أصول الفقه المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة

المطبعة: ستاره

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1431 ه.ق

ISBN (ردمك): 978-600-5213-71-3

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء السادس

ص: 1

اشارة

شابك (ردمك) 2-23-5213-600-978/ دورة 15 جزء احتمالاً

ISBN 978-600-5213-23-2/15VOLS.

شابك (ردمك) 3-71-5213-600-978/ج6

ISBN 978-600-5213-71-3/VOL 6

الكتاب: أصول الفقه ج 6

المؤلف: آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلي

الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصة

الطبعة: الأولی - ذي القعدة 1431 ه

القلم والألواح الحساسة (الزينك): تيزهوش - قم

المطبعة: ستارة - قم

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 35000 ريال

ص: 2

[ مباحث القطع ]

[ مباحث القطع ](1)

قوله : والمراد من المكلّف هو خصوص المجتهد ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الواقعة التي يبتلى بها المكلّف إمّا أن تكون من قبيل الشبهات الحكمية ، وإمّا أن تكون من قبيل الشبهات الموضوعية. أمّا الشبهات الحكمية فحاصل الكلام فيها يكون في مقامات أربعة ، لأنّ الجاري فيها إمّا أن يكون من قبيل الأمارات ، وإمّا أن يكون من قبيل الأُصول الاحرازية ، وإمّا أن يكون من قبيل الأُصول الشرعية غير الاحرازية ، وإمّا أن يكون الجاري فيها هو الأُصول العقلية.

أمّا المقام الأوّل ، فمثاله الرواية الدالّة على وجوب السورة وجزئيتها في الصلاة ، فقد قالوا إنّ إعمالها من خصائص المجتهد. ولابدّ من شرح هذا الاختصاص ، فإنّ فيه خفاءً ، حيث إنّ مدلول تلك الأمارة وهو وجوب السورة لا

ص: 3


1- بسم اللّه الرحمن الرحيم وله الحمد وعليه نتوكّل وبه نستعين. والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين. لقد منّ اللّه تعالى على هذا العبد باستمرار الدرس من هذه المباحث وإليها ، ونسأله تعالى التوفيق والاستمرار على ذلك ، إنّه هو الموفّق ومنه تعالى نستمدّ المعونة إن شاء اللّه تعالى. الاثنين ٢٦ جمادى الأُولى سنة ١٣٧٨ الأقل حسين الحلّي. بسم اللّه الرحمن الرحيم وبحمد اللّه وفضله قد استمرّ الدرس منها وإليها ، وشرعنا منها في يوم السبت ٢٨ ربيع الثاني سنة ١٣٨٤ ونسأله تعالى التوفيق إنّه أرحم الراحمين [ منه قدس سره ].
2- فوائد الأُصول 3 : 3.

يختصّ بالمجتهد ، كما أنّ حجّيتها وكشفها التعبّدي عن الواقع المستفادة من مثل آية النبأ أو الروايات أو السيرة الدالّة على ذلك لا يختصّ به أيضاً ، لكن لمّا كان أثر الحجّية وهو تنجيز الواقع فيما أصابت والعذر فيما أخطأت ، وكذلك صحّة الإخبار عن الحكم الواقعي وهو وجوب السورة ، كلّ هذه الآثار متوقّفة على الوصول والعلم بالحجّية المزبورة ، ولا يمكن حصول ذلك إلاّللمجتهد ، كانت تلك الآثار منحصرة بالمجتهد.

ومن هذه الجهة صحّ لنا أن نقول إنّ حجّيتها منحصرة بالمجتهد ، فتلك الأمارة بعد تمامية حجّيتها عند المجتهد تنجّز عليه وجوب السورة فيلزمه العمل على طبقها ، فإن أصابت الواقع كانت منجّزة له ، وإن أخطأت كان معذوراً ، هذا بالقياس إلى عمل نفسه.

وأمّا بالقياس إلى عمل العامي المقلّد له ، فيكون أثر قيام تلك الأمارة عند ذلك المجتهد هو كونها مصحّحة لإخباره عن الحكم الواقعي ، وأنّه هو وجوب السورة حسب قيام تلك الأمارة عنده ، وهذا الاخبار عبارة عن الفتوى ، وهذا الاخبار من المجتهد يكون هو الحجّة على المقلّد له ، ويستحيل في حقّه حجّية نفس تلك الأمارة ، لكون حجّيتها مشروطة بالقيام عنده ووصولها إليه ، وهو عاجز عن ذلك.

ومن ذلك يظهر لك الكلام في المقام الثاني أعني الأُصول الشرعية الاحرازية ، فإنّ المجتهد بعد إعماله لها يكون قد أحرز الواقع ، فيصحّ له الإخبار به اعتماداً عليها ، وهذا الاخبار يكون حجّة على العامي. من دون فرق في ذلك بين كون ذلك التكليف الثابت عند المجتهد بالأمارة أو الأصل الاحرازي مشتركاً بينه وبين مقلّده كما مثّلنا من وجوب السورة ، أو يكون مختصّاً بالمقلّد كما في أحكام

ص: 4

الحيض والنفاس ونحوهما ممّا لا تعلّق له بالمجتهد إلاّباعتبار الأثر الثالث ، وهو صحّة الاخبار عن الواقع الذي أدّت إليه تلك الأمارة ، أو أدّى إليه ذلك الأصل الاحرازي.

أمّا الكلام في المقام الثالث ، وهو موارد الأُصول الشرعية غير الاحرازية مثل البراءة الشرعية ونحوها ، مثل أصالة البراءة عن وجوب الاستعاذة مثلاً قبل الفاتحة في الصلاة ، ومثل أصالة البراءة عن حرمة حمل المصحف للحائض ، فقد يشكل في مثل ذلك بأنّ البراءة إنّما تجري في حقّ الشاكّ الذي يكون متعلّق شكّه تكليفاً راجعاً إلى نفسه دون غيره ، فالبراءة في المثال الأوّل وإن جرت في حقّ المجتهد باعتبار تكليف نفسه ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بالمقلّد العامي ، لأنّ ذلك التكليف وإن كان تكليفاً للمقلّد أيضاً إلاّ أنّه لا عبرة بشكّه ، فلا يصدق عليه أنّه شاكّ في ذلك التكليف الواقعي كي تجري في حقّه البراءة المذكورة.

أمّا المثال الثاني فبناءً على الإشكال المذكور لا يكون فيه إجراء البراءة ممكناً ، لا بالنسبة إلى المجتهد لأنّه وإن كان شاكّاً إلاّ أنّ متعلّق ذلك الشكّ ليس تكليفاً له ، ولا بالنسبة إلى المقلّد لأنّ متعلّق الشكّ وإن كان تكليفاً راجعاً إليه ، إلاّ أنّه لعدم العبرة بشكّه لا يكون داخلاً في عموم الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي الذي هو موضوع البراءة الشرعية.

وهذا الإشكال إنّما نشأ من هذه الكلمة وهي أنّه لا عبرة بشكّ العامي الظاهرة في إلغاء شكّه وأنّه لا حكم له لذلك الشكّ ، مع أنّه متحقّق وجداناً ، وأقصى ما في البين هو أنّ كون عدم علمه وشكّه موضوعاً للبراءة الشرعية متوقّف على الفحص ، ولا ريب أنّ الفحص عن الحجّة في قبال البراءة المذكورة ، وتلك الحجّة التي يفحص عنها العامي ليست هي الحجّة الأوّلية على الحكم الواقعي ،

ص: 5

أعني الرواية أو الاستصحاب الجاريين في الحكم المذكور ، لأنّ الحصول على ذلك النحو من الحجّة بل الفحص عنه لا يكون مقدوراً له ، فلا يكون فحصه حينئذ إلاّفحصاً عمّا يمكن أن يكون حجّة عليه ، وذلك منحصر بفتوى المجتهد ، وبعد فرض أنّ ذلك المجتهد الذي يقلّده لا يمكنه الاخبار عن الحكم الواقعي ، لأنّه لم تقم لديه حجّة على وجوده ولا على نفيه واقعاً ، يكون شكّ ذلك العامي وعدم علمه بالحكم الواقعي موضوعاً للبراءة الشرعية ، وعلى هذا الأساس يفتيه بالجواز تسامحاً ، لأنّ ذلك ليس على نحو الحكاية عن أنّ الحكم الواقعي هو الجواز والاباحة ، بل روحه هو جواز الاقدام باعتبار كونه شاكّاً ، وأنّه جواز عذري منشؤه قوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » (1). وهكذا الحال في الفتوى بطهارة الحديد استناداً إلى قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية.

لا يقال : لو كان في الأحياء مجتهد آخر قد اقتنع بأحد الأدلّة على ثبوت الحكم في المسألة المزبورة أو على نفيه ، فلِمَ لا يرجع إليه هذا العامي.

لأنّا نقول : إنّه بعد أن كان قد تعيّن عليه الرجوع إلى المجتهد السابق بأحد الوجوه المعيّنة من كونه أعلم ونحوه ، لا يمكنه الرجوع إلى ذلك الآخر ، لأنّ فتوى ذلك الآخر وإخباره عن الواقع حسبما استفاده من الدليل المذكور لا يكون حجّة عليه.

فإن قلت : إن تعيّن الأوّل عليه إنّما هو فيما له فيه فتوى وإخبار عن الحكم الواقعي ، والمفروض أنّه في خصوص هذه المسألة لا فتوى له حاكية ومخبرة عن الواقع ، وحينئذ فيلزمه الرجوع إلى ذلك الآخر.

قلت : إنّ لازم كون الأوّل مجتهداً وأعلم مثلاً هو أنّه لا يرى ذلك الدليل

ص: 6


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.

الذي استند إليه ذلك الآخر دليلاً مصحّحاً للفتوى والحكاية عن الحكم الواقعي ، وفي الحقيقة يكون المجتهد الأوّل مفتياً بعدم ثبوت ذلك الحكم الواقعي ، وهذا المقدار من الإخبار عن الواقع بأنّه لم يثبت يكفي لذلك العامي في عدم وجوب الرجوع إلى المجتهد الآخر ، وإن صحّ له العمل بفتواه من باب الاحتياط ، لكن ربما كان الاحتياط بالخلاف ، كما لو كانت الشبهة في ناحية الأقل والأكثر الارتباطيين كالشكّ في جزئية الاستعاذة ، وكان مجتهده الأوّل قائلاً بلزوم الاحتياط ، وكان المجتهد الآخر قد اقتنع بدليل ينفي الجزئية ، فإنّ رجوعه إلى ذلك الآخر يكون على خلاف الاحتياط.

وهكذا الحال لو كانت الشبهة بدوية تحريمية بأن شكّ في حرمة التنباك ، وكان المجتهد الأوّل قائلاً بالاحتياط الشرعي في الشبهة التحريمية البدوية ، وكان المجتهد الآخر قد قام عنده الدليل الاجتهادي على عدم حرمة التنباك وأنّه حلال ومباح ، ففي هذه الصورة يتعيّن عليه العمل على رأي مجتهده الأوّل ، وأنّ التنباك لا دليل على حرمته ، وأنّ الشاكّ في الشبهة التحريمية يلزمه الاحتياط ، ولا يجوز حينئذ له الرجوع إلى المجتهد الآخر في فتواه الحاكية عن أنّ حكم التنباك واقعاً هو الحلّية وعدم الحرمة.

وأمّا الكلام في المقام الرابع ، وهو موارد الأُصول العقلية مثل مسائل الدوران بين المحذورين الوجوب والحرمة ، ومثل ما لو انتهت النوبة إلى البراءة العقلية ، فحاصل الإشكال فيه أنّ الحكم العقلي لا يجري فيه التقليد ، لاشتراك العامي والمجتهد فيه.

ويمكن الجواب عنه بما حاصله : أنّ ذلك العامي بعد فرض الوصول إلى تلك الدرجة لو كان ممّن يمكن أن يميّز بين قاعدة دفع المفسدة أولى من جلب

ص: 7

المصلحة ، وقاعدة التخيير العقلي ، بحيث إنّه يحصل له العلم بفساد إحدى القاعدتين في المورد وعدم جريانها فيه ، وأنّ المحكّم فيه هو القاعدة الأُخرى ، لم يصحّ لذلك العامي أن يقلّد في هذه الجهة ، وإن قلّد في تنقيح أنّ ما هو محلّ ابتلائه من صغريات هاتين القاعدتين ، فإنّه في هذه الصورة ليس على المجتهد إلاّ أن يخبره بأنّ هذه المسألة التي هي محلّ ابتلائه ، وأنّ الحكم الواقعي فيها هو أحد الحكمين المذكورين ، ويذره وما يحكم به عقله في تحكيم أيّ منهما.

وهكذا الحال فيما إذا انتهت النوبة إلى قاعدة قبح العقاب من دون بيان ، أو قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فإنّ على المجتهد أن يخبره بأنّ محلّ ابتلائه من ذلك القبيل ، ويذره وما يحكم به عقله من تحكيم إحدى القاعدتين على الأُخرى.

لكن أنّى للمقلّد أن يعرف معنى أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو معنى دفع الضرر المحتمل وكونه محكوماً لقاعدة قبح العقاب من دون بيان ، وحينئذ فعليه أن يقلّد أيضاً في هذا الحكم العقلي ، بعد فرض كونه عاجزاً عن حقيقته وتحكيم إحدى قاعدتيه على الأُخرى.

ثمّ إنّك بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل التي ذكرناها ، تعرف أنّه لا حاجة في توجيه إجراء المجتهد الأُصول الشرعية في الشبهات الحكمية إلى ما أفاده شيخنا الأُستاذ الأعظم قدس سره في أوائل الاستصحاب من قوله : ولا عبرة بيقين المقلّد وشكّه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكّه ، وهو الذي يجري الاستصحاب ، ويكون بوحدته بمنزلة كلّ المكلّفين (1) لما عرفت من أنّه أعني المجتهد يصحّ له الإخبار على طبق مؤدّى الاستصحاب ، وذلك هو تحصيل الفتوى ، من دون حاجة إلى دعوى كونه بمنزلة كلّ المكلّفين ، كما أنّه لا حاجة إلى

ص: 8


1- فوائد الأُصول 4 : 310.

دعوى كونه نائباً عنهم كما نقله (1) عن الشيخ قدس سره في التخيير بين الخبرين المتعارضين بعد تكافئهما.

كما أنّه لا حاجة إلى ما تكلّفه صاحب الكفاية قدس سره في مبحث الاجتهاد والتقليد من توجيه رجوع المقلّد إلى المجتهد في موارد الأمارات في الشبهات ، بأنّه وإن كان ذلك المجتهد جاهلاً بالحكم الواقعي إلاّ أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشرعية على الأحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم (2).

فإنّك قد عرفت أنّ رجوعه إليه في موارد الأمارات بل والأُصول التنزيلية إنّما هو رجوع إليه باعتبار إخباره عن الحكم الواقعي الذي أحرزه بذلك ، فإنّه يكون عالماً تنزيلاً بالحكم الواقعي بواسطة قيام الحجّة الشرعية عليه عنده ، لا من باب أنّه عالم بموارد الطرق والأمارات ، إذ همّ العامي إنّما هو السؤال عن الحكم الواقعي ، لا السؤال عمّا قامت عليه الأمارة والطرق.

ثمّ إنّه قدس سره لم يتعرّض لموارد الأُصول الشرعية ، بل انتقل من الكلام على الطرق والأمارات إلى الأُصول العقلية (3) ، ولعلّ هذا مأخوذ ممّا أفاده في هذا المقام من جعل القسمة هنا ثنائية مردّدة بين القطع بالحكم الفعلي الشرعي الأعمّ من الواقعي والظاهري وعدم حصول القطع بذلك ، وأنّ المرجع على الثاني هو ما يستقلّ به العقل (4) ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام على ذلك.

ص: 9


1- راجع ما حرّره عن شيخه قدس سرهما في المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 170 وما بعدها.
2- كفاية الأُصول : 465.
3- كفاية الأُصول : 466.
4- كفاية الأُصول : 257.

وكيف كان ، فإنّه قدس سره قد أفاد في مبحث الاجتهاد والتقليد أنّ المقلّد إنّما يرجع إلى المجتهد في فقد الأمارة ، فكأنّه يقلّده في ذلك لا في الحكم الشرعي أو العقلي (1) وقد عرفت أنّ رجوع المقلّد إليه في جميع موارد الشبهات الحكمية إنّما هو من باب الفحص عن الحجّة على التكليف ، وهي فتوى ذلك المجتهد ، فإذا فرضنا أنّ ذلك المجتهد لم تقم عنده الحجّة على إحراز التكليف ، كان ذلك العامي ممّن لم تقم عنده الحجّة على ذلك التكليف ، وحينئذ يكون شكّ ذلك العامي مصداقاً لما هو موضوع الأُصول الشرعية على التفصيل الذي حرّرناه ، من دون حاجة إلى الالتزام بأنّ العامي يكون مقلّداً للمجتهد في عدم قيام الأمارة على التكليف. على أنّك قد عرفت أنّه يمكنه أن يقلّده باخباره عن عدم ثبوت التكليف.

وما أفاده بعض سادة مشايخي قدس سرهم فيما حرّرته عنه من أنّه لا دليل على صحّة تقليده في ذلك ، يمكن الجواب عنه بالاستناد إلى إطلاقات التقليد أو مطلق لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، إذ يصدق على ذلك المجتهد أنّه عالم بأنّ ذلك التكليف غير ثابت ، وأنّه لم تقم عليه حجّة شرعية.

وأمّا ما أفاده قدس سره بقوله : وأمّا تعيين ما هو حكم العقل ، وأنّه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط ، فهو إنّما يرجع إليه الخ (2) فقد [ تقدّم ] تفصيل الحال فيه فيما شرحناه في المقام الرابع (3) ، فراجع وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الذي نقلناه عن الكفاية إنّما هو فيما فرضه من

ص: 10


1- كفاية الأُصول : 466.
2- كفاية الأُصول : 466.
3- في الصفحة : 7.

حجّية الظنّ بمقدّمات الانسداد ، لكنّه بعينه ينبغي أن يلتزم به في حجّية الظنّ الخاصّ ، وأنّه عند فقده يكون المرجع هو الأُصول الشرعية أو العقلية ، وأنّ العامي يكون مقلّداً له في عدم الأمارة ، إلى آخر ما أفاده.

لكن الذي يظهر من الكفاية أنّه لو قلنا بالانفتاح لم يكن إشكال في تقليد العامي لمن فقد الدليل الاجتهادي ، لأنّه يكون عالماً بالحكم الفعلي ، فإنّه قال : فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً في الموارد التي لم يظفر فيها بها - إلى قوله - كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به ، وأمّا لغيره فكذا لا إشكال فيه إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام مفتوحاً له ، على ما يأتي من الأدلّة على جواز التقليد الخ (1) ، فنراه جعل المقامات الأربعة كلّها مورداً للتقليد والفتوى ، وقد عرفت ما في ذلك وأنّ التفصيل هو ما ذكرناه ، فلاحظ.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الإشكال فيما ذكره في الكفاية من جعل المقسم هو الحكم الفعلي المتعلّق بالمجتهد أو بمقلّديه ، وأنّه إمّا أن يحصل له القطع به أو لا يحصل (2) ، فإنّك قد عرفت في هذه المقامات الأربعة أنّ الحكم الذي يكون متعلّقاً بالمقلّد إنّما يكون مربوطاً بالمجتهد باعتبار قيام الأمارة أو الأصل الاحرازي عليه عند المجتهد ، فيصحّ له الإخبار به ، أمّا ما لم يقم عليه شيء من الأمارات ولا الأُصول الاحرازية ، وكان المرجع فيه هو الأُصول الشرعية غير الاحرازية أو الأُصول العقلية ، فقد عرفت أنّ تلك الأُصول إنّما تجري في حقّ تكليف المجتهد نفسه ، وأمّا جريانه في حقّ العامي فإنّما هو في الرتبة المتأخّرة عن عدم إفتاء

ص: 11


1- كفاية الأُصول : 464.
2- كفاية الأُصول : 257.

المجتهد وإخباره عن الحكم الواقعي.

وبالجملة : أنّهما لا يتشاركان ابتداءً في الحكم الفعلي كما يعطيه ظاهر قوله : إذا التفت إلى حكم فعلي متعلّق به أو بمقلّديه (1).

ثمّ إنّا لو أسقطنا قوله : أو بمقلّديه ، واقتصرنا على قوله : إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به ، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا الخ (2) ، لم يكن ظاهر التقسيم صحيحاً ، لأنّ رتبة الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ، فالمكلّف إنّما يلتفت أوّلاً إلى نفس الحكم الواقعي ، فإمّا أن يحصل له القطع أو تقوم عليه الأمارة أو يكون شاكّاً فيه ، فإن قامت عليه الأمارة كان حكمه الظاهري على طبقها ، وإن بقي شاكّاً كان حكمه الظاهري على طبق الأُصول الجارية ، فلا يكون تحقّق الحكم الظاهري إلاّبعد مرتبة الحكم الواقعي ومرتبة قيام الأمارة عليه ومرتبة الشكّ ، فلا يمكن أن يكون الحكم الظاهري هو الملتفت إليه أوّلاً في عرض الالتفات إلى الحكم الواقعي ، هذا كلّه.

مضافاً إلى ما حقّق في محلّه (3) من أنّه لا محصّل للحكم الظاهري وأنّه لا واقعية له ، وأنّه ليس في البين إلاّمحض المنجّزية والمعذورية ، إلاّعلى القول بالسببية فتأمّل. هذا كلّه في الشبهات الحكمية.

وأمّا الشبهات الموضوعية فقد أطلقوا القول بأنّ إجراء الأُصول والقواعد فيها يشترك فيه المجتهد والمقلّد ، وأنّه لا خصوصية فيها للمجتهد. إلاّ أنّ ذلك بعد إثبات أصل تلك الوظائف وتحكيم بعضها على بعض ، وذلك راجع إلى

ص: 12


1- (1 و 2) كفاية الأُصول : 257.
2- راجع فوائد الأُصول 3 : 105 - 119 وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك في هذا المجلّد.

المجتهد ، كما في تحكيم يد المسلم مثلاً على أصالة عدم التذكية ، وإخبار ذي اليد بالنجاسة على أصالة الطهارة مثلاً ، ومن ذلك تحكيم بعض هذه الأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية على بعضها في أبواب الخلل ، بل تحكيم الأصل الواحد على نفسه ، كما في من فاتته سجدتان ولم يعلم أنّهما من ركعة واحدة أو من ركعتين ، في أنّ الجاري هو قاعدة الفراغ أو التجاوز في الركعة الأُولى أو الثانية ، أو أنّهما يتعارضان ، كلّ ذلك شغل المجتهد ولا حظّ فيه للمقلّد.

وبالجملة : أنّ في الشبهات الموضوعية عين تلك المقامات الأربعة في الشبهات الحكمية ، فأمارات وأُصول إحرازية ، وأُصول شرعية غير إحرازية ، وأُصول عقلية ، والأمارات مثل إخبار ذي [ اليد ] بنجاسة ما تحت يده ، ومثل اليد في كونها أمارة الملكية ، ومثل الإقرار ، لكن بعد الرجوع إلى المجتهد في مفاده ، لأنّ ذلك راجع إلى إعمال قواعد الظهور اللفظي ، وذلك ممّا يعجز عنه المقلّد ، وبعد تنقيح ظهوره يكون كسائر الأمارات والقواعد والأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، في أنّ المرجع في تعيين مواردها وتمييز الحاكم منها على المحكوم إنّما هو المجتهد دون المقلّد ، فما أفادوه من [ أنّ ] إعمالها يكون مشتركاً بين المجتهد وغيره ، لا يخلو عن خفاء ، بل قد يكون من خصائص المجتهد ، فتأمّل.

قوله : وإنّما قيّدنا مجرى الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة ، ولم نكتف بمجرّد وجودها - إلى قوله - إذ هناك من ينكر اعتبار الاستصحاب كلّية ، أو في خصوص الأحكام الكلّية ، أو في خصوص الشكّ في المقتضي على اختلاف الأقوال فيه ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الثاني وهو من لا يعلم بالتكليف أصلاً ولو بجنسه ، لا وجه

ص: 13


1- فوائد الأُصول 3 : 4 - 5.

أيضاً لحصر المرجع فيه بالبراءة ، بل هو محلّ خلاف ، فقال المحدّثون إنّ المرجع فيه هو الاحتياط ، فإن كان الخلاف مؤثّراً في الرجوع إلى الاستصحاب فلِمَ لا يؤثّر في الرجوع إلى البراءة. وهكذا الكلام في التخيير فإنّه ربما يقال فيه بالمنع من التخيير ، وأنّ المرجع هو كون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

فالأولى أن يقال : إنّ الحالة السابقة يعتبر العلم بها في جريان الاستصحاب ، لأنّ العلم بالحالة السابقة هو الركن في جريان الاستصحاب على نحو جزء الموضوع ، ولا يكفي فيه مجرّد تحقّق الحالة السابقة مع فرض عدم العلم بها ، كما لا يكفي القطع بالحالة السابقة مع عدم تحقّقها واقعاً ، أمّا لحاظ الحالة السابقة فليس هو إلاّعبارة عن نفس الاستصحاب ، لا أنّه مورد للاستصحاب.

قوله : ولا يخفى أنّ الحصر في مجاري الأُصول إنّما يكون عقلياً لدورانه بين النفي والإثبات ، وأمّا حصر الأُصول في الأربع فليس بعقلي ، لإمكان أن يكون هناك أصل آخر وراء هذه الأُصول الأربعة ، ولكن هذا بالنسبة إلى خصوص الاستصحاب حيث إنّ اعتباره شرعي ... الخ (1).

لا يخفى أنّه مع الاعتراف بكون الحصر في الموارد الأربعة عقلياً دائراً بين النفي والإثبات ، لا يمكن القول بامكان زيادة الوظائف المقرّرة لكلّ واحد منها على الأربعة ، إلاّبأن يكون للمورد الواحد من تلك الموارد وظيفتان ، فتكون الوظائف زائدة على الأربع ، بأن يقال إنّ مورد لحاظ الحالة السابقة لو كانت هي الإباحة تكون الوظيفة فيه هي التخيير بين الأخذ بالحالة السابقة والأخذ بضدّها ، أو تعيّن الأخذ بضدّها ، كما أنّه يمكن التنقيص بأن يقال : الوظيفة لمورد العلم

ص: 14


1- فوائد الأُصول 3 : 5.

بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط ، ولمورد عدم العلم بجنس التكليف هو الاحتياط كما عن الأخباريين ، وحينئذ تسقط البراءة الشرعية والعقلية ، كما أنّه يمكن تبديل التخيير بقاعدة دفع المفسدة ، ولإمكان إسقاط الاحتياط في مورده وتبديله بالبراءة كما ربما قيل بأنّ العلم الاجمالي غير منجّز ، ولإمكان تبديل البراءة العقلية بالاحتياط العقلي ، بدعوى أنّ قاعدة دفع الضرر المحتمل مقدّمة على قاعدة قبح العقاب بدون بيان.

ثمّ إنّ قوله : ولكن هذا بالنسبة إلى خصوص الاستصحاب ، حيث إنّ اعتباره شرعي الخ ، يمكن الخدشة فيه بأنّه لا يختصّ بالشرعية ، بل الشرعية تجري فيه وفي البراءة والاحتياط ، فحصر موارد الشكّ في التكليف بجريان البراءة الشرعية منقوض بأنّه يمكن إبدالها بالاحتياط الشرعي كما ادّعاه المحدّثون.

لكن هذه النقوض الراجعة إلى تكثير الوظائف أو تنقيصها أو تبديل بعضها ببعض ، لا ترد على ما أفاده شيخنا قدس سره من الحصر العقلي للأُصول العقلية ، لأنّه قدس سره ناظر في هذا الحصر إلى نفس الأصل العقلي في مقام الشكّ مع قطع النظر عن مورده ، بل مع قطع النظر عن الدليل ، وأنّ المنظور في ذلك إنّما [ هو ] عالم الامكان ، ولا ريب في أنّ حكم العقل في مقام الشكّ إمّا أن يكون المنظور فيه مراعاة التكليف من كلّ وجه وهو الاحتياط ، وإمّا أن يكون المنظور هو الاعتناء باحتمال التكليف في الجملة لا من كلّ وجه وهو التخيير ، وإمّا أن يكون المنظور فيه هو عدم الاعتناء باحتمال التكليف وهو البراءة. لكن كون التخيير مراعاة للتكليف في الجملة محلّ تأمّل ، نعم لو حكم العقل في مورد دوران الأمر بين المحذورين بلزوم مراعاة دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، لكان فيه

ص: 15

مراعاة للتكليف في الجملة ، أمّا حكمه بالتخيير فليس هو من قبيل مراعاة التكليف ، بل من باب عدم المندوحة ، وأنّه لا حيلة فيه للمكلّف ، فيحكم العقل بالتخيير من أجل ذلك.

ولا يخفى أنّ نفس هذه الأُصول يمكن أن تكون شرعية ، وهي الاحتياط الشرعي ولو في موارد الشبهات البدوية كما يدّعيه الأخباريون ، والبراءة الشرعية كما عليه الأُصوليون ، والتخيير الشرعي بأن يحكم الشارع في موارد دوران الأمر بين المحذورين بالتخيير فيما لو أمكنت المخالفة القطعية ، كما لو كان أحد الأمرين من الفعل والترك عبادياً ، بل حتّى لو كان كلّ منهما توصّلياً ، فإنّ العقل وإن حكم بالتخيير إلاّ أنّه لا يكون مانعاً من حكم الشارع ، كما حكم في الشبهات البدوية بقبح العقاب من دون بيان ، ولم يكن حكمه بذلك منافياً لحكم الشارع بالبراءة ، وحينئذ يكون الحصر في هذه الأُصول الشرعية عقلياً ، على حذو ما قلناه في هذه الأُصول لو كانت عقلية ، بأن يقال : إنّ الأصل الشرعي إمّا أن يكون الملحوظ فيه هو احتمال التكليف ... إلى آخره ، غايته أنّ الثالث لم يقم عليه دليل كالأوّل ، لكن عدم قيام الدليل عليه لا يخرجه عن حيّز الامكان الذي هو الملاك والمنظور إليه في هذا الحصر العقلي.

قوله : إمّا علقة التلازم وإمّا علقة العلّية والمعلولية ، سواء كان الوسط علّة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمي ، أو كان معلولاً له الذي هو البرهان الإنّي ... الخ (1).

لم يذكر الوسط الذي يكون هو والأكبر معلولين لعلّة ثالثة ، ولعلّه هو المراد بعلقة التلازم اصطلاحاً ، وإلاّ فإنّ التلازم بين الشيئين يكون لأحد هذه الأُمور

ص: 16


1- فوائد الأُصول 3 : 7.

الثلاثة ولا رابع لها حتّى علقة التضايف كالأُبوّة والبنوّة ، فإنّهما معلولان لعلّة ثالثة وهي تولّد هذا من ذاك. ثمّ إنّ تسمية الثالث وهو كونهما معلولين لعلّة ثالثة بالبرهان الإنّي اصطلاح ، وإلاّ فإنّه يشتمل على كلا الانتقالين ، لأنّه يكون الانتقال فيه من الأوسط الذي هو أحد المعلولين إلى علّته ، ثمّ الانتقال من هذه العلّة إلى معلولها الآخر الذي هو الأكبر.

قوله : فإنّ الحجّة باصطلاح الأُصولي عبارة عن الأدلّة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشرعي ... الخ (1).

الظاهر أنّ الحجّة الأُصولية لا تنحصر بالأدلّة الشرعية ، بل إنّ الحجّة الأُصولية أعمّ شاملة لذلك وللحجّة المنطقية المعبّر عنها بالدليل العقلي ، حيث إنّ أدلّة الفقه أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، الذي هو مأخوذ من قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، الذي يكون لسانها هو الحسن والقبح العقليين ، فيقال : هذا قبيح عقلاً ، وكلّ ما حكم العقل بقبحه فقد حرّمه الشارع ، وهو استدلال لمّي ، لأنّ القبح العقلي علّة للحرمة الشرعية.

ثمّ بعد بيان مصطلح المنطقيين والأُصوليين في الحجّة ينبغي تحرير البحث في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : في القطع الطريقي ، ولا ريب في عدم كونه دليلاً لا باصطلاح المنطقيين ولا باصطلاح الأُصوليين.

المقام الثاني : في القطع الموضوعي ، وهو بالنسبة إلى متعلّقه يكون حاله حال القطع الطريقي ، وبالنسبة إلى الحكم المترتّب عليه ، أو عليه وعلى متعلّقه

ص: 17


1- فوائد الأُصول 3 : 7.

يكون دليلاً باصطلاح المنطقيين ، فيتألّف منه الشكل الأوّل ، فيقال هذه الملكية مقطوعة ، وكلّ ما هو مقطوع يجوز الشهادة به. وهو ملحق بالقياس اللمّي ، لأنّ الموضوع بمنزلة العلّة لحكمه.

وينبغي أن يعلم أنّ الكبرى التي يتألّف منها القياس في القطع الموضوعي ، لابدّ أن تكون هي عين الكبرى المجعولة شرعاً ، ففيما كان القطع تمام الموضوع ، لا ريب في صحّة أخذ الكبرى التي يكون القطع فيها منسوباً إلى المكلّف ، فيقال أنا قاطع بملكية الدار ، وكلّ قاطع بملكيتها يجوز له الشهادة بها. أمّا أخذ القطع منسوباً إلى المقطوع به ، بأن يقال هذا مقطوع الخمرية وكلّ مقطوع الخمرية نجس مثلاً ، ففيه تأمّل ، إذ هذه الكبرى لا تطابق الكبرى المجعولة في صورة كون القطع تمام الموضوع ، لأنّ ظاهر الكبرى المذكورة هو أنّ الحكم بالنجاسة لاحق لمصاديق مقطوع الخمرية ، وليس الحكم في الكبرى كذلك ، وإنّما يكون مترتّباً على نفس القطع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد من كون القطع تمام الموضوع أنّ الحكم بالنجاسة مثلاً يكون على مصاديق مقطوع الخمرية وإن كان خلاً في الواقع ، هذا في القطع الذي أُخذ تمام الموضوع.

وأمّا ما أُخذ فيه جزء الموضوع فلابدّ أن يكون تألّف القياس منه بهذه الصورة : هذا خمر مقطوع الخمرية ، وكلّ خمر مقطوع الخمرية نجس. ويكون الجزء الأوّل من الصغرى وهو الخمرية الواقعية محرزاً بجزئها الثاني وهو مقطوع الخمرية.

وكيف [ كان ] فلا ريب أنّ تأليف القياس من القطع الموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو كان جزء الموضوع ، لا يكون فائدته الاحتجاج على الخصم ،

ص: 18

وإنّما يكون سوقه لإقناع النفس ، فإنّ الحرمة الواقعية لا تكون لاحقة إلاّللقاطع دون غيره. وإن شئت فقل : إنّ مرجع القياس المذكور إلى إثبات الحرمة على نفس القاطع ، فيقول : هذا أنا قاطع بخمريته ، وكلّ ما أنا قاطع بخمريته هو حرام عليَّ.

المقام الثالث : في الأمارات ونحوها من الحجج الشرعية. ولا ريب في كونها دليلاً باصطلاح الأُصوليين ، أمّا باصطلاح المنطقيين وصحّة تألّف الشكل الأوّل منها ففيه تفصيل ، وهو أنّها بالنسبة إلى نفس الواقع يكون حالها حال القطع الطريقي في عدم صحّة تألّف الشكل الأوّل منها ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الظاهري فصحّة تألّف الشكل الأوّل منها موقوفة على المبنى في جعل الحكم الظاهري ، فإن قلنا إنّه عبارة عن الحكم على طبق مؤدّى الأمارة ، أو عبارة عن لزوم العمل بها كان حالها بالنسبة إليه حال القطع الموضوعي بالنسبة إلى الحكم المترتّب عليه ، فيصحّ أن يتألّف منها الشكل الأوّل. وإن قلنا إنّه عبارة عن جعل الحجّية بمعنى جعل الكشف كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه تعالى في كيفية جعل الطرق (1) ، كان حالها بالنسبة [ إلى ] ذلك الحكم الظاهري حال القطع الطريقي في عدم صحّة تألّف الشكل الأوّل منها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وكذا يكون طريقاً محضاً بالنسبة إلى الحكم الشرعي المترتّب على ذلك الموضوع (2).

هذه العبارة لا تخلو من تسامح ، فإنّ العلم المتعلّق بالموضوع وإن كان طريقاً صرفاً بالقياس إليه ، إلاّ أنّه لا ربط لذلك العلم بحكم ذلك الموضوع ، فإنّ العلم المتعلّق بحكم ذلك الموضوع يكون علماً آخر ، وهو أيضاً طريق إلى ذلك

ص: 19


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 17 و 105 وما بعدهما.
2- فوائد الأُصول 3 : 10.

الحكم فلاحظ. بل وهكذا الحال في الحكم الذي يكون العلم بالموضوع جزءاً لموضوعه أو تمام موضوعه ، فإنّ العلم بذلك الحكم لا يكون إلاّطريقاً صرفاً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : بل الظاهر أنّه لا يمكن ، من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم ... الخ (1).

إن كان المراد هو أنّ أخذ العلم طريقاً إلى متعلّقه هو أن يكون المحكوم عليه هو المتعلّق ولم يكن العلم إلاّطريقاً إليه ، ففيه أنّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض هو كون القطع موضوعاً أو جزء الموضوع. مضافاً إلى أنّ لازمه هو عدم إمكان أخذه جزء الموضوع ، وسقوط القطع الطريقي عن الموضوعية بالمرّة.

وإن كان المراد هو أنّ أخذ القطع من حيث الطريقية عبارة أُخرى عن كونه ملحوظاً آلياً ، وهو لا يجتمع مع كونه تمام الموضوع ، لأنّ ذلك يستدعي لحاظه الاستقلالي ، ففيه أوّلاً : أنّ لازم ذلك هو عدم اجتماعه مع أخذه جزء الموضوع ، لأنّ ذلك أيضاً يتوقّف على لحاظه الاستقلالي. وثانياً : أنّ اللحاظ الآلي للقطع الطريقي إنّما [ هو ] في وجوده الواقعي أعني مصاديق القطع ، أمّا مفهومه الكلّي فهو استقلالي وإن كان مصداقه آلياً ، وما ذلك إلاّمثل الابتداء المستفاد من لفظ ( من ) في قولك سرت من البصرة ، والابتداء المستفاد من قولك : الابتداء الآلي معنى حرفي ، هذا كلّه.

ص: 20


1- فوائد الأُصول 3 : 11.

مضافاً إلى وقوعه في الأحكام الشرعية ، مثل إحراز عدالة الإمام المأخوذ موضوعاً لجواز الاقتداء به وصحّة الصلاة حتّى مع انكشاف الخلاف ، ومثل إحراز عدالة شهود الطلاق ، فقد قال شيخنا قدس سره إنّ الشرط المسوّغ للطلاق وللحكم بصحّته واقعاً هو الاحراز أو العدالة الواقعية ، بل وسّع المنطقة في ذلك إلى كلّ شرط يكون مبنياً على الاحراز ، على وجه يكون ابتناؤه على الواقع وانكشاف الفساد عند انكشاف الخلاف موجباً لعدم استقرار النظام في ذلك النحو من الأحكام (1).

ثمّ لا يخفى أنّ الذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب ، ففي بعضه التصريح بأنّ القطع الطريقي لا يعقل أخذه تمام الموضوع ، كما في هذا التحرير والتحرير المطبوع في صيدا (2) ، وفي بعضه أنّ غير المعقول هو أخذ القطع الصفتي جزء الموضوع ، ببيان أنّه إذا أُخذ بما أنّه صفة خاصّة جزءاً للموضوع لم يكن عندنا ما يكون محرزاً للجزء الآخر الذي هو الواقع ، وفي بعضها أنّ ما أخذ على الصفتية لا يكون جزء الموضوع ، وما أُخذ على نحو الطريقية لا يكون تمام الموضوع ، فراجع التحرير ص3 وص25 وص 27 (3).

قلت : ولعلّ الوجه في إسقاط العلم الصفتي عن كونه جزء الموضوع ، هو أنّ أخذه صفة يوجب غضّ النظر عن متعلّقه ، ويكون متعلّقه أجنبياً عنه ، فلا محصّل لكون القطع ومتعلّقه الواقعي هو الموضوع.

وفيه : أنّه وإن كان أجنبياً في هذه المرحلة من لحاظه صفة ، إلاّ أنّه لا يخرج

ص: 21


1- لم نعثر عليه في مظانّه ، ولعلّه في تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سرهما.
2- أجود التقريرات 3 : 13.
3- مخطوط لم يطبع بعد.

عن كونه في حدّ نفسه متعلّقاً لذلك القطع. ولو سلّم فليكن أجنبياً عن القطع ، لكن كونه أجنبياً لا يمنع من ضمّه إلى القطع في كونهما معاً تمام الموضوع. أمّا عدم إحراز الجزء الثاني الذي هو الواقع فهو محرز وجداناً للقاطع الذي هو المكلّف ، فإنّ الحاكم وإن أخذ العلم بما أنّه صفة للعالم قائمة بنفس المكلّف ، إلاّ أنّ العلم عند وجوده للمكلّف وقيامه في نفسه ، لا يخرج عن كونه محرزاً للواقع بالنسبة إلى ذلك المكلّف ، وإن كان الحاكم قد نظر إليه بما أنّه صفة قائمة في نفس المكلّف.

ثمّ إنّه قدس سره قد تنظّر في إسقاط هذا القسم ، ورجّح إسقاط ما كان العلم الطريقي فيه تمام الموضوع ، من جهة عدم مناسبة الطريقية لكونه تمام الموضوع ، فراجع ما حرّرته في ص 29 من التحريرات (1).

قوله : فلابدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الاطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمّم الجعل ، فاستكشاف كلّ من نتيجة الاطلاق والتقييد يكون من دليل آخر ... الخ (2).

الظاهر أنّه لابدّ من الجعل الثاني ليتمّ التعميم ، ومجرّد كون الاشتراك قطعياً لا يكفي في تحقّق متمّم الجعل الذي يتوقّف عليه تعميم الجعل الأوّل ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّا نستكشف من قطعية الاشتراك تحقّق الجعل الثانوي المتمّم للجعل الأوّلي.

ويمكن أن يقال : إنّ التعميم المذكور لا يحتاج إلى جعل ثانٍ ، بل يكفي مجرّد جعل الحكم الأوّلي ، فإنّه وإن لم يمكن فيه الاطلاق اللحاظي ، لتأخّر كلّ

ص: 22


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- فوائد الأُصول 3 : 12.

من العلم والجهل المتعلّقين بالحكم عن نفس ذلك الحكم - من دون فرق في ذلك بين مقام الثبوت ومقام الاثبات ، فلا وجه لما قد يقال من إمكان الاطلاق في مقام الثبوت - إلاّ أنّ الحكم بنفسه يكون متحقّقاً قهراً في كلّ من الموردين ، على حذو تحقّق العلّة مع معلولها ، وإن كانت سابقة في الرتبة على معلولها ، فإن سبق الحكم على العلم به من سنخ سبق العلّة على معلولها ، وحينئذ يكون نفس الحكم متحقّقاً مع كلّ من حالتي العلم والجهل المتعلّقين به ، غايته أنّ تحقّقه يكون سابقاً في الرتبة ، فهما - أعني الحكم وأحد الأمرين من العلم به والجهل - موجودان معاً غير أنّ الأوّل سابق في الرتبة على الثاني ، ونعبّر عن هذا التحقّق في كلّ من حالتي العلم والجهل بالاطلاق الذاتي ، من دون حاجة إلى جعل ثانٍ.

وذلك كما يشاهد في أوامر الموالي العرفية بالنسبة إلى من لهم الأمر عليه ، فإنّهم لا يحتاجون في شمولها لكلّ من العالم والجاهل إلى جعل ثانٍ ، إذ ليس في مثل ذلك إجماع ونحوه على الاشتراك كي يستكشف منه الجعل الثاني المتمّم للجعل الأوّل ، وما ذلك إلاّمن جهة ما ذكرناه من الاطلاق الذاتي. وكون إمكان الاطلاق تابعاً لإمكان التقييد مسلّم ، إلاّ [ أنّ ] ذلك في الاطلاق اللحاظي ، أمّا الاطلاق الذاتي الذي هو إطلاق قهري فلا يكون إمكانه متوقّفاً على إمكان التقييد اللحاظي ، بل يكفي فيه تعلّق الحكم بالذات ، فتكون الذات في حال العلم بالحكم متعلّقة لذلك الحكم ، لكن في الرتبة السابقة على العلم ، كما أنّها بالنسبة إلى الجهل كذلك. وهذا هو محصّل الاطلاق الذاتي القهري. ولعمري إنّه في الحقيقة ليس باطلاق ، لكنّه في حكم الاطلاق من حيث النتيجة.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأُستاذ الأعظم قدس سره من تصحيح ذلك بمتمّم الجعل ، ففيه تأمّل ، لأنّ ذلك الجعل الثانوي إن كان من مجرّد الاخبار والحكاية عن أنّ الحكم

ص: 23

ثابت في كلتا الحالتين ، ففيه أوّلاً : أنّه لا يكون حينئذ من قبيل الجعل. وثانياً : أنّه بعد أن كان وجود الحكم في مرتبة العلم والجهل به غير معقول كيف يصحّ الاخبار به.

وإن كان المراد هو سحب الحكم من مرتبته السابقة على العلم به والجهل إلى ما بعدهما فهو محال ، لأنّ ما هو في مرتبة العلّة يستحيل سحبه إلى مرتبة المعلول.

وإن كان المراد به جعلاً ثانوياً يكون المجعول فيه مماثلاً للمجعول الأوّل ، ففيه أوّلاً : أنّ ذلك خلاف ما هو المشاهد بالوجدان من الأوامر العرفية وغيرها ، في أنّ تسرية الحكم فيها وشموله لكلّ من حالتي العلم به والجهل ، لا يحتاج إلى جعل المماثل.

وثانياً : أنّه يلزم اجتماع المثلين ، وتعدّد الرتبة لا ينفع في دفع إشكال اجتماعهما ، وإلاّ لصحّ ذلك في ضدّ ذلك الحكم ، بأن يقال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك أو جاز لك شربها. ودعوى عدم إمكان ذلك في العلم ، لكونه تناقضاً بنظر المكلّف ، بخلاف ما لو كان المأخوذ هو الجهل بأن يقول : إذا جهلت بحرمة شرب الخمر جاز لك شربها ، وبخلاف ما لو كان المجعول مماثلاً للمجعول الأوّل ، فإنّه لا تناقض فيه ، يدفعها أنّه بعد فرض كون اجتماع المثلين كالضدّين محالاً يكون المانع من صحّته موجوداً فيه.

وثالثاً : لو سلّمنا ذلك لكان خارجاً عمّا نحن بصدده من إطلاق الحكم بالنسبة إلى كلّ من العلم والجهل المتعلّقين به ، بل هو من قبيل أخذ العلم بالحكم والجهل به موضوعاً لحكم آخر ، غايته أنّه يماثل الحكم الأوّل.

ورابعاً : أنّ هذا الحكم المجعول ثانياً في مرتبة العلم والجهل المتعلّقين

ص: 24

بالحكم الأوّل أيضاً يكون متعلّقاً لكلّ من العلم والجهل ، فهو بالنسبة إلى العلم والجهل المتعلّقين به يحتاج إلى متمم الجعل بالقياس إليه وهكذا ، فيلزم التسلسل. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث جعل الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات والأُصول الشرعية (1) ، وفيما علّقناه على ما حرّرناه عنه قدس سره في ذلك المبحث ، ما فيه زيادة توضيح لهذه الجهات ، فراجع ص 76 ممّا حرّرناه هناك (2).

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ قيام الدليل الخارجي على اختصاص الحكم في بعض الموارد بصورة العلم ، لا يحتاج إلى جعل ثانٍ يكون محصّله رفع ذلك الحكم عن الجاهل به ، نظير النسخ ، على وجه يكون الحكم الواقعي ثابتاً للذات معرّاة عن كلّ من العلم والجهل ، ويكون تحقّق الجهل موجباً للحكم الشرعي برفع ذلك الحكم ، ليكون لازمه تحقّق الحكم في حقّ الجاهل في الرتبة السابقة على الجهل ، ونفيه ورفعه عنه في رتبة الجهل ، على وجه يكون الجهل بالحكم الواقعي موضوعاً للحكم الشرعي برفعه ، فإنّ ذلك عين التناقض ، ولا يدفعه اختلاف المرتبة.

بل المراد من الاختصاص المذكور هو قيام الدليل الخارجي على كون المجعول له ذلك الحكم الواقعي ، هو خصوص الذات التي يعلم اللّه تعالى أنّها يتحقّق منها العلم بذلك ، لا على وجه يكون العلم دخيلاً في الموضوع ، وإلاّ لزم كون الحكم سابقاً في الرتبة على العلم لتعلّقه به ، ومتأخّراً في الرتبة عنه لكونه مأخوذاً في موضوعه.

هذا هو خلاصة الإشكال في أخذ التقييد أو الاطلاق لحاظيين في مثل

ص: 25


1- راجع الحاشية المفصّلة الآتية في الصفحة : 312 وما بعدها.
2- مخطوط لم يطبع بعد.

الجهل ، وليس هو بالدور المصطلح ، فإنّ الحكم وإن توقّف على العلم من جهة كونه حسب الفرض موضوعاً له ، إلاّ أنّ العلم بالحكم لا يتوقّف على تحقّق الحكم واقعاً ، إلاّ إذا كان المأخوذ قيداً هو العلم على نحو جزء الموضوع ، فتأمّل.

وكيف كان ، فإنّ المراد من دليل الاختصاص ليس هو أخذ العلم بالحكم جزء الموضوع أو تمام الموضوع ، بل المراد هو أنّ المحكوم عليه هو نفس تلك الذات الخاصّة التي اقترنت بالعلم ، فلا يكون المحكوم عليه إلاّخصوص تلك الذات معرّاة في حال إيراد الحكم عليها عمّا هي واجدة له من خصوصية العلم. وبعبارة أُخرى لا يكون المنظور إليه في حال إيراد الحكم إلاّنفس الحصّة من الذات الخاصّة. وهذا النحو من التوجيه لا يتأتّى في مسألة قيد القربة وداعي الأمر ، لأنّ أخذها قيداً لا يمكن إلاّمع دخول القيد المزبور تحت الأمر على وجه يكون جزء المأمور به ، على تأمّل في ذلك ، فراجع ما حرّرناه عن بعض الأجلّة من مشايخنا فيما علّقناه في مبحث التعبّدي والتوصّلي (1). وقد حرّرنا هذه المسألة المتعلّقة بدليل الاشتراك فيما علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في هذا المقام. وفي أوائل إمكان جعل الطرق والأمارات عند التعرّض للجواب عن إشكال التناقض ، وأنّ دليل الاشتراك ينافي الترخيص في مقام الشكّ فراجعه (2) ، (3)

ص: 26


1- لعلّ المقصود بذلك ما تقدّم في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، صفحة : 401 - 403.
2- الظاهر أنّ المقصود بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس سرهما. وعلى أيّ حال فلتراجَع الحاشية المفصّلة الآتية في الصفحة : 312 وما بعدها.
3- هذا ولكن لا يخفى أنّ اختصاص الحكم بخصوص العالم به لا يتوقّف إمكانه على أخذ الذات توأماً مع العلم ، أعني الذات التي يعلم اللّه أنّها يتحقّق منها العلم بالحكم ، بل يكفي فيه ما عرفت من جعل الحكم لنفس الذات معرّاة عن لحاظ العلم والجهل به ، لعدم إمكان لحاظها كذلك في حال إيراد الحكم عليها ، ثمّ بعد جعل الحكم على عنوان الذات القاضي بتحقّقه لها لو طرأها العلم أو طرأها الجهل يرفعه عن الذات عند طروّ الجهل ، ولا يكون ذلك موجباً للتناقض في مرتبتين ، بل هو من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، فالمكلّف بعنوانه الأوّلي يكون محكوماً بذلك الحكم ، وبعنوانه الثانوي - أعني كونه جاهلاً بذلك الحكم - يكون ذلك الحكم مرتفعاً عنه ، بمعنى أنّ الشارع يرفع ذلك الحكم عنه عند جهله به نظير الاضطرار. وينبغي التأمّل في عدم معقولية الإهمال في الواقع ، مع فرض أنّه لا يمكن الاطلاق والتقييد وما ذلك إلاّعبارة عن الاهمال ، وما الاهمال الواقعي إلاّما التزم به قدس سره من متمم الجعل ، فإنّ المجعول الأوّلي لابدّ أن يكون مهملاً [ منه قدس سره ].

قوله : وقد ادّعي تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام في حقّ العالم والجاهل ، ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلّة سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدّمات كتابه ... الخ (1).

لعلّ المراد بذلك ما ذكره صاحب الحدائق في المقدّمة الخامسة (2) في حكم الجاهل وأنّه غير معذور ، لكن لم يذكر هناك ما يدلّ على عدم المعذورية إلاّما دلّ على وجوب الفحص والتعلّم والسؤال والتفقّه. ولا يخفى عدم صراحتها في الاشتراك ، ولو من جهة إمكان كون التعلّم واجباً نفسياً ليتهيّأ إلى إيراد التكاليف عليه. نعم ذكر في الوجه الثاني ممّا ردّ به على القائلين بالبراءة العقلية في أوائل كتابه ما هذا نصّه : الثاني استفاضة الأخبار بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً شرعياً مخزوناً عند أهله ، حتّى أرش الخدشة والجلدة ونصف الجلدة الخ (3). وهذا أيضاً

ص: 27


1- فوائد الأُصول 3 : 12.
2- الحدائق الناضرة 1 : 77.
3- الحدائق الناضرة 1 : 45.

ليس بصريح في إفادة الاشتراك فتأمّل ، لجواز كون تلك الأحكام مختصّة أيضاً بخصوص العالم ، فإنّ كون كلّ واقعة لها حكم لا يوجب أن يكون ذلك الحكم مجعولاً في حقّ الجاهل به ، فتأمّل.

قوله : وقد خصّصت في غير مورد ، كما في مورد الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حقّ العالم ، فقد أخذ العلم شرطاً في ثبوت الحكم واقعاً ... الخ (1).

ينبغي مراجعة ما أفاده قدس سره في توجيه هذه المسألة في مبحث لزوم الفحص من الأُصول (2) ومبحث القصر والاتمام من الفقه (3) ، فإنّه أفاد قدس سره هناك أنّ التوجيه لهذه المسألة باختصاص الحكم بوجوب الجهر بمن كان عالماً به يلزمه عدم استحقاق العقاب عند الاخفات جهلاً في مورد الجهر ، وأنّه بناءً على الالتزام باستحقاق العقاب لابدّ من توجيه ذلك بأنّ الجهر واجب مستقل نفسي عام للجاهل والعالم ، وأنّه عند العلم بهذا الوجوب النفسي يكون الاجهار قيداً في الصلاة ، ولازم ذلك أنّه عند الاخفات مع الجهل تكون الصلاة صحيحة ، لعدم كون الجهر حينئذ قيداً ، مع كونه معاقباً على ترك الجهر الذي هو واجب نفسي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وكما يصحّ أخذ العلم بالحكم شرطاً في ثبوت الحكم ، كذلك يصحّ أخذ العلم بالحكم من وجه خاصّ وسبب خاص مانعاً عن ثبوت الحكم واقعاً ، بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب ، كما في باب القياس - إلى قوله - وبذلك يمكن أن توجّه مقالة الأخباريين

ص: 28


1- فوائد الأُصول 3 : 13.
2- فوائد الأُصول 4 : 294 وما بعدها.
3- كتاب الصلاة 3 : 380.

من أنّه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة ... الخ (1).

فإنّ لازم هذا التوجيه أنّ أخذ الحكم الواقعي من غير الكتاب والسنّة يوجب ارتفاع ذلك الحكم الواقعي عمّن قطع به من غير الكتاب والسنّة ، وأنّ شرط تحقّق الحكم الواقعي وإن كان بنحو نتيجة التقييد هو أخذه من طريق الكتاب والسنّة ، على وجه لا حكم في حقّ من أخذه من غير الكتاب والسنّة ، وهذا على الظاهر ممّا لا يرضى به الأخباريون ، لأنّ لازمه هو كون من أخذ الأحكام من غير الكتاب أو السنّة غير مكلّف بتلك الأحكام الواقعية المفروض كونها بحسب الواقع مقيّدة بمن أخذها من الكتاب أو السنّة ، وأنّ من أخذها من غيرهما لا حكم في حقّه ، سواء كان مرجع ذلك إلى اختصاص الأحكام الواقعية بخصوص من علمها من الكتاب والسنّة ، دون الجاهلين بها ودون من أخذها من غيرهما ، أو كان مرجعه إلى أنّ خصوص من أخذها من غير الكتاب والسنّة ليست مجعولة في حقّه ، والأوّل أوسع إشكالاً من الثاني ، لأنّ لازمه أن لا حكم للجاهل ، كما لا حكم لمن علم الحكم من غيرهما.

فالأولى توجيه مقالتهم بما وجّهها به في الكفاية (2) من منع قاعدة الملازمة ، أو دعوى كون المقدّمات العقلية لا تفيد العلم ، وأنّها إنّما تفيد الظنّ.

ولو قال قائل منهم أو من غيرهم بأنّ الشرط في صحّة ما يكون مورداً للتشريع من أفعال أو تروك لها آثار تكليفية أو آثار وضعية هو أخذ أحكامها من المعصومين ، على وجه لو حصل القطع بأحكامها من الطرق الأُخر لم يكن الجري على طبقها مجزياً ، ولا يترتّب عليه الأثر من إجزاء عن التكليف ومن

ص: 29


1- فوائد الأُصول 3 : 13 - 14.
2- كفاية الأُصول : 270.

ترتّب الأثر الوضعي ، فلو باع أو تزوّج أو طلّق أو صلّى أو أعتق جامعاً لجميع الشرائط المعتبرة ، ولم يكن أخذه ذلك من المعصومين ( صلوات اللّه عليهم ) لم يكن ذلك صحيحاً ، ولا يترتّب عليه شيء من الآثار ، وكان معاقباً على ذلك ، لم يكن بذلك بأس على الظاهر ، كما ربما يستفاد من قوله عليه السلام : « لم يكن له على اللّه ثواب » (1).

وكيف كان ، فالظاهر أنّ توجيه مقالة الأخباريين بما يرجع إلى نفي الحكم الواقعي عمّن قطع به من غير الكتاب والسنّة يمكن الجزم بأنّهم لا يريدونه. وكيف كان ، فليس المراد به هو اختصاص الأحكام بمن حصّلها من طريق الكتاب والسنّة ، على وجه يكون كلّ من الجاهل بها والعالم بها من غير طريق الكتاب والسنّة لا حكم له ، لأنّ ذلك ممّا يوجب معذورية كلّ من الجاهل الصرف الذي لم يسلك طريقاً أصلاً ، وسالك طريق الاستحسان والطرق العقلية المحضة ، إذ لا حكم حينئذ لهم في الواقع ، من دون فرق بين الجاهل الذي لم يسلك طريقاً أو السالك طريق غير الكتاب والسنّة.

بل المراد هو أنّ الحكم الواقعي غير مجعول في خصوص من حصّل العلم به من غير الكتاب والسنّة ، فإنّ من قطع بالحكم الواقعي من غير الكتاب والسنّة إن كان قطعه مطابقاً للواقع ، يقال له : إن هذا الحكم الواقعي الذي حصّلته من غير الكتاب والسنّة غير مجعول في حقّك ، وحينئذ فعليه أن يحصّل حكمه الواقعي في تلك الواقعة ، وأن يفحص عنه من طريق الكتاب والسنّة ، فإن تفحّص وكان مقتضى الكتاب والسنّة هو ذلك الذي حصّله أوّلاً فهو ، وإلاّ بأن وصل من طريق الكتاب والسنّة إلى خلاف ذلك الذي حصّله أوّلاً كان معذوراً. هذا فيما إذا كان

ص: 30


1- وسائل الشيعة 27 : 42 / أبواب صفات القاضي باب 6 ح 13.

قطعه السابق الذي حصّله من غير الكتاب والسنّة مطابقاً للواقع.

ومنه يعرف الحال فيما لو فرض كونه غير مطابق للواقع ، فإنّه يرى قطعه مطابقاً للواقع ، فيقال له أيضاً : إنّ هذا الحكم الواقعي ليس بحكم لك ، وحينئذ فالعقل أيضاً يلزمه بالفحص عن حكمه الواقعي من طريق الكتاب والسنّة ، فإن أوصلاه إلى الحكم الواقعي فهو ، وإلاّ كان معذوراً أيضاً ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ من فرضنا قطعه غير مطابق للواقع ، لا ريب في أنّ حكمه الواقعي هو غير هذا الذي توصّل إليه من غير الكتاب والسنّة ، غايته أنّه لأجل كونه قاطعاً به لا يمكن أن يقال له إنّ هذا ليس بحكمك الواقعي ، بل يقال له إنّ توصّلك إلى الواقع بالقياس مثلاً أوجب أن لا يكون هذا حكمك الواقعي. أمّا الذي فرضنا كون قطعه مطابقاً للواقع غايته أنّه حصّله من القياس ، فهذا لا يمكننا الالتزام بأنّ هذا الحكم الذي حصّله ليس حكمه الواقعي مع علمنا بأنّ قطعه مطابق للواقع ، وأنّ حكمه الواقعي هو هذا.

والحاصل : أنّا نسأل أنفسنا عن حكم هذا الشخص عندما توصّل إلى القطع بهذا الحكم الواقعي من القياس ، فنقول : إنّ حكمه الواقعي لا يعقل أن يكون هو غير هذا الحكم ، لأنّ المفروض كون قطعه مطابقاً للواقع ، وحينئذ إذا قلنا إنّ هذا الحكم الذي حصّله من القياس ليس بحكمه الواقعي ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه لا حكم له في هذه الواقعة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الشيخ قدس سره في الردّ على الأخباريين في ضمن قوله ثانياً بقوله قدس سره : إلاّ أن يدّعى أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمّة ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) تدلّ على مدخلية تبليغ الحجّة وبيانه في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم بطريق السماع عنهم عليهم السلام ولو

ص: 31

بالواسطة فهو غير واجب الاطاعة ، وحينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه السلام (1). فإنّ أمثال هذه الكلمات لا معنى لها إلاّعلى ما أفاده الأُستاذ قدس سره من رفع الحكم الذي حصل القطع به من غير طريق الكتاب والسنّة.

ويمكن أن توجّه مقالة الأخباريين بوجه آخر غير ما تقدّم من التوجيهات وذلك بأن توجّه مقالتهم بأنّ الأحكام الواقعية لا أثر لها ما لم تصل إلى درجة الفعلية ، التي هي درجة التبليغ والإعلان ، والمفروض أنّه منحصر بالكتاب والسنّة فلا أثر للحكم الواقعي الذي حصل القطع به من غير الكتاب والسنّة. وهذا توجيه حسن.

ولا يخفى أنّه لا يرد على هذا التوجيه ما تقدّم ذكره من أنّ لازمه هو أنّه لا حكم لذلك القاطع ، بل أقصى ما فيه هو أنّ هذا الحكم الذي حصل القطع به لا من الكتاب والسنّة يكون مورد الشكّ في فعليته إن كان يحتمل أنّه قد بلّغه الحجّة. كما أنّه لا يرد عليه أنّه محتاج إلى إقامة الدليل ، لأنّ هذه المقدّمة وهي أنّه لا أثر للحكم الواقعي ما لم يصل إلى درجة الاجراء والتبليغ كافية في الدلالة عليه.

نعم ، لابدّ لها من ضمّ المقدّمة الأُخرى وهي انحصار التبليغ بالكتاب والسنّة. وهذه المقدّمة الثانية غير بعيدة ، لأنّ المراد من التبليغ هو الإعلان والاجراء ، وصيرورة المولى بصدد تحصيل ذلك الحكم ، ومن الواضح أنّ هذه المرتبة لا يكفي في تحقّقها مجرّد الحكم العقلي ، إلاّ إذا كان بحيث يمكن الاعتماد عليه في حصول ما كان المولى بصدده من الإعلان والاجراء وتحصيله من المكلّفين ، وذلك لا يكون إلاّ إذا كان الحكم العقلي حاصلاً لنوع المكلّفين ، وهو ما يعبّر عنه بكونه فطرياً ، ولا ريب في ندرته ، بل يمكن القطع بعدم تحقّقه

ص: 32


1- فرائد الأُصول 1 : 62.

فيما نحن فيه من مورد الأحكام الشرعية ، كما هو المشاهد لمن سبر الفقه ، فإنّه لا يجد مسألة يكون الدليل على الحكم الشرعي فيها هو محض الدليل العقلي.

وأمّا التحسين والتقبيح العقليان وقاعدة الملازمة فهي فرض صرف ، فأين المسألة التي استقلّ العقل بالحكم الشرعي فيها ، بحيث يكون ذلك الحكم العقلي هو الكاشف الوحيد عن الحكم الشرعي ، بحيث يكون الحكم العقلي كافياً في ثبوت ذلك الحكم الشرعي حتّى في مثل الظلم ، فإنّه مضافاً إلى تصرّف الشارع المقدّس في موارده ممّا يكون قد خرج عن قبح الظلم حكماً أو موضوعاً بواسطة الطوارئ والعوارض ، مثل باب معاملاته مع الكافر الحربي ، ومثل أمره باخراج الكافر عن الجزيرة ، الذي ظاهره لزوم إخراجهم منها حتّى مع عدم تعدّيهم على المسلمين ، بل مثل حلّية الذبح والصيد فإنّه من الظلم بنظر جملة من العقلاء ، وهو مباح شرعاً لأُمور هناك تخرجه عن كونه ظلماً قبيحاً إخراجاً موضوعياً أو إخراجاً حكمياً ، هذا حال المستقلاّت العقلية.

وأمّا الوساوس الشيطانية من القياسات والأُمور الاستحسانية فهي أخسأ وأحقر من أن تكون كاشفة عن الأحكام الشرعية. وهكذا الحال في مثل الجفر ونحوه من الأطياف وغيره من الأُمور الخيالية.

والحاصل : أنّ الحكم العقلي إن كان على وجه يستكشف منه أنّ الحجج قد بلّغوا ذلك الحكم ، غايته أنّ ذلك لم يصل إلينا ، فلا أظنّ أنّ أحداً من الأخباريين لا يعتني بمثل ذلك الحكم العقلي الموجب حسب الفرض للقطع بأنّ الحجج قد بلّغوا ذلك الحكم. وإن كان ذلك الحكم العقلي مقروناً بالعلم بأنّ الحجج لم يبلّغوا ذلك الحكم ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ ذلك الحكم لم يبلغ مرتبة الاجراء والتبليغ ، فلا أثر له في مقام العمل. اللّهمّ إلاّ أن يعدّ ذلك الحكم

ص: 33

العقلي تبليغاً ، ويكون عدم تبليغ الحجج ذلك الحكم اعتماداً على ذلك الحكم العقلي واكتفاءً به لوضوحه. لكن يمكن أن يقال : إنّ المستفاد من الأخبار التي هي بمضمون « اسكتوا عمّا سكت اللّه تعالى عنه » (1) هو عدم ترتّب الأثر على ذلك الحكم العقلي ، ولو شكّ في ذلك فالبراءة حاكمة بنفيه.

وينبغي أن يعلم أنّ مسألة حكم العقل بوجوب المقدّمة ، وحرمة الضدّ المأمور بضدّه ، وتصحيح العبادة المأمور بضدّها اعتماداً على الملاك ، جميع هذه المسائل ونحوها خارجة عمّا هو محلّ النزاع مع الأخباريين في حجّية العقل ، فإنّ الأوّلين لا يخرجان عن الاعتماد على الدليل الدالّ على وجوب ذي المقدّمة والدالّ على وجوب أحد الضدّين ، ولأجل الملازمة الذاتية بين الوجوبين أو بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه نحكم بذلك ، وكذلك الاعتماد على الملاك في المسألة المفروضة ، لأنّ إثباته إنّما هو بالاطلاق لا بالمقدّمات العقلية كما حقّق في محلّه ، فراجع (2).

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره قال في أوّل رسالة القطع في مقام بيان القطع الموضوعي ، وأنّه ربما كان القطع فيه مطلقاً أو كان قطعاً خاصّاً من طريق خاصّ قال ما هذا لفظه : وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره مطلقاً أو على وجه خاصّ دليل ذلك الحكم الثابت الذي أُخذ العلم في موضوعه ، فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصية للانكشاف كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه

ص: 34


1- بحار الأنوار 2 : 260 / ب 31 / 14 ، من لا يحضره الفقيه 4 : 75 / باب نوادرالحدود ح 5149.
2- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 151 وما بعدها.

مبغوضاً ، فإنّ مدخلية القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً عند العقل ، لا يختصّ ببعض أفراده ، وكما في حكم الشارع بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته بقول مطلق ، بناءً على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيتين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم لا في نفس الأمر كما هو قول بعض. وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير الحاصل من الكتاب والسنّة كما سيجيء ، وما ذهب إليه بعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى الخ (1).

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده نقلاً عن بعض الأخباريين لا دخل له بدعوى كون الحكم الشرعي مختصّاً بخصوص من علم به من طريق الكتاب والسنّة ، وأنّ من علم الحكم الشرعي من الطرق الأُخر لا حكم له ، بل إنّ تلك الجملة مسوقة لبيان دعوى بعض الأخباريين اختصاص حجّية القطع ولزوم العمل به بخصوص القطع الحاصل من الكتاب والسنّة ، إذ ليس مراده بالحكم في قوله : وقد يدلّ دليل ذلك الحكم ، هو الحكم الشرعي الواقعي ، بل المراد بالحكم المذكور هو الحكم العقلي الذي هو وجوب العمل بالقطع في الشرعيات ، فإنّ هذا الحكم العقلي حكم من الأحكام ، يكون موضوعه هو القطع بأمر شرعي ، وهذا الحكم يكون مقيّداً بما إذا كان القطع حاصلاً من الكتاب والسنّة ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم ليس بحكم شرعي ، بل هو حكم عقلي موضوعه القطع بالحكم الشرعي ، وكون القطع موضوعاً لحكم من الأحكام لا ينحصر بما إذا كان ذلك الحكم شرعياً ، فإنّه قدس سره قد مثّل للقطع الموضوعي الذي كان مطلقاً وغير مقيّد بسبب خاصّ بلزوم إطاعة

ص: 35


1- فرائد الأُصول 1 : 31 - 32.

العبد وامتثال ما علم أنّ مولاه قد أمر به ، مع أنّ وجوب الاطاعة حكم عقلي لا شرعي.

وعلى هذا فيكون الحاصل من مجموع كلامه قدس سره في ذلك المقام أنّه بصدد بيان أنّ القطع الموضوعي يمكن أن يكون مطلقاً ، ويمكن أن يكون مقيّداً بسبب خاصّ ، والحكم في كلّ منهما تارةً يكون حكماً شرعياً ، وأُخرى يكون حكماً عقلياً ، فتكون الصور أربعاً.

وقد مثّل لكلّ واحدة منها بمثال ، فمثال الصورة التي يكون الحكم فيها عقلياً ويكون القطع الموضوعي مطلقاً ، هو ما ذكره من حكم العقل بحسن امتثال ما قطع العبد أنّه أمره به المولى وبقبح عصيانه.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها شرعياً مع كون القطع الموضوعي مطلقاً ، هو ما ذكره من مثال العلم بالخمرية بالنسبة إلى الحكم الشرعي بالنجاسة على رأي بعضهم.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها عقلياً ، مع كون القطع الموضوعي مقيّداً بسبب خاصّ ، هو ما ذكره من جواز العمل بالقطع في الشرعيات ، بناء على ما ذهب إليه بعض الأخباريين من اختصاص القطع المذكور بما إذا كان ناشئاً من الكتاب أو السنّة ، فإنّ الجواز المذكور حكم عقلي ، وموضوعه هو القطع المقيّد بكونه حاصلاً من الكتاب والسنّة ، فيكون مراده بالحكم في قوله : وقد يدلّ دليل الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به الخ ، هو نفس جواز العمل بالقطع المتعلّق بالشرعيات لا الشرعيات نفسها ، والمراد بالشيء في قوله : على ثبوته لشيء ، هو أحد الأُمور الشرعية ، والضمير في قوله : بشرط حصول القطع به ، راجع إلى الشيء لا إلى الحكم.

ص: 36

نعم ، يرد على هذا البعض من الأخباريين ما هو واضح ، من عدم معقولية تخصيص حجّية القطع بخصوص قطع خاصّ ، وهو ما عقده بعد ذلك للنزاع مع الأخباريين في حجّية القطع الناشئ من المقدّمات العقلية ، وليس غرضه هنا إلاّ مجرّد المثال.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وبما ذكرنا يرتفع ما ربما يستشكل في عبارة الشيخ من جعله مقالة الأخباريين من أمثلة العلم المأخوذ موضوعاً ، مع أنّه لا يمكن الخ (1) ، فإنّه قد اتّضح لك أنّ ذلك ليس من قبيل المثال لما يكون العلم فيه جزءاً من الموضوع للحكم الشرعي ، كي يتوجّه عليه الإشكال المذكور ، ويحتاج إلى الجواب بما أُفيد من متمّم الجعل ، بل هو من قبيل المثال لما يكون العلم فيه جزءاً من الموضوع للحكم العقلي ، فلاحظ وتأمّل.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها شرعياً مع كون القطع الموضوعي مقيّداً بسبب خاصّ ، هو ما ذكره من جواز عمل القاضي بما ثبت عنده من حقوق اللّه تعالى ، فإنّ الثبوت فيه يكون موضوعاً لجواز العمل ، وهو - أعني الثبوت المذكور - مقيّد بما إذا كان من الموازين الشرعية المقرّرة في كتاب القضاء ، دون ما إذا كان ثبوت ذلك بعلمه.

ثمّ إنّه قدس سره استطرد في التمثيل بما لو كان قطع شخص موضوعاً لحكم في حقّ شخص آخر ، فإنّه ربما كان القطع المذكور مقيّداً بما إذا كان حاصلاً من سبب خاص ، كما في رجوع العامي إلى المجتهد العالم بالحكم ، فإنّه مقيّد بما إذا كان علمه به ناشئاً عن الموازين المقرّرة للمجتهد ، دون ما إذا كان من مثل الجفر والرمل ونحوهما ، ومثل قبول الشهادة إذا كان الشاهد عالماً بما يشهد به عن حس

ص: 37


1- فوائد الأُصول 3 : 14.

لا عن حدس.

وأمّا ما ذكره قدس سره من مثال رجوع العامي إلى المجتهد الفاسق أو غير الإمامي ، فليس من قبيل تقييد القطع بما إذا كان من سبب خاصّ ، بل هو من قبيل التقييد بكون القاطع شخصاً خاصّاً.

قوله : وليس هذا في الحقيقة نهياً عن العمل بالعلم - إلى قوله - بل مرجع ذلك إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع فالتصرّف يرجع إلى ناحية المتعلّق - إلى قوله - إذ الحكم الواقعي قيّد بغير ما أدّى إليه القياس ... الخ (1).

ظاهره بل لازمه أنّه لو أدّى القياس الموجب للقطع إلى القطع بالحكم الواقعي ، بحيث إنّه كان ما أدّى إليه القياس هو نفس الحكم الواقعي ، بأن اتّفق أنّ ذلك القياس المؤدّي إلى القطع بالحكم الواقعي كان مطابقاً للواقع ، لكنّه لم يأخذه إلاّ من طريق القياس ، لم يكن الحكم الواقعي المذكور متحقّقاً في حقّ ذلك المستدلّ ، لأنّه حسب الفرض مقيّد بغير ما أدّى إليه القياس ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

فالأولى أن يقال : إنّ رواية أبان (2) كما لا دلالة فيها على النهي عن العمل بالقطع القياسي ، فكذلك لا دلالة فيها على تقييد الحكم الواقعي بغير ما أدّى إليه القياس ، بل أقصى ما دلّت عليه هو بيان أنّ القياس لا يكون من الأدلّة ، وأنّ السنّة إذا قيست محق الدين ، لكثرة الخطأ في القياس. ثمّ إنّه عليه السلام ناقشه في مقدّمات قياسه ، وبيّن له القاعدة في معاقلة المرأة للرجل ، وأنّها تعاقله إلى حدّ الثلث من

ص: 38


1- فوائد الأُصول 3 : 13.
2- وسائل الشيعة 29 : 352 / أبواب ديات الأعضاء ب 44 ح 1.

الدية ، فإذا زادت على الثلث رجعت إلى النصف. وبهذا البيان أفسد مقدّمات قياسه ، وأزال قطعه الحاصل من ذلك القياس.

فائدة : أنّ هذه الجملة الشريفة وهي « إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية » ذكرها ابن قتيبة في أوّل كتابه أدب الكاتب فقال : ولابدّ له ( أي للكاتب ) مع ذلك من النظر في جمل الفقه ومعرفة أُصوله من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحابته كقوله : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، والخراج بالضمان ، وجرح العجماء جبار - إلى قوله - والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، الخ (1).

قوله : فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ العلم إذا تعلّق بموضوع خارجي فالعلم بالنسبة إلى ذلك الموضوع يكون طريقاً محضاً ، وبالنسبة إلى أحكام ذلك الموضوع يمكن أن يكون طريقاً ويمكن أن يكون موضوعاً (2).

قلت : هذا بالنسبة إلى حكم ذلك الموضوع الذي تعلّق به القطع ، وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر فلابدّ أن يكون موضوعاً ، مثلاً إنّ الخمر موضوع وحكمه الواقعي هي الحرمة ، لكن يمكن أن يكون العلم بالخمرية موضوعاً لحكم آخر مثل أن يقول : إذا علمت بخمرية المايع الفلاني وجب عليك التصدّق بدرهم ، أو أن يقول : إنّ معلوم الخمرية حكمه النجاسة ، لكن لابدّ في ذلك الحكم الآخر [ أن يكون ] غير مضادّ ولا مماثل للحكم الواقعي المتعلّق بالخمر كما مثّلنا ، ولا يصحّ أن يقول : إذا علمت بخمرية المايع وجب عليك شربه أو حرم عليك شربه ، مع فرض كون حكم الخمر الواقعي هو الحرمة.

ص: 39


1- أدب الكاتب : 10.
2- فوائد الأُصول 3 : 14.

قوله : وإذا تعلّق بحكم شرعي فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعاً ، كما أنّه يمكن أن يكون موضوعاً بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم لكن بنتيجة التقييد ... الخ (1).

أمّا الأخير فقد عرفت (2) أنّه لا يمكن إصلاحه بمتمّم الجعل الراجع إلى رفع ذلك الحكم عن الجاهل ، وأنّ توجيهه منحصر بجعل الحكم على الذات التي تكون مقترنة بالعلم بنفس ذلك الحكم ، من دون أن يؤخذ ذلك قيداً فيها ، لكنّي في شكّ من ذلك ، ولم نعثر فعلاً على حكم من الأحكام الشرعية يكون مقيّداً بالعلم به بنفسه. ومسألة الجهر والإخفات والقصر والاتمام لا ينحصر توجيهها بذلك ، بل لها توجيهات أُخر تعرّضنا لها في محلّها (3) ، فراجعها.

وأمّا الأوّل وهو أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم آخر فهو أيضاً مشروط بما تقدّم ذكره من عدم كونه مضادّاً ومماثلاً للحكم الذي تعلّق به القطع المذكور ، مثل أن يقول : إذا علمت بحرمة شرب الخمر فتصدّق بدرهم ، دون ما لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر جاز لك شربها أو حرم عليك شربها.

أمّا الأوّل فواضح لكونه تناقضاً ، ولا يصلحه اختلاف الرتبة.

ومنه يظهر لك الحال في الثاني ، بناءً على محالية اجتماع المثلين

ص: 40


1- فوائد الأُصول 3 : 14.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 22 وما بعدها.
3- أشار قدس سره إلى ذلك في الصفحة : 28 ، وتعرّض قدس سره لذلك في مبحث الترتّب ، فراجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : 398 وما بعدها ، وسيأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب التعرّض له أيضاً ، فراجع الصفحة : 550 وما بعدها في التعليق على فوائد الأُصول 4 : 291 - 292 وكذا ما بعدها من الحواشي.

كالضدّين ، إذ لا يصلحه حينئذ اختلاف الرتبة. أمّا إصلاحه بالتأكّد فهو أيضاً غير تامّ ، إذ لا يمكن تأكّد السابق في الرتبة بما يكون متأخّراً عنه.

نعم ، من جمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية باختلاف الرتبة بحيث إنّه أجاب عن التدافع بينهما باختلاف الرتبة ، يتوجّه عليه الإشكال بذلك ، وأنّه ينبغي أن يسوغ للحاكم أن يقول : إذا قطعت بحرمة الخمر جاز أو وجب عليك شربها ، أو حرم عليك شربها بحرمة ثانية مماثلة للأُولى. ولا يمكنه الجواب عنه بأنّه تناقض أو اجتماع مثلين في نظر القاطع ، فلأجل ذلك لم يصحّ ذلك الجعل الثاني.

ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض أنّ اختلاف الرتبة مسوّغ لذلك الجمع كيف يكون ذلك تناقضاً بنظر القاطع ، فتأمّل.

نعم ، أجاب عنه المرحوم الشيخ عبد الكريم قدس سره في أوائل القطع بأنّ القطع بالحكم يحقّق موضوع الاطاعة والمعصية في نظر القاطع ، ومع تحقّقهما في نظر القاطع يكون الحكم على خلاف ما قطع به ترخيصاً في ترك الاطاعة وفي فعل المعصية ، وهو قبيح عقلاً ، لا من جهة التناقض بين الحكمين (1).

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه يبقى الإشكال في الحكم المماثل ، فإنّه لا يشتمل على ما ذكره من الترخيص في ترك الطاعة وفعل المعصية. كما أنّه لا وجه فيه للاندكاك ، لأنّ المفروض اختلاف الرتبة المانع من الاندكاك. اللّهمّ إلاّ أن يلتزم فيه بكون ذلك من قبيل اجتماع العنوان الأوّلي والثانوي ، لكن لازمه الالتزام بالكسر والانكسار في الحكم المضادّ أو المناقض ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 41


1- درر الفوائد 1 - 2 : 327 - 329 ( نُقل بالمضمون ).

ولشيخنا قدس سره في هذا المقام كلمات حرّرناها فيما علّقناه ص 24 (1) ، وراجع ما في التحريرات المطبوعة في صيدا ، فإنّه قال في التحريرات المزبورة : بقي هناك شيء وهو أنّ موضوع الحكم إذا كان مرسلاً وغير مقيّد بكونه معلوماً ، فهل يمكن أخذ القطع به في موضوع حكم آخر مثله أو ضدّه أم لا؟ أمّا بالنسبة إلى الضدّ فلا إشكال في عدم جوازه ، لما فيه من اجتماع الضدّين ، وامتناع امتثال المكلّف في الخارج. وأمّا بالنسبة إلى الحكم المماثل فربما يقال فيه بالجواز ، نظراً إلى عدم ترتّب محذور على ذلك إلاّما يتوهّم من استلزامه لاجتماع المثلين ، وهو لا يكون بمحذور في أمثال المقام أصلاً ، فإنّ اجتماع عنوانين في شيء واحد يوجب تأكّد الطلب ، وأين ذلك من اجتماع الحكمين المتماثلين ، وقد وقع نظير ذلك في جملة من الموارد ، كما في موارد النذر على الواجب وأمثاله.

ولكن التحقيق هو استحالة ذلك أيضاً ، فإنّ القاطع بالخمرية مثلاً إنّما يرى الخمر الواقعي ، ولا يرى الزجر عمّا قطع بخمريته إلاّزجراً عن الواقع ، فليس عنوان مقطوع الخمرية عنده عنواناً آخر منفكّاً عن الخمر الواقعي ومجتمعاً معه أحياناً حتّى يمكن تعلّق حكم آخر عليه في قبال الواقع ، كما في موارد اجتماع وجوب الشيء في حدّ نفسه مع وجوب الوفاء بالنذر وأمثاله ، ومع عدم قابلية هذا العنوان لعروض حكم عليه في نظر القاطع لا يمكن جعله له حتّى يلتزم بالتأكّد في موارد الاجتماع (2).

وبنحو ذلك صرّح فيما حرّرته ، قال : بقي في المقام مطلب متعلّق بما تقدّم من إمكان أخذ العلم قيداً أو مانعاً بالنسبة إلى ما تعلّق به من الحكم على نحو

ص: 42


1- لعلّ المقصود بذلك تحريراته قدس سره المخطوطة.
2- أجود التقريرات 3 : 34 - 35.

نتيجة التقييد ، فاتتنا الاشارة إليه في محلّه ، وهو أنّ ذلك العلم المتعلّق بحكم من الأحكام لا يعقل أن يكون موضوعاً لحكم آخر يماثله أو يضادّه. أمّا الثاني فواضح ، لكونه موجباً لاجتماع الضدّين. وأمّا الأوّل فقد يتوهّم أنّه لا بأس به فيكون من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، بأن يكون الأوّلي لاحقاً لنفس موضوعه ، ويكون الحكم الثانوي لاحقاً له بعنوان كون ذلك الحكم معلوماً ، ويندك أحد الحكمين بالآخر ، ويتأكّد الأوّل بالثاني.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين العنوان الثانوي الذي يكون من قبيل النذر ، وبين ما إذا كان من قبيل العلم ، فإنّ الأوّل يصلح لأنّ يكون علّة في إيجاد حكم ثانٍ ، بخلاف الثاني - أعني العلم - فإنّه لا يصلح لذلك ، حيث لا يكون النظر فيه إلاّمن جهة الكشف عن متعلّقه ، فلا يكون مؤثّراً في الواقع أصلاً ، فلا يعقل أن يكون له المدخلية في شيء أصلاً ، ولا يمكن أن يكون مؤثّراً في المصالح والمفاسد الواقعية ، فهو غير صالح لأن يكون مؤثّراً في جعل حكم على موضوع الحكم الذي تعلّق به لا ملاكاً ولا خطاباً ، فتأمّل.

قلت : وبين التحريرين فرق ، في أنّ الأوّل مسوق لبيان أنّ العلم المتعلّق بموضوع ذي حكم واقعي لا يمكن أخذه في موضوع آخر يماثل حكم متعلّقه أو يضادّه ، والثاني مسوق لبيان أنّ العلم المتعلّق بحكم واقعي لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم آخر يماثل متعلّقه أو يضادّه.

ولا يخفى أنّ التأكّد لا يتأتّى في الفرض الثاني ، وهو أخذ القطع بالحكم الواقعي موضوعاً لحكم آخر يضادّه أو يماثله ، كما هو آت في أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ حكم متعلّقه أو يماثله ، إذ لا يمكن تصحيح أخذه في المماثل بالتأكّد ، لما عرفت من أنّ التأكّد إنّما يتأتّى في اتّحاد

ص: 43

الرتبة كما في نذر الفعل الواجب ، فإنّ ذلك الفعل المنذور في حدّ نفسه يكون واجباً ، وبواسطة تعلّق النذر به يكون واجباً بوجوب آخر ، فنلتزم بتأكّد الوجوبين لكونهما معاً في رتبة واحدة ، حيث إنّ تعلّق النذر بذات الفعل المفروض كونه واجباً لا يكون متأخّراً في الرتبة عن نفس وجوبه الأوّلي ، بخلاف العلم بنفس الوجوب ، فإنّه لو أُخذ في وجوب مماثل لما تعلّق به العلم المذكور ، كان الوجوب الثاني متأخّراً في الرتبة عن الوجوب الأوّل ، ولا يمكن أن يكون الثاني منهما مؤكّداً للأوّل.

نعم ، يتأتّى ذلك في الأوّل ، وهو أخذ العلم بموضوع ذي حكم واقعي موضوعاً لحكم آخر مماثل للحكم الأوّل ، مثل أن يقول : إذا علمت بكون الشيء خمراً - المفروض كونه حراماً في الواقع - فقد حرم شربها.

وما أفاده قدس سره في التحريرات المشار إليها من الجواب عنه بما يرجع إلى استحالته من جهة أنّ القاطع بالخمرية إنّما يرى الخمر الواقعي ، قابل للتأمّل ، فإنّ لازمه هو عدم إمكان أخذ القطع بشيء موضوعاً لحكم من الأحكام ، من جهة أنّ القاطع لا يرى إلاّمتعلّق قطعه. وكذلك الحال فيما نقلناه عنه قدس سره من كون العلم غير قابل للتأثير في عالم المصالح والمفاسد.

والخلاصة : أنّه على الظاهر لا مانع من أخذ العلم بموضوع ذي حكم موضوعاً لما يماثل حكم ذلك الموضوع.

لا يقال : إذا سوّغتم اجتماع المتماثلين ودفعتم الإشكال بالتأكّد ، فلِمَ لم تسوّغوه في الضدّين أو المتناقضين وتدفعوا الإشكال فيه بالكسر والإنكسار ، بناءً على ما ذكرتموه من كون عنوان القطع مؤثّراً في الصلاح والفساد.

لأنّا نقول : إنّما لم نلتزم بذلك لأنّه موجب للغوية الحكم الواقعي ، إذ لا أثر

ص: 44

له إلاّعند قيام الحجّة عليه التي هي القطع أو الظنّ المعتبر القائم مقامه ، فإذا قلنا إنّ هذه العناوين موجبة لقلب الواقع ، كان ذلك الحكم الواقعي لغواً في مورد قيام القطع أو الظنّ المعتبر على تحقّق موضوعه.

نعم ، في مثل ما لو قال : إذا قطعت بخمرية الشيء - المفروض كون حكمها الواقعي هو الحرمة - فقد حرمت عليك ، لو كان أخذ القطع المذكور في الحرمة الثانية على نحو تمام الموضوع ، واتّفق خطأ ذلك القطع بأن كان ذلك الشيء ماءً مطلقاً وحكمه الواقعي الأوّلي هو الجواز ، يكون اللازم هو اجتماع النقيضين بالنسبة إلى ذلك القاطع ، فلابدّ في مثل ذلك من الالتزام بالكسر والانكسار ، فتأمّل.

والخلاصة : أنّ ما نقلناه عنه قدس سره من أنّ القطع بالخمرية مثلاً لا يعقل أن يكون مؤثّراً في صلاح أو فساد ، لعلّه سدّ لباب القطع الموضوعي بالمرّة.

وأمّا ما نقله عنه قدس سره في التحريرات المشار إليها من أنّ القاطع بالخمرية مثلاً إنّما يرى الخمر الواقعي ، ولا يرى الزجر عمّا قطع بخمريته إلاّزجراً عن الواقع الخ ، يمكن القول بأنّه من باب المغالطة الناشئة عن اشتباه المفهوم بالمصداق ، فإنّ الذي لا يرى نفس القطع إنّما هو القاطع في مرتبة عروض قطعه ، والذي يأخذ القطع موضوعاً إنّما هو الحاكم ، غايته أنّه في حال جعل الحكم يلاحظ القطع حاكياً عمّا في الخارج من القطع الواقع آلة للحاظ متعلّقه ، ومن الواضح أنّ الحاكم في مرتبة لحاظه القطع حاكياً عمّا هو في الخارج آلة للحاظ متعلّقه ، لا يكون القطع بالنسبة إليه حاكياً عن متعلّقه ، بل لا يكون إلاّحاكياً عن نفسه كما عرفت (1) في تصوير أخذ القطع من حيث الطريقية تمام الموضوع.

ص: 45


1- في الصفحة : 20 قوله : وثانياً.

لا يقال : إنّ القاطع إذا فرض أنّه لا يرى من قطعه إلاّ الواقع ، كيف يلتفت إلى قطعه المفروض كونه موضوعاً للحكم.

لأنّا نقول : هذا أمر سهل ، فإنّه بعد مرتبة عروض القطع بالخمرية يلتفت إلى أنّه قد قطع بها وصارت معلومة لديه ، وبذلك يتحقّق عنده موضوع الحكم الثاني.

وأمّا ما أفاده لبرهان المنع من أخذ القطع بالموضوع موضوعاً لحكم يكون ضدّاً لحكم ذلك الموضوع ، بقوله : أمّا بالنسبة إلى الضدّ فلا إشكال في عدم جوازه ، لما فيه من اجتماع الضدّين وامتناع امتثال المكلّف في الخارج الخ (1) فيمكن القول بأنّ المسألة لا تنتهي إلى اجتماع الضدّين ، لأنّ الموضوع مختلف ، حيث إنّ موضوع الحكم الأوّل هو نفس الخمر مثلاً ، وموضوع الحكم الثاني هو العلم بالخمرية ، فلا يكون اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد. نعم إنّ الخمر بعنوانها الأوّلي تكون محكومة بالحرمة ، وبعنوانها الثانوي تكون محكومة بالوجوب أو الجواز مثلاً ، وحينئذ يكون المقام من قبيل الكسر والانكسار ، كما هو الشأن في اجتماع العناوين الأوّلية مع العناوين الثانوية ، وحيث يكون الغالب هو ذا العنوان الثانوي ، يكون الحكم اللاحق للعنوان الأوّلي لغواً كما عرفت. وأمّا التعليل بعدم المقدورية على التكليفين ، فهو إنّما يتأتّى فيما لو كان كلّ من الحكمين إلزامياً ، أمّا إذا لم يكونا إلزاميين ، مثل أن يكون الأوّل هو الكراهة والثاني هو الاباحة ، أو كان أحدهما إلزامياً والآخر غير الزامي ، فلا يتأتّى التعليل ، لعدم إمكان اجتماعهما بعدم القدرة على امتثالهما.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس سره أشار إلى بعض صور هذه المسألة فقال : الأمر

ص: 46


1- أجود التقريرات 3 : 34.

الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين. نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضدّه الخ (1) فلم يذكر إلاّصورة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر يماثله أو يضادّه.

وشيخنا قدس سره حسبما نقله في التحرير المشار إليه (2) لم يذكر إلاّ الصورة الثانية ، وهي صورة أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يماثل حكم متعلّقه أو يضادّه.

وكيف كان ، فقد يقال في الصورة الأُولى بالصحّة ، نظراً إلى اختلاف الرتبة ، وبذلك جمع هذا القائل بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية ، غير أنّه منعه في صورة العلم لكونه تناقضاً في نظر القاطع.

وفيه : أنّه لو كان اختلاف الرتبة مصحّحاً لاجتماع النقيضين أو الضدّين ، لم يكن ذلك تناقضاً حتّى في نظر القاطع ، وحينئذ يتعيّن عليه أن يقول في الجواب عن صورة العلم بالحكم الواقعي إنّ المانع منه هو عدم القدرة.

وعلى كلّ حال ، أنّ الجواب بالتناقض أو عدم القدرة إنّما يحسن في صورة أخذ القطع بحكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ ذلك الحكم الذي تعلّق به القطع.

أمّا صورة أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ حكم ذلك المتعلّق ، فالأولى في الجواب عنها بأنّها من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية الموجبة للكسر والانكسار ، الموجب للغوية الجعل الأوّل إن كان هو المغلوب ، أو الجعل الثاني إن كان هو المغلوب.

ص: 47


1- كفاية الأُصول : 266 - 267.
2- أجود التقريرات 3 : 34 - 35.

وحينئذ لا يكون الأمر منتهياً إلى اجتماع الضدّين ، ولا إلى عدم القدرة ، بل يكون عمدة الإشكال هو لزوم اللغوية. نعم بناءً على أنّ ذلك من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية يكون اللازم في صورة المماثل هو الالتزام بالتأكّد ، فتأمّل (1).

هذا كلّه مبني على أنّ الحكم الآتي من ناحية القطع في الصورة الثانية غير متأخّر في الرتبة عن الحكم الواقعي للموضوع الذي تعلّق به القطع المذكور وحينئذ يكون مورداً للتأكّد لو كان الحكم الثاني مماثلاً للأوّل ، وللكسر وللانكسار لو كان مضادّاً له ، بخلاف الصورة [ الأُولى ] فإنّ الحكم الثاني الآتي من ناحية القطع لمّا كان متأخّراً في الرتبة عن الحكم الذي تعلّق به القطع المذكور ، لم يمكن الالتزام فيه بالاندكاك والتأكّد فيما لو كان مماثلاً ، ولا بالكسر والانكسار لو كان مضادّاً ، لأنّهما لأجل اختلافهما في الرتبة لا يعقل فيهما الاندكاك والتأكّد ، ولا

ص: 48


1- [ وجدنا هنا ورقة منفصلة ذكر قدس سره فيها ما يلي : ] وخلاصة البحث : أنّ العلم المتعلّق بحكم أو بموضوع ذي حكم لا يمكن جعله موضوعاً لحكم آخر مماثل لمتعلّقه أو لحكم متعلّقه ولا مضادّ له ، للزوم اجتماع المثلين أو الضدّين ، واختلاف الرتبة لا يدفع الغائلة. ولو التزمنا بالتأكّد في المثلين كان ذلك تخريجاً على العناوين الثانوية بالنسبة إلى العناوين الأوّلية ليكون قولنا إذا قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك ، أو إذا قطعت بأنّ هذا خمر الذي هو حرام واقعاً حرم عليك ، من قبيل حرمة شرب النجر. وأنّه لو كان مغصوباً كان شربه حراماً. وإذا ألحقنا ما نحن فيه بذلك الباب أعني باب العناوين الأوّلية ، كان اللازم هو الالتزام بالكسر والانكسار في صورة كون الحكم الآخر مضادّاً للحكم الأوّل ، وحينئذ يكون جعل الحكم الأوّل لغواً ، لأنّه لا أثر له عند عدم العلم ، وعند العلم به يتأكّد بالحكم الآخر أو يرتفع بذلك الحكم الآخر. نعم يمكن ذلك في الجهل بالنسبة إلى الحكم الأوّلي المجعول للذات ، بجعل الجهل عنواناً ثانوياً رافعاً لحكم الذات ، ولا يكون موجباً للغوية جعل الحكم الأوّل ، لتحقّقه وترتّب الأثر عليه عند العلم به ، فلاحظ وتأمّل.

يعقل فيهما الكسر والانكسار أيضاً.

ولكن هذا الفرق لا يخلو من تأمّل ، فإنّ الحكم الآتي من القطع في الصورة [ الثانية ] أيضاً يكون متأخّراً في الرتبة عن الحكم الذي هو لاحق للموضوع الذي تعلّق به القطع المزبور ، فإنّ الحكم الواقعي للخمر الواقعي لا شبهة في تأخّره رتبة عن موضوعه الذي هو الخمر ، كما أنّ العلم بالخمرية أيضاً يكون متأخّراً عن نفس الخمرية ، فيكون العلم بالخمرية مع الحرمة اللاحقة للخمر في رتبة واحدة ، لكون كلّ منهما متأخّراً رتبة عن نفس الخمرية ، فالحكم الآخر الآتي من ناحية العلم بالخمرية لابدّ أن يكون متأخّراً عن الحكم الأوّل اللاحق لنفس الخمرية ، لكونه متأخّراً عن العلم بها الواقع في رتبة الحرمة اللاحقة لنفس الخمرية ، لأنّ ما هو متأخّر رتبة عن الشيء يكون متأخّراً رتبة عمّا هو في رتبة ذلك الشيء ، مثلاً لو كان للعلّة الواحدة معلولان وكان أحد المعلولين علّة لمعلول آخر ، يكون ذلك المعلول الثالث واقعاً في رتبة المعلول الآخر الذي هو في الرتبة توأم مع علّته ، وبناءً على ذلك تتّحد الصورتان في عدم إمكان الالتزام فيهما بالتأكّد في صورة المماثلة والكسر والانكسار في صورة المضادّة.

لا يقال : إنّ الحكم الواقعي أعني الحرمة اللاحقة للخمر لمّا كان موضوعها وهو الخمر مطلقاً من ناحية العلم به إطلاقاً لحاظياً ، كانت الحرمة المذكورة واردة على كلّ من الخمر المعلوم الخمرية والخمر المجهول الخمرية ، فتكون الحرمة المذكورة متأخّرة رتبة عن العلم والجهل بالخمرية ، فتكون في عرض الحكم الآتي من ناحية العلم بالخمرية ، فيكون الحكمان في رتبة واحدة.

لأنّا نقول : ليس مفاد الاطلاق اللحاظي هو كون العلم بالخمرية والجهل بها واقعين تحت الحكم بالحرمة المذكورة ، على وجه يكونان جزء موضوعها لتكون

ص: 49

متأخرة رتبة عنهما ، بل مفاده هو أنّ هذا الحكم وهو الحرمة وارد على ذات الخمر ولا دخل للجهل ولا للعلم بالخمرية في موضوعيته للحرمة المذكورة ، فلا يكون العلم بالخمرية متقدّماً رتبة على حكم الخمر واقعاً ، كي يكون الحكم الثاني الحاصل من العلم واقعاً في عرض الحكم الأوّل ، بل هو متأخّر عنه لكونه واقعاً في مرتبة ما هو متأخّر عنه ، لأنّ ما هو متأخّر عن الشيء يكون متأخّراً عمّا هو في رتبة ذلك الشيء.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ما هو متأخّر رتبة عن الشيء لا يلزم أن يكون متأخّراً في الرتبة عمّا هو في عرض ذلك الشيء ، وكما أنّه ليس بمتأخّر عنه فهو أيضاً ليس بمقدّم عليه ، بمعنى أنّه ليس بينهما تأخّر ولا تقدّم رتبي ، إذ لا علّية ومعلولية بينهما ، ومجرّد كونه واقعاً في عرض علّته لا يوجب كونه متأخّراً عنه ، كما أنّه ليس بمقدّم عليه.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ التأخّر الرتبي يمنع من التأكّد كما يمنع من الكسر والانكسار ، لكنّه لا يصحّح الاجتماع ، لأنّ ما يحكم بمحاليته هو الاجتماع في الزمان الواحد وهو حاصل وجداناً ، واختلافهما في الرتبة لا يرفع غائلة اجتماعهما في الزمان.

لا يقال : إنّ اختلاف الرتبة يرفع غائلة الاجتماع كاختلاف الزمان ، كما في العلّة والمعلول فإنّهما مجتمعان في الزمان الواحد ، مع أنّ المعلول معدوم في مرتبة العلّة ، كما أنّ العلّة ليست متحقّقة في رتبة المعلول ، فيلزم من ذلك اجتماع النقيضين أعني وجود العلّة يعني في الرتبة السابقة على المعلول ، وعدمها يعني في رتبة المعلول ، وهكذا الحال في المعلول فإنّه معدوم يعني في رتبة العلّة ، وموجود يعني في الرتبة المتأخّرة عن العلّة ، فكان كلّ منهما موجوداً ومعدوماً في

ص: 50

زمان واحد. لكن المصحّح لهذا الوجود والعدم بالنسبة إلى كلّ منهما هو الاختلاف في الرتبة.

لأنّا نقول : هذه مغالطة ناشئة عن خلط الوجود بالتحقّق في الرتبة ، إذ لا إشكال في وجود العلّة مع المعلول ، وليست هي بمعدومة معه ، فلا يصحّ أن يقال إنّها ليست بموجودة معه ، إذ ليست هي بمنعدمة بعد وجودها. نعم رتبة تحقّقها قبل رتبة تحقّقه ، وأين هذا من انحصار وجودها بما قبل وجوده على وجه تكون عند وجوده منعدمة. وهكذا الحال في ناحية المعلول فإنّه ليس بمنعدم في حال وجود العلّة ، بل هو موجود معها. وإن شئت فقل : هما موجودان معاً ، وليس أحدهما منعدماً عند وجود الآخر ، غاية الأمر أنّ ذات العلّة متقدّمة على ذات المعلول ، لا أنّ وجودها يكون متقدّماً على وجود المعلول على [ نحو ] يكون وجود الثاني بعد وجود الأوّل ، فإنّه خلف لما ذكرناه من كونهما موجودين معاً في زمان واحد.

والحاصل : أنّ اجتماع وجود الشيء مع عدمه في الزمان الواحد محال عقلاً ، وهو حاصل في المتناقضين المختلفين رتبة الموجودين في زمان واحد. نعم هذا التأخر الرتبي يمنع من التأكّد والاندكاك في صورة التماثل والكسر والانكسار في صورة التضادّ. وقد تعرّضنا لهاتين الجهتين - وهما أنّ ما هو متأخّر عن رتبة الشيء يكون متأخّراً عمّا يكون في عرضه ، وأنّ النقيض لا يكون إلاّفي رتبة نقيضه - في أوائل مسألة الضدّ فيما علّقناه على التحرير المطبوع في صيدا ص 216 (1) فراجعه تجد فيه اختلافاً مع ما حرّرناه هنا ، والمسألة بعدُ عندي في

ص: 51


1- وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 128 ومابعدها.

غاية الإشكال.

أمّا مسألة تأخّر الشيء رتبة عمّا هو في عرض علّته ، أعني بذلك معلول أحد معلولي العلّة الواحدة ، فالتأمّل فيها من ناحية إمكان كون الواحد علّة للاثنين ، فإنّهم منعوا من ذلك ، وحينئذ لابدّ من فرض ذلك الشيء الواحد ذا جهتين يؤثّر بإحداهما في أحد المعلولين وبالأُخرى في الآخر ، وحينئذ يكون كلّ واحد من المعلولين مستنداً إلى علّة مستقلّة ، فلا يكون بينهما اتّحاد في الرتبة ، إذ لا ربط بينهما ولا بين علّتيهما ، غاية [ الأمر ] أنّه قد اجتمع علّتاهما في زمان واحد ، وهذا لا يوجب اتّحاد الرتبة بين العلّتين ولا بين المعلولين.

وأمّا مسألة العلّة والمعلول ، وأنّ العلّة معدومة في مرتبة المعلول ، كما أنّ المعلول منعدم في مرتبة العلّة مع أنّهما موجودان معاً في زمان واحد فيلزم اجتماع النقيضين ، فإنّك وإن عرفت الجواب عنه فيما تقدّم من كونه من قبيل الخلط بين الوجود ( الرتبي والوجود الزماني ، فهو في الحقيقة راجع إلى حصر التناقض بالوجود والعدم الزماني ، وأنّ أحد النقيضين لو كان رتبياً والآخر زمانياً لم يكن ذلك من التناقض ) (1) إلاّ أنّ نفسي لا تكاد تطمئن به وتركن إليه ، لأنّ ذلك إن رجع إلى أنّ انعدام المعلول في صقع العلّة ليس بانعدام ، فهو خلاف المعلوم بالوجدان ، إذ لا ريب في أنّ المعلول في مرتبة العلّة منعدمٌ ، وإلاّ لكان هو متحقّقاً في مرتبة العلّة. وإن كان مرجعه إلى أنّه انعدام للمعلول لكنّه ليس بنقيض لوجود المعلول في صقع نفسه ، بل إنّ نقيضه هو وجود المعلول في ذلك الصقع أعني صقع العلّة ، كما أنّ وجود المعلول في صقع نفسه لا يكون نقيضه إلاّعدمه في ذلك الصقع أعني صقع نفسه ، فلم يجتمع النقيضان في صقع ، وإن جمعهما زمان

ص: 52


1- [ العبارة ما بين القوسين ضرب عليها المصنّف قدس سره خط المحو ، فلاحظ ].

واحد ، فذلك هو عين ما يقال من أنّه يكفي في رفع التناقض اختلاف الرتبة وإن اتّحد الزمان.

نعم ، هنا شيء وهو أنّ نسبة المعلوم إلى العلم المتعلّق به ليس هو عين نسبة العلّة إلى معلولها ، فلا تكون الحرمة الواقعية علّة حقيقية بالنسبة إلى العلم بها (1) ، لما نشاهده من تحقّق الحرمة الواقعية مع عدم تحقّق العلم بها.

وبالجملة : أنّ تلك الحرمة الواقعية لا تكون علّة حقيقية للعلم بها ، بل إنّ ذلك من قبيل المعروض والعارض ، وحينئذ لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لا تكون الحرمة الواقعية علّة حقيقية للعلم بها ، فلا يكون تأخّر العلم بالحرمة الواقعية عن نفس تلك الحرمة من قبيل تأخّر المعلول عن علّته.

نعم ، إنّ العلم بالحرمة الواقعية وإن لم يكن في حدّ نفسه علّة حقيقية لوجوب شربها ، إلاّ أنّه بعد أن جعله الشارع موضوعاً للوجوب المذكور ، يكون علّة شرعية للوجوب المذكور ، فيكون تأخّر الوجوب المذكور عن العلم بالحرمة الواقعية من قبيل تأخّر المعلول عن علّته ، لكن تأخّر العلم المذكور عن متعلّقه الذي هو الحرمة الواقعية ليس من قبيل تأخّر المعلول عن علّته ، لما عرفت من عدم كون المعلوم علّة حقيقية للعلم ، وإلاّ لكان المعلوم محقّقاً للعلم ، واستحال تأخّر العلم زماناً عن المعلوم ، بل هما من قبيل المعروض والعارض ، وليس بينهما تأخّر رتبي خارجي.

نعم ، إنّهما في مقام التصوّر واللحاظ يكون الأوّل منهما وهو الحرمة

ص: 53


1- [ في الأصل وردت العبارة هكذا : فلا تكون الخمرية الواقعية علّة حقيقية بالنسبة إلى حرمتها. لكن سياق العبارة يقتضي ما أثبتناه ].

المعلومة متقدّماً على الثاني وهو العلم بها ، فإنّك عند تصوّرك لهما لا تتصوّر كلاً منهما في عرض الآخر ، بل تتصوّرهما متدرّجين ، فترى ذات المعلوم وهو الحرمة الواقعية ، وترى نفس العلم متعلّقاً وترى بينهما اثنينية ، وترى الثاني متعلّقاً بالأوّل منهما ، كما هو الشأن في كلّ معروض وعارضه ، من دون أن يكون بينهما في الخارج تقدّم وتأخّر رتبي. وهذا بخلاف العلّة الحقيقية ومعلولها ، فإنّهما وإن اجتمعا في الزمان إلاّ أنّ الأوّل منهما وهو العلّة متقدّم في الرتبة على الثاني الذي هو المعلول تقدّماً واقعياً ، لا بحسب مجرّد التصوّر واللحاظ ، بل تدرّج في الوجود الخارجي وإن كان الزمان واحداً.

وحينئذ نقول : لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لم يكن الوجوب متأخّراً في الرتبة عن الحرمة الواقعية ، فإنّه وإن سلّمنا تأخّره عن العلم بالحرمة الواقعية ، إلاّ أنّ العلم بالحرمة الواقعية ليس بمتأخّر عن نفس تلك الحرمة ، وإنّما أقصى ما في البين أنّ تصوّر العلم بالحرمة المذكورة يكون متأخّراً عن تصوّر نفس الحرمة المذكورة ، ومن الواضح أنّ التأخّر التصوّري ليس هو عين التأخّر الواقعي ، كي يقال إنّ العلم بالحرمة يكون متأخّراً رتبة عن الحرمة المذكورة واقعاً ، كما أنّه متأخّر عنها زماناً.

على أنّ في النفس شيئاً من هذا التقدّم الرتبي الواقعي حتّى في مقام العلّة والمعلول ، فإنّه ليس بتقدّم واقعي أو خارجي ، مضافاً إلى أنّه ليس بتقدّم زماني ، بل ليس هو إلاّعبارة عن أنّك ترى الاثنينية بينهما ، وترى في مقام التصوّر واللحاظ أنّ الأوّل منهما سابق على الثاني ، فلا يكون ذلك إلاّعبارة عن أنّ لحاظ العلّة قبل لحاظ المعلول. وبعبارة أُخرى : يكون الوجود الذهني للعلّة سابقاً على الوجود الذهني للمعلول مع كون وجود أحدهما في الخارج مقارناً لوجود الآخر.

ص: 54

وحاصل ذلك : أنّك في مرتبة لحاظك للعلّة ونظرك إليها لا ترى المعلول ، وفي مرتبة لحاظك للمعلول لا ترى العلّة ، مع أنّ وجود أحدهما في الخارج كان مقروناً بوجود الآخر ، وحينئذ فلندع العلم بالحرمة جانباً ونقول : إذا [ قال ] المولى إذا حرم عليك شرب الخمر وجب عليك شربها ، كان الحكم الأوّل موضوعاً للثاني ، فيكون الثاني متأخّراً رتبة عن الأوّل على حذو تأخّر المعلول عن العلّة (1) ، فلو تحقّق حرمة شرب الخمر في الخارج تحقّق فيه وجوب شربها ، فهل ترى من نفسك أنّ اجتماعهما جائز لمجرّد أنّك في حال لحاظك لحرمة الشرب لا ترى وجوبه ، وفي لحاظك وجوبه لا ترى حرمته ، فيكونان مختلفين في الرتبة مع كونهما موجودين في الخارج معاً على وجه لا تقدّم خارجاً لأحدهما على الآخر ، كلاّ ثمّ كلاّ ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّ هذا التقدّم الرتبي المقصور على مقام اللحاظ لا تندفع به غائلة التدافع الخارجي بين الحكمين ، فلاحظ وتأمّل.

ولو صحّ ما ذكر من أنّ التقدّم الرتبي مصحّح لاجتماع النقيضين ، لبطل ما قالوه من استحالة كون موضوع الحكم معدماً لنفسه ، مثل أن يقول إذا حرم عليك شرب الخمر لم تحرم عليك ، إذ مع كون اختلاف الرتبة مصحّحاً لاجتماع النقيضين لا يكون مانع من صحّة هذا القول ، لأنّ رتبة حرمة شرب الخمر فيه تكون متقدّمة على عدم حرمتها ، ولا ريب في بطلان ذلك القول ، أعني قوله : إذا حرم عليك شرب الخمر لم يكن شربه حراماً عليك.

وبالجملة : أنّ الشيء لا يعقل أن يكون موضوعاً لضدّه ولا لنقيضه ، لاستحالة كون وجود الشيء علّة لوجود ضدّه أو لوجود نقيضه. وكما يبطل هذا فليبطل قوله : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربه ، لأنّه لو كان الأمر

ص: 55


1- [ في الأصل : تأخّر العلّة عن المعلول ، وهو من سهو قلمه الشريف ].

كما يزعمون من أنّ الحرمة الواقعية علّة للعلم بها والعلم بها علّة لوجوب شربها ، وحينئذ تكون الحرمة الواقعية لشرب الخمر علّة لضدّها الذي هو وجوب شربها. وهكذا الحال في قوله : إذا علمت بالخمرية وجب عليك شربها ، لأنّ المفروض أنّ الخمرية الواقعية علّة لحرمة شربها ، لكونها حسب الفرض موضوعاً لحرمة الشرب واقعاً ، كما أنّها - أعني الخمرية الواقعية - علّة للعلم بها ، وبهذا القول صار العلم بها علّة لوجوب شربها ، فصار الخمر الواقعي علّة في كلّ من حرمة شربه ووجوب شربه. بل وهكذا الحال في قوله : إذا جهلت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لأنّ الواقع الذي هو الحرمة الواقعية كما يكون علّة للعلم به فكذلك يكون علّة للجهل به ، لأنّ المفروض تأخّرهما رتبة عن الواقع ، فلازم هذا القول هو أن تكون الحرمة الواقعية علّة لوجوب شربها الذي هو ضدّها. وهكذا الحال في قوله : إذا جهلت بخمرية الشيء جاز لك أو وجب شربها مع فرض كون الحرمة الواقعية لاحقة لنفس الخمر بقول مطلق ، سواء كانت الخمرية معلومة أو كانت مجهولة ، وحينئذ تكون الخمرية الواقعية علّة لحرمة شربها ، كما أنّها علّة للجهل بها ، والجهل بها علّة لوجوب شربها ، وبالأخرة تكون الخمرية الواقعية علّة لكلّ من حرمة شربها ووجوب شربها.

وخلاصة المبحث : أنّ هذا التأخّر الرتبي لا يصحّح اجتماع الضدّين والنقيضين ، لأنّه مقصور على الوجود الذهني ، والأحكام لاحقة لما هو الموجود الخارجي ، والمفروض أنّه لا تعدّد فيه ولا تقدّم فيه ولا تأخّر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ عدم المعلول في صقع العلّة إنّما هو في وجودها الذهني ، بمعنى أنّ عدم المعلول ذهناً إنّما هو في الوجود الذهني للعلّة ، فإنّك في مرتبة لحاظك العلّة لا تلاحظ وجود المعلول ، فالمنعدم في مرتبة لحاظك العلّة

ص: 56

إنّما هو لحاظك المعلول لا وجوده الخارجي ، والموجود مع العلّة إنّما هو الوجود الخارجي للمعلول لا الوجود الذهني للمعلول ، ومن المعلوم أنّ عدم الوجود الذهني للمعلول إنّما يناقض وجوده الذهني ، ولا يناقض وجوده الخارجي ، فليس العدم الذهني مناقضاً للوجود الخارجي كي يقال إنّ المصحّح لاجتماعهما هو اختلاف الرتبة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ الحكم اللاحق للعلّة لا يعقل كونه مناقضاً أو مضادّاً للحكم اللاحق للمعلول ، وإن كان الموضوعان أعني العلّة والمعلول مختلفين رتبة ، إذ لا أثر لهذا الاختلاف في الرتبة إلاّتقدّم الوجود الذهني للأوّل على الوجود الذهني للآخر ، والمفروض أنّ الحكم اللاحق للأوّل وكذلك الحكم اللاحق للثاني إنّما يلحق الوجود الخارجي الذي لا تقدّم فيه لأحدهما على الآخر فلا يخرج بذلك عن اجتماع الضدّين أو النقيضين ، فلاحظ وتأمّل.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس سره منع من تصحيح الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية بتعدّد الرتبة. لكن منعه من ذلك ليس من جهة ما ذكرناه من أنّ هذا التعدّد إنّما هو في الوجود الذهني ، وأنّه لا يجدي في الجمع بين الحكمين المتضادّين أو المتناقضين ، لأنّ موردهما هو الوجود الواقعي الخارجي ، بل لم يكن [ منعه ] من ذلك إلاّمن جهة دعوى أنّ الحكم الظاهري وإن كان في المرتبة المتأخّرة عن الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري ، فإنّه قال : كما لا يصحّ ( التوفيق ) بأنّ الحكمين ( يعني الواقعي والظاهري ) ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك لا يكاد يجدي ، فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أنّه ( يعني الحكم الواقعي ) يكون في مرتبته أيضاً ( يعني في

ص: 57

مرتبة الحكم الظاهري ) وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (1) ( يعني مرتبة الحكم الظاهري ).

وحاصله : أنّ الحكم الظاهري وإن كان في المرتبة متأخّراً عن الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري ، فالظاهري وإن لم يصعد إلى مرتبة الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي ينزل إلى مرتبة الحكم الظاهري.

ولا يخفى ما فيه من الخلف ، لأنّه بعد فرض كون مرتبة الحكم الظاهري متأخّرة عن مرتبة الحكم الواقعي ، كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري. ولعلّه يدّعي إطلاق الحكم الواقعي وشموله لكلّ من الجهل والعلم به ولو إطلاقاً ذاتياً.

ولا يخفى أنّ هذا الاطلاق لا يقتضي إلاّكونه مجتمعاً معه في الزمان ، لا أنّه - أعني الواقعي - متحقّق في مرتبة الحكم الظاهري المفروض كونها متأخّرة عن مرتبة الحكم الواقعي ، بل لا يكون حالهما إلاّكحال العلّة والمعلول في كونهما مجتمعين في الوجود الزماني ، مع كون الأوّل وهو العلّة متقدّماً ذاتاً على المعلول.

وقد أومأ المرحوم الشيخ عبد الكريم إلى شرحه بقوله : فإن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ ، فلا يعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات (2). وأجاب عنه بما حاصله : أنّ الذات التي هي موضوع الحكم الأوّلي لا يعقل أن تكون موجودة

ص: 58


1- كفاية الأُصول : 279.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 353.

في رتبة الذات المتأخّرة عن الحكم الأوّلي ، فراجعه.

ونظير هذا الإشكال ما ذكره في مبحث الترتّب بقوله : قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك ، فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما ، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها ، مع فعلية الأمر بغيره أيضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعليته فرضاً (1).

أمّا شيخنا قدس سره (2) فلم يكن التزامه بصحّة الترتّب لمجرّد التأخّر الرتبي ، بل لعدم المطاردة بين الأمر بالضدّين إذا كان الثاني منهما مشروطاً بعصيان الأوّل. بل وهكذا ما حرّرته عن المرحوم الأُستاذ العراقي في مسألة الترتّب ، وفي مسألة اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي ، فإنّه أيضاً مصرّح بأنّ اختلاف الرتبة وحده لا ينفع في صحّة الجمع ، قال : وإلاّ لصحّ في قوله : إذا وجب عليك إزالة النجاسة وجبت عليك الصلاة ، بل لأجل عدم المطاردة بينهما بالنحو الذي قُرّر من تعدّد الأعدام. فراجع ما حرّرناه عنه في مسألة الترتّب ومسألة الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (3) وتأمّل.

ص: 59


1- كفاية الأُصول : 134.
2- فوائد الأُصول 1 - 2 : 351 - 352 ، أجود التقريرات 2 : 70 وما بعدها.
3- مخطوط لم يطبع بعد. نعم قد أشار المصنّف قدس سره إلى ذلك في بحث الترتّب ، فراجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : 311 وما بعدها ، كما يشير إليه أيضاً في بحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فراجع الصفحة : 335 وما بعدها من هذا المجلّد.

ولكن شيخنا قدس سره مع هذا كلّه أجاب عن الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية باختلاف الرتبة بعين ما أجاب به صاحب الكفاية قدس سره فراجع ذلك البحث وما علّقناه عليه (1) وتأمّل.

قوله : الجهة الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث إنّ العلم بوجود الأسد مثلاً في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان العالم عطشاناً ، ولعلّه لذا سمّي العلم اعتقاداً ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه ... الخ (2).

لا يخفى أنّ هذا التحرير لا يخلو عن إجمال ، إذ ربما يتوهّم منه أنّ المرتبة الثالثة هي مرتبة الجري العملي على وفق القطع ، وحينئذ يتوجّه عليه أنّ الجري العملي من الأحكام العقلية المترتّبة على القطع ، وهو غير قابل بنفسه للتصرّف ليكون الأصل الاحرازي قائماً مقام القطع في ذلك ، على وجه يكون المجعول هو مجرّد الجري العملي ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس هو مراد شيخنا قدس سره.

بل مراده أنّ الجهة الثالثة هي الاعتقاد ، وهي المعبّر عنها بمرتبة عقد القلب على الواقع المعلوم ، وأثر هذه المرتبة هو الجري العملي ، والأُصول الاحرازية تقوم مقام العلم في هذه الجهة ، أعني عقد القلب والبناء على أحد طرفي الشكّ وأثر هذا البناء هو الجري العملي على طبق ذلك الطرف ، فإنّه قدس سره قال فيما حرّرته عنه في بيان هذه المرتبة ما هذا لفظه : وهي مرتبة عقد القلب ، ويعبّر عنها بالاعتقاد ، وكأنّ من فسّر العلم بالاعتقاد قد نظر إلى هذه المرتبة ، وهذه المرتبة

ص: 60


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 113 ، وراجع أيضاً الصفحة : 309 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- فوائد الأُصول 3 : 17.

هي محطّ التشريع الذي هو عبارة عن عقد القلب على ما ليس بواقع واعتقاد أنّه هو الواقع مكابرة وعتوّاً ، من باب جحد القلب وتيقّن النفس المعبّر عنه في القرآن المجيد بقوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1) ويتفرّع على هذه المرتبة أنّ ذلك الواقع المعلوم إن كان ممّا ينفر عنه تحقّق النفرة عنه ، وإن كان ممّا يرغب فيه تحقّق الميل إليه والسعي نحوه ، انتهى.

بل إنّ تحرير هذه المقدّمة من أصلها بهذا التحرير في هذا الكتاب ليس كما ينبغي ، ولعلّ ذلك من الدورة السابقة ، والذي حرّرته عنه قدس سره في بيان هذه المقدّمة ما هذا لفظه : وهو أنّك قد عرفت أنّ أهل المعقول قسّموا المعلوم إلى المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض. ومرادهم بالأوّل هو الصورة التي تحدثها النفس في صقعها الداخل عند تمامية مقدّمات حصول العلم لها ، ومرادهم بالثاني هو الأمر الخارجي الذي تنطبق عليه تلك الصورة ، سواء قلنا بأنّ العلم من مقولة الكيف أو مقولة الانفعال أو مقولة الاضافة. ولا يبعد صحّة جميع هذه الأقوال باعتبارات مختلفة ، فباعتبار أنّ حصول مقدّمات العلم وتماميتها تكون موجبة لانفعال النفس بذلك ، بحيث إنّ النفس بواسطة انفعالها عن تلك المقدّمات تحدث تلك الصورة في صقعها الداخل ، وهذه هي المرتبة الأُولى من مراتب العلم المعبّر عنها بانفعال النفس عن تلك المقدّمات.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة تلك الصورة التي أحدثتها النفس في صقعها الداخل ، وبهذا الاعتبار يكون العلم من مقولة الكيف ، باعتبار تكيّف النفس بتلك الصورة.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة ثالثة ، وهي مرتبة إضافة تلك الصورة إلى ما

ص: 61


1- النمل 27 : 14.

في الخارج باعتبار انكشافه بها ، وبالنظر إلى هذه المرتبة يكون العلم من مقولة الاضافة.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة رابعة ، وهي مرتبة عقد القلب والاعتقاد بذلك الواقع ( حسبما عرفته فيما تقدّم ) ويتفرّع عن هذه المرتبة الهرب عن ذلك الأمر الخارجي إن كان ممّا يهرب وينفر عنه ، والميل إليه والسعي نحوه إن كان ممّا يرغب فيه ويسعى نحوه. وقد عرفت أنّ القابل للجعل والتصرّف الشرعي إنّما هو المرتبتان الأخيرتان ، دون المرتبتين الأُوليين فإنّهما من الأُمور التكوينية الصرفة بخلاف الأخيرتين فإنّهما وإن كانتا من اللوازم الذاتية للقطع إلاّ أنّهما قابلان للجعل الشرعي ، كما تقدّم من جعل المرتبة الثالثة للأمارات الشرعية ، وجعل المرتبة الرابعة للأُصول الاحرازية ، انتهى.

والإنصاف : أنّ ما اشتمل عليه التحرير المطبوع في صيدا (1) هو أوفى بياناً في هذا المقام من هذا التحرير ، فراجعه وتأمّل. وراجع ما سيأتي (2) في الجواب عن إشكال ابن قبة فيما يعود إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في أوائل الظنّ.

قوله : الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ... الخ (3).

بناءً على ما تقدّم منه قدس سره من أنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو الجهة الثالثة من جهات القطع أعني الاعتقاد والبناء العملي ، يشكل الأمر في قيام

ص: 62


1- أجود التقريرات 3 : 19 - 21.
2- راجع ما سيأتي في الحاشية الآتية في الصفحة : 299 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 21.

الأُصول المذكورة مقام القطع الطريقي الذي يكون له الدخل في الموضوع ، سواء كان بنحو تمام الموضوع أو كان جزءاً منه ، فإنّ الذي له الدخل في الموضوع هو القطع بالجهة الثانية ، أعني جهة الكشف والطريقية ، وجعل الاعتقاد والبناء القلبيين من حيث العمل لا يكون محقّقاً لذلك الموضوع ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو جهة الكشف والطريقية المعبّر عنها بالاحراز ، غايته أنّ ذلك الكشف والاحراز يكون من ناحية العمل على نفس المحرز بالاستصحاب ، لتخرج بذلك الأُصول المثبتة على ما سيجيء شرحه إن شاء اللّه تعالى (1).

لا يقال : إنّه إذا كان حاله حال الأمارة في كون المجعول فيها هو الاحراز والكشف ، لم يكن وجه في تقديمها وحكومتها عليه.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في ذلك هو أنّ موضوعه الشكّ ، والأمارة بكشفها تزيل ذلك الشكّ الذي هو موضوعه ، بخلاف كشفه فإنّه لا يزيل موضوع الأمارة ، حيث إنّ الجهل ليس بموضوع لها ، بل أقصى ما في البين أنّه مورد لها ، وهذا المقدار من الفرق هو الموجب للحكومة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون المجعول في باب الاستصحاب هو الجهة الثالثة - أعني البناء وعقد القلب - إشكالاً آخر ، وهو أنّ الجهة الثانية وهي جهة الاحراز والكشف والطريقية ليست قابلة للأمر التكليفي ، بحيث يأمره المولى في مقام الشكّ بعد اليقين باحراز الواقع ، لأنّ الاحراز إنّما يحصل بأسبابه ، وليس هو - أعني الاحراز - في حدّ نفسه اختيارياً للمكلّف كي يتعلّق به التكليف. نعم يقع الكلام في أنّ هذه

ص: 63


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 299 وما بعدها.

الجهة هل هي قابلة للجعل الشرعي ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى (1).

أمّا الجهة الثالثة وهي جهة البناء القلبي وعقد القلب فهي غير قابلة للجعل قطعاً ، فإنّها من الأفعال القلبية الاختيارية للقاطع. نعم يمكن التعبّد في هذه المرحلة بالأمر بالبناء وعقد القلب على أحد طرفي الشكّ ، والشارع بعد أمره بذلك البناء وعقد القلب يأخذه مفروض الوجود ، فيكون اللازم على المكلّف الجري العملي على طبق ذلك الاعتقاد والبناء القلبي ، لا من جهة أنّ الأمر به يكون مرجعه إلى الأمر بترتيب الأثر من باب الأمر لذلك الشاكّ بأن ينزّل نفسه منزلة المعتقد ، بل من جهة أنّ الأمر بذلك الاعتقاد يوجب تحقّقه في نظر الشارع ، ومع فرض تحقّقه يلتزم المكلّف قهراً بالجري العملي على طبقه ، فتأمّل فإنّ ذلك في غاية البعد.

والأولى الالتزام في أنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو نفس حجّية اليقين السابق والاحراز بالغاء الشكّ الطارئ ، ويكون الوجه في تقدّم الأمارة عليه ما عرفته من كون موضوعه الشكّ ، والوجه في عدم ترتيب اللوازم عليه بخلاف الأمارة هو إطلاق دليل الأمارة ، بخلاف الأصل الاحرازي فإنّ المنظور في جعل الاحراز فيه هو الجري العملي على طبق المحرز. ولا يخفى بعده.

والأولى أن يقال : المجعول فيه هو الأمر التعبّدي بالغاء احتمال الخلاف ، لكن لازمه هو الحكم بترتيب آثار المتيقّن السابق ، وسيأتي له مزيد توضيح في مباحث الاستصحاب (2) إن شاء اللّه تعالى ، وينبغي مراجعة مبحث الجمع بين

ص: 64


1- راجع الصفحة : 82 وما بعدها.
2- راجع مبحث الأصل المثبت في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، خصوصاً الصفحة : 87 وما بعدها وهي حاشيته قدس سره في ذلك المبحث على قوله في فوائد الأُصول 4 : 486 : نعم المجعول في باب الأُصول العملية مطلقاً ....

الحكم الواقعي والظاهري في أوائل حجّية الظنّ (1).

ثمّ إنّه بعد القول بجعل الاحراز في الأمارات والأُصول الاحرازية نقول : إنّ قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع من حيث الكشف والطريقية لا يتوقّف على كون المؤدّى بنفسه ذا أثر شرعي ، كي يخرج بذلك ما لا يكون له أثر أصلاً مع فرض كون القطع فيه تمام الموضوع عن صلاحية قيام الأمارة والأصل الاحرازي فيه مقام ذلك القطع ، لما سيجيء منه قدس سره (2) من أنّ مجرّد جعل الحجّية والاحراز يكون كافياً في ترتيب أثر القطع الموضوعي.

نعم يتوجّه هذا الإشكال على القول بأنّ مفاد الحجّية هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، إذ يتّجه الإشكال حينئذ بأنّه لو فرض كون الواقع المؤدّى لا أثر له في حدّ نفسه ومع ذلك كان القطع تمام الموضوع ، لم يكن ذلك الواقع قابلاً لجريان دليل الأمارة والأصل فيه ، حتّى لو قلنا بأنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يلزمه تنزيل الأمارة والأصل منزلة القطع ، لما عرفت من توقّف جريانهما في المورد على كون الواقع فيه ذا أثر في حدّ نفسه ، وبعد تمامية جريانهما فيه نقول : إنّ تنزيل المؤدّى يلزمه تنزيل الأمارة أو الأصل منزلة القطع ، لأنّ هذه الملازمة المدعاة إنّما تتمّ فيما لو كان الواقع له في حدّ نفسه أثر ولو باعتبار كونه جزء الموضوع ، أو باعتبار كونه في حدّ نفسه موضوع أثر شرعي ثابت له في حدّ نفسه ، مثل حرمة شرب الخمر ،

ص: 65


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 299 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 21 - 25.

فيصحّ جريان دليل الأمارة والأصل فيه ، ثمّ بالملازمة بين تنزيل المؤدّى منزلته (1) يترتّب عليهما الأثر المترتّب على القطع بالخمرية التي هي النجاسة ، بناءً على كون موضوعها هو القطع بالخمرية على نحو تمام الموضوع ، ولا يكون الأصل في ذلك مثبتاً ، للتلازم المزعوم بين التنزيلين.

أمّا ما لا يكون له أثر أصلاً ، ولم يكن القطع به جزء الموضوع كي تكون جزئية الواقع لذلك الموضوع كافية في جريان دليل الأمارة والأصل فيه ، بل لا يكون في البين إلاّ الأثر المترتّب على القطع بالواقع على نحو تمام الموضوع ، فلا يمكن جريان دليل الأمارة والأصل فيه المبني على التنزيل في ناحية المؤدّى ، كي يقال إنّ التنزيل في المؤدّى يلزمه التنزيل في ناحية الأمارة والقطع ، فتأمّل.

قوله : وأمّا على المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات والأُصول الاحرازية (2) هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ... الخ (3).

تقدّمت الاشارة (4) إلى أنّ الأدلّة الشرعية كالأمارات والأُصول الشرعية لا تكون وسطاً في الاثبات ، لعدم علقة العلّية والمعلولية بين الدالّ والدليل ، فلا يصحّ أن يكون وسطاً في الاثبات كي يتألّف منه الشكل الأوّل ، إلاّعلى تقدير

ص: 66


1- [ لا يخفى عدم تمامية العبارة ، لكن المقصود واضح ].
2- في الطبعة الحديثة لا توجد عبارة « والأُصول الاحرازية » ولكن في الطبعة القديمة يوجد فراغ في وسط العبارة ، وقد كتب المصنّف قدس سره مكان الفراغ « والأُصول الإحرازية ».
3- فوائد الأُصول 3 : 21.
4- راجع فوائد الأُصول 3 : 7 - 8 ، وراجع أيضاً الصفحة : 19 من هذا المجلّد.

القول بالسببية ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ الوجوه المحتملة في حجّية الأمارة تدور على وجوه أربعة ، لا خامس لها على الظاهر :

الوجه الأوّل : هو كون المجعول نفس الحجّية إمّا ابتداءً ، أو أنّ المجعول هو الحكم التكليفي ولو بمثل الأمر بالعمل على طبقها ، وعنه تنتزع الحجّية كما هو مبنى الشيخ قدس سره (1).

الثاني : هو تنزيل الأمارة منزلة العلم.

الثالث : كون المجعول هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع.

الرابع : كون المجعول هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع المعلوم ، وإن شئت فقل : تنزيل مؤدّى الأمارة الذي هو مظنون منزلة المعلوم.

أمّا الوجه الأوّل فقد شرحه الأُستاذ قدس سره (2) بما لا مزيد عليه ، وسيأتي (3) إن شاء اللّه مزيد شرحه والتأمّل فيه من ناحية دخول القطع الموضوعي فيه.

وأمّا الثاني فالكلام فيه من جهات :

الجهة الأُولى : هل أنّ قوله : نزّل الأمارة منزلة العلم يشمل العلم الطريقي الصرف ، أو أنّه يختصّ بالقطع الموضوعي في الجملة؟ الظاهر الثاني. ولا وجه لاستظهار خصوص القطع الطريقي الصرف ، بأن يكون المراد من العلم في قوله : نزّل الأمارة منزلة العلم ، هو خصوص العلم الطريقي الصرف ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر من تنزيلها منزلته ، فإنّ الظاهر من تنزيلها منزلته هو ترتيب الآثار الشرعية

ص: 67


1- راجع فرائد الأُصول 1 : 114 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 17.
3- في الصفحة : 81 وما بعدها.

المترتّبة على العلم ، فلا يشمل الآثار المترتّبة على الواقع على وجه لا يكون العلم بالنسبة إليها إلاّطريقاً صرفاً.

وعلى أيّ حال ، فإنّ ذلك التنزيل لا يكاد يكون واقعاً بلحاظ كلا الأثرين ، أعني الأثر المترتّب على الواقع ، والأثر المترتّب على العلم بالواقع. مثلاً لو فرضنا أنّ للخمر حكمين : أحدهما متعلّق بنفس الخمر الواقعي وهو حرمة الشرب ، والآخر مترتّب على العلم بالخمرية ، إمّا بنحو تمام الموضوع أو بنحو جزء الموضوع ، ثمّ قامت الأمارة على كون هذا المايع خمراً ، فدليل حجّية تلك الأمارة المتكفّل لتنزيلها منزلة العلم في ترتيب أثره عليها ، إن كان ناظراً إلى خصوص الأثر الأوّل المترتّب على الخمر الواقعي ، المفروض أنّ العلم بالقياس إليه لا يكون إلاّطريقاً صرفاً ، ولم يكن العلم فيه بالخمرية إلاّ أجنبياً عن ذلك الأثر الذي هو محطّ التنزيل المذكور ، كان ذكر العلم فيه من باب الكناية عن الواقع المعلوم ، بخلاف ما لو كان المنظور به هو الأثر الثاني ، فإنّ العلم حينئذ يكون هو محطّ التنزيل ، ويكون الأثر المحكوم بترتّبه على الأمارة هو الأثر المترتّب على العلم ، ويكون ذكر العلم فيه من باب الحقيقة ، إذ لا يكون المراد به هو الواقع الذي وقع متعلّقاً للعلم ، بل المراد به هو نفس العلم.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يمكن الجمع بينهما في عبارة واحدة ، لما عرفت من كون العلم على الأوّل كناية عن الواقع المعلوم ، وأنّ الأثر المحكوم بترتّبه على الأمارة هو أثر الواقع الذي أُخذ العلم كناية عنه ، بخلافه على الثاني فإنّ العلم فيه لا يكون إلاّحاكياً عن نفسه ، وهذا معنى ما يقال من أنّ الجمع بينهما في عبارة واحدة غير ممكن من جهة أخذ العلم في أحدهما آلياً وفي الآخر استقلالياً ، فليس المراد بالآلية والاستقلالية هو لحاظ العلم بنفسه ولحاظه طريقاً كما ربما

ص: 68

يظهر ذلك من الكفاية بقوله : ولحاظهما في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي ، بداهة أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما الخ (1) فإنّ العلم في ذلك كلّه لا يكون إلاّطريقياً ، لما سيأتي (2) إن شاء اللّه من عدم شمول دليل التنزيل للعلم الصفتي ، بل المراد من الآلية هو ما ذكرناه من لحاظ العلم كناية عن متعلّقه ، نعم إنّ الوجه في أخذه كناية عن الواقع المعلوم هو كونه طريقاً كاشفاً عنه ، والمراد من الاستقلالية هو أنّ ذلك الحاكم قد لاحظ العلم بنفسه ، وإن كان لحاظه بنفسه لم يخرجه عن كونه طريقياً. وبعبارة أُخرى : لاحظه بنفسه من حيث الكشف والطريقية كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه تعالى (3).

وإن شئت فقل : إنّهما في ذلك نظير الخلق والمخلوق ، فإنّ الخلق قد يطلق ويراد به نفس المعنى الحدثي المعبّر عنه بالمصدر تارةً وباسم المصدر أُخرى ، وقد يطلق ويراد به المخلوق الذي هو اسم عين ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين ما هو بمعنى الحدث وما هو بمعنى اسم العين ، بل إنّ ما نحن فيه أردأ من هذا المثال لأنّ العلم بالقياس إلى الأثر لا يكون من قبيل استعمال المصدر في اسم المفعول إذ ليس محطّ ذلك الأثر هو المعلوم بما أنّه معلوم ، بل إنّ محطّ الأثر إنّما هو نفس الواقع الذي هو الخمر ، فيكون من قبيل استعمال العلم في الواقع الذي تعلّق به العلم ، لا المعلوم بما أنّه معلوم.

ص: 69


1- كفاية الأُصول : 264.
2- في الجهة الثانية.
3- في الصفحة : 74 وما بعدها.

الجهة الثانية : هل أنّ هذه الجملة - أعني قول نزّل الأمارة منزلة العلم - يشمل العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية ، أو أنّه لا يشمله؟ الظاهر الثاني ، لتوقّف الشمول على وجود القدر الجامع بين العلم المأخوذ على نحو الصفتية ، والعلم المأخوذ على نحو الطريقية ، وليس ذلك من قبيل الجمع بين اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الآلي ، لما عرفت من أنّ أخذ العلم موضوعاً من حيث الطريقية لا يخرجه عن الاستقلالية في اللحاظ ، غايته أنّه لاحظه مستقلاً لكن لا بما أنّه صفة خاصّة ، بل بما أنّه كاشف عن متعلّقه ، فلا يكون اللحاظ في كلّ منهما إلاّ استقلالياً. نعم الملحوظ في الأوّل منهما استقلالي ، والثاني آلي مع كونه ملحوظاً استقلالاً ، فالأوّل منهما نظير قولك : ابتدائي السير من البصرة كان في أوّل الزوال ، والثاني نظير قولك : الابتداء المستفاد من لفظة « من البصرة » معنى حرفي ، فلاحظ وتأمّل ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى (1) ، وقد مرّت إليه الاشارة (2) في التأمّل فيما ذكره شيخنا قدس سره من عدم إمكان أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع ، فراجع وتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ اللحاظ والملحوظ في كلّ منهما استقلالي ، غير أنّ المحكي في الملحوظ الأوّل هو استقلالي ، والمحكي بالملحوظ الثاني آلي ، أعني به العلم في وجوده الخارجي للعالم ، فتأمّل.

الجهة الثالثة : وهي أنّ هذه الجملة بعد أن خرج عن مفادها القطع الطريقي الصرف والقطع الصفتي ، ولم يبق تحتها إلاّالقطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية ، هل تشمل ما يكون القطع فيه جزء الموضوع ، أو تشمله وما

ص: 70


1- المصدر السابق.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 20 - 22.

يكون تمام الموضوع؟ الظاهر شمولها لهما معاً.

أمّا الثاني فواضح. وأمّا الأوّل ، فلأنّ كونه جزء الموضوع كافٍ في تنزيل الأمارة منزلته وترتيب الأثر المترتّب على المجموع منه ومن الواقع ، على تأمّل في ذلك ، من جهة أنّه عند العلم بالواقع يكون الجزء الأوّل من الموضوع وهو العلم محرزاً بالوجدان ، والجزء الثاني منه وهو الواقع محرزاً بنفس العلم ، ومن الواضح أنّ هذا التنزيل لا يفي إلاّبتنزيل الأمارة منزلة العلم ، فيكون قيامها منزّلاً منزلة الجزء الأوّل من الموضوع ، ويبقى الكلام في الجزء الثاني وهو الواقع.

إلاّ أن يقال : إنّ تنزيل الأمارة منزلة الاحراز العلمي يوجب إحراز الجزء الثاني وهو الواقع. لكن هذا إنّما يتمّ على مسلك شيخنا قدس سره من جعل الاحراز للأمارة ، أمّا على هذا الوجه من أنّ مفاد الحجّية هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ، يكون الجزء الثاني بلا محرز له.

إلاّ أن يدّعى أنّ تنزيلها منزلة العلم يستلزم تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، على العكس ممّا قالوه بناءً على أنّ المجعول هو [ تنزيل ] مؤدّاها منزلة الواقع من أنّه يستلزم تنزيلها منزلة العلم (1) ، فتأمّل.

فقد ظهر لك من ذلك أنّ مفاد دليل اعتبار الأمارة لو كان هو تنزيلها منزلة العلم ، لم يكن مصحّحاً إلاّلقيامها مقام العلم الطريقي المأخوذ في الحكم الشرعي على نحو تمام الموضوع ، خلافاً لما يظهر من الكفاية (2) من أنّه حينئذ يكون مصحّحاً لقيامها مقام القطع الطريقي. نعم لو لم يكن مفاده التنزيل ، بل كان مفاده مجرّد جعل الحجّية التي هي من مقولة الأحكام الوضعية ، لأمكن القول بأنّه لا

ص: 71


1- [ في الأصل : منزلة الواقع ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- كفاية الأُصول : 263 ( الأمر الثالث ).

يصحّح إلاّقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، بناءً على ما اشتمل عليه صدر كلامه من أنّ قيامها مقام العلم الموضوعي يحتاج إلى جعل آخر زائد على جعل الحجّية خلافاً لما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ جعل الحجّية كافٍ بذلك ، لكون مرجعه إلى جعل الاحراز والكاشفية كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى (1).

وأمّا على الوجه الثالث ، فالظاهر اختصاص مفاد الجملة المذكورة بمورد القطع الطريقي الصرف ، فلا تكون الأمارة قائمة مقام القطع الموضوعي ، سواء كان تمام الموضوع أو كان جزء الموضوع. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فلأنّ الواقع وإن كان جزء الموضوع إلاّ أنّ جزأه الآخر وهو القطع لمّا لم يكن مورداً للتنزيل لم يكن في البين ما يوجب التنزيل في ناحيته ، إلاّأن يدّعي الملازمة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، ولا دليل على الملازمة المذكورة.

نعم ، لو ورد دليل بالخصوص يدلّ على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع في خصوص المورد الذي يكون الأثر فيه مترتّباً على الواقع المعلوم ، لقلنا بالملازمة المذكورة إخراجاً لمفاد ذلك الدليل عن اللغوية.

وكيف كان ، فليس الإشكال في شمول تلك الجملة للقطع الموضوعي هو عدم إمكان الجمع بين اللحاظين ، بل هو عدم كون الواقع ذا أثر مصحّح للتنزيل في ناحيته فيما كان القطع فيه تمام الموضوع ، أو كان جزء الموضوع ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى مزيد توضيح لذلك (2).

وأمّا على الوجه الرابع ، أعني تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المعلوم في

ص: 72


1- راجع ما يأتي في الصفحة : 78 وما بعدها.
2- في الصفحة : 76.

ترتيب أثره عليه ، فلا يخفى أنّ الأثر في صورة كون العلم طريقاً صرفاً يكون مترتّباً على نفس الواقع ، ولا يكون صفة الانكشاف والمعلومية في ذلك إلاّمن قبيل المعرّف والاشارة إلى ما هو موضوع الحكم ، نظير ما لو مات شخص وترك ولدين أحدهما مجتهد والآخر غير مجتهد ، فإنّك تقول : نصف متروكاته للمجتهد والنصف الآخر منها للآخر ، ولا يكون ذكرك لعنوان المجتهد في مثل هذا المقام إلاّمن جهة كونه إشارة ومعرّفاً لصاحب النصف الذي هو نفس الموضوع ، بخلاف ما لو كان الأثر مترتّباً على العلم بنحو تمام الموضوع أو جزئه ، فإنّ ذكر صفة المعلومية في ذلك لكونها عنوان الموضوع ، نظير عنوان المجتهد في قولك قلّد المجتهد.

وحينئذ نقول : لو قال الشارع : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع المعلوم في ترتيب أثره عليه ، إن كان مسوقاً بلحاظ النحو الأوّل من الآثار ، لم يكن توصيف الواقع بالمعلومية في هذه الجملة إلاّمن باب المعرّفية ، بحيث يكون عنوان المعلومية أجنبياً عن محطّ الحكم ، نظير قولك في المثال السابق : النصف من المتروكات للولد المجتهد ، بل هو أسوأ منه ، إذ ليس في مورد الجملة المذكورة اشتباه وتعدّد كي يحتاج إلى التعريف والاشارة بما لا يكون له الدخل في موضوعيته ، بخلاف ما لو كان مسوقاً بلحاظ النحو الثاني من الآثار ، فإنّه بناءً عليه يكون لصفة المعلومية مدخلية في موضوعية الحكم ، نظير قولك : قلّد المجتهد.

ولو خلّينا نحن وهذه العبارة فلا يبعد ظهورها في المعنى الثاني ، فلا يكون دليل حجّية الأمارة إلاّمتكفّلاً لقيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية بنحو يكون العلم جزء الموضوع لاتمامه ، إذ الواقع حينئذ يكون أجنبياً عن التنزيل. ولو جرّدت الجملة عن الواقع وقيل : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة

ص: 73

المعلوم ، كان ذلك موجباً لقيامها مقام العلم المأخوذ بنحو تمام الموضوع لا جزءاً له ، هذا كلّه لو حملت الجملة المذكورة على المعنى الثاني.

أمّا حملها على المعنى الأوّل فهو في غاية البعد ، لأنّ الظاهر من أخذ العنوان في موضوع الحكم هو مدخليته في ذلك الحكم.

وكيف كان ، فلا يمكن أن يقال : إنّ هذه الجملة شاملة لكلا المعنيين ، لما عرفت من أنّ لازمه الجمع بين لحاظ الآلية والاستقلالية ، ومرادنا من الآلية في هذا المقام هو أخذ عنوان المعلومية معرّفاً لذات الموضوع ، ومن الاستقلالية هو أخذه دخيلاً في الموضوع ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بلحاظ الآلية والاستقلالية بلحاظ العلم طريقاً ولحاظه موضوعاً ، لما عرفت من كون لحاظه طريقياً على التقديرين ، بل لا دخل له بما تقدّم ذكره في الوجه الثاني (1) من لحاظه كناية عن متعلّقه ولحاظه في نفسه ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ أخذ العلم كناية عن الواقع كما في الوجه الثاني ، أو أخذ المعلوم صفة معرّفة لما هو الموضوع كما في هذا الوجه الرابع ، لا دخل له بأخذ العلم آلة أعني لحاظه آلياً ، فإنّ ذلك - أعني كون العلم آلة لمتعلّقه - لا يكون إلاّمن نفس العالم في مرتبة طروّ العلم عليه ، فإنّ العلم في تلك المرتبة يكون وجوده آلة للنظر إلى متعلّقه ، لا أنّه يكون ملحوظاً آلة ، فإنّه في تلك المرتبة - أعني مرتبة عروضه على العالم - لا يكون ملحوظاً أصلاً حتّى باللحاظ الآلي ، بل أقصى ما في البين هو أنّ وجوده آلة للحاظ ورؤية متعلّقه. وأمّا كيفية لحاظ الحاكم لذلك العلم فتارةً يلاحظه بنفسه ونعبّر عنه بالصفتية ، وأُخرى يلاحظه باعتبار كونه عند عروضه للعالم يكون آلة للنظر إلى متعلّقه ، ونعبّر عنه بلحاظ العلم من حيث

ص: 74


1- في الصفحة : 68 - 69.

الكشف والطريقية ، وفي هذه الصورة تارة يأخذه الحاكم موضوعاً أو جزء الموضوع كما لو قال : الخمر المعلوم الخمرية حكمه النجاسة ، وأُخرى يأخذه طريقاً صرفاً كما لو قال : إذا علمت بخمرية المايع حرم عليك شربه ، مع فرض كون الحرمة لاحقة لنفس الخمر من دون دخل فيها للعلم به ، وفي كلا الحالتين لم يأخذه الحاكم إلاّبلحاظ طريقيته وكشفه الذي نعبّر عنه بلحاظ كونه آلة في الخارج يكون وصلة للنظر إلى متعلّقه ، وإنّما لم يمكن الجمع بينهما في مثل نزّل الأمارة منزلة العلم ، أو نزّل مؤدّاها منزلة المعلوم ، لأنّ الأوّل - أعني نزّل الأمارة منزلة العلم - لو كان المقصود به كلا الأثرين ، يكون من قبيل الجمع بين المعنى الكنائي والمعنى الحقيقي ، والثاني أعني نزّل مؤدّى الأمارة منزلة المعلوم ، لو كان المقصود به كلا الأثرين ، يكون من قبيل أخذ العنوان الواحد وهو المعلومية دخيلاً في الموضوع وغير دخيل فيه.

وأين هذه الإشكالات من إشكال الجمع بين لحاظ العلم استقلالاً ولحاظه آلة ، فإنّ الجمع بين الأثرين المذكورين في العبارة المذكورة لا يكون موجباً لذلك ، لما عرفت من أنّ العلم لم يلاحظه الحاكم في كلّ من الأثرين إلاّمن حيث الكشف والطريقية ، وأنّ العلم يستحيل أن يكون آلة في لحاظ الحاكم ، وإنّما يكون آلة في وجوده الخارجي للعالم في مرتبة عروضه عليه ، أمّا الحاكم فلا يوجد العلم في ذهنه إلاّمعنى اسمياً أعني مستقلاً. نعم هو يلاحظه من حيث كونه باعتبار وجوده الخارجي آلة (1)

ص: 75


1- ويشهد بذلك ما لو قيل : هل تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي سواء كان قد أخذ موضوعاً أو لم يؤخذ ، بل يمكن تصوير الجامع بين الصفتي والطريقي بجميع أنواعه ، بأن نقول هل تقوم الأمارة مقام القطع بجميع أنواعه أو لا [ منه قدس سره ].

وبعبارة أُخرى : أنّ العلم الطريقي الواقع في كلام الحاكم لا يكون حاكياً إلاّ عمّا يكون بوجوده الخارجي آلة ، سواء كان طريقاً صرفاً أو كان له الدخل في الموضوع ، وإن كان وجود ذلك العلم في ذهن ذلك الحاكم لا يكون إلاّاستقلالاً. ومن ذلك يتّضح أنّه لا يلزم على الجمع بين الأثرين ما ذكروه من لحاظ العلم آلة واستقلالاً ، نعم يلزم عليه ما ذكرناه من الجمع بين أخذه كناية عن الواقع وحاكياً عن نفسه ، أو أخذ المعلوم أجنبياً ودخيلاً ، ولعلّ هذا هو المراد لهم ( قدّست أسرارهم ) فلاحظ كلماتهم وتأمّل فيها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل في قوله : فإنّ ما ذكر مانعاً عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقية من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ضعيف غايته ، فإنّ الاستلزام المذكور مبني على جعل المؤدّى الذي قد تبيّن فساده الخ (1).

فإنّه إن كان المراد من جعل المؤدّى هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، لم يكن الإشكال في قيامها مقام العلم الطريقي الصرف والعلم الطريقي الموضوعي من جهة الجمع بين اللحاظين ، بل هو كما عرفت (2) في الوجه الثالث من جهة عدم كون الواقع في العلم الموضوعي ذا أثر مصحّح للتنزيل.

وإن كان المراد من جعل المؤدّى هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المعلوم ، كان الإشكال فيه من جهة أخذ صفة المعلومية معرّفة وأجنبية عن موضوع الحكم في الطريقي الصرف ، وأخذها عنواناً له المدخلية في العلم الموضوعي كما

ص: 76


1- فوائد الأُصول 3 : 21.
2- في صفحة : 72.

عرفت (1) في الوجه الرابع.

وإن كان المراد من جعل المؤدّى هو إنشاء حكم على طبق مؤدّاها ، كما ربما يومئ إليه قوله فيما تقدّم : فإنّه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي إلاّبناء على بعض وجوه جعل المؤدّى الذي يرجع إلى التصويب الخ (2) فلا يخفى أنّه بناءً على هذا المعنى من جعل المؤدّى لا تكون الأمارة قائمة مقام العلم بجميع أقسامه ، بل لا تكون حينئذ إلاّسبباً أو موضوعاً لأحكام شرعية مجعولة على طبق ما أدّت إليه.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل أيضاً فيما أفاده قدس سره بقوله : ولا يحتاج إلى جعلين حتّى يقال إنّه ليس في البين جعلان ، والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفّل كلا الجزأين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إنّ تنزيل الظنّ منزلة العلم باعتبار المؤدّى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظنّ والعلم نظراً مرآتياً ، وتنزيل الظنّ منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنّه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظنّ والعلم شيئاً بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما استقلالياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنّه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال إنّ الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتاً الخ (3).

فإنّ الظاهر منه هو أنّ تنزيل الأمارة منزلة العلم الطريقي الصرف والطريقي

ص: 77


1- في صفحة : 72 - 73.
2- فوائد الأُصول 3 : 19.
3- فوائد الأُصول 3 : 22.

الموضوعي يحتاج إلى جعلين ، يعني تنزيلين ، الأوّل تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، والنظر إلى العلم من هذه الجهة طريقي صرف لا دخل له بالموضوع ، والثاني تنزيل نفس الأمارة منزلة العلم من حيث كونه موضوعاً للحكم ، والنظر إلى العلم من هذه الجهة موضوعي ، ويكون لحاظ العلم في الأوّل طريقياً مرآتياً وفي الثاني موضوعياً استقلالياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظ الآلي للعلم ولحاظه الاستقلالي وحينئذ يكون المنظور بهذا الإشكال هو الوجه الثاني المبني على تنزيل الأمارة منزلة العلم ، وقد تقدّم أنّ الجمع في دليل التنزيل بين العلم الطريقي الصرف والعلم الموضوعي من حيث الطريقية إنّما يلزم منه الجمع بين لحاظ العلم كناية عن المعلوم ولحاظه على حقيقته ، لا الجمع بين لحاظه آلياً ولحاظه استقلالياً.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الكلام الذي أفاده قدس سره في هذه الأسطر إنّما هو للردّ على صاحب الكفاية ، فإنّه بعد أن منع من قيام الأمارة بمجرّد دليل حجّيتها الذي لا يتكفّل إلاّجعل الحجّية لها مقام القطع الصفتي ، وأنّه لابدّ في قيامها مقامه من دليل آخر يدلّ على التنزيل ، قال : فإنّ قضية الحجّية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات. ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل ( يعني دليل حجّية الأمارة الذي لا يتكفّل إلاّجعل الحجّية لها ) مقام ما أُخذ ( من العلم ) في الموضوع على نحو الكشف ، فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل على اعتباره ( لما عرفت من أنّ دليل الاعتبار للحجّية لا يكفي في ترتيب الآثار اللاحقة للقطع بما أنّه دخيل في الموضوع ) ما لم يقم دليل ( آخر يدلّ ) على

ص: 78

تنزيله ( أي تنزيل ذلك الشيء منزلته ) و ( على ) دخله في الموضوع كدخله (1) ( أي كدخل القطع في الموضوع ).

والحاصل : أنّ دليل الحجّية للأمارة لا يتكفّل إلاّبقيامها مقام القطع من حيث الحجّية والطريقية الصرفة ، وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي فهو يحتاج إلى دليل آخر يدلّ على تنزيلها منزلة القطع من حيث دخله في الموضوع.

ثمّ قال : وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه ، وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً ، فيقوم ( ذلك الشيء الذي هو حجّة أعني الأمارة ) مقامه ( أي مقام القطع ) طريقاً كان أو موضوعاً ، فاسد جدّاً ، فإنّ الدليل الدالّ على ( الحجّية و ) إلغاء الاحتمال لا يكاد يفي إلاّبأحد التنزيلين ( أعني تنزيلها منزلة القطع الصرف من حيث كونه حجّة ، وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي من حيث كونه دخيلاً في موضوع الحكم ) حيث ( إنّه ) لابدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ، ولحاظهما ( أي المنزّل والمنزّل عليه ) في أحدهما ( أي أحد التنزيلين ، وهو تنزيلها منزلة القطع الطريقي الصرف ) آلي ، وفي الآخر ( وهو تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ) استقلالي ، بداهة أنّ النظر في حجّيته ( أي في حجّية ذلك الشيء الذي هو الأمارة ) وتنزيله منزلة القطع في طريقيته ( لا يكون ) في الحقيقة ( في ناحية المنزل عليه الذي هو القطع إلاّنظراً ) إلى الواقع و ( في ناحية المنزّل الذي هو الأمارة لا يكون النظر إليها إلاّنظراً إلى ) مؤدّى الطريق ( فيكون المنظور في قوله : نزّل الأمارة منزلة القطع ، المفروض كونه طريقياً صرفاً هو الواقع في ناحية القطع ، ومؤدّى الأمارة في ناحية الأمارة ، ولا

ص: 79


1- كفاية الأُصول : 263 - 264 [ لا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف لكلمات صاحب الكفاية قدس سرهما ].

يكون النظر في هذا التنزيل إلى القطع والأمارة إلاّنظراً آلياً ) وفي ( تنزيلها منزلة القطع الذي يكون دخيلاً في الموضوع يكون النظر إلى كلّ من الأمارة والقطع نظراً استقلالياً ، بحيث يكون الدليل المتكفّل لتنزيل شيء منزلة القطع في كونه دخيلاً في الموضوع مشتملاً على ) كونه بمنزلته في دخله في الموضوع ( ومن الواضح أنّ النظر إليهما في هذا الدليل لا يكون إلاّاستقلالياً ، لأنّ النظر فيه إنّما يكون ) إلى أنفسهما ( فقد اختلف النظر إليهما في التنزيلين بالآلية والاستقلالية ) ، و ( من الواضح أنّه ) لا يكاد يمكن الجمع بينهما (1). هذا شرح ما أفاده في الكفاية.

ومنه يعلم أنّ مسلكه قدس سره في الأمارات هو عين مسلك شيخنا قدس سره من أنّ المجعول في دليل اعتبارها هو الحجّية لا التنزيل. ولكن صاحب الكفاية قدس سره يرى أنّ مجرّد جعل الحجّية لا يترتّب عليه إلاّقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، لا من جهة أنّ قيامها مقام القطع الموضوعي مع قيامها مقام القطع الطريقي الصرف يحتاج إلى الجمع بين اللحاظين ، بل من جهة أنّ دليل الحجّية في حدّ نفسه لا يفي بقيامها مقام الأوّل - أعني القطع الموضوعي - حتّى مع قطع النظر عن ضمّ قيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، بأن نفرض أنّ المراد من دليل اعتبارها وجعل حجّيتها هو مجرّد قيامها مقام القطع الموضوعي ، وذلك لأنّ مجرّد جعل الحجّية لها لا يترتّب عليه قيامها مقام القطع الموضوعي.

وبالجملة : أنّ قيامها مقام القطع الموضوعي يحتاج إلى دليل خاصّ ، يكون مضمونه تنزيلها منزلة القطع من حيث دخله في الموضوع ، ودليل الحجّية المتكفّل لمجرّد جعل حجّيتها لا يكون مؤدّياً لذلك على وجه يترتّب عليه قيامها مقام القطع الموضوعي ، هذا حاصل ما أفاده قدس سره في الكفاية في صدر كلامه.

ص: 80


1- كفاية الأُصول : 264.

وأمّا ما أفاده في ذيل كلامه بقوله قدس سره : وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً الخ ، فهو إشارة إلى مسلك آخر ، وهو كون مفاد دليل اعتبار الأمارة هو تنزيلها منزلة القطع بقول مطلق ، الشامل للقطع الموضوعي والقطع الطريقي الصرف ، وهذا المسلك وإن لم يكن هو قدس سره قائلاً به ، إلاّ أنّه قد ردّه بما ملخّصه : هو أنّا لو بنينا على ذلك ، وقلنا بأنّ مفاد دليل اعتبارها هو تنزيلها منزلة القطع ، لم يكن ذلك التنزيل قابلاً للجمع في التنزيل من الجهتين ، لكون الملحوظ في المنزّل والمنزّل عليه في الجهة الأُولى هو الأمارة والقطع باللحاظ الآلي لكلّ منهما ، والملحوظ فيهما في الجهة الثانية هو الأمارة والقطع باللحاظ الاستقلالي ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في عبارة واحدة تكون متكفّلة للتنزيلين.

وحينئذ لا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره بما حاصله : أنّ الاحتياج إلى الجمع بين اللحاظين إنّما هو على تقدير القول بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو التنزيل ، وأمّا إذا قلنا كما هو المختار بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو جعل الحجّية ، فلا مورد فيه للجمع بين التنزيلين.

نعم ، إنّ الذي ينبغي المناقشة فيه مع صاحب الكفاية قدس سره هو هذه الجهة ، وهي ما تضمّنه صدر كلامه من أنّ مجرّد جعل الحجّية للأمارة لا يفي إلاّبقيامها مقام القطع الطريقي الصرف دون القطع الموضوعي ، لأنّ أقصى ما يفيده جعل الحجّية لها هو قيامها مقام القطع في الحجّية ، الذي هو عبارة عن القطع الطريقي الصرف ، فشيخنا قدس سره يعترض عليه في ذلك بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع إنّما أُخذ فيه من حيث إنّه حجّة ، فإذا جعل الشارع الحجّية للأمارة وصيّرها حجّة ، قامت قهراً مقام العلم في مدخليته في الموضوع ، كما قامت مقامه في الحجّية

ص: 81

والطريقية الصرفة.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ ما أُخذ في الموضوع هو الحجّة التي هي الأعمّ من الحجّية الذاتية والحجّية الجعلية ، كما هو محصّل الجواب الأوّل الذي أفاده بقوله قدس سره : الأوّل دعوى أنّ المراد من العلم الذي أُخذ في ظاهر الدليل موضوعاً الخ (1). أمّا بعد البناء على إبطال ذلك الوجه الأوّل بقوله قدس سره : ولكن للمنع عن هذه الدعوى مجال الخ (2) وبعد إبطال الوجه الراجع إلى دعوى استنباط العلّة أو تنقيح المناط بقوله : وللمنع عن هذه الدعوى أيضاً مجال ، فإنّها موقوفة على استخراج المناط القطعي ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك (3) فيشكل الأمر في كفاية دليل جعل الحجّية في قيامها مقام القطع الموضوعي.

وأمّا الحكومة الظاهرية التي اعتمد عليها قدس سره في ذلك ، فهي بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الواقعية اللاحقة لموضوعاتها الواقعية مسلّمة لا شبهة فيها ، ولكنّها لا تقتضي إلاّقيام الأمارة مقام القطع الطريقي الصرف ، أمّا حكومتها على الأدلّة المتكفّلة لاثبات الأحكام للقطع على نحو تمام الموضوع أو جزئه فهي غير ثابتة ، وجعل الحجّية لا يقتضيها ، فلا يكون في البين ما يقتضي قيامها مقام ذلك القطع.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس سره بقوله : والحاصل أنّ نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الاحراز ، وأنّه أعمّ من الاحراز الوجداني ، وإلاّ لم يكن للحكومة معنى الخ (4). ووجه التأمّل هو أنّ جهة الاحراز أو إلغاء احتمال

ص: 82


1- فوائد الأُصول 3 : 23.
2- فوائد الأُصول 3 : 24.
3- فوائد الأُصول 3 : 24.
4- فوائد الأُصول 3 : 25.

الخلاف غير قابلة للجعل الشرعي إلاّباعتبار التنزيل وترتيب الأثر ، وهو قدس سره لا يقول به ، لأنّ مرجع ذلك إلى تنزيل الأمارة منزلة العلم الوجداني ، وهو قدس سره لا يرى مفاد دليل الاعتبار إلاّجعل الاحراز والحجّية ، دون غيره ممّا يرجع إلى التنزيل وجعل الآثار.

وبالجملة : أنّ نفس الأمارة لا تخلو في حدّ ذاتها عن الاحراز الوجداني ومن الواضح أنّ ذلك المقدار من الاحراز وجداني غير قابل للتعبّد الشرعي ، وترقية ذلك الاحراز إلى مرتبة العلم المنفي فيه احتمال الخلاف غير قابل للجعل الشرعي ، لأنّه من الأُمور الواقعية غير القابلة للجعل الشرعي إلاّبالتنزيل الراجع إلى الحكم بترتيب الأثر ، الذي أقل ما يرد عليه هو عدم إمكان الجمع على ما تقدّم تفصيله في الوجوه المتقدّمة (1) المحتملة في مفاد دليل اعتبار الأمارة ، فمن أين لنا الحكم بالحكومة الظاهرية على أدلّة الأحكام الشرعية اللاحقة للقطع الموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو جزأه.

ومن ذلك يظهر التأمّل فيما أفاده في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : والحاصل أنّ تحقّق الواقع بعد قيام البيّنة مثلاً إنّما هو من جهة إعطاء الشارع صفة المحرزية والكاشفية للبيّنة ، التي هي ليست بمحرزة تامّة للواقع ، فصفة المحرزية إنّما هي المجعولة أوّلاً وبالذات ، وكون الواقع محرزاً إنّما هو بتبعها ، فقيامها بعد اتّصافها بهذه الصفة المجعولة مقام القطع الوجداني في كونه جزءاً للموضوع أولى من قيام المؤدّى منزلة الواقع الخ (2).

فإنّ ذلك كلّه مبني على جعل الاحراز التامّ للأمارة ، وقد عرفت أنّه غير قابل

ص: 83


1- في الصفحة : 67 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 3 : 28.

للجعل التعبّدي ، بل هو أمر وجداني واقعي ، إمّا أن يكون موجوداً وإمّا أن يكون معدوماً ، كسائر الموضوعات التكوينية الواقعية غير القابلة للجعل التعبّدي والتكوين الشرعي إلاّبلحاظ التنزيل والحكم بترتيب الأثر ، وإنّما أقصى ما في البين هو دعوى كون الحجّية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل التعبّدي ، وليست هي عين الاحراز التعبّدي كي يكون جعل الحجّية للأمارة عبارة أُخرى عن جعلها محرزة للواقع بخلق الاحراز فيها خلقاً تعبّدياً ، فإنّ ذلك لا يمكن إلاّ بجعل الآثار اللاحقة للاحراز الوجداني ، بتنزيل ذلك المقدار من الاحراز الوجداني الناقص الحاصل للأمارة منزلة الاحراز الوجداني التامّ الحاصل للقطع.

وعمدة الإشكال هو هذه الجهة ، وأنّ الاحراز قابل للتعبّد وللجعل الشرعي ، وشيخنا قدس سره يراه قابلاً لذلك كما صرّح فيما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا في مقام الجواب عن إشكال الجمع بين اللحاظين ، فإنّه قال : وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلاً ، بل غاية شأنه هو إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة ، وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً ، فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين الخ (1).

لكن النظر القاصر قاصر عن إدراك قابلية الاحراز للجعل من دون توسّط التنزيل الراجع إلى ترتيب الآثار ، ولا يمكنني الجزم بذلك فعلاً ، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

وإن شئت فراجع ما حرّره عنه قدس سره في التحرير المذكور في المقدّمة الثالثة فإنّ عباراته هناك في جعل الاحراز أصرح ، لكنّه مع ذلك يقول في أثناء الكلام :

ص: 84


1- أجود التقريرات 3 : 26.

فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت الأمارة على خمريته مثلاً خمر تعبّداً ، أو أنّ نفس البيّنة علم تعبّداً ، فممّا لا محصّل له ، وليس له معنى معقول ، إذ الخمرية أو العلم من الأُمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً. مضافاً إلى أنّه لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر ، أو أنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمرية ، أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة ومن باب الضيق في التعبير. وبالجملة : ما يكون قابلاً لتعلّق الجعل التشريعي به كبقيّة المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفية والطريقية لما ليس كذلك بحسب ذاته ، من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ، ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم الخ (1). وبنحو ذلك صرّح فيما حرّرته عنه قدس سره في هذه المقدّمة الثالثة.

والأصل في هذا كلّه هو ما صرّح به في المقدّمة الأُولى في بيان جهات العلم من أنّه بنفسه لا يكون قابلاً للجعل ، لكن الجهة الثانية منه وهي جهة الكشف والاراءة ، والجهة الثالثة وهي جهة البناء وعقد القلب ، كلّ منهما قابل للجعل الشرعي ، والأُولى منهما مجعولة للأمارات ، والثانية مجعولة للأُصول الاحرازية ، وقد تقدّم نقل ما حرّرته عنه قدس سره في بيان أنّ الجهة الثانية والجهة الثالثة من جهات القطع قابلان للجعل الشرعي لغير القطع ، بخلاف الجهة الأُولى منه والثانية (2) فإنّهما غير قابلتين للجعل الشرعي أصلاً.

ص: 85


1- أجود التقريرات 3 : 25.
2- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ المصنّف قدس سره يشير بذلك إلى ما نقله سابقاً عن شيخه قدس سره من المراتب الأربع للقطع ، فيكون المراد : أنّ المرتبة الثالثة والرابعة قابلتان للجعل الشرعي بخلاف المرتبة الأُولى والثانية ، فراجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 60 - 62 ].

وبناءً على ذلك يتمّ ما أفاده قدس سره من الحكومة الظاهرية ، وأنّ خلق الاحراز في الأمارة يوجب قهراً ترتيب آثار الواقع لتحقّق إحرازه ، وترتيب آثار القطع نفسه المفروض كونه موضوعاً لتلك الآثار من ناحية جهته الثانية ، وهي جهة الكشف والاحراز والطريقية ، ولا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ تلك الآثار مترتّبة على الاحراز الوجداني ، وهذا الاحراز الحاصل من الأمارة ليس باحراز وجداني ، وإنّما هو إحراز جعلي من الشارع ، لأنّ ترتيب تلك الآثار أولى من ترتيب آثار الواقع ، لأنّ آثار الواقع لم تكن لاحقة للاحراز ، بل إنّما هي لاحقة للواقع ، وأمّا الاحراز فغايته أنّه ينجّزها ، بخلاف الآثار المترتّبة على الاحراز.

نعم ، لمّا كان هذا الاحراز تعبّدياً ظاهرياً ، كان ترتيب أثر الاحراز الوجداني عليه حكماً ظاهرياً ، فتكون حكومته على دليله حكومة ظاهرية ، هذا.

ولكن قد يقال : لو سلّمنا إمكان جعل الاحراز تعبّداً ، فلا نسلّم أنّ مجرّد جعل الاحراز يوجب ترتيب آثار الاحراز الوجداني عليه ، ما لم يكن في البين ما يدلّ على تنزيل هذا الاحراز التعبّدي منزلة الاحراز الوجداني ، وإلاّ فلو خلّينا نحن ودليل جعل ذلك الاحراز لم يترتّب عليه إلاّتنجيز آثار الواقع لكونها محرزة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه كما رتّبنا على ذلك الاحراز آثار الواقع ، وحكم العقل بكونها منجّزة لكونها محرزة ، فكذلك يحكم العقل بترتيب آثار إحراز الواقع لتحقّق الاحراز نفسه ، غايته أنّه تحقّق تعبّدي لا وجداني ، وهذه التفرقة إنّما توجب كون الحكومة حكومة ظاهرية ، فتأمّل لإمكان أن يقال : إنّ جعل الاحراز لا أثر له حتّى في ترتيب آثار الواقع ، ما لم يرجع إلى التنزيل وجعل الآثار.

ويمكن أن يقال : إنّا لو سلّمنا ذلك كلّه فهو لا يقتضي كون الحكومة بالنسبة إلى القطع الموضوعي حكومة ظاهرية ، بل الذي ينبغي هو كون الحكومة بالنسبة

ص: 86

إلى ذلك حكومة واقعية ، على وجه يكون انكشاف الخلاف وتبيّن خطأ الأمارة من قبيل تبدّل الموضوع ، كما لو انكشف خطأ القطع. نعم هي بالنسبة إلى القطع الطريقي الصرف تكون حكومة ظاهرية ، فتأمّل.

فالأولى أن يقال : إنّ الأمارة في حدّ نفسها لا تخلو عن مقدار من الكشف والاحراز ، وهذا المقدار لم يزده الشارع لا تعبّداً ولا تكويناً ، وإنّما أقصى ما صنعه الشارع هو أنّه أعطاه صفة الحجّية ، فجعله حجّة بعد ما لم يكن كذلك ، وبعد أن جعله حجّة يحكم العقل بلزوم ترتيب آثار الواقع لقيام الحجّة الشرعية عليه ، وبذلك تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي الصرف ليس إلاّ.

لا يقال : لو قلتم بجعل الاحراز يكون اللازم عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ تمام الموضوع ، لأنّ ما قامت [ عليه ] الأمارة في مثل الفرض لا يكون له أثر أصلاً ، فلا يشمله دليل حجّية الأمارة ، إذ لابدّ فيما قامت عليه الأمارة من كونه ذا أثر شرعي بنفسه ، أو لا أقل من كونه ذا لازم يترتّب عليه الأثر الشرعي ، بناءً على كفاية هذا الأخير في شمول دليل الحجّية.

لأنّا نقول : بناء على كون مفاد الحجّية هو جعل الاحراز ، نقول : إنّه لا دليل على اعتبار كون مؤدّى الأمارة ذا أثر شرعي ، إلاّمن جهة لغوية الجعل فيما لم يكن في البين أثر شرعي ، ويكفي في الاخراج عن اللغوية ترتّب الأثر على نفس الجعل ، أعني جعل الاحراز ، فإنّ ترتّب الأثر على نفس الاحراز كافٍ في خروجه عن اللغوية ، ولا يلزم الدور ، لأنّه إنّما يلزم لو كان الأثر شرطاً على وجه يكون متقدّماً رتبة على الجعل ، كما لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع في ترتيب أثره عليه ، إذ لا يعقل حينئذ أن يكون ذلك الأثر ناشئاً من ذلك التنزيل. أمّا إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد جعل الاحراز ، فيكفي فيه ترتّب الأثر

ص: 87

ولو في المرتبة المتأخرة عن الجعل ، لكونه لاحقاً للمجعول بذلك.

ومن ذلك يعلم أنّه لا حاجة في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي على نحو تمام الموضوع إلى أن يكون الواقع الذي قامت عليه الأمارة ذا أثر في حدّ نفسه ليكون ذلك الأثر مصحّحاً لقيام الأمارة ، وبعد تحقّق قيامها عليه وتحقّق إحرازه بها يترتّب الأثر المترتّب على القطع الموضوعي الذي هو تمام الموضوع ، لتحقّق موضوعه تعبّداً وهو الاحراز.

لا يقال : لو كان المجعول في الأمارة هو نفس الحجّية لا الاحراز والكشف والطريقية ، لم يكن وجه لتقدّمها على الاستصحاب وحكومتها عليه ، لأنّ المجعول فيه أيضاً هو الحجّية ، بناءً على ما ذكرتموه في أوّل البحث (1) من عدم إمكان جعل الجهة الثالثة ، أعني عقد القلب المعبّر عنه بالاعتقاد.

لأنّا نقول : تقدّمت الاشارة إلى أنّه يكفي في الحكومة كون موضوعه هو الشكّ ، بخلاف موضوعها فإنّه غير مقيّد بذلك. مضافاً إلى إمكان القول بالفرق بينهما ، بأنّ المجعول فيها هو الحجّية من حيث الكشف والاحراز ، والمجعول فيه هو الحجّية من حيث البناء القلبي على أحد طرفي الشكّ ، الذي هو مستلزم للجري العملي على طبقه ، فإنّ هذا المقدار من الفرق بين الحجّتين هو الموجب لتقدّم الأُولى على الثانية وحكومتها عليها ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره من كون المجعول فيها هو الاحراز ، وفيه هو البناء القلبي ، بأن يكون الاحراز فيها والبناء القلبي فيه حيثية تقييدية للحجّية المجعولة فيهما ، فتأمّل.

ولكن على الظاهر أنّه لا حاجة إلى الالتزام بهذه الوساوس ، بل إنّ الاحراز والدليلية والكشف والطريقية قابلة للجعل في عالم الاعتبار ، وقد بنى العقلاء على

ص: 88


1- في صفحة 62 - 64.

إعطاء الدليلية والاحراز في موارد كثيرة ، مثل ظهور الألفاظ في إثبات مرادات المتكلّمين ، وغير ذلك من الأمارات العقلائية ، وحينئذ يكون من الممكن للشارع اعتبار الدليلية والكشف والاحراز لما يكون كذلك عند العقلاء بطريق الامضاء كما في غالب الأمارات ، أو كان بطريق الجعل والتأسيس ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ العقلاء يرون الواقع من قيام هذه الأمارات ، ولا شكّ أنّ تلك الرؤية ليست رؤية حقيقية ، بل هي رؤية جعلية ، بمعنى أنّ بناءهم كان على أنّهم يرون الواقع من هذه الأمارات ولا يشكّكون فيه ، فهذا البناء عبارة عن جعلهم الاراءة المذكورة. ومن ذلك يظهر أنّ الكشف والاحراز والاراءة قابلة للجعل العقلائي ، والشارع أمضى هذا البناء العقلائي وأسّس في بعضه.

قوله : فإنّ العلم في باب الشهادة أُخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد كما دلّت عليه رواية حفص ، وفي باب الركعتين الأوّلتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية كما يدلّ على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب ، مثل قوله عليه السلام : « حتّى تثبتهما » ... الخ (1).

قد يقال : إنّ ما دلّ على أخذ العلم بالمشهود به في أدلّة الشهادة لو كان على نحو الطريقية ، كان مقتضاه على ما أفاده قدس سره من جعل الاحراز والحجّية ، وأنّ دليل حجّيتها حاكم على ما دلّ على اعتبار العلم في الموضوع من الطريقية هو قيام الجميع مقام العلم ، فتجوز الشهادة حينئذ استناداً إلى الأمارة أيّ أمارة كانت ، لكن الظاهر أنّ الفقهاء لم يلتزموا بذلك ، بل الظاهر أنّ ذلك عندهم مختصّ باليد.

وحينئذ نقول : يمكن أن يكون الدليل الدالّ على أخذ العلم بالمشهود به

ص: 89


1- فوائد الأُصول 3 : 26 - 27.

في جواز الشهادة أنّه مأخوذ من حيث الصفتية كما أفاده الشيخ قدس سره (1) ، ومقتضاه أن لا يقوم مقامه شيء من الأمارات ، لكن دلّ الدليل بالخصوص على قيام اليد مقامه ، فيكون مقتضاه أنّ الشارع نزّل الظنّ الحاصل من اليد منزلة العلم من حيث الصفتية. ولا يخفى بعده.

والأقرب أن يقال : إنّ العلم إنّما أُخذ في الموضوع هنا من حيث الطريقية ، وأنّ دليل حجّية الأمارة لا يوجب صحّة قيام الأمارة مقامه ، لأنّ الظاهر منه هو العلم الوجداني ، وأنّ ما أفاده قدس سره من الحكومة الظاهرية لا ينفع في إجراء حكم العلم الوجداني على الاحراز التعبّدي ، لكن لمّا قام الدليل بالخصوص على جواز الشهادة استناداً إلى اليد ، دلّ ذلك الدليل على أنّ الشارع أقامها مقام العلم الوجداني المأخوذ على نحو الطريقية ، لما ذكرناه من التردّد (2) بين الحكم بجواز الشهادة استناداً إليها ، وبين تنزيله الظنّ الحاصل منها مقام ذلك العلم الموضوعي وأين هذا من أنّ دليل حجّية الأمارة يكون بنفسه مقتضياً لقيامها مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية.

أمّا احتمال أخذ العلم الموضوعي هنا كناية عن مطلق الإحراز ولو تعبّدياً ، فيمكن القطع بعدمه ، وإلاّ لقامت مقامه سائر الأمارات حتّى البيّنة. نعم في الجواهر (3) عن الشيخ الطوسي قدس سره (4) جواز الشهادة استناداً إلى البيّنة ، وقد منع غيره من ذلك ، قال في الجواهر : ومن هنا لم تجز الشهادة بشهادة العدلين إلاّعلى

ص: 90


1- فرائد الأُصول 1 : 34.
2- [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].
3- جواهر الكلام 41 : 135 - 136.
4- المبسوط 8 : 180 - 181.

طريق التحمل وكونها شهادة فرع لا أصل (1) وقيل في توجيه المنع : ولعلّه لما ورد من عدم قبول شهادة الفرع إلاّفي موارد خاصّة ، انتهى ، كذا في المستمسك (2) ولا يخفى أنّ الذي ينفيه الجماعة هو ما ادّعاه الشيخ من الشهادة بالواقع استناداً إلى البيّنة ، لا الشهادة على الشهادة التي هي شهادة الفرع.

قلت : لكنّهم - كما في الروضة - (3) جوّزوا تحمّل الشهادة على المرأة بعد تعريف شخصها بالبيّنة ، وذلك منصوص ، قال عليه السلام : « لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها » (4) ذكره في الجواهر (5) ، بل نقلوا جواز الشهادة على أُمور تثبت بالشياع استناداً إلى الشياع ، وجوّزوا الشهادة بالنسب استناداً إلى قاعدة الفراش ، بل جوّزوا الشهادة على النجاسة استناداً إلى الاستصحاب ، بل جوّزوا الشهادة في غيرها ، واستدلّوا على ذلك بروايات لا يكون المدرك فيها للشهادة إلاّالاستصحاب ، مثل صحيحة معاوية بن وهب (6) التي ذكرها في الجواهر (7) في هذا السياق ، بل جوّزوا الشهادة استناداً إلى قاعدة الصحّة ، مثل ما لو تزوّج أو طلّق أو اشترى ولم يعلم الشاهد بصحّة العقد ، وغير ذلك ممّا تطّلع عليه عند مراجعة الجواهر في باب الشهادات

ص: 91


1- جواهر الكلام 41 : 126.
2- مستمسك العروة الوثقى 1 : 213.
3- الروضة البهية 3 : 135.
4- وسائل الشيعة 27 : 401 / كتاب الشهادات ب 43 ح 1.
5- جواهر الكلام 41 : 127.
6- وسائل الشيعة 27 : 336 / كتاب الشهادات ب 17 ح 2.
7- جواهر الكلام 41 : 124 - 125.

ومراجعة العروة في مبحث المياه (1).

وعلى كلّ حال ، لو تمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون مفاد دليل الاعتبار هو جعل الإحراز الذي لازمه الحكومة الظاهرية على ما دلّ على أخذ القطع موضوعاً مثل القطع بالمشهود به ، لكان قيام هذه الأُصول الإحرازية وغيرها من الأمارات مقامه في جواز الشهادة على القاعدة ، وكان الخروج عن ذلك محتاجاً إلى الدليل الخاصّ ، على العكس ممّا يستفاد من الجواهر وغيرها من التنقيب في تجويز الشهادة على الدليل الخاصّ ، ولأجل ذلك كثر القيل والقال في المسألة ، فراجع الجواهر وغيرها.

قال في الشرائع في الطرف الثاني فيما به يصير شاهداً : ومستندها إمّا المشاهدة أو السماع أو هما ، فما يفتقر إلى المشاهدة الأفعال - ثمّ قال - وما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك المطلق ، لتعذّر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب (2).

ولا يخفى أنّه قدس سره ألحق بهذه الأُمور الوقف والنكاح فيما ذكره في المسألة الثانية من المسائل الآتية ، وقد قال قدس سره فيما فرّعه على القول بالاستفاضة : الثاني إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة ، هل يفتقر إلى مشاهدة اليد والتصرّف؟ الوجه لا. ثمّ قال : مسائل ثلاث : الأُولى ، لا ريب أنّ المتصرّف بالبناء والهدم والاجارة بغير منازع يشهد له بالملك المطلق ، أمّا من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد ، وهل يشهد له بالملك المطلق؟ قيل : نعم ، وهو المروي.

ص: 92


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 98 - 99 مسألة (7) من فصل : ماء البئر النابع.
2- شرائع الإسلام 4 : 135 - 136.

وفيه إشكال ، من حيث إنّ اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع دعوى من يقول :

الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال : ملك هذا لي. الثانية : الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة (1).

وظاهره الكلام على كلّ واحدة من هذه القواعد مستقلاً ، أعني الاستفاضة والتصرّف واليد ، فدع الاستفاضة واليد ، ولكن هلمّ الكلام في التصرّف ، وكيف يمكن الاستناد إليه في الشهادة كما هو ظاهر اختياره قدس سره فيما لو تجرّد عن كلّ من الاستفاضة واليد ، وهل في البين شيء في مثل التصرّف بالهدم والبناء إلاّأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، الذي لا يقتضي إلاّعدم الحكم بالعصيان أو الحكم بعدم العصيان ، فلا يكون من الأمارات بل ولا من الأُصول الاحرازية ، فكيف يصحّ الشهادة بالملك استناداً إليه حتّى لو لم يكن المتصرّف مسلماً كما هو ظاهر إطلاق كلامه قدس سره ، أو أنّ في البين شيئاً آخر وهو كون التصرّف المالكي كاشفاً نوعياً عن الملكية حتّى لو تجرّد عن اليد ، فيكون حينئذ من الأمارات على الملكية ولو كان هذا مبناه قدس سره فأقصى ما فيه أنّ حاله حينئذ حال اليد ، فلماذا استشكل في اليد مع كونها مورد الرواية ، ولم يستشكل في التصرّف بهذا الإشكال الذي يشتركان فيه.

قال في الجواهر : نعم قد يستفاد من صحيحة معاوية بن وهب وغيره جواز الشهادة بالاستصحاب ، قال « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ، ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه ، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ، ولا ما أحدث له من الولد ، إلاّ أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً ولا حدث له ولد ، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتّى يشهد

ص: 93


1- شرائع الإسلام 4 : 137.

شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان ، مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان ، أوَ نشهد على هذا؟ قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والأمة فيقول : أبق غلامي وأبقت أمتي فيؤخذ في البلد ، فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه ، أفنشهد على هذا إذا كلّفنا ونحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً ، فقال عليه السلام : كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به » (1).

لكن في خبره الآخر « قلت له : إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً ، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له ، فقال عليه السلام : اشهد بما هو علمك. قلت : إنّ ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس ، فقال : احلف ، إنّما هو على علمك » (2).

قال في الجواهر : ويمكن أن يريد بعلمه الحاصل له من الاستصحاب بقرينة الخبر السابق ، كما أنّه يمكن حمل الأوّل على إرادة حصول هذا العلم باعتبار خلطته واطّلاعه ، كما أومأ إليه الفاضل هنا في التحرير (3).

قلت : إنّ قوله عليه السلام في ذيل الخبر الأوّل : « كلّما غاب من يد المرء المسلم » الخ ، ظاهره الاستفهام الانكاري ، فلا حاجة إلى الالتزام بما في المستمسك من قوله : وما في ذيل الأوّل محمول على بعض المحامل أو مطروح لترجّح غيره عليه (4)

ص: 94


1- وسائل الشيعة 27 : 336 / أبواب الشهادات ب 17 ح 2.
2- المصدر المتقدّم ح 1.
3- جواهر الكلام 41 : 124 - 125.
4- مستمسك العروة الوثقى 1 : 213.

ثمّ إنّ قول صاحب الجواهر قدس سره في الخبر الثاني : ويمكن أن يريد بعلمه الحاصل له من الاستصحاب بقرينة الخبر السابق إلخ ، يكون دفعاً لما تقدّم منه بقوله : لكن في خبره الآخر الخ من دعوى معارضة الثاني للأوّل ، فدفع هذه المعارضة بالتصرّف في الثاني ، بجعل العلم فيه هو العلم الادّعائي الحاصل من الاستصحاب.

أمّا قوله قدس سره : كما يمكن حمل الأوّل على إرادة حصول هذا العلم باعتبار خلطته واطّلاعه كما أومأ إليه الفاضل في التحرير ، انتهى.

قلت : هذا ، ولكن العلاّمة قال في التحرير : لو شهد عدلان أنّ فلاناً مات وخلّف من الورثة فلاناً وفلاناً لا نعلم له وارثاً غيرهما ، قبلت شهادتهما وإن لم يبيّنا أنّه لا وارث له سواهما لعدم الاطّلاع عليه ، فيكفي فيه الظاهر ، مع اعتضاده بالأصل ، هذا إن كانا من أهل الخبرة الباطنة ، وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحث الحاكم عن وارث آخر ، فإن لم يظهر سلّم التركة إليهما بعد الاستظهار بالتضمين. ولو قالا : لا نعلم له وارثاً بهذه البلدة أو بأرض كذا لم يقبل ، مع احتمال القبول (1).

قلت : لكن فرض العلاّمة أنّه لا نعلم له وارثاً غيرهما يأبى عن حمل كلامه قدس سره على صورة العلم للشاهد ، بل إنّ ظاهره هو تصريح الشاهد بما يحتاج إلى الاستصحاب. نعم لا يبعد حمل الخبر على صورة حصول العلم للشاهد ، إذ لا تصريح فيه بعدم العلم بوارث آخر. ويؤيّد ذلك ما اشتمل عليه الخبر من جواز الاقدام على اليمين الغموس ، فإنّ الظاهر أنّه لم يقل أحد بجواز الحلف اعتماداً على الاستصحاب.

ص: 95


1- تحرير الأحكام 5 : 265 / العاشر.

ثمّ لا يخفى أنّ مراد صاحب الجواهر قدس سره بقوله : كما يمكن الخ ، هو إبقاء العلم في الثاني بحاله أعني العلم الوجداني ، والتصرّف في الأوّل بحمله على حصول العلم الوجداني أيضاً.

قلت : ولكن لا يخفى أنّ هذا التصرّف في الأوّل بعيد جدّاً ، لأنّ السائل مصرّح بعدم حصول العلم.

ثمّ لا يخفى أنّ صاحب الجواهر قدس سره لمّا بنى على لزوم العلم الوجداني في الشهادة قال : وحينئذ فلابدّ من حمل الخبر المزبور على جواز الشهادة لحصول ضرب من العلم ، أو لأنّ الاستصحاب كافٍ ولكن القضاة لا يكتفون إلاّبالشهادة على الوجه المزبور ، فسوّغ له ذلك استنقاذاً لمال المسلم ، أو على غير ذلك (1).

ولا يخفى بُعد الأوّل كما عرفت. أمّا الثاني فكأنّ المراد به هو أنّ الشهادة تكون على الواقع السابق المعلوم ، والحاكم يكمل ذلك بالاستصحاب ، لكنّه خلاف الظاهر ، لأنّ الظاهر هو كون المشهود به الحالة الفعلية لا السابق. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراد صاحب الجواهر قدس سره هو أنّ الشاهد لمّا كان عالماً بالحالة السابقة كان الاستصحاب جارياً عند نفسه ، فهو فعلاً يحكم بأنّ الحال السابق باقٍ ، لكن لمّا لم تقبل منه الشهادة جاز له أن يشهد بالفعلية استنقاذاً.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ كون الشاهد تكليفه ذلك لا يوجب اجراءه على طرفه ، لجواز أن لا تكون أركان الاستصحاب تامّة عنده.

ثمّ إنّه قدس سره صنع مثل ذلك في خبر حفص بن غياث (2) الدالّ على جواز الشهادة استناداً إلى اليد ، فقال : فلابدّ من حمل الخبر المزبور على صورة حصول

ص: 96


1- جواهر الكلام 41 : 126.
2- وسائل الشيعة 27 : 292 / أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 2.

العلم بالملك من ذلك ، أو على الشهادة مسنداً له إلى اليد ، أو على إرادة الشهادة به اتّكالاً على علم الحاكم بأنّ مأخذه من ذلك ، أو على إرادة النسبة بأنّه له التي هي من توابع الملك ، بمعنى الاطلاق المتعارف ، لا الشهادة عند الحاكم التي يختلف الحكم باختلافها ، بل ظاهر قوله عليه السلام في الآخر : « لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق » أو صريحه ، كون العمل على ملك ذي اليد الذي لا منازع له ، لا الشهادة التي ذكرناها ، فإنّه لا مدخلية لسوق المسلمين فيها ، بل الشهادة بالواقع الذي يعلمه لا ينافي قيام السوق ، ولا يتوقّف قيامه على الكذب والتدليس ، بل قوله عليه السلام أخيراً : « ولا يجوز أن تنسبه » كالصريح في إرادة هذا المعنى من الشهادة المزبورة ، لا التي تقام عند الحاكم ويختلف الحكم باختلافها. ولعلّ هذا المعنى المذكور في الرواية هو الذي أشار إليه في الرياض (1) بأنّ الضرورة تقتضي الحكم بملكية اليد ، وهو كذلك ، لكنّه غير الشهادة به ، فإنّها من الطرق الشرعية لاثبات حكم الملك ، كغيرها من الطرق التي منها إخبار المرأة بخلوّها من الحيض ومن الزوج وغيرهما ممّا يقبل فيه خبرها ، لكن لا تجوز الشهادة بذلك (2).

لكنّه قدس سره التزم في الشهادة على شهود التعريف بخروجه عن القاعدة للنصّ فقال : وأمّا ما روي من جواز الشهادة على إقرار المرأة إذا حضر من يعرفها ، فمبني على استثناء مسألة التعريف من الضابط المزبور ، ففي خبر ابن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام « لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها ، أو حضر من يعرفها » (3) الخ (4) ولم يلتزم بتأويله بأنّ المراد صورة كون

ص: 97


1- رياض المسائل 15 : 394.
2- جواهر الكلام 41 : 144.
3- وسائل الشيعة 27 : 401 / كتاب الشهادات ب 43 ح 1.
4- جواهر الكلام 41 : 144.

التعريف موجباً لحصول العلم ، مع أنّ في قباله رواية أُخرى تدلّ على عدم الاكتفاء بشهادة الشهود ، وهي صحيحة الصفّار (1) بل حمل هذا الأخير على التقية فراجع (2) وراجع أيضاً ما ذكره (3) في شهادة الأعمى لو كان تحمله متوقّفاً على يقين المقرّ ، وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما يرسمونه في السجلاّت من قولهم : اعترفت فلانة أو اعترف فلان بعد التعريف ، لا يخلو عن تسامح ، لأنّ الشهادة في ذلك إن كانت صحيحة فلا حاجة إلى قوله : بعد التعريف ، وإن لم تكن صحيحة لم يكن لها أثر حتّى مع ضمّ قوله : بعد التعريف ، إلاّأن تكون شهادة فرع ، فتأمّل فإنّ شهادة الفرع إنّما هي شهادته على أنّ الشاهدين قد عرّفاها ، وإن لم يسمعا إقرارها ، والمفروض أنّ الشاهد إنّما يشهد باقرارها الذي سمعه منها بعد أن عرّفها الشاهدان. نعم في ذكر قوله : « بعد التعريف » فائدة ، وهي أنّ الحاكم الذي تعرض عليه تلك الشهادة يعرف أنّ اعتماد صاحبها كان على بيّنة التعريف ، فإن كان ممّن يسوّغ ذلك كانت تلك الشهادة معتبرة عنده ، وإن كان ممّن لا يسوّغ ذلك ردّها ولم يقبلها.

وأنت بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل ، تعرف أنّ رفع اليد عن دلالة مثل قوله صلى اللّه عليه وآله : « هل ترى الشمس ، على مثلها فاشهد أو دع » (4) وقوله عليه السلام في خبر علي

ص: 98


1- وسائل الشيعة 27 : 401 / كتاب الشهادات ب 43 ح 2.
2- جواهر الكلام 41 : 127.
3- جواهر الكلام 41 : 150 وما بعدها.
4- وسائل الشيعة 27 : 342 / كتاب الشهادات ب 20 ح 3.

ابن غياث : « لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (1) ونحوهما ، وتجويز الشهادة استناداً إلى الاستصحاب أو اليد اعتماداً على ما تقدّم من رواية الارث واليد ، أو استناداً إلى البيّنة المعرّفة اعتماداً على ما تقدّم من رواية ابن يقطين المعارضة بالمثل ، لا يخلو من مجازفة. لا من جهة كون العلم في ذلك قد أُخذ صفتياً بالمعنى الذي تقدّم في أوائل تقسيم العلم ، وذلك لوضوح أنّ أخذه في قوله صلى اللّه عليه وآله : « على مثلها فاشهد » هو عنوان الكشف والطريقية ، بل من جهة صراحة الخبرين في اعتبار الكشف التامّ الذي لا يحتمل الخلاف ، بل لا يبعد أن يكون ذلك وارداً في مقام الردع عن الاستناد في الشهادة والاعتماد على الأمارات والأُصول العقلائية ، إذ يبعد كلّ البعد أن يكون مثل هذه الأخبار وارداً في مقام المنع عن الشهادة فيما إذا لم يكن في البين علم ولا ما هو بنظر العقلاء قائماً مقامه ، فإنّ ذلك لا يرتكبه إلاّشاهد الزور ، وليس هذا الاهتمام ناظراً إليه ، بل الظاهر أنّ نظره إلى ما ذكرناه من الردع عن الاعتماد على الأمارات والأُصول الاحرازية في مقام الشهادة.

وبالجملة : أنّ صدور مثل هذه المبالغة ممّن هو عالم بأنّ في البين أمارات وأُصولاً يعملها العقلاء ويعتمدون عليها وهو قد أمضى الكثير منها ، كاشف عن أنّه بصدد الردع عنها في خصوص باب الشهادة ، وإن لم يكن بصدد الردع عن ذلك لكانت هذه المبالغة وذلك الاهتمام لمجرّد بيان المنع عن الشهادة كذباً عمداً ، أو ما هو ملحق به من الاعتماد على الظنون غير المعتبرة عنده وعند العقلاء.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الأمارات والأُصول الاحرازية بمجرّد دليل اعتبارها

ص: 99


1- وسائل الشيعة 27 : 341 / كتاب الشهادات ب 20 ح 1.

لا تقوم مقام هذا العلم حتّى لو قلنا بما أفاده شيخنا قدس سره من الحكومة الظاهرية وجعل الاحراز ، وأنّ الإحراز قابل للجعل الشرعي ، وأنّ مقتضى جعله هو ترتيب أثر الإحراز الوجداني عليه ، فإنّ ذلك كلّه لو سلّم لم يكن نافعاً في مقام الشهادة بعد تصريحه عليه السلام بأنّه لابدّ فيها من العلم التامّ الذي هو كالعلم بالشمس والكفّ الذي عرفت أنّ مرجعه إلى الردع عن الاعتماد على الأُصول والأمارات العقلائية في مقام الشهادة.

نعم ، يمكن ذلك بدليل خاصّ غير دليل اعتبارها يكون متكفّلاً لجواز الشهادة اعتماداً على الأمارة الفلانية أو الاستصحاب ، فإنّ هذا الدليل الخاصّ يكون مخصّصاً لعموم هذا الردع الوارد في خصوص باب الشهادة ، فتكون النتيجة على مسلك شيخنا قدس سره هي عين النتيجة على مسلك صاحب الكفاية قدس سره من الاحتياج إلى الدليل الخاصّ.

وربما يؤيّد جواز الشهادة استناداً إلى الاستصحاب بلزوم اليمين الاستظهارية في دعوى الدين على الميّت سدّاً لباب احتمال الابراء أو الوفاء.

وفيه : أنّ محتمل الوفاء أو الابراء إنّما هو الحاكم لا الشاهد ، فيمكن أن تكون شهادة الشهود مستندة إلى العلم الوجداني ، ولكن الحاكم يحتمل الوفاء أو الابراء وعدم اطّلاع الشهود على ذلك ، فلذلك يكلّف المدّعي باليمين على البقاء سدّاً لباب هذا الاحتمال. هذا كلّه فيما يدّعى الدلالة عليه من الروايات ، أمّا مجرّد السماع والتصرّف فالمجازفة فيه أعظم.

وأمّا الاعتماد على أصالة الصحّة في العقود فهي أعظم من الكلّ ، إذ لا منشأ لذلك إلاّدعوى السيرة ، من جهة أنّ من سمع العقد أو علم بوقوعه ربما كان لا يعلم بصحّته.

ص: 100

وفيه : أنّه لو فرضنا الالتفات إلى صحّة العقد ووقوع الشكّ في صحّته ، لم يكن جريان السيرة على الشهادة مسلّماً بل هو ممنوع. نعم إنّ الغالب في من سمع العقد يقطع بصحّته ، أو لا يلتفت إلى احتمال فساده احتمالاً عادياً ، فلأجل ذلك يقدم على الشهادة.

ولا يخفى أنّ الغالب في السجلاّت هو الشهادة على وقوع البيع ووقوع الطلاق مثلاً ، لا الشهادة بملكية المشتري أو بينونة الزوجة ونحو ذلك من آثار ما شهد بوقوعه من المعاملات. وأمّا الشهادة بالنسب استناداً إلى قاعدة الفراش فلم يعلم جريان السيرة بها أيضاً ، فلاحظ وتأمّل.

وهكذا الحال في الشهادة على مثل انشغال الذمّة اعتماداً على الاقرار ، فإنّ جريان السيرة بها ممنوع ، وأقصى ما في البين هو الشهادة على نفس الاقرار.

وأمّا العلم في مسألة الركعتين الأُوليين ، فالظاهر أنّه ليس من قبيل أخذه على نحو الصفتية ، وإلاّ لما صحّ أن يقوم مقامه الظنّ ، فإنّ دليل حجّية الظنّ في عدد الركعات بل في مطلق أفعال الصلاة ليس بمقصور على الأُوليين المفروض أخذ العلم فيهما موضوعاً ، بل هو عام لجميع الركعات حتّى الأُخريين المفروض عدم اعتبار العلم فيهما من حيث الموضوعية ، وقد عرفت أنّ دليل الحجّية إذا كان عاماً لموارد القطع الطريقي المحض وللموضوعي ، لا يمكن أن يكون موجباً لقيامه مقام القطع الصفتي ، وأنّه إنّما يمكن قيامه مقامه لو ورد دليل بالخصوص يدلّ على قيامه مقام القطع في خصوص المورد الذي أُخذ فيه القطع صفتياً.

وبالجملة : أنّ قيام الظنّ بعموم دليل حجّيته مقام العلم بالنسبة إلى الركعتين الأُوليين كاشف عن أخذه فيهما موضوعاً من حيث الطريقية. لكن ذلك لا يلزمه ما أفاده شيخنا قدس سره من الالتزام بكون المراد بالعلم المذكور هو العلم

ص: 101

الوجداني ، ليكون المدرك في قيام الظنّ مقامه هو ما أفاده قدس سره من الحكومة الظاهرية ، بل الظاهر أنّ المراد به هو مطلق الاحراز ولو من سائر الأمارات ، فيكون دليل حجّية الظنّ المذكور وارداً على ما دلّ على اعتبار الإحراز في الأُوليين ، وإن كان بالنسبة إلى الأُخريين حاكماً حكومة ظاهرية ، ولا ضير في ذلك ، بعد أن فرضنا أنّ دليل حجّية الظنّ يجعله محرزاً ، فبالنسبة إلى ما كان الإحراز فيه موضوعاً كالأُوليين يكون وارداً ، وبالنسبة إلى ما لم يؤخذ الإحراز موضوعاً فيه كالأُخريين يكون حاكماً حكومة ظاهرية.

وإنّما قلنا إنّ الظاهر من اعتبار العلم في الأُوليين هو مطلق الإحراز ، لأنّ الظاهر من أخباره كما هو صريح بعضها أنّه لا يدخلهما الشكّ ، ومن الواضح أنّ حصول الإحراز ولو من الأمارة التي قام [ الدليل ] على حجّيتها ، كافٍ في عدم دخول الشكّ فيهما ، ففي صحيح زرارة : « قال أبو جعفر عليه السلام : كان الذي فرضه اللّه على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة ، وليس فيهنّ وهم يعني سهواً ، فزاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سبعاً ، وفيهنّ الوهم وليس فيهنّ قراءة ، فمن شكّ في الأُوليين أعاد حتّى يحفظ ويكون على يقين ، ومن شكّ في الأخيرتين عمل بالوهم » (1) فإنّ الظاهر من قوله : « يحفظ ويكون على يقين » هو عدم الشكّ السابق في قوله عليه السلام : « ليس فيهن وهم ».

ومثل ذلك خبر محمّد بن مسلم المروي عن الخصال عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن علي عليهم السلام قال عليه السلام : « لا يكون السهو في خمس : في الوتر والجمعة والركعتين الأوّلتين من كلّ صلاة مكتوبة وفي الصبح وفي المغرب » (2). والمراد

ص: 102


1- وسائل الشيعة 8 : 187 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 1.
2- وسائل الشيعة 8 : 197 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 2 ح 14 ، الخصال : 627 / حديث الأربعمائة.

بالسهو هو الشكّ بقرينة مضمرة سماعة ، قال عليه السلام : « والمغرب إذا سها فيها فلم يدر كم ركعة صلّى فعليه أن يعيد الصلاة » (1) وقوله في موثّقته : « قال : إذا سها الرجل في الركعتين الأوّلتين من الظهر والعصر فلم يدر واحدة صلّى أم ثنتين فعليه أن يعيد الصلاة » (2).

ولعلّ هذا الذي ذكرناه من أنّ المراد من الإحراز هنا هو مجرّد عدم الشكّ هو المراد في باقي الروايات ، مثل ما رواه الشيخ عن الفضل بن عبد الملك في الصحيح ، قال « قال لي : إذا لم تحفظ الركعتين الأوّلتين فأعد صلاتك » (3) وعن أبي بصير في الصحيح أو الموثّق عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إذا سهوت في الأوّلتين فأعدهما حتّى تثبتهما » (4) وعن الحسن بن علي الوشّاء قال « قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام : الإعادة في الركعتين الأوّلتين والسهو في الركعتين الأخيرتين » (5) وبعضها الآخر يتضمّن الاعادة بالشكّ في الأوّلتين : وفي بعضها : « إذا سها الرجل في الركعتين الأوّلتين من الظهر والعصر فلم يدر واحدة صلّى أم ثنتين فعليه أن يعيد الصلاة » (6) وفي بعضها : « إذا لم تدر واحدة صلّيت أم اثنتين فاستقبل » (7).

فراجع الحدائق فإنّه قد جمع هذه الأخبار وقال : هذه جملة ما حضرني من

ص: 103


1- وسائل الشيعة 8 : 195 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 2 ح 8.
2- وسائل الشيعة 8 : 191 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 17.
3- وسائل الشيعة 8 : 190 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 13.
4- وسائل الشيعة 8 : 191 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 15.
5- وسائل الشيعة 8 : 190 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 10.
6- تقدّم ذكر مصدرها في هذه الصفحة برقم (2).
7- وسائل الشيعة 8 : 191 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 1 ح 16.

الأخبار الدالّة على القول المشهور (1) ، لكنّه لم يذكر الخبر السابق أعني صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام ، مع أنّه ذكره في الفصل الثاني فيما يعمل في الركعتين الأخيرتين من الرباعية (2) نقلاً عن ثقة الإسلام في الكافي (3) وعن الشيخ في من لا يحضره الفقيه (4) باختلاف يسير بين الكتابين.

ثمّ إنّه بعد البناء على أنّ المراد بإحراز الأُوليين هو مجرّد عدم الشكّ فيهما ، يكون تقديم ما دلّ على حجّية الظنّ في عدد الركعات على هذه الأخبار واضحاً لا سترة [ فيه ] ، سواء كان ذلك الدالّ على حجّية الظنّ مثل النبوي « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وليبن عليه » (5) أو كان مثل صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السلام ، قال عليه السلام : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع وهمك على شيء فأعد الصلاة » (6) ، فإنّ الحكم بإعادة الصلاة عند عدم وقوع وهمه - أي ظنّه - على شيء يدلّ على كون الشكّ مبطلاً ، وحينئذ يكون مورده وهو قوله عليه السلام : « كم صلّيت » هو خصوص الشكّ في الأُوليين. ولو قلنا إنّ المراد به هو مجرّد عدم العلم بأنّه كم صلّى من دون قدر متيقّن ، كان شاملاً أيضاً للشكّ في الأُوليين.

ص: 104


1- الحدائق الناضرة 9 : 194 - 195.
2- الحدائق الناضرة 9 : 173 / المقام الثاني.
3- الكافي 3 : 272 / 2.
4- من لا يحضره الفقيه 1 : 201 / 605.
5- صحيح مسلم 1 : 400 / 572 ، سنن ابن ماجة 1 : 382 / 1211 ، السنن الكبرى 2 : 335 ( مع اختلاف في الألفاظ ).
6- وسائل الشيعة 8 : 225 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 15 ح 1.

نعم ، نقل عن ابن إدريس المنع (1) ، وقد تعرّض لذلك الفقهاء ، ومنهم من منع حجّية الظنّ في الأُوليين ، ومنهم من تردّد في ذلك وتوقّف ، فراجع ما حرّره المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم في صلاته في هذه المسألة (2).

هذا بعض ما ورد من اعتبار حفظ الأُوليين ، ولا يبعد أن يكون المراد بالحفظ ونحوه هو مجرّد عدم الشكّ ، كما هو صريح قوله عليه السلام : « وليس فيهنّ وهم » (3) وقوله عليه السلام : « لا يكون السهو في خمس » (4).

وحينئذ يكون مثل قوله صلى اللّه عليه وآله في النبوي : « إذا شكّ أحدكم في الصلاة فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وليبن عليه » حاكماً عليها ، وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، من جهة دلالة الأُولى على أنّ عدم الحفظ في الأُوليين مبطل ، سواء كان مع الترجيح أو بدونه ، ودلالة الأخير على أنّ الرجحان حجّة سواء كان في الأُوليين أو كان في الأُخريين ، ووجه الحكومة هو ما عرفت من دلالة الأخبار السابقة على اعتبار الحفظ ، والخبر المتكفّل لحجّية الظنّ يجعله حافظاً. وتتّضح الحكومة بوجه أجلى بناءً على ما ذكرناه من أنّ المراد من ذلك هو مجرّد عدم الشكّ ، فتأمّل.

وأمّا قوله عليه السلام في صحيحة صفوان : « إن كنت لا تدري كم صلّيت ولم يقع

ص: 105


1- راجع كتاب السرائر 1 : 245 ، 250.
2- كتاب الصلاة : 352 - 353 / في الشكوك المتعلّقة بالركعات.
3- تقدّم متن الرواية ومصدرها في الصفحة : 102.
4- تقدّم متن الرواية ومصدرها في الصفحة : 102 ، راجع الهامش (2).

وهمك على شيء فأعد الصلاة » (1) فإن قلنا إنّه يصدق على مثل الشكّ بين الثلاث والأربع ونحوه من الشكوك الصحيحة ، كان حاله حال النبوي في الحكومة. لكن يمكن أن يقال حينئذ : إنّ الحكم بالاعادة عند عدم الرجحان كاشف عن أنّ المنظور إليه هو خصوص الشكّ في الأُوليين.

وإن قلنا إنّه لا يصدق على مثل الشكّ بين الثلاث والأربع من الشكوك الصحيحة ، بأن نقول بأنّه مسوق لسعة دائرة المحتملات في الشكّ ، على وجه لا يكون في البين قدر متيقّن ، كان نصّاً في الشكّ في الأُوليين ، فيكون مفهومه أخصّ مطلقاً من منطوق تلك الروايات.

أمّا احتمال كون العلم والحفظ في الروايات السابقة صفتياً فبعيد غايته ، بل الظاهر أنّه إنّما أخذ في ذلك من حيث الكشف والطريقية. بل قد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار العلم ولو من جهة الطريقية ، بل أقصى ما في البين هو كون الشكّ وعدم الحفظ والإحراز مبطلاً ، فتكون الحكومة حينئذ أوضح وأسهل منها على تقدير أخذ العلم والحفظ من حيث الطريقية.

أمّا الاستصحاب وأصالة عدم الاتيان بالثانية - مثلاً - فهو وإن كان مقتضى القاعدة حكومته على تلك الأخبار ، إلاّ أنّه لو قدّم عليها لبقيت بلا مورد ، فلأجل ذلك سقطت حجّيته في المقام. ومنه يعلم عدم حجّيته في الشكوك الصحيحة ، إذ لو كان حجّة لبقيت قاعدة البناء على الأكثر بلا مورد ، ومع هذا كلّه فقد أنكر ابن إدريس حجّية الظنّ في الأُوليين وتوقّف في ذلك المرحوم الشيخ عبد الكريم في صلاته ، فراجع وتأمّل.

ص: 106


1- وسائل الشيعة 8 : 225 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 15 ح 1.

قوله : وردّه في الكفاية بما حاصله : أنّ ذلك يستلزم الدور المحال - إلى قوله - هذا ولكن لا يخفى عليك أنّه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في الحاشية بالدور ، بل مضافاً إلى الدور يرد عليه أوّلاً ... الخ (1).

ظاهر الكفاية في بيان ما أفاده في الحاشية هو أنّ التنزيل الأوّل الذي يتكفّله دليل الاعتبار هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وأنّ هذا التنزيل يلزمه تنزيل آخر وهو تنزيل العلم بذلك الواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، فيلزمه الدور كما قرّره في الكفاية (2).

ويتوجّه عليه المنع من هذه الملازمة ، إذ لا مدرك لها إلاّلغوية التنزيل الأوّل بالنسبة إلى ما يكون الأثر مترتّباً على الواقع المعلوم ، ومن الواضح أنّ هذه اللغوية إنّما تلزم لو كان مفاد دليل التنزيل الأوّل مختصّاً بما يكون الواقع جزء الموضوع ، أمّا لو كان الدليل المذكور شاملاً لما يكون الواقع فيه تمام الموضوع أعني موارد القطع الطريقي الصرف ، فلا يكون الدليل المذكور لغواً إلاّبعد جريان أصالة العموم في التنزيل ، ليكون شاملاً لذلك ولما يكون الواقع فيه جزء الموضوع ، فنلتزم حينئذ بالتنزيل الثاني إخراجاً للتنزيل الأوّل عن اللغوية بالنسبة إلى ما يكون الواقع جزء الموضوع ، وقد حقّق في محلّه أنّ شمول العام لما يتوقّف شموله له على إعمال عناية ، لا يحكم بكون العام شاملاً لذلك كي نحتاج في إتمامه إلى الالتزام بالعناية المذكورة.

أمّا لو قلنا بأنّ ذلك التنزيل الآخر الذي يدعى كونه لازماً للتنزيل الأوّل إنّما هو تنزيل العلم بمؤدّى الأمارة منزلة العلم بالواقع ، وأنّ مدرك هذه الملازمة ليس

ص: 107


1- فوائد الأُصول 3 : 28.
2- كفاية الأُصول : 266.

هو اللغوية ، بل مدركها هو دعوى التلازم العرفي بين اطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بنفس ذلك المؤدّى منزلة العلم بالواقع ، فإنّ قضية إطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع هو كونه بمنزلته من جميع الجهات ، حتّى من جهة كون العلم به بمنزلة العلم بالواقع ، بحيث إنّ قوله : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع ، هو أنّه قائم مقام الواقع بقول مطلق حتّى من جهة أنّ العلم بذلك المؤدّى يكون علماً بالواقع.

وحينئذ فلا يكون أحد التنزيلين متوقّفاً على التنزيل الآخر كي يلزم الدور لأنّ التنزيل الثاني يكون في عرض التنزيل الأوّل ، ويكون الدليل المذكور دالاً على كلّ من التنزيلين ، غايته أنّ دلالته على التنزيل الأوّل تكون بالمطابقة ، ودلالته على التنزيل الثاني تكون بالالتزام الذي مدركه هو التلازم العرفي بين التنزيلين والدلالة الالتزامية وإن كانت في طول الدلالة المطابقية ، إلاّ أنّ نفس المدلول في الثانية لا يكون في طول المدلول في الأُولى كي يكون موجباً للدور.

لا يقال : إنّ هذه الملازمة العرفية إن كانت متحقّقة حتّى في الموارد التي يكون الواقع فيها تمام الموضوع ، توجّه عليه لغوية التنزيل الثاني في الموارد المذكورة ، وإن كانت هذه الملازمة مختصّة بخصوص ما يكون الواقع فيها جزء الموضوع ، لم يكن لها مدرك إلاّلزوم اللغوية ، وحينئذ يعود الإشكال الذي وجّهتموه سابقاً على اللغوية المذكورة.

لأنّا نقول : المراد هو الأوّل ، أعني دعوى فهم العرف من إطلاق تنزيل المؤدّى منزلة الواقع أنّه بمنزلته حتّى من جهة أنّ العلم به يكون بمنزلة العلم بالواقع ، من دون فرق في ذلك بين الموارد التي يكون الواقع فيها تمام الموضوع والموارد التي يكون الواقع فيها جزء الموضوع ، لأنّ هذا التنزيل الثاني لمّا كان

ص: 108

لازماً عرفياً للتنزيل الأوّل ، كان تحقّقه قهرياً ، غايته أنّه بالنسبة إلى الموارد الأُولى لا يترتّب عليه أثر شرعي ، ولا ضير فيه بعد أن لم يكن بجعل استقلالي من الشارع وإنّما كان لازماً قهرياً للتنزيل الأوّل ، فيكون أثره مقصوراً على تنجيز الآثار الشرعية المتعلّقة بالواقع ، ولا يظهر أثر شرعي للتنزيل الثاني في تلك الموارد وذلك لا يضرّ بدعوى الملازمة المذكورة ، وإنّما يضرّ لو كان التنزيل الثاني صادراً استقلالاً من الشارع فتأمّل. بخلاف الموارد الثانية فإنّ أثره الشرعي فيها ظاهر وهو ترتّب الأثر الشرعي المترتّب على الواقع المعلوم.

فالذي تلخّص : أنّه بناءً على أنّ مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالمؤدّى نفسه لا الواقع الجعلي منزلة العلم بالواقع ، لا يرد عليه إشكال الدور ولا إشكال منع الملازمة ، بدعوى أنّه لا مدرك لها إلاّلزوم اللغوية ، التي عرفت حالها فيما لو كان مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي.

والظاهر أنّه لو كان مفاد التنزيل الثاني هو تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، لم يتوجّه عليه إلاّمنع لزوم اللغوية ، أمّا الدور فيمكن منعه بأنّ الاستكشاف بطريق الملازمة المذكورة إنّما هو في مقام الاثبات ، أمّا في مقام الثبوت فلا يكون إلاّتنزيل المؤدّى والعلم به منزلة الواقع والعلم به. وإن شئت فقل : تنزيل المؤدّى المعلوم منزلة الواقع المعلوم بلا تقدّم لأحد التنزيلين على الآخر كي يكون مستلزماً للدور.

وفي التحريرات المطبوعة في صيدا في آخر ما أورده ثالثاً على صاحب الكفاية قدس سره ما هذا لفظه : وحيث إنّ المفروض في المقام هو تركّب الموضوع من الإحراز ومتعلّقه ، فلو كان الجزء الآخر منزّلاً في عرض الجزء الأوّل بأن يكون

ص: 109

مشكوك الخمرية منزّلاً منزلة الخمر الواقعي ، وكان إحراز الخمر الواقعي بالأمارة منزّلاً منزلة القطع بالواقع ، فيتمّ الموضوع حينئذ. وأمّا إذا كان الإحراز المتأخّر عن التنزيل وهو القطع بالواقع الجعلي الذي لا مساس له بالواقع الحقيقي منزّلاً منزلة القطع بالواقع ، فيستحيل التئامه مع الجزء الأوّل حتّى يتحقّق المركّب الذي هو الموضوع للحكم. وليت شعري ما الذي دعا هذا المحقّق إلى جعل الجزء الآخر المنزّل منزلة القطع بالواقع هو القطع بالواقع الجعلي حتّى يرد عليه ذلك ، ولِمَ لم يلتزم بكون الجزء الآخر المنزّل منزلته بالملازمة هو الإحراز الناقص المتعلّق بنفس الواقع حتّى يسلم من ذلك (1).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ كلامه في الحاشية (2) بالنسبة إلى أنّ أساس هذه الملازمة ماذا ، لا يخلو عن اضطراب ، فإن كان أساس ذلك عنده هو دعوى التلازم العرفي بين التنزيلين ، لم يتوجّه الإشكال المزبور ، لوضوح أنّه لا ملازمة عرفية بين تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع وتنزيل كشفها الناقص منزلة الكشف التامّ ، وإنّما الملازمة العرفية مسلّمة بين هذا التنزيل وتنزيل القطع المتعلّق بمؤدّى الأمارة منزلة القطع بالواقع.

نعم ، لو كان المدرك في التلازم المذكور هو عدم اللغوية ، لكان لدعوى كون المنزّل بالتنزيل الثاني هو كشفها الناقص مجال واسع كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الملازمة لو تمّت من طريق العرف أو تمّت من طريق لزوم اللغوية ، لكان مقتضاها هو قيام الأمارة مقام العلم الطريقي والموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو كان جزء الموضوع. أمّا ما يكون مأخوذاً على نحو

ص: 110


1- أجود التقريرات 3 : 32 - 33.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 8.

الصفتية فيمكن أن يقال بأنّه داخل في ذلك أيضاً ، خصوصاً على دعوى الملازمة من طريق اللغوية ، إذ لا شبهة في أنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بدون تنزيل العلم بالواقع التعبّدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي يكون لغواً صرفاً في الموارد التي يكون العلم الموضوعي فيها صفتياً ، سواء كان تمام الموضوع أو جزأه.

لكن في النفس إشكال في قيام الأمارة حينئذ مقام العلم الموضوعي المأخوذ على نحو تمام الموضوع ، بناءً على كون مدرك الملازمة هو التلازم العرفي ، فإنّ التنزيل الأوّل لا يتحقّق ، إذ لا أثر للواقع كي يصحّ قوله : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع. اللّهمّ إلاّأن يقال : كما صحّ هذا التنزيل الأوّل في صورة جزء الموضوع ، يصحّ أيضاً في صورة تمام الموضوع ، بأن يقال يكفي في صحّة التنزيل الأوّل ترتّب الأثر على التنزيل الثاني الذي هو لازمه ، فتأمّل.

وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الايراد المذكور بعنوان ثالثاً في التحريرات المشار إليها هو عين الايراد المذكور في هذا الكتاب بعنوان ثانياً ، وحاصله : أنّ الموضوع المركّب من الإحراز ومتعلّقه يكون فيه إحراز المتعلّق عين تحقّق الجزء الثاني الذي هو الاحراز ، ويستحيل أن يتأخّر تحقّق هذا الجزء الذي هو الإحراز عن إحراز الجزء الأوّل الذي هو المتعلّق ، فلو قلنا بأنّ مفاد الحجّية هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فعند قيامها يتحقّق لدينا واقع تعبّدي ، وهو الجزء الأوّل من الموضوع ، ويبقى الجزء الثاني منه وهو الإحراز ، وهذا التنزيل الذي يدعى أنّه لازم للتنزيل الأوّل لا يحقّقه ، لأنّ أقصى ما في هذا التنزيل الثاني هو أنّ العلم بهذا الواقع التعبّدي يكون بمنزلة العلم بالواقع الحقيقي ، وهذا المقدار لا يوجب لنا التئام موضوعنا الذي هو الواقع المحرز ، أعني ما هو مركّب من الواقع وإحرازه هذا.

ص: 111

ولكن لا يخفى أنّ التنزيل الثاني وإن لم يحقّق لنا إحرازاً للواقع ، إلاّ أنّه يكفي لترتيب الأثر المرتّب على الواقع والإحراز ، وذلك من جهة تكفّل التنزيل فيه بذلك من دون حاجة إلى جعل الإحراز ، وهذا هو الذي أشار إليه المرحوم الشيخ محمّد علي في حاشية منه في الهامش (1) ، فراجع وتأمّل.

وأمّا ما ذكره في التحرير المشار إليه بقوله : رابعاً (2) ، فهو ما عرفت من إنكار الملازمة المبنية على اللغوية ، وقد عرفت إمكان بنائها على دعوى الملازمة العرفية. وأمّا ما اشتمل عليه خامساً فهو راجع إلى إبطال ما أفاده في الكفاية ، من أنّه لو تمّت هذه الطريقة لعمّت القطع الصفتي (3) ، وقد عرفت أنّ الإنصاف هو ذلك.

فقد تلخّص لك من جميع ما حرّرناه : أنّ الإيراد الوحيد هو فساد أصل المبنى ، وهو كون مفاد دليل الاعتبار هو جعل المؤدّى وأنّه منزّل منزلة الواقع ويتلو هذا الإيراد إنكار الملازمة بكلا طريقتيها العرفية ولزوم اللغوية. أمّا ما أُفيد في التحرير المشار إليه ثالثاً وفي هذا التحرير ثانياً فقد عرفت الجواب عنه ، أمّا ما أُفيد في التحريرات المشار إليها بقوله رابعاً ، فقد عرفت أنّه إنّما يرد لو كانت الملازمة المدعاة هي المبنية على أساس دعوى اللغوية ، دون الملازمة العرفية.

والإنصاف : أنّ كلامه قدس سره في الحاشية لا يخلو عن اضطراب ، على وجه لم يتحصّل المراد منه ، وأنّه هل أساس الملازمة المدعاة هو العرف ، أو أنّ أساسها هو لزوم اللغوية. نعم لمّا كان صريح عبارته في الكفاية في المنزّل في التنزيل الثاني أنّه هو العلم بالواقع التعبّدي ، كان لازم ذلك هو كون أساس هذه الملازمة

ص: 112


1- فوائد الأُصول 3 : 30 / الهامش (1).
2- أجود التقريرات 3 : 33.
3- كفاية الأُصول : 266.

عنده هو لزوم اللغوية ، لأنّ [ الملازمة ] العرفية إنّما تدعى بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بذلك المؤدّى منزلة العلم بالواقع ، لا العلم بالواقع التعبّدي ، إذ لا ملازمة بحسب النظر العرفي بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع التعبّدي الذي أوجدته الأمارة منزلة العلم بالواقع الحقيقي.

لكن عبارته في الحاشية ليست صريحة بذلك ، بل قد يقال إنّها صريحة في أنّ المنزّل في التنزيل الثاني هو العلم بمؤدّى الأمارة لا العلم بالواقع الجعلي ، فإنّه قال في جواب « إن قلت » الثالثة ما هذا لفظه : قلت : نعم ، ولكن لا يبعد دلالة دليل الأمارة على هذا التنزيل بدعوى الملازمة العرفية بينه وبين تنزيل المؤدّى ولو فيما كان القطع به معتبراً في الحكم عليه الذي دلّ عليه الدليل بعمومه ، حيث إنّ العرف لا يرى التفكيك بين تنزيل ما قامت البيّنة على خمريته منزلة الخمر مثلاً ، وتنزيل القطع به كذلك منزلة القطع بها واقعاً ، وإن لم يكن بينهما ملازمة عقلاً (1).

فإنّ الضمير في قوله : وتنزيل القطع به الخ ، راجع إلى ما قامت البيّنة على خمريته ، يعني مؤدّى الأمارة ، لا الخمر الجعلي التعبّدي.

ثمّ قال في جواب « إن قلت » الرابعة ما هذا لفظه : وقد عرفت أنّ دليل تنزيل مؤدّى الأمارة الشامل بعمومه المقام يدلّ على تنزيل القطع به ( يعني مؤدّى الأمارة ) منزلة القطع بالواقع التزاماً ، كما أنّه إذا كان هناك دليل على تنزيل المؤدّى في خصوص المقام يدلّ عليه مطلقاً ولو لم يكن الملازمة في البين ، إمّا بالالتزام أو بدلالة الاقتضاء حفظاً للكلام عن اللغو (2).

وصدر هذه العبارة يدلّ على أنّ المنزّل في التنزيل الثاني هو العلم بمؤدّى

ص: 113


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 9.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 9.

الأمارة ، وقد عرفت أنّ لازم ذلك هو كون أساس الملازمة هو التلازم العرفي الادّعائي ، لا التلازم الحقيقي ولا لزوم اللغوية. أمّا ما اشتمل عليه الذيل من الترديد بين الطريقتين ، فلعلّه ناظر إلى خصوص ما فرضه من وجود دليل خاصّ وارد في مورد العلم الموضوعي ، يدلّ على تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع في ذلك المورد.

ثمّ إنّه صرّح في آخر كلامه بقوله : ثمّ لا يخفى أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك بين ما إذا أُخذ القطع على الصفتية قيداً ، وما أُخذ قيداً على نحو الكشفية ، فتأمّل (1) إلاّ أنّه عقّبه بقوله : هذا كلّه فيما أُخذ القطع على نحو الكشف في الموضوع ، وأمّا إذا أُخذ فيه على نحو الصفتية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم قيام الأمارة مقامه بمجرّد دليل اعتبارها الخ.

ولعلّ إحدى العبارتين زائدة ، ويشهد بذلك أنّ في العبارة تقديماً وتأخيراً ، كما في نسخة مصحّحة عندي ، لكن لم يكن في هذه النسخة ما يؤشّر إلى زيادة إحدى العبارتين ، فلاحظ وتأمّل.

لكن في الكفاية صرّح بمقتضى العبارة الأُولى ، فأورد شيخنا قدس سره عليه بما تضمّنه قوله في التحرير المشار إليه خامساً (2) ، وقد عرفت أنّه لا يتوجّه هذا الإشكال عليه لو كان مدرك الملازمة هو اللغوية ، نعم يتوجّه لو كان مدركها هو التلازم العرفي ، وإن أمكن القول بأنّه لا يتوجّه حتّى لو كان ذلك هو المدرك للملازمة المذكورة ، فتأمّل.

ص: 114


1- نفس المصدر.
2- أجود التقريرات 3 : 34.

قوله : وأمّا الظنّ فمجمل الكلام فيه ... الخ (1).

ملخّص الكلام : أنّه قدس سره قسّم الظنّ الموضوعي إلى أربعة أقسام ، وهي : ما يكون موضوعاً لحكم يخالف متعلّقه أو حكم متعلّقه ، أو يكون موضوعاً لحكم مضاد لذلك ، أو لحكم مماثل له ، أو يكون موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به ، فهذه أقسام أربعة. وكلّ منها إمّا أن يكون الظنّ حجّة أو غير حجّة ، فتكون الأقسام ثمانية. وكلّ منها إمّا أن يكون على نحو الصفتية أو على نحو الكاشفية ، فتكون الأقسام ستة عشر. وكلّ منها إمّا أن يكون على نحو تمام الموضوع أو على نحو يكون جزأه ، فتكون الأقسام العقلية اثنين وثلاثين (2)

ص: 115


1- فوائد الأُصول 3 : 31.
2- بعد إسقاط ما يكون من الظنّ موضوعاً للحكم المضادّ وما يكون موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به ، يبقى ما يكون موضوعاً للحكم المخالف ، وما يكون موضوعاً للحكم المماثل ، وذلك 16 صورة ، 8 منها لذي الحكم المخالف ، ومثلها لذي الحكم المماثل. أمّا صور ذي الحكم المخالف فهي : الظنّ الطريقي الحجّة ( تمام الموضوع ). الظنّ الطريقي الحجّة ( جزء الموضوع ). الظنّ الصفتي الحجّة ( تمام الموضوع ). الظنّ الصفتي الحجّة ( جزء الموضوع ). الظنّ الطريقي غير الحجّة ( تمام الموضوع ). الظنّ الطريقي غير الحجّة ( جزء الموضوع ). الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ). الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ). وهذه الثمانية بعينها لذي الحكم المماثل. وقد أسقط شيخنا قدس سره من ذي الحكم المماثل الأربعة الأُولى ، وهي ما يكون الظنّ حجّة ، فيبقى لنا 12 صورة ، 4 لذي الحكم المماثل ، و 8 لذي الحكم المخالف. ثمّ إنّه قدس سره أسقط من الأربعة الباقية لذي المماثل اثنين ، وهما أخذه من حيث الطريقية مع كونه غير حجّة ، تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، فيبقى له اثنان : الصفتي غير الحجّة تمام الموضوع أو جزء الموضوع. وأيضاً أسقط من ذي المخالف نفس هاتين الصورتين ، وهما أخذه من حيث الطريقية مع كونه غير حجّة تمام الموضوع أم جزأه ، فيبقى له ستّة أقسام ، أسقط منها واحدة وهي الظنّ الطريقي الحجّة تمام الموضوع ، فبقي له خمسة ، أضف إليها صورتي ذي المماثل ، فتكون الصور الممكنة سبعة ، أضف إليها صورة الطريقي الصرف فتكون الصور ثمانية : وهي صورة واحدة للظنّ الطريقي الصرف الذي لا يكون موضوعاً ، والسبعة هي ما بقي من الصور الممكنة للظنّ الموضوعي ، وهي هذه الصور : الظنّ الطريقي الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف. الظنّ الصفتي الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المخالف. الظنّ الصفتي الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف. الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المخالف. الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المخالف. الظنّ الصفتي غير الحجّة ( تمام الموضوع ) للحكم المماثل. الظنّ الصفتي غير الحجّة ( جزء الموضوع ) للحكم المماثل. [ منه قدس سره ].

وأفاد قدس سره أنّ هذه الأقسام مجرّد تصوّرات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلاّاعتبار الظنّ على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلّقه الذي هو مفاد أدلّة حجّية الطرق والأمارات ، من دون أن يؤخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر الخ (1)

ص: 116


1- فوائد الأُصول 3 : 32.

قد يقال : إنّ الظنّ ربما كان موضوعاً لحكم ، مثل الظنّ بالضرر في موضوعيته لوجوب الافطار ولوجوب التيمّم مثلاً ، اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ الموضوع في ذلك هو مجرّد الاحتمال ، ويكون الحكم وهو عدم وجوب الصوم أو حرمته مترتّباً على الظنّ بالضرر من جهة كونه أحد مصاديق الاحتمال. لكن الظاهر أنّ ما مرّ من قيام الطرق والأمارات مقام العلم الموضوعي مثل اليد وغيرها من هذا القبيل ، أعني ما أُخذ فيه الظنّ موضوعاً لذلك الحكم الذي أُخذ فيه العلم موضوعاً. اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ أمثال ذلك من قبيل التصرّف في الموضوع ، وأنّ الشارع بعد أن جعل اليد حجّة مثلاً فقد صيّرها علماً ، فيكون ترتّب الحكم عليها وهو جواز أداء الشهادة استناداً إليها من باب ترتّبه على العلم ، غايته أنّه علم جعلي ، فيخرج بذلك عمّا أنكره الأُستاذ قدس سره من كون الظنّ بما أنّه ظنّ موضوعاً للحكم الشرعي المذكور ، فتأمّل.

وكيف كان ، فإنّ الممكن من هذه الأقسام المذكورة للظنّ الموضوعي هو أخذه موضوعاً للحكم المخالف بأقسامه الثمانية ، يعني سواء كان حجّة أو لا ، وكلّ منهما إمّا صفة أو طريق ، فهذه أربعة ، وكلّ منها إمّا على نحو الجزء أو على نحو التمام ، فهذه أقسام ثمانية ، كلّها ممكنة ، لكن شيخنا قدس سره أسقط منها ما أُخذ على نحو الطريقية تمام الموضوع ، سواء كان الظنّ حجّة أو لا ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في المباحث السابقة (1). وحينئذ تكون الأقسام الممكنة عنده قدس سره ستّة ، وغير الممكن ثمانية أيضاً ، وهي أقسام ما أُخذ موضوعاً للحكم المضادّ بأقسامه

ص: 117


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 20 - 22.

الثمانية. وقد علّل شيخنا قدس سره عدم الامكان في ذلك بقوله : لأنّه يلزم اجتماع الضدّين ولو في الجملة وفي بعض الموارد (1) ، يعني في صورة مطابقة الظنّ للواقع ، بل في صورة كون الظنّ جزء الموضوع يلزم اجتماع الضدّين دائماً.

ولا يخفى أنّه يبقى الإشكال في صورة أخذه تمام الموضوع عند عدم الاصابة ، إذ لا يتأتّى فيها المانع المذكور. فالأولى التعليل لعدم الصحّة بأنّه موجب للظنّ باجتماع الضدّين في جميع هذه الأقسام الثمانية.

ثمّ إنّه قدس سره جعل أقسام ما أُخذ موضوعاً للمماثل ، أربعة منها صحيحة توجب التأكّد ، وهي صور ما كان الظنّ غير حجّة ، فجعل ذلك من باب التأكيد. وأربعة أبطلها قدس سره ، وهي صور كون ذلك الظنّ حجّة ، فقال في وجه بطلانها : فإنّ الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك (2).

وقد تقدّم البحث في ذلك أيضاً في مبحث أخذ العلم موضوعاً (3) ، وأنّ هذا المعنى لو تمّ لانسدّ باب أخذ العلم موضوعاً ، هذا. مضافاً إلى [ أنّ ] التفرقة بين ما يكون حجّة وما لا يكون ، في صحّة كون الثاني مؤثّراً في الملاك بخلاف الأوّل ، لا يخلو عن تأمّل. وكيف كان ، فقد عرفت فيما تقدّم أنّ ذلك - أعني أخذ العلم موضوعاً للحكم المماثل - لا يصحّ (4) ، وأنّه لا يتأتّى التأكّد لاختلاف الرتبة ، وحينئذ تكون أقسام المماثل ملحقة بالمضاد في عدم الصحّة والبطلان.

ص: 118


1- فوائد الأُصول 3 : 32.
2- فوائد الأُصول 3 : 34.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.
4- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

قوله : هو أنّ الظنّ الغير المعتبر لا يصحّ أخذه موضوعاً على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلّقه ولا لمخالفه ، فإنّ أخذه على وجه الطريقية يستدعي اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظنّ إلاّلحاظه طريقاً ... الخ (1).

لا يخلو من تأمّل ، لأنّ لحاظ الحاكم الظنّ من حيث كونه كاشفاً لا يستلزم كونه حجّة عنده ولا جعل حجّيته ، فإنّ هذه الجهة للظنّ - أعني جهة كونه كاشفاً - ذاتية للظنّ ، غايته أنّه كشف ناقص ، ومحصّل حجّيته هو تكميل ذلك النقص فيه ، ومن الواضح أنّ أخذه موضوعاً من هذه الجهة الناقصة من الكشف في قبال أخذه صفة قائمة بنفس الظانّ ، وذلك لا دخل له بتكميل ذلك النقص ، فلا يكون أخذه من هذه الناحية موجباً لحجّيته ، كما أنّه يصحّ أخذه بما هو عليه من الكشف الناقص.

وبعبارة أُخرى : أنّ الظنّ الذي هو غير حجّة يمكن أن يؤخذ في الموضوع على ما هو عليه من الكشف الناقص ، فلا يكون أخذه فيه من هذه الجهة موجباً لتكميل نقصه ، ولا أنّه يكشف عن أنّه قد جعله حجّة ثمّ أخذه في الموضوع.

وبعبارة أُخرى : أنّ أخذه في الموضوع من هذه الناحية لا يوجب جعل حجّيته ولا يكشف عن جعلها ، لإمكان أخذه كذلك مع فرض كونه ليس بحجّة ، كما ربما يقال في مسألة الظنّ في الركعتين الأُوليين بأن يقال : إنّ الحكم بصحّة الصلاة متوقّف على إحرازهما ، فيكون هذا الحكم وهو صحّة الصلاة موضوعه هو العلم بهما ، ثمّ إنّه جعل ذلك الحكم للظنّ بهما من دون أن يجعل ذلك الظنّ حجّة ، وإن أمكن القول بأنّ ذلك من قبيل التصرّف بالموضوع ، وأنّ الظنّ إنّما أقامه مقام العلم لأنّه جعله علماً ، وإن كان جعله علماً من هذه الناحية فقط أعني ناحية إحراز الأوّلين وغيرهما من الأخيرتين ، فتأمّل.

ص: 119


1- فوائد الأُصول 3 : 35.

[ الكلام في التجرّي ]

قوله : وحاصل هذه الدعوى تتركّب من مقدّمتين ... الخ (1).

ملخّص هاتين المقدّمتين : هو أنّ إرادة المكلّف للفعل الخارجي المتعلّق بموضوع خارجي مثل شرب الخمر إنّما تتعلّق به بعد علمه بكونه شرب خمر ، على وجه يكون تمام المؤثّر في حركته نحوه هو علمه بأنّه شرب خمر ، على وجه لا يكون لكونه خمراً واقعياً تأثير في إرادته ، ويستحيل أن تكون إرادته منبعثة عن الوجود الواقعي ، وإنّما هي منبعثة عن الوجود العلمي ، وحينئذ نقول : إنّه يريد ما علم أنّه شرب خمر ، فتكون إرادته متعلّقة بشرب معلوم الخمرية على نحو يكون العلم تمام الموضوع في عالم تلك الإرادة ، هذا حاصل إحدى المقدّمتين.

وحاصل المقدّمة الأُخرى : هو أنّ التكاليف إيجاباً أو منعاً إنّما تتعلّق بإرادة المكلّف ، فهو في مثل النهي عن شرب الخمر يمنعه من إرادة شرب ما هو معلوم الخمرية ، ويكون ذلك قدراً مشتركاً بين العلم المصيب والعلم المخطئ.

ومن ذلك تعرف أنّ أخذ النتيجة المذكورة من هاتين المقدّمتين لا تتوقّف على أخذ العلم صفتياً في المقدّمة الأُولى ، بل يكفي فيها أخذه على نحو تمام الموضوع ولو بنحو الكشف والطريقية. كما أنّها لا تتوقّف على أخذ الإرادة في متعلّق التكليف معنى اسمياً ، بل بعد تمامية المقدّمة الأُولى يكفي كون متعلّق

ص: 120


1- فوائد الأُصول 3 : 39.

التكليف هو إرادة شرب ما هو معلوم الخمرية ، بأن يمنعه عن إرادة الشرب المذكور ولو بنحو لحاظ الإرادة آلة لما تتعلّق به من الشرب المذكور ، المفروض كونه شرب معلوم الخمرية على نحو يكون العلم تمام الموضوع.

وبذلك يتمّ ما أراده شيخنا قدس سره من أنّ أخذ هذه النتيجة موقوف على اجتماع هاتين المقدّمتين ، فإنّا لو سلّمنا المقدّمة الأُولى من أنّ إرادة المكلّف تتعلّق بشرب ما هو معلوم الخمرية عنده أو بما علم أنّه شرب خمر ، لكن منعنا المقدّمة الثانية وقلنا إنّ التكليف لا يتعلّق بنفس تلك الإرادة بل يتعلّق بشرب الخمر ، لم تتمّ النتيجة المذكورة. كما أنّا لو سلّمنا المقدّمة الثانية وهي أنّ التكليف يتعلّق بإرادة المكلّف ، لكن منعنا المقدّمة الأُولى ، وقلنا إنّ إرادة المكلّف إنّما تتعلّق بنفس شرب الخمر الواقعي ، على وجه يكون كونه معلوم الخمرية غير داخل تحت الارادة ، بل يكون من قبيل الداعي لها ، لم تتمّ النتيجة المذكورة.

وبالجملة : أنّا نحتاج إلى إثبات أنّ إرادة المكلّف إنّما تتعلّق بما علم أنّه شرب خمر ، وإلى إثبات أنّ التكليف إنّما يتعلّق بإرادة المكلّف ، ليكون الحاصل هو أنّ النهي يتعلّق بالمنع من إرادة المكلّف ما علم أنّه شرب خمر ، ليكون ذلك جامعاً بين العلم المصيب والعلم المخطئ.

لا يقال : يكفي في هذا القدر الجامع أن نقول في المقدّمة الثانية إنّ النهي تعلّق بما علم أنّه شرب خمر ، من دون توسّط تعلّقه بإرادة المكلّف.

لأنّا نقول : إنّه لو ثبت ذلك لكان كافياً في المطلوب ، لكنّه يكون دعوى بلا دليل ، إذ عمدة الدليل هو كون إرادة المكلّف تتعلّق بما هو المعلوم ، وأنّ إرادة المولى تتعلّق بتحريك إرادة العبد أو بالمنع عنها ليتمّ أنّ إرادة المولى في النهي قد تعلّقت بالمنع من إرادة المكلّف المتعلّقة بما علم أنّه شرب خمر ، هذا.

ص: 121

ولكن يمكن أن يقال : إنّا لو سلّمنا المقدّمة الأُولى فلا نحتاج في المقدّمة الثانية إلى القول بكون النهي متعلّقاً بإرادة المكلّف ، بل نقول إنّ النهي يكون مانعاً عمّا تتعلّق به إرادة العبد بإظهار طلب تركه ، فيكون المطلوب بالنهي هو ترك الشرب الذي علم المكلّف أنّه شرب خمر ، فلا تكون هذه المقدّمة الثانية محتاجة إلى شيء جديد غير مألوف ، بل نقول إنّ النهي على ما هو المعروف من كون الغرض منه أن يكون مانعاً ممّا يمكن تعلّق إرادة المكلّف به ، والذي يمكن تعلّق إرادة المكلّف به هو ما علم أنّه شرب خمر ، فيكون الممنوع عنه هو هذا ، وحيث إنّ حاصل المقدّمة الأُولى هو أنّ إرادة العبد إنّما تتعلّق بما يعلم أنّه شرب خمر على وجه يكون العلم تمام الموضوع ، يكون ذلك هو الممنوع عنه في النهي.

وكيف كان ، لابدّ لنا من إبطال كلا المقدّمتين فنقول بعونه تعالى : إنّه لا إشكال في فساد المقدّمة الأُولى ، فإنّ الفعل الخارجي الصادر من المكلّف مثل شرب الخمر بالقياس إلى كلّ من الآثار والفوائد المترتّبة عليه مثل الإسكار ، ومن العناوين الصادقة عليه مثل كونه شرب خمر ، لا يكون مقيّداً بشيء منها ، بمعنى أنّ متعلّق إرادته لا يكون هو عنوان الإسكار ولا يكون هو عنوان شرب الخمر ، فإنّ هذه الجهات إنّما تؤثّر في تحريك إرادته نحو ذلك الفعل الخارجي بوجودها العلمي ، بمعنى أنّه إنّما يريد شرب هذا المائع لعلمه بأنّه مسكر وبأنّه شرب خمر ، فهذه العناوين لا يعقل أن تكون تحت إرادته ومتعلّقة للارادة الخارجية منه ، لكونها بوجودها العلمي في مرحلة داعي تلك الارادة ، ولا يعقل أن تكون واقعة تحت الارادة الخارجية التي هي المحرّكة لعضلاته ، بل إنّ متعلّق تلك الارادة الخارجية لا يكون إلاّشرب ذلك المائع بأي عنوان اتّفق ، وإن كان هو إنّما أراده لعلمه بأنّه مسكر وبأنّه شرب خمر.

ص: 122

وما يقال من أنّ العنوان الفلاني أُخذ بنحو الداعي أو بنحو التقييد في الفعل الفلاني ، ليس محلّه الأفعال الخارجية مثل شرب هذا المائع الذي يعلم أنّه مسكر وشرب خمر ، أو إكرام هذا الشخص الذي يعلم أنّه صديقه ، أو ضرب ذلك الشخص الذي يعلم أنّه عدوّه ، فإنّ هذه العناوين في مثل تلك الأفعال الخارجية لا تكون إلاّفي مرحلة الداعي ، وأنّ وجودها العلمي هو المؤثّر في تعلّق الارادة بايجاد ذلك الفعل الخارجي المتعلّق بذلك الموجود الخارجي ، ويستحيل أن يتقيّد الفعل الخارجي كالضرب الواقع على زيد بكونه عدوّاً له مثلاً.

نعم ، إنّ ذلك الترديد إنّما يكون في الأفعال الانشائية مثل التمليك ونحوه من الإذن ، ومن نيّة الامتثال ، فلو اعتقد أنّ هذا الشخص صديقه أو أخوه وملّكه شيئاً ، أو أذن له في دخول داره ، أو اعتقد أنّ الأربع ركعات بين المغرب والعشاء واجبة عليه ففعلها ، ففي مثل ذلك يصحّ أن يقال إنّه يملّك هذا الشخص بداعي أنّه أخوه فلو صادف خلاف الواقع يكون التمليك للشخص الحاضر واقعاً. كما يصحّ أن يقال إنّه تمليك له على أنّه أخوه ، فإنّ التمليك والإذن والامتثال ونحوها قابلة للتعليق والتقييد بالعنوان ، بخلاف الفعل الخارجي مثل الشرب والاكرام والضرب ونحوها فإنّها غير قابلة للتقييد ، فلا يكون العنوان المقصود في مثل ذلك إلاّمن قبيل الدواعي والخطأ في التطبيق ، مع وقوع الفعل خارجاً على ما وقع عليه ، أيّاً كان ذلك الذي وقع عليه ، هذا حال عنوان مثل شرب الخمر.

ومنه يتّضح بطريق أولى حال نفس العلم بذلك العنوان ، فإنّ العلم بأنّ هذا الفعل شرب خمر لا يكون إلاّمن مقدّمات الارادة ، ولا يكون واقعاً منها إلاّموقع الداعي ، ولا يعقل أن يكون واقعاً تحت الارادة ، فهو وإن كان تمام الموضوع في تحريك الارادة ، إلاّ أنّه فوقها وهو العلّة في وجودها ، لا أنّه يكون واقعاً تحتها

ص: 123

على وجه تكون معلومية شرب الخمر واقعة تحت الارادة ، ليكون المراد هو ما علم كونه شرب خمر ، هذا حال المقدّمة الأُولى.

ومنه يتّضح لك الحال في المقدّمة الثانية ، فإنّ طلب الطالب ونهيه من الأفعال الاختيارية له ، والغاية له من ذلك الفعل الاختياري - أعني إيجاد ذلك الأمر أو ذلك النهي - والفائدة المترتّبة عليه هو تحريك إرادة المكلّف نحو الفعل بإيجاد الداعي له إلى ذلك الفعل ، فهي - أعني إرادة العبد نحو الفعل - لا تكون بالنسبة إلى إرادة المولى إلاّواقعة في مرحلة الداعي إلى إيجاد إرادته التي هي الطلب أو النهي ، فكيف يعقل أن تكون نفس تلك الارادة من العبد متعلّقة لارادة المولى ، وذلك واضح لا ريب فيه ، هذا ما أفهمه.

أمّا ما اشتمل عليه هذا التحرير ، وكذلك التحرير المطبوع في صيدا (1) من التطويل في بيان هاتين المقدّمتين وفي بيان ردّهما ، فممّا لم أتوفّق لفهمه ، وهناك عبائر لا تخلو من الخلط بين الداعي والقيد ، فراجع وتأمّل.

قوله : مع أنّ هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصلّ وتخلّف علمه عن الواقع ، فإنّ البيان المتقدّم لا يجري في هذا القسم من التجرّي كما هو واضح (2).

الظاهر أنّ هذه الطريقة لا تتأتّى في التجرّي الذي يكون بنحو الشبهة الحكمية ، سواء كان في الواجبات أو كان في المحرّمات ، فإنّ المدار في هذه الطريقة على كون الفعل الذي يتجرّى به له تعلّق بموضوع خارجي ، وكان ذلك الموضوع هو مورد الخطأ. أمّا إذا كان مورد الاشتباه هو نفس الحكم الشرعي ، بأن

ص: 124


1- أجود التقريرات 3 : 43 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 41.

قطع بوجوب الفعل الفلاني فتركه ثمّ تبيّن أنّه ليس بواجب ، أو قطع بحرمة الفعل الفلاني فارتكبه ثمّ تبيّن أنّه ليس بحرام ، فإنّ أمثال [ ذلك ] لا تتأتّى فيه المقدّمة الثانية التي هي عبارة عن كون متعلّق التكليف هو إرادة المكلّف واختياره لما هو معلوم لديه ، وإن تأتت فيه المقدّمة الأُولى ، بأن يكون علمه بحرمة ذلك الفعل موضوعاً لمتعلّق إرادته وقصده ، لكن لا يعقل أن يكون التحريم الشرعي متعلّقاً بتلك الارادة المتعلّقة بما هو معلوم الحرمة المذكورة على ما شرحه قدس سره في المقدّمة الثانية ، وكذلك الحال لو قلنا بأنّ المقدّمة الثانية هي عبارة عن كون النهي متعلّقاً بما تتعلّق به إرادة المكلّف الذي هو معلوم الحرمة ، إذ لا يعقل تعلّق الحرمة بما هو معلوم الحرمة.

وبالجملة : أنّ هذه الطريقة لا تتأتّى إلاّفيما يكون من الأفعال له تعلّق بموضوع خارجي ، سواء كان في الواجبات كما لو قطع بالوقت فلم يصلّ ، أو قطع بحدوث الآية فلم يصلّ ، ثمّ انكشف الخلاف ، أو كان في المحرّمات كما في المثال المعروف ، أعني القطع بكون هذا خمر فشربه.

وملخّص تأتّي المقدّمتين في ذلك : هو ما أشار إليه الأُستاذ قدس سره من أنّ في مثل ذلك لا يكون وجود ذلك الموضوع ولا تعلّق الفعل به راجعاً إلى اختيار المكلّف ، فالذي يبقى لاختيار المكلّف في مثل شرب الخمر إنّما هو قصده واختياره لما علم أنّه شرب خمر ، على نحو يكون ذلك العلم هو تمام الموضوع فإنّ حركته وإن كانت إلى الخمر الذي يراه خمراً واقعياً ، ولكن الحقيقة أنّه متحرّك لذلك عن علمه بأنّه خمر ، فيكون المراد والمقصود والمختار إنّما هو شرب ما علم أنّه خمر لا شرب الخمر الواقعي ، فإنّ ذلك خارج عن اختياره ، هذا حال ما يبقى اختيارياً للمكلّف.

ص: 125

ويتبعه ما يتعلّق به التكليف ، فإنّه تابع لاختيار المكلّف ولما يمكن أن يقع تحت قصده وإرادته ، فراجع ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام ، وأنت إذا تأمّلته تعرف اختصاص هذه الطريقة بما يكون من الأفعال له تعلّق بموضوع خارجي دون ما لم يكن كذلك وانحصرت جهة الخطأ فيه في ناحية القطع بالحكم الشرعي على نحو الشبهة الحكمية ، من دون فرق في المقامين بين الواجبات والمحرّمات.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ التكليف إنّما يتعلّق بما يكون داخلاً تحت اختيار المكلّف دون ما هو خارج عن اختياره ، فلو قال صلّ عند الظهر ، فالذي هو داخل تحت اختيار المكلّف هو نفس الصلاة ، وأمّا كون الزمان الذي تقع فيه هو الظهر ، فليس هو أمراً اختيارياً له ، بل يمكن أن يكون ظرفاً لها إن صادف أنّ الزمان الذي أوقعها فيه كان ظهراً في الواقع ، وإن أخطأ لم يكن ذلك الزمان أعني الظهر ظرفاً لها ، ولأجل ذلك أحلنا الواجب المعلّق وأرجعناه إلى المشروط الذي يؤخذ الزمان فيه مفروض الوجود كسائر شروط التكليف ، وحاصل هذه الدعوى مأخوذ ممّا أفاده الشيخ قدس سره من الحصر في الوجوه الأربعة في المثال المشهور.

والحاصل : أنّ المولى لو قال لعبده : لا تشرب الخمر - مثلاً - فالذي هو باختيار المكلّف وداخل تحت قدرته إنّما هو القصد إلى شرب الخمر ، بمعنى أنّه يختار الشرب عن علم وعمد إلى أنّه شرب خمر ، وأمّا كون المشروب خمراً واقعياً فذلك أمر خارج عن اختياره ، فلا يكون الداخل في حيّز التكليف إلاّذلك الأمر الاختياري ، أعني القصد إلى شرب الخمر عن علم بأنّه شرب خمر ، وعن عمد إليه.

وهذا المقدار هو الذي يتعلّق به التكليف ، وهو بعينه موجود فيما لو أخطأ

ص: 126

القطع وكان ما شربه خلاً ، فيكون داخلاً في قوله لا تشرب الخمر ، فإنّه لا يفقد إلاّ مصادفة ما قطع بكونه خمراً للواقع ، وهو أمر خارج عن اختياره ، فيكون أجنبياً عن ذلك التكليف المتوجّه إليه ، فإنّ مناط صحّة التكليف هو الاختيار والعلم ، وهما حاصلان ، دون المصادفة المفروض عدم حصولها.

والجواب : أنّ مناط صحّة التكليف وإن كان هو الاختيار والعلم كما ذكر ، إلاّ أنّهما ليسا على نحو الموضوعية والنظر الاستقلالي بحيث يكون المنهي عنه هو اختيار شرب الخمر عن علم ، بل هو على نحو الطريقية واللحاظ الآلي ، فالمنهي عنه هو نفس شرب الخمر ، وأمّا اختياره وقصده والعلم به فهي عناوين ملحوظة باللحاظ الآلي توصّلاً إلى نفس المتعلّق ، وحينئذ يكون النهي عن شرب الخمر عبارة عن المنع عن شرب ما هو خمر واقعاً ، ولا ربط لذلك بشرب الخل المعتقد كونه خمراً ، وإن كان شربه عن قصد إلى شرب الخمر وعن اعتقاد بأنّه شرب خمر. ثمّ قال قدس سره في توضيح هذه الجملة ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه :

وتوضيح ذلك : أنّ جميع القضايا الأحكامية راجعة إلى القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على فرض وجود الموضوع ، ومن الواضح أنّ إحراز الحكم حينئذ يكون متوقّفاً على إحراز موضوعه ، وإلاّ فلا أثر لمجرّد وجوده الواقعي ، فالسعي إلى امتثال التكليف المتعلّق بموضوع خارجي يتوقّف على إحراز ذلك الموضوع والعلم به ، وإلاّ فلا يعقل أن تتعلّق به الارادة ، كما هو الحال في جميع الموضوعات الخارجية ، فإنّ وجود الأسد واقعاً في المكان الخاصّ لا يؤثّر في إرادة الهرب منه إلاّمع العلم بذلك ، كما أنّ وجود الماء في المكان المخصوص لا يؤثّر في إرادة السعي نحوه لمن كان عطشاناً إلاّمع العلم بذلك.

وبالجملة : أنّ توقّف الارادة على العلم بتحقّق الموضوع من الأُمور

ص: 127

الوجدانية غير القابلة للانكار ، وهذا العلم بالنسبة إلى الارادة يكون على نحو الموضوعية والطريقية ، بمعنى كون العلم علّة أو بمنزلة العلّة للانبعاث.

وهذه المقدّمة الأُولى من المقدّمتين اللتين عليهما يبتني أساس القول بدخول التجرّي تحت عموم الخطاب الواقعي ، وحاصله : أنّ الانبعاث نحو الشيء يتوقّف على العلم بتحقّقه ، على وجه يكون العلم به بالنسبة إلى تلك الارادة من قبيل العلّة بالنسبة إلى معلولها ، فيكون معتبراً على نحو الموضوعية.

والمقدّمة الثانية : أنّ تعلّق الفعل المأمور به أو المنهي عنه بموضوع خارجي يوجب كون ذلك الموضوع الخارجي أجنبياً عن دائرة التكليف ، بل لابدّ أن يكون مأخوذاً في التكليف على نحو يكون مفروض الوجود كما هو الشأن في جميع شرائط التكليف ، ولا يعقل أن يتعلّق التكليف بالفعل المقيّد بذلك الموضوع الخارجي بأي نحو من أنحاء التقييد ، سواء كان من قبيل تقييد الفعل بالمفعول به أو كان من قبيل تقييده بالظرف ، أو غير ذلك من أنحاء التقييدات الناشئة عن تعلّق الفعل بما تعلّق به من الموضوعات الخارجية ، فإنّ جميع تلك المتعلّقات إنّما تكون مأخوذة في التكليف على نحو مفروض الحصول ، ولا تكون مأخوذة قيداً في الفعل المتعلّق به ذلك التكليف ، ولأجل ذلك أبطلنا الواجب المعلّق وأرجعناه إلى الوجوب المشروط.

وحاصل الأمر : أنّ التكليف إذا كان متعلّقاً بفعل له تعلّق بموضوع خارجي يكون الداخل تحت حيّز التكليف ما هو راجع إلى اختيار المكلّف وداخل تحت قدرته ، وليس ذلك إلاّاختيار نفس الفعل وإرادته دون تعلّقه بذلك الموضوع الخارجي ، وبضميمة مدخلية العلم بذلك الموضوع الخارجي في انبعاث تلك الارادة ، ينتج أنّ التكليف إنّما يتعلّق بنفس اختيار ذلك الفعل الناشئ عن العلم

ص: 128

بتحقّق موضوعه ، وهو مشترك ومتحقّق في صورة خطأ القطع ، كما أنّه متحقّق في صورة إصابته ، هذا غاية توضيح مبنى القول بشمول الخطاب الواقعي لمورد التجرّي.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا المقدّمة الأُولى ففيها : أنّ الارادة وإن كانت متوقّفة على العلم بتحقّق الموضوع ، إلاّ أنّه إنّما يؤثّر فيها باعتبار أنّه طريق إلى متعلّقه ، لا باعتبار نفسه ، فليس العلم بالنسبة إلى الارادة من قبيل الموضوع بل من قبيل الطريق إلى متعلّقه ، فإنّ الهرب إنّما ينشأ عن نفس الأسد الذي يراه العالم بوجوده هناك كما يرى المحسوس ، لا أنّ نفس العلم بما أنّه علم يكون هو العلّة في الانبعاث إلى الهرب ، وهكذا الحال في غيره من الأمثلة. مضافاً إلى أنّ العلم ليس علّة للانبعاث نحو المعلوم ، وإنّما هو من قبيل الداعي ، ويكون خطؤه وعدم إصابته للواقع من قبيل تخلّف الداعي.

وأمّا المقدّمة الثانية ، ففيها : أنّ مناط التكليف وإن كان هو الاختيار ، إلاّ أنّه لا يكون متعلّقاً بنفس الاختيار ، بل بنفس ما تعلّق به الاختيار ، ويكون الاختيار في ذلك ملحوظاً باللحاظ الآلي إلى متعلّقه ، لا أنّه ملحوظ استقلالاً كي يكون هو المكلّف به ويكون التكليف متعلّقاً باختيار ما يراه شرب خمر كي يتمّ بذلك ما رامه من شمول الخطاب لمورد التجرّي ، فتأمّل.

قوله : الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلّق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارئة على ذلك الشيء المغيّرة لجهة حسنه وقبحه فيكون القطع بخمرية ماء موجباً لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه ... الخ (1).

إن كان المراد بالقبح المذكور هو ما يكون ملاكاً للحكم الشرعي ، وهو ما

ص: 129


1- فوائد الأُصول 3 : 41.

نعبّر عنه بالمصالح والمفاسد ، فلا ينبغي الريب في إمكانه ، لما عرفت من إمكان أخذ القطع بحكم أو موضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر ، لكن ذلك بمجرّد الإمكان غير نافع فيما نحن فيه ، إذ ليس هذا القبح في هذا المقام ممّا يستقلّ به العقل نظير قبح الظلم ، كي نستكشف حرمته بمجرّد حكم العقل بقبحه على ما حقّق في محلّه (1) من قاعدة الملازمة ، بل أقصى ما في المقام هو أنّ الشارع لو حكم بالحرمة مثلاً في هذا المقام لاستكشفنا المفسدة من حكمه المذكور ، بناءً على ما حقّق في محلّه (2) من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد.

وحينئذ لابدّ من الدليل الدالّ على ثبوت الحرمة في هذا المقام بأن يقول الشارع : لا تشرب معلوم الخمرية ، على أن يكون العلم تمام الموضوع ، لكن يلزم منه أخذ العلم موضوعاً لحكم يماثل حكم متعلّقه ، فيلزم منه اجتماع المثلين ولو في نظر القاطع ، إلاّأن يلغي الحكم الأوّلي وهو حرمة شرب الخمر الواقعي ويقتصر على الحكم الثاني الذي كان موضوعه العلم بأنّه خمر على نحو تمام الموضوع ، وحينئذ تخرج المسألة عن باب التجرّي.

لكن الظاهر أنّه ليس المراد بالقبح المدّعى في هذا المقام الناشئ عن القطع بالحرمة ، هو القبح الذي يكون ملاكاً للأحكام الشرعية ، أو القبح الذي يكون مورداً لقاعدة الملازمة ، بل الظاهر أنّ مرادهم بذلك هو القبح المعصيتي ، بدعوى أنّ تعلّق القطع بكون هذا المائع خمراً مثلاً يوجب اتّصافه بكونه معصية ، ولا ريب في قبح المعصية عقلاً ، لكن من الواضح أنّ هذا الذي يدّعى من القبح المعصيتي ، سواء كان قبحاً فعلياً أو كان قبحاً فاعلياً ، سواء كان سارياً إلى نفس الفعل أو كان مقصوراً على الجهة الفاعلية ، لا يمكن أن يكون ملاكاً للحكم

ص: 130


1- لاحظ ما يذكره قدس سره في الحاشية الآتية في الصفحة : 154 وما بعدها.
2- لاحظ ما يذكره قدس سره في الحاشية الآتية في الصفحة : 154 وما بعدها.

الشرعي ، لما حقّق في محلّه (1) من أنّ قبح المعصية وكذلك حسن الطاعة أجنبي عن باب الملازمة ، وحينئذ لا يترتّب على القبح المذكور إلاّمحض العقاب ، لكن ذلك إنّما هو عند الاصابة وتحقّق العصيان واقعاً كما في مورد الاصابة ، أمّا في مورد الخطأ كما هو محلّ الكلام فلا ريب في عدم كونه معصية حقيقية ، بناءً على أخذ مخالفة التكليف فيها ، وأقصى ما في البين أنّ ذلك بحكم المعصية ، فيرجع الكلام حينئذ إلى الجهة الآتية (2) وهي الاستدلال على استحقاق المتجرّي للعقاب بكونه بحكم العاصي ، وأين هذا ممّا أُريد بهذه الجهة التي نحن فيها من إثبات القبح المدّعى أنّه موجب للحرمة الشرعية بقاعدة الملازمة.

قوله : نعم ، يمكن ذلك بنتيجة الاطلاق والتقييد - إلى قوله - نعم قد يتّفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسناً ... الخ (3).

فإنّ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى العصيان والاطاعة ، والاطلاق والتقييد وإن لم يمكن أن يكون لحاظياً إلاّ أنّه يكون ذاتياً ، بمعنى كون الخطاب متحقّقاً ذاتاً في كلّ من حالتي إطاعته وعصيانه وإن كان سابقاً في الرتبة على كلّ منهما على نحو تحقّق العلّة في حال وجود المعلول ، إلاّ أنّه قدس سره يريد بالقبح الفاعلي غير نفس العصيان ، وحينئذ يحتاج الاطلاق الذاتي فيه إلى دليل من قبيل متمّم الجعل ، والاستشهاد بمسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى ليس من جهة أخذ عدم عصيان النهي في متعلّق الأمر ، لأنّ ذلك ممّا لا مانع منه ، بل من جهة

ص: 131


1- راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة 362 وما بعدها.
2- وهي الجهة الثالثة في فوائد الأُصول 3 : 46 ، ويأتي تعليق المصنّف قدس سره عليها في الصفحة 134 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 43.

أخذ عدم القبح الفاعلي في نفس الصلاة ، فلاحظ وتأمّل.

والإنصاف : أنّ مقام الاطاعة والعصيان خارج عن كلّ من الاطلاق والتقييد الذاتي واللحاظي ، وأنّ مسألة الاجتماع أجنبية عن التقييد بعدم عصيان نفس الخطاب ، بل هي من وادي أخذ عدم عصيان خطاب في متعلّق خطاب آخر ، ففي حدّ نفسه لا مانع فيه من الاطلاق والتقييد اللحاظيين ، نعم لمّا كان مضرّاً بقصد القربة كان راجعاً إلى القيود الذاتية لا اللحاظية.

قوله : فإنّ موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختصّ بذلك إنّما هو عنوان المتجرّي أو العالم المخالف علمه للواقع - إلى قوله - بأن يقال لا تشرب معلوم الخمرية ، فإنّ هذا العنوان يعمّ كلتا الصورتين ... الخ (1).

لا يخفى أنّ عنوان المتجرّي اصطلاحاً مختصّ بمن كان قطعه مخالفاً للواقع وهذا العنوان بقيد المخالفة للواقع لا يمكن أخذه في الخطاب ، لما أُفيد من كونه موجباً للانقلاب والتفات المخاطب إلى أنّ قطعه مخالف للواقع ، لكن أخذه بعنوان المتجرّي اللغوي بمعنى المتمرّد الطاغي يكون شاملاً للصورتين ، فلا حاجة إلى أخذ معلوم الخمرية عنواناً في الخطاب ، بل كفى حينئذ أخذ المتجرّي موضوعاً في الخطاب ، بأن يقال : أيّها القادم على مخالفة مولاه المتجرّي على معصيته لا تفعل ، وحينئذ يعمّ من كان قطعه مخالفاً للواقع ومن كان قطعه مطابقاً للواقع ، لكن توجيه الخطاب بهذا العنوان غير ممكن من [ جهة ] أنّ المخاطب لا يراه إلاّنهياً عن المعصية التي لا يكون النهي عنها نهياً مولوياً ، وكأنّه لأجل ذلك احتاج شيخنا قدس سره في توجيه العنوان العام إلى أخذ معلوم الخمرية ، فأورد عليه بأنّه يلزم اجتماع المثلين في نظر المخاطب. ولا يخفى أنّ الكلام في القبح الفاعلي

ص: 132


1- فوائد الأُصول 3 : 44 - 45.

وهو منحصر بما عرفت من التجرّي والتمرّد والطغيان ، أمّا العلم ومعلوم الخمرية ونحو ذلك فهي على الظاهر أجنبية عن القبح الفاعلي ، بل هي عناوين لنفس الأفعال ، أو لما تعلّقت به من الخمر ونحوه.

قوله : بخلاف المقام ، فإنّه لو فرض أنّ للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية أيضاً حكماً ، فبمجرّد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنّه رتِّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثاً ويلزم لغويته ... الخ (1).

هذا الإشكال جارٍ في العلم الموضوعي المأخوذ موضوعاً لحكم مماثل لمتعلّقه أو لحكم متعلّقه. لكن ربما يقال هناك بالتأكّد ، وإن عرفت هناك (2) أنّه لا يمكن التأكّد لاختلاف الرتبة ، لكن في المقام لا يتأتّى التأكّد وإن قلنا به هناك ، وذلك لأنّ هذا الحكم المماثل إنّما يرد على نفس الجهة الفاعلية ، وذلك الأصلي إنّما يرد على نفس الفعل ، وبعد فرض عدم اتّحاد المتعلّق لا يعقل التأكّد في الحكمين ، لأنّ مورد التأكّد هو وحدة المتعلّق.

ثمّ إنّي لم أتوفّق لتعيّن الثاني للغوية بعد فرض كونه ممّا يمكن أن يلتفت إليه ، فلِمَ لا نقول إنّ الحكم الأوّل - أعني ما تعلّق بنفس الخمر الواقعي - يكون لغواً لأنّه مع عدم العلم به لا يؤثّر في انزجار المكلّف ، ومع العلم يكون الحكم الثاني هو الموجب للانزجار. نعم إنّ الحكم الأوّل لابدّ من جعله لكي يكون موضوع الثاني الذي هو العلم متعلّقاً به.

ص: 133


1- فوائد الأُصول 3 : 45 - 46.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرناه من عدم إمكان التأكّد لما ذكرناه من اختلاف المتعلّق ، لِمَ لا يلتزم شيخنا قدس سره بالتأكّد ويكون ذلك قهرياً ، حيث إنّ نفس الفعل فيه مفسدة كافية في المنع عنه ، وقد فرضنا أنّ هذا العنوان الثانوي أيضاً فيه مفسدة كافية في المنع أيضاً ، فيلزم الحاكم إنشاء حكمين ، وجعل نهيين أحدهما متعلّق بنفس شرب الخمر واقعاً ، والآخر متعلّق بما علم أنّه خمر ، غايته أنّ فعلية أحد هذين الحكمين ملازم لفعلية الآخر ، فدائماً هما متأكّدان في نظر العالم ، ولا وجه لجعل حكم واحد مؤكّد ، إذ للأوّل أثر وهو فيما لو فرض عدم العلم ، وقصرت الأُصول النافية عن نفيه ، كما لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي ونحو ذلك ، كما أنّ للثاني أثراً كما لو شرب ما يعلم أنّه خمر وكان علمه مخالفاً للواقع ، فإنّه لو كان ذلك في الصيام يكون قد أفطر على الحرام ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ التأكّد منسدّ هنا ، لاختلاف المتعلّق وهما الفعل نفسه وجهة الفاعلية. ومنه يظهر لك المنع من كون المقام من قبيل اجتماع المثلين ، إذ مع اختلاف المتعلّق لم يجتمع المثلان ، فليس المقام من قبيل العالم والهاشمي اللذين يتّحد أحدهما بالآخر عند الاجتماع ، بل هما عند الاجتماع متباينان ، فلا تأكّد في البين ولا اجتماع المثلين. لكن لا محصّل لتحريم الجهة الفاعلية إلاّ تحريم العصيان ، ومن الواضح عدم قابلية العصيان للتحريم المولوي.

قوله : الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب لا من باب المخالفة لخطاب شرعي كما في الجهتين الأُوليين ، بل من باب استقلال العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب ، وأنّه يكون في حكم العاصي ... الخ (1).

الذي نتعقّله هو العقاب على مخالفة التكليف الشرعي عن علم وعمد ، وإن

ص: 134


1- فوائد الأُصول 3 : 46.

شئت فقل : بعد قيام الحجّة على ذلك التكليف الشرعي بالمعنى الأعمّ من الحجّة العقلية والحجّة الشرعية ، سواء قلنا إنّ استحقاق العقاب الذي هو بتقرير من الشارع من باب اللطف ليكون رادعاً عن المعصية ، أو قلنا بأنّه من باب السمع الثابت بالتواتر ، فراجع التجريد وغيره (1) من الكتب الكلامية في كيفية تقرير الشارع العقاب على المعصية التي هي مخالفة التكليف الشرعي بعد قيام الحجّة عليه.

أمّا الأحكام العقلية فهي بنفسها ما لم تستتبع تكليفاً شرعياً لا تستتبع ثواباً ولا عقاباً ، وإنّما أقصى ما في موافقتها هو المدح وفي مخالفتها هو الذمّ العقلائيان. أمّا حكم العقل بقبح المعصية ، فإن كان من باب شكر المنعم فهو أيضاً لا يستتبع العقاب ، وإنّما يستتبع الذمّ العقلائي. وإن كان من باب دفع ضرر العقاب المتوعّد به من قبل الشارع ، فحيث إنّ موضوعه هو الضرر العقابي فهو لا يعقل أن يكون مولّداً للعقاب ، وإنّما يكون ذلك الضرر الذي هو العقاب تابعاً لواقعه.

وكنت قبل أعوام حرّرت في هذا المقام ما لا بأس بالحاقه هنا ، وهو هذا :

بقي الكلام في الجهة الراجعة إلى دعوى كون التجرّي بحكم العصيان في كونه موجباً لاستحقاق العقاب وإن لم يكن عصياناً حقيقة ، وبرهان هذه الدعوى على ما حرّره الأُستاذ قدس سره فيما نقلناه عنه أحد أمرين : الأوّل هو كون حكم العقل بقبح المعصية منوطاً بالعلم ، فيكون شاملاً لصورة خطأ العلم ، ولو بناءً على كون العلم تمام موضوع حكم [ العقل ] بالقبح المذكور. الثاني : هو القبح الفاعلي الذي يحكم به العقل ، بدعوى عدم الفرق بين القبح الفاعلي في صورة الاصابة والقبح الفاعلي في صورة الخطأ.

ص: 135


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 407 - 409.

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ، فإنّه يرد عليها - مضافاً إلى ما أفاده قدس سره من الايراد على كلّ من الوجهين المذكورين بما حرّرناه عنه قدس سره - أنّ مخالفة حكم العقل في حدّ نفسه مع قطع النظر عن مخالفة حكم الشرع لا أثر له فيما نحن بصدده من استحقاق العقاب ، إذ ليست مخالفته بنفسها علّة لاستحقاق العقاب الذي هو المدّعى في هذا المقام.

وحينئذ نقول : إنّ حكم العقل بحسن الاطاعة وبقبح المعصية إمّا أن يكون من باب شكر المنعم ، وإمّا أن يكون من باب البعث على استحقاق الثواب والفرار عن استحقاق العقاب. فإن كان ملاكه هو الأوّل ، فإمّا أن نقول باختصاصه بلزوم شكر المنعم في امتثال أحكامه ولزوم الجري على وفق مراداته ، وإمّا أن نقول إنّه أعمّ من ذلك ، بحيث يشمل لزوم شكر المنعم بعدم إظهار الطغيان وإن لم يتّفق في البين مخالفة لمراداته.

فإن قلنا بالثاني - أعني تعميم حكم العقل بلزوم شكر المنعم لعدم إظهار الطغيان عليه ، وإن لم يكن في البين مخالفة لمراده كما هو غير بعيد - كان ذلك بالنسبة إلى هذه الجهة من التعميم من باب محض الحكومة العقلية ، التي قد عرفت أنّه لا دليل على كون تلك الحكومة علّة لاستحقاق العقوبة ، بل وهكذا الحال في الحكم المذكور أعني لزوم شكر المنعم بالاتيان بما هو مراده مع مصادفة الواقع ، فإنّ هذه الجهة - أعني مجرّد حكم العقل بلزوم الشكر - لا دليل على كونها علّة لاستحقاق مخالفها العقاب.

فقد ظهر لك من هذا : أنّ حكم العقل بقبح المعصية من باب مجرّد لزوم شكر المنعم لا دليل على كون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب حتّى في صورة المصادفة للواقع فضلاً عن صورة الخطأ ، فإنّ مخالفة الحكومة العقلية لا توجب

ص: 136

العقاب إلاّإذا كانت مستتبعة لحكم شرعي ، والمفروض فيما نحن فيه عدم استتباعها للحكم الشرعي ، لما حقّق في محلّه (1) من عدم قابلية مقام الاطاعة والعصيان للحكم الشرعي.

لا يقال : كيف لا يعاقب وقد صار بصدد الطغيان وأظهر العصيان. لأنّا نقول : إنّ ذلك بمجرّده لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب ما لم يكن مخالفة إرادة المولى. ولو سلّم استحقاقه بذلك كان توسّط حكومة العقل بقبح التجرّي من باب حكومة العقل بلزوم شكر المنعم لغواً صرفاً ، إذ لم يكن هو المنشأ في الاستحقاق وإنّما كان المنشأ له هو كون العبد بصدد الطغيان.

وبالجملة : أنّ حكومة العقل بقبح التجرّي لا أثر لها في الاستحقاق ، إذ لا أثر لمخالفة هذه الحكومة العقلية. وإنّما تكون مخالفة الحكومة العقلية مقرونة باستحقاق العقاب إذا كان ملاك تلك الحكومة هو الفرار عن العقاب المرتّب على مخالفة إرادة المولى ، وفي الحقيقة يكون حكم العقل بالقبح المذكور معلولاً لاستحقاق العقاب على ما قد حكم بقبحه ، ومن الواضح أنّ الانتقال من الحكم إلى علّته إنّما يتمّ في غير الأحكام العقلية كما في الأحكام الشرعية المعلولة عن المصالح والمفاسد ، فإنّ الحكم الشرعي يكون كاشفاً عن ثبوت علّته ، بحيث إنّه لو ثبت الحكم بطريق آخر غير علّته المذكورة لكان ثبوت الحكم المذكور دليلاً عليها وكاشفاً عنها ، أمّا حكم العقل نفسه فلا يتأتّى فيه الاستكشاف المزبور ، إذ ليس الحاكم غيره. وفي الحقيقة أنّه مع قطع النظر عن لزوم شكر المنعم لا يبقى للعقل حكم استقلالي بقبح المعصية ، بل ليس في البين إلاّانزجار العقل وفراره عن المعصية حذراً من الوقوع على ما رتّبه الشارع عليها من العقاب ، وفي

ص: 137


1- راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 362 وما بعدها.

الحقيقة لا يكون في البين إلاّالفرار من العقاب المترتّب على مخالفة مراد الشارع ، ومن الواضح أنّ الفرار من العقاب إنّما يتحقّق بعد إحراز العقاب.

وحينئذ فيكون زبدة المخض في هذا المبحث هو أنّه هل في البين استحقاق للعقاب أو لا ، وبذلك تعود الحرب جذعة ، كأنّا لم نصنع شيئاً في تشبّثنا بأذيال هذه الحكومات العقلية التي لا حقيقة لها إلاّالفرار من العقاب المتوقّف على تحقّق الاستحقاق ، ولا يكون التشبّث بأمثال الحكومات إلاّمن باب المصادرة ، إذ لا يكون إلاّمن باب الاستدلال بعين ما هو المدّعى ، سيّما بعد فرض أنّ القاطع وإن كان مخطئاً فهو لا يرى إلاّالواقع ، ولا يرى إلاّ أنّه عاصٍ بالنسبة إلى الحكم الواقعي الذي قطع به ، وأنّ الذي يحكم بقبح فعله إنّما هو شخص آخر غير القاطع المذكور ، ومن الواضح حينئذ أنّه لا يكون في البين إلاّمجرّد الحكم باستحقاق العقاب من دون أن يتوسّط في البين حكم بقبح عقلي أو فرار وانزجار عقلي.

وإذا انتهى بنا الكلام إلى ذلك ، وعاد بنا البحث إلى أوّل المسألة الذي هو أوّل الدعوى أعني استحقاق العقاب فنقول : إنّ عقاب الشارع لعبيده لا دليل عليه سوى وعيده على مخالفتهم لما أراده تعالى منهم ، غايته أنّ تلك المرادات لا تكون عندنا جزافية ، بل هي ناشئة عن مصالح ومفاسد هو تعالى عالم بها ، كما أنّ وعيده بالعذاب على مخالفتها لم يكن جزافياً أيضاً ولا تشفّياً منهم ، بل كانت هناك حكمة داعية إلى ذلك الوعيد ، وأقلّ ما يتصوّر في حكمة ذلك هو إحداث الداعي الملزم لعبيده بالجري على طبق تلك المرادات ، لخوفهم من العقاب المترتّب على مخالفتها ، فيكون المنشأ في وعيده هو المحافظة على تلك المرادات التي لا تكون إلاّصلاحاً لهم.

ص: 138

وحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك الوعيد فنراه كما هو واضح مختصّاً بمن خالف مراداته ، غايته أنّه لابدّ أن تكون تلك المرادات معلومة واصلة إلى ذلك العبد الذي خالفها ، لكن ذلك - أعني تقيّدها بالعلم - لا يوجب كون العلم بنفسه هو تمام العلّة في الاستحقاق ، وإنّما أقصى ما في البين هو خروج الارادة غير الواصلة عن كون مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب ، لا أنّها تنعزل بالمرّة عن إيجاب الاستحقاق ، ويكون الموجب للاستحقاق هو مجرّد القطع بها وإن لم تكن هي ثابتة في الواقع ، وبذلك ينقدح لك ما في الدليل الأوّل.

وأمّا الدليل الثاني ، وهو التمسّك بأذيال القبح الفاعلي ، فنحن يمكننا القول به ، وأنّه متحقّق في صورة الخطأ ، إلاّ أنّ ذلك القبح لا أثر له بعد أن عرفت أنّ المدار في الاستحقاق إنّما هو مخالفة مراد المولى. وأمّا كون العبد بصدد مخالفته لكنّه لم يتّفق له ذلك ، فلا دليل على كونه موجباً لاستحقاق العقاب ، وإن كان في حدّ نفسه ممّا يقبّحه العقل لكونه مخالفاً لما يستحسنه من لزوم شكر المنعم ، ولا يلزم من ذلك إناطة العقاب بأمر غير مقدور ، وإنّما يلزم منه عدم العقاب لأمر غير مقدور ، وهذا لا ضير فيه ولابدّ من الالتزام به ، كما لو حبس خبيث السريرة ومنع من الخروج عن الدار مثلاً ، وكان بحيث لو أُطلق عنانه لارتكب المعاصي العظام ، فهل ترى أحداً يلتزم بأنّه يستحقّ العقاب على تلك المعاصي التي لو أُطلق عنانه لارتكبها ، كلاّ ثمّ كلاّ ، مع أنّه من قبيل عدم العقاب لأمر غير مقدور.

والحاصل : أنّ العقاب لا يكون معلولاً إلاّلمخالفة إرادة المولى ، ولا دليل على استحقاقه بمجرّد إظهار الطغيان ، سواء كان بالتجرّي المعروف ، أو كان من مجرّد النيّة مع الشروع في المقدّمات أو بدون الشروع فيها ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ العقاب إنّما يأتي من ناحية الوعيد على المخالفة كما حرّرناه. أو

ص: 139

نقول إنّه يكون من ناحية كون تلك الأفعال المخالفة لإرادة المولى بحيث يكون ذلك بمنزلة العلّة التكوينية للعقاب ، كما أنّ الثواب يكون من قبيل المعلول التكويني للاطاعة والموافقة لارادة المولى ، سواء كان ذلك على نحو الاقتضاء أو كان على نحو العلّية التامّة. أو نقول إنّ العقاب يكون لإزالة الكدورة الطارئة على النفس بواسطة مزاولة ارتكاب المعاصي ، فيكون العقاب بمنزلة المطهّر لها من تلك القذارة ، المزيل عنها هاتيك الكدورة ، ليتمّ بذلك صفاؤها وقابليتها للالتحاق بالرفيق الأعلى ، لتكون محلاً لذلك الرضوان والفيض التامّ ، فإنّه على جميع هذه الوجوه أو الأقوال لا يكون إلاّمن ناحية مخالفة إرادة المولى.

نعم ، لو قلنا إنّ العقاب يكون لازالة الخبث الباطني وتطهير الطينة الخبيثة ولو لم يكن في البين ارتكاب المخالفة لارادة المولى ، لكان العقاب جارياً في صورة التجرّي ، بل اللازم على هذا القول جريان العقاب حتّى على الطفل الذي لم يبلغ وحتّى على من منع من ارتكاب المعاصي بمانع قهري من حبس ونحوه ، لكن لا أظنّ أنّ أحداً من المسلمين يقول بذلك بحيث إنّه يلتزم بلوازمه المذكورة.

وممّا يتفرّع على عدم استحقاق المتجرّي للعقاب ، أنّه لو علم إجمالاً بخمرية أحد المائعين ، وقامت بيّنة على كونه أحدهما المعيّن ، وتجرّى وشرب ذلك الذي قامت عليه البيّنة ، وشرب الآخر أيضاً ، ثمّ تبيّن العكس وأنّ ما قامت عليه البيّنة لم يكن خمراً بل كان الخمر هو الآخر ، فإنّ مقتضى عدم استحقاق المتجرّي للعقاب أنّه لا يستحقّ العقاب لا على الأوّل لأنّه لم يصادف الواقع ، ولا على الثاني لأنّه لم يكن منجّز الحرمة ، ولا ضير في ذلك ، سواء كان من أوّل الأمر بانياً على شربها على التدريج ، أو كان قد بدا له شرب الثاني بعد شرب الأوّل ، إذ

ص: 140

ليس ذلك بأقلّ ممّن علم تفصيلاً بأنّ هذا المائع خمر وأنّ الآخر خل فشربهما على التدريج ثمّ تبيّن العكس.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّه لو كان بانياً من أوّل الأمر يصدق عليه أنّه شرب الخمر عن علم وعمد إليه. لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ العلم والعمد إنّما يكون في الأوّل وهو ليس بخمر واقعي ، والثاني وإن كان خمراً واقعياً لكنّه لم يكن شربه عن علم بكونه خمراً ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس سره من الجواب عن الأوّل فيمكن التأمّل فيه باعتبار كونه موجباً لسدّ باب كون العلم تمام الموضوع في الأحكام العقلية ، فإنّ لازمه هو كون العلم فيها دائماً جزءاً من الموضوع ، ولا يعقل كونه تمام الموضوع ، بل يكون الحال كذلك في الأحكام الشرعية التي يكون العلم مأخوذاً فيها على نحو الموضوعية ، إذ بعد البناء على أنّ العلم المخطئ لا يكون علماً بل لا يكون إلاّمن قبيل الجهل المركّب ، لا يكون العلم المأخوذ إلاّما يكون جزءاً من الموضوع.

وأمّا الجواب عن الثاني فهو منوط بتمامية الجواب الأوّل ، فإنّه بعد تماميته يكون القبح الفاعلي منحصراً بسوء السريرة ، إذ لا يكون لنا حينئذ قبح فعلي ، وقد عرفت عدم تمامية الجواب عن الأوّل ، وحينئذ فلا ينحصر القبح الفاعلي فيما نحن فيه بقبح السريرة ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ اللغوية التي أشكل بها هنا شيخنا قدس سره آتية في أخذ العلم تمام الموضوع وإن لم يكن من قبيل اجتماع المثلين كما لو قال : من علم بطلوع الفجر وجب عليه التصدّق بدرهم ، وأخذنا العلم تمام الموضوع بنحو يكون شاملاً لمن كان قطعه مخالفاً للواقع ، فإنّ كلّ قاطع لا يرى قطعه مخالفاً للواقع ، فلا يرى نفسه داخلاً في الشقّ الثاني الذي هو المخالف ، بل وإنّما يرى القاطع أنّه من الشقّ الأوّل

ص: 141

أعني المصيب.

قوله : الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب - إلى قوله - بدعوى أنّ المناط في استحقاق العاصي للعقاب موجود في المتجرّي أيضاً ... الخ (1).

صدر هذه الجمل يعطي الاشارة إلى البرهان المعروف من فرض شخصين المنتهي بالجواب بأنّ الممنوع هو إناطة العقاب بأمر غير اختياري ، لا إناطة نفيه بأمر غير اختياري الذي هو عدم إصابة الواقع. لكن شيخنا قدس سره ربط هذا البرهان بمسألة مدخلية العلم في الأحكام العقلية ، فقال (2) : ببيان أنّ العلم والالتفات في باب الأحكام العقلية له جهة موضوعية ، بل هو تمام الموضوع في المستقلاّت العقلية ، الخ (3).

والظاهر أنّه ليس المراد هو المدخلية في الحكم الكلّي مثل الظلم قبيح ، إذ لا مدخلية للعلم في القبح الكلّي الذي يحكم به العقل على كلّي الظلم ، بل الظاهر هو مدخلية العلم بالصغرى في أخذ النتيجة ، فإنّ هذا الضرب لهذا اليتيم إنّما يحكم العقل بقبحه بعد إحرازه كونه تعدّياً وظلماً ، فيقول : إنّ هذا الضرب الخارجي الواقع على هذا اليتيم ظلم ، وكلّ ظلم قبيح ، فهذا الضرب قبيح ، في قبال ما لو احتمل كونه إحساناً وتأديباً. ومن الواضح أنّ مدخلية العلم بهذا المقدار لا تختصّ بالأحكام العقلية ، بل هي جارية في جميع الأحكام ، سواء كانت عقلية أو عرفية أو شرعية. نعم لمّا كان العقل هو الحاكم في الأحكام العقلية وهو

ص: 142


1- فوائد الأُصول 3 : 46.
2- وقد نقل ذلك عن أُستاذه السيّد الشيرازي قدس سره [ منه قدس سره ].
3- فوائد الأُصول 3 : 46.

المستنتج بعد إحراز الصغرى ، كان علمه بالصغرى تمام الموضوع في حكمه ، بخلاف الأحكام الشرعية والعرفية فإنّه لمّا كان الحاكم فيها هو غير المستنتج لم يكن العلم فيها إلاّطريقاً صرفاً.

ثمّ إنّ العبائر هنا مضطربة ، فبعضها يظهر منه أنّ الحكم العقلي الذي هو محلّ الكلام فيما نحن فيه هو قبح المعصية ، ويظهر من أغلبها أنّ الحكم العقلي هو حكم العقل بأنّ المعصية توجب استحقاق العقاب.

أمّا الأوّل وهو قبح المعصية ، فلا دخل له بما نحن بصدده من إثبات استحقاق العقاب ، فالمتعيّن هو الثاني ، وحينئذ يتعيّن الجواب بأن يقال : إنّ استحقاق العقاب سواء كان بحكم العقل لا من باب التحسين والتقبيح ، بل من باب الملازمة بين المعصية واستحقاق العقاب ، بمعنى أنّ العقل يحكم بالملازمة بين المعصية وبين استحقاق العقاب ، أو كان بحكم الشرع ، أو كان من جهة إخبار الشارع ، أو غير ذلك من وجوه تصحيح العقاب ، إنّما هو تابع لمخالفة التكليف الواقعي ، غايته أنّه يحتاج إلى منجّز وهو العلم ، فالعلم لا يكون في ذلك تمام الموضوع ، لا لأنّه يكون عبارة عن الجهل ، بل لما عرفت من أنّ العقاب تابع لمخالفة التكليف الواقعي ، غايته لابدّ في ترتّب العقاب على مخالفته من كونه منجّزاً بالعلم أو ما يقوم مقامه ، وفي الحقيقة يكون العلّة في الاستحقاق هو مخالفة التكليف الواقعي ، لكن بشرط كونه منجّزاً بالعلم أو ما يقوم مقامه ، ففي موارد التجرّي لا يكون تكليف واقعي ليكون هذا العلم منجّزاً له ، ليكون نفس العلم هو موضوع استحقاق العقاب ، ليكون حال المتجرّي حال العاصي في استحقاق العقاب. وهذا هو الذي أشار إليه بقوله : بل لمكان أنّ الارادة الواقعية

ص: 143

غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل الخ (1) فهذا هو الجواب الصحيح ، دون ما تقدّمه من أنّ العلم المخطئ لا يكون علماً بل يكون جهلاً ، فإنّ ذلك أجنبي عمّا نحن بصدده من دفع الاستدلال على الاستحقاق. فلاحظ وتأمّل.

قوله : الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجرّي من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار عليه ، فيكون البحث من هذه الجهة فقهياً ... الخ (2).

لا يخفى أنّ الجامع بين أقسام التجرّي التي يكون منها التجرّي المعروف ومنها ما لو نوى الحرام وشرع في بعض مقدّماته ثمّ عدل أو لم يتيسّر له ، إمّا أن يكون غير شامل لفعل الحرام فلا إشكال في عدم إمكان الخطاب به بالنسبة إلى القسم الأوّل منه ، وما أُفيد من تصوير الجامع بالقصد الذي يكون له مظهر ، محلّ تأمّل ، فإنّه على الظاهر غير قابل للخطاب به بالنسبة إلى القسم الأوّل منه ، أعني ما لو قطع بحرمة الشيء وارتكبه ثمّ تبيّن له الخلاف.

ولو أردنا من الجامع ما يكون جامعاً بين هذين القسمين والمعصية الحقيقية ، فأي جامع تصوّرناه يكون موجباً للجمع بين العقابين في صورة المصادفة ، لأنّ الشارع في حكمه بالحرمة على القصد الذي يكون له مظهر ليس معناه أنّه تنازل عن حرمة شرب الخمر الواقعي ، وحينئذ يكون في هذه الصورة قد خالف كلا الحرمتين فيستحقّ عقابين. مضافاً إلى أنّه في صورة المصادفة يلزم اجتماع المثلين ، وإن كان مورد أحدهما هو الشرب نفسه ومورد الآخر هو القصد مع المظهر المذكور ، فإنّ ذلك الاختلاف لا يخرجه عن كونه من قبيل اجتماع الحرمتين ، وغاية أثر اختلاف المورد هو المنع من التأكّد.

ص: 144


1- فوائد الأُصول 3 : 48.
2- فوائد الأُصول 3 : 50.

ولو سلّمنا أنّ اختلاف المورد يخرجه عن اجتماع المثلين حقيقة إلاّ أنّه مثله في الامتناع ولا أقل من الاستبشاع ، هذا في صورة المصادفة.

أمّا في صورة المخالفة للواقع فيلزمه اجتماع الضدّين ، وهكذا نقول لو كان الجامع هو عنوان القطع بالحرمة المفروض كونه جامعاً بين صورة المصادفة وصورة المخالفة ، فإنّه يلزم عليه استحقاق العقابين في صورة المصادفة ، كما أنّه يلزمه اجتماع المثلين في صورة المصادفة ، والضدّين في صورة المخالفة ، هذا كلّه بالقياس إلى نفس الواقع.

وأمّا بالقياس إلى نظر القاطع فهو دائماً يكون من قبيل اجتماع المثلين ، فإنّه وإن لم يكن حقيقة من قبيل اجتماع المثلين ، إلاّ أنّه مثله في المحالية ، ولا أقل من استبشاع ذلك ، بل لا أقل من استبشاع تعلّق التحريم بالقصد والارادة مع قطع النظر عن دعوى صاحب الكفاية قدس سره (1) كونها غير اختيارية ، وإلاّ كان من التكليف بغير الاختياري.

وأمّا الايراد على أخذ العنوان هو عنوان العلم والقطع ، بأنّ العلم لا يكون من العناوين ذات الملاك ، فقد مرّ الكلام (2) في نظيره مراراً وأنّه لا مانع من كون العلم له المدخلية [ في ] الملاك ، كما هو الشأن في القطع الموضوعي.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يقال : إن ضمّ القسم الثاني من التجرّي إلى القسم الأوّل منه بحيث نحتاج إلى التماس الجامع بينهما ، لا داعي إليه ، فإنّ الظاهر أنّ القسم الثاني - وهو ما لو نوى وقصد فعل الحرام وشرع في بعض مقدّماته ثمّ عدل أو لم يتيسّر له ذلك - داخل في باب نيّة المعصية ، ولا داعي لادخاله تحت عنوان

ص: 145


1- كفاية الأُصول : 261.
2- في الصفحة : 42 - 45.

التجرّي ، وحينئذ ينحصر الكلام في القسم الأوّل ، وهو ما لو قطع بحرمة الشيء وارتكبه ثمّ تبيّن الخلاف ، فعلى القول بالحرمة لابدّ من عنوان يكون هو الواسطة في الخطاب فإن كان ذلك العنوان جامعاً بينه وبين المعصية الحقيقية توجّه عليه ما قدّمناه ، وليس لنا عنوان يختصّ بصورة المخالفة.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّا لا نحتاج في الحكم بالحرمة إلى عنوان يختصّ بصورة المخالفة ، لأنّ ذلك إنّما نحتاج إليه لأجل تصحيح الخطاب ، والمفروض أنّه لا داعي للخطاب إلاّزجر المكلّف عن الارتكاب ، وهو - أعني الزجر المذكور - حاصل فيما نحن فيه بواسطة ما يتخيّله المتجرّي من الواقع.

والحاصل : أنّ المطلوب والغرض من الخطاب إنّما هو إحداث داعي الانزجار في حقّ العبد ، ويكفي في ذلك ما يتخيّله من الحرمة الواقعية ، وإن كان الذي هو محرّم عليه في الواقع هو نفس ذلك التجرّي دون ما تجرّى به.

ولكن هذا التقريب لو سلّمنا تماميته وإن لم يلزم عليه اجتماع المثلين واقعاً في صورة المصادفة ، ولا يلزم عليه اجتماع المثلين دائماً في نظر القاطع ، إلاّ أنّه يلزم عليه اجتماع الضدّين واقعاً في صورة المخالفة ، كما لو قطع بحرمة شيء وارتكبه وكان في الواقع واجباً عليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّه إنّما يجري في ناحية التجرّي ، أمّا في ناحية الانقياد الذي هو توأم مع التجرّي ، ففيه إشكال ، لأنّه لو قطع بأنّ الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً واجب في الواقع ، لو قلنا بوجوب الدعاء عليه لأجل قطعه المذكور وحرمة تركه كما قلنا في حرمة ما قطع بحرمته وإن لم يكن في الواقع حراماً ، فلابدّ في توجيه الخطاب من التماس عنوان يكون هو الباعث له على ذلك الفعل العبادي ، ولا ينفع في صحّته ما يتخيّله القاطع من الوجوب الواقعي ، لأنّ الاتيان بالدعاء بداعي

ص: 146

أمره الواقعي الذي تخيّل أنّه قد تعلّق بنفس الدعاء لا يكفي في إتيانه بداعي أمره المتعلّق به بعنوان كونه مقطوع الوجوب ، أعني أمره الآتي من ناحية كونه انقياداً فلاحظ وتأمّل.

قوله : أمّا في الأوّل ، فلأنّ خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعاً ، ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسياً لا طريقياً إرشادياً ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ما حكموا به وادّعي عليه الإجماع من عدم جواز التأخير عند ظنّ الضيق ، وإن أمكن حمله على ما أفاده قدس سره من كون المنع شرعياً ثابتاً بالإجماع ، وأنّ موضوعه هو الأعمّ ، لكن لازمه أنّه لو أخّر في صورة الظنّ بالضيق واتّفق مصادفة ذلك الظنّ للواقع هو استحقاق عقابين ، أحدهما من جهة ترك الصلاة في الوقت ، والآخر من جهة مخالفته لذلك النهي الشرعي ، فيكون قد ترك واجباً وفعل حراماً. وهكذا الحال فيما لو أخّر وظهر الخلاف لكنّه ترك الصلاة عمداً ، فإنّه يلزمه حينئذ العقابان ، ويبعد الالتزام بالتعدّد في أمثال ذلك. كما أنّه لو كان من أوّل الوقت معذوراً بمثل نوم أو إغماء ونحوه ثمّ بعد ارتفاع العذر ظنّ أنّه لم يبق من الوقت إلاّمقدار الصلاة ومقدّماتها ولو مثل التيمّم ، ومع ذلك لم يتحرّك نحو المقدّمات ، وتبيّن أنّ الوقت قد خرج بعد ارتفاع العذر والظنّ المذكور بلحظة مثلاً بحيث انكشف أنّه لا يسع التيمّم ، أو انكشف أنّ ارتفاع العذر كان بعد خروج الوقت ، فإنّ اللازم على هذا القول من موضوعية الظنّ المذكور للحرمة أن يكون مستحقّاً للعقاب ، وهو بعيد فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ هذا الإجماع لو سلّم فليس هو إجماعاً على حكم

ص: 147


1- فوائد الأُصول 3 : 51.

شرعي ، بل ليس هو إلاّعبارة عن الاتّفاق على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، أعني العقاب على ترك الصلاة لو أخّر واتّفق مصادفة ذلك الظنّ للواقع فلا يكون قولهم : إنّه لو ظنّ ضيق الوقت لا يجوز له التأخير حكماً شرعياً ، بل لا يكون منهم إلاّعبارة عن بيان الحكم العقلي.

نعم ، لو كان الإجماع المذكور إجماعاً على العصيان واستحقاق العقاب بمجرّد عدم المبادرة إن انكشف بقاء الوقت وصلّى بعد ذلك ، كما يظهر ممّا نقله الشيخ قدس سره من دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت (1) ، لتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون هذا الإجماع كاشفاً عن الحرمة الشرعية ، وأنّه خارج عن محض العقاب على التجرّي ، لأنّ الإجماع لا مورد له في مجرّد استحقاق العقاب ، كما أشكل به الشيخ قدس سره على الإجماع المزبور.

لكن يلزم على ما أفاده شيخنا قدس سره ما تقدّم ذكره من لزوم استحقاق العقابين في صورة المصادفة للواقع.

فتلخّص لك : أنّ الإجماع على العصيان واستحقاق العقاب بالتأخير حتّى مع انكشاف بقاء الوقت ، ممّا لا يمكن أن يتوجّه ، لأنّهم إن أرادوا بذلك مجرّد استحقاق العقاب على التجرّي فلا محصّل للاستدلال به ، لكون المسألة حينئذ عقلية لا شرعية ، وإن أرادوا بذلك الإجماع على الحرمة الشرعية التعبّدية التي يكشف عنها الحكم باستحقاق العقاب ، فيكون حكمهم باطلاق العصيان واستحقاق العقاب حتّى لو تبيّن الخطأ وانكشف سعة الوقت وأدّى الصلاة فيه

ص: 148


1- فرائد الأُصول 1 : 37.

كناية عن الحرمة الشرعية ، توجّه عليه ما ذكرناه من اللوازم المذكورة.

لكن يهوّن الخطب أنّ الإجماع المذكور غير ثابت كما نقله الشيخ قدس سره بقوله : نعم ، حكي عن النهاية (1) وشيخنا البهائي (2) التوقّف في العصيان ، بل في التذكرة : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه فالوجه عدم العصيان انتهى (3) ، واستقرب العدم سيّد مشايخنا في المفاتيح (4) ، (5).

وبناءً على عدم ثبوت الإجماع المزبور ولا أقلّ من عدم تحقّق هذه الكلمة - أعني العصيان - في معقده ، فلا يكون حكمهم بلزوم المبادرة إلاّعبارة عن ذلك الحكم العقلي الناشئ عن لزوم دفع الضرر الناشئ عن فوت الصلاة ، هذا كلّه في حرمة تأخير الصلاة مع الظنّ المزبور.

وأمّا حرمة سلوك الطريق المظنون الضرر ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيها ، ويكفي في ذلك حكمهم بلزوم الاتمام في ذلك السفر ، وقوله تعالى : ( لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (6). والظاهر أنّه لا يتوجّه عليها ما ذكر من لزوم اجتماع العقابين في صورة المصادفة ، فتأمّل (7)

ص: 149


1- لاحظ نهاية الوصول 1 : 110 - 111 ، 517.
2- زبدة الأُصول : 73.
3- تذكرة الفقهاء 2 : 391 ( مع اختلاف يسير ).
4- مفاتيح الأُصول : 308.
5- فرائد الأُصول 1 : 38.
6- البقرة 2 : 195.
7- في الكلام على التنبيه الأوّل بعض الجهات لم يسع الوقت لنقلها ممّا علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره ، فينبغي تلخيصها وإلحاقها [ منه قدس سره ].

قوله : وأمّا في دعواه الثانية من أنّ العلم بحرمة ما يكون واجباً مغيّر لجهة قبح التجرّي ، ففيها أنّه لو سلّمنا اختلاف قبح التجرّي بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيّرة للحسن والقبح لابدّ وأن تكون ملتفتاً إليها ، لما تقدّم من أنّ العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : ولا ينتقض ذلك بما تقدّم في الجواب عن الاستدلال على قبح التجرّي وكونه موجباً لاستحقاق العقاب بما مرّ من المثال المشهور ، بأن يقال : قد اعترفتم في جوابكم عن ذلك الاستدلال بأنّ الجهة الواقعية الخارجة عن الاختيار مؤثّرة في عدم الاتّصاف بالقبح ، وعدم استحقاق العقاب ، وبيان عدم الانتقاض : أنّ ذلك الذي ذكرناه فيما تقدّم إنّما هو كون الجهة الواقعية الخارجة عن الاختيار مؤثّرة في رفع قبح الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه ، ولا ربط لذلك بما ذكرناه هنا من أنّ الجهة الواقعية لا يعقل أن تؤثّر في الحسن ، كي تكون بتأثيرها في ذلك الحسن كاسرة لجهة التجرّي المقتضية للقبح.

والحاصل : أنّ كون الجهة غير الاختيارية رافعة للقبح غير كونها موجبة لحسنه كي تكون بذلك كاسرة لجهة قبحه ، والذي ذكرنا في الجواب عن ذلك المثال هو الأوّل ، والذي ذكرناه هنا هو الثاني ، ولا تدافع بين الأمرين كما هو واضح ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في التقريرات المطبوعة في صيدا (2)

ص: 150


1- فوائد الأُصول 3 : 55.
2- أجود التقريرات 3 : 63 - 65.

قلت : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة (1) أنّ حكم العقل بقبح التجرّي لا يكون علّة لاستحقاق العقاب ، وأنّ من قطع بحرمة شيء فارتكبه وانكشف خطأ قطعه لا إشكال في حكم العقل بقبح ارتكابه ، إمّا لجهة الفعل أو للجهة الفاعلية ، لكن حكم العقل بقبح ذلك لا يكون علّة لاستحقاق العقاب. وأمّا الإشكال باناطة العقاب بأمر غير مقدور ، فقد تقدّم الجواب عنه (2) بما هو مأخوذ من كلام الشيخ قدس سره وحاصله : أنّ ارتفاع العقاب لأمر غير داخل تحت الاختيار لا ضير فيه ، وحينئذ فليس مرجع ذلك الجواب إلى ارتفاع جهة القبح بأمر غير اختياري ، كي يكون ذلك نقضاً على ما أفاده قدس سره من أنّ الجهة الواقعية لمّا لم تكن معلومة لم تكن مؤثّرة في ارتفاع القبح ، فلا حاجة حينئذ إلى ما أفاده قدس سره من الجواب عن النقض المذكور بالتفرقة بين المقامين.

وقد سبقه الشيخ قدس سره إلى التفرقة المذكورة ، فإنّ قول الشيخ قدس سره : ودعوى أنّ الفعل الذي يتحقّق به التجرّي وإن لم يتّصف في حدّ نفسه بحسن ولا قبح ، لكونه مجهول العنوان - إلى قوله - مدفوعة مضافاً إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي كما لا يخفى الخ (3) راجع إلى هذا الذي شرحه شيخنا قدس سره.

وكلّ ذلك ناشئ عن دعوى كون حكم العقل بالقبح علّة لاستحقاق العقاب ، فأرادوا أن يمنعوا حكم العقل بقبح التجرّي فراراً من الالتزام باستحقاق العقاب ، وجعلوا ذلك الدليل العقلي مسوقاً لاثبات القبح الموجب لاستحقاق العقاب. وأجابوا عنه بامكان ارتفاع القبح بأمر غير اختياري ، وهو عدم مصادفة

ص: 151


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 134 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 142 وما بعدها.
3- فرائد الأُصول 1 : 44.

القطع للواقع ، فورد عليهم الإشكال هنا بأنّه يمكن أن تكون الجهة الواقعية المشتملة على الحسن رافعة لقبح التجرّي ، فاحتاجوا إلى الجواب بالفرق بين المقامين بما أشار إليه الشيخ قدس سره من أنّه يظهر بالتأمّل الذي شرحه شيخنا قدس سره ، وحاصله : أنّ كلامنا في ذلك المقام كان عبارة عن دعوى كون ما هو خارج عن الاختيار الذي هو عدم مصادفة الواقع مؤثّراً في رفع القبح الطارئ على التجرّي ، وكلامنا في هذا [ المقام ] هو عبارة عن دعوى أنّ الجهة الواقعية أعني جهة الحسن التي هي ملاك الوجوب الواقعي لمّا لم تكن معلومة وكانت غير ملتفت إليها ، لم يعقل أن تكون مؤثّرة في الحسن كي يكون ذلك الحسن كاسراً لقبح التجرّي.

ولا يخفى أنّ جميع هذه التكلفات إنّما نشأت عمّا أشرنا إليه من دعوى كون حكم العقل بقبح التجرّي علّة لاستحقاق العقاب ، فلذلك احتاجوا إلى إنكار ذلك القبح ، ولكن حسبما عرفت فيما تقدّم أنّ حكم العقل بقبح التجرّي ينبغي أن يعدّ من المسلّمات ، إلاّ أنّه لا أثر له في استحقاق العقاب ، وأنّ أقصى ما فيه أن يكون موجباً لاستحقاق الذمّ واللوم عند العقلاء.

قوله : وأمّا ما في دعواه الثالثة من أنّ التجرّي لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها : أنّ التجرّي لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتّى يتداخل العقاب ... الخ (1).

لم يتّضح لنا مسلك صاحب الفصول قدس سره في مسألة التجرّي ، فإنّه إن كان يقول بحرمته شرعاً في قبال الحرمة الواقعية ، اجتمعت الحرمتان حينئذ في صورة المصادفة ، لكن لا وجه للحكم بتداخل عقابيهما ، بل كان اللازم حينئذ هو استحقاق كلا العقابين ، مضافاً إلى ما تقدّم من الإشكالات الواردة على الالتزام

ص: 152


1- فوائد الأُصول 3 : 55.

بحرمة التجرّي تعبّداً.

وإن لم يكن قائلاً بالحرمة التعبّدية وكان قائلاً باستحقاق العقاب على التجرّي ، توجّه عليه أنّه لا وجه لاستحقاق العقاب على التجرّي إلاّما تقدّمت الاشارة إليه في المباحث السابقة من أنّ مدار استحقاق العقوبة وملاكها متحقّق في من قطع بالحرمة وارتكب ، سواء صادف الواقع أو لم يصادف ، فلا يكون في البين إلاّعلّة واحدة لاستحقاق العقاب وهي متحقّقة في كلّ من المقامين بنسبة واحدة ، فلا معنى لقوله حينئذ إن صادف المعصية تداخل عقاباهما (1) ، إذ ليس حينئذ إلاّعقاب واحد لا عقابان متداخلان.

ولو حملنا كلامه على ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ المراد مصادفة معصية أُخرى غير التي قطع بها ، فإن قلنا إنّ تلك الحرمة الواقعية - أعني الغصبية - تتنجّز ولو بالقدر المشترك بالقطع بالخمرية ، كان اللازم استحقاق عقابين ، أحدهما لجنس التحريم المفروض تنجّزه ، والآخر للتجرّي في الخمرية المفروض كونه علّة لاستحقاق عقاب ما قطع به ، ولا وجه لتداخل العقابين ، فلا محصّل لوحدة العقاب حينئذ.

وأمّا ما أفاده قدس سره من توجيه وحدة العقاب ، فكأنّه مبني على أنّ التجرّي في حدّ نفسه لا يوجب استحقاق العقاب ، لكن القطع بالخمرية المفروض خطؤه ومصادفة الغصبية ، يوجب تنجّز القدر المشترك بينهما ، فتكون النتيجة حينئذ هي استحقاق عقاب أقلّهما ، فلاحظ وتأمّل.

تنبيه : ينبغي زيادة تنبيه ثالث ، وهو أنّا وإن قلنا بعدم حرمة التجرّي ولا باستحقاق العقاب عليه ، إلاّ أنّه يكون مخلاًّ بالعدالة ، وهل يوجب الفسق ، أو لا

ص: 153


1- الفصول الغروية : 87 / التنبيه الرابع من تنبيهات مقدّمة الواجب ، سطر 34.

فيكون واسطة بين العدالة والفسق ، بمعنى أنّه لا عادل ولا فاسق؟ والوجهان مبنيان على أنّ الفسق هو مجرّد عدم العدالة ، أو أنّه عبارة عن ارتكاب المعصية الواقعية.

كما أنّه بقيت أبحاث ومناقشات في مسألة التحسين والتقبيح وقاعدة الملازمة وما ينقل عن الأخباريين فيما علّقته على الدرس لم يسعني فعلاً نقله إلى هنا.

قوله : المبحث الخامس : ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدّمات العقلية. وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة ... الخ (1).

من المعروف أنّ الأدلّة في الفقه أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل (2). وقد وقع الكلام في هذا الأخير ، فأنكره جماعة من المحدّثين ،

ص: 154


1- فوائد الأُصول 3 : 57.
2- [ وجدنا ورقة منفصلة كأنّها فهرسة للمطالب التي كان قدس سره ينوي بحثها ، وإليك نصّ ما في الورقة ] : هل في الأحكام العقلية وجوب واستحباب؟ لو قلنا بالانتقال إلى الحكم الشرعي هل يكون المنتقل إليه هو الوجوب الشرعي أو الاستحباب الشرعي؟ هل الانتقال من التحسين العقلي أو الانتقال من علّته التي هي المصلحة والمفسدة؟ لماذا يجب اللطف على الحكيم في عباده بأمرهم بما فيه المصلحة؟ هل لأنّ ذلك حسن أو لأجل أنّه ملازم لحكمته أو أنّ تركه مناقض لها؟ هل يدرك العقل الصلاح في أمر الشارع أو لا؟ ولا أقل من كونه كسائر الأفعال ربما أدرك مصلحتها وربما لم يدرك ، فلا تثبت الملازمة. لو تمّت التحسين والملازمة فأين صغراها في الفقه ؟

والمقصود منه أمران :

الأوّل : بحث الملازمات العقلية ، مثل ملازمة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها ، ومثل ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، ومثل ملازمة وجود أحد التكليفين من الوجوب والحرمة لعدم الآخر عند الاجتماع ، وإن شئت فارجعه إلى حكم العقل بعدم اجتماع الضدّين أو النقيضين.

وعلى كلّ حال ، أنّ المستدلّ لو استدلّ على وجوب هذا الفعل بأنّه مقدّمة للفعل الآخر لكونه متوقّفاً عليه ، وقد علمنا وجوب ذلك الفعل الآخر فانتقلنا من وجوبه إلى وجوب مقدّمته بعد فرض ثبوت الملازمة عقلاً بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، فهل لأحد أن يناقشه في ذلك بأنّ « دين اللّه لا يصاب بالعقول » (1) كلاّ ثمّ كلاّ. نعم يمكن أن يناقشه في صغريات هذه المقدّمات ، بإنكار الملازمة بين الوجوبين ، أو إنكار وجوب المقدّمة ، وهذه مناقشات أُخرى لا دخل لها بحجّية العقل في الأحكام الشرعية.

الأمر الثاني : باب التحسين والتقبيح العقليين ، ودعوى الملازمة بين حكم العقل بالقبح والحسن وحكم الشرع بالوجوب أو الحرمة من باب لطفه بعباده في إيصالهم إلى ما هو الحسن ومنعهم عمّا هو القبيح.

ولا يبعد مناقشة الأخباريين في هذا الأمر الثاني من الأدلّة العقلية ، بمنع حكم العقل بالتحسين والتقبيح أخذا ممّا عليه الأشاعرة ، أو منع الملازمة بين

ص: 155


1- بحار الأنوار 2 : 303 / 41 ، مستدرك الوسائل 17 : 262 / أبواب صفات القاضي ب 6 ح 25 ، وفيهما : « بالعقول الناقصة ».

حكم العقل وحكم الشرع بناءً على عدم تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، أو منع قاعدة اللطف.

وعلى كلّ حال ، أنّه قد حقّق في محلّه (1) محصّل الحكم الشرعي تكليفياً كان أو وضعياً ، وأنّه إنّما يكون بجعل الشارع ، وأنّه لا وجود له واقعاً قبل جعله. أمّا الأحكام العقلية فمنها ما يسمّونه المستقلاّت العقلية ، مثل حكمه بمحالية اجتماع النقيضين ، أو التفكيك بين المتلازمين ، أو تقدّم المعلول على علّته ، ونحو ذلك من أحكامه العقلية.

ولكن من الواضح أنّ حكم العقل بذلك ليس هو على وتيرة ما سبق من الحكم الشرعي بحرمة الشيء من كون الحاكم هو الجاعل لذلك الحكم ، وأنّه لا وجود له قبل جعله ، إذ من الواضح أنّ عدم إمكان اجتماع النقيضين متحقّق وثابت في الواقع ، لا أنّ العقل يجعله من قبل نفسه كما يجعل الشارع الحرمة ، فليس للعقل في ذلك إلاّالادراك والتصديق والموافقة على تطبيق كبرى المحال على اجتماع النقيضين. فهل أنّ حكمه بالحسن والقبح من قبيل حكمه بمحالية اجتماع النقيضين في أنّه لا نصيب فيه للعقل إلاّالادراك والانكشاف ، كما أنّ طول الشيء أمر واقعي وليس للبصر فيه إلاّالادراك والانكشاف ، أو أنّ حكمه بذلك من قبيل حكم الشارع بحرمة الشيء ليكون الحسن أو القبح مجعولاً عقلاً كما تكون الحرمة مجعولة شرعاً ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل ليس في البين إلاّميل العقل لما نسمّيه حسناً واشمئزازه عمّا نسمّيه قبيحاً ، أو عن ذلك الميل ننتزع عنوان الحسن فنقول : إنّه حسن عقلاً ، أو عن ذلك الاشمئزاز ننتزع عنوان القبح فنقول إنّه قبيح

ص: 156


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 378 وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس سره على ذلك تأتي في المجلّد التاسع من هذا الكتاب في الصفحة : 146 وما بعدها.

عقلاً.

ثمّ نعود ونقول : إنّ ذلك الميل أو ذلك الاشمئزاز لا يكون منه بلا جهة توجبه ، وتلك الجهة هي ما في الأوّل من الصلاح وما في الثاني من الفساد ، ونعبّر عن ذلك بجهات الحسن والقبح ، وحينئذ يتوجّه السؤال في كثير ممّا يقبّحه العقل مثل الترجيح بلا مرجّح ، أو الاقدام على فعل بلا غاية تترتّب عليه ، فيقال ما هي المفسدة في ذلك الفعل ، وهل هي شخصية بالنسبة إلى الفاعل أو هي نوعية ، فتؤثّر في النوع وإن لم يكن لها في هذا الشخص الفاعل أثر أصلاً ، هذه جهات ينبغي البحث عنها وحلّها.

والذي يمكننا القول به فعلاً : هو أنّه ليس في الواقع إلاّالمصالح والمفاسد والعقل بعد اطّلاعه على صلاح هذا الشيء يميل إليه ، وبعد اطّلاعه على فساد ذلك الشيء الآخر ينفر عنه.

ولنا أن نقول : إنّ ذلك الميل وذلك الاشمئزاز والنفرة ليس من آثار الصلاح والفساد ابتداءً ، بل بعد كون الشيء ذا صلاح في الواقع أو كونه ذا فساد في الواقع يكون الأوّل حسناً واقعاً ويكون الثاني قبيحاً واقعاً ، والميل من آثار الحسن الواقعي ، والنفرة من آثار القبح الواقعي ، والعقل بعد اطّلاعه على فساد هذا يقول إنّ هذا فاسد واقعاً ، وكلّ ما هو فاسد واقعاً يكون قبيحاً واقعاً ، فهذا قبيح واقعاً وهكذا في ناحية الصلاح والحسن ، فليس للعقل إلاّالتطبيق ، أعني إحراز الصغرى وانطباق الكبرى عليها وأخذ النتيجة التي هي عبارة عن الحكم على الأصغر بالأكبر ، فهو يحكم ويقول إنّ الفعل الفلاني حسن أو قبيح ، فيكون حاله في الحسن والقبح كحاله في محالية اجتماع النقيضين ، فيقول إنّ قيام زيد وعدم قيامه نقيضان ، وكلّ متناقضين يمتنع اجتماعهما ، فقيام زيد وعدم قيامه يمتنع

ص: 157

اجتماعهما ، فهو أيضاً يحكم ويقول إنّ قيام زيد وعدمه يمتنع اجتماعهما ، لكن ذلك الحكم وهذا الحكم ليس جعلاً منه كما يجعل الشارع الوجوب ، بل هو تصديق واستكشاف ، ولا يكون إلاّمن الكشف والطريقية لا من باب الجعل والموضوعية ، فتأمّل.

والذي تلخّص : هو أنّ في الحسن والقبح العقليين احتمالات أربعة :

الأوّل : كونهما واقعيين ، والأوّل ناشٍ عن الصلاح في الشيء والثاني ناشٍ عن الفساد فيه ، وليس للعقل في ذلك إلاّالإدراك كما يدرك نفس الصلاح والفساد.

الثاني : أنّ الحسن العقلي والقبح العقلي عبارة عن الانفعال ، أعني ميل العقل ونفرته الناشئين عن إدراك المصلحة في الأوّل والمفسدة في الثاني.

الثالث : كون الحسن العقلي عبارة عن حكم العقل بأنّ الشيء حسن ، لا من باب تطبيق الكبرى على الصغرى ، بل من باب الجعل والإنشاء ، نظير جعل الشارع الأحكام الوضعية ، فيكون حكم العقل بحسن الشيء عبارة عن جعله حسناً كحكم الشارع بطهارة الشيء ، وحكم العقل بقبح الشيء جعله قبيحاً كحكم الشارع بنجاسة الشيء.

الرابع : كون الحسن العقلي عبارة عن حكم العقل بلزوم الاتيان بما فيه المصلحة ، وكون القبح عبارة عن حكمه بلزوم ترك ما فيه المفسدة ، فيكون من سنخ الأحكام التكليفية ، نظير حكم الشارع بالوجوب وحكمه بالتحريم أعني بذلك الأمر والنهي الشرعيين ، وهل يتأتّى في الأوّل - أعني أمر العقل - الوجوب والاستحباب ، وفي الثاني - أعني نهي العقل - التحريم والكراهة ، فيه تأمّل.

ثمّ بعد هذا يتوجّه السؤال إلى الأشعري المنسوب إليه عدم حكم العقل

ص: 158

بالحسن أو القبح ، أو إلى المعتزلي المنسوب إليه أنّ العقل يحكم بذلك ، فيقال له أيّ عقل هو المخبر عنه بأنّه يحكم أو أنّه لا يحكم ، هل هو عقل نفسه وعقل غيره أو هو عقل نفسه فقط ، أو أنّ هناك محكمة خارجة عنه وعن غيره. وبعد وضوح بطلان الأوّل والثالث وتعيّن الثاني ، يتوجّه السؤال هل إنّ عقل الشخص هو غيره أو هو نفسه ، ويكون المحصّل هو أنّ عقلي يحكم بالحسن أو أنّي أنا الحاكم ، فيكون المخبر عنه هو عقل المخبر أو هو نفس المخبر ، ولا يكون حال الخلاف في أنّ هذا الفعل حسن أو أنّه قبيح إلاّكحال الخلاف بين الأشخاص في المحسوسات كالشبح من بعيد في أنّه جماد أو حيوان ، أو كحال الخلاف بين أهل الخبرة في أنّ هذه الدار ما قيمتها ، أو أنّ المرض الفلاني ما دواؤه.

بل لنا أن نقول : إنّه بعد أن رجع المطلب إلى أساس الصلاح والفساد ، فلنا أن نقول ليس الصلاح إلاّما فيه النفع ، وليس الفساد إلاّما فيه الضرر ، ويكون حكم العقل بقبح هذا أو حسن ذاك من مقولة أحكامه في النفع والضرر بالاقدام على الأوّل والفرار من الثاني. وهذه جهات طبيعية موجودة في الحيوانات ، فإنّها تقدم على الماء فتشربه ، وتفرّ من النار المحرقة لها. نعم يمتاز الإنسان عنها بأنّه يدرك النفع والضرر في غير المحسوسات ، وما إقدامه على الفحص عن النبوّة مثلاً أو عن التكليف الإلزامي إلاّمن هذا السنخ ، أعني خوف الضرر الذي هو العقاب والنار الكبرى ، والميل إلى النفع الذي هو الثواب ، بل هكذا حاله في الاطاعة والمعصية.

ثمّ إنّه ربما كان أو كثيراً ما يكون قبح الشيء من جهة التعارف مثل التعرّي أمام الملأ ، أو من جهة الدين كما تراه في ذبح الحيوان المأكول وذبح غير المأكول غير المؤذي بلا فائدة تترتّب على ذبحه ، فهل هو قبيح في نفسه والشارع المالك

ص: 159

الحقيقي قد جوّز بعضه ، أو أنّه ليس بقبيح في نفسه ، وعلى الأوّل فلماذا يفعله من لا يعتقد بالدين بل تعدّوا إلى ذبح البشر وأكل لحومهم ، فهل يمكننا أن نقول إنّ أمثال أُولئك ليسوا بعقلاء أو أنّهم بمنزلة الوحوش الضارية ، فإذن لا يكون العقل إلاّ كسبياً من الدين أو المدنية ، لا أنّه جبلّي في طبيعة البشر مع قطع النظر عن التعليمات الدينية أو المدنية ، أو نقول إنّ أمثال هؤلاء يتخيّلون أنّ غيرهم أعداء لهم وأنّهم لو تمكّنوا لأعدموا وجودهم ، ولأجل ذلك يقدمون على قتل أُولئك الأعداء بزعمهم وأكل لحومهم.

والغرض من هذه الاطالة أنّا لم نجد حتّى الآن فعلاً يمكن الجزم باتّفاق البشر على قبحه الذاتي مع قطع النظر عن الأُمور التي يكتسبها البشر من الأديان أو قوانين المدنية حتّى مع قطع النظر عن كون الشخص متديّناً.

ولكن لنرتقي فوق ذلك ونقول : إنّ القبح الآتي من تعارف البشر باعتبار التعاليم المدنية مثل قبح كشف العورة ، لماذا يكون قبيحاً بعد التعارف ، وبعبارة أُخرى كيف كان الخروج عن المتعارف قبيحاً ، فذلك شاهد على تحقّق القبح العقلي مع قطع النظر عن التعارف المدني وعن التعارف الديني ، ولا ينتقض بما نقل من عمل جمعية العراة في ألمانيا ، فيقال هل هم عقلاء ، أو يقال إنّهم أرادوا قلب هذا التعارف ليرتفع القبح الآتي من الشذوذ عن المتعارف ، فهم في بادئ الأمر يرتكبون هذا الفعل القبيح الناشئ قبحه من الشذوذ ، إمّا لعدم المبالاة ، أو أنّ قصدهم بذلك إخراجه عن الشذوذ الموجب لقبحه.

ويمكن أن يقال : إنّ الشذوذ والخروج عن قواعد المحيط ليس من باب القبح العقلي ، بل من باب المفسدة ، إذ لا أقل من تعريض الشاذّ نفسه لمقت الوسط والمحيط وهتكهم عرضه ، وفي ذلك من الفساد والضرر عليه ما لا يخفى ،

ص: 160

فهو من قبيل تجنّب الضرر ، وقد عرفت أنّ الفرار منه بعد إحرازه طبعي ، وهذه الكلمات أجنبية عن المقام. فلنعد إلى ما كنّا فيه.

فنقول بعونه تعالى : إنّ ما ادّعي من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ليس أساس الملازمة فيه - أعني الملزوم - هو الحسن والقبح العقليين ، بأيّ واحد أخذناه من هذه الاحتمالات الأربعة ، بل إنّ أساسه وطرف الملازمة فيه إنّما هو الصلاح في الفعل أو الفساد فيه ، فإذا أدرك العقل أنّ في هذا الفعل صلاحاً ، انتقل إلى لازمه وهو إيجاب الشارع على نحو الانتقال من العلّة إلى المعلول ، أعني الانتقال اللمّي ، بناءً على قاعدة اللطف وأنّ الشارع الحكيم يلزمه اللطف بعباده ويوصلهم إلى ما فيه صلاحهم بإيجابه عليهم ، ولازم ذلك الانتقال الإنّي ، أعني الانتقال من الوجوب الشرعي إلى كون الواجب ذا مصلحة ، لكونه حينئذ انتقالاً من المعلول إلى العلّة.

ثمّ إنّ أساس الانتقال الأوّل هو اللطف ، بدعوى كونه لازماً على الحكيم ، لماذا؟ لأنّه حسن وتركه قبيح ، فتعود مسألة التحسين والتقبيح ، أو لأنّ اللطف لازم حكمته ، فيكون من قبيل الانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر ، أو لأنّ عدم اللطف مناقض أو مضادّ لحكمته ، فيكون الحكم به من باب امتناع اجتماع النقيضين أو الضدّين. وعلى كلّ حال ، ليس ذلك من باب مجرّد حسن اللطف عقلاً.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا أنّ العقل يدرك الصلاح والفساد في الأفعال ولو في بعضها ، إلاّ أنّه هل يدرك ذلك في أفعال الشارع أعني إيجابه أو تحريمه ، أو أنّ هذا الباب - أعني الصلاح والفساد - في نفس تكاليف الشارع موصد دون الفعل.

ولو سلّمنا أنّه يدرك ذلك في بعض الأحكام ، فلا نسلّم أنّه يدركه في جميع

ص: 161

الأحكام ، إذ ليست هي بأقرب إليه من الأفعال الخارجية ، وقد قلنا إنّه ربما أو كثيراً ما عجز عن إدراك صلاحها وفسادها أو عن حسنها وقبحها.

وحينئذ فيمكن القول بإنكار الملازمة بين ما يدركه العقل في بعض الأفعال من صلاح أو فساد أو من حسن أو قبح ، وبين صدور إيجاب الأوّل شرعاً ، وتحريم الثاني شرعاً ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما أفاده في الفصول (1) من إنكار الملازمة بعد تسليم الملزوم أعني الحسن والقبح العقليين ، فإنّ حسن نفس الفعل لا دخل له بحسن الأمر به ، إذ ربما كان هناك مانع عن نفس الأمر به حيث كان في الأمر به مفسدة ، وإن كان الفعل في حدّ نفسه لو فعله الفاعل لكان بكمال الحسن ، وكانت مصلحته تامّة ، لكن هناك مفسدة في نفس الأمر به تكون مانعة من الأمر به ، ولو من جهة كون الأمر به لغواً لا يصدر من الحكيم لعلمه بأنّه لا يمتثله أحد ونحو ذلك من موانع الأمر به مع فرض كون الفعل في حد نفسه بكمال الحسن والصلاح.

وربما انعكس الأمر بأن كان الفعل خالياً من المصلحة ، لكن في الأمر به مصلحة تبعث على الأمر به ، ولا يرد عليه لزوم الترجيح بلا مرجّح وهو قبيح ، لما حقّقناه من أنّ ذلك - أعني الترجيح بلا مرجّح - وإن كان قبيحاً إلاّ أنّ الحكيم لابدّ له من ذلك لأجل تحصيل المصلحة الحاصلة بنفس الأمر مع فرض كونها أهمّ ، ولا يكون حصول المصلحة بنفس الأمر موجباً لسقوطه ، لامكان توقّف المصلحة في الأمر على امتثاله ، بحيث يكون في الأمر إذا عقّب بالاطاعة مصلحة كافية ، على وجه لو لم يمتثله المكلّف فوّت على نفسه تلك المصلحة واستحقّ العقاب على تفويتها.

ص: 162


1- الفصول الغروية : 337.

ومن ذلك يعلم أنّا لو قلنا بتبعية الأحكام للمصالح فلا يلزمه كونها في المتعلّق ، بل يمكن أن تكون المصلحة في نفس الأمر مع فرض امتثاله وإن لم يكن في نفس الفعل مصلحة أصلاً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله قدس سره : حكي عن الشيخ الكبير ... الخ (1).

لم يذكر ذلك في البحث المتعلّق بالقطع من مباحث كشف الغطاء ، وهو المبحث الخامس والأربعون والمبحث الخمسون ، وإنّما ذكره في المقصد العاشر فيما يتعلّق بالعبادة : في أنّه لو شكّ في فعل عبادة أو جزئها أو شرطها أو مانعها الخ ، ثمّ قال : وكثير الشكّ عرفاً - ويعرف بعرض الحال على عادة الناس - لا اعتبار بشكّه ، وكذا من خرج عن العادة في قطعه وظنّه ، فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه (2).

ولا يبعد أن يكون نظره إلى الموارد التي يكون القطع أو الظنّ فيها معتبراً من باب الموضوعية ، لقوله : يلغو اعتبارهما في حقّه. لكن هذا إنّما يتمّ في الظنّ والشكّ لأخذهما موضوعاً في أحكام الخلل ، أمّا القطع فلم يؤخذ موضوعاً في شيء من أحكامه ، إلاّأن يريد به ما لو أُخذ موضوعاً ولو في غير أحكام الخلل مثل الشهادة ونحوها. ولعلّ مراده بمن خرج عن العادة بقطعه ، هو في خصوص هذا الباب وهو باب الخلل في الصلاة ، بأن يكون المكلّف كثير القطع بأنّه قد ترك الجزء الفلاني ، ويكون مرجعه إلى اغتفار الخلل في حقّ القطاع حتّى في مثل زيادة الركن ونقصه.

ولعلّ من هذا الوادي ما ذكره قدس سره في مباحث الصلاة في المقصد الثالث في

ص: 163


1- فوائد الأُصول 3 : 64.
2- كشف الغطاء 1 : 307 - 308.

الأجزاء المنسية وأحكامها ، وهو قوله : السادس عشر : أنّ كثير السهو ككثير الشكّ لا اعتبار بسهوه مع تعذّر أسباب الضبط ، وإذا أمكنت وجبت. السابع عشر : أنّ الأحوط ترك الاعتماد على حكم كثرة سهوه مع عدم إمكان تنبيهه وضبطه في إمامة أو نيابة عن ميّت ، فلا يكون ككثير الشكّ (1) ، وحينئذ يكون مرجع ما أفاده كاشف الغطاء إلى دعوى اغتفار الخلل في كثير السهو وفي قطع القطاع ، ومرجعه إلى إسقاط ذلك الجزء أو الشرط على حذو حديث « لا تعاد ».

وعلى أي حال ، تخرج دعواه عن حيّز عدم حجّية القطع الذي هو غير معقول ، وتدخل في أمر معقول وهو اغتفار الخلل ، غايته يكون قدس سره مطالباً بالدليل على سقوط الجزئية أو الشرطية أو المانعية في موارد كثرة القطع أو في موارد كثرة النسيان.

ص: 164


1- كشف الغطاء 3 : 405 [ لا يخفى أنّه في الطبعة الجديدة ذُكرا تحت عنوان : السابع عشر ، الثامن عشر ].

[ العلم الاجمالي ]

قوله : الأمر الأوّل : ينسب إلى جمهور المتكلّمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ... الخ (1).

قال المحقّق الطوسي قدس سره في التجريد : ويستحقّ الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب ، وفعل ضدّ القبيح والإخلال به ، بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك ، والضدّ لأنّه ترك القبيح والإخلال به.

وقال العلاّمة قدس سره في الشرح : واعلم أنّه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه ، وكذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه ، وكذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك ، والإخلال بالقبيح لكونه إخلالاً بالقبيح ، فإنّه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً عليهما ، وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذّة أو غيرها لم يستحقّ المدح والثواب (2).

وقوله : إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه الخ ، مراده هو أن يأتي بالفعل بداعي وجوبه أو بداعي وجه وجوبه ، وهو الحسن العقلي أو المصلحة الباعثة على إيجابه. والحاصل : أنّه لابدّ من كون الداعي هو الوجوب أو جهة الوجوب في قبال فعله بداع آخر من لذّة وغيرها ، وهذا المقدار لا دخل له بنيّة

ص: 165


1- فوائد الأُصول 3 : 66.
2- كشف المراد : 407 - 408.

الوجه التي هي أمر آخر وراء فعله بداعي الوجوب.

قوله : الأمر الثاني : لا إشكال في أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل ... الخ (1).

لا يخفى أنّك قد عرفت أنّ الطاعة التي يستقلّ بحسنها العقل ، هي مجرّد الاتيان بالمأمور به في قبال عدم الاتيان به الذي هو العصيان ، وبعض مراتب الرياء ليس تصرّفاً في هذه الاطاعة ، وإنّما هو تقييد للمأمور به ، بأن يكون خالياً عن تلك المرتبة ، وأمّا الأُصول الجارية في وادي الفراغ فليست هي تصرّفاً في تلك الاطاعة ، وإنّما هي أحكام ظاهرية يحرز بها حصول المأمور به ، ولو اتّفق الخطأ فيها ولم يعلم به المكلّف يكون مرجعها إلى تنازل الشارع عن وجوب ذلك الجزء المفقود. وأما قاعدة « لا تعاد » فهي تنازل صرف عن الجزئية. نعم بنظرية الشيخ قدس سره وشيخنا قدس سره أنّ استحسان العقل وإن كان مقصوراً على أصل الاتيان بالمأمور به في قبال عدم الاتيان به ، إلاّ أنّ للشارع أن يحكم ثانياً من باب متمّم الجعل بلزوم الاتيان به بداعي [ الأمر ] ، ولو حصل الشكّ في هذا الجعل الثاني كان المرجع فيه هو أصالة البراءة.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل في قوله : فلو لم يقم دليل شرعي على التصرّف في بيان كيفية الاطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل (2) ، إذ قد عرفت أنّ التصرّف الشرعي الزائد على أصل الاطاعة العقلية التي هي مجرّد الاتيان بالمأمور به يكون المرجع فيه عند الشكّ هو البراءة. نعم بعد أن حكم الشارع بلزوم الاتيان به بعنوان الطاعة ، أعني بداعي الأمر الذي سمّاه شيخنا متمّم الجعل ، لو حصل الشكّ في شيء زائد عليه كما في نيّة الوجه كان المرجع فيه هو البراءة أيضاً ، لكن لو كان

ص: 166


1- فوائد الأُصول 3 : 68.
2- فوائد الأُصول 3 : 68.

المشكوك فيه من كيفيات الاطاعة مثل الجزم ونحوه رجع ذلك إلى البحث الآتي (1) وهو هل أنّ ذلك راجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر أو أنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

قوله : لأنّ الشكّ في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشكّ في اعتبار قيد في المأمور به شرعاً زائد عمّا يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدّم من أنّ العقل لا يعتبر في الاطاعة أزيد من كون الشخص منبعثاً عن البعث ومتحرّكاً عن الارادة ، فقصد الوجه لو كان معتبراً فلابدّ وأن يكون ذلك من جهة الشرع والمرجع حينئذ عند الشكّ في الاعتبار هو البراءة ، كما أنّ المرجع عند الشكّ في أصل التعبّدية والتوصّلية ذلك ، بناءً على ما هو المختار من أنّ التعبّدية تتوقّف على الأمر بها ولو بمتمّم الجعل ، على ما تقدّم تفصيله في مبحث التعبّدي والتوصّلي (2).

الظاهر أنّ التعبّدية التي أفاد قدس سره أنّها تتوقّف على الأمر ليست هي إلاّعبارة عن الاتيان بالفعل المأمور به بداعي الأمر ، فلابدّ أن نقول إنّ الطاعة التي يحكم بها العقل ليست هي هذا المقدار ، بل هي أوسع من ذلك على وجه تكون قدراً مشتركاً بين التعبّدي والتوصّلي ، وليس ذلك إلاّعبارة عن فعل المأمور به وإن لم يكن بداعي الأمر ، في قبال العصيان الذي هو عبارة عن عدم الاتيان بالمأمور به.

وكيف كان نقول : إنّ ذلك الذي تعلّق به الأمر الثاني الذي هو متمّم الجعل أي شيء هو كان ، يمكن أن يدّعى أنّ قصد الوجه ليس هو شيئاً زائداً عليه ، بل هو كيفية له ونحو من أنحائه ، وحينئذ يكون الشكّ في اعتباره من قبيل ما يأتي من

ص: 167


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 172 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 67.

الجزم والاطاعة التفصيلية في كونه من قبيل التخيير والتعيين الموجب للشكّ في حصول ما هو المأمور به بذلك المتمّم للجعل بدونه ، ويكون اللازم هو الاحتياط. اللّهمّ إلاّأن يدّعى القطع بحصول الطاعة المأمور بها بمتمّم الجعل بدون قصد الوجه ، بخلاف مثل التمييز والقصد التفصيلي المعبّر عنه بالاطاعة التفصيلية ، للشكّ في مدخلية هذه الأُمور في تحقّق الطاعة ، بخلاف مثل الوجه فإنّه على تقدير اعتباره يكون شيئاً زائداً على الاطاعة المذكورة ، وبعد إثبات هذه الدعوى نحكم بعدم اعتبار نيّة الوجه ، إمّا بطريق القطع من جهة ما أفاده قدس سره من كون عدم الدليل السمعي عليه دليل العدم (1) ، وإمّا بطريق البراءة الشرعية عن ذلك الزائد.

ولا يخفى أنّ إثبات هذه الدعوى المبنية على الفرق المزبور لا يخلو من صعوبة ، فإنّ الظاهر أنّه لا فرق بين المقامين ، فإن قلنا بالدخول فيهما يلزمنا القول بالدخول فيه ، وإن قلنا بأنّه غير داخل في حقيقة الاطاعة يلزمنا القول بعدم دخولهما ، ولا يبعد القول الثاني وخروج الجميع عمّا يحكم به العقل أو ما يحكم به الشرع بطريقة متمّم الجعل من الاطاعة ، كما لعلّه سيتّضح لك من مطاوي الأبحاث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

قوله : نعم بناءً على أنّ اعتبار قصد الامتثال ... الخ (2).

لعلّ هذا تعريض بما أفاده في الكفاية ، فإنّه بعد أن بنى على كون قصد التقرّب له المدخلية في الغرض ، وأنّه ليس بداخل تحت الأمر الشرعي ، وأنّ المرجع عند الشكّ في مدخليته هو الاشتغال ، قال ما هذا لفظه : نعم ، يمكن أن يقال : إنّ كلّ ما يحتمل بدواً دخله في الامتثال وكان ممّا يغفل عنه غالباً العامّة ، كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعاً ، وإلاّ لأخلّ بما هو همّه وغرضه ،

ص: 168


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.

أمّا إذا لم ينصب دلالة على دخله كشف عن عدم دخله ، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، وكانا ممّا يغفل عنه العامّة ، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصّة فتدبّر جيّداً (1).

لكن لا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره لم يستند في نفي اعتبار الوجه إلى البراءة كي يتوجّه عليه أنّ ذلك منافٍ لمسلكه من أخصّية الغرض وأصالة الاشتغال عند الشكّ في حصوله ، بل إنّما استند في ذلك إلى أنّ ما يتوقّف عليه حصول الغرض إن كان ممّا يلتفت إليه العامّة لم يجب على الشارع بيانه ، اكتفاءً بأنّهم يلتفتون فيشكّون فتلزمهم عقولهم بالاتيان بما يشكّون في حصول الغرض بدونه ، أمّا ما لا يلتفت إليه عامّة الناس فلا يصحّ من المولى السكوت عن بيانه ، لأنّ سكوته مفوّت لغرضه ، وحيث إنّ الوجه من هذا القبيل ، حكمنا بعدم اعتباره ، وحيث إنّ عدم العلم بالبيان لا يكفي في الحكم بعدم الاعتبار في المقام ، بل لابدّ فيه من العلم بالعدم ، ومجرّد عدم وصول ذلك إلينا في الأخبار والآثار لا يكفي في الحكم بعدم صدور البيان ، إذ لعلّه قد صدر بيانه لكنّه لم يصل إلينا ، كان صاحب الكفاية قدس سره في حاجة إلى الدعوى التي أفادها الأُستاذ قدس سره (2) وهي أنّ هذا الأمر وهو نيّة الوجه ممّا تتوفّر الدواعي إلى نقله ، لكونه ممّا يبتلى به عامّة المكلّفين ، على وجه لو كان بيانه صادراً لكان قد وصل إلينا ، فيكون المقام من موارد عدم الدليل دليل العدم.

ولكن لا يخفى أنّ هذه المقدّمة لا توجب القطع بالعدم ، إذ [ من ] الممكن

ص: 169


1- كفاية الأُصول : 75 - 76.
2- فوائد الأُصول 3 : 67.

أن يكون قد صدر بيانه ولم يصل إلينا ، كما نراه في كثير ممّا هو من هذا القبيل ، أعني ممّا يبتلى به العامّة ولم يصل إلينا بيانه ، وليس هو بأعظم من اعتبار قصد القربة على رأي الأُستاذ قدس سره من احتياجها إلى متمّم الجعل ، مع أنّه لم يتمّ الدليل النقلي التامّ الدلالة على اعتبارها ، وهكذا الحال في غيرها من الفروع الفقهية التي لم يرد فيها نصّ بنفي ولا بإثبات مع كثرة الابتلاء بها.

لكن شيخنا قدس سره في راحة في هذا المقام من ذلك ، لأنّه قدس سره يجري البراءة لو لم تتمّ عنده دلالة الدليل السمعي. لكن يبقى الإشكال على مسلك صاحب الكفاية من أنّه يلزمه الاحتياط في مثل ذلك ، لكن قد حقّقنا في الجزء الثاني عند التعرّض لذلك في محلّه من خاتمة البراءة الفرق بين أصل قصد القربة وبين نيّة الوجه بعد ثبوت أصل القربة ، فراجع ما شرحناه هناك (1).

قال شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه : وأمّا بناءً على أنّ التعبّدية ناشئة من أخصّية الغرض كما ربما يلوح من كلام الشيخ قدس سره (2) ، فيكون الشكّ في هذه الصور الثلاث كلّها مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال ، سواء كان الشكّ في أصل التعبّدية أو كان في كيفية الاطاعة من جهة اعتبار القيد الفلاني أو عدمه ، سواء كان ذلك القيد على تقدير اعتباره أمراً زائداً على أصل الاطاعة كما في نيّة الوجه ، أو كان على تقدير اعتباره دخيلاً فيها كما في نيّة الجزم والاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، لرجوع الشكّ في جميع هذه الصور إلى الشكّ في حصول الغرض الموجب للشكّ في الخروج عن العهدة ، ولأجل ذلك احتاج قدس سره في نفي اعتبار نيّة الوجه إلى دعوى

ص: 170


1- راجع الحاشية الآتية على فوائد الأُصول 4 : 268 في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 494 وما بعدها.
2- راجع مطارح الأنظار 1 : 305 وفرائد الأُصول 2 : 407 - 408.

القطع بعدم مدخليته في الغرض والاطاعة الناشئة عن أخصّية الغرض ، انتهى.

قوله : كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلّة الشرعية على اعتبار خلوّ العبادة عن أدنى شائبة الرياء ، مع أنّ العقل لا يستقلّ بذلك (1).

يمكن أن يقال : باستقلال العقل بلزوم خلوّ الاطاعة عن الرياء ، لكونه منافياً لما حكم به العقل من الاتيان بالفعل بداعي الأمر. ولو أنّ اعتبار عدمه لا يكون إلاّ زائداً على ذلك المقدار من الحسن العقلي لم يكن ذلك من باب التصرّف الشرعي فيما هو من المستقلاّت العقلية ، بل لا يكون إلاّمطلوباً شرعياً ، نظير سائر المطلوبات الشرعية مثل أن لا يكون اللباس ممّا لا يؤكل لحمه.

قوله : وللشارع أيضاً أن يكتفي في امتثال أوامره بما لا يكتفي به العقل لو خلي ونفسه كما في الأُصول الشرعية الجارية في وادي الفراغ ... الخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ ذلك ليس تصرّفاً في الاطاعة ، وإنّما هو رافع لموضوع حكومة العقل بالاشتغال الذي هو عبارة عن أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فإنّ قاعدة الفراغ تكون من الأُصول الاحرازية للفراغ ، وتجعل الشاكّ فارغاً يقيناً ، خصوصاً لو قلنا بأنّها من الأُصول العقلائية التي أمضاها الشارع. وعلى أيّ حال هي رافعة للشكّ في الفراغ الذي هو موضوع قاعدة شغل الذمّة اليقيني.

قوله : فلو لم يقم دليل شرعي على التصرّف في بيان كيفية الاطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فإن استقلّ بشيء فهو ، وإلاّ فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة (3).

إذا كان الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة هو العقل كيف يمكن أن يكون

ص: 171


1- فوائد الأُصول 3 : 68.
2- فوائد الأُصول 3 : 68.
3- فوائد الأُصول 3 : 68.

العقل شاكّاً ، ولو سلّمنا تحقّق الشكّ منه في ذلك مع فرض كون المسألة موكولة إليه وفرض أنّ الشارع لم يقم دليل من ناحيته على التصرّف ، فمن يكون هو المستفتى في المسألة ، وهل يكون حينئذ معنى محصّل للرجوع إلى البراءة عقليّها ونقليّها ، كلّ ذلك سيتّضح لك إن شاء اللّه تعالى فيما ننقله عمّا حرّرناه عنه قدس سره (1) ومنه أيضاً يتّضح لك الوجه في هذه المقدّمة في كيفية تصرّف الشارع في مقام الاطاعة.

قوله : ولا يقاس الشكّ في اعتبار شيء في كيفية الاطاعة العقلية بالشكّ في اعتبار مثل قصد التعبّد والوجه ، لما عرفت من أنّ اعتبار مثل قصد التعبّد والوجه إنّما يكون بتقييد العبادة شرعاً بذلك ولو بنتيجة التقييد ... الخ (2).

إذا كانت الاطاعة العقلية التي حكم العقل باعتبارها هي عبارة عن الاتيان بالفعل بداعي الأمر كما مرّ (3) تفسيرها بذلك ، فهذا هو عبارة أُخرى عن العبادية وحينئذ لا يكون قصد التعبّد محتاجاً إلى التصرّف الشرعي الذي هو المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، هذا كلّه نظراً إلى ما يتراءى من عبارة الكتاب.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين : أحدهما إلزامي من باب الخوف من العقاب أو من باب شكر المنعم ، وهذا المقدار من الحكم العقلي لا يتعلّق بأزيد من الاتيان بما تعلّق به الأمر في قبال العصيان وعدم الاتيان بذلك المتعلّق ، وهو مشترك بين التوصّليات والتعبّديات ، وهو أيضاً غير قابل

ص: 172


1- في الصفحة 176 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 69.
3- في الأمر الأوّل من فوائد الأُصول 3 : 66.

للأمر المولوي ، بل لا يكون الأمر به إلاّإرشاداً لذلك الحكم العقلي.

والحكم الآخر للعقل هو حكمه بحسن الاطاعة بمعنى الاتيان بالمأمور به بداعي أمره ، وهذا الاستحسان العقلي مجرّد استحسان لا إلزام فيه من ناحيته ، لكن لا مانع من القول بأنّه يستكشف من هذا الاستحسان العقلي الاستحسان الشرعي بقاعدة الملازمة ، ومعنى الاستحسان الشرعي في المقام هو الأمر المولوي الندبي الاستحبابي ، وفي هذا المقدار يشترك الأمر التوصّلي والتعبّدي.

لكن ربما كان نفس الفعل غير وافٍ بالمصلحة الباعثة على تعلّق الأمر به ، لتوقّف حصول المصلحة منه على الاتيان به بداعي الأمر ، وحينئذ يكون ذلك الأمر الشرعي الثانوي المتعلّق بالاتيان به بداعي الأمر أمراً إلزامياً وجوبياً ، على وجه يكون منتجاً للتقييد وإن لم يكن من التقييد المصطلح ، ونعبّر عن ذلك الأمر الثاني بمتمّم الجعل.

وعلى كلّ حال ، أنّ متعلّق هذا الأمر الثانوي هو نفس الاطاعة بالمعنى الثاني التي هي مورد استحسان العقل ، ولكن هل أنّ مثل قصد الوجه والجزم والتفصيل من الأُمور الزائدة على ما يعتبره العقل من الاطاعة المذكورة التي كانت مورد استحسانه ، أو أنّها من أنحاء نفس الاطاعة المذكورة ، أو أنّ الأوّل من الأُمور الزائدة بخلاف الأخيرين.

وعلى أي حال ، فهل يكون الشاكّ في الاعتبار في الاطاعة المذكورة هو العقل ، أو أنّ العقل لا يمكن أن يشكّ في مورد حكمه؟ الظاهر الثاني. وبناءً على ذلك لا يكون الشكّ إلاّفي ناحية ذلك الأمر الشرعي الذي عبّرنا عنه بمتمّم الجعل وأنّ الشارع هل اعتبر في ذلك الواجب الثانوي وهو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي أمره أن يكون مقروناً بنيّة الوجه ، أو قيّده بالجزم مثلاً ، ولا ريب حينئذ في

ص: 173

أنّ المرجع هو البراءة ، سواء كان من قبيل الأمر الزائد كنيّة الوجه أو كان نحواً من أنحاء الاتيان المذكور ، ككون الآتي بالفعل جازماً بوجود الأمر ، أو كونه عالماً بأنّ هذا الفعل مأمور به تفصيلاً.

والظاهر أنّ ذلك لا يرجع إلى مسألة الترديد بين التعيين والتخيير ، بل هو لا يخرج عن الاطلاق والتقييد ، فإنّ الظاهر أنّ مسألة التخيير والتعيين إنّما هي فيما لو كان في البين اختلاف بالهوية ، دون ما لو كان أصل الواجب معلوماً وشكّ في تقييده بقيد من القيود ، وإلاّ لرجعت مسألة الشكّ في الأقل [ والأكثر ] الارتباطيين إلى مسألة التخيير والتعيين ، سواء كان الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ أصل ما وجب بهذا الأمر الذي سمّيناه متمّم الجعل إنّما هو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي أمره ، فيكون كلّ من اعتبار الجزم والتفصيل قيداً زائداً في ذلك المطلوب الثانوي ، من دون اختلاف في أصل هوية ذلك المطلوب الثانوي بالنسبة إلى ما يكون واجداً لذلك القيد وما يكون فاقداً له.

نعم ، هنا دعوى أُخرى أشار إليها شيخنا قدس سره وهي الأساس في كون المسألة من قبيل التخيير والتعيين المبني على الاختلاف بالهوية ، وتلك الدعوى مشتركة بين الاحتياط المتوقّف على التكرار ، والاحتياط في مورد الشبهة البدوية ، وهي دعوى كون الفعل المأتي به في كلّ من الموردين غير صادر بداعي الأمر الواقعي ، بل بداعي احتمال الأمر ، فيكون خارجاً عن الطاعة المأمور بها. لكن لازم هذه الدعوى هو انسداد الاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من تحصيل العلم ، إلاّأن يقوم حينئذ دليل بالخصوص يدلّ على سقوط هذا المقدار من الداعوية والاكتفاء بداعوية الاحتمال في المورد المذكور ، ولو كان أصل اعتبار الاطاعة عقلياً لقلنا إنّ العقل إنّما يحكم بلزوم تلك المرتبة المبنية على داعوية الأمر الواقعي في

ص: 174

خصوص مورد التمكّن منها ، أمّا مع عدم التمكّن منها فينتقل العقل إلى الحكم بلزوم داعوية الاحتمال ، لكنّا قد أخرجنا الحكم بالاطاعة المذكورة عن حكم العقل وقلنا إنّ الحاكم بلزومها هو الشرع بنحو متمّم الجعل.

اللّهمّ إلاّأن نقول : إنّ هذا الحكم الشرعي المولوي يكون تابعاً لحكم العقل من جهة الملازمة ، من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الحكم الشرعي المولوي الثانوي استحبابياً كما في التوصّليات ، أو وجوبياً كما في العبادات ، فإنّ إيجابه وإن لم يكن بملاك الملازمة ، إلاّ أنّ أصل الطلب لمّا كان بملاك الملازمة كان ذلك الطلب ذا درجتين كما في استحسان العقل للاطاعة ، ولا يخلو ذلك عن تأمّل.

ولكن الشأن كلّ الشأن في أنّ الداعوية فيما نحن فيه كانت من ناحية الاحتمال نفسه ، بل ليست هي إلاّمن قبل الحكم الواقعي على وجه لو صادف الواقع يكون هو عين ذلك الداعي الذي دعاه على الاتيان بالفعل ، ولا يكون الاحتمال في ذلك إلاّكالعلم في كونه طريقياً ، بمعنى كون الداعي في الواقع نفس الواقع ، غايته أنّه بوجوده العلمي أو الاحتمالي ، وإن كانت الفاعلة والمؤثّرة في نفس المكلّف إنّما هي تلك المرتبة من الوجود العلمي أو الوجود الاحتمالي ، لكن المكلّف لا يرى نفسه متحرّكاً إلاّعن نفس ذلك الواقع الذي علمه أو الذي احتمله ، والأمر الثانوي الشرعي إنّما يتعلّق بهذا المقدار من الداعوية ، فلو قال له : ائت بالفعل بداعي أمره ، فإنّما يريد هذا الأمر الوجداني الذي يجده المكلّف من نفسه حينما يأتي بالفعل بداعي أمره الذي علمه ، وإلاّ سرى الإشكال إلى صورة العلم ، بأن يقال إنّ المطلوب منه هو داعوية الأمر الواقعي بحيث يكون هو المحرّك له ، والمفروض أنّ وجوده العلمي كان محرّكاً له ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأمر بنفسه لا معنى لكونه داعياً على الاتيان بالعمل

ص: 175

المأمور به ، بل الداعي في الحقيقة إنّما هو الفائدة المترتّبة على العمل ، وهي هنا ليست إلاّالامتثال ، فإنّ المكلّف يتصوّر تلك الفائدة المترتّبة على العمل التي نعبّر عنها بالفائدة المترتّبة عليه ، وإذا وصلت النوبة إلى ذلك نقول : إنّه لا فرق في الداعوية المذكورة بين كون الأمر معلوماً أو مشكوكاً في كون الغاية المترتّبة على الفعل هي الامتثال لذلك الأمر الواقعي ، غايته أنّ ترتّب تلك الفائدة على ذلك العمل تارة معلوماً وأُخرى يكون محتملاً.

ويمكن أن يقال : إنّ تعنون الفعل بعنوان كونه مأموراً به للمولى يكون هو المحرّك لارادة المكلّف نحوه ، وهذا أيضاً لا يفرق فيه بين كون تعنونه بذلك العنوان معلوماً وبين كون تعنونه به مشكوكاً. وعلى أي فنحن لا نشكّ أنّ في البين نحوين من الاطاعة ، ولكن ندّعي أنّه لا فرق بينهما في استحسان العقل ، ولو فرضنا الشكّ في ذلك بأن احتملنا الفرق بينهما ، لم يكن الواجب علينا إرضاء العقل ، وإنّما الواجب سدّ ثغرة ذلك الأمر الشرعي الثانوي الذي هو المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، ويكفي في ذلك أصالة البراءة في نفي التقييد فيه.

ولعلّ الأولى في المقام - أعني مقام الشكّ في ذلك - نقل ما حرّرته عنه قدس سره ، فإنّ هذا المرسوم في هذا الكتاب هو من الدورة السابقة على هذه الدورة التي حرّرت عنه قدس سره فيها ، قال قدس سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه بعد [ ما ] أفاد أنّ المرجع في المسألة هو أصالة الاشتغال : وتوضيح ما تقدّم يحتاج إلى ذكر مقدّمتين :

الأُولى : أنّ ما يكون مورداً للشكّ إمّا أن يكون من الأُمور العقلية الصرفة التي لا تنالها يد التصرّف الشرعي أصلاً ابتداءً ولا امضاءً ، لا وضعاً ولا رفعاً ، سواء كان ذلك الرفع بدليل عام أو كان بدليل خاصّ بالمورد ، وذلك مثل حجّية القطع.

وإمّا أن يكون مورد الشكّ من الأُمور المجعولة للشارع إمّا ابتداءً أو امضاء

ص: 176

وهذا يجري فيه الرفع ، سواء كان بدليل عام مثل حديث الرفع أو كان بدليل خاصّ بالمورد.

وإمّا أن يكون متوسّطاً بين الأمرين ، بأن كان ذلك المشكوك من الأُمور العقلية القابلة للرفع ، لكن لا بالدليل العام ، بل بالدليل الخاصّ بالمورد ، وذلك مثل ما نحن فيه ممّا يشكّ في اعتباره في الطاعة عقلاً ، ككونها إطاعة تفصيلية عند التمكّن منها ، فإنّ الاطاعة بنفس مفهومها من الأُمور العقلية ، فإذا دلّ الدليل الشرعي على اعتبارها في المأمور به ، وحصل الشكّ في اعتبار كونها تفصيلية عند التمكّن من ذلك ، كان المرجع في ذلك هو الاحتياط ، للشكّ في تحقّقها بدونه ، ما لم يرد دليل بالخصوص يدلّ على عدم اعتبارها والاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية ولو عند التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، ولا ينفع في الحكم بعدم اعتبارها ورود الدليل العام مثل حديث الرفع.

وهذا بخلاف قصد الوجه فإنّه على تقدير اعتباره فإنّما يكون معتبراً بتصرّف شرعي زائد على أصل اعتبار الطاعة ، لما عرفت من حكم العقل بعدم اعتبارها في تحقّق الطاعة ، وحينئذ ففي مورد الشكّ في اعتبارها يكون المرجع في عدم اعتبارها هو الدليل العام مثل حديث الرفع ، ولا يتوقّف الحكم بعدم اعتبارها على ورود الدليل الخاصّ بالمورد. ومن ذلك يعرف الحال في :

المقدّمة الثانية : وحاصلها الفرق بين صورة الشكّ في نيّة الوجه فإنّ المرجع فيه هو حديث الرفع ، وبين صورة الشكّ في اعتبار الاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، فإنّ المرجع فيه هو الاحتياط. إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول الخ. هذا ما حرّرته في درس ليلة الأحد 9 ج 1 سنة 1348 ، ثمّ إنّه في درس ليلة الثلاثاء 11 ج 1 عرّج على ما تقدّم وقال حسبما حرّرته عنه :

ص: 177

ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على ما هو المختار من احتياج الأمر التعبّدي إلى أمر ثانٍ يكون بالنسبة إلى الأمر الأوّل من قبيل متمّم الجعل ، فإنّه بناءً عليه يكون الشكّ في أصل العبادية مجرى للبراءة ، وكذلك الشكّ في اعتبار شيء زائد عليها شرعاً بعد الفراغ عن عدم مدخليته فيها عقلاً مثل نيّة الوجه ، فإنّه أيضاً يكون عند الشكّ في اعتباره مجرى للبراءة.

نعم ، لو شكّ في مدخلية شيء في الاطاعة عقلاً كان المرجع فيه الاحتياط ، كما لو حصل الشكّ في أنّ مثل نيّة الجزم وكون الاطاعة تفصيلية عند التمكّن منها هل يكون له المدخلية في حسن الاطاعة عقلاً بعد الفراغ عن أصل اعتبارها شرعاً في المأمور به ، فإنّ مثل هذا الشكّ لا يمكن الرجوع فيه إلى البراءة ، لعدم الشكّ فيما جعله الشارع ، إذ ليس المشكوك فيه هو الجعل الشرعي ، بل المشكوك هو مدخلية ذلك القيد عقلاً فيما أخذه الشارع في المأمور به شرعاً ، فلا يكون مجرى للبراءة ، بل يكون مجرى للاحتياط والاشتغال للشكّ في تحقّق الاطاعة بدونه.

نعم ، يمكن للشارع أن يتصرّف في ذلك الأمر العقلي الذي أخذه في المأمور به أعني نفس الطاعة ، بأن يقول لا أُريد الطاعة العقلية التي حكم العقل بحسنها ، بل اكتفي بما يكون فاقداً لذلك القيد المشكوك ، وإن لم يكن الفاقد له ممّا يحكم العقل بحسنه. ومن الواضح أنّ هذا التصرّف لا يتكفّله الدليل العام المتعرّض لرفع ما يكون جعله بيد الشارع ، فلا يمكن جريانه في المورد ليحكم بعدم مدخلية ذلك القيد المشكوك المدخلية عقلاً في الطاعة ، إذ أنّه على تقدير اعتباره إنّما يكون معتبراً في نظر العقل وحكمه ، لا بالجعل الشرعي كي يتأتّى فيه حديث الرفع.

نعم ، الدليل الخاص يمكن أن يكون متكفّلاً لذلك التصرّف ، إذ محصّل

ص: 178

ذلك الدليل الخاصّ هو إلغاء ذلك القيد المشكوك عن المدخلية في حكم العقل بحسن الاطاعة ، بل يكون هذا الشكّ بحاله مع وجود ذلك الدليل الخاصّ ، وإنّما أقصى ما فيه أن يكون ذلك الدليل الخاصّ مفيداً لاكتفاء الشارع بالاطاعة الفاقدة لذلك القيد ، وإن لم يحكم العقل بحسنها ، وحيث لم يوجد لنا مثل هذا الدليل فلا محيص عن الرجوع إلى الاحتياط.

وأمّا بناءً على أنّ التعبّدية ناشئة عن أخصّية الغرض كما ربما يلوح من كلام الشيخ قدس سره (1) فيكون الشكّ في هذه الصور الثلاث كلّها مجرى لأصالة الاشتغال ، سواء كان الشكّ في أصل التعبّدية أو كان في كيفية الاطاعة من جهة اعتبار القيد الفلاني أو عدمه ، سواء كان ذلك القيد على تقدير اعتباره أمراً زائداً على أصل الطاعة كما في نيّة الوجه ، أو كان على [ تقدير ] اعتباره دخيلاً فيها كما في نيّة الجزم والاطاعة التفصيلية عند التمكّن منها ، لرجوع الشكّ في جميع هذه الصور إلى الشكّ في حصول الغرض الموجب للشكّ في الخروج عن العهدة ، ولأجل ذلك احتاج قدس سره في نفي اعتبار نية الوجه إلى دعوى القطع بعدم مدخليّته في الغرض والاطاعة الناشئة عن أخصّية الغرض ، انتهى ما حرّرته عنه في هذا المقام ، أعني مقام الشكّ.

وكنت في وقته علّقت على قوله : ولا ينفع في الحكم بعدم اعتبارها ورود الدليل العام الخ ما هذا لفظه : قلت السرّ في ذلك أنّ هذا القسم الثالث يكون الشكّ [ فيه ] من قبيل الشكّ في المحقّق والمحصّل ، وفي مثله لا يجري حديث الرفع كما هو واضح ، لكن لا مانع من ورود دليل بالخصوص يدلّ على عدم الاعتبار ، ويكون محصّل ذلك الدليل هو التصرّف في الموضوع ، وأنّه يتحقّق ويحصل

ص: 179


1- راجع مطارح الأنظار 1 : 305 ، وفرائد الأُصول 2 : 407 - 408.

بالفاقد لذلك المشكوك ، فتأمّل.

لكنّه ( دام ظلّه ) أفاد ما محصّله : أنّ عدم جريان حديث الرفع فيما نحن فيه ليس من جهة كونه من قبيل [ الشكّ ] في المحصّل ، بل من جهة أنّ المورد ليس قابلاً للرفع الشرعي إلاّباعتبار اللازم العقلي ، فيكون الأصل حينئذ مثبتاً ، فتأمّل. هذا ما كنت علّقته في وقته.

والظاهر أنّ معنى كونه مثبتاً هو أنّه يرفع اعتبار الاطاعة التفصيلية في ذلك الحال ، يعني حال التمكّن منها ، فيلزمه تحقّق الاطاعة العقلية التي اعتبرها الشارع.

ولكن لا يخفى أنّه مع الغضّ عن كون المسألة من قبيل الشكّ في المحقّق ، بأن نقول : الشارع في هذا الحال هل اعتبر الاطاعة التفصيلية التي يعتبرها العقل أو اكتفى في الاعتبار بمجرّد الاطاعة ولو احتمالية ، فأصالة البراءة تنفي هذا التقييد كما هو الحال في الشكّ في الشرطية الارتباطية. نعم لو قام الدليل على اعتبار الاطاعة العقلية بمفهومها البسيط ، وكانت هذه الكيفيات محقّقات لها ، كان المقام من قبيل الشكّ في المحقّق ، والشاهد على أنّ المسألة ليست من قبيل الشكّ في المحقّق للمأمور به البسيط ، هو صلاحية المقام للتصرّف الشرعي بالدليل الخاصّ.

والخلاصة : أنّ العقل سواء كان شاكّاً في أنّ هذه المرتبة من الاطاعة الاحتمالية في صورة التمكّن من الاطاعة التفصيلية إطاعة ، أو كان قاطعاً بأنّها ليست باطاعة ، أو كان قاطعاً بأنّها إطاعة ، لا يكون اللازم علينا إلاّالأخذ بما يحكم به الشارع بمقتضى ذلك الأمر الثانوي الذي هو متمّم الجعل ، ونحن إذا فتحنا باب إمكان التصرّف الشرعي في كيفية الاطاعة ، وقلنا بأنّه للشارع أن يكتفي بذلك

ص: 180

المقدار من الاطاعة التي يقطع العقل بكونها غير اطاعة ، أو يشكّ بكونها إطاعة ، نقول : إنّ حديث الرفع يرفع ذلك التقييد بالاطاعة العليا ، ومقتضاه الاكتفاء بالاطاعة الثانوية ، ولا يكون هذا الأصل مثبتاً ، وليس هو إلاّكاجرائه في مسألة الشرطية والجزئية في أنّه يترتّب الاجتزاء بالفاقد مع أنّه لو كان جزءاً أو شرطاً في الواقع لم يكن ذلك الفاقد مغنياً فتيلاً ، لكون المركّب ارتباطياً ، فلاحظ وتأمّل ، هذا.

ولكنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ الداعي عبارة عمّا يكون بوجوده الواقعي معلولاً للفعل ، وبوجوده العلمي يكون علّة للفعل ، بمعنى أنّ وجوده العلمي والتصديق بترتّبه على ذلك الفعل يكون من مقدّمات إرادته والاقدام عليه ، وذلك فيما نحن فيه عبارة عن الامتثال وإسقاط الأمر والحصول على الثواب والتخلّص من العقاب أو القرب من المولى ، إلى غير ذلك من الفوائد المترتّبة على الفعل المأمور به ، أمّا الأمر نفسه فالظاهر كونه أجنبياً عن كونه داعياً للفعل.

وبالجملة : أنّ نفس الأمر يكون أجنبياً عن الداعي ، أعني فائدة الفعل التي هي بوجودها الخارجي من معلولات الفعل ، وبوجودها العلمي علّة في تعلّق الارادة به ، كالثواب وما يتلو تلوه من الخلاص من العقاب ، أو مجرّد القرب بالاتيان بما هو مراد المولى ، إلى غير ذلك من فوائد الفعل المأمور به ، فإنّها بوجودها الواقعي لا تكون إلاّمعلولات لذلك الفعل ، وبوجودها العلمي تكون علّة في تعلّق الارادة به ، لكونها بوجودها العلمي من دواعي تعلّق إرادة العبد به.

وهذا هو المراد بقولهم : إنّ الغرض من الأمر هو إحداث الداعي ، ولعلّ إطلاق لفظ الداعي على نفس الأمر كان بهذه الملاحظة ، أعني كونه من قبيل المقدّمة الاعدادية لتكوّن ذلك الداعي في نفس العبد ، وطريقة تكوّنه فيها هو أنّ

ص: 181

الأمر يكون موجباً لكون ذلك الفعل ذا ثمرة وغاية مترتّبة عليه ومعلولة له ، وتلك الغاية هي الحصول على الثواب وما يتلو تلو ذلك ، وهذه الفائدة لو علم بها العبد يكون علمه بترتّبها عليه هو الداعي والمحرّك له على تعلّق إرادته بذلك الفعل.

وحينئذ فقد بان لك انعزال نفس الأمر بوجوده الواقعي عن أن يكون بنفسه هو نفس الداعي والمحرّك ، بل قد بان لك من ذلك انعزال العلم به عن أن يكون داعياً ومحرّكاً للارادة ، بل بان لك انعزال الوجود الواقعي لتلك الثمرة عن أن تكون داعياً على الفعل ، بل إنّ الداعي الفعّال الموجد للارادة في نفس المكلّف هو الوجود العلمي لتلك الثمرة وإن كان ذلك العلم خطأً ، فالعلم في ذلك وإن كان طريقاً صرفاً إلاّ أنّه يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى التحريك.

وحينئذ نقول : لا ريب في أنّ وجودها العلمي مباين لوجودها الاحتمالي ، فالطاعة العلمية مباينة للطاعة الاحتمالية ، فيكون الشكّ في تعيّن الطاعة العلمية عند التمكّن منها أو عدم تعيّنها راجعاً إلى الشكّ بين التخيير والتعيين لا إلى الأقل والأكثر ، بأن يقال : إنّ أصل الطاعة معلوم الوجوب ، وأنّ الشكّ إنّما حصل في تقيّدها بكونها علمية ، لأنّ ذلك حينئذ من الأغلاط. بل يتعيّن كون الشكّ المذكور من قبيل التعيين والتخيير لا من قبيل الأقل والأكثر ، بناءً على عدم رجوع الوجوب التخييري إلى وجوب القدر الجامع ، وإلاّ كانت مسألة التعيين والتخيير من قبيل الأقل والأكثر.

لا يقال : إنّ الانقياد هو القدر الجامع بين الاطاعتين ، فيمكن أن نحلّل الأمر الثانوي إلى أنّ أصله هو الاتيان بالفعل بعنوان كونه انقياداً للمولى ، المفروض كونه حاصلاً في صورة الاطاعة الاحتمالية كحصوله في الاطاعة الجزمية ، فيكون تعيّنه في ضمن الاطاعة الجزمية أمراً زائداً فينفى بالبراءة.

ص: 182

لأنّا نقول : إنّ الانقياد ليس من الدواعي والثمرات المترتّبة على نفس الفعل بل هو من الثمرات المترتّبة على الفعل المأتي به بأحد الدواعي القربية ، وليس الامتثال والاطاعة بمعنى مجرّد الموافقة مثل الانقياد ، بل إنّهما يترتّبان على نفس الفعل ، فإذا كان الداعي على الفعل هو الامتثال أو هو الاطاعة بمعنى مجرّد الموافقة ، حصل على الطاعة بالمعنى الثاني التي هي مورد استحسان العقل ، أعني بذلك الاتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر ، وبذلك يكون عبادياً ، في قبال الاتيان به لا بداعي موافقة الأمر بل بداعٍ آخر من الدواعي النفسانية ، فإنّه وإن حصل به موافقة الأمر ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن الاتيان به بداعي موافقة الأمر بل كان مجرّداً عن هذا الداعي لم يكن بذلك عبادياً.

وإن شئت فقل : إنّ الاطاعة وكذلك الامتثال إن أُخذت بالمعنى الذي قلنا إنّه مورد للاستحسان العقلي ، لم يكن من الغايات بل كان ممّا يترتّب على الفعل المأتي به بداعي الأمر وما يتلو تلوه من الغايات الإلهية ، وكان حالهما حال الانقياد.

وإن أخذناهما بمعنى مجرّد الاتيان بمتعلّق الأمر ليكون الطاعة بالمعنى الأوّل الذي قلنا إنّه مشترك بين التعبّدي والتوصّلي ، كانا من قبيل الدواعي ، وكان الاتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر محقّقاً للعبادية التي قوامها الطاعة بالمعنى الثاني أمّا ترتّب الثواب فهو في طول الاطاعة بالمعنى الثاني ، بمعنى أنّه يقصد الاتيان بالفعل بداعي امتثال أمره ليترتّب الثواب على ذلك ، فيكون أشبه شيء بالداعي إلى الداعي بل هو هو ، نعم ربما كان قصد ترتّب الثواب قصداً إجمالياً لقصد الطاعة بالمعنى المذكور أعني المعنى الثاني ، فتأمّل.

ولو تمشّينا في هذه المسألة إلى هذا الحدّ من الشكّ ، أعني كونه من قبيل

ص: 183

التعيين والتخيير بين المتباينين ، كانت كما أفاده شيخنا قدس سره مورداً للاحتياط والاشتغال دون البراءة ، فليس المانع من الرجوع إلى البراءة من جهة كون الشكّ في المحقّق ، ولا من جهة المثبتية ، ولا من جهة أنّ دليل الرفع لا يجري فيما يستقلّ به العقل ، بل المانع من ذلك هو ما ذكرناه من عدم كون الشكّ راجعاً إلى الشكّ في التكليف الزائد ، وإنّما هو راجع إلى الاكتفاء بهذا المباين لما هو معلوم الكفاية ، فيكون ما نحن فيه نظير الشكّ في كون الكفّارة مثلاً مخيّرة بين العتق والصيام - بناءً على عدم الإرجاع إلى الجامع - أو أنّها مرتّبة فلا يجزي الصيام إلاّ حيث يتعذّر العتق ، إذ لو قلنا إنّ الحكم الشرعي باعتبار الاطاعة حكم مولوي مستقلّ ليس بناشئ عن حكم العقل باستحسانها ، ولكن حصل الشكّ في أنّ ذلك المأمور به المسمّى بمتمّم الجعل هل هو خصوص الاطاعة التفصيلية في مورد التمكّن منها ، أو أنّه مخيّر بينها وبين الاطاعة الاحتمالية ، يكون المتعيّن في المرجعية هو أصالة الاشتغال ، ولا مورد فيه لعموم البراءة.

نعم ، لو ورد دليل خاصّ في المقام كان مقبولاً ، من جهة أنّ محصّله هو كون الوجوب المذكور تخييرياً لا مرتّباً ، وهذا لا دخل له بعموم الرفع كي يتوجّه على شيخنا قدس سره ما حرّرناه آنفاً من أنّه إذا فتحنا باب التصرّف الشرعي في الاطاعة ، فأيّ فرق بين كون ذلك بالدليل الخاصّ بالمورد ، أو كونه بالدليل العام.

وبناءً على ذلك فقد تسجّل إشكال شيخنا قدس سره (1) من أنّ اللازم هو كون المرجع في المسألة التي نحن فيها بعد الوصول إلى مرتبة الشكّ هو الاشتغال دون البراءة ، ولا يبقى باليد ما به التخلّص عن هذا الإشكال إلاّدعوى كون المأمور به شرعاً هو تلك الاطاعة التي يستحسنها العقل باضافة دعوى أُخرى ندّعيها على العقل ، وهي

ص: 184


1- فوائد الأُصول 3 : 68 - 69.

أنّه لا يرى طولية بين الاطاعتين بعد فرض التباين بينهما ، بل إنّه يستحسن الاحتمالية منهما في عرض استحسانه الجزمية منهما.

وكلّ من الدعويين قابلة للتأمّل بل للمنع. أمّا الثانية فقبولها للمنع واضح ولا أقلّ من عدم الجزم بأنّ العقل حاكم بالعرضية.

ثمّ لو سلّمنا عدم تطرّق الشكّ إلى ذلك ، وجزمنا بأنّ العقل حاكم بالعرضية لا الطولية ، فلا أقل من تطرّق المنع إلى الدعوى الأُولى ، وهي دعوى كون متعلّق ذلك الأمر الشرعي المولوي الذي هو متمّم الجعل هو عين ما حكم العقل باستحسانه ، وبأيّ شيء نثبت ذلك ، أبقاعدة الملازمة التي عرفت أنّها لو سلّمت فإنّما هي بين استحسان العقل وبين الحكم الشرعي الاستحبابي الذي عرفت أنّه قدر مشترك بين التوصّليات والتعبّديات ، لا الحكم الوجوبي الذي هو مختصّ بالعبادات.

ودعوى كون هذا الحكم الوجوبي على وتيرة ذلك الحكم الاستحبابي ، ممنوعة أشدّ المنع ، لأنّ ذلك الحكم الاستحبابي ناشٍ عن ملاك الحسن العقلي ، وهذا الحكم الوجوبي ناشٍ عن كون وفاء الصلاة مثلاً بمصلحتها الباعثة على الأمر بها متوقّفاً على الاتيان بها بداعي التقرّب ، وأيّ دليل يدلّ على أنّ ما يتوقّف عليه الملاك والمصلحة هو عين ذلك الذي حكم العقل باستحسانه من الطاعة المخيّرة بين الطاعتين.

كما أنّ ذلك - أعني التخيير الشرعي بين الطاعتين - لا يمكن إثباته باطلاق الدليل اللفظي الدالّ على وجوب الاطاعة في خصوص العبادات ، وأين هذا الاطلاق اللفظي وفي أي مقام ورد من مقامات البيان ، كلّ ذلك لا نجزم به فعلاً ، إذ ليس لنا ما يدلّ على وجوب التقرّب في العبادات بالمعنى الذي يريده الفقهاء ، إلاّ

ص: 185

إجماعات منقولة ، وأدلة لفظية هي في غاية الاجمال ، بل هي قاصرة الدلالة فضلاً عن أن تكون مطلقة في مقام البيان.

ولو سلّم ذلك كلّه فمن يمكنه الجزم بأنّ مقتضى ذلك الاطلاق هو اعتبار نفس ما حكم به العقل ، أو أنّه منصرف إليه بعد تمامية التسوية العقلية بين الاطاعتين ، بل لعلّ لقائل أن يقول إنّ المنصرف من هذا الاطلاق هو الدرجة الأُولى لو كانت ممكنة.

فالإنصاف : أنّ هذه الجهات أعني كون المسألة من قبيل التعيين والتخيير لا من قبيل الأقل والأكثر ، وكون التباين بين الاطاعتين تبايناً بالهوية ، وكون الحكم في مسألة التخيير والتعيين هو الاشتغال ، تعيّن ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه عند وصول النوبة إلى الشكّ يكون المرجع هو الاشتغال.

نعم ، يخرج عن ذلك المستحبّات والشبهات الموضوعية قبل الفحص ، إذ لا مورد فيها لقاعدة الاشتغال كما جرى عليه شيخنا قدس سره أخيراً ، لكن ذلك لا يصحّح الاحتياط فيها على وجه يوجب القطع بحصول امتثال المستحبّ الذي احتمله ، أو التكليف الذي احتمله في الشبهة الموضوعية ، بل يبقى الاحتياط ناقصاً لاحتمال اعتبار الجزم في تلك العبادة التي احتملها ، وإن لم يكن احتمالها مورداً لقاعدة الاشتغال.

نعم ، هناك مطلب آخر ينحصر به التخلّص عن الإشكال الذي أفاده شيخنا قدس سره ، وهو أن نعمد إلى مسألة التعيين والتخيير ، ونهدم أساس القول بالاشتغال فيها ونشيد القول بالبراءة في ذلك ، إلاّ أنّ الكلام في هذا الطريق موكول إلى محلّه الذي حقّق فيه شيخنا قدس سره ما أوجب سدّ ثغور احتمال الرجوع إلى البراءة ، فراجع وتأمّل.

ص: 186

واعلم أنّ الذي يظهر من شيخنا قدس سره في حواشيه على العروة في مسائل الاجتهاد والتقليد (1) وفي الوسيلة طبع النجف (2) والوسيلة طبع صيدا (3) في مسائل الاجتهاد والتقليد ، هو المنع من الاحتياط الموجب للتكرار فيما لو تمكّن من تحصيل العلم والسكوت عن الباقي ، بل ظاهره حصر المانع فيما يوجب التكرار فقط ، ومقتضاه جواز الاحتياط في الشبهة الوجوبية البدوية قبل الفحص ، سواء كانت حكمية كما لو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال واحتاط بالاتيان به قبل الفحص ، مع فرض تمكّنه منه اجتهاداً أو تقليداً ، أو كانت موضوعية كما لو احتمل حدوث الزلزلة وصلّى احتياطاً صلاة الآيات ، مع تمكّنه من الفحص عن ذلك ولو بالسؤال من الغير.

والذي يظهر ممّا أفاده قدس سره في الوسيلة طبع النجف في مبحث النيّة هو عدم جواز الاحتياط إلاّفي مورد دوران الأمر بين استحباب شيء وعدمه ، فإنّه قال فيها - بضميمة التصحيح الذي ألحقه بعد الطبع - ما هذا لفظه : نعم ، لو لم يكن أصل التكليف قطعياً ( ودار الأمر بين استحباب شيء وعدمه ، ولم يحتمل وجوبه ) فلا يبعد حسن الاحتياط ( حينئذ ) وكفايته في العبادية ، ولو مع التمكّن من الامتثال القطعي ( لا ) مطلقاً الخ (4).

وما بين القوسين هو التصحيح بعد الطبع ، وكانت العبارة قبل هذا التصحيح موافقة لما أفاده في مباحث التقليد في هذه الكتب الثلاثة.

ص: 187


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 12 / مسألة (4).
2- وسيلة النجاة : د [ لا يخفى أنّ الصفحات الأُولى من الكتاب قد رمز لها بالحروف ].
3- وسيلة النجاة : 3.
4- راجع وسيلة النجاة : 116.

والذي يظهر من الوسيلة طبع صيدا في مبحث النيّة هو المنع عن الاحتياط مطلقاً مع التمكّن من تحصيل العلم ، حتّى في الشبهات الاستحبابية ، فقال : وأمّا بالنسبة إلى ركنها الثاني وهو داعي التقرّب ، فالذي يعتبر فيه هو الجزم بمطلوبية العمل ومقرّبيته على تقدير التمكّن منه وعدم القناعة باحتمالها في العبادة إلاّبعد تعذّر الجزم بها على الأقوى (1).

والذي صرّح به في هذا الكتاب (2) هو المنع من الاحتياط في مورد التكرار وفي مورد الشبهة الوجوبية الحكمية قبل الفحص ، دون باقي الصور ، وبمثل ذلك صرّح في التقرير المطبوع في صيدا (3) ، وبنحوه صرّح فيما حرّرته عنه قدس سره ، وهذا هو الذي بنى عليه أخيراً ، فيكون المدار في ذلك على كون التكليف الزامياً منجّزاً ، إمّا بالعلم الاجمالي أو الاحتمال ، ليكون مورداً لقاعدة الاشتغال ، دون ما لو كانت الشبهة استحبابية أو كانت وجوبية موضوعية ، وقد عرفت أنّه وإن لم تجر فيه قاعدة الاشتغال ، إلاّ أنّ الاحتياط يكون ناقصاً من جهة احتمال المصادفة واحتمال تقدّم الجزمية على الاحتمالية ، فتأمّل.

وينبغي أن يستثنى من الاحتياط الموجب للتكرار ما لو علم أنّ الواجب عليه إمّا هذه العبادة والأُخرى مستحبّة ، أو أنّ الأمر بالعكس ، فإنّ ذلك وإن أوجب التكرار إلاّ أنّه لا مانع منه ولو قبل الفحص ، لكون كلّ منهما متيقّن المطلوبية ، غايته مردّدة بين الوجوب والاستحباب ، فلا يفقد الجزم به بل يفقد الوجه ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام في غاية الإشكال ، فإنّ

ص: 188


1- وسيلة النجاة : 87.
2- فوائد الأُصول 3 : 72 - 74.
3- أجود التقريرات 3 : 79 وما بعدها.

لازمه هو سدّ باب الاحتياط في المقامات المزبورة ، أعني مسائل المستحبّات ومسائل الأقل والأكثر ومسائل الشبهات البدوية ، إلاّمع عدم التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، والالتزام به في غاية البعد ، ولأجل ذلك اختلفت كلماته قدس سره كما عرفت من رسائله العملية.

فالأولى هو الالتزام بالتخيير بين نحوي الاطاعة ، ولو من جهة عدم تفرقة الذوق بينهما ، وعدم دليل يدلّ على الطولية بينهما ، سيّما بعد أن صحّحنا الطولية وأدخلنا الاطاعة الاحتمالية فيما هو المأمور به بالأمر الثانوي الذي هو متمّم الجعل لا بأمر آخر في طوله.

ومع قطع النظر عن ذلك لو وصلت النوبة إلى الشكّ فالتخيير والتعيين فيما نحن فيه وإن لم يرجع إلى الأقل والأكثر لعدم كونه من قبيل الاطلاق والتقييد ، بل ولا من قبيل العام والخاصّ ، لما عرفت من عدم الجامع بين الاطاعتين ، أعني كون الداعي هو العلم بالموافقة والامتثال أو احتمال ذلك ، ولا ريب في التباين بين الطريقتين ، أنّه عند التمكّن من الأُولى يكون المكلّف مردّداً بين كونه مخيراً بينهما وكونه يتعيّن عليه الأُولى ، فلا تدخل المسألة في الأقل والأكثر ، لعدم انتهائها إلى العلم بوجوب مقدار والشكّ في وجوب الزائد ، إلاّ أنّه مع ذلك يمكن القول بالرجوع إلى البراءة الشرعية باعتبار كون التخيير بين المتباينين مشتملاً على مقدار من الفسحة على المكلّف ، بخلاف ما لو كان الواجب هو المعيّن منهما ، فإنّه يوجب التضييق على المكلّف وإن لم يكن مشتملاً على زيادة في الواجب ، فلاحظ وتدبّر.

وينبغي ملاحظة المستمسك ج 1 ص 4 وص 455 فقد فسّر داعي الأمر هناك بكون الأمر مرجّحاً للفعل على تركه ، ثمّ أفاد أنّه بذاته لا يكون مرجّحاً ،

ص: 189

وإنّما يوجب الترجيح بواسطة عناوين عرضية تنطبق على الفعل بواسطة كونه مأموراً به ، ثمّ بعد ذلك أفاد أنّ تلك الدواعي ربما تسمّى بالغايات مسامحة حيث إنّها لا تترتّب على الفعل العبادي ، وإنّما هي عناوين توجب الرغبة فيه (1).

ويمكن التأمّل في ذلك. أمّا ما أُفيد ص 4 ، فقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد ص 455 ، فإنّ الأمر بنفسه وكذلك العناوين الناشئة منه لم يكن اعتبار قصدها في العبادة باعتبار كونها مرجّحة للفعل على تركه ، بل إنّما يكون المعتبر في العبادة هو كونها داعية إلى الفعل ، تكون هي الداعي للمكلّف على ذلك الفعل والمحرّك له على الاقدام عليه ، وقد عرفت أنّ حقيقة الداعي هو الغاية ، فلا تكون تسمية تلك الدواعي بالغايات مسامحية ، بل هي تسمية حقيقية وليس النزاع في التسمية ، وإلاّ لسهل الأمر لكون باب التسامح مفتوحاً ، بل النزاع إنّما [ هو ] في حقيقة التعبّد المعتبر في العبادة ، وأنّه لابدّ أن تكون صادرة بداعي الأمر ، ومعنى صدورها بداعيه هو صدورها بداعي امتثاله أو ما يترتّب على امتثاله من مجرّد القرب أو نيل الثواب أو الفرار من العقاب ، إلى غير ذلك من الدواعي التي هي عين الغايات.

نعم ، يرد على ما شرحناه في مسلك شيخنا قدس سره ، ما عرفت من أنّه ليس في البين إلاّأمر واحد ، وهو ذلك المعبّر عنه بمتمّم الجعل ، وهذا الأمر الواحد لا يعقل أن يكون جامعاً بين الشيء وهو الاتيان بداعي الامتثال المعلوم ، وبين ما هو في طوله لكونه معلّقاً على عدم التمكّن منه ، وذلك هو الاتيان بداعي الامتثال المحتمل ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّه لا طولية في البين ، وأنّ كلاً من الاتيان بداعي

ص: 190


1- مستمسك العروة الوثقى 1 : 8 / مسألة 4 من مسائل الاجتهاد والتقليد ، 2 : 461 - 462 / مبحث النية.

الامتثال المعلوم والاتيان بداعي الامتثال المحتمل مندرج في عنوان الاطاعة ، التي هي كون المحرّك والباعث هو الحصول على الامتثال ، سواء كان الأمر معلوماً أو كان محتملاً ، فإنّ الذي يحمل العبد على الاتيان بالفعل في الموردين هو شوقه وعشقه للحصول على امتثال أمر مولاه ، فإنّ العبد يسعى للحصول على تلك الغاية المطلوبة ، وهذا هو المطلوب منه بذلك الأمر الثانوي الذي هو المسمّى بمتمّم الجعل ، فإنّ ذلك هو القدر الجامع بين الاطاعتين الجزمية والاحتمالية ، من دون دلالة على كون الثانية مختصّة بصورة العجز عن الأُولى ، وإلاّ لكان ذلك موجباً لعدم إمكان شمول ذلك الأمر لهما معاً ، بل لابدّ حينئذ من أمرين يتعلّق أحدهما بالأُولى والثاني بالثانية مقيّداً بالعجز عن الأُولى ، فلاحظ وتدبّر.

وإذا وصلت النوبة إلى الشكّ في ذلك ، يكون المرجع هو أصالة البراءة من اعتبار الجزم في حصول الامتثال عند التمكّن من الحصول على الجزم المذكور.

وحيث تحقّق ذلك فيما لا يتوقّف على التكرار كان الحال مثله فيما يتوقّف على التكرار ، فإنّ الإشكال فيهما واحد وهو كون الاطاعة الاحتمالية في طول الاطاعة الجزمية.

والخلاصة : هي أنّه لو كان لنا في ناحية متمّم الجعل أمران ، يتعلّق أحدهما بالاتيان بالفعل بداعي امتثال أمره المعلوم ، والآخر بالاتيان به بداعي امتثال أمره المحتمل ، لتمّ ما أُفيد من التردّد بين التخيير والعرضية بين الأمرين ، أو كون الثاني منهما في طول الأوّل وأنّه إنّما يتوجّه الثاني عند العجز عن الأوّل ، أمّا إذا لم يكن لنا في ناحية متمّم الجعل إلاّأمر واحد حاصله هو الاتيان بالفعل المأمور به بداعي الحصول على امتثال أمره المتعلّق به الذي هو الجامع بين الامتثالين ، فلا تكون قضية ذلك الأمر الواحد إلاّالتخيير بين الامتثالين ، فلم يبق لنا إلاّالشكّ في تقيّد

ص: 191

ذلك التخيير بما إذا عجز عن الأوّل ، وأنّه عند عدم العجز عنه يكون المتعيّن هو الأوّل ، وحينئذ يكون المرجع في ذلك التقييد هو البراءة.

إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من متمّم الجعل هو الاتيان بداعي الامتثال المعلوم وأقصى ما في البين قيام الدليل على صحّة الاحتياط ، وهو منحصر بما إذا لم يمكن الحصول على العلم بالأمر. لكن ذلك لا يخرج عن كون الأمر الأوّل مقيّداً بداعي الامتثال المعلوم ، ومع الشكّ في هذا القيد يكون المرجع هو البراءة. على أنّ تقييد مشروعية الاحتياط بما إذا لم يمكن الحصول على العلم بالأمر ممنوع ، بل أقصى ما في البين هو مشروعية الاحتياط عند عدم العلم بالأمر ، سواء أمكن تحصيل العلم أو لم يمكن ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وما ربما يتوهّم من أنّه كيف يكون الظنّ بناءً على الكشف في عرض العلم مع أنّ اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فإنّ المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها ، ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون الظنّ المستنتج حجّيته من مقدّمات الانسداد بناءً على الكشف في عرض العلم ... الخ (1).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ انفتاح باب العلم في مورد خاصّ ومسألة خاصّة وإن لم يوجب سقوط مقدّمات الانسداد في معظم الأحكام ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب حجّية الظنّ المطلق في خصوص ذلك المورد ، بل الذي يكون حجّة في ذلك المورد هو العلم فقط ، لفرض تمكّنه منه ، فلا يعقل أن يكون الظنّ المستنتج حجّيته بمقدّمات الانسداد في معظم الأحكام حجّة في ذلك المورد ، كي يكون

ص: 192


1- فوائد الأُصول 3 : 70 - 71.

بناءً على الكشف حجّة في ذلك المورد في عرض العلم.

وإن شئت فقل : ليس منشأ الإشكال هو كون الظنّ المذكور في عرض العلم أو في طوله ، كي يتوجّه الإشكال بأنّه بعد فرض انسداد باب العلم كيف يعقل القول بأنّه في عرض العلم ، كي نحتاج إلى الجواب عنه بما أُفيد في هذا التحرير. بل يمكن أن يقال : إنّ الظنّ التفصيلي الذي هو حجّة بالخصوص لعلّه في طول العلم التفصيلي عند التمكّن من تحصيله ، غير أنّه في عصر الغيبة لا يظهر لذلك أثر. نعم يظهر أثره في الشبهات الموضوعية.

وعلى كلّ حال ، أنّ منشأ الإشكال فيما نحن فيه ليس هو كون الظنّ المطلق في طول العلم ، إذ لا شبهة في كونه في طول العلم ، إلاّ أنّ كونه في طول العلم لا يوجب أن يكون في عرض الاحتياط. وهذه الجهة هي العمدة في الإشكال ، وهي أنّه بعد انسداد باب العلم حتّى في ذلك المورد الخاصّ ، هل يكون العمل بالظنّ في ذلك المورد مقدّماً على الاحتياط ، أو أنّه يكون في عرض الاحتياط بحيث إنّه يجوز له العمل بالاحتياط وترك تحصيل الظنّ ، فصاحب القوانين (1) بنى على الأوّل ، والشيخ قدس سره بنى على الثاني ، أعني كون العمل بالظنّ في عرض الاحتياط فيما إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار ، فقال في الظنّ الذي لم تثبت حجّيته إلاّ بدليل الانسداد ما هذا لفظه : فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار ، والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ، ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه ، ولإبطال هذه الشبهة وإثبات صحّة عبادة

ص: 193


1- راجع قوانين الأُصول 1 : 440.

المحتاط محلّ آخر (1).

أمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، فهو وإن تردّد أوّلاً في تقديم الظنّ بل جعله أحوط ، إلاّ أنّه أخيراً أفتى بعدم لزوم ذلك الاحتياط ، فراجع كلامه رفع اللّه مقامه (2).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في قصر إشكاله على نيّة الوجه ، مع أنّ فيه إشكال الاطاعة الاحتمالية في قبال الاطاعة التفصيلية ، المفروض تمكّنه منها بتحصيل الظنّ الذي هو حجّة شرعية بناءً على الكشف ، وعلى ذلك جرى في الاحتياط في قبال تحصيل العلم التفصيلي ، فقال في ذلك : ودعوى أنّ العلم بكون المأتي به مقرّباً معتبر حين الاتيان به ولا يكفي العلم بعده باتيانه ممنوعة ، إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الاطاعة بغير ذلك أيضاً ، فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط ( الذي يكون بالتكرار ) وترك تحصيل العلم التفصيلي ، لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتّفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة (3) ، إلى آخر ما أفاده قدس سره.

نعم ، قال في الاحتياط المتوقّف على التكرار في قبال تحصيل الظنّ الخاصّ ما هذا لفظه : وإن توقّف الاحتياط على التكرار فالظاهر أيضاً جواز التكرار ، بل أولويته على الأخذ بالظنّ الخاصّ - ثمّ قال : - إلاّ أنّ شبهة اعتبار نيّة الوجه كما هو قول جماعة ، بل المشهور بين المتأخرين ، جعل الاحتياط في خلاف ذلك. مضافاً إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة ، مع إمكان

ص: 194


1- فرائد الأُصول 1 : 73.
2- فرائد الأُصول 1 : 73 - 74.
3- المصدر المتقدّم : 71 وما بعدها.

أن يقال : إنّه إذا شكّ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به لا حصوله بأي وجه اتّفق ، في أنّ الداعي هو التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، أو التعبّد بخصوصه متميّزاً عن غيره ، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، وهذا ليس تقييداً في دليل تلك العبادة حتّى يدفع باطلاقه كما لا يخفى ، وحينئذ فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط في جميع موارد إرادة التكرار بتحصيل الواقع أوّلاً بظنّه المعتبر من التقليد أو الاجتهاد بإعمال الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وإتيان الواجب مع نيّة الوجه ، ثمّ الاتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط ، الخ (1).

ومع ذلك فهذا الذي صرّح به أخيراً بكونه مانعاً من تكرار العبادة ، ليس هو من جهة الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال المتمكن منه من تحصيل الاطاعة الجزمية ، وإلاّ لكان جارياً في الاحتياط غير المتوقّف على التكرار ، بل إنّ المانع هو احتمال اعتبار التعبّد بالمأمور به بخصوصه متميّزاً عن غيره في قبال الاكتفاء بالتعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، وذلك هو المعبّر عنه بالتميّز.

والحاصل : أنّ كلامه في المانع من الاحتياط لا يحوم إلاّحول احتمال اعتبار نيّة الوجه ، واحتمال اعتبار تمييز المأمور به عمّا عداه ، والأوّل متأتّ في الاحتياط المتوقّف على التكرار وغيره ، والثاني مختصّ بخصوص ما يتوقّف على التكرار. أمّا ما ركن إليه شيخنا قدس سره في المنع من الاحتياط من عدم كفاية الاطاعة الاحتمالية في قبال الاطاعة الجزمية ، ممّا هو جار في الاحتياط المتوقّف على التكرار وغير المتوقّف عليه ، فالظاهر أنّ كلام الشيخ قدس سره في هذا المقام خالٍ عنه.

وكيف كان ، فإنّ الظاهر أنّ مدرك إشكاله على المحقّق القمي قدس سره بقوله :

ص: 195


1- فرائد الأُصول 1 : 75 - 76.

والعجب ممّن يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط الخ (1) ليس هو ما أُفيد في هذا الكتاب عن شيخنا قدس سره من دعوى تأخّر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي التفصيلي ليتوجّه عليه ما أُفيد بقوله : فإنّ المحقّق القمي من القائلين بالكشف فيكون حال الظنّ حال العلم الخ (2) بل إنّ مدرك إشكال الشيخ قدس سره على المحقّق القمي هو ما أشار إليه في العمل بالاحتياط المتوقّف على التكرار وهو : أنّ العمل بالظنّ المطلق لم يثبت إلاّجوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ، أمّا تقديمه على الاحتياط فلم يدلّ عليه دليل (3). ومن الواضح أنّ هذا المانع بعينه متأتّ في الاحتياط غير المتوقّف على التكرار في قبال تحصيل الظنّ المطلق.

نعم ، يرد على الشيخ قدس سره أنّه إن كان من مقدّمات الانسداد عدم جواز الاحتياط ، تكون النتيجة هي الكشف ، ويكون العمل بالظنّ مقدّماً على الاحتياط. وإن كانت تلك المقدّمة عبارة عن عدم وجوب الاحتياط ، تكون النتيجة هي الحكومة ولا يكون الظنّ مقدّماً على الاحتياط. وصاحب القوانين قدس سره (4) قائل بالكشف ، فلأجل ذلك أفتى ببطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد. وعبارة التحرير المطبوع في صيدا (5) لا تخلو عن الإيماء أو التصريح بذلك ، فراجعه.

لكن هذا وإن أوجب تقدّم العمل بالظنّ على الاحتياط ، إلاّ أنّ الاحتياط

ص: 196


1- فرائد الأُصول 1 : 73.
2- فوائد الأُصول 3 : 71.
3- فرائد الأُصول 1 : 73.
4- القوانين 2 : 140 وما بعدها.
5- أجود التقريرات 3 : 84 - 86.

المذكور هو الاحتياط الكلّي ، أمّا الاحتياط الشخصي في هذه المسألة التي هي محلّ الابتلاء مثلاً ، فلا دليل على كون الظنّ المطلق فيها مقدّماً على الاحتياط. لكن لمّا استكشفنا من تلك المقدّمات أنّ الشارع جعل لنا مطلق الظنّ حجّة ، كان الظنّ في هذه المسألة كسائر الظنون الخاصّة مورداً لدعوى كون الامتثال التفصيلي ولو ظنّياً مقدّماً على الامتثال الاجمالي.

ولكن مع ذلك كلّه ينبغي ملاحظة باب الانسداد ، فلعلّ بعض ما حقّقناه هناك (1) من كيفية الكشف ولوازمه يكون منافياً لما ذكرناه هنا ، وأنّه هل يستكشف منه حجّية الظنّ شرعاً بقول مطلق بعد تمامية الانسداد الكلّي على وجه يكون الظنّ حجّة حتّى في المسألة التي يمكن تحصيل العلم فيها أو ما يقوم مقامه من الظنون الخاصّة ، أو أنّه إنّما يكون حجّة في خصوص ما لا طريق إلى تحصيل العلم به من المسائل.

قوله : ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنّه يتعيّن أوّلاً العمل بمقتضى الطريق ثمّ العمل بما يقتضيه الاحتياط ... الخ (2).

الظاهر من الشيخ قدس سره في هذه الصورة حيث يقول في عبارته السابقة (3) : فلا ينبغي بل لا يجوز ترك الاحتياط الخ ، هو أنّ الوجه في ذلك هو المحافظة على نيّة الوجه ، وعدم الركون إلى فاقدها مع التمكّن من تحصيل الواجد لها. لكن الظاهر من شيخنا قدس سره هو أنّ الوجه في ذلك هو المحافظة على الاطاعة الجزمية ، وعدم الركون إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من تحصيل الاطاعة الجزمية ، فلاحظ

ص: 197


1- يأتي مبحث الانسداد في أوّل المجلّد السابع.
2- فوائد الأُصول 3 : 71.
3- في الصفحة : 195.

وتأمّل. وسيأتي لذلك تفصيل في خاتمة البراءة في الجزء الثاني إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّبعد تعذّر الامتثال الظنّي ، ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي إلاّبعد تعذّر الامتثال الاجمالي ، إنّما الإشكال في المرتبتين الأُوليين ... الخ (2).

هذه الجملة لا تخلو عن تأمّل ، لأنّ هذه المراتب الثلاث إنّما هي مراتب الخروج عن عهدة التكليف ولو كان توصّلياً ، وأنّه بعد انشغال الذمّة بالتكليف لابدّ من الخروج عن عهدته ، إمّا بالعلم التفصيلي أو الاجمالي بالاحتياط ، ولا يكتفي العقل بالخروج الظنّي إلاّبعد تعذّر الخروج العلمي ولو بالاحتياط كما حرّر (3) ذلك في حجّية الظنّ على الحكومة. ثمّ إنّه بعد تعذّر الامتثال الظنّي بحيث إنّه لا يقدر على الجمع بين المحتملين ولم يحصل له الظنّ بأنّ هذا المعيّن هو الواجب ، لا محيص حينئذ من الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي وهو المعبّر عنه بتبعيض الاحتياط.

ومن الواضح أنّ هذه التنقّلات لا دخل لها بما نحن بصدده من الاطاعة التفصيلية في العبادة ، وأنّها مقدّمة على الطاعة الاحتمالية ، إذ لا وجه فيما نحن فيه لتقدّم الطاعة الاجمالية على الطاعة الظنّية ، بل لا معنى لذكر الطاعة الظنّية هنا كما هو واضح.

وبالجملة : أنّ عمدة ما هو محلّ الكلام في هذا المقام هو تقدّم الطاعة

ص: 198


1- فوائد الأُصول 4 : 264 - 266 ، وسيأتي تعليق المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 474 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 72.
3- في المجلّد السابع من هذا الكتاب مبحث الانسداد.

الجزمية على الطاعة الاحتمالية الحاصلة في كلّ واحد من طرفي العلم الاجمالي وفي مورد احتمال الوجوب بدوياً كما حقّقه بقوله : فإنّ حقيقة الاطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الاجمالي لا يتحقّق ، فإنّ الداعي له نحو العمل بكلّ واحد من فردي الترديد ليس إلاّاحتمال تعلّق الأمر به ، فإنّه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص الخ (1). ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا دخل له بتلك التنقّلات التي هي مشتركة بين التكاليف توصليّها وعباديّها ، فإنّ هذه التنقّلات إنّما هي في وادي أنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وما نحن فيه في وادي أنّ الاطاعة التي يحكم العقل بحسنها هل يكفي فيها الاتيان بالفعل بداعي أمره المحتمل وإن كان متمكّناً من تحصيل العلم بذلك الأمر ، أو أنّه لا ينتقل إلى هذه المرتبة من الاطاعة الاحتمالية إلاّ بعد تعذّر تلك المرتبة من الاطاعة التفصيلية ، أعني بها الاتيان بالفعل بداعي أمره المعلوم تعلّقه به بالخصوص.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المانع وهو كون الداعي له نحو العمل هو احتمال تعلّق الأمر به ، لا ينبغي أن يفرّق فيه بين الاحتياط المتوقّف على التكرار والاحتياط غير المتوقّف على التكرار كما في الشبهات البدوية ، من دون فرق في ذلك بين كون الشبهة قبل الفحص وبينها بعد الفحص ، ولا ينحصر بما إذا كانت الشبهة قبل الفحص حكمية ، بل هو جارٍ في الشبهة الموضوعية قبل الفحص ، فإنّ الفحص فيها وإن لم يكن لازماً ، وكان المورد مرجعاً للأُصول النافية قبل الفحص ، ولم

ص: 199


1- فوائد الأُصول 3 : 73.

يكن احتمال التكليف منجّزاً ، إلاّ أنّ ذلك لا يصحّح الاعراض عن هذا المانع المدّعى مانعيته ، وهو الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة الجزمية ، بل هو جارٍ في الشبهات الاستحبابية. نعم يخرج عنه الشبهات بعد الفحص ، سواء كانت موضوعية أو كانت حكمية ، لعدم التمكّن حينئذ من الاطاعة الجزمية.

ومن ذلك يظهر أنّ قوله : وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط الخ (1) لا يخلو من تأمّل ، فإنّ ظاهره انحصار الوجه في الحكم بالبطلان بالاحتياط الموجب للتكرار ، والمفروض جريان المانع بعينه في الاحتياط في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص.

ثمّ إنّ الذي ينبغي أن يقال بجريان هذا المانع في الاحتياط في مسألة الأقل والأكثر ، لأنّ هذا المانع لو سلّم كونه مانعاً ، فلا يفرق فيه بين وقوعه في الأجزاء ووقوعه في جملة العمل ، إذ لا ريب في أنّ كلّ واحد من الأجزاء عبادي وإن لم يكن محتاجاً إلى قصد مخصوص ، ويكفي فيه قصد جملة العمل مع الغفلة عن كلّ واحد من الأجزاء ، لكن لو التفت إلى هذا الجزء فماذا يقصد به ، والمفروض أنّ المانع عقلي ، وليس هو بدليل لفظي حتّى يمكن التمسّك بمثل الانصراف ونحوه إلى جملة العمل ، وليس الإشكال فيه من ناحية قصد الوجه كي يقال فيه : إنّه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل للعلم بتعلّق الأمر به ، وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلاّإذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء وقد تقدّم ضعفه (2)

ص: 200


1- فوائد الأُصول 3 : 72 - 73.
2- فوائد الأُصول 3 : 74.

قوله : فالإنصاف أنّ مدّعي القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكّن من إزالة الشبهة ، لا يكون مجازفاً في دعواه. مع أنّه لو سلّم الشكّ في ذلك فقد عرفت أنّ الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأنّ مرجع الشكّ في ذلك إلى الشكّ في التخيير بين الامتثال التفصيلي والاجمالي ، أو تعيّن الامتثال التفصيلي ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ هذه الدعوى لو سلّمت لم تكن وافية باتمام المطلوب إلاّ بضمّ دعوى أُخرى إليها ، وهي دعوى كون الأمر الشرعي الثانوي الذي عبّرنا عنه بمتمّم الجعل متعلّقاً بنفس ما حكم العقل بحسنه ، وقد عرفت (2) ما في الدعوى الثانية.

ومنه يظهر لك أنّا لو سلّمنا الشكّ من العقل لم يكن ذلك مؤثّراً في ناحية ذلك الحكم الشرعي ، بل قد عرفت أنّ العقل لو قطع بالتساوي بين الاطاعتين لم يكن ذلك نافعاً في ناحية ذلك الحكم الشرعي ، الذي كان ناشئاً عن ملاك آخر غير ملاك الاستحسان العقلي.

نعم ، بعد ما عرفت من دوران الأمر في متعلّق ذلك الأمر الثانوي بين التخيير والتعيين الشرعيين ، تدخل المسألة في ذلك الوادي ، والمختار فيه هو الاشتغال لا البراءة.

ومن ذلك يظهر أنّ القول بالاشتغال وعدم الرجوع فيه إلى البراءة فيما نحن

ص: 201


1- فوائد الأُصول 3 : 73.
2- في الصفحة : 184 - 186.

فيه لا يحتاج إلى ما تقدّم (1) فيما نقلناه عنه قدس سره في الدورة الأخيرة من الاستناد في منع الرجوع إلى البراءة إلى كون الشكّ في المحقّق ، أو إلى أنّ أصالة البراءة في المقام من الأُصول المثبتة ، أو إلى أنّها لا تجري من جهة كون الشكّ في الاطاعة العقلية كما تضمّنه التحرير المطبوع في صيدا بقوله ص 45 : ولا مجال للتمسّك بحديث الرفع في رفع هذا الشكّ ، لأنّ مورد جريانه هو ما إذا كان المشكوك من الأُمور التي وضعها ورفعها بيد الشارع إمضاءً أو تأسيساً ، وأمّا الأُمور المشكوك اعتبارها في الطاعة العقلية فلا يكون حديث الرفع متكفّلاً لرفعها ، إلى آخر ما في الصفحة المزبورة (2) فراجعه وتأمّل.

ثمّ إنّه بعد أن دخلت المسألة في وادي مسألة التخيير والتعيين الشرعيين وكان المرجع فيها هو أصالة الاشتغال ، وكان هذا الأصل - أعني أصالة الاشتغال - هو المانع من الركون إلى الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من الاطاعة الجزمية كان المانع المزبور مختصّاً بخصوص الشبهة الوجوبية مع تنجّز التكليف فيها بالعلم الاجمالي أو بكونها شبهة حكمية قبل الفحص ، فلا تدخل فيه الشبهات الاستحبابية ولا الشبهات الوجوبية الموضوعية قبل الفحص ، فلا مانع من الركون في ذلك إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الجزمية ، إذ المانع منحصر بما عرفت من أصالة الاشتغال التي لا مورد لها في هذه الشبهات ، ولكن مع ذلك لو أراد المكلّف أن يحتاط فيها لم يكن احتياطه تامّاً إلاّ [ مع ] تعذّر الاطاعة الجزمية ، وإن لم يكن ذلك الاحتياط لازماً عليه كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، فتأمّل (3)

ص: 202


1- في الصفحة : 176 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 3 : 80 - 81.
3- [ وجدنا ورقة مرفقة بالأصل أورد قدس سره فيها ما يلي : ] وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ القائلين بتقدّم الاطاعة التفصيلية على الاطاعة الاحتمالية ، ينبغي أن تكون كيفية احتياطهم في موارد الدوران بين الوجوب والاستحباب كما في مثل التكبير للركوع مغايراً لكيفيته في موارد الدوران بين الوجوب وعدمه كما في موارد سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة ، ففي الأوّل يكون الاحتياط بالتكبير بأن يؤتى به بداعي الأمر الواقعي المتعلّق به من دون نظر إلى كونه وجوبياً أو استحبابياً ، وفي الثاني يكون الاحتياط بالاتيان بسجود السهو لاحتمال وجوبه. ولا يجوز في الأوّل أن يؤتى بتكبير الركوع بداعي احتمال وجوبه ، لكونه ركوناً إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة [ التفصيلية ] ، من دون فرق في ذلك بين كون الاحتياط لازماً أو كونه غير لازم ، كما لو كانت فتواه على عدم الوجوب. لكن الظاهر من شيخنا قدس سره أنّه يأمر بالاحتياط في المقامين بوتيرة واحدة ، ففي مثل تكبير الركوع يقول بعد الفتوى باستحبابه : والأحوط عدم تركه [ وسيلة النجاة : ١٤٠ / آداب الركوع ، العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٥٥١ / فصل في الركوع مسألة ٢٦ ] كما في مسألة سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٩٨ / مسألة (١) من فصل في موجبات سجود السهو ]. لا يقال : إنّ هذا الاحتياط المذكور في تكبيرة الركوع مثلاً إنّما هو لمن لا يريد الامتثال بالنسبة إلى احتمال الاستحباب ، وإنّما يريد التخلّص من احتمال الوجوب ، فينحصر طريقه بأن يأتي بداعي احتمال الوجوب. لأنّا نقول : إنّه وإن لم يكن ساعياً لامتثال المستحبّ ، إلاّ أنّه في إرادته لامتثال الواجب المحتمل لمّا أمكنه امتثاله بطريقة الاطاعة التفصيلية ، بأن يقصد الأمر الواقعي على ما هو عليه ، كانت هذه الطريقة مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، بأن يأتي به بداعي احتمال الوجوب. ولا يخفى أنّ دوران الأمر بين التخيير والتعيين يكون الغالب فيه هو الاحتياط بالتزام التعيين كما في الحجج ، بأن دار الأمر مثلاً في حجّية فتوى المجتهد بين خصوص الأعلم أو مطلق المجتهد ، وكما في دوران الأمر بين الوجوب التخييري والوجوب التعييني ، بأن علمنا بوجوب العتق على من تعمّد الافطار وشككنا في كون وجوبه تعيينياً أو كونه مخيّراً شرعاً بينه وبين الاطعام ، وكما لو دار الأمر فيما وجب إحضاره هل هو مطلق الحيوان أو هو خصوص الفرس مثلاً. نعم ، لو علمنا بوجوب الصلاة مثلاً وشككنا في كونها مقيّدة بالتحنّك مثلاً أو كونها غير مقيّدة بذلك ، وكذلك لو شككنا في أنّ جلسة الاستراحة جزء منها أو أنّها مقيّدة بعدم لبس الكتّان مثلاً ، إلى غير ذلك من موارد الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإنّ المرجع في ذلك هو البناء على العدم ، وهو عبارة أُخرى عن التخيير بناءً على ما حقّق في محلّه من كون المرجع في ذلك هو البراءة من التكليف الزائد ، أمّا ما نحن فيه فهو خارج عن ذلك كلّه ، إذ ليس لنا إلاّحكم العقل بالاطاعة أو الشرع على نحو متمّم الجعل ، وقد شككنا في تحقّق الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة الجزمية ، والمرجع في ذلك هو الاشتغال للشكّ في حصول الاطاعة في ذلك.

ص: 203

[ فائدة ] قال في العروة في ختام كتاب الزكاة : الثانية عشرة : إذا شكّ في اشتغال ذمّته بالزكاة ، فأعطى شيئاً للفقير ونوى أنّه إن كان عليه الزكاة كان زكاة ، وإلاّ فإن كان عليه مظالم كان منها ، وإلاّ فإن كان على أبيه زكاة كان زكاة له ، وإلاّ فمظالم له ، وإن لم يكن على أبيه شيء فلجدّه إن كان عليه وهكذا ، فالظاهر الصحّة (1).

وذكر نحوه في مسألة 6 قبيل هذا الختام (2) وهو من قبيل ما ذكره في صوم يوم الشكّ في أنّه لو صامه بنيّة الندب إن كان من شعبان والوجوب إن كان من

ص: 204


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 4 : 178.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 4 : 158.

رمضان ، وأفتى هناك في بعض الصور بالبطلان (1).

ولا يبعد الحكم بالبطلان في جميع ما هو من هذا القبيل ، لا من جهة اعتبار الجزم بالنيّة في قبال الاحتمال والاطاعة الاحتياطية ، بل في مقابل التعليق بمعنى أنّه ينوي كون المدفوع زكاة إن كان مشغول الذمّة بها.

وحاصل ذلك كلّه أنّ داعوية الأمر لا تقبل التعليق على شيء حتّى لو كان المعلّق عليه هو نفس وجوده ، فضلاً عمّا لو كان المعلّق عليه هو عدم وجود غيره بأن يقول هو مظالم إن لم يكن مشغول الذمّة بالزكاة ، أو كان المعلّق عليه هو أمراً آخر أجنبياً عن عالم الأوامر ، بأن يقول هذا عن أبي إن كانت ذمّة جدّي فارغة ، وهكذا.

والحاصل : أنّ الداعوية إمّا قطعية بأن يعلم الأمر ويأتي بالمأمور به بداعيه فيكون الأمر بوجوده العلمي داعياً ومحرّكاً على الاتيان بالفعل ، وإمّا احتمالية بأن يحتمل الأمر فيأتي بالفعل بداعي احتمال الأمر ، فيكون الداعي هو الأمر بوجوده الاحتمالي. ولا يعقل غير هاتين الطريقتين في الداعوية ، وليست الداعوية والتحرّك عن الداعي والانبعاث عنه قابلة للتعليق على شيء أصلاً.

وللسيّد البروجردي في المقام حاشية مفادها استحسان قصد هذه العناوين منجّزة على نحو الطولية ، بأن يقصد الزكاة منجّزاً وإن لم تكن في ذمّته قصد المظالم وهكذا.

وفيه : ما لا يخفى ، من أنّ القصد المنجّز تشريع ، مع أنّه يلزمه التعليق في

ص: 205


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 536 / مسألة 17 من فصل في النيّة.

الثاني على عدم الأوّل ، وهكذا في الثالث والرابع (1)

ص: 206


1- قال سلّمه اللّه تعالى في حاشيته على قول المصنّف قدس سره في هذه المسألة : فالظاهر الصحّة ما هذا لفظه : نيّة العناوين القصدية أشبه شيء بالانشاء ، فإن نوى تلك العناوين مرتّبة على نحو التنجّز كان أولى ، غاية الأمر أنّ تأثيرها في وقوع المنوي مرتّب على ثبوت موضوعه كما مرّ سابقاً [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 4 : 178 ]. وقال قبل هذا في الحاشية على قول المصنّف قدس سره : فهو صدقة مستحبّة الخ ما هذا لفظه : لو نجّز أوّلاً نيّة كونه زكاة ثمّ نوى منجّزاً الصدقة المندوبة حتّى لا يكون من التعليق في النيتين ، بل من التردّد فيما هو المؤثّر منهما ، لكان أقرب وأحوط [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٥٨ ]. ولا يخفى أنّه لا يكفي من امتثال الأمر بالزكاة مثلاً مجرّد قوله هذا زكاة ، فليس هو من الانشائيات الصرفة الحاصلة بقوله هذا زكاة ، ليكون من قبيل ما لو كان هناك امرأتان إحداهما زوجته وأراد طلاق زوجته فيقول لهذه أنت طالق ، ثمّ يقول للأُخرى أنت طالق ، أو من قبيل ما لو كانت عنده امرأة مردّدة بين كونها زوجة له وكونها مملوكة له فأراد فصلها ، فيقول لها أنت طالق ويقول أيضاً أنت حرّة ، بل لابدّ في مقام امتثال الأمر من الاتيان بمتعلّقه بداعيه ، وحينئذ لابدّ في ذلك من قصد كون الدفع بداعي امتثال الأمر ، فإن قصد الامتثال القطعي المنجّز مع فرض أنّه شاكّ في كونه مكلّفاً بذلك كان من التشريع ، وإن قصد الأمر إن كان الأمر موجوداً كان من التعليق في النيّة. أمّا الامتثالات الاحتياطية فهي خارجة عن التنجّز وعن التعليق في النيّة ، بل من قبيل الاتيان بداعي احتمال الأمر ، وحكمه أنّه إن صادف الواقع فهو وإلاّ كان لغواً ، غايته أنّه يثاب عليه لكونه انقياداً. ولا يخفى أنّ ذلك _ أعني الاحتياط _ إنّما يتأتّى في أمر واحد ، ولا يقبل التعدّد الطولي المذكور ، فلاحظ وتأمّل. نعم ، لو تمّ تأثير هذا الانشاء ، بمعنى أنّه لو كان مشغول الذمّة بالزكاة الواجبة وعمد إلى مقدارها من النقد وقال : هذا زكاة ، صار زكاة ، وكذلك الحال في المستحبّة ، ثمّ بعد هذا الانشاء والجعل وتحقّق أحد العنوانين في ذلك المال يدفعه إلى الفقير بداعي أمره الواقعي المتعلّق به لصحّ ذلك ، ويمكن تنزيل الإجماع وعبارة الشرائع على هذه الكيفية ، فلاحظ وتأمّل. والخلاصة : هي أنّ الداعوية لا تقبل التعليق ولا الترديد ، غايته أنّه تارةً يكون الداعي على الفعل هو العلم بأنّه امتثال ومطابق للأمر ، وأُخرى يكون الداعي هو احتمال ذلك ، وعلى كلّ حال تكون الداعوية منجّزة لا يعقل التعليق فيها ولا الترديد ، وفي مورد يتردّد الأمر المتعلّق بهذا الفعل بين الوجوب والاستحباب يمكن الاحتياط فيه كما مرّ في تكبير الركوع بالاتيان به بداعي احتمال الوجوب ، كما يمكن الاحتياط فيه بداعي ذلك الأمر الواقعي الذي لا يعرف أنّه وجوب أو استحباب. ولو علم بوجود الأمر الاستحبابي وشكّ في وجود أمر وجوبي كما في مثل الأمر بالزكاة المستحبّة إذا احتمل المكلّف أنّ عليه وجوبها أيضاً ، ففي هذه الصورة ينحصر الاحتياط بالاتيان بداعي احتمال الأمر الوجوبي ، ولا يتأتّى منه قصد الأمر الواقعي ، لعدم كونه واحداً مردّداً بين الوجوب والاستحباب ، ولا يمكنه التعليق كما لا يمكن الترديد. نعم ، هذه الطريقة لا بأس [ بها ] وهي طريقة الانشاء أوّلاً ثمّ دفع ذلك الخاصّ الذي طرأ عليه الانشاءان بداعي أمره الواقعي ، لكنّها متوقّفة على صحّة هذا الانشاء على وجه لو قال هذا زكاة واجبة تعيّن ، كما حقّق في محلّه في باب الزكاة فيما لو عيّنه في مال مخصوص فراراً من الضمان بالتلف بلا تفريط ، لكنّه في خصوص ما لو كان النصاب موجوداً وعزل زكاته ، ولعلّه يأتي فيما لم يكن النصاب موجوداً وكانت ذمّته مشغولة بالزكاة كما ذكروا ذلك في زكاة الفطرة ، ولعلّه يتأتّى في الزكاة المستحبّة. ولا يبعد القول بأنّه لو عزله وتمّ العزل برئت ذمّته من الزكاة ، وإن لزمه دفعه إلى الفقير باعتبار إيصال ذلك المال المعيّن إلى أهله ، على وجه لو فرّط فيه أو أتلفه كان مشغول الذمّة بعين ذلك المال لا بالزكاة. والحاصل : أنّه لو تمّ العزل لا تكون نيّة القربة إلاّعند العزل ، ولأجل ذلك قالوا كما في العروة : إنّه لو قصد القربة بالعزل لكنّه قصد الرياء بالدفع لم يكن موجباً لبطلان الزكاة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 4 :1. 195 / المسألة الرابعة والثلاثون من ختام كتاب الزكاة ]. والحاصل : أنّ المسلّم من العزل وجعل العين الخارجية زكاة بقوله هذه زكاة إنّما هو فيما لو كان النصاب موجوداً وعزل زكاته ، أمّا لو كانت الزكاة في الذمّة فيمكن المنع من ذلك كما لو كان مشغول الذمّة لزيد بدينار ، فإنّه لا يتعيّن بمجرّد العزل ، لكن لا يبعد صحّة ذلك في الزكاة من جهة ولاية المكلّف بها عليها ، كما يشهد بذلك العزل في زكاة الفطرة. ثمّ لو تمّ العزل يكون هو المعتبر فيه قصد القربة وبه تبرأ ذمّته من الزكاة ، وإن كان الواجب عليه إيصال ذلك المعيّن إلى أهله ، على وجه لو قصد القربة بالعزل ولم يقصدها بالدفع بل كان الدفع رياءً برئت ذمّته من الزكاة وفرغ من وجوب الدفع ، وإن عصى بالرياء بالدفع. وعلى ذلك لو فرّط فيما عزله أو أتلفه عمداً كانت ذمّته قد فرغت من الزكاة ، وإن صار ضامناً لتلك العين التي عزلها بالتفريط أو بالتعدّي. وعلى كلّ حال ، أنّ تجشّم هذه الطرق إنّما هو للحصول على الطرفين من الزكاة الواجبة إن كانت والمستحبّة إن لم تكن واجبة ، أو الزكاة عن نفسه إن كانت وعن أبيه لو لم تكن عليه وكانت على أبيه ، وإلاّ فلو قصد بالدفع الاحتياط لاحتمال وجوبها عليه كفى في برائة ذمّته لو كانت مشغولة بها ، لكن لو اتّفق أنّه غير مشغول الذمّة بها كان ما دفعه لغواً ، وإن أثابه اللّه عليه تفضّلاً منه تعالى ، وكان ذلك القابض غير مالك للمال على وجه لو انكشف له الخلاف لم يجز له التصرّف فيه [ منه قدس سره ].

ص: 207

قال في الشرائع : لو قال إن كان مالي الغائب باقياً فهذه زكاته ، وإن كان تالفاً فهي نافلة ، صحّ ، ولا كذا لو قال : أو نافلة الخ (1).

وقد نقل في الجواهر (2) عن الشيخ الإجماع على ذلك. وحيث قد تحقّق

ص: 208


1- شرائع الإسلام 1 : 199.
2- جواهر الكلام 15 : 479.

لديك أنّ الداعوية لا تقبل التعليق ، فاللازم توجيه هذا الإجماع على وجه يكون مورده ممكناً ، بأن يقال : إنّ الشخص لو قال : إنّي ذاهب إلى المسجد بداعي إدراك الجماعة إن أدركتها ، وإلاّ كان بداعي صلاة تحيّة المسجد ، كان الداعي له على الذهاب إلى المسجد هو القدر الجامع بين الغايتين لا كلّ منهما معلّقاً ، وحينئذ ففي المثال يكون الداعي له إلى دفع ذلك المال هو القدر الجامع بين الزكاة الواجبة والزكاة المستحبّة ، بمعنى كون الدفع بداعي القدر الجامع بين الأمرين ، وأمّا كونه زكاة واجبة فهو معلّق على بقاء المال ، وكذلك كونه زكاة مستحبّة فإنّه معلّق على تلف المال ، ويكون اتّصاف ذلك الداعي الكلّي بكونه امتثال الأمر الخاصّ معلّقاً على بقاء المال ، بمعنى أنّ الداعي هو القدر الجامع بين الزكاتين ، وكون الدفع متّصفاً بكونه زكاة واجبة معلّق على بقاء المال ، بمعنى أنّ هذا الفاعل الدافع قد جعله زكاة واجبة إن كان المال باقياً ، بحيث يكون لذلك الدافع ذلك الجعل التعليقي الذي هو تحويل ذلك القدر الجامع إلى أحد فرديه معلّقاً على بقاء المال. وإلى هنا كانت الصورة ممكنة.

ولكن يبقى الكلام في الدليل ، وهو على تقديره منحصر بالإجماع المدّعى وهو منحصر بهذه الصورة ، وهي ما لو كان الترديد بين الزكاة الواجبة والزكاة المستحبّة دون غيره من موارد الترديد.

وفيه تأمّل ، لأنّ القدر الجامع بين الأمرين الذي هو مطلق الطلب إنّما يصحّ قصده داعياً فيما إذا لم يكن الموجود إلاّأحدهما وهو لا يعلمه بأنّه هو الوجوب أو الاستحباب ، أمّا لو اجتمع الوجوب والاستحباب كما في المقام لو كان ماله باقياً ، فلا يمكن قصد الجامع بينهما ولا يصحّ ذلك.

والخلاصة : هي أنّه في مثل صوم يوم الشكّ يمكنه أن يقصد الانبعاث عن

ص: 209

الأمر الواقعي وإن لم يكن عالماً بأنّه وجوبي أو ندبي ، بناءً على أنّ حقيقة الصوم واحدة وإنّما الاختلاف في الأمر ، بل يمكن أن يقال بصحّة قصد ما في الذمّة ويكون ذلك قصداً إجمالياً بالنسبة إلى نفس عنوان الفعل لو قلنا بالاختلاف بينهما بالحقيقة ، كما لو كانت عليه رباعية مردّدة بين الظهر والعصر بل بين العصر والعشاء مثلاً ، فإنّه يكفيه الاتيان برباعية بقصد ما في الذمّة ، ويكون ذلك قصداً إجمالياً لكونها ظهراً فعلاً لو كانت ظهراً وعصراً لو كانت عصراً.

وهذا بخلاف مسألة الزكاة فإنّه لا يكفي فيها قصد ما في الذمّة ، لأنّ المستحبّ منها موجود قطعاً ، وإنّما الشكّ في وجود الواجب منها ، فلا يكفي فيه قصد ما في الذمّة أو قصد الطلب الواقعي ونحو ذلك ممّا يتأتّى في مثل صوم يوم الشكّ ، فتأمّل.

قوله : لوضوح أنّ ذلك على تقدير تسليمه يختصّ ببعض أخبار الاستصحاب ممّا اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ... الخ (1).

إنّ بعض أخبار قاعدة الحل وقاعدة الطهارة مشتمل على ذلك في الجملة كقولهم عليهم السلام : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (2) أو « حتّى تعلم أنّه قذر » (3) بل إنّ رواية مسعدة المشتملة على قوله عليه السلام : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » (4) مشتملة على ذلك.

والعمدة في الجواب : أنّ متعلّق العلم في ذلك هو نفس ما تعلّق به الشكّ ،

ص: 210


1- فوائد الأُصول 3 : 78.
2- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.
3- وسائل الشيعة 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4.
4- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من أطراف العلم الاجمالي ليس هو متعلّق العلم.

قوله : والعلم الاجمالي بتعلّق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ... الخ (1).

الظاهر أنّ العلم بنفسه ليس بمانع عن جريان الأصل في أحد الأطراف ، وإنّما يكون مانعاً من الجمع بين الأصلين في كلّ واحد من الطرفين ، ووجه المانعية هو انتهاء ذلك إلى المخالفة القطعية لما هو معلوم في البين من التكليف. ومن ذلك تعرف أنّ أدلّة الأُصول في حدّ نفسها تعمّ أطراف العلم الاجمالي ، وأنّ المانع من ذلك هو لزوم المخالفة القطعية لو جرت في جميع الأطراف ، ولزوم الترجيح بلا مرجّح لو أُريد إجراؤها في بعض دون بعض.

ومن ذلك يظهر أنّه لا فرق بين الوجهين المذكورين في العبارة بقوله : وإن كان المراد الخ ، وأنّ مرجع الوجهين إلى وجه واحد ، فلا وجه لما هو ظاهر العبارة من الاعتراف بصحّة الوجه الأوّل ومنع الوجه الثاني.

وبالجملة : أنّ التكلّم في هذه المباحث الأربعة وقع لغير أوانه ، بل إنّ التكلّم في الأمر الأوّل والثاني من المبحث الخامس وقع أيضاً لغير أوانه ، فإنّ تمام الكلام في هذه المباحث إنّما يكون محلّه هو باب الاشتغال. فالأولى إرجاء تلك المباحث إلى ذلك المبحث إن شاء اللّه تعالى. ويكون الكلام في هذا المقام مقصوراً على الأمر الثالث والرابع والخامس من الأُمور المتعلّقة بالمبحث الخامس ، فإنّ هذه الأُمور الثلاثة هي التي ينبغي الكلام فيها في هذا المقام ، أعني مقام الاشتغال الاجمالي وأنّه لا تجوز مخالفته القطعية.

ص: 211


1- فوائد الأُصول 3 : 79.

قوله : إلاّإذا قلنا إنّه يكفي في صحّة صلاة الجماعة إحراز كلّ من الإمام والمأموم صحّة صلاة نفسه ولو بالأصل (1).

وقوله في الاستيجار للصلاة عن الميّت : إلاّإذا قلنا أيضاً بأنّه يكفي في صحّة الاجارة وتفريغ ذمّة المنوب عنه كون الأجير محرزاً لصحّة عمله ولو بالأصل (2).

وقوله للاجارة لكنس المسجد : ولكن الأقوى في هذا الفرض صحّة الاجارة ، لأنّه لا يعتبر في صحّتها سوى كون العمل مملوكاً للأجير وممكن الحصول للمستأجر ... الخ (3).

لا ينبغي الإشكال في عدم صحّة استيجار كلّ منهما للصلاة عن الميّت مع العلم الاجمالي بجنابة أحدهما ، للعلم بفساد صلاة أحدهما واقعاً ، بحيث إنّه لو علم المصلّي بذلك كان عليه الاعادة. ومنه يظهر أنّه لا ينحصر المنع باستيجار كلّ منهما ، بل يتأتّى المنع في استيجار أحدهما.

أمّا صلاة الجماعة والاستيجار لكنس المسجد فلازم الجواز فيهما هو جواز استيجار الشخص الواحد الذي يعلم المستأجر بجنابته تفصيلاً مع كون الأجير جاهلاً بذلك ، وجواز الائتمام بمن يعلم المأموم بجنابته تفصيلاً إذا كان الإمام غير عالم بذلك ، لكنّه قدس سره التزم بذلك في الاستيجار لكنس المسجد ولم يلتزم به في الائتمام ، ولم يتّضح الفرق.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ المستفاد من أدلّة باب الجماعة أعني الأخبار الواردة فيما لو تبيّن بعد الصلاة كون الإمام جنباً (4) ، أنّ الشرط هو إحراز الإمام مع عدم علم

ص: 212


1- فوائد الأُصول 3 : 82.
2- فوائد الأُصول 3 : 82.
3- فوائد الأُصول 3 : 82 - 83.
4- وسائل الشيعة 8 : 371 / أبواب صلاة الجماعة ب 36.

المأموم ، كما يظهر ذلك من عبارته قدس سره في الوسيلة ، فإنّه قال في شرائط الإمام : الرابع : عدم علم المأموم بفساد صلاة الإمام لترك وضوء أو غيره ، وإن كان الإمام جاهلاً بذلك - إلى أن قال - ولو علم المأموم بعد الفراغ بفساد صلاة الإمام لكونه محدثاً ونحوه صحّت صلاته (1) وقال في الوسيلة طبعة صيدا : الخامس : أن لا يكون صلاة الإمام قطعية البطلان عند المأموم وإلاّ لم يجز أن يأتمّ به ، كما لو علم أنّه توضّأ بماء متنجّس الخ (2) هذا مع قوله في الوسيلة طبع النجف : وجهان مبنيان على كفاية إحراز الإمام طهارة نفسه في جواز ائتمام الجاهل بحاله (3) فجعل الاكتفاء باحراز الإمام مختصّاً بصورة جهل المأموم ، فتأمّل.

واعلم أنّ الظاهر من السيّد قدس سره في العروة (4) أنّه بنى على عدم كفاية إحراز الإمام صحّة صلاة نفسه ، حيث إنّه حكم بعدم جواز اقتداء أحدهما بالآخر ، وبعدم جواز اقتداء ثالث بأحدهما فضلاً عن الاقتداء بهما في فريضتين أو في فريضة واحدة ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّه قدس سره يرى أنّ اللازم من إحراز الطهارة هو إحراز المأموم طهارة الإمام ، لكنّه قدس سره قيّد عدم جواز اقتداء الأجنبي بأحدهما بما إذا كان كلّ منهما عدلاً ، إذ لو كان أحدهما عدلاً دون الآخر لكان ذلك الآخر خارجاً عن محلّ ابتلاء المأموم ، فلا أثر للعلم الاجمالي بجنابته أو جنابة هذا الشخص العادل.

وأورد عليه الأُستاذ قدس سره في الحاشية بقوله : الظاهر عدم اعتبار العلم بعدالة

ص: 213


1- لم نعثر على هذه العبارة في الرسائل العملية الثلاث للميرزا النائيني قدس سره المسمّاة بوسيلة النجاة ، ولعلّه قدس سره نقلها من نصّ خطّي.
2- وسيلة النجاة : 161 - 162.
3- لم نعثر على هذه العبارة في الرسائل العملية الثلاث للميرزا النائيني قدس سره المسمّاة بوسيلة النجاة ، ولعلّه قدس سره نقلها من نصّ خطّي.
4- العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) 1 : 503 - 504 مسألة (4).

الجميع في عدم جواز الاقتداء بالعدل منهم. وأفاد قدس سره (1) في وجه ذلك : بأنّ الأثر المتنجّز في هذا العلم الاجمالي لا ينحصر بما يتوقّف على العدالة كالاقتداء ، بل هناك آثار أُخر تكون موجبة للتنجّز ، وذلك مثل الاستيجار للصوم والصلاة عن الميّت ، بناءً على عدم اعتبار العدالة في ذلك ، وعلى أنّ إحراز المستأجر طهارة الأجير معتبر في صحّة الاجارة ، فحينئذ يكون حاصل العلم الاجمالي هو العلم بأنّه إمّا لا يجوز له الاقتداء بهذا العادل ، أو أنّه لا يجوز له استيجار الآخر للعبادة ونحوها.

ثمّ لا يخفى أنّ السيّد قدس سره في العروة مع بنائه على ما عرفت من كون المدار في جواز الاقتداء على إحراز المأموم طهارة الإمام ، حكم بأنّه لو دارت الجنابة بين ثلاثة أشخاص جاز لأحدهم الاقتداء بالآخر ، وإن لم يجز لرابع الاقتداء بواحد منهم.

ولا يخفى ما في ذلك من التدافع ، فإنّه بناءً على ما ذكر من اعتبار إحراز المأموم ، نقول : إنّ هذا المأموم لا يمكنه إحراز طهارة إمامه ، للعلم الاجمالي إمّا ببطلان صلاة نفسه أو بطلان صلاة هذا الشخص الذي يريد أن يقتدي به أو بطلان صلاة ذلك الشخص الآخر الذي يمكن أن يقتدي به. وبعبارة أُخرى : هو يعلم إمّا ببطلان صلاة نفسه أو بعدم جواز اقتدائه بهذا أو بذاك.

وغاية ما أمكننا في توجيه هذا الذي ذكره ، هو أنّ المانع في مسألة الاقتداء أحد الأمرين : أوّلهما العلم التفصيلي من المأموم ببطلان صلاة نفسه ، كما إذا اقتدى أحد الشخصين المردّد بينهما الجنابة بالآخر ، فإنّه حينئذ يعلم المأموم تفصيلاً ببطلان صلاة نفسه ، إمّا لكونه هو الجنب أو لكون إمامه هو الجنب.

ص: 214


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 81 - 83 ، أجود التقريرات 3 : 102 - 103.

ثانيهما : العلم الاجمالي بعدم جواز الاقتداء بأحد الإمامين نظير الشبهة المحصورة كما في الثالث الأجنبي [ المقتدي ] بأحد الشخصين المعلوم جنابة أحدهما ، والمفروض عدم تأتّي كلّ من هذين المانعين في اقتداء أحد الثلاثة بآخر منهم.

أمّا المانع الأوّل فواضح ، لعدم العلم التفصيلي ببطلان صلاة نفسه ، إذ لم يكن الترديد منحصراً بين جنابته وجنابة إمامه ، بل هناك شقّ آخر وهو جنابة الشخص الثالث الذي لم يأتمّ به فعلاً ، فلم يحصل له العلم التفصيلي ببطلان صلاة نفسه.

وأمّا المانع الثاني فلعدم كون الشخصين بالنسبة إليه من قبيل الشبهة المحصورة من حيث جهة الاقتداء ، بمعنى أنّه لم يحصل له العلم الاجمالي بعدم جواز الاقتداء بأحدهما ، وإنّما حصل له العلم الاجمالي بجنابة نفسه أو عدم جواز الاقتداء بأحد هذين الشخصين ، والطرف الأوّل وهو جنابة نفسه لا أثر له في ناحية جواز الاقتداء ، لأنّه على تقدير تحقّقه واقعاً يكون أثره هو بطلان صلاة نفسه ولو منفرداً ، ويكون الحكم على هذا التقدير بعدم جواز الاقتداء من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وقد تقرّر في محلّه (1) أنّها لا واقعية لها ، فلا تكون مؤثّرة في تنجيز العلم الاجمالي.

وحاصل ذلك كلّه : أنّه ليس في البين علم إجمالي بالمنع من الاقتداء ، كما أنّه لم يكن في البين علم تفصيلي ببطلان صلاة نفسه ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله قدس سره : لعدم العلم حينئذ الخ (2) فيكون هذا مقابلاً لما أفاده في وجه المنع من

ص: 215


1- راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : 190 وما بعدها.
2- العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) 1 : 503 / مسألة (4).

اقتداء أحد الشخصين بالآخر بقوله : للعلم الاجمالي بجنابته أو جنابة إمامه الخ (1).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه وإن لم يكن المنع عن الاقتداء بأحدهما معلوماً بالاجمال بنفسه ، إلاّ أنّه طرف للعلم الاجمالي ببطلان صلاة نفسه ولو منفرداً ، أو كونه ممنوعاً عن الاقتداء بأحدهما ، وهذا المقدار من العلم الاجمالي كافٍ في التنجّز ، لما حقّق في محلّه (2) من أنّه لا يعتبر في المعلوم بالاجمال أن يكون الطرفان من سنخ حكم واحد ، بل العلم بأحد الحكمين الالزاميين كافٍ في التنجّز.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المكلّف يعلم إجمالاً بلزوم أحد الأمرين عليه ، أعني ترك الصلاة ولو منفرداً ، أو ترك الاقتداء بهذا أو ترك الاقتداء بذاك. وبعبارة أُخرى : هو يعلم بأنّه مخاطب إمّا بلزوم الغسل عليه للصلاة ، أو بترك الاقتداء بأحد هذين الشخصين.

نعم ، إنّ لازم هذا العلم الاجمالي هو لزوم الغسل على كلّ واحد من أطراف العلم بالجنابة المردّدة ، سواء كان التردّد بين شخصين أو أكثر ، لحصول عين هذا العلم لكلّ من كان طرفاً في التردّد المذكور ، مع أنّهم صرّحوا بعدم لزوم الغسل عليهم ، بل الذي يظهر من الجواهر (3) عدم الخلاف فيه ، فلابدّ حينئذ من حمل حكمهم بعدم لزوم الغسل على صورة عدم كون جنابة الطرف محلاً لابتلاء الآخر من حيث عمل نفسه ، أمّا إذا كانت جنابة أحد الطرفين محلاً لابتلاء الآخر ، بأن

ص: 216


1- العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) 1 : 503 / مسألة (4).
2- راجع فوائد الأُصول 4 : 49 - 50 ، وتأتي حاشية للمصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : 525 وما بعدها.
3- جواهر الكلام 3 : 20.

كان في البين تكليف إلزامي يتوجّه لأحد الطرفين على تقدير كون المجنب هو الآخر كالمنع من الاقتداء به ، أو المنع من استيجاره لصلاة أو صوم عمّن كان ذلك الطرف ملزماً بالاستيجار عنه ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في لزوم الغسل على ذلك الطرف ، لما عرفت من العلم الاجمالي المردّد بين لزوم الغسل عليه ولزوم عدم الاقتداء بالآخر أو عدم استيجاره للعبادة المذكورة ، وحينئذ يكون حكمهم بعدم لزوم الغسل مختصّاً بما إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد وجوب الغسل المردّد بين الطرفين ، كما يومئ إليه استدلالهم على ذلك كما في الجواهر بعدم تعارض الأُصول.

ولعلّه يشير إلى ذلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في أوائل كتاب الطهارة في مبحث الشبهة المحصورة في مقام الردّ على صاحب المدارك ، حيث إنّه قال فيها بجواز الارتكاب ، واستدلّ على ذلك بأُمور منها قوله : وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني (1) فقال المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره في مقام الردّ عليه ما هذا لفظه : وأمّا ثالثاً : فما ذكره من النقض بواجدي المني ، ففيه ما عرفت من عدم تنجّز التكليف بالنسبة إلى كلّ منهما في مثل هذا الفرض ، لخروج الطرف الآخر في حقّ كلّ منهما عن مورد ابتلائه ، فالأصل في حقّ كلّ منهما سليم عن المعارض (2).

ولعلّ ما في طهارة الشيخ قدس سره ما هو أظهر من ذلك ، فإنّه قال : ثمّ إنّ الوجه في عدم وجوب الغسل على واحد منهما ، أنّ أصالة الطهارة في كلّ واحد منهما في حقّ نفسه لا تعارضه أصالة طهارة الآخر إذا لم يكن طهارة الآخر ممّا يتعلّق به

ص: 217


1- مدارك الأحكام 1 : 107 - 108.
2- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 1 : 252.

حكمه كجواز الاقتداء به والاكتفاء به في عدد الجمعة كما سيجيء ، والأصل في ذلك ما ذكرناه في الماءين المشتبهين وفي مطلق الشبهة المحصورة ، من أنّ المعتبر في تنجيز التكليف بالأمر المعلوم إجمالاً كونه بكلا محتمليه مورداً لابتلاء المكلّف (1) ، إلى آخر ما أفاده.

ويمكن أن يقال : إنّ تسالمهم على إطلاق عدم وجوب الغسل مع أنّهم يذكرون في ذيله مسألة جواز الاقتداء ، كاشف عن أنّ بناءهم في طهارة الإمام على كفاية إحراز الإمام [ طهارة ] نفسه ، لكنّه لا يلتئم ذلك مع كلمات من منع من الاقتداء. مضافاً إلى أنّه لا يتأتّى في الاستيجار للعبادة ، إذ لا ريب على الظاهر في أنّ المدار في ذلك على الواقع ، لا على إحراز الأجير.

وفي نجاة العباد (2) من التدافع ما هو أوضح ممّا في العروة ، فإنّه قدس سره حكم بجواز اقتداء الأجنبي بأحد الشخصين ، بل بهما في فرضين ، بل في الفرض الواحد ، وحكم بعدم جواز اقتداء أحدهما بالآخر.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه إن كان إحراز المأموم شرطاً لم يجز الاقتداء في كلّ من الصورتين ، وإن كان الشرط هو إحراز الإمام كان الاقتداء جائزاً في كلّ من الصورتين. وبالجملة : الظاهر أنّه لا وجه للتفكيك بين الصورتين بالجواز في الأُولى دون الثانية ، فتأمّل.

ثمّ إنّه قدس سره قال في باب الجماعة : كما أنّه لا يجوز مع العلم بفساد صلاته لترك وضوء أو غيره وإن كان الإمام غير عالم بذلك (3) فيرد عليه ما تقدّم الإيراد به على

ص: 218


1- كتاب الطهارة 2 : 536 - 537.
2- نجاة العباد : 47.
3- نجاة العباد : 176.

شيخنا قدس سره ، إلاّأن يدفع ذلك بما دفعنا به عن شيخنا قدس سره ، من أنّ الاكتفاء باحراز الإمام إنّما هو مع عدم علم المأموم تفصيلاً بفساد صلاته ، فتأمّل.

قال المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس سره في طهارته بعد أن حكم بأنّه لا يجب الغسل عليهما ما نصّه : نعم لو كان لجنابة الغير بالنسبة إليه أثر فعلي من بعض الجهات ، كما لو أراد أن يصلّي معه جمعة ، أو يقتدي به جماعة ، أو أراد ثالث أن يقتدي بهما أو بواحد منهما ، على تقدير كون الآخر أيضاً في عرض هذا الشخص من موارد ابتلائه بالفعل ، يتعارض الأصلان بالنظر إلى هذا الأثر كما تقدّم تحقيقه في الشبهة المحصورة (1).

ولا يخفى أنّ هذا تصريح منه بأنّه في مورد ترتّب الأثر على جنابة الغير بالنسبة إلى كلّ منهما يتعارض الأصلان في حقّ كلّ واحد منهما ، فيكون العلم الاجمالي بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مؤثّراً ، وحينئذ لا يتمّ القول بعدم وجوب الغسل على كلّ واحد منهما في مورد إمكان اقتداء كلّ منهما بالآخر ، لأنّ كلاً منهما حينئذ يعلم بأنّه إمّا أن يجب عليه الغسل وإمّا أن يحرم عليه الاقتداء بصاحبه ، فيكون الحكم في مثل هذه الموارد هو لزوم الغسل وعدم جواز الاقتداء ، لا مجرّد عدم جواز الاقتداء.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّه لا محصّل لعدم جواز الاقتداء إلاّبطلان الصلاة ، فالأمر يدور بين وجوب الغسل وبطلان الجماعة ، فلا يكون في البين تكليف منجّز على كلّ تقدير ، غايته أنّه لو صلّى مقتدياً بصاحبه يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة نفسه ، وهذا لا دخل له بوجوب الغسل.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلاً : فلكفاية الوجوب الشرطي أو النهي الغيري في

ص: 219


1- مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) 3 : 241 - 242.

التنجّز إذا وقع طرفاً للعلم الاجمالي في مقابل الوجوب النفسي الذي هو الغسل كما لو علم إمّا بنجاسة هذا التراب أو كون هذا اللباس ممّا لا يؤكل لحمه ، أو كونه مجنباً أو كون ذلك اللباس ممّا لا يؤكل لحمه ، وقد حقّقنا أنّ جريان الأُصول النافية في مثل ذلك تنتهي إلى المخالفة القطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، فراجع ما حرّرناه في أوائل الاشتغال عند الكلام على الفرع المعروف وهو ما لو علم بنجاسة الماء أو كونه مغصوباً (1).

وأمّا ثانياً : فلأنّ تعارض الأُصول كافٍ في التنجّز وإن لم يكن كلّ من طرفي العلم راجعاً إلى تكليف منجّز ، فإنّ استصحاب طهارة نفسه وعدم جنابته باعتبار ترتّب عدم وجوب الغسل عليه يكون معارضاً لاستصحاب طهارة إمامه باعتبار أنّه يترتّب عليه صحّة الاقتداء به (2) ، وبعد تعارض الاستصحابين يبقى احتمال جنابة نفسه عارياً عن الحكم بعدمها ، فيلزمه الاحتياط تحصيلاً للشرط ، وليس المقام مرجعاً لأصالة البراءة من الغسل ، إذ لا يكفي مجرّد البراءة عن وجوب الغسل نفسياً في صحّة صلاة نفسه ، لما عرفت من لزوم إحراز الشرط ، وليس الشرط انحلالياً كالمانعية فيما لا يؤكل لحمه كي يقال إنّ الأصل البراءة من وجوب هذا الغسل الخاصّ ، كما يقال الأصل البراءة من مانعية هذا اللباس

ص: 220


1- في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : 525 في الحاشية على فوائد الأُصول 4 : 49.
2- كما أنّه يلزمه عدم الاقتداء بصاحبه لعدم إحرازه عدم جنابته ، وليس المنشأ في تعارض هذين الاستصحابين هو لزوم المخالفة القطعية لتكليف إلزامي كي يقال : إنّه لو بني على عدم جنابة كلّ منهما لا يلزم منه مخالفة قطعية لتكليف إلزامي ، وأنّه أقصى ما فيه أنّه يعلم بعد الفراغ من الصلاة ببطلان صلاته ، وذلك غير التكليف الالزامي ، بل إنّ المانع الموجب للتعارض هو كونهما إحرازيين [ منه قدس سره ].

الخاصّ كما حقّق ذلك في مسألة اللباس المشكوك فراجع (1). ولأجل ذلك قالوا في مسألة تعاقب الحالتين الحدث والوضوء إنّه بعد تعارض الاستصحابين يكون المرجع أصالة الاشتغال في لزوم إحراز الشرط بالنسبة إلى الصلاة.

وأمّا ثالثاً : فلأنّه بناءً على تسليم عدم كفاية النهي الغيري أو الوجوب الشرطي في تنجيز العلم الاجمالي ، لا يتّجه ما حكموا به في الفرع الثالث ، وهو المنع من اقتداء الأجنبي بأحدهما ، فتأمّل.

وقد وجّه بعض أعاظم العصر (2) الحكم بعدم وجوب الغسل مع المنع من اقتداء أحدهما أو أحدهم بالآخر ، بناءً على كون الشرط هو الطهارة الواقعية من الإمام أو إحراز المأموم ذلك. أمّا في صورة كونهما اثنين ، فالوجه فيه هو انحلال العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الغسل على المأموم أو المنع من اقتدائه بذلك الإمام ، إلى العلم التفصيلي ببطلان صلاته خلف ذلك الإمام وأنّه ممنوع عنها إمّا لجنابته أو لجنابة إمامه ، ويبقى احتمال وجوب الغسل عليه مشكوكاً فينفى بالبراءة.

وأمّا في صورة كونهم ثلاثة مثلاً ، فلأنّ المنع من صلاة أحدهم مقتدياً بالآخر وإن لم يكن معلوماً بالتفصيل ، إلاّ أنّه محتمل على كلّ من تقديري جنابة المأموم وعدمه ، فإنّه على تقدير عدم جنابة المأموم يكون اقتداؤه بذلك الإمام محتمل المنع ، لاحتمال كونه هو المجنب دون الثالث ، وعلى تقدير جنابة المأموم

ص: 221


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 203 - 204 ، وسيأتي تعليق المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 329 وما بعدها.
2- هو الأُستاذ المرحوم آقا ضياء الدين العراقي قدس سره عندما جرت المذاكرة معه في هذه المسألة في بعض المجالس [ منه قدس سره ].

أيضاً تكون صلاته المذكورة ممنوعاً منها.

وبعبارة أوضح : أنّ المأموم يحتمل المنع عن صلاته المذكورة سواء كان هو المجنب أو لم يكن هو المجنب ، وكذلك يحتمل المنع من صلاته المذكورة سواء كان إمامه هو المجنب أو لم يكن المجنب هو إمامه ، وحيث كان ذلك الاحتمال منجّزاً لكونه في ضمن العلم الاجمالي كان ذلك موجباً للانحلال ، للزوم الجري على طبقه ، فيبقى احتمال جنابة المأموم ولزوم الغسل عليه مشكوكاً فينفى بالبراءة ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون الاحتمال في أحد أطراف العلم الاجمالي منجّزاً بمثل قاعدة الاشتغال ونحوها ، أو بعلم إجمالي سابق أو نحو ذلك.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا في صورة كونهما اثنين ، فلأنّ العلم التفصيلي بالمنع من صلاة المأموم صوري لا واقعية له ، وإنّما حقيقة الأمر هو العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الغسل عليه أو المنع من الاقتداء. والحاصل : أنّه لا معنى للقول بأنّ المجنب ممنوع من الصلاة الواجبة عليه ، فإنّ ذلك مناقض لما هو معلوم من وجوبها ووجوب ما تتوقّف عليه من المقدّمات التي منها الغسل ، فلا معنى للقول بأنّ هذا المأموم ممنوع من الصلاة على كلّ حال ، بل هو إمّا أن يجب عليه الغسل أو يحرم عليه الاقتداء بذلك الإمام.

وبعين ذلك يجاب عمّا إذا كانوا ثلاثة ، فإنّ المنع من تلك الصلاة المفروض احتماله على كلّ من تقديري جنابة المأموم وعدمه أيضاً لا واقعية له ، حيث إنّ المنع على تقدير جنابة المأموم ليس إلاّعين الأمر بالغسل ، لا أنّه تكليف آخر مرتبط باقتدائه بذلك الإمام. فعلى تقدير كون المأموم جنباً لا يتوجّه له النهي عن الاقتداء ، بل يتوجّه إليه الأمر بالغسل.

ص: 222

ولكن الإنصاف أنّ هذا الجواب محتاج إلى التأمّل ، إذ لم يظهر الفرق بين النهي عن الصلاة لكونها فاقدة للشرط الذي هو طهارة المأموم نفسه ، وبين النهي عنها لكونها فاقدة للشرط الآخر الذي هو طهارة الإمام ، فيكون الحاصل أنّه يعلم تفصيلاً بالمنع من تلك الصلاة ، سواء كان ذلك لفقدان شرطها الأوّل أو كان لفقدان شرطها الثاني. وبذلك يتمّ الاحتمال المذكور فيما لو كانوا ثلاثة.

نعم ، يمكن الإشكال عليه بأنّ هذا الاحتمال لو كان منجّزاً من طريق آخر غير العلم الاجمالي لأمكن القول بكونه موجباً لانحلاله ، أمّا إذا لم يكن تنجّزه إلاّ من قبل هذا العلم ، فكيف يعقل كونه موجباً لانحلاله.

ويشهد بذلك : أنّه لا ريب على الظاهر في لزوم الاجتناب عن الاناءات الثلاثة التي علم بوقوع قطرة بول فيها ، مردّدة بين كونها واقعة في واحد غير معيّن منها أو أنّها وقعت منصفة في الكبير والصغير دون المتوسّط ، فإنّ كلاً من الكبير والصغير محتمل النجاسة على كلّ من تقديري التنصيف وعدمه ، فبناءً على ما تقدّم ينبغي أن يقال بلزوم الاجتناب عنهما دون المتوسّط ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا جميع ذلك لم يمكننا القول بأنّه بعد الانحلال يكون المرجع هو أصالة البراءة عن الغسل ، بل المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ولزوم إحراز الشرط بالنسبة إلى ما يأتي به من الصلاة ولو منفرداً بعد الحكم ببطلان اقتدائه بصاحبه كما تقدّم تفصيله ، فتأمّل فإنّي نقلت ذلك فعلاً عمّا كنت حرّرته سابقاً عن تلك المذاكرة المجلسية ، ولعلّ مراده غير هذا الذي حرّرته ، أو أنّه لم يكن ذلك منه قدس سره إلاّمن باب صِرف المذاكرة المجلسية التي ربما كانت عن غير تأمّل ولا رويّة ، وإن كان الذي ببالي أنّ ذلك لم يكن في مجلس واحد ، بل كان ذلك في مجالس خميسية يفصل بينها الأسبوع التامّ.

ص: 223

والحاصل : أنّه لا محصّل لكون المرجع في الشكّ في وجوب الغسل هو البراءة ، بل اللازم هو الغسل تحصيلاً للشرط ، اللّهمّ إلاّأن يكون مراده هو الرجوع إلى استصحاب عدم الجنابة. كما أنّه لا محصّل للقول بأنّ الصلاة معلومة البطلان تفصيلاً ، وأنّ ذلك موجب لانحلال العلم الاجمالي ، فإنّ ذلك عبارة أُخرى عن كون تلك الصلاة موجبة للمخالفة القطعية الناشئة من جريان استصحاب عدم الجنابة في حقّه وفي حقّ إمامه ، لأنّ تلك الصلاة واجدة لكلتا الجهتين ، فإنّها إمّا مخالفة لقوله اغتسل ، أو مخالفة لقوله لا تقتد بالجنب ، فلا يكون في صلاته الواجدة لهاتين الجهتين إلاّكمن علم بنجاسة هذا الاناء ، أو كون هذا الثوب ممّا لا يؤكل ، فتوضّأ من ذلك الاناء وصلّى بذلك الثوب ، أو كمن علم بأنّه مجنب أو أنّ هذا الثوب ممّا لا يؤكل لحمه فصلّى فيه ، فيقال إنّ علمه الاجمالي ينحلّ إلى العلم التفصيلي ببطلان تلك الصلاة ، والشكّ البدوي في وجوب الغسل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو جعلنا الطرف لوجوب الغسل عدم صحّة استيجار الآخر للعبادة ، لم يتأتّ الانحلال المذكور ، كما أنّه لو جعلنا أحد التكليفين حرمة مسّ المصحف والتكليف الآخر عدم استيجار الطرف للعبادة لكان العلم غير منحلّ.

قوله : فأصالة عدم الجنابة في كلّ من الشخصين تعارض أصالة عدمها في الشخص الآخر ... الخ (1).

وحينئذ لا يمكن الحكم بصحّة جمعتهم ، بل قد يقال بسقوط الجمعة ، لعدم الحصول على صحّة صلاة العدد المعتبر. لكن هل يصلّون ظهراً؟ فيه إشكال فإنّه كيف يصحّ لكلّ واحد منهم الظهر مع فرض أنّه قد سقط في حقّه استصحاب عدم الجنابة. وإن شئت فقل : إنّ تعارض الأُصول الموجب لسقوطها

ص: 224


1- فوائد الأُصول 3 : 82.

كافٍ لكلّ واحد منهم في وجوب الغسل عليه. وبتقريب آخر : أنّ كلاً منهم يعلم إجمالاً أنّه إمّا يجب عليه الغسل والجمعة مع أصحابه إن كان هو الجنب ، وإن كان الجنب غيره وجب عليه الظهر ، فإذا أجرى كلّ واحد منهم هذا العلم الاجمالي في حقّ نفسه انحلّت المسألة ، حيث إنّ كلّ واحد منهم لو اغتسل تعيّن الجمعة على الجميع.

قوله : وتنصيف الدرهم الآخر بين مالك الدرهم والدرهمين بالسوية كما في رواية السكوني (1) لابدّ من حمله على صورة عدم خلط الدراهم ، وإلاّ كان الحكم فيه التثليث ... الخ (2).

قد ذكر الشيخ (3) مسألة درهم الودعي في الشبهة المحصورة ، واحتمل فيها الشركة. ولكن أغلب المحشّين يوردون عليه بأنّ مقتضى الشركة هو التثليث لا التنصيف ، والأخبار والفتاوى دالّة على التنصيف.

وقد تعرّض في الجواهر (4) لهذه المسألة في كتاب الصلح ، وأشبع الكلام فيها ، ونقل عن الشهيد قدس سره في الدروس أنّه نقل عن الفاضل قدس سره في أحد قوليه الحمل على الشركة والقسمة بالتثليث ، واستبعده الشهيد ، ونقل في الجواهر أيضاً عدم معقولية الشركة عن بعض الفقهاء. ثمّ إنّ صاحب الجواهر قدس سره عقّب كلام الشهيد بما يستفاد منه أنّه يمكن حمل الأخبار والفتاوى القائلة بالتنصيف على ما

ص: 225


1- وسائل الشيعة 18 : 452 / كتاب الصلح ب 12 ح 1.
2- فوائد الأُصول 3 : 84.
3- فرائد الأُصول 2 : 208.
4- جواهر الكلام 26 : 225 - 227.

إذا لم يكن في البين مزج ، ثمّ تكلّم هنا وفي باب الشركة (1) في حصول الشركة بخلط المثليات كالدراهم والقيميات كالثياب ، هذا.

ولكن قد يقال : إنّ حمل الأخبار والفتاوى القائلة بالتنصيف على صورة عدم المزج حمل على فرض بعيد ، فإنّه مع انفراد درهم أحد المالكين عن درهمي المالك الآخر ، يكون الدرهم التالف معلوم الحال ، وأنّه من أيّ مالك كان. لكن يمكن أن يكون كلّ من الدرهمين موضوعاً في محلّ منفرد ، ويكون الدرهم الآخر منفرداً أيضاً في مكان على حدة ، وقد تلف واحد منها ، مع كون الاثنين لمالك والدرهم الآخر لمالك آخر ، ففي مثل هذه الصورة لا يكون التالف معلوم الحال مع فرض عدم حصول المزج ، وهكذا فيما لو كانت كلّها في مكان واحد ، وكان الودعي قد جعل الدرهم فوق الاثنين مثلاً ثمّ طرأ التلف بالسرقة ونحوها على واحد ، وتردّد بين كونه من الوسط أو الأسفل أو الأعلى ، إلى غير ذلك من الصور التي يتصوّر فيها اشتباه التالف مع فرض عدم المزج.

وقد ظهر لك من جميع ذلك : أنّ ميزان الشركة هو المزج الخارجي بين المالين على وجه لا يتميّز أحدهما عن الآخر ، كما أفاده بقوله : نعم الحكم بالشركة يختصّ بصورة الخلط ، وأمّا في صورة اشتباه المالين وعدم تميّز أحدهما عن الآخر بلا خلط فالحكم فيها هو التصالح أو القرعة الخ (2) وهذا واضح لا ريب [ فيه ] لكن تبقى في المقام مناقشة في التعبير بقوله في صدر العنوان : أن لا يكون للعلم بالخصوصية دخل في الحكم ، بحيث كان إجمال المتعلّق ممّا يقتضي تبدّل الحكم - إلى قوله - هو أنّ الملكية لمّا كانت من الأُمور الاعتبارية العرفية كان

ص: 226


1- جواهر الكلام 26 : 227 ، 293 - 294.
2- فوائد الأُصول 3 : 84.

إجمال الخصوصية موجباً لبطلانها الخ (1) كلّ هذه العبائر ظاهرة في أنّ مجرّد الجهل بالخصوصية موجب لبطلان الملكية فيها ، لكن ذلك لا يضرّ بعد تصريحه أخيراً بقوله : نعم الحكم بالشركة يختصّ بصورة الخلط الخ ، كما هو صريح عبارته في حاشية العروة من كتاب الشركة ، قال فيها : الظاهر أن يكون الامتزاج الموجب لعدم تميّز المالين اختيارياً كان أو قهرياً ، موجباً لخروج كلّ منهما في نفس الأمر عن صلاحية الاختصاص بمالكه ، وكون الشركة حينئذ واقعية لا ظاهرية مطلقاً ، والظاهر أن يكون خلط الدرهم ونحوه بمثله موجباً للشركة ، ولا يكون من مجرّد الاشتباه مع بقاء كلّ من الممتزجين على الاختصاص النفس الأمري بمالكه (2).

ولكن لابدّ في إثبات ذلك بنصّ وإجماع ونحوهما ، وإلاّ فليس في البين ما يوجب الاشاعة على القاعدة ، إذ لم يكن هذا الخلط والمزج إلاّموجباً لعدم تميّز المالين خصوصاً في مثل خلط الدرهم بدرهم آخر ، فأيّ فرق بين أن يكون عدم تميّز أحد الدرهمين عن الآخر ناشئاً عن خلط أحدهما بالآخر ، أو أن يكون ناشئاً عن غير ذلك مثل النسيان ونحوه.

قوله : أن لا يكون في البين ما يوجب بطلان اقتضاء العلم الاجمالي وسقوطه عن الأثر من التحالف وحكم الحاكم والاقرار ، المستتبع لتنصيف المال أو فسخ العقد المتنازع فيه ... الخ (3).

قلت : والأولى في جميع هذه الموارد أنّ الحكم بالتنصيف في مورد قاعدة

ص: 227


1- فوائد الأُصول 3 : 83.
2- العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) 5 : 273.
3- فوائد الأُصول 3 : 84.

العدل - أعني المال المردّد بين شخصين - إمّا أن يكون من قبيل الصلح القهري بأن يتولّى الحاكم الشرعي إجراء صيغة الصلح عنهما ولو من دون رضاهما ، أو أنّه يحكم بذلك ، أو أن يكون المحكوم به هو نتيجة الصلح وصيرورة غير المالك مالكاً للنصف شرعاً من باب التعبّد الصرف ، وإن لم يكن في البين منازعة أو خصومة. وعلى أي حال ، يكون كلّ منهما مالكاً للنصف واقعاً ، غايته أنّه لو كان أحدهما عالماً بالخلاف وأنّه كان مبطلاً في دعواه ، قد نقول إنّه يكون خارجاً عن الحكم المذكور ، بمعنى أنّ علمه بذلك يوجب عدم نفوذ الصلح القهري في حقّه أو عدم جريان ما هو نتيجة الصلح القهري في حقّه ، فلا يكون مالكاً للنصف ، بل يكون باقياً على ملك مالكه ، وليس ذلك الاختصاص منافياً لكون الحكم في المسألة حكماً واقعياً ، لإمكان كونه حكماً واقعياً مختصّاً بمن لا يكون عالماً بكونه مبطلاً حين الحكم المزبور.

ولأجل ذلك نقول : إنّه لو علم بذلك بعد أن جرى الحكم في حقّه كما لو أجرى الحاكم صيغة الصلح عنهما ، أو كما لو اقتسما المال عملاً بقاعدة العدل وأخذ كلّ منهما نصفه ، ثمّ بعد ذلك ظهر الخلاف لأحدهما وأنّه كان مخطئاً في دعواه ، فإنّه لا أثر لذلك.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا أثر للانكشاف القطعي بعد ذلك ، ولا لاقرار أحدهما بخلاف ما وقع. ومنه يظهر التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره. نعم لو قام الدليل على ترتّب الأثر على ذلك ، كان اللازم جعل ذلك من قبيل الانفساخ القهري ، فلاحظ وتأمّل.

وبناءً على ذلك لا إشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث لو اشترى من كلّ منهما النصف ، لأنّه يكون قد اشتراه من مالكه الواقعي الذي قد ملكه بالصلح

ص: 228

القهري أو بالتمليك الشرعي الذي هو نتيجة الصلح ، سواء كان الثالث عالماً بالخلاف أو لم يكن عالماً به. نعم لو كان ذلك الثالث عالماً بأنّ أحد الشخصين معيّناً كان حين الحكم عالماً بأنّه مبطل ، وقلنا بأنّ ذلك مخرج له من الحكم ، لم يجز له الأخذ منه ، لأنّه يعلم أنّه ليس بمالك ، ولازم ذلك أنّه لو علم به على الاجمال لم يجز له الأخذ من كلّ منهما.

ومنه يظهر لك الحال في التنصيف في مورد التداعي والتحالف على العين الواحدة التي تداعياها ، فإنّه حكم شرعي واقعي بما هو نتيجة الصلح من التنصيف بينهما.

وبالجملة : أنّ التنصيف لا يمكن القول بكونه حكماً ظاهرياً ، للعلم بكونه على خلاف الواقع ، فلابدّ من الالتزام بكونه حكماً واقعياً بأحد الأنحاء المذكورة. لكن إخراج العالم ببطلان دعوى نفسه يوجب إخراج الطرفين عنه ، إذ لا يعقل التفكيك ، وحينئذ يكون جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الغير من قبيل الحكم الظاهري ، فمن علم بأنّ أحدهما ولو إجمالاً كان عالماً بأنّه مبطل في دعواه ، لا يجوز له الأخذ منهما معاً. نعم في صورة إجراء الصلح بينهما على ذلك يكون سالماً عن هذا الإشكال فتأمّل. وكذلك الحال في صورة حكم الحاكم بالتنصيف قطعاً لمادّة الخصومة ، فإنّه حينئذ يكون موجباً للملكية الواقعية حتّى بالنسبة إلى من علم ببطلان دعوى نفسه. بل وكذلك الحال في التداعي المنتهي إلى الحكم بانفساخ العقد ، فإنّه حكم شرعي واقعي بما هو نتيجة التقايل ، أعني رجوع كلّ عوض إلى مالكه قبل العقد.

وأمّا مسألة الاقرار فالظاهر أنّه لا يتأتّى فيها التقريب المتقدّم ، إلاّعلى تقدير كون إقرار صاحب اليد على العين سبباً مملّكاً للعين لمن أقرّ له بها تمليكاً واقعياً.

ص: 229

والظاهر أنّه لا يمكن الالتزام به ، وحينئذ ينبغي البحث في المقرّ له أوّلاً ، ومنه يعرف الحال في المقرّ له ثانياً.

فنقول بعونه تعالى : لو أقرّ صاحب اليد على العين بأنّها لزيد مثلاً ، فزيد تارةً يكون قاطعاً بالخلاف بأن يكون قاطعاً بأنّها ليست له ، وتارةً يكون شاكّاً في ذلك ، وثالثة يكون قاطعاً بأنّها له. ففي الصورة الأُولى لا يجوز له أخذها وإن وجب على المقرّ دفعها له. والظاهر أنّ الحكم كذلك في الصورة الثانية ، نظراً إلى أصالة الحرمة في الأموال ، إلاّأن نقول : إنّ الاقرار من ذي اليد يكون أمارة على أنّه مالك للعين ، فيجوز له حينئذ أخذها بهذا الاعتبار ، لكن لو سوّغنا له أخذها بهذا الاعتبار ، فلا يمكننا القول بأنّه يسوغ له أن يأخذ بدلها بطريق الشراء مثلاً من المقرّ له ثانياً ، للعلم الاجمالي بخطأ أحد الاقرارين. وأمّا في الصورة الثالثة ، وهي ما لو كان المقرّ له أوّلاً قاطعاً بأنّ العين له ، فلا إشكال في أنّه يجوز له أخذها وإن لم يكن في البين إقرار ، ولا أثر للاقرار في حقّه إلاّمن حيث إنّ الاقرار يكون نافذاً على صاحب اليد الذي هو المقرّ بلزوم رفعه يده عنها وتسليمها له ، لكن لا يجوز له حينئذ أن يأخذها من صاحب اليد ويأخذ بدلها من المقرّ له ثانياً بطريق الشراء مثلاً ، لأنّ مقتضى قطعه بأنّه هو المالك للعين هو عدم استحقاق الثاني لأخذ البدل.

ومن ذلك كلّه يظهر الحال في المقرّ له ثانياً ، فإنّا لو أغضينا النظر عن شبهة شيخ الطائفة قدس سره كما حكاه عنه الآشتياني قدس سره في حاشيته على الرسائل (1) بأنّ الاقرار الثاني غير نافذ لكونه من قبيل الاقرار في حقّ الغير ، وقلنا بنفوذ الاقرار الثاني أيضاً كالأوّل ، نقول : إنّ المقرّ له ثانياً يتأتّى فيه الصور الثلاث المذكورة ، فلو كان

ص: 230


1- بحر الفوائد 1 : 52.

قاطعاً بالخلاف لم يجز له أخذ البدل ، وكذلك لو كان شاكّاً ، إلاّإذا قلنا بأمارية إقرار ذي اليد ، فيسوغ له حينئذ أخذ البدل ، وكذلك يسوغ له أخذه لو كان قاطعاً بأنّه هو المالك للعين.

لكن الظاهر أنّه يسوغ له مع ذلك أن يشتري العين من المقرّ له أوّلاً ، أمّا في في صورة القطع بأنّه هو المالك ، فلأنّه بحسب قطعه يكون مالكاً للبدل ، لكون صاحب اليد قد فوّتها عليه باقراره الأوّل ، فيملك عليه بدلها ، ومع ذلك يصحّ له أن يأخذها من الأوّل باستيهاب أو شراء ونحوه ، لأنّ هذا تملّك جديد لا ينافي كون صاحب اليد قد فوّتها عليه.

وفي صحّة أخذها من الأوّل قهراً أو سرقة إشكال. ولو سوّغناه لزمه إرجاع البدل إلى صاحب اليد ، لأنّ هذا التملّك ليس تملّكاً جديداً. وفيه تأمّل ، بل يمكن التأمّل في كون الاستيهاب أو الشراء من الأوّل تملّكاً جديداً ، لأنّه بحسب قطعه لم يقع إلاّعلى ملكه ، فتأمّل.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ أخذه البدل بمنزلة معاوضة قهرية بناءً على مسلك الشيخ أسد اللّه التستري في مطلق باب الضمان ، أو نقول بذلك في خصوص المقام أعني الاقرار الثاني ودفع الغرامة فيه ، وحيث إنّا لا نقول بشيء من ذلك ، فلا يكون أخذ العين من المقرّ له أوّلاً بصورة الاستيهاب أو الشراء إلاّاستنقاذاً لعين ماله ، فيكون حاله من هذه الجهة حال أخذها بصورة السرقة في أنّه يلزمه إعادة البدل إلى المقرّ ، وحينئذ يكون الحاصل أنّ المقرّ له ثانياً في صورة كونه عالماً بكونه مالكاً للعين لا يمكنه أن يجمع بين العين وبدلها حتّى في صورة إرثه للمقرّ له أوّلاً.

ومنه يظهر الحال في صورة كونه شاكّاً وتسويغ أخذه البدل بناءً على أمارية

ص: 231

الاقرار ، فإنّ الظاهر أنّه لا يسوغ له مع أخذه البدل أن يشتريها أو يستوهبها من المقرّ له أوّلاً ، لأنّه على تقدير كونه هو المالك للعين كما هو مقتضى أمارية الاقرار لا يسوغ له ذلك على ما عرفت في صورة القطع. نعم على تقدير كون المالك هو الأوّل لا يسوغ له أن يأخذ البدل من صاحب اليد ، لكن أمارية الاقرار حاكمة بإلغاء هذا الاحتمال. فقد تلخّص أنّه لا يمكن اجتماع الطرفين عند واحد من المقرّ لهما.

وعلى أي حال ، ففي أيّ موضع حكمنا للمقرّ له أوّلاً أو للمقرّ له ثانياً أخذ العين أو أخذ البدل وقد أخذه ، ثمّ بعد ذلك ظهر له الخلاف ، وجب إرجاع ما أخذه ، إلاّعلى تقدير كون الاقرار سبباً مملّكاً تمليكاً واقعياً ، والظاهر أنّه لا وجه له.

ومن ذلك يظهر لك الحال في الشخص الثالث ، فإنّه لا يجوز له الأخذ ممّن علم بأنّ الاقرار له على خلاف الواقع ، كما أنّه لو لم يكن عالماً بشيء من ذلك فلا يجوز له الأخذ من كلّ منهما ، لأنّه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي بخطأ أحد الاقرارين. وهل يجوز له الأخذ من أحدهما فقط؟ الظاهر أنّه لا يجوز له ذلك ، للعلم الاجمالي بعدم مالكية أحدهما الموجب للزوم الاجتناب عنهما. لكن شيخنا قدس سره قد أصلح ذلك ، بدعوى كون التملّك من المقرّ له تملّكاً واقعياً ، وإن كانت ملكية المقرّ له ملكية ظاهرية ، إلاّفي صورة العلم التفصيلي ، وسيأتي إن شاء اللّه وجه التأمّل فيه. وينبغي مراجعة كلمات الفقهاء في جميع ذلك ، لأنّي حرّرت ذلك على حسب ذوقي الفاتر وفهمي القاصر من دون مراجعة كلماتهم الشريفة.

وعلى أي حال ، فإنّ الالتزام بكون تلك الأحكام أحكاماً واقعية لا يخلو من

ص: 232

بُعد ، وأبعد منه تقييدها بعدم العلم بالخلاف. إلاّ أنّه بعد ثبوت التنصيف في مثل مسألة درهم الودعي وفي كلّ ما وقع التداعي عليه بعد التحالف ، لا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بما تقدّم من كون المقام مورداً للصلح القهري ، أو كونه من قبيل الحكم من الحاكم بأن يكون غير المالك مالكاً للنصف ، أو أنّه من قبيل الحكم التعبّدي من الشارع بانتقال النصف إلى من هو غير مالك ، كلّ ذلك [ لابدّ ] من الالتزام بشيء منه بعد فرض محالية كون التنصيف حكماً ظاهرياً ، وبعد تمامية أحد هذه الوجوه لا داعي إلى خروج من كان عالماً ببطلان دعواه.

أمّا مسألة الاقرار فحيث إنّ احتمال كون الحكم ظاهرياً لا مانع فيه ، فلا موجب للالتزام بكونه حكماً واقعياً ، وأقصاه أنّه لا يجوز للثالث الجمع بين العوض والمعوّض ، ولم يقم دليل قطعي على جواز ذلك لكي نضطرّ إلى تصحيحه بالتشبّث بكون الحكم فيه واقعياً.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما التزم به شيخنا قدس سره في مسألة التنصيف في صورة تأخّر الاقرار بالخلاف أو الانكشاف القطعي بقوله : فإنّ الاقرار أو الانكشاف القطعي يكون بمنزلة فسخ العقد الخ (1) ، فإنّ ذلك كلّه وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه من البعد ، وهو كون الحكم الواحد واقعياً بالقياس إلى الثالث وظاهرياً بالقياس إلى المحكوم له كما التزم به قدس سره بقوله : نعم بالنسبة إلى المحكوم له يكون حكم الحاكم بمنزلة الحكم الظاهري ، له التصرّف في النصف المحكوم له ما لم يعلم بالخلاف وأنّ دعواه كانت بلا حقّ (2) ، وقد التزم بمثل ذلك في مسألة تعدّد الاقرار فجعله ظاهرياً في حقّ المقرّ له وواقعياً في حقّ غيره ، فقال : وأمّا في

ص: 233


1- فوائد الأُصول 3 : 85.
2- فوائد الأُصول 3 : 85.

حقّ غير المقرّ له فيجري الاقرار مجرى السبب الواقعي (1) ، لكنّه قيّده بصورة عدم العلم ببطلان أحد الاقرارين تفصيلاً.

وفيه تأمّل ، فإنّ كون الحكم الظاهري في حقّ شخص موضوعاً لحكم واقعي في حقّ آخر وإن كان غير عزيز ، كما تقدّم في طهارة الإمام بالنسبة إلى صحّة صلاة المأموم ، بحيث التزمنا بأنّ التملّك ممّن هو مالك ظاهراً يكون تملّكاً واقعياً ، وأغضينا النظر عمّا فيه من البعد ، إلاّ أنّ ذلك الحكم الواقعي لا يكون مقيّداً حينئذ بعدم العلم بالخلاف ، لأنّ هذا القيد عبارة أُخرى عن كون الحكم ظاهرياً ، ومقتضى كون الحكم ظاهرياً بالنسبة إلى الثالث أنّه لا يجوز له الجمع بين العين المقرّ بها للأوّل ، مع القيمة التي أخذها الثاني. لكن شيخنا دفع هذا الإشكال بدعوى كون القيد هو عدم العلم التفصيلي ، على وجه يكون الآخذ من كلّ من المقرّ لهما مالكاً ملكاً واقعياً إلاّإذا علم تفصيلاً ببطلان الإقرار في حقّ أحدهما المعيّن. ولا يخفى بعده ، إلاّ أنّه بعد قيام الدليل على صحّة الأخذ منهما لابدّ من الالتزام بذلك. ولا يخفى بعده ، فإنّه يلزمه أنّه في صورة تأخّر العلم التفصيلي عن الأخذ تكون المسألة من قبيل تبدّل الموضوع ، هذا.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر من هذا التحرير هو كون الاقرار بالنسبة إلى المقرّ له طريقاً صرفاً ، وأنّ له نحواً من السببية بالنسبة إلى غيره الآخذ منه ، فيكون تملّك الآخذ من المقرّ له تملّكاً واقعياً ، وإن كان تملّك المأخوذ منه تملّكاً ظاهرياً.

والذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس سره وممّا حرّره عنه في التقريرات المطبوعة في صيدا (2) أنّ للاقرار حكم السببية بالنسبة إلى المقرّ له.

ص: 234


1- فوائد الأُصول 3 : 85.
2- أجود التقريرات 3 : 106 - 107.

وعلى كلّ حال ، يتوجّه عليه قدس سره الإشكال فيما لو أقرّ لزيد بعين تحت يده ، ثمّ أقرّ بعين أُخرى لشخص آخر وعلمنا بكذبه في أحد الاقرارين ، فإنّ لازم كلّ من هذين الوجهين هو أنّه يجوز لثالث الأخذ منهما ، ويتملّك كلاً من العينين تملّكاً واقعياً مع علمه بكذب أحد الاقرارين ، ولا أظنّ أنّه قدس سره يلتزم بذلك. وهذه الإشكالات إنّما جاءت من دعوى أنّه يمكن للثالث الجمع بين العين والقيمة ، وهذا الحكم لم أعثر عليه في كلمات صاحب الجواهر ، ولعلّه من الشيخ قدس سره (1) من قبيل الأخذ باللازم ، وحينئذ يمكن المنع من هذا اللازم ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال أعني إشكال الجمع بين العين والقيمة عند الثالث من حيث منافاته للعلم الاجمالي بأنّ أحدهما غير مالك ، لا يتأتّى في أصل الحكم على المقرّ بدفع العين للمقرّ له أوّلاً. ودفع بدلها للمقرّ له ثانياً ، بأن يقال إنّا نعلم إجمالاً بأنّ أحد الحكمين غير مطابق للواقع ، لأنّ العين إن كانت ملكاً للأوّل فلا وجه لدفع القيمة للثاني ، وإن كانت ملكاً للثاني فلا وجه لدفعها للأوّل ، وبيان عدم تأتّي الإشكال المزبور فيه ، هو أنّ ذلك الحكم من جهة الحكم الظاهري المسبّب عن إقراره ، ولا مانع من الجمع بين حكمين ظاهريين يعلم بكون أحدهما خلاف الواقع ، نظير ما لو علم باشتغال ذمّته لأحد الشخصين بدرهم ، فإنّ الحكم عليه بلزوم دفع درهمين يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما خلاف الواقع.

تكميل : قد أشرنا (2) إلى الشبهة التي نقلها الآشتياني قدس سره عن الشيخ قدس سره ، فالأولى نقل نصّ عبارته قال : وأمّا بناءً على مذهب الشيخ قدس سره من لغوية الاقرار ثانياً ، من حيث إنّ مقتضاه تملّك نفس المقرّ به للمقرّ له ثانياً ، وإعماله بالنسبة إليه

ص: 235


1- فرائد الأُصول 1 : 81.
2- في الصفحة : 230.

غير ممكن من حيث تعيّنه للاقرار الأوّل ، والانتقال بالمثل أو القيمة فرع اعتبار الاقرار الثاني وهو غير ممكن ، فلا دخل له بالفرض أصلاً كما لا يخفى (1).

قلت : لم أجد هذا القول محكياً في الجواهر عن الشيخ الطوسي قدس سره ، وليس مراده به الشيخ المرتضى قدس سره ، لأنّه يعبّر عنه بالأُستاذ ( دام ظلّه ) لا بالشيخ رحمه اللّه. نعم ذكر في المسالك (2) هذه الشبهة احتمالاً ، ونقلها في الجواهر (3) عن أبي حنيفة. بل قال في المختلف : إذا قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو ، قال الشيخ : يحكم بها للأوّل ويغرمها للثاني ، لأنّه حال بينه وبينها باقراره الأوّل ، ثمّ نقل مذهب ابن الجنيد من التفصيل بين كون المقرّ حياً وكونه ميتاً ، ثمّ قال : والمعتمد الأوّل ( وهو قول الشيخ ) لنا أنّه رجوع عن إقراره فلا يصحّ ، ولأنّه إقرار في حقّ الغير ، إذ قد ثبت لزيد بالاقرار الأوّل ، فلا ينفذ عليه (4).

ومراده بعدم صحّة الاقرار الثاني ، عدم ترتيب الأثر عليه في أخذ العين للثاني ، وكذا مراده بقوله : لأنّه إقرار في حقّ الغير الخ ، فإنّ قوله : لا ينفذ عليه ، أنّ الاقرار الثاني لا ينفذ على المقرّ له أوّلاً بأخذ العين منه ، وإن نفذ في حقّ المقرّ بأخذ البدل منه.

ومن ذلك يتّضح الجواب عن أصل الشبهة كما أفاده في الجواهر (5) وحاصل الكلام : أنّ كون الاقرار الثاني إقراراً في حقّ الغير لا ينفي إلاّعدم سلطنة

ص: 236


1- بحر الفوائد 1 : 52.
2- مسالك الافهام 11 : 110.
3- جواهر الكلام 35 : 131.
4- مختلف الشيعة 5 : 541 / مسألة 252 ، المبسوط 3 : 17.
5- جواهر الكلام 35 : 131.

الثاني على أخذ العين من الأوّل ، لكن ذلك لا ينافي نفوذه على نفس المقرّ ولو بالزامه بدفع بدل العين له. وقد حكى في الجواهر الإجماع على ذلك.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة الشرائع (1) وإن كان هو الاقرار المتّصل بالاقرار الأوّل ، إلاّ أنّ محلّ النزاع هو الأعمّ ، كما ربما يظهر ذلك من الجواهر ، فإنّه قدس سره يقول في أثناء الكلام : واتّصال الكلام لو أثّر لاقتضى الاختصاص بالثاني الذي هو مقتضى رجوعه بل واستقرّ عليه الخ (2) ، فإنّ هذه الجملة ظاهرة في أنّه لا خصوصية لاتّصال الكلام ، فراجع وتأمّل.

قوله : وينبغي ختم الكلام في مباحث العلم الاجمالي بالتنبيه على أمر ، وهو أنّه لو تردّد المعلوم بالاجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر وبين ما يكون بوجوده العلمي ، كما لو تردّد حال الثوب بين الغصب والنجاسة ... الخ (3).

قد يقال : إنّ نجاسة الثوب كغصبيته إنّما تؤثّر بوجودها العلمي ، لكن نظره قدس سره إنّما هو فيما لو صلّى ناسياً ذلك المعلوم بالإجمال ، ثمّ بعد الفراغ علم بأنّ الثوب كان نجساً ، فإنّه على تقدير كون النجاسة معلومة بالتفصيل سابقاً ثمّ طرأ النسيان تكون الصلاة باطلة ، وبهذا المقدار يكون أثر النجاسة تابعاً لوجودها الواقعي ، وكلامه قدس سره في هذا الفرع إنّما هو من هذه الناحية ، أعني ناحية نسيان المعلوم الاجمالي ثمّ بعد الفراغ يتبيّن له نجاسة الثوب ، وإلاّ كان الأنسب هو التمثيل لذلك بالماء المردّد بين النجاسة والغصبية ، فإنّ النجاسة بالنسبة إلى

ص: 237


1- شرائع الإسلام 3 : 141.
2- جواهر الكلام 35 : 131.
3- فوائد الأُصول 3 : 86.

الوضوء تؤثّر بوجودها الواقعي ، بخلاف الغصبية.

وكيف كان ، فالكلام في كلّ من هذين الفرعين تارةً يكون بالنظر إلى الإقدام على الصلاة في ذلك الثوب أو الوضوء بذلك الماء ، مع فرض وجود العلم الاجمالي ، وأُخرى يكون بعد الفراغ بمعنى كون هذا العلم الاجمالي طارئاً بعد الفراغ.

أمّا الكلام في الجهة الأُولى : فقد حقّق في محلّه أنّه لا يجوز الإقدام ، لمعارضة أصالة الطهارة بأصالة الاباحة ، وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في محلّه عند الكلام على فتوى المرحوم الشيخ محمّد طه نجف قدس سره في جواز الوضوء بمثل ذلك الماء ، فراجع ما حرّرناه على التنبيه الأوّل من تنبيهات الاشتغال من هذا الكتاب (1).

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : أعني ما لو حصل العلم بعد الفراغ ، ففي مسألة ثوب الصلاة لا ينبغي الإشكال في الصحّة حتّى لو علم تفصيلاً بنجاسة هذا الثوب وغصبية الآخر مع كونه قد صلّى بهما معاً ، وكذلك الحال في مسألة الوضوء ، إذ لا أثر للعلم بالغصبية ولو تفصيلاً بعد الفراغ من الوضوء ، أمّا احتمال كون الماء نجساً فهو في هذا الحال - أعني ما بعد الفراغ من الوضوء - مدفوع بقاعدة الطهارة ، ولا تعارضها قاعدة الحل ، لعدم بقاء موضوعها بالنسبة إلى نفس الوضوء ، إلاّأن يكون لنفس ذلك الماء الذي صرفه على الوضوء قيمة تكون غرامة لو كان مغصوباً ، أو يكون لذلك الماء بقية موجودة ، فإنّه على الأوّل يحصل له العلم الاجمالي إمّا ببطلان وضوئه لكون الماء نجساً ، أو لزوم دفع الغرامة

ص: 238


1- في الحاشية على فوائد الأُصول 4 : 49 الآتية في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 525 وما بعدها.

لمالك الماء لو كان مغصوباً ، وفي الثاني يكون الطرف لبطلان الوضوء وجوب الاجتناب عن بقية الماء ، لاحتمال كونه مغصوباً ، من دون فرق في ذلك كلّه بين عدم حدوث العلم الاجمالي إلاّبعد الإقدام والفراغ من العمل ، أو كونه حادثاً قبل لكنّه غفل وأقدم على العمل ثمّ تذكّر ذلك بعد الفراغ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه في صورة تردّد الماء بين النجاسة والغصبية لو غفل وتوضّأ به ثمّ بعد الفراغ تذكّر ، فإن علمه مغصوباً فلا إشكال في الصحّة ، وإن علمه نجساً فلا إشكال في البطلان ، وإن لم يكن إلاّمجرّد عود العلم الاجمالي السابق ، فإن كان علم إجمالي آخر ، كما لو كان يلزمه الغرامة لو كان مغصوباً أو كان للماء بقية ، لزمه إعادة الوضوء ، ولو لم يكن في البين إلاّذلك العلم الاجمالي السابق فالظاهر هو الحكم بالصحّة ، لا لقاعدة الفراغ لعدم جريانها في مثله ممّا لا يجري فيه حديث الأذكرية ، بل لقاعدة الطهارة غير المعارضة فعلاً بقاعدة الحل لذهاب موضوعها.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة قد سقطت قبل النسيان والإقدام ، فلا وجه لإعادتها ، ويكون ذلك نظير إعادة إجرائها بعد تلف الطرف الآخر.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ الساقط منها بالمعارضة السابقة هو جواز الاقدام على الوضوء ، وأثرها الذي نرتّبه عليها فعلاً بعد النسيان والإقدام والفراغ من الوضوء هو صحّة ذلك الوضوء. اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّه ليس لقاعدة الطهارة في الماء إلاّناحية الوجوب الشرطي الذي يكون عبارة عن المنع من الإقدام قبل العمل ، ولزوم الاعادة بعده ، وإذا سقطت بلحاظ ذلك وهو الوجوب الشرطي فقد سقطت بتاتاً ، إلاّأن يكون النسيان قد أعدم ذلك التعارض وكأنّه بالتذكّر قد حدث موضوع جديد ، وعلى كلّ حال يكون الاحتياط بالاعادة قويّاً ، فلا ينبغي تركه.

ص: 239

لكن ذلك إنّما هو في صورة الغفلة أو النسيان بعد تحقّق العلم الاجمالي ، أمّا لو كان ذلك العلم الاجمالي حاصلاً بعد الفراغ ، بحيث إنّه أقدم على الوضوء معتقداً طهارته وإباحته ثمّ بعد الفراغ حصل له العلم الاجمالي المردّد بين النجاسة والغصبية ، فالظاهر أنّه إذا لم يكن في البين ضمان أو بقية من ذلك الماء ، لم يكن [ بأس ] في إجراء قاعدة الطهارة فيه القاضية بصحّة وضوئه. نعم يبقى الكلام في مسألة الثوب والصلاة ، وقد تعرّضنا لهذه المسألة فيما يتعلّق بها من مباحث العروة الوثقى.

والكلام في هذه المسألة في صورتين : الأُولى أن يحصل له بعد الفراغ مجرّد تذكّر ما علمه سابقاً من العيب المردّد بين النجاسة والغصبية. وأُخرى يحصل له ذلك التذكّر مع تبيّن كون الثوب نجساً.

وقبل الكلام في هاتين الصورتين ، ينبغي التكلّم في فرع لم أعثر على تحرير له في كلماتهم ، وهو ما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين ثمّ نسي وصلّى في أحدهما ، وبعد الفراغ تذكّر إمّا في الجملة أو مع تبيّن أنّ ما صلّى فيه كان هو النجس ، فنقول : إنّ الحكم بوجوب الاعادة على من علم بالنجاسة ثمّ نسي وصلّى ، هل يشمل صورة العلم الاجمالي أو لا؟ لا يبعد القول باختصاص ذلك بصورة كون العلم السابق تفصيلياً ، وحينئذ يسقط الكلام فيما نحن فيه في كلّ من الصورتين ، أمّا بناءً على كون العلم السابق شاملاً للعلم الاجمالي ولو من جهة دعوى كون العلم السابق معتبراً من باب كونه منجّزاً لأثر النجاسة ، فيقوم مقامه كلّ ما ينجّز تلك النجاسة ، فالظاهر هو الاعادة في الصورة الثانية من المثال الذي ذكرناه دون الصورة الأُولى ، إذ لم يتحقّق فيها أنّه صلّى في النجس كي يكون مشمولاً لمن صلّى في النجاسة بعد المسبوقية بما يكون موجباً لتنجّزها.

ص: 240

أمّا ما نحن فيه فقد حكم فيه شيخنا قدس سره بعدم الاعادة ، بناءً على مسلكه قدس سره في مسألة الاجتماع من الجواز من الجهة الأُولى ، والامتناع من الجهة الثانية الراجعة إلى التزاحم ، وقد أوضح ذلك فيما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (1) بما حاصله : أنّ لكون الثوب مغصوباً أثراً وهو عدم جواز التصرّف فيه في صلاة أو غيرها ، كما أنّ لنجاسة ذلك الثوب نفس هذا الأثر وهو عدم جواز الصلاة فيه ، بمعنى عدم صحّتها وعدم مشروعية الإقدام عليها مع العلم بكونه نجساً ، لكن لها أثر آخر ، وهو أنّه لو نسي النجاسة التي علمها وصلّى بذلك الثوب ناسياً لنجاسته ثمّ تذكّر ذلك بعد الفراغ ، بطلت صلاته وعليه الاعادة ، وأمّا المغصوبية فليس لها هذا الأثر ، إذ لا إشكال في عدم وجوب الاعادة على ناسي الغصبية.

وحينئذ نقول : إنّه عند العلم الاجمالي المردّد بين كون الثوب نجساً وكونه مغصوباً ، لا إشكال في أنّه لا يجوز له الإقدام على الصلاة فيه ، لتعارض أصالة الإباحة مع أصالة الطهارة ، فيسقط الأصلان معاً ، فلا يجوز له الإقدام على الصلاة فيه ، ولكن هذا السقوط لأصالة الطهارة هل يوجب سقوطها بتاتاً حتّى بالنسبة إلى الأثر الثاني الذي تنفرد فيه عن أصالة الحل ، وهو عدم وجوب الاعادة لو صلّى مع نسيان النجاسة ، أو أنّها لا تسقط إلاّبمقدار الأثر الأوّل وتكون قاعدة الطهارة جارية بالنسبة إلى ذلك الأثر الثاني ، ولأجل ذلك خصّص قدس سره الكلام في الصورة الثانية وهي ما لو تبيّن نجاسة الثوب ، لأنّ صلاته كانت اعتماداً على أصالة الطهارة من الأوّل ، فيكون أثر تلك النجاسة ساقطاً بالنسبة إلى الأثر الثاني ، مع كون تلك الصورة داخلة في حكم النجاسة المعلومة إجمالاً المنسية حين الصلاة ، فيشملها

ص: 241


1- أجود التقريرات 3 : 107 - 109.

ما دلّ على وجوب الاعادة على من صلّى في النجاسة بعد المسبوقية بما يكون موجباً لتنجّزها.

وهذا بخلاف الصورة الأُولى ، فإنّها لا تحتاج إلى هذا التمحّل ، إذ لم ينكشف فيها أنّه قد صلّى مع النجس كي يقال إنّه مصداق لنسيان تلك النجاسة المعلومة ولو إجمالاً ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في هذا التمحّل الذي أفاده قدس سره في الصورة الثانية ، فإنّ الظاهر أنّ قاعدة الطهارة في الثوب في حدّ نفسها لا تنفي الأثر الثاني حتّى لو لم يكن احتمال النجاسة مقروناً باحتمال الغصبية ، بأن لم يكن في هذا الثوب إلاّ احتمال النجاسة ، فإنّ قاعدة الطهارة لا تعرض لها لأزيد من نفي احتمال النجاسة وترتيب أثر الطهارة عليه من جواز الإقدام على الصلاة فيه ، أمّا الاعادة المترتّبة على نسيان النجاسة بعد العلم بها وعدم التذكّر إلاّبعد الفراغ ، فذلك لا تنفيه قاعدة الطهارة ، كما أنّها لا تثبت الاجزاء وعدم الاعادة فيما لو صلّى فيه جاهلاً بالنجاسة ثمّ علم بها بعد الفراغ.

وبالجملة : أنّ قاعدة الطهارة في الثوب ونحوها لا تعرض [ لها ] لأزيد من جواز الصلاة فيه ، وأمّا بطلان الصلاة ووجوب الاعادة فإنّما هو من آثار سبق العلم بالنجاسة ثمّ نسيانها ، لا من آثار نفس النجاسة كي ينفى بقاعدة الطهارة ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ الموضوع مركّب من النجاسة الواقعية مع العلم بها ثمّ نسيانها على نحو يكون العلم المذكور على نحو جزء الموضوع ، أو نقول إنّ الموضوع هو النجاسة نفسها لكن استلزامها للبطلان والاعادة مشروط بسبق العلم بها وإن طرأه النسيان ، إذ لا فرق بين هذين الوجهين إلاّمحض التعبير.

وبالجملة : لا وجه للقول بأنّ مفاد قاعدة الطهارة في هذا الثوب هو نفي

ص: 242

وجوب الاعادة ، لأنّ ذلك عبارة أُخرى عن نفي البطلان المترتّب على النجاسة المعلومة عند طرو النسيان.

وإن شئت فقل : إنّ قاعدة [ الطهارة ] تثبت آثار الطهارة من جواز الصلاة فيه ، وتنفي آثار النجاسة المترتّبة على النجاسة الواقعية ، وتحرز شرط الدخول في الصلاة ، ولا تنفي الأثر المترتّب على النسيان المسبوق بالعلم بالنجاسة ، ومقتضى ذلك كلّه هو لزوم الاعادة في الصورة المزبورة ، بناءً على أنّ سبق العلم بالنجاسة الذي هو موضوع الاعادة شامل للعلم الاجمالي ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الموجب للاعادة هو تنجّز النجاسة قبل الصلاة بنحو من أنحاء التنجّز ولو بالعلم الاجمالي ، وقاعدة الطهارة حيث إنّها ترفع تنجّز النجاسة يترتّب عليها هذا الأثر الثاني ، وحينئذ يتمّ ما أفاده من كون الأثر الثاني مترتّباً على قاعدة الطهارة.

لأنّا نقول : إنّ محصّل ذلك هو أنّ تنجّز النجاسة هو عبارة عن كونها مانعة من الدخول في الصلاة ، وبواسطة كون قاعدة الطهارة رافعة لتنجّز هذا الأثر وهو المنع من الدخول في الصلاة يرتفع الأثر الثاني المفروض ترتّبه على تنجّز الأثر الأوّل ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ قاعدة الطهارة لم ترفع تنجّز الأثر الأوّل ، لكونها بالنسبة إليه معارضة بقاعدة الحل ، وبعد السقوط يكون الأثر الأوّل للنجاسة وهو المنع من الدخول في الصلاة منجّزاً ، فقهراً يترتّب الأثر الثاني وهو كونها موجبة للبطلان عند المسبوقية بتنجّز أثرها الأوّل.

لا يقال : إنّ المسبوقية بتنجّز النجاسة إنّما يترتّب عليه الأثر الثاني إذا كانت النجاسة بنفسها منجّزة ولو بالعلم الاجمالي ، كما في مورد الثوبين اللذين علم بنجاسة أحدهما وقد صلّى بعد النسيان في أحدهما ، وقد تبيّن بعد الفراغ أنّه هو

ص: 243

النجس ، وكذلك الحال فيما لو علم إجمالاً بأنّ هذا الثوب نجس أو ذلك الثوب الآخر مغصوب وقد نسي وصلّى في الأوّل ، أمّا فيما نحن فيه من العلم بنجاسة هذا الثوب أو غصبيته ، فلا تكون النجاسة بنفسها منجّزة ، بل المنجّز هو القدر الجامع بينها وبين الغصبية. وبعبارة أُخرى : لا يكون المنجّز في المقام هو خصوص هذا الحكم وهو لا تصلّ في النجس ، بل المنجّز هو النهي المطلق عن الصلاة في ذلك الثوب ، أعني القدر الجامع بين المنع عن الصلاة في النجس أو الصلاة في المغصوب ، والأثر الثاني إنّما يترتّب على ما إذا كان المنع عن الصلاة في النجس بخصوصه منجّزاً ولو بالعلم الاجمالي.

لأنّا نقول : إذا كان القدر المشترك منجّزاً ، كان ذلك عبارة عن كون كلّ من الطرفين منجّزاً ، وحينئذ يكون النهي عن الصلاة في ذلك الثوب المفروض كونه نجساً في الواقع منجّزاً ، فيترتّب حينئذ الأثر الثاني. على أنّ هذا لو تمّ لم نكن في الحكم بالصحّة محتاجين إلى قاعدة الطهارة ، بل يكون الأثر الثاني منتفياً لانتفاء موضوعه الذي هو تنجّز المنع من الصلاة في النجس بخصوصه ، هذا كلّه بالنظر إلى ما يستفاد من التحرير المطبوع في صيدا.

ولكن الذي يظهر من هذا الكتاب بقوله : فلو غفل المكلّف عن علمه وصلّى في الثوب لم يجب عليه الاعادة والقضاء ، لاحتمال أن يكون غصباً ، والصلاة في الثوب المغصوب مع النسيان صحيحة واقعاً. والنجاسة لم يتعلّق العلم بها في وقت حتّى يقال : إنّ العلم بالنجاسة آناً ما يكفي في فساد الصلاة ولو مع الذهول والنسيان الخ (1) هو البناء على أنّ العلم بالنجاسة الذي يطرأ عليه النسيان هو خصوص العلم التفصيلي ، وبناءً عليه لا يكون الحكم بالصحّة متوقّفاً

ص: 244


1- فوائد الأُصول 3 : 86 - 87.

على إجراء قاعدة الطهارة بالنسبة إلى الأثر المذكور. والظاهر أنّ نظره في ذلك مقصور على الصورة الأُولى ، وأنّه بعد الفراغ لا يحصل له إلاّتذكّر ما كان علمه إجمالاً قبل الدخول في الصلاة ، من دون تبيّن أنّه صلّى في النجس ، كما أنّ ما في التحرير المطبوع في صيدا ناظر إلى الصورة الثانية.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد أن كان مفروض البحث هو الصورة الأُولى ، فكان الأنسب أن يعلّل الحكم فيها بالصحّة بأنّ النجاسة وإن سبقت بالعلم الاجمالي إلاّ أنّ مورد النسيان هو من صلّى في النجس ، وهذا الشخص لم يحرز أنّه صلّى في النجس ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله : والنجاسة لم يتعلّق العلم بها في وقت. وكيف كان فلا يكون الحكم بالصحّة في هذه الصورة متوقّفاً على انحصار المنجّز السابق بالعلم التفصيلي.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّه في الصورة الأُولى بعد الفراغ من الصلاة يبتلى بعلم إجمالي جديد ، وهو أنّ هذا الثوب الذي قد صلّى فيه إن كان نجساً كانت نجاسته منجّزة سابقاً بالعلم الاجمالي السابق ، فيكون الواجب إعادتها ، وإمّا أن يكون مغصوباً فيحرم عليه التصرّف فيه بصلاة أُخرى وغيرها من التصرّفات.

وفيه تأمّل ، فإنّ الاعادة وإن لم تكن منجّزة سابقاً بالعلم الاجمالي السابق ، بل هي تكليف جديد ناشٍ عن تنجّز النجاسة سابقاً ، إلاّ أنّ حرمة التصرّف في ذلك الثوب لكونه مغصوباً لم يكن أثراً جديداً ، بل هو بنفسه كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق ، ولأجل ذلك نقول يلزم الاجتناب عن التصرّف في ذلك حتّى لو قلنا بأنّ الموجب للاعادة في الصلاة في النجس هو خصوص سبق العلم التفصيلي بها ، فلا يجب إعادة الصلاة من جهة النسيان ، ولكن يجب الاجتناب عن التصرّف في ذلك الثوب ، ويكون ذلك من قبيل خروج أحد الطرفين عن

ص: 245

محلّ الابتلاء بعد العلم الاجمالي.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ ذلك ليس من الخروج عن محلّ الابتلاء ، فإنّه إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى الصلاة السابقة ، أمّا بالنسبة إلى الصلوات اللاحقة فمحلّ الابتلاء بها باقٍ ، فيكون التردّد فعلاً بين كون هذا الثوب نجساً أو مغصوباً مؤثّراً فعلاً في وجوب الاجتناب عن الصلاة فيه صلاة أُخرى ، فتأمّل.

والذي حرّرته عنه قدس سره موافق لذلك ، وهذا نصّه : الشرط الخامس : أن لا يكون الأثر في أحد طرفي العلم الاجمالي من قبيل التزاحم ، كما لو علم إجمالاً بغصبية الثوب أو نجاسته ، فإنّ هذا العلم إنّما يؤثّر التنجّز بمقدار عدم جواز الصلاة فيه ، دون لزوم الاعادة فيما لو صلّى ناسياً ، والسرّ في ذلك أنّ الغصبية إنّما تؤثّر في عدم جواز الصلاة إذا كانت منجّزة ، والنجاسة لها أثر واقعي ، فبمقدار القدر المشترك بين الطرفين يكون العلم الاجمالي مؤثّراً ، وأمّا بالنسبة إلى الزائد على ذلك أعني وجوب الاعادة فيما لو صلّى بذلك الثوب نسياناً ، فلا يحكم بترتّبه ، ومن ذلك ما لو تردّد الماء بين النجاسة والغصبية ثمّ نسي وتوضّأ فيه ، فإنّه يحكم بطهارة أعضائه وصحّة وضوئه وارتفاع حدثه انتهى ، وينبغي ملاحظة ما حرّره في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 128 (1) ، وملاحظة ما علّقناه عليه خصوصاً التذنيب (2)

ص: 246


1- راجع فوائد الأُصول 4 : 353 - 355.
2- حواشيه على التذييل وردت في المجلّد التاسع الصفحة : 77 و 79. وينبغي مراجعة الهامش المذكور في الصفحة :2. 72 من ذلك المجلّد.

[ الكلام في الظنّ ]

قوله : فإنّ المراد من انفتاح باب العلم ... الخ (1).

قلت (2) : الأولى في جواب ابن قبة أن يقال : إنّ المكلّف إن كان قد حصل له العلم بالحكم الواقعي ، فهذا يكون خارجاً عن حجّية الأدلّة الظنّية قطعاً ، لأنّ حجّيتها مقصورة على من لم يكن عالماً بالحكم ، كما أنّ هذا المكلّف لا يتكلّم في حقّه من حيث كون علمه مطابقاً للواقع أو مخالفاً له على ما تقدّم تفصيله في أوائل مباحث القطع (3).

وإن لم يكن المكلّف قد حصل له العلم بالواقع ، لكن كانت هناك أسباب توصله إلى نفس الواقع ، وكانت تلك الأسباب معلومة لديه تفصيلاً ، فلا إشكال أيضاً في أنّ هذا لا يمكن أن تجعل الأمارات الظنّية حجّة في حقّه ، لكونها مفوّتة عليه الواقع في الموارد التي تخطئ فيها مع أنّه يتمكّن من الحصول على الواقع

ص: 247


1- فوائد الأُصول 3 : 90.
2- هذا ما كنت علّقته في الجمعة 29 ع 1 سنة 1358 على ما حرّرته عن درس شيخنا قدس سره 8 ج 2 سنة 1348 ، والآن ألحقته بالتعليق على هذا الكتاب بتأريخ الجمعة 7 ج 2 سنة 1370 بعد بعض إصلاحات ، وما كنت أظن بقاء حياتي إلى الآن ، ولله تعالى في خلقه شؤون [ منه قدس سره ].
3- لعلّ المقصود بذلك ما تقدّم في توجيه مقالة الأخباريين في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 28 وما بعدها.

بواسطة علمه بالأسباب التي توصله إليه. ولعلّ ما يحكى عن الشيخ قدس سره (1) من تسليم قبح الرجوع إلى الظنّ مع انفتاح باب العلم ناظر إلى هذه الصورة ، أعني صورة التمكّن من الحصول على الواقع بواسطة أنّ لديه أسباباً معلومة له تفصيلاً توصله إليه إذ لا ريب في قبح الركون إلى الأدلّة الظنّية في هذه الصورة ، لكونها مفوّتة للمصالح الواقعية ، ولا معنى لأن يقال : لعلّ خطأ الأمارات يكون بمقدار خطأ الأسباب المذكورة ، لأنّ المفروض أنّ تلك الأسباب لا خطأ فيها أصلاً.

وبعبارة أُخرى : أنّه كانت لديه أسباب توصله إلى الواقع بحيث كان باب الواقع منفتحاً عنده ، لا أنّه انفتاح فعلي ، بل هو انفتاح بالقوّة ، لأنّ لديه أسباباً توصله إليه لو حصلها وسلكها. أمّا إذا لم يكن للمكلّف إلاّأسباب يعلم أنّه لو حصلها لحصل له العلم بالواقع ، لكنّه قبل تحصيلها يعلم بأنّها ربما كان بعضها يخطئ الواقع ، إذ لا تنافي بين العلم بأنّ تلك الأسباب تفيده العلم بالواقع لو حصلها وبين العلم بأنّ بعضها في الجملة يقع فيه الخطأ ، وإنّما التنافي بين العلم الفعلي بالواقع وبين احتمال خطأ ذلك العلم ، لكن ذلك - أعني حصول العلم الفعلي بالواقع - راجع إلى الصورة الأُولى التي قد مرّ أنّ حجّية الأدلّة الظنّية لا تشمله ، وإنّما الكلام في هذه الصورة أعني صورة عدم حصول العلم الفعلي ، وأنّ الحاصل إنّما هو العلم بأنّ لديه أسباباً لو حصلها لحصل له العلم بالواقع ، والمراد بانفتاح باب العلم هو هذه الصورة ، لا صورة حصول العلم الفعلي كما في الصورة الأُولى ، ولا صورة العلم بالأسباب الموصلة إلى نفس الواقع كما في الصورة الثانية ، بل المراد من انفتاح باب العلم هو التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع ، ولا ريب أنّ

ص: 248


1- فرائد الأُصول 1 : 109 - 110.

التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع لا يلزمه التمكّن من الحصول على نفس الواقع ، لما عرفت من أنّ التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع يجتمع مع احتمال خطأ تلك الأسباب.

والحاصل : أنّ أسباب العلم بالواقع بعضها يكون موصلاً إلى نفس الواقع وبعضها لا يوصل إلى الواقع لأجل خطئه ، فلو كانت الأسباب الأُولى معلومة لديه تفصيلاً لكان متمكّناً من الحصول على الواقع ، وكان راجعاً إلى الصورة الثانية ، أمّا إذا لم تكن الأسباب الموصلة إلى نفس الواقع معلومة لديه بالتفصيل ، بل كان أقصى ما في البين أنّ لديه أسباباً لو حصلها لحصل له العلم بالواقع مع فرض كون بعضها مصيباً وبعضها مخطئاً ، فهذا لا يكون متمكّناً من الواقع ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه متمكّن من تحصيل العلم بالواقع الذي عرفت أنّه لا يلازم الوصول إلى الواقع.

والحاصل : أنّ المراد من الانفتاح في هذا المقام هو انفتاح باب العلم بالواقع وأنّ المكلّف متمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، وهو غير ملازم للتمكّن من الوصول إلى نفس الواقع ، فلا حاجة إلى ما تكلّفه في هذا الكتاب بقوله : بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول ، وهو غير فعلية الوصول ، فقد يكون الشخص متمكّناً من الوصول إلى الواقع ولكن لم يصل إليه ، لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركّب الخ (1) كما لا حاجة إلى ما حرّرناه نحن عن الأُستاذ قدس سره بقولنا : مثلاً من كان جالساً على باب دار الإمام عليه السلام ويتمكّن من السؤال منه عليه السلام لكنّه لا يدخل بل يسلك طريقاً آخر كالسؤال ممّن خرج من الدار وسمع الحكم منه عليه السلام وكان سلوكه هذا الطريق الثاني - أعني السؤال ممّن خرج - كثير الخطأ ، ففي هذه الصورة لا مانع من أن يؤمر بالعمل على

ص: 249


1- فوائد الأُصول 3 : 90.

أمارة هي أقلّ خطأ من هذا الطريق ، انتهى ملخّصاً.

فإنّ جميع هذه التكلّفات إنّما نحتاج إليها إذا قلنا بأنّ المراد من الانفتاح في هذا المقام هو إمكان الوصول إلى الواقع ، مع أنّك قد عرفت الاشارة إلى امتناع ذلك ، فإنّ العلم الاجمالي بكون بعض تلك الأسباب مخطئة للواقع مع عدم علم المكلّف بها بأعيانها يوجب عدم تمكّنه من الواقع.

وبالجملة : لا يجتمع التمكّن من الحصول على نفس الواقع مع العلم الاجمالي بكون بعض تلك الأسباب مخطئة ، ولأجل ذلك قلنا إنّ المراد بالانفتاح هو انفتاح باب العلم بالواقع ، وتمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالواقع ، وهذا المقدار من الانفتاح يجتمع مع العلم الاجمالي بخطأ بعض تلك الأسباب.

وحينئذ نقول في جواب شبهة ابن قبة : إنّه لا فرق (1) حينئذ بين الأسباب المفيدة للعلم بالواقع والأسباب المفيدة للظنّ بالواقع في تطرّق احتمال الخطأ وتفويت المصالح الواقعية ، غاية الأمر ينبغي أن ينظر أنّ أيّاً من هذين الطريقين أكثر خطأ ، وهذا ممّا لا تصل إليه عقول البشر. ولكن يكفي في إمكان التعبّد بالأمارات الظنّية هو احتمال كون موارد الخطأ فيها بمقدار موارد الخطأ في أسباب العلم ، وحيث إنّ الشارع قد اطّلع على ذلك فله حينئذ أن يأمر بالعمل على الأمارات ، لحصول فوت ذلك المقدار من المصالح على كلّ من الأخذ بالأسباب

ص: 250


1- لا يخفى أنّ هذا هو محصّل النقض على ابن قبة بالقطع المخطئ ، وليس المرادبه بعد حصول القطع كي يجاب عنه بما أفاده الشيخ قدس سره [ فرائد الأُصول 1 : 108 ] من أنّ القاطع لا يحتمل الخطأ ، بل المراد النقض قبل حصول القطع ، بمعنى أنّه لا فرق بين الأسباب المفيدة للقطع والأسباب المفيدة للظنّ في أنّه لو بطل العمل بالثانية لكونها مفوّتة للواقع لم يجز الالزام بتحصيل الأُولى لأنّها أيضاً مفوّتة للواقع [ منه قدس سره ].

المفيدة للعلم والأسباب المفيدة للظنّ ، ومع تسليم كونه حكيماً لا يفوّت علينا المصالح ، نلتزم بأنّ الأمر في الواقع كذلك ، ومع هذا التسليم لا معنى للتشبّث بأذيال أقربية الخطأ ، إذ لا معنى للحكم القطعي بكون الأمارات أقرب إلى الخطأ مع الاعتراف بامكان كون موارد الخطأ فيها لا تزيد على موارد الخطأ في الأسباب المفيدة للعلم.

والذي يظهر من الأُستاذ قدس سره أنّ أقربية الأمارات إلى الخطأ هو غير كثرة الخطأ فيها ، فلذلك احتاج إلى الجواب عنه بما حرّره عنه (1) أيضاً من المنع من الأقربية أوّلاً ، والمنع من كونها مقتضية للردع ثانياً ، وبأنّها لو سلّمنا اقتضاءها للردع فإنّما تقتضيه لو لم يكن في البين مصلحة التسهيل ثالثاً.

ولعلّ الأولى هو ما يلوح من التقريرات المطبوعة في بيروت (2) ، (3) من جعل مصلحة التسهيل في قبال تسليم كون موارد الخطأ في الأمارات أكثر بقليل من موارد الخطأ في أسباب العلم ، فيقال : إنّا لو سلّمنا زيادتها بقليل لجاز للشارع الحكيم التنازل عن ذلك القليل الفائت بواسطة سلوك الأمارة لأجل ملاحظة التسهيل على المكلّفين.

ولا يخفى أنّ النظر القاصر عاجز عن الإذعان بجميع هذه التفاصيل التي حرّرناها من أوّلها إلى آخرها.

والذي يمكنني التصديق به والإذعان له هو انسداد باب العلم القطعي الوجداني في أغلب الأحكام ، بل في جميع الأحكام ، حتّى السؤال من نفس

ص: 251


1- فوائد الأُصول 3 : 92 - 93.
2- أجود التقريرات 3 : 113 - 114.
3- [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح في صيدا ].

المعصوم ما لم يكن مدعوماً بالأمارات العقلائية من أصالة الظهور وغير ذلك ، وأنّه ليس في البين أسباب للعلم متميّزة عن أسباب الظنّ ، بل كلّ ما لدينا في عصرنا بل في عصر الأئمّة عليهم السلام بل في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله إنّما هو الطرق العقلائية التي يعتمد عليها العقلاء في أُمور معاشهم بل وفي معادهم ، نعم تلك الطرق تتفاوت في مقدار الوثوق الحاصل منها ، بحيث ربما بل غالباً تصل إلى درجة العلم ، وربما كان من جملة أسباب التفاوت المذكور هو تفاوت نفس الأشخاص ، وإلاّ فأين الطريق الذي يكون موجباً لحصول العلم القطعي الوجداني غير المدعوم بتلك الطرق العقلائية ، حتّى يقال إنّه يلزمنا سلوكه وعدم الركون إلى الأمارة لأجل أنّها تفوّت علينا مصلحة الواقع.

والحاصل : أنّه لولا هذه الأمارات التي بأيدينا من خبر الواحد ونحوه لكان باب العلم بالأحكام منسدّاً علينا ، خصوصاً في زماننا الذي هو زمان الغيبة والمحرومية من الوصول إلى معدن العلم ، والمفروض أنّ المستشكل لا يستشكل من حجّيتها عند انسداد باب العلم.

قال شيخنا قدس سره فيما حكاه عنه في هذا التحرير في المقدّمة الأُولى من مقدّمات دليل الانسداد ما هذا لفظه : أمّا المقدّمة الأُولى فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلّمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أنّ ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النصّ المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهوراً وصدوراً مع سائر ما يتوقّف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك ممّا يصدقه كلّ مجتهد يخوض في الاستنباط (1).

والحاصل : أنّ المراد بانفتاح باب العلم في هذا المقام هو باب العلم

ص: 252


1- فوائد الأُصول 3 : 228.

الوجداني ، بخلاف باب العلم في مبحث مقدّمات الانسداد ، فإنّ المراد به هناك هو الأعمّ من العلم الوجداني وما يقوم مقامه من الأمارات التي ثبتت حجّيتها بالخصوص. ثمّ بعد وضوح كون المراد من العلم في المقام هو العلم الوجداني نقول : إنّ المراد بانفتاحه إن كان هو حصول العلم الفعلي بالحكم الواقعي ، فهذا خارج عن موارد حجّية الأمارات ، سواء كان ذلك العلم مصيباً للواقع أو كان مخطئاً له ، وسواء كان على طبق الأمارة أم كان على خلافها.

وإن كان المراد هو التمكّن من الحصول على الأسباب والطرق المفيدة للعلم بالواقع ، بأن يكون المكلّف فعلاً متمكّناً من تحصيل طرق علمية توصله إلى نفس الواقع على وجه لا يحصل الخطأ فيها ، فهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام ، إذ لا ينبغي الريب في أنّه مع التمكّن من الوصول إلى نفس الواقع لا وجه للأمر بالعمل بالأمارات التي يحصل فيها الخطأ ولو قليلاً. اللّهمّ إلاّأن يلتزم بوجود مصلحة ولو تسهيلية يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع.

وإن كان المراد هو التمكّن من الحصول على الأسباب المفيدة للعلم ، لكن لم تكن كلّها مصيبة ، بل كان فيها ما هو المخطئ ، ففي هذه الصورة نقول : إنّ الحكيم بعد اطّلاعه على كثرة وقوع الخطأ في تلك الطرق الموجبة لحصول القطع ، لا مانع من أن يأمر بسلوك الأمارة إذا علم أنّ الخطأ فيها أقلّ منه في الأسباب الموجبة للقطع ، أو كان الخطأ فيها مساوياً له فيها ، بل حتّى لو كان الخطأ في الأمارات الظنّية أكثر منه في أسباب القطع ، نظراً إلى تدارك ذلك الخطأ الزائد بالمصلحة التسهيلية ، بل قد عرفت أنّه بالنظر إلى المصلحة التسهيلية التي يتدارك بها المصلحة الفائتة لا مانع من جعل الأمارة حجّة حتّى في قبال ما لا خطأ فيه من الطرق القطعية ، هذا كلّه بالنظر إلى ناحية الشارع المقدّس واطّلاعه على كثرة

ص: 253

الخطأ أو قلّته في تلك الأسباب الموجبة للقطع.

أمّا المكلّف نفسه فلا ريب في أنّه بعد سلوك تلك الأسباب وحصول القطع له منها بالواقع بحيث كان قطعه بالواقع فعلياً ، لا يمكن أن يحتمل هو في نفسه الخطأ في ذلك القطع ، نعم قيل إنّ الإنسان القاطع وإن كان لا يحتمل هو الخطأ في قطعه الخاصّ ، إلاّ أنّه يمكن تطرّق الاحتمال الاجمالي ، بل القطع الاجمالي بالنسبة إلى مجموع ما حصل له أو يحصل من القطعيات في مجموع عمره ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن للشارع أن يجعل له الأمارة الظنّية حجّة ، لما تقرّر في محلّه من أنّ القاطع لا يمكن تكليفه بالتنازل عن قطعه وأمره بسلوك طريق آخر لا يفيده القطع ، فإنّ لازم قطعه الفعلي هو القطع بخطأ ذلك الطريق الظنّي إن كان على خلاف قطعه ، ولغوية حجّيته إن كان على وفق قطعه ، فلم يبق لدينا من يمكن جعل الأمارة الظنّية حجّة في حقّه مع فرض انفتاح باب العلم إلاّمن عرفت ممّن كان متمكّناً من الحصول على طرق يعلم أنّه لو سلكها لأفادته القطع بالواقع ، فهل أنّ ذلك المكلّف يحتمل في نفسه أن تكون جملة من تلك الطرق مخطئة بعد فرض علمه بأنّه لو سلكها لأفادته القطع بالواقع؟

الظاهر أنّه لا يحتمل ذلك إلاّعلى حذو ما سمعت ممّا تقدّمت الاشارة إليه من إمكان العلم الاجمالي بأنّ بعض قطعياته الآتية مخالف للواقع ، مع فرض أنّه إذا نظر إلى كلّ واحد منها بخصوصه لا يحتمل فيه المخالفة ، وقد عرفت أنّ هذا المقدار لا يصحّح جعل الأمارة الظنّية في حقّه في قبال القطع الذي يعلم أنّه يحصل عليه بسلوك ذلك الطريق ، وحينئذ فلا يمكن جعل الأمارة في حقّ ذلك الشخص غير القاطع فعلاً ، وأنّه ليس عنده سوى أنّ في البين طرقاً لو سلكها لحصل له القطع بالواقع.

ص: 254

إلاّ أن يقال : إنّ هذه الطرق وإن كان فعلاً لا يحتمل الخطأ فيها ، إلاّ أنّه مع ذلك يمكن أن تجعل الأمارة حجّة في حقّه في عرض تلك الطرق التي هو قاطع بأنّها لا خطأ فيها مع فرض وقوع الخطأ في تلك الأمارة ، لتدارك خطئها بالمصلحة التسهيلية على حذو ما سمعت في الأسباب القطعية الموصلة للواقع المفروض كونها لا خطأ فيها ، أمّا المانع من ناحية القطع فلا يتأتّى قبل سلوك تلك الأسباب ، وإنّما هو بعد حصول القطع فعلاً بالواقع.

لكن هذه الجهات كلّها تكلّفات بل تخرّصات. والذي يلوح فعلاً للنظر القاصر هو ما حرّرناه أخيراً فيما تقدّم نقله من أنّ باب القطع الوجداني بالنسبة إلى الحكم الواقعي منسدّ علينا ، وأنّه ليس لدينا إلاّأمارات وأُصول عقلائية ظهورية كانت أو سندية ، إمضائية كانت أو تأسيسية. نعم إنّ هذه الأمارات ربما بل كثيراً ما أفادت القطع بالواقع ، خصوصاً في زمان الحضور بالسماع من نفس المعصوم عليه السلام على وجه يمكن الحصول على العلم بمراده عليه السلام من كلامه من دون الاعتماد على مثل أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة والتقية ونحو ذلك ، لكن ذلك اتّفاقي لا دائمي ، وهو على تقدير تسليمه غير نافع لنا معاشر المحرومين من التشرّف بمشاهدة أنواره القدسية ( صلوات اللّه عليه ) وحينئذ فأين لنا ما هو قطعي الدلالة وقطعي السند ، بل أين لنا الدليل العقلي القطعي بالنسبة إلى ما تشاهده من فقهنا ، كلّ هذه الأُمور المدّعى إفادتها العلم الوجداني خيال لا واقع له في الأحكام ، ولا وجود له في الفقه.

نعم ، هناك ضروريات مذهبية أو إسلامية ، وأضف إليها الإجماعات القطعية لو كانت ، لكن كلّ ذلك لو جمعناه لا يوجب لنا انفتاح باب العلم في جميع أحكامنا ، وسواء كانت هذه الموارد قليلة أو كانت كثيرة ، فلا ريب أنّ باب

ص: 255

العلم لنا في غيرها منسدّ ، فلا مانع من حجّية الأمارات في ذلك الغير ، وأنّ من يقول بحجّية الأمارات الظنّية إنّما يقول بها في غير تلك الموارد ، ولا ريب في أنّ حجّيتها في تلك الموارد الباقية لا يوجب تفويت مصلحة ولا إلقاءً في مفسدة. نعم ، في الأمارات النافية للتكليف بل الأُصول النافية له أيضاً التي يكون مرجعها إلى عدم إيجاب الاحتياط ، لابدّ لنا من الالتزام بنحو من مصلحة التسهيل ، وإلاّ لكان للمكلّف أن يصل إلى الواقع بالاحتياط ولو في صورة إمكانه وعدم ترتّب مفسدة شرعية عليه.

ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ بعض الأمارات ربما أفادت العلم القطعي ، إلاّ أنّا لا يمكننا القول بأنّها إذا لم تكن مفيدة للعلم لم تكن حجّة ، لأنّها لو قامت في مورد ولم يحصل لنا العلم بسببها كان ذلك عبارة أُخرى عن انسداد باب العلم في ذلك المورد ، إذ ليس لنا غيرها في ذلك المورد ، فماذا يكون تكليفنا في ذلك المورد غير العمل فيه على طبقها ، وهل يلزمنا الاحتياط ليكون حاصل فقهنا أنّ المكلّف إن حصل له القطع ممّا لديه من الأدلّة فهو ، وإلاّ عمل على الاحتياط ، لا شكّ أنّ هذا ممّا نقطع ويقطع كلّ أحد بخلافه.

قوله : فإنّ المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام عليه السلام لا فعلية الوصول ، فإنّ انفتاح باب العلم بهذا المعنى ممّا لا يمكن دعواه ... الخ (1).

قد عرفت ممّا قدّمناه (2) الوجه في عدم إمكان هذه الدعوى ، فإنّه إن كان المراد بفعلية الوصول هو حصول العلم الفعلي بالأحكام الواقعية مع فرض الاصابة ،

ص: 256


1- فوائد الأُصول 3 : 90.
2- في الحاشية السابقة.

فهذا لا يحصل إلاّللمعصومين ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) وإن كان المراد بذلك هو فعلية العلم بالأحكام وإن كان في بعضه الخطأ ، فهذا لم يحصل ولن يحصل لأحد منّا فضلاً عمّن كان قبلنا (1) من أصحابهم ( صلوات اللّه عليهم ) إذ ليس لهم إلاّالسؤال منهم ( صلوات اللّه عليهم ) وهذا لا يتيسّر بل يتعذّر في جميع الأحكام ، وإن حصل في بعضها بالسماع من المعصوم عليه السلام إن فرض أنّه لا يحتاج إلى إعمال قواعد الظهور.

ومنه تعرف وجه الضعف في دعوى إنسداد باب العلم بالنسبة إلى هذا الشخص ، بدعوى أنّ المراد من العلم هو العلم المصادف لا الأعمّ منه ومن الجهل المركّب ، ووجه الضعف في ذلك هو ما عرفت من أنّ الانفتاح بمعنى الوصول الفعلي لا يمكن أن يتحقّق لأحد غيرهم ( صلوات اللّه عليهم ).

وأمّا ما أُفيد بقوله : إنّ المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول (2) ، فهذا أيضاً لا يتحقّق لأحد غيرهم عليهم السلام بالنسبة إلى جميع الأحكام. نعم غاية ما يمكن أن يدّعى هو انفتاح باب العلم وإن لم يكن كلّه مصيباً ، لكن قد عرفت أنّ هذا لم يتحقّق ولا يتحقّق في حقّ المعاصرين لهم عليهم السلام فضلاً عن تحقّقه بالنسبة إلينا.

ولو سلّمنا فعلية الوصول إلى الواقع أو فعلية القطع بالأحكام الواقعية بالنسبة إلى شخص ، كان ذلك الشخص خارجاً عن موارد حجّية الأمارة ، فيكون خارجاً عمّا هو محلّ الكلام.

ص: 257


1- [ الظاهر أنّ المراد عدم الحصول لمن كان قبلنا فضلاً عنّا ، كما سيأتي بعد أسطر ، فلاحظ ].
2- فوائد الأُصول 3 : 91.

قوله : كالأسباب المفيدة للعلم ... الخ (1).

قد عرفت ما فيه ، وأين هذه الأسباب وما هي ، على وجه لو سلكناها لأفادتنا القطع بالواقع حتّى مع فرض كثرة الخطأ فيه. ومن جميع ذلك تعرف أنّه لو سلّمنا حصول ذلك لشخص لم يكن ذلك متمكّناً من الوصول إلى الواقع ، وأقصى ما فيه أنّه متمكّن من تحصيل القطع بالواقع ، وأين هو من كونه متمكّناً من الوصول إلى الواقع بعد فرض كونه لا يعرف الطريق الموصل إلى الواقع بعينه ، فلا يصحّ قوله : فقد يكون الشخص متمكّناً ، الخ. وإن أُريد أنّه عارف بذلك الطريق بعينه ، فهو خارج عن محلّ الكلام.

قوله : فقد يكون الشخص متمكّناً من الوصول إلى الواقع ولكن لم يصل إليه ، لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركّب ... الخ (2).

لابدّ أن يفرض ذلك فيما إذا لم تكن تلك الطرق الموصلة إلى نفس الواقع معلومة لدى المكلّف بأعيانها ، وإلاّ كان عليه الالتزام بسلوك تلك الطرق دون غيرها ممّا يحتمل خطأه ، سواء كان ذلك الغير لو حصّله مفيداً للعلم على تقدير تحصيله ، أو كان مفيداً للظنّ. أمّا إذا لم يكن عارفاً بتلك [ الطرق ] الموصلة لنفس الواقع بأعيانها ، ولم تكن حالة المكلّف إلاّ أنّه عالم بأنّ هناك طرقاً لو حصلها لحصل له القطع بالواقع ، وهناك طرق أُخرى عقلائية لو حصلها لم تفده إلاّالظنّ بالواقع ، مع أنّه في حالته الحاضرة - أعني قبل تحصيل شيء من الطرق - يعلم أو يحتمل أنّ بعض تلك الطرق سواء كانت مفيدة للقطع أو لم تكن مفيدة إلاّالظنّ ،

ص: 258


1- فوائد الأُصول 3 : 91.
2- فوائد الأُصول 3 : 90.

لا تكون مصيبة للواقع ، فلا مانع للحكيم من أن يأمره بسلوك أي طريق من تلك الطرق ولو كان ظنّياً ، لعلم ذلك الحكيم بأنّ ما تخطئه الطرق الظنّية ليس بأكثر ممّا تخطئه الطرق القطعية ، وليس ذلك الشخص ممّن انفتح له باب العلم الحقيقي بالواقع ، وإنّما هو ممّن انفتح له باب القطع بالواقع ، وشتّان بين الانفتاحين ، بل لا يلزم في مثل ذلك أن تكون تلك الطرق الظنّية من الطرق العقلائية التي لا يكون الأمر بالعمل عليها إلاّإمضاء ، بل يجوز أن تكون تلك الطرق ممّا لا يعرفه العقلاء وقد جعلها الشارع حجّة ، لعلمه بأنّ مورد إصابتها أكثر من غيرها ، أو أنّ مورد الخطأ فيها مساوٍ له في غيرها.

قوله : وثالثاً : سلّمنا أنّ مجرّد الأقربية تقتضي الردع ... الخ (1).

الظاهر أنّ مراده بالأقربية إلى الخطأ هو زيادة خطئها على خطأ الطرق العلمية ، كما صرّح به في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : ثمّ إنّه إذا سلّمنا أقربية الطرق العلمية عن غيرها وقلّة خطئها بالاضافة إليها - إلى قوله - نسبة العشرة إلى التسعة إلى آخره (2).

لكن لا يخفى أنّا إذا التزمنا بالمصلحة التسهيلية وأنّها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، لا يفرّق حينئذ بين كون موارد المخالفة قليلة وكونها كثيرة. نعم لابدّ أن تكون مصلحة التسهيل قابلة لأن يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، وهذا شيء لا يعرفه إلاّالشارع ، فلو أمرنا الشارع بسلوك الأمارات مع فرض علمنا بأنّ الخطأ فيها أكثر من الطرق العلمية ، لكان يلزمنا الإذعان بذلك ، لإمكان كون مصلحة التسهيل مصلحة مهمّة على وجه يتدارك بها ما يفوتنا من

ص: 259


1- فوائد الأُصول 3 : 92.
2- أجود التقريرات 3 : 113 - 114.

مصلحة الواقع ولو كانت كثيرة ، إلاّ أنّها كثيرة في حدّ نفسها مع كون مصلحة التسهيل أكثر منها بكثير ، بل مقتضى ذلك هو جواز ذلك حتّى لو كانت الأسباب المفيدة للعلم بالواقع مصيبة كلّها على وجه لا يتطرّق إليها الخطأ ، لأنّا لو فتحنا مصلحة التسهيل وأنّها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لم يفرّق في جواز الأمر بسلوك الأمارات بين كون الطرق العلمية مشتملة على الخطأ وكونها غير مشتملة عليه ، كان خطؤها أكثر من خطأ الأمارات أو كان أقلّ ، كانت الأقلّية بدرجة العشر أو كانت أكثر من ذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مراد شيخنا قدس سره بالأقربية سؤالاً وجواباً ليست هي كثرة الخطأ واقعاً ، بل المراد هو الأقربية إلى الخطأ بنظر العقلاء ، وإن لم تكن كذلك في الواقع وفي نظر الشارع ، ولعلّ ما تضمّنه التحرير المطبوع في صيدا قبل قوله : ثمّ إذا سلّمنا الخ ، لا يخلو عن إشارة إلى ذلك ، كما أنّ صدر هذا التحرير الموجود في هذا الكتاب لا يخلو عن الاشارة إلى ذلك ، وأصرح من ذلك في بيان هذه الجهة ما نقلته عنه قدس سره وهذا نصّ ما كنت حرّرته عنه قدس سره :

إنّ كون الطرق العلمية كثيرة الخطأ لا يستلزم انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية ، بل يكون باب العلم منفتحاً ومع ذلك تكون موارد الخطأ في الطرق العلمية كثيرة الخطأ ، ( وحينئذ فلو كان هناك أمارة قد اطّلع الشارع على أنّ موارد الخطأ فيها أقل أو مساوٍ للطرق العلمية فلا مانع من أمره بسلوكها ) (1).

فإن قلت : إنّ كون الطرق الظنّية أقل خطأً من الطرق العلمية أو مساوية لها فيه بنظر الشارع ، لا يكون إلاّمن باب علم الغيب ، وهو غير نافع في مقام التشريع حيث إنّ المكلّف إذا فرض أنّه يرى كثرة الخطأ في هذه الأمارة ، وأنّ الخطأ إليها

ص: 260


1- هذه الجملة كانت في الدرس السابق ألحقناها هنا تتميماً [ منه قدس سره ].

أقرب من الطرق العلمية ، فهو يرى العمل بها قبيحاً لكونه مفوّتاً للمصلحة الواقعية ، فلم يكن علم الشارع بالغيب واطّلاعه على المساواة نافعاً في سلوك تلك الأمارة ، فتأمّل.

قلنا : هذا الإيراد إنّما يتوجّه لو لم تكن الطرق الظنّية المذكورة طرقاً عقلائية يسلكها العقلاء في أُمورهم ، أمّا لو كانت كذلك فلا يتوجّه الإيراد المذكور. نعم أقصى ما في البين أنّ تلك [ الطرق ] الظنّية لو كان الخطأ فيها أكثر من الطرق العلمية لردعهم عنها كما ردعهم عن العمل بالقياس ، فلمّا لم يردعهم عنها ، نستكشف من ذلك أنّ الخطأ فيها ليس بأكثر منه في الطرق العلمية ، فلم يبق إلاّ كونها في نظر العقلاء أقرب إلى الخطأ من الطرق العلمية ، وأنّ تلك الطرق العلمية أقرب إلى إصابة الواقع ، وهذه الأقربية ممنوعة ، لما عرفت من أنّ الكلام إنّما هو في الطرق العقلائية التي يسلكها العقلاء في أُمورهم ، وهم يرونها كسائر الطرق العلمية المحصّلة للعلم بنظرهم ، ولا يرونها أقرب إلى الخطأ منها. ولو سلّم ذلك بأن نلتزم بأنّ هذه الطرق أقرب إلى الخطأ من غيرها (1) ، فنقول : لا مانع من الأمر بسلوكها ملاحظة للمصلحة النوعية في سلوكها وهي التسهيل على نوع المكلّفين ، وإن فاتت بذلك المصلحة الشخصية ، فإنّ الجري على طبق المصلحة النوعية وإلغاء المصلحة الشخصية ليس بعزيز ، كما لو تترّس الكفّار ببعض المسلمين ، انتهى.

وظاهره أنّ التسهيل هو بنفسه مصلحة تقتضي الأمر بالعمل على الأمارة الظنّية ، لكن ظاهر إضافة المصلحة إلى التسهيل كما هو في هذا التحرير والتحرير المطبوع في صيدا أنّ التسهيل فيه مصلحة ، لا أنّه بنفسه هو المصلحة.

ص: 261


1- قلت : كان الأولى التعبير هنا بأكثرية الخطأ واقعاً [ منه قدس سره ].

وكيف كان ، نقول : إنّ هذه المصلحة النوعية الحاصلة بالتسهيل أو التسهيل بنفسه ، لا يكون الشخص الذي فاتته المصلحة الواقعية محروماً منها ، كي يكون من باب ترجيح مصلحة النوع والنظام مثلاً على مصلحة الشخص ، بل لا يكون إلاّ من باب ترجيح مصلحة ذلك الشخص من التسهيل عليه على تلك المصلحة التي تفوته من الواقع ، فلا حاجة إلى ما كتبه في هذا التحرير (1) على الهامش من الاحتياج إلى المصلحة السلوكية ، فتأمّل.

نعم ، لو كان شخص يسهل عليه إعمال أسباب القطع ، على وجه يكون سلوكها مساوياً أو أسهل عليه من السعي وراء الأمارة وسلوكها ، لم يكن لذلك الشخص حظ من التسهيل الذي هو مصلحة سلوك الأمارة ، ففي مثل هذا الشخص يكون من قبيل تقديم المصلحة النوعية ، لكن على وجه لا داعي لجعل حجّية الأمارة مطلقة ، لإمكان أن يجعل حجّية الأمارة مقيّداً بما إذا كان سلوكها أسهل على المكلّف من سلوك الطرق العلمية ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون مسألة تترّس الكفّار بأسرى المسلمين من قبيل ترجيح المصلحة النوعية على الشخصية تأمّلاً ، إذ ليس في البين فوت مصلحة على أُولئك الأسرى ولا إيقاع في المفسدة ، إذ ليس في البين إلاّانعدام حياتهم ، وليس هو من هذا القبيل وإلاّ لما شرّع الجهاد ، لأنّ فيه انعدام حياة المجاهد ، بل لو كان الأمر كذلك لما كانت سنّة الموت في عالم التكوين صحيحة من العادل ، بل المراد بالمصالح والمفاسد ليس هو مجرّد انعدام الحياة ، بل هو ما يكون باعثاً على الجهاد الذي هو تعريض النفس لانعدام الحياة ، ولولا تلك المصالح لكان الجهاد إلقاء في المهلكة.

ص: 262


1- فوائد الأُصول 3 : 94.

قوله : وإن أبيت عن ذلك كلّه وقلت : إنّ في التعبّد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة ، إمّا لكونها أكثر خطأ من العلم ، وإمّا لكونها أقرب إلى الخطأ ، وإمّا لكون المصلحة التسهيلية لا يصحّ رعايتها ... الخ (1).

قد ظهر لك ممّا قدّمناه أنّ هذه الأقسام غير متقابلة ، وكان ينبغي أن يكون تحرير هذا الاعتراض بهذه الصورة ، وهي : أنّك لو أبيت عن ذلك وقلت : إنّ الأمارة أكثر خطأ من العلم ، وأنّ المصلحة التسهيلية لا يصحّ رعايتها في قبال ما يفوت بالعمل بالأمارة من المصالح الواقعية ، أو قلت : إنّ الأمارة في نظر المكلّف أقرب إلى الخطأ من العلم وإن لم تكن كذلك في الواقع وفي نظر الشارع.

والذي حرّرته عنه قدس سره في بيان هذا الاعتراض هو بهذه الصورة ، وهي : أنّه لو تنزّلنا عن هذا الذي ذكرناه من كفاية المصلحة النوعية التسهيلية في تفويت المصلحة الشخصية الواقعية ، وقلنا بعدم كفايتها في تفويت المصلحة الواقعية ، فلا محيص لنا حينئذ من الالتزام بالمصلحة السلوكية الخ. لكن الأمر سهل بعد وضوح المراد ، هذا.

وربما أُورد على ما ذكرناه من انسداد باب الطرق العلمية بأنّه وإن كان في حقّنا مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يدفع الإشكال عن حجّية الأمارات الظنّية مثل خبر الواحد بالنسبة إلى من تقدّمنا ممّن هو في عصر الحضور ، فإنّ ما دلّ على حجّية خبر الواحد لم يكن مقيّداً بزمان الغيبة ، بل بعضه ظاهر الشمول لزمان الحضور لكونه وارداً في مورد الحضور مثل آية النبأ (2) وآية النفر (3) ، إلاّأن يلتزم بتقييدها بعدم

ص: 263


1- فوائد الأُصول 3 : 94.
2- الحجرات 49 : 6.
3- التوبة 9 : 122.

التمكّن من السماع من نفس المعصوم عليه السلام ، ولو لأجل كونه في بلد آخر ، كما يشعر به قول السائل : ربما لا ألقاك ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني (1)؟ ولكن لا يخفى بعده.

والجواب عن ذلك : بأنّا لو سلّمنا حصول العلم بالسؤال من نفس المعصوم عليه السلام لمن كان في عصره عليه السلام ، إلاّ أنّه لا يخرج بذلك عن حجّية الأمارات العقلائية مثل أصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم التقية ونحو ذلك من الأُصول العقلائية ، غايته أنّ تلك الأمارات والأُصول العقلائية ربما استغنى عنها السامع لقطعه بالمراد من دون إعمالها ، لكنّا ينبغي لنا أن نسأل من ذلك السامع عن سبب قطعه ، فإن كان لأجل كون الكلام نصّاً في ذلك الذي قطع على وجه لا يكون احتمال الخلاف متحقّقاً ، فذلك أقلّ قليل بل لا يكون واقعاً ، وإن كان قطعه اتّفاقياً مع كون الكلام بعينه لو سمعه سامع آخر لكان محتاجاً إلى إجراء قواعد الظهور ، كان ذلك القطع اتّفاقياً ، فلا يكون أساسياً على وجه يصحّ للشارع إيكال الناس إلى مثل ذلك القطع الاتّفاقي الحاصل من ذلك السماع ، بحيث يكون تجويزه العمل على الأمارات تفويتاً للمصالح الواقعية.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ ذلك القطع إنّما حصل من نفس الأمارة التي هي أصالة الظهور ، فلا يكون سبباً مستقلاً غير الأمارات كي يقال إنّ جعل حجّية الأمارات يكون مفوّتاً للمصلحة التي تدرك بأسباب العلم ، بل لم يكن في البين حينئذ إلاّتلك الأمارات ، فإن حصل القطع بسببها فهو ، وإلاّ كان باب القطع بالواقع منسدّاً بالنسبة إلى من لم يحصل له القطع بسببها ، فلا يكون جعل الشارع حجّيتها بقول مطلق سواء أفادت العلم أو لا ، مفوّتاً للمصالح التي يحصل عليها

ص: 264


1- وسائل الشيعة 27 : 147 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 33 ، 35.

المكلّف بواسطة الأسباب العلمية.

فلا يبعد القول بأنّ ما يذكره الجماعة من انفتاح باب العلم هنا من قبيل الخلط بين باب العلم هنا وباب العلم في دليل الانسداد ، فإنّه هناك بمعنى انفتاح باب العلم أو ما يقوم مقامه من الظنون الخاصّة ، والمقصود به هنا باب العلم القطعي الوجداني ، فلا انفتاح هنا إلاّبواسطة الظنون الخاصّة ، فلو سددنا باب الظنون الخاصّة كما يرومه ابن قبة لم يكن باب العلم القطعي منفتحاً لنا.

نعم يتأتّى إشكال ابن قبة في حجّية الأمارات الواردة في الشبهات الموضوعية التي يكون التمكّن من تحصيل العلم بها متحقّقاً ، كما في موارد قيام البيّنة على الهلال مثلاً أو الوقت ونحو ذلك ، وحينئذ لا مندوحة لنا في ذلك إلاّ الالتزام بأنّ الشارع قد علم زيادة الخطأ في تلك الطرق العلمية عليه في الأمارات الظنّية ، مع فرض كونها عقلائية يسلكها العقلاء في أُمورهم ولا يقبّحون الركون إليها مع التمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، بل ولو كانت حجّيتها تأسيسية ، نظراً إلى ما ذكرناه من علم الشارع بأغلبية إصابتها بالنسبة إلى الطرق العلمية ، أو الالتزام بأنّ الشارع قد لاحظ التسهيل على نوع المكلّفين فجوّز لهم ترك السعي إلى الأسباب المفيدة للعلم ، ورخّصهم في الاعتماد على الأمارات ولو كان الخطأ فيها أكثر في الجملة من تلك الطرق العلمية ، حتّى بالنسبة إلى الشخص الذي يتّفق له سهولة تلك الأسباب العلمية ، كمن كان يمكنه التفحّص بنفسه عن الهلال أو الوقت ، على وجه يكون تصدّيه بنفسه أسهل عليه من التماس عادلين يشهدان بذلك ، فإنّ ذلك يكون تنازلاً من الشارع عن المصلحة الواقعية ما دامت الأمارة بحالها ولم ينكشف خلافها ، أمّا فوت المصلحة على المكلّف أو وقوعه في المفسدة ، فنلتزم فيه بالتدارك حتّى لو كانت تلك المصلحة الفائتة أو المفسدة التي وقع فيها من المصالح الدنيوية ، كلّ ذلك محافظة من الشارع للتسهيل على النوع

ص: 265

وإن لم يكن تسهيلاً على ذلك الشخص الخاصّ ، لما عرفت من أنّ الجري على طبق الأمارة مع التمكّن من العلم ليس إلزامياً بل هو ترخيصي.

ومع ذلك كلّه لابدّ من الموازنة بين المصلحة التسهيلية والمصلحة الواقعية ، ولا يدور ذلك مدار مجرّد قلّة موارد خطأ الأمارة الزائد على موارد خطأ العلم ، فلاحظ وتأمّل فإنّ عمدة شبهة ابن قبة والجواب عنها إنّما هو في الأمارات الجارية في الشبهات الحكمية ، وقد عرفت أنّه لا مورد فيها للشبهة المذكورة أصلاً ، لفرض انسداد باب القطع في تلك الشبهات ، فتأمّل.

وظنّي وإن كان الظنّ لا يغني شيئاً من الحقّ ، أنّ هذه الكلمة الصادرة من ابن قبة هي نظير ما عن السيّد المرتضى من إنكار حجّية أخبار الآحاد ، ودعواه الإجماع على ذلك ، مع أنّا في الفقه لو جرّدنا استدلالنا عن أخبار الآحاد ممّا هو موجود في جوامع أصحابنا وكتبهم ، وقصرنا الاستدلال على المتواترات والآيات لكان لنا فقه آخر غير هذا الفقه الذي بأيدينا ، ولا أظنّ فقه سيّدنا المرتضى مقصوراً على المتواترات ، بل الذي أظنّ أنّ غرضه من أخبار الآحاد الأخبار الانفرادية التي لم يدخلها الأصحاب في كتبهم وجوامعهم ، وأنّ ما هو داخل في تلك الكتب والجوامع خارج عن أخبار الآحاد ، فهو لا يعني بأخبار الآحاد إلاّ الشواذ والنوادر ، أمّا ما هو موجود في كتب أصحابنا ويرويه ثقاتنا ، فهو معدود في نظره من الأخبار المشتملة على قرائن الصحّة مثلاً ، وكأنّه لأجل ذلك ادّعى بعض المحدّثين كونها مفيدة للعلم.

فلعلّ نظر ابن قبة إلى هذه الجهة ، وهي أنّه لدينا أسباب مفيدة للعلم العادي ، وهي تلك الأخبار التي اشتملت عليها كتب أصحابنا ، ورواها ثقاتهم الذين عنهم أخذنا معالم ديننا ، والذين هم الواسطة بيننا وبين أئمّتنا ، وقد أمرونا بتصديقهم والأخذ عنهم ، ومع وجود هذه الوسائط لدينا لا معنى للركون إلى ما

ص: 266

يرويه الآحاد ، وينفرد به راويه شاذّاً عن مجموعة أصحابنا ، وهذا النحو من الشواذ لو قلنا إنّه حجّة كان محلّلاً للحرام ومحرّماً للحلال ممّا هو موجود في نحلتنا وطريقتنا ، وإن كان هذا تأويلاً بعيداً إلاّ أنّه لابدّ من الالتزام به.

والحاصل : أنّ مثل هؤلاء لا يمكن الجزم بظواهر كلماتهم خصوصاً مثل سيّد المذهب ورئيسه ، وكيف يعقل أن نجزم بأنّه لا يرى العمل بما اشتملت عليه كتب أصحابنا وكلّها أخبار آحاد ، بل أعظم من ذلك أنّه يدّعي عليه الإجماع ، دع عنك أنّا لو أسقطنا ما في الكتب المزبورة مثل الكافي وغيره ممّا كان في عصره لكان فقهنا فقهاً آخر ، أفتراه أنّه غير مطّلع على مذهبنا الذي هو أُسّه وأساسه ، فينسب إليه أنّه لا يعمل فيه بأخبار [ الآحاد ] ، كلّ ذلك لا يمكن التصديق به ، ولأجل ذلك لابدّ من تأويل كلماته بنحو ما عرفت. ومثله ابن قبة ، فإنّه على ما ذكره الشيخ أقدم من السيّد ، لكن ذلك - أعني قدمه - لا يصحّح لنا أن ننسب إليه دعوى كون الأخبار قطعية الصدور والدلالة الذي هو الانفتاح التامّ ، فإنّ ذلك أيضاً ممّا لا يمكننا نسبته بظاهره لأحد من علمائنا المتقدّمين ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل : أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّة في حقّ العالم بها - إلى قوله : - وهذا هو التصويب الأشعري الذي قامت الضرورة على خلافه وقد ادّعي ( المدّعي هو الشيخ ) تواتر الأخبار على أنّ الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل ، أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ ... الخ (1).

والوجه في رجوعه إلى تصويب الأشاعرة ، لأنّ الأحكام حينئذ لا تكون

ص: 267


1- فوائد الأُصول 3 : 95.

واقعية مجعولة في حقّ مكلّف من المكلّفين ، وإنّما تكون تابعة لآراء المجتهدين سواء كان الطريق للمجتهد علمياً أو كان ظنّياً ، فإنّ تسمية الأوّل حكماً واقعياً حينئذ لا يخلو من تسامح ، لأنّ موضوعه هو الطريق ، وإنّما يتحقّق بعد قيام الطريق سواء كان ذلك الطريق علمياً أو كان ظنّياً ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الناس لا حكم لهم أصلاً إلاّبعد قيام الطرق ، أو يكون هناك أحكام واقعية معلّقة على العلم أو الظنّ تكون على طبق العلم أو الظنّ ، ويكون ذلك نظير ما يقال في الواجب التخييري : إنّ الواجب هو ما يعلم اللّه أنّ العبد يختاره.

نعم ، بالنسبة إلى من كان ظنّه مطابقاً لمن حصل له العلم يكون حكمه ناشئاً عن ظنّه ، فيكون حكماً آخر غير ذلك الحكم الحاصل من علم العالم ، لا أنّ هناك حكماً واقعياً يشترك فيه العالم والظانّ به ، وأنّ الظانّ بالخلاف فقط يكون حكمه على خلاف ذلك الحكم الواقعي المجعول في حقّ العالم والظانّ به ، كما ربما تشعر به عبارة الشيخ قدس سره بقوله : فتكون الأحكام الواقعية مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم له ، أو محكوم بما يعلم اللّه تعالى أنّ الأمارة تؤدّي إليه الخ (1) فإنّ هذه العبارة تعطي أنّ هناك حكماً واقعياً مختصّاً بالعالمين والذين تقوم عندهم أمارة على طبقه ، وأنّ الجاهل الذي لم تقم عنده أمارة على طبقه إمّا لا حكم له أصلاً إلاّبعد أن تقوم عنده أمارة على الخلاف ، فيكون ذلك الخلاف حكمه ، أو أنّه محكوم فعلاً بذلك الخلاف الذي يعلم اللّه أنّ الأمارة عنده تؤدّي إليه.

إلاّ أنّ هذا الظاهر غير مراد ، بل المراد هو الاختصاص بالعالم ، وأنّ حكم الجاهل تابع لقيام الأمارة عنده ، كما يدلّ عليه قوله في الوجه الثاني : والفرق بينه

ص: 268


1- فرائد الأُصول 1 : 113.

وبين الوجه الأوّل بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ، أنّ العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ، ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم كان ظنّه مانعاً عن المانع وهو الظنّ بالخلاف (1).

فإنّ هذه العبارة تعطي أنّه على الأوّل يكون حكم صاحب الأمارة الموافقة ناشئاً عن أمارته ، لا أنّه حكم واقعي توصّل إليه بالأمارة ، بخلافه على الثاني فإنّه على الثاني يكون لنا أحكام واقعية مجعولة في حقّ كلّ أحد ، وقد توصّل إليه العالم وصاحب الأمارة الموافقة ، لكن صاحب الأمارة المخالفة ينقلب حكمه من جهة الكسر والانكسار.

وكيف كان ، نقول : إنّه على الأوّل تكون الأحكام الواقعية تابعة للطريق سواء كان علمياً أو كان ظنّياً ، فإنّا كما تصوّرنا الخطأ في الظنّ فكذلك نتصوّر الخطأ في العلم ، فذلك العالم المخطئ ماذا يكون حكمه في الواقع ، لابدّ أن نقول ما أدّى إليه قطعه وعلمه ، فتكون النتيجة أنّ الحكم تابع للطريق أيّاً كان.

اللّهمّ إلاّأن يدّعى أنّ الحكم الواقعي مجعول في حقّ من توصّل إليه بالعلم المصيب والأمارة المصيبة ، وغير هؤلاء يكون حكمه الواقعي على طبق طريقه المخطئ. ولكن هذا مجرّد تغيير عبارة ، والحقيقة أنّ الحكم الواقعي يكون تابعاً للطريق سواء كان علمياً أو كان ظنّياً ، ولا معنى للقول حينئذ بأنّ العلم والطريق تارةً يكون مخطئاً وأُخرى يكون مصيباً ، بل كلّ منهما يكون الحكم الواقعي على طبقه دائماً ، هذا على الأوّل ، وأمّا على الثاني فالذي ينبغي أن يقال : إنّا بعد أن التزمنا بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل كما يعطيه كلام الشيخ قدس سره في طليعة هذا الوجه الثاني ، وأضفنا إلى ذلك قولنا بالسببية في قيام

ص: 269


1- فرائد الأُصول 1 : 114.

الأمارات ، ينبغي أن نلتزم في صورة الأمارة المخالفة بالكسر والانكسار ، وفي صورة الأمارة الموافقة بالتأكّد أو اجتماع المثلين ، إلاّأن نقول إنّ سببية الأمارة للمصلحة إنّما هو في صورة المخالفة دون الموافقة. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ سببية الأمارة لو قلنا [ بها ] لا تكون إلاّواقعية غير منوطة باصابة أو خطأ.

ويبقى الكلام في العالم المخطئ ، وظاهر كلامهم في تقرير هذا الوجه الثاني ، أنّ حكمه هو ذلك الحكم الواقعي ، غير أنّه يكون معذوراً بواسطة جهله به لا أنّ حكمه الواقعي يكون تابعاً لعلمه وقطعه كما ذكرناه في الوجه الأوّل ، وحينئذ يكون حاصل هذا الوجه الثاني أنّ الأحكام موجودة في واقعها بالنسبة إلى عامّة المكلّفين إلاّمن قامت عنده الأمارة على الخلاف ، فإنّه يكون حكمه الفعلي على طبق الأمارة المخالفة ، ويبقى الحكم الواقعي في حقّه شأنياً اقتضائياً كما قال الشيخ قدس سره : فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه وشأني في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظنّ على خلافه الخ (1).

ولازم ذلك أنّ ذلك الحكم الواقعي فعلي حتّى في حقّ القاطع بخلافه ، غايته أنّه لأجل جهله يكون معذوراً في مخالفته ، فيكون فاقداً لدرجة التنجّز ليس إلاّ ، بخلاف الظانّ بخلافه فإنّه لا يكون في حقّه فعلياً ، فإمّا أن يبقى اقتضائياً وشأنياً ، أو يمكننا القول بأنّه يكون واصلاً إلى درجة الانشاء وإن لم يصل إلى درجة الفعلية ، كما ربما يستفاد من جملة من مباحث صاحب الكفاية قدس سره (2).

لكن الظاهر أنّه لا يصل إلى درجة الانشاء ، لما عرفت من التزاحم في مقام التشريع بين المصلحة الواقعية والمصلحة الآتية من قبل الأمارة على الخلاف ،

ص: 270


1- فرائد الأُصول 1 : 114.
2- كفاية الأُصول : 469.

وحينئذ لابدّ أن لا يكون إلاّشأنياً اقتضائياً ، وذلك ليس إلاّعبارة عن وجود المقتضي المغلوب ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس بحكم شرعي ، فلأجل ذلك نقول إنّه تصويب ، لكنّه تصويب في خصوص الأمارة المخطئة ، أمّا المصيبة فعلى ما ذكره الشيخ وتبعه شيخنا قدس سره في أنّها لا أثر لها فلا تصويب فيها ، ولكن قد عرفت الإشكال في ذلك وأنّها لابدّ أن تؤثّر ، غايته أنّه يلزم الاندكاك أو اجتماع المثلين ، فتكون النتيجة هو التصويب في الأمارات مخطئها ومصيبها ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يعلم الحال في الوجه الثالث الراجع إلى المصلحة السلوكية ، فإنّها على تقديرها تكون أيضاً مصلحة واقعية تابعة لواقعها ، بمعنى أنّها غير مجعولة للشارع ، فلا تكون منوطة بالخطأ ، بل تكون حاصلة في كلّ من موارد الاصابة وموارد الخطأ ، ولا يختلف حالها في ذلك أصلاً ، كما أنّها لا يختلف مقدارها بالنسبة إلى موارد تبيّن الخطأ بعد العمل بالأمارة باعتبار كون التبيّن واقعاً في أوّل وقت الفضيلة للصلاة الواقعية أو بعده ، قبل انقضاء أو بعد انقضاء الوقت ، أو عدم الانكشاف إلى الموت كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : ولا بدّ وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلّف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك ... الخ (2).

فيه تأمّل ، فإنّ السلوك عبارة عن الركون إلى الأمارة وجعلها طريقاً إلى الواقع والعمل على طبقها ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يختلف سعة وضيقاً باعتبار الأوقات التي ينكشف فيها خلاف الواقع بعد الفراغ من العمل ، إذ لا يخرج

ص: 271


1- في الحاشية الآتية.
2- فوائد الأُصول 3 : 96.

السلوك والعمل على طبق الأمارة عمّا هو عليه من واجدية المصلحة ، سواء كان الانكشاف في الوقت أو كان في خارجه ، فلابدّ أن تكون مصلحة السلوك في جميع ذلك واحدة لم تختلف سعة وضيقاً ، فلا وجه لأن نقول : إنّها في صورة انكشاف الخلاف في أوّل الوقت تكون بمقدار ما يتدارك به فوت المصلحة أوّل الوقت من الفضيلة ، ولو كان في أثناء الوقت بعد خروج وقت الفضيلة تكون المصلحة الحاصلة في السلوك أيضاً بمقدار ما يتدارك به ما فات من ذلك المقدار من الوقت ، ولو كان بعد خروج الوقت كانت المصلحة المذكورة بمقدار تدارك الوقت ، وإن كان وقت الفضيلة باقياً لم يكن هناك مصلحة في السلوك أصلاً الخ.

فإنّ هذا التفاوت إنّما يكون لو كانت المصلحة السلوكية تفضّلاً من جانب الشارع ، أمّا إذا كانت واقعية حاصلة من نفس السلوك وقد تحقّق في الخارج كما هو الفرض ، ومن الواضح أنّه لا يختلف في ذلك سعة وضيقاً ، فلابدّ أن نقول : إنّ المصلحة السلوكية واحدة في الجميع لم تختلف سعة وضيقاً.

بل ينبغي أن يقال : إنّ هذه المصلحة موجودة حتّى في صورة مطابقة الأمارة للواقع ، غايته أن يكون هناك - أعني في مورد الاصابة - مصلحتان ، فمصلحة في نفس صلاة الظهر مثلاً يوم الجمعة ، ومصلحة أُخرى حاصلة من سلوك الأمارة الدالّة على وجوبها ، وهذه المصلحة الثانية لم تفوّت عليه المصلحة الأُولى ، بل يكون المكلّف قد حصل على كلا المصلحتين ، وهذه المصلحة الثانية حاصلة بنفسها في مورد خطأ الأمارة ، لكن مصلحة الواقع بعد باقية بحالها ، فلو لم ينكشف الخطأ إلى الموت ، أو فرض أنّ ذلك الذي أخطأت فيه ليس له قضاء ، لم يكن الواقع الذي أخطأته خالياً من المصلحة ، غايته أنّ المكلّف يكون معذوراً في عدم تحصيل تلك المصلحة ، لأجل جهله بها وأمر الشارع له بالعمل على طبق

ص: 272

الأمارة التي أخطأته ، ومن الواضح أنّ مقتضى ذلك هو بقاء المصلحة الواقعية على ما هي عليه من كونها لازمة التحصيل لو التفت إليها المكلّف وتبيّن له الخطأ في تلك الأمارة ، وإن لم يكن تبيّن الخطأ فيها موجباً لرفع ذلك الصلاح الذي ناله المكلّف بسلوكها قبل انكشاف خطئها ، فيكون عدم الاجزاء مستنداً إلى بقاء المصلحة الواقعية الملزمة بحالها مع فرض عدم انكسارها بالمصلحة السلوكية ، وتكون النتيجة من ذلك كلّه أنّه عند انكشاف الخلاف يكون المكلّف قد نال المصلحة السلوكية بتمامها ، كما أنّه ينال ما يمكنه تلافيه من مصلحة الواقع بالاتيان به أداءً في آخر الوقت ، أو الاتيان به قضاءً في خارج الوقت ، هذا.

وقد بقي في النفس تشكيك في المصلحة السلوكية ، وكيف لا تكون موجبة للانتهاء إلى التصويب المعتزلي ، فإنّ المقام - أعني مقام المصلحة السلوكية - وإن لم يكن من قبيل الكسر والانكسار مع المصلحة الواقعية ، كما هو مقتضى الوجه الثاني من الوجوه المذكورة الذي هو راجع إلى التصويب المعتزلي إلاّ أنّه يكون نظيره في غضّ الشارع النظر عن المصلحة الواقعية ، بحيث إنّها لا تكون مؤثّرة عنده في الإلزام على طبقها ، ويكون من قبيل التزاحم في مقام الجعل والتشريع ، حيث إنّ استيفاء المصلحة في الفعل الواجب واقعاً يكون مزاحماً في المصلحة في سلوك الأمارة القائمة على حرمته مثلاً.

وتوضيح ذلك : أنّا نفرض أنّ المصالح الواقعية الموجبة لجعل التكاليف على طبقها ألف مصلحة مثلاً ، ثمّ إنّ الشارع لاحظ أنّ للمكلّف في الوصول إلى تلك المصالح طريقين : أحدهما الطريق العلمي المفروض أنّه لا يخطئ ، والآخر الأمارة المفروض أنّها تخطئ ولو مرّة واحدة في جميع تلك المصالح ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو في صورة كون المكلّف متمكّناً من تحصيل العلم بالواقع لوجود

ص: 273

الأسباب المفيدة للعلم ، وفي فرض كون خطأ الأمارة زائداً على خطأ الأسباب العلمية ، إذ مع عدم التمكّن من الأسباب العلمية لا حاجة إلى المصلحة السلوكية ، كما أنّه لو كانت موارد الخطأ في الأمارة بمقدار موارد الخطأ في الأسباب العلمية لم نكن محتاجين إلى المصلحة السلوكية ، بل ولا المصلحة التسهيلية ، ومحلّ الكلام إنّما هو في المورد الذي تخطئه الأمارة زائداً على الطرق العلمية ، مع فرض تمكّن المكلّف من سلوك الطرق العلمية التي لا يقع فيها ذلك الخطأ الزائد.

فنقول : معنى أنّ الشارع قد أمر بسلوك الأمارة لأجل مصلحة في سلوكها ، وتلك المصلحة يتدارك بها تلك المصلحة الواقعية التي تفوت بواسطة سلوكها ، هو أنّه يقع التزاحم في نظر الشارع بين تلك المصلحة التي تفوت بخطأ الأمارة وبين المصلحة السلوكية التي تحصل بسلوك الأمارة ، فإنّ مقتضى المحافظة على المصلحة الأُولى هو الإلزام بالطرق العلمية ورفع اليد عن المصالح السلوكية ، ومقتضى المحافظة على المصلحة الثانية هو رفع اليد عن المصلحة الأُولى وتسويغ سلوك الأمارات للحصول على مصالح السلوك فيها ، وحيث إنّ مصلحة السلوك كانت أهمّ في نظره ، قدّمها على تلك المصلحة الفائتة بخطأ الأمارة ، فلازم ذلك أنّ تلك المصلحة الواقعية كانت مغلوبة بهذه المصلحة السلوكية ، بمعنى أنّها في ذلك الحال - أعني حال الجعل والتشريع - لم تكن قابلة لأن يعتني الشارع بها ، فلا فرق بين كون المصلحة في نفس الفعل مغلوبة بفساد في نفسه بواسطة عنوانه الثانوي ، أعني كونه ممّا قامت الأمارة على حرمته ، كما هو مقتضى الكسر والانكسار الذي هو راجع إلى التصويب المعتزلي ، أو أن تكون المصلحة في نفس الفعل مغلوبة بصلاح آخر خارج عن الفعل ، بل كان واقعاً في الطريق إلى الواقع.

ص: 274

وكون هذا الصلاح متأخّراً في الرتبة كما تضمّنته التحريرات بقوله : فليست المصلحتان في مرتبة واحدة حتّى يقع بينهما الكسر والانكسار الخ (1). وكذلك قوله في هذا التحرير : وبالجملة المصلحة في الوجه الثالث إنّما تكون في السلوك وتطبيق العمل على مؤدّى الأمارة ، لا في نفس المودّى الخ (2) ، كلّ هذا لا تندفع به شبهة الكسر والانكسار ، بعد فرض أنّه لا يمكن المحافظة على كلّ من المصلحتين ، سواء كانتا طوليتين أو كانتا عرضيتين ، إذ ليس ذلك إلاّمن قبيل تزاحم الفعلين المتنافيين في مقام الجعل والتشريع.

لا يقال : هذا لو كان مصلحة السلوك إلزامية ، إذ لا يمكن للشارع أن يلزم بالفعل الواقع مع إلزامه بسلوك الأمارة المفروض كونها مفوّتة للمصلحة الواقعية ، أمّا إذا كان السلوك ترخيصياً ، بمعنى كون المكلّف مخيّراً بين سلوك الطرق العلمية فيستوفي الواقع ، وسلوك الأمارة فيفوته الواقع ، لكن يحصل على مصلحة السلوك ، فلا مانع من الأمر بالسلوك أمراً غير إلزامي ، بمعنى أنّه يرخّصه في سلوك الأمارة والعمل على طبقها كما هو المفروض ، حيث إنّ المكلّف متمكّن من تحصيل العلم بالواقع المفروض إصابته ، ومع ذلك يرخّصه الشارع في العمل على طبق الأمارة المفروض خطؤها ، لأنّه لو سلكها لحصل على مصلحة السلوك وهي مصلحة تعادل المصلحة الواقعية التي تفوت بسلوكها.

لأنّا نقول : مرجع ذلك إلى أنّ الشارع عند سلوك المكلّف الأمارة يكون متنازلاً عن المصلحة الواقعية ولو بمقدار اقتضائها تعيّن ذي المصلحة ، وهذا المقدار من التنازل يكفي في سراية إشكال التصويب.

ص: 275


1- أجود التقريرات 3 : 119.
2- فوائد الأُصول 3 : 96.

ومنه يظهر أنّ هذا الإشكال أعني لزوم ما هو من قبيل التصويب لا يختصّ بالمصلحة السلوكية ، بل هو جارٍ في المصلحة التسهيلية حرفاً بحرف ، فإنّ المكلّف في مورد كونه متمكّناً من الوصول إلى الواقع ، لا معنى لأن يسوّغ له الشارع العمل على طبق الأمارة المفروض كونها مفوّتة له لأجل ملاحظة التسهيل عليه أو على نوع المكلّفين على ما مرّ شرحه (1) ، إلاّالتنازل عن المصلحة الواقعية واقتضائها الالزام في ذلك.

نعم ، هناك شيء آخر لعلّه يومئ قدس سره إليه في اختلاف الرتبة وهو بقاء الالزام بالواقع ، ولا ينافيه تسويغ العمل بالأمارة لأجل اختلاف الرتبة ، وكأنّ ما حرّرته عنه قدس سره صريح في هذه الجهة وهذا نصّه :

ثمّ لو تنزّلنا عن هذا الذي ذكرناه من كفاية المصلحة النوعية التسهيلية في تفويت المصلحة الشخصية الواقعية ، وقلنا بعدم كفايتها في تفويت المصلحة الواقعية ، فلا محيص لنا حينئذ من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لكن لابدّ من تقريبها على وجه لا يكون راجعاً إلى القول بالتصويب ، وتوضيح ذلك : هو أنّ الأمر الظاهري لو كان في عرض الأمر الواقعي لورد عليه الإشكال المشار إليه الذي حاصله : أنّ الأمر الظاهري إن كان طريقياً صرفاً وكان عارياً عن المصلحة بالكلّية لزم تفويت المصلحة الواقعية ، وإن لم يكن كذلك بل كان ناشئاً عن مصلحة توجبه ، فإن كانت تلك المصلحة مساوية لمصلحة التكليف الواقعي ، كان مقتضاه التخيير بين التكليفين ، وإن كانت مصلحة الأمر الظاهري أقوى من مصلحة التكليف الواقعي ، وقع الكسر والانكسار بين المصلحتين ، وكان التكليف تابعاً لأقوى المصلحتين ، وحينئذ يكون التكليف الواقعي اقتضائياً لولائياً ، بحيث إنّه لو

ص: 276


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 259 وما بعدها.

ثبت التكليف الواقعي في هذه الصورة كان بلا مصلحة توجبه. أمّا لو كان التكليف الظاهري في طول التكليف الواقعي ، فلا يكون التكليف المذكور الناشئ عن قيام الأمارة الذي هو عبارة عن الهوهوية ، أو عن الأمر بسلوك تلك الأمارة كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى مزاحماً لذلك التكليف الواقعي ، ولا يحصل التدافع بين المصلحتين ، بل يكون كلّ من المصلحتين مؤثّرة في التكليف الذي هو على طبقها من دون تزاحم بينهما أصلاً ، لكون كلّ منهما في رتبة غير رتبة الآخر ، لما عرفت من الطولية بين التكليفين ، انتهى.

وفيه تأمّل ، فإنّ الكلام إنّما هو في تفويت المصلحة الواقعية ، وأنّها لا تكون مؤثّرة في جنب المصلحة السلوكية الذي هو شعبة من شعب التصويب ، ولو كان التأخّر الرتبي دافعاً لإشكال التصويب لدفعه على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي أفادها قدس سره في هذا التحرير (1) ، فإنّ مرجع الوجه الثاني إلى العنوان الأوّلي والثانوي ، ولا ريب في تأخّر العنوان الثانوي عن العنوان الأوّلي ، هذا كلّه.

مضافاً إلى اشتماله على الجمع بين التكليفين الواقعي والظاهري ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنّه قدس سره لا يرتضي الجمع بينهما باختلاف الرتبة ، كما مرّت الإشارة إليه في بعض مباحث القطع (3) المأخوذ موضوعاً لحكم مضادّ للحكم الذي تعلّق به القطع.

وبالجملة : أنّ الالتزام بمصلحة التسهيل أو مصلحة السلوك لا يخلو عن

ص: 277


1- فوائد الأُصول 3 : 95.
2- فوائد الأُصول 3 : 112 - 113 ، وحاشية المصنّف قدس سره عليه تأتي في الصفحة : 309 وما بعدها.
3- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

تنازل من الشارع عن المصلحة الواقعية ، وهو شعبة من شعب التصويب.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ التصويب المعتزلي لم يكن بطلانه من جهة عدم المعقولية كما في التصويب الأشعري ، بل كان بطلانه من جهة الإجماع على عدمه والإجماع إنّما قام على البطلان في صورة كون المصلحتين المتزاحمتين قائمتين بنفس الفعل ، وإن كانت إحداهما من جهة ذاته وعنوانه الأوّلي والأُخرى من جهة قيام الأمارة وعنوانه الثانوي ، كما هو مقتضى القول بالسببية. أمّا إذا كانت إحدى المصلحتين قائمة بنفس الفعل ، والأُخرى قائمة في سلوك الطريق المجعول لحفظه لكن اتّفق أن قد أخطأه ، فلا يكون مشمولاً للإجماع المذكور الذي هو راجع إلى الإجماع على اشتراك التكاليف ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الانكشاف على الأوّل يكون من قبيل تبدّل الموضوع ، بخلافه على الثاني فإنّه يكون من قبيل انكشاف الخلاف.

وفيه تأمّل ، فإنّك قد عرفت عدم تأثير المصلحة الواقعية في قبال المصلحة السلوكية ، فلا يكون تبيّن خطئها إلاّمن قبيل تبدّل الموضوع. نعم يمكن أن يدّعى أنّ القدر المتيقّن من الإجماع هو الصورة الأُولى دون الثانية. لكن لو فتحنا باب القدر المتيقّن من الإجماع لأمكن ادّعاء كون القدر المتيقّن من الإجماع هو النحو الأوّل من الأنحاء الثلاثة المذكورة في الكتاب ، دون الثاني والثالث.

ولكن أصل هذا الإشكال إنّما نشأ من دعوى أنّ هناك طرقاً معيّنة تكون مفيدة للعلم ، وطرقاً أُخرى معيّنة أيضاً وهي لا تفيد إلاّالظنّ ، وأنّ إصابات الطرق العلمية أكثر من إصابات الطرق الظنّية ، وقد عرفت أنّه يمكن تساوي الطريقين في الخطأ والاصابة ، فلا تفويت في الطرق الثانية زائداً على الطرق الأُولى ، وإن كانت موارد الاصابة في أحد الطريقين مغايرة لموارد الاصابة في الطريق الآخر ، هذا.

ص: 278

مضافاً إلى ما عرفت من إمكان المنع من هذه الدعوى أعني وجود طرق علمية ، بل ليس لنا إلاّالطرق العقلائية التي يسلكها العقلاء في أُمور معاشهم بل ومعادهم ، غايته أنّ بعض هذه الطرق ربما أفاد العلم ، لكن ما يفيده منها غير متعيّن في نفسه ، بل إنّ ذلك إنّما هو من جهة اختلاف الأشخاص والأطوار والأحوال.

ولو سلّم أنّ بعضاً منها معيّناً يفيد العلم وهو السؤال من نفس المعصوم عليه السلام وأغضينا النظر عن احتياجه إلى مثل تحكيم أصالة الظهور ، لكان ذلك أقل قليل من باقي الطرق بالنسبة إلى باقي المكلّفين ، فإنّ كلامنا إنّما هو في وصول نوع المكلّفين إلى الأحكام الكلّية ، وهذا التقدير متعذّر أو متعسّر بالنسبة إلى عامّة المكلّفين بالنظر إلى عامّة التكاليف.

وبالجملة : أنّ محلّ الكلام إنّما هو في طرق الأحكام الكلّية ، لا في طرق الموضوعات الخارجية ، فإنّك قد عرفت الكلام فيها ، فراجع (1).

ثمّ لا يخفى أنّه قد تكرّر في التحريرات المطبوعة في صيدا ، أنّه ليس المراد بالمصلحة السلوكية هو إعطاء المولى للعبد شيئاً من كيسه مجّاناً عند فوات الواقع بالعمل بالأمارة كما في ص 68 وص 69 (2). ولو كان الأمر كذلك - أعني كان الدفع مجّانياً - لارتفع الإشكال بحذافيره ، فإنّه بناءً على ذلك لا تخرج الأمارة عن كونها طريقاً صرفاً ، غايته أنّه عند خطئها يتفضّل الشارع بتعويض العبد ما فاته من المصلحة أو ما وقع فيه من المفسدة ، فإنّه بناءً على ذلك لا يلزم إشكال الكسر والانكسار ، ولا كون المصلحة السلوكية غير قابلة للتوسعة والتضييق بقدر ما

ص: 279


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 263 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 3 : 118 - 119.

يفوت المكلّف بخطأ الأمارة ، وإنّما جاءت الإشكالات من ناحية الالتزام بكون نفس سلوك الأمارة فيه مصلحة واقعية ينالها المكلّف عند خطأ الأمارة.

وحينئذ يتوجّه الإشكال أوّلاً : بأنّ هذه المصلحة السلوكية لا تختصّ بموارد الخطأ ، بل هي متحقّقة قهراً في موارد الاصابة ، غايته أنّه هناك تجتمع المصلحتان.

وثانياً : بأنّ هذه المصلحة الواقعية لا تختلف سعة وضيقاً في موارد تبيّن الخطأ.

وثالثاً : بأنّ الشارع في فرض موارد الخطأ مع فرض تمكّن المكلّف من الوصول إلى المصلحة الواقعية لا يمكنه الجمع بين المصلحتين ، فلابدّ أن تكون النتيجة في ذلك ما هو راجع إلى قواعد المزاحمة في مقام الجعل والتشريع.

وهذه الإشكالات خصوصاً الأخير منها لا تندفع بالتأخّر الرتبي الذي أشار إليه بقوله : وفي طول المصلحة الواقعية من دون أن يكون لها مساس بها أو بالحكم الناشئ من قبلها (1). وكذلك قوله : بل المصلحة السلوكية مترتّبة على وجود حكم واقعي أخبر الأمارة عنه وفي مرتبة متأخّرة عنه ، فضلاً عن المصلحة الداعية إلى جعله ، فكيف يمكن أن تكون هي مزاحمة لتأثير المصلحة الواقعية في جعل الحكم الواقعي الخ (2) ، فإنّ ذلك إنّما يمكن في صورة الاصابة ، أمّا في صورة الخطأ فإنّ مصلحة السلوك وإن كانت في طول المصلحة الواقعية ، إلاّ أنّ الشارع العالم بخطئها يعلم أنّ جعل حجّيتها مفوّت لمصلحة الواقع ، فهو لا يمكنه الاحتفاظ بكلا المصلحتين في هذه الصورة. ولو قلنا إنّ التأخّر الرتبي مؤثّر في

ص: 280


1- أجود التقريرات 3 : 118.
2- أجود التقريرات 3 : 119 - 120.

مثل هذه الصورة ، لكان مقتضاه هو عدم جعل حجّية الأمارة المفروض كونها مفوّتة لمصلحة الواقع التي قد أثّرت أثرها في الرتبة السابقة ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الإشكال الأوّل وكذا الثاني ، فقد تعرّض [ لهما ] شيخنا قدس سره بما في هذا التحرير من قوله : والسرّ في ذلك هو أنّ التدارك إنّما يكون بمقدار ما اقتضته الأمارة من إيقاع المكلّف على خلاف الواقع ، وبالقدر الذي سلكه ، ولا موجب لأن يستحقّ المكلّف زائداً عمّا سلكه (1).

كما أنّه تعرّض لدفع ذلك في التحرير المطبوع في صيدا بما هو أوضح ، فقال : إنّ اختلاف المصلحة إنّما نشأ من اختلاف نفس السلوك بحسب المقدار ، وكلّ مقدار منه يشتمل على مقدار من المصلحة المغايرة لما يشتمل عليه الآخر الخ (2).

وكذلك حرّرت عنه بما هذا لفظه : وبالجملة أنّ السلوك في هذه الصور لا يكون أمراً واحداً لتكون مصلحته بمقدار واحد ، ليرد أنّها إن كانت معادلة لمصلحة الواقع لزمه سقوط الاعادة والقضاء ، وإن لم تكن معادلة له لزم تفويت المصلحة الواقعية بلا تدارك لها ، بل إنّ السلوك في هذه الصور مختلف المقدار ، وبمقدار ذلك السلوك يكون الصلاح ، ويكون ذلك الصلاح الناشئ عن السلوك المذكور بمقدار ما يفوت من المصلحة الواقعية فتأمّل ، انتهى.

كلّ هذه العبائر تعطي أنّ نفس السلوك مختلف المقدار ، وأنّ السبب في الاختلاف إنّما هو اختلاف المقدار الذي أخطأته الأمارة ، فإن كانت الأمارة مصيبة فلم يكن في البين سلوك أصلاً ، وكذلك لو كانت مخطئة وقد عمل على طبقها ،

ص: 281


1- فوائد الأُصول 3 : 97.
2- أجود التقريرات 3 : 119.

لكن قد بقي حتّى الوقت الفضيلي ، فلا مصلحة ولا سلوك كما هو صريح قوله في هذا التحرير : فإن كان انكشاف الخلاف قبل مضي وقت فضيلة الظهر فلا شيء للمكلّف ، لأنّ قيام الأمارة على الخلاف لم يوجب إيقاعه على خلاف ما يقتضيه الواقع من المصلحة ، لتمكّن المكلّف من استيفاء مصلحة الواقع بتمامها وكمالها حتّى الفضيلة الوقتية (1) ، وإنّما يكون السلوك بمقدار التفويت.

ولم أتوفّق للوجه في ذلك ، فكأنّ الأمارة في هاتين الصورتين لم تقل للمكلّف شيئاً ، وكأنّ المكلّف لم يصدقها ولم يعمل على طبقها ، وإنّما تكون الأمارة حاكية للمكلّف ، والمكلّف سالكاً لها فيما أوقعته في محذور مخالفة ما ، فإن أوقعته في محذور مخالفة وقت الفضيلة فكأنّها تقول له ليس في البين وقت فضيلة ، وهو قد صدّقها وسلكها وعمل على طبقها في هذا المقدار من الحكاية ، فهذا المقدار من السلوك له مصلحته وهي تتدارك ما فاته. وفي صورة كون الانكشاف بعد خروج الوقت كأنّها تقول ليس في البين واجب آخر موقّت ، وهو قد صدّقها وسلكها وعمل على طبقها بذلك المقدار ، فذلك المقدار من السلوك له أيضاً مصلحته ، وهي تتدارك ما فاته بذلك السلوك. وهكذا الحال فيما إذا لم ينكشف له خطؤها إلى الموت ، فإنّها تقول له ليس في البين واجب أصلاً ، وهو قد صدّقها بذلك المقدار.

هذا هو المتحصّل من هذه العبائر التي نقلناها عنه قدس سره. والعمدة في تحمّله قدس سره هذا التمحّل هو الفرار عن لزوم الاجزاء وعدم القضاء ، لكنّك قد عرفت أنّه يمكن الالتزام بلزوم الاعادة والقضاء من دون حاجة إلى هذا التمحّل ، وذلك بما عرفت ممّا أفاده قدس سره من كون هذه المصلحة الحاصلة بالسلوك مصلحة أُخرى لا

ص: 282


1- فوائد الأُصول 3 : 96.

دخل لها بمصلحة الواقع ، وأنّها لا تؤثّر في رفع مصلحة الواقع ، بل ولا في تأثير المصلحة الواقعية فيما تقتضيه من الحكم الواقعي ، غايته أنّ هذه المصلحة الجديدة التي يحصل عليها المكلّف بواسطة سلوك الأمارة ترفع قبح تفويت مصلحة الواقع عليه لو فاتته بواسطة سلوكها ، وحينئذ يبقى الواقع محفوظاً على ما هو عليه لم تمسّ كرامته بشيء أصلاً ، ولا يكون في البين إلاّ أنّ المكلّف معذور من جهته لكونه جاهلاً به ، ففي أي مورد التفت إليه وجب عليه السعي إليه أداءً أو قضاءً ، ولا ينافيه أنّه قد حصل على مصلحة أُخرى بسلوكه لتلك الأمارة.

نعم ، تقدّم لنا إشكال في عدم كون المصلحة السلوكية مزاحمة لمصلحة الواقع من جهة كونهما متزاحمين في مقام التشريع ، إلاّ أنّ الشارع بعد أن أمر بحجّية الأمارة استكشفنا كون مصلحة السلوك فيها مقدّمة على مصلحة الواقع ، لكن بعد التفات المكلّف إلى الواقع وسقوط حجّية الأمارة ، لا مانع من تأثير المصلحة الواقعية ، فيلزمه الاعادة والقضاء ، فإنّ ذلك التزاحم ولو كان في مقام التشريع يكون محدوداً بما دام السلوك ممكناً وبما دام الواقع غير معلوم للمكلّف وبعبارة أُخرى : أنّ التزاحم بين مصلحة السلوك ومصلحة الواقع منوط بما دام السلوك ممكناً ، ومع فرض تبيّن الواقع لا يكون السلوك ممكناً ، وقهراً يكون جعل الحجّية منحصراً بما دام السلوك ممكناً.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره تعرّض في الدورة الأخيرة لجواب إشكال يتوجّه على المصلحة السلوكية ، وحرّرته عنه قدس سره وحرّره في المطبوعة في صيدا آخر ص 69 ، وحاصل الإشكال أنّه بعد فرض أنّ المصلحة المذكورة لم تكن قائمة بنفس الأمر ولا بنفس الفعل الخارجي ، بل هي قائمة بنفس التطبيق المتفرّع على حجّيتها ضرورة أنّها ما لم تكن حجّة يكون تطبيق العمل عليها تشريعاً محرّماً ، فكيف

ص: 283

يمكن أن يكون مشتملاً على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، فإنّ ذلك مستلزم للدور من جهة أنّ الأمر بالتطبيق يتوقّف على وجود مصلحة فيه ، والمفروض أنّ وجود المصلحة فيه يتوقّف على الأمر أيضاً فيدور الخ (1).

وأجاب عنه نقضاً وحلاً بما حرّره في باب العبادات فقال - بعد إطالة الكلام في ذلك - : وبالجملة فالإشكال الوارد في المقام هو بعينه الإشكال الوارد في باب العبادات ، والجواب مشترك بين المقامين (2).

ولكن يمكن الفرق بين العبادة وبين ما نحن فيه ، فإن توقّف صلاح العبادة على الأمر لا من مجرّد أنّها لو كانت بلا أمر تكون تشريعاً محرّماً ، بل من جهة أنّ وفاءها بمصلحتها متوقّف واقعاً على الاتيان بها بداعي الأمر ، بخلاف ما نحن فيه من المصلحة السلوكية ، فإنّ وفاء سلوك الأمارة بمصلحته لا يتوقّف في ذاته على أمر الشارع أو إمضائه ، نعم إنّ المكلّف لا يمكنه إيجاد ذلك العمل الوافي بمصلحته - أعني نفس السلوك والاعتماد على الأمارة - إلاّبعد أن يأمره الشارع بذلك وإلاّ لكان تشريعاً وكذباً على الشارع ، فيكون أثر الأمر الشرعي هنا هو إزالة ذلك المانع من هاتيك النسبة وذلك السلوك ، بخلاف أثر الأمر الشرعي بالعبادة فإنّه يكون مكمّلاً لنقص ذاتها عن الوفاء بالمصلحة المطلوبة منها. وبعبارة أُخرى : أنّ جزء المؤثّر في الصلاح يكون متوقّفاً على الأمر هناك ، ورفع المانع هنا يكون متوقّفاً على الأمر ، بل لا معنى لمانعية التشريع من ذلك الصلاح.

وبتقرير أوضح : أنّ لنفس السلوك والاستناد إلى الأمارة صلاحاً واقعياً غير منوط بأمر من الشارع ولا بجعل منه ، وهذا الصلاح ربما عارضه فساد من جهة

ص: 284


1- أجود التقريرات 3 : 120 ( مع تصرّف وتلخيص ).
2- أجود التقريرات 3 : 122.

أُخرى على وجه يوجب الردع عنه أو لا أقل من عدم إمضائه ، وإذا لم يكن له مزاحم أمضاه الشارع أو أمر به ، والتشريع إنّما يكون ناشئاً عن الردع أو عدم الامضاء الناشئ عن وجود المزاحم لذلك الصلاح في مقام الجعل والتشريع ، فلا يعقل أن يكون بنفسه مانعاً من صلاح ذلك الاستناد ، بل يكون المانع منه هو ذلك الفساد المزاحم الذي كان موجباً لعدم الامضاء ، وعند الشكّ في الامضاء يكون المقام من باب عدم إحراز الصلاح.

فالأمر بالسلوك أو إمضاؤه يتوقّف على كونه في حدّ نفسه ذا صلاح غير مزاحم بمفسدة أُخرى ، وكونه كذلك لا يتوقّف على هذا التصرّف الشرعي. نعم تحقّق الاستناد والسلوك خارجاً يتوقّف على إحراز ذلك التصرّف الشرعي ، فأين الدور.

لا يقال : صحّة الاستناد إلى الأمارة وجواز نسبة مؤدّاها إلى الشارع يتوقّف على ذلك الأمر الشرعي ، والأمر الشرعي يتوقّف على صلاح ذلك الاستناد ، وصلاحه يتوقّف على صحّته ، فكانت النتيجة أنّ صحّة الاستناد موقوفة على نفسها.

لأنّا نقول : إنّ صحّة الاستناد وجواز نسبة مؤدّى الأمارة إلى الشارع على وجه يخرج عن حيّز التشريع لا يتوقّف على وجود الأمر الشرعي ، بل إنّما يتوقّف على إحراز ذلك الأمر الشرعي ، ومن الواضح أنّ إحراز ذلك الأمر لا يتوقّف على كون السلوك في حدّ نفسه ذا مصلحة المفروض توقّفه على صحّة السلوك ، فتأمّل.

ولعلّ هذا هو المراد لما هو المحكي عن شيخنا قدس سره ، ويكون مشاركة العبادة فيما نحن فيه باعتبار هذه الجهة أعني كونها تشريعاً بدون الأمر ، فيكون الإشكال

ص: 285

فيهما من هذه الجهة واحداً ، ويكون حلّه أيضاً واحداً ، وإن انفردت العبادة بإشكال آخر وهو مدخلية الأمر في صلاحها الواقعي لا في رفع كونها تشريعاً ، والذي تقدّم (1) البحث عنه في باب العبادات إنّما هو هذا الإشكال ، أعني إشكال توقّف الصلاح على قيد داعي الأمر المتوقّف على تحقّق الأمر ، ولم يكن تعرّض هناك للتشريع وكون الأمر مخرجاً له عن حيّزه لا إشارة ولا تلويحاً ، فضلاً عن كونه هو المبحوث عنه هناك ، فراجع وتأمّل.

والأولى أن يقال في دفع الإشكال الذي أشكله ابن قبة : إنّه لا ريب في انسداد باب الوصول إلى الواقع ، فلم يبق إلاّالاحتياط الكلّي ، وهو محذور مرغوب عنه لو لم نقل بأنّه موجب لاختلال النظام ، وإن شئت فقل : إنّه منافٍ للتشريع والرسالة والنبوّة ، فإنّ من كانت رسالته مقصورة على الأمر بالاحتياط في جميع الوقائع ، ولم تكن شريعته مشتملة على إيصال جملة أحكام معتدّ بها إلى المكلّفين ، لم يكن صاحب شريعة ، وحينئذ لم يبق إلاّالطرق العقلائية أو ما ينصبه الشارع ابتداءً منه ، وهذه الطرق ليس فيها طرق معيّنة تكون موجبة لحصول القطع لسالكها كي نحتاج في تسويغ العمل بغيرها إلى أنّه أكثر مصادفة للواقع ، بل إنّ جميع تلك الطرق العقلائية والتي نصبها أو ينصبها الشارع يتساوى فيها جميع المكلّفين ، غير أنّ بعضها ربما كان موجباً لحصول القطع بالنسبة إلى بعض المكلّفين في بعض الأزمان وهو زمان الحضور ، وذلك على تقديره أقلّ قليل بالنسبة إلى عامّة المكلّفين وعامّة الأحكام وعامّة الطرق وعامّة الأزمان ، فلو قيّد الشارع تلك الطرق بما اتّفق فيه حصول العلم والقطع الوجداني وأوجب الاحتياط

ص: 286


1- لاحظ أجود التقريرات 1 : 163 ، وقد تقدّم تعليق المصنّف قدس سره عليه في المجلّدالأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 426 وما بعدها.

في الباقي ، لم يندفع المحذور السابق من لزوم اختلال النظام ، أو لا أقل من لزوم العسر والحرج ، فلم يكن بدّ من الالتزام بجعل الحجّية لتلك الطرق ، سواء أفادت العلم أو لم تفده ، وهو وإن لزم منه فوات بعض المصالح أو الوقوع في بعض المفاسد ، إلاّ أنّ ذلك قهري لا محيص عنه إلاّبالاحتياط الكلّي الذي عرفت أنّه لابدّ من إسقاطه ، فلا يكون إسقاطه والأمر بالعمل بالطرق المذكورة إلاّمن قبيل التخلّص عن الأفسد بما فيه فساد في الجملة ، وليس ذلك موجباً للكسر والانكسار في المصالح الواقعية كي يكون راجعاً إلى تصويب المعتزلة ، وفي الحقيقة أنّ التزاحم إنّما هو في الطريق الموصل إلى الواقع ، أعني إيجاب الاحتياط الكلّي أو إيجاب العمل بالطرق المزبورة ، وحيث إنّ الأوّل أفسد من الثاني كان المتعيّن عند الحكيم هو الثاني ، ويتلو الاحتياط الكلّي في الأفسدية بل هو عينه أن يوجب الشارع العمل بالطرق المثبتة وإسقاط النافية والعمل على الاحتياط فيها.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا حاجة إلى دعوى أغلبية الاصابة في الطرق ، ولا إلى دعوى المصالح السلوكية ، بل ولا إلى المصالح التسهيلية ، إلاّأن يراد بها ما عرفت من إسقاط الاحتياط ، فلاحظ وتدبّر. ولكنّك قد عرفت أنّ سقوط الاحتياط لم يكن لمجرّد مصلحة التسهيل ، بل كان سقوطه لكونه منافياً لكون الرسول صلى اللّه عليه وآله صاحب رسالة وشريعة.

والخلاصة : هي أنّ في المقام أُموراً لا محيص عنها : الأوّل : لزوم خلق البشر. الثاني : أنّه لابدّ للبشر من شريعة ذات أحكام اجتماعية وعبادية ، فكان اللازم تشريع تلك الأحكام. الثالث : أنّ باب الوصول إلى تلك الأحكام منسدّ عليهم ، إلاّأن يخلقهم جميعاً ملائكة أو أنبياء أو أئمّة معصومين ، ومن الواضح خلافه. الرابع : أنّه بعد هذه المقدّمات الثلاثة ينحصر إيصالهم إلى الواقع بالأمر

ص: 287

بالاحتياط ، وقد عرفت أنّه منافٍ لكونه صاحب شريعة ورسولاً نبيّاً ، فلم يبق إلاّ الطرق ، ولو كان بعضها المعيّن موجباً للقطع والباقي لا يوجبه لتسنّى لنا أن نقول من الممكن كثرة الخطأ في ذلك البعض المعيّن بالنسبة إلى باقي الطرق ، فيتعيّن عليه أمرهم بعدم سلوك ذلك البعض الخاصّ والالتزام بسلوك البواقي ، لكن قد عرفت أنّه ليس لنا طرق معيّنة توجب العلم ، إذ ليس هناك إلاّتلك الطرق العقلائية وما ابتكره الشارع على إشكال في وجود طرق مجعولة للشارع تأسيساً ، بل جميع ما لدينا من الطرق هي طرق عقلائية أمضاها الشارع ولم يردعهم عن العمل بها.

وعلى كلّ حال ، أنّ ذلك المجموع من الطرق يختلف الناس في حصول العلم منه ، لأجل اختلاف الأزمان والأشخاص والأسباب ، فلم يبق إلاّأن يأمرهم بالعمل بتلك الطرق إذا كانت مفيدة للعلم مع لزوم الاحتياط فيما لم تكن مفيدة للعلم ، أو أن يأمرهم بالعمل بما يكون مثبتاً للتكليف من تلك الطرق ويأمرهم بالاحتياط فيما عداه ممّا لا يفيد العلم من تلك الطرق وما لا طريق فيه أصلاً.

وعلى كلّ من الوجهين يعود محذور الاحتياط من كونه منافياً للشريعة ، أو كونه موجباً لاختلال النظام ، وحينئذ ينحصر المخلص من هذه الإشكالات بالأمر بالعمل بجميع تلك الطرق ، ولا ضير في كون بعضها مفوّتاً للواقع ، فيكون في العمل به تفويتاً للمصلحة أو إلقاء في المفسدة ، وهذا قهري لا مخلص منه ، ولا يكون الشارع قد فوّت عليهم المصلحة أو ألقاهم في المفسدة ، بل هم واقعون في ذلك قهراً والشارع قد قلّل ذلك المحذور بأمرهم بالعمل بالطرق المذكورة ، إذ لولا ذلك لفات منهم جميع المصالح الواقعية ، لما عرفت من انسداد باب الوصول إلى الواقع عليهم وعدم إمكان أمرهم بالاحتياط في جميع الاحتمالات.

ولك أن تسلك في بيان المسألة وتوضيحها مسلكاً آخر هو أوضح ممّا

ص: 288

تقدّم ، وذلك بأن تقول : إنّ الأحكام الشرعية والقوانين الإسلامية التي جعلها الشارع وبيّنها الرسول المعظّم على الطريقة المعروفة في البيان ، لا تقلّ عن القوانين التي تقنّنها الدول في كيفية نشرها والإعلان بها وبيانها لعامّة المكلّفين ، وحال المكلّفين بتلك الأحكام الشرعية كحال المكلّفين بتلك القوانين الدولية ، فإنّ الشارع المقدّس ورسوله المعظّم وخلفاءه المعصومين لم يقصّروا في بيانها ونشرها والإعلان بها لعامّة المسلمين إلاّمن حرمه اللّه تعالى من قبول ذلك ، ولم يتوفّق إلى الوصول إلى فهم بعضها لتقصير منه في فهم ذلك أو لقصور ، ولا كلام لنا في من قصّر في ذلك.

وإنّما الكلام في القاصر ، وقصوره تارةً يكون لأجل أنّه لم يصل إلى تلك البيانات ولم يسر في فهمها بالطرق المقرّرة لفهم تلك الأحكام وتلك القوانين ، فكان ذلك القصور موجباً لفوات مصالح تلك الأحكام عليه ووقوعه في المفاسد التي كانت تلك القوانين مانعة منها ، ومن المعلوم أنّ وقوعه في ذلك لمّا كان لقصور منه ، ولم يكن شيء من جانب الشارع المقدّس ، لم يكن فيه إشكال تفويت الشارع المصلحة والإلقاء في المفسدة. ويلحق بذلك من أخطأ قصوراً منه في كيفية إعمال تلك الطرق المقرّرة ، كمن أعمل أصالة الظهور في مورد سقوطها قصوراً منه في ذلك ، ولا كلام في جميع ذلك.

وإنّما الكلام في من لم يقصّر ولم يقصُر في إعمال تلك الطرق ، وأعملها وجرى عليها على طبق ما هو المقرّر في إجرائها ، كمن صدّق الراوي العادل بحسب الظاهر وعمل على طبق روايته ، ولكن الراوي قصّر في روايته بأن تعمّد الكذب ولم يطّلع المروي له ، أو أنّ الراوي لم ينصب القرينة على خلاف ظاهر كلامه ، أو أنّه غفل عن القرينة في كلام الإمام المروي عنه قصوراً منه أو غفلة أو

ص: 289

نسياناً ، والمروي له اعتمد على عدالته وعلى أصالة الظهور وعدم الغفلة والنسيان أو أنّ المروي له غفل عن القرينة في كلام الراوي ، إلى غير ذلك من موارد الاشتباه. وكلّ ذلك لا يكون تفويت المصلحة مستنداً إلى الشارع ، بل إلى أسبابه من غفلة الراوي أو المروي له.

نعم ، في خصوص ما يكون من قبيل تأخير البيان عن وقت الحاجة ربما يتوهّم الاستناد فيه إلى الشارع ، لكن لا يخفى أنّه لو كان فإنّما هو لأجل طوارٍ وعوارض منعت من البيان ، على وجه كان في البيان مفسدة مانعة من البيان في وقت الصدور إلى ما بعد الحاجة ، فذلك وإن أوجب فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة إلاّ أنّه أيضاً لا يكون مستنداً إلى الشارع ، بل لا يكون السبب فيه إلاّتلك الطوارئ والعوارض.

ولكن هذه الطريقة لا تغني عمّا تقدّم ، فإنّ هذه المخالفات القصورية وإن لم يكن فوت المصلحة فيها مستنداً إلى الشارع ابتداءً ، إلاّ أنّها تستند إليه ثانياً باعتبار أنّه أمره بالعمل بتلك الطرق التي يعلم أنّه ربما أخطأت الواقع قصوراً ، فلا محيص في الجواب إلاّما عرفت فيما تقدّم من أنّ الشارع بعد فرض أنّ باب الوصول إلى الواقع منسدّ على المكلّفين ، ينحصر لطفه بهم في إيصالهم إلى المصالح الواقعية بأمرهم بأن يسلكوا الطرق العقلائية أو التي يقرّرها هو لهم ، فلو أخطأت لا يكون وقوعهم في خلاف الواقع وفوت تلك المصالح عليهم إلاّمن جهة قصورهم عن الوصول إلى الواقع بأنفسهم. نعم عليه أن يختار لهم ما يعلم أنّه أقل خطأ من غيره ، فلو كان الطريق ولو عقلائياً كثير الخطأ ، كان مقتضى لطفه بهم ردعهم عن سلوك ذلك الطريق ، كما صنعه في القياس والاستحسان ونحو ذلك من الطرق الممنوعة.

ص: 290

أمّا تأخير البيان عن وقت الحاجة فقد عرفت الحال فيه ، من جهة أنّه لا يكون إلاّمن جهة طوار وعوارض زمانية أو زمنية ، أو عدم لياقة المكلّفين بعد ونحو ذلك ممّا يمنع الشارع من إصدار البيان ، فلا يكون عدم صدور البيان منه موجباً لكون الشارع هو السبب في فوت المصلحة عليهم أو وقوعهم في المفسدة.

وأمّا موارد الأُصول النافية وأهمّها البراءة ، فإن كانت في مورد عدم صدور البيان من الشارع ، فذلك عبارة أُخرى عن تأخير البيان الموجب للرجوع إلى الأُصول اللفظية في ذلك المقام ، أو الأُصول الحكمية النافية في هذا المقام ، وقد عرفت الحال في ذلك. وإن كان في مورد صدور البيان من الشارع لكنّه لم يصل إلى هذا المكلّف أو لم تقم فيه الحجّة عليه ، فذلك راجع إلى قصور في ذلك المكلّف بأحد الوجوه المتقدّمة الموجبة لعدم وصوله إلى الواقع ، وقد عرفت الحال فيه وأنّه لم يكن وقوعه في ذلك في خلاف الواقع مستنداً إلى الشارع. نعم من الممكن في المقام أن يوصله الشارع إلى الواقع ، بأن يأمره بالاحتياط ، لعدم لزوم محذور في الاحتياط في خصوص هذه الموارد القليلة ، لكن مصلحة التسهيل قاضية برفع الاحتياط وسقوطه بجعل الأصل النافي الذي هو البراءة ونحوه من الأُصول النافية ، فإنّ التزاحم إنّما يقع بين المصلحة الواقعية في اقتضائها إيجاب الاحتياط والمصلحة التسهيلية في اقتضائها الترخيص الفعلي ، وحيث كانت الثانية أقوى التجأ الشارع إلى رفع الاحتياط ، وجعل الترخيص في هذا الحال أعني حال الجهل العذري. ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كانت المصلحة الواقعية في اقتضائها الاحتياط أقوى من مصلحة التسهيل كما في الدماء والفروج ، كانت هي المؤثّرة وكان على الشارع إيجاب الاحتياط.

ص: 291

والحاصل : أنّ للمصلحة الواقعية اقتضاءين طوليين : الأوّل : جعل الحكم على طبقها ، وهذا لا محيص عنه ، ولا يزاحمه المصلحة التسهيلية. الثاني : إيجاب الاحتياط في مورد الجهل بالواقع ، وهذا المقدار من الاقتضاء هو الذي يتزاحم مع مصلحة التسهيل ، فإن كان ذلك هو الأقوى أوجب الاحتياط ، وإن كان الأقوى هو مصلحة التسهيل أوجب الترخيص ، ولا يكون الموقع له في خلاف الواقع إلاّ جهله بناءً على حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، ولا يكون الترخيص الشرعي إلاّعبارة عن عدم جعل الاحتياط الذي هو وارد على ذلك الحكم العقلي ولا يكون الرفع حينئذ إلاّمن قبيل الدفع ، وإنّما سمّي رفعاً بالنظر إلى وجود المقتضي للاحتياط الذي هو المصلحة الواقعية ، كما حقّق في محلّه (1) في بيان حديث الرفع.

وينبغي أن يعلم أنّ الاحتياج إلى هذا التكلّف إنّما هو في الموارد التي يكون الأمر بالاحتياط فيها حاكماً على ما ينفي التكليف أعني أصالة البراءة ، أمّا ما يكون النافي فيها حاكماً على الاحتياط مثل تأخير البيان عن وقت الحاجة ، التي يكون المرجع فيها هو الأُصول اللفظية الحاكمة على الاحتياط ، فلا يكون الأمر بالاحتياط نافعاً فيها ، لأنّ المكلّف يقدّم الأصل اللفظي لكونه حاكماً على الاحتياط ، وهكذا الحال فيما لو كان المورد في حدّ نفسه مورداً لاستصحاب عدم التكليف ، فإنّ الأمر بالاحتياط أيضاً لا يكون مؤثّراً.

ص: 292


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 336 وما بعدها ( الأمر الأوّل ) وراجع أيضاً حواشي المصنّف قدس سره الآتية في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 114 وما بعدها.

قوله : فالإنصاف أنّ إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعلّه يخلّ بما هو المقصود ... الخ (1).

مضافاً إلى أنّ تركيب العبارة لا يساعد عليه ، حيث إنّ الخبر عن قوله : إلاّ أنّ العمل الخ (2) ، هو قوله : يشتمل على مصلحة فأوجبه الشارع ، ولو أقحمنا لفظ « الأمر » بين « أنّ » ولفظ « العمل » لكان الضمير في قوله : « فأوجبه الشارع » راجعاً إليه لا إلى العمل. ولا يخفى عدم معقولية تعلّق الإيجاب بالأمر بالعمل ، فتأمّل.

قوله : فإنّ الاجتماع يوجب التأكّد ... الخ (3).

لو كان مرجع حجّية الأمارات إلى الموضوعية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم إمكان التأكّد ، لأنّ موضوع الحكم الواقعي هو نفس صلاة الجمعة مثلاً ، وموضوع الحكم الظاهري هو صلاة الجمعة بعنوان كونها ممّا قامت الأمارة على وجوبه ، ومع الاختلاف في الموضوع ولو بهذا المقدار لا يتحقّق التأكّد ، بل لو لم نقل بالموضوعية وقلنا بالسببية ، بأن يكون قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة سبباً لحدوث مصلحة فيها تكون موجبة لتعلّق الإيجاب بها ، لم يمكن التأكّد ، لتأخّر الوجوب الثاني رتبة عن الوجوب الأوّل ، ومع اختلاف الرتبة لا يمكن التأكّد ، وإن قلنا إنّ اختلاف الرتبة لا يسوّغ اجتماع المتنافيين ، بل ولا المثلين ، كما مرّ توضيحه في باب القطع الموضوعي فراجع (4)

ص: 293


1- فوائد الأُصول 3 : 99.
2- فرائد الأُصول 1 : 114 - 115.
3- فوائد الأُصول 3 : 99.
4- حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

ويمكن أن يقال : إنّ مراد شيخنا قدس سره هو أنّ مجرّد اجتماع المثلين ليس بمحذور مستقل ، لأنّه إن جاز اجتماع الضدّين لجهة من الجهات التي يدعونها في المقام ، جاز اجتماع المثلين ولم يكن ذلك من التأكّد ، وإن لم يجز اجتماع الضدّين كانت الرتبة والموضوع واحداً وتوجّه التأكّد في اجتماع المثلين ، كما يرى في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي عند اجتماعهما في شخص واحد ، فتأمّل.

قوله : الوجه الأوّل : ما هو ظاهر كلام الشيخ قدس سره في أوّل مبحث التعادل والتراجيح ... الخ (1).

لا يبعد أن يكون ظاهر كلام الشيخ قدس سره (2) في ذلك المقام ناظراً إلى الفرق بين الأُصول العملية والأمارات ، في كون الشكّ مأخوذاً في الأوّل دون الثاني فراجع ، وراجع ما حرّرناه على هذا التحرير في ذلك المقام (3).

قوله : أمّا الشأنية : فإن كان المراد منها أنّه في مورد قيام الأمارة ... الخ (4).

قال قدس سره فيما حرّرته بعد أن أبطل كلاً من احتمال الشأنية والانشائية : نعم لو كان المراد من الحكم الشأني أو الانشائي هو الحكم اللولائي ، نظير الأحكام اللاحقة للأشياء بعناوينها الأوّلية ، والمراد من الحكم الفعلي نظير الأحكام

ص: 294


1- فوائد الأُصول 3 : 100.
2- فرائد الأُصول 4 : 11 - 12 [ لا يخفى اختلاف نسخ الفرائد ، وقد أُشير إلى ذلك أيضاً في هامش فوائد الأُصول 4 : 701 فراجع ].
3- راجع المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب الصفحة : 3 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 3 : 101.

اللاحقة لها بعناوينها الثانوية ، لصحّ كون الحكم الفعلي مغايراً للحكم الشأني أو الانشائي ، إلاّ أنّ ذلك لا ربط له بما نحن فيه من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بكون أحدهما شأنياً أو إنشائياً والآخر فعلياً.

قلت : لا يقال لِمَ لا يجمع بينهما بهذه الطريقة ، بأن نقول إنّ الحكم الواقعي يكون شأنياً لولائياً في مورد الشكّ ، ويكون الحكم الفعلي في المورد المذكور هو الحكم الظاهري.

لأنّا نقول : إنّ هذا الوجه لا يمكن الالتزام به حتّى فيما يكون موضوعه مقيّداً بالشكّ أعني الأُصول العملية ، لأنّ لازمه التصويب وعدم الاعادة والقضاء فيما لو انكشف الخلاف ، كما عرفته سابقاً من وقوع الكسر والانكسار وبقاء الحكم الواقعي عارياً عن المصلحة المؤثّرة. مضافاً إلى أن حمل الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية على الأحكام الشأنية اللولائية لا يخفى فساده ، انتهى.

ولا يبعد أن يكون مراد الكفاية من كون الحكم الواقعي شأنياً هو هذا المعنى من التنزيل على كونه من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، كما هو صريح ما أفاده في ثاني تذنيبي مسألة الاجزاء (1) فيما تعرّض فيه للفرق بين الالتزام بالاجزاء في موارد الأحكام الظاهرية والالتزام بالتصويب ، فراجع.

نعم ، كلامه قدس سره في الجزء الثاني في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (2) ظاهر أو صريح في عدم كون الأحكام الظاهرية أحكاماً حقيقية ، وإن استشكل أخيراً في الاباحة الشرعية ، فراجعه وتأمّل.

أمّا كلامه قدس سره في الحاشية على الرسائل فصدره على طوله راجع إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بالشأنية والفعلية ، وإن كان في طي الكلمات يسمّي

ص: 295


1- كفاية الأُصول : 88.
2- كفاية الأُصول : 277 - 278.

الحكم الواقعي ذاتياً اقتضائياً مجعولاً للأشياء بما هي عليها من العناوين الأوّلية ، ويلتزم بالكسر والانكسار ، فراجع قوله : فينشأ على وفقها من دون أن يصير فعلياً إلاّ بأُمور ، منها : عدم قيام أمارة معتبرة على خلافه الخ (1). وعمدة همّه في ذلك التطويل هو رفع التناقض مع المحافظة على عدم لزوم التصويب.

ولكنّه في آخر كلامه في قوله : تذنيب فيه تحقيق الخ (2) ، صرّح بما أفاده في الجزء الثاني من الكفاية من عدم كون الحكم الظاهري حكماً حقيقياً ، واستشكل في مفاد الأُصول التعبّدية ، ولم يجب عنه بما أجاب به في الكفاية فراجع.

ولم أعثر في الجزء الثاني من الكفاية فيما تعرّض فيه للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ما يدلّ على جعل المنجّزية والمعذّرية كما نقله عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (3) ، بل إنّ عبارته في الكفاية صريحة في أنّ المجعول هو الحجّية وأنّ التنجّز والمعذورية من آثارها ، فراجع قوله : وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته الخ (4).

قوله : لأنّ منشأ انتزاع الحجّية لابدّ وأن يكون أمراً لا دخل له بإطاعة المكلّف وعصيانه - إلى قوله - فلابدّ وأن يكون منشأ انتزاع الحجّية حكماً تكليفياً مستمرّاً لا يسقط بعصيانه في زمان ، لتكون الحجّية مستمرّة باستمراره ... الخ (5).

إنّ هذا المطلب محتاج إلى التأمّل ، إذ لا ريب على الظاهر في انقطاع

ص: 296


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 37.
2- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 40.
3- أجود التقريرات 3 : 131.
4- كفاية الأُصول : 277.
5- فوائد الأُصول 3 : 108 - 109.

الحجّية بانقطاع موضوعها الذي هو العمل ، سواء قلنا إنّها هي المجعولة ابتداءً أو قلنا إنّها منتزعة من الحكم التكليفي. ثمّ لو سلّمنا بقاء الحجّية بعد ارتفاع موضوعها بالاطاعة أو العصيان ، لأمكننا دفع هذا الإشكال عن الشيخ قدس سره بأن نقول إنّ الحجّية وإن كانت معلولة عن الحكم التكليفي ، إلاّ أنّ حدوث ذلك الحكم التكليفي كافٍ في حدوثها وبقائها ، فلا يكون ارتفاع ذلك الحكم التكليفي بالاطاعة أو العصيان موجباً لارتفاع الحجّية التي هي منتزعة عنه ومعلولة له ، إلاّإذا قلنا إنّ قوام الحجّية حدوثاً وبقاءً هو ذلك الحكم التكليفي ، لتكون الحجّية من الانتزاعيات الصرفة التي لا واقعية لها ، وأنّ واقعيتها إنّما هي عبارة عن منشأ انتزاعها فتأمّل.

نعم ، يرد على الشيخ قدس سره أنّ الالتزام بوجوب العمل على طبق مؤدّى الأمارة مع فرض كونها مخالفة للواقع ، لا يوجب التخلّص عن اجتماع الضدّين أو المتناقضين ، إلاّعلى ما في الكفاية (1) من كون تلك الأوامر صورية لا واقعية لها الذي لا نتعقّله إلاّبناءً على كونه كناية عن جعل الحجّية ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره (2) وإن التزم بكون لزوم العقد منتزعاً عن إطلاق وجوب الوفاء لما بعد الفسخ ، إلاّ أنّه لو التزم هنا بكون الحجّية منتزعة عن وجوب العمل ، لم يكن ذلك متوقّفاً على ثبوت إطلاق لوجوب العمل إلى ما بعد الاطاعة والعصيان ، كي يتوجّه عليه ما أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإنّ أيّ حكم تكليفي فرض في مورد الحجّة الشرعية فلا محالة يكون ساقطاً بالعصيان ، ولا يكون له إطلاق بالاضافة إليه ، ولازم ذلك أن تكون الحجّية

ص: 297


1- كفاية الأُصول : 277 - 278.
2- المكاسب 5 : 18 - 19.

المنتزعة منه مرتفعة بسقوطه الخ (1) وبنحو ذلك صرّح قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام.

وبالجملة : أنّ انتزاع الحجّية من وجوب العمل لا يتوقّف على إطلاق وجوب العمل لما بعد الاطاعة والعصيان ، وسقوطها بسقوطه بالاطاعة أو العصيان لا ضير فيه بناءً على كونها معلولة له ومنتزعة منه كما عرفت ، فتأمّل.

تنبيه : لا يخفى أنّا لو قلنا بكون الحجّية من الأحكام الوضعية ، وأنّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، لا يلزمنا القول بأنّ الحكم التكليفي الذي تنتزع عنه الحجّية هو جعل مؤدّاها ، ليلزم اجتماع الحكمين الواقعي والمجعول بالأمارة ، بل يمكن القول بأنّ الحكم التكليفي الذي تنتزع عنه الحجّية هو وجوب إلغاء احتمال خطئها ، أو وجوب البناء على أنّها مصيبة للواقع ولزوم الاعتقاد بذلك ، والمنع عن التشكيك في إصابتها الواقع ، فإنّ هذا التكليف هو القابل لأن يقع النزاع في كونه المجعول ابتداءً وعنه تنتزع الحجّية ، أو كون المجعول ابتداءً هو الحجّية ويكون هذا التكليف من آثارها الشرعية ، بخلاف جعل مؤدّاها فإنّه كما لا يمكن أن يكون هو المجعول ابتداءً ، فكذلك لا يمكن أن يكون من آثار الحجّية على تقدير كون المجعول ابتداءً هو الحجّية ، فإنّ الالتزام بهذا النحو من التكليف يوجب اجتماع الحكمين المتضادّين أو المتناقضين أو المثلين. وليست هذه الطريقة عبارة عن كون المجعول هو الهوهوية وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع كما نقله شيخنا قدس سره (2) عن الشيخ قدس سره ، كما أنّه ليست مبنية على كون مفاد الحجّية هو تنزيل الظنّ الحاصل منها منزلة العلم ، فإنّ ذلك - أعني

ص: 298


1- أجود التقريرات 3 : 131 - 132.
2- فوائد الأُصول 3 : 109.

تنزيلها منزلة العلم - إنّما يتمّ في العلم الموضوعي دون الطريقي الصرف ، كما شرحناه مفصّلاً في أوائل مباحث القطع فراجع (1).

قوله : لأنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع ، وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم ... الخ (2).

لا يخفى أنّه قدس سره في الدورة الأخيرة قد عدل عن ذلك ، أعني كون مفاد الأُصول التنزيلية هو لزوم البناء العملي ، بل جعل مفاد دليل حجّيتها هو نفس مفاد دليل حجّية الأمارة من الوسطية في الإثبات ، لكنّه في خصوص الأُصول التنزيلية من حيث الجري العملي ، فراجع ما حرّر عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : وإنّما المجعول هي الوسطية في الإثبات من حيث انكشاف الواقع في الأمارات ، ومن حيث الجري العملي في الأُصول التنزيلية - فراجعه إلى قوله - بل يمكن أن يقال باستحالة كون الحجّية فيها منتزعة من الحكم التكليفي أيضاً ، فإنّا إذا فرضنا مخالفة مؤدّى الأصل للواقع ، فحكم الشارع بجعل مؤدّاه هو الواقع ليس له معنى معقول إلاّإعطاء الحكم الواقعي للمؤدّى ، وهذا يرجع إلى التصويب المعتزلي المجمع على بطلانه ، إلى آخر البحث (3).

ثمّ إنّه قد يتخيّل الإيراد عليه بأنّ مقتضاه كون الاستصحاب مساوياً للأمارة ، لأنّ كلاً منهما حينئذ يكون مجعول الحجّية ، وبعد جعل الحجّية يترتّب عليها آثارها الشرعية والعقلية ، ومقتضى ذلك هو الالتزام بحجّية الأُصول المثبتة كما التزمنا به في باب الأمارات. ومجرّد كون الشكّ موضوعاً في الأُصول الاحرازية

ص: 299


1- الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 66 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 110.
3- أجود التقريرات 3 : 134 - 135.

دون الأمارات لا يترتّب عليه عدم حجّية المثبت من الأُصول ، وإنّما يترتّب على هذا الفرق حكومة الأمارات على الأُصول ، فلا وجه لما أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : ومن حيث اشتراكها مع الأُصول غير التنزيلية في أخذ الشكّ في موضوعها لا تكون مثبتاتها حجّة الخ (1).

والجواب الحقيقي عن هذا التوهّم هو ما أشار إليه قدس سره من تقييد الحجّية المجعولة للأُصول الاحرازية بالبناء العملي ، وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ الحجّية بعد الفراغ عن كونها من الأحكام الوضعية القابلة للجعل بنفسها إمضاءً أو تأسيساً ، كالقضاوة والوكالة والولاية وغير ذلك من الأحكام الوضعية ، ولا تحتاج في جعلها إلى ترتّب الأثر الشرعي عليها ، بل إنّها لمّا كانت بنفسها أثراً شرعياً كانت بنفسها قابلة للجعل ، بلا حاجة إلى ترتّب أثر شرعي.

وبالجملة : أنّا لا نحتاج في جعل الأُمور الشرعية إلى ترتيب الأثر الشرعي كي يكون مرجع جعل الحجّية إلى الحكم بترتّب ذلك الأثر الشرعي ليعود محذور الاجتماع ، وإنّما أقصى ما نحتاجه في جعل الأُمور الشرعية هو أن يترتّب عليها أثر عملي لئلاّ يكون جعلها لغواً.

فنقول : إنّه يكفي في صحّة جعل الحجّية بعد فرض كونها بنفسها أثراً شرعياً ترتّب العمل عليها من الجري على طبقها ، وأنّها تكون بعد الجعل منجّزة للواقع لو أصابت ومصحّحة للعذر لو أخطأت ، وغير ذلك من الآثار العقلية.

ثمّ بعد ذلك نقول : إنّ الحجّية قابلة للتوسعة والتضييق بالنسبة إلى ما تكون حجّة فيه كما في الولاية الشرعية ، فإنّها قابلة للتوسعة والتضييق باعتبار ما يتولاّه الوالي المنصوب ، ألا ترى أنّ حجّية خبر الواحد ليست مطلقة في كلّ ما يقوم عليه

ص: 300


1- أجود التقريرات 3 : 134.

خبر الواحد ، بل إنّ حجّيته مقصورة على الرواية عن المعصوم في الأحكام الشرعية الفرعية ، فلا يكون حجّة في الموضوعات الخارجية ، بل ولا في أُصول العقائد مثل العدل والتوحيد ، فإذا فرضنا أنّ الشارع جعل الحجّية لليقين السابق الذي طرأ عليه الشكّ على حذو جعله الحجّية لخبر الواحد ، لزم ما تقدّم من الإشكال عليه بأنّ لازمه القول بحجّية الأُصول المثبتة كما قلناه في الأمارات ، لكن لو جعل الشارع الحجّية لليقين المذكور في خصوص جهة خاصّة ، وهي جهة عدم الاعتناء بالشكّ وإلغائه والأخذ باليقين السابق والبناء على بقاء المتيقّن ، كانت حجّية ذلك اليقين مختصّة بهذه الجهة ، وهي البناء على بقاء المتيقّن بعد إلغاء الشكّ ، ولازم ذلك أن لا يكون اليقين المذكور حجّة إلاّفي ترتيب الآثار الواقعية الثابتة شرعاً للمتيقّن ، دون اللوازم العقلية والعادية ، لأنّ الأخذ بتلك اللوازم لا يدخل في البناء على بقاء المتيقّن ، لا من جهة أنّها غير شرعية ، بل من جهة أنّها غير داخلة في البناء العملي على بقاء المتيقّن ، فيكون الأخذ بها حينئذ أخذاً بلا حجّة ، لعدم دخولها تحت دليل حجّية اليقين السابق المفروض أنّها كانت مقصورة على ما يصدق عليه عرفاً أنّه أخذ باليقين السابق ، وأنّه بناء عملي على بقاء المتيقّن ، ومن الواضح أنّ الأخذ بلوازم المتيقّن لا يصدق عليه عرفاً أنّه أخذ بالمتيقّن السابق وبناء عملي على بقائه.

ومن ذلك يتّضح لك السرّ في حجّية الاستصحاب فيما لو كانت الواسطة خفية ، فإنّ الأثر العملي المترتّب بتوسّطها على المتيقّن السابق يعدّ عرفاً داخلاً تحت البناء العملي على بقاء المتيقّن.

وحاصل الأمر : أنّ دليل حجّية الاستصحاب الراجعة إلى حجّية اليقين السابق لمّا كان لسانه لسان قصر الحجّية على ما يعدّ عرفاً أنّه بناء عملي على

ص: 301

المتيقّن السابق ، يكون مختصّاً بخصوص ما يعدّ عرفاً أنّه بناء عملي على بقاء المتيقّن السابق ، دون ما لا يكون بحسب النظر العرفي داخلاً تحت البناء على المتيقّن السابق ، وهذا بخلاف دليل حجّية الأمارة فإنّه لا تعرّض له لأزيد من جعل الحجّية لها ، فيكون شاملاً لما يكون بحسب النظر العرفي بناءً عملياً على مؤدّى الأمارة ، ولما لا يكون كذلك ، إذ لم تكن حجّيتها مقيّدة بالبناء العملي على طبق مؤدّى الأمارة ، لتكون حجّيتها دائرة مدار كون العمل بها معدوداً بحسب النظر العرفي عملاً على تحقّق مؤدّى الأمارة.

بل قد نقول : إنّ اللوازم العقلية والعادية داخلة تحت مؤدّى الأمارة ، باعتبار كون اللوازم تابعة في الحكاية للملزومات ، بخلاف باب الأُصول الاحرازية فإنّها لا حكاية فيها كي تدخل اللوازم فيها. وهذه طريقة أُخرى للفرق بين الأمارات والأُصول الاحرازية في إثبات اللوازم في الأُولى دون الثانية. ولكن العمدة هو الطريقة الأُولى ، فإنّها كافية في الفرق بين الأمارات والأُصول الاحرازية الذي يكون موجباً لحجّية المثبت من الأُولى دون الثانية ، هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات فالأمر فيه سهل ، لأنّ محصّل هذه الدعوى راجع إلى أمرين ، الأوّل : كون المجعول في باب الأُصول الاحرازية هو نفس حجّية اليقين السابق. والثاني : كون الحجّية المذكورة مقصورة على العمل الذي يكون عملاً على بقاء المتيقّن ، دون غيره ممّا يكون عملاً بلوازمه ممّا لا يعدّ عرفاً عملاً ببقاء ذلك المتيقّن ، بل يكون بالنظر العرفي عملاً على أمر آخر غير ذلك المتيقّن ، مثل نبات اللحية في استصحاب الحياة.

أمّا الدعوى الأُولى ، فيمكن أن يقال باستفادتها من النهي عن نقض اليقين السابق ، بأن يجعل ذلك النهي كناية عن حجّية اليقين السابق ، لا أنّه نهي مولوي

ص: 302

مستقل بنفسه. ولو سلّمنا أنّ لذلك النهي ظهوراً في النهي المولوي الاستقلالي ، لأمكننا رفع اليد عن هذا الظهور بالقرينة العقلية ، بأن يقال لا يمكن حمل النهي على كونه نهياً مولوياً ، لما يلزمه من الجمع بين الحكمين المتناقضين الذي هو إشكال الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية ، فيلزمنا الالتزام بكون ذلك النهي كناية عن جعل الحجّية لليقين السابق تخلّصاً من المحذور المذكور ، خصوصاً بعد البناء على أنّ هذا النهي إمضاء أو إرشاد إلى البناء العقلائي على الأخذ باليقين ، إذ لا شبهة في أنّه ليس عند العقلاء في ركونهم إلى اليقين السابق نهي ولا أمر مولوي ، وإنّما هو مجرّد كون ذلك اليقين في نظرهم حجّة تلزم البناء عليه ما لم يثبت ناقضه.

وأمّا الثانية فالأمر فيها أسهل ، لأنّ أخذ عنوان النقض قرينة على أنّ المنظور إليه في ذلك النهي هو ما يعدّ في العرف نقضاً ، فيكون الممنوع هو ما يكون نقضاً لليقين السابق ، وتكون الأعمال المترتّبة على ما هو لازم اليقين السابق خارجة عنه ، إذ ليست هي نقضاً.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب الذي قرّبناه كلّه كان مبنياً على كون المجعول له الحجّية هو اليقين السابق بعد طرو الشكّ عليه. ولو نوقش في ذلك بأنّ اليقين السابق في حدّ نفسه غير قابل لجعل الحجّية لكونه علماً ، وبعد الشكّ لا وجود له ، وأغضينا النظر في الجواب عنه بأنّه لا مانع من جعل اليقين السابق حجّة ، لكن لا في الزمان السابق بل في الزمان اللاحق الذي هو زمان الشكّ ، لكنّا في فسحة عن هذا الإشكال بصرف الحجّية إلى الظنّ النوعي الحاصل من اليقين السابق الذي يكون متعلّقاً ببقاء المتيقّن ، وتكون حجّيته مقصورة على ترتيب البناء العملي على طبق المتيقّن السابق ، على التفصيل الذي حرّرناه فيما تقدّم فلا نعيد.

ص: 303

ثمّ بعد الفراغ عن هذا الذي حرّرناه ننقل الكلام إلى حكومة الأمارات على الأُصول الاحرازية ، وحكومة الأُصول الاحرازية على غيرها من الأُصول ، فنقول : إنّ من كون الشكّ الطاري على اليقين السابق مأخوذاً في حجّية ذلك اليقين تنشأ حكومة الأمارات على الأُصول المذكورة ، إذ لم يكن الشكّ مأخوذاً في موضوعها بخلاف الأُصول المذكورة ، ومن كون حجّية اليقين تكون موجبة لإزالة الشكّ كما عرفت من أنّ حجّية اليقين تكون كافية في إزالة الشكّ الطارئ والبناء العملي على بقاء المتيقّن ، يكون هذا الأصل الاحرازي حاكماً على بقية الأُصول غير الاحرازية ، لعين ما ذكرناه في وجه حكومة الأمارة عليه ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الجهة الأخيرة التي تعرّض لها في تحريرات صيدا بقوله : بل يمكن أن يقال باستحالة كون الحجّية فيها منتزعة من الحكم التكليفي أيضاً ، فإنّا إذا فرضنا مخالفة مؤدّى الأصل للواقع ، فحكم الشارع بجعل مؤدّاه هو الواقع ليس له معنى معقول إلاّإعطاء الحكم الواقعي للمؤدّى ، وهذا يرجع إلى التصويب المعتزلي المجمع على بطلانه ، إلى آخر البحث (1) ، لم أجدها في تحريراتي عنه قدس سره ، وما أدري كيف ذهبت عنّي ، وما ذلك إلاّمن النسيان ، والكمال له وحده.

ولا يخفى أنّ الرجوع إلى التصويب إنّما يلزم إذا قلنا بانقلاب الواقع إلى مؤدّى الأصل ، وإلاّ فاللازم هو اجتماع الضدّين أو النقيضين. والذي وجدته في تحريراتي عنه قدس سره هو تصحيح هذه الأوامر غير أنّها مستغنى عنها بجعل الحجّية ، فإنّه قدس سره قال في بعض ما حرّرته عنه في هذا المقام ما هذا لفظه : فيكون جعل الحجّية فيها ( يعني الأُصول الاحرازية ) عبارة عن البناء العملي على مؤدّاها

ص: 304


1- أجود التقريرات 3 : 135.

والجري على طبقه والبناء على وجوده ، فليس هذا المجعول مجرّد تكليف بالبناء العملي المذكور ، ولا أنّه من قبيل جعل نفس الحجّية كما في الأمارات ، بل هو متوسّط في ذلك ، فإنّه أمر بالجري على أحد طرفي الشكّ ، لكن لا من حيث نفسه ، بل بلحاظ ثبوت الواقع في مورده ، فيكون هذا الأمر بالأوامر الغيرية أشبه منه بالأوامر النفسية ، ويكون مآله ومرجعه إلى الحكم بثبوت الواقع وبقاء ذلك المتيقّن السابق ، وحينئذ فإن كان الأمر كذلك ، بمعنى أنّه صادف الواقع ، فلم يكن في البين إلاّنفس الحكم الواقعي. وإن أخطأه لم يكن في البين إلاّتخيّل ثبوت الواقع وبقائه ، وفي الحقيقة أنّ ما جعلت له الحجّية في باب الاستصحاب مثلاً هو اليقين السابق ، وأنّ محصّل جعل الحجّية له هو جعله محرزاً للواقع بعد فرض انتقاضه وجداناً بالشكّ ، ومحصّل جعله محرزاً للواقع هو جعله كذلك من حيث لزوم الجري العملي على طبقه ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لا يكون حجّة في موارد الشكّ في المقتضي ، لعدم قابلية اليقين في مورده لإحراز الواقع.

ثمّ قال : ومن ذلك يظهر لك أنّ الإشكال الذي أوردناه على ما نقلنا عن الشيخ قدس سره فيما تقدّم من دعوى كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم التكليفي وأنّ الحجّية منتزعة ، بما حاصله عدم معقولية الحكم التكليفي الذي يمكن أن يكون هو المجعول ، لا يتوجّه هنا ، لمعقولية الحكم التكليفي هنا ، وهو لزوم البناء والجري العملي على وفق مؤدّى الأصل. نعم يتوجّه عليه أنّه لا داعي إلى الالتزام بأنّ المجعول هو ذلك الحكم التكليفي وأنّ الحجّية تكون منتزعة عنه لإمكان كون المجعول ابتداءً هو نفس الحجّية ، ويكون لزوم الجري العملي على طبقها بعد فرض جعلها من الأحكام العقلية التابعة لما هو الحجّة ، إمّا بذاته كما في العلم ، وإمّا بالجعل الشرعي كما في الأمارات والأُصول.

ص: 305

وكيف كان ، فلو سلّمنا أنّ المجعول هو الحكم التكليفي ، أعني لزوم الجري والبناء العملي على طبق مؤدّى الأصل ، لم يتوجّه أيضاً الإشكال الآنف الذكر أعني لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين ، فإنّ الحكم الشرعي بلزوم البناء والجري العملي على طبق مؤدّى الأصل ليس حكماً شرعياً حقيقياً كسائر الأحكام الشرعية ، بل هو طريقي صرف ، لكونه عبارة عن حكم الشارع بالغاء الشكّ ، ولزوم الجري العملي على طبق اليقين السابق وعدم جواز نقضه.

وبعبارة أُخرى : لا معنى للزوم الجري العملي على طبق اليقين السابق إلاّ لزوم الأخذ بالمتيقّن السابق ، والبناء على بقائه وعدم جواز نقض اليقين به ومحصّل ذلك كلّه هو البناء العملي على بقاء المتيقّن السابق ، فيكون هذا الحكم الشرعي واقعاً في طريق إحراز الواقع ، لا أنّه حكم آخر يكون في عرض الحكم الواقعي كي يكون مناقضاً أو مضادّاً له ، ولأجل ذلك لا يكون موجباً للاجزاء ، فلم يكن هناك حكمان حقيقيان ليكون أحدهما مناقضاً للآخر أو مضادّاً له ، بل لم يكن في البين إلاّالحكم الواقعي ، وأمّا الآخر فليس هو إلاّعبارة عمّا يقع في طريق إحراز ذلك الحكم الواقعي ، ولا ريب في أنّ ذلك الحكم الواقع في طريق الاحراز ربما كان مصيباً وربما كان مخطئاً ، إلى آخر ما حرّرته عنه فراجعه (1).

قلت : الذي ينبغي أن يقال : إنّ هذا الذي أفاده قدس سره من كون هذه الأوامر من قبيل الأوامر الغيرية ، وأنّها ليست حقيقية ، وأنّها واقعة في طريق إحراز الواقع بإيصال الشارع المكلّفين الجاهلين بالأحكام الواقعية إلى تلك الأحكام الواقعية وأنّه لا مضادّة ولا مناقضة بينها وبين الأحكام الواقعية ، هو الحقّ الذي لا ينبغي العدول عنه ، فإنّ هذه الأوامر نظير أوامر الفحص ووجوب التعلّم ووجوب

ص: 306


1- مخطوط لم يطبع بعد.

السؤال على العامي ووجوب الاحتياط الشرعي في بعض موارده ، كلّ هذه الأوامر ليست أوامر حقيقية ، وإنّما هي طرق اتّخذها الشارع وسيلة إلى إيصال المكلّفين إلى الأحكام الواقعية بعد فرض انسداد باب العلم ، فكانت ملاكات تلك الأحكام الواقعية هي العلل الباعثة على جعل تلك الأوامر المتعلّقة بالتوصّل ، فتلك الطرق إلى الأحكام الواقعية من باب متمّم الجعل ، فهو كما لو أمره بالكون في مسجد الكوفة ثمّ أمره بأن يتوصّل إلى ذلك المطلوب بركوب السيارة ، فإنّه لو أخطأت السيارة وأوصلته إلى مكان آخر لم يكن أمره بركوب السيارة توصّلاً إلى المطلوب المذكور موجباً للأمر بالكون أو الوصول إلى ذلك المكان الآخر ، وهكذا في الأمر بسلوك الأمارة كخبر الواحد توصّلاً للوصول إلى التكاليف الواقعية ، مثل قوله عليه السلام خذ معالم دينك من فلان (1) فإنّه لو اتّفق الخطأ وأوصله قول فلان إلى حكم آخر ، لم يكن أمره له بالأخذ بقوله راجعاً إلى أمره بذلك الذي أوصله إليه خطأ. غير أنّ الشارع لم يخصّص ذلك بما يكون مثبتاً للتكليف ، بل وسّعه لما هو النافي منها لحكم ومصالح تقدّم بيانها (2) في الجواب عن الشبهة الأُولى لابن قبة. وليس حال هذه الأوامر إلاّكحال الأمر بالاحتياط في كونه طريقياً صرفاً ، وأنّ خطأه لا يضرّ كما لو احتاط في الشبهة التحريمية وكان الحكم الواقعي هو الوجوب كما شرحه قدس سره في أوامر الاحتياط (3).

وبالجملة : أنّ هذه الأوامر لا يرد عليها التناقض للحكم الواقعي ، ولا

ص: 307


1- وسائل الشيعة 27 : 146 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 27 ، 33 ( نقل بالمضمون ).
2- راجع الصفحة : 247 وما بعدها ، وكذا الصفحة : 286 وما بعدها.
3- راجع ما نقله المصنّف عن شيخه قدس سرهما في الصفحة : 315 وما بعدها.

تفويت المصالح ، بل ولا ناقضية الغرض ، فإنّ الجواب عن توهّم التناقض هو ما عرفت ، والجواب عن توهّم تفويت المصالح هو ما تقدّم من انحصار موارد تلك الأوامر بالانسداد ، وبه يعرف الجواب عن ناقضية الغرض.

ومنه يظهر التأمّل فيما عن الأُستاذ العراقي قدس سره حسبما حرّرته عنه : أنّ البناء على الطريقية وإن دفع إشكال التناقض ، إلاّ أنّه لا يدفع إشكال نقض الغرض. وربما يظهر ذلك من مقالته المطبوعة (1). وعلى كلّ حال ، أنّ الذي يظهر منه رحمه اللّه أنّ إشكال نقض الغرض هو غير إشكال تفويت المصلحة. وهو وإن كان كذلك ، إلاّ أنّه يدفعه ما يدفع إشكال تفويت المصلحة.

ثمّ بعد إرجاع الأحكام الظاهرية إلى ما عرفت من الأوامر الطريقية ، فاعلم أنّ اختلاف ألسنة تلك الأوامر الطريقية كان موجباً لتقدّم بعضها على بعض ، ولعدم حجّية المثبت في بعضها ، وحجّيته في البعض الآخر ، ومعه لا داعي إلى الالتزام بجعل نفس الحجّية وسلوك ذلك الطريق الوعر في بيان إمكان جعلها وأنّها من الأحكام الوضعية الذي لا تكاد النفس تطمئن به ، وتأويل جميع الأوامر الواردة في باب الطرق والأمارات والأُصول الاحرازية وجعلها كناية عن جعل الحجّية ، كلّ ذلك تكلّف لا داعي له.

وأمّا بناء العقلاء على سلوكها مع عدم أوامر تعبّدية لديهم فهو غير منافٍ لما ذكرناه من إمكان الأمر الشرعي باتّباع تلك الطريقة العقلائية ، فإنّ العقلاء إنّما يعملون عليها ويسلكونها ويتوصّلون بها إلى مقاصدهم بسائق من فطرتهم ، والشارع في مقام الامضاء لهذا العمل الفطري لابدّ له من الأمر على طبقه. وبالجملة : أنّ الشارع يأمره بسلوك الطرق العقلائية أو سلوك طريق ابتدائي

ص: 308


1- مقالات الأُصول 2 : 45 - 46.

من قبل الشارع ، فالشارع سواء كان جعله الطرق إمضائياً أو كان تأسيسياً هو محتاج إلى الأمر الشرعي بسلوك الطريق. نعم يمكن تأويل تلك الأوامر الشرعية وجعلها كناية عن جعل الحجّية إمضاءً أو تأسيساً.

وعلى كلّ حال ، أنّ تنقيح هذه الجهة أعني كون مفاد ذلك الجعل هو الأوامر الصورية الغيرية الطريقية ، أو أنّ مفاده ابتداءً هو جعل الحجّية ، لا أخاله مهمّاً بعد أن كانت تلك الأوامر غير منافية للواقعيات ، فتأمّل.

قوله : وقد تصدّى بعض الأعلام لرفع غائلة التضادّ بين الحكمين باختلاف الرتبة ... الخ (1).

الذي نقله في الدورة الأخيرة عن السيّد الشيرازي قدس سره هو الجمع بينهما باختلاف الرتبة ، وأنّه ربما يتخيّل أنّه من قبيل الترتّب في مسألة الضدّ ، وأجاب عنه بأنّه ليس ذلك هو مراد السيّد ، للفرق الواضح بين هذا الترتّب المدّعى في المقام والترتّب المدّعى في مسألة الضدّ بما تأتي الاشارة إليه من عدم المطاردة بين الأمرين في مسألة الضدّ ، لكون الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأمر بالأهمّ ، فلا يكون للأمر بالأهمّ إطلاق بالنسبة إلى عصيان نفسه ، لا إطلاق لحاظي ولا إطلاق ذاتي ، كما أنّ الأمر بالمهمّ لا يكون مطارداً للأهمّ ، لكون الأمر بالأهمّ هادماً لموضوع الأمر بالمهمّ ، وهذا بخلاف الأمر الواقعي فإنّه وإن لم يكن له إطلاق لحاظي بالنسبة إلى حال الجهل به والشكّ فيه ، إلاّ أنّ إطلاقه الذاتي ولو بمتمّم الجعل الثابت بدليل الاشتراك محكّم ، فيعود محذور الاجتماع ، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله : وأنت خبير بفساد هذا التوهّم ، فإنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري ،

ص: 309


1- فوائد الأُصول 3 : 112.

لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشكّ فيه ولو بنتيجة الاطلاق ، فيجتمع الحكمان المتضادّان في رتبة الشكّ الخ (1).

وهذا الجواب بعينه هو جواب الكفاية (2) عن الجمع بينهما باختلاف الرتبة وهو بعينه ما أورده في الكفاية (3) على الطولية في مسألة الترتّب في مسألة الضدّ وقد تقدّم في أوائل القطع (4) الإشكال على ذلك ، بأنّه بعد فرض اختلاف الرتبة بين الحكمين لا يعقل اجتماعهما في صقع واحد ومرتبة واحدة ، والاطلاق الذاتي للحكم الواقعي وإن أوجب تحقّقه في حال تعلّق العلم أو الشكّ به ، إلاّ أنّه يكون فوق العلم والشكّ ، فلا يعقل كونه متأخّراً عن مرتبة الشكّ فيه كي يكون هو والحكم الظاهري واقعين في مرتبة واحدة.

وبالجملة : أنّ غاية ما نستفيده من دليل الاشتراك إنّما هو نتيجة الاطلاق الذاتي للحكم الواقعي ، لا أنّه يوجب سحب الحكم الواقعي إلى مرتبة الشكّ فيه بحيث يكون واقعاً في مرتبة الشكّ فيه التي هي متأخّرة عن نفس الحكم الواقعي.

ثمّ إنّا قد حقّقنا هناك أنّ الاختلاف في الرتبة لا يدفع التضادّ أو التناقض ، وإلاّ لصحّ ذلك فيما لو علّق الوجوب المتعلّق بالفعل على العلم بحرمته ، أو لصحّ تعليقه على نفس الحرمة ، فراجع ما فصّلناه في البحث المشار إليه في حاشية ص 6 (5)

ص: 310


1- فوائد الأُصول 3 : 113.
2- كفاية الأُصول : 279.
3- كفاية الأُصول : 134.
4- في الصفحة : 57 وما بعدها.
5- وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

ولا يخفى أنّه لو تمّ دفع التدافع باختلاف الرتبة لكان متأتّياً في جميع موارد الأحكام الظاهرية ، من دون خصوصية للاحتياط منها والأُصول الترخيصية غير التنزيلية.

وملخّص البرهان على أنّ اختلاف الرتبة يدفع غائلة التناقض : هو أنّ المعلول المفروض وجوده عند وجود علّته منعدم في مرتبة علّته ، فهو موجود في صقع نفسه منعدم في صقع علّته ، والمصحّح لهذا التناقض هو اختلاف [ الرتبة ] فرتبة عدم المعلوم هي رتبة علّته ورتبة وجوده هي رتبته في حدّ نفسه ، أعني الرتبة المتأخّرة عن رتبة علّته ، وهكذا الحال في العلّة فإنّها موجودة في مرتبة نفسها ومنعدمة في مرتبة معلولها.

والجواب عنه أوّلاً : بالنقض بما عرفت من مثل أن يقول : إذا حرم عليك شرب الخمر جاز لك شربها ، فإنّ نسبة الحرمة حينئذ إلى الجواز نسبة الموضوع إلى الحكم ، وهي متقدّمة رتبة على ذلك الحكم الذي هو الجواز ، فكان الحرمة والجواز مختلفين في الرتبة ، فكان ينبغي صحّة اجتماعهما ، واللازم باطل بالضرورة.

وثانياً : أنّ التقدّم الرتبي واختلاف العلّة والمعلول في الرتبة ، بحيث نرى أنّ العلّة سابقة في الرتبة على المعلول ، إنّما هو في الوجود اللحاظي دون الوجود الخارجي الزماني ، والتناقض إنّما هو بالنسبة إلى الوجود الخارجي ، ولم يتحقّق في باب العلّة والمعلول ، إذ المعلول لم يكن معدوماً خارجاً عند الوجود الخارجي للعلّة ، وإن كان منعدماً عند وجودها الذهني ، بمعنى كون المعلول غير موجود ذهناً عند وجود العلّة في الذهن ، والتناقض في الأحكام الشرعية إنّما يتبع

ص: 311

وجودها الخارجي ، فراجع ما حرّرناه في ذلك البحث (1) وتأمّل.

قوله : والسرّ في ذلك : هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخّر رتبتها عنه ، لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أنّ تضادّ الحكم الواقعي ... الخ (2).

هذه هي خلاصة البحث من أوّله إلى آخره ، ولقد أوضحها شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة بما لا مزيد عليه ، فراجع ما هو محرّر في طبعة صيدا ، فراجع قوله : وأمّا في القسم الثاني - إلى قوله - قلت ، وقوله : وأمّا أصالة الاباحة أو البراءة الشرعية إلى آخر المبحث من ص 86 (3).

ولكن مع ذلك كلّه ففي النفس شيء من التصديق به ، والنظر القاصر قاصر عن ذلك ، وما توفيقي إلاّباللّه تعالى ، فإنّ مجرّد كون الترخيص الشرعي واقعاً في الرتبة الثانية من الحكم الواقعي المفروض كونه إلزامياً وفعلياً بنظر شيخنا قدس سره ، وأنّ هذه الرخصة ملحوظ فيها وجود الحكم الواقعي ، لا يوجب رفع المناقضة بينها وبين الحكم الواقعي ، فإنّ أقصى ما في هذا التأخّر الرتبي وكون الملحوظ في ذلك الترخيص الشرعي هو وجود الحكم الواقعي ، هو أن لا يكون ذلك الترخيص رافعاً للحكم الواقعي على وجه يكون موجباً لانقلاب الحكم الواقعي إلى مؤدّى الأصل ، إلاّ أنّ ذلك لا يرفع التناقض بين ذلك الترخيص والالزام الفعلي الواقعي ،

ص: 312


1- المصدر المتقدّم.
2- فوائد الأُصول 3 : 118 - 119.
3- أجود التقريرات 3 : 139 - 147.

بل إنّ فرض كون الترخيص ملحوظاً به وجود الحكم الواقعي يكون مؤكّداً للشبهة أعني اجتماع المتناقضين ، ولأجل ذلك لا يصلح تعليق الترخيص على مجرّد وجود الحكم الواقعي ، بأن يقال إن وجب عليك الدعاء عند رؤية الهلال فأنت مرخّص في تركه ، ولا فرق بين هذا المثال وبين ما نحن فيه إلاّبأخذ الشكّ في الحكم الواقعي في موضوع الحكم الثاني الذي هو الترخيص ، وصيرورة هذا الترخيص ترخيصاً ظاهرياً ، ويكون هذا الترخيص حاكماً على دليل الحكم الأوّل حكومة ظاهرية على ما شرحه شيخنا قدس سره في مباحث الإجزاء (1) وغيره من المباحث.

وهذه الكلمات ممّا تزيد في الشبهة ، فإنّ هذا الترخيص إن كان واقعياً كان حاكماً على الحكم الواقعي حكومة واقعية ، وكان موجباً لانقلاب الحكم الواقعي الذي هو الالزام الفعلي إلى الترخيص ، ولو باعتبار العنوان الثانوي الذي هو الشكّ وكان ذلك هو ما فررنا منه من أنّ لازمه التصويب والاجزاء ، وغير ذلك من اللوازم الناشئة عن اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به.

وإن كان ذلك الترخيص صورياً لا واقعية له ، كان جعله لغواً غير مؤثّر في حقّ المكلّف بعد علمه بكون ذلك الترخيص لا واقعية له ، فلابدّ حينئذ من صرف ذلك الجعل إلى جهة أُخرى غير الجواز والترخيص ، على وجه يكون هذا الترخيص والجواز ترخيصاً عقلياً لازماً لذلك المجعول ، كما صنعناه في الأمارات والأُصول الاحرازية ، بأن نقول : إنّ المجعول الشرعي هو حجّية احتمال عدم التكليف من حيث اقتضائه عدم الجري على طبق احتمال التكليف الذي هو عبارة عن المعذورية. وبعبارة أُخرى : يكون المجعول الشرعي هو حجّية احتمال عدم

ص: 313


1- أجود التقريرات 1 : 288.

التكليف من حيث اقتضائه المعذورية ، على حذو ما تقدّم نقله (1) عنه قدس سره في جعل حجّية الأصل الاحرازي من حيث الجري العملي ، أو نقول : إنّ المجعول هو الأمر بالأخذ بطرف احتمال عدم التكليف. وعلى أي حال ، يكون هذا التصرّف الشرعي موجباً لقيام الاحتمال مقام العلم من حيث المعذورية ، كما شرحه شيخنا قدس سره وحرّره عنه في التقريرات المطبوعة في صيدا (2).

ولا يرد عليه إشكال تفويت المصلحة ، لأنّ المفروض أنّ العقل حاكم بجواز الاقدام لقبح العقاب بلا بيان ، غايته أنّ مصلحة الواقع لم تكن قوية على وجه تستدعي حفظه حتّى في مقام الشكّ بجعل الاحتياط ، بل زيادة على ذلك كانت المصلحة في نفس هذا الجعل أعني جعل حجّية الاحتمال ، وهذه المصلحة هي الموجبة لجعله حتّى في مورد يكون العقل حاكماً بالاحتياط ، كما في موارد الشكّ في الأقل والأكثر ونحوها ، فلمّا رأى الشارع الحكيم أنّه لا مصلحة في ذلك الاحتياط العقلي ، لأنّ مصلحة الواقع لم تكن بتلك القوّة ، وكان في نفس جعل حجّية الاحتمال مصلحة غالبة على مصلحة الواقع في اقتضائها جعل الاحتياط ، فقد جعل الاحتمال حجّة للمكلّف ورفع موضوع الاحتياط العقلي ، ويكفي في صحّة حجّية الاحتمال ترتّب هذا الأثر ، وهو دفع توهّم وجوب الاحتياط شرعاً ، فلا يكون ذلك الجعل لغواً لكون العقل حاكماً بقبح العقاب بلا بيان.

ولو لم يكن في البين مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وأنّ العلم الاجمالي غير منحل ، وأنّ البراءة العقلية لا تجري فيها ، وأنّ الجاري هو البراءة الشرعية ونحو ذلك ممّا لا ينفع فيه مجرّد الحكم العقلي بالترخيص ، مثل قاعدة الطهارة

ص: 314


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 299 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 4 : 41 - 42.

عند الشكّ في طهارة الماء الذي يراد الوضوء منه ، ونحو ذلك من المسائل التي لا يكفي فيها مجرّد الترخيص العقلي ، لقلنا إنّ جميع الأُصول الترخيصية غير الاحرازية ليست ذات تصرّف شرعي ، وأنّها إرشاد وتوضيح لما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان.

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام لعلّ أن يكون سبباً في اتّضاح مرامه قدس سره ، قال قدس سره - بعد أن أطال الكلام في كيفية جعل الاحتياط وجعل البراءة الشرعية ونحوها من الأُصول الترخيصية بما اشتمل عليه هذا التحرير وغيره - ما هذا لفظه : ولمزيد التوضيح لما تقدّم نقول : إنّ للشكّ جهتين ، إحداهما : من حيث إنّه صفة نفسانية متعلّقة بالواقع ، والأُخرى : من حيث كونه تردّداً وتحيّراً في الواقع ، ونعبّر عن الأُولى بالجهة الموضوعية ، وعن الثانية بالجهة الطريقية.

وحاصل الفرق بين الجهتين : أنّ الأُولى لا نظر فيها إلى الواقع أصلاً ، وإنّما النظر فيها إلى جهة الشكّ بما أنّه صفة كسائر الصفات ، وإن كان متعلّقاً بالواقع. والثانية فيها نحو نظر إلى الواقع ، بحيث يكون المنظور إليه هو الواقع بما أنّه مورد للحيرة والتردّد.

ثمّ الحكم الواقعي لا ريب في عدم إمكان وصوله إلى درجة الشكّ ، وإنّما يوصله الشارع إلى هذه الدرجة ويجعله محقّقاً في هذه الرتبة بواسطة جعل آخر ، وإلاّ فهو بنفسه قاصر عن الوصول إلى تلك الرتبة ، وذلك الجعل الآخر هو مفاد أدلّة المشاركة بين العالم والجاهل في الأحكام الواقعية.

ثمّ بعد الوصول إلى رتبة الشكّ وتحقّقه واقعاً في تلك الدرجة لا يخرج بذلك عن كونه مستوراً ومورداً للحيرة والتردّد ، وذلك عبارة أُخرى عن كونه مشكوكاً باعتبار الجهة الثانية من جهتي الشكّ ، أعني الجهة الطريقية التي هي

ص: 315

عبارة عن لحاظ الواقع بما أنّه مشكوك ، وهذه الجهة مرتبة ثانية متأخّرة عمّا عرفت من وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الشكّ ببركة دليل الاشتراك. وهذه المرتبة - أعني المرتبة الثانية المعبّر عنها بلحاظ الواقع مشكوكاً - قابلة للجعل الشرعي ، إلاّ أنّه لو لم يكن جعل شرعي لكانت مورداً لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

ومحصّل هذا الحكم العقلي في الحقيقة هو الإدراك ، إذ العقل ليس بحاكم وإنّما وظيفته الإدراك ، فيكون حاصل ذلك أنّ العقل في هذه الدرجة يدرك قبح العقاب من دون بيان ، لا أنّه يحكم بالترخيص. نعم إنّ ذلك من اللوازم العقلية لذلك الإدراك ، إذ بعد فرض إدراك العقل قبح العقاب يحصل المؤمّن من العقوبة ، فلا يبقى مانع من الإقدام ، وذلك عبارة أُخرى عن الترخيص. وهكذا الحال في الموارد التي يحكم العقل فيها بالاشتغال أو بلزوم التوقّف والاجتناب ، كما ربما قيل به في خصوص المطاعم والمشارب ، فإنّ ذلك الحكم العقلي عبارة عن الإدراك الملازم للزوم الفراغ اليقيني أو للزوم التوقّف والاجتناب.

وهذا بخلاف البراءة الشرعية أو الاحتياط الشرعي أو قاعدتي الحلّ والحرمة فإنّها متكفّلة لأحكام شرعية ، ويلزم تلك الأحكام الشرعية لوازم عقلية هي التي كانت مورداً لتلك الإدراكات العقلية. فالأُصول الشرعية تعاكس الأُصول العقلية ، بمعنى أنّ ما هو لازم الأصل العقلي هو نفس ما يحكم به الأصل الشرعي ، وما هو نفس الأصل العقلي هو لازم الأصل الشرعي ، مثلاً المجعول في البراءة الشرعية هو نفس الترخيص ، ولازمه المعذورية وعدم استحقاق العقاب ، فيكون معاكساً للبراءة العقلية ، حيث إنّها عبارة عن نفس المعذورية وإدراك العقل قبح العقاب ، ولازم ذلك هو الترخيص ، ولكّنهما متّحدان في النتيجة وإن كانا

ص: 316

متعاكسين في ذلك ، وهكذا الحال في البواقي.

نعم ، إنّ كلّ أصل شرعي يكون في قباله أصل عقلي ، فبازاء البراءة الشرعية وقاعدة الحل الاحتياط والتوقّف العقليان ، وفي قبال الاحتياط الشرعي وأصالة التحريم البراءة العقلية والاباحة العقلية المقابلة بأصالة الحظر.

وكيف كان ، فلنعد إلى ما كنّا فيه من أنّ التكليف الواقعي بعد تحقّقه في مورد الشكّ بدليل الاشتراك يكون معروضاً للشكّ الطريقي. والحاصل : أنّ الأوّل عبارة عن وصول التكليف الواقعي إلى حال الشكّ فيه ، والثاني عبارة عن عدم وصوله إلى المكلّف عند الشكّ فيه ، ومن الواضح تأخّر المرتبة الثانية عن الأُولى ، فإنّ وصوله إلى المكلّف وعدم وصوله إليه فرع وصوله إلى مرتبة الشكّ وتحقّقه فيها.

ثمّ إنّ الحكم الواقعي لو خلي ونفسه في هذه المرتبة الثانية أعني مرتبة عدم وصوله إلى المكلّف ، لكان مورداً لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، إلاّ أنّ هذه المرتبة قابلة للجعل الشرعي ، إمّا على وفق ذلك الحكم العقلي وذلك هو مفاد البراءة الشرعية أو قاعدة الحل ، وإمّا على خلاف ذلك الحكم العقلي ، وذلك هو الاحتياط الشرعي كما في الشبهة التحريمية لو قلنا به فيها ، أو أصالة الحرمة كما في الدماء والفروج والأموال ، ومرجع الحكم الثاني - أعني الاحتياط أو أصالة الحرمة - إلى جعل ما يكون منجّزاً للواقع ، وأنّ الشارع أراد انحفاظ ذلك التكليف الواقعي حتّى في هذه الرتبة أعني رتبة كونه مشكوكاً. ومرجع الأوّل أعني البراءة الشرعية أو أصالة الحل إلى الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي في هذه الرتبة ، وأنّ الشارع لم يرد انحفاظه في هذه الرتبة ، وربما حكم الشارع بالترخيص في مورد يحكم العقل لو خلي ونفسه بالاحتياط ، كما في مسألة الأقل والأكثر بناءً

ص: 317

على عدم جريان البراءة العقلية فيها وجريان خصوص البراءة الشرعية.

وكلّ من هذين الحكمين لا مانع من اجتماعه مع الحكم الواقعي ، لما عرفت من اختلاف الرتبة بينه وبين الواقع ، فإنّ الحكم الواقعي وإن كان بدليل الاشتراك متحقّقاً في حال الشكّ ، إلاّ أنّ ما عليه من السترة والتردّد والشكّ الطريقي موجب لعدم تنجّزه ومصحّح لأن يجعل الشارع في هذه الحال وهذه الرتبة حكماً شرعياً موجباً لتنجّزه ، فيكون ذلك الحكم مكمّلاً لقصوره عن التنجّز ، أو يجعل حكماً شرعياً مرخّصاً فيه ، كما يمكن أن يجعل الترخيص الشرعي في مورد حكم العقل لو خلي ونفسه بتنجّزه ، كما عرفت في مسألة الأقل والأكثر ، فإنّ ذلك الترخيص الشرعي الناشئ عن البراءة الشرعية يكون رافعاً لموضوع حكم العقل بالاحتياط.

وهذا هو الفارق بين كون المنجّز هو العلم الوجداني وبين كون المنجّز هو الحكم العقلي بالاحتياط ، فإنّ الأوّل غير قابل للترخيص الشرعي ، لعدم قابلية الترخيص الشرعي الناشئ عن البراءة الشرعية المقيّدة بالشكّ لرفع منجّزية العلم ، بل يكون الأمر بالعكس ، بخلاف الثاني أعني ما لو كان المنجّز هو الاحتياط العقلي ، فإنّ الترخيص الشرعي الناشئ عن البراءة الشرعية يكون رافعاً لموضوعه كما حقّقناه في محلّه (1).

وبالجملة : أنّ الشكّ والعلم متأخّران رتبة عن نفس الحكم ، ولا يمكن إطلاقه اللحاظي بالنسبة إليهما ، وإنّما يمكن فيهما جريان ما هو نتيجة الاطلاق وهو ما دلّت عليه أدلّة الاشتراك من الجعل الثانوي المتمّم للجعل الأوّلي الموجب

ص: 318


1- يعني كون البراءة الشرعية موجبة لانحلال العلم الاجمالي الموجب للاحتياط العقلي [ منه قدس سره ].

لتحقّق ذلك الحكم المجعول في كلّ من حالتي العلم به والشكّ فيه.

وإلى هنا يتمّ تحقّق الحكم الواقعي في كلّ من حالتي العلم والشكّ ، لكن الفرق بينهما أنّ حال العلم يتحقّق فيه وصول التكليف الواقعي إلى المكلّف ، وبه يتمّ تنجّزه ، ولا يعقل حينئذ أن يكون مورداً للجعل الشرعي من ترخيص أو احتياط ، بخلاف حال الشكّ فإنّ التكليف معه لا يكون واصلاً إلى المكلّف ، وبذلك يكون قاصراً عن التنجّز ، فيكون في حدّ نفسه مورداً لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، ولو كانت الشبهة من قبيل الأقل والأكثر لكان مورداً لحكم العقل بالاحتياط. وكيف كان ، فللشارع أن يكمل تنجّزه بجعل الاحتياط أو أصالة الحرمة ، أو أن يرخّص فيه بالبراءة أو أصالة الحل ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل يبقيه على ما يقتضيه من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان أو الاحتياط العقلي على اختلاف الموارد.

والحاصل : أنّ التكليف الواقعي وإن كان متحقّقاً في حال الشكّ بدليل الاشتراك ، إلاّ أنّه لمّا كان قاصراً عن التنجّز كما في الشبهات البدوية ، وكان غير قابل لأن يكون في هذا الحال حافظاً لملاكه الذي هو علّة في جعله ، لعدم قابليته لبعث المكلّف وتحريكه إلى الاتيان بمتعلّقه ، فإن كان ملاكه قويّاً على وجه يقتضي انحفاظه في جميع الأحوال حتّى في هذا الحال أعني حال الشكّ ، كان على الشارع أن يحفظه بتكميل نقصان ذلك الجعل ، وذلك التكميل منحصر بجعل الاحتياط في مورد الشكّ فيه ، أو بجعل أصالة الحرمة في ذلك المورد (1) ،

ص: 319


1- قلت : وإن شئت قلت : إنّ دليل الاشتراك وإن أثبت الإرادة حتّى في مقام الشكّ ، إلاّ أنّ تلك الإرادة لمّا لم تكن مؤثّرة في ذلك المقام ، وكان الملاك قويّاً بحيث يقتضي أن تكون مؤثّرة حتّى في ذلك المقام ، كان ذلك موجباً لأن يجعل الشارع ما يوجب كون الإرادة الواقعية مؤثّرة في ذلك المقام ، وذلك هو إيجاب الاحتياط. فدليل الاشتراك يثبت وجود الإرادة في مقام الشكّ ، ودليل [ الاحتياط ] يكون موجباً لتأثيرها. ومن ذلك تعرف أنّ العقاب يكون على مخالفة الواقع لا على مخالفة الاحتياط كما سيتّضح لك بيانه ، خلافاً لما أفاده شيخنا قدس سره [ منه قدس سره ].

فإن صادف الواقع فهو ، وإلاّ كان الالتزام بالاحتياط لأجل المحافظة على ذلك الملاك في مورد الاصابة ، وكانت المحافظة على ذلك الملاك موجبة لعدم لزوم المحافظة على ما هو الواقع في مورد الخطأ ولو كان إلزامياً ، مثل جعل الشارع أصالة الحرمة في الدماء ، فإنّه كاشف عن أنّ ملاك التحريم في من يحرم قتله كان ملاكاً قويّاً يوجب المحافظة عليه حتّى في مورد الشكّ ، بحيث إنّه لو اتّفق أنّ ذلك المشكوك كان واجب القتل ، كانت المحافظة على حقن دم من يحرم قتله موجبة لعدم المحافظة في مورد الشكّ على لزوم قتل من يجب قتله ، بل كانت موجبة للترخيص في ترك قتل من يجب قتله في ذلك المورد أعني مورد الشكّ ، ولا منافاة بين هذا الترخيص في مورد الشكّ وبين كونه في الواقع واجب القتل ، إذ لم يكن ملاك وجوب القتل ممّا يقتضي المحافظة عليه في مورد الشكّ ، فلا مانع حينئذ من الترخيص في هذه المخالفة في هذه الرتبة ، لما عرفت من عدم اتّحادها مع رتبة التكليف الواقعي.

ولو لم يكن الملاك بهذه الدرجة من القوّة كما في غير الدماء والفروج والأموال من باقي الشبهات ، لم يكن هناك ما يوجب جعل الاحتياط أو أصالة الحرمة ، وحينئذ فإن كان هناك ما يدعو إلى جعل الترخيص الشرعي فيه ، فهو مورد أصالة البراءة الشرعية أو قاعدة الحل ، فإن صادف ذلك الواقع فهو ، وإلاّ لم

ص: 320

يكن ذلك الترخيص منافياً للحكم الواقعي ، لقصوره في هذا الحال عن الوصول إلى مرتبة التنجّز ، فلا مانع من الترخيص فيه في هذه الرتبة ، لتأخّر هذا الترخيص رتبة عن رتبة ذلك التكليف الواقعي ، حتّى أنّه لو كانت الشبهة من قبيل الأقل والأكثر وكان مقتضى حكم العقل فيها هو الاحتياط ، لم يكن الترخيص الشرعي لو فرض الخطأ فيه منافياً للتكليف الواقعي ، فإنّ حكم العقل بالتنجّز فيها لو خلي ونفسه ليس من قبيل العلّة التامّة للتنجّز ، بل هو معلّق على عدم الترخيص الشرعي. وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الترخيص انحصر الأمر بالأصل العقلي ولا إشكال فيه.

وحاصل المطلب : أنّ الحكم الظاهري المجعول في الأُصول غير الاحرازية الواقع في مرتبة الشكّ في الحكم الواقعي لا يكون واقعاً في عرض الحكم الواقعي ، بل إنّما يكون واقعاً في طوله ، لا لمجرّد الترتّب الناشئ عن أخذ الشكّ في الحكم الواقعي في موضوع ذلك الحكم الظاهري ، بل من جهة ترتّب ذات ذلك الحكم الظاهري على ذات الحكم الواقعي ، فإنّه إمّا أن يكون واقعاً في طريق تنجّز الحكم الواقعي إن كان مثل الاحتياط الشرعي أو أصالة الحرمة ، وإما أن يكون واقعاً في طريق المعذورية في مخالفته إن كان مثل أصالة البراءة أو أصالة الحل الشرعيين ، فليس هو إلاّمنجّزاً للواقع أو موجباً للمعذورية في مخالفته ، فتكون هوية ذاته موجبة لتأخّره عن الحكم الواقعي ، ولأجل ذلك يكون قائماً مقام العلم الطريقي في هذه الجهة ، أعني جهة كونه منجّزاً للواقع فيما أصاب ومصحّحاً للعذر فيما أخطأ.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك : أنّ ذلك الحكم الظاهري لا يكون مقتضياً للاجزاء عن الواقع ، فإنّه بعد فرض كون ذاته بلحاظ الواقع ، وكونه واقعاً في

ص: 321

طريق تنجّزه أو المعذورية عنه ، كيف يعقل أن يكون الجري على طبقه مع انكشاف خطئه موجباً للاجزاء عن الواقع ، بل إنّ مقتضى جعله في هذه الرتبة ، ومقتضى هوية ذاته المذكورة ، أن لا يكون الجري على طبقه مجزياً عن الواقع بعد انكشاف الخلاف فتأمّل. وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى جعل الترخيص انحصر الأمر بالأصل العقلي ، ولا إشكال فيه.

ثمّ بعد هذا كلّه أفاد قدس سره ما هذا لفظه حسبما نقلته عنه : بقي الكلام في أمر لا بأس بالتنبيه عليه وإن كان محلّه في تنبيهات البراءة ، وهو أنّ هذا السنخ من الأوامر أعني الاحتياط وما هو من هذا القبيل ، كوجوب التعلّم ووجوب الفحص عن دليل التكليف عند الشبهة الحكمية ، وكوجوب الفحص عن القدرة عند الشكّ لو خالفه المكلّف واتّفق تحقّق التكليف في الواقع ، فهل يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة الأمر المذكور.

قد يقال : إنّ العقاب على مخالفة الواقع ، إذ ليس الأمر المذكور إلاّطريقياً محرزاً للواقع ، فلا يترتّب العقاب على مخالفته ، وإنّما يكون العقاب على مخالفة الواقع الذي أُحرز به.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ العقل حاكم بقبح العقاب على مخالفة أيّ تكليف لم يكن واصلاً إلى المكلّف ، إذ لا يعقل أن يكون ذلك التكليف الواقعي غير الواصل إلى المكلّف محرّكاً وباعثاً له على الاتيان بمتعلّقه ، وليس الأمر الاحتياطي وما هو من سنخه من الأوامر موجباً لوصول التكليف الواقعي إلى المكلّف وإحرازه ، إذ ليس هو من قبيل الأمارات والأُصول الاحرازية في كونه محرزاً للواقع ، نعم العمل على طبقه يكون محرزاً للواقع.

والحاصل : أنّ الأمر الطريقي في باب الأمارات والأُصول الاحرازية يكون

ص: 322

بنفسه محرزاً للواقع وإن لم يتحقّق امتثاله ، بخلاف الأمر بالاحتياط وما هو من سنخه ، فإنّه بنفسه لا يكون محرزاً للواقع ، نعم إنّ الغرض منه هو إحراز الواقع.

وبالجملة : أنّ إحراز الواقع يكون في النحو الأوّل من الأوامر بنفس الأمر وفي النحو الثاني يكون في ناحية الغرض ، بمعنى أنّ الغرض من هذا السنخ من الأوامر يكون هو إحراز الواقع ، وذلك - أعني إحراز الواقع - إنّما يكون في هذا السنخ من الأوامر بواسطة امتثالها ، وأين هذا من كون الأمر المذكور بنفسه محرزاً للواقع كما في النحو الأوّل كي يكون نفس ذلك الأمر مصحّحاً للعقاب على نفس الواقع ، وحينئذ فالمتعيّن هو كون العقاب على مخالفة ذلك الأمر الاحتياطي وما هو من سنخه لا على الواقع كما هو ظاهر « هلاّ تعلّمت » (1). ومن ذلك يتوجّه الإشكال حينئذ على الجمع بين هذا الأمر وبين الأمر الواقعي ، فإنّه بناءً عليه يكون الأمر المذكور أمراً حقيقياً مستتبعاً للعقاب على مخالفته ، فكيف أمكن اجتماعه مع الحكم الواقعي الذي ربما كان مضادّاً أو مناقضاً له.

والجواب عن ذلك هو أن يقال : إنّ الغرض الباعث على الأمر تارةً يكون أخصّ منه ، وأُخرى يكون أعمّ ، وما كان أخصّ تارةً يكون من قبيل الملاكات ، مثل اختلاط المياه بالنسبة إلى العِدَد ، وهذا يكون الحكم فيه متحقّقاً حقيقة حتّى في مورد عدم تحقّق ذلك الغرض. وأُخرى يكون الغرض من الأمر هو حفظ أمر آخر بتتميم جهة تنجّزه ولزوم الجري على وفقه ، وذلك مثل الأوامر التي نحن فيها ، فإنّ الغرض منها كما عرفت هو حفظ الأوامر الواقعية في موردها ، وهذا الأمر إنّما يكون أمراً حقيقياً عند الاصابة بواسطة اتّحاده مع الأمر الواقعي ، أمّا عند

ص: 323


1- بحار الأنوار 2 : 29 / 10 ، وفيه : « ... وإن قال : كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ... ».

الخطأ فلا يكون هناك إلاّصورة الأمر ، إذ لا يكون هنا أمر واقعي كي يكون هذا الأمر حافظاً له.

وتوضيح الفرق بين ما لو كان الغرض من قبيل علّة التشريع كما في اختلاط المياه بالنسبة إلى العِدَد ، وبين ما لو كان الغرض هو انحفاظ الأمر الواقعي ، أنّ الغرض الأوّل يكون علّة لتشريع الحكم ، فيكون ذلك الحكم الناشئ عن ذلك الغرض حكماً واقعياً حقيقياً يترتّب عليه أثره ، بخلاف الغرض الثاني فإنّه ليس إلاّ عبارة عن انحفاظ الأمر الواقعي ، فلا يكون داعياً إلاّلجعل ما يكون موجباً لانحفاظ ذلك الأمر الواقعي ، وبيان ذلك : أنّ الغرض من جعل الأمر الواقعي هو كونه داعياً إلى متعلّقه وحافظاً لوجوده ، فلو كان ملاك ذلك الحكم الواقعي موجباً لانحفاظ متعلّقه حتّى في موارد الجهل به ، لم يكن ذلك الأمر الواقعي بنفسه وافياً بذلك الملاك ، لعدم معقولية كونه محرّكاً للمكلّف على الاتيان بمتعلّقه ، لعدم تحقّق وجوده العلمي ، وحينئذ فلابدّ من جعل آخر يكون بمنزلة الطريق إلى ذلك الحكم الواقعي ، ويكون متمّماً لذلك الحكم الواقعي ، وذلك المجعول الآخر هو إيجاب الاحتياط أو ما يحذو حذوه من أصالة الحرمة أو وجوب الفحص عن القدرة أو وجوب التعلّم ، فإن أصاب الواقع اتّحد معه ولم يكن في البين إلاّذلك الحكم الواقعي المتمّم بجعل ما هو بمنزلة الطريق إليه ، ولا يكون العقاب على مخالفة نفس ذلك التكليف الواقعي المفروض كونه مجهولاً ، لعدم صحّة العقاب على مخالفته ، لفرض كونه مجهولاً ، ولكونه غير واصل إلى المكلّف ، وعدم تحقّق وجوده العلمي الموجب لعدم معقولية كونه محرّكاً بنفسه للمكلّف على الاتيان بمتعلّقه ، وإنّما يكون العقاب على مخالفة ذلك التكليف المتمّم له المتّحد معه ، هذا في صورة المصادفة. وأمّا في صورة عدم المصادفة ، فلا يكون في البين

ص: 324

إلاّ صورة الحكم الثانوي لفرض عدم تحقّق الحكم الواقعي الذي يكون الحكم الثانوي متمّماً له وطريقاً إليه.

وهاتان الجهتان أعني كون المجعول الثانوي بمنزلة الطريق إلى المجعول الأوّلي وكونه متمّماً له ، هما الفارقتان بين ما نحن فيه وبين ما لو كان الغرض من قبيل الملاكات كاختلاط المياه بالنسبة إلى العدّة ، وبهما يرتفع التنافي بين الحكم الواقعي وبين هذا الأمر الثانوي ، الذي هو بمنزلة الطريق إليه المتمّم لجعله في كونه موجباً لحفظ متعلّقه في حال الجهل به ، هذا كلّه فيما لو كان المجعول الثانوي من قبيل إيجاب الاحتياط أو أصالة التحريم.

ومنه يتّضح الحال فيما لو كان المجعول الثانوي هو الترخيص كما في البراءة الشرعية أو أصالة الحل ، فإنّ الغرض منهما هو المحافظة على الترخيص الواقعي في مورده ، فتكون بمنزلة الطريق إليه ، وهي متمّمة لجعله الواقعي ، فإن كان الحكم الواقعي هو الترخيص والإباحة اتّحد هذا الترخيص الثانوي معه ، وإن لم يكن الحكم الواقعي هو الترخيص لم يكن إلاّصورة الترخيص الثانوي ، وكان العقل حاكماً بالمعذورية عن مخالفة ذلك التكليف الواقعي ، لكونه مجهولاً غير واصل إلى المكلّف ، انتهى.

قلت : فكأنّ هذه الأُصول بمنزلة أصالة الاحتياط في كونها لحفظ الحكم الواقعي ، غير أنّ الاحتياط احتياط في الحكم الواقعي الالزامي. وهذه الأُصول احتياط في الحكم الواقعي الترخيصي ، فكأنّ الشارع يحبّ أن يجري حكم رخصه الواقعية على ما هي عليه واقعاً في مقام الشكّ فيها ( ولعلّ في مثل « كلّ شيء لك حلال » أو « لك طاهر » إيماءً إلى ذلك ) غير مبالٍ بمصادفة الحكم الواقعي الالزامي ، فهذا الترخيص إن صادف الواقع فهو ، وإلاّ بأن كان الحكم

ص: 325

الواقعي إلزامياً ، لم يكن ذلك الترخيص إلاّصورياً ، ولا يكون الترخيص المذكور ترخيصاً شرعياً واقعياً في مخالفة ذلك التكليف الالزامي ، بل لا يكون ذلك الترخيص إلاّظاهرياً صورياً لا حقيقة له إلاّإذا اتّحد مع الترخيص الواقعي ، لكنّه لا ينافي البناء على الترخيص ما لم ينكشف الخلاف ، ولو انكشف الخلاف بعد الارتكاب لم يكن المستند في المعذورية وعدم استحقاق العقاب هو مجرّد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لكي يكون جعل هذا الترخيص لغواً ، لأنّه في صورة المصادفة يكون الحكم الواقعي هو الترخيص ، وفي صورة عدم المصادفة يكون المصحّح للاقدام هو عدم البيان ، فلا يكون حال المكلّف مع هذا الترخيص إلاّ كحاله مع عدمه في أنّه يحتمل الترخيص الواقعي وعدمه ، بل إنّه في صورة عدم المصادفة واتّفاق كون الواقع هو الحكم الالزامي ، يكون المستند في عدم العقاب هو ذلك الترخيص الذي انكشف أنّه صوري ، فلا يكون الترخيص المذكور لغواً.

ولا ينبغي أن يتوهّم التزاحم في مقام التشريع بالنسبة إلى المشكوك الذي يكون حكمه الواقعي هو الالزام بين المصلحة التي تقتضي جعل الترخيص ومصلحة الواقعي التي تقتضي جعل الحكم الالزامي في مقام الشكّ الموجبة لجعل الاحتياط ، لأنّ هذه المزاحمة إنّما هي بين مصلحة الترخيص وبين تلك الزيادة في مصلحة الحكم الواقعي الالزامي التي تكون باعثة على الاحتياط فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره قد التزم بعدم ترتّب العقاب على الواقع لو صادفه الأمر الاحتياطي ، وأنّ العقاب يكون حينئذ على مخالفة نفس الأمر الاحتياطي لاتّحاده معه ، وأنّه لو لم يكن الاحتياط المذكور مصادفاً للواقع لم يكن في البين عقاب ، لأنّ المحافظة على حفظ نفس المؤمن لا يكون من قبيل حكمة التشريع ، بل هي من قبيل علّة الحكم التي يدور الحكم مدار وجودها ، فإن كان الحكم الواقعي

ص: 326

موجوداً بأن اتّفق أنّ ذلك المشكوك كان مؤمناً ، تحقّق الأمر الاحتياطي حقيقة لتحقّق علّته ، وما لم يكن الأمر الواقعي موجوداً بأن اتّفق أنّ ذلك المشكوك غير مؤمن ، لم يتحقّق الأمر الاحتياطي ، ولم يكن الأمر به إلاّصورياً لا واقعية له ، لعدم تحقّق علّته التي هي حفظ نفس المؤمن.

ولا يخفى أنّ لازم هذا المطلب الأخير هو عدم حكم العقل بلزوم إطاعة الأمر الاحتياطي ، لأنّا إذا فرضنا أنّ ترتّب العقاب على مخالفته وكونه أمراً حقيقياً مشروط بمصادفة الواقع واتّحاده معه ، فهذا الاحتمال - أعني احتمال عدم مصادفته للواقع - يكون موجباً للشكّ في كونه أمراً حقيقياً ، ويكون مؤمّناً من العقاب على مخالفته ، لأنّ المفروض أنّ الواقع لا عقاب عليه لكونه بلا بيان ، والأمر الاحتياطي الذي هو مركز العقاب عند الاصابة لا يكون بياناً على الواقع ، ولا حجّة في البين على تحقّق المصادفة.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ احتمال إصابة الأمر بالاحتياط للواقع كافٍ في لزوم الجري على طبقه ، خوفاً من احتمال إصابته الملازم لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فتكون المسألة من قبيل احتمال استحقاق العقاب ، فلا تكون من موارد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ تلك الموارد يقطع فيها بعدم العقاب استناداً إلى القبح المذكور ، وفيه تأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره من كون الأمر الاحتياطي صورياً عند الخطأ وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنّ مقتضى ما أفاده قدس سره من كون العلّة فيه هي المحافظة على الواقع ، ينبغي أن يكون الأمر الاحتياطي أمراً حقيقياً حتّى عند الخطأ ، لأنّ الأمر الاحتياطي لمّا كانت علّته هي المحافظة ، فهي موجودة في صورة الخطأ كما هي موجودة في صورة الاصابة. نعم لو كانت العلّة هي ترك قتل المؤمن لكانت

ص: 327

مختصّة بصورة الاصابة ، لكن هذه العلّة هي عين الحكم الواقعي وعين الاحتياط عند المصادفة ، لا أنّها شيء آخر يكون علّة في ذلك الأمر الاحتياطي.

فالحقّ أنّ الاحتياط بالنسبة إلى الواقع سمته سمة الطريق ، ويكون العقاب عند الاصابة على مخالفة الواقع ، لأنّ الشارع قد أوصل المكلّف إلى الواقع بالأمر بالاحتياط ، وإن لم يكن الأمر الاحتياطي إيصالاً علمياً إلى الواقع على وجه يكون فيه إحراز للواقع ، لعدم الحاجة في ترتّب العقاب على مخالفة الواقع إلى وصوله إلى المكلّف علمياً أو ما يقوم مقامه ، بل يكفي فيه أمره الشرعي بالتحرّز عن مخالفة الواقع بترك قتل كلّ من يحتمل كونه مؤمناً ، فيكون هذا الأمر التحرّزي حجّة على المكلّف عند إقدامه على قتل المشكوك مع فرض اتّفاق المصادفة.

وبالجملة : أنّ الأمر الاحتياطي يكون موجباً لتأثير الارادة الواقعية والانبعاث عن احتمالها ، فلا يكون المنظور فيه إلاّالواقع ، ويكون من هذه الجهة قائماً مقام العلم الطريقي في كونه موجباً لتأثير الارادة في بعث المكلّف المعبّر بتنجيزها ، وبذلك يختلف عن وجوب الفحص والتعلّم ، فإنّه بنفسه يكون مقدّمة لحصول العلم لا أنّه يكون قائماً مقام العلم.

ثمّ إنّ الاحتياط في ترك قتل المؤمن تارةً يكون في مقام الترديد بين المحذورين ، مثل أن يرى شخصاً من بعيد ويتردّد بين كونه مؤمناً وكونه كافراً واجب القتل ، وأُخرى لا يكون من هذا القبيل ، بل يكون التردّد بين كونه مؤمناً أو كافراً جائز القتل ، أو بين كونه إنساناً مؤمناً وكونه حيواناً جائز القتل ، ففي الأوّل يكون الاحتياط ترخيصاً في ترك ذلك الواجب ، أمّا الثاني فلا يكون الاحتياط فيه إلاّ منجّزاً للواقع ، من دون أن يكون ترخيصاً في ترك واجب.

وبازاء الأمر الاحتياطي الذي مرجعه إلى لزوم التحرّز عن مخالفة الواقع

ص: 328

الذي عرفت أنّه لا أثر له سوى كونه حجّة من جانب الشارع على المكلّف في عقابه على مخالفة ذلك الواقع ، الترخيص الشرعي فإنّ مرجعه إلى عدم لزوم التحرّز عن مخالفة الواقع ، فينحصر أثره في عدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو اتّفق الوقوع في مخالفته ، فيكون سمة ذلك الأمر وهذا الترخيص سمة الطريق إلى الواقع ، وإن لم يكن ذلك من مقولة الطريق إليه.

وبالجملة : هما مجعولان شرعاً ، وأثرهما هو استحقاق العقاب على الواقع في الأوّل وعدم استحقاقه في الثاني ، لا أنّ المجعول هو نفس الاستحقاق في الأوّل وعدمه في الثاني ، ولابدّ أن يكون كلّ منهما ناشئاً عن المصلحة ، غايته أنّ المصلحة اقتضت في الأوّل جعل لزوم التحرّز وفي الثاني جعل عدم لزوم التحرّز ، وربما لا يكون في البين مصلحة تقتضي الأوّل ولا تقتضي الثاني ، بل تكون المصلحة قاضية بإيكال المكلّف إلى ما يحكم به عقله من لزوم التحرّز في بعض الموارد وعدمه في بعضها استناداً إلى قبح العقاب من دون بيان.

وبالجملة : أنّ الحكم المجعول الشرعي في الأوّل هو وجوب التحرّز عن الوقوع في خلاف الواقع ، وفي الثاني هو الحكم الشرعي بعدم وجوب التحرّز عن مخالفة الواقع. أمّا الثالث فهو من باب عدم الجعل الشرعي ، وإيكال الشارع المكلّف إلى ما يحكم به العقل.

ولا يخفى أنّ وجوب التحرّز وعدم وجوب التحرّز لا ينافيان الواقع ، بل يكون الواقع في حدّ نفسه محفوظاً في كلّ منهما ، ولا أثر لذلك إلاّمجرّد استحقاق العقاب عند المصادفة في الأوّل وعدمه في الثاني. وحينئذ لا يكون الحكم في الثاني هو الترخيص والاباحة كي يكون منافياً للواقع لو خالفه ، كما أنّه لا يوجب رفع اليد عن الواقع من حيث أثره الوضعي كالجزئية والشرطية والمانعية

ص: 329

كي يكون مقتضياً للاجزاء ، بل ليس المجعول الشرعي إلاّمجرّد الحكم الشرعي بعدم لزوم التحرّز عن الواقع المحتمل ، وليس هو عين الترخيص الشرعي في مخالفة الواقع ، بل ولا يلزمه الترخيص الشرعي.

نعم ، لازم الحكم الشرعي بعدم لزوم التحرّز عن الواقع هو الحكم العقلي بجواز المخالفة وعدم استحقاق العقاب عليها لكونه بلا بيان ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس سره (1) في مفاد حديث الرفع بأنّه من قبيل دفع احتمال وجوب الاحتياط ، فلا مضادّة بين هذا الحكم الشرعي الذي هو عدم وجوب التحرّز عن مخالفة الواقع المحتمل مع نفس الواقع ، كما أنّه لا يقتضي الاجزاء عن الواقع في باب الشروط والموانع والأجزاء ، سواء كانت الشبهة موضوعية أو كانت الشبهة حكمية. كما أنّ الأمر بالاحتياط والتحرّز لا يكون منافياً للواقع فيما لو أمره به واتّفق أنّ الواقع هو تكليف آخر غير ذلك التكليف المحتمل ، كما لو أمره بالاحتياط في محتمل الجزئية فأتى بذلك الجزء المحتمل ، ثمّ تبيّن أنّه من الموانع الموجبة لبطلان العمل ، هذا.

ولكن قد يقال : إنّ مجرّد جعل عدم وجوب التحرّز لا يصحّح الدخول في العمل عند الشكّ في الشرطية ، نعم يؤثّر ذلك في الشكّ في الجزئية والمانعية ، بل الظاهر أنّ جعل الترخيص أيضاً غير نافع في تنقيح الشرطية ، وإن أثّر في باب الجزئية باعتبار أنّ الترخيص في ترك الجزء عبارة أُخرى عن عدم كون ذلك المرخّص في تركه جزءاً من الصلاة ، فيتولّد من ذلك الحكومة الظاهرية على دليل الجزئية.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ دليل عدم وجوب التحرّز ، وكذلك

ص: 330


1- فوائد الأُصول 3 : 118 ، 338.

الترخيص الفعلي الظاهري ، نافعان حتّى في مقام الشرطية ، فإنّ عدم وجوب التحرّز عن ترك ما يحتمل وجوبه شرطاً كان أو جزءاً ، وكذلك الترخيص فيه ، نافعان في جواز الاقدام على العمل مع عدمه ، وذلك كافٍ في الحكومة الظاهرية من دون حاجة في باب الشرطية إلى الالتزام بجعل الآثار ، بأن يكون مرجع قاعدة الطهارة وقاعدة الحل إلى جعل آثار الطهارة والحل أو جعل نفس الطهارة والحلّية لما هو مشكوكهما ، فتأمّل.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ في قاعدة الطهارة وكذلك قاعدة الحل مسلكين معروفين :

الأوّل : مسلك صاحب الكفاية كما ربما يستفاد ممّا أفاده في مبحث الإجزاء (1) ، وهو كونهما من قبيل الجعل في مورد الشكّ ، بمعنى أنّ الشارع يجعل الطهارة الواقعية لما هو معنون بعنوان الشكّ في الطهارة ، كما يجعل الطهارة للشيء بعنوانه الأوّلي مثل قوله : الماء طاهر ، فيكون مفاد قوله : المشكوك طاهر ، هو بعينه مفاد قوله : الماء طاهر ، في أنّ كلاً منهما يتكفّل جعل الطهارة للمعنون ، غير أنّ الطهارة المجعولة للشيء تارةً تكون مجعولة له بعنوانه الأوّلي مثل قوله : الماء طاهر ، وأُخرى تكون مجعولة له بعنوانه الثانوي مثل قوله : المشكوك طاهر ، وحينئذ تكون حكومة قاعدة الطهارة على أدلّة اشتراط الطهارة في ماء الوضوء أو لباس المصلّي أو بدنه حكومة واقعية ، وأنّه عند العلم بأنّه نجس يتبدّل الموضوع ، ولا يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، ولازمه الإجزاء حتّى في مثل الوضوء لو انكشف أنّ الماء كان نجساً ، وقد تقدّم في مبحث الإجزاء (2) الإشكال

ص: 331


1- كفاية الأُصول : 86.
2- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 377 وما بعدها.

على هذه الحكومة الواقعية وبيان عدم تماميتها وعدم إمكان الالتزام بلوازمها.

المسلك الثاني : هو ما قد يدّعى تفسير عبارة الكفاية به في مبحث الاجزاء ، ولا يبعد أن يكون هو مسلك شيخنا قدس سره أيضاً ، ومحصّله التنزيل وأنّ الشارع بقوله : المشكوك طاهر ، قد نزّل ما هو مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي في ترتيب آثاره عليه ، فيكون حاله حال قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (1) ومقتضاه الحكومة الواقعية ، لكن لمّا كان هذا التنزيل منوطاً بالشكّ وعدم العلم ، كانت حكومته على أدلّة الشروط حكومة ظاهرية ، فلا يكون مفاده إلاّالتوسعة الظاهرية لأدلّة الشرط لا التوسعة الواقعية كما في قوله : « الطواف بالبيت صلاة ».

ولا يخلو عن تأمّل ، لأنّ التنزيل بعد أن فرضناه راجعاً إلى الحكم بترتيب الأثر ، يكون مرجعه إلى الحكم بجواز الوضوء بالماء المشكوك جوازاً واقعياً ، وكون موضوعه الشكّ والجهل لا يوجب كونه ظاهرياً ، وأقصى ما فيه أنّه يكون هذا الجواز بلحاظ العنوان الثانوي.

نعم ، لو كان مفاد قاعدة الطهارة هو إحراز الطهارة الواقعية كالاستصحاب أو كالأمارة القائمة على الطهارة ، لصحّ لنا أن نقول إنّ الحكومة ظاهرية ، وإن كان التحقيق أنّه لا يصحّ ذلك حقيقة حتّى في الأمارة واستصحاب الطهارة ، إذ لا حكومة في البين لا ظاهرية ولا واقعية ، وإنّما أقصى ما في البين هو كون المكلّف محرزاً لما هو الشرط الواقعي بواسطة قيام الحجّة عليه التي هي حجّة إحرازية ، فلا يكون حاله من هذه الجهة إلاّحال القاطع بالطهارة في أنّه محرز لها ، إذ المفروض أنّ جعل الحجّية للأمارة وللأصل الاحرازي لا تعرض له لأدلّة الأحكام الأوّلية لا واقعاً ولا ظاهراً ، وإنّما أقصى ما فيه أنّ من قامت عنده الأمارة أو الأصل

ص: 332


1- مستدرك الوسائل 9 : 410 / أبواب الطواف ب 38 ح 2.

الاحرازي للطهارة يكون محرزاً تعبّداً للطهارة الواقعية ، وأين هذا من التصرّف في دليل الشرطية من الحكومة على أدلّة الشروط بطريق الحكومة الواقعية أو الظاهرية.

وحينئذ لا محيص لنا عن القول بما تقدّمت الاشارة إليه ، من أنّ المجعول في مثل قاعدة الطهارة هو حجّية احتمال الطهارة من حيث المعذورية عن الاقدام على الوضوء أو الصلاة في النجس ، مع بقاء الواقع من اشتراط الوضوء أو الصلاة بالطهارة الواقعية بحاله ، وهذا الاحتمال لا مانع من جعل الحجّية له بهذا المقدار كما صحّ جعل حجّية احتمال التكليف في لزوم الاحتياط ، فإنّه مطلب معقول يقبله الذوق فيما لو كان التكليف الواقعي له أهمية توجب عدم تنازل الشارع عن المؤاخذة على مخالفته حتّى في مقام الجهل به والشكّ فيه. ألا ترى أنّ العقلاء في موارد احتمال الضرر ربما لا يعتنون إذا كان الضرر ضعيفاً ، على وجه لو كان معلوماً لم يقدموا ولو كان مشكوكاً لأقدموا تسامحاً منهم وتساهلاً في الضرر الضعيف ولو كان هذا التساهل منحصراً بمقام الشكّ دون العلم ، بخلاف ما لو كان الضرر مهمّاً مثل إتلاف النفس ، كما في موارد احتمال كون المايع سمّاً قاتلاً ، فإنّك تراهم لا يقدمون على شربه ولو كان الاحتمال ضعيفاً.

وهكذا حال الشارع في ملاكات أحكامه ، فإن كان الملاك قويّاً ألزم المكلّفين بالاحتياط الناشئ عن جعله احتمال هذا النحو من التكليف حجّة على المكلّف من حيث التنجّز وقاطعية العذر ، وإن لم يكن الملاك بتلك الدرجة من القوّة تساهل الشارع فيه ولم يجعل احتمال التكليف حجّة على المكلّف ، بل يوكله إلى ما يحكم به عقله من قبح العقاب بلا بيان ، بل ربما ترقى ذلك التساهل على وجه تكون في البين مصلحة تقتضي جعل احتمال عدم ذلك التكليف حجّة

ص: 333

للمكلّف ، ولا يكون هذا الجعل لغواً ، لما عرفت من كونه ناشئاً عن مصلحة تقتضيه. مضافاً إلى ما يترتّب عليه من الأثر في الموارد التي يكون العقل حاكماً فيها بلزوم الاحتياط ، كما في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وكما في حكمه بلزوم إحراز الشرط ، كما في موارد قاعدة الطهارة والحلّ بالنسبة إلى ما يشترط بهما من الوضوء والصلاة.

وأمّا حديث الرفع ، فإن جعلناه من هذا القبيل ، أعني جعل الشارع عدم العلم بالتكليف حجّة للمكلّف من حيث المعذورية فهو ، وإلاّ فلا أقل من أن نقول إنّه مسوق لرفع التكليف المحتمل من ناحية الاقدام على مخالفته الموجبة لاستحقاق العقاب ، وهو كافٍ حتّى في مسألة الأقل والأكثر ، بمعنى أنّه يرفع الوجوب الجزئي أو الشرطي الضمني من ناحية استحقاق العقاب على تركه في الصلاة ، وهو كافٍ في جواز الاقدام على الصلاة الفاقدة لذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، ولا يكون لازمه سقوط الجزئية والشرطية ، على وجه يكون مجزياً حتّى بعد انكشاف الخلاف ، كما أنّه لا يكون لازمه الترخيص الفعلي في مخالفة التكليف الواقعي المتعلّق بذلك المشكوك ، بل لا يكون مفاده حينئذ إلاّرفع ذلك التكليف بمقدار عدم العقاب على مخالفته. وإن شئت فقل : إنّه رفع لوجوب التحرّز الممكن صدوره في المقام من قبل الشارع ، فيكون من قبيل الدفع لا الرفع الحقيقي ، وتسميته رفعاً باعتبار إمكان صدوره من الشارع ، كما أفاده شيخنا قدس سره في مبحث حديث الرفع (1) ، فراجعه بما حرّرناه عليه (2)

ص: 334


1- فوائد الأُصول 3 : 336 وما بعدها.
2- حواشيه قدس سره على ذلك تأتي في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : 122 في التعليق على فوائد الأُصول 3 : 338 - 339 قوله : ويظهر من الشيخ قدس سره ....

ومن ذلك يظهر أنّ الأصل غير الاحرازي الذي يكون مفاده الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي كبرى لا صغرى لها.

وأمّا ما أفاد شيخنا المحقّق الأُستاذ العراقي قدس سره في وجه الجمع بين الحكم في الأُصول النافية والحكم الواقعي ، بأنّ المكلّف به بالتكليف الواقعي ربما كان على وجه لا يرضى المولى بتركه مطلقاً ، بحيث كانت جميع أنحاء عدمه مبغوضة له ، وأُخرى يكون بعض أنحاء عدمه غير مبغوض له ، كالعدم المستند إلى الجهل والشكّ فيه. وعلى الأوّل يلزمه الجعل في مورد الشكّ ، وعلى الثاني يكون الترخيص في تركه غير منافٍ للحكم الواقعي. وقد أطال الكلام في هذا التوجيه ، وقد حرّرته عنه فيما كتبته عن درسه تحريراً مفصّلاً.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ مرجع الأوّل إلى الجواب بالاختلاف بحسب الرتبة ، وقد تعرّضنا لذلك في بعض مباحث القطع (1). كما أنّ الأُستاذ الأعظم قدس سره أشار إلى جوابه في طي كلماته الشريفة بما حرّرناه عنه قدس سره.

أمّا الثاني فإن كان راجعاً إلى ما عرفت من الاختلاف بحسب الرتبة ، فقد عرفت الجواب عنه ، وإن كان - كما هو ظاهر كلامه - راجعاً إلى تسويغ عدم الاتيان بالمكلّف به إذا كان عدمه مستنداً إلى الجهل به والشكّ فيه ، ففيه : أنّ هذا عين الالتزام باختصاص التكليف الواقعي بمن لم يكن جاهلاً به ، وهو خلاف أدلّة الاشتراك ، فيعود محذور التصويب ، ولازمه القول بالاجزاء فيما لو شكّ في جزئية شيء وتركه استناداً إلى البراءة ، لأنّ مرجع ذلك الترخيص إلى أنّ المولى يرضى بعدم ذلك الجزء في حال الشكّ فيه ، ويكون لازم ذلك هو عدم كونه جزءاً في ذلك الحال ، ويكون مقتضاه عدم الاعادة لو انكشف الخلاف كما لو

ص: 335


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.

تركه اضطراراً مثلاً ، من دون فرق في ذلك بين القول بكون المجعول ابتداءً هو الأمر بالجزء ، أو أنّ المجعول هو الجزئية ، فراجع ما حرّرناه (1) عن القائل المزبور ، وتأمّل فيه كي يتّضح لك ما أوردناه عليه إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة : ليس مرجع التبعيض في ناحية الأعدام ، وأنّ المولى يرضى بعدم الشيء إذا كان عدمه مستنداً إلى الجهل بحكمه ، إلاّعبارة أُخرى عن الترخيص في الترك في مقام الجهل ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الالزام بالفعل مختصّاً بصورة العلم بالحكم ، وهو وإن لم يكن تصويباً مجمعاً على بطلانه ، إلاّ أنّ لازمه الاجزاء.

ثمّ إنّه قدس سره تعرّض في المقالة - المطبوعة بعد وفاته - إلى الجمع ، لكن العبائر الموجودة فيها لا تخلو عن قصور في تأدية المطلب ، ولم أتوفّق لفهم ما اختاره فيها من كيفية الجمع ، فإنّ في بعض عبائرها ما يستفاد منه هذه الطريقة ، وهي الرضا بالمخالفة لو كانت ناشئة عن جهل المكلّف وعدم تطبيقه الواقع على المورد ، وبعض عبائرها يستفاد منه طريقة الاختلاف في الرتبة ، وبعضها يستفاد منه طريقة شيخنا قدس سره من عدم تصدّي الشارع لحفظ التكليف من ناحية الجهل به ، فراجع المقالة لعلّك تقف على ما هو مراده إن شاء اللّه تعالى (2). وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) نقل جملة منها عند التعرّض لما في الكفاية ، ولما أفاده المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته من تفسير الفعلية بمعنى لو علم به لتنجّز.

والخلاصة : هي أنّ جعل حجّية الطرق والأمارات ، وجعل حجّية الأُصول

ص: 336


1- مخطوط لم يُطبع بعد.
2- مقالات الأُصول 2 : 47 - 49.
3- في الصفحة : 343 - 344.

الاحرازية أعني حجّية اليقين السابق مثلاً ، بل جعل حجّية احتمال العدم ليكون حجّة للمكلّف في مقام احتمال عدم التكليف كما هو مورد البراءة الشرعية ، في قبال جعل حجّية احتمال وجود التكليف ، كما هو مورد الاحتياط الشرعي كما في باب الدماء والفروج ، إلى غير ذلك ممّا جعله الشارع حجّة ، سواء كان في الشبهات الموضوعية أو كان في الشبهات الحكمية ، كلّ ذلك لا يرجع إلى جعل حكم تكليفي أو ترخيصي في قبال الحكم الواقعي ، ليدخل بذلك في اجتماع الحكمين المتماثلين أو الضدّين أو النقيضين ، بل ليس في البين إلاّجعل الحجّية ، ومن آثارها التنجّز والمعذورية. واختلاف لسان دليل الحجّية في هذه الحجج على وجه يوجب حكومة الأوّل على الثاني والثاني على الثالث ، وعلى وجه تترتّب اللوازم على الأوّل دون البواقي ، كلّ ذلك لا دخل له في إثبات تكليف على خلاف التكليف الواقعي.

قوله قدس سره في الكفاية : وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الالقاء في مفسدته ، فلا محذور فيه أصلاً إذا كان في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء (1).

لو كان جعل الحجّية في مورد انسداد باب العلم ، فلا يحتاج جعل حجّية الأمارة إلى الالتزام بكونه لمصلحة غالبة أو غير غالبة ، بل يكفي في صحّته مجرّد الانسداد ، إذ ليس حينئذ إلقاء في مفسدة ولا تفويت المصلحة ، وكذلك الحال فيما لو كان جعل الحجّية في حال الانفتاح لكن الأمارة كانت أغلب إصابة من الطرق العلمية. أمّا الالتزام بالمصلحة الغالبة على مصلحة الواقع ، فذلك يوجب انكسار مصلحة الواقع في مقام الجعل والتشريع ، وهو موجب لبقاء الواقع بلا

ص: 337


1- كفاية الأُصول : 277.

مصلحة أو لانعدامه ، والأوّل خلاف مذهب العدلية ، والثاني خلاف مذهب المخطّئة.

قوله في الكفاية : لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه الخ (1).

مجرّد كون الأمر الطريقي عن مصلحة في نفسه لا في الفعل الذي تعلّق به التكليف الطريقي ، لا يصحّح الجمع بينه وبين الواقع كما سيأتي منه (2) التصريح به في مثل أصالة الاباحة من الأُصول الشرعية ، والعمدة هو كونه طريقياً متعلّقاً بالتطرّق إلى الواقع بالأمارة على ما عرفت شرحه ، فإنّ ذلك هو المصحّح لاجتماع التكليفين ، لكون الأمر الطريقي متعلّقاً بالتطرّق بالأمارة إلى الواقع والتوصّل بها إليه ، فلا يكون منافياً للحكم الواقعي.

وما ذكره المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته على قوله : فافهم ، من أنّه إشارة إلى أنّ مقتضى هذا الأمر الطريقي هو الترخيص في ترك الواجب أو فعل الحرام إلى آخر ما أفاده (3) لا يرد على الأمر الطريقي ، لما عرفت من أنّ حاصله هو التوصّل إلى الواقع بالأمارة ، وأين هذا من المناقضة مع الواقع الناشئة عن الترخيص في مخالفته. نعم لازمه تفويت المصلحة ، وقد عرفت الجواب عنه.

قوله في الكفاية : حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ، وإن لم يحدث بسببها إرادة وكراهة في المبدأ الأعلى الخ (4).

إنّ عدم المناقضة بين الواقع والأمر الطريقي لا تتوقّف على هذه الطريقة

ص: 338


1- كفاية الأُصول : 277.
2- كفاية الأُصول : 278.
3- كفاية الأُصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه ) 2 : 83 / تعليقة 20.
4- كفاية الأُصول : 277.

الراجعة إلى أنّه ليس في المبدأ الأعلى إلاّالعلم بالصلاح ، وأنّ عالم الارادة والكراهة إنّما هو في بعض المبادئ العالية. لكن كأنّه قدس سره قد أخذ على عاتقه بيان هذا المطلب اللازم منه كون الأوامر والنواهي وعالم تشريع الأحكام راجعاً إلى النبي والأئمّة ( صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين ) وما أدري ما يحمل عليه النواهي والأوامر الواردة في خطابه تعالى في القرآن الكريم ، إلاّأن يلتزم بأنّ جميع تلك الأوامر والنواهي والرخص كلّها كناية عن الحكم الشأني ، يعني نفس المصلحة والمفسدة ، وأنّ جميع تلك الخطابات الانشائية ليست إلاّإخباراً لنبيّه صلى اللّه عليه وآله بالمصالح ، وأنّها خالية من الارادة والكراهة والبعث والزجر ، وغير ذلك ، وأنّ جميع ذلك راجع إلى مقام النبي صلى اللّه عليه وآله ، وأنّ منه صلى اللّه عليه وآله الارادة والكراهة والبعث والزجر ، وهذه طريقة لا تخلو من صعوبة.

قوله : وإنّما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادّة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا ، ولا إرادة ولا كراهة إلاّبالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي ، فافهم (1).

ظاهره أنّ الحكم الواقعي في مورد قيام الأمارة على خلافه يكون واصلاً إلى درجة الفعلية ، وهي مرتبة الارادة والكراهة ، بل ظاهره الوصول إلى مرتبة التنجّز التي هي مرتبة البعث والزجر. وفي هذا الأخير تأمّل ، فإنّ ذلك الحكم الواقعي المجهول لا يعقل وصوله إلى مرتبة التنجّز ، اللّهمّ إلاّأن يكون مراده من قوله : بعثاً وزجراً ، مجرّد إنشاء البعث والزجر ، فلا يكون ذلك وصولاً إلى مرتبة التنجّز ، وإن كان في نفسه فعلياً مشتملاً على الارادة والكراهة.

ص: 339


1- كفاية الأُصول : 278.

وعلى كلّ حال ، أنّ الوصول إلى هذه الدرجة ، أعني درجة الفعلية التي هي مرتبة الارادة والكراهة ، لا يجتمع مع الترخيص الفعلي على خلافه ، ولأجل ذلك استشكل في الأُصول الترخيصية ، فإنّها تنافي المنع الفعلي كما أفاده بقوله : نعم يشكل الأمر في بعض الأُصول العملية كأصالة الاباحة الشرعية ، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً كما فيما صادف الحرام (1) فالتزم بأنّ الحكم الواقعي في مثل ذلك غير واصل إلى مرتبة الارادة والكراهة ، فقال : فلا محيص في مثله إلاّعن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً ، كما في المبدأ الأعلى ( وحينئذ لا يكون في البين إلاّمجرّد العلم بالصلاح من دون انقداح إرادة ولا كراهة ، فلا يكون في البين إلاّالحكم الاقتضائي المعبّر عنه بالشأني ، ومع ذلك كلّه فقد التزم بأنّ الحكم في ذلك يكون فعلياً ، لا بمعنى تحقّق الارادة والكراهة ، لأنّ المفروض عدمهما ) بل بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه (2) ، وكان ينبغي أن يقول : إنّه على صفة لو علم به المكلّف لانقدحت الارادة والكراهة في بعض المبادئ العالية وتنجّز بذلك العلم ، فيكون العلم بالتكليف موصلاً له إلى درجة الارادة والكراهة ودرجة التنجّز.

ومن [ هنا ] يظهر لك التأمّل في قوله : كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجّز بسبب القطع بها (3) ، فإنّ التكاليف الفعلية قبل القطع بها واجدة لدرجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، ولم تفقد إلاّدرجة التنجّز ، فيكون القطع بها

ص: 340


1- كفاية الأُصول : 278.
2- نفس المصدر. [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف لكلام الآخوند قدس سرهما ].
3- نفس المصدر.

موصلاً لها إلى درجة التنجّز ، بخلاف التكليف الواقعي فيما نحن فيه ، فإنّه قبل القطع به غير واصل إلى درجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، فلا يكون تعلّق القطع به موجباً لتنجّزه ، إلاّإذا جعلنا القطع به سبباً لوصوله إلى درجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، فيكون القطع به سبباً لتعلّق الارادة والكراهة ولتنجّزه.

ومن ذلك أيضاً يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه الخ (1) فإنّه إن أراد بقوله : وكونه فعلياً ، وصوله إلى درجة الارادة والكراهة ، ففيه أوّلاً : أنّه منافٍ لما قدّمه من الالتزام بعدم انقداح الارادة والكراهة في بعض المبادئ العالية الخ. وثانياً : أنّ الوصول إلى درجة الارادة والكراهة لا يجتمع مع الإذن في المخالفة ، كما قدّمه بقوله : فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً كما فيما صادف الحرام وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه الخ (2). وإن أراد من الفعلية بقوله : وكونه فعلياً الخ ، هي الفعلية التعليقية ، بمعنى أنّه لو علم به لصار فعلياً وصار منجّزاً ، فهو ما قدّمناه من أنّ لازمه أنّه قبل العلم به أو ما يقوم مقامه لا يكون في البين إرادة ولا كراهة ، ولا يكون إلاّالاقتضاء والعلم بالصلاح ، فلا فعلية قبل العلم أو ما يقوم مقامه.

وبالجملة : أنّ لازم توجيه الترخيص بهذا التوجيه الذي سرّاه أخيراً إلى جميع موارد الطرق والأمارات والأُصول المخالفة للواقع ، كما أفاده بقوله : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في موارد الأُصول والأمارات فعلياً الخ (3) هو انحصار التكاليف الواقعية التي هي عبارة عن الارادة والكراهة بمن حصل له العلم بها أو ما يقوم مقامه ، أمّا غيره فلا إرادة في حقّه ولا

ص: 341


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

كراهة كما لا تنجّز في حقّه. ولكن مع ذلك هو قدس سره يقول إنّ الحكم فعلي في حقّه ، بمعنى أنّه لو علم به لتنجّز ، ولم نتوفّق لمعرفة المراد من هذه الفعلية الفاقدة حسب الفرض للارادة والكراهة.

قال المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته على قوله في الكفاية : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام الخ ، ما هذا لفظه : لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلياً بقول مطلق ، وأنّه على وجه لو علم به لتنجّز ، لا نريد منه شأنية الحكم الواقعي بالنسبة إلى الفعل المتعلّق به الحكم ، بل بالنسبة إلى الفاعل ، بمعنى عدم كونه متوجّهاً إلى المكلّف ، بيان ذلك : هو أنّ عدم توجيه البعث إلى المكلّف قد يكون من جهة عدم تطبيق الارادة للفعل بذات الفعل لأجل مجامعة ما يقتضيها مع المانع ، كما في جميع الأحكام الانشائية الشأنية ، فإنّه لا طلب في موردها ولا إرادة أصلاً لانتفاء شرطه أو لوجود مانعه ، وقد يكون لا من جهة ذلك ، بل لأجل قصور في المكلّف مانع من الطلب عنه عقلاً أو بنظر الشارع مع كمال حبّه للفعل واشتياقه إليه ومطلوبيته له ، فمن جهته لا يبعث نحوه.

والفرق بين القسمين هو أنّه في الأوّل لا إرادة أصلاً ، وإنّما تتحقّق بعد فرض انتفاء المانع ، بخلاف الثاني فإنّها فيه متحقّقة ، إلاّ أنّها بالنسبة إلى الفعل دون الفاعل ، فإنّ الارادة كما أنّ لها تعلّقاً بالفعل كذلك لها نوع تعلّق بالفاعل ، فالمراد من كون الحكم بحيث لو علم به لتنجّز ، كون الفعل مطلوباً للشارع بحيث لا يريد إلاّوقوعه في الخارج ، وإنّما لا يبعث به نحو المكلّف ولا يطلب منه لأجل جهله بالحكم المانع في نظر الشارع عن البعث إليه والزجر عنه ، فحيث إنّ هناك مانعاً عن الطلب عنه فعلاً ، جاز له ترخيصه في ترك الفعل مع كمال إرادته له

ص: 342

واشتياقه إليه ، ولذلك بمجرّد علم المكلّف به وارتفاع المانع - أعني الجهل - يتنجّز في حقّه التكليف لأجل عدم قصور فيه بل في الفاعل ، ومن حيث إنّ الارادة بالنسبة إلى الفعل موجودة وإن لم تتحقّق بعدُ بالنسبة إلى الفاعل ، جاز للشارع حينئذ جعل أمارة مؤدّية إليه دائماً أو غالباً ، إذ لا يعتبر في صحّة جعل الطريق والحجّة أزيد من كون الفعل محبوباً فعلاً ومتعلّقاً بنفسه للارادة الحتمية ، وإن لم يبعث به نحو المكلّف لأجل المانع ، والمفروض كونه كذلك في المقام ، ولذلك لو علم به تنجّز تلك الارادة والطلب المتعلّق بنفس الفعل انتهى ، فراجعه إلى آخر ما أفاده في الحاشية (1).

قلت : لا يخفى أنّه يلزم التأمّل والنظر في حال ذلك الفعل قبل علم المكلّف بوجوبه ، فإن قلنا إنّه قد تعلّقت به الارادة والطلب الشرعي فمن هو المراد منه والمطلوب صدور الفعل عنه مع فرض كون ذلك المكلّف لا تتعلّق به الارادة والطلب ، وهل يمكن وجود الطلب والارادة بلا أن يكون في البين مطلوب منه ولا مراد عنه ، بل وهكذا الحال لو قلنا إنّ الفعل في ذلك الحال غير مراد ، لكنّه كان الشارع مشتاقاً إليه كمال الاشتياق ، كما ربما يظهر لك من الأُستاذ المحقّق العراقي في مقالته المطبوعة ، وذلك قوله : إذ مرجع الأمر الطريقي كلّية إلى الترخيص في تفويت المرام في ظرف الجهل به عند المخالفة ، من دون اقتضائها لنفي اشتياقها وحبّها حتّى في ظرف الجهل بها من إطلاق قيام المصلحة بالذات المحفوظ في جميع المراتب ، إذ نتيجة الترخيص المزبور سلب إرادة المولى في هذه المرتبة ، وهو لا ينافي بقاء اشتياقه حتّى في هذه المرتبة بحاله معاً لاطلاق

ص: 343


1- كفاية الأُصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه ) 2 : 84 - 85 / تعليقة 22.

مصلحته الخ (1) فراجع كلماته السابقة على هذه الجملة ولاحظها.

ولا يخفى عليك ما في هذه الجملة فضلاً عن سابقها ولاحقها ، فإن تحقّق الشوق إلى نفس صدور الفعل من دون تحقّق من يصدر عنه ، كنفس تعلّق الارادة به من دون تحقّق من هو المراد صدوره عنه. ولو سلّمنا تحقّق الشوق إلى نفس الفعل مع فرض عدم تحقّق من يصدر منه ، على وجه كان الشارع مشتاقاً إلى الفعل من دون تعلّق إرادته به وصدور طلبه ، لأمكننا القول بأنّه لا أثر لذلك الاشتياق ما لم يبلغ درجة الطلب والارادة ، وحينئذ لا يصحّ في ذلك الحال جعل الطرق والأمارات بالنسبة إلى ذلك الفعل ، لأنّه قبل الطريق إليه لا إرادة ولا طلب ، فلا تقوم الأمارة حينئذ إلاّعلى كون ذلك الفعل قد اشتاق إليه الشارع من دون تعلّق إرادته وطلبه به.

وبالجملة : يكون العلم وما يقوم مقامه سبباً لتعلّق الارادة بذلك الفعل ، فيكون الحاصل انحصار الحكم الشرعي الذي هو الطلب والارادة بمن حصل له العلم بذلك الشوق. ولا يخفى خروجه عن الطريقة الوسطى التي هي طريقتنا في التخطئة.

والحاصل : أنّ الارادة من الفاعل الجاهل متحقّقة كاملة العيار ، غير أنّها لم تكن منجّزة على وجه توجب مخالفتها استحقاق العقاب ، ولا أثر للجهل سوى ذلك ، وهو المعبّر عنه بالمعذورية ، مع فعلية الخطاب والارادة والبعث والزجر والطلب من جميع الجهات ، ولم يتّضح لنا معنى صحيح للفعلية بمعنى لو علم به لتنجّز ، وحينئذ يكون إشكال اجتماع الترخيص مع ذلك الطلب الفعلي باقياً بحاله إلاّ على ما قدّمناه ، فراجع وتأمّل.

ص: 344


1- مقالات الأُصول 2 : 48 - 49.

والذي حرّرته عن درس أُستاذنا المرحوم السيّد أبي الحسن قدس سره في تفسير هذه الفعلية هو : أنّ الالزام الفعلي يكون مقيّداً بعدم الإذن ، وإذا حصل الإذن منه لأجل الجهل وعدم مصلحة تقتضي جعل الاحتياط ، لا يكون ذلك الالزام فعلياً ، ويكون معنى كون الالزام فعلياً على هذا التقدير أنّه لو علم به لتنجّز ، فما دام الجهل موجوداً يكون ذلك الالزام غير منجّز ، وفي هذه المرحلة - أعني مرحلة الجهل - لا مانع من كونه غير فعلي ، لأنّ فعليته تكون مقيّدة بعدم الإذن ، وفي تلك المرحلة يكون مأذوناً فيه لأجل الجهل ، فيكون الالزام غير فعلي ، فلم يجتمع الإذن والترخيص مع الالزام الفعلي.

والحاصل : أنّ الجهل يصيّر الالزام الفعلي غير منجّز ، فيكون مأذوناً في مخالفته ، وإذا كان مأذوناً فيه كان غير فعلي ، لما عرفت من أنّ فعليته مقيّدة بعدم الإذن. نعم إذا ارتفع الجهل كان الالزام منجّزاً ، فلا يكون مأذوناً فيه فيكون فعلياً وهذا معنى تفسيره الفعلية بما لو علم به لتنجّز ، فتأمّل انتهى.

قلت : لا ريب على الظاهر عند صاحب الكفاية قدس سره ومن تبعه في أنّ الحكم ما لم يبلغ إلى الدرجة الفعلية المعبّر عنها بمرحلة التحصيل من المكلّفين ، قابل للترخيص الشرعي على خلافه ، إذ لا مانع من الترخيص الشرعي في مخالفة الحكم الاقتضائي أو الشأني ، بل الانشائي إذا لم يصل إلى درجة التحصيل من المكلّفين ، كما أنّه لا ينبغي الريب في أنّ وصوله إلى الدرجة المزبورة مقيّد عقلاً بما إذا لم يكن في البين ترخيص بالمخالفة ، فتكون فعلية الأحكام مقيّدة عقلاً بعدم الترخيص المزبور ، ويكون هذا الترخيص موجباً لبقائها على حالها من محض الاقتضاء أو الشأنية أو الانشائية ، وهذا الترخيص إن كان ناشئاً عن عدم كمال الصلاح في الأمر الواقعي أو وجود مانع فأمره واضح ، حيث إنّ تدرّج

ص: 345

التكليف الواقعي في هذه الدرجات من الاقتضائية إلى الشأنية إلى الانشائية إلى الفعلية تابع للمصلحة في متعلّقه ، وعدم المانع من تأثيرها في الوصول إلى الدرجة التالية ، وإن كان هذا الترخيص لأجل جهل المكلّف بالحكم الواقعي ، كان موجباً لعدم الفعلية أيضاً ، إلاّ أنّه لا مانع من وصفه بالفعلية معلّقاً على ارتفاع الترخيص بارتفاع سببه الذي هو الجهل ، فيقال إنّه فعلي بمعنى أنّه لو علم به كان فعلياً وكان منجّزاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الترخيص الوارد في مقام الجهل لابدّ أن يكون عن مصلحة ولو في نفس الجعل ، وهذه المصلحة ولو هي في نفس جعل الترخيص ، تكون مزاحمة للمصلحة الواقعية في اقتضائها تدرّج التكليف الواقعي من المراتب السابقة إلى المرتبة [ اللاحقة ] ، وحيث إنّها - أعني مصلحة الترخيص - أقوى في هذه الجهة ، كانت موجبة لعدم تأثير المصلحة الواقعية في وصول التكليف إلى الدرجة الفعلية ، وأنّه يبقى على حاله من الدرجات السابقة ، ففي الحقيقة لا يكون التكليف الواقعي في مقام الجهل به إلاّاقتضائياً شأنياً إنشائياً ، ولا يكون فعلياً أصلاً. ولا يكون تسميته فعلياً بمعنى كونه لو علم به لتنجّز إلاّكتسمية سائر الأحكام الشأنية المقرونة بالمانع من تأثير الصلاح في فعليتها فعلياً بمعنى أنّه لو ارتفع ذلك المانع لصارت فعلية.

نعم ، غاية الفرق هو أنّ ارتفاع ذلك المانع يكون أثره مقصوراً على فعليتها لكنّه لا يوجب تنجّزها ، بل يحتاج تنجّزها إلى جهات أُخر ، بخلاف ارتفاع الجهل فإنّه مضافاً إلى كونه موجباً لفعليتها يكون موجباً لتنجّزها أيضاً ، فذلك التكليف في حال الجهل يكون مشاركاً للأحكام الفعلية غير المنجّزة كما في موارد الجهل المركّب كالقطع بعدم التكليف مع فرض وجوده واقعاً ، في أنّ العلم به يكون

ص: 346

موجباً لتنجّزه ، وإن خالفها في أنّه في حال الجهل ليس بفعلي أيضاً مضافاً إلى كونه غير منجّز ، وهذا بخلاف الحكم الانشائي غير الواصل إلى درجة الفعلية لمانع يمنع من فعليته المعبّر عنها بانقداح الارادة في نفس النبي صلى اللّه عليه وآله غير الجهل فإنّ العلم به لا يوجب تنجّزه كما لا يوجب فعليته ، بل هو باق على مرتبته من الاقتضاء أو الانشاء ، ولا يصل بواسطة تعلّق العلم به إلى درجة الفعلية ولا إلى درجة التنجّز ، فإنّ ذلك الحكم الانشائي الذي أُوحي به إلى النبي صلى اللّه عليه وآله لم يكن المانع من فعليته المعبّر عنها بانقداح الارادة في نفس النبي صلى اللّه عليه وآله هو الجهل ، كي يكون العلم به موجباً لفعليته وتنجّزه ، بل كان المانع من ذلك شيئاً آخر هو موجود في كلا حالتي الجهل والعلم ، وحينئذ يكون ذلك الحكم الانشائي غير واصل إلى درجة الفعلية والتنجّز في كلّ من حالتي الجهل والعلم به.

وقد تلخّص : أنّ الحكم الانشائي بالنسبة إلى تعلّق العلم به يكون على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يكون فعلياً لكن الجهل منع من تنجّزه ، ولابدّ أن يكون الجهل في هذه الصورة جهلاً مركّباً ، بمعنى القطع بعدم التكليف ، وحيث إنّها ليست مورداً للترخيص الشرعي لم يكن في حال الجهل المذكور ما يوجب ويمنع (1) من فعليته وأقصى ما في البين أنّ الجهل المذكور مانع من تنجّزه.

الثاني : الجهل المقرون بالشكّ ، وهذه الصورة هي مورد الترخيص الشرعي المانع من فعليته.

الثالث : ما كان المانع من فعليته شيئاً آخر غير الترخيص الشرعي. ويشترك الأوّلان في هذه القضية ، وهي أنّ ذلك الحكم لو علم به لتنجّز ، بخلاف الصورة

ص: 347


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

الثالثة.

قوله في الكفاية : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلياً ... الخ (1).

يمكن إصلاح هذا التوجيه بنحو ما أفاده في الأُصول الترخيصية ، بأن يقال إنّ الحكم الواقعي إنّما يكون فعلياً في مورد الجهل به إذا لم يكن في البين أمارة أو أصل على خلافه ، لأنّ المصلحة الموجبة لجعل الحكم على خلافه مانعة من تأثير المصلحة الواقعية في تحقّق الارادة في النفس النبوية ، وهذا بخلاف ما لو كان الأصل أو الأمارة موافقة له ، فإنّه حينئذ لا مانع من انقداح الارادة في تلك النفس العالية ، فيكون الحكم الواقعي فعلياً في تلك الموارد ، ويكون ذلك الحكم الواقعي الفعلي منجّزاً في حقّ المكلّف بواسطة قيام الأمارة أو الأصل عليه. واحتمال عدم إصابتها لا يوجب عدم تنجيزها الواقعي الفعلي ، لأنّ هذا الاحتمال محكوم بالغائه شرعاً بواسطة دليل حجّيتها ، فيلزم العمل على كلّ أمارة أو أصل ، غايته أنّا نقول إنّ بعضها لو كان مخطئاً يكون الحكم الواقعي في مورده غير فعلي. وحاصل ذلك هو الالتزام بعدم فعلية الأحكام الواقعية في خصوص الأمارات والأُصول المخالفة دون الموافقة.

ومنه يظهر لك أنّ تقريب هذا التوجيه بهذا التقريب لا يحتاج إلى دعوى كون الحكم الواقعي ينقلب إلى الفعلية بواسطة قيام الأمارة ، ليرد عليه ما أفاده قدس سره بقوله : فإنّه يقال الخ (2) لما عرفت من كون الحكم الواقعي في حدّ نفسه يقتضي الفعلية ، ولا يخرج عنها إلاّإذا كانت الأمارة أو الأصل على خلافه.

ص: 348


1- كفاية الأُصول : 278.
2- كفاية الأُصول : 278.

نعم ، يرد على هذا التوجيه ما أفاده شيخنا قدس سره (1) فيما شرحناه مراراً من معنى الفعلية ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبّداً إلاّحكم إنشائي تعبّداً ، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة ... الخ (2).

توضيحه : أنّا لو التزمنا بأنّ الأحكام الواقعية قبل قيام الأمارة عليها تكون إنشائية ، وبواسطة قيام الأمارة عليها تكون فعلية ، يكون الحاصل حينئذ هو أنّ الفعلية من آثار الحكم الانشائي الحقيقي الذي قامت عليه الأمارة ، فيكون موضوع الفعلية هو الحكم الانشائي الحقيقي الذي قامت عليه الأمارة ، ويكون موضوعها حينئذ مركّباً من الحكم الانشائي الحقيقي المقيّد بقيام الأمارة عليه ، فلو قامت الأمارة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، لم يكن قيامها محقّقاً لذلك الموضوع المركّب حقيقة ، لأنّ قيام الأمارة على ذلك لا يوجب كونه وجوباً حقيقياً ، بل أقصى ما فيه أنّه وجوب إنشائي تعبّداً ، فلا يكون قيامها محصّلاً إلاّ للتعبّد بالجزء الأوّل من موضوع الفعلية ، ويبقى الجزء الثاني منه - وهو كونه ممّا قامت الأمارة عليه - لم يجر فيه التعبّد.

إلاّ أن ندّعي أنّ التعبّد في الجزء الأوّل لمّا كان بلا أثر كان لغواً ، فاخراجاً له عن اللغوية نقول إنّ الشارع قد أجرى التعبّد في الجزء الثاني ، فيكون ما نحن فيه من قبيل ما لو كان لنا أثر يترتّب على موت زيد مقيّداً بيوم السبت ، وقامت الأمارة على موته ، فإنّها لا يتحقّق منها إلاّالتعبّد بالجزء الأوّل وهو نفس الموت ، وأمّا

ص: 349


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 103 - 104.
2- كفاية الأُصول : 278.

التعبّد بالجزء الثاني وهو كونه واقعاً في يوم السبت فلا تعبّد فيه ، إلاّبأن نقول : إنّ التعبّد بالجزء الأوّل بدون التعبّد بالجزء الثاني يكون لغواً ، وحينئذ يكون دليل التعبّد بالجزء الأوّل دليلاً على التعبّد بالجزء الثاني ، وهذا إنّما يكون إذا لم يكن للتعبّد بالجزء الأوّل أثر أصلاً ، أمّا إذا كان له أثر آخر مترتّب على نفس الموت ، فلا مجال فيه للغوية.

والذي يظهر من الكفاية بقوله : لكنّه لا يكاد يتمّ إلاّإذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلاً الخ (1) أنّ للأحكام الواقعية الانشائية في حدّ نفسها أثراً مصحّحاً لجريان التعبّد فيها ، وفيه تأمّل.

أمّا ما أفاده قدس سره بقوله : وأُخرى الخ (2) فالظاهر عدم وروده على هذا التوجيه ، لأنّ القائل به لابدّ له أن يلتزم بسدّ باب احتمال فعلية الأحكام الواقعية فراراً من احتمال النقيضين ، فكيف يورد عليه بأنّه يحتمل كون الحكم الواقعي فعلياً ليلزم احتمال اجتماع النقيضين ، فتأمّل.

وكذلك ما أفاده في الايراد على الوجه الثاني الراجع إلى تعدّد المرتبة بقوله : فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلاّ أنّه يكون في مرتبته أيضاً الخ (3) فإنّ الظاهر أنّه غير وارد ، فإنّه بعد تسليم كون الحكم الظاهري في طول الجهل بالحكم الواقعي الذي هو في طول الحكم الواقعي ، على وجه يكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبتين ، كيف يكون الحكم الواقعي موجوداً في مرتبة الحكم الظاهري ، وهل ذلك [ إلاّ ] من قبيل قولنا إنّ المعلول لم يكن موجوداً في مرتبة العلّة ، إلاّ أنّ العلّة موجودة في مرتبة المعلول. ونظير هذا

ص: 350


1- كفاية الأُصول : 279.
2- كفاية الأُصول : 279.
3- كفاية الأُصول : 279.

الإشكال ما أشكله (1) على الترتّب من أنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن موجوداً في مرتبة الأمر بالأهمّ ، إلاّ أنّ الأمر بالأهمّ موجود في مرتبة الأمر بالمهم. وحينئذ فالعمدة في الجواب هو أنّ اختلاف الرتبة لا يصحّح اجتماع النقيضين ، وقد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عندنا عليه ، فراجع (2) وتأمّل.

قوله : ولو سلّم عدم شمول الافتراء لما لا يعلم موضوعاً ، فلا أقل من شموله حكماً ، لأنّه جعل في مقابل الإذن ، فتدلّ الآية الشريفة على أنّ كلّ ما لم يؤذن فيه فهو افتراء إمّا موضوعاً وإمّا حكماً (3).

لا يخفى أنّ مقابلة الإذن إنّما تكون قرينة على أنّ المراد بالافتراء هو ما لم يؤذن فيه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يوجب التوسعة لما لم يعلم الإذن فيه. مضافاً إلى أنّه لو أوجب التوسعة لذلك كان ما لم [ يعلم ] الإذن فيه داخلاً في موضوع الافتراء ، لا أنّه من باب مجرّد الدخول في الحكم.

فالأولى أن يقال : إنّ المراد من قوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ ) (4) هو التقرير باحراز الإذن ، فيكون مقابله عدم إحراز الإذن ، فيكون شاملاً للقول عليه تعالى بغير علم ، ويكون ذلك داخلاً في موضوع الافتراء لا من مجرّد الدخول في الحكم ، فتأمّل.

ص: 351


1- كفاية الأُصول : 134.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 309 وما بعدها ، وراجع أيضاً الحاشية المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : 40 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 119 - 120.
4- يونس 10 : 59.

قوله : بناءً على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدّي للقضاء مع عدم كونه أهلاً له (1).

يمكن أن يقال : إنّ القضاء ليس من باب الافتاء والحكاية عن الحكم الواقعي ، بل هو من باب الانشاء والجعل من قبل القاضي ، غايته أنّه لابدّ في ذلك من كونه مطابقاً للحكم الشرعي ، سواء كان في الشبهات الحكمية أو كان في الشبهات الموضوعية ، فلا يكون التوبيخ عليه مع فرض عدم العلم بأنّه مطابق للحكم الشرعي دليلاً على حرمة النسبة إليه تعالى والحكاية عنه تعالى مع عدم العلم بذلك ، وإن اشترك البابان في الحرمة مع عدم العلم ، فإنّه كما تكون الحكاية والفتوى مع عدم العلم حراماً ، فكذلك الحكم الانشائي القضائي في مقام فصل الخصومة مع عدم العلم ، لأنّ الشرط في جواز القضاء هو العلم بأنّ ما يقضي به مطابق للواقع ، فتأمّل.

واعلم أنّه قد استدلّ على أصالة عدم الحجّية بعموم ما دلّ على المنع عن العمل بالظنّ ، ولم يخرج عنه إلاّما ثبت اعتباره بالخصوص ، فبقي الباقي تحت العموم المذكور. وقد تعرّض له شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة ، فقال فيما حرّرته عنه قدس سره ما هذا نصّه : وفيه أنّ خروج ما ثبت اعتباره بالخصوص لم يكن بالتخصيص ، بل كان بالتخصّص ، حيث إنّ دليل الحجّية لمّا كان متكفّلاً لإلغاء احتمال الخلاف ، لم يكن الأخذ به والاستناد إليه استناداً إلى الظنّ ، بل كان استناداً إلى العلم بذلك الدليل الدالّ على إلغاء احتمال الخلاف - إلى أن قال : - فإذا شككنا في حجّية ظنّ بالخصوص كان ذلك عبارة أُخرى عن الشكّ في إلغاء احتمال الخلاف فيه ، فيكون التمسّك بذلك العموم في مقام الشكّ المذكور من قبيل

ص: 352


1- فوائد الأُصول 3 : 120.

التمسّك بالعموم في مورد الشكّ في انطباق عنوان العام عليه ، وهو ممّا لا إشكال في عدم جوازه الخ. فراجع ما حرّره عنه قدس سره في التحريرات المطبوعة في صيدا ص 87 (1).

قلت : يمكن أن يتأمّل في ذلك بأن يقال : إنّ الشكّ في الحجّية وإن أوجب في المرتبة الأُولى الشكّ في دخوله تحت عمومات النهي عن العمل بغير العلم ، إلاّ أنّه في الرتبة الثانية - أعني رتبة عدم العلم بالحجّية - يكون مشمولاً لأدلّة المنع من الأخذ بغير العلم ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات.

وبالجملة : يكفي في دخوله تحت عموم عدم العلم ، عدم العلم بأنّه حجّة ، وإنّما يخرج عن موضوع عدم العلم إذا كانت حجّيته محرزة ، فإنّه لا معنى للشكّ في كون هذا القول قولاً بغير العلم أو كونه قولاً بالعلم ، بل إنّ الشكّ في الحجّية يوجب القطع بأنّه قول بغير علم ، فتأمّل. والتعبير في كثير من الآيات وإن كان بالظنّ ، إلاّ أنّ المراد به هو عدم العلم ، كما في قوله : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) الخ (2) ، فيكون الملاك والميزان هو عدم العلم ، وهو حاصل وجداناً عند الشكّ في الحجّية.

لا يقال : إنّ التمسّك بالعموم المذكور إنّما يتمّ لو كان تقديم دليل حجّية الأمارة على العموم المذكور بطريق الورود ، بتقريب : أنّ دليل حجّية الأمارة يكون موجباً للعلم الوجداني بالحكم الظاهري ، فيكون رافعاً لموضوع العموم رفعاً حقيقياً وجدانياً ، فمع الشكّ في الحجّية يتمسّك بعموم المنع من الأخذ بغير العلم ويتمّ حينئذ ما ذكرتموه من أنّه لا محصّل للشكّ في كونه غير عالم ، بل يكون

ص: 353


1- أجود التقريرات 3 : 148.
2- الكهف 18 : 5.

الشكّ في الحجّية محقّقاً وجداناً لعدم العلم. أمّا لو قلنا بأنّ تقديم دليل الحجّية على ذلك العموم بطريق الحكومة ، بأن يقال : إنّ جعل الشارع حجّية الأمارة مرجعه إلى جعل العلم التعبّدي ، ولا ريب أنّ العلم التعبّدي قابل للشكّ ، فمع الشكّ في الحجّية يكون المكلّف شاكّاً في تحقّق العلم التعبّدي وعدم حصوله ، فلا يشمله عموم المنع من الأخذ بغير العلم ، للشكّ في كونه غير عالم ، ويكون التمسّك بذلك العموم حينئذ تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية.

لأنّا نقول : إنّ العلم التعبّدي وإن كان قابلاً للشكّ ، إلاّ أنّ دليل المنع من الأخذ بغير العلم لم يكن مقيّداً بعدم العلم التعبّدي ، بل المراد هو عدم العلم الوجداني ، غايته أنّه إذا ثبت التعبّد بالأمارة يكون ثبوته حاكماً على عموم عدم العلم ، فمع الشكّ في ذلك التعبّد لا مانع من التمسّك بعموم المنع من الأخذ بغير العلم ، لأنّ ذلك الشاكّ غير عالم وجداناً وإن كان شاكّاً في حصول العلم التعبّدي ، وإلاّ لوجب عدم التمسّك بالعموم عند الشكّ في تحقّق الحاكم عليه.

مثلاً أنّ للشكّ في الصلاة أحكاماً ، ودليل « لا شكّ لكثير الشكّ » حاكم على أدلّة تلك الأحكام ، فلو شككنا في شمول كثير الشكّ لمن حصل له الشكّ مرّتين ينبغي أن يسقط عموم تلك الأحكام في حقّه. وهكذا الحال فيما لو شككنا في حجّية خبر الشخص الواحد في أنّ المكلّف قد أتى بالمشكوك أو لم يأت به ، وهكذا الحال في نسبة « لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم » إلى أدلّة حكم الشكّ. فإنّا لو شككنا في أنّ الشارع هل قال : لا شكّ لمن هو ضعيف المزاج ، ونحو ذلك ممّا يكون على تقديره أو تقدير حجّيته حاكماً على أدلّة الشكّ.

وهكذا الحال في حكومة دليل الأمارة على دليل الأُصول من الاستصحاب وبقية الأُصول ، فإنّ لازم ما أُفيد في هذا المقام هو أنّ الأمارة المشكوكة الحجّية

ص: 354

توجب التوقّف عن الأخذ بعموم دليل الاستصحاب وسائر الأُصول العملية.

قوله : ذهب إلى الأوّل المحقّق الخراساني قدس سره ، وحمل ما ورد في الكتاب والسنّة في هذا الباب على الارشاد ، نظير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) ، (2).

لم أعثر في الكفاية على ما يدلّ على ذلك ، بل كلامه في باب النهي يقتضي الفساد ظاهر في أنّ بناءه على حرمة التشريع شرعاً ، غير أنّه يقول إنّه من الأفعال القلبية ، فإنّه قال : مع أنّه لا ضير في اتّصافه بهذه الحرمة ( يعني الحرمة الذاتية ) مع الحرمة التشريعية ، بناءً على أنّ الفعل فيها ( يعني الحرمة التشريعية ) لا يكون في الحقيقة متّصفاً بالحرمة ، بل إنّما يكون المتّصف بها ما هو من أفعال القلب ، كما هو الحال في التجرّي والانقياد الخ (3). نعم ، كلامه في الحاشية على الرسائل صريح في ذلك ، فإنّه قال : فالحرمة التشريعية عقلية صرفة لا شرعية كحرمة قصد المعصية - إلى قوله - فلو ورد ( نهي عن التشريع ) في الشرع فهو من باب الارشاد ، وإطباق العقلاء على ذمّ المشرّع إنّما هو على نفس البناء والالتزام الذي هو من أفعال القلب الخ (4).

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في حرمة التشريع شرعاً ، وإن وقع الكلام في سريانه إلى الفعل الخارجي أو كونه مقصوراً على الفعل القلبي والاعتقاد.

ص: 355


1- الأنفال 8 : 20.
2- فوائد الأُصول 3 : 120.
3- كفاية الأُصول : 187 ( لا يخفى أنّ ما بين القوسين شرح المصنّف لكلمات الآخوند قدس سرهما ).
4- حاشية على كتاب فرائد الأُصول : 41 - 42.

قوله : ومسألة قبح التشريع من هذا الباب ، لأنّ حكم العقل بقبحه ليس واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وحكم العقل بقبح التشريع إنّما هو من قبيل الأوّل ( يعني كونه واقعاً في سلسلة علل الأحكام ) ومجرّد كونه تمرّداً على المولى لا يوجب كونه من قبيل الثاني ( يعني كونه واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام ليكون حاله حال المعصية ) فإنّه من قبيل الكذب بل هو هو بعينه ، فيكون حاله حال شتم المولى وسبّه في كونه تمرّداً على المولى ، مع كون قبحه علّة في الحكم الشرعي بحرمته.

قوله : بتقريب أنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : الثالثة فيما يتعلّق بالتشريع ، هي أنّه هل حاله حال التجرّي في عدم سراية قبحه إلى الفعل ، لكونه واقعاً في ناحية الاحراز ، فلا يكون إلاّ من قبيل الداعي في عدم انطباقه على الفعل ، أو أنّه يكون منطبقاً على الفعل وموجباً لحرمته؟ والحقّ هو الثاني ، فإنّ التشريع ما لم يبرز إلى الخارج بالعمل على طبق ما شرّعه أو بالأمر بالعمل على طبق ما شرّعه ، لم يكن هناك إلاّمجرّد الخطور والنيّة ، وهي لا أثر لها أصلاً ، وحينئذ فيكون التشريع موجباً لبطلان العمل وفساده وحرمته.

وأمّا تفصيل صاحب الجواهر قدس سره في النجاة (3) بين التشريع في تروك الصوم وبين التشريع في أجزاء الصلاة وشرائطها ، في كون الثاني موجباً للبطلان دون

ص: 356


1- فوائد الأُصول 3 : 121.
2- فوائد الأُصول 3 : 121.
3- نجاة العباد : 149 ، 191.

الأوّل ، فليس مبناه عدم انطباق التشريع على العمل ، بل مبناه هو التفصيل بين كون التشريع في ترك شيء والتشريع في فعله ، بدعوى عدم سراية الترك إلى العمل بخلاف الفعل ، فتأمّل انتهى.

قلت : وقوله أو بالأمر بالعمل على طبق ما شرّعه ، إشارة إلى الفتوى على طبق ما شرّعه.

وبالجملة : أنّ للتشريع مراتب :

الأُولى : مرتبة الاعتقاد القلبي ، وهذه لا أثر لها ، على إشكال في ذلك ، لأنّها فعل قلبي اختياري قابل للتحريم الشرعي ، فلا ينبغي الإشكال في حرمتها.

الثانية : مرتبة الحكاية والنسبة إليه تعالى ، وهذه هي الفتوى بعينها ، ولا إشكال في حرمتها ، إذ لا أقل من كونها كذباً عليه تعالى.

الثالثة : مرتبة الأمر بالعمل على طبقها ، وهي من مقولة الحكم ، كما في قول عمر : وأنا محرّمهما (1) ، ولا إشكال في حرمتها لكونها حكماً بغير علم.

الرابعة (2) : هي مرتبة عمل الشخص نفسه على طبق ما شرّعه. ولعلّ الثالثة راجعة إلى هذه المرتبة الرابعة (3) ، لأنّ إنشاء الحكم على طبق ما شرّعه من مقولة عمل الشخص نفسه.

وينبغي مراجعة ما علّقناه على ما أفاده قدس سره في باب النهي عن العبادة في

ص: 357


1- راجع كنز العمّال 16 : 519 / 45715 ، 45722 ، وفيه : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ، متعة النساء ومتعة الحجّ. وراجع أيضاً التفسير الكبير 10 : 50.
2- [ في الأصل : الثالثة ، وهو من سهو القلم ].
3- [ في الأصل : ولعلّ الثانية راجعة إلى هذه المرتبة الثالثة ، والصحيح ما أثبتناه ].

مسألة النهي التشريعي (1).

قوله : وظاهر قوله : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم » (2) ... الخ (3).

تقدّمت الاشارة (4) إلى أنّ القضاء والحكم الصادر لفصل الخصومة ليس من باب الافتاء والحكاية ، كي يكون تشريعاً لتكون حرمته سارية إلى الفعل الذي هو نفس القضاء ، بل إنّ نفس الحكم القضائي تشريع وإنشاء لحكم ، لكنّه تشريع جائز ، غايته أنّ جواز هذا النحو من التشريع مشروط بالأهلية ، وكون ما يقضي به وينشئه القاضي مطابقاً للحكم الشرعي الواقعي ، فتأمّل.

قوله : حيث قال : وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ... الخ (5).

لا يخفى أنّ للحجّية إطلاقين :

أحدهما : بمعنى ما يوجب التنجّز والمعذورية. وهذه تنطبق على حجّية احتمال التكليف في الشبهات البدوية قبل الفحص ، وفي موارد العلم الاجمالي. ومن ذلك الظنّ على طريقة الحكومة الناشئة عن تبعيض الاحتياط. وهذه لا يلزمها الالتزام وصحّة النسبة.

ثانيهما : بمعنى الاحراز والوسطية في الاثبات والقيام مقام العلم الطريقي. وهذه وإن ترتّب عليها الأثر الأوّل وهو التنجيز والمعذورية ، إلاّ أنّ أهمّ آثارها هو

ص: 358


1- راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 359 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 27 : 22 / أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.
3- فوائد الأُصول 3 : 122.
4- في الصفحة : 352.
5- فوائد الأُصول 3 : 122.

الاحراز والوسطية في الاثبات ، وصحّة الالتزام وصحّة النسبة إليه تعالى.

ولا يبعد أن يكون منظور شيخنا قدس سره من الحجّية هو النحو الثاني ومنظور الكفاية هو النحو الأوّل. ولكن لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في حجّية الأمارات وهي من النحو الثاني دون النحو الأوّل ، فتأمّل.

ثمّ إنّ لكون الظنّ حجّة على الحكومة طريقتين ، الأُولى : هي دعوى أنّه بعد تمامية المقدّمات يكون العقل حاكماً بحجّية الظنّ وكونه وسطاً في الاثبات. والثانية هي طريقة تبعيض الاحتياط. وما أفاده شيخنا قدس سره في هذا التحرير بقوله : وحاصله أنّه ليس من وظيفة العقل جعل الظنّ حجّة الخ (1) إنّما يرد على الطريقة الأُولى ، وأمّا الطريقة الثانية فلا يتوجّه عليها الإيراد المذكور ، لأنّ صاحبها لا يدّعي كون الظنّ بحكم العقل وسطاً في الاثبات. نعم يرد على صاحب الكفاية المفروض كونه ملتزماً بالطريقة [ الثانية ] من حجّية الظنّ على الحكومة وهي طريقة [ تبعيض ] الاحتياط ، أنّها لا دخل لها بما نحن بصدده من حجّية الأمارات التي أهمّ آثارها صحّة الالتزام والنسبة إليه تعالى ، فعدم صحّة الالتزام والنسبة في حجّية الظنّ على الحكومة لا دخل له بما نحن بصدده ، فتأمّل.

قوله : ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح التشريع ... الخ (2).

التشريع نوع من الكذب ، ويمكن إقامة البرهان على أنّ حكم العقل بقبح الكذب من قبيل ذي الملاك الواحد ، بأن يقال : إنّه لا ريب في أنّ ملاك القبح المذكور ليس هو مجرّد عدم المطابقة للواقع ، بل هو عدم المطابقة للاعتقاد ، وهذا يتصوّر بصورتين ، الأُولى : أن يكون المتكلّم معتقداً بعدم موت زيد ولكنّه

ص: 359


1- فوائد الأُصول 3 : 123.
2- فوائد الأُصول 3 : 125.

يخبرنا بموته. ولا ريب في قبح ذلك منه. الصورة الثانية : أن لا يكون معتقداً بشيء ، بأن كان شاكّاً في موته وحياته ولكنّه مع ذلك أخبرنا بموته. وهذه الصورة أيضاً يحكم فيها العقل بقبح الاخبار.

ولكن هل أنّ حكمه بذلك طريقي مخافة الوقوع في القبيح الواقعي ، أو أنّ حكمه بذلك واقعي أيضاً ملاكه عدم مطابقة هذا الخبر لاعتقاده ، بمعنى كون ذلك الخبر غير مطابق لاعتقاده الذي هو عين الملاك في حكمه بالقبح في الصورة الأُولى؟

وهذا الأخير هو المتعيّن ، لأنّ حكمه في هذه الصورة بالقبح لو كان طريقياً مخافة الوقوع في القبيح في الصورة الأُولى ، كان محصّله هو منع العقل من الإخبار في صورة الشكّ مخافة الوقوع في القبيح الأوّل الذي [ هو ] الاخبار مع اعتقاد العدم ، ولا ريب في فساد ذلك وعدم معقوليته ، لعدم معقولية منع العقل عن الاقدام على الاخبار مع الشكّ خوفاً من الوقوع في القبيح الواقعي الذي هو الاخبار مع اعتقاد الخلاف ، بحيث يكون لسان حال هذا المنع العقلي هو أنّك لا تخبر مع الشكّ خوفاً من أن يكون إخبارك هذا قبيحاً واقعاً ، بأن يكون إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، لما هو واضح من أنّ الاخبار مع الشكّ لا يعقل أن يكون في الواقع إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، فلا يحتمل في الاخبار مع الشكّ أن يكون نفس ذلك الاخبار إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، وحينئذ فلابدّ أن يكون الملاك في حكمه بالقبح في الصورة الثانية هو بعينه الملاك في القبح في الصورة الأُولى ، وذلك الملاك هو الاخبار مع عدم الاعتقاد بما أخبر به ، سواء كان معتقداً عدمه أو كان شاكّاً وغير معتقد لشيء ، فيكون ملاك القبح هو عدم العلم بما أخبر به.

وهذا بخلاف الضرر فإنّ الاضرار بالنفس مثلاً قبيح عقلاً ، أمّا الاقدام على

ص: 360

ما يحتمل فيه أنّه إضرار بالنفس فهو وإن قبّحه العقل ومنع منه ، إلاّ أنّ منعه منه يكون طريقياً وتحرّزاً عن الضرر الواقعي الذي هو القبيح الواقعي الأوّلي.

أمّا ما استشهد به شيخنا لتقوية كون المنع من الضرر من ذي الملاك الواحد بما يستفاد من كلماتهم في كون السفر مع احتمال الضرر من قبيل سفر المعصية وكون حكمه الواقعي هو الاتمام (1) ، فهو محتاج إلى التأمّل ، لأنّ ذلك تابع للدليل الشرعي الدالّ على حرمة السفر شرعاً ، وأنّ موضوعه هو خوف الضرر كما في مسألة خوف الضرر من الطهارة المائية ، وكما في خوف فوت الوقت ، وكما في خوف الضرر في حرمة الصوم ، ونحو ذلك ممّا يكون المتّبع فيه هو دلالة الدليل الشرعي ، وأين هذا ممّا نحن فيه من الحكم العقلي الصرف ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وقد يقرّر الأصل بوجه آخر وهو استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ حجّية الأمارة من الحوادث ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم ... الخ (2).

ربما يقال - كما تضمّنه ما حرّرته عنه قدس سره - : إنّ استصحاب عدم الحجّية إنّما يجري في خصوص ما تكون حجّيته المشكوكة تأسيسية دون الامضائية ، لما عرفت في محلّه من أنّه يكفي للامضاء عدم الردع ، ومن الواضح أنّه لا يكون مجرى لاستصحاب عدم الحجّية بل يكون مجرى لاستصحاب عدم الردع.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ عدم الردع إنّما اعتبر من حيث كشفه عن الرضا بما جرت به السيرة العقلائية ، فلا يكون إلاّمن الأُصول المثبتة ، لأنّ الأصل عدم تحقّق الرضا والامضاء ، وحينئذ يكون راجعاً إلى أصالة عدم الحجّية ، فتأمّل.

وقد يقال : إنّ مجرّد عدم الردع كافٍ في لزوم الجري على طبق ما جرت به

ص: 361


1- فوائد الأُصول 3 : 125.
2- فوائد الأُصول 3 : 126.

السيرة العقلائية على الأخذ بالظهور مثلاً ، من دون حاجة إلى إثبات الرضا والامضاء. فالأولى أن يقال : إنّ الحجّية الامضائية خارجة عن محلّ الكلام ، فإنّ جريان السيرة مع عدم الردع مخرج للأمارة عن كونها مشكوكة الحجّية ، ويكون ذلك - أعني السيرة المقرونة بعدم الردع - من أدلّة حجّية ما قامت السيرة العقلائية على حجّيته.

وفيه تأمّل واضح ، فإنّ السيرة محتاجة إلى الامضاء ، فراجع ما حرّرنا في حاشية ص 69 (1) وتأمّل.

قوله : والحجّية وإن كانت من الأحكام الوضعية - إلى قوله - والآثار المترتّبة عليها ، منها : ما يترتّب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجّزة للواقع عند الاصابة وعذراً عند المخالفة. ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها ، كحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسناد مؤدّاها إلى الشارع ... الخ (2).

إدراج حرمة التعبّد في هذه الآثار لا يخلو من خدشة ، لإمكان القول بأنّ جواز العمل أو وجوبه وحرمته من الآثار التابعة للحجّية بوجودها الواقعي. لكن الأمر سهل ، لأنّ المراد من حرمة التعبّد هو حرمة الأخذ بمودّاها على أنّه هو الواقع فيكون عبارة أُخرى عن حرمة الاسناد الذي هو التشريع ، وحاصل المراد هو أنّ المنجّزية وصحّة الاسناد لا تتبع الحجّية بوجودها الواقعي ، وإنّما هي تابعة للعلم بالحجّية ، وإذا انتفى العلم بالحجّية فقد حصل القطع بانتفاء موضوع هذه الآثار ويلزمه القطع بعدم ترتّب تلك الآثار ، وحينئذ فلا يكون الركون إلى استصحاب

ص: 362


1- وهي عدّة حواشٍ ، فراجع الحاشية الآتية في الصفحة : 454 وما بعدها ، وكذا الحاشية الآتية في الصفحة : 466 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 129.

عدم الحجّية إلاّلأجل أنّه محصّل تعبّداً للعلم بعدم الحجّية ، وهو - أعني العلم التعبّدي بعدم الحجّية - ملازم للتعبّد بانتفاء موضوع تلك الآثار الذي هو العلم بالحجّية ، وذلك - أعني انتفاء العلم - وجداني ، فيكون من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً. مضافاً إلى كونه مثبتاً ، فإنّ العلم التعبّدي بعدم الحجّية يلازم العلم التعبّدي بانتفاء العلم بالحجّية الذي هو موضوع تلك الآثار ، هذا بالنسبة إلى تنجيز الواقع ونحوه من آثار العلم بالحجّية.

وكذلك الحال بالنسبة إلى حرمة النسبة والقول بما لم يعلم بناءً على أنّه من آثار عدم العلم ، غايته أنّ استصحاب عدم الحجّية في النحو الأوّل يكون موجباً للاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان وهو انتفاء الموضوع. وفي الثاني يكون الاستصحاب المذكور إحرازاً تعبّدياً لما هو محرز بالوجدان ، وهو موضوع التحريم الذي هو عدم العلم ، هذا لو قلنا بأنّ هناك حرمة موضوعها عدم العلم.

أمّا لو قلنا بأنّه ليس في البين إلاّجواز النسبة وموضوعه العلم والاحراز ، فلا يكون في البين إلاّالعلم ، ولا يكون المحرز بالوجدان إلاّانتفاءه ، ولا يكون الاستصحاب إلاّعلماً تعبّدياً بعدم الحجّية ، ويلزمه التعبّد بعدم العلم ، وهو - أعني عدم العلم - محرز بالوجدان ، فلا يكون حال التشريع وحرمته إلاّحال التنجيز في كون الاستصحاب إحرازاً تعبّدياً لانتفاء موضوع الحكم الذي هو - أعني الانتفاء - محرز بالوجدان.

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية وإن ناقش الشيخ بهذا الذي نقله عنه شيخنا ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو في حاشيته على الرسائل (1) ، والبحث معه في ذلك راجع إلى

ص: 363


1- حاشية كتاب فرائد الأُصول : 43.

الجهة الرابعة من الجهات التي ذكرها شيخنا قدس سره. أمّا في الكفاية (1) فالظاهر منه هو تسليم ما أفاده الشيخ قدس سره ، لكنّه في خصوص الآثار العقلية مثل تنجيز الواقع ، فإنّ عدم العلم بالحجّية يوجب القطع بعدمه ، أمّا الأثر الآخر الذي هو صحّة النسبة إلى الشارع ففي الكفاية أنكر كونه من آثار الحجّية ، والبحث معه في ذلك راجع إلى الجهة الثالثة التي ذكرها شيخنا قدس سره ، أمّا الجهة الأُولى والثانية فالظاهر أنّه لا مدخل لهما فيما نحن فيه. نعم هما راجعان إلى حرمة التشريع في العبادة وأنّه يوجب فسادها ، بدعوى سراية حرمة الاعتقاد إلى حرمة العمل ، فتكون العبادة منهياً عنها فتفسد.

ولا يخفى أنّ إشكاله الأوّل الذي ذكره في الحاشية هو أنّه تخيّل أنّ الشيخ يطالب بالأثر الشرعي ، فأجابه بأنّ الحجّية هي أثر شرعي فلا تحتاج إلى أثر شرعي ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بما في كلمات شيخنا من الأثر العملي.

نعم إنّ الشيخ لا يطالب بالأثر الشرعي ، وإنّما يطالب بالأثر العملي المترتّب على استصحاب العدم في هذا الأثر الشرعي الذي هو الحجّية ، ولأجل ذلك جاءت كلمات شيخنا قدس سره حول الأثر العملي.

قوله : وبذلك تمتاز الأُصول من الأمارات ، فإنّ الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ، ولا يتوقّف التعبّد بها على أن يكون المؤدّى ممّا يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبّد بها أن يترتّب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية (2).

لا يخفى أنّ ترتّب الثمرة العملية لازمة في كلّ جعل ، سواء [ كان ]

ص: 364


1- كفاية الأُصول : 279 - 280.
2- فوائد الأُصول 3 : 128.

المجعول هو الحكم الشرعي الواقعي أو كان المجعول هو الموضوعي ، من دون فرق في ذلك بين الأمارات والأُصول ، وهذه الألف واسطة الفارقة بين الأمارات والأُصول إنّما هي بعد أن تحكّمت الأمارة في موردها ، أو بعد أن يحكّم الأصل في مورده ، لابدّ من النظر في المورد ، فإن كان حكماً شرعياً وكان لذلك الحكم الشرعي لوازم طولية كان اللازم هو ترتيب تلك اللوازم ، كما لو قام الأصل أو الأمارة على وجوب الصلاة فيلزمه وجوب مقدّمته ، ويلزم وجوب المقدّمة النهي عن ضدّها ، ويلزم النهي عن ضدّها فساده لو كان عبادة ، ويلزم فسادها بطلان الاجارة عليها ، إلى غير ذلك من اللوازم ، ولا فرق في ذلك بين الأمارة والأصل.

نعم لو كان المؤدّى موضوعاً له أثر شرعي ترتّب عليه ذلك الأثر ، سواء في ذلك الأصل أو الأمارة. أمّا الأثر الشرعي المترتّب على اللوازم العقلية لذلك المؤدّى ففي الأصل لا يحكم به ، لكنّه في الأمارة يحكم به ، وإن كانت الوسائط بينه وبين نفس المؤدّى تزيد على الألف واسطة ، أمّا الأثر العملي فلا دخل له في هذا المقام ، بل هو لازم للأثر الشرعي في أي صقع وقع ، لما عرفت من لغوية الأثر الشرعي بدون أثر عملي. نعم لا يشترط في ذلك الأثر العملي أن يكون مترتّباً على الأثر الشرعي بلا واسطة ، بل يكفي الانتهاء إلى العمل ولو بألف واسطة ، من دون فرق في ذلك الأثر الشرعي بين المجعول الواقعي أو المجعول التعبّدي ، في الأمارات كان ذلك الجعل أو كان في الأُصول ، كان مؤدّى الأمارة أو الأصل حكماً شرعياً أو كان موضوعاً ذا حكم شرعي ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ الذي يظهر من شيخنا قدس سره أنّه جعل مركز الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، هو أثر الحجّية وحكمها أعني حرمة العمل ، فقال : إذ ليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّحرمة التعبّد بها ، وهو حاصل بنفس الشكّ في الحجّية

ص: 365

وجداناً الخ (1).

ولا يخفى أنّ محلّ الاحراز التعبّدي إنّما هو عدم الحجّية ، لا حكم الحجّية الذي هو حرمة التعبّد. فالأولى هو ما عرفت من جعل التعبّد هو موضوع الأثر الذي هو التنجيز أو صحّة النسبة ، وذلك الموضوع هو العلم بالحجّية ، وهذا يكون عدمه وجدانياً عند الشكّ ، فلا وجه للتعبّد بعدمه بأصالة عدم الحجّية القاضي بالتعبّد بالعلم بالعدم ، الملازم للتعبّد بعدم العلم بالحجّية الذي هو موضوع تلك الآثار ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : أنّه قد يختلج في البال أنّ المنع عن جريان استصحاب عدم الحجّية يقتضي المنع عن جريان استصحاب بقاء الحجّية عند الشكّ في نسخها ... إلخ (2).

ولذلك مثال هو محلّ الابتلاء ، وهو استصحاب حجّية فتوى الميّت كما يستدلّ به القائلون بجواز البقاء على تقليد الميّت. وقد تعرّضنا لهذا الاستصحاب في مباحث التقليد (3) فراجعه. وملخّص الجواب عنه : بالفرق بينه وبين استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ استصحاب عدم الحجّية مرجعه إلى إزالة الشكّ تعبّداً والحكم بتحقّق الاحراز التعبّدي لعدم الحجّية ، والمفروض أنّ الأثر وهو حرمة التشريع مرتّب على عدم الاحراز الذي هو القدر الجامع بين الشكّ وإحراز العدم ، فيكون الحكم التعبّدي باحراز العدم إخراجاً تعبّدياً من فرد وجداني لموضوع الأثر إلى التعبّد بالفرد الآخر وهو إحراز العدم ، ولا ريب أنّ إحراز العدم لا يترتّب عليه الأثر

ص: 366


1- فوائد الأُصول 3 : 129.
2- فوائد الأُصول 3 ( الهامش ) : 129.
3- مخطوط ولم يطبع بعد.

من حيث إنّه إحراز العدم ، بل إنّما يترتّب عليه من حيث عدم الاحراز المفروض تحقّقه وجداناً بمجرّد الشكّ ، فيكون من قبيل التعبّد بما هو محرز وجداناً ، وهذا بخلاف استصحاب الحجّية فإنّه إخراج إلى موضوع آخر ، وهو إحراز الحجّية المصحّح لنسبة المؤدّى إليه تعالى ، الموجب لخروجه عن موضوع التشريع وجداناً ، وهكذا الحال في الأمارة القائمة على الحجّية.

وبالجملة : أنّ تقدّم استصحاب الحجّية على ما يقتضيه الشكّ في الحجّية من القطع بعدم تلك الآثار ، لا يكون إلاّمن قبيل الورود ، فإنّ تلك الآثار - أعني الكذب والتشريع ونحوهما - إنّما تلحق الشكّ باعتبار عدم المستند ، واستصحاب الحجّية وكذلك الأمارة على الحجّية كافٍ في تحقّق المستند ، فيكون تقدّمهما على ما يقتضيه الشكّ المزبور نظير تقدّمهما على قاعدة قبح العقاب بلا بيان في كونهما رافعين للموضوع رفعاً وجدانياً ، فيكون هذا التقدّم من قبيل الورود ، وإن لم يكن من قبيل التخصّص الذي هو تقدّم العلم الوجداني على البراءة الشرعية ، فلا يتوهّم الدور في المقام بأن يقال : إنّ جريانهما موقوف على ارتفاع الشكّ ، وارتفاعه موقوف على جريانهما.

بيان دفع التوهّم : هو أنّ جريانهما لا يتوقّف على ارتفاع الشكّ ، بل إنّما يتوقّف على تحقّق موضوعهما وهو متحقّق وجداناً. بل إنّ القول بعدم جريانهما يتوقّف على بقاء الشكّ الذي هو عدم المستند ، وبقاء عدم المستند متوقّف على عدم جريانهما. ولو فتحنا هذا الباب وقلنا إنّ استصحاب الحجّية أو الأمارة القائمة على الحجّية لا تكون موجبة للعلم التعبّدي بالحجّية الرافع لعدم العلم ، لانسدّ علينا باب الفتوى بالمرّة ، لأنّ جميع الفتاوى لا يكون المستند فيها إلاّالأمارة القائمة على الحكم الشرعي أو الاستصحاب القائم عليه ، فلو كان قيام أحدهما

ص: 367

غير موجب للعلم لكانت الفتوى المذكورة قولاً بغير علم ، وكانت تشريعاً محرّماً.

وهناك فرق آخر بين استصحاب عدم الحجّية واستصحاب الحجّية ، فإنّ الأوّل لا يتأتّى فيه دليل الاستصحاب ، لأنّ مفاد مثل استصحاب الطهارة عند الشكّ في طروّ الحدث ، هو أنّ الشكّ في طروّ الحدث يكون ناقضاً وجداناً لليقين بالطهارة ، فالشارع يحكم تعبّداً بعدم نقض ذلك اليقين بالطهارة بالشكّ فيها ، وهذا المعنى لا يتأتّى في استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ اليقين السابق بعدم الحجّية لا ينقضه وجداناً حصول الشكّ بالحجّية ، إذ لا يكون هذا الشكّ ناقضاً لليقين بعدم الحجّية ، لأنّ الأثر الوجداني المترتّب على اليقين بعدم الحجّية - وهو قبح التشريع أو حرمته - مرتّب على القدر الجامع بين اليقين بعدم الحجّية والشكّ في الحجّية ، وهو مجرّد عدم العلم بالحجّية ، فلا يكون شكّه في الحجّية ناقضاً وجداناً ليقينه بعدم الحجّية كي يكون مورداً للحكم الشرعي بعدم نقض اليقين بالشكّ ، فإنّ الشكّ في بقاء عدم الحجّية وإن كان ناقضاً وجداناً لليقين السابق بعدم الحجّية ، إلاّ أنّ ذلك اليقين السابق لمّا لم يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه يقيناً بالعدم ، بل إنّما يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه مصداقاً لعدم اليقين بالحجّية ، فالشكّ المتأخّر وإن كان ناقضاً له من حيث نفسه إلاّ أنّه ليس بناقض له باعتبار ترتّب الأثر عليه ، فلا يكون الموضوع إلاّعدم اليقين وهو حاصل سابقاً ولاحقاً ، فلا معنى فيه لكون اللاحق ناقضاً للسابق.

وهذا بخلاف استصحاب الحجّية ، فإنّ اليقين السابق المتعلّق بالحجّية الموجبة لصحّة النسبة إليه تعالى يكون منتقضاً وجداناً بالشكّ فيها ، فيكون مورداً للحكم الشرعي بالمنع من نقض اليقين بالشكّ ولزوم البناء على الحجّية المتيقّنة سابقاً ، ويصحّ الحكم التعبّدي باحراز الحجّية ، وبه يرتفع تعبّداً موضوع التشريع

ص: 368

الذي هو الشكّ في الحجّية ، فلا يرد عليه أنّه من قبيل الاحراز التعبّدي لنقيض ما هو المحرز وجداناً بالشكّ في الحجّية أعني قبح التشريع أو حرمته.

أمّا ما أُفيد في الحاشية المذكورة من كيفية تقرير الإشكال وتقرير الجواب عنه ، فالظاهر أنّه أجنبي عن الإشكال المزبور وعن جوابه فلاحظ وتأمّل ، إذ ليس منشأ الإشكال هو أنّه إذا كان التعبّد بعدم الحجّية غير ممكن يلزمه أن يكون التعبّد بالحجّية غير ممكن ، من جهة أنّ عدم القدرة على أحد النقيضين يوجب عدم القدرة على النقيض الآخر ، كي يجاب عنه بامكان التفكيك في التعبّديات ، وإن لم يكن ممكناً في الواقعيات ، بل إنّ الإشكال هو ما عرفت من كون المقام من قبيل الاحراز التعبّدي لنقيض ما هو محرز وجداناً ، هذا.

مضافاً إلى أنّه ليس ما نحن فيه من قبيل النقيضين ، وأيّ ربط لجعل الحجّية في مقام المسبوقية باليقين بها بجعل عدم الحجّية في مقام المسبوقية باليقين بعدمها ، نعم في خصوص هذا المقام الثاني يتناقضان ، لكنّه غير ما نحن بصدده. مضافاً إلى عدم التناقض بينهما حتّى في هذه الصورة ، أعني صورة الشكّ في الحجّية المسبوق باليقين بعدمها ، إذ ليس المراد هو جعل الحجّية واقعاً وجعل عدمها واقعاً ، فإنّ كلاً منهما ممّا تناله يد القدرة الشرعية ، إذ لا ريب في أنّ للشارع أن يجعل الحجّية في هذا الحال جعلاً واقعياً ، كما له أن يجعل عدم الحجّية أيضاً ولو بالسكوت وعدم نقض العدم ، ويكون كلّ من الجعلين جعلاً واقعياً في خصوص هذا الحال أو فيه وغيره.

وإنّما الكلام في الجعل الظاهري ، بأن ينظر إلى الشاكّ في الحجّية بعد اليقين بعدمها ويحكم عليه بشيء من الأمرين حكماً ظاهرياً ، فنقول : إنّ جعل عدم الحجّية ظاهراً وإن كان غير ممكن للشارع لكونه إحرازاً بالتعبّد لما هو محرز

ص: 369

بالوجدان ، إلاّ أنّه يمكنه جعل الحجّية الظاهرية ، كما يمكنه السكوت عن الحكم الظاهري لهذا الشكّ وإيكاله إلى ما يحكم به عقل المكلّف ، فلا يكون جعل الحجّية الظاهرية مناقضاً للحكم الظاهري بعدمها ، لتمكّنه من الشقّ الثالث وهو عدم الحكم ، فيكونان من الضدّين اللذين لهما ثالث ، فتأمّل. ومنه يظهر لك الحال في الصورة الأُولى ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : وقد يختلج في البال أيضاً أنّ ذلك يقتضي عدم جواز قيام الأمارة المعتبرة على عدم حجّية أمارة ... الخ (1).

هذا النقض تعرّض له شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّر عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإن قلت : إذا لم يجر الاستصحاب الخ (2) وقد حرّرت ذلك عنه قدس سره ، وملخّص ما أفاده قدس سره في الجواب عن النقض المذكور : هو الفرق بين الأمارة القائمة على عدم حجّية أمارة أُخرى ، مثل أن يدلّ خبر الواحد على عدم حجّية الشهرة القائمة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبين استصحاب عدم حجّية الشهرة المذكورة من جهتين :

الجهة الأُولى : أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ ، فيكون واقعاً في رتبة ذلك الحكم الوجداني أعني قبح التشريع ، لكون موضوعه أيضاً هو الشكّ ، فيكون المتحصّل من استصحاب عدم الحجّية هو الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، وهذا بخلاف الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة مثلاً ، فإنّ موضوعها غير مقيّد بالشكّ ، فتكون رافعة تعبّداً للشكّ الذي هو موضوع ذلك الحكم الوجداني.

ص: 370


1- فوائد الأُصول 3 ( الهامش ) : 130.
2- أجود التقريرات 3 : 151.

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّ هذه الجهة أعني كون موضوع الأمارة غير مقيّد بالشكّ بخلاف الاستصحاب ، إنّما تنفع في حكومتها على الاستصحاب ، لأنّ الواقع وإن كان هو كون كلّ منهما وارداً في مورد عدم العلم ، إلاّ أنّ لسان الدليل في أحدهما وهو الأمارة لمّا لم يكن مشتملاً على التقييد بالشكّ أو بعدم العلم ، يكون حاكماً على الآخر الذي أُخذ في لسان دليله الشكّ ، لأنّ هذه الجهة أعني الاختلاف في لسان الدليل بما ذكر يكفي في تقدّم أحد الأمرين على الآخر ، وهو نافع في استصحاب الحجّية والأمارة القائمة على الحجّية ، فإنّ كلّ واحد منهما حاكم على قاعدة الشكّ في الحجّية ، وناقل للمكلّف من عدم إحراز الحجّية الذي هو موضوع القاعدة إلى إحراز الحجّية.

وهذا بخلاف ما نحن فيه من تقديم دليل الأمارة الدالّة على عدم حجّية الشهرة على ذلك الحكم الوجداني ، أعني قبح التشريع وحرمته عند الشكّ في الحجّية وعدم العلم بها ، فإنّ أقصى ما في دليل الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة أن يخرج ذلك المكلّف من الشكّ الوجداني إلى الحكم التعبّدي باحراز عدم الحجّية ، وجعل المكلّف عالماً تعبّداً بعدم حجّية الشهرة ، والمفروض أنّ ذلك الحكم الوجداني لاحق للقدر الجامع بين العلم بعدم الحجّية وبين الشكّ فيها الذي هو مطلق عدم العلم.

وبالجملة : بعد فرض أنّ ذلك الحكم الوجداني لاحق لمجرّد عدم العلم بالحجّية ، فأيّ أثر للحكم التعبّدي على ذلك المكلّف بأنّك عالم بعدم الحجّية بعد فرض كون العلم الوجداني بعدم الحجّية إنّما يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه مصداقاً لعدم العلم بالحجّية ، فلا يكون نقل ذلك المكلّف من موضوع الشكّ إلى موضوع إحراز عدم الحجّية إلاّنقلاً من موضوع وجداني لذلك الأثر إلى موضوع

ص: 371

تعبّدي لذلك الأثر ، وحاصله التعبّد بذلك الأثر في مورد تحقّقه وجداناً ، إذ ليس التعبّد بالموضوع إلاّعبارة عن التعبّد بالأثر.

الجهة الثانية ممّا أفاده قدس سره من (1) الفرق هي ما أشار إليه في التحريرات المشار إليها بقوله : وأيضاً الجري العملي هو المجعول في الأصل ، وأمّا المجعول فيها فهو المحرزية ويتبعها الجري العملي الخ (2).

ولا يخلو أيضاً عن تأمّل ، فإنّ كون المجعول في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة هو إحراز عدم حجّية الشهرة ، بخلاف استصحاب عدم الحجّية من جهة أنّ المجعول فيه هو الجري العملي ، إنّما يؤثّر على التفرقة بينهما في حجّية المثبت في الأمارة دون الاستصحاب ، ولا يكون ذلك الفرق مصحّحاً للاحراز التعبّدي لعدم الحجّية في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، لما عرفته من كون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

فالأولى في الجواب عن هذا النقض هو أن يقال : إنّه لا إشكال في عدم جريان دليل استصحاب عدم الحجّية ، لا لمجرّد كونه إحرازاً تعبّدياً لما هو محرز بالوجدان ، بل لجهة أُخرى وهي ما أشرنا إليه فيما تقدّم (3) في النقض السابق ، وهي عدم كون الشكّ في الحجّية ناقضاً لليقين بعدم الحجّية ، وهذه الجهة غير موجودة في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، وإنّما الإشكال فيها ممحض للجهة الأُولى ، وهي الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

ص: 372


1- ولعلّه يومئ إلى ذلك بقوله في هذا التحرير [ يعني فوائد الأُصول 3 : 128 ] فإنّ الأمارة تقتضي - إلى قوله - فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجّية الخ [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 3 : 151.
3- في الصفحة : 368.

والذي ينبغي هو النظر في نفس ما يحكيه الخبر الواحد عن المعصوم عليه السلام من عدم حجّية الشهرة ، أعني بذلك نفس قوله عليه السلام : إنّ الشهرة - مثلاً - ليست بحجّة ، فإن كان ذلك القول منه عليه السلام صادراً في قبال بناء عقلائي على حجّية الشهرة ، بحيث يكون ذلك القول منه عليه السلام ردعاً لما عليه السيرة ، كان ذلك منه عليه السلام تصرّفاً شرعياً وإنشاءً لحكم شرعي ، وأثره هو عدم صحّة نسبة مؤدّى الشهرة إليه تعالى ، وأنّ تلك النسبة بعد ذلك الردع تكون تشريعاً ، وحينئذ يكون للتعبّد بالخبر الحاكي عنه عليه السلام ذلك المنع والردع أثر تعبّدي ، وهو إخراج المكلّف من العلم إلى عدم العلم ، إذ لو كانت الشهرة ممّا جرت بها السيرة العقلائية كانت علماً ، ولم يكن القول بمؤدّاها قولاً بعدم العلم ، وبعد ورود الرواية بالردع عن تلك السيرة يكون التعبّد بتلك الرواية موجباً لخروج المكلّف من العلم إلى عدم العلم ، ومحقّقاً لموضوع التشريع بعد أن لم يكن موضوعه محقّقاً.

أمّا إذا لم يكن صدور ذلك القول منه عليه السلام في قبال سيرة عقلائية ، فلا يكون حينئذ قوله عليه السلام : إنّ الشهرة ليست بحجّة ، من قبيل التصرّف الشرعي ، بل لا يكون إلاّ إخباراً واقعياً عن أمر واقعي ، وهو عدم جعل الشارع الحجّية للشهرة ، كما أنّ العقلاء أيضاً لم يجعلوها حجّة ، وحينئذ لا يترتّب أثر شرعي على خبر الواحد الحاكي عنه عليه السلام ذلك القول ، فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد.

ولو قلنا بأنّ قوله عليه السلام في ذلك المقام : إنّ الشهرة ليست بحجّة ، أيضاً تصرّف شرعي ولو باعتبار إبقاء عدم حجّيتها وعدم نقضه لذلك العدم بجعل حجّيتها ، في قبال توهّم أنّه جعل حجّيتها ، فإن اكتفينا في الأثر الشرعي المترتّب على خبر الواحد الحاكي عنه عليه السلام ذلك القول بذلك المقدار من الأثر ، وهو دفع توهّم احتمال الحجّية ودفع احتمال أنّ الشارع قد نقض عدم الحجّية وجعلها

ص: 373

حجّة ، الموجب لصحّة [ نسبة ] مؤدّى الشهرة إليه تعالى فذاك ، ولا أقل من اختصاص حجّية ذلك الخبر بمن تخيّل أنّ الشهرة حجّة شرعية ، أمّا من لم يتخيّل ذلك بل كان في حدّ نفسه شاكّاً في الحجّية ، فلا يكون ذلك الخبر بالنسبة إليه مشمولاً لحجّية أخبار الآحاد ، كما هو غير بعيد ، فإنّ هذا الأثر وهو عدم صحّة النسبة حاصل لذلك الشخص وجداناً مع قطع النظر عن التعبّد بحجّية ذلك الخبر ، فيكون التعبّد بحجّية ذلك الخبر بالنسبة إلى ذلك الشخص من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه مبني على كفاية عدم الردع في حجّية السيرة ، فإنّه بناءً عليه يتمّ التفصيل المذكور ، ومعه لا يكون أثر للرواية الدالّة على عدم الامضاء ، ولا لاستصحاب عدم الامضاء. أمّا لو قلنا بالاحتياج إلى الامضاء ، وأنّ مجرّد عدم الردع غير نافع في حجّية السيرة ، فلا يتمّ التفصيل المذكور ، بل يكون حال الخبر القائم على عدم حجّية الشهرة التي جرت بها السيرة العقلائية أو على عدم إمضائها كحاله فيما إذا لم تكن الشهرة ممّا جرت بها السيرة العقلائية ، في أنّه لا أثر له إلاّبالنسبة إلى من تخيّل حجّية الشهرة ، أو تخيّل إمضاء الشارع للسيرة الجارية بها. كما أنّ استصحاب عدم الامضاء حينئذ يكون حاله حال استصحاب عدم الحجّية في مورد عدم المسبوقية بالسيرة ، في عدم صحّة جريانه للجهتين المذكورتين ، أعني الاحراز الوجداني وعدم تحقّق النقض وجداناً ، فتأمّل.

وقد كنت وجّهت ما أفاده قدس سره من الفرق بالجهة الثانية بما هذا نصّه ، وهو : أنّه لو قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وقام خبر الواحد على عدم حجّية الشهرة ، كان ما نحرزه بخبر الواحد هو عدم حجّية الشهرة ، وهذا

ص: 374

- أعني عدم حجّية الشهرة - في حدّ نفسه لا يترتّب عليه أثر عملي بلا واسطة ، لأنّ عدم الاستناد وعدم صحّة النسبة حاصلان وجداناً بمجرّد الشكّ ، لكن لمّا كان ما تحرزه الشهرة - وهو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال - له أثر عملي وهو الجري على طبق ذلك الوجوب ، كان ذلك الأثر العملي كافياً في جريان التعبّد في دليل حجّية خبر الواحد ، لأنّ أثر الأثر أثر.

وبعبارة أُخرى : يكون عدم لزوم الدعاء عند رؤية الهلال أثراً عملياً لحجّية خبر الواحد ، لكنّه لا يترتّب على مؤدّاه بلا واسطة ، بل يكون ترتّبه عليه بواسطة أدائه إلى عدم حجّية الشهرة ، وأثر عدم حجّية الشهرة هو عدم لزوم الدعاء ، فكان التعبّد بمؤدّى خبر الواحد منتهياً إلى الأثر العملي بواسطة عدم حجّية الشهرة ، وقد حقّق في محلّه أنّه يكفي في الأثر العملي المترتّب على حجّية الأمارة أن يكون مترتّباً على مؤدّاها وإن كان بألف واسطة. وهذا بخلاف الاستصحاب القائم على عدم حجّية الشهرة ، فإنّ مفاد حجّية الاستصحاب لمّا كان هو التعبّد بحجّيته من حيث الجري العملي على طبق المتيقّن السابق ، فلابدّ في الأثر العملي المصحّح لجريانه من كونه مترتّباً على نفس ذلك المتيقّن ، ولا يكفي فيه الآثار العملية التي لا تترتّب عليه إلاّبالواسطة ، ومن الواضح أنّ المتيقّن فيما نحن فيه ليس هو إلاّ عدم حجّية الشهرة ، وليس له أثر عملي إلاّعدم صحّة الاستناد إلى الشهرة ، والمفروض تحقّقه وجداناً بمجرّد الشكّ ، فلا يكون إلاّمن قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. وأساس هذا الفرق هو عدم حجّية الاستصحاب المثبت ، وحجّية الأمارة المثبتة ، انتهى مع بعض التلخيص.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ هذا الأثر العملي وهو عدم لزوم الدعاء لا يلحق الخبر الواحد القائم على عدم حجّية الشهرة ولو بألف واسطة ، إذ لا يثبت به عدم

ص: 375

لزوم الدعاء وعدم وجوبه بقول مطلق ، على وجه يستغني المكلّف عن إجراء أصالة البراءة فيه ، بل أقصى ما يترتّب على الخبر المذكور هو عدم ثبوت وجوب الدعاء ، وهذا المقدار حاصل في الاستصحاب القائم على عدم حجّية الشهرة.

والحاصل : أنّ الثابت بالخبر المذكور بواسطة دلالته على عدم حجّية الشهرة هو عدم لزوم الدعاء الآتي من ناحية الشهرة ، وبعبارة أُخرى : الثابت بالخبر المذكور بواسطة دلالته على عدم حجّية الشهرة هو مجرّد عدم ثبوت الوجوب ، وهو حاصل بالاستصحاب ، لا ثبوت عدم الوجوب كي يقال إنّ الاستصحاب لا يحصّله ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ عدم ثبوت الوجوب من الآثار الوجدانية اللاحق لعدم العلم بالحجّية ، سواء كان من مجرّد الشكّ أو كان من العلم بالعدم ، فيكون حاله حال بقيّة الآثار ، أعني عدم صحّة النسبة وعدم صحّة الاستناد.

ثمّ إنّه قدس سره في الدورة الأخيرة تعرّض لكيفية توقّف الحجّية على العلم بها وإشكال الدور في ذلك ، لأنّ الحجّية وهي الوسطية في الاثبات تتوقّف على العلم بها ، والعلم بها يتوقّف عليها ، ضرورة توقّف العلم على المعلوم.

وأجاب : بأنّ الموقوف على العلم بالحجّية هو الحجّية الحقيقية ، أعني الوسطية في الاثبات ، والذي يتوقّف عليه العلم ليس هو الحجّية الحقيقية ، بل هو الحجّية الانشائية ، ومن الواضح أنّ الحجّية الانشائية لا تتوقّف على العلم بها ، فيكون الحاصل أنّ الذي يحصل العلم بعدمه عند الشكّ في الحجّية هو الحجّية الحقيقية أعني الوسطية في الاثبات ، والمشكوك إنّما هو الحجّية الانشائية. ونظّر المسألة بمسألة الايجاب والقبول في باب البيع ، فإنّ حقيقة البيع وإن توقّفت على القبول ، إلاّ أنّ القبول لا يتوقّف على البيع الحقيقي التامّ ، بل على البيع الانشائي

ص: 376

الحاصل بالايجاب ، فراجع ما حرّرته عنه قدس سره (1) وما حرّره عنه قدس سره في المطبوع في صيدا بعنوان « وهم ودفع » (2).

وحاصل ما أُفيد هو أنّ الحجّية الحقيقية التي هي الوسطية في الاثبات تتوقّف على العلم بالحجّية الانشائية ، فيكون متعلّق العلم الذي تتوقّف عليه الحجّية الحقيقية هو الحجّية الانشائية ، ومن الواضح أنّ هذا العلم إنّما يتوقّف على متعلّقه الذي هو الحجّية الانشائية ، ولا يتوقّف على الحجّية الحقيقية التي هي متوقّفة عليه ، وبناءً على هذا التنويع وأنّ المتوقّف على العلم هو النوع الأوّل والذي يتعلّق به العلم هو النوع الثاني ، لا يكون في البين صورة دور كي يحتاج إلى الجواب عنه بأنّ الموقوف على العلم غير الذي توقّف عليه العلم.

ومنه يظهر لك الخدشة في توهّم الدور في البيع ، فإنّ المتوقّف على القبول إذا كان هو تمامية البيع ، وكان القبول متوقّفاً على إيجاب الموجب وإنشائه البيع فأين الدور حتّى يجاب عنه بالمغايرة بين الموقوف والموقوف عليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ تمامية البيع لا تحصل بالقبول ، بل لا يحصل بالمجموع من الايجاب والقبول إلاّالبيع الانشائي ، وأمّا البيع الحقيقي فيتوقّف تماميته على جهات أُخر راجعة إلى جامعيته للشرائط المعتبرة شرعاً.

وعلى كلّ حال ، نقول بعونه تعالى : إنّ تنويع الحجّية إلى الانشائية والحقيقية محتاج إلى التأمّل ، والمطلب أوضح من الاحتياج إلى هذا التنويع وإلى التنظير بالايجاب والقبول ، وذلك لأنّ الحجّية بعد فرض كونها من الأحكام الشرعية الوضعية المجعولة للشارع ، فلا محيص من القول بأنّ لها وجوداً واقعياً

ص: 377


1- مخطوط ولم يطبع بعدُ.
2- أجود التقريرات 3 : 152.

يشترك فيه العالم بها والجاهل ، بحيث لايكون ثبوت الحجّية للأمارة مثلاً متوقّفاً على العلم. نعم إنّ هذا الحكم الشرعي وهو الحجّية له آثار عقلية ، وهي تنجيز الواقع في مورد الاصابة ، والعذر في مورد الخطأ ، وصحّة الاستناد إليها ، وجواز البناء على أنّ المؤدّى هو حكم اللّه تعالى ، وصحّة نسبته إليه تعالى ، وعدم كون ذلك تشريعاً محرّماً ، وهذه الآثار العقلية مقيّدة بالعلم بالحجّية.

وبالجملة : أنّ حجّية الأمارة مثلاً من قبيل وجوب الصلاة ، فكما أنّ وجوب الصلاة حكم شرعي يتبعه أحكام عقلية هي حسن الاطاعة ولزومها لدى العقل ، وقبح المعصية ومنع العقل منها ، وهذه الأحكام العقلية منوطة بالعلم بذلك الوجوب ، فكذلك الحجّية بالنسبة إلى ما يتبعها من الأحكام العقلية حرفاً بحرف ، فيكون الحاصل هو : أنّ عدم العلم بأنّ الشارع جعل الحجّية لخبر الواحد مثلاً ، أو عدم العلم بقيام خبر الواحد على حرمة شرب التتن مثلاً ، لا يخرج الحجّة المزبورة عن كونها حجّة شرعية واقعاً ، وإنّما يخرجها عن العلم بالحجّية الذي هو مورد حكم العقل بالأحكام المزبورة ، من دون فرق في ذلك بين كون الجهل المذكور متعلّقاً بأصل الحكم الذي هو الحجّية ، أو أن يكون متعلّقاً بموضوعه الذي هو الخبر القائم على حرمة شرب التتن مثلاً.

نعم ، يمكن أن يقال بخروج النحو الثاني عن أصل الحجّية ، بتقريب : أنّ الحجّية لخبر الواحد إنّما جعلت على من قام عنده الخبر ، فمن علم بحجّية الخبر شرعاً لكن لم يقم عنده الخبر لعدم اطّلاعه على ذلك الخبر الذي يكون مفاده حرمة شرب التتن مثلاً ، لا يكون ذلك الخبر حجّة شرعية في حقّه ، لعدم دخوله تحت عموم من قام عنده الخبر ، ويكون حاله من هذه الجهة حال البيّنة في أنّ حجّيتها مشروطة بأداء الشهادة.

ص: 378

وإن شئت [ قلت ] إنّ الحجّية مجعولة للاخبار ، ولا يتحقّق الاخبار إلاّبأن يخبرك المخبر ، وأنت إذا لم تطّلع على وجود ذلك الخبر لم يصدق عليك أنّ المخبر قد أخبرك فتأمّل ، هذا.

ولعلّ الذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام أخصر وأبعد عن الإشكالات المزبورة ، وهذا نصّه :

فإن قلت : فعلى ما حرّرتموه لابدّ أن تكون الحجّية مختصّة بحال العلم بها ، فإن كان على نحو نتيجة التقييد كان محتاجاً إلى جعل ثانٍ يكون متمّماً للجعل الأوّل ، كما في باب الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، وهو متوقّف على ثبوت الدليل عليه ، وإن لم يكن بنحو نتيجة التقييد ، بل كان أصل جعل الحجّية مقيّداً بحال العلم ، كان مستلزماً للدور.

قلنا : يمكن أن يلتزم بالاختصاص المذكور مع عدم الالتزام بالتقييد ولا بما هو نتيجته ، بأن يكون أثر الحجّية وهو صحّة الاستناد وعدم لزوم التشريع مترتّباً على نفس الجعل وعلى العلم به ، فالشارع يجعل نفس الحجّية الواقعية وهي غير مقيّدة بالعلم ، لكن ترتّب الأثر المذكور يتوقّف على العلم بها ، فيكون أشبه شيء بما قلناه في باب العقود من توقّف تماميتها على المجموع من الايجاب والقبول مع أنّ الموجب لا ينشئ إلاّنفس المعاملة التي هي عبارة عن المجموع من إنشائه وقبول طرفه ، انتهى.

قلت : وبناءً على ذلك تكون الحجّية المجعولة هي مجرّد جعل الاحراز التعبّدي وتكميل الانكشاف ، وأثره هو صحّة كونها وسطاً في الإثبات ، وخروج الاخبار بما أدّت إليه عن الكذب والتشريع ، وهذه الآثار منوطة بالعلم بذلك الجعل الشرعي ، لا أنّ الحجّية تكون مؤلّفة من الجعل الشرعي والعلم به كما ربما

ص: 379

يعطيه التنظير بباب البيع. على أنّ المنظّر فيه وهو البيع ليس كما أُفيد ، بل الظاهر أنّ الموجب لا ينشئ إلاّالمبادلة بين المالين ، فإذا قبله القابل تمّ البيع ، وقد شرحنا ذلك في أوائل مباحث البيع (1) ، فراجع.

وعلى كلّ حال ، أنّ الموجب لا ينشئ ما هو فعله وفعل القابل. نعم إنّه ينشئ المعاملة المتقوّمة بهما ، والقابل يقبلها ، فليس الموجب منشئاً لفعل كلّ منهما ، كما أنّه ليس إنشاؤه من قبيل الايقاع ليكون البيع مؤلّفاً من إيقاع وقبول ، بأن يبدّل كتابه بدرهم من المشتري والقابل يقبل ذلك ويرضى به ، فراجع وتأمّل.

ص: 380


1- مخطوط ولم يطبع بعدُ.

[ حجّية الظواهر ]

قوله : فلأنّ الاحتمال الذي يحتمله في مقام التخاطب ليس إلاّاحتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينة المراد ... الخ (1).

أضاف فيما حرّرته عنه قدس سره إلى احتمال غفلة المتكلّم ، احتمال غفلة السامع وأجاب عن ذلك بقوله - حسبما حرّرته عنه قدس سره - وفيه : أنّ ما أفاده من أنّ المنشأ في حجّية الظهور هو أصالة عدم الغفلة ممنوع أشدّ المنع ، بل إنّ المنشأ فيه هو أنّ المتكلّم يجري على مقتضى طبعه من إبراز مقاصده بما يلقيه إلى السامع من الألفاظ ، غافلاً عن غفلته عن القرينة وعن غفلة السامع عنها ، وهذا هو تمام الملاك في حمل الألفاظ على ظاهرها ، ولا ربط له بغفلة المتكلّم أو غفلة السامع عن القرينة ، وهذا الملاك متحقّق في حقّ من قصد إفهامه ومن لم يقصد (2)

ص: 381


1- فوائد الأُصول 3 : 138.
2- قال في التحريرات المطبوعة في صيدا : فإنّ أصالة الظهور إنّما هي حجّة ببناء العقلاء من جهة كون الألفاظ كواشف عن المرادات الواقعية في قبال أصالة عدم الغفلة وعرضها ، ولا ربط لإحداهما بالأُخرى فضلاً عن أن تكون مدركاً لها [ أجود التقريرات 3 : 159 ]. قلت : يمكن لصاحب القوانين أن يقول إنّ أصالة عدم القرينة وإن لم يكن لها ربط بعدم الغفلة ، إلاّ أنّ إيصال القرينة إنّما يجب بالنسبة إلى من قصد إفهامه دون من لم يقصد ، فلعلّه أوصل القرينة إلى ذاك ولم يطّلع عليها هذا ، أمّا ذاك فلا يكون احتماله وجود القرينة إلاّمن جهة احتمال غفلته عنها ، أو غفلة المتكلّم عنها ، فيرجع في ذلك إلى أصالة عدم الغفلة. وهذا هو الحجر الأساسي في مسلك صاحب القوانين ، فإنّه يدّعي أنّ إرادة خلاف الظاهر لابدّ أن يكون مع القرينة ، وأنّه لابدّ من إيصالها إلى من قصد إفهامه ، فينحصر احتماله إرادة خلاف الظاهر باحتمال غفلة المتكلّم أو احتمال غفلة السامع ، فلابدّ في الجواب عن ذلك بالالتزام بأنّ بناء العقلاء على عدم القرينة والأخذ بمقتضى اللفظ الموجود ، من دون فرق في ذلك بين من كان يجب إفهامه على المتكلّم ومن كان لم يجب عليه إفهامه كغير المقصود بالافهام ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

ثمّ أفاد ما محصّله : أنّا لو سلّمنا الاختصاص لم يكن ذلك موجباً لخروج الروايات عن ذلك ، فإنّ تلك الروايات على نحوين : الأوّل أن يكون الناقل هو المخاطب ، كما هو الغالب في الروايات المتضمّنة لمثل قول الراوي : وسألته عليه السلام عن كذا ، فأجاب بكذا ، أو قال عليه السلام كذا. الثاني : أن يكون الناقل هو غير المخاطب كما في بعض الروايات المتضمّنة لمثل قوله : وسأله عليه السلام فلان بحضوري عن كذا فأجاب عليه السلام بكذا أو قال له كذا.

أمّا النحو الأوّل ، فلا يخفى أنّه لا يتأتّى فيه ما ذكره من قوّة احتمال وجود القرينة واختفائها علينا ، لأنّ الراوي لا ينسب إلى الإمام عليه السلام ما يرويه عنه عليه السلام إلاّإذا كان هذا الذي ينقله تمام ما صدر عنه عليه السلام بجميع ما اكتنفه من القرائن ، وإلاّ كان نسبة القول إليه عليه السلام تدليساً.

وإن شئت قلت : إنّ الناقل عنه عليه السلام كان مقصوداً بالافهام ، وهو لا ينقل إلاّما تلقّاه عنه عليه السلام بجميع ما اكتنف به الكلام من القرائن ، وكلّ واحد من الطبقات مشافه لمن بعده إلى أن تنتهي النوبة إلى من دوّن الرواية في كتابه ، وحينئذ يكون الكلام من قبيل تصنيف المصنّفين الذي يكون المقصود فيه بالافهام كلّ من اطّلع

ص: 382

عليه.

ومن ذلك يظهر لك الحال في النحو الثاني من الروايات ، فإنّه أيضاً يتضمّن نسبة القول إليه عليه السلام ، فيكون كاشفاً عن عدم الاعتناء باحتمال وجود القرينة ، وأنّ هذا الذي نقله كان هو تمام الصادر منه عليه السلام ، وأنّه لو كانت هناك قرينة أو كان احتمال وجودها ممّا يعتنى به ، لم يصحّ للناقل أن ينقل ذلك القول عنه عليه السلام بحيث إنّه ينسبه إليه ، انتهى.

قلت : العمدة في هذا الأخير هو بناء العقلاء على عدم القرينة عند احتمالها ولو كان ذلك من غير من قصد إفهامه ، وإلاّ فإنّ هذا الراوي الأوّل الذي روى جواب الإمام عليه السلام لغيره وكان سامعاً مجرّداً ، وكان المقصود بالافهام فيه هو ذلك الغير ، كان هو مورد تفصيل صاحب القوانين قدس سره. اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّه ليس بسامع مجرّد ، فإنّ هؤلاء الحاضرين في مجلس الإمام عليه السلام لا يكون الغرض لهم من حضورهم إلاّالاستفادة من أجوبة الإمام عليه السلام عندما يسأله السائلون ، والإمام عليه السلام عالم بذلك ، فهو عليه السلام يوجّه الجواب إلى السائل لكن على نحو يفهم الحاضرون فيكون الجميع مقصودين بالافهام.

ثمّ لا يخفى أنّ القسم الأوّل وإن أجرى هو في حقّ نفسه أصالة عدم الغفلة ، إلاّ أنّا مع ذلك نحتمل غفلته ، فلابدّ لنا من إجراء أصالة عدم الغفلة في حقّه بناءً على مسلك صاحب القوانين ، وإلاّ فنحن في غنى عن ذلك بالركون إلى أصالة عدم القرينة ، فتأمّل.

ثمّ إنّه قدس سره نقل عن صاحب القوانين الاستدلال على عدم حجّية ظواهر الأخبار بمعرضية الاعتماد على القرائن المنفصلة وبالعلم الاجمالي ، وأجاب عنه

ص: 383

بأنّ مقتضاه الفحص لا السقوط (1) وذكر استدلاله أيضاً على عدم الحجّية باحتمال التقطيع ، وأجاب عنه بأنّه إنّما يسقط الأخبار المقطّعة دون ما لم يقطّع ، مع أنّ الاعتماد على عدالة من ارتكب التقطيع وفهمه وعلمه يوجب القطع بأنّه لا يوجب الخلل في الظهور ، فراجع التحريرات المطبوعة في صيدا ص 93 (2).

قلت : لكن هذا الأخير محلّ تأمّل ، لأنّ الاعتماد على علم المقطّع وعدالته لا تنافي الجهة المدعاة ، إذ ربما استفيد حكم شرعي من هذه القطعة ، لكن بعد ضمّها إلى القطعة الأُخرى يظهر أنّ القطعة الأُولى ليست في مقام بيان تلك الجهة التي بواسطتها استفيد الحكم المذكور منها ، كما مرّ عليّ بعضه في الفقه ، وإن كنت فعلاً لا أستحضر إلاّمورداً واحداً ، وهو ما رواه حمّاد عن الحلبي : « في الرجل يتزوّج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبيّنوا له ، قال عليه السلام لا ترد ، إنّما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل. قلت : أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال عليه السلام : لها المهر بما استحقّ ( استحلّ ) من فرجها ، ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها » وصاحب الوسائل ذكر صدرها إلى قوله عليه السلام : « لا ترد » فيما عنونه من عيوب المرأة (3) ، وذكر ذيلها وهو قوله عليه السلام : « إنّما يرد » الخ فيما عنونه من الرجوع إلى المدلّس (4)

ص: 384


1- ولا يخفى أنّ هذين المانعين لا يبتنيان على الاختصاص بمن قصد افهامه ، فلاوجه لقوله في [ فوائد الأُصول 3 : 138 ] خصوصاً بالنسبة إلى المتكلّم الذي دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة عن الكلام الخ ، فإنّ ظاهره جعل المعرضية من ذيول مسألة الاختصاص ، فتأمّل [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 3 : 159.
3- وسائل الشيعة 21 : 216 / أبواب العيوب والتدليس ب 5 ح 1.
4- وسائل الشيعة 21 : 213 / أبواب العيوب والتدليس ب 2 ح 5.

فإنّ قوله : « أرأيت » الخ ، يحتمل رجوعه إلى مسألة البرص والجذام والجنون كما فهمه صاحب الوسائل ، ولأجل ذلك فصله عمّا قبله. ويحتمل رجوعه إلى صدر الرواية من ظهور العوار ، ويكون ذلك حينئذ من قبيل ما عن الشيخ الطوسي قدس سره فيما لو تبيّن أنّها كانت قد زنت من الرجوع بالمهر على المدلّس ، ولا خيار للزوج في فسخ النكاح ، غايته أنّه مع التمكين يلزمه تسليم المهر لها ، فإن لم يكن في البين دخول رجع به على الزوجة ، إذ لا يستقرّ ملكها له إلاّ بعد الدخول ، وإن كان في البين دخول رجع به على المدلّس.

وقد استدلّ الشيخ على ما صار إليه بما عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل تزوّج امرأة فعلم بعد ما تزوّجها أنّها كانت قد زنت ، قال عليه السلام : إن شاء زوجها أخذ الصداق ممّن زوّجها ، ولها الصداق بما استحلّ من فرجها ، وإن شاء تركها » (1) وفي التهذيب زيادة وهي قوله « قال عليه السلام : وتردّ المرأة من العفل والبرص والجذام والجنون ، فأمّا ما سوى ذلك فلا » (2) وهذه الزيادة ليست في الكافي (3) ولعلّها هي التي حملت الشيخ قدس سره على تلك الفتوى ، وحمل قوله : « وإن شاء تركها » على تركها من حيث مطالبته بالمهر من وليّها ، لا على تركها زوجة وعدم فسخ نكاحها. وهل ذلك تقطيع من الكافي أو زيادة من الشيخ قدس سره قد عثر عليها في نفس تلك الرواية ، أو هي من رواية أُخرى ألحقها بهذه الرواية بقرينة فصله بقوله : « قال عليه السلام ».

وهذا الذي نقل عن الشيخ قدس سره في مسألة الزنا وإن ردّه في الجواهر ، بأنّ

ص: 385


1- وسائل الشيعة 21 : 219 / أبواب العيوب والتدليس ب 6 ح 4.
2- التهذيب 7 : 425 / 1698.
3- الكافي 5 : 355 / 4.

الرجوع بالمهر كناية عن الفسخ ، فلا رجوع بالمهر حيث لا فسخ ، فراجع ما في الجواهر في تحرير هذه المسألة أعني مسألة الزنا (1) ، وراجع ما حرّرناه في مسألة ظهور العوار (2).

والغرض أنّ التقطيع ربما أوجب الاختلاف في الاستظهار ، وحينئذ فلا مندوحة إلاّالرجوع إلى أصالة عدم التقطيع ، وفيه تأمّل.

أمّا ما أُفيد أوّلاً من أنّه إنّما يمنع عن حجّية ظهور المقطّع دون ما لم يقطّع ، ففيه : أنّ الغرض ليس هو إسقاط حجّية ما لم يقطّع ، بل الغرض هو الاسقاط عند احتمال التقطيع ، هذا.

ولكن لا يخفى اندفاع الإشكال ، فإنّ أقصى ما في البين هو [ أنّ ] إحدى القطعتين بمنزلة القرينة في الأُخرى ، فلا يكون احتمال التقطيع في هذه الرواية التي نريد العمل بها إلاّكاحتمال القرينة المنفصلة ، وأصالة عدم القرينة كافية في جواز العمل بهذا الموجود. نعم الإشكال كلّ الإشكال في تسويغ النقل بالمعنى الذي [ كان ] ناشئاً عن اعتقاد الراوي واجتهاده في فهم الكلمات الصادرة عن الإمام عليه السلام.

قوله : لأنّ أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات ، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي ، بل هو من الأُمور الحسّية ... الخ (3).

يمكن التأمّل فيه ، فإنّ تشخيص مورد الاستعمال ليس من الأُمور الحسّية ،

ص: 386


1- جواهر الكلام 30 : 339 - 340.
2- مخطوط ولم يطبع بعد.
3- فوائد الأُصول 3 : 143.

إذ ليس ذلك بسماع من المتكلّم ما يفيد أنّي أردت من هذا اللفظ هذا المعنى ، بل مرجعه إلى إعمال قواعد الظهور وقرائن المقام ونحوها ممّا يفيد أنّ المتكلّم أراد بهذه اللفظة ذلك المعنى ، وهو من الأُمور الاجتهادية ، نعم هي قريبة من الإحساس على وجه يقلّ فيها الخطأ ، بخلاف استنباط الوضع وكون اللفظ موضوعاً لذلك المعنى ، فإنّه موقوف على مقدّمات أُخر مثل التبادر ونحوه ممّا يذكرونه في علائم الوضع.

ومع ذلك فإنّ خطأهم في تعيين موارد الاستعمال كثير لا يحصى ، فكثيراً ما يشتبهون ويخلطون بين المصداق والمفهوم ، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في مصداق ينطبق عليه أحد المفاهيم ، وهم يتخيّلون أنّه قد استعمله في ذلك المفهوم ، ويعدّون ذلك المفهوم من موارد الاستعمال. ويخلطون أيضاً في المتلازمات ، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في أحد المتلازمين وهم يتخيّلون أنّه استعمله في الملازم الآخر وهكذا ، فعلى الفقيه أن يجتهد بنفسه في ذلك ويتتبّع موارد الاستعمال ، ويجتهد في الحكم بما أراده المتكلّم ، ولا يعتمد على نقل الواحد والاثنين منهم ، بل عليه مراجعة جميع ما يتيسّر لديه من كتب اللغة ، ولا يكفيه المتأخّر والمتقدّم ، لأنّهم غالباً يأخذ بعضهم عن بعض.

أمّا اجتهاد الفقيه في تعيين الحقيقة والمجاز وتمييز الاشتراك المعنوي عن اللفظي والترادف عن التلازم أو التداخل في المفاهيم بعضها مع بعض ، فذلك مزلقة أُخرى يحتاج إلى فلسفة في اللغة ولطف قريحة وحسن سليقة ، ولابدّ من ضمّ لطف القريحة وحسن السليقة إلى الدقّة والفلسفة وإلاّ كان معوجّ الطريقة ، ومن هنا قيل : إنّ الفقيه متّهم في حدسه. ومن اللّه سبحانه وتعالى العصمة والتوفيق إلى الطريقة الوسطى.

ص: 387

قوله : ويأتي لذلك مزيد توضيح في الجزء الرابع (1).

ذكر هذا التفصيل في أوائل التعادل والتراجيح (2) ، ففرّق بين من كان همّه المراد الواقعي فيحتاج إلى أصالة عدم القرينة ، ومن كان همّه الاحتجاج فيكفيه الأصل العقلائي ، من اتّباع الظهور والاحتجاج به ، وقد علّقنا عليه هناك ما مفاده عدم الفرق ، فإنّ من كان همّه الواقع إن كان يكفي فيه الاعتماد على الأصل العقلائي ، لم يفرق في ذلك الأصل بين أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور ، وإن لم يكف فيه الأصل العقلائي لم يكفه أصالة عدم القرينة ، كما لم يكفه أصالة الظهور فراجع (3).

قوله : الأوّل : لو حصل الوثوق من قول اللغوي بمعنى اللفظ ... الخ (4).

لو قلنا بأنّ قول اللغوي حجّة فلا إشكال في لزوم ترتيب الأثر عليه ، لكن بعد البناء على عدم حجّيته فماذا يفيدنا الظنّ الحاصل من قوله مثلاً بأنّ الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض ، إلاّبدعوى كون الظنّ بصحّة ما قاله من كونه موضوعاً لمطلق وجه الأرض يكون ملازماً للظنّ بأنّ المراد به في الآية المباركة هو مطلق وجه الأرض ، ومع فرض تسليم هذه الملازمة لا يحصل بيدنا إلاّالظنّ بأنّ المراد به في الآية المباركة هو مطلق وجه الأرض ، ومن الواضح أنّ مجرّد الظنّ بالمراد من دون استناد إلى أصل عقلائي من أصالة الظهور أو أصالة عدم القرينة ، لا يكون مثبتاً للمراد.

ص: 388


1- فوائد الأُصول 3 : 146.
2- فوائد الأُصول 4 : 718 - 719.
3- المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب الصفحة : 26 في الحاشية على فوائد الأُصول 4 : 717.
4- فوائد الأُصول 3 : 144.

وبالجملة : أنّ مجرّد الظنّ بأنّ المراد هو المعنى الفلاني لا يلازم الظهور العقلائي الذي لابدّ أن يكون راجعاً إلى أحد الأُصول العقلائية ، هذا كلّه فيما لو كان قول اللغوي في تعيين الوضع.

أمّا لو كان في بيان مورد الاستعمال فعدم الركون إليه وعدم الاعتماد على الظنّ الحاصل منه أوضح وأظهر ، إذ لا دخل للظنّ الحاصل من قوله بأنّ الصعيد يستعمل في مطلق وجه الأرض بما أُريد به في الآية المباركة ، ولو صرّح اللغوي بأنّه في الآية المباركة مستعمل في مطلق وجه الأرض لم يكن ذلك القول منه إلاّ كقول أحد المفسّرين المتخرّصين.

وعلى كلّ حال ، أنّ قياس الظنّ الحاصل من قول اللغوي بالظنّ الحاصل من قول الرجالي ممنوع ، فإنّ ذلك الظنّ يدرج الخبر في موثوق الصدور ، بخلاف هذا الظنّ فإنّه لا يدرجه في كبرى الظهور ، وأقصى ما فيه هو حصول الظنّ بأنّ المراد هو المعنى الفلاني ، ولا دخل لذلك بكبرى الظهور وصغراه ، فتأمّل.

قوله : فإنّ الواجب على الإمام عليه السلام إنّما هو بيان الأحكام بالطرق المتعارفة ، وقد أدّى ما هو وظيفته ، وعروض الاختفاء لها بعد ذلك لبعض موجبات الاختفاء لا دخل له بالإمام عليه السلام حتّى يجب عليه إلقاء الخلاف ... الخ (1).

أفاد قدس سره ما محصّله : أنّ المستند في دعوى لزوم إلقاء الخلاف إنّما هو دفع اعتقاد كون مورد الإجماع حقّاً ، استناداً إلى ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من عدم اجتماع الأُمّة على خطأ (2) ، ولم يصحّ ذلك عندنا ما لم يكن المعصوم داخلاً فيهم.

ص: 389


1- فوائد الأُصول 3 : 150.
2- بحار الأنوار 2 : 225 / كتاب العلم ب 29 ح 3 ، كنز العمّال 12 : 156 / 34461 والموجود في كلا المصدرين : « على ضلالة ».

قلت : وإلاّ لكان هذا الحديث هو الدليل التامّ على حجّية الإجماع كما اتّخذه العامّة كذلك ، ولم نحتج إلى شيء في كون الإجماع دليلاً ، ولنعم ما قيل من أنّ الإجماع هو الأصل لهم وهم أصله ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد الالتزام بأنّه لا يجب عليه عليه السلام بيان الخطأ ، لابدّ لنا من القول بأنّه لا يجب عليه ذلك حتّى لو تخيّل متخيّل من الإجماع أنّه كان على حقّ استناداً إلى ذلك الحديث ، كما أنّه عليه السلام لم يجب عليه ردع أُولئك المجمعين عن ذلك الباطل الذي أجمعوا عليه ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ وجوب إلقاء الخلاف إنّما ادّعي لأجل أنّ إلقاء الخلاف يكون سدّاً لباب خطأ من يتخيّل أنّ إجماعهم كان على وفق الواقع ، ومقتضاه أنّه لو فرض عدم وجود ذلك المتخيّل لم يجب عليه عليه السلام إلقاء الخلاف بينهم ، وحينئذ نسأل أنّه عليه السلام إن كان يجب [ عليه ] إرشاد الناس وجب إرشاد الضالّ وإن لم يكن إجماعاً ، وإن لم يجب عليه في حال غيبته إرشاد الناس لم يجب عليه إلقاء الخلاف حتّى لو فرض وجود ذلك المتخيّل ، إذ أقصى ما فيه أن يكون حال ذلك المتخيّل حال أُولئك المجمعين في تخيّلهم الحقّ فيما أجمعوا عليه (1)

ص: 390


1- الملاّ رفيع الجيلاني من تلامذة السيّد بحر العلوم قدس سره له حاشية على المعالم لا بأس بها ينقل في مبحث الإجماع كلاماً مفصّلاً عن السيّد بحر العلوم بعنوان قال الأُستاذ الشريف قدس سره اللطيف ، وساق عبارته المشتملة على قوله في آخرها : وربما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقوله عليه السلام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في هذه الغيبة ، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه فيبرزه بصورة الإجماع ، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقّ والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق. لكن هذا على تقديره طريق آخر بعيد الوقوع ، مختصّ بالأوحدي من الناس ، لا ينتقض به ما قرّرناه ، انتهى كلامه زاد اللّه إكرامه. قال في المقابس [ مقابس الأنوار : ١٩ ] في ترجمة السيّد قدس سره : ولم يبرز منه لوفور تبحّره وتوسّع علمه وإحاطته بالفنون وحقائقها وتوغّله في تنقير أعماق المطالب وكشف دقائقها وسائر العلل التي لا ينبغي ذكرها ، سوى المنظومة _ إلى أن قال _ وقطعة من شرحه على أوائل وافية الأُصول وكراريس كثيرة متألّفة من كتب ورسائل ومسائل وتعليقات متفرّقة أكثرها مسودة ، وقد جمعها ورتّبها بعده ولده العالم العامل والفاضل الكامل السعيد السديد المرتضى السيّد محمّد رضا وفّقه اللّه لما يحبّ ويرضى. [ منه قدس سره ].

قوله : وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحّتها ... الخ (1).

الظاهر أنّ كون الشهرة العملية التي هي عبارة عن الشهرة الاستنادية كاسرة لصحّة الرواية محلّ تأمّل ، وينحصر الكسر بالشهرة الفتوائية إذا كانت الرواية بمنظر من أُولئك المفتين بخلافها وبمسمع.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ الرواية إذا كانت بمنظر وبمسمع من المتقدّمين ، فإن عملوا بها واستندوا إليها كان ذلك جبراً لها ، وإن لم يعملوا بها ولم يستندوا إليها كان ذلك إعراضاً عنها موجباً لوهنها. أمّا مجرّد الفتوى الموافقة للرواية من دون استناد إليها فلا يكون جابراً لها ، كما أنّ مجرّد الفتوى على الخلاف مع فرض احتمال عدم اطّلاعهم على الرواية فذلك لا يكون كاسراً لها ، إذ ليس ذلك إعراضاً أو طرحاً منهم لتلك الرواية ، فالشهرة الفتوائية بما أنّها فتوائية محضة لا أثر لها في الجبر ولا في الكسر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في التقريرات المطبوعة في صيدا ما حاصله : أنّ بين الشهرة الفتوائية

ص: 391


1- فوائد الأُصول 3 : 153.

والشهرة العملية أيضاً عموماً من وجه (1).

وفيه تأمّل ، إذ كلّ شهرة عملية بالرواية يلزمها الفتوى على طبق الرواية ، وليس كلّ شهرة فتوائية يلزمها العمل والاستناد إلى الرواية ، وحينئذ تكون الشهرة الفتوائية أعمّ مطلقاً من الشهرة العملية. نعم ربما وجدت الشهرة العملية ولم توجد الشهرة الفتوائية ، وذلك فيما لو وردت رواية ظاهرها التحريم ، ولكن المشهور حملوها على الكراهة وأفتوا بالكراهة ، وحينئذ تكون تلك الرواية معمولاً بها ، ولو كانت ضعيفة كانت مجبورة بالشهرة العملية ، ولا يكون فتواهم بالكراهة موجباً لكون الشهرة العملية على خلاف تلك الرواية ، بل أقصى ما فيه هو كون الشهرة الفتوائية على خلاف الشهرة الاستنادية.

وقد يقال في هذه الصورة : إنّه بناءً على حجّية الشهرة الفتوائية يقع التعارض بين الشهرة الفتوائية على الكراهة وبين الشهرة العملية ، وفي الحقيقة يقع التعارض بين الشهرة الفتوائية وبين الرواية المجبورة بالعمل.

ولكن لا يخفى أنّ من يقول بحجّية الشهرة الفتوائية إنّما يقول بها حيث لم يحرز بطلان المستند في تلك الفتوى الذي هو حمل الرواية الظاهرة في التحريم على الكراهة ، فتكون تلك الرواية المجبورة بالعمل أو نفس الشهرة العملية حاكمة على الشهرة الفتوائية. اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ الشهرة الفتوائية تكشف عن وجود قرينة على الكراهة ولم نطّلع عليها ، وحينئذ يكون الأمر بالعكس ، أعني أنّ الشهرة الفتوائية تكون حاكمة على الشهرة العملية ، فتأمّل. وهذا مبني على كون الشهرة الفتوائية موهنة للدلالة.

ص: 392


1- أجود التقريرات 3 : 173.

[ حجّية خبر الواحد ]

قوله : وإن شئت قلت : إنّ البحث إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم الانطباق ، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا وجودها ... الخ (1).

قلت : لكن انطباق السنّة على الخبر ليس إلاّانطباقاً تعبّدياً ، فهو عبارة أُخرى عن ثبوت السنّة تعبّداً بخبر الواحد ، نعم يمكن القول بنسبته إلى السنّة فيقال : هل تثبت السنّة تعبّداً بخبر الواحد ، وحينئذ يكون الثبوت التعبّدي من عوارض السنّة بعد الوجود. نعم إنّ صورة البحث في حجّية الخبر ليس كذلك ، فإنّ الواقع في البحث المزبور هو البحث عن حجّية الخبر ، خصوصاً على ما أفاده الأُستاذ قدس سره من أنّ المجعول هو الحجّية ، فلا يكون البحث في الحقيقة إلاّبحثاً عن عوارض الخبر لا عوارض السنّة ، إلاّ أنّ ذلك ليس بمهم لأنّه من قبيل الاختلاف في التعبير ، والأمر فيه سهل ، ولعلّ ما في طبعة صيدا (2) أوضح إشكالاً ، فراجعه وراجع أوائل التحريرات (3) تجده قريب الاعتراف بإشكال الكفاية (4)

ص: 393


1- فوائد الأُصول 3 : 157 - 158.
2- أجود التقريرات 3 : 177 - 178.
3- أجود التقريرات 1 : 14 - 15.
4- كفاية الأُصول 8 - 9.

قوله : مضافاً إلى أنّها من أخبار الآحاد ، ولا يصلح التمسّك بها لما نحن فيه ... الخ (1).

قلت : مضافاً إلى معارضتها بالأخبار الدالّة على الحجّية ، ولا ريب في أنّ تلك أقوى. مضافاً إلى ما سيأتي من الآيات الدالّة على حجّية الخبر ، فإنّها موجبة لسقوط الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، فإنّها حينئذ بنفسها تسقط نفسها فتأمّل. وأمّا ما أفاده قدس سره فيما نقل عنه بقوله : ولا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار الخ (2) ، وقوله : يلزم تعطيل كثير من الأحكام الخ (3) ونحو ذلك ، فالظاهر أنّه غير نافع ، لإمكان الجواب عنه بالالتزام بالانسداد.

قوله : حتّى نقل عن بعضهم أنّه قال بعد ما استبصر ورجع إلى الحقّ : إنّي قد وضعت اثني عشر ألف حديثاً ... الخ (4).

فعلاً لا أتخطّر مَن هذا القائل ، لكن في مقباس الهداية للمرحوم المامقاني في تعداد أصناف الواضعين قوله : رابعها : قوم زنادقة وضعوا أحاديث ليفسدوا بها الإسلام وينصروا بها المذاهب الفاسدة ، فقد روى العقيلي عن حمّاد بن زيد قال : وضعت الزنادقة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أربعة عشر ألف حديث ، منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمان المهدي بن المنصور ، قال ابن عدي : لمّا أُخذ لتضرب عنقه ، قال : وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أُحرّم فيها الحلال وأُحلّل الحرام الخ (5).

قلت : ولعلّ هذا من سعيه في إبطال الحديث حتّى عند الموت ، ليكون ذلك القول منه موجباً لتوقّف الناس في الأخذ بالحديث.

ص: 394


1- فوائد الأُصول 3 : 163.
2- فوائد الأُصول 3 : 163.
3- فوائد الأُصول 3 : 163.
4- فوائد الأُصول 3 : 163.
5- مقباس الهداية 1 : 412 - 414.

قوله : وأمّا مفهوم الشرط ، فلأنّ الشرط المذكور في الآية ممّا يتوقّف عليه وجود الجزاء عقلاً - إلى قوله - فانتفاء التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ قهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع ... الخ (1).

لعلّ هذا التحرير للإشكال المزبور أولى ممّا تضمّنته عبارة الكفاية بقوله : ولا يخفى أنّه على هذا التقرير لا يرد أنّ الشرط في القضية لبيان تحقّق الموضوع ، فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع الخ (2). وعبارة الشيخ قدس سره في الرسائل تقارب عبارة الكفاية ، فإنّه أشكل على الآية بأنّها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع فلا مفهوم لها (3) فراجع.

وتوضيح المقام هو أن يقال : إنّه قد حقّق في محلّه رجوع القضية الحقيقية الحملية إلى قضية شرطية مقدّمها من عقد الوضع وتاليها من عقد الحمل ، كما أنّ كلّ قضية شرطية يكون مقدّمها من قبيل الموضوع وتاليها من قبيل المحمول ، وحينئذ يتوهّم المتوهّم أنّ لازم رجوع القضيتين إلى مفاد واحد هو الالتزام بالمفهوم لكلّ منهما ، أو الالتزام بعدمه في كلّ منهما ، ولا وجه للتفرقة بينهما في الالتزام بالمفهوم في الثانية دون الأُولى.

ولكن التحقيق هو التفرقة بينهما ، فإنّ القضية الحملية لا مفهوم لها ، بخلاف القضية الشرطية فإنّ لها مفهوماً ، منشؤه دلالة تعليق الجزاء على الشرط على حصر علّة سنخ الحكم في ناحية الجزاء بما تضمّنه المقدّم من الشرط ، بخلاف القضية الحملية ، ولا يرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحصر

ص: 395


1- فوائد الأُصول 3 : 167 - 168.
2- كفاية الأُصول : 296.
3- فرائد الأُصول 1 : 257.

المذكور إلاّإذا جرّدت من ذلك الحصر ، وكانت مسوقة كالحملية لبيان تحقّق الموضوع ، كما في مثل قوله للمسافر : إذا نويت الإقامة فأتمّ الصلاة ، فإنّه مسوق مساق قوله : يجب الاتمام على المسافر المقيم ، فلا يستفاد منها المفهوم ، إذ ليست مسوقة للحصر ، ولا معنى للقول في هذه الصورة بأنّ مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لو كان لها مفهوم لم يكن على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، بل إنّ كونها ذات مفهوم خلف لما فرضناه من كونها مسوقة لبيان الموضوع وعدم دلالتها على الحصر.

نعم ، قد يكون الشرط ممّا يتوقّف عليه الفعل في ناحية الجزاء ، كما في مثل إن حدّثك زيد فصدّقه ، فإنّ مثل هذه القضية إن جرّدناها عن الدلالة على الحصر لم يكن لها مفهوم ، وإن ادّعينا مع ذلك بقاء دلالتها على الحصر كان مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع ، لعدم معقولية التصديق عند عدم الحديث ، فلابدّ أن يكون انتفاء التصديق عند انتفاء الحديث من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع الذي يقوم به التصديق ، فيكون حال هذا المفهوم حال قول من ليس له ولد : ابني ليس بقائم.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده في الكفاية بقوله : مع أنّه يمكن أن يقال إنّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك ( أي لبيان تحقّق الموضوع ) إلاّ أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبّر (1). فإنّا لو أخذنا موضوع وجوب التبيّن شرطاً في وجوب التبيّن ، ليكون محصّل القضية الشرطية هو أنّه إن أخبرك الفاسق وجب عليك التبيّن عن خبره ، لم يكن مفاد مفهوم الحصر إلاّ

ص: 396


1- كفاية الأُصول : 296.

السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ المفهوم حينئذ هو أنّه إن لم يخبرك الفاسق فلا يجب التبيّن عن خبره.

ولا مخلص عن ذلك إلاّبأخذ النبأ موضوعاً ، وأنّه إن جاء به الفاسق وجب التبيّن عنه ، وهو ما أفاده أوّلاً ، أو بأخذ وجوب التبيّن مجرّداً عن النبأ بأن يقال إنّه إن أخبرك الفاسق يجب التبيّن عن الواقع ولا يعتمد على إخباره ، وحينئذ لا يكون الشرط في القضية عبارة عن موضوع الحكم في الجزاء ، لأنّ موضوع الحكم في الجزاء هو الواقع والشرط هو إخبار الفاسق ، ويكون المتحصّل أنّ الواقع إن أخبرك به الفاسق وجب التبيّن عنه أي عن الواقع ، ولعلّ قوله قدس سره : فتدبّر ، إشارة إلى ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب التصديق في مثل قولك : إن حدّثك زيد فصدّقه ، أو قولك : حديث زيد يجب تصديقه ، لابدّ أن يكون في لحاظ الحاكم مجرّداً عن الاضافة إلى حديث زيد ، لأنّ ما هو في مرتبة الموضوع لا يمكن أخذه في ناحية المحمول ، وكذلك ما هو في مرتبة الشرط لا يمكن أخذه في ناحية الجزاء ، ففي القضية الحملية يكون المحكوم به هو وجوب التصديق والمحكوم عليه هو حديث زيد ، ويكون الحاصل أنّ حديث زيد محكوم بوجوب التصديق ، أو إنّ حديث زيد حديث يجب تصديقه. وفي القضية الشرطية يكون الجزاء أيضاً نفس وجوب التصديق ، ويكون الشرط هو تحقّق حديث زيد ، ويكون الحاصل هو أنّه لو حدّثك زيد كان جزاؤه وجوب التصديق.

أمّا في آية النبأ فلا نحتاج إلى تجريد الجزاء فيها عمّا هو في حيطة الشرط ، أعني وجود نبأ الفاسق ، بل يمكننا أخذ الشرط هو مجيء الفاسق بالنبأ ، ويكون المتبيّن عنه هو نفس النبأ ، ويكون الشرط هو إتيان الفاسق به ، ويكون

ص: 397

المتحصّل هو أنّ النبأ الذي جاءكم إن كان الآتي به فاسقاً فتبيّنوا عنه ، وإن لم يكن الآتي به إليكم فاسقاً فلا تتبيّنوا عنه ، وحينئذ لا يكون الشرط ممّا يتوقّف عليه الجزاء عقلاً كي نحتاج إلى تجريده عنه في لحاظ الحاكم ، فإنّ ذلك إنّما نحتاج إليه فيما لو جعلنا الشرط هو نفس إتيان الفاسق الذي هو عبارة عن إخباره ، فإنّه يلزمه حينئذ أخذ ما هو في ناحية الشرط في ناحية الجزاء ، وهو محال إلاّ بالتجريد المذكور ، وليكن ذلك الاحتياج إلى التصرّف المذكور قرينة على كون الشرط هو كون المخبر فاسقاً ، لا أصل إخبار الفاسق.

والحاصل : أنّ التبيّن في ناحية الجزاء متعلّق بالنبأ ، ويكون الشرط في وجوبه هو إتيان الفاسق به ، فلا يكون الفعل في ناحية الجزاء متوقّفاً عقلاً على تحقّق الشرط كي يتّجه أنّ القضية مسوقة لتحقيق الموضوع ، والقرينة على ذلك هو لزوم تجريد الجزاء عمّا هو في حيّز الشرط. أمّا ما أُفيد من كون المورد وشأن النزول قرينة على ذلك ، فلم أتوفّق لفهمه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير كون التبيّن في الآية الشريفة هو بمعنى التفحّص عن الخبر ، أمّا لو كان بمعنى التفحّص عن الواقع والتثبّت عن الاقدام حتّى يتّضح الحال ، كما يشهد به ما في المجمع من نقل قراءة الباقر عليه السلام تثبتوا بالثاء والتاء (1) ، لكنّا في غنى عن دفع هذه الشبهة ، أعني كون الشرط ممّا يتوقّف عليه الفعل في ناحية الجزاء ، فإنّ التثبّت عن الاقدام حتّى يتّضح الحال لا يتوقّف على إخبار الفاسق ، ولا على إخبار غيره ، ولا يكون وزانه في الآية الشريفة إلاّوزانه في آية سورة النساء أعني قوله : ( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا ) (2) وقد قرئ هناك أيضاً بالتاء

ص: 398


1- مجمع البيان 9 : 219.
2- النساء 3 : 94.

والثاء.

لكن ينقدح إشكال آخر ، وهو أنّ التثبّت في أمثال هذه المقامات ممّا يعود إلى القتل والنهب لازم وإن أخبر به العادل ، لكن ذلك إشكال على مورد الآية ، وأنّه من قبيل الموضوعات ، بل لو قلنا بحجّية الخبر في الموضوعات لم نقل به في أمثال هذه المقامات من الارتداد وما يلزمه من القتل والغارة والنهب والأسر وغير ذلك.

قوله : فمن الإشكالات التي تختصّ بآية النبأ هو كون المفهوم فيها على تقدير ثبوته معارضاً بعموم التعليل في ذيل الآية ... الخ (1).

هذا الإشكال ذكره الشيخ الطوسي قدس سره في تفسيره التبيان ، فإنّه قال فيه ما هذا لفظه : وفي الآية دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل ، لأنّ المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذباً فتوقّفوا فيه ، وهذا التعليل موجود في خبر العدل ، لأنّ العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذباً في خبره ، فالأمان غير حاصل في العمل بخبره.

وفي الناس من استدلّ به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلاً ، من حيث إنّه أوجب تعالى التوقّف في خبر الفاسق ، فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح ، لأنّه استدلال بدليل الخطاب ، ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء ، ولو كان صحيحاً فليست الآية بأن يستدلّ بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلاً بأولى من أن يستدلّ بتعليلها في دفع الأمان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على أنّ خبر العدل مثله على أنّه لا يجب العمل بخبر الواحد وإن كان راويه عدلاً.

ص: 399


1- فوائد الأُصول 3 : 170.

فإن قيل : هذا يؤدّي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقّف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة.

قلنا : والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنّه لا فائدة في تعليل الآية في خبر الفاسق الذي يشاركه العدل فيه ، فإذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كلّ حال ، وبقي الأصل في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد إلاّبدليل. ومن قرأ ( فَتَبَيَّنُوا ) أراد تعرّفوا صحة متضمّن الخبر الذي يحتاج إلى العمل عليه ، ولا تقدموا عليه من غير دليل ، يقال : تبيّن الأمر إذا ظهر وتبيّن هو نفسه بمعنى واحد ، ويقال أيضاً : تبيّنته إذا عرفته ، ومن قرأ « تثبّتوا » بالتاء والثاء أراد توقّفوا فيه حتّى يتبيّن لكم صحته (1).

قوله : بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ... الخ (2).

قال في الكفاية : ولا يخفى أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أنّ دعوى أنّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة (3).

وشيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة أجاب أوّلاً : بأنّ الظاهر أنّ المراد منها السفاهة وفعل ما لا يصدر من العقلاء.

وثانياً : سلّمنا بأنّه ليس المراد بالجهالة السفاهة ، لكن ذلك لا يوجب كونها بمعنى عدم العلم ، بل المراد الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه.

ص: 400


1- التبيان 9 : 343 - 344.
2- فوائد الأُصول 3 : 171.
3- كفاية الأُصول : 297.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا كونها بمعنى عدم العلم لقلنا إنّ المفهوم مقدّم على عموم التعليل لكونه حاكماً عليه ، فراجع ما حرّرته عنه قدس سره (1) وما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (2).

والذي يتلخّص : أنّ الجهالة لها معانٍ ثلاثة : الأوّل كونها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل. الثاني : كونها بمعنى الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه. الثالث : كونها بمعنى عدم العلم. وقد فرّق بين الأوّل والثاني ، فقال فيما حرّرته عنه ما ملخّصه : أنّه إذا كان المراد الجهالة بمعنى عدم العلم يكون التعليل بأمر تعبّدي ، وهو أعمّ من المفهوم ، أمّا إذا كانت بالمعنى الأوّل أو الثاني ، فيكون التعليل بأمر عقلائي ، غير أنّه على الأوّل يكون من الأُمور الواضحة التي لا تصدر من العقلاء ، فلا تناسب إقدام الصحابة ، بخلافه على الثاني فإنّه ليس من الوضوح بحيث يعدّ مخالفه سفيهاً ، بل يحتاج إلى إعمال نظر في الجملة ، ولكنّه مع ذلك لا يخرج عن كونه تعليلاً بأمر عقلائي ، وهو عدم الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، الخ.

قلت : لم أعثر فيما حضرني من كتب اللغة والتفسير على كون السفاهة أو فعل ما لا ينبغي من معاني الجهل أو الجهالة ، نعم قال في المصباح : وجهل على غيره : سفه وأخطأ (3). وقال في أقرب الموارد : وجهل عليه : تسافه ، كذا في الأساس (4)

ص: 401


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 3 : 184 - 185.
3- المصباح المنير 1 - 2 : 113 ( جَهِلْتُ ).
4- أقرب الموارد 1 : 146 ( جَهِلَهُ ) ، أساس البلاغة : 67 ( ج ه- ل ).

ولا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون الجهل بمعنى السفه كما في المصباح أو التسافه كما نقله الأقرب عن الأساس ، لا ينطبق على ما نحن فيه ، لأنّ ذلك في الجهل المتعدّي بلفظ على. مضافاً إلى أنّ صاحب القاموس لم يفسّره بالسفه ولا بالتسافه ، بل فسّره بالتجاهل ، فقال : وعليه أظهر الجهل كتجاهل (1).

نعم ، نقل في التاج عن الراغب أنّ الجهل على ثلاثة أقسام ، الأوّل : هو خلوّ النفس من العلم ، وهذا هو الأصل. الثاني : اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.

الثالث : فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أم فاسداً كتارك الصلاة عمداً ، وعلى ذلك قوله تعالى : ( أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (2) فجعل فعل الهزؤ جهلاً. وقوله تعالى : ( فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (3) انتهى (4).

ولعلّ هذا هو المنشأ في تفسير الجهالة في الكفاية (5) بالسفاهة ، أو تفسير شيخنا (6) بما لا ينبغي الركون إليه.

وكيف كان ، فلو سلّمنا أنّ الجهل أو الجهالة يأتي بمعنى السفه أو فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل ، أو الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه ، فلا ينبغي لنا أن نطبّقه على المورد ، لأنّ المقدم في المسألة هو النبي صلى اللّه عليه وآله على ما يذكره المفسّرون

ص: 402


1- القاموس المحيط 3 : 353 ( جَهِلَهُ ).
2- البقرة 2 : 67.
3- الحجرات 49 : 6.
4- تاج العروس 7 : 268 ( جَهِلَ ) ، مفردات ألفاظ القرآن : 102 ( جهل ).
5- كفاية الأُصول : 297.
6- فوائد الأُصول 3 : 171.

- وإن كنت غير واثق بذلك - فراجع التفاسير المتضمّنة لشرح القصّة من غضبه صلى اللّه عليه وآله حتّى أنّه صلى اللّه عليه وآله على ما رواه في الكشّاف لمّا حضروا عنده وكذّبوا الوليد قال لهم : لتنتهنّ أو لأرسل إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم وضرب بيده على كتف علي عليه السلام وفي رواية أُخرى : أنّه أرسل إليهم خالد بن الوليد (1).

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك كلّه ليس من الاقدام على الإيقاع بهم ، بل هو من قبيل التفحّص عن حالهم. لكن ذلك لا يتأتّى في الرواية الأُخرى التي رواها في مجمع البيان (2) في شأن النزول ، وهي قصّة مارية وإرساله صلى اللّه عليه وآله علياً عليه السلام ليقتل ابن عمّها ، فراجع.

ونحن قد جرينا في هذا المقام تبعاً لما ذكره المفسّرون ، وإلاّ فإنّ مقام النبوّة أعلى وأجلّ من هذه الكلمات ، حتّى لفظ عدم العلم ، لكن لعلّ في الواقع حِكَماً ومصالح لم نعلم بها كسائر الحِكَم في أقواله وأفعاله صلى اللّه عليه وآله الجارية على العادة البشرية.

ومع ذلك أقول كما أشرت إليه : من أنّي غير واثق بصدور شيء منه صلى اللّه عليه وآله من الجري على ما أخبر به الوليد ، إذ ليس في الآية الشريفة ما يدلّ على ذلك ، وليس فيها إلاّ التبكيت على الصحابة ، فإنّ الجملة مذيّلة بقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) الخ (3)

ص: 403


1- الكشّاف 3 : 559 ( مع اختلاف يسير ).
2- مجمع البيان 9 : 220.
3- الحجرات 49 : 7.

قال في الكشّاف : الجملة المصدّرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متّصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في ( فِيكُمْ ) المستتر المرفوع أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أنّ فيكم رسول اللّه على حالة يجب عليكم تغييرها ، أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهي أنّكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه ، المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك لعنتم أي لوقعتم في العنت والهلاك - إلى أن قال - وهذا يدلّ على أنّ بعض المؤمنين زيّنوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وأنّ نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأنّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) أي إلى بعضكم ، ولكنّه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن لها إلاّالخواص. وعن بعض المفسّرين : هم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى : وقوله : ( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي أُولئك المستثنون هم الراشدون يصدّق ما قلتُه (1) وقوله « يصدّق ما قلتُه » خبر عن لفظ « قوله » في « وقوله : أُولئك الخ » فراجع كلماته إلى آخرها.

وبنحو ذلك صرّح في تفسير أبي السعود المطبوع على هامش تفسير الرازي ، فإنّه ذكر عين مطلب صاحب الكشّاف - إلى أن قال - وفيه إيذان بأنّ

ص: 404


1- الكشّاف 3 : 560 - 561 [ في معظم نسخ الكشّاف التي راجعناها : « بصدق ماقلته » لكن في بعض النسخ : « يصدق ما قلته » وهو الصحيح ، فراجع الكشّاف ( ط مطبعة الاستقامة بالقاهرة ) 4 : 361 ].

بعضهم زيّنوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد ، وأنّه عليه الصلاة والسلام لم يطع رأيهم - إلى أن قال - وقوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك ، بياناً لبراءتهم من أوصاف الأوّلين وإحماداً لأفعالهم (1) ، فراجعه. أمّا الرازي فقد نقل كلام الزمخشري بالمعنى واستحسنه وشرحه وأوضحه ، وزاد عليه توجيهاً آخر لقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ ) فراجعه (2).

وحيث إنّ هذه الصفة المذمومة في بعضهم كانت من أظهر صفات عمر بن الخطّاب ، لما شاع عنه من كثرة الاعتراض على النبي صلى اللّه عليه وآله أقامت المحشّي أحمد الأشعري وأقعدته ، ورمى الزمخشري بالتعريض بالصحابة وبسوء رأيه فيهم فراجع الحاشية المذكورة على هامش الكتاب (3).

أمّا ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ حمل الجهالة على عدم العلم يوجب كون التعليل بأمر تعبّدي ، فقابل للتأمّل ، لأنّ العمل على غير العلم مذموم للعقلاء ، غايته أنّ لهم طرقاً يجرونها مجرى العلم. أمّا طريقة الحكومة التي أفادها قدس سره ثالثاً فقابلة للتأمّل ، حيث إنّه بعد البناء على أنّ المراد بالجهالة هو عدم العلم لصحّ الجواب بالتخصيص ، وقد منعه قدس سره.

وبالجملة : أنّ المفهوم ناشٍ عن دلالة القضية الشرطية على الحصر ، فهو في طول الدلالة على الحصر ، وعموم العلّة يمنع من ذلك الحصر والاختصاص ، لدلالته على وجود علّة أُخرى توجب التوقّف والتثبّت وعدم القبول ، وهي فيما لو

ص: 405


1- تفسير أبي السعود ( المطبوع مستقلاً ) 8 : 118 - 119.
2- راجع التفسير الكبير 28 : 122 - 123.
3- الكشّاف 3 : 560 - 561.

كان المخبر به من قبيل الارتداد الذي يكون أثره لزوم القتل والنهب ونحو ذلك ممّا لا يجوز الاقدام عليه مع عدم العلم فيكون ذلك موجباً لسقوط المفهوم ، وتكون الحكومة بالعكس.

نعم ، لو دلّت الآية ابتداءً على حجّية خبر العادل بلا توسّط الحصر ، لكان ما تفيده ابتداءً من حجّية خبر العادل مخصّصاً لعموم العلّة أو حاكماً عليه. لكنّك قد عرفت أنّ دلالتها على ذلك إنّما هو بطريق المفهوم ، الذي هو في طول دلالتها على الحصر ، وعموم التعليل مانع من ذلك الحصر ، فيكون رافعاً لموضوع المفهوم ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ عموم التعليل وإن أوجب رفع اليد عن ظهور الشرطية في انحصار العلّة بخبر الفاسق ، إلاّ أنّ أقصى ما فيه أن يكون ذلك - أعني كون المخبر به من قبيل الارتداد - علّة أُخرى لوجوب التثبّت مع بقاء الشرطية على الانحصار فيما عدا ذلك ، ويكون ضمّ التعليل إلى الشرطية من قبيل اجتماع الشرطين على الجزاء الواحد ، ويكون حاصل القضية هو أنّ النبأ إن جاء به الفاسق أو كان المخبر به من قبيل الارتداد وجب التبيّن ، على أن يكون الشرط في التثبّت هو أحدهما على نحو الانحصار ، وعند انتفاء الفسق وانتفاء كون المخبر به من قبيل الارتداد تبقى القضية الشرطية بحالها من الدلالة على الانحصار ، فتكون قاضية بالمفهوم ، وذلك من موجبات العمل وعدم التثبّت ، وهذه الطريقة لو تمّت لا تبقي مجالاً للإشكال بخروج المورد الذي هو الإخبار بالموضوعات أو بخصوص الارتداد ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّ في العلّة المذكورة في الآية الشريفة إشكالاً آخر ، وهو أنّ الظاهر من النبأ ليس هو مطلق النبأ ، بل المراد به نبأ خاصّ ، وهو ما يكون أثره الغارة والأسر

ص: 406

والقتل والنهب ، وكأنّه لأجل ذلك فسّره في المجمع وكذا في التبيان بقولهما : أي بخبر عظيم الشأن (1). وتوضيحه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ تعليل الحكم بعلّة كما يوجب تعميمه إذا كانت العلّة عامّة ، فكذلك يوجب تخصيصه لو كانت العلّة خاصّة ، فلو قال : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، فكما أنّا نسري هذا الحكم إلى مطلق الحامض ولو كان من غير الرمّان ، فكذلك نحكم باختصاص ذلك الحكم بخصوص ما كان من الرمّان حامضاً ، بحيث إنّه لا يشمل الرمّان الحلو.

وحينئذ نقول : لو قال القائل : إن حدّثك الفاسق فلا تقبل حديثه وتفحّص عن الواقع مخافة أن تخرج إلى خارج البلد ولا تجد شيئاً ممّا حدّثك به ، فعلى الظاهر أنّه لا ينبغي الريب في أنّ هذا الحكم - وهو عدم قبول الحديث المذكور - يكون مختصّاً بما إذا كان الحديث متعلّقاً بشيء خارج البلد ، لما ذكرناه من أنّ خصوصية علّة الحكم توجب خصوصية المعلول الذي هو الحكم.

إذا عرفت [ ذلك ] فاعلم أنّ المفسّرين أعربوا قوله تعالى : ( بِجَهالَةٍ ) أنّه في موضع نصب على الحالية ، كما في الجلالين (2) والكشّاف (3) ومجمع البيان (4) ، وفسّروا الجهالة بعدم العلم ، وحينئذ فلا يكون قوله تعالى : ( بِجَهالَةٍ ) متعلّقاً بقوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) بل يكون ظرفاً مستقرّاً في موضع الحال ، ويكون المتعلّق لقوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) هو الأنفس والأموال كما في المجمع ، فإنّه فسّر قوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) بقوله رحمه اللّه : أي حذراً من أن تصيبوا قوماً في أنفسهم وأموالهم

ص: 407


1- مجمع البيان 9 : 220 ، التبيان 9 : 343.
2- تفسير الجلالين : 683.
3- الكشّاف 3 : 560.
4- مجمع البيان 9 : 220 ، 221.

بغير علم بحالهم ، وما هم عليه من الطاعة والإسلام (1).

وبناءً عليه تكون هذه الإصابة من قبيل قوله :

أظلوم إنّ مصابكم رجلاً *** أبدى السلام تحيّةً ظلم

في كونها من قبيل الاصابة بالنفس بالقتل ونحوه ، ويكون حاصل الآية الشريفة هو أنّه إذا جاءكم فاسق بنبأ عظيم يتعلّق بما يوجب الاصابة بالقتل والنهب ، فلا تأخذوا بخبره وتثبّتوا وتفحّصوا عن الواقع ، مخافة أن تصيبوا قوماً بالقتل والنهب. ولا ريب في عدم حجّية خبر العادل في مثل ذلك ، ولا يكون ذكر الفاسق حينئذ في الآية الشريفة إلاّلمحض التنبيه على المورد ، وهو أنّ ذلك المخبر فاسق ، وبناءً عليه لا يكون التعميم إلى خبر العادل في خصوص هذا النبأ المتعلّق بالقتل والارتداد محتاجاً إلى عموم العلّة ، كي يتكلّم في أنّه حاكم على المفهوم ، أو أنّ المفهوم حاكم عليه ، بل إنّ خصوص العلّة - وهي خوف الوقوع في قتل من لا يستحقّ القتل - يكون موجباً لاختصاص النبأ بما يكون أثره القتل والنهب ، ويكون هذا الاختصاص هو الموجب لتعميم الحكم لخبر العادل ، ويكون الحكم في المنطوق مختصّاً بذلك النبأ الذي لا يفرّق فيه بين الفاسق والعادل ، ولا يكون ذكر الفاسق إلاّلنكتة إظهار فسق ذلك المخبر الخاص.

ولو سلّمنا دلالة الآية في حدّ نفسها على المفهوم ليكون حاصل الآية منطوقاً ومفهوماً هو أنّه [ إن ] أخبركم الفاسق بارتداد طائفة من الناس فلا تقبلوا خبره ، وإن أخبركم العادل بذلك فاقبلوا خبره ، لكان اللازم علينا رفع اليد عن ظهورها في ذلك المفهوم ، لا لعموم العلّة أعني عدم العلم ، بل لأجل الإجماع القطعي على عدم قبول خبر العادل في الارتداد ولو قلنا بحجّيته في الموضوعات

ص: 408


1- مجمع البيان 9 : 221.

الخارجية ، فتأمّل.

وهذا الإشكال ليس براجع إلى إشكال خروج مورد الآية عن العموم ، بل هو راجع إلى دعوى كون المنطوق مختصّاً بالخبر عن الارتداد ، فلا يكون مفهومه إلاّ قبول خبر العادل في الارتداد وهو مخالف للإجماع ، فلابدّ من إسقاطه. ولو أغضينا النظر عن الإجماع المذكور لم يكن المفهوم المذكور دالاً على ما هو المطلوب من حجّية خبر العادل بقول مطلق ، بل أقصاه أن يدلّ على حجّيته في خصوص الخبر عن ارتداد.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لو التزمنا بما أفاده الشيخ قدس سره (1) من التقييد بانضمام عادل آخر ، بناءً على إمكان تقييد المفهوم مع بقاء إطلاق المنطوق ، ليكون من قبيل إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان وارداً أو موروداً ، ومفهومه إذا كان الماء قليلاً ينجس بالملاقاة ، فإنّه مقيّد بما إذا كان موروداً ، فإنّ ذلك لو سلّمناه لم يكن نافعاً في حجّية خبر العادل وحده بالارتداد ، فضلاً عن غيره من الموارد ، إذ لا يكون مفاد المفهوم حينئذ إلاّحجّية خبر العادل في خصوص الارتداد إذا انضمّ إليه عادل آخر وهو غير المطلوب ، فتأمّل.

قوله : ومن الإشكالات التي تختصّ بآية النبأ أيضاً هو أنّه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ... الخ (2).

هذا الإشكال مبني على عموم النبأ في قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) (3) لكلّ نبأ ، سواء كان في الارتداد كما هو مورد الآية أو غيره من

ص: 409


1- فرائد الأُصول 1 : 271.
2- فوائد الأُصول 3 : 173.
3- الحجرات 49 : 6.

الموضوعات أو الأحكام ، وحينئذ يتّجه الإشكال بخروج المورد الذي هو الارتداد ، وإن قلنا بحجّية خبر العادل في الموضوعات. أمّا بناءً على ما تقدّم (1) من كون النبأ المذكور في الآية الشريفة مختصّاً بخصوص النبأ بالارتداد ، فلا يكون الإشكال من قبيل الإشكال بخروج المورد ، بل يكون المفهوم بنفسه ساقطاً لكونه بنفسه مخالفاً للإجماع ، وبناءً عليه فلا دافع للإشكال بالتقريب المزبور.

أمّا دفعه بالتقريب الذي جروا عليه ، وهو كونه من قبيل خروج المورد بعد البناء على عموم النبأ لكلّ إخبار ، فقد تصدّى شيخنا قدس سره لدفعه بقوله فيما حرّر عنه في هذا الكتاب : وفيه أنّ المورد إنّما كان إخبار الوليد الفاسق بارتداد بني المصطلق ، والآية الشريفة إنّما نزلت في شأنه لبيان كبرى كلّية - إلى قوله - وأمّا المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقّق ، لأنّه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية الخ (2).

وفيه تأمّل ، إذ ليس المفهوم دليلاً مستقلاً في عرض [ المنطوق ] كي يمكن الالتزام بتخصيصه وحده دون المنطوق ، بل ليس هو إلاّتابعاً للمنطوق وناشئاً عنه ، ولا يمكننا التصرّف فيه بدون التصرّف في المنطوق.

والحاصل : أنّه لو كان المنطوق والمفهوم كلّ منهما قضية على حدة ، بحيث يمكن أن يكون المورد مورداً لإحداهما دون الأُخرى ، صحّ ما أفاده قدس سره. لكن الظاهر أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ مجموع المنطوق والمفهوم عبارة عن قضية واحدة ذات شعبتين إيجابية وسلبية كما في الحصر ، بل ليس المفهوم إلاّالحصر

ص: 410


1- في الصفحة : 406.
2- فوائد الأُصول 3 : 174.

نفسه المستفاد من حصر الجزاء على الشرط ، ألا ترى أنّه لو قال القائل إنّما قام زيد أو ما قام إلاّزيد ، كان محصّله أنّ القيام صدر من زيد ولم يصدر من غيره ، فكما لا يكون ذلك إلاّقضية واحدة ، فكذلك المفهوم فيما نحن فيه خصوصاً بعد البناء على ما أفاده قدس سره من وجود القدر الجامع بين منطوق الآية ومفهومها وهو مطلق النبأ ، وأنّ حاصل الآية الشريفة أنّ النبأ إن جاء به الفاسق وجب التبيّن ، وإن جاء به العادل لم يجب التبيّن ، فكانت عبارة عن قضية واحدة حملية موضوعها هو مطلق النبأ ومحمولها القضيّتان الشرطيتان ، فلا يمكننا إخراج نبأ الارتداد من الثانية دون الأُولى ، بل لابدّ من إخراجه من الموضوع لكلّ من هاتين القضيتين الشرطيتين ، أعني مطلق النبأ الذي أُخذ موضوعاً لمجموعهما ، فتأمّل.

قوله : وممّا ذكرنا ظهر فيما أجاب به الشيخ قدس سره عن الإشكال بقوله : وفيه أنّ غاية الأمر ... الخ (1).

الذي يظهر من صدر عبارة الشيخ قدس سره (2) أنّه يريد التخلّص من الإشكال بالإلتزام بطريقة التقييد ، بأن يكون المفهوم وهو كون خبر العادل حجّة في المورد أيضاً وهو مورد الارتداد إلاّ أنّه مقيّد بانضمام عدل آخر ، وهذا التقييد لا يوجب خروج المورد. لكن ذيل العبارة يوهم الالتزام بخروج المورد عن عموم المفهوم ، ويقول إنّه ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء. اللّهمّ إلاّأن يريد بذلك أنّ تقييد المفهوم وإن أوجب خروج المورد فيما لم يكن القيد موجوداً ، بأن كان خبر العادل واحداً ، إلاّ أنّ هذا الاخراج الناشئ عن التقييد ليس بالاخراج المستهجن ، فتأمّل.

ص: 411


1- فوائد الأُصول 3 : 174.
2- فرائد الأُصول 1 : 271 - 272.

وقد أورد عليه الأُستاذ قدس سره بما حاصله : أنّ محصّل كون الارتداد مورداً للمفهوم الذي هو حجّية خبر العادل ، هو كون ذلك الحكم العام المستفاد من المفهوم كبرى لصغرى المورد ، فلو قيّدناه بالانضمام كان مفاد ذلك الحكم العام هو حجّية البيّنة لا مطلق خبر العادل ، فيتألّف من ذلك شكل أوّل صغراه المورد وكبراه العام الوارد في ذلك المورد ، وهذا هو المنشأ في قبح إخراج المورد وفي دعوى كون العام نصّاً في مورده ، لأنّ إخراج المورد يمنع من تأليف الشكل الأوّل الذي عرفت أنّه هو المتحصّل من ورود العام في ذلك المورد.

وتوضيح ذلك فيما نحن فيه هو أن يقال : إنّا إذا ألّفنا الصغرى من المورد والكبرى من ذلك العام ، يكون الشكل هكذا : العادل أخبرنا بالارتداد ، وكلّ ما أخبرنا به العادل فهو حجّة فيه ، وتكون النتيجة أنّ إخبار العادل بالارتداد حجّة فيه ، فهذا القيد وهو قيد الانضمام إن أخذناه في الصغرى وقلنا العادل أخبرنا بالارتداد منضمّاً مع غيره ، فهو خلاف المورد ، لأنّ المورد هو كون المخبر واحداً ، وإن أخذناه في الكبرى وقلنا إنّ كلّ ما أخبرنا به العادل فهو حجّة إذا انضمّ إليه غيره ، كانت الكلّية لحجّية البيّنة لا لخبر العادل ، ولا يصحّ أخذها في النتيجة من دون أن تؤخذ في إحدى المقدّمتين ، وما يتخيّل من أخذه قيداً في انطباق الكبرى على المورد الذي هو الصغرى لا يخفى فساده ، فإنّ أخذه في الانطباق من دون أخذه في الصغرى ولا في الكبرى لعلّه محال ، ولو أخذ الصغرى بهذه الصورة وقلنا إنّ المورد مورد ارتداد ، وكلّما كان المورد مورد الارتداد ، فخبر الواحد العادل حجّة فيه إن انضمّ إليه غيره ، لم يكن مفاده إلاّحجّية البيّنة في خصوص مورد الارتداد ، فتأمّل.

ولعلّ الشيخ قدس سره لا يريد التقييد على هذا النحو الذي حرّرناه ، بل يريد ما

ص: 412

أفاده الأُستاذ قدس سره من كون المورد إنّما هو مورد للمنطوق دون المفهوم ، كما ربما يفهم من بعض عباراته ، فراجع وتأمّل.

ويمكن القول بأنّه لا تقييد في الصغرى ولا في الكبرى ، بل إنّ التقييد إنّما هو لدليل خارج ، وهو إنّما يكون لاحقاً للنتيجة ، وسيأتي الجواب عنه إن شاء اللّه تعالى بأنّه لا يخلو من قبح تخصيص المورد ، لأنّ ذكر العام مطلقاً في المورد المحتاج إلى التقييد قبيح أيضاً كاخراج المورد.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الإشكال تعرّض له شيخنا قدس سره في الدورة الأخيرة ، ولكنّه كأنّه بنحو آخر إشكالاً وجواباً ، وكان تعرّضه لذلك في ضمن درسين لم أتوفّق للكتابة عنه فيهما ، ولكن السيّد سلّمه اللّه في تحريراته المطبوعة في صيدا قد حرّر ذلك عنه قدس سره ، فلزمنا التعليق على المواقع التي هي محلّ التأمّل ، فنقول بعونه تعالى :

قال سلّمه اللّه : ومن المعلوم أنّ تخصيص العام بالمورد إن كان بعنوان معلوم منطبق عليه ، فلا محالة يوجب ذلك تقييد مصبّ العموم ، وإلاّ يكون موجباً لإجماله الخ (1).

الظاهر أنّ هذه القاعدة لا تجري في تخصيص المورد ، وإنّما تجري في غيره كما أفاده من المثال ، فإنّ زيداً العالم إذا علمنا بخروجه عن عموم أكرم العلماء ، فإن كانت العلّة في خروجه هي ذاته لا عنوان منطبق عليه ، اقتصرنا على إخراجه ، وينحصر الحكم العام بما عداه ، ولا يتقيّد العام بعنوان خاصّ غير عنوان ما عدا زيد. وإن كانت العلّة في خروجه هي عنوان خاصّ منطبق عليه ، وكان ذلك العنوان معلوماً كعنوان الفسق مثلاً ، كان الخارج هو عنوان الفاسق ، وكان ذلك

ص: 413


1- أجود التقريرات 3 : 189.

موجباً لتقيّد العام بقيد العدالة أو بغير الفاسق. وإن لم يكن ذلك العنوان الذي أوجب خروجه معلوماً ، بل أقصى ما عندنا أنّه خرج لأجل عنوان منطبق عليه ، كان ذلك موجباً لتقيّد العام بما عدا ذلك العنوان المجهول ، فيكون العام حينئذ مجملاً.

هذا كلّه إذا لم يكن زيد المذكور مورداً لذلك العام ، أمّا إذا كان مورداً له ، فحيث إنّ العام نصّ في مورده ، لا يمكننا الحكم باخراجه بقول مطلق ، سواء كان اخراجه بذاته أو كان بعنوان خاصّ ، إذ لا يتحقّق الاخراج كي نقول إنّ إخراجه لمّا كان بالعنوان الفلاني المنطبق عليه يكون موجباً لتقيّد ذلك العام بما عداه ، سواء كان ذلك العنوان معلوماً لدينا أو كان مجهولاً.

فالأولى في تقريب الإشكال أن يقال : إنّ المورد الذي خرج عن العموم الوارد فيه إن كان خروجه عنه مطلقاً في جميع حالاته ، لم يمكننا الحكم بخروجه. وإن كان خروجه في حالة دون حالة ، أوجب ذلك تقيّد العام بما عدا تلك الحالة ففيما نحن فيه نقول : إنّ خبر الارتداد خرج عن عموم المفهوم القائل إنّ خبر العادل حجّة مع فرض كونه وارداً في مورده ، لكن خروجه لم يكن مطلقاً ، بل في خصوص حالة واحدة وهي كون خبر العادل فيه منفرداً ، دون ما لو كان منضمّاً إلى عادل آخر ، فلا محيص حينئذ من تقييد ذلك الحكم العام الوارد في ذلك المورد بالانضمام ، فتكون حجّية خبر العادل مقيّدة بالانضمام ، فلا يكون مفادها إلاّحجّية البيّنة.

قال السيّد : وأمّا إذا كان المفهوم جملة أُخرى مستفادة من إطلاق القضية الشرطية - كما هو الصحيح - فلا موقع للإشكال الخ (1).

الظاهر أنّه لا فرق بين المسلكين في كون المفهوم تابعاً للمنطوق بحسب

ص: 414


1- أجود التقريرات 3 : 189.

المورد ، خصوصاً على ما أفاده قدس سره من كون النبأ هو القدر الجامع بين القضيتين كما عرفت فيما تقدّم.

قال : وثانياً أنّ الحكم بوجوب التبيّن في الآية لم يكن من جهة ردع الصحابة عن الحكم بارتداد بني المصطلق لأجل إخبار الوليد بذلك ، بل من جهة ترتيب الأثر على قوله في الجملة ، فإنّهم عزموا على الخروج عليهم ، فإن رأوهم أنّهم لا يصلّون ولا يؤذّنون الخ (1).

لا يخفى أنّ هذا المقدار من الخروج [ إلى ] بني المصطلق واستكشاف حالهم ، هو عين التبيّن الذي أمرهم به تعالى ، فلا وجه للقول بأنّ ذلك هو المردوع عنه في إخبار الفاسق.

ثمّ لو سلّمنا أنّ ذلك هو المردوع عنه في إخبار الفاسق ، لم يكن مفهومه حينئذ إلاّ أنّ ذلك الاحتياط واستكشاف الحال غير ممنوع عنه في إخبار العادل ، فلا يكون المفهوم دالاً على حجّية خبر الواحد.

قال : إلاّ أنّه نقول : إنّ الإخبار عن الارتداد ليس قيداً مأخوذاً في القضية ( بحيث يكون محصّل القضية أنّ نبأ الارتداد إن جاء به الفاسق الخ ) وإنّما هو مورد لها (2).

بمعنى أنّ النبأ في الآية مطلق شامل للارتداد وغيره ، فيكون العموم في ناحية المفهوم - أعني حجّية خبر العادل - شاملاً للارتداد وغيره ، غايته أنّ مورد ذلك العام هو الارتداد ، وحيث إنّ خبر العادل لا يكون حجّة في هذا المورد ، ولا يمكن إخراجه عنه بالمرّة لأنّه من تخصيص المورد ، كان من اللازم تقييد ذلك العام في مقام تطبيقه على ذلك المورد بالانضمام إلى عادل آخر ، هذا غاية ما

ص: 415


1- أجود التقريرات 3 : 190.
2- أجود التقريرات 3 : 190.

فهمته من العبارة.

قلت : وفيه تأمّل ، أمّا أوّلاً : فلأنّ ذلك هو عين ما أفاده الشيخ قدس سره ، لأنّ الشيخ لا يريد تقييد العام بالتمام وإنّما يريد تقييده في خصوص المورد الخاص وهو الارتداد ، فلا يكون الخارج هو الارتداد بقول مطلق ، بل الخارج إنّما هو ما لو كان خبر الواحد العادل فيه منفرداً ، فلا يكون القيد قيداً للعام بتمامه ، ولا يكون الخارج هو الارتداد بقول مطلق ، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله : وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء (1) فتأمّل. وحينئذ يتّجه عليه ما أفاده قدس سره في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ هذا القيد إن أخذ في الصغرى كان خلاف الواقع ، وإن أخذ في الكبرى كانت النتيجة حجّية البيّنة (2) ، فتأمّل ، لإمكان الجواب عنه من قبل الشيخ بأن نقول إنّ هذا القيد لا نأخذه في الصغرى ولا في الكبرى ، وأقصى ما فيه أن تكون النتيجة مطلقة ، وهي حجّية خبر الواحد العادل في الارتداد ، لكن الإجماع أوجب تقييد تلك النتيجة بالانضمام ، إذ لا يكون ذلك أسوأ حالاً ممّا إذا ورد دليل بالخصوص يدلّ على حجّية خبر العادل في الارتداد ، فإنّه لا مانع من تقييده بحكم الإجماع بقيد الانضمام.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ذلك التزام بخروج المورد عن العموم الذي مفاده حجّية خبر العادل ، فإنّ مفاده حجّية البيّنة فيه. وإن شئت قلت : إنّ مورد العام هو الارتداد مع كون المخبر واحداً ، فإخراجه وإدخال الارتداد الذي يكون المخبر به متعدّداً إخراج للمورد وإدخال غيره.

ص: 416


1- فرائد الأُصول 1 : 272.
2- فوائد الأُصول 3 : 175.

قال : ونظير ذلك ما إذا ورد أكرم العلماء وعلم بخروج زيد النحوي لكونه فاسقاً ، فإنّ غاية ما يقتضيه العلم بخروج هذا الفرد هو تقيّد وجوب إكرام العالم النحوي بغير الفسق لا مطلقاً الخ (1).

لا يخفى أنّ العلم بكون علّة خروج زيد المذكور هي فسقه يوجب تقيّد العام بعدم الفسق ، إلاّأن يدّعى أنّ لفسق النحوي خصوصية توجب خروجه ، فيكون التقييد بعدم الفسق مختصّاً بخصوص النحويين دون غيرهم من العلماء ، كما نقول إنّ انفراد العادل في خصوص كون المخبر به هو الارتداد له خصوصية توجب خروجه عن عموم حجّية خبر العادل ، فيكون التقييد بعدم الانفراد - أعني الانضمام - مختصّاً بخصوص الارتداد.

ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن الإشكال ، لأنّ ذلك لو سلّم فإنّما يسلّم فيما إذا لم يكن محلّ التقييد هو مورداً لذلك العام كما في المثال المذكور ، أمّا لو كان مورداً لذلك العام كما فيما نحن فيه فهو في غاية الإشكال. ألا ترى أنّه لو تذاكر الصحابة بحضور النبي صلى اللّه عليه وآله في أنّه بماذا يثبت الارتداد على وجه يترتّب عليه الغارة والنهب والقتل والأسر ، فألقى إليهم النبي صلى اللّه عليه وآله هذه الجملة وهي : أنّ خبر العادل حجّة ، فهل يصلح لك أن تقول إنّا نقيّد حجّية خبر العادل في خصوص ذلك المورد بما إذا انضمّ إليه عادل آخر ، ونبقي العام على إطلاقه بالنسبة إلى غيره من الموارد ، أم لابدّ لنا أن نقول إنّ العلم الخارجي بأنّ خبر العادل وحده في الارتداد غير مقبول يوجب تقييد ذلك العام في تمام موارده.

وهذه الجهة وهي لزوم تقييد العام هي المنشأ في الإشكال ، وإلاّ فلو ورد دليل يدلّ بالخصوص على حجّية خبر العادل في الارتداد ، فلا مانع من تقييده

ص: 417


1- أجود التقريرات 3 : 190.

بعدم الانفراد والانضمام فيما لو قام دليل آخر يدلّ على اعتبار الانضمام ، هذا كلّه فيما لو كان المورد هو مجرّد خبر الارتداد.

أمّا لو أخذنا في المورد الانفراد ، كما لو أخبرهم عادل واحد بارتداد طائفة من الناس ، فألقى النبي صلى اللّه عليه وآله هذه الجملة وهي : أنّ خبر العادل حجّة ، فلو قيّدناه بالانضمام كان من إخراج المورد الذي هو خبر العادل منفرداً ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ مورد المنطوق هو كون المخبر بالارتداد واحداً ، ومحصّل المنطوق هو أنّه لو كان ذلك المخبر الواحد فاسقاً فليس بحجّة ، وبناءً على وحدة المفهوم مع المنطوق في المورد يكون مورد ذلك المفهوم هو إخبار الواحد بالارتداد ، وأنّه لو كان ذلك المخبر الواحد عادلاً فهو حجّة ، وحينئذ يقبح التقييد في خصوص ذلك المورد ، لأنّ مرجعه إلى إخراج خبر العادل المنفرد ، وهو من قبيل إخراج المورد.

والظاهر أنّه لا مانع من تقييد المفهوم بتمامه مع بقاء إطلاق المنطوق بحاله ، كما عرفت في مثل « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » إذا قام الدليل على أنّ القليل الوارد على النجاسة لا يتنجّس بها ، وإنّما الكلام في جعل التقييد مختصّاً بخصوص أحد مصاديق المفهوم الذي كان ذلك المفهوم مورداً له ، فإنّ قيام الدليل على تقييد ذلك المصداق يوجب تقييد المفهوم بتمامه ، لقبح تقييد مورد العام كما يقبح إخراجه ، بل قد عرفت أنّ التقييد بمثل الانضمام فيما نحن فيه عبارة أُخرى عن الاخراج ، لأنّ مرجعه إلى عدم حجّية خبر الواحد العادل في ذلك المورد ، وأنّ الحجّة فيه إنّما هي البيّنة ، فتأمّل.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ المورد ليس هو مجرّد خبر الارتداد ، بل هو خبر الواحد بالارتداد ، فالالتزام بالتقييد بالانضمام ولو في خصوص المورد يوجب

ص: 418

خروج المورد عن العموم ، لأنّ المورد هو خبر الواحد بالارتداد لا مجرّد الإخبار بالارتداد ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث أو توضيحه : أنّ هذا الإجماع على عدم قبول إخبار العدل الواحد في مورد الآية الشريفة - أعني الارتداد - وقف عثرة في طريق استفادة حجّية خبر العادل الواحد من الآية الشريفة بطريق المفهوم ، فإنّا بعد البناء على أنّ مورد المفهوم هو مورد المنطوق ، يكون المفهوم كعام مستقل وارد في خصوص مورد الارتداد ، فلنفرض أنّ الشارع في مورد الإخبار بالارتداد أفاد هذا الحكم الكلّي ، وهو أنّ خبر العادل حجّة ، فإن التزمنا بخروج المورد المذكور عن هذا العموم لزم إخراج مورد العام ، وإن لم نلتزم بطريقة الاخراج وأردنا التخلّص من الإشكال بطريقة التقييد بالانضمام ، فإن جعلنا هذا القيد مأخوذاً في العام الذي هو الكبرى بناءً على إمكان التقييد في المفهوم مع بقاء المنطوق على إطلاقه كما عرفت من مثال الكرّ ، خرج العموم عن حجّية خبر العادل وصار مفاده حجّية البيّنة. وإن لم نأخذ هذا القيد في الكبرى ، بل أخذناه في خصوص المورد الذي هو الصغرى ، لم تكن الكبرى منطبقة على الصغرى.

لا يقال : إنّا لا نأخذ القيد في الصغرى ولا في الكبرى ، وأقصى ما في البين أن تكون النتيجة حينئذ هي حجّية خبر العادل في الارتداد ، وهذه النتيجة نقيّدها بالانضمام ، لأنّ الحكم الكبروي في المنطوق هو أنّ العمل مشروط بالتبيّن إذا كان المخبر فاسقاً ، وفي المفهوم أنّ العمل غير مشروط بالتبيّن إذا كان المخبر عادلاً ، فتكون النتيجة أنّ خبر العادل في الارتداد لا يشترط فيه التبيّن ، ومقتضى هذا الاطلاق في هذه النتيجة أنّه يكون مقبولاً بقول مطلق ، وأنّه يجب العمل به بلا تبيّن ، فيكون حاصل ذلك الاطلاق هو حجّية خبر العادل بالارتداد ، لكن الإجماع

ص: 419

قام على تقييد هذه النتيجة بالانضمام ، ويكون حال ما نحن فيه حال ما لو قال الشارع إنّ خبر العادل حجّة في الارتداد ، فإنّه لا مانع من جعل الإجماع المذكور موجباً لتقييد ذلك القول بالانضمام.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّ ذلك غير صحيح حتّى في مثل المثال ، لأنّ قيد الانضمام يقلب المسألة من حجّية خبر العادل إلى حجّية البيّنة ، ففي الحقيقة أنّ ذلك التقييد إلغاء لمفاد القول الأوّل وهو حجّية خبر العادل ، وموجب لقلب المسألة من حجّية خبر العادل إلى حجّية البيّنة.

وثانياً : لو سلّمنا صحّة ذلك التقييد فيما فرض من المثال ، أعني قوله خبر العادل حجّة في الارتداد ، فلا نسلّم صحّته فيما نحن فيه من ذكر الحكم العام في ذلك المورد ، لأنّه مستهجن ، بل لعلّه في الاستهجان مساوٍ لتخصيص المورد ، إذ مع فرض كون حجّية خبر العادل مقيّدة بالانضمام في خصوص المورد ، يكون ذكر ذلك الحكم الكبروي في المورد لغواً ، إذ لا يكون حكم المورد مأخوذاً من ذلك العام الذي هو حجّية خبر العادل بقول مطلق.

نعم ، لو كان بعض أفراد العام الذي هو غير مورده مقيّداً بقيد خاص ، لم يكن في ذلك مانع من تقييد النتيجة فيه ، كما إذا قال أكرم العلماء ، وعلمنا من الخارج أنّ زيداً بخصوصه لا يجب إكرامه في حال سفره ، وإنّما يجب إكرامه في حال حضره لخصوصية فيه لا تسري إلى غيره ، فلا مانع من القول ببقائه تحت وجوب الإكرام لكنّه في حالة مخصوصة وهي ما لو كان حاضراً دون ما لو كان مسافراً ، لكن ذلك لا ربط له بما نحن فيه ، لأنّ زيداً المذكور لم يكن مورداً للعام ، بخلاف ما نحن فيه ممّا يكو ن محل التقييد هو مورد العام الذي ورد فيه ، فإنّ ذكر العام فيه يكون لغواً ، إلاّأن يدّعى أنّ الفائدة فيه راجعة إلى غير المورد ممّا يكون

ص: 420

خبر العادل فيه حجّة غير محتاج إلى الانضمام. وفيه تأمّل ، لأنّ ذكر العام حينئذ لا يكون بياناً لحكم المورد. وفيه تأمّل ، إذ لم يتّضح الفرق بين كون المحتاج إلى التقييد هو المورد وحده وبين كون الجميع محتاجاً إلى التقييد حتّى المورد ، مثل ما لو ورد أكرم العلماء في مورد السؤال عن الفقيه ثمّ بعد ذلك ورد التقييد بأن قال : أكرم العلماء إن كانوا عدولاً ، أو قال : لا تكرم فسّاق العلماء. هذا كلّه لو كان المورد هو مجرّد الإخبار بالارتداد.

أمّا لو كان المورد هو خبر الواحد بالارتداد ، وأنّه إذا كان المخبر الواحد فاسقاً فلا يقبل ، وإذا كان ذلك المخبر الواحد عادلاً فيقبل ، فلا يكون التقييد بالانضمام إلاّإخراجاً لمورد العام الذي هو خبر الواحد العادل ، فتأمّل. هذا كلّه مضافاً إلى ما عرفت من كون مصبّ العموم منطوقاً ومفهوماً هو الإخبار بالارتداد كما عرفته فيما تقدّم (1) ، فتأمّل.

والذي تلخّص من هذه المباحث : أنّ إشكال خروج المورد لا يندفع بما أفاده شيخنا قدس سره ولا بما أفاده الشيخ قدس سره ، لكن قد تقدّم (2) أنّ إشكال خروج المورد لا مجال له لو تمّت الطريقة السابقة التي ذكرناها في الجواب عن إشكال معارضة المفهوم بعموم التعليل ، فراجع.

ولكن الاعتماد عليه لا يخلو عن تأمّل ، فالمتعيّن في جواب الإشكال هو ما أفاده الشيخ قدس سره ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من رجوع المفهوم إلى حجّية البيّنة لامكان الجواب عنه بأنّ المفهوم إنّما هو حجّية خبر العادل ولزوم الأخذ به وعدم طرحه ، فإن كان مورده الأحكام فلا إشكال ، وإن كان مورده الموضوعات

ص: 421


1- في الصفحة : 406 وما بعدها.
2- في الصفحة : 406.

الخارجية كان الحكم بلزوم الأخذ به مقيّداً بانضمام عادل آخر إليه ، والتقييد وإن أوجب إلحاقه بالبيّنة ، إلاّ أنّه في خصوص كون مورده هو الموضوعات دون الأحكام.

قوله : وما ربما يقال من أنّ الآيات الناهية مختصّة بصورة التمكّن من العلم وبما عدا البيّنة ، وبعد تخصيصها بذلك تنقلب النسبة بينها وبين المفهوم إلى العموم من وجه ... الخ (1).

يمكن القول بأنّه لا دليل على خروج صورة عدم التمكّن من العلم عن الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّ مجرّد عدم التمكّن من تحصيل العلم لا يوجب حجّية الظنّ ، بل يكون المرجع هو ما تقتضيه الأُصول العملية ، كما في موارد فقد النصّ ونحوه. وكذلك لو تمّت مقدّمات الانسداد من عدم إمكان الرجوع إلى الأُصول العملية وعدم إمكان الاحتياط ، ولكن قلنا بالحكومة ، فإنّ ذلك أيضاً لا يوجب القول بحجّية الظنّ. نعم لو قلنا بالكشف لكان ذلك موجباً للقول بحجّية الظنّ والخروج عن عموم الآيات الناهية واختصاصها بما عدا تمامية مقدّمات الانسداد على الكشف ، لكن تمامية تلك المقدّمات عبارة أُخرى عن عدم الدليل على حجّية خبر العادل ، فلا معنى للقول بأنّ الآيات المذكورة في هذه الصورة - أعني تمامية المقدّمات على الكشف - معارضة لما دلّ على حجّية خبر العادل ، لأنّ فرض الصورة المذكورة عبارة أُخرى عن عدم وجود ما يدلّ على حجّية خبر العادل ، فتأمّل.

مضافاً إلى إمكان القول بأنّ المخرج من عدم حجّية الظنّ لصورة عدم التمكّن من تحصيل العلم لو سلّم فإنّه حكم عقلي ، وقد تحقّق في محلّه أنّ

ص: 422


1- فوائد الأُصول 3 : 176.

المخصّص العقلي حكمه حكم المخصّص المتّصل ، فيكون موجباً لانقلاب النسبة.

وأمّا خروج البيّنة عن عموم الآيات فهو غير موجب لانقلاب النسبة بينها وبين ما دلّ على حجّية خبر العادل ، ألا ترى أنّ هذه العمومات بعد تخصيصها بالبيّنة لا تنقلب النسبة بينها وبين ما يدلّ على حجّية الشهرة.

إلاّ أن يقال : إنّ أدلّة حجّية خبر العادل شاملة لما إذا كان وحده ولما إذا انضمّ إليه عادل آخر ، وهذه الصورة - أعني صورة الانضمام - غير مشمولة للآيات الناهية بعد تخصيصها بالبيّنة ، فتكون النسبة حينئذ بين عموم الآيات وبين أدلّة حجّية خبر العادل عموماً من وجه ، لانفراد عموم الآيات بالشهرة مثلاً ، وانفراد حجّية خبر العادل بصورة الانضمام أعني البيّنة ، واجتماعهما في خبر العادل منفرداً.

لكن ذلك كلّه مبني على شمول أدلّة خبر العادل للبيّنة. وفيه تأمّل ، فإنّ الخارج من عمومات الآيات الناهية

هي صورة اعتبار الانضمام والاجتماع على وجه يكون المجموع حجّة واحدة لا حجّتين ، وهذه الصورة لا تتكفّلها أدلّة حجّية خبر العادل ، فإنّ مقتضاها هو كون صورة الانضمام من قبيل الحجّتين ، بمعنى أنّ كلّ واحد من الخبرين يكون حجّة في نفسه وجد الآخر أو لم يوجد ، وهذا المضمون أخصّ من العمومات المذكورة حتّى بعد إخراج البيّنة منها ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ معنى كون خبر العادل حجّة سواء انضمّ إليه عادل آخر أو لا ، هو كون الحجّية قائمة بخبر العادل ، وأنّه لا أثر لانضمام الآخر إليه ولا لعدمه ، فيكون متعرّضاً لحجّية الخبر لا البيّنة التي يعتبر فيها الانضمام. ولا محصّل للقول

ص: 423

بأنّ مفاد حجّية خبر الواحد هو أنّه حجّة سواء اعتبر فيه الانضمام أو لم يعتبر ، لكونه من قبيل التناقض ، لأنّ ما يعتبر فيه الانضمام لا يكون خبر الواحد حجّة فيه ، فلا يدخل تحت عموم حجّية خبر العادل.

أمّا الفتوى فلا إشكال في أنّ خروجها عن العمومات الناهية لا يوجب انقلاب النسبة بينها وبين أدلّة حجّية خبر العادل.

قوله : ومضافاً إلى معارضته بالإجماع الذي أخبر به الشيخ ... الخ (1).

لنفرض إجماع الشيخ وإجماع السيّد بمنزلة روايتين ، إحداهما رواية الشيخ أنّ خبر العادل حجّة ، والأُخرى رواية السيّد أنّ خبر العادل ليس بحجّة ، فهاتان الروايتان مع قطع النظر عن دليل آخر يدلّ على حجّية خبر العادل من الآية الشريفة ونحوها لا عبرة بهما كي يقال إنّهما متعارضان ، أمّا لو تمّت الأدلّة على حجّية خبر العادل من غيرهما كالآية الشريفة ونحوها ، فينبغي القطع بعدم شمول تلك الأدلّة لكلّ من خبري الشيخ والسيّد. أمّا الشيخ ، فلأنّ معنى حجّيته هو إثبات ما أخبر به ، والمفروض أنّ ما أخبر به الشيخ هو نفس الحجّية ، فتكون حجّية خبر الشيخ مثبتة لنفسها. وأمّا خبر السيّد فلما أُفيد من أنّ اعتباره يلزم [ منه ] عدم اعتباره. مضافاً إلى أنّ إخبار السيّد بعدم حجّية خبر العادل يكون إخباراً بعدم حجّية نفس إخباره بناءً على أنّ القضية شاملة لنفسها ، فيكون من قبيل كلّ خبري فهو كاذب.

ومع قطع النظر عن ذلك كلّه نقول : إنّ هذين الإخبارين من قبيل [ ما ] لو قال لك زيد إنّ جميع ما يخبرك به عمرو فهو صادق ، ثمّ قال لك عمرو إنّ كلّ ما حدّثك به زيد فهو كاذب ، فيلزم من الحكم بصدق قول زيد كذبه ، فلا يمكن

ص: 424


1- فوائد الأُصول 3 : 177.

الحكم بشمول قول زيد المذكور لذلك القول من عمرو ، إذ لو شمله لزم من الحكم بصدق زيد كذبه ، فيكون حال إخبار الشيخ بالنسبة إلى إخبار السيّد كحال قول زيد بالنسبة إلى قول عمرو ، فتأمّل.

قوله : الأوّل : دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار بالواسطة ، وهذا الوجه ضعيف غايته ، فإنّه لا موجب للانصراف. مع أنّ كلّ واسطة من الوسائط إنّما تخبر عن الخبر السابق عليها ، فكلّ لاحق يخبر عن سابقه بلا واسطة ... الخ (1).

فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في توجيه دعوى الانصراف هو أنّ ظاهر مفهوم الآية الشريفة هو أنّه إذا جاءكم العادل بنبأ فصدّقوه ، والمفروض أنّ هذه الوسائط لم يتحقّق فيها مجيء العادل بالنبأ لنا.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ مثل هذا الظرف لم يكن قيداً معتبراً في حجّية خبر العادل ، بل إنّ تمام الموضوع هو نفس إخبار العادل ، وحكمه هو الحجّية أو لزوم التصديق ، وهذا الحكم يتبع واقع الإخبار وإن لم يكن إخباراً لنا ، بل هو إخبار لنا بواسطة إخبار الشيخ الذي جرت في حقّه الحجّية.

قوله : ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني ، وهو دعوى أنّه لا يترتّب على خبر الوسائط أثر شرعي يصحّ التعبّد به ... الخ (2).

توضيح ذلك : هو أنّ هذه الوسائط وإن كان كلّ واحد منها مخبراً ، وكان لكلّ خبر منها أثر شرعي ، وهو الحجّية أو لزوم التصديق ، إلاّ أنّ مجرّد هذا الأثر الشرعي لا ينفع في تطبيق دليل حجّية الأمارة ما لم يترتّب عليه أثر عملي ، والمفروض أنّ الأثر العملي لا يترتّب على إخبار هذه الوسائط ، وإنّما يترتّب الأثر

ص: 425


1- فوائد الأُصول 3 : 177.
2- فوائد الأُصول 3 : 177 - 178.

العملي على إخبار من يحكي عن نفس الإمام عليه السلام بلا واسطة ، وهو الصفّار في المثال المفروض ، دون من تأخّر عنه في سلسلة السند.

وفيه : أنّه يكفي في صحّة تطبيق دليل الحجّية للأمارة ترتّب الأثر العملي على مؤدّاها وإن كان بألف واسطة ، فيكفي في ترتّب الأثر العملي على حجّية إخبار الشيخ ومن بعده من الوسائط هو كونه مقدّمة إعدادية للعمل الحاصل بإخبار الأخير وهو الصفّار.

والأولى في جواب الإشكال الأوّل وهو دعوى الانصراف هو الالتزام بالانصراف المذكور ، لكنّه إن كان بمعنى أن يكون ما أخبر به المخبر إخباراً عنه بلا واسطة ، فلا ريب في أنّ كلّ واسطة إنّما يخبر باخبار من قبله وهو إخبار له بلا واسطة ، وإن كان بمعنى أنّ إخباره لنا بلا واسطة ، فلا ريب في أنّ إخبار الشيخ إخبار لنا بلا واسطة ، أمّا إخبار المفيد فهو أيضاً إخبار لنا بلا واسطة ، غايته أنّه إخبار لنا بالتعبّد ، نظير ما لو قامت البيّنة بأنّ المفيد أخبرنا.

أمّا الإشكال الثاني ، وهو أنّه لابدّ من أثر يترتّب على المخبر به فنلتزم به أيضاً ، لكن نقول إنّ الأثر لا ينحصر بما يفيده قول الإمام عليه السلام من الحرمة أو الوجوب ونحو ذلك من الأحكام الشرعية ، بل الأثر هو الحكم الشرعي المترتّب على المخبر به ، وكلّ مخبر به في هذه الوسائط هو إخبار من قبله ، وهذا - أعني إخبار من قبله - له أثر شرعي وهو وجوب التصديق ، حتّى الخبر الأخير الذي ينقل قول الإمام عليه السلام فإنّ أثره وجوب التصديق ، ووجوب تصديقه هو عبارة عن الحكم بأنّ الإمام عليه السلام قال ذلك القول كما لو سمعناه منه عليه السلام ، وأثر ذلك هو وجوب الأخذ بمدلوله. والحاصل : أنّ المسألة لا تحتاج إلى أنّ أثر الأثر أثر ولو بألف واسطة ، فلاحظ.

ص: 426

قوله : الوجه الثالث : دعوى أنّه يلزم اتّحاد الموضوع بالحكم بالنسبة إلى الوسائط ... الخ (1).

توضيح هذا الإشكال وما بعده من الإشكالات يحتاج إلى مقدّمة : وهي أنّه لا ريب في كون كلّ واحد من هذه الإخبارات المتدرّجة موضوعاً للحجّية أو وجوب التصديق ، ولكن ذلك الوجوب أو الحجّية المجعولة لكلّ واحد من تلك الإخبارات هل هو حكم واحد وإن تعدّدت مصاديق موضوعه ، أو أنّ الحكم يتعدّد حسب تعدّد مصاديق موضوعه؟ ولا ريب أنّ الحقّ والتحقيق هو الوجه الثاني ، لكون القضية حقيقية انحلالية ، ولكن لو قلنا بالوجه الأوّل المفروض الفساد ، وأنّه لا يساعد عليه العرف والشرع والعقل ، ينفتح لنا أبواب وجهات من الفساد :

الجهة الأُولى : أن نقول إنّ إجراءنا هذا الحكم - وهو صدّق العادل - في حقّ المفيد ، وكذا من تقدّمه حتّى زرارة المتّصل بالإمام عليه السلام ، يتوقّف على إحراز كونه أعني المفيد مخبراً ، وإحراز كونه مخبراً إنّما يكون بواسطة وجوب تصديق الشيخ ، والمفروض أنّ وجوب التصديق في حقّ الشيخ هو عين وجوب التصديق في حقّ المفيد ، فيكون هذا الحكم أعني وجوب التصديق في حقّ المفيد محرزاً لموضوع نفسه ، ولا ريب في بطلانه ، لأنّ الحكم لا يحرز موضوع نفسه.

الجهة الثانية : أنّه موجب للدور ، لأنّ جريان هذا الحكم في حقّ المفيد يتوقّف على إحراز موضوعه وهو كون المفيد مخبراً ، وذلك - أعني كون المفيد مخبراً - يتوقّف على جريان هذا الحكم وهو وجوب التصديق في حقّ الشيخ ،

ص: 427


1- فوائد الأُصول 3 : 178 [ لا يخفى أنّ المذكور في المصدر هو : يلزم إثبات الموضوع ... وفي الطبعة القديمة : يلزم بلغات الموضور. وهو خطأ من الناسخ ].

والمفروض أنّ وجوب التصديق في حقّ الشيخ هو عين وجوب التصديق في حقّ المفيد ، فيكون الحاصل أنّ إجراء هذا الحكم في حقّ المفيد يتوقّف على نفسه.

لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) ما يظهر منه عدم تمامية الدور المذكور حتّى لو قلنا بوحدة الحكم ، لأنّ جريان الحكم في حقّ المفيد وإن توقّف على كونه مخبراً ، إلاّ أنّ كونه مخبراً لا يتوقّف على جريان الحكم في حقّ الشيخ. نعم إنّ إحراز كونه مخبراً يتوقّف على ذلك لا كونه مخبراً في الواقع. وعلى كلّ حال ، فهاتان الجهتان راجعتان إلى الإشكال في الواسطة بالنسبة إلى من تأخّر عنه ، فلا تجريان في حقّ الشيخ.

الجهة الثالثة : أن نقول إنّ جريان صدّق العادل في حقّ الشيخ يتوقّف على أن يكون ما أخبرنا به الشيخ ذا أثر ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به إنّما هو إخبار المفيد ، وأنّ أثره منحصر بهذا الحكم وهو صدّق العادل المفروض كونها في حقّ المفيد هي عين صدّق العادل في حقّ الشيخ ، فيكون جريان صدّق العادل في حقّ الشيخ متوقّفاً على نفسه.

وبتقريب آخر : أنّ جريان صدّق في حقّ الشيخ عبارة أُخرى عن الحكم بوجوب ترتيب الأثر الشرعي المجعول لما أخبرنا به ، فكان أثر ما أخبرنا به الشيخ موضوعاً للحكم في حقّه ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به وهو إخبار المفيد لا أثر له إلاّ نفس هذا الحكم وهو صدّق الذي هو بمعنى رتّب الأثر ، وحيث إنّ صدّق في ناحية المفيد هي عين صدّق في ناحية الشيخ ، ينتهي الأمر بالأخرة إلى أنّ موضوع الحكم في حقّ الشيخ وهو الأثر الشرعي يكون عين الحكم ، فكان الحكم عين

ص: 428


1- في الصفحة : 432.

موضوعه.

الجهة الرابعة : أن نقول إنّ جريان صدّق في حقّ الشيخ يكون موجباً لتحقّق كون المفيد مخبراً الذي هو موضوع وجوب تصديق المفيد ، فكان صدّق في حقّ الشيخ حاكماً على صدّق في حقّ المفيد ، لكون الأوّل موجباً لتحقّق موضوع الثاني ، نظير حكومة الأمارة القائمة على موت زيد بالنسبة إلى أدلّة قسمة مواريث الميّت. وإن شئت قلت : إنّه نظير حكومة « الطواف بالبيت صلاة » بالنسبة إلى أدلّة الصلاة.

وبعبارة أوضح : يكون [ صدّق ] في حقّ الشيخ محقّقاً لموضوع صدّق في حقّ المفيد ، فيكون صدّق الشيخ حاكماً على صدّق المفيد ، وحيث إنّهما واحد يكون المتحصّل أنّ الحكم الواحد حاكم على نفسه.

الجهة الخامسة : أنّه لو أخبرنا زيد بموت عمرو وحكمنا بلزوم قسمة ميراث عمرو ، كان دليل الحجّية في إخبار زيد حاكماً على ما دلّ على قسمة ميراث الشخص عند موته ، فإنّ إخبار زيد يكون محقّقاً لموت عمرو تعبّداً ، فيكون حاكماً على ما دلّ على قسمة الميراث بالموت ، أو ما دلّ على بقاء المال على ملكه ما دام في الحياة ، والأوّل حكومة محقّقة لموضوع الحكم ، والثانية رافعة لموضوع الحكم ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به الشيخ إنّما هو إخبار المفيد ، والأثر الواقعي اللاحق لإخبار المفيد هو وجوب التصديق ، فيكون صدّق في حقّ الشيخ محقّقاً لموضوع صدّق في حقّ المفيد ، ومع فرض اتّحاد الحكمين يكون الحكم الواحد حاكماً على نفسه ، وجوابه ما عرفت من التعدّد في هذه الأحكام.

وبالجملة : أنّ جميع هذه الإشكالات الخمسة إنّما نشأت من ذلك المبنى الفاسد ، وهو وحدة الحكم وعدم الانحلالية ، أمّا بناءً على ما هو الحقّ والتحقيق

ص: 429

من تعدّد الحكم حسب تعدّد مصاديق موضوعه ، فلا يتوجّه شيء من الإشكالات المزبورة.

قوله : ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه بناءً على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجّية ، أمّا بناءً على ما هو المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات ، فلا إشكال حتّى نحتاج إلى التفصّي عنه ... الخ (1).

فيه تأمّل ، فإنّ الظاهر أنّه لا فرق في توجّه هذا الإشكال الذي هو الإشكال الرابع بين كون المجعول هو الحجّية أو كون المجعول هو الأحكام التكليفية ، فإنّ انطباق دليل الحجّية على إخبار الشيخ يتوقّف على ترتّب الأثر على ما أخبرنا به ، والمفروض أنّه لا أثر لما أخبرنا به وهو إخبار المفيد إلاّالحجّية ، فإذا فرضنا أنّ الحجّية المجعولة لإخبار المفيد هي عين الحجّية المجعولة لإخبار الشيخ ، جاء الإشكال الرابع بحذافيره ، وهو كون أثر الحجّية في حقّ إخبار الشيخ مثلاً هو الحجّية نفسها ، أعني حجّية إخبار المفيد ، وهكذا.

وأمّا ما يظهر منه قدس سره في آخر الكلام من أنّه يكفي في ترتّب الأثر على حجّية إخبار الشيخ الانتهاء إلى العمل بقول الإمام عليه السلام وإن كان ذلك بتلك الوسائط ، ففيه : أنّ ذلك الأثر العملي الذي هو العمل بقول الإمام عليه السلام ليس أثراً ابتدائياً لإخبار الشيخ ولا لحجّية إخباره ، وإنّما يكون أثراً له بالواسطة ، حيث إنّ أثر الأثر أثر وحينئذ فلابدّ لنا أوّلاً من أن نصحّح أنّ حجّية إخبار المفيد تكون أثراً لحجّية إخبار الشيخ ، وهكذا إلى أن تتمّ الوسائط وينتهي الأثر إلى العمل بقول الإمام عليه السلام ، والمفروض أنّه يستحيل أن تكون حجّية إخبار المفيد أثراً لحجّية إخبار الشيخ ،

ص: 430


1- فوائد الأُصول 3 : 180 - 181.

فلا محيص حينئذ من الركون إلى ذلك الأمر المحقّق الذي هو تعدّد الأحكام بتعدّد مصاديق موضوعها ، فلا يكون مانع من كون حجّية إخبار المفيد أثراً لحجّية إخبار الشيخ ، لأنّ الثانية غير الأُولى ، هذا.

ولكن بقي في المقام إشكالان آخران لا يندفعان بما ذكرنا من انحلال القضية وتعدّد الأحكام حسب تعدّد مصاديق الموضوع :

الإشكال الأوّل : أن نقول : إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ جريان الحجّية أو صدّق العادل في حقّ الشيخ يكون موجباً لتحقّق إخبار المفيد ، وبعد تحقّق إخبار المفيد يجري فيه الحجّية ووجوب التصديق. وهذا الحكم في حقّ المفيد وإن كان هو غير الحكم في حقّ الشيخ ، إلاّ أنّه مترتّب عليه وواقع في طوله ، حيث إنّ الحكم إنّما يترتّب على موضوعه ، المفروض ترتّبه وطوليته بالنسبة إلى الحكم في حقّ الشيخ ، والظاهر أنّه لا يمكن الجمع في عبارة واحدة ، فإنّ العناوين الكلّية وإن أمكن أن تكون شاملة للأفراد الطولية ، مثل عنوان السبب والعلّة فإنّه شامل للأسباب والعلل المترتّبة التي يكون الأوّل منها سبباً وعلّة للثاني ، والثاني يكون سبباً وعلّة للثالث وهكذا ، إلاّ أنّ المطلب فيما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فإنّ الحكم وإن تعدّد حسب تعدّد مصاديق موضوعه ، إلاّ أنّ مجموع تلك الأحكام لا تكون منشأة إلاّبانشاء واحد ، ولا يعقل إيجاد الأحكام الطولية التي يكون كلّ واحد منها مولّداً لموضوع ما بعده بانشاء واحد.

وبالجملة : أنّ العنوان الكلّي الذي هو مورد الحكم وإن أمكن أن يكون شاملاً للأفراد الطولية ، إلاّ أنّ الأحكام الطولية لا يعقل انشاؤها بانشاء واحد ، ولذلك قالوا إنّه لا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بانشاء واحد كما في مثل كلّ شيء لك حلال أو طاهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل أعني

ص: 431

من قبيل الطولية بين الحكمين ، لما عرفت من كون صدّق المفيد في طول صدّق الشيخ ، فلا يعقل انشاؤهما بانشاء واحد.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّه مبني على الخلط بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، فإنّ حجّية الإخبار في كلّ واحد من هذه الوسائط تكون في مقام الثبوت تابعة لواقعها ، وليست حجّية المتأخّر معلولة لحجّية المتقدّم ، لأنّ كون المفيد مخبراً في الواقع وفي مقام الثبوت لا يتوقّف على حجّية إخبار الشيخ. نعم إنّ إثبات كون المفيد مخبراً يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ ، ولا ريب أنّ الحاكم في مقام جعل الحجّية إنّما يجعلها لواقع المخبرين ، لا للإخبار التعبّدي الثابت بحجّية إخبار من تأخّر عنه. ومن ذلك يتّضح لك الجواب عن :

الإشكال الثاني : وهو إشكال الدور ، بأن يقال : إنّ جريان الحجّية في حقّ إخبار المفيد يتوقّف على كونه مخبراً ، وكونه مخبراً يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ ، وجريان الحجّية في حقّ الشيخ يتوقّف على ترتّب الأثر على ما أخبرنا به وهو إخبار المفيد ، والمفروض أنّ أثر إخبار المفيد هو الحجّية ، فتكون النتيجة أنّ الحجّية في حقّ المفيد متوقّفة على نفسها.

والجواب عن هذا الدور واضح ممّا تقدّم في دفع الإشكال الأوّل ، فإنّ جريان الحجّية في حقّ المفيد وإن توقّف على كونه مخبراً في الواقع ، إلاّ أنّ كونه مخبراً في الواقع لا يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ. نعم إنّ إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على الحجّية في حقّ الشيخ ، لكن حجّية إخبار المفيد إنّما تتوقّف على كونه مخبراً في الواقع لا على إحراز كونه مخبراً.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عن إشكال آخر ربما يتوهّم في المقام بأن يقال : إنّ إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على حجّية إخبار الشيخ ، وحجّية إخبار

ص: 432

الشيخ يتوقّف على حجّية إخبار المفيد ، فكان إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على حكمه الذي هو حجّيته ، وقد تقدّم أنّه محال فيما تقدّم من الجهات السابقة.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ ما تقدّم من المحالية إنّما هو كون الحكم محقّقاً لموضوع نفسه ، وأمّا أنّ إحراز الموضوع يتوقّف على حكمه الواقعي فهذا ليس بمحال ، بل إنّ جميع الموارد التي يحرز بها موضوع الحكم ، سواء كان ذلك بأمارة أو أصل إحرازي ، يكون إحراز موضوع ذلك الحكم متوقّفاً فيها على الحكم ، لأنّه إذا لم يكن الموضوع ذا حكم واقعي لا يجري فيه دليل الإحراز فتأمّل.

قوله : الأمر الأوّل : كلمة « لعلّ » مهما تستعمل تدلّ على أنّ ما يتلوها يكون من العلل الغائية ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذا أعني تبعية ما بعد لعلّ الغائية لما قبلها في الحكم إذا كانت اختيارية ، إنّما يتمّ فيما لو كانت من أفعال فاعل ذي الغاية ، مثل قولك اقطع المسافة لعلّك تدخل المسجد ، أمّا إذا لم تكن من أفعاله بل كانت من أفعال غيره مثل قولك عظ زيداً لعلّه يتّعظ ، وقولك أخبره لعلّه يقبل منك ، أو لعلّه يعمل بما تخبره به ، فلا دليل على أنّه تابع في الحكم لما قبلها ، بل هو من قبيل الغاية غير الاختيارية بالنسبة إلى المخاطب بذي الغاية. وحينئذ لابدّ في دعوى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر الذي هو عبارة عن العمل من سلوك طريق آخر غير هذا الطريق الذي تضمّنته هذه المقدّمة ، وذلك مثل دعوى كون « لعلّ » في المقام دالّة على الوجوب ، أو لا أقل من حسن الحذر الملازم لوجوبه ، ونحو ذلك ممّا يذكرونه للدلالة على وجوب الحذر ، أمّا مجرّد أنّه لو لم يقبل الانذار لغى وجوبه ،

ص: 433


1- فوائد الأُصول 3 : 185.

فيمكن المناقشة فيه بما قيل من أنّه لو لم يكن القبول لازماً لم يكن وجوب الانذار لغواً ، إذ لعلّ حكمته كثرة المبلّغين ليحصل العلم للسامعين ، فتأمّل.

قوله : وأنت خبير بأنّه بعد ما عرفت من أنّ المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، فإنّه أيّ إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (1).

الأولى أن يقال : إنّه لا شكّ في ظهور الآية الشريفة في مدخلية الإنذار في وجوب الحذر ، والقيد الذي ينفى بالاطلاق هو ما لا يكون على تقدير اعتباره منافياً لمدخلية الانذار في وجوب الحذر ، كما لو احتملنا التقييد بعدالة المنذر ، أمّا ما يكون على تقدير اعتباره منافياً لتلك المدخلية فهو منفي بنفس ظهور الآية في المدخلية المزبورة ، وذلك مثل دعوى كون وجوب الحذر مقيّداً بحصول العلم ، فإنّ هذا القيد وهو حصول العلم لو كان معتبراً لكان وجوب الحذر ناشئاً عنه لا عن الانذار ، ولكان الانذار أجنبياً عن وجوب الحذر ، بحيث إنّه حينئذ لا يكون له المدخلية في وجوب الحذر ، ويكون ذكره من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان خصوصاً بالنظر إلى أنّ خبر الواحد بنفسه لا يفيد [ العلم ] ، وإنّما يفيده بواسطة القرائن الخارجية.

وهذا الجواب هو المتحصّل ممّا حرّرته عنه قدس سره وممّا أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا (2) ممّا أجاب به أوّلاً عن الإشكال المزبور. والجواب الثاني هو أنّ الحمل على صورة حصول العلم حمل على النادر. وفيه تأمّل ، فإنّ الخبر المفيد للعلم خصوصاً في العصر الأوّل هو الغالب. نعم بالنسبة إلى عصرنا

ص: 434


1- فوائد الأُصول 3 : 187.
2- أجود التقريرات 3 : 194.

بواسطة كثرة الوسائط وكثرة الوضّاعين وغير ذلك أوجب عدم حصول العلم بخبر الواحد.

ثمّ لا يخفى أنّ الالتزام بانحلال الطائفة إلى أفرادها إنّما هو من جهة إخراج المسألة عن التواتر المفيد للعلم أو عن البيّنة.

ولكن لا يخفى أنّ اتّفاق الطائفة على الخبر لا يوجب كونه متواتراً ، فإنّ الطائفة قد لا تكون واصلة إلى حدّ التواتر.

فالأولى أن يقال : إنّ المراد به هو إخراجه عن حدّ البيّنة ، وإن كان الذي يظهر ممّا حرّره عنه السيّد في المقدّمة الثالثة هو الفرار عن كون المنذر هو مجموع الطائفة ، لأنّ الحمل حينئذ على صورة إفادة العلم لا يكون حملاً على الفرد النادر ، بخلاف ما لو حملناه على كون المنذر هو الآحاد فإنّه يوجب الحمل على الفرد النادر ، فقد قال : الثالثة أنّ صدر الآية وهو قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) (1) وإن كان لا يأبى عن حمله على العموم المجموعي ، إلاّ أنّ قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا ) إلى آخره ، ظاهر في العموم الاستغراقي ، وأنّ الإنذار إنّما يكون بتفقّه كلّ واحد منهم الراجع إلى قومه الذي لا يحصل العلم من قوله غالباً (2).

وأمّا ما استشهد به الشيخ قدس سره (3) لاعتبار قيد العلم ، من استشهاد الإمام عليه السلام بالآية الشريفة لوجوب النفر على من كان في البلدان البعيدة عند وفاة الإمام ، ليطّلعوا على من نصّ عليه بعده ، ففيه أوّلاً : ما أشار إليه الشيخ نفسه في آخر كلامه (4)

ص: 435


1- التوبة 9 : 122.
2- أجود التقريرات 3 : 192.
3- فرائد الأُصول 1 : 280 - 282.
4- لاحظ فرائد الأُصول 1 : 286.

من أنّها أخبار آحاد ، فلا تصلح لصرف الآية عن ظاهرها. وثانياً : أنّها لا تعرض في الاستشهاد إلاّلوجوب النفر ، أمّا ما يكون الحكم بالنسبة إلى الباقين فلا تعرض له في الروايات المذكورة ، فتأمّل.

قوله : لأنّ قول المنذر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب اتّباع قوله والبناء على أنّه هو الواقع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كون الإنذار محرزاً للواقع إنّما هو آتٍ من ناحية وجوب العمل الذي قد عبّر عنه بوجوب الحذر ، فإذا فرضنا الشكّ في وجوب العمل من جهة الشكّ في كون ذلك الإنذار إنذاراً بالحكم الواقعي ، فكيف يمكننا إحراز كونه إنذاراً بالواقع بالحجّية الموقوفة على وجوب العمل.

وبالجملة : أنّ منشأ الإشكال هو كون الإنذار مقيّداً بكونه إنذاراً بالدين الذي مثلاً هو الوجوب الواقعي ، فإذا أخبرنا المنذر بأنّ الحكم هو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وقال لنا الشارع إنّه يجب عليكم التحذّر والعمل عند الإنذار بالوجوب الواقعي ، لقلنا إنّه لا يلزمنا العمل بهذا الإنذار للشكّ في كونه إنذاراً بالوجوب الواقعي. فمحصّل الإشكال : أنّ التمسّك باطلاق وجوب العمل يكون تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، كما قرّره في التحريرات المطبوعة في صيدا (2).

ومن هذا التقرير يظهر أنّه لا يمكن الجواب عنه بما أُفيد في التحريرات المذكورة من قوله : وجوابه أنّ إحراز كون الإنذار بما تفقّه في الدين أي بنفس الأحكام الشرعية ، إنّما يثبت بنفس وجوب التحذّر الدالّ على الحجّية ، لا مع قطع

ص: 436


1- فوائد الأُصول 3 : 188.
2- أجود التقريرات 3 : 195.

النظر عنه الخ (1).

لما عرفت من أنّ الإشكال إنّما هو في انطباق وجوب التحذّر على المورد للشكّ في كونه إنذاراً بالحكم الواقعي ، وليس المقام من قبيل ما أشار إليه بقوله : وهذه المغالطة إنّما نشأت من أخذ عقد الحمل في عقد الوضع الخ (2) إذ ليس منشأ الإشكال هو أخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، بل إنّما عمدة الإشكال هو كون الإنذار الذي يجب العمل عنده هو الإنذار والإخبار بالواقع ، والمفروض أنّ هذه الجهة المأخوذة قيداً في الموضوع - أعني كونه إنذاراً بالواقع - مشكوكة ، وليس لهذا القيد - أعني كونه إنذاراً بالحكم الواقعي - تعلّق بالمحمول الذي هو وجوب العمل ، كي يقال إنّه من قبيل أخذ المحمول قيداً في الموضوع.

بل يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في الصحيح والأعمّ من الإشكال ليس مبنياً على أخذ المحمول في الموضوع ، بل على الخلط بين المصداق والمفهوم ، فإنّ الأعمّي إنّما يقول بالوضع للجامع بين الواجد للجزء أو الشرط الفلاني والفاقد ، لا أنّه موضوع للقدر الجامع بين الصحيح والفاسد الذي هو المأمور به وغير المأمور به ، وحينئذ يكون مورد الشكّ مصداقاً لذلك القدر الجامع ، وبعد جريان الاطلاق فيه تثبت صحّته وأنّه مأمور به ، لا أنّ الأمر أو الامضاء متعلّق بالصحيح أو بالمأمور به.

فالأولى في الجواب هو دعوى تجريد الموضوع من القيد المذكور ، فإنّ حاصل القضية هو أنّه عند إنذار المنذر بالحكم الواقعي يجب العمل بذلك الإنذار وحينئذ فإن صرفنا وجوب العمل إلى نفس الواقع الذي أنذرنا به المنذر على أن يكون الإنذار مأخوذاً من قبيل الطريقية الصرفة بالنسبة إلى وجوب العمل ، لتأتّى

ص: 437


1- أجود التقريرات 3 : 195.
2- أجود التقريرات 3 : 195.

الإشكال بكونه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

مضافاً إلى أنّ هذا الوجوب - أعني وجوب العمل - لو كان تمام موضوعه هو الواقع لكان إرشادياً محضاً نظير وجوب الاطاعة ، بل هو هو بعينه ، فتخرج الآية حينئذ عن ظاهرها من كون الأمر المستفاد من كلمة لعلّ مولوياً كما لا يخفى.

وكذلك الحال لو أخذناه جزء الموضوع ، بأن كان الحكم وهو وجوب العمل مترتّباً على الواقع الذي أنذرنا به المنذر ، فإنّه أيضاً يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، ويكون إلقاء مثل هذا العموم لغواً ، ويكون الحكم منحصراً بصورة العلم بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون ذكر الإنذار من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان ، سواء أخذناه طريقاً صرفاً وأنّ الحكم وهو وجوب العمل مترتّب على الواقع ، أو أخذناه جزء الموضوع وأنّ الحكم وهو وجوب العمل مترتّب على الواقع المقيّد بالإنذار ، وحينئذ فالمتعيّن هو أخذ الإنذار بالنسبة إلى هذا - وهو وجوب العمل - تمام الموضوع ، فلا يكون التمسّك باطلاق وجوب العمل حينئذ عند الشكّ المذكور تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ كون المخبر به هو الواقع إنّما هو بالقياس إلى نظر المخبر لا بالقياس إلى نظر المنقول له ، فإنّك لو قلت لزيد : إن حدّثك عمرو عن الواقع فصدّقه ، يكون محصّله هو كون إخباره عن الواقع في نظره شرطاً في وجوب تصديقه ، وأين هذا من لزوم إحراز كونه عن الواقع بالنسبة إلى المنقول إليه.

تنبيه : أنّ أساس ما ذكر في تقريب دلالة الآية الشريفة على حجّية خبر الواحد ، هو كون الحذر بمعنى العمل على ما أنذر به المنذر على أنّه هو الواقع. ويمكن المناقشة في ذلك بأخذ الحذر على معناه الأصلي ، وهو التحذّر والتحرّز

ص: 438

عن الوقوع في خلاف الواقع وهو الاحتياط ، فينطبق على الاحتياط ، فلو قلنا بدلالة الآية على وجوبه عند الإنذار لم يكن فيها أزيد من وجوب الاحتياط عند الإنذار ، وأين هذا من الحجّية.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه لا معنى للحذر الاحتياطي ، لحكم العقل بقبح العقاب بدون بيان ، فلابدّ من صرفه إلى الحذر الحجّتي ، كما ربما يستفاد ذلك ممّا حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي قدس سره فإنّه قال في تقريبات دلالة الآية ما هذا لفظه (1) : الثالث : أنّه رتّب الحذر على الانذار فلابدّ أن يكون الانذار حجّة ، إذ مع عدم الحجّية لا معنى للحذر ، لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان الخ ، فإنّه ربما يستفاد منه أنّه مع فرض عدم حجّية الإنذار يكون الاحتياط ساقطاً ، لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ العقل وإن حكم بقبح العقاب بلا بيان عند عدم الحجّة ، إلاّ أنّ الشارع إذا حكم بوجوب التحذّر والاحتياط في خصوص مورد الانذار ، كان ذلك وارداً على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ لا تكون الآية الشريفة دالّة على حجّية الانذار ، بل أقصى ما فيها هو الدلالة على وجوب الاحتياط عنده.

ولم أجد من تعرّض للإشكال بذلك على الاستدلال بهذه الآية الشريفة لحجّية خبر الواحد ، لكن راجعت التبيان فوجدت الشيخ قدس سره يومئ إليه أو يصرّح به ، فالأولى نقل عبارته قدس سره برمّتها ليتّضح مراده للقارئ.

قال قدس سره : واستدلّ جماعة بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ، بأن قالوا : حثّ اللّه تعالى الطائفة على النفور والتفقّه حتّى إذا رجعوا إلى غيرهم

ص: 439


1- حسبما حرّرته عنه في درس ليلة الأحد 25 ذي القعدة سنة 1339 [ منه قدس سره ].

لينذروهم ليحذروا ، فلولا أنّه يجب عليهم القبول منهم لما وجب عليهم الإنذار والتخويف ، والطائفة تقع على جماعة لا يقع بخبرهم العلم ، بل تقع على واحد ، لأنّ المفسّرين قالوا في قوله تعالى : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) : إنّه يكفي أن يحضر واحد.

وهذا الذي ذكره ليس بصحيح ، لأنّ الذي يقتضيه ظاهر الآية وجوب النفور على الطائفة من كلّ فرقة ، ووجوب التفقّه والإنذار إذا رجعوا. ويحتمل أن يكون المراد بالطائفة الجماعة التي يوجب خبرهم العلم (2).

ولو سلّمنا أنّه يتناول الواحد أو جماعة قليلة ، فلِمَ إذا وجب عليهم الإنذار وجب على من يسمع القبول ، واللّه تعالى إنّما أوجب على المنذرين الحذر ، والحذر ليس من القبول في شيء ، بل الحذر يقتضي وجوب البحث عن ذلك حتّى يعرف صحّته من فساده بالرجوع إلى الأدلّة ، ألا ترى أنّ المنذر إذا ورد على المكلّف وخوفه من ترك النظر ، فإنّه يجب عليه النظر ولا يجب عليه القبول منه قبل أن يعلم صحّته من فساده ، وكذلك إذا ادّعى مدّعٍ النبوّة وأنّ معه شرعاً وجب عليه أن ينظر في معجزه ، ولا يجب عليه القبول منه وتصديقه قبل أن يعلم صحّة نبوّته ، فكذلك لا يمتنع أن يجب على الطائفة الإنذار ويجب على المنذرين

ص: 440


1- النور 24 : 2.
2- قلت : وكأنّ شيخنا المرتضى قدس سره [ في فرائد الأُصول 1 : 282 ] أخذ إشكاله الأوّل من هذه الجملة وحاصله : أنّ الآية مسوقة لوجوب التفقّه والإنذار ، وليست مسوقة لوجوب التحذّر والعمل بما ينذر به المنذر ، فلا يكون إطلاقه في الآية مسوقاً في مقام البيان من هذه الجهة ، أعني جهة وجوب التحذّر والعمل ، كي ينتفي بذلك الاطلاق احتمال مدخلية العلم في وجوب العمل [ منه قدس سره ].

البحث والتفتيش حتّى يعلموا صحّة ما قالوه فيعملوا به ، وقد استوفينا الكلام في ذلك في كتاب أُصول الفقه لا نطوّل بذكره هنا (1). انتهى كلامه قدس سره ورفع مقامه.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نقطع بأنّ الآية الشريفة أجنبية عن جعل الاحتياط ، فإنّه إن كان المدار فيه على مجرّد الاحتمال كان ذكره عقيب الإنذار لغواً إلاّباعتبار كونه أحد مثيرات الاحتمال ، وهو بعيد جدّاً لا يناسب سوق الآية الشريفة ، بل يمكن القول إنّ جعل الاحتياط الشرعي بعيد عن الذوق في آيات الأحكام والتشريع. وأمّا وجوب الفحص والنظر في المعجزة ونحو ذلك ممّا استشهد به قدس سره ، فالظاهر أنّه أجنبي عن سوق الآية الشريفة ، فتأمّل. وكأنّه لأجل هذه الجهات تسالموا على الظاهر على أنّ المراد بالحذر في الآية الشريفة هو العمل على طبق الإنذار على أنّه الواقع.

قوله : ولا فرق في الفتوى والرواية في أنّ كلاً منهما يشتمل على التخويف ضمناً ، فإنّ الإخبار بالوجوب يتضمّن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب ... الخ (2).

وحينئذ تكون الآية شاملة لكلّ من الفتوى والرواية ، ولكن قرينة التفقّه لعلّها توجب الاختصاص بالفتوى. وقد تصدّى قدس سره لدفع هذه الشبهة في الدورة الأخيرة بما حاصله : أنّ التفقّه والاجتهاد في الصدر الأوّل لا يحتاج إلاّإلى إثبات الصدور ، وإعمال الأُصول العقلائية المشخّصة للظواهر ونحوها ممّا يسهل أمره ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه قدس سره : وهو أنّ التفقّه عبارة عن تعلّم أحكام الدين ، وهو كما يتأتّى في حقّ المجتهد بإعمال قواعد السند والأُصول الجهتية ، فكذلك يتأتّى من

ص: 441


1- التبيان 5 : 322 - 323.
2- فوائد الأُصول 3 : 188 - 189.

الراوي ، إذ لا يحتاج إلى إعمال قواعد صحّة السند ، لكونه بالنسبة إليه قطعياً ، وإنّما يحتاج إلى إعمال الأُصول الجهتية وأصالة الظهور ، وأمرهما سهل بالنسبة إلى أهل اللسان خصوصاً بالنسبة إلى الصدر الأوّل ، وبذلك يتمّ دلالة الآية الشريفة على حجّية خبر الواحد وعلى حجّية فتوى المجتهد ، انتهى. وإن شئت فراجع ما حرّره السيّد في تحريره (1).

ولكن الظاهر أنّ جميع من يروي عنهم عليهم السلام وكذلك من يروي عنه صلى اللّه عليه وآله كلّهم رواة غير مجتهدين ، لأنّ السند عندهم قطعي والظهور ثابت عقلائي ، وهذا الأخذ بالظهور ليس باجتهاد ، بل أقصى ما فيه أنّه يوجب صحّة النقل بالمعنى ، وأين هذا من الاجتهاد الذي يحتاج إلى إعمال القواعد والتخلّص من التعارض وغير ذلك.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإخبار عن الرأي غير الإخبار عن الحس ، والآية لابدّ أن تكون مسوقة لأحدهما وهي بالإخبار أشبه منها بالاجتهاد ، فلا دلالة لها على حجّية الفتوى ، بل هي مختصّة بما جرت به العادة من النقل والروايات ، غايته التوسعة إلى النقل بالمعنى دون مسألة إعمال الرأي ، ولا ينافي صدق التفقّه لغة ، إذ لا مانع من صدقه على الرواية والسماع من المعصوم عليه السلام.

وبالجملة : أنّ عنوان التفقّه اللغوي لا يختصّ بالمجتهد ، بل هو متأت من الراوي ، حتّى الذي ينقل اللفظ بنصّه يصدق عليه أنّه متفقّه لغة ، فضلاً عمّن ينقل بالمعنى باعتبار أنّه فهم منه ما هو ظاهر فيه لكلّ أحد استناداً إلى الأُصول العقلائية بحيث إنّه يصحّ نسبة ما استفاده من اللفظ إلى المعصوم بطريق القول ، كما حقّقه

ص: 442


1- أجود التقريرات 3 : 192.

شيخنا في الدلالة التصديقية (1).

نعم ، هناك شبهة أُخرى لدعوى اختصاص الآية الشريفة بالفتوى ، وهي ما أشار إليه الشيخ قدس سره بقوله : توضيح ذلك : أنّ المنذر إمّا أن ينذر ويخوّف على وجه الافتاء - إلى قوله : - وإمّا أن ينذر ويخوّف بلفظ الخبر - إلى قوله : - وأمّا الثاني فله جهتان : إحداهما جهة تخويف وإيعاد ، والثانية : جهة حكاية قول من الإمام عليه السلام ، ومن المعلوم أنّ الجهة الأُولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلاّعلى من هو مقلّد له ، إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه ، وأمّا الجهة الثانية فهي التي تنفع المجتهد الآخر - إلى قوله - والآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف الخ (2) ، فراجع كلامه قدس سره.

وهذه الشبهة قد حرّرها الأُستاذ العراقي قدس سره في مقالته المطبوعة ، فقال بعد تقريب الاستدلال ما هذا لفظه : وفيه أنّ إشراب جهة التخويف في الإنذار يلازم لكون جهة فهم المنذر دخيلاً فيه ، وهو يناسب مقام الفتوى والتقليد وأجنبي عن مقام حجّية خبر شخص لا يعرف معناه ، بل يحكي ما سمعه من ألفاظه ، بداهة انصراف الإنذار عن مثله ، وحينئذ ليس وجه الإشكال من هذه الجهة إلاّانصراف الإنذار عن حيث الحكاية ، واختصاصه بحيث التخويف المنوط بفهمه حتّى في صورة اجتماع جهة الحكاية مع التخويف ، بحيث تكون الحكاية المخصوصة متضمّنة للتخويف ، فضلاً عن مورد افتراق الحكاية عنه كما أشرنا إليه بالمثال ، وحينئذ فالجواب عن هذا الإشكال بأنّ التخويف أعمّ من الصراحة والضمنية

ص: 443


1- راجع فوائد الأُصول 3 : 140.
2- فرائد الأُصول 1 : 284 - 286.

أجنبية عن مصبّ الإشكال (1).

ونزيده بياناً أنّه لو أخبرك الراوي بأنّ الإمام قال ادع عند رؤية الهلال ، وكان الراوي قد فهم منه الوجوب ، وقد أنذرك وحذّرك من تركه بكلّ ما في وسعه من الوعظ والتحذير ، لكنّك بعد أن أخذت منه متن الرواية لم تفهم منها الوجوب ، بل قد فهمت منها كون الأمر للتهديد مثلاً ، وأنّ الحاصل هو حرمة الدعاء عند رؤية الهلال ، فهل ترى من نفسك أنّك عامل بما أنذرك به وحذّرك منه ، كلاّ ثمّ كلاّ ، وحينئذ فلو كان مفاد الآية مقصوراً على وجوب الحذر ، أعني العمل على طبق إنذار المنذرين ، كان محصّلها أنّه يجب عليك الأخذ بما ارتآه ذلك الناقل لا بنفس المتن الذي رواه ، وليس ذلك إلاّعبارة عن التقليد ، هذا.

ولكنّه قدس سره كان في درسه قد تعرّض للإشكال المزبور ، وأجاب عنه حسبما نقلته عنه في تحريراتي عن درسه (2) بما هذا لفظه : إلاّ أنّ عمدة الكلام أنّ هذه الجهة المأخوذة في مفهومه هل لها الدخل في ترتّب الخوف عليه ليكون من قبيل الفتوى ، أو أنّها أجنبية عن ذلك ، فيكون المدار في الخوف على مجرّد الإخبار بالواقع؟ صورة الآية الشريفة يعطي الأوّل ، حيث إنّ مقتضى (3) أن يكون الإنذار بتمام مفهومه له الدخل في ذلك ، ولكنّا إذا رجعنا إلى وجداننا الحاكم بعدم مدخلية علم المنذر في تحقّق الخوف ، وأنّ تمام المناط فيه هو الواقع المخبر به ، لا نستفيد من الآية إلاّترتّب الخوف على نفس الإخبار عن الواقع من دون مدخلية لجهة اعتقاد المنذر بما أنذر به ، فلا تكون الآية الشريفة ظاهرة إلاّفي ذلك ،

ص: 444


1- مقالات الأُصول 2 : 97 - 98.
2- ليلة الثلاثاء 27 ذ ق سنة 1339 [ منه قدس سره ].
3- [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

فتكون حينئذ دالّة على حجّية سائر الإخبارات ، لوجود المناط فيها وهو الحكاية عن الواقع ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

والأولى أن يجاب بما أشرنا إليه ، وهو أنّ كلّ الرواة يفهمون معنى ما ينقلونه على وجه يسوغ لهم النقل بالمعنى ونسبته إلى المعصوم عليه السلام بطريق القول كما حقّقه شيخنا قدس سره في الدلالة التصديقية (1).

ويكون نقلهم اللفظ مساوياً لنقلهم المعنى ، ويكون ما سمعه هو عين ما فهمه بالنسبة إلى غالب الرواة ، بل كلّهم. ولا فرق في ذلك بين أن يقال في مقام إبداء حجّية نقله : اعمل بما نقله وسمعه ، أو أن يقال : اعمل بما أنذرك به ممّا فهمه من لفظ المعصوم ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ لأهل اللسان يعدّ من المحسوسات العرفية ، ويكون نقله عن المعصوم عليه السلام كنقل نفس ما تلفّظ به عليه السلام ، وحاصله

ص: 445


1- والظاهر أنّ النقل عن النبي صلى اللّه عليه وآله ومن بعده منهم عليهم السلام كلّه من قبيل النقل بالمعنى ، كما هي عادة نقلة الفتاوى في زماننا. نعم لمّا جاء دور كتابة الحديث وهو في أواخر [ عصر ] الأئمّة المعصومين ، كان الغالب هو نقل الألفاظ وضبطها بالكتابة ، وقد ذكر الشيخ قدس سره في أثناء الكلام على الطوائف من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد أنّ : منها ما ورد في ترخيص النقل بالمعنى [ فرائد الأُصول 1 : 308 ] وهذه المسألة - أعني مسألة النقل بالمعنى - قد تعرّض لها الأُصوليون منّا في ذيول مسألة حجّية خبر الواحد ، وتعرّض لها الرجاليون أيضاً ومنهم المرحوم الحاج الشيخ عبد اللّه المامقاني قدس سره في مقباس الهداية [ 3 :1. 238 ] وذكر فيها أقوالاً ثمانية ، وذكر تلك الأخبار التي أشار إليها الشيخ قدس سره فراجعه. وفي التقريرات عن الشيخ قدس سره [مطارح الأنظار 433:2] في أوائل مسألة اشتراط الحياة في المفتي ما هذا لفظه : و من هنا منع من الفتوی بعض من لم يمنع من الرواية معنی، بل لعلّ النقل بالمعنی ممّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا ، فإنّ المخالف في هذه المسألة أبوبكر الرازي وأتباعه ، فراجعه [منه قدس سره].

حجّية النقل بالمعنى.

أمّا المثال الذي ذكره وكذلك المثال الذي ذكرناه فهما من الأفراد النادرة التي لا عبرة بها ، فلابدّ من إلحاقهما بغيرهما من الغالب الكثير الشائع ، وإجراء الحجّية عليهما بالنسبة إلى المتن المنقول ، والإعراض عن كون الراوي لم يفهم منه شيئاً ، أو أنّه قد فهم منه ما هو خلاف ما فهمناه نحن ، فتأمّل.

ومن جميع ذلك يظهر لك أنّ ما في الكفاية وكذلك فيما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في تحرير إشكال الشيخ قدس سره ليس كما ينبغي ، فإنّ عمدة إشكال الشيخ قدس سره هو ما عرفت من جهتي الإنذار في نقل الرواية ، وأنّ الآية الشريفة إنّما هي مسوقة للحجّية من الجهة الأُولى ، أعني جهة إنذاره الراجعة إلى فهمه من الرواية ، دون الجهة الثانية الراجعة إلى النقل المحض. وليس مراد الشيخ قدس سره أنّ الراوي لا إنذار في روايته كي يجاب بأنّه يمكنه الإنذار وحاله حال نقلة الفتوى كما في الكفاية (1) وكما في درر المرحوم الشيخ عبد الكريم (2) ، أو أنّ إخباره بالرواية الدالّة على الوجوب إنذار كما حرّرناه عن شيخنا قدس سره ، بل إنّ جلّ إشكال الشيخ قدس سره هو ما عرفت من الجهتين في الراوي المنذر ، وأنّ الآية متكفّلة بالحجّية من الجهة الأُولى وهي جهة الرأي ، دون الثانية وهي جهة النقل والحكاية الصرفة.

والذي ينبغي في الجواب عنه هو ما عرفت من أنّ هذه الجهة - أعني الجهة الأُولى - ليست براجعة إلى الفتوى ، بل هي راجعة إلى نقل المضمون الذي نعبّر عنه بالنقل بالمعنى ، وهي بواسطة سهولة فهم المعاني للمخاطبين من أهل اللسان تكون عبارة أُخرى عن النقل والحكاية ، ولا تخرجه عن حيّز الناقلين إلى منزلة

ص: 446


1- كفاية الأُصول : 299.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 391.

المجتهدين والمفتين ، فراجع وتأمّل ، فإنّ الآية الشريفة وردت خطاباً لأُولئك الأعراب الذين لا يعرفون إلاّالنقل عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، ولا يعرفون الرأي والاجتهاد ، غايته أنّهم يتوسّعون كجاري العادي في المحاورات ، فينقلون المضامين التي يفهمونها من كلامه صلى اللّه عليه وآله وينسبونها إليه بطريق القول ، ولا يجمدون على نقل نفس اللفظ الذي سمعوه منه صلى اللّه عليه وآله ، بل ربما لا يبقى في ذاكرتهم نصّ اللفظ إلاّما قلّ ممّا يكون من جوامع الكلم كالقواعد الكلّية ، مثل لا ضرر ولا ضرار ، ومثل : ما جنته العجماء جُبار (1) ، ونحو ذلك من القواعد الكلّية المشتملة على ضروب من البلاغة التي يحافظون على خصوصيات ألفاظها لبلاغتها واختصارها ، ولأجل ذلك قال الفخر - من علماء العامّة - في حديث « الخراج بالضمان » (2) في أُصوله : إنّ هذا الحديث من جوامع الكلم لا يجوز نقله بالمعنى ، حسبما نقله المرحوم الشيخ محمّد حسن - عن بعض (3) من نقله عن الفخر - في حاشيته على المكاسب (4) فيما يتعلّق بهذا الحديث في مسألة ما يضمن بصحيحه.

ثمّ إنّ الأُستاذ العراقي قدس سره بعد أن فرغ في مقالته من عبارته السابقة قال : هذا مضافاً إلى إمكان دعوى إهمال الآية من حيث اقتضاء الإخبار ولو متضمّناً للتخويف علماً أو ظنّاً ، فلا إطلاق فيها على وجه يشمل الخبر غير العلمي (5).

قلت : قد تقدّم الجواب عن هذا الإشكال بما حاصله نصوصية الآية

ص: 447


1- جُبار : أي هدر ، راجع لسان العرب 4 : 116 مادّة ( جبر ).
2- سنن البيهقي 5 : 321.
3- راجع الأشباه والنظائر : 150 / القاعدة العاشرة : الخراج بالضمان.
4- غاية الآمال 5 : 128.
5- مقالات الأُصول 2 : 98.

الشريفة في كون الإنذار له مدخلية في الجملة في وجوب الحذر ، ولو قيّدناه بالعلم كان تمام التأثير للعلم ، وكان ضمّ الإنذار إليه كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان. وهذا الجواب قد أوضحه هو في درسه على ما حرّرته عنه في درس ليلة الأحد 25 ذ ق سنة 1339 فراجعه (1) ، وهو الذي أجاب به شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه (2) وفيما حرّره عنه السيّد أوّلاً في تحريراته طبع صيدا كما مرّ نقله (3).

نعم قد يقال : إنّ الإنذار يكون سبباً للعلم ، والعلم سبب للعمل ، وحينئذ يكون للإنذار مقدار من المدخلية ، وذلك هو ما أشار إليه الشيخ قدس سره بقوله : فالمعنى لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا ، الخ (4).

وحينئذ يكون محصّل الآية الشريفة أنّه يجب النفر ليترتّب عليه التفقّه ، ليترتّب عليه الإنذار ، ليترتّب عليه العلم ، ليترتّب عليه العمل. ولا يخفى أنّ ذلك ليس من قبيل التقييد ، بل من قبيل توليد واسطة بين الإنذار والعمل ، وظاهر الآية خلافه ، فإنّها رتّبت العمل على الانذار ، هذا.

مضافاً إلى أنّ خبر الواحد بما أنّه خبر واحد لا يعقل أن يكون مفيداً للعلم بنفسه كما أفاده شيخنا قدس سره ، بل إنّ حصول العلم عنده لا يكون إلاّمن قرائن خارجية أجنبية عن نفس خبر الواحد ، وبناءً عليه لا تكون هذه الواسطة المحذوفة صحيحة في حدّ نفسها وهي ترتّب العلم على الإنذار ، فتأمّل.

ثمّ قال في المقالة : وتوهّم أنّ الآية بعمومها الاستغراقي تدلّ على إنذار كلّ

ص: 448


1- مخطوط ولم يطبع بعد.
2- مخطوط ولم يطبع بعد.
3- في الصفحة : 434.
4- فرائد الأُصول 1 : 282.

واحد واحد فلا مجال لنفي الاطلاق ، الخ (1).

هذا كسابقه تعريض بما أفاده شيخنا قدس سره ، وقد عرفت (2) أنّ الظاهر أنّ شيخنا قدس سره إنّما التزم بالانحلالية فراراً من دعوى أنّ إخبار الطائفة لعلّه من قبيل التواتر أو من قبيل البيّنة ، كما يمكن أن يكون فراراً عن دعوى كون الغالب في إخبار الطائفة هو حصول العلم فينزل على الغالب ، بخلاف إخبار الفرد منها فإنّ حمل الاطلاق فيه على صورة حصول العلم حمل على النادر ، كما يظهر ممّا حرّره عنه السيّد في المقدّمة الثالثة (3).

وكيف كان ، فإنّ ما سلكه في المقالة في الردّ على هذا الانحلال من عدم ثبوت الاطلاق الأحوالي ، وأنّه يحتمل كون وجوب الإنذار الوارد على كلّ فرد من الطائفة مقيّداً بانضمام الباقين إليه لا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً : فلإمكان القول بأنّ التقييد بالانضمام يقلب العموم من الاستغراقية إلى المجموعية ، وهو خلف لما هو الفرض من الاستغراقية.

وأمّا ثانياً : فلأنّه لا مجال لإنكار هذا الاطلاق الأحوالي ، فإنّ أساس هذا الانحلال هو قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (4) ولا ريب في أنّ وجوب التفقّه على كلّ واحد من أفراد الطائفة ليس منوطاً بتفقّه الباقين ، فلا يكون وجوب الإنذار على كلّ واحد منها منوطاً بإنذار الباقين ، بل يكون الإنذار واجباً على كلّ واحد منهم بقول مطلق ، كما في البيّنة فإنّه يجب على كلّ من الشاهدين أداء

ص: 449


1- مقالات الأُصول 2 : 98.
2- في الحاشية المتقدّمة صفحة : 434 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 3 : 192.
4- التوبة 9 : 122.

الشهادة وإن لم يشهد الآخر ، غايته دلّ الدليل على اعتبار البيّنة وأنّه لو شهد أحدهما دون الآخر لم تقبل شهادته ، بمعنى عدم حكم الحاكم على طبقها ، فإنّ ذلك بالدليل الخاصّ والآية الشريفة خالصة من هذا الدليل وناطقة بوجوب العمل على إنذار المنذر ، ولم يكن فيها تقييد بأنّ وجوب العمل به مشروط بانضمام غيره إليه بعد فرض الانحلال المزبور.

وثالثاً : أنّ مناسبة الحكم والموضوع قاضية بعدم احتمال التقييد المزبور ، لأنّ الميزان في وجوب الإنذار هو إبداء ما عند المنذر المتفقّه من العلم بالأحكام ، ومن الواضح أنّ هذا الوجوب لا يناط بإبداء الآخرين ما عندهم من ذلك العلم ، ولأجل ذلك ، الاحتمال مقطوع العدم لو قلنا بأنّ الآية الشريفة مسوقة لبيان الفتوى وحجّيتها ، فتأمّل.

قوله : والإنصاف أنّ التتبّع في هذه الأخبار يوجب القطع باعتبار الخبر الموثوق به (1).

محصّل ما أفاده قدس سره في الدورة الأخيرة في وجه ذلك الانصاف : هو أنّ تلك الروايات الكثيرة متواترة إجمالاً ، فإنّ التواتر إمّا لفظي أو معنوي أو إجمالي. أمّا اللفظي فواضح ، وأمّا المعنوي فهو إمّا عبارة عن النقل بالمعنى أو عبارة عن اشتراك الأخبار الكثيرة في الدلالة الالتزامية على معنى واحد ، كما مثّلوا لذلك بما تواتر من شجاعة أمير المؤمنين ( صلوات اللّه وسلامه عليه ). والظاهر أنّ الأوّل راجع إلى التواتر اللفظي ، وانحصار التواتر المعنوي بالثاني. وأمّا التواتر الاجمالي فليس هو إلاّعبارة عن اشتراك الأخبار الكثيرة في قدر جامع يقطع بصدوره عنهم عليهم السلام. وهذا القسم أرجعه قدس سره كما في تحريرات السيّد إلى التواتر المعنوي

ص: 450


1- فوائد الأُصول 3 : 191.

لرجوعه إلى اتّفاق الروايات في القدر ، وإلاّ فلا وجه للعلم بصدور البعض مع احتمال عدم الصدور في كلّ واحد.

قال السيّد في تحريراته : ولكنّه لا يخفى أنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت ، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله ، فهو راجع إلى التواتر المعنوي ، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز كذب كلّ واحد منها في حدّ نفسه ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فالحقّ هو انحصار التواتر في القسمين الأوّلين لا غير (1).

قلت : أمّا ما أفاده من رجوع الأخبار المتّفقة على قدر جامع إلى التواتر المعنوي فواضح ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ تلك الطوائف متّفقة في قدر جامع وهو حجّية الخبر في الجملة.

وأمّا ما أفاده من عدم إمكان حصول العلم بصدور البعض فيما إذا لم يكن بينها قدر جامع ، ففيه تأمّل ، لشهادة الوجدان بحصول العلم الاجمالي بصدور بعض ما هي من الكثرة بحيث يقطع بعدم كذب الجميع وإن لم ترجع إلى القدر الجامع ، لأنّ الرجوع إلى قدر جامع لا أثر له في حصول القطع بصدور البعض ، وإنّما المنشأ فيه هو الكثرة الموجبة لحصول القطع بصدور البعض ، بحيث إنّها لأجل كثرتها ينسد فيها باب احتمال كذب الجميع ، لا لأجل سبب اتّفاقي مثل أن يتّفق العلم بصدور أحد الخبرين.

والذي ينبغي أن يقال في التواتر الاجمالي هو ما يأتي إن شاء اللّه تعالى من دعوى العلم الاجمالي بصدور الكثير ممّا بأيدينا من الروايات الموجودة في كتبنا المعروفة ، فإنّها على كثرتها لا يمكن تطرّق الاحتمال إلى أنّ جميعها لم يصدر.

ص: 451


1- أجود التقريرات 3 : 197.

كما أنّا لا يمكننا الجزم بأنّ الجميع صادر ، بل أقصى ما في البين هو العلم الاجمالي بصدور الكثير أو الأكثر ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الكلام على ما يقتضيه هذا العلم الاجمالي (1).

وكيف كان ، فإنّي قد راجعت القوانين والفصول ومقباس الهداية للمرحوم المامقاني ، فلم أعثر على ذكر التواتر الاجمالي في أقسام التواتر ، فإنّ صاحب القوانين قدس سره (2) قد أكثر من تقسيمات التواتر ولكن لم يذكر منها التواتر الاجمالي ، فما أدري من أين جاء هذا الاصطلاح الذي أشارت إليه الكفاية (3).

وأمّا هذا الذي ذكرناه من العلم بصدور الكثير فيما بأيدينا من الكتب فهو وإن كان ناشئاً عن الكثرة ، لا أنّه سبب اتّفاقي مثل أن نعلم إجمالاً بصدور أحد هذين الخبرين ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخرج [ عن ] العلم الاجمالي بصدور البعض ، غايته أنّه ناشٍ عن الكثرة المانعة من احتمال كذب الجميع ، وهذا المقدار لا يدخله في أقسام التواتر ، لكن لا مشاحة في الاصطلاح.

وكيف كان ، فإنّ كلّ واحد من هذه الطوائف أو لا أقل من مجموعها يحصل القطع بأنّ بعضها قد صدر عنهم عليهم السلام ، فلابدّ من الأخذ بما هو أخصّها مضموناً. وبعد التأمّل في كلّ واحد من تلك الروايات لا نجد ما هو أخصّها مضموناً إلاّما دلّ على اعتبار وثاقة الراوي ، مثل ما ورد في التعارض من قوله عليه السلام وكلّهم ثقة (4) ، ومثل ما ورد في الارجاع كقول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه

ص: 452


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 495 وما بعدها.
2- قوانين الأُصول 1 : 426 وما بعدها.
3- كفاية الأُصول : 302.
4- وسائل الشيعة 27 : 122 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 41.

معالم ديني (1) ، ومثل الرواية الآمرة بالرجوع إلى العمري وابنه (2). ولا ريب أنّ وثاقة الراوي إنّما اعتبرت من حيث الطريقية للوثوق بصدور ما رواه عن المعصوم عليه السلام ، وبذلك يتمّ ما عليه المتأخّرون من حجّية كلّ خبر يوثق بصدوره ، ولو لأجل انجبار ضعفه بالشهرة الجابرة.

وأمّا رواية الاحتجاج التي ذكرها الشيخ قدس سره (3) فلا تدخل فيما نحن فيه ، لأنّ ظاهرها كونها في مقام التقليد. على أنّ بعض فقراتها صريحة في مجرّد اعتبار عدم العلم بفسق الراوي ، فراجع ما أفاده الشيخ قدس سره في الكلام عليها وتأمّل.

ولا يخفى أنّه بعد هذا البيان الذي أفاده قدس سره لا يحتاج إلى ما في الكفاية بقوله : وقضيّته وإن كان حجّية خبر دلّ على حجّيته أخصّها مضموناً ، إلاّ أنّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دلّ على حجّية ما كان أعمّ ، فافهم (4) فإنّه على الظاهر تصوير محض ، وإلاّ فإنّا لو بنينا على أنّ في تلك الروايات ما اعتبر الصحيح الأعلائي لسقطت الفائدة ، إذ ليس لنا في جملة تلك الروايات ما هو من قبيل الصحيح الأعلائي وقد دلّ على حجّية ما هو أعمّ ، ولعلّ قوله قدس سره : فافهم ، إشارة إلى ذلك ، فتأمّل فإنّ فيه إشكالاً آخر ، وهو أنّ ما هو أخصّ مضموناً إنّما يثبت حجّية خبر الواحد الصحيح الأعلائي فيما يكون مؤدّاه غير الحجّية ، أمّا ما يكون مؤدّاه هو الحجّية نفسها ، فلا يعقل أن يكون ما دلّ على حجّيته شاملاً للأخبار التي يكون مؤدّاها نفس الحجّية ، لأنّ لازم ذلك هو كون

ص: 453


1- وسائل الشيعة 27 : 147 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 33 ( مع اختلاف يسير ).
2- وسائل الشيعة 27 : 138 / أبواب صفات القاضي ب 11 ح 4 وغيره.
3- فرائد الأُصول 1 : 302 وما بعدها.
4- كفاية الأُصول : 302.

الحكم عين موضوعه وإن كان بنحو أعمّ فتأمّل ، فإنّ هذا نظير ما قدّمناه في الحاشية على ص 62 (1) من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا تشمل الإجماع المنقول عن الشيخ في حجّية خبر الواحد. وبعبارة [ أُخرى ] أنّ دليل حجّية خبر الواحد لا يشمل الخبر الواحد الدالّ على حجّية خبر الواحد.

قوله : بل يكفي عدم الردع عنها ... الخ (2).

قال السيّد في تحريراته : وأمّا احتمال الاحتياج إلى الامضاء وعدم كفاية عدم الردع فضعيف لا يعبأ به ، إلاّأن يراد من الامضاء مطلق الرضا حتّى المستكشف من عدم الردع ، فيرجع النزاع لفظياً (3).

قلت : لم أتوفّق لمعرفة الوجه في هذه الكلمات ، فإنّ الأثر لو كان مترتّباً على نفس الردع ، بحيث إنّه يكون بمنزلة النسخ ، لم يكن لنا معنى محصّل لاشتراط اتّصال السيرة بزمن المعصوم ، ولا لاشتراط تمكّنه عليه السلام من الردع. وممّا يترتّب على كون الردع بنفسه مؤثّراً وكونه من قبيل النسخ ، أنّه لو كان كذلك لكان استصحاب عدمه كافياً في الأخذ بمقتضى السيرة ، بخلاف ما لو كان الأثر مترتّباً على عدمه بما أنّه كاشف عن الرضا ، الذي ربما عبّرنا عنه بالامضاء السكوتي مع التمكّن من الردع لكان الاستصحاب المذكور مثبتاً ، فإنّ لازم عدم الردع الامضاء والرضا. بل ربما لم يكن ذلك لازماً ، لإمكان استناد عدم الردع إلى عدم التمكّن منه.

والحقّ أنّ السيرة على الحجّية ونحوها محتاجة إلى الامضاء ولو سكوتياً

ص: 454


1- التي تقدّمت في الصفحة : 424 من هذا المجلّد.
2- فوائد الأُصول 3 : 193.
3- أجود التقريرات 3 : 201.

كاشفاً عن عدم الردع مع التمكّن منه ، وإلاّ لم تكن الحجّية شرعية ، ولا يكفي مجردّ كونها حجّة عقلائية ، فتأمّل وراجع ما حرّرناه في حواشي ص 44 وما بعدها (1) وتأمّل.

نعم ، يمكن الركون إلى أصالة عدم الردع عمّا جرت عليه السيرة العقلائية في طريقة خاصّة مأخوذة من بعض مباحث دليل الانسداد ، وذلك بأن يقال : إنّ الشارع المقدّس قد جعل لنا أحكاماً ، ولا يصحّ منه أن لا يجعل لنا طرقاً توصلنا إلى تلك الأحكام ، إذ لا يحسن منه جعل الحكم وإيكالنا في الوصول إلى ذلك الحكم إلى ما يحكم به العقل من الاحتياط الناشئ عن الاحتمال أو عن العلم الاجمالي ، لما حقّق في محلّه من بطلان ذلك.

وحينئذ لابدّ أن يكون الشارع المقدّس قد جعل لنا طرقاً توصلنا إلى أحكامه ، إمّا تأسيساً أو إمضاءً لبعض ما جرت عليه الطريقة العقلائية من الطرق المتعارفة عندهم ، وحيث إنّه لم يقع ذلك التأسيس ولا الامضاء لطريق معيّن من الطرق العقلائية ، يكون ذلك إيكالاً منه لنا إلى جميع ما بأيدي العقلاء من الطرق ، ولو احتملنا أنّه قد ردع عن بعض معيّن من تلك الطرق كما صنع في القياس ، كان ذلك الردع عبارة أُخرى عن احتمال ما يشبه النسخ بالنسبة إلى ذلك الطريق ، فتكون أصالة العدم جارية فيه ولا تكون مثبتة ، لما عرفت من أنّه بعد فرض أنّه لم يؤسّس لنا طريقاً ولم يمض طريقاً معيّناً من تلك الطرق العقلائية يكون عدم ذلك التأسيس وعدم ذلك الامضاء إمضاءً لكلّ ما جرت به الطريقة العقلائية ، فلم يبق إلاّ احتمال أنّه حصل منه الردع بالنسبة إلى هذا الطريق الخاصّ العقلائي من بين

ص: 455


1- الحاشية على ص 44 تقدّمت في الصفحة : 361 - 362 من هذا المجلّد ، وتأتي بعدها عدّة حواشٍ ، ولعلّ محلّ الشاهد منها ما ذكره قدس سره في الصفحة : 373 وما بعدها.

تلك الطرق العقلائية المتكثّرة ، فيكون مورداً لأصالة عدم الردع.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة في أصالة عدم الردع إنّما تجري بعد فرض إحراز أنّ الشارع لم يؤسّس لنا طريقاً جديداً ، ولم يمض طريقاً خاصّاً من هذه الطرق العقلائية ، كما يقال ذلك في الأُصول العقلائية اللفظية من أنّ الشارع لم يبتكر له طريقة خاصّة في تفهيم مراداته ، فيكون ذلك منه اعتماداً وإيكالاً إلى الأُصول العقلائية اللفظية المرادية ، فلم يبق إلاّاحتمال الردع عن أصل خاصّ من الأُصول العقلائية مثل أصالة الحقيقة ، فيكون مورداً لأصالة عدم الردع.

أمّا إذا كان كلّ من التأسيس وإمضاء بعض الطرق الخاصّة محتملاً ، وشككنا في طريق خاصّ من الطرق العقلائية ، فلا يمكننا الاعتماد على ذلك الطريق الخاص استناداً إلى دخوله تحت السيرة العقلائية ، إلاّبأصالة عدم جعل تأسيسي أو إمضائي لغير ذلك الطريق ممّا يكون وافياً بتلك التكاليف الواقعية ، ومن الواضح أنّ هذا الأصل لا يثبت لنا أنّ ذلك الطريق الخاصّ قد أمضاه الشارع إلاّ على الأصل المثبت ، وإن كانت هذه الجهة لو تمّت بالقطع بأن يحصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يؤسّس طريقاً جديداً ولم يمض طريقاً خاصّاً من تلك الطرق العقلائية ، لجرينا على طبق الطريقة العقلائية بالنسبة إلى ذلك الطريق ، إذ لم يبق إلاّ احتمال الردع عنه بالخصوص ، فينفى بأصالة عدم الردع ، ولا يكون الأصل المذكور مثبتاً ، لأنّه يكون من مقولة أصالة عدم النسخ من دون حاجة فيه إلى إثبات الامضاء.

وإن شئت قلت : إنّه من قبيل أصالة عدم المانع ، حيث إنّ المقتضي للامضاء - وهو إيكال الشارع إلى الطريقة العقلائية - قد تحقّق ، وإنّما وقع الشكّ في المانع من ذلك وهو الردع ، فالأصل عدمه. ولكنّه أيضاً من الأُصول المثبتة كما

ص: 456

حقّق في محلّه.

وكون الردع من قبيل النسخ ممنوع أشدّ المنع ، لأنّ ذلك إنّما يكون إذا كانت السيرة بنفسها حجّة ، وأنّ الردع يكون رافعاً لحجّيتها كما في الأحكام المنسوخة من الشرائع السابقة أو من شريعتنا ، ومن الواضح أنّ حجّية السيرة ليست من ذلك القبيل ، وأنّ المرجع في الحجّية إنّما هو الشارع ، وأنّها إنّما تكون حجّة بامضائه ، فتكون حجّيتها من المجعولات الشرعية غايته إمضاءً ، وحينئذ فالحقّ هو ما تقدّم ذكره من أنّ السيرة وحدها لا تثبت الحجّية إلاّمع القطع بالامضاء ، أو مع القطع بعدم الردع في مورد الاتّصال والتمكّن من الردع ، فتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ أصالة [ عدم ] الردع إنّما يترتّب عليها الأثر فيما لو كان جريان السيرة على الشيء غير محتاج إلى إمضاء خاصّ من الشارع ، إمّا للبناء على أنّ بناء العقلاء في نفسه حجّة بلا حاجة إلى إمضاء من الشارع ، وإمّا لصدور الامضاء العام من الشارع بالنسبة إلى كلّ ما جرت عليه سيرة العقلاء ، فإنّه حينئذ يكون الردع عن بعض ذلك بمنزلة المخصّص ، نظير ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم النحويين ، فإذا شككنا في النهي عن الصرفيين مثلاً يكون المحكّم أصالة عدم النهي إن لم تكن أصالة عدم التخصيص جارية ، ففي مثل ذلك فيما نحن فيه يكون مورداً لأصالة عدم النهي - أعني الردع - ويترتّب عليه [ الامضاء ] ، لكن لا محصّل في مثل ذلك للقول بأنّه لابدّ أن تكون السيرة متّصلة بالمعصوم ، وأنّها بمنظر منه ومسمع ، وأنّه متمكّن من الردع عنها ولم يردع.

وهذا بخلاف ما لو كان ما جرت عليه السيرة محتاجاً إلى إمضاء ، فإنّه لا أثر فيه للردع إلاّباعتبار كون تركه في مقام التمكّن يكون إمضاء ، فلو شككنا في تمكّنه من الردع لا محصّل فيه لأصالة عدم الردع ، ومع إحراز ذلك يكون أصالة

ص: 457

عدم الردع مثبتاً ، هذا فيما لو كان ما جرت عليه السيرة محتاجاً إلى الامضاء من الشارع ، كما لو كان ما جرت به السيرة من مخترعاتهم المحتاجة إلى إمضاء من الشارع.

ومنه يظهر الحال فيما لو لم يكن ما جرت به السيرة من مخترعاتهم ، بل كان جريان سيرتهم عليه كاشفاً عن أنّهم أخذوه من الشارع ، كما عرفت في سيرة المسلمين بما أنّهم مسلمون ، بناءً على كون ذلك كاشفاً عن أنّهم أخذوه من الشارع ، نظير كشف الإجماع عنه ، فلا ريب في عدم الاعتماد في مثل ذلك على أصالة عدم الردع ، إذ لا أثر لعدم الردع في ذلك إلاّباعتبار كون عدم إنكاره عليهم ملازماً لأنّهم أخذوه منه ، فيكون حاله أسوأ من عدم الردع الكاشف عن الامضاء والرضا بما اخترعوه من أنفسهم ، فإنّ القطع بعدم الردع في هذه الصورة مع تمكّنه منه يوجب القطع بالامضاء والرضا بما جروا عليه ، وهذا بخلاف ما يكون من سيرة المسلمين كاشفاً عن أخذه من المعصوم ، فإنّ القطع بعدم ردعهم لا يكون نافعاً في إثبات ذلك الأخذ ، ما لم يكن نفس سيرتهم وحسن الظنّ بهم كاشفاً في حدّ نفسه عن أنّهم أخذوه منه عليه السلام.

وعلى أي حال ، لابدّ في سدّ باب الردع في المقامين من القطع بعدمه وأصالة عدم الردع غير مجدية في كلّ منهما.

قوله : ولو سلّم أنّه يمكن تحقّق السيرة بلا أمر منه ، فلا أقل من أنّها تكشف عن رضاه ، وإلاّ كان عليه الردع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ سيرة المسلمين بما أنّهم مسلمون لابدّ أن تكون كاشفة عن الأخذ منه عليه السلام ، فلا يحتمل الردع عنها ، ولو لم تكن كاشفة عن الأخذ منه عليه السلام فلا

ص: 458


1- فوائد الأُصول 3 : 192.

تكون من قبيل سيرة المسلمين ، بل هي سيرة العقلاء ، غايته أنّها سيرة طائفة خاصّة من العقلاء ، وهذه يحتمل الردع عنها ، وهي تحتاج إلى الامضاء ولو بعدم الردع مع التمكّن منه.

أمّا الأُولى فلا تحتاج إلى إمضاء ، بل هي كاشفة عن الأخذ منه عليه السلام ، ولا يجتمع احتمال الردع مع هذا الكشف ، فتأمّل. وحينئذ فلا يكون حال هذه السيرة إلاّ حال الإجماع في كونه كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام في أنّه غير مربوط بالامضاء ، ولا بالردع أو عدم الردع.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في بعض كلماتهم في بعض الفروع الفقهية ، مثل استدلالهم على الحكم بطهارة الصغير في يد آسره المسلم ، وعلى طهارة بعض آلات العصير ونحو ذلك بالسيرة ، يعني سيرة المسلمين ، ويناقشون في تلك السيرة هل هي متّصلة بالمعصوم عليه السلام ، وهل كان يتمكّن من الردع ولم يردع ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي لا تناسب كون حجّية السيرة من باب الكشف عن رأي المعصوم ، وإنّما تناسب السيرة العقلائية باعتبار توقّفها على الامضاء أو على عدم الردع.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ مدرك حجّية سيرة المسلمين وإن كان هو الكشف عن أخذهم من المعصوم عليه السلام ، إلاّ أنّها لو كانت متأخّرة عن زمانه لم تكن كاشفة عن الأخذ منه. وكذلك الحال فيما لو [ كانت ] متّصلة بزمانه لكنّه لم يكن متمكّناً من الردع ، لأنّ تلك السيرة أيضاً لا تكون كاشفة عن رأيه عليه السلام ، لجواز كونها مخالفة لرأيه ، لكنّه لم يتمكّن من الانكار عليهم بما حاصله أنّي لم أقل هذا القول ، فمن أين جئتم به ، فلاحظ.

أمّا التفصيل الذي أُفيد في الإجماع فلا يخلو من غموض ، حيث إنّ

ص: 459

الإجماع العملي في المسألة الفرعية مثل جلسة الاستراحة إن كان من المقلّدين فهو كاشف عن فتوى من يقلّدونه ، وإن كان من المجتهدين فهو كاشف عن رأي إمامهم عليه السلام نعم إنّ المواظبة عليها هل يكشف عن وجوبها ، أو أنّ ذلك لا يدلّ إلاّ على استحبابها مثلاً ، وهذا عين الإشكال في إجماعهم على العمل بخبر الواحد في عدم كشفه عن الوجه في حجّيته.

قوله : نعم لا يبعد الحاجة إلى الامضاء في باب المعاملات ، لأنّها من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الاطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع ، كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان ب- « البيمة » ، فإنّها إذا لم تندرج في عموم ( أَحَلَّ اللّهُ ) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحو ذلك فلا يجوز ترتيب آثار الصحّة عليها (1).

لم أتوفّق لمعرفة الخصوصية في باب المعاملات التي أوجبت الحاجة فيها إلى الامضاء وعدم الاكتفاء بعدم الردع مع التمكّن منه ، المفروض كونه إمضاء لما جرت عليه السيرة.

وما أفاده من تعليل ذلك بأنّها من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها الخ ، ليس هو من خواص المعاملات ، بل هو جارٍ في كلّ أمر شرعي أردنا إثباته بالسيرة ، فإنّ حجّية قول الثقة - مثلاً - أيضاً من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها ، بحيث لو كان المعتبر للحجّية هو غير الشارع لكنّا محتاجين إلى إمضاء الشارع لها ، فلو كان عدم الردع مع التمكّن منه كافياً في الامضاء كان كافياً فيها وفي المعاملات ، وإن لم يكن كافياً لم يكن كافياً فيهما.

ص: 460


1- فوائد الأُصول 3 : 193.

وكذلك لم أتوفّق لمعرفة الوجه فيما فرّعه على ذلك من عدم صحّة المعاملات المستحدثة مثل « البيمة » ، فإنّ الظاهر أنّ الكلام في المعاملات المستحدثة ليس مبنيّاً على مسألة [ أنّ ] السيرة العقلائية الجارية على المعاملة يكفي فيها عدم الردع أو لابدّ من الامضاء ، إذ لا ريب في أنّ السيرة العقلائية إنّما تكون حجّة إذا كانت متّصلة بزمان المعصوم عليه السلام وكان عليه السلام متمكّناً من الردع عنها كما قيّده به ، وأين ذلك من المعاملات المستحدثة.

نعم ، لو قلنا إنّ السيرة بنفسها تقتضي الأخذ بمقتضاها ، والردع عنها يكون مانعاً من ذلك ورافعاً له نظير النسخ ، لكان اللازم هو الحكم بصحّة تلك المعاملات ، لكن ذلك لا يمكن الالتزام به ، لما عرفت من أنّ السيرة لابدّ أن تتّصل بزمان المعصوم مع عدم الردع منه عليه السلام عنها في صورة تمكّنه من ذلك ، وهذا ممّا يكشف [ كشفاً ] قطعياً أنّ عدم الردع إنّما يعتبر من جهة كشفه عن الرضا وأنّه يكون إمضاء.

نعم ، لو قلنا بأنّ أمثال هذه الأُمور من الاعتبارات الحاصلة بمثل العقود ونحوها من الاعتبارات العقلائية كالحجّية ونحو ذلك من الموضوعات الاعتبارية التي لها تحقّق في عالم الاعتبار العقلائي ، نظير اعتبارهم المالية للأوراق النقدية ونحو ذلك من الاعتبارات ، على وجه لا نلتزم بأنّها من الأحكام الشرعية إمضاءً أو تأسيساً ، بل هي أُمور عقلائية منوطة بالاعتبار العقلائي ، وإن كانت بعد الاعتبار وبعد تحقّقها في وعائها من الاعتبار العقلائي تترتّب عليها آثار شرعية أو عقلية أو عرفية ، على وجه لا تحتاج إلى جعل شرعي لا إمضائي ولا تأسيسي ، لم يكن عدم الردع عنها إلاّمن باب عدم مخالفة الشارع لذلك الاعتبار العقلائي ، وكان مجرّد الاعتبار العقلائي كافياً في تحقّقها وفي ترتّب الأثر عليها حتّى الآثار الشرعية إلاّإذا

ص: 461

ردع الشارع عنها ، وحينئذ يكون عدم العلم بالردع أو أصالة عدم الردع كافياً في ترتّب الأثر عليها ، وإن لم يكن كاشفاً عن الامضاء والانفاذ لذلك الاعتبار العقلائي.

وعلى كلّ حال ، لو قلنا بذلك لم يكن حينئذ فرق بين المعاملات وباقي ما جرت عليه السيرة العقلائية من تلك الأُمور العقلائية ، كالحجّية والظهور ونحوهما ممّا يرجع إلى ذلك ، لكن أنّى لنا بإثبات ذلك ، وكيف يمكننا إخراج الأحكام الوضعية بأسرها عن كونها من الأحكام الشرعية وإرجاعها إلى الموضوعات الاعتبارية العقلائية ، نظير ماليات الأشياء الجعلية كالأوراق النقدية ، ولو بنينا على ذلك لتغيّر الفقه في باب المعاملات ، وكان لنا فقه آخر وأدلّة أُخرى غير ما نسلكه في أحكامنا الفقهية في أبواب المعاملات ، إنّ هذا ممّا يقطع بفساده ، ولا أظنّ أحداً يقدر على الالتزام به ويعدّ نفسه فقيهاً.

أمّا اندراج المعاملة المذكورة في العمومات مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2) ونحوهما ، فهو موقوف على دعوى العموم لكلّ عقد وتجارة ، وفيه تأمّل لاحتمال اختصاصه بما يكون معروفاً مألوفاً في عصره صلى اللّه عليه وآله.

نعم ، يمكن أن يقال بأنّها راجعة إلى الصلح ، بناءً على ما هو التحقيق من كونه عبارة عن التسالم على أمر مقرّر بين المتعاقدين ما لم يكن موجباً لتحليل الحرام أو تحريم الحلال ، وكنت حرّرت في مسألة اليانصيب والبيمة رسالة مفصّلة فراجعها (3)

ص: 462


1- المائدة 5 : 1.
2- النساء 4 : 29.
3- مخطوطة لم تطبع بعدُ.

وربما يستدلّ على بطلان المعاملة المستحدثة حتّى إذا لم تكن مشتملة على نحو من القمار كما في اليانصيب بقوله عليه السلام : « لا يحلّ مال إلاّمن وجه أحلّه اللّه » في جملة رواية مفصّلة ذكرها في الوسائل في كتاب الخمس في باب وجوب إيصال حصّة الإمام عليه السلام إليه (1).

وفيه : مضافاً إلى إمكان كونها ناظرة إلى خصوص مثل أخذ ماله عليه السلام ونحو ذلك بلا جهة تقتضي صحّة الأخذ من إذن أو عقد ونحوه ، دون ما نحن فيه من أخذه برضا صاحبه ولكن بمعاملة غير داخلة في إحدى المعاملات المعهودة ، ليكون خارجاً عن قبال أصالة الاباحة في الأموال ، أن دخول هذه المعاملة في عمومات ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) أو لا أقل من عمومات الصلح ، يخرج المال المأخوذ بها عن كونه من وجه لم يحلّه اللّه تعالى فتأمّل ، ويدخله في

ص: 463


1- قال في الوسائل في الباب المشار إليه : وعن محمّد بن الحسن وعلي بن محمّد جميعاً عن سهل عن أحمد بن المثنّى عن محمّد بن يزيد ( زيد ) الطبري ، قال : « كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس ، فكتب عليه السلام إليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، إنّ اللّه واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهم ، لا يحلّ مال إلاّمن وجه أحلّه اللّه ، إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا ، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته ، فلا تزووه عنّا ، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه ، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم ، وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم ، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه ، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب ، والسلام » [ وسائل الشيعة 9 : 538 / أبواب الأنفال ب 3 ح 2 ]. قال في المستمسك ١ : ٢٤٥ : والأمر في سهل سهل ، لكن أحمد بن المثنّى مهمل ، ومحمّد بن زيد الطبري مجهول ، ولأجل ذلك يشكل الاعتماد على الخبر والخروج به عن قاعدة الحل ، الخ [ منه قدس سره ].

جملة الوجوه التي أحلّها اللّه تعالى.

فالعمدة هو شمول العمومات لهذه المعاملة ، أو دخولها في باب الصلح ، فإن تمّ ذلك فهو ، وإلاّ كانت أصالة عدم ترتّب الأثر كافية في الحكم بالفساد ، فتأمّل.

قوله : وأمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب ، بحيث إنّه لو فرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلّة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة ... الخ (1).

إنّ السيرة العقلائية التي هي محلّ الكلام إنّما هي السيرة التي جروا عليها قبل الشريعة ، ولم يكن آنئذ أحكام شرعية. نعم بعد أن وجدت الشريعة المقدّسة بقي العقلاء على تلك السيرة وأجروها في الأحكام الشرعية ، بحيث إنّهم قبلوا الروايات التي تنقل إليهم عن النبي صلى اللّه عليه وآله وعن الأئمّة عليهم السلام في الأحكام الشرعية ، وصاروا يعملون عليها كما أنّهم يعملون بذلك في أُمور معاشهم ، ولم يردعهم الشارع المقدّس عن ذلك ، مع كون عملهم على ذلك وبنائهم عليه بمنظر منه ومسمع مع فرض تمكنه من الردع ، وهذا كلّه واضح لا ينبغي الريب فيه.

لكن يبقى الإشكال في أخبار الآحاد في الموضوعات ، فإنّها داخلة في السيرة المزبورة ، بل يمكن القول بأنّ الإخبار عنه صلى اللّه عليه وآله وعنهم عليهم السلام أيضاً هو من قبيل الإخبار بالموضوعات في نظر العقلاء ، باعتبار كونه نقلاً لقوله عليه السلام أو فعله وإن كان ذلك يتضمّن النقل للحكم بواسطة نقل ذلك القول أو الفعل ، فإنّ من الواضح أنّ المراد من نقل الحكم ليس هو النقل بلا واسطة نقل الموضوع الذي هو نفس قوله عليه السلام أو فعله أو تقريره ، وإلاّ لكان اجتهاداً أو نبوّة.

ص: 464


1- فوائد الأُصول 3 : 194.

والحاصل : أنّا بعد فرض جريان السيرة على قبول أخبار الثقة مطلقاً ، نحتاج إلى دليل يخرج الموضوعات الخارجية التي ليست نقلاً لقول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره ، مثل موت زيد وحياته والأهلّة وغير ذلك من الموضوعات الخارجية.

فنقول بعونه تعالى : أمّا ما كان من ذلك راجعاً إلى مقام الترافع والقضاء ، فلا إشكال في تحقّق الردع عنه ، لأنّ دليل نفوذ القضاء قد حصره في الأيمان والبيّنات وأمّا ما لم يكن راجعاً إلى ذلك المقام فيمكن الاستناد في الردع عنه إلى مضمون رواية مسعدة « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » (1) بناءً على أنّ المراد من الأشياء هو الموضوعات الخارجية ، فيكون حصر الطريق فيها بالاستبانة أو قيام البيّنة دليلاً على عدم الاكتفاء بغيرهما.

لكن قد يتأمّل في ذلك ، أمّا أوّلاً : فلأنّ هذا إنّما يتمّ في مورد الرواية الذي هو الاستناد إلى قاعدة الحل أو الأُصول النافية ، فلا يشمل ما كان خبر الواحد نافياً للتكليف في قبال استصحاب الموضوع المثبت للتكليف ، كما في خبر الواحد على التطهير في قبال استصحاب النجاسة ، والأولوية ممنوعة ، اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ المراد بقوله عليه السلام : « والأشياء كلّها على هذا » هو أنّ الأشياء تبقى على مقتضى الوظيفة الجارية فيها مطلقاً حتّى في مثل موارد اليد وموارد الاستصحاب النافي أو المثبت حتّى يستبين خلافه أو تقوم البيّنة على خلاف مقتضى تلك الوظيفة وحينئذ تكون دالّة على عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات مطلقاً ، فتأمّل.

وثانياً : أنّا لو أغضينا النظر عن ذلك ، لقلنا إنّ جريان السيرة على حجّية خبر الواحد يوجب دخوله في الاستبانة ، فيكون حاكماً على دليل اعتبار الاستبانة

ص: 465


1- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

لكونه محقّقاً للاستبانة التعبّدية ، كما يكون حاكماً على دليل النهي عن الأخذ بغير العلم لكونه علماً تعبّدياً. لكن يبعّده أنّ خبر الواحد لا يكون مقابلاً للبيّنة ، بل إنّ عطف البيّنة على الاستبانة قرينة على أنّ المراد بالاستبانة الاستبانة الوجدانية غير الشاملة للاستبانة التعبّدية ، فإنّها حاصلة بالبيّنة ، فلا تصح المقابلة إلاّإذا أُخذت الاستبانة استبانة وجدانية.

قوله : ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفّلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدّمة كلّها إمضاءً لما عليه بناء العقلاء ، وليست في مقام تأسيس جواز العمل به ... الخ (1).

الظاهر أنّ هذا ، أعني الاحتياج إلى دليل يستفاد [ منه ] إمضاء ذلك البناء العقلائي لابدّ منه ، وإلاّ فلو بقينا نحن وذلك البناء العقلائي لم يمكننا الجري عليه والحكم بحجّية خبر الواحد شرعاً ، وكان الخبر على ما هو عليه من الشكّ في الحجّية ، لما عرفت من عدم الاعتماد على أصالة عدم الردع في إثبات الجهة المطلوبة ، وهي الامضاء والرضا بما جرت عليه السيرة العقلائية ، إلاّأن يدّعى القطع بعدم الردع كما أفاده بقوله : ولو كان قد ردع عنها لنقل ذلك إلينا ، لتوفّر الدواعي إلى نقله الخ (2). ولا يخفى ما فيه من تطرّق المنع إلى القطع بعدم الردع بمجرّد عدم النقل.

ثمّ لا يخفى أنّ كلاً من الردع والامضاء يحتاج إلى حجّة ، ولا يكفي فيه أخبار الآحاد ، لأنّ الكلام في حجّيتها. وبالجملة : أنّ خبر الواحد ساقط في المقام ، سواء كان مفاده الامضاء أو كان مفاده الردع ، لأنّ الكلام إنّما هو في حجّية

ص: 466


1- فوائد الأُصول 3 : 195.
2- فوائد الأُصول 3 : 193.

خبر الواحد ، فكيف يمكننا الاعتماد في إمضاء السيرة أو الردع عنها على نفس خبر الواحد.

فالعمدة حينئذ في الدليل على حجّية خبر الواحد هو ما عرفت من طوائف الأخبار المتقدّمة الراجعة إلى التواتر ، وما عرفت من دلالة آية النفر ، سواء قلنا إنّ ذلك من قبيل الامضاء أو من قبيل التأسيس. ولا يخفى انحصار مفادها بما يكون راجعاً إلى الأحكام ، وعدم شمولها لأخبار الآحاد في الموضوعات الخارجية وحينئذ نكون في راحة من تكلّف إخراجها ، لأنّ السيرة العقلائية وإن جرت على قبولها في الموضوعات الخارجية ، إلاّ أنّه لا دليل لنا على إمضاء هذه السيرة ، وأصالة عدم الردع لا تكفي ، لما عرفت من كونها مثبتة ، بل إنّه لا ملازمة بين عدم الردع وبين الامضاء ، لاحتمال عدم التمكّن من الردع.

نعم ، لو قلنا بأنّه يستفاد من تلك الأدلّة عموم الحجّية لخبر الواحد ولو بنحو الالحاق ، أو قلنا بتمامية دلالة آية النبأ الشاملة للموضوعات الخارجية ، أو قلنا بحجّية السيرة العقلائية وأنّه يكفي في لزوم الجري على طبقها أصالة عدم الردع كنّا محتاجين في إخراج الموضوعات الخارجية عن تلك العمومات أو الردع عن تلك السيرة إلى مثل رواية مسعدة ، بجعلها رادعة عن السيرة الجارية في الموضوعات الخارجية ، ولا يتأتّى فيها ما ذكرناه من عدم إمكان الركون في الردع عن السيرة إلى خبر الواحد ، وذلك لأنّ هذه الرواية بنفسها تتضمّن حكماً كلّياً ، وهي حاكية عنه لا عن موضوع خارجي ، فتكون حجّة لكونها مشمولة للطوائف المتقدّمة ولآية النفر وآية النبأ ، وهذا الحكم الكلّي الذي تضمّنته الذي له شاهد فيما نحن فيه هو المستفاد من الحصر ، أعني عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات الخارجية ، فيكون هذا الحكم الكلّي رادعاً عن السيرة الجارية على

ص: 467

قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجية ، ومخصّصاً لعموم آية النبأ.

وحينئذ يبقى الكلام في الدلالة المذكورة على وجه تكون كافية في الردع عن القبول في جميع الأخبار الحاكية عن الموضوعات الخارجية ، أو أنّها منحصرة بخصوص ما يكون في قبال أصالة الاباحة مثلاً ، وقد عرفت التفصيل في ذلك فلا نعيده.

وينبغي مراجعة ما حرّرناه جديداً على العروة الوثقى في درس الفقه عند الكلام على قوله في المسألة 6 ممّا يتبع ماء البئر : تثبت نجاسة الماء كغيره بالعلم وبالبيّنة وبالعدل الواحد الخ (1) ، فقد شرحنا هناك حكومة أدلّة حجّية خبر العادل وذي اليد على ما يستفاد من رواية مسعدة بن صدقة ، فراجع (2).

قوله : وينبغي أوّلاً بيان المراد من الانسداد الصغير ثمّ نعقّبه بما أُفيد في المقام فنقول : قد تقدّم أنّ استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقّف على أُمور ... الخ (3).

هذه المقدّمة وإن كانت لا بأس بها بالنسبة إلى معرفة ضابط موارد الانسداد الصغير والانسداد الكبير ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّها لا أهميّة لها بالنسبة إلى محلّ الكلام ، أعني الدليل الأوّل من الأدلّة العقلية التي ذكرها الشيخ قدس سره (4) ، فإنّ العمدة في الدليل الأوّل إنّما هو دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصغير ، وبعد تمامية الانحلال المزبور لا حاجة إلى إجراء مقدّمات الانسداد في أطراف ذلك العلم الاجمالي الصغير ، أعني دائرة ما بأيدينا من الأخبار الموجودة

ص: 468


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 98.
2- مخطوط لم يطبع بعد.
3- فوائد الأُصول 3 : 196.
4- فرائد الأُصول 1 : 351 وما بعدها.

في مجاميعنا ، لما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى من إمكان الاحتياط في تلك الأطراف ، فلا تصل النوبة إلى الالتزام بما هو مظنون الصدور منها فقط.

ومنه يظهر الخدشة في الانسداد الصغير المعمول في الظواهر بعد فرض انسداد باب العلم فيها ، فإنّ الانسداد في تشخيص ظاهر من الظواهر مثل لفظ الصعيد ونحوه لا يوجب الانتقال إلى إعمال الظنون الحاصلة من أقوال اللغويين ، بل يكون المرجع في ذلك هو الأُصول العملية ولو كان هو التخيير العقلي فيما لو دار الأمر في الظهور بين المحذورين ، إذ لا يلزم محذور من الرجوع إلى الأُصول العملية في بعض تلك الظواهر التي انسدّ فيها باب العلم. نعم لو كانت جميع الظواهر كذلك كان ذلك محقّقاً للانسداد الكبير.

وكذلك لو فرضنا تحقّق الظهور في تلك الظواهر ولكن باب العلم بحجّيتها قد انسدّ علينا ، ولو بمثل دعوى اختصاص حجّيتها بخصوص المشافهين ونحو ذلك من التسويلات ، فإنّها لو تمّت تكون موجبة لتحقّق الانسداد الكبير.

وبالجملة : أنّ الانسداد الصغير كأنّه من الكبريات التي لا صغرى لها. نعم لو تمّت دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى ما بأيدينا من الأخبار ، وتمّت دعوى عدم إمكان الاحتياط ، لكان المصير إلى العمل بما ظنّ صدوره ، فهذا لو سمّيناه بالانسداد الصغير لم يكن بذلك بأس ، لكن قد أشرنا إلى ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من منع الدعوى الثانية ، وهي عدم إمكان الاحتياط لو سلّمنا الدعوى الأُولى ، وهي انحلال الكبير إلى الصغير ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى شرح ذلك مفصّلاً (2)

ص: 469


1- في الصفحة : 472 - 473.
2- المصدر السابق.

قوله : وعلى كلّ حال ، المقصود من الوجه الأوّل من وجوه تقرير حكم العقل بحجّية الخبر الواحد هو إجراء مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص جهة الصدور لإثبات حجّية مطلق الظنّ به ، وبيانه : هو أنّه لا إشكال في أنّا نعلم بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ... الخ (1).

حيث كان أصل هذا الاستدلال هو ما أفاده الشيخ قدس سره ، فالأولى أوّلاً هو نقل كلام الشيخ قدس سره في بيانه ، وإجالة النظر فيه وفي الوجوه التي أشكل بها عليه ، ثمّ بعد ذلك نتعرّض إن شاء اللّه تعالى لما أفاده شيخنا قدس سره في ذلك.

فنقول بعونه تعالى : قال الشيخ قدس سره في بيان الوجه الأوّل الراجع إلى العلم الاجمالي بصدور الكثير ممّا بأيدينا من الأخبار ، بعد أن أطال الكلام على كيفية اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، وذلك في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرضا عليه السلام كما أشار إليه قبل هذه العبارة ، ما هذا لفظه : وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة من وجود الكذّابين ووضع الأحاديث ، فهو إنّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكل التي تنسب إلى بعض الأخباريين ، أو دعوى الظنّ بصدور جميعها ، ولا ينافي ما نحن بصدده من دعوى العلم الاجمالي بصدور أكثرها أو كثير منها - إلى أن قال - فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور ، لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم ، تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه توصّلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة ، بل ربما يدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصدور

ص: 470


1- فوائد الأُصول 3 : 198 - 199.

أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين (1).

قلت : لا يخفى أنّ مورد العلم الاجمالي الذي يترتّب عليه الأثر إنّما هو الأخبار المثبتة ممّا بأيدينا ، ففي صورة التعارض بين الخبرين المثبتين من تلك الأخبار التي بأيدينا لابدّ من الأخذ بالتخيير في المسألة الفرعية إن أمكن ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب الشيء والآخر دلّ على حرمته. أمّا إذا لم يكن التخيير في المسألة الفرعية ممكناً ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب نفقة الجدّ الأعلى مثلاً على ابنه ، ودلّ الآخر على وجوبها على ابن ابنه ، كان العمل على ما هو الأقرب صدوراً أو ما هو الأقرب مطابقة للواقع ، وإن كان الظاهر الملازمة بين كون الخبر أقرب صدوراً وكونه أقرب مطابقة للواقع ، فإنّ الصادر عن المعصوم لابدّ أن يكون مطابقاً للواقع بعد طي مرحلة الظهور وجهة الصدور من عدم احتمال التقية إلاّ إذا كان أحد الخبرين مخالفاً للشهرة ، فإنّ الشهرة توجب الظنّ بعدم مطابقته للواقع وإن كان مظنون الصدور ، فتكون الشهرة على خلافه موجبة للظنّ بالتصرّف في دلالته ، كما سيأتي (2) إن شاء اللّه توضيحه فيما أفاده الشيخ من الايراد عليه بقوله : وثانياً (3). ولكن يمكن القول بأنّ كلاً من الأب والابن يكون الخبران متعارضين فيه تعارض النفي والاثبات ، فيلزم كلّ منهما بالاحتياط والعمل بالخبر المثبت في حقّه ، هذا في صورة التعارض.

وأمّا في غيرها ، فالمتعيّن على الظاهر هو العمل بكلّ خبر مثبت للتكليف ، وهو ما أفاده قدس سره بقوله : بل ربما يدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها الخ ، وهو

ص: 471


1- فرائد الأُصول 1 : 356 - 357.
2- في الصفحة : 473 - 475.
3- فرائد الأُصول 1 : 359.

الذي جرى عليه في الكفاية (1).

أمّا الوجه الأوّل وهو ما أفاده قدس سره بقوله : فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور الخ ، وعليه جرى شيخنا قدس سره (2) ، فلم أتوفّق للاهتداء إلى وجهه. وما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه توصّلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة انتهى ، قابل للتأمّل في وجهه ، ولماذا لا يمكن العمل بالاحتياط في الجميع حتّى نلتزم بالرجوع إلى الظنّ بالتعيين بعد فرض أنّه لا علم لنا بوجود الأخبار الكاذبة المثبتة للتكليف في جملة تلك الأخبار ، ولو فرض أنّا علمنا أيضاً بوجود الكاذب غير الصادر فأيّ مانع يمنع من العمل بالجميع من باب الاحتياط ، إلاّإذا علمنا بأنّ ذلك الكاذب الموجود بينها يكون على ضدّ الحكم الواقعي ، بأن يكون مثبتاً للوجوب والواقع هو التحريم أو بالعكس ، لا مجرّد أنّه مثبت للتكليف والواقع لا تكليف بل الحكم هو الترخيص ، وأنّى لنا بأن نعلم أنّ في جملة تلك الأخبار التي بأيدينا ما هو ضدّ الواقع لا مجرّد المناقضة للواقع.

ومن ذلك كلّه يظهر إمكان الخدشة فيما أفاده شيخنا قدس سره حسبما نقله عنه السيّد سلّمه اللّه في تحريراته بقوله : إذ العمل بالاحتياط مع القطع بوجود أخبار مخالفة للأحكام الصادرة عن الأئمّة ( سلام اللّه عليهم ) غير ممكن (3) لما عرفت أوّلاً : من منع دعوى القطع بوجود الكاذب. وثانياً : من منع العلم بأنّ تلك

ص: 472


1- كفاية الأُصول : 305.
2- فوائد الأُصول 3 : 199.
3- أجود التقريرات 3 : 203 - 204.

المخالفة مخالفة ضدّية لا مخالفة تناقضية (1).

ومنه أيضاً يظهر التأمّل فيما نقله عنه قدس سره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه بقوله : ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسّره (2) وما أدري كيف عملنا بجميع تلك الأخبار بعد فرض قيام الأدلّة على حجّيتها بالخصوص ، وهل لزم من ذلك عسر أو حرج فضلاً عن عدم الامكان.

والحاصل : أنّه لا عسر ولا حرج في العمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار الموجودة في كتبنا الأخيرة أعني الوسائل ، بل ولو ضممنا إليها مستدرك الوسائل ، والشاهد على ذلك قوله بعد هذه العبارة : فلابدّ حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور أو مع الموهوم أيضاً حسب اختلاف مراتب العلم الاجمالي (3) فإنّا إذا عملنا بما هو مظنون الصدور ومشكوكه وموهومه ، فأيّ شيء أبقيناه من الأخبار التي بأيدينا ولم نعمل به تخلّصاً من عدم إمكان الاحتياط بالعمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار ، أو تخلّصاً من تعسّره ، هذا عجيب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : وثانياً أنّ اللازم من ذلك العلم الاجمالي هو العمل بالظنّ في مضمون تلك الأخبار ، لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللّه الذي يجب العمل به ، وحينئذ فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ولو من جهة الشهرة يؤخذ به ، وكلّ خبر لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم اللّه لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصدور

ص: 473


1- وهكذا الحال فيما نقلته عنه قدس سره بقولي : وعدم إمكان الاحتياط بالعمل بجميع ما يحتمل صدوره ، للعلم بعدم صدور بعضها. فراجع ص 106 من تحريراتي عنه قدس سره [ وهي مخطوطة لم تطبع بعد ].
2- فوائد الأُصول 3 : 199.
3- فوائد الأُصول 3 : 199.

فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصدور (1).

فإنّك قد عرفت أنّه لا تصل النوبة إلى الظنّ بالصدور كي يحصل التزاحم بين الظنّ بالصدور والظنّ بمطابقة الخبر للواقع ، ليكون المدار على الظنّ الثاني دون الظنّ الأوّل ، بل إنّ مقتضى العلم الاجمالي هو لزوم العمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار المثبتة. مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا الانتقال إلى الظنّ بالصدور ، وأنّه إنّما يلزم العمل بما هو مظنون الصدور باعتبار كونه موجباً للظنّ بمطابقة مضمونه للواقع ، لقلنا إنّ الظنّ بصدور الخبر عن المعصوم عليه السلام يوجب الظنّ بكونه مطابقاً للواقع ، فلا يعقل تحقّق الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بكونه مطابقاً للواقع حتّى لو كانت الشهرة مثلاً على خلاف مضمون ذلك الخبر المظنون الصدور ، إذ لا يجتمع الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بالواقع إلاّمن جهة الظنّ بصدوره تقية ، أو من جهة الظنّ بأنّ المراد خلاف الظاهر منه ، بحيث تكون الشهرة مثلاً على خلاف مؤدّى الخبر موجبة للتصرّف في الأصل الجهتي أو التصرّف في أصالة الظهور ، وإلاّ فلا يعقل اجتماع الظنّ بصدور هذا الخبر مع الظنّ بأنّ مضمونه مخالف للواقع.

وبعبارة أُخرى : لا يجتمع الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بمطابقته للواقع إلاّ من هذه الناحية ، ناحية التصرّف في دلالة ذلك الخبر ، ولا ريب حينئذ في الحكم بالغاء ذلك الاحتمال استناداً إلى أصالة الجهة فيه وأصالة الظهور ، بمعنى أنّ ذلك الخبر لو كان صادراً لكان مورداً لأصالة الظهور ، وكان احتمال إرادة خلاف الظاهر منه محكوماً بالالغاء استناداً إلى الأصل اللفظي أو الأصل الجهتي. نعم سيأتي (2) الإشكال في إجراء الأصل الجهتي والأصل المرادي فيما إذا لم يحرز أصل

ص: 474


1- فرائد الأُصول 1 : 359.
2- في الصفحة : 500 وما بعدها.

الصدور ، وحينئذ يتمّ ما أفاده الشيخ قدس سره من أنّه بعد وصول النوبة إلى تبعيض الاحتياط في دائرة الأخبار يكون المدار على ظنّ مطابقة المضمون للواقع ، فربما كان الخبر المظنون الصدور غير واجب العمل لأنّه لا يظنّ بمطابقة مضمونه للواقع ، لكونه مخالفاً للشهرة مثلاً ، وربما كان الخبر المشكوك الصدور أو الموهوم الصدور واجب العمل لحصول الظنّ بمطابقة مضمونه للواقع بواسطة كونه مطابقاً للشهرة.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ الخبر الأوّل وإن كان بالنظر إلى نفس سنده مظنون الصدور ، إلاّ أنّ مخالفة مضمونه للشهرة توجب كونه موهوم الصدور ، وكذلك الخبر الثاني فإنّه وإن كان بالنظر إلى سنده موهوم الصدور أو مشكوكه ، إلاّ أنّ موافقته للشهرة توجب الظنّ بصدوره ، كلّ ذلك نظراً إلى أنّ الشهرة موهنة للسند القوي ومقوّية للسند الضعيف. نعم في الأوّل ربما يقال : إنّ الشهرة على خلافه توجب التصرّف في دلالته دون سنده ، فيكون مظنون الصدور غير مظنون المضمون ، لكن ذلك - أعني كون الشهرة موجبة للتصرّف في الدلالة - إنّما هو بعد تمامية السند من حيث الحجّية ، دون ما نحن فيه ممّا لم يثبت حجّية سنده وإن كان صدوره في حدّ نفسه مظنوناً ، فإنّ الشهرة على خلاف مضمونه تقلب الظنّ بصدوره إلى الظنّ بعدم صدوره ، فتأمّل.

أمّا ما أفاده الشيخ قدس سره في ضمن قوله : وثالثاً ، وهو قوله : وكذلك لا يثبت به حجّية الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الخ (1) ، فهو الإيراد الوحيد الذي اعتمده في الكفاية فقال : وفيه أنّه لا يكاد ينهض على حجّية الخبر بحيث يقدّم

ص: 475


1- فرائد الأُصول 1 : 360.

تخصيصاً الخ (1).

وأمّا قول الشيخ قدس سره في الايراد المذكور : وأمّا الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها ، نعم يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها الخ (2) ، فقوله : نعم الخ ، ناظر إلى وجوب الموافقة الالتزامية بناءً عليها ، لكن الظاهر أنّ ذلك على تقديره وعلى تقدير عدم الاكتفاء بالالتزام الاجمالي بما هو الصادر من مجموع تلك الأخبار على ما هو من المقدار في المثبتات والنافيات ، أنّه إنّما يتمّ لو كانت الأخبار النافية ممّا يعلم إجمالاً بوجود الصادر في جملتها ، وإلاّ فمجرّد كونها طرفاً للعلم الاجمالي بالصدور لا يوجب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى النافية ، مع فرض احتمال كون الصادر بتمامه في طرف المثبتة ، اللّهمّ إلاّ أن يلتزم في هذه الصورة بلزوم الالتزام في النافي ، نظراً إلى أنّ كلاً من المثبت والنافي يجب الالتزام به ، وحيث قد علم إجمالاً بصدور الكثير من المجموع ، وجب الالتزام بمضمون المجموع حتّى النافي لكونه من أطراف ما علم إجمالاً بوجوب الالتزام فيه.

أمّا قول صاحب الكفاية قدس سره : وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه ، وإلاّ لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال (3) ، فلعلّه ناظر إلى الصورة الأُولى ، أعني ما لو

ص: 476


1- كفاية الأُصول : 305.
2- فرائد الأُصول 1 : 360.
3- كفاية الأُصول : 305.

كانت النافية ممّا علم إجمالاً بصدور بعضها ، ليكون مورد الاستصحاب المثبت في قبال الخبر النافي من قبيل أحد الأطراف التي قام الدليل في بعضها إجمالاً على انتقاض الحالة السابقة فيه ، مثاله ما لو قلنا باستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيير ، ووردت رواية تدلّ على طهارته بذلك ، ومثله ما لو تنجّس الماء القليل وأتممناه كرّاً بطاهر ، فيجري استصحاب النجاسة ، ووردت رواية تدلّ على طهارته بذلك كما ادّعي دلالة قوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثاً » (1) بأن يكون المنفي هو مطلق الحمل حدوثاً وبقاءً. وبالجملة : يكون ذلك نظير جريان استصحاب النجاسة في أحد الأطراف النجسة التي قامت البيّنة على تطهير بعضها في الجملة. ومثال أصالة الاشتغال في قبال الخبر النافي ما لو قلنا بالاحتياط في موارد الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، ووردت رواية من تلك الروايات تدلّ على عدم وجوب الجزء المشكوك. ومثاله أيضاً ما لو دار الأمر بين الجمعة والظهر في زمان الغيبة ، ووردت رواية تدلّ على عدم وجوب الجمعة في زمان الغيبة.

ثمّ لا يخفى أنّه إذا لم يكن في البين أصل مثبت للتكليف في قبال الخبر النافي ، لا يكون المقام من جواز العمل بالخبر النافي ، بل يكون من قبيل الاعتماد على الأصل النافي في تلك المسألة ، حيث إنّ المورد إذا لم يكن فيه محلّ للأصل المثبت يكون قهراً من موارد الأُصول النافية ، إذ لا أقل من البراءة الشرعية أو العقلية.

والحاصل : أنّه يرد على ما في الكفاية أوّلاً : أنّه لا يتمّ المنع من الاستصحاب المثبت في قبال الخبر النافي إلاّبعد فرض العلم الاجمالي بصدور

ص: 477


1- مستدرك الوسائل 1 : 198 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 6 ( مع إضافة يسيرة ).

بعض الأخبار النافية.

وثانياً : أنّ مفهومه أنّه في مورد عدم الاستصحاب المثبت وعدم أصالة الاشتغال يجوز العمل بالخبر النافي ، وليس الأمر كذلك ، بل يكون العمل حينئذ على الأصل النافي.

وثالثاً : المناقشة في أصل المبنى ، وهو أنّ مجرّد العلم أو ما يقوم مقامه بانتقاض الحالة السابقة لا يكون مانعاً من جريان الاستصحاب في بعض الأطراف كما حقّق في محلّه (1).

وأمّا ما أفاده الشيخ قدس سره (2) من الايراد على هذا الدليل أوّلاً ، فهو الحجر الأساسي ، وهو راجع إلى دعوى عدم انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى هذا العلم الاجمالي الصغير ، التي تكون أطرافه هي ما بأيدينا من الأخبار الموجودة في مجاميع أصحابنا ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) فإنّ ذلك العلم الاجمالي الكبير وإن انحل إلى العلم الاجمالي المتوسّط الذي تكون أطرافه هي تلك الأخبار وباقي الأمارات ، إلاّ أنّ هذا العلم الاجمالي المتوسّط لا ينحلّ إلى العلم الاجمالي الصغير الذي تكون أطرافه منحصرة بخصوص ما بأيدينا من الأخبار دون باقي الأمارات.

وهذه الدعوى - أعني عدم الانحلال - هي العمدة في المطلب ، وحيث قد تعرّض لها شيخنا قدس سره مع باقي الإيرادات الثلاثة ، فنحن نتعرّض لما أفاده قدس سره ونوضّح مراده وكيفية انطباقه على ما أفاده الشيخ قدس سره من الايرادات الثلاثة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 478


1- راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 358 وما بعدها ، وراجع أيضاً المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : 543 وما بعدها.
2- فرائد الأُصول 1 : 357.

قوله : قلت : هذه الدعوى ممّا يكذّبها الوجدان ، بداهة أنّ الأمارات الظنّية ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلّقة للعلم الاجمالي ، فلا أقل من كونها من أطراف العلم الاجمالي ، لأنّ متعلّق العلم الاجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقيّة الأمارات الظنّية ، وهذا لا ينافي أن تختصّ الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها ... الخ (1).

ينبغي لتوضيح هذا المقام أن نقدّم مقدّمة هي مثال خارجي ثمّ نتبعه بتطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول بعونه تعالى : لو كان لنا قطيع من الغنم مائة رأس ، خمسون منها سود وخمسون بيض ، فالعلم الاجمالي بتحريم بعض هذا القطيع يمكن أن يكون على صور أربع :

الأُولى : أن يعلم بحرمة خمسة من مجموع ذلك القطيع سوده وبيضه ، لكن يحصل لنا علم إجمالي ثانٍ ، وهو وجود خمسة محرّمة في خصوص السود يحتمل أنّها هي المعلومة الأُولى ، وفي هذه الصورة لا إشكال في انحلال العلم الاجمالي المتعلّق بالمجموع إلى العلم الاجمالي المتعلّق بخصوص السود ، ويكون المعلوم بالاجمال غير مختلف المقدار. ولو عزلت السود عن البيض كان مقدار ذلك المعلوم في السود لم ينقص ، وكانت البيض خالية من العلم بالمحرّم بينها ، كما أنّك لو خلطتها وجاءت ظلمة أوجبت عدم التمييز بينها لم يزد ذلك المعلوم عن ذلك المقدار الذي هو الخمس ، ولو فرضنا أنّك عزلت خمساً من السود وضممت باقي السود إلى البيض ، لم يكن لك علم إجمالي بوجود المحرّم فيها. وفي الحقيقة لا يكون ذلك من باب الانحلال ، بل من باب عدم تأثير العلم الاجمالي الأوّل.

ص: 479


1- فوائد الأُصول 3 : 200 - 201.

الصورة الثانية : أن يعلم بوجود سبعة محرّمة في مجموع القطيع ، لكن خمسة منها في خصوص السود واثنان في خصوص البيض ، ولا ريب حينئذ في أنّ لنا دائرتين من العلم الاجمالي ، الأُولى السود ومعلومها خمسة ، والثانية البيض ومعلومها اثنان ، فلو فصلت السود وأبقيت البيض وحدها كانت البيض مشتملة على العلم الاجمالي ، غايته أنّه بمقدار اثنين ، وكانت السود أيضاً مشتملة على العلم الاجمالي بمقدار خمسة ، ولو جمعتها ازداد المعلوم بالاجمال فكان سبعة ، ولا إشكال في عدم الانحلال في هذه الصورة.

الصورة الثالثة : أن يعلم إجمالاً بوجود سبعة محرّمة في المجموع ، لكن يعلم إجمالاً أيضاً بوجود خمسة في السود ، ووجود اثنين مردّدة بين البيض وباقي السود ما عدا الخمسة المحرّمة فيها. وفي هذه الصورة لا يكون العلم الاجمالي بوجود خمسة محرّمة في السود موجباً لانحلال العلم الاجمالي بحرمة السبعة في مجموع القطيع ، وفي هذه الصورة لو فصلت السود عن البيض وإن كان لم يبق لك علم بالحرام في البيض ، إذ لم تكن البيض بنفسها مورداً للعلم الاجمالي ، لكن لو عزلت خمسة من السود وضممت باقي السود إلى البيض تجد العلم الاجمالي بينها بحرمة اثنين ، ولو عزلت السود بتمامها عن البيض نقص المعلوم الاجمالي المتعلّق بالمجموع ، فإنّه بعد أن كان سبعة يعود إلى الخمسة ، ولو جمعت السود إلى البيض ازداد معلومك من الخمسة إلى السبعة.

الصورة الرابعة : مؤلّفة من الصورتين الأخيرتين ، بأن يحصل لنا العلم بأنّ في القطيع تسعة محرّمة ، خمسة منها في خصوص السود واثنان في خصوص البيض (1) ، واثنان مردّدة بين كونها في البيض أو في السود أو واحدة في البيض

ص: 480


1- [ في الأصل : السود ، والصحيح ما أثبتناه ].

والأُخرى في السود ، وهذه تشارك الصورتين في عدم الانحلال ، هذا حاصل برهان العزل والفصل والزيادة.

والمدّعى فيما نحن فيه هو أنّ نسبة العلم الاجمالي الكبير إلى المتوسّط من قبيل الصورة الأُولى ، وأنّ نسبة المتوسّط إلى الصغير إمّا من قبيل الصورة الثانية إن قلنا بأنّ نفس الأمارات ما عدا الأخبار هي مورد للعلم الاجمالي ، وإمّا من قبيل الصورة الثالثة إن لم نقل بذلك ، لكن قلنا إنّ المعلوم بالاجمال في ضمن مجموع الأمارات والأخبار أزيد منه في خصوص الأخبار ، وإمّا من قبيل الصورة الرابعة إن قلنا بالأمرين ، أعني كون باقي الأمارات مورداً للعلم الاجمالي وكونها طرفاً للعلم الاجمالي مع الأخبار.

وحقيقة الأمر إنّما تدور على هذين المطلبين المرتّبين ، الأوّل : هل أنّ الأمارات الأُخر مثل الإجماع المنقول والشهرة والأولوية الظنّية ممّا يقطع إجمالاً بوجود التكليف في مواردها. الثاني : أنّها لو لم تكن بنفسها مورداً للعلم الاجمالي إلاّ أنّها هل يكون انضمامها إلى مجموع الأخبار موجباً لزيادة المعلوم بالاجمال ، أو أنّها لا تكون كذلك. وأمّا ما أُفيد ممّا شرحناه في المثال من حالات العزل والزيادة وغير ذلك فكلّها مبنية على هذا الأساس ، فيشكل جعلها برهاناً على الأصل الذي هي فرع عنه.

وأمّا ما أفاده قدس سره فيما حرّره عنه قدس سره بقوله : قلت أوّلاً : دعوى العلم الاجمالي في خصوص الأمارات الظنّية ليست ببعيدة ، لأنّ من تراكم الظنون يحصل العلم الاجمالي ، بخلاف تراكم الشكوك الخ (1) ، وكذلك قوله في تحريرات السيّد : هذا كلّه على تقدير الاغماض عن دعوى وجود العلم الاجمالي في خصوص بقية

ص: 481


1- فوائد الأُصول 3 : 201 - 202.

الأمارات أيضاً ، إذ مع هذه الدعوى التي لا تخلو عن بعد يكون عدم الانحلال من الواضحات غير المحتاجة إلى البيان (1).

فيمكن التأمّل في كونه موجباً للعلم الاجمالي فيما عدا الأخبار من باقي الأمارات ، فإنّ القدر المسلّم منه إنّما هو تراكم الظنون من طرق متعدّدة على مورد واحد ، فإنّه ربما يوجب العلم كما لو أخبرك شخص بموت زيد وقامت أمارة أُخرى على ذلك ، وأُخرى أيضاً كذلك ، فإنّ كلّ واحد من هذه الظنون عند اجتماعها على موت زيد ربما كان موجباً للقطع بموته. أمّا تعدّد الظنون في الوقائع المتعدّدة بحيث تكون كلّ واقعة مظنونة على حدة ، ففي كونها موجبة للقطع بمطابقة بعض تلك الوقائع للواقع ، تأمّل وإشكال ، فإنّه قد يقال : إنّه إذا كان تراكم الظنون موجباً للقطع الاجمالي فلِمَ لا يكون تراكم الاحتمالات كذلك ، بأن يكون لنا وقائع متعدّدة وكلّ واقعة نحتمل فيها المطابقة للواقع ، ويكون الاحتمال هنا وهناك وهناك موجباً للقطع بمطابقة بعض تلك الاحتمالات للواقع ، وإن أمكن الفرق بين تراكم الظنون وبين ما لم يكن في تلك الوقائع إلاّمجرد الاحتمال ، فإنّه لا أثر له ، ولأجل ذلك لو تراكمت الظنون في واقعة واحدة ، فإنّه يوجب القطع ، بخلاف تراكم الاحتمالات في واقعة واحدة ، فإنّه لا يوجب القطع ولو كانت الاحتمالات في تلك الواقعة من نواحٍ شتّى هذا كلّه بالنسبة إلى دعوى حصول العلم الاجمالي في خصوص ما عدا الأخبار من الأمارات.

وأمّا دعوى كون ضمّها إلى الأخبار موجباً لزيادة المعلوم بالإجمال على ما هو في ضمن الأخبار وإن لم تكن باقي الأمارات في حدّ نفسها مشتملة على العلم الاجمالي ، فقد برهن عليه شيخنا قدس سره بنفس البرهان المذكور وهو تراكم الظنون ،

ص: 482


1- أجود التقريرات 3 : 207.

وحاصله : أنّ هذه الظنون الكثيرة هي المثيرة للعلم الاجمالي في مواردها ، ولازم ذلك أنّها كلّما كثرت كانت كثرتها موجبة لكثرة المعلوم بالاجمال ، فلو كانت الظنون مائة مثلاً كانت موجبة للعلم الاجمالي بمطابقة عشرة منها للواقع ، فلو كانت مائة وخمسين ، كان مقتضى هذه النسبة أن يكون المعلوم بالاجمال فيما بينها خمسة عشر وهكذا.

وحينئذ فلو كان المعلوم بالاجمال في ضمن الظنون الحاصلة من الأخبار بمقدار مائة ، كان لازم ذلك أنّه إذا ضممنا إلى الأخبار باقي الظنون هو زيادة المعلوم الاجمالي على ما في الأخبار بنسبة عدد تلك الظنون إلى الأخبار ، وهذا مأخوذ ممّا حرّرته عنه قدس سره في بيان الوجه في الزيادة المرقومة ، فإنّه قال فيما حرّرته عنه :

وحيث إنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ منشأ العلم الاجمالي الأوّل المعبّر عنه بالعلم الاجمالي الكبير هو قيام الإجماع والضرورة على ثبوت أحكام شرعية في الشريعة المطهّرة ، تعرف أنّه لابدّ أن تكون أطرافه جميع محتملات التكليف مظنوناتها ومشكوكاتها بل وموهوماتها. أمّا العلم الاجمالي الثاني وهو العلم الاجمالي فيما بين الأخبار وباقي المظنونات ، فحيث إنّك قد عرفت أنّه لا منشأ له إلاّ نفس الأمارات الظنّية من الأخبار وباقي الأمارات ، كالشهرة والإجماع المنقول وغيرهما من الأمارات ، بواسطة أنّ اجتماع تلك الأمارات ممّا يوجب العلم بمطابقة كثير منها للواقع ، تعرف أنّ كلّ واحد من تلك الأمارات يكون من أطراف ذلك العلم الاجمالي ، ويكون المنشأ في ذلك العلم الاجمالي هو نفس تلك الأطراف ، ولازم ذلك أن يكون زيادة تلك الأطراف التي كانت هي المنشأ في ذلك العلم الاجمالي موجباً لزيادة المعلوم بالاجمال ، مثلاً لو كان المعلوم

ص: 483

بالاجمال من التكاليف في خصوص الأخبار من تلك الأمارات بمقدار ألف تكليف ، لكان إضافة باقي الأمارات إليها موجباً لكون المعلوم بالاجمال في المجموع مقدار ألف ومائتي تكليف مثلاً ، انتهى.

وحاصله : أنّ زيادة الأطراف التي هي منشأ العلم ، تكون موجبة قهراً لزيادة المعلوم ، هذا.

ولكنّك قد عرفت التأمّل في كون تراكم الظنون في الوقائع المتعدّدة موجباً للعلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، بل يمكن إنكار كونه علّة لحصول العلم حتّى في الواقعة الواحدة التي تعدّدت فيها الجهات الموجبة للظنّ. نعم قد يتّفق حصول العلم من تراكمها على واقعة واحدة أو وقائع متعدّدة ، كما ربما يتّفق العلم من تعدّد جهات الاحتمال في واقعة واحدة ، إلاّ أنّ ذلك كلّه من باب المصادفات الاتّفاقية ، لا من باب الاقتضاء فضلاً عن العلّية التامّة. أمّا العلم الاجمالي الحاصل في مجموع الأخبار فليس منشؤه تراكم الظنون ، بل منشؤه العلم الخارجي بصدور الكثير منها.

وكيف كان ، نقول إنّ اللازم فيما نحن فيه - أعني مسألة كون باقي الأمارات مورداً للعلم الاجمالي أو أنّها موجبة لكثرة المعلوم - هو الرجوع إلى الوجدان ، والظاهر أنّا لو رجعنا إلى وجداننا ، ورأينا مقدار ما عندنا في الفقه من الأمارات الظنّية المثبتة للتكليف ، ومقدار الموارد الخالية من الأخبار المثبتة التي يكون إثبات التكليف فيها منحصراً بتلك الأمارات ، نجد من أنفسنا أنّه لا يحصل لنا الوثوق بمطابقة بعض تلك الأمارات للواقع ، فضلاً عن حصول القطع ، فإنّ تلك الأمارات محصورة في الشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنّية ، ولكن تصفّح وتتبّع فكم ترى من الموارد الفقهية خالياً من مثبتات الأخبار وعن مثبتات القواعد

ص: 484

المستفادة من الأخبار ، بحيث كنّا في تلك الموارد محتاجين إلى إعمال تلك الأمارات ، لنقول إنّ تلك الموارد يحصل العلم بمطابقة مفاد بعض الأمارات فيها للواقع ، والذي أظنّ أنّك لا تعثر على ما يجاوز عدد الأصابع خصوصاً بعد فرض كون الأولوية الظنّية خارجة عن محلّ الكلام ، لكونها من مقولة القياس والاستحسان المنهي عنه بالخصوص.

ومن ذلك يظهر لك فيما أُفيد في تحريرات السيّد سلّمه اللّه بقوله : فإنّه إذا ضممنا إلى الأخبار بقيّة الأمارات المتقنة ، فلا محالة يزيد عدد المعلوم بالاجمال على الأوّل (1) - وقد وصفها بالإتقان في موضعين آخرين في ص 117 (2) - فأين هي تلك الأمارات المتقنة التي يكون ضمّها إلى الأخبار موجباً لزيادة المعلوم بالاجمال.

ثمّ لا يخفى أنّ دعوى كون بعض تلك الأمارات مطابقاً للواقع غير منوطة بعدم حجّية خبر الواحد بالخصوص ، بل هي على تقديرها من الواقعيات غير المنوطة بذلك ، وحينئذ ينفتح لك إشكال آخر : وهو أنّا معاشر القائلين بحجّية الخبر بالخصوص يلزمنا الاحتياط في غيره من الأمارات ، للعلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ انضمامها لا يوجب زيادة في المعلوم بالاجمال ، خصوصاً بعد أن عرفت أنّ المنشأ في العلم الاجمالي في مجموع الأخبار هو العلم بصدور الكثير منها ، نظير ما تقدّم (3) من التواتر الاجمالي ، حتّى مع قطع النظر عن

ص: 485


1- أجود التقريرات 3 : 207.
2- حسب الطبعة القديمة ، راجع الطبعة الحديثة من أجود التقريرات 3 : 204 و 205.
3- في الحاشية صفحة : 450 وما بعدها.

العلم الاجمالي الكبير الناشئ عن العلم بوجود الشريعة وأنّا لسنا كالبهائم ، بل إنّ لنا أحكاماً واقعية نحن مكلّفون بها ، فإنّ علمنا بأنّ أغلب ما بأيدينا من الأخبار صادر عنهم عليهم السلام غير ناشٍ عن ذلك العلم الاجمالي الكبير خصوصاً بعد ذلك التعب والاجتهاد من أصحابنا في تنقيح تلك الأخبار. نعم علينا أن نثبت أنّ ما هو الصادر من تلك الأخبار هو بمقدار ذلك المعلوم الاجمالي الكبير ، لكن إشكال الشيخ قدس سره مبني على أنّ مجرّد العلم بالصدور لا أثر له إلاّمن جهة العلم بوجود التكاليف ، فالمدار على العلم بوجود التكاليف الواقعية في ضمن تلك الصادرات ، ويدّعى أنّ التكاليف الواقعية المعلومة الوجود في ضمنها أقلّ ممّا هو معلوم بينها وبين سائر الأمارات ، ويمكن تطرّق المنع إلى ذلك وادّعاء كون التكاليف الواقعية الموجودة في ضمن تلك الأخبار هي بذلك المقدار.

ثمّ بعد هذا كلّه نقول : ما الداعي لما تكلّفه الشيخ قدس سره وتبعه الأُستاذ قدس سره من عدم انحلال العلم الاجمالي المتوسّط إلى العلم الاجمالي الصغير ، وما الذي يترتّب على عدم انحلاله ، إلاّأن يكون هذا مطلباً واقعياً قد قصدا بيانه ، لا أنّه يكون إيراداً على الاستدلال ، فإنّا لو سلّمنا عدم الانحلال فأقصاه أن يكون العمل بتلك الأمارات واجباً ، كما أنّ خبر الواحد يكون كذلك أيضاً ، فلو كان المستدلّ يريد إثبات أنّ خبر الواحد واجب العمل ، هل كان يضرّه أن نقول له إنّ مقتضى دليلك أن تكون الشهرة ونحوها واجبة العمل كخبر الواحد.

نعم ، يتوجّه عليه ما أُفيد من الإيراد الثالث ، وهو أنّ العمل بالخبر من باب الاحتياط لا يفيد الحجّية. ولا يندفع هذا الإيراد بما أفاده الأُستاذ قدس سره : من أنّ نتيجة الانسداد على الكشف ... (1) ، لأنّ الظاهر أنّ الكشف لا يتأتّى في التقريب المزبور ،

ص: 486


1- فوائد الأُصول 3 : 204 ( نقل بالمضمون ).

لأنّ مبنى الكشف هو عدم كون المنجّز هو الاحتياط وعدم إمكان منجّزية الاحتمال ، فيتعيّن أن يكون المنجّز هو الظنّ كما سيأتي شرحه في محلّه إن شاء اللّه تعالى (1) ، وهذا المعنى لا يجتمع مع أخذ أساس المطلب العلم الاجمالي كما في هذا التقريب.

قوله : مثلاً لو كان إناءات ثلاث في الجانب الشرقي من الدار ، واناءات ثلاث أُخرى في الجانب الغربي ، وعلم إجمالاً بأنّه أصاب أحد الإناءات في الشرقية قطرة من الدم ، وعلم إجمالاً أيضاً أنّه زمان وقوع تلك القطرة وقعت قطرة أُخرى من الدم إمّا في أحد الإناءات الشرقية غير ما وقعت فيه تلك القطرة ، وإمّا في أحد الإناءات الغربية ... الخ (2).

لا يخفى أنّه في مثل المثال تارةً يعلم أنّ النجاسة الثانية لم تقع إلاّفي طاهر بحيث إنّها لو كانت واقعة في الشرقيات لم تكن واقعة إلاّفي طاهر ، وكان الذي وقعت فيه منها هو غير الذي وقعت فيه الأُولى ، وأُخرى لا يكون التنجيس بها معلوماً ، بل على تقدير وقوعها في الشرقيات يحتمل كونها واقعة في ذلك الذي وقعت فيه الأُولى. والظاهر أنّ الغربيات في الصورة الثانية لا يجب الاجتناب عنها سواء كان العلم بوقوع القطرة الثانية مقارناً للعلم بوقوع القطرة الأُولى أو كان متأخّراً عنه ، إذ لا يعلم أنّ القطرة الثانية مؤثّرة على كلّ تقدير.

وحاصله : أنّه لا يحصل العلم إلاّبنجاسة واحد من الشرقيات ، ويكون كلّ واحد من الغربيات مجرى لقاعدة الطهارة ، ولا يعارضها قاعدة الطهارة في واحد من الشرقيات ، لسقوطها في الشرقيات بالمعارضة في نفس تلك الشرقيات. نعم

ص: 487


1- راجع الحاشية الآتية في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 15 ومابعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 202.

لو كان وقوع القطرتين في آن واحد وجب الاجتناب عن الجميع لحصول التعارض في رتبة واحدة ، وكذلك الحال فيما لو كان أحد الشرقيات الذي هو طرف للعلم الاجمالي في القطرة الثانية (1) ، بأن يعلم بأنّ الثانية قد وقعت إمّا في الكبير من الشرقيات أو في أحد الغربيات ، فإنّهما لو وقعا في آن واحد وجب الاجتناب عن الجميع كما حقّق في محلّه (2).

أمّا الصورة الأُولى ، فإن كان وقوع الثانية مقارناً لوقوع الأُولى وجب الاجتناب عن كلّ من الشرقيات والغربيات. أمّا الشرقيات فللعلم بالنجس بينها بواسطة القطرة الأُولى ، وأمّا الغربيات فلكونها طرفاً للعلم بالقطرة الثانية المفروض كونها مؤثّرة على كلّ من وقوعها في الشرقيات ووقوعها في الغربيات ، فلا تكون الغربيات مورداً لقاعدة الطهارة ، لمعارضتها بقاعدة الطهارة في الشرقيات لكونها في رتبة واحدة.

وهكذا الحال على الظاهر فيما لو كان وقوع القطرة الثانية متأخّراً عن وقوع القطرة الأُولى ، للعلم بكون الثانية مؤثّرة في التنجيس ووجوب الاجتناب على كلّ من وقوعها في الشرقيات أو وقوعها في الغربيات ، فتكون قاعدة الطهارة في الغربيات معارضة بقاعدة الطهارة فيما عدا ما وقعت فيه النجاسة الأُولى من الشرقيات.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة أو استصحابها لا تتحمّل وجوداً واقعياً

ص: 488


1- [ هكذا ورد في الأصل ].
2- [ لعلّ المقصود بذلك ما ذُكر في فوائد الأُصول 4 : 86 من أنّ المدار في تنجيز العلم الاجمالي على زمان المعلوم لا العلم. وعلى أيّ حال فحواشي المصنّف قدس سره على ذلك المبحث تأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : 95 وما بعدها ].

بحيث تكون جارية في تلك الاناءات الواقعية التي لم تقع فيها النجاسة الأُولى وإن لم نعرفها بأعيانها ، بل إنّما يكون مجراها الاناءات الشخصية ، والمفروض أنّ جميع الاناءات الشرقية بأعيانها قد سقطت فيها قاعدة الطهارة بالمعارضة فيها في حدّ نفسها بواسطة القطرة الأُولى ، وحينئذ تبنى المسألة على أنّ تأثير العلم الاجمالي لأجل المعارضة ، أو أنّه يكون بنفسه مانعاً من ارتكاب بعض الأطراف ، والأوّل هو مبنى شيخنا قدس سره. وعلى كلّ حال ، لا يكون أثر في هذه الصورة لمقارنة القطرتين أو تدرّجهما.

نعم ، إنّ العلم الاجمالي المتأخّر لا يكون مؤثّراً فيما إذا احتمل انطباق المعلوم فيه على ما هو المعلوم بالأوّل ، كما في الصورة الثانية وهي ما لو احتمل كون القطرة الثانية واقعة في نفس ما وقعت فيه القطرة الأُولى ، الذي عرفت أنّ العلم الثاني فيه لا يؤثّر إذا كان المعلوم فيه متأخّراً عنه.

ومن الواضح أنّ ما نحن فيه من قبيل الصورة الأُولى (1) ، التي عرفت أنّه لا فرق فيها بين كون المعلوم الثاني مقارناً للأوّل أو متأخّراً عنه ، وأنّ الميزان إنّما هو كون الأصل في الزائد معارضاً به في الدائرة الأُولى أو كونه غير معارض به ، وعلى تقدير عدم المعارضة فهل يكون العلم بنفسه منجّزاً أو لأجل تعارض الأُصول ، وحينئذ لا تترتّب ثمرة على ما تكلّفه شيخنا قدس سره (2) من دعوى المقارنة بين المعلومين فيما نحن فيه وإن كان الأمر فيه كذلك ، كما أنّه لا يتمّ التفصيل في المثال في الصورة الأُولى (3) بين تقارن المعلومين وتدرّجهما ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 489


1- [ في الأصل : الصورة الثانية ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- فوائد الأُصول 3 : 203.
3- [ في الأصل : الصورة الثانية ، والصحيح ما أثبتناه ].

ومن هذا القبيل ما لو استدان من أحد الشخصين - زيد أو عمرو - درهماً ، ثمّ علم إجمالاً بأنّه بعد ذلك قد استدان من أحدهما غير من استدان منه أوّلاً أو من بكر ، فإنّ مقتضى ما ذكرناه أنّه يلزمه دفع ثلاث دراهم. وكذا لو علم أنّه في السنة الأُولى قد رضع من لبن أحد عمّيه ، ثمّ علم أنّه في السنة الثانية قد رضع من لبن خاله أو لبن الآخر منهما الذي لم يكن قد رضع عنده أوّلاً ، فإنّه كما يجب عليه اجتناب بنات عمّيه نظراً للعلم الاجمالي الأوّل ، فكذلك يلزمه اجتناب بنات خاله نظراً للعلم الاجمالي الثاني. ويظهر أثر ذلك فيما لو علم تفصيلاً من رضع عنده من عمّيه ، فإنّه بناءً على ما ذكرناه من تأثير العلم الثاني يلزمه اجتناب بنات عمّه الآخر وبنات خاله ، للعلم إجمالاً بحرمة إحداهما عليه ، وكذلك لو فقدت بنات أحد عمّيه قبل رضاعه الثاني (1) ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الشرقيات لمّا كان مقتضى العلم الاجمالي الأوّل هو لزوم الاجتناب عنها ، لم يكن فيها أثر للعلم الاجمالي الثاني بتنجّس الطاهر الواقعي منها أو أحد الغربيات ، إذ لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الشرقيات إلاّ وجوب الاجتناب عقلاً ، والمفروض أنّها قد وجب الاجتناب عنها عقلاً بحكم العلم الاجمالي الأوّل ، ومجرّد تلف أحد الشرقيات قبل حصول المعلوم الثاني لا يوجب ذلك ، كما أنّ حصول العلم التفصيلي بما هو النجس بينها لا يوجب ذلك ، فتأمّل (2)

ص: 490


1- ومثل ذلك ما لو علم بأنّ عليه قضاء إحدى الصلاتين من العشاء أو الصبح ، ثمّ علم إمّا ببطلان ما كان صلاّه أو حدوث آية توجب الصلاة [ منه قدس سره ].
2- لو كان لنا في الجانب الشرقي من الدار عشرة أواني ، وكان خمسة أُخرى في الجانب الغربي ، وحصل العلم الاجمالي بالنجاسة ، فهناك صور : الأُولى : أن تقع قطرة البول في أحد العشرة كما تقع قطرة أُخرى في أحد الخمسة ، وحينئذ يكون كلّ من الطرفين دائرة علم إجمالي لا ربط لها بالأُخرى ، فلا ينحل ما هو الأكثر بالأقل. الثانية : أن تقع قطرة ثالثة مردّدة بين العشرة والخمسة ، لكن لا يحتمل وقوع الثالثة على نفس ما وقعت عليه الأُولى من العشرة. وفي هذه الصورة تكون الخمسة في حدّ نفسها دائرة علم إجمالي ، كما أنّها من أطراف العلم الاجمالي بالجميع ، لأنّك لو فصلت من العشرة واحداً وضممت التسعة الباقية إلى الأربعة من الخمسة ، كنت تعلم بأنّ أحدها نجس. الثالثة : أنّ الخمسة لم يكن فيها علم اجمالي لكنّها طرف للعلم ، بأن وقعت قطرة في إحدى العشرة وأُخرى مردّدة بينها وبين الخمسة ، فكانت الخمسة طرفاً للتسعة. وهي في حدّ نفسها لم تكن دائرة علم إجمالي. الرابعة : هي هذه الصورة الثالثة ، لكن يحتمل وقوع القطرة الثانية على ما وقعت عليها الأُولى. وفي هذه الصورة لا تكون الخمسة بنفسها دائرة علم إجمالي كما أنّها بنفسها لا تكون طرفاً للعلم الاجمالي ، فإنّ القطرة الأُولى لم تقع فيها والقطرة الثانية يحتمل وقوعها على ما وقعت عليه الأُولى ، فلا تكون مؤثّرة ، ويكون المعلوم الاجمالي هو الواحد من العشرة ، فإذا عزلناه وضممنا التسعة الباقية إلى الخمسة لا يكون في المجموع علم إجمالي. وهذه هي الصورة التي يكون المعلوم الاجمالي الكبير وهو العشرة والخمسة منحلاً إلى المعلوم الاجمالي الصغير وهو العشرة فقط. هذا هو مثال الانحلال وعدمه الذي يتأتّى فيه ضابط العزل وضمّ الباقي ، ولكن هناك قيود أُخر وتفاصيل ذكرناها فيما تقدّم من هذه التحارير ، فراجع [ منه قدس سره ].

قوله : وثانياً سلّمنا أنّ الأمارات الظنّية ليست من أطراف العلم الاجمالي - إلى قوله - ومقتضى ذلك هو اعتبار الظنّ بالحكم سواء حصل من

ص: 491

الظنّ بالصدور أو من الشهرة والإجماع المنقول ... الخ (1).

لابدّ أن يكون المراد من اعتبار الظنّ بالحكم ما كان منه في خصوص دائرة الأخبار ، لا ما كان خارجاً عن تلك الدائرة ، فإنّ هذا الإيراد الثاني هو بعينه إيراد الشيخ قدس سره (2) ، وقد عرفت أنّ مراده هو أنّه بعد وصول النوبة إلى تبعيض الاحتياط في دائرة الأخبار ، يكون المدار على ظنّ مطابقة المضمون للواقع ، فربما كان الخبر المظنون الصدور غير واجب العمل لأنّه لا يظنّ بمطابقة مضمونه للواقع لكونه مخالفاً للشهرة مثلاً ، وربما كان الخبر المشكوك الصدور أو الموهوم الصدور واجب العمل لحصول الظنّ بمطابقة مضمونه للواقع بواسطة كون مضمونه مطابقاً للشهرة ، فالمدار على الظنّ بمطابقة مضمون الخبر للواقع لا على الظنّ بصدوره.

وبالجملة : بعد فرض انحصار المنجّز من الأحكام بما كان منها في خصوص دائرة الأخبار ، لو بعّضنا الاحتياط في تلك الدائرة ، وقلنا بلزوم الجري على الظنّ بالحكم ، فإنّما هو على الظنّ بالحكم الموجود في ضمن تلك الدائرة أعني ما بأيدينا من الأخبار ، فالظنّ المتعلّق بالحكم الواقعي الحاصل من الشهرة لا عبرة به حتّى لو كان الظنّ به ملازماً للظنّ بصدوره عنهم عليهم السلام ، لأنّ ذلك الصدور المستكشف خارج عن الدائرة المذكورة.

وينبغي مراجعة تحريرات السيّد سلّمه اللّه فإنّ ما نقله عن شيخنا قدس سره في بيان هذا الايراد الثاني (3) موافق لما نقلته عنه ولما يظهر من هذا التحرير من كون

ص: 492


1- فوائد الأُصول 3 : 203 - 204.
2- فرائد الأُصول 1 : 359 ، وقد تقدّم في الصفحة : 473 فراجع.
3- أجود التقريرات 3 : 209.

المتّبع هو الظنّ الحاصل من الشهرة وإن لم يكن من دائرة الأخبار ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه قدس سره : ثمّ إنّ الشيخ قدس سره أورد على الاستدلال المذكور ثانياً بأنّ لازمه العمل بالحكم الذي يظنّ بصدوره منهم عليهم السلام ولو من الشهرة ونحوها ، ولا خصوصية للأخبار في ذلك ، فإنّ المدار على كون الحكم الشرعي قد صدر منهم عليهم السلام بيانه حيث إنّ الأخبار إنّما وجب العمل بما هو الصادر منها لتضمّنه للحكم الواقعي الصادر منهم عليهم السلام بيانه ، ولا خصوصية لكون ذلك في الأخبار ، انتهى.

وكيف كان ، فإنّك قد عرفت الإشكال على الشيخ قدس سره بأنّ الشهرة في الأوّل توجب عدم الظنّ بالصدور ، وفي الثاني توجب الظنّ بالصدور ، وأنّ هذا كلّه إنّما نشأ من الالتزام بتبعيض الاحتياط وقد تقدّم أنّه لا موجب له ، وأنّ اللازم هو العمل بجميع الأخبار المثبتة سواء كانت مظنونة الصدور أو مشكوكة الصدور أو موهومة الصدور ، وسواء كان مضمونها مظنون المطابقة أو مشكوكها أو موهومها. مضافاً إلى أنّ هذا لو تمّ فأقصى ما فيه هو لزوم العمل بمظنون الواقع من الأخبار الموجودة وعدم الخروج عن دائرتها ، وذلك مثل مظنون الصدور منها في أنّ العمل عليه مختصّ بالأخبار.

قوله : وأمّا هذا التقريب فهو مبني على وجوب العمل بنفس الأخبار الصادرة من حيث إنّها أخبار لكونها أحكاماً ظاهرية ، فلا تكون سائر الأمارات من أطراف هذا العلم الاجمالي ، لأنّ الأمارات الظنّية التي لم يقم دليل على اعتبارها ليست أحكاماً ظاهرية ، فدائرة العلم الاجمالي يتخصّص بالأخبار ، ونتيجته هي الأخذ بمظنون الصدور عند تعذّر تحصيل العلم التفصيلي بما صدر وعدم وجوب الاحتياط في الجميع ... الخ (1).

تقدّمت الاشارة (2) إلى أنّه لا موجب لتبيعض الاحتياط والركون إلى مظنون

ص: 493


1- فوائد الأُصول 3 : 205.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 470 وما بعدها.

الصدور ، بل اللازم هو العمل بجميع تلك الأخبار ، ولا محذور فيه على ما مرّ تفصيله.

ثمّ لا يخفى أنّ سائر الأمارات وإن خرجت عن دائرة هذا العلم الاجمالي المتعلّق بوجود الأحكام الظاهرية فيما بين الأخبار ، لعدم العلم باعتبار بعض تلك الأمارات ، كي تكون تلك الأمارات ممّا علم بوجود الحكم الظاهري فيما بينها أو فيما بينها وبين الأخبار ، إلاّ أنّ مقتضى ما تقدّم منه قدس سره بقوله : قلت أوّلاً : دعوى العلم الاجمالي في خصوص الأمارات الظنّية ليست ببعيدة الخ (1) وكذلك ما تقدّم نقله عن تحريرات السيّد من قوله : هذا كلّه على تقدير الاغماض الخ (2) ، هو عدم جواز طرح تلك الأمارات ، لا لأجل العلم الاجمالي بحجّية بعضها كي يقال إنّا لا نعلم بذلك فيما بينها ، بل لأجل العلم الاجمالي بكون بعض تلك الأمارات مطابقاً للواقع ، بمعنى العلم الاجمالي بوجود التكاليف الواقعية فيما بين تلك الأمارات ، وهذا العلم الاجمالي فيما بين تلك الأمارات لا ينحلّ بالعلم الاجمالي بالأحكام الظاهرية فيما بين تلك الأخبار ، بل لو علمنا تفصيلاً بحجّية جميع تلك الأخبار كان هذا العلم الاجمالي الموجود فيما بين الأمارات بحاله ، بل لو علمنا تفصيلاً بأنّ جميع ما تضمّنته الأخبار هي أحكام واقعية ، وكانت أكثر ممّا علمناه بالعلم الاجمالي الكبير ، لم يكن ذلك موجباً لانحلال العلم الاجمالي بوجود التكاليف فيما بين تلك الأمارات ، مع فرض أنّ ما قامت عليه الأمارات هو غير ما قامت عليه الأخبار ، وحينئذ فلا محيص ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّإنكار العلم الاجمالي بوجود التكاليف الواقعية في خصوص دائرة الأمارات التي هي ما عدا

ص: 494


1- فوائد الأُصول 3 : 201.
2- أجود التقريرات 3 : 207.

الأخبار كما عرفت تفصيله (1) ، بل عرفت أنّه لا وجود لموارد تلك الأمارات إلاّما لا يتجاوز عدد الأصابع ، فكيف يقال : إنّا نعلم إجمالاً بوجود التكاليف فيما بينها ، فراجع وتأمّل.

قوله : بل مقتضى العلم بصدور غالب ما في الكتب من الأخبار هو انحلال العلم الاجمالي بوجود التكاليف بين الأخبار والأمارات ، لأنّ ما صدر عنهم عليهم السلام يكون بقدر المعلوم بالاجمال من التكاليف بين الأخبار والأمارات ، فترتفع الإشكالات المتقدّمة على التقريب السابق بحذافيرها ... الخ (2).

ربما يتوهّم أنّ هذه الجملة منافية لما تقدّم من زيادة المعلوم بالإجمال فيما بين الأخبار والأمارات على المعلوم بالإجمال فيما بين الأخبار.

والجواب عن هذا التوهّم يظهر من التأمّل في كلّ من التوجيهين ، أعني التوجيه السابق وهذا التوجيه ، فإنّهما وإن اشتركا في أنّ كلاً منهما يحوم حول انحصار دائرة العلم الاجمالي فيما بأيدينا من الأخبار الموجودة في مجاميع سلفنا ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) إلاّ أنّ التوجيه الأوّل كان مرجعه إلى العلم الاجمالي بوجود أحكام واقعية في ضمن الأخبار الصادرة الموجودة في مجموع تلك الأخبار ، ومرجع هذا التوجيه الثاني إلى العلم الاجمالي بوجود الحجج الفعلية في ضمن تلك الأخبار ، فإنّا نعلم إجمالاً بوجود أخبار كثيرة هي صادرة عنهم عليهم السلام ، وهي موجودة في ضمن تلك المجاميع وإن لم نعلمها بأعيانها ، والأحكام المتحصّلة من تلك الأخبار الصادرة التي نعلم إجمالاً بوجودها فيما بأيدينا ليست

ص: 495


1- في الصفحة : 481 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 205 - 206.

أحكاماً واقعية ، وإنّما هي أحكام ظاهرية ، نظراً إلى أنّ تمامية حجّية الخبر الصادر منهم عليهم السلام تتوقّف على إعمال أصالة الظهور ، والأُصول الجهتية أعني أصالة عدم التقية ، ومن الواضح انحلال العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية ، إذا كان لدينا من الحجج الفعلية القائمة على إثبات الأحكام في موارد هي بمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف الواقعية ، وكانت تلك الحجج بمقدار ما هو المعلوم بالاجمال أو أكثر منه ، والفرق بين هذا التوجيه والتوجيه السابق أنّ هذا التوجيه ربما كان سالماً عن بعض الايرادات الثلاثة المتقدّمة.

فنقول بعونه تعالى : أمّا الايراد الأوّل ، وهو دعوى عدم الانحلال من جهة دعوى قلّة الأحكام الواقعية الموجودة في ضمن ما بأيدينا من الأخبار بالنسبة إلى الأحكام الواقعية المعلومة إجمالاً بالعلم الاجمالي الكبير أو المتوسط ، فعدم وروده عليه واضح كما أفاده قدس سره ، وتوضيحه : هو أنّ الأحكام الواقعية الموجودة في ضمن تلك الأخبار وإن كانت قليلة بالنسبة إلى المعلوم الاجمالي الكبير أو المتوسط ، لكن الأحكام الظاهرية المتحصّلة من تلك الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام الموجودة فيما بأيدينا من تلك الأخبار تكون أكثر بكثير ممّا علمناه إجمالاً من الأحكام الواقعية بالعلم الاجمالي الكبير أو المتوسّط.

والسرّ في ذلك هو ما أشار إليه فيما حرّرناه عنه قدس سره من أنّ تلك الأخبار الصادرة المعلوم وجودها فيما بأيدينا لا تتكفّل إلاّالأحكام الظاهرية ، لتوقّف حجّيتها على إعمال أصالة الظهور وإعمال جهة الصدور ، ولمّا كانت الأحكام الظاهرية قابلة للخطأ ، ولا نعلم بإصابة جميعها للواقع ، لتطرّق احتمال الخطأ في أصالة الظهور وأصالة جهة الصدور في مواردها ، فلم يكن العلم بوجود الأخبار الصادرة فيما بأيدينا ملازماً للعلم بوجود أحكام واقعية بمقدار تلك الأخبار

ص: 496

المعلوم صدورها ، بل قهراً يكون المعلوم من الأحكام الواقعية الموجودة في تلك الأخبار أقلّ ممّا علم من الأحكام الظاهرية الموجودة فيها ، مثلاً لو كان المعلوم وجوده إجمالاً من الأخبار الصادرة هو ألف خبر مثلاً ، كان لنا من الأحكام الظاهرية المعلومة الوجود مقدار ألف حكم ، لكن لا يكون المقدار المعلوم من الأحكام الواقعية الموجودة في تلك الأخبار هو هذا المقدار أعني ألفاً ، بل لابدّ أن يكون أقلّ من ذلك ، نظراً إلى تطرّق احتمال الخطأ في تلك الأحكام الظاهرية المعتمدة على أصالة الظهور وأصالة جهة الصدور ، فلا يكون المعلوم من الأحكام الواقعية إلاّما هو أقلّ من الألف ولو بمقدار ثلاثمائة مثلاً.

وبناءً على ذلك نقول : إنّه لو كان مقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية بالعلم الاجمالي الكبير مقدار تسعمائة مثلاً ، كانت الأحكام الظاهرية المعلوم وجودها كافية في انحلاله ، بخلاف الأحكام الواقعية المعلوم وجودها في ضمنها ، فإنّها غير كافية في انحلاله لكونها أقلّ منه ، هذا خلاصة شرح ما أفاده قدس سره من الفرق بين التوجيهين.

ومنه يعلم أنّ الإشكال الأوّل المتوجّه على التوجيه السابق غير متوجّه على هذا التوجيه ، إذ ليس الموجب لانحلال العلم الاجمالي الكبير بناءً على هذا التوجيه هو العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية في ضمن الأخبار ، كما كان كذلك على التوجيه السابق ، ليرد عليه أنّ المعلوم وجوده من الأحكام الواقعية في ضمن تلك الأخبار هو أقلّ ممّا علم منها بالعلم الاجمالي الكبير أو المتوسّط ، بل إنّ الموجب لانحلال العلم الاجمالي الكبير أو المتوسّط بناءً على هذا التوجيه إنّما هو العلم بالأحكام الظاهرية في مجموع تلك الأخبار ، وتلك الأحكام الظاهرية المعلومة الوجود فيما بين تلك الأخبار إن لم تكن أكثر من الأحكام الواقعية

ص: 497

المعلومة بالعلم الاجمالي الكبير أو المتوسط ، فلا شكّ في كونها بمقدارها ، وبذلك ينحلّ العلم الاجمالي الكبير والمتوسط أيضاً.

مثلاً لو كان لنا قطيع من الغنم ، وعلمنا إجمالاً بحرمة عشرين منها ، وحصل لنا العلم الاجمالي بأنّه قد قامت بيّنة على حرمة عشرين منه في خصوص السود ، فلا إشكال في انحلال العلم الاجمالي المتعلّق بحرمة عشرين في مجموع القطيع إلى العلم الاجمالي في خصوص السود ، ولا يجب علينا التحرّز عن البيض منه.

نعم ، لو كانت تلك الأحكام الظاهرية المعلوم وجودها إجمالاً قد تطرّق إليها العلم بالخطأ في بعضها أو الكثير منها ، بحيث كان ما يعلم إصابته أقلّ ممّا هو معلوم بالاجمال من الأحكام الواقعية بالعلم الاجمالي الكبير ، لكان ذلك مانعاً من الانحلال ، لكن أنّى لنا بذلك العلم بالخطأ ، غايته أنّا نحتمل الخطأ فيها ، وهذا لا يسقطها عن الحجّية ، وهذا بخلاف ما لو جعلنا الميزان في الانحلال إلى ما في الأخبار هو العلم بوجود الأحكام الواقعية فيها.

أمّا الإيراد الثاني المتوجّه على التوجيه الأوّل ، فالجواب عنه على هذا التوجيه واضح ، لأنّ توجّهه على الأوّل كان مبنياً على كون المدار على الأحكام الواقعية الموجودة في ضمن الأخبار ، فيكون التبعيض بحسب مظنون الواقع وإن كان غير مظنون الصدور ، وأمّا بناءً على هذا التوجيه فلأجل كونه مبنياً على كون المدار على الأحكام الظاهرية الموجودة في ضمن الأخبار ، فلا يكون التبعيض إلاّ بحسب مظنون الصدور دون مظنون الواقع ، هذا. مضافاً إلى ما عرفت من عدم توجّهه على التوجيه الأوّل.

نعم ، يتوجّه عليه الايراد الثالث ، وهو أنّ العمل بتلك الأخبار من باب

ص: 498

الاحتياط لا يكون منتجاً لحجّيتها ، فلا يلزم العمل على النافي منها ، ولا يصحّ لنا أن نخصّص أو نقيّد بشيء منها لعموم أو إطلاق كتابي مثلاً ، أو نرفع اليد بما يكون منها نافياً عن الأصل المثبت ، بل لا يصحّ أن نخصّص بعضها ببعض ، لاحتمال كون العام من الصادر مع احتمال عدم كون الخاص صادراً.

ومن ذلك يتّجه إشكال آخر ، وهو إشكال العلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر من بعضها المتوجّه على جميع ظواهر الأخبار ، فإنّ الفحص والعثور على المقدار المعلوم لا يوجب انحلاله هنا ، لما عرفت من عدم إمكان التقييد والتخصيص وتصرّف بعضها في دلالة البعض الآخر. ثمّ لو وقع التعارض بين اثنين منها كما هو الغالب فيها ، لم نتمكّن من علاجه بأخبار العلاج ، لأنّها من جملتها أيضاً ، فلا تكون معلومة الحجّية بنفسها.

وأمّا ما أفاده قدس سره من الايراد على هذا التوجيه أوّلاً ، بأنّه لا أثر للحكم الظاهري ما لم يصل إلى المكلّف ، وأنّ الحجّية ما لم تكن معلومة بالتفصيل لا أثر لها ، فيمكن التأمّل فيه بما عرفت في بعض الأبحاث السابقة (1) من أنّ الحجّية من المجعولات الشرعية التي تتبع واقعها ، غايته أنّ حكم العقل بأنّها منجّزة للواقع في مورد الاصابة ومصحّحة للعذر في مورد الخطأ ، يكون منوطاً بالعلم أو ما يقوم مقامه ، كما أنّ حكم العقل بلزوم إطاعة التكليف الواقعي وبالمنع عن عصيانه يكون أيضاً منوطاً بالعلم أو ما يقوم مقامه. ومن الواضح أنّ الحجّة لو كانت مردّدة بين أطراف محصورة كانت واصلة إلى المكلّف ، وكان العقل حاكماً بلزوم ترتيب أثرها على جميع الأطراف المحصورة التي تكون الحجّة الواقعية مردّدة بينها ، فلو ثبت حجّية خبر العادل مثلاً ، وقام أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية

ص: 499


1- في الصفحة : 377 - 378.

الهلال ، وقام آخر على وجوب جلسة الاستراحة مثلاً ، وعلمنا إجمالاً بعدالة أحد الراويين ، بحيث علمنا إجمالاً بحجّية أحد الخبرين ، لكان اللازم علينا العمل بهما ، ولا يسوغ لنا بحكم العقل طرحهما وعدم العمل بهما.

وبالجملة : أنّ العلم الاجمالي بالحجّة المردّدة بين أطراف محصورة كالعلم التفصيلي بها موجب لحكم العقل بترتّب الأثر على كلّ من الطرفين المعلوم إجمالاً حجّية أحدهما ، وهذا المقدار ممّا لا ينبغي الإشكال فيه على الظاهر ، وقد صرّح به قدس سره في أوائل مبحث التعادل والتراجيح ، فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه بقوله : والحاصل أنّ ضابط تعارض الدليلين هو أن يؤدّيا الخ (1) ، فإنّه في ذلك المقام تعرّض لمورد اشتباه الحجّة باللاحجّة ، وأفاد أنّه لا تجري عليه أحكام التعارض ، وأنّه إنّما يعمل فيه بقواعد العلم الاجمالي وهو لزوم الاحتياط ، وهذا الاحتياط وإن كان في المسألة الفرعية ، إلاّ أنّه إنّما يكون بعد ثبوت الحجّة في البين على أحد الحكمين.

لكنّه قدس سره هنا (2) وفي مقام الردّ على صاحب الفصول في مسألة الظنّ بالطريق (3) يظهر منه الجزم باعتبار العلم التفصيلي بما هو الحجّة ، وأنّه لا يكفي فيه العلم الاجمالي ، بل إنّ كلامه قدس سره صريح في ذلك في كلا المقامين ، فراجع وتأمّل.

نعم ، في خصوص المقام يمكن أن يوجّه اعتبار العلم التفصيلي ، إذ ليس الإشكال فيه من حيث السند وأصالة الصدور ، بل إنّما كان الإشكال فيه من ناحية

ص: 500


1- فوائد الأُصول 4 : 702.
2- فوائد الأُصول 3 : 207 - 208.
3- فوائد الأُصول 3 : 285 - 286.

أصالة الظهور وجهة الصدور ، لأنّ حاصل علمنا الاجمالي هو أنّ كثيراً من هذه المتون الموجودة في هذه الأخبار هو صادر عن المعصوم عليه السلام ، وهذه المتون المفروضة الصدور لا نتكلّم في حجّيتها من حيث السند ، لأنّ المفروض هو العلم بصدورها ، وإنّما يتكلّم فيها من حيث ظهورها وجهة صدورها ، إذ لا يمكننا الحكم على طبقها إلاّبعد إحراز أنّ المتكلّم بها أراد ما هو الظاهر منها ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، ولا يمكننا إحراز ذلك إلاّبأصالة الظهور وأصالة جهة الصدور ، ومعنى أصالة الظهور في الكلام هو البناء على أنّ المتكلّم أراد به ما هو الظاهر منه ، ومعنى أصالة جهة الصدور هو البناء على أنّه أراد بذلك الظاهر بيان الواقع لا لتقية ، ومن الواضح أنّ إجراء هذين الأصلين إنّما يكون بعد إحراز صدور ذلك الكلام من ذلك المتكلّم ، ليصحّ لنا أن نقول إنّ المتكلّم بذلك الكلام أراد به ظاهره ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية.

وحينئذ نقول : إنّ المفروض هنا هو أنّه ليس لنا إلاّالعلم الاجمالي بأن ألف متن من هذه المتون صادرة عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) من دون أن نعرف هذه المتون بعينها ، بل إنّ تلك الألف المعلومة إجمالاً مندمجة في جملة متون مختلفة ، فبعضها عام وبعضها خاص ، وبعضها مطلق وبعضها مقيّد ، وبعضها مجمل وبعضها مبيّن ، وبعضها يتضمّن الحكم الوجوبي لشيء وبعضها يتضمّن التحريم لشيء آخر أو لذلك الشيء ، وبعضها يتضمّن الاستحباب وبعضها الكراهة وبعضها معارض لآخر منها ، إلى غير ذلك من الاختلافات والأنحاء التي تشتمل عليها تلك المتون ، فهل يصحّ لنا أن نحكم بأنّ المتكلّم بتلك الألف التي لا نعرفها بأعيانها ، وهي مندمجة في ذلك البحر التيّار المترامي الأطراف المتدافع الأمواج أراد بها ما هو الظاهر منها ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، كلاّ ثمّ كلاّ ،

ص: 501

وليت شعري ما هو ذلك الظاهر حتّى نحكم بأنّ المتكلّم أراده ، وأنّه أراده لبيان الواقع ، هذا ممّا يقطع بعدم جريان الطريقة العقلائية عليه ، التي هي مدرك حجّية هذين الأصلين ، بل بما قد عرفت من كون ذلك الصادر مندمجاً في ذلك المجموع ، أنّ الحكم بأنّ المتكلّم أراد ظاهره ربما عدّ من الممتنعات فضلاً عن المستهجنات. هذا إذا أردنا تحكيم أصالة الظهور وجهة الصدور في نفس تلك الألف الواقعية التي لا نعرفها بأعيانها.

ولو أُريد إجراء ذلك الأصل في كلّ واحد من تلك المتون الموجودة التي هي أطراف ذلك العلم الاجمالي بصدور ألف منها ، بأن نأخذ كلّ متن من تلك المتون التي فرضنا العلم بصدور ألف منها ، ونحكم عليه بأنّ المتكلّم أراد به ظاهره ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، كان ذلك محالاً من ناحية أُخرى ، إذ مع فرض أنّ هذا المتن الخاص الذي هو بأيدينا فعلاً غير معلوم الصدور من المعصوم عليه السلام ، كيف يمكننا أن نحكم بأنّه عليه السلام أراد به ظاهره وأراد به بيان الواقع لا لتقية ، إذ لا يكون ذلك الحكم ممكناً إلاّبعد إحراز صدور ذلك المتن منه عليه السلام ، وذلك لا يكون إلاّبحجّية السند ، والمفروض أنّا لا نقول بذلك ، إذ لو قلنا بحجّيته لم نحتج إلى تطرّق هذا العلم الاجمالي.

وإذا سقطت أصالة الظهور وجهة الصدور في هذه المتون الموجودة في مجاميعنا ، لم يكن أثر للعلم الاجمالي بصدور الكثير منها منهم عليهم السلام ، إذ مع فرض سقوط أصالة الظهور فيها لا يمكننا العمل بشيء من متونها. نعم لو كانت كلّها نصوصاً قطعية الدلالة ، بحيث إنّها لم تكن في دلالتها محتاجة إلى شيء من الأصلين المزبورين ، لكان للعلم الاجمالي المتعلّق بصدور الكثير منها أثر عملي وهو وجوب العمل بها أجمع ، لكن أنّى لنا بهذه الدعوى.

ص: 502

وبالجملة : أنّ الاستراحة من حيث السند لا توجب قطعية الحكم ، لعدم كون الدلالة قطعية ، وإلاّ لكانت الآيات الشريفة والأخبار المتواترة قطعية الدلالة ، ولازم ذلك هو عدم التمكّن من تحكيم بعضها على بعض من حيث الدلالة ، وهذا ممّا لا يرتضيه كلّ من له أدنى تحصيل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال لو تمّ لتوجّه على التوجيه الأوّل أيضاً ، فإنّ العلم الاجمالي بوجود أحكام واقعية في دائرة ما بأيدينا من الأخبار إنّما هو عبارة أُخرى عن العلم الاجمالي بمطابقة الكثير منها للواقع ، ولا ريب أنّ ذلك - أعني العلم بمطابقة الكثير من تلك الأخبار للواقع - يتوقّف على الأخذ بظهورها ، وإلاّ فكيف نعرف أنّها مطابقة للواقع.

ثمّ إنّه بعد الغضّ عن ذلك كيف تكون نتيجة ذلك العلم الاجمالي بوجود التكاليف الواقعية في ضمن دائرة الأخبار ، أليست هي إلاّوجوب العمل بتلك الأخبار ولو من باب الاحتياط لاحتمال انطباق المعلوم الاجمالي عليها ، فإذا فرضنا أنّ أصالة الظهور لا تجري فيها ، فكيف يمكننا العمل بها ، بل لو تمّ الإشكال المزبور لجرى فيما مثّلنا من قيام أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، والآخر على وجوب جلسة الاستراحة مع العلم بحجّية أحدهما وعدم حجّية الآخر ، فإنّك لا يمكنك إحراز صدور هذا الخبر ولا ذلك الخبر حتّى لو تمّت حجّية خبر العادل بالأدلّة الخاصّة ، للعلم الاجمالي بخروج أحدهما عن تلك الأدلّة ، فكيف يمكننا العمل بهما ولو من باب الاحتياط مع فرض توقّف العمل على إحراز ظهورهما بأدلّة أصالة الظهور ، مع أنّه قدس سره قد صرّح في مبحث التعادل والتراجيح (1) باجراء أحكام العلم الاجمالي في مثل ذلك فراجع. وسيأتي

ص: 503


1- فوائد الأُصول 4 : 703.

إن شاء اللّه تعالى مزيد توضيح له في البحث مع صاحب الفصول القائل باختصاص مقدّمات الانسداد بحجّية الظنّ بالطريق فيما علّقناه على هذا التحرير ص 104 (1).

فالأولى في دفع هذا الإشكال عن جميع هذه المقامات وأمثالها هو أن يقال : إنّ حجّية الصدور وحجّية الظهور وإن توقّفت إحداهما على الأُخرى ، إذ لا أثر للتعبّد بصدور ما ليس له ظاهر ، كما أنّه لا أثر للتعبّد بظهور ما ليس بصادر ، ولابدّ في دفع الدور بأنّه دور معيّ ، وحاصله : أنّه يكفي في التعبّد بالظهور لزوم الأخذ بظهور هذا المتن لو كان صادراً ، ويكفي في التعبّد بالصدور (2) لزوم الأخذ بصدوره لو كان له ظاهر ، فإذا جرت أصالة الظهور وأصالة الصدور تمّ المطلب.

وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إنّه يكفي في التعبّد بظهور هذا المتن فرض صدوره عن المعصوم عليه السلام ، ونحن وإن لم نحرز صدوره بالدليل الخاص ، إلاّ أنّه لمّا كان ذلك المتن من أطراف ما علم صدوره ، وكان العقل حاكماً بلزوم ترتيب آثار الصدور على كلّ واحد من تلك المتون ، كان ذلك الحكم العقلي كافياً في تصحيح إجراء أصالة الظهور فيه. نعم لو لم يكن في البين ما يقتضي لزوم ترتيب آثار الصدور على متن من المتون ، من حكم الشرع بصدوره بالدليل الخاص ، أو حكم العقل بترتيب آثار الصدور عليه ولو لأجل كونه طرفاً للعلم الاجمالي بالصدور ، لم يمكن الحكم فيه بأصالة الظهور لكونه حينئذ لغواً صرفاً.

ولكنّه مع هذا كلّه لا ينفع فيما نحن فيه ، من جهة حاجة تلك المتون إلى تحكيم بعضها على بعض ولو من حيث العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ،

ص: 504


1- راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : 61.
2- [ في الأصل : التعبّد بالظهور ، والصحيح ما أثبتناه ].

ومع احتمال عدم صدور الخاص كيف نحكّمه على العام الذي نحتمل صدوره ، ولا يكفينا في هذا أن نقول إنّ هذا الخاص لو كان صادراً لكان محكّماً على العام ، إذ مع احتمال كون الخاص غير صادر وكون العام صادراً ، يكون تحكيم ذلك الخاص على ذلك العام على خلاف الاحتياط ، ولعلّ هذا هو أحد أسباب عدم إمكان الاحتياط ، الموجب لما أفاده الشيخ قدس سره (1) وشيخنا قدس سره (2) من لزوم التنزّل إلى ما هو مظنون الصدور.

ثمّ لا يخفى أنّه قد حقّق في محلّه (3) أنّ للظهور مرتبتين : الأُولى مرتبة كون اللفظ في حدّ نفسه ظاهراً في المعنى الفلاني. المرتبة الثانية : مرتبة الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك الظاهر. وهذه المرتبة الثانية هي المعبّر عنها بالدلالة التصديقية ، وهي المتوقّفة على صدور ذلك اللفظ من ذلك المتكلّم دون المرتبة الأُولى ، ومن الواضح أنّ هذه المرتبة الثانية لا يكفي فيها التعليق ، بأن يقال : إنّ هذا المتن لو كان صادراً من المعصوم عليه السلام لكان المراد به هذا المعنى ، لأنّ ذلك لا يكفي في النسبة الفعلية بأن يقال إنّه عليه السلام أراد به هذا المعنى.

والأولى أن يقال : إنّ المرتبة الثانية وإن توقّفت على الصدور إلاّ أنّ الحكم بالصدور ولو بالدليل العام لا يتوقّف على المرتبة الثانية ، وأقصى ما هنالك أنّه موقوف على المرتبة الأُولى ، فإذا كان اللفظ ظاهراً في حدّ نفسه في شيء حكم بصدوره ، وإذا حكم بصدوره كان ظهوره حجّة الذي هو المرتبة الثانية من

ص: 505


1- تقدّم نقل كلماتهما قدس سرهما والمناقشة فيها في الحاشية المذكورة في الصفحة : 470 وما بعدها.
2- تقدّم نقل كلماتهما قدس سرهما والمناقشة فيها في الحاشية المذكورة في الصفحة : 470 وما بعدها.
3- راجع فوائد الأُصول 4 : 716 - 717 ، وراجع أيضاً ما تقدّم في المجلّد الخامس من هذا الكتاب في الصفحة : 95.

الظهور ، أمّا العلم الاجمالي بأنّ هذا المتن من جملة متون نعلم بصدور بعضها منه عليه السلام فهو لا يكفي في تحقّق الدلالة المزبورة ، أعني الحكم بأنّه عليه السلام أراد هذا المعنى من هذا المتن. نعم إنّ نتيجة العلم الاجمالي بالصدور هو العلم الاجمالي بأنّه عليه السلام أراد جملة من هذه الظواهر ، وهذا الأخير هو منشأ الأثر ، وهو الموجب للاحتياط بالعمل بجميع تلك المتون.

لا يقال : إنّ ذلك لازم للقول بالحجّية من باب الأدلّة الخاصّة ، للعلم الاجمالي بعدم صدور بعض تلك الأخبار التي قامت على حجّيتها الأدلّة الخاصّة.

لأنّا نقول : إنّ الذي قامت عليه الأدلّة بالخصوص هو الخبر الموثوق به ، والعلم بأنّ بعض الأخبار الموثوق بها غير صادر ممنوع. ولو سلّمنا ذلك لم يكن ذلك العلم بعدم صدور البعض موجباً لسقوط أصالة الظهور في تلك الأخبار ، لأنّ كلّ واحد منها في حدّ نفسه محرز الصدور ببركة أصالة الصدور التي أخذناها من الأدلّة الخاصّة ، غايته أنّه يقع الإشكال في نفس أصالة الصدور ، وأنّ هذا الأصل منتقض في بعض تلك الأخبار ، وهذا المقدار من العلم بخلاف ذلك الأصل في بعض مجاريه لا يوجب سقوطه بالمرّة ، كما أنّ علم الشخص بأنّ بعض ما يأخذ به من أصالة الظهور منتقض في الجملة ، إذ لا شكّ في أنّه يعلم بأنّ بعض هذه الظواهر التي يحكم بها في مقام التفاهم مع غيره في تمام عمره ، أو في تمام هذه السنة مثلاً ، قد أراد المتكلّمون بها خلاف ما هو الظاهر ، بل هو جارٍ في البيّنات ، فإنّ الإنسان أو المجتهد يعلم إجمالاً بأنّ بعض هذه البيّنات التي تقام عنده في تمام مدّة تولّيه القضاء غير مطابق للواقع ، بل إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّ بعض إخبارات المخبرين له فيما يعود إلى الحوادث اليومية غير مطابق للواقع ، ولا يوجب ذلك التوقّف في تصديقه لكلّ من يخبره بخبر مع فرض كونه من

ص: 506

الموثوق به.

وبالجملة : أنّ هذه العلوم الاجمالية لا يعتني بها العقلاء في إسقاط ما بأيديهم من الأُصول العقلائية ، بل إنّ الفقيه نفسه ربما علم إجمالاً بأنّ بعض فتاواه الموجودة في رسالته العملية غير مطابق للواقع ، لكنّه لا يعتني بذلك ، لأنّ هذا المقدار من العلم ممّا لا يعتني به العقلاء في قبال ما لديهم من الحجج الفعلية في الموارد الخاصّة ، سواء كانت تلك الحجج شرعية أو كانت عقلائية.

نعم ، لو قلنا إنّ جميع ما في الوسائل من الأخبار ممّا قامت على حجّيته الأدلّة الخاصّة ، لكان العلم الاجمالي المتعلّق بعدم صدور البعض ممّا هو محصور فيما بين الدفّتين مسقطاً للحجّية في كلّ واحد منها ، لكونه من أطرافٍ علم بعدم صدور بعضها ، لكن قد عرفت أنّ القائل بالحجّية بالأدلّة الخاصّة إنّما يقول به في خصوص الموثوق به ، وذلك - أعني الخبر الموثوق به فيما بين الدفّتين من الوسائل - لا علم لنا بكون بعضه غير صادر. نعم لو أخذنا ذلك قاعدة كلّية ، وقلنا بحجّية كلّ خبر موثوق به سواء كان في الوسائل أو غيرها ممّا لا حصر له ، لأمكن دعوى العلم الاجمالي بعدم صدور بعضه ، إلاّ أنّ هذا المقدار من العلم الاجمالي بالنسبة إلى هذه الدائرة الوسيعة لا يعتني به العقلاء ، وهو السرّ في عدم لزوم الاجتناب في أطراف الشبهة غير المحصورة ، هذا كلّه فيما أورده قدس سره أوّلاً على التوجيه المزبور.

وأمّا ما أورده قدس سره عليه ثانياً : من أنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام الظاهرية بعد فرض عدم إمكان الاحتياط في جميع الأطراف ، لا يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المتوسط ، لفرض عدم تنجّز ذلك العلم الاجمالي بوجود الأحكام

ص: 507

الظاهرية في تمام الأطراف ، وأنّ فرض المسألة هو التنزّل إلى مظنون الصدور ، وهو أقلّ ممّا هو معلوم بالاجمال بالعلم الاجمالي المتوسط.

فيمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ جميع ما لدينا من الأخبار الموجودة في المجاميع مظنون الصدور ، ومن الواضح أنّ ما علم إجمالاً من الأحكام الظاهرية بينها بمقدار المعلوم بالاجمال.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّ بعض تلك الأخبار غير مظنون الصدور ، فلا وجه لاسقاط الاحتياط والتزام خصوص ما هو مظنون الصدور منها ، لما عرفت من إمكان العمل بالاحتياط الكلّي في جميع تلك الأطراف ، أعني الأخبار الموجودة في المجاميع ، ولا يلزم منه التعذّر ولا العسر والحرج ولا غير ذلك ممّا تقدّم تفصيل الكلام فيه (1). نعم في خصوص تحكيم بعضها على بعض لا يكون الاحتياط ممكناً كما عرفت تفصيله.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا عدم إمكان الاحتياط في تمام ما بأيدينا من الأخبار ولو من جهة توقّف العمل بها على تحكيم بعضها على بعض ، ولزم التنزّل إلى ما هو مظنون الصدور فيها من باب تبعيض الاحتياط ، لأمكننا القول بأنّ ما هو مظنون الصدور من تلك الأخبار يكون بمقدار المعلوم إجمالاً بالعلم الاجمالي المتوسط ، فإنّه قدس سره قد التزم بانحلال العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي المتوسط ، مع أنّ الاحتياط في تمام أطراف العلم الاجمالي المتوسط يأتي فيه ما يأتي في العلم الاجمالي الصغير ، الذي هو العلم بوجود الأحكام الظاهرية في خصوص الأخبار مِن تعذّر الاحتياط في تمام أطرافه ولزوم التنزّل إلى الظنّ ، وحيث إنّه يندفع هذا

ص: 508


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 470 وما بعدها.

الإشكال على العلم الاجمالي المتوسط بأنّ مظنوناته بمقدار المعلوم إجمالاً بالعلم الاجمالي الكبير ، فكذلك نقول : إنّ مظنونات العلم الاجمالي الصغير هي بمقدار المعلوم الاجمالي المتوسط. ودعوى كون مظنونات الصغير أقلّ من مظنونات المتوسّط لا شاهد عليها بعد ما شرحناه سابقاً (1) من قلّة الأمارات التي هي غير الأخبار ، فراجع وتأمّل.

قوله : فإن قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأمّا إن كان من باب أنّ الشارع جعل الظنّ بالصدور حجّة وطريقاً إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحلّ العلم الاجمالي المتعلّق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنّية - إلى قوله - قلت : هذا إذا تمّت المقدّمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجّية الظنّ ، وأنّ الشارع جعل الظنّ طريقاً إلى ما صدر ... إلخ (2).

لا يخفى أنّه بعد أن أفاد في جواب « إن قلت » الأولى ما نصّه : لأنّ مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية الخ (3) ، لا يكون مظنون الصدور موجباً لانحلال العلم الاجمالي ولو تمّت مقدّمات الانسداد على الكشف ، بل ولو كانت مظنونات الصدور حجّة بالخصوص ، لفرض أنّها أقلّ من المعلوم بالاجمال فتأمّل.

ص: 509


1- في الصفحة : 484.
2- فوائد الأُصول 3 : 211.
3- فوائد الأُصول 3 : 210.

قوله : بل كان ممّا سكت اللّه تعالى عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشكّ أو الظنّ بذلك خرط القتاد ، بل من المحالات العادية ... الخ (1).

لا يقال : إنّ احتمال كون مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم عليه السلام وأنّه لم يصدر عنه عليه السلام ، لا يلزمه احتمال أنّ الواقعة لا حكم فيها قد بلّغه المعصوم كي يدخل بذلك في المحالات العادية ، بل يجوز أنّ الحكم في تلك الواقعة قد بلّغه المعصوم ولكن قامت الشهرة على خلافه ، بأن تقوم الشهرة على كون الحكم في الواقعة هو الاباحة مثلاً ، ولكن يكون الحكم الواقعي الذي بلّغه المعصوم هو الحرمة.

لأنّا نقول : مراده قدس سره أنّ الظنّ [ بالحكم ] الحاصل من الشهرة [ الذي ] هو الاباحة ملازم لكون ذلك الحكم الذي هو الاباحة قد بلّغه المعصوم ، فيكون موجباً للظنّ بأنّه مدلول السنّة ، فلا خصوصية للظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ إذا كان الظنّ الحاصل من الشهرة منفكّاً عن الظنّ بالسنّة ، بأن يظنّ أو يشكّ في كون ذلك الحكم الذي قامت عليه الشهرة لم يبلّغه المعصوم ، وهو محال عادةً.

ثمّ لا يخفى أنّ دعوى الضرورة على الرجوع إلى الكتاب والسنّة إنّما يتمّ في خصوص قطعي الدلالة ، أمّا ما يحتاج منهما إلى إعمال قواعد الظهور والأُصول العقلائية فليس ممّا قامت الضرورة عليه ، وحينئذ نحتاج إلى دعوى العلم الاجمالي بوجود الأحكام في ضمن تلك الظواهر ، أو دعوى العلم الاجمالي

ص: 510


1- فوائد الأُصول 3 : 212.

بحجّية بعض تلك الظواهر ، وحينئذ يكون هذا الوجه محتاجاً إلى الوجه السابق في أحد تقريبيه حتّى لو كان المراد من السنّة هو السنّة الواقعية ، أعني نفس قول المعصوم ، ولا خصوصية لذلك بما أُريد من السنّة الخبر الحاكي لها كما أفاده قدس سره.

وبالجملة : أنّ المكلّف محتاج إلى الحكم الظاهري ، سواء كان المراد من السنّة نفس قول المعصوم أو كان المراد بالسنّة ما يعمّ الخبر الحاكي لها ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون من ناحية الظهور فقط ، بخلافه على الثاني فإنّه من ناحية الظهور ومن ناحية الصدور ، فتأمّل. وعليه فتكون النتيجة هي احتياج هذا الوجه إلى الوجه السابق ، سواء كان المراد من السنّة هي نفس قول المعصوم ، أو كان المراد بها هو الخبر الحاكي لها.

قوله : وعمدتها الطريقة العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها ... الخ (1).

قد عرفت أنّ عمدتها إنّما هي الأخبار المتواترة إجمالاً ، ويتلوها في الدلالة آية النفر ، وأنّ الطريقة العقلائية محتاجة إلى دليل الامضاء ، وأنّ عدم الردع لا أثر له إلاّمن ناحية كونه إمضاء ، فعند الشكّ في الردع لا يكون أصالة عدم الردع نافعاً لكونه حينئذ من الأُصول المثبتة ، فراجع (2) وتأمّل.

قوله : فيرجع هذا الوجه إلى الانسداد الكبير ... الخ (3).

أو يرجع إلى الوجه السابق الذي هو دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى ما بأيدينا من الأخبار.

ص: 511


1- فوائد الأُصول 3 : 214.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 454 وما بعدها ، وكذا الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 466 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 213 - 214.

قوله : لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، بل المشكوك ، بل الموهوم أيضاً إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأُخروي ... الخ (1).

ومن ذلك يظهر لك لو تمّ هذا الدليل لم يكن للظنّ خصوصية ، بل كان نتيجته لزوم العمل باحتمال التكليف ، وهو عبارة عن الاحتياط في كلّ مورد يحتمل فيه التكليف ولو موهوماً ، لأنّ احتماله ملازم لاحتمال العقاب ، ودفع الضرر المحتمل لازم بحكم العقل.

قوله : لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنّه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم ، فضلاً عن المشكوك ، فضلاً عن المظنون ... الخ (2).

لا يخفى أنّ التعبير في هذا المقام بأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان حاكمة أو واردة على قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل لا يخلو عن تسامح ، فإنّ كلاً من الورود والحكومة والتخصيص والتقييد وغير ذلك من طرق الجمع الدلالي إنّما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت ، ومقامنا في الأحكام العقلية إنّما هو مقام الثبوت ، لأنّ الحكم إنّما هو للعقل ، وحينئذ فيكون الحاصل هو أنّ العقل بعد الفحص يحكم بالمعذورية ، وقبله لا يحكم بذلك بل يحتمل العقاب ، وليس معنى الحكم العقلي إلاّالإدراك ، فيكون الحاصل أنّ المكلّف بعد الفحص وعدم قيام الحجّة يقطع بعدم العقاب والمعذورية ، بخلافه قبل الفحص فإنّه يحتمل العقاب.

نعم ، هناك مناقشات صغرى كما في الشبهات الموضوعية ، فإنّ الاحتمال

ص: 512


1- فوائد الأُصول 3 : 214 - 215.
2- فوائد الأُصول 3 : 215.

فيها موجود ، لكن يدّعى الإجماع على جريان البراءة الشرعية فيها قبل الفحص ، ولو تمّ لكان بمنزلة خبر يصرّح برفع التكليف في تلك الموارد. كما أنّه قد يدّعى لزوم الاحتياط في مورد القطع بعدم قيام الحجّة على التكليف ، كما في الشكّ في مدخلية قصد القربة في الغرض بعد فرض عدم إمكان التكليف الشرعي بها ، كما هو مدّعى الكفاية في مسألة التعبّدي والتوصّلي (1) ، وأنّ احتمال المدخلية في الغرض موجب للاحتياط ، بناءً على حكم العقل بلزوم تحصيل ما يتوقّف عليه الغرض من الأمر وإن لم يكن دخيلاً في المأمور به.

قوله : الأمر الثاني : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة أنّ ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ... الخ (2).

قد ذكرنا في مبحث البراءة (3) فيما علّقناه على هذا التقسيم ، أنّ التكليف المشكوك إن كان من قبيل القسم الأوّل ، كان مورداً للزوم الاحتياط ، ولا مورد فيه للبراءة العقلية ولا الشرعية ، وإن كان من قبيل الثاني كان العقل فيه حاكماً بالمعذورية ، بل قد يقال : إنّه لا مورد فيه للبراءة الشرعية وإن أمكن كونه مورداً للبراءة العقلية.

إلاّ أنّ التحقيق هو قابلية المورد لكلّ من البراءة العقلية والشرعية ، لأنّ عدم قابلية تأثير الارادة في مقام الشكّ فيها لا يخرج المقام عن احتمال التكليف الواقعي ، فنحتاج إلى نفي ذلك الاحتمال بالبراءة ، إذ ليس معنى ذلك هو

ص: 513


1- كفاية الأُصول : 75 - 76.
2- فوائد الأُصول 3 : 216.
3- لعلّ المقصود بذلك ما يأتي في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 122 وما بعدها.

اختصاص الارادة الواقعية بخصوص العالمين بها ، وإلاّ للزم انسداد باب الاحتياط الاستحبابي في ذلك فتأمّل ، فإنّ هذا المقدار لا يرفع الإشكال بحذافيره ، لأنّ الاقتصار في إجراء البراءة على هذه الصورة مع فرض إخراج الصورة الثالثة يوجب انحصار البراءة بالموارد التي يقطع فيها بعدم وجوب الاحتياط ، دون الموارد التي نحتمل فيها وجوب الاحتياط ، وهي موارد الصورة الثالثة ، أعني ما لو تردّد ذلك التكليف المشكوك الوجود بين كونه من الأوّل أو الثاني ، فقد يقال إنّها لا تكون مورداً لكلّ من [ البراءة ] العقلية والبراءة الشرعية نظراً إلى تحقّق احتمال الملاك القوي.

والحقّ هو جريان البراءة في ذلك ، فإنّ ملاك وجوب الاحتياط الشرعي وموضوعه هو التكليف القوي الملاك عند احتماله ، فلابدّ في إجراء وجوبه من إحراز قوّة ذلك التكليف المحتمل ، ولا يكفي في ذلك احتمال قوّته. نعم لو كان ملاك وجوب الاحتياط هو مجرّد احتمال وجود التكليف القوي الملاك ، على وجه تكون قوّة الملاك داخلة في الاحتمال كأصل وجود التكليف ، كان اللازم هو الرجوع إلى الاحتياط.

والحاصل : أنّ احتمال التكليف إنّما يكون موجباً لجعل الشارع إيجاب الاحتياط في خصوص ما لو كان ملاك ذلك التكليف المحتمل قوياً ، فلابدّ في التزام المكلّف بالاحتياط من إحرازه قوّة الملاك.

ثمّ إنّ الخارج ليس هو عنوان « قوي الملاك » كي يقال إنّ التمسّك بعموم دليل البراءة تمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل الخارج إنّما هو عناوين خاصّة مثل الدماء والفروج ، وبعد خروجها نحكم بطريق الانّ بكون ملاكها قوياً ، فذلك نظير ما لو خرج من عمومات أوفوا بالعقود العقد الفارسي مثلاً ، فإنّه بعد

ص: 514

ثبوت خروجه نحكم بفساده ، لا أنّ الخارج هو عنوان الفاسد كي يكون التمسّك بالعموم بالنسبة إلى العقد الذي كان إيجابه بصورة المضارع مثلاً تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، فراجع ما حرّرناه في مباحث البراءة وتأمّل.

قوله : وإن كان الضرر دنيوياً فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره في مبحث البراءة هو أنّ الظنّ في المضار الدنيوية يكون طريقاً مجعولاً ... الخ (1).

ينبغي أن يعلم أوّلاً : أنّ الضرر الدنيوي الذي يحكم العقل بلزوم دفعه هو ما يرجع إلى النفس ونحو ذلك من الأضرار المهمّة ، دون مثل الجرح الطفيف وإتلاف المال القليل ونحوهما ، وتمام الكلام فيه في قاعدة لا ضرر.

ثمّ بعد فرض كون الضرر الدنيوي ممّا يكون دفعه لازماً بحكم العقل نقول : إنّه لا فرق بينه وبين العقاب الأُخروي في كون حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه طريقياً ، لا يترتّب عليه سوى الوقوع في الضرر لو صادف الواقع ، ولكن وقع النزاع في أنّ حكم العقل بلزوم دفع الضرر سواء كان أُخروياً أو كان دنيوياً هل هو بملاك واحد ، سواء كان الضرر معلوماً أو كان محتملاً ، نظير حكمه بقبح الكذب والتشريع ، أو أنّه بملاكين نظير حكمه بقبح الظلم ، فيكون حكمه في مورد العلم واقعياً وفي مورد الاحتمال طريقياً تحرّزياً ، ولا يبعد أن يكون الوجه هو الثاني من دون فرق في ذلك بين الأضرار الدنيوية والأضرار الأُخروية ، ولا فرق على الظاهر بين الحكم العقلي في كلّ من الموردين.

نعم ، إنّ حكم العقل بالفرار من العقوبة لا يستتبع حكماً شرعياً ، بخلاف حكمه بالفرار من الضرر الدنيوي فإنّه يستتبع حكم الشرع بلزوم الفرار عن ذلك ،

ص: 515


1- فوائد الأُصول 3 : 217.

فلا يكون الحكم الشرعي المستكشف به إلاّطريقياً. نعم قد يؤخذ الظنّ بالضرر أو احتماله موضوعاً في بعض الأحكام ، مثل وجوب الاتمام ولزوم التيمّم ولزوم الافطار ونحو ذلك ، وذلك كلّه أجنبي عن الحكم الشرعي المستكشف بطريق الملازمة من حكم العقل بلزوم الفرار من الضرر.

ومنه يظهر لك أنّه لا وجه لتقدّمه على الاستصحاب. نعم لو قلنا إنّه موضوعي وأنّه بملاك واحد ، كان حاله حال التشريع ، وحينئذ يكون مقدّماً على استصحاب الضرر ، كما يقدّم حرمة التشريع على استصحاب عدم الحجّية ، لكن يكون حاله بالنسبة إلى استصحاب عدم الضرر كحال حرمة التشريع بالنسبة إلى استصحاب الحجّية في كون الاستصحاب مقدّماً عليه ، كما مرّ الكلام في ذلك في أوائل مبحث الظنّ (1).

لكن سيأتي منه قدس سره في الايراد الثالث على الشيخ قدس سره في أوّل ص 82 (2) أنّ حكم العقل بدفع الضرر المظنون وارد أو حاكم على البراءة والاستصحاب ، سواء كان موضوعياً أو كان طريقياً ، وقد عرفت أنّه لا وجه لحكومته أو وروده على الاستصحاب فيما لو كان طريقياً (3) ، وكذلك لا وجه لحكومته أو وروده على استصحاب عدم الضرر فيما لو قلنا إنّه موضوعي. والمراد من استصحاب عدم الضرر في المقام هو استصحاب عدم التكليف ، فإنّه يحكم بعدم الضرر ، وهكذا

ص: 516


1- في الصفحة : 366 وما بعدها.
2- فوائد الأُصول 3 : 223 - 224.
3- وينبغي ملاحظة ما أفاده في الجزء الثاني ص 168 وما علّقناه هناك [ منه قدس سره. راجع فوائد الأُصول 4 : 3. وراجع الحاشية على ذلك ، الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : 492 وما بعدها ].

الحال في كلّ حكم شرعي يكون موضوعه الاحتمال أو الخوف ، فإنّ الاستصحاب يكون حاكماً عليه إلاّإذا كان ذلك الحكم وارداً في مورد الاستصحاب ، كما في خوف فوت الوقت بالنسبة إلى وجوب التيمّم ، فإنّه قد ورد في مورد استصحاب بقاء الوقت. ومنه يظهر لك الإشكال فيما ذكره في العروة في مبحث التيمّم في مسألة 27 (1).

قوله : فإنّه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرّد الأمر ، ولم يبق موقع للامتثال ... الخ (2).

قد يقال : إنّ القائل بكون المصلحة في نفس الأمر لا يلتزم بعدم وجوب الامتثال على العبد ، وعدم قيامه بمقتضى عبوديته. نعم يرد عليه أنّ تعيين الفعل الفلاني لكونه متعلّقاً للأمر من بين سائر الأفعال يكون ترجيحاً بلا مرجّح ، وتمام الكلام في محلّه من البحث عن قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقاعدة الملازمة فراجع (3).

قوله : بل ينبغي القطع بعدم العقاب ، لاستقلال العقل بقبحه (4).

تقدّمت (5) الاشارة إلى أنّ ذلك - أعني احتمال العقاب - لو كان متحقّقاً لكانت النتيجة هي حجّية احتمال التكليف ولو كان موهوماً ، ولا خصوصية للظنّ به من بين سائر الاحتمالات.

ص: 517


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 184 - 185.
2- فوائد الأُصول 3 : 219.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 154 وما بعدها.
4- فوائد الأُصول 3 : 220.
5- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 512 على فوائد الأُصول 3 : 214 - 215.

قوله : فإن كان من العبادات فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال وهو يدور مدار العلم بالتكليف ... الخ (1).

فيه تأمّل ، فإنّ المصلحة إنّما تتوقّف على العلم حيث يكون ممكناً ، أمّا مع عدم إمكانه فلا تتوقّف المصلحة المزبورة على العلم ، بل يكفي في حصولها الاتيان بالفعل بداعي الاحتياط لاحتمال كونه مأموراً به ، فإنّ المصلحة في العبادات تابعة لقصد القربة لا لقصد الوجه ، فيكون هذا البحث راجعاً إلى البحث عن إمكان الاحتياط في العبادات ، وقد حقّق في محلّه أنّه عند تعذّر حصول العلم بمكان من الامكان ، بل تقدّم في بعض مباحث القطع توجيه إمكانه حتّى في صورة التمكّن من تحصيل العلم فراجع (2). ولكن إمكان الحصول على المصلحة بالاحتياط إنّما هو من باب الامتثال الاحتمالي ، والمطلوب هو حجّية الظنّ بالامتثال الظنّي.

والحاصل أنّ إمكان الاحتياط لا ينتج إلاّوجوب العمل بالاحتمال والمطلوب إنّما هو العمل بالظنّ. وإن شئت فقل كما تقدّم سابقاً : إنّ هذا الدليل لا ينتج حجّية الظنّ ، بل إنّما ينتج حجّية الاحتمال.

قوله : وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فإن كان من الأحكام النظامية فالظنّ بها لا يلازم الظنّ بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فإنّ الأحكام النظامية ... الخ (3).

يمكن أن يقال : إنّا بعد أن فرضنا المصالح والمفاسد من قبيل الضرر

ص: 518


1- فوائد الأُصول 3 : 220.
2- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة في الصفحة : 171 وما بعدها ، وكذا راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 201 وما بعدها.
3- فوائد الأُصول 3 : 221.

الدنيوي ، لم يفرّق فيها بين إضرار الشخص بنفسه المعبّر عنه بالضرر الشخصي وبين إضراره بغيره المعبّر عنه بالضرر النوعي ، بل يمكن القول بأنّ الحكم في الضرر النوعي آكد وأقوى منه في الشخصي ، لأنّه تعدٍ على الغير ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الضرر الشخصي ربما حكم العقل بجوازه إذا كان طفيفاً ، بخلاف الاضرار بالغير المعبّر عنه بالضرر النوعي ، فإنّه لا يجوز عقلاً وإن كان طفيفاً ، ويدخل في باب قبح الظلم والعدوان ، فتأمّل.

ويمكن التفصيل بين احتمال حرمة الفعل ، فيكون الاقدام على فعله موجباً لالقاء النوع في المفسدة التي هي الضرر النوعي ، فلا يصحّ عقلاً ولا شرعاً الاقدام على ذلك الفعل ، وبين احتمال الوجوب فلا يحكم العقل بلزوم الاقدام عليه ، إذ أقصى ما في البين هو أنّ تركه يوجب تفويت أو فوات المصلحة على النوع ، ومن الواضح أنّ العقل لا يكون ملزماً بفعل يكون تركه مفوّتاً للمصلحة على النوع فتأمّل.

نعم ، إنّ شخص المكلّف من جملة النوع ، فيكون تفويته المصلحة على النوع تفويتاً على نفسه أيضاً ، فتدخل المسألة حينئذ في أنّ تفويت المصلحة ضرر يحكم العقل باجتنابه ، أو أنّ إدراك المصلحة يكون العقل حاكماً بلزوم ما يكون موجباً لتحصيلها بارتكابه.

قوله : ولا يصغى إلى ما قيل من أنّه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظنّ بالحكم لا يلازم الظنّ بالمصلحة والمفسدة الشخصية ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بعد أن فرضنا كون المصلحة من الأضرار الدنيوية لا يكون

ص: 519


1- فوائد الأُصول 3 : 221.

مجرّد إمكان كونها في نفس الأمر مانعاً من احتمال كونها في المأمور به ، وحينئذ تدخل المسألة في احتمال الضرر الدنيوي ، إلاّأن يدّعى القطع بأنّه لا مصلحة في نفس المأمور به ، وأنّها منحصرة بالأمر نفسه ، وهو مجازفة في مجازفة. نعم يمكن ادعاء ذلك فيما لو ورد النسخ قبل حضور وقت العمل ، وهو خارج عمّا نحن فيه من دعوى لزوم دفع الضرر المحتمل أو المظنون ، فتأمّل.

قوله : بل المصالح والمفاسد إنّما تكون في نفس المتعلّقات ، فإن قلنا إنّ فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرّز عنه بفعل ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته ... الخ (1).

قد حرّرت عن درس الأُستاذ العراقي قدس سره في مباحث البراءة ما هذا لفظه : إنّ مجرّد حكم العقل بوجوب دفع الضرر لا يكفي في وجوب الاجتناب عمّا يشكّ في كونه ضرراً ، فلا يكون ذلك الحكم العقلي - أعني وجوب الاجتناب عن الضرر - منجّزاً في مورد الشكّ في تحقّق موضوعه. نعم يحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، ولكن حكمه بذلك صرف إرشاد إلى التجنّب عن الوقوع في الضرر ، فلا يكون مستلزماً لاستحقاق العقاب على تقدير المصادفة كي يكون بياناً الخ.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذا المقدار من الحكم العقلي يمكن أن يكون حجّة عقلية ، بحيث يكون قاطعاً للعذر ومصحّحاً للعقاب على مخالفة الواقع لو صادف ، فبواسطة حكم العقل بلزوم الاجتناب عن المفسدة المحتملة المفروض كونها من الضرر الدنيوي ، تكون المسألة خارجة عن قاعدة قبح العقاب على التكليف الواقعي بلا بيان.

ص: 520


1- فوائد الأُصول 3 : 221.

وإن كان هذا الجواب لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ حكم العقل بلزوم الاجتناب عن ذلك الضرر الدنيوي الذي هو المفسدة لا ينجّز التكليف الواقعي ، ولا يكون حجّة قاطعة لعذر المكلّف من ناحية ذلك التكليف الواقعي المحتمل ، فإنّ تلك الأضرار الدنيوية المفروض كونها عبارة عن المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث إنّها خارجة عن العقوبة الأُخروية لم يكن احتمالها منجّزاً للتكاليف الواقعية ، بحيث يوجب احتمال العقوبة على مخالفة تلك التكاليف الواقعية ، فلم يبق إلاّدعوى أنّ حكم العقل بدفع الضرر الدنيوي المحتمل ملازم لحكم الشرع بذلك ، وهذا إنّما يتصوّر في الأضرار الدنيوية الأُخر مثل تلف النفس ونحوه ، أمّا المفاسد التي هي ملاكات الأحكام الواقعية فلا يكون احتمالها بل العلم بها مؤثّراً في حكم الشرع بوجوب اجتنابها ، على وجه يكون للشارع حكم آخر غير ذلك الحكم الواقعي التابع لها ، وإن حكم العقل بذلك ، إذ لا يكون هذا الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي ، إذ لا يؤثّر ملاك الحكم الواقعي إلاّفي ذلك الحكم الواقعي.

مثلاً لو كان ملاك حرمة شرب التتن على تقدير حرمته واقعاً هو أنّه يوجب قلة الرزق ، أو يوجب قصر العمر ، أو يوجب بعد العبد عن ساحة الطاعة ، فهذا الملاك لا يؤثّر إلاّفي الحكم الواقعي على شرب التتن بأنّه حرام ، فلو كنّا نحتمل حرمة شرب التتن ، وكان احتمال حرمته ملازماً لاحتمال تلك المفسدة المفروض كونها ضرراً دنيوياً ، وكان العقل حاكماً بلزوم دفع ذلك الضرر ، لم يكن ذلك الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي بالاجتناب عنه ، نظير الحكم الشرعي بلزوم اجتناب الطريق الذي يحتمل تلف النفس في سلوكه ، لأنّ ذلك الضرر الذي هو مفسدة شرب التتن لا يترتّب عليه إلاّتلك الحرمة الواقعية على تقديرها ،

ص: 521

ويستحيل أن تكون موجبة لحكم شرعي آخر طريقي أو موضوعي نظير حرمة سلوك ذلك الطريق ، وحينئذ فلا يترتّب على الحكم العقلي بالتجنّب عن تلك المفسدة الواقعية إلاّمجرّد الوقوع فيها لو صادفت الواقع ، وذلك لا يوجب تنجّز تلك الحرمة الواقعية ، بحيث يوجب استحقاق العقاب على مخالفتها مع فرض كون الشكّ فيها بعد الفحص ، فإنّ تلك المفسدة الواقعية بعد فرض كونها ليست من قبيل العقاب الأُخروي ، وبعد فرض أنّها ليست موجبة لجعل حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الواقعي ، فلا يترتّب على حكم العقل بلزوم الاجتناب عنها إلاّ مجرّد الوقوع فيها لو صادفت الواقع ، هذا.

مضافاً إلى أنّا لو قلنا بأنّ ذلك الحكم العقلي كاشف بقاعدة الملازمة عن حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الواقعي ، لنقلنا الكلام إلى ذلك الحكم الشرعي الثاني ، وقلنا إنّه لابدّ أن يكون ناشئاً عن مفسدة أُخرى غير المفسدة التي اقتضت الحكم الشرعي الأوّل ، فنقول إنّ تلك المفسدة الثانية أيضاً ضرر دنيوي يحكم العقل باجتنابه ، وهذا الحكم العقلي ملازم لحكم شرعي ثالث وهكذا ، هذا.

ولكن التحقيق أن يقال : إنّا لو التزمنا بأنّ المفسدة التي هي ملاك التحريم مثلاً من قبيل الأضرار الدنيوية ، المفروض كون العقل حاكماً بلزوم الابتعاد عنها وأنّ تلك الحكومة العقلية مورد لقاعدة الملازمة ، كانت تلك المفسدة موجبة لحرمة ما فيه تلك المفسدة وحرمة ما يحتملها ، وحينئذ يكون الاحتياط الشرعي موجوداً في جميع موارد احتمال التكليف ، إن كان ذلك الحكم العقلي بلزوم الاجتناب عن تلك المفسدة وذلك الضرر من قبيل ما هو بملاكين ، فيحرم شرعاً ارتكاب ما فيه تلك المفسدة ، ويجب شرعاً الاحتياط بالاجتناب عمّا يحتمل فيه ذلك. وإن كان ذلك الحكم العقلي حكماً واحداً بملاك واحد ، وهو وجوب

ص: 522

التحرّز عمّا لا يؤمن معه من الوقوع في تلك المفسدة ، سواء كانت المفسدة معلومة أو كانت محتملة ، كان الحكم الشرعي على طبق ذلك الحكم العقلي ، فيكون الحال أقبح ممّا هو بملاكين.

والحاصل : أنّ لازم ذلك هو انقلاب الأحكام الشرعية إلى الحكم الشرعي بلزوم التحرّز عمّا فيه تلك المفاسد ، سواء كانت معلومة أو كانت مشكوكة ، وحينئذ لابدّ من الالتزام بأنّ المفاسد والمصالح التي هي ملاكات الأحكام الشرعية ليس من قبيل الأضرار الدنيوية التي هي مورد حكم العقل بلزوم الابتعاد عنها.

والحاصل : أنّ المفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية لو قلنا بأنّها من قبيل الضرر ، فإن كان المراد بذلك الضرر الأُخروي الذي هو العقوبة فذلك واضح الفساد ، لأنّ الضرر الأُخروي الذي هو العقوبة يكون معلولاً للأحكام الشرعية ، فلا يعقل كونه هو الملاك فيها الذي هو في مرتبة العلّة لها. وإن كان المراد به الضرر الدنيوي وقد حكم العقل بلزوم دفعه ، فهذا الحكم العقلي يكون مجرى لقاعدة الملازمة.

وحينئذ نقول : إنّ ذلك الحكم الشرعي المستكشف بذلك الحكم العقلي إن كان هو نفس الحكم الأوّلي الذي كان ملاكه تلك المفسدة ، كان اللازم منه وجوب الاحتياط الشرعي في جميع محتملات التكليف ، ولم يبق للبراءة الشرعية مورد أصلاً. مضافاً إلى ما عرفت من أنّ ذلك الحكم العقلي لو كان من ذي الملاك الواحد ، لكانت صورة الأحكام الشرعية صورة أُخرى تكون على طبق ذلك الحكم العقلي ، وحاصله لزوم الاجتناب شرعاً عن كلّ ما لا يؤمن مفسدته.

وإن كان ذلك الحكم الشرعي المستكشف بذلك الحكم العقلي هو غير تلك الأحكام الأوّلية الناشئة عن تلك المفاسد والمصالح الواقعية ، لزم التعدّد في

ص: 523

الأحكام الشرعية ، بل لزم التسلسل فيها كما عرفت فيما تقدّم. وحينئذ فلم يبق إلاّ أن نقول إنّ هذا الحكم العقلي لا يستكشف منه الحكم الشرعي ، وحينئذ يتوجّه الإشكال أوّلاً : بأنّه لماذا لا يكون هذا الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي مع كونه غير واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو واقع في سلسلة عللها.

وثانياً : بأنّ مجرّد هذا الحكم العقلي بلزوم دفع الضرر المذكور لا يكون حينئذ منجّزاً للحكم الواقعي ، ولا موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فلا يكون وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا حاكماً على البراءة الشرعية ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الوقوع في المفسدة فكذلك أيضاً ، لأنّه ليس كلّ مفسدة ضرراً حتّى يجب عقلاً التحرّز عن الوقوع فيها ، إلاّأن يدّعى أنّ دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلاً ... الخ (1).

مراده من الضرر في قوله : ليس كلّ مفسدة ضرراً الخ هو الضرر الدنيوي وحينئذ لابدّ من دعوى القطع بأنّ المفسدة التي هي ملاك الحكم مقصورة على المفاسد النفسانية غير الراجعة إلى العقاب ولا إلى الأضرار الدنيوية ، والمراد بالمفاسد النفسانية هي ما يتعلّق بعالم النفس من كدورتها وظلمتها وبعدها عن ساحة الربّ ، ونحو ذلك ممّا لا يرجع إلى الأضرار الأُخروية أعني العقاب ، ولا إلى الأضرار الدنيوية مثل قصر العمر وموت الولد وقلّة الرزق ونحو ذلك.

ولا يخفى أنّ دعوى القطع بأنّ المفاسد التي هي ملاك الأحكام منحصرة بذلك ، وأنّها مجرّدة عن الضرر الدنيوي لا تخلو عن مجازفة ، لوجود الاحتمال الوجداني بأنّ ملاك هذا التحريم مثلاً هو الضرر الدنيوي ، إمّا وحده أو منضمّاً للمفسدة النفسانية ، ومع وجود هذا الاحتمال يكون العقل حاكماً بلزوم دفعه.

ص: 524


1- فوائد الأُصول 3 : 221.

ثمّ إنّ قوله : إلاّأن يدّعى أنّ دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلاً الخ ، لعلّه إشارة إلى أنّ نفس المفسدة التي قلنا إنّها ملاك التحريم ، وإنّها عبارة عن تلك الجهات النفسانية غير الراجعة إلى ضرر مادّي ، مثل موت الولد وقلّة الرزق ونحو ذلك ، فيدّعى أنّ تلك الجهة النفسانية من أهمّ الأضرار لدى العقل السليم ، أمّا الأضرار المادّية فليس الحاكم بدفعها هو العقل بل هو الطبع ، وهو - أعني الابتعاد عن تلك الأضرار والآلام المادّية - موجود في أقلّ الحيوانات فضلاً عن العقلاء ، فالذي [ ينبغي ] أن يكون من مختصّات العقل هو تلك الأضرار المعنوية النفسانية وهذه هي التي قلنا إنّه يجب على الشارع الحكيم أن يبعدنا منها بحكمه بمنعنا من ارتكاب ما تترتّب عليه ، وتحريمه علينا من باب اللطف ، وهي الحجر الأساسي في قاعدة الملازمة في استكشاف حكم الشرع من حكم العقل استكشافاً لمّياً وهي الأساس في قاعدة أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الحكم الشرعي بتحريم الفعل الفلاني كاشف عن المفسدة كشفاً إنّياً ، فهذه المفسدة لا يمكننا القول بأنّها ليست في نظر العقل ضرراً يلزم بالابتعاد عنه. نعم إنّ هذا الضرر النفساني الروحاني وإن حكم العقل بالابتعاد عنه ، إلاّ أنّه لا يستكشف من هذه الحكومة العقلية حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الشرعي الناشئ عن تلك المفسدة.

نعم إنّ تلك المفسدة التي هي ذلك الضرر النفساني ربما كان له أهمية بحيث يحكم الشرع عند احتماله بالاحتياط ، كما أنّ العقل لأجل أهميّته لو أدرك تلك الأهمية يحكم أيضاً فيه بالاحتياط. وربما لا يكون له تلك الأهمية على [ نحو ] يتسامح فيه كلّ من العقل والشرع ، فلا يلزمان بالاحتياط ولزوم الابتعاد عنه عند احتماله. وبالجملة : أنّ هذا الضرر الذي هو نفس تلك المفسدة لم يأت

ص: 525

بشيء جديد غير ما قلناه في ملاكات الأحكام ، فراجع وتأمّل.

وخلاصة هذا المبحث على طوله : هو أنّ قولهم إنّ الظنّ بالتكليف يوجب الظنّ بالضرر عند مخالفته ، إن كان المراد بالضرر في هذه الجملة هو العقوبة ، فهو ممّا يقطع بعدمه ، نظراً إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وإن كان المراد به هو الضرر الدنيوي المادّي الأجنبي عن ملاكات الأحكام ، فهو وإن حكم العقل في موارده بلزوم التحرّز منه ، وكان ذلك الحكم العقلي مستتبعاً للحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، إلاّ أنّه لا دخل له بما نحن فيه من الظنّ بالتكليف ، لما هو المفروض من خروجه عن عالم ملاكات الأحكام الشرعية. وإن كان المراد به ما يكون ملاكاً للأحكام الشرعية ، سواء كان ذلك مقصوراً على الأضرار النفسانية ، أو كان شاملاً للأضرار المادّية ، فهو لا يزيد على كونه ملاكاً للأحكام الأوّلية الشرعية ، وحينئذ يكون لزوم التحرّز عنه عقلاً وشرعاً تابعاً لقوّة ذلك الملاك وضعفه ، وهو ما تقدّم من تقسيم الملاك إلى القسمين المذكورين ، وأثر ذلك هو وجوب الاحتياط شرعاً بل وعقلاً في الأوّل دون الثاني ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الضرر المظنون في المقام لو سلّمنا كونه دنيوياً مثل قلّة الرزق وقصر العمر ، بل مثل البعد عن العبودية وصيرورته من قبيل الرين على القلب ، فلا يبعد القول بأنّه من سنخ العقوبة ، غير أنّه عقوبة دنيوية ، وحينئذ يكون حاله حال العقاب الأُخروي في القطع بعدمه عند الظنّ بالتكليف ، استناداً في ذلك إلى قبح العقاب بلا بيان ، اللّهمّ إلاّأن يدّعى أنّ ذلك من قبيل الأسباب التكوينية ، لا من قبيل العقوبة الإلهية الدنيوية. ولا يخفى ما فيه من البُعد. نعم إنّ ظاهر جملة من الأخبار المشتملة على التعليل بمثل تقصير العمر وتقليل الرزق ونحوهما ، أنّ ذلك من قبيل الأسباب التكوينية.

ص: 526

قوله : وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو أنّ المفسدة المظنونة ممّا يقطع أو يظنّ بتداركها ... الخ (1).

ولا يخفى ما في عبارة الشيخ قدس سره (2) من الاجمال ، والأولى في ردّه أن يقال : إنّه قدس سره إن أراد أنّ الأُصول الشرعية النافية للتكليف تكون كاشفة عن تدارك الشارع لتلك المفسدة المحتملة ، إمّا على نحو القطع أو على نحو الظنّ ، ففيه بعد الفراغ عن منع دعوى القطع بذلك ، لأنّ أدلّة تلك الأُصول غير قطعية الدلالة والسند ، وإلاّ لما وقع الخلاف فيها من الأخباريين ، أنّه أوّلاً : موجب لسدّ باب البراءة العقلية ، بل ينحصر الاعتماد في قبال قاعدة دفع الضرر المظنون على البراءة الشرعية وباقي الأُصول الشرعية النافية.

وثانياً : أنّه غير نافع إلاّفي إخراج الضرر المذكور عن كونه مظنوناً ، لكنّه لا ريب في كونه محتملاً أيضاً ولو موهوماً ، ومن الواضح أنّه يجب [ دفع الضرر ] الموهوم كالمظنون ، والشاهد على ذلك هو عدم الاكتفاء بالاطاعة الظنّية عند التمكّن من الاطاعة العلمية القطعية.

اللّهمّ إلاّأن يقال : إنّ التدارك مقطوع بواسطة أنّ الدليل على البراءة وإن كان ظنّياً إلاّ أنّه بعد قيام الدليل على حجّيته موجب للقطع بكون حكمنا الظاهري على طبقها ، وحينئذ يكون لازمه وهو التدارك قطعياً ، ولا وجه حينئذ لما تضمّنته عبارة التحرير من كونه ظنّياً من جهة كون دليله ظنّياً ، لما عرفت من أنّ قطعية التدارك تابع لقطعية الحكم الظاهري ، وهو قطعي وإن كان دليله ظنّياً ، لأنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم الظاهري ، فتأمّل.

ص: 527


1- فوائد الأُصول 3 : 222.
2- فرائد الأُصول 1 : 376.

وإن أراد أنّ الكاشف عن تدارك المفسدة هو عدم إيجاب الاحتياط شرعاً ، ففيه أوّلاً : أنّه لا وجه لكون عدم جعل الاحتياط كاشفاً عن تدارك المفسدة ، إذ ليس عدم جعل الاحتياط موجباً للوقوع في المفسدة كي يستكشف به تداركها ، لإمكان اتّكال الشارع على ما يحكم به عقل المكلّف من لزوم دفع الضرر المظنون.

وثانياً : أنّ الاستكشاف المذكور إنّما يسلم لو حصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يجعل الاحتياط ، فلعلّه جعله ولم يصل إلينا ، هذا ما انقدح في نظري القاصر.

ولكن شيخنا قدس سره حسبما نقله في هذا التحرير قد أجاب عنه بوجوه فقال : وأنت خبير بما فيه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ تدارك الضرر والمفسدة إنّما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلّف في الضرر والمفسدة الواقعية الخ (1).

وفيه تأمّل أمّا أوّلاً : فلما عرفت في أوّل مباحث جعل الطرق (2) من أنّ حصول العلم بالواقع ممتنع ، وليس في البين إلاّالطرق العقلائية. وأمّا ثانياً : فلأنّ دعوى عدم كون التفويت في الأُصول الشرعية مستنداً إلى الشارع ممنوع ، بناءً على ما هو المفروض من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى المفسدة ، فإنّه لو لم يجعل لنا الأُصول الشرعية النافية ، لكان العقل حاكماً علينا بلزوم التحرّز عن احتمال المفسدة ، فيكون جعل الأُصول الشرعية النافية موجباً للوقوع في المفسدة ، فيلزمه تداركها.

لا يقال : يمكن للمكلّف أن يحصّل القطع بعدم المفسدة اللازم دفعها بنظر العقل ، لأنّ تلك المفسدة أو المصلحة إن كانت لازمة التحصيل في نظر الشارع

ص: 528


1- فوائد الأُصول 3 : 222.
2- في الصفحة 251 وما بعدها.

حتّى في مقام الشكّ ، كان عليه أن يجعل الاحتياط ، فلمّا لم يجعله كشف ذلك عن أنّها غير لازمة التحصيل في مقام الشكّ. وإذا كانت غير لازمة التحصيل في مقام الشكّ ، لم يكن احتمالها احتمالاً للضرر الذي يحكم العقل بلزوم دفعه.

لأنّا نقول : هذا إنّما يتمّ لو حصل لنا القطع بعدم جعل الشارع الاحتياط في مقام الشكّ ، وقد عرفت أنّه ممنوع ، بل يجوز أن يكون قد جعله ولم يصل إلينا.

قال : وأمّا ثانياً : فلأنّ العموم في كلّ مورد إنّما يشمل الأفراد التي لا يتوقّف شمول العام لها إلى مؤونة زائدة من إثبات أمر آخر ، إلاّإذا بقي العام بلا مورد لولا تلك المؤونة الخ (1).

وفيه تأمّل أيضاً ، فإنّ المقام من قبيل ما لو أُخرج المورد المتوقّف على العناية يبقى العام بلا مورد ، لما عرفت من أنّ حكم العقل إنّما هو بلزوم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنوناً ، فلو أخرجنا جميع موارد احتمال المفسدة عن عموم دليل البراءة يبقى عمومها بلا مورد أصلاً ، هذا.

مضافاً إلى أنّ محلّ الكلام في الأُصول إنّما هو الحكم الشرعي الملازم لدخول المورد في العام ، مثل طهارة آنية الخمر وطهارة ثياب العامل لطهارة نفس الخمر بعموم إنّ الخمر إذا انقلب خلاًّ يطهر ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو أمر تكويني تابع للحكم الشرعي أينما وجد ، فعموم أقيموا الصلاة لو طبّقناه على الصبي المميّز يلزمه ثبوت المصلحة في صلاته ، فلا يقال إنّ وجود المصلحة مؤونة زائدة فلا تثبت بالعموم ، وأنّ العموم ساقط فيه لتوقّفه على تلك المؤونة الزائدة.

قال : وأمّا ثالثاً : فلأنّه بعد تسليم كون الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر على

ص: 529


1- فوائد الأُصول 3 : 223.

تقدير ترك العمل بالظنّ لا يبقى موقع للبراءة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر الخ (1).

ويمكن التأمّل فيه أيضاً ، أمّا أوّلاً : فلما عرفت فيما تقدّم (2) من عدم حكومة هذا الحكم العقلي على الاستصحاب ، بل إنّ الاستصحاب حاكم عليه.

وأمّا ثانياً : فلأنّ حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على الأُصول الشرعية النافية إنّما هي في خصوص الضرر الدنيوي ، أمّا الضرر بمعنى المفسدة فإنّ الأمر فيها بالعكس ، بناءً على ما أفاده الشيخ قدس سره من لزوم التدارك.

ومن ذلك يتّضح لك وجه الفرق بين ما أفاده الشيخ قدس سره هنا وما أفاده في مبحث البراءة ، فإنّ ما أفاده في مبحث البراءة (3) من أنّ الظنّ بالضرر غير العقاب قد جعل طريقاً شرعياً إلى الضرر الواقعي ، ولا تجري فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، مبني على أنّ مراده من الضرر غير العقاب الضرر الدنيوي مثل تلف النفس ، وقد عرفت أنّ حكم العقل بلزوم دفعه والفرار عنه مستتبع للحكم الشرعي بذلك ، غايته أنّه اختار أنّ ذلك الحكم الشرعي من باب الطريقية والتحرّز عن الضرر الواقعي ، فيكون الحكم بلزوم دفع الضرر عنده من قبيل ذي الملاكين.

وأمّا ما أفاده في هذا المقام من جريان البراءة مع اعترافه بأنّ الظنّ بالحكم

ص: 530


1- فوائد الأُصول 3 : 223.
2- في الصفحة : 516 - 517.
3- [ نقله في فوائد الأُصول 3 : 224 عن الشيخ قدس سره في مبحث البراءة ، ويظهر من تعليقة المحقّق العراقي قدس سره إنكار النسبة. وعلى أيّ حال راجع ما أفاده الشيخ قدس سره في الشبهة التحريمية الموضوعية في فرائد الأُصول 2 :3. 126 ، وكذا ما أفاده الشيخ قدس سره في الاستدلال على البراءة بحكم العقل في فرائد الأُصول 2 : 57 ].

يلازم الظنّ بالضرر ، فهو كما عرفت مبني على أنّ مراده من الضرر المظنون هو المفسدة التي فرض أنّ الشارع يتداركها بواسطة حكمه بالترخيص فيها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : ولو سلّم أنّ الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر الدنيوي والأُخروي - إلى قوله - ومن حيث الظنّ بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية الخ (1) فإنّك قد عرفت أنّ حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، إنّما يستتبع الحكم الشرعي بذلك إذا كان ذلك الضرر من قبيل الضرر الدنيوي مثل تلف النفس ، وأمّا إذا كان من قبيل المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، فقد عرفت أنّ الشيخ يقول بمنع الصغرى ، للزوم تداركها على الشارع ، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ هذه الأضرار لا تكون مؤثّرة إلاّفي الحكم الأوّلي التابع لتلك الملاكات ، فتأمّل. هذا ما كنت حرّرته سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ إجراء قاعدة دفع الضرر المظنون هنا إن كان المراد بالضرر فيها هو الضرر الدنيوي التي هي العقوبة الدنيوية ، فقد عرفت (2) أنّ حالها حال العقوبة الأُخروية في القطع بعدمها ، لكن لو سلّمنا كونها من قبيل الأسباب فهي حاكمة على البراءة الشرعية. وإن كان المراد بالضرر فيها هو المفسدة ، فتلك لا يجب دفعها فلا تمنع من البراءة. نعم إنّ البراءة حينئذ تكون إيقاعاً في المفسدة ويكون جوابه هو التدارك كما أفاده الشيخ ، لكن يرد على الشيخ أنّه لا وجه لتسليم وجوب الدفع وجعل التدارك رافعاً لوجوبه.

ص: 531


1- فوائد الأُصول 3 : 224.
2- في الصفحة : 526.

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

مبحث القطع...

تحقيق الحال في المراد بالمكلّف وأنّه هل يعمّ العامي أم لا... 3

الكلام في حصر مجاري الأُصول... 13

عدم إطلاق الحجّة على القطع... 16

دفع الإشكال عن أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع... 20

الكلام في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه... 22

إثبات إطلاق الحكم لحالتي العلم والجهل بمتمّم الجعل... 22

الكلام فيما ادّعي من تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل... 27

توجيه اختصاص الجهر والاخفات والقصر والتمام بالعالم... 28

توجيه مقالة الأخباريين بمنع اعتبار العلم من غير الكتاب والسنّة... 28

توجيه آخر لمقالة الأخباريين في المسألة... 32

التعليق على كلام الشيخ الأنصاري قدس سره في المقام... 34

توجيه المنع من العمل بالقطع الحاصل من القياس... 38

أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر يضادّه أو يماثله... 40

وقفة مع الآخوند قدس سره في منعه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية باختلاف الرتبة 57

رفع الابهام عمّا ذكر في الجهة الثالثة من جهات القطع... 60

ص: 532

الكلام في قيام الأمارات والأُصول مقام القطع... 62

ذكر الوجوه المحتملة في حجّية الأمارة... 67

وقفة مع صاحب الكفاية قدس سره في توجيه قيام الأمارة مقام القطع... 77

التأمّل فيما أفاده المحقّق النائيني قدس سره من جعل صفة المحرزية والكاشفية للأمارة... 82

كيفية أخذ العلم في الشهادة وهل هو على نحو الصفتية أو الطريقية... 89

كيفية أخذ العلم في مسألة الركعتين الأُوليين... 101

الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية من تصحيح القيام بتنزيلين... 107

أقسام الظنّ ... ... 115

الكلام في التجرّي...

التعليق على دعوى شمول الخطابات الأوّلية لصورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته... 120

عدم جريان هذه الدعوى في التجرّي في الشبهة الحكمية... 124

دعوى أنّ القطع بشيء من العناوين المغيّرة لجهة الحسن والقبح... 129

توجيه الخطاب إلى المتجرّي بعنوانه... 132

دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب بحكم العقل... 134

دعوى حرمة التجرّي من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار... 144

دعوى الإجماع على استحقاق العقاب لتأخير الصلاة بظنّ ضيق الوقت... 147

دعوى الإجماع على حرمة سلوك طريق مظنون الضرر... 149

وقفة مع صاحب الفصول في دعاواه في المقام... 150

هل التجرّي يخلّ بالعدالة؟... 153

الكلام فيما نُسب إلى الأخباريين من عدم حجّية الدليل العقلي... 154

تحقيق الحال في مسألة التحسين والتقبيح العقليين... 156

ص: 533

تحقيق الحال في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع... 161

قطع القطّاع... 163

مباحث العلم الاجمالي...

المقام الأوّل : في سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي على وجه الاحتياط... 165

دعوى اعتبار قصد الوجه في صحّة العبادة... 165

وقفة مع صاحب الكفاية في نفي اعتبار قصد الوجه... 168

إمكان تصرّف الشارع في كيفية الاطاعة والامتثال... 171

تحقيق مفصّل حول الأصل الجاري عند الشكّ في اعتبار شيء في كيفية الاطاعة عقلاً أو شرعاً 172

المنع من الاحتياط المستلزم للتكرار... 187

الكلام في مراتب الامتثال... 192

الإشكال في تقدّم الظنّ المطلق عند الإنسداد على الاحتياط... 192

الإشكال على ما ذكره المحقّق النائيني قدس سره من مراتب الامتثال... 198

جريان أصالة الاشتغال مع الشكّ في كفاية الاطاعة الاجمالية... 201

انحصار المانع عن الاحتياط في الشبهات الوجوبية مع تنجّز التكليف... 202

فائدة : حكاية أقوال بعض العلماء في الاحتياط في مسألة الزكاة... 204

المقام الثاني : في ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي... 210

هل المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم هو قصور أدلّة الأُصول؟... 210

هل العلم بنفسه مانع عن جريان الأصل في أحد أطراف العلم الاجمالي؟... 211

وقفة عند مسألة الجنابة المردّدة بين شخصين... 212

تحقيق الحال ونقل أقوال بعض العلماء في مسألة الاقتداء مع تردّد الجنابة بين الإمام والمأموم 213

تحقيق الحال في مسألة تنصيف درهم الودعي... 225

ص: 534

التعرّض لمسألة الإقرار بالملكية... 230

تردّد المعلوم بالاجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر أو بوجوده العلمي... 237

الكلام في الظنّ...

الكلام في إمكان التعبّد بالظنّ ودفع شبهة ابن قبة... 247

تحقيق مفصّل في معنى انفتاح باب العلم وانسداده... 248

المراد بأقربية الأمارات إلى الخطأ... 259

كلام حول المصلحة التسهيلية... 259

كيفية دفع الإشكال عن التعبّد بالأمارات لمن كان في زمن الحضور... 263

أقسام السببية ورجوع الأوّل منها إلى التصويب الأشعري... 267

كلام مفصّل حول المصلحة السلوكية... 271

ما هو الأولى في دفع إشكال ابن قبة... 286

وجوه التفصّي عن إشكال التضادّ والتناقض بين الحكم الواقعي والظاهري... 294

الكلام في مسلك الشيخ قدس سره القائل بأنّ الحجّية منتزعة عن الأحكام التكليفية... 296

حلّ الإشكال في باب الأُصول المحرزة... 299

تحقيق كيفية حجّية الاستصحاب والفرق بينه وبين الأمارة... 300

حكومة الأمارات على الأُصول الاحرازية وحكومة الاحرازية على غيرها... 304

رفع غائلة التضادّ بين الحكمين باختلاف الرتبة... 309

تحقيق مفصّل حول حقيقة المجعول في الأُصول غير الاحرازية وكيفية الجمع بينها وبين الأحكام الواقعية 312

نقل كلمات صاحب الكفاية في المقام والتأمّل فيها... 337

تأسيس الأصل عند الشكّ في اعتبار الأمارة والاستدلال عليه بالآية والرواية... 351

ص: 535

الاستدلال على أصالة عدم الحجّية بعموم ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ... 352

جهات البحث عن قبح التشريع وحرمته... 355

كلام مفصّل حول استصحاب عدم الحجّية... 361

حجّية الظواهر...

التفصيل بين من قُصد إفهامه ومن لم يُقصد... 381

حجّية قول اللغوي... 386

مدرك حجّية الإجماع... 389

الكلام في الشهرة الجابرة لضعف الرواية والكاسرة لصحّتها... 391

حجّية خبر الواحد...

كون البحث عن حجّية خبر الواحد بحثاً أُصولياً... 393

ردّ الاستدلال بالسنّة على نفي حجّية الخبر... 394

الإشكالات التي سجّلوها على الاستدلال بآية النبأ... 395

نقل كلمات أجود التقريرات في المقام والتعليق عليها... 413

حول الإشكالات التي لا تختصّ بآية النبأ... 422

إشكال شمول أدلّة الحجّية للإخبار مع الواسطة... 425

الاستدلال بآية النفر على حجّية خبر الواحد ودفع الإشكالات عنه... 433

الاستدلال بالسنّة على حجّية خبر الواحد... 450

الاستدلال بالسيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة على حجّية خبر الواحد... 454

إثبات حجّية خبر الواحد بالإنسداد الصغير والمناقشة فيه... 468

المناقشة في الوجه الذي ذكره صاحب الحاشية قدس سره لإثبات حجّية الخبر... 510

حجّية مطلق الظنّ... 512

فهرس الموضوعات... 532

ص: 536

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.