أصول الفقه المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1431 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-72-0

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء السابع

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 0-72-5213-600-978/ج7

ISBN 978-600-5213-71-3/VOL 7

الكتاب: أصول الفقه ج 7

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1431 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ دليل الانسداد ]

قوله : فإنّ المسألة لم تكن معنونة عند العلماء أجمع ، ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان عند أرباب الفتوى ، إلاّ أنّه يكفي الإجماع التقديري ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وليس الإجماع المذكور بنفسه تقديرياً كي يتوجّه عليه أنّه لا محصّل له ، بل إنّ المجمع عليه حكم تقديري ، وهو عدم جواز الإهمال المعلّق على تقدير الانسداد ، وليس ذلك أمراً مستغرباً ، فإنّ جميع الأحكام الشرعية معلّقة على تقدير تحقّق موضوعاتها ، وهذا الحكم المجمع عليه وإن لم يذكروه صريحاً إلاّ أنّه يفهم من كلامهم تلويحاً. وإن شئت فقل : إنّ ذلك يعرف من مذاقهم فتأمّل.

وبنحو ذلك صرّح في التحريرات المطبوعة في صيدا (2).

قلت : ومع هذا التكلّف في دعوى الإجماع ربما يتأمّل في حجّيته شرعاً من جهة عدم كون المجمع عليه من الأحكام الشرعية ، لأنّ الإهمال وعدمه واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، فلا يكون حكماً شرعياً كي يكون الإجماع عليه حجّة شرعية فتأمّل ، إذ ربما يأتي في الحاشية الآتية ما يمكن أن يكون به هذا الإجماع إجماعاً على حكم شرعي.

ص: 3


1- فوائد الأُصول 3 : 231.
2- أجود التقريرات 3 : 223 - 224.

قوله : والطريق الذي يصحّ جعله في حال انسداد باب العلم والعلمي مع كونه واصلاً بنفسه ينحصر بالاحتياط ، فإنّه الطريق الواصل بنفسه لكونه محرزاً للواقع وموصلاً إليه ... الخ (1).

الظاهر أنّ كون الاحتياط محرزاً للواقع وموصلاً إليه لا يكون هو العلّة في كونه طريقاً واصلاً بنفسه ، فإنّ الظنّ يشاركه في ذلك ، نعم هو أرجح من الظنّ باعتبار كونه أقرب إيصالاً وأبعد عن الخطأ ، وإن تطرّقه الخطأ ، كما لو احتاط في ترك ما احتمل حرمته واتّفق في الواقع أنّه كان واجباً ، لكنّه مع ذلك أقرب إلى تحصيل الواقع من الظنّ.

والذي حرّرته عنه قدس سره في بيان كون الاحتياط طريقاً واصلاً بنفسه هذا لفظه : أنّ الطريق إن لم يتوقّف وصوله إلى المكلّف إلاّعلى مجرّد جعله من قبل الشارع نظير الاحتياط الشرعي المجعول للشارع ابتداء ، بحيث كان الواصل إلينا هو نفس الاحتياط ابتداءً ، كان ذلك الطريق واصلاً بنفسه. وإن كان وصول جعله إلينا بواسطة جعل آخر وقد استكشفنا جعله طريقاً من جعل آخر ، كان واصلاً بطريقه كما فيما نحن فيه ، حيث إنّ الواصل إلينا هو نفس المنع الشرعي عن إهمال التكاليف ، وقد استكشفنا من حكم الشارع بالمنع المذكور أنّه قد جعل لنا طريقاً منجّزاً لتلك التكاليف ، وحصرنا ذلك الطريق المنجّز بالظنّ ، فيكون هذا الطريق - أعني الظنّ - واصلاً إلينا بطريقه ، بمعنى أنّه واصل إلينا بواسطة وصول طريقه الذي استكشفناه منه ، وهو المنع الشرعي من إهمال التكاليف ، انتهى.

قلت : ولعلّ المراد هو أنّه بعد فرض الإجماع على عدم جواز الاهمال يكون الاحتياط الشرعي هو عبارة أُخرى عن هذا الحكم الشرعي ، أعني عدم

ص: 4


1- فوائد الأُصول 3 : 233.

جواز الاهمال ، وهكذا الحال في كون الاهمال موجباً للخروج من الدين الذي هو عبارة أُخرى عن لزوم الحكم بحرمته شرعاً ، فيكون الاحتياط عبارة عن نفس ذلك الحكم الشرعي ، هذا مع قطع النظر عن قيام الإجماع على عدم لزوم الاحتياط ، وإلاّ كان عدم جواز الاهمال الثابت بالدليلين المذكورين كاشفاً عن كون المنجّز الشرعي الموجب لعدم جواز الاهمال هو حجّية الظنّ ، فتأمّل فإنّه لا يخلو عن تأمّل بل عن اضطراب ، إذ كيف يمكن القول بأنّ الإجماع على عدم جواز الإهمال وعلى حرمة الإهمال هو عين وجوب الاحتياط ، مع فرض الإجماع على عدم وجوب الاحتياط شرعاً.

والأولى أن يقال : إنّ الاحتياط هو الأولى بالجعل لكونه هو الأقرب للواقع ، لكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوبه ، وضممنا هذا الإجماع إلى الإجماع على عدم جواز الإهمال الذي لا يمكن إلاّمع وجود المنجّز الشرعي ، كان اللازم هو استنباط كون المنجّز الشرعي هو حجّية الظنّ ، فتأمّل.

ولعلّ المراد من كون الاحتياط طريقاً واصلاً بنفسه هو أنّه بعد أن ثبت من الإجماع والضرورة من الدين عدم تجويز الشارع إهمال الأحكام ، بمعنى ثبوت إرادتها من المكلّفين ولو في ذلك الحال أي الانسداد ، وعدم تنازله عنها وعدم ترخيصه فيها ، الكاشف (1) عن أنّه قد جعل لها ما ينجّزها من الطرق الشرعية المنجّزة لها.

لا يقال : إنّ الحكم الشرعي بعدم الترخيص ، وعدم تنازل الشارع عن أحكامه الواقعية لا يستكشف منه جعل الطريق الشرعي ، لإمكان إيكال الشارع المكلّفين إلى ما تحكم به عقولهم من الاحتياط.

ص: 5


1- [ حقّ العبارة أن يقال : كان ذلك كاشفاً ... ].

لأنّا نقول : إنّ الاحتياط العقلي إن كان من ناحية العلم الاجمالي فالكلام إنّما هو مع قطع النظر عنه ، لأنّ كلامنا في الدليل الأوّل والثاني من أدلّة عدم جواز الاهمال. وإن كان الموجب له مجرّد الاحتمال ، فالعقل لا يراه منجّزاً بعد حكمه بقبح العقاب بلا بيان ، وليس مجرّد الحكم الشرعي بعدم الترخيص بياناً وحجّة عقلية ، لجواز أن يكون حكمه بعدم الترخيص الشرعي من جهة الإيكال إلى ما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان فتأمّل ، لما سيأتي (1) من إمكان كون الاحتمال بعد فرض الحكم الشرعي بعدم الترخيص منجّزاً. نعم سيأتي (2) بطلان الاحتياط لما سيأتي من أنّ هذا الحكم العقلي بمنجّزية الاحتمال لابدّ من رفع اليد عنه ، للإجماع الآخر المدّعى على أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتياط والاحتمال.

وعلى كلّ حال ، فبناءً على ذلك يكون هذا الحكم الشرعي الذي قام عليه الإجماع كاشفاً عن وجود الطريق الشرعي المصحّح لتنجّز الأحكام الواقعية ، ويكون المتعيّن أوّلاً هو الاحتياط لكونه واصلاً بنفسه ، لأنّه لا يحتاج في طريقيته إلى أزيد من جعله ، بخلاف الظنّ فإنّه يحتاج مع ذلك كلّه إلى مقدّمة أُخرى ، وهي قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وحيث يدور الأمر بين الطريق الواصل بنفسه والطريق الواصل بطريقه ، يكون الأولى بالجعل هو الطريق الواصل بنفسه ، ولكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ ، أو قامت الأدلّة الأُخرى الآتية (3) إن شاء اللّه تعالى على عدم وجوبه من كونه موجباً للعسر والحرج ، أو كونه موجباً

ص: 6


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 28.
2- في هذه الحاشية.
3- في الحاشية الآتية في الصفحة : 15 وما بعدها.

لاختلال النظام ، وجب الالتزام بأنّ ذلك الطريق الشرعي المجعول منجّزاً لتلك الأحكام في ذلك الحال هو الظنّ.

والأولى أن يضمّ إلى الإجماع [ على ] عدم الإهمال الإجماع على عدم وجوب الاحتياط شرعاً ، بمعنى أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتمال ، وبعد ضمّ هذا الإجماع إلى الإجماع على أنّ الشارع لم يرخّص في أحكامه ، تكون النتيجة هي أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة. نعم لو قرّرنا الإجماع الثاني بأنّه واقع على عدم وجوب الاحتياط التامّ ، وأبطلنا الاحتياط التامّ بالعسر والحرج أو اختلال النظام ، لكانت النتيجة هي تبعيض الاحتياط الشرعي أو العقلي ، أمّا بعد أن كان المدّعى في الإجماع الثاني هو أنّ الشارع لا يرضى بامتثال أحكامه بطريق الاحتمال والاحتياط ، فلا محصّل لتبعيض الاحتياط حينئذ ، ويكون هذا الإجماع مسقطاً ومبطلاً لكلّ من الاحتياط الشرعي والعقلي ، حتّى لو قلنا بأنّه يمكن للشارع بعد أن حكم بعدم الترخيص أن يوكل المكلّفين إلى ما تحكم به عقولهم ، وقلنا إنّ عقولهم بعد أن اطّلعوا على أنّ الشارع لم يرخّص في أحكامه وأنّه يريدها منهم حتّى في حال الانسداد ، تحكم بلزوم الاتيان بكلّ ما احتملوه ، أعني الالتزام بالاحتياط.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ عدم جواز الاهمال في المقام من الأحكام الشرعية ، باعتبار أنّ للشارع في ذلك الحال أن يتساهل مع عباده ويرخّصهم في ترك امتثال تلك الأحكام ولو بأن يجعل لهم البراءة الشرعية ، فلمّا كان جعل الترخيص الشرعي في ذلك الحال ممكناً عقلاً ولو بجعل البراءة الذي هو مفاد حديث الرفع ، كان محصّل عدم جواز الاهمال هو عدم جعل البراءة ، وكان ذلك العدم أثراً شرعياً ولو باعتبار إبقائه ، فيكون حينئذ ممّا يدخله الإجماع ، كالإجماع

ص: 7

على وجوب الشيء الفلاني ، غايته أنّ ذلك إجماع على عدم حكم واقعي ، وما نحن فيه إجماع على عدم حكم ظاهري.

لا يقال : إنّ عدم جعل الترخيص كافٍ في المنجّزية.

لأنّا نقول : إنّ منجّزية عدم الترخيص يكون عبارة أُخرى عن لزوم الجري على طبق الاحتمال ، وهو عبارة أُخرى عن الاحتياط الذي قام الإجماع الثاني على عدمه ، فلابدّ حينئذ من أن نقول إنّ عدم الترخيص كاشف عن وجود المنجّز الشرعي ، لا أنّه بنفسه يكون هو المنجّز الشرعي.

لا يقال : إنّ مجرّد هذا الحكم الشرعي الذي هو عدم جعل الترخيص الشرعي لا يلازم وجود المنجّز الشرعي ، لإمكان أن يكون المرجع هو الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان.

لأنّا نقول : ليس الأمر مقصوراً على مجرّد عدم جعل الترخيص ، بل إنّ في البين شيئاً آخر زائداً على مجرّد عدم جعل الترخيص ، وهو أنّ الشارع لم يتنازل عن مراداته في حال الانسداد ، بمعنى أنّ عدم جعله الترخيص فيه شائبة الاثبات ، وأنّه مطالب فعلاً بأحكامه ، وأنّه لم يتنازل عنها ، وهذا المقدار من شائبة الاثبات المنضمّة إلى عدم الترخيص هو مورد الإجماع.

وإن شئت فقل : إنّ إبقاء عدم الترخيص أو حكم الشارع بأنّي لم أُرخّص في مخالفة أحكامي هو الحكم الشرعي الذي قام عليه الإجماع ، ولمّا لم يكن هذا الحكم وحده منجّزاً ، وإلاّ كان اللازم هو الاحتياط المفروض قيام الإجماع على عدمه ، تصل النوبة حينئذ إلى أنّ ذلك الطريق الشرعي المنجّز هو الظنّ ، دون باقي الاحتمالات الموهومة أو المشكوكة ، فتأمّل.

وحاصل الأمر : أنّ جعل عدم الترخيص يوجب الاحتياط ، ويكون هذا

ص: 8

الاحتياط عقلياً ناشئاً عن هذا الحكم الشرعي ، لكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط أو على بطلانه وجب المصير إلى دعوى منجّز آخر.

قوله : ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني قدس سره في المقام ، من دعوى انحلال العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الأُصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً من الأحكام ... الخ (1).

المتحصّل من الخلاف بين شيخنا الأُستاذ قدس سره وبين صاحب الكفاية قدس سره في هذه المسألة ، أعني مسألة جريان الاستصحابات المثبتة فيما نحن فيه ، هو أنّ الخلاف في ذلك بينهما قدس سرهما يكون من جهات ثلاث :

الأُولى : أنّ صاحب الكفاية قدس سره (2) اقتصر في توجيه المنع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي على ما نقله من لزوم التناقض بين الصدر والذيل ، وشيخنا قدس سره لا يرى أنّ ذلك هو المانع ، لأنّ اليقين الحاصل من العلم الاجمالي لم يكن متعلّقاً بنفس ما تعلّق به الشكّ الذي هو كلّ واحد بعينه من الأطراف ، بل إنّ اليقين في باب العلم الاجمالي لم يتعلّق إلاّبعنوان أحد الأطراف ، فلا يكون داخلاً في قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » (3) بل إنّ المانع عند شيخنا قدس سره من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي هو كونه من الأُصول الاحرازية ، وهي غير جارية في أطراف العلم الاجمالي كما حقّقه قدس سره (4)

ص: 9


1- فوائد الأُصول 3 : 236.
2- كفاية الأُصول : 313 - 314.
3- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
4- فوائد الأُصول 4 : 14 ، 693 - 694.

وشرحناه في محلّه أيضاً (1).

الجهة الثانية من جهات الخلاف بينهما قدس سرهما : أنّ صاحب الكفاية قدس سره (2) يرى أنّ العلم الاجمالي بأنّ بعض تلك الاستصحابات المثبتة مخالف للواقع غير مانع هنا من جريانها ، وإن قيل بالمنع من ذلك في غير المقام ، وذلك لما يدّعيه من أنّ تدريجية الاستنباط توجب عدم فعلية الشكّ بالنسبة إلى المجاري المتأخّرة ، فلا يكون الشكّ في تلك الموارد المتأخّرة فعلياً ، فلا مانع من إجراء الاستصحاب في هذا المورد الذي هو محل الاستنباط فعلاً. وشيخنا قدس سره (3) يرى أنّ العلم الاجمالي الحاصل فعلاً للمجتهد بأنّ إمّا هذا الحكم الذي يثبته فعلاً في هذا المورد بالاستصحاب غير مطابق للواقع ، أو الحكم الذي يعلم بأنّه بعد ذلك يستنبطه في مورد آخر كافٍ في عدم إمكان إثبات الحكم في المورد الفعلي ، لكن صاحب الكفاية قدس سره يرى أنّ المجتهد فعلاً غافل عمّا سيأتي ، ولعلّه لا يعلم بأنّه بعد ذلك يبتلى باستصحاب آخر يكون ضمّه إلى ما بيده موجباً للعلم بكذب أحدهما ، وحينئذ تكون المناقشة فيما يدّعيه صغروية ، ولا يبعد أن يكون الواقع هو ما يدّعيه صاحب الكفاية قدس سره.

وينبغي أن يعلم أنّ صاحب الكفاية لا يقول بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ، بل يقول بجريانه ، ويبطل هذه الدعوى المنقولة عن الشيخ قدس سره من لزوم التناقض ، ولكنّه يقول لو قلنا بكونها مانعة من الاجراء في غير المقام فهي لا تمنع في هذا المقام.

ص: 10


1- في المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : 543.
2- كفاية الأُصول : 313 - 314.
3- فوائد الأُصول 3 : 237 - 238.

الجهة الثالثة من جهات الخلاف بينهما قدس سرهما : هي أنّ صاحب الكفاية قدس سره (1) لمّا كان رأيه على عدم المانع هنا من إجراء الاستصحابات المثبتة للتكليف كما عرفت في الجهة الثانية ، ادّعى أمراً آخر ، وهو أنّ موارد تلك الاستصحابات بضميمة القطعيات من التكاليف هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، فتكون موجبة لانحلال العلم الاجمالي ، وشيخنا قدس سره (2) يمنع من هذه الدعوى ، ويقول إنّا لو سلّمنا عدم المانع من جريانها فلا تكون هي بضميمة ما ذكره موجبة للانحلال لقلّة تلك الموارد.

قلت : نعم إنّ تلك الموارد ربما كانت كافية في دفع المحذور الأوّل ، أعني الإجماع على عدم جواز الاهمال بالمرّة ، وفي دفع المحذور الثاني ، أعني لزوم الخروج من الدين في إجراء الأُصول النافية ، على تأمّل في ذلك ، نظراً لقلّة تلك الموارد ، مع فرض الرجوع في الباقي الذي هو المعظم إلى البراءة ، أمّا المحذور الثالث وهو العلم الاجمالي فهو باقٍ بحاله.

ثمّ إنّه يرد على صاحب الكفاية إيراد ثانٍ ، وهو عدم إمكان الرجوع إلى البراءة في أوّل شروعه في الاستنباط ، حيث بعد الاعتراف بعدم فعلية الشكّ في الموارد المتأخّرة ، وأنّ الاستصحابات في تلك الموارد المتأخّرة غير جارية فعلاً ، فكيف صحّ له أن يحكم فعلاً بانحلال العلم الاجمالي والرجوع إلى البراءة قبل تمامية الاستنباطات في جميع الموارد المفروض أنّها - أعني موارد الاستنباط - لا نهاية لها ، فلابدّ له أن يقول إنّ العلم الاجمالي الكبير لا ينحل فعلاً حتّى يستمرّ الاستنباط ويحصل للمجتهد بواسطة ما حصّله من الاستصحابات المثبتة

ص: 11


1- كفاية الأُصول : 314.
2- فوائد الأُصول 3 : 236 و 239.

والقطعيات بمقدار ذلك المعلوم الاجمالي ، فعلى المجتهد أن يعمل قواعد الانسداد إلى أن يحصل له ذلك المقدار ، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله : ومن الواضح أنّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال (1) ، بأن يكون مراده بالأحوال حالة الشخص في أوائل الاستنباط وحالته في أواخر الاستنباط ، فتأمّل.

وليس له قدس سره أن يقول : إنّ المجتهد فعلاً يعلم بأنّه سوف يستنبط من الأحكام بواسطة تلك الاستصحابات ما هو بذلك المقدار ، وذلك كاف في الانحلال والرجوع إلى البراءة فعلاً ، وإن لم تحصل له تلك الأحكام فعلاً ، فيكون ذلك نظير الانحلال على القول بالانفتاح من جهة ثبوت حجّية الأخبار ، فإنّ القائل بالانفتاح يرجع إلى البراءة في أوائل استنباطاته غايته أنّه بعد الفحص ، ومن الواضح أنّ ذلك - أعني رجوعه إلى البراءة - قبل أن يحصل من تلك الأخبار ما هو الكافي للانحلال.

لأنّه يقال له قدس سره : إنّ مجرّد علم الشخص بأنّ الشارع قد جعل خبر الواحد حجّة وأنّه واف بمعظم الفقه ، يوجب انحلال العلم الاجمالي إلى ما في بأيدينا من الأخبار ، غايته أنّه في المسائل التي يبتلى بها في أوائل استنباطاته ممّا هو في حدّ نفسه مجرى للبراءة ، يحتمل قيام بعض تلك الأخبار على ثبوت التكليف في تلك المسائل ، فيلزمه الفحص فيما بأيدينا من الأخبار ، وبعد الفحص وعدم العثور يرجع في تلك المسائل إلى البراءة على ما قرّر في محلّه (2) في وجوب الفحص الناشئ عن العلم الاجمالي.

ص: 12


1- كفاية الأُصول : 314.
2- فوائد الأُصول 4 : 278 - 280 ، وستأتي حواشي المصنّف قدس سره على ذلك البحث في المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 512 وما بعدها.

وهذه الطريقة غير جارية فيما هو محلّ الكلام من الاستصحابات المثبتة للتكاليف ، فإنّ الفقيه في أوائل استنباطاته غافل عمّا يأتي من الاستصحابات المثبتة للتكاليف ، إذ لو فرضنا أنّ ذلك الفقيه إذا لاحظ علمه بأنّه تحصل له فيما بعد استصحابات مثبتة للتكاليف ، كان ذلك مانعاً من إجرائه الاستصحاب في أوّل مورد من موارده ، لكونه حينئذ من تلك الأطراف المفروض التفاته إليها ، وأنّ بعضها مخالف للواقع.

والحاصل : أنّه لو كان المورد الذي ابتلي به من موارد أصالة البراءة لم يمكنه إجراء البراءة فيه ، للعلم الاجمالي الكبير لعدم انحلاله فعلاً ، ولا محصّل هنا للقول بأنّ ذلك العلم الاجمالي الكبير قد انحلّ إلى ما هو أصغر منه ليوجب الفحص ، فإنّ ذلك إنّما يمكن فيما بأيدينا من الأخبار ، دون ما فرضه من الاستصحابات التي لم يجر فعلاً شيء منها.

ويرد عليه قدس سره إيراد ثالث : وهو أنّا لو سلّمنا جريان الاستصحاب في أوائل الاستنباطات ، إلاّ أنّه ينبغي العدول عنه في أواخرها ، لأنّ الحكم الذي استنبطه في السابق لم يكن من قبيل الخروج عن محلّ الابتلاء ، بل هو باقٍ بحاله ، وهو يفتي فعلاً على طبقه ، وحينئذ يعود المحذور ، للعلم الاجمالي حينئذ بخطأ بعض تلك الفتاوى التي هو فعلاً جارٍ عليها ، المفروض استنادها إلى الاستصحابات التي علم فعلاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، وليس ذلك متوقّفاً على إجرائه الاستصحاب في المتأخرات ، بل هو قبل إجرائه فيها يعلم إجمالاً عند ابتلائه بها والتفاته إليها ببطلان فتواه السابقة أو فتواه اللاحقة ، وحينئذ لا يقدر أن يجري الاستصحاب في اللاحقة.

لا يقال : يجري هذا الإشكال في كلّ مجتهد ، إذ لا مجتهد إلاّويعلم أنّ

ص: 13

بعض فتاواه ولو موجبة جزئية مخالف للواقع.

لأنّا نقول : العلم بأنّ بعض الفتاوى مخالف للواقع غير العلم بكون بعضها بلا مدرك ، والأوّل لا يوجب سقوط تلك الفتاوى بخلاف الثاني ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، بل هو أسوأ منه ، لأنّه من قبيل العلم بأنّ جميع تلك فتاوى بلا مدرك لأنّ مدركها الاستصحاب ، والمفروض كونه غير حجّة في الأطراف.

ثمّ لو قلنا بأنّ العلم بأنّ بعض الفتاوى مخالف للواقع [ يوجب سقوطها ] أو فرضنا العلم بأنّ بعض الفتاوى كان بلا مدرك صحيح لتأتّى الإشكال المزبور ، بل هذا الإشكال جارٍ في القاطعين ، لأنّ كلّ إنسان يعلم إجمالاً بأنّ بعض قطعياته مخالف للواقع.

ومنه ينقدح إشكال آخر في القطعيات ، وهو أنّه كيف يجتمع القطع في كلّ مورد من موارده مع العلم الاجمالي بأنّ بعض تلك القطعيات على خلاف الواقع ، فإنّ هذا [ العلم ] الاجمالي يوجب طرو الشكّ على كلّ واحد من تلك القطعيات ، ولا مدفع لهذا الإشكال بحذافيره إلاّدعوى عدم اعتناء العقلاء بمثل ذلك العلم الاجمالي على الخلاف ، كما حقّق في محلّه (1) من إقامة البرهان على عدم تأثير العلم في الشبهات [ غير ] المحصورة ، وأنّ كلّ واحد من أطرافها لا يعامل معاملة الشكّ ، كما في شبهة وجود المضاف في الأطراف غير المحصورة كما نصّ عليه شيخنا قدس سره في الوسيلة (2) وشرحناه في محلّه ، اللّهمّ إلاّ أن يفرّق بين العلم الاجمالي على خلاف القطعيات والعلم الاجمالي على خلاف مجموع الفتاوى أو الشبهة

ص: 14


1- راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 185 وما بعدها.
2- وسيلة النجاة : كح / المسألة العاشرة [ لا يخفى أنّه قد رُمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

غير المحصورة ، بأن يقال إنّه لا أثر له في الأوّل دون الثاني ، فتأمّل.

وكيف كان ، فإنّ هذا المعنى أعني عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي في الأطراف الكثيرة ، لا يتأتّى فيما فرضه صاحب الكفاية من الاستصحابات المثبتة للتكليف ، فإنّها ليست بتلك الكثرة الموجبة لعدم اعتناء العقلاء بالعلم بكون بعضها على خلاف الواقع ، ولو كان الأمر كذلك لم يحتج إلى ما ذكره من عدم فعلية الشكّ بالنسبة إلى الاستصحابات اللاحقة ، فتأمّل.

قوله : وأمّا بطلان الاحتياط التام في جميع الوقائع المشتبهة ، فيدلّ عليه الإجماع وقاعدة نفي العسر والحرج ، بل اختلال النظام على ما سيأتي بيانه ، ولابدّ في المقام من زيادة بسط في الكلام ، فإنّ كثيراً من المباحث العلمية المذكورة في دليل الانسداد محلّها في هذا المقام ، ولأجل عدم خلط المباحث ينبغي تقديم أُمور ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الذي تقدّم كلّه كان في الوظائف المقرّرة للجاهل ، وأمّا الاحتياط نفسه فقد بسط الكلام فيه شيخنا الأُستاذ قدس سره وأطال الكلام فيه في النقض والإبرام كما لا يخفى على من راجع التحارير على ما فيها من بعض الاختلاف ، ولكن خلاصة الجميع أو فهرسته هو : أنّك قد عرفت أنّ ملخّص المقدّمة الثانية هو أنّ القاعدة الأوّلية بعد فرض انسداد باب العلم والعلمي على ما أفاده قدس سره هو الاحتياط وعدم الاهمال ، وذلك الاحتياط إمّا أن يكون شرعياً إن كان الدليل على عدم جواز الاهمال هو الإجماع ، أو لزوم المخالفة الكثيرة والخروج من الدين ، وإمّا أن يكون عقلياً إن كان الدليل على ذلك هو العلم الاجمالي.

وأمّا الدليل على عدم الاحتياط فقد حلّله قدس سره إلى أحد وجوه ثلاثة ، الأوّل :

ص: 15


1- فوائد الأُصول 3 : 239.

الإجماع على عدم وجوبه في جميع محتملات التكليف. الثاني : الإجماع على بطلانه وعدم جوازه ، ولو من جهة القطع من مذاق القوم على أنّ بناءهم على أنّ الشارع لا يريد أن تكون كيفية إطاعة أحكامه بطريق الاحتمال. الثالث : هو كون الاحتياط موجباً لاختلال النظام أو العسر والحرج.

ولا يخفى أنّ الأمر الأوّل من الأُمور التي ذكرها بقوله ص 87 (1) راجع إلى أنّ موجب الاحتياط ماذا ، وهو الإجماع على عدم الاهمال ، أو كونه موجباً للخروج من الدين ، أو العلم الاجمالي ، وذلك حاصل المقدّمة الثانية من مقدّمات الانسداد.

ومرجع الأمر الثالث من الأُمور المذكورة الذي ذكره في ص 89 (2) إلى أنّ الموجب لسقوط الاحتياط ماذا ، وهو الإجماع بكلا وجهيه ، واختلال النظام أو العسر والحرج ، وذلك حاصل المقدّمة الثالثة من مقدّمات الانسداد.

أمّا الأمر الثاني وهو ما ذكره في ص 88 (3) فالأولى أن يضرب عليه ، إذ لا دخل له في المقصود ، أعني ملاحظة الوجوه في إسقاط الاحتياط مع الوجهين في أصل وجوب الاحتياط.

وعلى كلّ حال ، أنّ المتحصّل من ضمّ هذه الوجوه الثلاثة إلى الاحتمالين في الاحتياط من كونه شرعياً أو عقلياً صور ست :

الأُولى : أن يكون الاحتياط شرعياً ويقوم الإجماع على عدم جوازه.

الثانية : أن يكون الاحتياط عقلياً ويقوم الإجماع أيضاً على عدم جوازه.

ص: 16


1- فوائد الأُصول 3 : 239.
2- فوائد الأُصول 3 : 245.
3- فوائد الأُصول 3 : 243.

واللازم في هاتين الصورتين هو الكشف ، فإنّ الاحتياط سواء كان شرعياً أو كان عقلياً ، بعد أن قام الإجماع على عدم جوازه ، كان ذلك كاشفاً عن أنّه قد جعل لنا منجّزاً يوجب ارتفاع ذلك الحكم الشرعي وانحلال ذلك العلم الاجمالي ، وذلك المنجّز بمعونة المقدّمة الرابعة القائلة بقبح ترجيح المرجوح على الراجح يكون هو الظنّ ، فتكون النتيجة على هاتين الصورتين هي الكشف ، وقد أشار في هذا التحرير إلى هاتين الصورتين بقوله : فإنّه على الوجه الثاني تكون النتيجة حجّية الظنّ شرعاً الخ (1).

الصورة الثالثة : أن يكون الاحتياط شرعياً ، ويقوم الإجماع على مجرّد عدم وجوبه في جميع المحتملات ، فلا يتعيّن كون النتيجة حينئذ هي الكشف ، بل إنّا إذا ضممنا كلاًّ من هذين المطلبين إلى الآخر يدور الأمر بين أن يكون الشارع قد جعل لنا الظنّ حجّة شرعية وهي الكشف ، أو أنّه قد جعل لنا الاحتياط في بعض محتملات التكليف ، فيكون الأمر في هذه الصورة مردّداً بين الكشف وتبعيض الاحتياط الشرعي ، وقد أشار إلى هذه الصورة بقوله : وإن كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقائع - إلى قوله - بل يمكن أن يكون بجعل شرعي ، الخ (2).

الرابعة : أن يكون الاحتياط عقلياً ويقوم الإجماع على عدم وجوبه ، ولازم هذه الصورة هو التبعيض في الاحتياط ، حيث إنّ العلم الاجمالي وإن اقتضى الاحتياط التامّ ، إلاّ أنّ الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في تمام المحتملات يوجب إسقاطه في بعض الاحتمالات دون بعض ، وتكون النتيجة حينئذ عقيمة.

وقد أشار إلى هذه الصورة بقوله : فإنّه لو كان الوجه - إلى قوله - وعلى هذا تبقى

ص: 17


1- فوائد الأُصول 3 : 246.
2- فوائد الأُصول 3 : 248 - 249.

مقدّمات الإنسداد عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدّمة الرابعة الخ (1).

قلت : قد يقال : إنّ استلزام العلم الاجمالي للاحتياط في تمام الأطراف غير قابل للتصرّف الشرعي بنفي الاحتياط في بعض الأطراف ، وليس ذلك من قبيل العسر والحرج الموجب لرفع التكليف على تقدير المصادفة ، فتأمّل. لإمكان القول بأنّ الترخيص الشرعي المستفاد من الإجماع ولو بالنسبة إلى بعض غير معيّن يكون حاله حال دليل نفي الحرج ، في كونه رفعاً لذلك التكليف في تلك المحتملات على تقدير المصادفة. ثمّ إنّ المراد بعقم النتيجة هو عدم إثباتها حجّية الظنّ شرعاً ، لكن لا خصوصية لهذه الصورة عن باقي الصور ما عدا الصورتين الأُوليين. وعلى كلّ حال ، هي مقتضية لتبعيض الاحتياط.

الصورة الخامسة : أن يكون الاحتياط شرعياً ، ويكون في قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، بمعنى أنّا نستدلّ على عدم جواز الاهمال بالإجماع أو لزوم المخالفة الكثيرة ، المفروض أنّ لازمها الأوّلي هو أنّ الشارع قد جعل لنا الاحتياط منجّزاً ، لكن كان الاحتياط موجباً لاختلال النظام أو العسر والحرج.

وفي هذه الصورة قد استشكل شيخنا قدس سره من تحكيم أدلّة العسر والحرج على وجوب الاحتياط ، نظراً إلى أنّ الاحتياط حينئذ حكم شرعي في مورد العسر والحرج ، فلا ترفعه أدلّة العسر والحرج ، وعليه فينبغي أن يلتزم قدس سره في هذه الصورة بلزوم الاحتياط وإن لزمه العسر والحرج ، غايته أنّ ما كان منه بمقدار اختلال النظام لا يكون الاحتياط واجباً شرعاً ، هذا على ما يظهر من هذا التحرير بقوله : ولو كان الوجه ، الخ (2)

ص: 18


1- فوائد الأُصول 3 : 248.
2- فوائد الأُصول 3 : 249.

ولكن في تقريرات السيّد (1) أجرى عليها حكم الصورة الثالثة ، بتقريب أنّه بعد سقوط الاحتياط الموجب لاختلال النظام ، يتردّد الأمر بين كون المنجّز هو الاحتياط في الباقي ولو اشتمل على الحرج ، أو أنّ المنجّز هو حجّية الظنّ شرعاً فتأمّل.

الصورة السادسة : أن يكون الاحتياط عقلياً بحكم العلم الاجمالي ، ويكون في قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، وهذه الصورة هي محلّ البحث بين شيخنا قدس سره وصاحب الكفاية قدس سره ، وقد أشار إليها في هذا التحرير بقوله : وهذا بخلاف ما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقائع الخ (2).

ثمّ إنّه قدس سره أفاد ما حاصله إنكار الحكومة في هذا المقام ، وإنّما الأمر دائر في هذه الصورة بين تبعيض الاحتياط والكشف ، وأنّ تبعيض الاحتياط لا دخل له بالحكومة ، فإنّ محصّل الحكومة هو أنّه بعد تعذّر الاطاعة العلمية للتكليف الواقعي لو دار الأمر بين الاطاعة الظنّية والاطاعة الاحتمالية ، فالعقل حاكم بلزوم الاطاعة الظنّية ، كما في موارد تردّد القبلة بين جهات أربع وضاق الوقت عن أربع صلوات ولا يسع إلاّواحدة ، وكانت إحدى الجهات مظنونة القبلة ، فالعقل حاكم بعد التنزّل عن الاطاعة العلمية بلزوم الاطاعة الظنّية.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ممّا كانت لنا فيه تكاليف واقعية منتشرة في الموارد التي يظنّ فيها بالتكليف ، والموارد التي يشكّ به فيها ، والموارد التي نظنّ بعدمه فيها ليكون احتمال التكليف فيها موهوماً ، وقد سقط مراعاة تلك التكاليف أجمع ، وكانت الوظيفة هي مراعاة التكاليف في إحدى هذه الطوائف وإسقاطه في

ص: 19


1- أجود التقريرات 3 : 231 ، 235 ( قوله قدس سره : فتلخّص ... ).
2- فوائد الأُصول 3 : 251.

البواقي ، فإنّ العقل وإن عيّن الأُولى للزوم المراعاة والأخيرتين لعدم المراعاة ، إلاّ أنّ ذلك ليس من باب حكم العقل بتقدّم تحصيل إطاعة التكليف ظنّاً على إطاعته احتمالاً مساوياً أو موهوماً ، ليكون من باب الحكومة العقلية ، بل هو من باب أنّ التكاليف المظنون وجودها أولى بالمراعاة في مقام المزاحمة من التكاليف المشكوك أو الموهوم وجودها ، فيكون حكم العقل بلزوم الأخذ بالمظنونات من باب تبعيض الاحتياط أجنبياً عن حكمه بلزوم الأخذ بما يظنّ انطباق المعلوم بالاجمال عليه وإسقاط ما يحتمل انطباقه عليه.

وإن شئت فقل : إنّ هذا الباب الذي نحن فيه الذي هو باب تبعيض الاحتياط من قبيل التزاحم في مقام المراعاة بين التكاليف الواقعية المحتمل وجودها في المظنونات مع التكاليف الواقعية المحتمل وجودها في الطائفتين الباقيتين ، أمّا ذلك الباب الذي هو باب الحكومة العقلية من باب التزاحم بين الاحتمالات ، لأنّ المحتمل الواقعي فيه واحد لا تعدّد فيه ، فلا يكون من باب تبعيض الاحتياط ، بل يكون من باب التوسّط في التنجّز ، وأنّ حكم العقل [ قائم ] بلزوم الأخذ بالطرف المظنون انطباق ذلك التكليف الواحد عليه.

قلت : يمكن التأمّل في هذا الفرق ، بل الظاهر أنّ باب اشتباه القبلة أيضاً من باب تبعيض الاحتياط. مضافاً إلى إمكان القول بأنّ المقدّم فيما نحن فيه أوّلاً هو الجري على التبعيض بحسب المحتمل والترجيح بأقوائية التكليف المحتمل ، فإنّ بعض التكاليف معلوم الأهميّة على غيره ، فيكون الترجيح لما هو معلوم الأهميّة ، فإن وفى فهو وإلاّ ضمّ إليه ما يحتمل الأهمية ، فإن وفى وإلاّ رجّح بحسب قوّة الاحتمال وضعفه.

أمّا ما أُشير إليه في هذا التحرير من وجه التفرقة بقوله : فإنّه - مضافاً إلى أنّ

ص: 20

الاتيان بالمظنون لا يكاد يحصّل الامتثال الظنّي مع ترك الاحتياط في المشكوكات والاقتصار على فعل المظنونات ، فإنّ المشكوكات مع المظنونات سيّان في كونهما من أطراف العلم الاجمالي - مجرّد تعلّق الظنّ بالتكاليف في جملة من الوقائع المشتبهة لا يلازم الظنّ بانحصار التكاليف في المظنونات ليحصل الامتثال الظنّي بالعمل بالمظنونات الخ (1) فلعلّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض هو كون المظنونات بمقدار المعلوم الاجمالي ، على وجه لو عمل بها المكلّف لا يبقى محذور في الرجوع إلى أصالة البراءة في البواقي ، ولا ريب حينئذ في أنّ العمل بها يوجب تحقّق الاطاعة الظنّية ، فيكون الظنّ بوجود التكاليف في تلك الوقائع ملازماً للظنّ بانحصار ما هو المعلوم بالاجمال فيها. نعم لو كانت المظنونات غير وافية بمقدار المعلوم بالاجمال لكان الظنّ بوجود التكليف في تلك الموارد غير ملازم للظنّ بالانحصار فيها ، بل كان مقروناً بالعلم بعدم الانحصار ، فتأمّل.

ولست أقول إنّ الظنّ حجّة عقلية في حال الانسداد كالقطع في حال الانفتاح ، بل أقول إنّه من تبعيض الاحتياط كما أفاده قدس سره ، لكنّي أقول إنّ الظنّ في تلك الموارد - أعني مسألة القبلة ومسألة الفوائت - أيضاً من باب تبعيض الاحتياط ، ولكنّهما معاً من باب كون الاطاعة الظنّية مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، وإن كان كلّ من المسألتين وما نحن فيه من باب تبعيض الاحتياط ، فإنّ كون الأخذ بالمظنونات فيما نحن فيه وفي ذينك البابين من باب ترجيح الاطاعة الظنّية على غيرها في مقام المزاحمة ، لا ينافي كون ذلك من باب تبعيض الاحتياط ، فإنّ الجميع من باب التبعيض ، ولكن العقل يرجّح الظنّ على غيره في مقام تعيّن التبعيض ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 21


1- فوائد الأُصول 3 : 278.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ أساس القول بالكشف وقوامه إنّما هو الإجماع على عدم صحّة الاحتياط ، وأنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتمال ، ولكن الاعتماد على هذا الإجماع المنقول مشكل مع الاعتراف بأنّه لم يوجد في كلمات القوم ، وإنّما استفيد من مذاقهم في الفقه ، فإنّه لقائل أن يقول : إنّه لا يزيد على نسبة الإجماع إليهم في الحكم لإجماعهم على القاعدة التي تقتضيه ، أو إجماعهم على حجّية خبر العادل مع فرض وجود الخبر الدالّ على ذلك الحكم.

وإن شئت فقل : إنّ نسبة الإجماع إليهم على بطلان الاحتياط مع الاعتراف بكونه غير موجود في كلماتهم وأنّه يعرف ذلك من مذاقهم ، لا تزيد على دعوى القطع بالحكم المذكور ، فلا يمكن أن يجعل دليلاً على المسألة بحيث يكون ملزماً للخصم ، غايته أنّه يكون حجّة على القاطع بذلك. مع أنّا لو سلّمنا وجود مثل هذا الإجماع في كلماتهم لكان من المحتمل قويّاً أنّه مختصّ بصورة التمكّن من تحصيل العلم بالأحكام الواقعية أو ما يقوم مقامه ، أمّا مع فرض الانسداد كما هو محلّ الكلام فهو ممنوع أشدّ المنع ، إذ لا وجه للحكم بعدم صحّة الاحتياط في هذه المرحلة أعني مرحلة الانسداد ، بل يمكن بحسب القاعدة المنع من بطلانه حتّى في صورة الانفتاح ، فإنّ من صار بناؤه على أن يمتثل كلّ ما يحتمل أنّه يريده المولى ، لا وجه للحكم ببطلان عمله إلاّبدليل قوي ، إذ لا يعدّه العقل مقصّراً في حقّ مولاه ، إلاّفي باب العبادات لشبهة نيّة الوجه ونحوها ممّا حقّق في محلّه (1) عدم اعتباره حتّى في العبادات ، فضلاً عن باقي الأحكام الوضعية والتحريمية والواجبات التوصّلية ، هذا إذا كان مرجع الإجماع على بطلان الاحتياط إلى

ص: 22


1- فوائد الأُصول 3 : 66 - 67 ، وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك البحث تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 165 وما بعدها.

الإجماع على بطلان العمل الاحتياطي ، وإن كان مرجعه إلى الحرمة التكليفية فالأمر فيه أغرب.

وبالجملة : كلامنا على فرض الانسداد وعدم وجود العلم والعلمي ، وهذا الإجماع المنقول من أضعف الأدلّة حتّى على القول بالانفتاح ، إلاّ أنّ يدّعى القطع بمقتضاه ، وحينئذ تخرج المسألة عن الاستدلال إلى دعوى القطع ، وهو لا يكون حجّة إلاّعلى القاطع. نعم هناك أمر نقطع به ، وهو أنّ الشارع بعد جعله الأحكام لم يوكلنا إلى الاحتياط ، بل لابدّ أنّه قد جعل لنا طرقاً إليها إمضاء أو تأسيساً ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بما نحن فيه ، من دعوى بطلان الاحتياط على تقدير انسداد باب العلم بالأحكام وبالطرق الموصلة إليها.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة في دعوى الإجماع على جواز الرجوع إلى البراءة في المشكوكات والموهومات الذي استنتج منه قدس سره انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف ، وأنّ الانحلال لا يكون إلاّمن جهة الظنّ ، كما يظهر ذلك من مباحثه مع الشيخ قدس سره بقوله : ثانيهما قيام الإجماع على اعتبار الأُصول النافية في المشكوكات الخ (1) فإنّ هذا الإجماع قابل للمنع ، إذ ليس في كلماتهم ما يظهر منه الإجماع المذكور ، وكفاك شاهداً على ذلك قول الأخباريين بالاحتياط في كثير من الشبهات ، ولو سلّم الإجماع المذكور فإنّما هو عند الانفتاح دون الانسداد.

وبالجملة : أنّ النفس لا تركن إلى دعوى هذه الإجماعات في قبال العلم الاجمالي القطعي الذي يوجب حكم العقل قطعياً بوجوب الاحتياط في أطرافه ، ولا يقف في قبال هذا العلم الاجمالي في اقتضائه الاحتياط في تمام الأطراف إلاّ مسألة اختلال النظام أو العسر والحرج.

ص: 23


1- فوائد الأُصول 3 : 272.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك الخدشة في النحو الأوّل من دعوى الإجماع ، أعني دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ في جميع الأطراف ، فإنّه مضافاً إلى ما عرفت من الاعتراف بأنّه لم يوجد في كلمات القوم وإنّما يستفاد ذلك الحكم أعني عدم وجوب الاحتياط التامّ من مذاقهم ، ومضافاً أيضاً إلى أنّه على تقدير وجوده في كلماتهم فمن المحتمل أن يكون نظرهم إلى حال الانفتاح ، من الممكن أن يكون نظرهم في الحكم بعدم وجوب الاحتياط التامّ إلى ما ذكر من اختلال النظام أو لزوم العسر والحرج.

ومن ذلك يظهر لك إمكان الخدشة في دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية ، فإنّ ذلك الحكم وإن كان مقطوعاً به أو فرضنا التصريح به في كلماتهم ، إلاّ أنّه من المحتمل قوياً أن يكون المستند فيه هو العلم الاجمالي الارتكازي الموجود في الأذهان ، ولو من جهة العلم بأنّا لسنا كالبهائم وأنّ لنا شريعة قد صدع بها النبي صلى اللّه عليه وآله وبيّنها لنا أئمّتنا ( صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين ). ولو فرض أنّ أحداً منّا لا يقول بمنجّزية العلم الاجمالي ، لكان هذا المطلب - وهو المنع من الرجوع إلى الأُصول النافية عند الانسداد - من أقوى الايرادات عليه ، وإن أمكنه الجواب عنه بالفرق بين المقامين بالاعتماد على الإجماع على [ عدم ] جواز الرجوع إلى البراءة المتحصّل من الإجماع على عدم جواز الإهمال ، بأن يقول إنّ الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة يكشف عن أنّ الشارع أوكل المكلّفين إلى ما تحكم به عقولهم من الاحتياط ولو بعد أن فهموا من ذلك الحكم المجمع عليه ، أعني عدم الترخيص الشرعي ، فإنّهم لو بقوا هم والعلم الاجمالي لقلت بأنّهم لا تحكم عقولهم بالاحتياط ، لكن بعد أن حكم الشارع بعدم الترخيص تكون عقولهم حاكمة بالاحتياط ومنجّزية الاحتمال عقلاً

ص: 24

وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى ، وحينئذ يكون الاحتياط عقلياً لا شرعياً.

وبالجملة : أنّ دعوى كون الاحتياط شرعياً في المقام قابلة للمنع ، كما أنّ دعوى [ الإجماع على ] عدم وجوبه أو على عدم صحّته قابلة للمنع أيضاً ، فلم يبق عندنا إلاّ الاحتياط العقلي الناشئ عن العلم الاجمالي إمّا ابتداءً أو بعد دعوى الإجماع على عدم الترخيص ، كما أنّه ليس لنا في قبال هذا الاحتياط العقلي إلاّ مسألة اختلال النظام أو العسر والحرج ، بل سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) أنّه لا تصل النوبة إلى اختلال النظام ، فلا تكون النتيجة حينئذ إلاّلزوم تبعيض الاحتياط.

على أنّا لو سلّمنا الإجماع على بطلان الاحتياط أو على عدم وجوبه ، فأقصى ما فيه هو الكشف عن وجود حجّة شرعية قد جعلها الشارع حجّة لنا في هذا الحال ، وهي غير منحصرة في الاحتمال الظنّي والشكّي والوهمي حتّى يكون تعيّن الأوّل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلِمَ لا نقول إنّ الحجّة المجعولة لنا في ذلك الحال هو الخبر الموثوق به ، ولو من باب الكشف عن أنّ الشارع قد أمضى الطريقة العقلائية في خصوص هذا الحال ، أعني حال الانسداد ، فتأمّل.

هذا ، مع الغض عن العلم الاجمالي بوجود ما هو الصادر فيها ممّا يكون بمقدار المعلوم بالاجمال ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب سقوط الاحتياط في العلم الاجمالي الكبير.

بل يمكن أن يقال : إنّ العلم الاجمالي في تلك الأخبار يوجب سقوط الإجماع المدّعى على حرمة الرجوع إلى الأُصول النافية أو حرمة المخالفة الكثيرة عن الصلاح للكاشفية عن جعل الاحتياط أو عن جعل مطلق الظنّ حجّة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي في هذه الدائرة من الأخبار أو بضمّ باقي الأمارات إليها ، صالح لأن

ص: 25


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 34.

يكون هو المستند في عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية الكثيرة ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه لا يكون دليل الانسداد إلاّعبارة عن العلم الاجمالي بالتكاليف ، وأنّه ليس لنا طريق في الخروج عن العهدة إلاّ الاحتياط التامّ لكنّه لأجل اختلال النظام أو العسر والحرج وجب إسقاطه بمقدار ما يرتفع به المحذور المذكور ، وحينئذ يشكل الأمر في تعيين المظنونات دون غيرها ، فإنّ الابتلاء بتلك الموارد المحتمل وجود التكليف فيها تدريجي حتّى بالنسبة إلى الفقيه الذي شغله الاستنباط ، وعليه فيكون اللازم أوّلاً هو الأخذ بالاحتياط في كلّ مورد يبتلى به وإن كان احتمال التكليف فيه مشكوكاً أو موهوماً ، إلى أن يصل الاحتياط إلى حدّ يوجب المحذور السابق الذي أوّل درجاته هو لزوم الحرج ، فيترك الاحتياط حينئذ في الموارد التي يحصل له الابتلاء بها بعد ذلك وإن كان احتمال التكليف فيها مظنوناً ، وحينئذ لا تصل النوبة إلى كون الاحتياط مخلاًّ بالنظام.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الفقيه أوّل دخوله في الاستنباط يلتفت إلى جميع محتملات التكليف ولو على سبيل الإجمال ، ويلتفت أيضاً إلى أنّ الاحتياط في جميع تلك الموارد مشتمل على المحذور المذكور ، فإذا التفت مع ذلك إلى أنّ جملة من تلك الموارد مظنونة ولو بواسطة التفاته الاجمالي إلى ما في الكتب من الأخبار وباقي الأمارات ، وأنّ تلك الموارد ممّا يحصل له الظنّ بوجود التكليف فيها عند مراجعتها ، فهو من أوّل الأمر يحكم عقله بالاحتياط في خصوص تلك الموارد فتأمّل ، وسيأتي (1) ما يوضّح بعض هذه الجهات إن شاء اللّه تعالى (2)

ص: 26


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 34.
2- يبتني دليل الانسداد على اجماعات منقولة متضاربة. 1 - فإجماع على وجوب الاحتياط شرعاً وهو مأخوذ من : 2 - الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأُصول النافية. 3 - إجماع على عدم صحّة الاحتياط. 4 - إجماع على عدم وجوبه. 5 - إجماع على الرجوع إلى أصالة البراءة يستكشف منه حجّية الظنّ. والذي تلخّص من جميع ما حرّرناه : أنّ هذه الإجماعات الخمسة المتضاربة لا تعدو أن تكون مفيدة للظنّ ، فلا يصلح الاستناد إليها في الدليل العقلي المسوق لاثبات حجّية الظنّ المعبّر عنه بدليل الانسداد. وأمّا دعوى القطع بمقتضى هذه الإجماعات أو بعضها ، فلا يصحّ جعلها دليلاً ، بل لا تكون حجّة إلاّعلى القاطع. وبعد إسقاط ذلك كلّه لم يبق لنا إلاّما ذكرناه من العلم الاجمالي الموجب في حدّ نفسه للاحتياط في تمام الأطراف ، وليس في قباله إلاّ العسر والحرج المقتضي لتبعيض الاحتياط بالنحو الذي ذكرناه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون المتعيّن بعد فرض الانسداد هو الصورة السادسة ، فلاحظ وتأمّل. [ ثمّ إنّه قدس سره لخّص الصور الست بما يلي : ] 1 - لو كان الاحتياط شرعياً وقام الإجماع على عدم جوازه ، كانت النتيجة هي الكشف عن حجّية الظنّ شرعاً. 2 - لو كان الاحتياط عقلياً وقام الإجماع على عدم جوازه ، كانت النتيجة هي الكشف عن حجّية الظنّ شرعاً. 3 - لو كان الاحتياط شرعياً وقام الإجماع على عدم وجوبه ، ردّده شيخنا قدس سره بين الكشف والتبعيض. 4 - لو كان الاحتياط عقلياً وقام الإجماع على عدم وجوبه ، تكون النتيجة هي التبعيض ، وسمّاها شيخنا قدس سره عقيمة. 5 - لو كان الاحتياط شرعياً وفي قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، في اختلال النظام يسقط الاحتياط التامّ ويتبعّض ويحتمل الكشف ، وفي العسر والحرج يبقى الاحتياط وإن لزم العسر والحرج ، لكن في تحريرات السيّد سلّمه اللّه ردّد بين الاحتياط وإن لزم العسر وبين الكشف. 6 - لو كان الاحتياط عقلياً وفي قباله اختلال النظام أو العسر والحرج ، تكون النتيجة هي التبعيض وهي محلّ النزاع مع الكفاية [ منه قدس سره ].

ص: 27

قوله : فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة ، ولا يصحّ إيكال الأمر إلى العقل ، فإنّ العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلاً أو إجمالاً ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ العقل بعد اطّلاعه على حكم الشارع بعدم جواز الإهمال الذي هو عبارة عن حكمه بعدم الترخيص ، وأنّ الشارع لم يتنازل عن أحكامه في هذا الحال ، يحكم بلزوم الاحتياط بمجرّد الاحتمال ، فيكون الاحتمال حينئذ منجّزاً بحكم العقل ، فيمكن إيكال الشارع الأمر إلى العقل بعد أن فرض الحكم الشرعي بعدم الترخيص. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : ولا إشكال أنّهما يقتضيان عقلاً نصب الشارع طريقاً الخ.

قوله : فلابدّ أوّلاً من قطع النظر عن العلم الاجمالي ، وفرض كون جميع الوقائع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الاجمالي منجّزاً للتكليف كما هو رأي بعض ... الخ (2).

كيف يمكن فرض كون جميع الوقائع من الشبهات البدوية ، مع العلم بأنّ الشارع لم يتنازل عن أحكامه ، ولم يرخّص في مخالفتها. نعم يمكن فرض كون

ص: 28


1- فوائد الأُصول 3 : 239.
2- نفس المصدر.

غضّ النظر عن العلم الاجمالي غير منجّز للتكليف بناءً على رأي ذلك البعض (1).

قوله : والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلاّ الاحتياط ... الخ (2).

لا يستفاد من هذه الجمل في هذا المقام إلاّكون الاحتياط محرزاً بنفسه للواقع ، بمعنى أنّ العمل عليه ولو مع قطع النظر عن جعله شرعاً يكون محرزاً للواقع ، بخلاف الظنّ فإنّه بنفسه لا يكون العمل على طبقه محرزاً للواقع ما لم يجعله الشارع حجّة ، ولكن أين هذا ممّا هو المطلوب من الفرق بينهما بكون الاحتياط واصلاً بنفسه ، وكون الظنّ واصلاً بطريقه ، فإنّ كون الاحتياط موصلاً بنفسه للواقع بخلاف الظنّ ، غير ما هو المراد من كونه واصلاً بنفسه بخلاف الظنّ.

فالأولى في ترجيحه على الظنّ هو دعوى كونه أتمّ إحرازاً ، وأوصل إلى الواقع من الظنّ. أو يقال : بعد تسليم أنّ حكم الشارع بعدم الترخيص كاشف عن جعل طريق منجّز ، يدور الأمر في ذلك الطريق المنجّز بين الاحتياط والظنّ من دون ترجيح بينهما ، لكن حيث قام الدليل على عدم الاحتياط يكون المتعيّن [ هو الظنّ ].

ولكن التحقيق : أنّ جعل عدم الترخيص شرعاً لا يستكشف [ منه ] إلاّ أنّ الشارع يطالب في هذا الحال بأحكامه ، وأنّه لم يتنازل عنها ، وذلك موجب لتنجّزها بمجرّد الاحتمال ، وهو معنى الاحتياط العقلي ، فيكون هذا الاحتياط

ص: 29


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والظاهر أنّها من سهو القلم ، والمراد بها هو الشقّ الثاني المذكور في المتن أي : فرض عدم منجّزية العلم الاجمالي ، فلاحظ ].
2- فوائد الأُصول 3 : 240.

الناشئ عن جعل عدم الترخيص بمنزلة الاحتياط الناشئ عن العلم الاجمالي ، فنحتاج إلى سدّ بابه بأحد الوجوه الآتية. وما أدري كيف يكون هذا الإجماع على عدم جواز الاهمال - أعني عدم الترخيص الشرعي - كاشفاً عن جعل الاحتياط شرعاً ، في حين دعوى الإجماع من الناحية الأُخرى على عدم جواز الاحتياط ، أو على عدم وجوبه. فالأولى أن يقال كما أشرنا إليه غير مرّة : إنّ الاحتياط لا يكون إلاّ عقلياً ، سواء كان دليل المقدّمة الثانية هو الإجماع أو لزوم الخروج أو العلم الاجمالي ، لكن هذا الاحتياط لا يمكن الالتزام به للأدلّة المتقدّمة (1).

والذي يحصل فعلاً للنظر القاصر قبل الدخول في المقدّمة الثالثة ، هو أنّ الكشف أو الحكومة لا يؤخذ من دليل المقدّمة الثانية ، أعني الإجماع والخروج من الدين أو العلم الاجمالي ، بل مأخذ هذين الوجهين أعني الكشف والحكومة ، هو أنّ الدليل على إبطال الاحتياط الآتي من ناحية حكم الشارع بالمنع من ترك التعرّض للأحكام ، أو من ناحية العلم الاجمالي ، هل هو دعوى أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتمال والاحتياط ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّه قد جعل الظنّ حجّة ، أو هو دعوى كونه موجباً للعسر والحرج ، فلابدّ من القول بالتبعيض والأخذ بالمظنونات من باب الاحتياط ، من دون فرق في ذلك الاحتياط المبعّض بين كونه بحكم الشرع ، كما هو مقتضى الدليلين الأوّلين لعدم جواز الاهمال ، أو كونه بحكم العقل كما هو مقتضى الدليل الثالث الذي هو العلم الاجمالي ، فلاحظ وانتظر ما يتحصّل في المقدّمة الثالثة إن شاء اللّه تعالى.

لا يقال : إذا كان الدليل على الاحتياط هو العلم الإجمالي ، لم يكن للشارع تصرّف في ذلك الاحتياط بالمنع عنه.

ص: 30


1- في الحاشية السابقة في الصفحة : 15 وما بعدها.

لأنّا نقول : ليس ذلك المنع من العمل بالاحتياط إلاّكناية عن لازمه ، الذي هو جعله لحجّية الظنّ الموجب لانحلال العلم الاجمالي ، فنحن نستكشف من حكمه بأنّي لا أُريد امتثال أوامري بطريق الاحتمال ، أنّه قد جعل لنا حجّة شرعية في المقام وهي الظنّ ، وذلك يوجب انحلال العلم الاجمالي كما يوجبه جعله لحجّية خبر الواحد.

ثمّ لا يخفى أنّ الإجماع على المنع من الاهمال ، وكذلك المنع من الخروج ليس ذلك إلاّمن قبيل حكومة العقل بالامتثال الذي هو عبارة عن لزوم الاطاعة وحرمة المعصية ، ومحصّل ذلك في المقام هو الاحتياط بحكم العقل ، وحينئذ يتأتّى التبعيض لأجل العسر والحرج ، والنتيجة هي الحكومة ، أو لأجل أنّ الشارع لا يريد الامتثال الاحتمالي ، الكاشف عن جعله الظنّ حجّة ، فتكون النتيجة هي الكشف. ولو سلّمنا كون ذلك الحكم بهذين الدليلين - أعني الإجماع وما بعده - حكماً شرعياً الذي هو عبارة عن وجوب الاحتياط ، لتأتت حينئذ طريقة الحكومة وطريقة الكشف ، أمّا الأُولى فبدعوى العسر والحرج وتبعيض ذلك الاحتياط الواجب شرعاً وحصره بالمظنونات. وأمّا الثاني فبدعوى أنّ الشارع لا يرضى بالاطاعة الاحتمالية ، ومع ذلك يمنعنا من الاهمال ، فذلك كاشف عن أنّه قد جعل لنا الظنّ حجّة شرعية.

قوله : وأمّا المقدّمة الثالثة ، وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقرّرة للجاهل ، فقد عرفت أنّها ثلاثة ، الأولى التقليد ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الوظائف المقرّرة حتّى التقليد ، إن كانت من جملة ما انسدّ فيه باب العلم والعلمي ، كانت المقدّمة المذكورة ساقطة بالمرّة ، وإنّما يحسن الكلام

ص: 31


1- فوائد الأُصول 3 : 234.

على هذه المقدّمة إذا تصوّرنا الانفتاح في تلك الوظائف ، وعلى هذا التقدير نقول إنّه لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التقليد ، لما أفاده قدس سره.

أمّا الأُصول النافية من البراءة والاستصحابات النافية ، فعلى الظاهر أنّه لا ينبغي إدخالها في هذه المقدّمة ، بل هي داخلة في المقدّمة الثانية ، لأنّ أغلب موارد احتمال التكليف تكون مورداً للأُصول النافية ، فيلزم من الرجوع فيها إلى الأُصول النافية ما تقدّم في المقدّمة الثانية من كونه خلاف الإجماع ، أو كونه موجباً للمخالفة الكثيرة الموجبة للخروج من الدين ، أو المخالفة لما نعلمه من اهتمام الشارع بالأحكام ، أو كونه موجباً للمخالفة القطعية للعلم الاجمالي.

أمّا أصالة التخيير ، فلأجل انحصارها في موارد التردّد بين المحذورين وهي قليلة جدّاً ، فلا يكون الرجوع إليها في تلك الموارد مؤثّراً فيما نحن بصدده من دعوى الانفتاح أو دعوى الانسداد ، ولو سلّم كثرة تلك الموارد بحيث إنّه يعلم إجمالاً بمخالفة الكثير منها للواقع ، توجّه عليها ما توجّه على الرجوع إلى الأُصول النافية من محذور مخالفة الإجماع ، ولزوم الخروج من الدين ، ومنافاته لاهتمام الشارع بأحكامه ، ومخالفته للعلم الاجمالي.

وأمّا الأُصول المثبتة ، فإن كانت هي أصالة الحرمة في الدماء والأموال والفروج ، فلا مانع على الظاهر من الرجوع إليها ، إلاّ أنّها لا توجب انحلال العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في غير الموارد المذكورة ، كما أنّه لا ينافيه العلم الاجمالي بعدم التكليف في جملة من تلك الموارد ، إذ ليست هي - أعني أصالة الحرمة في تلك الموارد - من قبيل الأُصول الاحرازية.

وأمّا أصالة الاشتغال في موارد الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ففيها أوّلاً : ما أفاده الأُستاذ قدس سره من أنّ المختار هو الرجوع في ذلك إلى البراءة الشرعية.

ص: 32

وثانياً : أنّها لا تنفع في انحلال العلم الاجمالي ودفع محاذير المقدّمة الثانية ، لقلّة مواردها وانحصارها في طائفة خاصّة من محتملات التكاليف. فينحصر الكلام في هذه المقدّمة بالاستصحابات المثبتة للتكليف ، ولا إشكال في أنّها لا توجب انحلال العلم الاجمالي الكبير ، ولو ضممنا إليها المعلومات القطعية من الأحكام ، إذ لا يكون مجموع ما علم قطعياً من الأحكام وما جرت فيه الاستصحابات المثبتة بمقدار ذلك المعلوم الاجمالي الكبير.

وأمّا ما أشكل به شيخنا قدس سره (1) على هذه الاستصحابات من العلم الاجمالي في مؤدّاها على الخلاف ، فيمكن المناقشة فيه بمنع العلم الاجمالي بمخالفة بعض تلك الاستصحابات للواقع.

نعم ، في خصوص أصالة عدم ترتّب الأثر في باب المعاملات ربما أمكن أن يقال بأنّا لو جرينا على طبق هذا الأصل في جميع موارد الشكّ في صحّة المعاملة ، يحصل لنا القطع بعدم مصادفة جملة من موارد ذلك الأصل للواقع ، ولكن لو أسقطنا الأصل المذكور ماذا تكون النتيجة. نعم تكون النتيجة أشبه شيء بالدوران بين المحذورين بالنسبة إلى العوض والمعوّض ، فإنّ المعاملة إن كانت صحيحة كان التصرّف فيما انتقل عنه حراماً ، وإن كانت فاسدة كان التصرّف فيما انتقل إليه حراماً ، فيكون اللازم على كلّ من المتعاقدين هو اجتناب ما انتقل عنه وما انتقل إليه ، وهو محصّل أصالة الحرمة في الأموال ، ولعلّ ذلك موجب للعسر والحرج خصوصاً في مثل النكاح ، إلاّ إذا جدّد العقد بما هو القدر المتيقّن إن كان في البين قدر متيقّن.

وكيف كان ، فإنّ هذا الأصل وهو أصالة الحرمة في الأموال قد عرفت أنّه لا

ص: 33


1- فوائد الأُصول 3 : 236.

يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ولا يرفع بقية محاذير المقدّمة الثانية ، كما أنّ البناء على أصالة عدم ترتّب الأثر لا يوجب العسر والحرج ، سيّما بعد أن كان لنا إطلاقات كتابية لم يقع لنا ريب في حجّية ظهورها تقلّل من موارد الشكّ في المعاملات ، فيقتصر على ما هو المتيقّن صحّته ولو بواسطة تلك المطلقات ، فما أُفيد في هذا التحرير (1) من أنّه قد يفضي إلى العسر والحرج لعلّه محتاج إلى التأمّل.

قوله : فلو اضطرّ المكلّف إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الاجمالي ، كان الاضطرار موجباً عقلاً للترخيص فيما يدفع به الاضطرار ، سواء كان الاضطرار من جهة لزوم الضرر أو العسر والحرج ، أو غير ذلك من الأسباب ، وسواء كان الاضطرار إلى البعض المعيّن أو غير المعيّن ... الخ (2).

باب كون الحكم الشرعي المعلوم بالاجمال ضررياً ، أو كون المكلّف مضطرّاً إلى مخالفته باب ، وباب العسر والحرج في الجمع بين محتملات التكليف وأطراف العلم الاجمالي باب آخر ، فإنّ ذلك الباب لو كان فيه أحد الأطراف ضررياً أو كان مضطرّاً إليه كان موجباً لسقوط التكليف في ذلك المعيّن.

ويلحق به ما لو كان المضطرّ إليه غير معيّن ، بدعوى أنّ التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف المعيّن أو على هذا الطرف الذي اختاره المكلّف لسدّ اضطراره ، لكان ذلك التكليف الواقعي مرتفعاً عنه ، لصدق الاضطرار أو الضرر عليه حينئذ.

أمّا باب العسر والحرج الناشئ عن الجمع بين محتملات التكليف وأطراف العلم الاجمالي فلا تتأتّى فيه تلك الطريقة ، ولا ينطبق على ذلك الطرف الذي

ص: 34


1- فوائد الأُصول 3 : 236.
2- فوائد الأُصول 3 : 251 - 252.

يختاره المكلّف أنّ التكليف لو كان فيه لكان ذلك موجباً للعسر والحرج ، إذ لا يكون ذلك التكليف الموجود فيه موجباً للعسر والحرج. نعم لو كانت الشبهات وجوبية وقد احتاط المكلّف بفعل كثير منها إلى حدّ يكون احتياطه في الباقي حرجياً عليه ، لقلنا يسقط الاحتياط في الباقي ، لأنّه لو كان فيه تكاليف وجوبية لكانت بنفسها حرجية بعد أن احتاط وفعل الكثير ممّا يحتمل وجوبه.

وهكذا الحال في التروك في الشبهات التحريمية التدريجية ، لو كان احتياطه في مقدار كثير منها قد وصل إلى حدّ لو ترك الباقي يقع في العسر والحرج ، بل لو علم تفصيلاً بوجوب الباقي في الصورة الأُولى أو بحرمته في الصورة الثانية لجاز له المخالفة فيه ، لكونه مورداً للحرج.

وهكذا الحال فيما لو كانت الشبهات مختلفة فبعضها وجوبية وبعضها تحريمية كما فيما نحن فيه ، فإنّ على المكلّف أن يحتاط في كلّ شبهة ترد عليه إلى أن يبلغ حدّ الحرج فيسقط الاحتياط حينئذ.

والأولى بل المتعيّن هو أن يعامل هذه الشبهات معاملة ما علم فيه التكليف تفصيلاً ، فأيّ شبهة ابتلي بها منها يلزمه الجري على طبق ما يحتمله من التكليف فيها إن لم يكن ذلك حرجياً ، فإذا اتّفق الحرج في الجري على بعضها ولو من جهة مسبوقيته بالاحتياط في غيرها ، سقط الاحتياط فيها ، ثمّ بعد هذا لو ابتلي بغيرها أو تكرّر له الابتلاء بنفس تلك الشبهة السابقة التي لم يحتط فيها ، واتّفق أن كان الاحتياط فيما تجدّد له منها أو من غيرها غير موجب للحرج ، كان عليه الاحتياط فيما تجدّد وإن مرّت عليه سابقاً ولم يكن قد احتاط فيها لكون الاحتياط فيما مرّ حرجياً ، وعلى هذا لا تصل النوبة إلى الاحتياط المخلّ بالنظام ، ولا إلى التبعيض بحسب الاحتمالات الظنّية والشكّية والوهمية.

ص: 35

أمّا لو كانت الشبهات التحريمية دفعية ، كما في الأواني الكثيرة التي يكون اجتنابها جميعاً حرجياً ، ولابدّ له في دفع الحرج من ارتكاب البعض ، فإنّ أيّ بعض منها يرتكبه لا يكون التكليف الواقعي حرجياً لو كان فيها كي يسوغ له ارتكابه بدليل نفي الحرج.

إلاّ أن نقول : إنّه بعد أن كان تركها جميعاً حرجياً عليه ، كان مضطراً إلى ارتكاب بعضها ، لما سيأتي منه من قوله : بل العسر والحرج من أفراد الاضطرار ، فإنّه لا يعتبر في الاضطرار عدم القدرة التكوينية على الاحتياط الخ (1).

وكيف كان ، أنّ هذا الفرض الأخير خارج عمّا نحن فيه ، لما هو واضح من أنّ الابتلاء بالشبهات فيما نحن فيه لا يكون إلاّتدريجياً. مضافاً إلى إمكان [ جريان ] دليل نفي الحرج فيه أيضاً ، بأن نقول : إنّ منعه من ارتكاب هذا الذي اختاره لدفع الحرج حرجي ، فيكون ذلك المنع الواقعي لو كان موجوداً فيه حرجياً ، على حذو تطبيق دليل الاضطرار على ما يختاره المكلّف في صورة الاضطرار إلى غير المعيّن.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما ذكره في الكفاية (2) من عدم جريان دليل العسر والحرج في نفس الجمع ، أعني وجوب الاحتياط بحكم العقل ، لعدم كونه جارياً في الأحكام العقلية ، ولو أجريناه في الحكم الواقعي الذي لزم الحرج من الجمع بين محتملاته كان مقتضاه سقوط ذلك التكليف المعلوم بالاجمال ، وسقوط الاحتياط بالمرّة ، فلا وجه للتبعيض ، لما عرفت من إمكان جريانه فيما بقي بعد الوصول في الاحتياط إلى درجة العسر والحرج في الشبهات التدريجية

ص: 36


1- فوائد الأُصول 3 : 257 - 258.
2- كفاية الأُصول : 313.

وفيما يختاره لرفع حرجه في الشبهات الدفعية ، من دون توقّف ذلك على إجرائه في نفس الجمع كي يقال إنّه ليس بحكم الشارع ، أو إجرائه في نفس التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال ، كي يقال إنّه مع إجرائه فيه وسقوطه لا يبقى مجال للاحتياط أصلاً.

نعم ، الظاهر أنّه لا يرد عليه ما أفاده في هذا التحرير عن شيخنا قدس سره بقوله : وأمّا ما أفاده من المنع عن التبعيض في الاحتياط على تقدير تسليم الحكومة فلم يبيّن وجهه الخ (1) لما عرفت من وضوح الوجه في ذلك ، بناءً على إرجاع نفي الحرج إلى الحكم الواقعي الموجود في البين ، من جهة كونه موجباً للجمع بين تلك المحتملات الذي هو حرجي ، فليس منشأ سقوط الاحتياط على هذا الفرض هو ما احتمله شيخنا قدس سره من التلازم بين سقوط وجوب الموافقة القطعية وسقوط حرمة المخالفة القطعية ، ولا كون العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجّز ، كما أُفيد بقوله في هذا المقام : ولعلّه مبني على ما اختاره الخ (2) بل إنّ الوجه في سقوط الاحتياط بالمرّة هو ما عرفت من فرض كون مجرى نفي الحرج هو التكليف الواقعي الموجود في البين الذي لزم منه العسر والحرج بواسطة الجمع بين محتملاته ، ومن الواضح أنّ ذلك الحكم الواقعي لو ارتفع بنفي الحرج لا يبقى مجال لتبعيض الاحتياط.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه بقوله : فما أفاده قدس سره ( يعني صاحب الكفاية ) من أنّ شمول أدلّة الحرج للمقام لا يكون إلاّبرفع الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال الناشئ من قبلها الحرج ، ولازم ذلك سقوط الاحتياط

ص: 37


1- فوائد الأُصول 3 : 255.
2- فوائد الأُصول 3 : 255.

رأساً ، شعر بلا ضرورة ، بل لازم شمولها هو ارتفاع الأحكام بمقدار الحرج لا أزيد (1).

قلت : إنّ نفي الحرج بعد أن تسلّط على الحكم الواقعي كان مقتضاه هو رفعه من أصله ، ومعه لا مجال للاحتياط أصلاً ، ولا وجه لتبعيضه. ودعوى كون رفع الحرج مسلّطاً على نفي ذلك الحكم بمقدار الحرج لم يعلم وجهه ، فإنّ نفس الحكم الواقعي المفروض كونه حرجياً ولو بواسطة الجمع بين محتملاته ليس بذي مراتب ، كي نقول إنّه ارتفع منه المرتبة المقتضية للحرج وبقيت بقيّة مراتبه ولو أُريد من ذلك رفع اقتضائه للحرج لا رفعه بنفسه ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إجراء نفي الحرج في حكم العقل بلزوم الاحتياط ، فإنّ هذا الحكم العقلي عبارة أُخرى عن كون الحكم الواقعي مقتضياً للحرج ، الذي هو الجمع بين محتملاته.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير في وجه التبعيض بقوله : وحاصله لزوم رعاية التكاليف بالمقدار الممكن عقلاً ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها الخ (2) فإنّ ذلك إنّما يقال إذا كانت أدلّة الحرج متوجّهة إلى الحكم العقلي بلزوم الاحتياط ، والمفروض خلافه ، وإنّما توجّهت إلى الحكم الشرعي الواقعي الموجود فيما بين الأطراف ، فيكون المرتفع هو نفس ذلك الحكم الواقعي الشرعي ، ومع ارتفاعه لا يبقى مجال لوجوب الاحتياط في الباقي فتأمّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس سره في توجيه جريان نفي العسر والحرج في نفس الجمع بين المحتملات ، باعتبار كونه رعاية للأحكام الواقعية الشرعية وإن لم يكن هو بنفسه - أعني ذلك الجمع - واجباً شرعياً بل كان واجباً عقلياً ، إلاّ أنّه لمّا

ص: 38


1- أجود التقريرات 3 : 235.
2- فوائد الأُصول 3 : 256.

كان برعاية الأحكام الشرعية ، كان ذلك مصحّحاً لجريان دليل الحرج فيه ، كما أفاده في مقام الايراد ثانياً على صاحب الكفاية قدس سره بقوله : وثانياً : أنّه يمكن أن تكون أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط الخ (1) ففيه تأمّل ، وكيف يكون قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) رافعاً للحكم العقلي بالاحتياط مع فرض كونه مسوقاً لرفع الحكم الشرعي الحرجي ، إلاّبنحو ما في الكفاية (3) من تسليطه النفي على نفس الحكم الشرعي ، باعتبار كونه عند الجهل به موجباً للوقوع في الحرج بواسطة حكم العقل بالاحتياط ، وحينئذ يسقط الاحتياط بتاتاً ، أو بنحو ما أفاده هو قدس سره في توجيه جريان نفي الحرج بما شرحناه في الشبهات التدريجية والشبهات الدفعية.

ثمّ لا يخفى أنّ النتيجة على ما شرحناه في الشبهات التدريجية وإن كانت هي تبعيض الاحتياط ، لكنّه ليس بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، بل بحسب ما يبتلى به أوّلاً فأوّلاً ، فيلزمه الاحتياط فيه وإن علم أنّه يبتلى بعد ذلك بغيره ، إلاّ أنّه فعلاً لمّا لم يكن الاحتياط في هذه الأوائل حرجياً ، لم يكن له إسقاط الاحتياط فيها ، بل عليه أن يحتاط فيها وإن كان احتمال التكليف فيها موهوماً ، إلى أن يصل إلى درجة يكون الاحتياط فيما يأتي حرجياً ، فيتركه في ذلك الباقي ، ويكون من قبيل الاضطرار إلى المعيّن ، وإن عاد الحرج عاد إلى ترك الاحتياط.

وأمّا الشبهات الدفعية فقد عرفت أنّها خارجة عمّا نحن فيه ، لأنّ شبهاتنا عند الانسداد تدريجية الابتلاء ، إلاّ أنّه مع ذلك يكون من قبيل الاضطرار إلى غير

ص: 39


1- فوائد الأُصول 3 : 258.
2- الحج 22 : 78.
3- كفاية الأُصول : 313.

المعيّن.

والذي ينبغي أن يقال فيه : هو أنّ اختيار ما يسدّ به الحرج يكون راجعاً إلى المكلّف نفسه ، ولا يتعيّن عليه أن يختار ما يكون الاحتمال فيه ضعيفاً ، فإنّهم على ما ببالي لم يفصّلوا هذا التفصيل في باب العلم [ الاجمالي ] في مسألة الاضطرار إلى غير المعيّن ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ سكوتهم عن هذا التفصيل في ذلك المبحث لأنّ الغالب فيه هو تساوي الأطراف في الاحتمال ، وأنّه في الغالب لا تختلف الأطراف من ناحية الاحتمال قوّة وضعفاً. وعلى كلّ حال ، لا مانع عن الترجيح فيما نحن فيه وفي ذلك المبحث بالقوّة والضعف ، بل يمكن القول بتعيّن ذلك عقلاً كما بنى عليه القوم في هذا المقام ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده في الكفاية في بيان الإشكال في جريان قاعدة الحرج في المقام بقوله : وأمّا فيما لا يوجب فمحلّ نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلّقين بما يعمّهما هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، إلى آخر المطلب (1) ، وإن كان ظاهره أنّ الإشكال مختصّ بهذه الطريقة التي اختارها في كيفية الحكومة ، من كون مفاد لا ضرر ولا حرج من باب نفي الحكم الشرعي الوارد على ما فيه الضرر أو الحرج بلسان نفي الموضوع ، إلاّ أنّ الإشكال المزبور لا يختصّ بذلك ، بل يتأتّى على طريقة شيخنا قدس سره في كيفية الحكومة ، من كون المنفي هو الحكم الشرعي الموجب للضرر أو الحرج ، فإنّ أي الطريقتين سلكناها في الحكومة نحتاج في المقام إلى حكم شرعي يكون وارداً على ما فيه الضرر أو الحرج على طريقة

ص: 40


1- كفاية الأُصول : 313.

صاحب الكفاية ، أو يكون نفس ذلك الحكم الشرعي ضررياً أو حرجياً على طريقة شيخنا قدس سره ، والمفروض في المقام عدم وجود الحكم الشرعي المذكور ، فإنّ الحكم الشرعي الواقعي المعلوم وجوده في البين ليس في حدّ نفسه ضررياً أو حرجياً ، وإنّما جاء الضرر أو الحرج من ناحية الحكم العقلي الراجع إلى الاحتياط العقلي ، الملزم بالجمع بين الأطراف ، المفروض كونه ضررياً أو حرجياً ، وأدلّة نفي الضرر أو الحرج لا تنفي هذا الحكم العقلي ، سواء قلنا إنّها مسوقة لنفي الحكم الشرعي بلسان نفي الموضوع كما هي طريقة صاحب الكفاية ، أو قلنا إنّها مسوقة لنفي الحكم الضرري أو الحرجي ابتداءً كما هي طريقة شيخنا قدس سره.

وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره بقوله : نعم لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل الخ (1) ، فهو وإن كان ظاهره الاختصاص بطريقة شيخنا قدس سره في كيفية الحكومة ، إلاّ أنّ هذا المطلب لا يختصّ بها ، بل يتأتّى على نفس طريقة صاحب الكفاية قدس سره ، بأن نقول : إنّ الحكم الشرعي المنفي بلسان نفي الموضوع هو ما يكون موجباً للعسر والحرج ، ولو بواسطة العلم الاجمالي المتعلّق به فيما هو مردّد بين الأطراف الكثيرة التي يلزم العسر والحرج من الجمع بينها ، بمعنى أنّ متعلّقات تلك الأحكام الواقعية تكون موقعة في العسر والحرج بواسطة ذلك العلم الاجمالي ، فتكون تلك الأحكام الشرعية المتعلّقة بتلك المتعلّقات منفية بلسان نفي تلك المتعلّقات.

وقد صرّح شيخنا قدس سره بوحدة الطريقتين من هذه الجهة كما حكاه عنه السيّد سلّمه اللّه في تحريراته بقوله - بعد نقل مضمون ما في الكفاية - : وأنت خبير بفساد ذلك أمّا أوّلاً : فلأنّ مفاد أدلّة نفي الحرج وإن سلّمنا أنّه نفي الحكم بنفي

ص: 41


1- كفاية الأُصول : 313.

موضوعه ، إلاّ أنّه لا إشكال في حكومتها على الأحكام الشرعية ، وأنّها تنفي كلّ حكم شرعي يكون موضوعه حرجياً ، بل لو لم نقل بالحكومة لقدّمت عليها أيضاً بالأظهرية ، وحينئذ فمقتضى تلك الأدلّة أنّ الموارد المحتملة التي يلزم من الاحتياط فيها حرج ، يكون الحكم الشرعي في تلك الموارد على تقدير وجوده فيها مرفوعاً ، ويكون نتيجة ذلك هو التكليف المتوسّط ، باتيان مقدار من المحتملات وترك المقدار الزائد الموجب للعسر والحرج ، الخ (1).

ولكن ما المراد بالموارد المحتملة في قوله : فمقتضى تلك الأدلّة أنّ الموارد المحتملة التي يلزم من الاحتياط فيها حرج ، يكون الحكم الشرعي في تلك الموارد على تقدير وجوده فيها مرفوعاً. فإن كان المراد بها الشبهات المتأخّرة فيما شرحناه في الشبهات التدريجية ، فهو كما عرفت لا ينتج التبعيض بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، ويكون المقام من قبيل الاضطرار إلى المعيّن.

نعم ، يتأتّى ذلك في الشبهات الدفعية ، فإنّ ما يختاره منها لرفع الحرج يجري فيه حديث نفيه ، بأن يقال : إنّ تلك الموارد التي اختارها لو كان فيها تكليف لكان حرجياً ، فيكون مرتفعاً ، وفي الحقيقة هو قبل أن يرتكب شيئاً من تلك الشبهات تكون التكاليف الواقعية كلّها حرجية في حقّه ولو بواسطة تردّدها بين تلك الأطراف الكثيرة ، وحينئذ يجوز له أن يرتكب البعض ، ولكن بعد ارتكابه ذلك البعض يعلم إجمالاً أيضاً ببقاء مقدار من التكاليف في البواقي ، لأنّ ذلك المقدار الذي ارتكبه لا يكون بمقدار معلومه الاجمالي ، بل إنّه أقلّ منه بكثير ، لأنّه لم يكن إلاّبمقدار ما يرفع به حرجه الآتي من ناحية اجتناب الجميع ، وحينئذ ذلك المقدار الباقي من التكاليف المعلومة لا مانع من كون العلم به مؤثّراً ،

ص: 42


1- أجود التقريرات 3 : 232.

فيلزم الاجتناب عن الباقي ، وهو معنى التبعيض.

وهذه الطريقة مختصّة بما نحن فيه من كثرة المعلوم بالاجمال وقلّة ما يندفع به الحرج ، على وجه يبقى العلم الاجمالي في البواقي بعد ما يندفع الحرج بحاله ، دون ما لو كان ذلك المقدار مساوياً لما هو المعلوم بالاجمال أو أكثر.

وهذا الفرق إنّما يظهر في نفي الحرج ، أمّا نفي الاضطرار فلا فرق فيه بين الصورتين ، بمعنى أنّه في الصورة الثانية يلزمه الاحتياط في البواقي ، لأنّ ميزان جريان حديث الاضطرار هو انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الذي دفع به اضطراره ، وارتكابه لا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير في البواقي ، بخلاف حديث نفي الضرر والعسر والحرج ، فإنّه إنّما ينطبق قبل الارتكاب ، ويكون ذلك الحكم الواقعي الموجود ضررياً أو حرجياً ، فيرتفع بحديث نفي الضرر والحرج قبل ارتكاب ما يرتفع به حرجه. ثمّ بعد ارتكاب البعض الرافع لحرجه إن بقي له علم إجمالي في البواقي وجب الاجتناب عنها ، وإلاّ جاز له ارتكابها ، وتكون النتيجة فيما نحن فيه أنّ وجوب الاجتناب عن البواقي بعد ارتكاب ما ارتكبه لا قبل الارتكاب ، لأنّ التكليف الواقعي حرجي قبل الارتكاب لا بعده.

ويمكن أن تأتي هذه الطريقة في الشبهات التي يبتلى بها المكلّف تدريجاً بأن يقال : إنّ المكلّف بعد علمه الاجمالي بالتكاليف الكثيرة وانسداد باب العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقامه ، فهو يعلم فعلاً أنّ أطراف هذه الشبهات كثيرة لا تحصى ، على وجه يكون الجري فيها جميعاً على طبق الاحتياط حرجياً ، فكانت التكاليف الواقعية التي علمها بالاجمال حرجية عليه فترتفع ، ولا يتوقّف اتّصافها بالحرجية على تحقّق الاحتياط على طبقها حتّى لو كانت كلّها وجوبية ، بل إنّ تلك الوجوبات الواقعية المعلومة في البين تكون فعلاً متّصفة بالحرجية ، لأنّها فعلاً

ص: 43

يكون امتثالها بطريقة الاحتياط حرجياً ، ألا ترى أنّ نفس السفر المفروض كونه واجباً وأنّه معلوم الوجوب تفصيلاً ، لو كان حرجياً لم يتوقّف اتّصاف ذلك الوجوب بالحرجية (1) على امتثاله ، بل هو فعلاً قبل السعي لامتثاله حرجي ، فيرتفع الوجوب المتعلّق به ، وحينئذ ففيما نحن فيه تكون التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال حرجية فعلاً ، فترتفع بدليل نفي الحرج ، فله فعلاً أن يخالف الاحتياط فيها ولو تدريجاً إلى أن يرتفع حرجه ، فيلزمه الاحتياط في الباقي لبقاء العلم الاجمالي بالتكليف بين أطرافه.

لكن هذه الطريقة غير نافعة فيما نحن فيه ، لأنّ مخالفة الاحتياط في أوائل الزمان لا توجب رفع حرجيته في الأزمنة التالية.

أمّا إقدامه من الأوّل على تقسيم هذه الشبهات الآتية تدريجاً إلى مظنونات ومشكوكات وموهومات ، وتقريره على نفسه أن يحتاط في المظنونات ويسقط الاحتياط في البواقي ، فلا وجه له على الظاهر ، لأنّ مجرّد هذا التقسيم والتقرير لا يخرج تلك التكاليف عن كونها حرجية فعلاً قبل ارتكاب ما به يرتفع الحرج.

مضافاً إلى أنّ المشكوكات والموهومات لعلّها أكثر من المعلوم الاجمالي بحيث لا يبقى علم إجمالي في المظنونات. وإن شئت فقل : إنّ ما يندفع به الحرج لعلّه مساوٍ أو أكثر من التكاليف الواقعية ، فلا يكون في البواقي علم إجمالي.

نعم ، هناك طريقة أُخرى ، وهي أن يقال : إنّ ذلك التكليف الواقعي يكون متّصفاً بالحرجية إن سلكنا الاحتياط التامّ في طريق امتثاله ، وليس بحرجي إن سلكنا هذه الطريقة في كيفية الامتثال.

وبعبارة أُخرى : أنّ تلك التكاليف الواقعية ليست بنفسها حرجية ، وإنّما

ص: 44


1- [ في الأصل هنا زيادة : متوقّفاً ، حذفناها لاستقامة العبارة ].

عرضت لها صفة الحرجية بواسطة اقتضائها ، ويختلف حينئذ مقدار اقتضائها ، فربما كانت مقتضية للاحتياط التامّ ، وربما كانت مقتضية لمقدار من الاحتياط وهي في الاقتضاء الأوّل حرجية دون الثاني ، فإن سلكنا في طريق امتثالها الاحتياط التامّ ، كانت بهذا المقدار من الاقتضاء حرجية ، لكن لو سلكنا طريقة التبعيض المذكورة لم يكن اقتضاؤها لذلك المقدار حرجياً فلا ترتفع ، ولا ريب أنّ تلك المرتبة من الاقتضاء الكلّي إنّما هي من جانب الشارع ، فيجري فيه نفي الحرج.

ولعلّ هذا هو المراد من قول شيخنا قدس سره : لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها (1) ، وكذلك قوله فيما حكاه عنه السيّد سلّمه اللّه من قوله : بل لازم شمولها هو ارتفاع الأحكام بمقدار الحرج لا أزيد (2).

بل لعلّه هو المراد فيما أجاب به ثانياً (3) ممّا ظاهره إجراء نفي الحرج في الحكم العقلي بوجوب الاحتياط التامّ لكونه برعاية الواقع الشرعي ، بأن يكون مراده قدس سره هو إجراء نفي الحرج في نفس الأحكام الواقعية بمقدار اقتضائها الاحتياط التامّ ، لا في نفس وجوب الاحتياط عقلاً ، فتأمّل.

ولكن هذه الطرق كلّها من محض التصوّر ، وليس الواقع إلاّما لدينا من العلم الاجمالي المتعلّق بتلك التكاليف الواقعية من تحريم وإيجاب ، المردّدة بين تلك الشبهات الكثيرة التي يكون الابتلاء بها تدريجياً ، فعلى المكلّف حينئذ أن يعامل تلك الشبهات معاملة ما علم فيه التكليف تفصيلاً ، وأن يجري في كلّ شبهة

ص: 45


1- فوائد الأُصول 3 : 256.
2- أجود التقريرات 3 : 235.
3- فوائد الأُصول 3 : 258.

على ما يقتضيه العلم الاجمالي من الاحتياط ، ولا يقف في قبال هذا العلم الاجمالي الموجب للاحتياط إلاّ الحرج ، وهو إنّما يكون في كلّ شبهة بحالها ، فأي شبهة عرضت له ولم يكن الاحتياط فيها حرجياً عليه لزمه أن يحتاط فيها ، وأي شبهة عرضت له وكان الاحتياط فيها حرجياً عليه ولو من جهة مسبوقيته بالاحتياط في غيرها سقط الاحتياط في هذه الطارئة ، سواء كانت شبهة جديدة أو كانت من سنخ ما تقدّم ممّا كان قد احتاط فيه. ولو طرأت بعدها شبهة أُخرى واتّفق أن لم يكن الاحتياط فيها حرجياً ، لزمه العود إلى الاحتياط في تلك الشبهة ، وإن كانت من سنخ ما تقدّم ممّا لم يحتط فيه لكون طروّها السابق كان مقارناً للحرج في الاحتياط فيها ، وعلى هذا لا تصل النوبة إلى اختلال النظام ، ولا إلى التبعيض بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، من دون حاجة إلى إجراء نفي الحرج في مجموع تلك التكاليف الواقعية ، ليكون ذلك موجباً لسقوط الاحتياط في جميع الأطراف ، ولا إلى إجرائه في نفس الاحتياط العقلي الآتي من ناحية العلم الاجمالي ، ليرد عليه أنّه لا يحكم عليه نفي العسر والحرج.

كما أنّه بناءً على ذلك لا تصل النوبة إلى دعوى الكشف ، بمعنى استكشاف حجّية الظنّ شرعاً ، بل ولا إلى الحكومة بمعنى حكم العقل بحجّية الظنّ عقلاً ، ولو من باب أنّ الاطاعة الظنّية مقدّمة على الاطاعة الشكّية أو الوهمية ، بل قد عرفت أنّه بناءً عليه لا تصل النوبة إلى تبعيض الاحتياط بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، كي يتخيّل أنّ ذلك - أعني تقديم الاحتمالات الظنّية على غيرها - من باب تقديم الاطاعة الظنّية على غيرها ، كي يدّعى كون ذلك من باب حكومة العقل بحجّية الظنّ عقلاً.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه من لزوم الجري على طبق العلم الاجمالي بالنحو

ص: 46

الذي شرحناه من التبعيض التدريجي ، لا يضرّه دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال ، ولو بمعنى قيام الإجماع على عدم الترخيص في مخالفة تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال بإعمال البراءة الشرعية ، أو كون ذلك من قبيل الخروج عن الدين ، فإنّا لو سلكنا في تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال ذلك المسلك الذي سلكناه من التبعيض التدريجي ، لم نكن مخالفين لذلك الإجماع ، ولا ارتكبنا ما هو مخالف لضرورة الدين كما هو واضح لا يخفى.

والخلاصة : هي أنّ حاصل دليل الانسداد قياس استثنائي ، أعني أنّه في صورة القياس الاستثنائي ، إذ لو كان حقيقة من القياس الاستثنائي ، لكان استثناء التالي وهو وجوب الاحتياط موجباً لسقوط المقدّم ، وهو انسداد باب العلم والعلمي ، وليس غرضنا من تسميته قياساً استثنائياً إلاّتقريب المطلب إلى الذهن باختصار المقدّمات التي ذكرت لدليل الانسداد. وحاصل المطلب : هو أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي ، ومقتضاه أوّلاً هو وجوب الاحتياط ، لكن لا يمكننا الالتزام بالاحتياط التامّ ، فلابدّ من الالتزام بشيء آخر هو تبعيض الاحتياط ، أو استكشاف حجّية الظنّ شرعاً ، فتسامحنا وسمّينا هذا التقريب قياساً استثنائياً ، وقلنا إنّه لو انسدّ علينا باب العلم والعلمي لوجب علينا الاحتياط في جميع الاحتمالات ، لكن الاحتياط المذكور ليس بواجب ، فلابدّ من التبعيض أو سقوط الاحتياط بالمرّة وإيجاب الشارع علينا العمل بالظنّ.

ومرجع المقدّمة الأُولى إلى إثبات المقدّم ، ومرجع المقدّمة الثانية إلى إثبات التالي ، وهو وجوب الاحتياط التامّ ببرهان العلم الاجمالي ، أو الإجماع على عدم الاهمال ، أو أنّه - أعني الاهمال - موجب للخروج عن الدين.

ومرجع المقدّمة الثالثة إلى إثبات المستثنى ، أعني إثبات كون الاحتياط

ص: 47

المذكور غير واجب بالإجماع على عدم الاحتياط بأحد تقريبي الإجماع ، اللذين يكون مفاد الأوّل منهما عدم وجوب الاحتياط التامّ ، والثاني منهما إلى عدم جوازه منعاً للاطاعة الاحتمالية ، أو بأنّ الاحتياط التامّ موجب لاختلال النظام أو العسر والحرج.

ومرجع المقدّمة الرابعة إلى إثبات نتيجة ذلك القياس الاستثنائي ، إمّا بتبعيض الاحتياط ، أو باستكشاف جعل الظنّ حجّة شرعية ، ونحن إذا منعنا حجّية الإجماع على عدم الإهمال ، ومنعنا من الاكتفاء بكونه موجباً للخروج من الدين ، وقلنا إنّه ليس في البين إلاّ العلم الاجمالي ، وكذلك منعنا من حجّية الإجماع على عدم الاحتياط بكلا وجهيه ، وحصرنا الدليل في المقدّمة الثالثة على عدم الاحتياط بكونه موجباً لاختلال النظام أو للعسر والحرج ، وقلنا إنّ الدرجة الأُولى في إسقاط الاحتياط هي العسر والحرج ، تكون النتيجة هي تبعيض الاحتياط ، فلاحظ وتدبّر.

أمّا الوجه في منع الإجماع على عدم الإهمال ، فلأنّه ليس هناك تحرير للمسألة كي يقال إنّهم أجمعوا على ذلك ، خصوصاً بعد البناء على كون مدرك الإجماع هو الكشف عن الأخذ من المعصوم. مضافاً إلى أنّه ليس المنع من الاهمال إلاّ إرشاداً عقلياً واقعاً في مقام الاطاعة ، فلا يكون هذا الحكم العقلي إلاّ ناشئاً عن ذلك العلم الاجمالي. ولوسلّمنا أنّ العلم الاجمالي لا ينجّز لم يكن الحكم بعدم الاهمال شرعياً ، بل لا يخرج عن كونه بحكم العقل الناشئ عن لزوم اتّباع الشريعة والمنع عن إهمالها ، وحينئذ فلا يدخله الإجماع ولا يكون حكماً شرعياً.

ومن ذلك تعرف الحال في الدليل الثاني ، أعني لزوم الخروج من الدين ، إذ

ص: 48

لا ينبغي الريب في أنّ المنع من الخروج من الدين ليس من الأحكام الشرعية ، بل هو من الأحكام العقلية راجع إلى لزوم الطاعة والانقياد والخضوع للقوانين الشرعية ، والمنع من الاسترسال وإطلاق العنان وعدم التقيّد بالقوانين الشرعية. وعلى كلّ حال أنّه حكم عقلي واقع في مقام الاطاعة والالزام بالامتثال ، فلا يكون حاله إلاّكحال ما يقتضيه تنجيز العلم الاجمالي ، فلو قلنا إنّ هذا الحكم العقلي قاض بالاحتياط فلا يكون الاحتياط فيه إلاّحكماً عقلياً ، ولا يقف في قبال هذا الحكم العقلي إلاّ اختلال النظام أو العسر والحرج. أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل أعني عدم لزوم الاحتياط التامّ ، فأين هذه الفتوى وأين إجماعهم عليها ، ولو سلّم فلا أخاله إلاّناشئاً عن اختلال النظام أو عن العسر والحرج. وكذلك الحال في الإجماع على أنّ الشارع لا يريد الامتثال الاحتمالي.

وإن كان المراد به هو أنّه لابدّ من إحراز للأمر ، فإن أخرجناه عن حيّز القول بنيّة الوجه أو القول بلزوم الاطاعة الجزمية ، لم يكن له معنى محصّل ، إلاّ أنّ الشارع يريد من عباده التعبّد بقوانين الشريعة ، وأنّ السعي وراء الاحتمال ليس بتعبّد بها ، وهذا أمر لعلّه يمكننا المساعدة عليه في الجملة ، لكنّه إنّما يكون غير مرضي إذا جرى عليه جميع أهل الشريعة ، دون ما لو جرى عليه بعض الآحاد منهم ، مع كون الشريعة قائمة بأهلها. على أنّه لو كان بالنسبة إلى الجميع لم يكن المنع عنه إلاّبحكم العقل ، لأنّ العقل لا يرى العامل بالاحتياط آخذاً بقوانين الشريعة. على أنّه لو كان شرعياً فأين هذا الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام ، ومن حرّر هذه المسألة كي ندّعي أنّهم أخذوها من المعصوم عليه السلام.

ولعمري إنّ هذه الإجماعات أردأ من دعوى إجماعهم على الحكم استناداً

ص: 49

إلى إجماعهم على حجّية الخبر الدالّ عليه بزعم الحاكم. وفي الحقيقة أنّ هذه الاجماعات من قبيل دعوى أنّ المطلب الفلاني يحكم به العرف ، أو يحكم به العقلاء ، أو يحكم به العقل ، في حين أنّ المدّعي لم يسأل العرف ولا العقلاء ، ولا أنّ العقل له قوانين مسجّلة وهذا من جملتها ، بل ليس في البين إلاّ أنّ المدّعي يحكم بذلك بما أنّه أحد أهل العرف أو أحد العقلاء فينسبه إلى العرف أو إلى العقلاء أو إلى العقل ، وفي الحقيقة لا يكون في البين إلاّحكم عقل الناقل ، وكان الأحرى أن يقول إنّ ذوقي أو عقلي يحكم بذلك.

ثم لو أغضينا النظر عن ذلك كلّه ، فلماذا يتعيّن الظنّ المطلق للحجّية المستكشفة ، ولماذا لا نقول إنّ ذلك كاشف عن جعله خبر الواحد حجّة.

ثمّ إنّ أصل هذا الكشف قابل للمنع ، ولماذا هذا الاستكشاف ، ولِمَ لا نقول إنّ الشارع قد بلّغ الأحكام وفتح باب العلم والعلمي للمكلّفين ، وقل إنّه شرط عليهم في الامتثال أن لا يكون بطريق الاحتمال ، ولكنّهم قد ضيّعوا على أنفسهم وسدّوا على أنفسهم باب العلم والعلمي ، أو أنّ بعضهم كان السبب في ذلك التضييع فانحرم الجميع من القوانين الشرعية ، وليس ذلك بغريب ، فإنّا نلتزم بمثل ذلك في الإمام عليه السلام بالنسبة إلى من لم يقل بإمامته ولم يكن عمله بدلالته ، بل بالنسبة إلينا القائلين بإمامته فيما حرمناه من الأحكام الباقية عنده المكتومة لديه ، وكلّ ذلك في عنق من منعه من التصرّف.

وحينئذ لا يكون في البين إلاّ العلم الاجمالي ، وطبعه الأوّلي الاحتياط التامّ ، إلاّ أنّه بالتمام ساقط للعسر والحرج قبل الوصول في العمل به إلى حدّ اختلال النظام ، وتكون النتيجة هي التبعيض في المحتملات على الاطلاق ، فيحتاط حتّى

ص: 50

تصل النوبة إلى العسر والحرج كما هو مقتضى تدريجية الابتلاء ، ولا تصل النوبة إلى الاحتياط في خصوص المظنونات ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه قبل الابتلاء لمّا كان عالماً بأنّه لا يسعه الاحتياط في الجميع ، وأنّه لابدّ له من إسقاطه في بعض المحتملات ، فيعيّن ما عدا المظنونات لذلك السقوط. لكنّه موقوف على علمه بأنّه فيما يأتي يحصل له الظنّ فيؤخّر احتياطه إليه ، ويجري على عدم الاحتياط فيما يبتلى به فعلاً من الاحتمالات غير الظنّية.

قوله : بقي التنبيه على أُمور ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وقبل الشروع في هذه التنبيهات نقول : إنّه كان الأنسب تأخير التنبيه الأوّل عن التنبيه الثاني لتوقّفه عليه ، حيث إنّ الكلام في هذا التنبيه يتوقّف على كون مقدّمات الانسداد جارية في كلّ مسألة مسألة ، لتكون النتيجة كلّية ، أو أنّها إنّما تجري في مجموع التكاليف لتكون النتيجة مهملة ، ومن الواضح أنّ النتيجة مهملة أو كلّية إنّما ينقّح في التنبيه الثاني ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوص العلم الاجمالي بجعل الطرق ، الذي هو مبنى الكلام في التنبيه الأوّل كما سيتّضح إن شاء اللّه تعالى ، عبارة أُخرى عن دعوى جريان المقدّمات في خصوص المسائل الأُصولية دون مجموع التكاليف الواقعية ، وذلك إنّما يتنقّح في التنبيه الثاني. وكيف كان ، فنحن نحرّر هذه التنبيهات على وفق ما حرّره الشيخ وإن كان فيه عكس الترتيب ، انتهى.

وقد أشار السيّد سلّمه اللّه إلى ذلك في تحريراته فراجعه (2)

ص: 51


1- فوائد الأُصول 3 : 280.
2- أجود التقريرات 3 : 244.

قوله : وليس غرضه تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق أو صرفها إليها ، فإنّ ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق بصاحب الفصول الالتزام به ، فلابدّ وأن يكون مراده من التكليف بالعمل بمؤدّى الطرق هو العمل بالأحكام الواقعية التي تؤدّي إليها الطرق بحسب دليل الحجّية وجعلها محرزة لها ... الخ (1).

هذا تعريض بما في الكفاية ، حيث إنّه قدس سره يظهر منه أنّه حمل كلام صاحب الفصول على ذلك ، فقال في بعض كلماته : فإنّ الالتزام به ( يعني الصرف والتقييد ) بعيد ، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً فلا أقل من كونه مجمعاً على بطلانه - إلى قوله - ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضاً غير سديد ، إلى آخر كلامه قدس سره (2).

لكن يمكن التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره في تأويل كلام الفصول ، فإنّه ربما كان ظاهراً أو صريحاً في التقييد ، خصوصاً كلماته الأخيرة التي نقلها عنه الشيخ قدس سره (3) بعد الفراغ عن الإيرادات الخمسة ، فراجع.

وإن شئت فراجع كلمات الفصول في الجواب عن الإشكال الثاني الراجع إلى التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، خصوصاً قوله : إذ قضية هذا العلم الاجمالي علمنا بأنّا مكلّفون بالأحكام بشرط مساعدة تلك الطرق عليها ، فلا يجدي الظنّ الناشئ منها بالحكم ما لم يظنّ الطريق ، إذ التقدير بقاء التكليف

ص: 52


1- فوائد الأُصول 3 : 282.
2- كفاية الأُصول : 318.
3- فرائد الأُصول 1 : 447.

بالعمل به ، بل اللازم حينئذ تحصيل الظنّ بالطريق خاصّة الخ (1) إلاّ أنّ صاحب الكفاية قدس سره في حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس سره : وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق الخ (2) يظهر منه إنكار كون صاحب الفصول قائلاً بالصرف ، فراجع (3). وعلى كلّ حال ، فسيأتي إن شاء اللّه تعالى عن شيخنا قدس سره في هذا التحرير ما لعلّه منافٍ لما حكي عنه هنا ، وذلك قوله : وكأنّ منشأ تخيّل المحقّق صاحب المقالة الخ (4) ، فراجعه.

قوله : ولا يخفى أنّه على ما وجّهنا به كلامه يندفع غالب ما أورد عليه الشيخ قدس سره (5) بقوله : وفيه أوّلاً : إمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصّة للأحكام الواقعية وافية بها ، وإلاّ لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار ... الخ (6).

لا يخفى أنّ نصب الطرق الخاصّة إلى الأحكام كجعل الأحكام ، فكما أنّ عدم العلم التفصيلي بها لا يدلّ على عدمها في الواقع ، فكذلك عدم وصول الطريق تفصيلاً لا يدلّ على عدمه في الواقع ، وإلاّ فكيف ادّعينا الانفتاح ، إذ لا فرق بين دعوى الانفتاح وهذه الدعوى ، فإن كلاً منهما راجع إلى دعوى العلم بالطرق المنصوبة ، غايته أنّ مدّعي الانفتاح يدّعي العلم بها تفصيلاً ، وأنّ الانفتاح إنّما

ص: 53


1- الفصول الغروية : 279.
2- فرائد الأُصول 1 : 447.
3- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 89.
4- فوائد الأُصول 3 : 292.
5- فرائد الأُصول 1 : 439.
6- فوائد الأُصول 3 : 283.

حصل بواسطة العلم التفصيلي بتلك الطرق ، بحيث إنّه لولا ذلك العلم التفصيلي بجعل تلك الطرق ، لكان باب العلم بالأحكام منسدّاً. وهذه الدعوى مبنية على دعوى العلم الاجمالي بها ، ولو من جهة القطع بأنّ الشارع المقدّس بعد أن جعل لنا أحكاماً ، لابدّ أن يكون قد جعل لنا طرقاً موصلة لنا إلى تلك الأحكام ، وأنّه لا يحسن منه إيكال الوصول إلى تلك الأحكام إلى الاحتياط العقلي الناشئ عن العلم الاجمالي بها ، خصوصاً بناءً على عدم كون العلم الاجمالي منجّزاً.

وبالجملة : أنّ إنكار جعل الطرق مع فرض جعل الأحكام ممّا لا سبيل إليه. نعم ، لو كان إنكار جعل الطرق ناظراً إلى خصوص حال الانسداد ، الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم التفصيلي وما يقوم مقامه من الطرق الخاصّة ، لكان له وجه ، لكن صاحب الفصول لا يدّعي الجعل في حال الانسداد المذكور ، على وجه يقول إنّ الشارع قد جعل لنا طرقاً مخصوصة في حال انسداد باب العلم بما جعله من الأحكام ، وبما جعله لنا من الطرق إليها ، بل إنّه إنّما يقول : إنّ الشارع كما جعل لنا أحكاماً فقد جعل لنا طرقاً إليها ، وكما أنّ باب العلم بتلك الأحكام قد انسدّ علينا فكذلك باب العلم التفصيلي بتلك الطرق قد انسدّ علينا. بل لو كان صاحب الفصول ناظراً إلى حال الانسداد ، لم يرد عليه أنّه لو كان لبان ، لجواز اختفاء تلك الطرق علينا ، بحيث إنّه لم يحصل لنا العلم بها تفصيلاً ، كما أنّ أصل الأحكام كذلك. نعم يرد عليه أنّ دعوى القطع بجعل الطرق في ذلك الحال لا مستند لها.

نعم ، يرد على صاحب الفصول ، أنّ جعل الأحكام وإن كان ملازماً لجعل الطرق إليها ، إلاّ أنّ تلك الطرق لا تنحصر في الطرق التأسيسية ، بل يكفي في ذلك الطرق الامضائية ، بمعنى أنّه يوكلنا إلى ما جرت به الطريقة العقلائية من الطرق التي يسلكونها في أُمورهم العادية ، ومن جملتها أخبار الآحاد. ولعلّ الشيخ قدس سره في

ص: 54

إيراده ناظر إلى هذه الجهة ، وحاصله : أنّه لو انحصرت الطرق بالطرق التأسيسية لكان جعل الأحكام ملازماً لجعلها ، ولا يرد عليه حينئذ أنّه لو كان لظهر وبان ، لجواز اختفاء تلك الطرق الخاصّة علينا ، بحيث إنّه لم يحصل العلم التفصيلي بها كما ادّعاه الأُستاذ قدس سره واستنتجه من دعوى الإجماع على عدم جواز الاهمال ودعوى الإجماع على عدم جواز الاحتياط ، لكن الطرق التي يكون جعلها لازماً لجعل الأحكام لا تنحصر بالطرق التأسيسية ، بل يكفي الطرق الامضائية ، بمعنى أنّ الشارع يكون قد أوكلنا إلى الطرق العقلائية ، ويكون ذلك الايكال عبارة أُخرى عن إمضاء تلك الطرق العقلائية.

ولا يخفى أنّ هذه الطرق العقلائية لم يكن العلم بها منسدّاً علينا كي تصل النوبة إلى تعيينها بالظنّ ، لتكون النتيجة هي حجّية الظنّ بالطريق ، بل تكون نتيجة هذه الطريقة هي انفتاح باب العلم بالأحكام بواسطة الطرق العقلائية ، التي منها خبر الواحد ونحوه من الأمارات العقلائية ، التي ثبت امضاؤها بواسطة أنّ الشارع أوكلنا إليها في الايصال إلى أحكامه ، ولعلّ هذا هو مراد الشيخ قدس سره من الايراد أوّلاً ، وإن لم يكن تعبيره صريحاً فيه.

ومنه يظهر لك أنّا لو تكلّفنا في عبارة الفصول كما تكلّفه شيخنا قدس سره ، وحملنا الطرق التي ادّعى العلم الاجمالي بجعلها على الأعمّ من الطرق العقلائية الامضائية لكان ذلك ناقضاً لغرضه من استنتاج حجّية الظنّ بالطريق ، بل كان موجباً للعلم التفصيلي بالطريق ، وحينئذ لا يصلحه ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : بمعنى أنّه يعلم إجمالاً إمضاء بعض الطرق العقلائية الوافي بالأحكام الشرعية ، وقد خفي علينا ما أمضاه وانسدّ باب العلم به الخ (1) فإنّ صاحب الفصول قدس سره ليس عنده إلاّمجرّد أنّ

ص: 55


1- فوائد الأُصول 3 : 283.

جعل الأحكام ملازم لجعل الطرق ، فإذا حملنا الطرق على الطرق العقلائية ، وكان إيكال الشارع المكلّفين إلى تلك الطرق إمضاءً لها ، كانت جميع تلك الطرق العقلائية حججاً شرعية وطرقاً إمضائية ، إلاّما أخرجه دليل الردع من القياس والاستحسان ونحوه ممّا قد ثبت الردع عنه ، ولا ريب أنّ تلك [ الطرق ] العقلائية معلومة بالتفصيل ، فلا وجه لدعوى كون الممضى من تلك الطرق العقلائية هو بعضها ، فإنّ إيكال الشارع المكلّفين إلى بعض تلك الطرق لا يكون نافعاً في الملازمة بين جعل الأحكام وبين جعل الطرق إليها ، إذ كما يقبح من الشارع أن يجعل الأحكام ولا يجعل لنا طرقاً موصلة إليها ، فكذلك يقبح منه إيكالنا إلى بعض تلك الطرق العقلائية من دون أن يعيّنه لنا.

وأمّا قوله بعد هذه العبارة : بل قد تقدّم سابقاً أنّه لا يحتاج إلى الامضاء ، ويكفي عدم الردع عمّا بيد العقلاء من الطرق الخ (1) فلعلّه مناقض للعبارة السابقة ، فإنّ هذه العبارة الثانية إنّما تقال بعد فرض كون الذي أوكلنا إليه هو مطلق تلك الطرق العقلائية. والحاصل أنّ الجعل الامضائي بالنسبة إلى جميع الطرق العقلائية يوجب العلم التفصيلي بحجّيتها. مضافاً إلى أنّه يرد عليه ما أفاده الشيخ من أنّه لو كان لبان ، كما أنّه يرد إشكال الشيخ فيما لو كان الممضى هو البعض من تلك الطرق. أمّا الاكتفاء بعدم الردع فهو - أعني الاكتفاء بعدم الردع - يوجب حجّية الجميع لتساويها في عدم الردع.

وأمّا قوله في ذيل هذه العبارة : نعم لو كان مراده ما هو ظاهر كلامه من اختراع الشارع وتأسيسه طرقاً مخصوصة ، كان للمنع عن ذلك مجال واسع ، بل

ص: 56


1- فوائد الأُصول 3 : 283.

كان ينبغي القطع بعدمه ، لأنّ عدم نقلها كاشف قطعي على العدم الخ (1) فقد عرفت الإشكال فيه ، وأنّه لو كان مراد صاحب الفصول هو خصوص الطرق التأسيسية لم يرد عليه سوى منع القطع بذلك ، لجواز الايكال إلى الطرق العقلائية. أمّا دعوى القطع بعدمه ببرهان عدم النقل فهو غير وارد ، لما عرفت من أنّ عدم النقل لا يكشف عن العدم ، لجواز اختفاء ما جعله الشارع تأسيساً كاختفاء نفس الأحكام ، فراجع.

ومن ذلك كلّه ينقدح لنا مطلب آخر شرحناه في حاشية ص 69 وهو أنّ صاحب الفصول ليس عنده إلاّ الملازمة بين جعل الأحكام وجعل الطرق ، فلا ينتج من ذلك إلاّ أنّ الشارع قد جعل لنا طرقاً إلى تلك الأحكام ، ولكن لو تحقّق عندنا أنّه لم يجعل لنا طرقاً تأسيسية ، لثبت ما ذكرناه من أنّ نتيجة ذلك هو الايكال إلى الطرق العقلائية ، وهو عبارة عن إمضائها ، أمّا إذا احتملنا أنّ الطرق التي جعلها هي طرق تأسيسية ، ولم يعتن بأنّ عدم النقل كاشف قطعي عن عدم الجعل التأسيسي ، لم يكن لنا مندوحة عمّا ذكره صاحب الفصول من العلم الاجمالي بجعل الطرق أعمّ من أن تكون تأسيسية أو إمضائية ، فلا يبقى إلاّ أصالة عدم الجعل التأسيسي ، وهي غير نافعة في إحراز الايكال إلى الطرق العقلائية ، فراجع ما شرحناه في حاشية ص 69 (2) وتأمّل.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة قد اقتصر في الإشكال على ما أفاده

ص: 57


1- فوائد الأُصول 3 : 284.
2- وهي الحاشية على فوائد الأُصول 3 : 193 وقد تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 454 وما بعدها.

الشيخ قدس سره من الاعتراض أوّلاً على صاحب الفصول ، على مجرّد قوله فيما حرّرته عنه قدس سره : أمّا الإشكال الأوّل ، فلأنّ جعل الحجّية لو كان تأسيسياً لكان ثبوته متوقّفاً على ما ذكره من النقل ، وأمّا لو كان إمضاء لما جرت عليه الطريقة العقلائية فلا يتوقّف على ذلك ، انتهى.

وقال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه : وأمّا إذا كان غرضه ( يعني صاحب الفصول ) دعوى القطع بوجوب الرجوع في امتثال الأحكام إلى طرق مخصوصة ، وإن كانت حجّية تلك الطرق إمضائية من الشارع ولم تكن مجعولة له ابتداء ، فدون إثبات المنع من تلك الدعوى خرط القتاد (1).

ولا يخفى أنّه قدس سره لم يتعرّض ل- : ماذا تكون النتيجة لو كان مراد صاحب الفصول هو خصوص الطرق العقلائية أو كان مراده هو الأعمّ منها ومن الطرق التأسيسية ، وقد عرفت التفصيل في ذلك ، فتأمّل.

قوله : وكذا لا يرد عليه ( يعني على صاحب الفصول ) ما ذكره ( الشيخ قدس سره ) بقوله : وثانياً سلّمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم - إلى قوله - فإنّ المدّعى هو أنّ الشارع - إلى قوله - فلابدّ من أن يكون الطريق المنصوب غير الخبر المفيد للاطمئنان وقد انسدّ باب العلم به علينا ... الخ (2).

حاصل ما دفع به قدس سره إشكال الشيخ قدس سره على صاحب الفصول هو منع كفاية ذلك الطريق في معظم الفقه حتّى في ذلك العصر السابق ، وحينئذ لابدّ أن يكون

ص: 58


1- أجود التقريرات 3 : 246.
2- فوائد الأُصول 3 : 284.

الطريق الذي يدّعي صاحب الفصول نصبه هو غير الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد انسدّ علينا باب العلم به.

قلت : ويمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الخبر المفيد للوثوق التامّ كثير في ذلك العصر ، لما ذكرناه من توفّر أسباب الوثوق في ذلك العصر بخلاف عصرنا ، وحينئذ يكون ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : ثانياً ، متّجهاً على صاحب الفصول ، لعدم بقاء ذلك الطريق إلى عصرنا.

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال الشيخ قدس سره بأنّ الشارع الحكيم المطّلع على ما سيأتي من الأعصر المتأخّرة عن عصر أوليائه ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) لابدّ أن يجعل لهم ما يكون كافياً بمعظم الفقه ، ويكون ذلك الكافي واصلاً إليهم ولو بواسطة العلم الاجمالي به في ضمن طرق متعدّدة ، هذا ما يتعلّق بهذا التحرير.

ولكن الذي أفاده قدس سره في الدورة الأخيرة في مقام الجواب عن إشكال الشيخ قدس سره هو المنع من عدم البقاء بعد البناء على أنّ المجعول هو الطرق العقلائية ، فقد قال قدس سره فيما حرّرته عنه : فإنّ ذلك إنّما يتوجّه على الحجّة التأسيسية دون الامضائية ، حيث إنّ بقاءها إلى الآن بمكان من الامكان ، ومدّعي العلم الاجمالي به غير مجازف ، انتهى. وبنحو ذلك صرّح السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه قدس سره ، وذلك قوله : وأمّا ما أفاده ثانياً من عدم العلم ببقاء تلك الطرق - إلى قوله - لكنّها أجنبية عن دعوى صاحب الفصول ، الخ (1)

ص: 59


1- أجود التقريرات 3 : 246 - 247.

قلت : قد عرفت فيما تقدّم (1) أنّه لو كانت تلك الطرق هي الطرق العقلائية وقد جعلها الشارع إمضاءً لا تأسيساً ، لكان بقاؤها إلى زماننا كما هو المفروض موجباً لانحلال العلم الاجمالي الكبير ، ولا وجه لما حرّرته عنه بقولي : ومدّعي العلم الاجمالي به غير مجازف ، وذلك لأنّ العلم بحجّية تلك الطرق يكون تفصيلياً لا إجمالياً ، ومعه لا يتمّ لصاحب الفصول ما أراده من إثبات حجّية الظنّ بالطريق. نعم لو كان الممضى هو بعض تلك الطرق ولم يعيّنه لنا الشارع ، لكان من قبيل العلم الاجمالي ، لكنّك قد عرفت أنّ الايكال إلى بعض تلك الطرق من دون تعيينه أسوأ حالاً من عدم جعل الطرق ، الذي قلنا إنّه لا يجتمع مع جعل الأحكام ، إلاّ أن يدّعي صاحب الفصول أنّ ذلك الطريق العقلائي قد عيّنه الشارع ، إلاّ أنّ ذلك التعيين لم يصل إلينا ، وحينئذ يكون عدم وصول التعيين إلينا محقّقاً للعلم الاجمالي في حقّنا.

وحينئذ لا يمكن الجواب عنه إلاّبدعوى القطع بعدم التعيين ، وإلاّ فإنّ أصالة عدم التعيين لا تثبت أنّ الذي أوكلنا الشارع إليه هو مطلق الطرق العقلائية وحينئذ يكون احتمال التعيين كافياً في تحقّق العلم الاجمالي ، فتأمّل

قوله : إذ فيه أنّ ما هو المتيقّن في النصب من هذه الطرق هو ما ذكره بقوله وثانياً ، وهو الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد عرفت أنّه قليل لا يفي بالأحكام الشرعية ، والطرق الأُخر ليس فيها ما هو متيقّن الاعتبار ، بل احتمال النصب في كلّ واحد منها على حدّ سواء ... الخ (2).

يمكن التأمّل فيه بما عرفت في الايراد الثاني.

ص: 60


1- في الحاشية السابقة.
2- فوائد الأُصول 3 : 284.

قوله : وأمّا ما أفاده بقوله : ورابعاً سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن - إلى قوله - ففيه : أنّ الاحتياط في الطرق - مع أنّه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض ، وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام - يرجع إلى الاحتياط في الأحكام - إلى قوله - والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه ، وهذا بخلاف الظنّ بطريقية الطريق ، فإنّه لا يلازم الظنّ بالحكم حتّى يتوهّم أنّ اعتبار الظنّ بالطريق يرجع إلى اعتبار الظنّ بالحكم ... الخ (1).

ومحصّله الايراد على ما أفاده الشيخ قدس سره من جهتين ، الأُولى : أنّ الاحتياط في الطرق لا يمكن لتعارضها. والثانية : أنّ الاحتياط فيها راجع إلى الاحتياط في الأحكام التي تضمّنتها تلك الطرق ، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه.

وقد اقتصر في الدورة الأخيرة على الجهة الثانية ، فقد قال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه : ففيه أنّ الاحتياط في الطرق إنّما هو بالعمل بمؤدّى كلّ طريق ، فيؤول الأمر إلى الاحتياط في الأحكام الواقعية ، وقد فرضنا استلزامه للعسر المنفي في الشريعة (2).

وقد حرّرت عنه أيضاً ما هذا لفظه : ففيه : أنّ الاحتياط في الطرق إن كان بمعنى لزوم العمل بما هو محتمل الحجّية من حيث إنّه محتمل الحجّية ، ففيه أنّ ذلك ممّا لا وجه له ، لأنّ ذلك أشبه شيء بالعمل به بقصد كونه محتمل الحجّية ، ومن الواضح أنّه لا أثر لمجرّد الحجّية في وجوب العمل ، وإنّما الأثر للواقع الذي تكشف عنه ، ولأجل ذلك لا يجب العمل بما هو نافٍ منها ، ويختصّ وجوب العمل بما هو مثبت. وإن كان بمعنى لزوم العمل به من حيث احتمال التكليف

ص: 61


1- فوائد الأُصول 3 : 285.
2- أجود التقريرات 3 : 247.

الواقعي فيه ، فقد رجع إلى الجري على طبق الاحتمال ، الذي قد عرفت قيام الإجماع على عدم ابتناء الشريعة عليه ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذه المباحث قد تقدّمت (1) في الوجه الأوّل من الوجوه العقلية التي أُقيمت على حجّية خبر الواحد ، وذلك هو الوجه الذي قال فيه الشيخ قدس سره : أوّلها ما اعتمدته سابقاً ، وهو أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم في أنّ أكثر الأخبار بل جلّها إلاّما شذّ وندر صادرة عن الأئمّة عليهم السلام الخ (2).

وقد أورد عليه الشيخ قدس سره بايرادات ثلاثة ، كما أنّ شيخنا قدس سره قد قرّره بوجهين وأورد على كلّ من الوجهين بما تقدّم شرحه. ومن جملة تلك الايرادات الايراد بعدم إمكان الاحتياط ، على اختلاف في التحارير في تعليل عدم إمكانه ، وأنّه من جهة التعارض بين تلك الأخبار ، أو من جهة العسر والحرج ، أو من جهة الإجماع على عدم وجوب الاحتياط ، أو على عدم جوازه ، كما قد اختلفت التحارير هنا. وقد شرحنا الوجه في مانعية التعارض لتوقّف إعمال قواعده على إعمال أصالة الظهور ، وأنّه لا وجه لمانعية العسر والحرج ، إذ لا يلزم ذلك في العمل بمقتضى تلك الطرق. وأمّا الإجماع على عدم وجوبه فلو سلّم فإنّما هو في الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي الكبير ، دون هذا العلم الاجمالي الصغير المتعلّق بالأحكام الواقعية الموجودة في ضمن الطرق ، أو المتعلّق بالأحكام الظاهرية التي هي متحصّلة من تلك الطرق.

نعم ، يتّجه الإشكال في دعوى الإجماع على عدم جواز الاحتياط ، فإنّه لو

ص: 62


1- في فوائد الأُصول 3 : 196 وما بعدها ، وقد تقدّمت حواشي المصنّف قدس سره على ذلك البحث في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 468 وما بعدها.
2- فرائد الأُصول 1 : 351.

سلّم يكون موجباً لعدم جواز الاحتياط مطلقاً ، سواء كان في أطراف العلم الاجمالي الكبير أو كان في أطراف [ العلم ] الاجمالي الصغير. ولكن هذا كلّه مبني على أنّ دعوى صاحب الفصول هي مجرّد انحلال الكبير إلى الصغير مع كون الاحتياط في نفس الحكم الواقعي المحتمل ، أمّا إذا كانت دعواه راجعة إلى تبدّل الواقعيات إلى مؤدّيات الطرق كما عرفت فيما تقدّم (1) ، فلا يتّجه عليه شيء من هذه الإشكالات من ناحية الاحتياط ، كما أنّه قد تقدّم (2) الكلام في تحويل الاحتياط في الطرق إلى الاحتياط في نفس الأحكام الواقعية الموجودة في تلك الطرق ، فراجع تفاصيل تلك المباحث ، ومن جملة تلك المباحث ما تعرّض له الشيخ قدس سره (3) من الايراد الخامس الذي شرحه شيخنا قدس سره (4) بتوقّف الحجّية على العلم التفصيلي بها حكماً وموضوعاً ، وقد شرحناه في تلك المباحث ، فراجع (5).

وينبغي أن يعلم أنّ الإشكال الخامس في كلام الشيخ قدس سره إنّما هو راجع إلى عدم التفاوت بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق في كون كلّ منهما موجباً للظنّ ببراءة الذمّة ، وهذا المقدار من الإشكال إنّما يتوجّه على الفصول لو كان مبناه هو مجرّد الانحلال ، أمّا لو كان مبناه هو التقييد وتحوّل الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق ، فلا يتوجّه عليه الإشكال المزبور.

ص: 63


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 52.
2- راجع فوائد الأُصول 3 : 203 - 204 وللمصنّف قدس سره حاشية على ذلك تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 491 وما بعدها.
3- فرائد الأُصول 1 : 446.
4- فوائد الأُصول 3 : 285.
5- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 499 وما بعدها.

وقد أشار الشيخ قدس سره إلى ذلك في آخر ما أفاده في تقرير الإشكال الخامس فقال - بعد أن ساوى بين الظنّ بالطريق والظنّ بالواقع بالنسبة إلى الطريق المنصوب في عرض العلم في حال الانفتاح ، وبعد أن ساوى أيضاً بينهما بالنسبة إلى الطريق المنصوب في حال الانسداد بعد فرض عروض الاشتباه على ذلك الطريق - ما هذا لفظه : وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، كما ينبئ عنه قوله : وحاصل القطعين إلى أمر واحد ، وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤدّيات الطرق ، وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهّم إن شاء اللّه تعالى (1).

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الذي أفاده شيخنا قدس سره في أوّل تقريب الإشكال الخامس كأنّه إشكال آخر لا دخل له بإشكال الشيخ قدس سره ، نعم ما أفاده شيخنا قدس سره في آخر هذا التقريب بقوله : لعدم التفاوت بين العمل بالظنّ بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدّى الطريق المظنون الخ (2) ، راجع إلى إشكال الشيخ قدس سره ، وكأنّ ما قدّمه عليه برهان توضيحي لما أفاده الشيخ قدس سره واستنتجه شيخنا قدس سره من التسوية بين الظنّين ، ولكن سيأتي (3) إن شاء اللّه تعالى أنّ هذا البرهان لو تمّ لكان مقتضاه هو اختصاص الظنّ بالظنّ بالواقع ، دون الظنّ بالطريق.

وأمّا ما أفاده قدس سره بعد ذلك فيما حكاه عنه في هذا التحرير بقوله : مضافاً إلى

ص: 64


1- فرائد الأُصول 1 : 447.
2- فوائد الأُصول 3 : 286.
3- في الصفحة : 71.

أنّ ما ذكره من الدليل - إلى قوله - وذلك يقتضي كفاية الظنّ بأنّ الحكم الكذائي مؤدّى طريق معتبر الخ (1) ، فهو موافق لما في الكفاية بقوله : مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر الخ (2).

قلت : بل يمكن القول بأنّ الظنّ بالحكم الواقعي مطلقاً يلازم الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، بناءً على ما ذكره صاحب الفصول من أنّ جعل الأحكام ملازم لجعل طرق وافية بها ، خصوصاً إذا كان بناؤه على الصرف والتقييد ، فتأمّل.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس سره بعد أن نقل كلام الفصول قال : وفيه أوّلاً : بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، وعدم وجود ( القدر ) المتيقّن بينها أصلاً ، أنّ قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن (3).

وقوله : بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة ، إشارة إلى الايراد الأوّل من إيرادات الشيخ قدس سره على صاحب الفصول. وقوله : باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، إشارة إلى إيراده الثاني عليه. وقوله : وعدم وجود ( القدر ) المتيقّن بينها أصلاً ، إشارة إلى إيراده الثالث. وقوله : إنّ قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق ، إشارة إلى إيراده الرابع. وقوله فيما بعد ذلك : وثانياً لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزّل إلى الظنّ فتوهّم الخ ، إشارة إلى إيراده الخامس.

ص: 65


1- فوائد الأُصول 3 : 286 - 287.
2- كفاية الأُصول : 318.
3- كفاية الأُصول : 317.

قوله : لا يقال : الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه (1).

دليل الأوّل - أعني عدم وجوب الاحتياط - هو العسر والحرج. ودليل الثاني - أعني عدم جوازه - هو اختلال النظام ، وليس المراد من عدم جواز الاحتياط هو ما اشتملت عليه كلمات الشيخ وشيخنا قدس سرهما من دعوى الإجماع على بطلان الاحتياط وعدم جوازه ، وإلاّ لكان ذلك مسقطاً للاحتياط حتّى في الموارد التي قامت عليها الطرق المذكورة بلا معارضة.

وقوله : لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ (2).

حاصله أنّ العسر والحرج أو اختلال النظام إنّما يكون في الاحتياط في جميع أطراف العلم الاجمالي الكبير ، أمّا هذا الاحتياط الذي ندّعيه فإنّه منحصر في أطراف الطرق بعد انحلال ذلك العلم الاجمالي إلى مؤدّيات الطرق ، ولا ريب في قلّة أطرافه بالنسبة إلى أطراف العلم الاجمالي الكبير ، على وجه لا يلزم منه العسر والحرج ، فضلاً عن اختلال النظام.

ثمّ أخذ في بيان هذه الأقلّية فقال : فإنّ قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها ، والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف (3). وهو واضح.

ثمّ أخذ في بيان هذه القلّة من جهة أُخرى فقال : وكذا ( يعني يسقط الاحتياط ) فيما إذا نهض الكل على نفيه.

ولا يخفى أنّه تصوّر بعيد ، بل يمكن القطع بعدم وقوعه ، فإنّ الظاهر من

ص: 66


1- كفاية الأُصول : 317.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

هذه العبارة هو أن يكون كلّ واحد من أصناف هذه الطرق ناهضاً على نفي التكليف في مورد من الموارد ، ولا ينبغي الريب في عدم وقوع ذلك فيما بأيدينا من الطرق ، إلاّ أن يكون مراده هو نهوض البعض وسكوت البواقي ، لكنّه خلاف الظاهر من هذه العبارة. وعبارته في حاشيته على الرسائل هي أظهر فيما ذكرناه من هذه العبارة ، فإنّه قال فيها في مقام تعداد موارد سقوط الاحتياط : ومنها ما نهض جميع أطرافه على نفي التكليف ، للعلم بقيام طريق معتبر حينئذ على النفي وهو واضح (1). ولا يخفى أنّ هذه العبارة صريحة في أنّ مراده هو اتّفاق جميع الأطراف في النهوض على نفي التكليف ، الذي عرفت القطع بعدم وقوعه ، فتأمّل.

قوله : وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه ... الخ (2).

قد عرفت أنّ اللازم على مسلك الفصول في هذه الصورة هو العمل على طبق المثبت فيما لو كانا من سنخين ، لاحتمال كون المثبت منهما من الطرق المجعولة ، والنافي منهما وإن كان يحتمل فيه ذلك ، إلاّ أنّ الاحتياط في الطرق لا يكون جارياً في النافي ، هذا إذا كانا من سنخين ، كخبر يقوم على وجوب الفعل مثلاً وشهرة تقوم على عدم وجوبه.

أمّا لو كانا من سنخ واحد كما هو مراد المصنّف بقرينة قوله : فردان من بعض الأطراف ، فلا يكون الاحتياط فيه لازماً ، كخبرين قام أحدهما على وجوب الفعل والآخر على عدم وجوبه ، لأنّ المكلّف يقول : إنّما يجب عليّ الاحتياط لاحتمال الحجّية ، فإن كان كلّي ذلك السنخ حجّة تعارض الفردان المذكوران ،

ص: 67


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 87.
2- كفاية الأُصول : 317.

فيقدّم الأرجح منهما ، فيكون المقدّم هو النافي لو كان أرجح من المثبت ، بل مع عدم رجحان المثبت. هذا إذا كانا خبرين. ولو كانا شهرتين لم يقدّم الأرجح ولو كان هو المثبت ، بناءً على اختصاص الترجيح بالأخبار. وإن لم يكن ذلك السنخ حجّة كنّا في راحة منهما.

وكذلك يسقط الاحتياط فيما لو تعارض اثنان منها في الايجاب والتحريم ، سواء كانا من سنخين كما هو ظاهر عبارته ، أو كانا من سنخ واحد كخبرين أو شهرتين. نعم لو كانا خبرين كان التقدّم بالرجحان ، وعند التساوي يحكم بالتخيير العقلي لكونه من قبيل الدوران بين المحذورين ، كما لو لم يكونا خبرين بل كانا شهرتين.

ومن ذلك يظهر لك أنّ تعارض هذه الطرق لا يقف عثرة في سبيل الاحتياط بتلك ، كما هو ظاهر ما حكي عن شيخنا قدس سره في هذا التحرير بقوله : ففيه أنّ الاحتياط في الطرق مع أنّه لا يمكن ، لمعارضة بعضها مع بعض الخ (1).

قوله : وكذا كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به ، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك (2).

كان الأنسب جعل هذه الجملة إلى جنب قوله : والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف. فيقال حينئذ أمّا لو كان الأصل مثبتاً فإنّه وإن لزم العمل على طبقه ، فيكون حاله حال الاحتياط في كونه جرياً على طبق التكليف وإن لم يكن المورد من مؤدّيات الطرق ، لكنّه ربما سقط ذلك الأصل المثبت كما في كلّ

ص: 68


1- فوائد الأُصول 3 : 285.
2- كفاية الأُصول : 317 - 318.

ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فيه الخ.

قوله قدس سره : وثانياً لو سلّم أنّ قضيته الخ (1).

قد عرفت أنّ هذا إشارة إلى الإيراد الخامس الذي أورده الشيخ قدس سره على الفصول ، لكن فيه زيادة على ما أفاده الشيخ قدس سره ، فإنّ الشيخ قدس سره قد اقتصر في الايراد الخامس على مجرّد التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق في تحصيل براءة الذمّة. أمّا الزيادة فهي صورة احتمال وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً ، مع فرض الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، مع عدم حصول الظنّ بأنّ الدعاء واجب ، ولا الظنّ بحجّية طريق أصلاً.

وزيادة أُخرى وهي أنّ الظنّ بالواقع وإن سلّمنا لصاحب الفصول أنّه لا عبرة به من ناحية كونه ظنّاً بالواقع ، إلاّ أنّ الظنّ بالواقع في خصوص ما يعمّ الابتلاء به ملازم لما هو المطلوب لصاحب الفصول من الظنّ بالطريق ، فإنّ الظنّ بما تعمّ به البلوى ملازم للظنّ بقيام طريق معتبر عليه ، وذلك هو ما أفاده بقوله قدس سره : مع أنّ الالتزام بذلك غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف الخ (2). بل قد عرفت (3) أنّ الظنّ بالتكليف الواقعي ملازم مطلقاً للظنّ بالطريق ، بناءً على مسلك الفصول من أنّ الشارع بعد جعله الأحكام قد جعل لها طرقاً ، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك ممّا يندر الابتلاء به ، أو كونه ممّا يكثر الابتلاء به ، للملازمة بين جعل الحكم وجعل الطريق المؤدّي إليه.

وهناك زيادة ثالثة ، وهي أنّه لو ظنّ بحجّية الشهرة مثلاً القائمة على وجوب

ص: 69


1- كفاية الأُصول : 318.
2- نفس المصدر.
3- في الصفحة : 64 - 65.

الدعاء عند رؤية الهلال ، لكن لم يحصل الظنّ بالواقع من هذه الشهرة ، لكان اللازم على الفصول عدم الاعتناء بتلك الشهرة بناءً على طريقته من التقييد ، فإنّ القيد وإن كان مظنوناً وهو الطريق ، لكن المقيّد وهو الواقع لم يكن مظنوناً ، فلم يحصل حينئذ لنا ظنّ بالواقع المقيّد ، وهذا ما أشار إليه بقوله : والظنّ بالطريق ما لم يظن باصابته الواقع غير مجدٍ بناءً على التقييد الخ (1).

قلت : نعم ، إنّه يجدي بناءً على الصرف المجرّد الذي هو عبارة عن انقلاب الأحكام الواقعية وتبدّلها إلى مؤدّيات الطرق. ولا يخفى أنّه بناءً على التقييد لا يرد النقض الأوّل على صاحب الفصول وهو الزيادة الأُولى ، أعني ما لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، مع فرض الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، مع عدم حصول الظنّ بالوجوب ولا الظنّ بحجّية طريق ، ولو حمل على خصوص حصول الظنّ بالوجوب كان داخلاً في قوله : ومن الظنّ بالواقع ، بناءً على كونه ملازماً للظنّ بالطريق ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر ممّا أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير (2) هو التعرّض للزيادة الأُولى والثانية ، لكنّه تعرّض في صدر الايراد الخامس إلى أنّ العلم الاجمالي بجعل الطرق لا يوجب انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى مؤدّيات الطرق ، لأنّ مجرّد جعل الطريق ما لم يكن واصلاً تفصيلاً إلى المكلّف لا يترتّب عليه أثر الحجّية من التنجيز والمعذورية ، ولا يمكن إجراء الأُصول المرادية فيه من أصالة الظهور وجهة الصدور وغير ذلك ممّا يرجع إلى الأُصول المرادية ، وهذا الإشكال قد أشكله قدس سره على التقريب الثاني للاستدلال الأوّل من الأدلّة العقلية التي أقاموها

ص: 70


1- كفاية الأُصول : 318.
2- فوائد الأُصول 3 : 286 - 287.

على حجّية خبر الواحد ، أعني العلم بصدور جملة ممّا بأيدينا من الأخبار.

وقد ذكرنا هناك (1) أنّ هذا الإشكال لو تمّ لتوجّه على التقريب الأوّل ، الراجع إلى انحلال العلم الاجمالي الكبير بالتكاليف الواقعية إلى العلم بالتكاليف الواقعية الموجودة فيما بأيدينا من الأخبار ، فإنّ تلك الأخبار بعد أن كانت الأُصول العقلائية منسدّة فيها ، كيف يمكننا أن نقول إنّ في جملة منها من التكاليف ما هو بمقدار المعلوم بالإجمال ، ليلزمنا العمل بها جميعاً ، وذلك لأنّ انسداد باب الأُصول المرادية فيها يوجب عدم التمكّن من العمل بها ، بل تكون حينئذ كلّها من المجملات.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على هذا الإشكال يكون الأمر منحصراً بالظنّ بالواقع ، ولا يكون للظنّ بالطريق المجرّد عن الظنّ بالواقع أثر ، وحينئذ تبطل التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، إلاّ إذا كان ذلك الطريق المظنون الحجّية موجباً للظنّ بالواقع ، فتأمّل جيّداً فإنّ مقتضى قوله : فإنّ هذه الآثار إنّما ترتّب على الطريق الواصل إلى المكلّف تفصيلاً لتجري فيه الأُصول اللفظية والجهتية ، بداهة أنّ الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه موضوعاً وحكماً ، لا يجري فيه الأصل اللفظي من أصالة إرادة الظهور ، والأصل الجهتي من أصالة كون صدوره لبيان حكم اللّه الواقعي لا لتقيّة الخ (2) هو أنّ حجّية الخبر مثلاً منوطة بالعلم التفصيلي بها ، على وجه لا يمكننا الأخذ بأصالة الظهور فيه ونحوها ، وإن كان هو من أطراف علم إجمالاً بحجّية بعضها ، وحينئذ فلو ظننا بحجّية الخبر مثلاً ، ولكن لم يكن ذلك الخبر مفيداً للظنّ بالواقع ، فهل يمكننا العمل به ما لم نجر فيه

ص: 71


1- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 503.
2- فوائد الأُصول 3 : 285 - 286.

الأُصول المرادية الموقوفة حسب الفرض على العلم التفصيلي بحجّيته ، وكيف يمكننا العمل بذلك الخبر المظنون الحجّية الذي لم تجر فيه الأُصول المرادية ، التي يكون عدم جريانها فيه موجباً لاجماله وإهماله ، بل عدم فهم شيء منه ولو مهملاً مجملاً.

إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ بأنّه حجّة يوجب الحكم بحجّيته ولو بواسطة دليل الانسداد ، وحينئذ تكون حجّيته بمنزلة المعلومة تفصيلاً ، فينفتح فيه باب الأُصول المرادية ، لكن هذا إنّما يمكن إتمامه على الكشف ، أمّا على الحكومة فلا يتمّ ، إذ لا يكون في البين إلاّما يقتضيه العقل من لزوم تفريغ الذمّة علماً مع إمكانه ، أو ظنّاً مع عدم إمكان العلم ، أو لزوم التبعيض في الاحتياط والاقتصار فيه على التكاليف المظنونة ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما هو مظنون الطريقية مع عدم الظنّ بالواقع وإنّما يتأتّى في الظنّ بالواقع دون مجرّد الظنّ بالطريقية.

نعم ، إنّ الظنّ بالطريق يوجب الظنّ بالحكم الظاهري ، لكن بعد فرض أنّ الأُصول المرادية غير متوقّفة على العلم التفصيلي ، أمّا بعد فرض كون الأُصول المرادية متوقّفة على العلم التفصيلي بالحجّية ، لا يكون الظنّ بالحجّية موجباً للظنّ بالحكم الظاهري ، لتوقّف الحكم الظاهري على جريان الأُصول المرادية ، والمفروض عدم جريانها فيما هو مظنون الحجّية ، فتأمّل جيّداً.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده من التسوية بقوله : نعم ، العمل بمؤدّى ما يظنّ كونه طريقاً يجزئ أيضاً ، لعدم التفاوت بين العمل بالظنّ بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدّى الطريق المظنون فيما هو المهمّ في نظر العقل من حصول الظنّ بالمؤمّن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم

ص: 72

بها الخ (1).

وكون المؤمّن في حال الانفتاح هو أحد الأمرين ، أعني العلم بالواقع والعلم بحجّية الطريق ، لا يوجب أن يكون المؤمّن في حال الإنسداد هو الظنّ بأحد الأمرين ، لأنّ العلم بحجّية الطريق موجب لجريان الأُصول المرادية فيه ، بخلاف الظنّ بالطريق فإنّه لا يوجب جريان الأُصول المرادية حسب الفرض ، فلا يكون العمل بمظنون الحجّية في حال الانسداد مؤمّناً ، بل لا يكون العمل به ممكناً مع فرض عدم جريان الأُصول المرادية فيه ، فتأمّل جيّداً ، وسيأتي (2) له مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى في البحث مع شريف العلماء القائل باختصاص نتيجة دليل الانسداد بحجّية الظنّ بالواقع ، دون الظنّ بالطريق.

قول صاحب الكفاية قدس سره : هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد ، غايته أنّ العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية ، والانحلال وإن كان ( في حدّ نفسه ) يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعية ، إلاّ أنّه ( أعني الانحلال المذكور إنّما يتحقّق ) إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً ، والفرض ( على ما يدّعيه صاحب الفصول هو ) عدم اللزوم ( من جهة لزوم العسر والحرج ) بل عدم الجواز (3) من جهة لزوم اختلال النظام ، ولأجل ذلك انتقل إلى الظنّ بالطريق ، ولم يلتزم بالاحتياط في جميع أطراف هذا العلم الاجمالي بالنصب من الطرق المحتملة النصب ، فإسقاطه

ص: 73


1- فوائد الأُصول 3 : 286.
2- في الحاشية الآتية في الصفحة : 99 وما بعدها. راجع الصفحة :2. 105.
3- كفاية الأُصول : 318.

الاحتياط في الطرق بتمامها ، وانتقاله إلى العمل بما هو مظنون الطريقية فقط دون مشكوكها وموهومها ، يدلّ على أنّه يرى أنّ الاحتياط في تمام تلك الطرق موجب للعسر والحرج أو موجب لاختلال النظام ، وإلاّ كان اللازم هو الاحتياط التامّ في تمام تلك الطرق.

ولا يخفى أنّه يمكن الجواب من ناحية صاحب الفصول ، بأن يقال : يكفي في الانحلال تأثير العلم الاجمالي الثاني في تبعيض الاحتياط في أطرافه ، وهذا المقدار من الأثر للعلم الاجمالي الثاني كافٍ في كونه موجباً لانحلال العلم الاجمالي الأوّل ، وتحويل تبعيض الاحتياط عن أطراف العلم الاجمالي الأوّل إلى أطراف العلم الاجمالي الثاني. لكن صاحب الكفاية قدس سره لا يرى كون العلم الاجمالي الموجب للعسر والحرج مؤثّراً في تبعيض الاحتياط ، بل يقول إنّ العسر والحرج موجب لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير بالمرّة ، لأنّ دليل العسر والحرج يكون رافعاً للتكليف الواقعي المعلوم في البين ، ومعه لا يبقى موجب لتبعيض الاحتياط.

ولأجل ذلك قال هنا : وعليه يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظنّ بها حال انسداد باب العلم كما لا يخفى ، ولابدّ حينئذ من عناية أُخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة وعدم إهمالها رأساً كما أشرنا إليها الخ (1). وإنّما احتاج إلى العناية الأُخرى لأجل ما عرفت من أنّه بعد سقوط الاحتياط في أطراف كلّ من العلم الاجمالي الصغير والعلم الاجمالي الكبير لأجل العسر والحرج الموجب لسقوط التكاليف الواقعية ، لابدّ لنا من عناية أُخرى توجب علينا تبعيض الاحتياط ، وتلك العناية هي ما أشار إليها في شرحه

ص: 74


1- كفاية الأُصول : 318 - 319.

لمقدّمات الانسداد (1) وصرّح بها فيما كتبه هنا على الهامش بقوله : وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللمّ من عدم الإهمال في حال الانسداد قطعاً إجماعاً بل ضرورة ، إلى آخر ما أفاده في الحاشية (2).

وقوله في الحاشية المشار إليها : وهو يقتضي التنزّل إلى الظنّ بالواقع حقيقة أو تعبّداً إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة الخ (3).

هذا إشارة إلى ما عليه المشهور من كون المكلّف به في حال الانفتاح هو الواقع الحقيقي ، أو الواقع التعبّدي الحاصل من مؤدّيات الطرق المعتبرة ، وحينئذ يكون التنزّل في حال الانسداد إلى الظنّ بأحدهما.

وقوله : وإلى الظنّ بخصوص الواقعيات التي تكون مؤدّيات الطرق المعتبرة أو بمطلق المؤدّيات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها الخ (4).

هذا إشارة إلى ما يظهر من مسلك صاحب الفصول من التزامه بأنّ المكلّف به في حال الانفتاح ليس مطلق الواقعيات ، بل إنّ المكلّف به في حال الانفتاح هو خصوص الواقعيات التي تكون مؤدّيات الطرق المعتبرة بناءً على التقييد ، أو مطلق المؤدّيات وإن لم تكن واقعية بناءً على الصرف ، وحينئذ يكون التنزّل في حال الانسداد إلى الظنّ بخصوص الواقعيات التي وقعت في مؤدّيات الطرق المعتبرة بناءً على التقييد ، أو إلى الظنّ بمطلق المؤدّيات وإن لم تكن واقعية بناءً على الصرف. وعلى كلّ حال ، فلا أثر للظنّ بالطريق لمجرّد كونه ظنّاً بالطريق ،

ص: 75


1- كفاية الأُصول : 312.
2- كفاية الأُصول : 319 ( الهامش ).
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.

وإن كان هو - أعني الظنّ بالطريق - كافياً ، لكونه ملازماً للظنّ بأنّ مؤدّى ذلك الطريق المظنون مؤدّى طريق ، فهو من هذه الجهة يكون محصّلاً للظنّ بمؤدّى الطريق المعتبر ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : فلا يكاد أن تصل النوبة إلى الظنّ بالطريق بما هو كذلك ، وإن كان يكفي ، لكونه مستلزماً للظنّ بكون مؤدّاه مؤدّى طريق معتبر (1). لكن إنّ الاكتفاء بذلك إنّما هو على تقدير الصرف ، أمّا على التقييد فلا ، إلاّ إذا انضمّ إلى الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر الظنّ بالواقع ، لما أفاده في المتن من أنّ الظنّ بمؤدّى الطريق لا يكفي ما لم ينضمّ إليه الظنّ بالواقع ، كما عرفت شرحه.

وقوله : كما يكفي الظنّ بكونه كذلك ( يعني مؤدّى طريق معتبر ، بأن يظنّ بأنّ الحكم الفلاني قد وقع مؤدّى لإحدى الطرق المعتبرة ) ولو لم يكن ( قد حصل للمكلّف ) ظنّ باعتبار طريق أصلاً كما لا يخفى (2).

لكن قد عرفت أنّه لابدّ في ذلك من انضمام الظنّ بذلك الحكم الواقعي إلى الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ، وإلاّ لم يكن كافياً بناءً على التقييد. نعم هو وحده - أعني الظنّ بأنّ الحكم الفلاني قد وقع مؤدّى طريق معتبر - كافٍ بناءً على الصرف ، فتأمّل.

قوله : وأنت خبير بأنّه لا وجه لاحتمال ذلك ( يعني الشقّ الثاني الذي هو مسلك صاحب الفصول ، أعني التقييد أو الصرف ) وإنّما المتيقّن هو ( ما عليه المشهور وهو ) لزوم رعاية الواقعيات ( الحقيقية أو التعبّدية ) في كلّ حال ( من الانفتاح أو الانسداد ، ففي حال الانسداد يكون كلّ من الظنّ بالواقع الحقيقي

ص: 76


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.

والظنّ بالواقعي التعبّدي كافياً. فإن قلت : إنّ مسلك صاحب الفصول وهو عدم الاعتناء بالظنّ بالواقع ، لا يتوقّف على الالتزام بالتقييد أو الصرف ، بل يكفيه العلم الاجمالي بجعل طرق بمقدار التكاليف الواقعية ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى مؤدّيات الطرق ، وحينئذ يكون التبعيض في خصوص مؤدّيات الطرق ، ولا يبقى أثر لاحتمال التكليف الواقعي ، فلا يلزم العمل بالظنّ بالتكليف الواقعي ما لم ينضمّ إليه الظنّ بكونه مؤدّى الطريق. قلت : هذا إنّما يتمّ لو قلنا بالانحلال ، وأنت ) بعد ( ما عرفت من توقّف الانحلال على لزوم رعاية العلم الاجمالي الثاني ، تعرف أنّه لا أثر للعلم الاجمالي الثاني المتعلّق بجعل الطرق ، بعد ما عرفت من ) عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالإجمال بين أطراف كثيرة ، فافهم (1) لئلاّ يختلط عليك جهة البحث بإصلاح ما رامه صاحب الفصول بذلك.

قوله : الوجه الثاني : ما أفاده المحقّق صاحب الحاشية مضافاً إلى الوجه الأوّل ... الخ (2).

قال في الحاشية : لا ريب في كوننا مكلّفين بأحكام الشريعة وأنّه لم يسقط عنّا التكاليف والأحكام الشرعية في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ، وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل منه العلم بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصيل القول فيه.

ص: 77


1- كفاية الأُصول : 319 الهامش [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف قدس سره لكلام صاحب الكفاية قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 3 : 287.

وحينئذ نقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ ، وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة لقيام دليل ظنّي على حجّيته ، سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم المكلّف ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع ظنّاً باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ والأخذ به ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل حسبما عرفت ، لزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه برضا المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام دليل ظنّي على حجّيته واعتباره في نظر الشرع يكون حجّة ، دون ما لم يقم عليه (1) ، انتهى كلامه قدس سره.

قوله قدس سره : وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف الخ.

المكلّف بالكسر ، والمراد - كما فسّره به - هو أنّه يجب علينا أوّلاً أي في حال الانفتاح تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا من التكاليف الواقعية ، أي يجب علينا أن نعمل عملاً نقطع بأنّ الشارع حكم عليه بأنّه مفرغ للذمّة.

قوله : بأن يقطع معه الخ.

لا وقع لهذا الظرف ، والصواب إسقاطه ، إذ لا مرجع في العبارة لضميره.

ص: 78


1- هداية المسترشدين 3 : 351 - 352.

قوله : سواء حصل منه.

الضمير راجع إلى القطع من قوله : بأن يقطع.

قوله قدس سره : كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه.

أي كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا والبراءة من التكليف.

قوله قدس سره : دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع.

الأولى إسقاط قوله : ما يحصل معه ، وإن أمكن توجيهه بجعل لفظة « ما » عبارة عن العمل ، أي دون العمل الذي يظنّ معه بأداء الواقع ، إلاّ أنّه لا حاجة إلى ذلك ، بل يكفي أن يقول : دون الظنّ بأداء الواقع.

قوله قدس سره : وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل الخ.

هذا هو عمدة مطلب هذا المحقّق قدس سره ، وبدونه لا يتمّ مطلبه ، بل يكون دعوى بلا دليل ، وحاصل ما يريده قدس سره : هو أنّه بعد أن ثبت الانتقال من وجوب تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ الذمّة إلى الظنّ بذلك ، نقول : إنّ الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة الذي هو المطلوب ، بخلاف الظنّ بالطريق فإنّه يستلزمه ، وشرح ذلك : هو أنّ جعل الطريق يستلزم الحكم باجزاء العمل على طبقه وكونه مفرغاً للذمّة ، وحينئذ فالعمل إذا كان على طبق طريق معلوم الاعتبار استلزم حصول ما هو المطلوب في حال الانفتاح ، أعني العلم بحكم الشارع بفراغ الذمّة ، وإذا كان العمل على طبق مظنون الاعتبار حصل ما هو المطلوب في حال الانسداد ، أعني الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة ، أمّا إذا عملنا على طبق الطريق المشكوك الاعتبار بأن ظننا أنّ الواقع كذا ، فعملنا على طبق ظنّنا من دون أن يكون ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، فلا يحصل لنا ما هو المطلوب من

ص: 79

الظنّ بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا ، إذ لا يحصل لنا في ذلك إلاّ الشكّ بالحكم المذكور ، حيث إنّ ملزومه أعني حجّية ذلك الطريق الذي هو الظنّ بالواقع مشكوكة.

وبالجملة : أنّ الحكم المذكور لازم لجعل الطريق وحجّيته ، فإنّ جعل الطريق يلزمه الحكم باجزاء العمل على طبقه ، وأنّ ذلك العمل مفرغ للذمّة ، فإن كانت حجّية الطريق الذي وقع العمل على طبقه معلومة ، كان تحقّق الحكم المذكور معلوماً ، وإن كانت مظنونة كان الحكم المذكور مظنوناً ، وإن كانت مشكوكة كان الحكم المذكور مشكوكاً ، وإذا لزم بحكم العقل التنزّل من وجوب تحصيل العلم بالحكم المذكور إلى وجوب تحصيل الظنّ به ، تعيّن العمل على طبق الطريق المظنون الحجّية ، ليكون الحكم المذكور حينئذ مظنوناً ، دون العمل على طبق الظنّ بالواقع وإن لم يكن مظنون الحجّية ، إذ لا يحصل حينئذ ما هو المطلوب من تحصيل الظنّ بالحكم المذكور ، بل ربما يحصل الظنّ أو القطع بعدم الحكم المذكور ، أعني حكم الشارع بفراغ الذمّة.

بل قد يقال : إنّه يحصل القطع أو الظنّ بحكم الشارع بعدم فراغ الذمّة ، نظراً إلى النهي عن اتّباع الظنّ ، حيث إنّ النهي عن اتّباعه يستلزم الحكم بعدم إجزاء العمل على طبقه ، كما أنّ الأمر باتّباعه يستلزم الحكم بإجزاء العمل على طبقه. والغرض من قوله قدس سره : وبينهما بون بعيد الخ أنّ النسبة بين ما هو المطلوب في حال الانسداد ، أعني حكم الشارع ببراءة الذمّة ، وبين الظنّ بالواقع ، عموم من وجه ، فإنّ الأوّل لا يتحقّق إلاّمع الأخذ بما يظنّ كونه طريقاً معتبراً ، سواء حصل معه الظنّ بأداء الواقع أو لم يحصل ، والثاني - أعني مجرّد الظنّ بالواقع - يجتمع مع الظنّ بحكم الشارع بفراغ الذمّة كما إذا كان ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، ومع عدم

ص: 80

الظنّ بالحكم المذكور كما إذا لم يكن ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، فيجتمعان فيما لو كان الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار ، إذ حينئذ يجتمع الظنّ بالواقع مع الظنّ بالحكم المذكور ، وينفرد الظنّ بالحكم المذكور عن الظنّ بالواقع فيما لو أخذ بما هو مظنون الاعتبار ولم يحصل معه ظنّ بأداء الواقع ، وينفرد الظنّ بالواقع عن الظنّ بالحكم المذكور فيما لو لم يكن الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار.

قوله : فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل الخ.

ذلك إشارة إلى الظنّ بحكم الشارع بالبراءة.

قوله : لزم اعتبار أمر آخر.

أي غير الظنّ بالواقع ، لما عرفت من أنّ مجرّد الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ بحكم الشارع ببراءة الذمّة ، الذي هو المتعيّن تحصيله بمقتضى العقل.

قوله : وليس ذلك.

أي الأمر الآخر الذي يظنّ معه برضا الشارع بالعمل على طبقه ، ويكون مستلزماً لحصول المطلوب ، أعني الظنّ بالحكم المذكور.

قوله : إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته.

أي حجّية الطريق الذي يكون العمل على طبقه. ولكن الظاهر منه [ أنّ ] الضمير المذكور راجع إلى الظنّ بالواقع ، ولازم ذلك أن يكون الحجّة هو خصوص الظنّ بالواقع المظنون الاعتبار ، والمفروض أنّ الحجّة عند هذا المحقّق هو مجرّد الظنّ بالطريق ، سواء حصل معه الظنّ بالواقع أم لم يحصل كما عرفت فيما تقدّم ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو أنّه في مورد حصول الظنّ بالواقع لا يكتفى بذلك الظنّ ، بل لابدّ من اعتبار أمر زائد عليه ، وهو الدليل الظنّي الدالّ على حجّية ذلك الظنّ ، فإنّ الدليل المذكور هو المدار وهو المستلزم للظنّ بحكم

ص: 81

الشارع بفراغ الذمّة ، ولا يحتاج معه إلى انضمام الظنّ بالواقع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ أساس مطلب هذا المحقّق مقدّمتان :

الأُولى : أنّه يلزم علينا أوّلاً أن نحصّل العلم بحكم الشارع ببراءة ذمّتنا ، وذلك حاصل بالعلم بالواقع وبالعلم بحجّية الطريق المؤدّي إلى الواقع ، وإذا انسدّ علينا باب العلم بذلك وجب علينا تحصيل الظنّ بالحكم المذكور.

الثانية : أنّ العمل بالطريق المظنون الاعتبار مستلزم للظنّ بالحكم المذكور ، حيث إنّ جعل الطريق مستلزم للحكم المذكور ، فإذا كان الجعل مظنوناً كان الحكم المذكور مظنوناً ، وهذا بخلاف العمل على طبق الظنّ بالواقع ، فإنّه لا يستلزم الظّن بالحكم المذكور ، لعدم كون الظنّ بالواقع مظنون الاعتبار كي يكون الظنّ باعتباره مستلزماً للظنّ بحكم الشارع بإجزاء العمل على طبقه.

وإذا تمّت هاتان المقدّمتان كان الظنّ بالطريق هو الحجّة في حال الانسداد دون الظنّ بالواقع.

ولا يخفى أنّ الحجر الأساسي لمطلبه إنّما هو المقدّمة الأُولى ، وأمّا الثانية فهي متفرّعة على الأُولى ، كما أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون المقدّمات ثلاثاً أيضاً ليس إلاّمن قبيل ما يتفرّع على المقدّمة الأُولى.

وكيف كان ، فقد أورد في الكفاية (1) على هذا الاستدلال أوّلاً : بمنع كون فراغ الذمّة من الأُمور القابلة للحكم الشرعي ، كي يقال إنّه يجب علينا تحصيل العلم بحكم الشارع بفراغ ذمّتنا.

وثانياً : بالنقض بنفس الحكم الواقعي ، فكما أنّ جعل الطريق يستلزم الحكم بفراغ الذمّة بالعمل على طبقه ، فكذلك جعل الحكم الواقعي أيضاً ، فإنّه

ص: 82


1- كفاية الأُصول : 320 - 321.

يلزمه الحكم ببراءة الذمّة بالعمل على طبقه ، فيلزمه أن يكون الظنّ بالحكم الواقعي مستلزماً للظنّ بالحكم ببراءة الذمّة بالعمل على طبقه ، فيلزمه أن يكون الظنّ بالحكم الواقعي حجّة أيضاً.

وثالثاً : بأنّ الظنّ بالواقع ملازم غالباً للظنّ بأنّه مؤدّى طريق من الطرق المجعولة ، إذ لا ينفكّ غالباً الظنّ بالواقع عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر في المسائل العامّة البلوى ، والظنّ بأنّه مؤدّى طريق من الطرق يوجب الظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، فيكون الظنّ بالواقع ملازماً للظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، فلا خصوصية لقيام الظنّ على حجّية ظنّ مخصوص.

ولا يخفى أنّ ما أورده على صاحب الحاشية ثانياً قد أورده صاحب الحاشية على نفسه بطريق « إن قلت » ، وأجاب عنه بجواب مفصّل حاصله : أنّ الظنّ بالواقع لا يلازم الظنّ باعتبار ذلك الظنّ ليكون ملازماً للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، بل ربما كان ذلك الظنّ مشكوك الاعتبار ، أو كان اعتباره معلوم العدم (1).

ولكن هذا الايراد غير مندفع بذلك ، إذ ليس المقصود هو الانتقال من الظنّ بالواقع إلى الظنّ بحكم الشارع بالفراغ بواسطة كون ذلك الظنّ مظنون الاعتبار ، بل إنّ المقصود هو أنّ كلاً من الطريق ونفس الحكم الواقعي ملازم للحكم بالفراغ ، فكما أنّا ننتقل من الظنّ بالطريق إلى الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فكذلك ننتقل من الظنّ بالواقع إلى الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فإنّ الحكم الواقعي لو لم يكن ملازماً للحكم الشرعي بالفراغ عند الاتيان به ، لكان العلم بالحكم الواقعي غير ملازم للحكم الشرعي بالفراغ ، حيث إنّ حجّية القطع ليست شرعية كي يكون جعل الحجّية للقطع ملازماً للحكم الشرعي بأنّ العمل على طبقه مفرغ للذمّة ،

ص: 83


1- هداية المسترشدين 3 : 353 وما بعدها.

وإنّما هي - أعني حجّية القطع - عقلية صرفة ، فلا يكون الملازم للقطع بالفراغ عند العمل على طبق القطع إلاّ أنّ نفس الحكم الشرعي الواقعي المقطوع به ملازم للحكم الشرعي بأنّ الاتيان بمتعلّقه مجزئ ومبرئ للذمّة ، وحينئذ فيكون الظنّ بالحكم الواقعي ملازماً للظنّ بالفراغ بالعمل على طبقه ، حتّى لو كان ذلك الظنّ المتعلّق بالواقع حاصلاً من القياس ، غايته أنّ ذلك الظنّ القياسي لو كان مخالفاً للواقع لكان غير موجب للمعذورية ، لا أنّه - أعني ذلك الظنّ - غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، فإنّا لو قلنا بأنّ الظنّ القياسي المتعلّق بالواقع غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، لكان الظنّ القياسي المتعلّق بحجّية طريق مثل الشهرة غير موجب للظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ.

وبالجملة : كما أنّ الظنّ المتعلّق بالواقع قد يكون مظنون الاعتبار و[ قد ] يكون مشكوكه وقد يكون اعتباره معلوم العدم ، فكذلك الظنّ المتعلّق بحجّية الطريق فإنّه أيضاً قد يكون مظنون الاعتبار ، وقد يكون مشكوكه ، وقد يكون اعتباره معلوم العدم.

ثمّ إنّ الظاهر ممّا أفاده شيخنا قدس سره في مناقشاته مع صاحب الحاشية هو أنّه راجع إلى إنكار المقدّمة الأُولى ، وأمّا ما أفاده قدس سره أخيراً (1) من أنّه لا أثر للطريق مع عدم وصوله إلى المكلّف وعدم العلم التفصيلي بجعله ، فهو راجع إلى ما أورد به فيما تقدّم على ذلك الدليل العقلي الذي استدلّوا به لحجّية خبر الواحد ، وعلى الدليل المتقدّم لحجّية الظنّ بالطريق ، وقد تقدّم تفصيل البحث فيه ، فراجع (2) وتأمّل.

ص: 84


1- فوائد الأُصول 3 : 292 - 293.
2- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 499 وما بعدها.

ولا يخفى أيضاً أنّه يمكن سوق كلّ واحد من الدليلين على وجه يكون دليلاً مستقلاً لاثبات حجّية الظنّ بالطريق ، لا أنّه يكون من فروع دليل الانسداد ، وأنّه على تقدير تمامية مقدّمات دليل الانسداد هل تكون النتيجة هي حجّية الظنّ بالواقع أو حجّية الظنّ بالطريق. وإن شئت قلت : إنّ الأوّل استدلال بالانسداد في نفس الطريق ، والثاني استدلال بالانسداد فيما يكون محصّلاً للحكم الشرعي بالفراغ.

فالأولى جعلهما دليلين مستقلّين كما صنعه صاحب الحاشية وصاحب الفصول ، فإنّ الذي صنعه صاحب الحاشية هو جعل الدليلين المذكورين مع باقي الأدلّة الثمانية من أدلّة الظنون الخاصّة ، في قبال القول بحجّية مطلق الظنّ ، وجعل دليل الانسداد هو الأوّل من أدلّة حجّية مطلق الظنّ ، والثاني منها هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فإن تمكّنا من ذلك بطريق العلم ، وإلاّ كان اللازم هو طريق الظنّ ، والثالث هو دفع الضرر المظنون.

وأمّا صاحب الفصول فإنّه ذكر لحجّية الخبر أدلّة ثمانية أو عشرة على اختلاف النسخ ، أربعة منها الآيات الشريفة ، الخامس الإجماع ، السادس سيرة المسلمين ، السابع قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) الخ (1) الثامن الأخبار المتواترة ، التاسع أنّه تمسّك وطاعة للعترة الطاهرين ، العاشر الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم ، وقرّره بوجهين : الأوّل منهما قال فيه : وهو المعتمد وإن لم يسبقني إليه أحد : وهو أنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون ، إلى آخر ما ذكره بما تقدّم نقله (2). الوجه الثاني وهو المعروف في ألسنة المتأخّرين : أنّ التكليف بالأحكام ثابت في حقّنا

ص: 85


1- التوبة 9 : 61.
2- راجع فوائد الأُصول 3 : 281.

بالضرورة ، وطريق العلم إليها منسدّ غالباً الخ (1) ، فنراه جعل الدليل المذكور دليلاً مستقلاً ، لا أنّه من تنبيهات دليل الانسداد المعروف ومن فروعه. نعم إنّ هذا التقريب لو تمّ لم يكن له خصوصية في الأخبار ، بل يشمل كلّ طريق مظنون الطريقية.

وأمّا ما في الكفاية (2) من الايراد الثالث ، فهو إنّما يتّجه على صاحب [ الفصول ] القائل بالملازمة بين جعل الأحكام وجعل الطرق إليها ، وقد عرفت (3) أنّ توجهه عليه لا يحتاج إلى الغلبة ، وإلى كون الحكم المظنون ممّا يكثر الابتلاء به.

أمّا صاحب الحاشية في هذه الطريقة فيمكن القول بأنّ هذا الايراد غير متوجّه عليه ، لأنّه لا يقول بالتلازم بين جعل الأحكام وجعل الطرق ، بل يقول إنّ جعل الطرق لأجل التسهيل ، وحينئذ فكون الحكم المظنون ممّا يكثر الابتلاء به لا يوجب الظنّ بوقوعه في إحدى الطرق ، بل أقصى ما فيه هو أنّ كونه كذلك يوجب كثرة السؤال عنه ، وحينئذ يكون ذلك ممّا يوجب حصول العلم الوجداني به لمن تقدّمنا ، وفي الحقيقة تقع الملازمة الظنّية بين كونه ممّا يبتلى به كثيراً وبين حصول العلم به لمن تقدّمنا ، ولا يكون في البين ما يوجب الظنّ بأنّه قد وقع مؤدّىً لطريق من الطرق المجعولة ، فتأمّل.

قوله : وحاصله يتألّف من مقدّمات : الأُولى ... الخ (4).

حاصل هذه المقدّمات هو أنّه أوّلاً : يجب علينا تحصيل العلم بحكم

ص: 86


1- الفصول الغروية : 272 - 277 [ في هذه النسخة لم يذكر الدليل السابع والثامن ].
2- كفاية الأُصول : 321.
3- في الصفحة : 65 ، 69.
4- فوائد الأُصول 3 : 287.

الشارع بفراغ ذمّتنا. والثانية : أنّ الموجب لحصول العلم المذكور في حال الانفتاح هو أحد أمرين : الأوّل الاتيان بما علم أنّه الواقع ، والثاني الاتيان بما علم أنّه مؤدّى طريق معتبر. والثالثة : أنّه عند عدم حصول العلم المذكور لأجل انسداد بابه يتعيّن المصير إلى الظنّ بحكم الشارع بالفراغ ، وهو منحصر بالظنّ بالطريق دون الظنّ بالواقع.

وقرّب شيخنا قدس سره هذه المقدّمة الثالثة في الدورة الأخيرة بما حاصله : أنّه عند التنزّل عن العلم بأحد الطريقين ، يعني العلم بالواقع والعلم بمؤدّى الطريق المعتبر إلى الظنّ بذلك ، ينحصر الأمر بالظنّ بالثاني الذي هو الطريق المعتبر ، إذ لا معنى للظنّ بالأوّل الذي هو العلم بالواقع ، إذ لا محصّل لكون العلم بالواقع الذي هو السبب الأوّل متعلّقاً للظنّ ، فراجع ما حرّرته (1) عنه قدس سره وما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه فإنّه قال : وأمّا الطريق الآخر وهو العلم ، فعند تعذّره لا معنى للتنزّل منه إلى الظنّ ، لعدم تعقّل الظنّ بالعلم ، الخ (2).

ولا يخفى أنّ محصّل التنزّل إلى الظنّ هو كون الظنّ قائماً مقام العلم ، وحينئذ نقول إنّه في حال الانفتاح لمّا كان العلم بالواقع أحد الطريقين ، وكان الطريق الآخر هو العلم بمؤدّى الطريق ، وجب أن نقول في حال الانسداد أنّ المرجع هو أحد الأمرين أيضاً ، أعني الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، ليكون الظنّ بالواقع قائماً مقام العلم بالواقع ، والظنّ بالطريق قائماً مقام العلم بالطريق.

ثمّ لا يخفى أنّه في تحرير السيّد في المقدّمة الثانية جعل العلم بالواقع طريقاً عقلياً إلى حكم الشارع بالفراغ ، فقال : الثانية أنّ العلم بالفراغ في حكم

ص: 87


1- مخطوط ولم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 3 : 249.

المولى وإن كان قد يكون بالعلم بامتثال تكليفه وجداناً ، إلاّ أنّه طريق عقلي إلى حكمه بالفراغ ، والمناط في تحصيل العلم بالفراغ في حكمه هو اتّباع الطرق التي جعلها طرقاً إلى أحكامه ، فراجعه إلى آخر المقدّمة الثانية أعني قوله : ومن تأمّل في أحوال السلف يقطع بأنّ بناءهم في الامتثال لم يكن على تحصيل العلم الوجداني ، بل كان المناط عندهم هو اتّباع الطرق المجعولة لهم من قبل الشارع (1). وتأمّل لئلاّ تتوهّم من ذيل الكلام الانحصار بالطرق ، وأنّ الأحكام الواقعية قد تقيّدت بمؤدّيات الطرق ، أو أنّها قد انصرفت إليها ، فإنّ ذلك غير مراد لصاحب الحاشية في هذا الوجه ، كما أنّه ليس بمراد لشيخنا قدس سره في هذا المقام ، بل المراد هو عدم الانحصار في تحصيل العلم الوجداني وعدم تعيّنه ، وكفاية اتّباع الطرق المجعولة للشارع ، كما يظهر ذلك من قوله في المقدّمة الثالثة : فإذا كان المكلّف متمكّناً منهما فلا محالة يكون في مقام الامتثال مخيّراً بين الأمرين الخ (2).

وقد صرّح صاحب الحاشية في أثناء الجواب عن « إن قلت » الأُولى - بعد أن حكم بأنّ الجميع يعني العلم بالواقع والعلم بالطريق في مرتبة واحدة ، لا أنّ الثاني في طول الأوّل - ما هذا لفظه : والحاصل أنّ القدر اللازم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشارع ، وهو حاصل بكلّ من الوجهين ، وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطريق المقرّر أو انتفائه واقعاً ليس لكونه متعيّناً في نفسه ، بل لحصول البراءة به على النحو الذي ذكرناه. وفرق بيّن بين كون الشيء مطلوباً بذاته وكون المطلوب حاصلاً به ، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمّة ، فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذمّة على الوجه المفروض

ص: 88


1- أجود التقريرات 3 : 248.
2- أجود التقريرات 3 : 248 - 249.

بكلّ من الوجهين المذكورين ، بأن لم يحصل هناك طريق قطعي من الشارع يحكم معه بتفريغ الذمّة ، وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذمّة كذلك ، رجع الأمر بعد القطع ببقاء التكليف إلى الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشارع حسبما عرفت ، وهو يحصل بقيام الأدلّة الظنّية على حجّية الطرق المخصوصة حسبما يقام الدليل عليها في محالّها ، من غير أن يكتفى في إفادة حجّيتها بمجرّد كونها مفيدة للظنّ بالواقع كما هو قضية الوجه الآخر ، الخ (1).

وأجلى عباراته في ذلك وأوضحها في بيان أنّ الشارع لم يقيّد المكلّفين بتحصيل القطع الوجداني بتكاليفه الواقعية ، واكتفى منهم بالعمل بالطرق التي جعلها لهم من دون أن يكون ذلك موجباً لسقوط القطع بالأحكام الواقعية لو اتّفق للمكلّفين حصوله ، هو ما فصّله في الأمر الرابع (2) من الأُمور التي ساقها لبيان البحث عن الأدلّة ، وذلك قبل عبارته التي نقلناها سابقاً في أوّل أدلّته على ما رامه من حجّية الطريق بأربع أوراق ، وهو الذي أشار إليه بقوله : حسبما مرّ تفصيل القول فيه (3) ، وقد نقله الشيخ قدس سره (4) عنه ، إلاّ أنّه لطوله لم ينقله بتمامه ، فراجعه تجده صريحاً فيما ذكرناه من أنّ المقصود هو بيان عدم الانحصار ، وأنّ الشارع لم يكلّف عباده بتحصيل القطع الوجداني بأحكامه الواقعية ، بل سهّل عليهم ، وجعل لهم طرقاً سوّغ لهم العمل على طبقها ، وتلك الطرق موجبة للحصول على الحكم الشرعي ببراءة ذمّتهم بالعمل على طبقها.

ص: 89


1- هداية المسترشدين 3 : 353.
2- هداية المسترشدين 3 : 325.
3- هداية المسترشدين 3 : 352.
4- فرائد الأُصول 1 : 455.

واعلم أنّ صاحب الحاشية قدس سره وإن ظهر منه الالتزام بالصرف أو التقييد ، إلاّ أنّ ذلك في الأمر الثاني من أدلّته الذي هو عين ما تقدّم من دليل صاحب الفصول ، وقد ذكر أيضاً ما مرّ من الإشكال عليه بأنّ الظنّ بالواقع يكفي كالظنّ بالطريق وأجاب عن ذلك في الوجه الثاني بما يرجع إلى التقييد ، قال في الوجه الثاني : فإن قلت : إنّه كما قام الظنّ بالطريق مقام العلم به من جهة الانسداد ، فأيّ مانع من قيام الظنّ بالواقع مقام العلم به حينئذ ، وإذا قام مقامه كان بمنزلة العلم بأداء الواقع ، كما أنّ الظنّ بالطريق بمنزلة العلم به ، فكما يحصل البراءة بالعلم مع انفتاح سبيله يحصل أيضاً بالظنّ مع انسداد سبيله.

قلت : لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلاً صحّ ذلك ، لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا إذا كان أحد التكليفين منوطاً بالآخر مقيّداً له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما من دون حصول الظنّ بالآخر الذي قيّد به لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ، نظراً إلى أداء الواقع وكونه من الوجه المقرّر ، لكون العلم طريقاً إلى الواقع في حكم العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّاً بالطريق أيضاً جرى الكلام المذكور في صورة الظنّ أيضاً ، لكنّه ليس كذلك ، فلذا لا يحكم بالبراءة حسبما قلنا (1).

فأنت تراه في هذا الوجه الثاني ملتزماً بالتقييد ومع ذلك لم يعزل العلم بالواقع عن كونه مبرئاً للذمّة. وذكر عين هذا الإشكال في الدليل الأوّل المختصّ به وأجاب عنه بجواب آخر غير مبنيّ على ما هو ظاهر ذلك الجواب من الالتزام بالتقييد وأنّ القطع بالواقع محصّل للقيد.

ص: 90


1- هداية المسترشدين 3 : 361 - 362.

والحاصل : أنّ صاحب الحاشية ذكر طرقاً ثمانية لمسلكه الذي هو حجّية الظنّ بالطريق ، أوّلها : هو ما تقدّم نقل عبارته فيه. والثاني : ما هو راجع إلى طريقة الفصول فإنّه قال : الثاني : أنّه كما قرّر الشارع أحكاماً واقعية كذا قرّر طريقاً للوصول إليها ، إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما ، قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحاً فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف فيه بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، إلى آخر كلامه (1).

والظاهر أنّ مراده أنّ الطريق في حال الانفتاح هو العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما ، فإذا انسدّ علينا باب العلم بذلك الطريق لزمنا الانتقال إلى الظنّ بذلك الطريق ، وحيث إنّه لا محصّل لتعلّق الظنّ بالعلم بالواقع ، يتعيّن المصير إلى الظنّ بالطرق الأُخر غير العلم. وهذه الطريقة على الظاهر هي عين طريقة الفصول ، غير أنّه في الفصول أوضحها بأزيد من هذه العبارة. وقد صرّح الشيخ قدس سره بأنّ الطريقة الثانية هي عين طريقة الفصول ، فقال : الوجه الثاني ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأُخر ، قال : لا ريب الخ (2).

وكيف كان ، فإنّ صاحب الحاشية قدس سره قد عقّب كلاً من الطريقتين بالسؤال المذكور بطريق إن قلت : إنّ الظنّ بالواقع مساوٍ للظنّ بالطريق في الحصول على ما هو المطلوب. لكنّه أجاب عن هذا السؤال في الكلام على الطريقة الأُولى بما

ص: 91


1- هداية المسترشدين 3 : 358.
2- فرائد الأُصول 1 : 454.

تقدّم نقله أوّلاً من أنّ الظنّ بالواقع لا يلازم الظنّ بالحكم الشرعي بالفراغ ، وفي الكلام على الطريقة الثانية أجاب عن السؤال المذكور بما تقدّم نقله ثانياً ممّا يرجع إلى دعوى التقييد (1)

ص: 92


1- وهاك فهرست ما أفاده في الحاشية : ففي شرح قول صاحب المعالم « المطلب الخامس في الإجماع » أفاد : أنّ المصنّف شرع في بيان الأدلّة الشرعية ، وقال : إنّ الأدلّة منحصرة في الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، وقال : ولنذكر قبل الشروع في بيانها مطالب : المطلب الأوّل : في بيان معنى الدليل وتفسيره. ثانيها - إلى قوله - خامسها : في بيان أنّ الحجّة في زمان الغيبة هل هي مطلق الظنّ أو ظنون خاصّة ، والمعظم على الثاني وهو المختار. ثمّ بعد كلام طويل قال : ولنقدّم أوّلاً حجج المختار ، ثمّ بعد النقض فيها والإبرام نذكر ما يتيسّر لنا من وجوه الاحتجاج ، فنقول : احتجّوا على ذلك بوجوه : الأوّل : الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع الظنّ. الثاني : الإجماع ويقرّر من وجوه. الثالث : أنّه لم يرد من صاحب الشريعة ما يدلّ على حجّية مطلق الظنّ. الرابع : أنّ الظنون المطلقة غير مضبوطة فيلزم الهرج والمرج. وبعد الفراغ من ذلك قال : ثمّ إنّ لنا طرقاً أُخرى في المقام ووجوهاً شتّى ، أحدها : هو ما ذكره من طريقته. الثاني : هو ما ذكرنا أنّه راجع إلى طريقة الفصول. الثالث : أنّ مقتضى بقاء التكليف مع انسداد سبيل العلم به هو الرجوع إلى الظنّ في الجملة ، وهذا الإجمال يتعيّن بكونه مظنون الحجّية. الرابع : هو ذاك مع تسليم عدم الترجيح بالظنون ، فتكون النتيجة هي حجّية الجميع ، إلاّ أنّ ما يظنّ عدم حجّيته يكون ساقطاً. الخامس : هو ذاك ، لكن ... [ هنا سقط في الأصل ]. السادس : هو أنّه لا إشكال في وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فإن تمكّن من العلم بها فهو ، وإلاّ تعيّن المصير إلى الظنّ. السابع : أنّه يجب على الفقيه الافتاء ، فإن تمكّن من العلم فهو ، وإلاّ دار الأمر بين الظنّ المطلق والظنّ الخاصّ ، والثاني هو المقدّم. الثامن : أنّ الدليل القاطع قائم على حجّية الظنون الخاصّة والمدارك المخصوصة ، وقد دلّ على أنّ هناك طريقاً خاصّاً مقرّراً من صاحب الشريعة وهو الكتاب والسنّة الخ. ثمّ قال : حجّة القول بحجّية مطلق الظنّ وجوه : أحدها الانسداد ، وقرّره بمقدّمات أربع : التكاليف ثابتة. طريقنا إليها هو العلم. باب العلم منسدّ. لا ترجيح لبعض الظنون على بعض. الثاني : لو لم يعمل بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح. الثالث : أنّ دفع الضرر المظنون واجب. هذا فهرست أُصول مطالبه في هذه الحاشية الطويلة البالغة 16 ورقة المعلّقة على قول المصنّف [ في هداية المسترشدين 3 : 315 وما بعدها ] : المطلب الخامس في الإجماع ، وبعدها حاشيته على قول المصنّف [ في المصدر المتقدّم : 440 وما بعدها ] : الثالثة ، حكى فيها أيضاً عن بعض الأصحاب الخ. [ منه قدس سره ]

ومنه يظهر لك أنّه في طريقته الأُولى لم يكن قائلاً بالتقييد ، وإنّما يقول به في طريقته الثانية الراجعة إلى طريقة الفصول ، ولأجل ذلك اختلف جوابه عن السؤال المذكور في الطريقتين.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : وكأنّ منشأ تخيّل المحقّق صاحب المقالة في اختياره اعتبار خصوص الظنّ بالطريق عند عدم التمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، هو أنّ مجرّد نصب الشارع طريقاً إلى أحكامه يقتضي اشتغال الذمّة بمؤدّى الطريق ، ويكون مدار فراغ الذمّة والخروج عن عهدة التكاليف عليه لا على الواقع ، كما كان هذا منشأ تخيّل صاحب الفصول فيما أفاده من الوجه المتقدّم ، وقد عرفت أنّ مجرّد نصب الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه لا أثر له ، ولا يحصل الامتثال والفراغ بمجرّد مطابقة

ص: 93

العمل لمؤدّاه من باب الاتّفاق والمصادفة ، الخ (1).

فإنّك قد عرفت أنّ طريقته الأُولى لم تكن مبنية على الالتزام بالتقييد ، وإنّما التزم به في طريقته الثانية الراجعة إلى طريقة صاحب الفصول. ولا يخفى أيضاً أنّ ما أُفيد هنا من كون طريقة الفصول مبنية على التقييد لعلّه منافٍ لما أُفيد تعريضاً بصاحب الكفاية قدس سره بقوله : وليس غرضه ( يعني صاحب الفصول ) تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق أو صرفها إليها ، فإنّ ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق بصاحب الفصول الالتزام به ، الخ (2).

وأمّا قوله : وقد عرفت أنّ مجرّد نصب الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلّف وواصلاً إليه الخ ، فقد أوضحه في الدورة الأخيرة بما حرّرناه عنه وحرّره عنه السيّد سلّمه اللّه بقوله : وأمّا الثالثة فلأنّ الطرق الشرعية بوجوداتها الواقعية لا تتّصف بالطريقية حتّى تكون هي في عرض العلم كافياً في حصول الامتثال الخ (3) ، وقد تقدّم البحث عن هذه الجهة في الدليل الأوّل الذي أُقيم على حجّية خبر الواحد عقلاً فراجع (4) ، كما أنّه قد تقدّمت الاشارة في الكلام على مسلك الفصول إلى أنّ هذه المقدّمة أعني توقّف طريقية الطريق على الوصول التفصيلي لو تمّت لكانت موجبة لانسداد العمل بالظنّ بالطريق في حال الانسداد ، فراجع ما علّقناه على ما أفاده ص 104 (5) من هذا التحرير.

ص: 94


1- فوائد الأُصول 3 : 292.
2- فوائد الأُصول 3 : 282.
3- أجود التقريرات 3 : 250.
4- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 499 وما بعدها.
5- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 61 وما بعدها ( راجع الصفحة : 70 وما بعدها ).

وقد نقل شيخنا قدس سره حسبما حرّرته عنه عن المرحوم المحقّق الشيخ محمّد باقر نجل المحقّق صاحب الحاشية الجواب عن هذه الجهة بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : ومن ذلك كلّه يظهر أنّه لا يمكن إصلاح ما ذكره بما أفاده نجله المرحوم المدقّق الشيخ محمّد باقر قدس سرهما من أنّ للطريق مرتبة واقعية ومرتبة تنجّز ، والذي يتوقّف على الوصول هو مرتبة التنجّز للطريق ، فإنّ فيه ما عرفت من عدم تحمّل الطريق للوجود الواقعي ، وأنّ المكلّف لا يخلو من طريق منجّز حتّى في حال الانسداد ، انتهى. وقد تقدّم البحث عن هذه الجهات في البحث المشار إليه فراجع.

وعلى كلّ حال ، فقد ظهر لك أنّ صاحب الحاشية حتّى في طريقته الثانية المبنية على التقييد لم يعزل العلم بالواقع عن التأثير ، بل التزم بكونه مؤثّراً ، غايته أنّه يدّعي أنّ العلم محصّل لما هو المدّعى من التقييد لكونه بنفسه طريقاً ، فلابدّ أن يكون المراد ممّا في تحرير السيّد ممّا مرّت الاشارة إليه من قوله : ومن تأمّل في أحوال السلف يقطع بأنّ بناءهم في الامتثال لم يكن على تحصيل العلم الوجداني ، بل كان المناط عندهم هو اتّباع الطرق المجعولة لهم من قبل الشارع (1) هو ما عرفت من عدم الانحصار بالعلم الوجداني.

واعلم أنّ مضمون هذه الجمل موجود بعينه في كلام صاحب الحاشية في رابع الأُمور التي قدّمها (2) ، وهو الذي أشار إليه هنا بقوله : حسبما مرّ تفصيل القول فيه وقد نقله عنه الشيخ قدس سره ، فراجع (3)

ص: 95


1- أجود التقريرات 3 : 248.
2- هداية المسترشدين 3 : 325.
3- فرائد الأُصول 1 : 455.

ثمّ إنّ من جميع ما حرّرناه يظهر لك : أنّ الحجر الأساسي في دعوى صاحب الحاشية قدس سره في طريقته الأُولى إنّما هو دعوى الاحتياج إلى الحكم الشرعي بفراغ الذمّة ، وأنّ ملخّص الجواب عنه هو عدم الحاجة إلى ذلك ، بل إنّ هذا الحكم ليس براجع إلى الشارع وأنّه راجع إلى العقل ، وأنّ العقل حاكم بأنّ الاتيان بنفس الواقع والاتيان ببدله الذي قام عليه الطريق المعتبر مبرئ للذمّة ، هذا في حال الانفتاح. وبعد الانتقال في حال الانسداد إلى الظنّ يكون كلّ من الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق المعتبر مبرئاً للذمّة.

كما أنّ الظاهر هو أنّ الحجر الأساسي في طريقته الثانية التي هي عين طريقة صاحب الفصول هو دعوى الصرف أو التقييد ، وأنّ الجواب عنه هو منع ذلك وأنّه راجع إلى التصويب ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي بنصب الطرق ، وذلك لا يقتضي إلاّ الاحتياط فيها ، فيكون ذلك راجعاً إلى الدليل الأوّل من الأدلّة العقلية التي أقاموها على حجّية خبر الواحد.

قوله : فإنّ باب الامتثال وفراغ الذمّة ليس ممّا يقبل الجعل الشرعي ... الخ (1).

استثنى قدس سره في الدورة الأخيرة موارد مثل قاعدة التجاوز والفراغ ، لأنّ ذلك من باب التصرّف الشرعي في الواجب الواقعي ، فراجع ما حرّرته عنه (2) قدس سره وما حرّره السيّد سلّمه اللّه بقوله : نعم عند الشكّ في حصول امتثال التكليف من جهة الشكّ في انطباق المأمور به على المأتي به ، لا مانع من حكم الشارع بالانطباق تعبّداً ، كما في موارد قاعدة الفراغ أو التجاوز ، لكن ذلك أجنبي عمّا هو محلّ

ص: 96


1- فوائد الأُصول 3 : 289.
2- مخطوط ولم يطبع بعد.

الكلام في المقام من وجوب تحصيل العلم بالفراغ في حكم المولى بالقياس إلى التكاليف الواقعية (1).

قلت : والدليل على ذلك هو أنّه لو انكشف الخلاف في ذلك الحكم التعبّدي وكان المتروك ممّا يوجب الاعادة كالركن مثلاً ، وجبت الاعادة. وهكذا الحال في حكمه بالإجزاء في موارد الحكم الظاهري لو انكشف الخلاف بعد العمل كما يدّعى الإجماع عليه في العبادات ، فإنّه أيضاً أجنبي عمّا نحن بصدده ، إذ مرجع ذلك الدليل الدالّ على الاجزاء إلى تنازل الشارع عن جزئية الجزء المتروك ، أو شرطية الشرط المتروك كما حقّقناه في مبحث الاجزاء (2).

قوله : ولعلّ منشأ توهّم اختصاص النتيجة بخصوص الظنّ بالواقع ، هو أنّ مقدّمات الانسداد إنّما تجري في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية دون المسائل الأُصولية - إلى قوله - ولكن لا يخفى أنّ المقدّمات وإن كانت تجري في خصوص الأحكام الشرعية ، إلاّ أنّ نتيجتها أعمّ من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق - إلى قوله - وهو كما يحصل مع الظنّ بالواقع يحصل مع الظنّ بالطريق ، هذا بناءً على الحكومة وكون النتيجة حكم العقل بكفاية الامتثال الظنّي ... الخ (3).

لو كان الظنّ بالطريق ملازماً للظنّ بالحكم الواقعي ، لكان حاله حال الظنّ بالواقع في كونه من الاطاعة الظنّية بالنسبة إلى الواقع ، أمّا إذا لم يكن الطريق المظنون موجباً في حدّ نفسه للظنّ بالواقع ، فلا يكون العمل به محقّقاً للظنّ

ص: 97


1- أجود التقريرات 3 : 249.
2- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص 420 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 293 - 294.

بالواقع. نعم يكون محقّقاً للظنّ بما هو عند الشارع قائم مقام الواقع ، وهو كافٍ في الظنّ بالخروج عن عهدة الواقع ولو بواسطة الاتيان بما نظّن أنّه عند الشارع قائم مقام الواقع. ولكن ما الداعي لدعوى اختصاص دليل الانسداد بالنسبة إلى خصوص الأحكام الفرعية ، ولِمَ لا نقول إنّها عامّة للطرق ، فإنّ من جملة المقدّمات هو انسداد باب العلم بالواقع وانسداد باب العلم بالطرق المؤدّية إليه ، وحيث تنتهي المسألة إلى الانتقال من العلم إلى الظنّ ، يكون الانتقال إلى الظنّ بما كان باب العلم به منسدّاً وهو الواقع نفسه وطريقه ، فتكون النتيجة حينئذ هي الأعمّ من الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق.

ثمّ إنّ هذه الكلمات إنّما تتمشّى مع الحكومة ، بمعنى حكم العقل بالانتقال من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، ليكون الظنّ في حال الانسداد بمنزلة العلم في حال الانفتاح في كونه حجّة عقلية ، لكنّك قد عرفت من كلمات شيخنا قدس سره إبطال الحكومة بهذا المعنى ، أعني حكومة العقل بالانتقال من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، وأنّه ليس في البين إلاّتبعيض الاحتياط ، وأنّ المظنونات مقدّمة على باقي الأطراف في مقام التزاحم ، وحينئذ يسهل الأمر ، إذ نقول إنّ العقل كما يقدّم التكاليف المظنونة في مقام الاحتياط على التكاليف المشكوكة أو الموهومة ، فكذلك يقدّم التكاليف المحتملة التي قام عليها ما يظنّ حجّيته من الطرق - وإن لم تكن تلك التكاليف الواقعية مظنونة ، بل كانت مشكوكة أو موهومة - على التكاليف التي لم تكن مظنونة في حدّ نفسها ولم يقم عليها طريق يظنّ بحجّيته ، فتأمّل.

ص: 98

قوله : وأمّا بناءً على المختار من الكشف ، فقد يتوهّم أنّ أقصى ما يستكشف من المقدّمات هو حجّية الظنّ في الأحكام الشرعية ... الخ (1).

مرجع هذا الاستدلال إلى دعوى اختصاص الحجّية بخصوص الظنّ بالواقع ، وأنّ المقدّمات لا تقتضي حجّية الظنّ بالطريق ، لكن في تحرير السيّد سلّمه اللّه جعل الاستدلال بطريقة القدر المتيقّن ، لكون الأمر دائراً بين الأقل وهو خصوص الظنّ بالواقع ، وبين الأكثر وهو الأعمّ منه ومن الظنّ بالطريق ، والقدر المتيقّن هو الأوّل. وعلى كلّ حال ، فإنّ الظاهر ممّا نقله الشيخ قدس سره عن شريف العلماء قدس سره هو دعوى اختصاص حجّية دليل الانسداد بالظنّ بالواقع دون الظنّ بالطريق ، لا مجرّد كون القدر المتيقّن منها هو الأوّل فقط ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى نقل كلام الشيخ قدس سره (2).

وكيف كان ، فإنّ شيخنا قدس سره أجاب حسبما نقله عنه قدس سره في هذا التحرير عن الإشكال المزبور بناءً على الكشف بقوله : فإنّه لا موجب لاستكشاف نصب الشارع خصوص الظنّ في المسألة الفرعية طريقاً ، بل العقل يستكشف من المقدّمات نصب مطلق الظنّ طريقاً ، كان مؤدّاه مسألة فرعية من كون الشيء واجباً أو حراماً ، أو مسألة أُصولية من كون الشيء طريقاً الخ (3).

ولا يخلو هذا الجواب من إجمال ، إذ لم يذكر الوجه في هذا التعميم في قبال دعوى التخصيص ، إذ لا أقل من دعوى كون القدر المتيقّن ممّا يستكشفه العقل هو خصوص الظنّ بالواقع ، الذي حرّر به الإشكال فيما نقله عنه السيّد

ص: 99


1- فوائد الأُصول 3 : 294.
2- في الصفحة : 101 - 103.
3- فوائد الأُصول 3 : 294.

سلّمه اللّه بقوله : وحيث إنّ النتيجة على الكشف مردّدةً بين أن تكون حجّية خصوص الظنّ بالواقع أو الأعمّ منه ومن الظنّ بالطريق ، فيكون الأمر في الحجّة دائراً بين الأقل والأكثر ، ومن المعلوم أنّ لازم ذلك هو الاقتصار على المتيقّن ليس إلاّ (1) وقد أجاب عنه في التحريرات المذكورة بقوله : ولكنّه لا يخفى أنّه لا موجب لدوران الأمر في المقام بين الأقل والأكثر ، وذلك لما ذكرناه من أنّ كلّ ما كان تحصيل العلم به لازماً حال الانفتاح كان الظنّ به كافياً حال الانسداد أيضاً ، وحيث إنّ العلم بالواقع أو بالطريق لم يكن بينهما فرق حال الانفتاح ، لم يكن بين الظنّين فرق أيضاً حال الانسداد ، والوجه في ذلك هو أنّ الأحكام التي هي مؤدّيات الطرق - بعد جعل الشارع صفة الحجّية وإعطائه الوسطية في الإثبات لها - بعينها أحكام واقعية ، فراجعه إلى آخر البحث.

وهذا الجواب يمكن التأمّل فيه ، فإنّ مقدّمات الانسداد بناءً على الكشف لا تؤدّي إلى أنّ كلّ ما كان تحصيل العلم به لازماً في حال الانفتاح يكون تحصيل الظنّ به لازماً في حال الانسداد ، لأنّ هذه الكلمات إنّما تلائم تقرير مقدّمات الانسداد على الحكومة أو على تبعيض الاحتياط. وكذلك ما أُفيد من كون مؤدّيات الطرق المجعولة هي بعينها أحكام واقعية لا يكاد يلتئم مع التقرير على الكشف ، وذلك لما عرفت في تقرير مقدّمات الانسداد على الكشف من أنّ حاصل تلك المقدّمات هو ضمّ حرمة الاهمال المأخوذة من الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى البراءة المستفاد منها أنّ الشارع مطالب بأحكامه غير متنازل عنها في حال الانسداد ، إلى الإجماع المدّعى على أنّه لا يريد الاحتياط ، وأنّه باطل غير جائز عنده.

ص: 100


1- أجود التقريرات 3 : 251.

وتكون النتيجة من ضمّ أحد هذين المطلبين إلى الآخر ، هو أنّ الشارع لابدّ أن يكون قد جعل لنا طريقاً لأحكامه ، يخلّصنا ممّا حرّمه علينا من الإهمال ، وينقذنا ممّا منعنا منه من الاحتياط والجري على طبق الاحتمال ، وذلك الطريق منحصر بالظنّ ، إذ لا طريق سواه مع فرض تمامية المقدّمة الأخيرة ، أعني قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وحينئذ يكون العقل حاكماً بأنّه لابدّ أن يكون قد جعل لنا طريقاً ينقذنا من هذين المحذورين ، والظنّ بالحكم الواقعي لو جعله لنا لكان كافياً وافياً في صحّة منعه لنا من الإهمال مع منعه لنا من الاحتياط ، ولا يدلّ العقل على أنّه قد جعل لنا أو أنّه يلزمه أن يجعل لنا ما هو أوسع من ذلك ، أعني مطلق الظنّ سواء كان متعلّقاً بالواقع أو كان متعلّقاً بالطريق ، ولا أقل حينئذ من كون ذلك هو القدر المتيقّن ، وحينئذ تبقى حجّية الظنّ بالطريق شرعاً مشكوكة ، فتندرج في أصالة حرمة العمل بالظنّ ، أو أصالة عدم الحجّية ، إذ لا يدلّ العقل إلاّعلى حجّية مقدار يكون منقذاً لنا من هذين المحذورين ، وحجّية الظنّ بالواقع كافية في ذلك.

بل يمكننا القول بأنّ سلسلة الدليل المذكور لا تعطي إلاّ أنّ الشارع قد جعل الظنّ بالأحكام الواقعية حجّة علينا ، لأنّها هي التي منعنا من الرجوع إلى البراءة والاحتياط فيها ، وبواسطة ذلك استكشفنا أنّ الشارع قد جعل لنا الظنّ حجّة فيها.

واعلم أنّ الشيخ قدس سره ذكر حجّية الظنّ بالطريق وسمّاه الظنّ في المسائل الأُصولية ، وقال : وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان اللّه عليهم ، وما استند إليه أو يصحّ الاستناد إليه للمنع أمران : أحدهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد (1). وحاصل ما أفاده في هذا الأمر الأوّل : أنّ دليل الانسداد إمّا يجري

ص: 101


1- فرائد الأُصول 1 : 541.

في كلّ من الظنّين على حدة ، وإمّا أن يجري بالنسبة إلى مطلق الأحكام الشرعية ، سواء كانت فرعية أو كانت أُصولية ، وإمّا أن يجري في خصوص الفرعية ، ويدّعى أنّ الظنّ في المسألة الأُصولية يوجب الظنّ في المسألة الفرعية التي تكون مبنية على تلك المسألة الأُصولية.

وأبطل الوجه الأوّل ، بأنّ الانسداد لا يجري في المسألة الأُصولية ، إذ لا يلزم من إجراء الأُصول في المسألة الأُصولية أحد المحاذير المذكورة في مقدّمات الانسداد ، لأنّ ما يوجب الظنّ من الطرق بالحكم الواقعي يكون بواسطة مقدّمات الانسداد في المسألة الفرعية معلوم الحجّية ، لكونه ظنّاً بالحكم الشرعي الفرعي ، وما لا يكون من الطرق موجباً للظنّ بالحكم الفرعي ، مثل خبر الواحد والإجماع المنقول ونحوهما إذا لم يحصل منها الظنّ الشخصي ، فليس من الكثرة بحيث يكون الرجوع فيه إلى الأُصول وطرح تلك الطرق مستلزماً لأحد المحاذير.

وأبطل الوجه الثاني ، بأنّ النتيجة وهي العمل بالظنّ مهملة ، وإنّما نحكم بتعميمها بالإجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، والإجماع ممنوع ، بل نقل الإجماع على عدم حجّية الظنّ بالطريق المعبّر عنه بالمسألة الأُصولية. وأمّا الترجيح بلا مرجّح فهو غير جارٍ هنا ، لإمكان القول بأنّ المسألة الأُصولية أهمّ من المسألة الفرعية ، فلا يكون حجّية الظنّ في الفرعية دون الأُصولية من الترجيح بلا مرجّح.

وأبطل الوجه الثالث بما حاصله : أنّ الطريق لو كان موجباً للظنّ بالحكم الفرعي ، فقد تقدّمت حجّيته ، لكونه ظنّاً بالحكم الفرعي ، أمّا ما لا يوجبه فلا وجه لحجّية الظنّ بحجّيته ، إذ المفروض إنّما هو جريان المقدّمات في الحكم الفرعي ، ونتيجتها إنّما هي الظنّ بالحكم الفرعي ، ولا دخل لذلك بالظنّ بحجّية الطريق

ص: 102

التي هي عبارة عن الحكم الأُصولي ، إذ لا يلزم منه الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، ودليل الانسداد غير قاض بحجّية الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، وإنّما يقضي بحجّية الظنّ في الحكم الفرعي الواقعي.

ثمّ قال : هذا غاية توضيح ما قرّره أُستاذنا الشريف قدس سره اللطيف في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية (1) ، ثمّ ذكر الأمر الثاني من أدلّتهم ، وهو أنّ الشهرة والإجماع المنقول على عدم حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية ، وهذه المسألة - أعني مسألة حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية - مسألة أُصولية ، فلو كان الظنّ فيها حجّة لزم الأخذ بالشهرة المذكورة والإجماع المنقول ، فتكون النتيجة حينئذ هي عدم حجّية الظنّ في المسائل الأُصولية.

ثمّ إنّه أجاب عن الدليل الأوّل : بأنّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظنّ ، وأنّ المختار في كيفية الاستدلال بدليل الانسداد في المقام - أعني حجّية الظنّ بالطريق - هو الوجه الثالث ، وهو إجراء دليل الانسداد في الأحكام الفرعية ، والظنّ في المسائل الأُصولية مستلزم للظنّ في المسألة الفرعية ، وما ذكره من أنّ الظنّ بالمسألة الأُصولية لا يستلزم إلاّ الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري صحيح ، لكن ما ذكره من أنّ دليل الانسداد لا يقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي دون الظاهري ممنوع ، لأنّ مقدّمات الانسداد لا تقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بفراغ الذمّة من الأحكام الواقعية ، فلو حصل الظنّ بحجّية طريق كخبر الواحد ، كان هذا الظنّ كافياً في حصول الظنّ بالفراغ ، وإن لم يكن ذلك الخبر

ص: 103


1- فرائد الأُصول 1 : 546.

مفيداً للظنّ الشخصي بالواقع ، إذ لا فرق في السقوط والفراغ بين الاتيان بالواقع علماً أو ظنّاً ، وبين الاتيان ببدله علماً أو ظنّاً.

والحاصل : أنّ العلم بالاتيان بالواقع أو ببدله يوجب الفراغ العلمي في حال الانفتاح ، فكذلك الظنّ بالاتيان بالواقع أو ببدله يوجب الظنّ بالفراغ ، وهو - أعني الظنّ بالفراغ - كافٍ في حال الانسداد ، فكما أنّ العلم بحجّية الخبر يكون موجباً للعلم ببدل الواقع في حال الانفتاح ، فكذلك الظنّ بحجّية الخبر يكون موجباً للظنّ ببدل الواقع في حال الانسداد ، ويكون الظنّ بذلك في حال الانسداد قائماً مقام العلم به في حال الانفتاح ، فالظنّ بالبدل كالظنّ باتيان الواقع في كون كلّ منهما قائماً في حال الانسداد مقام العلم بالبدل أو بالواقع في حال الانفتاح.

واعلم أنّ ما أفاده الشيخ قدس سره هنا من التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ ببدله في كون كلّ منهما موجباً للظنّ بفراغ الذمّة ، باعتبار كون الظنّ بالواقع قائماً مقام العلم بالواقع والظنّ ببدله قائماً مقام العلم بالبدل ، لا يتنافى مع ما أفاده في ردّ صاحب الفصول وصاحب الحاشية من إنكار العلم بجعل الطرق ، فإنّ إنكار العلم بجعل الطريق الذي هو عبارة أُخرى عن جعل البدل ، لا ينافي احتمال جعل الطريق والبدل أو الظنّ بذلك ، لأنّ البدلية ملازمة لجعل الطريق ، فإذا كان جعل الطريق مظنوناً ، كانت البدلية في مؤدّاه عن الواقع مظنونة.

نعم ، إنّ هذه الكلمات منافية لما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه لا أثر لجعل الطريق واقعاً ما لم يكن جعله معلوماً بالتفصيل ، وحينئذ لا ملازمة بين جعل الطريق وبين كون مؤدّاه بدلاً عن الواقع. بل مقتضى ما أفاده قدس سره هو عدم تحصّل المؤدّى باليد من دون إحراز الجعل ، لأنّ ذلك متوقّف على الأخذ بالأُصول المرادية ، وهو - أعني الأخذ المذكور - متوقّف على إحراز الصدور المتوقّف على العلم التفصيلي

ص: 104

بجعل الحجّية. نعم هذه الطريقة الثانية مختصّة بخصوص الأخبار ، لتوقّف إحراز مؤدّاها على الأخذ بأصالة الظهور ، بخلاف مثل الشهرة والإجماع المنقول ونحوهما ممّا لا يكون إحراز مؤدّاها متوقّفاً على إعمال قواعد الظهور ، فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت معنى الحكومة ، وأنّها لو كانت بمعنى التنقّل بحسب حكم العقل من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة [ الظنّية ] ، لتمّ ما أفاده الشيخ قدس سره وما أفاده شيخنا قدس سره من التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ ببدله ، وأمّا إذا قلنا بأنّ معنى الحكومة هو تبعيض الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي من التكاليف الواقعية المحتملة ، والاقتصار في ذلك الاحتياط على المظنونات ، فالظاهر هو لزوم الاقتصار على الظنّ بالواقع ، دون الظنّ بما هو بدله من مؤدّيات الطرق المظنونة وإن لم تفد الظنّ بالواقع ، إلاّ أن ندّعي التبعيض في المحتملات ، وأنّ ما يظنّ كونه بدلاً عن الواقع من محتملات التكاليف الواقعية هو أولى بالاحتياط ممّا لا يظنّ بدليته عن الواقع من تلك المحتملات ، فيكون الاحتياط في كلّ من موارد الظنّ بالتكليف وموارد الظنّ بما هو بدل عن الواقع وإن لم يكن مظنون التكليف ، أولى من الاحتياط في باقي موارد احتمال التكليف مع عدم حصول الظنّ بأحد الوجهين ، لكنّه في غاية الإشكال ، إذ لا موجب للاحتياط في أطراف محتملات البدلية إلاّبعد العلم بجعل البدل ولو إجمالاً ، والمفروض أنّهما قد أنكرا ذلك ، فيكون الاحتياط اللازم دائراً مدار محتملات الواقع فقط ، ويكون التبعيض اللازم منحصراً في خصوص المظنونات من تلك المحتملات ، دون محتملات البدلية بما هي أبدال عن الواقع ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الدليل الثاني ، أعني الشهرة والإجماع المنقول ، فقد أجاب عنه :

أوّلاً : بالمنع من الشهرة والإجماع ، لكون المسألة حادثة.

ص: 105

وثانياً : أنّا لو سلّمنا الشهرة أو الإجماع ، فإنّما يكون ذلك من القائلين بالانفتاح من جهة قيام الأدلّة الخاصّة على الطرق الخاصّة ، وهي منحصرة بالطرق القائمة على الحكم الشرعي الفرعي ، فلا تكون تلك الأدلّة الخاصّة شاملة للمسألة الأُصولية ، ولأجل ذلك قالوا بعدم حجّية الظنّ في المسألة الأُصولية ، بل يبقى ذلك الظنّ تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولم يعلم من مذهبهم الفرق بين الفروع والأُصول لو تمّت مقدّمات الانسداد وحكم العقل بكفاية الخروج الظنّي عن عهدة التكاليف الواقعية.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا قيام الإجماع أو الشهرة على ذلك حتّى في حال الانسداد ، لم يمكن الاعتناء بهما في قبال حكم العقل بعدم الفرق بينهما ، فإنّ المسألة حينئذ تكون عقلية ، ولا مجال فيها لحجّية الشهرة والإجماع المنقول.

ورابعاً : أنّه لو تمّت مقدّمات الانسداد وحكم العقل بالتسوية ، كان ذلك مانعاً من حصول الظنّ من الشهرة والإجماع المنقول ، فتخرج بذلك عن إفادة الظنّ بعدم حجّية الظنّ في المسألة الأُصولية.

وخامساً : لو سلّمنا أنّهما مع ذلك يفيدان الظنّ ، كانت المسألة داخلة في الظنّ المانع والظنّ الممنوع ، قال : وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى (1).

قلت : وسادساً : أنّ حجّية هذا الظنّ الحاصل من الشهرة والإجماع يلزم من وجودها عدمها ، فلا تكون حجّة ، نظير ما تقدّم (2) من حجّية خبر الواحد القائم

ص: 106


1- فرائد الأُصول 1 : 548.
2- في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 424 - 425 ، وراجع أيضاً الصفحة : 453 - 454 من المجلّد المذكور.

على عدم حجّية خبر الواحد ، ونظير الإجماع المنقول للسيّد على عدم حجّية خبر الواحد ، بناءً على كون حجّية الإجماع المنقول من باب حجّية خبر الواحد.

قوله : الأمر الثاني : هل يقتضي دليل الانسداد كلّية النتيجة أو يقتضي إهمالها ... الخ (1).

لقد أطالوا الكلام على هذا التنبيه ، وفعلاً لم تسنح لي الفرصة للتأمّل في جميع ما حرّرناه فيه عن شيخنا قدس سره. ولكن نقول على الإجمال : إنّ النتيجة تارةً تكون على الكشف ، وأُخرى على الحكومة بمعنى حكم العقل بكون التنقّل من الاطاعة العلمية إلى الاطاعة الظنّية ، وثالثة على تبعيض الاحتياط.

أمّا على الأوّل ، فقد عرفت أنّه لا مدرك له إلاّ الإجماعان القائم أحدهما على أنّ الشارع لم يرخّص في شيء من أحكامه ولم يتنازل عنها ، والآخر على أنّ الشارع لا يريد امتثال أحكامه بطريق الاحتياط ، وعن هذين الإجماعين نستكشف أنّ الشارع قد جعل لنا الظنّ حجّة في هذا الحال ، ولو بواسطة قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وبناءً على ذلك لابدّ أن تكون النتيجة واضحة مبيّنة ، وإلاّ لم يكن الجعل في الجملة مخلصاً لنا من ورطة الإجماعين المرقومين ، وحينئذ تكون النتيجة كلّية من حيث الموارد والأسباب والمرتبة.

أمّا على الطريقة [ الثانية ] أعني طريقة الحكومة بالمعنى [ المتقدّم ] ، فأيضاً لابدّ فيه أن تكون النتيجة واضحة بيّنة لا غبار عليها ، فإنّ الحاكم هو العقل ، وهو المطّلع على سعة موضوعه وضيقه ، ولا يعقل أن يكون العقل واقفاً غير عالم بشيء من السعة والضيق ، فإنّ [ العقل ] هو الحاكم وهذا أحد موارد ما يقال إنّ الإهمال في مقام الثبوت محال ، وإنّما يمكن الإهمال في مقام الاثبات والاستدلال

ص: 107


1- فوائد الأُصول 3 : 294.

على الواقع ، لأنّ المستدلّ والمتوقّف إنّما هو غير الحاكم.

وأمّا الطريقة الثالثة ، فالظاهر أنّها أجنبية عن عالم الحجّية ، وإنّما جلّ ما عندنا هو تبعيض الاحتياط ، إمّا بالنحو الذي ذكرناه وهو لزوم الجري على جميع موارد احتمالات التكاليف التي يبتلى بها المكلّف تدريجاً إلى أن يصل إلى درجة العسر والحرج ، فيسقط التكاليف الباقية لو كان فيها تكاليف ، ومن الواضح أنّه بناءً على هذا لا يكون في البين تبعيض بحسب الظنّ أو الركون إلى الظنّ. وإمّا بالنحو الذي أفادوه وهو إسقاط الاحتياط أوّلاً في الموهومات ، فإن وفى ذلك بارتفاع العسر والحرج في الاحتياط في البواقي فهو ، وإلاّ ضمّ إليه المشكوكات ، ويقتصر على الاحتياط في المظنونات بجميع مواردها ومراتبها وأسبابها ، فإن بقي العسر والحرج لزم التبعيض في مراتب الظنّ وهكذا.

ومن هذا كلّه يظهر أنّه ليس في البين إلاّ إسقاط الاحتياط في مقدار من المحتملات ، ولزوم العمل في البواقي على مقتضى الاحتياط ، وليس في البين حجّية ظنّ كي نتكلّم في أنّ الحجّة هو مطلق الظنّ ، أو الظنّ في الجملة الذي هو معنى الاهمال.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في الأمر الثالث (1) المعقود لخروج القياس ، فإنّه قد اتّضح لك أنّه بناءً على الوجه الأوّل وهو الكشف لا إشكال في خروجه ، وكون دليله مخصّصاً للقضية الكلّية الشرعية المستكشفة بطريق العقل ، وهي كون كلّ ظنّ حجّة شرعاً ، كما أنّه بناءً على الوجه الثالث وهو تبعيض [ الاحتياط ] ينبغي القول بإسقاط الاحتياط فيما يؤدّي إليه القياس لأنّه من مظنونات التكليف ، إذ لا أقل من كون أدلّة المنع من الأخذ بالقياس موجبة لسقوط الاحتياط في

ص: 108


1- فوائد الأُصول 3 : 320.

موارده ، وإنّما يتوجّه الإشكال بناءً على الوجه الثاني وهي الحكومة العقلية بالمعنى المتقدّم.

ولكن هذا كلّه مع قطع النظر عمّا يستفاد من أدلّة المنع عن العمل بالقياس من كونه مشتملاً على المفسدة ، بحيث تكون موجبة للمنع عن العمل به منعاً موضوعياً ، أو كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، يعني أنّ موارد خطئه أكثر من موارد إصابته ، ولأجل هاتين الجهتين يمكننا الجزم بحرمة العمل به والركون إليه ولو من باب الاحتياط باعتبار كونه محقّقاً للظنّ بالواقع ، هذا بالنظر إلى الجهة الأُولى من جهات المنع عنه.

وأمّا بالنظر إلى الجهة الثانية ، فلابدّ أن نقول : إنّ العقلاء إنّما يحصل لهم الظنّ منه لأجل الغفلة عن هذه الجهة الثانية وهي كثرة خطئه ، أمّا بعد التفاتهم إلى هذه الجهة الثانية التي نبّههم الشارع عليها ، فلا يحصل لهم الظنّ العقلائي منه ، فلا يعتنون به حتّى في مقام الاحتياط. نعم الاتيان بمؤدّاه بما أنّه أحد محتملات الواقع لا مانع منه.

وممّا ذكرناه (1) في شرح ما أفاده شريف العلماء قدس سره من عدم حجّية الظنّ بالطريق ، يظهر لك أنّ المقدّم في مسألة الظنّ المانع والممنوع هو الظنّ الممنوع حتّى على القول بالكشف. نعم بناءً على عموم النتيجة للظنّ بالطريق ، يكون الأمر كما أُفيد من تقديم الظنّ المانع ، بناءً على كونهما من قبيل الأصل السببي والمسبّبي ، بل إنّهما أوضح منهما ، لصراحة الظنّ المانع بعدم حجّية الظنّ الممنوع ، وكون الظنّ الممنوع لا تعرض له لحجّية الظنّ المانع فتأمّل ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو اختلف الظنّان في السنخ ، أمّا لو اتّحدا سنخاً بأن قامت الشهرة

ص: 109


1- في الصفحة : 101 وما بعدها.

على عدم حجّية الشهرة ، كان الساقط هو الظنّ المانع ، مثل ما لو قام خبر الواحد على عدم حجّية خبر الواحد ، كما تقدّم من إخبار السيّد بالإجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، ونظيره ما لو قال : كلّ خبري كاذب ، وقلنا بشمول القضية لنفسها ، فتأمّل.

ص: 110

[ أصالة البراءة ]

قوله : فإنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعله مفعولاً به - إلى قوله - نعم هما بمعنى المصدر لا يصحّ تعلّق التكليف بهما (1).

الظاهر أنّ المصدر المبيّن للنوع أو العدد لا يصحّ جعله مفعولاً به ، وأنّ اسم الحدث إن أُخذ بالمعنى المصدري لا يصحّ جعله مفعولاً مطلقاً ، بل يكون حينئذ عاملاً عمل فعله والمفعول المطلق لا يعمل ، ولا يصحّ جعله مفعولاً مطلقاً إلاّ إذا [ أُخذ ] بالمعنى الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس الحدث غير مأخوذ فيه النسبة ، فإنّه إذ ذاك يكون مفعولاً مطلقاً ، لكونه حينئذ هو المفعول للفاعل بلا توسّط تعلّق مثل قولك به أو فيه أو له ، كما نصّ عليه ابن الناظم وهو الذي يساعد عليه الاعتبار.

وأمّا السموات والأرض ونحوهما ممّا يقع تحت الخلق ، فهي وإن كانت عين الخلق خارجاً ، إلاّ أنّها تخالفه اعتباراً ، فإنّ الخلق باعتبار كونه اسم الحدث من خَلَقَ يباين الذات التي وقع عليها الخلق ، وملاك المفعول به والمفعول المطلق هو المباينة ، فالمفعول به يباين اسم الحدث ، والمفعول المطلق يكون عينه. نعم إنّ المفعول به يكون له تقرّر في وعاء نفسه ، ويكون تقرّره غالباً سابقاً على نفس الحدث ، ولا أقل من السبق الرتبي ، بخلاف المفعول المطلق فإنّه عين الحدث من

ص: 111


1- فوائد الأُصول 3 : 333.

ذلك الفعل الذي سلّط عليه ، بل لا تسليط في البين ، لما عرفت من الاتّحاد والعينية ذاتاً ورتبة ، فتأمّل.

قوله : وثانياً : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من الموصول ، وإرادة الوصول والاعلام من الإيتاء ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّه لو كان الأمر كذلك ، لكانت الآية الشريفة دالّة على تقيّد التكاليف بالعلم. فالأولى أن يقال : إنّه لو كان الأمر كذلك ، لكان مساقها مساق ما يدلّ على أنّ التكليف لا أثر له إلاّبعد الوصول إلى درجة الاعلام والتبليغ ، التي هي درجة الاجراء والفعلية ، وأنّه قبل الوصول إلى تلك الدرجة يكون من قبيل اسكتوا عمّا سكت عنه اللّه تعالى ، نظير الأحكام في أوائل البعثة والتشريع ، والأحكام المخزونة عند وليّه عجّل اللّه فرجه وجعل أرواحنا فداه.

قوله : فأقصى ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلاّبعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد ... الخ (2).

الأولى حذف لفظ المؤاخذة والعقوبة ، وإبدالهما بما عرفت من أنّه لا أثر للتكليف الواقعي ما لم يبلغ إلى درجة الفعلية والاجراء ، كي لا يتوهّم أنّ هذا راجع إلى ما نحن فيه من الشكّ بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض الاختفاء ، والأمر سهل بعد وضوح المراد.

ص: 112


1- فوائد الأُصول 3 : 333.
2- فوائد الأُصول 3 : 333.

قوله : أمّا أوّلاً : فلأنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه ... الخ (1).

وكأنّه لأجل ذلك أجاب في الكفاية (2) عن الاستدلال بها للبراءة بعين هذا الجواب ، الذي ذكر جواباً للاستدلال بها على إنكار الملازمة ، وحاصله : أنّ هذه الآية لا تنفع منكر الملازمة ، لأنّ إنكار الملازمة لابدّ فيه من إثبات عدم الاستحقاق ، والآية لا تدلّ على عدم الاستحقاق ، وإنّما تدلّ على نفي الفعلية ، كما أنّها لا تنفع القائل بالبراءة لأنّه لابدّ له من إثبات نفي الاستحقاق ، وهي لا تدلّ إلاّ على نفي الفعلية. فالخلاصة : أنّ الآية لا يمكن الاستدلال بها على البراءة ، كما لا يمكن الاستدلال بها على إنكار الملازمة ، هذا ما حرّرناه سابقاً.

ولكن بعد ذلك عرض لنا في هذه الدورة (3) إشكال ، وهو أنّ النظر في الآية الشريفة في نفي التعذيب قبل الارسال في قبال قاعدة الملازمة ، إن كان المراد من الرسول هو الظاهر أعني نبوّة النبي ، فقبله لا تجري الملازمة ، لأنّ موردها هو مورد التشريع ، فقبله لا مورد لها ، نظير الاقتضاء ، وبعده تجري الملازمة ، فإن تمّت الملازمة صار العقاب مستحقّاً وفعلياً ، وإن لم تتمّ بأن لم يدرك العقل قبح الفعل الفلاني ، لم يكن هناك استحقاق ولا فعلية ، فأين المورد الذي يقال إنّ نفي فعلية العقاب لا يدلّ على نفي الاستحقاق الذي توجبه الملازمة.

وإن كان المراد من الرسول هو الحجّة ولو عقلية ، وإن شئت فقل : إنّه الشامل للرسول والحجّة العقلية ، فقبلهما لا استحقاق ولا فعلية ، وبعدهما يتحقّق

ص: 113


1- فوائد الأُصول 3 : 334.
2- كفاية الأُصول : 339.
3- 4 ذي القعدة سنة 1384 [ منه قدس سره ].

كلّ من الاستحقاق والفعلية إلاّبالعفو ، وقبل الأوّل دون الثاني - [ وهو ] فرض لا واقعية له - لا استحقاق ولا فعلية ، وقبل الثاني دون الأوّل لا استحقاق ولا فعلية.

وأمّا الكلام فيها بالنظر إلى كونها دليلاً على البراءة ، فإن كان الرسول هو الظاهر فقبله لا مورد للبراءة قطعاً ، وبعده يترتّب العقاب ، وتكون الآية من أدلّة الاحتياط ، إلاّ أن نجيب عنها بأنّ دليل البراءة حاكم على مقتضى الاحتياط.

وإن كان المراد الأعمّ من الحجّة ، فقبلهما لا مورد للبراءة لعدم الرسول ، وبعدهما يتعيّن الاستحقاق وفعلية العقاب ، لأنّ قاعدة الملازمة دليل قطعي على التكليف ، كما أنّه لا مورد للبراءة قبل الرسول مع فرض الحجّة. أمّا العكس يعني بعد الرسول ولم تقم الحجّة لعدم إدراك العقل قبح الفعل الفلاني ، فلا استحقاق ولا فعلية ، وتكون الآية دالّة على البراءة في هذه [ الصورة ] ، فأين يتحقّق الاستحقاق دون الفعلية.

قوله : الأوّل : لا يصحّ استعمال الرفع وكذا الدفع إلاّبعد تحقّق مقتضي الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجوداً في وعائه المناسب له ... الخ (1).

قد يتأمّل فيما أُفيد من إرجاع الرافع إلى الدافع الذي هو عبارة أُخرى عن المانع ، بأن يقال : إنّ ذلك إنّما يمكن تسليمه في التكوينيات ، بناءً على ما أفاده قدس سره من احتياج الممكن في بقائه إلى العلّة كأصل حدوثه ، على أنّ تلك الدقّة العقلية ممّا يقطع بعدم ابتناء المحاورات والاستعمالات عليها.

أمّا الأُمور الشرعية فحيث إنّها لا تتوقّف في أصل تحقّقها في عالمها ولا في بقائها على أزيد من الجعل الشرعي إمضاءً أو تأسيساً ، فينبغي القول بتحقّق الرفع

ص: 114


1- فوائد الأُصول 3 : 336.

بالنسبة إليها ، ومهما نشكّ في شيء فإنّا لا نشكّ في أنّ الطلاق مثلاً رافع لعلقة الزوجية ، والعتق رافع للملكية والرقّية ، وأمثلة ذلك في الفقه كثيرة ، وعليها تدور رحى أغلب موارد الاستصحاب ، خصوصاً بناءً على عدم شمول أدلّته للشكّ في المقتضي.

ولو كان كلّ رافع راجعاً إلى الدافع الذي هو عبارة عن المانع للمقتضي عن تأثيره فيما يقتضيه ، لكان الاستصحاب في جميع تلك الموارد راجعاً إلى قاعدة المقتضي والمانع ، إذ لا يكون الشكّ حينئذ في وجود الرافع أو رافعية الموجود إلاّ من قبيل الشكّ في المانع أو مانعية الموجود ، ولا يكون ملاك الاستصحاب هو الأخذ بالموجود السابق المتيقّن وجوده سابقاً حتّى يعلم بوجود رافع ذلك الوجود السابق ، إذ لا أثر للوجود السابق ، ويكون الملاك في الاستصحاب هو الاعتماد على المقتضي فيما يأتي ، وعدم الاعتناء باحتمال وجود ما يكون مانعاً من تأثير المقتضي أثره ، ويكون مرجع الاستصحاب حينئذ إلى عدم الاعتناء باحتمال وجود ما يزاحم العلّة في تأثيرها ، لا إلى الأخذ بما كان متيقّناً موجوداً وعدم الاعتناء باحتمال طروّ رافع لذلك الموجود.

ومن جملة ما يكون رافعاً في الشرعيات النسخ ، بناءً على أنّ المصلحة المحدودة بالزمان وإن لم تقتض إلاّ الحكم المحدود فيكون النسخ من قبيل الدفع ، إلاّ أنّه من الممكن أن يجعل الشارع نفس الحكم غير محدود ، غايته أنّه يلزمه أن يرفعه عند انتهاء أمد مصلحته ، وربما كان سلوك الشارع الطريقة الثانية أولى عنده من الطريقة الأُولى ، لأجل مصلحة لاحظها في سلوك الطريقة الثانية ، كمن يرى نفسه محتاجاً إلى الزواج لمدّة محدودة ، لكن كانت هناك جهة توجب عليه إيجاد النكاح غير محدود ، ثمّ بعد انتهاء أمد حاجته إليه يوقع الطلاق.

ص: 115

وحاصل المراد : أنّ من سبر الفقه يرى أنّ جملة من الأُمور الشرعية سواء كانت وضعية أو كانت تكليفية ، قد جعل الشارع لها روافع ترفعها بعد أن تحقّق جعلها في الشريعة ، كما في النكاح ورافعه الطلاق ، وكما في الطهارة من الحدث ورافعها هو الحدث ، وكما في كلّ حكم ورافعه الذي هو النسخ على ما عرفت.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ جميع المجعولات الشرعية ليست إلاّ اعتبارية من جانب الشارع ، خصوصاً بناءً على عدم جعل السببية كما حقّق في محلّه (1) ، فإنّه بناءً عليه لا تكون العلّة في تلك المجعولات إلاّجعل الشارع واعتباره ، فتكون تلك المجعولات معلولة لذلك الجعل الشرعي ، الذي هو الاعتبار الشرعي كما في الوضعيات ، أو نفس جعل التكليف كما في التكليفيات ، وليس محصّل رفعها أو جعل الرافع لها إلاّحدوث جعل آخر واعتبار آخر ، وتحقّق هذا الجعل والاعتبار الطارئ يكون عبارة أُخرى عن رفع اليد عن الجعل الأوّل أو الاعتبار الأوّل ، فعند التحقيق لا يكون ذلك المجعول أو المعتبر ثانياً رافعاً لما هو المجعول والمعتبر أوّلاً ، بل يكون نفس الجعل أو الاعتبار الثاني واقعاً في رتبة الجعل والاعتبار الأوّل في كونه موجباً لعدم تأثيره.

وأمّا الرافع في باب الاستصحاب فهو مبني على الذوق العرفي ، المبني على أنّ ما يكون مانعاً من تأثير العلّة في الاستمرار يسمّى رافعاً ، وما يكون مانعاً من تأثيرها في أصل الوجود يسمّى دافعاً.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من الاعتبار الأوّل والاعتبار الثاني لا يصحّح كون الجعل الثاني من قبيل الدفع الحقيقي بالنسبة إلى الجعل الأوّل ، بل لا يكون إلاّ من مجرّد رفع اليد عن الجعل والاعتبار الأوّل ، فلا يكون حينئذ من الدفع ، بل

ص: 116


1- راجع الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 178 ومابعدها.

ولا من الرفع.

وكيف كان ، فهذه أُمور لا دخل لها بما نحن بصدده من الجهة اللفظية الاستعمالية التي يكون قوامها هو الفهم العرفي ، غير المبني على هذه التدقيقات التي ربما لا يتعقّلها غالب أهل اللسان ، وفائدة هذه الجهة الاستعمالية وإن كانت لاستنتاج فهم المراد من كلام الشارع وهو العالم الحكيم ، إلاّ أنّ كلامه منزّل على الفهم العرفي الذي يفهمه أهل اللسان ، إذ الخطاب إنّما هو معهم ، وإذا رجعنا إلى أهل اللسان نجدهم يفرّقون بين قولهم : رفعت الحجر عن الأرض ، وقولهم : دفعت الحجر عن زيد ، إذا منعه من الوصول إليه ، فإنّهم يحكمون بأنّ المراد من الرفع في الجملة الأُولى غيره في الجملة الثانية على وجه لو استعمل الرفع في الثاني لكان في أنظارهم غلطاً ، إلاّ إذا نزّل اقتضاء قوّة الرامي لذلك الحجر منزلة وقوعه على زيد ونحو ذلك من التنزيلات. أمّا استعمال الدفع في مورد الجملة الأُولى فلا أستحضر له مصحّحاً ولو على نحو التنزيل وعناية التجوّز ، ولا أستحضر له فعلاً مثالاً عرفياً مقبولاً.

ثمّ إنّه قد وقع الرفع مسنداً إلى الشارع في كثير من الموارد ، وليس المراد به الرفع الحقيقي ، كما في حديث « رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم ، والمجنون حتّى يفيق ، والنائم حتّى يستيقظ » (1) ونحو ذلك ممّا ورد فيه الرفع منسوباً إلى الشارع مع العلم بخلوّ صفحة التشريع قبل ذلك الرفع عن ذلك المرفوع ، ولعلّ من هذا القبيل قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه تعالى علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) بناءً على أنّ المراد من حجب العلم عدم صدور البيان من جانب

ص: 117


1- وسائل الشيعة 1 : 45 / أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11 ( مع اختلاف في اللفظ ).
2- وسائل الشيعة 27 : 163 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 33.

الشارع ، ويكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » (1).

فإنّ جميع ما كان من هذا القبيل لا يراد به الرفع الحقيقي ، أعني رفع شيء موجود متحقّق في وعائه. كما أنّه ليس المراد هو الدفع الحقيقي ، بل المراد به عدم الجعل ، غايته أنّه لابدّ في تلك الموارد من كون المورد قابلاً للجعل ، لتكون تلك القابلية مصحّحة لتنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحّة نسبة الرفع إليه ، ليكون من قبيل الاستعارة التي يبتني عليها أغلب الاستعمالات ، ولعلّ ذلك المقدار من القابلية هو المصحّح لكون المقام من قبيل الدفع ، إلاّ أنّ التعبير بالرفع يكون في أمثال هذه المقامات ممّا يكون مسوقاً مساق المنّة أبلغ من التعبير بالدفع.

وليس المراد من القابلية المصحّحة لنسبة الرفع هي القابلية التامّة حتّى بالنظر إلى عدل الشارع وحكمته ولطفه وعدم صدور القبيح منه ، وإلاّ لما صحّ استعمال الرفع في المجنون ونحوه ، بل المراد القابلية في الجملة ، في قبال الرفع عن الحيوان والجماد مثلاً ، وهذا المقدار من القابلية في الجملة مصحّح لاستعمال الرفع ، ويكون بحسب النتيجة موازناً لعدم الجعل كما في دليل نفي الحرج.

ولا فرق بين العبارتين في أصل المؤدّى الواقعي إلاّباعتبار راجع إلى خصوصيات بيانية راجعة إلى فنّ البلاغة ، وربما كان لها أثر مهم ، كما يظهر في تحكيم بعض الأدلّة على بعض مع كون المؤدّى الواقعي واحداً ، وإنّما كان اللسان فيه مختلفاً ، ولهذا الاختلاف أثره في باب الحكومة ، كما في حكومة الأدلّة الاجتهادية على الأُصول العملية ، وحكومة الأُصول بعضها على بعض ، فإنّ ذلك

ص: 118


1- وسائل الشيعة 27 : 175 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 68. وفيه : « وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلّفوها ».

ليس إلاّللخصوصيات اللسانية البيانية ، وإن كان المؤدّى الواقعي واحداً.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه قد سبق إلى النظر القاصر قياس ما نحن فيه من حديث الرفع (1) على الأمثلة المزبورة ، فيقال : إنّه ليس المراد بالرفع في هذا الحديث الشريف في جميع التسعة إلاّمعنى واحداً ، وهو مجرّد عدم الجعل ، غايته أنّه يكون واقعياً فيما عدا « ما لا يعلمون » ، وفي خصوص « ما لا يعلمون » لا يكون الرفع الذي هو عبارة عن عدم الجعل إلاّظاهرياً ، وذلك الاختلاف لا يوجب اختلافاً في معنى الرفع لغة واستعمالاً ، بل لا يكون الرفع في الجميع إلاّ بمعنى واحد ، وهو عبارة عن عدم الجعل ، وخصوصية كونه ظاهرياً أو واقعياً إنّما يكون في المنسوب إليه الرفع وهو المرفوع ، فحيث كان موضوعه في « ما لا يعلمون » هو عدم العلم بالحكم الواقعي ، وكان الرفع وارداً في طريق ذلك الحكم الواقعي ، لم يكن رفع ذلك الحكم الذي هو عبارة عن عدم جعله إلاّحكماً ظاهرياً ، بخلاف باقي التسعة ، والقرينة الموجبة لحمل التصرّف في « ما لا يعلمون » على الحكم الظاهري هي ما أقمناه من الأدلّة القطعية العقلية والنقلية على مشاركة العالم والجاهل في الأحكام الواقعية الشرعية ، فإنّ تلك الأدلّة تكون من قبيل القرينة القطعية الموجبة لعدم حمل الرفع المسند إلى « ما لا يعلمون » على الرفع الحقيقي الواقعي ، فلابدّ حينئذ من التنزّل إلى حمله على الرفع الظاهري.

هذا حاصل ما وقع في الذهن القاصر من توجيه الرفع في الحديث الشريف ، ومجمله : حمل الرفع في جميع فقراته على مجرّد عدم الجعل ، مع فرض كون المورد في جميع هذه الفقرات التسع قابلاً للجعل الشرعي ، ويكون

ص: 119


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

وزان الحديث الشريف حينئذ وزان حديث رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم ، غايته أنّه يكون الرفع الذي هو بمعنى عدم الجعل واقعياً في جميع الفقرات التسع ما عدا « ما لا يعلمون » ، وفي خصوص « ما لا يعلمون » يكون ذلك - أعني الرفع بمعنى عدم الحكم - ظاهرياً.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون الرفع في « ما لا يعلمون » ظاهرياً وفي غيره واقعي ، لا يختلف الحال فيه بين أخذ الرفع بمعنى عدم الجعل ، أو أخذه بمعناه الأصلي الذي هو رفع الشيء الموجود ، غايته أنّه في المقام يكون رفع الشيء المنزّل منزلة الموجود باعتبار الاقتضاء ، وحينئذ يكون الرفع في « ما لا يعلمون » مخالفاً في السياق لباقي التسع من وجهين ، أحدهما : من جهة المسند إليه ، فإنّ المرفوع فيه هو نفس الموصول الذي هو عبارة عن الحكم ، والمرفوع فيها هو أحكامها لا نفسها. الثاني : من جهة المسند ، فإنّه في « ما لا يعلمون » لا يكون إلاّظاهرياً ، وفي باقي التسع لا يكون إلاّواقعياً ، وهذه الجهة - أعني الواقعية والظاهرية - توجب الاختلاف في ناحية نفس المجعول الذي هو المسند إلى كلّ واحدة من هذه الفقرات ، وإن كان الاختلاف ناشئاً عن المسند إليه.

ولا يخفى أنّ التعبير عن هذه الجهة الثانية باختلاف السياق لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ اختلاف السياق إنّما يكون في المتعاطفات من دون أن تجمعها ثمّ بعد ذلك تذكر التعاطف ، وما نحن فيه قد أسند الرفع أوّلاً إلى مجموع التسع ثمّ تلاها التعاطف ، فليس الإشكال من جهة اختلاف السياق ، بل هو راجع إلى الجمع بين معانٍ متعدّدة في لفظ واحد.

نعم ، الإشكال من الجهة الأُولى سياقي ، لأنّ الاختلاف فيه إنّما هو في المتعاطفات ، فبعضها وهو « ما لا يعلمون » سلّط عليه الرفع باعتبار نفسه ،

ص: 120

والبواقي سلّط عليه الرفع باعتبار حكمها. ولكنّه أيضاً غير سياقي ، بل هو واقع في مجموع التسعة في قوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء » فإنّ بعض تلك التسعة وهو « ما لا يعلمون » يكون مرفوعاً بنفسه والبواقي يكون المرفوع هو أثرها.

وعلى كلّ حال ، لابدّ لنا من الجواب عن الجهتين. أمّا الجهة الأُولى : فبما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى من كون المرفوع في الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه هو أثره وهو وجوب الاحتياط. ومنه يظهر الجواب عن الجهة الثانية ، فإنّ المرفوع في « ما لا يعلمون » إذا كان هو الاحتياط يكون رفعه رفعاً واقعياً لا ظاهرياً. على أنّه لو التزمنا بأنّ رفع الاحتياط يكون ظاهرياً فليس ذلك بموجب للاختلاف في معنى الرفع ، بل إنّ معنى الرفع واحد في الجميع ، وكونه فيه ظاهرياً لأجل قرينة دليل الاشتراك ونحوه لا يوجب تغييراً في المعنى الذي استعمل فيه الرفع في الجميع فتأمّل.

قوله : فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضي عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الرفع لو كان هنا بمعنى الدفع لكان المسلّط عليه هو المقتضي للأحكام في كلّ واحد من هذه التسعة ، فلا وجه لتسليطه على كلّ واحد من هذه التسعة ، إذ ليس المدفوع هو نفس كلّ واحد من التسعة ، وإنّما المدفوع هو مقتضي الحكم في الفعل الصادر في حال كلّ واحد منها ، ولا يصحّ نسبة الدفع إلى الفعل المضطرّ إليه إذا كان المدفوع هو مقتضي الحكم اللاحق لنفس الفعل مع قطع النظر عن كونه مضطرّاً إليه.

ص: 121


1- في الحاشية المفصّلة الآتية.
2- فوائد الأُصول 3 : 337.

قوله : ويظهر من الشيخ قدس سره أنّ الدفع من أوّل الأمر ورد على إيجاب الاحتياط - إلى قوله - وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم إيجاب الاحتياط لا يمكن إلاّبأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في إيجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها ... الخ (1).

ظاهر ما أفاده الشيخ قدس سره (2) من كون الرفع متوجّهاً ابتداءً إلى نفس إيجاب الاحتياط ربما كان لا يساعد عليه ظاهر الفقرة الشريفة ، بناءً على كون المراد من الموصول فيها هو نفس الحكم الواقعي. أمّا ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الرفع متوجّه إلى اقتضاء الحكم الواقعي إيجاب الاحتياط فيمكن التأمّل فيه ، بأنّه إن أراد به نفس المقتضى - بالفتح - كان ذلك عبارة أُخرى عمّا أفاده الشيخ قدس سره ، وإن كان المراد به هو نفس الاقتضاء توجّه عليه أنّه غير قابل للرفع الشرعي ، سواء قلنا إنّ المقتضي للاحتياط هو عين مقتضي الحكم الواقعي ، أو قلنا إنّ المقتضي له هو نفس الحكم الواقعي ، فإنّ صفة الاقتضاء للشيء ليست شرعية لتكون قابلة لورود الرفع عليها ، سواء جعلناه رفعاً حقيقياً ، أو جعلناه من مقولة الدفع الراجع إلى مجرّد عدم الجعل مع فرض ثبوت المقتضي له. وكيف كان ، فلا يكون رفع الاحتياط أو رفع اقتضاء الاحتياط إلاّرفعاً واقعياً ، ولا يكون الترخيص الملازم له إلاّ ترخيصاً واقعياً ، هذا.

ولكن يمكن أن يوجّه ما أفاداه قدس سرهما بما هو خلاف ما يتراءى من ظاهر كلامهما قدس سرهما ، وذلك بأن يقال : إنّ الشيء المفروض الوجود واقعاً لو تسلّط عليه

ص: 122


1- فوائد الأُصول 3 : 338 - 339.
2- فرائد الأُصول 2 : 34.

الرفع الشرعي ، لابدّ أن يكون محصّل رفعه مع فرض وجوده وجداناً هو الرفع التشريعي ، وذلك لا يكون إلاّبرفع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، وذلك واضح في باقي الأُمور التسعة ما عدا « ما لا يعلمون » ، أمّا نفس « ما لا يعلمون » بعد فرض حمل الموصول فيه على نفس الحكم الواقعي ، فتوجّه الرفع إليه بعد فرض قيام الأدلّة القطعية على وجوده وتحقّقه واقعاً في حقّ غير العالم به كالعالم ، يكون قيام ذلك الدليل موجباً لاندراجه فيما توجّه الرفع الشرعي إليه مع فرض تحقّقه واقعاً ، فيلزم صرف الرفع المتوجّه إليه إلى رفع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، وهو منحصر بالاحتياط ، فإنّه يعدّ من آثار الحكم الواقعي ولو بواسطة كون موضوعه هو الشكّ في الحكم الواقعي.

فإذا قال الشارع : إنّ الحكم الواقعي مرفوع في حقّ غير العالم به ، مع فرض قيام الدليل القطعي العقلي والنقلي على عدم ارتفاعه حقيقة ، لابدّ من حمل الرفع المذكور على الرفع التشريعي التنزيلي ، ويكون محصّله هو رفع ذلك الأثر الشرعي المترتّب عليه الذي هو إيجاب الاحتياط ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن عدم وجوب التحرّز عن مخالفة الحكم الواقعي في مورد الشكّ فيه وعدم العلم به.

وبناءً على هذا التوجيه لا يكون الرفع في جميع الفقرات حتّى في « ما لا يعلمون » إلاّ الرفع الواقعي ، ويكون معناه في الجميع واحداً وهو الرفع - أعني رفع ما هو موجود - دون الدفع ، غايته أنّه لا يكون الرفع في الجميع إلاّرفعاً تنزيلياً ، أعني رفع الآثار الشرعية المترتّبة على ذلك العنوان الذي تسلّط الرفع عليه ، وإن كانت تلك الآثار غير موجودة قبل الرفع إلاّ اقتضاء ، فإنّ الرفع لم يتوجّه إليها ابتداءً كي يكون عدم وجودها إلاّ اقتضاء موجباً لحمل رفعها على الدفع ، بل

ص: 123

كان الرفع متوجّهاً ابتداءً إلى ذي الأثر وهو موجود ، فيصحّ نسبة الرفع إليه ، غايته أنّه لم يكن رفعاً تكوينياً ، بل كان رفعاً تشريعياً الذي هو عبارة عن إخلاء صفحة التشريع عنه ، فكان ذلك عبارة أُخرى عن سلب الآثار الشرعية القابلة لأن تكون لاحقة له ، وكان رفع ذي الأثر كناية عن رفع الأثر ، ورفع الأثر وإن لم يكن موجوداً إنّما صحّ بعناية وجود المقتضي له ، فصحّ جعل رفع تلك الآثار الموجودة تنزيلاً مصحّحاً لرفع ذي الأثر.

ومن ذلك يظهر لك : أنّه ليس الأثر المرفوع المصحّح لرفع ذي الأثر هو نفس المؤاخذة والعقوبة ، إذ ليس ذلك من الآثار الشرعية المصحّحة للرفع الشرعي ، نعم يلزم من رفع ذلك الأثر الشرعي ارتفاع العقوبة ، لا أنّ المرفوع ابتداءً هو العقوبة.

وحاصل التقريب : أنّه لمّا كان من الممكن أن يجعل الشارع وجوب الاحتياط في مقام الشكّ في وجود التكليف الواقعي محافظة على ملاكه ، وتحرّزاً من الوقوع في مخالفته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ إيجاب الاحتياط من الآثار الشرعية اللاحقة للتكليف الواقعي ، فإذا توجّه الرفع الشرعي إلى التكليف الواقعي في مقام الشكّ فيه ، مع فرض قيام الدليل القطعي على عدم ارتفاع التكاليف الواقعية عن الجاهلين بها ، كان المصحّح لذلك الرفع التشريعي المتوجّه إلى التكليف الواقعي الذي تعلّق به الشكّ هو رفع أثره الشرعي ، الذي هو إيجاب الاحتياط.

لا يقال : إذا رجع مفاد حديث الرفع إلى مجرّد عدم جعل الاحتياط ، لم يكن ذلك مسوّغاً للارتكاب ما لم ينضمّ إليه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون حديث الرفع دليلاً مستقلاً في قبال قبح العقاب بلا بيان ، فلا يكون نافعاً في المورد الذي لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كما في موارد الشكّ بين

ص: 124

الأقل والأكثر الارتباطيين بناءً على عدم جريان البراءة العقلية فيها.

لأنّا نقول : يمكن القول بكفاية رفع الاحتياط في إثبات الترخيص الشرعي الذي هو جواز الاقتحام ، لأنّ محصّل رفع الاحتياط والحكم الشرعي بعدم وجوبه هو عدم وجوب التحرّز عن مخالفة ذلك الحكم الواقعي المحتمل ، وذلك عبارة أُخرى عن جواز الاقتحام فيه ، إذ ليس الحديث الشريف مسوقاً لتبرئة الشارع من جريمة جعل الاحتياط ، ليقال إنّه لا دلالة فيه على أزيد من رفع الاحتياط أو عدم جعله ، بل هو مسوق لبيان امتنان الشارع على هذه الأُمّة ، وهو أنّه لم يضيّق عليهم ، ولم يجعل عليهم كلفة الاحتياط والتحرّز عن مخالفة الأحكام الواقعية في مقام الشكّ فيها وعدم العلم بها ، وهذا المعنى يعطي أنّه رخّصهم في مخالفة تلك الأحكام لو كانت موجودة في الواقع.

ولا يخفى أنّ هذا - أعني الاحتياج إلى الترخيص وجواز الاقتحام شرعاً - مبني على ما قرّره شيخنا قدس سره (1) في كيفية التوفيق بين هذا الحكم الظاهري - أعني الترخيص المذكور - وبين الحكم الواقعي ، مع الاعتراف بكون الترخيص المذكور ترخيصاً شرعياً ، أمّا بناءً على ما حرّرناه في ذلك المبحث (2) من أنّ المجعول ليس هو الترخيص ، وأنّ المجعول إنّما هو الحكم الوضعي ، أعني حجّية احتمال عدم التكليف في خصوص الأثر الرابع من آثار القطع الوجداني ، وهو خصوص المعذورية فيما لو أخطأ ، فنحن لا نحتاج إلى الترخيص الشرعي ، لأنّ جعل هذا المقدار من الحجّية كافٍ في الاستغناء عن البراءة العقلية.

ولا يتوجّه علينا : أنّه بناءً على ما ذكرتموه من جعل هذا المقدار من الحجّية

ص: 125


1- راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 312 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 312 وما بعدها.

لا يكون الرفع في « ما لا يعلمون » رفعاً شرعياً ، فيتسجّل اختلاف السياق.

لأنّا نجيب عنه : بأنّه إذا فرضنا أنّ الشارع جعل احتمال عدم التكليف حجّة في خصوص المعذورية ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ الشارع رفع ذلك التكليف الواقعي بمقدار المعذورية في مخالفته ، وإن شئت فقل : بمقدار كون احتمال عدمه حجّة في المعذورية ، فلا يخرج الرفع بذلك عن كونه رفعاً في عالم التشريع إلى كونه رفعاً عقلياً ، ليختلف مع الرفع في باقي التسع ، بل لا يكون الرفع إلاّ رفعاً تشريعياً ، غايته أنّ ذلك الرفع التشريعي للحكم الواقعي الذي لم يعلمه المكلّف لم يكن رفعاً ابتدائياً ، بل كان بواسطة جعل احتمال عدمه حجّة في خصوص المعذورية ، فإنّ هذا المقدار من جعل الحجّية عبارة أُخرى عن رفع ذلك الحكم الواقعي في عالم التشريع ، الذي لا يترتّب عليه إلاّ المعذورية في مخالفته ، من دون أن يكون في البين ترخيص شرعي كي يكون منافياً للحكم الواقعي. نعم بعد فرض جعل ذلك المقدار من الحجّية التي هي عبارة عن رفع التكليف بذلك المقدار ، أعني بمقدار المعذورية في مخالفته ، يكون الترخيص عقلياً لا شرعياً.

وإن شئت فقل : إنّ الرفع لا يكون إلاّكناية عن جعل ذلك المقدار من الحجّية ، ويكون هذا الرفع الشرعي بالنسبة إلى جعل ذلك المقدار من الحجّية أشبه شيء بالحكم التكليفي المنتزع عن الحكم الوضعي ، فإنّ رفع ذلك المقدار من التكليف الواقعي - أعني مقدار المعذورية - يكون منتزعاً من ذلك الحكم الوضعي ، أعني حجّية احتمال العدم من حيث المعذورية ، فتأمّل لئلاّ تتوهّم عود المحذور في جعل الترخيص وإن كان بتبع جعل الحجّية ، بل إنّ جعل الحجّية يكون علّة للترخيص العقلي ، ويكفي في صحّة كون الترخيص أو رفع الحكم

ص: 126

الواقعي باعتبار رفع أثره الذي هو وجوب الاحتياط منسوباً إلى الشارع ، كون أساسه منسوباً إليه وهو جعل الحجّية.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما شرحناه في مسلك شيخنا قدس سره من كون الحكم الواقعي غير مرفوع بنفسه ، بل يكون المرفوع هو أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، لا يكون لحديث الرفع في « ما لا يعلمون » حكومة على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية ، لا حكومة واقعية ولا ظاهرية ، بل إنّما تكون حكومته متوجّهة إلى دليل الاحتياط لو فرضنا اتّفاق أنّ المسألة ممّا يجب فيها الاحتياط واقعاً ، وتكون تلك الحكومة حكومة واقعية ، نظير حكومة رفع الاكراه والاضطرار على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الأوّلية ، وحينئذ لا يتمّ ما أفاده قدس سره من كون الحكومة في « ما لا يعلمون » على أدلّة الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية ، بل إنّ الالتزام بالحكومة الواقعية في « ما لا يعلمون » على أدلّة الاحتياط لو اتّفق في الواقع وجوبه مشكل ، ولأجل ذلك نقول إنّ دليل الرفع في « ما لا يعلمون » معارض لأخبار الاحتياط لا حاكم عليها ، إذ لو كان حاكماً على تلك الأخبار لكانت بلا مورد ، وليس شأن الحكومة إلغاء الدليل المحكوم بالمرّة على وجه لا يبقى له مورد أصلاً.

والحاصل : أنّه بناءً على هذا التقريب من كون الرفع متوجّهاً إلى الحكم الذي لا يعلمونه باعتبار أثره الذي هو وجوب الاحتياط ، لا يكون حديث الرفع في « ما لا يعلمون » حاكماً على الأدلّة الواقعية ، لا حكومة واقعية ولا حكومة ظاهرية ، وأمّا بالنسبة إلى دليل وجوب الاحتياط لو اتّفق وجوبه في الواقع ، فقد عرفت أنّ الحديث معارض له لا حاكم عليه.

وقد يقال بكونه حاكماً عليه حكومة واقعية ، بتقريب : أنّ حديث الرفع لمّا كان رافعاً لوجوب الاحتياط بلسان رفع منشئه الذي هو الحكم الواقعي ، يكون

ص: 127

حاكماً على دليل وجوب الاحتياط ، لكونهما من قبيل ما لو كان لسان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الدليل الآخر ، فإنّ المرفوع الحقيقي وإن كان هو نفس الاحتياط ، إلاّ أنّه لمّا كان رفعه بلسان رفع موضوعه الذي هو الحكم الواقعي ، كان حاكماً على ما يدلّ على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحكم الواقعي ، فهما في ذلك نظير « لا شكّ لكثير الشكّ » (1) بالنسبة إلى ما يدلّ على وجوب البناء على الأكثر عند الشكّ في عدد الركعات.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه لو كان دليل الرفع حاكماً على دليل الاحتياط لو اتّفق وجوده واقعاً ، لبقي ذلك الدليل - أعني دليل الاحتياط - بلا مورد ، وليس من شأن الحكومة إلغاء الدليل المحكوم بالمرّة على وجه لا يبقى مورد للدليل المحكوم ، بل الذي ينبغي أن يقال : إنّ دليل الاحتياط لو كان مفاده لزوم الاحتياط في كلّ مورد لم يعلم التكليف الواقعي فيه ، يكون معارضاً لحديث الرفع ، ولو كان دليل الاحتياط أخصّ من دليل الرفع ، بأن كان دليل الاحتياط متكفّلاً لجعله في مورد خاصّ مثل الدماء والفروج ، كان هذا الدليل مقدّماً على دليل البراءة لكونه أخصّ منه.

نعم ، لو شكّ في أنّ هذا المورد الخاصّ الذي هو مورد اللحوم مثلاً هل حكم الشارع فيه بخصوصه بالاحتياط ، أو أنّ الشكّ في هذا المورد حكمه البراءة ، كان المرجع فيه هو أصالة البراءة تمسّكاً بعموم دليلها ، لأنّ الشكّ حينئذ في تخصيص عموم « ما لا يعلمون » وإخراج اللحوم منه ، فتأمّل.

وكيف كان ، فلا ينبغي الريب في أنّ هذا التقريب لا تتمّ معه الحكومة

ص: 128


1- لم نعثر عليه بلفظه ، وإنّما ورد ما يدلّ على الحكم في وسائل الشيعة 8 : 227 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 16.

الظاهرية ، سواء أُريد بها الحكومة على الأدلّة الواقعية ، أو أُريد بها الحكومة على وجوب الاحتياط. أمّا الأوّل ، فلما عرفت من أنّ حديث الرفع لا يرفع الأحكام الواقعية لكي يكون حاكماً على الأدلّة الأوّلية ، ليتكلّم على تلك الحكومة أنّها واقعية أو ظاهرية. وأمّا الثاني ، فلما عرفت من عدم حكومته على أدلّة الاحتياط ، بل إنّه معارض لها. ولو سلّمنا الحكومة في ذلك فهي لا تكون إلاّواقعية لا ظاهرية.

وأمّا ما يقال في تقريب الحكومة الظاهرية لحديث الرفع ، بأنّ موضوعه لمّا كان هو عدم العلم بالحكم الواقعي ، كان الرفع المذكور حكماً ظاهرياً ، فتكون الحكومة حكومة ظاهرية.

ففيه أوّلاً : أنّ مجرّد أخذ عدم العلم في موضوع الرفع لا يوجب كونه حكماً ظاهرياً ، لإمكان كون الحكم الوارد على الشكّ وعدم العلم حكماً واقعياً.

وثانياً : أنّ عدم العلم بالحكم الواقعي لو أُخذ موضوعاً لرفع ذلك الحكم الواقعي لكان الرفع ظاهرياً ، لكنّه إنّما أُخذ لرفع أثر ذلك الحكم الواقعي الذي هو إيجاب الاحتياط ، فكان من قبيل ما أُخذ فيه عدم العلم بحكم موضوعاً لرفع حكم آخر ، وفي مثله لا يكون الرفع إلاّرفعاً واقعياً.

وثالثاً : أنّه لو سلّمنا كون الرفع المذكور رفعاً ظاهرياً ، فلا يلزم منه إلاّ أن يكون وجوب الاحتياط مرفوعاً رفعاً ظاهرياً ، فلا يصحّ ما أُفيد من كون حديث الرفع في « ما لا يعلمون » حاكماً على الأدلّة الواقعية حكومة ظاهرية ، بل أقصى ما فيه هو الحكومة على دليل الاحتياط.

ورابعاً : أنّا لو سلّمنا كون الرفع رفعاً ظاهرياً ، وكونه حاكماً على الأدلّة الأوّلية حكومة ظاهرية ، لكان ذلك موجباً لاختلاف السياق مع باقي التسعة ، الذي

ص: 129

عرفت أنّ مرجعه إلى الالتزام باستعمال الرفع في قوله عليه السلام : « رفع عن أُمّتي تسعة أشياء » (1) في الرفع الحقيقي الواقعي والرفع الصوري الظاهري.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد من توجيه كون الرفع ظاهرياً بأنّه واقع في درجة إيجاب الاحتياط ، ووجه التأمّل واضح ، فإنّه بناءً على هذا التقريب ، أعني كون الرفع رفعاً لوجوب الاحتياط بلسان رفع أصل الحكم الواقعي ، لا يكون الرفع المذكور واقعاً في درجة إيجاب الاحتياط ، بل لا يكون إلاّرفعاً لإيجاب الاحتياط.

ولا يخفى أنّ إيجاب الاحتياط وإن كان ظاهرياً ، إلاّ أنّ كونه حكماً ظاهرياً لا يوجب كون رفعه ظاهرياً ، لوضوح أنّ رفع الحكم الظاهري لا يلزمه أن يكون رفعاً ظاهرياً ، بل يمكن أن يكون رفعاً واقعياً كما يمكن أن يكون رفعاً ظاهرياً ، والظاهر فيما نحن فيه هو الأوّل ، إذ لم يؤخذ عدم العلم بوجوب الاحتياط موضوعاً لرفعه كي يكون الرفع فيه ظاهرياً.

نعم ، لو قلنا إنّ الرفع كناية عن الترخيص لكان هو ووجوب الاحتياط واقعاً في درجة واحدة ، وهي درجة عدم العلم بالحكم الواقعي ، ويكون كلّ منهما حكماً ظاهرياً حينئذ.

ومن ذلك يظهر أنّه يمكن الجمع بين ما أفاده قدس سره من أنّ المرفوع هو إيجاب الاحتياط ، وأنّ هذا الرفع يكون رفعاً ظاهرياً بالنسبة إلى الأدلّة الواقعية ، لكون ذلك الرفع عبارة أُخرى عن الترخيص ، فإن توجّه الرفع إلى الحكم الواقعي برفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ولزوم التحرّز عن مخالفة الواقع ، عبارة أُخرى عن الترخيص الشرعي في مخالفة الحكم الواقعي لو كان موجوداً ، لما عرفت من عدم

ص: 130


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

كون سوق الحديث الشريف لتبرئة الشارع عن إيجاب الاحتياط ، بل هو مسوق لبيان امتنان الشارع على هذه الأُمّة بعدم جعل كلفة الاحتياط عليهم ، وأنّه لم يكلّفهم بالتحرّز عن مخالفة الحكم الواقعي عند الشكّ فيه وعدم العلم به ، وهذا المعنى - أعني امتنانه عليهم برفع كلفة التحرّز عنهم - يعطي أنّه قد رخّصهم في مخالفة تلك الأحكام الواقعية لو كانت موجودة ، ولا ريب أنّ هذا الترخيص في مخالفة الواقع وجواز الاقتحام في مقام الشكّ فيه لا يكون إلاّحكماً ظاهرياً ، ويكون هذا الحكم حاكماً على أدلّة الأحكام حكومة ظاهرية ، وهذا الترخيص هو الواقع في درجة إيجاب الاحتياط ، وبواسطة هذا الترخيص يكون حديث الرفع غير محتاج في جواز الاقتحام إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وإن شئت فقل : إنّ المجعول حقيقة في « ما لا يعلمون » هو هذا الترخيص الظاهري ، ولكن لأجل اعتبارات لسانية راجعة إلى فنّ البلاغة عبّر عنه بالرفع ، ونسب الرفع إلى الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه باعتبار أثره ، وهو إيجاب الاحتياط ، والمراد الجدّي الحقيقي هو جعل الترخيص المذكور ، وتلك الجهات اللسانية كافية في توحيد السياق وتصحيح استعمال الرفع منسوباً إلى جميع التسعة ، فتأمّل لئلاّ تتوهّم عود محذور اختلاف السياق.

نعم ، يبقى إشكال الجمع بين هذا الترخيص الذي هو حسب الفرض حكم شرعي فعلي مع الحكم الواقعي على خلافه ، ولأجل ذلك حاولنا إصلاح ذلك بجعل رفع الاحتياط والترخيص كناية عن جعل حجّية احتمال عدم التكليف بمقدار المعذورية ، فراجع ما حرّرناه في التعليق على ما أفاده قدس سره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (1) ، وتأمّل.

ص: 131


1- راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 312 وما بعدها.

والخلاصة : أنّك قد عرفت في قاعدة لا ضرر أنّ صاحب الكفاية قدس سره (1) حمل هذا النفي على كونه نفياً للحكم بلسان نفي الموضوع ، ويكون الضرر عنواناً للفعل الضرري ، وشيخنا قدس سره (2) أفاد أنّه لا حاجة إلى تبعيد المسافة ، بل يمكن أخذ الضرر عنواناً للحكم الضرري ، ويكون نفي الضرر عبارة عن نفي الحكم الضرري.

أمّا الرفع في « ما لا يعلمون » بعد كون المراد رفع الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه ، فظاهره الأوّلي مطابق لما أفاده شيخنا قدس سره في لا ضرر ، فيكون المرفوع هو نفس الحكم الواقعي بعنوان كونه ممّا لا يعلمونه. لكن هذا لا يمكن الالتزام به في حديث الرفع ، لكونه موجباً لاختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها ، فلابدّ من فرض نفس الحكم الواقعي بمنزلة الموضوع الموجود وجداناً ، وكون تسليط الرفع عليه باعتبار أثره الشرعي ، وحينئذ يكون من قبيل « لا ضرر » بناءً على ما أفاده في معناها صاحب الكفاية ، ويكون وزانه وزان « لا شكّ لكثير الشكّ » (3) ويكون حاله من هذه الجهة حال رفع الخطأ والنسيان في كونه مسوقاً لرفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، ويكون الحاصل هو أنّ الحكم الواقعي بعنوان كونه غير معلوم مرفوع الأثر الشرعي ، ولا ريب أنّ الأثر الشرعي اللاحق للحكم الواقعي بعنوان كونه غير معلوم إنّما هو الاحتياط ، لأنّ موضوعه هو الحكم الواقعي المشكوك ، فلا يكون المرفوع إلاّوجوب الاحتياط ، لكنّه بلسان رفع الموضوع الذي هو نفس الحكم الواقعي مع فرض تحقّق ذلك الموضوع واقعاً

ص: 132


1- كفاية الأُصول : 381.
2- قاعدة لا ضرر ( المطبوع في نهاية الجزء الثالث من منية الطالب ) : 379 - 380.
3- تقدّم استخراجه في الصفحة : 128.

ووجداناً.

ولكن يلزم على ذلك أن لا يكون حديث الرفع متعرّضاً لرفع نفس الحكم الواقعي لا ظاهراً ولا واقعاً ، وأن لا يكون له حكومة على دليل الحكم الواقعي أصلاً لا ظاهراً ولا واقعاً ، بل يكون محقّقاً للحكم الواقعي ، لأنّ محصّله حينئذ هو أنّ نفس الحكم الواقعي يكون في مقام عدم العلم به مرفوع الأثر ، الذي هو وجوب الاحتياط ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ رفع الاحتياط لا يكفي ولا يغني عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وثالثاً : يكون الحديث حاكماً على دليل الاحتياط لو كان موجوداً لا معارضاً له ، وحينئذ لابدّ لنا من الجواب عن هذه الجهات فنقول :

أمّا الثالث ، أنّ مقتضاه وإن كان هو الحكومة على ما يدلّ على وجوب الاحتياط ، لكونه لرفع الاحتياط بلسان رفع موضوعه ، فهو في ذلك [ نظير ] « لا شكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى ما يدلّ على أنّ حكم الشكّ هو البناء على الأكثر ، إلاّ أنّ الحكومة في هذا المقام لا يمكن الالتزام بها ، لأنّها موجبة لبقاء الدليل المحكوم - وهو ما دلّ على وجوب الاحتياط - بلا مورد ، ولأجل ذلك لابدّ من إعمال قاعدة التعارض بينهما ، وبرهان ذلك هو ما عرفت من أنّه لو كان دليل الاحتياط أخصّ من دليل الرفع كان هو المقدّم ، كما في الدليل الدالّ على الاحتياط في الدماء والفروج.

وأمّا الثاني ، فلما عرفت من أنّ الحديث ليس مسوقاً لتبرئة الشارع من جعل الاحتياط ، بل هو مسوق للامتنان ، وأنّ رفع الاحتياط كان منّة على العباد بأنّه لم يضيّق عليهم ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّه رخّصهم في مخالفة التكاليف الواقعية ، فيكون ذلك كناية عن جعل الترخيص.

ص: 133

وبذلك يندفع الإشكال الأوّل ، لأنّه بواسطة جعل الترخيص في مورد عدم العلم بالتكليف الواقعي يكون متكفّلاً للترخيص الظاهري في قبال التكليف الواقعي ، فيكون حاكماً على الأدلّة الواقعية حكومة ظاهرية ، وبذلك يتنافى مع الحكم الواقعي ، وطريق الجمع هو ما حاولنا من جعل هذه التصرّفات الظاهرية كناية عن جعل حجّية احتمال عدم التكليف الواقعي بمقدار المعذورية ، فراجع وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل في كثير من العبائر التي اشتمل عليها الأمر الأوّل من هذا التحرير (1) ، وأنّه لابدّ من تأويلها وإرجاعها إلى هذا الشرح الذي فصّلناه ، كما أنّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في الأمر الثاني بقوله : والتحقيق أنّه لا حاجة إلى التقدير ، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه - إلى قوله - وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعياً - إلى قوله - كقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا ضرر ولا ضرار » (2) وكقوله عليه السلام : « لا شكّ لكثير الشكّ » إلى آخر المبحث (3) فإنّك قد عرفت أنّ مثل « لا ضرر » ممّا يكون المنفي هو عنوان الحكم ، يكون النفي فيه مسلّطاً على الحكم ، من دون حاجة إلى تقدير شيء ، بخلاف مثل « لا شكّ لكثير الشكّ » ممّا يكون المنفي فيه عنواناً للفعل الخارجي. وأنّ الرفع في « ما لا يعلمون » وإن كان في بادئ النظر هو من قبيل ما يكون النفي فيه مسلّطاً على نفس الحكم ، إلاّ أنّه بعد أن كان الحكم الواقعي ثابتاً قطعاً ، كان من قبيل ما يحتاج إلى نحو من التسامح ، وهل هو من قبيل المجاز في الكلمة ، أو من قبيل مجاز الحذف ، أو هو من قبيل

ص: 134


1- فوائد الأُصول 3 : 336.
2- وسائل الشيعة 25 : 427 / كتاب إحياء الموات ب 12.
3- فوائد الأُصول 3 : 342 - 343.

الاستعارة ، هذه أُمور راجعة إلى فنّ البلاغة.

والأوّل بأن يكون التجوّز في نفس الرفع ، أو يكون التجوّز في نفس المرفوع ، بأن يراد من الشيء آثاره. والثاني بأن يقدّر الأثر ويقال رفع أثر ما لا يعلمون. والثالث بتنزيل الشيء الذي لا أثر له منزلة المرفوع والمعدوم. وإن كان الأخير هو الأرجح والأولى ، بل هو المتعيّن ، إلاّ أنّه على أيّ حال لا يخرج عن التسامح والتساهل ، بخلاف ما لو كان المرفوع حقيقة هو نفس ما ورد عليه الرفع ، مثل لا ضرر بناءً على جعله كناية عن الحكم الضرري ، بل إنّ هذا أيضاً محتاج إلى التسامح في إطلاق الضرر وإرادة سببه الذي هو الحكم الإلزامي.

نعم ، لو كان المرفوع في « ما لا يعلمون » هو نفس الحكم الواقعي ، لم يكن محتاجاً إلى شيء من التسامح ، لكنّه باطل لا يمكن الالتزام به كما عرفت تفصيله ، فتأمّل.

قوله : الأمر الثالث : قيل إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في « ما لا يعلمون » ... الخ (1).

بعد أن عرفت أنّ « ما » في « ما لا يعلمون » عبارة عن الحكم الواقعي ، وأنّ المرفوع هو أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، تعرف أنّ الحديث شامل للشبهات الموضوعية والحكمية معاً ، بواسطة تعميم الحكم غير المعلوم إلى الحكم الكلّي والحكم الجزئي ، وليس في ذلك - أعني كون المراد من الموصول هو الحكم - مخالفة للسياق في « ما اضطرّوا إليه » و « ما أُكرهوا عليه » و « ما لا يطيقون » ، لأنّ الموصول عبارة عن الشيء المبهم ، وإنّما يتعرّف بواسطة صلته ، وهذا التنويع إنّما جاء من الصلة ، وإلاّ فالمراد بالموصول شيء واحد وهو عبارة عن الشيء ، فلا

ص: 135


1- فوائد الأُصول 3 : 344.

اختلاف في نفس الموصول ، وإنّما جاء الاختلاف من ناحية الصلة.

ومن ذلك تعرف أنّه لا داعي في التعميم وتوحيد السياق إلى الالتزام بكون المراد من الموصول هو الفعل ، ويكون المراد من عدم العلم به عدم العلم بحكمه الأعمّ من الكلّي والجزئي ، كما احتملناه فيما علّقناه سابقاً على ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في هذا المقام ، فراجع (1) وتأمّل.

قوله : فإن كان الحكم من الأحكام التكليفية ، وكان مترتّباً على الفعل بلحاظ مطلق الوجود ، وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فإنّ نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراماً شرعاً ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجداً لها قبل الشرب ، لأنّ الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح ... الخ (2).

لا يخفى أنّ العدالة وعدمها بالنسبة إلى الشرب وعدمه من قبيل الأسباب والمسبّبات ، فتخرج عمّا نحن فيه ، أمّا نفس الحرمة ففي ارتفاعها بدليل رفع الاكراه مثلاً أو رفع الخطأ ونحوهما تأمّل وإشكال.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه بعد تقسيم الأفعال إلى ما يلحقه الحكم بعد وجوده مثل الأسباب وإلى ما يلحقه الحكم قبل وجوده مثل الأحكام التحريمية ، ما هذا لفظه : وأمّا النحو الثاني فقد يتوهّم أنّ ارتفاعها في عالم التشريع لا يكون موجباً

ص: 136


1- مخطوط لم يطبع بعدُ.
2- فوائد الأُصول 3 : 352.

لارتفاع هذا النحو من الأحكام ، لعدم كون الحكم متأخّراً عن وجود هذا النحو من الأفعال. ولكن لا يخفى ما فيه ، حيث إنّ الحكم بالنسبة إلى هذا النحو من الأفعال وإن لم يكن من قبيل نسبة المعلول إلى علّته ، إلاّ أنّه - أعني الحكم - لمّا كان بمنزلة العارض على ذلك الفعل ، وكان الفعل بمنزلة المعروض لذلك الحكم ، كان نفي ذلك الفعل ورفعه تشريعاً موجباً لرفع ذلك العارض ، حيث إنّ رفع المعروض رفع لعارضه ، انتهى. وبنحو ذلك صرّح فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه (1).

قلت : لا يقال إنّ الرفع المتوجّه إلى مثل شرب الخمر الصادر عن نسيان أو خطأ أو إكراه ، لا يعقل أن يكون متوجّهاً إلى رفع عارضه الذي هو التحريم ، لأنّ هذا العارض إنّما يعرضه قبل الوجود ، أمّا بعد فرض تحقّق وجوده فلا يعقل أن يعرضه التحريم المذكور ، لأنّ مرتبة وجود شرب الخمر ليست هي مرتبة عروض التحريم عليه ، وإنّما هي مرتبة سقوط ذلك التحريم بالعصيان ، والمفروض أنّ حديث الرفع إنّما ينظر إلى الشيء بعد فرض وجوده فيرفعه ، ويكون رفعه كناية عن رفع أثره.

لأنّا نقول : ليس المراد من رفع تحريمه رفع التحريم بعد فرض وجود شرب الخمر ، بل المراد رفع التحريم في عين الصقع الذي يمكن فيه عروض التحريم عليه ، بمعنى أنّ كلّي شرب الخمر في حدّ نفسه لمّا كان معروضاً للتحريم مع قطع النظر عن كونه صادراً بالإكراه ، كان ذلك الكلّي مرفوعاً عنه التحريم إذا كان قد تعلّق به الاكراه ، ومن الواضح أنّ رفع ذلك الحكم الشرعي مصحّح لرفع الشرب الاكراهي رفعاً تشريعياً ، بمعنى أنّ الشرب المذكور لمّا لم يكن معروضاً للحرمة ، وكان الشارع قد رفع حرمته ، كان ذلك الشرب معدوماً ومرتفعاً في عالم

ص: 137


1- أجود التقريرات 3 : 303.

التشريع ، ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً ) الخ (1) قد نفى وجدان ما عدا المذكور - أعني الميتة وأخواتها - في صفّ المحرّمات الشرعية ، وقد جعل نفي وجدانها في قسم المحرّمات دليلاً على نفي تحريمها ، وما ذلك إلاّلأنّ انتفاء وجود الشيء في المحرّمات عبارة أُخرى عن كونه غير محرّم ، فيكون عدم تحريم الشيء ورفع حرمته مصحّحاً لنفي ذلك الشيء والحكم بعدمه في الشريعة ، فيصحّ أن يقال : إنّ الشرب المكره عليه مرفوع في الشريعة ومنفي فيها باعتبار رفع حرمته وانتفائها فيها ، هذا.

ولكن لا يخفى ما في ذلك من التكلّف ، مضافاً إلى منافاته لتطبيق الرفع على الأسباب ، الذي يكون مقتضاه هو كون الرفع مسوقاً لرفع ما هو موجود ، تنزيلاً له منزلة المرتفع باعتبار ارتفاع أثره ، فإنّ تطبيقه على رفع الحرمة فيما نحن فيه لا يكون بتلك العناية ، وإنّما يكون بعناية أنّ الفعل غير المحرّم منفي في صفّ المحرّمات الشرعية ، فتأمّل.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في إعراض شيخنا قدس سره في هذه المسألة عن مسلكه قدس سره وهو كون نفي الاقتضاء مصحّحاً لنفي الشيء ، ولِمَ لم يقل في هذه المسألة إنّ المصحّح لرفع شرب الخمر الاكراهي هو أنّ الشارع لمّا رفع تأثير ملاك شرب الخمر في تحريمه إذا كان إكراهياً ، صحّ أن يقال إنّ الشارع رفع الشرب الاكراهي ، بمعنى أنّه رفع تأثيره أو تأثير ملاكه في التحريم ، أي أنّه منعه من أن يؤثّر في التحريم ، ويستغني بذلك عن تصحيح الرفع بطريق العارض والمعروض. نعم قد تأمّلنا في ذلك ، باعتبار أنّ نفس الاقتضاء غير قابل للرفع

ص: 138


1- الأنعام 6 : 145.

الشرعي.

وتوجيه الرفع إلى نفس الحرمة باعتبار كون الشرب الكلّي يقتضيها ، فيكون بالنسبة إليها من قبيل السبب لها ، فتدخل المسألة بذلك في عالم الأسباب ، ممنوع لأنّ المتعلّق الكلّي للحرمة - أعني شرب الخمر - ليس من قبيل الأسباب التي يكون الحكم وارداً عليها بعد فرض وجودها بنحو القضية الحقيقية ، مثل قولك إذا شربت الخمر فاعتق رقبة مثلاً ، فلا يدخل في قوله : رفع ما أُكرهوا عليه ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ مثل شرب الخمر ونحوه من المحرّمات لو وقعت معنونة بأحد هذه العناوين ، فإن كان ذلك العنوان هو الخطأ أو النسيان ، فهي غير داخلة في حديث رفع الخطأ والنسيان ، إذ لا أثر عملي يترتّب على ذلك ، وليس في البين إلاّ العقاب ، وهو تابع للعصيان التابع للاختيار ، وهو أعني الاختيار معدوم في الخطأ والنسيان ، فلا حاجة في ارتفاعه إلى التمسّك بحديث رفع الخطأ والنسيان ، بل إنّ العقاب غير مشمول للحديث لكونه غير شرعي.

وإن كان ذلك العنوان هو الاكراه ، بأن أُكره على شرب الخمر ، لم يكن ارتفاع حرمته من جهة دخوله في « ما أُكرهوا عليه » ، إذ ليس الشرب من قبيل سبب الحرمة كي يكون رفعها مصحّحاً لنسبة الرفع إليه ، كما في رفع العقد الاكراهي بالنسبة إلى الملكية ، أو رفع الأكل والشرب الاكراهي في نهار رمضان بالنسبة إلى الكفّارة ، كما أنّ الحرمة ليست موجبة لإلقاء الشرب على عاتق المكلّف ، مثل كون وجوب الصلاة موجباً لالقائها على عاتق المكلّف على وجه يكون رفع الوجوب عنها عند كونها ممّا لا يطيقون مصحّحاً لرفعها عن المكلّف.

نعم ، يمكن إدراج من أُكره على شرب الخمر في « ما لا يطيقون » باعتبار

ص: 139

كونه لا يطيق تركه ، فيكون التكليف بتركه موجباً لالقائه على عاتق المكلّف ، فيكون هذا الترك داخلاً في « ما لا يطيقون » ، فيكون المصحّح لرفعه هو رفع ما يوجب إلقاءه على عاتق المكلّف ، وهو وجوب تركه الذي هو عبارة عن حرمة فعله.

وهكذا الحال فيما لو اضطرّ إلى شرب [ الخمر ] فإنّ حرمته التي هي عبارة عن لزوم تركه مرتفعة ، باعتبار دخوله في « ما لا يطيقون » ، لأنّ الترك عند الاضطرار إلى الفعل يكون ممّا لا يطيقون.

وهكذا الحال فيما لو أُكره على ترك الواجب أو اضطرّ إلى تركه ، فإنّه يدخل في « ما لا يطيقون » باعتبار أنّ نفس الفعل الواجب ممّا لا يطيقون ، فيكون وجوبه مرتفعاً ، ومع ارتفاع الوجوب الموجب لالقائه على عاتق المكلّف ، يكون نفس الفعل مرتفعاً عن عاتق المكلّف. وبناءً على ذلك يكون مورد رفع ما أُكرهوا وما اضطرّوا منحصراً بالأسباب للأحكام الوضعية والتكليفية فيما يكون في رفعه منّة على المكلّف ، ليخرج منه عقد المضطرّ إلى بيع داره مثلاً ، ويكون « ما لا يطيقون » منحصراً في متعلّقات التكاليف الالزامية ، ولا دخل لها بالأسباب للأحكام الوضعية أو التكليفية.

وهذا المعنى هو المصحّح لرفع الحسد وأخويه ، فإنّ الحسد ليس سبباً للحرمة كي يكون رفعها مصحّحاً لنسبة الرفع إليه ، كما أنّها لا توجب إلقاء الحسد على عاتق المكلّف كي يكون رفعها رفعاً له عن عاتق المكلّف. نعم إنّ لزوم ترك الحسد الذي هو عبارة أُخرى عن حرمته يوجب إلقاء الترك على عاتق المكلّف ، فيكون رفع لزوم ترك الحسد مصحّحاً لرفع ترك الحسد عن عاتق المكلّف ، فينبغي أن يسند الرفع إلى ترك الحسد ، لكن صحّ نسبة الرفع إليه باعتبار رفع لزوم

ص: 140

تركه ، بمعنى أنّ الشارع رفع الحسد عن عاتق المكلّف ولو باعتبار رفعه للزوم تركه ، فإنّ وجوب ترك الشيء إلقاء لذلك الشيء على عاتق المكلّف ، باعتبار كونه تضييقاً عليه من ناحية ذلك الشيء ولو باعتبار إلزامه بتركه.

ومن هذا البيان في توجيه رفع الحسد ، يظهر لك أنّ شرب الخمر إكراهاً أو اضطراراً ، وكذلك ترك الواجب إكراهاً واضطراراً ، يمكن إدخالهما في « ما أُكرهوا عليه » وفي « ما اضطرّوا إليه » ، باعتبار أنّ الشرب الاكراهي أو الاضطراري قد رفعه الشارع عن عاتق المكلّف ولو بواسطة رفعه الالزام بتركه ، وهكذا ترك الواجب إكراهاً أو اضطراراً قد رفعه الشارع عن عاتق المكلّف ولو بواسطة رفعه الالزام بفعله ، من دون حاجة إلى إرجاع ذلك إلى ما لا يطيقون.

لكن ذلك يوجب استعمال الرفع في « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » في معنيين وعنايتين ، الأُولى : رفع الفعل المكره عليه باعتبار رفع أثره وسببه ، الذي هو الملكية والكفّارة في العقد المكره عليه والافطار المكره عليه. الثانية : رفع الفعل وهو الشرب - مثلاً - عن عاتق المكلّف باعتبار رفع ما يوجب إلقاء عدمه على عاتقه ، وهو وجوب تركه الموجب لإلقاء عدم الشرب على عاتق المكلّف ، ليكون الاكراه على الشرب موجباً لرفعه عن عاتق المكلّف برفع الالزام المتعلّق بعدمه ، ويكون الحاصل أنّ الرفع في « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » جامع بين مفاده في الخطأ والنسيان باعتبار كونه لرفع السبب برفع مسبّبه ، ومفاده في « ما لا يطيقون » باعتبار كونه رفعاً للفعل عن عاتق المكلّف برفع ما يوجب إلقاءه على عاتقه.

ولعلّ بين العنايتين تنافياً ، على وجه لا يمكن جمعهما بعبارة واحدة يسند فيها الرفع إلى « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » ، فالأولى هو جعلهما مسوقين

ص: 141

للعناية الأُولى فقط ، فيكونان مساوقين لرفع الخطأ والنسيان ، وإدخال الشرب المكره عليه والمضطرّ إليه وترك الواجب المكره عليه والمضطرّ إليه في « ما لا يطيقون ».

ولا يخفى أنّ هذه العناية ، أعني رفع الشيء باعتبار رفع ما يوجب إلقاء نقيضه على عاتق المكلّف ، وإن كانت بعيدة ، إلاّ أنّه لابدّ من الالتزام بها في الحسد وأخويه ، إذ لا يصحّ رفعها إلاّبتلك العناية ، وحينئذ يكون الرفع في « ما لا يعلمون » مسوقاً لرفع الشيء الذي هو الحكم الواقعي برفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، وفي « ما أُكرهوا عليه » و « اضطرّوا إليه » والخطأ والنسيان يكون الرفع مسوقاً لرفع الأسباب برفع مسبّباتها ، وفي « ما لا يطيقون » يكون الرفع مسوقاً لرفع الفعل عن عاتق المكلّف باعتبار رفع ما يوجب القاءه على عاتق المكلّف وهو الالزام به ، وفي الحسد وأخويه يكون الرفع مسوقاً لهذا المعنى في « ما لا يطيقون » ، لكن بعناية كون الالزام بترك الحسد إلزاماً متعلّقاً بالحسد ولو باعتبار تركه.

ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف السياق والتبلبل في الاستفادة من هذا الحديث الشريف الذي هو من جوامع الكلم. فالأولى هو أخذ الرفع في جميع فقرات الحديث الشريف كناية عن عدم الجعل ، ويكون المصحّح لاستعمال الرفع هو قابلية المورد للجعل ولو باعتباره في نفسه ، مع قطع [ النظر ] عن حكمة الشارع ولطفه بعباده ، ويكون المرفوع حقيقة هو المقتضى - بالفتح - الذي هو الحكم الشرعي ، ولكنّه أبرزه بصورة رفع المقتضي - بالكسر - الذي هو موضوع أو متعلّق ذلك الحكم الشرعي ، ويكون رفع ذلك الموضوع أو المتعلّق رفعاً تشريعياً ، ويكون محصّل رفعه هو رفعه في صفحة التشريع باعتبار رفع حكمه

ص: 142

الشرعي.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره من كون المرفوع هو الاقتضاء ، فالحكم الواقعي يقتضي في حدّ نفسه الاحتياط والتحرّز عن مخالفته ، لكن الشارع رفعه منّة على العباد ولم يضيّق عليهم بجعله ، وكذلك الفعل الواجب الذي لا يطيقونه يكون في حدّ نفسه موجباً لإيجابه عليهم ، ولكن الشارع رفعه عنهم ولم يجعل وجوبه عليهم. وهكذا الحال في العقد الذي أُكرهوا عليه ، فإنّه في حدّ نفسه يوجب النقل والانتقال ، لكن الشارع رفعه عنهم برفع أثره وعدم جعله الملكية. وكذلك الشرب الذي أُكرهوا عليه ، فإنّ الشرب في نفسه يقتضي التحريم ، ولكن الشارع رفع حرمته ولم يجعلها ، فكأنّه بذلك الرفع لم يكن عند الشارع شرب خمر الذي هو متعلّق التحريم. وهكذا الحال في الشرب الذي اضطرّوا إليه ، بل وهكذا الحال في الحسد وأخويه ، فإنّه برفعه حرمته الذي هو عبارة عن عدم جعلها يكون الحسد معدوماً في نظره ، وكأنّه ليس بحسد ، والجامع هو رفع الشيء برفع حكمه الذي فيه ضيق عليهم.

ولو أبيت إلاّ [ عن ] دعوى كون رفع الحرمة في الحسد وأخويه وفي الاكراه على فعل الحرام وترك الواجب ، وكذلك في الاضطرار إلى فعل الحرام وترك الواجب ، لا يكون مصحّحاً لنسبة الرفع إلى متعلّقها ، فاجعل المرفوع في ذلك هو العقوبة ، وصحّح نسبة رفعها للشارع باعتبار رفعه لعلّتها الذي هو التحريم ، ليكون رفعه للعقوبة بواسطة رفعه لعلّتها التي هي التحريم مصحّحاً لنسبة الرفع إلى فعل الحرام وترك الواجب وإلى الحسد وأخويه.

وإنّما احتجنا في رفع العقوبة إلى رفع علّتها التي هي الحرمة مثلاً ، لا لمجرّد أنّ العقوبة بحكم العقل لا دخل لها بالتصرّف الشرعي ، لإمكان رفعها للشارع من

ص: 143

باب التفضّل ، إلاّ [ أنّ ] ذلك - أعني التفضّل وغفران الذنوب - آحادي اتّفاقي بأسباب خاصّة أو حسبما يشاء تعالى ، لا قانوني كلّي وإلاّ لكان مناقضاً للتكليف ، ضرورة ثبوت التدافع بين قوله : شرب الخمر حرام ، ولو فعلته لم أُعاقبك أو رفعت العقوبة عنك ، وحينئذ يكون الدليل الدالّ على رفع العقوبة دالاً بالملازمة على رفعه الحرمة التي هي علّتها ، وحينئذ فيمكن القول بأنّ الجامع هو رفع المؤاخذة ، أعمّ من أن تكون هي العقوبة برفع علّتها كما فيما عدا « ما لا يعلمون » ، وفيه يكون العلّة في رفع العقوبة هو جعل الترخيص الظاهري أو حجّية احتمال عدم التكليف أو رفع الاحتياط. أو هي الحكم الوضعي المترتّب على الفعل كما في العقود ، أو الحكم التكليفي كما في الكفّارات ، وتكون نسبة الرفع إلى نفس الأفعال التي تترتّب عليها هذه المؤاخذة باعتبار كون تلك الأفعال مسلوبة الأثر المذكور ، من دون حاجة إلى التشبّث بالمقتضي والمقتضى والاقتضاء.

لكن هذا الوجه أعني رفع العقوبة برفع علّتها الذي هو التكليف ، إنّما يمكن الالتزام به في رفع الحسد وأخويه ، إذ أنّه بعد فرض أنّه لا أثر إلاّ العقوبة ، نلتزم بأنّها هي المرفوعة ، غايته أنّ رفع الشارع للعقوبة لا يكون إلاّبرفع الحرمة. أمّا في الاكراه والاضطرار فلا يتأتّى التوجيه المزبور ، من جهة أنّ إدخال العقوبة في عموم الرفع يتوقّف على العناية المزبورة ، وحيثما توقّف شمول العام لفرد على إعمال العناية الخارجة عن العموم لا نحكم بالشمول. أمّا في « ما لا يعلمون » ففيه تأمّل ، إذ لا داعي للركون إلى تقدير العقوبة ، المحتاج إلى إعمال عناية رفع التكليف الذي هو الاحتياط ، أو جعل الترخيص ، أو رفع الحرمة ظاهراً ، وغير ذلك من التصرّفات التي تكون بنفسها مصحّحة لرفع ما لا يعلمون ، من دون

ص: 144

توسّط رفع العقوبة وتطويل المسافة بذلك. وكذلك الحال في رفع ما لا يطيقون ، وهكذا الحال في الخطأ والنسيان ، فإنّ لهما آثاراً شرعية ، فلا يكون عموم الرفع فيهما شاملاً للعقوبة.

ومن ذلك يظهر فساد ما ربما يقال : إنّ ترك الجزء يوجب العقوبة ، فلو وقع نسياناً كانت العقوبة مرفوعة ، وكان رفعها حاصلاً برفع علّتها التي هي وجوب الجزء ، فيكون المرفوع هو الجزئية ، فلا تكون الصلاة باطلة.

وبالجملة : أنّ طريقة رفع العقوبة لا تتأتّى فيما عدا الحسد وأخويه. نعم في الحسد وأخويه حيث انحصر الأثر المصحّح للرفع بالعقوبة ، لعدم كون الحرمة بنفسها مصحّحة له ، وعدم أثر شرعي يكون هو المصحّح ، كان اللازم هو الالتزام بكون المرفوع هو العقوبة ، ولو بواسطة رفع علّتها التي هي الحرمة الواقعية ، فتأمّل.

قوله : وإن أُكره المكلّف على الترك أو اضطرّ إليه أو نسي الفعل ، ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال ، مثلاً لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأُكره على العدم أو اضطرّ إليه أو نسي أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفّارة مختصّة بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات ، فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ... الخ (1).

الظاهر أنّ نفس الترك لو كان بمنزلة السبب لوجوب الكفّارة وقد تحقّق منه الترك بأحد الوجوه المذكورة ، يعني الاكراه أو الاضطرار أو النسيان ، على وجه لا

ص: 145


1- فوائد الأُصول 3 : 352 - 353.

يمكنه بعد ذلك الاتيان به ، لفوات وقته مثلاً ، ونحو ذلك ممّا يوجب عدم التمكّن بعد ذلك من الفعل ، لا مانع من كون ذلك الترك مشمولاً لحديث الرفع ، إذ لا فرق فيما هو موضوع وسبب للأثر الشرعي بين كونه فعلاً أو تركاً ، من دون توقّف على تنزيل ذلك العدم منزلة الوجود ، ليشكل بأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، هذا.

مضافاً إلى إمكان كون المرفوع في مثل ذلك هو مخالفة النذر ، وتنزيل هذه المخالفة منزلة العدم. نعم لو كان يمكنه الفعل بعد ذلك الترك الاكراهي أو الاضطراري أو النسياني ، لم يترتّب على ذلك الترك السابق أثر المخالفة حتّى لو صدر منه باختياره ، لا باكراه ولا باضطرار ولا بنسيان.

وهذا الإشكال الذي أفاده قدس سره لا ينحصر بما يكون المطلوب هو صرف الوجود ، بل لو كان المطلوب هو مطلق الوجود ، كما لو نذر أن يسلّم على زيد كلّما مرّ عليه ، وقد مرّ عليه وترك السلام عليه إكراهاً أو اضطراراً أو نسياناً ، فإنّه بناءً على ما أفاده من أنّ التروك لا تدخل في حديث الرفع ينبغي أن يقال بعدم سقوط الكفّارة في ذلك ، ولا أظنّه قدس سره يلتزم بذلك. وكذلك الحال فيما لو نذر إكرام كلّ عالم وقد ترك إكرام بعضهم إكراهاً أو اضطراراً أو نسياناً ، على وجه لا يمكنه التلافي بعد ارتفاع أحد هذه العناوين.

وبالجملة : أنّ ظاهر شيخنا قدس سره هو التفرقة بين كون المطلوب بالواجب المتروك بأحد هذه العناوين هو صرف الوجود ، فلا يجري فيه حديث [ الرفع ] ، وكون المطلوب به هو مطلق الوجود فيجري فيه حديث [ الرفع ] ، لكن لا لأجل أنّ الحديث لا يتضمّن تنزيل المعدوم منزلة الموجود كي يتوجّه عليه بأنّه مشترك بين الموردين ، بل لما أشرنا إليه من بقاء فرصة الامتثال بعد ارتفاع هذه العناوين ،

ص: 146

وإلى ذلك أشار في هذا التحرير بقوله : فإنّه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت الخ (1).

وصرّح بذلك في تحريرات السيّد فإنّه قال : وأمّا إذا كان الحكم التكليفي متعلّقاً بصرف الوجود ، فالحقّ عدم شمول حديث الرفع لمثل ذلك أبداً ، لما عرفت من أنّ شمول حديث الرفع يتوقّف على كون المرفوع في عالم التشريع ذا أثر شرعي ، حتّى يكون المرفوع في الحقيقة ذاك الأثر المترتّب عليه أو المتعلّق به ، فإذا فرضنا تعلّق الحكم بصرف الوجود ، وكان فرد واحد من الطبيعة المأمور بها متعلّقاً للنسيان أو الاكراه ، فلا يعقل شمول حديث الرفع له أصلاً ، إذ المفروض أنّ ما هو متعلّق الحكم وهو صرف الوجود لم يتعلّق به النسيان أو الاكراه ، وما تعلّق به النسيان أو الاكراه وهو الفرد الخاصّ الخارجي لم يتعلّق به الحكم حتّى يكون رفعه في عالم التشريع رفعاً لحكمه (2).

ولكن لا يخفى أنّ الوجه في عدم شمول الحديث لمثل ذلك إنّما هو لأنّه لم يتحقّق الترك بالنسبة إلى ما هو المطلوب الذي هو صرف الطبيعة حتّى لو كان الترك عن عمد واختيار كما عرفت ، وهذا هو الذي يعطيه ذيل الكلام ، لا أنّه تعلّق به الترك لكنّه ليس بمشمول لحديث الرفع ، لتوقّف الشمول على كون المرفوع في عالم التشريع ذا أثر شرعي ، وليس هو في المقام ذا أثر شرعي كما يفيد صدر الكلام. نعم لو لم يتمكّن بعد ذلك من الامتثال كان ترك ذلك الفرد محقّقاً لترك ما هو المطلوب الذي هو صرف الطبيعة ، فإن كان ذلك الفعل منذوراً كان ذلك الترك الاكراهي مشمولاً لحديث الرفع ، وإلاّ فليس في البين إلاّ العقوبة ، وهي غير داخلة

ص: 147


1- فوائد الأُصول 3 : 355.
2- أجود التقريرات 3 : 303 - 304.

في حديث الرفع. والظاهر أنّ هذا الأخير هو المراد ، لأنّه مقدّمة للكلام على الجزء المنسي ، فتأمّل.

قوله : ومن هنا يظهر أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلاً ، لخلو صفحة الوجود عنها ... الخ (1).

الأولى نقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام إذ لعلّه أوضح ، وهذا لفظه : لو نسي جزءاً أو شرطاً من الصلاة لم يكن مورداً لحديث رفع النسيان ، أمّا أوّلاً : فلأنّه لو جرى الحديث المذكور في مثله لزم منه فقه جديد ، وانهدام ما جرى عليه الفقهاء من التمسّك في باب الخلل بحديث لا تعاد. وأمّا ثانياً : فلأنّ ناسي الجزء إمّا أن يستوعب الوقت نسيانه ، وإمّا أن يتذكّر في أثناء الوقت ، فإن تذكّر في أثناء الوقت ، فإمّا أن نقول إنّ الصادر نسياناً هو ترك الجزء ليكون هو مورد الرفع ، أو نقول إنّ الصادر نسياناً هو الصلاة الفاقدة للجزء المنسي ، وكلّ منهما لا يمكن أخذه مورداً لحديث الرفع.

أمّا الأوّل ، فلما عرفت من اعتبار كون المرفوع ذا أثر شرعي ، ومن الواضح أنّ ترك الجزء في حدّ ذاته ممّا لا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، وأقصى ما فيه أنّه مبطل ، وهو من الآثار العقلية ، وهكذا الحال لو قيل إنّ المرفوع هو ترك المركّب التامّ ، فإنّه أيضاً ممّا لا يترتّب عليه الأثر سوى الاعادة ، وهي من مقتضيات الأمر عقلاً. وكذلك الحال لو سلّطنا الرفع على الفعل الفاقد للجزء المنسي ، إذ لا أثر له

ص: 148


1- فوائد الأُصول 3 : 353.

إلاّ الاجزاء ، وهو غير مشمول لحديث الرفع ، لكون شموله له منافياً للامتنان (1).

ومنه يعلم الحال فيما لو لم يتذكّر إلاّبعد خروج الوقت ، لما هو واضح من أنّه لولا حديث الرفع لم يكن أثر لنسيان الجزء في تمام الوقت إلاّسقوط التكليف بالمركّب في الوقت ، لكونه حينئذ غير مقدور ، ومن الواضح أنّ السقوط المذكور حكم عقلي لا يمكن رفعه بحديث الرفع ، مضافاً إلى كونه خلاف الامتنان (2).

لا يقال : لِمَ لا تجعلون مورد الرفع هو الجزء المنسي ، فإنّه فعل من الأفعال معنون بعنوان النسيان ، غايته أنّه معنون بعنوان كونه منسياً ، لا بعنوان كونه صادراً نسياناً.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّا قلنا إنّه لابدّ في مورد الرفع من كونه فعلاً خارجياً يكون مورداً لأثر من الآثار الشرعية ، بحيث يكون فعلاً خارجياً شخصياً لا أمراً كلّياً كما في الجزء المنسي.

وثانياً : أنّ النسيان قد أخذناه عنواناً للفعل الصادر نسياناً كما في الخطأ وما أُكرهوا عليه ، وكما لو خالف النذر نسياناً ، فكيف يمكن أخذه أيضاً عنواناً للفعل

ص: 149


1- قلت : هذا ، مضافاً إلى أنّ نفس الفاقد لم يكن قد صدر نسياناً ، وإنّما الصادر نسياناً هو ترك الجزء المنسي لا باقي الأجزاء التي جاء بها ، وقد أشار إلى ذلك في هذا التحرير [ فوائد الأُصول 3 : 354 ] بقوله : إلاّ أنّه أوّلاً : ليس هو المنسي أو المكره عليه ، ليتوجّه الرفع إليه [ منه قدس سره ].
2- قلت : نعم ، هناك أثر آخر وهو العقوبة على ترك المركّب التامّ ، لكنّها غير شرعية ، وتسليط الرفع عليها باعتبار رفع علّتها الذي هو وجوب الجزء أو وجوب المركّب التامّ ، قد عرفت [ في صفحة : 144 ] ما فيه من توقّفه على العناية فلا يشمله العموم [ منه قدس سره ].

المنسي (1).

لا يقال : إنّ الجزء الغير المعلوم الجزئية داخل في « ما لا يعلمون » ، فلِمَ لا نقول بكون الجزء المنسي داخلاً في النسيان ، وأيّ فرق بين مورد عدم العلم ومورد النسيان.

لأنّا نقول : إنّ عدم العلم مسلّط على نفس الجزئية الغير المعلومة ، فتكون هي المرفوعة ابتداءً ، لا أنّ المرفوع هو الجزء الذي لم تكن جزئيته معلومة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المنسي هو الفعل لا الجزئية ، فلابدّ أن يكون المسلّط عليه الرفع هو الفعل المنسي لا الجزئية ، وقد عرفت أنّ الفعل المنسي لا يمكن أن يتسلّط عليه الرفع في حديث رفع النسيان ، نعم لو دلّ دليل بالخصوص على رفع الجزء المنسي ، لالتزمنا بدلالة ذلك الدليل على رفع جزئيته التي هي عبارة عن وجوبه الضمني.

ص: 150


1- وهذا هو العمدة في الجواب ، وإلاّ فلو قلنا بشمول حديث رفع النسيان للجزء المنسي لكان رفعه برفع وجوبه الضمني في حال نسيانه ، وذلك عبارة أُخرى عن رفع جزئيته ، خصوصاً بناءً على مختار شيخنا من كون المجعول هو ذلك الأمر الضمني ، وذلك كافٍ في الحكم بصحّة الصلاة ، أمّا لو كان العذر مستوعباً للوقت فواضح ، وأمّا لو كان قد بقي من الوقت شيء فكذلك ، لأنّ رفع جزئية الجزء المنسي في حال نسيانه كافٍ في الحكم بصحّة الصلاة. ومن ذلك يتّضح التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير [ فوائد الأُصول 3 : 353 ] بقوله : فإنّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلاً ، لخلو صفحة الوجود عنها ، إلى آخر المبحث. ومثله أيضاً ما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه [ أجود التقريرات 3 : 304 ] ، فإنّهما لم يذكرا تطبيق رفع النسيان على ترك الجزء المنسي ، بل طبّقاه على نفس الجزء المنسي [ منه قدس سره ].

لا يقال : لو استوعب النسيان تمام الوقت كان ترك المركّب التام عن نسيان ، ويكون أثره هو وجوب القضاء ، فيشمله حديث رفع النسيان وبه يرتفع وجوب القضاء.

لأنّا نقول : إنّ القضاء غير مشمول للحديث ، لدلالة دليله على وجوبه على كلّ من ترك الفريضة ولو نسياناً ، بل هو إلى النسيان أقرب ، انتهى.

والذي تلخّص لك من هذا المبحث : هو أنّ رفع النسيان بالنسبة إلى ناسي الجزء لا يمكن إجراؤه في حقّه باعتبار ما صدر عنه من الفاقد ، لما عرفت من كونه صادراً عن عمد والتفات ، ولم يكن صدوره عنه عن نسيان ، ولا باعتبار ترك المجموع المركّب ، إذ لا أثر لترك ذلك المجموع إلاّ الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه. والأوّل عقلي باقتضاء بقاء الأمر. والثاني وإن كان شرعياً إلاّ أنّ إطلاق دليل القضاء للناسي بل ظهوره فيه يجعله من قبيل الحكم الوارد على الناسي ، فلا يدخل في حديث رفع النسيان.

فلم يبق إلاّ أن نقول باجرائه في حقّه باعتبار تركه الجزء المنسي ، وقد عرفت أنّه لا أثر لترك الجزء إلاّ البطلان وهو عقلي لا شرعي. وأمّا إجراؤه في حقّه باعتبار نفس الجزء المنسي ، بأن يكون مساق رفع النسيان هو رفع المنسي لا رفع ما صدر نسياناً ، وهو خلاف الظاهر من سياقه مساق رفع ما أُكرهوا عليه وما اضطرّوا ، في وقوعهما على نفس ما صدر عن إكراه أو عن اضطرار ، فيكون رفع النسيان عبارة عن رفع ما صدر عن نسيان لا رفع ما هو المنسي ، وهذا المقدار من قرينة السياق كافية في الحكم بأنّه لا يشمل الشيء المنسي ، فينحصر مورده بمثل الأكل والشرب والارتماس نسياناً باعتبار إيجابه الكفّارة أو المفطرية ، على إشكال في كلّ منهما. أمّا الأوّل ، فلكونها مقيّدة بالعامد. وأمّا الثاني ، فلأنّ المفطرية نظير

ص: 151

إبطال الصلاة في كونها غير شرعية ، ولأجل ذلك احتجنا في أمثال ذلك إلى الأدلّة الخاصّة. نعم يتأتّى في مثل الكلام نسياناً في أثناء الصلاة بناءً على كونه من قبيل المانع ، إلاّ أنّ اغتفاره لأجل ما ورد فيه من النصوص.

والحاصل : أنّه ليس لنا مورد نحتاج فيه إلى إجراء حديث رفع النسيان فيما وقع عن نسيان من فعل أو ترك كي نقول إنّا بعد إعمالنا لحديث رفع النسيان فيما وقع عن نسيان ، لا يمكننا تطبيقه على الشيء المنسي. فالأولى هو الاعتماد على ما عرفت من قرينة السياق. ولعلّه يلزم من الأخذ بمقتضى هذه القرينة إبقاء رفع النسيان بلا مورد يخصّه. وهذه الجهة تحتاج إلى تتبّع ومراجعة إلى مظانّ هذه الموارد.

أمّا لو حملناه على رفع الجزء المنسي ، فالظاهر أنّه نافع في رفع وجوبه واقعاً ولو في حال النسيان ، لا مجرّد المعذورية لكي يقال إنّ الناسي معذور قطعاً عمّا نسيه ، ومقتضى رفع الوجوب الواقعي هو ارتفاع الجزئية في هذا الحال. لكن التحريرين في هذا المقام كان النظر فيهما إلى تسليم إمكان أخذه بمعنى الجزء المنسي ، وتوجيه المناقشة في أثر ذلك الجزء المنسي ، فراجعهما وراجع ما عن شيخنا قدس سره في ذيول مسألة الأقل والأكثر ممّا يتعلّق بهذه الناحية (1).

وهناك طريقة أُخرى لرفع جزئية المنسي ، بأن يقال : إنّ الجزئية في هذا الحال - أعني حال النسيان - غير معلومة ، فهي مرفوعة باعتبار عدم العلم بكون ذلك الجزء جزءاً حتّى في حال النسيان ، لإمكان اختصاص جزئيته بحال الذكر بأحد طرق الاختصاص. وهذه الطريقة أيضاً راجعة إلى ما أشرنا إليه من توابع

ص: 152


1- فوائد الأُصول 4 : 220 وما بعدها ، وتعليق المصنّف قدس سره على ذلك يأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، فراجع الصفحة : 355 وما بعدها من المجلّد الثامن.

مسألة الأقل والأكثر ، فراجع ما هناك وما علّقناه عليه (1) وتأمّل. هذا ما حصل في النظر القاصر.

ولكن الإنصاف أنّه بعدُ محلّ تأمّل وإشكال ، فإنّ رفع الوجوب الوارد على الجزء في ضمن وروده على الكل ، سواء كان بطريق عدم العلم بجزئيته في حال النسيان أو كان بطريق كونه منسياً ورفع الجزء المنسي يكون رفعاً لوجوبه ، قد يقال إنّه لا ينتج النتيجة المطلوبة ، حيث إنّ الوقت إذا كان باقياً بعد ارتفاع النسيان لا يكون رفع الوجوب عن الجزء في حال النسيان مسقطاً للأمر المتعلّق بالكل ، وإن كان الوقت غير واسع ، فإن كان القضاء بالأمر السابق كان حاله حال ما لو بقي الوقت ، وإن كان بالأمر الجديد لم يكن سقوط الوجوب في الوقت عن الجزء المنسي موجباً لسقوط القضاء المترتّب على ترك الكل التامّ.

وبالجملة : لا يكون حال الجزء المنسي بالنسبة إلى الوجوب الضمني إلاّ حال نفس المركّب لو نسيه في تمام الوقت أو في بعضه ، وهذا هو ما أفاده شيخنا قدس سره في طي كلماته في المقام وفيما يأتي من مسألة الأقل والأكثر. فتأمّل وانتظر تتمّة المبحث في محلّه من ملحقات مسألة الأقل والأكثر.

والخلاصة هي : أنّ الاكراه أو النسيان إمّا أن يكون في الموافقة للتكليف ، وإمّا أن يكون في المخالفة. فالأوّل لا يجري فيه حديث الرفع ، كما لو كلّف بإكرام زيد فأكرمه إكراهاً أو نسياناً ، أو كلّف بترك إكرامه فتركه إكراهاً أو نسياناً ، فلا يجري في مثل ذلك حديث الرفع ، لكونه خلاف الامتنان. وأمّا الثاني فإن كان المكلّف به هو الترك ، بأن حرم عليه إكرام زيد بنذر ونحوه فأكرمه إكراهاً أو نسياناً ، فهو مورد حديث رفع النسيان أو الاكراه. ولو كان الأمر بالعكس ، بأن

ص: 153


1- المصدر المتقدّم.

وجب عليه فعل من الأفعال في وقت معيّن كالدعاء عند رؤية الهلال ، فتركه نسياناً أو إكراهاً فهذا لا يتأتّى فيه حديث الرفع ، إذ لا أثر للترك في مثل الدعاء عند رؤية الهلال إلاّعدم حصول امتثال الأمر ، وهذا لا مورد فيه لحديث الرفع.

نعم ، لو ترتّب على الترك المذكور أثر شرعي ، مثل أن يكون الفعل الواجب واجباً بنذر ونحوه ، بحيث كان هناك أثر يترتّب على تركه وهو الكفّارة ، جرى فيه حديث الرفع بالنسبة إلى مثل ذلك الأثر ، وهناك واجب آخر يترتّب على تركه أثر غير مجرّد عدم الامتثال ، لكنّه لا يكون شرعياً مثل الكفّارة بل يكون عقلياً كالتشهّد المتوسّط في الصلاة ، فإنّ أثر تركه في محلّه هو بطلان الصلاة ، لكنّه ليس بشرعي كي يكون مورداً لحديث الرفع ، هذا إن لاحظنا نفس الترك الصادر نسياناً ، فعدم جريان حديث الرفع فيه لعدم كون أثره وهو بطلان الصلاة شرعياً ، لا لأجل أنّ جريان الرفع في الترك يكون عبارة عن الوضع ، بأن يكون مفاد الرفع في الترك هو جعل الترك كلا ترك ، وهو عبارة عن الفعل ، لأنّ نفي النفي إيجاب ، فيكون محصّل قوله : رفع الترك ، أنّه قد وضع الفعل ، ويكون محصّل الرفع هو الوضع ، وكأنّ هذا هو المانع عند شيخنا قدس سره.

لكن لا يخفى عليك أنّ العمدة هو أنّ الترك لا يترتّب عليه أثر شرعي ، ولو كان في البين أثر شرعي كما عرفت في ترك الفعل الواجب بنذر لجرى فيه حديث الرفع من دون حاجة إلى جعل الرفع بمعنى الوضع ، هذا كلّه فيما لو كان المنظور إليه في نسيان التشهّد هو ترك التشهّد.

ولو كان المنظور إليه هو التشهّد المنسي ، فالذي هو العمدة في الإشكال هو مخالفته حينئذ في السياق لباقي التسعة ، لا أنّ المنسي لا أثر له إلاّصحّة الصلاة ، لإمكان الجواب عن هذا بأنّ أثره هو الوجوب الضمني ، ورفعه في حال النسيان

ص: 154

يوجب رفع الجزئية وصحّة العمل ، ولو كان المنظور إليه هو المركّب التامّ فيقال إنّه قد نسي بنسيان التشهّد فيه ، لانحلال المركّب بانحلال بعض أجزائه ، ففيه ما لا يخفى.

وإن شئت فقل : إنّ هذا المكلّف قد نسي الصلاة ، فإن كان ذلك في أوّل الوقت لم يكن عليه شيء سوى بقاء الأمر وهو غير شرعي ، وإن كان ذلك في تمام الوقت لم يكن هناك إلاّ القضاء ، فإن قلنا إنّه بالأمر السابق كان ذلك عبارة عن بقاء الأمر ، وقد عرفت الحال فيه ، وإن قلنا بأنّ القضاء بالأمر الجديد نظير الكفّارة فالظاهر جريان حديث الرفع فيه ، إلاّ أن ندّعي القطع بأنّ قوله عليه السلام : « من فاتته فريضة » (1) نصّ في النسيان ، وفيه تأمّل.

وعلى كلّ حال ، ليس بناؤهم على إجراء حديث رفع النسيان فيما لو ترك الصلاة في وقتها نسياناً ، ولعلّ ذلك لأجل نصوص خاصّة توجب القضاء ، أو لأجل أنّ القضاء بالأمر السابق ، ولو كان المنظور في حديث الرفع هو الفعل المأتي به أعني الصلاة الفاقدة للتشهّد نسياناً ، فذلك لا ينطبق عليه حديث الرفع ، لعدم كونه متروكاً ولا كونه مأتياً به نسياناً ، بل هو مأتي به عمداً ، ومع قطع النظر عن ذلك لا يكون له أثر إلاّ الاجزاء وهو عقلي. مضافاً إلى كون رفعه خلاف الامتنان.

بقي الكلام في إعمال حديث الرفع في المقام باعتبار « ما لا يعلمون » ، بأن يقال : إنّ وجوب التشهّد في حال نسيانه غير معلوم فيكون مرفوعاً ، وهو يقتضي الصحّة والاجزاء ، وتمام الكلام فيه في محلّه من مباحث الأقل والأكثر (2) إن شاء

ص: 155


1- عوالي اللآلي 2 : 54 / 143 ، 3 : 107 / 150.
2- تقدّم استخراجه في الصفحة : 152.

اللّه تعالى.

والخلاصة : هي أنّ الفعل لو كان لوجوده أثر كالتحريم وإفساد الصوم ، فلو فعله المكلّف نسياناً جرى فيه حديث رفع النسيان ، أمّا لو كان بالعكس بأن كان الفعل واجباً وقد تركه المكلّف نسياناً ، فلا يجري فيه حديث الرفع ، إذ لا معنى لرفع الترك النسياني ، بل المناسب هو الوضع ، وبعد البناء على ذلك نقول : إنّ من ترك السورة في الصلاة نسياناً ففي تطبيق حديث رفع النسيان عليه وجوه :

الأوّل : أن نقول : إنّ الفاقد للسورة قد صدر نسياناً ، فيكون مرفوعاً. وفيه أوّلاً : أنّ الفاقد لم يكن هو نسياناً بل كان المفقود هو المنسي. وثانياً : أنّه لا يكون لذلك الفاقد أثر شرعي ، بل أثره عقلي وهو إسقاط الأمر المتعلّق به ، فلا يشمله حديث الرفع ، لما عرفت من كون المرفوع هو الأثر الشرعي. وثالثاً : أنّ هذا الأثر لا منّة في رفعه ، بل تكون نتيجة رفعه هو الاعادة ، فلا يشمله حديث الرفع ، لكون المرفوع فيه هو ما يكون رفعه امتناناً.

الوجه الثاني : أن نقول : إنّ ترك السورة كان نسياناً ، فهو - أعني الترك - مرفوع. وفيه أوّلاً : ما عرفت من عدم جريان الرفع في الترك. وثانياً : أنّ هذا الأثر للترك ليس بشرعي ، إذ ليس هو إلاّعبارة عن عدم حصول امتثال الأمر بذلك الجزء المنسي ، وليس ذلك من الآثار الشرعية.

الوجه الثالث : أن نقول : إنّ الرفع مسلّط على الجزء المنسي ، فذلك - أعني السورة - هو المرفوع ، ورفعه برفع أثره الذي هو الجزئية والوجوب الضمني. وفيه : أنّ النسيان إنّما ينطبق على الفعل الذي صدر نسياناً ، فليس هو بمعنى المنسي كي ينطبق على السورة المذكورة.

الوجه الرابع : أن نقول : إنّ جزئية هذه السورة مشكوكة ، لأنّها إن كانت

ص: 156

جزءاً حتّى في حال النسيان كانت الصلاة باطلة ، وإن كانت جزئيتها مختصّة بحال الذكر كانت الصلاة صحيحة ، فنحن شاكّون في الجزئية في خصوص حال النسيان ، ويصدق علينا أنّا لا نعلم بجزئيتها في حال [ النسيان ] ، فتكون داخلة في « ما لا يعلمون » ، فتكون مرفوعة ، ويكون الرفع حينئذ رفعاً ظاهرياً ، لأنّ مناطه الجهل بالجزئية وعدم العلم بها ، وهذا بخلاف بقية الوجوه ، فإنّ الرفع لو تمّ فيها يكون واقعياً ولا يكون ظاهرياً ، وتمام الكلام في محلّه في مباحث الأقل والأكثر من الأُصول ، وفي مباحث الصلاة من الفقه.

قوله : ثمّ إنّه ربما يستدلّ للبراءة باستصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر ... الخ (1).

تعرّضنا للاستدلال على البراءة باستصحاب عدم التكليف في التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب في حواشي الجزء الثاني عند الكلام على شبهة النراقي في تعارض استصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال مع استصحاب عدم الوجوب ، فراجع (2).

قول السيّد سلّمه اللّه فيما حكاه عن شيخنا : فيكون مفاده بعينه مفاد « اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » (3) ... الخ (4).

يمكن أن يقال : إنّه لو كان ذلك هو المراد لكان تعلّق الحجب بنفس الحكم

ص: 157


1- فوائد الأُصول 3 : 370.
2- حواشي المصنّف قدس سره على ذلك المطلب تأتي في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 426 - 462.
3- تقدّم استخراجه في الصفحة : 118.
4- أجود التقريرات 3 : 315.

أولى ، بأن يقال : ما حجبه اللّه عن العباد. وأمّا نسبة حجب العلم إليه تعالى فيمكن أن يكون كنسبة سائر الأُمور العادية التي تنوجد وتنعدم بأسبابها العادية إليه ، ليكون من قبيل « ما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر » (1) وحينئذ يكون محصّل الرواية هو أنّ ما لم يحصل به العلم للعباد من الأحكام الواقعية فهو موضوع ومرفوع عنهم. وعموم العباد لا يكون قرينة على إرادة الأحكام التي لم تبلغ ، لأنّه من قبيل « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » (2) في نسبة عدم العلم إلى الأُمّة ، والمقصود هو آحادها ممّن اتّفق له عدم العلم بالحكم الواقعي.

قوله : وعلى الثاني يكون مفاده أنّ الناس ما دام لا يعلمون يكونون في سعة ، فتكون أخبار الاحتياط حاكمة عليه على تقدير تمامية دلالتها ... الخ (3).

وجه الحكومة : هو أنّ ما لا يعلمون يكون متعلّقه هو مطلق الوظيفة لا خصوص الحكم الواقعي ، وحينئذ تكون أخبار الاحتياط واردة عليه لا حاكمة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ متعلّق العلم هو الحكم الواقعي كما لو أخذنا لفظة « ما » موصولة ، وقرأناه باضافة السعة لا بالتنوين.

قوله : فيقدّم أخبار الاحتياط عليه ، لكون هذه الرواية عامّة لمطلق الشبهة ، واختصاص تلك الأخبار بخصوص الشبهة التحريمية ، فتدبّر (4).

لعلّ قوله : فتدبّر ، إشارة إلى إيراد ذكره قدس سره فيما حرّرته عنه ، وأنّه لِمَ لا نلتزم

ص: 158


1- وسائل الشيعة 8 : 259 / أبواب قضاء الصلوات ب 3 ح 3 ، 7 وغيرهما.
2- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
3- أجود التقريرات 3 : 315.
4- أجود التقريرات 3 : 315.

بالتخصيص المذكور بالنسبة إلى « ما لا يعلمون » ، وأجاب عنه قدس سره بأنّه آبٍ عن التخصيص ، انتهى.

قلت : لعلّ الوجه في إبائه عن التخصيص هو كونه مسوقاً للامتنان كما صرّح به في هذا التحرير (1) ، وحينئذ نقول : إنّ قوله : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) أيضاً مسوق لذلك ، على أنّه قد ثبت التخصيص في موارد الأموال والدماء والفروج.

فالأولى في الجواب : هو المناقشة في دلالة أخبار الاحتياط أو في سندها ، ولا يبعد أن يكون المراد من أخبار الاحتياط الواردة في خصوص الشبهة التحريمية هي أخبار التثليث ، وهي حرام بيّن وحلال بيّن وشبهات بين ذلك الخ (3) ، وحينئذ يمكن القول بأنّها ليست مختصّة بخصوص الشبهة التحريمية ، نظراً إلى أنّ المقصود من حلال بيّن وحرام بيّن ليس هو الحلّية والحرمة الاصطلاحية ، لوضوح عدم الانحصار فيهما ، بل المقصود من ذلك هو الالزام وغير الالزام ، فعلاً كان المتعلّق أو تركاً ، وحينئذ تكون عامة للشبهات الوجوبية أيضاً ، وبذلك تكون مباينة لأخبار البراءة ، فتأمّل.

قوله : فإنّ ظاهر الرواية حينئذ هو عدم العقاب في فرض الجهل ، فيكون مفاده مفاد قبح العقاب بلا بيان ليس إلاّ (4).

سيأتي في رواية « أيّما امرئ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه » (5) أنّ قوله :

ص: 159


1- أجود التقريرات 3 : 319.
2- وسائل الشيعة 27 : 163 و 161 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 33 و 27.
3- وسائل الشيعة 27 : 163 و 161 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 33 و 27.
4- أجود التقريرات 3 : 315.
5- وسائل الشيعة 12 : 488 - 489 / أبواب تروك الإحرام ب 45 ح 3 ( مع اختلاف يسير ).

« لا شيء عليه » ليس إخباراً عن عدم العقاب - إلى قوله - بل مفاده هو الترخيص الشرعي بلسان نفي العقاب الخ (1).

نعم ، يرد على الاستدلال بهذه الرواية أنّ أخبار الاحتياط في الشبهة التحريمية أخصّ منها ، ولأجل ذلك أفاد فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ومنها « سألته عمّن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء ، فقال عليه السلام : لا » (2) فإن كان المراد هوالسالبة الكلّية ، كانت الرواية أجنبية عمّا نحن بصدده ، لأنّها تكون واردة في المستضعف. وإن كان المراد من الشيء شيئاً معيّناً يفرضه السائل وأنّه قد تعلّق به عدم العلم ، فإن كان المراد من عدم المعرفة خصوص الجهل المركّب ، كانت أيضاً أجنبية عمّا نحن بصدده. وإن كان المراد الأعمّ من الجهل المركّب والجهل البسيط ، كانت أخبار الاحتياط مخصّصة لها بما عدا ما هو محلّ الكلام وهو الشبهة التحريمية ، كما أنّها بالنسبة إلى الجهل المركّب تكون مخصّصة بما عدا مورد القصور وهو الجهل عن التقصير ، انتهى. وقد تقدّم الكلام على التخصيص بأخبار الاحتياط.

قوله : إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد من لفظ « الشيء » هو الشيء بعنوانه الأوّلي فيكون دليلاً على كون الأصل في الأشياء في الشريعة الاباحة حتّى يثبت الحظر ... الخ (3).

يمكن أن يدّعى ظهور هذه الرواية في الحكم باطلاق الشيء والرخصة فيه ما لم يصل فيه النهي إلى المكلّف ، فإنّ الظاهر من الورود هو الوصول دون أصل

ص: 160


1- أجود التقريرات 3 : 316 - 317.
2- بحار الأنوار 2 : 281 / كتاب العلم ب 32 ح 50.
3- أجود التقريرات 3 : 317.

الصدور. مضافاً إلى أنّ حمله على الصدور يوجب حمل الجملة على معنى غير مهمّ ، إذ محصّله هو أنّ كلّ شيء يكون مطلقاً قبل أن يحرمه الشارع ، وهذا أشبه شيء بتوضيح الواضحات ، سيّما بعد تمامية الشريعة وتكفّلها بأحكام الأشياء بعناوينها الأوّلية ، مع صدور هذا الخبر من الأئمة المتأخرين عن زمانه صلى اللّه عليه وآله.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني كون الأشياء قبل الشريعة على الاباحة دون الحظر ، ممّا لا يناسب التعبير بالغاية ، بل المناسب له هو التعبير بالشرط ، بأن يقال : كلّ شيء مطلق ما لم ينه الشارع عنه ، فالتعبير بالغاية يدلّ على أنّ الحكم قابل للاستمرار ، ولا يكون ذلك إلاّبحمل الورود على الوصول إلى المكلّف ، وحينئذ يكون كناية عن العلم بالنهي ، ولازم ذلك أن يكون الاطلاق المغيّى به إطلاقاً ظاهرياً ، من دون حاجة إلى تكلّف حمل الشيء على خلاف عنوان الشيء وهو ما كان مشكوك الحكم ، على وجه نجعله عبارة عن نفس هذا العنوان الثانوي أعني مشكوك الحكم ، بل يبقى الشيء على ما هو عليه من عنوان الشيئية ، وهذا الحكم الوارد عليه وهو الاطلاق يكون حكماً ظاهرياً بواسطة تقييده بكونه مجهول الحكم المستفاد من الغاية المذكورة.

وكيف كان ، تكون الرواية الشريفة من أدلّة البراءة ، وتكون مختصّة بالشبهات التحريمية إن حملنا الاطلاق والنهي فيها على خصوص الفعل ، أعني كون الفعل مطلقاً وكونه منهياً عنه. وبذلك تكون معارضة لأخبار الاحتياط ، لا أنّها أخصّ منها ، إلاّ إذا حملنا الشيء فيها على الأعمّ من الفعل والترك ، فإنّ أخبار الاحتياط حينئذ تكون أخصّ منها ، إلاّ إذا تصرّفنا فيها نظير هذا التصرّف بما عرفت فيما تقدّم (1) ، فلا تكون أخصّ منها أيضاً.

ص: 161


1- في الصفحة : 158 - 159.

لا يقال : إنّ « كلّ شيء » يشمل ما لا شكّ في حكمه وإباحته ، فتكون الرواية متكفّلة للحكم الواقعي والظاهري ، ولا يخفى فساده.

لأنّا نقول : بعد حمل الورود على الوصول إلى المكلّف ، يكون الشيء فيها مقيّداً قهراً بما لم يثبت فيه النهي ، لما عرفت من كونه حينئذ كناية عن العلم بالنهي ، وحينئذ يكون الشيء مختصّاً بالشيء الذي يكون حكمه مشكوكاً ، فلا تكون الرواية متعرّضة إلاّللحكم الظاهري.

ثمّ إنّه يمكن كون هذه الرواية أظهر من حديث الرفع ، لتطرّق احتمال كون « ما لا يعلمون » فيه عبارة عن الغفلة والجهل المركّب بخلاف هذه الرواية فإنّها لا يتطرّق فيها الاحتمال المذكور.

قوله : وفيه أنّ الظاهر منها هو كون الجاهل معذوراً من حيث الحكم الوضعي - إلى قوله - وهذا المعنى أجنبي عمّا هو محلّ الكلام في المقام من كون الجاهل بالحكم أو الموضوع محكوماً بالبراءة أو الاحتياط ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : لا يقال : إنّ ارتفاع الحرمة الأبدية يتوقّف على عدم منجّزية حرمة العقد الناشئة عن كونها في العدّة ، فلابدّ من دلالتها بالالتزام على البراءة الشرعية ليرتفع منجّزية تحريم العقد ، ليكون ذلك موجباً لارتفاع الحرمة الأبدية.

لأنّا نقول : إنّ ارتفاع الحرمة الأبدية لا يتوقّف على إجراء البراءة الشرعية ، بل يكفي فيه عدم العلم بالعدّة إذا كان منضمّاً إلى عدم العلم بلزوم الاحتياط عند الشكّ في الحكم الكلّي ، أو في موضوع الحكم أعني كونها في العدّة. وبالجملة : أنّ الرواية ليست متكفّلة إلاّبارتفاع الحكم الوضعي - أعني الحرمة الأبدية - عند

ص: 162


1- أجود التقريرات 3 : 318.

الجهل بحرمة العقد عليها أو بكونها في العدّة ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى أجنبي عمّا هو المطلوب من الدلالة على البراءة الشرعية - أعني رفع الحكم الشرعي - أو الاحتياط فيه عند الشكّ فيه ، انتهى.

قلت : لو كانت الرواية شاملة للجهل البسيط ولو في ناحية الجهل بأنّها في العدّة [ ثبتت الحرمة الأبدية ] إذ لا أقل من استصحاب كونها باقية في العدّة ، كما هو الغالب في من اتّفق العقد عليها من الثيّبات في العدّة من المسبوقية بعلم العاقد بأنّها كانت ذات زوج. نعم لو لم يكن العاقد مسبوقاً بشيء من ذلك واتّفق أنّها كانت ذات عدّة لم يكن فيه مورد للاستصحاب. لكن أصالة الاحتياط قاضية بالاجتناب ، إلاّ إذا كان العاقد غافلاً عن ذلك كما فرضه قدس سره. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاستصحاب أو أصالة الاحتياط وإن جرى إلاّ أنّه إنّما يمنع من الاقدام على العقد ، لكنّه لا يوجب الحرمة الأبدية ، لأنّ المأخوذ فيها هو العلم الوجداني على نحو الصفتية ، لكن يشكل ذلك فيما لو قامت البيّنة على بقاء العدّة.

نعم ، يمكن المناقشة في أصالة الاحتياط في مثل ذلك ، فإنّ الظاهر من بعضهم إجراء أصالة الحل عند الشكّ في كون المرأة محرّمة نسباً ، فراجع كتاب الربا من ملحقات العروة ص 19 (1).

والحاصل : أنّ العلم بحرمة التزويج بذات العدّة مع العلم بكونها في العدّة قد أخذ موضوعاً للحرمة الأبدية المعبّر عنها بالحكم الوضعي ، فلو لم يكن عالماً بذلك ولا عالماً بأنّها في العدّة ، لم تتحقّق تلك الحرمة الأبدية ، وحينئذ نقول : إنّه

ص: 163


1- العروة الوثقى 6 : 36 / مسألة (15).

لو لم يكن عالماً بأنّها في العدّة ، ولكن هي أخبرته بأنّها في العدّة ، أو قامت عنده البيّنة على ذلك ، أو جرى في المورد استصحاب بقائها في العدّة ، فلا إشكال في أنّه لا يجوز له العقد عليها ، لكنّه مع ذلك أقدم على العقد عليها ، ولنفرض أنّه بعد العقد تحقّق له أنّها في العدّة ، فإن كان العلم بالعدّة مأخوذاً في موضوع الحرمة الأبدية على جهة الصفتية ، لم تحرم عليه مؤبّداً ، لعدم قيام الأمارة ولا الاستصحاب مقام العلم الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية ، وهو بعيد ، وحيث نقول بحرمتها الأبدية في الصورة المزبورة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون العلم المذكور مأخوذاً على نحو الطريقية.

ثمّ لو لم تقم عنده الأمارة ولا الاستصحاب على كونها في العدّة ، ولم يكن لديه إلاّ الشكّ بكونها في العدّة ، أو الشكّ في حرمة العقد عليها ولو على نحو الشبهة الحكمية ، فإن قلنا في ذلك بأصالة الاحتياط لم يجز له العقد عليها ، لكنّه مع ذلك أقدم على العقد عليها ، ثمّ تبيّن أنّها في العدّة وأنّ العقد عليها محرّم ، كان الحكم بتحقّق الحرمة الأبدية في الصورة المزبورة متوقّفاً على كون العلم المأخوذ في موضوع الحرمة الأبدية مأخوذاً من حيث المنجّزية ، ليقوم الاحتياط مقامه في تحقيق الحرمة الأبدية ، بخلاف ما لو قلنا في المسألة بالبراءة وقد أقدم على العقد عليها مستنداً إلى البراءة ، فإنّها حينئذ لا تحرم عليه مؤبّداً ، وحيث قد حكم الإمام عليه السلام بكونه معذوراً في الإقدام على العقد عليها ، وأنّها لا تحرم عليه مؤبّداً في كلتا صورتي الشبهة الحكمية والموضوعية ، سواء كان جاهلاً مركّباً أو كان جاهلاً بسيطاً ، كشف ذلك عن كون المرجع في المورد هو البراءة ، إذ لو كان المرجع في ذلك هو الاحتياط لم يصحّ الحكم بالمعذورية ، وإن صحّ الحكم بعدم الحرمة الأبدية باعتبار دعوى كون الاحتياط لا يقوم مقام العلم الطريقي ، وحينئذ

ص: 164

تكون هذه الرواية دالّة على البراءة في مورد الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، فإنّ إطلاق الحكم بالأعذرية أو بالمعذورية في مورد الشبهة الحكمية وإن كان منزّلاً على ما هو الغالب من عدم تمكّنه من السؤال لقطعه بجواز العقد عليها ، إلاّ أنّه شامل لما إذا كان شاكّاً ، ولا داعي لتخصيصه بالقاطع بالخلاف وتخصيص مورد الشبهة الموضوعية بخصوص الشاكّ ، فإنّ مجرّد الأعذرية يكفي فيه الغلبة ، يعني أنّه في الغالب يكون أعذر ، لا أنّه دائماً يكون أعذر ليتخصّص بمورد القاطع بالخلاف أعني الجاهل المركّب القاطع بعدم حرمة العقد عليها ، فتأمّل.

لكن الشيخ قدس سره حمل المعذّرية على المعذورية في الحكم الوضعي ، فقال : فالمراد من المعذورية عدم حرمتها عليه مؤبّداً ، لا من حيث المؤاخذة ، ويشهد له أيضاً قوله عليه السلام - بعد قوله : « نعم أنّه إذا انقضت عدّتها فهو معذور » - : « جاز له أن يتزوّجها » (1) الخ (2) ولكن لا داعي إلى هذا التصرّف ، فإنّ منشأ العذر في أن يتزوّجها هو أنّه كان في الاقدام أوّلاً على تزويجها معذوراً ، فتأمّل.

وتنزيل الرواية في حكمها بالمعذورية أو في حكمها بعدم الحرمة الأبدية على خصوص الجاهل بكونها في العدّة وغير العالم بلزوم الاحتياط في ذلك ، لا يخلو من تكلّف ربما تأبى عنه الرواية ، فإنّ ظاهرها أنّ ملاك المعذورية وملاك عدم الحرمة الأبدية هو مجرّد الجهل بكونها في العدّة ، من دون مدخلية لجهله بلزوم الاحتياط في الحكم عليه بالمعذورية وبعدم تحقّق الحرمة الأبدية ، فتأمّل.

ص: 165


1- وسائل الشيعة 20 : 450 - 451 / أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب 17 ح 4.
2- فرائد الأُصول 2 : 44 - 45 ( مع اختلاف يسير ).

قوله : نعم ، لا يبعد أن يكون حديث الرفع آبياً عن التخصيص في الجملة من جهة وروده في مقام الامتنان ، لكن إثبات ذلك في خصوص كلّ واحد واحد من فقراتها - ومنها « ما لا يعلمون » - لا يخلو عن الصعوبة ... الخ (1).

تقدّم (2) أنّ جملة من باقي الروايات واردة في مقام الامتنان ، وأنّ كون الحكم وارداً في مقام الامتنان لا يمنع من قابليته للتخصيص ، كما خصّصنا الرفع في « ما لا يعلمون » بموارد الدماء والفروج والأموال.

ثمّ إنّ في خصوص حديث [ الرفع ] إشكالاً من جهة دعوى إفادته اختصاص الرفع بهذه الأُمّة ، وكثير من تلك التسعة ليست من خصائص هذه الأُمّة ، وكفاك في ذلك « ما لا يطيقون ». ولكن الحديث لا دلالة فيه على الاختصاص إلاّبدعوى مفهوم اللقب ، وهو ممنوع كما لا يخفى.

قوله : والحاصل أنّه لا فرق بين شرب التتن المشكوك حرمته وبين شرب المايع الخارجي المشكوك خمريته في أنّ كلّ واحد منهما فرد واحد من هذا العموم فيشمله الحكم ... الخ (3).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إذ لا مانع من كون الشيء شاملاً لكلّ ما هو داخل تحت مشكوك الحلّية ، سواء كان موضوعاً شخصياً أو كان عنواناً كلّياً ، وليس ذلك من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، حيث إنّ الموضوعات الكلّية بالنسبة إلى المجتهد في مقام استنباط حكمها من قبيل الموضوعات

ص: 166


1- أجود التقريرات 3 : 319.
2- في الصفحة : 158 - 159.
3- أجود التقريرات 3 : 320.

الجزئية ، انتهى.

قلت : وإن شئت قلت : إنّ العناوين الكلّية ليست مأخوذة في هذه القضايا إلاّ مرآة لأفرادها الخارجية ، فيكون المراد من الشيء حينئذ كلّ مصداق خارجي لم يكن معلوم الحلّية والحرمة ، سواء كان عدم العلم بذلك ناشئاً عن عدم العلم بعنوان ذلك الشيء وتردّده بين ما يكون حكمه الحلّية أو التحريم ، أو كان عدم العلم بذلك ناشئاً عن عدم العلم بحكم ذلك الشيء مع العلم بعنوانه المنطبق عليه. وهكذا الحال في قوله عليه السلام : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (1) فإنّه حينئذ يكون علماً بحرمة نفس ذلك المصداق الخارجي ، سواء كان منشأ العلم بكونه بعينه حراماً هو العلم بحرمة العنوان الكلّي المنطبق عليه ، أو كان منشؤه هو العلم بأنّه منطبق عليه العنوان الكلّي المعلوم الحرمة. ومن ذلك تعرف اندفاع الجهة الأُولى من إشكالات الشمول للشبهات الموضوعية الناشئ عن ظهور لفظ « بعينه » في الشبهات الموضوعية.

قوله : الثانية : أنّ الأمثلة التي ذكرها الإمام عليه السلام في الرواية كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : فإنّه وإن لم تكن الأمثلة من صغريات قاعدة الحل وكان ذكرها من قبيل التنظير لا التمثيل ، إلاّ أنّ الاقتصار في هذه النظائر على خصوص ما هو من قبيل الشبهة الموضوعية ممّا يشعر بأنّ المراد بالصدر هو خصوص تلك الشبهة ، انتهى.

قلت : وحينئذ يمكن القول بضعف هذه الجهة من الإشكال ، بعد فرض

ص: 167


1- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.
2- أجود التقريرات 3 : 320.

كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير لأجل تقريب المطلب وعدم استغراب الترخيص الشرعي في موارد احتمال التحريم وإن كان المستند في تلك الترخيصات هو جهات أُخر مثل اليد وأصالة الصحّة ونحو ذلك ، ولا يقال : لِمَ لم ينظّر عليه السلام بمورد تكون الشبهة فيه حكمية. لأنّا نقول : لابدّ أن يكون ذلك النظير ممّا حكم به بالترخيص لجهة أُخرى معروفة لدى السامع مقبولة عنده ، والظاهر أنّ أغلب موارد الشبهات الحكمية التحريمية لا يكون الترخيص فيها إلاّمستنداً إلى البراءة الشرعية ، فيكون خارجاً عن التنظير والتقريب ، بل يكون عين المدّعى ، إذ لا يكون في البين ما يرخّص في ذلك إلاّ الاستصحاب النافي للحرمة وموارده قليلة.

قوله : الثالثة : أنّ قوله عليه السلام في ذيل الرواية : « أو تقوم به البيّنة » ... الخ (1).

يمكن أن يقال إنّ قوله عليه السلام : « والأشياء كلّها على هذا » (2) إشارة إلى موارد التنظير ، لا أنّه راجع إلى صدر الرواية ، وحينئذ لا يكون اختصاصه بالشبهة الموضوعية قرينة على اختصاص الصدر بذلك.

أو يقال : إنّ قوله : « هذا » وإن كان راجعاً إلى صدر الرواية ، إلاّ أنّ هذه المقابلة بين الاستبانة وبين قيام البيّنة يعطي أنّ الأوّل مسوق للشبهة الحكمية ، والثاني للشبهة الموضوعية ، خصوصاً بعد فرض [ أنّ ] المراد من الاستبانة قيام مطلق الطريق الشامل للبيّنة في الشبهات الموضوعية. ولكن [ مع ] هذا كلّه ، فلا تطمئن النفس ولا تثق بكون هذه الرواية الشريفة شاملة للشبهات الحكمية ، فإنّ للظهور العرفي الذي يعرفه أهل اللسان مقاماً ، وللمطالب والمناقشات العلمية

ص: 168


1- أجود التقريرات 3 : 320 - 321.
2- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

مقاماً آخر.

قوله : والصلة المذكورة تختصّ بالشبهات الموضوعية (1).

لما سيأتي في الرواية الآتية من كونه للتقسيم الفعلي المختصّ بالشبهة الموضوعية.

قوله : فيدور الأمر بين إرادة احتمال الحلّية والحرمة من قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » ، وبين الالتزام بالاستخدام ... الخ (2).

الظاهر أنّ الوجه في اختصاص هذا البحث - أعني الدوران بين الاستخدام في الضمير وبين التجوّز في قوله : « فيه » بحمله على القابلية - بصحيحة عبد اللّه بن سنان (3) ، دون رواية عبد اللّه بن سليمان (4) ، هو اشتمال صحيحة ابن سنان على لفظ « شيء » الظاهر في الفرد الخارجي ، دون رواية عبد اللّه بن سليمان ، فإنّ فيها عوض الشيء « ما » الموصولة أو الموصوفة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ « ما » أيضاً عبارة عن الشيء معرّفاً أو منكراً ، فينبغي أن يطّرد فيها البحث المذكور.

قوله : إلاّ أنّ الالتزام به أهون من الالتزام بالاستخدام ... الخ (5).

يمكن التأمّل في الأهونية ، بل لا يبعد أن يكون ظهور قوله « فيه » في الانقسام حاكماً على ظهور الضمير في عدم الاستخدام ، فيكون اللازم هو حمل الضمير على الاستخدام ، وإرجاعه إلى نفس ذلك الشيء باعتبار العنوان الكلّي

ص: 169


1- أجود التقريرات 3 : 321.
2- أجود التقريرات 3 : 323.
3- وسائل الشيعة 17 : 87 - 88 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1.
4- وسائل الشيعة 25 : 117 - 118 / أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 1.
5- أجود التقريرات 3 : 323.

المنطبق عليه ، وإن كان الأولى هو حمل الشيء على نفس الكلّي الطبيعي ، فإنّه أيضاً مصداق الشيء ، لأنّ الشيء بقرينة إضافة « كلّ » إليه وإن كان شاملاً للمصداق الخارجي وللكلّي الطبيعي ، أو كان ظاهراً في المصداق الخارجي ، إلاّ أنّ توصيفه بكونه منقسماً فعلاً إلى الحلال والحرام يكون قرينة على إرادة خصوص ما كان منه واجداً لهذه الصفة ، أعني صفة الانقسام الفعلي ، لأنّ ظهور القيد والوصف حاكم على إطلاق الموصوف أو على ظهوره لو قلنا بكونه في حدّ نفسه ظاهراً في خصوص المصداق الخارجي ، فيكون ذلك التوصيف قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية ، لظهور القيد في كون ذلك الانقسام هو المنشأ في الشكّ المستفاد من قوله : « حتّى تعرف الحرام بعينه » (1) ، اللّهمّ إلاّ أن يحمل قوله : « فيه حرام وحلال » (2) على العلم بأنّ فيه حراماً وحلالاً في الجملة ، وإن لم تعرف أنّ الحرام منه هو لحم الأرنب مثلاً والحلال منه هو لحم الغنم ، فلو شككنا في حرمة لحم الحمير مثلاً كان حلالاً حتّى تعرف الحرام بعينه ، ولا يخفى بعده.

والحاصل : أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » لو قلنا إنّ « الشيء » فيه كناية عن النوع الذي يكون قسم منه مذكّى فعلاً وهو معلوم الحلّية ، وقسم منه غير مذكّى وهو معلوم الحرمة ، فكلّ نوع ينقسم إلى هذين القسمين فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام الخ ، ليكون منحصراً بالشبهة الموضوعية ، وذلك هو المعنى الذي أفاده

ص: 170


1- وسائل الشيعة 17 :1. 88 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1.
2- وسائل الشيعة 17 :1. 88 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1.

الشيخ قدس سره (1) وشيخنا قدس سره (2). لكن يتوجّه عليه أنّ لفظ « هو » لا يكون راجعاً إلى نفس ذلك النوع ، إذ لا معنى للحكم بحلّية نوع اللحم مثلاً المفروض أنّ بعضه مذكّى مثلاً وهو معلوم الحلّية ، وبعضه غير مذكّى وهو معلوم الحرمة ، [ فلا يقال ] هو حلال لك حتّى تعرف الحرام ، لأنّ الحرام فيه معلوم وهو غير المذكّى ، وحينئذ لابدّ من إرجاع الضمير المنفصل إلى مصداق ذلك النوع المردّد بين كونه مصداقاً لهذا وكونه مصداقاً لذاك ، فيكون الضمير راجعاً إلى النوع باعتبار بعض أفراده ، ويلزمه الاستخدام ، لكنّه عكس الاستخدام الذي أفاده الشيخ وشيخنا قدس سرهما في قوله « فيه » من رجوعه إلى مصداق الشيء باعتبار كلّيه ونوعه ، بناءً على المعنى الثاني وهو كون الشيء عبارة عن المصداق ، ثمّ بعد ارتكاب الاستخدام في قوله « فهو » لا تكاد تكون الغاية مناسبة ، لأنّ الحاصل حينئذ هو أنّ المصداق المشتبه من ذلك النوع يكون حلالاً لك حتّى تعرف القسم الحرام من ذلك النوع ، ولأجل ذلك أنّ الأنسب حينئذ أن يقال حتّى تعرف أنّه حرام.

وحينئذ نقول : إنّ الأولى هو ما أفاده الأُستاذ المرحوم العراقي قدس سره فيما حرّرته عنه : من أنّ المراد من قوله « فيه حلال وحرام » ليس هو أنّ فيه قسماً محرّماً وهو غير المذكّى ، وقسماً محلّلاً وهو المذكّى ، بل المراد أنّ قسماً منه حرام وقسماً منه حلال ، لكن ذلك على سبيل الإجمال ، بحيث إنّا نعلم أنّ في اللحم ما هو محرّم وفيه ما هو محلّل على الإجمال من دون معرفة ما هو الحرام وما هو الحلال ، وحينئذ يكون الحاصل هو أنّ اللحم الذي يعلم بكون بعض منه

ص: 171


1- فرائد الأُصول 2 : 47.
2- أجود التقريرات 3 : 322.

حراماً وبعض منه حلالاً ، ولا نعرف ما هو الحلال وما هو الحرام ، فذلك النوع الذي هو مطلق اللحم لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، فاللحوم كلّها لك حلال حتّى تعرف ما هو الحرام الواقعي بعينه فتدعه ، فتكون دالّة على الحلّية في الشبهة الحكمية ، هذا ملخّص ما استفدته منه قدس سره في الدرس ، ولعلّه أشار إليه فيما أفاده في المقالة.

ولكن الظاهر أنّها حينئذ لا تنطبق إلاّعلى العلم الاجمالي في الشبهة الحكمية ، بأن نعلم إجمالاً أنّ بعض اللحوم حرام وبعضها حلال ، فاللحوم يعلم إجمالاً بحرمة بعضها ، فتكون بأجمعها لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه ، أي حتّى يحصل لك العلم التفصيلي بحرمة بعضها المعيّن فتدعه.

والحاصل : أنّ تعريف الحرام في قوله عليه السلام : « حتّى تعرف الحرام » وقوله عليه السلام : « بعينه » في قبال العلم بالحرمة إجمالاً (1) يؤيّد هذا المعنى ، أعني حملها على العلم الاجمالي ، لكنّه لا يمكن الالتزام به في الشبهات الحكمية وإن أمكن الالتزام به فيما لو نزّلناها على الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي بعد تنزيلها على الشبهة غير المحصورة أو الخارج بعض أطرافها عن الابتلاء.

ولا يخفى أنّ حملها على الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي لا يحتاج إلى دعوى كون الشيء بمعنى المصداق الخارجي ، بل يكفي فيه كونه بمعنى النوع أعني الجبن مثلاً ، وكان قد اتّفق أنّ بعض أقسامه كان محرّماً لكونه

ص: 172


1- ولعلّ قوله عليه السلام : « فتدعه » من جملة المؤيّدات لحملها على الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، ليكون الضمير المفعول فيه راجعاً إلى الحرام الذي عرفته تفصيلاً لا إلى الشيء [ منه قدس سره ].

من الميتة ، فذلك النوع بجميع أفراده لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، والقاعدة وإن اقتضت الاحتياط حينئذ للعلم الاجمالي ، لكن لمّا كان المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة ، أو كان من قبيل ما يكون بعض الأطراف فيه خارجاً عن محلّ الابتلاء ، كان العلم الاجمالي فيه غير مؤثّر في لزوم الاحتياط ، وكانت أطراف الشبهة المذكورة لك حلالاً حتّى تعرف الحرام بعينه تفصيلاً فتدع ذلك الذي عرفت حرمته تفصيلاً.

والحاصل : أنّ هذه الروايات منزّلة على العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية التحريمية مع فرض كونها غير محصورة ، أو كون بعض أطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ومقتضى ذلك هو جواز ارتكاب الأطراف فيها حتّى تعرف ما هو الحرام بعينه معرفة تفصيلية فتدع ذلك المعلوم التفصيلي ، ولا نحتاج حينئذ إلى كون الشيء بمعنى المصداق لنقع في التعارض بين ظهور لفظة « في » في التقسيم الفعلي ، وبين ظهور الضمير المجرور بها في الرجوع إلى نفس الشيء الذي هو المصداق ، كما أنّا نلتزم بكون المراد من الشيء هو النوع الذي علمنا أنّ بعضه الميتة وهو محرّم وبعضها غير ميتة وهو المحلّل ، ويكون اختلاط الميتة بغيرها هو الموجب للشكّ في كلّ واحد من تلك الأطراف ، ويكون عدم انحصارها أو خروج بعضها عن الابتلاء هو الموجب للحكم بحلّية ذلك النوع وجواز الأكل من كلّ واحد من أطرافه حتّى تعرف وتعلم ما هو الميتة بعينه معرفة تفصيلية فتدعه ، ويكون ضمير « هو » راجعاً إلى نفس ذلك النوع ، وتكون الرواية واردة لحكم الشبهات الموضوعية التحريمية المقرونة بالعلم الاجمالي مع فرض عدم الانحصار ، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

ص: 173

ولعلّ رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن ، قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن ، فقلت أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل » الحديث (1) أظهر فيما ذكرناه من العلم الاجمالي في الشبهة الموضوعية التحريمية الغير المحصورة ، أو الخارج عن الابتلاء بعض أطرافها من رواية ابن سنان ورواية ابن سليمان ، فتأمّل.

ولعلّ رواية ضريس مثل رواية المحاسن فيما ذكرناه ، وهي قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله ، فقال عليه السلام : ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (2).

قوله : فإنّ الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنّما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمّل (3).

لا يخفى أنّ الأخباريين وإن لم يقولوا بالحرمة بل قالوا بلزوم الاحتياط ، إلاّ أنّ هذا اللزوم ليس بعقلي ، بل هو عندهم شرعي ، وحينئذ تكون نسبته إلى الشارع قولاً بغير علم. ولو اعتمدوا في ذلك على الأخبار الآتية التي استدلّوا بها ، لقلنا إنّ قولنا بالبراءة الشرعية ليس قولاً بغير علم ، لاعتمادنا فيه على أخبار البراءة.

ص: 174


1- المحاسن 2 : 296 / ب 77 ( الجبن ) ح 1916 ، وسائل الشيعة 25 : 119 / أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 5 ( مع اختلاف يسير ).
2- وسائل الشيعة 24 : 235 - 236 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 64 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
3- فوائد الأُصول 3 : 371.

قوله : فيكون حاصل مفاد قوله عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (1) ، هو أنّ ترك التعرّض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلّق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقّف للارشاد وهو تابع للمرشد إليه ... الخ (2).

وإن شئت فقل : إنّ موارد احتمال التكليف الجاري فيها أدلّة البراءة الشرعية من مثل حديث الرفع (3) ومثل « كلّ شيء لك حلال » (4) ونحوه ، تكون خارجة موضوعاً عن الشبهة في قوله عليه السلام « قف عند الشبهات » (5) وحينئذ تكون أخبار البراءة حاكمة أو واردة على ما دلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، ومع قطع النظر عن هذه الحكومة أو الورود فلا أقل من طريقة التخصيص ، فإنّ أدلّة الترخيص في الشبهة وإن قوبلت بأدلّة التوقّف فيها ، إلاّ أنّه قد خرج عن الأُولى الشبهات في أطراف العلم الاجمالي والشبهات قبل الفحص ، وبعد ذلك تكون أخبار الترخيص أخصّ من أخبار التوقّف ، فتقدّم عليها لكونها حينئذ أخصّ منها. على أنّا لا نحتاج إلى ذلك كلّه ، فإنّ الشبهة في أخبار التوقّف مقيّدة باحتمال العقاب ، وأخبار الترخيص رافعة لهذا القيد.

ومن ذلك يظهر لك الحال في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّها وإن لم

ص: 175


1- وسائل الشيعة 27 : 154 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 2 ، 9 ، 13 ، 15 ، 57.
2- فوائد الأُصول 3 : 374.
3- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
4- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.
5- نفس المصدر المتقدّم في الهامش (1) لكن مع اختلاف في اللفظ.

تكن قاضية بالخروج عن نفس الشبهة ، إلاّ أنّها قاضية بالخروج عن الشبهة التي يكون ارتكابها موجباً للوقوع في العقاب لو صادفت الواقع ، فإنّ تعليل الحكم بعلّة يوجب تقييد موضوع الحكم ، نظير قولك لا تأكل الرمّان فإنّ الحموضة مضرّة لك في كونه موجباً لتقييد الرمّان بالحامض ، وحينئذ تكون الشبهة التي أُمرنا بالتوقّف فيها مقيّدة بمفاد التعليل الذي حاصله الأمر بالوقوف عند الشبهة التي يكون الاقدام فيها موجباً لاحتمال الوقوع في العقاب ، ومع فرض كون شبهتنا مجرى لقاعدة قبح العقاب بدون بيان ، تكون خارجة عن الشبهة التي يحتمل فيها العقاب التي يكون الاقتحام فيها اقتحاماً في الهلكة التي هي العقاب.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عن أخبار التثليث ، وحينئذ تنحصر الشبهة التي أمر بالتوقّف [ فيها ] بالشبهة التي يكون احتمال التكليف فيها منجّزاً ، كما في الشبهة قبل الفحص ، والشبهة في أحد أطراف العلم الاجمالي.

ويشهد بذلك تطبيق تلك الكبرى وذلك التقسيم الثلاثي على الخبر الشاذّ النادر في قبال الخبر المشهور كما في المقبولة (1) عند الترجيح بالشهرة ، ولا ينافي ذلك تعليل التوقّف في بعضها « بأنّ المعاصي حمى اللّه » (2) و « من رعى غنمه قرب الحمى بارتكاب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى » (3) فإنّ ذلك محذور آخر في ارتكاب الشبهات المذكورة التي يكون الاحتمال فيها منجّزاً. وأمّا رواية الفضيل « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : من الورع من الناس؟ قال عليه السلام :

ص: 176


1- وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 ، لكن أورد التقسيم الثلاثي في صفحة : 157 / ب 12 ح 9.
2- وسائل الشيعة 27 : 2. 169 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 27 ، 52 ( نقل بالمضمون ).
3- وسائل الشيعة 27 : 2. 169 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 27 ، 52 ( نقل بالمضمون ).

الذي يتورّع من محارم اللّه ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » (1) وهذه لسانها لسان الاستحباب ، ولو حملت على الوجوب كان المراد بالشبهات فيها هي الشبهات المنجّزة ، فتأمّل.

والذي تلخّص : أنّ الجواب عن الاستدلال بأخبار التوقّف عن الشبهات معلّلاً بأنّ التوقّف فيها خير من الاقتحام في الهلكات يمكن أن يكون من وجوه :

الأوّل : أنّ أخبار البراءة حاكمة أو واردة عليها ، فإنّ ترخيص الشارع في ارتكاب محتمل الحرمة يخرجه عن كونه من الشبهات ، ولا يتوقّف ذلك على كون الترخيص ترخيصاً واقعياً ليكون موجباً لاختصاص التحريم بالعلم ، بل يكفي فيه الترخيص الظاهري ، سيّما بعد أن قلنا بأنّ مرجع ذلك إلى جعل حجّية احتمال العدم. نعم يرد عليه أنّ مرجع الاحتياط إلى جعل حجّية احتمال الوجود فيتعارضان ، فلابدّ في توجيه التقديم من سلوك الوجه :

الثاني : أنّ أخبار البراءة وإن لم ترفع الشبهة نفسها إلاّ أنّها ترفع قيدها المستفاد من التعليل ، وهو كون الشبهة موجبة للوقوع في العقاب عند المصادفة ، وحينئذ تكون أخبار البراءة الشرعية رافعة لذلك القيد ، بل إنّ البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان رافعة لذلك القيد.

الثالث : أنّ أخبار البراءة قد خرج منها الشبهة في العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص ، والشبهة في الدماء والفروج بل والأموال ممّا ثبت فيه انقلاب الأصل ، وبعد إخراج هذه الشبهات عن أخبار البراءة تكون أخصّ من أخبار التوقّف فتقدّم عليها.

الرابع : أنّ أخبار التوقّف في حدّ نفسها لمّا كان موضوعها احتمال العقاب ،

ص: 177


1- وسائل الشيعة 27 : 162 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 30.

لم تكن هي مولّدة لاحتمال العقاب ، بل لابدّ أن يكون احتمال العقاب فيها متحقّقاً في حدّ نفسه مع قطع النظر عن وجوب التوقّف ، ولا يكون ذلك إلاّفي موارد العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص ، كذا قرّر.

ولكن يمكن تطرّق المنع إلى ذلك ، فإنّ دعوى أنّ احتمال العقاب منحصر بالعلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص إنّما هو من جهة تحكيم أدلّة البراءة في غيرهما ، فيكون هذا الجواب راجعاً إلى الثاني أو الثالث ، كما أنّ الأوّل راجع إلى أحدهما ، وحينئذ ينحصر الجواب بهما فلاحظ.

ولا يخفى أنّ طريقة التخصيص المتحصّلة من الجواب الثالث تريحنا من دعوى أنّه يستفاد من تعليل الوقوف عند الشبهة باحتمال العقاب ، أنّ كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب ، فيجب التوقّف عندها ، فإنّ هذه الدعوى لو تمّت فأقصى ما فيها هو العموم ، ولكن هذا العموم مخصّص بإخراج الشبهات الغير المنجّزة ، وذلك بما عرفت من كون أخبار البراءة بعد خروج الشبهات المنجّزة منها تكون أخصّ من هذا العموم فتقدّم عليه.

نعم إنّ هذه الدعوى لو تمّت تضرّ بدعوى الحكومة ، فإنّ طريقة الحكومة إنّما تتمّ على تقدير تقييد الشبهة في أخبار التوقّف بالشبهة التي يحتمل فيها العقاب ، أمّا إذا لم يكن في البين تقييد ، بل كان مفاد أخبار التوقّف هو كون كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب فلا تتأتّى الحكومة حينئذ ، بل لابدّ من سلوك طريقة التخصيص ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ طريقة الحكومة موقوفة على استفادة التقييد من التعليل ، وإنّما يتأتّى ذلك - أعني استفادة التقييد من التعليل - فيما لو كان التقسيم معلوماً من الخارج ، كما في مثل لا تأكل الرمّان لأنّ الحموضة مضرّة لك ، إذ نعلم من

ص: 178

الخارج أنّ الرمّان قسم منه غير حامض وقسم منه حامض ، وحينئذ لابدّ من التقييد للرمّان بأنّه الحامض ، وهذا التقسيم فيما نحن فيه ليس بمعلوم من الخارج ، إلاّبالنظر إلى أخبار البراءة وإلى دليل الاحتياط في موارد العلم الاجمالي ، وفي الشبهة قبل الفحص ، وفي موارد الاحتياط الشرعي كالدماء والفروج ، فبالنظر إلى أخبار البراءة وإلى أدلّة الاحتياط تكون الشبهة على قسمين : منجّزة وغير منجّزة ، والأُولى يحتمل فيها العقاب ، والثانية لا يحتمل.

وبناءً على ذلك لا تكون في البين حكومة ، بل تكون لنا أدلّة ثلاثة : دليل البراءة ، ودليل الاحتياط في الموارد المذكورة ، وهذا الدليل أعني قوله : « قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام بالهلكة » بناءً على استفادة التقييد من التعليل بما إذا كانت الشبهة محتملة للعقاب ، وهي موارد الدليل الثاني ، وحينئذ لا يكون بين هذه الأدلّة تعارض كي تتأتّى الحكومة أو طريقة التخصيص ، ولكن كلّ ذلك متوقّف على تحقّق ذلك التقسيم من الخارج ، فالأولى هو النظر إلى نفس الدليل الثالث الذي يفيد العموم لكلّ شبهة ، فإنّ مفاده في حدّ نفسه هو أنّ كلّ شبهة يحتمل فيها العقاب ، لكن الأدلّة الأُولى وهي مفاد البراءة بعد تخصيصها بالأدلّة الثانية تكون أخصّ من الدليل الثالث ، فتقدّم عليه تخصيصاً لا حكومة ، فلاحظ وتدبّر.

لا يقال : كما أنّ أخبار البراءة قد خرج منها الشبهات المنجّزة - أعني الشبهة قبل الفحص ، والشبهة في أطراف العلم الاجمالي ، والشبهة في الدماء والفروج - فكذلك أخبار التوقّف والتثليث (1) قد خرج منها الشبهة الوجوبية والشبهات

ص: 179


1- أخبار التثليث ، منها : ما في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما وترك الشاذّ النادر معلّلاً بقوله عليه السلام : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » وقوله عليه السلام : « إنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه ( علمه ) إلى اللّه ورسوله ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » [ وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 ، 157 / ب 12 ح 9 ]. ومنها : ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في مرسلة الصدوق : « أنّه خطب وقال : حلال بيّن وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى اللّه ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها [ وسائل الشيعة 27 : 161 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 27 ]. ومنها : ما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « قال جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - في حديث يأمر بترك المشتبهات بين الحلال والحرام - : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى اللّه محارمه [ وسائل الشيعة 27 : 169 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 52 ( مع اختلاف يسير ) ]. ومثل ذلك قوله عليه السلام في رواية الفضيل بن عياض : « قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : من الورع من الناس؟ قال عليه السلام : الذي يتورّع من محارم اللّه ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » [ وسائل الشيعة 27 : 162 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 30 ] ولسانها ظاهر في الاستحباب ، ولو حملت على الوجوب كانت مختصّة بالشبهات المنجّزة كما شرحناها في غيرها [ منه قدس سره ].

الموضوعية ، للإجماع من الأُصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاحتياط فيها ، وحينئذ ينحصر أخبار التوقّف بالشبهات التحريمية الحكمية ، سواء كانت بدوية أو كانت منجّزة بأحد المنجّزات المذكورة ، وبعد هذين التخصيصين تكون النسبة بين أخبار التوقّف وأخبار البراءة العموم من وجه ، حتّى مثل قوله : « كلّ

ص: 180

شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (1) لاجتماع الطائفتين في الشبهة الحكمية التحريمية البدوية ، واختصاص أخبار التوقّف وانفرادها بالشبهة المنجّزة ، واختصاص أخبار البراءة وانفرادها بالشبهة الوجوبية غير المنجّزة ، ولا أقل من انفرادها بالشبهة الموضوعية التحريمية غير المنجّزة كما في « كلّ شيء لك حلال ».

لأنّا نقول : إنّ هذا الإجماع ليس بدليل مستقل ، فإنّ الأُصوليين إنّما يقولون بالبراءة في الشبهات الوجوبية والشبهات الموضوعية الغير المنجّزة لأجل أدلّة البراءة. نعم لم يعلم الوجه في إخراج الأخباريين هذه الشبهات - أعني الوجوبية والشبهات الموضوعية - عن عمدة ما يتمسّكون به للاحتياط ، وهو أخبار التوقّف وأخبار التثليث ، ولا أظنّه إلاّ أنّهم يقدّمون أخبار البراءة ، وحينئذ يكون العمدة هو أخبار البراءة ، ولا محصّل للإجماع المذكور ، وقد عرفت الحال في مقابلة أخبار البراءة لأخبار التوقّف من كون الأُولى مخصّصة للثانية ، فلاحظ.

قوله : ويحتمل قريباً أن تكون روايات التوقّف لإفادة معنى آخر ، وهو أنّ الاقتحام في الشبهات ... الخ (2).

حاصل هذا المعنى ، هو أنّ كثرة ارتكاب الشبهات يوجب الاقتحام في الحرام الذي هو الهلكة ، لأنّ عدم المبالاة بالشبهات يوجب الجرأة على ارتكاب المحرّمات ، وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنّه لا يمكن حمل الرواية أعني قوله عليه السلام : « الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام بالهلكات » (3) [ عليه ] فإنّ

ص: 181


1- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 ( مع اختلاف يسير ).
2- فوائد الأُصول 3 : 374.
3- وسائل الشيعة 27 : 154 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 2 ، 9 ، 13 ، 15.

ظاهرها الأمر بالوقوف بأوّل شبهة ، وليس بناظر إلى التعوّد والتكرار.

لكن بعض الروايات صريحة في ذلك ، مثل قوله عليه السلام في مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّه عليه السلام خطب وقال : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى اللّه ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (1). وعن الباقر عليه السلام « قال : كان جدّي يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام ، قال : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه » (2).

قوله : مع أنّ ظاهر الصحيحة هو كون المكلّف متمكّناً من الفحص وتحصيل العلم بحكم الواقعة (3).

لا يخفى أنّ الفحص من العامي إنّما هو بالسؤال من مجتهده الذي يرجع إليه ، ولو كان في زمان الحضور كان فحصه بالسؤال من نفس الإمام عليه السلام لو أمكنه ذلك ، أمّا المجتهد ففحصه إنّما هو عن الأدلّة ، ولكن يختلف الحال في العصور ، فإنّ المجتهد في عصر الرواة الذين حظوا بالوصول إلى خدمة الأئمّة عليهم السلام يختلف عن المجتهد في عصرنا ، فمن جهة يكون الاجتهاد في ذلك العصر أسهل ، ومن الجهة الأُخرى لا يخلو عن صعوبة بالنسبة إلى من في عصرنا ، فمن جهة إحراز الظهور والصدور كان الاجتهاد في ذلك العصر في غاية السهولة ، بخلافه من

ص: 182


1- وسائل الشيعة 27 : 161 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 27.
2- وسائل الشيعة 27 : 169 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 52 ( نقل صدره بالمضمون ).
3- فوائد الأُصول 3 : 376.

هاتين الجهتين في عصرنا ، ومن جهة الرجوع إلى البراءة عند فقد النصّ يكون الحال في ذلك العصر أضيق منه في هذا العصر ، حيث إنّ المجتهد في ذلك العصر مقيّد بالسؤال من الإمام عليه السلام ولو تفحّص [ ما ] بأيديه من الدفاتر ، أو سأل من أهل عصره من الرواة عن رواية واردة في تلك المسألة ، بل لابدّ له من السؤال منه عليه السلام وقبل السؤال لابدّ له من الاحتياط في الفتوى أو العمل ، كما هو مدلول هذه الرواية وهو الذي تقتضيه القاعدة ، وبالنتيجة يقلّ رجوعهم إلى البراءة في الشبهات الحكمية بل لعلّه لا يتحقّق ، وهذا بخلاف المجتهد في عصرنا ، فإنّه ينحصر فحصه فيما لديه من كتب الأخبار ، وهو سهل ، وبعد عدم العثور يكون المرجع هو البراءة ، وموارده كثيرة لا تخفى ، فتأمّل.

والظاهر أنّ مورد الرواية هو فحص المجتهد في مقام الفتوى ، لقول الراوي : « إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه » (1) ولعلّ من هذا القبيل ما اشتمل عليه ذيل المقبولة بعد ذكر المرجّحات : « إذا كان كذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2) فيكون مختصّاً بمن كان في ذلك العصر.

قوله : وأمّا الموثّقة فالشبهة في موردها لا تخلو إمّا أن تكون موضوعية وإمّا أن تكون حكمية ... الخ (3).

الظاهر أنّ الشبهة في مورد السؤال موضوعية ، لقوله : « يتوارى عنّا القرص

ص: 183


1- وسائل الشيعة 27 : 154 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 1.
2- وسائل الشيعة 27 : 106 - 107 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.
3- فوائد الأُصول 3 : 376.

- إلى قوله - وترتفع فوق الجبل الحمرة » الخ (1) بناءً على أنّ الجبل واقع غربيّهم ، فيكون تواري القرص عنهم لحيلولة الجبل ، الموجب لاحتمال بقائها في محلّ ما بعد الجبل فوق الأُفق ، وحينئذ يشكل الأمر فيما تضمّنته الرواية من تطبيق كبرى الاحتياط ، أمّا على نظر الأخباريين ، فلعدم قولهم بوجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية ، سواء كانت الشبهة فيما نحن فيه وجوبية نظراً إلى الشكّ في وجوب الصوم وفي وجوب صلاة المغرب ، أو كانت تحريمية نظراً إلى حرمة الافطار وحرمة الصلاة قبل الوقت ولو تشريعاً. وأمّا على نظر الأُصوليين فواضح ، لعدم وجوب الاحتياط عندهم في الشبهات الحكمية فضلاً عن الموضوعية.

مضافاً إلى أنّ المورد مورد استصحاب بقاء النهار على كلّ من المسلكين ، وبعد بقاء الإشكال في تطبيق الكبرى على المورد لم يبق باليد إلاّ الكبرى مع غض النظر عن تطبيقها على المورد ، فيكون حال هذه الكبرى حال تلك الكبريات التي اشتملت عليها بقية الأخبار المطلقة ، التي لم ترد في مورد خاص ، التي كان الجواب عنها بضرورة حملها على الاستحباب بالنظر إلى لزوم تخصيص الأكثر لو حملناها على الوجوب.

ولو فرض كون الشبهة في المقام حكمية مفهومية ، توجّه الإشكال على الرواية بأنّ اللازم هو الجواب بالحكم الواقعي لا بالاحتياط ، فلم يبق حينئذ إلاّ التوجيه بالتقية ، وحينئذ يسهل الأمر.

أمّا الأخباريون فيقولون إنّ الحكم الواقعي وإن كان هو وجوب الانتظار حتّى تذهب الحمرة المشرقية ، إلاّ أنّ الإمام عليه السلام طبّق عليه كبرى وجوب الاحتياط

ص: 184


1- وسائل الشيعة 10 : 124 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 52 ح 2 ( مع اختلاف يسير ).

تقية.

وأمّا الأُصوليون فيقولون إنّ كبرى الاحتياط هي استحبابية ، وطبّق الإمام عليه السلام ذلك الحكم الاستحبابي على المورد الذي حكمه الواقعي هو وجوب الانتظار تقية ، ويكون الحاصل عندهم أنّه عليه السلام حكم باستحباب الانتظار احتياطاً في المورد الذي يكون فيه الانتظار واجباً واقعاً ، لأنّ التقية مانعة من التصريح بأنّ الحكم الواقعي هو وجوب الانتظار.

ومنه يظهر لك أنّ عمدة البحث حينئذ إنّما هو في الكبرى ، وهل هي وجوبية أو استحبابية ، بعد الفراغ عن أنّ تطبيقها على المورد كان تقية.

أمّا الاستصحاب فلا مورد له في المقام ، لكون الشبهة مفهومية (1) ، فهو نظير استصحاب العدالة فيما لو ارتكب الصغيرة مع الشكّ في كون العدالة هي ترك الكبيرة والصغيرة أو يكفي فيها مجرّد ترك الكبيرة ، وقد حقّق في محلّه عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ، بل ولا الحكمي في أمثال ذلك ، فراجع.

قوله : ولا يبعد استفادة التعميم لغير الحشرات ونجس العين من بعض الأدلّة ... الخ (2).

منها : موثّقة ابن بكير التي يقول عليه السلام في آخرها : « فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله وحرم عليك أكله ، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة ، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » (3) قال في الجواهر : إنّه ظاهر في أنّ الذبح تذكية لكلّ حيوان. وكذا لو كانت الرواية « الذبح » بناءً على أنّ المراد منه ذبح أو لم يذبح. وأظهر منه صحيح

ص: 185


1- [ في الأصل : موضوعية ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- فوائد الأُصول 3 : 380.
3- وسائل الشيعة 4 : 345 / أبواب لباس المصلّي ب 2 ح 1.

علي بن يقطين ، قال : « سألت أبا الحسن عليه السلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود ، قال عليه السلام : لا بأس بذلك » (1) إذ لو لم تقبل التذكية كانت ميتة لا يجوز لبسها. مؤيّداً بما يفهم من مجموع النصوص المتقدّمة في لباس المصلّي من قبول التذكية لكلّ حيوان طاهر العين حال الحياة وإن لم يكن مأكول اللحم ، ولكن لا يصلّي فيه ، عدا ما استثني ، فلاحظ وتأمّل ، بل وبغير ذلك (2).

ومنه يظهر قبول المسوخ للتذكية ، وما ورد في تعداد المسوخات إنّما هو في بيان حرمة أكلها.

وقال بعد ذلك في ردّ المرتضى القائل بقبول المسوخ للتذكية : ونسبه في كشف اللثام إلى المشهور ، للأصل الممنوع على مدّعيه حتّى بمعنى استصحاب الطهارة أو قاعدتها - إلى أن قال - وبعض النصوص الواردة في حلّ الأرنب والقنفذ والوطواط وهي مسوخ ، وليس ذلك في لحمها عندنا ، فيكون في جلدها ، الذي هو بعد أن لا يكون معمولاً عليه عندنا وموافقاً للتقية يكون من المأوّل الذي ليس بحجّة نعم قد يصلح مؤيّداً ، لما سمعته من الصحيح المقتضي لصحّة التذكية فيها ، ولكن ينبغي أن يكون المدار على الجلود التي تلبس عادة أو صالحة للبس (3).

ثمّ في آخر الأقسام الأربعة أعني المسوخ والحشرات والآدمي والسباع ، قال : وأمّا الكلام في غير الأقسام الأربعة فهو مبني على الأصل المزبور والعموم المذكور. نعم لا إشكال في قبول ما كانت حرمته عارضة فيها كالجلاّل والموطوء

ص: 186


1- وسائل الشيعة 4 : 352 / أبواب لباس المصلّي ب 5 ح 1.
2- جواهر الكلام 36 : 196.
3- جواهر الكلام 36 : 198.

للاستصحاب ، وأمّا غيره فقد عرفت أنّ الأصل عدم التذكية إلاّما يندرج منها في الصحيح المزبور ، واللّه العالم (1). ولكنّه قدس سره جزم بعدم قبول الحشرات ذوات النفس للتذكية ، فقال : وفاقاً للأكثر بل المشهور ، للأصل المزبور السالم عن معارضة الصحيح ونحوه ، بعد انسباق غير ذلك من الجلود فيه وإن كان بلفظ الجمع ، فلا أقل من الشكّ ، وقد عرفت أنّ الأصل عدم التذكية ، واللّه العالم (2) انتهى كلامه قدس سره.

قلت : ويمكن التأمّل في دعوى الانسباق من الجلود في الصحيح المذكور إلى جلود غير الحشرات مع كونه بلفظ الجمع المحلّى باللام الظاهر في العموم ، مضافاً إلى إضافة لفظ « جميع » إليه الموجب لكونه من أعلى درجات الظهور في العموم ، إذ ليس في قبال ذلك إلاّدعوى أنّ المتعارف من لبس الجلود هو غير جلود الحشرات.

وفيه تأمّل ، سيّما بعد ملاحظة أنّ من جملة الجلود المتعارف لبسها ما يسمّى في زماننا باسم الخز أو باسم آخر ، وهو جلود صغيرة يضمّ بعضها إلى بعض ووبرها في غاية اللطافة ، وعلى الظاهر أنّه جلد بعض الحشرات في بعض البلاد مثل الفار في بلادنا. والحاصل : أنّ دعوى الانصراف قابلة للمنع ، فتأمّل.

نعم ، إنّ تمامية الاستدلال بصحيحة علي بن يقطين يتوقّف على ثبوت حرمة لبس جلد الميتة مع قطع النظر عن الصلاة فيه ، وأنّ الصحيحة إنّما تتعرّض لجواز لبس الجلود ، من دون تعرّض لجواز الصلاة فيها ، إذ لو كانت متعرّضة لذلك لكانت معارضة لأخبار المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما أنّا لو قلنا

ص: 187


1- جواهر الكلام 36 : 201.
2- جواهر الكلام 36 : 199.

بجواز لبس جلد الميتة إذا لم يكن في حال الصلاة ولم يستلزم مباشرته بالرطوبة ، لم يكن الاستدلال بها حينئذ تامّاً.

ثمّ إنّ نظير هذه الصحيحة صحيحة الريّان بن الصلت ، قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن لبس فراء والسمور والسنجاب والحواصل (1) وما أشبهها والمناطق والكيمخت والمحشو بالقز والخفاف من أصناف الجلود ، فقال عليه السلام : لا بأس بهذا كلّه إلاّبالثعالب » (2). لكن لعلّ استثناء الثعالب كاشف عن أنّ المنظور إليه هو الصلاة ، إلاّ أن تكون في البين خصوصية تقتضي استثناء الثعالب من جواز مجرّد اللبس ، ولعلّها هي الكراهة.

وعلى كلّ حال ، فالصحيحة المزبورة كافية ، لكن لابدّ من إخراج ما لم تقع عليه التذكية أعني الذبح ، وإلاّ عاد الإشكال في الميتة ، وبعد إخراج ذلك منها يكون العموم المذكور دالاً على قبول كلّ حيوان للتذكية حتّى المسوخ ، ولا يكون التمسّك به في شموله للمسوخ مثلاً من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، بل هو من قبيل التخصيص بالمنفصل مع كون الشبهة مفهومية ، للشكّ في شمول مفهوم الميتة الخارجة عن هذا العموم للمسوخ المذبوح ، لأنّ القدر المتيقّن من الميتة هو الميتة العرفية ، وهو ما مات حتف أنفه.

ص: 188


1- قال في المجمع : الحواصل جمع حوصل ، وهو طير كبير له حوصلة عظيمة يتّخذ منها الفرو. قيل : وهذا الطائر يكون بمصر كثيراً ، وهو صنفان أبيض وأسود ، وهو كريه الرائحة لا يكاد يستعمل ، والأبيض أجوده ، وحرارته قليلة ورطوبته كثيرة ، وهو قليل البقاء ، كذا في حياة الحيوان [ منه قدس سره راجع مجمع البحرين 5 : 350 مادّة حصل ].
2- وسائل الشيعة 4 : 352 - 353 / أبواب لباس المصلّي ب 5 ح 2.

وكذا لو كان التصرّف فيه بالتقييد بالتذكية لا من باب إخراج الميتة ، بل من باب التقييد بالدليل المنفصل ولو كان ذلك المقيد هو مثل موثّقة سماعة ، قال : « سألته عن جلود السباع ينتفع بها ، قال عليه السلام : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده ، أمّا الميتة فلا » (1) بدعوى أنّ منطوقها حاكم بأنّ التذكية التي هي في مورد هذه الموثّقة عبارة عن الرمي والتسمية شرط وقيد في جواز الانتفاع المعبّر عنه في الصحيحة باللبس ، فإنّه يكون الحاصل حينئذ أنّه يجوز لبس جلد كلّ حيوان إذا كان مذكّى ، وبعد ذلك يكون من قبيل الاطلاق في التذكية ، وسيأتي التمسّك به للعموم لكلّ حيوان ، وحاصله أنّ القيد وهو التذكية لو كان المراد به هو غير ما يعرفه العرف من الذبح لبيّنه الشارع ، ولمّا لم يبيّن دلّ على الاكتفاء بالتذكية العرفية.

لا يقال : إنّ الشبهة ليست مفهومية ، بل هي مصداقية من جهة الشكّ في القابلية ، إذ لا إشكال في أنّ المذبوح القابل للتذكية ليس بميتة ، وغير القابل لها لا يكون إلاّميتة ، فإذا ذبح حيوان وشكّ في قابليته للتذكية كانت الشبهة مصداقية ، لأنّ الميزان فيها هو جهالة ذلك الشخص وعدم العلم بحاله من حيث الواجدية للقابلية وعدمها ، مع فرض عدم الجهالة في المفاهيم الكلّية وأحكامها ، أعني كون الميتة ما مات حتف أنفه ، أو ذبح ولم يكن قابلاً للتذكية.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّه ليست القابلية من الصفات اللاحقة لذات الحيوان على وجه يكون بعض الحيوان واجداً لتلك الصفة فيؤثّر فيه الذبح ، وبعضه فاقداً لتلك الصفة فلا يؤثّر فيه الذبح ويكون ميتة ، بل ليس ما يسمّى في لسان الفقهاء بالقابلية إلاّثبوت الدليل الشرعي القائم على أنّ مثل الغنم تطهر بالذبح وبه يحلّ أكل لحمها ، فإذا شككنا في ذلك في بعض الحيوانات فهو إنّما يكون من قبيل

ص: 189


1- وسائل الشيعة 24 : 185 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 34 ح 4.

الشكّ في الحكم الشرعي على نحو الشبهة الحكمية الصرفة.

وما أشبه هذه الدعوى هنا - أعني دخول القابلية في موضوع الحكم بالتذكية - بدعوى دخول وصف الصحّة في متعلّق الأمر على القول بالأعمّ ، بحجّة أنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، وكما أجبنا هناك بأنّ الشارع وإن لم يأمر بالفاسد ، إلاّ أنّ وصف الصحّة وعدم الفساد يحصلان بتعلّق أمر بالصلاة الصالحة للانطباق على الواجد والفاقد ، فيكون كلّ منهما صحيحاً ، فكذلك الحال فيما نحن فيه ، فإنّ القابلية لا تكون قيداً ، بل هي حاصلة من تطبيق الحكم على المورد.

نعم ، ربما كانت الشبهة موضوعية لتردّده بين حيوانين معلومي الحكم لأجل ظلمة مثلاً ونحوها ، فتكون الشبهة مصداقية بالنسبة إلى عنوان الميتة ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه الذي هو على نحو الشبهة الحكمية ، فإنّه على تقدير حكم الشارع على هذا النوع من الحيوان بأنّ الذبح لا يؤثّر فيه الطهارة ، لا يكون إلاّميتة بجعل الشارع ، فتكون الميتة حينئذ هي الأعمّ ممّا مات حتف أنفه ، أو كان قد ذبح ولم يؤثّر الذبح في طهارته ، بخلاف ما لو كان الشارع قد حكم بأنّ الذبح مؤثّر فيه فلا يكو ن مشمولاً للميتة ، بل تكون الميتة مختصّة بما مات حتف أنفه.

وحينئذ فلو قال الشارع : يجوز لبس الجلد من جميع الحيوانات ، كان ذلك الحكم شاملاً بعمومه للميتة وغيره ، ثمّ لو قال بعد ذلك : لا يجوز لبس الجلد من الميتة ، كان القدر المتيقّن من الميتة الخارجة من ذلك العموم هو ما مات حتف أنفه ، ويكون ما عداه ممّا علم بأنّ الشارع قد حكم بأنّه يطهر بالذبح وما شكّ فيه في ذلك كلّه داخلاً تحت عموم جواز لبس جلده ، ويكون الحكم بجواز لبس جلده كاشفاً عن كونه قابلاً لذلك.

وهكذا الحال لو قلنا بأنّ النجس خارج من ذلك ، للشكّ حينئذ في حكم

ص: 190

الشارع على ذلك الجلد المأخوذ من ذلك الحيوان بعد الذبح بأنّه نجس ، فيكون الحيوان المشكوك باقياً تحت ذلك ، لا لأجل قاعدة الطهارة ، بل لأجل أنّه لم يخرج من ذلك العموم إلاّما حكم الشارع عليه بأنّه نجس لكونه ميتة ، والقدر المتيقّن منه ما مات حتف أنفه.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا كون القابلية من الصفات الواقعية للحيوان لتكون الشبهة بذلك مصداقية ، لم يمكن التمسّك بالعموم المذكور. ودعوى كون ذلك ممّا يمكن للشارع أن يتصرّف فيه ويحكم بأنّه ليس بميتة ، فيكون ذلك العموم كاشفاً عن حكم الشارع بأنّه ليس بميتة أو بأنّه قابل للتذكية ، ممنوع. أمّا الأوّل فلأنّه لا يمكن الحكم الشرعي بأنّه ليس بميتة من دون التصرّف في القابلية. وأمّا الثاني ، فلأنّ القابلية بعد كونها من الصفات الواقعية لا يتأتّى فيها التصرّف الشرعي.

وبالجملة : ليس التصرّف الشرعي في هذا المقام إلاّعبارة عن حكم الشارع بأنّ هذا الحيوان يطهر بالذبح وذلك الحيوان لا يطهر به ، وعن الأوّل ينتزع المذكّى وعن الثاني ينتزع الميتة. وإن شئت فسمّ هذا الانتزاع بالقابلية وعدم القابلية ، فلا مشاحة في الاصطلاح بعد وضوح أصل المطلب ، فتأمّل. هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذا العموم - أعني عموم قوله : « وجميع الجلود » (1) - غير نافع فإنّه بعد تخصيصه بالميتة لا يمكننا التمسّك فيما نحن فيه به ، لا لأجل كون الشبهة مصداقية ، لما عرفت من كونها مفهومية بل حكمية ، بل لأجل أنّ الشكّ في أنّ هذا الحيوان هل حكم الشارع عليه بأنّه يطهر بالذبح يوجب الحكم

ص: 191


1- المذكور في صحيح علي بن يقطين المتقدّم في صفحة : 186.

عليه بأنّ الشارع لم يحكم عليه بذلك ، وهو معنى أصالة عدم التذكية ، وذلك يدرجه في الميتة الخارجة عن عموم الجلود ، وما ذلك إلاّنظير ما لو قال : توضّأ بالماء ، ثمّ دلّ الدليل من الخارج على اعتبار الطهارة في الماء قيداً أو خروج النجس عنه تخصيصاً ، فلو كان لنا ماء متغيّر بالنجاسة وزال تغيّره ، وقلنا بأنّ المرجع فيه هو استصحاب النجاسة ، لكان هذا الأصل مدرجاً له في الخارج عن عموم توضّأ بالماء أعني النجس ، أو كان موجباً لخروجه عن قيد الموضوع أعني الطهارة ، ولأجل ذلك نحكم بأنّ الجلد نجس ، وأنّه لا يجوز لبسه فيما لو كان الشكّ في صحّة التذكية من ناحية أُخرى ، كأن يشكّ في اعتبار بلوغ الذابح وقد ذبحه غير البالغ ، فإنّ أصالة عدم التذكية تدرجه فيما هو ميتة بحكم الشارع ، وتخرجه عن عموم قوله عليه السلام : « وجميع الجلود ».

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو سلّمنا كون الشبهة فيما نحن فيه شبهة مصداقية ، لكانت أصالة عدم التذكية حاكمة باندراج مورد الشكّ في القابلية في عنوان الخاصّ وهو الميتة ، كما أنّها تدرجه فيه لو كان الشكّ في التذكية موضوعياً صرفاً ، بأن علمنا بأنّ هذا الجلد مأخوذ من قابل التذكية أعني الغنم مثلاً ، ولكن شككنا في وقوع التذكية عليه. أمّا ما أُفيد من توجيه التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في القابلية فهو لا يخلو عن تأمّل ، كما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في قضائه (1).

نعم ، لو كان لنا عموم يدلّ على دخول التذكية على كلّ حيوان إلاّما خرج لكان محصّله هو أنّ كلّ حيوان قد حكم الشارع عليه بأنّه يطهر بالتذكية ، فما علم خروجه مثل الكلب والخنزير والإنسان يحكم بخروجه ، وما شكّ في خروجه مثل المسوخ يبقى داخلاً تحت العموم المذكور ، وأصالة عدم الحكم بالطهارة

ص: 192


1- كتاب القضاء : 107.

عند الذبح لا تجري فيه في قبال العموم ، أعني عموم الحكم بالطهارة عند الذبح لكلّ حيوان. وهذا العموم أو الاطلاق يمكن تصيّده من قوله عليه السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » كما يمكن تصيّده من إطلاقات أدلّة الذبح وفري الأوداج أو قطع الحلقوم ونحو ذلك.

والحاصل : أنّ النافع لنا في هذا المقام هو العموم أو الاطلاق الوارد في نفس هذا المعنى ، أعني كون كلّ حيوان تدخله التذكية ، ويكفي في هذا العموم قوله : « أوَ ليس المذكّى ما ذكّي بالحديد »؟ وتقرير الإمام عليه السلام لذلك بقوله : « نعم » أمّا مثل عموم جواز لبس جميع الجلود أو نحو ذلك من الأحكام التي خرج منها عنوان الميتة أو عنوان ما لم يذكّ فهي غير نافعة ، لأنّ أصالة عدم التذكية تدرجه في الخارج منها ، أمّا بناءً على كون التذكية اسماً للمسبّب فواضح ، وأمّا بناءً على كونها اسماً للسبب بمعنى ما جعله الشارع مؤثّراً في الطهارة فكذلك أيضاً ، للشكّ في أنّ الشارع قد جعل ذبح هذا النوع من الحيوان تذكية وتطهيراً له ، والأصل عدمه.

وبالجملة : لا ريب في أنّه مع قطع النظر عن العمومات والاطلاقات اللفظية يكون المرجع في هذا الحكم الشرعي - وهو كون الذبح لهذا الحيوان مطهّراً له - أصالة العدم ، بعد فرض كون خروج الروح منه موجباً لنجاسته ، بل لحرمة أكله أيضاً ، الذي لا يقف في قباله إلاّحكم الشارع بأنّه لو خرجت روحه بالذبح المخصوص لكان ذلك مطهّراً له ومسوّغاً لأكله ، وإذا شكّ في هذا الحكم الشرعي فالأصل عدمه ، ولا يقف في قبال هذا الأصل ولا يرفع اليد عنه إلاّبدليل خاصّ يدلّ على الحكم المذكور في هذا النوع الخاص من الحيوان ، أو بدليل عام أو مطلق يدلّ على أنّ كلّ حيوان يطهر بالذبح المذكور ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 193

وأمّا ما أفاده فيما يتعلّق بموثّقة ابن بكير من أنّه ظاهر في أنّ الذبح تذكية لكلّ حيوان ، وكذا لو كانت الرواية « الذبح » بناءً على أنّ المراد منه : ذبح أو لم يذبح الخ ، فكأنّه يشير إلى أنّ المراد من قوله عليه السلام : « ذكّاه الذبح أو لم يذكّه » هو أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء ذكّي أو لم يذكّ ، فيكون فيه إشعار بقبول كلّ حيوان للتذكية. وإنّما حمله على هذا المعنى في قبال ما يمكن أن يقال من أنّه إشارة إلى أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء ذكّاه الذبح أو لم يذكّه ، يعني أنّه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء كان الذبح مذكياً له أو لم يكن الذبح مذكياً له ، وحينئذ يكون دالاً على أنّ بعض الحيوانات لا يكون الذبح مذكياً لها.

لا يقال : بناءً على هذا المعنى يمكن حمل ما لم يكن الذبح مذكياً له على نجس العين مثل الكلب ، فلا دلالة له على أنّ بعض الحيوانات الطاهرة لا يكون الذبح مذكياً لها.

لأنّا نقول : إنّ نجس العين خارج عمّا سيقت له هذه الرواية من مانعية غير المأكول ، فلا تشمل نجس العين ، لكون عدم جواز الصلاة فيه مفروغاً عنه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المفروغية عن عدم جواز الصلاة فيه إنّما هي فيما لو كان قابلاً للتستّر به ، دون مثل وقوع شعره على ثوب المصلّي ، فتأمّل.

وعلى أيّ حال نقول : إنّ ما أفاده في الجواهر من التمسّك بهذه الموثّقة على كون كلّ حيوان قابلاً للتذكية ، مبني على ما عرفت من دعوى كون الجملة مسوقة لبيان أنّه لا فرق بين وجود الذبح المحصّل للتذكية وعدم وجوده ، في عدم جواز الصلاة في شيء من ذلك الحيوان.

ويمكن أن يقال : إنّ الذكاة إمّا أن نقول إنّها اسم للمسبّب الحاصل من فعل الذابح مع باقي الشرائط ، وإمّا أن نقول إنّها اسم للسبب ، سواء جعلنا القابلية شرطاً

ص: 194

خارجاً أو جعلناه جزءاً منها. وعلى الأوّل - أعني كونها اسماً للمسبّب - يكون الوجه في نسبة التذكية إلى المكلّف في إحدى النسختين - أعني قوله عليه السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » - هو إيجاد سببها ، ليكون نظير قولك طهّر الغاسل الثوب بغسله له ، بناءً على كون الطهارة اسماً للمسبّب الحاصل من الغسل ، ويكون الوجه في نسبته إلى « الذبح » في النسخة الأُخرى هو كونه سبباً له. وعلى أيّ حال ، يكون الحاصل هو كون الذبح سبباً للتذكية.

وحينئذ يقع الكلام في مفاد هذه الجملة الشريفة الواقعة في الرواية ، وهي قوله عليه السلام : « ذكّاه الذابح أو لم يذكّه » أو « ذكّاه الذبح » على النسخة الأُخرى ، وهل يكون المنظور إليه في هذه الجملة هو فرض وجود الذبح ، وأنّه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء كان ذلك الذبح مؤثّراً في التذكية ومحصّلاً للذكاة أو لم يكن محصّلاً لها ومؤثّراً فيها ، فيدلّ على أنّ بعض الحيوان غير قابل للتذكية ، بحيث إنّ الذبح لا يكون محصّلاً لها ، فتكون الجملة حينئذ دالّة على ضدّ ما رامه صاحب الجواهر قدس سره ، أو أنّ المنظور إليه في هذه الجملة هو الحكم بالمساواة بين وجود الذبح الذي تكون سببيته للتذكية مفروغاً عنها ، وبين عدم وجوده في أنّه لا تجوز الصلاة فيه على كلّ من الصورتين من وجود الذبح المذكور وعدمه ، فتكون دالّة على أنّ الذبح الذي كانت سببيته للتذكية مفروغاً عنها لا فرق بين وجوده وعدمه في الحكم المذكور ، أعني عدم جواز الصلاة فيه ، ففيها دلالة على أنّ كلّ ذبح محصّل للتذكية ، فيكون كلّ حيوان قابلاً لها ، فتدلّ على ما رامه قدس سره ، من دون فرق في ذلك بين قراءة « الذابح » أو قراءة « الذبح » ، إذ المراد من الذابح إنّما هو باعتبار ما يصدر منه أعني الذبح ، فهو نظير قولك : قتله الضارب أو لم يقتله ، في أنّه عين قولك : قتله الضرب أو لم يقتله. ولا يبعد ظهور الجملة في المعنى الثاني ، لأنّ

ص: 195

المقصود هو التسوية بين التذكية وعدمها ، لا التسوية بين كون الذبح محصّلاً للتذكية أو كونه غير محصّل لها.

والحاصل : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مثل الوبر والصوف ممّا لا يؤكل لحمه موجب لبطلان الصلاة ، وأنّ بطلانها به لا يتوقّف على التذكية ، بل تبطل به الصلاة وإن أُخذ من الحي منها ، وحينئذ يكون المراد هو التسوية في بطلان الصلاة بين وجود الذبح وعدمه ، سواء أُخذ من الحي أو أُخذ ممّا مات حتف أنفه ، وقد عبّر الإمام عليه السلام عن الصورة الأُولى وهي وجود الذبح بقوله : « ذكّاه الذابح » وهو واضح ، وعلى نسخة « الذبح » يكون المتحصّل هو التسوية بين أن يكون قد ذبح فصار ذكياً وأن لا يكون قد ذبح أصلاً ، وهذا المعنى - أعني كون المدار على نفس الصوف وإن أُخذ من الحي - وإن كان موجوداً فيما يؤكل لحمه ، إلاّ أنّه إنّما اعتبر فيه التذكية بقوله (1) : « إذا علمت أنّه ذكّي قد ذكّاه الذابح » ، لأجل النظر في ذلك إلى ما يعتبر فيه التذكية كالجلود ، فلاحظ وتأمّل.

ولكنّه مع ذلك فللتوقّف في ذلك والتأمّل فيه مجال ، فإنّا لو أخذناها بالمعنى الثاني لأمكن القول بعدم دلالتها على مرامه قدس سره ، بأن يكون مفادها أنّه لا تجوز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، سواء تحقّق الذبح المحصّل للتذكية بأن كان ممّا يقبل التذكية ، أو لم يتحقّق ذلك الذبح المحصّل للتذكية بأن لم يذبح أصلاً ، أو ذبح ولكن كان غير قابل للتذكية ، فيكون قوله عليه السلام : « أو لم يذكّه » شاملاً للأمرين ، أعني عدم الذبح أصلاً والذبح لكن مع عدم القابلية ، لأنّ المركّب الذي هو الذبح المحصّل للتذكية ينتفي بانتفاء محصّليته للتذكية مع تحقّق نفسه ، كما ينتفي بانتفاء نفسه ، لكن قد عرفت الاشارة إلى جوابه ، من أنّ هذه الجملة بعد فرض كونها

ص: 196


1- في موثّقة ابن بكير ، وقد تقدّم استخراجها في صفحة : 185.

مسوقة للتسوية بين الوجود والعدم ، لا تقال في مثل المقام إلاّبعد فرض المفروغية عن كون الذبح سبباً محصّلاً ، فإنّ مفادها حينئذ يكون أنّ هذا الذبح الذي هو سبب للتذكية وأنّ محصّليته لها أمر مفروغ عنه ، لا فرق بين وجوده وعدمه ، هذا كلّه فيما لو قلنا بأنّ التذكية تكون اسماً للمسبّب.

وأمّا لو قلنا بأنّها اسم لنفس السبب أعني فعل الذابح بشرائطه ، فالظاهر تعيّن النسخة الأُولى حينئذ ، إذ لا يمكن نسبة التذكية بهذا المعنى إلى نفس الذبح ، لأنّها حينئذ عين الذبح مع الشرائط ، فلا وجه لنسبتها إليه ، بل إنّما يصحّ نسبتها إلى المكلّف ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة فيه ، سواء ذبحه الذابح أو لم يذبحه ، فتكون دالّة على ما رامه صاحب الجواهر قدس سره.

ويمكن أن يقال : إنّا لا نحتاج إلى تمامية العموم المذكور في الصحيحة والموثّقة ، بل يكفي لما ندّعيه من قبول كلّ حيوان للتذكية عدا ما استثني إطلاقات أدلّة التذكية وعدم الدليل على اشتراط قابلية المحل ، سواء أخذناه شرطاً في نفس التذكية وقلنا إنّها عبارة عن الذبح ، أو أخذناه جزءاً مؤثّراً لتكون التذكية عبارة عن الكيفية الحاصلة من تلك الأفعال الجامعة للشرائط ، وليس عدم القابلية إلاّعبارة عمّا يؤخذ ممّا دلّ على أنّ الحيوان الفلاني لا يطهر أو لا يحلّ أكله بالذبح ، وذلك مختصّ بخصوص نجس العين ، ولم يقم دليل على ذلك في غيره ، فيبقى الجميع داخلاً في إطلاقات التذكية ، والكثير من الاطلاقات وإن كان وارداً في حلّية الأكل ، إلاّ أنّ جملة منها وارد في غير ذلك ، مثل قوله في رواية ابن أبي حمزة ، قال : « سألت أبا عبد اللّه وأبا الحسن عليهما السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها ، فقال عليه السلام : لا تصلّ فيها إلاّما كان منه ذكياً ، قال : قلت : أوَ ليس الذكي ما ذكّي بالحديد؟ قال عليه السلام : نعم ، إذا كان ممّا يؤكل لحمه. قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم ،

ص: 197

فقال عليه السلام : لا بأس بالسنجاب فإنّه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو ممّا نهى عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب » (1).

فإنّ قوله عليه السلام : « نعم » تقرير لما ذكره السائل ، وهو أنّ الذكي ما ذكي بالحديد ، لكنّه لمّا كان شاملاً لما لا يؤكل لحمه ، قيّده الإمام عليه السلام في المقام - الذي هو جواز الصلاة - بقوله عليه السلام : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه ». فليس هو قيداً للتذكية ليكون دليلاً على انحصارها فيما يؤكل لحمه ، بل هو قيد لجواز الصلاة ، ولا داعي إلى إرجاعه إلى ما تقدّم ليكون السؤال وجوابه بقوله عليه السلام : « نعم » جملة معترضة في أثناء كلامه عليه السلام ، ويكون قوله : « إذا كان » راجعاً إلى قوله عليه السلام : « إلاّما كان ذكياً » كما أفاده شيخنا قدس سره في مسألة اللباس المشكوك (2) ، بل هو قيد لقوله : « نعم » باعتبار السؤال المذكور ، لأنّ حاصل السؤال هو أنّ الذكي ما ذكي بالحديد ، فيجوز الصلاة في جميع أقسامه ، فالإمام عليه السلام صدّقه في ذلك ، وقيّده بقوله : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه ». أمّا كون مفاد ذلك هو الشرطية لا المانعية فذلك أمر آخر لا دخل له بما نحن فيه ، وإن أمكننا الذبّ عن المانعية بأنّ قوله عليه السلام : « إذا كان ممّا يؤكل لحمه » تسامح منشؤه اعتبار عدم كونه ممّا لا يؤكل لحمه.

وعلى كلّ حال ، يستفاد من هذه الرواية سؤالاً وجواباً ، أنّ كلّ ما ذكي بالحديد فهو ذكي ، فيكون من قبيل العموم [ الدال ] على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية ، فلا يكون من الاطلاقات. وهذا العموم ونحوه كافٍ في الحكم بأنّ كلّ

ص: 198


1- وسائل الشيعة 4 : 348 / أبواب لباس المصلّي ب 3 ح 3 ، وفيه : « فقال عليه السلام : بلى إذا كان ... ».
2- رسالة الصلاة في المشكوك : 144 - 145.

حيوان قابل للتذكية. نعم خرج من ذلك نجس العين ، كما أنّه قد خرج منه الإنسان ، أمّا المسوخ فلا دليل على خروجها ، إذ لم تشتمل أخبارها إلاّعلى مجرّد التعداد ، أو بضمّ الحكم بعدم حلّية الأكل ، وذلك أجنبي عن قبوله التذكية من حيث الطهارة. وأمّا السباع فمع عدم ورود ما يدلّ على عدم قبولها للتذكية ، فقد ورد ما يدلّ على قبولها لها ، مثل ما تضمّنه موثّقة سماعة « سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال عليه السلام : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده » (1).

وأمّا الحشرات ممّا هو من قبيل ذي النفس ، مثل الفار والجرذ وابن عرس واليربوع ونحوها ، فلم يرد فيها ما يدلّ على عدم القبول للتذكية ، فيكون العموم فيها هو المحكّم. وقد ذكر في الجواهر (2) الضب. وكونه من ذي النفس غير معلوم ، على أنّ الذي يظهر منه قدس سره في كتاب الطهارة (3) أنّه ليس من ذي النفس. وينبغي مراجعة ما حرّرناه في رسالة عملناها في حكم بيع جلده ، كما ينبغي مراجعة ما حرّرناه في شرائط التذكية من فري الأوداج وشرحها وبيان الشرائط الأُخر مثل الاستقبال والتسمية (4).

ثمّ إنّ التمسّك باطلاقات التذكية واضح على القول بكونها اسماً للسبب ، وكذلك على القول بكونها اسماً للمسبّب ، فإنّه يكون نظير التمسّك باطلاق المعاملة كالبيع مثلاً فيما لو شكّ في اعتبار شيء فيه ، بناءً على كونها أسماء

ص: 199


1- وسائل الشيعة 24 : 185 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 34 ح 4.
2- جواهر الكلام 36 : 199.
3- جواهر الكلام 5 : 300.
4- مخطوطان ، لم يطبعا بعد.

للمسبّبات.

ويمكن أن يقال : إنّ من جملة إطلاقات التذكية لكلّ حيوان قوله في حديث البرقي فيما نقله في لباس المصلّي في الوافي (1) عن التهذيب (2) قال عبد اللّه : وحدّثني علي بن أبي حمزة « أنّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا عنده - عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه ، قال : نعم ، فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت (3) فقال عليه السلام : وما الكيمخت؟ فقال : جلود دواب ، منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة ، فقال عليه السلام : ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه » (4) لكن وروده في الصلاة يشعر بأنّه لابدّ أن يكون ممّا يؤكل لحمه ، ومع ذلك فلا يخلو عن إشعار بالعموم ، إذ أقصى ما في البين هو كون الرواية مخصّصة بما لا يؤكل لحمه ، من جهة الأدلّة الدالّة على عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، وهذا لا ينافي ما يستفاد من

ص: 200


1- الوافي 7 : 420 / 6243.
2- التهذيب 2 : 368 / 1530.
3- قال في المجمع [ 2 : 441 ] في مادّة كمخ : وفي الحديث « لا بأس بتقليد السيف في الصلاة فيه الغِراء والكيمخت » بالفتح فالسكون. وفسّر بجلد الميتة المملوح ، وقيل : هو الصاغري المشهور ، انتهى. وكأنّه اجتهاد في قبال ما فسّر به في هذه الرواية. وقال في المجمع [ 1 : 315 ] في مادّة غرا : وفي الحديث ذكر الغِراء والكيمخت. الغراء ككتاب شيء يتّخذ من أطراف الجلود يلصق به ، وربما يعمل من السمك ، انتهى. وفي الوافي [ 7 : 417 / ذيل ح 6234 ] الغراء - بكسر الغين المعجمة والراء المهملة والمد - ما يلصق به ويتّخذ من الجلود والسمك ، انتهى. ذكر ذلك في بيان قوله : عن تقليد السيف في الصلاة فيه الغِراء والكيمخت ، فقال عليه السلام : لا بأس ما لم يعلم أنّه ميتة [ منه قدس سره ].
4- وسائل الشيعة 3 : 491 / أبواب النجاسات ب 50 ح 4.

سؤال السائل من شمول التذكية لكلّ حيوان في قوله : الكيمخت جلود دواب منه ما يكون ذكياً ( يعني قد ذكّي وذبح ) ومنه ما لم يكن قد ذكّي وهو ما يكون ميتة ، فإنّ الدواب يشمل كلّ دابة ، فتأمّل.

قوله : الأمر الثاني : هل التذكية الموجبة للطهارة والحلّية عبارة عن المعنى المتحصّل من قابلية المحل والأُمور الخمسة ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الترديد بين الوجهين المذكورين مبني على أنّ المراد من التذكية والذكاة ونحوهما ممّا يشتقّ من هذه المادّة هو معنى غير الطهارة ، ليقع الكلام حينئذ في أنّ ذلك المعنى الذي هو محكوم عليه بالطهارة ، هل هو نفس تلك الأفعال مع اشتراط كون المحلّ قابلاً ، أو أنّ ذلك المعنى هو المسبّب والمتولّد عن هذه الأُمور. أمّا بناءً على أنّ المستفاد من هذه المادّة هو نفس الطهارة مثل قولهم : « كلّ يابس ذكي » (2) ، فالمتعيّن هو كون تلك الأفعال من قبيل الأسباب ، وأنّ المسبّب هو ذلك المعنى البسيط الذي هو الذكاة بمعنى الطهارة ، ويكون محصّل الشكّ في القابلية ، سواء كان على نحو الشبهة الموضوعية أو على نحو الشبهة الحكمية ، هو الشكّ في تحقّق الحكم المذكور - أعني الطهارة التي هي معنى الذكاة - عند تحقّق هذه الأُمور.

وهكذا الحال فيما لو شكّ في اعتبار شيء آخر ، مثل كون الذابح بالغاً أو ذكراً مثلاً ، ويكون محصّل أصالة عدم التذكية في جميع ذلك هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، أعني ذلك الحكم الذي هو الطهارة المعبّر عنها بالذكاة ، ومع جريان

ص: 201


1- فوائد الأُصول 3 : 381.
2- وسائل الشيعة 1 : 351 / أبواب أحكام الخلوة ب 31 ح 5.

أصالة عدم جعل الطهارة لا يمكن الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

بل قد يقال : إنّ ما زهقت روحه ولم يحكم عليه بالطهارة هو الميتة ، فيترتّب عليه آثار الميتة ، فلا يمكن الرجوع حينئذ إلى قاعدة الطهارة ، هذا.

ولكن الظاهر أنّ التذكية هي غير الطهارة وإن كان حكمها هو الطهارة ، فإنّ مادّة الذكاة وإن استعملت هي ومشتقّاتها في الطهارة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه تجوّز باعتبار لازم معناها ، وإلاّ فإنّ حقيقة الذكاة ليست إلاّمعنى بسيطاً يتولّد من هذه الأفعال ، أعني ذبح الذابح مع الشرائط ، وذلك المعنى البسيط هو مقارب لمعنى النقاء ونحوه ، فراجع كتب اللغة (1) في هذه المادّة وما يرجع إليها من ذكى الغلام وذكت النار وغير ذلك من موارد استعمال هذه المادّة ، فإنّك تراهم يذكرون لهذه المادّة معاني متعدّدة ، ولكن الظاهر أنّها جميعاً ترجع إلى معنى واحد يمكن أن يعبّر عنه بالنقاء ، غير أنّه في مثل ذكى الغلام يكون عبارة عن نقاء فكره وصفائه عن كدورة الجهل. وهكذا في مثل ذكت النار ، فإنّه عبارة عن خلوصها من كدورة الدخّان أو الرماد ، ولعلّ منه تسمية الشمس ذكاء. وهكذا الحال في الذكاة بمعنى الطهارة.

وفي خصوص تذكية الحيوان إمّا أن نقول : إنّه عبارة عن إيجاد سبب الطهارة ، أو نقول : إنّه عبارة عن إيجاد سبب النقاء ، ويكون الطهارة أو النقاء أمراً اعتبارياً وقد أمضاه الشارع ، غايته أنّه مع اعتبار زيادة بعض الشروط الوجودية والعدمية. وعلى أيّ حال ، لا يكون ذكاة الحيوان إلاّعبارة عن المسبّب. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في :

ص: 202


1- مجمع البحرين 1 : 159 ، المنجد : 236 مادّة « ذكا ».

قوله : وجهان ، لا يخلو ثانيهما عن قوّة ، لقوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1) فإنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم ... الخ (2).

أمّا نسبة التذكية إلى المكلّفين فهو توسّع وتساهل ، باعتبار كون الذكاة مولّدة ومسبّبة عن فعلهم ، فيكون الفعل مصداقاً للتذكية ، نظير ذكّيت النار بالعود ، وطهّرت الثوب بالماء باعتبار ترتّب الطهارة التي هي حكم شرعي على غسله فيه ، وهذا أمر يساعد عليه الذوق.

ثمّ لا يخفى أنّه لو تمّ ما أفاده قدس سره في معنى التذكية وأنّها لا تجري أصالة عدمها عند الشكّ في القابلية ، لم يكن لنا طريق إلى الحكم بعدم تذكية الحشرات من ذوات النفس مثل الجرذان ، إذ لا مستند لنا في ذلك إلاّ أصالة عدم التذكية ، فراجع الجواهر وغيرها في شرح قوله : « القسم الثاني : فيما يقع عليه الذكاة » ، فإنّ صاحب الجواهر استند هناك في موارد الشكّ في القابلية إلى أصالة عدم التذكية ، ويظهر منه البناء على أنّ التذكية اسم للمسبّب (3).

ثمّ لا يخفى أنّه لا ينبغي الريب في أنّ الذكاة ليست من أفعال المكلّفين وإنّما هي ذلك المعنى البسيط الحاصل من أفعالهم ، وأنّ أفعالهم هي عبارة عن التذكية ، فكما لا وجه للقول بأنّ الذكاة من أفعال المكلّفين ، فكذلك لا ينبغي القول بأنّ التذكية هي عبارة عن نفس ذلك المعنى البسيط ، بل إنّما هي من أفعال المكلّفين ، أمّا الأثر الشرعي فإنّما هو مرتّب على ذلك المعنى البسيط ، أعني الذكاة الحاصلة بفعل المكلّفين الذي هو التذكية ، التي هي عبارة عن الذبح مع

ص: 203


1- المائدة 5 : 3.
2- فوائد الأُصول 3 : 382.
3- جواهر الكلام 36 : 193 وما بعدها.

باقي الشرائط. ولكن هذا جارٍ في كلّ سبب ومسبّب كالالقاء والاحتراق ، وذلك لا ينافي صحّة النسبة إلى فاعل السبب.

والخلاصة : هي أنّ سببية فعل المكلّف لما يتسبّب عنه تكون على أنحاء :

الأوّل : أن يكون فعل المكلّف سبباً لأمر تكويني ، وذلك الأمر التكويني يكون موضوعاً لحكم شرعي ، مثل إلقاء الشيء في النار يكون سبباً لاتلافه ، وهذا الاتلاف موضوع لحكم شرعي وهو الضمان.

الثاني : أن يكون فعل المكلّف سبباً للحكم الشرعي ، مثل مس الميت الذي يكون سبباً في وجوب الغسل ، ومثل مس النجس مع الرطوبة يكون سبباً في الحكم بالنجاسة للماس.

الثالث : أن يكون فعل المكلّف آلة في إيجاد أمر عقلائي اعتباري ، وهذا الأمر الاعتباري قد أمضاه الشارع ، كما في عقد البيع مثلاً فإنّه سبب لأمر اعتباري وهو النقل والانتقال ، بمعنى كون البيع آلة في إنشاء ذلك الاعتبار ، وهذا الاعتبار قد أمضاه الشارع.

فالمسبّب في الأوّل هو الاتلاف ، وفي الثاني هو النجاسة ، وفي الثالث هو النقل ، وهذا المسبّب صالح للنسبة إلى المكلّف في الموارد الثلاثة ، فيقال لمن ألقى الشيء في النار إنّه أتلفه ، وباعتبار كون الاتلاف سبباً للحكم الشرعي بالضمان إنّه ضمنه ، ومن هذه الجهة يكون راجعاً إلى النحو الثاني ، ولمن مسّ بيده النجس مع الرطوبة إنّه نجّس يده ، ولمن أوجد عقد البيع على كتابه إنّه نقل كتابه عن ملكه.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ التذكية التي هي فعل المكلّف أعني فري الأوداج بشرائطه ، تارةً نقول إنّها سبب لأمر تكويني وهو النقاء ، وهذا النقاء إذا حصل

ص: 204

بذلك الذبح يكون الحيوان محكوماً بالطهارة والحلّية ، وحينئذ يكون من قبيل القسم الأوّل ، وإن أنكرنا ذلك الأمر التكويني ، وقلنا إنّه ليس في البين إلاّحكم الشارع على ذلك الحيوان الذي وقع عليه ذلك الذبح بالطهارة أو بها مع الحلّية ، تكون التذكية أعني فري الأوداج بالشرائط المذكورة من قبيل القسم الثاني. وعلى أيّ حال يصحّ النسبة إلى المكلّف فيقال لذابح الحيوان بالشرائط المذكورة إنّه نقّاه ، ويقال إنّه طهّره وحلّله ، سواء قلنا إنّ الذكاة اسم للنقاء وحكمه الطهارة والحلّية ، أو قلنا إنّها اسم لنفس ذلك الحكم الشرعي أعني الطهارة والحلّية ، فيصحّ أن يقال لذابح الحيوان إنّه ذكّاه ، أعني أنّه طهّره وحلّله ، أو نقّاه فطهّره وحلّله.

وأمّا القابلية فليست هي إلاّعبارة عمّا ينتزع من حكم الشارع على الحيوان بأنّه طاهر عند التذكية وحلال الأكل كما في الغنم ، أو أنّه طاهر فقط كما في مثل الحيوان المحرّم الأكل كالسباع مثلاً ، مع فرض قيام الدليل على طهارتها بالذبح ، أو أنّه حلال فقط كما في السمك. وبالجملة : ليست القابلية من الشرائط الواقعية التي يشكّ فيها في حدّ نفسها ، بل ليست هي إلاّ أمراً منتزعاً من الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ هذا المعنى البسيط المتولّد من التذكية الذي هو موضوع الطهارة والحل أو أنّه نفس الطهارة ، من الأُمور الحادثة عند زهوق روح الحيوان ومن الحوادث المسبوقة بالعدم ، فعند الشكّ في تحقّقه عند زهوق الروح يحكم بعدمه ، وبذلك يكون الحيوان ميتة ، لأنّه قد زهقت روحه بالوجدان مع فرض عدم التذكية بالأصل ، إذ المفروض أنّ الميتة هو ما مات بلا تذكية ، فلا يكون عدم التذكية وصفاً للحيوان ولا لزهوق روحه بما هو مفاد ليس الناقصة ، كي يتوجّه عليه أنّه لا ينفع فيه عدم التذكية بمفاد ليس التامّة ، أو العدم الثابت في حال الحياة

ص: 205

غير العدم الثابت في حال خروج الروح ، ليكون استصحاب العدم في ذلك من قبيل استصحاب الكلّي الذي قد انعدم فرده وشكّ في قيام فرد آخر مقامه ، كما أُفيد في ذيل استصحاب الكلّي ، لنتكلّف في جوابه بما أفاده شيخنا قدس سره في ذلك المقام (1).

والحاصل : أنّ الميتة عبارة عمّا مات وخرجت روحه مع فرض عدم طروّ ذلك المعنى البسيط عليه أعني الذكاة ، وليس تركّب خروج الروح مع ذلك العدم من قبيل مفاد ليس الناقصة ، بل لا يكون العدم إلاّعبارة عن العدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامة ، وهو ما ذكرناه من كون خروج روحه بالوجدان وعدم طروّ الذكاة عليه بالأصل ، من دون فرق في ذلك بين موارد الشكّ في كونه من قبيل الشكّ في القابلية على نحو الشبهة الحكمية ، كما لو شككنا في قابلية المسوخ أو الحشرات للتذكية ، أو كان الشكّ في القابلية من قبيل الشبهة الموضوعية ، كما لو علمنا بقابلية الغزال للتذكية وعدم قابلية الأرنب لها مثلاً لكونه مسوخاً ، وحدثت ظلمة أوجبت عدم تميّز هذا الحيوان الذي بأيدينا ، وتردّد بين كونه من الغزال أو من الأرنب ، أو كان على نحو الشبهة المفهومية بأن شككنا في أنّ النعامة من المسوخ المفروض كونها لا تقبل التذكية ، أو كان الشكّ في تحقّق الذبح بشرائطه كما لو وجدنا لحماً من الغنم وشككنا في كونه ميتة أو كونه قد طرأه الذبح بشرائطه لتكون الشبهة موضوعية صرفة ، أو كان الشكّ في اعتبار أمر آخر غير ما هو معلوم في التذكية ، مثل كون الذابح بالغاً ، أو كون الذبيحة في حال الذبح نائمة غير قائمة ، إلى غير ذلك من موارد الشكّ في تحقّق الذكاة ، فإنّ المرجع في جميعها هو أصالة عدم ذلك الحادث البسيط ، وبواسطة ذلك الأصل يكون مورد

ص: 206


1- فوائد الأُصول 4 : 430 وما بعدها.

الشكّ محكوماً بكونه ميتة ، بناءً على ما عرفت من كون الميتة هو ما خرجت روحه ولم يوجد له عند الخروج ذلك المعنى البسيط.

نعم ، يمكن في خصوص صورة الشبهة الموضوعية الصرفة الرجوع إلى أصالة عدم تحقّق الذبح بشرائطه ، وحينئذ يتوجّه عليه الإشكال المحرّر في ذلك البحث عن الفاضل التوني ، ونحتاج إلى ما أفاده شيخنا قدس سره (1) في جوابه ، لكنّا في غنىً عن هذا الأصل حتّى في الصورة المزبورة ، أعني الشبهة الموضوعية الصرفة ، بل المرجع فيها ما عرفت من عدم طروّ ذلك المعنى البسيط ، وإن كان منشأ الشكّ في طروّه هو الشكّ في تحقّق سببه ، أعني الذبح بشرائطه ، فتأمّل.

وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ التذكية اسم للسبب ، وأنّها هي الذبح مع باقي الشرائط ، فإنّها حينئذ لا تجري في مورد الشكّ في القابلية ، سواء كان على نحو الشبهة الحكمية ، أو كانت على نحو الشبهة الموضوعية للظلمة الموجبة لتردّد الحيوان الموجود بين كونه غزالاً مثلاً أو أرنباً ، كما أنّها لا تجري أيضاً في مورد الشكّ في اعتبار مثل بلوغ الذابح ونحوه ، وينحصر جريانها في الشبهات الموضوعية الصرفة. ويظهر من الكفاية (2) جريانها في مورد الشكّ في القابلية.

وبين الوجهين وهما كون التذكية عبارة عن السبب وكونها عبارة عن المسبّب فرق آخر ، وهو أنّه لو اعتبرنا في السبب كون الموت مستنداً إليه كانت أصالة عدم التذكية ساقطة حتّى في مورد الشبهة الموضوعية الصرفة ، إذ لا أصل حينئذ لأصالة عدم استناد الموت إلى الذبح ، وكذلك الحال لو شككنا في اعتبار

ص: 207


1- المصدر السابق.
2- كفاية الأُصول : 349.

الاستناد ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّها عبارة عن المسبّب ، وسيأتي (1) توضيح ذلك فيما لو علم الموت والذبح ولم يعلم السابق منهما.

وربما يتوجّه الإشكال على ما ذكرناه من كون التذكية بمعنى المسبّب وهو الطهارة والحلّية لتصحيح إجراء أصالة عدم التذكية عند الشكّ في القابلية بنحو الشبهة الحكمية أو بنحو الشبهة الموضوعية ، بأن يقال : إنّ هذا الأصل أعني أصالة عدم تذكية هذا الحيوان بالمعنى المذكور - أعني الحكم الشرعي بالطهارة والحلّية - لا أصل له ، لأنّ عدم طهارة هذا الحيوان لم يكن ثابتاً له في حال حياته ، فإنّ الثابت له في حال الحياة هو الطهارة لا عدمها. وإن كان المراد أنّه عند ذبحه أو عند زهوق روحه يشكّ في طروّ ذلك الحكم له والأصل عدم طروّه ، فهو معارض بأصالة عدم طروّ النجاسة عليه. والقول بأنّ النجاسة من أحكام الميتة ، وهذا الموضوع وهو الميتة عبارة عن زهوق روحه مع عدم الحكم بالطهارة عليه ، فبأصالة عدم طروّ الطهارة عليه عند زهوق روحه يتنقّح موضوع النجاسة الذي هو الميتة ، ومع تحقّق موضوع النجاسة الذي هو الميتة لا يبقى لنا شكّ في نجاسته ، كي يكون أصل العدم فيها معارضاً لأصالة عدم الطهارة ، لا يخفى ما فيه من أخذ عدم الطهارة في موضوع النجاسة الذي هو الميتة.

فالأولى أن يقال : إنّ المسبّب ليس هو نفس الطهارة ، بل إنّ المسبّب هو ذلك الأمر الواقعي الذي يحدث بالذبح عند اجتماع شرائطه ، ولا يتوقّف ذلك على دعوى كونه عبارة عن النقاء الحسّي ، بل يكفي فيه أن يقال إنّ الحكم على هذا الحيوان بالقابلية وأنّه عند الذبح يطهر ويحلّ أكله ، بخلاف الحيوان غير القابل لذلك ، ليس خالياً من جهة تقتضي ذلك ، وإلاّ لكان الحكم بالقابلية على هذا

ص: 208


1- في الصفحة : 213.

الحيوان دون غيره ترجيحاً بلا مرجّح.

وحينئذ نقول : إنّ تلك الجهة التي أوجبت الحكم عليه بالطهارة وحلّية الأكل ، وإن كانت هي ذاتية للحيوان ، ولا محصّل لأصالة العدم فيها ، إلاّ أنّ تلك الجهة الذاتية لو كانت موجودة في هذا الحيوان يكون الذبح له بشرائطه مؤثّراً في نقائه وخلوصه من كدورة الموت ، بخلاف الحيوان الذي لا تكون هذه الجهة موجودة فيه ، فإنّ ذبحه لا يكون مؤثّراً في نقائه وخلوصه من كدورة الموت ، فكان ذلك النقاء الحاصل بالذبح هو المقتضي للحكم عليه بالطهارة وحلّية الأكل.

وإن شئت فقل : إنّه موضوع الطهارة والحلّية ، ومع الشكّ فيه ولو من جهة الشكّ في القابلية التي هي عبارة عن تلك الجهة الذاتية يكون الأصل عدمه. نعم إنّ ذلك النقاء الناشئ عن تلك الجهة الذاتية ليس محسوساً لنا ، وإنّما استكشفناه من الحكم الشرعي ، ومن إطلاق الذكاة عليه التي هي في اللغة النقاء.

لا يقال : لِمَ لا نقول إنّ تلك الجهة الذاتية هي المنشأ في تفصيل الشارع بالحكم على بعض الحيوانات بالطهارة عند الذبح ، والحكم على بعضها بالنجاسة ولو مع الذبح ، فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّ إدخال الذكاة والتذكية ونحو هذه الألفاظ وتطبيقها على الذبح بشرائطه كاشف عن أنّ هناك شيئاً يحصل عند الذبح يعبّر عنه بالذكاة ، لا أنّه موجود قبل الذبح وتكون الطهارة بعد الذبح مشروطة بذلك الموجود قبل الذبح إذا طرأه الذبح ، فلاحظ.

وفي المقام إشكالات وأبحاث مفصّلة تعرّضنا لها في الدروس الفقهية فيما علّقناه على مباحث أصالة عدم التذكية من مباحث نجاسة الميتة من العروة الوثقى

ص: 209

فراجعها (1). هذا كلّه في تذكية ذي النفس.

وأمّا تذكية غير ذي النفس كالسمك والجراد ، فإن لها تذكية أُخرى ، ففي خبر الاحتجاج « إنّ زنديقاً قال له : السمك ميتة؟ قال عليه السلام : إنّ السمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء ثمّ يترك حتّى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنّه ليس له دم ، وكذلك الجراد » (2) وخبر أبي حفص عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ علياً كان يقول في صيد السمك : إذا أدركتها وهي تضطرب وتضرب بيدها ( بدنها ) وتحرّك ذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها » (3) والحسن كالصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّ علياً عليه السلام قال : السمك والجراد إذا أُخرج من الماء فهو ذكي ، والأرض للجراد مصيدة ، وللسمك قد يكون أيضاً » (4).

وفي الوسائل في باب ذكاة السمك عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال عليه السلام : « الحوت ذكي حيّه وميّته » (5). وعن جعفر بن محمّد عليهما السلام عن أبيه عليه السلام « أنّ علياً عليه السلام كان يقول : الجراد ذكي والحيتان ذكي ، فما مات في البحر فهو ميت » (6). وعنه عليه السلام في آخر « الجراد ذكي كلّه ، والحيتان ذكي كلّه ، وأمّا ما هلك في البحر فلا تأكل » (7) وهذا المتن عن علي عليه السلام متكرّر في هذا الباب وفي الباب الذي بعده. وفي المرسل عن كتاب علي « عمّا أصاب المجوسي من الجراد والسمك أيحلّ أكله؟ قال عليه السلام :

ص: 210


1- مخطوط ولم يطبع بعد.
2- الاحتجاج 2 : 238 ، وسائل الشيعة 24 : 75 / أبواب الذبائح ب 31 ح 8.
3- وسائل الشيعة 24 : 81 / أبواب الذبائح ب 34 ح 2.
4- وسائل الشيعة 24 : 87 / أبواب الذبائح ب 37 ح 3.
5- وسائل الشيعة 24 : 74 / أبواب الذبائح ب 31 ح 5.
6- وسائل الشيعة 24 : 74 / أبواب الذبائح ب 31 ح 6.
7- وسائل الشيعة 24 : 74 / أبواب الذبائح ب 31 ح 7.

صيده ذكاته ، لا بأس به » (1) وورد فيما عاد إلى الماء النهي عن أكله معلّلاً بأنّه مات في الذي فيه حياته (2). وكذلك ورد النهي عن أكل ما نضب عنه الماء وما نبذه الماء (3).

وفي الجواهر في مسألة حل أكل السمك حياً عن ابن أبي يعفور الواردة في الجراد إنّ اللّه تعالى أحلّه وجعل ذكاته موته ، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها (4) وأجاب عنه وعن خبر الاحتجاج بما محصّله عدم وجدانه أحداً عمل بمفادهما من عدم الحل إلاّبالموت ، وقال : بل يمكن القطع بعدم اعتبار الموت حتف الأنف في تذكيته ، وحينئذ فالمذهب الجواز (5).

قلت : والأولى في الجواب عنهما بأنّهما في مقام عدم توقّف الحلّية على الذبح وإخراج الدم ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام : « وذلك أنّه ليس له دم ». وسيأتي إن شاء اللّه تعالى له مزيد توضيح (6).

ثمّ إنّ هذه الأخبار شاهدة بأنّه لا تذكية في السمك والجراد ، وأنّ إطلاق التذكية على صيدهما وأخذهما مسامحة تنزيلية ، باعتبار ترتّب حلّية الأكل على ذلك ، وإلاّ فإنّه كلّه ذكي حياً كان أو ميتاً ، كما قال عليه السلام : « الحوت ذكي حيه وميّته » فإنّه بمعنى طاهر ، ولا ينافيه ترتّب الحرمة عليه لو مات في الماء ، كما لا ينافيه

ص: 211


1- وسائل الشيعة 24 : 77 / أبواب الذبائح ب 32 ح 8.
2- وسائل الشيعة 24 : 79 / أبواب الذبائح ب 33 ح 2.
3- وسائل الشيعة 24 : 82 / أبواب الذبائح ب 34 ح 3.
4- وسائل الشيعة 4 : 359 / أبواب لباس المصلّي ب 8 ح 4 إلاّ أنّها واردة في الخز لا الجراد ، وليس لابن أبي يعفور رواية في الجراد بهذا المضمون.
5- جواهر الكلام 36 : 170 - 171.
6- في الصفحة : 226 - 227.

قوله عليه السلام : « إنّ السمك ذكاته إخراجه من الماء » ، لأنّ الذكاة هنا كناية عمّا يوجب حلّ أكله ، كما في قوله عليه السلام : « صيده ذكاته ». وكأنّه لأجل ذلك لم يعتبر فيها ما يعتبر في الذباحة ولا في الصيد من التسمية ونحوها.

قال في الجواهر : ومن ذلك يظهر لك أنّ تذكية السمك إثبات اليد عليه على أن لا يموت في الماء ، فهو حينئذ كحيازة المباح الذي هو بمعنى الصيد الموافق له ، لا المعنى الذي هو التذكية المخصوصة ، ولعلّه لهذا المعنى أُطلق عليه أنّه ذكي ، بل أُطلق عليه في بعض النصوص اسم الميتة ، كقوله عليه السلام في البحر : « الطهور ماؤه ، الحل ميتته » (1) ، إذ ليست تذكيته كتذكية الحيوان المشتملة على فري الأوداج ونحوها الخ (2). وبنحو ذلك صرّح ابن إدريس (3).

وحينئذ لا يرد النقض على ما ذكرناه من معنى التذكية من المعنى البسيط ، الذي هو مسبّب عن فري الأوداج مع الشرائط المقرّرة ، التي من جملتها قابلية الحيوان للتذكية. ولو سلّمنا أنّ التذكية في السمك والجراد تذكية حقيقية ، لقلنا إنّها أيضاً عبارة عن ذلك المعنى البسيط الذي هو موضوع الحلّية ، غاية الأمر أنّها في تذكية سائر الحيوانات يترتّب عليها الطهارة والحلّية فيما يحلّ أكله ، والطهارة فقط فيما لا يحلّ أكله ، وفي تذكية السمك والجراد يترتّب عليها حلّ الأكل فقط دون الطهارة مع كونها في الجميع بمعنى واحد مسبّب عن أسبابه المختلفة ، وليس هو إلاّذلك الذكاء والنقاء الذي هو ضدّ تلك القذارة الحاصلة بالموت حتف الأنف في سائر الحيوانات ، وبالموت بدون قبض في السمك والجراد ،

ص: 212


1- وسائل الشيعة 1 : 136 / أبواب الماء المطلق ب 2 ح 4.
2- جواهر الكلام 36 : 165.
3- السرائر 3 : 89 - 90.

الموجب لحرمة الأكل في الجميع ، وللنجاسة أيضاً في ذوات النفس.

نعم ، لو قلنا بأنّ ذلك المعنى البسيط في سائر الحيوانات هو نفس الطهارة الشرعية ، ورد النقض بتذكية السمك والجراد ، ولا مخلص لهذا النقض على هذا التقدير إلاّبالالتزام بأنّ حقيقة التذكية هو ما يتحقّق في ذوات النفس ، أمّا التذكية في السمك والجراد فلا يكون إطلاق التذكية عليها إلاّبالمسامحة والتنزيل ، فتأمّل.

تكميل أو استطراد : لو علم بتحقّق الذبح على هذا الحيوان وموته ، وشكّ في أنّ موته كان قبل الذبح ليكون ميتة ، أو كان بالذبح ليكون مذكّى ، فيقال : إنّ استصحاب حياته إلى حين الذبح الذي يترتّب عليه التذكية معارض باستصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت الذي يترتّب عليه كونه ميتة ، لكون محصّل هذا الأصل أنّه مات ولم يقع عليه الذبح فيكون ميتة ، فبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة والحل.

ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ بناءً على كون التذكية عبارة عن السبب ، وأمّا بناءً على ما ذكرناه من كونها عبارة عن المسبّب ، فلا يكون المرجع بعد تعارض الأصلين المزبورين هو قاعدة الحل والطهارة ، بل يكون المرجع هو أصالة عدم تحقّق ذلك المعنى البسيط ، فيحكم بكونه ميتة ، على تأمّل في ذلك ، فإنّ أصالة عدم المسبّب - أعني الطهارة والحلّية - تعارضها أصالة العدم في ضدّه ، أعني أصالة عدم طروّ الحرمة والنجاسة ، وعلى أيّ حال ، أنّا لو قلنا بأنّها اسم للسبب فإنّ أصالة عدم ذلك السبب لا تجري في مثل المقام ممّا علم فيه تحقّق السبب وحصل الشكّ في تقدّم ذلك السبب وتأخّره عن الموت ، وإنّما تجري فيه أصالة عدم تحقّق السبب إلى ما بعد الموت ، وقد عرفت أنّه معارض بأصالة عدم الموت

ص: 213

إلى ما بعد تحقّق ذلك السبب.

وقد يقال : إنّ المعتبر في التذكية أن يكون زهوق روح الحيوان بالذبح على وجه يكون موته مستنداً إليها ، فلا ينفع فيه استصحاب الحياة إلى حين التذكية ، فيكون الجاري في المسألة هو استصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت. ولعلّ في كلمات الجواهر في المسألة الثالثة من خاتمة الذباحة إيماء إلى ذلك ، فراجع (1) وكذلك كلماتهم في اعتبار استقرار الحياة ، بل في رواية حمران ، قال : « سألته عليه السلام عن الذبح ، فقال عليه السلام : إن تردّى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكل ولا تطعم ، فإنّك لا تدري التردّي قتله أو الذبح » (2) لكن صاحب الجواهر في مسألة استقرار الحياة بعد أن ذكر ما تضمّنه صحيح زرارة وهو قوله عليه السلام : « وإن ذبحت فأجدت الذبح ، فوقعت في النار ، أو في الماء ، أو من فوق بيتك ، إذا كنت أجدت الذبح فكل » (3) قال : ولا ينافي ذلك خبر حمران ( وذكر خبر حمران ) بعد أن لم نجد القائل به ممّن يعتدّ بقوله (4).

وكيف كان ، فإنّ ذلك - أعني دعوى اعتبار كون زهوق الروح مستنداً إلى الذبح - لا يتأتّى في تذكية السمك التي هي مجرّد أخذه من الماء حياً (5)[ لا يخفى أنّ هناك حديثين لمحمّد بن مسلم مذكورين في ب 34 وهما ح 3 ، 6 ، والحديث الأوّل صحيح السند والثاني ضعيف ، والمذكور هنا ، صدره نصّ الأوّل وذيله مذكور في الثاني فقط كما يتّضح بالمراجعة ].(6) على وجه

ص: 214


1- جواهر الكلام 36 : 190 - 191.
2- وسائل الشيعة 24 : 26 / أبواب الذبائح ب 13 ح 2 ، ب 3 ح 2.
3- وسائل الشيعة 24 : 26 / أبواب الذبائح ب 13 ح 1.
4- جواهر الكلام 36 : 150.
5- [ وإليك بعض ما روي من أنّ ] صيد السمك أخذه حياً : [ منها : ] المرسل في الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام « إنّ زنديقاً قال له : فالسمك ميتة؟ قال عليه السلام : إنّ السمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء ثمّ يترك حتّى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنّه ليس له دم ، وكذلك الجراد » [ الاحتجاج 2 : 238، وسائل الشيعة 24 : 75 / أبواب الذبائح ب 31 ح 8 ]. دم ، وكذلك الجراد » [ الاحتجاج 2 : 238 ، وسائل الشيعة 24 : 75 / أبواب الذبائح ب 31 ح 8 ]. [ ومنها : ما رواه ] أبو بصير : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن صيد المجوس للسمك حين يضربون بالشبك ولا يسمّون ، وكذلك اليهودي ، فقال عليه السلام : لا بأس ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ب 32 ح 5 ]. [ ومنها : ] المرسل عن كتاب علي : « عمّا أصاب المجوس من الجراد والسمك أيحلّ أكله؟ قال : صيده ذكاته ، لا بأس به » [ مسائل علي بن جعفر عليه السلام : 168 / 279 ، وسائل الشيعة 24 : 77 / أبواب الذبائح ب 32 ح 8 ]. [ ومنها : ما رواه ] الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام أيضاً : « عن الحيتان يصيدها المجوسي ، قال عليه السلام : لا بأس ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ح 11 ]. [ ومنها : ما رواه ] الحلبي عنه أيضاً : « أنّه سئل عن صيد المجوس للحيتان حين يضربون عليها بالشباك ويسمّون بالشرك ، فقال عليه السلام : لا بأس بصيدهم ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ح 9 ]. ولو لم يكن في البين أخذ ، ولكنّها خرجت أو انحسر عنها الماء فماتت ، كانت ميتة إجماعاً ولخبر علي بن جعفر : « سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجُدّ من النهر فماتت ، هل يصلح أكلها؟ فقال عليه السلام : إن أخذتها قبل أن تموت ثمّ ماتت فكلها ، وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها » [ المصدر المتقدّم ب 34 ح 1 ]. وأمّا ما عن الباقر عليه السلام في رواية محمّد بن مسلم : « لا تأكل ما نبذه الماء من الحيتان ، وما نضب عنه الماء ، فذلك المتروك » (
6- ). والموثّق [ المروي في التهذيب 9 : 80 - 81 / 345 ] عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه سئل « عن الذي ينضب عنه الماء من سمك البحر ، قال عليه السلام : لا تأكله » فهما مقيّدان - بما تقدّم من رواية علي بن جعفر عليه السلام - بما إذا لم يأخذه حياً. وبالجملة : لابدّ من أخذه حياً من الماء أو من خارج الماء ، ولا يكفي فيه النظر إليه حياً خارج الماء إلى أن يموت من دون أخذ ، وإن قال به بعضهم استناداً إلى خبر عبد اللّه بن بحر عن رجل عن زرارة « قلت له : السمكة تثب من الماء فتقع على الشط فتضطرب حتّى تموت فقال عليه السلام : كلها » [ وسائل الشيعة 24 : 82 / أبواب الذبائح ب 34 ح 4 ]. قال في الجواهر : وخبر زرارة مع إرساله وإضماره قاصر عن معارضة ما تقدّم من وجوه [ جواهر الكلام 36 : 167 ]. قلت : لعلّ منها أنّه صالح للتقييد بالأخذ. وعلى كلّ حال ، أنّ ما في يد المجوسي يحتمل موته في الماء فيكون حراماً على القولين ، كما أنّه يحتمل موته خارج الماء قبل الأخذ فيكون حراماً على القول المعروف ، وحينئذ يكون أصل عدم إخراجه أو عدم أخذه إلى أن مات قاضياً بأنّه ميتة وأنّه حرام ، وهو معنى أصالة عدم التذكية في السمك. ولكن يعارضه استصحاب حياته إلى أن أُخذ ، فيكون قد أُخذ وهو حي فيكون حلالاً ، ولو اعتبرنا موته تحت اليد لقلنا باستصحاب كونه حياً تحت اليد إلى أن مات في حال كونه تحت اليد ، وبعد التساقط يكون المرجع قاعدة الحل. وربما يقال - كما يستفاد من الجواهر [ 36 : 256 ] - بعدم جريان استصحاب الحياة لكونه مثبتاً. وفيه تأمّل كما عرفته. فالأولى أن يقال : إنّ الوجه في سقوطه تعبّدي مستفاد من الأخبار الواردة في المقام ، مثل قوله عليه السلام « في صيد المجوسي للسمك آكله؟ قال عليه السلام : ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » ومثله صحيح ابن مسلم عنه عليه السلام - أيضاً [ وسائل الشيعة 24 : 75 - 76 / أبواب الذبائح ب 32 ح 1 ، 2 ] وخبر عيسى بن عبد اللّه قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن صيد المجوس ، قال عليه السلام : لا بأس إذا أعطوكه حيّاً ، والسمك أيضاً ، وإلاّ فلا تجوز شهادتهم إلاّ أن تشهده » [ المصدر المتقدّم : ح 3 ]. ويستفاد من هذه الأخبار إسقاط استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فيكون السمك في يد الكافر محكوماً بعدم التذكية ، وأنّ شهادة الكافر بالتذكية لا تقبل حتّى في صورة كونه ذا يد ، فينبغي أن يستثنى ذلك من حجّية إخبار ذي اليد ، هذا. ولكن ذلك كلّه بناءً على كون التذكية اسماً للسبب ، وإمّا بناءً على أنّها اسم للمسبّب أعني ذلك النقاء الموجب للحلّية أو الحلّية نفسها ، فلا حاجة إلى دعوى دلالة هذه الأخبار على إسقاط استصحاب الحياة ، بل إنّها بعد أن أسقطت حجّية قول ذي [ اليد ] الكافر توجب كون المسألة من تعارض الاستصحابين ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب. وهكذا الحال فيما لو تردّد الذبح بين كونه قبل زهوق الروح وبين كونه بعدها [ منه قدس سره ].

ص: 215

ص: 216

التزموا بجواز أكله حياً ، وبجواز أخذ القطعة منه بعد الأخذ وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه ، وحينئذ يمكن الاعتماد على استصحاب حياته إلى حين الأخذ ، ويعارضه استصحاب بقائه في الماء إلى أن مات ، وبعد التعارض يرجع إلى قاعدة الحل بناءً على كون التذكية اسماً للسبب ، بخلاف ما لو قلنا إنّها اسم للمسبّب ، فإنّ المرجع بعد التعارض هو أصالة عدم تحقّق ذلك المسبّب ، هذا.

ولكن صاحب الجواهر قدس سره منع من الركون إلى استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فراجعه في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى التي هي مورد رواية السكوني ، فقد قال في الشرائع : وربما كانت الرواية أرجح استصحاباً لحال الحياة (1) فقال صاحب الجواهر قدس سره : إنّه من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه

ص: 217


1- شرائع الإسلام 3 : 198.

الأصل ، الخ (1).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في كون استصحاب الحياة إلى حين الموت مثبتاً ، فإنّ ذلك لو سلّمناه فإنّما هو فيما يذكّى بالذبح ، فيقال : يعتبر فيه استناد خروج الروح إليه ، أمّا الأخذ حيّاً في السمك فلا يعتبر فيه ذلك. نعم هذا الاستصحاب معارض باستصحاب البقاء في الماء إلى حين موته ، فيكون المرجع هو أصالة الحل ، إلاّ إذا قلنا إنّ التذكية اسم للمسبّب.

كما أنّي لم أتوفّق لمعرفة الوجه في معارضة هذا الأصل - أعني استصحاب الحياة - باستصحاب الحرمة مع كونه موضوعياً منقّحاً للتذكية الرافعة للحرمة. مضافاً إلى أنّ هذه الحرمة غير متحقّقة ، إلاّ أن يدّعي حرمة أكل السمك وهو في الماء قبل أخذه منه ، ولا يخفى بُعده.

وأمّا المعارضة بأصالة عدم التذكية الخ ، ففيه : أنّ سبب التذكية أو هي نفسها ليس إلاّ الأخذ حياً ، وأصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ منقّح له ، وليس في البين شرط غير الحياة حين الأخذ. نعم ربما كان ما ورد من علامة المذكّى من السمك من طرحه في الماء ، فإن طفا مستلقياً على ظهره فهو غير ذكي ، وإن كان على وجهه فهو ذكي (2) ، شاهداً على عدم الاعتناء بهذا الأصل ، فراجع هذه المباحث في كتاب الأطعمة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ جعل الأمارة المذكورة لا ينافي كون الأصل هو ما ذكرناه ولو عند فقد الأمارة المذكورة ، كما أنّ جعل الأمارة في اللحم على النار لا ينافي كون الأصل هو عدم التذكية ، على أنّه قد نوقش في الرجوع إليها ، فراجع.

ص: 218


1- جواهر الكلام 36 : 256.
2- وسائل الشيعة 24 : 144 - 145 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 14 ح 1.

وممّا ذكرناه من أنّ المرجع بعد التساقط إلى أصالة عدم التذكية التي هي عبارة عن المسبّب ، يظهر لك الوجه في عدم جواز أخذ السمكة من المجوسي. قال في الشرائع في صيد السمك : لا يحلّ أكل ما يوجد في يده حتّى يعلم ( ولو شرعاً ) أنّه مات بعد إخراجه من الماء (1) ، فراجع مبحث ذكاة السمك (2) وقد تضمّنه قوله عليه السلام : « ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » (3) وقوله عليه السلام : فإن أعطوكه حياً فكله (4) إلاّ أن يحمل هذا الحكم على الاستحباب ونحو من التنزّه فتأمّل. أو يقال : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية وإن كان مقتضى الأصل هو التذكية.

ولعلّ دعوى كون هذا الأصل - أعني استصحاب الحياة إلى حين الأخذ - مثبتاً مبنية على عدم الاكتفاء في تذكية السمك بالأخذ حياً من الماء ، بل لابدّ فيه من اعتبار موته خارج الماء ، وذلك لا يثبت باستصحاب حياته إلى حين الأخذ.

وفيه أوّلاً : أنّه مناف لما تقدّم من جواز أكله حياً ، وجواز أكل القطعة منه وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه.

وإن أمكن الجواب عن النقض الأوّل بعدم الالتزام بجواز أكله حياً ، وعن النقض الثاني بأنّه يصدق على القطعة المبانة من الحي أنّها ميّتة خارج الماء ، فالعمدة حينئذ هو الاعتراض :

ثانياً : بأنّه لا دليل على اعتبار القيد المزبور ، وإنّما أقصى ما عندنا في قبال الاكتفاء بالأخذ حياً هو اعتبار عدم رجوعه إلى الماء وموته فيه ، كما يدلّ عليه

ص: 219


1- شرائع الإسلام 3 : 189.
2- جواهر الكلام 36 : 166 - 168.
3- وسائل الشيعة 24 : 75 / أبواب الذبائح ب 32 ح 1 ، 2.
4- وسائل الشيعة 24 : 76 / أبواب الذبائح ب 32 ح 3 ( نقل بالمضمون ).

قوله عليه السلام : مات فيما فيه حياته (1) فيكون القيد المعتبر هو عدم موته في الماء ، وهذا القيد حاصل باستصحاب حياته وعدم موته في الماء إلى حين الأخذ منه ، حتّى أنّه لو أُخذ منه ثمّ عاد إليه واحتمل أنّه مات في الماء ، أو أنّه انحسر عنه الماء حين عوده إليه ومات في خارجه من ذات نفسه من دون أخذ ثمّ طرأه الأخذ ، لكان استصحاب حياته إلى حين الأخذ الثاني كافياً في حصول القيد المزبور ، أعني عدم موته في الماء أو في خارجه إلى حين الأخذ الثاني ، من دون فرق في ذلك بين كون التذكية هي نفس الأخذ حياً ، أو كونها هي المسبّب عن ذلك. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ الأصل وإن كان هو عدم ذلك المسبّب ، إلاّ أنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ يكون حاكماً على أصالة عدم ذلك المسبّب ، لكونه بالنسبة إلى أصالة عدم المسبّب من قبيل الأصل الموضوعي المنقّح لحصول [ السبب ] الذي ينشأ عنه ذلك المسبّب ، لكنّه معارض باستصحاب بقائه في الماء إلى أن مات ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بناءً على كونها اسماً للمسبّب ، وأمّا بناءً على كونها اسماً للسبب فالذي ينبغي أن يرجع إليه هو قاعدة الحل.

وبناءً عليه ينبغي أن يقال : إنّه لا مانع من أكل دهن السمك المجلوب من اوروبا ما دام منشأ الإشكال فيه هو احتمال عدم التذكية مع إحراز كونه من المأكول ، إلاّ أن نقول : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، ولو احتمل كونه من غير المأكول كالجرّي مثلاً ، كانت أصالة الحل فيه محكمة أيضاً.

والحاصل : أنّ صاحب الجواهر قدس سره قال في كتاب الأطعمة في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى في شرح قول المصنّف : « وربما كانت الرواية

ص: 220


1- وسائل الشيعة 24 : 79 / أبواب الذبائح ب 33 ح 2 و 6 ( مع اختلاف يسير ).

أرجح استصحاباً لحال الحياة » : المقطوع بها في الجملة ولو قبل ابتلاع السمكة لها إلى حين الأخذ ، فيكون الخبران مؤكّدين للقاعدة ... لكن لا يخفى عليك ما فيه من كون الأصل المزبور من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه الأصل ، والفرض عدم حجّية الخبرين ، واللّه العالم (1).

وقال أيضاً في مسألة السمكة في جوف السمكة في آخر المسألة السابعة من اللواحق قبيل قول الماتن : المسألة الثامنة ذكاة الجراد ، قال : ولعلّه لاستصحاب حياتها إلى حين إخراج التي في بطنها ، فيكون ذلك تذكية لهما ، إلاّ أنّك قد عرفت ما في هذا الأصل (2).

قلت : ولعلّ الوجه في كون الأصل المذكور مثبتاً هو ما اشتمل عليه خبر علي بن جعفر عليه السلام عن أخيه عليه السلام الذي ذكره في المسألة السابعة في ذكاة السمك (3) ، قال : « سألته عن سمكة وثبت في نهر فوقعت على الجُد من النهر فماتت ، هل يصلح أكلها؟ فقال عليه السلام : إن أخذتها قبل أن تموت ثمّ ماتت فكلها ، وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها » (4) من جهة دلالته على اعتبار القبلية ، فيكون ذلك من قبيل ما ذكره في مسألة توارث الغرقى للإجماع والأخبار ، فإنّه قدس سره قال هناك : وبذلك يخرج عمّا يقتضي عدمه من قاعدة كون الشكّ في الشرط شكّاً في المشروط ، ضرورة اشتراط إرث كلّ واحد منهما من الآخر بحياته بعد موت الآخر ، وهي غير

ص: 221


1- جواهر الكلام 36 : 255 - 256.
2- جواهر الكلام 36 : 174.
3- جواهر الكلام 36 : 164.
4- وسائل الشيعة 24 : 81 / أبواب الذبائح ب 34 ح 1.

معلومة ، الخ (1).

قلت : أمّا مسألة الإرث فقد تعرّضنا لها في محلّه في خاتمة الاستصحاب (2) فراجع. وأمّا مسألتنا هذه فلو كان المنشأ في دعوى المثبتية هو القبلية المذكورة في الخبر ، لكان استصحاب بقائها في الماء إلى أن ماتت مثبتاً أيضاً ، لأنّ الخبر المذكور يدلّ أيضاً على اعتبار الموت قبل الأخذ ، وبعد سقوط الأصلين لا يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بمعنى السبب ، لكونه حاصلاً ، وأصالة عدم المجموع المركّب من الأخذ المقيّد بكونه قبل الموت كما بنى عليه في الكفاية (3) ، لا محصّل لها كما حقّق في محلّه (4).

وحينئذ فالذي ينبغي على القول بكون التذكية اسماً للسبب هو الرجوع إلى قاعدة الحل ، إلاّ إذا قلنا إنّ التذكية اسم للمسبّب ، فإنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدمه ، فيحكم بكونها ميتة يحرم أكلها على تأمّل في ذلك ، فإنّ ذلك المسبّب بمنزلة الحكم المترتّب على أحد الأصلين المتعارضين ، وضدّه مترتّب على الأصل الآخر ، فلو لم نقل بسقوط الأصل فيه وفي ضدّه بسقوط الأصل الأوّل ، لكان الأصل في كلّ منهما متعارضاً ، فإنّ أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب أعني الحلّية يعارضها أصالة العدم في ضدّها ، إذ الأصل عدم المسبّب الآخر أعني

ص: 222


1- جواهر الكلام 39 : 306.
2- راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب الصفحة : 556 وما بعدها.
3- كفاية الأُصول : 419 / التنبيه الحادي عشر.
4- راجع التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب في فوائد الأُصول 4 : 503 وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس سره عليه تأتي في المجلّد العاشر من هذا الكتاب في الصفحة : 158 وما بعدها.

الحرمة ، فلاحظ.

ومن ذلك تعرف الحال فيما أفاده قدس سره في المسألة الثالثة من مسائل الخاتمة فيما لو ذبح الحيوان ولم يعلم موته قبل الذبح أو بعده في شرح قول المصنّف : « فالوجه تغليب الحرمة » للأصل ، إلى أن قال : وربما احتمل الحل استصحاباً لبقاء الحياة ، ولكن لا يخفى ضعفه (1).

وأمّا قوله في المسألة الثالثة من اللواحق في اعتبار استقرار الحياة في الردّ على الوجه الثاني ممّا استدلّ به على ذلك من أنّ استناد موته إلى الذبح ليس بأولى من استناده إلى السبب الموجب لعدم استقرارها ، بل ( كان ) السابق أولى ، فيكون هلاكه به ويكون ميتة ، فإنّه قال بعد ردّ الأوّل بأنّه لا شاهد عليه ، قال : بل الثاني كذلك ، ضرورة اقتضاء الأدلّة كون ذبح الحي سبباً في الحل وإن حصل سبب آخر بعد الذبح ، الخ (2) فلا يكون منافياً لما بنى عليه من عدم جريان استصحاب الحياة إلى حين الذبح ، لأنّ كون الذبح في هذه المسألة واقعاً على الحي معلوم ، وإنّما الشكّ في استناد موته إلى الذبح ، بخلاف المسألة السابقة التي منع فيها من جريان الأصل ، فإنّ وقوع الذبح فيها على الحي غير معلوم ، فتأمّل جيّداً ، فإنّ الوجه في تضعيفه قدس سره الأصل في هذه المسألة (3) إن كان لأجل القبلية والبعدية كما في مسألة الإرث وكما في مسألة السمك ، ففيه : أنّه لا دليل على اعتبار القبلية في مسألة الذبح. وإن كان الوجه فيه هو اعتبار استناد زهوق الروح إلى الذبح نظير مسألة القتل العمدي ، ففيه ما عرفت من عدم الدليل على اعتبار ذلك في باب التذكية

ص: 223


1- جواهر الكلام 36 : 191.
2- جواهر الكلام 36 : 150.
3- [ الظاهر أنّ مقصوده قدس سره بذلك هو المسألة السابقة ].

بالذبح ، مضافاً إلى تصريحه قدس سره بعدم اعتبار ذلك فيما أفاده قدس سره في المسألة الثالثة فيما لو ذبحه وتردّى ، فتأمّل. ولعلّ المراد هو استضعاف الحكم بالحل بعد تعارض الاستصحابين ، فيكون ذلك مبنياً على كون التذكية اسماً للمسبّب.

والذي تحصّل عندنا عند معاودة النظر في هذه المسألة في البحث التعطيلي في شهر رمضان سنة 1373 هو أنّ في السمك فروعاً بعضها مسلّم وبعضها محلّ الخلاف :

الأوّل : هو أنّ موته في الماء قبل أخذه يكون موجباً لحرمته. وهذا لا شبهة فيه ، ولا أقل من روايات حرمة الطافي.

الثاني : أنّه لو قتل وهو في الماء ، بأن طعن برمح ونحوه ، فالظاهر أنّ حكمه حكم الأوّل وهو الحرمة.

الثالث : لو قطع منه قطعة وهو حي في الماء ، فهذه القطعة محرّمة كما صرّح به في الجواهر (1) فيما لو قطع منه قطعة بعد أخذه ثمّ عاد إلى الماء.

الرابع : أنّه لو أُخذ حياً ثمّ عاد إلى الماء ومات فيه ، فهذا أيضاً حرام.

الخامس : أنّه لو خرج من تلقاء نفسه أو أخرجه الماء وألقاه في الساحل ومات على الساحل من دون أن يأخذه أحد في حال حياته ، فهذا أيضاً حرام ، وإن نقل الخلاف فيه عن الشيخ قدس سره في النهاية (2) لأخبار هناك ، لكن المعروف حرمته ، لأخبار أُخر هي أقوى دلالة وسنداً ، فراجع الجواهر (3).

السادس : لو أُخذ ثمّ ربط بحبل ونحوه وأُعيد إلى الماء ، أو حصر في

ص: 224


1- جواهر الكلام 36 : 171.
2- راجع النهاية : 576.
3- جواهر الكلام 36 : 164 - 167.

الحظيرة فمات ونحو ذلك ، فالمعروف أيضاً هو الحرمة ، وقد نقل الخلاف فيه عن العماني (1) لأخبار الحظيرة (2) ، لكن المعروف بل المشهور بل الإجماع المنقول على الحرمة ، تقديماً للأخبار القائلة بأنّه مات فيما فيه حياته ، فراجع الجواهر أيضاً في هذه المسألة (3).

وبعد الفراغ من هذه الفروع يكون المتحصّل هو أنّه لابدّ من أخذه حياً ، وأن لا يموت في الماء ، والاكتفاء بهذا المقدار هو الذي استقرّ عليه رأي صاحب الجواهر قدس سره على وجه سوّغ ابتلاعه حيّاً وأخذ قطعة منه وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه. وظاهره عدم كون ذلك من قبيل الحكمين في ظرفين ، بحيث إنّه في ظرف أخذه حياً يكون حلالاً لكن لو أُعيد أو عاد إلى الماء فمات فيه ينقلب حكمه إلى الحرمة ، بل عبارته صريحة في أنّ ذلك من قبيل الشرط ، بجعل الثاني - وهو عدم موته في الماء - شرطاً في الأوّل بنحو الشرط المتأخّر أو بنحو التعقّب على وجه تكون حلّيته مراعاة بعدم موته في الماء ، ولازمه أنّه لو أُخذ منه قطعة وعاد الباقي إلى الماء ومات فيه ، ينبغي الحكم بحرمة تلك القطعة المأخوذة كما صرّح به قدس سره بقوله (4) : فهي حلال وإن عاد الباقي إلى الماء ، سواء مات فيه أو لا (5) إلاّ أن يقال : إنّها لا يصدق عليها الموت في الماء وإن مات الباقي في الماء.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الحكم - أعني أكل الحي بابتلاعه أو أخذ قطعة

ص: 225


1- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة 8 : 285 مسألة 6.
2- وسائل الشيعة 24 : 84 / أبواب الذبائح ب 35 ح 3 وغيره.
3- جواهر الكلام 36 : 168 - 170.
4- [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].
5- جواهر الكلام 36 : 171.

منه - لا يخلو عن مخالفة الذوق ، فالأولى أن يضاف إلى هذين القيدين قيد ثالث وهو موته ، ليكون الحاصل هو أنّه يعتبر في حلّية الأكل أخذه حياً وموته وعدم موته في الماء ، وحينئذ لا يحلّ ابتلاعه حياً ، ولا أخذ قطعة منه وهو حي ، سواء عاد الباقي إلى الماء ومات فيه أو بقي إلى أن مات خارج الماء.

والدليل على هذا القيد هو ما تقدّم من خبر الاحتجاج (1) ورواية ابن أبي يعفور المتضمّنة لقوله عليه السلام : « وجعل ذكاتها موتها » (2). لكن في الجواهر أجاب عنهما بقوله : لكن مع أنّ الأوّل منهما مرسل وفي غير الكتب الأربع ، ولم يذكره الفقهاء في الكتب الاستدلالية ، لم أجد أحداً عمل بمضمونهما ، بل يمكن القطع بعدم اعتبار الموت حتف الأنف في تذكيته ، وحينئذ فالمذهب الجواز (3).

قلت : أمّا ما أفاده من قوله : لم أجد أحداً عمل بمضمونهما الخ ، فهو بالنسبة إلى اعتبار الموت حتف الأنف في قبال قتله مثلاً ، كما هو ظاهر خبر الاحتجاج بقوله : « حتّى يموت من ذات نفسه » فمسلّم ، لكن خبر ابن [ أبي ] يعفور خال من هذا القيد أعني « حتّى يموت من ذاته » ، بل يمكن أن يكون قوله في خبر الاحتجاج : « حتّى يموت من ذات نفسه » في قبال احتمال اعتبار موته بالذبح ، كما في غيره من الحيوانات ، ولعلّ قوله عليه السلام : « وذلك أنّه ليس له دم » قرينة على ذلك ، فيكون القيد هو مجرّد الموت ، وأنّه لا يحتاج إلى ذبح ، لأنّه ليس له دم ، وحينئذ يتّحد مع مفاد خبر ابن [ أبي ] يعفور. وهذا المقدار - أعني

ص: 226


1- تقدّم ذكره متناً ومصدراً في الصفحة : 210.
2- وسائل الشيعة 4 : 359 / أبواب لباس المصلّي ب 8 ح 4.
3- جواهر الكلام 36 : 171.

اعتبار الموت وعدم جواز أكله حياً - قد عمل به الشيخ قدس سره (1) وغيره.

نعم ، خبر ابن [ أبي ] يعفور يحتاج إلى التقييد بكون الموت بعد أخذه حياً ، وبأن لا يكون الموت في الماء ، وهذا المقدار من التقييد قد دلّت عليه الأدلّة ، فلا مانع من تقييد خبر ابن [ أبي ] يعفور بمقتضى تلك الأدلّة ، بل إنّ خبر الاحتجاج متكفّل لهذا التقييد ، فإنّ قوله عليه السلام : « ذكاته إخراجه من الماء حتّى يموت من ذات نفسه » دالّ على اعتبار إخراجه حياً ، وظاهر قوله : « حتّى يموت » هو اعتبار عدم موته باعادته ثانياً إلى الماء ، بل ظاهره اعتبار موته خارج الماء ، فضلاً عن مجرّد اعتبار عدم موته في الماء. وبالجملة : أنّ أخبار « مات بما فيه حياته » (2) اعتبرت أن لا يكون موته في الماء.

ولا يخفى أنّ ذلك - أعني اعتبار الموت وعدم الموت في الماء - لا يكون عبارة عن اعتبار موته خارج الماء ، وإن كان ذلك - أعني موته خارج الماء - ملازماً لاعتبار القيدين المذكورين ، إلاّ أنّ خبر الاحتجاج ظاهر في اعتبار موته خارج الماء ، والظاهر أنّه لا يترتّب على ذلك أثر عملي بعد اعتبار الاخراج حياً واعتبار الموت واعتبار عدم كون الموت في الماء.

نعم ، لعلّه يظهر أثر ذلك في جريان الأُصول عند العلم بموته والشكّ في كونه قبل أخذه أو بعد أخذه ، فبناءً على أنّ التذكية اسم للسبب يتعارض الأصلان ، أعني استصحاب حياته إلى حين الأخذ القاضي بحلّيته ، بناءً على الاكتفاء بأخذه حياً وعدم موته في الماء ، مع استصحاب بقائه في الماء إلى موته ، القاضي بكون موته في الماء الموجب لحرمته ، وبعد التساقط يكون المرجع هو

ص: 227


1- راجع المبسوط 6 : 277.
2- وسائل الشيعة 24 : 79 / أبواب الذبائح ب 33 ح 2 وغيره.

قاعدة الحل ، بخلاف ما لو قلنا بأنّه يعتبر الموت خارج الماء ، فإنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ لا ينقّح حلّيته المنوطة بموته خارج الماء إلاّبالأصل المثبت.

ولكن لا يخفى أنّا لو اعتبرنا موته خارج الماء ، لكان يمكننا إحراز ذلك باستصحاب بقائه خارج الماء حياً إلى أن مات.

وبالجملة : يكون الجاري هو استصحاب حياته إلى أن أُخرج وصار تحت اليد ، واستصحاب بقائه حياً في الخارج تحت اليد إلى أن مات تحتها قاضياً بحلّيته ، ويعارضه حينئذ استصحاب بقائه في الماء أو في الخارج من دون وضع يد عليه إلى أن مات ، لكونه قاضياً بحرمته ، وبعد التساقط يكون المرجع قاعدة الحل. نعم ، إنّ الأصل القاضي بحلّيته ينحلّ إلى أصلين ، والأوّل منهما هو استصحاب حياته إلى أن خرج ووضعت عليه اليد ، والثاني هو استصحاب بقائه حياً تحت اليد إلى أن مات تحتها ، ولا يترتّب الأثر على الأوّل فقط ، بل لابدّ من ضمّ الثاني إليه ، وحينئذ يشكل الاستصحاب الأوّل لعدم الأثر. ولو كانا عرضيين لأمكن التخلّص ، لكن المفروض أنّهما طوليان ، ولعلّ ذلك هو المانع لصاحب الجواهر قدس سره من إجراء استصحاب الحياة في ذلك.

ويمكن الجواب : بأنّ الميتة ما مات قبل وضع اليد عليه ، فتجري حينئذ أصالة عدم وضع اليد عليه حتّى مات ، وهو قاضٍ بحرمته وبكونه ميتة ، وتعارضها أصالة عدم موته قبل وضع اليد ، وهو وإن لم يثبت الحلّية ، إلاّ أنّ كونه طارداً لموضوع الحرمة - أعني الميتة - كافٍ في التعارض الموجب للتساقط.

ولكن هذا كلّه مبني على كون التذكية اسماً للسبب ، أمّا لو قلنا بأنّها اسم للمسبّب كما هو المختار ، فلا محيص عن الحكم بحرمته حتّى في الصورة الأُولى

ص: 228

أعني فرض التعارض بين الأصلين المذكورين ، إذ بعد تعارضهما لا يكون المرجع هو قاعدة الحل ، بل يكون المرجع هو ما عرفت من أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب ، وحينئذ يشكل الأمر فيما ورد من حلّية السمكة التي تخرج في جوف سمكة أُخرى مع فرض كونها حين الخروج ميتة ، اللّهمّ إلاّ أن نلتزم بأنّه على خلاف القاعدة فيقتصر على مورده ، وهو السمكة في جوف أُخرى ، دون مطلق ما شكّ في تأخره وتقدّمه من الموت والإخراج ، فتأمّل.

نعم ، لو اكتفينا في الحلّية بأصالة بقائه حياً إلى أن أُخرج ... الخ ، لم يعارضه أصالة عدم إخراجه إلى أن مات ، القاضي بموته في الماء ، لأنّ إخراج السمكة الكبيرة التي فيها السمكة الصغيرة معلوم التاريخ ، فلا يجري فيه استصحاب العدم ، والمجهول التاريخ إنّما هو موت الصغيرة ، وهل كان قبل إخراج الكبيرة أو كان بعد إخراجها ، فيجري في موتها استصحاب العدم إلى ما بعد إخراج الكبيرة ، وعلى تقدير الاكتفاء به يكون حاكماً بالحلّية ، وموجباً لسقوط أصالة عدم التذكية ويمكن حمل الخبرين على ذلك ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ هذا هو الوجه فيما عن الشيخ في النهاية (1) من أنّه لو وجدت سمكة في جوف حية أُكلت إن لم تكن تسلّخت ، ولو تسلّخت لم تحل. والتفصيل بين السلخ وعدمه لرواية أيّوب المستفاد منها التحرّز عن التسمّم.

ثمّ إنّ رواية أيّوب عن الصادق عليه السلام ، قال « قلت له : جعلت فداك ، ما تقول في حية ابتلعت سمكة ثمّ طرحتها وهي حية تضطرب ، آكلها؟ قال عليه السلام : إن كانت فلوسها قد تسلّخت فلا تأكلها ، وإن لم تكن تسلّخت فكلها » (2) وبواسطة أنّ طرح

ص: 229


1- النهاية : 576.
2- وسائل الشيعة 24 : 145 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 15 ح 1.

الحية لها وهي تضطرب لا نحتاج في حلّيتها إلى استصحاب الحياة المذكور ، بل لا نحتاج إلى قذف الحية ، ولا إلى قبضها بعد القذف وإن أفاده في الشرائع (1).

والغرض من هذا كلّه هو أنّ تاريخ الخروج والاخراج عند كونه معلوماً ، لا يكون الجاري إلاّ استصحاب حياة السمكة إلى ما بعد الإخراج القاضي بحلّيتها.

قوله : ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ، فإنّ للحياة دخلاً عرفاً في موضوع الحرمة ، ولا أقل من الشكّ ، فلا مجال للاستصحاب والطهارة ... الخ (2) - (3).

ربما يناقش في ذلك بدعوى الاتّحاد بنظر العرف. ولكن قد عرفت مراراً أنّ الدعوى على العرف لا خاصم لها ، وما العرف إلاّنفس المدّعي ، وإلاّ فأي شخص قد ادّعى على العرف دعوى بعد السؤال منهم ، ومن هُم المسؤولون ، بل ليس العرف إلاّنفس ذلك المدّعي بما أنّه منهم.

ثمّ إنّه يظهر الأثر فيما لو علمنا بأنّ هذا الحيوان قابل للتذكية وقد تحقّقت تذكيته ، لكن يحصل الشكّ في حلّية أكله من جهة الشبهة الحكمية أو من جهة الشبهة الموضوعية ، فلا إشكال في طهارته عند الذبح ، ولكن هل يحلّ أكله

ص: 230


1- شرائع الإسلام 3 : 198.
2- فوائد الأُصول 3 : 387.
3- وقال قدس سره فيما حرّرته عنه : ولا يمكن أن يوجّه القول بحرمة الأكل والطهارة بدعوى استصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة واستصحاب الطهارة أو قاعدتها ، فإنّ الحيوان وإن كان حين الحياة محرّم الأكل إلاّ أنّ هذه الحرمة مقيّدة بحال الحياة من جهة مناسبة الحكم والموضوع ، أو من جهة ما يستفاد من أدلّة التذكية بالذبح من أنّه موجب لخروج ما فيه من الدم المحرّم الذي كان قوام حياته ، وهذا بخلاف الطهارة فإنّ الظاهر أنّها لا ... [ في الأصل سِقط ] لذات الحيوان ، إلى آخر ما أفاده قدس سره [ منه قدس سره ].

استناداً إلى قاعدة الحل ، أو أنّه لا يحل أكله استناداً إلى استصحاب الحرمة الثابتة له في حال حياته ، فيبنى الكلام في إجراء الاستصحاب على عدم اختلاف في الموضوع ، ويدّعى الوحدة قياساً على نجاسة الكلب بعد موته ، إذ لا مانع من استصحاب نجاسته في حياته ، فكأنّ شاكّاً يشكّ في بقاء النجاسة الحياتية إذا انضمّ إليها نجاسة الموت ، وقياساً على استصحاب جملة من أحكام الزوجية بعد موت الزوج أو الزوجة (1).

ولا يخفى أنّ هذه الجملة إنّما تثبت بالنصّ ، وإلاّ لكان مقتضاه ثبوت جميع الأحكام إلاّما أخرجه الدليل مثل جواز تزويج زوجة الميت بغيره ، ولا أظنّ الالتزام به. ولا يقاس على مسألة نجاسة الماء المتغيّر ، لأنّ الظاهر أنّ العرف يرون التغيّر علّة ، هذا (2).

ولكن ما المراد من هذه الحرمة التي كانت في حال الحياة ، فهل المراد حرمة ما يقطع منه ، فلا ريب أنّه ميتة ، أو المراد حرمة ابتلاعه حياً لو كان صغيراً كفرخ العصفور ، فهذه يصعب إقامة الدليل عليها ، حيث إنّ ما لم يذكّ وإن كان حراماً لكنّه من جهة كونه ميتة ، فلا دخل لذلك بما إذا كان عدم التذكية مقروناً بالحياة ، وهو وإن مات بعد وصوله إلى الجوف ، إلاّ أنّه حينئذ لا ينطبق الأكل على بقائه فيه ، وكذلك لو مات بعد إدخاله إلى الفم لكن قبل الابتلاع والازدراد ، فإنّه حينئذ ميتة لا يجوز ابتلاعه ، ونحن وإن ناقشنا في حرمة ابتلاع السمك حياً ، إلاّ أنّ

ص: 231


1- وينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا ص 196 [ أجود التقريرات 3 : 341 - 342. منه قدس سره ].
2- وينبغي هنا مراجعة المستمسك ج 1 ص 134 [ مستمسك العروة الوثقى 1 : 288 - 289. منه قدس سره ].

تلك المناقشة إنّما نشأت من الدليل الدالّ على اعتبار الموت خارج الماء في تذكيته ، وهذه المناقشة جارية في تذكية الذبح من جهة اعتبار موته بالذبح على وجه يكون خروج روحه مستنداً إلى الذبح ، وهذه كلّها لا دخل لها بما نحن فعلاً بصدده من عدم الدليل على حرمة ابتلاعه حياً ، إذ الحرمة مختصّة بالميتة ، وهذا الحيوان الحي الذي نريد ابتلاعه ليس بميتة ، فأيّ دليل يدلّ على حرمة ابتلاعه حياً ، هذا كلّه فيما يمكن أكله حياً بابتلاعه كصغير الحيوان.

أمّا الكبير الذي لا يمكن ابتلاعه إلاّبعد تقطيعه وحين التقطيع يكون ميتة ، فهو خارج عن هذه الدعوى ، أعني حرمة أكله حياً ، وإن شئت فقل : إنّه خارج عن قابلية الأكل ، فلا يتّصف أكله بحلّية ولا بحرمة ، لعدم إمكان موضوع كلّ منهما فيه ، فأين حرمة أكله في حال الحياة حتّى يجري استصحابها بعد الذبح ، هذا.

ولكن الذي يظهر منهم أنّ حرمة الحيوان الحي مفروغ عنه ، وأنّه لا يباح أكله إلاّبالموت بالتذكية. قال الشهيد قدس سره في الدروس في السمك : ويباح أكله حياً لصدق الذكاة ، وقيل : لا يباح أكله حتّى يموت كباقي ما يذكّى (1).

وقال في اللمعة والروضة : ويجوز أكله حياً لكونه مذكّى باخراجه ، من غير اعتبار موته بعد ذلك ، بخلاف غيره من الحيوان ، فإنّ تذكيته مشروطة بموته بالذبح أو النحر أو ما في حكمهما. وقيل : لا يباح أكله حتّى يموت كباقي ما يذكّى ، ومن ثمّ لو رجع إلى الماء بعد إخراجه فمات فيه لم يحل ، فلو كان مجرّد إخراجه كافياً لما حرم بعده. ويمكن خروج هذا الفرد بالنصّ عليه ، وقد علّل فيه بأنّه « مات فيما فيه حياته » (2) فيبقى ما دلّ على أنّ ذكاته إخراجه خالياً عن

ص: 232


1- الدروس الشرعية 2 : 409.
2- وسائل الشيعة 24 : 79 / أبواب الذبائح ب 33 ح 2 و 6 ( مع اختلاف يسير ).

المعارض (1).

قلت : والأولى أن يقال : إنّ اشتراط الموت خارج الماء إنّما هو في قبال موته فيه ، لا في قبال بقائه حياً وابتلاعه حياً فلاحظ ، هذا.

ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس سره في الرسائل في هذا المقام أنّ الحرمة المستصحبة هي حرمة القطعة المأخوذة من الحي ، لا حرمة نفس الحي ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة لحمه قبل التذكية ، ففيه : أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة ، فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر الخ (2) ، حيث إنّ ما يكون منه ميتة قبل التذكية إنّما هو القطعة المأخوذة منه لا الحيوان الحي ، ومن الواضح أنّ موضوع هذه الحرمة غير باقٍ بعد التذكية.

إلاّ أن يقال : لو أشرنا إلى قطعة لحم من هذا الحيوان أمكننا أن نقول : إنّ هذه كانت حراماً قبل الذبح فهي بعده حرام أيضاً ، فتعود المسألة إلى النزاع في نظر العرف. وعلى كلّ حال ، لا يكون هذا الاستصحاب مبنياً على كون الحيوان الحي حراماً ، نظير ما يقال في حرمة أكل السمك حياً.

ولعلّ ما أفاده شيخنا قدس سره من منع الاستصحاب المذكور لأجل عدم بقاء الموضوع ، وما أُفيد في الجواب عنه بدعوى الاتّحاد عرفاً ، ناظر إلى هذا المستفاد من كلام الشيخ قدس سره من كون الحرمة المستصحبة هي حرمة القطعة ، لا حرمة نفس الحيوان كي يتطرّق الجواب عنه بأنّه لا أصل لهذه الحرمة ، فلاحظ وتدبّر.

لكن الذي يظهر من بعض المحشّين أنّهم حملوا كلام الشيخ على أنّ

ص: 233


1- الروضة البهية 7 : 245 - 246.
2- فرائد الأُصول 2 : 110.

المستصحب هو الحرمة الثابتة للحيوان الحي لأنّه غير مذكّى ، وكلّ ما هو غير مذكّى حرام.

قال المرحوم الميرزا موسى في أثناء كلامه : وثانيها مع تسليم قابليته للتذكية الثابتة بالعمومات ، ما أشار إليه المصنّف رحمه اللّه أيضاً من استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين قبل الذبح ، لوضوح عدم منافاة قابليته للتذكية للحرمة كالسباع ، وقد ذكر هذا الوجه بعض محشّي الروضة.

ويرد عليه أوّلاً : ما أشار إليه المصنّف رحمه اللّه من أنّ الطهارة والحرمة قبل التذكية قائمتان بالميتة ، يعني بغير المذكى ، لأنّها عبارة عن غير المذكّى ، وبعدها بالمذكّى ، فانسحابهما إلى ما بعدها انسحاب لحكم موضوع إلى موضوع آخر.

وبعبارة أُخرى : أنّ موضوع المستصحب في الحالة السابقة هي الميتة ، وفي زمان إثبات الحكم هو المذكّى ، والعلم ببقاء الموضوع شرط في جريان الاستصحاب ، فهو لا يجري مع الشكّ فيه فضلاً عن العلم بتغيّره (1).

وقال المرحوم غلام رضا ، قوله : وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة ... ، أقول : وذلك بأن يقال : إنّ الميتة بدليل الاستثناء أعني قوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (2) عبارة عن كلّ ما لم يذكّ شرعاً ولو كان حياً (3) ، هذا.

وعلى ذلك يمكن أن يقال : إنّ حرمة القطعة المأخوذة في الحي إنّما هي باعتبار كونها جزءاً ممّا لم يذكّ ، لا أنّها بنفسها ميتة. وفيه تأمّل ، إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن وجه للحكم بنجاستها ، إذ أنّ مجرّد كونها جزءاً من الحي الذي لم

ص: 234


1- أوثق الوسائل : 286.
2- المائدة 5 : 3.
3- قلائد الفرائد 1 : 385.

يذكّ ، لا يوجب الحكم بنجاستها ، فحيث قد حكموا مع حرمتها بنجاستها ، دلّ ذلك على أنّها بنفسها ميتة ، لا أنّها جزء ممّا لم يذكّ.

وحينئذ إمّا أن نقول إنّ كلّ ما لم يذكّ هو ميتة ولو كان حياً ، ولا يخفى غرابته ، أو نقول إنّ المستفاد من الأدلّة هو تعليق الحلّية على التذكية ، فكلّ ما لم يذكّ حرام الأكل وإن لم يكن ميتة بل كان حياً ، وهذا يحتاج إلى دليل قوي ، أو نقول إنّ التذكية وعدمها متقابلان عند خروج الروح ، ولازمه هو كون الحي حلال الأكل ، غير أنّه قد خرجت القطعة المأخوذة منه بالدليل الدالّ على أنّها بحكم الميتة ، ولو لانعدام الحياة في نفس تلك القطعة ، ولو تمّ هذا أعني كون انعدام الحياة في نفس القطعة المأخوذة منه بغير التذكية موجب لكونها بنفسها ميتة ، لأمكن القول بأنّ حرمتها ونجاستها لا تحتاج إلى الدليل الخاصّ ، فلاحظ.

قوله : وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصوّر تحقّق الشبهة الموضوعية ... الخ (1).

قال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه قدس سره : فكلّما شكّ المكلّف في الخارج في تحقّق متعلّق التكليف فيرجع شكّه إلى الشكّ في الامتثال بعد العلم بالاشتغال ، ومقتضى حكم العقل في مثله هو الاشتغال ليس إلاّ الخ (2).

ولعلّه يريد بذلك موارد الشكّ في وجود المأمور به ، كأن يؤمر بالسجود مثلاً ويحصل له الشكّ في أنّه أتى به أم لا ، لكنّه لم يذكر في هذا القسم إلاّكون ذلك الفعل محرّماً ، ولم يذكر فيه ما هو مورد الوجوب.

أمّا موارد الشكّ في المحصّل فهي أجنبية عن الشبهات الموضوعية ، وذلك

ص: 235


1- فوائد الأُصول 3 : 391 - 392.
2- أجود التقريرات 3 : 347.

كما لو أُمر بالوضوء وقلنا إنّه اسم للحاصل من الأفعال ، وهو المعبّر عنه بالطهارة من الحدث ، وحصل الشكّ في مدخلية المضمضة مثلاً في ذلك ، فإنّ المرجع فيه هو الاشتغال.

وأمّا لو كانت الشبهة في ذلك تحريمية كما لو نُهي عن تعظيم الكافر ، وحصل [ الشكّ ] في أنّ التعظيم هل يحصل بالقيام المجرّد أو لابدّ معه من لبس العمامة ، فالمرجع فيه هو أصالة البراءة ، للشكّ في حصول المنهي عنه بالقيام المجرّد ، كما أنّه عند كونه مأموراً به يحصل الشكّ في حصول ذلك المأمور به بالقيام المجرّد. نعم لو كان الترك المطلوب بالنهي متولّداً من فعل اختياري ، لكان المرجع فيه هو الاحتياط ، كما أشار إليه شيخنا قدس سره في اللباس المشكوك (1) ، لكن في كون مسألة الشكّ في المحصّل من الشبهات الموضوعية أو كونه من الشبهات الحكمية محل تأمّل أيضاً ، لأنّ ميزان الشبهة الموضوعية هو جهالة الحال في محلّ الابتلاء ، كمثل هذا المائع المشكوك كونه خمراً ، ومحلّ الابتلاء فيما ذكر معلوم الحال غير مستور ، وهو كونه قياماً بلا عمامة ، وإنّما وقع الشكّ في جهة خارجية وهي جهة كونه محصّلاً للتعظيم ، فالذي ينبغي هو عدّ هذه الشبهة قسماً آخر غير الشبهات الحكمية والشبهات المفهومية والشبهات الموضوعية ، وإن كان الذي يظهر من شيخنا قدس سره في مسألة [ اللباس ] المشكوك عدّها في الشبهات الموضوعية كما سيأتي في العبارة التي ننقلها عنه.

ويمكن أن يمثّل للشبهة الموضوعية في الشبهات التحريمية ممّا لا يكون له تعلّق بموضوع خارجي ، بمورد الشكّ في مستثنيات حرمة الكذب مثلاً على نحو الشبهة الموضوعية ، كما إذا سألك أحد الظلمة هل عندك زيد ، وأنت تحتمل

ص: 236


1- سيأتي البحث عنه في هذه الحاشية.

أنّه يريد حبسه مثلاً ، كما تحتمل أنّه يريد الإحسان إليه ، فهل هذا من موارد حرمة الكذب أو من موارد جوازه لكونه من قبيل دفع الضرر. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ احتمال الضرر كافٍ في تجويز الكذب. مضافاً إلى أنّ منشأ الشكّ فيه هو جهة تعلّقه بالشخص السائل.

وقد يمثّل لذلك بما لو قلنا بأنّ المحرّم من الغيبة ما يكون كاشفاً عند السامع ، وأنّ ما يكون السامع عالماً به لا يكون ذكره من قبيل الغيبة ، فلو شككنا في علم السامع بما نريد ذكر زيد فيه عنده ، يكون من قبيل الشبهة الموضوعية ، ولكن هل المرجع فيه هو البراءة أو الاحتياط؟ لكن لو قلنا بالاحتياط أو بالبراءة في مثل ذلك ، كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه من الشبهات الموضوعية من الأفعال المحرّمة التي ليس لها تعلّق بموضوع خارجي ، لأنّ المفروض أنّ متعلّق الحرمة هو ذكر الشخص بصفة عند من لا يعرف فيه تلك الصفة ، فهو أيضاً متعلّق بموضوع خارجي ، وهو كون الذكر عند سامع غير عارف بتلك الصفة ، مع إمكان القول بأنّه من قبيل المحقّق والمحصّل ، فإنّ المنهي عنه هو كشف العيب ، والذكر يكون محصّلاً لذلك الكشف ومحقّقاً له ، ومع الشكّ في علم السامع يحصل الشكّ في تحقّق ذلك العنوان البسيط ، فإن كان المطلوب هو حفظ عورة المؤمن كان حكمه حكم ما سيأتي من مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، وإن [ كان ] المطلوب هو مجرّد ترك الكشف ، كان المرجع فيه هو البراءة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أورده الأُستاذ شيخنا العراقي قدس سره في مقالته من أوّل الأُمور التي وجّهها على شيخنا قدس سره بقوله : منها ما في جعله التكاليف التحريمية إلخ (1) ، فإنّك قد عرفت أنّ شيخنا قدس سره قد صرّح بعدم تصوّر الشبهة

ص: 237


1- مقالات الأُصول 2 : 219.

الموضوعية في هذا النحو من التكاليف. وأمّا ما في تحريرات السيّد سلّمه اللّه فقد عرفت أنّ النظر فيه إلى أصل وجود المأمور به ، كأن يؤمر بالسجود مثلاً ويشكّ في أنّه أتى به أم لا. ومنه يظهر لك التأمّل في إيراده الثاني. أمّا الثالث فسيأتي الكلام عليه إن شاء اللّه تعالى (1).

والحاصل : أنّ الايراد الأوّل إنّما يتوجّه على ما أُفيد عن شيخنا قدس سره لو فرض إمكان تحقّق الشبهة الموضوعية في هذا القسم من التكاليف التي لا يكون لمتعلّقها تعلّق بموضوع ، وفرض أنّ شيخنا قدس سره قائل بأنّ المرجع في ذلك إلى الاحتياط ، سواء في ذلك الشبهات التحريمية والايجابية ، وقد عرفت التصريح عن شيخنا قدس سره في هذا التحرير أنّها لا يتصوّر فيها الشبهة الموضوعية ، وقد صرّح هو قدس سره بذلك وبيّن الوجه فيه في رسالته في اللباس [ المشكوك ] فراجع فإنّه قال : وبعد العلم باجتماعها ( يعني اجتماع الشرائط في المكلّف ) فإن كان العنوان المتعلّق للتكليف من المقدور بلا واسطة والصادر بنفسه ، امتنعت الشبهة المصداقية فيه حال صدوره الارادي بعد تبيّن مفهومه ، إذ يستحيل أن يشكّ من أراد شيئاً عند إرادته له في هوية ما أراده ، وإنّما يعقل الشكّ في العنوان الاختياري حال صدوره إذا كان من المسبّبات التوليدية المقدورة بتوسّط أسبابها واشتبه السبب المحصّل له ، وواضح أنّه متى رجعت الشبهة المصداقية إلى مرحلة المحصّل كان مرجعها إلى الشكّ في الامتثال ، وجودياً كان العنوان المتعلّق أو عدمياً ، حتّى فيما إذا كان المحصّل شرعياً أيضاً وتردّد بين الأقل والأكثر ، ولعلّنا نتعرّض لذلك في المحل المناسب له إن شاء اللّه تعالى.

نعم ، في القسم الأوّل يمكن أن يتطرّق الشبهة المصداقية بعد الفراغ عنه ،

ص: 238


1- في الصفحة : 249.

لكن حيث ( إنّه ) لا أثر لهذه الشبهة في المحرّمات أصلاً ولا في الواجبات أيضاً في غير ما يوجب القضاء والاعادة ، فقاعدة الفراغ حاكمة على أصالة الاشتغال في هذا القسم ( يعني ما يوجب القضاء والاعادة ) ولا يندرج ما عداه لا في مجاري الاشتغال ولا البراءة (1).

والشبهة في المحصّل وإن قلنا بأنّها قسم آخر خارج عن الشبهات الموضوعية والمفهومية كما عرفت ، إلاّ أنّه ليس المراد به ما تقدّم مثاله فيما لو نُهي عن تعظيم الكافر ، وشكّ في أنّ القيام له بلا عمامة محصّل لذلك المنهي عنه أعني التعظيم ، ليتوجّه عليه ما عرفت من كون المرجع في ذلك هو البراءة ، ولو من جهة الشكّ في كون ذلك القيام علّة تامّة لما هو المحرّم أعني التعظيم ، بل المراد هو كون المطلوب المسبّب عن فعل اختياري أمراً وجودياً مثل تعظيم العالم المسبّب عن القيام له ، أو كان أمراً عدمياً مثل إزالة النجاسة عن هذه الأعيان وإعدام قذارتها المتولّد ذلك العدم من غسلها بالماء مثلاً ، فإنّه لو شكّ في أنّ المحصّل لذلك المطلوب العدمي هو الغسل ولو مرّة واحدة ، أو أنّه لا يحصل إلاّبالغسل مرّات متعدّدة ، فهذه الصورة وإن تسامحنا وسمّيناها شبهة مصداقية ، إلاّ أنّه لا ينبغي الريب في كون المرجع فيها هو أصالة الاشتغال ، بخلاف الصورة السابقة ، للفرق الواضح بين كون المتولّد من فعل اختياري مطلوب العدم كما مثّلنا من تعظيم الكافر ، أو كون المطلوب هو نفس الأمر العدمي المتولّد من فعل اختياري ، والأوّل يمكن الرجوع فيه إلى البراءة عند الشكّ في محقّقه ، فتجري البراءة في ذلك القيام بلا عمامة ، بخلاف الثاني فإنّه عند الشكّ في فعل أنّه يترتّب عليه ذلك العدم المطلوب ، فإنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ، و[ هذا هو ] مراد شيخنا قدس سره

ص: 239


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 202 - 204.

كما هو صريح قوله قدس سره : وجودياً كان العنوان المتعلّق أو عدمياً الخ. ولعلّ نسبة القول إليه قدس سره بالقول بالاحتياط في الشبهة المصداقية التحريمية ، ناش عن أنّ مراده بهذه الجملة هو الأوّل ، وقد عرفت أنّ صريحها هو الثاني.

وأمّا الإشكال الثاني ، فحاصله هو أنّه لا فرق في الرجوع إلى البراءة في الشبهات المصداقية بين ما هو متعلّق بموضوع خارجي مثل لا تشرب الخمر ، أو ما ليس له تعلّق بموضوع خارجي مثل لا تغنِّ ، فإنّ تخصيص الرجوع إلى البراءة في خصوص الأوّل بلا مخصّص ، بل إنّها كما تجري في الشبهة المصداقية في مثل لا تشرب الخمر ، فكذلك تجري في الشبهة المصداقية في مثل لا تغنّ.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ لو تمّ الإيراد الأوّل من إمكان تحقّق الشبهة المصداقية ، وكون شيخنا قدس سره قائلاً بأنّ المرجع في تلك الشبهة هو الاحتياط ، وقد عرفت الخدشة في كلا الأمرين.

وأمّا ما أشار إليه بقوله في هذا الايراد الثاني : فضلاً عمّا أوردنا عليه في بحث مقدّمة الواجب من أنّ باب التكاليف طرّاً خارجة عن مصبّ القضايا الحقيقية (1) ، فإن كان المراد بالتكاليف التكاليف المتعلّقة بموضوع خارجي مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ، ففيه أنّ كون ذلك من قبيل القضايا الحقيقية بالنسبة إلى العالم والفاسق غير قابل للانكار ، لأنّها بمنزلة قولك كلّ عالم يجب إكرامه وكلّ فاسق يحرم إكرامه ، ومن الواضح كون هذه القضايا وأمثالها من القضايا الحقيقية. وإن كان المراد بالتكاليف التكاليف التي ليس لها تعلّق بموضوع خارجي مثل قولك لا تغنّ ، فمن الواضح أنّه ليس من قبيل القضايا الحقيقية بالنسبة إلى نفس ذلك الفعل أعني الغناء ، بل هو من قبيل الحكم الوارد على الطبيعة ، إمّا بنحو

ص: 240


1- مقالات الأُصول 2 : 219.

صرف الوجود بأن يكون المطلوب هو عدم صرف الطبيعة ، أو بنحو الطبيعة السارية بأن يكون المطلوب هو عدم كلّ واحد من أفرادها ، وهو المعبّر عنه بالعموم الانحلالي. والأوّل هو المعبّر عنه في كلمات شيخنا قدس سره بالعموم المجموعي.

وينبغي أن يعلم أنّه ليس مراد الكفاية (1) هو هذا النحو ، ليتوجّه عليه ما في المقالة ص 82 (2) ، وما أورده عليه شيخنا قدس سره في تحرير السيّد سلّمه اللّه (3) من أنّ المرجع فيه هو البراءة لا الاشتغال ، بل مراده هو ما عرفت من كون المطلوب هو انعدام الطبيعة وخلوّ صفحة الوجود عنها.

قوله : وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشكّ في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشكّ في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشكّ إلى الشكّ في الامتثال ... الخ (4).

قال السيّد سلّمه اللّه فيما حرّره عنه قدس سره في هذا المقام : وثالثة يكون الحكم متعلّقاً بالعنوان المتحصّل من التروك الخارجية ، فتكون التروك محصّلة لها خارجاً من دون أن يتعلّق بنفسها تكليف ، فعند الشكّ في تحقّق ذلك العنوان في الخارج لابدّ من الحكم بالاشتغال إن لم يكن هناك استصحاب حاكم عليه ، فمورد الحكم بالبراءة أجنبي عن مورد جريان الاستصحاب بالكلّية (5) ، فإنّ مورد البراءة هو

ص: 241


1- كفاية الأُصول : 353 ( الثالث ).
2- مقالات الأُصول 2 : 219 - 220 ، راجع أيضاً ص 217.
3- أجود التقريرات 3 : 351.
4- فوائد الأُصول 3 : 395 - 396.
5- أجود التقريرات 3 : 351.

كون التروك انحلالية أو مجموعية ، ومورد الاستصحاب هو كون المكلّف به هو الاتّصاف بتلك التروك. ثمّ قال السيّد سلّمه اللّه في تحريره : ومن جميع ما ذكرناه يظهر الحال فيما ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس سره في المقام ، فراجع. وقال السيّد سلّمه اللّه قبل هذا في صورة كون المطلوب هو التروك على نحو العام المجموعي ، بعد أن أوضح كون المرجع في الشبهات الموضوعية فيها هو البراءة ، قال : فمن الغريب ما صدر عن المحقّق صاحب الكفاية قدس سره من حكمه في المقام بالاشتغال مع ذهابه إلى البراءة في مسألة الأقل والأكثر الخ (1).

وقلت فيما حرّرته عنه قدس سره بعد بيان المرجع في الصور الثلاثة - أعني كون المطلوب هو الاتّصاف بالتروك على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، وكون المطلوب هو العدم الواحد البسيط المنبسط على تمام أفراد الخمر ، وهو المعبّر عنه بالتروك على نحو العموم المجموعي ، وكون المطلوب هو التروك على نحو العموم الانحلالي - وبيان أحكامها ، ما هذا لفظه : فتلخّص لك أنّه لا مجرى للاستصحاب إلاّفي الصورة الأُولى ، وأنّ ما هو مجرى البراءة وهو الصورة الثانية والثالثة لا مورد فيه للاستصحاب ، وما هو مورد للاستصحاب وهو الصورة الأُولى لا مورد فيه للبراءة ، بل [ لو ] أُغضي النظر فيه عن الاستصحاب لكان مورداً للاحتياط ، لكون الشكّ فيه شكّاً في محصّل ما هو الواجب. ومن ذلك يظهر لك ما فيما يظهر من الكفاية من الجمع في التمسّك في الشبهة التحريمية الموضوعية بين أصالة البراءة والاستصحاب ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ الذي ذكره في الكفاية (2) في الأمر الثالث من الأُمور التي

ص: 242


1- أجود التقريرات 3 : 349.
2- كفاية الأُصول : 353.

ذكرها في ذيل البراءة ما حاصله هو الرجوع إلى الاستصحاب المذكور فيما أُخذ العموم فيه مجموعياً وهو الصورة الثانية ، وإلى البراءة فيما أُخذ العموم فيه انحلالياً وهو الصورة الثالثة ، فلم يجمع بين الاستصحاب والبراءة في صورة واحدة. نعم في حاشية منه على هامش حاشيته على الرسائل (1) في مسألة الشبهة المفهومية وإجمال النصّ ، ذكر ما محصّله الجمع بين الرجوع إلى الاستصحاب وأصالة البراءة. لكنّه لا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ ذلك في الشبهة المفهومية الناشئة عن إجمال النصّ ، وما نحن فيه إنّما هو الشبهة الموضوعية الناشئة عن اشتباه الأُمور الخارجية.

وتوضيح ما أفاده في الكفاية : أنّ الظاهر منه قدس سره أنّه يفرّق بين العام المجموعي في الأوامر والعام المجموعي في النواهي ، وحاصل ما يمكن أن يفرّق به بين البابين هو أن يقال : إنّ الآمر إذا أمر باكرام كلّ عالم على نحو العموم المجموعي كان هناك وجوب واحد منبسط على المجموع ، وكان ذلك الحكم - أعني وجوب الاكرام - مختلفاً سعة وضيقاً باعتبار كثرة أفراد العلماء وقلّتها ، فلو فرض أنّ هذا الشخص المشكوك كونه عالماً لم يكن عالماً في الواقع ، كان ذلك التكليف - أعني وجوب الاكرام - أقلّ منه على تقدير كون الشخص المذكور عالماً في الواقع ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في الأقل والأكثر في ناحية المكلّف به ، بخلاف ما لو قال : لا تشرب الخمر ، على نحو العموم المجموعي ، فإنّه لا يكون المطلوب به إلاّترك تمام أفراد طبيعة الخمر ، بحيث كان المطلوب هو انعدام هذه الطبيعة بتمام أفرادها عن صفحة الوجود ، وهذا المعنى أعني انعدام الطبيعة عن صفحة الوجود المعبّر عنه بخلوّ صفحة الوجود عن مجموع أفراد طبيعة الخمر ، لا

ص: 243


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 132.

يختلف سعة وضيقاً بقلّة أفراد الطبيعة أو كثرتها ، فلو كان هذا الفرد المشكوك كونه خمراً فرداً من أفراد تلك الطبيعة ، لم يكن ذلك موجباً لزيادة في المكلّف به أعني انعدام مجموع الأفراد عن صفحة الوجود وخلوّها عنها ، إذ العدم أمر واحد بسيط لا يختلف سعة وضيقاً بكثرة ما يضاف إليه وبقلّته ، فلا يرجع الشكّ في كون هذا المايع خمراً إلى الشكّ في الأقل والأكثر في ناحية المكلّف به ، بل يرجع الشكّ المذكور إلى الشكّ في حصول ما هو المطلوب ، أعني خلوّ الصفحة عن مجموع الأفراد عند الاقدام على شرب ذلك المشكوك ، فيلزم الاحتياط بالاجتناب عنه.

وفي الحقيقة أنّ انعدام مجموع الأفراد وخلوّ صفحة الوجود عنها ، يكون أمراً بسيطاً وجودياً مسبّباً عن ترك كلّ واحد من أفراد الطبيعة ، وعند الإقدام على شرب ذلك المشكوك يكون حصول ذلك الأمر البسيط مشكوكاً ، فيكون ذلك من قبيل الشكّ في المحصّل ، فإن كان في البين استصحاب ، بأن كانت الصفحة قبل الاقدام على ذلك المشكوك خالية من تلك الأفراد ، لم يكن بالاقدام على ذلك المشكوك بأس ، لاستصحاب بقاء خلوّ الصفحة الذي هو المطلوب ، وهذا الاستصحاب مزيل للشكّ في حصول ذلك المطلوب عند الاقدام على ذلك المشكوك ، بخلاف ما لو لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، فإنّ المرجع حينئذ هو الاحتياط في تحصيل ذلك المطلوب بالاجتناب عن ذلك المشكوك ، لا لأجل احتمال التكليف بتركه ، بل لأجل أنّ الاقدام عليه موجب لاحتمال عدم تحقّق ذلك الأمر البسيط الذي هو المطلوب ، وهو خلوّ صفحة الوجود عن تلك الطبيعة.

ومن ذلك يظهر أنّ الطلب حينئذ يكون من قبيل الأمر ، وأنّ المأمور به هو

ص: 244

أمر وجودي بسيط ، وهو خلوّ صفحة الوجود عن طبيعة شرب الخمر ، ويكون حال هذه الصورة حال ما أفاده الأُستاذ قدس سره من الموجبة المعدولة المحمول ، وليس ذلك من قبيل العموم المجموعي في التروك ، بأن يكون المطلوب هو الترك الواحد المنبسط على تمام أفراد الطبيعة ، بأن يلاحظ المجموعية في أفراد الطبيعة ويتعلّق الطلب بتركها جميعاً ، ويكون المطلوب هو تركاً واحداً منبسطاً على تمام ومجموع تلك الأفراد ، أو أن يلاحظ التروك المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبيعة ويتعلّق الطلب بكلّ واحد من هاتيك التروك مقيّداً بعضها بالبعض الآخر ، لتكون من قبيل الواجبات الارتباطية ، وهذا هو الذي ذكره شيخنا الأُستاذ قدس سره في قبال العموم الانحلالي.

أمّا صاحب الكفاية قدس سره فلم يذكر هذا القسم - أعني العموم المجموعي - بهذا المعنى في قبال العموم الانحلالي ، وإنّما ذكر مقابله ذلك المعنى الذي عبّرنا عنه باخلاء صفحة الوجود عن الطبيعة ، فيكون كلّ منهما قدس سرهما قد أغفل بعض الصور العقلية التي تتصوّر عقلاً في النواهي ، فشيخنا قدس سره قد أغفل ما ذكره صاحب الكفاية وهو ما عبّرنا عنه بكون المطلوب فيه هو إخلاء صفحة الوجود عن الطبيعة ، وصاحب الكفاية قدس سره قد أغفل صورة العموم المجموعي الذي هو عبارة عن كون المطلوب تركاً واحداً منبسطاً على تمام الأفراد ، أو تروكاً متعدّدة حسب تعدّد الأفراد مقيّداً كلّ ترك منها بالترك الآخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما أفاده في المقالة من الايراد على ما في الكفاية بقوله : كما أنّه بالبيان المزبور الخ (1) ، غير متوجّه على ما في الكفاية بعد أن كان مراد الكفاية ما عرفت ، من كون المطلوب بالنواهي هو إخلاء صفحة الوجود من

ص: 245


1- مقالات الأُصول 2 : 217.

صرف الطبيعة الذي عرفت أنّه راجع إلى كون المطلوب معنى بسيطاً متولّداً من ترك صرف الطبيعة.

وكيف كان ، فإنّ الصورة التي هي مورد إمكان إجراء الاستصحاب في كلام شيخنا قدس سره ، وهي صورة كون المطلوب هو اتّصاف المكلّف بالأعدام ، وكذلك الصورة التي ذكرها صاحب الكفاية وهي صورة كون المطلوب هو إعدام الطبيعة وإخلاء صفحة الوجود منها ، إن كانت تلك الجهة الوجودية شرطاً في عبادة كما مثّل به شيخنا قدس سره في مسألة اللباس المشكوك (1) ، أعني اتّصاف المكلّف بعدم لباس ما لا يؤكل لحمه ، أو اتّصاف صلاته بذلك ، فلا إشكال في كون الاستصحاب نافعاً في إحراز ذلك الشرط.

أمّا مع قطع النظر عن كونه شرطاً في عبادة ، بل كان من باب التكليف الاستقلالي ، بأن يكون المكلّف متّصفاً بترك شرب الخمر ، أو من باب التكليف باخلاء صفحة الوجود منها ، نقول : إنّ المكلّف قبل أن يرتكب ذلك المشكوك كان متّصفاً بتلك الصفة أو كانت صفحة الوجود خالية منها ، وأقصى ما عند المكلّف هو الحكم ببقاء ذلك المطلوب وسحبه إلى حال الارتكاب وما بعده ، ولكن مع ذلك يبقى شكّه في جواز الاقدام على الارتكاب ، فإنّ مجرّد جرّه ذلك المطلوب من الآن إلى حال الارتكاب وما بعده ، لا يخوّله الاقدام على ذلك المشكوك إلاّباجراء البراءة في ذلك المشكوك ، ولو بأن يقول إنّ هذا المايع لو كان خمراً لكان شربه علّة تامّة في تركه لذلك الواجب ونقضه ، وما يكون علّة في ترك الواجب يكون ممنوعاً عنه شرعاً ، لأنّ المقدّمة التي تكون علّة في فعل الحرام أو في ترك الواجب تكون محرّمة ، فحيث إنّي أشكّ في كونه خمراً ،

ص: 246


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 473 وما بعدها.

فأشكّ في كون شربه علّة لترك ذلك الواجب ونقضه ، فأشكّ في حرمتها من هذه الجهة ، فأُجري البراءة فيه من هذه الجهة ، ولا يبقى عليَّ إلاّ إحراز المطلوب الذي هو الاتّصاف أو إخلاء صفحة الوجود ، ويكفيني في إحراز ذلك الاستصحاب المذكور.

ومنه يظهر لك أنّه لابدّ من الجمع بين البراءة والاستصحاب ، وما ذلك إلاّ من قبيل من أُمر بحفظ هذه الآنية الزجاجية من الكسر ، ويريد رميها بحجر مثلاً ويحتمل أنّه يكسرها ، فيقدم على ذلك اعتماداً على استصحاب سلامتها إلى ما بعد الرمي ، من دون اعتماد على أصالة البراءة من حرمة ذلك الرمي باعتبار احتمال علّيته في كسرها.

وهذا المعنى - أعني إجراء البراءة في المشكوك - لا يتأتّى في مثل الأفعال الوضوئية بناءً على أنّ الواجب هو المسبّب عنها ، فيما لو شكّ في مدخلية المضمضة مثلاً ، فإنّه لا يمكنه أن يقول : إنّ تركها لعلّه علّة في عدم حصول ذلك المسبّب ، فأُجري البراءة في حرمة تركها ، إذ لا ينفعه ذلك وحده ، لأنّه يبقى شاكّاً في حصول ذلك الواجب البسيط ، وليس لديه ما يحرزه به.

فظهر لك من هذا كلّه أنّه إذا كان المورد ممّا تجري فيه البراءة والاستصحاب ، صحّ الإقدام فيه على المشكوك استناداً إليهما ، فبالبراءة يسوغ له الإقدام ، وبالاستصحاب يحرز ذلك العنوان البسيط الذي هو متعلّق الطلب ، سواء قلنا إنّه هو الاتّصاف ، أو قلنا إنّه عبارة عن خلوّ صفحة الوجود عن تلك الطبيعة وفي المورد الذي لا يجري فيه الاستصحاب لا تكون البراءة فيه وحدها نافعة ، كما في الشكّ عند ترك المضمضة عند احتمال مدخليتها في الطهارة ، وكما في مورد الشكّ في حصول التعظيم الواجب عند القيام مع عدم التعمّم ، كما أنّه في

ص: 247

المورد الذي يجري فيه الاستصحاب وحده لا تكون البراءة نافعة ، كما لو أُمر بحفظ حياة زيد وشكّ في أنّ رميه بهذا السهم قاض على حياته ، فإنّ استصحاب بقاء حياته إلى ما بعد الرمي لا ينفع في جواز الإقدام عليه ، لأصالة الاحتياط في النفوس ، ولو كان الاستصحاب نافعاً في جواز الاقدام لكان حاكماً على أصالة الاحتياط في النفوس ، فتأمّل.

ولعلّ هذا الذي ذكرناه من الاحتياج إلى البراءة عند إجراء الاستصحاب هو المراد لصاحب الكفاية بقوله : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه الخ (1).

فيكون مراده من البراءة هي البراءة من احتمال حرمته باعتبار كونه ناقضاً لذلك الأمر البسيط ، لا حرمته باعتبار كونه فرداً من الطبيعة المحرّمة ، فيكون الحاصل أنّه بعد فرض كون المطلوب هو ذلك الأمر البسيط ، لابدّ من إحرازه بالاستصحاب ، ومجرّد البراءة عن حرمة ذلك الفرد المشكوك باعتبار حرمته الناقضية لا تنفع ، بل لابدّ من الأمرين معاً ، استصحاب بقاء ذلك المشكوك وأصالة البراءة ، وكما أنّ البراءة المذكورة وحدها لا تنفع في رفع قاعدة شغل الذمّة التي مقتضاها الاحتياط ، فكذلك الاستصحاب وحده لا ينفع في جواز الاقدام على ذلك المشكوك ، ويكون المورد محلاً للبراءة المذكورة ، لكنّها إنّما تنفع إذا جرى الاستصحاب ، أمّا إذا لم يكن الاستصحاب جارياً لم تكن البراءة المذكورة وحدها نافعة في سقوط الاحتياط المذكور. ويتلخّص أنّ المورد يكون مجرى للأُصول الثلاثة على تعاقب بين الاستصحاب والاحتياط ، فتأمّل.

نعم ، فيما لو كان المسبّب البسيط محرّماً مثل ما لو نهي عن تعظيم الكافر

ص: 248


1- كفاية الأُصول : 354.

وشكّ في كون القيام بلا عمامة محصّلاً له ، فيكون شاكّاً في حرمة ذلك القيام من جهة شكّه في كونه علّة تامّة للحرام ، فيجري فيه البراءة وبها يسوغ له ذلك القيام ، وليس في البين جهة وجودية كي يلزمه إحرازها بعد إجرائه البراءة في ذلك القيام بخلاف ما نحن فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الأعدام ليست قيوداً في ذلك الواجب - أعني الاتّصاف أو إخلاء صفحة الوجود - كي يتوجّه الإشكال - الذي وجّهه الأُستاذ العراقي قدس سره على شيخنا قدس سره في مقالته المطبوعة (1) ، وهو الإشكال الثالث من الإشكالات التي وجّهها على شيخنا قدس سره - باجراء البراءة في ترك ما هو المشكوك من تلك الأفراد ، بدعوى أنّه لا فرق بين أخذ التروك بنفسها مطلوبة أو كونها قيداً فيما هو المطلوب ، وأنّ أقصى ما في الموجبة المعدولة المحمول هو كون تلك التروك قيوداً في الاتّصاف ، فلا يكون المرجع في ذلك هو أصالة الاشتغال ، وذلك لما عرفت من عدم كون تلك التروك قيوداً في الاتّصاف المزبور ، بل هي محصّلة له وهو متولّد منها.

نعم ، هناك مناقشة أُخرى لعلّها يشير إليها في كلماته ، وهي أنّه لا واقعية للموجبة المعدولة المحمول ، وأنّها عين السالبة البسيطة ، أو نقول إنّ الاتّصاف لا محصّل لوقوعه تحت الطلب الايجابي ، إذ ليس الاتّصاف إلاّعبارة أُخرى عن كون تلك التروك منسوبة إلى المكلّف ، وليس الاتّصاف إلاّعبارة عن تلك النسبة الناقصة ، فيكون واقع الموجبة المعدولة المحمول عين السالبة البسيطة بما هو مفاد ليس الناقصة الذي نعبّر عنه بالعدم النعتي ، إلاّ أنّ هذه إشكالات أُخر لا دخل لها بما هو المدّعى ، وقد تعرّضنا لذلك في مباحث الألفاظ عند الكلام على

ص: 249


1- مقالات الأُصول 2 : 220.

التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية (1) ، وشرحنا الفرق بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولة المحمول ، فراجع.

نعم ، فيما أفاده شيخنا قدس سره جهة أُخرى يحتاج إلى التنبيه عليها ، وهي أنّ ذلك الترك الذي كان اتّصاف المكلّف به مطلوباً لابدّ أن يكون مضافاً إلى صرف الطبيعة ، إذ لو كان مضافاً إلى كلّ فرد لكان اللازم هو كون المطلوب اتّصافه بهذا الفرد وبذلك الفرد إلى آخر الأفراد ، فيكون عنده اتّصافات متعدّدة بتعدّد التروك المتعدّدة بتعدّد الأفراد ، أمّا الفرد المشكوك فيشكّ في مطلوبية الاتّصاف بتركه ، فتجري البراءة فيما يحتمله من وجوب الاتّصاف بترك ذلك المايع المشكوك.

وبالجملة : يكون الاتّصاف المأمور به منحلاً إلى اتّصافات متعدّدة ، فما علم أنّه فرد لتلك الطبيعة يكون الاتّصاف بتركه معلوم الوجوب ، وما شكّ في كونه فرداً منها يكون الاتّصاف بتركه مشكوكاً فتجري البراءة في وجوبه ، بخلاف ما لو جعلنا الترك الذي طلب من المكلّف الاتّصاف به مضافاً إلى صرف الطبيعة ، فإنّه لا يكون لنا إلاّ اتّصاف واحد متعلّق بترك صرف الطبيعة ، ومع الشكّ في فرد منها يكون الاقدام عليه موجباً للشكّ في حصول ذلك الاتّصاف الواحد. وهكذا الحال في مسلك صاحب الكفاية قدس سره ، فإنّه لو كان المطلوب هو إخلاء صفحة الوجود عن كلّ فرد من أفراد الطبيعة ، يكون المرجع في إخلائها من هذا الفرد المشكوك هو البراءة.

بقي الكلام في كون صاحب الكفاية قدس سره قد جمع بين البراءة والاستصحاب في مورد وصورة واحدة ، والذي يمكن أن يستفاد منه ذلك هو عبارته الأخيرة حيث قال : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلاّ أنّ

ص: 250


1- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 186 وما بعدها.

قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرّز عنه ، ولا يكاد يحرز إلاّبترك المشتبه أيضاً ، فتفطّن (1). فإنّه قد يقال : إنّ مفادها هو الرجوع إلى البراءة في المشكوك الفردية ، والاحتياط في المطلوب الذي هو العنوان البسيط ، أعني إعدام الطبيعة وإخلاء صفحة الوجود منها ، وأنّه لو كان له حالة سابقة لكان مورداً للاستصحاب ، وحينئذ يكون قد جمع بين البراءة والاحتياط والاستصحاب في مورد واحد.

لكن الظاهر أنّ مراده هو أنّ الفرد المشكوك في حدّ نفسه وإن كان هو مورداً للبراءة ، إلاّ أنّ هناك مانعاً من الرجوع إليها ، وهو لزوم إحراز المكلّف به أعني ذلك العنوان البسيط ، فلا يكون في البين إلاّ أصالة الاحتياط لو لم يكن الاستصحاب جارياً. ولعلّ مراده هو أنّ البراءة من حرمة الاقدام على الفرد المشكوك باعتبار احتمال حرمته لأجل احتمال كونه ناقضاً لذلك البسيط ، لا تكون وحدها نافعة ما لم ينضمّ إليها الاستصحاب ، فيكون قد جمع بين الأُمور الثلاثة في مورد واحد. نعم لو كان مراده من البراءة هو البراءة من حرمة نفس المشكوك باعتبار كونه فرداً لابدّ أن نقول إنّ ذلك مجرّد فرض.

وأمّا ما أفاده قدس سره في حاشية منه على الرسائل فيما يتعلّق بإجمال النصّ ، فإنّه قدس سره ذكر في أصل الحاشية توهّم لزوم الاحتياط ، بدعوى أنّ التكليف بالاجتناب عن الغناء وشرب الخمر مثلاً ثابت ، فيجب الخروج عن عهدته. وأجاب عن هذا التوهّم بما حاصله : أنّ التكليف الثابت إنّما هو خصوص ما كان الخطاب بياناً له وهو القدر المتيقّن ، وأمّا غيره فلم يكن التكليف فيه منجّزاً ، كتب في الهامش ما نصّه : أنّ التكليف بالاجتناب عن الطبيعة المنهي عنها وإن كان

ص: 251


1- كفاية الأُصول : 354.

منجّزاً يجب إحراز الاجتناب عنها ، لكن يكفي في ذلك إحرازه بأصالة العدم الجارية غالباً عند الاتيان بما يشكّ أنّه منها ، حيث إنّ المكلّف به ليس إلاّ الترك ، وهو محرز بالأصل ولو أتى بما احتمل حرمته ، وأمّا وجه جواز الاتيان به فلعدم كون الخطاب والنهي عن الطبيعة بياناً للتكليف من غير ما علم تفصيلاً أو إجمالاً من أفراده ، فليفهم (1).

وهو لا يخلو من تأمّل ، فإنّ مقتضى الحاجة إلى الرجوع إلى استصحاب الترك هو أنّ المطلوب هو عنوان بسيط مسبّب عن ترك الطبيعة ، ومقتضى ما ذكره من عدم كون الخطاب والنهي عن الطبيعة بياناً على التكليف في غير ما علم تفصيلاً أو إجمالاً من أفراده ، هو عدم ثبوت التكليف فيما عدا الزائد وعدم الحاجة إلى الاستصحاب ، وأنّ المكلّف به هو نفس الترك. نعم قد تقدّم أنّ استصحاب العنوان البسيط على ما أفاده شيخنا قدس سره وعلى ما أفاده هو قدس سره لا ينفع في جواز الاقدام على الفرد المشكوك ، لاحتمال كونه علّة في ترك ذلك العنوان البسيط الذي قد تعلّق به الطلب الوجوبي حسب الفرض ، وأنّه لابدّ في جواز الاقدام عليه من الركون إلى أصالة البراءة من حرمة الاقدام على ذلك المشكوك ، لاحتمال حرمته باعتبار احتمال كونه علّة في تفويت ذلك الواجب البسيط ، وكما أنّ ذلك الاستصحاب لا ينفع بدون تلك البراءة ، فكذلك هذه البراءة لا تنفع بدون ذلك الاستصحاب ، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله في الكفاية : والفرد المشتبه وإن كان الخ ، فيكون تمامية المطلب متوقّفة على اجرائهما معاً ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده من الاستصحاب في خصوص الشبهة المفهومية محلّ تأمّل ، لأنّ المستصحب تركه إن كان هو القدر المتيقّن حرمته ، فهو أعني ذلك الترك عند

ص: 252


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 132.

ارتكاب المشتبه معلوم غير مشكوك ، وإن كان هو ترك ذلك المشتبه فهو عند الارتكاب المذكور غير مشكوك بل معلوم الوجود ، وإن كان المستصحب هو ترك الطبيعة على واقعها ، فهو غير نافع في جواز الإقدام على ذلك المشكوك ، إلاّ بضميمة ما عرفت من أصالة البراءة من احتمال حرمته الناشئة عن احتمال كونه علّة في تفويت الواجب البسيط ، فتأمّل.

قوله : وأمّا العبادات فقد استشكل الشيخ قدس سره في إمكان الاحتياط فيها بل قوّى العدم في هذا المقام ... الخ (1).

الأولى في مبحث الاحتياط في العبادات أن يكون الكلام فيه من جهات أربع :

الأُولى : في إمكانه ، وتكون نقطة الإشكال في هذه الجهة هي فقدان الجزم بالنيّة ، فيتأتّى حينئذ ما علّقنا على مبحث الاحتياط من مباحث القطع (2) ، ومن جملة تلك المباحث الإشكال على هذه المراتب الأربع - التي أشار إليها بقوله : إنّ للامتثال مراتب أربع الخ - (3) ، الامتثال التفصيلي ، الامتثال الاجمالي ، الامتثال الظنّي ، الامتثال الاحتمالي. ومن جملة تلك الإشكالات أنّ هذه المراتب إنّما تجري في أصل الاطاعة تعبّدياً كان المكلّف به أو توصّلياً ، وهي إنّما تقال عند الانسداد ، فيقال : إنّ اللازم أوّلاً هو العلم التفصيلي بالخروج عن العهدة ، وإن لم يمكن ذلك فالاحتياط ، وإن لم يمكن ذلك بعّضناه بحسب الظنّ ، فإن لم يمكن

ص: 253


1- فوائد الأُصول 3 : 399 - 400.
2- راجع الحواشي المذكورة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 172 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 400.

ذلك اقتصرنا على الاحتمال ، ولو كانت هذه المراتب جارية فيما نحن فيه لكان الامتثال الاجمالي متأخّراً عن الظنّي ، وكان في درجة الامتثال الاحتمالي بالنظر إلى أنّ أحد الطرفين محتمل كما قرّره : وتوهّم أنّ الأمر في موارد العلم الاجمالي الخ (1).

والعمدة في هذا المقام هو التعرّض لما عن الشيخ قدس سره ، فإنّه لا ينبغي الريب في صحّة الاحتياط وحسنه في المقام ، لكونه بعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، لكونه بعد الفحص وعدم العثور على ما يكون مثبتاً للتكليف ، ولعلّ كلام الشيخ قدس سره ناظر إلى أصل الاحتياط في قبال الاطاعة التفصيلية.

الثانية ممّا ينبغي أن يحرّر في الاحتياط : هي حسنه عقلاً ، ولا إشكال في هذه الجهة.

الجهة الثالثة : في استحبابه شرعاً ولو من جهة الملازمة بين الحسن العقلي والاستحباب الشرعي ، وما أُفيد بقوله : فإنّ المورد ليس من موارد قاعدة الملازمة الخ (2) ، محلّ تأمّل وإشكال ، فإنّ الحكم العقلي الذي لا يكون مورداً لقاعدة الملازمة إنّما هو حكمه بحسن الطاعة ولزومها وقبح المعصية ، أمّا حكمه بحسن الاحتياط وأنّه يستحسن أن يأتي المكلّف بما يحتمل التكليف به ، فلا مانع من كونه مورداً لقاعدة الملازمة ، فيستكشف به حكم شرعي طريقي على وتيرة ذلك الحكم العقلي.

ولو تمّت هذه الجهة كان لازمها عدم إمكان تعلّق الأمر المولوي الاستحبابي بالاحتياط ، لكونه حينئذ من سنخ الاطاعة غير القابلة لتعلّق الأمر

ص: 254


1- فوائد الأُصول 3 : 401.
2- فوائد الأُصول 3 : 399.

المولوي بها ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا يتمّ حينئذ قوله : نعم ، يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الخ ، لما عرفت من أنّ مقتضى كونه من سنخ الاطاعة [ أن ] لا يكون قابلاً للأمر المولوي ، لكنّك قد عرفت المنع من كونه من سنخ الاطاعة ، بل هو أمر ثانوي واقع في طريق إطاعة الأوامر الأوّلية ، وأنّه عند الجهل بها يستحبّ الاحتياط أعني الاتيان بما يحتمل أنّه مأمور به ، لكونه من سنخ الورع والتقوى أو زيادة الحب للمنعم ، ونحو ذلك ممّا هو خارج عن نفس الاطاعة ، وحينئذ لا داعي لحمل أخبار الاحتياط لو كان لها ظهور في المولوية على الإرشاد لذلك الحكم العقلي بعد فرض إمكان كونها مولوية ، إلاّ أن يدّعى عدم ظهورها في المولوية ، وأنّها بقرينة التعاليل الواردة فيها ظاهرة في الارشاد.

الجهة الرابعة : هي أنّ عبادية العبادة التي يقع الاحتياط فيها هل هي من جهة الاتيان بها بداعي احتمال الأمر ، أو هي من جهة نفس الأمر بالاحتياط ، والظاهر الأوّل ، فإنّ الاحتياط في العبادة لا يكون إلاّبداعي احتمال الأمر ، مضافاً إلى ما يشاهد من عمل المحتاطين ، فإنّهم إنّما يأتون بالعبادة بداعي احتمال أمرها لا بداعي الأمر بالاحتياط ، حتّى أنّه لو سلّمنا كون أوامر الاحتياط إرشادية لكان عمل هؤلاء صحيحاً لا غبار عليه.

قوله : والسرّ في ذلك هو أنّ النذر إنّما يتعلّق بذات صلاة الليل لا بها بما أنّها مستحبّة ، بحيث يؤخذ استحبابها قيداً في متعلّق النذر ، وإلاّ كان النذر باطلاً لعدم القدرة على وفائه ، فإنّ صلاة الليل بالنذر تصير واجبة ، فلا يمكن بعد النذر فعل صلاة الليل بقيد كونها مستحبّة ... الخ (1).

يمكن التأمّل فيه ، بأنّ المراد هو المستحبّة لولا تعلّق النذر بها ، وذلك نظير

ص: 255


1- فوائد الأُصول 3 : 403.

تعلّق النذر بترك الصلاة في الحمام بناءً على الصحيح من كون المنذور هو لولا تعلّق النذر بتركه. مضافاً إلى أنّ الاختلاف في متعلّق النذر مع الأمر الأصلي لا يتوقّف على دعوى كون المنذور مقيّداً بالاستحباب ، بل يكفي فيه أن يكون المنذور هو امتثال ذلك الأمر الاستحبابي ، فيكون من هذه الجهة من قبيل الأمر الاجاري ، ولعلّ هذا هو المتعيّن ، لأنّ الناذر لا يأتي بصلاة الليل بداعي الأمر النذري ، وإنّما يأتي بها بعنوان الامتثال للأمر الاستحبابي المتعلّق بها ، ويكون امتثاله لذلك الأمر الاستحبابي محقّقاً لوفائه بنذره ، أمّا تعلّق النذر بذات صلاة الليل مع قطع النظر عن أمرها الاستحبابي الذي هو ملاك عباديتها ، فلعلّه غير صحيح ، لأنّها مع قطع النظر عن أمرها الاستحبابي لا ينعقد النذر المتعلّق بها فتأمّل.

وبالجملة : أنّ النذر في مثل صلاة الليل لا يتعلّق بذات العمل ولو بعنوان الرياضة البدنية ، لأنّها حينئذ ليست بصلاة الليل المفروض كونها [ عبادة ] والمفروض تعلّق النذر بها بما أنّها عبادة ، كما أنّه لم يتعلّق بها بوصف كونها مستحبّة ، على وجه يكون الناذر في مقام العمل يكتفي في الوفاء بنذره بالاتيان بتلك الأعمال الموصوفة بكونها مستحبّة ، فإنّها حينئذ لا تكون عبادة ، بل المنذور هو امتثال الأمر المتعلّق بصلاة الليل.

ثمّ لا يخفى أنّ الوجه في اندكاك أحد الطلبين بالآخر في صورة كونهما وجوبيين أو استحبابيين هو محالية اجتماع المثلين ، وأمّا صورة كون أحدهما وجوبياً والآخر ندبياً ، هو أنّ الوجوب بالنسبة إلى عدم تجويز الترك من باب الاقتضاء ، والاستحباب بالنسبة إلى ذلك من باب عدم المقتضي ، فالذي ينعدم

ص: 256

من ناحية الاستحباب هو حدّه الراجع بالنسبة إلى الترك إلى عدم المقتضي ، ويكون ذلك المقدار من الطلب الذي يشتمل عليه الندب مندكّاً في الطلب الوجوبي. وكذلك الحال فيما لو كان أحدهما توصّلياً والآخر تعبّدياً ، فإنّه من هذا الباب ، بمعنى أنّ التوصّلي يكون بالنسبة إلى التقييد بالتعبّد من باب عدم المقتضي ، وهو يجتمع مع ما له اقتضاء ذلك وهو التعبّدي ، فلو كانا وجوبيين وكان أحدهما تعبّدياً والآخر توصّلياً ، فلا إشكال في تولّد الطلب الأكيد العبادي. وكذلك الحال لو كان أحدهما ندبياً وكان توصّلياً وكان الآخر وجوبياً عبادياً ، أمّا لو كان العبادي هو الاستحبابي ، ففيه تأمّل ، لأنّ اقتضاء التعبّد في الندبي لا يكون إلاّ عبارة عن اعتبار التعبّد في سقوط أمره ، أمّا الوجوبي فلا يعتبر فيه ذلك ، وحينئذ لا يكون سقوط الأمر الوجوبي المفروض كونه في حدّ نفسه توصّلياً متوقّفاً على التعبّد في متعلّقه ، فلو أتى بصلاة الليل لا بقصد الاطاعة والتعبّد ، لأمرها النذري ، كان الأمر النذري ساقطاً بذلك وإن لم يسقط الأمر الندبي.

وبالجملة : أنّ اندكاك أحد الأمرين بالآخر لا يوجب توقّف سقوط الأمر النذري على قصد التقرّب ، والجهة الاستحبابية بالنسبة إلى قصد التقرّب والتعبّد وإن كانت اقتضائية ولو باعتبار اقتضائها شرطية التقرّب في ذلك الفعل ، إلاّ أنّ ذلك الاقتضاء إنّما هو بالنسبة إلى الأمر الندبي ، لا أنّ جهة الندب تقتضي توقّف صحّة ذلك الفعل في كونه مسقطاً للأمر أيّ أمر كان على التعبّد ، وإنّما يكون ذلك بالنسبة إلى نفس الأمر الندبي ، فلو أتى المكلّف بذلك لكن لا بقصد التعبّد به بل لمجرّد قصد الأمر النذري ، كان مقتضى القاعدة سقوط الأمر النذري بذلك ، وإن لم يسقط الأمر الندبي لتوقّف سقوطه على التعبّد به.

ص: 257

وهكذا الحال فيما لو كانا وجوبيين وكان أحدهما توصّلياً وكان الآخر تعبّدياً ، فإنّ الاتيان بالمتعلّق بدون قصد التعبّد يكون مسقطاً للأمر التوصّلي ، وإن بقي جهة التعبّدي بحالها لم تسقط ، بل وكذلك الحال في الاستحبابيين اللذين يكون أحدهما تعبّدياً والآخر توصّلياً ، وينبغي مراجعة ما علّقناه على مبحث عبادية الطهارات في مباحث مقدّمة الواجب (1) ، فراجع وتأمّل ، وراجع أيضاً ما علّقناه في مسألة التداخل في حاشية ص 342 من تحريرات السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره (2).

قوله : فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلّق الأمر العبادي به ... الخ (3).

الأولى أن يجاب عن ذلك : بأنّ هذا الأمر العبادي المستكشف بالأمر الاحتياطي إن كان هو عين الأمر الواقعي المحتمل ، ففيه أنّ الأمر بالاحتياط لا يكشف عنه. وإن كان هو أمراً آخر تصحيحاً لشمول أوامر الاحتياط لهذا الفعل المفروض كونه عبادياً لو كان مأموراً به ، ففيه أنّ ذلك داخل فيما لو كان شمول العام لفرد متوقّفاً على إعمال عناية من الشارع في ذلك الفرد ، تكون أصالة العموم فيه ساقطة كما حقّق في محلّه. مضافاً إلى أنّه لو التزمنا به لا يكون دافعاً للإشكال ، لأنّ [ الإتيان ] بالفعل بداعي ذلك الأمر المستكشف بأمر الاحتياط ، لا يوجب سقوط الأمر الواقعي الأوّلي ما لم يؤت بالعمل بداعيه.

ص: 258


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 218 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 49 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 407.

قوله : وأمّا الجهة الثانية : فلأنّ الأمر بالاحتياط لم يتعلّق بذات العمل مرسلاً عن قيد كونه محتمل الوجوب ، بل التقييد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر الاحتياط - إلى قوله - فلم يتّحد متعلّق الأمرين حتّى يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الأمر المتعلّق بالعمل لو فرض أنّه كان ممّا تعلّق الأمر العبادي به ... الخ (1).

يمكن للخصم أن يلتزم بذلك ، أعني عدم الاتّحاد بين الأمرين ، لكون الواقعي منهما متعلّقاً بذات العمل ، والاحتياطي متعلّق به بما أنّه محتمل الوجوب ، لكن لمّا كان الاتيان بالعمل بداعي احتمال وجوبه الواقعي غير محقّق لعباديته كما هو مفروض الخصم ، فلا محيص من القول بأنّ اللازم هو الاتيان بالمحتمل الوجوب بداعي الأمر الاحتياطي لتتمّ عباديته بذلك ، ليكون بذلك مسقطاً للأمر الواقعي لو كان موجوداً.

ومنه يظهر أنّ هذه الشقوق الثلاثة المذكورة في ذيل قوله : وبالجملة الخ ، للخصم أن يختار الثاني منها ، ويقول إنّ الأمر بالاحتياط في مورد كون العمل عبادياً يكون متعلّقاً بالعمل ، لكن لابدّ من تقييده بقصد التقرّب لا إلى ذلك الأمر الواقعي المحتمل لأنّه غير ممكن حسب الفرض ، بل إلى الأمر الاحتياطي ، وهذا التقييد كسائر موارد العبادات يتأتّى فيه الخلاف من كونه بحكم العقل ، أو كونه بأمر جديد ، أو بغير ذلك ممّا حرّر في الواجب التعبّدي.

ومن ذلك يظهر أنّ قوله في تقريب شبهة الخصم : فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلّق الأمر العبادي به ، وحينئذ يمكن قصد الأمر القطعي

ص: 259


1- فوائد الأُصول 3 : 405 - 406.

المستكشف من أوامر الاحتياط الخ (1) ، لا يحتاجه الخصم كي يتوجّه عليه ما تقدّم ممّا ذكرناه من أنّ هذا الأمر المستكشف إن كان هو نفس الأمر الواقعي ، فالأمر الاحتياطي لا يدلّ عليه ، وإن كان أمراً آخر بحيث إنّه كانت لنا أوامر ثلاثة : الأمر الواقعي ، والأمر المستكشف ، والأمر الاحتياطي ، كان محصّله توقّف شمول أوامر الاحتياط لما نحن فيه على إعمال عناية من الشارع ، وتوقّف الشمول لفرد على إعمال عناية موجب لسقوط العموم عن شمول ذلك الفرد. مضافاً إلى بقاء الإشكال في سقوط الأمر الواقعي ، إذ لا يسقط الأمر الواقعي ما لم يؤت بالفعل بداعيه.

بل يكفي الخصم أن يقول : إنّ الأمر الاحتياطي بعد فرض شموله لما نحن فيه ممّا هو في حدّ نفسه عبادة ، بمعنى أنّه لو كان مأموراً به لكان عبادة ، وكان ممّا قام الدليل الخارجي على كونه من هذا القسم من الواجبات ، لم يكن لنا بدّ من إيقاعه على جهة العبادية ، وحيث إنّ المفروض أنّ الأمر الاحتمالي لا يكفي في تحقّق عباديته ، لم يكن لنا بدّ من خلق عباديته من ناحية الأمر الاحتياطي بنحو ما حرّر في عبادية الواجب العبادي.

ومنه يظهر لك أنّ ما أُفيد في جواب هذا الاعتراض بقوله : ولكن قد استفيد من دليل خارجي اعتبار قصد امتثال احتمال الأمر الخ (2) غير نافع ، فإنّ هذا الدليل الخارجي إنّما يدلّ على أنّ هذا الفعل لابدّ أن يكون عبادياً ، وحيث إنّ عباديته لا يمكن أن تتحقّق من ناحية احتمال الأمر الواقعي ، فلا محيص لنا إلاّ أن نخلقها من نفس الأمر الاحتياطي على نحو ما عرفت ، فالعمدة في الجواب هو ما أفاده قدس سره من

ص: 260


1- فوائد الأُصول 3 : 407.
2- فوائد الأُصول 3 : 407 - 408.

أنّ نفس الاتيان بالعمل بداعي احتمال أمره الواقعي كافٍ في العبادية ، والأمر الاحتياطي لا يخلق العبادية ، لأنّ المفروض هو الأمر بالاحتياط في العبادة ، فلابدّ أن تكون العبادية لا من جهته ، وإلاّ لكان الحكم خالقاً لموضوعه ومتعلّقه ، فتأمّل.

قوله : فإن قلت : كيف تكون أخبار « من بلغ » مخصّصة لما دلّ على اعتبار الشرائط في حجّية الخبر ، مع أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ... الخ (1).

لعلّ النظر في دعوى العموم من وجه إلى أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد تدلّ على حجّية خصوص خبر العدل ، أعمّ من كونه في الأحكام الالزامية أو في المستحبّات ، وأخبار التسامح تدلّ على حجّية الأعمّ من خبر العدل في خصوص المستحبّات.

ولا يخفى ما فيه ، حيث إنّه لا تعارض بينهما في مورد الاجتماع الذي هو خبر العادل في المستحبّات ، أمّا ما ينفرد فيه أخبار التسامح وهو خبر الفاسق في المستحبّات فهو غير مشمول لأدلّة حجّية خبر العادل ، وهكذا العكس وهو خبر العادل في الواجبات ، فإنّه غير مشمول لأخبار التسامح ، وهذا هو الشأن في كلّ دليلين بينهما عموم من وجه إذا كانا متوافقين في الإثبات والنفي.

لكن هذا إن لوحظت النسبة بين أخبار التسامح وبين منطوق أدلّة خبر العادل ، أمّا لو لوحظت النسبة بين أخبار التسامح وبين منطوق آية النبأ القائل إنّه لا يقبل خبر الفاسق ، فوقوع التعارض بينهما بالعموم من وجه واضح ، لأنّ أخبار التسامح تقول بحجّية مطلق الخبر في خصوص المستحبّات ، ومنطوق آية النبأ

ص: 261


1- فوائد الأُصول 3 : 413.

يقول بعدم قبول خبر الفاسق في مطلق الأحكام ، فيتعارضان في خبر الفاسق الدالّ على استحباب شيء ، وبناءً عليه فينحصر الجواب عن المعارضة المذكورة بتقديم أخبار التسامح ، لشهرة العمل بها. أمّا مفهوم أدلّة حجّية خبر العادل ففي الحقيقة لا يكون هو المعارض لأخبار التسامح ، لما حقّق في محلّه من أنّ المفهوم لا يكون هو مركز المعارضة ، بل العمدة إنّما هو المنطوق ، وقد عرفت أنّه وإن كان بينه وبين أخبار التسامح نسبة العموم من وجه ، إلاّ أنّهما غير متعارضين ، لكونهما متوافقين في الإثبات. نعم من حيث الدلالة على الحصر بالعادل هما متعارضان ، لكن سيأتي (1) أنّ النسبة حينئذ هي العموم والخصوص المطلق ، وأخبار التسامح أخصّ.

وكأنّ الشيخ قدس سره ناظر إلى هذه الجهة الثانية ، فإنّه قال في تعداد ما أُورد على أخبار التسامح : ومنها أنّ هذه الأخبار معارضة بما دلّ على لزوم طرح خبر الفاسق وجعل احتمال صدقه كالعدم - ثمّ قال - وربما يجاب أيضاً بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، والترجيح مع هذه الأخبار. والتحقيق في الجواب : أنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع فهو في المقام غير ثابت ، وإن كان آية النبأ فهي مختصّة - بشهادة تعليلها - بالوجوب والتحريم ، فلابدّ في التعدّي عنهما من دليل مفقود في المقام (2).

ومن ذلك تعرف أنّه لا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير بقوله : ولكن الإنصاف أنّ ما أفاده الشيخ قدس سره لا يخلو عن ضعف ، فإنّ ما دلّ على اعتبار

ص: 262


1- في الصفحة : 264.
2- رسالة في التسامح في أدلّة السنن ( ضمن رسائل فقهية ) : 151 - 152.

الشرائط في أخبار الآحاد لا ينحصر بالإجماع وآية النبأ الخ (1) ، وذلك لأنّ جواب الشيخ بقوله : والتحقيق إلخ ، إنّما هو في قبال دعوى العموم من وجه ، وأنّ المعارض لأخبار التسامح هو ما دلّ على عدم حجّية خبر الفاسق ، وهو منحصر بالإجماع والآية الشريفة. أمّا أدلّة اعتبار العدالة في الخبر فلم تكن مورداً لإشكال المشكل ، فإنّه إنّما أشكل بما يدلّ على طرح خبر الفاسق دون ما دلّ على اعتبار العدالة ، فإنّه لا يدلّ على لزوم طرح خبر الفاسق إلاّبالمفهوم ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لو كان الإشكال من ناحية المقابلة بين منطوق آية النبأ وبين أخبار التسامح بالعموم من وجه ، لم يمكن الجواب عنه إلاّبما نقله الشيخ قدس سره من كون الترجيح مع هذه الأخبار. أمّا ما أفاده الشيخ قدس سره فهو إنّما ينفع في قبال منطوق الآية ، أمّا مفهوم حجّية خبر العادل فلابدّ من الجواب عنه بأنّ التعارض إنّما يكون بين منطوق تلك الأدلّة والأخبار المذكورة ، لا بين نفس مفهوم تلك الأدلّة والأخبار المذكورة. نعم يمكن إنكار المفهوم في تلك الأدلّة ، لما تقدّم في حجّية أخبار الآحاد (2) من كون الانحصار بالعادل أو بالموثوق به ونحو ذلك إنّما هو بمثل القدر المتيقّن ونحوه ، إذ ليس لنا دليل يدلّ بمنطوقه بالصراحة على اعتبار العدالة أو الوثوق على وجه تكون لنا قضية ذات مفهوم ومنطوق.

أمّا ما أجاب به في هذا التحرير بقوله : قلت : مع أنّه يمكن أن يقال الخ (3) من الحكومة ، فلم يظهر وجهه ، كما أنّ ما أُفيد من عدم بقاء المورد لأخبار

ص: 263


1- فوائد الأُصول 3 : 414.
2- فوائد الأُصول 3 : 189 - 191.
3- فوائد الأُصول 3 : 413.

التسامح كذلك ، لأنّا لو قدّمنا أدلّة خبر العادل على أخبار التسامح في مورد كون المخبر بالاستحباب فاسقاً ، يبقى خبر العدل في المستحبّات مورداً لأخبار التسامح ، غايته أنّه مشمول أيضاً لأدلّة حجّية خبر العادل. نعم يمكن إسقاط دعوى العموم من وجه ، فإنّها مبنية على لحاظ نسبة أخبار التسامح مع المنطوق وحده أو مع المفهوم وحده ، وذلك لا وجه له ، بل بحسب الصناعة ينبغي نسبة أخبار التسامح إلى مجموع ما دلّت عليه أخبار حجّية خبر العادل ، فإنّ حاصل تلك الأدلّة هو أنّ الخبر إن كان راويه عادلاً كان مقبولاً في جميع الأحكام ، وإن كان فاسقاً لم يكن مقبولاً.

وإن شئت فقل : إنّ أدلّة خبر الواحد تشترط العدالة في جميع الأحكام ، فتكون أخبار التسامح أخصّ منها ، لأنّ مفادها عدم اشتراط العدالة في خصوص المستحبّات ، وعلى ذلك جرى شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّرته عنه في هذا المقام ، وما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه في ذلك (1).

ومن ذلك كلّه [ يظهر ] أنّ ما أُفيد في هذا التحرير بقوله : قلت مع أنّه يمكن الخ ليس خالياً من التأمّل ، فإنّ الحكومة لا وجه لها. ولو وجّهناها بما أفاده قدس سره في الدورة الثانية من كون أخبار « من بلغ » أخصّ مطلقاً ، لم يتّجه قوله في ذيل العبارة : وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة. كما أنّ هذه الجملة وهي قوله : وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة ، لا تلتئم مع قوله : مع أنّه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار « من بلغ » مورد الخ ، فإنّ عدم بقاء المورد إنّما يناسب كون النسبة هي العموم المطلق ، دون العموم من وجه.

ص: 264


1- أجود التقريرات 3 : 361.

قوله : ولا يبعد أن يكون الوجه الثاني أقرب - كما عليه المشهور - حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة السنن ، وقد عرفت أنّ ظاهر العنوان لا ينطبق إلاّعلى القول بالغاء شرائط الحجّية في الخبر القائم على استحباب الشيء ... الخ (1).

لا يخفى أنّه قدس سره في الدورة الأخيرة قد اختار الوجه الثالث ، وهو الحكم بالاستحباب على نحو الموضوعية ، فراجع ما حرّرته عنه قدس سره وما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه في الدورة الأخيرة. ولم أعرف الوجه في عدم التغيير في هذا التحرير ، مع أنّه قد طبع سنة إحدى وخمسين ، وكان اشتغاله قدس سره في الدورة الأخيرة في هذه المسألة في رجب سنة تسع وأربعين.

وكيف كان ، فإنّ ملخّص ما أفاده قدس سره حسبما حرّرناه عنه قدس سره في اختيار الوجه الثالث ، هو أوّلاً : أنّ هذه الجمل في الأخبار وإن كانت في حدّ نفسها ناظرة إلى حال ما بعد العمل ، إلاّ أنّ قرينة سياقها يعطي النظر إلى ما قبل العمل ، فإنّها في سياق الحثّ على العمل والترغيب فيه بإحداث الداعي على العمل ، فتكون بواسطة هذه القرينة السياقية ناظرة إلى حال ما قبل العمل ، وحينئذ يدور أمرها بين الوجه الثاني وهو جعل الحجّية ، والوجه الثالث وهو جعل الاستحباب على نحو الموضوعية ، وحيث إنّ جعل الحجّية للخبر الضعيف يقتضي إلغاء احتمال الخلاف ، وهو لا يناسب فتح باب احتمال الخلاف الذي أفادته الروايات بقوله : « وإن لم يكن الأمر كما بلغه » (2) كانت هذه الجمل بمنزلة القرينة على أنّ المتكلّم في تلك الأخبار ليس بصدد جعل الحجّية ، بل هي بصدد بيان أمر آخر لا يتنافى مع

ص: 265


1- فوائد الأُصول 3 : 415 - 416.
2- وسائل الشيعة 1 : 82 / أبواب مقدّمة العبادات ب 18 ح 9.

إبداء احتمال الخلاف للسامع ، وذلك الأمر الآخر هو الحكم باستحباب العمل المذكور على نحو الموضوعية.

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك يبقى الترديد بين كونها متعرّضة لاستحباب الاحتياط شرعاً ، أو لأنّه مستحسن عقلاً كما يعطيه التقييد في بعضها بقوله : « فعمله رجاء ذلك الثواب » (1) وبين كونها متعرّضة لاثبات الاستحباب لنفس العمل الذي بلغ عليه الثواب استحباباً واقعياً ثانوياً بعنوان أنّه بلغ عليه الثواب؟

والمختار له قدس سره هو الوجه الثاني من هذين الوجهين ، بدعوى عدم استفادة القيدية من قوله عليه السلام : « رجاء ذلك الثواب » ، بل هو مسوق لبيان حال المكلّف في ذلك الحال ، وأنّه يفعله بداعي الحصول على ذلك الثواب الذي بلغه ، كما هو الشأن فيما لو كان البلوغ بطريق الحجّة المعتبرة ، أو بطريق القطع الناشئ عن القطع الحاصل من الأدلّة المفيدة للقطع ، فإنّ المكلّف إنّما يفعل ذلك الفعل بداعي الحصول على ثواب ذلك العمل ، أو بداعي الحصول على موافقة قول النبي صلى اللّه عليه وآله ، فعبّر عن الأوّل برجاء الثواب ، وعن الثاني بطلب قول النبي صلى اللّه عليه وآله (2) ، فليس هو مسوقاً لبيان القيدية ، ولا لبيان الاتيان بالعمل بداعي احتمال الاستحباب ، بل مسوق لبيان أنّ العمل كان بداعي الحصول على الثواب ، بأن يفعله راجياً من اللّه تعالى أن يثيبه على ذلك العمل ، كما لو صلّى الظهر مثلاً راجياً من اللّه تعالى أن يثيبه ، هذا ملخّص ما أفاده قدس سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما

ص: 266


1- وسائل الشيعة 1 : 82 / أبواب مقدّمة العبادات ب 18 ح 7 ( وفيه : التماس ذلك الثواب ).
2- وسائل الشيعة 1 : 81 / أبواب مقدّمة العبادات ب 18 ح 4.

حرّرته عنه وما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه ص 208 وص 209 (1) وتأمّل.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذه القرائن الثلاث يمكن المناقشة [ فيها ] :

أمّا الأُولى ، وهي كون هذه الجمل في سياق الحثّ وإحداث الداعي ، فلأنّ ذلك لا ينحصر بالحمل على الحجّية أو على الموضوعية ، بل يتأتّى مع بيان أنّ العامل لو عمل ما عمله طامعاً في الثواب راجياً له ، كان له ذلك الثواب وإن كان الواقع على خلافه ، وحينئذ يكون النظر في هذه الأخبار إلى أنّ العامل يعطى أُجرة ذلك العمل ، سواء كان عمله به من جهة قيام الحجّة الشرعية على وجوبه أو استحبابه ، أو كان من جهة الاحتياط واحتماله وجوبه أو استحبابه ، بل لعلّها بتنقيح المناط شاملة لموارد القطع بذلك.

وعلى أيّ حال ، لا يكون لها تعرّض لجعل حجّية ولا لجعل استحباب ، وإن كانت مسوقة في مقام الحثّ والترغيب وإحداث الداعي من هذه الناحية ، أعني ناحية إعطاء الثواب ، لئلاّ يتوقّف المكلّف عن العمل بتسويل الشيطان ، وأنّه لعلّه لا يصادف الواقع بالنسبة إلى من يكون همّه تحصيل الثواب.

أمّا القرينة الثانية ، وهي إبداء احتمال المخالفة ، بدعوى أنّها لا تناسب جعل الحجّية ، لأنّ المناسب لجعل الحجّية هو صرف نظر المكلّف عن احتمال المخالفة ، وتحويل نظره إلى البناء على المطابقة ، لا جعل احتمال المخالفة نصب عينيه ، فهي وإن كانت في الجملة من مقتضيات الحال ، وأنّ المتكلّم البليغ الذي بصدد الحجّية لا يحسن منه إلاّصرف ذهن السامع عن احتمال الخلاف ، إلاّ أنّه مع ذلك لعلّه يكون المقام مقام إبداء ذلك الاحتمال وسدّه تعبّداً ، بأن يقال له : هذا الخبر حجّة كاشفة عن الواقع فيلزمك البناء على المطابقة للواقع ، وإن كنت

ص: 267


1- أجود التقريرات 3 : 360 - 364.

وجداناً تحتمل أنّه مخالف للواقع ، وهذا المقام إنّما هو فيما لو كان المخاطب مشكّكاً ، أو فرض المتكلّم تشكيكه ولو من جهة ظاهر حاله الادّعائي أنّه بصدد الشكّ والانكار ، فإنّ هذه الجهات جهات بلاغة ومناسبة المقال لمقتضى الحال ، حسبما يراه المتكلّم مناسباً للمقام تحقيقاً أو تنزيلاً ، كما يظهر ذلك من مراجعة كلمات علماء البلاغة في القسم الأوّل المعبّر عنه بعلم المعاني في تأكيد الحكم بمراتبه من الجملة الاسمية المؤكّدة بأنّ ، والقسم ، ولام الابتداء ، حسب فرض خلوّ ذهن السامع من الانكار والشكّ في الحكم.

ولكن مع ذلك كلّه إنّما يكون المقامان المذكوران ، أعني مقام صرف ذهن السامع عن احتمال المخالفة للواقع ، ومقام إبداء ذلك الاحتمال ليحكم عليه بالغائه ، إنّما هو بعد الفراغ عن كون المتكلّم في مقام الجعل ، وتردّدنا بين كون المجعول هو الحجّية أو الاستحباب ، وهذا إنّما يتمّ بعد طي المرحلة الأُولى ، وقد عرفت الحال في ذلك وأنّه لم تقم قرينة على أنّه في مقام الجعل والتشريع ، وأنّ جعل الثواب لا يستلزم جعل الاستحباب ، ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في :

القرينة الثالثة ، الراجعة إلى دعوى أنّ مثل قوله عليه السلام : « رجاء ذلك الثواب » لا يكون قيداً في العمل ، بأن يكون عمله رجائياً لاحتمال الأمر الاستحبابي ، بل إنّه مسوق لبيان الداعي له على العمل ، فيكون المنظور إليه هو حالة المكلّف وأنّه فعله بداعي الثواب راجياً ترتّبه عليه ، فإنّ هذه القرينة إنّما تنفع بعد سدّ باب احتمال جعل الحجّية ، وأنّها مسوقة لجعل الاستحباب وتردّدنا بين كون المستحب هو نفس الفعل ، أو كونه هو بداعي الاحتمال لتكون هذه الأخبار منطبقة على استحباب الاحتياط ، أمّا بعد أن صرفنا هذه الروايات عن كلّ من جعل الحجّية والاستحباب ، وقلنا إنّ المنظور بها هو الحثّ والترغيب على العمل

ص: 268

بالسنّة ، لئلاّ يتوقّف المكلّف عن العمل بها بتسويل النفس أو الشيطان بابداء احتمال الخلاف ، فلا نكون في حاجة إلى مثل هذه التشبّثات ، وينطبق الرجاء في الثواب على العامل بالحجّة الشرعية والعامل بالقطع والعامل بطريق الاحتياط ، فإنّ المكلّف في جميع هذه الصور طامع في الثواب طالب له ، أو أنّه طالب لموافقة السنّة المعبّر عنه في بعض تلك الأخبار « طلباً لقول النبي صلى اللّه عليه وآله » ويكون رجاؤه وطلبه لذلك في الجميع بوتيرة واحدة ، فتأمّل.

قوله : القسم الثالث : التخيير الناشئ عن تعارض الحجّتين وتنافي الطريقين ، كتعارض فتوى المجتهدين المتساويين ، ومؤدّى الخبرين مع تساويهما في مرجّحات باب التعارض ... الخ (1).

الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط ، ولكن دلّت المقبولة ونحوها على التخيير في خصوص باب الأخبار بعد التساوي في المرجّحات ، وعلى كلّ حال فباب فتوى المجتهدين المتساويين في العلمية خارج عن تعارض الأمارات ، بل إنّ أصل تشريع التقليد - أعني وجوب كون العمل على طبق فتوى المجتهد - إنّما هو على نحو العموم البدلي ، وإن كانت فتوى كلّ من المجتهدين حجّة في نفسها ، وبواسطة هذا العموم البدلي في وجوب كون العمل على طبق فتوى المجتهد يكون التخيير ثابتاً في أصل التشريع ، بخلاف باب العمل في الأخبار ونحوها من الأمارات ، فإنّ وجوب العمل فيها يكون عمومه انحلالياً ، فيقع التعارض عند التنافي بينهما ، فتدخل المسألة في أصالة التساقط ما لم يدلّ دليل على التخيير في خصوص مورد منها كما في الأخبار ، وقد شرحنا ذلك في

ص: 269


1- فوائد الأُصول 3 : 420.

مبحث التقليد (1) ومبحث التعارض (2) وفي مباحث وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية (3) وفي مبحث التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية (4) فراجع.

قوله : والحاصل أنّ الذي يعتبر في جريان البراءة أمران ... الخ (5).

الأمر الأوّل يتّضح به كون المرجع عند الشكّ في التعيين هو البراءة أو الاشتغال ، لما سيأتي (6) من أنّ التعيين عندما لو علم بوجوب الصيام مثلاً وشكّ في أنّه على نحو التعيين أو على نحو التخيير بينه وبين عدل آخر كالاطعام ، هل هو بجعل الشارع أو أنّه ليس من هذا القبيل.

والأمر الثاني يتّضح به عدم إمكان الرجوع إلى البراءة في وجوب ذلك العدل الآخر تخييراً ، كالإطعام في المثال المذكور بعد العلم بوجوب الصيام ، لأنّ البراءة من طروّ الوجوب التخييري على الإطعام (7) ينتج الضيق على المكلّف بتعيّن الصيام عليه.

وهذه الجهة في هذا الأمر الثاني هي المنظور إليها في عبارة الشيخ قدس سره بقوله : أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والاباحة فلا تجري فيه أدلّة البراءة ، لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلزم به ويعاقب عليه الخ (8) ومراده من عدم جريان دليل البراءة عدم جريانها في الطرف الآخر ، أعني الاطعام

ص: 270


1- مخطوط لم يطبع بعدُ.
2- راجع المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 121 وما بعدها.
3- لم نعثر عليه في مظانه.
4- لم نعثر عليه في مظانه.
5- فوائد الأُصول 3 : 422 - 423.
6- الحاشية الآتية في الصفحة : 272.
7- [ في الأصل : « الصيام » بدل « الإطعام » ، فلاحظ ].
8- فرائد الأُصول 2 : 159.

في المثال المزبور المحتمل كونه عدلاً لما تعلّق به الوجوب أعني الصيام ، فإنّ الاطعام في مثل ذلك يتردّد أمره بين الوجوب التخييري والاباحة ، ومن الواضح عدم جريان البراءة فيه حينئذ ، لأنّ نتيجة جريانها هو تعيّن الصيام على المكلّف ، فيكون ذلك خلاف الامتنان.

وينبغي أن يكون فرض الكلام في صورة عدم تعذّر الطرف المعلوم تعلّق الوجوب به أعني الصيام ، أمّا في صورة تعذّره فلا ينبغي الإشكال في جريان البراءة في الطرف الآخر الذي هو الاطعام.

لا يقال : إنّه في صورة عدم تعذّر الصيام يبقى الشكّ فيما احتمل وجوبه تخييراً - وهو الاطعام - بحاله لا يجري فيه أصل أصلاً ، لأنّ المفروض عدم جريان البراءة فيه ، وعدم جريان أصالة عدم الوجوب كما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى بيانه من أنّ عدم الجعل لا أثر له وعدم المجعول لا أصل له ، وحينئذ تبقى الشبهة في ناحية الاطعام بحالها بلا أصل يجري فيها ، وهو غريب.

لأنّا نقول : لا غرابة في ذلك ، إذ لا يترتّب أثر عملي على الشكّ المزبور إلاّ من جهة كون الطرف المذكور مسقطاً لما علم وجوبه ، والمفروض جريان أصالة الاشتغال من هذه الجهة. وبالجملة : أنّ هذه الشبهة من جهة الأثر المترتّب عليها وهو إسقاط ما علم وجوبه تجري فيها أصالة الاشتغال ، ومن جهة الشكّ في أصل وجوب ذلك الطرف تخييراً لا أثر لها ، فلا غرابة في كونها بلا أصل يجري فيها. ومنه يعلم أنّه عند تعذّر الطرف المحتمل الوجوب يكون الطرف الآخر المردّد بين الوجوب التعييني والتخييري متعيّناً ، وهو واضح.

ص: 271


1- في الصفحة : 291 - 292.

قوله : لأنّ صفة التعيينيّة المشكوكة ليست من الأُمور الوجودية المجعولة شرعاً ولو بالتبع ، بل إنّما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل ، بداهة أنّ نحو تعلّق الخطاب لا يختلف ، تعييناً كان أو تخييرياً ... الخ (1).

وهذا الفرق نظير ما هو الفارق بين الطلب الوجوبي والاستحبابي ، بأنّ الطلب فيهما واحد ، غير أنّه في الاستحبابي محتاج إلى جعل الترخيص في الترك ، بخلاف الايجابي فإنّه يكفي فيه مجرّد جعل الطلب.

ولكن هذا الوجه من الفرق بين التعييني والتخييري لم يذكره قدس سره في مبحث الوجوب التخييري ، فلاحظ التحريرات عنه قدس سره في ذلك المبحث ، خصوصاً ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (2) فإنّه قد ذكر فيه وجوهاً أربعة ، الأوّل : كون الوجوب متعلّقاً بعنوان « أحدهما » الانتزاعي. الثاني : كون الوجوب في كلّ منهما مشروطاً بعدم الآخر. الثالث : كون الوجوب متعلّقاً بالقدر الجامع بينهما. الرابع : كون الواجب هو كلّ واحد منهما على البدل. وقد اختار قدس سره هذا الوجه الرابع الذي هو مبني على الاختلاف بين الوجوبين بالهوية.

وهذا هو الذي أفاده في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : وهذا بخلاف ما إذا كان هناك مصلحة واحدة مترتّبة على كلّ من الفعلين ، فإنّه لا يوجب إلاّ إيجاب أحدهما تخييراً ، فلابدّ من تقييد الاطلاق بأداة العطف ، وهذا سنخ من الوجوب يعبّر عنه بالوجوب التخييري ، فالواجب في الحقيقة هو أحدهما المردّد القابل للانطباق على كلّ من الفعلين الخ (3)

ص: 272


1- فوائد الأُصول 3 : 427 - 428.
2- فوائد الأُصول 1 - 2 : 232 - 235.
3- أجود التقريرات 3 : 380 - 381.

أمّا لو كان هناك مصلحتان متضادتان لا يمكن الجمع بينهما في الخارج مع كون كلّ منهما ملزمة في نفسها ، فقد حكم في التحرير المذكور بسقوط احتماله ، وأنّ فرض وجود الملاكين فرض نادر موهوم بعيد عن الأذهان ، وقد مثّل لذلك بمسألة ما لو كان لنا دليلان دلّ أحدهما على وجوب الظهر والآخر دلّ على وجوب الجمعة ، وقام دليل خارجي على عدم وجوب كليهما معاً ، فلابدّ من أحد التقييدين الخ (1) فإنّ ذلك وإن كان من باب التعارض الطارئ الناشئ عن الإجماع مثلاً على عدم الفريضتين في يوم واحد ، فيكون المرجع فيه هو أحكام التعارض ، لا تقييد كلّ منهما بعدم الأُخرى بمفاد إن الشرطية ، أو التقييد بمفاد لفظ « أو » التخييرية ، إلاّ أنّه لو جمعنا بينهما بحسب الدلالة بالحمل على الوجوب التخييري ، دخلت المسألة فيما نحن فيه ، وهذا هو مراد شيخنا قدس سره ، وهاك نصّ ما حرّرته عنه قدس سره وهو قولي : وربما كان الواجب التخييري مردّداً بينهما كما لو ورد الأمر بصلاة الجمعة يومها ، وورد أمر آخر بصلاة الظهر ، وقام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد ، وجمعنا بين الأمرين بحمل كلّ منهما على الوجوب التخييري الخ ، وكأنّ هذه الجملة قد سقطت من قلم المحرّر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ التخيير لو كان ناشئاً عن تزاحم الملاكين في مقام الجعل لا يكون منتجاً لايجاب كلّ منهما مشروطاً في مقام الحدوث بعدم الآخر ، كي يكون المرجع عند الاتيان بأحدهما هو البراءة من الآخر كما أفاده بقوله : وعليه يكون وجوب كلّ منهما عند عدم الاتيان بمتعلّق الآخر الخ (2) بل يكون الاشتراط المذكور واقعاً في مقام البقاء ، كما أفاد في هذا الكتاب بقوله : فالتقييد

ص: 273


1- أجود التقريرات 3 : 381.
2- أجود التقريرات 3 : 382.

إنّما يكون باعتبار البقاء ومرحلة السقوط لا باعتبار الثبوت ومرحلة الحدوث الخ (1) وإن كان الذي يظهر منه في مبحث الواجب التخييري (2) هو كون الاشتراط في مرحلة الحدوث ، فراجع وتأمّل.

وتوضيح هذا المبحث من أوّله إلى آخره يحصل بأُمور :

الأوّل : ما حقّق في محلّه في مبحث الوجوب التخييري (3) من أنّه لا يكون ناشئاً إلاّعن ملاك واحد يقوم به كلّ من الفعلين ، غايته أنّه لمّا لم يكن بينهما جامع عرفي قريب ، كان التخيير بينهما شرعياً ، وإلاّ ففي الحقيقة لا يكون الواجب إلاّ القدر الجامع بين الفعلين ، بحيث إنّه لو كان ذلك القدر الجامع ممّا يدركه العرف وكان قريباً لأذهانهم ، لكان الوجوب متعلّقاً به ، وكان التخيير بين الفعلين عقلياً.

أمّا ما يقال من إمكان تصوير كون التخيير الشرعي ناشئاً عن ملاكين فقد حقّق في محلّه وهنا أيضاً أنّه أوّلاً خلاف الظاهر من إبراز الحكم بقالب العطف بلفظ « أو ». وثانياً : منع إمكان ذلك من أصله ، حيث إنّ فرض تزاحم الملاكين في مقام الجعل والتشريع يوجب الجعل على طبق أحدهما عند تساويهما ، فلا يكون المؤثّر إلاّملاكاً واحداً وهو أحد الملاكين ، لا أنّ المؤثّر هو كلّ من الملاكين ليكون ذلك موجباً لاشتراط التكليف بكلّ من الفعلين في مرحلة البقاء بعدم

ص: 274


1- فوائد الأُصول 3 : 429.
2- فوائد الأُصول 1 - 2 : 232 - 234.
3- راجع بحث الواجب التعييني والتخييري في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 249 وما بعدها.

الاتيان بالفعل الآخر (1) وإن كان هذا الأخير محلّ تأمّل ، لأنّ الملاكين لو كان كلّ منهما في حدّ نفسه تام الملاكية ، غير أنّه لا يمكن استيفاؤه مع استيفاء الآخر ، يكون كلّ منهما باعثاً للمولى على إيجاد الحكم على طبقه مقيّداً بقاؤه بعدم الآخر ، ولا يعقل أن ينبعث المولى عن أحدهما بإيجاد طلب أحد الفعلين ، فإنّ طلب المولى وإن أمكن تعلّقه بإيجاد أحد الفعلين ، بخلاف الإرادة التكوينية من العبد ، إذ لا يصحّ تعلّقها بإيجاد أحد الفعلين ، إلاّ أنّ نفس جعل المولى الطلب الناشئ عن أحد الملاكين ، يكون من هذه الجهة حاله حال الإرادة التكوينية في أنّها لا يعقل أن تنشأ عن أحد الملاكين.

وبالجملة : أنّ هذا الطلب الواحد المتعلّق بأحد الفعلين لا يعقل أن يكون ناشئاً عن أحد الملاكين ، فإنّه من هذه الجهة كالفعل الواحد الصادر عن أحد الباعثين ، فكما نقول بمحالية صدور الفعل الواحد عن أحد الباعثين ، فكذلك ينبغي أن نقول بمحالية صدور الطلب الواحد من المولى المتعلّق بأحد الفعلين عن أحد الملاكين ، بل لابدّ في ذلك من صدور طلبين يتعلّق أحدهما بأحد الفعلين معيّناً والآخر بالآخر ، ويكون بقاء كلّ منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر. ويمكن أن تكون ملاكية أحد الملاكين مشروطة بعدم وجود الفعل الآخر ، فيكون اشتراط العدم اشتراطاً في أصل حدوث الطلب وفي بقائه بعد تحقّق حدوث الطلب وتعلّقه بكلّ منهما.

وعلى كلّ حال ، يكون المنشأ طلبين لا طلباً واحداً متعلّقاً بأحدهما ،

ص: 275


1- هذا حاصل ما أفاده شيخنا قدس سره فراجع تحريرات السيّد ص 155 وتحريرات المرحوم الشيخ محمّد على ص 130 من مبحث الواجب التخييري [ منه قدس سره. راجع أجود التقريرات 1 :268- 269 وفوائد الأُصول 1 - 2 : 232 - 234 ].

ويكون عدم كلّ منهما شرطاً في حدوث الآخر وفي بقائه ، أو يكون شرطاً في بقائه لا في حدوثه ، أمّا كونه شرطاً في حدوثه فقط نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فلا يتأتّى فيما نحن فيه ، لأنّ لازمه هو أنّه عند خلوّ صفحة الوجود عن كلّ منهما أن يتوجّه كلا التكليفين ، ولابدّ من الاتيان بكلّ منهما حينئذ ، ولا يكون الاتيان بأحدهما موجباً لسقوط الآخر. نعم فيما لو كان هناك ملاك واحد يقوم به كلّ من الفعلين ، يكون الناشئ عن ذلك الملاك الواحد طلباً واحداً متعلّقاً بأحد الفعلين.

الأمر الثاني : أنّه بعد فرض كون المنشأ في الخطاب التخييري هو الملاك الواحد ، لابدّ أن يكون مرجعه إلى تكليف واحد متعلّق بأحد الفعلين على البدل ، لا أنّه يكون مرجعه إلى التكليف بكلّ من الفعلين مشروطاً ولو في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، بحيث إنّه قبل الاتيان بشيء منهما يكون لنا تكليفان فعليان يكون بقاء كلّ منهما مشروطاً بعدم الاتيان بمتعلّق التكليف الآخر ، إذ لو كان مرجعه إلى ذلك لزم منه كون الملاك الواحد علّة لتكليفين ، واشتراط بقاء كلّ منهما بعدم الاتيان بمتعلّق الآخر لا يدفع هذا المحذور ، أعني استحالة كون الملاك الواحد علّة في توجّه تكليفين فعليين.

نعم ، هذا الاشتراط الذي يكون مرجعه إلى الترتّب من الطرفين ، يدفع إشكال التدافع والتطارد بين الخطابين فيما لو كان المكلّف غير قادر على امتثالهما ، كما لو كان التزاحم في مقام الامتثال من جهة عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما كما في مسألة الغريقين ، ومع ذلك هذا الاشتراط إنّما يكون في مرحلة الحدوث لا في مرحلة البقاء.

الأمر الثالث : أنّه بعد أن عرفت أنّ مرجع الخطاب التخييري إلى تكليف

ص: 276

واحد متعلّق بأحد الفعلين ، تعرف أنّ الاتيان بأحد الفعلين لا ينبغي أن يعدّ من قبيل المسقط للتكليف بالآخر إلاّمسامحة ، حيث إنّك قد عرفت أنّه ليس لنا في الوجوب التخييري تكليفان يكون الاتيان بمتعلّق أحدهما مسقطاً للآخر ، بل لا يكون لنا إلاّتكليف واحد متعلّق بأحد الفعلين ، فهو أشبه شيء بالتخيير العقلي ، بل هو هو بعينه ، غايته أنّه لم يكن فيه جامع عرفي بين الفعلين ، فلا يكون الاتيان بأحد الفعلين إلاّ امتثالاً لذلك التكليف ، أعني التكليف بأحد الفعلين ، لا أنّه يكون امتثالاً للتكليف المتعلّق بالمأتي به وإسقاطاً للتكليف المتعلّق بالآخر الذي لم يأت به ، ولو كان كذلك لعاد المحذور السابق المذكور في الأمر الثاني.

وبالجملة : أنّ كلّ واحد من العدلين لا يكون إلاّ امتثالاً لنفس الوجوب التخييري ، وليس كلّ منهما مسقطاً للتكليف بالآخر ، وإلاّ لكان عدمه شرطاً للتكليف بالآخر ولو في مرحلة البقاء ، فيعود إشكال استحالة كون الملاك الواحد علّة لتكليفين فعليين ولو بالنسبة إلى ما قبل الشروع في شيء من المتعلّقين.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لو أتى بهما دفعة واحدة يكون أحدهما لا بعينه امتثالاً والآخر لغواً. ويحتمل أن يكون المجموع امتثالاً واحداً ، نظراً إلى ما ذكرناه من رجوع التكليف التخييري في الحقيقة إلى التكليف بالقدر الجامع وإن لم يكن ذلك الجامع عرفياً ، فيكون المجموع من الفعلين مصداقاً ووجوداً واحداً من تلك الطبيعة التي هي القدر الجامع. وعلى أيّ حال ، فإنّ احتمال كون ذلك المجموع عبارة عن امتثالين لا وجه له ، كاحتمال عدم حصول الامتثال بذلك المجموع ، نظراً إلى أنّ كلّ واحد منهما ورد في مورد مسقطه الذي هو متعلّق الآخر ، فإنّ هذه الشبهة إنّما نشأت من دعوى كون أحد الفعلين مسقطاً للتكليف المتعلّق بالآخر ، وقد عرفت عدم صحّتها ، وأنّ الصحيح هو أنّ أحد الفعلين يكون امتثالاً للتكليف

ص: 277

التخييري ، الذي هو عبارة عن وجوب أحد الفعلين.

الأمر الرابع : بما أنّه قد عرفت أنّ الاتيان بأحد الفعلين لا يكون إلاّ امتثالاً لذلك التكليف التخييري ، تعرف أنّه لو علم بوجوب العتق مثلاً واحتمل كون الصيام واجباً أيضاً تخييرياً بينه وبين العتق ، لو أتى المكلّف بالصيام ، لا يكون من قبيل الشكّ في سقوط التكليف بالعتق ، ولا من قبيل الشكّ في كون الصيام مسقطاً له ، بل لا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في الامتثال ، لأنّه على تقدير كون التكليف متعلّقاً بخصوص العتق لم يكن الامتثال حاصلاً ، فلا يكون الشكّ إلاّمن قبيل الشكّ في حصول الامتثال ، فهو من هذه الجهة أشبه شيء بما لو توجّه إليه التكليف المردّد متعلّقه بين الجمعة والظهر وقد أتى بأحدهما. نعم يمكن التعبير بأصالة الاشتغال وأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، لكن لا بالنسبة إلى خصوص العتق ، بل بالنسبة إلى العلم الاجمالي المردّد بين كون المكلّف به هو خصوص العتق ، أو هو أحد الأمرين منه ومن الصيام.

وبالجملة : أنّ المعوّل عليه في هذه المسألة هو العلم الاجمالي المذكور ، بل يكون هو المعوّل حتّى لو لم نتمكّن من إثبات كون الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاك واحد ، بأن احتملنا كونه ناشئاً عن ملاكين ، فإنّه عند الدوران في وجوب العتق بين التعيين والتخيير بينه وبين الصيام ، يحصل لنا ذلك العلم الاجمالي أيضاً لأنّا حينئذ نعلم بأنّا مكلّفون إمّا بالعتق وحده ، أو بأحد الأمرين منه ومن الصيام إن كان الخطاب التخييري ناشئاً عن ملاك واحد ، أو بكلّ من الأمرين المذكورين في ظرف عدم الآخر إن كان الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاكين ، وعلى كلّ من هذه الأطراف الثلاثة يكون الفراغ اليقيني منحصراً بالعتق ، ولا يحسن أن نقول إنّ الاتيان بالصيام يكون من قبيل الشكّ في كونه مسقطاً للتكليف بالعتق ، نعم هو من

ص: 278

قبيل الشكّ في المسقط بالنسبة إلى ذلك المكلّف به واقعاً ، المردّد بين كونه هو خصوص العتق أو كونه أحد الأمرين ، كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه (1)

ص: 279


1- والأولى أن يقال : إنّا بعد أن تصوّرنا التخيير عن ملاك واحد والتخيير عن ملاكين ، بكون ملاكية كلّ مشروطة حدوثاً وبقاءً بعدم الفعل الآخر ، أو بكون بقاء أحد الملاكين مشروطاً بعدم الآخر ، تكون الاحتمالات ثلاثة ، ولا إشكال في لزوم الاحتياط لو كنّا مسبوقين بترك الصيام مثلاً ، فإنّه حينئذ يحصل لنا العلم بأنّه قد توجّه إلينا التكليف إمّا بالعتق وحده ، وإمّا بأحدهما ، وإمّا بالعتق بشرط عدم الصيام حدوثاً وبقاءً ، وإمّا به ما دام عدم الصيام ، فعند وجود الصيام نشكّ في سقوط التكليف الذي علمناه قبل حدوثه. نعم لو لم نكن مسبوقين بعدم الصيام ، بل كان الصيام مثلاً موجوداً وحصل لنا ما يوجب وجوب العتق على الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، تنحلّ المسألة إلى الشكّ في التكليف ، لأنّه على أحد الوجوه المذكورة لا نكون مكلّفين بشيء عند وجود الصيام ، وحينئذ يكون الجاري في حقّنا هو البراءة ، فتأمّل. لكن هذا الفرض نادر جدّاً ، والغالب هو اقتران سبب وجوب العتق بعدم الطرف الآخر الذي هو الصيام مثلاً ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة الاشتغال فيما لو أقدم على الصيام بعد توجّه الأمر بالعتق عند حدوث سبب وجوبه ، وهذه الطريقة أعني أصالة الاشتغال كما تجري في الصورة المذكورة ، أعني ما لو علم بوجوب العتق وشكّ في كونه تعيينياً أو تخييرياً بينه وبين الصدقة مثلاً ، فكذلك تجري فيما لو علم وجوب كلّ منهما وشكّ في التعيين والتخيير في كلّ منهما. وكذلك تجري أيضاً في الصورة الثالثة ، وهي ما لو علم وجوب كلّ منهما تخييراً ، ولكن حصل الشكّ في شمول ذلك الوجوب التخييري لثالث لهما ، بأن احتملنا كون أطراف ذلك الوجوب التخييري ثلاثة : الاثنين المذكورين وثالثاً لهما وهو الصيام مثلاً فإنّه عند الاتيان بالصيام تجري أصالة الاشتغال في ذلك الوجوب التخييري المعلوم تعلّقه بأحد الاثنين. بل وكذلك تجري هذه الطريقة فيما لو علمنا أنّ ذلك الثالث ليس بواجب تخييري ، ولكن احتملنا كون وجود ذلك الثالث مسقطاً لهما. وكذا فيما لو علمنا وجوب شيء معيّن وجوباً تعيينياً ، ولكن احتملنا أنّ الفعل الفلاني يكون مسقطاً لذلك الوجوب التعييني ، وإن لم يكن هو - أعني ذلك الفعل - واجباً لا تعييناً ولا تخييراً. نعم ، هناك شكّ آخر في هذه المسائل ، وهو أنّه عند تعذّر ما علمنا وجوبه ، هل يتعيّن ذلك الطرف الآخر المشكوك الطرفية أو المشكوك كونه مسقطاً ، ولابدّ من التعرّض لهذه الجهة من الشكّ. ولكن المسألة الثانية خارجة عن هذا البحث ، فإنّا لو علمنا بوجوب كلّ من العتق والصدقة مثلاً ، وشككنا في كونه تعيينياً أو تخييرياً ، لو اتّفق تعذّر العتق مثلاً ، فلا إشكال في وجوب الاتيان بالصدقة ، سواء كان وجوبهما تعيينياً أو كان وجوبهما تخييرياً. وكذلك الحال في المسألة الأخيرة ، فإنّ ذلك الفعل الآخر المحتمل الاسقاط لا يحتمل وجوبه عند تعذّر الطرف الآخر الذي تعلّق به الوجوب حتّى في صورة العلم بكونه مسقطاً. نعم ، تدخل هذه المسألة في هذا البحث لو احتملنا مع كونه مسقطاً كونه طرفاً في الوجوب التخييري ، بأن يحصل التردّد بين كونه مسقطاً محضاً وكونه طرفاً في الوجوب التخييري ، وكذلك لو انضمّ إليهما احتمال ثالث ، وهو كونه مباحاً صرفاً لا مسقطاً ولا واجباً تخييرياً. ثمّ بعد ذلك نقول بعونه تعالى : قد يقال في هذه المسائل عند تعذّر ما علم وجوبه بالاشتغال ، نظراً إلى أنّ تعذّر ما تعذّر هل يوجب سقوط التكليف الذي كان ثابتاً قبل التعذّر. وقد يقال بالبراءة ، نظراً إلى كون تعيّن الباقي مشكوكاً ، لأنّ تعيّنه إنّما يكون لو كان الوجوب تخييرياً ، والمفروض أنّه لم يثبت ذلك ، وحينئذ يكون تعيّن الصيام مشكوكاً ، فالأصل فيه البراءة [ منه قدس سره ].

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو تعذّر عليه العتق بعد توجّه الخطاب المذكور ،

ص: 280

يكون المرجع هو مقتضى ذلك العلم الاجمالي ، ويكون أشبه شيء بما لو تعذّر عليه أحد طرفي العلم الاجمالي بعد توجّه التكليف المردّد بين الطرفين.

لكن الذي بنى عليه شيخنا قدس سره هو الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الآخر المحتمل كونه عدلاً لما تعذّر ، فقال في هذا الكتاب : والوظيفة عند الشكّ هي البراءة عن التكليف بالصيام ، للشكّ في تعلّق التكليف به ، وذلك واضح الخ (1).

وقال فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه ص 216 أمّا القسم الأوّل وهو ما إذا علم المسقطية وشكّ في الوجوب ، فحكمه الرجوع إلى البراءة عند تعذّر الواجب المعلوم وجوبه في الجملة ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في وجوبه التعييني بالعرض الخ. وبنحو ذلك صرّح في أوّل الصفحة المزبورة (2) ، فراجع.

وقال فيما حرّرته عنه قدس سره : فلو دار الأمر في وجوب القراءة والائتمام بين كونهما واجبين تخييريين أو كون الأوّل واجباً والثاني مسقطاً له بأحد الوجوه المزبورة ، فإنّ أثر هذا الشكّ إنّما يظهر في خصوص ما لو تعذّرت القراءة ، فعلى تقدير كون الوجوب تخييرياً يتعيّن الائتمام ، وعلى التقدير الثاني بجميع محتملاته لا يتعيّن الائتمام ، بل له أن يصلّي منفرداً من دون قراءة ، أو بما يحسنه منها أو من الترجمة أو الملحون ، وحينئذ ففي ذلك الحال يشكّ في وجوب الائتمام عليه ، فيكون المرجع هو البراءة الخ.

وقال قدس سره فيما حرّرته عنه في الدورة السابقة : ولا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو البراءة عن لزوم الجماعة ، لأنّه بعد تعذّر الانفراد يشكّ في وجوب الجماعة عليه تعييناً شكّاً بدوياً ، والأصل البراءة عن وجوبها.

ص: 281


1- فوائد الأُصول 3 : 430.
2- أجود التقريرات 3 : 374 - 375.

لا يقال : قد علم بتوجّه خطاب إليه مردّد بين التعييني والتخييري ، وبعد تعذّر ما يحتمل تعيينه يشكّ في سقوط ذلك الخطاب عنه.

لأنّا نقول : ليس بين الخطاب التعييني والخطاب التخييري قدر جامع حتّى يقال إنّه بعد التعذّر المذكور يشكّ في سقوط ذاك القدر الجامع ، أعني ذلك الخطاب الكلّي الذي يمكن انطباقه على التخييري ويمكن انطباقه على التعييني. وأمّا العلم الاجمالي المردّد بين الخطابين فقد انحلّ قبل التعذّر ، بتنجّز ما يحتمل تعيينه لكونه قدراً متيقّناً ، انتهى.

ولا يخفى أنّه لو كان التعذّر المذكور حاصلاً قبل توجّه هذا الخطاب المردّد لكان جريان البراءة من تعيين ما لم يتعذّر واضحاً كما لا يخفى ، لكن ذلك خارج عن محلّ الكلام ، فإنّه إنّما هو في صورة التعذّر الطارئ بعد العلم الاجمالي (1).

أمّا في هذه الدورة الأخيرة ، فقد ذكر قدس سره هذا الإشكال ، لكن قرّره بطريق التمسّك باستصحاب الوجوب الثابت قبل التعذّر ، وأجاب عنه بأنّه لا يثبت وجوب الباقي إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فراجع ما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه أعني قوله : فإن قلت : إذا كان تعذّر القراءة لأمر طارٍ من ضيق الوقت ونحوه ، فمقتضى القاعدة هو استصحاب كلّي الوجوب الخ (2)

ص: 282


1- وقال الشيخ قدس سره [ في فرائد الأُصول 2 : 106 ] : أمّا إذا قطع بكونه مسقطاً للواجب المعلوم ، وشكّ في كونه واجباً مسقطاً للواجب الآخر ، أو مباحاً مسقطاً لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، فلا مجرى للأصل إلاّبالنسبة إلى طلبه ، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض تعذّر ذلك الواجب الآخر [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 3 : 378.

قلت : لو كان ملاك الإشكال هو التمسّك بالاستصحاب فهو كما أفاده قدس سره من كونه مثبتاً. ويمكن القول بأنّه لا جامع بين الوجوبين كي يكون هو المستصحب ، وحينئذ تكون المسألة من قبيل الفرد المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع. أمّا لو كان ملاكه هو التمسّك بقاعدة الاشتغال ، كان الجواب عنه هو ما أفاده فيما نقلناه عنه قدس سره في الدورة السابقة.

ولكن ذلك محلّ تأمّل ، أمّا أوّلاً : فللنقض بأصالة الاشتغال فيما لو تردّد وجوب العتق بين التعيين والتخيير بينه وبين الصيام ، فإنّه أفاد أنّه بعد الاتيان بالصيام يكون المرجع هو أصالة الاشتغال ، مع أنّه يتوجّه عليه ما أفاده قدس سره من أنّه ليس بين الخطاب التعييني المتعلّق بالعتق والخطاب التخييري بينه وبين الصيام قدر جامع ، كي يتمسّك بأصالة الاشتغال بذلك القدر الجامع ، التي هي العمدة في لزوم الاتيان بالعتق بعد الإقدام على الصيام.

وأمّا ثانياً : فلأنّ من يدّعي الرجوع إلى أصالة الاشتغال لا يريد بها أصالة الاشتغال بالعتق ، ليتوجّه عليه ما أفاده قدس سره من أنّه لا جامع بين طرفي وجوبه المردّد بين كونه تخييرياً أو تعيينياً ، بل يقول إنّ المرجع هو مقتضى العلم الاجمالي المردّد بين وجوب خصوص العتق أو وجوب أحد الفعلين منه ومن الصيام ، فإنّ هذا المكلّف يعلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته إمّا بخصوص العتق أو بأحد الفعلين منه ومن الصيام ، وهذا العلم الاجمالي بعد تنجّزه لا يسقطه تعذّر العتق ، لأنّه من قبيل التعذّر الطارئ ، فيكون من هذه الجهة من قبيل الشكّ في كون هذا التعذّر مسقطاً لما اشتغلت به ذمّته ، لأنّه إن كان الوجوب متعلّقاً بخصوص العتق فقد سقط بتعذّره ، وإن كان متعلّقاً بأحد الأمرين منه ومن الصيام لم يكن تعذّر العتق مسقطاً له.

ص: 283

وأمّا ما أفاده قدس سره من دفع هذا العلم الاجمالي بأنّه قد انحلّ قبل التعذّر ، فيمكن التأمّل فيه ، إذ لم ينحلّ هذا العلم الاجمالي بلزوم الاتيان بالعتق ، بل كان لزومه هو عين تأثيره ، وفي الحقيقة يكون ذلك أشبه شيء بالأقل والأكثر ، وقد حكم قدس سره بعدم الانحلال فيه. نعم لو قلنا بتعدّد الملاك في الوجوب التخييري ، ليكون وجوب كلّ واحد من العدلين مشروطاً ولو في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، بحيث إنّه كان قد تحقّق التكليف بكلّ من العدلين في ظرف عدم الاتيان بهما الذي هو قبل الشروع في أحدهما ، لكانت دعوى الانحلال بوجوب العتق مثلاً والشكّ في وجوب الصيام في محلّها ، لأنّه إن كان الوجوب تخييرياً كان كلّ منهما واجباً تعيينياً في تلك المرحلة ، وإن كان الوجوب تعيينياً كان الواجب معيّناً في تلك المرحلة هو خصوص العتق ، فلو فرض تعذّر العتق بعد ذلك ، لم يخرج الصيام عمّا كان عليه قبل التعذّر من كون المرجع في الشكّ في وجوبه التعييني هو البراءة.

ولكن لا يخلو ذلك عن تأمّل ، فإنّ وجوب الصيام عند انعدام العتق لا يكون أثر البراءة فيه إلاّعدم الاكتفاء بالصيام عن العتق ، فيكون جريانها منافياً للامتنان ، وإنّما قلنا بعدم الاكتفاء لما تقدّم من أصالة الاشتغال ، وحينئذ لا تكون البراءة جارية ونافعة فيما نحن فيه بعد عروض التعذّر على العتق ، المفروض أنّه - أعني التعذّر - كان بعد توجّه الخطاب. وبالجملة : على الظاهر أنّه لا محيص عن الاحتياط بالاتيان بالصيام بعد تعذّر العتق ، استناداً إلى العلم الاجمالي المردّد بين التعيين والتخيير ، الموجب لكون المرجع هو أصالة الاشتغال.

وأمّا البراءة في المرحلة الأُولى ، أعني عند تحقّق الافطار الموجب للعتق مع احتمال التخيير بينه وبين الصدقة في ظرف عدم كلّ منهما الموجب لوجوب

ص: 284

كلّ منهما تعييناً ، فالظاهر أنّها غير جارية ، فإنّ المسألة في تلك المرتبة وإن دارت بين تكليف واحد وهو العتق وتكليفين وهما العتق والصدقة ، لكن لمّا لم يكن التكليفان يقتضيان الجمع بين المتعلّقين ، لم تكن البراءة جارية في الثاني منهما وذلك واضح ، وحينئذ يكون المتعيّن عند الاتيان بالصدقة هو الاشتغال للعلم الاجمالي.

ولا يخفى أنّا لو فتحنا باب البراءة على أساس الملاكين ، لكان من الواضح جريانها في وجوب العتق على تقدير الاطعام ، بمعنى أنّ العتق لو كان وجوبه تخييرياً بينه وبين الصدقة من باب تعدّد الملاك ، لكان وجوبه مشروطاً بعدم الصدقة ، بخلاف ما لو كان وجوبه تعيينياً ، فإنّ وجوبه يكون شاملاً لوجود الصدقة وعدمها ، وحينئذ يكون التردّد بين كونه تخييرياً وكونه تعيينياً موجباً للشكّ في وجوبه عند وجود الصدقة ، فتجري فيه البراءة.

وهكذا الحال في ناحية الصدقة ، فإنّها لو وجبت تخييرياً يكون حاصله هو تحقّق وجوبها عند عدم العتق ، فيكون الشكّ في وجوبها التخييري عبارة أُخرى عن الشكّ في وجوبها عند عدم العتق ، فتجري فيه البراءة. ولكن كلّ ذلك مبني على كون الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاكين ، وهو غير معلوم ، لاحتمال كونه عن ملاك واحد ، على وجه لا يكون من قبيل الوجوب المشروط بعدم الآخر ، هذا.

مضافاً إلى ما عرفت من الإشكال في البراءة في الشكّ الثاني ، أعني وجوب الصدقة عند عدم العتق ، في قبال وجوب العتق عند عدم الصدقة ، من أنّ هذا النحو من الوجوبين لا يرجع إلى الجمع ، فإنّ الوجوب المشروط لا ينقلب إلى الاطلاق عند تحقّق شرطه ، فلا يكون فيه كلفة زائدة ، بمعنى أنّه لا ينحلّ إلى العلم

ص: 285

بوجود واحد من الوجوبين والشكّ في الزائد ، فلاحظ وتدبّر ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة الاشتغال في المسألتين.

والخلاصة : هي أنّه يمكن إجراء البراءة في كلّ من المسألتين. أمّا الأُولى ، فلأنّ العتق لو كان واجباً تعيينياً لكان وجوبه مطلقاً شاملاً لوجود الصدقة وعدمها ، ولو كان تخييرياً لكان وجوبه مشروطاً بعدم الصدقة ، فنحن نشكّ في وجوبه على تقدير الصدقة ، فيكون مورداً للبراءة.

وأمّا الثانية ، فلأنّ شكّنا في وجوب الصدقة منحصر بكونها عدلاً وواجباً تخييرياً مع العتق ، وحينئذ يكون وجوبها المحتمل مشروطاً بعدم وجود العتق ، أمّا مع وجوده فلا إشكال في عدم وجوبها ، وحينئذ يرجع الشكّ في وجوبها التخييري إلى الشكّ في وجوبها عند عدم العتق ، فيكون مرجعاً للبراءة. ولكن كلّ ذلك مبني على كون الوجوب التخييري ناشئاً عن ملاكين ، الموجب لكون كلّ من الوجوبين مشروطاً بعدم متعلّق الآخر ، وذلك غير ثابت ، بل كما يحتمل ذلك فكذلك يحتمل كونه ناشئاً عن ملاك واحد ، فلا يكون في البين ذلك الاشتراط.

ومنه يظهر فساد التمسّك بالبراءة في المسألة الثانية على أساس النظر إلى أصل المسألة ، أعني عند الإفطار هل توجّه لنا وجوب واحد أو وجوبان. مضافاً إلى ما عرفت من عدم الانحلال ، لأنّ البراءة في ذلك لا ترفع عنّا كلفة زائدة أعني الاتيان بكلّ من المتعلّقين ، فلاحظ وتأمّل.

الأمر الخامس : أنّه ربما يظهر ممّا حرّرته عن شيخنا قدس سره وممّا هو موجود في هذا التحرير وممّا هو موجود في تحرير السيّد سلّمه اللّه في تقريب أصالة التعيين ، هو إحراز التعيينية بالأصل ، بناءً على ما أفاده قدس سره من أنّه ليس في الوجوب التعييني صفة وجودية زائدة على أصل الوجوب الذي هو قدر مشترك بين

ص: 286

الوجوب التعييني والوجوب التخييري ، بل إنّ محصّل وجوب الشيء تعييناً هو تعلّق الطلب به مع عدم جعل العدل له ، فليست الجهة الفارقة بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري إلاّتلك الجهة العدمية في طرف الوجوب التعييني ، وهي عبارة عن عدم جعل البدل ، وهذه الجهة يمكن إحرازها في مقام الاثبات بالأصل اللفظي المعبّر عنه بالاطلاق ، كما حقّق في محلّه (1) من أنّ إطلاق الصيغة يقتضي التعيين.

وإن لم يكن في البين ذلك الأصل اللفظي ، وبقينا نحن ومقام الثبوت ، كان لنا إحرازها بالأصل العملي أعني أصالة عدم جعل البدل ، فإذا أحرزنا جعل الوجوب للعتق ، وشككنا في جعل الصيام بدلاً عنه ، وأجرينا أصالة العدم في جعل الصيام بدلاً عنه ، كان ذلك عبارة أُخرى عن إحراز كون وجوب العتق تعيينياً ، ويكون إحراز التعيينية بهذا الطريق من قبيل ما يحرز منه أحد الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان.

وأصرح العبارات في هذا المطلب عبارة السيّد سلّمه اللّه فإنّه قال في تقريب أصالة التعيين ما نصّه : إذ الواجب التعييني غير محتاج في عالم الثبوت إلاّ إلى قيد عدمي ، بأن لا يكون له عدل في مرحلة الطلب ، كما أنّه في عالم الاثبات كذلك ، بل إثبات التعيينية في عالم الاثبات بعدم التقييد بمثل العطف بكلمة « أو » إنّما هو لكشفه عن العدم في عالم الثبوت ، فإذا كان أصل الوجوب معلوماً وشكّ في تخييريته من جهة احتمال تقيّده بوجود العِدل له ، فلا محالة يحكم بالتعيينية بمقتضى ضمّ الوجدان إلى الأصل ، لعدم ثبوت التقييد ، مع حكم العقل بلزوم

ص: 287


1- لم نعثر عليه في هذا الكتاب.

الخروج عن عهدة التكليف الثابت يقيناً (1).

وإنّما قلنا إنّ هذه العبارة أصرح العبارات ، لأجل هذه الجملة أعني قوله : فلا محالة يحكم بالتعيينية بمقتضى ضمّ الوجدان إلى الأصل ... الخ ، فإنّها صريحة في الاعتماد على أصالة عدم جعل العدل ، ولولا هذه العبارة لقلنا إنّ مراد شيخنا قدس سره كما سيأتي التصريح به في عبارة ص 215 وص 216 (2) هو أنّ الشكّ في جعل العدل يكون سبباً للشكّ في سقوط العتق مثلاً عند الاتيان بالصيام ، ولمّا لم يكن الأصل جارياً في الشكّ السببي ، لما أورده على الاستصحاب الذي اعتمد عليه الشيخ قدس سره (3) ، بقينا نحن والشكّ المسبّب أعني الشكّ في سقوط العتق عند الاتيان بالصيام ، فيكون المرجع فيه هو أصالة الاشتغال.

ثمّ لا يخفى أنّ إحراز التعيين بهذا الطريق لو تم لكان فوق العلم الاجمالي وفوق أصالة الاشتغال أو أصالة البراءة من التعيين لو قلنا بجريانها ، لأنّ نسبة هذا الطريق إلى الطرق المذكورة كنسبة الأصل الموضوعي إلى الأُصول الحكمية ، بل هو هو بعينه ، لأنّ إحراز أحد جزأي التعيينية بالوجدان والآخر بأصالة عدم جعل العدل ، عبارة أُخرى عن إحراز الموضوع الذي هو التعيين بالأصل الاحرازي الذي هو أصالة العدم ، فيكون حاكماً على كلّ أصل عملي يمكن إجراؤه في المسألة ، ويكون رافعاً لكلّ وظيفة عملية في مقام الشكّ المزبور حتّى وظيفة الجري على طبق العلم الاجمالي ، أو انحلاله بالعلم بوجوب خصوص العتق.

ولكن الشأن كلّ الشأن في تمامية هذا الطريق ، فإنّه إنّما يتمّ في خصوص

ص: 288


1- أجود التقريرات 3 : 372 - 373.
2- أجود التقريرات 3 : 374 - 375.
3- فرائد الأُصول 2 : 159 ( الثالث ).

مقام الاثبات ، من جهة أنّه بعد إحراز تعلّق الوجوب بالعتق في مقام الاثبات ، يكون مقتضى إطلاق الصيغة المتكفّلة لإثبات تعلّق الوجوب به هو كون الوجوب المذكور تعيينياً. أمّا في مقام الثبوت فإن كان كهذا المقام من الإثبات ، بأن يكون الشارع في مقام الثبوت قد علّق الوجوب بالعتق ، ونشكّ في جهة زائدة عليه وهي أنّه هل جعل له بدلاً ، لكان الأمر كما أُفيد من الرجوع في تلك الجهة الزائدة إلى أصالة العدم ، وبناءً على أنّ التعيين عبارة عن عدم جعل البدل يتمّ ما هو المطلوب وهو الحكم بالتعيين ، أمّا إذا لم يكن مقام الثبوت كهذا المقام من الإثبات ، بأن يكون الشارع في مقام جعل الوجوب التخييري قد علّق الوجوب ابتداءً بأحد الأمرين ، بأن يقول أوجبت أحد الأمرين العتق والصيام ، كما ربما يكون مقام الاثبات كذلك ، فكيف لنا أن نقول إنّه في مقام الثبوت قد أوجب الشارع العتق ونشكّ في جهة زائدة على وجوب العتق وهي جعل البدل.

والخلاصة : هي أنّ المتباينين كالوجوب التعييني والوجوب التخييري ، لا يكونان في مقام الثبوت من قبيل الأقل والأكثر ، وإن أمكن كونهما كذلك أعني من قبيل الأقل والأكثر في مقام الاثبات ، أعني مقام البيان والكشف والدلالة ، فلاحظ.

وتوضيح ذلك أن يقال : إنّ مقام الثبوت في كيفية جعل الوجوب التخييري يكون على نحوين كمقام الاثبات ، فتارة يكون الوجوب التخييري مولداً من جعلين أحدهما جعل العتق والآخر جعل البدل له ، وأُخرى يكون الوجوب التخييري مولداً من جعل واحد وهو جعل الوجوب متعلّقاً بأحدهما ، وما أُفيد من الطريقة المذكورة إنّما يتمّ إذا كان كيفية جعل الوجوب التخييري في مقام الثبوت بالنحو الأوّل دون النحو الثاني ، إذ ليس فيه جعل فوق جعل كي ينفى الثاني بالأصل ، كما أنّه في النحو الثاني لا يكون الفارق بين التعيين والتخيير في تلك

ص: 289

الجهة العدمية في ناحية التعيين ، بل يكون الفارق بينهما بأنّ الأوّل من قبيل جعل وجوب الشيء بعينه ، والثاني من قبيل جعل وجوب أحد الشيئين.

والحاصل : أنّ كيفية جعل الوجوب التخييري في مقام الثبوت تكون على نحوين :

الأوّل : يكون حاصله التركّب من جعلين ، أحدهما جعل الوجوب متعلّقاً بالعتق والآخر جعل الصيام بدلاً عنه ، وفي هذا النحو يكون التقابل بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري من قبيل التقابل بين الأقل والأكثر في مقام الجعل ، وحينئذ يمكن الرجوع في نفي الجعل الثاني إلى أصالة العدم ، وبذلك يثبت كون وجوب العتق تعيينياً ، لأنّ التعيينية حينئذ مركّبة من أمر وجودي وهو تعلّق الطلب بالعتق مثلاً ، وآخر عدمي وهو عدم جعل الصيام مثلاً بدلاً عنه.

ويمكن الجزم بعدم تمامية هذا النحو الأوّل ، بأن يقال : إنّ الجعل الثاني أعني جعل وجوب العدل لابدّ أن يكون ناشئاً عن اشتراك الفعلين في ملاك واحد ، أو عن كون كلّ منهما له ملاك يخصّه ، غير أنّ الملاكين لا يمكن استيفاؤهما. وعلى الأوّل يكون الواجب هو أحدهما أو القدر الجامع بينهما ، وعلى الثاني يكون كلّ واحد منهما واجباً بنفسه ، ويكون امتثال أحد الوجوبين مسقطاً للوجوب الآخر ، فيكون وجوب كلّ منهما مشروطاً في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، وتكون التأدية على الأوّل في مقام الاثبات بالعطف بلفظة « أو » وعلى الثاني بمفاد إن الشرطية. والمتعيّن عند شيخنا قدس سره هو الأوّل من هذين الوجهين.

النحو الثاني لجعل الوجوب التخييري في مقام الثبوت : أنّه لا يكون إلاّ جعلاً بسيطاً ، وهو تعلّق الطلب بأحد الأمرين منه ومن الصيام ، وفي هذا النحو لا

ص: 290

يكون التقابل بين الوجوب التعييني والوجوب التخييري في مقام الجعل من قبيل الأقل والأكثر ، بل لا يكون كلّ من الوجوبين إلاّجعلاً بسيطاً ، فإن كان متعلّقاً بالعتق كان تعيينياً ، وإن كان متعلّقاً بأحد الأمرين منه ومن الصيام كان تخييرياً ، وفي هذا النحو لا يمكن الرجوع في إثبات التعيين إلى أصالة العدم من الجعل الآخر.

ومن ذلك يظهر لك اندفاع ما قد يتوهّم لتقريب إجراء أصالة العدم من الجعل الثاني ، بأنّا نعلم قطعاً أنّ العتق قد دخل تحت الطلب ، سواء كان بالنحو الأوّل أو كان بالنحو الثاني ، حيث إنّه على كلّ منهما يكون العتق داخلاً تحت الطلب ، غايته أنّه على النحو الأوّل يكون داخلاً تحت الطلب بنفسه ، وفي النحو الثاني يكون داخلاً تحته بعنوان كونه أحد الأمرين ، وإذا كان دخول العتق تحت الطلب معلوماً لدينا ، فلم يبق إلاّ أنّا نشكّ في أنّ الشارع جعل له بدلاً فننفيه بالأصل ، وبذلك يثبت كون وجوبه تعيينياً ، بناءً على ما عرفت من أنّه عبارة عن تعلّق الطلب بشيء مع عدم جعل بدل له.

ووجه اندفاع هذا التوهّم هو ما أشرنا إليه وحاصله : أنّا وإن كنّا عالمين بأنّ العتق قد دخل تحت الطلب ، إلاّ أنّا لا يمكننا الحكم بأنّه تعييني إلاّبأن نضمّ إليه الجزء الآخر وهو عدم جعل الصيام بدلاً عنه ، وهذا الجزء لا يمكننا إثباته بأصالة العدم ، لأنّه يتوقّف على أن يكون جعل الصيام بدلاً عنه جعلاً زائداً على أصل جعل وجوب العتق ، وهو إنّما يتمّ فيما لو أحرزنا أنّ جعل وجوبه كان في مقام الثبوت على النحو الأوّل ، لما عرفت من أنّه لا محصّل لأصالة عدم جعل البدل لو كان الجعل في مقام الثبوت على النحو الثاني.

ثمّ لا يخفى أنّ أصالة عدم جعل البدل ليست إلاّعبارة عن استصحاب عدم

ص: 291

تعلّق الوجوب التخييري بالطرف الثاني الذي هو الصيام فيما ذكرناه من المثال ، فتكون عين الاستصحاب الذي ادّعاه الشيخ قدس سره ومنعه شيخنا قدس سره أشدّ المنع ، مع اعترافه قدس سره بأنّ الوجوب التخييري في مقام الثبوت مركّب من جعلين ، ومع بنائه قدس سره على أنّ التعيينية مركّبة من أمر وجودي وهو تعلّق الطلب بالعتق وآخر عدمي وهو عدم جعل الصيام بدلاً عنه ، ومع ذلك منع من الاستصحاب المذكور ، نظراً منه قدس سره إلى أنّ المستصحب إن كان هو عدم الجعل فهو لا يثبت عدم المجعول إلاّبالأصل المثبت ، وإن كان هو عدم المجعول فهو مع أنّه ليس له حالة سابقة غير نافع في إثبات التعيينية إلاّبالأصل المثبت ، لأنّها وإن كانت مركّبة من ذلك الأمر العدمي ، إلاّ أنّ اعتباره فيها يكون من قبيل عدم الملكة ، فراجع ما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه في ص 216 (1). وإذا كان الاستصحاب المذكور ساقطاً فكيف صحّ لنا إثبات التعيين بأصالة العدم ، وهل هي أعني أصالة العدم إلاّعبارة عن الاستصحاب المذكور.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : وأمّا الطرف الآخر الذي يحتمل أن يكون عدلاً لما تعلّق الوجوب به ، فالبحث عمّا يقتضيه الأصل بالنسبة إليه بعد البناء على أصالة التعيينية ساقط ، إذ لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم وجوبه - إلى قوله - فلا فائدة في جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب فيه ... الخ (2).

وحاصله : أنّه بعد ثبوت أصالة التعيين لا حاجة إلى الاستصحاب المذكور ، فإنّه يتوجّه عليه أنّه كيف نقول لا حاجة إلى الاستصحاب المذكور مع فرض توقّف ثبوت أصالة التعيين عليه ، كما يعطيه قوله : التعيينية عبارة عن تعلّق الارادة

ص: 292


1- أجود التقريرات 3 : 374 - 375.
2- فوائد الأُصول 3 : 435 - 436.

المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدّها عدم تعلّق الارادة بشيء آخر يكون عدلاً لما تعلّقت الارادة به الخ (1).

نعم ، لو تمكّنا من إثبات أصالة التعيين بأصالة الاشتغال ، لكنّا في غنىً عن الاستصحاب المذكور ، كما يعطيه جملة من كلمات هذا التحرير ، مثل قوله في آخر هذه العبارة : فظهر أنّ المرجع عند الشكّ في التعيين والتخيير قاعدة الاشتغال ، لرجوع الشكّ فيهما إلى الشكّ في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلاً الخ ، وكما يعطيه قوله فيما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه بقوله : فإنّه إذا علم وجوب شيء في الجملة فمرجع الشكّ في تعيينيته وتخييريته إلى الشكّ في أنّ الشارع جعل له مسقطاً آخر غير الاتيان بمتعلّقه أم لا - إلى قوله - فمرجع الشكّ في التعيينية إلى الشكّ في جعل العدل الراجع إلى الشكّ في سقوط الواجب المعلوم باتيان محتمل العدلية ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في مرحلة السقوط مورد لقاعدة الاشتغال ليس إلاّ ... الخ (2).

وبيان عدم الاحتياج إلى الاستصحاب هو ما أشار إليه في هذه العبارة الأخيرة ، وحاصله : أنّا نعلم بتعلّق الوجوب بالعتق ، ونشكّ في سقوطه بالاتيان بالصيام ، ومنشأ هذا الشكّ هو الشكّ في جعل الشارع الصيام عدلاً للعتق ، وهذا الشكّ السببي - أعني هل جعل الشارع الصيام عدلاً للعتق - لم يكن في حد نفسه مجرى لأصالة العدم ، لما أفاده فيما أورده على الاستصحاب الذي استند إليه الشيخ قدس سره ، وحينئذ يبقى الشكّ المسبّب بحاله ، وهو الشكّ في سقوط وجوب العتق بالصيام ، فيكون المرجع فيه هو أصالة الاشتغال.

ص: 293


1- فوائد الأُصول 3 : 428.
2- أجود التقريرات 3 : 374.

لكن ذلك مبني على تركّب الوجوب التخييري من طلب الشيء مع جعل العدل له ، أمّا بناءً على بساطته وأنّه سنخ من الطلب ، وأنّ متعلّقه هو أحد الأمرين ، فقد عرفت أنّه لا محصّل فيه للرجوع إلى أصالة الاشتغال فيما قد علم وجوبه وتردّد بين التعيين والتخيير بينه وبين شيء آخر ، كالعتق بالنسبة إلى الصوم إذا فرض العلم بوجوب الأوّل وشكّ في كونه على التعيين أو أنّه على نحو التخيير بينه وبين الصيام ، إذ لا محصّل في ذلك للقول بأنّه عند الاتيان بالصيام يحصل الشكّ في كونه مسقطاً لوجوب العتق.

نعم ، يمكننا تغيير هذه العبارة وننسب الشكّ في السقوط إلى الواجب الواقعي الذي اشتغلت به الذمّة ، سواء كان هو نفس العتق أو كان هو أحد الأمرين منه ومن الصيام أو كان هو القدر الجامع بينهما ، ونقول إنّه عند الاتيان بالصيام نشكّ في سقوط ذلك الواجب الواقعي ، كما أنّه عند تعذّر العتق يحصل لنا أيضاً الشكّ في سقوط ذلك الواجب الواقعي.

ولو أغضينا النظر عن ذلك لم يكن لنا بدّ من التمسّك بأذيال العلم الاجمالي ، الذي يكون أحد طرفيه هو وجوب العتق بعينه وطرفه الآخر هو وجوب أحد الأمرين منه ومن الصيام ، بناءً على أنّ الواجب التخييري هو أحد العدلين كما هو صريح ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام وفي مبحث الواجب التخييري (1) ، ولو منعنا من ذلك بدعوى أنّ أحد الأمرين لا واقعية له ، كما ربما يظهر ممّا أفاده قدس سره في مبحث بيع الصاع من الصبرة من مباحث البيع (2) ، فلا محيص لنا عن القول بأنّ الطرف الآخر للعلم الاجمالي المذكور هو القدر الجامع بين

ص: 294


1- أجود التقريرات 1 : 265 وما بعدها ، فوائد الأُصول 1 - 2 : 235.
2- منية الطالب 2 : 381 وما بعدها ( الوجه الثاني ).

العدلين وإن لم نعرفه بنفسه ، فإنّ معرفته بما أنّه مؤثّر في تحقّق الملاك الواحد كافٍ في تصحيح الأمر به ، غايته أنّه في مقام الاثبات يكون التعبير عنه بأحد الأمرين كافياً في إيصال الأمر به إلى المكلّف وإن لم يعرفه بنفسه ، هذا كلّه لو أحرزنا كون الملاك واحداً.

ولو احتملنا تعدّد الملاك في الواجبات التخييرية ، بحيث كان لازمه توجّه التكليف بكلّ من العدلين مشروطاً في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالعدل الآخر ، على وجه يكون وجوب كلّ منهما فعلياً قبل الشروع في أحدهما ، لكانت أطراف العلم الاجمالي حينئذ ثلاثة ، أحدها : وجوب العتق بنفسه وجوباً مطلقاً. ثانيها : وجوب أحد الأمرين منه ومن الصيام أو الجامع بينهما. ثالثها : وجوب كلّ منهما مشروطاً في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالعدل الآخر. ولا يتوجّه على هذا العلم الاجمالي أنّه لا جامع بين أطرافه ، لوضوح الجامع بينها وهو التكليف الايجابي الالزامي ، غايته أنّ الواجب كان مردّداً بين الأمرين أو الأُمور الثلاثة.

والحاصل : أنّه يكون من العلم بالتكليف مع تردّد المكلّف به بين أمرين أو ثلاثة ، وليس ما نحن فيه من قبيل الدوران بين المحذورين في عدم الجامع بينهما. مضافاً إلى منع عدم الجامع حتّى في تلك المسألة ، لإمكان كون الجامع هو التكليف الالزامي ، غايته أنّه مردّد بين كون الملزم به هو الفعل أو الترك ، غايته أنّه لا يمكن الاحتياط فيه. على أنّ في النفس شيئاً من أصل هذه المسألة ، أعني مسألة مدخلية إمكان الجامع في تنجيز العلم الاجمالي ، لإمكان القول بعدم مدخليته ، وإن كان وجوده ضرورياً في كلّ علم إجمالي. وأمّا عدم منجّزية العلم الاجمالي في مسألة الدوران بين المحذورين ، فإنّما هو لأجل عدم التمكّن من كلّ من المخالفة القطعية والموافقة القطعية.

ص: 295

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمّل في منجّزية العلم الاجمالي فيما نحن فيه ، وأنّه هو الموجب لعدم جواز الاكتفاء بالصيام بدلاً عن العتق ، وأنّه عند تعذّر العتق الطارئ يكو ن ذلك العلم الاجمالي موجباً للاتيان بالطرف الآخر الذي هو الصيام.

الأمر السادس : لو شكّ في كون الشيء مسقطاً محضاً ، بعد الفراغ عن كون الوجوب تعيينياً ، وأنّ ذلك الطرف الآخر غير واجب لا تعييناً ولا تخييراً ، فهل يكون المرجع بعد تحقّق الطرف الآخر هو البراءة ، أو يكون المرجع هو الاحتياط؟

وتفصيل ذلك هو أن يقال : لو توجّه تكليف إلى شخص بفعل مثل قضاء الولي ما فات عمّن هو ولي عنه من الصلاة مثلاً ، وشكّ في كون فعل شخص آخر كالمتبرّع أو الأجير مجزياً عنه ، فهل الأصل يقتضي عدم سقوطه عنه بفعل ذلك الغير ، أو أنّ الأصل يقتضي سقوطه؟ وهكذا الحال في كلّ ما لو توجّه تكليف إلى شخص بفعل من الأفعال ، وشكّ في سقوطه عنه بشيء آخر مثل فعل الغير أو أمر آخر تكويني ، فهل الأصل هو السقوط بذلك الشيء أو أنّه يقتضي عدم السقوط؟

الظاهر أنّ جميع ذلك من قبيل الشكّ في المسقط ، وأنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال إن لم يكن هو استصحاب بقاء ذلك التكليف. وفي المثال مناقشة خارجة عن البحث ، وهي أنّ تبرّع غير الولي موجب لبراءة ذمّة الميّت ، فلا يبقى موضوع لقضاء الولي ، لكن الكلام في المشكوك المسقطية ، ولو كان فعل الغير موجباً لانعدام الموضوع لم يكن إشكال في مسقطيته.

وقد يقال : إنّ ذلك من قبيل الترديد بين الأقل والأكثر ، وأنّ المرجع فيه هو البراءة ، وتوضيح ذلك : هو أنّه لو كان ذلك الأمر الآخر غير مسقط للتكليف

ص: 296

المتوجّه إلى الشخص ، بأن فرض عدم دلالة الدليل على أنّ ذلك الأمر الآخر مسقط لذلك التكليف عن ذلك الشخص ، لكان ترك ذلك الفعل المكلّف به ممنوعاً عنه بجميع أنحاء تروكه ، فيكون كلّ من تركه في حال وجود ذلك الغير وتركه في حال عدمه محرّماً عليه وممنوعاً منه ، بخلاف ما لو كان وجود ذلك الغير مسقطاً ، بأن دلّ الدليل مثلاً على سقوط القضاء عن الولي بفعل الغير ، فإنّه على هذا التقدير لا يكون ترك قضاء الولي بجميع أنحاء تروكه محرّماً وممنوعاً عنه ، بل يكون الممنوع عنه هو خصوص الترك المقارن لعدم فعل الغير ، دون الترك المقارن لفعل الغير.

وبعبارة أُخرى : على الأوّل يكون عدم قضاء الولي ممنوعاً عنه بكلا فرديه ، يعني أنّه يكون كلّ من عدمه في حال وجود فعل الغير وعدمه في حال عدم فعل الغير ممنوعاً عنه ، وعلى الثاني يكون العدم الممنوع عنه هو خصوص العدم المقارن لعدم فعل الغير ، دون العدم المقارن لفعل الغير.

والحاصل : أنّه على الأوّل يكون مرجع وجوب القضاء على الولي إلى المنع عن كلا نحوي عدمه ، أعني عدمه المقارن لفعل الآخر ، وعدمه المقارن لعدم فعل الآخر. وعلى الثاني يكون مرجع الوجوب المذكور إلى المنع عن خصوص عدمه المقارن لعدم فعل الغير ، دون العدم المقارن لفعل الغير ، فيكون نحو الوجوب مختلفاً في هذين الوجهين ، فعلى الأوّل منهما لا يكون في التكليف نقصان ، ويكون سادّاً لجميع أنحاء عدم متعلّقه ، ويكون كلّ واحد من أنحاء عدمه ممنوعاً عنه ومحرّماً ، وعلى النحو الثاني يكون في التكليف نقصان ، ولا يكون سادّاً لجميع أنحاء عدم متعلّقه ، بل إنّما يكون سادّاً لخصوص عدمه المقارن لعدم فعل الغير دون عدمه المقارن لفعل الغير ، بل يكون ذلك العدم المقارن لفعل الغير

ص: 297

مرخّصاً فيه وجائزاً شرعاً ، بمعنى أنّ الشارع يرضى بعدمه المقارن لفعل الغير بحيث يكون تركه المقارن لفعل الغير جائزاً.

وحينئذ فعلى النحو الأوّل من هذين النحوين يكون التكليف منحلاً إلى المنع عن كلا العدمين ، وعلى الثاني يكون التكليف منحلاً إلى المنع عن خصوص العدم المقارن لعدم فعل الغير ، أمّا العدم المقارن لفعل الغير فلا يكون ممنوعاً عنه بل يكون جائزاً ومرخّصاً فيه ، فمرجع دوران الأمر بين هذين النحوين والشكّ بينهما إلى الشكّ في أنّ المحرّم والممنوع عنه هو كلّ واحد من التركين ، أو أنّه خصوص الترك المقارن لعدم فعل الغير ، فيكون الشكّ من هذه الجهة راجعاً إلى الشكّ بين الأقل والأكثر ، لأنّ المحرّم على الأوّل هو كلا العدمين والممنوع هو كلا التركين ، وعلى الثاني هو خصوص ما كان مقارناً لعدم فعل الغير دون ما كان مقارناً لوجوده ، بل يكون العدم المذكور جائزاً ومرخّصاً فيه ، فيكون القدر المتيقّن هو المنع عن الترك في حال عدم فعل الغير ، وأمّا المنع عنه في حال وجود فعل الغير فهو مشكوك منفي بالبراءة ، كما هو الشأن في كلّ تكليف مردّد بين الأقل والأكثر.

وبتقريب أوضح : أنّه لو كان فعل الغير مسقطاً للأمر المتوجّه إلى الولي مثلاً ، كانت المصلحة المقتضية لإيجاب القضاء على الولي قائمة بالقدر المشترك بين الفعلين ، وذلك إنّما يكون في حال انعدام فعل الآخر ، دون حال وجوده ، فإنّ عدم قضاء الولي في ذلك الحال لا يكون عدماً لطبيعة ذلك القدر المشترك ، بل يكون عدماً لخصوصية قضاء الولي ، وهي أجنبية حسب الفرض عمّا هو قوام المصلحة أعني القدر المشترك بين الفعلين ، وحينئذ فيكون الممنوع عنه هو خصوص العدم الموجب لانعدام ما هو قوام تلك المصلحة أعني القدر المشترك ،

ص: 298

بمعنى أنّ العدم الممنوع عنه إنّما هو العدم بما أنّه عدم لطبيعة ذلك القدر المشترك بين قضاء الولي وقضاء الغير ، لا بما أنّه عدم لخصوص قضاء الولي ، لعدم مدخلية تلك الخصوصية فيما هو قوام المصلحة المشتركة بين قضاء الولي وقضاء ذلك الغير ، وعليه فينحل الشكّ المذكور إلى الشكّ في أنّ الممنوع عنه هو العدم بما أنّه عدم لطبيعة القدر المشترك ، أو بما أنّه عدم لخصوص ذلك الفرد أعني خصوص قضاء الولي ، والقدر المتيقّن من ذلك هو المنع عن العدم بما أنّه عدم لطبيعة القدر المشترك ، أعني العدم في حال عدم فعل الآخر ، دون العدم الخاصّ أعني العدم في حال وجود فعل الآخر ، فلو شكّ في كونه من أيّ النحوين كان من قبيل الشكّ بين الأقل والأكثر ، والمرجع فيه هو أصالة البراءة من الزائد ، وهو المنع عن عدم المكلّف به في حال وجود فعل الآخر ، والقدر المتيقّن من المطلوبية إنّما هو العدم في حال عدم الآخر.

ولا يخفى أنّ هذا البيان وإن جرى بعينه في مسألة دوران الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً ، فإنّ مرجع الوجوب التعييني إلى المنع عن جميع أنحاء أعدام الواجب ، ومرجع الوجوب التخييري إلى المنع عن خصوص عدمه المقارن لعدم عدله دون عدمه المقارن لوجود عدله ، وحينئذ فيكون الشكّ في أنّ هذا الوجوب تخييري أو تعييني راجعاً إلى الشكّ في أنّ الممنوع عنه هل هو جميع أنحاء عدمه ، ما كان منه مقارناً لوجود عدله وما كان مقارناً لعدمه ، أو أنّ الممنوع عنه هو خصوص عدمه المقارن لعدم عدله دون ما كان مقارناً لوجوده ، ويكون القدر المتيقّن من المنع هو المنع عن العدم في حال عدم العدل الآخر ، وأمّا المنع عن العدم المقارن لوجود الآخر فهو غير معلوم ، فينفى بالبراءة.

ولكن الموجب للاحتياط في تلك المسألة أعني الدوران بين التعيين

ص: 299

والتخيير هو العلم الاجمالي ، فإنّه إن علم بتوجّه الأمر إليه بالصيام مثلاً ، وتردّد فيه بين كونه تعيينياً وكونه تخييرياً بينه وبين الاطعام مثلاً ، كان المنع عن عدم الصيام في حال عدم الاطعام معلوماً لديه ، كما أنّ عدم المنع عن عدم الاطعام في حال وجود الصيام معلوم لديه ، ولكنّه يعلم أنّه إن كان ذلك الوجوب تعيينياً كان عدم الصيام في حال الاطعام ممنوعاً عنه ، وإن كان تخييرياً كان عدم الاطعام في حال عدم الصيام ممنوعاً عنه ، فهو يعلم إجمالاً بأنّه إمّا أن يكون ممنوعاً عن عدم الصيام وإن كان في حال وجود الاطعام ، وإمّا عن عدم الاطعام في حال عدم الصيام ، وحينئذ فيكون عدم الصيام ممنوعاً عنه بكلا نحويه ، أمّا النحو المقارن لعدم الاطعام فللعلم التفصيلي بكونه ممنوعاً عنه على كلّ من التعيينية والتخييرية ، وأمّا النحو المقارن لوجود الاطعام فلكونه أحد طرفي العلم الاجمالي المذكور.

هذا غاية الكلام في تحرير ما أورد به بعض أجلّة العصر (1) على القول بأنّ المرجع فيما هو نظير المثال من مجرّد احتمال المسقطية هو الاحتياط على أساس كونه من قبيل الشكّ في المسقط ، مع الالتزام بلزوم الاحتياط فيما لو انضمّ إلى احتمال المسقطية احتمال كونه طرفاً في الوجوب التخييري ، أعني مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ومحصّل هذا العلم الاجمالي هو العلم بأنّه إمّا أن يكون المحرّم عليه هو خصوص ترك الصيام ، أو أنّ المحرّم عليه هو الجمع بين تركه وترك الاطعام ، وهو بفعله الصيام يكون قد جمع بين طرفي العلم الاجمالي ، فإنّه بذلك قد

ص: 300


1- هو المرحوم الأُستاذ المحقّق الآقا ضياء الدين العراقي عند مذاكرتي معه في هذه المسألة في بعض المجالس ليلة 16 من شهر رمضان سنة 1349 [ منه قدس سره ].

اجتنب ترك الصيام بخصوصه كما أنّه قد اجتنب الجمع بين ترك الصيام وترك الاطعام ، فيكون ذلك من قبيل ما لو علم بتحقّق رضاع هند معه فتكون أُخته من الرضاعة ، أو تحقّق رضاعها مع عاتكة فتكون أُختاً لعاتكة من الرضاعة ، وحينئذ هو يعلم إمّا بحرمة هند عليه ذاتاً ، وإمّا بحرمة الجمع بينها وبين عاتكة في الزوجية له ، فهو وإن علم بأنّه لو تزوّجهما معاً فقد وقع في الحرام إمّا الذاتي وإمّا الجمعي ، وإن تزوّج هنداً وحدها يحتمل أنّه وقع في الحرام الذاتي ، لكنّه لا يمكنه الرجوع في ذلك إلى البراءة ، لكون الحرمة الذاتية قد وقعت في ذلك العلم الاجمالي طرفاً للحرمة الجمعية وهما متبائنان ، لا من قبيل الأقل والأكثر ، وهو باجتنابه تزوّج هند يكون قد اجتنب كلا طرفي العلم الاجمالي ، لأنّه بذلك قد اجتنب تزوّج هند ، كما أنّه قد اجتنب بذلك الجمع بين تزوّجها وتزوّج عاتكة ولو تزوّج عاتكة وحدها.

لا يقال : لو تمّ هذا العلم الاجمالي لجرى في مسألة الأقل والأكثر ، فإنّ المكلّف يعلم بأنّه قد حرم عليه إمّا خصوص ترك الصلاة المشتملة على الاستعاذة أو على التعمّم ، أو أنّ الحرام عليه هو الجمع بين ترك هذا النحو من الصلاة وترك الفاقد لهذه الخصوصية ، إذ الواجب لو كان هو الأكثر لكان المحرّم عليه هو ترك خصوصه ، ولو كان الواجب هو القدر الجامع بين الأقل والأكثر لكان الحرام عليه هو الجمع بين ترك الأكثر وترك الأقل.

لأنّا نقول : نعم ولكن جريان البراءة في وجوب الاستعاذة أو وجوب التعمّم يوجب انحلال العلم الاجمالي المذكور ، فإنّها تحكم بعدم حرمة ترك تلك الصلاة الخاصّة المشتملة على الاستعاذة أو التعمّم ، فلم يبق إلاّحرمة الجمع بين تركها وترك الطرف الآخر أعني الصلاة الفاقدة لذلك القيد.

لا يقال : إذا أجرينا البراءة في حرمة ترك الصيام المقرون بوجود الاطعام ،

ص: 301

انحلّ أيضاً العلم الاجمالي المردّد بين كون الحرام هو ترك خصوص الصيام وبين كون الحرام هو الجمع بين تركه وترك الاطعام.

لأنّا نقول : هذه البراءة لا تجري في هذا المقام وإن جرت في المقام الأوّل ، لأنّ مجراها في المقام الأوّل هو نفس وجوب الاستعاذة أو التعمّم ، وهذا المجرى خارج عن طرفي العلم الاجمالي ، فلا مانع من جريانها فيه ، وهو موجب لانحلال العلم الاجمالي ، بخلاف المقام الثاني فإنّ مجراها فيه هو حرمة ترك الصيام بخصوصه عند وجود الاطعام ، وذلك بنفسه طرف للعلم الاجمالي المردّد بين كون المحرّم هو ترك الصيام بخصوصه أو الجمع بينه وبين ترك الاطعام ، فلا يمكن جريانها فيه لكونه بنفسه طرفاً للعلم الاجمالي. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إجراء البراءة في الوجوب الوارد على الاستعاذة مرجعه إلى إجراء البراءة في حرمة ترك الصلاة المشتملة على الاستعاذة عند الاتيان بالصلاة الفاقدة للاستعاذة.

والتحقيق هو أن يقال : إنّ هذا العلم الاجمالي من قبيل العلم الاجمالي المردّد بين طرفين يكون الجري على طبق أحدهما محصّلاً للموافقة القطعية ومخالفة الطرف الآخر محصّلاً للمخالفة القطعية ، فإنّ العلم المردّد بين تحريم ذات هند وتحريم الجمع بينها وبين عاتكة مع فرض عدم الحرمة الذاتية لكلّ منهما ، يكون الجري على الأوّل موجباً للموافقة القطعية ، ومخالفة الطرف الثاني محصّلاً للمخالفة القطعية. وهكذا الحال في الوجوب المردّد بين الخاص والعام ، فإنّ الجري على طبق الأوّل وهو الاتيان بالخاص يكون محصّلاً للموافقة القطعية ، ومخالفة الطرف الثاني أعني ترك العام يكون محصّلاً للمخالفة القطعية. وهكذا الحال في الوجوب المردّد بين الأكثر والأقل ، فإنّ الاتيان بالأكثر يوجب الموافقة القطعية ، ومخالفة الثاني يعني ترك الأقل محصّل للمخالفة القطعية. وهكذا الحال

ص: 302

في الوجوب الوارد على الصيام المردّد بين كونه تعيينياً وكونه تخييرياً بينه وبين الاطعام ، فإنّ الاتيان بالصيام يكون محصّلاً للموافقة القطعية ، وترك الثاني بترك كلا الأمرين محصّل للمخالفة القطعية.

فالظاهر أنّ المتنجّز من هذا العلم هو الطرف الثاني دون الطرف الأوّل ، حيث إنّ الطرف الثاني لمّا لم يمكن فيه إجراء البراءة لما عرفت من أنّها موجبة للمخالفة القطعية ، بقي الطرف الأوّل مجرى للبراءة بلا معارض. ففي مثال الرضاع لا يجوز له الجمع بينهما لكونه موجباً للوقوع في الحرام ، إمّا من جهة ذات هند وإمّا من جهة الجمع بينهما ، وحينئذ لا يمكن جريان البراءة في هذا الطرف أعني حرمة الجمع ، لكن لا مانع من تزوّجه بهند وحدها ، لجريان البراءة فيه بلا معارض.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك في البواقي ، فلا يجوز ترك العام ، لكن لا مانع من ترك الخاص لجريان البراءة فيه بلا معارض لها من ناحية وجوب العام. ولا يجوز له ترك الأقل ، لكن لا مانع من ترك الأكثر. ولا يجوز له ترك العدلين ، لكن لا مانع من تركه الصيام. إلاّ أن يكون في البين أصالة الاشتغال فيلزمه حينئذ الاتيان بالخاصّ والاتيان بالصيام ، وفي خصوص مسألة الأقل والأكثر لمّا كانت البراءة جارية في الزائد على الأقل ، كانت حاكمة على أصالة الاشتغال القاضية بلزوم الاتيان بالأكثر.

قال سيّدنا الأُستاذ المرحوم السيّد أبو الحسن قدس سره فيما حرّرته عنه في مباحث الأقل والأكثر الارتباطيين ما هذا لفظ ما حرّرته عنه :

لا يخفى أنّه يمكن أن يوجّه الرجوع إلى البراءة في الشكّ بين العام والخاصّ ، بأن يقال إنّه حيث قد تقرّر فيما تقدّم أنّ العلم الاجمالي علّة تامّة لعدم

ص: 303

جواز المخالفة القطعية ، فالأصل لا يمكن إجراؤه في طرف الأعمّ ، لاستلزامه المخالفة القطعية ، حيث إنّه موجب لجواز ترك العام بجميع أفراده ، وذلك عبارة أُخرى عن ترك ما علم وجوبه إجمالاً ، وحينئذ فيبقى الأصل في طرف الخاصّ بلا معارض ، فلا مانع من إجرائه فيه ، حيث إنّه إنّما لا يجري فيه لمعارضته مع الأصل في طرف العام ، وإذا لم يكن ذلك الأصل جارياً في العام ، بقي هذا بلا معارض ، وحينئذ فالمتحصّل من ذلك هو العمل على طبق العام من جهة أنّه لمّا نفي وجوب الخاص بالبراءة ، ولم يمكن نفي وجوب العام ، لزم العمل على طبق العام ، لا أنّ إجراء أصالة البراءة في الخاصّ مثبت لوجوب العام. وبذلك يمكن أيضاً أن يقرّر الرجوع إلى البراءة فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير ، فيقال : إنّ إجراء أصالة البراءة في أحد أطراف هذا العلم وهو الوجوب التخييري غير ممكن ، لما تقدّم من أنّه مستلزم للمخالفة القطعية ، فيبقى الأصل في الطرف الآخر وهو الوجوب التعييني بلا معارض ، فتجري فيه البراءة ويجب العمل على طبق الوجوب التخييري من دون أن يثبت ذلك أعني الوجوب التخييري ، انتهى ما حرّرته عنه حسبما فهمته منه.

ولقائل أن يقول : إنّ المسألة مبنية على كون المنجّز في العلم الاجمالي هو تعارض الأُصول ، وحينئذ نقول إنّ البراءة لا تجري في الجمع بين هند وعاتكة لكنّها تجري في خصوص هند ، وأيضاً هي - أعني البراءة - لا تجري في العام لكنّها تجري في الخاص ، وهي أيضاً لا تجري في وجوب الأقل لكنّها تجري في وجوب الأكثر ، وهي لا تجري في الوجوب التخييري لكنّها تجري في الوجوب التعييني ، وعليه تكون النتيجة هي عدم لزوم الخاصّ وعدم لزوم التعيين وعدم لزوم الأكثر.

ص: 304

أمّا لو كان المنجّز هو نفس العلم الاجمالي ، لكان اللازم هو الاحتياط في جميع هذه الموارد. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى البحث عن ذلك في أصالة الاشتغال (1) وأنّه هل يمكن أن يوجد لنا مثال يجري في بعض أطراف العلم الأصل النافي للتكليف مع كون الأطراف الأُخر لا أصل فيها.

ويمكن التفكيك بين هذه الفروع حتّى على القول بأنّ المنجّز هو تعارض الأُصول ، فيقال بالبراءة من حرمة تزويج هند ، لكنّها لا تنفع في مسألة الخاص والعام ، إذ بعد فرض أنّ وجوب العام لا تجري فيه البراءة ، لو أجرينا البراءة في وجوب الخاص لم يكن ذلك نافعاً في جواز اكتفاء المكلّف بفرد آخر من أفراد العام ممّا هو مباين للخاصّ ، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بذلك الفرد لا يحقّق الفراغ اليقيني الذي تقضي به قاعدة الشغل ، إلاّ إذا كانت البراءة من الخاصّ مثبتة لكون الواجب هو العام.

وهكذا الحال في دوران الأمر في الوجوب الوارد على الصيام بين التعييني والتخييري بينه وبين الاطعام ، فإنّه بعد فرض عدم جريان البراءة في الوجوب التخييري ، لا يكون إجراء البراءة في ناحية الوجوب التعييني محقّقاً للفراغ اليقيني فيما لو أقدم المكلّف على الاطعام ، إلاّ إذا قلنا بأنّ البراءة عن الوجوب التعييني مثبتة لكون الوجوب تخييرياً.

نعم ، في مسألة الأقل والأكثر تكون البراءة عن الزائد نافعة ، فإنّه بعد فرض عدم جريان البراءة في وجوب الأقل ، لا تكون البراءة جارية في نفس وجوب الأكثر كي يقال إنّه لا يترتّب الاكتفاء بالأقل إلاّبالأصل المثبت ، من جهة أنّ البراءة من الأكثر لا تثبت كون الواجب هو الأقل ، بل تكون البراءة جارية في وجوب

ص: 305


1- راجع ما يأتي في الصفحة : 419 / تنبيه وإيضاح.

الزائد على الأقل ، أعني به الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ، وجريانها فيه محقّق للفراغ بالاتيان بالأقل ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره في مقالته المطبوعة تعرّض لهذا العلم الاجمالي في ذيل مسألة الأقل والأكثر فقال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ ذلك كلّه في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، الراجع في الحقيقة إلى محفوظية الأقل بحدوده الخاصّة - غير جهة قلّته - في ضمن الأكثر ، ومن هذه الجهة قلنا بشباهتها بالكلّيات المشكّكة المحفوظة ضعيفها في ضمن قويّها ، وأمّا لو كان الواجب دائراً بين الطبيعي على الاطلاق أو خصوص فرد فهو خارج عن هذا الباب ، إذ إطلاق الطبيعة لفرد آخر في قبال خصوص هذا الفرد ، بحيث لا يكون بينهما جهة قلّة وكثرة ، بل يدور أمره بين حصّة من الطبيعي أو حصّة أُخرى المشمول لاطلاقه ، لا صرف الطبيعي المهمل المحفوظ في ضمن هذا الفرد ، ولذا في طرف العقوبة أمره يدور بين ترك خصوص هذا الفرد أو ترك الفردين ، ولازمه العلم الاجمالي بحرمة ترك هذا الفرد مستقلاً أو ترك فرد آخر مباين معه ضمناً ، وفي مثله يرجع الأمر إلى الدوران بين المتباينين كما لا يخفى ، وحينئذ ففي كلّية دوران الأمر بين التعيين والتخيير المرجع هو الاحتياط ، على خلاف باب الأقل والأكثر.

ثمّ لا يتوهّم بأنّ باب الشكّ في الشرط من قبيل التعيين والتخيير ، بخيال أنّ الفاقد للشرط مباين مع الواجد وجوداً ، لأنّه يقال : إنّ جهة التباين بينهما إنّما هو من جهة فقدان حدّ القلّة بوجدان التقييد ، ووجدانه بفقدانه ، مع حفظ سائر الحدود بشخصها في الأقل المحفوظ في ضمن الأكثر الواجد للتقيّد ، وأين هذا بباب التعيين والتخيير الراجع إلى الترديد بين الحصّتين السابقتين [ المتباينتين ]

ص: 306

مرتبة ووجوداً ، كما هو الشأن في أفراد الكلّيات المتواطئة كما هو ظاهر (1).

وقد عرفت الحال في ضابط هذا العلم الاجمالي ، وأنّه موجود في جميع هذه المسائل ، أعني مسألة الرضاع ، ومسألة العام والخاصّ ، ومسألة الأقل والأكثر من حيث الأجزاء ومن حيث الشرائط ، ومسألة التخيير والتعيين ، وأنّ أصالة البراءة لا تجري في أحد طرفيه ، ولا مانع من جريانها في الطرف الآخر ، إلاّ أنّها لا تثبت الفراغ إلاّ إذا كان مجراها أمراً آخر غير هذا الطرف ، وهو الجهة الزائدة في مسألة الجزء الزائد أو الشرط الزائد ، هذا.

مضافاً إلى ما في العبارة من القلق وعدم تأدية المراد ، سيّما ما يظهر منها من جعل المقابلة بين الحصّتين من الطبيعة ، فراجع وتأمّل.

ولعلّ مراده من جعل الحصّة في الطرف الآخر مقابلة لهذا الفرد هو تعلّق الحرمة بتركها ضمناً في ضمن ترك القدر الجامع بين الحصّتين ، كما ربما يظهر ذلك ممّا حرّرته عن درسه (2) وهذا لفظ ما حرّرته عنه : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ المدار في الأقل والأكثر هو أن يكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر موجوداً بعينه في ضمن الأكثر ، وحينئذ فلو علم إجمالاً بتعلّق الإيجاب بشيء خاصّ ، فإمّا أن يعلم بوجوب الحصّة من الطبيعة الموجودة في ذلك الخاصّ ، ويشكّ في تعلّق الوجوب بخصوصية ذلك الشخص الخاصّ ، فلا إشكال في جريان البراءة في ذلك المقدار من الوجوب المشكوك. وإن لم يعلم ذلك ، بل علم إجمالاً إمّا وجوب ذلك الخاصّ من رأس إلى قدم بجميع مشخّصاته ، وإمّا وجوب الحصّة الموجودة فيه وفي الخاصّ الآخر ، فينشأ من ذلك علم إجمالي آخر ، وهو إمّا

ص: 307


1- مقالات الأُصول 2 : 265 - 266.
2- في ذي الحجّة سنة 1340 [ منه قدس سره ].

حرمة ترك خصوصية الخاصّ المذكور ، وإمّا حرمة ترك نفس القدر المشترك الموجود فيه وفي الخاصّ الآخر ، الموجب لكون ترك ذلك الخاصّ الآخر حراماً ضمناً ، وحينئذ يكون حاصل العلم الثاني هو إمّا أن يكون ترك الخصوصية الخاصّة لذلك الخاصّ حراماً ، وإمّا أن يكون ترك الخاصّ الآخر حراماً ، ومقتضى ذلك الاحتياط باتيان ما يحتمل كون خصوصيته واجبة.

والحاصل : أنّه إذا علم إجمالاً إمّا وجوب القدر الجامع بين الفردين مثلاً ، وإمّا وجوب أحد الفردين بخصوصه ، يعلم من ذلك إجمالاً إمّا حرمة ترك خصوص ذلك الفرد الخاصّ ، وإمّا حرمة ترك مقابله حرمة ضمنية ، حيث إنّه على تقدير كون الوجوب متعلّقاً بالجامع يكون تركه بترك كلا الفردين ، فيكون ترك أحدهما المعيّن له الدخل في ترك ذلك الجامع ، فيكون حراماً ضمناً.

لا يقال : إنّه يكون من قبيل الأقل والأكثر ، لأنّه إذا علم بوجوب القدر الجامع بين زيد وعمرو أو وجوب زيد بخصوصه ، كان القدر الجامع معلوم الوجوب ، لأنّ الواجب الواقعي إن كان هو القدر الجامع فواضح ، وإن كان هو خصوص زيد كان القدر الجامع الموجود فيه واجباً ضمناً ، فيكون وجوب القدر الجامع معلوماً ، ووجوب خصوصية زيد مشكوكاً ، فينحل العلم الاجمالي.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ الضابط في الأقل والأكثر هو أنّ الأقل على تقدير تعلّق الوجوب بالأكثر يكون موجوداً بنفسه في ضمن الأكثر ، ومن الواضح أنّ القدر الجامع بما هو قدر جامع لا يكون موجوداً في زيد ، وإنّما الموجود فيه هو حصّة منه ، لا أنّه موجود فيه بنفسه ، انتهى ما حرّرته عنه.

وكيف كان ، أنّ الذي يظهر لك أنّ أغلب هذه الجهات التي أفادها في تقريب العلم الاجمالي وغيره راجعة إلى دعوى حرمة الترك عند وجوب الفعل.

ص: 308

ويمكن القول بأنّ الحرمة المذكورة لا واقعية لها ، وإنّما هي مجرّد تعبير منشؤه هو دعوى رجوع الأمر بالشيء إلى النهي عن تركه ، وقد حقّق في محلّه (1) أنّ ذلك من مجرّد التعبير ، نظير أنت وابن أُخت خالتك ، وأنّه ليس في البين إلاّوجوب الفعل ، وأنّ ذلك - أعني وجوب الفعل - هو المدار في التكليف وفي العلم الاجمالي ، لا أنّ المدار هو حرمة تركه حرمة تكليفية كي تتّجه هذه التفاصيل.

ثمّ إنّ المسقط للتكليف قد يكون من قبيل الرافع للموضوع نظير موت المرتدّ الواجب قتله ، ولعلّ منه قضاء غير الولي ، فلا يكون عدمه شرطاً وقيداً في التكليف كي يكون الفعل المطلوب مرخّصاً في عدمه على تقدير وجود ذلك المسقط ، بل يكون من قبيل انتفاء الموضوع ، وإن أمكن إرجاع ما يكون معدماً للموضوع إلى ما يكون عدمه قيداً في نفس التكليف ، إذ الموضوع من حدود التكليف وقيوده ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون من قبيل الترخيص في العدم ، أو عدم حرمة عدم الفعل المفروض الوجوب على تقدير وجود ذلك الموضوع ، فتأمّل.

ثمّ لو سلّمنا انحلال الوجوب إلى تحريم الأعدام ، ورجعت المسألة إلى الأقل والأكثر من هذه الناحية ، فهي إنّما تؤثّر فيما لو توجّه التكليف وكان المكلّف واجداً لتلك الجهة المحتمل عدم حرمة الترك على تقدير وجودها ، أمّا لو كان ذلك طارئاً بعد توجّه التكليف ، كما هو الغالب فيما لو ارتكب الاطعام مثلاً بعد فرض تحقّق السبب الموجب لتوجّه الأمر بالصيام ، فإنّ عدم الصيام بعد طروّ الاطعام وإن كان مشكوك التحريم من أوّل الأمر ، إلاّ أنّه بعد أن توجّه إليه الأمر بالصيام قطعاً وحرم عليه عدمه وانشغلت به ذمّته يقيناً ، يشكل الاكتفاء بالاطعام

ص: 309


1- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 95 ومابعدها.

اعتماداً على أنّ عدم الصيام عند وجود الاطعام لم يكن معلوم الحرمة عليه من أوّل الأمر ، بل يمكن القول إنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، إذ لا أقل من استصحاب بقاء الصيام على ما كان عليه من الوجوب قبل الاطعام ، وإن كان ذلك محلّ نظر وإشكال ، إذ بعد فرض تبعيض ذلك الوجوب وتحليله إلى تحريم هذه الأعدام ، يكون المقدار الثابت أوّلاً من مقدار ذلك الوجوب مشكوكاً ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّا قد جرينا في هذه الفروع في قولنا : إنّ البراءة لا تجري في الطرف الذي تكون المخالفة فيه موجبة للمخالفة القطعية ، على مسلكه رحمه اللّه في مثل من كان في حال القنوت وعلم إجمالاً بفوات السجود منه أو القراءة ، في عدم جريان قاعدة التجاوز في القراءة ، للعلم بعدم امتثاله أمرها. وأمّا بناءً على ما حرّرناه في مثل هذه الفروع ، من أنّ الأصل النافي إنّما يجري في أحد طرفي العلم الاجمالي بفرضه وحده على نحو الشبهة البدوية ، فلا وجه لعدم جريان البراءة فيما نحن فيه في الطرف المذكور ، لأنّا نفرض الوجوب المشكوك الوارد على الحيوان مثلاً كشبهة بدوية ، ولا ريب في جريان البراءة فيه في حدّ نفسه ، وإنّما لا تجري فيه بلحاظ الطرف الآخر وهو احتمال وجوب الإنسان ، فإنّه بلحاظ هذا الطرف لا تجري فيه البراءة ، لكونها حينئذ موجبة للمخالفة القطعية ، فتأمّل جيّداً.

الأمر السابع : أنّه لو علم بوجوب شيء كالصيام مثلاً ، واحتمل كون الاطعام مثلاً عدلاً له ، أو أنّه من مجرّد المسقط ، وكان المكلّف متمكّناً من الصيام ، فلا إشكال في سقوطه عند الاطعام. أمّا جواز الاقدام على الاطعام ، فإن كان احتمال مسقطيته للصيام من باب كون ملاك وجوب الصيام محدوداً بعدم الاطعام ، بأن لم يحتمل في الاطعام إلاّكونه واجباً تخييرياً وعدلاً للصيام ، أو كون

ص: 310

ملاك وجوب الصيام محدوداً بعدمه ، فلا إشكال في الحكم بجواز الاقدام على الاطعام المذكور.

وإن انضمّ إلى ذلك احتمال ثالث ، وهو كونه مفوّتاً لموضوع الصيام مع بقاء ملاك وجوب الصيام بحاله ، بأن كانت الاحتمالات في الطرف المقابل للصيام ثلاثة : أحدها كونه عدلاً له ، ثانيها كون ملاك وجوبه محدوداً بعدمه ، ثالثها كونه مفوّتاً لنفس الواجب الذي هو الصيام ، نظير ما لو وجب قتل المرتدّ مثلاً بالشنق فقتله بطريقة أُخرى ، ففي هذه الصورة التي تطرّق فيها الاحتمال الثالث يشكل الحكم بجواز الإقدام على ذلك الطرف ، فإنّه بعد فرض وجوب الصيام وتردّد ذلك الطرف بين كونه عدلاً له وكونه مسقطاً لملاكه وكونه موجباً لعدم التمكّن من استيفائه لكونه رافعاً لموضوعه ، لا يمكن الركون في الإقدام على ذلك الطرف إلى أصالة البراءة من المنع عنه ، فإنّه وإن كان مسقطاً لوجوب الصيام على كلّ حال ، إلاّ أنّ إسقاطه له على الاحتمال الأوّل يكون بالاطاعة ، وعلى الثاني يكون إسقاطه له من باب أنّ الأمر بالصيام يكون مشروطاً بعدمه ، وعلى الثالث يكون إسقاطه له من قبيل العصيان.

وحيث قد تطرّق هذا الاحتمال الثالث يكون الحكم بجواز الإقدام عليه منافياً لمقتضى الاشتغال بالصيام ، فإنّ مقتضى اشتغال الذمّة به هو المنع من إسقاطه بالعصيان ، وحيث كان إسقاطه بذلك الطرف يحتمل كونه من قبيل الاسقاط بالعصيان ، كان مقتضى الاشتغال هو المنع عنه ، ولا تنفع فيه أصالة البراءة ، لأنّها لا تجري في الفعل الذي يحتمل كونه موجباً لعصيان تكليف آخر قد تنجّز عليه واشتغلت به ذمّته.

بل قد يقال : إنّه لا معنى لأصالة البراءة من حرمة الفعل المزبور ، إذ ليس هو

ص: 311

بحرام ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه موجب لعدم التمكّن من امتثال الواجب ، فيكون مقارناً أو ملازماً لعصيان ذلك الواجب ، فلا يكون بنفسه محتمل الحرمة كي تجري فيه أصالة البراءة ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه مفوّت للواجب ، فيكون محقّقاً أو ملازماً أو مقارناً لترك الواجب ، فإن كان في البين أصل نافٍ ، فالذي ينبغي هو إجراؤه في ترك ذلك الواجب ، ولأجل ذلك لو كان ذلك الشيء مردّداً بين الاسقاط على النحو الثالث وعدمه ، بأن احتمل أنّ الإقدام عليه يكون موجباً لتفويت الواجب ، في قبال عدم ذلك الاحتمال وأنّ الإقدام عليه لا يكون موجباً لذلك ، لا ينبغي الإشكال على الظاهر في عدم جواز الاقدام عليه اعتماداً على مثل أصالة البراءة.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه يترتّب الأثر على الشكّ المزبور ، وهو أنّ الوظيفة في الإقدام على ذلك الطرف ما هي ، هل هي أصالة البراءة ، أم أنّ مقتضى الاشتغال بما علم وجوبه هو المنع من الإقدام عليه ، فلا يكون الأثر منحصراً بالعصيان. نعم لو أقدم على ذلك الطرف كان الأثر منحصراً بالعصيان.

فما أُفيد في هذا التحرير بقوله : وإن شكّ في ذلك وتردّد أمره بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو مجرّد كونه مسقطاً ، فمع التمكّن من الاتيان بما علم تعلّق التكليف به من العتق مثلاً ، لا يترتّب على الوجهين أثر حتّى يبحث عن الوظيفة في حال الشكّ إلاّمن حيث العصيان وعدمه الخ (1) لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لا يترتّب أثر عملي من ناحية نفس الواجب ، باعتبار أنّه بعد الإقدام على ذلك الشيء يكون ساقطاً قطعاً ، لكن الكلام قبل الإقدام وأنّه هل يجوز له أو لا يجوز ، وهذا أثر مهمّ ينبغي البحث عنه ، وإلاّ لسقط البحث عن الوظيفة في

ص: 312


1- فوائد الأُصول 3 : 430.

محتمل الأهمية في باب التخيير الناشئ عن التزاحم ، فإنّه بعد الاتيان بالطرف الآخر لا يكون أيضاً لنا أثر إلاّ العصيان.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ التعبير (1) بأصالة الاشتغال ، وبكون المسألة من قبيل الشكّ في المسقط في محتمل الأهميّة في باب التزاحم ، لا يخلو عن مسامحة ، سواء قلنا بصحّة الترتّب أو لم نقل ، إذ لا ريب في سقوط التكليف بما يحتمل الأهميّة بعد الاتيان بالطرف الآخر ، غايته أنّه لو كان المتروك محقّق الأهميّة في الواقع ، يكون تركه والاشتغال بالطرف الآخر من قبيل السقوط بالعصيان ، وحينئذ يتمحّض البحث في أنّه هل يسوغ له ترك محتمل الأهمية أو أنّه لا يسوغ له ذلك ، فعلى تقدير صحّة الترتّب يكون مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في سقوط إطلاق الأمر في محتمل الأهمية ، وعلى تقدير عدم صحّة الترتّب يكون مرجع الشكّ المزبور إلى الشكّ في سقوط أصل الأمر بمحتمل الأهمية.

وعلى أيّ حال ، حيث إنّ الأمر بما هو محتمل الأهمية كان محقّق الفعلية ، حيث إنّه إن كان مطلقاً فواضح ، وإن كان مشروطاً بعدم الاتيان بالطرف الآخر فقد تحقّق شرطه ، لأنّ الكلام إنّما هو قبل الشروع في الطرف الآخر ، وبعد تحقّق فعلية الأمر بما هو محتمل الأهمية لا يسوّغ العقل مخالفته بالاتيان بالطرف الآخر ، لأنّ ذلك يتوقّف على إحراز التساوي الموجب لجواز ترك كلّ منهما والاشتغال بالآخر.

وبالجملة : أنّ الكلام في هذه المسألة يكون عين الكلام في التردّد بين التعيين والتخيير الشرعي الأصلي فيما لو كان مسقطية الطرف الآخر معلومة واحتمل كون إسقاطه لما هو محتمل التعيين من باب العصيان ، لكونه رافعاً

ص: 313


1- الظاهر أنّ المقصود بذلك ما ورد في فوائد الأُصول 3 : 433.

للتمكّن منه مع فرض التمكّن من كلّ من الطرفين ، فإنّك قد عرفت أنّ البحث في تلك المسألة يكون ممحّضاً في جواز ترك محتمل التعيين والاتيان بالطرف الآخر ، لا أنّه بعد الاتيان بالطرف الآخر هل تجري أصالة الاشتغال ، وهل تكون المسألة من قبيل الشكّ في المسقط. وكذلك الحال فيما نحن فيه ينبغي أن يكون الكلام فيه ممحّضاً في جواز ترك محتمل الأهميّة بالاتيان بالطرف الآخر ، أو أنّه لا يسوغ له ذلك ، وإن كان بعد الاتيان بذلك الطرف الآخر يكون سقوط ما هو محتمل الأهمية معلوماً ، غايته أنّه يحتمل أنّ سقوطه كان مقروناً بالعصيان لو كان المتروك محقّق الأهميّة في الواقع.

والحاصل : أنّ الكلام في مسألة محتمل الأهمية في باب التزاحم وفي محتمل التعيين فيما لو كانت مسقطية الطرف معلومة ، لا يكون إلاّبالنظر إلى ما قبل الشروع في الطرف الآخر ، وأنّه هل يسوغ له ترك ما هو محتمل الأهمية أو ترك ما هو محتمل التعيين والاتيان بالطرف الآخر الذي يكون الاشتغال به وترك ذلك المحتمل محتمل العصيان ، بخلاف باقي مسائل دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، أعني مسألة ما لو علم وجوب الصيام مثلاً وشكّ في كون الاطعام عدلاً له ، أو علم وجوبهما واحتمل كونه من باب التخيير ، فإنّه على كلا المسألتين لا إشكال في جواز الإقدام على الاطعام ، وإنّما الإشكال فيما بعد الاتيان بالاطعام ، وأنّه هل يكون من باب أصالة الاشتغال والشكّ في كون الاطعام مسقطاً للصيام ، أو أنّه من باب الرجوع إلى أصالة البراءة من تعيين الصيام.

بل قد عرفت أنّه بناءً على كون الوجوب التخييري راجعاً إلى طلب أحد العدلين تكون المسألة - أعني مسألة ما لو أتى بالطرف الآخر المحتمل كونه عدلاً لما علم وجوبه - من باب الشكّ في الامتثال لا من باب الشكّ في المسقط ، وأنّ

ص: 314

التعبير بأصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما علم وجوبه - أعني الصيام - لا يخلو عن مسامحة. نعم يحسن التعبير بأصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما علم إجمالاً اشتغال ذمّته به من أحد طرفي العلم الاجمالي اللذين يكون أحدهما هو خصوص الصيام والآخر منهما هو أحد الفعلين منه ومن الإطعام.

قوله : هو أنّه تارةً نقول : إنّ الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري الشرعي ، فإنّ التخيير العقلي لا يحتمل لسقوط ( القراءة ) فيها وثبوتها في الصلاة فرادى ، فلا يمكن أن يجمعهما خطاب واحد. مع أنّه يعتبر في التخيير العقلي أن يكون بين الأفراد جامع خطابي حتّى تكون الأفراد متساوية الأقدام ، فالتخيير الذي يحتمل أن يكون بين الصلاة فرادى والجماعة هو التخيير الشرعي ... الخ (1).

لا يخفى إمكان الجامع ووضوحه وهو عنوان الصلاة ، وهذا هو شأن الجامع ، وهو ما كان جامعاً بين واجد الجزء الفلاني وفاقده ، وقد تعرّض قدس سره لذلك في الدورة الأخيرة ، ولم يرجّح التخيير الشرعي بينهما على العقلي ، وذكر الثمرة بينهما ، وهي أصالة استمرار التخيير في العقلي ، وأصالة كونه بدوياً في التخيير الشرعي ، بل لم أجد فيما حرّرته عنه قدس سره في الدورة السابقة في هذا المقام ما يظهر منه الميل إلى كون التخيير شرعياً. وأغرب من ذلك جعله الثمرة للتخيير أو لخصوص الشرعي هي تعيّن الجماعة عند تعذّر الفرادى ولو لتعذّر جزئها الذي هو القراءة ، فقال : وعليه فإن تعذّرت الصلاة فرادى ولو لمكان تعذّر جزئها وهي القراءة ، تتعيّن الصلاة جماعة ، فإنّه عند تعذّر أحد فردي الواجب المخيّر يتعيّن

ص: 315


1- فوائد الأُصول 3 : 430 - 431.

الآخر (1).

فإنّ الضمير في قوله « وعليه » إن كان راجعاً إلى ما سبقه وهو التخيير الشرعي ، كانت هذه الثمرة ثمرة لخصوص التخيير الشرعي ، وإن كان راجعاً إلى مطلق التخيير - سواء كان شرعياً أو كان عقلياً - كانت الثمرة المذكورة من ثمرات مطلق التخيير. وهذا ممّا لم أجده فيما حرّرته عنه في الدورة السابقة ، فإنّ جلّ ما كان في الدورة السابقة هو المقابلة بين نفس القراءة وبين الائتمام ، وأنّ الثاني هل هو عدل للأوّل أعني القراءة أو أنّه مسقط له ، أمّا في الدورة الثانية فقد صرّح بأنّ التخيير العقلي أو الشرعي إنّما هو بين تمام مراتب الصلاة الفرادى وبين الائتمام ، فلا يترتّب عليه أنّه عند تعذّر القراءة يتعيّن عليه الائتمام ، وأنّ النزاع في تعيّن الائتمام إنّما يجري لو قلنا بأنّ الائتمام عدل في التخيير لنفس القراءة ، فراجع ما حرّره السيّد سلّمه اللّه بقوله : فإن قلت الخ (2).

قوله : بدعوى أنّه يمكن تحصيل القراءة التنزيلية ، كما هو الشأن في باب الطرق والأمارات ... الخ (3).

هذه الدعوى أعني قياس ما نحن فيه على بدلية الأوامر الظاهرية عن الواقعية وجوابها ، ممّا تعرّض له قدس سره في الدورة السابقة ، ولم يتعرّض لها في هذه الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّره عنه السيّد سلّمه اللّه (4) فإنّه أوفى بما أفاده قدس سره.

والإنصاف : أنّ البحث في هذه المسألة - أعني مسألة الائتمام وقراءة

ص: 316


1- فوائد الأُصول 3 : 431.
2- أجود التقريرات 3 : 377.
3- فوائد الأُصول 3 : 431 - 432.
4- أجود التقريرات 3 : 376 وما بعدها.

المنفرد - لم يتّضح للنظر القاصر تمام الاتضاح ، فإنّه بعد البناء على التخيير بين صلاة الجماعة وصلاة الفرادى بجميع مراتبها ، سواء كان التخيير شرعياً أو كان عقلياً ، لا يكون إلاّبين نوعين أو فردين ، يكون كلّ منهما مختصّاً بأحكام ، منها عدم وجوب القراءة في الأوّل ووجوبها في الثاني ، فلا يبقى محل للتكلّم في أنّه عند تعذّر القراءة أو عند تعذّر أوّل مرتبة منها هل تتعيّن الجماعة أو لا تتعيّن ، إذ لا تكون القراءة حينئذ واقعة في عرض صلاة الجماعة كي يتكلّم في تعيّن الجماعة عند تعذّرها ، بل الذي يكون واقعاً في عرض صلاة الجماعة هو صلاة الفرادى بجميع مراتبها ، وعليه يتعيّن كون الجماعة من باب المسقط للقراءة ، بل إنّ التعبير بالاسقاط لا يخلو من مسامحة ، فإنّه بناءً على التخيير المزبور لا تكون القراءة واجبة أوّلاً وبالذات في مطلق الصلاة لتكون الجماعة مسقطة لها ، بل إن كان التخيير بين النحوين عقلياً يكون الواجب من أوّل الأمر هو القدر المشترك بين الفرد الذي لا تجب فيه القراءة والفرد الذي تجب فيه ، وإن كان التخيير شرعياً كان الواجب الأصلي مخيّراً بين النوع الذي لا تجب فيه القراءة والنوع الذي تجب فيه ، وعلى أيّ حال لا يكون هناك وجوب للقراءة ابتداءً وتكون الجماعة مسقطة له ، فضلاً عن كون الجماعة في عرض القراءة ، فتأمّل.

نعم ، يمكن توجيه هذا البحث ، بأنّ التخيير الثابت بين الفرادى والجماعة سواء كان عقلياً أو كان شرعياً ، هل هو بين الجماعة والفرادى بجميع مراتبها ، أو أنّه بين الجماعة والفرادى المشتملة على القراءة الصحيحة ، وعلى الأوّل لو لم يتمكّن من القراءة الصحيحة أو لم يتمكّن من أصل القراءة لا يتعيّن عليه الجماعة ، وعلى الثاني يتعيّن عليه الجماعة ، فتأمّل.

ص: 317

قوله : سواء قلنا إنّ التخيير في باب التزاحم لأجل تقييد الاطلاق ، أو لأجل سقوط الخطابين المتزاحمين واستكشاف العقل حكماً تخييرياً ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ هذا الاستكشاف العقلي ليس من قبيل قاعدة الملازمة ، بل هو من قبيل الأحكام الشرعية التي يستكشفها العقل بالملازمات ، نظير كون إيجاب الشيء موجباً للنهي عن ضدّه أو إيجاب مقدّمته ، وعلى كلّ حال أنّ هذا الوجوب الشرعي بناءً على الوجه الثاني يكون من قبيل الوجوب التخييري الناشئ عن ملاكين متزاحمين ، بحيث إنّه يكون لنا وجوبان تخييريان ، كلّ واحد منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، بخلافه على الوجه الأوّل فإنّه عليه لا ينقلب الوجوب عن كونه تعيينياً إلى كونه تخييرياً ، بل يبقى على ما هو عليه من التعيين ، غايته أنّ العقل يحكم بكون أحدهما مقيّداً بعدم امتثال الآخر ، هذا كلّه على تقدير تساوي الفعلين.

ولو كان أحدهما أهم ، فبناءً على الأوّل يكون الأمر بالأهمّ باقياً بحاله مع تحقّق الأمر بالمهمّ ، غايته أنّ الأمر بالمهمّ يكون مقيّداً عقلاً بعدم امتثال الأمر بالأهمّ ، وبناءً على الثاني يكون الأمر بالمهمّ ساقطاً بالمرّة ، ولا يكون في البين إلاّ أمر واحد وهو الأمر بالأهمّ.

ثمّ قال : ولو كان أحدهما محتمل الأهمية ، فبناءً على الوجه الأوّل لا ينبغي الإشكال في الحكم بتعيّنه ، لا من جهة الشكّ في بقاء إطلاق أمره كي يكون الأصل لفظياً ، إذ ليس التقييد المذكور على تقدير التساوي من قبيل التقييد اللفظي كي ينفى بأصالة الاطلاق ، بل هو تقييد عقلي لاحق لواقع التكليف لا لما يدلّ عليه ،

ص: 318


1- فوائد الأُصول 3 : 432.

ولأجل ذلك نقول بذلك التقييد حتّى لو كان دليل الأمر لبّياً مثل الإجماع ونحوه ، بل من جهة إحراز توجّه الأمر بذلك المحتمل الأهميّة ، وكون الاتيان بالطرف الآخر مسقطاً له مشكوك.

ثمّ إنّه قدس سره أفاد أنّه بناءً على الوجه الثاني يكون المرجع هو الاشتغال. ثمّ استشكل في ذلك بأنّ محتمل الأهمية لمّا كان يحتمل فيه المساواة كان من المحتمل اشتراطه بعدم الآخر ، ثمّ أجاب عنه بأنّ سقوطه بالآخر لو كانا متساويين إنّما يكون من ناحية عدم القدرة ، وإذا رجع إلى الشكّ في القدرة وجب الاحتياط ، ثمّ استشكل في كون المقام من قبيل الشكّ في القدرة ، بل هو على تقدير التساوي من قبيل عدم تمامية الملاك بالنسبة إلى محتمل الأهمية ، لأنّه على تقدير التساوي يكون الاتيان بالآخر مسقطاً لملاكه. ثمّ أفاد أنّ هذا كلّه من قبيل الفرض والتقدير وإلاّ فالحقّ والمختار هو صحّة الترتّب الذي هو أساس الوجه الأوّل.

قلت : لا ينبغي الإشكال في أنّ محتمل الأهمية لو كان مساوياً في الواقع لكان التكليف به مشروطاً بعدم الآخر ، والمفروض إنّما هو قبل الاتيان بأحد الطرفين ، فيكون محتمل الأهمية محقّق الفعلية حينئذ ، ويكون الشكّ راجعاً إلى الشكّ في سقوطه بفعل الآخر ، سواء قلنا بصحّة الترتّب الذي هو مبنى الوجه الأوّل ، أو قلنا بعدمه الذي هو مبنى الوجه الثاني.

لكن لا يخفى أنّه بعد الاتيان بالآخر لا يبقى مجال للتشبّث بأصالة الاشتغال في محتمل الأهمية ، لسقوطه على كلّ حال ، وإنّما عمدة الكلام هو في جواز الإقدام على الاتيان بالطرف الآخر مع فرض احتمال كونه مفوّتاً للأهمية المحتملة في الطرف الذي يريد تركه ، وقد مضى البحث عن ذلك في الأمر السابع ، فراجع (1)

ص: 319


1- تقدّم الأمر السابع في الصفحة : 310 وما بعدها.

تنبيه : وهو أنّ التخيير في دوران الأمر بين المحذورين عقلي بالنحو الآتي شرحه إن شاء اللّه تعالى (1) ، لكن لو احتملنا تقدّم جانب الحرمة ولو من جهة تخيّل تطبيق أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، دخلت المسألة حينئذ في التردّد بين التعيين والتخيير ، وهل الحكم حينئذ هو البراءة أو الاشتغال ، هذا محتاج إلى تأمّل ، لعلّنا نتوفّق لحلّه في محلّه الآتي إن شاء اللّه تعالى ، ويتّضح الحال فيما لو كان الأمر دائراً بين التحريم والوجوب والإباحة ، وجرت أصالة البراءة من الالزام لكن أراد الاحتياط ، فهل يمكننا القول بأنّ الاحتياط في جانب التحريم مقدّم ، ولو فتحنا هذا الاحتمال يأتي لنا نظيره في الدوران بين المحذورين ، فتأمّل.

ولو تمّ ذلك كان موجباً لسقوط أصالة التخيير وانحصار الأُصول في ثلاثة الاستصحاب والاحتياط والبراءة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى التعرّض لذلك في الأمر الثاني من الأُمور التي عقدها للبحث عن أصالة التخيير (2).

قوله : وتوضيح ذلك ، هو أنّ في تصوير الواجب الكفائي وكيفية تشريعه ... الخ (3).

لو كان هناك ملاك واحد قائم به فعلُ واحدٍ من طبيعة المكلّفين ، كان نظير التخيير الناشئ عن ملاك واحد. ولو كانت هناك ملاكات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين ، لكن كان فعل كلّ واحد منهم موجباً لذهاب الملاك في أفعال

ص: 320


1- يأتي البحث عن دوران الأمر بين المحذورين في الصفحة : 326 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 450 - 452 ، وللمصنّف حاشية على ذلك المبحث أمر قدس سره بالضرب عليها ، ولذلك أدرجناها في الهامش الصفحة : 339.
3- فوائد الأُصول 3 : 436.

الآخرين ، كان نظير التخيير الناشئ عن ملاكات متعدّدة ، فحيث يدور الأمر بين العينية والكفائية ، يكون ذلك نظير التردّد بين التعيينية والتخييرية الناشئة عن ملاك واحد في الأوّل ، وعن ملاكين في الثاني.

وينبغي الالتفات إلى [ أنّ ] ما لا يكون قابلاً للتعدّد مثل دفن الميت لا يكون وجوبه إلاّكفائياً ، فلا يكون داخلاً في محلّ البحث عمّا يتردّد في وجوبه بين العينية والكفائية ، وأنّ ما يكون داخلاً في محلّ البحث هو ما يكون قابلاً للتكرار مثل الصلاة على الميّت ، وهل هو على تقدير كونه كفائياً من ذي الملاك الواحد القائم بفعل أحد المكلّفين ، أو هو من قبيل ذي الملاكين المتزاحمين في مقام الاستيفاء ، فيكون الوجوب على كلّ منهم مشروطاً بعدم فعل الآخر حدوثاً وبقاءً أو بقاءً فقط؟

ويمكن أن يكون فعل أحد المكلّفين مسقطاً محضاً عن الباقين ، ويكون الحال هو الحال فيما لا يقبل التعدّد ، لكون فعل أحدهم رافعاً لموضوع الفعل من الآخرين ، وعلى كلّ حال يكون المرجع في الشكّ في العينية والكفائية هو أصالة الاشتغال بنحو ما حرّرناه في الشكّ في التعيين والتخيير.

أمّا ما يتطلّب الاجتماع فهو قابل للعينية كما في صلاة الجمعة ، وللكفائية كما في مثل حمل الميت إلى قبره لو لم يتمكّن الواحد من نقله إليه. نعم في أصل كون الواجب هو الاجتماع على الفعل الفلاني إشكال ، لأنّ فعل الغير لا يكون إلاّ شرطاً في الوجوب بالنسبة إلى كلّ واحد ، ويكون الأمر حينئذ راجعاً إلى أنّه لا يجب الاجتماع على كلّ منهم إلاّ إذا حصل الاجتماع من كلّ منهم ، ولا يمكن تصحيح ذلك إلاّبنحو من الشرط المتأخّر.

ص: 321

قوله (1) : والظاهر أن يكون نظر المشهور في مسألة قضاء الفوائت إلى القاعدة وأنّها تقتضي الاحتياط ... الخ (2).

لا يخفى أنّه قد عنون في مستدرك الوسائل (3) باب من فاتته فريضة ولا يعلمها بعينها ، ومن فاتته فرائض كثيرة لا يعلم عددها ، يقضي حتّى يغلب على ظنّه الخروج عن العهدة ، إلاّ أنّه قدس سره لم يذكر في ذلك الباب إلاّ أخبار العنوان الأوّل ولم يتعرّض لما يدلّ على العنوان الثاني.

أمّا صاحب الوسائل (4) فإنّه ذكر نظير ذلك ، إلاّ أنّه ذكر أنّه قد تقدّم ما يدلّ على العنوان الثاني في أعداد الفرائض. والظاهر أنّ مراده هو ما تقدّم في ذلك الباب ممّا ورد في من فاتته نوافل كثيرة ولا يعلمها بعينها (5) ، ويشهد بذلك ما في المدارك (6) من أنّ الشيخ في التهذيب (7) استدلّ لما عليه المشهور بما ورد في من فاتته نوافل متعدّدة ، وقد تعرّض الفقهاء في الجواهر (8) وغيرها لردّ هذا الاستدلال ، فراجع.

وبالجملة : أنّ عمدة نظر المشهور في خصوص هذه المسألة إنّما هو إلى

ص: 322


1- الأحد 6 شوال / 1371 [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 3 : 438.
3- مستدرك الوسائل 6 : 437 / أبواب قضاء الصلوات ب 9.
4- وسائل الشيعة 8 : 275 / أبواب قضاء الصلوات ب 11.
5- وسائل الشيعة 4 : 78 / أبواب أعداد الفرائض ب 19.
6- مدارك الأحكام 4 : 306.
7- تهذيب الأحكام 2 : 198 / 778.
8- جواهر الكلام 13 : 126.

تلك الأخبار ، لا إلى ما أُفيد في الحاشية (1) وغيرها من ذلك التوجيه المبني على احتمال التنجّز بالعلم الماضي ، ممّا هو مخالف لقاعدة الشكّ بعد الوقت ولقاعدة البراءة في الزائد في مسألة الشكّ بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين.

نعم ، هنا إشكال وهو أنّ نتيجة إجراء البراءة الشرعية أو العقلية هو القطع بعدم استحقاق العقاب على التكليف الذي جرت فيه لو فرض وجوده واقعاً ، مثلاً لو أجرينا البراءة العقلية أو الشرعية في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال عندما نشكّ فيه ، تكون نتيجة ذلك هو القطع بعدم استحقاق العقاب لو اتّفق الوجوب واقعاً ، وحينئذ نقول : إنّ من مضت عليه مدّة من عمره وهو متمرّد عن جميع التكاليف ومشغول بنهب أموال الناس ، لو أدركته الرحمة الإلهية وقدم على التوبة ، وتردّد ما فاته من الصلاة والصيام عصياناً وما اشتغلت به ذمّته من أموال الناس عصياناً أيضاً بين الأقل والأكثر ، وأدّى المقدار المعلوم ، وأجرى البراءة فيما زاد على ذلك ، لا يحصل له القطع بعدم العقاب على ذلك الزائد لو فرض وجوده واقعاً ، فما فائدة جريان البراءة فيه في حقّ ذلك الشخص.

والجواب يتوقّف على ذكر مقدّمتين :

الأُولى : أنّه لا تنافي بين الحكم بعدم استحقاق العقاب وبين ثبوت الأثر الوضعي للتكليف الواقعي ، أعني الضمان في الماليات واشتغال الذمّة في العبادات ، فإنّ النائم لو كسر آنية الغير في حال نومه ولم يعلم بذلك حتّى مات لا عقاب عليه قطعاً ، لكنّه مشغول الذمّة بما أتلفه في نومه على وجه يجب على ورثته أو وصيّه تفريغ ذمّته من ذلك المال لو علموا بذلك ، بل إنّ لصاحب تلك الآنية الاقتصاص من ماله في حال حياته وبعد مماته.

ص: 323


1- لم نعثر عليه في مظانّه.

وهكذا الحال فيما لو فاتته فرائض مالية أو عبادية وهو لم يعلم بفوتها حتّى مات ، فإنّ على وارثه أو وصيّه إيفاء ذلك عنه ، وللحاكم الأخذ من ماله بما يكون وافياً بما اشتغلت به ذمّته ، بل لو كان ذلك الشخص قد التفت إلى ذلك واحتمله لكنّه أجرى قاعدة الشكّ بعد الوقت ، أو قاعدة الفراغ فيما شكّ في بطلانه من عباداته ، أو قامت البيّنة عنده على عدم شغل ذلك أو على صحّة عباداته ، أو أجرى [ البراءة ] فيما زاد على ما علمه ، وقد علم الحاكم أو وصيّه أو وارثه بخطأ ذلك ، كان لهم أو عليهم الأخذ من ماله وعليهم إيفاء ذمّته ، مع فرض كونه غير مستحقّ للعقاب على ذلك ، فلو لم يعلم أحد بذلك لم يكن في البين إلاّهذا الحكم الوضعي وهو انشغال ذمّته ، ولا أثر لذلك إلاّيوم القيامة ، واللّه سبحانه لا يؤاخذه على ما هو راجع إليه ، أمّا ما يرجع إلى الناس فذلك أيضاً راجع إليه تعالى ولعلّه يعوّضهم عنه.

المقدّمة الثانية : أنّ هذا الشخص لو أقدم على الأخذ بالزائد واحتاط بدفع الأكثر أو فعله ، لم يكن ذلك رافعاً للعقاب الذي استحقّه على عصيانه السابق ، فإنّ ذلك العصيان لا يرتفع إلاّبالتوبة وعفو اللّه تعالى ، فليس الغرض من إجراء البراءة من ذلك الزائد هو رفع ذلك العقاب المستحقّ بالعصيان السابق ، وإنّما أثرها هو رفع العصيان الفعلي ، وأنّه لو لم يفعله لا يكون مستحقّاً للعقاب على عدم فعله فعلاً بالنسبة إلى حالته الفعلية الحاضرة التي هي حالة الشكّ في الزائد وعدم العلم به ، ولا ريب أنّه بالنسبة إلى حالته الفعلية يكون مورداً لعدم العلم بذلك الزائد وعدم تنجّز وجوب أدائه ، وعدم استحقاق العقاب على ترك أدائه فعلاً ، وإن كان مستحقّاً للعقاب على تركه السابق وإقدامه على أخذ ذلك المال لو كان له وجود في الواقع ، وكان أثره الوضعي أيضاً ثابتاً وهو انشغال ذمّته به ، لما عرفت من أنّ

ص: 324

البراءة فعلاً لو كانت مخطئة لا ترفع العقاب على العصيان السابق ، كما أنّها لا ترفع الضمان الواقعي وانشغال الذمّة ، وإنّما أقصى ما فيها هو رفع العقاب على ترك تأديته فعلاً.

وبالجملة : أنّ حال البراءة من هذه الجهة حال البيّنة القائمة على نفي ذلك الزائد ، في أنّها لا توجب رفع الضمان لو كانت مخطئة ، ولا ترفع العقاب الذي استحقّه سابقاً ، وإنّما أقصى ما فيها هو الحكم الظاهري بعدم استحقاق العقاب اللاحق.

ص: 325

[ أصالة التخيير ]

قوله : وتنقيح البحث عنها يستدعي رسم أُمور : الأوّل ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الأُصول المعروفة أربعة : الاحتياط والتخيير والبراءة والاستصحاب ، والثلاثة الأُول تكون شرعية وعقلية ، والمدّعى أنّ ما نحن فيه من الدوران بين المحذورين لا تجري فيه هذه الأُصول بأسرها عقليّها وشرعيّها. أمّا الاحتياط العقلي والشرعي فواضح ، لعدم القدرة عليه في المقام ، لأنّ المفروض فيه هو عدم التمكّن من الموافقة القطعية كعدم التمكّن من المخالفة القطعية.

نعم ، يمكن الأمر بالاحتياط في أحد الطرفين ، بأن يرى الشارع أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى بالرعاية من جلب المصلحة المحتملة ، فيلزم بالاحتياط بالترك. كما أنّه من الممكن أن يرى الشارع أنّ جلب المصلحة المحتملة أولى بالرعاية من دفع المفسدة المحتملة ، فيأمر بالاحتياط بالفعل. ويمكن اختلاف الموارد ، نظراً إلى إمكان اختلاف المفاسد والمصالح ، ففي بعضها يقدّم الأوّل وفي بعضها يقدّم الثاني ويكون الاحتياط في ذلك شرعياً.

ويمكن حينئذ فرضه عقلياً وذلك مع فرض عدم صدور الأمر بالاحتياط من جانب الشارع في أحد الطريقين ، فإن احتملنا تقدّم إحدى الجهتين على الأُخرى دون العكس ، دخلت المسألة في الدوران بين التعيين والتخيير ، واللازم عقلاً الالتزام بجانب التعيين. نعم لو قطعنا بالعدم ، أو جرى الاحتمال في كلّ من

ص: 326


1- فوائد الأُصول 3 : 442.

الجهتين ، سقط الاحتياط في أحد الطرفين ، وتعيّن التخيير بين الفعل والترك ، وسيأتي الكلام عنه إن شاء اللّه تعالى في الأمر الثاني (1).

وعلى كلّ حال ، نحن لو احتملنا أنّ الشارع ألزمنا في مسألة الدوران بين المحذورين بالاحتياط في جانب الترك فقط ، يمكننا إجراء البراءة العقلية والشرعية في نفي هذا الاحتمال ، ويمكننا أيضاً إجراء استصحاب العدم فيه ، ولا يعارض ذلك بما في طرف جانب الفعل ، إذ المفروض أنّ الاحتياط في جانبه مقطوع العدم. وهكذا الحال في جانب الوجود لو احتملناه فقط.

نعم ، لو كان الاحتياط محتملاً في كلّ من الجانبين ، كانت المسألة كأصلها من دوران الأمر بين المحذورين ، من دون فرق في ذلك بين العلم بأنّ الشارع أوجب الاحتياط في أحد الجانبين وحصل التردّد بينهما ، وبين أن لا يكون إلاّ احتمال الاحتياط في كلّ منهما.

وينبغي أن يعلم أنّا لا نريد أن ندّعي الجزم بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، بل أقصى ما ندّعيه هو الاحتمال ، وإمكان أن يكون الشارع المقدّس قد أمر بالاحتياط في جانب الترك ، لأجل أنّه يرى أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة. ومرادنا من المفسدة والمصلحة في المقام هي ملاكات الأحكام ، لا خصوص المصالح والمفاسد الدنيوية أو الشخصية المعبّر عنها بالنفع والضرر الراجع إلى شخص الفاعل.

وأيضاً لا ندّعي هذا الاحتمال في جميع موارد التقابل بين الواجب والحرام ، لكي يرد علينا أنّه رُبّ واجب أهم من ترك الحرام ، بل إنّا نقول : إنّ هذا الفعل الخاصّ الذي تردّد بين كونه واجباً أو حراماً من الممكن أن تكون المفسدة

ص: 327


1- فوائد الأُصول 3 : 450.

في حرمته على تقدير كونه حراماً أقوى من المصلحة في وجوبه على تقدير كونه واجباً ، ويكون ذلك علّة في الأمر بالاحتياط في جانب الترك ، كما ربما يلتزم به في دوران الأمر في هذا الشخص بين كونه واجب القتل وكونه محرّم القتل. وبالجملة : نحن نحتمل أن يكون هذا الذي ابتلينا به ممّا دار بين الوجوب والتحريم هو نظير المثال في تقدّم احتمال الحرمة.

ومن جميع ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير (1) أوّلاً وثانياً وثالثاً. أمّا التأمّل في الأوّل ، فلما عرفت من أنّا لا ندّعي الجزم وإنّما أقصى ما عندنا هو الاحتمال ، مضافاً إلى ما عرفت من عدم التزامنا بذلك كلّية. وأمّا التأمّل في الثاني فلأنّه قد حقّق في محلّه (2) الفرق بين الواجب والحرام ، وأنّ الأوّل ما كان ناشئاً عن صلاح في الفعل والثاني ما كان ناشئاً عن فساد في الفعل ، ولو اتّفق أنّ فعلاً يكون في نفسه ذا صلاح ويكون تركه ذا فساد ، لم يكن ذلك الفعل واجباً محضاً ، بل كان تركه حراماً مضافاً إلى كون فعله واجباً ، فلو تركه كان مستحقّاً لعقابين ، عقاب ترك الواجب وعقاب فعل الحرام. وأمّا التأمّل في الثالث فلما عرفت من أنّ المراد هو ملاكات الأحكام لا المنافع والمضارّ الشخصية ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي الضرب على بقية البحث وعلى بقية الحواشي إلى حاشية قوله في ص 165 ، فيكون المضروب عليه هو من قولنا : ولكن شيخنا قدس سره ، إلى حاشية قوله في ص 165 : أو يكون أحدهما ... الخ (3)

ص: 328


1- فوائد الأُصول 3 : 451 - 452.
2- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ص 98 والمجلّد الرابع منه ص 3 - 4.
3- [ ارتأينا إدراج ما أمر قدس سره بالضرب عليه في الهامش تتميماً للفائدة ، وهو ما يلي : ] ولكن شيخنا قدس سره اهتمّ في مسألة الاحتياط هنا ، وتعرّض لبيان عدم منجّزية العلم الاجمالي في المقام ، وغايته قدس سره من ذلك هو بيان أنّ المقام غير قابل للتخيير العقلي والشرعي ، خصوصاً في الدورة الأخيرة التي اشتمل عليها تحرير السيّد سلّمه اللّه ، فإنّه قد اشتمل على تفصيل في بيان عدم منجّزية العلم الاجمالي في المقام ، لأنّ منجّزيته إنّما تتمّ بأمرين ، الأوّل إمكان الخطاب بالقدر المعلوم. والثاني تفرّع وجوب الموافقة القطعية على حرمة المخالفة القطعية. وحاصل الأوّل ، أنّه في المقام لا يمكن الخطاب بالقدر المعلوم في المقام ، ليكون نظير دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، من كون الخطاب الشرعي نظير التخيير الشرعي ، فإنّه غير ممكن في المقام ، لأنّ التخيير فيه قهري طبعي. وحاصل الثاني ، هو أنّه بعد أن كانت المخالفة القطعية غير ممكنة ، لم يعقل إيجاب الموافقة القطعية ، لكونه في طول حرمة المخالفة القطعية. واستنتج من ذلك أنّ التخيير في المقام لا يكون شرعياً ولا عقلياً. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّه إنّما يكون في المورد الذي يمكن فيه المخالفة القطعية ولا يمكن الموافقة القطعية ، مثل ما لو كان غريقان أحدهما يجب إنقاذه والآخر لا يجب إنقاذه ولا يحرم بل كان مباحاً ، ولم يتمكّن المكلّف من إنقاذهما ، فإنّ العقل يحكم بإنقاذ أحدهما تخييراً ، فراراً من تركهما الموجب للوقوع في المخالة القطعية ، هذا. ولكن لا يبعد القول بعدم الحاجة إلى هذين الضابطين لتنجيز العلم الاجمالي في استنتاج كون التخيير في المقام غير عقلي ولا شرعي. أمّا الأوّل فلأنّه موقوف على نفس المطلوب ، أعني عدم إمكان الخطاب الشرعي في المقام. وأمّا الثاني ، فلأنّ هذا الاستنتاج لا يتوقّف على كون وجوب الموافقة القطعية في طول حرمة المخالفة القطعية ، بل إنّ هذه النتيجة حاصلة حتّى لو قلنا إنّها في عرضها أو قلنا إنّ العلم الاجمالي لا يوجب إلاّحرمة المخالفة القطعية وأنّه لا يوجب الموافقة القطعية ، فإنّ المقام بعد فرض كون حرمة المخالفة القطعية ساقطة فيه لعدم التمكّن منها ، لا يكون التخيير فيه بحكم العقل فراراً من المخالفة ، بل لا يكون إلاّبحكم الطبع ، فإنّ التخيير العقلي تارةً يكون ناشئاً عن التزاحم مع العلم بأن كلاً من الغريقين واجب الإنقاذ ، مع فرض عدم تمكّن المكلّف من الجمع بينهما ، وفرض عدم رجحان إنقاذ أحدهما على الآخر ، وهذا لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو واضح. وتارةً يكون التخيير العقلي ناشئاً عن العلم الاجمالي بوجوب إنقاذ أحدهما وإباحة إنقاذ الآخر مع فرض عدم إمكان الجمع ، ففي هذه الصورة يحكم العقل بلزوم إنقاذ أحدهما تخييراً ، فراراً من لزوم المخالفة القطعية لو تركهما معاً ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما عرفت من عدم القدرة على المخالفة القطعية ، فلا يكون التخيير فيه بين الفعل والترك بحكم العقل فراراً عن المخالفة القطعية ، بل لا يكون ذلك إلاّبحكم الطبع ، بمعنى أنّ هذا التردّد لا يحكم فيه العقل بالتخيير ولا الشرع ، بل هو حاصل قهراً على المكلّف ، فهذا ليس له وظيفة عقلية ولا وظيفة شرعية ، أمّا الاحتياط فلما عرفت من عدم إمكانه ، وأمّا التخيير بين الفعل والترك فلما عرفت من أنّه قهري على المكلّف. والحاصل : أنّ المانع من الاحتياط والتخيير في المقام هو عدم المعقولية فيهما ، من دون نظر إلى مصادمة العلم الاجمالي ، وفي الحقيقة يكون الحاصل هو إنكار أصالة التخيير ، وتكون الأُصول منحصرة في ثلاثة : الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، فإنّ ما ذكروه لمجرى أصالة التخيير هو دوران الأمر بين المحذورين ممّا كان جنس التكليف فيه معلوماً ولم يمكن فيه الاحتياط ، ومن الواضح أنّه لا مجرى فيه للاستصحاب ولا للاحتياط ولا للبراءة ، وبعد عدم إمكان جريان أصالة التخيير فيه تبقى أصالة التخيير بلا مورد ، كما أنّه لو تمّ ما تقدّمت الاشارة إليه ويأتي البحث عنه في الأمر الثاني من كون المقام من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، لكان ذلك موجباً لسقوط أصالة التخيير. لا يقال : في الشبهة غير المحصورة لا تكون المخالفة القطعية مقدورة ، فينبغي أن لا يكون العقل حاكماً بجواز ارتكاب بعض أطرافها ، ولا إشكال في حكمه في ذلك بالتخيير وجواز ارتكاب البعض. لأنّا نقول : مرادنا من التخيير العقلي الذي منعناه عند عدم التمكّن من المخالفة القطعية هو إلزام العقل بأحد الأطراف تخييراً ، لا التخيير في أحدها بين الفعل والترك الذي هو الاباحة. والحاصل : أنّ العقل عند عدم التمكّن من الموافقة القطعية مع فرض التمكّن من المخالفة القطعية ، يكون حاكماً بلزوم بعض الأطراف فراراً من المخالفة القطعية ، وهذا هو التخيير العقلي الذي قلنا إنّه لا يتأتّى في صورة عدم التمكّن من المخالفة القطعية ، ومن الواضح أنّ العقل لا يلزم بأحد الأطراف في الشبهة غير المحصورة. نعم هو يحكم بالتخيير فيها بين الفعل والترك ، وهذا هو عبارة أُخرى عن الإباحة. وأمّا بقية الوظائف من قاعدة الحل والبراءة العقلية والشرعية والاستصحاب ، فقد تعرّض لها شيخنا قدس سره فيما سيأتي ، فراجع هذا التحرير وتحرير السيّد ، فلعلّ بيانه أوفى لكونه من الدورة المتأخّرة عن هذا التحرير. ومن جملة ذلك ما حرّره [ في أجود التقريرات 3 : 400 ] بقوله : الثانية أنّ المراد من الأصل المدّعى عدم جريانه في المقام هو الأصل الجاري في كلّ من الطرفين ، أو الأصل الجاري في نفس الجامع المعلوم كأصالة الاباحة ، وأمّا الأصل الجاري في أحد الطرفين فقط من دون أن يكون معارضاً بجريانه في الطرف الآخر ، كما إذا كان المردّد بين الوجوب أو الحرمة مسبوقاً بالوجوب مثلاً ، فلا ريب في جريانه وانحلال العلم الاجمالي به ، وخروج مورده عن دوران الأمر بين المحذورين ، انتهى. ومن هذا القبيل ما لو احتمل عروض الارتداد الفطري على المسلم ، فإنّه يوجب وجوب قتله بعد أن كان محرّم القتل ، لكن استصحاب الحرمة جارٍ ، وفي قباله أصالة البراءة من الوجوب ، فينحلّ العلم بجريان الأصل المثبت في أحد طرفيه والنافي في الآخر. ومثاله في الاحتياط ما لو علم بارتداد زيد فطرياً ، ولكن تردّد في هذا الشخص الحاضر هل هو زيد المذكور أو غيره ، فإنّ أصالة الحرمة في النفوس توجب لزوم ترك قتله احتياطاً ، وإجراء أصالة البراءة من احتمال وجوبه. وهكذا لو كان قد ترك وطء زوجته لمدّة تزيد على أربعة أشهر فوجب عليه ذلك ، وحضرت عنده امرأة مردّدة بين كونها هي زوجته أو أجنبية ، فإنّه يحتاط بالترك ويجري البراءة في الوجوب ، إن لم نرجع ذلك إلى المثال الأوّل أعني الاستصحاب في أحد الطرفين ، بدعوى أنّ الأصل عدم طروّ الارتداد على هذا الشخص الحاضر ، والأصل عدم طروّ الزوجية على هذه المرأة الحاضرة. ويمكن أن يقال : إنّه عند جريان الاستصحاب في أحد الطرفين تخرج المسألة عن الدوران بين المحذورين ، ويكون الطرف الآخر منتفياً بنفس جريان الاستصحاب المذكور من دون حاجة إلى البراءة. نعم لو كان الجاري في أحدهما هو الاحتياط كان الطرف الآخر محتاجاً إلى البراءة. ومن ذلك يظهر لك أنّه يمكن للشارع أن يجعل الاحتياط في أحد الطرفين معيّناً ، بأن يقول عند الدوران بين المحذورين يجب الاحتياط بالترك ، ولو من جهة أنّ دفع المفسدة عنده أولى من جلب المصلحة. نعم لا دليل على هذا الاحتياط الشرعي ، لكنّا نقول إنّه لو احتمل المكلّف هذا الوجوب الشرعي الاحتياطي الذي هو في جانب الترك فقط ، أمكنه إجراء أصالة البراءة فيه ، لكنّه يبقى على حاله من التخيير الطبعي ، وأمكنه الاحتياط الاستحبابي في ذلك بالتزام الترك ، وكان العقل حاكماً بحسن هذا الاحتياط ولو لأجل احتمال أنّ الشارع أوجبه ، لكن ذلك خارج عمّا تقدّم من عدم معقولية الاحتياط ، لأنّ ذلك هو الاحتياط في الطرفين وهو غير مقدور ، وهذا احتياط في أحدهما وهو الترك وهو مقدور ومعقول. ومن ذلك يظهر لك إمكان الحكم شرعاً أو عقلاً بالتخيير في قبال ذلك الاحتمال - أعني احتمال تعيّن الترك شرعاً أو عقلاً ، احتياطاً من المفسدة وأنّ دفعها أولى من جلب المصلحة - بأن يحكم الشارع أو العقل بالتخيير بين الطرفين ، في قبال احتمال تعيّن الالتزام بالترك فراراً من الوقوع في المفسدة. لكنّه أيضاً غير ذلك التخيير السابق الذي كان لمجرّد التردّد بين لزوم الترك ولزوم الفعل ، الذي هو عبارة عن كونه طبعياً لا عقلياً ، فتأمّل. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذا التخيير الشرعي أو العقلي ليس في الحقيقة حكماً بالتخيير ، بل هو عبارة عن حكم الشرع أو العقل بعدم لزوم الاحتياط في ناحية الترك الناشئ عن ملاك كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فليس هو في الحقيقة إلاّطرد ذلك الاحتمال ونفيه ، لا أنّه حكم بالتخيير ، وبعد طرد ذلك الاحتمال يبقى المكلّف وما يقتضيه طبعه. وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الأصل - أعني التخيير الشرعي - لا دليل عليه لو سلّمنا إمكانه. لكن يشكل الأمر في البراءة الشرعية في كلّ من الطرفين ، فإنّا إذا فتحنا باب إمكان جعل الاحتياط الشرعي في أحدهما ، إمّا في جانب الترك فلاحتمال أنّ الشارع رجّح دفع المفسدة المحتملة على جلب المصلحة المحتملة ، وإمّا في جانب الفعل فلاحتمال أنّ الشارع رجّح جلب المصلحة المحتملة على دفع المفسدة المحتملة ، فإنّا وإن قطعنا بأنّه لم يجعل الاحتياط في كلّ منهما ولم يجمع بين الاحتياطين ، إلاّ أنّا نحتمل جعله في أحدهما المعيّن فقط ، بأن نحتمل أنّ الشارع جعل الاحتياط في جانب الترك فقط دون جانب الفعل ، كما أنّا نحتمل أنّه جعل الاحتياط في جانب الفعل فقط دون جانب الترك ، وحينئذ يكون لنا إجراء البراءة الشرعية في الترك في قبال احتمال جعل الاحتياط فيه فقط ، كما أنّ لنا إجراء البراءة في الفعل في قبال احتمال جعل الاحتياط فيه فقط. والظاهر أنّه لا مانع من الجمع بين البراءتين ، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية ، كما أنّه لا يلزم منه مخالفة وجوب الالتزام بالأحكام ، إذ لا تكون البراءة في كلّ من الطرفين مانعة من الالتزام بالحكم الواقعي في المقام على ما هو عليه. ومن ذلك يظهر إمكان إجراء البراءة العقلية في كلّ من الطرفين ، لأنّ كلاً منهما يحتمل العقاب فيه باحتمال جعل الاحتياط فيه بخصوصه. كما أنّ منه يظهر لك أنّه لا مانع من إجراء البراءة شرعيّها وعقليّها من ناحية أنّه لا يترتّب أثر عملي على إجرائها ، لما عرفت من ترتّب الأثر العملي على إجرائها في جانب الترك ، لكونها موجبة لعدم لزوم الجري على طبقه احتياطاً ، وترتّب الأثر أيضاً على إجرائها في جانب الفعل ، لكونها موجبة لعدم لزوم الجري العملي على طبقه احتياطاً. ومنه يظهر لك أنّه لا مانع منها من ناحية عدم إمكان الاحتياط الشرعي ، لما عرفت من إمكانه في كلّ واحد من الطرفين وإن كان غير معقول في مجموع الطرفين ، كما أنّا نقطع بأنّه لم يجعل الاحتياط في كلّ منهما على وجه الجمع بين الاحتياطين ، فإنّ ذلك لا ينافي احتمال جعل الاحتياط في الترك فقط دون الفعل وفي الفعل فقط دون الترك ، وهذا الاحتمال كافٍ في فتح باب البراءة الشرعية والعقلية في كلّ منهما. نعم ، لو أُريد إجراؤها في نفس القدر الجامع بين الحكمين ، أعني الحكم الالزامي الأعمّ من الوجوب والحرمة ، توجّه عليها الإشكال المزبور وهو عدم الأثر العملي ، وكونها مصادمة لما هو المعلوم أعني ذلك القدر الجامع ، وكان حالها في ذلك حال إجراء أصالة الإباحة ، كما يتوجّه عليها أيضاً عدم معقولية الاحتياط بالنسبة إلى المجموع. ومنه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد عن شيخنا قدس سره في تحرير السيّد سلّمه اللّه وذلك قوله : وأمّا الأصل الشرعي الغير التنزيلي المتوهّم جريانه فينحصر بأصالة البراءة عن الوجوب والحرمة ، وهو مضافاً إلى عدم ترتّب أثر عملي عليه لا يمكن جريانه ، لأنّ مفاده هو رفع التكليف في مورد يمكن فيه الوضع بإيجاب الاحتياط ، وحيث إنّه في المقام غير معقول لعدم إمكان الاحتياط ، فيكون رفعه أيضاً كذلك - إلى قوله - مضافاً إلى عدم ترتّب أثر عملي عليها ، فراجعه [ في أجود التقريرات 3 : 401 ] ، وراجع ما أُفيد في هذا التحرير أعني قوله : وأمّا أصالة البراءة - إلى قوله - نعم في البين جهة أُخرى توجب المنع عن جريان البراءة - إلى قوله - فأدلّة البراءة الشرعية لا تعمّ المقام أيضاً ، فتأمّل جيّداً [ فوائد الأُصول 3 : 447 - 448 ]. لا يقال : إذا فتحنا باب احتمال الاحتياط في كلّ من الطرفين ، تكون النتيجة أنّه يلزمنا الاحتياط إمّا في الفعل وإمّا في الترك ، فلا تزيد المسألة بذلك على أصلها الذي هو الدوران بين المحذورين. لأنّا نقول : إنّ فتح باب احتمال الاحتياط في كلّ من الطرفين لا تكون نتيجته هي لزوم الاحتياط في أحدهما ، لأنّ ذلك إنّما يلزمنا إذا حصل العلم الاجمالي بلزوم الاحتياط في أحدهما ، وليس الأمر كذلك ، بل أقصى ما ذكرناه هو احتمال الاحتياط في الترك دون الفعل ، واحتماله في الفعل دون الترك ، منضمّاً ذلك إلى احتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، وحينئذ تكون الاحتمالات ثلاثة : لزوم الاحتياط في الترك دون الفعل ، ولزوم الاحتياط في الفعل دون الترك ، وعدم لزومه في كلّ منهما ، وحينئذ يكون حال هذه المسألة من ناحية احتمال الاحتياطين فيهما في قبال احتمال عدمهما ، حال ما لو احتملنا وجوب الفعل الفلاني وحرمته وإباحته ، ولا ريب في أنّ ذلك تجري البراءة فيه بالنسبة إلى احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، وتكون النتيجة حينئذ هي عدم لزوم الاحتياط في كلّ من الفعل والترك. وفيما نحن فيه أيضاً تجري البراءة في احتمال الاحتياط في الترك وفي احتمال الاحتياط في الفعل ، وتكون النتيجة هي البراءة من كلّ من الاحتياطين ، وأنّه ليس ملزماً شرعاً بكلّ منهما. لا يقال : إنّه حينئذ يبقى على حاله من التخيير الطبعي. قلنا : نعم ، لكن لابدّ من إجراء البراءة في كلّ من الاحتمالين ، كما أنّ الأمر كذلك في المثال المذكور ، فإنّه بعد إجراء البراءتين يكون الحاصل هو التخيير الطبعي لا الحكم بالاباحة ، فإنّ البراءة لا تثبت الاباحة. وبالجملة : أنّ احتمال تنجّز التحريم باحتمال لزوم الاحتياط فيه شرعاً لابدّ من رفعه بالبراءة ، وكذلك احتمال تنجّز الوجوب باحتمال لزوم الاحتياط فيه شرعاً لابدّ من رفعه بالبراءة ، وليس احتمال تنجّز التحريم أو تنجّز الوجوب فيما نحن فيه بواسطة احتمال جعل الاحتياط فيه في الحاجة إلى نفيه بالبراءة ، إلاّكاحتمال تنجّز التحريم في الشبهة البدوية فيما لو احتملنا حرمة شرب التتن ، أو احتمال تنجّز الوجوب فيما لو احتملنا وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، غير أنّه في الشبهة البدوية يكون احتمال تنجّز التكليف في قبال عدمه الذي هو الاباحة ، وفيما نحن فيه يكون احتمال تنجّز التحريم مثلاً في قبال احتمال كون الحكم هو الوجوب ، واحتمال تنجّز الوجوب في قبال احتمال كون الحكم هو التحريم. وبالجملة : أنّ ملاك جريان البراءة في التكليف المحتمل هو إمكان جعل الاحتياط في ذلك التكليف المحتمل ، وهذا الملاك موجود فيما نحن فيه بالنسبة إلى احتمال التحريم فقط دون الوجوب ، وبالنسبة إلى احتمال الوجوب فقط دون التحريم ، فتكون البراءة جارية في كلّ من الاحتمالين. والخلاصة : أنّ هذا التخيير الذي سمّيناه طبعياً لا يتأتّى إلاّبعد نفي الاحتمال [ الأوّل ] ونفي الاحتمال الثاني بالبراءة ، وما لم تجر البراءة في نفي احتمال جعل الاحتياط في طرف التحريم يكون اللازم على المكلّف هو الالتزام بالترك ، وما لم تجر البراءة في نفي احتمال جعل الاحتياط في طرف الوجوب يكون اللازم على المكلّف هو الالتزام بالفعل ، ولا مؤمّن من هذين الاحتمالين إلاّ البراءة ، فاللازم هو إجراؤها تخلّصاً من احتمال لزوم الالتزام بالترك واحتمال لزوم الالتزام بالفعل. هذا ما خطر في النظر القاصر ، ولكنّه توهّم صرف منشؤه ما ذكروه في المثال السابق ، وهو دوران الأمر في الفعل الواحد بين الوجوب والتحريم والاباحة ، من كون المرجع فيه هو أصالة البراءة ، مع أنّه مثل ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، في عدم التمكّن من كلّ من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، وأنّه لا مندوحة فيه من أحد الأمرين الفعل والترك ، وحينئذ يتوجّه فيما نحن فيه ما عرفته سابقاً من أنّ احتمال أحد الاحتياطين فيه ولو كان مقروناً باحتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، إلاّ أنّه لو لم تجر البراءة في كلّ من الاحتياطين لا محيص له إلاّ الفعل أو الترك كحاله بعد إجرائها ، فلا يترتّب على هذه البراءة أثر عملي ، ويكون حاله حال أصل المسألة. والذي ينبغي أن يقال في المثال : هو عدم إمكان إجراء البراءة فيه ، إذ لا يترتّب على إجرائها أثر عملي ، فإنّ حال المكلّف قبل إجرائها كحاله بعد إجرائها لا مندوحة له إلاّ الفعل أو الترك من التخيير الطبعي. لكن الذي يظهر منهم هو الرجوع إلى البراءة في هذا المثال ، فراجع ما ذكروه في شرح عبارة الشيخ قدس سره [ في فرائد الأُصول 1 : 25 - 26 ] في بيان وجه الحصر في الأُصول الأربعة ، من أنّ الشكّ الذي لم يلحظ فيه الحالة السابقة إمّا أن يمكن فيه الاحتياط وإمّا أن لا يمكن ، وأنّ الثاني هو مجرى التخيير. والأوّل إمّا أن يكون من قبيل الشكّ في التكليف ، وإمّا أن يكون من قبيل الشكّ في المكلّف به ، وأنّ الأوّل مجرى البراءة والثاني مجرى الاحتياط. وهذه العبارة موجودة في بعض النسخ في أوائل القطع ، وهي التي أثبتها الشيخ في أوائل البراءة [ من فرائد الأُصول 2 : 13 - 14 ] ، فأوردوا عليه بأنّ لازمها هو كون المرجع في المثال وهو دوران الأمر في الفعل الواحد بين الوجوب والتحريم والاباحة هو التخيير ، لأنّه لا يمكن فيه الاحتياط مع أنّ المرجع فيه هو البراءة لا التخيير. قال الآشتياني قدس سره في أوائل القطع : فإنّ في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم وبين غيرهما من الأحكام الغير الالزامية كالاباحة مثلاً يرجع إلى البراءة اتّفاقاً دون التخيير ، مع أنّ مقتضى ما أفاده الرجوع إلى التخيير لا البراءة ، فينتقض الطرد من أحدهما والعكس من الآخر [ بحر الفوائد 1 : 4 ]. ثمّ إنّه أجاب عن النقض بالحيثية واستشكل فيه فراجعه ، وراجع ما أفاده العلاّمة الخراساني [ في حاشية كتاب فرائد الأُصول : 3 ] والعلاّمة الهمداني [ في حاشية فرائد الأُصول 24 : 25 ] في الجواب عن هذا النقض ، بأنّه يمكن الاحتياط في المثال في الجملة ، ولو بالالتزام بأحد الأمرين من الفعل أو الترك. وذكر الآشتياني في أوائل البراءة نظير ما ذكره في أوائل القطع ، عند تعرّضه لهذا المثال ، وأنّه من مصاديق ما لا يمكن الاحتياط فيه ، فقال : مع اتّفاقهم فيه على الرجوع إلى البراءة كما ستقف على تفصيل القول فيه [ بحر الفوائد 2 : 8 ]. وقال في أواخر مسألة الدوران بين المحذورين في تعليقه على قول المصنّف قدس سره : وأمّا دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة [ فرائد الأُصول 2 : 194 ] ، ما هذا لفظه : نعم قد بقي من صور الدوران ما لم يتعرّض له في الكتاب ، وهو دوران الأمر بين الحكمين الالزاميين وغيرهما من الأحكام الثلاثة الباقية بأقسامه وصوره المتصوّرة ، وإن كان يستفاد حكمه ممّا أفاده في حكم دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم وعكسه ، فإنّ مرجع الدوران في الفرض حقيقة إلى الالزام وغيره ، فيرجع إلى البراءة في نفي الالزام وتجويز كلّ من الفعل والترك ، والوجه في عدم تعرّضه له هو ظهور حكمه ممّا ذكره في القسمين ، وقد ذكرنا بعض الكلام فيه عند الكلام في حصر الأُصول في الأربعة فراجع [ بحر الفوائد 2 : 86 ]. وراجع ما أفاده شيخنا قدس سره في تحرير السيّد في أوائل القطع وفي أوائل البراءة [ من أجود التقريرات 3 : 10 ، 283 ] في بيان ضابط موارد الأُصول من أنّه ما لم يلاحظ فيه الحالة السابقة إمّا أن يكون جنس الالزام فيه معلوماً أو لا ، وأنّ الأوّل إمّا أن يمكن [ فيه ] الاحتياط أو لا. فجعل مجرى التخيير منحصراً بما علم فيه جنس الالزام ولم يكن الاحتياط فيه ممكناً ، وجعل مجرى البراءة هو ما لم يكن جنس الالزام فيه معلوماً ، وحينئذ يكون مثال الدوران بين الوجوب والحرمة والاباحة خارجاً عن موارد التخيير وداخلاً في موارد البراءة ، لأنّ جنس الالزام فيه ليس بمعلوم. قوله : وأنت خبير بما فيه ، فإنّ ما تقدّم من اقتضاء الأصل التعيينية عند الشكّ في التعيين والتخيير - إلى قوله - وأين هذا ممّا نحن فيه ، فإنّ التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ليس لاقتضاء الخطاب ذلك ، بل إنّما هو من التخيير العقلي التكويني كما تقدّم ... الخ [ فوائد الأُصول 3 : 450 ]. نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ ما نحن فيه من قبيل التزاحم بين الاحتياطين ، فيكون احتمال الرجحان في أحدهما المعيّن من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير ، وذلك بما عرفت من احتمال الاحتياط الشرعي في جانب الترك دون الفعل ، وفي جانب الفعل دون الترك ، منضمّين إلى احتمال عدم الاحتياط في كلّ منهما ، وبعد عدم إمكان جريان البراءة في كلّ من الاحتياطين وعدم إمكان الجمع بين الاحتياطين ، يكون العقل حاكماً بالتخيير بين الاحتياطين لوقوع التزاحم بينهما ، فإن احتمل أهميّة الاحتياط في جانب الترك دون الفعل كان من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وبناءً على أصالة التعيين يكون الاحتياط فيه مقدّماً على الاحتياط في جانب الفعل ، فتأمّل جيّداً ، لإمكان القول بأنّ الاحتياطين المحتملين بعد عدم إمكان موافقتهما القطعية بالجمع بينهما ، وعدم إمكان مخالفتهما القطعية بتركهما معاً ، يحصل القطع بعدم الأثر لكلّ منهما ، فلا يكون احتماله مؤثّراً في هذا الطرف لمزاحمته فيه في الطرف الآخر وبالعكس ، وبعد حصول القطع المذكور لا يكون المقام من التزاحم بين الاحتياطين ، بل نبقى نحن وأصل المسألة وهو التخيير التكويني ، فلا يكون احتمال أهميّة أحدهما المعيّن على الآخر مؤثّراً ، فتأمّل. ثمّ إنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ التخيير العقلي تارةً يكون لأجل التزاحم بين التكليفين المعلومين مثل إنقاذ الغريقين ، وهذا يكون الترجيح فيه بأهمية أحدهما ، وحينئذ يكون احتمال أهمية أحدهما المعيّن من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير. وأُخرى يكون لأجل العلم الاجمالي بأحد الأمرين مع فرض عدم إمكان الاحتياط وعدم التمكّن من الموافقة القطعية مع فرض التمكّن من المخالفة القطعية ، كما في غريقين أحدهما مسلم يجب إنقاذه والآخر حيوان أو كافر يباح إنقاذه ، ولا يمكن الجمع بإنقاذهما جميعاً ، والتخيير في هذه الصورة يكون من قبيل لزوم تبعيض الاحتياط بإنقاذ أحدهما ، لكون المفروض عدم إمكان الاحتياط التامّ بإنقاذهما. والترجيح في هذه لا يكون بالأهمية إذ لا مورد لها ، وإنّما يكون الترجيح بقوّة الاحتمال في أحدهما ، ولا مورد فيه لاحتمال الأهمية ، فلا يتصوّر فيه الدوران بين التعيين والتخيير. وقد عرفت فيما تقدّم أنّ التخيير فيما نحن فيه ليس من قبيل الأوّل ، وهو واضح ، كما أنّه ليس من قبيل الثاني ، لما عرفت من أنّ مرجع التخيير في الثاني إلى المنع من المخالفة القطعية ، وإلزام العقل بإنقاذ أحد هذين الجسمين فراراً من المخالفة القطعية ، وحيث إنّ ما نحن فيه لا يمكن فيه المخالفة القطعية ، فلا يتأتّى فيه التخيير المذكور ، فلا محصّل فيه للقول بالترجيح بالأهمية ولا للترجيح بقوّة الاحتمال ، هذا بالنسبة إلى نفس التكليف المعلوم المردّد بين الوجوب والتحريم. نعم ، لو تمّ ما ذكرناه من كونه من قبيل التزاحم بين الاحتياطين ، أمكن الترجيح فيه بكلّ من الأهميّة وقوّة الاحتمال ، لأنّ أهميّة أحد التكليفين الذي هو التحريم مثلاً توجب ترجيح الاحتياط فيه على الاحتياط في الطرف الآخر الذي هو الوجوب ، كما أنّ قوّة أحد الاحتمالين توجب ترجيح الاحتياط فيه على الاحتياط في الطرف الآخر ، لكن الأوّل يتصوّر فيه احتمال الأهمية بخلاف الثاني ، إذ لا محصّل لاحتمال قوّة الاحتمال ، فتأمّل. تنبيه : أنّ صاحب الكفاية قدس سره ذكر في الأمر الخامس من الأُمور التي عقدها في أوائل القطع فيما عقده لمسألة وجوب الموافقة الالتزامية ، وأنّها مانعة من جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ، ما هذا نصّه : إلاّ أنّ الشأن حينئذ في جواز جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ( يعني فيما دار الأمر فيه بين المحذورين ) مع عدم ترتّب أثر عملي عليها ، مع أنّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية [ كفاية الأُصول : 269 ]. لكنّه في الهامش عدل عن ذلك وأفاد ما هذا لفظه : والتحقيق جريانها لعدم اعتبار شيء في ذلك عدا قابلية المورد للحكم إثباتاً ونفياً ، فالأصل الحكمي يثبت له الحكم تارةً كأصالة الاباحة ، وينفيه أُخرى كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة فيما دار بينهما ، فتأمل جيّداً [ لا يوجد هذا الهامش في طبعة مؤسّسة آل البيت عليهم السلام وكذا الطبعة المحشّاة بحاشية المحقّق المشكيني قدس سره ، نعم ذكر في طبعة مؤسّسة النشر الإسلامي : 310 ، كما ذكر في حقائق الأُصول 2 : 41 ، لكن فيه : ... تارة كأصالة الصحّة ... ]. وعلى ذلك جرى في مبحث دوران الأمر بين المحذورين [ كفاية الأُصول : 355 ] ، لكنّه لم يدفع الإشكال على ذلك بكون الأصل محتاجاً إلى الأثر العملي إلاّبمجرّد دعوى المنع من هذا الاعتبار ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 329

ص: 330

ص: 331

ص: 332

ص: 333

ص: 334

ص: 335

ص: 336

ص: 337

ص: 338

ص: 339

ص: 340

قوله : لما عرفت من أنّه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، من غير فرق بين الوظيفة الشرعية والعقلية ... الخ (1).

لا يقال : بناءً على ما قيل في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي باختلاف الرتبة واندفاع التناقض بذلك ، يمكن أن يقال : إنّ الشارع يمكنه جعل الحرمة الواقعية لما تردّد بين الحرمة والوجوب ، ويكون ذلك من قبيل القول

ص: 341


1- فوائد الأُصول 3 : 444.

بالسببية ، فيكون ما تردّد بين الحرمة والوجوب حراماً واقعاً بحرمة أُخرى طارئة على الفعل الذي تردّد بين الحرمة الواقعية والوجوب الواقعي ، وحينئذ نقول : لو حصل الشكّ في تلك الحرمة الطارئة على المردّد المذكور ، كان المرجع فيها هو الأُصول العملية من قاعدة الحل أو البراءة ، ونحو ذلك من الأُصول الجارية في الشبهات التحريمية.

لأنّا نقول : أوّلاً ، قد تحقّق في محلّه (1) عدم صحّة اندفاع التناقض باختلاف الرتبة ، وإلاّ لجاز أن يجعل الشارع الحرمة لما علم بوجوبه ، أو الوجوب لما علم حرمته.

وثانياً : أنّ هذا لو تمّ لم يكن جريان أصالة الحل أو البراءة في الحرمة التي هي طرف الوجوب ، بل كان ما هو مجرى قاعدة الحلّ أو البراءة هو الحرمة الطارئة على ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، وذلك أمر آخر غير ما هو محلّ الكلام من الحرمة المقابلة للوجوب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : أو يكون أحدهما الغير المعيّن توصّلياً (2).

الأولى أن يقول : وكان الآخر لا بعينه تعبّدياً ، فإنّه في هذه الصورة لا يتمكّن من المخالفة القطعية كما إذا كانا معاً توصّليين ، حيث إنّه إذا ترك لا بقصد التعبّد يكون قد خالف احتمال الوجوب ، سواء كان هو التعبّدي أو كان التعبّدي هو التحريم ، لكنّه لا يعلم أنّه قد خالف التحريم ، لاحتمال كون التحريم المحتمل توصّلياً. وهكذا الحال لو فعل لا بقصد القربة ، فإنّه وإن كان قد خالف التحريم ، سواء كان تعبّدياً أو كان توصّلياً ، لكنّه لا يعلم أنّه قد خالف الايجاب ، لاحتمال

ص: 342


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 309 من المجلّد السادس من هذا الكتاب.
2- فوائد الأُصول 3 : 452.

كون الايجاب المحتمل توصّلياً.

قوله : فلو كان كلّ منهما تعبّدياً أو كان أحدهما المعيّن تعبّدياً ، فليس من دوران الأمر بين المحذورين (1).

مراده بكون الحرام تعبّدياً هو كون المطلوب به الذي هو الترك تعبّدياً ، أمّا ما لو كان نفس الحرام تعبّدياً كما في القول بحرمة العبادة على الحائض حرمة ذاتية ، وحصلت الشبهة الموضوعية بين الطهر والحيض ، كانت الصلاة العبادية مردّدة بين الايجاب والتحريم ، وكانت من قبيل الدوران بين المحذورين ، إذ لا يمكنها المخالفة القطعية كما لا يمكنها الموافقة القطعية.

قوله : الأمر الرابع : دوران التكليف بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعل الواحد ، تارةً يكون مع وحدة الواقعة كما لو دار الأمر بين كون المرأة المعيّنة محلوفة الوطء أو محلوفة الترك في ساعة معيّنة ، وأُخرى مع تعدّد الواقعة كالمثال إذا فرض أنّ الحلف على الفعل أو الترك كان في كلّ ليلة من ليالي الجمعة ... الخ (2).

ذكر قدس سره كما في تحريرات السيّد سلّمه اللّه لتعدّد الواقعة صورتين :

الأُولى : ما لو كانت الوقائع تدريجية مع كون التكليف المعلوم واحداً مردّداً بين الوجوب والحرمة مع كون المتعلّق واحداً ، وهي الصورة الثانية من صورتي هذا التحرير.

الثانية : ما لو كانت الوقائع دفعية مع كون التكليف المعلوم هو كلّ من الوجوب والحرمة مع تعدّد المتعلّق ، بأن نذر الفعل على واحدة معيّنة من زوجتيه

ص: 343


1- فوائد الأُصول 3 : 452.
2- فوائد الأُصول 3 : 452.

في ساعة معيّنة ، ونذر الترك على الأُخرى في تلك الساعة أيضاً ، واشتبهت منذورة الفعل بمنذورة الترك.

وفرّق بين الصورتين فجوّز المخالفة القطعية في الصورة الأُولى ، وجوّز للناذر الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية وبالعكس ، فحكم بكون التخيير استمرارياً ، ولم يجوّز له ذلك أعني المخالفة القطعية في الصورة الثانية ، بأن يقدم على الفعل في كلّ منهما أو الترك في كلّ منهما ، بل حكم بأنّه يلزمه اختيار الفعل في إحداهما والترك في الأُخرى ، فراراً من المخالفة القطعية في إقدامه على فعلهما أو على تركهما ، ولم يكن المنشأ عنده في تجويز المخالفة القطعية في الأُولى هو خروج الليلة الثانية عن الابتلاء فعلاً ، بل إنّ المنشأ في ذلك هو أنّ كلّ واقعة من تلك الوقائع في الليالي المتعدّدة واقعة برأسها لم يعلم فيها الملاك الملزم ، وهذا بخلاف الصورة الثانية لوجود العلم بوجوب الفعل في إحدى الزوجتين وحرمته في الأُخرى ، وهذا العلم وإن كان لا يؤثّر في وجوب الموافقة القطعية إلاّ أنّه يؤثّر في حرمة المخالفة القطعية ، فراجع ما أفاده في تحرير السيّد سلّمه اللّه (1).

قلت : لا يخفى أنّ هذا الناذر في الصورة الثانية قد حصل له العلم الاجمالي بوجوب الوطء في هذه الساعة بالنسبة إلى واحدة معيّنة من زوجتيه ، وحرمته بالنسبة إلى الأُخرى ، فيكون عالماً بوجوب الوطء وبحرمته بالنسبة إلى إحدى الزوجتين ، وهذا العلم الاجمالي لا يمكن الحصول على موافقته القطعية بالنسبة إلى كلا التكليفين المعلومين. نعم يمكن الحصول على الموافقة القطعية في أحد التكليفين الذي هو الوجوب مثلاً ، بأن يقدم على وطئهما في تلك الساعة ، لكن

ص: 344


1- أجود التقريرات 3 : 405 - 407.

ذلك مقرون بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى التكليف الآخر الذي هو التحريم. وهكذا لو أقدم على ترك الوطء فيهما ، فإنّه يحصل على الموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم ، لكنّه مقرون بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، وحينئذ تقع المزاحمة بين وجوب الموافقة القطعية لأحد التكليفين وحرمة المخالفة القطعية للتكليف الآخر.

فمن يقول إنّ حرمة المخالفة القطعية مقدّمة على الموافقة القطعية ، لكون العلم الاجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، ومقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، فإذا حصل المانع منها سقطت. ويكفي في سقوط الموافقة القطعية في المقام بالنسبة إلى كلّ واحد من التكليفين ابتلاؤها بالمخالفة القطعية بالنسبة إلى التكليف الآخر ، وحينئذ يتعيّن الفرار من المخالفة الحاصلة بوطئهما أو بترك وطئهما ، بلزوم الفعل في إحدى الزوجتين والترك في الأُخرى مخيّراً بينهما ، وهذا هو مسلك الأُستاذ قدس سره.

ومن يقول إنّهما عرضيان ولا ترجيح لإحداهما على الأُخرى ، يلزمه أن يقول في المقام بأنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل الموافقة القطعية ولو وقع في المخالفة القطعية ، فله أن يطأهما معاً وله أن يتركهما معاً ، وبين الفرار عن المخالفة القطعية وإن فاتته الموافقة القطعية ، بأن يطأ إحداهما ويترك الأُخرى فيكون المكلّف مخيّراً بين الصور الثلاث : وطئهما معاً ، تركهما معاً ، وطء إحداهما وترك الأُخرى.

وهذا التخيير جارٍ عند هذا الشخص في الصورة الأُولى ، وهي كون التعدّد من جهة التدريج في الزمان ، فجوّز له الوطء في الليلة الأُولى والثانية ، وتركه فيهما ، والإقدام عليه في الليلة الأُولى وتركه في الثانية وبالعكس ، فيكون التخيير

ص: 345

عنده استمرارياً.

وأمّا شيخنا قدس سره فهو وإن اختار التخيير الاستمراري ، إلاّ أنّه ليس مدركه عنده هو كون حرمة المخالفة في عرض وجوب الموافقة ، بل إنّها عنده في طولها ، بل إنّ مدركه عنده هو ما تقدّم نقله من كون التكليف المعلوم في هذه الصورة واحداً مردّداً بين الوجوب والتحريم ، وأنّ الوقائع المتعدّدة بحسب الليالي تكون كلّ واحدة برأسها مردّدة بين الوجوب والحرمة ، فيكون في كلّ واقعة مخيّراً بين الفعل والترك ، وهو معنى التخيير الاستمراري ، هذا.

ولكن ما أفاده قدس سره قابل للتأمّل ، لأنّ الوقائع في مسألة الزوجتين متعدّدة ، فكلّ زوجة هي مردّدة بين الإيجاب والتحريم في هذه الليلة ، كما أنّ كلّ ليلة مردّدة بين الايجاب والتحريم بالنسبة إلى هذه الزوجة الواحدة ، بل التعدّد في مسألة الزوجتين أوضح منه في الليالي المتعدّدة بالنسبة إلى الزوجة الواحدة.

ثمّ إنّ ما أُفيد من كون الموافقة القطعية في طول المخالفة القطعية فلا يعقل مزاحمتها بها ، قابل للتأمّل أيضاً ، فإنّ الطولية بينهما إنّما هي بالنسبة إلى التكليف الواحد ، كما لو علم بنجاسة أحد الاناءين ، فالعلم الاجمالي يحرّم عليه شربهما لأنّه مخالفة قطعية ، وينتقل إلى شرب أحدهما ، فإنّ العلم الاجمالي لا يمنع منه ، لكن يحتاج إلى أصل مسوّغ ، فاجراء الأصل في كلّ منهما ينتهي إلى محذور المخالفة القطعية ، وإجراؤه في هذا دون ذاك أو بالعكس ترجيح بلا مرجّح فتتعارض الأُصول وتتساقط ، فلابدّ من تركهما الذي هو الموافقة القطعية ، فتكون الموافقة القطعية متأخّرة رتبة عن المخالفة القطعية.

ومن الواضح أنّ هذا الترتيب لا يأتي بالنسبة إلى التكليفين اللذين تكون الموافقة القطعية في أحدهما ملازمة للمخالفة القطعية للآخر ، كما لو ترك

ص: 346

الزوجتين معاً أو وطئهما معاً ، وكما لو ترك في الليلة الأُولى وفعل في الليلة الثانية في مسألة الزوجة الواحدة ، بخلاف ما لو خالف في الزوجتين فعلاً وتركاً ، أو وافق في مسألة الزوجة الواحدة بين الليلتين فعلاً أو تركاً ، فإنّه لا يحصل على موافقة قطعية ولا على مخالفة قطعية ، بل لا يكون في البين إلاّ الاحتمال.

فالعمدة هو المقابلة بين التكليفين أعني التحريم والايجاب ، فإن قدّمنا الأوّل ولو من جهة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، كان عليه الترك في الزوجتين في الليلة الواحدة والترك في الليلتين في الزوجة الواحدة ، وإن لم نقدّم أحدهما على الآخر ، كان لازم ذلك التخيير بين الترك في الزوجتين والفعل فيهما ، والتبعيض بأن يترك إحداهما ويطأ الأُخرى ، وهكذا الحال في الليلتين بالنسبة إلى الزوجة الواحدة ، فهو مخيّر بين تركها في كلّ من الليلتين ووطئها في كلّ منهما ، أو الترك في إحدى الليلتين والوطء في الأُخرى ، فلاحظ وتدبّر. هكذا ينبغي تحرير المسألة ، وينبغي الضرب على ما ذكرناه من قولنا : وقد يقال إلى آخر البحث (1)

ص: 347


1- [ ارتأينا إدراج ما أمر قدس سره بالضرب عليه في الهامش ، تتميماً للفائدة ، وهو ما يلي : ] وقد يقال : إنّ هذا المكلّف لو نظر إلى الوطء في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية ، لكان عالماً بأنّ أحدهما واجب والآخر محرّم ، ومقتضى علمه بالوجوب المردّد بينهما هو التزامهما ، بأن يطأ في الأُولى ويترك في الثانية ، ومقتضى علمه بالحرمة المردّدة بينهما هو تركهما ، بأن يترك الوطء في الأُولى ويفعله في الثانية ، وحينئذ يعود عليه محذور العلم الاجمالي ، وحينئذ نقول إنّه لو أقدم على الوطء في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية أو العكس ، لكان قد حصل على الموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب المعلوم المردّد متعلّقه بين الوطء في الأُولى والترك في الثانية ، لكنّه قد خالف التحريم المعلوم المردّد بين المتعلّقين المذكورين ، وحينئذ تقع المزاحمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية. فمن يقول بتقدّم المخالفة القطعية كشيخنا قدس سره ينبغي له أن يمنعه من التبعيض ، ويلزمه بأحد الأمرين من الترك في الليلتين أو الفعل فيهما ، فراراً من المخالفة القطعية وإن فاتته الموافقة القطعية ، وحينئذ ينبغي أن يكون التخيير بدوياً لا استمرارياً. إلاّ أن نقول : إنّ العلم الاجمالي لا أثر له في التدريجيات ، لخروج الليلة الثانية عن ابتلائه فعلاً. لكن قد عرفت أنّ ذلك أعني الخروج عن الابتلاء لم يكن هو الأساس عنده قدس سره في استمرارية التخيير. أمّا من يقول بكونهما عرضيين فيتّجه عنده التخيير بين الأُمور الثلاثة : الفعل في الليلتين ، والترك فيهما ، والتبعيض ، وهو معنى كون التخيير استمرارياً. والظاهر أنّه لا مدفع لهذه الجهة من التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره إلاّ المنع من هذا العلم الاجمالي المدّعى ، أعني العلم بوجوب أحد الأمرين : الفعل في الليلة الأُولى والترك في الثانية وحرمة الآخر منهما ، فإنّه لا محصّل له ، إذ ليس في البين إلاّ العلم بالحرمة في كلّ من الليلتين أو الوجوب فيهما ، وليس التعبير بأنّ الوطء في الأُولى والترك في الثانية أو العكس أحدهما معلوم الوجوب والآخر معلوم الحرمة إلاّمغالطة صرفة ، إذ لا معنى لكون الترك معلوم الوجوب إلاّحرمة الوطء ، ولا معنى لحرمة الترك إلاّوجوب الفعل ، فقولنا : إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى واجباً وإمّا أن يكون الترك في الليلة الثانية واجباً ، لا يكون الشقّ الثاني فيه إلاّعبارة عن حرمة الوطء في الليلة الثانية ، فيكون حاصل الترديد أنّه إمّا أن يجب الوطء في الليلة الأُولى وإمّا أن يحرم في الليلة الثانية ، ومن الواضح أنّه لا مقابلة بينهما ، لأنّه إذا وجب في الليلة الأُولى كان واجباً أيضاً في الليلة الثانية ، وإذا كان حراماً في الليلة الثانية كان حراماً أيضاً في الليلة الأُولى. وهكذا الحال في قولنا : إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى حراماً ، وإمّا أن يكون الترك في الليلة الثانية حراماً ، فإنّه لا معنى لحرمة الترك في الليلة الثانية إلاّوجوب الفعل ، فيكون حاصل الترديد أنّه إمّا أن يكون الوطء في الليلة الأُولى حراماً ، وإمّا أن يكون الوطء في الليلة الثانية واجباً ، ومن الواضح أنّه لا مقابلة بينهما ، لأنّه إذا كان حراماً في الليلة الأُولى كان حراماً أيضاً في الثانية ، فلا يكون الحاصل حينئذ إلاّ أنّه إمّا أن يجب الوطء في الليلتين وإمّا أنّه حرام فيهما ، فلا يكون التكليف المعلوم إلاّواحداً مردّداً بين الوجوب والتحريم ، فلا تكون الموافقة القطعية واجبة بالنسبة إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم ، لعدم القدرة عليها ، ولا يبقى في البين إلاّحرمة المخالفة ، للقدرة عليها بالتخالف بين الليلتين ، فتكون المخالفة المذكورة ممنوعة عقلاً ، ومقتضاه كون التخيير بدوياً ، فيلزمه إمّا الفعل فيهما وإمّا الترك فيهما. وفي هذه المسألة يكون العقل حاكماً بالمنع من التخالف ، وملزماً بالتوافق بين الليلتين فعلاً أو تركاً ، ويكون التخيير في هذه الصورة بين الفعل فيهما أو الترك فيهما بحكم العقل ، لا أنّه تكويني بحكم الطبع. وعلى كلّ حال لا يكون التخيير إلاّبدوياً. نعم ، لو قلنا بخروج الليلة الثانية فعلاً عن ابتلائه لم يكن العقل حاكماً بحرمة المخالفة القطعية ، وكان في كلّ ليلة مخيّراً بين الفعل والترك ، وكان التخيير استمرارياً تكوينياً ، فتأمّل جيّداً في أطراف ما ذكرناه ، وفيما أفاده شيخنا قدس سره في تحرير السيّد سلّمه اللّه ، وراجع ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره في هذه المسألة فيما حرّرناه عن درسه وفيما أفاده في المقالة [ مقالات الأُصول 2 : 223 ]. والشاهد لما ذكرناه من كون هذا العلم الاجمالي مغالطة صرفة وأنّه لا واقعية له ، هو ما تقدّم في مثال الزوجتين ، وأنّ الاقدام على الوطء فيهما يكون محصّلاً للموافقة القطعية للوجوب المعلوم ، لكنّه مقارن للمخالفة القطعية للتحريم المعلوم ، وأنّ الترك في كلّ منهما يكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم ، لكنّه مقارن للمخالفة القطعية للوجوب ، وصورة ذلك العلم الاجمالي في جانب الترك في كلّ منهما موجودة ، فإنّه يعلم أنّ أحد التركين واجب والآخر محرّم ، وحينئذ يكون الترك في كلّ منهما محصّلاً للموافقة القطعية للواجب وهو أحد التركين ، وللمخالفة القطعية للترك المحرّم وهو أحد التركين ، فيكون تحقّق هذا العلم الاجمالي خلفاً لما هو معلوم بالوجدان من كون التركين معاً محصّلاً للمخالفة القطعية لما هو الواجب في البين ، وما ذلك إلاّلبطلان صورة هذا العلم الاجمالي ، فإنّ كون أحد التركين واجباً لا واقعية [ له ] إلاّعبارة عن كون الفعل محرّماً ، كما أنّ كون أحد التركين محرّماً لا واقعية له إلاّعبارة عن [ كون ] الفعل واجباً ، فلا يكون ذلك إلاّعبارة عن العلم بوجوب أحد الفعلين وحرمة الفعل الآخر. ففيما نحن فيه يكون العلم الاجمالي بأنّ أحد الأمرين من الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية محرّم والآخر واجب ، لا واقعية له إلاّ العلم الاجمالي بحرمة الوطء في الليلتين أو وجوبه فيهما ، وإلاّ لكان الفعل في الليلة الأُولى والترك في الليلة الثانية محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب المعلوم وللمخالفة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم ، فيكون عكسه وهو الترك في الليلة الأُولى والفعل في الثانية محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم المعلوم وللمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، مع أنّه مثل الأصل في ذلك العلم الاجمالي الصوري - أعني العلم بأنّ أحد الأمرين من الفعل والترك واجب والآخر محرّم - فيكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى الوجوب مع المخالفة القطعية بالنسبة إلى التحريم ، مع أنّه بلحاظ كونه عكساً للأصل ينبغي أن يكون محصّلاً للموافقة القطعية بالنسبة إلى التحريم والمخالفة القطعية بالنسبة إلى الوجوب ، هذا خلف ، ولا دافع لهذا الخلف إلاّما عرفت من كون العلم بالنسبة إلى الأصل والعكس صوريّاً لا واقعية له ، وأنّه ليس في البين إلاّ العلم الاجمالي بوجوب الفعل في كلّ من الليلتين وحرمته في كلّ منهما ، فتأمّل. وحاصل الفرق بين مثال الزوجة الواحدة في الليلتين ومثال الزوجتين في الليلة الواحدة أنّه في مثال الزوجتين يكون لنا تكليفان معلومان ، الوجوب والحرمة ، والحصول على إطاعة أحدهما بوطئهما معاً أو بتركهما مزاحم بعصيان الآخر ، فتكون الموافقة القطعية في أحد التكليفين مزاحمة بالمخالفة القطعية في التكليف الآخر ، وحينئذ يكون الكلام في أنّ الاجتناب عن المخالفة القطعية لأحدهما مقدّم على الحصول على الموافقة القطعية في الآخر ، أو أنّهما في عرض واحد. أمّا مثال الزوجة الواحدة في الليلتين ، فلا يكون لنا إلاّتكليف واحد وهو مردّد بين الوجوب في كلّ من الليلتين والحرمة في كلّ منهما ، ويكون التخالف بين الليلتين محصّلاً للموافقة القطعية في إحدى الليلتين وللمخالفة القطعية لنفس ذلك التكليف في الليلة الأُخرى ، فيكون التزاحم بين إطاعة ذلك التكليف الواحد في إحدى الليلتين وعصيانه في الليلة الأُخرى ، فهل المقدّم هو لزوم الاجتناب عن عصيانه وإن فاتت إطاعته القطعية ، أو أنّه لا وجه للتقديم؟ وعلى الأوّل يكون التخيير بدوياً ، وعلى الثاني يكون التخيير استمرارياً. أمّا نظرية شيخنا قدس سره فهي أنّه قدس سره يجعل الليلتين واقعتين مستقلّتين ، يكون التكليف في كلّ منهما مردّداً بين الوجوب والتحريم ، والمكلّف في كلّ من هاتين الواقعتين لا يتمكّن من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية ، فتخرج المسألة حينئذ عن المزاحمة بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، ويكون مخيّراً بين الفعل والترك في كلّ من الواقعتين. لكن لو سلّمنا تعدّد الواقعة فلا أقل من التلازم بين الحكم في الواقعة الثانية والحكم في الواقعة الأُولى ، وهذا التلازم كافٍ في منع المكلّف من التخالف بينهما ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية لما علمه من الوجوبين في الواقعتين أو التحريمين فيهما ، فالعقل من أوّل ليلة يزجره عن عصيان واحد من ذينك الحكمين المتلازمين المردّدين بين الوجوبين والتحريمين في ظرف أنّه متمكّن من ذلك العصيان الاجمالي ، فتأمّل. وهل يحكم شيخنا قدس سره فيما لو نذر الوطء أو عدمه في هذه الليلة بالنسبة إلى زوجتيه معاً بأنّه يصحّ له أن يطأ إحداهما ويترك الأُخرى.

ص: 348

ص: 349

ص: 350

ص: 351

قوله : أو دار الأمر بين الضدّين كما إذا دار الأمر في القراءة بين وجوب الجهر بها أو وجوب الإخفات ... الخ (1).

هذا فيما لو كان الترديد بينهما من قبيل الشبهة الحكمية ، كما في الظهر يوم الجمعة. أمّا لو كان التردّد المذكور من قبيل الشبهة الموضوعية ، كما لو علم بفوات رباعية مردّدة بين العصر والعشاء مثلاً ، فإنّ ظاهرهم عدم لزوم تكرار الصلاة ولا تكرار القراءة فيها ، بل إنّما أفتوا بأنّه يصلّي في مثل ذلك رباعية يقصد بها ما في الذمّة مخيّراً فيها بين الجهر والإخفات ، والمفروض أنّه من قبيل التردّد بين شرطية الجهر أو مانعيته ، أو من قبيل التردّد بين كون الشرط هو الجهر أو الإخفات.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القاعدة وإن اقتضت في ذلك تكرار الصلاة أو تكرار القراءة ، إلاّ أنّا خرجنا عن القاعدة المذكورة لإطلاق دليل المسألة ، وهو المرسلة (2) المتضمّنة لأنّه يصلّي رباعية بقصد ما في الذمّة ، من دون تعرّض لحال الجهر والإخفات فيها ، ومقتضى ذلك الاطلاق هو التخيير ، بل قيل : إنّ مقتضى إطلاقه هو سقوط اعتبار الجهر والإخفات ، حتّى قيل : إنه له أن يبعّض فيقرأ في تلك الفريضة الواحدة جهراً وإخفاتاً ، فراجع الكتب الفقهية في هذه المسألة.

ولعلّ الكلام في هذه المسألة مبني على أنّ الجهر أو الإخفات هل هو من

ص: 352


1- فوائد الأُصول 3 : 455.
2- وسائل الشيعة 8 : 275 / أبواب قضاء الصلوات ب 11 ح 1 ( وفيه : عن غيرواحد ).

قبيل الشرط للصلاة في حال الجزء الذي هو القراءة ، أو أنّه واجب مستقل في حال القراءة ، أو أنّه شرط لنفس القراءة. وعلى الثاني - أعني كونه واجباً مستقلاً في حال الجزء - لا مورد لتكرار القراءة ولا لتكرار الصلاة ولو كانت الشبهة حكمية ، والمرسلة منطبقة على الثاني ، بل لعلّ ما دلّ على أنّ الجاهل بالجهر والإخفات لو كان مقصّراً معاقب ولا إعادة عليه منطبق على ذلك ، لكن لازم ذلك هو عدم الاعادة فيما لو عصى وأقدم على أحدهما في مورد الآخر. وعلى الأوّل - أعني كونه شرطاً للصلاة في حال الجزء - لا مورد لتكرار القراءة ، لكن يمكن الحصول عليه بتكرار الصلاة. وعلى الثالث يكون اللازم هو تكرار القراءة إن لم يكن في البين احتمال مانعية الآخر بالنسبة إلى نفس الصلاة ، وأمّا لو كان احتمال المانعية بالنسبة إلى نفس الجزء فالظاهر أنّه لا مانع من تكرار القراءة.

ويتفرّع على هذه الوجوه الثلاثة ما لو نسي فأجهر في موضع الاخفات وتذكّر قبل الدخول في الركوع ، فإنّه على تقدير كون الاخفات واجباً مستقلاً في حال الجزء لا يلزمه شيء ، وكذلك على تقدير كونه شرطاً للصلاة في حال الجزء ، لأنّه قد فاته الشرط ولا يمكن تلافيه إلاّباعادة الصلاة ، فيكون مشمولاً لحديث « لا تعاد » (1) ، بخلاف ما لو جعلناه شرطاً للجزء فإنّه يلزمه إعادة القراءة إخفاتاً.

لكن في الفرق بين كون الشيء شرطاً للجزء أو شرطاً للصلاة في حال الجزء تأمّل حاصله : أنّه لو كان شرطاً للصلاة في حال الجزء كان شرطاً للجزء أيضاً في ضمن كونه شرطاً للكل ، وحينئذ ففي الفرع المذكور يكون ذلك الجزء فاسداً فيلزمه إعادته واجداً للشرط الضمني. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ فساد الجزء إنّما

ص: 353


1- وسائل الشيعة 6 : 313 / أبواب الركوع ب 10 ح 5.

هو في ضمن فساد الكل ، فإذا جرى حديث لا تعاد في فساد الكل الذي مقتضاه سقوط الشرطية بالنسبة إلى الكل ، كان ذلك موجباً لصحّة الجزء في ضمن صحّة الكل.

ثمّ إنّه في دوران الأمر بين المانعية والجزئية التي أفاد قدس سره أنّ اللازم فيها هو تكرار الصلاة ، لو فرضنا عدم سعة الوقت للتكرار فالظاهر التخيير ، إلاّ أنّه مع ذلك خارج عمّا نحن فيه ، لإمكان المخالفة القطعية بالاتيان به لا بقصد القربة. نعم يكون التخيير عقلياً ويلزمه الثاني بعد الوقت.

وهكذا الحال فيما لو تردّد الجزء بين الضدّين ، مثل أن نتردّد في أنّ الجزء هو القراءة الجهرية أو القراءة الاخفاتية بناءً على كونهما من قبيل شرط الجزء ، فإنّه لو قرأ لا بقصد القربة المطلقة يكون قد خالف التكليف الواقعي قطعاً. كما أنّه يمكنه الموافقة القطعية بأن يكرّر القراءة ، إمّا بأن يأتي بكلّ من الأُولى والثانية بداعي احتمال الوجوب الواقعي ، وإمّا أن يأتي بكلّ منهما بداعي أمره الواقعي المردّد بين الوجوب والندب ، حيث إنّ الوجوب تعلّق بأحد النوعين الجهرية والاخفاتية ، وينحصر الأمر الاستحبابي بالآخر ، فقبل الشروع يكون له أمران وجوبي وندبي ، ومتعلّق أحدهما الاخفاتية والآخر الجهرية ، فيأتي بالجهرية مثلاً بداعي أمرها الواقعي المردّد بين الوجوب [ والندب ] وبعد الفراغ من الجهرية لا يبقى له إلاّ أمر واحد مردّد بين الوجوب والندب متعلّق بالاخفاتية [ فيأتي بها ] بداعي ذلك الأمر الواقعي (1)

ص: 354


1- انتهى الكلام بحمد اللّه تعالى على الجزء الثالث في القطع والظن والبراءة ، ويتلوه إن شاء اللّه تعالى الكلام على الجزء الرابع في أصالة الاشتغال [ منه قدس سره ].

[ أصالة الاشتغال ]

قوله - من الجزء الرابع - : الفصل الثاني من المقام الثالث : في الشكّ في المكلّف به ، والكلام فيه يقع في مقامين : المقام الأوّل في تردّد المكلّف به بين المتباينين. المقام الثاني : في تردّده بين الأقل والأكثر (1).

عدّ مسألة الأقل والأكثر من أقسام الشكّ في المكلّف به مقابلة لمسألة المتباينين لا يخلو من تسامح ، حيث إنّ النزاع فيها صغروي ، فالقائل فيها بالبراءة يقول إنّها من مسائل الشكّ في التكليف ، والقائل بالاحتياط يقول من مسائل الشكّ بين المتباينين ، والأمر سهل. كما أنّه ينبغي إسقاط الشكّ في المحصّل ، لأنّه راجع إلى الشكّ في الامتثال مع عدم التصرّف الشرعي مثل قاعدة الشكّ بعد الوقت.

كما أنّ الكلام في هذه المباحث على حرمة المخالفة فيما تعرّض له ص 4 إلى ص 8 (2) لم يكن في الحقيقة لإثبات حرمة المخالفة ، وإنّما كان لبيان إمكان إجراء الأُصول في الأطراف وعدم إمكان ذلك من ناحية مناقضتها للعلم أو للمعلوم أو لزوم المخالفة القطعية ، وأنّ الأُصول غير الاحرازية إذا كانت نافية للتكليف كالبراءة ونحوها لا تجري في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف ، لكون الجمع في تلك الأطراف باجراء البراءة فيها موجباً للمخالفة القطعية ، فكانت النتيجة هي أنّ

ص: 355


1- فوائد الأُصول 4 : 4.
2- وهو في الطبعة الجديدة من ص 10 إلى ص 24.

المانع من هذا النحو من الأُصول هو لزوم المخالفة القطعية وهي ممنوعة ، لا أنّ الموجب لحرمة المخالفة القطعية هو عدم جريان ذلك الأصل في الأطراف.

نعم ، إنّ حاصل الدليل على حرمة المخالفة القطعية والمنع العقلي منها هو ما أشار إليه بقوله : فإنّ المخالفة العملية ممّا لا يمكن أن تنالها يد الإذن والترخيص ، لأنّها عبارة عن المعصية ، ولا يعقل الإذن في المعصية ، لاستقلال العقل بقبح المعصية الخ (1) والشاهد في هذه العبارة هو الجملة الأخيرة ، وهي قوله : لاستقلال العقل بقبح المعصية ، فإنّ هذه هي الملاك في حرمة المخالفة القطعية ، لا ما أُفيد من عدم جريان البراءة في الأطراف ، لأنّها توجب المخالفة القطعية فراجع تحريرات السيّد سلّمه اللّه من قوله : أمّا الدعوى الأُولى - إلى قوله - وفي غيرها ( يعني غير الأُصول التنزيلية ) فيما إذا لزم من جريانها مخالفة عملية ، ومعه فلا يمكن تجويز المخالفة القطعية الخ (2).

ولكن الأمر في ذلك سهل ، فإنّه قد تقدّم الكلام على ذلك مفصّلاً في مباحث القطع الاجمالي (3) وأنّه هل هو كالقطع التفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ، فكان الكلام هناك من الجهتين : الأُولى كلامية ، وهي هل أنّ معصية التكليف المعلوم بالاجمال كمعصية التكليف المعلوم بالتفصيل. والثانية أُصولية ، وهي بيان إمكان جريان الأُصول في الأطراف ، وهي ما كرّره هنا ، فلاحظ (4)

ص: 356


1- فوائد الأُصول 4 : 17.
2- أجود التقريرات 3 : 412 - 417.
3- راجع فوائد الأُصول 3 : 75 وما بعدها.
4- [ وجدنا ورقة منفصلة ألحقها المصنّف قدس سره بهذا الموضع وقد كتب فيها ما يمكن أن يكون تعليقاً على قوله في فوائد الأُصول 4 : 4 في ضابط الشكّ في المكلّف به ، وحاصله ... الخ ، وإليك نصّ ما كتبه قدس سره : ] حاصل الضابط : هو أنّ ثبوت التكليف يتوقّف على إحراز كلّ من الكبرى والصغرى ، فلو حصل الشكّ في إحداهما ، كان من الشكّ في ثبوت التكليف ، والمرجع فيه هو الأُصول النافية أعني البراءة العقلية والشرعية ، ولو كان كلّ منها محرزاً تفصيلاً كان من العلم التفصيلي. ولو كان الاحراز إجمالياً بأن كان متردّداً بين المتباينين ، كان من قبيل الشكّ في المكلّف به ، سواء [ كان ] التردّد في الكبرى لتردّدها بين كبريين ، أعني وجوب صلاة الظهر أو وجوب صلاة الجمعة ، أو كان التردّد في الصغرى بعد إحراز الكبرى تفصيلاً ، كما لو علم بوجوب الصلاة إلى القبلة وتردّدت بين جهتين ، وكما لو علم بحرمة الخمر وتردّد بين إناءين ، فإنّ المكلّف به في جميع ذلك يكون مردّداً بين المتباينين ، سواء كان التردّد في الكبرى أو كان التردّد في الصغرى ، والأوّل على نحو الشبهة الحكمية والثاني على نحو الشبهة الموضوعية. [ هذا وقد كتب المصنّف قدس سره في ظهر الورقة ما يلي : ] إنّ المعلوم الاجمالي لابدّ أن يكون له تعيّن في الواقع ، غايته أنّ العالم بالاجمال لا يعلمه ، وهذا فيما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين وطهارة الآخر واضح ، وأمّا لو علم بنجاسة أحدهما واحتمل طهارة الآخر فتارة يحصل له أوّلاً العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعيّن مع احتمال طهارة الآخر ثمّ اشتبها عليه ، وهذا كالأوّل فيما ذكرنا ، وأُخرى يكون الحاصل له أوّلاً التردّد بين كون النجس كليهما وكونه أحدهما ، فيكون القدر المتيقّن هو كون النجس واحداً منهما لا كليهما ، وبعد إجرائه الطهارة أو البراءة فيما زاد على الواحد يبقى القدر المتيقّن وهو الواحد منهما ، وهذا من قبيل العلم الاجمالي بنجاسة واحد منهما ، لكنّه لا تعيّن له في الواقع. ومن ذلك ما لو احتمل أوّلاً أنّ الواجب عليه يوم الجمعة هو الجمعة والظهر ، ثمّ أخذ بالقدر المتيقّن وأجرى البراءة فيما زاد على الواحدة منهما ، ولكن بقي مردّداً في تلك الواحدة بينهما ، فهو يعلم إجمالاً بوجوب إحداهما ولا تعيّن في الواقع لما هو المعلوم بالاجمال. لكن لا يخفى أنّ العلم الاجمالي والتردّد بينهما إنّما هو على تقدير كون الواجب هو أحدهما لا كليهما ، إذ لو كانا معاً واجبين لم يكن علم إجمالي بوجوب إحداهما ، وإنّما يحصل له العلم الاجمالي بأحدهما لو صحّ ما بنى عليه من عدم وجوب الاثنين معاً ، فهو على تقدير أن لا يكون الواجب كليهما بل كان الواجب واحداً منهما يكون عالماً إجمالاً بوجوب أحدهما ، ولا شكّ أنّه متعيّن في الواقع على تقدير وحدة الواجب وعدم تعدّده بكونه كليهما.

ص: 357

وربما يشكل على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بأنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ولا يخفى أنّه لو فتحنا هذا الباب لانسدّ علينا باب الاستصحاب في الشبهات البدوية ، فإنّ أغلب ما يكون ناقضاً للحالة السابقة يكون عند وقوعه مورداً لليقين مثل الوضوء عند استصحاب الحدث ، فيحتمل أنّ يقينه بالحدث قد انتقض باليقين بالطهارة.

والجواب : أنّ المراد هو كون الحالة الفعلية هي حالة شكّ فيما تقدّم إلى زمان اليقين السابق ، وإن كان يحتمل أنّه طرأ عليه اليقين بالخلاف في الأثناء ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي كون حالته الفعلية هي حالة شكّ وجداني بالنسبة إلى تمام ما مضى. وهكذا الحال في أطراف العلم الاجمالي فيما لو كان المعلوم بالاجمال من هذا القبيل من الأُمور الاختيارية التي تكون عند وقوعها مورداً لليقين. نعم إنّ الطرفين في بعض حال ما مضى كان أحدهما مورداً لليقين بالطهارة مثلاً والآخر كان مورداً لليقين بالبقاء على النجاسة ، وحينئذ تتأتّى شبهة عدم اتّصال زمان

ص: 358

الشكّ بزمان اليقين التي حرّرها شيخنا قدس سره في تنبيهات الاستصحاب (1). ولكن ليس النظر في باب الاستصحاب وغيره من الأُصول إلاّ إلى نفس الحالة الفعلية ، وهي ليست إلاّحالة شكّ بالنسبة إلى تمام ما مضى إلى حال اليقين السابق ، فلا يكون ذلك من قبيل عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين ، ولا يكون من قبيل التمسّك [ بالعام ] في الشبهة المصداقية.

قوله : وإن رجع كلامه إلى مقام الاثبات ، وأنّ أدلّة الأُصول لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فيرد عليه أوّلاً ... الخ (2).

قال العلاّمة الخراساني قدس سره في حاشية الرسائل في توجيه كلام الشيخ قدس سره (3) في توجيه التناقض اللازم من إجراء الأُصول في أطراف العلم الاجمالي ص 142 من حواشي البراءة ما هذا لفظه : قوله قدس سره : لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ الخ ، فيلزم من شمولها للشبهة المحصورة التناقض في مدلولها ، فإنّ الحكم في المغيّى كما يشمل كلاً من الطرفين كذا يشمل الحكم في الغاية أحدهما المعلوم بالاجمال حرمته ، والتناقض بين الايجاب الكلّي والسالبة الكلّية (4) واضح ، فيكشف ذلك عن عدم الشمول فتفطّن (5).

والظاهر أنّ الإيجاب الكلّي غلط من الناسخ ، لأنّ التناقض إنّما هو بين الإيجاب الجزئي وهو حرمة أحدهما والسلب الكلّي الآتي من إجراء الأصل في

ص: 359


1- فوائد الأُصول 4 : 510 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 21.
3- فرائد الأُصول 2 : 201.
4- [ في المصدر : السالبة الجزئية ، فلاحظ ].
5- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 142.

كلّ منهما ، ويشهد بذلك عبارته في ص 29 (1). وعلى كلّ حال أنّ هذا التناقض لا يختصّ بشمول دليل الحلّية ، بل هو محقّق في كلّ علم إجمالي ولو لم يكن في البين أصالة الحل ، لأنّ كلّ واحد من الطرفين ليس بمعلوم الحرمة ، والفرض أنّ أحدهما معلوم الحرمة ، فحصل التناقض في ناحية العلم بين السلب الكلّي والايجاب الجزئي.

والجواب : هو عدم التوارد ، فإنّ عدم العلم بالحرمة وارد على كلّ واحد بخصوصه وفي حدّ نفسه ، والعلم بالحرمة وارد على الكلّي أعني القدر الجامع المجرّد عن الخصوصية.

هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، ولكنّه يحتاج إلى توضيح التناقض المنقول عن الشيخ قدس سره فنقول : أمّا في أخبار الاستصحاب ، فتقريبه هو أنّه لو كان لنا إناءان صغير وكبير قد حصل العلم بطهارة كلّ منهما ، ثمّ حصل العلم بأنّه قد تنجّس أحدهما لا بعينه ، فهناك كان لنا يقين بطهارة الصغير ويقين بطهارة الكبير ، ويكون حكم اليقين الأوّل أنّه لا ينقض وحكم اليقين الثاني أنّه لا ينقض ، هذا بالنسبة إلى صدر رواية الاستصحاب ، وهو سالبة كلّية. ولو طبّقنا عليه الذيل وقلنا بأنّ اليقين الآخر شامل لليقين بنجاسة أحدهما ، كان محصّل الجمع بين الصدر والذيل أنّ كلاً من اليقينين السابقين لم ينتقض ، وأنّ بعضهما وهو أحدهما قد انتقض.

وعلى وتيرة هذا الإشكال أو نحوه يقال في جميع الأُصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، فإنّه وإن لم يكن في أدلّتها صدر وذيل ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ جريان الأصل في حلّية هذا الطرف يتوقّف على كونه غير معلوم الحرمة وهكذا في الطرف الآخر ، فالأوّل غير معلوم الحرمة والثاني غير معلوم الحرمة ،

ص: 360


1- من المصدر المتقدّم.

فكان العلم بالحرمة منتفياً عن كلّ واحد منهما بنحو السالبة الكلّية ، فكيف يجتمع هذا السلب الكلّي مع العلم بحرمة أحدهما الذي هو عبارة عن الموجبة الجزئية ، فاللازم هو عدم إجراء الأُصول في أطراف العلم الاجمالي فراراً عن المحذور المذكور.

والجواب عن هذا التناقض أوّلاً : ما عرفت من تحقّق هذا التناقض المزعوم حتّى لو قلنا بعدم شمول أدلّة الأُصول للعلم الاجمالي ، فإنّك بالوجدان ترى أنّ حرمة كلّ واحد من الطرفين غير معلومة لك ، ومع ذلك أنّك تعلم بحرمة أحدهما لا بعينه.

وثانياً وهو العمدة : أنّ العلم الطارئ على أحدهما لا يسري إلى ما في الخارج من كلّ منهما ، وليس هو من الصفات التي تلحق الطبيعة في الذهن وبتبعها الخارج ، بل هو - أعني العلم الطارئ على الكلّي الذي هو أحدهما - يكون مقصوراً على ما في الذهن ، ولا يسري إلى ما في الخارج من مصداق أحدهما.

وأمّا التناقض المدّعى بين الصدر والذيل في أخبار الاستصحاب لو طبّقناها على أطراف العلم الاجمالي ، فيمكن الجواب : أنّ مفاد الصدر هو أنّ اليقين بنجاسة الإناء الصغير لا ينقضه الشكّ في بقائها ، وهكذا اليقين بنجاسة الإناء الكبير ، فاليقين في كلّ منهما لا ينقض ، وهو محلّ السالبة الكلّية. وأمّا بقاء الذيل وهو وجوب نقض اليقين بالنجاسة باليقين بحصول الطهارة ، فهو مسلّم إلاّ أنّه لا ينطبق على العلم الاجمالي المتعلّق بالبعض كي يقال إنّ بعض اليقينات السابقة قد انتقض ، ليكون من قبيل الموجبة الجزئية في قبال تلك السالبة الكلّية ، إذ ليس محصّل العلم الاجمالي بالطهارة في بعضها إلاّ العلم بانتقاض نفس النجاسة في بعضها ، لا انتقاض اليقين بالنجاسة. فموضوع تلك السوالب هو اليقين بالنجاسة

ص: 361

وموضوع الموجبة الجزئية هو انتقاض النجاسة في بعضها وتبدّلها إلى الطهارة ، لا انتقاض بعض تلك اليقينات.

نعم ، يمكن تقرير الإشكال بكون التمسّك بعموم لا تنقض من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، إذ لو طبّقناه على الصغير احتملنا أنّه هو الذي علمنا بطهارته ، فنحن نحتمل أنّ اليقين بنجاسته قد تبدّل إلى اليقين بطهارته ، لاحتمال كونه هو الذي علمنا بطهارته منهما.

والجواب عنه : بأنّ اليقين لا يقبل الاحتمال كما ذكرناه (1) في جواب إشكال عدم اتّصال زمان اليقين لو قرّر بكونه من قبيل الشبهة المصداقية ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه في الجواب [ عن الإشكال ] الأوّل من أنّ اليقين المتعلّق بطهارة أحدهما لا يسري إلى ما في الخارج من مصاديقه ، فلا يكون كلّ من مصاديقه الخارجية إلاّمشكوكاً.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره بقوله : ولم يحصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى كلّ واحد منها ، وإن حصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها على سبيل الإجمال والترديد (2) ، وإلاّ فلو أبقيناه على ظاهره كان تسجيلاً لإشكال التناقض لا دفعاً عنه ، حيث إنّ مرجع العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها عبارة أُخرى عن الموجبة الجزئية ، التي ادّعى المُشكل أنّها مناقضة للسالبة الكلّية.

وأمّا ما أفاده ثانياً : من أنّ لازم ذلك جريان الإشكال فيما لا يلزم منه المخالفة القطعية كما في الاناءين المستصحبي النجاسة عند العلم بطهارة أحدهما ، فلعلّ الشيخ يلتزم بعدم إجراء الأُصول فيه. وعلى كلّ حال أنّ النقض لا

ص: 362


1- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 178 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 22.

يدفع الإشكال ، بل هو يزيد الإشكال توسعة.

وأمّا ما أفاده ثالثاً : بأنّ الإشكال مقصور على ما يشتمل على الذيل المذكور دون ما يكون خالياً من الذيل من سائر الأُصول ، ففيه أوّلاً : أنّه التزام بالإشكال في ذي الذيل ، وأنّه لا يجري في أطراف العلم الاجمالي.

وثانياً : ما عرفت من توسعة الشيخ قدس سره للإشكال لا من جهة الذيل ، بل من جهة أنّ جميع الأُصول مقيّدة بعدم العلم ، وحينئذ لو أجريناها في طرفي العلم الاجمالي كان محصّله هو أنّه قد انتفى العلم في كلّ واحد من الأطراف وهو السالبة الكلّية ، مع فرض أنّه قد حصل العلم في بعضها وهو الموجبة الجزئية. وقد عرفت الجواب عنه من عدم سراية العلم من أحدهما الكلّي إلى ما في الخارج من مصاديقه ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ويبقى التكليف المنجّز المعلوم بالاجمال على حاله ، والعقل يستقلّ بوجوب موافقته والخروج عن عهدته إمّا بالوجدان وإمّا بالتعبّد من الشارع ، ولا ينحصر طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أنّ التكليف المعلوم بالإجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبّد الشرعي كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأُصول المجعولة في وادي الفراغ (1).

ومثل قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت. ومنه يظهر أنّ الأُصول النافية في موارد العلم التفصيلي إنّما هي الجارية في وادي الفراغ كما في الأمثلة المذكورة ، لا الأُصول النافية الجارية في مقام الاشتغال مثل أصالة البراءة ونحوها ممّا ينفي

ص: 363


1- فوائد الأُصول 4 : 32 - 34.

التكليف ، إذ لا مجال لها في مقام العلم التفصيلي بالاشتغال كي يقاس عليها البراءة ونحوها في مقام العلم الاجمالي. ودعوى إرجاعها إلى وادي الفراغ ، بدعوى كون إجرائها في أحد طرفي العلم الاجمالي راجعاً إلى جعل الشارع الطرف الآخر بدلاً عن الواقع محلّ تأمّل ، فإنّ الترخيص في بعض الأطراف لو ثبت بدليل خاصّ لأمكننا القول بأنّ لازم هذا الترخيص هو جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع ، وأنّ الشارع قد اكتفى به عن الواقع ، فيكون هذا التصرّف الشرعي - أعني الترخيص الخاصّ في هذا الطرف - كاشفاً عن التصرّف الآخر أعني بدلية الطرف الآخر ، ومرجع ذلك الترخيص الخاصّ إلى تنازل الشارع عن التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف الخاصّ ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : نعم للشارع الإذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر (1) ، وقد عقّبه هناك بقوله : ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامّة المتكفّلة لحكم الشبهات من قبيل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلال » (2) أو « كلّ شيء لك طاهر » (3) وقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (4) وقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع ما لا يعلمون » (5) وغير ذلك من أدلّة الأُصول العملية (6).

ولكن المانع من التمسّك بالعمومات المذكورة ليس هو ما أفاده هناك

ص: 364


1- فوائد الأُصول 4 : 25.
2- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.
3- مستدرك الوسائل 2 : 583 / أبواب النجاسات ب 30 ح 4.
4- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.
5- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
6- فوائد الأُصول 4 : 25.

بقوله : لأنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدّ سواء الخ ، بل إنّ المانع هو ما حقّقه قدس سره غير مرّة ، وهو أنّه إذا توقّف إجراء العموم في مورد على إعمال عناية في مورد آخر لا نحكم باجرائه ونلتزم بتحقّق تلك العناية من الشارع ، بل نحكم بسقوط العام في ذلك المورد ، ولا نلتزم بالعناية المذكورة إلاّ إذا ورد دليل خاصّ بذلك المورد ، فتصحيحاً لذلك الدليل الخاص نلتزم تلك العناية كما حقّق في مبحث الأصل المثبت (1) وغيره من المباحث.

ثمّ لا يخفى أنّه لو ثبت الترخيص الخاصّ في هذا الطرف وصحّحناه بأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع يتنازل عن الحكم الواقعي لو كان موجوداً في هذا الطرف ، لما عرفت فيما تقدّم من استحالة الترخيص في بعض الأطراف ، لأنّ مرجعه إلى احتمال اجتماع النقيضين ، ومن الواضح أنّا إذا دفعنا التناقض المحتمل بالطريقة المزبورة ، وهي تنازل الشارع عن التكليف لو كان موجوداً في هذا الطرف ، كان ذلك موجباً لسقوط العلم الاجمالي عن كونه علماً بتكليف فعلي لا ترخيص فيه وأنّه توجب مخالفته العقاب ، فلا يبقى لنا مانع من إجراء البراءة في الطرف الآخر ، فيجوز لنا ارتكابه اعتماداً على البراءة ، وحينئذ لا يكون الترخيص المذكور بعد فرض صحّته بالطريق المذكور كاشفاً عن بدلية الطرف الآخر ، بل لو صرّح بالبدلية كنّا محتاجين إلى تصحيح اكتفاء الشارع بالطرف الآخر إلى ما عرفت من تنازله عن التكليف الموجود لو كان منطبقاً على هذا الطرف ، فلاحظ وتأمّل ، ولا يخفى أنّه عبارة أُخرى عن لزوم المخالفة القطعية ، وحينئذ ينحصر توجيه الترخيص الخاصّ بكونه راجعاً إلى جعل البدل ، فيكون تصرّفاً في مقام الخروج عن العهدة ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 365


1- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 97 - 98.

ثمّ لا يخفى أنّ ما يأتي من الأُصول والأمارات الجارية في بعض الأطراف الموجبة لانحلال العلم الاجمالي أو لعدم تأثيره ، ليست ممّا نحن فيه ، بل هي موجبة للخلل في العلم الاجمالي وإخراجه عن كونه علماً بتكليف فعلي منجّز على كلّ تقدير من طرفي العلم (1).

فائدة : أنّ من جملة الفروع المترتّبة على قاعدة انحلال العلم الاجمالي فيما لو جرى في أحد طرفيه المعيّن أصل مثبت للتكليف وفي الطرف الآخر أصل ناف للتكليف ، ما لو طلّق الرجل زوجته ثمّ بعد مدّة وبعد خروجها من العدّة تزوّج بأُخرى ، ثمّ علم إمّا بفساد كلا الأمرين من طلاق الأُولى وعقد النكاح على

ص: 366


1- ثمّ إنّ موجبات سقوط العلم الاجمالي تارةً يكون هو العلم التفصيلي بنجاسة أحد الأطراف معيّناً ، ويلحق به ما قامت فيه الأمارة على ذلك ، بل يلحق به أيضاً ما كان مجرى لاستصحاب النجاسة. وتارةً يكون هو كون أحدهما المعيّن مجرى لأصالة الاحتياط ونحوه من الأُصول المثبتة للتكليف ، ويلحق به ما كان أحد الطرفين مورداً لعلم إجمالي آخر ، وجميع هذه لا تكون من قبيل إجراء الأصل النافي في أحد طرفي العلم الاجمالي ، بل إنّ الأصل النافي لا يجري إلاّعند انحلال العلم الاجمالي أو عند عدم تأثيره. وينبغي أن يعلم أن العلم التفصيلي في بعض الأطراف - أعني العلم التفصيلي بنجاسة الأصغر من الإناءين - قد يكون سابقاً على العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، وقد يكون متأخّراً عنه ، وقد يكون مقارناً له. والنجاسة المعلومة بالتفصيل في كلّ من هذه الصور الثلاثة قد تكون سابقة على النجاسة المعلومة بالاجمال ، وقد تكون متأخّرة عنها ، وقد تكون مقارنة لها فتكون الصور تسعاً. وهكذا الحال في العلم الاجمالي في قبال العلم الاجمالي الآخر ، كما لو علم بنجاسة أحد الاناءين الأصغر والأكبر ، ثمّ علم بنجاسة وقعت إمّا في الأكبر أو في الثالث المتوسّط ، فإنّ الصور فيه تسع كما ذكرناه في العلم التفصيلي ، فلاحظ وتدبّر [ منه قدس سره ].

الثانية وإمّا بصحّة كلّ منهما ، فعلى الأوّل تكون الأُولى فقط هي زوجته فعلاً ، وعلى الثاني تكون الثانية هي زوجته فعلاً ، وحينئذ يحصل العلم الاجمالي بوجوب الانفاق على واحدة منهما ، كما أنّه يحصل له العلم الاجمالي بحرمة وطء إحداهما. ومقتضى العلم الأوّل هو وجوب الإنفاق عليهما ، ومقتضى العلم الثاني هو وجوب اجتنابه عن الوطء ، بل والنظر بالنسبة إلى كلّ منهما ، لأنّ حاصل العلم المردّد بين فساد كلّ منهما وصحّة كلّ منهما هو العلم بكون إحداهما هي زوجته الفعلية وكون الأُخرى أجنبية عنه.

ولا يمكن انحلال هذا العلم بالالتزام بترك وطء كلّ منهما استناداً إلى أصالة الاحتياط في الفروج ، وبالرجوع إلى أصالة البراءة من الانفاق على كلّ واحدة منهما ، لعدم إمكان الرجوع إليها في وجوب الإنفاق عليهما ، للعلم الاجمالي بوجوب الانفاق على واحدة منهما ، بل يتعيّن الرجوع إلى أصالة الصحّة في كلّ من الطلاق وعقد النكاح ، وليس في ذلك مخالفة إحرازية بل ولا مخالفة عملية ، لعدم انتهاء الجمع بينهما في الصحّة إلى المخالفة العملية القطعية لتكليف معلوم في البين ، وبجريانهما ينحلّ العلم الاجمالي ، لأنّ أصالة الصحّة في الطلاق مثبتة لحرمة وطء الأُولى وتنفي وجوب الإنفاق عليها ، كما أنّ أصالة الصحّة في العقد على الثانية مثبتة لوجوب الانفاق عليها وتنفي الحرمة عن وطئها ، وحينئذ تكون النتيجة هي حرمة الأُولى وعدم وجوب الإنفاق عليها ، ووجوب الإنفاق على الثانية وعدم حرمة وطئها. ولو رجعنا في الأُولى إلى استصحاب الزوجية وفي الثانية إلى استصحاب عدم الزوجية ، كانت النتيجة بالعكس ، فيجب عليه الإنفاق على الأُولى ويجوز له وطؤها ، ويحرم عليه وطء الثانية ولا يجب عليه الإنفاق عليها.

ص: 367

والحاصل : أنّ مقتضى أصالة الصحّة في الطرفين هو الحكم بزوجية الثانية وارتفاع زوجية الأُولى ، ومقتضى الاستصحاب هو العكس أعني الحكم بزوجية الأُولى وعدم زوجية الثانية ، لكن أصالة الصحّة هي المرجع ، لحكومتها على الاستصحاب الجاري في موردها ، كما أنّها حاكمة على أصالة الحرمة في الفروج بالنسبة إلى كلّ منهما.

ولو علم بفساد أحدهما وصحّة الآخر ، فإن كان الفاسد هو الطلاق والصحيح هو النكاح ، كانت النتيجة هي ثبوت زوجية كلّ منهما ، وإن كان الفاسد هو النكاح والصحيح هو الطلاق ، كانت النتيجة هي انتفاء زوجية كلّ منهما ، وحينئذ يعلم إجمالاً إمّا بحرمة الوطء والنظر بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإمّا بوجوب الإنفاق عليهما معاً ، فمع قطع النظر عن أصالة الصحّة يمكن القول بانحلال هذا العلم الاجمالي ، لكون الأوّل مجرى الأصل المثبت للتكليف وهو الاحتياط في الفروج ، والثاني مجرى الأصل النافي وهو البراءة من وجوب الإنفاق عليهما.

أمّا أصالة الصحّة في كلّ منهما الحاكم على أصالة الاحتياط في الفروج ، فلا يمكن الرجوع إليهما. أمّا على مسلك شيخنا قدس سره فللمخالفة الاحرازية ، مضافاً إلى المخالفة العملية ، وذلك - أعني المخالفة العملية - هو المانع من الرجوع إليها في كلّ منهما على مسلك غيره ، أعني حصر المانع من جريان الأُصول بالمخالفة العملية.

وبيان لزوم المخالفة العملية ، هو أنّه قد علم إمّا بحرمة الاثنتين أو بوجوب الإنفاق على الاثنتين ، وحينئذ يكون وطؤه للثانية استناداً إلى صحّة نكاحها ، وتركه الإنفاق على الأُولى استناداً إلى صحّة طلاقها مخالفة عملية قطعية لذلك العلم الاجمالي المردّد بين حرمة الاثنتين ووجوب الإنفاق على الاثنتين ، إذ لو كان

ص: 368

الواقع الأوّل وهو حرمة الاثنتين يكون وطؤه الثانية مخالفة له ، وإن كان الثاني وهو وجوب الإنفاق على الاثنتين يكون تركه الإنفاق على الأُولى مخالفة له.

وبالجملة : يلزمه على كلّ من مسلك شيخنا قدس سره ومسلك غيره عدم الاعتماد على أصالة الصحّة ، كما أنّه لا يجوز له الرجوع في الأُولى إلى استصحاب الزوجية وفي الثانية إلى استصحاب عدم الزوجية ، لما في ذلك من المخالفة الاحرازية والمخالفة العملية ، وحينئذ يتعيّن الطريق في التخلّص عن هذا العلم الاجمالي القاضي باجتنابهما وبلزوم الإنفاق عليهما ، بما عرفت من الرجوع في الطرف الأوّل وهو حرمتهما إلى الأصل المثبت ، وهو أصالة الاحتياط في الفروج ، وفي الطرف الثاني وهو وجوب الإنفاق عليهما إلى أصالة البراءة ، فلاحظ.

ثمّ إنّ انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى الأصل المثبت والآخر مجرى الأصل النافي ، يتّضح فيما لو كان الأصل المثبت جارياً فيه قبل العلم الاجمالي ، كما لو كانت المرأة مشكوكة الحلّية ثمّ حدث العلم الاجمالي بحرمتها أو وجوب الإنفاق على زيد مثلاً. أمّا لو لم تكن مشكوكة الحلّية فيما سبق بل كانت معلومة الحلّية ، ولكن طرأ ما يوجب حرمتها أو وجوب الإنفاق على زيد ، فكان احتمال الحرمة فيها مولداً من كونها طرف العلم الاجمالي ، فيكون جريان أصالة الحرمة فيها متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي ، مضافاً إلى تأخّره زماناً.

ولعلّ المسألة حينئذ تبنى على كون العلم الاجمالي بنفسه علّة في سقوط الأصل النافي في أطرافه ، أو أنّ سقوطها من جهة تعارضها بواسطة انتهائها إلى المخالفة القطعية ، فعلى الأوّل لا يمكن الركون في وجوب الإنفاق على زيد في المثال إلى البراءة بخلافه على الثاني ، إذ لا تكون أصالة البراءة من الإنفاق عليه

ص: 369

معارضة لأصالة الحرمة في المرأة المذكورة ، لعدم ترتّب المخالفة القطعية على الجمع بينهما.

ولعلّ من هذا القبيل ما سيأتي (1) من أنّه في مسألة الدوران بعد الفراغ بين ترك الركن والسجدة الواحدة وبعد تعارض الأُصول والقواعد ، يكون المرجع في ناحية ترك الركن أصالة الاشتغال ، وفي ناحية وجوب قضاء السجدة أصالة البراءة. أمّا ما لا تكون شبهاته البدوية محكومة بالاحتياط بل بالبراءة والأُصول النافية كما في محتمل النجاسة ، وأنّ المرجع فيه قاعدة الطهارة ، فإنّ الاناء الكبير الذي كان طرفاً للعلم بنجاسته أو نجاسة الصغير يلزم اجتنابه ، ثمّ صار طرفاً للعلم بالنجاسة المردّدة بينه وبين المتوسّط ، فإنّ هذا العلم الاجمالي الثاني لا يؤثّر ، وإنّما يؤثّر العلم فيما لو لم يكن مسبوقاً بشيء من ذلك كما في العلم الأوّل ، بأن كان كلّ من الاناءين معلوم الطهارة ثمّ وقعت قطرة بول في أحدهما. ولو كان الكبير مشكوك الطهارة ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة إمّا فيه أو في الصغير ، فقد يتوهّم أنّ هذه القطرة لا نعلم بأنّها أحدثت وجوب الاجتناب مردّداً بين الكبير والصغير ، لاحتمال كون الكبير نجساً قبل ذلك ، فلا يكون وقوع النجاسة فيه محدثاً لوجوب الاجتناب عنه ، فلا يكون هذا العلم الاجمالي مؤثّراً.

ولكن الجواب عنه واضح ، إذ ليس المدار في تنجيز العلم الاجمالي على العلم بحدوث التكليف في كلّ من الطرفين ، بل يكفي فيه العلم بوجود التكليف في كلّ منهما وإن كان سابقاً ، فالكبير على تقدير وقوع النجاسة فيه وإن لم يكن وجوب الاجتناب عنه حادثاً بحدوثها ، بل يحتمل سبق الوجوب فيه ، فإنّ هذا الاحتمال لا يخرج العلم عن كونه علماً بوجود وجوب الاجتناب على تقدير كلّ

ص: 370


1- في الصفحة : 373.

من وقوع النجاسة في الكبير ووقوعها في الصغير ، وهذا بخلاف ما لو كان الكبير ملتقى العلمين الاجماليين ، فإنّ العلم الاجمالي الثاني إنّما يؤثّر لو قلنا بأنّ المنشأ في تأثيره وعدم جريان الأُصول النافية في أطرافه هو نفس العلم ، أمّا لو قلنا بأنّ المنشأ في ذلك هو تعارض الأُصول ، فلا يكون العلم الثاني مؤثّراً لعدم تعارض الأُصول في أطرافه.

والخلاصة : هي أنّ المشكوك في حدّ نفسه مع قطع النظر عن العلم الاجمالي تارةً يكون مجرى للأُصول النافية ، وأُخرى يكون مجرى للأُصول المثبتة أعني الاحتياط كما في الفروج ، وهذا القسم الأخير إن كان مطروّاً للشكّ قبل العلم الاجمالي ، كما لو شكّ في حلّية هذه المرأة فلزمه الاجتناب عنها لأصالة الحرمة في الفروج ، ثمّ حصل له العلم الاجمالي بوقوع أحد هذين الأمرين أعني حصول الرضاع المحرّم ، بأن قد أرضعت زوجته الصغيرة أو أنّه قد فعل ما يوجب الكفّارة عليه ، فأصل العدم وإن كان جارياً في كلّ من السببين ، إلاّ أنّه ساقط فيهما بالتعارض لكونه من الأُصول الاحرازية ، أو لانتهائهما إلى المخالفة القطعية ، فتصل النوبة إلى أصالة الحرمة في المرأة ، وأصالة البراءة من وجوب الكفّارة.

وهكذا الحال في الاناء الكبير الذي هو طرف العلم الاجمالي بالنجاسة بينه وبين الصغير لو علم بوقوع نجاسة مردّدة بينه وبين المتوسط ، ففي ذلك وأمثاله نقول بناءً على أنّ تعارض الأُصول هو الموجب لتنجيز العلم الاجمالي ، نقول إنّه يجوز الرجوع في الطرف الآخر إلى الأصل النافي ، إذ لا يلزم من ذلك المخالفة القطعية ولا الاحرازية ، ولو قلنا إنّ نفس العلم هو المانع من إجراء الأُصول النافية ولو في طرف واحد ، امتنع إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر.

والظاهر أنّ الحال كذلك فيما لم يكن مسبوقاً بالشكّ ، بل لم يكن له شكّ

ص: 371

قبل العلم ، بل كانت المرأة زوجته ، ولكن حصل له العلم إمّا بأنّها قد أرضعت زوجته الصغيرة وإمّا بأنّه قد صدر منه ما يوجب الكفّارة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي يوجب الشكّ في حرمة المرأة عليه وفي وجوب الكفّارة عليه ، فبناءً على كون المنجّز هو التعارض نقول إنّه لا تعارض في البين ، بل يجمع بين العمل بأصالة التحريم وبأصالة البراءة من وجوب الكفّارة. ومنه ما لو رجعت المسألة إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من وجوب السجدة فيما لو علم بأنّه قد ترك الركوع أو ترك سجدة واحدة.

أمّا بناءً على كون المنجّز هو العلم فهو مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة ولو كان الجاري في الطرف الآخر هو أصالة الحرمة ، فالذي ينبغي هو سقوط أصالة البراءة من الوجوب ، فيلزمه الاحتياط بالاجتناب عن المرأة والقيام بالكفّارة.

أمّا ما يكون من الأطراف مسبوقاً بالعلم التفصيلي بنجاسته أو بقيام أمارة عليه أو بأصل إحرازي ، فلا يكون العلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما مؤثّراً ، لكونه من قبيل العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، هذا كلّه في القسم الثاني.

ولكن لا يبعد التفرقة بين ما يكون الشكّ فيه متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي فلا يوجب انحلاله ، أمّا ما يكون الشكّ فيه سابقاً على العلم الاجمالي فيمكن القول بأنّه يوجب انحلاله ، ومع انحلاله لا يبقى مانع من جريان الأصل النافي في الطرف الآخر على كلا القولين ، بخلاف ما يكون الشكّ فيه متأخّراً عن العلم الاجمالي ، فإنّه لأجل أنّه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي يكون إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر مبنياً على التعارض دون القول الآخر.

ص: 372

أمّا القسم الأوّل وهو ما يكون حكم الشكّ فيه هو البراءة ونحوها من الأُصول النافية ، فلا إشكال في منجّزية العلم الاجمالي لو كان الشكّ متولّداً من العلم الاجمالي ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين الطاهرين ، وكذا لو كان الصغير منهما مشكوك الطهارة قبل العلم الاجمالي المذكور. وأمّا دعوى أنّه لا يشتمل على العلم بحدوث التكليف بالاجتناب على كلّ من التقديرين قد عرفت الجواب عنها.

لا يقال : إنّ مسألة فوت الركوع أو السجدة بعد تعارض قاعدة الفراغ فيهما ، وأصالة العدم في كلّ منهما ، وانتهاء الأمر في ناحية الركوع إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من ناحية السجدة ، تكون المسألة من قبيل الانحلال ، فلا مانع من إجراء البراءة في ناحية السجدة ، وذلك من جهة أنّ محصّل الشكّ في الركوع هو الشكّ في البطلان ، ومحصّل الشكّ في البطلان هو الشكّ في امتثال الأمر بالصلاة المفروض كونه - أعني الأمر بالصلاة - معلوماً بالتفصيل ، فيكون حاله حال ما لو كان أحد الطرفين معلوم النجاسة أو كان مورداً لاستصحاب النجاسة ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة فيه أو في الطرف الآخر ، فكما لا يكون هذا العلم الاجمالي مؤثّراً ، فكذلك العلم الاجمالي بفوات الركوع أو السجدة.

لأنّا نقول : فرق واضح بين ما نحن فيه وبين ما لو كان أحد الاناءين الذي هو الكبير معلوم النجاسة أو مستصحب النجاسة ثمّ حصل العلم الاجمالي بوقوع نجاسة فيه أو في الطرف الآخر الذي هو الصغير ، فإنّ العلم الاجمالي في المثالين يرجع إلى الأقل والأكثر ، حيث إنّ نجاسة الكبير معلومة بالوجدان أو بالاستصحاب ، ويكون الشكّ في الزائد الذي هو تنجّس الصغير ، وهذا بخلاف ما نحن فيه حيث إنّ العلم الاجمالي فيه يكون من قبيل المتباينين ، لأنّه وإن كان

ص: 373

عالماً تفصيلاً بأنّه مأمور بالصلاة ، إلاّ أنّ محصّل علمه بترك الركوع أو السجدة يكون راجعاً إلى أنّه في هذا الحال عالم إمّا ببقاء الأمر بالصلاة أو بأنّ ذلك الأمر قد سقط ، وتوجّه إليه التكليف بالسجدة وسجود السهو أو بسجود السهو فقط فيما لو علم بأنّه إمّا نقص ركوعاً أو أنّه نقص قراءة مثلاً ممّا لا أثر له إلاّسجود السهود ، ولا ريب في مباينة بقاء الأمر بالصلاة لوجوب السجدة أو وجوب سجود السهو ، فلا يكون هذا العلم منحلاً إلى الأقل والأكثر كي لا يكون مؤثّراً.

ومثل ذلك ما لو علم تفصيلاً بنجاسة هذا الاناء ، ثمّ علم إجمالاً إمّا ببقاء نجاسته أو أنّه طهّره بماء راجع للغير على وجه تكون ذمّته مشغولة بقيمة الماء ، فإنّه يعلم إجمالاً إمّا ببقاء النجاسة أو انشغال ذمّته بقيمة الماء.

وهكذا الحال فيما لو كان في الوقت وعلم أنّه إمّا قد صلّى أو أنّه قد كسر آنية زيد ، فإنّه حينئذ يعلم إمّا ببقاء الأمر بالصلاة وإمّا بانشغال ذمّته بقيمة آنية زيد ، فالعلم في جميع ما يكون من هذا القبيل يكون مؤثّراً ، ولا ينحل بأصالة الاشتغال في الصلاة كي يصحّ الرجوع في التكليف الآخر إلى البراءة بناءً على كون المانع هو العلم نفسه.

نعم بناءً على [ أنّ ] المنجّز والمانع هو التعارض ، لا مانع من إجراء أصالة البراءة مع فرض كون المرجع في الطرف الآخر هو أصالة الاشتغال ، إذ لا تعارض بين الأصلين المذكورين ، ونحن وإن وافقنا شيخنا قدس سره في سقوط قاعدتي الفراغ وفي سقوط أصالتي العدم ، لكنّا لمّا التزمنا بأنّ المانع من إجراء الأُصول النافية في بعض [ الأطراف ] هو العلم الاجمالي ، كان اللازم علينا في المسألة هو إعادة الصلاة وقضاء السجدة أو سجود السهو. وهكذا الحال فيما هو نظير ذلك.

ولو علم بأنّه إمّا نقص ركوعاً أو زاد قياماً ، كان أصالة عدم الركوع قاضياً

ص: 374

بالبطلان ، وأصالة عدم القيام الزائد نافياً لوجوب سجود السهو ، فإن كانت المخالفة الاحرازية مانعة وصلت النوبة إلى أصالة الاشتغال وأصالة البراءة من سجود السهو ، وإن قلنا بأنّها غير مانعة دخلت المسألة فيما نحن فيه من جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين ، وهو أصالة عدم الاتيان بالركوع ، وجريان الأصل النافي في الطرف الآخر وهو أصالة عدم القيام الزائد ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه في العلم الاجمالي المردّد بين كون المنسي هو الركوع وكون المنسي هو السجدة الواحدة ، لا فرق فيه بين القول بكون قضاء السجدة على تقدير فوتها من قبيل الجزء الذي تأخّر محلّه ، أو كونه من قبيل القضاء بأمر جديد مستقل ، فإنّ محصّل العلم الاجمالي على القول الأوّل يكون من قبيل التردّد بين كون الباقي هو الأمر بالصلاة بتمامها ، أو كون الباقي هو الأمر بجزئها منفرداً ، وهما متباينان. وعلى الثاني يكون من قبيل التردّد بين بقاء الأمر بالصلاة أو توجّه أمر جديد ، وهما متباينان أيضاً ، ويكون حال السجدة المقضية حال سجود السهو فيما لم يكن له قضاء ، كما لو تردّد بين بقاء الأمر بالصلاة أو توجّه أمر جديد.

ولا يخفى أنّه بناءً على الوجه الأوّل أعني كون قضاء السجدة بالأمر السابق ، لا وجه للرجوع إلى البراءة في السجدة ، بل يكون الجاري فيها هو أصالة الاشتغال ، ولا تكون المسألة حينئذ من قبيل جريان الأصل النافي في أحد الطرفين ، بل يكون الأصل الجاري في كلّ من الطرفين هو الاشتغال.

وأنت بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير عن شيخنا قدس سره ، وذلك قوله : أو كان ممّا تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان ممّا يجب الاجتناب عنه عقلاً لكونه من أطراف

ص: 375

العلم الاجمالي (1) ، فألحق موارد أصالة الحرمة وما هو ملتقى العلمين بما علم تفصيلاً نجاسته ، وقد عرفت الفرق ، وأنّ ما علم تفصيلاً نجاسته ثمّ وقع طرفاً للعلم الاجمالي يكون من قبيل العلم التفصيلي والشكّ البدوي ، بخلاف ما يكون مورداً لأصالة الحرمة ، أو يكون ملتقى العلم الأوّل والعلم الثاني ، فإنّ عدم تأثير العلم الاجمالي فيه مبني على كون التنجيز ناشئاً عن تعارض الأُصول لا عن نفس العلم الاجمالي.

كما أنّ ما أفاده بقوله : لسبق التكليف بوجوب الاجتناب الخ (2) ، لا يتأتّى في الموردين المذكورين ، وإنّما يتأتّى فيه ما أفاده بقوله : وبتقريب آخر الخ.

وهذا التقريب الآخر لا يتأتّى في الصور السابقة ، أعني صورة العلم التفصيلي أو الأمارة أو الاستصحاب ، فإنّ الموجب لسقوط العلم الاجمالي فيها ليس هو عدم التعارض ، وإن كان هو - أعني عدم التعارض - متحقّقاً فيها ، إلاّ أنّ الموجب لسقوط العلم الاجمالي فيها هو أنّه ليس بعلم إجمالي حقيقة ، بل هو علم تفصيلي وشكّ بدوي. كما أنّه ليس الموجب لسقوطه في تلك الصور هو مجرّد أنّه لا يعلم بحدوث تكليف آخر ، لما عرفت فيما قدّمناه من أنّ العلم بالحدوث لا يتوقّف عليه منجّزية العلم الاجمالي ، بل يكفي العلم بوجود التكليف وإن لم يكن التكليف في أحدهما قد حدث جديداً ، بل كان موجوداً قبل طروّ العلم الاجمالي ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الذي ذكرناه من كون جريان الأصل في المقام مبنياً على أنّ الموجب للتنجّز هو التعارض لا العلم نفسه وارد على من يقول بأنّ

ص: 376


1- فوائد الأُصول 4 : 37.
2- فوائد الأُصول 4 : 37 - 38.

الجاري في المسألة - أعني العلم الاجمالي بترك الركوع أو السجدة - هو قاعدة الفراغ في الركوع وأصالة عدم الاتيان بالسجدة ، بناءً على تقدّم قاعدة الفراغ في الركوع رتبة عليها في السجدة ، أو لأنّ قاعدة الفراغ في السجدة لا تجري ، للعلم بعدم امتثال أمرها إمّا لبطلان الصلاة بترك الركوع ، وإمّا لعدم الاتيان بها ، فإنّ القاعدة أعني قاعدة الفراغ إنّما يمكن إجراؤها إذا قلنا إنّ العلم ليس بمانع من جريانها ، وأنّ المانع هو التعارض ، والمفروض أنّ ذلك لا يقول به هذان القائلان. أمّا القول الأوّل أعني القول بالتقدّم الرتبي فواضح ، لبقاء العلم الاجمالي بحاله. وأمّا على القول الثاني أعني سقوط قاعدة الفراغ في السجدة للعلم بعدم امتثال أمرها فكذلك ، ولا يمكنه ادعاء الانحلال وصيرورة المسألة من قبيل العلم التفصيلي السابق بنجاسة المعيّن ، وذلك لما قرّر في محلّه من [ أنّ ] العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يوجب انحلاله ، بل يلزم من انحلاله عدمه كما حقّق ذلك في مسألة عدم الانحلال العقلي في الشكّ بين الأقل والأكثر الارتباطيين (1).

نعم ، إنّهم في تلك المسألة التزموا بجريان البراءة الشرعية في الجزء المشكوك ، وادّعوا أنّها توجب انحلال العلم الاجمالي. ولا يخفى الفرق بين البراءة الشرعية هناك وبين مثل قاعدة الفراغ في الركن هنا ، لأنّ الأصل النافي هنا يراد إجراؤه في أحد طرفي العلم الاجمالي أعني فوت الركن ، بخلاف الأصل النافي هناك فإنّه إنّما يجري في الجزء المشكوك ، لا في تمام المركّب منه ومن

ص: 377


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 151 - 162 خصوصاً قوله رحمه اللّه في ص 160 : والعلم التفصيلي بوجوب الأقل ... وللمصنّف قدس سره حواش على المطلب تأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ص 271 وما بعدها.

غيره الذي هو طرف العلم الاجمالي الذي هو الأكثر.

أمّا دعوى رجوع قاعدة الفراغ في الركوع إلى إثبات وجوب قضاء السجدة كما ربما يستفاد ممّا حرّره الأُستاذ العراقي قدس سره في مسائل العلم الاجمالي ، وذلك قوله في بيان وجوب قضاء السجدة : لأنّ احتمال عدم وجوبها من جهة فساد الصلاة ، مدفوع بقاعدة التجاوز في الركوع كما لا يخفى (1) فكأنّه يجعل قاعدة التجاوز في الركوع مثبتة لوجوب قضاء السجدة ونافية لعدم وجوبها.

وأوضح من ذلك ما ذكره في ص 98 ، فإنّه بعد أن بيّن سقوط قاعدة التجاوز في السجدة بواسطة العلم بعدم الاتيان بها موافقة للأمر ، فلا يكون احتمال عدم وجوب قضائها مستنداً إلى وجودها على وفق الأمر ، بل يكون احتمال عدم وجوب قضائها مستنداً إلى فساد الصلاة من جهة احتمال فوت الركن ، قال ما هذا لفظه : فقاعدة التجاوز عن الركن يثبت الصحّة ويرفع احتمال فسادها المستتبع لعدم وجوب قضاء السجدة ، فيجب السجدة أو القضاء ، لأنّ شأن الأصل قلب نقيض الأثر بنقيض موضوعه الثابت بمثله (2).

وليته سلك في إثبات وجوب السجدة بما أفاده شيخنا قدس سره (3) من أنّ لقاعدة الفراغ في الركوع أثرين ، أوّلهما الاتيان بالركوع وهذا [ ساقط ] بالمعارضة مع قاعدة الفراغ في السجدة ، ويبقى أثرها الثاني وهو الصحّة ، وهذا يصحّح إجراء قاعدة الفراغ في السجدة.

ص: 378


1- روائع الأمالي في فروع العلم الإجمالي : 41 / 24.
2- المصدر المتقدّم الصفحة : 111.
3- راجع ما ينقله المصنّف قدس سره عن الدروس الفقهية للمحقّق النائيني قدس سره في الصفحة : 457 وما بعدها من هذا المجلّد.

وشيخنا قدس سره جاء بهذا الترتيب في قبال من أسقط قاعدة الفراغ في السجدة من جهة الطولية ، ونحن قد تأمّلنا في ذلك من جهات حرّرناها فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1).

لكن نقول : كان على شيخنا الأُستاذ العراقي قدس سره بعد أن صار بصدد تصحيح توجيه الأمر بالسجدة المتوقّف على صحّة الصلاة ، أن يقول إنّ الصلاة صحيحة ببركة قاعدة الفراغ في الركوع ، فهي تنفي وجوب الاعادة وتثبت وجوب السجدة.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أفاده في إثبات كون قاعدة الفراغ في الركوع مثبتة لوجوب السجدة ، لا يدفع الإشكال أعني إشكال إجراء الأُصول النافية في بعض الأطراف وإن كان الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت ، لأنّ ثبوت الاتيان بالركن استناداً إلى قاعدة الفراغ فيه لا يترتّب عليه ترك السجدة الموجب لقضائها إلاّ بالأصل المثبت ، وليس ذلك من قبيل البراءة عن الدين والاستطاعة ، فإنّ الأوّل هناك موضوع للثاني بخلافه هنا. ومع قطع النظر عن الاثبات نقول : إنّه غير دافع لإشكال إجراء الأصل النافي في أحد طرفي العلم الاجمالي ، لما قدّمنا من أنّ جريان الأصل المثبت في أحد الطرفين لا يوجب انحلال العلم ، كي يكون ذلك مجوّزاً لاجراء الأصل النافي في الطرف الآخر. بل وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّه ليس لنا إلاّ أصل واحد يكون مثبتاً للتكليف في أحد الطرفين ونافياً له عن الآخر ، إلاّ أن يكون أصلاً إحرازياً ليكون حاله في حلّ العلم الاجمالي كحال الأمارة التي تعيّن أحد الطرفين وتنفي الآخر.

لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ تجري مع العلم التفصيلي ، فكيف لا تجرونها مع

ص: 379


1- في الصفحة : 458 وما بعدها.

العلم الاجمالي.

لأنّا نقول : جريان القاعدة مع العلم التفصيلي مسلّم إلاّ أنّه مع العلم التفصيلي بالاشتغال ، لأنّه من جريان الأصل في وادي الفراغ مع العلم التفصيلي بالاشتغال ، والمطلوب فيما نحن فيه إجراؤها في وادي الفراغ مع العلم الاجمالي بعدم الفراغ.

وأمّا قياس اقتضاء قاعدة التجاوز إثبات التكليف في الطرف الآخر بأصالة البراءة من الدين القاضية بوجوب الحجّ ، كما ربما يستفاد ذلك من مقالة الأُستاذ العراقي قدس سره ، فإنّه بعد أن منع من إجراء الأُصول النافية في بعض أطراف العلم الاجمالي ، وأبطل القول المنسوب إلى الشيخ قدس سره من جعل البدل ، قال ما هذا لفظه : نعم ربما يرد في بعض الفروض مثل هذا الإشكال ، وهو ما لو كان التكليف في أحد الطرفين مشروطاً بعدم التكليف في الآخر ، فإنّه لا إشكال عندهم في جريان استصحاب العدم في الطرف الآخر ، وبه يثبت التكليف في طرفه ، مع أنّ المورد تحت العلم الاجمالي بأحد التكليفين ، المستلزم لعدم جريان الأصل النافي قبل إحراز المصداق أو الانحلال ، وحينئذ كيف يحرز الأصل المثبت بعموم الأصل النافي في الطرف الآخر.

ولكن يمكن الفرار عنه بإمكان كون النظر في الأصل النافي إلى مجرّد إحراز موضوع المثبت ووسيلة لجريان المثبت ، بلا نظر منه إلى إثبات عذر فيه ، وأنّ العذر إنّما يثبت بجريان المثبت ، وكأنّ في المقام نحو حيلة لإثبات الأُصول المثبتة ببركة الأصل النافي ، كما أنّه لو بنينا على حجّية الأُصول المثبتة أمكن إجراء هذه الحيلة في جميع الموارد ، ولكنّه كما ترى (1)

ص: 380


1- مقالات الأُصول 2 : 34 - 35.

ولا يخفى أنّ مسألة الدين والحج عند إجراء البراءة من الدين لا يكون في الطرف المقابل - أعني وجوب الحجّ - أصل مثبت للتكليف ، بل إنّ وجوب الحجّ يكون ثابتاً بواسطة تحقّق موضوعه ، الذي هو الاستطاعة وعدم اشتغال الذمّة بدين مقابل لما في يده من المال ، كما قاله في صدر كلامه من كون التكليف في أحد الطرفين مشروطاً بعدم التكليف في الآخر. وليت [ شعري ] كيف يعاهد من الأصل النافي بأن يقال له إنّ الغرض من إجرائك هو مجرّد الاثبات ، وبعد إثبات الطرف الآخر تعود فتكون محقّقاً للعذر ، هذه أُمور لا تخفى على الأُستاذ قدس سره ، وكأنّه لأجل ذلك قال : « ولكنّه كما ترى » بناءً على رجوعه إلى الجميع ، لا إلى خصوص قوله : « كما أنّه لو بنينا » فلاحظ.

وفي الحقيقة ليس أمثال هذه المقامات من قبيل العلم الاجمالي وإن كانت بصورته. ولو جمدنا على صورة المسألة وأنّها من قبيل العلم الاجمالي ، لقلنا إنّ هذا العلم الاجمالي مولّد من الشكّ في وجوب أداء الدين ، فإذا جرى الأصل النافي في الوجوب المذكور ارتفع العلم الاجمالي حتّى لو كان النافي هو البراءة ، بناءً على كون وجوب الحج تابعاً لعدم تنجّز وجوب أداء الدين ، كما أنّه لو جرى الأصل المثبت لوجوب أداء الدين ، سواء كان من قبيل الاستصحاب أو كان من قبيل أصالة الاشتغال ، كان ذلك كافياً في ارتفاع وجوب الحج الموجب لارتفاع العلم الاجمالي.

وبالجملة : ليس الشكّ في وجوب أداء الدين متولّداً من العلم الاجمالي ، بل ولا من قبيل الشكّ السابق على العلم الاجمالي أو المقارن له ، بل إنّ العلم الاجمالي هنا متولّد عن الشكّ في وجوب أداء الدين ، فإذا جرى الأصل في الشكّ المذكور ارتفع العلم الاجمالي وتعيّن أحد طرفيه ، فلو كان الأصل هو البراءة تعيّن

ص: 381

وجوب الحج ، وإن كان الأصل مثبتاً لوجوب الدين أو قاضياً بتنجّزه تعيّن وجوب أداء الدين ، وكان وجوب الحجّ منتفياً.

وأنت من هذا التقريب تعرف أنّه لا يتوجّه على البراءة في المقام أنّها خلاف الامتنان لأنّها توجب عليه الحج ، وذلك لما عرفت من كونها رافعة لوجوب أداء الدين وكفى بذلك منّة ، وإن كان ذلك أعني البراءة من وجوب الدين موضوعاً لوجوب الحجّ فكانت محقّقة لوجوب الحجّ ، فلاحظ وتدبّر.

لا يقال : قد ذكرتم أنّ العلم التفصيلي والأمارة والأصل الاحرازي في أحد الأطراف توجب انحلال العلم ، والاستصحاب هنا - أعني أصالة عدم الاتيان بالسجدة - يقوم مقام العلم التفصيلي بعدم الاتيان بها ، فيكون بمنزلة العلم التفصيلي بعدم الاتيان بها ، فينحلّ العلم الاجمالي ، فلا مانع من الرجوع في الطرف الآخر وهو الركوع إلى الأصل النافي وهو قاعدة الفراغ.

لأنّا نقول : نعم ولكن قلنا إنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يوجب انحلال العلم الاجمالي كما شرحوه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، والاستصحاب في هذا المقام - أعني أصالة عدم الاتيان بالسجدة - يكون جريانه في المقام متوقّفاً على الشكّ في الاتيان بها ، وهو - أعني الشكّ المذكور - متولّد من العلم الاجمالي ، حيث إنّ العلم الاجمالي بترك واحد من الأمرين المذكورين - أعني الركوع والسجدة - هو الموجب والعلّة في كون كلّ منهما مشكوكاً ، فيكون الاستصحاب المذكور متأخّراً رتبة عن العلم الاجمالي ، فلا يعقل انحلاله به ، كما لا يعقل انحلاله بالعلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي.

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده فيما تقدّم نقله عن المقالة يمكن انطباقه على ما نحن فيه ، من جهة أنّ التكليف بالسجدة مشروط بعدم وجوب الاعادة ،

ص: 382

وقاعدة الفراغ في الركوع لمّا كانت قاضية بعدم الاعادة ، كانت منقّحة لموضوع وجوب السجدة. لكن في تحرير الشيخ محمّد تقي البروجردي (1) فسّره بمسألة الدين ووجوب الحج.

وعلى كلّ حال ، نحن مع قطع النظر عن كلّ ما قدّمناه ، ومع تسليم أنّ أصالة البراءة أو قاعدة الفراغ في الركن توجب الإثبات في الطرف الآخر ، لم يكن ذلك مبرّراً لجريان البراءة ولا لقاعدة الفراغ في الركن ، لأنّ أقصى ما في البين هو إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مع كون الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت ، وينبغي ملاحظة المستمسك ج 5 ص 399 (2).

قوله : أمّا انتفاء الشاهد من ناحية الدليل فهو ممّا لا يكاد يخفى ، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الأُصول العملية إنّما يقتضي جريانه عيناً ... الخ (3).

غاية ما يمكن أن يوجّه به الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من المثال ، أعني قول المولى : أكرم العلماء ، مع قوله : لا تكرم زيداً ولا تكرم عمراً ، هو أنّه في المثال يوجد لنا دليل مجمل ، وهو الدليل الخاصّ الذي أخرج زيداً وعمراً عن العموم ، لتردّد الأمر فيه بين كون إخراج زيد وعمرو إخراجاً مطلقاً ، أو أنّ إخراج كلّ منهما مقيّد بعدم إكرام الآخر ، وهذه الجهة مفقودة فيما نحن فيه ، لأنّ المخرج لكلّ من طرفي العلم الاجمالي عن عموم الأصل النافي هو حكم العقل بالمنع عن المخالفة القطعية ، وهذا الحكم العقلي لا تردّد فيه بين الوجهين المذكورين.

ص: 383


1- نهاية الأفكار 3 : 315.
2- مستمسك العروة الوثقى 7 : 622 - 623.
3- فوائد الأُصول 4 : 31.

وفيه تأمّل ، فإنّ تلك الخصوصية - أعني كون الدليل الخاصّ لفظياً وكونه مجملاً - أجنبية عن كون المقام من قبيل التخصيص أو من قبيل التقييد ، لما هو واضح من أنّه بعد البناء على أنّ عموم الأصل النافي شامل في حدّ نفسه لكلّ واحد من الطرفين ، وأنّ الحكم العقلي لا يمنع إلاّمن اجتماع الطرفين في الدخول تحت ذلك العموم ، وحينئذ نقول : إنّ الفرار عن ذلك اللازم الذي منعه العقل وهو المخالفة القطعية كما يحصل بما ذكرتموه من التعارض وإسقاط العموم في كلّ واحد من الطرفين إسقاطاً مطلقاً ، فكذلك يحصل بتقييد إجراء العموم في كلّ منهما بعدم إجرائه في الطرف الآخر.

وبعبارة [ أُخرى ] أنّ التخلّص عن المخالفة القطعية كما يحصل باخراج كلّ من الطرفين عن العموم ، الذي هو عبارة عمّا ذكرتموه من التعارض والتساقط ، فكذلك يحصل التخلّص المذكور بإخراج كلّ منهما عن العموم مقيّداً باجراء العموم في الآخر ، وحيث إنّه قد دار الأمر بين إخراج كلّ من الطرفين إخراجاً مطلقاً ، أو إخراج كلّ منهما مقيّداً باجراء العموم في الآخر ، فلا ريب أنّ مقتضى أصالة العموم هو تعيّن الثاني للتخلّص من المخالفة القطعية ، لأنّ الوجه الثاني أقلّ تخصيصاً من الأوّل.

وبعبارة أُخرى : أنّا لو أسقطنا العموم في الاناء الصغير مثلاً ، نشكّ في شمول العام للاناء الكبير ، ولا ريب أنّ مقتضى أصالة العموم هو شموله له ، والقدر المتيقّن من خروج الاناء الكبير عن ذلك العموم إنّما هو عند إجراء العموم المذكور في الاناء الصغير. وهكذا الحال من طرف العكس.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أُفيد من منع جريان الطريقة الثانية ،

ص: 384

فإنّ ما اشتمل عليه التقرير المذكور (1) وكذا التقرير المطبوع في صيدا (2) ممّا حاصله امتناع الحكم الظاهري فيما نحن فيه ثبوتاً ، وأنّه لا دليل على التخيير الخ ، لعلّه راجع إلى أنّ نفس العلم الاجمالي مانع من جريان [ الأصل ] ، لا أنّ التعارض هو المانع. وكذا ما حرّرناه عنه قدس سره من أنّ نفس المجعول في الأُصول النافية لم يكن مشروطاً بالقدرة ، وأنّه لو سلّمنا كونه مشروطاً بها فليس إجراء الأصل في أحد الطرفين موجباً لسلب القدرة عن إجرائه في الطرف الآخر ، كلّ ذلك ممّا لم أتوفّق لفهمه ، إذ ليس المدار في التخيير في باب التزاحم على مسألة القدرة وعدمها ، بل إنّ الأمر أوسع من ذلك ، فإنّا لو بنينا على أنّ الممنوع ليس هو إجراء الأصل النافي في هذا الطرف واجراءه في الطرف الآخر ، بل الممنوع هو الجمع بينهما ، لأنّه موجب للمخالفة القطعية ، فهذه الجهة - أعني المخالفة القطعية - إنّما هي وليدة الجمع بين الأصلين ، ومن الواضح أنّ الجمع بين الأصلين لم يتولّد من نفس إجراء الأصل في هذا واجرائه في ذاك ، وإنّما هو - أعني الجمع - متولّد من إطلاق كلّ من الأصلين ، فإذا كان إسقاط الاطلاقين كافياً في دفع هذه الغائلة ، فأي داع إلى إسقاط نفس الأصلين في كلّ من الطرفين ، فتأمّل.

فيكون حال ما نحن فيه في كيفية توليد التخيير حال ما أفاده قدس سره في مسألة المتزاحمين في باب الترتّب ، من أنّ الممنوع وهو التكليف بغير المقدور هو وليد الجمع بين الأمرين ، والجمع بينهما وليد بقاء إطلاق كلّ من الخطابين ، وإذا أسقطنا الاطلاق من كلّ منهما ارتفع المحذور المذكور ، وبذلك ردّ على القائلين بسقوط التكليفين واستكشاف خطاب جديد تخييري بينهما ، فراجع وتأمّل.

وبالجملة : أنّ التخيير بين الشيئين نتيجة قهرية لما يكون مانعاً عن الجمع

ص: 385


1- فوائد الأُصول 4 : 31 ، أجود التقريرات 3 : 419.
2- فوائد الأُصول 4 : 31 ، أجود التقريرات 3 : 419.

بينهما في الدخول تحت عام من العمومات ، من أيّ مقولة كان الشيئان ، ومن أي مقولة كان المانع من الجمع بينهما. وليس المراد من التخيير بينهما هو لزوم أحدهما ، بل هو أعم منه ومن تركهما فتأمّل.

وإن شئت قلت : إنّ الفرار من لزوم المخالفة القطعية الحاصلة من إبقاء كلّ من طرفي العلم الاجمالي تحت عموم الأصل النافي يحصل بأحد أُمور ثلاثة : الأوّل : إسقاط العموم ابتداءً في كلّ منهما وإخراجهما معاً عن ذلك العموم. الثاني : تقييد العموم في كلّ منهما بعدم إجرائه في الآخر. الثالث : إخراج واحد وإبقاء الآخر.

ولا مجال للأوّل ، لأنّه إسقاط للعموم في أحدهما بلا وجه. وحينئذ يدور الأمر بين الثاني الذي هو عبارة عن التخيير في اجراء العموم بينهما ، والثالث الذي يكون حاصله التساقط ببرهان أنّه لا معنى لخروج أحدهما غير المعيّن ، والتعيين ترجيح بلا مرجّح ، فيحصل التساقط. ونحن لو لم نرجّح الثاني على الثالث ببرهان تقدّم التقييد على التخصيص ، فلا أقل من التساوي بين الاحتمالين ، فتكون النتيجة هي التخيير العقلي ، وبذلك يحصل الفرار من المحذور الذي هو المخالفة القطعية ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه النظرية يمكن إعمالها في تعارض الخبرين ، ويكون شمول عموم دليل الحجّية لكلّ منهما الذي نتيجته الحكم بحجّية كلّ منهما ممنوعاً عقلاً ، لتكاذبهما وعدم إمكان تصديقهما ، فيتولّد من ذلك عدم إمكان الجمع بينهما في الحجّية ، فيحكم بخروج أحدهما عن الحجّية الذي يكون نتيجته التساقط ، أو تقييد شمول دليل الحجّية لكلّ منهما مقيّداً بعدم الآخر وهو ينتج التخيير.

ص: 386

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة لا يرد عليها أنّه قبل إجراء الحكم في كلّ منهما يكون القيد لكلّ منهما حاصلاً ، فيكون اللازم هو فعلية الترخيص فيما نحن فيه بالنسبة إلى كلّ منهما ، فيعود محذور الترخيص في المعصية. والجواب عنه هو الجواب عن إشكال الأمر بالضدّين في الترتّب من جهة واحدة أو من الجهتين عند التساوي ، من أنّ المشروط لا ينقلب مطلقاً عند تحقّق شرطه ، فراجع (1). والعجب ممّن منع من الترتّب بدعوى بقاء محذور الأمر بالضدّين ، كيف أفاد في هذا المقام ما أفاده من إمكان التقييد في الترخيصين.

والحاصل : أنّ هذه القاعدة جارية في كلّ شيئين قام الدليل على عدم الجمع بينهما ، فتشمل باب تعارض الخبرين وباب التزاحم وباب تعارض الأُصول ، سواء كان الموجب لتعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما هو لزوم المخالفة القطعية ، أو كان هو المناقضة للإحراز الوجداني بخلافهما ، كما في مثل استصحابي النجاسة على ما أفاده شيخنا قدس سره في الأُصول الاحرازية الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، أو على ما عن الشيخ قدس سره من كون المانع هو المخالفة الالتزامية.

بل إنّ هذه القاعدة جارية حتّى في مثل حرمة الجمع بين الأُختين في قبال عموم قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) بالنسبة إلى كلّ واحدة منهما ، فإنّه بناءً على الالتزام في مثل ذلك بخروج أحد الفردين تكون النتيجة هي التعارض والتساقط ، ولم يلتزم به أحد في ذلك ونحوه من موارد حرمة الجمع ،

ص: 387


1- أجود التقريرات 2 : 57 ( المقدّمة الثانية ) و 80 وما بعدها. وراجع أيضاً المجلّدالثالث من هذا الكتاب ص 379 وما بعدها.
2- النساء 4 : 3.

بل التزموا بالتخيير المبني على التصرّف في العموم الأحوالي ، لتكون النتيجة هي جواز نكاح كلّ منهما مقيّداً بعدم نكاح الأُخرى.

نعم ، في تعارض الخبرين خصوصية توجب كونه من قبيل التساقط لا التخيير ، وتلك الخصوصية هي ما أشار إليه في الكفاية بقوله : فصل ، التعارض وإن كان لا يوجب إلاّسقوط أحد المتعارضين عن الحجّية رأساً ، حيث لا يوجب إلاّ العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجّية الآخر ، إلاّ أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً الخ (1) وتلك الخصوصية هي أنّ المقام ليس من قبيل مجرّد منع الجمع ، بل إنّ علّة منع الجمع في الحجّية بينهما هو العلم بأنّ أحدهما غير مطابق للواقع ، فلا يشمله دليل الحجّية ، فيكون دليل الحجّية مقصوراً على الآخر ، وحيث إنّه لا معنى لحجّية أحدهما المبهم ، ولا دليل على التعيين لكونه حينئذ ترجيحاً بلا مرجّح ، وقع التعارض بينهما والتساقط ، مع الاحتفاظ بحجّية أحدهما بالمقدار الذي يترتّب عليه من نفي الثالث ، فيكون نفيه به لا بهما.

وهذا المعنى لو تمّ يجري في باب الأُصول أيضاً ، إذ لا ريب في عدم شمول دليل حجّية الأصل لما علم كونه غير مطابق للواقع حتّى الاحتياط ، ومن المعلوم أنّه عند العلم الاجمالي يكون أحد الأصلين غير مطابق للواقع ، فلا يشمله دليل ذلك الأصل ، وحينئذ ينتهي الأمر إلى التساقط.

ولكن يمكن المناقشة في هذا المبنى ، فإنّ الخبر الجامع لشرائط الحجّية محكوم بأنّه حجّة بأصالة العموم في دليل الحجّية ، والعلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين لا أثر له بالنسبة إلى كلّ واحد منهما بخصوصه ، إلاّ الشكّ في كونه هو الغير المطابق ، فيكون ذلك العلم الاجمالي محقّقاً لكون كلّ منهما موضوعاً

ص: 388


1- كفاية الأُصول : 439.

للحجّية ، فإنّ موضوعها هو ما لم يعلم مطابقته ، إلاّعلى تلك الشبهة التي تقدّم الكلام عليها وهي الشبهة المصداقية ، بدعوى الشكّ في كلّ منهما أنّه مصداق ذلك المعلوم مخالفته للواقع ، وقد عرفت أنّه لا يتصوّر الشكّ في المعلومية.

وليس المقام من قبيل دوران الأمر بين الحجّية وغيرها ، لأنّ ذلك في غير هذه الصورة ، أعني صورة العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع ، وتلك الصورة فيما إذا علم أنّ أحد الخبرين غير حجّة لجهة أُخرى ، مثل أن يكون أحدهما فاقداً لشرائط الحجّية واشتبه بغيره ممّا هو جامع لها ، بأن علم بأنّ الراوي لأحد الخبرين كان فاسقاً واشتبه بغيره الذي كان راويه عادلاً ، سواء كان مؤدّاهما واحداً أو كان مؤدّاهما مختلفاً ، بأن كان أحدهما في باب الطهارة مثلاً والآخر في باب المواريث ، فيكون التمسّك بدليل الحجّية في كلّ منهما تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية في ناحية العام بعد اعتبار شرائط الحجّية فيه أعني خبر العادل مثلاً.

ومثل ذلك ما لو علم بأنّ أحد هذين الخبرين الوارد أحدهما في باب الطهارة والآخر في باب المواريث كاذب ، مع كونه في حدّ نفسه واجداً لشرائط الحجّية ، فإنّ الظاهر أنّه من قبيل اشتباه الحجّة باللاّحجّة لا من قبيل التعارض ، وإن أمكن جعله من باب التعارض بدعوى عدم الفرق فيه بين كون العلم بكذب أحدهما ناشئاً عن تكاذبهما ، أو كونه ناشئاً عن اتّفاق العلم بأنّ أحدهما كاذب ، فتأمّل.

واعلم أنّ الأصل في هذا المطلب الذي أفاده في الكفاية هو ما أفاده الشيخ قدس سره ، فإنّه بعد أن أفاد أنّ مقتضى القاعدة هو التخيير قال : لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية - إلى أن قال - أمّا لو جعلناه من باب

ص: 389

الطريقية كما هو ظاهر أدلّة حجّية الأخبار بل غيرها من الأمارات ، بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة إيصاله إلى الواقع ، فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً ، فلا يكونان طريقين إلى الواقع ، ولو فرض محالاً إمكان العمل بهما ، كما يعلم إرادته لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع - إلى أن قال - فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجّية لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما ( يعني مصلحة الإيصال إلى الواقع في كلّ منهما ) بحيث لو أمكن الجمع بينهما أراد الشارع إدراك المصلحتين ، بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّد بعدم معارضته بمثله ، ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقّف ، فراجعه - إلى قوله قدس سره - هذا ما تقتضيه القاعدة في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقية (1).

ولا يبعد أنّ مطلب الكفاية مأخوذ من قوله : للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً. لكن العبارة مشتملة على مطلب آخر لعلّه هو السبب في دعوى عدم إرادة الشارع لكلّ منهما ، وهو وحدة الملاك الذي هو الوصول إلى الواقع ، حتّى أنّ المكلّف لو أمكنه العمل بهما معاً فالشارع لا يريد إلاّ أحدهما.

ولا يخفى أنّا لو نظرنا إلى الجهة الأُولى وهي العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع ، كانت هذه الجهة جارية في الأُصول المتعارضة في باب العلم الاجمالي ، للعلم بأنّ أحدها خارج عن دليل حجّية الأُصول ، للعلم بأنّ أحدها مخالف للواقع. ولو نظرنا إلى الجهة الثانية كانت غير جارية في الأُصول المذكورة ،

ص: 390


1- فرائد الأُصول 4 : 37 - 39.

لإمكان إرادة الشارع الأصلين معاً لو أمكن العمل بهما ولم يلزم من الجمع بينهما محذور المخالفة القطعية ونحوه ، والفرق هو وحدة المؤدّى في الخبرين المتعارضين على وجه نعلم أنّ الشارع لا يريد إلاّ أحد الطريقين ، بخلاف الأُصول في باب العلم الاجمالي فإنّ المؤدّى فيها متعدّد ، على وجه يمكن للشارع إرادة الجميع لو أمكن الجمع بينها. نعم لو كان المؤدّى والمورد واحداً في باب الأُصول كما في مسألة تعاقب الحالتين على شيء واحد بالطهارة والنجاسة مثلاً ، كان حال الأصلين في هذه الجهة حال الخبرين المتعارضين ، فتأمّل.

وكيف كان ، فحيث تحقّق أنّه في مسألة تعارض الخبرين لا يكون لنا إلاّ طريق واحد ، ولو من جهة القطع بأنّ الشارع لم يجعل لتلك الواقعة الواحدة طريقين مختلفين ، لا تكون المسألة منتهية إلى احتمال تقييد كلّ من الطريقين بعدم الآخر كي يتولّد من ذلك التخيير بينهما ، بل لا تكون المسألة إلاّمن باب التعارض والتساقط ببرهان عدم معقولية حجّية أحدهما غير المعيّن ، والتعيين ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان ، وهو الذي أراده الشيخ قدس سره بقوله : ومن هنا يتّجه الحكم حينئذ بالتوقّف - إلى قوله - فيتساقطان من حيث جواز العمل الخ (1).

وقد أجاب المرحوم الأُستاذ العراقي قدس سره عن إجراء هذه القاعدة في تعارض الخبرين - بعد أن سجّلها في تعارض الأُصول بناءً على الاقتضاء ص 12 وص 70 من مقالته (2) - باباء الاطلاق عن مثل هذا التقييد لعدم معهوديته ، فراجع ما أفاده في بيان هذا الجواب في ص 192 (3)

ص: 391


1- فرائد الأُصول 4 : 38 - 39.
2- مقالات الأُصول 2 : 34 و 194.
3- مقالات الأُصول 2 : 469 - 470.

ثمّ إنّه قد تقدّم في هذا التحرير :

قوله : فمن الأوّل ما إذا ورد عام كقوله : أكرم العلماء ، وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على وجه الاطلاق ... الخ (1).

ولا يخفى أنّه لو كان الشكّ بهذه الصورة التي أفادها ، يكون المتعيّن هو التخيير في قبال الحكم بخروجهما معاً ، وحينئذ يخرج عمّا هو محلّ الكلام من الدوران بين التخيير والتعارض ، ولو أردنا جعله ممّا نحن فيه لابدّ لنا من فرض المسألة بصورة أُخرى ، بأن نفرض حصول العلم بأنّ المولى لا يريد الجمع في الاكرام بين زيد وعمرو ، فإن كان الخارج هو أحدهما كانت النتيجة هي معارضة العام في كلّ منهما به في الآخر ، لأنّ إخراج مفهوم أحدهما لا محصّل له ، وإخراج زيد دون عمرو أو العكس ترجيح بلا مرجّح ، فتكون النتيجة هي التعارض في العام بالنسبة إلى كلّ منهما والتساقط والرجوع في كلّ منهما إلى الأُصول ، نظير ما لو كان الخارج هو زيداً وتردّد بين شخصين بالشبهة المفهومية أو بالشبهة المصداقية. وإن كان الخارج هو كلاً منهما في حال الإقدام على إكرام الآخر ، كانت النتيجة هي التخيير ، ثمّ نرجّح الطريقة الثانية لكون التخصيص فيها أحوالياً على الأُولى لكون التخصيص فيها أفرادياً.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ القول بالتساقط في المثال الآتي - أعني مثال عدم القدرة - إنّما هو مبني على التخصيص الأفرادي في أحد الغريقين ، والقول بالتخيير فيه إنّما هو مبني على الأخذ بالتخصيص الأحوالي.

ثمّ لا يخفى أنّ التخصيص الأحوالي إنّما يقدّم على الأفرادي فيما لو دار

ص: 392


1- فوائد الأُصول 4 : 29.

الأمر في شخص واحد أنّه خرج بقول مطلق ، أو أنّه خرج في حال خاصّة دون جميع الأحوال. أمّا ما نحن فيه من الدوران بين شخصين ، الناشئ عن مجرّد عدم إمكان الجمع بينهما في الدخول تحت العام ، فلا يكون من هذا القبيل ، بل هو من قبيل الدوران بين التخصيص الأحوالي في كلّ منهما وبين التخصيص الأفرادي في أحدهما ، فيكون من قبيل دوران الأمر بين تخصيصين أحواليين وبين تخصيص واحد أفرادي وارد على أحدهما. نعم لنا أن نقول : إنّ ذلك الواحد الذي قد خرج يكون خروجه مردّداً بين الخروج المطلق ، أو الخروج في خصوص حال إجراء حكم العام في الآخر ، والمتعيّن هو الثاني ، لكن ذلك لا يخرجه عن كونه من الترديد بين تخصيص واحد أفرادي وبين تخصيصين أحواليين.

ثمّ لا يخفى أنّ التخصيص الواحد الأفرادي لم يكن عبارة عن إخراج أحدهما ولو معيّناً مطلقاً ، بل هو إخراج لأحدهما مع إبقاء الآخر ، فلو قلنا إنّ الخارج عن هذا العموم هو الآنية الكبرى مثلاً مع إبقاء الصغرى تحت هذا العموم كان محصّله هو الامتناع عن الكبرى عند إجراء العموم في الصغرى ، فيكون الحاصل هو إخراج الكبرى عن العموم مقيّداً باجراء العموم في الصغرى وارتكابها ، فلا يكون ذلك إخراجاً للكبرى بقول مطلق ، بل هو إخراج لها في حال ارتكاب الصغرى ، فتكون النتيجة متّحدة مع التخصيص الأحوالي في قلّة التخصيص ، فإذا أجرينا عملية التخصيص الأحوالي من الجهتين ، كان التخصيص فيها أكثر منه في الحكم بإخراج أحدهما وإبقاء الآخر ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ خروج كلّ منهما يكون مقيّداً ببقاء الآخر ، أو نقول إنّ بقاء كلّ منهما تحت العموم يكون مقيّداً بإخراج الآخر ، فإنّ الحكم بكون بقاء الكبرى تحت

ص: 393

العموم مثلاً مقيّداً بإخراج الصغرى لازمه أنّ الكبرى خارجة عن العموم عند بقاء الصغرى تحته ، وهكذا الحال من طرف العكس ، وحينئذ تكون النتيجة أنّ كلاً منهما خارجة عن العموم عند العمل به في الأُخرى ، وذلك أكثر تخصيصاً فيما لو تخلّصنا عن محذور الجمع بإخراج أحدهما فقط وإبقاء الآخر ، فراجع ما في المقالة ص 12 وص 70 (1).

والإنصاف : أنّ إقحام احتمال إخراج أحدهما هو الذي أوجب الإشكال في المسألة ، ولا محصّل لاخراج الواحد الكلّي بمعنى مفهوم الواحد ، ولا الواحد الشخصي المردّد نظير النكرة على رأي صاحب الفصول (2) ، ولا الواحد الشخصي المعيّن ، إذ لا دليل على ذلك ، وليست المسألة إلاّمن وادي قيام الدليل العقلي أو النقلي على عدم الجمع في ذلك الحكم المستفاد من العام في الشخصين ، وهذا الجمع إنّما ينشأ عن إطلاق الحكم في كلّ منهما ، فيكون الساقط هو الاطلاق المزبور ، وتكون النتيجة هي التخيير في تمام موارد هذا الضابط إلاّباب تعارض الخبرين ، للعلم الخارجي بأنّه ليس لمجرّد عدم إمكان الجمع ، بل إنّه لعدم كون المجعول إلاّ أحدهما كما أشار إليه الشيخ قدس سره (3) ، فتأمّل.

وكيف كان ، فهذه الجهة إن كانت هي المولّدة للتخيير فهي موجودة في أطراف العلم الاجمالي ، وإن كان المولّد للتخيير هو ما ذكره الأُستاذ العراقي قدس سره من تقدّم التخصيص الأحوالي على التخصيص الأفرادي ، كان ذلك أيضاً موجوداً في أطراف العلم الاجمالي.

ص: 394


1- مقالات الأُصول 2 : 34 و 194.
2- الفصول الغروية : 163.
3- فرائد الأُصول 4 : 38.

ثمّ إنّ التعارض على تقدير القول بإخراج أحدهما وبقاء الآخر إنّما جاء من قبل كون إجراء العموم في هذا بعينه ترجيحاً بلا مرجّح ، وهذا بعينه متأت على تقدير التقييد ، بأن نقول بأنّه يجوز ارتكاب كلّ منهما عند الاجتناب عن الآخر ، فإنّ أيّ واحد منهما يريد أن يجعله مورداً للعموم وجواز الارتكاب يكون اختياره ترجيحاً بلا مرجّح. نعم في مثل الغريقين لابدّ من الاختيار ، للوجوب الموجود في البين المانع من إسقاطهما ، بخلاف أحد طرفي العلم الاجمالي بالحرمة في البين فتأمّل.

وأمّا مسألة الجمع بين الأُختين فليس المانع هو عدم إمكان الجمع عقلاً ، بل هو حرمة الجمع شرعاً ، وهي عبارة أُخرى عن الحكم الشرعي بأنّه يجوز له العقد على الواحدة المعيّنة منهما عند عدم العقد على الأُخرى ، وأنّ الحرام هو العقد عليها في ظرف كون الأُخرى معقوداً عليها ، فلا تنتهي النوبة فيه إلى الترجيح بلا مرجّح ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّه تقدّم لشيخنا قدس سره عبارة في كيفية التعارض في الأُصول حاصلها : أنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدّ سواء ، ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنّه يلزم المخالفة القطعية ، ولا في الواحد المعيّن لأنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولا في الواحد لا بعينه لأنّ الأُصول إنّما تجري في كلّ طرف بعينه ، ومقتضى ذلك هو سقوط الأُصول بالنسبة إلى جميع الأطراف (1).

وهذا المفاد هو عبارة عن كيفية التعارض والتساقط بين المتعارضين ، سواء كانا من الأُصول العملية في أطراف العلم الاجمالي ، أو كانا من قبيل الأخبار ، أو كانا من سائر الأمارات. ولعلّه هو المراد أيضاً من عبارة الكفاية التي تقدّم نقلها

ص: 395


1- فوائد الأُصول 4 : 25.

أعني قوله : لم يكن واحد منهما حجّة في خصوص مؤدّاه ، لعدم التعيين في الحجّية أصلاً الخ (1) ، فإنّ عدم حجّية كلّ منهما في خصوص مؤدّاه لعدم إمكان الجمع ، فلابدّ أن يكون الحجّة هو أحدهما ، وحيث إنّ تعيينه في أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، فترجع النوبة حينئذ إلى التعارض والتساقط.

ولا يخفى أنّ هذه الجمل هل يجريها الشارع في مقام جعله الحجّية عندما يلقي نظره على الخبرين المتعارضين ، فلا يمكنه جعل كلّ منهما حجّة ، ولا يمكنه جعل أحدهما غير المعيّن لكونه بلا فائدة ، ولا أحدهما المعيّن لكونه ترجيحاً بلا مرجّح ، وتنتهي هذه المحاسبات إلى عدم الجعل ، وحينئذ يكون المتعارضان ساقطين عن الحجّية أصلاً ، ولا يكون دليل الحجّية شاملاً لشيء منهما ، ولا معنى حينئذ للتعارض والتساقط. وإن كان الذي يجري هذه الحسابات هو المكلّف ، فلابدّ في إجرائها من إحراز جعل شيء شرعي ، ويكون المكلّف في مقام العمل بذلك المجعول مجرياً لهذه الحسابات ، وذلك المجعول الشرعي لابدّ أن يكون هو حجّية أحدهما ، نظير الوجوب التخييري الذي يرد على أحد الواجبين ، فيقول المكلّف إنّ تلك الحجّية المجعولة شرعاً لأحد الخبرين لا يمكن أن أُطبّقها على كلّ واحد منهما ، ولا على الواحد المعيّن لكونه بلا مرجّح ، فيتعارضان ويتساقطان.

ولا يخفى أنّه لو كان المجعول هو الحجّية لأحدهما الكلّي ، كان محصّله هو الحجّية لكلّ منهما عند عدم تطبيقها على الآخر ، وحينئذ يكون حجّية أحد الخبرين وعدم حجّية الآخر متّحداً في المآل مع القول بكون حجّية كلّ منهما مقيّداً بعدم إعمال الآخر. وعلى كلّ حال ، فبواسطة بطلان الترجيح بلا مرجّح

ص: 396


1- كفاية الأُصول : 439.

تنتهي المسألة إلى التعارض والتساقط ، هذا بناءً على ما يظهر منه قدس سره في العبارة السابقة في باب الأُصول في أطراف العلم الاجمالي.

وكذلك بناءً على ما يظهر من الكفاية بل ومن الشيخ قدس سره في أنّ المجعول هو حجّية أحدهما. نعم لو قلنا بأنّ المجعول شرعاً هو حجّية كلّ خبر ، نظير أنقذ كلّ غريق ، والمكلّف في مقام العمل لم يقدر على الجمع ، فالنتيجة حينئذ هي حكم العقل بالتخيير ، وحيث لا ملزم باختيار أحدهما المعيّن يكون الحكم به ترجيحاً بلا مرجّح ، وترجع المسألة إلى التعارض والتساقط.

وخلاصة البحث : أنّه لا فرق بين الالتزام بكون الخارج هو أحدهما مع بقاء الآخر ، وبين الالتزام بكون بقاء كلّ منهما تحت العموم مقيّداً بإخراج الآخر ، أمّا من جهة قلّة التخصيص فلما عرفت من أنّ الأمر فيها بالعكس ، وأنّ طريقة التقييد أكثر إخراجاً من طريقة إخراج أحدهما وابقاء الآخر ، وأمّا من جهة التعارض والتساقط لأجل الترجيح بلا مرجّح ، فلما عرفت من لزوم ذلك على الطريقة الثانية.

نعم ، لو كان هناك دليل شرعي دلّ على التخيير كما في قوله عليه السلام : « إذن فتخيّر » (1) وكما دلّ على التخيير بين الأُختين ، لزم الجري على طبقه ، ولا يكون من قبيل الترجيح بلا مرجّح. وكذلك الحال فيما لو كان العموم متضمّناً لحكم إلزامي ، فإنّ الالزام الشرعي ولزوم الاختيار يخرج المورد عن قبح الترجيح بلا مرجّح. وهكذا الحال في الملزم العقلي كما في طريقي الفار من الأسد ، وكما في رغيفي الجائع فتأمّل.

نعم ، في باب تعارض الأخبار بل مطلق الأمارات يمكن التخلّص عن

ص: 397


1- مستدرك الوسائل 17 : 303 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 2.

التعارض بأن يقال : إنّ دليل الحجّية لا يشمل المتعارضين منها ، فيسقطان معاً فيما تعارضا فيه ، وإن أمكن إعمالهما في نفي الثالث ، وحينئذ يكون التخيير بينهما عند التساوي على خلاف القاعدة ، ويبقى الإشكال في الترجيح ، ولا يبعد القول [ بأنّه ] على خلاف القاعدة أيضاً.

والخلاصة : هي أنّه ربما ابتلي العام بفردين لا يمكن إعماله فيهما معاً عقلاً كما في الغريقين ، بل وكما في الخبرين المتعارضين بناءً على السببية بالنسبة إلى عموم دليل الحجّية ، بل على الطريقية الصرفة أيضاً ، وعدم إمكان الجمع قد يكون عقلياً كما في الأمثلة المذكورة ، وقد يكون شرعياً كما في الأُختين بالنسبة إلى عموم ( ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (1). كما أنّه ربما كان عدم الامكان في فردين لعامين مثل إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة ، فإن قلنا في أمثال ذلك بأنّ المرجع هو أحدهما ، لزم الترجيح بلا مرجّح فيتعيّن التساقط. وإن قلنا بمقالة شيخنا قدس سره من أنّ الجاري كلّ واحد منهما مقيّداً بعدم الآخر ، كان الحال كذلك ، لأنّه قبل الاجراء في واحد معيّن يتنجّز كلّ منهما لتحقّق شرطه ، وإن لم ينقلب عن الاشتراط إلى الاطلاق ، وحينئذ فإن أعمل المكلّف أحدهما المعيّن كان ذلك رافعاً لموضوع الآخر ، فيرد عليه أنّ اختيار هذا للعمل وجعل العمل به رافعاً لموضوع الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فلِمَ لا تختار الآخر وتعمل به ليكون العمل به رافعاً لموضوع هذا ، وبعد الانتهاء إلى الترجيح بلا مرجّح يكون الأمر منتهياً إلى التساقط.

هذا بحسب مقتضى القاعدة في كلّ ما لا يمكن الجمع فيه ، إلاّفي موردين : أحدهما أن يكون المورد مورد وجوب حتمي مثل الغريقين ومثل الازالة

ص: 398


1- النساء 4 : 3.

والصلاة ، فإنّ العقل يحكم بعدم جواز تركهما ، ومع حكمه بعدم جواز تركهما يحكم عليه بالتخيير في اختيار أحدهما ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في رغيفي الجائع ، ويكون التخيير عقلياً. الثاني أن يكون هناك تعبّد شرعي بالتخيير كما في مثل الأُختين ، وكما في الخبرين المتعارضين على كلّ من السببية والموضوعية لحكم الشارع بالتخيير بقوله عليه السلام : « إذن فتخيّر » أمّا إذا لم يكن في البين ما يوجب التخيير العقلي ، ولا ما يوجب التخيير الشرعي ، فالقاعدة تقتضي التساقط كما في تعارض الأُصول ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما أُفيد (1) من الجواب عن النقض بما لو كان أحد الطرفين الذي هو الاناء الصغير مثلاً مجرى لاستصحاب الطهارة وكان الآخر مجرى لقاعدة الطهارة ، بأنّ المعارضة إنّما تقع بين الحكم بطهارة الاناء الصغير بجميع مراتبها ، وبين الحكم بطهارة الاناء الكبير ، فيكون الساقط هو الحكم بالطهارة في كلّ من الاناءين (2) ، فهو أيضاً قابل للتأمّل ، لما هو واضح من أنّ الأصل الحاكم يوجب رفع موضوع الأصل المحكوم ، ففي مرتبة الأصل الحاكم لا يكون الحكم الناشئ عن الأصل المحكوم متحقّقاً ، كما يتّضح فيما لو كان الأصل الحاكم مخالفاً في الحكم للأصل المحكوم. وإذا تحقّق أنّ الحكم الناشئ عن الأصل المحكوم غير موجود في مرتبة الأصل الحاكم ، نقول إنّ المعارضة إنّما تقع بين الطهارة الاستصحابية في الاناء الصغير مع الطهارة في الاناء الكبير ، ولا تنوجد الطهارة التي موضوعها

ص: 399


1- فوائد الأُصول 4 : 47 - 49.
2- قد يتوجّه النقض على ذلك بالرجوع إلى قاعدة الطهارة فيما لو تعاقبت الحالتان الطهارة والنجاسة ، وقد أجبنا عن ذلك في التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب [ منه قدس سره ، راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، صفحة : 238 وما بعدها ].

الشكّ إلاّبعد سقوط الطهارة التي موضوعها الاستصحاب ، الذي هو في مرتبة سقوط الطهارة في الاناء الكبير ، وفي هذه المرتبة لا يتوجّه على أصالة الطهارة في الاناء الصغير أنّها موجبة للمخالفة القطعية ، لأنّ ذلك إنّما يتوجّه على تقدير ارتكابهما معاً ، ومن الواضح أنّ المورد بالنقض لا يريد ذلك ، بل يريد أنّه لا ريب في أنّه لا تجوز المخالفة القطعية ، لكنّه يقول إنّه على مسلككم من أنّ سقوط الأصل في كلّ واحد من الأطراف إنّما يكون بالمعارضة ، وأنّ ذلك هو المستند في لزوم الموافقة القطعية ، لا يتمّ في مثل الفرض المذكور ، إذ لا معارضة فيه ، فيلزم على مسلككم أن يجوز ارتكاب الاناء الصغير وإن لم يجز ارتكاب الكبير أيضاً.

وقد اختلفت التقارير فيما ينقلونه عن الأُستاذ قدس سره في كيفية الجواب عن هذا النقض ، ففي بعضها يظهر منه تسليم أنّه لو فرض كون بعض الأطراف مجرى للأصل النافي والبعض الآخر لا أصل فيه ، لكان الحكم فيه هو جواز ارتكاب ما فيه الأصل ، غايته أنّه فرض محال ، وأنّ هذا الفرض الذي وقع به النقض ليس من هذا القبيل ، لأنّ الطهارة بجميع مراتبها معارضة بالطهارة في الطرف الآخر.

وفي بعض التقارير لم يتعرّض لأنّه لو فرض هذا المحال ماذا يكون حكمه ، بل اقتصر على الجواب عن النقض المذكور بما ذكر من أنّه ليس من هذا القبيل ، وزاد عليه بأنّه لو سلّمنا كونه من هذا القبيل لأمكن جواز الارتكاب في الاناء الصغير ، فراجع التقرير المطبوع في صيدا (1) ، فإنّ الظاهر أنّ جميع ما أُفيد فيه في كيفية الجواب عن النقض المذكور لا يخرج عن كونه تمسّكاً بالعلم الاجمالي ، وهو خلاف الفرض ، لأنّ المفروض هو أنّ مسلكه قدس سره على أنّ المانع من الأصل النافي ليس هو العلم الاجمالي ، وإنّما المانع هو التعارض الناشئ عن

ص: 400


1- أجود التقريرات 3 : 422 وما بعدها.

عدم إمكان الجمع بين الأخذ بكلا الأصلين ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يتأمّل في أنّ القائلين بحصر الموجب للتعارض وللتساقط بخصوص ما لو كانت الأُصول مستلزمة للمخالفة القطعية ، هل يقولون بعدم سقوط استصحاب كلّ من الطهارة والنجاسة في تعاقب الحالتين مع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر ، فإنّه ليس المقام من قبيل العلم الاجمالي بثبوت تكليف في البين ، كي يقال إنّ الموجب لسقوط كلّ من استصحاب الطهارة والنجاسة هو المخالفة القطعية ، بل إنّ الموجب للسقوط هو مجرّد كون الجمع بينهما مخالفاً للعلم الوجداني ، فهو مثل استصحاب نجاسة كلّ من الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم بتطهير أحدهما.

كما أنّه بناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره من تعارض الأُصول الاحرازية وإن لم توجب المخالفة القطعية ، هل يجري فيما لو علم الجنب مثلاً بأنّه قد صدر منه أحد الأمرين إمّا غسل الجنابة أو تطهير ثوبه من الخبث ، فهل بعد تعارض استصحاب الجنابة واستصحاب نجاسة الثوب نرجع إلى قاعدة لزوم إحراز الشرط في طرف الغسل وإلى قاعدة الطهارة في طرف غسل الثوب ، لأنّ قاعدة الطهارة من قبيل الأُصول النافية الجارية في مقام الفراغ ، أو أنّه لا يمكن ذلك لأنّها من الأُصول النافية نظير البراءة ، وقد أشرنا إلى ذلك في حواشي ص 12 (1) فراجع.

نعم ، يمكن الجواب عمّا ذكرنا من النقض على الجماعة بمسألة توارد الحالتين ، بأنّ ما أفادوه من حصر المانع من جريان الأُصول ولو كانت إحرازية باستلزام المخالفة القطعية ، وحاصل الجواب عن النقض المذكور هو تقييد ذلك

ص: 401


1- للمصنّف قدس سره حاشيتان على ص 12 من فوائد الأُصول ( الطبعة القديمة ) إحداهما تقدّمت في الصفحة : 363 والثانية تأتي في الصفحة : 425.

الاطلاق بما إذا كانا في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد ففيه مانع آخر وهو لزوم التناقض ، إذ لا يصحّ الحكم على الشيء الواحد بكلّ من الطهارة والنجاسة وإن لم يكن في البين مخالفة قطعية.

ومنه يعلم أنّ ما أفاده قدس سره من إجراء الأُصول غير الاحرازية إذا لم تكن موجبة للمخالفة القطعية مقيّد أيضاً بما إذا كانا في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد فلا يمكن إجراؤهما معاً وإن لم يكن في البين مخالفة عملية ، كما حرّرناه في حواشي التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب (1) فراجع ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه في تعارض الأُصول من خاتمة الاستصحاب (2).

قوله : والحاصل : أنّ مجرّد عدم صحّة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير ... الخ (3).

قال قدس سره في جملة ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام : فما نحن فيه نظير باب الأجزاء والشرائط ، فإنّه على تقدير تعذّر الجزء أو الشرط إذا كانت القدرة شرطاً في جزئية الجزء وشرطية الشرط ، فبتعذّره تسقط شرطيته وجزئيته ، وبعد سقوطها لابدّ من الاتيان بالباقي. وإذا لم تكن الجزئية أو الشرطية مشروطة بالقدرة فلا تسقط بالتعذّر ، ومقتضى عدم سقوطها سقوط الأمر بالكل لتعذّره حينئذ. فعلى الصورة الثانية تكون الشرطية والجزئية من قبيل ما نحن فيه ، فإنّه لمّا لم تكن الشرطية مقيّدة بالقدرة وتعذّر إيجاد الشرط ، لم يكن ذلك موجباً لسقوط إطلاق دليل الشرطية ، كما أنّ الحلّية فيما نحن فيه لمّا لم تكن مقيّدة بالقدرة لم يكن تعذّر

ص: 402


1- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : 240.
2- راجع الحاشية الآتية في المجلّد الحادي عشر الصفحة : 543 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 32.

الحكم بها في الطرفين موجباً لرفع اليد عن إطلاقها ، وإنّما المرتفع حينئذ هو نفس الحلّية ، إمّا في كلّ منهما أو في أحدهما ، ولمّا كان رفعها في كلّ منهما بلا وجه تعيّن رفعها عن أحدهما.

والحاصل : أنّه بعد فرض كون الخطاب تعيينياً ثبوتاً وإثباتاً ، لا وجه للتصرّف فيه وجعله تخييرياً ، إذ ليس لأحد ذلك - أعني التصرّف في مقام الثبوت - إلاّ أن يكون نبيّاً ينزل عليه جبرئيل عليه السلام. وأمّا فيما لو ورد مقيّد وكان هناك مطلق أقوى منه ، فعلى تقدير القول بأنّ مثل هذا المطلق يقدّم على المقيّد ، وأنّ المقيّد يحمل على أحد أفراد الواجب التخييري ، فليس ذلك تصرّفاً في مقام الثبوت ، وإنّما هو تصرّف في مقام الاثبات والاستكشاف. وكذا لو ورد ما ظاهره تعيّن الشرط مثل إذا خفي الأذان فقصّر ، وورد دليل آخر يدلّ على كون هذا الحكم بعينه مشروطاً بشرط آخر مثل إذا خفيت الجدران فقصّر ، فعلى تقدير القول بأنّ الشرط غير معيّن ، وأنّه أحد الأمرين من خفاء الجدران أو خفاء الأذان ، فإنّه تصرّف في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت.

وأمّا مسألة التزاحم فهي وإن كان التصرّف فيها في مقام الثبوت ، إلاّ أنّه لملاك غير موجود فيما نحن فيه ، وهو كون كلّ تكليف مشروطاً عقلاً بالقدرة ، أو أنّ القدرة مأخوذة في موضوعه ، ففي مورد المزاحمة مع عدم أهميّة أحدهما يكون التكليف بكلّ منهما شاغلاً شرعياً عن الاتيان بمتعلّق الآخر وتعجيزاً مولوياً عنه ، فيكون التكليف بكلّ منهما مشروطاً بعدم الآخر ، وهذا الملاك مفقود فيما نحن فيه ، انتهى.

يعني أنّه عند امتثال أحدهما يكون الآخر غير مقدور ، فلا يكون مأموراً به ، وهو محصّل كون الأمر به مشروطاً بعدم امتثال الآخر ، فهذا التقييد يكون باقتضاء

ص: 403

نفس التكليف الواقعي بعد فرض كونه مشروطاً بالقدرة (1)

ص: 404


1- وقد يتوهّم التفرقة بين التزاحم مثل الغريقين وبين ما نحن فيه ، فإنّه في التزاحم يكون مأموراً بكلّ منهما إلاّ أنّه لما [ لم ] يكن قادراً على الجمع بينهما ، فالعقل يلزمه بأحدهما ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه إذا كان الجمع بين الأصلين غير جائز عقلاً لكونه موجباً للمخالفة القطعية ، فلا موجب لاجراء الأصل في أحدهما دون الآخر. والجواب عنه : أنّا لا نحتاج في التخيير إلى الالزام ، بل يكفي فيه عدم إمكان الجمع بينهما ، وذلك - أعني عدم إمكان الجمع بينهما - كافٍ في التخيير بينهما ، فيجوز له إجراء الأصل في أحدهما المعيّن دون الآخر. ولا يرد عليه سوى كونه ترجيحاً بلا مرجّح ، لأنّ هذا - أعني لزوم الترجيح بلا مرجّح - لازم حتّى في صورة التزاحم وإلزام العقل بأحدهما ، بل هو جار حتّى في صورة التخيير الشرعي بينهما ، لأنّه بعد أن كان ملزماً بأحدهما أو كان مخيّراً بينهما شرعاً ، يكون اختياره لهذا دون ذاك ترجيحاً بلا مرجّح ، فما هو الجواب عنه هناك هو الجواب عنه هنا ، بل هو جار حتّى في الاناءين المعلوم طهارة كلّ منهما ، حتّى لو لم يكن مضطراً إلى شرب أحدهما ليكون من قبيل رغيفي الجائع وطريقي الهارب من الأسد ، بل هو جار فيما لو كان شربه لأحدهما تشهّياً منه لا لعطش ونحوه من أسباب الاضطرار ، بل لم يكن في البين إلاّمجرّد أنّه يريد الإقدام على أحد المتساويين ، أترى أنّ باب الإقدام على أحد المتساويين ينسدّ إلاّ إذا كان مضطرّاً إلى ارتكاب أحدهما ، أو إلاّ إذا كان أحدهما أرجح من الآخر. وبالجملة : أنّ النقض على ما يدّعى من قبح الترجيح بلا مرجّح لا ينحصر بموارد الاضطرار كرغيفي الجائع وطريقي الهارب ، بل [ كما ] يتحقّق النقض بذلك ، فكذلك يتحقّق النقض بالإقدام على أحد المتساويين تشهّياً منه بلا اضطرار يوجب عليه ذلك ، فلاحظ وتدبّر. وبالجملة : أنّ الترجيح بلا مرجّح وإن قلنا بعدم صدوره من الحكيم ، كما في إيجاده الشيء الممكن الذي يكون وجوده وعدمه غير ضروري أو إبقائه على العدم ، فإنّ الحكيم المقدّس لا يصدر منه أحد هذين الطرفين يعني إيجاده أو إبقاءه على العدم إلاّبمرجّح ، ويبقى الإشكال في صورة التساوي ، فهل يكون عدم رجحان الوجود كافياً في اختيار الإبقاء على العدم ، يحتاج ذلك إلى تأمّل ونظر. وعلى كلّ ، أنّه تعالى لا يقاس على أفعاله أفعال العقلاء ، فيقال إنّ أفعالهم لا تشتمل على الترجيح بلا مرجّح ، هذا. ولكن في خصوص المقام يمكن التخلّص عن إشكال لزوم التخيير بطريقة أُخرى تقدّمت [ في الصفحة : 323 ] الاشارة إليها في مسألة الشبهات الموضوعية الوجوبية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في تردّد الفوائت بين الأقل والأكثر ، وحاصل ذلك الطريق الذي تقدّمت الاشارة إليه : هو أنّ العلم الاجمالي بوجود التكليف المنجّز المردّد بين الطرفين ، كمن علم بوجود المحرّم كالخمر بينهما ، يوجب العلم بأنّه ممنوع عن ارتكاب ذلك المحرّم الموجود في البين وأنّه يعاقب على ارتكابه ، سواء انطبق على هذا الطرف أو انطبق على ذلك الطرف ، فهو عند ارتكابه لهذا الطرف يعلم باستحقاقه العقاب لو صادف أنّه هو ذلك الحرام ، وهكذا في ارتكابه للطرف الآخر ، وحينئذ ينسدّ باب البراءة العقلية وباب الأُصول الشرعية النافية للتكليف حتّى الاستصحاب ، مثل استصحاب الطهارة في مورد العلم بطروّ النجاسة على أحدهما ، فإنّ مفاد هذه الترخيصات هو الترخيص في ذلك الفعل وعدم العقاب على فعله حتّى لو كان في الواقع حراماً ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما هو طرف للعلم الاجمالي ، لما عرفت من العلم بفعلية التكليف واستحقاق العقاب على مخالفته لو كان منطبقاً على هذا الطرف ، وسيأتي [ في الحاشية اللاحقة ] إن شاء اللّه أنّ ذلك لا يمكن إلاّبنحو تنازل من الشارع عن التكليف الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف الخاصّ. وبعبارة أوضح : أنّ أدلّة الترخيص لا تجري فيما لو كان في البين ملازمة بين وجود الحكم في الواقع وبين فعليته واستحقاق العقاب على مخالفته ، فإنّ أقلّ محاذيره هو احتمال تحقّق المتناقضين ، أعني الترخيص في الفعل والالزام الفعلي بتركه على وجه لا ترخيص فيه ، فيؤول ذلك إلى احتمال اجتماع الترخيص وعدمه ، وهذا هو الحجر الأساسي في وجوب الموافقة القطعية وأنّها تساوي حرمة المخالفة القطعية بالنسبة إلى أطراف العلم الاجمالي ، وذلك موجب لسقوط الأُصول المرخّصة بجميع أنواعها في أطراف العلم الاجمالي. أمّا الأُصول الملزمة مثل استصحاب النجاسة ، كما في استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين المسبوقين بالعلم بالنجاسة مع حصول اليقين بطروّ الطهارة على أحدهما ، فبناءً على مسلك شيخنا قدس سره [ راجع فوائد الأُصول 4 : 14 ] من عدم إمكان الجمع بينهما ، لعدم إمكان الجمع بين الاحرازين مع العلم بكون أحدهما خلاف الواقع ، لا يمكننا إجراء ما عرفت من توجيه إسقاط الأصلين بدون توسّط التعارض من فعلية الحكم واستحقاق العقاب على مخالفته ، لكن يكفينا العلم بتحقّق الطهارة الفعلية لو كانت منطبقة على هذا الطرف ، وحينئذ يكون الحكم بنجاسته إستناداً إلى الاستصحاب مؤدّياً إلى احتمال اجتماع النقيضين ، وهما النجاسة والطهارة الفعلية ، فيكون البرهان على سقوط الأصل في الموارد المذكورة بناءً على مسلكه قدس سره من عدم إمكان الجمع ، هو عين البرهان على سقوطه في مورد كون الجمع بين الأصلين موجباً للمخالفة القطعية ، فلاحظ وتدبّر. لا يقال : إنّ احتمال اجتماع النقيضين فيما نحن فيه من أطراف العلم الاجمالي ليس إلاّكاحتماله في الشبهات البدوية. لأنّا نقول : نعم ولكن في أطراف العلم الاجمالي يكون الحكم على تقديره فعلياً ، على وجه لو كان وجوبياً أو تحريمياً لكانت مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب لو كان موجوداً ، والسرّ فيه ما سيأتي شرحه [ في الحاشية اللاحقة ] فيما يتعلّق بما ننقله عن الأُستاذ العراقي قدس سره من كون العلم الاجمالي علّة في تنجّزه ، والعلم وإن لم يسر إلى ما في الخارج ، إلاّ أنّ المعلوم المنجّز يسري إلى الخارج ، ومعه لا يكون قابلاً للترخيص فيه أو الحكم الفعلي بخلافه إلاّبدليل خاصّ يكون كاشفاً عن جعل البدل في الطرف الآخر ، ولا يكفي فيه مجرّد عمومات الأُصول الترخيصية كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى. وإن شئت فافرض آنية صغرى تحتمل أنّها خمر بالشبهة البدوية وآنية كبرى معلومة الخمرية تفصيلاً ، وهناك آنيتان يعلم إجمالاً بخمرية إحداهما ، فهل ترى من وجدانك أنّ حال الخمر في الأخيرتين حال [ الخمر ] في الأُولى ، أو أنّه حال الخمر في الثانية ، فإن كان الأوّل كان محصّله أنّ العلم الاجمالي لا يكون مؤثّراً أصلاً ، وإن كان الثاني كان محصّله أنّ الخمر الموجود بين الاثنين حاله في المنع وعدم الترخيص واستحقاق العقاب حال الخمر المعلوم تفصيلاً ، ولازمه أنّ ترك ذلك الخمر الموجود لازم فعلاً ، وأنّه غير مرخّص في شربه أصلاً ، فيكون شربه موجباً للعقاب بأيّ طرف كان ، وذلك عبارة أُخرى عن لزوم الموافقة القطعية ، فالعقل إن حرّم المخالفة فقد أوجب الموافقة ، ولا يمكنه التفكيك بينهما. وأمّا قولهم إنّه يحرّم المخالفة القطعية ولا يوجب الموافقة القطعية ، فالظاهر أنّه لا محصّل له إلاّ أنّه يحرّم القطع بالمخالفة ولا يوجب القطع بالموافقة ، ومن الواضح أنّ نفس القطع في المقام لا يوجبه العقل ولا يحرّمه. نعم ربما ألزمنا العقل بتحصيل اليقين بالفراغ عند الشكّ في الامتثال بعد فرض العلم بالاشتغال ، ولكن ذلك عبارة أُخرى عن التحذير عن المخالفة التي حرّمها والحثّ على الموافقة التي أوجبها. نعم يمكن أن يقال : إنّ مرادهم هو أنّه لا ريب في حرمة المخالفة ، وإنّما الإشكال في كون المقام من قبيل لزوم الفراغ اليقيني أو أنّه يكفي الفراغ الاحتمالي ، والمختار الأوّل كما عرفت برهانه [ منه قدس سره ].

ص: 405

ص: 406

قلت : قد عرفت أنّه يمكن القول فيما نحن فيه بكون التخيير ثبوتياً ، نظراً إلى أنّ الترخيص لمّا كان مشروطاً بأن لا يكون ترخيصاً في المعصية ، وكان الترخيص في أحد الطرفين عند الترخيص بارتكاب الآخر ترخيصاً في المعصية ،

ص: 407

كان الترخيص في كلّ منهما مشروطاً بعدم ارتكاب الآخر. كما أنّه يمكن القول بكون الترخيص إثباتياً ناشئاً من الجمع بين الأدلّة ، لأنّه بعد فرض أنّه لا يمكن انطباق عموم الترخيص على كلّ من الطرفين ، لكونه موجباً للترخيص بالمعصية المعبّر عنه بالمخالفة القطعية ، كان اللازم هو التصرّف في ذلك العام ، إمّا بصرفه عن أحدهما وهو المنتهي إلى التعارض والتساقط ، أو تقييد إطلاقه في كلّ منهما بعدم ارتكاب الآخر وهو المنتهي إلى التخيير في الترخيص. وقد قيل بأولوية الثاني لأنّه أقل تخصيصاً ، أو لأنّ التخصيص الأحوالي أولى من التخصيص الأفرادي ، أو لأنّ التقييد مقدّم على التخصيص ، والنتيجة واحدة وهي قلّة التخصيص ، وقد عرفت فيما حرّرناه أنّ في البين وجهاً آخر للتقدّم ، وهو الوجه الذي أفاده قدس سره في التقييد في المتزاحمين ، وحاصله أنّ الممنوع عنه إنّما جاء من إطلاق أحدهما لما إذا ارتكب الآخر ، فيكون ذلك الاطلاق هو المرتفع ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد عن شيخنا قدس سره في التقريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإنّ إمكان التقييد يستلزم إمكان الاطلاق ، لأنّ التقابل بينهما من قبيل الاعدام والملكات الخ (1) لما هو مقرّر في محلّه من أنّ امتناع الاطلاق لجهة تخصّه ، وهي كونه موجباً للتكليف بغير المقدور ، أو كونه من قبيل الترخيص في المعصية ، لا يوجب عدم إمكان التقييد المفروض كونه رافعاً للمحذور المذكور المترتّب على الاطلاق ، وإلاّ فكيف ساغ لشيخنا قدس سره أن يدفع محذور الاطلاق في الأمرين المتزاحمين بتقييد كلّ منهما بعدم امتثال الآخر.

كما أنّه يظهر ممّا تقدّم التأمّل فيما أُفيد عنه قدس سره بقوله : وتوهّم - إلى قوله -

ص: 408


1- أجود التقريرات 3 : 421.

مدفوع بأنّ حكم العقل في المقام في مرتبة سابقة على الجعل وفي مقام الثبوت ، ومعه لا يبقى مجال للاطلاق والتقييد في مقام الاثبات الخ ، فإنّ الامتناع في مقام الثبوت إنّما هو من جهة الترخيص في المعصية لا من جهة نفس العلم الاجمالي ، ومع فرض انحصار المحذور المانع من الاطلاق ثبوتاً في استلزام الترخيص في المعصية ، يكون اللازم دفع ذلك المحذور ، وحيث إنّه إنّما نشأ من الاطلاق ثبوتاً ، يكون ذلك الاطلاق ثبوتاً هو الساقط ، وتكون النتيجة هي التقييد ثبوتاً أيضاً ، كما أنّها كانت كذلك إثباتاً على الطريقة الأُخرى المتقدّمة ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : والخروج عن عهدته إمّا بالوجدان وإمّا بالتعبّد ، إلى آخر المبحث (1).

مع مراجعة قوله : إنّ الأُصول العملية إنّما تجري في الأطراف وكلّ واحد من الأطراف مجهول الحكم (2) ، وهكذا بقية ما أفاده في هذه المباحث.

وبازائه ما أفاد الأُستاذ العراقي قدس سره في المقالة ، قال في المقالة : ثمّ إنّ الأغرب من التقريبين في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية ومخالفته دعوى أُخرى ، وهي أنّ من البديهي أنّ العلم الاجمالي بالجامع لا يكاد يسري إلى الطرفين ، بل هو قائم بنفس الجامع - إلى قوله - ولازم ذلك عدم قصور لدى العقل في جواز ترك كلّ واحد ، لعدم تمامية البيان بالنسبة إليه. نعم لا يرخّص في تركهما ، لانتهائه إلى ترك الجامع الذي تمّ فيه البيان حسب الفرض ، ومرجع هذا التقريب إلى تجويز ترك الموافقة القطعية ولو لم يكن في البين ترخيص من قبل الشارع ،

ص: 409


1- فوائد الأُصول 4 : 33.
2- فوائد الأُصول 4 : 21.

ولازمه عدم احتياجه في جواز ارتكاب أحد الطرفين إلى فرض عدم المعارضة بين الأصلين الخ (1).

وفيه تأمّل ، فإنّ كلّ واحد من الطرفين بعد فرض كونه لا تصل إليه صفة العلم يبقى في حدّ نفسه مشكوكاً ، فلا يمكن ارتكابه إلاّبمسوّغ من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أو حكم الشرع بالبراءة ، وليس هو مقطوع الحلّية ، إذ ليس الشبهة فيه بأولى من الشبهة البدوية التي لا يمكن الارتكاب فيها إلاّبمسوّغ عقلي أو شرعي.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ البراءة العقلية لا مسرح لها في أطراف العلم الاجمالي ، لإمكان الاكتفاء بالعلم الاجمالي في البيانية ولو بملاحظة أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. لكن هذا المقدار من الاقتضاء لا ينافي إمكان الترخيص الشرعي في بعض الأطراف دون البعض الآخر ، وحينئذ يكون الحاصل هو تعليق التنجيز على عدم الترخيص الشرعي.

ثمّ إنّه أجاب عن هذا التقريب : بأنّ العلم بالجامع وإن لم يسر إلى الأفراد ولكن التنجّز الذي هو نتيجته قائم بالجامع وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع بلا وقوفه بنفس الجامع ، غاية الأمر القطع به سبب قيام التنجّز على موضوعه ، ومجرّد عدم قابلية السبب للسراية لا يوجب عدم سراية مسبّبه تبعاً لموضوعه ، إلى آخر كلامه (2). وبنحو ذلك صرّح في مباحث العلم الاجمالي من أصالة الاشتغال (3)

ص: 410


1- مقالات الأُصول 2 : 32 - 33.
2- مقالات الأُصول 2 : 33.
3- مقالات الأُصول 2 : 236 - 237.

وكان في الدرس - كما حرّرته عنه - قد بنى هذه المسألة على أنّ العلم المتعلّق بالقدر الجامع بالنسبة إلى تنجّز ذلك القدر الجامع هل هو من قبيل الجهة التعليلية ، أو أنّه من قبيل الجهة التقييدية. وعلى الأوّل يسري التنجّز إلى الأطراف وإن لم يكن العلم سارياً إليها ، وعلى الثاني لا يكون التنجّز سارياً إلى الأطراف. والذي اختاره هناك وهنا هو الأوّل ، وهذا هو أساس نظريته في كون العلم علّة تامّة في لزوم الموافقة القطعية ، وأنّه بنفسه مانع من جريان الأصل في أحد الأطراف وإن لم يكن في البين تعارض.

ولا يخفى أنّ المحكّم في عالم التنجيز هو الوجدان ، فهل يحكم الوجدان بأنّ القدر الجامع بعد أن تنجّز بالعلم يكون تنجّزه سارياً إلى أفراده التي لا يكون انطباق ذلك الكلّي عليها معلوماً ، فراجع وجدانك في علمك بوجوب إكرام العالم ، وهل ترى أنّ ذلك التكليف الكلّي المنجّز بالعلم يكون منجّزاً في إكرام من شكّ في كونه عالماً ، لاحتمال انطباق ذلك الكلّي عليه. وإن قلت : إنّ هذا المثال من قبيل الانحلال ، والمقدار المعلوم عالميته هو المنجّز دون من شكّ في عالميته. فافرض المثال من قبيل الكلّي الطبيعي ، وعلّق الوجوب أو التحريم به بنحو الطبيعة السارية. على أنّ الانحلال لا يدفع الإشكال بعد فرض أنّ المكلّف قد علم بوجوب إكرام كلّ فرد من أفراد هذه الطبيعة ، وأنّ التنجّز سارٍ من الكلّي إلى أفراده ، فتأمّل جيّداً ودع عنك دعوى كون المعلوم الاجمالي كلّياً وقدراً جامعاً بين الطرفين ، بل قل إنّه شخص خارجي. وانظر إلى الوجوب في مسألة الدوران بين الظهر والجمعة ، فلا ترى إلاّ أنّك قد علمت وانكشف لديك ذات الوجوب بما أنّه ذات الوجوب معرّى عن كونه وجوب ظهر أو وجوب جمعة ، وترى أنّ كون ذلك الوجوب المنكشف لديك هو وجوب جمعة أو وجوب ظهر مجهول

ص: 411

لديك ، ولذلك تراهم يقولون إنّ العلم الاجمالي مقرون بالجهل ، فتلك الذات المعلومة قد تنجّزت ، لأنّ العلم وإن كان طريقاً إلى الواقع لكنّه بالنسبة إلى التنجّز جزء موضوع ، بحيث يكون حكم العقل بالتنجّز منوطاً بالواقع المعلوم ، ومعنى التنجّز هو عبارة عن كون الوجوب مورداً لحكم العقل بالمنع من المعصية والالتزام بالطاعة ، على وجه يحكم العقل باستحقاق العقاب على معصيته والمثوبة على إطاعته ، ولا ريب أنّ ذلك كلّه إنّما هو بالنسبة إلى ذات ذلك الوجوب التي انكشفت لديك ، دون ما قارنها من المجهول وهو كونها وجوب ظهر أو وجوب جمعة ، فإنّ هذه الجهة اللاحقة لذات ذلك الوجوب مجهولة لديك ، فهي خارجة عن مورد حكم العقل بالتنجّز. نعم عند ارتكابك لترك كلّ واحد من الطرفين تكون قد تركت تلك الذات بما أنّها معلومة لديك ومنكشفة عندك ، فتكون قد خالفت التكليف المعلوم لديك عالماً بتحقّق المخالفة فتكون عاصياً.

وهذا المقدار لا ينافي إمكان الترخيص الشرعي في تلك الجهة المجهولة بأن يرخّصك في ترك إحدى الجهتين من ذلك الوجوب ، والعقل وإن ألزم بوجوب الاتيان بكلّ من الجهتين مقدّمة لما حكم به من لزوم إطاعة الوجوب بجهته المعلومة ، أعني مقدّمة للحصول على تلك الذات التي انكشفت لديك تمام الانكشاف ، إلاّ أنّ ذلك الالزام المقدّمي من العقل معلّق على عدم الترخيص الشرعي ، فإذا حصل الترخيص الشرعي في أحد الطرفين سوّغ لك العقل ترك ذلك الطرف الذي سوّغه الشارع ، فلا يرد أنّ الجهة المعلومة واجبة الاطاعة لدى العقل فتكون مقدّمتها وهي الاتيان بالطرفين واجبة عند العقل.

لا يقال : إنّ العقل قد حكم بلزوم إطاعة تلك الذات من الوجوب التي هي

ص: 412

منكشفة لديك ، وذلك الحكم منه منجّز عنده ، وحينئذ يكون إلزامه بمقدّمته منجّزاً ، ويستحيل التفكيك بين إلزامه بذي المقدّمة وإلزامه بالمقدّمة.

لأنّا نقول : إنّ إلزامه بذي المقدّمة يكون معلّقاً على عدم الترخيص الشرعي في ترك إحدى مقدّمتيه ، بمعنى أنّ العقل عند الترخيص المذكور لا يلزمك باطاعة تلك الذات من هذه الناحية التي رخّص الشارع في مخالفته على تقدير كونها متّحدة مع ذلك الذي رخّصك الشارع فيه.

وإن شئت قلت : إنّ حكم العقل بلزوم تلك المقدّمة ليس إلاّعبارة عن حكمه بلزوم تحصيل العلم باطاعة تلك الذات ، فإنّ تلك المقدّمة ليست مقدّمة وجودية لحصول تلك الذات ، بل هي على تقدير انطباق تلك الذات عليها عين الذات لا أنّها مقدّمة وجودية لتلك الذات ، فلا يكون الاقدام على تلك المقدّمة إلاّ تحصيلاً للعلم بحصول تلك الذات ، والعقل وإن ألزم بتحصيل العلم بحصول تلك الذات ، وهو محصّل أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهذا المقدار من الحكم العقلي - أعني لزوم تحصيل الفراغ اليقيني - معلّق على عدم ترخيص الشارع في ترك تلك المقدّمة العلمية.

وبعبارة أُخرى : أنّ هذه المقدّمة ليست مقدّمة لقول العقل : أطع تلك الذات ، بل هي مقدّمة لقوله : حصّل العلم بحصول تلك الذات ، وحكمه المذكور - أعني حصّل العلم بحصول تلك الذات - معلّق على عدم الترخيص الشرعي في ترك تلك المقدّمة ، الذي هو عبارة أُخرى عن عدم لزوم تحصيل العلم بحصول تلك الذات.

وبالجملة : أنّك بتركك لتلك المقدّمة لو صادفت هي الواقع لا تكون مخالفاً لما هو المعلوم عالماً بالمخالفة لتكون عاصياً بذلك ، بل لا تكون إلاّمحتملاً

ص: 413

لمخالفة التكليف الواقعي ، والبراءة العقلية وإن لم تجر نظراً إلى العلم الاجمالي ، إلاّ أنّه لا مانع من البراءة الشرعية في ذلك.

ثمّ إنّه أفاد في تأييد القول بالاقتضاء بما لو كان الأصل النافي في أحد الطرفين منتجاً لثبوت التكليف في الطرف [ الآخر ] والتزم في مقام الجواب عنه بأنّ الغرض من الأصل هو الاثبات لا الترخيص ، فراجع ما في ص 13 وما في ص 72 (1). فكأنّ اختيار الغرض من الأصل في مورده بيدنا ، فنجعله لمحض الترخيص تارةً ولمحض إثبات الطرف الآخر أُخرى. وتفرض هذه المسألة في العلم الاجمالي المردّد بين تكليفين ، أحدهما مشروط بالقدرة الشرعية والآخر مشروط بالقدرة العقلية ، وكان الثاني سالباً للقدرة الشرعية على الأوّل ، كما لو كان عنده مال يكفيه للحجّ ولكنّه شكّ في اشتغال ذمّته بدين يذهب استطاعته. وينبغي مراجعة المستمسك ج 5 ص 399 (2).

وأمّا ما أورده على شيخنا قدس سره بقوله : ثمّ إنّ من أظرف الخ (3) ، من أنّ الأصل الجاري في أحد الأطراف لا يوجب كون الآخر بدلاً فهو حقّ ، وكنّا نورد بذلك على شيخنا قدس سره كما حرّرناه في هذه الأوراق (4) ، إلاّ أنّ ذلك كأنّه من شيخنا قدس سره تقيّد بكلام الشيخ (5) من جعل البدل ، وإلاّ فإنّه بعد فرض إمكان الترخيص في بعض أطراف العلم الاجمالي لا حاجة إلى الالتزام ببدلية الآخر ، بل للقائل أن يقول إنّي

ص: 414


1- مقالات الأُصول 2 : 34 - 35 و 196 - 198.
2- مستمسك العروة الوثقى 7 : 622 - 623.
3- مقالات الأُصول 2 : 34.
4- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 363 وما بعدها.
5- لاحظ فرائد الأُصول 2 : 204.

مرخّص في ارتكاب هذا الطرف ، أمّا الطرف [ الآخر ] فلمّا لم أُرخّص فيه شرعاً فلا أُقدم على ارتكابه ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فيما لم يرخّصني الشارع في عدم لزوم الفراغ عن ذلك المعلوم لو كان موجوداً في هذا الطرف ، فإنّ محصّل الترخيص فيه هو أنّه يسوغ لك ارتكابه حتّى لو كان المعلوم منطبقاً عليه في الواقع.

بل نقول : إنّ ذلك كافٍ ولا نحتاج إلى الالتزام بجعل البدل حتّى في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ممّا يجري في وادي الفراغ ، إذ ليس مرجع ذلك إلاّ الترخيص الظاهري في مخالفة المعلوم وإن كان بلسان أنّك قد فرغت ، فإنّ هذا لسان في مقام الاثبات ، وواقع الأمر ليس إلاّ الترخيص في المخالفة ترخيصاً ظاهرياً ، فتأمّل.

وإن شئت قلت : إنّ حكم الشارع بأنّك أتيت بالجزء المشكوك أو أنّك فرغت من العمل الواجب ، يلزمه الإذن والترخيص الظاهري في ترك ذلك الجزء ، وهذا اللازم لو كان في نفسه محالاً لكونه من الترخيص في المعصية أو محتمل المعصية ، لكان مانعاً من جريان الأصل المذكور كما منع من الجمع بين الأصلين في أطراف العلم الاجمالي ، ولا جواب لذلك إلاّ أنّ ذلك اللازم - أعني مخالفة التكليف - لو كان معلوماً يكون من قبيل الترخيص في المعصية وهو ممنوع عقلاً ، أمّا لو كانت المخالفة محتملة فلا يكون من قبيل الترخيص في المعصية ولا من الترخيص في محتمل المعصية ، فلا مانع منه ، فإنّ المعصية تدور مدار العلم بمخالفة التكليف ، والمفروض أنّ الترخيص في الواحد لا يوجب العلم بالمخالفة ، بخلاف الترخيص في الطرفين ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك أنّه في المثال الذي يكون أحد الطرفين مجرى لقاعدة

ص: 415

الطهارة والطرف الآخر مجرى لاستصحابها ، لا حاجة إلى تجشّم سقوط قاعدة الطهارة بسقوط الاستصحاب ، بل لا مانع من القول بأنّه بعد التعارض يبقى المورد مجرى لقاعدة الطهارة والآخر بلا أصل مسوّغ فلا يجوز ارتكابه. ومن ذلك يمكن القول بأنّه لو كان في أحد طرفي العلم الاجمالي أصل مثبت ولو أصالة الحرمة في الدماء ، وفي الطرف الآخر أصل نافٍ جرى الأصلان معاً ، من دون حاجة إلى دعوى الانحلال بواسطة الأصل المثبت ولا إلى دعوى جعل البدل بواسطة الأصل النافي ، فراجع ما أفاده شيخنا قدس سره فإنّه لا يخلو من إيماء إلى ذلك ، وإن كان ظاهر أغلب كلماته هو الاعتماد على الانحلال أو على جعل البدل ، وإن شئت فراجع ما أفاده في تتمّة البحث بقوله : لأنّ الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ، ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمّن الخ (1) ، فإنّه صريح فيما ذكرناه ، وإن كان قوله فيما تقدّم : وأمّا الإذن في البعض فهو ممّا لا مانع عنه ، فإنّ ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلاً عن الواقع الخ (2) ، ظاهر بل صريح في كونه من قبيل جعل البدل.

ولم أعثر على هذه الجملة - أعني جعل البدل - في تحريرات السيّد سلّمه اللّه ، وهي وإن كانت موجودة فيما حرّرته عنه قدس سره ، إلاّ أنّه بعد التعرّض لما أفاده صاحب الكفاية قدس سره من الفعلية من جميع الجهات ، قال فيما حرّرته عنه قدس سره ما هذا لفظه : ثمّ إنّه لو فرض لنا دليل يدلّ على الترخيص في خصوص أحد الأطراف أصلاً كان أو غيره ، كان ذلك الدليل وحده كافياً في ارتكاب ذلك الطرف بلا حاجة إلى جعل البدل في الطرف الآخر ، انتهى. وبمثله صرّح السيّد بقوله : نعم لو فرض

ص: 416


1- فوائد الأُصول 4 : 47.
2- فوائد الأُصول 4 : 35.

أنّ الأصل الجاري الخ (1). وكأنّ هذه الجملة لبيان ما هو المختار عنده وأنّ الجملة السابقة المسوقة للاعتماد على جعل البدل إنّما هي على مشرب الشيخ قدس سره حسبما فهمه قدس سره أوّلاً من كلامه قدس سره ، لكنّه قدس سره قد عدل عن هذا التفسير وفسّره بموارد قاعدة التجاوز والفراغ ، فراجع ما حرّره السيّد عنه بقوله : وهو المراد الخ (2).

وأمّا مسألة النقض على الجماعة بما لو كان أحد أطراف العلم مجرى للأصل المثبت والآخر مجرى للأصل النافي ، فلم يذكره قدس سره لأجل النقض به على الجماعة كي يتوجّه عليه ما أفاده في المقالة بقوله : وحينئذ لا يبقى مجال الاستشهاد الخ (3). وكذلك بقوله : لكان أمتن من تشبّثه بموارد الانحلال الخ (4) ، وإنّما ذكره قدس سره لبيان الانحلال ، فإنّه حسبما حرّرته عنه بعد أن التزم بالتعارض وأبطل شبهة القول بالتخيير ، قال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ هاهنا مطلباً ينبغي الالتفات إليه ، وهو أنّه لا شبهة في أنّه لو كان أحد طرفي العلم الاجمالي بالتكليف مورداً لجريان الأصل المثبت للتكليف دون الأُخر ، بأن كان الآخر في حدّ نفسه مع قطع النظر عن العلم الاجمالي مورداً لجريان الأصل النافي للتكليف ، لم يكن مانع من جريان الأصلين ، لانحلال العلم الاجمالي بواسطة إمكان انطباق التكليف المعلوم بالاجمال على ما هو مورد الأصل المثبت ، انتهى. ثمّ أخذ في بيان تلك الموارد وكيفية الانحلال فيها. وإن شئت فراجع ما حرّره السيّد بقوله : ومن هنا (5)

ص: 417


1- أجود التقريرات 3 : 424.
2- أجود التقريرات 3 : 425.
3- مقالات الأُصول 2 : 32.
4- مقالات الأُصول 2 : 197.
5- أجود التقريرات 3 : 422.

نعم على مسلكه قدس سره له أن يقول بالرجوع إلى الأصل النافي في مورده ولو لم يكن الأصل المثبت في الطرف الآخر موجباً للانحلال ، وكأنّه لأجل هذه الجهة علّل الرجوع إلى الأصل النافي في هذا التحرير بالوجهين : الانحلال وكون الأصل النافي جارياً في أحد الطرفين دون الآخر ، فلا يحصل التعارض.

ثمّ إنّه قال في المقالة : لا شبهة في أنّ تنجّز الأحكام إنّما هو من لوازم وجودها خارجاً ، لا من لوازم صورها الذهنية ولو بمراتبها ( بمرآتيتها ) للخارج ، كيف وبدون وجود الحكم خارجاً لا تنجّز في البين ، بل هو اعتقاد التنجّز بتبع اعتقاد نفس الحكم ، بحيث لو انكشف الغطاء لا يكون في البين حكم ولا تنجّز حكم ، وذلك شاهد عدم قيام التنجّز بصورتها المخزونة في الذهن وإن لم يلتفت إلى ذهنيته ، وإلاّ فيستحيل عدمه مع وجود موضوعه ، نعم غاية ما في الباب الخ (1) ، ثمّ أخذ في نظريته المتقدّمة (2) وهي كون العلم علّة لتنجّز الكلّي في كلّ طرف وإن لم يسر العلم إلى ذلك الطرف.

قلت : لا يخفى أنّ ما هو من لوازم الوجود الخارجي إنّما هو فعلية الحكم ، أمّا تنجّزه فلا يكفي فيه الوجود الخارجي ، بل لابدّ في ذلك من اقترانه بالعلم. وأمّا قوله : لا من لوازم صورها الذهنية ، فإن أراد به الوجود العلمي ، بمعنى كون التكليف معلوماً للمكلّف ، فهذا هو العمدة في التنجّز ، لكن لا على نحو تمام الموضوع كي يتوجّه عليه ما فرضه من المثال ، بل على نحو جزء الموضوع ، بمعنى أنّ موضوع التنجّز إنّما هو التكليف الواقعي عند تعلّق العلم به ، وقد عرفت

ص: 418


1- مقالات الأُصول 2 : 236.
2- في الصفحة : 411.

فيما تقدّم (1) أنّه من قبيل الجهة التقييدية ، بمعنى أنّ ذلك الحكم الكلّي الذي تعلّق به العلم يكون منجّزاً في أيّ طرف وجد إذا فرض أنّه عند وجوده في هذا الطرف كان معلوماً ، أمّا إذا فرضناه مشكوكاً كما هو محلّ الكلام من كلّ واحد من طرفي العلم الاجمالي ، فلا يلحقه التنجّز فيه ، إذ لم يكن العلم لاحقاً له في تلك المرحلة وهو واضح.

تنبيه وإيضاح : ذكر السيّد ( سلّمه اللّه تعالى ) فيما حرّره عن شيخنا قدس سره فيما لو فرض وجود أصل نافٍ في بعض الأطراف ، وكان الطرف الآخر معرّى عن جميع الأُصول ، كان ذلك الأصل النافي كافياً في جواز ارتكاب ما جرى فيه (2) ، قال ما هذا لفظه : إلاّ أنّه - مع كونه فرضاً غير واقع بل لعلّه مستحيل - لا يترتّب عليه أثر في محلّ الكلام. على أنّ جريان الأصل فيه يتوقّف على كون الحكم الثابت به من الأحكام الطبعية الحيثية ، إذ لو كان مفاده حكماً فعلياً لأشكل جريانه ، من جهة أنّ موارد جريان الأُصول النافية تنحصر بما إذا رجع الشكّ فيه إلى أصل توجّه التكليف ، لا إلى انطباق التكليف المعلوم توجّهه في الجملة. وكون الحكم الثابت بالأصل حكماً طبعياً ، مع أنّه غير تامّ في نفسه ، لا يترتّب عليه شيء في مورد العلم الاجمالي ، ضرورة أنّ الترخيص الطبعي الثابت للمشتبه لا ينافي تنجّز التكليف من جهة العلم الاجمالي ، إذ لا تنافي بين المقتضي واللاّ مقتضي كما هو ظاهر الخ (3)

ص: 419


1- في الصفحة : 411 وما بعدها.
2- في سياق الجواب عن الاناءين الذي يكون أحدهما مورداً لاستصحاب الطهارة والآخر مورداً لقاعدتها [ منه قدس سره ].
3- أجود التقريرات 3 : 424.

ولا يخفى أنّ هذه الجملة لو تمّت لكانت هادمة لأساس مسلك شيخنا قدس سره من التعارض ، لأنّها توجب استحالة الترخيص في بعض الأطراف ، لأنّ الترخيص إن كان اقتضائياً ، بمعنى كون الطرف في حدّ نفسه مشكوكاً يكون مقتضياً للترخيص مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، فهذا الترخيص لا محصّل له ولا يترتّب عليه أثر عملي. وإن كان الترخيص فعلياً حتّى مع النظر إلى العلم الاجمالي فهو لا دليل عليه ، لأنّ الترخيصات الشرعية منحصرة بما كان المورد قد توجّه الشكّ فيه إلى أصل توجّه التكليف به ، وما نحن فيه لم يكن الشكّ فيه كذلك ، بل كان الشكّ فيه راجعاً إلى انطباق التكليف المعلوم عليه ، وحينئذ لا يكون شيء من أطراف العلم الاجمالي مورداً للأُصول الترخيصية كي يكون جريانه في أحد الأطراف معارضاً بجريانه في الطرف [ الآخر ].

وعمدة الكلام إنّما هو في هذه الجملة ، فنقول بعونه تعالى : أمّا الترخيص الاقتضائي المعبّر عنه بالطبعي فلا أصل له أصلاً ، فإنّ الأدلّة المتكفّلة للترخيص مثل حديث الرفع (1) و « كلّ شيء لك حلال » (2) ونحوهما ، دالّة على الترخيص الفعلي ، بل لا محصّل للترخيص الاقتضائي. وأمّا الترخيص الفعلي فلا مانع منه ، فإنّ كلّ واحد من الأطراف مشكوك الحكم ولو من ناحية الشكّ في انطباق التكليف المعلوم عليه. على أنّ نفس الشكّ في انطباق المعلوم بنفسه مورد لحديث الرفع ، وكاف في انطباق « ما لا يعلمون » عليه ، بمعنى أنّ ذلك التكليف المعلوم أعني الوجوب المردّد بين كونه صلاة الجمعة أو صلاة الظهر ، يكون مرتفعاً على تقدير انطباقه على وجوب صلاة الجمعة ، لأنّ نفس ذلك التكليف

ص: 420


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
2- وسائل الشيعة 17 : 87 و 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 ، 4.

وإن كان في نفسه معلوماً ، إلاّ أنّ انطباقه على ذلك المورد مجهول غير معلوم ، لأنّ ذلك التكليف مجهول من هذه الناحية أعني ناحية كونه وجوب صلاة الجمعة.

ولكن هذا تكلّف لا داعي له بعد أن كان وجوب صلاة الجمعة في حدّ نفسه مشكوكاً ، ولو كان هذا الشكّ مسبّباً عن الشكّ في انطباق المعلوم الاجمالي عليه ، إذ لا مانع من الرجوع إلى الأصل في الشكّ المسبّبي بعد أن كان الشكّ السببي لا مورد للأصل فيه. وليس الترخيص في الشكّ المسببي من باب عدم الاقتضاء حتّى يكون اجتماعه مع العلم الاجمالي من اجتماع المقتضي واللاّ مقتضي ، بل هو ترخيص فعلي مانع من تأثير المقتضي وهو العلم الاجمالي أثره ، وهو تنجّز التكليف في هذا الطرف واستحقاق العقوبة عليه ، لما عرفت من أنّ اقتضاء العلم الاجمالي التنجّز ولزوم الموافقة القطعية معلّق على عدم الترخيص الشرعي في بعض الأطراف ، فإنّ محصّل الترخيص هو في مخالفة التكليف الواقعي لو كان موجوداً هنا ، ولا يضرّنا القول بأنّ الشارع رخّص في مخالفة ذلك التكليف المعلوم لو كان موجوداً في هذا الطرف ، لما عرفت من أنّ العلم به لا يسري إلى هذا الطرف ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذه الجملة ليست من منفردات هذا التحرير ، بل حرّرت عنه قدس سره نظير ذلك ، فإنّه قدس سره اختار في مسألة الاناءين المسبوق أحدهما بالطهارة والآخر بقاعدتها ، أنّ استصحاب الطهارة وقاعدتها في الأوّل يسقطان معاً في قبال قاعدة الطهارة في الثاني ، ثمّ أفاد أنّه مع قطع النظر عن ذلك ، بأن سلّمنا أنّ الساقط هو الاستصحاب وحده ، وتبقى في مورده قاعدة الطهارة بلا معارض لها في الطرف الآخر ، نقول : إنّ سقوط قاعدة الطهارة في الطرف الآخر إنّما هو لأجل العلم الاجمالي ، فلا يؤثّر في جريان الأصل النافي في هذا الطرف ، لأنّ هذا

ص: 421

السقوط بمنزلة العدم ، لعدم تأثيره في انحلال العلم ، بل يبقى العلم الاجمالي بحاله ، ومن الواضح أنّه ما دام العلم بالتكليف موجوداً لا يمكن الرجوع إلى الأصل النافي ، لعدم حصول المؤمّن من مخالفة ذلك التكليف لو اتّفق في الواقع انطباقه على ما هو مجرى الأصل النافي ، إلاّ إذا كان الأصل النافي جارياً في وادي الفراغ ، لأنّه حينئذ مؤمّن شرعي - إلى أن قال - فتلخّص : أنّه لا فرق بين كون الضابط هو تعارض الأُصول ، وبين كون الضابط هو العلم بوجود التكليف. وتلخّص أيضاً : أنّ انحلال العلم الاجمالي بالأصل منحصر بما إذا كان أحد الأطراف مجرى للأصل المثبت ، إلى آخر ما حرّرته عنه.

وقال قبل ذلك في هذا المقام أيضاً ما ملخّصه : إنّ التعارض في الأُصول لا معنى له أصلاً ، وأقصى ما فيه أنّهما لا يجتمعان - إلى أن قال - وغرضنا من قولنا لا يمكن ترجيح أحد الأصلين بلا مرجّح ، أنّه لا يمكن إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين وإبقاء الطرف الآخر وتعيينه للتكليف المعلوم ، والبناء على أنّ ذلك هو المكلّف به ، وهذا المعنى لا يفرق فيه بين كون كلّ واحد مورداً للأصل النافي وبين كون أحدهما مورداً للأصل النافي والآخر لا أصل له كما في مثل المثال. نعم لو كان الطرف الآخر مورداً للأصل المثبت ، لما كان تعيينه لما هو المعلوم من التكليف بلا معيّن ومرجّح ، انتهى.

ولكن الظاهر أنّ هذا كلّه هدم لما أسّسه قدس سره من المعارضة ، فراجع وتأمّل. وينبغي مراجعة ما تقدّم في مبحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير ومسألة دوران الأمر بين الخاص والعام ، وما شرحناه هناك (1) من عدم إمكان الرجوع إلى البراءة في طرف العام ، والرجوع إليها في طرف الخاصّ ، ومن جملة ذلك ما

ص: 422


1- راجع الصفحة : 300 - 301 وما بعدها.

لو علم بحدوث الأُختية من الرضاع إمّا بينه وبين هند ، وإمّا بين هند وعاتكة.

ثّم إنّ هذا التحرير بعد فراغه من الجملة الأُولى قال ما هذا لفظه : فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّ الأصل المحكوم في بعض الأطراف إذا لم يكن موضوعه مغايراً لموضوع الأصل الحاكم كما في باب الملاقي ، فلابدّ من سقوطه في عرض الأصل الحاكم عليه. نعم اذا كان في الطرف الآخر أيضاً أصل محكوم مثبت للتكليف ، فلا مانع من الرجوع إليه ، فينحلّ العلم الاجمالي ، ويرجع إلى الأصل المحكوم في هذا الطرف أيضاً. وهذا نظير ما إذا علم إجمالاً بزيادة ركعة أو الاتيان بما يوجب سجدتي السهو ، فإنّه بعد تعارض قاعدة الفراغ مع استصحاب عدم الاتيان بموجب سجدتي السهو يرجع إلى أصالة الاشتغال بالنسبة إلى أصل الصلاة ، وأصالة البراءة عن وجوب السجدتين ، فينحلّ العلم الاجمالي ، فكلّ مورد لم ينحل العلم فيه لا مجال للرجوع فيه إلى الأصل أبداً (1).

وفيه تأمّل ، فإنّ الأصل المحكوم في طرف احتمال زيادة ما يوجب سجود السهو الذي هو السلام الزائد مثلاً ، إنّما هو أصالة البراءة عن وجوب سجود السهو ، وإذا فرضنا سقوطه بسقوط الأصل الحاكم عليه وهو أصالة عدم الاتيان بالسلام الزائد ، كيف يعود ويجري إلى جنب أصالة الاشتغال بالصلاة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ طريق المسألة ليس هو التعارض بين قاعدة الفراغ وأصالة عدم الاتيان بالسلام الزائد الذي هو موجب سجود السهو ، بل إنّ قاعدة الفراغ في حدّ نفسها ساقطة ، لكونها بنفسها مضادّة لنفس المعلوم بالاجمال كما أفاده قدس سره في تحرير الشيخ رحمه اللّه في آخر ص 14 (2) فراجعه. هذا إن أجرينا في الصلاة المذكورة

ص: 423


1- أجود التقريرات 3 : 424 - 425.
2- فوائد الأُصول 4 : 44 - 45.

قاعدة الفراغ مرّة واحدة.

ولو أُريد إجراؤها مرّتين ، إحداهما بالنسبة إلى زيادة الركعة والأُخرى بالنظر إلى زيادة السلام ، كانت متعارضة وساقطة بالتعارض. مضافاً إلى أنّ هذا لا يتأتّى في قاعدة الفراغ ، وإنّما يتأتّى في قاعدة التجاوز في الفرع الذي ذكره في تحرير الشيخ رحمه اللّه وهو ما لو فاتته سجدتان ولم يعلم أنّهما من ركعة واحدة أو من ركعتين ، فراجعه في الصفحة المذكورة وما بعدها.

ثمّ بعد انسداد باب قاعدة الفراغ في الفرع المذكور ، يكون المرجع هو أصالة عدم زيادة الركعة وأصالة عدم زيادة السلام ، وبعد التساقط بالتعارض ينتهي الأمر إلى أصالة البراءة من سجود السهو وأصالة الاشتغال بالصلاة. ولعلّ في العبارة سقطاً أو تحريفاً.

نعم ، من قال في مسألة دوران الأمر بين كون المتروك ركناً أو غيره ممّا له أثر من القضاء أو سجود السهو بالطولية بين القاعدتين ، يلزمه هنا أن يقول إنّ قاعدة الفراغ لا تجري في ناحية احتمال زيادة السلام الموجب لسجود السهو ، في قبال قاعدة الفراغ في ناحية احتمال زيادة الركعة ، لأنّ ترتّب الأثر على زيادة السلام إنّما يكون بعد الفراغ عن الحكم بصحّة الصلاة الحاصل من إجراء قاعدة الفراغ في احتمال زيادة الركعة.

وحينئذ فالذي يكون في قبال قاعدة الفراغ في ناحية الركعة هو أصالة عدم زيادة السلام ، لكن بعد تساقطهما يكون المرجع في ناحية الركعة هو أصالة عدمها ، وفي ناحية زيادة السلام أصالة البراءة من وجوب سجود السهو ، وبعد التساقط يلزمه الاعادة وسجود السهو لأجل العلم الاجمالي بلزوم أحدهما.

ويمكن أن يقال : إنّه على هذا القول تكون جميع الأُصول الجارية في

ص: 424

طرف احتمال زيادة السلام هي في طول قاعدة الفراغ في طرف احتمال زيادة الركعة ، فيحكم لأجلها بصحّة الصلاة مع لزوم سجود السهو لعدم المؤمّن من ناحيته ، ولو تمّ ذلك لكان هذا المورد أحد الموارد التي يكون الأصل النافي فيها جارياً في أحد طرفي العلم الاجمالي ، فمن يقول إنّ ذلك ممنوع ينبغي له أن يقول هنا بالمنع ، ويكون حاصل ذلك أنّ هذه المسألة لا يكون شيء من أطرافها مجرى لأصل من الأُصول ، ولم يبق إلاّ أصالة الاشتغال بالصلاة وعدم المؤمّن من وجوب سجود السهو. وإن شئت فقل : يكون العلم الاجمالي فيها مؤثّراً ابتداءً بلا تعارض بين الأُصول ولا تساقط ، وقد تقدّمت الاشارة (1) إلى نظير هذا الفرع فيما مرّ من مسألة دوران الأمر بين الركن وغيره ، فراجع.

قوله : مع الإذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر ولو بمثل أصالة الاباحة والبراءة ، إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بالخصوص ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بعد فرض كون العلم بالتكليف ولو إجمالاً موجباً لاشتغال الذمّة به ، وبعد فرض حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني عمّا اشتغلت به الذمّة ولو تعبّداً ، لا يمكن الرجوع في بعض أطراف ذلك العلم إلى الأُصول النافية الجارية في مقام شغل الذمّة. نعم تجري الأُصول النافية الجارية في وادي الفراغ مثل أصالة الصحّة أو قاعدة التجاوز أو الفراغ ، ولو مع العلم التفصيلي بالاشتغال ، لأنّها حاكمة بالفراغ ، والفراغ الذي يحكم به العقل بعد إحراز الاشتغال هو الأعمّ من الفراغ الواقعي أو الفراغ التعبّدي ، وهكذا الحال في الأُصول النافية المحقّقة

ص: 425


1- لعلّ المقصود به ما في الصفحة : 373 - 374.
2- فوائد الأُصول 4 : 35.

للشرط مثل أصالة الطهارة في لباس المصلّي ، فإنّها أيضاً محقّقة للامتثال والفراغ التعبّدي.

أمّا الترخيص لأجل الاضطرار فهو أجنبي عن مفاد الأُصول النافية ، لأنّه ترخيص واقعي يجتمع حتّى مع العلم التفصيلي بحرمة ما اضطرّ إليه المكلّف.

وأمّا الأصل النافي في بعض الأطراف مع كون الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت للتكليف ، فلا دخل له بما نحن فيه ، لما سيأتي إن شاء اللّه من أنّ كون بعض الأطراف مجرى للأصل المثبت للتكليف يكون موجباً لانحلال العلم ، ومع انحلال العلم لا يبقى مانع من إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الفرض فيه هو عدم الانحلال ، وليس مفاد الأصل النافي تعيّن التكليف في الطرف الآخر كي يكون اجتناب ذلك الطرف الآخر محقّقاً للفراغ التعبّدي ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فما أُفيد من كون مرجع الأصل النافي إلى جعل البدل لا يخلو عن تأمّل. كما أنّ ما أُفيد من كون الأصل النافي في بعض الأطراف موجباً لتحقّق الفراغ التعبّدي بالاجتناب عن الطرف الآخر لا يخلو أيضاً عن تأمّل.

ومن ذلك يظهر امتناع الترخيص في بعض الأطراف باجراء الأُصول النافية ، وحينئذ فيكون العلم الاجمالي بذلك القدر الجامع هو الموجب لسقوط الأصل النافي في بعض الأطراف لا تعارضها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري النافي للتكليف الناشئ من الأُصول النافية ولو في بعض الأطراف.

ومن ذلك أيضاً يظهر أنّ ما أفاده (1) في التقرير من الوجه الثاني لتقريب

ص: 426


1- فوائد الأُصول 4 : 38.

جريان الأصل النافي للتكليف فيما لو كان التكليف ثابتاً في بعض الأطراف ، لعدم المعارض حينئذ للأصل النافي ، ليس بخال عن التأمّل ، بل المعتمد هو الوجه الأوّل المبني على أنّ ثبوت التكليف في بعض الأطراف يكون موجباً لعدم تأثير العلم الاجمالي ، وفي الحقيقة أنّه لو كان التكليف ثابتاً في بعض الأطراف لا يكون لنا علم إجمالي بحدوث تكليف ، لا أنّ العلم الاجمالي موجود ولا أثر له لكون بعض الأطراف يجري فيه الأصل النافي بلا معارض في الطرف الآخر كما هو ظاهر الوجه الثاني (1).

ثمّ لا يخفى أنّه ليس المدار في تحقّق الانحلال على تقدّم العلم بثبوت التكليف في بعض الأطراف ، بل المدار فيه على كون ذلك التكليف الثابت في بعض الأطراف متقدّماً على التكليف المعلوم بالاجمال ، فإنّه لو وقعت نجاسة في إناء معيّن ، وعلم إجمالاً بوقوع نجاسة أُخرى مردّدة بينه وبين إناء آخر ، تارةً تكون النجاسة في المعيّن متقدّمة على النجاسة في المردّد ، وأُخرى تكون متأخّرة عنها ، وثالثة تكون مقارنة لها ، والعلم التفصيلي بتلك النجاسة المعيّنة تارة يكون متقدّماً على العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة ، وأُخرى يكون متأخّراً عنه ، وثالثة يكون مقارناً له ، فتكون الصور تسعاً ، يختلف حالها في انحلال العلم وعدم انحلاله ، فراجع ما حرّرناه في شرح الوسيلة (2). وهكذا الحال فيما لو كان كلّ من

ص: 427


1- ينبغي أن يتأمّل في هذا المبحث في فرع ، وهو ما لو علم إجمالاً بأنّه قد صدر منه أحد الأمرين من تطهير ثوبه من الخبث أو الوضوء ، فإنّه بعد تساقط استصحاب الحدث والخبث هل يمكن الرجوع في الوضوء إلى قاعدة لزوم إحراز الشرط ، وفي الثوب إلى قاعدة الطهارة [ منه قدس سره ].
2- مخطوط لم يطبع بعدُ.

النجاستين معلوماً بالاجمال.

وممّا ذكرناه من الفرق بين الأُصول النافية في مقام الفراغ والأُصول النافية في مقام الاشتغال ، تعرف أنّ العلم الاجمالي بفوات سجدة من هذه الركعة أو التشهّد مثلاً ، ليس من قبيل العلم الاجمالي بأنّه قد توجّه إليه أمر بأحد الأمرين السجدة والتشهّد ولا يعلمها بعينها ، بل إنّه في مثل ذلك يعلم تفصيلاً بأنّه قد أُمر بكلّ من السجدة والتشهّد ، وقد اشتغلت ذمّته بكلّ منهما أيضاً تفصيلاً أيضاً ، لكن علمه الاجمالي إنّما وقع في مقام الفراغ ، فإنّه يعلم بأنّه قد فرغت ذمّته من أحد الفعلين أعني السجدة والتشهّد ، وبقيت ذمّته مشغولة بالآخر ، فالشكّ بالنسبة إلى كلّ منهما يكون شكّاً في الفراغ بعد أن أحرز اشتغال ذمّته به بالخصوص. وهذا بخلاف العلم الاجمالي المتعارف ، أعني ما كان متعلّقاً باشتغال الذمّة بالتكليف بأحد الأمرين ، فإنّه لا يكون بالنسبة إلى كلّ واحد منهما بخصوصه إلاّ شكّاً في الاشتغال. نعم بعد الاتيان بأحدهما يكون شكّاً في الفراغ بالنسبة إلى القدر المشترك بينهما ، لا بالنسبة إلى الباقي بخصوصه.

وحينئذ فلو كان في البين أصل مثبت في أحد طرفي العلم الاجمالي الذي هو واقع في مقام الاشتغال ، كان موجباً لانحلال العلم الاجمالي ومسوّغاً للرجوع في الطرف الآخر إلى الأصل النافي ، بخلاف العلم الاجمالي الواقع في مقام الفراغ فإنّ وجود الأصل المثبت في أحد طرفي العلم الاجمالي ، مثل أصالة الاشتغال ومثل قاعدة الشكّ في المحل ومثل أصالة عدم الاتيان ، لم يكن موجباً لجواز الرجوع في الطرف الآخر إلى الأُصول النافية مثل أصالة البراءة ، لما عرفت من أنّ الشكّ في كلّ من طرفي هذا العلم راجع إلى العلم بأنّه بنفسه قد اشتغلت به الذمّة ، وأنّ الشكّ إنّما وقع في امتثاله والخروج عن عهدة الأمر.

ص: 428

نعم ، لو كان ذلك الأصل النافي مثل قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة ونحوها ممّا يكون مرجعه إلى الحكم التعبّدي بالفراغ ، كان ذلك الأصل جارياً.

والحاصل : أنّه في مثل ذلك العلم الاجمالي لابدّ من الاتيان بكلّ واحد من طرفيه إمّا حقيقة ، وإمّا تعبّداً بالركون إلى مثل هذه القواعد ، ولكن لا يمكن أن يكون كلّ واحد من طرفيه مجرى لهذه القواعد ، للعلم بخطأ إحدى القاعدتين الموجب للمخالفة القطعية ، بل إنّما يسوغ الرجوع في بعض الأطراف إلى تلك القواعد إذا لم يكن الطرف الآخر مجرى لتلك القواعد ، بل كان ذلك الطرف الآخر مجرى لأصالة عدم الاتيان ، أو بقي على حاله من مقتضى أصالة الاشتغال ، ومنه قاعدة الشكّ في المحل ، فإنّها ليست قاعدة مستقلّة ، وإنّما هي عبارة عن نفس أصالة الاشتغال بذلك الجزء الذي قد اشتغلت به الذمّة مع الشكّ في امتثاله والخروج عن عهدته.

وبالجملة : لا يتصوّر الرجوع في بعض أطراف ذلك العلم الاجمالي إلى مثل أصالة البراءة ، لأنّها إنّما تجري في مقام الشكّ في الاشتغال لا في مقام الشكّ في الامتثال.

نعم لو رجع الشكّ في تحقّق امتثال الجزء إلى الشكّ في الاشتغال ، كما لو كان الشكّ فيه بعد تجاوز محلّه والدخول في ركن آخر ، بحيث إنّه لا يبقى له أثر إلاّ قضاءه بعد الصلاة أو سجود السهو له ، كان مورداً للبراءة بالقياس إلى الأثر المزبور. والسرّ في ذلك : هو أنّ تجاوز محلّ ذلك الجزء على وجه لا يمكن تلافيه لدخوله في ركن آخر يوجب سقوط الأمر به ، فلا يكون من قبيل الشكّ في بقاء ذلك الأمر ، بل إنّما يكون الشكّ حينئذ شكّاً في الاشتغال ، نظراً إلى الأثر

ص: 429

المترتّب على ترك ذلك الجزء وعدم التمكّن من تلافيه ، وذلك الأثر هو قضاؤه بعد الصلاة أو سجود السهو له ، فلو كان له طرف آخر مثل ما لو كان الأمر دائراً بين ترك سجدة من الركعة السابقة التي قد فات محلّها للدخول في ركن آخر ، أو ترك سجدة من هذه الركعة التي بقي محلّها أو تجاوزه إلى ما لا يمنع من الرجوع إليها ، كان من قبيل العلم الاجمالي المردّد بين بقاء الأمر بالسجدة اللاحقة ، وبين توجّه الأمر بقضاء السجدة السابقة ، وكانت السجدة السابقة مورداً للبراءة من لزوم قضائها ، ولكن لا يجتمع الرجوع إلى البراءة من قضاء السجدة السابقة مع القواعد النافية في السجدة اللاحقة ، وإنّما يمكن الرجوع إلى البراءة من قضاء السجدة السابقة إذا كانت السجدة اللاحقة مورداً للأُصول المثبتة مثل أصالة عدم الاتيان أو أصالة الاشتغال.

وفي الحقيقة أنّ هذا النحو من العلم الاجمالي لا يحلّه الأصل المثبت الجاري في بعض أطرافه ، كما لا يحلّه الأصل النافي في بعض أطرافه ، بل كلّ طرف من أطرافه يحتاج إلى الخروج عن العهدة إمّا حقيقة أو تعبّداً ، لكن لا يمكن الجمع بين الطرفين في الحكم التعبّدي بالخروج عن العهدة ، لما عرفت من لزوم المخالفة القطعية.

وإن شئت قلت : إنّ هذا العلم الاجمالي لا يمنع من إجراء القواعد النافية في بعض أطرافه إذا كانت جارية في وادي الامتثال ، مثل قاعدة التجاوز والفراغ ، ويكون الموجب لسقوطها في أطرافه هو تعارضها ، وهذا بخلاف العلم الاجمالي المتعلّق بالاشتغال ، فإنّه بنفسه يمنع من جريان الأُصول النافية في بعض أطرافه إذا كانت جارية في أصل الاشتغال ، كما في مثل أصالة البراءة واستصحاب عدم التكليف.

ص: 430

[ تنبيه ] في مسألة دوران الأمر في الفائت بين كونه ركناً أو غير ركن ممّا يقضى بعد الصلاة أو كان ممّا له سجود السهو.

تقدّم الكلام فيما لو حصل العلم المذكور بعد الفراغ من الصلاة ، فقد عرفت أنّ بعضهم يعارض بين قاعدتي التجاوز أو الفراغ في كلّ من الطرفين ويعارض أيضاً بين أصالتي عدم الاتيان في كلّ من الطرفين ، ويرجع بعد التساقط إلى الأُصول الأُخر ، وهي في مثل ذلك أصالة الاشتغال بالصلاة ، وأصالة البراءة من قضاء غير الركن ومن سجود السهو ، فيحكم بالاعادة فقط.

وبعضهم يقول : إنّه وإن تعارضت القاعدتان ، إلاّ أنّ أصالتي العدم غير متعارضة ، فيحكم بعدم الاتيان بكلّ من الطرفين ، فيلزم بالقضاء لغير الركن وسجود السهو وإعادة الصلاة.

وبعضهم يقول : إنّ قاعدة الفراغ في غير الركن لا تصلح لمعارضة نفس القاعدة في الركن ، إمّا لأنّها في طولها ، وإمّا لأنّ المكلّف يعلم بأنّه لم يمتثل الأمر بغير الركن ، فلا تجري فيه القاعدة ، وأنّ المرجع حينئذ هو قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركن وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فيحكم بقضاء غير الركن وسجود السهو من دون إعادة الصلاة ، هذا بناءً على الطولية.

وأمّا بناءً على الوجه الآخر وهو كون غير الركن غير مأتيّ به على وجهه فيكون المرجع الوحيد هو قاعدة التجاوز في الركن ، وهي كما تنفي وجوب الاعادة تكون مثبتة لوجوب قضاء غير الركن.

كما أنّك قد عرفت ممّا حرّرناه (1) أنّه بناءً على تعارض القاعدتين يكون المرجع الوحيد هو أصالة عدم الاتيان بالركن ، لأنّه بواسطة اقتضائه الفساد يكون

ص: 431


1- في الحاشية السابقة.

حاكماً على أصالة عدم الاتيان بغير الركن.

ولك أن تشرح العملية في الفروع الآتية على كلّ من هذه المسالك.

وقد جعلنا هذه الفروع أصنافاً بالنظر إلى حصول العلم المردّد بين فوات الركن وغيره ، في المحلّ العمدي أو المحل السهوي ، أو بعد تجاوز المحل السهوي. والضابط في هذه الأصناف هو أن يقال : إنّ العلم المردّد بين كون المتروك ركناً أو غيره ، تارةً يكون حصوله في حال كون المكلّف في المحلّ العمدي بالنسبة إليهما معاً ، بأن يكون الشكّ بالنسبة إلى كلّ من الطرفين شكّاً في المحل. وأُخرى يكون بالنسبة إلى أحدهما شكّاً في المحل ، وبالنسبة إلى الآخر شكّاً بعد تجاوز المحل ، وثالثة يكون الشكّ بالنسبة إلى كلّ منهما من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل.

والأوّل صنف واحد ، وإن اختلف الحال فيه بين ما لو كان الركن سابقاً على غير الركن ، كما لو كان جالساً وتردّد بين ترك التشهّد أو ترك السجود ، وما لو كان الركن متأخّراً كما لو كان في حال القيام وتردّد بين كون المتروك هو الركوع أو كون المتروك هو القراءة كما سيأتي في شرحه.

والثاني أربعة أصناف ، لأنّ ما كان الشكّ بالنسبة إليه من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل ، إمّا أن يكون هو الركن وإمّا أن يكون هو غير الركن. وكلّ منهما إمّا أن يكون بحيث لا يمكنه تلافيه لو كان هو المتروك لكونه قد دخل بعده في ركن آخر ، وإمّا أن يكون بحيث يمكنه تلافيه بأن لم يدخل بعده في ركن آخر.

والثالث - وهو ما كان الشكّ فيه بالنسبة إلى كلّ منهما من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل - أربعة أصناف أيضاً ، لأنّهما إمّا أن لا يمكن التلافي بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإمّا أن يمكن التلافي بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإمّا أن يمكن التلافي بالنسبة

ص: 432

إلى الركن دون غير الركن ، وإمّا أن يكون الأمر بالعكس.

وحينئذ تكون الأصناف تسعة ، أدخلنا أربعة منها في صنف واحد وهو الصنف المرقّم عليه برقم 3 ، وهي أصناف النحو الثاني ، وإنّما أدخلناها في صنف واحد لتساويها في كيفية العملية ، فينبغي أن تكون الأصناف ستّة ، لكن زدنا عليها الصنف السابع والثامن وإن لم يكونا داخلين في عنوان المسألة ، لأجل الاستطراد وتكميلاً للفائدة ، إذ لا يخلوان من علاقة بكيفية العملية في هذه الأصناف.

ثمّ إنّ ما كان من هذه الفروع مذكوراً في العروة قد أشرنا في مقابله إلى رقم المسألة المذكور فيها ، وما لم نجده في العروة بقي بلا إشارة.

وينبغي أن أُنبّهك على مطلب تحتاج إليه في حلّ بعض هذه الفروع ، وذلك المطلب يتّضح بفرع أجنبي عن هذه الفروع ، وهو أنّه لو نسي التشهّد على الثانية وقام إلى الثالثة ، وعندما تلبّس بالقيام شكّ في أنّه هل أتى بالسجود للركعة التي قام عنها أو لا ، ومع ذلك التفت إلى أنّه لم يأت بالتشهّد ، فلا ريب في أنّه يجب عليه هدم ذلك القيام لتلافي التشهّد ، ولكن بالنسبة إلى الشكّ في السجود هل تجري في حقّه قاعدة التجاوز لدخوله في غيره وهو القيام ، أو أنّه لا تجري في حقّه قاعدة التجاوز لكون ذلك القيام لغواً؟

كان مختار شيخنا الأُستاذ قدس سره هو الوجه الثاني. وبعضهم اختار الأوّل. فلو قلنا بما اختاره الأُستاذ قدس سره ، وفرضنا أنّ المكلّف كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك أحد الأمرين السجود أو التشهّد ، هل يمكن قياسه على الفرع المذكور ، بأن نقول إنّ قيامه كان لغواً ، فلا يمكن جريان قاعدة التجاوز في حقّه بالنسبة إلى كلّ من السجود والتشهّد.

أو نقول بالفرق بين مثل هذا الفرع والفرع السابق ، فإنّ ذلك الفرع السابق

ص: 433

كان مقروناً بالعلم التفصيلي بلغوية القيام ، فلا تجري في حقّه قاعدة التجاوز بالنسبة إلى السجود ، بخلاف هذا الفرع فإنّه لا يعلم تفصيلاً بأنّ التشهّد هو المتروك ، وليس له إلاّ العلم الاجمالي بترك أحدهما ، ومن الواضح أنّه مع العلم بترك أحدهما لا بعينه يكون ترك كلّ منهما مشكوكاً ، وكلّ واحد من هذين الشكّين يكون واقعاً بعد تجاوز محلّ المشكوك.

وحاصله : أنّه إنّما يكون القيام معلوم اللغوية بالنسبة إلى مجموع الطرفين أعني القدر الجامع بينهما ، والمفروض أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في القدر الجامع ، وإنّما تجري في كلّ واحد بخصوصه مع قطع النظر عن الآخر ، ومن الواضح أنّ كلّ واحد منهما في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الآخر يكون مشكوكاً بعد أن تجاوز محلّه ، وبناءً عليه تجري قاعدة التجاوز في مثل ذلك في كلّ من الطرفين فتسقط فيهما بالتعارض ، كما أنّه تسقط أصالة العدم في كلّ منهما بالتعارض أيضاً لكونها من الأُصول الاحرازية ، ويتعيّن حينئذ أن يكون المرجع هو أصالة الاشتغال ، وهذا المطلب يلزم الالتفات إليه لكونه نافعاً في أغلب الفروع الداخلة تحت الصنف المرقّم عليه برقم 4.

وهناك مطلب ثانٍ تحتاج إليه في بعض هذه الفروع ، ولعلّه فرع واحد وهو المرقّم عليه برقم 7 ، وذلك المطلب هو أنّه لو دخل المكلّف في جزء غير ركن وقد سها عمّا قبله ، فلا إشكال في أنّه يجب عليه ترك ذلك الجزء الذي دخل فيه وتلافي الجزء السابق ، وقد دلّت عليه جملة من النصوص (1)

ص: 434


1- هذه النصوص مذكورة في أبواب متفرّقة فراجع وسائل الشيعة 6 : 364 / أبواب السجود ب 14 ، وص 404 / أبواب التشهّد ب 8 ، وكذا راجع وسائل الشيعة 8 : 244 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 26.

ولو دخل في ذلك الجزء وقد شكّ فيما قبله ، فهو مورد قاعدة التجاوز ، ولكن لو لم تجر فيه قاعدة التجاوز لجهة من الجهات ، فالمرجع هو أصالة عدم الاتيان بذلك الجزء المشكوك ، وهي محرزة لموضوع جواز هدم ذلك الجزء الذي دخل فيه ، ووجوب تلافي الجزء المشكوك. ولو لم تجر أيضاً في حقّه أصالة عدم الاتيان بذلك الجزء المشكوك ، ولم يكن في البين إلاّ أصالة الاشتغال ، فهل تكفي أصالة الاشتغال في جواز هدم ذلك الجزء الذي بيده والرجوع لتلافي ذلك المشكوك ، ليكون ذلك الجزء الذي كان قد دخل فيه داخلاً في الزيادة.

وبعبارة أُخرى : هل أنّ أصالة الاشتغال بالجزء السابق مصحّحة للحكم على الجزء الذي بيده بأنّه واقع في غير محلّه ، وأنّه لم يكن على وفق الترتيب المأمور به في أجزاء الصلاة ، كي يصحّ لنا بذلك هدم ذلك الجزء ، أو أنّ أصالة الاشتغال لا تكون كافية في ذلك الحكم ، بل يكون ذلك الجزء الذي بيده مردّداً بين كونه في غير محلّه كي يلزمنا هدمه ، أو أنّه واقع في محلّه كي يلزمنا المضي فيه ، وحينئذ نقع في محذورين. ولعلّ ذلك التردّد بين المحذورين موجب لعدم التمكّن من اتمام الصلاة.

ومن هذا الإشكال ينقدح إشكال آخر ، وهو أنّه لو لم يكن لنا في الجزء المشكوك إلاّ أصالة الاشتغال ، فهل يمكن الاعتماد عليها في جواز الاتيان به مع احتمال كونه زائداً ، سيما إذا كان ركناً ، وهل من حيلة نصحّح بها الصلاة من الركون إلى مثل أصالة الصحّة ، أو ليس لنا حيلة في ذلك ، وهذه الجهة ملحوظة في بعض فروض الصنف الثاني وبعض فروض الصنف الرابع وفي السادس والسابع.

وأمّا الكلام في الفرع المرقّم عليه برقم 8 ، فعمدته النظر إلى حديث

ص: 435

الحيلولة ، وأصالة البراءة من وجوب قضاء الصلاة للشكّ في الفوت ، وهل قاعدة الحيلولة حاكمة على الأُصول المقرّرة فيما لو كان الوقت باقياً؟ وهل تجري هذه القاعدة في مورد الشكّ في الأجزاء التي يكون لها قضاء بعد الصلاة على تقدير أنّها هي المنسية؟

1 - لو كان في الركوع وعلم أنّه قد فاتته سجدة واحدة أو ركوع. نظيره في العروة مسألة 15 (1).

لو كان في الركوع وعلم أنّه قد فاته من ركعة واحدة إمّا سجدة واحدة ، أو سجدتان.

لو كان في الركوع وعلم بفوات سجدتين إمّا من ركعة واحدة ، أو من ركعتين كلّ واحدة من ركعة. في 14.

2 - لو كان جالساً وعلم أنّه قد ترك إمّا التشهّد أو السجدتين من هذه الركعة 16.

لو كان جالساً وعلم بأنّه إمّا لم يسجد بعد ، أو أنّه قد سجد سجدة واحدة فقط.

أو كان قائماً وعلم بأنّه قد أتى بأحد الأمرين ولم يأت بالآخر ، وهما القراءة والركوع.

3 - لو كان جالساً في الركعة الثانية وعلم بأنّه قد أتمّ السجود ، ولكنّه علم بأنّه إمّا لم يتشهّد بعدُ أو أنّه قد فاته الركوع.

أو كان قائماً وعلم بأنّه إمّا لم يقرأ بعدُ ، أو أنّه قد فاته السجود بتمامه من

ص: 436


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 340 ، وبه تتّضح مصادر بعض الفروع الآتية المذكورة في العروة.

هذه الركعة التي قام عنها. 16.

أو كان قائماً وقد فرغ من القراءة وعلم بأنّه إما لم يركع بعدُ ، أو أنّه قد ركع لكنّه قد ترك سجدة واحدة من الركعة التي قام عنها.

أو كان قائماً للثالثة وقد فرغ من التسبيح ، وعلم بأنّه إمّا لم يركع بعدُ ، أو أنّه قد ركع ولكنّه قد ترك سجدة واحدة من الركعة الأُولى.

أو كان جالساً وعلم بترك سجدتين إمّا من هذه الركعة ، أو من الركعة السابقة ، أو موزّعتين عليهما. 14.

4 - لو كان في أثناء القيام للثالثة وعلم بأنّه قد ترك أحد الأمرين : التشهّد ، أو السجود بتمامه من هذه الركعة التي قام عنها. 16.

أو كان في حال القنوت وعلم بأنّه قد ترك إمّا القراءة من هذه الركعة ، أو السجدتين من الركعة التي قام عنها. 16.

أو كان في حال التشهّد وعلم بأنّه قد فاتته من هذه الركعة إمّا سجدة واحدة أو سجدتان.

5 - لو كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك إمّا السجدة الواحدة من هذه الركعة التي قام عنها ، أو الركوع منها.

لو كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك سجدتين إمّا من هذه الركعة التي قام عنها ، أو من السابقة ، أو موزّعتين. 14.

أو كان في حال القنوت وعلم بأنّه قد ترك إمّا الفاتحة من هذه الركعة ، أو الركوع من الركعة التي قام عنها.

6 - لو كان في حال القيام وعلم أنّه قد ترك إمّا تمام السجود من هذه الركعة التي قام عنها ، أو سجدة واحدة من الركعة السابقة.

ص: 437

7 - لو كان في حال القيام أو التشهّد وعلم بفوات سجدة واحدة ، إمّا من هذه الركعة التي قام عنها أو من الركعة السابقة 20 ، ونظيره في 19.

8 - لو كان قد خرج الوقت وعلم بأنّه قد فاته من صلاته أحد الأمرين ، الركن أو أحد الأجزاء التي تقضى بعد الصلاة.

وهناك فروع أُخر تتعلّق بالمقام لا بأس بالتعرّض لبعضها ، وذلك :

1 - لو كان في حال الركوع وعلم بأنّه قد فاته من الركعة السابقة أحد الأُمور الثلاثة : الركوع ، أو السجدة الواحدة ، أو التشهّد. وكذا لو كان ذلك بعد الفراغ ، كيف تكون العملية على القول بالطولية وعلى القول الآخر ، أعني عدم جريان القاعدة لعدم امتثال الأمر؟

2 - لو كانت الثلاثة المعلوم فوت أحدها هي الركوع والسجدتين والتشهّد.

3 - لو كان كلّ واحد من هذه الثلاثة - أعني الركوع والسجدتين والتشهّد - محتملاً على نحو الشبهة البدوية ، ماذا تكون النتيجة على القول بالطولية وعلى القول الآخر؟

4 - لو علم بعد الفراغ بأنّه قد فاته التشهّد ، ولكن إمّا وحده أو هو مع الركوع ، كيف تكون العملية على جميع الأقوال؟

5 - لو علم بعد الفراغ أنّه إمّا زاد ركوعاً أو سجدة واحدة ، ومثله ما لو كان بدل الركوع الركعة ، وهو الفرع الذي ذكره في التحريرات المطبوعة في صيدا ص 247 (1).

6 - لو علم بعد الفراغ بعروض أحد الأمرين ، من زيادة الركن أو نقص السجدة الواحدة.

ص: 438


1- أجود التقريرات 3 : 425.

7 - لو انعكس الفرض في الصورة المزبورة ، بأن علم بعد الفراغ بنقص الركن أو زيادة السجدة الواحدة.

8 - لو اغتسل من الجنابة ثمّ أحدث بالأصغر ثمّ توضّأ ، ثمّ علم بخلل في غسله أو وضوئه.

9 - لو كان في هذا الفرض قد صلّى بعد كلّ من الطهارتين صلاة.

10 - لو توضّأ وصلّى وعلم بخلل مبطل إمّا في وضوئه ، أو في صلاته كترك الركن.

11 - لو علم بخلل مبطل في وضوئه أو بما له أثر في صلاته ، كترك السجدة الواحدة.

12 - لو كان في حال القيام وعلم بترك سجدتين ، إمّا من هذه الركعة التي قام عنها وإمّا من الركعة السابقة.

فرع ينبغي إلحاقه بما تقدّم : وهو ما لو كان في حال القيام إلى الثالثة ، وعلم أنّه قد فاته إمّا التشهّد على الثانية أو سجدة من الركعة الأُولى ، كان من قبيل تعارض قاعدة التجاوز في الطرفين على جميع الأقوال السابقة ، وبعد سقوطها فيهما يكون المرجع في كلّ منهما أصالة العدم ، وهي قاضية في السجدة بلزوم قضائها بعد الفراغ ، ولزوم تدارك التشهّد بهدم القيام. ولكن بناءً على مسلك شيخنا قدس سره من تعارض الأُصول الاحرازية ولو كانت مثبتة للتكليف في كلّ من الطرفين كما مرّ شرحه في مسألة دوران الأمر بين الركن وغيره ، ينبغي أن يكون المرجع في السجدة هو أصالة البراءة من وجوب قضائها ، وفي التشهّد هو أصالة الاشتغال ، ومقتضاه لزوم الهدم وتدارك التشهّد وسجود السهو بعد الصلاة لزيادة القيام ، وليس عليه قضاء السجدة ، وحينئذ يكون ذلك أحد ما أشرنا إليه فيما تقدّم

ص: 439

من الإشكال في هدم الجزء الذي بيده استناداً إلى أصالة الاشتغال. ولو منعنا عن هدمه أشكل الأمر في هذا الفرع ، وكان اللازم هو بطلان الصلاة لعدم إمكان إتمامها ، فتأمّل.

وينبغي مراجعة ما ذكرناه في الصورة الرابعة من الصور التي حرّرناها في هذه الرسالة. قال السيّد قدس سره في ختام العروة : التاسعة عشرة : إذا علم أنّه إمّا ترك السجدة من الركعة السابقة ، أو التشهّد من هذه الركعة ، فإن كان جالساً ولم يدخل في القيام أتى بالتشهّد وأتمّ الصلاة ، وليس عليه شيء ، وإن كان حال النهوض إلى القيام أو بعد الدخول فيه مضى وأتمّ الصلاة وأتى بقضاء كلّ منهما مع سجدتي السهو ، والأحوط إعادة الصلاة أيضاً. ويحتمل وجوب العود لتدارك التشهّد والاتمام وقضاء السجدة فقط مع سجود السهو ، وعليه الأحوط الاعادة أيضاً (1).

وكتب شيخنا قدس سره على قوله « حال النهوض » : الأقوى لحوقه بحال الجلوس كما تقدّم. وكتب على قوله « ويحتمل » ما هذا لفظه : لو كان بعد القيام تعيّن ذلك ، بل لم يظهر وجه للمضي في صلاته.

وفي مسألة 20 فيما لو علم بترك سجدة إمّا من الركعة السابقة أو من هذه الركعة ، قال السيّد قدس سره : وإن كان بعد الدخول في التشهّد أو في القيام مضى وأتمّ الصلاة ، وأتى بقضاء السجدة وسجدتي السهو ، ويحتمل وجوب العود لتدارك السجدة من هذه الركعة والاتمام وقضاء السجدة مع سجود السهو ، والأحوط على التقديرين إعادة الصلاة أيضاً (2). وكتب شيخنا قدس سره أيضاً على قوله « ويحتمل » ، ما هذا لفظه : هذا الاحتمال هو المتعيّن هنا أيضاً ، ولم يظهر وجه للمضي ،

ص: 440


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 348 - 349.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 349 - 350.

والاحتياط بالاعادة ضعيف في الصورتين (1).

قلت : قد عرفت أنّ الوجه في وجوب العود للتدارك مع قضاء الطرف الآخر بعد الصلاة ، إنّما هو أنّه بعد سقوط قاعدة التجاوز في الطرفين ، يكون المرجع هو أصالة العدم في كلّ منهما ، لكن على مسلك شيخنا قدس سره من التعارض في أصالة عدم الاتيان في كلّ منهما من جهة الاحرازية ، ينبغي أن يكون المرجع بعد تساقطهما هو أصالة الاشتغال فيما يجب الرجوع إليه ، وأصالة البراءة في الطرف الآخر ، فينبغي أن يكون الحكم هو أنّه بعد العود والتدارك وإتمام الصلاة لا شيء عليه سوى سجود السهو لما هدمه من القيام أو التشهّد. ولكن الأحوط الاعادة ، لما عرفت من الإشكال في جواز الهدم اعتماداً على أصالة الاشتغال ، وإن كان السيّد في احتياطه بالاعادة ليس بناظر إلى ذلك ، بل هو في ذلك وكذا في حكمه أوّلاً بوجوب المضي ، ناظر إلى أنّ وجوب قضاء ما مضى ممّا لا يمكن تلافيه في أثناء الصلاة المردّد بينه وبين تلافي ما أمكن تلافيه من قبيل العلم الاجمالي في التدريجيات ، وأنّه لا يكون مؤثّراً على كلّ حال ، فيحتمل جريان القاعدة من كلّ من الطرفين كما أشار إليه المرحوم الأُستاذ العراقي في فرع كج من فروع العلم الاجمالي (2).

والخلاصة : أنّ ما بنى عليه شيخنا قدس سره في مسألة 19 ومسألة 20 ، من الجمع بين وجوب تلافي ما يمكن تلافيه ووجوب قضاء ما لا يمكن تلافيه بعد الصلاة ، فيلزمه في مسألة 19 تلافي التشهّد وقضاء السجدة ، وفي مسألة 20 يلزمه تلافي السجدة من هذه الركعة التي قام عنها ، وقضاء السجدة من الركعة السابقة بعد

ص: 441


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 349 - 350.
2- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 39 - 40 / 23.

الصلاة ، إنّما يتمّ على القول بجريان أصالة العدم في كلّ من الطرفين ، وهو قدس سره لا يقول بذلك ، بل يقول بسقوط أصالة العدم في كلّ من الطرفين ، لكونهما إحرازيين كما أفاده في مسألة الدوران بين الركن وغيره من تساقطهما والرجوع في ناحية غير الركن إلى أصالة البراءة ، وفي الركن إلى أصالة الاشتغال ، فينبغي هنا أن يقول بالتساقط والرجوع في السجدة إلى أصالة البراءة من قضائها ، وفي ناحية التشهّد إلى أصالة الاشتغال ولزوم هدم القيام والرجوع إلى تلافيه.

لا يقال : لعلّ نظره قدس سره في ذلك إلى أنّ البراءة من قضاء التشهّد قد سقطت بسقوط قاعدة التجاوز فيه ، لأنّ الأصل المحكوم الموافق للحاكم يسقط بسقوط الحاكم.

لأنّا نقول : إنّ هذا ليس من موارد تلك المسألة ، لأنّ البراءة محكومة لأصالة العدم ، وأصالة العدم محكومة لقاعدة التجاوز ، فلا يكون سقوط قاعدة التجاوز موجباً لسقوط البراءة ، ولأجل ذلك بنى قدس سره في صورة دوران المتروك بين الركن وغيره فيما لو حصل العلم بذلك بعد الفراغ ، على أنّ المرجع بعد تساقط قاعدتي التجاوز وتساقط أصالتي العدم هو أصالة الاشتغال من ناحية الركن ، وأصالة البراءة من ناحية غير الركن. هذا كلّه لو كان العلم المذكور حاصلاً في حال القيام.

أمّا لو كان الحصول بعد الدخول في الركوع ، أو كان بعد الفراغ ، فبعد تعارض القاعدتين وتعارض أصالة العدم وتعارض أصالة البراءة ، يبقى العلم الاجمالي بحاله ، فيلزمه في مسألة 19 قضاء كلّ من السجدة والتشهّد وسجود السهو مرّتين ، وفي مسألة 20 لا يلزمه إلاّقضاء سجدة واحدة وسجود السهو مرّة واحدة ، وذلك واضح.

بل لو قلنا بعدم التعارض في أصالة العدم ، كان الحكم أيضاً كذلك حتّى في

ص: 442

مسألة 20 ، فلا يلزمه تكرار قضاء السجدة فيها ، للعلم التفصيلي بأنّه لم يفت منه إلاّ سجدة واحدة مردّدة بين كونها من الأُولى أو من الثانية ، وأصالة عدم الاتيان بها في الأُولى وفي الثانية لا تثبت عليه سجدتين ، إذ لا يلزم التعيين في القضاء أنّها من الأُولى أو من الثانية ، وذلك واضح.

وممّا ذكرناه في حكم من كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك إمّا التشهّد أو السجدة الواحدة من الركعة السابقة ، يتّضح لك الحكم فيما لو بدّلنا السجدة بالركوع ، بأن كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك إمّا التشهّد من هذه الركعة التي قام عنها أو الركوع ، فإنّه بناءً على مسلك شيخنا قدس سره ينبغي أن يقال بتعارض قاعدتي التجاوز وتعارض أصالتي العدم ، ويكون المرجع هو أصالة الاشتغال في كلّ من الطرفين ، فيلزمه العود وتدارك التشهّد وإتمام الصلاة وسجود السهو للقيام وإعادة الصلاة. نعم بناءً على ما ذكرناه من حكومة أصالة عدم الاتيان بالركوع على أصالة عدم الاتيان بالتشهّد ينبغي أن يكون الحكم هو إبطال الصلاة وإعادتها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان في حال القيام للرابعة وعلم أنّه قد ترك إمّا التشهّد على الثانية ، أو تمام السجود من هذه الركعة التي قام عنها ، بأن دار أمره بين جزء غير ركني قد فات محلّ تداركه ، أو جزء ركني قابل للتدارك بهدم القيام ، فبناءً على مسلك شيخنا قدس سره ينبغي أن يقال أيضاً بتساقط القاعدتين

وأصالتي عدم الإتيان في كلّ من الطرفين ، ويكون المرجع هو أصالة البراءة من قضاء الجزء غير الركني ، وأصالة الاشتغال من ناحية الجزء الركني ، فلا يلزمه إلاّهدم القيام لتلافي السجدتين وإتمام الصلاة. وهذه المسألة هي المسألة الرابعة فيما حرّرناه في هذه الرسالة ، وسابقتها هي المسألة الخامسة من هذه الرسالة ، فراجع.

ولو كان كلّ منهما لا يمكن تلافيه ، كما لو دخل في الركوع مثلاً وحصل له

ص: 443

العلم بأنّه قد ترك ممّا سبق جزءاً ركنياً أو جزءاً غير ركني ، كان الكلام فيه عين الكلام فيما لو كان ذلك بعد الفراغ. ولو كان كلّ منهما يمكن التلافي فيه لزمه رفع اليد عمّا هو فيه من الجزء ، وحينئذ ربما كان من قبيل الشكّ في المحل بالنسبة إليهما ، كمن كان في حال القيام وعلم أنّه قد فاته إمّا التشهّد من هذه الركعة أو تمام السجود منها. وربما كان من قبيل الشكّ في المحل بالنسبة إلى أحدهما والشكّ بعد التجاوز بالنسبة إلى الآخر ، كمن كان في حال القنوت وعلم بفوت القراءة أو تمام السجود من هذه الركعة [ التي قام عنها ] ، فهذه صور أربع. كما أنّه لو كان الشكّ في أحدهما من قبيل الشكّ في المحل ، وبالنسبة إلى الآخر من قبيل الشكّ بعد التجاوز ، يكون لها صور أربع ، وحكمها انحلال العلم الاجمالي باعمال قاعدة الشكّ في المحل ، وإعمال قاعدة التجاوز ، فتكون الصور حينئذ ثمانية ، وبضمّ ما لو كان بعد الفراغ وما لو كان كلّ منهما في المحل ، تكون الصور عشراً.

وخلاصة ذلك : هو أنّك قد عرفت أنّ مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غيره لها عشر صور ، لأنّ ذلك العلم إمّا أن يكون بعد الفراغ ، وإمّا أن يكون في الاثناء. فإن كان في الأثناء فإمّا أن يكون الشكّ في كلّ منهما من قبيل الشكّ في المحل ، وإمّا أن يكون الشكّ في كلّ منهما شكّاً بعد تجاوز المحل ، وإمّا أن يكون الشكّ في أحدهما شكّاً في المحل وبالنسبة إلى الآخر شكّاً بعد تجاوز المحل.

فما كان الشكّ فيه بالنسبة إليهما شكّاً في المحل يلزمه الاتيان بهما ، غير أنّه لو كان المقدّم غير الركن ، كما لو علم في حال القيام إمّا أنّه قرأ ولم يركع ، أو أنّه ركع ولم يقرأ ، فإنّه في هذه وإن كان ينبغي أن يأتي بهما معاً ، لكن يشكل الأمر في قرائته ، لأنّها إمّا قراءة بعد الركوع أو قراءة بعد القراءة ، فيحصل العلم بأنّها غير مأمور بها.

ص: 444

وما كان الشكّ في أحدهما في المحل وبالنسبة إلى الآخر بعد تجاوز المحل ، ينحلّ العلم الاجمالي بأصالة عدم الاتيان بما هو باقي المحل ، وقاعدة التجاوز فيما تجاوز محلّه ، سواء كان ما بقي محلّه هو الركن أو كان هو غير الركن ، وسواء كان ما تجاوز محلّه ممّا يمكن تداركه أو كان ممّا لا يمكن ، فهذه صور أربعة ، وبضمّ الشكّ في المحل فيهما وضمّ الشكّ بعد الفراغ ، تتحصّل ست صور.

أمّا ما يكون الشكّ فيه شكّاً بعد التجاوز بالنسبة إلى كلّ منهما ، ففيه صور أربع ، لأنّ كلاً منهما إمّا أن لا يكون قابلاً للتلافي ، وإمّا أن يكون أحدهما قابلاً للتلافي دون الآخر ، وإمّا أن يكون كلّ منهما قابلاً للتلافي. فإن لم يمكن التلافي في كلّ منهما ، كان ملحقاً بما بعد الفراغ ، وإن أمكن التلافي في أحدهما دون الآخر ، فإمّا أن يكون ما أمكن تلافيه هو الركن أو يكون هو غير الركن ، وهما الصورتان المتقدّمتان.

وتبقى صورة واحدة ، وهما ما أمكن التلافي في كلّ منهما مع فرض كون كلّ منهما مورداً لقاعدة التجاوز ، كمن كان في حال القيام وعلم بأنّه قد فاته إمّا التشهّد أو السجود من هذه الركعة [ التي قام عنها ] ، فيكون قيامه لغواً فيهدمه ويرجع حينئذ إلى صورة الشكّ في المحل ، وكمن كان في حال القنوت وعلم بأنّه لم يقرأ أو لم يسجد في هذه الركعة التي قام عنها ، فيكون قنوته لغواً ويلزمه تركه ، وحينئذ يعود حاله إلى صورة كون أحد الطرفين من قبيل الشكّ في المحل والآخر من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل ، فتجري قاعدة التجاوز في السجود وأصالة عدم الاتيان في القراءة ، فيقرأ ويمضي ولا شيء عليه.

ص: 445

قوله : كما إذا علم بعد الفراغ من الصلاة بفوات سجدتين وشكّ في أنّها من ركعة واحدة أو ركعتين ، فيعلم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين ... الخ (1).

ونظيره ما لو علم بذلك بعد فوات المحل السهوي ، بأن يكون علمه بذلك في أثناء الصلاة ولكن بعد أن دخل في الركوع ، إذ لا فرق بينهما إلاّفي أنّ أحد الطرفين في الفرع الأوّل هو قضاء السجدتين فقط ، والطرف الآخر هو إعادة الصلاة ، وفي الفرع الثاني يكون أحد الطرفين هو إتمام الصلاة وقضاء السجدتين ، والطرف الآخر هو إعادة الصلاة.

ثمّ إنّ الكلام في هذا الفرع جارٍ في كلّ مورد يكون التردّد فيه بين كون المتروك ركناً وكونه ممّا يقضى بعد الصلاة ، كما لو علم بعد الفراغ أو بعد الدخول في ركن آخر بأنّه إمّا قد فاتته سجدة واحدة أو قد فاته الركوع. ويمكن توسعة العنوان إلى ما هو أوسع من ذلك ، بأن يجعل العنوان هو ما لو تردّد بين المبطل وبين ما يوجب القضاء أو سجود السهو ، ليشمل ما لو علم بزيادة الركوع أو نقصان السجدة ، وما لو علم بزيادة ركعة أو بزيادة السلام ، وهو الفرع الذي ذكره السيّد سلّمه اللّه عن شيخنا قدس سره في تحريره (2) ، ويشمل ما لو علم بنقصان الركوع أو زيادة السجدة. لكن الأولى الاقتصار في العنوان على هذا الفرع ، وهو ما لو علم بعد الفراغ من الصلاة إمّا بترك ركن كالركوع أو ترك جزء يقضى كالسجدة الواحدة ، ويعرف البحث في غيره بالمقايسة ، والأقوال في مثل هذا الفرع ثلاثة :

الأوّل : لزوم قضاء السجدة وإعادة الصلاة ، وهو مبني على أنّه بعد تعارض قاعدة الفراغ في كلّ من السجدة والركوع ، يكون المرجع هو استصحاب عدم

ص: 446


1- فوائد الأُصول 4 : 44.
2- أجود التقريرات 3 : 425.

الاتيان بالركوع وعدم الاتيان بالسجدة ، بناءً على أنّ الأصلين الجاريين في طرفي العلم الاجمالي لا مانع من جريانهما إذا كانا مثبتين ولو كانا إحرازيين.

ويرد عليه : مضافاً إلى ما سيأتي من عدم معارضة القاعدة في غير الركن لها في الركن ، أنّ أصالة عدم الاتيان بالركن حاكمة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، لأنّ مقتضاها هو بطلان الصلاة ، الموجب لسقوط أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فتأمّل.

القول الثاني : هو ما اختاره الأُستاذ قدس سره وهو لزوم إعادة الصلاة فقط من دون لزوم قضاء السجدة ، وهو مبني على المنع من جريان الأصلين الاحرازيين ولو كانا مثبتين للتكليف ، وحينئذ نقول : إنّه بعد سقوط قاعدة الفراغ في كلّ من السجدة والركوع ، تصل النوبة إلى استصحاب العدم في كلّ منهما ، وبعد سقوط الاستصحابين تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال بالصلاة بالنسبة إلى الشكّ في الركوع ، وأصالة البراءة بالنسبة إلى قضاء السجدة ، فينحلّ العلم الاجمالي ، لكون الأصل الجاري في أحد طرفي العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، والأصل الجاري في الطرف الآخر كان نافياً للتكليف ، وقد عرفت أنّه يمكن القول بحكومة أصالة العدم في الركن عليها في غيره ، وسيأتي الكلام على هذه الجهة إن شاء اللّه في التأمّل الثاني فيما أفاده شيخنا قدس سره (1).

القول الثالث : هو لزوم قضاء السجدة من دون إعادة الصلاة ، وهو مبني على المنع من معارضة قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركوع بقاعدة الفراغ بالنسبة إلى السجدة ، لعدم صلاحية القاعدة الثانية للمعارضة للأُولى ، لتأخّرها عنها رتبة ،

ص: 447


1- الظاهر أنّه قدس سره يشير إلى ما سينقله عن شيخه قدس سره في الدروس الفقهية وما أشكل به عليه ، فراجع الصفحة : 457 وما بعدها ، ويأتي إشكاله الثاني في الصفحة : 461.

وحينئذ يكون المرجع في طرف الركوع هو قاعدة الفراغ ، وفي طرف السجدة هو أصالة عدم الاتيان بها ، ومقتضى ذلك هو لزوم قضاء السجدة فقط من دون لزوم إعادة الصلاة.

والوجه فيما ذكره أرباب هذا القول من التأخّر الرتبي لقاعدة الفراغ في الجزء غير الركني عن قاعدة الفراغ في الجزء الركني ، وأنّها لأجل ذلك لا تصلح لمعارضتها ، هو أنّ جريان قاعدة الفراغ في الجزء غير الركني موقوف على كون الصلاة صحيحة ، ومع الشكّ في فوات الركن تكون الصحّة مشكوكة ، ومع الشكّ في الصحّة لا يمكن إجراء قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء غير الركني ، لأنّ ذلك من قبيل جريان الأصل مع الشكّ في الموضوع الذي يتوقّف ذلك الأصل على إحرازه ، ولأجل ذلك قالوا إنّ قاعدة الفراغ تجري في الركن ، ولا تعارضها القاعدة الجارية في غير الركن لكونها في طولها ، بل الجاري في غير الركن هو أصالة عدم الاتيان به ، ومقتضى ذلك هو الاكتفاء بقضاء السجدة فقط.

لا يقال : إنّ غاية ما ينشأ عن الطولية المزبورة هو عدم صلاحية معارضة قاعدة الفراغ في غير الركن لقاعدة الفراغ في الركن لكونها في طولها ، بمعنى أنّها لا تقع في مرتبتها ، فلِمَ لم تقولوا بأنّه بعد إجراء قاعدة الفراغ في الركن وثبوت صحّة الصلاة من هذه الناحية ، يتنقّح عندنا موضوع قاعدة الفراغ في غير الركن ، فتجري أيضاً فيه القاعدة المزبورة ، غايته أنّ جريانها فيه يكون متأخّراً في الرتبة عن جريانها في الركن ، ولا يلزم منه إلاّ اجتماع الحكمين المتضادّين أو المتناقضين ، ولا بأس بذلك فيما نحن فيه لأجل الاختلاف في الرتبة.

لأنّا نقول : إنّ الاختلاف في الرتبة لا ينفع في جواز اجتماع الضدّين أو النقيضين. ولو سلّم أنّه نافع فإنّما ينفع في مورد عدم العلم بالخلاف. ولو سلّم أنّه

ص: 448

نافع حتّى في مورد العلم بالخلاف لكان هناك مانع آخر ، وهو لزوم المخالفة القطعية للتكليف المنجّز بالعلم الاجمالي كما فيما نحن فيه.

وحينئذ نقول : إنّ القاعدة في ناحية غير الركن وإن لم تصلح في حدّ نفسها لمعارضة القاعدة في الركن لعدم كونها في رتبتها لكونها متأخّرة عنها رتبة ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي المذكور يمنع من الأخذ بها ولو بعد مرتبة إجراء القاعدة في الركن.

لا يقال : إنّ العلم الاجمالي إنّما يمنع من الجمع بين القاعدتين ، وكما يحصل ذلك باسقاط القاعدة في غير الركن ، فكذلك يحصل باسقاط القاعدة في الركن ، فلِمَ خصصتم القاعدة الجارية في غير الركن للاسقاط.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في تعيّن القاعدة في غير الركن للاسقاط دون القاعدة الجارية في الركن ، هو أنّ التأخّر الرتبي يوجب جريان القاعدة في الركن ، لكونها لا مزاحم لها في رتبتها ، وبعد أن أخذت محلّها في الرتبة السابقة ، يكون العلم دافعاً للقاعدة في غير الركن ، فيكون المتعيّن للسقوط هو القاعدة في غير الركن.

لا يقال : إنّما يمكن جريان القاعدة في الركن لو قلنا إنّ المانع من جريان الأُصول النافية في أطراف العلم الاجمالي هو التعارض ، إذ لا تعارض في رتبة إجراء قاعدة الفراغ في الركن ، أمّا لو قلنا بأنّ المانع هو نفس العلم الاجمالي كما حقّق في محلّه ، فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة في الركن ، فإنّها في تلك المرتبة وإن لم يكن لها معارض ، لكنّها لا يمكن الأخذ بها ، لما عرفت من أنّه بناءً على كون العلم مانعاً من إجراء الأُصول النافية ، لا يمكن الرجوع إلى الأصل النافي في بعض الأطراف وإن لم يكن في الطرف الآخر أصل أصلاً.

لأنّا نقول : إنّ ذلك ليس من قبيل إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مع

ص: 449

كون الآخر لا أصل فيه ، بل هو من قبيل إجرائه في أحد الطرفين مع كون الطرف الآخر مجرى للأصل المثبت الموجب لانحلال العلم ، وذلك لأنّك بعد أن عرفت أنّ قاعدة الفراغ في ناحية غير الركن لم تكن متحقّقة في رتبة إجرائها في الركن ، فقهراً يكون المتحقّق في تلك الرتبة هو أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، وحينئذ يكون أصالة عدم الاتيان بغير الركن واقعاً في مرتبة قاعدة الفراغ في الركن ، وقد عرفت أنّه إذا كان إجراء الأصل النافي في أحد الطرفين مقروناً باجراء الأصل المثبت في الطرف الآخر ، لم يكن مانع من إجراء ذلك الأصل النافي ، لانحلال العلم الاجمالي.

لا يقال : إنّ هذا الأصل الثاني - أعني أصالة عدم الاتيان بالجزء غير الركني الذي هو السجدة مثلاً - أيضاً يتوقّف على إحراز صحّة الصلاة ، إذ لولا صحّتها لما كان يترتّب الأثر على الاتيان بذلك الجزء ولا على تركه.

لأنّا نقول : نعم إنّ الأصل المذكور يتوقّف على إحراز الصحّة ، لكنّها محرزة بقاعدة الفراغ في ناحية الركن ، ولا تنافي بين الأصل المذكور والقاعدة المزبورة ، لا من حيث العلم الاجمالي ولا من حيث المخالفة القطعية ولا من حيثية أُخرى ، بل تكون القاعدة مصحّحة لاجراء الأصل المذكور.

هذا حاصل ما تيسّر من تقريب الوجه في هذا القول ، وأساسه هو ما عرفت من تأخّر [ القاعدة ] في غير الركن عنها في الركن ، بحيث يكون ذلك التأخّر الرتبي موجباً لعدم صلاحية القاعدة في غير الركن لمعارضة القاعدة في الركن.

ولا يخلو عن تأمّل ، أمّا بناءً على كون العلم الاجمالي مانعاً من جريان الأصل النافي فواضح ، لأنّ القاعدة في الركن إذا كانت سابقة في الرتبة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، كانت سابقة على الانحلال ، فإنّه إنّما يحصل من الأصل

ص: 450

المثبت المفروض تأخّره رتبة ، اللّهمّ إلاّ أن يكملوا ذلك بعدم الاحتياج إلى أصالة العدم في غير الركن ، وذلك بما يدّعيه القائلون بسقوط قاعدة التجاوز في غير الركن للعلم بعدم امتثال أمرها ، من كون قاعدة التجاوز في الركن متكفّلة لإثبات وجوب قضاء غير الركن وسجود السهو له ، وسيأتي (1) الإشكال في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا بناءً على كون المانع هو المعارضة ، فلما تقدّم من أنّه بعد جريان قاعدة التجاوز في الركن يتنقّح موضوع قاعدة التجاوز في غير الركن ، ولا يمكن الجمع بينهما ولو كانا في رتبتين. ولا وجه لما تقدّم من الجواب عنه بأنّ الساقط هو الثانية لأنّ الأُولى أخذت محلّها ، فإنّه جواب إقناعي غير مبتنٍ على أساس علمي ، إذ بعد تنقّح موضوع قاعدة التجاوز في غير الركن يكون جريانها فيه قهرياً.

وما قيل في الجواب عنه ، من أنّه إذا لم تجر قاعدة التجاوز في السجود والقراءة في رتبة قاعدة التجاوز في الركوع ، لم تجر في رتبة لاحقة لها ، لأنّه يلزم من جريانها عدمه ، لأنّها إذا جرت عارضت قاعدة التجاوز الجارية في الركوع ، للعلم الاجمالي بكذب إحداهما ، وإذا عارضتها سقطت الأُولى فتسقط الثانية ، فيعلم تفصيلاً بسقوطها عن الحجّية على كلّ حال ، فيتعيّن الرجوع في موردها إلى أصالة عدم الاتيان لا غير (2).

ولا يخفى أنّ سقوط الأُولى بالتعارض لا يوجب عدم إمكان التعارض ، لأنّ الثانية في مرتبة التعارض صالحة للمعارضة الناشئة عن عدم إمكان الجمع ، إذ لا

ص: 451


1- في الصفحة : 471 وما بعدها ، وراجع أيضاً الصفحة : 467 - 470.
2- مستمسك العروة الوثقى 7 : 624.

معنى لتعارض الأُصول إلاّهذا المعنى ، أعني عدم إمكان الجمع بينها ، وهذا المعنى محقّق وجداناً في مرتبة الثانية ، وإن لم تكن هي متحقّقة في مرتبة الأُولى ، كما أنّ الأُولى لم تكن متحقّقة في مرتبة الثانية ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن الجمع بينهما كلاً على مرتبته ، وحينئذ يسقطان معاً ، وإن كان ينشأ عن سقوطهما معاً ارتفاع موضوع الثانية ، لأنّ هذا الارتفاع متأخّر رتبة عن هذا السقوط المتأخّر والمتولّد عن عدم إمكان الجمع الحاصل من إجراء كلّ منهما في مرتبته ، وإلاّ لكان هذا الإشكال - أعني لزوم عدم الجريان من الجريان - متأتّياً في الأُولى ، لأنّه يلزم من جريانها جريان الثانية في رتبتها ، ومن جريان الثانية في رتبتها يلزم عدم جريان الأُولى لتحقّق التعارض والتساقط.

ومن ذلك يظهر التأمّل في قوله : فيعلم تفصيلاً بسقوطها عن الحجّية على كلّ حال ، فإنّ المراد منه هو أنّ الثانية إن لم تجر الأُولى كانت ساقطة لعدم إحراز موضوعها ، وإن كانت الأُولى جارية كانت الثانية أيضاً ساقطة بالتعارض ، فيحصل العلم التفصيلي بأنّها ساقطة على كلّ حال من جريان الأُولى وعدمه ، وهذا بخلاف الأُولى فإنّها إنّما تسقط في حالة جريان الثانية بالتعارض ، أمّا إذا فرضنا عدم جريان الثانية فلا مانع من جريان الأُولى ، هذا حاصل المراد في الفرق بين القاعدتين.

إلاّ أنّه لا يمنع من التعارض ، لأنّ مفروض المسألة أنّ الأُولى في حدّ نفسها جارية في موردها ، وبذلك يتحقّق جريان الثانية في موردها ، وحينئذ يحصل الجمع بينهما ، وهو ممنوع للمخالفة القطعية. وكون الثانية لا تجري في حدّ نفسها عند فرض عدم جريان الأُولى ، كما لا يرفع محذور الجمع بينهما لا يكون موجباً لتعيّن الثانية للسقوط ، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو بعد فرض جريان الأُولى ، فتأمّل

ص: 452

جيّداً.

نعم ، لو كان جريان الأُولى في موردها حاكماً بلزوم قضاء السجدة وسجود السهو كما يدّعيه أرباب القول الآتي ، لكانت حاكمة على الثانية ، إلاّ أنّ الكلام مع أرباب هذا القول المبني على الطولية ، التي لا يكون أثرها إلاّتوقّف جريان الثانية على جريان الأُولى.

وإن شئت فقل : إنّ المتحصّل ممّا أُفيد في وجه عدم جريان الثانية ، هو أنّ الأُولى لو لم تكن جارية كانت الثانية ساقطة لعدم الموضوع ، وإن كانت الأُولى جارية كانت الثانية ساقطة بالتعارض ، فتكون الثانية ساقطة على كلّ حال. وحينئذ نقول : إنّ هذا يمكن أن يؤلّف منه قياس استثنائي ، فيقال إنّ الأُولى لو كانت جارية كانت الثانية ساقطة بالتعارض ، لكن الأُولى جارية في حدّ نفسها فتكون الثانية ساقطة بالتعارض ، وذلك عبارة أُخرى عن سقوطهما معاً ، فيكون الثابت هو السقوط التعارضي لا السقوط لعدم الموضوع ، ويكون ذلك نظير قولنا لو كان هذا الجسم فرساً لكان حيواناً ، ولو كان إنساناً كان حيواناً أيضاً ، لكنّه إنسان ، فهو حيوان ، فيكون الثابت هو الحيوان الناطق لا الحيوان الصاهل.

ومنه يتّضح لك الجواب عمّا ربما يقال من أنّ إجراء القاعدة في غير الركن يلزم من وجوده عدمه ، حيث إنّها لو جرت لسقطت بالمعارضة معها في الركن ، فإنّ هذا المحذور جارٍ في كلّ متعارضين ، إذ يلزم من جريان أحدهما معارضته للآخر فيسقطان معاً ، بل إنّه جارٍ في الأُولى أيضاً ، إذ يلزم من إجرائها إجراء الثانية لتحقّق موضوعها حينئذ ، ويلزم من إجراء الثانية سقوط كلّ منهما بالمعارضة ، فيكون اللازم من إجراء الأُولى سقوطها وعدم إجرائها.

وأمّا التشبّث لعدم الجريان في غير الركن ، بأنّ العام لا يشمل الأفراد

ص: 453

الطولية ، فقد حقّق الجواب عنه في مبحث حجّية خبر الواحد في البحث عن شموله للإخبار بالواسطة ، فراجع (1).

وربما يقال : إنّه بعد تسليم كون الثانية في رتبتها معارضة للأُولى ، نقول إنّ معنى التعارض أوّلاً هو سقوط أحد الأصلين ، وحيث لا معيّن يتعيّن إسقاطهما فراراً عن الترجيح بلا مرجّح ، وفي المقام يمكن ترجيح سقوط الثانية ، لا لما مرّ من أنّ الأُولى قد أخذت محلّها في الرتبة السابقة ، بل لأنّ إسقاط الأُولى يكون موجباً لاسقاط الثانية ، بخلاف إسقاط الثانية فإنّه لا يوجب إسقاط الأُولى ، فيكون المتعيّن إسقاطها ، لأنّه أرجح حينئذ من إسقاط الأُولى.

ولكن لا يخفى أنّه أيضاً إقناعي غير مبتنٍ على أساس علمي ، لأنّ سقوط الثانية عند إسقاط الأُولى لبقائها بلا موضوع لا يرجّح ويعيّن إسقاطها ، لامكان إسقاط الأُولى وإن بقيت الثانية بعد إسقاطها بلا موضوع. وبالجملة : ليس المقام من قبيل الدوران بين الاسقاط الواحد والاسقاطين.

ثمّ لا يخفى أنّه لو دار الأمر بين الثلاثة ، بأن علم بعد الفراغ بأنّه قد ترك إمّا الركوع أو السجدتين أو التشهّد ، فعلى مسلك الأُستاذ قدس سره يتعارض القواعد ، ويتعارض أصالة عدم الاتيان ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء التشهّد. وعلى مسلك من أسقط قاعدة التجاوز في غير الركن لأجل العلم بعدم امتثال أمره ، يكون المرجع هو قاعدة التجاوز في كلّ من الركوع والسجدتين ، ولا يلزمه إلاّقضاء التشهّد وسجود السهو. لكن على مسلك القائل باسقاط القاعدة في غير الركن من جهة الطولية ، ينبغي القول بعدم جريان القاعدة في الأطراف الثلاثة. أمّا التشهّد فواضح ، وأمّا الركوع والسجدتان

ص: 454


1- المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 425 - 433.

فللدور ، لأنّ كلاً منهما متوقّفة على إجراء الأُخرى ، فلا يكون المرجع إلاّ أصالة العدم ، فتأمّل فإنّه بناءً على ذلك ينبغي أن يكون الحال كذلك فيما لو احتمل كلاً من الثلاثة على نحو الشبهة البدوية ، فيكون اللازم في ذلك عنده هو الإعادة وحدها بناءً على ما ذكرناه من حكومة أصالة العدم في الركن عليها في غير الركن ، أو يكون اللازم هو الاعادة مع قضاء التشهّد لو قلنا بالجمع بين الأُصول الثلاثة ، فتأمّل فإنّه في غاية الغرابة. وكذلك الإشكال فيما لو كان الاحتمال البدوي ثنائياً ، بأن احتمل ترك الركوع بدوياً كما احتمل أيضاً بدوياً ترك السجدتين من إحدى الركعات.

والأولى أن يقال : إنّ صحّة الصلاة ليست موضوعاً شرعياً لقاعدة التجاوز في السجدة ، وإنّما هي مورد لذلك ، بمعنى أنّه مع فساد الصلاة لا مورد للحكم بأنّك أتيت بالسجدة ، لا أنّ موضوع هذا الحكم هو صحّة الصلاة على وجه يكون له تقدّم رتبي عليه ، وذلك نظير ما قالوا في وجه حكومة الأمارة على الاستصحاب من أنّه مقيّد بالشكّ بخلاف الأمارة ، مع فرض كون مورد الأمارة قهراً هو الشكّ في الواقع وعدم العلم به ، فلم يكن مجرّد هذه الموردية موجباً لكون موضوع الأمارة هو الشكّ وعدم العلم كي تكون متأخّرة عنه رتبة ، وتكون في عرض الاستصحاب في كون كلّ منهما متأخّراً رتبة عن الشكّ ، وأنّه موضوع لكلّ منهما ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره من إيراده الأوّل (1) بأنّه يكفي الصحّة التقديرية.

وما أشبه هذا الإشكال بالإشكال الذي يورد على التمسّك باطلاقات البيع بناءً على القول بالأعمّ ، فيقال : إنّ الفاسد لا يؤمر بالوفاء به ، فعند الشكّ في اعتبار العربية لو وقع البيع بالفارسية لا يمكن التمسّك باطلاق الوفاء وإطلاق ( أَحَلَّ اللّهُ

ص: 455


1- سيأتي هذا الإيراد فيما ينقله عنه قدس سرهما في الدروس الفقهية ، فراجع الصفحة : 457.

الْبَيْعُ ) . ومنه يظهر لك أنّه يمكن المنع من التقييد ، بل من الموردية أيضاً.

وإن شئت فقل : إنّ كلاً من قاعدة التجاوز في السجدة وقاعدة التجاوز في الركن ، إنّما يجري في سدّ الاحتمال من ناحية مورده على ما شرحناه (1) في الجواب عن القول بأنّ قاعدة التجاوز في غير الركن لا محلّ لها للعلم بعدم امتثال أمرها ، وحينئذ يتحقّق التعارض بينهما والتساقط.

وخلاصة البحث أوّلاً : هو المنع من الطولية ، لأنّ الصحّة بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في غير الركن مورد لا موضوع ، بل قد عرفت أنّه يمكن المنع حتّى من الموردية فضلاً عن التقييد الموجب للطولية.

وثانياً : أنّه لا يتمّ على القول بكون المانع من جريان الأصل النافي في أطراف العلم الاجمالي هو العلم نفسه. ودعوى الانحلال بأصالة عدم الاتيان بغير الركن ممنوعة ، لأنّ هذا الأصل أيضاً متوقّف على إحراز الصحّة بقاعدة التجاوز في الركن ، فمع فرض كون جريانها متوقّفاً على جريان أصالة العدم في غير الركن دور محض.

وثالثاً : أنّا لو أغضينا النظر عن مسلكهم ، وقلنا بمسلكنا من جواز جريان الأصل النافي في بعض أطراف العلم الاجمالي ، لكانت قاعدة الفراغ في غير الركن ولو في الرتبة الثانية معارضة لقاعدة الفراغ في الركن ولو في الرتبة السابقة.

ويتلخّص المنع من جريان قاعدة الفراغ في غير الركن بأُمور خمسة :

الأوّل : دعوى أنّ العموم لا يشمل الأفراد الطولية. وهذا قد حقّق الجواب عنه في مسألة حجّية خبر الواحد عند الكلام على شمول دليل الحجّية للإخبار بالواسطة.

ص: 456


1- راجع الصفحة : 470 - 471.

الثاني : ما ذكرناه من كون الأُولى تأخذ محلّها في الرتبة السابقة ، فلا تبقي مجالاً للثانية. وقد عرفت أنّه أشبه شيء بالخطابة ، حيث إنّه بعد فرض شمول عموم دليل قاعدة التجاوز للأفراد الطولية ، يكون كلّ من الركن وغير الركن مورداً لها مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما ولو في مرتبتين.

الثالث : ما ذكرناه من ترجيح الأُولى على الثانية ، وهو أيضاً أشبه بالخطابة.

الرابع : دعوى أنّه يلزم من جريان الثانية عدم جريانها. وقد عرفت الجواب عنه بالنقض في كلّ متعارضين ، بل هو منقوض في الأُولى نفسها.

الخامس : دعوى كون الثانية غير جارية على كلّ حال من جريان الأُولى وعدم جريانها ، فيرجع إلى دعوى العلم التفصيلي بعدم جريان الثانية. وقد عرفت الجواب عنه ، وأنّ الوجه هو جريان الأُولى في حدّ نفسها ، وحينئذ تجري الثانية في حدّ نفسها ويسقطان معاً بالمعارضة. ثمّ بعد سقوطهما بالمعارضة يكون المرجع في الركن هو أصالة عدم الاتيان وهي قاضية ببطلان الصلاة ، وبذلك تكون حاكمة على أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، بل على كلّ أصل يمكن جريانه فيه حتّى أصالة البراءة من قضائه وسجود السهو له. ثمّ بعد هذا يتوجّه عليهم الإشكال في مسألة العلم الاجمالي بفوت أحد الثلاثة أعني الركوع والسجود والتشهّد ، وأشكل منه ما لو كان كلّ من هذه الثلاثة محتملاً بنحو الشبهة البدوية ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره تعرّض لهذه الجهة فيما أفاده قدس سره في الدروس الفقهية ، وأجاب عن هذا التأخّر الرتبي بما حاصله فيما حرّرته عنه قدس سره في الدروس ، وهو :

أوّلاً : أنّ هذا الإشكال جارٍ في مسألة علم المقلّد بأنّ مجتهده قد خرج عن أهلية التقليد ، إمّا بالموت أو بالفسق ، فإنّه لا يمكن فيه استصحاب العدالة ، لأجل

ص: 457

الشكّ في الحياة التي هي بمنزلة الموضوع للعدالة ، فيكون الجاري هو استصحاب الحياة فقط ، مع أنّ مقتضى العلم الاجمالي هو عدم جواز بقائه على تقليده. ونحن قد أجبنا عن الإشكال في استصحاب العدالة بأنّه يكفي فيه كون المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، كما حقّق في محلّه في أوائل خاتمة الاستصحاب.

وفيما نحن فيه نقول : إنّه يكفي في جريان القاعدة بالنسبة إلى غير الركن هو صحّة الحكم عليه بأنّه قد أتى به على تقدير الصحّة ، فتكون الصحّة التقديرية كافية في جريان القاعدة في الجزء غير الركني.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا عدم كفاية ما ذكرناه من التقدير فنقول : إنّ ما نحن فيه لا يقاس باستصحاب العدالة فيما تقدّم من المثال ، فإنّ الحياة في ذلك المثال ليست شرطاً شرعياً للعدالة ، وإنّما هي شرط عقلي ، وحينئذ فلا يكون استصحاب الحياة نافعاً في إثبات ما يتوقّف عليه جريان استصحاب العدالة من الحياة التي هي موضوع عقلي لها ، إلاّبالأصل المثبت.

وأمّا ما نحن فيه ، فإنّ ترتّب ما يتوقّف عليه القاعدة في الجزء غير الركني على الاتيان بالركن ، أعني بذلك صحّة الصلاة ، ترتّب شرعي ، فيكون المصحّح لجريان القاعدة في غير الركن الذي هو صحّة الصلاة من الآثار الشرعية المترتّبة على جريان قاعدة الفراغ في الركن.

وبعبارة أُخرى : يكون لجريان القاعدة في الركن أثران : أحدهما نفس الاتيان بالركن والخروج عن عهدة وجوبه. والآخر هو صحّة الصلاة التي يتوقّف عليها صحّة جريان القاعدة في غير الركن ، فبالنسبة إلى نفس الاتيان بالركن والخروج عن عهدة وجوبه تكون القاعدتان متعارضتين بواسطة العلم الاجمالي

ص: 458

بترك أحدهما ، ولكن بالنسبة إلى الأثر الآخر للقاعدة الجارية في الركن ، أعني صحّة الصلاة التي يتوقّف عليها جريان القاعدة في غير الركن ، لا يكون للقاعدة المذكورة معارض من جهة هذا الأثر ، وبعد تعارض القاعدتين بالنسبة إلى الأثر الأوّل ، نرجع إلى الأصل الآخر وهو استصحاب عدم الاتيان بالركن وعدم الاتيان بالجزء غير الركن ، وبعد سقوط هذين الأصلين لكونهما إحرازيين على خلاف العلم الاجمالي ، تنتهي النوبة إلى الاشتغال والبراءة ، ومقتضى الاشتغال بالنسبة إلى الركن هو الاعادة ، وبالنسبة إلى غير الركن هو البراءة من قضائه ومن سجود السهو بعد الفراغ ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي.

لا يقال : إذا كان جريان الأصل في الجزء غير الركني متوقّفاً على صحّة الصلاة بالاتيان بالركن ، كان الأصل النافي للركن حاكماً على الأصل الجاري في غير الركن ، فبعد استصحاب عدم الاتيان بالركن ، تكون الصلاة محكومة بالبطلان ، ومعه لا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فلا يكون الاستصحابان متعارضين كي يتساقطا ويرجع بعد التساقط إلى أصالة البراءة في الجزء غير الركني ، وقاعدة الاشتغال في الجزء الركني ، بل يكون الاستصحاب الجاري في عدم الاتيان بالركن حاكماً على الاستصحاب الجاري في عدم الاتيان بغير الركن.

لأنّا نقول : إنّك قد عرفت أنّ القاعدة الجارية في الركن بالنسبة إلى الأثر الثاني - أعني صحّة الصلاة - لا معارض لها ، وبهذا الأثر يتمّ إجراء الأصل في الجزء غير الركني وتتمّ المعارضة بين الاستصحابين.

قلت : توضيح ذلك : أنّ مقتضى أصالة عدم الاتيان بالركن وإن كان هو البطلان الموجب لارتفاع موضوع الأصل الجاري في غير الركن ، إلاّ أنّ الأثر

ص: 459

الباقي من القاعدة في الركن الذي تقدّم أنّه خارج عن مورد المعارضة بين القاعدتين ، يكون من هذه الجهة حاكماً على استصحاب عدم الركن.

والحاصل : أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ لقاعدة التجاوز في الركن أثرين ، أحدهما هو مورد المعارضة بينها وبين القاعدة في غير الركن ، وهو نفس الاتيان بالركن ، والأثر الآخر هو تصحيح الصلاة من جهة نفس الركن وترتّب صحّة الجزء غير الركني عليه ، وقد عرفت أنّ هذا الأثر خارج عن مورد التعارض ، فيكون باقياً بعد سقوط القاعدتين.

وإن شئت فقل : إنّ القاعدة في الركن باقية من جهة الأثر الثاني ، وإن سقطت من جهة الأثر الأوّل ، وهذا الأثر الثاني يكون حاكماً على ما يقتضيه استصحاب عدم الاتيان بالركن من بطلان الصلاة ، لأنّ الأثر المذكور ثابت بقاعدة التجاوز أو الفراغ وهي حاكمة على الاستصحاب.

ولكن قد يقال : إنّ استصحاب عدم الاتيان بالركن إذا لم يترتّب عليه بطلان الصلاة للحكومة المذكورة فأيّ أثر له بعد ذلك ، وإذا سقط أصالة عدم الاتيان بالركن ، كانت الصلاة حينئذ محكوماً بصحّتها وبعدم الاتيان بغير الركن منها ، فلا يلزمه إلاّقضاؤه.

ويمكن الجواب عنه : بأنّا بعد أن فرضنا وتصوّرنا لقاعدة التجاوز والفراغ في الركن التي هي عبارة عن الحكم بالاتيان بالركن أثرين ، وفككنا في تلك القاعدة بين الأثرين ، كان محصّل ذلك أنّ للاتيان بالركن أثرين ، أحدهما إسقاط وجوبه والآخر تصحيح الصلاة من جهته ، ففي مقام استصحاب عدم الاتيان بالركن نفكّك أيضاً بين هذين الأثرين ، ونقول : إنّ هذا الاستصحاب لو خلّي ونفسه لترتّب عليه نفي كلا الأثرين ، ولكنّه لمّا كان من جهة الأثر الثاني محكوماً

ص: 460

بما بقي من أثر قاعدة الفراغ ، لم يترتّب عليه إلاّنفي الأثر الأوّل ، وفي نفي هذا الأثر تقع المعارضة بينه وبين استصحاب عدم الاتيان بالجزء غير الركني. هذا غاية توضيح ما أفاده قدس سره.

ولكنّ فيه مواقع لم أتوفّق لفهمها :

الأوّل : ما أُفيد من أثري قاعدة الفراغ في الجزء الركني ، فإنّ الظاهر أنّ أثرها ينحصر بصحّة الصلاة وإن كان ذلك بلسان البناء على الاتيان بالركن ، فإنّ المراد به هو البناء على الاتيان به من حيث الحكم بصحّة الصلاة ، وإلاّ فإنّ قاعدة التجاوز والفراغ لا تثبت الاتيان بالمشكوك ، كما ذكره قدس سره في مسألة الشكّ في فعل الوضوء بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّ قاعدة الفراغ وإن حكمت بصحّة الصلاة ، إلاّ أنّها لا يترتّب عليها الاتيان بالوضوء على وجه لا يحتاج إلى الوضوء بالنسبة إلى الصلوات اللاحقة ، خلافاً لمن حكم بعدم الحاجة إليه في ذلك.

وبالجملة : أنّ أثر قاعدة الفراغ ينحصر بالحكم بصحّة الصلاة ، كما لو كان المشكوك من قبيل الركن الذي لا يجري فيه حديث « لا تعاد » (1) ، أو بعدم لزوم قضاء المشكوك أو عدم لزوم سجدتي السهو ، كما في الأجزاء التي يكون أثر نسيانها هو قضاءها بعد الصلاة أو سجود السهو. وعلى أيٍّ هي لا تكون مثبتة للمشكوك على وجه يحكم بحصوله وسقوط أمره.

الثاني : أنّا لو سلّمنا أنّ قاعدة الفراغ مثبتة للجزء المنسي مع إثباتها صحّة الصلاة ، فإنّما يكون ذلك في مثل الشكّ المزبور ، أعني الشكّ في الاتيان بالوضوء بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّه يترتّب على الاتيان بالوضوء أثر عملي ، وهو ما ذكرناه من عدم لزوم الوضوء للصلوات الآتية ، أمّا فيما نحن فيه من الشكّ في الاتيان

ص: 461


1- وسائل الشيعة 6 : 313 / أبواب الركوع ب 10 ح 5.

بالركن فلا يمكن فيه ذلك ، لعدم الأثر العملي المترتّب على الاتيان بالركن وعدم الاتيان به إلاّصحّة الصلاة وفسادها ، فلا يكون للحكم بالاتيان بالركن أثر عملي إلاّ أثر واحد ، وهو الحكم بصحّة الصلاة وعدم لزوم إعادتها.

ومنه يعلم أنّ التوضيح الذي ذكرناه لما أفاده قدس سره في تعارض الاستصحابين غير متّضح ، فإنّ أصالة عدم الاتيان بالركن بعد أن فرضنا أنّها لا يترتّب عليها بطلان الصلاة ، لا يبقى لها أثر عملي ، فلا محصّل للحكم بعدم الاتيان بالركن بعد أن لم يترتّب عليها الحكم ببطلان الصلاة.

الثالث : أنّا لو سلّمنا تعدّد الأثر لقاعدة الفراغ في الجزء الركني ، وهما الاتيان بالركن وصحّة الصلاة ، وأغضينا النظر عن أنّ الحكم الأوّل وهو الاتيان بالركن لا يترتّب عليه أثر عملي ، لكان هناك إشكال آخر يوجب الطولية بين القاعدتين حتّى بالنسبة إلى الأثر الأوّل لقاعدة الفراغ في الركن ، فإنّ أثرها الثاني وهو صحّة الصلاة إن كان في طول أثرها الأوّل وهو الاتيان بالركن كما هو الظاهر ، كانت قاعدة الفراغ في غير الركن متأخّرة عن القاعدة في الركن بمرتبتين ، لأنّ المفروض أنّها متأخّرة عن الأثر الثاني للقاعدة المزبورة ، وهو - أعني الأثر الثاني - متأخّر عن الأثر الأوّل.

وإن كان الأثر الثاني للقاعدة في الركن في عرض أثرها الأوّل ، كانت قاعدة الفراغ في غير الركن متأخّرة عن القاعدة في الركن بمرتبة واحدة ، لأنّ المفروض أنّ القاعدة في غير الركن متأخّرة رتبة عن الأثر الثاني للقاعدة في الركن ، وهو - أعني الأثر الثاني - لمّا كان في عرض الأثر الأوّل ، فقهراً تكون القاعدة في غير الركن متأخّرة عن الأثر الأوّل في الركن ، وإذا تنقّح لك تأخّر القاعدة في غير الركن عن الأثر الأوّل في القاعدة في الركن ، يتّضح لك عدم صلاحيتها لمعارضتها ،

ص: 462

فيكون إشكال عدم المعارضة باقياً بحاله.

ولا يدفعه ما أُفيد من تعدّد الأثر. أمّا على الأوّل - أعني كون الأثر الثاني في طول الأثر الأوّل - فلأنّ ما هو متأخّر عن المتأخّر عن الشيء متأخّر عنه بدرجتين. وأمّا على الثاني - أعني كون الأثرين في عرض واحد - فلأنّ ما هو متأخّر عمّا هو في عرض الشيء متأخّر عن ذلك الشيء برتبة واحدة. وعلى أي حال ، لا تكون قاعدة الفراغ في غير الركن واقعة في عرض قاعدة الفراغ في الركن ولو بالقياس إلى أثرها الأوّل كي تكون صالحة لمعارضتها.

الرابع : أنا لو أغضينا النظر عن جميع ما تقدّم ، لقلنا إنّ ما أُفيد من أنّ الأثر الثاني أجنبي عن معارضة القاعدتين غير نافع ، فإنّ الأثر الثاني وهو الحكم بصحّة الصلاة لا يجتمع مع الحكم بالاتيان بغير الركن الذي هو مفاد القاعدة في غير الركن ، وهي - أعني القاعدة في غير الركن - وإن لم تصلح لمعارضة الأثر الثاني في القاعدة في الركن وهو صحّة الصلاة ، لتأخّرها عن ذلك الأثر ، إلاّ أنّ المخالفة القطعية للعلم الاجمالي المردّد بين بطلان الصلاة وعدم الاتيان بالجزء غير الركني ، مانعة من جريان القاعدة في غير الركن ، مع فرض الحكم بصحّة الصلاة استناداً إلى القاعدة في الركن ، فتكون قاعدة الفراغ في غير الركن ساقطة من أجل هذه الجهة وإن لم يكن ذلك موجباً لسقوط الأثر الثاني لقاعدة التجاوز في الركن لكونه سابقاً في الرتبة على قاعدة التجاوز في غير الركن ، فلا تصلح لمعارضة الأثر الأوّل في الركن ، وإن قلنا إنّها معه في رتبة واحدة.

الخامس : ما أفاده قدس سره من أنّه بعد سقوط القاعدتين والاستصحابين ، يكون المرجع هو أصالة الاشتغال في ناحية الركن وأصالة البراءة في ناحية غير الركن ، لا يتمشّى مع [ ما ] أفاده قدس سره من بقاء الأثر الثاني لقاعدة الفراغ في الركن وهو صحّة

ص: 463

الصلاة ، فإنّ هذا الأثر وهو الحكم بصحّة الصلاة يكون حاكماً على أصالة الاشتغال ، ولا يمكن إصلاحه بأنّ هذا الأثر يكون ساقطاً في هذه المرحلة بالمعارضة مع أصالة البراءة الجارية في هذه المرحلة في ناحية غير الركن ، لأنّ ذلك منافٍ لما أفاده من الانحلال والرجوع إلى كلّ من أصالة الاشتغال وأصالة البراءة ، فإنّه بناءً على التعارض المذكور لا يبقى في المسألة إلاّ أصالة الاشتغال في ناحية الركن ، وتبقى ناحية غير الركن بلا أصل ، وحينئذ يشكل الانحلال ، فإنّ جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد الطرفين لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ما لم يكن الطرف الآخر مجرى للأصل النافي ، هذا.

مضافاً إلى أنّ مبناه قدس سره على سقوط الأُصول المترتّبة المتوافقة في طرف واحد إذا كانت معارضة للأصل في الطرف [ الآخر ] ، فإنّ مقتضى هذا المبنى هو سقوط أصالة البراءة في غير الركن بسقوط قاعدة الفراغ فيه ، كما في الاناءين اللذين يكون أحدهما مجرى لاستصحاب الطهارة والآخر مجرى لقاعدتها ، فإنّه قدس سره قد التزم بسقوط قاعدة الطهارة فيما هو مستصحبها بسقوط الاستصحاب المزبور ، ولأجل ذلك أشكل على من يتمسّك فيما نحن فيه بأصالة الصحّة ، بأنّ أصل الصحّة لو سلّم اعتباره في باب الصلاة فهو ساقط بسقوط قاعدة الفراغ في ناحية الركن.

السادس : أنّ ما أفاده قدس سره من كفاية الصحّة التقديرية في إجراء قاعدة الفراغ في غير الركن لم يتّضح المراد منه ، فإنّه إن كان المراد هو إجراء القاعدة على تقدير الصحّة ، ففيه ما لا يخفى ، لأنّه على فرض الصحّة يكون عدم الاتيان بغير الركن مقطوعاً به. وإن كان المراد أنّه يكفي فرض الصحّة ، ففيه ما لا يخفى ، حيث إنّ فرض الصحّة لا يصحّح جريان قاعدة الفراغ ، إذ لا يكون حينئذ جريانها منجّزاً ،

ص: 464

فلا يكون إلاّتقديرياً ، فلا يصلح لمعارضة قاعدة الفراغ في الركن.

نعم ، يمكن أن يكون المراد هو أنّ الصحّة غير معتبرة في قاعدة الفراغ في غير الركن ، إذ ليس محصّل هذه القاعدة إلاّنفي الشكّ في الاتيان بالجزء.

وفيه أوّلاً : المنع من عدم اعتبار الصحّة في ذلك. وثانياً : أنّه لو تمّ فإنّما يدفع إشكال الطولية ، أمّا الإشكال الآتي الذي محصّله هو عدم جريان القاعدة في غير الركن للعلم بعدم الخروج عن عهدته ، فلا يدفعه عدم اعتبار الصحّة في موضوع قاعدة الفراغ ، فتأمّل فإنّه يمكن الجواب عن الإشكالين ، بأنّ الوظائف المقرّرة للشكّ في الشيء إنّما تتعرّض لنفس جهة الشكّ دون ما قارنه من شكّ آخر ، فلا تكون إلاّحكماً حيثياً ، فلا يكون حاصل القاعدة في غير الركن إلاّسدّ باب احتمال عدم الاتيان به ، أمّا احتمال عدم الاتيان بالركن فله وظيفة أُخرى تسدّ باب احتمال عدم الاتيان به ، وليس العلم بأنّه لم يمتثل الأمر المتعلّق بغير الركن إلاّ مجموعة ذينك الاحتمالين.

وقد يقرّب القول الثالث بتقريبات أُخر غير ما تقدّم من سقوط قاعدة الفراغ في غير الركن بالطولية :

منها : سقوط قاعدة الفراغ في غير الركن ، من جهة العلم بأنّه لم يمتثل الأمر المتعلّق بذلك الجزء غير الركني ، فإنّه إن كان هو المتروك فواضح ، وإن كان المتروك هو الركن فلأنّه أيضاً لم يمتثل الأمر بغير الركن في ضمن عدم امتثال الأمر بالصلاة ، لأنّ المفروض حينئذ بطلانها ، فلو دار الأمر بعد الفراغ من الصلاة بين كون المتروك هو السجدة أو الركوع ، لا يمكن الحكم عليه بأنّك قد أتيت بالسجدة الذي هو مقتضى قاعدة الفراغ فيها ، وذلك للعلم الاجمالي بأنّه لم يمتثل الأمر المتعلّق بالسجدة ، إمّا لفساد الصلاة إن كان المتروك هو الركوع ، وإن كان

ص: 465

المتروك غيره لم تكن السجدة مأتياً بها. وعلى أيّ حال لا يصحّ أن يتوجّه إليه الحكم الشرعي بأنّك قد أتيت بالسجدة ، للعلم بأنّه لم يمتثل أمرها المتعلّق بها ، إمّا لبطلان الصلاة أو لأنّه لم يأت بالسجدة نفسها.

وكيفية تقريب هذا الوجه في مسألة من فاتته سجدتان وتردّد بين كونهما من ركعتين أو من ركعة واحدة ، هو أن يقال : إنّه لمّا علم بعدم سقوط الأمر بالسجدة الثانية من الركعتين ، لم تجر فيهما قاعدة الفراغ ، وبالنسبة إلى أصل وجود السجود في كلّ ركعة تجري قاعدة الفراغ ، فلا يلزمه إلاّقضاء سجدتين مع سجودي سهو لكلّ منهما.

ويمكن الجواب عن هذا التقريب : بأنّه إن كان مرجع الإشكال في الحكم بأنّك أتيت بالجزء غير الركني إلى أنّ شرطه وهو صحّة الصلاة غير محرز ، فهو راجع إلى التقريب السابق وهو إشكال الطولية ، وإن كان راجعاً إلى العلم بوجوب ذلك الجزء غير الركني إمّا وحده أو في ضمن الأمر بالاعادة ، ففيه أنّ ذلك ليس من قبيل العلم التفصيلي بوجوب السجدة والشكّ في الزائد ، إذ ليس ذلك من قبيل الأقل والأكثر ، بل هو من قبيل التردّد بين المتباينين ، لأنّ حاصل ذلك العلم هو العلم بوجوب السجدة إمّا وحدها وإمّا في ضمن الأمر بالصلاة بأن يعيدها ، فيكون ذلك من قبيل التردّد في وجوب السجدة بين كونها بشرط لا أو كونها بشرط شيء ، ومن الواضح أنّهما من قبيل المتباينين. وبالجملة : أنّ الأمر دائر بين وجوب قضاء السجدة وبين بقاء الأمر بالصلاة لبطلانها ، وهما متباينان.

وإن شئت فقل : إنّ العلم بأنّه لم يمتثل الأمر المتعلّق بالسجدة إمّا لبطلان الصلاة أو لنسيان نفس السجدة ، لا يكون مانعاً من جريان قاعدة الفراغ في السجدة والحكم عليه بأنّك أتيت بها وامتثلت أمرها بعد نفي احتمال البطلان

ص: 466

بقاعدة الفراغ في الركوع. هذا ما استفدته منه قدس سره في الدروس الفقهية.

ولكن يمكن الخدشة في الجواب المذكور : بأنّه ليس الغرض من هذا الإشكال هو الانحلال كي يتوجّه عليه أنّه لا معنى للانحلال هنا ، بل إنّ الغرض من هذا الإشكال هو أنّه بعد العلم بأنّه لم يسقط عنه الأمر بالسجدة كيف يمكن أن يتوجّه إليه الحكم بأنّك قد فرغت منها الذي هو معنى قاعدة الفراغ أو التجاوز ، ومن الواضح أنّ هذه جهة أُخرى في الإشكال على جريان القاعدة في غير الركن ، وهي لا دخل لها بإشكال الطولية ، لتحقّق العلم المزبور حتّى مع فرض جريان القاعدة في الركن.

ولا يخفى أنّ هذه الجهة من الإشكال لو تمّت لم يمكن دفعها بمنع الطولية ، ولا بما أفاده قدس سره أوّلاً من كفاية الصحّة التقديرية في جريان قاعدة الفراغ في غير الركن. نعم لو تمّت هذه الجهة لكان مقتضاها عدم إمكان جريان أصالة عدم الاتيان بغير الركن ، إذ لا محصّل للحكم عليه تعبّداً بأنّك لم تأت بالجزء غير الركني مع علمه التفصيلي بأنّه لم يمتثل أمره ، اللّهمّ إلاّ أن يفرّق بينه وبين القاعدة بأنّ القاعدة لمّا كان لسانها لسان الاتيان لم تجتمع مع العلم بعدم الامتثال ، بخلاف الأصل المذكور فتأمّل ، هذا.

ولكن الظاهر أنّ أرباب هذا القول لا يجرون الأصل في طرف غير الركن أيّ أصل كان ، بل يكتفون في ترتيب الأثر على تركه بمجرّد قاعدة التجاوز في الركن. قال الأُستاذ المحقّق العراقي قدس سره في فروع العلم الاجمالي (1) : إذا علم بعد الدخول في الركن من السجدة الثانية على المختار أو الأُولى على المشهور ، بفوت جزء آخر مردّد بين الركن وغيره ، فلا شبهة في أنّ قاعدة التجاوز عن غير الركن غير

ص: 467


1- الذي طبع بعد وفاته [ منه قدس سره ].

جارية ، للجزم بعدم كونه مأتياً على وفق أمره ، وتبقى قاعدة التجاوز في الركن بلا معارض ، ومن آثارها وجوب قضاء الفائت إن كان له قضاء وإلاّ فسجدتي السهو محضاً ، لأنّهما لكلّ زيادة ونقيصة في صلاة صحيحة الخ (1).

وقال في ص 30 فرع يط : لو علم إجمالاً بفوت السجدتين مجموعاً ، إمّا من السابقة أو هذه الركعة التي بيده ، فإن كان قبل فوت محلّهما الشكّي فلا إشكال أيضاً في جريان قاعدة التجاوز في الأُولى دون الأخيرة ، للجزم أيضاً بعدم إتيانهما على وفق أمرهما ، فيرفع احتمال عدم وجوبهما من جهة احتمال بطلان الصلاة بقاعدة التجاوز عن الأُولى ، فيجب إتيان السجدتين في محلّهما بمقتضى القاعدة الجارية في الأُولى الخ (2). وإن شئت فلاحظه في ص 28 وص 29 وص 35 وفي ص 98 (3).

وإنّما ارتكبوا هذه الخطة من الاكتفاء بقاعدة التجاوز عن الأصل الجاري في غير الركن ، فجعلوا قاعدة التجاوز في الركن مثبتة للتكليف في ناحية غير الركن ، فراراً عن أصلهم الذي بنوا عليه من كون العلم الاجمالي مانعاً من إجراء الأصل النافي في بعض الأطراف ، فهم يقولون إنّ المكلّف يعلم إجمالاً بأنّه يجب عليه امتثال الأمر بغير الركن ، إمّا وحده وإمّا مع تمام باقي الأجزاء ، وقاعدة الفراغ أو التجاوز في الركن تعيّن الأوّل.

ولا يخفى أنّه مع قطع النظر عن كلّ شيء ، من كون إثبات الاتيان بالركن لا يوجب إثبات عدم الاتيان بغير الركن كي يقال إنّ ذلك من آثاره الشرعية ، وغير

ص: 468


1- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 37 / 20.
2- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 36 / 19.
3- المصدر السابق : 34 - 35 و 41 و 110 - 111.

ذلك ممّا يرد على هذه التمحّلات ، أنّ هذه التمحّلات لا تأتي في قضاء السجدة ، لأنّها واجب مستقل بوجوب جديد. ولو أُغضي النظر عن القضاء بأن لم يكن الجزء غير الركني ممّا يقضى بل ممّا له سجود السهو فقط ، ولأجل ذلك حوّروا العبارة المذكورة إلى أنّ علم المكلّف بأنّه لم يمتثل أمر الجزء غير الركني المردّد بين كون منشئه هو البطلان أو أنّه مجرّد عدم الاتيان ، منحلّ بواسطة قاعدة التجاوز في الركن ، لأنّها تعيّن كون منشئه هو الثاني.

وهناك أمر آخر يلجئهم إلى هذا التمحّل ، وهو أنّ السجدة في مثل الفرع المزبور كما لا يمكن إجراء قاعدة التجاوز فيها ، لما قرّروه من العلم بعدم امتثال أمرها ، فكذلك لا يمكن إجراء أصالة عدم الاتيان فيها ، لأنّ العلم بعدم امتثال أمرها يمنع من التعبّد بعدم الاتيان بها ، وحينئذ لو لم تكن قاعدة التجاوز في الركن حاكمة بلزوم قضاء السجدة وسجود السهو لها ، بقيت بلا أصل ، ويكون ذلك أحد الموارد التي يكون فيها الأصل النافي جارياً في بعض الأطراف مع كون الطرف الآخر بلا أصل ، نظير ما أشكلوا به على شيخنا قدس سره من الاناءين اللذين يكون أحدهما مورداً لاستصحاب الطهارة والآخر مورداً لقاعدة الطهارة ، ويكون لزوم الاتيان بقضاء السجدة وسجود السهو من باب عدم المؤمّن من وجوبهما لا من جهة أصل يقتضي ذلك حتّى أصالة الاشتغال ، وعدم لزوم الاعادة من جهة قاعدة التجاوز في الركن التي هي أصل نافٍ في مورد العلم الاجمالي ، وهذا أمر يستنكرونه ، بل إنّ شيخنا قدس سره القائل بامكان الترخيص في بعض أطراف العلم الاجمالي يستنكره ، حتّى أنّه قدس سره احتاج إلى ذلك التمحّل في دفع النقض المذكور.

وحينئذ فإن رجعوا في ناحية احتمال ترك السجدة إلى أصالة البراءة من قضائها وسجود السهو ، وجمعوا بينها وبين قاعدة التجاوز في الركن ، كانت

ص: 469

النتيجة هي عدم وجوب شيء على ذلك المكلّف ، فيقع في المخالفة القطعية ، وإن أوقعوا المعارضة بينهما تساقطا ، وكان المرجع هو أصالة عدم الاتيان بالركن أو الاشتغال ، فيلزمه الاعادة ، وربما نقول أيضاً بلزوم قضاء السجدة وسجود السهو ، لما عرفت من عدم المؤمّن من احتمال وجوبهما عليه.

وعلى كلّ حال ، يكون ذلك مخالفاً لما يرومونه من الحكم عليه بلزوم القضاء وسجود السهو فقط من دون إعادة الصلاة ، فلأجل ذلك التجأوا إلى ذلك التمحّل ، وجعلوا قاعدة الفراغ من الركن حاكمة بوجوب قضاء السجدة وسجود السهو ، بدعوى أنّ ذلك من آثارها ، فراجع كلماتهم وتأمّل فيها ، خصوصاً ما أفاده الأُستاذ المحقّق العراقي قدس سره في القاعدة التي حرّرها بعد فروع العلم الاجمالي (1).

أمّا أصل المطلب ، وهو عدم جريان قاعدة التجاوز في غير الركن من جهة العلم بأنّه لم يمتثل أمره ، فيمكن الجواب بما أشرنا إليه وحرّرناه في بعض ما حرّرناه في هذه المسألة ، من أنّ الأُصول إنّما تجري في بعض أطراف العلم الاجمالي بفرضه شبهة بدوية ، وأنّ ما يتضمّنه الأصل في كلّ واحد من الطرفين إنّما هو حكم حيثيتي ، وأنّه سادّ لذلك الاحتمال الموجود في نفس ذلك الطرف ، من دون تعرّض لحال الاحتمال في الطرف الآخر ، ولأجل ذلك لو كان كلّ من الركن وغيره شبهة بدوية ، بأن احتمل ترك الركوع واحتمل ترك التشهّد كلاً على حدة ، بأن كان يحتمل تركهما معاً ويحتمل فعلهما معاً ويحتمل فعل أحدهما وترك الآخر ، فقاعدة التجاوز الجارية في التشهّد لا تتعرّض لأزيد من سدّ باب احتمال تركه ، ولا تتعرّض لنفي احتمال ترك الركن ، وأنّه يجوز أن يكون قد ترك الركن وقد أتى بالتشهّد ، فإنّ ذلك وإن كان محتملاً إلاّ أنّ قاعدة التجاوز في التشهّد

ص: 470


1- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 110 - 111.

لا تتعرّض لنفيه ولا لإثباته ، وإنّما تتعرّض لذلك قاعدة التجاوز في الركن ، غايته أنّه في المثال لمّا أمكن الجمع بينهما لم يقع بينهما التعارض ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ كلاً من القاعدتين فيه متعرّضة لسدّ احتمال العدم في موردها ، غايته أنّه لا يمكن الجمع بينهما ، فيقع التعارض بينهما والتساقط.

ثمّ لا يخفى أنّه لو علم بعد الفراغ إمّا أنّه قد ترك الركوع والتشهّد أو التشهّد وحده ، فهو الآن يعلم إجمالاً بوجوب الاعادة أو قضاء التشهّد وسجود السهو ، وليسا من قبيل الأقل والأكثر ، بل هما متباينان موضوعاً وأثراً ، أمّا موضوعاً فلتردّد المتروك بين كونه هو التشهّد وحده وبشرط لا ، وكونه هو التشهّد مع الركوع وبشرط شيء ، والمباينة بينهما واضحة لا تخفى ، وأمّا أثراً ، فلأنّ أثر الثاني هو بقاء الأمر بالصلاة لبطلانها ، فيكون اللازم إعادتها ، وأثر الأوّل هو قضاء التشهّد وسجود السهو ، والتشهّد وحده وإن لم يكن مورداً لكلّ من قاعدة التجاوز وأصالة العدم ، للعلم بعدم الاتيان به ، إلاّ أنّه مورد لأصالة البراءة من القضاء وسجود السهو ، للشكّ في إحراز موضوع هذا الحكم وهو فوت التشهّد وحده ، وحينئذ تكون البراءة المذكورة معارضة لقاعدة التجاوز في فوت الركوع ، وهذه القاعدة لا تكون مثبتة لفوت التشهّد وحده لتكون حاكمة على أصالة البراءة المذكورة ، وبعد تحقّق المعارضة والتساقط بينهما يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة ، أو أصالة عدم الاتيان بالركوع ، ومقتضاه الاعادة ، ويبقى احتمال وجوب قضاء التشهّد وسجود السهو بلا مؤمّن ، فيلزم الاتيان به. ومنه يظهر لك الحال فيما نحن فيه بعد تسليم سقوط قاعدة التجاوز وأصالة عدم الاتيان بغير الركن.

أمّا دعوى كون قاعدة التجاوز في الركن مثبتة لوجوب قضاء غير الركن وسجود السهو له ، لتكون هي المرجع الوحيد في المسألة ، فلم أتحقّقه ، بل لم

ص: 471

أتعقّل وجهه ، إذ ليس له إلاّما أفاده في ذيل فروع العلم الاجمالي من قوله : وحينئذ لا يكون احتمال عدم وجوب القضاء مستنداً باحتمال وجود الفعل على وفق طلبه ، لفرض الجزم بعدمه ، فلا جرم يستند إلى فساد الصلاة من جهة احتمال فوت الركن ، فقاعدة التجاوز عن الركن تثبت الصحّة ، ويرفع احتمال فسادها المستتبع لعدم وجوب قضاء السجدة ، فتجب السجدة أو القضاء ، لأنّ شأن الأصل قلب نقيض الأثر بنقيض موضوعه الثابت بمثله الخ (1).

وحاصله : هو أنّ احتمال وجوب قضاء السجدة ناشٍ عن احتمال عدم الاتيان بها وحدها ، وعدم وجوبها ناشٍ في المقام عن ترك الركن وبطلان الصلاة ، إذ لا منشأ في المقام للحكم بعدم وجوب قضاء السجدة إلاّهذا الاحتمال ، أعني بطلان الصلاة ، إذ لا يحتمل أن يكون ذلك ناشئاً عن الاتيان بالسجدة في المثال الذي ذكرناه ، أو عن الاتيان بها على وفق أمرها فيما نحن فيه ، وإذا تحقّق أنّه لا وجه في المقام لعدم وجوب قضاء السجدة إلاّ احتمال بطلان الصلاة ، فقاعدة التجاوز في الركن تنفي هذا الاحتمال ، فتكون حينئذ رافعة لاحتمال عدم وجوب قضاء السجدة ، وإذا ارتفع عدم وجوب قضائها بواسطة القاعدة المذكورة ثبت وجوب قضائها ، لأنّ الأصل الرافع لنقيض الأثر يكون مثبتاً للنقيض الآخر ، لما حقّق في محلّه من الاكتفاء في جريان الأصل أن يكون بحيث يترتّب عليه نقيض الأثر الشرعي ، هذا حاصل ما أفاده في هذه العبارة حسبما فهمته منها.

وفيه تأمّل ، أمّا أوّلاً : فلأنّ الأثر الشرعي المترتّب على الاتيان بالركن الذي هو مفاد قاعدة التجاوز ، ليس هو عدم البطلان لأنّه عقلي ، كما أنّ البطلان أثر عقلي لعدم الاتيان به ، بل ليس الأثر الشرعي للتعبّد بأنّك أتيت بالركن الذي هو

ص: 472


1- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 111.

مفاد قاعدة التجاوز إلاّ البدلية الظاهرية والاكتفاء الظاهري بذلك الموجود ، ولأجل ذلك نقول إنّ قاعدة التجاوز حاكمة على أدلّة الأجزاء حكومة ظاهرية ، وأين هذا الأثر من رفع عدم وجوب قضاء الطرف الآخر الذي هو السجدة فضلاً عن الحكم بوجوب قضاء ذلك الطرف.

وأمّا ثانياً : فلأنّا لو سلّمنا أنّ البطلان أثر شرعي لعدم الاتيان بالركن والصحّة ، وعدم البطلان أثر شرعي للاتيان بالركن ، لم يكن رفع عدم وجوب قضاء الطرف الآخر أو الحكم بوجوبه ممّا يترتّب شرعاً على صحّة الصلاة ، بل هو من لوازمه القهرية في المقام ، فإنّ وجوب القضاء وعدمه في المقام وإن كان في حدّ نفسه حكماً شرعياً ، إلاّ أنّه ليس موضوعه الشرعي هو الصحّة وعدم بطلان الصلاة كي يكون التعبّد بالصحّة وبعدم الفساد تعبّداً برفع عدم ذلك الوجوب ، لكي يؤول إلى التعبّد بنفس الوجوب المذكور ، بل إنّ الموضوع الشرعي لذلك الوجوب هو ترك الجزء - أعني السجدة - في محلّه ، فيكون عدم ذلك الوجوب مترتّباً على عدم ذلك الترك ، وعدم ذلك الترك في المقام ملازم اتّفاقاً مع البطلان.

وأمّا ثالثاً : فلأنّا لو سلّمنا جميع ذلك ، فليس المقام من قبيل ما حقّق في محلّه من كفاية ترتّب نقيض الأثر الشرعي على جريان الأصل ، بل هو من قبيل رفع نقيض الوجوب الذي هو أثر شرعي ليترتّب عليه نفس الوجوب ، فإنّ المرتفع بالصحّة الثابتة بقاعدة الفراغ هو عدم الوجوب ، ونريد أن ننتقل من رفع عدم الوجوب إلى إثبات الوجوب نفسه.

وأمّا رابعاً : فلأنّ عدم وجوب قضاء السجدة المستند إلى فساد الصلاة لا يكون إلاّمن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، لما عرفت من أنّ موضوع الوجوب إنّما هو ترك السجدة ، فيكون عدمه في حال بطلان الصلاة من قبيل السالبة بانتفاء

ص: 473

الموضوع ، فلا يمكن أن يكون رفع ذلك العدم الذي هو عبارة عن السالبة بانتفاء الموضوع محقّقاً لنفس مفاد القضية الموجبة أعني وجوب القضاء ، إذ ليس ذلك إلاّ من قبيل كون رفع عدم قيام زيد الثابت قبل وجوده محقّقاً لثبوت قيامه ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ عدم وجوب قضاء السجدة ليس من آثار فساد الصلاة ، لأنّ الصلاة الفاسدة لا مورد ولا محلّ فيها لوجوب قضاء السجدة ولا لعدم وجوبها ، إذ لا يتقابلان في الصلاة الفاسدة ، ولا يكون قولنا إنّ الصلاة الفاسدة لا يجب فيها قضاء السجدة أو سجود السهو إلاّمن قبيل قولنا للجدار إنّه ليس بأعمى ، ولا يكون ذلك إلاّمن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع التي لا محصّل لها في الأحكام الشرعية ، فكما أنّ الشارع لم يجعل وجوب قضاء السجدة للصلاة الفاسدة التي أتى المكلّف بجميع سجداتها ، فهو أيضاً لم يجعل عدم ذلك الوجوب لها ، لانتفاء الموضوع في كلّ من الحكمين ، بل لا يكون انتفاء الوجوب في مورد فساد تلك الصلاة إلاّعقلياً من باب اتّفاق مقارنة فساد تلك الصلاة لعدم تحقّق موضوع قضاء السجدة ، وكما لا يتحقّق موضوعه في تلك الصلاة ، فكذلك لا يتحقّق موضوع عدمه فيها ، وليس قولنا إنّ الشارع لم يجعل وجوب قضاء السجدة لتلك الصلاة ، إلاّكقولنا إنّ الشارع لم يجعل لها وجوب قضاء تشهّدها.

ولو كان ذلك العدم من آثار تلك الصلاة ، لكان لازم ذلك هو أنّه لو جرت قاعدة التجاوز في الركوع في الفرض المزبور ، كان مقتضاه هو وجوب قضاء التشهّد مضافاً إلى قضاء السجدة ، لأنّ المفروض أنّ عدم وجوب كلّ منهما من آثار فساد الصلاة ، فإذا حكم الشارع بنفي الفساد كان لازمه هو ثبوت كلّ منهما ، بل لازم ذلك أنّه لو كان كلّ من الركوع والسجدة مشكوكاً بالشكّ البدوي ، هو أن تكون قاعدة التجاوز في الركوع حاكمة على قاعدة التجاوز في السجدة ، لأنّ

ص: 474

المفروض هو أنّ عدم وجوب قضاء السجدة من آثار فساد الصلاة بترك الركوع ، وأنّه إذا نفى الشارع فساد الصلاة ، فقد نفى عدم وجوب قضاء السجدة ، وأنّ مقتضى نفي عدم وجوب قضاء السجدة هو إثبات وجوب قضائها.

ثمّ لو سلّمنا أنّ عدم وجوب قضاء السجدة من آثار فساد الصلاة ، فلازمه هو أن يكون نقيض ذلك العدم هو الوجوب في المورد المذكور ، أعني الفساد ، لأنّ عدم الوجوب إذا كان قابلاً للجعل للفساد ، كان لازم ذلك هو إمكان جعل الوجوب لها ، إذ لو لم يكن جعل الوجوب ممكناً لم يكن جعل عدمه ممكناً ، فلمّا جعل الشارع العدم للفساد كان رفع الفساد موجباً لثبوت نقيض ذلك العدم وهو الوجوب الممكن جعله للفساد ، لا الوجوب اللاحق للصحّة وعدم الاتيان بالسجدة ، لأنّ رفع أحد النقيضين بالأصل لا يوجب إلاّ إثبات نقيضه الذي هو الوجوب الممكن جعله للفساد ، لا الوجوب اللاحق للصحّة وعدم الاتيان بالسجدة ، ولو بدّلنا العبارة وغيّرناها من رفع الفساد إلى إثبات الصحّة ، لم يكن إثبات الصحّة كافياً في إثبات الوجوب المذكور ، لأنّ موضوعه هو الصحّة مع ترك السجدة ، ومجرّد إثبات الصحّة لا يثبت به الوجوب المذكور ، فتأمّل جيّداً.

نعم ، يمكن أن يقال في المثال الذي ذكرناه : إنّ ترك السجدة وحدها الذي هو موضوع وجوب قضائها مركّب من أمر وجودي وهو ترك السجدة ، وعدمي وهو عدم ترك الركوع ، وهو المتحصّل من تركها بشرط لا ، وأحد جزأي هذا الموضوع وهو ترك السجدة محرز بالوجدان ، والآخر وهو عدم ترك الركوع محرز بالأصل وهو قاعدة التجاوز في الركوع ، وبذلك يتمّ موضوع وجوب قضاء السجدة ، وبه ينحلّ العلم الاجمالي.

ويمكن تمشية هذه الطريقة فيما نحن فيه بأن يقال : إنّ عدم امتثال الأمر

ص: 475

بالسجدة الذي هو موضوع وجوب قضائها مركّب أيضاً من أمر وجودي وهو عدم امتثال أمرها ، وآخر عدمي وهو عدم كون عدم الامتثال مستنداً إلى البطلان الناشئ عن ترك الركوع ، وهذا الأمر العدمي محرز بالأصل المذكور ، وهو بضميمة الجزء الأوّل أعني عدم امتثال أمرها المحقّق بالوجدان ، كافٍ في تحقّق موضوع وجوب قضائها. ولكنّه تكلّف لا يخلو عن إشكال.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد غضّ النظر عمّا تقدّم من التأمّلات الأربعة في كون وجوب قضاء السجدة وسجود السهو من آثار قاعدة التجاوز في الركن ، يبقى الإشكال في أنّه لا ريب في أنّ قاعدة التجاوز في الركن وإن أثبتت وجوب قضاء السجدة وسجود السهو ، إلاّ أنّها نافية للتكليف بالقياس إلى نفس الركن ، فكيف أمكن جريانها في أحد طرفي العلم الاجمالي ، ولأجل ذلك التجأوا في تصحيح ذلك إلى أنّ جريانها أوّلاً إنّما هو باعتبار كونها مثبتة ، وبعد أن جرت بهذا اللحاظ - أعني لحاظ الاثبات - ينحلّ العلم الاجمالي فتجري في الركن حينئذ بلحاظ أثرها النافي ، فيكون ذلك من قبيل مسألة الدين والحجّ الذي أجاب عنه الأُستاذ العراقي قدس سره بأنّ الجريان باعتبار الاثبات لا باعتبار النفي ، وقد عرفت ما في ذلك من التأمّل فراجع (1) ، وراجع ما في المستمسك ص 399 ج 5 (2) فإنّ ظاهره إجراء قاعدة التجاوز مرتين ، المرّة الأُولى بعنوان إثباتها قضاء السجدة وسجود السهو ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي ، والمرّة الثانية هي بعد انحلال العلم الاجمالي نجريها بلحاظ الترخيص في إسقاط الأمر ، بالحكم بأنّه قد أتى بالركوع.

ثمّ إنّه في صدر البحث لم يوجّه وجوب القضاء وسجود السهو إلاّبأنّه بعد

ص: 476


1- راجع الصفحة : 381 و 414.
2- مستمسك العروة الوثقى 7 : 622 - 623.

العلم بأنّه لم يمتثل أمر السجدة أو التشهّد ، يحصل له العلم الاجمالي بأنّه يجب الاعادة أو قضاء السجدة أو سجود السهو ، وإذا ثبتت الصحّة بقاعدة التجاوز الجارية لإثبات الركن تعيّن القضاء أو تعيّن السجود للسهو. وبذلك يكون وجوب قضاء السجدة أو سجود السهو من آثار قاعدة الفراغ في الركوع ، مع أنّ المفروض كون الأثرين - أعني قضاء السجدة أو سجود السهو مع الاعادة - متباينين ، فلا يكون ذلك إلاّمن قبيل كون الأصل الجاري في نفي وجوب صلاة الجمعة قاضياً بوجوب صلاة الظهر. ولعلّ المراد من كون وجوب قضاء السجدة أو سجود السهو من آثار قاعدة الفراغ في الركوع ، هو ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس سره فيما مضى (1) ممّا نقلناه عنه في ذيل فروع العلم الاجمالي ، وقد عرفت التأمّل فيه.

وخلاصة البحث : أنّا لو سلّمنا عدم إمكان جريان قاعدة التجاوز في غير الركن ، للعلم بعدم امتثال أمره ، ولازم ذلك هو عدم إمكان جريان أصالة عدم الاتيان به ، كان المرجع في غير الركن هو أصالة البراءة من وجوب قضائه وسجود السهو له ، فتكون معارضة لقاعدة التجاوز في الركن ، وبعد التساقط يكون المرجع في الركن هو أصالة العدم القاضية بفساد الصلاة ولزوم إعادتها ، وبذلك يسقط احتمال وجوب قضاء غير الركن وسجود السهو له ، هذا بناءً على ما هو المختار من إمكان جريان الأصل النافي في بعض أطراف العلم الاجمالي ، ولا مخلص من إشكال معارضة البراءة للقاعدة إلاّبما ادّعوه من كون القاعدة مثبتة للتكليف.

وكذلك الحال بناءً على ما يراه الجماعة من عدم إمكان ذلك ، فلأنّه لا تخلّص لهم عن إشكال جريان قاعدة التجاوز التي هي أصل نافٍ في الركن الذي هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، وعن جريان البراءة في غير الركن المعارضة

ص: 477


1- في الصفحة : 472.

للقاعدة في الركن ، إلاّبما ادّعوه من كون قاعدة التجاوز في الركن مثبتة لوجوب قضاء غير الركن ولزوم سجود السهو ، وقد عرفت المنع من ذلك ، فلاحظ وتدبّر.

والذي تلخّص من مجموع ما ذكرناه في هذه المسألة ، أعني التردّد بعد الفراغ بين كون الفائت هو الركن أو كونه غير الركن ، أنّ المرجع الوحيد هو أصالة عدم الاتيان بالركن ، وهو قاض بفساد الصلاة ، وبذلك يكون حاكماً على كلّ أصل يمكن إجراؤه في غير الركن حتّى أصالة البراءة من وجوب قضائه ومن وجوب سجود السهو له ، على جميع الأقوال التي تقدّمت الاشارة إليها التي :

أوّلها : تعارض القاعدتين والرجوع إلى أصالة عدم الاتيان بكلّ منهما.

وثانيها : هو ذلك ، لكن مع تعارض أصالة عدم الاتيان لكونه إحرازياً ، فإنّك قد عرفت أنّه بعد سقوط قاعدتي التجاوز ووصول النوبة إلى أصالة عدم الاتيان ، يكون هذا الأصل في الركن حاكماً عليه في غير الركن.

وأمّا ثالثها : وهو عدم جريان قاعدة التجاوز في غير الركن للعلم بعدم امتثال أمره ، فإنّك قد عرفت أنّه بناءً على ذلك تكون أصالة البراءة في غير الركن معارضة لقاعدة التجاوز في الركن فيسقطان ، ويكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان بالركن ، وكذلك الحال في :

رابعها ، وهو كون قاعدة التجاوز في غير الركن في طول قاعدة التجاوز في الركن ، فإنّك قد عرفت أنّ الطولية لو سلّمت لا تمنع من جريان القاعدة في غير الركن ، فيتعارضان ويكون المرجع هو أصالة العدم ، وهي في الركن حاكمة عليها في غير الركن.

ومنها (1) : أنّه بعد تعارض قاعدة الفراغ في الطرفين وسقوطهما ، يكون

ص: 478


1- [ هذا هو ثاني التقريبات التي ذكرها قدس سره في الصفحة : 465 ، ويأتي التقريب الثالث بعد أسطر ، لكن ما يذكره قدس سره فيهما لا يلتئم مع ما بنى عليه أخيراً من أنّ المرجع الوحيد في هذه المسألة هو أصالة عدم الاتيان بالركن ... ولعلّ ما يذكره قدس سره في هذين التقريبين وما بعدهما من جريان القاعدة في الركن وأصالة عدم الاتيان في غير الركن مبني على العبارة التي كتبها قدس سره قبل التقريب الثاني وضرب عليها خط المحو ، ونصّ العبارة هو : نعم لا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في السجدة في عرض إجرائها في الركور. لما تقدّم من الطولية ، فلا تكون صالحة لمعارضتها ، كما أنّه لا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في السجدة بعد مرتبة إجراء قاعدة الفراغ في الركوع ، للزوم المخالفة القطعية ، ويكون المتعيّن للسقوط هو قاعدة الفراغ في السجدة ، ويكون المرجع في السجدة هو أصالة عدم الاتيان بها على ما تقدّم تفصيله ].

المرجع في ناحية السجدة هو أصالة عدم الاتيان بها ، وفي ناحية الركوع هو أصالة الصحّة ، لكون أصالة الصحّة حاكمة على أصالة عدم الاتيان بالركوع المقتضية للبطلان.

وفيه أوّلاً : أنّا لا نعرف أصلاً لأصالة الصحّة في باب الصلاة في قبال قاعدة التجاوز والفراغ ، إذ لا دليل على الأصل المذكور. وثانياً : ما تقدّم من عدم التعارض بين القاعدتين الموجب لتساقطهما ، لما عرفت من سقوط قاعدة التجاوز أو الفراغ في غير الركن ، إمّا للطولية أو لما تقدّم من العلم بعدم امتثاله.

ومن ذلك يتّضح الخدشة في توجيه آخر ، وهو الرجوع في نسيان الركوع إلى أصالة عدم عروض المبطل ، فإنّ هذا متفرّع على سقوط القاعدة أعني قاعدة الفراغ في الركوع ، وقد عرفت عدم سقوطها ، ومن الواضح حكومتها على أصالة عدم عروض المبطل. مضافاً إلى أنّه لا أصل لهذا الأصل فيما نحن فيه ، لأنّ المبطل في المقام هو عدم الاتيان بالركن ، فيكون الأصل تحقّقه لا عدم عروضه ، حيث إنّ مقتضى الأصل هو عدم الاتيان بالركن. وقد تفضّل الأُستاذ قدس سره وكتب

ص: 479

بخطّه الشريف في هامش ما كنت حرّرته في الإشكال على هذا الأصل ما نصّه : وتوجيهه بأنّ المبطل ليس هو عدم الاتيان بالركن مطلقاً ، وإنّما هو العدم الخاص وهو العدم في محلّه الذي هو الدخول في الركن اللاحق ، وهذا العدم الخاص حادث مسبوق بالعدم ، ممّا يليق بأن يضحك به الثكلى ، انتهى ما كتبه قدس سره بخطّه الشريف.

هذا كلّه إذا كان الشكّ بعد الفراغ.

ومثله ما لو كان في الأثناء ولم يمكن التلافي في كلّ منهما ، كما لو كان قد حصل له العلم المذكور المردّد بين كون المتروك ركناً أو كونه غير ركن بعد الدخول في الركن الآخر ، فإنّه بناءً على ما ذكرناه من جريان قاعدة التجاوز في الركن ، وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، يلزمه إتمام الصلاة وقضاء غير الركن وسجود السهو خارج الصلاة ، وبناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره (1) من جريان أصالة الاشتغال في ناحية الركن ، وأصالة البراءة في ناحية غير الركن ، يكون اللازم عليه قطع الصلاة والاعادة.

وأمّا ما لو كان العلم المذكور واقعاً في أثناء الصلاة ، ولم يكن كلّ من الطرفين غير قابل التلافي ، ففيه صور :

الأُولى : أن لا يكون لقاعدة التجاوز مورد في شيء من الطرفين ، كما لو كان جالساً وعلم بأنّه قد ترك أحد الأمرين من السجود أو التشهّد ، فإنّه يكون مورداً لقاعدة الشكّ في المحلّ في كلّ منهما ، ويلزمه الاتيان بالسجود والتشهّد ، غايته أنّه حينئذ يعلم بأنّه إمّا أن يجب عليه سجود السهو إن كان المتروك هو السجدتين وذلك للتشهّد الذي جاء به قبل التلافي ، وإمّا أن يلزمه الاعادة إن كان

ص: 480


1- فوائد الأُصول 4 : 45.

المتروك هو التشهّد ، وذلك لأجل زيادة الركن حينئذ.

لكن نحن في فسحة من هذا الإشكال ، إذ لا نقول بوجوب سجود السهو لزيادة مثل التشهّد. ولو قلنا بوجوب سجود السهو لأمكن الجواب بأنّه كان أحد طرفي العلم الاجمالي السابق ، لأنّه قبل أن يسجد كان عالماً بأنّه إمّا ترك السجدتين فيكون تشهّده زائداً يجب له سجود السهو ، وإمّا قد فعل السجدتين فيكون اللازم عليه الاتيان بهما ، وبعد [ أن ] أتى بهما وبالتشهّد بعدهما ، يقع في العلم الاجمالي الثاني الذي أحد طرفيه كان طرفاً للأوّل.

ولو كان قائماً وعلم بأنّه قد ترك أحد الأمرين القراءة أو الركوع ، ركع من دون قراءة ، لأنّه يعلم بأنّه فعلاً غير مأمور بالقراءة ، لأنّها إمّا قراءة بعد الركوع أو قراءة بعد القراءة ، لكن يبقى الكلام في المؤمّن من احتمال زيادة الركن بعد تلافيه ، فإنّا لا نقول بأصالة الصحّة ، فراجع ما ذكرناه (1) في آخر شرح المسألة الثانية عشرة من العروة (2)

ص: 481


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- وربما يقال في من كان في حال القنوت وعلم إجمالاً بترك القراءة أو السجود : إنّ قاعدة التجاوز لا تجري في القراءة ، لا للعلم بعدم امتثال أمرها ، بل لأنّ القنوت لغو بحكم الشارع ، لأنّه في غير محلّه على كلّ من ترك القراءة أو ترك السجود ، أمّا السجود فتجري فيه القاعدة نظراً إلى كون الشكّ فيه بعد الدخول في القيام ، وحينئذ فيلزمه القراءة ويمضي في صلاته ولا شيء عليه ، وهذا بخلاف ما لو كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك السجود أو التشهّد ، فإنّ القاعدة تسقط في كلّ منهما ، إذ لا مدرك لها في السجود إلاّ الدخول في القيام. لكن هذا كلّه مبني على عدم إجراء القاعدة في كلّ من طرفي العلم الاجمالي بلحاظه في نفسه كشبهة بدوية ، وإلاّ كانت القاعدة في كلّ من الطرفين متعارضة ، ولا أثر للعلم التفصيلي المولد من العلم الاجمالي كما شرحناه ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس سره ].

الثانية : أن تكون قاعدة التجاوز جارية في أحدهما ، وكان الآخر مجرى لقاعدة الشكّ في المحل ، كما لو كان جالساً وعلم أنّه إمّا قد فاته ركوع الركعة السابقة أو أنّه لم يتشهّد بعد ، فإنّه يلزمه التشهّد لقاعدة الشكّ في المحل ، وبها ينحلّ العلم الاجمالي ، ويرجع في الركوع إلى قاعدة التجاوز.

الثالثة : أن يكون كلّ منهما مجرى لقاعدة التجاوز ، ولكن كان كلّ منهما قابلاً للتلافي لو علم بأنّه هو المتروك ، كما لو كان في أثناء القيام وعلم إجمالاً بأنّه قد ترك أحد الأمرين من التشهّد والسجود ، فإنّه يلزمه هدم القيام والاتيان بالسجدتين وسجود السهو بعد ذلك لزيادة القيام ، وإنّما وجب عليه هدم القيام للعلم بأنّه في غير محلّه ، وإذا كان القيام محكوماً باللغوية ولزوم الهدم ، لم يكن محقّقاً لموضوع قاعدة التجاوز ، بناءً على أنّه يعتبر في ذلك الغير أن لا يكون معلوم اللغوية.

وبناءً على ذلك نقول : إنّه لو كان في حال القنوت مثلاً وعلم إجمالاً بأنّه قد ترك إمّا القراءة أو السجدتين من هذه الركعة يكون ذلك القنوت لغواً فيتركه ، ويكون الشكّ في القراءة شكّاً في المحل والشكّ في السجود شكّاً بعد التجاوز ، فيلزمه القراءة فقط وإتمام الصلاة.

لكن يمكن الخدشة في كلا الفرعين ، بأنّ العلم بلغوية الجزء إنّما يمكن المنع من كونه محقّقاً لموضوع قاعدة التجاوز إذا كان ترك ما قبله معلوماً بالتفصيل ، كمن ترك التشهّد وقام والتفت في أثناء قيامه إلى أنه قد ترك التشهّد ومع ذلك شكّ في السجود. أمّا إذا لم يكن إلاّ العلم الاجمالي بترك أحد الجزأين ،

ص: 482

فيمكن القول بأنّه محقّق لموضوع قاعدة التجاوز بالنسبة إلى كلّ واحد من ذينك الجزأين ، فإنّ العلم بكون ما بيده لغواً إنّما يكون من جهة كلا طرفي العلم ، وقاعدة التجاوز إنّما تجري في كلّ واحد منهما على حدة ، ومن الواضح أنّ الشكّ في كلّ واحد على حدة لا يكون في كلا الفرعين إلاّشكّاً بعد تجاوز المحل بالنسبة إلى نفس ذلك المشكوك ، ففي الفرع الأوّل تتعارض القاعدتان قبل هدم القيام ، وكذلك تتعارض أصالة العدم في كلّ منهما ، ويكون المرجع هو أصالة الاشتغال في كلّ منهما ، فيلزم الاتيان بكلّ منهما. أمّا على مسلك الأُستاذ قدس سره فواضح ، لما عرفت ، وأمّا على كون الطولية مسقطة لقاعدة التجاوز في غير الركن ، فلعدم الطولية هنا ، لأنّه على تقدير كون المتروك هو الركن لا تكون الصلاة باطلة ، إذ لم يدخل في ركن آخر. وأمّا بناءً على سقوط القاعدة في غير الركن لأجل العلم بعدم امتثال أمره ، فإنّه يكون المرجع في الركن قاعدة التجاوز ، فلا يلزمه إلاّ الإتيان بالتشهّد.

أمّا الفرع الثاني ، ففيه تفصيل ، وهو أنّه بناءً على أنّ لغوية القنوت لا تمنع من الرجوع إلى قاعدة التجاوز ، لو قلنا بسقوط القاعدة في غير الركن من جهة الطولية ، تكون القاعدتان متعارضتين لعدم الطولية في هذه الصورة. وكذلك تتعارض أصالة العدم في كلّ منهما ، فيرجع إلى أصالة الاشتغال في كلّ منهما ، فيلزمه الاتيان بهما معاً.

لكن لو قلنا بسقوط القاعدة في غير الركن من جهة العلم بعدم امتثال أمره ، تكون قاعدة التجاوز في القراءة ساقطة للعلم بعدم امتثال أمرها. أمّا إن كانت هي المتروكة فواضح ، وأمّا إن كان المتروك هو السجدتين ، فلعدم كونها في محلّها ، وحينئذ يكون المرجع في حال القنوت هو قاعدة التجاوز في السجدتين ، فلا

ص: 483

يلزمه إلاّ الاتيان بالقراءة ، ويكون شكّه في السجود من قبيل الشكّ بعد تجاوز المحل حتّى بعد الرجوع إليها (1) ، لكون القيام حائلاً بينه وبين محل السجود. وهذا بخلاف مسلك الأُستاذ قدس سره فإنّه بناءً عليه تكون القاعدتان متعارضتين كأصالتي العدم ، وينبغي أن يكون المرجع بعد التساقط هو أصالة الاشتغال في كلّ منهما ، فيلزمه العود والاتيان بكلّ منهما وإتمام الصلاة وسجود السهو للقيام ، من دون حاجة إلى إعادة الصلاة ، لعدم تطرّق احتمال البطلان في هذه الصورة. اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ العلم الاجمالي بزيادة الركن أو القراءة (2) يقتضي الاعادة بناءً على لزوم سجود السهو لزيادة القراءة (3).

الصورة الرابعة : أن يكون كلّ منهما في حدّ نفسه مجرى لقاعدة التجاوز ، ولكن كان الركن قابلاً للتلافي وكان غير الركن غير قابل للتلافي ، كما لو كان في حال القيام وعلم إجمالاً بأنّه قد ترك أحد الأمرين ، إمّا السجود من هذه الركعة التي قام عنها أو سجدة واحدة من الركعة السابقة ، وفي هذه الصورة لا يتوجّه ما قدّمناه من لغوية القيام ، لعدم العلم بكونه لغواً على كلّ حال ، ولأجل ذلك تجري فيها قاعدة التجاوز في كلّ من الطرفين ، ولا طولية بينهما في هذه الصورة ، لأنّ ترك الركن فيها لا يكون موجباً لبطلان الصلاة ، لامكان تداركه.

ومنه يتّضح أنّه لا يتوجّه على القاعدة في غير الركن ما تقدّم من العلم بعدم امتثال أمره ، لعدم تحقّق العلم المذكور في هذه الصورة بالنسبة إلى كلّ من الركن وغير الركن.

ص: 484


1- [ الظاهر أنّ المراد بالضمير هو أصالة عدم الإتيان بالقراءة ، الملزمة بالإتيان بها ، فلاحظ ].
2- [ في الأصل : التشهّد بدل القراءة ، وما أثبتناه هو الذي يقتضيه سياق البحث ].
3- [ في الأصل : التشهّد بدل القراءة ، وما أثبتناه هو الذي يقتضيه سياق البحث ].

وبعد تعارض القاعدتين ، وتعارض أصالة عدم الاتيان في كلّ من الطرفين ، بناءً على عدم جريان الأُصول الاحرازية في أطراف العلم الاجمالي وإن لم يلزم منها المخالفة القطعية ، تنتهي النوبة إلى أصالة البراءة من قضاء السجدة بعد الفراغ ، وأصالة الاشتغال بالسجدتين من هذه الركعة ، فيلزمه العود لتلافيهما وإتمام الصلاة وسجود السهو للقيام.

وفي هذه الصورة تتّحد النتيجة على كلّ من المسلكين ، أعني سقوط قاعدة التجاوز في غير الركن من جهة الطولية أو من جهة العلم بعدم امتثال أمره ، ومسلك الأُستاذ قدس سره حيث يقول بعدم سقوط القاعدة في غير الركن وأنّها إنّما تسقط بالتعارض ، لأنّ النتيجة في خصوص هذه الصورة هو التعارض على كلّ حال كما عرفت.

نعم ، يتوجّه على مسلك الأُستاذ قدس سره من أنّ الأُصول المتوافقة المترتّبة الجارية في أحد الطرفين تسقط جميعها بالمعارضة للأصل في الطرف الآخر ، فإنّه بناءً على ذلك ينبغي أن يقال بسقوط أصالة البراءة من قضاء غير الركن بسقوط قاعدة التجاوز فيه ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي الذي حدث في أثناء القيام ، ومقتضاه تنجز كلا طرفيه ، فيلزمه تدارك السجدتين في أثناء الصلاة وقضاء السجدة الواحدة بعد الصلاة مع سجودي سهو. ولكن لهذه الصورة تتمّة ذكرناها في الرسالة المفردة التي لخّصناها من هذه المباحث.

الصورة الخامسة : أن يكون كلّ منهما في حدّ نفسه مجرى لقاعدة التجاوز ، وكان الركن فقط غير قابل للتلافي ، بخلاف غير الركن ، كما لو كان في حال القيام وعلم إجمالاً بأنّه قد ترك أحد الأمرين من السجدة من هذه الركعة التي قام عنها أو الركوع منها ، فبناءً على عدم جريان القاعدة في غير الركن إمّا للعلم

ص: 485

بعدم امتثال أمره أو للطولية بين القاعدتين ، وأنّ المرجع في مثل ذلك هو قاعدة التجاوز في الركن ، يلزمه هدم القيام والاتيان بالسجدة وإتمام الصلاة وسجود السهو لزيادة القيام. وأمّا بناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره من تعارض القاعدتين وتعارض أصالتي العدم ، فينبغي بعد التساقط أن يكون المرجع هو أصالة الاشتغال في كلّ من الطرفين ، أمّا الصلاة فواضح ، وأمّا السجدة فلعدم جريان البراءة فيها ، لأنّ الشكّ بالنسبة إليها من قبيل الشكّ في الامتثال.

وإن شئت فقل : بعد التساقط نبقى نحن والعلم الاجمالي المردّد بين إعادة الصلاة والرجوع لتلافي السجدة وإتمام الصلاة ، ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو لزوم كلا الطرفين ، كما أفاده قدس سره فيما حرّرناه عنه في الفقه في مسألة من كان في السورة وعلم أنّه قد ترك إمّا الفاتحة أو الركوع من الركعة التي قام عنها. ومثل ذلك ما لو كان في حال القيام وعلم بأنّه قد ترك سجدتين ، إمّا من هذه الركعة التي قام عنها ، أو من الركعة السابقة أو أنّ إحدى السجدتين من هذه الركعة والسجدة الأُخرى من الركعة السابقة ، فإنّه بناءً على ما ذكرناه يكون المرجع بالنسبة إلى احتمال كون السجدتين من الركعة السابقة هو قاعدة التجاوز ، وبالنسبة إلى باقي الاحتمالات يكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان.

وإن شئت قلت : إنّ دخول احتمال كون السجدتين من الركعة السابقة يولّد احتمال بطلان الصلاة ، ومع احتمال بطلان الصلاة لا يمكننا إجراء قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الاحتمالين الباقيين ، فلابدّ أن يكون جريان قاعدة التجاوز في السجدتين من الركعة السابقة سابقاً في الرتبة ، فتجري فيه بلا معارض ، ومقتضى جريانها في الاحتمال المذكور هو الحكم عليه بأنّك قد أتيت بالسجدتين من الركعة السابقة وأنّ صلاتك صحيحة ، ويكون المرجع في باقي الاحتمالات هو

ص: 486

أصالة العدم ، فيلزمه هدم القيام ، والاتيان بالسجدتين لهذه الركعة ، وإتمام الصلاة ، وقضاء السجدة المحتمل كونها من الركعة السابقة ، وسجود السهو مرّتين ، لزيادة القيام وللسجدة المذكورة.

ويمكن أن يقال : إنّه لا يحتاج إلى قضاء السجدة ، لأنّ أصالة العدم بالنسبة إلى طبيعة السجود من الركعة اللاحقة يكون كافياً في انحلال العلم الاجمالي ، لما حقّق في محلّه من أنّه إذا كان أحد الأطراف مجرى للأصل المثبت ، كان العلم الاجمالي منحلاً مهما كثرت الأطراف ، هذا كلّه على تقدير إسقاط قاعدة التجاوز في غير الركن من جهة الطولية.

وأمّا على تقدير إسقاطها من جهة العلم بأنّه لم يمتثل أمره ، ففيه إشكال ، حيث إنّ الذي يعلم بأنّه لم يمتثل أمره إنّما هو السجدة الثانية من هذه الركعة ، لأنّ المتروك إن كان هو السجدتين من الأُولى فصلاته باطلة ، وإن كان من الثانية ، أو كانت إحداهما من الأُولى والأُخرى من الثانية ، فعلى أيّ حال هو لم يمتثل أمر السجدة الثانية ، فلا تجري فيها قاعدة التجاوز. أمّا السجدة الأُولى من هذه الركعة فهو غير عالم بأنّه لم يمتثل أمرها ، لاحتمال التوزيع ، فلا مانع حينئذ من جريان قاعدة التجاوز فيها.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بعد أن كانت السجدة الثانية مجرى لأصالة عدم الاتيان يكون قيامه محكوماً بكونه في غير محلّه ، فلا يتحقّق موضوع قاعدة التجاوز بالنسبة إلى السجدة الأُولى ، لا أنّه قد تحقّق الموضوع وبعد هدم القيام ينقلب شكّه إلى الشكّ في المحلّ ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر أنّه لا فائدة هنا في التعرّض لكون القيام محقّقاً لموضوع قاعدة التجاوز بالنسبة إلى كلّ من السجدتين من الركعة الأخيرة ، لأنّه لو فرضنا أنّه

ص: 487

ملغى من هذه الجهة ، من جهة أنّ صلاته إمّا باطلة فيكون قيامه لغواً ، أو أنّه قد فاتته السجدتان أو السجدة الأخيرة من الركعة الثانية فيكون أيضاً لغواً ، إلاّ أنّ أقصى ما فيه أن يلزمه هدمه ، وأن لا تجري في حقّه قاعدة التجاوز ، فيكون اللازم عليه هو السجدتين أيضاً لأصالة الاشتغال فيهما.

والأولى أن يقال : إنّ الذي تتوقّف عليه قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الركعة الثانية هو إحراز طبيعة السجود في الأُولى ، فتكون قاعدة التجاوز في الركعة الثانية ساقطة بمقدار ما تقتضيه قاعدة التجاوز في طبيعة السجود في الأُولى ، ولا ريب أنّ إحراز طبيعة السجود في الأُولى لا يحقّق إحراز السجدة الثانية منها ، كما أنّ قاعدة التجاوز في الركعة الثانية لا تتوقّف على إحراز السجدة الثانية من الركعة الأُولى ، وحينئذ يتوجّه الإشكال في أنّ قاعدة التجاوز في الركعة الثانية صالحة لمعارضة قاعدة التجاوز في السجدة الثانية من الركعة الأُولى ، إذ لا طولية بينهما.

والجواب : هو أنّ قاعدة التجاوز في الركعة الثانية لا تجري في سجدتها الأُولى ولا في سجدتها الثانية ، أمّا سجدتها الأُولى أعني طبيعة السجود فيها ، فلأنّها في طول قاعدة التجاوز في الركعة الأُولى المحرزة لطبيعة السجود فيها. وأمّا سجدتها الثانية فللعلم بعدم امتثال الأمر بالسجدة الثانية في الركعة الثانية على جميع تقادير العلم الاجمالي ، وإذا سقطت قاعدة التجاوز في الركعة الثانية بالنسبة إلى كلّ من سجدتيها ، يكون المرجع في أصل وجود السجود فيها هو أصالة العدم ، كما أنّ المرجع حينئذ في الركعة الأُولى هو قاعدة التجاوز في أصل طبيعة السجود ، وفي سجدتها الثانية أيضاً ، فتأمّل فإنّ فيه بحثاً مفصّلاً حرّرناه في الرسالة التي لخّصناها من هذه المباحث ، هذا كلّه بناءً على ما ذكرناه.

وأمّا بناءً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره ، فالذي ينبغي هو ما عرفت من تأثير العلم

ص: 488

الاجمالي بجميع أطرافه ، وقد حرّرت عنه قدس سره في الدروس الفقهية فيما يتعلّق بهذه الجهة كلاماً لا بأس بنقله : وأمّا إذا كان في المحل السهوي ، كأن يكون في القيام قبل الركوع مثلاً ، ويحصل له العلم بفوات سجدتين ، إمّا من الركعة السابقة أو من هذه الركعة التي قام عنها أو أنّ إحداهما من السابقة والأُخرى من هذه التي قام عنها ، فنقول : إنّه بعد تعارض قاعدة التجاوز في الطرفين ، وبعد تعارض استصحاب عدم الاتيان في جميع المحتملات أيضاً ، نبقى نحن وما يقتضيه هذا العلم ، ومحتملاته لزوم إعادة الصلاة ( بناءً على أنّ السجدتين من الركعة الأُولى ) ولزوم العود والاتيان بسجدتين ( بناءً على أنّهما من الثانية ) أو بسجدة واحدة وقضاء سجدة بعد الفراغ وسجود السهو ( بناءً على [ أنّ ] إحداهما من الركعة الأُولى والأُخرى من الثانية ) ومقتضى العلم الاجمالي هو الأخذ بجميع هذه الاحتمالات ، فيرجع ويسجد سجدتين ، ويتمّ صلاته ، ويقضي سجدة واحدة ، ويسجد للسهو ، ويعيد الصلاة.

لا يقال : إنّ مقتضى الاشتغال هو الرجوع والاتيان بالسجدتين ، والاتمام والاعادة ، وأمّا قضاء السجدة وسجود السهو لها فمقتضى الأصل فيهما هو البراءة.

لأنّا نقول : لو كان الأمر مقصوراً على قاعدة الاشتغال ، لكان الأمر كذلك ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ محتملات العلم ثلاثة ، وإذا تعارضت الأُصول وتساقطت ، وبقينا نحن والعلم الاجمالي ، كان مقتضاه لزوم هذه المحتملات كلّها ، والمفروض أنّ الاحتمال الأخير منها مركّب من سجدة في المحل ، وقضاء سجدة وسجود السهو لها بعد الصلاة ، فيكون ذلك الاحتمال منجّزاً بجميع أجزائه. ولا يعقل التفكيك بين هذه الأجزاء بأن يقال يتنجّز جزؤه الأوّل وهو السجدة في

ص: 489

المحل ، دون الجزأين الأخيرين وهما السجدة بعد الفراغ وسجود السهو.

ثمّ إنّ الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا كان حصول العلم بعد الفراغ أو بعد تجاوز المحل السهوي بحيث لا يمكنه العود لو تذكّر ، هو أنّ ذلك بعد تعارض الأُصول السابقة فيه يكون الأصل في أحد أطرافه هو الاشتغال وفي الطرف الآخر هو البراءة كما تقدّم ، فينحلّ العلم الاجمالي ، بخلاف هذه الصورة فإنّها بعد تساقط الأُصول فيها يكون كلّ واحد من أطراف العلم مجرى لأصالة الاشتغال ، فيبقى العلم الاجمالي فيها بحاله غير منحل ، وذلك لأنّ العود ولزوم التدارك فيما نحن فيه على تقدير كون الفائت هو غير الركن من السابقة لا يكون تكليفاً جديداً كي ينفى بالبراءة ، كما ينفى قضاء الجزء وسجود السهو بالبراءة ، بل هو مقتضى الاشتغال بذلك التكليف السابق الذي يرجع إلى تلافيه. هذا بعض ما كنت حرّرته عنه قدس سره في توجيه لزوم جميع المحتملات.

لكنّه قدس سره قد عدل عن ذلك ، وقد كنت حرّرت عنه الوجه في عدوله وهاك نصّ ذلك التحرير : هو أنّ العود في المحل السهوي لو كان بمقتضى القاعدة من جهة تلافي الجزء في محلّه ، لكان كلّ واحد من أطراف العلم منجّزاً ، أعني الاعادة لاحتمال أنّ السجدتين كانا من الركعة السابقة ، والعود والاتيان بسجدتين لاحتمال كونهما من هذه الركعة التي قام عنها ، والاتيان بسجدة واحدة في المحل وأُخرى بعد الفراغ مع سجود السهو ، لاحتمال كون إحدى السجدتين من الركعة السابقة والأُخرى من هذه الركعة ، لأنّ كلّ واحد من هذه الاحتمالات مجرى لقاعدة الاشتغال ، ومقتضى العلم الاجمالي المردّد بينها هو تنجّزها أجمع.

إلاّ أنّ ذلك - أعني كون العود على مقتضى القاعدة - ممنوع ، فإنّه إنّما يلتزم

ص: 490

به من جهة حديث « لا تعاد » (1) ، وهي مختصّة بما إذا كان ما يرجع لتداركه محقّق الفوت ، أمّا إذا لم يكن فوته معلوماً بل كان مشكوكاً ، غاية الأمر أنّه أحد أطراف العلم الاجمالي ، فلا يكون مشمولاً لحديث « لا تعاد » ، وحينئذ فنبقى نحن وما تقتضيه القاعدة الأوّلية في ذلك الجزء على تقدير كونه هو الفائت واقعاً ، ولا ريب أنّ مقتضى [ القاعدة ] حينئذ هو بطلان الصلاة بمجرّد نسيان جزء والدخول في جزء آخر ، وعليه فبعد فرض عدم جريان قاعدة التجاوز ، وعدم جريان أصالة عدم الاتيان به لما ذكرناه من المعارضة ، وبعد فرض عدم جريان حديث « لا تعاد » المحقّق لوجوب العود ، لما ذكرناه من اختصاصه بصورة كون فوت الجزء معلوماً ، يكون وجوب العود محتاجاً إلى دليل يدلّ عليه ، وحيث لا دليل فمقتضى القاعدة هو البطلان ، ومع الشكّ في وجوبه كما هو المفروض يكون المرجع هو البراءة ، وعليه فيكون أحد الأطراف وهو وجوب الاعادة لاحتمال كون السجدتين من الركعة السابقة مجرى لقاعدة الاشتغال ، وبقية الأطراف مجرى لأصالة البراءة ، فبعد تعارض الأُصول يكون العلم الاجمالي منحلاً ، كما ينحل إذا كان حاصلاً بعد الفراغ ، أو كان حاصلاً بعد تجاوز المحل السهوي ، ويكون الحكم في جميع هذه الصور الثلاث هو وجوب الاعادة فقط ، انتهى.

قلت : ويمكن التأمّل في هذا الذي كنّا حرّرناه عنه في وجه عدوله قدس سره :

أوّلاً : أنّه بناءً على ما أفاده من عدم شمول حديث « لا تعاد » للمورد ، وأنّه يبقى على مقتضى القاعدة من البطلان بمجرّد الاتيان بجزء قبل الاتيان بسابقه ، ينبغي القطع ببطلان الصلاة ، لأنّ السجدتين إن كانتا من الأُولى فبطلانها واضح ، وإن لم تكونا من الأُولى فأيضاً تكون الصلاة باطلة من جهة الاتيان بالقيام في غير

ص: 491


1- وسائل الشيعة 6 : 313 / أبواب الركوع ب 10 ح 5.

محلّه ، فتكون زيادة غير مشمولة لحديث « لا تعاد ».

وثانياً : أنّ هذه الدعوى ، وهي كون حديث « لا تعاد » غير شامل لأمثال هذه الموارد ، وأنّ السهو بالاتيان بالجزء اللاحق قبل الاتيان بسابقه [ موجب للبطلان ] لا تلتئم مع كثير من الموارد التي أفتى قدس سره فيها بالصحّة ، وذلك مثل ما لو كان في حال التشهّد أو القيام وعلم بأنّه قد فاتته سجدة واحدة مردّدة بين كونها من الركعة السابقة أو من هذه الركعة ، فإنّه بعد تعارض القاعدتين وأصالتي العدم في الطرفين ، يكون المرجع هو أصالة البراءة من قضاء السجدة السابقة ، وأصالة الاشتغال بالسجدة اللاحقة ، فيلزمه العود لتلافيها ، كما أفاده قدس سره في حاشية مسألة 20 من العروة ، فإنّ السيّد قدس سره حكم فيها بالمضي وإتمام الصلاة وقضاء السجدة وسجدتي السهو ، ثمّ قال : ويحتمل وجوب العود لتدارك السجدة من هذه الركعة والاتمام وقضاء السجدة مع سجود السهو ، والأحوط على التقديرين إعادة الصلاة أيضاً (1). فقد كتب الحاشية على قوله « ويحتمل » بما نصّه : هذا الاحتمال هو المتعيّن هنا أيضاً ، ولم يظهر وجه للمضي ، والاحتياط بالاعادة ضعيف الخ (2) وهكذا الحال في المسألة 19 المتعرّضة لمسألة من كان في حال القيام وتردّد بين كون الفائت منه هو السجدة من الركعة السابقة أو التشهّد من هذه الركعة.

وكان ينبغي إسقاط الحكم بقضاء السجدة وسجود السهو ، فإنّ الحكم به لا يتّجه إلاّبناءً على جريان أصالة العدم في كلّ من الطرفين ، ليكون مقتضى الأصلين المزبورين هو الرجوع لتلافي السجدة ، واتمام الصلاة ، وقضاء السجدة ، والسجود للسهو مرّتين إحداهما لأجل القيام ، والأُخرى لأجل السجدة ، لكنّه قدس سره يرى المعارضة بين الأصلين المزبورين ، لكونهما إحرازيين ، ومن الواضح أنّه

ص: 492


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 :1. 350.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 :1. 350.

بعد سقوطهما ينبغي أن يكون المرجع هو أصالة البراءة من قضاء السجدة السابقة ، وأصالة الاشتغال بالنسبة إلى السجدة اللاحقة ، فيكون الحكم هو العود والتدارك للسجدة ، وإتمام الصلاة ، وسجود السهو للقيام في صورة كونه قد دخل في القيام لا التشهّد.

ويمكن أن يقال : إنّ نظره قدس سره في عدم جريان البراءة من قضاء السجدة إلى ما قدّمنا الاشارة إليه في نظيره في الصورة الرابعة من سقوط أصالة البراءة من قضاء السجدة بسقوط قاعدة التجاوز فيها ، لكنّه قدس سره لم يلتزم بذلك فيما لو حصل العلم بعد الفراغ ، بل التزم هناك بالرجوع إلى قاعدة الاشتغال في ناحية الركن وأصالة البراءة من ناحية غير الركن.

وعلى أيّ حال ، فإنّ هذه الحاشية لا تلتئم مع ما نقلناه عنه قدس سره في هذا المقام ، فإنّ مقتضاه هو عدم جواز العود ، بل إمّا أن يحكم بالمضي وقضاء سجدة واحدة كما في المتن ، أو يحكم ببطلان الصلاة لعدم إمكان تصحيحها ، لعدم إمكان المضي مع وجود العلم الاجمالي بأنّه إمّا أن يجب عليه تلافي السجدة أو يجب عليه قضاؤها بعد الصلاة ، ولا يمكنه العود ، لأنّه موجب لزيادة التشهّد أو القيام مع عدم جريان حديث « لا تعاد » فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ مسلك السيّد هو جريان الاستصحابات المثبتة ، ومقتضاه تعيّن الاحتمال الذي ذكره.

وثالثاً : أنّ ما أفاده قدس سره من عدم جريان حديث « لا تعاد » في مثل ما نحن فيه ممنوع ، فإنّه لا تعرّض له لوجوب العود ، وإنّما مفاده هو عدم لزوم إعادة الصلاة لمثل زيادة هذه الأجزاء ، فيكون حاصله اغتفار زيادتها ، فإذا فرض وقوعه قبل سابقه كان زائداً مغتفراً ، ويلزمه حينئذ العود لتلافي الجزء السابق لأنّه بلا مانع ،

ص: 493

ومن الواضح أنّ هذا - أعني اغتفار الزيادة - من الأحكام الواقعية التي تتبع واقعها وإن لم يعلم به المكلّف ، وحينئذ ففيما نحن فيه نقول : إنّه بعد أن دخل في القيام وحصل له العلم بترك سجدتين على نحو ما مرّ ، إن كانت السجدتان من الركعة السابقة بطلت صلاته ولا زيادة حتّى يتكلّم في شمول حديث « لا تعاد » لها ، وإن لم تكونا من السابقة كان هذا القيام واقعاً في غير محلّه ، وكان في الواقع محكوماً بكونه زيادة مغتفرة.

وأمّا الفرع الذي نقلناه عن العروة فأيضاً لا ينبغي الحكم بالبطلان فيه ، فإنّ السجدة التي علم بتركها إن كانت من الأُولى ، كان كلّ من السجدة التي أتى بها بعد هدم القيام والقيام الذي هدمه زائداً داخلاً تحت حديث « لا تعاد » ، وإن كانت من الثانية كانت السجدة في محلّها ، وكان القيام زائداً.

والحاصل : أنّه إذا كان مشغولاً بجزء ، وكان مقتضى الاشتغال هو الرجوع إلى الجزء السابق ، جاز له بل لزمه الرجوع إلى الجزء السابق ، ولا يمنعه احتمال الزيادة لأنّها مغتفرة بحديث « لا تعاد » ، فإنّ تلك الزيادة المدّعى كونها مانعة من الرجوع إن كانت هي زيادة الجزء الذي يتداركه ، فمن الواضح اغتفارها لو صادفت الواقع بحديث « لا تعاد » وإلاّ لجرى الإشكال فيما لو كان الشكّ في المحلّ ، وإن كانت هي زيادة ذلك الجزء الذي هدمه ، فمن الواضح اغتفارها أيضاً بحديث « لا تعاد ».

اللّهمّ إلاّ أن يكون المراد من الإشكال المزبور هو أنّ هذا الجزء الذي بيده يحتمل قبل هدمه أنّه كان في محلّه ، فمع احتمال كونه في محلّه وأنّه ليس بزائد ، كيف يمكن تجويز هدمه وجعله زائداً.

والحاصل : أنّه قبل هدم ذلك الجزء لا يمكن الحكم عليه بأنّه زائد كي

ص: 494

ندخله في حديث « لا تعاد » ليكون فعلاً زيادة مغتفرة ، وما لم يحكم عليه بالزيادة لا يمكن تركه وهدمه. نعم لو كانت أصالة عدم الاتيان بالجزء السابق جارية ، لكانت موجبة للحكم على ذلك الجزء الذي بيده بأنّه زائد واقع في غير محلّه ، لكن المفروض أنّه ليس في البين سوى الشكّ في الجزء السابق وأصالة الاشتغال ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب الحكم على الجزء الذي بيده بأنّه زائد وواقع في غير محلّه ، وحينئذ فلا طريق لنا لهدمه وتركه ، وإن كان لو هدمناه وتلافينا الجزء السابق يكون زيادة قطعاً ، وحينئذ يكون ذلك قبل الهدم من قبيل احتمال تعمّد الزيادة بالتعمّد للهدم ، ومع عدم إمكان الهدم تدخل المسألة في عدم إمكان التلافي ، وتسقط أصالة الاشتغال.

وهذا الإشكال على تقدير تماميته إنّما يؤثّر فيما لو كان الطرف الآخر المقابل مجرى لأصالة البراءة ، كما في المسألتين اللتين نقلناهما عن العروة وكما في فروض الصورة الرابعة ، أو كان مجرى لأصالة الاشتغال في نفس الجزء أيضاً كما في بعض احتمالات الصورة الثالثة ، أمّا لو كان الطرف الآخر هو بطلان الصلاة كما في فروض الصورة الخامسة ، فلا أثر لهذا الإشكال فيه ، لكون ذلك الجزء الذي بيده لغواً على كلّ من التقديرين ، فيجوز هدمه على كلّ حال.

ولكن يهوّن الخطب ، أنّ وجوب العود لتلافي هذه الأجزاء مثل التشهّد والسجدة الواحدة والفاتحة لو نسيها ودخل فيما بعدها ما لم يدخل في ركن منصوص بالخصوص ، ويستفاد من تلك النصوص (1) أنّ تلك الأجزاء لا يسقطها

ص: 495


1- هذه النصوص مذكورة في أبواب متفرّقة فراجع وسائل الشيعة 6 : 364 / أبواب السجود ب 14 ، وص 404 / أبواب التشهّد ب 8 ، وكذا راجع وسائل الشيعة 8 : 244 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 26.

الدخول فيما بعدها إلاّ إذا كان ركناً ، وحينئذ نقول في مثل ما لو علم في حال القيام أو في حال القراءة أنّه قد ترك سجدة إمّا من الركعة السابقة أو من هذه الركعة التي قام عنها ، وانتهت النوبة إلى أصالة الاشتغال ، أنّ المسقط للسجدة من هذه الركعة التي قام عنها منحصر بالاتيان بها ، فلو كان قد نسيها ودخل في القراءة كان الأمر بتلك السجدة باقياً ، لا أنّ العود يكون بأمر جديد كي يمكن الرجوع فيه إلى البراءة ، ولازم بقاء الأمر بتلك الأجزاء عند نسيانها والدخول فيما بعدها هو أنّه لو شكّ في الاتيان بها كان ذلك من قبيل الشكّ في سقوط ذلك الأمر ، ويكون حاله من هذه الجهة حال ما لو كان الشكّ في المحل في كونه مجرى لأصالة الاشتغال بذلك الجزء ، وكما أنّ أصالة الاشتغال فيما لو كان الشكّ في المحل تمنعه من المضي في صلاته قبل الفراغ اليقيني عن ذلك الجزء المشكوك ، فكذلك تمنعه فيما نحن فيه من إتمام الجزء الذي بيده والمضي في صلاته ، فتكون أصالة الاشتغال هي المسوّغة لهدم ذلك الجزء الذي بيده.

بل يمكن أن يقال : إنّه يستفاد من تلك النصوص وجوب هدم الجزء عند نسيان ما قبله ، فتكون حرمة هدمه منحصرة بما إذا كان قد أتى بما قبله ، فعند الشكّ في الاتيان بما قبله نشكّ في حرمة هدمه ووجوبه ، فيدور الأمر فيه بين المحذورين ، وأصالة الاشتغال بالجزء السابق تعيّن عليه اختيار الهدم ، هذا إذا لم يجر استصحاب بقاء وجوب الجزء السابق كما إذا كان الطرف الآخر مجرى البراءة ، وإلاّ كان وجوب الهدم واضحاً ، وليس هذا الاستصحاب راجعاً إلى أصالة عدم الاتيان بالجزء كي يعارضه الطرف [ الآخر ] ، وإنّما هو استصحاب بقاء نفس الوجوب ، وهو إنّما يجري في هذا الطرف دون الطرف الآخر الذي علمنا بسقوط وجوبه إمّا بالاتيان به أو بالدخول في الركن ، فإنّ فرض الكلام فيما حال الركن بينه

ص: 496

وبين الطرف الآخر الموجب للعلم بعدم بقاء وجوب ذلك الطرف ، واستصحاب بقاء الوجوب فيما لو كان الشكّ في الامتثال وإن [ كان ] ممنوعاً كما حقّق في محلّه (1) ، إلاّ أنّه إذا لم يكن له أثر إلاّمجرّد الحكم بالاشتغال ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ له أثراً آخر وهو وجوب هدم الجزء الذي دخل فيه ، وعدم جواز مضيّه في صلاته.

لكن المطلب بعد محل نظر ، فإنّ الحكم بلزوم الهدم بضرس قاطع مع عدم قيام الحجّة على لغوية ذلك الجزء مشكل ، والاعتماد على استصحاب بقاء وجوب الجزء أيضاً مشكل ، وأشكل منهما الحكم بالمضي في صلاته مع فرض جريان قاعدة الاشتغال في الجزء أو استصحاب بقاء وجوبه. ولا يمكن الاحتياط إذ لا يمكن الجمع بين المحذورين ، إذ لا كيفية في البين تكون حاوية للتخلّص من كلا المحذورين ، ولعلّ هذه الجهات من الإشكال تدخل المسألة فيما لا طريق فيه إلى تصحيح الصلاة ، فيحكم ببطلانها ولزوم رفع اليد عنها وإعادتها.

تتمّة : وهي أنّه في صورة التردّد بين كون الفائت ركناً أو غيره ممّا يقضى بعد الصلاة ، لو لم يلتفت المكلّف إلى ذلك إلى أن خرج الوقت ، فبناءً على ما ذكرناه في صورة التذكّر بعد الفراغ وقبل خروج الوقت من سقوط قاعدة الفراغ بالنسبة إلى غير الركن ، ويكون المرجع فيه هو أصالة عدم الاتيان ، وفي الركن هو قاعدة الفراغ ، نقول : في صورة عدم الالتفات إلى ذلك إلاّبعد خروج الوقت ، لو قلنا إنّ قاعدة الحيلولة مختصّة برفع احتمال القضاء ، ولا تجري في الأجزاء المنسية فلا إشكال ، لأنّ المرجع في غير الركن هو أصالة عدم الاتيان ، وفي الركن

ص: 497


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 125 وما بعدها ، وراجع أيضاً حواشي المصنّف قدس سره على المطلب في المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : 209 وما بعدها.

قاعدة الحيلولة ، وهي موافقة لقاعدة التجاوز فيه ولأصالة البراءة من قضاء الصلاة ، لكنّها حاكمة عليهما ، وعلى أيّ حال يكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان بغير الركن وقاعدة الحيلولة في الركن ، ويتّحد الحكم في هذه المسألة مع مسألة ما لو كان التذكّر في الوقت. وكذلك الحال لو قلنا بشمول القاعدة المزبورة للأجزاء التي تقضى ، لوقوع التعارض في هذه القاعدة بالنسبة إلى الركن وغير الركن ، لكنّها لمّا كانت حاكمة على جميع الأُصول ، كانت ساقطة في المرتبة الأُولى ، وبعد سقوطها في الطرفين يكون المرجع أيضاً هو قاعدة الفراغ في الركن ، وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فيتّحد الحكم أيضاً ، ولا تجري أصالة البراءة من القضاء بالنسبة إلى الجزء ، لأنّ أصالة عدم الاتيان به في الصلاة يوجب الحكم بلزوم الاتيان به في الوقت وخارجه على حدّ سواء.

وأمّا على مسلك الأُستاذ قدس سره من كون المرجع بعد تعارض قاعدة الفراغ في الطرفين وتعارض أصالتي العدم فيهما هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء غير الركن ، ففيه تفصيل ، وهو أنّه لو قلنا بجريان قاعدة الحيلولة في الأجزاء التي تقضى ، يحصل التعارض في القاعدة المزبورة الموجب لسقوطها في الرتبة السابقة على تلك الأُصول ، فنبقى نحن وأصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء الجزء ، وحيث إنّ أصالة الاشتغال بالصلاة ساقطة بعد خروج الوقت ، وأنّ المرجع في القضاء هو البراءة لكونه بأمر جديد ، يكون أصالة البراءة من قضاء غير الركن معارضاً بأصالة البراءة من قضاء نفس الصلاة ، للعلم الاجمالي بوجوب أحدهما ، فنبقى نحن والعلم الاجمالي ومقتضاه تنجّز كلا الطرفين.

وهكذا الحال لو قلنا بأنّ قاعدة [ الحيلولة ] مختصّة بموارد الشكّ في

ص: 498

الاتيان بأصل [ الصلاة ] دون موارد الشكّ في أجزائها أو شرائطها أو ركعاتها ، فإنّه بناءً على ذلك يكون الحكم بعد تعارض الأُصول هو الجري على مقتضى العلم الاجمالي.

ولو قلنا بأنّ قاعدة الحيلولة تشمل موارد الشكّ في الصحّة ، لرجوعها إلى الشكّ في الخروج عن عهدة المأمور به في الوقت ، اختصّ جريانها فيما نحن فيه بناحية الركوع ، وحينئذ نقول أوّل ما يقع التعارض بين قاعدة التجاوز في غير الركن وقاعدة الحيلولة في الركن ، وبعد تساقطهما يكون المرجع في غير الركن هو أصالة عدم الاتيان ، وفي الركن قاعدة الفراغ ، لكن لأجل أنّ قاعدة الفراغ في الركن موافقة لقاعدة الحيلولة ، فتسقط بسقوطها بناءً على مسلكه قدس سره من سقوط الأُصول المترتّبة المتوافقة من طرف واحد بالمعارضة للأصل في الطرف الآخر ، وحينئذ يكون المرجع في الركن أيضاً هو أصالة عدم الاتيان به في أثناء الصلاة ، وبناءً على تعارض الأُصول الاحرازية وإن كانت مثبتة للتكليف يتساقطان أيضاً ، وأمّا أصالة البراءة من قضاء الجزء فهي معارضة بأصالة البراءة من قضاء الصلاة ، فنبقى أيضاً نحن والعلم الاجمالي ومقتضاه تنجّز كلا الطرفين. ولم أجد من تعرّض لجريان قاعدة الحيلولة في غير الشكّ في أصل الصلاة سوى السيّد قدس سره في العروة في الثاني من موارد الشكّ الذي لا عبرة به بعبارة مختصرة ، فراجع (1).

تذييل : لو كان في حال الركوع وعلم بأنّه قد فاته من الركعة السابقة إمّا ركوع أو سجدة واحدة أو تشهّد ، فبناءً على ما ذكرناه من سقوط قاعدة التجاوز في غير الركن لأجل الطولية ، لا إشكال في أنّ عليه قضاء السجدة والتشهّد من دون إعادة ، لأصالة عدم الاتيان بهما مع جريان قاعدة التجاوز في الركوع.

ص: 499


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 306.

وكذلك بناءً على سقوط القاعدة في غير الركن لأجل العلم بعدم امتثال أمره ، فإنّ جريان قاعدة التجاوز في غير الركن وإن لم يمنع منها العلم بعدم امتثال كلّ من السجدة والتشهّد ، إذ لا علم للمكلّف بذلك ، لجواز كون المتروك هو أحدهما ، لكن لمّا كان يعلم بأنّه لم يمتثل الأمر في واحد منهما لا على التعيين ، لأنّه إن كان قد ترك الركوع كان كل منهما باطلاً ، وإن لم يكن قد ترك الركوع كان المتروك هو أحدهما ، فهو يعلم أنّ أحدهما لم يمتثل أمره ، وحينئذ لا يمكنه إجراء قاعدة التجاوز في كلّ منهما لأجل هذا العلم الاجمالي المردّد بينهما ، وتكون قاعدة التجاوز في الركوع جارية بلا معارض ، ولا يعقل أن تكون ساقطة بسقوطها فيهما ، لأنّ المعارض لقاعدة التجاوز في الركوع ليس هو خصوص قاعدة التجاوز في السجدة أو في التشهّد ليكون التعارض والتساقط حاصلاً بين الجميع ، لوضوح إمكان الجمع بين قاعدة التجاوز في السجدة وقاعدة التجاوز في الركوع ، لجواز أن يكون المتروك هو التشهّد ، وهكذا الحال في العكس ، بل إنّ المعارض لقاعدة التجاوز في الركوع هو مجموع القاعدتين فيهما ، ولمّا ابتلي كلّ منهما بمعارضة الأُخرى ، لم يكونا صالحين لمعارضة القاعدة في الركوع ، ويكون المرجع في الركوع هو القاعدة المزبورة وفيهما هو أصالة عدم الاتيان ، فيلزمه الاتيان بهما وسجود السهو من دون إعادة.

نعم ، بناءً على تعارض الأُصول الاحرازية لا يمكن إجراء أصالة عدم الاتيان فيهما ، للعلم بأنّه قد أتى بأحدهما ، لأنّ المفروض إنّما هو علمه بأنّه قد ترك أحد الثلاثة ، فالمتروك واحد ، فلا يمكن إحراز الترك في كلّ من السجدة والتشهّد ، وحينئذ يكون المرجع فيهما هو أصالة البراءة من لزوم القضاء وسجود السهو ، فتقع المعارضة بينهما وبين قاعدة التجاوز في الركوع ، وبعد التساقط

ص: 500

يكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان بالركن الذي يكون قاضياً ببطلان الصلاة ، وحاكماً على كلّ أصل جارٍ في ناحية غير الركن.

تكميل : لو علم بعد الفراغ من الصلاة بأنّه قد زاد إمّا الركوع أو السجدة الواحدة (1) فبناءً على تعارض القاعدتين وتعارض أصالة العدم في كلّ منهما ، يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء السجدة (2) ومن سجود السهو ، وكذلك بناءً على عدم التعارض بين القاعدتين ، فإنّ الجاري حينئذ هو قاعدة الفراغ في زيادة الركن وأصالة العدم في زيادة غيره ، وهما متعارضان أيضاً ، فيكون المرجع بعد ذلك هو أصالة العدم في زيادة الركن وأصالة البراءة من سجود السهو ، وبعد التساقط للتعارض يتعيّن الرجوع إلى أصالة الاشتغال في الصلاة ، لكن لا يكون في البين أصل جارٍ في ناحية زيادة غير الركن ، وحيث إنّه لا مؤمّن من احتمال وجوب سجود السهو ، فيمكن القول بلزومه أيضاً.

بل يمكن أن يقال : إنّ قاعدة الفراغ في ناحية احتمال زيادة الركن لا يعارضها شيء من الأُصول الجارية في ناحية احتمال زيادة غير الركن ، سواء كان ذلك هو قاعدة الفراغ أو كان هو أصالة العدم ، أو كان هو البراءة من سجود السهو ، فإنّها جميعها في طول قاعدة الفراغ في الركن ، لأنّها جميعاً مترتّبة على صحّة الصلاة المتوقّف إحرازها على القاعدة في الركن ، وبناءً على ذلك يكون الجاري هو قاعدة الفراغ في الركن ، فيحكم بصحّة الصلاة مع لزوم سجود السهو ، لعدم

ص: 501


1- ومثل هذا الفرع ما ذكر السيّد سلّمه اللّه في التحرير عن شيخنا قدس سره في ص 247 [ أي أجود التقريرات 3 : 425 ] فراجعه ، وراجع ما علّقناه عليه [ في الصفحة 423 وما بعدها. منه قدس سره ].
2- [ الظاهر أنّ قضاء السجدة من سهو القلم ، فلاحظ ].

المؤمّن من وجوبه ، فتأمّل جيّداً.

ولو علم بترك أحدهما فهو المحرّر في هذه الرسالة.

ولو علم إجمالاً بعروض أحد الأمرين من زيادة الركن أو نقص غير الركن ، فبناءً على الأوّل - أعني تعارض القاعدتين - يكون المرجع بعد سقوطهما هو أصالة عدم زيادة الركن ، وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، ويعمل على ذلك. وبناءً على عدم المعارضة تكون القاعدة جارية في الركن ، ويحكم بأنّه لم يزده ، ويكون الجاري في زيادة (1) غير الركن هو أصالة العدم ، وتكون النتيجة واحدة على كلا المسلكين (2).

ولو انعكس الأمر بأن علم بأحد الأمرين من نقص الركن وزيادة غير الركن ، فبناءً على الأوّل - أعني تعارض القاعدتين - يكون المرجع هو أصالة العدم في كلّ من الركن وزيادة غير الركن ، فيحكم ببطلان الصلاة ولزوم الاعادة فقط. وبناءً على عدم المعارضة تقع المعارضة بين قاعدة الفراغ في ناحية الركن وأصالة عدم الزيادة في غير الركن ، لاستلزامهما المخالفة القطعية ، وبعد سقوطهما يكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان بالركن وأصالة البراءة من سجود السهو اللازم لاحتمال زيادة غير الركن ، فيحكم ببطلان صلاته ولزوم الاعادة فقط ، وتكون النتيجة واحدة على كلا المسلكين.

وبالجملة : أنّه لا يظهر أثر عملي للمسلكين المذكورين في هذه المسائل ، إلاّ في مسألة واحدة ، وهي ما لو علم بعد الفراغ بترك أحد الأمرين من الركن

ص: 502


1- [ الظاهر أنّ « زيادة » من سهو القلم ، فلاحظ ].
2- وقد تعرّض لهذا الفرع في العروة في المسألة 50 [ منه قدس سره. راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 384 ].

وغيره ، وهي المحرّرة في هذه الرسالة ، وإلاّ في المسألة الأُولى بناءً على ما عرفت من عدم المؤمّن من احتمال وجوب سجود السهو ، فتأمّل فإنّ قاعدة الفراغ في ناحية نقص الركن لا يعارضها شيء من الأُصول النافية في ناحية زيادة غير الركن ، لأنّه بناءً على الطولية يكون كلّ من قاعدة الفراغ وأصالة العدم وأصالة البراءة الجارية في ناحية زيادة غير الركن كلّها في طول قاعدة الفراغ الجارية في نقص الركن ، وحينئذ يكون حال الفرع الرابع بعينه حال الفرع الأوّل فلاحظ وتدبّر. هذا كلّه لو قلنا بجريان قاعدة الفراغ في احتمال الزيادة.

ولو منعنا من ذلك ، وقلنا باختصاصها بنفي احتمال النقيصة ، وأنّ الجاري في احتمال الزيادة هو أصالة العدم ، كان لهذه الفروع حساب آخر.

ففي الفرع الأوّل لا تجري القاعدة في كلا الطرفين ، وأصالة العدم فيهما متعارضة ، فلابدّ من الرجوع إلى أصالة الاشتغال ، وأصالة البراءة من ناحية احتمال زيادة غير الركن ، إن لم نقل إنّ أصالة العدم في ناحية زيادة غير الركن في طول أصالة العدم في ناحية زيادة الركن ، وإلاّ عاد الإشكال السابق.

وفي الفرع الثالث يكون الجاري ابتداءً هو أصالة عدم زيادة الركن ، وتعارضها قاعدة الفراغ في نقيصة غير الركن ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة ، وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، فيلزمه الاعادة وقضاء غير الركن وسجود السهو له ، كما ذكره في العروة في مسألة الخمسين من أنّ الأحوط (1) هو ذلك. هذا إن لم نقل بالطولية.

وإن قلنا بها ، بأن نقول إنّ قاعدة الفراغ في نقيصة غير الركن في طول أصالة

ص: 503


1- كتب عليه المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره : لا يترك الاحتياط [ منه قدس سره. راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 :1. 385 ].

عدم زيادة الركن ، لكونها متوقّفة على صحّة الصلاة الثابتة بأصالة عدم زيادة الركن ، كان الجاري في زيادة الركن هو أصالة العدم ، وفي نقص غير الركن هو أصالة عدم الاتيان به ، فلا يلزمه إلاّقضاء غير الركن وسجود السهو له كما ذكره السيّد قدس سره في العروة في المسألة المزبورة أخيراً بقوله : ولا يبعد الخ.

وتوضيح ما تلخّص في هذا الفرع : هو أنّا لو قلنا بسقوط القاعدتين ، إمّا للتعارض أو لأنّ احتمال زيادة الركن لا تجري فيه القاعدة ، واحتمال نقيصة غيره لا تجري فيه أيضاً للعلم بعدم امتثال أمره ، كان المرجع هو أصالة عدم زيادة الركن ، وأصالة عدم الاتيان بغير الركن. ولو قلنا بجريان القاعدة في طرف احتمال زيادة الركن ، ولم نجرها في طرف نقص غيره لما ذكرناه من العلم بعدم امتثال أمره ، بل أجرينا فيه أصالة عدم الاتيان ، كان الحكم فيه كما تقدّم من لزوم قضاء غير الركن وسجود السهو من دون إعادة الصلاة. وكذا لو قلنا بالعكس ، بأن أجرينا القاعدة في طرف النقص ولم نُجرها في طرف احتمال زيادة الركن ، بل أجرينا فيه أصالة عدم الزيادة ، ولكن قلنا بأنّ قاعدة الفراغ في نقص غير الركن في طول أصالة عدم زيادة الركن ، فلا تكون القاعدة جارية في مرتبة جريان أصالة عدم زيادة الركن ، ويكون الجاري حينئذ في طرف زيادة الركن هو أصالة العدم ، وفي طرف نقص غير الركن هو أصالة عدم الاتيان ، ويكون الحكم حينئذ هو لزوم قضاء غير الركن وسجود السهو له من دون إعادة الصلاة.

نعم ، لو قلنا بأنّ الجاري في طرف زيادة الركن هو أصالة عدم الزيادة ، وفي طرف نقص غير الركن هو قاعدة الفراغ ، ولم نقل بالطولية المذكورة ، وقع التعارض بين أصالة عدم زيادة الركن وقاعدة الفراغ في غير الركن ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة عدم الاتيان بغير الركن ، وعلى

ص: 504

هذا الوجه يكون الحكم هو لزوم قضاء غير الركن وسجود السهو له ، مع إعادة الصلاة ، ويكون التعبير بأنّ ذلك هو الأحوط كما في المتن ، وبأنّ هذا الاحتياط لا يترك كما في الحاشية ، لأجل التردّد بين هذا الوجه وبين الوجوه السابقة ، فلاحظ وتأمّل. ويمكن أن يفصّل في احتمال الزيادة بين قاعدة الفراغ والتجاوز فتجري فيه الأُولى دون الثانية.

وفي الفرع الرابع يكون الجاري في ناحية نقص الركن هو قاعدة الفراغ ، وفي ناحية زيادة غيره هو أصالة العدم ، وبعد السقوط للتعارض يكون المرجع هو أصالة عدم الاتيان بالركن ، وهو حاكم ببطلان الصلاة ، مع أصالة البراءة من سجود السهو لزيادة غير الركن ، إن لم نقل بالطولية ، وإن قلنا بها لكون أصالة عدم زيادة غير الركن ، وكذلك أصالة البراءة من سجود السهو له ، في طول قاعدة الفراغ في نقص الركن ، جاء الإشكال السابق ، لأنّ الجاري حينئذ هو قاعدة الفراغ في ناحية نقص الركن ، ولا تعارضها الأُصول النافية في ناحية احتمال زيادة غير الركن ، لكونها في طولها ، مع فرض عدم إمكان جريان هذه الأُصول النافية بعد إجراء قاعدة الفراغ في نقص الركن ، لمخالفة ذلك للعلم الاجمالي ، فيكون الساقط هو الأُصول النافية المذكورة دون قاعدة الفراغ في الركن كما حرّرناه في هذه الرسالة ، وحينئذ يبقى احتمال زيادة غير الركن خالياً من الأصل الجاري فيه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّه يلزمه السجود للسهو لعدم المؤمّن حينئذ ، فتأمّل.

ولو كان مجنباً فاغتسل وصلّى ثمّ أحدث بالأصغر وتوضّأ وصلّى ، ثمّ علم إجمالاً بخلل إمّا في غسله أو في وضوئه ، فإنّه حينئذ يعلم تفصيلاً بفساد صلاته الثانية ووضوئه ، لأنّ الخلل إن كان في غسله فهو لحتّى الآن مجنب ، وإن كان في وضوئه فهو لحتّى الآن محدث بالأصغر ، فتكون قاعدة الفراغ في غسله وصلاته

ص: 505

السابقة بلا معارض ، هذا بناءً على الطولية.

وأمّا بناءً على عدم الطولية فينبغي أن يقال بتعارض القاعدتين ، وأصالة العدم في كلّ من المشكوك فيه في كلّ من الطهارتين ، فيلزم إعادة الغسل والوضوء والصلاتين. وأمّا العلم التفصيلي المذكور فهو على رأي شيخنا قدس سره غير مانع من جريان القاعدة في كلّ من الطرفين وتعارضهما ، لأنّ القاعدة إنّما تجري في كلّ واحد من الطرفين في حدّ نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر ، وهذا العلم التفصيلي إنّما يتولّد من ضمّ أحد الطرفين إلى الآخر.

وينبغي أن يعلم أنّ الكلام في هذا الفرع لا يتوقّف على فرض الصلاتين ، بل إنّ الكلام فيه يتأتّى في فرض عدم الصلاة ، بأن يكون قد اغتسل ثمّ أحدث بالأصغر ثمّ توضّأ ثمّ علم بفساد إحدى الطهارتين ، ونظيره في ذلك ما لو توضّأ وصلّى وعلم إجمالاً بخلل مبطل إمّا في وضوئه أو في صلاته ، وهي المسألة السابعة والخمسين من مسائل الخاتمة (1) ، فراجعه بما كتب عليه شيخنا من الحاشية الخطّية.

وممّا يتفرّع على المسلكين المذكورين ، ما لو كان في حال القيام وعلم إجمالاً بفوات سجدتين ، إمّا من هذه الركعة التي قام عنها أو من الركعة السابقة ، فبناءً على أنّ قاعدة التجاوز في الركعة السابقة لا تعارضها القاعدة في هذه الركعة ، إمّا لكونها في طولها ، أو لكون السجدتين من هذه الركعة يعلم بأنّه لم يمتثل أمرهما ، يلزمه الرجوع وتلافي السجدتين ، لأصالة عدم الاتيان بهما ، ويسجد للسهو من جهة زيادة القيام الذي هدمه. ولا يرد عليه العلم الاجمالي بعد الفراغ بأنّه يلزمه إمّا إعادة الصلاة أو سجود السهو ، لأنّ مقتضى أصالة عدم الاتيان

ص: 506


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 390 مسألة 59.

بالسجدتين الذي أجراه في حال القيام بضميمة قاعدة التجاوز عن السجدتين في الركعة السابقة ، هو نفي احتمال البطلان الناشئ من احتمال زيادة السجدتين في الركعة التي رجع إليها ونقيصتهما من الركعة السابقة ، أمّا الطرف الآخر وهو لزوم سجود السهو للقيام الذي هدمه ، فيحكم به للعلم الوجداني بحصول سببه وهو زيادة القيام المذكور.

وإن شئت فقل : إنّ ذلك الأصل الواحد وهو أصالة عدم الاتيان بالسجدتين من هذه الركعة يكون قاضياً بلزوم هدم القيام ، وكونه زيادة سهوية موجبة لسجود السهو ، فلم يبق إلاّ احتمال بطلان الصلاة من جهة احتمال عدم الاتيان بالسجدتين في الركعة السابقة ، وهذا منفي بقاعدة التجاوز ، فكان أحد طرفي ذلك العلم الاجمالي وهو وجوب سجود السهو مثبتاً بمقتضى لزوم هدم القيام الناشئ عن أصالة عدم الاتيان بالسجدتين في هذه الركعة ، والطرف الآخر وهو البطلان منفياً بمقتضى قاعدة التجاوز في الركعة السابقة.

ونظير ذلك ما لو كان في محلّ الركن كالركوع مثلاً وحصل له الشكّ في الاتيان ، فإنّه يلزمه الاتيان به لأصالة عدم الاتيان به ، فلو انضاف إلى ذلك أنّه قد أتى بما يوجب سجود السهو كزيادة سجدة واحدة قبل الشكّ المذكور أو بعده ومثله أيضاً ما لو كان في حال القيام إلى الثالثة وعلم بأنّه لم يأت بالتشهّد ، فإنّه يلزمه [ هدم ] القيام لتلافي التشهّد ، فلو هدمه وبعد الهدم حصل له الشكّ في الاتيان بالسجدتين ، فإنّه يلزمه الاتيان أيضاً ، وحينئذ يعلم إجمالاً بعد الفراغ بأنّه يلزمه أحد الأمرين من إعادة الصلاة لاحتمال زيادة الركن ، أو سجود السهو للعلم بموجبه على تقدير صحّة الصلاة.

والجواب عن هذا العلم الاجمالي هو ما عرفته من الانحلال ، فإنّ مقتضى

ص: 507

أصالة عدم الاتيان بالسجدتين هو صحّة الصلاة بعد الاتيان بهما ، فيكون من قبيل ما لو كان الأصل في أحد طرفي العلم الاجمالي نافياً للتكليف وكان الطرف الآخر مورداً للأصل القاضي بثبوت التكليف ، فإنّ أصالة عدم الاتيان بالسجدتين قاضٍ بأنّ تلافيهما ليس بزيادة فينتفي احتمال بطلان الصلاة ، مع فرض لزوم سجود السهو عليه للعلم الوجداني بحصول سببه.

وممّا يتفرّع على ما تقدّم ، ما لو نوى الإقامة وصلّى الظهر تماماً ، ثمّ عدل وصلّى العصر تماماً لكونه قد صلّى رباعية ، ولكنّه بعد الفراغ من العصر علم ببطلان إحدى الصلاتين بنقص ركن مثلاً ، فإنّه يعلم أنّ عصره باطلة إمّا لفوت الركن منها ، أو لفوت الركن من الظهر الموجب لبطلانها الموجب لبطلان الاتمام في العصر ، فهو يعلم أنّه لم يمتثل الأمر بالعصر ، فلا مورد فيها لجريان قاعدة الفراغ ، وتنفرد الظهر بقاعدة الفراغ ، ويلزمه إعادة العصر تماماً ، ويبقى على التمام فيما يأتي من صلواته.

وهذا بخلاف ما لو كان مسافراً فصلّى الظهر قصراً ثمّ نوى الاقامة فصلّى العصر تماماً ، ثمّ علم ببطلان إحدى الصلاتين ، فتتعارض فيهما قاعدة الفراغ ويلزمه الاعادة لكلّ منهما ، غايته إن كان في الوقت يعيد رباعية عمّا في ذمّته ، لأنّ الفاسد إن كان هو الظهر فيلزمه إعادتها تماماً ، لكونه في الوقت وقد نوى الاقامة ، وإن كان الفاسد هو العصر وجب إعادتها ، فهو يعيد رباعية عمّا في ذمّته. والظاهر أنّ الحكم كذلك فيما لو كان التفاته بعد خروج الوقت ، بناءً على أنّ من كان في أوّل الوقت مسافراً وكان في آخره مقيماً وقد فاتته الصلاة فإنّه يقضيها تماماً لكون العبرة بآخر الوقت ، ويبقى على التمام فيما يأتي من صلواته.

ولكن لو عدل عن الاقامة بعد العصر المذكورة فإنّه يلزمه إعادة الظهر تماماً

ص: 508

والعصر قصراً ، لأنّ الفاسد لو كان هو الظهر لزمه إعادتها تماماً لكونه قد صلّى رباعية قبل العدول ، ولو كان الفاسد هو العصر لزمه إعادتها قصراً ، لكونه قد عدل عن الاقامة ولم يصلّ رباعية لفساد هذه الرباعية ، وحينئذ يبقى مشغول الذمّة بالعصر فيعيدها قصراً ، أمّا صلواته الآتية فالظاهر أنّه يلزمه الجمع فيها بين القصر والتمام لتردّد تكليفه بينهما.

وممّا يتفرّع على ذلك ، ما لو علم بعد الفراغ من الوضوء والصلاة بنقصان مبطل إمّا في وضوئه كمسح الرأس أو في صلاته كالركوع ، فالقائل بسقوط قاعدة الفراغ في الصلاة للعلم بعدم امتثال أمرها يجري قاعدة الفراغ في الوضوء ، ويلزم باعادة الصلاة فقط ، ولا يجب عليه إعادة الوضوء حتّى بالنسبة إلى بقية الصلوات. أمّا مسلك الطولية ، فالظاهر أنّه لا أثر له في مثل ذلك ، لكون القاعدتين هنا في رتبة واحدة ، فيسقطان بالمعارضة ، ويكون المرجع هو أصالة العدم في كلّ من المسح والركوع ، فيلزمه إعادة كلّ من الوضوء والصلاة. وهكذا الحال على مسلك شيخنا قدس سره من عدم الاعتناء بالعلم بفساد الصلاة وعدم الاعتناء بالطولية أصلاً.

نعم ، ربما يتوجّه على شيخنا قدس سره أنّه إذا وصلت النوبة إلى أصالة العدم في كلّ من المسح والركوع ، يقع التعارض بينهما ، لكونهما من الأُصول الاحرازية التي لا تجري عنده في مورد العلم بالخلاف وإن كانت موافقة للعلم الاجمالي ، وبعد تساقطهما يكون المرجع هو قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الشكّ في طهارتها.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع ذلك : بأنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من هذه الناحية قد سقطت بسقوط قاعدة الفراغ في الوضوء نفسه ، بناءً على ما حقّقه قدس سره من سقوط الحاكم والمحكوم المتوافقين عند ابتلاء الحاكم بالمعارض ، فإنّ قاعدة الفراغ في

ص: 509

الوضوء نفسه حاكمة على قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء ، فتكون الثانية ساقطة بسقوط الأُولى بالمعارضة مع قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الركوع ، وحينئذ يكون المرجع بعد سقوط هذه الأُصول هو أصالة الاشتغال بالصلاة مع عدم وجود المؤمّن من ناحية الوضوء ، فيلزمه إعادتهما معاً.

لا يقال : لا حاجة إلى ذلك ، بل نقول إنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء حاكمة على أصالة عدم المسح الذي مقتضاه بطلان الصلاة ، وحينئذ يكون المرجع هو صحّة الصلاة من ناحية الوضوء ، وأصالة عدم الركوع.

لأنّا نقول : إنّ ذلك غير ممكن ، لأنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء حينئذ لا يترتّب عليها أثر

عملي ، للحكم ببطلان الصلاة من ناحية عدم الركوع ، فلا يترتّب أثر عملي على قاعدة الفراغ فيها من ناحية الوضوء كي تكون حاكمة على أصالة عدم الاتيان بالمسح ليسلم لنا أصالة عدم الاتيان بالركوع ، ويكون مقتضاه إعادة الصلاة ، ويكون مقتضى عدم المؤمّن من فساد الوضوء هو إعادته أيضاً.

والأولى أن يقال : إنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء لا تجري بعد تعارض أصالة العدم في كلّ من المسح والركوع ، لأنّها مقرونة بأصالة الاشتغال في الصلاة من ناحية الركوع ، فلا يترتّب أثر عملي على قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء ، فتأمّل.

ولو كان الخلل المحتمل في الصلاة من قبيل السجدة الواحدة ممّا يقضى بعد الصلاة ، فبناءً على المسلكين المزبورين يكون المرجع هو قاعدة الفراغ في الوضوء وأصالة العدم في السجدة ، فلا يلزمه إلاّقضاؤها ، وأمّا بناءً على جريان قاعدة الفراغ في السجدة ، فبعد تعارض القاعدتين يكون المرجع هو أصالة العدم

ص: 510

في كلّ واحد من المسح والسجدة ، فيلزمه إعادة الوضوء وقضاء السجدة ، لكن قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية صحّة الوضوء تكون حاكمة على أصالة عدم المسح ، فيكون المرجع الوحيد هو أصالة عدم الاتيان بالسجدة فيلزمه قضاؤها ، ومع [ ذلك ] يلزمه إعادة الوضوء ، لعدم المؤمّن من فساده ، فإنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحيته لا يثبت بها الاتيان بالمسح وتحقّق الوضوء ، فتأمّل.

وأمّا بناءً على مسلك شيخنا من تعارض الأُصول الاحرازية ، فالذي ينبغي أن يقال : إنّه يتعارض القاعدتان - أعني قاعدة التجاوز في الوضوء وقاعدة التجاوز في الصلاة بالنسبة إلى السجدة - وبعد التساقط يتعارض أصالة عدم المسح مع أصالة عدم السجدة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء ، وأصالة البراءة من قضاء السجدة ، وهما متعارضان ، أو نقول : إنّهما سقطا بسقوط حاكميهما ، فقاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الوضوء سقطت بسقوط حاكمها وهو قاعدة الفراغ في الوضوء نفسه ، وأصالة البراءة من قضاء السجدة سقطت بسقوط حاكمها وهو قاعدة الفراغ فيها من ناحية السجدة ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي بالخلل في الصلاة من ناحية وضوئها ومن ناحية وجوب قضاء السجدة ، فيلزم إعادتها ويلزم قضاء السجدة ، كما يلزم إعادة الوضوء من جهة عدم المؤمّن لنا من فساده.

فتأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّ قاعدة الفراغ في الصلاة من ناحية الشكّ في الوضوء المذكور غير جارية بعد فرض سقوط قاعدة التجاوز في نفس الوضوء ، فإنّها حينئذ نظير ما لو صلّى إلى جهة معيّنة ثمّ شكّ في كونها هي القبلة ، وقد تعرّضنا لذلك في مسألة ما لو توضّأ وصلّى ثمّ أحدث ثمّ توضّأ وعلم بخلل في أحد الوضوءين.

ص: 511

ثمّ لو فرضنا جريانها فهل تكون حاكمة على أصالة عدم المسح؟ الظاهر نعم ، إذ لا أثر لأصالة عدم المسح فيما نحن فيه إلاّفساد الصلاة ، فقاعدة الفراغ فيها من هذه الناحية تكون حاكمة على الأصل الأوّلي الذي هو أصالة عدم المسح.

ويمكن أن يقال : إنّها غير حاكمة عليه ، لأنّها وإن حكمت على أصالة العدم ، إلاّ أنّ هذا العدم فيما نحن فيه بمنزلة الموضوع بالنسبة إلى قاعدة الفراغ من جهته ، فتأمّل.

وقد تعرّض المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في صلاته (1) م 40 لهذه المسألة ، وحكم في صورة الركن بعدم جريان قاعدة الفراغ في الصلاة للعلم التفصيلي بفسادها. وفي صورة كون المحتمل هو ترك السجدة بنى أوّلاً على تعارض القاعدتين ولزوم السجدة والقضاء ، نظراً إلى كون المرجع هو أصالة عدم المسح وأصالة عدم السجدة ، ثمّ احتمل عدم جريان قاعدة التجاوز في السجدة ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في جزء يكون الحكم بوجوده ملازماً لبطلان الصلاة ، فإنّ السجدة على تقدير وجودها يكون اللازم هو عدم المسح الموجب لبطلان الصلاة. وفيه تأمّل ، ولعلّه تلويح إلى مسلك من يقول إنّ السجدة لا تجري فيها القاعدة ، للعلم بعدم امتثال أمرها.

ثمّ إنّه أفاد أنّه لو سلّمنا تعارض القاعدتين لكان مقتضاه الاكتفاء بالاعادة ، لأنّ وجوب السجدة فرع توجّه الحكم باتمام الصلاة ، ولا دليل على وجوب الاتمام بعد فرض سقوط قاعدة التجاوز في كلّ من الوضوء والسجدة.

ص: 512


1- كتاب الصلاة : 442.

وينبغي أن يعلم أنّ المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في صلاته (1)مسألة 32 ذكر هذا الفرع الذي ذكره في العروة في مسألة 50 (2) ، وهو دوران الأمر بين نقصان السجدة وزيادة الركوع ، وذكر له فروضاً ثلاثة :

الأوّل : أن يكون ذلك في حال عدم التجاوز في الركوع ، بأن يكون قد رفع رأسه من الركوع ، وعلم أنّه إمّا زاد ركوعاً بأن يكون هذا الذي رفع رأسه منه هو الركوع الثاني ، أو أنّه نقص من ركعته هذه سجدة واحدة ، وفي هذه الصورة حكم عليه بلزوم قضاء السجدة مع إعادة الصلاة ، استناداً إلى أنّه بعد تعارض قاعدة التجاوز في السجدة مع أصالة عدم زيادة الركوع يكون المرجع في السجدة أصالة عدم الاتيان بها ، وفي زيادة الركوع أصالة الاشتغال بالصلاة للشكّ في صحّتها مع عدم المؤمّن. ولا تجري في هذه الصورة قاعدة التجاوز في زيادة الركوع ، حتّى لو قلنا بجريانها في ناحية الزيادة بناءً على كون عدمها شرطاً ليكون قيداً عدمياً ، وذلك لأنّ فرض المسألة هو أنّه لم يتجاوز محل الركوع ، فهو لم يتجاوز محل ذلك القيد ، أعني كون الركوع مقيّداً بالوحدة وعدم الركوع الثاني.

الفرض الثاني : أن يكون ذلك بعد الفراغ من الصلاة ، وفي هذه الصورة بنى على تعارض القاعدتين وسقوطهما والرجوع إلى أصالة عدم الاتيان بالسجدة ، وأصالة عدم الاتيان بالركوع الزائد ، فليس عليه حينئذ إلاّقضاء السجدة وسجود السهو. وكأنّه بنى على جريان قاعدة الفراغ في نفي احتمال الزيادة أخذاً

ص: 513


1- كتاب الصلاة : 437 - 438.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 384.

باطلاق أدلّتها مثل « كلّ ما مضى من صلاتك فامضه كما هو » (1) ونحوه ممّا يدلّ على عدم الاعتناء بكلّ شكّ واحتمال خلل بعد الفراغ.

الفرض الثالث : أن يكون ذلك بعد تجاوز محلّ الركوع ، بأن يكون في الركعة الرابعة مثلاً وعلم أنّه في الركعة الثانية إمّا قد زاد ركوعاً أو قد نقص سجدة ، وفي هذه الصورة احتمل عدم جريان قاعدة التجاوز في ناحية زيادة الركوع ، نظراً إلى أنّ مفاد أدلّة قاعدة التجاوز هو عدم الاعتناء باحتمال عدم الاتيان بما وجب عليه من الأجزاء أو الشرائط ، فلا نظر لها إلى نفي احتمال الزيادة ، وحينئذ يكون المرجع في الزيادة هو أصالة العدم ، وفي النقيصة هو قاعدة التجاوز ، فيتعارضان ، ويكون المرجع حينئذ هو أصالة عدم الاتيان بالسجدة وأصالة الاشتغال بالصلاة ، فيلزمه قضاء السجدة وإعادة الصلاة كما في الفرض الأوّل.

واحتمل أيضاً جريان قاعدة التجاوز في الزيادة ، نظراً إلى أنّ قاعدة التجاوز تجري فيما لو كان المشكوك شرطاً ، والزيادة من مقولة الشروط ، غايته أنّها من مقولة الشروط العدمية ، حيث إنّه يعتبر عدمها في الصلاة أو في نفس الجزء ، بحيث إنّه يعتبر في مثل الركوع أن يكون واحداً بلا أن يزيد عليه ثانياً ، وحينئذ تجري في ناحية احتمال الزيادة قاعدة التجاوز ، فتعارضها قاعدة التجاوز في ناحية السجدة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة العدم في كلّ منهما ، فيلزمه قضاء السجدة من دون إعادة الصلاة.

أمّا ما ذكره في العروة فهو مجمل لا إطلاق فيه بحيث يشمل هذه الفروض الثلاثة كلّها ، ولا يبعد أن يكون المنظور هو ما إذا كان ذلك بعد الفراغ ، ولا أقل من

ص: 514


1- وسائل الشيعة 1 : 471 / أبواب الوضوء ب 42 ح 6 ( مع اختلاف يسير ).

أن لا يكون شاملاً للفرض الأوّل.

ولا يخفى أنّ جميع ما ذكره المرحوم الشيخ عبد الكريم في أحكام هذه الفروض الثلاثة إنّما هو بناءً على ما هو المختار من جريان القاعدة في الجزء غير الركني ، في قبال جريان القاعدة أو الأصل في الجزء الركني. أمّا لو قلنا بأنّها لا تجري في غير الركني ، إمّا للطولية أو للعلم بعدم امتثال الأمر المتعلّق به ، فالظاهر أنّ الحكم في جميع هذه الفروض يكون هو لزوم قضاء السجدة من دون إعادة الصلاة. أمّا الأوّل ، فلأنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدم الاتيان بالسجدة بعد جريان أصالة عدم زيادة الركوع. وأمّا في الثاني ، فلأنّ المرجع بعد جريان قاعدة الفراغ في نفي احتمال الزيادة هو أصالة عدم الاتيان بالسجدة. وكذلك الحال في الفرض الثالث.

نعم ، قد يقال إنّه بناءً على أنّ المانع من جريان القاعدة في طرف غير الركن هو العلم بعدم امتثال أمره ، لا حاجة في لزوم قضائه إلى التمسّك بأصالة عدم الاتيان به ، بل يكون ذلك العلم أيضاً مانعاً عن التمسّك فيه بأصالة عدم الاتيان ، ويكون المستند في لزوم الاتيان به هو العلم المذكور ، فتأمّل.

قال الأُستاذ المرحوم الآغا ضياء الدين العراقي فيما طبع عنه من فروع العلم الاجمالي - وهو قائل بعدم جريان قاعدة التجاوز في غير الركن للعلم بعدم امتثاله - ما هذا لفظه : إذا علم إجمالاً أنّه ترك سجدة أم زاد ركوعاً ، فأصالة عدم الزيادة جارية بدواً بلا معارض ، ثمّ من لوازمه نفي احتمال عدم وجوب السجدة من جهة فساد الصلاة ، فحينئذ إن بقي محلّ السجدة ولو ذكرياً يأتي بها ، وإلاّ فيأتي

ص: 515

بقضائها الخ (1).

فهو رحمه اللّه بعد أن بنى على أنّ السجدة ليست محلاً للتعبّد بقاعدة التجاوز للعلم بأنّه لم يمتثل أمرها ، بقي عنده احتمال زيادة الركوع فنفاه بأصالة العدم وبقي المكلّف حينئذ هو وعلمه بأنّه لم يمتثل الأمر بالسجدة مردّداً بين كون عدم امتثاله لذلك الأمر لأجل أنّه قد طرأ المبطل وهو الزيادة ، وحينئذ لا يجب عليه الاتيان بالسجدة وحدها ، بل يلزمه الاعادة ، وكون عدم امتثاله لذلك الأمر لأجل أنّه لم يأت بمتعلّقه الذي هو السجدة ، وحينئذ يجب عليه الاتيان بها وحدها. وأصالة عدم الزيادة تعيّن الاحتمال الثاني ، هذا محصّل ما أفاده قدس سره في هذه الأسطر.

ولكن كيف تكون أصالة عدم الزيادة معيّنة للاحتمال الثاني ، وهل ذلك إلاّ من قبيل الأصل المثبت.

نعم ، في البين طريق آخر ولعلّه هو المراد ، وذلك بأن يقال : إنّ العلم الاجمالي المردّد بين إعادة الصلاة ووجوب السجدة ، ينحلّ بالأصل النافي وهو أصالة عدم الزيادة ، والأصل المثبت وهو أصالة عدم الاتيان بالسجدة ، لكنّه مبني على إمكان جريان التعبّد في السجدة بمثل أصالة عدم الاتيان ، وإن لم يمكن التعبّد فيها بمثل قاعدة التجاوز. أو نقول لا حاجة في لزوم الاتيان بالسجدة إلى أصالة عدم الاتيان بها ، بل يكفي فيه مجرّد العلم الاجمالي بأنّه لم يمتثل أمرها بعد فرض إسقاط أحد الطرفين بأصالة عدم الزيادة. لكنّه مشكل ، خصوصاً فيما لو كان الاتيان بها في أثناء الصلاة ، لتوقّفه على هدم ما بيده. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الذي بيده إن كان قد زاد الركوع فلا حرمة له لكون صلاته حينئذ باطلة ، وكذلك لو لم يكن قد زاد الركوع ، لكونه حينئذ قبل الاتيان بالسجدة ، فيكون واقعاً في غير

ص: 516


1- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 60 / 48.

محلّه ، فله حينئذ هدمه على كلّ حال ، فتأمّل.

قوله : فإذا سقطت الأُصول النافية للتكليف تصل النوبة إلى الأصل المحكوم بها ، وهو استصحاب عدم الاتيان بالسجدة من كلّ ركعة واستصحاب عدم الاتيان بالسجدتين من الركعة الواحدة ... الخ (1).

الأولى جعل المقابلة بين الاتيان بمسمّى السجود في إحدى الركعتين وبين الاتيان بالسجدة الثانية في كلّ من الركعتين ، فيكون الأوّل عبارة عن أصالة عدم الاتيان بالركن ، والثاني عبارة عن أصالة عدم غير الركن ، وعلى أي حال يكون أصالة العدم في الركن حاكمة على الأصل الجاري في غير الركن ، سواء كان هو أصالة العدم ، أو كان هو أصالة البراءة من القضاء وسجود السهو ، لأنّ مقتضى أصالة عدم الاتيان بالركن هو بطلان الصلاة ، وأنّه لا مورد فيها لقضاء السجدة ولا لسجود السهو ، وذلك أوضح من حكومة أصالة الفساد في المعاملة على وجوب الوفاء ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لو فرضنا أنّ الصلاة كانت محكومة بالفساد لأجل أصل يقتضي فسادها ، ومع ذلك حصل العلم بأنّه قد ترك سجدة واحدة فيهما ، لم يكن لذلك الترك أثر أصلاً.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا عبارة أُخرى عن كون الأُصول الجارية في طرف غير الركن هي متأخّرة رتبة عمّا يحرز الصحّة من الأُصول في طرف الركن ، كما تقدّم (2) من كون قاعدة التجاوز في غير الركن في طول قاعدة التجاوز في الركن. ولكن الفرق واضح ، فإنّ ذلك راجع إلى دعوى لزوم إحراز صحّة الصلاة في إجراء قاعدة التجاوز في غير الركن ، وما نحن فيه من حكومة

ص: 517


1- فوائد الأُصول 4 : 45.
2- في الصفحة : 447 وما بعدها.

أصالة العدم في ناحية الركن عليها في ناحية غير الركن من باب إحراز الفساد ، لا من باب عدم إحراز الصحّة ، ومن الواضح أنّه مع إحراز الفساد لا يكون لترك غير الركن أثر كي يكون بذلك مجرى أصل من الأُصول.

قوله : لأنّ تعارض الأُصول إنّما هو باعتبار تعارض مؤدّياتها وما هو المجعول فيها ، والمؤدّى في كلّ من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة ... الخ (1).

تقدّمت الاشارة إلى التأمّل في ذلك (2) ، ونزيده توضيحاً بذكر مقدّمات :

الأُولى : أنّ الحكم الظاهري بأيّ شيء فسّرناه فيما مرّ في أوائل حجّية الظنّ من كيفية الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية (3) ، لا يكون في مورده قابلاً للظنّ أو الشكّ أو الوهم ، بل هو في مورده مقطوع به دائماً ، سواء كان حاصلاً من قيام الأمارة كما لو قامت البيّنة على طهارة هذا الاناء ، أو كان حاصلاً من الاستصحاب كما لو كانت تلك الآنية مشكوكة الطهارة مع فرض تقدّم اليقين بطهارتها ، أو كان حاصلاً من قاعدة الطهارة كما لو كانت تلك الآنية مشكوكة الطهارة مع عدم لحاظ حالتها السابقة ، فإنّ تلك الآنية في هذه الأطوار الثلاثة يكون حكمها الظاهري وهو الطهارة الظاهرية مقطوعاً به ، والعلّة في هذا القطع هو أنّ ذلك الحكم الظاهري مسبّب عن تحقّق هذه الأطوار ، أو أنّ كلّ واحد من هذه الأطوار يكون موضوعاً لذلك الحكم الظاهري ، ولا ريب في تحقّق الحكم

ص: 518


1- فوائد الأُصول 4 : 48.
2- راجع الصفحة : 399 - 401.
3- راجع فوائد الأُصول 3 : 105 - 119 ، وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، فراجع الصفحة : 299 والصفحة 312 ، وراجع أيضاً ما ذكره قدس سره في الصفحة : 82 وما بعدها من ذلك المجلّد.

عند تحقّق سببه أو تحقّق موضوعه.

المقدّمة الثانية : أنّ الحكم الظاهري في كلّ واحد من هذه الأطوار الثلاثة أعني طهارة تلك الآنية عند قيام البيّنة على طهارتها ، وطهارتها عند كونها مجرى لاستصحاب الطهارة ، وطهارتها عند كونها مجرى لقاعدة الطهارة ، لابدّ أن يكون كلّ واحد منها مبايناً للآخر ، ضرورة تباين المسبّبات عند تباين الأسباب ، أو تباين الأحكام عند تباين الموضوعات ، لما عرفت من أنّ نسبة هذه الأطوار إلى تلك الطهارات الظاهرية إمّا من قبيل الأسباب إلى مسبّباتها أو من قبيل الموضوعات بالنسبة إلى أحكامها.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذه الأسباب أو هاتيك الموضوعات لا يعقل اجتماعها في مرتبة واحدة ، لأنّ كلّ واحد منها يكون معدماً ورافعاً لموضوع لاحقه كما حقّق في كيفية حكومة كلّ واحد منها على لاحقه ، وحينئذ تكون النتيجة هي أنّ الطهارة المجعولة على قيام الاستصحاب غير متحقّقة في مرتبة الطهارة المجعولة على قيام الأمارة ، والطهارة المجعولة على قيام قاعدة الطهارة غير متحقّقة في مرتبة الطهارة المجعولة على قيام الاستصحاب.

والحاصل : أنّ كلّ واحد من هذه الأحكام الثلاثة منعدم في صقع التشريع موضوعاً ومحمولاً عند تحقّق ما قبله ، فكيف يمكننا القول بأنّ الطهارة الاستصحابية والطهارة الناشئة من قاعدة الطهارة معارضان معاً وفي رتبة واحدة في هذا الطرف للطهارة في الطرف الآخر.

هذا ما حرّرناه سابقاً ، ولكن لا يخفى أنّه لا يخلو من منافاة لما تقدّم (1) في

ص: 519


1- راجع حاشيتي المصنّف قدس سره المتقدّمتين في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص 299 وما بعدها ، وص 312 وما بعدها.

أوائل حجّية الظنّ من إنكار الحكم الظاهري بالمرّة ، وأنّه لا واقعية له أصلاً.

ولا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الحكم بالطهارة فيما هو مورد للاستصحاب من أيّ ناحية كان ، يكون معارضاً لقاعدة الطهارة في الطرف الآخر إنّما هو مطلب فقاهتي حاصله : أنّ قاعدة الطهارة وإن كانت متأخّرة رتبة عن استصحاب الطهارة ، إلاّ أنّه من الممكن أن يقف الطوليان معاً في قبال ما هو معارض لهما ، فيسقط الجميع بالمعارضة ، فلا يكون لازم ذلك تحقّق الأصل المحكوم مع فرض تحقّق الحاكم المخالف له ، كما في استصحاب نجاسة الشيء مع قاعدة الطهارة فيه ، فإنّ وقوف المحكوم مع الحاكم الموافق في قبال ما هو المعارض لهما معاً ، لا يلزمه معارضة المحكوم مع الحاكم المخالف كما في موارد استصحاب النجاسة ، ليلزم من ذلك أن تكون قاعدة الطهارة صالحة لمعارضة استصحاب النجاسة.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يرد النقض عليه بالماء الذي تعاقب عليه الحالتان من التنجّس بوقوع البول والطهارة بوقوع المطر فيه مع الشكّ في المقدّم منهما ، فإنّه يتعارض فيه استصحاب الطهارة والنجاسة ، ويرجع فيه بعد التساقط إلى قاعدة الطهارة ، بأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة سقطت بسقوط استصحاب الطهارة وبيان عدم الورود هو ما عرفت من أنّ قاعدة الطهارة في المورد الواحد لا تصلح لمعارضة استصحاب النجاسة فيه ، فلا يمكن انضمامها إلى استصحاب الطهارة في معارضة استصحاب النجاسة.

وكذلك لا يرد عليه النقض بمن توضّأ غفلة بمايع مردّد بين البول والماء الطاهر ، بناءً على تعارض استصحاب الحدث وطهارة أعضائه لكونهما إحرازيين ، وبعد التساقط يرجع إلى قاعدة الطهارة في الأعضاء ، ولزوم إحراز

ص: 520

الشرط في ناحية الوضوء ، لأنّ قاعدة الطهارة لا تقف في هذا المثال في جنب استصحابها في قبال استصحاب الحدث ، لأنّ منشأ التعارض كونهما إحرازيين ، وقاعدة الطهارة أجنبية عن هذه الجهة. ومثله ما لو كان له آنية كبرى طاهرة وصغرى نجسة ، وعلم أنّه إمّا نجّس الكبرى أو طهّر الصغرى.

لكن شيخنا قدس سره في هذا الفرض - أعني فرض الوضوء - تابع الجماعة ، واعتمد على إجراء استصحاب طهارة الأعضاء واستصحاب الحدث ، وأنّه لا تعارض بينهما لعدم القدر الجامع ، فهما نظير استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية ، وقد حقّق في محلّه أنّ المخالفة الاحرازية لا تكون مانعة من الجمع في أمثال ذلك ، وحينئذ تتوجّه مشكلة أنّه عند تجديد وضوئه بماء طاهر يعلم أنّ ذلك الوضوء غير مأمور به ، إمّا لكونه متوضئاً ، وإمّا لأنّ أعضاءه نجسة. وينبغي مراجعة حاشية 256 (1) وحاشية 259 (2) من أواخر الاستصحاب وحاشية 156 (3) على فرع المخدع من استصحاب الكلّي.

نعم ، في مثل ما لو كان متطهّراً من الحدث ، وعلم إجمالاً أنّه إمّا قد أحدث وإمّا نجّس ثوبه الطاهر ، فإنّه لا إشكال في تعارض الاستصحابين هنا ، لكونهما موجبين للمخالفة القطعية ، وبعد التساقط يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في ثوبه ، وأصالة البراءة من حرمة المس ، وبعد التساقط يلزمه الوضوء وتطهير ثوبه ، هذا على كلّ من المسلكين. أمّا مسلك الجماعة ، فلما عرفت ، وأمّا على مسلك

ص: 521


1- راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، صفحة : 519 وما بعدها.
2- راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، صفحة : 539 وما بعدها ، وراجع أيضاً صفحة : 543 وما بعدها.
3- راجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، صفحة : 387 وما بعدها.

شيخنا فلأنّ قاعدة الطهارة في الثوب كما تسقط بسقوط استصحاب طهارته ، فكذلك تسقط البراءة من حرمة المس بسقوط استصحاب الطهارة.

قوله : وقد يتوهّم أنّ العلم بنجاسة أحد الاناءين اللذين كان أحدهما متيقّن الطهارة قبل العلم الاجمالي ... الخ (1).

سيأتي إن شاء اللّه تعالى في أواخر الاستصحاب في حواشي ص 195 (2) بعض النقوض على ما أفاده قدس سره هنا والجواب عنه.

وأمّا المثال الذي نقضوا به فنقول : إنّه لِمَ لا نقول إنّ استصحاب الطهارة فيما كان متيقّن الطهارة قبل العلم الاجمالي بطروّ النجاسة معارض باستصحاب الطهارة الثابتة قبل العلم الاجمالي بقاعدة الطهارة ، وبعد تساقط الاستصحابين يكون المرجع في كلّ منهما هو قاعدة الطهارة. أمّا في الأوّل فواضح ، وأمّا في الثاني فهي الجارية فيه بلحاظ الشكّ الناشئ من العلم الاجمالي ، وهي غير تلك التي كانت موجودة فيه قبل العلم الاجمالي. ولو قلنا بأنّ الاستصحاب المتعارض هو عبارة عن استصحاب عدم وقوع تلك النجاسة المعلومة بالاجمال في هذا ، وعدم وقوعها في ذاك ، وبعد تعارضهما يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في كلّ منهما ، وليست هي في الثاني عبارة عن التي كانت جارية فيه قبل العلم الاجمالي ، لأنّ تلك كان منشؤها الشكّ السابق على ذلك العلم الاجمالي ، وهذه كان منشؤها الشكّ الآتي من ناحية العلم الاجمالي. وهذه المسألة داخلة في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب الذي يبحث فيه عن جريان الاستصحاب فيما لو كان المتيقّن السابق ثابتاً بأمارة أو بأصل إحرازي أو بأصل غير إحرازي ، فراجع ما

ص: 522


1- فوائد الأُصول 4 : 47.
2- راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 237 وما بعدها.

حرّرناه فيما علّقناه (1) على ما أفاده شيخنا قدس سره وتأمّل.

ولكن هذا على ما فيه من الإشكال في استصحاب مقتضى قاعدة الطهارة ، من جهة كونه من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، ومن جهة أنّه بعد سقوطه يكون المرجع قاعدة الطهارة غير القاعدة السابقة ، أنّه إنّما يتأتّى فيما لو كان المكلّف ملتفتاً إلى الإناءين قبل طروّ العلم الاجمالي ، وكان أحدهما المعيّن متيقّن الطهارة ، وكان الآخر مشكوكها ، ثمّ حدث العلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما الموجبة لرفع إحدى الطهارتين اليقينية والظاهرية. أمّا لو كان المكلّف غافلاً ، ولم يكن إلاّ أنّه رأى النجاسة وقعت في إحداهما ، ولمّا التفت إلى ذلك علم بأنّ الكبير كان طاهراً قبل وقوع هذه النجاسة ، أمّا الصغير فلم يعلم حالته السابقة ما هي ، فهو الآن شاكّ في حالته السابقة ، ويحتمل أيضاً وقوع تلك النجاسة فيه ، ولا يكون له حينئذ إلاّحكم واحد وهو الطهارة بقاعدة الطهارة ، من دون أن يكون مسبوقاً بحكم ظاهري كي يجري فيه استصحاب ذلك الحكم ، فلمّا لم يكن ذلك الصغير مسبوقاً بالشكّ لم يكن قبل العلم الاجمالي مورداً لحكم قاعدة الطهارة قبل العلم ، بل إنّما يكون مورداً لها بعد العلم الاجمالي ، فتكون هي المعارضة للاستصحاب الجاري بعد العلم المذكور في الطرف الآخر ، فيسقطان معاً ، ولا يبقى موردها وهو الصغير محلاً لشيء من الأُصول.

إلاّ أن يقال : إنّه مجرى لأصالة البراءة من حرمة الشرب ، لكن بعد التعارض مع قاعدة الطهارة في الآخر يبقى الآخر مجرى للبراءة من حرمة شربه بلا معارض ، فإنّ البراءة من حرمة شربه محكومة فيه لقاعدة الطهارة ، فيبقى المحذور بحاله.

ص: 523


1- راجع المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : 210 وما بعدها.

لا يقال : يجري في كلّ منهما استصحاب عدم وقوع النجاسة فيه ، وبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة في كلّ منهما.

لأنّا نقول : إنّه بعد تساقط أصالة العدم في كلّ منهما يكون المرجع فيما كان طاهراً هو استصحاب طهارته في قبال قاعدة الطهارة في الآخر ، فيعود المحذور. هذا مضافاً إلى أنّ استصحاب عدم وقوع النجاسة في الآخر لا أثر له ، إذ لم يحرز بعدُ طهارته ولا نجاسته.

وربما يقال : إنّ هذا الطرف غير المعلوم حالته السابقة يكون في حدّ نفسه مشكوكاً في الرتبة السابقة على الشكّ الآتي من ناحية هذا العلم الاجمالي ، ويكون ذلك الشكّ السابق في الرتبة محكوماً بقاعدة الطهارة ، وبلحاظ الشكّ الآتي من ناحية العلم الاجمالي يحصل الشكّ في بقاء ذلك الحكم الظاهري الطارئ على ذلك الشكّ السابق في الرتبة ، فيجري استصحابه. لكن لا يخلو عن منع ، لأنّ الاستصحاب يحتاج إلى الجرّ بحسب عمود الزمان ، ولا يصحّحه الجر من السابق رتبة ، فتأمّل. هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّه لو تمّ ما ذكر من بقاء قاعدة الطهارة في الاناء الكبير بعد سقوط استصحاب الطهارة فيه ، ننقل الكلام إلى الاناء الصغير بعد سقوط قاعدة الطهارة فيه وبقي بلا أصل شرعي ، نقول إنّه هل هناك مانع يمنع من ارتكابه ولو مثل أنّ الأصل في الأشياء مع قطع النظر عن الترخيص الحظرُ والمنع ، دخلت المسألة فيما يكون أحد الطرفين وهو الكبير مجرى للأصل الشرعي النافي ، وكان الطرف الآخر مجرى للأصل العقلي القاضي بالاجتناب. وإن لم يحكم العقل بالاجتناب في ذلك بل سوّغ الارتكاب ، تعارض الأصلان مع المخالفة القطعية.

والحاصل : أنّ شيخنا قدس سره لابدّ أن يقول بأنّ المانع من الطرف ليس نفس

ص: 524

العلم الاجمالي ، وإلاّ لكان مانعاً من قاعدة الطهارة في الطرف الأوّل أعني الكبير ، فلابدّ أن يكون المانع عنده من الطرف الآخر هو الاحتياط فيما لم يكن فيه ترخيص من جانب الشارع ، فتدخل المسألة فيما لو كان أحد الطرفين مجرى للأصل النافي والآخر مجرى للأصل المثبت. وإن لم يكن عنده مانع من الطرف الآخر ، وأنّ العقل يجوّزه ، سقطت قاعدة الطهارة وذلك التجويز العقلي ، فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، لا داعي له قدس سره إلى الالتزام بما أفاده من سقوط قاعدة الطهارة بسقوط استصحابها.

قوله : بقي التنبيه على أُمور : الأوّل ... الخ (1).

الأولى أوّلاً أن ينقّح (2) أنّ العلم المتعلّق بنجاسة هذا الاناء مثلاً أو غصبيته ، هل هو من قبيل العلم التفصيلي ، نظراً إلى العلم بما يوجب الاجتناب عنه إمّا لنجاسته أو لكونه مغصوباً ، بناءً على أنّ مثل هذه الجهات من الجهات التعليلية ، أو أنّه من قبيل العلم الاجمالي ، نظراً إلى أنّ هذه الجهات جهات تقييدية. وعلى أيّ حال يلزم الاجتناب عنه ، ويترتّب أثر كلّ من العنوانين ، سواء كان الأثر فيهما واحداً ، بأن يكون الحكم في كلّ منهما هو مجرّد وجوب الاجتناب ، أو كان لكلّ منهما أثر زائد على ذلك ، لزم أيضاً ترتيب كلا الأثرين ، كما لو علم نجاسته إمّا بالبول مثلاً أو بالولوغ ، بناءً على أنّه يعتبر في التطهير من نجاسة البول الغسل ثلاثاً وفي نجاسة الولوغ الغسلتان مع التعفير ، فيكون التعفير مقابلاً للغسلة الثالثة.

ص: 525


1- فوائد الأُصول 4 : 49.
2- بسمه تعالى : إنّ هذا الذي حرّرته في هذا الفرع هنا قد عدلت عن كثير من وجوهه وفعلاً لا أعتمد على هذا المحرّر هنا ، والعمدة هو ما حرّرته في شرح العروة في التعليق على هذا الفرع ، جمادى الثانية 1379 [ منه قدس سره ].

نعم ، لو كان الأثر الزائد مختصّاً بخصوص أحد العنوانين ، كما لو كان الحكم في إحدى النجاستين هو الغسل مرّتين وفي الأُخرى هو الغسل ثلاثاً ، فإنّ العلم الاجمالي لا ينجّز الغسلة الثالثة ، وإن قلنا بلزومها من جهة استصحاب النجاسة ، لكن ذلك مستند إلى الاستصحاب المذكور لا إلى العلم الاجمالي.

ثمّ بعد الفراغ عن هذه الجهات ننقل الكلام إلى العلم الاجمالي المردّد بين إناءين ، فتارةً يعلم إجمالاً بأنّ كلاً من الاناءين إمّا نجس أو مغصوب ، وأُخرى يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما لا بعينه إمّا نجس أو مغصوب ، وثالثة يعلم إجمالاً إمّا كون الصغير منهما نجساً أو كون الكبير منهما مغصوباً من دون عكس ، أمّا مع العكس فهو راجع إلى الصورة الثانية. وهذه الصور الثلاث تشترك في لزوم الاجتناب عن كلا الاناءين ، وذلك لا إشكال فيه.

وممّا يتفرّع على ما حرّرناه أوّلاً من تنجيز العلم الاجمالي المردّد بين نجاسة الاناء وغصبيته ، مسألة عدم جواز الوضوء منه كما هو الأقوى ، أو جواز ذلك كما ينقل عن المرحوم الشيخ محمّد طه نجف قدس سره ، وتبعه جملة من تلامذته ، ومنهم المرحوم الشيخ علي آل صاحب الجواهر قدس سره (1) ، ويظهر من المرحوم الشيخ أحمد كاشف الغطاء في حاشيته على العروة ، نظراً إلى أنّ حرمة الوضوء بالنجس غير ذاتية ، وأنّها تشريعية ، والحرمة التشريعية لا تجري في صورة الشكّ بالاقدام على الوضوء لاحتمال كونه طاهراً في الواقع ، فلم يبق إلاّحرمة التصرّف في المغصوب ، وحيث إنّها منفية بأصالة البراءة ، فلا مانع من جواز الوضوء به مع إجراء استصحاب الطهارة أو قاعدتها في أعضاء الوضوء.

وفيه أوّلاً : المنع من عدم تأتّي الحرمة التشريعية ، وذلك للعلم بأنّ هذا

ص: 526


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 113 مسألة (4).

الوضوء غير مطلوب منه.

وثانياً : المنع من أصالة الحل أو البراءة في الشكّ في الغصبية ، لأصالة الحرمة في الأموال ، اللّهمّ إلاّ أن يكون في البين استصحاب الملكية ، لكنّه حينئذ معارض باستصحاب الطهارة ، كما لو كان ذلك الماء طاهراً مملوكاً وعلم إجمالاً إمّا بنجاسته أو بطروّ الخروج عن الملكية ، وفي غير هذا الفرض لا يتصوّر الرجوع إلى استصحاب الملكية مع كون المورد من موارد العلم الاجمالي المردّد بين النجاسة والغصب. نعم في صورة العلم الاجمالي المردّد بين كون الماء نجساً وكون الآنية من الفضّة ، لا يتأتّى فيها إشكال الرجوع إلى أصالة الحرمة.

وثالثاً وهو العمدة : أنّه يشترط في ماء الوضوء الطهارة ، وأصالة الطهارة غير جارية في المقام ، لمعارضتها بأصالة الحل.

ومن ذلك يعرف الحال فيما لو تردّد الماء بين كونه مضافاً أو نجساً فيما لو كان مورداً لاستصحاب الاطلاق ، فإنّه معارض باستصحاب الطهارة أو بقاعدتها. ولو فرضنا بقاء قاعدة الطهارة بعد سقوط استصحابها بمعارضته لاستصحاب الاطلاق ، لم يمكن الحكم بصحّة الوضوء منه ، لعدم إحراز إطلاق الماء ، فراجع ما حرّره المرحوم الشيخ أحمد في حاشيته (1) وتأمّل.

قال المرحوم الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء في حواشيه على قوله في العروة : والقول بأنّه يجوز التوضّؤ به ... أقول : ووجهه أنّ النجاسة إنّما تؤثّر في الجهة الوضعية وهي بطلان الوضوء ، والغصبية إنّما تؤثّر في الحرمة التكليفية ، فلا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه ولذا لا نحكم بنجاسة ما لاقاه ، ولا من جريان أصالة الاباحة فيه ، ولذا يجوز استعماله في غير الوضوء كالتبرّد به بل وإزالة

ص: 527


1- لم نعثر على الحاشية المذكورة.

النجاسة به. والحرمة التكليفية إنّما تمنع من الوضوء به عند تنجّزها لا بوجودها الواقعي ، وحينئذ لا مانع من الوضوء به وإن منعنا من شربه ، لأنّ كلاً من النجاسة والغصبية مؤثّرة في الحرمة التكليفية بالنسبة إلى الشرب. ومنه يعلم حكم الفرض السابق وهو ما لو علم بأنّه إمّا مضاف أو مغصوب وكانت حالته السابقة هي الاطلاق ، فإنّه يجوز شربه ويجوز الوضوء به ، وهذا وإن كان وجيهاً بمقتضى القواعد لكنّه بعدُ لا يخلو من تأمّل ، فلا ينبغي ترك الاحتياط فيه (1) ، انتهى.

قوله رحمه اللّه : فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة فيه.

المانع هو معارضتها بقاعدة الحل المعبّر عنها بأصالة الاباحة ، لو قلنا بأنّ الأصل في شبهات الأموال هو الاباحة. نعم لو قلنا بأنّ الأصل في الأموال هو الاحتياط بالاجتناب ، لكانت قاعدة الطهارة جارية فيه ، إلاّ أنّها لا تنفع في جواز الوضوء به ، لأجل الاحتياط بلزوم الاجتناب عنه كما سيأتي.

قوله رحمه اللّه : ولذا لا نحكم بنجاسة ما لاقاه.

ليس منشأ عدم الحكم بنجاسة ملاقيه هو جريان قاعدة الطهارة في الملاقى - بالفتح - بل المنشأ فيه هو أنّ عدم إحراز نجاسة ذلك الملاقى - بالفتح - كافٍ في الحكم بطهارة الملاقي - بالكسر - استناداً إلى قاعدة الطهارة فيه وإن لم تكن جارية في الملاقى - بالفتح -.

قوله رحمه اللّه : ولا من جريان أصالة الاباحة فيه.

قد عرفت المانع وهو المعارضة بين القاعدتين.

قوله رحمه اللّه : ولذا يجوز استعماله في غير الوضوء كالتبرّد به بل وإزالة النجاسة.

إن قلنا بانقلاب الأصل في الأموال ، ولزوم الاحتياط فيها بالاجتناب ، جرت

ص: 528


1- لم نعثر على الحاشية المذكورة.

فيه أصالة الطهارة مع لزوم الاجتناب عن التصرّف فيه ، لعدم المنافاة بينهما ، فلا يجوز استعماله في كلّ من التبريد وإزالة النجاسة ، وإن حصلت الطهارة من الخبث باستعماله في ذلك كما تحصل في الغسل بالطاهر المعلوم الغصبية. وإن لم نقل بالانقلاب المذكور ، وقلنا بأصالة الاباحة في شبهات الأموال ، جاز استعماله في التبرّد استناداً إلى أصالة الاباحة ، لعدم معارضتها في هذا الأثر وهو التبرّد بأصالة الطهارة ، لجواز التبرّد في معلوم النجاسة ، وهذا بخلاف استعماله في إزالة النجاسة ، لمعارضتها فيه بأصالة الطهارة ، إذ ما لم يحرز طهارة الماء لا يكون الغسل فيه رافعاً لنجاسة المغسول ، وحينئذ يتعارض الأصلان أعني أصالة الطهارة وأصالة الاباحة ، فلا يبقى ما يسوّغ لنا التصرّف فيه بالغسل.

قوله رحمه اللّه : ومنه يعلم حكم الفرض السابق وهو ما لو علم بأنّه إمّا مضاف أو مغصوب ، وكانت حالته السابقة هي الاطلاق ، فإنّه يجوز شربه ويجوز التوضّي به.

لا يخفى أنّه لو كان الماء مسبوقاً بالاطلاق والاباحة ، وطرأته حالة مردّدة بين الانقلاب إلى الاضافة أو الانقلاب إلى الغصبية ، كان استصحاب إطلاقه معارضاً باستصحاب إباحته ، فيتساقطان ، وحينئذ يجوز شربه لعدم إحراز غصبيته ، بناءً على عدم لزوم الاحتياط في شبهات الأموال ، ولكن لا يصحّ التوضؤ به ، لعدم إحراز إطلاقه. ولو كان المسبوق به هو الاطلاق فقط دون الملكية والاباحة ، بأن تردّد هذا الماء المسبوق بالاطلاق بين طروّ الاضافة عليه ، وكونه مملوكاً لمن لم يأذن فيه فيكون مغصوباً من أوّل الأمر ، بمعنى أنّ هذا الماء الذي كان مطلقاً هو فعلاً مردّد بين طروّ الاضافة عليه أو كونه مغصوباً من أوّل الأمر ، لم يصحّ الوضوء منه لعدم إحراز إطلاقه ، لسقوط استصحاب الاطلاق فيه بالمعارضة

ص: 529

مع أصالة الإباحة فيه. هذا إن قلنا بأصالة الاباحة في شبهات الأموال ، وكذا لو قلنا بأصالة الاحتياط فيها ، فإنّه وإن جرى فيه استصحاب الاطلاق ، إلاّ أنّ أصالة الاحتياط بالأموال حينئذ قاضية بلزوم الاجتناب عنه ، وعدم جواز استعماله في وضوء أو شرب.

وينبغي أن يعلم أنّه لو اقتصر في توجيه هذا القول على مجرّد أنّ النجاسة إنّما تؤثّر في الجهة الوضعية ، وهي بطلان الوضوء ، والغصبية إنّما تؤثّر في الحرمة التكليفية ، وهي إنّما تمنع من الوضوء به عند تنجّزها لا بوجودها الواقعي ، والمفروض أنّها في المقام غير منجّزة لعدم العلم بها تفصيلاً وهو واضح ، وأمّا العلم الاجمالي المردّد بينها وبين النجاسة فلا ينجّزها ، لأنّه ليس بعلم بتكليف على كلّ حال ، بل هو علم مردّد بين التكليف والوضع ، وهذا المقدار لا أثر له في التنجيز ، وحينئذ يصحّ له الوضوء ، بل والصلاة في ذلك الوضوء ، لعدم علمه ببطلان وضوئه على كلّ حال ، هذا مع الغضّ عن تعارض الأُصول وتساقطها ، وإلاّ كانت أصالة الطهارة فيه معارضة بأصالة الاباحة ، فلا يمكن الوضوء منه ، لعدم إحراز شرطه وهو طهارة الماء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذين الأصلين لا تعارض بينهما ، لأنّ التعارض بين الأُصول غير الاحرازية الموجب لتساقطها منحصر بما إذا أدّى إلى المخالفة القطعية لتكليف معلوم في البين ، وليس هذا المورد من ذلك ، لأنّ الاعتماد على هذين الأصلين والاقدام على الوضوء بذلك الماء لا يوجب القطع بمخالفة تكليف موجود في البين ، غايته أنّه بعد الفراغ يعلم إجمالاً ببطلان وضوئه أو ارتكابه التصرّف بالمغصوب ، وهذا العلم لا أثر له إلاّ إذا كان لتصرّفه فيه أثر فعلي كضمان قيمته لصاحبه ، فإنّه حينئذ يعلم تفصيلاً بأنّه مكلّف بأحد الأمرين ، من

ص: 530

إعادة الوضوء أو دفع ثمن ذلك الماء لصاحبه. وكذا لو كان لذلك الماء بقية ، فإنّه يعلم إجمالاً إمّا ببطلان وضوئه أو حرمة التصرّف في باقي الماء ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول.

ولكن لا يخفى أنّ الجمع بين هذين الأصلين وإن لم يكن منتهياً إلى المخالفة القطعية لتكليف معلوم في البين بالنسبة إلى خصوص هذا الأثر أعني الوضوء ، إلاّ أنّهما ينتهيان إلى ذلك بالنسبة إلى الآثار الأُخر كالشرب مثلاً ، وذلك كاف في تعارضهما وسقوطهما ، إذ لا يعقل التفكيك بالقياس إلى الآثار ، بحيث يكون الأصلان متعارضين متساقطين في بعضها وجاريين في البعض الآخر الذي لا يلزم منه المخالفة العملية القطعية كما حقّق ذلك في محلّه ، وإلاّ كان اللازم عدم تعارض الأُصول في مسألة الشبهة المحصورة بالنجاسة بين الاناءين بالنسبة إلى الوضوء ، وجاز للمكلّف أن يتوضّأ من أحدهما ، بدعوى أنّه لا يلزم من الوضوء بأحدهما أو كلّ منهما اعتماداً على قاعدة الطهارة في كلّ منهما مخالفة عملية قطعية لتكليف معلوم في البين بالقياس إلى هذا الأثر أعني الوضوء ، إذ ليس في ذلك إلاّ الحكم الوضعي أعني البطلان ، ولا دافع لذلك إلاّما عرفت من أنّهما وإن لم ينتهيا إلى المخالفة العملية القطعية بالنسبة إلى الوضوء ، إلاّ أنّهما ينتهيان إلى ذلك بالنسبة إلى الشرب ، فتأمّل.

فإنّ فيه أوّلاً : أنّ الشرب في المثال معلوم الحرمة. وثانياً أنّ ذلك منقوض بما لو علم نجاسة هذا التراب أو غصبيته ، وكذلك هو منقوض بما لو علم بنجاسة أحد الترابين ، فإنّ قاعدة الطهارة في كلّ منهما معارضة بها في الآخر ، مع أنّ الأثر منحصر في الجهة الوضعية وهي بطلان التيمّم. وكذلك الحال فيما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا التراب أو خمرية ذلك المايع أو غصبيته ، بل وكذلك الحال في

ص: 531

الماءين المعلوم نجاسة أحدهما ، بل في الماء الذي علم إجمالاً نجاسته أو خمرية ذلك المائع ، فإنّ أصالة الطهارة في جواز شربه وإن كانت معارضة بقاعدة الحل في ذلك المائع ، إلاّ أنّ جواز الوضوء به استناداً إلى قاعدة الطهارة لا يعارضها أصالة الحل ، إذ لا يلزم منهما مخالفة عملية لتكليف إلزامي في البين.

وما ذكرناه من عدم التبعيض في الآثار ممنوع ، إذ لا يلزم من سقوط الحكم بجواز شربه استناداً إلى قاعدة الطهارة لأجل معارضتها بقاعدة الحل في ذلك المايع سقوط جواز الوضوء به استناداً إلى قاعدة الطهارة.

وبالجملة : أنّ مقتضى ما ذكرناه من عدم الانتهاء في الأُصول في الجهات الوضعية إلى المخالفة القطعية لتكليف إلزامي ، هو أن لا يكون مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الماء الذي علم نجاسته أو خمرية ذلك المايع ، والتراب الذي علم نجاسته أو نجاسة التراب الآخر أو نجاسته وخمرية ذلك المايع ، ففي مثل الماءين أو الترابين المعلوم نجاسة أحدهما لا نحتاج إلى تكرار الوضوء بالنحو الذي ذكروه في الشبهة المحصورة ، أو إلى تكرار التيمّم في كلّ من الترابين ، بل لازمه جواز الوضوء أو التيمّم بأحد الطرفين استناداً إلى قاعدة الطهارة ، إذ لا تعارضها قاعدة الطهارة في الطرف الآخر ، وكذا لا مانع من الوضوء أو التيمّم بهذا الطرف استناداً إلى قاعدة الطهارة ، ولا تعارضها أصالة الحل في ذلك المايع ، إذ لا يلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية لتكليف إلزامي.

وهكذا الحال فيما علم بكون ثوبه ممّا لا يؤكل لحمه أو خمرية ذلك المائع ، فإنّه يجوز الصلاة فيه استناداً إلى البراءة من مانعيته ، ولا تعارضها أصالة الحل في ذلك المائع ، إذ لا يلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية قطعية لتكليف إلزامي. وكونه بعد الصلاة يعلم إجمالاً إمّا ببطلان صلاته أو حرمة ذلك المائع

ص: 532

عليه ، لا دخل له في تحقّق التعارض بين الأصلين ، مضافاً إلى أنّه ربما لا يلزم الوقوع في العلم الاجمالي المذكور كما إذا شرب ذلك المائع قبل الصلاة.

وهكذا الحال فيما لو علم بكون أحد ثوبيه ممّا لا يؤكل لحمه ، فلا يقع فيه تعارض بين الأصلين في كلّ منهما ، فيجوز له حينئذ الصلاة بأحدهما. نعم لو صلّى فيهما معاً صلاة واحدة علم تفصيلاً ببطلان صلاته ، أو صلّى صلاة بأحدهما وأُخرى بالآخر يعلم إجمالاً بفساد إحدى الصلاتين ، إلاّ أنّ ذلك أمر آخر لا يوجب تحقّق التعارض بين الأصلين. وهكذا الحال فيما لو علم بأنّه مجنب أو أنّ ذلك الثوب ممّا لا يؤكل لحمه ، أو علم إمّا أنّه مجنب أو أنّ إمامه مجنب.

وعمدة هذه الإشكالات في هذه الفروع وأمثالها إنّما نشأ من تلك الدعوى التي ادّعيناها ، وهي عدم التعارض بين الأصل النافي في هذا الماء أو هذا التراب أو هذا الثوب مع الأصل النافي في الطرف الآخر ، بتخيّل أنّه لا يلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية قطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، وليسا من الأُصول الاحرازية كي يكون الحكم بالاحرازين مع العلم الاجمالي بالخلاف موجباً تعارضهما وسقوطهما.

وطريق الحل في جميع هذه الفروع هو أن يقال : يكفي في المعارضة المخالفة العملية للوجوب الشرطي أو للنهي المولّد للمانعية ، فإنّ مخالفة هذا الوجوب الشرطي أو المانعية كافية في التعارض ، حيث إنّ العقل يمنع من مخالفة الوجوب الشرطي كما يمنع من مخالفة الوجوب النفسي الاستقلالي ، خصوصاً بناءً على ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من أنّ الوجوب الشرطي وجوب نفسي غايته أنّه

ص: 533


1- لاحظ حواشي المصنّف قدس سره المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 196 وما بعدها ، ولاحظ بالخصوص ما ذكره قدس سره في توضيح مرام المحقّق النائيني قدس سره في الصفحة : 209 وما بعدها من ذلك المجلّد.

ضمني ، ويكون من هذه الجهة حاله حال الوجوب الجزئي.

وبالجملة : أنّ العقل يلزم بإطاعة الوجوب الشرطي ، وبالملاك الذي نقول إنّ العقل يلزم باطاعته نقول إنّه يمنع من عصيانه ، وإن لم يكن في البين عقاب على نفس ذلك الترك ، وذلك لكفاية العقاب على ترك الواجب النفسي الحاصل بترك شرط ذلك الواجب.

وأنت بعد التأمّل في ذلك تعرف أنّ قاعدة الطهارة في الماء المذكور في أصل المسألة معارضة بقاعدة الحل فيه ، لأنّ إجراء الأصلين موجب للوقوع في المخالفة العملية القطعية ، إمّا للوجوب الشرطي في طهارة ماء الوضوء أو للحرمة النفسية للتصرّف في الماء المذكور.

وهذه المعارضة لا تتوقّف على ما في المستمسك (1) من دعوى كون قاعدة الطهارة في الماء موجبة لمخالفة الأمر بالوضوء بغيره ، فإنّ الأمر بالوضوء في المقام لو كان ذلك الماء نجساً في الواقع لا يكون عبارة عن قوله توضّأ بغير هذا الماء ، كي يكون إجراء قاعدة الطهارة في هذا الماء موجبة لمخالفة ذلك التكليف الالزامي ، أعني توضّأ بغير هذا الماء. نعم إنّ هذا المكلّف مأمور بالوضوء بالماء الطاهر ، وليس هذا الأمر هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، لأنّه موجود قبل الابتلاء بذلك الاناء وقبل الترديد المذكور. نعم إنّ هذا المكلّف وعند إجرائه قاعدة الطهارة في هذا الماء مع إجرائه قاعدة الحل يكون قد خالف أحد التكليفين ، أعني حرمة التصرّف في ذلك الماء أو وجوب الوضوء بالماء الطاهر ، وهو عبارة

ص: 534


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 250.

أُخرى عمّا ذكرناه من الوجوب الشرطي الذي هو كون ماء الوضوء طاهراً ، بل إنّ نفس وجوب الوضوء أيضاً شرطي لكونه شرطاً في الصلاة ، فلاحظ وتأمّل فإنّه دقيق نافع ، وقد تعرّضنا لذلك في آخر مباحث القطع الاجمالي فراجع (1) ، وفيما علّقنا على العروة الوثقى.

ولكن هذا كلّه إنّما يتمّ فيما لو كان الأمر بالمشروط وجوبياً ، بأن كان الوضوء في المثال واجباً ، أو كانت الصلاة في الأمثلة المذكورة واجبة ، أمّا لو كان الأمر المذكور استحبابياً كالوضوء للكون على الطهارة أو مقدّمة لفعل استحبابي ، ففيه إشكال ، إذ لا يكون في البين تكليف إلزامي على كلّ حال ، إلاّ أن نلتزم كما هو غير بعيد في المخالفة العملية الموجبة لسقوط الأُصول غير الاحرازية بالاكتفاء بالمخالفة العملية ولو لتكليف غير الزامي ، فلاحظ وتأمّل.

والذي تلخّص من هذا المبحث : هو أنّ لنا فرعين ، أحدهما الماء الواحد المردّد بين النجاسة والغصبية ، والآخر الاناءان الأصغر والأكبر مع العلم الاجمالي بنجاسة الأصغر أو غصبية الأكبر ، والمرحوم الشيخ محمّد طه قدس سره أجاز الوضوء من الاناء في المثال الأوّل ، وحينئذ يكون الحكم بجواز الوضوء من الاناء الأصغر في المثال [ الثاني ] بطريق أولى. كما أنّ غيره قد منعوا من الوضوء من الاناء الأصغر في المثال [ الثاني ] ، ويكون منعهم من الوضوء من الاناء في المثال الأوّل بطريق أولى.

ولا يخفى أنّ الكلام في هذين الفرعين إنّما هو بعد فرض كون المرجع في احتمال الغصبية في الماء إلى أصالة الحل ، وإلاّ فلو قلنا بانقلاب [ الأصل ] في الأموال كالدماء ، فكان الأصل في احتمال الغصبية هو الاحتياط بالاجتناب ،

ص: 535


1- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 237 وما بعدها.

لا نعكس الحكم على كلّ من الفريقين في كلّ من المثالين. أمّا على المرحوم الشيخ في المثال الأوّل ، فلأنّ أصالة الاحتياط مانعة حينئذ من الوضوء من ذلك الماء المردّد بين النجاسة والغصبية. وأمّا على الجماعة فلأنّ المرجع في المثال الثاني هو أصالة الاحتياط في الاناء الكبير ، وحينئذ ينحلّ العلم الاجمالي ، لكون الأصل في [ أحد ] طرفيه وهو الاناء الكبير مثبتاً وفي الطرف الآخر وهو الاناء الصغير نافياً.

ثمّ بعد البناء على خلاف ذلك وأنّ المرجع في احتمال الغصبية هو أصالة الحل تقع الشبهة السابقة ، وهو أنّه قبل الإقدام لا تكون المسألة من قبيل العلم بتكليف منجّز ، وبعد الفراغ لا يحصل العلم ببطلان الوضوء ، لاحتمال كون الماء مغصوباً مع فرض عدم تنجّز الغصبية حين الإقدام.

والجواب عنه منحصر بما عرفت من التعلّق بالوجوب الشرطي ، وهو وجوب شرعي نفسي ، غايته أنّه ضمني ، وحينئذ يكون الجمع بين قاعدة الطهارة وقاعدة الحل في ذلك الماء موجباً للوقوع في المخالفة القطعية للتكليف الموجود في البين ، وهو إمّا حصّل الشرط وإمّا اجتنب عن المغصوب. ولو لم نقل بكون الشرط واجباً نفسياً بل قلنا بكونه واجباً غيرياً مقدّمياً ، لكان ذلك كافياً أيضاً في المنع من جريان قاعدة الطهارة مع قاعدة الحل ، لأنّ الوجوب المقدّمي مستتبع للعقاب ولو على ذي المقدّمة ، وذلك كافٍ في المنع [ عن ] جريان الأصل النافي ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لو دار الأمر بين وجوب الفعل الفلاني مقدّمة لواجب آخر ، أو حرمة ذلك الاناء لكونه خمراً ، لا يمكن الجمع بين أصالة البراءة من الوجوب المذكور وأصالة الحل في ذلك الاناء. نعم يشكل الأمر فيما لو كان الوضوء المذكور استحبابياً ، فتأمّل.

ص: 536

ولكن ذلك لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ الوجوب الشرطي وكذلك المقدّمي لا يزيد على وجوب الوضوء ، وليس هو من طرفي هذا العلم الاجمالي ، ولا أثر لنجاسة الماء إلاّفساد الوضوء به الموجب لبقاء الأمر بالوضوء ، وليس ذلك تكليفاً شرعياً في قبال حرمة المغصوب ، فلاحظ.

قال في المستمسك : ولذا نقول لا يجوز رفع الخبث به أيضاً الخ (1) ، لكن لو رفع به الخبث غفلة ثمّ حصل له العلم الاجمالي المذكور المردّد بين كونه نجساً أو مغصوباً ، حكم بارتفاع النجاسة استناداً إلى قاعدة الطهارة في ذلك الماء ، باعتبار أثرها الفعلي وهو رافعية الخبث ، ولا يعارضها حينئذ قاعدة الحل لعدم الأثر لها بعد الفراغ عن اتلافه. نعم لو كان له بقية أو كان هناك ضمان تعارض الأصلان. وهكذا الحال فيما لو توضّأ به غفلة.

قال : نعم لا يبعد جواز التصرّف فيه - إلى قوله - فيرجع في الطرف الآخر إلى أصالة البراءة بعد سقوط أصالة الحل وأصالة الطهارة بالمعارضة الخ (2). الظاهر أنّ أصالة البراءة ساقطة بسقوط أصالة الحل ، لأنّهما معاً معارضان لأصالة الطهارة ، لأنّ مفادهما واحد. ولو التزمنا باختلاف مفادهما على وجه جعلنا قاعدة الحل حاكمة على البراءة ، لكانت البراءة ساقطة أيضاً بسقوط قاعدة الحل ، بناءً على ما أفاده شيخنا قدس سره من سقوط كلّ من الحاكم والمحكوم بالمعارضة مع الأصل الآخر ، فلا يجوز التصرّف فيه ولو بمثل التبريد ونحوه ممّا هو غير مشروط بالطهارة. نعم لو قلنا بأنّ أصالة البراءة لا تسقط بسقوط أصالة الحل ، جاز ذلك التصرّف وإن لم يجز ما هو مشروط بالطهارة مثل الوضوء به وإزالة النجاسة ، لعدم إحراز ما هو

ص: 537


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 250.
2- المصدر المتقدّم.

الشرط أعني طهارة الماء.

ثمّ إنّ الوجه في ابتناء المسألة على انحلال العلم الاجمالي فيما لو كان أحد طرفيه مجرى للأصل المثبت بناءً على ما ذكره من كون أصالة البراءة غير ساقطة بالمعارضة واضح ، فإنّه بعد أن تعارض فيه قاعدة الطهارة وقاعدة الحل بقينا نحن والعلم الاجمالي المردّد بين الوجوب الشرطي أو وجوب الوضوء بغيره ، وبين الحرمة التكليفية المتعلّقة بحرمة التبريد به ، والأصل في الأوّل مثبت ، إذ لا أقل من عدم إحراز الشرط ، وفي الثاني ناف لأصالة البراءة من حرمة التبريد به. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الاجمالي علّة في التنجّز وإن لم تتعارض الأُصول في أطرافه فلاحظ وتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ التكليف بالوضوء وكذلك التكليف بشرطه الذي هو طهارة مائه لم يكن حادثاً بهذا العلم الاجمالي ، بل إنّه قبل الابتلاء بذلك الماء المردّد كان يجب عليه أن يتوضّأ بماء طاهر ، ولم يحدث له عند ابتلائه بذلك الماء إلاّمجرّد احتمال تكليف بالاجتناب عنه لاحتمال كونه مغصوباً ، فلا يكون هذا من العلم الاجمالي المنجّز للتكليف في حدّ نفسه ، لكن مع ذلك لا يمكنه الركون في ذلك الماء إلى قاعدة الطهارة وقاعدة الحل ، لأنّه بالجمع بينهما وإقدامه على الوضوء منه استناداً إليهما يكون قد وقع إمّا في مخالفة ذلك التكليف السابق الذي كان معلوماً لديه تفصيلاً وهو : توضّأ بالماء الطاهر ، وإمّا في مخالفة لا تتصرّف في هذا الماء ، وهذا المقدار من المخالفة القطعية كاف في المنع من الجمع بين هذين الأصلين ، وذلك موجب لتعارضهما وتساقطهما ، ولأجل ذلك لو قلنا بأنّه يعلم تفصيلاً بأنّ وضوءه من ذلك الماء غير مأمور به فهو لا يمكنه التقرّب به ، للعلم التفصيلي بأنّه غير مطابق لأمره الواقعي ، لم يكن بذلك بأس ،

ص: 538

وهو أسهل الطرق في الحكم ببطلان الوضوء من الماء المذكور ، وبه يندفع المحذور في الوضوء الاستحبابي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : التنبيه الثالث (1).

الكلام في هذا التنبيه يعاكس الكلام في التنبيه المعقود لمسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف ، فإنّ الكلام في ذلك التنبيه معقود لما إذا كان بعض الأطراف لا يمكن امتثال التكليف فيه لو كان منطبقاً عليه ، والكلام في هذا التنبيه معقود لما إذا كان بعض الأطراف لا يمكن مخالفة التكليف فيه لو كان منطبقاً عليه.

ثمّ إنّ عدم إمكان مخالفة التكليف ، وبعبارة أُخرى عدم القدرة على مخالفة التكليف في بعض الأطراف ، تارةً يكون من جهة عدم القدرة عقلاً ، وأُخرى من جهة عدم القدرة شرعاً ، وثالثة من جهة عدم القدرة عادة. يعني أنّ المخالفة في بعض الأطراف تارة تكون غير مقدورة عقلاً ، كما لو فرض حصول العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين بعد تلف أحدهما. وأُخرى تكون غير مقدورة شرعاً ، لكون أحدهما ملكاً للغير ولا يأذن في التصرّف فيه ، ونظيره ما لو علم إجمالاً بأنّه قد حصل الرضاع المحرّم إمّا بينه وبين زوجته أو امرأة خليّة ، أو بينه وبين عمّته مثلاً. وثالثة تكون المخالفة للتكليف في أحد الطرفين غير مقدورة عادة ، لكونه لا يتمكّن عادة من الحصول على ذلك الطرف.

أمّا القسم الأوّل أعني غير المقدور عقلاً كما في التلف ، فلا شبهة في كونه موجباً لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، فلا يكون علماً بتوجّه خطاب بالاجتناب على كلّ تقدير ، فإنّه كما يكون التكليف بالاجتناب عمّا لا يقدر عقلاً الاجتناب عنه محالاً ، لكونه تكليفاً بغير المقدور ، فكذلك يكون التكليف

ص: 539


1- فوائد الأُصول 4 : 50 / الأمر الثالث.

بالاجتناب عمّا لا يقدر عقلاً على ارتكابه محالاً ، إمّا لكونه تحصيلاً للحاصل ، وإمّا لكون التكليف بالاجتناب عنه قبيحاً ، لأنّ الغرض من النهي هو إحداث الداعي إلى الاجتناب حيث يمكن أن تنقدح إرادة العبد للارتكاب ، فإذا لم يكن انقداح إرادة العبد ممكناً كان النهي عنه قبيحاً.

وأمّا القسم الثاني فالأولى أن يعلّل عدم التنجّز فيه بما مرّ (1) الكلام فيه في انحلال العلم الاجمالي بما إذا كان بعض أطرافه معلوم الحرمة تفصيلاً ، من دون حاجة إلى تكلّف أنّ غير المقدور شرعاً ملحق بغير المقدور عقلاً ، وعليه فلا فرق حينئذ بين كون احتمال الإذن أو الشراء من صاحبه قريباً أو بعيداً.

والأولى أن يمثّل لذلك بما إذا وجب إتلاف أحد الطرفين في جهة خاصّة مثل إطفاء نار يخشى منها على النفس أو إسقائه لنفس محترمة من جهة خوف التلف عليها من العطش ، ومثله أيضاً ما لو توقّف حفظ نفسه على شربه خوف التلف من العطش ، فإنّ مخالفة النهي المتعلّق باستعمال ذلك الطرف فيما لا يجوز استعماله فيه إلاّبالطهارة تكون غير مقدورة شرعاً ، فتأمّل.

وأمّا القسم الثالث وهو المعبّر عنه بالخروج عن محلّ الابتلاء ، فخلاصة العلّة في سقوط العلم الاجمالي به هو ما أشرنا إليه أخيراً في القسم الأوّل ، وهو أنّ النهي إنّما يحسن عند إمكان تعلّق إرادة العبد بارتكاب المنهي عنه ، وإذا كان الارتكاب ممتنعاً عادة بحيث إنّه كان الارتكاب غير ممكن عادة ، كان تعلّق إرادة العبد به غير ممكن عادة ، فلا يتحقّق ملاك حسن النهي ، وهو إمكان تعلّق إرادة العبد بالارتكاب. وقد شرحنا ذلك مفصّلاً وأوضحناه بما لا يمكننا المزيد عليه فعلاً في شرح عبارة الأُستاذ قدس سره في الوسيلة المتعلّقة بهذه المباحث.

ص: 540


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 37 وما بعدها.

وهذه الجهة وإن كانت قابلة عقلاً للتحقّق في باب الأوامر ، إلاّ أنّ فرض كون مخالفة الأمر بترك الفعل المأمور به غير ممكنة عادة فرض نادر ، لا أستحضر له فعلاً مثالاً معقولاً (1).

وما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا (2) - من الفرق بين النهي والأمر بحسن الثاني في مورد كون المخالفة غير ممكنة عادة بخلاف [ النهي ] من جهة كون المطلوب في باب الأوامر هو الايجاد عن اختيار ، وهو حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من المخالفة ، بخلاف باب النواهي فإنّه لمّا كان المطلوب فيها هو استمرار العدم ، ولم يكن الفعل ممكناً عادة كان قبيحاً - ممّا لم أتوفّق للتصديق به ، فإنّ المطلوب في باب النواهي أيضاً الترك الاختياري ، وهو حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من الفعل ، كما أنّ الفعل الاختياري حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من الترك.

كما أنّي لم أتوفّق للتصديق بما أفاده بعد هذه الجملة ، من الفرق بين التكاليف الايجابية والتكاليف التحريمية ، بمدخلية القدرة في المبغوضية في النحو الثاني التي هي ملاك التحريم ، وعدم مدخليتها في ملاك الايجاب ، بعد الاعتراف باشتراكهما بالنسبة إلى المصالح والمفاسد في كون القدرة قابلة لأن تكون دخيلة ولأن لا تكون دخيلة ، فإنّ المراد من ملاك التحريم لو سلّمنا أنّه

ص: 541


1- نعم ، في الصورة التي يكون النهي فيها قبيحاً ، وهي ما لو كان الارتكاب غير ممكن عادة ، لا يكون الأمر بالارتكاب قبيحاً ، لكفاية القدرة العقلية في باب الأوامر ، ولا يكون ذلك الفرد الذي يكون ارتكابه غير مقدور عادة خارجاً عن حيّز الأمر إلاّمن جهة دليل نفي العسر والحرج [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 3 : 431 - 432.

المبغوضية فلِمَ لا نقول إنّ ملاك الايجاب هو المحبوبية ، لتكون القدرة دخيلة فيه أيضاً ، فراجع وتأمّل.

وبالجملة : أنّا لا نتعقّل للمبغوضية ولا للمحبوبية بالنسبة إليه تعالى إلاّنفس التحريم والايجاب ، لا أنّ التحريم والايجاب بالنسبة إليه تعالى يكونان بعد المبغوضية والمحبوبية لتكون المبغوضية ملاكاً للتحريم زائداً على المفسدة الواقعية. ولو سلّم ذلك لكانت المحبوبية في التكاليف الايجابية ملاكاً للايجاب زائداً على المصالح الواقعية.

ثمّ إنّ عدم ارتكاب المنهي عنه تارةً يكون لما تقدّم ذكره من كونه غير متمكّن منه عادة ، وأُخرى يكون من جهة عدم جريان العادة بارتكابه وإن كان ارتكابه ممكناً ، وثالثة يكون من جهة اتّفاق وجود الصارف عنه أو مجرّد عدم تعلّق الارادة بارتكابه ، وإن كان ارتكابه ممكناً عادة ، وكانت العادة جارية بارتكابه ، بمعنى أنّه لم تجر العادة على عدم ارتكابه.

أمّا النحو الأوّل فهو القدر المتيقّن ممّا يوجب قبح التكليف بالاجتناب عنه.

كما أنّ الثالث ممّا لا ينبغي الشبهة في حسن التكليف بالاجتناب عنه ، لأنّ مجرّد وجود الصارف عنه أو اتّفاق عدم تعلّق الارادة بارتكابه لا يمنع من النهي عنه والتكليف باجتنابه ، حيث إنّ مدار حسن التكليف وملاك حسن الخطاب بالاجتناب عنه هو إمكان تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه ، ليكون ذلك الخطاب زاجراً له عن الارتكاب ، ويكون ذلك الخطاب بتركه حسناً عقلاً ، لإمكان أن تتعلّق الارادة بارتكابه ، وبذلك تندفع شبهة تحصيل الحاصل ، إذ ليس الغرض من النهي مجرّد أن لا يفعل كي يقال إنّ هذا الشخص المفروض أنّه لا تحصل له إرادة الفعل أو حصل له الصارف عنه ، يكون نهيه عن ذلك الفعل لغواً وتحصيلاً

ص: 542

للحاصل ، بل إنّ الغرض من النهي هو إحداث الداعي على الترك ، ويكفي في حصول ذلك الغرض مجرّد إمكان الفعل منه ، بأن يكون قابلاً لتعلّق الارادة به وإن لم يكن مريداً له فعلاً ولا مريداً له فيما بعد.

لا يقال : إنّ الغرض من النهي وإن كان هو إحداث الداعي الذي يكفي فيه إمكان تعلّق الارادة ، إلاّ أنّ الغرض من إحداث ذلك الداعي هو التوصّل إلى عدم صدور الفعل من المكلّف ، فإذا فرضنا أنّ المكلّف لا يصدر منه الفعل عاد محذور تحصيل الحاصل.

لأنّا نقول : إنّ النهي فعل اختياري للشارع ، وهذا الفعل الاختياري لابدّ أن يكون لغرض وفائدة تترتّب عليه ، وحينئذ لا يمكننا أن نقول إنّ الغرض منه هو مجرّد عدم صدور الفعل من المكلّف ، إذ لو كان هو الغرض لاستحال تخلّفه ، بل الغرض التامّ هو ما عرفت من إحداث الداعي وتقريب العبد إلى الاطاعة ، وتسهيل الوصول إلى إدراك المصالح والاجتناب عن المفاسد ، نعم يصحّ لنا أن نقول إنّ الغرض هو عدم الفعل ، لكن لا بمعنى أنّه يكون هو الغاية من جعل النهي ، بل بمعنى أنّه هو المراد بالنهي ، ويكون الغرض من جعل تلك الارادة المتعلّقة بعدم الفعل هو إحداث الداعي ، وفيه تأمّل.

أمّا القسم الثاني فالأقوى لحوقه بالقسم الأوّل ، فإنّ الارتكاب وإن كان ممكناً عادة ، إلاّ أنّه لمّا كان نفس الارتكاب ممّا لم تجر العادة به ، ولم يكن تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه عادياً ، كان التكليف باجتنابه والخطاب بعدم ارتكابه قبيحاً لدى العقلاء غير مستحسن لديهم ، لكونه خطاباً بترك ما لم يمكن عادة تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه ، فلا يتحقّق فيه ملاك الحسن الذي هو إمكان كون ذلك الخطاب صارفاً للمكلّف عن الارتكاب ، لأنّه إنّما يمكن كون الخطاب صارفاً لو

ص: 543

كانت إرادة المكلّف للارتكاب ممكنة عادة ، والمفروض أنّ تعلّق الارادة به غير ممكن عادة.

وإن شئت قلت : إنّ العادة لمّا جرت على عدم ارتكابه ، كانت جارية على عدم إرادة ارتكابه ، وإذا جرت العادة بعدم إرادة ارتكابه لم يكن إرادة ارتكابه ممكناً بحسب العادة ، فيكون حاله حال ما لو كان ارتكابه غير ممكن عادة في أنّ كلاً منهما يكون إرادة ارتكابه غير ممكن عادة ، وإذا كانت الارادة غير ممكنة عادة كان الخطاب بالاجتناب قبيحاً ، وقد حقّقنا وأوضحنا ذلك في الشرح المشار إليه (1).

ثمّ إنّا قد بيّنا هناك أخيراً أنّه يمكن أن يكون الملاك في عدم تنجّز العلم الاجمالي في الفرض المذكور ، هو أنّ العقلاء يرون ما لا يمكن عادة ارتكابه أو ما لم تجر العادة بارتكابه من الأطراف ، ملحقاً بالمعدوم بالقياس إلى ذلك المكلّف ، بحيث إنّهم لا يرونه صالحاً لأن يكون متعلّقاً للتحريم ، بل لا يكون ذلك الطرف صالحاً في نظرهم للحكم عليه بالاباحة فضلاً عن التحريم ، بل يمكن القول بأنّ القسم الأوّل منه - وهو ما كان ارتكابه غير ممكن عادة - خارج عن الصلاحية للدخول تحت عموم كل تكليف حتّى الاستحباب والوجوب ، من دون حاجة في ذلك إلى التمسّك بنفي العسر والحرج.

نعم ، يمكن أن يتعلّق به بشخصه الايجاب إذا ثبت وجوبه شخصياً بدليل خاصّ ، لكن التحريم حتّى الشخصي منه لا يمكن تعلّقه به ، والفرق بينهما أنّ الفرد إذا كان ملحقاً بنظر العقلاء بالمعدوم ، لكون ارتكابه غير ممكن عادة ، يمكن للشارع أن يكلّفنا بارتكابه شخصياً إذا دلّ عليه دليل بالخصوص ، غايته أنّ ذلك

ص: 544


1- الظاهر أنّ مراده قدس سره بذلك هو شرح الوسيلة المخطوط الذي تقدّمت الاشارة إليه في الصفحة : 540.

الدليل يكون مخصّصاً لدليل العسر والحرج ، وهذا بخلاف التكليف الشخصي باجتنابه فإنّه قبيح لدى العقلاء.

والحاصل : أنّ الفرد إذا كان ارتكابه غير ممكن عادة ، كان خارجاً بنظر العقلاء عن حيّز عمومات الأوامر والنواهي ، لكونه في نظرهم ملحقاً بالمعدوم. أمّا التكليف الشخصي الثابت بالدليل الخاص ، فإن كان وجوبياً لم يكن عدم التمكّن العادي مانعاً منه بعد فرض كونه مقدوراً عقلاً ، والسرّ في ذلك هو أنّ ذلك التكليف الشخصي المتعلّق بلزوم ارتكاب ذلك الفرد المفروض عدم التمكّن من ارتكابه عادة ينحل إلى التكليف النفسي بمقدّماته ، بخلاف ما إذا كان تحريمياً ، فإنّ عدم التمكّن العادي وإلحاقه في نظر العقلاء بالمعدوم يوجب قبح التكليف بالاجتناب عنه. هذا غاية توضيح توجيه سقوط العلم الاجمالي من الناحية التي أشرنا إليها ، أعني ناحية إلحاق ما كان ارتكابه غير ممكن عادة بالمعدوم ، وأنّه غير صالح للدخول في حيّز العمومات التكليفية حتّى الايجاب.

وفيه تأمّل ، فإنّه بناءً على هذا الوجه يشكل الفرق بين الوجوب الثابت بالأدلّة العامّة ، والوجوب الشخصي الثابت بالدليل الخاصّ. ولو سلّمنا إرجاع الوجوب الشخصي إلى الوجوب النفسي للمقدّمات ، أشكل الفرق بينه وبين التحريم الشخصي ، فأيّ فرق بين قوله : اكسر تلك الآنية الفضّة ، المفروض خروجها عن ابتلائه ، وبين قوله : لا تشرب منها. ولو أرجعنا قوله : « اكسرها » إلى الايجاب النفسي المتعلّق بمقدّمات الحصول عليها ، فمضافاً إلى خروجه حينئذ عمّا هو محلّ الكلام ، أنّه يمكن أن يوجّه قوله « لا تشرب منها » بارجاعه إلى النهي عن مقدّمات الحصول عليها.

ثمّ فيه أيضاً : أنّا لو وجّهنا قبح النهي عمّا هو خارج عن الابتلاء ممّا يكون

ص: 545

غير متمكّن منه عادة ، بأنّ ذلك الفرد ملحق بالمعدوم ، يكون لازمه قبح الأمر به كما عرفت ، مع أنّهم على الظاهر لم يلتزموا به. ولو سلّمنا الالتزام به في صورة كونه غير متمكّن منه عادة ، فلا ريب في عدم إمكان الالتزام به في الصورة الثانية ، أعني صورة عدم وقوعه عادة مع فرض التمكّن العادي منه ، كما هو مختار الأُستاذ قدس سره (1) في كونه بحكم الصورة الأُولى في كون النهي عنه قبيحاً ، فلو وجّهنا قبح النهي عنه بأنّه لمّا لم يكن ارتكابه عادياً كان ملحقاً بالمعدوم ، لم يكن لنا أن نلحق به الأمر في القبح. اللّهمّ إلاّ أن يلتزم بالحاق الأمر بالنهي في الصورة الأُولى ، وهي صورة عدم التمكّن العادي ، بخلاف الصورة الثانية ، وهي صورة التمكّن العادي مع عدم جريان العادة به.

وبالجملة : أنّ توجيه قبح النهي في صورة الخروج عن الابتلاء بكون ما خرج عن الابتلاء ملحقاً في نظرهم بالمعدوم ، يلزمه إلحاق الأمر به في القبح ، فكما يكون قوله : « لا تشرب من آنية الفضّة » المفروضة كونها خارجة عن الابتلاء قبيحاً ، لكونها بمنزلة المعدوم في نظرهم ، فكذلك ينبغي أن يكون قوله : « اكسر الآنية المذكورة » قبيحاً في نظرهم أيضاً ، ولا يمكن التفكيك بينهما. كما أنّ ما تقدّم من توجيه القبح المذكور بكون حسن النهي منحصراً بما إذا كان يمكنه الارتكاب أيضاً منقوض بالأمر ، بأن يقال إنّ حسنه منحصر بما إذا كان يمكنه الفعل عادة ، بل هو فيه أولى ، لأنّ المطلوب فيه هو نفس الفعل ، فإذا كان غير مقدور عادة ، وكان عدم التمكّن العادي موجباً لقبح التكليف ، فهو فيه أولى من النهي ، لأنّ ذلك إنّما يوجب قبحه لعدم تمكّنه من خلافه ، وهذا يوجب قبحه لعدم تمكّنه من موافقته. ومجرّد كون المطلوب بالأوّل هو استمرار العدم وبالثاني

ص: 546


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 65 - 67.

الفعل الاختياري لا يوجب الفرق بينهما ، بحيث يختصّ القبح في صورة عدم التمكّن العادي بالأوّل الذي هو النهي ، دون الثاني الذي هو الأمر.

كما أنّ ما ربما يظهر من التقرير (1) من الفرق بينهما بكون الأوّل مشروطاً بطي المقدّمات دون الثاني ، ممّا لم يظهر وجهه ، فإنّه بعد فرض كون النهي عن الشرب من تلك الآنية مشروطاً بالقدرة عليه كالأمر بالشرب منها ، فإن قلنا إنّ القدرة التي هي شرط فيهما هي القدرة العقلية وهي لا تحصل إلاّبعد طي تلك المقدّمات كان كلّ منهما مشروطاً بطيّ تلك المقدّمات ، وإن قلنا بأنّ الشرب يتّصف بالمقدورية العقلية قبل طي تلك المقدّمات ، لم يكن شيء منهما مشروطاً بطي تلك المقدّمات ، وهكذا الحال لو قلنا بأنّ الشرط فيهما هو القدرة العادية.

وبالجملة : أنّ ما أُفيد مبني على أنّ الأمر لم يكن مشروطاً بالقدرة العادية ، وإنّما هو مشروط بالقدرة العقلية ، بخلاف النهي فإنّه مشروط بكلّ منهما ، والقدرة العادية لا تحصل إلاّبعد طيّ تلك المقدّمات ، وهذه التفرقة تحتاج إلى برهان قوي بحيث تكون القدرة العادية شرطاً في خصوص النهي دون الأمر.

ولتوضيح أصل المطلب ، وهو عدم إمكان تعلّق النهي بما لا يكون مقدوراً عقلاً ، ينبغي تقديم مقدّمات :

الأُولى : أنّ الفعل الاختياري لابدّ أن يكون له غاية مترتّبة عليه ، يكون وجودها العلمي وترتّب وجودها عليه هو الداعي على إيجاده ، وإلاّ لكان عبثاً ولغواً صرفاً ينزّه عنه الحكيم.

الثانية : قد حقّق في محلّه أنّ الغرض والغاية هو ما يكون بوجوده العلمي باعثاً على الفعل وبوجوده الخارجي يكون معلولاً لذلك ، فلابدّ أن تترتّب تلك

ص: 547


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى ما في فوائد الأُصول 4 : 51 - 52.

الغاية على الفعل لكونها من آثاره وفوائده المترتّبة عليه ، ولا تنفكّ عنه إلاّ إذا كان الفاعل جاهلاً بذلك ، بأن يكون قد فعل الفعل باعتقاد ترتّبها عليه فتبيّن الخطأ ، أو يكون قد فعله بداعي احتمال ترتّبها وتبيّن عدم ترتّبها عليه ، وكلّ منهما لا يصدر إلاّ من جهة الجهل.

الثالثة : أنّه ليس معنى كون التكليف من دواعي الامتثال أنّه بنفسه وبوجوده الخارجي يكون داعياً له على الاتيان بالفعل المكلّف به ، بل معناه أنّ المكلّف بعد علمه بالتكليف وبعد تصوّره ما يترتّب على الامتثال من الثواب والخروج عن استحقاق العقاب ، يكون ذلك باعثاً ومحرّكاً له على الاتيان بما تعلّق به التكليف ، فيكون التكليف بوجوده العلمي من مقدّمات الارادة ومن بواعثها.

الرابعة : أنّ الحكم الشرعي أعني الايجاب أو التحريم حيث إنّه بنفسه فعل من الأفعال الاختيارية للشارع ، فلابدّ أن يكون عن غرض وداع ، وليس ذلك الغرض والداعي هو وجود متعلّق التكليف في الخارج ، فإنّ ذلك هو المراد ، وكلامنا إنّما هو في الغرض والداعي على إيجاد تلك الارادة التي هي نفس الحكم الشرعي.

الخامسة : أنّ الغرض الباعث على تلك الارادة الشرعية الذي يكون بوجوده العلمي باعثاً على إيجادها ، هو كونها داعية للمكلّف بالمعنى المتقدّم في المقدّمة الثالثة ، أعني أنّ وقوع تلك الارادة الشرعية في مقدّمات إرادة العبد هو الباعث على إيجاد الارادة الشرعية. وبعبارة أخصر أنّ داعوية الارادة الشرعية للعبد هو الغرض الباعث على صدور الارادة الشرعية من جانب المولى.

إذا عرفت هذه المقدّمات نقول : إنّ الغرض والداعي الباعث على تلك

ص: 548

الارادة الشرعية ليس هو داعويتها الفعلية للامتثال ، وإلاّ لكان اللازم تحقّق داعويتها ووقوعها في سلسلة إرادة العبد بمجرّد صدورها ، واللازم باطل ، لتحقّق العصيان من بعض ، وتحقّق صدور الفعل بدون باعثية تلك الارادة الشرعية من آخرين ، وليس مرجع البطلان في هذا اللازم إلى أنّ المراد له تعالى لا يتخلّف عن إرادته ، ليجاب عنه بأنّ ذلك إنّما هو في الارادة التكوينية ، بل مرجع البطلان المذكور إلى أنّ الغاية من فعله تعالى يستحيل تخلّفها عن ذلك الفعل.

ثمّ إنّ الارادة الشرعية ليست مختصّة بخصوص من ينبعث عنها ، لأنّ المفروض أنّها تكون باعثة على إرادة العبد ومن محرّكات إرادته ، فلا يعقل اختصاصها بمن حصل منه الانبعاث عنها ، لأنّ الحاصل حينئذ هو أنّها جعلت لتكون باعثة لمن تحقّق في حقّه الانبعاث عنها ، وفساده غني عن البيان ، لأنّ المفروض أنّها من مقدّمات إرادة العبد ، فهي سابقة في الرتبة على إرادة العبد ، فلا يعقل أن تكون مقيّدة بارادته.

وبالجملة : لا ريب في أنّ الارادة الشرعية ليست مختصّة بخصوص من ينبعث عنها ، بل هي من هذه الجهة لا يمكن أن تكون مقيّدة ولا مطلقة حتّى بما هو نتيجة الاطلاق أو بما هو نتيجة التقييد. نعم يمكن تقييد المراد بذلك أو إطلاقه من هذه الجهة بما هو نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق على ما مرّ في التعبّدي والتوصّلي.

وعلى أيّ حال ، فالارادة الشرعية من ناحية كونها واقعة في سلسلة إرادة العبد أو غير واقعة ، لا يعقل أن تكون مشروطة بذلك أو غير مشروطة به على حذو اشتراط إرادة الحج بالاستطاعة مثلاً حتّى بمثل نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق ، بل هي من هذه الجهة غير صالحة لكلّ من الأمرين ، لأنّ الارادة الشرعية

ص: 549

عبارة عن فعل من الشارع صدر بداعي كونه باعثاً ومحرّكاً وواقعاً في سلسلة إرادة العبد ، فكان ذلك هو الداعي والباعث على صدور الارادة من جانب الشارع ، فلا يعقل أن يكون الغرض من الفعل والداعي على إيجاده مأخوذاً في ناحية ذلك الفعل أو منظوراً إليه في ناحيته بأيّ نحو من أنحاء الأخذ والنظر ، لا إطلاقاً ولا تقييداً ، لا لحاظياً ولا بما هو نتيجة ذلك.

ثمّ إنّه حيث قد تحقّق لديك أنّ وقوع تلك الارادة الشرعية في سلسلة إرادة العبد يكون داعياً ومحرّكاً على تلك الارادة الشرعية ، وأنّ ذلك ليس هو عبارة عن كون الوقوع الفعلي داعياً ومحرّكاً ، لما نراه من أنّه بعد صدور الارادة ربما لا تقع محرّكة للعبد ولا تقع في سلسلة إرادته ، إمّا لأنّه لا يأتي بالمكلّف به ، أو لأنّه يأتي به لكن بداعٍ آخر ، مع فرض قيام الإجماع والضرورة على تحقّق الارادة الشرعية بالنسبة إلى كلّ من هذين الفرضين ، فلابدّ أن نقول إنّ الباعث والداعي على صدور تلك الارادة هو إمكان وقوعها في سلسلة إرادة العبد ، ومن الواضح أنّ هذا الداعي لا يتخلّف.

وحينئذ نقول : إن كان المكلّف به غير مقدور للعبد لا يعقل أن تتعلّق إرادته به ، فلا يعقل أن تكون الارادة الشرعية واقعة في سلسلة إرادته ، فلا يكون وقوعها في سلسلة إرادته ممكناً ، فلا تصحّ الارادة في مثل ذلك ، ولأجل ذلك قلنا إنّ التكليف بغير المقدور قبيح بل محال حتّى لو جوّزنا الظلم على الشارع ، وسوّغنا مطالبته العبد بما لا يتمكّن عليه.

ثمّ نقول : إنّ طلب الترك في مورد يكون الفعل غير مقدور كما ذكرناه من صورة تلف الموضوع ، يكون قبيحاً بل محالاً ، من جهة أنّ الفعل إذا لم يكن مقدوراً لا يمكن أن [ يكون ] ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لتركه ، لأنّ

ص: 550

فرض كون الفعل غير مقدور يكون موجباً لعدم إمكان تعلّق إرادة العبد بتركه ، كما يكون موجباً لعدم إمكان تعلّق إرادته بفعله.

وبالجملة : أنّ الفعل إذا كان غير مقدور كالشرب من الاناء الذي فرض إراقته وتلف الماء الذي هو فيه ، لا يعقل تعلّق الطلب بفعله ، كما لا يعقل تعلّق الطلب بتركه ، لعدم إمكان كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لكلّ من فعله وتركه. كما أنّ الترك إذا كان غير مقدور يستحيل أن يتعلّق الطلب بكلّ من طرفيه ، فالكون في الحيّز مثلاً كما يستحيل أن يتعلّق الطلب بتركه لاستحالة وقوع ذلك الطلب في سلسلة إرادة العبد لتركه ، فكذلك يستحيل أن يتعلّق الطلب بفعله ، لاستحالة كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لفعله ، لا لمجرّد كون الأوّل تكليفاً بغير المقدور وكون الثاني تحصيلاً للحاصل.

وبالجملة : أنّ الترك في صورة كونه ضرورياً مثل ترك شرب الماء الذي فرض تلفه ، يستحيل أن يتعلّق به النهي ، لا لمجرّد كونه تحصيلاً للحاصل ، بل لاستحالة كون النهي واقعاً في سلسلة إرادة العبد له ، كما أنّ ذلك الشرب يستحيل أن يتعلّق به الأمر ، لا لأجل أنّه ظلم وخلاف العدل بواسطة كونه تكليفاً بما لا يطاق ، بل لاستحالة كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لذلك الشرب.

وهكذا الحال في مسألة إشغال الحيّز ، فإنّ الأمر به يكون محالاً ، لا لمجرّد أنّه تحصيل للحاصل ، بل لما عرفت من استحالة وقوع ذلك الطلب في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بفعله ، كما أنّ تعلّق النهي به أيضاً يكون محالاً ، لا لمجرّد كونه ظلماً وتكليفاً بغير المقدور ، بل لما عرفت من استحالة كون ذلك النهي واقعاً في سلسلة إرادة العبد له.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا إمكان إخراج من حصل له الداعي النفساني على

ص: 551

المطلوب أو من لم يحصل له الداعي إلى فعل خلاف المطلوب ، بأن يقال إنّ حرمة شرب الخمر مثلاً إنّما هي متوجّهة إلى من لم يحصل [ له ] الداعي النفساني إلى تركه أو إلى من لم يحصل له الداعي إلى فعله ، ولم يكن ذلك راجعاً إلى ما ذكرناه من المحالية أعني تقييد الارادة بكونها هي الداعية ، لم يكن ذلك منافياً لما نحن بصدده من إثبات تحقّق الحرمة في حقّ من كان تاركاً لشرب الخمر بداع نفساني المفروض قيام الإجماع والضرورة عليه ، لكفاية إمكان تكليفه بحرمة شرب الخمر بما ذكرناه من كون الداعي على جعل الحرمة في حقّه هو إمكان وقوعها في سلسلة إرادته لترك شرب الخمر ، ومجرّد إمكان خروجه لا يوجب تحقّق خروجه ما لم يكن عليه دليل بالخصوص.

وبالجملة : أنّا نريد إثبات إمكان تحقّق الحرمة في حقّ مثل ذلك المكلّف ليصحّ ما ذكرناه من الإجماع ، وتندفع شبهة أنّ جعل التحريم في حقّه يكون لغواً.

وإلى هذا الحدّ من البيان يحصل ارتفاع الإشكال في تحقّق النهي والتحريم بالنسبة إلى من يعلم المولى بأنّه لا يريد ارتكاب الفعل المنهي عنه ، لأجل تحقّق الصارف له عنه أو لمجرّد أنّه لا يريده ، لتحقّق الغرض المصحّح للنهي في حقّه ، وهو إمكان وقوع ذلك النهي في سلسلة إرادته ، فلم يكن النهي المذكور خالياً من الغرض.

نعم ، يبقى فيه إشكال تحصيل الحاصل ، أعني طلب الحاصل ، وفي الحقيقة ليس هذا من طلب الحاصل ، إذ ليس المطلوب بذلك النهي هو الترك المقرون بذلك النهي ، أعني به الترك الحاصل في آن النهي ، بل المطلوب به هو الترك في الآن المتأخّر عن آن النهي ، وذلك الترك ليس بحاصل. نعم إنّ المولى يعلم بحصوله بواسطة علمه بأنّ العبد يبقى على استمرار الترك ، فهو من قبيل

ص: 552

طلب ما يعلم أنّه يحصل في ظرفه ، وليس هذا من قبيل طلب الشيء الحاصل كي يكون محالاً.

نعم ربما يقال : إنّه مستهجن لدى العقلاء ، لكن يرفع هذا الاستهجان ما عرفت من إمكان كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد الموجب لتحقّق ثوابه زيادة على خروجه عن العصيان ، فإنّه لو ترك في الآن الثاني لا بداعي ذلك الطلب لا يكون مستحقّاً للثواب ، وإن استراح من العقاب لعدم تحقّق العصيان منه ، لأنّه منحصر بالاتيان بالفعل ، بخلاف ما لو ترك بداعي ذلك الطلب ، فإنّه يكون موجباً لاستحقاقه الثواب ، وإن لم يكن ذلك أعني كون تركه بداعي الطلب شرطاً في سقوط الطلب عنه ، وهو - أعني العبد - وإن فرض أنّه لا يترك بداعي ذلك الطلب ، بل يترك بداعيه النفساني ، إلاّ أنّه لمّا كان يمكنه أن يترك بداعي ذلك الطلب ، كان ذلك كافياً في حسن نهيه ، لما عرفت من أنّ المدار في حسن النهي على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد.

إذا عرفت جميع ما قدّمناه نقول بعونه تعالى : إنّك قد عرفت اشتراك الأمر والنهي في توقّف حسن كلٍّ على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بما كان هو المطلوب أعني الترك في النواهي والفعل في الأوامر ، فلم يبق في محلّ البحث إلاّمعرفة الوجه في اختصاص النهي باعتبار القدرة العادية ، بحيث إنّه يكون قبيحاً في مورد عدم التمكن العادي ، بخلاف الأمر.

ثمّ إنّ الإشكال في الأمر تارةً يكون من جهة عدم إلحاقه بالنهي في صورة كون الفعل مورداً لعدم التمكّن العادي كما في آنية الذهب التي لا يتمكّن المكلّف عادة من الحصول عليها في الحكم بقبح النهي عن الشرب فيها ، بخلاف الأمر بكسرها أو الشرب منها ، وأُخرى يكون عكس الصورة المفروضة ، كما لو كان

ص: 553

الترك مورداً لعدم التمكّن العادي بخلاف الفعل ، بأن كان الفعل لازماً عادياً ، فإنّي وإن لم أتخطّر له فعلاً مثالاً مهمّاً إلاّ أنّه أيضاً يتوجّه فيه الإشكال ، بأن يقال إذا فرضنا قبح النهي في مورد يكون الفعل غير متمكّن منه عادة ، فلِمَ لا يكون الأمر قبيحاً في مورد يكون الترك غير متمكّن منه عادة ، وقد عرفت فيما تقدّم ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه الفرق بين الأمر والنهي في كلتا الصورتين ، وتقدّم أنّها جميعاً لا تخلو عن الإشكال ، وحيث إنّ العمدة في الإشكال إنّما هو في الصورة الأُولى ، وأنّ الصورة الثانية لا أهميّة لها ، لعدم وجود مثال لها أو ندرة وقوعها ، فلنقدّم الكلام على الصورة الأُولى ، ولعلّ منه يتّضح الحكم في الصورة الثانية.

فنقول بعونه تعالى : إنّ حاصل الإشكال في الصورة الأُولى ، هو أنّه إذا كان المدار في حسن التكليف على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بما هو المطلوب ، فإن كان ذلك الامكان هو الامكان العقلي ، كان كلّ من النهي عن الشرب من تلك الآنية والأمر بالشرب منها متّصفاً بالحسن ، وإن كان ذلك الامكان هو الامكان العادي [ كان ] كلّ من التكليفين قبيحاً.

أمّا الأمر فواضح ، لعدم إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بالفعل بالامكان العادي ، وإن كان ذلك ممكناً بالامكان العقلي. وأمّا النهي فواضح أيضاً ، لعدم إمكان وقوعه أيضاً في سلسلة إرادة العبد للترك إمكاناً عادياً ، فإنّه إذا كان الفعل غير ممكن عادة كان الترك أيضاً غير ممكن عادة ، فلا يمكن بحسب العادة أن تتعلّق به إرادة العبد.

ولو قلنا بعدم الملازمة في عدم الامكان العادي بين الفعل والترك كما هو الظاهر ، بحيث كان الترك في الصورة المفروضة ممكناً عادياً وإن كان الفعل غير ممكن عادة ، كانت النتيجة أسوأ ، لأنّ اللازم حينئذ أن يكون الأمر بالشرب من

ص: 554

الآنية المذكورة قبيحاً والنهي عن الشرب منها حسناً ، مع أنّ المدّعى هو العكس.

والجواب الحاسم لمادّة الإشكال يتوقّف على شرح حقيقة النهي ، وأنّه ليس ممحّضاً لطلب الترك ، بل فيه جهة أُخرى وهي المعبّر عنها بالردع والزجر ، فإنّ هذه الجهة إن لم نقل إنّها عين حقيقة النهي فلا أقل من الالتزام بكونها من لوازمه الذاتية ، فإنّ النهي أو التحريم عبارة عن المنع عن الفعل ، بل في جملة التعبيرات عنه لا تراه مربوطاً بالترك ، بل يكون مربوطاً بالفعل مثل تحريم شرب الخمر والمنع عنه والنهي عنه ، حتّى عبارة طلب تركه ، فإنّها جميعاً لا تخلو من نظر إلى نفس الفعل بطرده أو تركه أو المنع عنه أو تحريمه.

وهذه الجهة أعني النظر إلى الفعل تعطي حصول الفعل للمكلّف ، بحيث يكون نهيه عنه انتشالاً له منه وتبعيداً له عنه ، بحيث يكون المكلّف واقعاً في صراط الوصول إليه والحصول عليه والشارع يمنعه عنه أو يزجره عنه ، فلابدّ أن يكون الفعل قابل الحصول للمكلّف ليحسن منعه منه وزجره عنه وانتشاله منه.

وهذه القابلية لا يعتبر فيها تحقّق الارادة الفعلية بحيث يكون المكلّف مريداً فعلاً للفعل ، بل يكفي فيها مجرّد الامكان. كما أنّه لا ينافيها وجود الصارف عن الفعل أو اتّفاق عدم إرادته له ، فإنّ ذلك بمجرّده لا ينافي تحقّق القابلية وإمكان صدوره منه ، المحقّق لعنوان المنع منه والزجر عنه.

لكن لا يكفي في تحقّقها الامكان العقلي ، بل لابدّ من الامكان العادي والمشارفة على الفعل بحيث إنّه لو أراده لفعله ، ليتحقّق منعه وزجره وانتشاله منه فلأجل ذلك يكون النهي قبيحاً عن الشرب من الآنية المذكورة ، وإن أمكن أن يكون واقعاً في سلسلة إرادة العبد للترك إمكاناً عقلياً ، فالنهي وإن كان من حيث الغرض من جعله يكفي فيه الإمكان العقلي لترك المنهي عنه المصحّح لإمكان

ص: 555

وقوعه في سلسلة إرادة العبد للترك الذي هو الغرض من جعل النهي ، إلاّ أنّه بطبعه لمّا كان مقتضياً للزجر والمنع عن الفعل وانتشال العبد من الوقوع فيه ، يستدعي إمكان صدور الفعل المنهي عنه من العبد ، بحيث يكون قابلاً لأن تتعلّق به إرادته إمكاناً عادياً. وهذا كلّه إنما نشأ عن كون طبع النهي يستدعي النظر إلى الفعل المنهي عنه ، وتخليص العبد منه زيادة على كونه طلباً للترك ، إن لم نقل إنّ تمام حقيقته هي تلك الجهة ، أعني النظر إلى الفعل ومنع العبد منه وزجره عنه.

وهذا بخلاف الأمر فإنّه ليس إلاّطلب الفعل ، من دون أن يدخل في طبعه النظر إلى الترك ، بحيث يكون متضمّناً بطبعه لزجر المكلّف عنه ومنعه منه ، ليكون مستدعياً لكون العبد قابلاً منه الترك قابلية عادية. ولو سلّمنا أنّ الأمر كذلك ، لم يكن ذلك بضائر فيما نحن بصدده من إثبات حسن الأمر بالشرب من تلك الآنية ، فإنّا لو فرضنا أنّ الأمر بطبعه يقتضي قابلية الترك قابلية عادية ، كان ذلك متحقّقاً في الصورة المفروضة ، بل إنّ المتحقّق والمتلبّس به المكلّف فعلاً هو نفس ذلك العدم ، ويكون الأمر إخراجاً له منه إخراجاً فعلياً ، لا إخراجاً شأنياً.

نعم ، في الصورة الثانية لو قلنا بما عرفت من أنّ الأمر ينظر إلى ضدّ مطلوبه كنظر النهي إلى ضدّ مطلوبه ، لكان الأمر فيها قبيحاً وكان النهي فيها حسناً ، لكنّك قد عرفت أنّ هذه الصورة لا أهميّة لها لندرة وقوعها ، فإنّ فرضها إنّما يتمّ في عكس الصورة الأُولى ، بأن كان الترك غير مقدور بحسب العادة ، ويكون الفعل في هذه الصورة مثل الترك في الصورة الأُولى في كونه وارداً على المكلّف ، اختاره أو لم يختره ، ولا يخلص منه إلاّبأن يختار الترك ويزيل العقبات الحائلة بينه وبين الترك التي أوجبت عدم تمكّنه منه عادة ، فلا تنطبق على مثل الإنفاق على الولد الصغير العزيز ، فإنّ هذا المثال ونحوه لا يدخل في الصورة المزبورة ، بل هو

ص: 556

داخل فيما يفعله المكلّف بداع نفساني ، فيكون هذا المثال في باب الأوامر نظير ترك ستر العورة من الشريف في باب النواهي.

ثمّ لو تصوّرنا مثالاً للصورة المفروضة ، لأمكننا أن نقول بقبح الأمر فيها لا من [ جهة ] كون الأمر له نظر إلى مخالفته كالنهي من حيث تضمّنه المنع والزجر ، بل من جهة أنّ نفس البعث إلى ما يكون تركه غير مقدور عادة يكون قبيحاً ، وإن قلنا بحسن الأمر فيما يفعله المكلّف من قبل نفسه ، والفارق هو أنّ ما يفعله من قبل نفسه يمكنه تركه فيصحّ الأمر به ، بخلاف ما لا يمكنه تركه عادة ، فتأمّل.

لا يقال : قد اعترفتم بأنّه لابدّ في حسن النهي من كون ضدّ المطلوب به ممكناً عادة ، ولازم ذلك عدم صحّة الأمر بالشرب من تلك الآنية ، لأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن تركه أو لازمه الذاتي ، والنهي المتعلّق بالترك يستدعي إمكان ضدّ متعلّقه إمكاناً عادياً ، والمفروض أنّ النهي المتعلّق بترك الشرب أعني قوله : لا تترك الشرب من تلك الآنية ، لا يكون ضدّه إلاّ الشرب نفسه ، المفروض كونه غير ممكن عادة.

لأنّا نقول : إنّ النهي عن الترك الذي هو لازم الأمر بالشيء أو عينه ، لا يزيد على نفس الأمر في مقتضياته ، لأنّه عينه أو هو منتزع منه ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث : أنّ التكاليف التحريمية بالنسبة إلى ما هو المطلوب فيها الذي هو الترك لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية عليه ، لكن بالنسبة إلى ضدّ ذلك المطلوب أعني نفس الفعل لابدّ من القدرة العادية ، فالقدرة بالنسبة إلى موافقة التحريم يكفي فيها القدرة العقلية ، وبالنسبة إلى الطرف المخالف لابدّ من القدرة العادية.

وهذا بخلاف الأوامر فإنّها لا يعتبر فيها أزيد من القدرة على موافقتها قدرة

ص: 557

عقلية ، ولا يعتبر فيها القدرة العادية على مخالفتها. ولو سلّمنا أنّها كالنواهي يعتبر فيها القدرة العادية على مخالفتها ، لم يكن ذلك بضائر في حسنها فيما لو كان المطلوب وهو الفعل غير مقدور عادة ، مع فرض كونه مقدوراً عقلاً كما في الصورة الأُولى التي يقبح فيها النهي ، لأنّ المخالفة أعني عدم الاتيان بالفعل في تلك الصورة تكون مقدورة عادية ، بل أزيد من القدرة العادية لحصول العدم بنفسه. نعم في الصورة الثانية يكون الأمر قبيحاً كالنهي في الصورة الأُولى ، لعدم القدرة العادية على مخالفته ، وإن كانت موافقته مقدورة عقلاً بل عادة ، بل أزيد من القدرة العادية ، لحصول الفعل بنفسه للمكلّف ، لكن حيث كانت مخالفته غير مقدورة عادية ، فبناءً على اعتبار القدرة العادية على المخالفة في حسن الأمر ، يكون الأمر المذكور قبيحاً في الصورة المزبورة ، لعدم القدرة العادية على مخالفته ، فتكون الصورتان حينئذ متعاكستين في الحسن والقبح بالنسبة إلى الأمر والنهي ، فالنهي في الصورة الأُولى يكون قبيحاً مع كون الأمر حسناً ، وفي الصورة الثانية يكون الحال في ذلك على العكس ، فيكون الأمر فيها قبيحاً والنهي حسناً (1)

ص: 558


1- وبالجملة : أنّ الحاصل للمكلّف إن كان هو الترك ، فالفعل إمّا أن لا يكون مقدوراً عقلاً ، وإمّا أن لا يكون مقدوراً شرعاً ، وإمّا أن لا يكون مقدوراً عادة ، وإمّا أن يكون ممّا لم تجر به العادة ، وإمّا أن يكون ممّا لا تتعلّق به إرادة المكلّف. ففي الصورة الأُولى وهي عدم القدرة عقلاً على الفعل يقبح كلّ من النهي والأمر. وفي الصورة الثانية وهي عدم القدرة الشرعية لا يكون النهي قبيحاً ، لكنّه يكون مندكّاً مع ذلك المانع الشرعي من الفعل ، ولأجل ذلك لا يؤثّر فيما لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي. ولكن يكون الأمر بذلك الفعل ممتنعاً ، ويكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي. وفي الصورة الثالثة وهي عدم القدرة العادية على الفعل يكون النهي قبيحاً ويكون الأمر حسناً لو فرض مثال لذلك. وفي الصورة الرابعة يكون حسن النهي وقبحه محلّ التأمّل السابق ، ويكون الأمر حسناً بلا إشكال. وفي الصورة الخامسة وهي عدم إرادة المكلّف للفعل يكون كلّ من النهي والأمر حسناً. ولو كان الفرض بالعكس بأن كان الحاصل للمكلّف هو الفعل ، وكان محلّ التقسيم إلى الصور الخمسة هو الترك ، ففي الصورة الأُولى يقبح كلّ من النهي والأمر. وفي الصورة الثانية لا يكون الأمر قبيحاً ، نعم يكون مندكاً مع ذلك المانع الشرعي من الترك ، ولأجل ذلك لا يؤثّر لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي ، ويكون النهي ممتنعاً لاجتماع الأمر والنهي. وفي الصورة الثالثة يكون النهي حسناً ويكون الأمر قبيحاً ، بناءً على أنّه يعتبر في متعلّق الأمر القدرة العادية على مخالفته. وفي الرابعة يكون النهي حسناً ، ويكون الأمر محلّ التأمّل السابق. وفي الخامسة يحسن كلّ من النهي والأمر. ومن ذلك كلّه تعرف أنّ لصورة كون المكلّف متلبّساً بالعدم بالقياس إلى كون الفعل غير مقدور عقلاً أو غير مقدور شرعاً أو غير مقدور عادة أو لم تجر العادة بالاقدام عليه أطواراً خمسة ، كما أنّ لصورة كون المكلّف متلبّساً بالفعل بالقياس إلى كون الترك غير مقدور عقلاً ، أو غير مقدور شرعاً الخ ، أيضاً أطواراً خمسة ، فيكون المجموع عشرة ، وبالقياس إلى كون التكليف المتوجّه في هذه الأطوار العشرة من قبيل النهي تارةً ومن قبيل الأمر أُخرى ، يكون المتحصّل عشرين مسألة ، ولو ضممت إلى ذلك كون المكلّف به معلوماً بالتفصيل ، وكونه أحد طرفي العلم الاجمالي ، لكانت المسائل المتحصّلة من ذلك أربعين مسألة ، وإن كان أغلب هذه المسائل لا أهميّة لها. والغرض إنّما هو بيان أنّ الخروج عن الابتلاء عبارة عن كون مخالفة النهي غير مقدورة عادة ، وهذا المعنى يتأتّى في الأوامر ، بأن تكون مخالفة الأمر فيه بترك الفعل المأمور به غير مقدورة عادة. قال في الكفاية [ صفحة 361 ] : الثاني : أنّه لمّا كان النهي عن الشيء إنّما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلّف نحو تركه ، لو لم يكن له داع آخر ، ولا يكاد يكون ذلك إلاّفيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلاً الخ. وقال في الهامش : كما أنّه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلّقاً لغرض المولى ممّا لا يكاد عادة أن يتركه العبد ، وأن لا يكون له داع إليه ، لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً كما لا يخفى [ منه قدس سره ].

ص: 559

وقد حرّرت عنه قدس سره في الدرس في وجه قبح النهي وحسن الأمر في الصورة الأُولى ما هذا نصّه : والحاصل : أنّ المكلّف به في التحريم لمّا كان هو الترك وعدم نقض العدم الأزلي ، ففي صورة كون الفعل متروكاً بنفسه لعدم التمكّن منه عادة ، يكون الخطاب بالنهي عنه لغواً لا أثر له ، بخلاف الايجاب فإنّه لمّا كان المكلّف به هو الايجاد ففي صورة عدم التمكّن عادة من الفعل الواجب لا يكون الخطاب بايجابه لغواً ، بل يكون أثره وهو إيجاد الكلفة على المكلّف أشدّ وأقوى من الايجاب المتعلّق بالفعل الممكن عادة ، فلا يكون مشروطاً بالتمكّن العادي من الفعل كما يكون التحريم مشروطاً بذلك ، انتهى.

ومنه يظهر جريان عين هذا التوجيه في الصورة الثانية ، لكنّه على العكس من الصورة الأُولى. ولكن هذا الوجه منقوض في الصورة الأُولى بما لو كان المكلّف تاركاً للفعل من نفسه وإن كان فعله ممكناً له عادة ، وكذا في الصورة الثانية بما لو كان المكلّف يأتي بالفعل من قبل نفسه وإن كان تركه ممكناً له عادة ، فإنّه يلزم كون كلّ من النهي في الصورة الأُولى والأمر في الصورة الثانية قبيحاً ولغواً.

وقد أجبنا هناك عن هذا النقض بأنّه يكفي في حسن النهي - فيما لو كان المكلّف تاركاً للفعل لعدم الداعي أو لوجود الصارف عنه مع فرض إمكان الفعل

ص: 560

عادة - مجرّدُ إمكان صدور الفعل عادة من المكلّف وإن لم يحصل له فعلاً الداعي إلى الاتيان به ، وهذا بخلاف ما لو كان الترك لأجل عدم إمكان الفعل عادة ، فإنّه لمّا لم يمكنه الفعل عادة لم يكن النهي عنه حسناً ، انتهى.

ومنه يعلم الوجه في الصورة الثانية على التعاكس. وحاصل ذلك أنّه في صورة عدم إمكان مخالفة التكليف إمكاناً عادياً ، يكون التكليف لغواً ، وفي صورة إمكانها عادياً لكن المكلّف لا يقدم عليها لعدم الداعي له إلى فعلها أو لوجود الصارف عنها ، لا يكون التكليف لغواً ويكون متّصفاً بالحسن ، والسرّ في ذلك ما ذكرناه فيما مرّ تفصيله.

بقي الكلام فيما يكون فعله ممكناً عادة لكن لم تجر العادة بفعله ، مثل السجود على أرض السوق ونحوها من الأراضي الخسيسة التي جرت العادة على ترك السجود عليها ، كما مثّل به الأُستاذ قدس سره في الدرس وفي الوسيلة ، فهل يلحق بالفعل غير الممكن عادة في قبح النهي عنه ، أو أنّه يلحق بما يكون متروكاً للمكلّف بداعٍ نفساني في صحّة النهي وحسنه؟ اختار الشيخ قدس سره (1) الأوّل. وشيخنا الأُستاذ قدس سره خالفه وألحقه بالثاني عند تحرير هذه المسألة في الدرس ، لكن بعد الفراغ من المسألة والدخول في مسألة الاضطرار استدرك جملة من مباحث الخروج عن الابتلاء ، ومن جملتها هذه المسألة ، وأفاد أنّ الحقّ هو ما اختاره الشيخ ، وأنّ مثل ذلك لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي يوجب عدم تنجّزه ، وأنّه يجوز ارتكاب طرفه كما صرّح بذلك في الوسيلة ، وهذه عبارته فيها :

السابعة : لو علم بوقوع نجاسة إمّا في الماء أو على أرض لا يتّفق السجود عليها والتيمّم بها عادة ، ولكن لا لمجرّد الغنى عنها ، بل لكونها من الأراضي

ص: 561


1- فرائد الأُصول 2 : 234 - 238.

الخسيسة التي يتنزّه عنها في السجود والتيمّم بحسب العادة ونحو ذلك ، ففي وجوب التجنّب عن الماء أو جواز التطهّر به وشربه وجهان ، أقواها الثاني (1).

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بالإلحاق فإنّما نقول به في مورد كون الفعل غير العادي منهياً عنه ، الذي هو قرين الصورة الأُولى من الصورتين السابقتين ، أمّا في صورة كونه مأموراً به الذي هو قرين الصورة الثانية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم إلحاقه بها ، إذ لا إشكال في حسن الأمر بالفعل الذي جرت العادة به وكان تركه غير عادي. وبالجملة : أنّ محلّ الكلام إنّما هو في إلحاق الفعل الذي لم تجر به العادة وكان ممكناً عادياً ، بالفعل الذي لم يكن ممكناً عادياً في قبح النهي المتعلّق به.

والإنصاف : أنّ هذا الالحاق محتاج إلى التأمّل ، خصوصاً بناءً على ما ذكرناه في وجه سقوط النهي في ذلك من عدم تحقّق المنع والزجر ، لإمكان القول بتحقّقه هنا كما يتحقّق في من لا داعي له إلى الفعل ، فإنّا لو التزمنا بالحاق السجود على مثل الأرض المذكورة ممّا لم تجر العادة بالسجود عليه ، أو جرت على عدمه مع فرض كونه ممكناً عادة ، بما يكون غير مقدور عادة ، لكان مقتضاه أنّه لو سجد عليها مع فرض العلم بنجاستها ومع فرض حرمة السجود على النجس ، لم يكن قد فعل حراماً ، وهذا ممّا لا يقبله الذوق.

وليس ذلك من قبيل ما لو تحمّل المشاق وطوى المقدّمات البعيدة ، وحصل على ما لم يكن مقدوراً له عادة ، فإنّه وإن صار حراماً عليه حينئذ لكونه بعد طي تلك المقدّمات مقدوراً عادة فيكون حراماً ، لكن بعد طيّ تلك المسافات ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه لا مشقّة في مقدّماته ، بل لا مقدّمة له أصلاً ، ولم يكن في البين إلاّمجرّد عدم جريان العادة بالسجود على تلك الأرض ، فلو

ص: 562


1- وسيلة النجاة : كز [ لا يخفى أنّه قدس سره رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

خالف العادة وارتكب السجود لا يمكننا القول بأنّه لم يفعل حراماً ، كما أنّه لا يمكننا القول بأنّه قبل الإقدام على السجود ليس السجود حراماً لكنّه يكون حراماً بالاقدام عليه ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّه حرام ومنهي عنه قبل الإقدام عليه.

لا يقال : في صورة عدم التمكّن العادي وقبل طي المسافات ماذا يكون حكم الشرب من تلك الآنية بالنسبة إلى ذلك الشخص.

لأنّا نقول : يلتزم بأنّها لا حكم لها حتّى الاباحة وإن كانت مشتملة على ملاك التحريم ، وهي في ذلك مثل الفعل الواجب في حدّ نفسه لو كان غير مقدور عقلاً بالنسبة إلى بعض الأشخاص في كونه مشتملاً على ملاك الوجوب ، وإن لم يكن واجباً على الشخص.

لا يقال : إنّه وإن لم يكن واجباً عليه إلاّ أنّه محكوم فعلاً بجواز الترك ، فمقتضى المقابلة أن يكون الشرب من تلك الآنية محكوماً بالجواز.

لأنّا نقول : إنّ ذلك الفعل غير المقدور ليس محكوماً شرعاً بجواز الترك كي يتوجّه ما ذكرته من المقابلة ، بل أقصى ما في البين هو أنّ الشارع لم يحكم بوجوبه ، غايته أنّ العقل يسوّغ تركه ، بل هو حاصل قهري ، لا أنّه محكوم بالجواز شرعاً ، فليكن ترك الشرب من تلك الآنية من هذا القبيل.

لا يقال : إنّا نرى قبح الحكم على الشرب من تلك الآنية بالاباحة حتّى فيما لو فرض خلوّها من ملاك التحريم ، وهذا يكشف عن كون الوجه في قبح النهي عن الشرب منها لأنّها معدودة في نظر العقلاء في عداد المعدوم ، ولو كان الوجه في قبح النهي هو ما ذكرتموه من عدم صدق المنع ، لكان منحصراً فيه ، فلِمَ يكون الحكم عليها بالاباحة قبيحاً.

لأنّا نقول : إنّ الاباحة يتأتّى فيها ما ذكرناه في وجه قبح النهي ، فإنّها إباحة

ص: 563

كلّ من الفعل والترك ، فلابدّ أن يكون الفعل ميسوراً ممكناً للمكلّف ، فتأمّل. ولو كان الوجه هو ما تقدّم من عدّها في عداد المعدومات ، لكان متحقّقاً في الأمر بالشرب منها ، فإنّه لا يصحّ الأمر بالشرب من الآنية المعدومة (1) ، هذا غاية ما أمكنني تحريره في هذا المبحث من أوّله إلى آخره ، ولكن النفس بعد هذا كلّه غير راضية بالاقتناع بشيء من هذه التوجيهات لسقوط النهي والتحريم في مسألة الخروج عن الابتلاء ، واللّه المستعان وعليه التكلان.

قوله - في الحاشية على التأمّل الذي ذكره في الأصل - : وجهه أنّه يلزم على هذا وجوب الاجتناب عن أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بناءً على كون الشكّ في القدرة ، سواء ذلك في القدرة العقلية أو العادية من قبيل الشكّ في المسقط ، وأنّه يلزم الاحتياط فيما لو علم بملاك التكليف وحصل الشكّ في القدرة المعتبرة فيه عادية كانت أو عقلية ، لا يمكن أن ينقض بصورة العلم الاجمالي المردّد بين ما هو داخل تحت القدرة وما هو خارج عنها ، لأنّ العلم الاجمالي حينئذ يكون خارجاً عن الشكّ في المسقط ، بل يكون

ص: 564


1- تنبيه : لو كان التلف أو الخروج عن الابتلاء حاصلاً قبل العلم الاجمالي ، فلا إشكال في عدم منجّزية العلم الاجمالي الحاصل بعد التلف أو الخروج عن الابتلاء ، لكن هل يجري استصحاب التكليف المردّد بين الساقط والباقي. ونظيره في الواجبات ما لو صلّى الظهر مثلاً ثمّ علم إجمالاً بوجوب الجمعة أو الظهر ، تعرّضنا لذلك في مباحث الاستصحاب في التنبيه الثالث في حاشية ص 153 [ في المجلّد التاسع من هذا الكتاب صفحة : 308 وما بعدها ] ، وتعرّض له الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته ص 148 و 149 فراجع [ مقالات الأُصول 2 :382- 384 ، منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 4 ( الهامش 1 ) : 57.

من قبيل الدوران بين الملاك الساقط والملاك الباقي ، ومن الواضح أنّه لا يلزم الاحتياط فيه ، لأنّه نظير العلم الاجمالي المردّد بين تكليفين قد سقط أحدهما قبل العلم الاجمالي ، كما في صور تحقّق العلم الاجمالي بعد تحقّق ما يسقط التكليف في أحد الطرفين ، مثل ما لو صلّى الظهر يوم الجمعة وعلم بعد الفراغ منها بأنّ الواجب عليه إمّا الظهر أو الجمعة ، ومثل ما لو طهّر أحد الاناءين معيّناً بأن ألقاه في الماء الكثير ثمّ علم بأنّ أحدهما قد تنجّس قبل إلقاء هذا الطرف في الماء الكثير.

وهذا بخلاف ما لو علم تفصيلاً بملاك التكليف ، بأن علم بأنّ هذا الاناء قد تنجّس ، أو أنّ هذه المرأة حرام عليه ، ولكنّه شكّ في القدرة العادية على ارتكابه ، أو علم بأنّ زيداً عالم ولكنّه شكّ في قدرته على إكرامه ، ونحو ذلك ممّا يكون مورد الملاك أو التكليف معلوماً تفصيلاً ، ويكون منشأ الوقفة فيه هو الشكّ في قدرته عليه عادة بخروجه عن ابتلائه كما في مورد النهي ، أو شكّ في القدرة عليه عقلاً كما في مورد الأمر ، فإنّه بناءً على كون الشكّ في القدرة من قبيل الشكّ في المسقط يكون من قبيل ما لو علم بالتكليف وشكّ في مسقطه ، ومن الواضح أنّ وجوب الاحتياط في صورة الشكّ في سقوط التكليف لا دخل له بمسألة دوران الأمر بين تكليف ساقط وتكليف آخر غير ساقط ، فلا يصحّ جعله نقضاً عليه.

وبناءً على ذلك - أعني وجوب الاحتياط في مسألة الشكّ في القدرة مع العلم التفصيلي بالملاك - لا ينبغي الريب في لزوم الاحتياط فيما لو دار الأمر في العلم الاجمالي بين الطرف المقدور والطرف الآخر المشكوك القدرة ، أعني به المشكوك خروجه عن الابتلاء ، لدوران الأمر حينئذ بين ملاك يلزم مراعاته قطعاً لو كان هو الواقع ، وملاك آخر يلزم الاحتياط في مراعاته ، فهو نظير ما لو علم بوجوب أحد الأمرين من الظهر أو الجمعة ، لكن على تقدير كونه الجمعة فهي

ص: 565

بعد غير ساقطة قطعاً ، وعلى تقدير كونه الظهر فهو يشكّ في أنّها قد سقطت عنه.

قوله في الحاشية المذكورة : والسرّ في ذلك : هو أنّ مجرّد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل بوجوب رعايته ما لم يكن تامّاً في الملاكية ، ولم يعلم أنّ الملاك في الخارج عن مورد الابتلاء يكون تامّاً في ملاكيته ... الخ (1).

كأنّه يشير بذلك إلى وجه عدوله قدس سره عن هذا التوجيه. وصرّح السيّد سلّمه اللّه بذلك في تحريراته عنه قدس سره بقوله : كما أنّه ظهر منه فساد ما بنينا عليه في الدورة السابقة ، من كون تنجيز العلم الاجمالي في موارد الشبهة لأجل وجود الملاك الملزم في البين ، واستقلال العقل بلزوم تحصيله ما لم يجزم بالعجز ، كما في موارد الشكّ في القدرة المعتبرة في التكليف عقلاً ، فإنّك قد عرفت أنّ القدرة على المخالفة عقلية وعادية لابدّ وأن يكون لها دخل في ملاك النهي والزجر ، فمع الشكّ فيها يكون الملاك كالخطاب مشكوكاً فيه لا محالة الخ (2).

وليس مراده من المدخلية في الملاك هو توقّف المفسدة أو المصلحة عليها ، فإنّ ذلك خلاف مسلكه في شرطية القدرة ، بل المراد هو مدخلية ذلك في تأثير الملاك في البعث والزجر ، كما يشير إلى ذلك ما أفاده عنه قدس سره في ص 253 (3) فراجعه ، وراجع ما أُفيد عنه قدس سره في توجيه التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً (4) وتأمّل.

ص: 566


1- فوائد الأُصول 4 ( الهامش 1 ) : 57.
2- أجود التقريرات 3 : 437 - 438.
3- أجود التقريرات 3 : 435.
4- أجود التقريرات 2 : 342 وما بعدها.

ويمكن أن يقال : إنّ المتحصّل من ذلك هو أنّ عدم القدرة إنّما يكون من قبيل المسقط ليكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المسقط إذا كان حاصلاً بعد تحقّق الملاك أو التكليف بحيث يكون المسقط حادثاً بعد طروّ الملاك أو بعد توجّه التكليف ، كان من قبيل الشكّ في المسقط ولزم الاحتياط.

أمّا لو كان الشكّ فيه من قبيل الشكّ في حدوثه قبل تحقّق الملاك أو التكليف ، بحيث كان ذلك الذي يحتمل أنّه مسقط حادثاً وموجوداً قبل طرو الملاك أو قبل توجّه التكليف كما فيما نحن فيه ، حيث إنّ تلك المرتبة من الخروج عن الابتلاء كانت موجودة قبل توجّه التكليف أو قبل الابتلاء بملاكه ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، لأنّه يكون من قبيل الشكّ في أصل توجّه التكليف لا من قبيل الشكّ في سقوطه ، لأنّ عدم القدرة على تقديرها تكون مقارنة لذلك التكليف بل سابقة عليه ، فلا يكون علمه بالملاك أو بالتكليف مع فرض الشكّ في قدرته عليه علماً بشيء ملزم له شرعاً أو عقلاً ، لما صدّر به البحث من أنّ الملاك المفروض عدم القدرة على استيفائه غير ملزم عقلاً ، كالتكليف الشرعي في مورد عدم القدرة على امتثاله. نعم لو كان من قبيل الشكّ في ارتفاع القدرة بعد أن تحقّق الملاك أو التكليف ، كان اللازم هو الاحتياط ، لأنّه من قبيل الشكّ في المسقط. وجميع موارد الشكّ في القدرة من قبيل الأوّل ، أعني من قبيل ما يكون عدم القدرة على تقديره سابقاً على طروّ الملاك أو التكليف.

وأمّا ما أُفيد من وجوب الفحص فليس ذلك من جهة لزوم الاحتياط في الشكّ في القدرة حتّى بعد الفحص وبقاء الشكّ ، وإلاّ لم يكن الفحص لازماً ، بل كان اللازم هو الاحتياط من أوّل الأمر ، بل إنّ لزوم الفحص دليل على أنّ الاحتياط بعد الفحص وعدم ارتفاع الشكّ غير لازم ، فلابدّ أن يكون لزوم الفحص عن

ص: 567

القدرة على تقدير القول به ناشئاً عن ملاك آخر غير لزوم الاحتياط ، ولو من جهة أنّ العقلاء لا يرون الشاكّ في القدرة قبل الفحص معذوراً ، ونحو ذلك من الدعاوي التي تحتاج إلى إثبات ، فيكون وجوب الفحص عن القدرة نظير وجوب الفحص عن الدليل في أنّه بعد الفحص وبقاء الشكّ يكون المرجع هو البراءة.

وعلى أيّ حال ، فلا يمكن أن يكون حكمهم بلزوم الفحص دليلاً على لزوم الاحتياط في موارد الشكّ في القدرة حتّى لو تفحّص وبقي الشكّ بحاله ، الذي هو المدّعى في هذا المقام.

وأمّا ما أُفيد في الأصل من أنّ للعقل حكماً طريقياً في موارد الشكّ على طبق ما استقلّ به ... الخ (1).

ومثاله باب الضرر ، فإنّه كما يحكم العقل بلزوم دفعه حكماً نفسياً ، فكذلك يحكم بلزوم دفع المحتمل منه حكماً طريقياً ، ولكن أين هذا ممّا نحن فيه ، فإنّ ذلك الحكم الطريقي إنّما هو عند احتمال وجود الضرر المؤثّر ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل احتمال وجود الملاك المؤثّر ، وإنّما هو من قبيل احتمال تأثير الملاك لأجل احتمال عدم القدرة عليه ، فيكون ما نحن فيه من قبيل الضرر الموجود الذي يحتمل أنّه لا يؤثّر في لزوم الدفع ، لأجل جهة توجب عدم لزومه ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بلزوم دفعه لا نفسياً ولا طريقياً.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قسنا ملاكات الأحكام بالموارد التي يستقلّ العقل بلزومها ، لانسدّ علينا باب البراءة العقلية ، لأنّ العقل يحكم حكماً طريقياً في موارد الشكّ على طبق ما استقلّ به ، فلو كانت ملاكات الأحكام من الأحكام التي يستقلّ العقل بلزوم موافقتها ، لكان احتمال الحكم الشرعي موجباً لاحتمال

ص: 568


1- فوائد الأُصول 4 : 55.

الملاك المؤثّر ، وهو مورد للحكم العقلي الطريقي. اللّهمّ إلاّ أن يلتزم بعدم البراءة العقلية في ذلك ، ويستند إلى البراءة الشرعية ، إلاّ أنّ هذا بحث تقدّم الكلام فيه مفصّلاً عند الاستدلال على لزوم الاحتياط بقاعدة دفع الضرر المحتمل (1) ، وتقدّم إسقاط هذا الاستدلال بما لا مزيد عليه ، وما أدري كيف عاد هنا بنفسه لكن بشكل آخر ، فتأمّل.

لا يقال : ليس مراده أنّ العقل يلزم بالملاك مع قطع النظر عن الحكم الشرعي على طبقه ، لكي يرجع إلى قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى المفسدة ، بل المراد أنّ العقل إنّما يلزم بالملاك إذا حكم الشارع على طبقه ، كما قال : والعقل يستقلّ بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه ، غايته أنّه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها ، العقل لا يلزم برعاية الملاك ، للعلم بأنّه ليس للمولى حكم على طبقه ، وأمّا مع الشكّ في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال ، تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في جميع المستقلاّت العقلية الخ (2).

لأنّا نقول : إذا كان حكم العقل بلزوم تحصيل الملاك مقيّداً بحكم المولى على طبقه ، كان ذلك عبارة عن حكمه بلزوم الاطاعة ، ومن الواضح أنّها ليست من الأحكام العقلية التي يكون العقل حاكماً بلزوم رعايتها عند الشكّ حكماً طريقياً.

ثمّ إنّه قد علّق في هذه العبارة سقوط الالزام على العلم بعدم القدرة بكلا قسميها ، مع أنّه لو سقطت القدرة العادية وبقيت القدرة العقلية كما في موارد

ص: 569


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى ما تقدّم في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : 512 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 55.

الخروج عن الابتلاء ، لم يكن ذلك موجباً للالزام.

قوله : يكون حاله حال سائر موارد العلم الاجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ... الخ (1).

الأولى تبديله بوجوب الموافقة القطعية ، لأنّ ارتكاب هذا الطرف الذي هو داخل في الابتلاء لو ارتكبه المكلّف ، لا يلزمه المخالفة القطعية ، وإنّما يلزمه عدم حصول الموافقة القطعية.

قوله : الوجه الثاني : هو ما أفاده الشيخ قدس سره (2) من التمسّك باطلاقات أدلّة المحرّمات ... الخ (3).

لا يخفى أنّ التمسّك بالاطلاق لو تمّ فهو غير نافع في المحرّمات التي يكون دليل تحريمها لبّياً ، فلا يمكننا إطلاق القول بأنّ كلّ ما شكّ في خروجه عن الابتلاء من أطراف العلم الاجمالي لا يكون ذلك الشكّ فيه موجباً لخروج العلم الاجمالي عن التنجيز ، فتأمّل.

قوله : قلت أوّلاً : يمكننا منع كون المخصّص في المقام من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء (4).

لا يخفى أنّ هذا البحث حيث إنّه يتأتّى في شرطية القدرة العقلية في متعلّق التكاليف ، أعني به الترك في المحرّمات والفعل في الواجبات ، فالإنصاف أنّ منع كون شرطية القدرة المذكورة في ذلك من قبيل الضروريات الواضحة الملحقة

ص: 570


1- فوائد الأُصول 4 : 56.
2- فرائد الأُصول 2 : 237 - 238.
3- فوائد الأُصول 4 : 57.
4- فوائد الأُصول 4 : 59.

بالتخصيص المتّصل ممنوع أشدّ المنع ، خصوصاً بناءً على ما وجّهنا به اشتراط القدرة العقلية بما تقدّم (1) ذكره من استحالة وقوع الطلب في سلسلة إرادة العبد التي لا ينبغي أن يخالف فيها أحد حتّى الأشاعرة الذين لا يلتزمون بالعدل ، ويسوّغون عليه تعالى التكليف بغير المقدور ، إذ الإشكال حينئذ لا يكون من ناحية كونه ظلماً ، بل من جهة ما عرفت من استحالة وقوع الطلب في سلسلة إرادة العبد الذي هو الغرض من جعل الطلب ، فإنّهم وإن لم يلتزموا في أفعاله تعالى بالحسن العقلي ، إلاّ أنّهم لا يمكنهم أن يقولوا إنّ أفعاله بلا غرض ، وقد عرفت أنّ الغرض من جعل التكليف هو إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد ، ومع فرض كون العبد غير قادر عقلاً على المطلوب ، يتخلّف الغرض المذكور الذي هو الداعي والباعث على جعل الطلب ، هذا بالنسبة إلى القدرة العقلية.

وأمّا بالنسبة إلى القدرة العادية على الفعل المعتبرة في حسن النهي عنه ، فيشكل المنع عن كون اشتراطها فيه من قبيل الضروريات الواضحة ، خصوصاً بناءً على ما وجّهناه به من عدم تحقّق معنى المنع والزجر ، أو كون ما لا يقدر عليه عادة ملحقاً بالمعدوم.

وبالجملة : أنّ الظاهر أنّه لا إشكال في استهجان التكليف في كلّ من مورد عدم التمكّن عادة وعدم التمكّن عقلاً ، وأنّ ذلك كلّه من قبيل الاستهجان الضروري الملحق بالتقييد بالمتّصل ، وأنّ ما احتيج إلى إقامة البرهان عليه هو الوجه في ذلك الاستهجان ، ولا ريب في أنّ توجيه الفطري الضروري بوجه نظري لا يخرجه عن كونه ضرورياً.

ص: 571


1- في الصفحة : 550.

قوله : وثانياً : أنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العام إنّما هو ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بعد تسليم كون التخصيص العقلي فيما نحن فيه ملحقاً بالتخصيص اللفظي المتّصل ، ينبغي الالتزام بسقوطه عن الظهور والحجّية في موارد الشكّ في الأقل والأكثر ، ولا وجه للتفصيل في العنوان الخارج المردّد بين الأقل والأكثر بين كونه من قبيل ذي المراتب وعدم كونه من هذا القبيل ، فإنّ اتّصال المخصّص المردّد بين الأقل والأكثر وإن كان من ذي المراتب ، لمّا كان موجباً لإجمال الخاصّ ، فلا محيص من كونه موجباً [ لإجمال ] لما اتّصل به من العام. ودعوى كون الشكّ في ذلك من قبيل الشكّ في التخصيص ممنوعة أشدّ المنع ، وإلاّ لصحّ أن يقال ذلك في المردّد بين الأقل والأكثر من غير ذي المراتب.

وبالجملة : بعد فرض كون المقام ملحقاً بالمخصّص اللفظي المتّصل ، لا وجه للفرق بين مثل أكرم العالم إلاّ الفاسق ، ومثل ائتني بالإنسان الأبيض أو الإنسان إلاّ الأبيض ، فكما يكون التقييد أو التخصيص بالفاسق موجباً لإجمال العام ، لتردّده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب حتّى الصغيرة ، فكذلك التقييد أوالتخصيص بالأبيض يكون موجباً لاجمال العام لتردّده بين خصوص صاحب المرتبة الشديدة من البياض ، أو مطلق الأبيض ولو صاحب المرتبة الضعيفة منه.

والحاصل : أنّه بعد فرض كون المقام من قبيل التخصيص اللفظي المتّصل وبعد فرض كون الخارج عنواناً خاصّاً ، أنّ ذلك العنوان الخاصّ لو كان مردّداً بين الأقل والأكثر كان موجباً لإجمال العام. نعم لو قلنا بأنّ هذا الحكم العقلي فيما

ص: 572


1- فوائد الأُصول 4 : 60.

نحن فيه لا يكون موجباً لتعنون العام ، وإنّما هو من قبيل استكشاف الملاك كما حرّره في التقريرات المطبوعة في صيدا (1) ، لكان غير موجب لإجمال العام ، وكان غير مانع من التمسّك به في موارد الشكّ حتّى لو قلنا بأنّه من قبيل الضروريات الواضحة ، سواء كانت الشبهة مصداقية أو كانت مفهومية كما فيما نحن فيه.

وهذا التفصيل في الأحكام العقلية - أعني به التفصيل بين كون الحكم العقلي موجباً لتعنون العام وكونه من قبيل استكشاف الملاك - هو الذي أفاده الأُستاذ قدس سره في باب العموم والخصوص (2) ، وقد بنى عليه جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً.

أمّا التفصيل الموجود هنا بين الأقل والأكثر ذي المراتب والأقل والأكثر غير ذي [ المراتب ] بعد فرض كون المخصّص العقلي موجباً لتعنون العام ، كما هو الظاهر من قوله : إنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العام إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقل والأكثر الخ (3) بضميمة قوله : وأمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة الخ (4).

فإنّ الظاهر من هاتين الجملتين ، هو الاعتراف بكون الحكم العقلي فيما نحن فيه من قبيل الحكم على العنوان لا من قبيل استكشاف الملاك ، ومع ذلك يريد أن يفصّل فيه بين الأقل والأكثر ذي المراتب والأقل والأكثر من غير ذي المراتب ، هذا.

وأمّا التفصيل الذي أشرنا إليه - وهو ما حرّره في التقريرات المطبوعة في

ص: 573


1- أجود التقريرات 3 : 433 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 342 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 4 : 60.
4- فوائد الأُصول 4 : 60.

صيدا - ففيه أوّلاً : ما حرّرناه في باب العموم والخصوص (1) من منع تصرّف العقول البشرية في ملاكات الأحكام. وثانياً : أنّا لو سلّمنا إمكان ذلك ، فالظاهر أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما شرحناه غير مرّة في هذا المبحث (2) من عدم مدخلية القدرة العقلية في ملاكات الأحكام الشرعية فضلاً عن القدرة العادية ، إلاّ أن يكون المراد هو المدخلية في تأثيرها في إصدار الردع والزجر لا في أصل الملاك ، فراجعه وتأمّل.

وأمّا ما أفاده في التقرير المشار إليه بقوله : وحيث إنّ إحراز كون مورد ممّا يحسن فيه التكليف أو لا ليس ممّا يصحّ إيكاله إلى المكلّف الخ (3) ، فلا يخفى ما فيه ، فإنّ جهات حسن التكليف مختلفة ، فبعضها راجع إلى الملاكات التي لا تنالها العقول البشرية ، وبعضها راجع إلى الطوارئ والعوارض الطارئة على المكلّفين الموجبة لاختلاف التكليف باختلافها ، وذلك مثل القدرة العقلية والقدرة العادية ، والتي لا يصحّ إيكالها إلى المكلّف إنّما هو القسم الأوّل دون الثاني.

قوله : قلت هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنّ إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان الاطلاق النفس الأمري ، وصحّة تشريع الحكم على وجه يعمّ المشكوك فيه ... الخ (4).

لا يخفى أنّه لو كان من يدّعي سقوط الاطلاق يستند إلى الشكّ في صحّة

ص: 574


1- راجع حاشيته قدس سره في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 223 ومابعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 566.
3- أجود التقريرات 3 : 434 - 435.
4- فوائد الأُصول 4 : 61.

المنكشف أعني الحكم النفس الأمري ، لتوجّه عليه ما أُفيد من أنّ إطلاق الكاشف يكشف عن إمكان الاطلاق في المنكشف ، أعني الحكم الواقعي المجعول في نفس الأمر والواقع ، أمّا لو استند المدّعي المذكور إلى الشكّ في صحّة الكاشف ، لما ذكرناه من عدم صدق المنع بالنسبة إلى من لا يتمكّن من الفعل عادة ، لكان سقوط الاطلاق في مقام الشكّ من أوضح الواضحات. وهذا هو الحجر الأساسي في عدم إمكان التمسّك بالاطلاق في هذا المقام.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في صحّة المنكشف - أعني الحكم الواقعي النفس الأمري - من جهة الشكّ في حسنه وعدم استهجانه لدى العقلاء ، وهذه الجهة من الشكّ ليست براجعة إلى الشارع كي يستدلّ على نفي الاستهجان فيها باطلاق الكاشف ، بل هي راجعة إلى أمر آخر وهو إمكان الابتلاء به وعدمه ، وهذا الأمر ليس براجع إلى الشارع بناءً على ما تقدّم (1) في توجيه خروج ما هو خارج عن الابتلاء عن مفاد النهي ، والسرّ في ذلك هو أنّه بناءً على ذلك الوجه يكون خروج ما لم يتمكّن فيه عادة من الفعل عن أدلّة التحريم ملحقاً بالخروج التخصّصي ، بل هو هو بعينه. نعم خروج ما هو غير مقدور عقلاً على تركه في المحرّمات وعلى فعله في الواجبات لعلّه من باب التخصيص والخروج الحكمي ، وإن أمكن فيه أيضاً القول بأنّه من قبيل التخصّص والخروج الموضوعي ، لكن لو قلنا بأنّه من قبيل التخصيص والخروج الحكمي ، فلو كانت الشبهة مفهومية لا مانع من التمسّك باطلاق الأدلّة اللفظية بناءً على كون حكم العقل بخروج غير المقدور من قبيل الأحكام النظرية ، لكن الشبهة هناك غالباً مصداقية ، فلا يكون التمسّك بالاطلاق فيها ممكناً أيضاً على ما حرّرناه فيما تقدّم.

ص: 575


1- في الصفحة : 554 وما بعدها.

أمّا القدرة العادية بالنسبة إلى فعل المحرّمات فالاطلاق فيها ساقط بالمرّة ، سواء كانت الشبهة حكمية مفهومية كما هو الغالب ، أو كانت شبهة موضوعية مصداقية كما لو فرض أنّ أحد الأطراف كان مردّداً بين الخارج عن الابتلاء والداخل فيه ، مثل ما لو علم إجمالاً حرمة إحدى المرأتين المعيّنتين ، وكانت إحداهما فعلاً مجهولة الحال بين أن تكون بنت السلطان المفروض كونها خارجة عن ابتلائه ، أو تكون بنت أحد الناس العاديين ، هذا غاية ما تصوّرناه من مثال الشكّ في الابتلاء على نحو الشبهة المصداقية الذي عنونه في التقريرات المطبوعة في صيدا (1).

نعم ، لو قلنا بالحاق ما لم تجر به العادة بما لم يتمكّن منه عادة ، لكانت أمثلة الشبهة المصداقية في ذلك كثيرة ، لكن المقرّر المزبور لم يلحقه بذلك. وعلى أيّ حال ، فلو كانت الشبهة مصداقية لم يمكن التمسّك بالاطلاق فيها ، لكونها مصداقية ، ولما عرفت من عدم إحراز تحقّق المنع الذي هو المانع من التمسّك بالاطلاق في الشبهات الحكمية.

وينبغي أن يعلم أنّ المنظور إليه في « إن قلت » الثانية (2) إنّما هو صاحب الكفاية قدس سره حيث قال : ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ، ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلاّفيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الاطلاق بدونه ، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته الخ (3)

ص: 576


1- أجود التقريرات 3 : 433 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 61.
3- كفاية الأُصول : 361.

ويمكن أن يقال : إنّ مراده هو أنّه بعد فرض مرجعية شرطية الابتلاء إلى إمكان داعوية النهي المتوقّفة على إمكان توجّه إرادة العبد نحو الفعل ، كان ذلك الاشتراط راجعاً إلى اعتبار ما هو متأخّر عن نفس الخطاب ، لأنّ إمكان داعويته متأخّر رتبة عن نفس جعله ، فكما لا يصحّ أخذه قيداً من جانب الشارع لا يصحّ الاطلاق من هذه الجهة ، فلا يكون المتّبع في مثل ذلك إلاّحكم العقل بحسن الخطاب وعدمه ، فيكون حال هذا القيد حال التقييد بداعي الأمر على مسلكه في باب التعبّدي من كونه بحكم العقل لا بحكم الشرع ، كما صرّح بذلك في حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس سره : وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الاطلاقات ... الخ (1). فإنّه قدس سره قال في الحاشية على ذلك ما هذا لفظه : فيه أنّه إنّما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته ، بأن يكون من أحوال ما أُطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك. وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنّه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجّز الخطاب المتأخّر من مرتبة أصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة في مقام أصل إنشائه في دفع ما شكّ في اعتباره في تنجّزه ، فتدبّر جيّداً (2).

وما أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير في « إن قلت » الثالثة (3) وجوابها ناظر إلى هذه الجملة التي أفادها صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل ، والعمدة في المسألة هو كون الابتلاء وعدمه من الانقسامات المتأخّرة رتبة عن الخطاب الشرعي ، وشيخنا قدس سره في مقام الجواب ناظر إلى نفس الابتلاء وعدمه ، ومن

ص: 577


1- فرائد الأُصول 2 : 238.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 146.
3- فوائد الأُصول 4 : 62.

الواضح أنّه ليس من هذا القبيل ، لكن صاحب الكفاية قدس سره ناظر إلى الوجه في اشتراطه ، وهو إمكان داعوية الخطاب ، والظاهر أنّ إمكان داعوية الخطاب وعدمه من الانقسامات المتأخّرة رتبة عن نفس الخطاب ، كنفس الداعوية في مسألة التعبّدي والتوصّلي.

ولكن لازم ذلك هو تأخّر شرطية القدرة ، لأنّ برهانها هو قبح طلب ما لا يكون ، ومن الواضح أنّ تقسيم نفس الطلب إلى طلب ما يكون وطلب ما لا يكون من التقسيمات اللاحقة لنفس الطلب ، التي لا يعقل أن يكون الطلب في مقام جعله منظوراً به القدر الجامع بين طلب ما يكون وطلب ما لا يكون ، أو يكون منظوراً به هو خصوص طلب ما يكون.

ولكن الفرق بين المقامين واضح ، فإنّ القدرة تكون من أطوار المتعلّق للطلب ، لا من أطوار نفس الطلب ، ومسألة الابتلاء وإن كانت من أطوار المتعلّق أيضاً ، إلاّ أنّ إمكان داعوية الطلب مأخوذ فيها ، فتكون من الأطوار اللاحقة للمتعلّق بعد لحاظ تعلّق الطلب به ، فتكون متأخّرة عن نفس الطلب ، كتقيّد متعلّق الأمر بداعي الأمر في باب التعبّدي. وفيه تأمّل واضح ، لأنّ القيد ليس هو إمكان الداعوية ، بل إنّما هو إمكان انقداح إرادة المكلّف لإيجاد نفس [ المتعلّق ] ، ومن الواضح أنّه ليس بمتأخّر رتبة عن الطلب.

ثمّ إنّ بينهما فرقاً آخر ، وهو أنّ القدرة لا يتصوّر فيها الشبهة المفهومية ، وإنّما أقصى ما في البين هو تصوّر الشبهة المصداقية ، فلا يجوز التمسّك بالعموم فيها ، لكون الحكم العقلي بخروج غير المقدور من الواضحات الملحقة بالقرائن المتّصلة الموجبة لسقوط ظهور العموم إلاّفي المقدور.

ولو أغضينا النظر عن ذلك ، وسلّمنا كونه ممّا يحتاج إلى إعمال مؤونة

ص: 578

وتأمّل واستدلال الموجب لإلحاقه بالقرائن المنفصلة ، لم يجز التمسّك بالعموم فيها ، وإن كان المخصّص لبّياً ، لما حقّقناه في محلّه (1) من أنّ جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لبّياً منحصر بما يرجع إلى عالم الملاك ، دون ما يكون موجباً لتقييد العام وإعطاء عنوان خاصّ لموضوعه.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الجملة التي أفادها في الكفاية وفي حاشية الرسائل لو لم تتمّ ، لكان ما تقدّم من الجهة الأُولى التي تكفّلتها « إن قلت » (2) الأُولى كافية في المنع عن التمسّك بالعموم ، لكون الحكم العقلي بقبح ردع من لا يمكن عادة انقداح إرادة الفعل في نفسه من القضايا الواضحة الملحقة بالقرائن المتّصلة ، وفي مثله لا يجوز التمسّك بالعموم ، سواء كانت الشبهة مفهومية أو كانت مصداقية. ومع قطع النظر عن هذه الجهة ننقل الكلام إلى الجهة الثانية ، وهي كون الشكّ في المقام إنّما هو في حسن الخطاب وعدم استهجانه ، فلا يمكن إحرازه بنفس إطلاق الخطاب ، ولعلّ هذه الجهة هي المراد ممّا أفاده في الكفاية.

لا يقال : كيف يتصوّر الشبهة المفهومية فيما هو موضوع الحكم العقلي ، والعقل لا يشكّ في سعة موضوع حكمه وضيقه.

لأنّا نقول : ليس هذا الحكم من الأحكام العقلية الصرفة التي لا مجال للشكّ فيها ، وإنّما هو من الأحكام العقلائية التي جرى عليها العقلاء ، فإنّهم يستقبحون ويستهجنون مثل ذلك التكليف ، فهو من هذه الجهة لا يكون إلاّمن قبيل الأحكام العرفية التي هي قابلة لشكّ العرف فيها بأنفسهم ، فضلاً عن أحد المكلّفين وإن

ص: 579


1- راجع حواشي المصنّف قدس سره في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 212 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 59.

كان هو منهم.

وربما أورد على من تمسّك بالعموم في المقام بالنقض بما لو كان بعض الأطراف معلوم الخروج عن الابتلاء ، نظراً إلى أنّ النجس الواقعي المعلوم وجوده في البين يكون ممّا يشكّ في الابتلاء به ، وإن كان منشأ الشكّ هو تردّده بين الطرفين.

وهذا الإشكال نظير الإشكال على من تمسّك في المقام بأصالة الاحتياط كما تقدّم في الحاشية في هذا التحرير ص 19 (1) وقد تقدّم الجواب عنه ، وتوضيحه هنا بأن يقال : إنّ مورد العلم بكون ذلك الطرف خارجاً عن الابتلاء ، يكون من قبيل الدوران بين ما هو باقٍ وما هو خارج قطعاً ، وما نحن فيه من قبيل الدوران بين ما هو باقٍ وما يحتمل خروجه.

وربما قيل في وجه عدم التمسّك بالعام في المقام بكون المخصّص عقلياً. ولا يخفى أنّ مجرّد كون المخصّص عقلياً لا يكون موجباً لسقوط العام في مورد الشكّ ، إلاّ أن يرجع إلى ما تقدّم ، فراجع وتأمّل.

قوله : كما يستكشف من إطلاق قوله عليه السلام : « اللّهمّ العن بني أُميّة قاطبة » عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة ... الخ (2).

يمكن التفرقة بين هذا المثال ونحوه وبين ما نحن فيه ، فإنّ حكم الإجماع أو العقل بحرمة لعن المؤمن ممّا له دخل في ملاك الحكم على وجه يستفاد منه أنّ في لعن المؤمن مفسدة لا تقابلها المصلحة في لعن الأموي ، وحينئذ نقول : إنّه

ص: 580


1- فوائد الأُصول 4 ( الهامش 1 ) : 57 ، وقد تقدّم تعليق المصنّف قدس سره على ذلك في الصفحة : 564 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 4 : 62.

يستفاد من عموم اللعن لهم جميعاً أنّه ليس فيهم من هو مؤمن ، فهذا المشكوك ليس بمؤمن بمقتضى العموم المذكور.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ المانع من النهي عمّا لا ابتلاء به ليس من قبيل المصالح والمفاسد ، بل هو الاستهجان العقلي ، فمع الشكّ في كون هذا الفرد ممّا هو مورد الابتلاء ، يكون حسن الخطاب بتركه واستهجانه مشكوكاً ، فيكون حسن شمول الاطلاق له مشكوكاً ، فلا يمكن التمسّك بالاطلاق على حسنه فيه ، لأنّ تحقّق الاطلاق متوقّف على حسنه وعدم استهجانه ، وذلك متوقّف على شمول الاطلاق له ، وهو ما ذكرناه من أنّ الشكّ في الكاشف لتوقّفه على حسنه.

وأمّا لو قلنا بالمنع من صحّة الاطلاق ، لكون الانقسام إلى محلّ الابتلاء وغيره من الانقسامات المتأخّرة رتبة عن نفس الطلب ، فلا شبهة بناءً على ذلك في عدم صحّة كلّ من الاطلاق والتقييد ، ويكون ما نحن فيه أجنبياً بالمرّة عن مثل « اللّهمّ العن بني أُميّة قاطبة » وذلك واضح لا يخفى.

والخلاصة : أنّ القيد إن كان ناشئاً عن ضيق الملاك أمكن استكشاف عدم اعتباره بالاطلاق اللفظي ، لأنّ مثل ذلك يدخله التصرّف الشرعي ، ويمكن الرجوع في اعتباره وعدم اعتباره إلى الشارع ، وبعد الرجوع إلى الشارع ولو بواسطة الاطلاق اللفظي الكاشف عن مراده ، لابدّ أن يكون الملاك على طبق ذلك سعة وضيقاً ، بل إنّ ذلك جار حتّى لو أنكرنا الملاكات ، إذ لا أقل حينئذ من كون الأحكام تابعة للأغراض الشرعية. ولا فرق في ذلك بين كون ذلك القيد المشكوك على تقدير اعتباره من القيود الشرعية نظير الإيمان ، أو كونه من القيود العقلية كما في مثل عدم الإيمان في لعن بني أُميّة ، إن قلنا إنّ للعقل مسرحاً في عالم الملاكات ، وإلاّ كان الأولى أن نقول إنّ مثل هذا التقييد إنّما جاء بالدليل

ص: 581

الشرعي ولو مثل الإجماع والضرورة الشرعية.

أمّا إذا لم يكن التقييد العقلي راجعاً إلى سعة الملاك وضيقه ، بل [ كان ] ناشئاً عن حسن الخطاب وقبحه ، فذلك ممّا لا سبيل فيه للرجوع إلى الشارع في إزالة الشكّ فيه ، والشاهد على ذلك هو حكم العقل بقبح الخطاب بما لا يقدر عليه المكلّف أو بما هو خارج عن ابتلائه ولو فرض محالاً تصريح الشارع به ، وحينئذ فليس للشارع في مقام الشكّ الحكم التعبّدي بالبناء على أنّه داخل في محلّ الابتلاء بواسطة حجّية الاطلاق اللفظي ، ولا دخل لهذه المسألة بمسألة إمكان إطلاق المنكشف أو إمكان إطلاق الكاشف ، بل إنّ الاستهجان والقبح العقلي متحقّق في مقام الكاشف والمنكشف على تقدير كونه ممّا هو خارج عن الابتلاء ، وفي مقام الشكّ في ذلك يكون من قبيل الشكّ في حسن كلّ من الكاشف والمنكشف ، فتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّه ربما يقال : إنّ ما أفاده في الكفاية (1) وكذلك ما أفاده في الحاشية على الرسائل (2) كلّ منهما راجع إلى الوجه الثاني ، أعني كون ما نحن فيه من الانقسامات المتأخّرة عن الخطاب. ولكن يمكن القول بأنّ ما في الكفاية راجع إلى الوجه الأوّل ، وهو عدم صلاحية الاطلاق لرفع الشكّ في الاستهجان ، إمّا لأجل ما عرفت من لزوم الدور ، وإمّا لما أشرنا إليه سابقاً (3) من أنّ ذلك ليس من وظيفة الشارع ، فلا يتكفّله الخطاب الشرعي ، وأنّ ما هو راجع إلى الوجه الثاني هو ما أفاده في الحاشية ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 582


1- تقدّمت عبارتاهما في الصفحة : 577.
2- تقدّمت عبارتاهما في الصفحة : 577.
3- في الصفحة : 575.

قوله : وثانياً : سلّمنا أنّ الابتلاء وعدمه من الانقسامات اللاحقة للخطاب بعد وجوده ، فدعوى أنّه يكون من الشرائط الموجبة للتنجيز ممّا لا سبيل إليها ... الخ (1).

الظاهر أنّ القدرة وكذلك الابتلاء من شرائط التنجّز عند صاحب الكفاية قدس سره ، وأنّ التكليف في مورد عدم القدرة والخروج عن الابتلاء موجود ومتحقّق ملاكاً وجعلاً ، غايته أنّه قاصر عن الداعوية والتحميل على عاتق المكلّف ، فيكون حاله من هذه الجهة حال عدم قيام الحجّة على التكليف ، وحينئذ فلا تكون المناقشة معه في هذه الجهة إلاّمناقشة في أصل مبناه في كيفية مراتب الحكم.

والحاصل : أنّ صاحب الكفاية يقول في حاشيته إنّ الابتلاء من شرائط التنجّز ، وحيث لم يمكن التمسّك فيه بالاطلاق لكونه من الانقسامات المتأخّرة ، كان التنجّز مشكوكاً ، فيكون المرجع هو البراءة ، وشيخنا قدس سره يناقشه في ذلك ويقول إنّا لو سلّمنا كونه من القيود المتأخّرة فلا نقول إنّه من شرائط التنجّز ، وإنّما ذلك مختصّ بالعلم أو ما يقوم مقامه ، وحينئذ لو سلّمنا سقوط الاطلاق المذكور لم يكن ذلك موجباً لإمكان الرجوع إلى البراءة ، ولكنّك قد عرفت أنّ هذه مناقشة في المبنى ، فلاحظ وتدبّر.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّا لو قلنا بأنّ الوجه في اعتبار عدم الخروج عن الابتلاء هو كون الخارج عن الابتلاء ملحقاً عند العقلاء بالمعدوم ، كان سقوط الاطلاق واضحاً جدّاً ، لوضوح كون خروجه حينئذ من قبيل التخصّص ، ومع الشكّ في الخروج التخصّصي لا يعقل التمسّك بالعام أو المطلق.

ص: 583


1- فوائد الأُصول 4 : 63.

قوله : تكملة ، خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما يكون لعدم القدرة العادية على التصرّف فيه ، مثل ما إذا كان أحد طرفي المعلوم بالاجمال في أقصى بلاد المغرب ، كذلك يكون لعدم القدرة الشرعية عليه ، كما إذا كان أحد الاناءين المعلوم نجاسته ملكاً للغير الذي يبعد بحسب العادة ابتلاء المكلّف باستعماله ولو بالشراء من صاحبه أو استعارته أو هبته ... الخ (1).

تقدّم الكلام (2) على المانع من مخالفة التكليف التحريمي في أحد طرفي العلم الاجمالي بالحرمة ، كما لو كان لديك إناءان طاهران ، لكن الكبير منهما مغصوب ، وحدث [ العلم ] بوقوع نجاسة في أحدهما ، فإنّ هذا العلم لا يؤثّر ، لأنّه على تقدير كون النجس هو الكبير فهو محكوم بحرمة الشرب قبل وقوع هذه النجاسة ، فلا تؤثّر فيه هذه النجاسة إلاّتأكّداً لتلك الحرمة ، ولا يحتاج إلى كون شرائه من مالكه قريباً أو بعيداً ، فإنّ ذلك لا دخل له بعلّة سقوط العلم الاجمالي في ذلك ، وهي كون أحد الطرفين منجّزاً فيه التكليف قبل العلم الاجمالي ، ففعلاً لا يجب الاجتناب عن الاناء الصغير. لكن لو اتّفق ارتفاع الغصبية وكان الصغير باقياً بحاله وجب الاجتناب عنهما للعلم الاجمالي حينئذ المؤثّر على كلّ تقدير ، ولا يكون ذلك إلاّمن قبيل ما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء واتّفق أن بقي ما هو محلّ الابتلاء إلى أن صار الآخر أيضاً محلّ الابتلاء ، فإنّه يكون العلم الاجمالي منجّزاً حينئذ ، ومن ذلك يظهر لك التأمّل في كثير من عبائر هذا التكميل.

ص: 584


1- فوائد الأُصول 4 : 65.
2- راجع الصفحة : 540.

ثمّ لا يخفى أنّ السيّد سلّمه اللّه في تحريره (1) ذكر عن شيخنا الفرع المعروف ، وهو ما لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في الماء أو التراب مع انحصار الطهور بهما ، وذكر فيه وجوهاً ثلاثاً : وجوب الوضوء ، وعدم وجوب شيء عليه فيكون من فاقد الطهورين ، ووجوب الجمع بين الوضوء والتيمّم. وهذا ذكره السيّد في العروة في مباحث التيمّم (2) وذكره شيخنا قدس سره في الوسيلة (3) في ضمن المسائل العشر الراجعة إلى ضوابط العلم الاجمالي ، ونحن شرحناه مفصّلاً في شرح تلك المسائل.

والخلاصة : أنّه إذا كان أثر طهارة الماء منحصراً بالوضوء ، وأثر طهارة التراب منحصراً بالتيمّم ، بأن كانا لشخص ولم يأذن إلاّبذلك ، كانت قاعدة الطهارة في الماء حاكمة على قاعدة الطهارة في التراب وموجبة للوضوء على ذلك المكلّف ، نظير حكومة أصالة البراءة من الدين على أصالة البراءة من الحجّ عندما يكون الشخص مالكاً لمقدار يكفيه للحجّ ، ولكنّه يحتمل أنّه مديون بمقدار لا يمكنه معه القيام بمصارف الحجّ. أمّا لو أذن في الماء بكلّ من الشرب والوضوء ، وفي التراب بكلّ من السجود عليه والتيمّم ، فربما يتوهّم أنّ قاعدة الطهارة في التراب لإثبات جواز السجود معارضة لقاعدة الطهارة في الماء لإثبات جواز الشرب والوضوء فيسقطان ، وتبقى قاعدة الطهارة في التراب لإثبات جواز التيمّم به بلا معارض.

ص: 585


1- أجود التقريرات 3 : 439.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 201 / شرائط ما يتيمّم به مسألة (2).
3- وسيلة النجاة : كح / الثامنة [ لا يخفى أنّه رمز للصفحات الأُولى منها بالحروف ].

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ قاعدة الطهارة في التراب لإثبات جواز السجود معارضة لقاعدة الطهارة في الماء لإثبات جواز الوضوء ، وقاعدة الطهارة في التراب لإثبات جواز التيمّم معارضة لقاعدة الطهارة في الماء لإثبات جواز الشرب ، فتسقط الآثار الأربعة.

وإن شئت قلت : إنّ الحكم بجواز السجود على ذلك التراب معارض بالحكم على ذلك الماء بكلّ من جواز شربه والوضوء به ، كما أنّ الحكم بجواز الوضوء من ذلك الماء معارض بالحكم على ذلك التراب بكلّ من جواز السجود عليه والتيمّم.

وبالجملة : أنّ جواز التيمّم وإن كان في طول جواز الوضوء ، إلاّ أنّه في عرض جواز الشرب ، فيسقط بمعارضته له ، كما سقط جواز السجود على التراب بمعارضته لكلّ من جواز الشرب وجواز الوضوء ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب الجمع ليس وجهاً مستقلاً في قبال وجه التعارض ، بل هو نتيجة التعارض ، فإنّه بعد التساقط يبقى هو والعلم الاجمالي بأنّه إن كان الماء نجساً فالواجب عليه التيمّم ، وإن كان التراب نجساً فالواجب عليه [ الوضوء ] ، فيكون عالماً بوجوب أحدهما ، ويمكنه الجمع فيكون هو المتعيّن. ولا وجه لاحتمال كونه من فاقد الطهورين إلاّعلى تقدير كون كلّ من الوضوء بالماء النجس والتيمّم بالتراب النجس محرّماً عليه حرمة نفسية لا تشريعية.

ثمّ بعد البناء على الجمع يكون المقدّم هو التيمّم ، لأنّه لو قدّم الوضوء يحصل له العلم بأنّ التيمّم من هذا التراب غير مأمور به ، إمّا لنجاسة أعضائه وإمّا لنجاسة التراب ، ونجاسة الأعضاء وإن كانت مغتفرة في حال الضرورة ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّه لا يسوّغ له العقل إلقاء نفسه في هذه الضرورة بعد أن كان يمكنه التخلّص منها بتقديم التيمّم ، فتأمّل.

ص: 586

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

دليل الانسداد...

التعليق على المقدّمة الثانية من مقدّمات الانسداد... 3

ما حرّره عن أُستاذه قدس سرهما من كون الاحتياط طريقاً واصلاً بنفسه... 4

التعليق على المقدّمة الثالثة من مقدّمات الانسداد... 9

ذكر جهات الخلاف بين المحقّق النائيني والآخوند قدس سرهما في جريان الاستصحابات المثبتة... 9

بسط الكلام حول بطلان الاحتياط التامّ وذكر أقسام الاحتياط العقلي والشرعي... 15

استعراض عام لمباحث المقدّمة الثالثة من مقدّمات الانسداد... 31

الاستدلال بأدلّة نفي العسر والحرج على بطلان الاحتياط... 34

تحقيق الحال فيما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره من اقتضاء مقدّمات الانسداد حجّية الظنّ في خصوص المسألة الأُصولية 52

نقل كلام صاحب الكفاية في الايراد على صاحب الفصول قدس سرهما في المقام... 65

نقل كلام للمحقّق صاحب الحاشية قدس سره في المقام والتعليق عليه... 77

ص: 587

نقد ما أفاده المحقّق صاحب الحاشية في المقام... 86

توهّم اختصاص نتيجة الانسداد بالظنّ في المسألة الفرعية وتحقيق الحال فيه... 97

في أنّ مقتضى دليل الانسداد كلّية النتيجة أو إهمالها... 107

في خروج القياس عن عموم النتيجة... 108

في الظنّ المانع والممنوع... 109

أصالة البراءة...

حول مفاد قوله تعالى « لا يكلّف اللّه نفساً إلاّما آتاها »... 112

حول مفاد قوله تعالى « وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا »... 113

الكلام في حديث الرفع... 114

تحقيق معنى الرفع والدفع... 114

كون الرفع في « ما لا يعلمون » ظاهرياً وفي غيره واقعي... 119

نقد ما أفاده الشيخ قدس سره من ورود الرفع على إيجاب الاحتياط... 122

الكلام في حكومة حديث الرفع على سائر الأدلّة... 127

عموم حديث الرفع في « ما لا يعلمون » للشبهات الموضوعية والحكمية... 135

تحقيق الحال فيما هو المرفوع من الآثار والأحكام في حديث الرفع... 136

الكلام في التمسّك بحديث الرفع لتصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط نسياناً أو إكراهاً 148

الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة الأصلية... 157

التعليق على عبارات أجود التقريرات في الاستدلال ببعض الروايات على البراءة... 157

التعرّض لروايات الحل... 166

ص: 588

الكلام في أدلّة الأخباريين على الاحتياط... 174

الجواب عن استدلال الأخباريين بالسنة على الاحتياط... 175

بحث مفصّل في أصالة عدم التذكية... 185

الكلام في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية ودفع الإشكال عن كلمات المحقّق النائيني قدس سره 235

التعليق على كلام الماتن في الحكم بالاشتغال عند الشكّ في الموضوع مع كون القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول 241

جهات البحث عن الاحتياط في العبادات... 253

قاعدة التسامح في أدلّة السنن... 261

تحقيق رشيق في دوران الأمر بين التعيين والتخيير... 269

دوران الأمر بين الواجب العيني والكفائي... 320

حول ما نسب إلى المشهور من لزوم الاحتياط عند الشكّ في مقدار الفوائت... 322

أصالة التخيير...

هل تجري الأُصول الشرعية والعقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين؟... 326

الكلام في أنّ التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين بدوي أو استمراري... 343

خروج بعض الأمثلة عن دوران الأمر بين المحذورين لامكان الاحتياط فيها... 352

أصالة الاشتغال...

الكلام في دوران الأمر بين المتباينين... 355

ص: 589

ضابط الشكّ في المكلّف به... 355

توجيه كلام الشيخ قدس سره من لزوم التناقض في إجراء الأصل في أطراف العلم الاجمالي 359

إمكان إجراء الأُصول المجعولة في وادي الفراغ في بعض أطراف العلم الاجمالي... 363

فائدة : في ذكر بعض الفروع المتعلّقة بانحلال العلم الاجمالي... 366

القول بالتخيير في إجراء الأُصول المتعارضة في أطراف العلم الاجمالي... 383

نقد نظرية المحقّق العراقي قدس سره في علّية العلم الاجمالي للزوم الموافقة القطعية... 409

نقل كلمات المحقّق النائيني قدس سره فيما لو اختصّ بعض الأطراف بأصل ناف وخلت باقي الأطراف عن جميع الأُصول 419

مورد جريان الأصل النافي في أطراف العلم الاجمالي... 425

التفصيل بين الأُصول النافية في مقام الفراغ والأُصول النافية في مقام الاشتغال... 428

تنبيه : في دوران الأمر بين فوت الركن في الصلاة أو فوت غير الركن وذكر صور في المقام 431

الأقوال فيما علم بعد الصلاة بفوات سجدتين إمّا من ركعة أو ركعتين... 446

مناقشة السيّد الحكيم قدس سره في المقام... 451

إذا علم بعد الصلاة بترك الركوع أو السجدتين أو التشهّد... 454

خلاصة ما يمنع من جريان قاعدة الفراغ في غير الركن... 456

نقل كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام... 467

ص: 590

لو علم بعد الفراغ من الصلاة بترك الركوع والتشهّد أو التشهّد... 471

تأمّلات أربعة في كون وجوب قضاء غير الركن من آثار قاعدة التجاوز في الركن... 472

لو علم في أثناء الصلاة بترك الركن أو غيره... 480

تتمّة : التردّد بين كون الفائت ركناً أو غيره مع الالتفات إليه بعد الوقت... 497

تذييل : لو كان في حال الركوع وعلم بأنّه قد فاته من الركعة السابقة إمّا ركوع أو سجدة أو تشهّد 499

تكميل : لو علم بعد الفراغ من الصلاة بأنّه قد زاد إمّا الركوع أو السجدة... 501

لو علم بعد الفراغ من الوضوء والصلاة بنقصان إمّا في وضوئه أو صلاته... 509

دوران الأمر بين نقصان السجدة وزيادة الركوع... 513

نقل كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام... 515

التأمّل فيما ذكره النائيني قدس سره من سقوط الأُصول النافية المترتّبة في أحد أطراف العلم الاجمالي بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر... 518

التنبيه على أُمور...

عدم الفرق في تأثير العلم الاجمالي بين كون أطرافه حقيقة واحدة أو مختلفة... 525

مناقشة الشيخ محمّد طه نجف وجملة من تلامذته قدس سرهم في ذهابهم إلى جواز الوضوء من المردّد بين النجاسة والغصبية 526

الكلام في تنجيز العلم الاجمالي مع عدم القدرة على ارتكاب بعض الأطراف... 539

توضيح عدم إمكان تعلّق النهي بما لا يكون مقدوراً عقلاً... 547

ص: 591

لحوق ما لم تجر العادة بفعله بغير المقدور عادة... 561

حكم الشكّ في القدرة على بعض الأطراف في العلم الاجمالي... 564

خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء لعدم القدرة الشرعية عليها... 584

ص: 592

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.