعتين يعلم إجمالاً بغصبية إحداهما وجب سلوكهما كما يجب في مورد العلم التفصيلي.

فصار الحاصل : هو أنّا لو قلنا بأنّ ما نحن فيه ملحق بالتزاحم ، لكون الاحتياط ولزوم الموافقة القطعية في أحد التكليفين مزاحماً بالاحتياط في التكليف الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية لأحدهما مقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، ولم يكن في البين أهميّة ، فهل عند التساوي وعدم الأهمية يكون المكلّف مخيّراً بين الموافقتين القطعيتين فيتخيّر بين فعلهما معاً وتركهما ، أو أنّه لا يكون له ذلك ، بل يتعيّن عليه فعل أحدهما وترك الآخر؟ الظاهر بل المتعيّن هو الثاني ، لأنّ العلم الاجمالي المردّد بين وجوب أحدهما وحرمة الآخر يوجب حكم العقل بالمنع من المخالفة القطعية ، لأنّ العلم الاجمالي علّة تامّة في حرمة المخالفة القطعية ، فالعقل كما يمنع من المخالفة القطعية للوجوب الموجود في البين ، فكذلك يمنع من المخالفة القطعية للتحريم الموجود في البين ، ولا تدافع ولا

ص: 467

تزاحم بين هذين الحكمين العقليين. أمّا وجوب الموافقة القطعية للوجوب فلا يحكم بها العقل في المقام لوجود المانع ، وهو ابتلاؤها بما منع منه العقل وهو المخالفة القطعية للآخر ، وهكذا الحال في الموافقة القطعية لجانب التحريم ، وقد حقّق في محلّه أنّ العلم إنّما يوجب الموافقة إذا لم يكن في البين ما يمنع منها ، فهو نظير ما لو كان في البين مانع من وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي لعدم القدرة على ذلك ، فإنّ ذلك لا يوجب جواز المخالفة القطعية ، كما في من وظيفته تكرار الصلاة إلى الجهات الأربع واتّفق أن لم يكن قادراً عليها جميعاً ، فإنّ ذلك لا يوجب سقوط العلم الاجمالي بالمرّة ، فليس المانع من تجويز فعلهما معاً أو تركهما معاً هو مجرّد كون الموافقة الاحتمالية لأحدهما أولى من الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، كما ربما يظهر من الشيخ قدس سره (1) ، فإنّه وإن كان موافقاً في النتيجة لما ذكرناه ، إلاّ أنه أشبه شيء بالخطابة ، فالعمدة في المنع من ذلك هو ما ذكرناه من أنّ سقوط الموافقة القطعية لعدم القدرة عليها بسبب مقارنتها للمخالفة القطعية للآخر لا يوجب سقوط حرمة المخالفة القطعية ، فلا يجوز له فعلهما معاً أو تركهما معاً ، بل لا يكون التخيير إلاّفي فعل أحدهما وترك الآخر.

والظاهر أنّ هذه الطريقة جارية حتّى لو قلنا بأنّ العلم الاجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، إذ لا إشكال في سقوطها حتّى على هذا القول فيما لو وجد المانع العقلي منها ، كما في صورة عدم التمكّن عقلاً من الموافقة القطعية ، وعلى هذا الأساس يبتني تبعيض الاحتياط في موارد تعذّره فتأمّل.

ص: 468


1- فرائد الأُصول 2 : 403.

ولا يخفى أنّا وإن تصوّرنا الترجيح بالأهميّة وغيرها إلاّ أنه لا يبعد تمامية هذه الطريقة ، وهي توجب انسداد باب الترجيح بالأهميّة ، لأنّ الترجيح بالأهمية إنّما يكون في مورد ينحصر الأمر فيه بين إطاعة أحد التكليفين قطعاً وعصيان الآخر قطعاً ، كما في سائر موارد التزاحم ، أمّا ما نحن فيه فلم ينحصر الأمر فيه بين الموافقة القطعية لأحد التكليفين والمخالفة القطعية للآخر ، لإمكان التخلّص بفعل أحدهما وترك الآخر ، إلاّ أن يكون التحريم من قبيل الدماء والفروج ، فإنّ الاحتياط فيها يسدّ باب احتمال المخالفة ، فلا يجوز له قتل أحدهما ، بل يتعيّن عليه ترك قتلهما وإن أوجب ذلك الوقوع في مخالفة الواجب ، وحاصله : أنّ الاحتياط في الدماء مقدّم على مخالفة ما هو معلوم الوجوب إجمالاً ، بل حتّى لو كان الاحتياط موجباً لمخالفة الواجب التفصيلي ، فتأمّل.

وربما يقرّب جواز فعلهما معاً أو تركهما معاً ، بأنّ التزاحم بين الوجوب والحرمة تارةً يكون من قبيل حرمة الغصب ووجوب إنقاذ الغريق فيما لو توقّف إنقاذه على سلوك الأرض المغصوبة ، والجامع هو توقّف الواجب على فعل الحرام بأن يكون الحرام مقدّمة للواجب ، وأُخرى يكون من جهة اتّفاق ملازمة فعل الواجب لفعل الحرام ، من دون أن يكون في البين توقّف ومقدّمية ، وذلك مثل حرمة الاستدبار للجدي مثلاً ووجوب استقبال القبلة.

ففي النحو الأوّل لو كان الأهمّ هو الواجب سقط التحريم بالمرّة ، ولو كان الأهمّ هو الحرام سقط الوجوب بالمرّة أيضاً ، وكذا لو كانا متساويين فإنّه أيضاً يكون اللازم هو الترك لعدم المسوّغ للفعل (1)

ص: 469


1- ويمكن أن يقال : إنّه لا مانع من الاستطراق ، لأنّ حرمته سقطت بمزاحمة الواجب ، كما أنّه لا مانع من ترك الانقاذ بترك الاستطراق ، لأنّ وجوبه سقط بمزاحمة حرمة الاستطراق ، وحينئذ يجوز له أن يتركهما معاً ، كما يجوز له أن يفعلهما معاً. نعم لا يجوز له فعل الأوّل وترك الثاني بأن يستطرق ولا ينقذ [ منه قدس سره ].

أمّا النحو الثاني فهو وإن شاركه في أنّه عند أهمية الواجب يسقط التحريم وعند أهمية التحريم يسقط الواجب ، إلاّ أنه عند التساوي يتخيّر بين الفعل وإن كان مقروناً بعصيان الحرام ، أو الترك وإن كان مقروناً بعصيان الواجب ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الموافقة لكلّ منهما مقرونة بالمخالفة للآخر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ التخيير بين الفعل في ذلك النحو مع كونه مقروناً بالمخالفة للتحريم ، والترك مع كونه مقروناً بالمخالفة للواجب ، إنّما هو لعدم المندوحة ، لأنّه إن ترك فقد أطاع النهي لكنّه يكون مخالفاً للأمر ، وإن فعل كان الأمر بالعكس ، وليس في البين ما يتخلّص به عن هذا المحذور الذي هو الوقوع في مخالفة أحد التكليفين ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه يمكنه التخلّص من المخالفة القطعية لأحد التكليفين بعدم الاقدام على الموافقة القطعية للآخر ، فتأمّل جيّداً (1)

ص: 470


1- وربما يتوهّم أنّ حسن الموافقة القطعية للايجاب مثلاً مزاحم بقبح المخالفة القطعية للتحريم ، وحينئذ لو كان الأقوى هو قبح المخالفة القطعية سقطت الموافقة القطعية ، وبقي حرمة المخالفة القطعية ، وهي قاضية بالمنع من فعلهما والمنع من تركهما ، ولزوم الاتيان بأحدهما وترك الآخر كما ذكرتم. أمّا لو كان حسن الموافقة القطعية أقوى من قبح المخالفة القطعية وجبت الأُولى وسقطت الثانية ، وحينئذ يكون العقل حاكماً بوجوب الموافقة القطعية لكلّ من الوجوب والحرمة ، وحيث إنّ ذلك لا يمكن كان المكلّف مخيّراً بين الموافقة القطعية للوجوب بفعلهما والموافقة القطعية للتحريم بتركهما. وهكذا الحال لو كان حسن الموافقة القطعية لأحد التكليفين مساوياً لقبح المخالفة القطعية للتكليف الآخر ، فإنّه حينئذ يتخيّر بين الموافقة القطعية للوجوب وإن حصلت المخالفة القطعية للتحريم ، والموافقة القطعية للتحريم وإن حصلت المخالفة القطعية للوجوب ، وفي كلّ من هاتين الصورتين لا يسوّغ العقل له الموافقة الاحتمالية المقرونة بالمخالفة الاحتمالية للآخر ، بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر. وبتقريب آخر : أنّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية للوجوب ، كما أنّه يحكم بوجوب الموافقة القطعية للتحريم ، وهذان الحكمان من العقل كحكم الشارع بانقاذ هذا الغريق وإنقاذ ذلك الغريق الآخر ، وليس تعذّر الجمع بين الموافقتين القطعيتين إلاّكتعذّر إنقاذ كلا الغريقين ، فاللازم هو النظر إلى ما هو الأقوى ، فإن كانت الموافقة القطعية للوجوب هي الأقوى تعيّن عليه فعلهما ، وإن كانت الموافقة القطعية للتحريم هي الأقوى تعيّن عليه تركهما ، وعند التساوي يتخيّر بين الموافقتين القطعيتين كما يتخيّر بين الغريقين لو تساويا ، ولا يجوز له ترك الموافقتين القطعيتين كليهما بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر ، كما لا يجوز له عند تساوي الغريقين تركهما معاً وعدم إنقاذ أحدهما. هذا ما يمكن أن يتوهّم في المقام لتقريب القول بأنّه يتخيّر بين فعلهما وتركهما ، وأنّه لا يجوز له فعل أحدهما وترك الآخر ، ومرجع التقريب الأوّل إلى إيقاع التزاحم بين وجوب الموافقة القطعية لأحد التكليفين وحرمة المخالفة القطعية للآخر ، ومرجع التقريب الثاني إلى إيقاع التزاحم بين وجوب الموافقة القطعية في كلّ منهما لها في الآخر. وهذه التوهّمات كلّها ناشئة عن تخيّل أنّ حكم العقل نظير حكم الشرع في كونه عن ملاك وحسن في المتعلّق ، ونحن وإن قلنا إنّ للعقل أحكاماً ، لكنّها لو قلنا بها فإنّما هي التحسين والتقبيح ، مع إمكان القول بأنّه لا حكم في البين وإنّما هو من مجرّد الميل والتنفّر ، وهكذا الحال في حكمه بلزوم إطاعة المأمور به المعلوم الأمر تفصيلاً وعصيانه ، بناءً على أنّ ذلك من مقولة شكر المنعم وهو حسن وظلمه وهو قبيح. أمّا حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فليس هو من تلك المقولة قطعاً ، بل هو من مقولة الفرار عن العقاب المحتمل عند الاتيان بأحد طرفي العلم الاجمالي وترك الآخر ، وهذا الفرار من العقاب المحتمل لا يمكن صدوره في صورة كون ذلك الفرار الحاصل بفعلهما معاً موقعاً للمكلّف في العقاب المقطوع الحاصل من المخالفة القطعية ، لأنّ محصّل ذلك هو الالزام بالوقوع في عقاب أحد التكليفين فراراً من احتمال العقاب على التكليف الآخر لو كان المتروك هو الواجب الواقعي ، وحاصله أنّك لا تكتف بفعل أحدهما ، مخافة أن يكون الآخر المتروك هو الواجب الذي يتبعه العقاب ، فلابدّ لك أن تفعلهما فتعاقب قطعاً ، وحاصل ذلك : فرّ من العقاب المحتمل إلى العقاب المقطوع. ولله درّ الشيخ قدس سره حيث أشار إلى هذا التفصيل بهذه الكلمة ، وهي قوله : والحكم فيما نحن فيه وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّراً في ذلك ، لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الآخر ، ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط ( يعني وجوب الموافقة القطعية ) لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ، واللّه أعلم [ فرائد الأُصول 2 : 403 ]. ومن ذلك كلّه يظهر أنّ وجوب الموافقة القطعية ساقط في المسألة ، وليس في البين إلاّحرمة المخالفة القطعية ، ومقتضى ذلك هو التخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ، وأنّه لا يجوّز العقل تركهما معاً أو فعلهما. هذا كلّه لو كان التزاحم في الأحكام العقلية في المقام الناشئة عن العلم الاجمالي ، أعني وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية لكلّ من الوجوب والتحريم المعلومين في البين ، وأمّا نفس الوجوب والتحريم فلا تزاحم بينهما في حدّ أنفسهما ، ولو جعلناه بينهما كان المقدّم هو الأقوى ، وسقط العلم الاجمالي بالآخر ، ولو تساويا فهل يسقط التكليفان ويسقط العلم بكلّ منهما ، أو يتخيّر بين التكليفين ويجعل العلم به هو المؤثّر؟ [ منه قدس سره ].

ص: 471

ص: 472

ص: 473

[ خاتمة : في بيان ما يعتبر في الاحتياط والبراءة ]

قوله : المقام الأوّل : فيما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والأقوى أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً ... الخ (1).

هذه المباحث تقدّم الكلام عليها تفصيلاً في مباحث القطع ، فراجع ما حرّرناه هناك من منع عدم صحّة الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية (2).

ثمّ إنّا لو سلّمنا المنع من ذلك فإنّما هو عبارة عن المنع عن ترك الاطاعة التفصيلية مع فرض التمكّن منها والركون إلى الطاعة الاحتمالية. أمّا مع فرض كونه بانياً على الاطاعة التفصيلية ، غايته أنّه يقدّم ما هو مورد الاطاعة الاحتمالية على ما هو مورد الاطاعة التفصيلية ، بأن يأتي أوّلاً بالمحتمل الوجداني ثمّ بعده يأتي بما قامت الأمارة على وجوبه ، فلا مانع منه.

اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ المانع من الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية وهو أنّ العقل لا يرى تلك الاطاعة إطاعة ، موجود فيما نحن فيه ولو كان بناء المكلّف على الاتيان بما قامت عليه الأمارة بعد ذلك ، لكنّه

ص: 474


1- فوائد الأُصول 4 : 264.
2- راجع حاشيته المفصّلة في المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : 172 وما بعدها ، وكذا غيرها من حواشيه قدس سره في ذلك المبحث.

محلّ تأمّل. ودعوى أنّ مقتضى حجّية الأمارة هو المنع من الأخذ بالاحتمال المذكور ، ممنوعة جدّاً.

أمّا أوّلاً : فلأنّها إنّما تمنع من الأخذ باحتمال الخلاف فيها ، وليس ذلك إلاّ الأخذ باحتمال عدم وجوب ما قامت الأمارة على وجوبه ، لا الأخذ باحتمال وجوب غيره ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بالنظر إلى العلم الاجمالي بوجوب إحدى الفريضتين يكون قيام الأمارة على أنّها هي الجمعة نافياً لكونها صلاة الظهر.

وأمّا ثانياً : فلأنّ هذا المنع لا ينافي الاحتياط لأجل الاحتمال المذكور. وبعبارة [ أُخرى ] أنّ حجّية الأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إنّما ينفي ويمنع من البناء على وجوب صلاة الظهر ، أمّا الاتيان بصلاة الظهر لأجل الاحتمال الوجداني من باب الاحتياط فلا يكون دليل الحجّية مانعاً منه.

وأمّا ثالثاً : فلما هو محقّق في محلّه من عدم تعرّض دليل الأمارة لأزيد من جعل الحجّية لها ، وليس في البين نهي شرعي عن الأخذ بخلاف مضمونها. نعم بعد فرض كونها حجّة شرعية يكون العقل حاكماً بلزوم تطبيق العمل على طبقها ، وأين ذلك من الحكم الشرعي بالمنع من الأخذ بخلاف مؤدّاها من باب الاحتياط مع فرض أنّه يأتي بمؤدّاها بعد ذلك.

وأمّا رابعاً : فلأنّ ذلك لو كان مانعاً لكان مانعاً منه حتّى بعد الاتيان بمؤدّاها ، وما أُفيد - على ما في تحريراتي - من أنّه بعد الاتيان بمؤدّى الأمارة يكون حكمها ساقطاً ، فلا مانع من الجري على طبق ذلك الاحتمال الاحتياطي ، يمكن الخدشة فيه ، لأنّا إذا فرضنا أنّ الأمارة مانعة شرعاً من الجري على خلاف مؤدّاها ، يكون هذا المنع باقياً حتّى بعد سقوط الأمر بمؤدّاها ، لأنّها على هذا

ص: 475

الوجه توجب العمل على طبق مؤدّاها والمنع عن العمل على الاحتمال المخالف ، والساقط إنّما هو الجزء الأوّل ، أمّا الجزء الثاني من مفادها المفروض فيكون باقياً بعد سقوط الجزء الأوّل منه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم الثاني لا يكون إلاّمن جهة التبعية للأوّل ، فبعد سقوطه لا يبقى له مورد ، فتأمّل.

وأمّا ما في الحاشية (1) من الإشكال عليه بما حاصله : أنّ الاطاعة بالنسبة إلى صلاة الظهر لا تكون إلاّ احتمالية سواء تقدّمت أو تأخّرت ، فيمكن الجواب عنه بأنّه إنّما يتوجّه لو كان صورة المسألة هي أنّ صلاة الجمعة قامت الأمارة على وجوبها ، ومع ذلك يحتمل وجوب صلاة الظهر زائداً على صلاة الجمعة ، لكن ذلك أجنبي عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروض الكلام إنّما هو العلم بأنّه ليس لنا إلاّ أمر واحد ، لكن حصل الترديد في متعلّقه هل هو الجمعة أو الظهر ، وقامت الأمارة على أنّه الجمعة ، وحينئذ فاطاعة ذلك الأمر الواقعي بالاتيان بصلاة الظهر تكون احتمالية في ظرف كونه متمكّناً من إطاعته التفصيلية بالاتيان بصلاة الجمعة ، فلو تمّ ما أُفيد من عدم الركون إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، كان اللازم تأخير الاطاعة الاحتمالية لذلك الأمر الواقعي عن اطاعته التفصيلية ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الاحتمال المتكلّم عنه في المقام إنّما هو بالقياس إلى الأمر ، لا بالقياس إلى الفعل المأتي به ، ومن الواضح أنّ الاحتمال بالنسبة إلى الأمر موجود في صورة العلم الاجمالي والتردّد بين المتباينين ، كما هو موجود في صورة الاحتمال البدوي ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 476


1- فوائد الأُصول 4 ( الهامش ) : 266.

قوله : قد خالف في حسن الاحتياط في العبادات جملة من الفقهاء تبعاً لقاطبة المتكلّمين ، بتوهّم أنّ الاحتياط فيها يستلزم الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ... الخ (1).

الظاهر أنّ قصد الوجه وكذلك التمييز بأيّ معنى فسّرناهما لو سلّمنا اعتبارهما في العبادة ، لا يكون شيء منهما مانعاً عن الاحتياط في العبادة في الموارد التي يكون المكلّف عالماً بأنّ الطلب على تقديره لا يكون إلاّوجوبياً أو لا يكون إلاّ استحبابياً ، لوضوح أنّه مع قطع النظر عن اعتبار الاطاعة التفصيلية ، بحيث لو قلنا إنّها غير معتبرة في صحّة العبادة وأنّه يكفي في صحّتها الاطاعة الاحتمالية ، لم يكن اعتبار الوجه والتمييز مانعاً من صحّتها والاحتياط فيها في موارد احتمال الوجوب أو في مورد احتمال الاستحباب.

نعم في الموارد التي لا إشكال فيها من ناحية اعتبار الاطاعة التفصيلية ، كما لو علم بأنّها مطلوبة لكن تردّد في ذلك الطلب هل هو وجوبي أو استحبابي ، لم يكن الإشكال في صحّة الاحتياط فيها من ناحية اعتبار الاطاعة التفصيلية ، بل يكون الإشكال فيها من ناحية قصد الوجه والتمييز ، فيكون بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مختصّاً بهذه الصورة ، أعني ما لو علم الطلب وتردّد بين الوجوب والاستحباب.

والحاصل : أنّ البحث عن اعتبار نيّة الوجه وكذلك التمييز إنّما يساق لأجل تصحيح الاحتياط في العبادة في مقام التردّد بين وجوب العمل واستحبابه بعد الفراغ عن إحراز تعلّق الطلب به ، سواء كان ذلك المتعلّق هو تمام العمل أو كان هو جزأه ، والبحث عن الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال اعتبار الاطاعة

ص: 477


1- فوائد الأُصول 4 : 266.

التفصيلية إنّما يكون مسوقاً للبحث عن تصحيح الاحتياط في الموارد التي يكون التردّد فيها بين الوجوب وعدمه ، سواء كان ذلك بالنسبة إلى تمام العمل أو كان بالنسبة إلى بعض أجزائه ، وسواء كان ذلك مقروناً بالعلم الاجمالي أو كان شبهة بدوية ، وأمّا التردّد في العمل بين الاستحباب وعدمه فهو من ذيول هذه المسألة ولواحقها ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس سره في هذه المسائل وما علّقناه على ذلك التحرير في هذا المقام وفي مباحث القطع (1).

قوله : وأمّا إذا كانت غير محرزة كالأُصول الغير التنزيلية ... الخ (2).

كما لو فرض أنّ أحد الفعلين المعلوم وجوب أحدهما بالاجمال مجرى لأصالة الاشتغال ، والآخر مجرى للأصل النافي ، كما لو كان بعد المغرب وعلم بأنّه إمّا لم يصلّ المغرب أو أنّه قد فاتته صلاة العصر ، فإنّ عليه أن يأتي بالمغرب لأصالة الاشتغال ، ولا يجب عليه قضاء العصر لكون الشكّ فيها بعد الوقت ، لكن لا مانع من الاتيان بها احتياطاً قبل المغرب أو بعدها. بل قد يقال : إنّ الأولى الاتيان بها قبل المغرب ، نظراً إلى أنّ فائتة اليوم يقدّم قضاؤها على الحاضرة ، بل ربما نقول بوجوب التقديم حتّى لو كان المثبت لبقاء المغرب الاستصحاب أو البيّنة ونحوها ، فتأمّل فإنّ هذا التقديم إنّما هو فيما لو كان كلّ منهما قد فاته ، بحيث إنّه لم يصلّ العصر كما أنّه إلى الآن لم يصلّ المغرب ، أمّا لو كان الفائت هو أحدهما فلا يتأتّى التقديم المذكور ، لأنّه إنّما يحتاج في الاتيان بالعصر لاحتمال أنّها هي الفائتة دون المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون قد قدّم المغرب وأخلّ

ص: 478


1- الظاهر أنّه قدس سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سره ، وعلى أيّ حال راجع حواشيه قدس سره في المجلّد السادس من هذا الكتاب : 166 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 266.

بالترتيب غفلة ، فيكون وجوبه ساقطاً.

والأولى أن يمثّل لذلك بالعلم الاجمالي المردّد بين عدم الاتيان بالمغرب أو حدوث آية توجب صلاة الآيات ، والسرّ في عدم لزوم التقديم في هذه الصورة هو أنّ الأصل غير الاحرازي لا يكون العمل على طبقه إلاّمن باب الاحتياط ، فلا يكون مشتملاً على الاطاعة التفصيلية ، غايته أنّ الاحتياط معه لازم بخلاف ما قابله ، وهذا لا يوجب التقديم ، وأمّا ما أُفيد في وجهه فلا يخلو عن تأمّل أو تسامح.

قوله : وإن قلنا بالحكومة فحكمه حكم الأصل الغير المحرز من عدم وجوب ذلك ، ولا يخفى وجهه (1).

ولكن جريان إعمال الظنّ هنا من باب الحكومة ، الذي هو عبارة عن تبعيض الاحتياط بالأخذ بما هو المظنون من التكاليف وإسقاط الاحتياط في غير المظنون لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ العلم الاجمالي الخاصّ بالمسألة الذي هو عبارة عن العلم بوجوب الظهر أو الجمعة ، يكون حاكماً بلزوم الاتيان بهما معاً ، ولا ينحلّ هذا العلم الاجمالي بكون أحد طرفيه مظنوناً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : نعم ، يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم التمكّن من إزالة الشبهة ، فإنّ مراتب الامتثال عقلاً أربعة : الأوّل الامتثال التفصيلي ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الذي له مساس بما نحن فيه من اعتبار الاطاعة التفصيلية في قبال الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية إنّما هو المرتبة الأُولى والمرتبة الرابعة ، فإنّ كلاً

ص: 479


1- فوائد الأُصول 4 : 266.
2- فوائد الأُصول 4 : 269.

من الامتثال الاجمالي والامتثال الظنّي ( بالظنّ غير المعتبر ) راجع إلى الاطاعة الاحتمالية. نعم هذه المراتب متأتّية في حكم العقل بلزوم الاطاعة والخروج عن عهدة التكليف بعد فرض تنجّزه ، فالمرتبة الأُولى هي الخروج القطعي ، والثانية هي الخروج الظنّي ، والثالثة هي الخروج الاحتمالي ، لكن الخروج الاجمالي يكون داخلاً في الخروج القطعي ، إذ لا يفرق العقل في الحكم بلزوم الخروج القطعي عن عهدة التكليف الأعمّ من التعبّدي والتوصّلي ، بين الخروج التفصيلي والخروج الاجمالي ، كما أنّه لا يبعد أن يكون الخروج الظنّي بالظن غير المعتبر في هذا الحكم العقلي في مرتبة الخروج الاحتمالي ، وحينئذ فلا تكون المراتب إلاّ اثنتين : الخروج القطعي والخروج الاحتمالي.

والحاصل : أنّه بناءً على تقدّم الاطاعة التفصيلية في باب العبادات على الاطاعة الاحتمالية ، لا يكون لنا إلاّمرتبتان : الاطاعة التفصيلية المقرونة بالعلم التفصيلي أو ما يقوم مقامه بأنّ هذا الذي يأتي به مأمور به ، والاطاعة الاحتمالية المقرونة باحتمال كونه مأموراً به.

نعم ، بعد تعذّر الاطاعة التفصيلية لو دار الأمر بين الاطاعة الظنّية بأن يأتي بما يظن كونه مأموراً به ، أو الاطاعة الاحتمالية بأن يأتي بالطرف الآخر الذي يحتمل أنّه مأمور به ، ربما يقال بتقدّم الأُولى على الثانية ، كما لو احتمل احتمالاً بدوياً وجوب أحد الفعلين وكان لا يمكنه الفحص ، أو كان بعد الفحص وكان لا يتمكّن من الجمع بينهما ، وكان أحدهما مظنون الوجوب والآخر محتمل الوجوب ، فتأمّل. هذا في الطاعة في باب العبادات.

وأمّا الاطاعة بالمعنى الأعمّ ، وهي التي يحكم بها العقل في مقابل العصيان والمخالفة التي تكون جارية في العبادات والتوصّليات ، فليس لها أيضاً إلاّمرتبتان

ص: 480

الأُولى الخروج اليقيني عمّا اشتغلت به الذمّة ، سواء كان ذلك في ضمن الاحتياط المتوقّف على التكرار ، أو غير المتوقّف على التكرار ، أو كان في ضمن الاتيان بما علم تفصيلاً أنّه المأمور به. والثانية الخروج الاحتمالي ، وذلك منحصر في الموارد التي لا يمكن الاحتياط فيها بعد فرض تنجّز التكليف بالنسبة إليها. ولو سلّمنا تقدّم الخروج الظنّي على الخروج الاحتمالي لا تكون المراتب إلاّثلاثة ، فراجع ما حرّرناه في هذه المراتب عند الكلام على ما أُفيد فيها في مباحث القطع (1).

قوله : لأنّ حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحرّكه عن تحريكه ، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك ... الخ (2).

تقدّم البحث على ذلك في مباحث القطع (3) وأنّه ليس لنا في باب العبادة إلاّ لزوم الاتيان بها بداعي أمرها ، وذلك عبارة أُخرى عن اعتبار كون الباعث والمحرّك للاتيان بها هو الأمر المتعلّق بها ، وقد حرّرنا هناك وقوعها بداعي الأمر فيما لو كان الأمر حين الاتيان بها محتملاً وقد صادف الواقع ، وإلاّ لم يكن الاحتياط ممكناً حتّى فيما لو لم يكن تحصيل العلم بالأمر ممكناً ، وليست الطاعة المعتبرة في العبادة هي الطاعة العقلية حتّى نقول فيها بجريان المرتبتين المذكورتين ، وأنّه لا يتنزّل عن الأُولى إلى الثانية إلاّبعد العجز عن الأُولى.

ص: 481


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 198 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 269.
3- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، راجع الحاشية المفصّلة في الصفحة : 172 وما بعدها.

وأمّا الانقياد والعبودية وحكم العقل بحسنها فذلك أمر آخر ، لا دخل له في قصد التقرّب المعتبر في العبادة الذي هو عبارة عن الاتيان بها بداعي الأمر ، الذي قلنا إنّه معتبر فيها بأمر آخر يكون بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بنفس العمل من قبيل متمّم الجعل.

ولو سلّمنا أنّ ذلك المعتبر في العبادة بطريقة متمّم الجعل هو نفس الانقياد والعبودية ، فلا نسلّم حكم العقل بتقدّم الانقياد التفصيلي على الانقياد الاحتمالي. والحاصل : أنّ المكلّف الآتي بما يحتمل كونه مطلوباً منه بمجرّد الاحتمال من دون فحص مع تمكّنه منه ، لا نسلّم أنّ العقل يقبّح عمله هذا ولا يعدّه إطاعة وانقياداً.

ولكن تقدّم الإشكال في ذلك ، وأنّ الطاعة التي يحكم بها العقل ويلزم بها هي غير الطاعة التي يحسّنها ولا يلزم بها ، والأُولى في قبال العصيان ، والثانية بمعنى الانقياد والتعبّد ، والثانية مستحبّة في التوصّليات واجبة في العبادات ، والإشكال إنّما هو في الثانية.

قوله : فإنّ المدّعى كفاية قصد الأمر الواقعي بما له من الوصف إجمالاً وإن لم يعلم به تفصيلاً ... الخ (1).

وذلك لأنّ المفروض هو العلم بالطلب الواقعي المتعلّق بذلك الفعل ، وإنّما كان التردّد فيه بين كونه واجباً أو مستحبّاً ، فإذا قصد المكلّف ذلك الطلب الواقعي غير ناظر إلى جهة وجوبه ولا إلى جهة استحبابه ، بأن يكون الباعث والمحرّك له على الاتيان بالفعل هو نفس ذلك الطلب الواقعي ، وكان قد تحرّك عنه ، كفى في صدق الطاعة وإن لم يكن ناظراً إلى جهة الوجوب أو الاستحباب ، فضلاً عن

ص: 482


1- فوائد الأُصول 4 : 267.

اعتبار أخذ أحدهما صفة للفعل الذي يأتي به ، سواء قلنا إنّ المقصود بالوجه المدّعى اعتباره هو العلم بكون ما يأتي به واجباً ، أو قلنا بأنّ المقصود منه هو توصيف المأتي به بكونه واجباً ، فإنّ ذلك لا دخل له بالطاعة ، ومثال ذلك يوم الشكّ من آخر شعبان ، فإنّه وإن اشتمل على خصوصية هي جريان استصحاب شعبان ، القاضي بكونه مستحبّاً ، فيأتي به بعنوان الاستحباب ، وإن كان لو تبيّن الخلاف أجزأه من رمضان ، إلاّ أن هذه الخصوصية لا تتأتّى في غيره ممّا هو مورد الدوران بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه لو قصد خصوص الاستحباب لأصل أو أمارة تقتضي ذلك ثمّ تبيّن الخلاف ، لم يجزه عن الواجب إلاّبنحو من الخطأ في التطبيق. وعلى أيّ حال ، أنّ هذا اليوم المردّد فيه الصوم بين الوجوب والاستحباب يمكن الاحتياط فيه ، بأن يأتي به بداعي احتمال وجوبه ، ويمكن أن يأتي به بذلك الطلب الواقعي المردّد بين الوجوب والاستحباب.

والطريقة الأُولى فاقدة للجزم ولقصد الوجه ، والطريقة الثانية لم تفقد الجزم وإنّما فقدت الوجه. وينبغي أن تكون الطريقة الثانية مقدّمة على الطريقة الأُولى عند القائلين بأنّ الاطاعة الجزمية عند التمكّن منها مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، فلو دار الأمر في تكبير الركوع مثلاً بين الوجوب والاستحباب ، يتعيّن الاتيان به بداعي الطلب لا بداعي احتمال الوجوب.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ القائلين باعتبار الوجه لا يحصرون فساد الاحتياط من أجل اعتباره بخصوص هذه الصورة ، وهي ما لو علم الطلب وتردّد بين كونه وجوبياً أو استحبابياً كما ربما يتراءى من هذا التحرير ، حيث إنّه حصر الكلام معهم في صورة العلم بالطلب مع تردّده بين الوجوب والاستحباب ، ونحن

ص: 483

قد جرينا في الحاشية السابقة (1) على ذلك اعتماداً على هذا الذي يتراءى من ظاهر هذا التحرير ، وعلى ما وجدناه في مطويات تحريرنا عن شيخنا قدس سره ، ولكن الظاهر أنّ مسلكهم أوسع من ذلك ، فإنّهم يفسدون من أجل اعتبار نية الوجه كلّ احتياط حتّى في مورد العلم بالوجوب المردّد بين المتباينين ، وحتّى في مورد الشبهة البدوية باحتمال الوجوب في قبال عدمه ، فإنّ المكلّف عند إتيانه بأحد الفعلين من الجمعة أو الظهر لا يعلم بأنّه واجب ، فلم يكن قد حصل له قصد الوجه بذلك الفعل. وهكذا الحال في الشبهات البدوية ، فإنّه لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وأراد الاحتياط بالاتيان به لاحتمال وجوبه ، لا يكون حاصلاً على قصد الوجه ، لعدم علمه بوجوبه فكيف يمكنه قصد وجوبه ، ولأجل ذلك حكموا ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وإلاّ فإنّ سقوط الاحتياط في خصوص الدوران بين الوجوب والاستحباب لا يوجب بطلان العبادة بقول مطلق.

ثمّ إنّ المكلّف في مورد احتمال الطلب الوجوبي في قبال احتمال استحبابه قد عرفت أنّه يمكنه الاحتياط بالاتيان بالفعل بداعي احتمال وجوبه ، كما يمكنه أن يأتي به بداعي ذلك الطلب الواقعي الذي لا يعلمه أنّه هو الوجوب أو الاستحباب ، لكن هذه الطريقة الثانية إنّما تتأتّى فيما لو لم يكن في البين إلاّطلب واحد ، وقد تردّد ذلك الطلب الواحد المعلوم بين كونه وجوبياً أو كونه استحبابياً كما عرفته في مثال صوم يوم الشكّ من شعبان ، أمّا لو احتمل الوجوب زائداً على الاستحباب المعلوم ، بحيث إنّه كان يحتمل أنّ هناك طلبين ، أحدهما وجوبي والآخر استحبابي ، كما لو احتمل أنّ في ذمّته قضاء صوم يوم واحد ، فهو عالم بأنّه

ص: 484


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 477.

يستحبّ له صوم غد ، لكن يحتمل أنّه مشغول الذمّة بصوم يوم واحد ، فإن أراد الاحتياط في صوم غد يتعيّن عليه أن يأتي به بداعي احتمال الوجوب ، ولا يكفيه نيّة مطلق الطلب ، فإنّ ذلك لا يكفيه عن صوم اليوم الذي اشتغلت به ذمّته لو اتّفق أنّه كان مشغول الذمّة بقضاء صوم يوم واحد.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال فيما ربما يقع في كلماتهم في الرسائل العملية من الأمر بالاحتياط بالاتيان بالجزء المشكوك فيه بقصد القربة المطلقة فيما لو كان ذلك الجزء الذي حصل الشكّ في الاتيان به ذكراً أو دعاء أو قرآناً ، كما يظهر لك ذلك من مراجعة كلماتهم في مسألة الظنّ في الأفعال إذا حصل له الظنّ بعدم الاتيان بعد تجاوز المحل ، أو الظنّ بالاتيان وهو في المحل ، وكما فيما لو كان المأموم في الأُولى أو الثانية واحتمل كون الإمام في الثالثة مثلاً ، فإنّهم ربما قالوا إنّه يقرأ بقصد القربة المطلقة.

فإنّه إن كان المراد بذلك هو أن يقرأ بداعي احتمال كونه واجباً عليه كان حسناً ، إلاّ أنه لا يحسن التعبير عن ذلك بقصد القربة المطلقة. وإن كان المراد هو الاتيان بقصد أمره الواقعي ، فهو إنّما يحسن فيما لو كان على تقدير الوجوب لا يكون ذلك الجزء مستحبّاً ، كما أنّه لو كان مستحبّاً لا يكون واجباً ، فهو يقصد امتثال أمره الواقعي على ما هو عليه من الوجوب أو الاستحباب. أمّا (1) إذا فرضنا أنّه على تقدير كونه واجباً لا يكون تحقّق وجوبه واقعاً موجباً لانتفاء الأمر الاستحبابي ، على وجه أنّه مع تحقّق الوجوب يمكنه أن يأتي به أوّلاً بداعي الأمر الاستحبابي ثمّ يأتي به بعد ذلك بداعي أمره الوجوبي ، كما في من عليه قضاء صوم يوم واحد ، فإنّه يصحّ له أن يصوم غداً بداعي الأمر الاستحبابي ، ثمّ بعد

ص: 485


1- [ لم يذكر قدس سره جواب « أمّا » ولعلّه لوضوحه ].

ذلك يأتي بما هو الواجب عليه من القضاء في صوم يوم آخر.

نعم ، إنّ في مثل القراءة ونحوها ممّا يكون المطلوب هو صرف الطبيعة يمكن القول بأنّه مع كونها واجبة لا يبقى مجال للأمر الاستحبابي ، إذ لا يجتمع الطلبان مع وحدة المتعلّق الذي هو صرف الطبيعة ، بل لابدّ أن يندكّ الاستحباب بالوجوب ، ولا يكون في البين إلاّطلب واحد وجوبي ، فعند احتمال الوجوب تكون المسألة من قبيل العلم بالطلب الواحد المردّد بين الوجوب والاستحباب. وهكذا الحال في الوضوء الاستحبابي عند دخول وقت الصلاة القاضي بوجوبه.

أمّا في مثل ما عرفت من صوم القضاء المحتمل فلا تتأتّى فيه هذه الطريقة بل يتعيّن فيه الاتيان بصوم غد لاحتمال كونه واجباً عليه. أمّا لو قصد أنّه إن كان مشغول الذمّة بالقضاء فهذا اليوم يصومه امتثالاً للأمر بالقضاء ، وإن لم يكن مشغول الذمّة بذلك فهذا اليوم يصومه امتثالاً للأمر الندبي ، فذلك باطل لكونه من التعليق في الامتثال ، ونظيره ما ذكروه في صوم يوم الشكّ من شعبان أو رمضان.

وما ربما يقال من أنّه لا مانع من هذا التعليق عقلاً ، ففيه ما لا يخفى ، حيث إنّ الامتثال بمعنى الاندفاع والانبعاث الخارجي ، فهو إمّا أن يكون واقعاً وإمّا أن لا يكون واقعاً ، ولا معنى لكونه واقعاً على هذا التقدير دون ذلك التقدير ، إلاّ أن يرجع إلى الانبعاث عن الأمر الواقعي المتوجّه إليه ، سواء كان ندبياً أو كان وجوبياً وفيه تأمّل ، إذ فرق بين هذه الصورة وما هو محلّ الكلام من أنّه إن كان وجوباً فأنا أنبعث عن الوجوب ، وإن كان ندباً فأنا أنبعث عن الندب ، فإنّ انبعاثه في كلّ منهما على تقديره ، فهو لم يوجد الانبعاث وإنّما علّق الانبعاث على ذلك التقدير فلاحظ.

ص: 486

وينبغي مراجعة المسألة الثانية عشرة من ختام الزكاة من العروة (1) ومراجعة ما علّقناه على هذه المسألة في ملحق حواشي ص 28 من الجزء الأوّل (2).

قال في العروة في مسألة الظنّ في الأقوال : إن كان المشكوك قراءة أو ذكراً أو دعاءً يتحقّق الاحتياط باتيانه بقصد القربة (3) ( المطلقة ). وقال في أحكام الجماعة : وأمّا إذا لم يسمع حتّى الهمهمة جاز له القراءة ، بل الاستحباب قوي ، لكن الأحوط القراءة بقصد القربة المطلقة لا بنيّة الجزئية (4). وقال : إذا حضر المأموم الجماعة ولم يدر أنّ الإمام في الأُوليين أو الأخيرتين ، قرأ الحمد والسورة بقصد القربة (5).

ونحو ذلك لشيخنا قدس سره في حواشيه على مسائل قاعدة التجاوز ، فراجع الحاشية الثانية من ص 415 ، والحاشية الرابعة ص 416 (6) ، وقد ذكر في العروة

ص: 487


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 4 : 178.
2- راجع الفائدة المذكورة في المجلّد السادس من هذا الكتاب في الصفحة : 204 وما بعدها.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 319 - 320 المسألة 16 / فصل : الشكوك التي لا اعتبار بها.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 154 المسألة 1 / فصل : في أحكام الجماعة.
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 170 المسألة 25 / فصل : في أحكام الجماعة.
6- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 235 / ضمن المسألة (10) تعليقة (1) ، 3 : 237 / مسألة (12).

لصوم يوم الشكّ صوراً أربعاً ، رابعتها صومه بقصد القربة (1) ، ولم يذكر صومه بداعي احتمال وجوبه.

ولعلّ السرّ في عدم التعبير في هذه المسائل بالاحتياط بالاتيان بالمحتمل بداعي احتمال وجوبه ، هو تقدّم الاطاعة الجزمية على الاطاعة الاحتمالية ، فإن كان ذلك هو السرّ في ذلك التعبير ، فلِمَ لم يلاحظوه في مثل التكبير للركوع والإقامة ، ونحو ذلك ممّا ورد فيه الأمر بالخصوص وتردّد أمره المذكور بين الوجوب والاستحباب ، فإنّهم لم يعبّروا بأنّ الأحوط هو التكبير أو الاقامة بقصد القربة المطلقة ، بل قالوا : يستحبّ التكبير والأحوط عدم تركه. وهكذا في الاقامة ونحوها ممّا يدور الأمر فيه بين الاستحباب الشخصي النفسي وبين الوجوب (2) ، بخلاف ما يدور الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب الكلّي المتعلّق بكلّي الذكر والقرآن والدعاء ، فإنّهم لا يعبّرون في أمثال هذه المقامات بمثل : والأحوط الاتيان به ، بل يعبّرون في أمثاله بالاتيان بقصد القربة المطلقة ، إلاّفيما لو خالف في الجهر والاخفات جهلاً أو نسياناً وتذكّر قبل الركوع ، فإنّه في العروة في مسألة 22 من مباحث القراءة بعد أن أفتى بعدم وجوب الاعادة قال : لكن الأحوط الاعادة (3)

ص: 488


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 536 - 537 المسألة 17 / فصل : في النيّة.
2- ومن ذلك قوله في صيغة السلام عليك أيّها النبي : إنّه ليس واجباً بل هومستحب ، وإن كان الأحوط عدم تركه لوجود القائل بوجوبه [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 595 / فصل : في التسليم ]. وهكذا القنوت ، فإنّه قال : الأحوط عدم تركه في الجهرية [ المصدر المتقدّم : 607 ] وهكذا في الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله عند ذكره ، فإنّه قال : بل الأحوط عدم تركها [ منه قدس سره ، راجع المصدر المتقدّم : 619 ].
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 509 ( وفيه : وإن كان الأحوطفي هذه الصورة الإعادة ).

لكنّه في أحكام الخلل ذكر هذه المسألة وعلّق - على قوله : « وإن كان » (1) - شيخنا قدس سره بقوله : بقصد القربة المطلقة (2) ، فهل يرون أنّ قصد الاستحباب المطلق من باب مطلق الذكر أو القرآن يغني عن الوجوب لو اتّفق أنّه في الواقع كان واجباً ، كما ذكره في مسائل وجوب ردّ السلام فقال في مسألة 28 : لو شكّ المصلّي في أنّ المسلّم سلّم بأي صيغة ، فالأحوط أن يردّ بقوله : سلام عليكم ، بقصد القرآن أو الدعاء (3). وكما ذكره أيضاً في مسألة 18 من الصفحة المذكورة وعليها حاشية شيخنا قدس سره تؤكّد كون الأحوط هو قصد القرآنية (4) ، وظاهره بل ظاهر المتن أيضاً كون الاحتياط وجوبياً ، إلاّ أن هذا لا دخل له فيما نحن فيه ، لأنّه في صورة العلم بالسلام الصحيح يقول : إنّه يجوز الردّ بقصد القرآنية ، كما هو الظاهر من قوله في مسألة 17 : نعم لو قصد القرآنية في الجواب فلا بأس بعدم المماثلة. فهل تراهم يسوّغون للمصلّي قراءة الفاتحة في الركعة الأُولى أو الثانية لا بقصد الجزئية ، بل بقصد مطلق القرآنية ، بحيث إنّه يقرأها كما لو قرأها بين السجدتين مثلاً من باب استحباب مطلق القرآن ، ويكون ذلك كافياً في سقوط الأمر الوجوبي المتعلّق بها بما أنّها جزء من الصلاة ، إنّ ذلك بعيد.

لا يقال : لعلّ مرادهم بقصد القربة المطلقة هو ما يذكرونه فيما كان معلوم الوجوب من أنّه لا يجب فيه قصد الأمر ، بل يكفي قصد مطلق التقرّب.

ص: 489


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 226 المسألة 19.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 226 المسألة 19.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 23 - 24 / فصل : في مبطلات الصلاة.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 18 / فصل : في مبطلات الصلاة.

لأنّا نقول : إنّ ذلك - أعني قصد مطلق التقرّب - إنّما ينفع فيما أُحرز الوجوب لأنّه ينطبق عليه قهراً ، وكذلك فيما لو لم يكن إلاّ أمر واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب ، فإنّ قصد مطلق القربة في ذلك يكفي لانطباقه على ذلك الطلب المعلوم ، أمّا لو كان في البين طلبان وجوبي واستحبابي ، وكان المأتي به صالحاً لكلّ منهما ، فلا ينفع فيه قصد مطلق القربة ، لأنّه لا يتعيّن أنّه للأوّل أو أنّه للثاني ، فلا يكون مسقطاً للوجوب ، كما لا يكون مسقطاً للاستحباب ، كما أنّه لا يسقطهما معاً.

ومن قبيل ما تقدّم ذكره من موارد التردّد بين الأمرين الوجوبي والاستحبابي الذي عرفت أنّه يصحّ فيه الاتيان بداعي مطلق الطلب ، ما لو تردّد الحكم في القراءة في الصلاة بين الجهر والاخفات ، فإنّه لو كان الواجب هو أحدهما كان الآخر مستحبّاً ، وحينئذ فلو اقتصر على أحدهما لم يحصل على الخروج اليقيني ، سواء جاء به بداعي مطلق الطلب ، أو جاء به بداعي احتمال وجوبه ، بل يتعيّن عليه التكرار ، ويأتي بكلّ واحدة منهما بداعي مطلق الطلب أو بداعي احتمال وجوبه. وفي التحرير عن شيخنا قدس سره المطبوع في صيدا عبارة في هذه المسألة لم أتوفّق لتحصيل المراد منها ، فاللازم ملاحظتها والتأمّل فيما هو المراد منها.

قال في بيان جواز الاحتياط بتكرار القراءة في موارد التردّد بين الجهر والاخفات ولو قبل الفحص ما هذا لفظه : وذلك لأنّه إذا جاز للمكلّف الاتيان بالقراءة التي ليست جزءاً للصلاة في ضمنها بقصد القرآنية - كما هو المفروض في المقام - فلا محالة يصحّ له الاتيان بالأمرين ، ويقصد كون ما هو المأمور به في ضمن الصلاة جزءاً لها ، وكون الآخر قرآناً في ضمنها ، غاية الأمر أنّه لا يميّز

ص: 490

الجزء من غيره ، ولا بأس به بعد حصول القربة والعبادية الخ (1) ، وصرّح بنظير ذلك في الوسيلة في أوائل مسائل الاحتياط فقال : ناوياً بذلك جزئية ما هو الأفضل منهما وقرآنية الآخر الخ (2).

وظاهره أنّ الأمر القرآني موجود ولو قبل الاتيان بالقراءة الواجبة ، ليتسنّى للمكلّف في الصورة المفروضة الاتيان بهما ، ويقصد أنّ أحدهما هو الواجب والآخر هو المستحبّ ولو صادف أنّ الواجب هو المتأخّر ، وقد عرفت فيما مضى اندكاك الاستحباب قبل الاتيان بالواجب ، وعلى هذا الاندكاك صحّحنا قولهم يأتي بالقراءة بقصد القربة المطلقة في الموارد المتقدّمة.

ثمّ إنّا لو سلّمنا اجتماع الأمرين الوجوبي والاستحبابي مع اشتباه المتعلّق وتردّده بين الجهرية والاخفاتية ، بحيث إنّه يعلم فعلاً أنّه مخاطب بكلّ من الوجوب والاستحباب ، وتردّد في متعلّق الوجوب هل هو الجهرية فيكون الاخفاتية مستحبّة أو بالعكس ، لابدّ في طريق الاحتياط ما عرفت من الاتيان بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه نظير الجمعة والظهر ، أو الاتيان بكلّ واحد منهما بداعي كونه مطلوباً بالأعمّ من الوجوبي والندبي ، أمّا الاتيان بمجموع الطرفين امتثالاً للأمرين ويوكل ذلك إلى الواقع ، فالوجوب يأخذ متعلّقه والندب يأخذ متعلّقه كما هو ظاهر العبارة ، فلا يخلو عن تأمّل بل منع ، وينبغي ملاحظة ما أُفيد في تحرير الشيخ رحمه اللّه في الجزء الأوّل ص 166 وملاحظة ما علّقناه هناك (3)

ص: 491


1- أجود التقريرات 3 : 545.
2- وسيلة النجاة : ( د ) [ لا يخفى أنّه قد رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].
3- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب في الصفحة : 352 وما بعدها.

والحاصل : أنّ ما ذكرناه من أنّه يأتي بالجهرية مثلاً بداعي طلبها المتعلّق بها الذي لا يعلمه أنّه وجوبي أو استحبابي ، وهكذا الحال في الاتيان ثانياً بالاخفاتية إنّما يتمّ بناءً على الاندكاك ، فإنّه حينئذ لو كانت الجهرية واجبة لم تكن مستحبّة ، وكذلك الحال في الاخفاتية ، وحينئذ يعلم أنّ كلاً منهما مطلوب بطلب واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب. أمّا بناءً على عدم الاندكاك فلا يتمّ ذلك ، لأنّ الجهرية لو كانت واجبة فهي أيضاً مستحبّة باعتبار مطلق القرآن ، على وجه لو علم بأنّ الجهرية واجبة يصحّ له أن يأتي بالجهرية بقصد القرآن ثمّ يأتي بها ثانياً بقصد الوجوب ، فهذا المكلّف الشاكّ المردّد بينهما عندما يأتي بالجهرية مثلاً ، لا يمكنه أن يقول أنا آتي بالجهرية بداعي طلبها الواقعي الذي لا أعرفه أنّه الوجوب أو الاستحباب ، لأنّ المفروض أنّها لو كانت واجبة لكان هناك طلب آخر متعلّق بها أعني الطلب الاستحبابي ، فيكون ذلك نظير ما مرّ من المثال ، أعني من كان يحتمل أنّه مشغول الذمّة بقضاء يوم واحد ، وبناءً على ذلك لا يمكنه الاحتياط إلاّ بأن يأتي بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه.

لا يقال : هذا في الاتيان الأوّل ، وأمّا الثاني فهو مطلوب بطلب واحد مردّد بين الوجوب والاستحباب ، لأنّ الواجب إن انطبق على الأوّل تعيّن كون الثاني مستحبّاً ، وإن لم ينطبق عليه تعيّن كون الثاني واجباً.

لأنّا نقول : إنّ الأوّل إذا لم ينطبق عليه الوجوب لا يتعيّن كون الثاني واجباً ، لأنّ الثاني وهو الاجهار مثلاً لو كان هو الواجب يكون معه استحباب مطلق القراءة بقصد القرآنية ، وهو ينطبق على الجهرية أيضاً ، فتكون الجهرية حينئذ صالحة للوجوب والاستحباب ويجتمع فيها الأمران.

ص: 492

قوله : مع أنّه لا وجه لتخصيص ذلك بالعبادات ، بل ينبغي التعميم للتوصّليات أيضاً لابتناء جميع الأوامر على المصالح بناءً على أُصول العدلية (1).

فيه تأمّل ، لأنّ وجه التخصيص بالعبادات هو توقّف صحّتها على قصد القربة المتوقّف بحسب دعوى المدّعي على قصد الجهة ، وهذا بخلاف التوصّليات فإنّها وإن كانت عن مصالح فيها ، إلاّ أنها لمّا لم يعتبر فيها قصد القربة لم يكن في البين ما يوجب قصد الجهة فيها. وممّا يشهد بذلك عبارة المحقّق الطوسي في التجريد وعبارة العلاّمة قدس سره في شرحه ، فإنّهما جعلا ذلك - أعني القصد المذكور - شرطاً في استحقاق المدح والثواب ، وقد نقلنا عبارتهما في مبحث القطع عند الكلام على نيّة الوجه فراجع (2) ، بل قلنا هناك : إنّ هذه العبائر لا دخل لها بالوجه الذي أخذه الفقهاء شرطاً في العبادة ، الذي هو عبارة عن لزوم معرفة وجه الطلب من وجوب أو ندب أو لزوم قصد ذلك الوجه ، كما هو الظاهر من تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : والاتيان بالواجب بداعي الاحتمال يكون مخلاًّ بمعرفة الوجه ونيّته الخ (3). وهو مشروح فيما حرّرته عنه قدس سره بأوضح من ذلك فراجعه (4) ، بل جلّ النظر فيها إلى لزوم كون الأمر داعياً في ترتّب الثواب ، فلاحظ.

ص: 493


1- فوائد الأُصول 4 : 267 - 268.
2- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 165 - 166.
3- أجود التقريرات 3 : 541.
4- [ مخطوط لم يطبع بعدُ ].

قوله : وأمّا الثاني : فلأنّه لم نعثر فيما بأيدينا ... الخ (1).

اختصاص هذه الطريقة - أعني عدم الدليل دليل العدم - في نيّة الوجه دون أصل قصد القربة إنّما يتمّ على مسلكْ من يقول - كصاحب الكفاية قدس سره (2) - بأصالة الاشتغال فيها ، حيث إنّه لا يجب على الحكيم بيان توقّف غرضه عليها ، لامكان إتّكاله في ذلك على التفات عامّة المكلّفين إليها فيحصل لهم الشكّ ، فتلزمهم عقولهم بالاحتياط بالاتيان بها ، وحينئذ لا يفوت غرض الشارع ، بخلاف مثل قصد الوجه حيث إنّه لا يلتفت إليه عامّة المكلّفين ، فلو كان غرضه متوقّفاً عليه لوجب عليه بيانه ، وإلاّ لكان قد ضاع غرضه.

أمّا على مسلك شيخنا قدس سره (3) من الرجوع في أصل قصد القربة إلى البراءة فلا اختصاص له بقصد الوجه ، بل يجري في أصل قصد القربة ، لأنّ الشارع بعد علمه بأنّ المكلّفين لو حصل لهم الشكّ في اعتبار قصد القربة لرجعوا إلى البراءة ، يكون اللازم عليه لو كان غرضه متوقّفاً عليها بيان ذلك ، وحيث لم يبيّن ذلك في الأخبار ، كان ذلك دليلاً اجتهادياً على عدم دخلها فيه من دون حاجة إلى البراءة.

ولكن لا يخفى الفرق بين قصد القربة وبين نيّة [ الوجه ] ، فإنّ عدم الوجدان في الأوّل لا يدلّ على عدم الصدور ، لجواز الصدور مع أنّه لم يصل إلينا ، لعدم توفّر الدواعي إلى نقله ، بخلاف الثاني فإنّ الدواعي إلى نقله متوفّرة لو كان قد صدر من جانب الشارع.

وحاصل الأمر : أنّا ننتقل من عدم وجدان ما يدلّ على الاعتبار إلى عدم

ص: 494


1- فوائد الأُصول 4 : 268.
2- كفاية الأُصول : 75 - 76.
3- فوائد الأُصول 1 - 2 : 163 - 169.

وجوده وعدم صدوره من جانب الشارع ، ومن عدم وجوده وعدم صدوره من جانب الشارع إلى عدم اعتباره عنده ، وكثرة الابتلاء لها الدخل في المقدّمة الأُولى ولا ربط لها بالمقدّمة الثانية ، والذي له دخل في المقدّمة الثانية على رأي شيخنا قدس سره هو أنّ هذه المسألة ليست ممّا يحكم بلزومها العقل ، وعلى رأي صاحب الكفاية قدس سره هو أنّ هذه المسألة ممّا يغفل عنها العامّة.

ومنه يظهر لك أنّ كثرة الابتلاء لابدّ من أخذها ، سواء على رأي شيخنا قدس سره أو على رأي صاحب الكفاية ، لأنّ عدم وجداننا الدليل على الاعتبار لا يدلّ على عدم صدوره من جانب الشارع ، لجواز أن يكون قد صدر منه ولم يصل إلينا ، فنحن نسدّ هذا الاحتمال بأنّ المسألة لمّا كانت كثيرة البلوى كانت الدواعي إلى نقل ذلك الصادر من جانب الشارع متوفّرة ، على وجه أنّه يحصل لنا العلم العادي بأنّه لو صدر لوصل إلينا لكثرة الدواعي على نقله ، وبهذه المقدّمة يخرج الشكّ في أصل القربة فيما لو أُمرنا بشيء ونشكّ في عباديته ، إذ ليس هو مثل أخذ نيّة الوجه في جميع العباديات في كثرة الابتلاء الموجبة لكثرة النقل والوصول إلينا. وأمّا مسألة الغفلة فكأنّها دخلت فيما أفاده شيخنا قدس سره بطريق التسليم ، وهو أنّا لو سلّمنا أنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان ، لكان ممّا لا يصحّ للشارع الاعتماد عليه ، لكون المسألة ممّا يغفل عنها ، وتحرير الشيخ رحمه اللّه ظاهر في ذلك حيث قال : بل هي من المسائل المغفول عنها (1) ، فإنّه ظاهر في الترقّي.

ويمكن أن يقال : إنّ كثرة الابتلاء بالشيء مع كونه مغفولاً عنه بالنسبة إلى عامّة المكلّفين يولّدان توفّر الدواعي إلى كثرة النقل لو كان قد صدر من جانب الشارع ، على وجه تكون غفلة العامّة عن ذلك الشيء مع فرض أنّ الشارع قد أمر

ص: 495


1- فوائد الأُصول 4 : 268.

به من الدواعي على كثرة نقله ، وهذا المعنى هو الظاهر من عبارة السيّد سلّمه اللّه تعالى حيث قال : إذ مع كثرة الابتلاء بهما وغفلة الناس عنهما الخ (1) هذا ما يعود إلى المقدّمة الأُولى.

وأمّا المقدّمة الثانية ، وهي أنّ الشارع بعد أن ثبت أنّه لم يصدر منه بيان مدخلية قصد الوجه في الغرض يكشف عن عدم اعتباره عنده ، إذ لو كان معتبراً في غرضه لكان هو قد فوّت ذلك الغرض بعدم الاعلام به ، إذ ليس في البين ما يمكن اعتماد الشارع عليه في تحصيل ذلك الغرض.

نعم ، لو سلّمنا حكومة العقل بلزوم قصد الوجه فيما هو من قبيل العبادات وأنّ العقل حاكم بذلك حكماً واضحاً جلياً ارتكازياً على وجه يمكن الاعتماد عليه ، ليكون من قبيل القرينة المتّصلة ، لكان سكوت الشارع غير دالّ على عدم الاعتبار عنده ، أمّا بعد فرض كون حكم العقل ليس بذلك الوضوح ، بل ربما قلنا بأنّه حاكم بعدم لزومه ، فلا يكون في البين ما يمكن الاعتماد عليه ، فلا يكون السكوت حينئذ مع فرض كونه معتبراً عنده إلاّمن قبيل تضييع الغرض المنافي للحكمة بل للطريقة العقلائية وإن لم يكن حكيماً ، وحينئذ لا تكون هذه المقدّمة الثانية محتاجة إلى كونه غير مغفول ، لأنّ حكومة العقل بلزومه بتلك الدرجة من الوضوح يلزمها أنّه غير مغفول عنه.

نعم ، لو لم يكن حكم العقل بلزوم قصد الوجه بعد فرض كون الفعل عبادياً بتلك الدرجة من الوضوح ، ووصلت النوبة إلى الشكّ وإلى دعوى كون العقل حاكماً في ذلك بالاحتياط ، وأمكن اعتماد الشارع على حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كان للتفصيل بين كونه ممّا يغفل عنه وممّا لا يغفل وقع ، لكنّك قد

ص: 496


1- أجود التقريرات 3 : 542.

عرفت المنع من حكم العقل بلزوم الاحتياط في ذلك ، وحينئذ يكون سكوت المولى تضييعاً لغرضه ، ولا أقل من التوقّف عن حكم العقل بالاحتياط وعدم وضوحه ، فإنّه أيضاً يكون تعريضاً للتضييع ، وحينئذ لا يبقى موقع للتفصيل بين ما يغفل عنه وما لا يغفل.

قوله : فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة ، لأنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير - إلى قوله : - فإنّه لا جامع بين الامتثال التفصيلي والامتثال الاحتمالي ... الخ (1).

هذا لو قلنا بأنّ الطاعة المعتبرة في العبادة هي عبارة عن لزوم الاتيان بها بداعي الأمر المتعلّق بها واضح ، لما شرحناه في مبحث القطع (2) من أنّ كون الأمر داعياً بوجوده العلمي يباين كونه داعياً بوجوده الاحتمالي ، فيكون المقام من الترديد بين التعيين والتخيير.

وأمّا لو قلنا بأنّها عبارة عن الانقياد والعبودية ، فقد عرفت أيضاً تحقّق الانقياد والعبودية في مقام الاحتمال أيضاً ، فيكون تقيّد ذلك الانقياد بكونه ناشئاً عن الأمر المعلوم تفصيلاً قيداً زائداً منفياً بالبراءة ، إلاّ أن نقول بأنّ الطاعة أمر بسيط ، وهذه الجهات محصّلة له ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في المحصّل ، ويتّجه الإشكال حينئذ بمسألة قصد الوجه والتمييز ونحوهما ممّا أُفيد بأنّ المرجع عند الشكّ في اعتباره هو البراءة.

ص: 497


1- فوائد الأُصول 4 : 270.
2- رجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، في الصفحة : 172 وما بعدها.

قوله : تذييل ، الاحتياط إمّا أن يكون في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي وإمّا أن يكون في الشبهات البدوية ... الخ (1).

ملخّص هذا التذييل هو ضبط الموارد التي يصحّ فيها الاحتياط والاطاعة الاحتمالية عن الموارد التي لا يصحّ فيها إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، والضابط في ذلك هو تنجّز التكليف الالزامي وعدمه ، فالموارد التي تكون مقرونة بالعلم الاجمالي بالتكليف الالزامي ، سواء كانت الشبهة حكمية أو كانت موضوعية ، لا يصحّ فيها الاحتياط إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، ويلحق بها الشبهة الحكمية الوجوبية التي تكون قبل الفحص. أمّا الشبهة بعد الفحص فهي خارجة عن محلّ الكلام لفرض تعذّر الاطاعة التفصيلية فيها.

وأمّا الموارد التي يكون الحكم فيها غير إلزامي ، سواء كانت مقرونة بالعلم أو كانت من قبيل الشبهة البدوية قبل الفحص ، وسواء كانت حكمية أو كانت موضوعية ، وكذلك الشبهات الموضوعية في الحكم الوجوبي غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، فإنّ جميع هذه الموارد لا يكون حسن الاحتياط فيها مشروطاً بتعذّر الاطاعة التفصيلية ، فيكون المدار في جواز ذلك وعدمه على كون الحكم إلزامياً وكون الشبهة فيه منجّزة ، فلا يجوز فيه الاحتياط إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، فإن لم يكن الحكم إلزامياً كما في الشبهات الاستحبابية بأسرها ، أو كان الحكم إلزامياً ولكن لم تكن الشبهة منجّزة كما في الشبهات الموضوعية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، يكون الاحتياط فيها مستحسناً وإن كان المكلّف متمكّناً من الاطاعة التفصيلية.

ص: 498


1- فوائد الأُصول 4 : 271.

ولكن قد حرّرنا في مباحث القطع (1) أنّ ذلك قابل للتأمّل ، فإنّه بعد فرض كون الاطاعة التفصيلية التي هي عبارة عن الانبعاث عن الأمر المعلوم مأخوذة في حقيقة العبادة إلاّبعد تعذّر ذلك ، يكون هذا المعنى موجباً لسقوط الاحتياط في جميع هذه الموارد إلاّبعد تعذّر الاطاعة التفصيلية. وكون الحكم غير إلزامي أو كون الشبهة لا يجب فيها الفحص ، لا يكون موجباً لصحّة الاحتياط فيها عند التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، أمّا الأوّل فلأنّ كون الحكم غير الزامي إنّما ينفع في عدم لزوم الاحتياط لا في صحّته مع فرض التمكّن من الاطاعة التفصيلية. ومنه يظهر الحال في الثاني ، لأنّ عدم وجوب الفحص في الشبهة الوجوبية الموضوعية إنّما هو عبارة أُخرى عن أنّه عند عدم الفحص يكون الرجوع إلى البراءة جائزاً ، ولا يجب الاحتياط قبله ، في قبال الشبهة الوجوبية الحكمية قبل الفحص لأنّه يجب الاحتياط فيها ، ولا يجوز الرجوع إلى البراءة إلاّبعد الفحص ، وهذا لا دخل له بجواز الاحتياط مع التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، هذا.

ولكن الموجود في تحرير السيّد سلّمه اللّه خلاف [ ذلك ] وأنّ الأقوى هو سقوط الاحتياط الموجب للتكرار في مورد الشبهة غير الالزامية ، وإن جوّزه فيما لا يتوقّف على التكرار ، فراجعه ص 321 (2) وراجع ما حرّرته عنه قدس سره (3) في هذا المقام فإنّه مخالف لهذا التحرير ، ولعلّه لأجل أنّه من الدورة السابقة على ما حرّرناه.

ص: 499


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 186 وما بعدها ، وكذا الصفحة : 199 - 200.
2- أجود التقريرات 3 : 546 - 547.
3- [ مخطوط لم يطبع بعدُ ].

قوله : ولا ينتقض ذلك بالتمكّن من الامتثال التفصيلي بالصلاة عارياً ، لأنّ التمكّن من الامتثال التفصيلي يتوقّف على سقوط الشرط ... الخ (1).

العبارة لا تخلو من غموض ، والمراد أنّ لنا شرطين ، أحدهما الساتر الطاهر ، والآخر الامتثال التفصيلي ، وكلّ منهما مقيّد بالتمكّن ، فعند دوران الأمر بينهما كما لو لم يكن له إلاّثوبان يعلم إجمالاً بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر ، إن صلّى بكل منهما فقد حصل على الصلاة مع اللباس الطاهر ، لكنّه فاته الامتثال التفصيلي ، وإن صلّى عرياناً فقد حصل على الامتثال التفصيلي ، لكنّه فاته الشرط وهو الساتر الطاهر ، فيكون كلّ واحد من هذين الشرطين سالباً لقدرة المكلّف عن الآخر ، فما وجه تقديم الساتر على الامتثال التفصيلي.

والجواب : أنّ الامتثال التفصيلي وإن قلنا بكونه شرطاً في العبادة ، إلاّ أنه متأخّر في الرتبة عن باقي ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، لأنّه عبارة عن لزوم الاتيان بالمأمور به بما له من الأجزاء والشرائط بداعي أمره المعلوم ، فيكون نسبته إلى باقي الأجزاء والشرائط كنسبة الحكم إلى موضوعه في التأخّر الرتبي ، فلا يمكن أن يكون مزاحماً لتلك الأجزاء والشرائط لكونه موجباً للدور ، حيث إنّ التمكّن من الامتثال التفصيلي متوقّف هنا على سقوط شرطية الساتر ، وسقوط شرطية الساتر موقوفة على عدم التمكّن منه ، وعدم التمكّن منه موقوف على لزوم الاطاعة التفصيلية ، ولزوم الاطاعة التفصيلية موقوف على التمكّن منها ، فيكون التمكّن من الاطاعة التفصيلية موقوفاً على التمكّن منها ، بخلاف ناحية شرطية الساتر ، فإنّ لزومه وإن توقّف على التمكّن منه ، لكن تمكّنه منه لا يتوقّف على

ص: 500


1- فوائد الأُصول 4 : 273.

سقوط الاطاعة التفصيلية ، ليكون سقوطها موقوفاً على عدم التمكّن منها المتوقّف على لزوم الشرط المتوقّف على التمكّن منه ، لما عرفت من أنّ لزوم ذلك الشرط سابق في الرتبة على اعتبار الاطاعة التفصيلية ، فلا يعقل أن يكون موقوفاً على سقوط الاطاعة التفصيلية.

وهذه الجهة هي العمدة في المسألة ، وبها صرّح في تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : وذلك لأنّ قصد القربة وإن كان وجوبه شرعياً عندنا ، إلاّ أنه بأمر آخر وفي مرتبة متأخّرة عن الأمر ببقية الأجزاء والشرائط الخ (1) وإن كان الأولى إسقاط قصد القربة وإبداله بالاطاعة التفصيلية كما هو واضح ، لأنّ هذا - أعني سقوط الاطاعة التفصيلية عند مزاحمته بهذه الشروط - لا يمكن أن يقاس عليه أصل اعتبار قصد القربة ، فإنّه لو فرض محالاً مزاحمتها ببعض الشرائط ، تكون موجبة لسقوط الشرط إن كانت شرطيته مشروطة بالتمكّن ، وذلك من جهة أنّ مدخلية أصل قصد القربة لم تكن مقيّدة بالتمكّن ، فلا يمكن أن تزاحم بما هو مقيّد بالتمكّن وإن كان سابقاً في الرتبة عليها ، فتأمّل. إلاّ أن ذلك الفرض - أعني مزاحمة أصل قصد القربة ببعض الأجزاء والشرائط - لا واقعية له ، بل هو ممتنع على الظاهر.

قوله : وينبغي فرض الكلام في غير ما إذا كان الترديد لطرو ما يحتمل المانعية ... الخ (2).

لا يخفى أنّ احتمال عروض المبطل تارةً يكون من جهة الشبهة الحكمية ، وهو فعلاً لا يعرف حكمها إلاّبالسؤال بعد الانفصال من الصلاة. وأُخرى يكون الحال كذلك ، لكنّه لا يمكنه معرفة حكمها حتّى بعد الانفصال من الصلاة ، كمن

ص: 501


1- أجود التقريرات 3 : 550.
2- فوائد الأُصول 4 : 273.

عرضه الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل إكمال السجدتين ، وكان مجتهداً محتاطاً في هذه المسألة ، أو مقلّداً لمن يقول بالاحتياط فيها. وثالثة يكون في عروض المبطل المفروض كونه مبطلاً ولكنّه يشكّ في عروضه ، والكلام في هذا البحث إنّما هو في الصورة الأُولى دون الثانية والثالثة.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما تقدّم من جواز الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، يكون هذا البحث ساقطاً من أصله ، بل يلزمه في هذه الفروع إتمام الصلاة بداعي احتمال الصحّة ، ثمّ بعد الفراغ والسؤال إن ظهر بطلانها أعاد وإلاّ فلا ، ولا يحتاج في احتمال المانعية إلى التمسّك بعموم ( لا تُبْطِلُوا ) (1) كي يتوجّه عليه كونه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإنّ الغرض هو مجرّد جواز المضي في الصلاة بداعي احتمال الصحّة.

ولا يخفى أنّه لو كانت الشبهة في القاطعية أو المانعية حكمية ، وكان المكلّف مجتهداً أو مقلّداً لمن كان رأيه الاحتياط في مثل الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فإنّه بناءً على سقوط حرمة الابطال ولزوم الاطاعة التفصيلية ، يلزمه قطع الصلاة واستئناف صلاة أُخرى ، لتمكّنه من الاطاعة التفصيلية ولو باستئناف صلاة أُخرى خالية من الشكّ المزبور ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك.

وهكذا الحال في مسألة الشكّ في عروض المبطل بعد الفراغ عن كونه مبطلاً. وعلى الظاهر لا فرق بينه وبين من تمكّن من الاطاعة التفصيلية بالسؤال والفحص.

ص: 502


1- محمّد 47 : 33.

وهكذا الحال في من طرأه الشكّ في السجود مثلاً حين النهوض إلى القيام ، وكان مجتهداً لكنّه كان محتاطاً في هذه المسألة من جهة التردّد بين كونه مورداً لقاعدة التجاوز أو هو مورد لقاعدة الشكّ في المحل ، فإنّه بناءً على تقدّم الاطاعة التفصيلية يلزمه قطع الصلاة ، واستئناف أُخرى خالية من الشكّ المزبور.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلام في هذا البحث كلّه ليس براجع إلى الاطاعة التفصيلية في نفس الجزء كي يرد على شيخنا قدس سره أنّك لا توجب الاطاعة التفصيلية في الجزء ليكون هذا البحث ساقطاً على نظره الشريف ، وذلك لأنّ الاطاعة التفصيلية في جميع هذه الفروع راجعة إلى نفس المأمور به لا إلى جزئه ، وذلك واضح لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره إنّما أخرج مورد الشكّ في طروّ المانع أو القاطع ، لأنّ جلّ الغرض من هذا التنبيه هو دفع توهّم التزاحم بين حرمة الابطال وبين وجوب الاطاعة التفصيلية ، وعند الشكّ في طروّ ما يوجب بطلان الصلاة لا يكون في البين ما ينقّح حرمة الابطال ، وحينئذ يبقى وجوب الاطاعة التفصيلية بالقطع والاعادة بلا مزاحم.

ومن ذلك تعرف أنّ الاحتياط في مسألة الشكّ بين الاثنتين والثلاث قبل إكمال السجدة الأخيرة لا يجتمع مع الحكم بلزوم الاطاعة التفصيلية ، فلو كان المكلّف مردّداً بين الصحّة والبطلان تعيّن عليه قطع الصلاة والاستئناف. وهكذا الحال في مسألة الشكّ في السجود في حال النهوض ، فإنّ الاحتياط فيها لا يجتمع مع القول بتقدّم الاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، إلاّ أن نقول بسقوط الاطاعة التفصيلية في المقام لتقدّم حرمة الابطال عليها.

نعم ، إنّ الاحتياط في أمثال ذلك إنّما يلتزمون به لأجل كون الشبهة حكمية

ص: 503

مع توقّف الفقيه في الفتوى ، وحينئذ يكون من موارد عدم التمكّن من الاطاعة التفصيلية حتّى لو قطع الصلاة ، إذ لا مجال للفحص في مثل ذلك ممّا قد توقّف عن الفتوى فيه.

نعم ، قد يقال : إنّه يلزمه استئناف الصلاة لعلّه لا يبتلى في الصلاة الجديدة بذلك الشكّ ، فيحصل فيها حينئذ على الاطاعة التفصيلية.

ولا يخفى ما فيه من التأمّل ، لأنّ المدار في لزوم القطع هو الفحص عن حكم المسألة ، لا أنّه لمجرّد أن يشرع في صلاة جديدة اعتماداً على عدم عروض مثل ذلك الشكّ فيها.

ثمّ لا يخفى أنّ الاحتياط في أمثال هذه المسألة إنّما يكون بتلافي السجود ، فلا تكون الاطاعة الاحتمالية إلاّفي ناحية الجزء دون الأمر بالمركّب ، فما ذكرناه من الجواب عن الإشكال على شيخنا قدس سره لا يخلو من تأمّل.

نعم ، يمكن المناقشة في أصل المسألة ، أعني التفرقة بين الأمر بالمجموع المركّب والأمر بالجزء ، بدعوى وجوب الاطاعة التفصيلية في الأوّل دون الثاني ، فإنّ الظاهر أنّه وإن كان الأمر بالمجموع معلوماً ، إلاّ أنه عند الوصول إلى الجزء لابدّ من قصده وقصد الأمر الضمني المتعلّق به ، وحيث لا تكون الجزئية معلومة ، لا تكون الاطاعة بالنسبة إلى ذلك الجزء إلاّ احتمالية مع فرض التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية فيه.

قوله : وأقوى الوجوه هو الوجه الثاني ، من وجوب قطع العمل واستئنافه بداعي الامتثال التفصيلي ... الخ (1).

الذي ينبغي أن يقال : هو أنّه بعد البناء على لزوم الاطاعة التفصيلية ، يقع

ص: 504


1- فوائد الأُصول 4 : 276.

الكلام أوّلاً في مزاحمة حرمة الابطال بنفس الأجزاء والشرائط الأصلية ، كما لو فقد في أثناء الصلاة ما يصحّ السجود عليه ، ولا ريب في تقدّم الأجزاء والشرائط الأصلية على حرمة الابطال ، فيلزمه قطع الصلاة وتحصيل ذلك الجزء أو ذلك الشرط ، سواء كان ممّا ليس له البدل أو كان ممّا له البدل ، على كلام في جريان حديث « لا تعاد » (1) في مثل الفروع المشار إليها ، حرّرناه في مسألة مستقلّة (2) معلّقة على كثير من فروع العروة.

ثمّ بعد الفراغ عن سقوط حرمة الابطال في قبال الأجزاء والشرائط الأصلية ننقل الكلام إلى ما نحن فيه من مزاحمة حرمة الابطال بهذا القيد الخاصّ أعني الاطاعة التفصيلية ، بعد فرض كون كلّ من الحكمين - أعني حرمة الابطال ووجوب الاطاعة التفصيلية - مقيّداً ومشروطاً بالتمكّن.

فإن قلنا إنّ هذا القيد - أعني الاطاعة التفصيلية - كسائر القيود الأصلية في تقدّمه رتبة على حرمة الابطال ، فلا ريب في سقوط حرمة الابطال عند المزاحمة به ، كما تسقط عند المزاحمة بشرط ما يسجد عليه ، كما عرفت في مثال من فقد ما يسجد عليه في أثناء الصلاة مع تمكّنه من الحصول عليه عند قطعها واستئناف صلاة أُخرى.

وإن قلنا كما هو غير بعيد بأنّ هذا القيد متأخّر رتبة عن أصل الأجزاء وباقي الشرائط الأصلية ، كما تقدّم بيانه في الفرع الأوّل (3) ، وحينئذ يكون كلّ من حرمة الابطال ولزوم الاطاعة التفصيلية في عرض الآخر ، ويكونان حكمين واردين

ص: 505


1- وسائل الشيعة 1 : 371 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.
2- وهي مخطوطة لم تطبع بعدُ.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 500.

على مجموع العمل بما له من الأجزاء والشرائط الأصلية ، كان كلّ من الحكمين المذكورين في مورد التزاحم رافعاً لموضوع الآخر وسالباً لقدرة المكلّف عليه ، لما عرفت من كون كلّ من الحكمين مشروطاً بالتمكّن ، فيقع التزاحم بينهما حينئذ مع فرض عدم الأهمية لأحدهما ، فتكون النتيجة حينئذ هي التخيير.

لكن يمكن أن يقال بتقدّم حرمة الابطال ، نظراً إلى أنّ الابطال سابق في الزمان على الاتيان بالاطاعة التفصيلية ، إذ لا تحصل الاطاعة التفصيلية إلاّبعد تحقّق الابطال ، فيكونان من قبيل توقّف الواجب على الحرام مع كون الحرام سابقاً زماناً على الواجب ، وقد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّه عند التساوي في الأهمية يكون الساقط هو الوجوب ، لتقدّم الحرام زماناً ، الموجب لكونه في وقته بلا مزاحم ، بمعنى أنّه لم ينهض في وقته ما يوجب رفع اليد عن حرمته من أهمية الواجب عليه.

ولكن الأولى في وجه التقديم هو أن يقال : إنّ الاطاعة التفصيلية وإن كانت متأخّرة عن جملة الأجزاء والشرائط ، كما تقدّم بيانه في الفرع الأوّل ، إلاّ أنها مع ذلك سابقة في الرتبة على حرمة الابطال ووجوب الاتمام ، لأنّه ليس إلاّعبارة عن وجوب إتمام العمل على جميع ما اشتمل عليه من الأجزاء والشرائط ، وسائر ما يعتبر فيها من قصد القربة وتوابعها ، التي من جملتها الانبعاث عن الأمر المعلوم الذي هو عبارة أُخرى عن الاطاعة التفصيلية ، ومن الواضح أنّه حينئذ يكون دخيلاً في موضوع وجوب الاتمام ، الذي هو عبارة أُخرى عن حرمة الابطال ، فيكون مقدّماً في الرتبة ، فالمتعيّن للسقوط حينئذ هو حرمة الابطال.

ألا ترى أنّه لو فرض محالاً أنّه لا يمكنه إتمام العمل على وجه القربة ، فهل ترى من نفسك أنّ حرمة الابطال ووجوب الاتمام مزاحم لاعتبار قصد القربة.

ص: 506

وبالجملة : أنّ الاطاعة التفصيلية وإن كان وجوبها مقيّداً بالتمكّن ، إلاّ أن المراد بالتمكّن هو التمكّن منه في حدّ نفسه ، نظير باقي ما يعتبر في الصلاة ممّا يكون مقيّداً بالتمكّن ، كما لو اتّفق أنّه لا يمكنه إتمام الصلاة قائماً ، فإنّه لا ينتقل إلى الجلوس باعتبار أنّه غير متمكّن من القيام بواسطة حرمة الابطال.

والحاصل : أنّ حرمة الابطال لا تحقّق عدم التمكّن بالنسبة إلى كلّ ما يعتبر في الصلاة ولو كان هو مقيّداً بالتمكّن ، فالتمكّن في حرمة الابطال في طول التمكّن من باقي الأجزاء أو الشرائط الأصلية ، والتي هي تابعة لقصد القربة ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الوجه في بطلان التخيير ، وهو ما ذكره في تحرير السيّد سلّمه اللّه بقوله : مع الغفلة عن أنّ التخيير بين الحكمين المتزاحمين إنّما يكون مع كونهما في مرتبة واحدة لا في مثل المقام على ما عرفت تفصيله (1).

وأمّا ما أجاب به في هذا التحرير بقوله : فلأنّ الحكم الخ (2) ، فكأنّه أجنبي عن المطلب ، لأنّ التزاحم بين حرمة الابطال ووجوب الاطاعة التفصيلية ليس من قبيل تزاحم القيود ، ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل ، فتأمّل.

وما اشتمل عليه المطبوع من تقريرات درس المرحوم الأُستاذ العراقي قدس سره (3) من الايراد على ما اشتمل عليه هذا التحرير من الجواب عن القول بالتخيير في محلّه ، إلاّ أنه كان عليه أن ينظر إلى ما اشتمل عليه تحرير السيّد سلّمه اللّه ، وبه يتمّ إبطال القول بالتخيير الذي اختاره في التقرير المزبور ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 507


1- أجود التقريرات 3 : 555.
2- فوائد الأُصول 4 : 276.
3- نهاية الأفكار 3 : 468.

قوله : وأمّا الوجه الرابع ، فلأنّ الجمع بين الإتمام والإعادة لا أثر له ، بل هو كرّ على ما فرّ منه ، إذ لا يمكن الإعادة بداعي الامتثال التفصيلي خصوصاً مع تبيّن مصادفة المأتي به للواقع ، بل غاية ما يمكن هو الإعادة بداعي الاحتمال ، فلا يمكن الجمع بين الوظيفتين ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ ما أفاده في مسألة من نسي الركوع حتّى سجد الأُولى من بطلان الصلاة وإن كان الأحوط التلافي والاعادة (2) ، وكذلك ما ذكره في العروة ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره من أنّه عند الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين لو انضم إليه الشكّ في السجدتين أو إحداهما تبطل صلاته وإن كان الأحوط الاتمام والاعادة (3) ، إنّ هذه الاحتياطات بالاتمام والاعادة تفويت للاطاعة التفصيلية ، وينبغي أن يكون لزوم القطع في هذه المسائل أولى منه فيما إذا لم يكن في البين احتمال البطلان.

لكن لا يخفى أنّه قدس سره قد جرى في حواشي العروة على مذاق الجماعة من لزوم الاتمام بأحد الوجهين ثمّ السؤال بعد الفراغ ، وأمّا الوجه الثاني فإنّما بنى عليه بعد تلك الحواشي كما سيأتي نقل ذلك عن تصحيح الوسيلة ، وحينئذ يكون

ص: 508


1- فوائد الأُصول 4 : 276 - 277.
2- في مسألة 14 فيما لو سها عن الركوع حتّى دخل في السجدة الثانية بطلت صلاته ، قال شيخنا قدس سره في الحاشية : بل في الأُولى على الأقوى ، لكن لو تذكّر قبل الدخول في الثانية فالأحوط تدارك الركوع وإتمام الصلاة ثمّ الاعادة [ منه قدس سره ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 215 ].
3- مسألة 6 في الشكوك المعتبر فيها إكمال السجدتين : إذا شكّ في إتيان السجدتين أو إحداهما ، يقول : بطلت صلاته وإن كان الأحوط الاتمام والاعادة ، وليس لشيخنا قدس سره حاشية عليه [ منه قدس سره ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 250 ].

احتياطه في المقام بالاتمام لأجل أنّه لم يكن حين رسم ذلك بانياً على الوجه الثاني ، وإن أمكن توجيه ذلك الاحتياط حتّى بناءً على الوجه الثاني ، بأنّ الفتوى بالبطلان ولزوم الاستئناف توجب الحصول على الاطاعة التفصيلية في الصلاة الآتية لأنّها على طبق الفتوى ، لكن يدخل ذلك حينئذ فيما تقدّم (1) من أنّه عند قيام الدليل على أحد الطرفين يكون اللازم تقديمه ، وبعد الفراغ لو أراد الاحتياط يأتي بالطرف الآخر.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذه الطريقة لا يمكن أن تأتي فيما نحن فيه ، من جهة عدم إمكان تأخير ما هو على خلاف الفتوى ، أعني الاحتياط بالاتمام.

وكيف كان ، فإنّ هذه الإشكالات إنّما تأتي فيما لو كانت الفتوى هي البطلان ، أمّا لو كانت الفتوى في أصل المسألة هي الصحّة - كما لو شكّ بين الاثنتين والثلاث بعد تمام الذكر وقبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فإنّه يحكم فيه بالصحّة ، وإن كان الأحوط البناء على الثلاث والاتمام والاحتياط ثمّ الاعادة - فلا يكون الاحتياط مفوّتاً للاطاعة التفصيلية.

وكذلك لو لم يُفت في هذه المسألة بالصحّة بل توقّف ، وكان الاحتياط بالاتمام ثمّ الاعادة لازماً عنده ، فإنّ هذا الاحتياط لا يفوّت الاطاعة التفصيلية ، لأنّ المفروض عدم التمكّن منها ، إلاّبما تقدّمت (2) الاشارة إليه من القطع والشروع في صلاة جديدة لعلّه لا يتّفق فيها هذا الشكّ.

واعلم أنّه في العروة في مسائل التقليد ذكر هذه المسألة ، وهي ما لو عرضه

ص: 509


1- فوائد الأُصول 4 : 264 وما بعدها ، وراجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 474.
2- في الصفحة : 504.

في أثناء الصلاة شكّ لا يعرف حكمه ، وأفتى بأنّه يختار أحد الوجهين ، ثمّ بعد الفراغ يسأل فإن صادف الصحّة فهو وإلاّ أعاد ، ولم يعلّق عليه شيخنا فراجع م 49 (1).

وفي أحكام الخلل ذكر عين هذه المسألة وزاد : أنّ الأحوط الاعادة في صورة الموافقة أيضاً ، وعلّق عليه شيخنا قدس سره قوله : إن كان الوقت واسعاً فالاحتياط لا يترك (2) والظاهر أنّ ذلك كلّه مناف لما اختاره قدس سره هنا من الوجه الثاني ، أعني وجوب القطع ثمّ السؤال والاعادة.

وقد جرى في الوسيلة على نحو ما جرى عليه في العروة ، لكنّه صحّحه بعد الطبع فقال : ويصحّ ولو مع بقاء التردّد المذكور والمضي في العمل بانياً على استعلام حكمه بعد إتمامه (3). هذه العبارة المطبوعة من الوسيلة ، لكنّه عند الوصول في الأُصول إلى هذه المباحث عدل عن ذلك ، وأصلح ما في الوسيلة باقحام لفظ « عند تضيّق الوقت » بين قوله : يصحّ ، وقوله : ولو مع بقاء التردّد ، وزاد على قوله : « بعد إتمامه » هذه العبارة : مع تبيّن المصادفة ، أمّا إذا كان الوقت واسعاً فلا يخلو جواز الاتمام مع التردّد المذكور عن الإشكال ، والأحوط الاستئناف ، بل لا يخلو وجوبه عن القوّة ، انتهى.

والأولى أن يقال : إنّ الكلام في هذه المقامات إنّما هو فيما لو طرأت مسألة لا يعرف حكمها ، على وجه لو علم الحكم فيها اجتهاداً أو تقليداً كان متمكّناً من الاطاعة التفصيلية ، ففي هذه الصورة تقع المزاحمة بين حرمة الابطال ووجوب

ص: 510


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 39.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 256 مسألة «14».
3- وسيلة النجاة : 118 / مبحث النيّة.

الاطاعة التفصيلية ، أمّا لو كان ذلك المكلّف مجتهداً ، أو كان مقلّداً لمن يكون محتاطاً في تلك المسألة ، فلا يكون داخلاً فيما نحن فيه ، بل له حكم آخر وهو لزوم الاحتياط الذي أدّى إليه تقليده أو اجتهاده ، ولا يكون من وادي التزاحم بين الاطاعة التفصيلية وحرمة البطلان كما عرفت الاشارة فيما تقدّم.

وهكذا الحال في الشبهات الموضوعية ، كما لو حدث له الشكّ بين الثلاث والاثنتين ولكن لم يعلم أنّه كان بعد إكمال السجدتين كما هو المفروض في العروة في م 6 (1) وهكذا الحال لو شكّ في عروض المبطل ، فإنّ جميع ذلك لا يكون من موارد التزاحم المذكور.

قوله : بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدّعي النبوّة - إلى قوله - وإلاّ لزم إفحام الأنبياء ... الخ (2).

فإنّ الفحص عن معجزة النبي صلى اللّه عليه وآله لو لم يكن واجباً بحكم العقل ، لكان سكوت المكلّفين وعدم فحصهم موجباً لافحامه وعدم توجّه الحجّة منه عليهم ، لأنّهم يقولون له عند دعواه النبوّة لا يجب علينا أن نفحص عن صحّة نبوّتك فيفوت الغرض حينئذ من إرساله. وهكذا الحال في الفحص عن الأحكام بعد فرض تصديقهم برسالته ، لأنّهم إذا سكتوا ولم يفحصوا عمّا أمرهم به النبي بحجّة أنا لا يجب علينا الفحص ، كان بعثه وأمره وتبليغه كلّه لغواً لا فائدة فيه ولا ثمرة تترتّب عليه ، وذلك هو عبارة عن كون ما نحن فيه من صغريات وجوب الفحص عن المعجزة ، يعني أنّ الملاك في كلّ من الوجوبين واحد ، لا أنّ وجوب الفحص

ص: 511


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 250.
2- فوائد الأُصول 4 : 278.

عن النبوّة كبرى كلّية ومن صغرياتها وجوب الفحص عن الأحكام.

قوله : وفي الثاني لا ينحلّ العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ... الخ (1).

قد أوضحنا في مبحث العموم (2) السرّ في عدم الانحلال بذلك ، وإجماله أنّ التردّد بين الأقل والأكثر فيما لو علم بحرمة البيض من هذا القطيع وحصل التردّد بين كونها عشرين أو ثلاثين ، لم يكن واقعاً في مرتبة العلم ، وإنّما هو متأخّر عنه ، لأنّك تجد علمك متعلّقاً بحرمة البيض ، ثمّ تجد لك شكّاً واقعاً على أنّ تلك البيض هل هي عشرون أو ثلاثون ، فلا يكون في ناحية العلم بحرمة البيض وفي مرتبته شكّ في حرمة شيء منها ، وإنّما وقع الشكّ في شيء آخر متأخّر عنه رتبة ، وهو أنّ تلك البيض المعلومة الحرمة التي يجب بحكم العقل الاجتناب عنها جميعاً هل هي عشرون أو هي ثلاثون ، فالمعلوم بالاجمال وهو حرمة البيض لم يكن بعضه متيقّناً وبعضه مشكوكاً ، بل كانت البيض كلّها معلومة الحرمة ، وهي مردّدة بين كونها واقعة في هذا النصف مثلاً أو في النصف الآخر ، فيكون من قبيل الترديد بين المتباينين ، ولا يكون الاجمال فيه إلاّمن هذه الجهة ، أعني جهة تردّده بين المتباينين ، لا أنّ الاجمال فيه ناشئ عن ضمّ قضية متيقّنة وهي حرمة الأقل إلى قضية مشكوكة وهي حرمة الأكثر ، كي يكون راجعاً إلى مسألة الأقل والأكثر ، فراجع البحث هناك بتمامه ليتّضح لك ما أجملناه هنا إن شاء اللّه تعالى.

واعلم أنّ الشيخ قدس سره ذكر العلم الاجمالي من أدلّة وجوب الفحص ، وهو الدليل الخامس ، وأشكل عليه بما حاصله : أنّ العلم الاجمالي إن لم ينحل كان

ص: 512


1- فوائد الأُصول 4 : 279.
2- في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 237 وما بعدها.

مانعاً من الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص ، وإن كان منحلاً بواسطة الاطّلاع على ما هو بمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن الفحص واجباً.

وأجاب عنه بما حاصله : أنّ المعلوم الاجمالي هو وجود التكاليف الواقعية في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص ولم يجد خرجت الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالاً بوجود التكليف فيها ، ثمّ قال : ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، أمّا أوّلاً ، وحاصله منع التقييد. وأمّا ثانياً وحاصله ما أفاده بقوله : مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالاً فيها ، فتأمّل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي (1).

وينبغي أن يعلم أنّ الحجر الأساسي هو كون المعلوم بالاجمال في جملة الوقائع معلّماً بعلامة خاصّة ، وهي كونه لو تفحّصنا لعثرنا عليه فيما بأيدينا من الكتب ، وذلك قابل للمنع كما أفاده قدس سره أوّلاً ، إذ ليس كلّ ما نعلمه إجمالاً من التكاليف الصادرة عن صاحب الشريعة واجدة لهذه الصفة ، إذ لعلّ بعضها لم يصل إلينا.

ثمّ بعد فرض كون المعلوم الاجمالي كذلك ، يندفع أحد الإشكالين ، وهو أنّه بعد الفحص وعدم العثور لا ينبغي الرجوع إلى البراءة لبقاء العلم الاجمالي ، ووجه الاندفاع واضح ، وهو أنّه بالفحص وعدم العثور ينكشف أنّ المورد خارج عن أطراف المعلوم بالاجمال.

ولكن يبقى الإشكال الآخر ، وهو أنّه بعد العثور على مقدار ما هو المعلوم بالاجمال ، ينحلّ العلم الاجمالي ، فلا يبقى موجب للفحص لما يبتلى به المكلّف

ص: 513


1- فرائد الأُصول 2 : 414 - 415.

أو المجتهد بعد فرض الانحلال ، مع أنّ بناءهم على الفحص حتّى بعد الانحلال. وهذا الإشكال هو الذي سجّله الشيخ قدس سره بقوله : مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص الخ ، وهو الذي سجّله في الكفاية بقوله في هذا المقام : وأنّ الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجّز ، إمّا لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلاّبما لا يكون بينها علم الخ (1).

وهو الذي سجّله أيضاً في الكفاية في مقام الجواب عن الإشكال على الأخذ بظواهر الكتاب بالعلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر بقوله : وأمّا الرابعة ، فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر إنّما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحلّ بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال الخ (2).

والحاصل : أنّ الذي يظهر من الشيخ ومن صاحب الكفاية قدس سرهما هو الالتزام بانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي المتأخّر عنه ، فلأجل ذلك أشكلا على وجوب الفحص بعد الانحلال بأنّه لا وجه له.

أمّا شيخنا قدس سره فهو وإن كان قائلاً بانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي المتأخّر عنه ، إلاّ أنه مع ذلك التزم في المقام بعدم الانحلال ، لما أفاده من أنّ المعلوم الاجمالي إذا كان معلّماً بعلامة خاصّة لا ينحلّ ، على ما أوضحه وشرحناه.

أمّا الأُستاذ العراقي قدس سره فحيث إنّه لا يقول بأنّ العلم التفصيلي المتأخّر موجب لانحلال العلم الاجمالي المتقدّم ، فهو في فسحة من هذا الإشكال ، أعني إشكال وجوب الفحص بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال ، لبقاء العلم

ص: 514


1- كفاية الأُصول : 375.
2- كفاية الأُصول : 283.

الاجمالي بحاله ، ويكون فائدة الفحص حينئذ هو أنّه بعد الفحص وعدم العثور يكون المورد خارجاً عن أطراف العلم الاجمالي ، كما حرّرناه في درسه.

لكن الذي يظهر منه في مقالته شيء آخر وراء هذا الذي نقلناه من عدم كون العلم الاجمالي منحلاً بالعلم التفصيلي المتأخّر ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل في مبحث الفحص في باب العموم ص 154 (1) ، وما أفاده في الجزء الثاني في مبحث الفحص في حجّية الظواهر ص 22 (2) ، وفي مبحث الفحص في البراءة ص 107 (3) ، وكذلك راجع ما نقله عنه مقرّر درسه المطبوع جديداً (4) ص 93 وص 472 ، وقابل بين المقامين ، وقابل بين ما حرّره في هذين المقامين وما رقمه هو قدس سره بقلمه في الجزء الأوّل وفي المقامين في الجزء الثاني من مقالته وتدبّر.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّه بعد البناء على بقاء العلم الاجمالي بحاله ، وعدم انحلاله بالعثور على ذلك المقدار ، يتّضح لك سقوط الإشكال الأوّل على العلم الاجمالي الراجع إلى أنّه أخصّ من المدّعى ، حيث إنّ المدّعى هو وجوب الفحص حتّى بعد العثور على المقدار المتيقّن المعلوم بالإجمال.

وأمّا الإشكال الثاني الراجع إلى كونه أعمّ من المدّعى ، فمرجعه إلى أنّه لو تفحّصنا ولم نعثر على ثبوت الحكم في الواقعة المطلوبة ، لكان مقتضى العلم الاجمالي بوجود الأحكام هو عدم الرجوع بعد الفحص إلى البراءة ، مع أنّ المفروض هو الرجوع إليها بعد الفحص. وجوابه هو أنّ ذلك العلم الاجمالي

ص: 515


1- مقالات الأُصول 1 : 455 - 456.
2- مقالات الأُصول 2 : 61 - 62.
3- مقالات الأُصول 2 : 287 - 288.
4- نهاية الأفكار 3 : 93 ، 472.

الكبير قد انحلّ إلى ما بأيدينا من الأدلّة المثبتة للأحكام ، فإذا تفحّصنا ولم نجد فيما بأيدينا ما يدلّ على ثبوت الحكم في تلك الواقعة ، استكشفنا من ذلك عدم كون تلك الواقعة من ذلك المعلوم بالاجمال ، فما نحن فيه نظير ما لو علمنا بحرمة مقدار في هذا القطيع ثمّ علمنا بحرمة البيض منها ، وكانت البيض بمقدار ذلك المعلوم بالاجمال ، فإنّه ينحلّ العلم الأوّل إلى الثاني ، وبعد ذلك لو وضعنا يدنا على خصوص شاة من تلك الشياه واحتملنا حرمتها ، فليس علينا إلاّ أن نفحص عنها ، فإن كانت بيضاء لزمنا الاجتناب عنها لثبوت حرمتها ، وإن ظهر أنّها ليست بيضاء لم يلزمنا الاجتناب عنها وأجرينا فيها البراءة ، لظهور أنّها ليست من البيض المعلومة الحرمة.

وإن أردت تطبيق ذلك المثال على ما نحن فيه ، فاجعل الوقائع المحتملة التكليف بمنزلة القطيع ، واجعل المعلوم الاجمالي الأوّل هو وجود أحكام واقعية في الشريعة ، واجعل المعلوم الثاني هو الأحكام التي تضمّنتها الأدلّة التي بأيدينا.

وبذلك يظهر لك أنّ أطراف المعلوم الأوّل هي بعينها أطراف المعلوم الثاني ، فلم يكن أطراف الثاني أقلّ من أطراف الأوّل. نعم كان المعلوم الأوّل غير معلّم بعلامة خاصّة ، بخلاف الثاني فإنّ المعلوم فيه معلّم بعلامة خاصّة ، وهي كونه موجوداً فيما بأيدينا من الأدلّة ، ومن هذه الجهة نقول : إنّ دائرة الأوّل أوسع من الثاني ، بمعنى أنّ الأوّل لا يختصّ بخصوص ما هو موجود فيما بأيدينا ، بخلاف الثاني ، وبهذه المناسبة قلنا إنّ دائرة الأوّل أوسع من دائرة الثاني ، وأمّا في الحقيقة فإنّ الأطراف في الأوّل هي عين الأطراف في الثاني ، وهي الوقائع المحتمل فيها التكليف.

ثمّ لا يخفى أنّ الدليل العقلي على لزوم الفحص وعدم جواز إجراء البراءة

ص: 516

قبله إن كان هو العلم الاجمالي ، لم يكن إشكال في سقوط كلّ من البراءة العقلية والشرعية ، لما حقّق في محلّه من سقوط كلّ منهما في أطراف العلم الاجمالي. وإن كان الدليل هو الأوّل - أعني حكم العقل بلزوم الفحص ، من باب الفحص عن المعجزة أو من باب أنّ العقل لا يرى العامل بالبراءة قبل الفحص معذوراً - فلا ريب أيضاً في سقوط البراءة العقلية. وأمّا الشرعية ففي سقوطها تأمّل ، إذ ليس المدار فيها على المعذورية العقلية بل المدار فيها على عدم العلم ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إطلاق قوله صلى اللّه عليه وآله : « ما لا يعلمون » (1) منصرف عن الجهل الناشئ عن عدم الفحص مع فرض التمكّن منه ، وهو غير بعيد.

قوله وأمّا في الوجه الثاني ، فلأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحكام في الشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب ، إلاّ أنه يعلم إجمالاً أيضاً بأنّ فيما بأيدينا من الكتب أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحلّ العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي الخاصّ (2).

لا يخفى أنّ كون المعلوم أوّلاً بالاجمال معلّماً بعلامة خاصة ينافي الانحلال إلى ما بأيدينا من الكتب ، لأنّ العلم الاجمالي بوجود تكاليف فيما بأيدينا من الكتب غير معلّم بعلامة خاصّة ، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان كون المعلوم بالاجمال فيما نحن فيه معلّماً بعلامة خاصّة ، وليس ذلك هو ما يتراءى من قوله : وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لأنّ المعلوم بالاجمال في المقام هي

ص: 517


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
2- فوائد الأُصول 4 : 280.

الأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب الخ (1) ، فإنّ العلم بالأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ليس من قبيل ذي العلامة الخاصّة ، إذ ليس هو إلاّكالعلم بوجود محرّمات في هذا القطيع ، بل هو شيء آخر.

وتوضيحه : هو أنّ لنا وقائع كثيرة هي في حدّ نفسها مجرى للأُصول النافية ، وهذه الأُصول الجارية في تلك الوقائع نعلم إجمالاً أنّ الكثير منها مخالف للواقع ، وأنّها موارد لتكاليف هي موجودة فيما بأيدينا من الكتب ، بحيث إنّا لو تفحّصنا عنه فيها لعثرنا عليه ، ففي الحقيقة أنّ هذا هو العلم الاجمالي الكبير ، غير أنّا قيّدنا المعلوم فيه بما يكون بيانه موجوداً فيما لدينا من الكتب ، على وجه لو تفحّصنا عنه فيها لعثرنا عليه ، وبذلك صار المعلوم الاجمالي معلّماً بهذه العلامة الخاصّة ، وذلك هو الذي أوجب عدم انحلاله إلى الأقل والأكثر ، وبه يندفع الإشكال الأوّل وهو أنّه لو انحلّ ذلك العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالعثور في تلك الكتب فاللازم هو سقوط الفحص بعد الانحلال المذكور ، فكان الجواب عن الإشكال الأوّل هو منع الانحلال المذكور ، وبقاء العلم الاجمالي المعلّم بالعلامة المذكورة بحاله.

وبه أيضاً يتّضح الجواب عن الإشكال الثاني ، وهو أنّه لو تفحّص ولم يجد كان العلم الاجمالي الباقي بحاله مانعاً عن إجراء البراءة ، فكان الجواب عن هذا الإشكال الثاني هو أنّه لمّا كان المعلوم الاجمالي معلّماً بتلك العلامة الخاصّة ، فبعد الفحص وعدم العثور نستكشف أنّ المورد ليس من ذلك المعلوم الاجمالي ، فلا يبقى مانع من الرجوع إلى البراءة فيه.

وأمّا ما أُفيد من الجواب عنه بالانحلال المذكور فيمكن التأمّل فيه أوّلاً :

ص: 518


1- فوائد الأُصول 4 : 280.

لماعرفت من أنّ المبنى هو عدم انحلال العلم الاجمالي المعلّم إلى العلم التفصيلي ، فكيف ينحلّ إلى العلم الاجمالي. وثانياً : أنّا لو سلّمنا الانحلال المذكور - كما هو مسلّم - سقط العلم المعلّم بالعلامة الخاصّة ، وبقينا نحن والعلم الاجمالي الثاني المنحلّ إليه ، وهو المعبّر عنه بالعلم الصغير ، والمعلوم في هذا العلم الصغير لم يكن معلّماً بعلامة.

ثمّ لا يخفى أنّك قد عرفت أنّ كون المعلوم بالعلم الأوّل معلّماً بعلامة خاصّة أعني كون تلك الأُصول النافية لها مخالفات موجودة في الكتب ، عبارة أُخرى عن أنّ جميع ما قد صدر من صاحب الشريعة المطهّرة صلى اللّه عليه وآله موجود في الكتب التي بأيدينا ، وهو لا يخلو عن مجازفة ، وهذا هو الإشكال الأوّل الذي أفاده في الردّ على دعوى تقييد العلم المذكور بالقيد المزبور ، أعني كونه لو تفحّص لعثر عليه ، فقال : فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفة (1).

والظاهر أنّه لا مدفع لهذا الإشكال الذي أفاده الشيخ قدس سره ، وليس المراد من الإشكال المزبور هو أنّا نعلم بوجود أحكام غير ما تضمّنته الكتب التي بأيدينا كما ربما توهّمه محرّر درس الأُستاذ العراقي بقوله : كما أنّ توهّم زيادة المعلوم بالاجمال الخ (2) ، كي يقال في جوابه إنّا لا نعلم بذلك ، بل المراد هو أنّ تلك التكاليف الواقعية التي نعلم إجمالاً أنّها صدرت من صاحب الشريعة صلى اللّه عليه وآله ، لا طريق لنا إلى العلم بأنّها جميعاً موجودة فيما بأيدينا من الكتب ، على وجه لو تفحّصنا عنها في الكتب لوجدناها ، كي يترتّب عليه أنّا لو تفحّصنا عن حكم في

ص: 519


1- فرائد الأُصول 2 : 415.
2- نهاية الأفكار 3 : 471.

تلك الكتب ولم نعثر عليه ، لكان عدم عثورنا عليه كاشفاً عن خروجه عمّا هو معلوم بذلك العلم الاجمالي ، بل كان لازمه هو القطع بعدم صدوره من صاحب الشريعة ، فلا حاجة حينئذ إلى البراءة ، لأنّ المفروض أنّ كلّ ما صدر منه صلى اللّه عليه وآله هو موجود في هذه الكتب.

لا يقال : ليس المدّعى هو أنّ كلّ ما صدر منه صلى اللّه عليه وآله موجود في هذه الكتب ، بل المدّعى إنّما هو أنّا وإن علمنا بصدور أحكام منه صلى اللّه عليه وآله إلاّ أن تلك الأحكام الصادرة منه مردّدة بين الأقل وهو ألف مثلاً والأكثر وهو ألف وخمسمائة ، فمقدار ما هو متيقّن الصدور وهو ألف حكم نعلم بوجود مقداره فيما بأيدينا من الكتب.

لأنّا نقول : إنّ الحاصل حينئذ هو أنّ القدر المتيقّن ممّا صدر منه صلى اللّه عليه وآله هو ألف ، وقد وجد هذا المقدار من العدد فيما بأيدينا ، ولا نعلم أنّه قد صدر منه أزيد من هذا المقدار ، وهذا المقدار ينطبق على ما هو موجود فيما بأيدينا من الكتب ، فينحلّ العلم الاجمالي إلى ما بأيدينا من الكتب ، لاحتمال انطباق ذلك المعلوم بالاجمال عليه ، وهذان العلمان متقارنان لا تأخّر لأحدهما عن الآخر حتّى تتأتّى شبهة أنّ المتأخّر لا يوجب انحلال المتقدّم ، ولكن ليس الواقع المعلوم معلّماً بعلامة خاصّة ، نظير ما لو علمنا بحرمة مقدار من هذا القطيع وكان ذلك المقدار المحرّم هو البيض ، بل إنّ المقدار المتيقّن الذي تنجّز بذلك العلم كان يحتمل انطباقه على ما هو المعلّم.

ولو سلّمنا أنّ المعلوم منه معلّم بعلامة خاصّة ، فمن الواضح أنّ ذلك المعلّم مضبوط العدد ، وليس هو في حدّ نفسه مردّداً بين الأقل والأكثر ، وحينئذ فبعد العثور على مقدار الألف لا يبقى ما يوجب الفحص فيما زاد.

نعم ، قبل العثور على المقدار المذكور لو تفحّصنا عن حكم واقعة ولم نعثر

ص: 520

عليه فيما بأيدينا ، نستكشف من ذلك أنّه ليس من الألف الموجودة فيما بأيدينا من الكتب التي انحصر التنجّز فيها ، فنجري فيه البراءة ، وليس ذلك لأجل أنّ المعلوم معلّم بعلامة خاصّة ، بل كلّ علم إجمالي يكون حاله هكذا لو أمكن الفحص فيه ، كما لو علمنا بوجود أربع أوانٍ محرّمة في جملة هذه الأواني الموجودة في الدار ، ثمّ علمنا بوجود أربع محرّمة في خصوص البيض ، وقد حدثت ظلمة وحصل بها الاشتباه ، فلو أخذنا واحدة إلى الضياء وعرفنا أنّها ليست بيضاء ، ينكشف لدينا أنّها ليست من تلك الأربع الموجودة في خصوص البيض ، وليس ذلك من قبيل ما لو كان المعلوم الاجمالي معلّماً بعلامة خاصّة ، بل هو من قبيل كون دائرة العلم الاجمالي ومحلّه معلّماً ، ولا ريب أنّ كلّ علم إجمالي لابدّ له من محلّ ومورد وأطراف خاصّة به.

قوله : والعلم التفصيلي بموطوئية عدّة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ... الخ (1).

لا يخفى أنّ المرحوم الأُستاذ العراقي لم يتعرّض لما نقله المحرّرون عن شيخنا قدس سره من أنّ العلم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة لا ينحلّ إلى الأقل والأكثر ، واقتصر في مقالته في المقامات الثلاثة التي تقدّم (2) النقل عنها على مجرّد كون العلم التفصيلي المتأخّر لا يوجب انحلال العلم الاجمالي المتقدّم ، لكن محرّر درسه قد تعرّض في تحريره ص 473 لما أفاده شيخنا قدس سره وأجاب عنه بما حاصله : التشبّث بكون القضية الحقيقية يزداد التكليف فيها مهما زادت أفرادها ، فراجع (3)

ص: 521


1- فوائد الأُصول 4 : 280.
2- في الصفحة : 515.
3- راجع نهاية الأفكار 3 : 472 - 473.

ولا يخفى أنّه ليس المقام مقام القضية الحقيقية ، لأنّ ذلك إنّما يكون فيما لو كان العنوان المردّد الأفراد بين الأقل والأكثر هو موضوع ذلك الحكم ، كما في حرمة إكرام الفاسق ، بل وكما فيما لو نهى المولى عن الشرب من إناء زيد ، وقد عرفت أنّ المعلوم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة لابدّ فيه أن تكون تلك العلامة الخاصّة أجنبية عن موضوع الحكم ، بل لا يكون إلاّمن محض التعريف والاشارة إلى ما قد وجد من مصاديق موضوع ذلك الحكم ، مثل موطوء الانسان الموجود في هذه الغنم عند الاشارة إليه بأنّه البيض ، فإنّ محصّله هو أنّه قد وجد في هذا القطيع أفراد من المحرّم الذي هو موطوء الإنسان ، وهو القسم البيض منه ، وحينئذ لا تكون القضية إلاّقضية خارجية ، ولا يكون المحرّم المنجّز إلاّهو تمام تلك الأفراد الموجودة التي أُشير إليها بأنّها البيض ، وليس في هذه المرحلة أقلّ وأكثر ، بل هي مرحلة وجود وتحقّق وإشارة إلى ما هو موجود ومحقّق على ما عرفت الوجه فيه ، ألا ترى أنّه لو كانت تلك البيض منعزلة وقد علمنا بحرمتها جميعاً ، ففي هذه الحالة - أعني حالة الانعزال - لا أقل ولا أكثر ولا تردّد بينهما في التكليف المحقّق ، فلو اتّفق أن اختلطت تلك البيض بباقي الغنم التي يعلم أنّها حلال ، فقد اختلط ما هو بتمامه حرام بما هو بتمامه حلال ، فهل تجري هناك مسألة الأقل والأكثر؟ كلاّ ، وهكذا الحال لو لم تكن المنعزلة بيضاً ، إذ يكفي في كونها معلّمة هو الاشارة إليها بما كان منعزلاً عن باقي الغنم.

ثمّ إنّه ربما يورد على شيخنا قدس سره بأنّ العلم الاجمالي إنّما يؤثّر من جهة تعارض الأُصول على ما هو مبناه قدس سره ، ولا ريب أنّه بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال لا تكون الأُصول متعارضة في الباقي ، فلا مانع من جريانها.

والجواب : أنّ شيخنا قدس سره لا يدّعي بقاء العلم بعد العثور المذكور كي يتوجّه

ص: 522

عليه أنّ هذا العلم الباقي لا تتعارض فيه الأُصول ، فلا مانع من جريان الأصل النافي في بعض أطرافه ، وإنّما يدّعي بقاء أثره وهو تنجّز الباقي لو كان ، فيكون حال ما نحن فيه حال ما لو طهّرنا بعض الأطراف أو أتلفناه ونحو ذلك ، فكما أنّه يجب الاجتناب عن الباقي وإن لم تتعارض فيه الأُصول ولم يبق العلم الاجمالي بحاله نعم بقي أثره ، فكذلك ما نحن فيه بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال.

وخلاصة ما تقدّم : هو أنّا نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن صاحب الشريعة صلى اللّه عليه وآله مردّدة بين الأقل وهو ألف مثلاً والأكثر وهو ألف وخمسمائة مثلاً والقدر المتيقّن من ذلك هو الألف ، ونحن نعلم وجود هذا المقدار فيما بأيدينا من الكتب ، فانحلّ ذلك العلم الاجمالي الكبير إلى هذه الدائرة الضيّقة التي هي فيما بأيدينا من الكتب ، فكان المنجّز من التكاليف هي الألف الموجودة فيما بأيدينا وهي وإن كانت معلّمة بعلامة خاصّة وهي كونها موجودة ومذكورة فيما بأيدينا من الكتب ، إلاّ أنها ليست مردّدة بين الأقل والأكثر ، بل هي محصورة العدد مضبوطة المقدار ، فنحن قبل العثور على تمام ذلك المقدار لا يمكننا إجراء البراءة في حكم إلاّ بعد الفحص عنه فيما بأيدينا ، فإن لم نجده تبيّن أنّه ليس من تلك المنجّزة وأجرينا البراءة فيه ، أمّا بعد العثور على ذلك المقدار لو احتملنا وجوب شيء أو حرمة شيء ، يمكننا الرجوع فيه إلى البراءة من دون فحص.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا أفاده شيخنا الأُستاذ العراقي فيما نقلناه عن درسه من أنّه لو بقي العلم الاجمالي الكبير ولم ينحلّ ، كان ذلك عبارة عن الانسداد ، ولا محلّ حينئذ للرجوع إلى البراءة ، وإن انحلّ العلم الاجمالي الكبير الذي هو عبارة عن الانفتاح لم يكن محل للفحص ، لأنّ الموجب له هو ذلك العلم الاجمالي ، فإنّك قد عرفت أنّ الموجب للفحص هو ذلك العلم الاجمالي

ص: 523

الصغير ، وهو موجب للفحص وإن لم يتمّ الانسداد. والحاصل : أنّ العلم الاجمالي الصغير هو عبارة عن الانفتاح ، لكنّه ما لم ينحلّ بالعثور على ذلك المقدار المنجّز لا يمكننا إجراء البراءة بلا فحص.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره فيما حرّرته عنه (1) : تنبيه : لا يجوز الرجوع إلى الأُصول المخالفة للاحتياط إلاّبعد الفحص ، ويستدلّ على ذلك بأُمور أوّلها : العلم الاجمالي المقتضي للفحص. ولا يخفى أنّه لابدّ أن يكو ن هذا الكلام - أعني اشتراط الفحص في إجراء أصالة البراءة - بعد فرض الانفتاح ، وإلاّ فإنّ القائل بالانسداد لا يجوّز الرجوع إلى البراءة ، بل لابدّ عنده من تبعيض الاحتياط كما مرّ في بابه مفصّلاً ، ومن الواضح أنّه بعد فرض الانفتاح لابدّ من الالتزام بانحلال العلم الاجمالي كما مرّ في ردّ القائلين بالانسداد ، ومع فرض الانحلال فأيّ مانع من إجراء البراءة قبل الفحص ، وهل هذا إلاّتهافت.

والحاصل : أنّه إنّما يتحقّق كون العلم الاجمالي مانعاً بعد فرض عدم انحلاله أو مع انحلاله إلى العلم الاجمالي في دائرة الطرق كما هو مذهب الفصول ، ليكون العلم الاجمالي الكبير أو الصغير مانعاً من الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، أمّا مع فرض انحلال العلم الاجمالي مطلقاً ، كما هو مذهب القائلين بالانفتاح الذي هو مفروض القائلين بالرجوع إلى البراءة ، فلا يكون العلم الاجمالي باقياً كي يكون مانعاً من جريان البراءة قبل الفحص ، وحينئذ فلابدّ من تقييد ذلك المعلوم بالاجمال - أعني التكاليف الواقعية مطلقاً ، أو الموجودة في خصوص مؤدّيات الطرق - بأنّه لو تفحّص عنه لعثر عليه ، فيكون عندنا علمان ، أحدهما العلم بالتكاليف الواقعية ، والثاني العلم بأنّ تلك التكاليف الواقعية أو

ص: 524


1- بتاريخ الأحد 24 محرّم 1341 [ منه قدس سره ].

الطرق المجعولة لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، وذلك عبارة أُخرى عن الانفتاح.

وحينئذ فإن شككنا في حرمة شرب التتن ، فقبل الفحص لا يجوز أن تجري البراءة ، لاحتمال كونه من جملة تلك التكاليف ، أو من جملة ما قامت عليه تلك الطرق ، وهذا الاحتمال موجب للاحتياط لكونه مقروناً بالعلم الاجمالي ، وحينئذ لابدّ من الفحص ، فإن تبيّن لنا أنّ التتن حرام ، أو أنّه قام الطريق المجعول على حرمته فهو ، وإلاّ فبعد استقراء المحرّمات والواجبات أو استقراء ما قامت الطرق على حرمته أو وجوبه ، نعلم أنّ التتن ليس من دائرة المعلوم بالإجمال ، فتجري فيه البراءة ، لكون الشكّ في حرمته حينئذ بدوياً.

أمّا لو لم يكن لنا إلاّ العلم الأوّل ، سواء كنّا نعلم بأنّه لو تفحّصنا لما عثرنا على شيء ، أو كنّا نشكّ في أنّه لو تفحّصنا وعثرنا على شيء هل يكون ذلك الشيء بمقدار المعلوم بالاجمال أو لا ، لكان باب العلم منسدّاً ، ومع انسداد باب العلم لا معنى للتكلّم في كيفية الرجوع إلى البراءة.

ثمّ إنّ المستفاد من كلام الشيخ قدس سره أنّه جعل القيد المذكور جواباً عن الإشكال على الفحص ، بأنّه إن كان العلم مانعاً فهو موجود بعد الفحص ، وإلاّ فلا مقتضي للفحص ، وكأنّه يريد أنّه مع الغض عن الإشكال المذكور فلا إشكال في مانعية العلم من إجراء البراءة ، وأنّ الفحص نافع ولو لم نعتبر القيد المذكور ، وقد عرفت أنّه مع عدم القيد المذكور لابدّ من الالتزام بالانسداد غير المجتمع مع إجراء البراءة ، انتهى.

ثمّ إنّه في درس ليلة الاثنين والثلاثاء 26 محرّم سنة 1341 أفاد ما يلي : ثمّ إنّ الشيخ قدس سره بعد أن ذكر الجواب المذكور ، وهو أنّ المعلوم بالاجمال مقيّد بأنّه لو تفحّصنا عنه لظفرنا به ، أورد عليه بإيرادين ، وحاصل الإيراد الأوّل إنكار دعوى

ص: 525

التقييد المذكور. وحاصل الثاني : أنّه لو ظفر بعد الفحص بالمقدار المعلوم بالاجمال ، فلا يكون الفحص حينئذ واجباً في الزائد على ذلك المقدار ولو كان مورداً واحداً ، ولا يلتزم به القائل بالبراءة ، فإنّهم يوجبون الفحص مطلقاً ، ثمّ إنّه قدس سره تأمّل بعد هذين الإيرادين.

ولا يخفى ما في كلا الإيرادين ، أمّا الأوّل فيرد عليه أنّه خلاف الوجدان والإنصاف ، فإنّ من حكّم وجدانه وأنصف يجد أنّه وإن علم إجمالاً بأنّا لسنا مثل البهائم ، وأنّ الشارع المقدّس جعل لنا تكاليف لا نعلمها تفصيلاً ، إلاّ أنه يعلم أيضاً أنّ الشارع جعل لنا طرقاً لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، انتهى.

قلت : لا يخفى ما فيه ، وخلاصته ما أفاده الشيخ قدس سره (1) وما اختصره في الكفاية في الردّ على القول بالاختصاص بحجّية الظنّ بالطريق ، من أنّه لو سلّمنا أنّه جعل لنا طرقاً واصلة إلينا ، باقية بأيدينا ، ولم يكن في البين قدر متيقّن الخ (2).

وثانياً : أنّك قد عرفت أنّ هذا البحث بعد فرض الانفتاح كما هو مذهبه قدس سره ، وحينئذ نقول : إنّ ذلك المعلوم بالاجمال من التكاليف الواقعية أو الطرق المجعولة لو لم تكن مقيّدة بأنّها لو تفحّصنا عنها لعثرنا عليها ، وأنّها ممّا يمكن الظفر بها ، لما كان للقول بالانفتاح مجال ، فإنّ تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال أو الطرق المجعولة ، لو لم يكن الظفر بها ممكناً لكان باب العلم بها منسدّاً ، بل إنّ ذلك أعني عدم إمكان الظفر بها عين انسداد باب العلم ، انتهى.

قلت : قد عرفت أنّ الشيخ قدس سره إنّما ينكر الكلّية ، وهي أنّه جميع ما صدر من صاحب الشريعة يمكن العثور عليه بالفحص ، وإنكار هذه الكلّية لا يوجب

ص: 526


1- فرائد الأُصول 1 : 445.
2- كفاية الأُصول : 317 ( نقل بالمضمون ).

الانسداد ، بل يتحقّق الانفتاح بكون القدر المتيقّن من التكاليف الواقعية لو تفحّصنا عنه لعثرنا عليه على ما عرفت تفصيل الكلام فيه.

ثمّ قال فيما حرّرته عنه : وأمّا الإيراد الثاني ففيه : أنّ ذلك المقدار الذي ظفر به لو علم أنّه هو المعلوم بالاجمال ، لم يكن إشكال فيما ذكره من انحلال العلم الاجمالي والرجوع في الزائد عليه إلى البراءة قبل الفحص ، وإن لم يكن كذلك بل كان يحتمل انطباقه عليه ، ويحتمل أنّه تكليف آخر خارج عن ذلك المعلوم بالاجمال فلا ينطبق المعلوم بالاجمال عليه ، وحينئذ فيكون ذلك من قبيل حدوث العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي ، وسيأتي الإشكال في كونه موجباً للانحلال إن شاء اللّه تعالى. انتهى.

وقال في الجزء الثاني من المقالة المطبوع بعد وفاته : يعتبر في جريان البراءة ، بل مطلق الأُصول النافية للتكليف في الشبهات الحكمية الفحص بالمقدار المتعارف ، المخرج للمورد عن معرضية وجود الدليل على الحكم الكلّي الإلهي. وعمدة الوجه فيه هو دعوى العلم الاجمالي بوجود الأحكام في مقدار من المسائل المشتبهة في مجموع ما بأيدينا منها ، مع العلم بأنّه على وجه لو تفحّص في المسائل المزبورة لظفرنا بها ، ومن المعلوم أنّ نتيجة مثل هذا العلم عدم الإقدام على البراءة قبل الفحص ، لاحتمال كون المسألة من أطراف المعلوم بالاجمال المانع من جريان الأُصول النافية فيها ، ولو من جهة مانعية العلم في البين عن جريان الأُصول ، كما أنّه لو تفحّصنا في المسألة وما ظفرنا فيها بدليل ، يستكشف خروجها عن دائرة المعلوم بالاجمال من أوّل الأمر.

ولو ظفرنا بالفحص في المسائل العديدة ، وظفرنا بالدليل بمقدار المعلوم بالاجمال ، لا يجدي ذلك أيضاً في إسقاط العلم عن الاعتبار بملاك الانحلال ،

ص: 527

لاحتمال كون العلوم الحادثة علوماً متأخّرة عن العلم الاجمالي الأوّلي ، ولو بواسطة احتمال حدوث بعضها في المسائل الخارجة عن طرف العلم في الدائرة المضيّقة ، ومثل ذلك غير كاف في الانحلال. نعم لو كان جميع المسائل طرف العلم المزبور ، كان لهذه الشبهة مجال ، إذ العلوم الحادثة حينئذ هو عين ما علم بالظفر بها من الأوّل مقارناً للعلم الاجمالي. كما أنّه لو بنينا على صلاحية العلم المتأخّر للانحلال بمحض احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، كان للشبهة المزبورة أيضاً مجال. وبالجملة : ما تصوّرنا من خصوصية العلم الاجمالي المزبور كافٍ في وجوب الفحص ومانع من جريان أدلّة البراءة ولو نقليّها من دون لزوم محذور فيه أبداً (1).

قلت : لا يخفى أنّ هذا القيد - وهو كون المعلوم الاجمالي بحيث إنّه لو تفحّصنا عنه لعثرنا عليه - دخيل في دفع الشبهة القائلة بأنّه بعد الفحص وعدم العثور لا يجوز الرجوع إلى البراءة ، لأنّ المانع هو العلم الاجمالي وهو باقٍ بحاله ، فيقال في الجواب عنها : إنّه بعد الفحص وعدم العثور يستكشف أنّ المورد خارج عن ذلك المعلوم الاجمالي المقيّد بالقيد المزبور. ولا دخل للقيد المزبور في دفع الشبهة الأُخرى القائلة بأنّه لا يجب الفحص بعد العثور على مقدار المعلوم بالاجمال لأجل انحلال العلم الاجمالي حينئذ بالعثور على ذلك المقدار ، إذ يكفي أُستاذنا العراقي قدس سره في دفع هذه الشبهة مجرّد ما بنى عليه من أنّ العلم التفصيلي المتأخّر لا يوجب انحلال العلم الاجمالي السابق.

نعم ، يحتاج إلى هذا القيد شيخنا الأُستاذ قدس سره ، لأنّ مبناه هو انحلال العلم

ص: 528


1- مقالات الأُصول 2 : 287 - 288.

الاجمالي بالعلم التفصيلي ولو متأخّراً ، فيحتاج حينئذ في إنكار الانحلال هنا إلى دعوى التقييد المزبور ، ليتمّ له تلك الدعوى القائلة إنّ المعلوم الاجمالي إذا كان مقيّداً ومعلّماً بعلامة خاصّة لا ينحلّ.

وكيف كان ، فنحن الآن بصدد بيان ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في هذا المقام ، فنقول : لا ريب على الظاهر أنّه لو علمنا بوجود خمس شياه محرّمة في هذا القطيع ، على وجه نعلم بأنّ الحرام الواقعي في هذا القطيع مقصور عليها لا يزيد ولا ينقص ، فلو تفحّصنا في هذا القطيع وعثرنا تفصيلاً على خمس معيّنة هي محرّمة ، لانحلّ العلم الاجمالي ، ولم نحتج بعد ذلك العثور إلى إجراء البراءة في الباقي فضلاً عن الفحص. أمّا لو كنّا نحتمل بأنّ هناك محرّمات أُخر زائدة على الخمس ، فهذا هو العلم الاجمالي المردّد بين الأقل وهو الخمس والأكثر وهو العشرون مثلاً ، وفي هذه الصورة لو اطّلعنا على خمس معيّنة أنّها محرّمة ، كان ذلك من العلم التفصيلي المتأخّر عن العلم الاجمالي ، ومن رأي الأُستاذ العراقي قدس سره أنّه لا يوجب الانحلال ، لاحتمال أن تكون هذه الخمس التي اطّلعنا تفصيلاً على حرمتها هي ممّا زاد على الخمس الاجمالية ممّا كنّا نحتمل حرمته مضافاً إلى حرمة الخمس ، إذ ليس في البين ما يوجب أن تكون هذه الخمس التي اطّلعنا عليها هي نفس الخمس الاجمالية ، التي علمنا إجمالاً بوجودها كي يكون اطّلاعنا المذكور موجباً لانحلال العلم الاجمالي السابق.

وتطبيق هذه النظرية فيما نحن فيه هو أن يقال : إنّا إذا لاحظنا جميع الوقائع المشتبهة من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر الديات ، نرى بالوجدان أنّها تشتمل على كثير من الأحكام ، وتلك الأحكام وإن كانت مردّدة بين الأقل وهو ألف حكم مثلاً

ص: 529

والأكثر وهو أُلوف ، إلاّ أن القدر المتيقّن وهو الألف يتردّد بين جميع المسائل الفقهية ، فكلّ مسألة من تلك المسائل هي من أطراف ذلك العلم الاجمالي ، فلو تفحّصنا وعثرنا على ألف حكم لم يكن ذلك موجباً للانحلال ، لاحتمال كون تلك الألف التي عثرنا عليها هي غير تلك الألف الاجمالية التي علمناها إجمالاً ، بمعنى أنّا نحتمل أنّ تلك الألف الاجمالية باقية في باقي المسائل لم نعثر عليها ، وهذه التي عثرنا عليها هي ممّا كنّا نحتمل زيادته عليها ، فلا ينحلّ العلم الاجمالي.

نعم ، لو كان هذا العلم التفصيلي مقارناً للعلم الاجمالي ، لأوجب انحلاله ، بل قد عرفت فيما مضى أنّه لا يكون لنا علم إجمالي ، بل لا يكون حينئذ إلاّعلم تفصيلي بحرمة هذه الألف مع الشكّ في الزائد.

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر أن يكون كلّ باب من أبواب الفقه مورداً للعلم الاجمالي بوجود مقدار من تلك الألف فيه ، وحينئذ لو عثرنا على تمام ألف في باب معيّن ، أو أبواب معيّنة من أبواب الفقه كالعبادات ، تعيّن عندنا أنّ هذه الألف ليست هي بتمامها عين الألف الاجمالية ، بل لابدّ أن يكون مقدار من تلك الألف التفصيلية هو من الزائد الذي كنّا نحتمله ، لأنّ المفروض أنّ باقي الأبواب من المعاملات وغيرها ذات علم إجمالي خاصّ بنفسه ، وحينئذ فلا يتّجه دعوى احتمال انطباق الألف الاجمالية على تلك الألف التفصيلية ، إلاّ إذا كانت تلك الألف التفصيلية موزّعة على جميع الأبواب كلّ بحسبه.

وإن شئت فقل : إنّ كلّ باب من الأبواب الفقهية هو ذو علم إجمالي مردّد بين الأقل والأكثر ، وله انحلال خاصّ به باعتبار الاطّلاع التفصيلي فيه على المقدار المتيقّن ممّا هو فيه من الأحكام ، وبناءً على عدم الانحلال بالعلم التفصيلي

ص: 530

المتأخّر ، يكون اللازم عدم الانحلال في تمام الأبواب إلاّ إذا كان باب قد اطّلعنا فيه على ما هو الأكثر المحتمل فيه ، وحينئذ يقطع بالعدم فيه فيما زاد من دون حاجة إلى براءة ولا إلى فحص.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في تخصيص الإشكال والجواب عنه بما لو كان التفحّص والعثور على مقدار المعلوم بالاجمال في بعض المسائل والأبواب ، على وجه لو كان العثور في جميع الأبواب لكان محقّقاً للانحلال ، كما يظهر من قوله : ولو ظفرنا بالفحص في المسائل العديدة - إلى قوله - نعم لو كان جميع المسائل طرف العلم المزبور ، كان لهذه الشبهة مجال ، إذ العلوم الحادثة حينئذ هو عين ما علم بالظفر بها من الأوّل مقارناً للعلم الاجمالي (1). وكما يظهر هذا التفصيل أيضاً من الجزء الأوّل من المقالة في تقرير الإشكال بأنّ الفحص في مقدار من المسائل إذا أوجب الظنّ بالمعارض أو الحاكم بمقدار المعلوم بالاجمال ، فراجعه إلى قوله : إذ مثل هذا العلم الحاصل جديداً يكون المعلوم بالاجمال في غير هذه الشكوك الباقية التي كانت طرفاً من الأوّل الخ (2).

وإن شئت فراجع قول المحرّر لدرسه : ويندفع ذلك أيضاً بأنّه يتّجه ذلك لو كان متعلّق العلم الاجمالي مطلقاً ، أو كان مقيّداً بالظفر به على تقدير الفحص ، ولكن كان تقريب العلم الاجمالي هو كونه بمقدار من الأحكام على وجه لو تفحّص ولو في مقدار من المسائل لظفر به ، وأمّا لو كان تقريبه بما ذكرناه من العلم بمقدار من الأحكام في مجموع المسائل المحرّرة ، على وجه لو تفحّص في كلّ

ص: 531


1- مقالات الأُصول 2 : 287 - 288.
2- مقالات الأُصول 1 : 455 - 456.

مسألة تكون مظانّ وجود محتمله لظفر به ، فلا يرد إشكال الخ (1).

والإنصاف : أنّي لم أفهم هذه العبائر وهذه التفصيلات كما هو حقّها ، وينبغي مراجعتها وتدقيق النظر فيها لكي يحصل القطع بما أراده قدس سره من هذه التفصيلات ، وإلاّ فلا يحسن الإيراد والاعتراض مع الاعتراف بعدم فهم المراد من ذلك.

قوله : الجهة الثانية : في استحقاق التارك للفحص العقاب - إلى قوله - وينبغي أوّلاً أن يعلم أنّ مناط وجوب التعلّم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، وإن كان يظهر من كلام الشيخ قدس سره في المقام الخلط بين البابين ، حيث قاس وجوب التعلّم على وجوب السير إلى الحجّ ... الخ (2).

وقد حرّرت عنه قدس سره ما نصّه : إنّ الشيخ قدس سره قد أفاد في هذا المقام أُموراً تتحصّل من مطاوي كلامه ، كلّها مبنية على عدم الفرق بين باب تفويت القدرة ولزوم تحصيلها ، وباب لزوم تحصيل العلم بالأحكام المعبّر عنه بوجوب التعلّم ، منها أنّه قاس ما نحن فيه على خروج من توسّط أرضاً مغصوبة. ومنها أنّه جعل الغفلة والجهل الناشئ عن عدم الفحص موجباً لعدم القدرة على الامتثال ، كالجهل بالموضوع والغفلة عن الفعل أو نسيانه. وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين الغفلة عن الحكم والجهل به ، وبين الغفلة عن الفعل أو نسيانه ، فإنّ الأوّل لا يسلب القدرة على الفعل بخلاف الثاني ، وإلحاق الأوّل بالثاني خلاف ما بنى عليه قدس سره في فقهه وأُصوله من كون الجاهل بالحكم مكلّفاً. ومنها ما يستفاد من طي

ص: 532


1- نهاية الأفكار 3 : 471 - 472.
2- فوائد الأُصول 4 : 280 - 281.

كلماته من التفرقة بين الجهل بالحكم وبين نسيانه وإلحاق الأوّل بالثاني. وفيه : أنّ نسيان الحكم عبارة أُخرى عن الجهل به. إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتأمّل في تمام كلامه زيد في علو مقامه ، انتهى.

قلت : ربما يقال : إنّ وجوب التعلّم والتفقّه في الدين من الواجبات الأصلية والمطلوبات النفسية المحبوبة بالذات ، سواء كان على طريقة الاجتهاد ، أو كان على طريقة التقليد ، بحيث إنّه يستحقّ العقاب على مخالفته بنفسه ، ولو فرض محالاً عدم انتهائه إلى مخالفة الأحكام الشرعية.

أمّا إذا انتهى إلى ذلك ، فتارة يكون من قبيل الغفلة عن الحكم أو القطع بعدمه ، وأُخرى مع الشكّ ، فإن أدّى ترك التعلّم إلى الغفلة عن الحكم في ظرفه أو القطع بعدمه ، كان مستحقّاً لعقابين ، أحدهما لتركه التعلّم المفروض كونه واجباً نفسياً ، فيكون مستحقّاً للعقاب على تركه ، ويكون ذلك الاستحقاق حين ترك التعلّم في ظرف إمكانه ، والعقاب الآخر لمخالفته ذلك الحكم الذي كان في ظرفه غافلاً عنه أو كان قاطعاً بعدمه ، لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الحكم لا يرتفع إلاّ مع فرض العذر في ذلك الجهل كالجاهل القاصر ، أمّا المقصّر فيتبعه العقاب لعدم كون جهله عذراً ، سواء قلنا إنّ الجاهل قادر أو لم نقل ، لا من جهة قيام الحجّة عليه التي هي وجوب التعلّم إيجاباً طريقياً ، بل من جهة ما ذكرنا من عدم معذورية هذا الجاهل المقصّر ، فيكون نظير استحقاق العقاب على الخروج من الأرض المغصوبة. أمّا على تقدير كون الجاهل غير قادر ، فلأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وأمّا على تقدير كونه قادراً ، فلأنّ إلقاء نفسه بالجهل الموجب لعدم تأتّي امتثال الحكم الشرعي لمّا كان بسوء اختياره ، لم يكن ذلك مصحّحاً

ص: 533

لعذره وارتفاع العقاب عنه.

وبالجملة : أنّ الجهل بالحكم والغفلة عنه ، سواء كان عذراً بنفسه أو كان راجعاً إلى القدرة ، إنّما يكون لدى العقل عذراً إذا لم يكن بسوء اختيار المكلّف ، فيكون حاله من هذه الجهة حال القدرة ، هذا إذا كان ترك التعلّم منتهياً إلى الغفلة أو القطع بعدم الحكم.

وأمّا إذا كان ترك التعلّم في ظرفه منتهياً إلى الشكّ في الحكم في ظرفه ، فإن لم يمكنه فعلاً الفحص والتعلّم ، كان اللازم عليه هو الاحتياط إن أمكنه ذلك ، وإن لم يمكنه ذلك وجرى على أحد الطرفين ثمّ تبيّن أنّه خلاف الحكم الواقعي ، لم يكن معذوراً أيضاً. ولو أمكنه كلّ من الفحص والاحتياط تخيّر بينهما ، ومحصّله : أنّه لا يجوز له الركون إلى البراءة إلاّبعد الفحص ، وإن لم يتفحّص فعلاً لزمه الاحتياط.

ولا يخفى أنّ إيجاب الفحص هنا ليس بحكم شرعي ، كما أنّ إيجاب الاحتياط ليس بحكم شرعي أيضاً ، بل ليس كلّ منهما إلاّنتيجة حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، إمّا للعلم الاجمالي وإمّا لما تقدّم من الدليل العقلي ، وبعد أن حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، تعيّن عليه أحد الأمرين المذكورين ، أعني الالتزام بالاحتياط أو الفحص والتعلّم.

والحاصل : أنّ كلاً من الفحص والاحتياط إنّما هو نتيجة حكم العقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وليس شيء منهما حكماً شرعياً حتّى يتكلّم في كونه طريقياً أو نفسياً ، أو أنّه بنفسه موجب لاستحقاق العقاب على مخالفته ، بل لا يكون العقاب في ذلك إلاّعلى مخالفة الواقع لو صادفه.

ص: 534

وفيه ما لا يخفى ، فلأنّ عمدة الكلام إنّما هو في وجوب التعلّم قبل وقت الواجب مثلاً ، وهذا لا يتأتّى فيه مسألة الامتناع بالاختيار ، فلابدّ من القول بأنّ إيجاب التعلّم طريقي مخافة الوقوع في مخالفة التكاليف في وقتها ، ومجرّد إيجابه النفسي قبل ذلك لا يكون مصحّحاً للعقاب على مخالفة التكاليف في وقتها من دون فرق في ذلك بين أدائه إلى الجهل والغفلة أو إلى الشكّ ، فلا يكون ذلك الوجوب إلاّطريقياً ، غايته أنّه من باب متمّم الجعل ، لأنّ التكاليف في حدّ نفسها لا يكون مجرّد جعلها وافياً بالحصول عليها في مقام الجهل ، وحينئذ فيكون حال إيجاب التعلّم حال إيجاب الاحتياط في مثل باب الدماء والفروج ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) أنّه لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته بنفسه ، بل هو لا يكون إلاّطريقياً صرفاً منجّزاً للواقع إن أصابه ، ولا يكون العقاب إلاّعلى مخالفة ذلك الواقع لو أصابه ، وفي مورد عدم الاصابة لا يكون إلاّ التجرّي كما هو الشأن في جميع الأوامر الطريقية.

قوله : وينبغي أوّلاً أن يعلم أنّ مناط وجوب التعلّم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الذي يمكن أن يقاس بالمقدّمات المفوّتة إنّما هو التعلّم ، لأنّ تركه في ظرفه يكون موجباً لعدم القدرة على امتثال الحكم في ظرفه ، فيكون نظير ترك الخروج مع الرفقة في كونه موجباً لعدم القدرة على أفعال الحجّ في ظرفه ، أمّا الاحتياط فلا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّه من هذا القبيل.

ص: 535


1- في الصفحة : 537 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 281.

قوله : ويستحقّ التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدّمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ، ويمتنع عليه بالاختيار ، ويصدق أنّه فات منه الواجب وإن كان بعد لم يتحقّق زمانه لكونه مشروطاً بزمان متأخّر ... الخ (1).

فيه تأمّل ، إذ لم يتّضح الوجه في استحقاق العقاب على مخالفة الواجب بترك مقدّمته مع فرض كونه مشروطاً بشرط لم يحصل بعد. نعم بعد مجيء زمانه يستحقّ العقاب ، فإنّه وإن لم يكن مقدوراً في ذلك الزمان ، إلاّ أنه لمّا كان ذلك بسوء اختياره ، لم يكن ذلك موجباً لمعذوريته.

وقد حرّرت عنه قدس سره ما نصّه : أنّه لا شبهة في أنّه لو ترك المقدّمات المفوّتة كالمسير بالنسبة إلى أفعال الحجّ ، يكون مجرّد ترك المقدّمات في وقتها موجباً لسلب القدرة على الواجب في وقته وتحقّق العصيان بالنسبة [ إليه ] وإن لم يحصل وقته بعد ، ولذلك لو أقدم هذا التارك للمسير على فعل بعض المستحبّات في وقت موقف عرفة ، لا يكون صحّة تلك المستحبّات وعدم صحّتها متفرّعاً على كون الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه ، بل يحكمون بصحّتها حتّى على القول بالاقتضاء ، وذلك كاشف عن سقوط الأمر بمجرّد ترك المسير ، لحصول العصيان بتركه ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ ذلك لا يكشف عن كون السقوط بالعصيان حاصلاً من حين ترك المسير ، بل لعلّ السقوط والعصيان لم يكونا حاصلين إلاّعند تحقّق ظرف ذلك الواجب الذي هو أفعال الحجّ ، ومسألة الضدّ إنّما تتأتّى فيما لم يكن ذلك الواجب ساقطاً في ظرفه بالعصيان المفروض فيه عدم التمكّن من الاطاعة

ص: 536


1- فوائد الأُصول 4 : 282.

في ذلك الظرف.

والحاصل : أنّ ظرف السقوط والعصيان واستحقاق العقاب إنّما هو في ظرف الواجب وفي زمانه ، ولكن العصيان إن كان بفعل الضدّ بحيث إنّ المكلّف صرف قدرته في ذلك الضدّ ، كان داخلاً في مسألة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، أمّا إذا لم يكن العصيان بفعل ولا (1) بصرف المكلّف قدرته في ذلك الضدّ ، بل كان بفعل سابق أوجب فعلاً سلب قدرته على الامتثال ، فلا يكون داخلاً في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، ويكون ذلك نظير ما لو كان حين الواجب عاجزاً عنه ، غايته أنّ فعل الضدّ في صورة العجز غير الاختياري لا يكون مقروناً بعصيان الواجب ، وفيما نحن فيه من العجز الاختياري يكون فعل الضدّ مقروناً بعصيان الواجب ، إلاّ أنه لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه لم يكن الضدّ هنا منهياً عنه ، لعدم كون فعله هو المحقّق للعصيان. وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالشيء لمّا كان هنا ساقطاً بالعصيان الفعلي الناشئ عن التعجيز السابق ، لم يكن موجباً للنهي عن الضدّ ، لعدم اقتضائه شاغلية المكلّف بذلك الواجب.

قوله : وهذا بخلاف التعلّم والاحتياط فإنّه لا يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليهما ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدّمات المفوّتة ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي من قبيل متمّم الجعل للتكاليف الأوّلية ، يكون حاله حال وجوب الاحتياط في موارد الدماء والفروج مثلاً في أنّه لا يمكن القول بأنّ مخالفته موجبة للعقاب مطلقاً أخطأ أو

ص: 537


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والمعنى واضح ].
2- فوائد الأُصول 4 : 283.

أصاب ، وإنّما يكون العقاب عند الاصابة ، لكن هل العقاب على مخالفة الواقع ، أو على مخالفة الأمر الاحتياطي في خصوص حال إصابته ، وقد اختار الثاني شيخنا الأُستاذ قدس سره ، نظراً إلى [ أنّ ] التكليف الواقعي في حدّ نفسه لا يمكن ترتّب العقاب على مخالفته لبقائه مجهولاً ، ومجرّد الأمر الاحتياطي حيث إنّه لا يكون محرزاً له لا يصحّح العقاب على مخالفته ، فلابدّ أن نقول إنّ العقاب مترتّب على مخالفة الأمر الاحتياطي عند إصابته ، أمّا عند خطائه فلا يكون الأمر الاحتياطي إلاّ صورياً ، لأنّ الغرض منه هو حفظ التكليف الواقعي ، فلا يكون أمراً حقيقة إلاّعند الاصابة لاتّحاد ذلك الأمر الطريقي بالحكم الواقعي ، لكونه باعتبار كونه طريقاً إليه يكون متّحداً بالواقع ، ويكون مرجع الطريقية إلى الهوهوية ، وقد مرّ في باب جعل الطرق (1) الإشكال في ذلك :

أوّلاً : أنّ الغرض من الأمر الاحتياطي إذا فرض كونه صورياً عند المخالفة لا يكون موجباً عقلاً على المكلّف امتثاله ، لعدم إحراز إصابته ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ احتمال إصابته لمّا كان ملازماً لاحتمال العقاب على مخالفته ، كان ذلك كافياً في لزوم الجري على طبقه عقلاً ، خوفاً من احتمال إصابته الملازم لاحتمال استحقاق العقاب على مخالفته ، وفيه تأمّل.

وثانياً : أنّه بعد فرض كون الغرض من الأمر الاحتياطي هو حفظ المكلّف عن الوقوع في مخالفة التكليف الواقعي ، لا يكون الأمر المذكور إلاّ أمراً حقيقياً مطلقاً وإن اتّفق مخالفته للواقع ، ويكون حاله حال الأمر بغسل الجمعة لرفع الأرياح ، بل هو أولى بذلك ، لأنّ الغرض في الغسل يوم الجمعة قد ينفكّ عن هذه الجهة ، أعني جهة رفع الأرياح ، بخلاف الأمر الاحتياطي الذي كان الغرض منه هو

ص: 538


1- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، في الصفحة : 327.

التحرّز عن مخالفة الواقع عند الشكّ فيه.

وبعبارة أُخرى : الغرض منه هو حفظ المكلّف عن الوقوع في خلاف الواقع ، وهذا المعنى متحقّق في جميع موارد الاحتياط. مثلاً لو كان الغرض من الاحتياط في الدماء هو التحرّز من وقوع المكلّف في قتل المؤمن ، فهذا المعنى - أعني التحرّز المذكور - متحقّق في جميع موارد الشكّ كما شرحناه مفصّلاً في ذلك الباب فراجع ، وحينئذ فلو قلنا إنّ الأمر الاحتياطي يستحقّ مخالفه العقاب عند كونه أمراً حقيقياً ، لزمنا أن نقول باستحقاق العقاب في جميع موارده ، حتّى في مورد خطئه ما دام الخطأ غير منكشف.

فالأولى أن نقول : إنّ الأمر الاحتياطي لا أثر له إلاّتنجّز الواقع ، فلا يكون العقاب مترتّباً إلاّعلى مخالفة الواقع دون نفس الأمر الاحتياطي ، إذ ليس هو إلاّ طريقيّاً صرفاً ، ولا منشأ له إلاّجعل احتمال التكليف حجّة في جهة التنجّز ليس إلاّ.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على مخالفته بالأمر الطريقي لا يتوقّف على كون ذلك الأمر الطريقي متكفّلاً لإحراز الواقع ، بل يكفي فيه مجرّد الأمر بالاحتياط الموجب لسدّ باب عذر المكلّف ، سيّما إذا قلنا بأنّ المنشأ في ذلك الأمر الاحتياطي هو جعل الاحتمال حجّة في خصوص تنجّز الواقع ، كما شرحناه في باب جعل الطرق (1).

وأمّا وجوب التعلّم فهو أيضاً منجّز للواقع ، بمعنى كونه موجباً لاستحقاق [ العقاب ] على مخالفته. أمّا بالنسبة إلى صورة القطع بعدم الواقع أو الغفلة عنه الناشئة عن عدم التعلّم ، فلأنّه بعد أن أُوجب عليه التعلّم من حيث كونه طريقاً

ص: 539


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 333.

موصلاً له إلى الواقع ، بمعنى كون الغرض من الأمر به هو حفظ الواقع ، لا يكون معذوراً في ذلك الجهل ، لا من جهة كونه ملحقاً بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لأنّ ذلك وحده غير موجب لحكم العقل بلزوم التعلّم قبل وقت الوجوب ، بل من جهة أنّ إيجاب التعلّم طريقياً يوجب تنجّز ذلك الواقع عليه وانقطاع عذره بجهله. نعم ، بعد توجّه وجوب التعلّم عليه يكون الجهل الناشئ عن ترك التعلّم موجباً لإدراجه في القاعدة المزبورة. وهكذا الحال في صورة الشكّ. مضافاً إلى أنّه في صورة الشكّ يمنعه العقل من الركون إلى البراءة ، وهو كافٍ في تنجّز الواقع عليه سيّما إذا قلنا بأنّ المانع من إجراء البراءة هو العلم الاجمالي.

قوله : وعلى هذا لو وافق عمل الجاهل التارك للفحص للواقع كان مجزياً (1).

إن لم يكن فيه خدشة من ناحية أُخرى كتأتّي قصد القربة ، أو تأتّي الاطاعة التفصيلية مع فرض تمكّنه منها ، كما إذا احتمل وجوب العبادة وفعلها من دون فحص وصادف الواقع وجوبها ، وهذا القيد لابدّ منه فيما لو صادف أنّ هناك حجّة مخطئة على صحّة عمله.

قوله : غايته أنّه لو أوقع العمل عن استناد إلى الطريق كان معذوراً ما دام الطريق قائماً عنده ، ولا يكفي في المعذورية مجرّد الموافقة للطريق بلا استناد إليه إذا كان الجهل عن تقصير ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في صحّة عمل الجاهل بلا فحص ، ولا دخل

ص: 540


1- فوائد الأُصول 4 : 285.
2- فوائد الأُصول 4 : 285 - 286.

لذلك بالمعذورية وعدمها ، فلو عمل ما هو مخالف للواقع كان عليه الاعادة والقضاء ، سواء كان ذلك عن قصور أو كان عن تقصير ، وسواء كان طريق مخطئ أو لم يكن ، استند إليه أو لم يستند ، لكن صورة الاستناد خارجة عن محلّ البحث ، وإن لزم الاعادة والقضاء بحسب القاعدة لولا الإجماع الآتي ذكره.

قوله : ويترتّب على ما ذكرنا - إلى قوله - فإن وافق عمله رأي من يجب عليه تقليده فعلاً ، أو وافق اجتهاده الفعلي ، كان عمله مجزياً وتبرأ ذمّته ، ولو خالف رأي من كان يجب عليه تقليده حال العمل (1).

يحتاج إلى القيد السابق أعني تأتّي القربة منه ، وعدم الخدشة فيه من جهة الاطاعة التفصيلية بناءً على اعتبارها عند الامكان.

قوله : وإن انعكس الفرض ، وكان عمله مخالفاً لرأي من يجب تقليده فعلاً وموافقاً لرأي من كان يجب تقليده حال العمل - إلى قوله - ومن المعلوم أنّ الطريق إنّما هو يقتضي المعذورية إذا وقع العمل عن استناد واعتماد إليه ... الخ (2).

لابدّ أن يكون المراد بالمعذورية المعذورية عن العقاب ، وهي خارجة عن محلّ الكلام الذي هو المعذورية من حيث الاعادة والقضاء ، فإنّه بالنسبة إلى هذه الجهة ليس بمعذور ، بل يلزمه الاعادة والقضاء حتّى لو كان عمله السابق عن استناد إلى الفتوى السابقة إذا كان العمل بحسب الفتوى اللاحقة فاسداً.

ص: 541


1- فوائد الأُصول 4 : 286.
2- فوائد الأُصول 4 : 286.

قوله : وأمّا لو خالف العمل لأحدهما ووافق الآخر ، ففي استحقاقه للعقوبة وجهان ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الواقع والأمارة القائمة عليه إن اتّفقا ووافقهما المكلّف ، فلا ريب في عدم العقاب ، وكذا لو خالفهما ، فإنّه لا ريب فيه في استحقاق العقاب. وإن اختلفا ، فإمّا بنحو التضادّ مثل أن يكون الحكم الواقعي هو التحريم ويكون مؤدّى الأمارة هو الايجاب ، وإمّا بنحو الايجاب والسلب ، بأن يكون الحكم الواقعي هو التحريم ، ويكون مؤدّى الأمارة هو الاباحة وعدم التحريم ، والبحث معقود لهذا الأخير ، أمّا الاختلاف بالتضادّ فيعلم حكمه منه بالمقايسة.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الاختلاف بالايجاب والسلب تارةً : يكون الحكم الواقعي هو التحريم مثلاً ويكون مؤدّى الأمارة هو الاباحة. وأُخرى : يكون الأمر بالعكس ، والمكلّف في كلّ من هاتين الصورتين إن اتّفق أنّه قد عمل على طبق المثبت ، فلا ريب أيضاً في عدم استحقاقه للعقاب ، لأنّه حينئذ غير مطالب بشيء ، لا من ناحية الواقع ولا من ناحية الأمارة.

وإنّما الإشكال فيما لو اتّفق أنّ عمله كان على طبق النافي ، فهناك صورتان ، الأُولى : أن يكون الواقع هو حرمة شرب التتن مثلاً ، لكن كانت هناك رواية لو تفحّص لعثر عليها ، تدلّ على الاباحة وقد شربه المكلّف. الثانية : عكس هذه المسألة ، بأن يكون الواقع هو إباحة شرب التتن ، لكن هناك رواية لو تفحّص عنها المكلّف لعثر عليها تدلّ على حرمته.

وقد حكم شيخنا في الصورة الأُولى باستحقاق العقاب ، لمخالفته للواقع بلا مبرّر ولا مؤمّن ، والرواية الدالّة على الاباحة لم يستند إليها لتكون مصحّحة

ص: 542


1- فوائد الأُصول 4 : 288.

لعذره. وفي الصورة الثانية حكم بعدم استحقاق العقاب ، إذ لم يخالف الواقع ، والرواية الدالّة على التحريم لا أثر لها مع فرض كونها مخالفة للواقع ، وكون حجّيتها من باب الطريقية. نعم ، لو قلنا بالسببية الراجعة إلى التصويب ، لزم القول في هاتين المسألتين بالعكس ، يعني بعدم استحقاق العقاب في الصورة الأُولى واستحقاقه في الصورة الثانية.

قوله : فإن قلت : أليس قد فاتت منه المصلحة السلوكية ... الخ (1).

ظاهره الايراد على الصورة الثانية ، لكن لا يناسبه الجواب عنه بأنّه مع عدم العلم بالطريق والعمل به لا سلوك ولا مصلحة حتّى يلزم من ترك الفحص تفويتها الخ.

وكيف كان ، فهذا الإشكال إن كان مرجعه إلى الإشكال على الصورة الأُولى ، بأن يقال : لا وجه للحكم فيها باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، لأنّ مصلحته متداركة بالأمارة القائمة على نفي التكليف ، وحينئذ يجاب عنه بأنّ المصلحة السلوكية إنّما تكون بحيث يتدارك بها مصلحة الواقع لو كان المكلّف قد استند إليها في مخالفة ذلك الواقع ، لا مع فرض عدم علمه بها وعدم سلوكه من ناحيتها ، اللّهمّ إلاّ أن نقول بالسببية ، بأن يكون نفس وجود تلك الأمارة مبدّلاً للحكم الواقعي ، لكنّه على الظاهر لا يتمّ هنا ، لأنّ قيام الأمارة فرع العلم بها ، والمفروض أنّه لا يعلم بها. والحاصل : أنّ هذا لا يتمّ على المصلحة السلوكية ولا على السببية ، بل ولا على التصويب الصرف ، لأنّ ذلك دائر مدار الظنّ الفعلي ، وهو يتوقّف على العلم بالأمارة.

وإن كان مرجع هذا الإشكال إلى الإشكال على الصورة الثانية ، بأن يقال : إنّه

ص: 543


1- فوائد الأُصول 4 : 288.

لا وجه للحكم بعدم العقاب في الصورة الثانية ، بل يلزمه العقاب ، لأنّه قد فوّت المصلحة الطريقية ، وإن لم يكن قد فوّت مصلحة الواقع ، فحينئذ يجاب عنه بأنّ المصلحة السلوكية لا يجب تحصيلها ، وإنّما مرجعها إلى أنّ المكلّف لو عمل بالأمارة مع كونها مخالفة للواقع لم يكن جعل تلك الأمارة حجّة في حقّه منافياً للحكمة ، لجواز أن يكون في سلوكها مصلحة يتدارك بها ما فات منه بسبب تلك الأمارة من مصلحة الواقع ، وأين هذا من لزوم أن يتصدّى ويفحص عن الأمارة ليسلكها ويحصل على مصلحة سلوكها.

وثانياً وهو العمدة : إنّ المصلحة السلوكية إنّما تكون عند فوت مصلحة الواقع ، وهذا المكلّف لم يفته مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض أنّه قد كان عمله على طبق الواقع ، فتأمّل.

قوله : وأمّا لو ترك الفحص وخالف عمله الواقع ، ولم يكن عليه طريق منصوب يمكن العثور عليه بالفحص لا موافق ولا مخالف ، ففي استحقاقه للعقاب إشكال - إلى قوله - والأقوى استحقاقه للعقاب ، لأنّ العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة يوجب تنجّز تلك الأحكام على ما هي عليها ... الخ (1).

لا يخفى أنّه لو قلنا باستحقاق العقاب في الصورة الأُولى المقرونة بوجود الأمارة النافية للتكليف ، فاستحقاقه في هذه الصورة غير المقرونة بذلك بطريق أولى ، لسلامتها من توهّم المعذورية الناشئة عن وجود الأمارة النافية ، فينبغي أن يكون مدرك الكلام في الصورتين واحداً ، فإنّ المنشأ في استحقاق العقاب فيهما هو العلم الاجمالي.

ص: 544


1- فوائد الأُصول 4 : 289.

ويمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ العلم الاجمالي إنّما يؤثّر إذا كان المكلّف شاكّاً حين الإقدام ، محتملاً لوجود التكليف في تلك الواقعة التي ابتلي فيها ، لأنّ شكّه حينئذ يكون مقروناً بالعلم الاجمالي الموجب بحكم العقل لزوم الاحتياط ، أمّا إذا لم يكن شاكّاً ، بل كان غافلاً أو قاطعاً بالخلاف ، فلا يكون ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً في حقّه ، بل ربما كان غافلاً عن ذلك العلم الاجمالي حين الاقدام المذكور.

وثانياً وهو العمدة : أنّ ذلك العلم الاجمالي قد عرفت انحلاله إلى ما لدينا من الأدلّة المشتملة على إثبات التكاليف في موردها بمقدار ذلك المعلوم بالاجمال أوّلاً ، وبناءً عليه لم يبق في حقّه ما يوجب تنجّز الواقع عليه ، أمّا بناءً على أنّ مدرك وجوب الفحص هو غير العلم الاجمالي ، فلأنّ الفحص إنّما ينجّز الأحكام التي يكون لها ما يثبتها من تلك الأدلّة ، دون ما لم يكن له دليل مثبت له من تلك الأدلّة. وكذلك بناءً على أنّ مدرك وجوب الفحص هو العلم الاجمالي المذكور ، فإنّه بعد انحلال العلم الاجمالي الأوّل إلى العلم الاجمالي الثاني المنحصر بالأحكام التي قامت عليها تلك الأدلّة ، لو أقدم المكلّف على شرب التتن مثلاً ثمّ تبيّن أنّه ليس في تلك الأدلّة ما يثبته ، ينكشف له أن ليس في البين ما يوجب تنجّز حرمة الشرب المذكور. وبعبارة أوضح : أنّه بعد فرض الانحلال المذكور ، لا يكون ذلك العلم منجّزاً إلاّلخصوص ما كان من الأحكام مدلولاً لأحد تلك الأدلّة ، أمّا ما لم يكن مدلولاً لها فلا يكون في البين ما ينجّزه.

وبالجملة : أنّه بعد انحلال العلم الاجمالي الأوّل إلى العلم الاجمالي الثاني ، يكون المدار على المعلوم الثاني ، وهو خصوص ما دلّت تلك الأدلّة على ثبوت التكليف فيه ، فيكون ذلك المقدار هو المنجّز دون غيره ، ويكون حاله حال من

ص: 545

علم بحرمة البيض من هذا القطيع لكنّه يحتمل حرمة جملة من السود أيضاً ، إلاّ أنّه احتمال بدوي غير منجّز ، وقد اشتبه البيض بالسود لأجل الظلمة مثلاً ، وقد أقدم على واحدة من ذلك القطيع من دون فحص عن كونها من البيض أو السود ، ثمّ تبيّن له بعد الاقدام أنّها ليست من البيض ، فإنّه لا يكون مستحقّاً للعقاب ، وإن كان حين الاقدام يحتمل أنّها من البيض ، ولم يكن إقدامه المذكور مبرّراً ، لأنّه بلا مستند شرعي ولا عقلي ، لكنّه إنّما يستحقّ العقاب إذا صادف كونها من البيض ، أمّا إذا لم تكن هي من البيض لكن صادف كونها محرّمة في الواقع ، فلا موجب لاستحقاقه العقاب ، لأنّ حرمة ما عدا البيض لم تكن منجّزة عليه حين الاقدام المذكور.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في صحّة عقابه أنّ إقدامه لم يكن عن مستند شرعي ولا عقلي ، لعدم إمكان إجرائه في ذلك الحال البراءة الشرعية ولا العقلية ، وحينئذ فيصحّ للشارع عقابه على مخالفة تلك الحرمة التي صادف الواقع وجودها ، وإن لم تكن منجّزة في نفسها بذلك العلم الاجمالي ، وذلك للاكتفاء في صحّة ذلك العقاب عليها بأنّه لم يكن إقدامه على خصوص تلك الشاة بمسوّغ عقلي أو شرعي ، بل كان ممنوعاً عنه بحسب حكم العقل الناشئ عن علمه الاجمالي بوجود البيض في ذلك القطيع التي يعلم بحرمتها (1)

ص: 546


1- فهو نظير من قطع بأنّ هذه الشاة موطوءة إنسان فأقدم على أكلها ، ثمّ تبيّن أنّها ليست بموطوءة لكن كانت مغصوبة ، أو تبيّن له أنّها لم تكن تلك الشاة الموطوءة بل كانت أرنباً مثلاً ، بل ما نحن فيه أولى ، لأنّ المثال من قبيل التبيّن من سنخ آخر مغاير لسنخ ما كان قد قطع به من الحرمة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه من قبيل أنّ المتبيّن من سنخ الحرمة التي كانت مقطوعاً به ، أو كانت منجّزة بالعلم الاجمالي. وأوضح مثال لما نحن فيه هو أن يعلم بأنّ إحدى هاتين المرأتين الصغرى والكبرى أُخته مثلاً ، ويحتمل أن تكون الكبرى عمّته ، ثمّ أقدم من دون فحص على تزوّج الصغرى مثلاً ، ثمّ تبيّن أنّ أُخته كانت هي الكبرى التي لم يتزوّجها لكن اتّفق أنّ تلك الصغرى التي تزوّجها هي عمّته. بل الذي يكون عين ما نحن فيه هو احتمال كون الأُخرى أُخته أيضاً ، فهو لو علم بأنّ الكبرى أُخته يحتمل احتمالاً بدوياً أنّ الصغرى أُخته أيضاً. ثمّ إنّه قد يقال بعدم الانحلال قبل الفحص ، بدعوى أنّ المعلوم بالاجمال الأوّلي إنّما ينحلّ بعد الفحص والعثور على ما هو بمقداره ، فإنّ الانحلال ليس أمراً واقعياً بحيث يكون العلم الأوّل منحلاً في الواقع إلى مؤدّيات الطرق التي لم نصل إليها بعدُ ، بل الانحلال أمر وجداني تابع للعثور على ما هو بمقدار المعلوم بالاجمال من مؤدّيات الأمارات الموجودة فيما بأيدينا من الكتب. قلت : لا يخفى أنّ توقّف الانحلال على تحقّق الفحص إنّما هو لو أُريد به الانحلال التفصيلي ، أمّا الانحلال الاجمالي بأن يكون المعلوم بالاجمال أوّلاً منحلاً إلى المعلوم بالاجمال ثانياً فلا يتوقّف على تحقّق الفحص ، بل يكفي فيه العلم الاجمالي بأنّ في جملة تلك الكتب من الأدلّة المثبتة للتكليف ما يكون بمقدار المعلوم بالاجمال أوّلاً ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لو علمنا حين الاقدام بأنّ محلّ الابتلاء لم يكن من جملة ما دلّت عليه تلك الأدلّة ، لكان ذلك كافياً في تسويغ الرجوع إلى البراءة في ذلك وجواز الإقدام عليه [ منه قدس سره ].

ومن هذا القبيل ما لو علم بخمرية أحد الاناءين وقد شربهما معاً ، ثمّ بعد ذلك تبيّن أنّ كلاً منهما كان خمراً ، فإنّه على الظاهر يلزمه العقابان ، وإن كان يظهر من شيخنا قدس سره أنّه لا يلزمه إلاّ العقاب على الأوّل ، فراجع ما حرّره عنه في

ص: 547

التقريرات المطبوعة في صيدا في روايات الاستصحاب ص 366 و 367 (1).

والحاصل : أنّ عدم حكم العقل أو الشرع بتسويغ ارتكاب تلك الشاة من ذلك القطيع كافٍ في صحّة العقاب على مخالفة الحرمة الواقعية ، ولا يحتاج إلى قيام الحجّة العقلية أو الشرعية على تلك الحرمة المتعلّقة بها ، لكونها في الواقع سوداء محرّمة ، بل يكفي في صحّة احتجاج المولى عليه هو مجرّد عدم المبرّر في ذلك الارتكاب الخاصّ ، بل يمكن أن يكون المانع له من إجراء البراءة العقلية والشرعية ومن ارتكاب أكل تلك الشاة الخاصّة الناشئ عن احتمال كونها بيضاء احتمالاً مقروناً بالعلم الاجمالي بحرمة البيض ، كافياً في انقطاع حجّة ذلك المكلّف ، بحيث يكون ذلك مخرجاً له عن كون عقابه بلا بيان ، حتّى أنّه لو كان قاطعاً بعدم حرمة السود لكان احتمال كونها من البيض كافياً في صحّة العقاب ، إذ لم يكن المستند له في جواز الارتكاب هو قطعه المذكور ، إذ المفروض أنّه لم يكن حين الإقدام على أكل تلك الشاة عالماً بكونها من السود ، ليمكنه أن يحتجّ بأنّي كنت قاطعاً بعدم حرمتها.

ونظير ذلك ما لو علم بخمرية هذا الاناء الصغير وكان شاكّاً في خمرية الكبير أو قاطعاً بعدمها ، وقد تناول الاناء وشربه معتقداً أنّه الصغير وقد أخطأ في اعتقاده المذكور ، وانكشف أنّ الذي تناوله هو الكبير وأنّه كان خمراً ، وأنّ الصغير لم يكن خمراً. بل الأقرب لمثال القطيع هو أن يعلم إجمالاً بخمرية أحد الاناءين الصغيرين ، وكان الثالث الكبير مشكوك الخمرية ، وقد تناول إناء معتقداً أنّه أحد الاناءين ، لكن بعد أن شربه تبيّن له أنّه الكبير وأنّه كان خمراً.

ص: 548


1- الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : 367 و 368 من الطبعة القديمة. راجع أجود التقريرات 4 :47- 49.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تلك الشاة التي ارتكبها من ذلك القطيع وإن حكم العقل بلزوم الاجتناب عنها ، إلاّ أنه إنّما يحكم بذلك من حيث احتمال كونها بيضاء ، دون احتمال كونها سوداء ، فلا تكون الحرمة من ناحية احتمال كونها سوداء منجّزة حين الارتكاب ، فإنّ احتماله العقاب حين الارتكاب إنّما هو من ناحية احتمال كونها في الواقع بيضاء ، أمّا ناحية احتمال كونها سوداء فهو يقطع بعدم العقاب عليه.

ولا يخفى أنّ ذلك - أعني اختلاف حيثية التنجّز - لو تمّ في مثال القطيع لكان تماميته فيما نحن فيه بطريق أولى ، لأنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز التكاليف من حيث نفس تلك الموجودة فيما بأيدينا ، وغيرها تكاليف أُخر يمكن أن لا تنجّز بواسطة منجّزية ما بأيدينا. لكنّه غير تامّ في كلا المقامين ، أمّا في مثال القطيع فلما عرفت من أنّ ذلك لا يخرجه عن كونه قد ارتكب الحرام بلا مبرّر ، ومجرّد قطعه بأنّها على تقدير كونها سوداء لا عقاب على حرمتها لو صادفت الحرمة لا يوجب القطع بعدم العقاب على ذلك الارتكاب الخاصّ ، لأنّ المفروض أنّه لم يحرز كونها سوداء ، ومنه يعرف الكلام فيما نحن فيه بأدنى تغيير في العبارة.

والحاصل : أنّه في ارتكابه المذكور لم يستند إلى ذلك الحكم العقلي أو إلى البراءة الشرعية ، لأنّها إنّما تكون على تقدير لم يحرزه ، وهو تقدير كونها سوداء ، ولابدّ في المؤمّن والمعذّر من كونه مستنداً حين الإقدام ، ولأجل ذلك نقول باستحقاق العقاب فيما لو كان بعد ارتكاب أحد أطراف العلم الاجمالي بالخمرية قد اطّلع على قيام أمارة على أنّه ليس بخمر ، لكن قد صادف أنّ ذلك الذي ارتكبه كان خمراً وأنّ تلك الأمارة مخطئة ، ولم يكن حين الارتكاب مستنداً إلى تلك الأمارة المخطئة ، لعدم اطّلاعه عليها إلاّبعد الارتكاب.

ص: 549

ومن ذلك كلّه يعلم الحال فيما توهّمنا إيراده أوّلاً ، فإنّ المكلّف حين الارتكاب وإن كان قاطعاً بعدم التكليف ، إلاّ أنه لمّا لم يكن قطعه المذكور معذّراً له لكونه مقصّراً فيه ، لم يكن مصحّحاً للعذر عمّا صادفه من الحرام الواقعي.

والحاصل : أنّه قاطع بأنّ ما ابتلي به لم يكن عليه دليل مثبت للتكليف فيما بأيدينا ، إلاّ أنه لمّا لم يكن ذلك القطع معذوراً فيه ، كان موجباً لاستحقاق العقاب على ما صادفه من الحرام ، وإن لم يكن ذلك الحرام الذي قد صادفه ممّا قامت به إحدى الأدلّة الموجودة في الكتب التي بأيدينا فتأمّل ، هذا.

ولكن لا يبعد أن يقال : إنّ هذا الذي ذكرناه من كون الارتكاب بلا مبرّر ، لا يكون له أثر إلاّعقاب التجرّي دون العقاب على الواقع ، فمن أكل إحدى الشاتين مع علمه الاجمالي بكون إحداهما موطوءة الإنسان ثمّ بعد الأكل تبيّن له أنّ مأكولته لم تكن شاة موطوءة بل كانت أرنب ، وأنّ الموطوءة هي التي لم يأكلها فهو متجرّ بالنسبة إليها ، أمّا التي أكلها وهو الأرنب فلا عصيان فيها ولا تجرّي ، وهكذا الحال فيما نحن فيه فإنّه متجرّ بالنسبة إلى الشبهات التي عليها حجّة فيما بأيدينا ، أمّا نفس هذه الشبهة فلا عقاب ولا تجرّي.

قوله : ولا يخفى عليك ما في هذا الوجه من الضعف ، فإنّ الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل ، إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد ... الخ (1).

الأولى أن يقال : إنّه لو كان الرجل قد أخفت في صلاة العشاء فتلك المصلحة الزائدة على مصلحة أصل الصلاة ، أعني مصلحة الاجهار للرجال في صلاة العشاء ، لابدّ أن تكون لازمة الاستيفاء ، وإلاّ لم يصحّ العقاب على تفويتها ،

ص: 550


1- فوائد الأُصول 4 : 291 - 292.

وحينئذ فإن كان اعتبار الاجهار من قبيل الواجب في واجب ، بحيث إنّ مصلحة الاجهار أوجبت أن يكون الاجهار واجباً في قراءة الصلاة المذكورة من دون أن تقيّد الصلاة بالاجهار ، بحيث كانت هناك مصلحة تقتضي إيجاب طبيعة الصلاة وكانت هناك مصلحة أُخرى تقتضي وجوب الاجهار فيها ، من دون أن يكون في البين ما يوجب تقييد الصلاة بالاجهار ، لعدم توقّف المصلحة في نفس الصلاة على الاجهار بها ، كان لازم ذلك هو عدم الفرق بين الجهل بوجوب الاجهار والعلم به في أنّه لو تركه لم يمكنه الاعادة ، لحصول الامتثال بالنسبة إلى طبيعة الصلاة الذي هو ظرف امتثال الأمر بالاجهار ، ولا ينفع فيه ما أفاده في الكفاية (1) ممّا حاصله أنّ طبيعة الصلاة المعرّاة من الجهر إنّما تكون وافية بمصلحتها إذا كان وجوب الجهر غير معلوم ، لأنّ ذلك لو تمّ لكان مرجعه إلى ما أفاده الأُستاذ قدس سره (2) من أنّ الجهر واجب نفسي ، وعند العلم بذلك الوجوب النفسي يكون الجهر قيداً في الصلاة ، إذ لا محصّل لكون الصلاة المعرّاة عن الجهر غير وافية بمصلحتها في حال العلم بوجوب الجهر ، إلاّكون الصلاة مقيّدة بالجهر في حال العلم ، لأنّ ذلك هو مقتضى عدم وفائها بمصلحتها في ذلك الحال ، بحيث يكون وفاؤها بالمصلحة المذكورة متوقّفاً في ذلك الحال على تقيّدها بالجهر.

والحاصل : أنّه بناءً على كون المسألة من قبيل الواجب في ضمن واجب ، لا محيص من الالتزام بعدم التفرقة بين العلم والجهل ، إلاّبأن يرجع التفصيل إلى التفصيل الذي أفاده الأُستاذ قدس سره من أنّ الواجب أوّلاً وبالذات هو طبيعة الصلاة ، وهذه يجب فيها الجهر وجوباً نفسياً ، وهذا الوجوب النفسي إن علم المكلّف به

ص: 551


1- كفاية الأُصول : 378 - 379.
2- فوائد الأُصول 4 : 295.

يجب الجهر وجوباً شرطياً ، وإن لم نقل بهذا التفصيل فلا محيص من الالتزام بعدم لزوم الاعادة في مورد العلم ، إلاّ أن نلتزم بما أفاده الحاج آغا رضا قدس سره في صلاته ، من أنّه من الجائز تقييد مطلوبية صرف الطبيعة بخلوصها عن شائبة التجرّي كي ينافيها التعمّد أو التردّد كما لا يخفى (1).

ومراده بشائبة التجرّي هو التجرّي بترك الواجب النفسي الذي هو الجهر الذي هو أجنبي عن أجزاء الصلاة وشرائطها ، بحيث يكون اقتران الصلاة بالعمد إلى عصيانه موجباً لبطلان الصلاة ، وإن لم يكن العصيان بتركه في صورة الجهل التقصيري موجباً لذلك ، وليس المراد اقتران الصلاة بحرمة الاخفات من جهة الأمر بضدّه ، لأنّه لا يقول بذلك كما صرّح به قبيل هذه الجملة ، فراجع صلاته ص 317 (2) وراجع حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس سره : ويردّه أنّا لا نعقل الترتّب في المقامين ، فإنّ كلام الحاج آغا رضا قدس سره في حاشيته عين ما أفاده في صلاته معنى ، بل وعبارة (3). وبالجملة : أنّه قدس سره قائل بأنّ المسألة من قبيل تعدّد المطلوب حتّى في حال العلم ، لكنّه يقول بالفساد في حال العلم من ناحية هذا التجرّي.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التوجيه لا يخلو من تكلّف وتعسّف ، بحيث يكاد يحصل لنا القطع بأنّه خلاف الواقع. وعلى كلّ من المسلكين - أعني مسلك الأُستاذ ومسلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس سرهما - تكون الصلاة الفاقدة للجهر في حال الجهل به واجبة ، وصاحب الكفاية قدس سره لا يقول بذلك ، بل يقول إنّها في ذلك

ص: 552


1- مصباح الفقيه ( الصلاة ) 12 : 358.
2- المصدر المتقدّم : 257.
3- راجع حاشية فرائد الأُصول : 297.

الحال غير مأمور بها كما صرّح بذلك في تقريب الإشكال بقوله : لأنّ ما أتى بها وإن صحّت وتمّت ، إلاّ أنها ليست بمأمور بها. وقولِه : إن قلت : كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها. وقولِه في أثناء الجواب : وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه أُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتمّ الخ (1). هذا كلّه على تقدير كون اعتبار الاجهار من قبيل الواجب في ضمن واجب.

وإن لم يكن كذلك ، بل كانت المصلحة توجب تقيّد الصلاة المذكورة به ، فهو وإن أوجب بطلان الصلاة بدونه مطلقاً ، ومقتضاه لزوم الاعادة سواء كان تركه عن جهل أو علم ، لكن يمكن أن يقال في توجيه عدم الاعادة في خصوص صورة الجهل : بأنّ الفاقد لذلك القيد وإن لم يكن مأموراً به ، لكنّه كان وجوده موجباً لفوات المصلحة ، على وجه لا يمكن استيفاؤها بالاتيان ثانياً بالواجد لذلك القيد ، بخلاف ما لو أتى بالفاقد لذلك القيد في حال العلم ، لامكان الخصوصية للجهل الموجبة لسقوط المصلحة وارتفاعها بالفاقد ، بحيث لا يكون الاتيان بذلك الفاقد في حال العلم كذلك ، وبناءً على ذلك لا داعي للالتزام بكون الفاقد في حال الجهل مشتملاً على شيء من المصلحة ، بل يمكن الالتزام بأنّه لا مصلحة فيه ويكون موجباً لفوات أصل المصلحة ، بمعنى عدم التمكّن من استيفائها ، فيكون من قبيل إعدام الموضوع ، نظير ما لو أُمر بتجهيز الميّت فأحاله غازاً أو نحوه ممّا لا يمكن معه التجهيز. وكأنّه قدس سره إنّما التزم بكون الفاقد في ذلك الحال واجداً لمقدار من المصلحة ، لكنّه معه لا يمكن استيفاء المصلحة الكاملة بالاتيان بالواجد لينطبق عليه قوله عليه السلام : « تمّت صلاته ولا يعيد » (2) بدعوى أنّ اشتماله على مقدار من

ص: 553


1- كفاية الأُصول : 377 - 378.
2- وسائل الشيعة 8 : 521 / أبواب صلاة المسافر ب 23 ح 1 ، وراجع أيضاً الباب 17 ، وراجع أيضاً وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.

المصلحة كافٍ في صدق قوله عليه السلام : « تمّت صلاته » وإن لم يكن مأموراً به.

وفيه أوّلاً : أنّه خلاف الظاهر من قوله : « تمّت » ، فإنّ ظاهره أنّها وقعت على طبق الأمر في ذلك الحال.

وثانياً : أنّ مقتضى كون الفاقد في ذلك الحال وافياً بذلك المقدار من مصلحته ، هو أن لا يكون وفاؤه بمصلحته متوقّفاً على انضمام القيد إليه ، وذلك لا يكون إلاّلأنّه في ذلك الحال غير مقيّد بذلك القيد ، بخلاف حال العلم ، فلابدّ أن يكون راجعاً إلى أنّه في ذلك الحال من قبيل الواجب في ضمن واجب بخلاف حال العلم.

والحاصل : أنّ الفاقد في حال الجهل إن كان وافياً بمصلحته القليلة ، كان مرجعه إلى أنّه في ذلك الحال من قبيل الواجب في ضمن واجب ، وإن لم يكن وافياً بمصلحته ، كان أجنبياً عن المأمور به ، وكان من قبيل الاتيان بعمل آخر مُذهب للمصلحة بالمأمور به ، والأوّل راجع إلى توجيه الأُستاذ قدس سره ، والثاني خلاف ظاهر النصوص والفتاوى ، ولو التزمنا به ولو كان مخالفاً لظاهر النصوص والفتاوى ، كان علينا أن نقول بالصحّة فيما لو أتى المسافر الجاهل بلزوم القصر بالصلاة قصراً وتأتّت منه نيّة القربة ، مع أنّهم لا يلتزمون بالصحّة في مثل ذلك ، بل يلتزمون بالبطلان.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الوجه في الحكم بالبطلان في هذه الصورة لأنّه لمّا كان معتقداً لوجوب التمام من جهة جهله بالحكم ، لم يكن إتيانه بالقصر إلاّمن باب التشريع ، فيكون عمله باطلاً من جهة اقترانه باعتقاد أنّه مشرّع في ذلك العمل.

وأنت بعد أن عرفت التفصيل في تقريب مطلب الكفاية وبيان الايراد عليه ، تعرف أنّ ما أُفيد في هذا التقرير وكذا ما أُفيد في التقرير المطبوع في صيدا لا يخلو

ص: 554

عن تأمّل ، والأمر سهل ، مثلاً قوله في هذا التقرير : فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية الخ (1) لا يخلو من تأمّل ، فإنّ المفروض هو ذلك ، أعني سقوطه لكن لا بالامتثال بل بالعصيان وتفويت الموضوع. وكذلك قوله : إلاّ إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطاً بعدم سبق الصلاة التامّة من المكلّف ، وهذا خلف (2) ، فإنّ المفروض هو ذلك ، أعني كون المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطة بعدم سبق التامّة عليها ، بمعنى أنّ بقاء التمكّن من استيفاء مصلحة القصر مشروط بعدم تقدّم التمام ، لأنّ التمام موجبة لذهاب موضوعها وارتفاع التمكّن من مصلحة المقصورة ، وليس هذا بخلف ، ولا بموجب لعدم استحقاق العقوبة على ترك المقصورة ، لأنّ المفروض هو كون المقصورة ذات المصلحة التامّة ، لكن بقاء إمكان استيفائها مقيّد بأن لا تسبقها التامّة ، وذلك ليس براجع إلى خلوّ المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ، بل هو عبارة عن كونها ذات مصلحة أكيدة موجبة لوجوبها على فرض تمكّنه منها ، لكن فعل التامّة قبلها أوجب تفويتها على المكلّف وعدم تمكّنه من استيفائها ، فإذا كان مقصّراً في ذلك التفويت لتقصيره في التعلّم ، كان مستحقّاً للعقاب عليها.

وبالجملة : أنّ ذلك ليس من قبيل اشتراط مصلحة القصر بعدم فعل التمام ، إذ ليس ذلك شرطاً في أصل ثبوت المصلحة ، بل ولا هو شرط في بقائها ، بل هو شرط في بقاء إمكان استيفائها ، وفرق واضح بين كونه شرطاً في أصل حدوث المصلحة أو شرطاً في بقائها ، وبين كونه شرطاً في بقاء التمكّن من استيفائها.

ومنه يظهر لك الحال فيما في التقرير المطبوع في صيدا ، فإنّ قوله : وفيه

ص: 555


1- فوائد الأُصول 4 : 292.
2- المصدر المتقدّم.

أوّلاً : أنّ المصلحة الزائدة الكائنة في الجهر - إلى قوله - إمّا أن تكون مصلحة ملزمة - إلى قوله - وإمّا أن لا تكون كذلك - إلى قوله - فعلى الأوّل ينحصر الأمر بكونه حينئذ واجباً في واجب ، المفروض في المقام خلافه الخ (1) ، إنّما كان ينحصر ذلك بكونه من قبيل الواجب في واجب ، لأنّه فرض كون مصلحة الجهر مصلحة زائدة على أصل مصلحة الصلاة ، ولولا ذلك الفرض لأمكن أن يكون من قبيل التقييد ، إمّا من جهة أن لا مصلحة أصلاً في الصلاة الاخفاتية ، أو لأنّ مصلحتها متوقّفة على إيقاعها جهرية.

ومن ذلك يظهر لك أنّ كون الجهر ذا مصلحة ملزمة لا يلازم كونه من قبيل الواجب في ضمن واجب.

ثمّ إنّا لو فرضنا أنّ المقام من قبيل الواجب في واجب لم يكن في ذلك مخالفة للمقام ، وما أُفيد من الايراد عليه بقوله : إذ المفروض قيدية الجهر للواجب ملاكاً وخطاباً ، وإلاّ فلابدّ من القول بتعدّد العقاب على تقدير ترك الصلاة رأساً الخ ، ليس من قبيل اللازم الباطل ، بل هذه الجهة لو كانت باطلة لكانت متوجّهة عليه قدس سره ، لأنّه يلتزم بكون الجهر في حال الجهل واجباً نفسياً ، غايته أنّه إن علم بوجوبه يكون قيداً في الواجب ، وحينئذ فيتوجّه عليه ما أُفيد هنا من كونه خلاف المفروض أعني كون الجهر قيداً ، ولزوم تعدّد العقاب لو ترك الصلاة في حال الجهل ، فلابدّ حينئذ من الالتزام بكلّ من هذين المطلبين أعني عدم كون الجهر في حال الجهل قيداً وإن كان واجباً نفسياً ، وتعدّد العقاب لو ترك الصلاة رأساً إلى أن خرج الوقت ، وإن كان الواجب عليه أن يقضيها بعد العلم جهراً.

وكذا قوله : وثانياً أنّ ما أفاده في وجه استحقاق العقاب مع التمكّن من

ص: 556


1- أجود التقريرات 3 : 570.

الاعادة - إلى قوله - فإنّه إنّما يتمّ بناءً على كون الجهر واجباً في واجب الخ ، قد عرفت أنّ تمامية ذلك - أعني استحقاق العقاب لعدم القدرة على استيفاء الملاك - لا تتوقّف على كون المقام من قبيل الواجب في واجب ، بل يمكن ذلك مع كونه من قبيل التقييد ، لكون ما أتى به موجباً لعدم تمكّنه من استيفاء مصلحة الواجب على ما عرفت تفصيله.

وأعجب من ذلك قوله : مع أنّه ينافيه قوله عليه السلام : « تمّت صلاته » الخ ، فإنّ قوله عليه السلام : « تمّت صلاته » إنّما ينافي الوجه الثاني وهو كونه من قبيل التقييد ، أمّا الوجه [ الأوّل ] وهو كونه من قبيل الواجب في واجب فلا يكون منافياً له ، وإلاّ لكان ذلك - أعني دعوى المنافاة للنصّ (1) - وارداً عليه قدس سره ، لما عرفت من أنّه قدس سره يقول بكونه في حال الجهل من قبيل الواجب في واجب.

ويمكن أن يوجّه ما في الكفاية بكون المسألة من قبيل الضدّين الأهمّ والمهم ، حيث إنّه بعد فرض كون الصلاة الاخفاتية في حال الجهل بوجوب الجهرية مشتملة في خصوص حال الجهل على مقدار من المصلحة ، وأنّه مع استيفاء ذلك المقدار الناقص لا يمكن استيفاء ذلك المقدار ، فكانت الاخفاتية

ص: 557


1- متن رواية الاتمام في موضع القصر قوله عليه السلام : « إن كان قرئت عليه آية التقصيروفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه » ، [ وسائل الشيعة 8 : 506 / أبواب صلاة المسافر ب 17 ح 4 ]. متن رواية المخالفة في الجهر والاخفات قوله عليه السلام في جواب السؤال عن رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه ، فقال عليه السلام : أي ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه ، وقد تمّت صلاته » [ منه قدس سره. وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1 ].

بواسطة أنّها توجب ولو في حال الجهل عدم التمكّن من الصلاة الجهرية ، فكانا في ذلك الحال من الضدّين اللذين مع الاتيان بأحدهما لا يمكن الاتيان بالآخر ، ونحن وإن لم نقل بأنّ الأمر بأحد الضدّين الذي هو الأهمّ - أعني الصلاة الجهرية - موجب للنهي عن الضدّ الآخر الذي هو الصلاة الاخفاتية ، إلاّ أنه يوجب عدم الأمر بذلك الضدّ الآخر وإن كان له ملاك في حدّ نفسه ، وهذا الملاك كافٍ في الحكم بصحّة هذا الضدّ المأتي به ، وإن لم نقل بكون هذا الضدّ المأتي به مأموراً به بالأمر الترتّبي ، وحينئذ يتمّ لصاحب الكفاية قدس سره ما توخّاه من الجمع بين صحّة الصلاة الاخفاتية كما هو مقتضى قوله عليه السلام : « تمّت صلاته » وعدم الأمر بها ، والعقاب على تفويت الصلاة الجهرية كما هو مقتضى قوله عليه السلام : « ولا يعيد ».

ومن ذلك يظهر أنّه بناءً على صحّة الترتّب يمكن الالتزام به في هذه المسألة كما أفاده كاشف الغطاء قدس سره (1).

لكن يرد على هذا التوجيه : أنّ هذا التضادّ منحصر في حال الجهل ، ويكون هذا التضادّ من التضادّ الدائمي ، وذلك مخرج له عن باب التزاحم والترتّب ، ويدخله في باب التعارض ، ومع تقدّم الأمر بالصلاة الجهرية كما هو المفروض ، تكون الصلاة الاخفاتية في ذلك الحال خارجة عن الأمر ملاكاً وخطاباً ، كما هو الشأن في باب التعارض ، وبذلك تخرج عن التزاحم والترتّب ، فلاحظ وتأمّل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الترتّب دلّ عليه الدليل الشرعي ، وليس هو من قبيل الترتّب المعروف كما ستأتي الاشارة إلى توضيحه إن شاء اللّه تعالى (2).

وبذلك يجاب عن الإشكال على التصحيح بالملاك ، بأن يقال : إنّ مقتضى

ص: 558


1- كشف الغطاء 1 : 171 / البحث الثامن عشر.
2- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 573 وما بعدها.

التعارض وتقديم الأمر بالجهرية وإن كان هو خروج الاخفاتية عن حيّز الأمر خطاباً وملاكاً ، إلاّ أنه لمّا دلّ الدليل على الصحّة في المقام ، وعلى استحقاق العقاب ، نزّلنا دليل الصحّة على واجدية الملاك ، ودليل العقاب على كون الواجب هو الجهرية.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد شرح الترتّب بما ذكرناه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره (1) من الاعتراض عليه أوّلاً : من أنّه لابدّ فيه من كون المهم واجداً للملاك والمفروض عدمه في المقام. وثانياً : بأنّه لا يمكن توجّه الخطاب بالمهمّ في المقام لتوقّفه على الخطاب بمثل أيّها الجاهل بوجوب الجهرية ، وهو ممتنع في حقّ الجاهل ، لأنّ هذا الخطاب يقلبه إلى العلم بذلك.

ووجه التأمّل في الأوّل هو ما عرفت من واجدية المهم هنا للملاك. وأمّا الثاني فلعدم الحاجة إلى الخطاب بعنوان الجاهل ، لكفاية وجود الخطاب بالمهمّ الذي هو الاخفات ، غايته أنّ المكلّف يعتقد إطلاقه ، وهو في الواقع مقيّد بترك الجهرية الناشئ عن الجهل بوجوبها ، وهذا المقدار لا يضرّ بصحّة امتثاله للأمر المذكور. هذا لو كان معتقداً وجوب الاخفات.

ومنه يظهر الحال فيما لو لم يكن معتقداً لوجوب أحدهما ، بل كان لا يعلم إلاّ أصل وجوب الصلاة من دون تقيّد بكونها جهرية أو إخفاتية ، وقد أخفت في موضع الجهر ، فإنّه يتأتّى فيه ما ذكرناه من الملاك والترتّب وعدم توقّف الخطاب الترتّبي على علمه بوجوب الجهرية ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يرد على هذا الترتّب ما أفاده قدس سره في تحرير السيّد سلّمه اللّه ص 337 من قوله في آخر المسألة : على أنّا ذكرنا في محلّه أنّ الخطاب الترتّبي وإن كان

ص: 559


1- فوائد الأُصول 4 : 293.

ممكناً ، إلاّ أنه نحتاج في إثبات وقوعه إلى دليل يدلّ عليه ، إلاّفي خصوص موارد التزاحم الناشئ عن عدم القدرة على إيجاد متعلّقي الأمرين ، فإنّ إطلاقي الدليل هناك كافٍ في وقوع الترتّب كما أوضحناه في محلّه ، ففي مثل المقام لو فرض كون الترتّب ممكناً إلاّ أنه لا دليل عليه في مقام الاثبات ، والأدلّة الدالّة على صحّة الصلاة لا تدلّ على أنّ الصحّة لأجل الترتّب وأخذ عنوان عصيان أحد الخطابين موضوعاً للخطاب الآخر (1).

وممّا يكشف أنّ صاحب الكفاية قدس سره أراد ما ذكرناه من إرجاع المسألة إلى التضادّ والتزاحم أُمور :

الأوّل : قوله : قلت إنّما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في حدّ نفسها مهمّة في ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه أُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل (2). وإلاّ فأيّ داع له للالتزام بكون الاخفاتية واجدة لمقدار من المصلحة ، لكي يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره (3) من أنّ هذه المصلحة لو كانت متوقّفة على الباقي كان مقتضاه فساد الاخفاتية ، وإن لم تكن متوقّفة عليه كان مقتضاه التخيير ، غايته أنّ الجهرية أفضل الفردين. أمّا توجيه ذلك بما ذكرناه من أنّه يتوخّى به انطباق قولهم : صحّت صلاته أو تمّت ، فقد عرفت (4) ما فيه أوّلاً وثانياً.

ص: 560


1- أجود التقريرات 3 : 573.
2- كفاية الأُصول : 378.
3- فوائد الأُصول 4 : 291 - 292.
4- في الصفحة : 554.

الثاني : قوله : قلت ليس سبباً لذلك ، غايته أنّه يكون مضادّاً له ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ، ليس بينهما توقّف أصلاً (1) ، فإنّ هذه الجملة مع قوله فيما سبق : وإنّما لم يؤمر بها لأجل أنّه أُمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل الخ ، دليل على أنّهما عنده من قبيل الضدّين اللذين أُمر بالأهم منهما. نعم ، الذي ينبغي هو أن يكون بين المصلحتين تباين ، لا أنّهما من قبيل الأقل والأكثر كما يعطيه قوله فيما سبق : وإن كانت دون مصلحة الجهر. والأمر في هذه الجهة سهل ، لإمكان التباين بينهما باعتبار حدّ الأقل والأكثر ، فتأمّل.

الثالث : أنّه قدس سره عند تعرّضه لما أفاده كاشف الغطاء قدس سره من تصحيح المسألة بالترتّب ، لم يناقشه في الصغرى وإنّما ناقشه في الكبرى وهي صحّة الأمر بالضدّين فقال : وقد حقّقنا في مبحث الضدّ امتناع الأمر بالضدّين مطلقاً ولو بنحو الترتّب بما لا مزيد عليه (2).

لا يقال : إنّ الترتّب غير معقول في المقام ، لأنّ الأمر بالصلاة الاخفاتية لو كان مشروطاً بعصيان الأمر بالجهرية ، كان في الحقيقة مشروطاً بانقضاء الوقت أو بالاتيان بالاخفاتية ، فيكون محصّله هو أنّك إن لم تأت بالجهرية إلى آخر الوقت أو أتيت بالاخفاتية ، فائت بالاخفاتية ، والأوّل موجب لعدم معقولية الأمر بالاخفاتية في الوقت ، لأنّه أمر بالمحال ، والثاني موجب لتحصيل الحاصل.

لأنّا نقول : لا داعي في هذا الأمر الترتّبي إلى الالتزام بكون المعلّق عليه هو عصيان الأمر بالجهرية ، لإمكان أن نجعله معلّقاً على مجرّد عدم الاتيان بالجهرية ،

ص: 561


1- كفاية الأُصول : 378.
2- المصدر المتقدّم : 379.

بمعنى أنّك في حال عدم الاتيان بالجهرية لأجل جهلك بوجوبها ، فائت بالاخفاتية ، مثل قولك : آتني بالماء المثلّج لكن لو كنت جاهلاً بما أُريده من الخصوصية فتركت ذلك الخاص فائتني بالماء العادي ، فيكون الشرط هو عدم الاتيان ، وهو شرط مقارن لا متقدّم ولا متأخّر.

وربما يقال : إنّ الوجه في هذا الاشتراط هو أنّه بعد تضادّ المصلحتين يكون عدم علّة إحداهما وهي الصلاة الجهرية التي هي علّة في تحقّق مصلحتها مقدّمة لوجود المصلحة الأُخرى التي هي مصلحة الاخفاتية ، فكما أنّ وجود الصلاة الجهرية يكون مقدّمة لعدم مصلحة الصلاة الاخفاتية ، فكذلك عدم الصلاة الجهرية يكون مقدّمة لوجود المصلحة في الصلاة الاخفاتية ، فيكون الأمر بالصلاة الاخفاتية الناشئ عن الصلاح فيها مشروطاً بعدم وجود الصلاة الجهرية ، إذ لا تكون الصلاة الاخفاتية ذات صلاح إلاّعند عدم وجود الصلاة الجهرية.

وفيه تأمّل ، لأنّ العلّة في كون الاخفاتية ذات صلاح هو الجهل بوجوب الجهرية ، غايته أنّه لا يقدر المكلّف على استيفاء المصلحتين ، وإنّما يكون كلّ منهما مقدوراً له عند عدم تحقّق الأُخرى ، وحيث إنّ الجهرية هي الأهمّ لم تكن مقيّدة بعدم الأُخرى ، فيتعيّن الاخفاتية للتقييد المزبور.

ولا يخفى أنّ شيخنا قدس سره تعرّض في ذيول مسألة الترتّب إلى ما عن كاشف الغطاء قدس سره من تصحيح ما نحن فيه بالترتّب (1). وأورد عليه بما حرّرناه عنه في محلّه. وفي نظري القاصر أنّ أحسن ما حرّر عنه قدس سره في بيان هذه الايرادات هو ما

ص: 562


1- أجود التقريرات 2 : 91 وما بعدها. وقد تقدّمت حواشي المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 398 وما بعدها.

حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه فراجعه في مسألة الترتّب من الأوامر (1) ، فإنّه ذكر هناك إيرادين ، الأوّل : كون المسألة من التضادّ الدائمي. والثاني كونها من الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

أمّا الأوّل فقد تأمّل فيه هو قدس سره في الدروس الفقهية ، وأنّه إنّما يتوجّه في الترتّب المعروف دون الترتّب الذي دلّ عليه الدليل الشرعي ، غايته أنّه قدس سره أفاد في تحريرات السيّد سلّمه اللّه في هذه المسألة أنّه لا دليل عليه ، فراجع قوله : هذا مع أنّ عصيان الخطاب في المقام الخ (2).

وأمّا الايراد الثاني فقد شرحناه وأوضحناه بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في هذه الأوراق بعد نقل ما عن مقالة الأُستاذ العراقي ومن تبعه في تصحيح هذا الترتّب (3).

قال السيّد سلّمه اللّه تعالى (4) في حاشيته على قول صاحب الكفاية قدس سره : « بنحو الترتّب » ما هذا [ لفظه ] : ( يعني بأن يؤمر ) المسافر الجاهل بوجوب القصر عليه ( بالتمام على تقدير عصيان الأمر بالقصر الحاصل ) ذلك العصيان ( بامتناع حصول مصلحته ) وحيث إنّ العصيان المذكور إنّما يتحقّق عند الاتيان بالتمام ، فلا يمكن أخذه شرطاً في وجوب الاتمام بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ( لكن ) يمكن أخذه ( بنحو الشرط المتأخّر ) عمّا هو مشروط به الذي هو وجوب الاتمام ،

ص: 563


1- فوائد الأُصول 1 - 2 : 371 - 372.
2- أجود التقريرات 3 : 572.
3- [ لم نعثر عليه في الموضع المشار إليه ].
4- حقائق الأُصول 2 : 371 [ لا يخفى أنّ ما يأتي ممّا هو بين القوسين فهو كلام السيّد الحكيم قدس سره والباقي توضيح المصنّف قدس سره ].

فحينئذ نقول ( فإذا فرض تحقّق العصيان ) الناشئ عن امتناع مصلحة القصر بتقصير المكلّف ( ولو ) كان ذلك التحقّق ( بعد فعل التمام كان مأموراً بالتمام من أوّل الأمر ) على ما عرفت في محلّه من إمكان الشرط المتأخّر. ( فإن قلت ) إنّ هذا موجب لطلب الحاصل لأنّ السبب ( الموجب ل- ) حصول العصيان الناشئ عن ( امتناع حصول مصلحة القصر ) إنّما هو ( فعل التمام ) فكان فعل التمام علّة في عصيانه في عدم القصر ( فاناطة الأمر بالتمام ب- ) عصيان الأمر بالقصر الذي هو عبارة عن ( امتناع المصلحة ) فيه ( موجبة لاناطته ب- ) علّة ذلك الامتناع التي هي ( فعل التمام ، لأنّ المنوط بالمعلول ) الذي هو الامتناع المذكور ( منوط ) أيضاً ( بعلّته ) التي هي فعل التمام ( و ) حينئذ تكون النتيجة هي ( إناطة الأمر بالتمام بفعل التمام ) وقد عرفت أنّه ( محال لأنّه طلب الحاصل ) بل يشتمل على محالات أُخر ، منها كون ذات المأمور به المفروض تأخّرها عن الأمر سابقة على الأمر ، لكونها شرطاً فيه حتّى مع فرض صحّة الشرط المتأخّر ، إلى غير ذلك من اللوازم الفاسدة الناشئة عن أخذ متعلّق الطلب موضوعاً له وشرطاً فيه. ( قلت ) لا يخفى أنّ مصلحتي هذين الفعلين متضادّان ، لفرض أنّه مع استيفاء إحداهما لا يبقى مجال لاستيفاء الأُخرى ، فكان التضادّ واقعاً ابتداءً بين المصلحتين ، وعنه ينشأ التضادّ بين علّتيهما ، فكان القصر والتمام متضادّين. و ( هذا ) الإشكال الراجع إلى لزوم طلب الحاصل ونحوه ( مبني على ) كبرى منعناها في مسألة الضدّ وهي ( أنّ عدم علّة أحد الضدّين ) أعني المصلحتين فيما نحن فيه ، وعلّة أحدهما هي القصر ، فإنّه بواسطة كون معلوله ضدّاً لمعلول التمام يكون هو أيضاً ضدّاً للتمام ، فلو بنينا على الكبرى الممنوعة وهي كون عدم أحد الضدّين ( مقدّمة لوجود الضدّ الآخر ) ، ببرهان أنّ عدمه يكون مقدّمة لوجود الآخر ، يكون الحاصل فيما نحن فيه أنّ عدم

ص: 564

القصر الذي هو علّة لمصلحته المضادّة مع مصلحة الاتمام يكون مقدّمة لوجود التمام ومصلحته ( لأنّ بديله وهو وجود ) القصر الذي هو ( علّة ) مصلحة القصر التي هي ( أحد الضدّين ) يكون ( علّة لعدم ) الضدّ ( الآخر ) الذي هو الاتمام ومصلحته.

وإن شئت قلت : إنّه بعد أن ثبتت المضادّة بين القصر والاتمام ولو من جهة تضادّ معلوليهما ، فبناءً على الكبرى المزعومة يكون عدم القصر علّة لوجود الاتمام ، كما أنّ وجود الاتمام يكون علّة لعدم القصر ، وهذه الجهة الثانية - أعني كون وجود الاتمام علّة لعدم القصر - هي المنشأ في الإشكال المزبور ، أعني لزوم تحصيل الحاصل ، ببرهان أنّ المعلول وهو عدم القصر لو كان شرطاً في وجوب الاتمام ، يكون علّته وهي فعل الاتمام شرطاً في وجوب الاتمام. وهذه الجهة الثانية - أعني كون وجود الاتمام علّة في عدم القصر - توجب الجهة الأُولى [ أعني ] كون عدم القصر علّة في وجوب الاتمام ، وعن هذه الجهة الأُولى نشأ القول بأنّ الأمر بأحد الضدّين يوجب النهي عن الضدّ الآخر ، لكون عدم الآخر مقدّمة لوجود ذلك الضدّ المأمور به ، لكونه علّة فيه.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ مبنى هذا الإشكال هو مقدّمية الوجود للعدم الناشئة عن مقدّمية العدم للوجود (1) ، ( و ) هي أعني مقدّمية الوجود للعدم هي الموجبة لتوجّه الإشكال المزبور ، كما أنّ ما ينشأ عنه هذه الجهة وهو مقدّمية العدم للوجود يكون هو المنشأ في تخيّل اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

ص: 565


1- [ في الأصل كانت العبارة هكذا : « مقدّمية الوجود للعدم الموجب لمقدّمية العدم للوجود » لكنّ المصنّف قدس سره ضرب عليها بخط المحو وكتب بدلاً عنها العبارة المذكورة ، فلاحظ ].

فاتّضح لك أنّ مبنى هذا الإشكال ( هو غير ) ما حقّقناه في محلّه من ( مبنى عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ) فإنّ الأساس في عدم الاقتضاء هو المنع من التوقّف المزبور ، ونحن بعد أن تمّ لنا أنّ وجود الاتمام ووجود مصلحته لا يكون علّة في عدم القصر ولا في عدم مصلحته ، بل يكون وجود الاتمام ومصلحته مقرونان بعدم القصر وعدم مصلحته ، من دون تقدّم ولا علّية ، فلا مانع من أن نجعل عدم القصر وعدم مصلحته شرطاً في وجوب الاتمام ، وإن كان انعدام القصر لانعدام مصلحته لا يتحقّق إلاّبعد فعل الاتمام ، لارتفاع الإشكال من هذه الناحية بكونه من الشرط المتأخّر.

نعم ، لو كان عدم القصر وعدم مصلحته معلولين لفعل التمام كما توهّمه المشكل ، لكان ذلك موجباً لأن يكون الشرط هو نفس فعل التمام ، لأنّ المعلول لو كان شرطاً كانت العلّة شرطاً وهي نفس الاتمام ، ويستحيل أن يكون نفس الاتمام شرطاً في وجوبه ولو بنحو الشرط المتأخّر ، ( فتأمّل ) لتعرف أنّ هذا الإشكال لو تمّ فليس هو إشكال تحصيل الحاصل ، فإنّا لو سلّمنا أنّ نفس فعل الاتمام شرط في وجوبه على نحو الشرط المتأخّر ، لم يكن فيه تحصيل الحاصل ، لأنّ الوجوب بناءً على الشرط المتأخّر يكون قبل الاتيان بفعل التمام ، فيكون حاصله : أنّه إن كنت ممّن يفعل التمام فيما بعد فصلّ تماماً ، وليس في هذا تحصيل الحاصل. نعم فيه أخذ متعلّق الحكم موضوعاً ، وهو ما عرفت من أخذ ذات متعلّق الطلب شرطاً وموضوعاً له ، وفيه من اللوازم الباطلة ما لا يخفى.

وفيه إشكال آخر ، وهو بطلان الأمر المذكور لكونه أمراً بما هو العلّة في تفويت المصلحة الكاملة ، لكن هذا الإشكال وارد على المنع من العلّية وأنّ المقام من مجرّد المقارنة ، لأنّ الأمر حينئذ أمر بما هو ملازم لتفويت المصلحة الكاملة

ص: 566

وإن لم يكن علّة في تفويتها. ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى ذلك ، وسيأتي توضيح هذا الإشكال وأنّه وارد على هذا التقريب للترتّب ، كما هو وارد على التقريب الذي ذكرناه إن شاء اللّه تعالى.

لا يقال : إنّ مجرّد عدم إمكان اجتماع المصلحتين لا يكشف عن التضادّ بينهما ، لامكان أن يكون إحدى المصلحتين علّة في ذهاب الأُخرى ، ويتمّ ما أشكله المشكل من علّية فعل التمام لذهاب مصلحة القصر.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن غرضنا مجرّد الامكان المصحّح للترتّب ، ويكفينا في صحّته لو دلّ الدليل عليه ما عرفت من إمكان التضادّ بين المصلحتين ، على وجه يكون المحلّ غير قابل لاستيفائهما معاً ، من دون أن يكون إحداهما علّة في ذهاب الأُخرى.

ثمّ لا يخفى أنّه يرد على الترتّب بالطريقة التي ذكرناها : أنّ الأمر بالاخفاتية أو التمام ولو مشروطاً بترك الجهرية أو القصر أمر بما تفوت معه المصلحة اللازمة فلا يصحّ صدوره من الحكيم ، فلا يصحّ إلاّفي صورة كون الجهل مستمرّاً إلى آخر الوقت على وجه يكون ترك الواجب الأصلي الناشئ عن الجهل مستمرّاً إلى آخر الوقت ، فيكون الشرط في وجوب الناقص المأتي به هو الترك في تمام الوقت ، فنحتاج إلى الشرط المتأخّر وإصلاحه بالعنوان المنتزع ، فلا ينفعنا في المسألة المفروضة وهي صورة الانكشاف في أثناء الوقت بعد الاتيان بالناقص.

بل إنّ هذا الإشكال وارد على الطريقة الأُخرى المذكورة في هذه الحاشية أعني جعل الشرط هو تفويت مصلحة الواجب الأصلي المقرون بفعل الناقص ، فإنّه لا يخرج الأمر بالناقص ولو كان مشروطاً بالشرط المذكور عن كونه أمراً بما هو ملازم لذلك التفويت وإن لم يكن علّة فيه ، وحينئذ لو أصلحناه بكون الشرط

ص: 567

هو العنوان المنتزع فراراً عن مشكلة الشرط المتأخّر ، لم يكن صحيحاً لكونه أمراً بما هو ملازم للتفويت ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ هذا المكلّف إن استمرّ به الجهل وترك الواجب الأصلي إلى أن خرج الوقت ، فلا مانع من توجّه الأمر إليه بالناقص مشروطاً بذلك على نحو الشرط المتأخّر أو العنوان المنتزع ، لأنّ هذا الشرط وهو فوات الواقع الأصلي كان بتقصير منه. وكذلك لو تضيّق الوقت ولم يبق إلاّمقدار أداء الصلاة جهرية أو إخفاتية ، فإنّه يصحّ توجّه الأمر إليه بالاخفاتية ، لا على نحو الشرط المتأخّر ولا على نحو العنوان المنتزع ، لأنّه في كلّ آن يمرّ عليه من هذه الآنات التي هي في آخر الوقت تارك للواجب الأصلي ومضيّع له ، فيصحّ أن يؤمر بضدّه ، نظير ما ذكرناه في الصلاة والازالة ، فإنّه في كلّ آن من آنات صلاته تارك للازالة الفورية وعاصٍ لأمرها الفوري ، ويكون ذلك من الشرط المقارن. أمّا في أوائل الوقت مع فرض أنّه بعد ذلك يحصل له العلم في أثناء الوقت بوجوب الجهرية ، فلو صلّى إخفاتاً فهو لا ينطبق عليه أنّه في كلّ آن من آنات صلاته عاصٍ للواجب الأصلي ومفّوت له بسوء اختياره ، لامكان أن يأتي به بعد تلك الآنات عند حصول العلم بوجوبه.

نعم ، إنّ نفس أفعاله الصلاتية ملازمة لفوات مصلحة الصلاة الجهرية أو إنّها علّة لفواتها ، فيكون أمر الشارع له بها في هذا الحال أمراً بما يكون ملازماً لفوات مصلحة الواجب ، أو بما يكون علّة لفواته ، إذ ليس جهله في هذا المقدار من الزمان ولا مجرّد تركه الواجب فيه علّة في فوات الواجب ولا ملازماً له ، وإنّما العلّة أو الملازم لفوات الواجب الأصلي هو نفس فعله الاخفاتية ، فيكون الأمر بها في ذلك الحال أمراً بما هو علّة لفوات الواجب أو ما هو ملازم لفواته.

ص: 568

ويمكن أن يستأنس لما ذكرناه في هذه الصورة بما ذكره في الكفاية (1) في بعض صور الأمر الاضطراري ، وهي ما لو بقي من مصلحة الواقع شيء لازم الاستيفاء ولكن لا يمكنه الاستيفاء بعد فعل الناقص ، من عدم تشريع البدار في هذه الصورة ، وهذا بخلاف مسألة الصلاة والازالة ، فإنّ فعل الصلاة لم يكن علّة في فوات فورية الازالة ، نعم إنّها ملزومة لترك فورية الازالة ، إلاّ أن هذا اللازم وهو ترك الفورية قد أقدم عليه بسوء اختياره ، وهو - أعني الترك المذكور - لازم أعمّ ، لجواز تحقّقه بدون الصلاة ، فمرجع الأمر بالصلاة في حال ذلك الترك إلى الأمر بأن يجعل تركه الذي أقدم عليه بسوء اختياره مقروناً بالصلاة فلا مانع منه ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه مع فرض أنّه يحصل له العلم فيما بعد ويمكنه أن يأتي حينئذ بالواجب الأصلي ، يكون تركه للواجب الأصلي لازماً مساوياً لفعل الاخفاتية ، فلا يكون مرجع هذا الأمر بالاخفاتية إلى الأمر بجعل تركه الواجب الأصلي مقروناً بفعل الاخفاتية ، بل إنّ ذلك الترك منحصر بالاقتران بالصلاة الاخفاتية ، فلا يكون الأمر بالاخفاتية إلاّ أمراً بما هو لازم لترك الواجب ، ولا يكون اشتراط وجوب الاخفاتية بهذا الترك إلاّمن قبيل اشتراط الوجوب بما يكون مقروناً بمتعلّقه ، على وجه يكون شرط وجوب الشيء لازماً مساوياً لذلك الشيء ، بخلاف مسألة الصلاة والازالة ، فإنّ عدم الازالة وإن كان لازماً لوجود الصلاة إلاّ أنه لازم أعمّ ، لجواز أن تنعدم الازالة بلا صلاة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ عدم الجهرية الذي هو لازم لوجود الصلاة الاخفاتية ليس بأعمّ منها ، بل هو مساوٍ لها ، لأنّ المراد به هو خصوص العدم المقارن لفعل الاخفاتية ، لا العدم القابل للاجتماع مع غيره كما في صورة الجهل المستوعب وصورة ضيق الوقت ،

ص: 569


1- كفاية الأُصول : 84.

وحينئذ يكون الاشتراط المذكور باطلاً لا من جهة لزوم تحصيل الحاصل ، لإمكان الجواب بالشرط المتأخّر أو العنوان المنتزع ، بل من جهة ما ذكرنا من أنّه أمر بما يلازم فوت الواجب الأصلي.

ولا يمكن الجواب عنه بما ذكرناه في الأمر بالصلاة في قبال الازالة من كون مرجعه إلى الأمر بجعل ذلك العدم مقروناً بوجود الصلاة ، إلاّ أن يدّعى أنّ الأمر بالاقتران ممكن في المقام بنحو الشرط المتأخّر أو العنوان المنتزع ، وهو بمنزلة إذا كنت ممّن يفعل الواجب فافعله ، ولا ريب في استهجانه بل قبحه عقلاً بل امتناعه عقلاً ، لما عرفت فيما تقدّم من أخذ الاتيان بالواجب شرطاً في وجوبه فتأمّل. ولعلّ هذا التفصيل هو المراد لشيخنا قدس سره فيما حكاه عنه السيّد سلّمه اللّه بقوله : هذا مع أنّ عصيان الخطاب الخ (1).

والحاصل : أنّ ترك الأهمّ إنّما يمكن أخذه شرطاً في وجوب المهمّ فيما لو كان ذلك الترك أعمّ من فعل المهمّ ، كما في مثل الصلاة والازالة ، وكما فيما نحن فيه لو كان الوقت ضيّقاً ، فإنّ الاشتراط المذكور يصحّ فيهما على نحو الشرط المقارن ، وكما لو كان الوقت واسعاً ، ولكن كان الجهل والترك الآتي من ناحيته مستمرّين إلى آخر الوقت ، فإنّ الاشتراط أيضاً ممكن ، لكن لابدّ من الالتزام بكونه على نحو الشرط المتأخّر ، أو على كون الشرط هو العنوان المنتزع ، وإنّما قلنا بصحّة هذا النحو وإن كان الفعل المأمور به ملازماً لترك الأهمّ ، لأنّ مرجع الأمر المذكور إلى إشغال ذلك الفراغ الحاصل بترك الأهمّ بفعل المهمّ ، أمّا إذا لم يرجع إلى ذلك فلا وجه لصحّته مع فرض كون فعل المهمّ ملازماً لترك الأهمّ ، إذ لا يصحّ من المولى الأمر بفعل يكون ملازماً لترك ما هو الأهمّ عنده ، وما نحن

ص: 570


1- أجود التقريرات 3 : 572.

[ فيه ] من الترك الخاصّ - أعني المقرون بفعل المهمّ - من هذا القبيل ، إذ لا يكون مفاد الأمر بالمهمّ إلاّ الأمر بما هو ملازم ، من دون إمكان جعله راجعاً إلى إشغال الفراغ الحاصل من ترك الأهمّ بفعل المهمّ. وما أشبه هذه المسألة بمسألة الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما في مثل البقاء في الدار والخروج عنها بالنسبة إلى من اتّفق له الدخول فيها ، حيث قلنا في محلّه إنّه لا يجري الترتّب فيهما من جهة أنّ عدم [ أحدهما ] ملازم لوجود الآخر ، لا من جهة تحصيل الحاصل فقط كما يظهر من شيخنا قدس سره في مسألة الترتّب (1) ، لإمكان الجواب عنه بأنّ الشرط هو العنوان المنتزع ، بل من جهة الأمر بما يلازم عدم الواجب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته من الالتزام بصحّة الترتّب في المقام ، فإنّه بعد أن صحّح الأمر بالفاقد باعتبار كونه فرداً من الطبيعة ، وأنّ اعتبار الخصوصية الزائدة من باب تعدّد المطلوب ، قال : وعليه فلا بأس باتيان المأتي به بداعي الأمر بالجامع بينهما أيضاً بلا احتياج في تصحيح الأمر به إلى قاعدة الترتّب ، وإن كان مقتضى التحقيق صحّتها أيضاً خصوصاً مع الغفلة عن الواقع بترك فحصه ، فإنّه أمكن الالتزام بفعلية الأمر المطلق بالنسبة إلى المأتي به ، بلا فعلية حين الغفلة بالنسبة إلى الواقع ، وأنّ استحقاقه العقوبة بتفويته إنّما هو من جهة تقصيره السابق ، كمن ألقى نفسه عن الشاهق كما هو ظاهر (2).

أمّا ما أفاده قدس سره من تخريج الأمر بالفاقد على تعدّد المطلوب ، بأن يكون المطلوب الأوّلي هو مطلق الصلاة والثانوي هو كونها جهرية ، فلازمه أنّه عند الاتيان بها إخفاتية يكون قد حصل المطلوب الأوّلي ، ففيه : أنّه لا يمكن إصلاحه

ص: 571


1- أجود التقريرات 2 : 92.
2- مقالات الأُصول 2 : 294.

بغير ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من كون الجهر واجباً نفسياً وعند العلم به يكون قيداً.

وأمّا ما أجاب عنه محرّر درس أُستاذنا العراقي قدس سره بعد ما حكى ما أورده شيخنا قدس سره على ما في الكفاية بقوله : إذ فيه أنّ للخصوصية القصرية وإن كان دخل في مصلحة الواجب حتّى في حال الجهل ، إلاّ أن دخلها إنّما هو في كمال المصلحة لا في أصلها ولو بمرتبة ملزمة منها ، وهذه المرتبة تحصل لا محالة بفعل الفاقد الخ (2).

ففيه : أنّ شيخنا قدس سره لم يكن حاصل إيراده هو إنّ الخصوصية الجهرية إن كان لها دخل في مصلحة أصل الواجب ، فلا فائدة في الفاقد ولا مانع من الاعادة ، وإن لم يكن لها دخل لم تكن قيداً الخ ، بل إنّ حاصل إيراده هو أنّ المصلحة الناقصة التي يفيدها الفاقد إن كانت متوقّفة على تلك الخصوصية ، كان اللازم الاعادة ، وإلاّ كانت الخصوصية الزائدة من قبيل الواجب في واجب ، وما ذكر من دخلها في كمال مصلحة الواجب مع الاعتراف بعدم مدخليتها في أصل [ المصلحة ] عبارة أُخرى عن كون ذلك الكمال من قبيل الواجب في واجب.

ثمّ إنّ ظاهر الجماعة هو أنّ تقييد الصلاة بالجهرية إنّما يكون على نحو تعدّد المطلوب إذا كان ذلك التقييد مجهولاً ، أمّا لو كان معلوماً فلا يكون إلاّعلى نحو وحدة المطلوب ، فراجع ما في تحرير درسه بقوله : وأمّا توهّم اقتضاء البيان المزبور الخ (3) ، فيكون تقيّد الصلاة بكونها جهرية على وجه لا تكون وافية بشيء من المصلحة بدون الجهر كما هو مقتضى وحدة المطلوب منحصراً بحال العلم ،

ص: 572


1- فوائد الأُصول 4 : 295.
2- نهاية الأفكار 3 : 485.
3- نهاية الأفكار 3 : 485.

فيكون من قبيل أخذ العلم بالحكم في نفس ذلك الحكم ، ولأجل الفرار من هذا الإشكال التزم شيخنا قدس سره بكون العلم بوجوب الجهر نفسياً مأخوذاً في قيديته.

ثمّ إنّ تعدّد المطلوب الذي التزموا به في حال الجهل إن كان عبارة عن كون المطلوب الأوّلي هو مطلق الصلاة وكونها جهرية مطلوب ثانوي ، فذلك عبارة عن كونه واجباً في واجب ، وإن كان عبارة عن أنّ المطلوب الأوّلي هو الصلاة الجهرية ، فإن لم يحصل فالصلاة الاخفاتية ، فهذا هو محصّل الترتّب ، فلا يكون وجهاً آخر في قبال الترتّب ، فلاحظ كلماتهم وتأمّل.

قوله : ومنها ما أفاده الشيخ الكبير قدس سره في مقدّمات كتابه من الالتزام بالأمر الترتّبي ، وكون الواجب على المكلّف أوّلاً هو القصر - إلى قوله - وفيه : أنّ المقام أجنبي عن الخطاب الترتّبي ولا يندرج في ذلك الباب ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذا الايراد إنّما يتوجّه لو كان المراد بالترتّب هنا هو الترتّب المعروف ، أمّا لو كان المراد هو الترتّب الشرعي الذي أفاده شيخنا قدس سره في درس الفقه عند تعرّضه لهذه المسألة ، فلا يتوجّه عليه شيء من ذلك.

وحاصل ما أفاده قدس سره في درس الفقه في توجيه هذا الترتّب ، أنّه ترتّب شرعي تابع لدلالة الدليل الشرعي عليه ، بأن يكون التكليف الأوّلي على المسافر هو التقصير ، ويدلّ دليل آخر على أنّه إن عجز عن امتثال الأمر بالتقصير على نحو التفصيل ( ومعنى الامتثال على نحو التفصيل هو أن يلتفت إلى أنّه مأمور واقعاً بالتقصير ، ويأتي بالصلاة قصراً امتثالاً لذلك الأمر الواقعي ) وكان عجزه عن الامتثال بهذا التفصيل ناشئاً عن جهله بالحكم الواقعي ، كان مكلّفاً بالاتمام ،

ص: 573


1- فوائد الأُصول 4 : 293.

وحينئذ تكون الصلاة تماماً صحيحة من الجاهل المذكور ، فإن كان جهله عن قصور كان معذوراً ولم يكن مستحقّاً للعقاب على مخالفة التكليف الأوّلي أعني القصر ، وإن كان عن تقصير في التعلّم كان معاقباً على مخالفة ذلك التكليف الأوّلي الذي أوقعه في مخالفته جهله الناشئ عن تقصير في التعلّم ، ويكون من قبيل الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ويكون الدليل الدالّ على هذا الترتّب بهذا التفصيل هو ما دلّ على عدم وجوب الاعادة المتضمّن لكون ما أتى به صحيحاً مأموراً به ، بعد الفراغ عن استحقاق العقاب على ترك تكليف واقعي متوجّه إلى المكلّف الجاهل.

ولابدّ أيضاً من دعوى أنّ صحّة امتثال الأمر الأوّل - أعني القصر - مشروطة بالالتفات إلى أنّ الأمر الواقعي هو القصر والقصد إلى امتثال ذلك الأمر الواقعي الذي التفت إليه ، بحيث كان ذلك الالتفات شرطاً في صحّة المأمور به ، وإن لم يكن شرطاً في أصل توجّه التكليف بالقصر ، فإن عجز عن ذلك وكان عجزه ناشئاً عن عدم علمه بالأمر المذكور ، توجّه إليه التكليف بالاتمام ، سواء كان ذلك عن قصور أو كان عن تقصير غير موجب لسقوط ذلك التكليف عنه ، بحيث يكون مستحقّاً للعقاب على مخالفته. ويتفرّع على ذلك ما أفتوا به من بطلان الصلاة قصراً عن الجهل بالحكم المذكور ، فإنّه لا يتمكّن من تحصيل ما هو المعتبر في المأمور به من الاتيان به بعنوان الالتفات إلى الأمر الواقعي وقصد امتثاله بخصوصه ، وهذا التكلّف إنّما نحتاج إليه في خصوص مسألة الاتمام في موضع القصر ، لأنّهم حسبما نقله الأُستاذ قدس سره يلتزمون بالبطلان لو أتى بالقصر وتأتّت منه نيّة القربة. أمّا مسألة الجهر في موضع الاخفات وبالعكس فغير محتاجة إلى

ص: 574

التكلّف المزبور ، لعدم حكمهم ببطلان الصلاة الجهرية ممّن كان جاهلاً بوجوب الجهر.

وتفصيل ذلك : هو أنّ مرجع هذا الترتّب إلى أنّ الأمر بالثاني مشروط شرعاً بعدم امتثال الأمر الأوّل ، وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالاخفات أو الاتمام مشروط بعدم الاتيان بالصلاة الجهرية أو القصر لكون المكلّف جاهلاً بوجوب الجهر أو القصر ، أو أنّه مشروط بعدم إتيانه بمتعلّقهما في حال جهله بأنّه مأمور به ، فإذا فرضنا أنّه اتّفق للمكلّف المذكور في حال جهله أن قد أتى بمتعلّق الأمر الأوّل ، ففي مسألة الجهر نقول : إنّه حين الاتيان به حال كونه جاهلاً بوجوبه ، إمّا أن يكون معتقداً لوجوب الصلاة المطلقة غير المقيّدة بالاخفات ، وإمّا أن يكون معتقداً بأنّه مكلّف بخصوص الاخفاتية.

فإن كان الأوّل صحّت صلاته. ودعوى أنّها غير صحيحة ، لأنّ الفرض عدم قصده امتثال أمر الصلاة الاخفاتية ، لكونه معلّقاً على عدم الاتيان بالجهرية والمفروض إتيانه بها ، ولأنّه لا يعتقد أنّه مكلّف بالاخفاتية وإنّما يعتقد أنّه مكلّف بمطلق الصلاة ، كما أنّه لم يقصد أمر الجهرية لأنّه لم يعلم به ، مدفوعة بأنّها تصحّ امتثالاً للأمر الواقعي الذي هو أمر الجهرية ، غايته أنّه تخيّل أنّ متعلّق ذلك الأمر مطلق وكان في الواقع مقيّداً وقد اتّفق أن جاء بالقيد ، فهو نظير من اعتقد عدم تقيّد الصلاة بالاستقبال لكنّه اتّفق أنّه لمّا أوقع الصلاة أوقعها مستقبلاً.

وإن كان الثاني ففي الصحّة إشكال ، لأنّه بعد أن كان معتقداً وجوب خصوص الاخفاتية ، لا يكون في إتيانه بخصوص الجهرية إلاّمشرّعاً ، اللّهمّ إلاّ أن تغتفر هذه الجهة من التشريع ، ويقال بأنّ من شرّع عبادة كان يعتقد عدم وجوبها

ص: 575

في الشريعة وقد أتى بها تشريعاً ، ثمّ بعد ذلك اتّفق أنّه كان في الواقع مأموراً بها ، كانت صلاته صحيحة ، وهو محتاج إلى التأمّل.

وعلى كلّ ، فنحن في غنىً عن هذه الجهة ، لأنّ فرض مسألتنا وهي مسألة الجهر والاخفات في صورة جهل المكلّف بوجوب الجهر ، هو الاعتقاد بأنّ الواجب هو مطلق الصلاة دون خصوص الاخفاتية.

نعم ، يتّجه الإشكال المزبور في خصوص مسألة القصر والاتمام ، فإنّ من كان جاهلاً بوجوب القصر يكون معتقداً بأنّ الواجب عليه هو التمام ، فلو أتى بالقصر في حال الجهل المذكور فقد أفتوا فيه بالبطلان ، وهو لأجل ما ذكرناه من التشريع ، ولو سلّمنا عدم كونه مبطلاً ، فلا محيص عن الالتزام بما تقدّم ذكره من دعوى كون الالتفات إلى الأمر الخاصّ شرطاً في هذه المسألة في صحّة المأمور به.

ولا يخفى أنّ لازم هذا الترتّب هو أنّ الجاهل المذكور إذا كان مقصّراً لو لم يصلّ أصلاً ، يكون مستحقّاً لعقابين ، أحدهما على ترك الصلاة الجهرية مثلاً لكونها هي الواجب أوّلاً ، والآخر على ترك الاخفاتية لكونه مأموراً بها عند جهله وعدم إتيانه بالأُولى ، وقد تحقّق منه الشرط المذكور.

نعم ، لو اتّفق له العلم بوجوب الجهرية عليه ، واستمرّ على العصيان وعدم الأداء والقضاء ، كان مستحقّاً لعقاب واحد وهو العقاب على ترك الجهرية ، كما أنّه لو اتّفق أنّه استمرّ به الجهل ، وأتى في حال جهله بالاخفاتية أداءً أو قضاءً ، لم يكن عليه إلاّعقاب واحد وهو العقاب على ترك الجهرية أيضاً ، ولا غرابة في استحقاق العقابين بعد أن التزمنا به في الترتّب المعروف.

ص: 576

قوله : ولا يندرج في ذلك الباب ( يعني باب الترتّب المعروف ) لأنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي ( المعروف ) أن يكون كلّ من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم ، بلا قصور لأحدهما في ذلك ... الخ (1).

والحاصل : أنّه ليس لنا في المقام إلاّملاك واحد ، فلا يكون من الترتّب المعروف ، لأنّه يشترط فيه تحقّق الملاك في كلّ من الواجبين.

ولو فرضنا تحقّق الملاكين فيما نحن فيه ، لكان كلّ منهما واجباً بقول مطلق بحيث كان يلزم الجمع بينهما ، لأنّ المفروض إمكان الجمع بين الصلاتين ، ولو فرضنا عدم إمكان الجمع بينهما ولو من جهة أنّ أحدهما مذهب للمصلحة في الآخر ، لكان ذلك من باب التزاحم الآمري الذي يكون التزاحم فيه دائمياً ، دون التزاحم المأموري الذي يكون التزاحم فيه اتّفاقياً ، وحينئذ يكون اللازم على الآمر هو الأمر بأقواهما ملاكاً وإسقاط الأمر بالآخر ، ولو لم يكن أحدهما أقوى كان عليه أن يأمر بهما تخييراً. وعلى أي حال ، لا يكون من باب الترتّب المعروف.

نعم ، يمكن فيه الترتّب الشرعي من جهة أنّ الصلاة الجهرية هي ذات الملاك في نظر الآمر ، فيأمر بها أمراً مطلقاً ويأمر بالاخفاتية أمراً مشروطاً بالجهل بالأمر الأوّل وعدم الاتيان بمتعلّقه ، لأنّه قد اطّلع على أنّ في الاخفاتية مصلحة مشروطة بالجهل بوجوب الجهرية وعدم الاتيان ، على ما عرفت تفصيله فيما تقدّم.

ص: 577


1- فوائد الأُصول 4 : 293.

قوله : هذا ، مع أنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهمّ ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان « العاصي » ، فإنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم ، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ... الخ (1).

الإنصاف : أنّ هذا الإيراد غير متوجّه ، فإنّ التكليف بالاخفاتية أو الاتمام وإن كان في الواقع مختصّاً بالجاهل بوجوب الجهر أو الجاهل بوجوب القصر ، إلاّ أنّه يكفي في صحّة خطابه توجّه الأمر إليه بعنوان المكلّف ، فالتكليف الواقعي بالاخفات موجّه إلى خصوص الجاهل بوجوب الجهر ، لكنّه تخيّل أنّه متوجّه إلى عامّة المكلّفين وهو منهم ، وقد امتثله حال كونه واجداً لشرطه المذكور وهو الجهل بوجوب الجهر ، فيكون حاله حال من كان مستطيعاً في الواقع وهو لا يعلم بذلك وقد تخيّل أنّ التكليف بالحجّ موجّه إلى عامّة المكلّفين ، وقد أتى به حال كونه مستطيعاً فإنّه لا إشكال في صحّة حجّه المذكور وإن لم يلتفت إلى كون وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة ، ولا إلى أنّه واجد لها.

والحاصل : أنّه لا مانع من صحّة العبادة المشروط وجوبها بشرط حاصل للمكلّف ممّن يعتقد أنّ وجوبها غير مشروط بذلك الشرط ، إذا كان في الواقع واجداً لذلك الشرط ، مع فرض عدم التفاته إلى كونه واجداً لذلك الشرط ، ولا يحتاج إلى خطاب خاصّ يخصّه بما أنّه واجد لذلك الشرط ، بل يكفي في ذلك دخوله في ذلك الوجوب المشروط في الواقع ، وإن كان معتقداً كون ذلك الوجوب مطلقاً ، وكان غير ملتفت إلى كونه واجداً لذلك الشرط. ولو قلنا بأنّه لابدّ من الخطاب الشخصي ، لكان يكفي فيه خطابه بعنوان المكلّف كما لا يخفى

ص: 578


1- فوائد الأُصول 4 : 293.

وجهه فتأمّل.

قوله : الأُولى أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأموراً به ... الخ (1).

تقدّمت الاشارة (2) إلى أنّه يمكن الالتزام بأنّ ما أتى به ليس بصحيح ولا بمأمور به ، ومع ذلك لا يمكن الاعادة لكونه مفوّتاً لها بإذهابه موضوعها ، لكن ذلك لا يلتئم مع قوله عليه السلام : « وقد تمّت صلاته » (3) ممّا ظاهره الصحّة ، بل لعلّه يمكن القول بأنّ تصحيح المأتي به بالملاك على ما تقدّم (4) شرحه من مسلك الكفاية من دون أن يكون مأموراً به منافٍ لظاهر قوله عليه السلام : « وقد تمّت صلاته » من كونها وقعت مأموراً بها. لكنّه لا يخلو من تأمّل ، لامكان صدق التمامية بلحاظ الملاك.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : والمقدّمة الأُولى مسلّمة لا سبيل للمنع عنها ، إذ لا ينبغي الإشكال في استكشاف تعلّق الأمر بالعمل من أدلّة الصحّة (5) فإنّ مجرّد الصحّة لا تكشف عن الأمر إلاّعلى مسلك صاحب الجواهر قدس سره (6).

ولا يخفى أنّ الرواية الشريفة مشتملة على أكثر من مجرّد الصحّة وذلك هو التمامية ، فإنّ الإنصاف أنّ التمامية تعطي عدم النقصان ، فلا ينطبق إلاّعلى توجيه كون التقييد مشروطاً بالعلم به ، فإن التزمنا باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع

ص: 579


1- فوائد الأُصول 4 : 294.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 550 وما بعدها.
3- وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.
4- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 550 وما بعدها.
5- فوائد الأُصول 4 : 294 - 295.
6- جواهر الكلام 2 : 87 وما بعدها ، 9 : 155 وما بعدها.

لم يكن لنا بدّ من الالتزام بكون الاجهار واجباً نفسياً في حال الجهل ، وإن لم نلتزم باستحقاق العقاب على ترك الاجهار لم يكن في البين إلاّ الالتزام يكون التقييد بالاجهار مختصّاً بحال العلم بالتقييد.

وليس ذلك ببعيد ولا بمحال ، كما حقّق في محلّه (1) في بيان أخذ العلم بالحكم قيداً فيه بنحو نتيجة التقييد لا التقييد اللحاظي ، ومع فرض إمكانه ودلالة الدليل عليه وهو قوله عليه السلام : « وقد تمّت صلاته » يكون هذا الدليل مخصّصاً لأدلّة مشاركة الجاهل للعالم.

والحاصل : أنّ مجرّد الحكم بعدم الاعادة المستفاد من قوله عليه السلام : « فلا شيء عليه » (2) يجتمع مع واحد من أُمور خمسة : الأوّل : كون الناقص يفوت معه الواجب. الثاني : كونه ذا ملاك ناقص كما هو مسلك الكفاية. الثالث : الترتّب. الرابع : تعدّد المطلوب وكون الخصوصية من قبيل الواجب في واجب. الخامس : كون التقييد بالخصوصية مختصّاً بحال العلم بالتقييد. فلو أضفنا الحكم بالصحّة إلى الحكم بعدم الاعادة ، يسقط الاحتمال الأوّل وتبقى الأربعة. فلو أضفنا إلى ذلك الحكم بأنّه مأمور به ، يسقط أيضاً الاحتمال الثاني الذي هو مسلك الكفاية. فلو أضفنا إلى ذلك التمامية بمعنى الواجد لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في ذلك الحال ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام : « وقد تمّت » خصوصاً مع اقترانه بالناسي والساهي الذي هو مجرى حديث « لا تعاد » القاضي بسقوط الجزء أو الشرط المنسي ، يسقط أيضاً الاحتمال الثالث وهو الترتّب ، وتنحصر الاحتمالات بالأخيرين ، فلو التزمنا ترتّب العقاب على ترك واجب في البين يسقط الاحتمال

ص: 580


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 22 وما بعدها.
2- تقدّم استخراجه في الصفحة السابقة ، الهامش (3).

الخامس ، وينحصر الأمر بالاحتمال الرابع ، ولكن الاحتمال الخامس أيضاً ممكن وإن كان بعيداً ، بأن نقول إنّ القيدية مختصّة بحال العلم بها ، ففي حال الجهل بها لا تقييد ، لكن يمكن أن تكون الخصوصية من قبيل الواجب النفسي في خصوص حال الجهل بالقيدية ، ففي حال الجهل بالقيدية لا يكون في البين إلاّوجوب الاجهار نفسياً ، وفي حال العلم بها لا يكون إلاّوجوب الاجهار شرطياً ، بل يمكن أن يكون الاجهار واجباً نفسياً في حال العلم بالقيدية وفي حال الجهل بها ، غايته أنّه في حال العلم بالقيدية يجتمع الوجوب النفسي والوجوب الشرطي للاجهار ، بخلاف حال الجهل فإنّه لا يكون فيه إلاّ الوجوب النفسي.

قوله : وأمّا المقدّمة الثانية : فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهية الشرعية التي ينعقد عليها الإجماع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ نفس استحقاق العقاب وإن كان من المسائل العقلية التي لا يدخلها الإجماع ، إلاّ أنه لمّا كان لازماً لوجود تكليف قد خالفه المكلّف ، كان مرجع الإجماع المذكور إلى الإجماع على ملزومه الذي هو توجّه ذلك التكليف الذي قد خالفه المكلّف ، فيكون من الإجماع على الحكم الشرعي ، وليس ذلك من قبيل الإجماع على أنّ نيّة المعصية موجبة لاستحقاق العقاب ، مع الاعتراف بعدم كونها قابلة للحكم الشرعي الذي هو التحريم.

ثمّ بعد تحقّق الإجماع على ذلك الملزوم الذي هو التكليف الواقعي بواسطة الاتّفاق على لازمه الذي هو استحقاق العقاب ، لا يكون قول البعض بأنّ العقاب على ترك التعلّم أو على التجرّي موجباً للخدشة فيه ، لأنّ المفروض

ص: 581


1- فوائد الأُصول 4 : 295.

حينئذ أنّ هذا البعض قد اعترف بذلك الاتّفاق ، لكنّه يوجّه استحقاق العقاب بترك التعلّم أو بالتجرّي ، ونحن بعد أن نبطل استحقاق العقاب على ترك التعلّم وعلى التجرّي ، ينحصر الوجه عندنا في الاستحقاق بما عرفت من وجود التكليف.

لكن الإنصاف : أنّ هذا الإجماع غير محقّق ، ولو تحقّق لما أمكن أن يكون إجماعاً على التكليف المذكور ، لكون استحقاق العقاب أعمّ من ذلك التكليف ، فيكون من قبيل الإجماع على اللازم الأعمّ ، ولعلّ هذا هو المراد له قدس سره.

ثمّ إنّ قوله عليه السلام : « فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته » (1) لا دلالة فيه على عدم استحقاق العقاب ، لجواز أن يكون النظر بقوله : « لا شيء عليه » إلى الاعادة في قوله عليه السلام قبل هذا : « أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ».

ثمّ لا يخفى أنّا لو التزمنا بعدم استحقاق العقاب ، لم نتخلّص من إشكال الصحّة في خصوص حال الجهل مع فرض لزوم الاعادة في حال العلم إلاّبجعل التقيّد بالاجهار مقيّداً بالعلم به ، ليكون هذا الدليل مخصّصاً لأدلّة مشاركة العالم للجاهل.

قوله : ولكن وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى وجوب غيري ... فيرتفع الإشكال بحذافيره ... الخ (2).

ملخّصه : هو ما عرفت عند الكلام على ما في الكفاية ، من أنّ الجهر واجب نفسي محلّه صلاة الغداة مثلاً ، سواء كان المكلّف عالماً به أو جاهلاً ، لكن كونه شرطاً في صحّة الصلاة مشروط بعلم المكلّف بذلك الوجوب النفسي ، فيكون وجوبه النفسي غير مشروط بالعلم ، ولكن وجوبه الشرطي مشروط بالعلم

ص: 582


1- تقدّم استخراجه في الصفحة : 579 ، الهامش (3).
2- فوائد الأُصول 4 : 295.

بوجوبه النفسي.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التوجيه لا يتمّ في حقّ أغلب المكلّفين ، لعدم علمهم بذلك الوجوب النفسي كي يكون علمهم به محقّقاً لشرط الوجوب الشرطي ، الذي هو عبارة عن تقييد الصلاة بذلك الواجب النفسي.

فالأولى أن يقال : إنّ التقييد المزبور منحصر بصورة العلم بنفس التقييد المزبور على نحو نتيجة التقييد ، بحيث يكون المستفاد من دليل عدم الاعادة في صورة الجهل هو سقوط القيدية في مورد الجهل ، ويكون نتيجة ذلك هو انحصار القيدية بصورة العلم بها ، لكن لا بنحو التقييد اللحاظي ، بل بنحو نتيجة التقييد المقابل للاطلاق الذاتي المعبّر عنه بنتيجة الاطلاق ، ويكون العقاب على ترك ذلك الواجب النفسي ، أعني نفس الجهر الواجب في حدّ نفسه في الصلاة من قبيل الواجب في ضمن واجب.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه من كون قيدية الجهر للصلاة المعبّر عنها بالوجوب الشرطي مختصّة بحال العلم بها لا بالعلم بالوجوب النفسي المتعلّق بنفس الجهر ، يمكن أن يقال إنّ الوجوب النفسي مختصّ بصورة الجهل بتلك القيدية ، ومقتضاه أنّه عند العلم بالقيدية يتحقّق الوجوب الشرطي وينتفي الوجوب النفسي ، فنستريح حينئذ من إشكال الجمع بين الوجوبين ، ومن إشكال العقابين فيما لو ترك الصلاة حال كونه عالماً بالقيدية ، لكنّه تكلّف لا يخلو عن منافاة لظاهر الأدلّة القائلة إنّه لو كان جاهلاً فلا يعيد ، الشاملة باطلاقها لما إذا كان جاهلاً بالوجوب النفسي وإن كان عالماً بالوجوب الشرطي ، كشمولها لما إذا كان جاهلاً بالشرطية وإن كان عالماً بالوجوب النفسي ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مركز العلم والجهل المستفاد من التفصيل في الرواية هو الوجوب الشرطي ، لأنّ ذلك

ص: 583

هو المنصرف إليه من التفصيل المزبور.

لكنّه يشكل من جهة أنّ هذا الوجوب النفسي المختصّ بحال الجهل لا يعقل فيه الباعثية ، فلا أثر له إلاّ العقاب ، وهو من هذه الجهة بعيد بل قبيح.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب النفسي للاجهار مطلق شامل للعالم والجاهل والوجوب الشرطي مختصّ بخصوص العالم بذلك الوجوب الشرطي ، وحينئذ يسلم من إشكال أخذ العلم بالوجوب النفسي شرطاً في القيدية ، أعني بها الوجوب الشرطي ، وذلك الإشكال هو ما عرفت من عدم العلم بالوجوب النفسي لأغلب المكلّفين ، ويسلم أيضاً من تعدّد العقوبة لو ترك الصلاة ، لأنّ الوجوب النفسي مشروط بالاتيان بها على ما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

نعم ، يكون اللازم أنّه عند العلم بالقيدية يجتمع الوجوبان النفسي والغيري المعبّر عنه بالوجوب الشرطي أو الوجوب الضمني ، ولا ضير في ذلك.

نعم ، فيه إشكال آخر وهو أنّه عند الجهل بالوجوب الشرطي لو اتّفق حصول العلم بالوجوب النفسي وعصاه وصلّى إخفاتاً ، ينبغي أن نقول بصحّة صلاته ، لكن إطلاق قوله عليه السلام : « أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة » (1) شامل للفرض المذكور ، ولا محيص حينئذ من توجيه شمول الاطلاق لهذا الفرض بما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره من إمكان كون مجرّد اقتران الصلاة بهذا العصيان لذلك الوجوب النفسي الذي علمه موجباً لبطلانها ولو قصد التقرّب بالصلاة ، إذ لا يصحّ التقرّب بشخصها المقرون بعصيان تكليف آخر معلوم له حال فعلها.

ص: 584


1- وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.

أمّا إشكال تعدّد العقوبة الوارد على هذا التقريب الذي ذكرناه وعلى التقريب الذي أفاده شيخنا قدس سره فلا ضير فيه ، لامكان أن يلتزم بتعدّد العقوبة ، فإنّ من عصى وترك الظهر يعاقب على مخالفة وجوبها النفسي وعلى مخالفة وجوبها الشرطي الذي ... (1) عن العقاب على ترك العصر المقيّدة بمسبوقية الظهر. وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّ العالم بكلّ من الوجوب النفسي والشرطي للجهر لو ترك الصلاة ، يعاقب على ترك نفس الجهر وعلى ترك الصلاة الجهرية ، وكذلك الجاهل لو ترك أصل الصلاة يعاقب على ترك نفس الصلاة وعلى ترك نفس الجهر ، لأنّ كلاً منهما واجب نفسي ، لكنّه في خصوص مقامنا لا يخلو من بعد.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب النفسي للجهر ليس بمطلق مثل وجوب الظهر ، بل لمّا كان ظرفه الاتيان بالصلاة كان مشروطاً قهراً بالاتيان بها ، وإن كانت هي واجبة عليه ، فيكون حاله من هذه الجهة حال استحباب التعقيب أو وجوبه مثلاً ، فإنّ الأمر به يكون مشروطاً بالاتيان بالصلاة ، ولا يضرّه كونها واجبة على المكلّف ولا كونها اختيارية له.

وبالجملة : أنّ الظاهر من قوله : اجهر بالقراءة حال الصلاة ، أنّ الاتيان بالصلاة موضوع لذلك الأمر ، لا أنّه من الأفعال الاختيارية التي يتوقّف عليها وجود الواجب نظير نصب السلّم بالنسبة إلى الصعود على السطح.

وإن شئت فقل : إنّ وجوب الاجهار في الصلاة لا يقتضي وجوبها مقدّمة له فإنّها وإن كانت كذلك ، بمعنى أنّه لا يمكنه الاجهار إلاّبعد فعل الصلاة ، إلاّ أنه من الممكن أخذ وجودها في وجوبه ، وفراراً عن لزوم تعدّد العقوبة نقول إنّ وجودها شرط في وجوبه ، وإذا تمّ لنا ذلك قلنا إنّه عند تركه للصلاة لا يكون

ص: 585


1- [ في الأصل هنا سِقط ].

الاجهار واجباً نفسياً عليه ، فلا يستحقّ إلاّعقاباً واحداً على ترك الصلاة ، سواء كان ذلك مع الجهل بكون الجهر واجباً نفسياً ، أو كان مع العلم بذلك الوجوب النفسي.

ثمّ إنّه ربما يشكل على ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الوجوب النفسي الطارئ على الجهر يتبدّل بالعلم به إلى الوجوب الغيري أوّلاً : بأنّه يلزم أن يكون العلم بذلك الوجوب موجباً لانعدامه ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

وثانياً : أنّا لو أغضينا النظر عن هذه الجهة لكان فيه إشكال آخر ، وهو لغوية تشريع ذلك الوجوب ، لعدم تمكّن المكلّف من امتثاله ، أمّا في صورة الجهل به فواضح ، وأمّا بعد العلم به فلتبدّله إلى الوجوب الغيري.

ويمكن الجواب عنه بأنّا لا نلتزم بالتبدّل ، بل نقول إنّ الوجوب النفسي ثابت في كلّ من حالتي الجهل والعلم به ، غايته أنّ العلم به يكون موضوعاً لتقييد الصلاة به ، من دون أن يكون هو مقيّداً بها ، فيكون حال الجهر عند العلم به كحال صلاة الظهر بالنسبة إلى العصر في كون العصر مقيّدة بها ، من دون أن تكون هي - أعني صلاة الظهر - مقيّدة بها.

وأمّا ما أشكلنا به من أنّ هذا الوجوب النفسي لا يحصل العلم به لعامّة المكلّفين ، فيمكن دفعه بأنّ العلم بأنّه واجب في الصلاة في الجملة كافٍ في تحقّق العلم به وإن لم يكن علماً بأنّه نفسي ، وفيه تأمّل سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

لا يقال : كيف قلتم إنّ الجهر ليس بمقيّد بالصلاة مع أنّ معنى وجوبه النفسي فيها عبارة أُخرى عن أنّه لا يمكن إيقاعه على صفة الوجوب إلاّفي ضمنها.

لأنّا نقول : إنّ هذا المعنى لا يضرّ بما هو المطلوب ، إذ لا مانع من الالتزام

ص: 586

بأنّ وقوعه على صفة الوجوب النفسي مقيّد بوقوعه في ضمنها ، مع أنّها عند العلم بوجوبه النفسي تكون مقيّدة به ، لأنّ ذلك لا يوجب كونه جزءاً ارتباطياً فيها بحيث يكون هو وباقي الأجزاء مقيّداً كلّ منهما بالآخر.

وإن شئت فقل : إنّه من حيث وجوبه النفسي تكون صحّته مرتبطة بها من دون أن تكون صحّتها مرتبطة به ، وبعد العلم بوجوبه النفسي تكون صحّتها مرتبطة به ، فيكون المجموع في ذلك الحال - أعني العلم بالوجوب النفسي - واجباً ارتباطياً ، أمّا قبل العلم فلا يكون في البين إلاّذلك الوجوب النفسي الاستقلالي الوارد على الجهر ، ويكون ذلك الوجوب النفسي مشروطاً بالاتيان بالمركّب ، وقهراً تكون صحّة الجهر من حيث كونه امتثالاً للأمر النفسي الاستقلالي مقيّدة بالاتيان به في ضمن الصلاة.

لا يقال : إذا التزمتم بكون الصلاة عند العلم بوجوبه النفسي مقيّدة به ، كان شرطاً في صحّتها ، وحينئذ يكون واجباً ضمنياً كما هو مبناكم في مسألة شروط الصلاة من كونها واجبة ضمناً ، وبذلك صحّحتم عبادية الطهارات ، فيلزم اجتماع الوجوبين.

لأنّا نقول : لا ضير في ذلك ، فنقول إنّ الجهر عند العلم بوجوبه النفسي يكون شرطاً لصحّة الصلاة ، ويكون واجباً نفسياً ضمنياً ، غير أنّ هذا الوجوب النفسي الضمني الناشئ عن كونه في ذلك الحال شرطاً في صحّتها يكون مندكّاً بالوجوب النفسي الاستقلالي ، هذا هو حقيقة الأمر في مقام الثبوت.

وأمّا عمل المكلّف الغافل عن ذلك الوجوب النفسي الاستقلالي ، فقد عرفت أنّه يكفي فيه الاتيان به بداعي أنّه واجب في الصلاة وإن لم يعلم بأنّه واجب نفسي استقلالي ، بل وإن كان معتقداً بأنّه واجب شرطي أو جزئي ، لأنّ

ص: 587

ذلك من باب الخطأ في التطبيق.

ولكن لا يخفى أنّ الخطأ في التطبيق لا مورد له في المقام ، إذ ليس الإشكال في المقام من جهة كيفية الامتثال ، بل إنّ الإشكال إنّما هو في تحقّق شرط الوجوب الغيري وهو العلم بالوجوب النفسي ، فإنّه لا ينفع علمه بالوجوب الواقعي متخيّلاً أنّه شرطي مع فرض أنّ الشرط هو العلم بالوجوب النفسي.

وبعين هذا الجواب يجاب عن الإشكال على ما ذكرناه من كون القيدية مختصّة بحال العلم بها على نحو نتيجة التقييد ، فإنّه قد يشكل على ذلك بأنّ تشريع الوجوب النفسي حينئذ يكون لغواً ، لعدم تأثيره وعدم قابليته للداعوية لعدم العلم به في كلّ من حالتي الجهل بالقيدية والعلم بها ، وحينئذ يجاب عنه بأنّه يكفي في تأثيره أنّه عند العلم بالقيدية يكون قابلاً للامتثال ، ولو باعتقاد كونه جزئياً أو شرطياً وأنّه واجب ضمني.

لا يقال : إنّ لازم كون وجوب الجهر النفسي من قبيل الواجب في ضمن واجب هو أن يكون وجوبه متأخّراً عن تشريع وجوب الصلاة ، ولازم كون تقيّد الصلاة الواجبة بالعلم بوجوبه النفسي هو كون العلم بوجوبه النفسي سابقاً في الرتبة على وجوبها. والحاصل : أنّه يكون خلاصة المسألة أنّ وجوب الجهر نفسياً مشروط بوجوب الصلاة ، لأنّ وجوبه من قبيل الواجب في ضمن واجب ، فيكون وجوبها سابقاً في الرتبة على وجوبه ، وحيث إنّ العلم بوجوبه يكون شرطاً في صحّتها ، يكون لازم ذلك أنّ العلم بوجوبه يكون سابقاً في الرتبة على الوجوب المتعلّق بها بما أنّها مقيّدة به.

قلنا أوّلاً : لا ضير في ذلك ، فإنّ العلم بوجوبه النفسي إنّما يكون سابقاً في الرتبة على الوجوب المتعلّق بها بما أنّها مقيّدة به ، وهو - أعني الوجوب النفسي -

ص: 588

إنّما يكون متأخّراً عن الوجوب المتعلّق بالصلاة من دون تقييدها به.

وثانياً : أنّ الوجوب النفسي إنّما كان من قبيل الواجب في ضمن هذا المركّب لا بلحاظ كونه واجباً ، فلا يكون الوجوب المتعلّق بالصلاة سابقاً في الرتبة على ذلك الوجوب النفسي ، بل يكون كلّ من الوجوبين واقعاً في رتبة الآخر ، بمعنى أنّ الآمر يورد الأمر على ذلك المركّب ، وفي عرض إيراده الوجوب على ذلك المركّب يورد الوجوب النفسي على الجهر في ضمن ذلك المركّب فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ أصل هذا الإشكال إنّما يتّجه على ما تضمّنه هذا التحرير من الإصرار على تبدّل الوجوب النفسي بعد العلم به إلى الوجوب الغيري ، ولا أظن صدور ذلك من شيخنا قدس سره. والذي حرّرته عنه خال عن ذلك ، بل هو صريح بخلافه قال فيما حرّرته عنه (1) :

والجواب : أمّا عن مسألة الجهر والاخفات ، فيمكن أن يكون واجباً مستقلاً في ضمن الصلاة أو القراءة ، بمعنى أنّه يجب وجوباً مستقلاً أن يجهر في قراءته ، وهذا الوجوب النفسي مشترك بين العالم والجاهل ، ولكن إذا علم به المكلّف كان الجهر قيداً في الصلاة ، فيكون استحقاق العقاب على ترك الجهر في حال الجهل بوجوبه مع الحكم بكون الصلاة صحيحة ، كاشفين عن كونه واجباً في ضمن واجب ، وعن كون الصلاة غير مقيّدة بالجهر في حال الجهل بوجوبه النفسي ، والحكم ببطلان الصلاة في ترك الجهر حال العلم بوجوبه كاشف عن كون الصلاة مقيّدة به في حال العلم بوجوبه النفسي ، وهكذا الحال في الاخفات في موارد وجوبه ، انتهى.

ص: 589


1- الاثنين 24 شوال سنة 1343 [ منه قدس سره ].

وبنحو ذلك صرّح في بحث الفقه عند التعرّض لمسألة الجاهل بالقصر أو التمام من صلاة المسافر.

ثمّ في درس الأربعاء 26 شوال قال فيما حرّرته عنه قدس سره : وقد يورد على ما وجّهنا به مسألة الجهر والاخفات من كون الجهر في مورده واجباً نفسياً ، وهو مشترك بين العالم والجاهل ، وكونه شرطاً في صحّة الصلاة في مورد العلم بوجوبه : بأنّه في مورد العلم يلزم اجتماع الوجوب النفسي والشرطي.

والجواب عن هذا الايراد : أنّ الوجوب النفسي يندكّ في الوجوب الشرطي ويكون له وجوب واحد أكيد ، وعلى ما حقّقناه في أمثال هذه المقامات من أنّ كلاً من الحكمين يعطي الآخر ما يفقده من الخصوصية التي يكون هو واجداً لها كما في مثل نذر النافلة ، فإنّ وجوب الوفاء واستحباب النافلة يندكّ أحدهما بالآخر ، ويكون طلباً واحداً مؤكّداً جامعاً لخصوصية كلا ذينك الحكمين ، فيأخذ من الأمر بالوفاء جهة وجوبه ، ومن الأمر بالنافلة جهة العبادية ، فيكون واجباً عبادياً ، ففيما نحن فيه يندكّ الأمر النفسي بالأمر الشرطي ، ويكون أمراً واحداً وجوبياً يترتّب عليه بطلان العبادة لو خالفه كما هو خاصية الوجوب الشرطي ، ففي مورد العلم لا تكون جهة الوجوب النفسي مؤثّرة وجوباً نفسياً على حدة ، وحيث إنّ الوجوب الشرطي معلّق على العلم بالوجوب النفسي ، ففي مورد الجهل لا يكون الوجوب الشرطي متحقّقاً ، فتؤثّر جهة الوجوب النفسي حينئذ أثرها ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في التحريرات المطبوعة في صيدا (1) ، وكذا فيما حرّرته عنه قدس سره في درس الفقه في صلاة المسافر.

ولا يخفى أنّ هذه الكلمات صريحة في كون الوجوب النفسي متحقّقاً

ص: 590


1- أجود التقريرات 3 : 574 - 575.

ومشتركاً بين العالم والجاهل ، لا أنّه بالعلم ينقلب من الوجوب النفسي ويتبدّل إلى الوجوب الغيري ، غاية الأمر أنّه يندكّ حينئذ مع الوجوب الشرطي ، فيعطيه الوجوب الشرطي ما كان فاقده من توقّف صحّة الصلاة على وجوده ، ومن الواضح أنّه ليس من قبيل التبدّل والانقلاب ، اللّهمّ إلاّ أن يراد من هذا التبدّل والانقلاب المشتمل عليهما عبارة الكتاب هو ما عرفت من الاندكاك.

أمّا العقاب عند ترك الصلاة بعد العلم بالوجوب النفسي ، فقد عرفت أنّه لا يتعدّد ، لكون الوجوب النفسي مشروطاً بفعل الصلاة. وهكذا الحال في كلّ واجب في واجب ، فإنّ وجوبه على الظاهر يكون مشروطاً بالاتيان بذلك المركّب الذي هو واجب في أثنائه. نعم لو فعل الصلاة ولم يجهر فيها بعد العلم بوجوب الجهر فيها نفسياً ، فإنّ لازمه تعدّد العقاب ، فعقاب على ترك نفس الجهر لتحقّق شرط وجوبه وهو الاتيان بالصلاة نفسها ، وعقاب على ترك قيد الصلاة بالجهر ، لأنّها بعد العلم بوجوب الجهر نفسياً يكون تقيّدها به واجباً شرطياً وقد تركه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المتروك لمّا كان شيئاً واحداً وهو الجهر في قراءتها ، لا يكون العقاب إلاّواحداً ، وإن كان بذلك الترك الواحد قد ترك واجبين ، أحدهما نفسي وهو ذات الجهر ، والآخر شرطي وهو تقيّد الصلاة به. أو يقال : إنّه بعد فرض اندكاك أحد الوجوبين بالآخر كما أفاده شيخنا قدس سره ، لا يكون العقاب إلاّ واحداً ، إذ ليس في البين بعد الاندكاك إلاّوجوب واحد ، وبهذا يجاب عن لزوم التعدّد فيما لو ترك الصلاة بعد العلم بالوجوب النفسي حتّى لو قلنا بأنّ الوجوب النفسي غير مشروط بالاتيان بالمركّب.

لكن لنا إشكال في أصل دعوى الاندكاك ، وصيرورة الوجوبين وجوباً

ص: 591

واحداً ، شرحناه في مبحث عبادية الطهارات الثلاث (1) وفي مسألة التداخل (2) ، وحاصله : أنّه لا يمكن في مثل أكرم الهاشمي وأكرم العالم عند اجتماعهما في شخص واحد أن يقال : إنّ ذلك الفرد واجب بوجوب واحد ، فإنّ ذلك الوجوب إن كان مجموعاً من الوجوبين نظير اجتماع الضياءين ، ليكون وجوباً واحداً مؤكّداً ، فذلك لا يعقل في الإيجاب ، لأنّه لا يقبل الشدّة والضعف ، وإن كان وجوباً واحداً كسائر الوجوبات ، فإن كان هو أحد الوجوبين ، أعني وجوب إكرام الهاشمي أو وجوب إكرام العالم ، فذلك ترجيح بلا مرجّح ، وإن كان غير هذين الوجوبين ، فذلك عبارة أُخرى عن خروج ذلك الفرد عن كلّ من هذين العمومين وحدوث وجوب فيه جديد غير وجوبهما ، ولا يخفى ما فيه من أنّه لا دليل على خروجه منهما ولا على ذلك الوجوب الجديد. وشيخنا وإن صرّح في ذلك المبحث في صورة اجتماع الاستحباب والوجوب بالاندكاك ، لكن صرّح ببقاء ذات الاستحباب ، غير أنّ حدّه الذي هو الترخيص في الترك منتف. ولا يخفى أنّ ذلك التزام ببقاء كلّ من الطلبين بذاتهما ، وهو عبارة أُخرى عن تحقّق المثلين ، غير أنّ حدود كلّ منهما تكون منتفية.

ولا يبعد أن يقال : إنّه لا مانع من اجتماعهما ، إذ لا تناقض بينهما ، إذ ليسا مثل الوجوب والتحريم. أمّا التأكّد في مرحلة الملاك ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس المقام من قبيل الواجب الواحد ذي الملاكين ، فإنّ مثل العالم والهاشمي ومثل الواجب النفسي والواجب الشرطي ليسا من قبيل تعدّد الملاك ، بل من قبيل

ص: 592


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 218 ومابعدها.
2- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 52 وما بعدها.

اجتماع العنوانين.

ثمّ لو سلّمنا صحّة الاندكاك في غير المقام ، وأنّه يتولّد من ذلك وجوب مؤكّد أو وجوب واحد بسيط ، فلا يمكننا تسليمه في المقام ، لأنّ هذا الوجوب الشرطي لمّا كان مشروطاً بالعلم بالوجوب النفسي ، كان متأخّراً في الرتبة عن الوجوب النفسي ، وحينئذ يستحيل كونه مؤكّداً للوجوب الأصلي النفسي ، لعدم الاتّحاد بينهما في الرتبة.

وربما يقال في الجواب عن أصل المسألة : بأنّ ذلك الوجوب النفسي الأصلي الاستقلالي ينقلب عند العلم به إلى الوجوب النفسي الضمني الارتباطي المعبّر عنه بالوجوب الشرطي ، بمعنى أنّه عند العلم به يكون متّحداً مع الوجوب الوارد على ذلك المركّب ، مع عدم الاختلاف بين الوجوبين في الهوية.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه لا يغني عن الالتزام بالتأكّد أو الانقلاب ، فإنّ الوجوب النفسي الاستقلالي الطارئ على ذات الجهر - مثلاً - غير الوجوب الضمني الطارئ عليه في ضمن الأمر بالكل المركّب منه ومن باقي الأجزاء ، وحينئذ يكون العلم بذلك الوجوب الاستقلالي موجباً لتحوّله إلى الوجوب الضمني ، فيكون العلم بذلك الوجوب الاستقلالي موجباً لانعدامه ، وحدوث وجوب جديد هو في ضمن الأمر بالمركّب منه ومن باقي الأجزاء ، وهكذا الحال فيما لو ادّعي أنّ القيد بعد العلم هو امتثال الأمر بالجهر لا الجهر نفسه.

وربما يقال : إنّ العلم بالتكليف النفسي لا يحدث سوى القيدية وشرطية الصحّة ، دون أن يكون في البين وجوب شرطي.

وفيه : أنّ الشرطية عندنا منتزعة من التكليف الوارد على المشروط ، ولا يمكن للشارع جعلها بنفسها ، وحينئذ لابدّ من الالتزام بطرو وجوب ضمني

ص: 593

شرطي على نفس الجهر كسائر شروط الصلاة ، وحينئذ نحتاج إلى الالتزام بالتأكّد الذي ذكره شيخنا قدس سره.

قوله : بل ربما يدّعى ظهور الأدلّة في ذلك ، فإنّ الركعتين الأخيرتين ممّا فرضهما النبي صلى اللّه عليه وآله والأوّلتين ممّا فرضهما اللّه تعالى ، كما ورد بذلك عدّة من الروايات ... الخ (1).

وجه الظهور واضح ، فإنّ الأخيرتين لو كانت قيداً في الأُوليين لكان وجوبها ضمنياً ، والوجوب الضمني لا يمكن أن يبرز في عالم الإنشاء بلفظ مستقل ، بل يكون حاصلاً بانشاء الايجاب متعلّقاً بالمجموع ، فلابدّ أن تكون الروايات (2) الدالّة على أنّ الأخيرتين فرض النبي صلى اللّه عليه وآله متعرّضة للوجوب النفسي. نعم ، باقي الروايات (3) الدالّة على كون صلاة الظهر مثلاً أربع ركعات ، تكون متكفّلة للوجوب الضمني للأخيرتين الذي هو عبارة عن التقييد والارتباطية. ومنه يظهر لك أنّ دليل الارتباطية لا ينحصر بالإجماع.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر تلك الروايات الدالّة على أنّ الظهر أربع ركعات هو إطلاق القيدية لحال الجهل ، وحينئذ لو دلّ دليل على أنّ الجاهل بوجوب التمام لو صلّى قصراً تصحّ صلاته ، ولا يجب الاعادة عليه بعد العلم وإن كان معاقباً ، تكون مقيّدة لذلك الاطلاق ، وموجبة لانحصار القيدية بحال العلم ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الروايات المتكفّلة لكون الأخيرتين فرض النبي صلى اللّه عليه وآله ، إنّما هي حاكية لما صنعه صلى اللّه عليه وآله من إلحاق الأخيرتين ، ولم يعلم من تلك الروايات

ص: 594


1- فوائد الأُصول 4 : 298.
2- وسائل الشيعة 4 : 45 / أبواب أعداد الفرائض ب 13 ح 2 ، 12 ، 14 وغيرها.
3- وسائل الشيعة 4 : 47 / أبواب أعداد الفرائض ب 13 ح 6 ، 23 ، 25 وغيرها.

أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بالأخيرتين كي نقول : إنّ مقتضى الأمر بهما هو الوجوب النفسي بالتقريب الذي عرفته ، إذ لعلّ ما صدر عنه صلى اللّه عليه وآله هو الأمر بالأربع ، بحيث إنّه صلى اللّه عليه وآله قيّد الأُوليين بالأخيرتين ، ولكن مع ذلك نقول : إنّه لو دلّ الدليل على ما ذكر من عدم الاعادة في الصورة المزبورة ، نوجّهه باختصاص القيدية بحال العلم ، وأنّه في حال الجهل لا يكون إلاّ الوجوب النفسي.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التوجيه الذي أفاده قدس سره لمسألة الجهر في موضع الاخفات ، والاخفات في موضع الجهر ، والقصر في موضع الاتمام يجري فيه البحث السابق (1) عن صحّة ما يأتي به مطابقاً للواقع الذي اعتقد خلافه ، فلو كان المقيم الجاهل بوجوب الاتمام عليه معتقداً أنّ الواجب عليه هو القصر ، ولكن مع ذلك صلّى تماماً ، لكان ينبغي أن يحكم بفساد صلاته وإن كانت مطابقة للواقع ، لما عرفت من كون قصد التشريع مفسداً لها ، ولو لم نقل بفسادها من هذه الجهة فلا طريق لنا للحكم بفسادها ، إلاّ أن يدّعى الإجماع على الفساد ، فحينئذ يوجّه بما تقدّم ذكره من اعتبار العلم بوجوب الاتمام شرطاً في صحّة الصلاة الاتمامية.

قوله : وأمّا المسألة الثالثة : وهي الاتمام في موضع وجوب القصر فيمكن أن يقال في مقام التفصّي عن الإشكال فيها : بأنّ الواجب ... الخ (2).

ممّا أفاده قدس سره في درس الفقه أنّه يمكن أن يكون ترك الأخيرتين واجباً نفسياً وعند العلم بذلك الوجوب النفسي أو عند العلم بالقيدية يكون عدمهما قيداً في الصلاة ، ويمكن أيضاً أن يكون السلام على الثانية واجباً نفسياً ، وعند العلم به أو عند العلم بكونه قيداً يكون قيداً في صحّة الصلاة.

ص: 595


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 573.
2- فوائد الأُصول 4 : 298.

ولكنّه قدس سره أورد على هذه الوجوه بأنّه لو قصد المسافر الأمر بالتمام فأتمّ صلاته ، لكانت صلاته صحيحة ، مع أنّه بناءً على هذه الوجوه تكون الصلاة فاسدة لأنّه بناءً عليها لا يكون هذا المكلّف مكلّفاً في الواقع بالاتمام ، فكيف صحّ أن يقصد امتثال الأمر بالاتمام.

ولأجل ذلك عدل عن هذه الوجوه ، وأفاد قدس سره وجهاً آخر وهو كون المأمور به المشترك بين العالم والجاهل هو التخيير بين القصر والاتمام ، لكن القصر واجب نفسي ، وعند العلم به يكون قيداً.

ثمّ إنّه قدس سره أورد عليه بأنّ لازمه صحّة القصر من الجاهل لو تأتّت منه نيّة القربة ، ولأجل ذلك التجأ قدس سره إلى إنكار مسألة العقاب ، وأنّه ليس في البين إلاّتقييد لزوم هذه الخصوصيات بالعلم بها ولو على نحو نتيجة التقييد ، وأفاد أنّه مع الالتزام بترتّب العقاب على مخالفة تكليف مجهول ، فلا محيص من الالتزام بالترتّب السابق الذكر ، وقد عرفته مشروحاً بما لا مزيد عليه.

قلت : أمّا النقض على الوجه الثاني بفساد القصر الصادرة من الجاهل به فهو متوجّه أيضاً على باقي الوجوه ، لكنّه يمكن اندفاعه بما عرفت سابقاً من إمكان كون القصد تفصيلاً إلى شخص الأمر معتبراً في صحّة صلاة القصر.

وأمّا النقض على الوجوه السابقة على هذا الوجه بصحّة صلاة الجاهل عند قصد الاتمام ، مع أنّها تقتضي فساد هذه الصلاة لعدم كونه في الواقع مأموراً بالاتمام ، وإنّما هو مأمور بالركعتين وترك الأخيرتين نفسياً ، أو السلام على الأخيرتين نفساً ، فيمكن الجواب عنه بأنّه لمّا كان المطلوب منه الأُوليين ، ولم تكونا مقيّدتين بعدم الأخيرين ، ولا بالسلام عليهما ، بل كان ترك الأُخريين أو السلام على الأُوليين واجباً نفسياً مستقلاً ، فلا مانع من صحّة صلاته المزبورة ،

ص: 596

غايته أنّه تخيّل كون الأمر المتوجّه إليه في الواقع هو الاتمام فقصده ، ولكنّه قد أتى بما يصحّ أن ينطبق عليه الأمر الواقعي ، غايته أنّه يكون عاصياً في الاتيان بالأخيرتين أو عدم السلام على الأُوليين.

وفيه تأمّل ، وكذا الوجه الأخير لا يخلو من تأمّل ، فإنّ الوجوب التخييري الطارئ على النوعين إنّما يصحّ اجتماعه مع كون الخصوصية في أحدهما واجبة نفسياً إذا كان وجوبها النفسي اتّفاقياً لعارض أوجبها ، أمّا لو كانت الخصوصية دائماً كذلك فلا يخلو الوجوب التخييري بينهما عن اللغوية.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ خير ما يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل هو الترتّب بالنحو الذي مرّ شرحه. كلّ ذلك بعد تسليم أنّ في البين عقاباً على مخالفة تكليف مجهول ، وإلاّ فلا إشكال في المسألة أصلاً بأن يكون لزوم القصر مشروطاً بالعلم به ، وإلاّ ففي حال الجهل يكون المكلّف مخيّراً بين القصر والتمام ، إن قلنا بأنّه لو فعل القصر من باب الاتّفاق وتأتّت منه نيّة القربة صحّت صلاته ، وإلاّ كان من الممكن أنّه عند العلم بالقصر يتعيّن عليه وعند الجهل به يتعيّن عليه الاتمام.

نعم ، يمكن إتمام المسألة والالتزام بالعقاب بمسلك الكفاية على ما شرحناه من التضادّ بين النوعين - أعني القصر والاتمام - في حال الجهل ولو باعتبار التضادّ بين المصلحتين - أعني مصلحة القصر ومصلحة الاتمام الحاصلة عند الجهل - مع فرض كون مصلحة القصر أهمّ ، غايته أنّه يكون التضادّ الحاصل بينهما في حال الجهل دائمياً ، ومقتضاه خروج المسألة عن باب التزاحم المأموري ودخولها في الآمري الذي يكون راجعاً إلى باب التعارض ، وحينئذ لا يبقى لنا ما يدلّ على المصلحة في الاتمام ، لكن دليل صحّتها كافٍ في الحكم باشتمالها على المصلحة في هذا الحال ، وإن كانت هي أقلّ من مصلحة القصر ،

ص: 597

لكن لا يمكن الأمر بها ولو من باب الترتّب ، لما عرفت من الإشكال فيه من كونه من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وحينئذ تصحّ الصلاة قصراً لو تأتّت منه نيّة القربة ، كما تصحّ تماماً ، غايته أنّه يعاقب على تفويت الأهمّ.

وهذه الطريقة جارية في المسائل الثلاث ، ولا يرد عليها شيء ممّا تقدّم سوى أنّ جريانها في مسألتي الجهر والاخفات مناف لظاهر قوله عليه السلام : « تمّت صلاته » (1) الجامعة بين الناسي والجاهل ، فلابدّ أن تكون التمامية فيهما بوتيرة واحدة. ويمكن الجواب عنه بالتسامح في التمامية بعد فرض كونهما ضدّين ، فيراد تمامية هذا الضدّ الذي أتى به ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وأمّا الشبهات الموضوعية ففي التحريمية منها لا يجب الفحص إجماعاً على ما حكاه الشيخ قدس سره (2) ... الخ (3).

العمدة هو النظر إلى ما تقتضيه القاعدة من لزوم الفحص وعدمه. أمّا البراءة العقلية فالظاهر أنّه لا مانع منها ، فإنّ ما ذكر من الموانع في الشبهة الحكمية كالعلم الاجمالي وعدم المعذورية لا محلّ له في الشبهات الموضوعية. وأمّا البراءة الشرعية ، فإن كان المانع منها في الشبهات الحكمية هو العلم الاجمالي ، فلا شبهة في عدم المحلّ له هنا ، وإن كان المانع في الشبهات الحكمية هو ما تقدّم من عدم المعذورية ، فقد عرفت هناك أنّه لا يقف في قبال إطلاق أدلّتها ، وأنّ أقصى ما ادّعيناه هناك هو الانصراف ، فبناءً عليه ينبغي أن نقول هنا بالانصراف المذكور ، لكن لمّا قام الإجماع على إجرائها هنا قبل الفحص كان ذلك الإجماع بمنزلة

ص: 598


1- وسائل الشيعة 6 : 86 / أبواب القراءة في الصلاة ب 26 ح 1.
2- فرائد الأُصول 2 : 140.
3- فوائد الأُصول 4 : 301.

القرينة المنفصلة الموجبة لحمل « ما لا يعلمون » على الشمول لما قبل الفحص في الشبهات الموضوعية ، وإن كان ذلك لو خلّي ونفسه لكان اللفظ منصرفاً عنه.

قوله : أحدهما أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر (1).

لو فسّر ذلك بما تقدّم في حديث الرفع ، وأنّه مسوق للامتنان ، فلا يجري فيما يكون موجباً للضيق على المكلّف ، كما لو شككنا في شمول الجزئية لحال التعذّر ، وكان أثر شمولها له هو لزوم الاتيان بالباقي عند تعذّر الجزء ، فإنّ الجزئية في حال التعذّر وإن كانت مشكوكة ، إلاّ أنه لا يمكن رفعها بحديث الرفع ، لأنّه لا أثر له إلاّ إيجاب الباقي ، لكان في محلّه ، لكنّه موقوف على النظر في نصّ عبارة الفاضل التوني ، ليظهر لنا هل يمكن أن يريد بها هذا المعنى ، والأمر سهل.

قوله : وفي مثل ذلك يستقيم مقالة الفاضل التوني من أنّه لا يثبت أحد الحكمين بمجرّد نفي الحكم الآخر بالبراءة ... الخ (2).

هذا أيضاً ممّا يتوقّف على النظر في عبارة الفاضل ، إذ الظاهر أنّ هذا الشرط إنّما هو شرط في إجرائها لا أنّه شرط في ترتّب الحكم على مجراها ، فنحن وإن سلّمنا أنّ وجوب الحجّ لا يترتّب على البراءة من الدين ، بل لابدّ من استصحاب العدم ، لكن ذلك على الظاهر لا دخل له في إجراء البراءة ، بل إنّ البراءة جارية في حدّ نفسها في مجراها في جميع تلك الأمثلة ، سواء ترتّب الحكم الآخر لكونها محقّقة لموضوعه أو لم يترتّب ، وأنّ مراد الفاضل التوني هو أنّها لا تجري إذا كانت مثبتة للحكم. والظاهر أنّه لا ينطبق إلاّعلى ما قدّمناه ، لكن عبارته المنقولة

ص: 599


1- فوائد الأُصول 4 : 303.
2- فوائد الأُصول 4 : 304.

عنه في الرسائل وحواشيها لا تنطبق على هذا الذي قدّمناه ، فراجع الآشتياني فيما نقله من نصّ عبارة الفاضل المذكور ، فإنّها صريحة في مطلب آخر هو في نهاية الغرابة ، فإنّ حاصل مطلبه هو دعوى أنّ الأُصول العدمية كأصالة البراءة ويعبّر عنها بأصالة عدم الوجوب ، وكأصالة العدم في كلّ حادث يحتمل حدوثه ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، كلّ هذه الأُصول إنّما تجري في مقام نفي التكليف ، فإذا فرض ترتّب تكليف على ذلك العدم لم يكن لهاتيك الأُصول مورد ، لأنّ الأصل ليس من الأدلّة على ثبوت التكليف ، وليس الفاضل ناظراً إلى منع كون الأصل مثبتاً باصطلاح المتأخّرين ، بل إنّه يقول إنّ الأصل العدمي لا ... (1) كنت تحتمل أنّ الملاقاة كانت قبل تطهيره ، فإنّه يقول إنّ أصالة عدم تقدّم التطهير لا تجري لأنّه يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد ووجوب تطهيرها ، ولأجل ذلك نراه يقول : واعلم أنّ هنا قسماً من الأصل كثيراً ما يستعمله الفقهاء ، وهو أصالة عدم الشيء وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل هما قسمان. والتحقيق : أنّ الاستدلال بالأصل بمعنى النفي والعدم إنّما يصحّ على نفي الحكم الشرعي بمعنى عدم ثبوت التكليف ، لا على إثبات الحكم الشرعي ، ولذا لم يذكره الأُصوليون في الأدلّة الشرعية ، وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأُصول المذكورة ، مثلاً إذا كانت أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة أُخرى ، فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الاناءين واشتبه بالآخر ، فإنّ الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما بعينه لو صحّ يستلزم وجوب الاجتناب عن الآخر ، وكذا في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما ، والزوجة المشتبهة بالأجنبية ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور ونحو ذلك ، وكذا أصالة العدم ، كأن يقال : الأصل عدم

ص: 600


1- [ في الأصل هنا سِقط ].

نجاسة هذا الماء أو هذا الثوب فلا يجب الاجتناب عنه ، إلاّ إذا كان شاغلاً للذمّة ، كأن يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك كرّيته : الأصل عدم بلوغه كرّاً فيجب الاجتناب عنه. وكذا في أصالة عدم تقدّم الحادث ، فيصحّ أن يقال في الماء الذي وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ، ولم يعلم هل وقعت النجاسة قبل الاستعمال أو بعده : الأصل عدم تقدّم النجاسة فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة ، ولا يصحّ إذا كان شاغلاً للذمّة ، كما إذا استعملنا ماء ثمّ ظهر أنّ الماء كان قبل ذلك نجساً ، ثمّ طهّر بالقاء كرّ عليه دفعة ، ولم يعلم أنّ الاستعمال كان قبل تطهيره أو بعده ، فلا يصحّ أن يقال : الأصل عدم تقدّم تطهيره فيجب إعادة غسل ما لاقى ذلك الاستعمال (1) ، لأنّه إثبات حكم بلا دليل ، فإنّ حجّية الأصل في النفي باعتبار قبح تكليف الغافل ووجوب إعلام المكلّف بالتكليف ، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدليل ، فلو ثبت حكم شرعي بالأصل لزم إثبات حكم شرعي من غير دليل ، وهو باطل إجماعاً ، انتهى. وقال في ذيل مسألة البراءة : واعلم أنّ لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث ، شروطاً أحدها : ما مرّ من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعي من جهة أُخرى (2).

مسألة : لا شبهة في أنّ من شرب الخمر جاهلاً بأنّه خمر لا يكون معاقباً ويكون معذوراً ، سواء كان ذلك للقطع بالخلاف ، أو للشكّ مع الرجوع إلى أصالة البراءة والاباحة ، أو لوجود أمارة كالبيّنة على أنّه ليس بخمر. كما أنّه لا شبهة في أنّ من شربه جاهلاً بحكمه كان عليه العقاب ، ولم يكن معذوراً إن كان ذلك الجهل عن تقصير. ولو اجتمع الأمران ، بأن شربه مع الشكّ بكونه خمراً وكان

ص: 601


1- في الوافية وردت العبارة هكذا : ما لاقى ذلك الماء في ذلك الاستعمال.
2- بحر الفوائد 2 : 218 ، الوافية في أُصول الفقه : 186 - 187 ، 193.

قاطعاً بأنّه غير محرّم ، فالظاهر أنّه لا إشكال في معذوريته ، لا لأنّ وقوعه في شرب الخمر كان مستنداً إلى جهله بالموضوع لأنّه واقع فيه حتّى لو علم بحرمة شرب الخمر ، وذلك لأنّه ليس بأولى من أن يقال إنّ الذي أوقعه فيه هو جهله بالحكم لأنّه واقع فيه حتّى لو علم بأنّه خمر.

فالأولى أن يقال : إنّه لا ريب في [ أنّ ] الحكم الواقعي وهو لا تشرب الخمر عام شامل لمن كان جاهلاً بالموضوع ولمن هو جاهل بالحكم وغيرهما ، وقد قام الدليل من براءة ونحوها على معذورية الجاهل بالموضوع. أمّا الجاهل بالحكم فلا يكون أثره إلاّعدم المعذورية ، بمعنى أنّ الجهل بالحكم لا يوجب المعذورية ويكون الحكم الواقعي مؤثّراً أثره من استحقاق العقاب ونحوه ، وحينئذ لا يكون الجهل بالحكم مقتضياً للتنجّز أو مقتضياً لعدم المعذورية ، بل أقصى ما فيه أنّه لا يقتضي المعذورية ، وحينئذ يكون اجتماعه مع الجهل بالموضوع من قبيل اجتماع مقتضي المعذورية وعدم المقتضي ، ويكون مقتضى الجهل بالموضوع هو المعذورية ، ولا يكون جهله بالحكم مقتضياً لشيء مخالف لما يقتضيه الجهل بالموضوع من المعذورية ، وهذا كلّه واضح.

ولكن الإشكال إنّما هو في هذا الجهل بالموضوع المقرون بالقطع بعدم الحكم الكلّي ، هل يصلح للمعذورية ، بمعنى أنّه لو شرب الخمر شاكّاً بكونه خمراً مع كونه قاطعاً بأنّ الخمر لا يحرم شربه ، هل يكون لشكّه في كونه خمراً أثر في معذوريته ، وهل يمكن أن يكون مستنداً في ذلك الارتكاب إلى البراءة العقلية أو الشرعية أو قاعدة الحل؟ الظاهر أنّه لا يكون في ارتكابه المذكور مستنداً إلى شيء من ذلك ، لأنّه مع فرض كونه قاطعاً بعدم حرمة الخمر واقعاً ، لا يكون لشكّه في كونه خمراً أثر في نظره ، كي يستند في ارتكابه إلى أصل أو قاعدة ، وليس

ص: 602

إجراء القاعدة في حقّه إلاّباعتبار شكّه وتحيّره في الارتكاب.

وإن شئت فقل : إنّ الشاكّ في الموضوع إنّما يجري البراءة باعتبار شكّه في الحكم الشخصي لذلك الموضوع ، أمّا من يكون قاطعاً بعدم الحكم الكلّي فلا يكون لشكّه في الموضوع أثر في نظره كي يرجع فيه إلى البراءة ، ولا وجه للقول بأنّ حكمه الواقعي هو البراءة وإن لم يكن هو ملتفتاً إلى ذلك ، إذ لا معنى لكون البراءة جارية واقعاً في حقّ غير الشاكّ ، وحينئذ فلابدّ في الحكم بمعذوريته من سلوك طريق آخر غير مستند إلى البراءة ، وذلك بأن نقول : إنّ هذا الشاكّ بكون هذا المائع خمراً القاطع بأنّ الخمر ليس بحرام ، لا يكون شاكّاً في المنع عن شرب ذلك المائع ، بل هو قاطع بأنّه لا مانع من شربه ، وحينئذ يكون معذوراً من جهة قطعه بأنّ هذا الشخص من المائع لا منع من شربه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قطعه بأنّه لا مانع من شربه وأنّه مباح ، متولّد من قطعه بأنّ الخمر حلال واقعاً ، وهو غير معذور في هذا القطع المتعلّق بالحكم الكلّي ، فلا يكون معذوراً بما تولّد منه ، أعني قطعه بأنّ المائع الشخصي حلال الشرب. فعمدة المسألة في الحكم بالمعذورية هي هذه الجهة ، أعني قطعه بالاباحة الشخصية لذلك المائع المردّدة بين كونها إباحة ماء أو إباحة خمر ، هل هي عين القطع بأنّ الخمر مباح ، أو أنّها جهة شخصية غير منوطة بقطعه بإباحة الخمر الكلّي.

وعلى كلّ حال ، لا أثر لهذا النزاع إلاّ العقاب وعدمه. أمّا الحكم الوضعي كما لو قطع بأنّ النبيذ مثلاً ليس بنجس وقد لاقى ثوبه نبيذاً واقعاً ، وكان شاكّاً في كون ذلك الملاقي نبيذاً أو خلاً ، فإنّ الظاهر من إطلاقات من صلّى مع النجس

ص: 603

وهو عالم به (1) موضوعاً شامل لهذه الصورة ، فتكون صلاته صحيحة سواء كان عالماً بالحكم الكلّي - أعني نجاسة النبيذ أو ببطلان الصلاة فيه - أو كان جاهلاً بذلك فتأمّل.

ص: 604


1- [ هكذا ورد في الأصل والظاهر أنّ الصحيح : « غير عالم به » أو « جاهل به » أونحو ذلك ].

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

الكلام في ملاقي أطراف العلم الاجمالي... 3

التعليق على ما ذكره الماتن قدس سره من لزوم ترتيب جميع آثار المعلوم بالاجمال... 3

بحث حول أنحاء تبعية المنافع والتوابع للأطراف وفي وجوب الاجتناب عنها وتطبيق ذلك على الملاقي لبعض الأطراف 7

التعرّض لمسألة مسّ قطعتين يعلم أنّ إحداهما من ميّت إنسان... 12

فرع : حكم التزوّج ببنت ذات البعل المزني بها إذا اشتبهت في محصور... 18

فرع : لو تردّد المعلوم بالاجمال بين ذي التكليفين وذي التكليف الواحد... 19

ذكر تقريبين للعلم الاجمالي في مسألة الملاقي للنجس المعلوم بالاجمال... 23

فرع : حكم ما لو كان لنا إناءان نعلم إجمالاً بوجود البول في أحدهما... 26

التعليق على كلام الماتن بقوله بانحلال العلم الاجمالي مع سبق العلم بالملاقاة على العلم بنجاسة أحد الطرفين 26

ص: 605

ذكر الإشكالات في توسعة العلم الاجمالي إلى الملاقي... 30

التأمّل فيما نسب إلى صاحب الكفاية من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين 31

الجواب عن شبهة حكومة الأصل في الملاقى على الأصل في الملاقي... 36

نقل كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام ونقده... 42

بحث في قيام الملاقي مقام الملاقى التالف وجريان الأصل في التالف... 56

لو كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء ثمّ عاد إليه... 62

ما ذكره المحقّق العراقي قدس سره في درسه الشريف حول وجوب الاجتناب عن الملاقي... 65

نقل كلمات السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك... 71

كلام العراقي قدس سره في الردّ على القول بالانحلال الحقيقي... 79

تقريب كلام النائيني قدس سره في أنّ المدار في منجّزية العلم على تقدّم المعلوم... 88

تعليقات المصنّف على كلام أُستاذه قدس سرهما في المقام... 94

أبحاث مفيدة حول دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعية ضدّه... 99

حكم الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف... 107

انقسام الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف إلى ما يشترط فيه الطهارة وما لا يشترط 107

الكلام فيما لو كان الاضطرا من مجرّد العسر والحرج... 109

ص: 606

كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام... 110

الاضطرار إلى واحد غير معيّن... 111

بحث في كيفية تحكيم أدلّة العسر والحرج على التكليف الواقعي المعلوم إجمالاً... 112

الاضطرار إلى ترك واحد غير معيّن في الشبهات الوجوبية... 125

نقل كلام صاحب المستمسك والمناقشة فيه... 129

التعليق على كلام الماتن في صورة سبق الاضطرار على العلم الاجمالي... 135

التسوية بين تلف البعض وبين الاضطرار إليه... 140

التعليق على كلام الماتن في التمثيل للمقام بمسألة الظهر والجمعة... 147

نقل كلمات الشيخ الأعظم قدس سره في العلم الاجمالي في التدريجيات والتعليق عليها... 150

الكلام في الشبهة غير المحصورة... 159

بحث حول حرمة المخالفة القطعية وأنّها من الأحكام العقلية... 159

بحث مفصّل في الوجوه المذكورة لسقوط لزوم الموافقة القطعية في أطراف الشبهة غير المحصورة وما يقتضيه كلّ منها 165

توضيح ما ذكره المحقّق الهمداني في توجيه الترخيص في أطراف الشبهة غير المحصورة 181

ص: 607

نقل كلام صاحب المقالات قدس سره في المقام... 185

نقل كلام صاحب الدرر قدس سره في المقام... 189

نقل كلام المحقّق الهمداني قدس سره في حاشيته على الرسائل وفي كتاب الصلاة... 197

تنبيه : لو شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة... 207

الكلام في الشكّ في المكلّف به بشبهة وجوبية... 208

توجيه ما ينسب إلى المحقّق الخونساري من جواز المخالفة القطعية في الشبهة الوجوبية 208

الكلام في جريان استصحاب بقاء التكليف بعد الاتيان بأحد الأطراف... 209

بحثٌ حول الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف المحتملة الوجوب... 214

مناقشة المصنّف قدس سره لما ذكره المحقّق الهمداني قدس سره من الفرق بين الشبهات التحريمية وموارد الشبهة الموضوعية في الشرائط والموانع... 219

بحث مختصر حول الشبهة الوجوبية غير المحصورة... 223

حول كلام الشيخ الأنصاري قدس سره في كيفية النيّة في العبادات المعلومة بالاجمال... 224

رجوع إلى مبحث جريان استصحاب بقاء التكليف بعد الاتيان بأحد الأطراف... 234

حول الاتيان ببعض محتملات العصر مثلاً قبل استيفاء محتملات الظهر... 241

ص: 608

الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر... 245

الفرق بين السببية وبين متعلّقات التكاليف من حيث جريان البراءة في المشكوك... 245

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهات التحريمية... 248

بحث مفصّل حول النهي الاستغراقي والمجموعي والاشارة إلى مسألة انحلال النذر بالحنث مرّة 248

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصّلات... 263

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة الوجوبية الحكمية... 269

صراحة كلام صاحب الحاشية في إلحاق الأقل والأكثر بالمتباينين... 269

شبهة عدم انحلال العلم الاجمالي عقلاً وجواب صاحب المقالات عنها... 271

وقفة مع صاحب الكفاية قدس سره في دعواه محالية الانحلال العقلي... 286

الكلام في جريان البراءة الشرعية في الأكثر... 296

توضيح كلام صاحب الكفاية قدس سره في منعه جريان البراءة الشرعية... 310

الكلام في جريان استصحاب عدم وجوب الأكثر... 313

استدراك : في بيان مراد الشيخ الأعظم قدس سره من « الغرض » و « العنوان » المذكورين في كلامه 319

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشروط والموانع... 321

ص: 609

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية... 329

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المركّبات التحليلية... 333

تنبيهات الأقل والأكثر... 338

الأوّل : الشكّ في ركنية جزء للعمل وعدمها... 338

جهات البحث في نقص الجزء سهواً... 339

كلام صاحب الكفاية في توجيه تكليف الناسي... 340

بحث مفصّل حول الدليل على تكليف الناسي ببقيّة الأجزاء... 342

حول جريان حديث الرفع في المقام... 358

جهات البحث في زيادة الجزء عمداً أو سهواً... 365

تصوير وقوع الزيادة في الأجزاء والشرائط... 365

الكلام في بطلان العمل بالزيادة عمداً أو سهواً... 369

الكلام في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة في باب الزيادة... 377

الثاني : حكم تعذّر بعض الأجزاء والشروط لاضطرار ونحوه من حيث ما تقتضيه القاعدة تارةً وما يقتضيه الدليل أُخرى 403

كلام مبسوط حول قاعدة الميسور... 427

الكلام في استصحاب وجوب الباقي عند تعذّر الشرط أو الجزء... 453

إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط... 457

الكلام في اشتباه الواجب بالحرام... 460

ص: 610

خاتمة : فيما يعتبر في الاحتياط والبراءة... 474

المقام الأوّل : فيما يعتبر في العمل بالاحتياط... 474

منع عدم صحّة الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة التفصيلية... 474

عدم مانعية قصد الوجه والتمييز عن الاحتياط في العبادة... 477

بحث حول مراتب الامتثال وتعليق المصنّف قدس سره عليه... 479

بحث مبسوط فيما يتعلّق بقصد الوجه في العبادات وفروع فقهية مرتبطة بالبحث... 482

تذييل : في بيان الموارد التي يصحّ فيها الاحتياط والتي لا يصحّ فيها... 498

دوران الأمر بين مراعاة الجزء أو الشرط أو مراعاة الامتثال التفصيلي... 500

وجوه واحتمالات في حكم احتمال عروض المبطل في أثناء العمل... 501

المقام الثاني : فيما يعتبر في العمل بالبراءة... 511

وجوب الفحص في الشبهات الحكمية والاستدلال له بالعلم الاجمالي... 512

لو كان المعلوم بالاجمال معلّماً بعلامة خاصّة والكلام في انحلاله إلى الأقل والأكثر... 517

نقل ما حرّره المصنّف عن شيخه العراقي قدس سرهما في المقام والتعليق عليه... 524

الكلام في استحقاق تارك الفحص للعقاب... 532

الكلام في صحّة عمل الجاهل بلا فحص... 540

ص: 611

وجوه التفصّي عن الإشكال في مسألة الجهر بدل الاخفات وبالعكس ومسألة التمام بدل القصر وبالعكس 550

عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية... 598

التعليق على ما ذكره الفاضل التوني من شرطي البراءة... 599

مسألة : من ارتكب الحرام جاهلاً بالحكم والموضوع هل يستحقّ العقاب... 601

فهرس الموضوعات... 605

ص: 612

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.