أصول الفقه المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

ISBN الدورة: 978-600-5213-23-2

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الخامس

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

[ تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء ]

قوله : الأمر الثالث : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ... الخ (1).

حرّرت عنه قدس سره في هذا المقام ما هذا لفظه : لا يخفى أنّهم كما في التقريرات (2) والكفاية (3) ذكروا هذا العنوان مرّتين ، وبحثوا في المرّة الأولى عن مقتضى الجمع الدلالي بين الشرطيتين ، وفي المرّة الثانية بحثوا عن تداخل السببين أو المسبّبين. ولا يخفى أنّ الأولى تغيير العنوان في كلا المسألتين ، ويجعل عنوان الأولى هو ما ذكر من تعدّد الشرط ، بمعنى أنّه لو وردت شرطيتان واتّحدا في الجزاء واختلفا في الشرط فما هو مقتضى الجمع بينهما ، بعد الفراغ عن ظهور القضية الشرطية في المفهوم. ويجعل عنوان الثانية هو أنّه لو تعدّد السبب والشرط فهل يكون تعدّده موجبا لتعدّد المسبّب - أعني الحكم في ناحية الجزاء - أو أنّه لا يتعدّد ، بل تتداخل الأسباب أو تتداخل المسبّبات.

وحاصل الأمر الأوّل : هو أنّه مسوق لرفع التعارض والتدافع بين القضيتين الشرطيتين ، حيث إنّه بعد فرض وحدة الحكم في القضايا المذكورة ، وبعد اختلاف الشرط فيها بالعموم من وجه أو العموم المطلق أو التباين يقع التدافع المذكور ، لأنّ تعليق الحكم على شرط ينافي تعليقه على غيره ممّا يباينه أو يكون

ص: 3


1- أجود التقريرات 2 : 259.
2- مطارح الأنظار 2 : 47 ، 51.
3- كفاية الأصول : 201 ، 202.

بينه وبينه عموم من وجه أو عموم مطلق ، كما لو كان أحد الشرطين أقلّ من الآخر في مقام التحديد ، مثل إذا خفي الأذان فقصّر ، بناء على كون خفاء الأذان قبل خفاء الجدران. أمّا بناء على ما ذكرناه في الفقه من كون المراد من خفاء الأذان خفاء فصوله لا خفاء الصوت نفسه ، ومن خفاء الجدران خفاء الصورة لا خفاء الشبح ، فلا يكون أحدهما أقلّ من الآخر ، بل يكونان متلازمين ، ويكونان معا كناية عن التحديد بأمر واحد ، وهو بلوغ المسافة إلى الحدّ الذي يخفى فيه كلاهما بالنحو الذي ذكرناه.

وكيف كان ، فمدار الأمر الأوّل على رفع التدافع والتعارض بين القضيتين ، الناشئ عن وحدة الحكم في ناحية الجزاء في جميع تلك القضايا الشرطية مع اختلاف الشرط فيها تباينا أو عموما مطلقا أو من وجه ، وحاصله : أنّه بعد ذلك التدافع فكيف الجمع بين القضيتين ورفع التعارض بينهما.

ومدار الثاني هو أنّه بعد ثبوت كون الشرط شرطا ، لو تعدّد كما في مثل إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضّأ ، أو ما إذا بال مرتين ، فهل يكون تعدّده موجبا لتعدّد الجزاء أو أنّه لا يتعدّد. فيكون الأوّل مسوقا لجهة لفظية أعني رفع التعارض بين الشرطين ، والثاني مسوقا لجهة لبّية ، وهي أنّه عند اجتماع السببين هل يكون المسبّب واحدا أو متعدّدا حسب تعدّدهما.

قلت : ولا يخفى أنّ مثل إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضّأ ، إنّما يدخل في الأمر الثاني بعد فرض الجمع بينهما باسقاط الاطلاق الثاني - أعني عدم العطف بلفظ أو - لأنّه حينئذ يكون كلّ من الشرطين سببا مستقلا ، فعند اجتماعهما هل يتعدّد الحكم أو لا ، أمّا إذا جمع بينهما باسقاط الاطلاق الأوّل - أعني عدم العطف بلفظ الواو - فلا يدخل اجتماعهما في العنوان الثاني ، بل لا يترتّب الحكم حينئذ

ص: 4

إلاّ عند اجتماعهما. صرّح بذلك في الكفاية بقوله في المسألة الآتية : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث ، وأمّا على سائر الوجوه الخ (1). فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الدخول في المسألة الثانية وعدم الدخول في المسألة لا بدّ فيه من النظر إلى الحكم في ناحية الجزاء ، فإن كان قابلا للتكرار أو التأكّد كان داخلا في الثانية ، وإلاّ فهو داخل في الأولى ، وحينئذ مثل قوله إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ يمكن القول بأنّ أخذ وجوب الوضوء في طرف الجزاء من جهة كونه كاشفا عن انتقاض الوضوء ، فيكون مرجع القضيتين هو أنّك إذا بلت انتقض وضوءك وإذا نمت انتقض وضوءك ، وأنّ وجوب الوضوء إنّما هو من جهة تحقّق الانتقاض ، ومن الواضح أنّ الانتقاض غير قابل للتكرّر ولا للتأكّد ، فيكون راجعا إلى المسألة الأولى دون الثانية ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) مزيد توضيح لذلك (3).

ص: 5


1- كفاية الأصول : 202.
2- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 46 - 47.
3- [ وجدنا هنا أوراقا منفصلة ارتأينا إدراجها في الهامش ، وهي كما يلي : ] الوجوه المحتملة أو الأقوال في المسألة : 1 - تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الأخرى. 2 - الغاء المفهومين. 3 - تقييد كلّ منطوق بالآخر بمفاد الواو. 4 - كون الشرط هو القدر الجامع. وهذا الأخير يرجع إلى العطف بمفاد لفظ أو ، سواء كان في البين جامع عرفي أو لم يكن. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلما ذكرناه من ظهور مدخلية الخصوصية ، ولا جامع عرفي بين الخصوصيتين ، فيلزم العطف بأو على كلا التقديرين ، خلافا لما عساه يظهر من بعض ما حرّر عن شيخنا قدس سره من أنّه إن كان في البين جامع عرفي كان الشرط هو ذلك القدر الجامع ، وإلاّ كان الشرط هو أحدهما بمفاد العطف بلفظ أو. وبعد إسقاط الوجهين الأوّلين ، لعدم إمكان التصرّف في المفهوم بدون التصرّف في المنطوق ، يبقى الترديد بين الوجهين الأخيرين : العطف بالواو والعطف بلفظ أو. أمّا ما ذكره في المقالة [ مقالات الأصول 1 : 406 ] فهو راجع إلى العطف بأو ، أعني كون الشرط هو القدر الجامع ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه [ في الصفحة : 16 - 17 ]. أمّا ما في آخر عبارة الكفاية طبع طهران [ سينقل قدس سره العبارة في هامش الصفحة : 15 ] فقد ضرب عليه وأسقط من طبعة بغداد [ كفاية الأصول : 105 ] ، وهو الوجه الرابع الذي ذكره في التقريرات [ مطارح الأنظار 2 : 48 ] ، وأسقطه بكونه إسقاطا لإحدى القضيتين منطوقا ومفهوما بلا وجه ، وحينئذ يكون خارجا عن الجمع الدلالي كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه [ في هامش الصفحة : 14 ]. الذي ينبغي تنسيق المسألة على هذه الأمور : الأوّل : بيان الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية التي يبحث فيها عن التداخل. الثاني : بيان النسبة بين الشرطين بالعموم من وجه والعموم المطلق والتباين. الثالث : بيان التدافع بين القضيتين من جهة دلالة كلّ منهما على انحصار العلّة في شرطها وأنّه علّة تامّة. الرابع : عدد الوجوه المحتملة وإرجاع بعضها إلى بعض ، وانحصار الجمع بين القضيتين بأحد طريقين : اسقاط الاطلاق المقتضي لطرد احتمال العطف بأو ، أو اسقاط الاطلاق المقتضي لطرد احتمال العطف بالواو. الخامس : بيان ما هو الحقّ والمختار [ منه قدس سره ].

قوله : ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل فيما إذا لم يكن هناك جامع عرفي خطابي يرجع إلى الوجه الثالث ، وهو تقييد اطلاق كلّ منهما المقابل للعطف بأو ... الخ (1).

بل يمكن أن يقال برجوعه إليه حتّى في الجامع العرفي ، لما

ص: 6


1- أجود التقريرات 2 : 260 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسختين ].

تقدّمت (1) الاشارة إليه فيما علّقناه على ما حقّقه شيخنا المحقّق العراقي في الوجه الثاني ، وذلك بأن يقال : إنّ ظاهر الخصوصية ينفي احتمال كون الشرط هو القدر الجامع ، فلو ثبت مع ذلك مدخلية خصوصية شرط آخر كان الشرط هو إحدى الخصوصيتين ، وحيث إنّه لا جامع عرفي بين الخصوصيتين يكون اللازم هو عطف كلّ منهما على الآخر بلفظ أو ، مثلا لو علّق الجزاء في إحداهما على مجيء زيد مثلا وفي الأخرى على مجيء عمرو ، فظاهر كلّ منهما أنّ للخصوصية الزيدية وللخصوصية العمرية مدخلية في ذلك الجزاء ، وهذا الظهور يمنع من كون الأثر للقدر الجامع القريب بينهما مثل الإنسان ونحوه. وحينئذ لا بدّ من كون المؤثّر هو إحدى الخصوصيتين ، بحيث يكون للخصوصية الخاصّة في كلّ منهما أثر ، وحيث لا جامع عرفي بين الخصوصيتين الشخصيتين يكون المؤثّر هو إحدى الخصوصيتين المتباينتين ، إذ لا جامع عرفي قريب بين المتباينين ، فيكون الشرط في كلّ منهما محتاجا إلى عطف الآخر عليه بلفظ أو.

ثمّ لا يخفى أنّه في الكفاية (2) ذكر وجوها أربعة : تخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الأخرى ، ولازمه نفي الغير وانحصار انتفاء الجزاء بصورة انتفائهما معا. ورفع اليد عن مفهوم كلّ منهما ولازمه عدم الدلالة على نفي الغير. وتقييد كلّ من الشرطين بما هو مفاد الواو ، ولازمه الانتفاء عند انتفائهما أو انتفاء أحدهما. وكون الشرط هو القدر الجامع بينهما ، وهو في الانتفاء كالأوّل. وشيخنا قدس سره أفاد ما حاصله أنّ هذا الوجه الأخير إن كان الجامع عرفيا قريبا كان وجها آخر غير ما هو مفاد العطف بأو ، وأنّ مفاد العطف بأو إنّما هو في خصوص ما إذا لم يكن في

ص: 7


1- في المجلّد الرابع من هذا الكتاب ص 418.
2- كفاية الأصول : 201.

البين جامع عرفي ، فتكون الوجوه المحتملة حينئذ خمسة. وقد عرفت أنّه لا بدّ من العطف بأو على كلّ من التقديرين ، فلا يكون لنا إلاّ وجوه أربعة ، والأمر سهل في ذلك.

نعم ، يترتّب الأثر على ذلك في المسألة الآتية أعني التداخل ، فعلى تقدير الجامع العرفي لو اجتمعا لا يكون إلاّ من قبيل تداخل السبب ، ولا يؤثّر إلاّ أثرا واحدا ، بخلاف ما لو كان الشرط هو أحدهما على نحو نكرة الفصول (1) فإنّه يكون من قبيل تعدّد السبب ، فيحتاج إلى تعدّد المسبّب.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية اختار الوجه الأخير ، للقاعدة العقلية وهي عدم معقولية تعدّد العلل مع وحدة المعلول ، وبناء على هذه القاعدة كان عليه أن يسقط الاحتمال الأوّل والاحتمال الثاني ، ويرجعهما إلى الاحتمال الرابع ، فإنّ تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الأخرى ، أو إسقاط المفهوم في كلّ منهما لا يخلصنا من إشكال اجتماع العلل المتعدّدة على معلول واحد.

نعم ، إنّ الوجه الثالث - وهو العطف في كلّ منهما على الآخر بالواو - سالم من هذا الإشكال ، وحينئذ فقوله في الكفاية : فلا بدّ من المصير إلى أنّ الشرط في الحقيقة واحد ، وهو المشترك بين الشرطين ، بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء اطلاق الشرط في كلّ منهما على حاله ، وإن كان بناء العرف والأذهان العامية على تعدّد الشرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاص فافهم (2) لا يخلو من تأمّل. وكان عليه أن يقول : بعد البناء على بقاء إطلاق الشرط في كلّ منهما على حاله من عدم العطف بالواو ، ليكون المعنى : أنّا بعد أن التزمنا بأنّه ليس الشرط هو

ص: 8


1- راجع الفصول الغروية : 163.
2- كفاية الأصول : 201 - 202.

المجموع المركّب منهما ، فنحن محتاجون إلى أخذ الشرط بمعنى القدر الجامع ، وإن كان ذلك - أعني أخذ الشرط هو القدر الجامع - ربما لا تساعد عليه الأذهان العامية العرفية ، لأنّهم يرون أنّ كلّ شرط مؤثّر بنفسه لا بالقدر الجامع ، لبعده عن أذهانهم. والحاصل أنّ الإشكال العقلي الذي أوجب علينا استنباط القدر الجامع لا يختصّ بالوجه الثاني كما هو ظاهر العبارة ، بل هو جار في الوجه الأوّل ، نعم إنّ الوجه الثالث سالم من الإشكال المذكور. ولعلّ قوله : فافهم ، إشارة إلى ذلك.

ويمكن توجيه هذه العبارة الموجودة في الكفاية بأنّ كلامه قدس سره إنّما هو في مقابلة الوجه الرابع مع الوجه الثاني الذي أفاد أنّه لعلّ العرف يساعد عليه (1) ، وأنّ حاصل ذلك هو أنّ الوجه الثاني وإن ساعد عليه العرف إلاّ أنّ الوجه الرابع لا بدّ من المصير إليه وإن قلنا بالوجه الثاني.

وبالجملة : أنّه بناء على الوجه الثاني - الذي هو عبارة عن رفع اليد عن المفهوم - إن لم نبق إطلاق الشرط بحاله من كون كلّ منها مؤثّرا بالاستقلال فلا نحتاج إلى الوجه الرابع ، وإن أبقينا الاطلاق على حاله فلا بدّ من المصير إلى الوجه الرابع ، كلّ ذلك بعد مساعدة العرف (2) على الوجه الثاني وتقديمه على بقية

ص: 9


1- كفاية الأصول : 201.
2- قال المرحوم القوچاني في شرح قوله قدس سره : ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني الخ ، ما هذا لفظه : حيث إنّ للقضية الشرطية بناء على المفهوم ظهورين : أحدهما : بحسب المنطوق في كون الشرط بنفسه مستقلا في التأثير ، بلا ربط للغير في تأثيره. وثانيهما : في خصوصية انحصار العلّة التي لازمه الانتفاء عند الانتفاء. ومن المعلوم أنّ ظهوره الأوّل أقوى من الثاني ، فالمتعيّن عند الدوران هو رفع اليد عن الثاني ، ولازمه الوجه الثاني دون باقي الوجوه المذكورة ، لاحتياجها إلى التصرّف في المنطوق بحسب ظهوره الأوّل غير ذلك الخ [ كفاية الأصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني قدس سره ) 1 : 165 / التعليقة 75 ]. ولا يخفى أنّ إسقاط الظهور في انحصار العلّة في كلّ منهما إنّما هو في مقابلة الآخر ، وحينئذ يكون عدم الانحصار في كلّ منهما إنّما هو بالاضافة إلى الآخر ، ويتولّد من ذلك أنّ الشرط الذي هو تمام العلّة هو أحدهما الذي هو مفاد العطف بأو ، وحينئذ يكون المفهوم هو انتفاء الحكم عند انتفائهما معا ، ولا داعي حينئذ لاسقاط المفهوم منهما بتاتا ، لأنّ ذلك إنّما يكون فيما لو أسقط الانحصار بالمرّة ، بمعنى أنّهما لا يدلاّن على نفي المغاير لهما مطلقا ، ومن الواضح أنّ هذا الاسقاط لا داعي إليه ، لأنّه إنّما نسقط قوله مثلا « إذا سافرت فقصر » في دلالته على الانحصار بالاضافة إلى الشرط الآخر الذي هو خوف العدو ليكون الشرط حينئذ هو أحدهما ، وإذا ثبت أنّ الشرط هو أحدهما كان دالا على الانحصار ، بمعنى أنّه ينفي كون الشرط غيرهما ، وحينئذ يكون انتفاؤهما معا موجبا لانتفاء الحكم ، لكنّه حينئذ يكون راجعا إلى أنّ الشرط هو القدر الجامع لا إلى أنّه لا مفهوم لهما أصلا. ولعلّ هذا هو مراد شيخنا قدس سره فيما يأتي [ في الحاشية الآتية ] ممّا حرّرته عنه قدس سره فراجعه وتأمّل [ منه قدس سره ].

الوجوه ، وإنّما تبقى المقابلة بينه وبين الوجه الرابع فكان الوجه الرابع مقدّما عليه لاحتياجه إليه.

ثمّ لا يخفى أنّه لا يمكن توجيه العبارة بما في الحاشية طبع بغداد (1) من أنّه إنّما لا يحتاج إلى هذا الوجه على الوجه الأوّل ، لأنّه إذا خصّص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الأخرى يكون الجزاء متعدّدا بتعدّد الشرط بالجهة والحيثية التي يضاف الجزاء إليه باعتبارها ، فلا يكون الجزاء واحدا بل متعدّدا ، لتعدّده حسب تعدّد الجهة التي بها يضاف إلى الشرط ، فالجزاء في المثال الذي ذكره المصنّف رحمه اللّه

ص: 10


1- كفاية الأصول : 104 - 105 ( وهي حاشية للشيخ محمّد مهدي الكاظمي قدس سره ).

يكون متعدّدا بواسطة إضافة التقصير إلى خفاء الأذان تارة وإلى خفاء الجدران أخرى. وذلك لأنّ تعدّد الجزاء حسب تعدّد الشرط إذا كان رافعا للإشكال المذكور لم يبق لنا حاجة إلى الوجه الرابع حتّى في الصورة التي ذكرها المصنّف قدس سره ، وهي ما إذا رفعنا اليد عن المفهوم مع إبقاء إطلاق الشرط على حاله ، فتأمّل.

قوله : وأمّا احتمال سقوط المفهومين من القضيتين فهو راجع إلى تقييد الاطلاق للعطف بأو ، وليس وجها آخر في قباله ... الخ (1).

وجهه هو أنّ إسقاط المفهوم من كلّ منهما يلزمه إسقاط الاطلاق النافي للعطف بأو ، إذ لا يجتمع دعوى الانحصار في كلّ منهما مع عدم المفهوم لهما ، فلا بدّ في إسقاط المفهوم من إسقاط دعوى الانحصار ، وذلك الاسقاط عبارة عن العطف بأو.

وقد حرّرت عنه قدس سره في هذا المقام ما هذا لفظه : أنّ المراد من إسقاط دلالتهما على المفهوم إن كان عبارة عن إسقاط دلالة كلّ من الشرطيتين على نفي شرطية الشرط في الأخرى ، مع بقاء دلالة كلّ منهما على نفي مدخلية شيء ثالث ، فهو عين ما ذكرناه من إسقاط الاطلاق الثاني ، أعني عدم عطف شرط إحدى الشرطيتين على شرط الأخرى بلفظ أو. وإن كان المراد نفي دلالة كلّ من الشرطيتين على المفهوم بالكلّية ، بحيث لا يكون لهما دلالة على نفي الثالث ، فهذا لا وجه له ولا يقتضيه التعارض بين الشرطيتين ، لكفاية إسقاط دلالة كلّ منهما على نفي مدخلية الشرط في الأخرى في رفع التعارض المذكور ، من دون حاجة

ص: 11


1- أجود التقريرات 2 : 260 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وقد ذكر في النسخة المحشاة بعنوان : الرابع ... وأمّا الوجه الرابر. .. ].

إلى إسقاط دلالتهما على نفي مدخلية الثالث ، انتهى.

قلت : ولكن الظاهر من الكفاية بل صريحها هو إرادة الوجه الثاني ، لأنّه يقول : وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء (1).

ثمّ قال شيخنا الأستاذ قدس سره : وأمّا ما يقال من الجمع بينهما بجعل الشرط هو القدر الجامع بينهما فهو عبارة أخرى عمّا ذكرناه من العطف بلفظ أو ، إذ مرجعه هو أحدهما ، فإن كان بينهما جامع عرفي قريب كان الشرط هو ذلك القدر الجامع ، وإن لم يكن بينهما ذلك الجامع العرفي القريب كان الشرط هو أحدهما على البدل ، وإن كان الشرط في الحقيقة هو القدر الجامع العقلي وإن كان بعيدا عرفا ، لعدم معقولية معلولية الشيء الواحد لأشياء متعدّدة بلا قدر جامع ، انتهى.

قلت : قد تقدّم (2) أنّه لو كان في البين قدر جامع عرفي قريب ومع ذلك ذكر الشرط الخاصّ ، كان ظهور اللفظ في مدخلية الخصوصية موجبة لالغاء ذلك القدر الجامع ، فلو جاءت شرطية أخرى تتضمّن مدخلية خصوصية أخرى لشرط آخر كان اللازم هو الالتجاء إلى العطف بأو كما عرفته فيما تقدّم.

تنبيه : قال في الكفاية : الأمر الثاني : إذا تعدّد الشرط مثل ( إذا خفي الأذان فقصّر ) و ( إذا خفي الجدران فقصّر ) فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم لا بدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور الخ (3).

ص: 12


1- كفاية الأصول : 201.
2- في بداية الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 6 - 7 ، وراجع أيضا المجلّد الرابع من هذا الكتاب الصفحة : 418.
3- كفاية الأصول : 201.

يمكن أن يقال : إنّ التصرّف لا بدّ منه حتّى لو لم نقل بالمفهوم ، إذ لا أقل من كون ذلك من قبيل الحكم الواحد مع فرض اختلاف موضوعه بالتباين ، أو العموم من وجه أو العموم والخصوص المطلق ، فلاحظ. وهذا نظير ما ذكره المصنّف قدس سره (1) في ردّ استدلال القائلين بمفهوم الوصف بالاتّفاق على حمل المطلق مثل أعتق رقبة على المقيّد (2) مثل أعتق رقبة مؤمنة ، فإنّ هذا الحمل كاشف عن التنافي ، وهو لا يكون إلاّ من جهة المفهوم ، فأجاب عنه بأنّ التنافي من جهة ضيق الموضوع وسعته مع فرض وحدة الحكم.

ولعلّ المراد هو أنّه بعد أن أخرجنا المتباينين اللذين لا يجتمعان معا ولا في السبق واللحوق ، مثل إن جاء مسافرك أوّل النهار فتصدّق وإن جاء في آخر النهار فتصدّق ، فهذا ومثله خارج لأنّ المتعيّن فيه هو مفاد أو ، ولا يتأتّى الجمع فيه بمفاد الواو. ثمّ بعد أن أخرجنا الخاص والعام وتعيّن الجمع فيه بمفاد الواو ، لم يبق إلاّ العامان من وجه مفهوما أو موردا ، مثل إن سافرت فقصّر وإن خفت من العدو فقصّر ، ولا ريب في عدم التنافي بينهما عند الاجتماع بأن تحقّق السفر والخوف ، فإنّه يلزمه التقصير على كلّ حال. أمّا لو انفرد السفر عن الخوف أو انفرد الخوف عن السفر فلا تعارض حينئذ ، إذ لا منافاة بين وجوب التقصير عند الخوف وحده ووجوبه أيضا عند السفر وحده ، وإنّما تتأتّى المنافاة بين مثل هذين الدليلين لو قلنا بالدلالة على الانحصار وتمامية العلّة - أعني الموضوع الذي هو السفر أو الخوف - ولأجل ذلك أفاد في الكفاية أنّه بناء على الدلالة على المفهوم تتحقّق المنافاة بينهما.

ص: 13


1- كفاية الأصول : 206.
2- [ في الأصل : المطلق ، والصحيح ما أثبتناه ].

لكن ذلك أيضا لا يخلو عن تأمّل بعد فرض كون الحكم واحدا ، فإن جعله على الخوف ينافي جعله على السفر ، فلا بدّ من الجمع بمفاد الواو أو بمفاد أو ، فتأمّل (1)[ الظاهر أن المقصود بها النسخة المطبوعة في طهران قديماً وهي نادرة الوجود وقد ورد في الصفحة : 118 - 119 منها هذه العبارة مع الهامش الذي ينقله المصنف قدس سره.

كما أن أصل العبارة ذذكرت في الطبعة الحديثة المحشاة بحاشية المرحوم المشكيني قدس سره وله تعليقتان عليها 2 : 296 - 297 إلا أن الهامش غير مذكور فيها ، نعم أشار قدس سره إليه في التعليقة الأُولى].(2).

ص: 14


1- وفي الطبعة الطهرانية
2- بعد قوله قدس سره : فافهم ، ما هذا لفظه : وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه ، فلا وجه لأن يصار إليه إلاّ بدليل آخر ، إلاّ أن يكون ما أبقي على المفهوم أظهر فتدبّر جيّدا. وكتب قدس سره على الهامش ما هذا لفظه : ولازمه تقييد منطوقها بمفهوم الآخر ، فلا يكون عند ثبوت شرطها ثبوت الجزاء إلاّ إذا كان شرط الآخر يلزم ثانيا. وشرح المرحوم القوچاني قوله : بمفهوم الآخر ، فقال : أي بسبب مفهوم الآخر. إلاّ أنّ الأحسن أن يقال : بمنطوق الآخر ، مع عدم الالتزام بالعلّية أيضا ، بأن يكون مفاد إحدى القضيتين ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط عند وجود الشرط الآخر وتأثيره في الجزاء كما عرفت. ولكنّه تصرّف لا يصار إليه إلاّ بدليل [ كفاية الأصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه ) 1 : 166 / التعليقة 77 ]. وأشار بقوله : « كما عرفت » إلى ما تقدّم منه في الحاشية السابقة في بيان هذا الوجه بقوله : بأن يجعل مفاده مجرّد ثبوت الجزاء عنده بلا علّية في البين ، بل ولا إطلاق في الثبوت ، بأن يكون ثبوته عنده عند وجود الشرط الآخر بسببية ذلك وكشف هذا عنه فيكون أحدهما معرّفا عن الآخر [ كفاية الأصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه ) 1 : 165 / التعليقة 75 ]. قلت : لا يخفى أنّ محصّل هذا التطويل هو إسقاط إحدى القضيتين منطوقا ومفهوما ، وليس هذا من الجمع الدلالي. وكأنّه لأجل ذلك ضرب على ذلك كلّه كما في نسختي التي صحّحتها على نسخة صحّحت على نسخة المصنّف ، وكما في طبعة بغداد [ كفاية الأصول : 105 مطبعة الشابندر - بغداد ]. قال في التقريرات : رابعها ابقاء إحدى الجملتين بحالها مفهوما ومنطوقا ، والتصرّف في الأخرى كذلك ، كما هو الظاهر من الحلّي [ السرائر 1 : 331 ] في المثال المذكور ، فإنّه جعل المناط في القصر خفاء الأذان فقط ، وقيّد منطوق الآخر بخفاء الأذان ومفهومه بعدمه ، فيرجع إلى إلغاء الجملة الثانية رأسا. اللّهمّ إلاّ أن يكون خفاء الجدران من الأمارات التي يتوصّل بها إلى خفاء الأذان ، فلا يلزم لغويته رأسا [ مطارح الأنظار 2 : 48 منه قدس سره ].

تنبيه : قد اشتمل بعض التحارير على أنّ الشرطين تارة يكونان متباينين ، وأخرى يكون بينهما العموم من وجه ، وثالثة يكون بينهما العموم المطلق. وقد مثّلوا للأوّل بمثل : إذا بلت انتقض وضوءك ، وإذا نمت انتقض وضوءك. وللثاني بمثل : إذا سافرت فقصّر ، وإذا خفت العدو فقصّر. وللثالث بمثل : إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفيت الجدران فقصّر ، بناء على كون خفاء الأذان قبل خفاء الجدران ، فيكون الشرط الثاني أخصّ من الأوّل.

ولا يخفى أنّه ليس المراد بالعموم من وجه ما هو بمعناه المصطلح ، بل الظاهر أنّ المراد به هو مجرّد الاجتماع في الوجود ولو لم يكن أحدهما صادقا على [ الآخر ]. والظاهر أيضا أنّ المراد بالتباين في المقام معناه المصطلح ، وهو اختلاف المفهومين وتباينهما مصداقا وإن اجتمعا في الوجود ، كما في مثل النوم

ص: 15

والبول ، وحينئذ يكون ذلك عين العموم من وجه بالنحو المذكور. أمّا المتباينان اللذان لا يجتمعان في الوجود أصلا حتّى لو كان أحدهما سابقا على الآخر مثل الإنسان والحجر ، فلا يتأتّى فيه الجمع بمفاد الواو ، بل يتعيّن فيه مفاد أو.

وذكر المرحوم الشيخ محمّد علي أنّ الوجه الثاني - وهو الحمل على العطف بلفظ أو في مثل المثال - لا يستقيم ، لأنّ المفروض حصول خفاء الأذان دائما قبل حصول خفاء الجدران ، فيلزم لغوية جعل خفاء الجدران شرطا ، لعدم وصول النوبة إليه (1).

هذا بالنسبة إلى حال الخروج ، وأمّا بالنسبة إلى الرجوع فالأمر فيه بالعكس.

قلت : والذي ينبغي أن يقال : إنّ أحد الشرطين لو كان أخصّ مطلقا من الآخر ، مثل الإنسان والحيوان ومثل المطلق والمقيّد ، كما لو قال : إن تركت التشهّد بطلت صلاتك ، وقال في أخرى إن تعمّدت تركه أو إن تركته عمدا بطلت صلاتك ، تعيّن الجمع بينهما بمفاد الواو ، فيعطف الخاص على العام أو المقيّد على المطلق بالواو ، فيكون الشرط هو الخاص أو المقيّد ، ولا محصّل للجمع في ذلك بمفاد لفظة أو ، بأن يعطف بها الخاص على العام. أمّا العكس أعني عطف العام بها على الخاص بأن يقال : إن كان هذا إنسانا أو كان حيوانا فافعل كذا ، فلا محصّل لذلك العطف إلاّ عطف ما عدا الإنسان من الحيوان على الإنسان ، فيرجع الأمر حينئذ إلى التباين ، لأنّ المراد من الحيوان هو ما عدا الإنسان ، وهو مباين له ، فلاحظ.

تنبيه آخر : قال شيخنا الأستاذ العراقي قدس سره في مقالته المطبوعة : ثمّ إنّه إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء شخصا بحيث [ كان ] غير قابل للتكثّر ، فلا شبهة في

ص: 16


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 486.

أنّه لا محيص من رفع اليد عن ظهور الشرط في المؤثّرية بنحو الاستقلال ، فيحمل على مؤثّرية المجموع في وجود الجزاء عند تقارنهما ، خصوصا مع اقتضاء ما هو أحدهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجّح ، نعم مع تعاقبهما كان الأثر لأوّل الوجودين قهرا ، كما لا يخفى (1).

ولا يخفى أنّ الملاك في كون الأثر للأوّل عند التعاقب إن كان هو كون الشرط هو القدر الجامع العرفي بينهما ، لم نكن في حاجة إلى الالتزام بكون المؤثّر عند اجتماعهما هو المجموع على وجه يستند الأثر إلى كلّ واحد ، بحيث يكون كلّ واحد جزء العلّة ، بل يكون الأثر مستندا إلى صرف الطبيعة الموجودة فيهما. وكذلك لو لم يكن في البين جامع عرفي قريب وكانا بحسب النظر العرفي متباينين ، فإنّه بعد البناء على تلك القاعدة العقلية المانعة من تعدّد العلل ووحدة المعلول ، لا بدّ لنا أن نقول إنّه عند اجتماعهما يكون الأثر مستندا إلى القدر الجامع العقلي.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ كون الأثر عند الاجتماع مستندا إلى مجموعهما ، بحيث يكون كلّ منهما جزء العلّة ، لا يجتمع مع الحكم باستناد الأثر إلى السابق عند التعاقب ، فتأمّل.

قوله : فيدور الأمر بين تقييد أحد الاطلاقين المقابلين للعطف بالواو أو العطف بأو ... الخ (2).

الأولى أن نمثّل لذلك بما إذا كان الشرطان متباينين وإن كان يمكن اجتماعهما في الوجود ، مثل : إذا سافرت فقصّر ، وإذا خفت من العدو فقصّر.

ص: 17


1- مقالات الأصول 1 : 406.
2- أجود التقريرات 2 : 260 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فنقول : إنّ الذي يظهر من القضية الأولى أمران : الأوّل كون السفر شرطا وعلّة منحصرة لوجوب القصر ، على وجه لا يقوم غيره الذي هو خوف العدو مقامه. الثاني كون السفر هو تمام العلّة والموضوع لوجوب القصر ، على وجه يكون وجوده وحده كافيا في تحقّق وجوب القصر ، ولا يحتاج إلى ضمّ غيره إليه الذي هو خوف العدو. وهكذا الحال في القضية الثانية.

أمّا الأوّل - أعني الانحصار - : فقد أثبتناه باطلاق الشرط في قبال احتمال عطف الخوف عليه بلفظ أو ، بإحدى الطرق المتقدّمة (1) التي كان أهم تقريباته التمسّك باطلاق قيدية الشرط وأنّ السفر قيد بقول مطلق في وجوب القصر حتّى في حال وجود الخوف وحده ، وأنّ وجوب القصر يتوقّف على وجود السفر ، سواء كان الخوف موجودا أو كان الخوف معدوما.

أمّا الثاني ، أعني استقلال السفر في علّية وجوب القصر ، في قبال احتمال احتياجه في ذلك إلى انضمام الخوف معه ، فلنا في التمسّك على نفي هذا الاحتمال الذي مفاده عطف الخوف على السفر بلفظ الواو طريقان :

الطريق الأوّل : هو التمسّك باطلاق الشرط ، وأنّ ظاهر تعليق الوجوب عليه أنّه يؤثّر في الوجوب وحده ، من دون أن يقيّد هو - أعني السفر - باجتماعه مع الخوف الذي هو مفاد عطفه عليه بالواو ، فإنّ ظاهر إطلاق الشرط من هذه الجهة وعدم عطف الخوف عليه بلفظ الواو أنّه - أعني السفر - مستقل في تحقيق الوجوب ، ولا يحتاج في تحقيقه الوجوب إلى عطف الخوف عليه بلفظ الواو.

الطريق الثاني : هو إطلاق نفس الوجوب المستفاد من قوله قصّر ، فإنّ هذا

ص: 18


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 410 وما بعدها من المجلّد الرابع من هذا الكتاب.

الدليل الدالّ على الوجوب لو خلي وحده لكان مقتضى إطلاقه هو وجوب القصر ، سواء سافر أو لم يسافر ، وسواء خاف العدو أو لم يخفه. لكن لمّا قيّده بقوله : ( إذا سافرت فقصّر ) التجأنا إلى تقييد إطلاق ذلك الوجوب بالسفر. أمّا الخوف فكان إطلاق الوجوب بالقياس إليه باقيا بحاله ، بمعنى أنّ الوجوب في قوله : ( إن سافرت وجب عليك القصر ) يكون بالقياس إلى الخوف باقيا على إطلاقه ، ولا ترفع اليد عن إطلاق دليل ذلك الوجوب إلاّ بالنسبة إلى السفر دون الخوف ، وحينئذ يكون مقتضى إطلاق الوجوب بالنسبة إلى الخوف بعد تقييده بالسفر أنّ وجوب القصر يتحقّق بمجرّد تحقّق السفر ، سواء انضمّ إليه الخوف أو لم ينضمّ إليه ، وذلك عبارة أخرى عن أنّ السفر يؤثّر وحده في وجوب القصر من دون أن نضمّ إليه الخوف ، فيكون هذا الاطلاق في ناحية الوجوب بالنسبة إلى الخوف نافيا لاحتمال عطف الخوف على السفر بالواو ، فيكون هذان الطريقان متوافقين في أخذ هذه النتيجة أعني طرد احتمال عطف الخوف على السفر بالواو.

وحيث إنّ جميع ما حرّرناه في القضية الأولى - أعني قوله : إذا سافرت فقصّر - متأتّ بعينه في القضية الثانية ، أعني قوله : إذا خفت العدو فقصّر ، وحينئذ يقع التدافع بين إطلاق الأولى وإطلاق الثانية من الجهتين ، أعني من جهة الاطلاق الطارد لاحتمال العطف بأو ، والاطلاق الطارد لاحتمال العطف بالواو ، وإن شئت فقل : إنّ ظاهر الاطلاق في القضية الأولى أنّ السفر في علّيته وتأثيره في وجوب القصر منحصر ، لا يقوم غيره الذي هو الخوف مقامه ، وأنّه مستقل في ذلك لا يحتاج إلى ضمّ غيره إليه في ذلك ، وهكذا الحال في الثانية. وكما أنّ إطلاق الأولى في إثبات انحصار الشرط بالسفر يعارض إطلاق الثانية في إثبات انحصار الشرط

ص: 19

بالخوف ، إذ لا يجتمع الانحصاران ، فكذلك إطلاق الأولى في إثبات استقلال السفر يعارض إطلاق الثانية في إثبات استقلال الخوف. وإن شئت فقل : إنّ إطلاق وجوب القصر في الأولى من جهة إثبات أنّ الوجوب غير مقيّد بالخوف معارض لما أفادته الثانية من تقييده بالخوف ، كما أنّ إطلاق الوجوب في الثانية من جهة إثبات أنّ الوجوب غير مقيّد بالسفر معارض لما أفادته الأولى من كونه مقيّدا بالسفر ، وحينئذ يكون إطلاق الوجوب في كلّ منهما بالنسبة إلى الشرط في الأخرى معارضا لاطلاقه بالأخرى بالنسبة إلى الشرط فيها ، وحينئذ يكون الاطلاقان المذكوران متنافيين.

وجلّ غرضنا من هذه الاطالة هو بيان أنّ شيخنا قدس سره بنى أخيرا على تحقّق التزاحم بين الاطلاق المقتضي للانحصار المبني على نفي احتمال العطف بأو ، وبين الاطلاق المقتضي لاستقلال الشرط المبني على نفي احتمال العطف بالواو ، لأنّا لا بدّ لنا في مثل هذه القضايا من إسقاط أحد الاطلاقين ، وحيث إنّهما في عرض واحد ولا ترجيح في البين ، كان الحاصل حينئذ هو عدم حجّية كلّ منهما ، ويكون اللازم هو الأخذ بالقدر المتيقّن ، وهو أنّه عند اجتماع الشرطين يكون الحكم فعليا لا محالة ، وفيما عداه يكون المرجع هو الأصول العملية ، وهي البراءة من ذلك الوجوب مثلا ، على إشكال في ذلك.

والذي هو محلّ التأمّل ممّا أفاده شيخنا قدس سره هو كون الاطلاقين في عرض واحد ، لامكان القول بتقدّم إسقاط الاطلاق المقتضي لعدم العطف بالواو ، وذلك الاطلاق هو إطلاق الوجوب الذي ذكرناه في الطريق الثاني ، فإنّ الوجوب في قوله : ( إذا سافرت وجب القصر ) وإن كان من حيث انضمام الخوف مطلقا ، لكنّه بعد أن فرضناه حكما واحدا في كلّ من القضيتين ، يكون إطلاقه من ناحية

ص: 20

الخوف في قوله : ( إذا سافرت وجب القصر ) مقيّدا بالخوف في قوله : ( إذا خفت وجب القصر ). وهكذا الحال من ناحية العكس ، وحينئذ يكون الخوف قيدا في ذلك الوجوب الواحد كما أنّ السفر قيد فيه ، ومقتضى القيدية المذكورة أنّه لا يحصل الوجوب بدون السفر ، كما لا يحصل بدون الخوف ، وحينئذ لا بدّ في حصوله من اجتماعهما ، ويكون النتيجة هو العطف بالواو.

وأمّا ما تمسّكنا به في الطريق الأوّل من إطلاق نفس السفر مثلا ، وأنّه تمام الموضوع ، وأنّه يؤثّر في الوجوب بلا ضمّ الخوف إليه ، فذلك عبارة أخرى عن إطلاق الوجوب الوارد عليه ، وأنّه وإن تقيّد به إلاّ أنّه مطلق من ناحية الخوف ، وقد عرفت سقوط هذا الاطلاق. ولو سلّمنا أنّه غيره لقلنا إنّ سقوط الاطلاق بالطريق الثاني موجب لسقوطه بالطريق الأوّل ، إذ بعد ثبوت أنّ الوجوب مقيّد بالخوف مضافا إلى تقيّده بالسفر لا معنى للقول بأنّ السفر مطلق من حيث انضمام الخوف إليه ، هذا.

مضافا إلى أنّ الخوف من قوله : ( إذا خفت فقصّر ) كما يقيّد الوجوب في الجزاء من قوله : ( إذا سافرت فقصّر ) يكون أيضا مقيّدا لنفس السفر ، فإنّ أقصى ما يقوله إطلاق نفس السفر : أنا يترتّب عليّ وجوب القصر سواء وجد الخوف أو لم يوجد ، وصريح التعليق في قوله : ( إذا خفت فقصّر ) يقول إنّ الوجوب يتوقّف على الخوف ، ومن الواضح تقدّمه على إطلاق السفر.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا ينبغي الريب في أنّ التقييد بالخوف في قوله : ( إذا خفت وجب القصر ) يكون موجبا لسقوط الإطلاق النافي لاحتمال الواو بكلا الطريقين اللذين ذكرناهما فيما مضى. وهكذا الحال من ناحية العكس ، وحينئذ تكون النتيجة هي العطف بالواو ، ويكون الاطلاق الذي تمسّكنا به لنفي احتمال

ص: 21

العطف بأو بحاله ، لأنّ أقصى ما في ذلك الاطلاق هو أنّ الخوف لا يقوم مقام السفر ، وهذا المعنى يجتمع مع كونه شريكا للسفر في توقّف الوجوب على كلّ منهما.

لا يقال : لم لم تقدّموا إسقاط هذا الاطلاق ، وتحكموا بأنّ شرطية السفر ليست على نحو الانحصار ، وأنّ الخوف يقوم مقام السفر ، وحينئذ يبقى إطلاق الوجوب من ناحية الخوف بحاله ، وحينئذ يكون الحاصل : أنّ إسقاط كلّ من الاطلاقين يوجب صحّة بقاء الاطلاق الآخر ، وهو معنى التزاحم.

لأنّا نقول : إنّا ولو قلنا إنّ الخوف يقوم مقام السفر ، لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه قيدا في الوجوب ، غايته أنّه حينئذ يكون أحد القيدين على البدل ، فلا يبقى إطلاق الوجوب بالنسبة إليه بحاله ، وحينئذ يكون التقييد في مرحلة العطف بالواو - أعني تقييد الوجوب - مبقيا للاطلاق في ناحية العطف بأو ، بخلاف التقييد في مرحلة العطف بأو ، فإنّه لا يبقي الاطلاق في ناحية العطف بالواو ، بل يوجب التقييد في الجملة ولو بمقدار كون الخوف أحد القيدين.

وبتقريب أوضح : أنّ تقييد الوجوب بمفاد الواو المنتج لاعتبار الاجتماع سابق في الرتبة على التقييد بمفاد أو ، الذي يكون منتجا لعدم الانحصار وأنّه يقوم الخوف مقام السفر ، لأنّ ذلك الاطلاق مأخوذ من ناحية التمسّك باطلاق التقييد ، بمعنى أنّه بعد أن يثبت كون السفر قيدا نقول إنّ قيديته مطلقة شاملة لما إذا وجد الخوف أو انعدم ، وهكذا الحال في قيدية الخوف ، والمفروض أنّ نفس القيدية توجب اعتبار الاجتماع وتصحّح بقاء إطلاق القيدية ، فيكون إصلاح هذين الشرطيتين بكون أحد القيدين منضمّا إلى الآخر سابقا في الرتبة على إصلاحهما بكون الشرط والقيد هو أحدهما. اللّهمّ إلاّ أن يقال : كما أنّ كون القيدية على نحو

ص: 22

الانحصار متأخرة في الرتبة عن أصل ثبوت التقييد ، فكذلك كونها على نحو العلية التامة أيضا متأخرة عن أصل التقييد ، وحينئذ يبقى التزاحم بين هاتين الجهتين بحاله.

ومنه يعرف الحال فيما قد يقال من أنّه بعد أن ورد مثلا إذا سافرت وجب القصر وإذا خفت من العدو وجب القصر ، لا ينبغي الإشكال في ثبوت تقيّد الوجوب بكلّ منهما في الجملة ، ولكن هل هذه القيدية قيدية مطلقة ، بحيث إنّه يكون السفر مثلا قيدا في الوجوب حتّى لو وجد الخوف ، أو أنّها مختصّة بما إذا فقد الخوف؟ وعلى الأوّل يكون الاجتماع معتبرا ، وعلى الثاني لا يكون الاجتماع معتبرا ، ويكون الأثر مترتّبا على أحدهما. ولكن إطلاق التقييد يثبت لنا الأوّل ، وتكون النتيجة حينئذ هي العطف بالواو.

فإنّه يمكن الجواب عنه أيضا بأنّ الثابت إنّما هو التقييد في الجملة ، ويبقى الترديد بين كونه على نحو الانحصار وكونه على نحو العلّية التامّة (1) ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحينئذ يكون ما أفاده شيخنا قدس سره من وقوع التزاحم بين الاطلاقين بحاله.

والخلاصة : هي أنّ مثل قولنا : ( إن سافرت فقصّر ) له إطلاقان : الأوّل : كون قيدية السفر مطلقة ، وهذه تنتج نفي مفاد أو ، ويكون بمنزلة قولنا إنّ السفر لا يقوم مقامه شيء في إيجاب التقصير. الثاني : كون تأثيره في إيجاب التقصير مطلقا لا يتوقّف على انضمام شيء آخر إليه ، وهذه تنتج نفي مفاد الواو ، ويكون بمنزلة قولنا إنّ السفر لا يحتاج إلى انضمام شيء في إيجاب التقصير. ولا تنافي بين هذين الاطلاقين بالنسبة إلى هذه القضية لو خليت وحدها ، ويكون حاصلهما

ص: 23


1- [ في الأصل : العلّية المنحصرة ، والصحيح ما أثبتناه ].

حينئذ هو أنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ، وأنّه لا يقوم مقامه شيء في هذا الأثر ، ولا يحتاج في ترتّب هذا الأثر عليه إلى ضمّ ضميمة. وهذا التفصيل بعينه جار في قولنا إن خفت من العدو فقصّر ، فإنّه يكون حاصله أنّ خوف العدو يؤثّر في وجوب التقصير ، وأنّه لا يقوم مقامه شيء في هذا الأثر ، ولا يحتاج في ترتّب هذا الأثر عليه إلى ضميمة.

وكما أنّ كلا من هذين الاطلاقين يجتمع مع الآخر في الجملة الواحدة ، فكذلك يجتمع مع الاطلاق في الجملة الأخرى ، فإنّ قولنا إنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ولا يقوم مقامه الخوف في ترتّب وجوب القصر يجتمع مع قولنا إنّ الخوف يؤثّر في وجوب التقصير ولا يقوم مقامه السفر في ترتّب وجوب القصر ، لامكان صحّة كلّ من هذين القولين ، لجواز أن يكون تأثيرهما في وجوب التقصير مقيّدا بالاجتماع. وهكذا الحال في قولنا إنّ السفر يؤثّر في وجوب التقصير ولا يحتاج في ذلك إلى ضمّ الخوف إليه ، فإنّه يجتمع مع قولنا إنّ الخوف يؤثّر في وجوب التقصير ولا يحتاج في ذلك إلى ضمّ السفر إليه ، لامكان صحّة كلّ من هذين القولين ، لجواز أن يكون تأثير كلّ منهما في وجوب التقصير على البدل ، وأن يكون كلّ منهما قائما في ذلك مقام الآخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّه إذا قيّدنا الاطلاق النافي لمفاد « أو » بقي الاطلاق النافي لمفاد الواو بحاله ، وهكذا الحال فيما لو قيّدنا الاطلاق النافي لمفاد الواو ، فإنّ الاطلاق النافي لمفاد « أو » يبقى بحاله. كما أنّا لو أبقينا الاطلاق النافي لمفاد « أو » في الجملتين لزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد الواو في الجملتين. ولو أبقينا الاطلاق النافي لمفاد الواو فيهما ، لزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد « أو » فيهما ، فلو كان الاطلاق النافي لمفاد الواو متقدّما رتبة على الاطلاق النافي لمفاد

ص: 24

« أو » صدّقناه من الجملتين ، ولزمنا التقييد في الاطلاق النافي لمفاد « أو » فيهما ، وهكذا الحال من طرف العكس.

أمّا لو كان كلّ من الاطلاقين في رتبة الآخر وقع التزاحم بين الاطلاقين من هذه الجملة مع الاطلاقين من الجملة الأخرى ، إذ لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين في كلّ من الجملتين. وكما لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين من الجملتين ، فكذلك لا يمكننا الاحتفاظ بالاطلاقين من جملة وأحد الاطلاقين من جملة أخرى ، إذ لا يصحّ الجمع بين كون السفر مؤثّرا ولا يقوم مقامه الخوف ولا نحتاج إلى ضمّ الخوف ، وبين قولنا إنّ الخوف لا يقوم مقامه السفر ، لأنّ هذا القول إن نزّلناه على كون الخوف هو العلّة الوحيدة كان منافيا للجملة الأولى ، وإن نزّلناه على كون الخوف أحد الجزءين كان منافيا للجملة الثانية ، وهكذا فيما لو قابلناهما مع قولنا إنّ الخوف لا يحتاج إلى ضميمة.

والحاصل : أنّ الالتزام بكون الخوف مؤثّرا سواء كان على نحو لا يقوم مقامه السفر ، أو كان على نحو لا يحتاج إلى ضمّ السفر ، أو كان على كلا النحوين ، لا يجتمع مع الاحتفاظ بالاطلاقين من ناحية السفر ، لأنّ كون الخوف مؤثّرا - مثلا - إن كان تأثيره على نحو يقوم مقام السفر نافى الاطلاق الأوّل من ناحية السفر. وإن كان تأثيره على نحو يكون ضميمة إلى السفر نافى الاطلاق الثاني من ناحية السفر ، وهكذا الحال من ناحية العكس.

وعلى كلّ حال ، فإنّه قد ظهر لك من جميع ما تقدّم : أنّ رفع التعارض بين الاطلاقين إنّما يتمّ لو كان أحد الاطلاقين في طول الآخر. ومن ذلك يظهر أنّ الأثر إنّما يترتّب على طولية الاطلاقين ، لا على طولية التقييدين.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا معارضة بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الأخرى ،

ص: 25

لامكان تصديق قوله : إذا لم تسافر فلا تقصّر وقوله : إذا خفت فقصّر. فيصدق المفهوم لأنّ الشرط هو انضمام السفر إلى الخوف ، وإذ لا سفر فلا تقصير. ويصدق قوله : إذا خفت فقصّر ، لأنّ الخوف جزء موضوع وجوب التقصير. كما أنّه لا تعارض بين المفهومين وهما إذا لم تسافر فلا تقصّر وإذا لم تخف فلا تقصر ، لأنّ كلا من السفر والخوف إذا كان جزء الموضوع كان الحكم منتفيا عند انتفاء كلّ منهما.

والخلاصة : هي أنّ التعارض والتنافي إنّما هو في دعوى كلّ من الشرطين أنّه لا عدل له ولا ضميمة مع فرض كونه مؤثّرا ، فتأثير كلّ منهما في وجوب التقصير لا يجتمع مع كون كلّ منهما لا يقوم مقام الآخر ولا يعتبر انضمامه اليه. وإن شئت فقل : إنّه بعد فرض كون كلّ منهما مؤثّرا في وجوب التقصير لا بدّ من الالتزام بكون أحدهما يقوم مقام الآخر ، أو بكون أحدهما ضميمة للآخر ، فلاحظ.

ثمّ إنّ في المقام شيئا آخر ربما كان هو المنشأ في وجوب التوقّف الذي أفاده شيخنا قدس سره ، وهو أنّ مثل قوله : ( إذا سافرت وجب عليك تقصير الصلاة ) وإن كان باصطلاح المنطقيين من القضايا الشرطية المهملة ، حيث إنّ سور الشرطية المتّصلة هو كلّما ونحوه ، إلاّ أنّها كلّية بحسب المتفاهم من القضايا الشرطية الواردة في بيان الأحكام الشرعية ، لأنّها أحكام قانونية كلّية ، وحينئذ يكون قوله : ( إذا سافرت وجب القصر ) بمنزلة قوله : كلّما سافرت وجب القصر. ثمّ ننقل الكلام إلى الحكم في ناحية الجزاء ، وهو قوله وجب القصر ، فنقول : هل المراد منه الأعمّ من جهة الحدوث والبقاء ليكون محصّله كلّما سافرت كان الوجوب متحقّقا ، سواء كان حادثا بحدوث السفر أو كان حدوثه سابقا على حدوث السفر

ص: 26

بواسطة شرط آخر اقتضى حدوث وجوب القصر ، وبقي ذلك الشرط مستمرّا إلى حين السفر ، أو أنّ المراد هو جهة الحدوث ليكون المعنى كلّما حدث السفر يحدث الوجوب بحدوثه. والظاهر من أمثال هذه القضايا هو الثاني ، خصوصا فيما لو كان الوجوب مستفادا من الهيئة ، بأن يكون الجزاء بلفظ فقصّر.

وحينئذ نقول بعونه تعالى : إنّ حاصل القضية هو أنّه كلّما حدث السفر فقد حدث وجوب القصر بحدوثه ، والمستفاد من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ السفر هو الشرط الوحيد في حدوث الوجوب ، فتكون القضية من هذه الجهة دالّة على انحصار الشرط ، إذ لو كان هناك شرط آخر وهو الخوف ويحدث الوجوب بحدوثه ، وكان قد سبق السفر بالحدوث ، لم تصدق هذه الكلّية ، وهي كلّما حدث السفر يحدث الوجوب بحدوثه ، لأنّه في الصورة المفروضة لا يكون الوجوب حادثا بحدوث السفر ، بل يكون حدوثه سابقا على حدوث السفر.

الأمر الثاني : أنّ السفر هو تمام ما يعتبر في وجوب القصر ، على وجه لا يحتاج ترتّب وجوب القصر على السفر إلى عطف مثل الخوف عليه بالواو ، إذ لو كان كذلك بحيث إنّه كان الشرط في وجوب القصر هو السفر مع خوف العدو لم تصدق الكلّية المزبورة ، وهي أنّه كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر ، إذ ربما حدث السفر وحده فلا يكون الوجوب المذكور حادثا بحدوثه.

وإذا تمّ الأمران المذكوران في قولك كلّما حدث السفر فقد حدث بحدوثه وجوب القصر ، كان محصّل ذلك هو أنّ هذه القضية كما تأبى من أن يكون الخوف شرطا في وجوب القصر قائما مقام السفر ، فكذلك تأبى من أن يكون الخوف المذكور ضميمة إلى السفر في لزوم حدوث الوجوب لحدوثه ، والأوّل

ص: 27

طارد لاحتمال عطفه عليه بلفظ أو ، والثاني طارد لاحتمال عطفه عليه بالواو ، فلو ورد مع ذلك مثل قولك إذا خفت العدو فقصر ، كان المتحصّل منها عين ما هو المتحصّل من قضية إذا سافرت فقصّر. وحينئذ يقع التعارض بينهما ، وينحصر الأمر في الجمع بينهما باسقاط اقتضائهما الأمر الأوّل أو إسقاط اقتضائهما الأمر الثاني ، وحيث إنّه لا مرجّح لأحد الوجهين على الآخر كان اللازم هو التوقّف كما أفاده شيخنا قدس سره ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ إرجاع مثل ( إذا سافرت فقصر ) إلى قولنا كلّما سافرت وجب القصر ، بمعنى كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر ، إخراج للقضية الحكمية المتضمّنة لجعل الحكم مقيّدا بالشرط ومترتّبا عليه ونازلا منه منزلة المعلول من علّته إلى قضية شرطية متّصلة لزومية ، لا يكون الحاكم فيها متعرّضا إلاّ لمحض التلازم الكلّي بين المقدّم والتالي التي لا يفرق فيها بين كون المقدّم علّة للتالي أو معلولا له أو معلولين لعلّة ثالثة.

وعلى كلّ حال ، أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه فلا يخرج الحكم في ناحية الجزاء عن كونه مقيّدا بالشرط ، على وجه يكون حصول الجزاء متوقّفا على حصول الشرط ، ومع فرض وحدة الحكم الذي في ناحية الجزاء في كلّ من الشرطيتين يكون الحكم في كلّ منهما مقيّدا بالشرط في الأخرى ، كما أنّه مقيّد بالشرط المذكور فيها ، وبعد ثبوت كون ذلك الحكم الواحد مقيّدا بهما يكون ذلك التقييد قاضيا بأنّ السفر مثلا قيد في الوجوب ، وأنّه متوقّف عليه ولو عند وجود الخوف. وهكذا الحال بالنسبة إلى الخوف ، فيكون التقييد المذكور حينئذ قاضيا باسقاط الأمر الثاني المتقدّم الذي هو عبارة عن الاستقلال ، دون الأمر الأوّل وهو

ص: 28

الانحصار ، على تأمّل في ذلك مرّت الاشارة إليه (1) من أنّ أصل ثبوت تقييد الحكم في ناحية الجزاء لا يثبت إلاّ التقييد في الجملة ، ويبقى الترديد بين كونه على نحو العلّية التامّة أو على نحو الانحصار بحاله ، وهما معا في رتبة واحدة ، فلا وجه لتقديم أحد التصرفين على الآخر.

هذا كلّه فيما تقتضيه صناعة الاطلاق والتقييد ، ولكن ربما كان الظهور العرفي في بعض القضايا على خلاف ذلك ، كما في مثل إذا بلت انتقض وضوءك ، وإذا نمت انتقض وضوءك ، فإنّ الانتقاض وإن كان حكما شرعيا وهو مقيّد بالنوم مرّة وبالبول أخرى ، فيكون حاله حال وجوب القصر مثلا ، إلاّ أنّ الظاهر العرفي من ذلك هو أنّ المتكلّم بمثل هذه القضايا ناظر إلى أمر موجود محقّق ، وهو الطهارة من الحدث ، وأنّه يرتفع وينتقض بالبول وينتقض بالنوم ، فيكون كلّ منهما سببا لذلك الانتقاض. وكذلك الحال فيما لو أشرت إلى شيء طاهر من الخبث وقلت إنّ هذا إن لاقى البول تنجّس وإن لاقى الدم تنجّس.

والحاصل : أنّ مثل هذه القضايا تكون في مقام تعداد الأسباب ، ويكون المتحصّل من مجموعها هو أنّ كلّ واحد سبب مستقل ، فيكون من قبيل تعدّد الأسباب والمسبّب واحد ، فيكون السبب هو القدر الجامع إن كان هناك جامع عرفي ، وإن لم يكن كان السبب هو أحدها على البدل وإن رجع ذلك عقلا إلى كون المؤثّر هو القدر الجامع ، فيكون وزان هذه القضايا الشرعية وزان القضايا العادية في مقام الإخبار بالأسباب العادية ، مثل قولك مشيرا إلى ماء بارد إنّك إن وضعته في الشمس ذهبت برودته وإن قرّبته إلى النار ذهبت برودته.

وإن شئت فقل : إنّا نعلم من الخارج أنّه ليس الاجتماع معتبرا في هذه

ص: 29


1- في الصفحة : 22 - 23.

الأسباب حتّى الأسباب الشرعية ، لأنّا نعلم من الخارج أنّ انتقاض الوضوء بالبول لا يتوقّف على انضمام النوم إليه ، فلا يكون تعدّد هذه القضايا إلاّ في مقام بيان تعدّد السبب ولا يحتمل فيها أنّها لبيان جزء السبب. ولو احتمل فيها ذلك كان حالها حال القضايا التي يكون الجزاء فيها تكليفيا ، مثل إذا سافرت فقصر وإذا خفت العدو فقصر ، في احتمال كلّ من الطريقتين ، فيكون مقتضى صناعة الاطلاق والتقييد هو ما عرفت من تقييد التكليف بكلّ من القيدين ، ومقتضاه اعتبار الاجتماع على ما عرفت تفصيله ، وقد عرفت ما فيه من التأمّل الذي مرّت الاشارة إليه فتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هاتين الجهتين من العموم المتقدّم وإن كانا معا في رتبة واحدة ، لكن بعد فرض أنّه لا بدّ من رفع اليد عن إحدى الجهتين ، يكون المتعيّن هو رفع اليد عن الجهة الأولى ، وذلك لأنّ محصّل رفع اليد عن العموم من الجهة الأولى هو أن نقول : إنّ قوله كلّما سافرت حدث وجوب القصر ، يخرج منه ما لو تقدّمه الخوف ، وهذا المقدار من الاخراج لا بأس به ، بخلاف ما لو رفعنا اليد عن الجهة الثانية ، لأنّ محصّل ذلك هو أن نقول : كلّما حدث السفر حدث وجوب القصر إلاّ إذا كان قد حدث السفر مجرّدا من الخوف فإنّه لا يحدث الوجوب عند حدوثه. ولا ريب أنّ اخراج هذه الصورة - أعني صورة انفراد السفر وحصوله مجرّدا عن الخوف - وبقاء العموم على صورة اجتماعه مع الخوف لا يكون إلاّ من قبيل تخصيص الأكثر البالغ حدّ الاستهجان ، ومن هذه الجهة يكون التصرّف الأوّل في مقام المزاحمة مقدّما على التصرّف الثاني ، هذا.

مضافا إلى أنّ التصرّف الأوّل لا يوجب سقوط الوجوب بالمرّة ، وإنّما أقصى ما فيه هو أن يكون موجبا لسقوط الجهة الزائدة على وجود الوجوب وهي

ص: 30

جهة حدوثه ، بخلاف التصرّف الثاني. ولعلّ لأجل ذلك ما تراه من مساعدة الارتكاز والذوق العرفي على الذهاب لأوّل وهلة إلى التصرّف الأوّل. والمسألة محلّ تأمّل وإشكال.

ولا يخفى أنّ الوجه الأوّل - وهو ترجيح الجمع بمفاد أو على مفاد الواو بكون لازم الثاني تخصيص الأكثر بخلاف الأوّل - وإن كان متينا ، إلاّ أنّه إنّما يجري في خصوص هذا المثال الذي يكون موارد الانفراد فيه أكثر من موارد الاجتماع ، أمّا ما يكون فيه موارد الاجتماع هو الأكثر فلا يتأتّى فيه الوجه المذكور ، نعم يتأتّى فيه الوجه الثاني ، وهو كون التصرّف في الحدوث أسهل بحسب الذوق العرفي ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وعليه فيمكن أن يقال : إنّ كلا من القضيتين حيث إنّها صريحة في ترتّب التالي على المقدّم ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كلّ غرض شيخنا قدس سره في هذه المسألة هو أنّه بعد ثبوت التدافع بين القضيتين لا يمكن الاحتفاظ بكلتا جهتي الاطلاق في كلّ واحدة من القضيتين ، أعني الاطلاق النافي للعطف بأو والاطلاق النافي للعطف بالواو ، فالاحتفاظ بالاطلاق النافي في كلا القضيتين للعطف بالواو يحتّم علينا التقييد في كلّ منهما بلفظ أو ، وكذلك الاحتفاظ بالاطلاق النافي للعطف بأو في كلّ منهما يحتّم علينا التقييد بلفظ الواو في كلّ منهما ، وحينئذ يكون الاطلاقان متزاحمين ، فإنّ كلّ واحدة من هاتين القضيتين إنّما تكون معارضة للقضية الأخرى مع الاحتفاظ بكلا جهتي الاطلاق فيهما ، ولا يرتفع التعارض بينهما إلاّ برفع اليد عن إحدى جهتي الاطلاق في كلا القضيتين ، بمعنى أنّ الاطلاق من الجهة الأولى في

ص: 31


1- أجود التقريرات 2 : 260 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

هذه القضية يزاحمه الاطلاق فيها من الجهة الثانية ، وهكذا الحال في القضية الأخرى يكون فيها أيضا عين ذلك التزاحم. وليس المراد أنّ الاطلاق من الجهة الأولى في هذه القضية مزاحم أو معارض للإطلاق من الجهة الأولى في القضية الأخرى.

وحينئذ لا يتّجه ما أورده عليه في الحاشية على ص 424 من الطبعة الجديدة (1) من عدم المزاحمة بين جهتي الاطلاق وبتعيّن الجهة الأولى لرفع اليد عنها ، بتقريب أنّ التعارض بين القضيتين إنّما هو من ناحية الجهة الأولى من إطلاقيهما دون الجهة الثانية ، وإن كان رفع اليد عن الجهة الثانية يكون رافعا لذلك التعارض ، إلاّ أنّه بلا موجب ، بل هو من قبيل الجمع التبرّعي. وذلك لأنّ هذا الايراد إنّما يتوجّه لو كان التعارض منصبّا ابتداء إلى الجهة الأولى في القضيتين ليتعيّن إصلاحه برفع اليد عنهما ، ويكون حينئذ رفع اليد عن الجهة الثانية من الاطلاق بلا موجب. لكنّك قد عرفت أنّ التدافع بين القضيتين والتعارض بينهما إنّما يكون مع الاحتفاظ بكلا جهتي الاطلاق ، ودواء هذا التعارض هو رفع اليد عن إطلاقهما من إحدى الجهتين ، وإذ لا مرجّح لإحدى الجهتين على الأخرى وجب التوقّف.

وينبغي أن يعلم أنّ المستفاد ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه (2) في قبال هذا التوقّف احتمالات ثلاثة :

الأوّل : تعيّن الجهة الثانية للاحتفاظ بها وتعيّن الجهة الأولى للاسقاط ، بدعوى أنّ دلالة الجملة الشرطية على كون الشرط علّة تامّة أقوى من دلالتها على

ص: 32


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 261.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 488 - 489.

الانحصار. وأجاب عنه بمنع الأقوائية ، لكونهما معا إطلاقيين.

ولا يخفى أنّ هذه الاقوائية لو سلمت فإنّما نسلّمها إذا تحقّق التزاحم ، وقد عرفت أن لا تزاحم وأنّ كلّ واحد من الشرطين يكون قيدا في الوجوب. وهذه الاقوائية هي التي دعت صاحب الكفاية قدس سره لأن يقول : ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني (1) على ما تقدّم (2) شرحه ، وقد عرفت أيضا ما فيه.

الثاني : ممّا يعيّن الاحتفاظ بالجهة الثانية ويعيّن الجهة الأولى للاسقاط هو دعوى كون إسقاط العطف بالواو يوجب سقوط الاطلاق من جهة العطف بأو ، بخلاف العكس. وأجاب عنه بما أجاب به في الواجب المشروط.

ولا يخفى أنّه بناء على ما ذكرناه لا يكون العطف بالواو موجبا لسقوط الاطلاق في ناحية العطف بأو ، لما عرفت من أنّ التقييد بالواو يوجب احتفاظ الاطلاق من ناحية التقييد بلفظ أو ، كما أنّ التقييد بلفظ ( أو ) يوجب الاحتفاظ بالاطلاق من ناحية الواو.

الثالث : أنّ التصرّف بالجهة الاطلاقية في مقابل الواو مقدّم رتبة على التصرّف في مقابل أو ، وجعل هذا التقدّم الرتبي دليلا على أنّ المقدّم هو إسقاط الاطلاق في مقابل الواو ، على العكس ممّا يقتضيه الوجهان السابقان. وأجاب عنه بأنّ التقدّم الرتبي لا أثر له في العلم الاجمالي.

وهو محلّ تأمّل ، لأنّ اختلاف الرتبة مؤثّر على العلم الإجمالي حتّى في باب التكاليف كما أفاده قدس سره (3) في النجاسة المردّدة بين الماء والتراب المنحصرين

ص: 33


1- كفاية الأصول : 201.
2- في هامش الصفحة : 9 - 10.
3- لم نعثر عليه في مظانّه.

مع فرض عدم الأثر لنجاسة التراب إلاّ التيمّم. ومع الغض عن ذلك نقول فيما نحن فيه : إنّه بعد تسليم اختلاف الرتبة يرتفع العلم الاجمالي ، لأنّ منشأه التزاحم بين الإطلاقين ، ومع فرض كون أحدهما مقدّما رتبة على الآخر يكون السابق في الرتبة بلا مزاحم.

وعلى كلّ حال ، أنّ الذي يظهر من هذا الكتاب في طبعته الأولى (1) والثانية (2) وممّا حرّرته عنه قدس سره هو الاستدلال بهذا التقدّم الرتبي على تعيّن التصرّف بمفاد لفظ أو. ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذا التوهّم لو تمّ لكان الأولى أن يكون دليلا على تعيّن التصرّف بمفاد الواو دون التصرّف بما هو مفاد لفظ أو.

لكنّه قدس سره قد نظر في ذلك حسبما يستفاد من مجموع ما هو محرّر عنه إلى أنّ هذين الاطلاقين لمّا تزاحما ، وكان الاطلاق النافي للعطف بالواو سابقا في الرتبة على الاطلاق النافي للعطف بأو ، وحينئذ يكون ذلك الاطلاق في رتبته بلا مزاحم فيبقى بحاله ، وإذا انتهت النوبة إلى الاطلاق الثاني الواقع في الدرجة الثانية والرتبة اللاحقة يكون هو الساقط ، لتحقّق مزاحمه في الرتبة السابقة.

وبهذا البيان لا يمكن الجواب عنه بأنّ العلم الاجمالي لا يؤثّر فيه اختلاف الرتبة ، فإنّ هذا العلم الاجمالي بسقوط أحد الاطلاقين إنّما هو ناش عن هذا التزاحم ، وبعد فرض علاجه بما عرفت من اختلاف الرتبة لا معنى للجواب عنه بالعلم الاجمالي.

نعم ، عمدة الجواب هو ما عرفت ممّا حرّرناه من أنّ الرتبة الأولى هي مرتبة تقييد الوجوب بكلّ من القيدين ، وبعد تحقّق التقييد ينتقل الكلام إلى أنّ القيدية

ص: 34


1- أجود التقريرات 1 : 339.
2- أجود التقريرات 2 : 262.

مطلقة أو مقيّدة ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام باطلاقها الذي هو عبارة عن عدم قيام أحدهما مقام الآخر بعد ثبوت كون كلّ منهما قيدا. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الثابت في المرتبة الأولى أعني تقييد الحكم في ناحية الجزاء إنّما هو التقييد في الجملة ، ويبقى الكلام في إطلاق القيدية فلا يقوم أحدهما مقام الآخر ، وفي تمامية العلّة فلا يحتاج أحدهما إلى انضمام الآخر ، وحينئذ يكون ما أفاده شيخنا قدس سره من وقوع التزاحم بين الاطلاقين باقيا بحاله.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس سره لم يذكر حسبما حرّرته عنه وحسبما حرّره عنه في هذا الكتاب إلاّ الوجه الأوّل والوجه الثالث وجعلهما دليلا على التصرّف بما هو مفاد العطف بلفظ أو ، ولم يتعرّض للوجه الثاني الذي نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي. وقد أفاد حسبما حرّرته عنه أنّه في الدورة السابقة بنى على ترجيح التصرّف بمفاد لفظ ( أو ) استنادا إلى الوجهين المزبورين ، أعني قوّة ظهور الجملة في تمامية العلّة ، وكون الاطلاق النافي للعطف بالواو متقدّما في الرتبة على الاطلاق النافي للعطف بأو.

قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه في الدورة السابقة ما هذا لفظه : فيرجع الأمر بالأخرة إلى تقييد أحد الاطلاقين ، إمّا الاطلاق الذي هو في مقابل العطف بالواو ، وإمّا الاطلاق الذي في مقابل العطف بأو ، ففي مورد دوران أحد التقييدين يكون التقييد بأو أظهر ، وذلك لأنّ القضية ظاهرة بل كالنصّ بأنّ الجزاء مستند إلى الشرط ومترتّب عليه ، وليس غيره دخيلا في الترتّب ، أي ظاهر في أنّ كلّ واحد ليس جزء العلّة ، وليس الكلام بهذه المرتبة من الظهور في انحصار الترتّب بكلّ واحد.

وبعبارة أخرى : وإن كانت استفادة السببية المستقلّة وكذا الانحصار كليهما

ص: 35

بالاطلاق ، إلاّ أنّ تقييد السببية المستقلّة وصرفه عمّا هو عليه وإرجاعه إلى أنّه جزء السبب يحتاج إلى مئونة زائدة وقرينة خارجية غير ورود دليل الشرط الآخر ، بخلاف تقييد الانحصار ، فإنّ نفس تعدّد الشرط يكفي لبيان العطف بأو وأنّه ليس السبب منحصرا.

وبعبارة واضحة : بناء على أخذ الاطلاق المقابل للعطف بالواو لم يتصرّف في أصل السبب الذي هو مفاد كلّ قضية شرطية ، بخلاف العكس فإنّه رفع اليد عن ظهور السببية التامّة ، ولا شبهة أنّ الانحصار إنّما هو في طول الاستناد لا في عرضه ، لأنّ بعد ظهور الشرطية في استناد الجزاء إلى الشرط المذكور فيها لا إليه وإلى غيره بالاشتراك ، يصحّ أن يقال في ظهورها بانحصار السبب بهذا الشرط ، لا أنّه أو غير سبب ، فالتصرّف فيما هو في طول إطلاق ومتأخر عن غيره رتبة أولى من التصرّف فيما هو المقدّم رتبة ، انتهى ما وجدته فيما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة.

ومن الغريب أنّه في هذه الدورة الأخيرة لم يذكر عنه سوى هذه العبارة بطولها ، ولم يذكر عنه أنّه قد عدل عن ذلك الترجيح إلى هذا التوقّف الذي بنى عليه قدس سره في هذه الدورة الأخيرة. ومن هذه العبارة يظهر لك اختلاف آخر ، وهو أنّ ظاهر هذه العبارة هو أنّ مرجع الوجه الأوّل إلى دعوى الأظهرية ، والذي يظهر من هذا الكتاب وممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي وممّا حرّرته عنه قدس سره هو الاستناد في الوجه الأوّل إلى دعوى كون الاستناد إلى الشرط وأنّه يستقلّ في ذلك في الجملة ولو في بعض الموارد قدرا متيقّنا ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس سره في هذا المقام وما علّقناه عليه وتأمّل.

ص: 36

قوله قدس سره في الكفاية : الأمر الثالث ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الظاهر من كلامه قدس سره أنّه أخذ تعدّد الأسباب مسلّما فلا تداخل فيها. وكأنّ جلّ غرضه قدس سره هو نفي تداخل المسبّبات ، ولأجل ذلك قال : فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرّف فيه الخ ، فإنّ الوجه الأوّل راجع إلى دعوى وحدة الوجوب ، لأنّ الشرطية لا دلالة لها على الحدوث عند الحدوث. والثاني راجع إلى أنّ الوجوب وإن تعدّد وكان متعلّقه متعدّدا بواسطة تعدّد السبب ، إلاّ أنّه يمكن تحقّق الامتثال لكلا الوجوبين بفعل واحد. والثالث راجع إلى دعوى التأكّد.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من هذه الوجوه راجع إلى دعوى الاتّحاد في المسبّب ولو في مقام الامتثال كما في الوجه الثاني ، وحينئذ فلا مورد لمسألة كون الأسباب الشرعية معرّفات ، ولا للتفصيل بين اتّحاد الجنس وعدمه ، لأنّ ذلك إنّما هو في مقام دعوى اتّحاد السبب.

كما أنّ قوله قدس سره إن قلت : وجه ذلك هو لزوم التصرّف في ظهور الجملة الشرطية لعدم امكان الأخذ بظهورها حيث إنّ قضيته اجتماع الحكمين في الوضوء في المثال الخ (2) إنّما يكون متوجّها لاثبات اتّحاد السبب ، أعني أنّ الأولى بهذا الاعتراض أن يكون مسوقا لاثبات التداخل من حيث السبب ، وإنكار دلالة الجملة الشرطية على أنّ كلّ شرط يكون موجبا لحدوث وجوب عند حدوثه ، لأنّ ذلك موجب لتوارد الوجوب وتعدّده على طبيعة واحدة ، فدفعا لهذا الإشكال نقول إنّه لا بدّ من تداخل الأسباب.

ص: 37


1- كفاية الأصول : 202.
2- كفاية الأصول : 203 - 204.

نعم ، يمكن أن يتوجّه هذا الاعتراض على عدم التداخل في المسبّبات ، بأن يكون المتحصّل منه هو أنّا بعد الفراغ عن تعدّد الأسباب وعدم التداخل فيها لا بدّ لنا من الالتزام بأحد هذه الأمور الثلاثة ، أعني إخراج القضية عن الدلالة على الحدوث وجعلها لمجرّد الثبوت عند الثبوت ، أو جعل الفعل الواحد المنطبق عليه العنوانان كافيا في مقام الامتثال ، أو جعل ما يحدث بالشرط الثاني هو التأكّد.

قوله قدس سره في هذا المبحث : قلت انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتّصافه بوجوبين ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الوجه الثاني لا يتمّ ، لأنّ التركّب اتّحادي والقائلون بالجواز لا يقولون به ، مع أنّه قدس سره (2) قائل بالامتناع ، فكيف يصحّ عنده هذا الجواب.

أمّا الوجه الأوّل فكأنّه راجع إلى أنّ الانطباق على الفرد جهة تعليلية لكونه متّصفا بالوجوب لا جهة تقييدية ، وهو لو صحّ فلا يتأتّى في مثل المثال أعني الاكرام بالضيافة ، لوضوح أنّ ذلك ليس من قبيل الجهات التعليلية. وبالجملة : أنّ انطباق عنوان الواجب على الفرد لا يعقل كونه جهة تعليلية لاتّصافه بالوجوب ، وإنّما ذلك من الجهات التقييدية ، ويكون عروض الوجوب على ذلك الفرد بواسطة كون الكلّي المنطبق عليه متّصفا بالوجوب ، فهو من الواسطة في العروض لا الواسطة في الثبوت ، وإنّما الذي يكون واسطة في الثبوت بمعنى أنّه علّة في تعلّق الايجاب بالشيء هو المصالح والمفاسد التي تكون علّة لتشريع الأحكام فتأمّل ، أو الشرائط التي جعل التكليف على تقدير وجودها مثل كون الدلوك علّة لوجوب الصلاة ، بمعنى تحقّق الوجوب عند تحقّق الدلوك لا أنّه علّة له حقيقة ،

ص: 38


1- كفاية الأصول : 203.
2- كفاية الأصول : 158.

فتأمّل.

قوله : إنّ مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في تداخل الأسباب وعدمه ... الخ (1).

هذا إذا كان معنى التداخل في المسبّبات هو الاكتفاء بفعل واحد مع فرض تعدّد العنوان ، أمّا لو كان بمعنى التأكّد فالظاهر أنّ المرجع في مقام الشكّ فيه هو البراءة ، كمسألة الشكّ في تداخل الأسباب. وأمّا ما في الحاشية على الطبعة الجديدة (2) فيما يعود إلى الأحكام الوضعية ، فقد كفانا ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي مئونة الجواب عنها ، فراجع وتأمّل.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس سره : وأمّا باب الوضعيات فربما يختلف الأصل فيه ، مثلا لو شكّ في اقتضاء العيب للخيار زائدا على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس ، فمقتضى الأصل وإن كان عدم ثبوت خيار العيب ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ مقتضى الأصل بقاء الخيار بعد الثلاثة أيّام ، فتأمّل جيّدا (3).

أمّا الذي حرّرته عنه قدس سره فهو ما يلي : وأمّا في الأحكام الوضعية عند اجتماع الأسباب المتعدّدة ، كما في صورة اجتماع الأسباب المتعدّدة للخيار لو حصل الشكّ في تعدّد الخيارات ووحدتها وفرض ارتفاع أحد الأسباب ، فربما كان مقتضى الأصل هو استصحاب الخيار لو لم يكن هناك جهة تمنع من ذلك ، ككونه من قبيل الشكّ في المقتضي كما لو انقضى المجلس ، أو كونه من قبيل

ص: 39


1- أجود التقريرات 2 : 263 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 264.
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 490 - 491.

استصحاب الكلّي وغير ذلك من الموانع. وبالجملة : أنّ مسألة التداخل في باب الوضعيات يختلف الحال فيها باعتبار كون الأصل فيها هو الاستصحاب أو غيره من الأصول العملية ، انتهى.

والحاصل : أنّ الظاهر أنّ شيخنا قدس سره في هذا المقام لم يكن بصدد بيان المرجع في الأحكام الوضعية عند الشكّ في التداخل ، ومع ذلك فقد حرّر عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ما يفيد أنّ الشكّ في التداخل فيها إن كان في ناحية الأسباب كان المرجع هو الأصل النافي ، وإن كان في ناحية المسبّبات كان المرجع هو الأصل المثبت ، وهو الذي ذكره المحشي. فلا إيراد يتوجّه إلاّ على الاجمال الذي حرّره عنه قدس سره بقوله : فليس لجريان الأصل في مواردها ضابط كلّي الخ (1).

ونظير هذا الاجمال ما اشتمل عليه تحرير المرحوم الشيخ موسى بقوله : وأمّا لو كان في باب الوضع فيختلف المقامات ، فقد يقتضي الأصل نظير البراءة كما في منزوحات البئر ، وقد يقتضي نظير الاشتغال كما في أسباب الخيار ، انتهى.

قوله : فنقول إنّ العلّة يطلق تارة ويراد منها الملاك الداعي إلى الجعل أو الحكم المجعول ... الخ (2).

الذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام أنّ علل الأحكام على نحوين : أحدهما ما يكون علّة التشريع أو علّة الحكم المشرّع ، ويعبّر عنها بحكمة التشريع ، وهي ما تضمّنته جملة من الأخبار الواردة في حكم الأحكام ، كما تضمّنه كتاب علل الشرائع من الروايات. النحو الآخر ما يكون من قبيل موضوع الحكم ، أعني ما جعل الحكم على تقدير وجوده ، سواء كان بلسان القضية الشرطية أو كان بلسان

ص: 40


1- أجود التقريرات 2 : 264.
2- أجود التقريرات 2 : 264 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

القضية الحملية الحقيقية.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ معرّف الشيء حقيقة هو ما يفيد تصوّره تصوّر الشيء ، وربما استعمل فيما يكشف عن وجود الشيء ، كالمعلول والأمارات المنصوبة في الطرق لتكون علامة على شيء ، فإنّ مثل الحرارة كاشفة عن وجود النار ، وإنّ العلامة المنصوبة كاشفة عن مقدار من المسافة مثلا. ومن الواضح أنّ قولهم إنّ العلل الشرعية معرّفات للأحكام ليس المراد به النحو الثاني من علل الأحكام ، أعني موضوعاتها وشروطها المعلّق عليها وجودها وتحقّقها كما هو واضح (1). بل لا بدّ أن يكون المراد من العلل المذكورة هو النحو الأوّل ، أعني ما يكون من قبيل حكمة التشريع.

وليس المراد من كونها معرّفة للأحكام أنّها معرّفة لها حقيقة بالمعنى الأوّل للمعرّف ، أعني ما يوجب تصوّره تصوّر الشيء ، بل لا بدّ أن يكون المراد من كونها معرّفة لها هو المعنى الثاني للمعرّف ، أعني ما يكون كاشفا عن وجود الشيء لكونه معلولا لذلك الشيء ، أو لكونه أمارة عليه بالذات أو بالجعل. ولكن مع ذلك لا بدّ من تكلّف مسامحة ، حيث إنّ حكمة التشريع ليست من قبيل المعلول للحكم ، ولا من قبيل الأمارة عليه ، فلا بدّ أن يكون الوجه في تسميتها معرّفة بهذا المعنى من المعرّف هو مجرّد أنّها غير مطردة ولا منعكسة ، فإنّ المعرّف بهذا المعنى لا يكون مطردا ولا منعكسا ، وبهذا الاعتبار سمّيت حكمة التشريع معرفة ، لا أنّها معلولة للحكم أو أنّها تكون أمارة مجعولة أو منجعلة على

ص: 41


1- قال المرحوم الشيخ محمّد علي : لأنّ موضوع التكليف ليس بمؤثّر ولا معرّف الخ. وقال : وأمّا موضوعات الأحكام فليست إلاّ كالعلل الحقيقية ، ولا يمكن أن تكون معرّفات الخ [ فوائد الأصول1. 2 : 492 ، 496 منه قدس سره ].

وجوده. فقد اتّضح لك بهذا البيان أنّ حاصل هذه الجملة هو أنّ علل الأحكام ما يكون من قبيل حكمة التشريع تكون معرّفات ، أعني أنّها لا تكون مطردة ولا منعكسة ، وأين هذا ممّا نحن فيه من علل الأحكام بمعنى الشرط المعلّق عليه وجود الحكم الشرعي ، انتهى.

وحرصا على بيان مراد شيخنا قدس سره نقلت هذه الجملة التالية من المسودّة التي حرّرها عنه قدس سره نجله المعظّم باملاء منه قدس سره ، وهذا نصّ الجملة الموجودة في التحرير المشار إليه الذي هو باملائه قدس سره :

وأنت خبير بأنّ علل الشرع يطلق تارة ويراد بها ما كان من قبيل علل التشريع ، ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر ، ونحو ذلك. وأخرى يراد به ما كان من موضوعات الأحكام ، وظاهر أنّه بالنسبة إلى موضوعات الأحكام والشرائط الوجوبية لا محصّل لدعوى أنّها معرّفات ، فإنّ المفروض أنّها تستتبع الأحكام ، بل بالنسبة إلى علل التشريع أيضا الذي يصحّ من دعوى أنّها معرّفات هو مجرّد أنّها غير مطردة ولا منعكسة ، وإلاّ فليس من باب المعرّف ، فإنّ المعرّف ما كان منبئا عن وجود الشيء ويكون معلولا له ، مثل الدخان بالنسبة إلى وجود النار ، أو ملازما له. وواضح أنّ علل التشريع ليس من هذا القبيل ، وإنّما هي المبادئ التي يستند التشريع إليها ، ورتبتها سابقة على رتبة الأحكام ، فلا يصحّ إطلاق المعرّف بمعناه الحقيقي عليها ، وإنّما المصحّح لاطلاق المعرّف عليها هو مجرّد عدم الاطراد والانعكاس. وغير خفي أنّ مورد البحث أجنبي عن ذلك الباب بالكلّية ، فأصل قضية أنّ علل التشريع معرّفات إنّما يستقيم في باب علل التشريع ، وأجنبي عن المقام بالكلّية ، ولا محلّ لأن يبنى النزاع في التداخل وعدمه على تلك المسألة ، انتهى.

ص: 42

قلت : ولكن مع ذلك كلّه فالمطلب بعد يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ الظاهر أنّ مراد من قال : إنّ الأسباب الشرعية معرّفات لا مؤثّرات ، هو أنّ الدلوك مثلا ليس بعلّة للوجوب على نحو سائر العلل التكوينية ليمتنع تعدّدها ، بل إنّها من قبيل العلائم الكاشفة عن المصالح التي هي علل الأحكام ، فلا مانع من تعدّدها. وحينئذ يكون الجواب عنه هو أنّها وإن كانت كذلك إلاّ أنّ ظاهر الجملة الشرطية هو حدوث الحكم في ناحية الجزاء عند حدوث الشرط ، فلا بدّ أن يكون كلّ شرط مؤثّرا أثرا مستقلا.

ويمكن أن يقال : إنّ هذا الجواب هو المراد من الكفاية بقوله قدس سره : وقد انقدح بذلك أنّ المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه المذكورة التي ذكرنا ، لا مجرّد كون الأسباب الشرعية معرّفات لا مؤثّرات الخ (1) بأن يكون مراده أنّ ظاهر الجملة الشرطية هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط ، ولا يرفع اليد عن هذا الظاهر بمجرّد كون الأسباب الشرعية معرّفات ، فإنّ ذلك لا يصحّح الحكم بعدم التداخل ما دام ذلك الظاهر من الجملة الشرطية محفوظا ، وحينئذ ينحصر الوجه في الحكم بالتداخل بالتصرّف في ظاهر الجملة الشرطية بأحد الوجوه المذكورة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجه الأوّل من تلك الوجوه مبني على كون الأسباب الشرعية معرّفات ، لتخرج بذلك عن العلّية الموجبة لتحقّق المعلول عند وجود العلّة ، بل لا يكون في البين إلاّ مجرّد الثبوت عند الثبوت ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده قدس سره بقوله : مع أنّ الأسباب الشرعية حالها حال غيرها في كونها معرّفات تارة ومؤثّرات أخرى (2) ففيه تأمّل ، لأنّا إن قلنا بجعل السببية كانت جميع

ص: 43


1- كفاية الأصول : 204 - 205 ( مع اختلاف يسير ).
2- كفاية الأصول : 205.

الشروط والأسباب الشرعية مؤثّرات ، وإن قلنا بأنّ المجعول هو المسبّب لم يكن شيء منها علّة ومؤثّرا في ناحية الحكم المجعول عندها ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده قدس سره بقوله : نعم الخ ، فكأنّه قدس سره يريد بذلك توجيه القول بالمعرّفية بأنّ الشروط ليست من قبيل المصالح التي هي علل ودواع لجعل الحكم ، بل هي راجعة إلى موضوعات الأحكام. ولا يخفى أنّه بناء على ذلك لا تكون السببية مجعولة ، بل يكون المجعول هو الأحكام عند حدوث شروطها وموضوعاتها ، ولأجل ذلك قال : فله وجه لكنّه لا ينفع القائل بعدم التداخل. ويكون الحاصل من هذه الجملة هو الاشارة إلى الخلاف في أنّ المجعول هو السببية فتكون الأسباب مؤثّرة ، أو أنّ المجعول هو المسبّب عند حصول السبب فتكون الأسباب معرّفة ، ولكن ذلك لا يخرج المسألة عن التداخل ، وذلك لما عرفت من ظهور الجملة الشرطية في نفي التداخل ، سواء قلنا بجعل السببية أو قلنا بجعل المسبّب.

والظاهر أنّ هذا هو مراد ذلك القائل ، وينحصر الجواب عنه بأنّ هذا المطلب - أعني عدم كونها عللا مؤثّرة في الأحكام - مسلّم ، إلاّ أنّها مع فرض كونها غير علل بالمعنى المزبور لا تصحّح التداخل ، لما عرفت من ظهور الجملة الشرطية ، فتأمّل.

قوله : وأمّا القسم الثاني فهو ملحق بالقسم الأوّل ، وبناء على عدم التداخل يتقيّد الجزاء بكلّ من السببين ، فيؤثّر أحدهما عند ارتفاع الآخر ... الخ (1).

يظهر أثر ذلك جليّا في الخلاف في كونه من قبيل التداخل في المسبّب ،

ص: 44


1- أجود التقريرات 2 : 266.

فإنّه بناء على التداخل يتحقّق السقوط بمجرّد سقوط أحدها ، مثلا لو قلنا في مسألة الخيار أنّه من قبيل التداخل في المسبّب ، وأنّه عند اجتماع المجلس والحيوان مثلا لا يكون إلاّ مسبّب واحد ، فعند انقضاء المجلس يسقط الخيار ، بخلاف ما لو قلنا بعدم التداخل وإنّ الخيار يتعدّد باضافته إلى المجلس واضافته إلى الحيوان.

وكذلك لو قلنا بكونه من قبيل تداخل الأسباب وقلنا بأنّ معنى تداخلها هو عبارة عن [ كون ] المجموع سببا واحدا ، بحيث يكون الخيار مترتّبا على المجموع ، ويكون كلّ واحد جزء العلّة ، فإنّه بناء على التداخل المذكور يسقط الخيار بالمرّة عند انقضاء المجلس مثلا ، بخلافه على عدم التداخل.

أمّا لو قلنا إنّ معنى تداخل الأسباب عبارة عن كون السبب هو القدر الجامع ، وأنّه واحد لا يتعدّد ، سواء كان الموجود منه واحدا كالمجلس أو كان متعدّدا كالمجلس والحيوان ، فإنّه لا يظهر فيه للتداخل بالمعنى المزبور وعدم التداخل [ أثر ] ، فلا يكون الخيار ساقطا بانقضاء المجلس سواء قلنا بعدم التداخل أو قلنا بالتداخل. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ ارتفاع أحد فردي القدر الجامع مع بقاء الآخر بحاله لا يكون موجبا لارتفاع القدر الجامع ، بل يكون القدر [ الجامع ] باقيا بحاله فيكون أيضا باقيا.

ثمّ لا يخفى أنّ مسألة القتل القصاصي يمكن أن يقال إنّه ليس من قبيل تعدّد وجوب القتل بالاضافة ، بل هو من قبيل الحقوق المتعدّدة لورثة المقتولين ، وأنّ ورثة كلّ مقتول لهم حقّ القصاص من القاتل ، غايته أنّ استيفاء البعض يوجب سقوط حقّ البعض الآخر من القصاص المذكور.

ص: 45

قوله : الأوّل أنّه لا إشكال - كما عرفت سابقا - في أنّ كلّ قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ هذا تبعيد للمسافة ، فإنّ الأولى أن يقال : إنّ ذلك المعنى - وهو كون كلّ بول محكوما بوجوب الوضوء - تتكفّل به القضية الشرطية وإن لم نرجعها إلى القضية الحملية ، وذلك لما عرفت في المسألة السالفة (2) في تقريب القول بتقدّم التصرّف بما هو مفاد العطف بأو ، فإنّ قوله : ( كلّما بلت يجب عليك الوضوء ) مفاده أنّ وجوب الوضوء يحدث كلّما تحقّق حدوث البول ، وهو كاف في سريان الحكم إلى كلّ بول ، بل هو كاف أيضا في سريانه إلى البول المسبوق بالنوم مثلا.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر منه قدس سره في كيفية استفادة العموم الشمولي لكلّ بول من القضية الشرطية هو إرجاعها إلى القضية الحملية الحقيقية ، وفي استفادة العموم للبول المسبوق بالنوم الذي هو عموم أحوالي إلى نفس القضية الشرطية. والظاهر أنّ نفس القضية الشرطية متكفّلة بكلا العمومين ، بل إنّ تكفّلها للأوّل أولى من الثاني.

قوله : وأمّا القسم الثالث فهو خارج عن محلّ الكلام ، ولا مناصّ عن الالتزام بالتداخل فيه ، والوجه في ذلك ظاهر (3).

فإنّ مثاله ما تقدّم ممّا لو كان الشخص واجب القتل بحقّ اللّه مثل المحارب

ص: 46


1- أجود التقريرات 2 : 266 - 267 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- [ الظاهر أنّه قدس سره يقصد بذلك ما تقدّم في ص 26 من قوله : ثمّ إنّ في المقام شيئا آخر ... ].
3- أجود التقريرات 2 : 266.

والمرتدّ ، وتقدّم (1) أنّه لا يمكن العفو عنه ، فيتأكّد الحكم عند اجتماع السببين لا محالة. لكن ذلك لا يخرجه عن التداخل ، غايته أنّه تداخل المسبّب بالتأكّد. والأولى التمثيل للقسم الثالث بما لو قال : ( إن نمت انتقض وضوءك ) فإنّه لو نام ثانيا لا يكون نومه مؤثّرا ، لأنّ الانتقاض ليس بقابل للتكرار لكي يكون من قبيل القسم الأوّل ، كما أنّه غير قابل للتقييد والتأكيد لكي يكون من القسم الثاني ، فلا أثر فيه لاجتماع الأسباب كي نتكلّم فيه على أنّ مقتضى الأصل هو عدم التداخل وأنّه هل يتأتّى فيه التداخل في السبب أو التداخل في المسبّب ، فإنّ مثل هذا المثال خارج عن هذا البحث بالمرّة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ باب الوضوء خارج عن التداخل ، فإنّ النوم مثلا ليس بسبب للوضوء ، بل هو سبب لتحقّق الحدث وناقضية الوضوء ، والمفروض أنّه غير قابل للتداخل ، ووجوب الوضوء إنّما هو لكونه محدثا ، والحدث لا تكرّر فيه ولا تأكّد. وأمّا باب الخيار ونحوه باب القصاص وباب الحدود فهي أيضا خارجة ، إذ لم يقل أحد بسقوط الحقّ في ذلك باسقاط أو سقوط بعضه ، فلم يبق إلاّ باب الأغسال ، وهي من كفاية الغسل الواحد عن جنابات متعدّدة بمنزلة كفاية الوضوء الواحد في اجتماع أسبابه. نعم باب كفاية غسل الجنابة عن الوضوء وعن باقي الأغسال ، وهكذا كفاية الغسل الواحد عن الأغسال المتعدّدة كلّ ذلك على خلاف القاعدة ، وهو من قبيل التداخل في المسبّبات.

قوله : فانقدح من جميع ما ذكرناه أنّ مقتضى ظهور القضية الشرطية هو عدم التداخل إلاّ فيما إذا كان الجزاء غير قابل ... الخ (2).

استثنى شيخنا قدس سره من أصالة عدم تداخل الأسباب مسألة وجوب القتل ، إذا

ص: 47


1- في أجود التقريرات قبل عبارة المتن آنفة الذكر.
2- أجود التقريرات 2 : 271 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

تعدّد سببه الشرعي الذي هو من حقوق اللّه تعالى ، مثل المحارب والمرتدّ الفطري ونحو ذلك.

والظاهر أنّ ذلك من قبيل وجوب صوم اليوم ، باعتبار كونه داخلا تحت عموم وجوب صوم يوم كلّ جمعة وعموم وجوب صوم أوّل كلّ شهر في أنّ مرجعه إلى التأكّد ، وأنّ ذلك التأكّد ما معناه. وعلى كلّ حال ، فالظاهر أنّه من تداخل المسبّبات لا الأسباب.

أمّا مسألة كفّارة الافطار فلو قلنا بأنّ السبب هو الافطار كانت خارجة عن تداخل الأسباب والمسبّبات ، إذ بناء على هذا القول لا يمكن أن يوجد لنا مفطران ، لا تدريجا ولا على سبيل الدفعة. أمّا الأوّل فواضح ، لعدم كون الأكل الثاني مفطرا ، وأمّا الثاني فلأن المفطر هو القدر الجامع ، لا هذا وحده وذاك وحده. وهكذا الحال في سببية البول والنوم لتحقّق الحدث. وأمّا ما في الحاشية (1) من أنّ الكفّارة مترتّبة على الأكل فلا يبعد صحّته ، لكن كلام شيخنا مبني على مجرّد التمثيل على فرض كون الكفّارة مترتّبة على عنوان الافطار ، بدعوى كون الأكل مثلا إنّما حكم عليه بالكفّارة لكونه مفطرا ، لا لعنوانه الخاص. وربما يورد عليه بأنّ من لم ينو الصوم واستمرّ يأكل ويشرب لا تجب عليه الكفّارة ، لأنّه لم يفطر ، إذ لم يصم. ويجاب عنه بأنّ المراد من الافطار هو عدم الصوم عمدا ، ولأجل ذلك يقال إنّ من لم ينو الصوم ولكنّه اتّفق أنّه لم يفعل شيئا من المفطرات تجب عليه الكفّارة ، لأنّه قد ترك الصوم عمدا ، وإن لم يصدق عليه الأكل والشرب ولا عنوان المفطر بمعنى نقض الصوم.

ص: 48


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 271 - 272.

قوله : الثاني أنّ كلّ طلب متعلّق بأي ماهية ... الخ (1).

تقدّم (2) أنّ مفاد القضية الشرطية مثل قولنا للمتوضي : إذا بلت انتقض وضوءك ، هو أنّه كلّما حدث منك مثل البول يحدث عنده انتقاض الوضوء. وإنّا قد استفدنا من هذا العموم أمورا ثلاثة :

الأوّل : أنّ البول ليس يتوقّف حدوث الوجوب عنده على شيء آخر كالنوم مثلا. وهذا معنى الاستقلال في العلّية وأنّ البول تمام العلّة في حدوث ذلك الانتقاض ، وأنّه لا يتوقّف حدوث الوجوب على انضمام مثل النوم إليه ، وإلاّ لم يصدق قولنا كلّما حدث البول حدث انتقاض الوضوء.

الأمر الثاني : أنّ البول لا يقوم مقامه مثل النوم في كون حدوثه موجبا لحدوث انتقاض الوضوء ، لأنّ المفروض أنّ الانتقاض لا يقبل التعدّد ، فلو كان له سبب آخر كالنوم لم يكن قولنا : ( كلّما حدث البول حدث الانتقاض ) صادقا ، لكون الانتقاض حينئذ مستندا إلى النوم فيما لو كان سابقا ، وحينئذ يكون البول علّة تامّة منحصرة ، وعن هذا الانحصار يتولّد :

الأمر الثالث ممّا يستفاد من تلك القضية ، وهو انتفاء انتقاض الوضوء عند انتفاء البول.

ثمّ إنّا إذا ضممنا إلى هذه القضية الشرطية قضية شرطية أخرى ، مثل قولنا : إذا نمت انتقض وضوءك ، التجأنا إلى التخصيص بأحد طريقين :

أوّلهما : إخراج ما لو وجد البول وحده ، بأن نقول إنّ حدوث البول إنّما يوجب انتقاض الوضوء منحصر بما إذا وجد معه النوم.

ص: 49


1- أجود التقريرات 2 : 267 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة 26 وما بعدها.

ثانيهما : إخراج ما لو تقدّمه النوم ، فإنّ حدوث انتقاض الوضوء حينئذ يكون حاصلا عند حدث النوم ، فلا يكون الوجوب في هذه الصورة حادثا عند حدوث البول المتأخر عن النوم.

وقد رجّحنا الطريقة الثانية على الأولى لما يلزم على الأولى من تخصيص الأكثر ، بخلاف الطريقة الثانية فإنّها لا تخرج منها إلاّ صورة تقدّم النوم على البول ، أمّا صورة اجتماعه مع البول دفعة واحدة فيمكن القول ببقائها تحت العموم المذكور ، لأنّ الانتقاض إذا حدث بحدوثهما معا لا يكون موجبا لعدم صدق قولنا كلّما حدث البول حدث انتقاض الوضوء. نعم ، يبقى في هذه الصورة شيء أجنبي عن مدلولهما ، وذلك الشيء هو أنّ حدوث الانتقاض عند حدوثهما هل يكون مستندا إلى القدر الجامع بينهما ، أو أنّه مستند إلى مجموعهما ، والظاهر الأوّل.

ثمّ إنّه بعد أن التزمنا برفع اليد عن عموم القضية بالنسبة إلى البول المسبوق بالنوم ، وهكذا الحال بالنسبة إلى النوم المسبوق بالبول ، لا بدّ لنا من الالتزام بسقوط الدلالة على الانحصار ، لكنّه بالاضافة إلى كلّ واحد منهما عند مسبوقيته بالآخر لا بالنسبة إلى الثالث ، بل يكون مفاد الانحصار بالنسبة إلى الثالث باقيا بحاله ، وحينئذ يكون المتحصّل من الجمع بين مفهوميهما هو أنّ انتقاض الوضوء ينتفي بانتفائهما ، لا بانتفاء أحدهما مع وجود الآخر.

هذا كلّه فيما لو كان الحكم في طرف الجزاء غير قابل للتكرّر كما في مثل انتقاض الوضوء ، أمّا لو كان الحكم قابلا للتعدّد مثل إذا بلت وجب عليك الوضوء ، وإذا نمت وجب عليك الوضوء ، لقابلية وجوب الوضوء لأن يحدث عند النوم بعد أن حدث قبله بالبول ، وعند اجتماعهما معا يحدث للوضوء

ص: 50

وجوبان ، ففي مثل ذلك نقول : إنّه لا داعي في مثل ذلك إلى الالتزام بالتخصيص بشيء من الطريقين : لامكان أن يحدث وجوب الوضوء عند النوم بعد البول وبالعكس ، ويحدث للوضوء وجوبان عند اجتماعهما دفعة واحدة ، فيبقى عموم القضيتين بحاله ، لصدق قولنا كلّما حدث البول حدث وجوب الوضوء ، سواء سبقه النوم أم لا ، وسواء اجتمع معه النوم أم لا. وهكذا الحال في قولنا كلّما حدث النوم حدث وجوب الوضوء ، فإنّه يبقى على عمومه وشموله لصورة تأخّره عن البول وصورة انفراده عنه وصورة اجتماعه معه.

ولا يخفى أنّ الانحصار في مثل هذه القضايا لا يكون مستفادا من نفس العموم المذكور ، أعني مثل قولنا كلّما حدث البول حدث وجوب الوضوء ، لأنّ هذا العموم بنفسه لا ينفي حدوث الوجوب أيضا عند حدوث النوم ، بل لا بدّ في استفادة الانحصار من أمر آخر ، وهو كون الوجوب الحادث عند حدوث البول المفروض كونه مقيّدا به تقييدا مطلقا هو سنخ الوجوب ، وحينئذ عند ورود مثل هاتين القضيتين يكون الذي يرفع عنه فيهما هو هذه الجهة ، دون عموم حدوث الوجوب كلّما حدث البول ، بل يبقى العموم المذكور بحاله ، فعند حدوث البول بعد النوم يحدث وجوب آخر للوضوء ، كما أنّه عند حدوثهما دفعة يحدث للوضوء وجوبان ، وحيث إنّه حقيقة واحدة يستحيل فيها اجتماع الوجوبين المفروض كونهما مثلين ، لم يكن لنا حينئذ بدّ من الالتزام بالتأكّد ، وتكون النتيجة هي تداخل المسبّبات بمعنى تداخل الوجوبات وتأكّدها ، إلاّ أن يقوم دليل خارجي يدلّ على اختلاف المتعلّق في إحدى القضيتين عنه في الأخرى كما في باب الأغسال ، بحيث يكون حقيقة غسل الجنابة مثلا مغايرة لحقيقة غسل الحيض ، فلو دلّ دليل مع ذلك على الاكتفاء بغسل واحد كان من قبيل التداخل في

ص: 51

المسبّبات بمعنى تعدّد الواجبات والاكتفاء في مقام الامتثال ببعضها ، هذا.

ولكن تداخل الوجوبات وتأكّد بعضها ببعض لا يخلو عن تأمّل ، تعرّضنا له فيما علّقناه على المباحث المتعلّقة بعبادية الطهارات الثلاث (1) ، ونزيده توضيحا في هذا المقام فنقول بعونه تعالى :

إنّ أظهر ما يمكن أن يقال فيه بالاندكاك ما لو وجب على الشخص صوم أوّل كلّ شهر ووجب عليه صوم كلّ جمعة مثلا ، واتّفق أن كان أوّل شهر يوم جمعة ، فلا إشكال في أنّه يلزمه صوم ذلك اليوم ، لكنّه ليس بخارج عن العموم الأوّل ولا عن العموم الثاني ، وحينئذ يجتمع الوجوبان في صوم ذلك اليوم ، فإن قلنا إنّه يندك أحدهما بالآخر ويتولّد منهما وجوب مؤكّد ، كان اللازم أنّه واجب بوجوب ثالث خارج عن كلّ من العمومين. مضافا إلى أنّه لا معنى لتأكّد الوجوب ، إذ هو غير قابل للشدّة والضعف.

وبناء على ذلك لا بدّ لنا من الالتزام بأنّه ليس في البين إلاّ ذانك الوجوبان ، ويكون كلّ واحد منهما موجودا بذاته. لكن يرد عليه إشكال اجتماع المثلين بناء على أنّه محال كاجتماع الضدّين ، فإن أمكن الاختلاف في المتعلّق ولو بنحو التقييد بعلّة الوجوب كان عليه التكرار ، ولمّا لم يكن الفعل قابلا للتكرار كان حكم العقل بالاطاعة مقصورا على هذا المقدار الذي يتمكّن منه المكلّف ، وهو إيقاع الصوم بداعي الجهتين.

مضافا إلى أنّه من الممكن أن يقال : إنّ ذلك هو مقتضى العمومين ، حيث إنّ الشارع العالم بأنّهما ربما اجتمعا ولم يخرج مورد الاجتماع عن أحدهما ولا

ص: 52


1- راجع الحاشية المذكورة في الصفحة : 218 وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

عن كليهما ، يكون مقتضى هذين العمومين هو ما ذكرناه من الاكتفاء بذلك الفعل الواحد امتثالا لهما معا ولزوم قصدهما معا ، على وجه يكون العمومان دالّين بالدلالة الالتزامية على لزوم قصد الجهتين وعلى الاكتفاء بذلك الصوم الواحد ، هذا كلّه فيما لا يكون قابلا للتكرار.

أمّا ما يكون قابلا لذلك كما فيما نحن فيه ، فلا يكون اجتماع الوجوبين في الطبيعة الواقعة في ناحية الجزاء إلاّ كاجتماعهما في صوم اليوم المذكور ، غايته أنّ العقل يحكم بالتقييد فيلزمه بامتثال كلّ من الوجوبين بالاتيان بالفعل مرّتين ، مرّة لأحدهما ومرّة أخرى للآخر ، لما ذكرناه من أنّ كلّ وجوب يستدعي امتثالا ، والمفروض أنّه يمكنه التكرار ، فيكون التكرار لازما من هذه الناحية ، لا من ناحية دلالة تعليق المادّة بما أنّها مورد للنسبة الطلبية كما أفاده شيخنا قدس سره (1) في الجواب عن الإشكال المزبور ، فإنّ تعليق المادّة التي هي مورد للنسبة الطلبية عبارة أخرى عن تعليق الطلب الوجوبي ، فلا يكون المتكرّر بتكرّر الطلب الوجوبي إلاّ نفس الوجوب دون متعلّقه ، إلاّ بضميمة ما ذكرناه من أنّ كلّ وجوب يستدعي إيجاد ذلك الواجب ، فيلزم الايجاد مرّتين ، ولا يرفع اليد عن ذلك إلاّ بدليل.

وينبغي أن يعلم أنّ وجوب الوضوء عند البول وعند النوم يمكن القول بخروجه عمّا نحن فيه ، فإنّ كلا من هذين السببين إنّما يكون مؤثّرا في ناحية تحقّق الحدث للقدر الجامع بينهما ، وبعد أن تحقّق منه الحدث يجب عليه الوضوء للصلاة مثلا ، فليس لنا أحداث متعدّدة وإلاّ لكانت حقيقة الوضوء مختلفة. نعم ، لو اجتمعت جهات تقتضي وجوب الوضوء كالصلاة والطواف ومسّ المصحف كان الواجب هو رفع الحدث ، ويكون قصد أحدها كافيا في رفع

ص: 53


1- أجود التقريرات 2 : 270.

الحدث ، وبذلك يصحّ له الدخول في البواقي ممّا وجب عليه فعلا كما مرّ تحقيقه في البحث المشار إليه ، فراجع وتأمّل.

نعم ، مسألة الغسل ممّا نحن فيه بالنسبة إلى أسباب الحدث كالجنابة والحيض والمسّ ونحوها ، لكن الظاهر من الأدلّة هو اختلاف حقيقة الأغسال ، فلا بدّ من التعدّد إلاّ مع الدليل الدالّ على الاكتفاء بالبعض ، بل لو لم نقل باختلاف حقيقتها لكان اللازم هو التعدّد ، بناء على أنّ كلّ واحد من هذه الأحداث يكون موجبا لحدوث وجوب الغسل الموجب لتعدّده كما عرفت ، إلاّ أنّه بعد دلالة الدليل على الاكتفاء بالبعض عن الجميع نرفع اليد عن ذلك.

قوله : فإنّ التأكّد إنّما يكون فيما إذا تعلّق الطلب بنفس الفرد ... الخ (1).

كما مرّ (2) من مثال الصوم ، والظاهر أنّ مثل قوله : ( أكرم كلّ عالم ، وأكرم كلّ هاشمي ) يندرج في البدلي بالنظر إلى الاكرام القابل للتعدّد ، فيلزمه تعدّد الاكرام للشخص العالم الهاشمي. ومن ذلك يظهر لك أنّ مثل ( أكرم عالما وأكرم هاشميا ) قابل للتكرار من الجهتين ، نعم مثل ( صم يوم جمعة وصم أوّل شهر ) لا يقبل التكرار إلاّ من الجهة الثانية بأنّ يصوم يوما يكون هو جمعة وآخر يكون هو أوّل شهر. وما في الحاشية (3) من لزوم اجتماع وجوبات ثلاثة كأنّه إيراد على خصوص العموم البدلي ، لكن الظاهر أنّه جار في الشمولي حتّى فيما ذكرناه من مثال الصوم.

ص: 54


1- أجود التقريرات 2 : 273 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 52.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 273.

قوله : وجواز الاتيان بكلّ فرد إنّما هو بمقتضى الاطلاق ليس إلاّ ، فلا يلزم تأكّد في الطلب (1).

أوضحه في الطبعة الجديدة بقوله : وإنّما يجوز الاتيان به في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، لأنّه مقتضى الترخيص في التطبيق المستفاد من الاطلاق على ما تقدّم سابقا (2).

ولكن نفس الاطلاق لا يدلّ إلاّ على الترخيص في امتثال الأمر بالطبيعة بأي فرد شاء ، أمّا امتثال الأمر بالفرد الذي وقع بداعي أمر آخر ليكون امتثالا لكلا الأمرين فهذا ممّا لا يقتضيه اطلاق الطبيعة المأمور بها.

وبالجملة : أنّ مقتضى تعدّد الأمر هو تعدّد المأمور به في مقام الامتثال ، وإطلاق الطبيعة ليس حاصله إلاّ كون المكلّف مخيّرا في امتثال الأمر المتعلّق بها في أي فرد من أفرادها ، لا امتثالها في ضمن الفرد الذي أتى به امتثالا لأمر آخر ، فإنّ ذلك موقوف على دليل يدلّ على الاكتفاء بفعل واحد عن أمرين ، هذا. مضافا إلى أنّ هذه الطريقة متأتّية فيما نحن فيه مثل ( إذا نمت فتوضّأ وإذا بلت فتوضّأ ) فإنّ الطبيعة واحدة وقد أمر بها مطلقة ، ومقتضى الاطلاق هو الترخيص في امتثال الأمر المتعلّق بها في ضمن الفرد الذي قد أتي به بداعي أمر آخر.

والحاصل : أنّه لم يظهر أثر للفرق بين ما نحن فيه وبين مواقع العموم من وجه إذا كان العموم بدليا ، حيث جوّزوا فيه الاكتفاء بالمجمع ولم يجوّزوا ذلك فيما نحن فيه. وما ذكرناه من الفرق فيما كنّا حرّرناه في التعليق على الدرس ص 104 (3) من كون الاجتماع في العموم من وجه مأموريا ، ولم يكن الاجتماع من

ص: 55


1- أجود التقريرات 2 : 273.
2- أجود التقريرات 2 : 273.
3- مخطوط لم يطبع بعد.

ناحية الأمر ، لتباين المتعلّقين فلا داعي لحمله على التأكّد ، لتغاير المتعلّقين في عالم التعلّق وإن اتّحدا في عالم الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه لوحدة المتعلّق فيه في عالم تعلّق الأمر ، فلا بدّ أن يكون مقتضيا للتعدّد ، لأنّ كلّ أمر يستدعي امتثالا ، والمفروض إمكان ذلك ، فلا داعي لحمله على التأكّد ، إلى آخر ما وجّهنا به الفرق ، لا يكون نافعا في الفرق المزبور ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا بالنسبة إلى معلوفة الجنس الآخر كالإبل فالتقييد بالوصف أجنبي عنها وغير متعرّض لحكمها قطعا ، فما عن بعض الشافعية من دلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل فاسد قطعا ... الخ (1).

قال في الكفاية : ولعلّ وجهه استفادة العلّية المنحصرة منه ، وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا أيضا ، فيدلّ على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه ، فلا وجه للتفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخصّ من وجه ، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، بأنّه لا وجه للنزاع فيهما معلّلا بعدم الموضوع ، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه ، كما لا يخفى ، فتأمّل جيّدا (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : أمّا دلالته على انتفاء الحكم عمّا يكون غير واجد للوصف من غير الموصوف كالإبل المعلوفة ، فلا ينبغي الريب في خروجها عن محلّ النزاع ، وإن قال به بعض الشافعية ، إذ لا ريب في عدم دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن غير الموصوف ، سواء كان واجدا لذلك الوصف أو كان فاقدا له ، لأنّ ذلك أجنبي بالمرّة عمّا هو موضوع الحكم ، حتّى بناء على استفادة العلّية المنحصرة ، لأنّ ذلك - أعني كون الوصف علّة منحصرة - إنّما هو بالنسبة إلى

ص: 56


1- أجود التقريرات 2 : 276 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الأصول : 207.

الحكم الوارد على هذا الموضوع ، أعني الغنم فيما ذكر من المثال ، لا بالنسبة إلى حكم موضوع آخر أعني الابل ، انتهى.

قلت : نعم ، لو استفيدت العلّية المنحصرة بالنسبة إلى كلّي وجوب الزكاة في مطلق الأنعام الثلاث ، لكان له دلالة على انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف ممّا يكون من غير الموصوف ، إلاّ أنّه تصوّر محض وإمكان عقلي ، ولا أصل له في مقام الاثبات. مضافا إلى أنّه لو استفيد منه ذلك لم يكن الموصوف هو الغنم بخصوصها ، بل يكون الموصوف في الحقيقة هو النعم الثلاث ، ويكون ذكر الغنم من باب ذكر الخاصّ وإرادة العام ، وأنّى بإثبات ذلك. ولو ثبت لم يكن مضرّا بما ذكرناه من عدم دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن غير الموصوف ممّا يكون مجرّدا عن الوصف حيث إنّه حينئذ يكون مثل الإبل داخلا في الموصوف.

ثمّ إنّ فيما أفاده في الكفاية من عدّ الإبل المعلوفة من قبيل الافتراق من جانب الوصف مناقشة لا تخفى ، فإنّها أجنبية عن كلّ من الموصوف والصفة. نعم ، إنّ سائمة الإبل من هذا القبيل ، أعني أنّها من قبيل الافتراق من جانب الصفة عن الموصوف ، لتحقّق الصفة فيها [ مفترقة ] عن الموصوف. لكنّه خارج عن النزاع في مفهوم الوصف ، بل هو داخل في مفهوم اللقب ، وذلك واضح لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا كلّه إنّما هو فيما لو كان بيان الحكم بهذا اللسان ، أعني قولنا : في الغنم السائمة زكاة. أمّا لو كان بلسان : أنّ في سائمة الغنم زكاة لانعكس المطلب صفة وموصوفا ، لأنّ الموصوف حينئذ هو السائمة والصفة هو كونها من الغنم ، فلو كان دالا على المفهوم لكان مفهومه هو أنّه لا زكاة في سائمة الإبل ، لا أنّه لا زكاة في معلوفة الغنم ، كما كان كذلك في اللسان الأوّل.

ص: 57

قوله : وحيث إنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيودا للمفاهيم الافرادية ، فيكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم ، كما في اللقب ... الخ (1).

ولكن لا يخفى أنّه يمكن أن يدّعى أنّ كون التوصيف من قبيل التقييد الافرادي وأنّه ليس بلحاظ الحكم خلاف الظاهر ، بل قد يقال : إنّه ممتنع في المحاورات الكلامية المبنية على الإفادة ، فإنّ تضييق دائرة الماهية لا بدّ أن يكون بلحاظ طروّ الحكم عليها.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما في الحاشية من قوله : إنّ توصيف متعلّق الحكم أو موضوعه بقيد ما في الكلام مع اعتباره قيدا لنفس الحكم في مقام اللبّ ومقام الثبوت خارج عن قانون المحاورة عرفا ، فلا معنى لقيام القرينة عليه من الخارج الخ (2) ، فإنّه لم يدّع أحد أنّ القيد الوصفي مع كونه وصفا للموضوع يكون قيدا في الحكم الوارد عليه ، على وجه يكون قيدا صناعيا للحكم المذكور ، كي يورد عليه بأنّ ذلك خارج عن قانون المحاورة ، بل المدّعى إنّما هو كون توصيف الموضوع بلحاظ ورود الحكم عليه يكون موجبا قهرا لتضييق دائرة ذلك الحكم وبالأخرة ينتهي الأمر إلى كون ذلك الحكم في مقام اللبّ ، مقيّدا بذلك الوصف ، كما مرّ في باب الواجب المشروط (3) في كيفية كون رجوع القيد إلى المادّة بلحاظ طرو الطلب عليها موجبا لتقيّد ذلك الطلب.

ص: 58


1- أجود التقريرات 2 : 277 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 278.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 12 وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

ثمّ لا يخفى أنّ حاصل ما ندّعيه في هذا المقام وفي مقام الواجب المشروط كما مرّ عليك في محلّه (1) ، هو استحالة تقييد الماهية بذاتها بلا لحاظ طارئ يطرو عليها ، فإنّ الماهية في حدّ ذاتها وسيعة المنطقة ، ولا يعقل لأي أحد أن يضيّق منطقتها ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّه يمكنه تضييق ما يورده من الطوارئ ، وحينئذ يتسنّى له تضييق منطقة تلك الماهية باعتبار أخذها مطروّة لذلك الطارئ ، وحينئذ لا بدّ أن يكون تضييق منطقتها من حيث ذلك الطارئ ، وحينئذ يكون ذلك التضييق راجعا لبّا إلى ذلك الطارئ.

وقد تقدّم التأمّل في كلام شيخنا قدس سره في تصوير شرط نفس الواجب مثل الطهارة بكونه سابقا على رتبة الطلب بحيث يكون تقييدا إفراديا ، بما مفاده المنع من تقييد المادّة قبل ملاحظة طرو الطلب عليها ، وإنّما أقصى ما في البين هو تقييدها وملاحظتها مقيّدة في مرتبة إيراد الوجوب عليها ، وحينئذ لا يتمّ الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب. ولو تمّ ما أفاده قدس سره من الفرق بينهما بأنّ شرط الواجب من قبيل التقييد الافرادي وشرط الوجوب من قبيل تقييد الجملة التركيبية ، لكان المفهوم ممتنعا في الأوّل وكان لازما في الثاني.

نعم يمكن أن يقال : إنّ التقييد الطارئ على المادّة ، لا بدّ أن يكون طرو ذلك القيد عليها باعتبار لحاظ كونها متعلّقة للطلب ، لكن لحاظ كونها متعلّقة للطلب تارة يكون المنظور به هو الطلب اللاحق ، فيكون ذلك القيد واقعا تحت الطلب ، فيكون أيضا مطلوبا. وأخرى يكون المنظور به هو الطلب السابق أو المقارن لطرو التقييد ، فيكون ذلك القيد خارجا عن حيّز الطلب. وعلى كلّ منهما لا يكون المجرّد من ذلك القيد متّصفا بالطلب ، بحيث يكون الطلب منحصرا بمورد ذلك

ص: 59


1- راجع الصفحة : 32 من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

القيد ولا يتعدّاه إلى ما هو فاقد القيد ، وإنّما الفرق بينهما منحصر بكون ذلك القيد واقعا تحت الطلب وكونه خارجا ، وهذا الفرق ناش عن أنّ ذلك التقييد الطارئ على المادّة بلحاظ تعلّق الطلب بها ، الموجب لانحصار الطلب بما هو مورد القيد منها ، هل كان الملحوظ به هو المادّة التي قد ضيّقناها لأجل أن نعلّق بها الطلب ، أو كان الملحوظ به هو المادّة التي قد تعلّق بها الطلب ، بحيث كان تعلّق الطلب بها في عرض عروض التقييد عليها. وعلى الأوّل يكون القيد داخلا تحت الطلب ، وعلى الثاني يكون القيد خارجا عن حيّز الطلب ، هذا حال القيد الشرطي الراجع إلى المادّة في مقام تعلّق الطلب بها.

وأمّا وصف الموضوع الذي يتعلّق به الحكم مثل يجب إكرام الرجل العالم ، فلا شكّ في أنّ توصيف الرجل بكونه عالما إنّما هو بلحاظ كونه موردا للحكم المذكور ، فلا محالة يكون الحكم المذكور منحصرا بمورد الوصف على وجه لا يتعدّاه إلى غيره ، سواء قيّدنا الرجل بالعالم بلحاظ أن نورد عليه الحكم المذكور أو قيّدناه بذلك القيد بلحاظ ورود الحكم عليه ، ولكن حيث إنّ مرتبة الموضوع سابقة على مرتبة الحكم ، يكون الحاصل أنّا نلاحظ الرجل العالم في حال إيراد الحكم عليه ، ويكون تقيّده بالعالم من حيث إيراد الحكم عليه ، فيكون الحكم مقصورا على مورد القيد ، ويكون التقييد بلحاظ الحكم الطارئ. ويمكن التفرقة بين مثل أكرم رجلا عالما وبين أكرم الرجل العالم ، فإنّ الأوّل من سنخ كون القيد تحت الطلب والثاني من سنخ كون القيد قيدا للطلب ، فالأوّل بمنزلة أكرم رجلا عالما ، والثاني بمنزلة أكرم الرجل إن كان عالما ، فالعلم في الثاني يكون بمنزلة شرط الوجوب وفي الأوّل بمنزلة شرط الواجب ، وإن كان الوجوب في كلّ منهما مشروطا بوجود الرجل العالم فتأمّل.

ص: 60

نعم ، إنّ التقييد بلحاظ الحكم تارة يكون من جهة انحصار سنخ الحكم في المقيّد ، وأخرى يكون من جهة أخرى ، مثل غلبة مورد القيد ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ الظاهر هو النحو الأوّل ، ولعلّه لأجل ذلك قيل إنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيا.

نعم ، هناك أمر آخر فوق ذلك الظهور ، وهو كون الاحترازية هل هي بالنسبة إلى سنخ الحكم أو أنّها بالنسبة إلى شخص الحكم ، وعلى القائل بالمفهوم إثبات كونه من النحو الأوّل - أعني كون التقييد والاحترازية بالنسبة إلى سنخ الحكم - ليكون دالا بالالتزام على عدم وجود سنخ الحكم عند عدم ذلك القيد. وقد تقدّم (1) الكلام في هذه الجهة في كيفية دلالة التقييد بالشرط على الانتفاء عند الانتفاء.

ولا يبعد القول بأنّ الصفة المجرّدة عن الموصوف ملحقة بما هو المعتمد منها على الموصوف ، في إفادة التعليق والتقييد والانتفاء عند الانتفاء ، وذلك بملاحظة كون المنظور إليه في أمثال هذه العناوين هو الذوات أنفسها ، فتكون هي - يعني الذوات - مقرّا للحكم الوارد عليها بلحاظ اتّصافها بالأوصاف المذكورة ، وذلك لو تمّ يخرجها عن كونها من قبيل الألقاب.

وما أفيد في المقدّمة الأولى (2) من أنّها لو دلّت على الانتفاء عند الانتفاء لكانت الألقاب وأسماء الذوات بذلك أولى ، من جهة أنّ ارتفاع الحكم عند ارتفاع الذات أولى من ارتفاعه عند ارتفاع عارض من عوارضها ، لا يخلو من تأمّل ، لأنّ ذلك إنّما هو في الحكم الشخصي ، أمّا سنخ الحكم فليس ملاك ارتفاعه

ص: 61


1- في الصفحة : 415 وما بعدها من المجلّد الرابع من هذا الكتاب.
2- أجود التقريرات 2 : 275.

هو ارتفاع العارض أو الذات ، بل ملاك ارتفاعه ارتفاع ما أخذ فيه قيدا على وجه يكون سنخ ذلك الحكم معلّقا على اتّصاف الذات به ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتأتّى فيما لو كان الحكم واردا على نفس الذات ، من دون أن يكون وروده عليها مقيّدا بقيد زائد على أصل الذات.

تنبيه : ذكر الشيخ قدس سره في مبحث مسقطات خيار العيب في المكاسب (1) فيما لو وطئ المشتري الجارية فظهر أنّها حامل ، وأنّ الوطء المذكور لا يمنع من الردّ ، بخلاف ما لو كان العيب غير الحمل ، مستدلا عليه بروايات منها صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام « عن رجل اشترى جارية حبلى ولم يعلم بحبلها فوطئها ، قال عليه السلام : يردّها على الذي ابتاعها منه ، ويردّ عليه نصف عشر قيمتها لنكاحه إيّاها ، وقد قال علي عليه السلام : لا تردّ التي ليست بحبلى إذا وطئها صاحبها ، ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها » (2).

وهذه الرواية شاهدة بحجّية مفهوم الوصف ، لأنّ الصادق عليه السلام استدلّ به فيما حكاه عن أمير المؤمنين عليه السلام ، لأنّه عليه السلام أمر أوّلا بأنّ الجارية الحبلى تردّ مع الوطء ، ثمّ استدلّ على ذلك بما حكاه عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّ ظاهر قوله عليه السلام : « وقد قال علي عليه السلام » الخ ، هو جعل قول علي عليه السلام دليلا على ما أمر به أوّلا من ردّ الحبلى مع الوطء ، وإلاّ فلا دخل له بما أمر به عليه السلام أوّلا.

ولو كان لمجرّد بيان الحكمين أحدهما منه عليه السلام والآخر عن علي عليه السلام لكان الأنسب أن يقول : وقال علي عليه السلام. فادخال لفظة « قد » دليل على أنّ ما حكاه عن

ص: 62


1- المكاسب 5 : 293 ، 290.
2- وسائل الشيعة 18 : 105 / أبواب أحكام العيوب ب 5 ح 1 ، وأورد ذيله في ب 4 ح 1.

علي عليه السلام كانت حكايته بغرض الاستدلال بمفهومه على ما أمر به ، وليس ذلك من قبيل الجمع بين حكمين أحدهما منه عليه السلام والآخر من علي عليه السلام ، بل ولا من قبيل دفع توهّم من يتوهّم أنّ ما ورد عن علي عليه السلام من منع الوطء من الردّ ، وأنّ مراد الصادق عليه السلام هو بيان أنّ ما ورد عن علي عليه السلام مختصّ بغير الحبلى فلا يشمل الحبلى ، لما عرفت من أنّه لو كان الأوّل هو المراد لقال : وقال علي عليه السلام. كما أنّه لو كان الثاني هو المراد لكان الأنسب تصديره بمثل : وأمّا ما عن عليّ عليه السلام ، ليكون بمنزلة الجواب عن اعتراض مقدّر.

وبعد تمامية كون ذلك منه عليه السلام استدلالا بمفهوم ما صدر عن علي عليه السلام وهو قوله عليه السلام : « لا تردّ التي ليست بحبلى » الخ ، يمكننا القول بأنّه من قبيل الوصف الغير المعتمد على الموصوف ، إذ لم يقل علي عليه السلام لا تردّ الجارية التي ليست بحبلى الخ ، بل جرّده عن الموصوف وهو الجارية ، واعتمد على الصفة فقط ، وهي قوله عليه السلام : « لا تردّ التي ليست بحبلى » فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ الحمل الموجود لا يبعد أن يكون هو من غير سيّدها ، وهو وإن كان مملوكا للمشتري لكنّه عيب ، كما صرّح به الشيخ (1) وغيره في تعداد العيوب الموجبة لخيار الفسخ.

نعم ، لو كان الحمل من السيّد البائع فهي حينئذ أمّ ولد ، ويكون ردّها واجبا لانكشاف بطلان البيع ، إلاّ أنّ ذلك لا يخلّ بمحلّ الشاهد ، وهو أنّ الصادق عليه السلام استدلّ بمفهوم الوصف فيما نقله عن علي عليه السلام. وإن كانت الرواية مجملة من حيث تردّد الحمل بين كونه من السيّد فيكون الردّ واجبا ، أو من غيره فيكون الردّ جائزا وليس في البين قدر جامع.

ص: 63


1- المكاسب 5 : 366.

وفي نسخة خطّية من التهذيب رسم على لفظة « علي » علامة نسخة ، وبناء عليه تخرج الرواية عمّا نحن بصدده ، ويكون القائل هو الصادق عليه السلام.

وقد وجدت في هامش هذه النسخة هذه العبارة : المرفق إمّا بيان حكم آخر ، أو الاستدلال بمفهوم الصفة على ما ذكره عليه السلام ، أو بيان أنّ عدم الردّ المشهور عن علي ( صلوات اللّه عليه ) إنّما هو في غير الحبلى ، فلا يتوهّم التنافي ( م ق / سره ). ولم أعرف المرموز له بهذه الحروف من هو.

قوله : حيث إنّ كلمة « حتّى » يستعمل غالبا في ادخال الفرد الخفي في موضوع الحكم ... الخ (1).

الخفاء تارة يكون لأجل عظمة مدخول حتّى ، مثل مات الناس حتّى الأنبياء ، وأخرى لأجل ضعفه مثل قدم الحاج حتّى المشاة ، أو خسّته مثل سبقك الناس في الفضيلة حتّى الحجّامون. وهذه وإن كانت بحسب صناعة النحو عاطفة إلاّ أنّها بحسب النظر الأصولي غاية في الحكم ، فكأنّه في مثل قوله : احترم الناس حتّى الحجّامين ، قد أمره باحترام الناس واستمرار ذلك الاحترام من أعاليهم إلى أدناهم. وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الاستدلال لم أجده في شيء من تحريراتي ، ولا في تحرير باقي المحرّرين ممّا تيسّر لي مراجعته.

ولا بأس بنقل ما حرّره نجله ، فإنّي رأيته وعلى خصوص هذه العبارة التصحيح الكثير بخطّه الشريف ، قال : وقد وقع الكلام فيما كان مشتملا على أداة الغاية في مقامين : الأوّل في دخول الغاية في المغيّى في كونها محكومة بحكمه ، أو خروجها عنه ، أو التفصيل في ذلك إمّا باعتبار الأدوات وكونها « حتّى » أو « إلى » وإمّا باعتبار نفس الغاية وكونها من جنس ما قبلها أو مغايرا له. والحقّ أنّه لا

ص: 64


1- أجود التقريرات 2 : 279 [ مع اختلاف يسير جدّا عمّا في النسخة المحشاة ].

سبيل إلى دعوى الوضع بالنسبة إلى شيء من ذلك ، بل يختلف باختلاف المقامات وخصوصيات القضايا ، وقد لا يكون للقضية ظهور فيلزم العمل حينئذ على ما يقتضيه الأصول العملية ، انتهى. وبمثل ذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة والدورة الأخيرة ، وبنحوه عبّر المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته المطبوعة (1) فراجعها.

ومع هذا كلّه فقد قال الشيخ قدس سره فيما حكاه عنه في التقريرات ما هذا لفظه : وادّعى بعض النحاة الإجماع على الدخول في حتّى ، ولعلّه خلط بين العاطفة والخافضة كما نصّ عليه ابن هشام (2).

فلو لم يكن في البين شيء سوى هذا الموجود في تقريرات الشيخ قدس سره لكفى في الجزم بعدم صدور ذلك من شيخنا قدس سره ، إذ لا أقل من مراجعته للتقريرات المذكورة. قال ابن هشام في المغني : وزعم شهاب الدين القرافي أنّه لا خلاف في وجوب دخول ما بعد حتّى ، وليس كذلك ، بل الخلاف فيها مشهور ، وإنّما الاتّفاق في حتّى العاطفة لا الخافضة ، والفرق أنّ العاطفة بمنزلة الواو (3). قال ذلك بعد أن مثّل للدخول بقوله :

ألقى الصحيفة كي يخفّف رحله *** و الزاد حتّى نعله ألقاها

وللخروج بقوله :

سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزيت *** لهم فلا زال عنها الخير مجدودا

ص: 65


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 504.
2- مطارح الأنظار 2 : 96.
3- مغني اللبيب 1 : 168.

قوله : وأمّا الجهة الثانية فتوضيح الحال فيها أن يقال : إنّه بعد ما ثبت أنّ ملاك الدلالة على المفهوم وعدمها ... الخ (1).

فصّل في الكفاية (2) بين كون الغاية راجعة إلى نفس الحكم مثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام ، وكونها راجعة إلى الموضوع ، فحكم في الأوّل بدلالته على المفهوم ، وألحق الثاني بالوصف الذي قد منع فيه الدلالة على المفهوم ، مع الاعتراف بأنّ تحديده بها إنّما هو بملاحظة الحكم ، بدعوى أنّ ذلك لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن غير المغيّى ، وإنّما أقصى ما فيه هو عدم الحكم إلاّ بالمغيّا.

ولا يخفى أنّه بعد الاعتراف بكون التقييد بالغاية إنّما يكون بلحاظ الحكم ، لم يبق ما يقتضي الوقفة في الحكم بالمفهوم إلاّ دعوى كون الحكم المذكور هو الشخص لا السنخ ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة من الدعوى جارية في صورة كون المغيّى هو الحكم ، فإنّه إنّما يدلّ على المفهوم إذا كان المغيّى هو السنخ لا الشخص.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره جلّ غرضه هو بيان أنّ رجوع الغاية إلى متعلّق الحكم بعد فرض كون الملحوظ بذلك المتعلّق هو المادّة بلحاظ الحكم ، يكون موجبا لكون المغيّى هو الحكم الذي لا إشكال في دلالته على الانتفاء ، كما صرّح بذلك المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس سره بقوله : والظاهر أنّ الغاية قيد للحكم إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه ، لأنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف

ص: 66


1- أجود التقريرات 2 : 279 - 280 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الأصول : 208 - 209.

الحرام » (1) مع قوله عزّ اسمه ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (2) بنسق واحد ، فكما أنّ الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك في سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه (3).

وحينئذ فما في الحاشية الثانية من قوله : فما أفاده شيخنا الأستاذ قدس سره من ظهور الكلام في رجوع القيد إلى مفاد الجملة ... ، ليس على ما ينبغي الخ (4) ليس كما ينبغي ، فتأمّل فيه ، فإنّ ما استظهره المحشي من رجوع القيد إلى متعلّق الحكم لا إلى الموضوع نفسه ولا إلى مفاد الهيئة ، لا ينافي ما أفاده شيخنا قدس سره من رجوع القيد إلى المادّة بلحاظ النسبة الطلبية الموجب لتقييد ذلك الطلب.

قوله : فيكون ظهور القيد راجعا إلى الجملة في حدّ ذاته معارضا بظهور كونه قيدا للمعنى الافرادي ... الخ (5).

والحاصل : أنّا لو قلنا بظهور الجملة في دخول الغاية فيما قبلها ، أو قامت قرينة على ذلك ، كان ذلك مناسبا لكون الغاية غاية للمحمول أعني نفس الفعل ، لا حاصل الجملة الذي هو الفعل باعتبار تعلّق الوجوب به. وقد يتأمّل في المناسبة المذكورة ، لأنّ كون الغاية داخلة فيما قبلها كما يلتئم مع كون الغاية للفعل ، وأنّ التقييد قبل الحكم ، فكذلك يلتئم مع كونها غاية للحكم ، وأنّ التقييد بها يكون في

ص: 67


1- وسائل الشيعة 24 : 236 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 64 ح 2 ( مع اختلاف يسير عمّا في المصدر ).
2- البقرة 2 : 187.
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 505.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 280.
5- أجود التقريرات 2 : 281 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

حال طرو الحكم ، بلا أن يكون في البين ما يوجب كون ذلك أنسب بأحد الوجهين.

والحاصل : أنّ كون الغاية داخلة في المغيّى أو غير داخلة يتأتّى على كلّ من الوجهين ، فإنّ المغيّى في مثل سر إلى البصرة إن كان هو نفس السير قبل الحكم عليه بالوجوب ، كانت الغاية غاية للمتعلّق الذي هو السير ، وكانت محلّ النزاع في كونها داخلة فيه أو خارجة عنه. وإن كان المغيّى هو السير باعتبار طرو الوجوب عليه كانت الغاية غاية له باعتبار حكمه ، وكانت أيضا محلا للنزاع في كونها داخلة فيه أو خارجة عنه. ودعوى أنّ دخولها فيما قبلها إنّما يناسب كونها غاية للسير لا للوجوب ، يمكن تطرّق المنع إليها ، بل يمكن أن يقال : إنّ محصّل كون الغاية داخلة في السير هو أنّها داخلة فيه باعتبار ورود الحكم عليه الذي هو الوجوب ، وحينئذ يكون أنسب بالقول بكون التحديد بالغاية باعتبار الحكم لا باعتبار المعنى الافرادي ، هذا.

ولكن ما أفاده شيخنا قدس سره ليس إلاّ دعوى الظهور الناشئ عن المناسبة ، ولا بعد في ذلك ، فإنّ الالتزام بكون مدخول حتّى - مثلا - داخلا فيما قبلها عبارة أخرى عن أنّ حتّى متعلّقة بنفس السير ، وحينئذ يكون الغاية راجعة إلى نفس السير لا إلى نفس الحكم ، ولا إلى السير باعتبار ورود الحكم عليه ، فتأمّل.

قوله : وأمّا كلمة « إلاّ » فهي قد تستعمل صفة وأخرى استثنائية ، أمّا الأولى فلا تفيد إلاّ تقييد المفهوم الافرادي ، نظير بقية الأوصاف ... الخ (1).

قد يقال : إنّ إلاّ الوصفية إنّما هي مثل الآية الشريفة أعني قوله تعالى : ( لَوْ

ص: 68


1- أجود التقريرات 2 : 283 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1) فلا تكون إلاّ من قبيل الوصف المؤكّد ، فلا تقييد فيها. لكن ابن هشام في المغني بعد أن ذكر الآية الشريفة ومثال سيبويه : لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا ، وفرّق بينهما بأنّ الوصف في الآية مؤكّد وفي المثال مخصّص قال : وهكذا الحكم أبدا إن طابق ما بعد إلاّ موصوفها فالوصف مخصّص له ، وإن خالفه بافراد أو غيره فالوصف مؤكّد ، ولم أر من أفصح عن هذا (2).

ولعلّ نظر شيخنا قدس سره فيما أفاده من افادتها تقييد المفهوم الافرادي إلى القسم الثاني (3) ، وإن كان ما يأتي من أمثلة الاقرار من قبيل القسم الثاني ، أعني الوصف المؤكّد.

قوله : لتمحّض كلمة « إلاّ » حينئذ في الوصفية ، ولا يصحّ كونها استثنائية ... الخ (4).

أورد عليه في الحاشية بقوله : هذا إنّما يتمّ فيما إذا كان المتكلّم من العارفين بقواعد اللغة العربية ... الخ.

قال في الجواهر فيما لو قال له عليّ عشرة إلاّ درهم - بالرفع - وكان مراده الجريان على القانون العربي : كان إقرارا بالعشرة الخ (5). ومن ذلك تعرف أنّ كلّ من تعرّض لهذا الفرع فإنّما مراده هو ما ذكر ، من كونه بعد فرض الجريان على قواعد العربية. أمّا من لا يعرف القواعد المذكورة فلا معنى لأن يحكم عليه بما

ص: 69


1- الأنبياء 21 : 22.
2- مغني اللبيب 1 : 100.
3- [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].
4- أجود التقريرات 2 : 284.
5- جواهر الكلام 35 : 87 - 88.

يقتضيه الرفع من التوصيف. نعم من كان عارفا وأقرّ - بالرفع - ثمّ بعد ذلك ادّعى أنّي لم أقصد بذلك ما تقتضيه القاعدة العربية لم يسمع منه.

قوله : وأنت خبير بأنّ الاستثناء قبل الحكم أي الاستثناء عن المعنى الافرادي غير معقول ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ هذا الإشكال وارد في الأوصاف على ما أفاده قدس سره من كون التقييد بالنسبة إلى المفاهيم الافرادية. ولعلّ الاخراج قبل الحكم أسهل منه ، باعتبار أنّه يمكن أن يكون قوله : ما له عليّ عشرة إلاّ درهما ، ردّا على من يدّعي على المتكلّم بأنّه لي عليك عشرة إلاّ درهما ، فيكون الجواب عنه ردّا عليه حاكيا كلامه. ولو صحّحناه في هذا المقام صحّ في غيره ممّا يتخيّل فيه أو يتوهّم توجّه الدعوى المذكورة إلى ذلك المتكلّم ، فراجع ما علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في هذا المقام (2).

والذي يتلخّص في مثل له عليّ عشرة إلاّ واحد : أنّه في صورة الايجاب إن قرئ بالنصب كان إقرارا بالتسعة ، سواء كان من قبيل الاخراج قبل الحكم أو كان من قبيل الاخراج حال الحكم ، وإن كان الأظهر الثاني. وإن قرئ بالرفع كان من قبيل الصفة المؤكّدة ، وكان إقرارا بالعشرة.

أمّا صورة السلب ، فإن قرأ بالنصب أمكن أن يكون من قبيل الاخراج قبل الحكم ، فلا يكون إقرارا بشيء أصلا ، وأن يكون إخراجا حال الحكم فيكون قد أقرّ له بواحد. وهذا هو الأظهر بل هو المتعيّن. وإن قرأ بالرفع أمكن أن يكون من الاخراج حال الحكم فيكون قد أقرّ له بواحد ، وأن يكون من قبيل التوصيف فلا

ص: 70


1- أجود التقريرات 2 : 285 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- مخطوط لم يطبع بعد.

يكون اقرارا بشيء أصلا ، ولا يمكن أن يكون من قبيل الاخراج قبل الحكم وإلاّ لكان منصوبا (1).

والجامع بين التوصيف والاخراج قبل الحكم والاخراج بعد الحكم - أي الاخراج حال الحكم - هو أنّ مفاد « إلاّ » هو إحداث المغايرة بين ما بعدها وما قبلها ، فإن لوحظت المغايرة بينهما بحسب الذات كانت وصفية ، وإن لوحظت

ص: 71


1- له عليّ عشرة إلاّ واحد : على الاستثناء والاخراج قبل الحكم ، يكون إقرارا بالتسعة ، لكون « العشرة إلاّ واحد » حينئذ بمنزلة الاسم للتسعة ، ويقرأ الواحد بالنصب ، لكونه بعد كلام موجب. على الاستثناء حال الحكم ، يكون إقرارا بالتسعة ، لكونه إخراجا للواحد من الاقرار بالعشرة ، ويقرأ الواحد بالنصب أيضا. على كون « إلاّ » وما بعدها صفة ، يكون إقرارا بتمام العشرة ، لكون « إلاّ » بمعنى غير ، وهي وما بعدها صفة مؤكّدة للعشرة ، وحاصله الاقرار بعشرة موصوفة بكونها غير واحد ، فتكون مؤكّدة لأنّ كلّ عشرة هي غير واحد ، ويقرأ « الواحد » بالرفع على كونه صفة العشرة ، لتضمّنه معنى غير بواسطة « إلاّ » التي هي بمعنى غير. ليس له عليّ عشرة إلاّ واحد : على الاستثناء والاخراج قبل الحكم ، لا يكون إقرارا بشيء أصلا ، لكون المجموع اسما للتسعة ، ويقرأ « الواحد » بالنصب لكونه استثناء من الايجاب ، فإنّه إخراج من العشرة قبل ورود النفي عليها. على الاخراج حال الحكم ، يكون إقرارا بواحد ، لكونه إخراجا من العشرة التي نفاها بقوله : ليس له عليّ عشرة ، ويقرأ « الواحد » بالرفع على البدليّة من المستثنى منه ، وهو المختار لكونه متّصلا بعد النفي ، ويجوز النصب على الاستثناء ، لكنّه قليل. على كون « إلاّ » وما بعدها صفة ، لا يكون إقرارا بشيء أصلا ، لكونه قد نفى العشرة التي هي غير واحد ، ويقرأ « الواحد » بالرفع كما تقدّم في صورة الاثبات. [ منه قدس سره ].

بحسب الحكم كانت استثنائية إمّا قبل الحكم وإمّا حال الحكم ، فراجع في ذلك ما حرّرنا فيما علّقناه على ما استفدناه من شيخنا قدس سره في هذا المقام.

ثمّ إنّ الذي يظهر من شيخنا قدس سره في هذا المقام بقوله : إذ كلّ قيد للمعنى الافرادي يكون بالأخرة راجعا إلى التوصيف الخ (1) هو أنّ الاخراج قبل الحكم تكون « إلاّ » فيه وصفية ، ولكن الذي جرى عليه اصطلاحهم في « إلاّ » الوصفية هنا هو المؤكّدة ، فتكون العشرة موصوفة بأنّها غير واحد ، وكلّ عشرة هي غير واحد ، هذا على الوصفية ، نظير قوله تعالى ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ ) (2) بمعنى لو كان قد تعدّدت الآلهة في قبال الواحد وإن كان هو منهم ، بخلاف الحمل على الاخراج قبل الحكم فإنّ محصّله حينئذ هو العشرة المخرج منها الواحد ، وهذا المعنى أعني الاخراج ولو قبل الحكم لا يتأتّى في الآية الشريفة ، إذ ليس المراد آلهة مخرج منهم هو تبارك وتعالى.

تكملة قال في الكفاية : فلا يعبأ بما عن أبي حنيفة من عدم الافادة محتجّا بمثل « لا صلاة إلاّ بطهور » (3) - إلى قوله - وثانيا : بأنّ الاستعمال مع القرينة كما في مثل التركيب ممّا علم فيه الحال لا دلالة له على مدّعاه أصلا كما لا يخفى (4).

لا يخفى أنّه لا ينبغي الريب في أنّ الاستثناء المفرغ بعد النفي صريح في أنّ ما تسلّط عليه النفي ثابت لما بعد إلاّ ، وهو - أعني ما تسلّط عليه النفي - منفي عمّا عدا ما بعد إلاّ.

ص: 72


1- أجود التقريرات 2 : 285 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- الأنبياء 21 : 22.
3- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
4- كفاية الأصول : 209 - 210.

نعم ، في مثل « لا صلاة إلاّ بطهور » يقع التأمّل في أنّ المنفي هو الصحّة أو الكمال أو نفس الذات ، وبأي واحد أخذناه يكون منفيا عن الصلاة بلا طهور ، ثابتا لها مع الطهور ، وذلك هو محصّل الحصر ، فإنّه عبارة عن النفي عمّا عدا المحصور عليه ، والاثبات للمحصور عليه الذي هو واقع بعد إلاّ ، ولا يعقل الاستعمال ولو مجازا في خلاف ذلك.

والحاصل : أنّ مفاد « ما » و « إلاّ » عند اجتماعهما في الكلام إنّما هو النفي والاثبات ، لأنّه عبارة عن نفي الشيء عمّا عدا ما بعد إلاّ ، وإثبات نفس ذلك المنفي لما بعد إلاّ ، وذلك هو عبارة عن الحصر. ولا يمكن استعمالهما في غير مفادهما - أعني الحصر المتحصّل من النفي والاثبات - ولو مجازا إلاّ باخراج لفظ « ما » عن النفي أو إخراج لفظ « إلاّ » عن الاثبات. نعم ، يمكن التجوّز فيه بنحو آخر بأن يكون الكلام ظاهرا في نفي الحقيقة ، فيستعمل في نفي الصحّة أو الكمال تنزيلا وتأويلا ، ولكنّهما مع ذلك لم يخرجا عن مفادهما الأصلي الذي هو الحصر والنفي والاثبات. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله قدس سره : وثانيا بأنّ الاستعمال الخ.

ومنه أيضا يعرف الوجه في إفادة كلمة الشهادة الحصر ، وأنّه لا دخل له بكون الخبر المقدّر هو « موجود » أو هو « ممكن » فإنّ أي واحد من هذين لو قدّرناه يكون النفي والاثبات واردا عليه ، وتكون الجملة مفيدة للحصر.

نعم ، هناك شيء آخر وهو كيفية استفادة التوحيد من هذه الجملة الشريفة ، وذلك مطلب آخر لا ربط له بما هو محلّ الكلام ، من كون الاستثناء المفرغ بعد النفي مفيدا للحصر لكونه صريحا في النفي والاثبات ، أمّا كون المنفي ما هو فذلك مطلب آخر.

ص: 73

وبالجملة : أنّ الاستثناء المفرغ صريح في إفادة الحصر ، وأمّا الاستثناء التامّ بعد النفي فلا يمكن إخراجه عن إفادة الحصر إلاّ بجعل الاخراج فيه قبل الحكم ، أو بجعل « إلاّ » فيه وصفية ، وكلّ منهما خلاف الظاهر ، بل إنّ الأوّل - أعني الاخراج قبل الحكم ليكون ما بعد « إلاّ » مسكوتا عنه - غير معقول كما أفاده شيخنا قدس سره وقد مرّ شرحه.

وهكذا الحال في الاستثناء بعد الاثبات فإنّه يدلّ على نفي الحكم عمّا بعد إلاّ ، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلاّ بقرينة قوية تدلّ على أنّ « إلاّ » مسوقة للوصف ، أو على أن الاخراج قبل الحكم ليكون ما بعد إلاّ مسكوتا عنه ، وقد عرفت ما في الأوّل والثاني. لكن الاستثناء من الاثبات خارج عن محلّ الكلام من الحصر ، فإنّ مرجع الحصر إلى نفي الحكم عمّا عدا المحصور عليه وإثباته للمحصور عليه ، مثل قولك ما قام أحد إلاّ زيدا ، يكون ما بعد « إلاّ » محصورا عليه. أمّا مثل قام القوم إلاّ زيدا ، فإنّ الأمر فيه بالعكس ، أعني أنّه من قبيل نفي الحكم عمّا بعد إلاّ ، وإثباته لما عداه ، هذا.

ولكن عدّ الحصر من أقسام المفهوم لا يخلو من تسامح ، فإنّ النفي والاثبات فيه بدلالة المنطوق كما رجّحه في الكفاية (1). نعم الاستثناء من الاثبات داخل في المفهوم ، باعتبار أنّه يفهم من الاستثناء في مثل « قام القوم إلاّ زيد » أنّ زيدا لم يقم ، لكنّه أيضا بدلالة « إلاّ » على مخالفة ما بعدها لما قبلها ، لا أنّه من قبيل المفهوم الذي هو لازم المنطوق.

وينبغي أن يعلم أنّ أصل خلاف أبي حنيفة إنّما هو في أنّ الاستثناء من النفي لا يدلّ على الاثبات فيما بعد « إلاّ » ، مستشهدا على ذلك بمثل « لا صلاة إلاّ

ص: 74


1- كفاية الأصول : 211.

بطهور » ، فإنّ مجرّد وجود الطهور لا يثبت وجود الصلاة ، لجواز انتفاء الصلاة لأجل انتفاء باقي ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط ، فكأنّ أبا حنيفة يرى أنّ هذا من الاستثناء قبل الحكم ، بأن يكون المتكلّم قد أخرج الصلاة مع الطهور عن عموم الصلاة ، ونظر إلى الصلاة التي بدون طهور فحكم عليها بأنّها ليست بصلاة ، أمّا مع الطهور فهو مسكوت عنه ، وحينئذ لا يكون الاستثناء من النفي إثباتا.

والمصنّف قدس سره قد أجاب عنه أوّلا : بأنّ مورد هذا النفي والاثبات هو الصلاة الجامعة لجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط عدا الطهور ، ويكون الحاصل هو أنّ الصلاة الجامعة إن لم تكن مع الطهور فهي ليست بصلاة ، وإن كانت مع الطهور فهي صلاة ، وحاصل ذلك أنّ الصلاة الجامعة ليست بصلاة إلاّ إذا كانت مع الطهور ، فإنّها حينئذ صلاة. ثمّ في الحاشية أفاد أنّ متعلّق النفي والاثبات هو الامكان ، وأنّ الصلاة لا يمكن أن تكون صلاة إلاّ إذا كانت مع الطهور ، فإنّها حينئذ يمكن أن تكون صلاة إذا لحقها باقي الأجزاء والشرائط.

ثمّ أجاب ثانيا بقوله : وثانيا الخ ، وقد عرفت الإشكال في هذا الثاني. ولكن يمكن أن يكون مراده من الاستعمال مع القرينة هو استعمال « إلاّ » في الاخراج قبل الحكم ، فلا تكون حينئذ دالّة على الاثبات فيما بعد إلاّ.

ويمكن أن يقال : إنّ خلاف أبي حنيفة في دلالة « إلاّ » على مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم لم يكن مبنيا على كونها وصفية ، ولا على كون الاخراج قبل الحكم ، بل هو مبني على أنّ الاخراج وإن كان بلحاظ الحكم ، إلاّ أنّ مجرّد إخراج زيد مثلا عن عموم الحكم في قوله : قام القوم ، لا يدلّ إلاّ على إخراج زيد المذكور من هذا الحكم الذي أورده على القوم ، من دون تعرّض للحكم على زيد بعدم القيام ، بل أقصى ما فيه أنّه يبقى مسكوتا عنه.

ص: 75

وبالجملة : أنّ غير أبي حنيفة يدّعي أنّ الكلام المشتمل على الاستثناء يتضمّن حكمين : إيجابي وسلبي ، فالاستثناء من الاثبات يتضمّن الحكم على القوم بالقيام ، وعلى زيد بعدم القيام ، فيكون قوله : إلاّ زيد ، بمنزلة قوله إنّ زيدا لم يقم ، فيكون دليلا اجتهاديا على مخالفة ما بعد « إلاّ » لما قبلها في الحكم. وهكذا الحال بالعكس في الاستثناء من النفي. وأبو حنيفة يدّعي سكوت « إلاّ » عن كلّ شيء سوى إخراج ما بعدها عن الحكم الوارد على ما قبلها.

وحينئذ يتعيّن الجواب عنه أوّلا : بأنّ تتبّع موارد استعمال أهل اللسان ، وانسباق أذهانهم إلى ما هو أزيد من السكوت يشهد بخلاف ما يدّعيه ، فإنّهم يفهمون من الاستثناء الحكم على ما بعد « إلاّ » بخلاف الحكم الثابت لما قبلها.

وثانيا : أنّ اخراج زيد من الحكم في مقام جعل الحكم الكلّي يلزمه أن يكون زيد المذكور محكوما بنقيض الحكم السابق ، إذ ليس المقصود هو شخص الحكم السابق بل هو سنخه ، ومن الواضح أنّ إخراج الشيء من سنخ الحكم يلزمه الحكم عليه بنقيض الحكم السابق ، فإنّ الاخراج من إثبات سنخ الوجوب يلزمه الحكم على ذلك الخارج بعدم الوجوب ، كما أنّ الاخراج من نفي سنخ الوجوب يلزمه الحكم على ذلك الخارج بثبوت ذلك السنخ في حقّه. ولعلّ من قال إنّ دلالة الاستثناء على مخالفة ما بعد الأداة لما قبلها في الحكم إنّما يكون بالمفهوم لا المنطوق كان نظره إلى هذه الجهة ، أعني أنّ الاخراج من سنخ الحكم السابق يلزمه الحكم على الخارج بنقيض الحكم السابق ، فراجع وتأمّل.

وممّا ذكرناه في ردّه أوّلا يتّضح لك أنّ الاستدلال على المدّعى بكلمة التوحيد في محلّه ، حيث إنّ مرجعه إلى أنّ أهل اللسان يفهمون من قوله لا إله إلاّ اللّه أنّ ما بعد « إلاّ » محكوم بنقيض الحكم السابق ، الذي هو في المقام نفي

ص: 76

الوجود أو نفي المعبودية بحقّ ، أو غير ذلك ممّا شرحناه (1) في أنّ المنفي بهذه الجملة ما هو. وعلى أي حال ، أنّهم يفهمون منها أنّ ذلك المنفي ثابت لما بعد إلاّ ، لا أنّ ما بعد « إلاّ » يكون مسكوتا عنه ، وهذا الذي يفهمه أهل اللسان إنّما يفهمونه من مجرّد هذه الجملة في حدّ ذاتها ، من دون استناد إلى قرينة مقالية أو مقامية ، ولأجل ذلك يحكمون باسلامه بمجرّد صدور هذه الجملة منه. وهكذا الحال في أبواب الأقارير فإنّهم يحكمون على من قال ليس له عليّ عشرة إلاّ درهم بأنّه قد أقرّ له بدرهم ، وما ذلك إلاّ من جهة ما ذكرناه من كون اللفظ بنفسه ظاهرا في ذلك ، وهو أعني الانسباق من اللفظ دليل الحقيقة ، وحينئذ فلا وجه لما أفيد في الكفاية من الجواب عن هذا الاستدلال بقوله : إنّه لا موقع للاستدلال - إلى قوله - لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال (2).

قوله قدس سره في الكفاية : وربما يعدّ ممّا دلّ على الحصر كلمة ( بل ) الاضرابية. والتحقيق : أنّ الاضراب على أنحاء : منها ما كان ... الخ (3).

الظاهر أنّ هذه الأنحاء التي ذكرها قدس سره كلّها في « بل » المسبوقة بالايجاب ، والظاهر أنّ التي تكون للحصر هي المسبوقة بالنفي أو النهي ، فإنّها صريحة في النفي والاثبات كلفظة إلاّ الاستثنائية المسبوقة بالنفي : قال ابن مالك :

وبل كلكن بعد مصحوبيها *** كلم أكن في مربع بل تيها

وانقل بها للثاني حكم الأوّل *** في الخبر المثبت والأمر الجلي (4)

ص: 77


1- راجع الحاشية الآتية في الصفحة : 78 وما بعدها.
2- كفاية الأصول : 210.
3- كفاية الأصول : 211.
4- شرح ابن عقيل 2 : 235 - 236.

قوله : وحينئذ فلو قدّرنا الوجود فيكون نفي الوجود عن الآلهة الأخرى بالمطابقة ونفي الامكان بالملازمة ، ولو قدّرنا الامكان فيكون إثبات الامكان له تعالى بالمفهوم وإثبات الوجود له تعالى بالملازمة ... الخ (1).

هذه الدلالة الالتزامية فرع ثبوت الملازمة بين نفي الوجود ونفي الامكان في الأوّل ، وثبوت الملازمة بين ثبوت إمكانه تعالى وبين وجوده تعالى ، وهذه الملازمة إنّما تكون علّة لتحقّق الدلالة الالتزامية بالنسبة إلى المتكلّم العارف بأنّ نفي وجوب الوجود يوجب نفي الامكان ، وأنّ مجرّد الامكان للواجب يوجب وجوده ، وأنّ الإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود ، وهذا المعنى ربما لا يعرفه عوام أولئك المسلمين في أوّل إسلامهم ، إذ لا يكون الإله عندهم إلاّ عبارة عن المعبود ، ولا يتصوّرون حقيقة واجب الوجود على وجه يكون مجرّد إمكانه موجبا لوجوده ، وأنّ نفي وجوده يستلزم نفي إمكانه.

ولعلّه لأجل ذلك التجأ قدس سره إلى الجواب بنحو آخر ، وهو ما أفاده بقوله : هذا ويمكن أن يقال : إنّ كلمة « لا » في المقام كما في لو لا الغالبية مستغنية عن الخبر ، كما في ليس التامّة. وليس معنى وجوب حذف الخبر على ما ذكره النحويون إلاّ عدم الاحتياج إليه ، وحينئذ فيكون كلمة لا مفيدة لعدم تقرّر مدخوله في الوعاء المناسب له الخ (2).

ولأجل أنّ تسلّط النفي على نفس الذات من دون لحاظ جهة من الجهات القابلة لطروّها عليها ولو مثل الوجود أو التقرّر في وعائها المناسب لها غير

ص: 78


1- أجود التقريرات 2 : 286 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 286 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

معقول ، صرنا بحاجة إلى تقدير شيء في البين هو الوجود أو التقرّر ، وحينئذ يعود المحذور المذكور.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ هذه الجملة الشريفة لا تحتاج إلى هذه التكلفات ، فإنّ المنفي فيها - وهو الإله - مشتقّ من المشتقّات ، فيكون وزانه وزان قولنا لا رازق إلاّ اللّه ولا راحم إلاّ هو ، فيكون قولنا لا إله إلاّ اللّه بمنزلة قولنا لا معبود إلاّ اللّه ، وحينئذ يكون لفظ الجلالة بدلا من الضمير المستتر في ذلك المشتق ، فلا يكون من الاستثناء المفرّغ. والأقرب جعله هو الفاعل أو النائب عن الفاعل في أمثال هذه المشتقّات ، فيكون من الاستثناء المفرّغ.

والجملة لا تحتاج إلى الخبر ، لأنّ محصّل قولك لا رازق إلاّ اللّه أنّه لا يرزقنا إلاّ اللّه. وهكذا الحال في كلّ ما يكون من هذا القبيل من المشتقات ، مثل قولك لا راحم إلاّ اللّه ، ونحو ذلك ، بل إنّ هذا التوجيه يتمشّى في الأسماء الجامدة التي تكون بمعنى المشتق ، مثل قولك لا رجل إلاّ زيد أو لا إنسان إلاّ زيد مثلا ، ممّا كان الغرض منه نفي كمالية الرجولية والإنسانية وحصرها في زيد.

ومن ذلك يظهر لك أنّ محصّل قولنا لا إله إلاّ اللّه هو أنّه لا يعبد إلاّ اللّه - بالبناء للمفعول - وبعد إرجاعه إلى أصله من البناء للفاعل يكون وزانه وزان قوله تعالى : ( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (1) ونحوه ممّا يكون مساقه مساق حصر العبادة فيه تبارك وتعالى ، وهذا هو محصّل الشهادة بالتوحيد في العبادة ، فإنّ الغرض منه نفي عبادة غير اللّه وإثبات العبادة له تبارك وتعالى ، فكأنّ المتكلّم قد نظر إلى تلك الأصنام المعبودة واعترف بأنّه لا يعبدها ، وأنّه إنّما يعبد اللّه وحده. وليست المسألة ناظرة إلى واجب الوجود في قبال الممكن ، وحصر واجب الوجود فيه

ص: 79


1- الإسراء 17 : 23 ، يوسف 12 : 40.

تبارك وتعالى ، وأنّه لا واجب الوجود إلاّ هو تبارك وتعالى ، فإنّ هذه المباحث - أعني مباحث الواجب والممكن - لا يعرفها أولئك العرب الذين كلّفوا بالتوحيد ، وإنّما يعرفون أنّ هناك معبودات والشارع كلّفهم بحصر العبادة فيه تبارك وتعالى ونفيها عمّا عداه.

وبناء عليه يكون اللازم هو أنّ كلّ من اعترف بهذا المضمون يكون داخلا في الموحّدين وإن لم يكن بتلك الألفاظ المخصوصة ، أعني قوله أشهد أن لا إله إلاّ اللّه. كما أنّ من ألحق بها قوله : وأنّ محمّدا صلى اللّه عليه وسلم مبعوث من اللّه أو مرسل من اللّه أو أنّه نبي اللّه أو غير ذلك ممّا يتضمّن الاعتراف بنبوّته صلى اللّه عليه وسلم يكون داخلا في المسلمين ، وإن لم يكن بذلك اللفظ الخاصّ ، أعني أشهد أنّ محمّدا صلى اللّه عليه وآله رسول اللّه. اللّهمّ إلاّ أن يكون في البين تعبّد خاصّ ، بحيث إنّه لا يترتّب عليه أثر الإسلام إلاّ إذا كان اعترافه بتلك الألفاظ الخاصّة ، وهو بعيد جدّا.

نعم جرى اعتراف المسلمين على هذه الصورة ، ولعلّ الاقتصار عليها إنّما كان لأجل خفّتها وكونها أخصر من غيرها ، أو كونها أصرح منه ، أو كونها أبلغ منه ، ونحو ذلك من الجهات التي رجّحتها في أنظارهم على غيرها من الجمل التي تؤدّي مؤدّاها من التوحيد في العبادة.

قال في الشرائع والجواهر في المسألة التاسعة من مسائل الارتداد من كتاب الحدود التاسعة : كلمة الإسلام نصّا وفتوى أن يقول : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه ، أو ما في معناهما ، بل إن ترك لفظ الشهادة ففي كشف اللثام حكم بإسلامه الخ (1) كما لو قال لا إله إلاّ اللّه ، بدون لفظة أشهد.

وقال في المسالك في هذه المسألة : وحيث يتوقّف الإسلام على

ص: 80


1- شرائع الإسلام 4 : 191 ، جواهر الكلام 41 : 630.

الشهادتين لا ينحصر في اللفظ المعهود ، بل لو قال : لا إله سوى اللّه أو غير اللّه أو ما عدا اللّه ، فهو كقوله : لا إله إلاّ اللّه. وكذا قوله : أحمد رسول اللّه ، كقوله : محمّد رسول اللّه الخ (1).

وراجع كلماتهم وكلمات كشف اللثام فيما لو قال أنا مؤمن أو مسلم ، هل يحكم بإسلام الكافر الأصلي أو جاحد الوحدانية ، أو أنّه يحتاج إلى التصريح بقوله دين الإسلام حقّ ، لاحتمال كون المراد بالأوّل أنا مؤمن بالنور والظلمة ، أو أنا مسلم بهما (2).

فهذه الكلمات ونحوها تدلّ على كفاية أي عبارة تدلّ على أنّه مسلم ، ومن ذلك كلّ جملة دلّت على التوحيد بالعبادة والإقرار بأنّ محمّدا صلى اللّه عليه وآله رسول اللّه ، ولا يتوقّف ترتيب آثار الإسلام عليه على الاعتراف بأنّه تعالى واجب الوجود ، وأنّ واجب الوجود ينحصر فيه تعالى ، فإنّ ذلك وإن كان من أصول عقائد المسلمين إلاّ أنّه كسائر العقائد ، مثل عدم كونه تعالى جسما ، ونحو ذلك ممّا يعتبر في الإسلام ، فراجع وتأمّل.

وربما يقال : إنّ الإله بمعنى خالق تمام الموجودات ، فإذا نفي عن غيره وأثبت وجوده لزم التوحيد ، لأنّ غيره لو كان لكان مخلوقا له تعالى ، لأنّ المفروض أنّه خالق تمام الموجودات.

وفيه أوّلا : أنّه على هذا لا يحتاج إلى الحصر ، بل يكفي أن يقال إنّه تعالى موجود ، لأنّ غيره لو كان موجودا لكان مخلوقا له.

وثانيا : أنّه يلزم على ذلك أن تكون هذه الكلمة الشريفة مسوقة لقصر

ص: 81


1- مسالك الافهام 15 : 37.
2- كشف اللثام 10 : 668.

القلب ، والمفروض أنّها مسوقة للأعمّ منه ومن قصر الأفراد لو لم نقل بكونها مسوقة لقصر الأفراد.

فالأولى أن يقال : إنّها مسوقة للردّ على الجاهلية الذين يجعلون له تعالى شريكا في العبادة ، حيث إنّ الإله إنّما هو بمعنى المعبود بحقّ ، ويكفي في التوحيد في العبادة مجرّد نفي وجود غيره وإثبات وجوده تعالى ، فيكون الأصل فيها هو قصر الأفراد أو للأعمّ من ذلك ومن قصر القلب ، وأمّا كون الإله بمعنى واجب الوجود أو الخالق لتمام الموجودات فليست هي بمعنى الإله ، لما عرفت من كونه بمعنى المعبود بحقّ. نعم ، لازم المعبود بحقّ أن يكون واجب الوجود وأن يكون خالق الكون كلّه ، وهذان اللازمان كبقية صفاته الثبوتية والسلبية لا تكون كلمة التوحيد متعرّضة لهما بنفي أو إثبات ، ولا تعرض لها لأزيد من التوحيد في العبادة وأنّه لا معبود بحقّ موجود إلاّ اللّه ، وهذا المقدار من الاعتراف كاف في إجراء أحكام الإسلام إذا انضمّ إليه الاعتراف بنبوّته صلى اللّه عليه وآله ، ما لم يظهر من المقرّ ما يوجب الكفر من الجهات الأخر.

فتلخّص لك : أنّا إذا التزمنا بترتيب آثار الإسلام عليه عند ما يقول دين الإسلام حقّ ، كان لازم ذلك هو ترتيب آثاره عليه عند ما يقول لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، ولو لم يكن بصدد بيان أنّه تعالى واجب الوجود وأنّ واجب الوجود منحصر فيه ، بل يكفي فيه ما ذكرناه من حصر المعبود فيه تبارك وتعالى ، فإنّ إله كما صرّح به أهل اللغة (1) بمعنى المعبود من أله بمعنى عبد ، ولا يحتاج إلى تقدير خبر كي يقع الكلام في أنّ الخبر هو موجود أو ممكن ، وفي الحقيقة يكون هذا النفي في مثل هذه الأسماء المشتقّة متوجّها إلى الفعل المشتقّ منه ، ويكون

ص: 82


1- تاج العروس 9 : 374 - 375 مادّة « أله » ، مجمع البحرين 6 : 339 مادّة « أله ».

ذلك الاسم المشتق بمنزلة المبتدأ الذي يكون فاعله سادّا مسدّ الخبر ، نظير ما مضروب إلاّ عمرو ، فيكون قولنا : ( لا إله إلاّ اللّه ) بمنزلة قولك : ( ما معبود إلاّ اللّه ) في كون الاسم بعده مفعولا نائبا عن الفاعل سادّا مسدّ الخبر ، فهو من هذه الجهة بمنزلة قولك : ( ما مضروب إلاّ عمرو ) في كون عمرو مفعولا نائبا عن الفاعل وسادّا مسدّ الخبر.

ولك أن تقول إنّ ذلك أيضا تكلّف ، بل إنّ لفظ الجلالة بنفسه خبر ، فكأنّ قائلا يقول إنّ الإله والمعبود هو الصنم فيقال في جوابه لا إله ولا معبود إلاّ اللّه ، وذلك من هذه الجهة نظير أن يقول إنسان إن ولد زيد هو هاشم وإنّ ولده أيضا هو خالد فتقول له لا ولد لزيد إلاّ هاشم ، فكان هاشم بنفسه خبرا عن الولد في جملة النفي ، كما كان بنفسه خبرا عن الولد في جملة الاثبات.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الوجه يحتاج أيضا في تصحيح النفي فيه إلى كون المنفي هو الولدية ، فيكون راجعا إلى الوجه الأوّل ، فتأمّل فإنّ ذلك لو كان النفي مسلّطا على نفس الذات ، وأمّا لو كان مسلّطا عليها باعتبار الخبر فلا إشكال فيه ، فتكون هذه الكلمة الشريفة بمنزلة قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (1) في أنّ ما بعد « إلاّ » يكون بنفسه هو الخبر ، من دون حاجة إلى تقدير شيء ، فتأمّل.

ص: 83


1- آل عمران 3 : 144.

[ العام والخاصّ ]

قوله : وعلى تقدير وجود عنوان جامع بينها فإنّما هو من باب الاتّفاق ، لا من جهة دخله في الحكم ... الخ (1).

وحينئذ يتشكّل من ذلك العنوان الجامع قضية كلّية ، لكنّها في الحقيقة مجموعة قضايا شخصية لا قضية واحدة كلّية ، فهي وإن كانت عامّة صورة إلاّ أنّه لا عموم فيها أصلا.

قوله : إلاّ في مورد واحد وهو رفع الحدّ عمّن أقرّ عند أمير المؤمنين عليه السلام باللواط (2) ... الخ (3).

الظاهر أنّ هذا المورد من باب العفو لا التخصيص ، نعم مثّل لذلك في تحريرات المرحوم الشيخ محمّد علي (4) وغيره بخصائص النبي صلى اللّه عليه وآله.

قوله : نعم يمكن تشكيل القياس منها في عالم الاثبات ... الخ (5).

إذا لم يكن للأوسط علاقة بالأكبر لا علّية ولا معلولية ولا اشتراك في المعلولية لعلّة أخرى ، لم يعقل أن يكون واسطة في الاثبات ، كما أنّه ليس بواسطة

ص: 84


1- أجود التقريرات 2 : 293.
2- وسائل الشيعة 28 : 161 / أبواب حدّ اللواط ب 5 ح 1.
3- أجود التقريرات 2 : 293.
4- فوائد الأصول 1 - 2 : 514.
5- أجود التقريرات 2 : 293.

في الثبوت. ومن ذلك تعرف أنّ هذا المثال لا بدّ أن يكون راجعا إلى القضية الحقيقية ، غاية الأمر أنّها لا تشمل الأفراد المقدّرة الوجود ، إذ ليس في البين أفراد مقدّرة الوجود ، لأنّ الجيش محصور الأفراد بما هو الموجود فعلا ويكون العلم فيه بالنتيجة موقوفا على العلم بالكبرى ، لما فرضه قدس سره من كونها واسطة في الاثبات ، وحينئذ لا يتمّ فيه ما أفاده بعد ذلك بقوله في القياس المؤلّف من القضايا الخارجية : لكن العلم بالنتيجة لا بدّ وأن يكون مأخوذا من دليل خارجي ، من دون توقّفه على العلم بكلّية الكبرى (1) ، لأنّا إذا فرضنا أنّ العلم بالنتيجة فيما ذكر من المثال مأخوذ من العلم بالكبرى لكونها واسطة في الاثبات ، كان العلم بالنتيجة متوقّفا على العلم بالكبرى ، فكيف يصحّ لنا أن نقول في جواب الدور بأنّ العلم بالنتيجة لا يكون متوقّفا على العلم بالكبرى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكبرى في هذا المقام معلومة ، والنتيجة ليست موقوفة عليها ، لكنّها موقوفة على الصغرى. لكن ذلك يخرجه من الاستدلال من ناحية أخرى ، لأنّه حينئذ بمنزلة من علم بأنّ في المكان مثلا شخصا معيّنا قد وقع عليه القتل ، لكنّه لا يعرفه أنّه زيد وبعد ذلك تحقّق عنده أنّه زيد ، فإنّه حينئذ يخرج عن القياس بالمرّة ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّ العلم بكلّية الكبرى مأخوذ من دليله شرعيا كان أو عقليا ، وليس له توقّف على العلم بالنتيجة أصلا ... الخ (2).

الكبرى وإن كانت مدلولا عليها بدليلها الشرعي أو العقلي ، إلاّ أنّ العلم والجزم بصدقها موقوف على العلم بثبوت ذلك الحكم لكلّ واحد من أفراد

ص: 85


1- أجود التقريرات 2 : 294 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 294 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

موضوعها. وإن شئت فقل : إنّ العلم بالنتيجة متوقّف على العلم بكلّية الكبرى وسريان الحكم فيها إلى كلّ واحد من أفراد موضوعها ، وذلك عبارة أخرى عن كون العلم بكلّية الكبرى متوقّفا على العلم بالنتيجة ، أو أنّ العلم بكلّية الكبرى هو عين العلم بالنتيجة ، وحينئذ يكون المتعيّن في الجواب هو ما ذكروه من الفرق بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل.

ولعلّ هذا هو الذي أراده شيخنا قدس سره من أنّ العلم بكلّية الكبرى متوقّف على قيام الدليل عليها ، فإنّ ذلك الدليل لمّا أوجب العلم بكلّية الكبرى فقد أوجب بعين ذلك العلم بما اندرج تحتها من الجزئيات ومن جملتها النتيجة ، غايته أنّه إجمالي لا تفصيلي.

وبالجملة : أنّا لا يحصل لنا الجزم والتصديق بالنتيجة إلاّ بعد الجزم والتصديق بكلّية الكبرى ، ولا يمكننا الجزم والتصديق بكلّية الكبرى إلاّ بعد الجزم والتصديق بثبوت الحكم فيها لكلّ واحد من أفراد موضوعها ومن جملتها الأصغر ، والدليل الشرعي - مثلا - الدالّ على كلّية الكبرى إنّما يوجب لنا العلم بكلّية الكبرى ، وبعد العلم بكلّية الكبرى الذي هو عبارة عن التصديق بثبوت الحكم لكلّ واحد من أفراد موضوعها ومن جملتها الأصغر ، يكون الانتقال إلى النتيجة. فالدور أو تحصيل الحاصل بحاله ، وينحصر الجواب عنه بما ذكروه من الاجمال والتفصيل ، فراجع وتأمّل.

وقد شرحنا ذلك في مبحث التبادر ، وبيّنا فساده وذلك في ذي القعدة 1381 فراجع (1).

ص: 86


1- [ لم يتقدّم منه قدس سره بحث التبادر ، ولعلّه قدس سره بحثه في مجلس درسه ].

قوله : بداهة أنّ البدلية تنافي العموم ، فإنّ متعلّق الحكم ليس إلاّ فردا واحدا فقط أعني الفرد المنتشر ، نعم إنّ البدلية عامّة فالعموم إنّما هو فيها لا في الحكم ، والدالّ على هذا القسم من العموم هو إطلاق المتعلّق غالبا ، فيكون هذا القسم في الحقيقة من أفراد المطلق لا العام ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وفي عدّ البدلي من أقسام العموم الذي هو بمعنى الشمول مسامحة واضحة ، وإلاّ فليس فيه شمول أصلا ، بل إنّ معناه ينافي الشمول. ووجه تلك المسامحة هو أنّ البدلية فيه بمعنى كون كلّ واحد منها صالحا لانطباق موضوع الحكم عليه على البدل شاملة لجميع الأفراد ، فيكون الشمول فيه لجميع الأفراد باعتبار البدلية المذكورة ، وأنّها - أعني البدلية المذكورة - شاملة لجميع الأفراد ، لا أنّ الحكم الوارد عليه يكون واردا على جميع الأفراد ، لأنّ ذلك تدافع وتهافت بحت ، انتهى.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي : وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أنّ العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافي الشمول لا يخلو عن مسامحة (2).

وقال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه : ثمّ إنّ اطلاق العموم على العموم البدلي مسامحة ، لأنّ بين كون المفهوم شاملا لجزئياته وكون أحد جزئياته موضوعا للحكم تناقض ، فاطلاق العموم عليه بلحاظ أنّ أحد الأفراد الذي هو الموضوع للحكم يمكن أن يكون هذا أو ذاك أو آخر.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ جلّ غرض شيخنا قدس سره هو أنّ العموم البدلي ليس في الحقيقة من أقسام العموم بمعنى كون الحكم شاملا لجميع أفراد الموضوع ، وأنّ

ص: 87


1- أجود التقريرات 2 : 295 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 514.

وجه المسامحة في إطلاق العموم عليه هو عموم البدلية لجميع أفراد الموضوع ، أمّا أنّ العموم البدلي من أقسام المطلق فذلك لم يتعرّض له شيخنا قدس سره فيما عرفته ممّا نقلنا. ولو فرضنا تعرّضه له فلا بأس به ، إذ لا مانع من الحكم بكونه من أقسام المطلق ولو باعتبار كون الغالب في العموم البدلي هو استفادته من المطلق ، وإن كان قد يستفاد أيضا من الدليل اللفظي الموضوع للبدلية ، مثل لفظ أيّ ومثل النكرة المنوّنة ، ونحو ذلك.

وإن شئت فقل : إنّ البدلية كالشمول تارة تستفاد من اللفظ الموضوع لذلك ، وأخرى تستفاد من الاطلاق ، غير أنّ الأكثر في البدلية هو استفادتها من الاطلاق. والحاصل : أنّ الشمول من أقسام العموم ، سواء كان بدلالة اللفظ أو كان بدلالة الاطلاق ومقدّمات الحكمة. كما أنّ البدلية من أقسام الاطلاق ، سواء كانت بدلالة اللفظ أو كانت بدلالة الاطلاق ومقدّمات الحكمة. ومن ذلك تعرف أنّ تغيير قوله : والدالّ على هذا القسم من العموم هو إطلاق المتعلّق غالبا ، فيكون هذا القسم في الحقيقة من أفراد المطلق لا العام ، إلى قوله في الطبعة الجديدة : ويؤيّد ما ذكرناه أنّ هذا القسم من العموم يستفاد غالبا من إطلاق المتعلّق ، فيكون بذلك مندرجا في المطلق دون العام (1) ، ليس كما ينبغي ، لأنّا لو سلّمنا أنّ شيخنا قدس سره جعل البدلية من أقسام الاطلاق كما نقله عنه في الطبعة الأولى ، فمراده بذلك هو أنّ البدلية عبارة أخرى عن الاطلاق ، وأنّ الاطلاق تارة يكون بمقتضى الوضع وأخرى يكون من مقدّمات الحكمة ، ولم يجعل غلبة استفادته من الاطلاق الثابت من مقدّمات الحكمة دليلا على كون مطلق العموم البدلي من أقسام الاطلاق الثابت من مقدّمات الحكمة ، كي يتوجّه عليه ما في الحاشية من أنّ العموم البدلي

ص: 88


1- أجود التقريرات 2 : 295.

قد يستفاد من الدليل اللفظي وقد يستفاد من الاطلاق ، وغلبة استفادته من الاطلاق لا توجب جعله من أقسام المطلق ، فراجع وتأمّل.

نعم ، يرد على شيخنا قدس سره أنّ هذه المسامحة بعينها جارية في العموم المجموعي ، إذ لا تعدّد فيه ولا عموم ولا شمول ، بل بعد لحاظ مجموع الأفراد موضوعا واحدا ، وإيراد حكم واحد على مجموعها ، يكون حال تلك الأفراد حال أجزاء المركّب ، ولا يكون في البين إلاّ حكم واحد ، ويكون حال العموم المجموعي حال المركّب الارتباطي كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله في الحاشية : الظاهر أنّ نظر شيخنا قدس سره في وجه المنع إلى ما ذكره جملة من المحقّقين ... الخ (2).

ومنهم صاحب الكفاية قدس سره (3) فإنّه ذكر ذلك في مبحث المطلق والمقيّد. إلاّ أنّه من الواضح أنّه ليس نظر شيخنا في المنع المذكور إلاّ إلى ما صرّح به من أنّ أداة التعريف وأداة الجمع واردان معا على نفس المادّة في عرض واحد ، وهذا هو الذي أوجب بطلان القول بأنّ اللام إشارة إلى تعريف الجمع ، ليكون اللازم تعيّن المرتبة الأخيرة.

قوله في الحاشية المزبورة : وأمّا دعوى كون هيئة الجمع المعرّف باللام موضوعة لافادة العموم ، فهي مدفوعة بأنّ وضع الهيئة لذلك يستلزم أن يكون استعمال الجمع المعرّف باللام في موارد العهد الذكري ... الخ (4).

كيف يرد النقض المذكور مع فرض كون الدعوى إنّما هي فيما إذا لم يكن

ص: 89


1- ستأتي إشارة إلى المطلب في الصفحة : 91.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 297.
3- كفاية الأصول : 245.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 297.

في البين عهد كما صرّح به بقوله : بل هي مستندة إلى دلالة هذه الهيئة بنفسها على العموم فيما إذا لم يكن عهد الخ (1). نعم ، ربما يتوجّه على شيخنا قدس سره أنّ لازمه هو كون الجمع المعرّف مشتركا لفظيا بين العهد والعموم ، وهو بعيد غايته.

والأولى أن يقال : إنّ هذا الاستظهار ليس المدرك فيه هو الوضع ، بل هو التفاهم العرفي إذا لم تقم قرينة على إرادة جماعة خاصّة وإن لم يكن في البين وضع خاصّ.

قوله : ثمّ لا يخفى أنّه لا منافاة بين ما اخترناه ... الخ (2).

الظاهر أنّ المنافاة واضحة ، فإنّه بعد الالتزام بأنّ اللام إشارة إلى المرتبة العليا كيف يمكن أن يدّعى الانحلال إلى الأفراد. ولا يمكن إصلاحه بما تضمّنه قوله في الحاشية : لأنّ صيغة الجمع في ظرف الاستعمال وإن كانت مستعملة في معنى واحد باستعمال واحد ، إلاّ أنّ ذلك المعنى إنّما يؤخذ فانيا ومرآة للحاظ الأفراد ، والحكم على كلّ فرد منها بخصوصه الخ ، فإنّه بعد الاعتراف بأنّ موضوع الحكم هو الجمع ، كيف يمكن أن يقال : إنّه لوحظ الجمع مرآة للافراد؟ وهل يمكن لحاظ العنوان مرآة إلاّ إذا كان قابلا للحمل عليه ، والمفروض أنّ الجمع لا يحمل على المفرد.

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أنّ نفس صيغة الجمع لا تقتضي المجموعية ، ولأجل ذلك صرّح ابن مالك في شرحه (3) بأنّ الجمع موضوع للآحاد المجتمعة دالّ عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف ، بخلاف اسم الجمع فإنّه

ص: 90


1- أجود التقريرات 2 : 297 - 298.
2- أجود التقريرات 2 : ( الهامش ) : 298.
3- لم نعثر عليه ، لكن هذا المعنى ورد في حاشية الصبان على شرح الاشموني للألفية 1 : 38.

موضوع لمجموع الآحاد دال عليها دلالة المفرد على جملة أجزاء مسمّاة ، فصيغة الجمع وإن كانت موضوعة للجماعة إلاّ أنّ دلالتها عليها من قبيل تكرار الآحاد بالعطف ، فلا تكون المجموعية مأخوذة فيها ليكون عمومها عموما مجموعيا. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الجمع لمّا كان موضوعا للآحاد المجتمعة كان الحكم الوارد على تلك الآحاد حكما واحدا وإن أخذت تلك الآحاد بمنزلة تكرار الواحد بالعطف ، وحينئذ يكون العموم فيه مجموعيا أيضا. ولا فرق بينه وبين اسم الجمع من هذه الناحية - أعني ناحية كيفية تعلّق الحكم - وإن كان بينهما فرق من ناحية نفس الموضوع له ، فتأمّل.

قوله : وبالجملة لو كان مدخول أداة العموم هو الجمع ، بحيث كان مرتبة إفادة الجمع سابقة على مرتبة إفادة العموم ، لكان مفاد الأداة حينئذ هو تعميم الجموع لا الأفراد ، فلا يكون للجمع المعرّف باللام دلالة على العموم المجموعي فضلا عن الاستغراقي (1).

بل يكون العموم في ناحية الجماعات ، وهو غير ما هو المطلوب من عموم الافراد ، فإنّ عموم الجماعات خارج عن العموم الاستغراقي والعموم المجموعي ، فتأمّل.

قوله : بل الأداة وهيئة الجمع كلاهما يردان على المادّة في عرض واحد ، فلا يكون التعميم حينئذ إلاّ بالاضافة إلى كلّ فرد فرد ... الخ (2).

لكن يبقى الكلام في فائدة الجمع ، فإنّ الشمول لو كان حاصلا من الأداة

ص: 91


1- أجود التقريرات 2 : 298 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 298 - 299 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

وصار الحاصل هو الشمول لكلّ فرد ، كانت صيغة الجمع حينئذ ملغاة.

وبالجملة : إن كانت الأداة هي للاستغراق كان محتاجا إلى إثبات وضعها للعموم في قبال وضعها لتعريف الجنس أو الآحاد ، وكان ذلك موجبا لالغاء مفاد صيغة الجمع. وإن لم تكن الأداة للعموم ، بل كانت لمحض التعريف كما هو ظاهر المستدلّ ، كان الحكم باستفادة العموم منه بلا دليل. مضافا إلى أنّ العموم للآحادي يوجب إلغاء الجميعية.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مفاد اللام ليس هو إلاّ الاشارة إلى الطبيعة ، لكن المشار إليه وهو الطبيعة تارة يكون مأخوذا من حيث نفسه ، لا من حيث وجوده في ضمن الأفراد ، وحينئذ تكون القضية طبيعية وتكون خارجة عمّا نحن فيه وأخرى تكون مأخوذة من حيث الانطباق على فرد معيّن ، وهي لام العهد الخارجي أو الذهني ، وهي أيضا خارجة عمّا نحن فيه. وتارة تكون مأخوذة من حيث الانطباق على الأفراد من دون تصريح بالجميع أو البعض ، وهي حينئذ إن كانت واردة في مقام البيان حملت على جميع الأفراد ، مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ، وإن أخذت من حيث الانطباق على جميع الأفراد وجب إيراد المدخول بصيغة الجمع ، لتكون صيغة الجمع إشارة إلى أنّ المراد بتلك الأفراد التي لوحظ انطباق الطبيعة عليها هو تمام الأفراد ، لأنّ ذلك هو مقتضى الجمع بين اللام الدالّة على إرادة الطبيعة من حيث الأفراد ، وبين صيغة الجمع الدالّة على إرادة الجمع من تلك الطبيعة المحمول على أقصى مراتبه ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّه قد جرى متعارف أهل اللسان على أنّهم عند ما يريدون

ص: 92


1- البقرة 2 : 275.

الاشارة إلى الطبيعة من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد - بمعنى كون المراد هو كلّ واحد من الأفراد - على أن يوردوا تلك الطبيعة بصيغة الجمع ، فيكون ذلك من قبيل المواضعة فيما بينهم على أنّ الجمع المحلّى باللام يكون للعموم الشمولي.

قوله : إنّ لفظة كلّ مثلا هو الذي وقع موضوعا للحكم. وقوله في الجواب عن هذا الاستدلال : قلت إنّ لفظة كلّ وإن كانت لا تصدق على كلّ واحد واحد ، إلاّ أنّها إنّما تؤخذ في الموضوع مرآة لسراية الحكم إلى كلّ واحد واحد (1).

ملخّص الاستدلال : هو أنّ موضوع الحكم هو كلّ عالم ، وحينئذ يكون ذلك الحكم واردا على مصداق ذلك الموضوع ، وليس مصداق كلّ عالم إلاّ تمام الأفراد ، فيكون الحكم واردا على تمام الأفراد ، وحينئذ يكون العموم مجموعيا ويكون لحاظ الاستقلال والانحلال هو المحتاج إلى عناية زائدة.

وملخّص الجواب : أنّ الاستدلال مشتمل على الخلط بين موضوع الحكم وبين ما هو آلة في تسرية الحكم إلى ما هو مصداق موضوعه ، فإنّ الموضوع إنّما هو طبيعة العالم ، ويكون إيراد لفظ « كلّ » عليه ليكون آلة في تسرية ذلك الحكم إلى كلّ واحد من مصاديقه ، فليس مصداق ذلك الموضوع إلاّ نفس أفراد العالم لا مصداق كلّ عالم ليكون منحصرا في تمام الأفراد ، ليكون الحكم واردا على تمام الأفراد ، فتأمّل.

ص: 93


1- أجود التقريرات 2 : 296 - 297 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

قوله : وأمّا النكرة في سياق النفي أو النهي فاستفادة السالبة الكلّية منها وإن كانت ممّا لا ينكر ، إلاّ أنّ السلب فيهما أيضا متعلّق بكلّ واحد واحد من الأفراد ، وانتفاء الحكم عن مجموع الأفراد إنّما هو لازم انتفائه عن الجميع ، لا أنّه بنفسه مدلول للكلام (1).

تقدّم في أوائل النواهي أنّ الذي هو المطلوب بالنهي يكون ضدّ ما هو المطلوب بالأمر ، فإنّ المطلوب بالأمر هو إفاضة الوجود على الطبيعة واخراجها من العدم ، ولازم ذلك هو الاكتفاء بأوّل وجودها ، والمطلوب بالنهي هو المنع من إفاضة الوجود عليها وإخراجها عن العدم ، ولازم ذلك هو حصول عصيان ذلك النهي بتمامه بأوّل وجودها ، وسقوط النهي بذلك العصيان ، وعدم التمكّن من إطاعته بعد ذلك لتحقّق المنهي عنه. وهذا المعنى وإن لم يكن من قبيل العام المجموعي اصطلاحا ، إذ ليس في البين أفراد متعدّدة قد تعلّق الطلب بتركها تركا واحدا منبسطا على تمام الأفراد ، إلاّ أنّه مساو للعموم المجموعي في النتيجة ، وهو حصول العصيان بأوّل وجود الطبيعة ، وسقوط النهي بذلك وعدم قابليته للتبعيض بالاطاعة والعصيان.

ولكن تقدّم أيضا أنّ هناك قرينة عامّة توجب كون المطلوب بالنهي هو ترك كلّ واحد من أفراد الطبيعة ، وتلك القرينة العامّة هي المفسدة القائمة بالطبيعة الموجبة لتحقّق المبغوضية بالنسبة إلى كلّ فرد من أفرادها الطولية والعرضية ، وبواسطة تلك القرينة العامّة يكون العموم في باب النواهي عموما افراديا انحلاليا ، فراجع البحث المشار إليه وما علّقناه هناك (2) وتأمّل.

ص: 94


1- أجود التقريرات 2 : 299 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع أجود التقريرات 2 : 120 وما بعدها ، وراجع أيضا حاشية المصنّف قدس سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب الصفحة : 3 وما بعدها.

قوله : الأوّل أنّ العام المخصّص وإن لم يرد منه العموم بالارادة الجدّية ، لكنّه مراد منه بالارادة الاستعمالية دائما ... الخ (1).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره قسّم الدلالة إلى ثلاثة أقسام :

الأولى : الدلالة التصوّرية ، وهي عبارة عن مجرّد خطور المعنى بالبال بمجرّد خطور اللفظ ، من جهة الأنس الناشئ عن الوضع أو كثرة الاستعمال.

الثانية : التصديقية ، وهي عبارة عن الدلالة على أنّ المتكلّم أراد بذلك اللفظ ذلك المعنى ، بحيث إنّه يمكن نسبة ذلك المعنى المتحصّل من الكلام إلى المتكلّم بطريق القول ، وهذه هي مركز الظهور.

الثالثة من الدلالة : الدلالة التصديقية أيضا ، وهي في الرتبة بعد الثانية ، ومرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك المعنى الذي فرضنا نسبته إليه بطريق القول.

وهذه الأخيرة هي مركز حجّية ذلك الظهور ، والقرائن المنفصلة تتصرّف في هذه الدلالة الأخيرة ، وتوجب رفع اليد عن حجّية ذلك الظهور مع بقاء الظهور بحاله ، بخلاف القرائن المتّصلة فإنّها تتصرّف في الدلالة الثانية التي هي مركز الظهور ، فإنّ انضمام تلك القرائن إلى الكلام يوجب سقوط ظهوره في معناه الأصلي ، وعدم صحّة نسبته إليه بطريق القول.

وشيخنا قدس سره قد ذكر هذا التفصيل في مقامات كثيرة ، منها في أوائل التعادل والتراجيح في كيفية الجمع بين الخاصّ والعام (2) ، ومنها في أوائل حجّية الظهور

ص: 95


1- أجود التقريرات 2 : 299 - 301 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 4 : 284.

من باب الأمارات (1) ، ومنها في باب المطلق والمقيّد كما في الطبعة الجديدة من هذا الكتاب ص 530 وفي الطبعة القديمة ص 406 (2) ، فراجع هذه الموارد فإنّه قد تعرّض فيها بنحو أوضح وأصرح وأجلى.

وعلى كلّ حال ، فالظاهر ممّا ذكره المحشي في الحاشية (3) من الدلالتين التصديقيتين أنّه راجع إلى ما أفاده شيخنا من الدلالتين التصديقيتين المذكورتين ، فالأولى التي جعل عليها المدار في الحقيقة والمجاز هي الأولى من الدلالتين اللتين ذكرهما شيخنا قدس سره ، والثانية هي الثانية منهما.

أمّا ما اشتمل عليه الكفاية (4) من الدلالة القانونية أو الدلالة الاستعمالية ، فإن كان راجعا إلى الدلالة الأولى من هاتين الدلالتين كما هو غير بعيد فنعم الوفاق ، ولا يتوجّه عليه حينئذ ما أورده عليه شيخنا قدس سره ، بل يكون ما أفاده في بيان عدم لزوم التجوّز في المخصّص المنفصل هو عين ما أفاده شيخنا قدس سره. وكذلك المخصّص المتّصل فإنّ ما أفاده هنا من عدم التجوّز فيه إنّما كان نظره إلى نفس أداة العموم مثل لفظ كلّ ، وأمّا بالنسبة إلى المدخول فلا يكون إلاّ من قبيل التقييد ، الذي صرّح في مبحث المطلق والمقيّد بأنّه لا تجوز فيه بقوله : لإمكان إرادة معنى لفظه منه وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ... نعم لو أريد من لفظه المعنى المقيّد كان مجازا مطلقا ، كان التقييد بمتّصل أو منفصل (5).

ص: 96


1- أجود التقريرات 3 : 155 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 431 - 432.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 300 وما بعدها.
4- كفاية الأصول : 218.
5- كفاية الأصول : 247.

وأنت خبير بأنّ هذا هو عين ما أفاده شيخنا قدس سره ، وإلاّ كان اللازم هو بيان تصوّر تلك المرتبة من الدلالة التصديقية ومعقوليتها في قبال الدلالة التصوّرية وفي قبال الدلالتين اللتين ذكرهما شيخنا قدس سره للدلالة التصديقية ، هذا كلّه فيما يعود إلى المخصّص المنفصل.

وأمّا المخصّص المتّصل فالذي أظنّ أنّه لا مندوحة لنا في إثبات بقاء اللفظ العام على حقيقته وعدم استعماله في الخاصّ ، إلاّ الدلالة التي نقلها شيخنا قدس سره (1) في الدليل الثاني وسمّاها دلالة تمهيدية ، وهي عبارة عن إحضار المعنى العام في ذهن السامع ليورد الحكم على بعض أفراده ، بحيث يكون القيد مثل العادل في قولنا أكرم كلّ عالم عادل ، قرينة على أنّ مورد الحكم بوجوب الاكرام هو خصوص العادل من ذلك المعنى العام الذي أحضره في ذهن السامع.

ولعلّ الكثير من كلمات شيخنا قدس سره هنا في بيان عدم التجوّز في المدخول في التخصيص المتّصل ناظر إلى هذه الدلالة التمهيدية ، فإنّ تلك الكلمات لا تنطبق إلاّ عليها ، وإن شئت فلاحظ ما حكاه عنه في الكتاب بقوله : أمّا في المدخول فلأنّه لم يستعمل إلاّ في نفس الطبيعة المهملة التي وضع اللفظ بازائها ، وأمّا القيد فقد استفيد من دالّ آخر من باب تعدّد الدالّ والمدلول في فرض التخصيص بالمتّصل (2).

ويظهر لك من ذلك أنّ الارادة التمهيدية لا ترجع إلى الوجه الأوّل ، وأنّها مختصّة بخصوص توجيه عدم التجوّز في المخصّص المتّصل ، فلا وجه لما علّقه

ص: 97


1- أجود التقريرات 2 : 301 - 302.
2- أجود التقريرات 2 : 303 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

في الحاشية (1) من رجوع الوجه الثاني إلى الوجه الأوّل واختصاص مورده بخصوص المخصّص المنفصل ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ القائل بهذه الدلالة التمهيدية هو المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في غرره ، قال في مقام بيان أنّ العام المخصّص لا يكون مجازا ما هذا لفظه : لأنّ التخصيص إن كان متّصلا فإن كان من قبيل القيود والأوصاف فهو تضييق لدائرة الموضوع ، وإن كان من قبيل الاستثناء فهو إمّا إخراج عن الموضوع قبل الحكم ، وإمّا إخراج عن الحكم ، فيستكشف أنّ شمول العام له من باب التوطئة والإرادة الصورية الانشائية لا الجدّية ، وعلى كلّ حال ، ليس حمل العام على باقي الأفراد تجوّزا فيه ، بل ظهوره انعقد واستقرّ في الباقي من أوّل الأمر. وإن كان التخصيص منفصلا فالظاهر أنّه يكشف عن عدم كون الخاصّ مرادا في اللبّ ، مع استعمال لفظ العام في عمومه في مرحلة الاستعمال بأحد الوجهين اللذين ذكرا في المتّصل (2).

ولقد كنت قبل هذا أوضحت هذه الارادة التمهيدية بما كنت أتخيّل الانفراد فيه ، ولا بأس بنقل ذلك التحرير بلفظه ، وهو أنّه بعد الفراغ عن عدم وضع للمركّبات على حدة ، وأنّ الوضع إنّما هو للمفردات ، وأنّ المدار في الحقيقة والمجاز على المفردات ، يعني على إعمالها في معانيها دون ما يستفاد من حاصل الجملة ، أنّ لنا في الجمل التركيبية المسوقة للافادة سواء كانت إنشائية أو كانت خبرية مقامين : الأوّل مقام إعمال المفردات في معانيها ، والثاني : مقام الحكم على ما هو مورد الحكم من تلك المفردات. والمقام الأوّل هو الذي يكون مورد

ص: 98


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 302.
2- درر الفوائد 1 - 2 : 212 - 213.

الحقيقة والمجاز ، والمقام الثاني هو الذي يكون موردا للتخصيص أو التقييد. مثلا لو قال المولى أكرم كلّ عالم عادل ، كان كلّ واحد من هذه المفردات مستعملا في حاق معناه الحقيقي ، وإن كان حاصل الجملة هو أنّ المحكوم عليه بوجوب الاكرام هو خصوص من كان عادلا من العلماء دون الفاسق منهم.

وبيان ذلك : أنّ لفظ « كلّ » إنّما هي حقيقة في الشمول لكلّ فرد ممّا هو مورد الحكم ، ومن الواضح أنّها لم تستعمل إلاّ في ذلك المعنى. وأمّا لفظ عالم فإنّما هي حقيقة في من تلبس بالعلم ، وإن شئت فقل : إنّها حقيقة في طبيعة العالم ، ومن الواضح أنّها لم تستعمل إلاّ في تلك الطبيعة ، بمعنى أنّ القائل أكرم كلّ عالم يكون قد أحضر طبيعة العالم في ذهن السامع بواسطة إيراده لهذه اللفظة ، فهو لم يرد بلفظ عالم في قوله : ( أكرم كلّ عالم ) إلاّ تلك الطبيعة ، غايته أنّه بلحاظ إيراد الحكم بوجوب الاكرام عليها لم يورد الحكم المذكور على نفس تلك الطبيعة الصالحة للانقسام إلى العادل والفاسق ، بل إنّما أورد حكمه على خصوص من كان منهم متّصفا بالعدالة. والقرينة على هذا التصرّف الراجع إلى كيفية إيراد الحكم هو توصيفه العالم بالعادل ، فليس توصيفه العالم بالعادل قرينة على أنّ مراده بلفظ العالم حينما ألقاه إلى المخاطب بقوله : ( أكرم كلّ عالم ) هو خصوص العادل من طبيعة العالم ، ليكون موجبا لاستعمال لفظ العالم في خصوص صنف منه ، بل إنّما هي قرينة على أنّ الذي حكم عليه بالاكرام هو خصوص هذا الصنف من طبيعة العالم التي ألقاها إلى السامع بقوله كلّ عالم.

وبالجملة : أنّ لفظ « عالم » لا يستعمل إلاّ في حاق معناه الحقيقي ، وكون الحكم على كلّ فرد منه كما هو مفاد إضافة لفظ « كلّ » إليه ، وأنّ المحكوم عليه من تلك الأفراد هو خصوص هذا الصنف أعني العادل ونحو ذلك من الخصوصيات ،

ص: 99

كلّها راجعة إلى بيان كيفية الحكم على طبيعة العالم التي أحضرها للسامع بقوله عالم ، وليس شيء من تلك الخصوصيات راجعا إلى مقام إرادة معنى العالم من لفظ عالم ، ولا يكون شيء منها موجبا لأنّ لفظ العالم استعمل في خصوص المتخصّص بتلك الخصوصية من باب تعدّد الدالّ ووحدة المدلول ، كما يقال إنّ لفظ « يرمي » قرينة على أنّه أراد بالأسد الرجل الشجاع ، ليكون هذا المعنى - وهو الرجل الشجاع - مستفادا من مجموع اللفظين أعني لفظ أسد ولفظ يرمي.

بل يمكن أن يقال : إنّه لو كان المراد من لفظ « عالم » في قولنا : ( أكرم كلّ عالم عادل ) هو خصوص العادل بحيث كانت لفظة « عالم » مستعملة في هذا المثال في خصوص ذلك الصنف الخاصّ لكان توصيفه بالعادل لغوا. وهكذا الحال في الاستثناء ، إذ لو كان المراد من العالم في قوله : أكرم العالم إلاّ زيدا - مثلا - هو خصوص من عدا زيد ، لكان قوله : « إلاّ زيدا » لغوا لدخول مفاده تحت لفظ العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ قولنا إنّ التوصيف بالعادل إنّما هو مسوق لبيان أنّ المحكوم عليه من طبيعة العالم هو خصوص العادل ، ليس راجعا إلى دعوى أنّ التوصيف قبل الحكم ، أو أنّ استثناء الفاسق إخراج من العالم قبل الحكم ، بل مرادنا إنّما هو أنّ هذه الخصوصيات من توصيف أو استثناء أو غير ذلك كلّها راجعة إلى الطبيعة المحكوم عليها ، لكنّها لاحقة لها في مقام الحكم عليها ، فلا يكون التوصيف إلاّ باعتبار الحكم ، ولا يكون الاستثناء إلاّ من الحكم.

وإن شئت فقل : إنّ هيئة التوصيف توجب قصر الحكم على موردها ، بمعنى أنّها آلة تقصر الحكم على موردها. وهكذا الحال في أداة الاستثناء فإنّها توجب عدم سراية الحكم إلى مدخولها ، وقولنا مسوقة لبيان كذا ، لا يخلو من

ص: 100

مسامحة في التعبير كما هو واضح.

ثمّ لا يخفى أنّه لا حاجة في هذا الذي شرحناه إلى اعتبار طرو مفاد أداة العموم على الطبيعة قبل طرو مفاد التوصيف أو الاستثناء عليها ، ولا إلى عكس ذلك ، بل هو متأت وجار على كلا الاعتبارين ، وإن كان التحقيق أنّ كلا من الاعتبارين وارد على الطبيعة في مقام الحكم عليها في عرض الآخر ، فإنّ هذه الطبيعة أعني طبيعة العالم تكون محكومة بوجوب الاكرام ، وبلحاظ طرو وجوب الاكرام عليها تكون معروضة ومطروة لاعتبار كلّ فرد منها ولاعتبار اتّصافها بالعدالة.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ التخصيص والتقييد وغيرهما من الاعتبارات لا توجب استعمال اللفظ فيما هو نتيجة التخصيص والتقييد ، من دون فرق في ذلك بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، سواء كان ذلك بلفظ الاستثناء أو كان بلفظ التقييد والتوصيف ، وسواء كان المستثنى عنوانا كلّيا مثل الفاسق أو كان شخصيا جزئيا مثل زيد ، بل لا فرق فيه بين كون المخرج منه عنوانا عاما مثل العلماء ، أو كونه إشارة إلى جماعة خاصّة مثل أكرم هؤلاء ، أو كونه اسم عدد مثل هؤلاء العشرة ، أو كونه اسما للمجموع المركّب مثل صم هذا الشهر إلاّ اليوم الأخير منه ، فإنّ جميع التخصيصات في جميع هذه الموارد تكون راجعة إلى ناحية الحكم ، لا إلى المستعمل فيه ، هذا فيما لو كان ذلك متّصلا.

ومنه يظهر الحال في المنفصل ، أمّا ما كان موجودا حين صدور العام ويكون المتكلّم قد اعتمد عليه فواضح ، لأنّه يكون من قبيل القرينة المتّصلة. وأمّا ما لم يكن موجودا ثمّ بعد صدور العام مثل ( أكرم كلّ عالم ) ورد ( لا تكرم فسّاق العلماء ) مثلا فهو أيضا لا يوجب التجوّز ، وإنّما يوجب كون ذلك الظاهر وهو

ص: 101

( أكرم كلّ عالم ) خلاف الواقع ، بمعنى أنّ ظاهر ذلك الكلام هو أنّ محط الحكم هو كلّ عالم بقول مطلق ، ثمّ بعد العثور على ذلك المخصّص المنفصل انكشف أنّه إنّما حكم على العادل من العالم ، فلا يكون الخطأ إلاّ في ناحية الحكم دون ناحية الاستعمال ، بمعنى أنّه لم ينكشف لنا أنّه أراد بالعالم خصوص العادل منه ليكون مجازا ، بل إنّما انكشف لنا أنّ حكمه على تلك الطبيعة لم يكن على تمام أفراد العالم ، بل كان على خصوص العادل.

وبالجملة : أنّ التخصيص والتقييد تصرف في ناحية الحكم على الطبيعة ، لا أنّه تصرّف في المعنى الذي استعمل اللفظ فيه ، وذلك التصرّف إن كان مع القرينة المتّصلة أو ما بحكمها كان من قبيل التخصيص المتّصل ، وإن لم تكن القرينة متّصلة كان من قبيل عدم بيان تمام ما له الدخل في كيفية الحكم ، ويكون من قبيل تأخير البيان ، وليس شيء منهما راجعا إلى التجوّز في الاستعمال بوجه من الوجوه ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر لي هو أنّه في خصوص المخصّص المتّصل لا يكون الوجه في عدم التجوّز إلاّ تلك الارادة التمهيدية ، وأنّ كلا من توجيه صاحب الكفاية (1) وصاحب الغرر وشيخنا قدس سرهم لا يعدو هذه الارادة التمهيدية. وأيضا أنّ كلامهم في المخصّص المنفصل ، وتوجيه عدم التجوّز فيه لا يعدو ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ التخصيص المنفصل لا يكون إلاّ تصرّفا في المرتبة الثانية من الدلالة التصديقية ، التي هي مركز حجّية الظهور الراجعة إلى الحكم التصديقي بأنّ المتكلّم قد أراد الظاهر إرادة جدّية ، مع بقاء المرتبة الأولى من الدلالة التصديقية بحالها ، وتلك المرتبة الأولى من الدلالة التصديقية هي عبارة عن ظهور

ص: 102


1- كفاية الأصول : 218.

الكلام وكونه بحيث يمكن فيه النقل بالمعنى ، وينسب الحاصل إلى المتكلّم بطريق القول ، غاية الأمر أنّ صاحب الكفاية يسمّي هذه المرتبة من الدلالة بالدلالة الاستعمالية أو الدلالة القانونية. ولا يخلو تسميتها بذلك من مناسبة ، فإنّها لا تخرج عن حيّز الاستعمال وعن مجرّد الظهور الذي هو موضوع الحجّية ، على وجه يكون ذلك الظهور كقانون يأخذه السامع عن المتكلّم. وليس مراده بالدلالة الاستعمالية هي الدلالة التصوّرية ، فإنّ تلك الدلالة التصوّرية ليست عند صاحب الكفاية بدلالة ، بل هي عنده جهالة وضلالة كما صرّح به في أوائل مباحث الألفاظ (1). كما أنّه ليس مراده من الدلالة القانونية جعل القاعدة في مورد الشكّ ، بل ليس مراده من الدلالة القانونية إلاّ ذلك الظهور ، الذي هو عبارة عن المرتبة الأولى للدلالة التصديقية ، وحينئذ فلا يتّضح الخلاف في جميع هذه المسائل بين هؤلاء الأعلام ، فراجع كلماتهم ليتّضح لك صحّة ما أدّعيه ، واللّه هو ولي التوفيق والهداية.

والأولى تبديل الدلالة في هذه المقامات بالارادة ، فإنّ الارادة هي محلّ الكلام في التجوّز والحقيقة ، لا الدلالة التي هي عبارة عن مرحلة ما يفهمه السامع من كلام المتكلّم ، وحينئذ يكون تقسيمها إلى تصوّرية وتصديقية بكلا المرتبتين أجنبيا عن محلّ البحث من الحقيقة والمجاز ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : قلت ليس الأمر كذلك ، فإنّ التخصيص الأفرادي يوجب تقييد مدخول الأداة أيضا ... الخ (2).

الظاهر أنّا لو التزمنا بالاخراج من نفس الشمول الذي هو مفاد كلّ أو

ص: 103


1- كفاية الأصول : 17.
2- أجود التقريرات 2 : 304 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بالاخراج من مدخول كلّ ، لا يكون التجوّز لازما ، فإنّ الاخراج من مفاد « كلّ » إنّما هو بعد دلالته التمهيدية التي عرفت شرحها فيما تقدّم (1) ، ويكون الغرض من إحضار كلّ عالم أمام السامع هو إيراد الحكم عليه في عرض إخراج زيد منهم ، كما عرفت فيما تقدّم.

وكذلك يظهر لك الحال في التقييدات المنفصلة ، فإنّه لا يتفاوت الحال فيها بين دعوى كونها راجعة إلى المدخول ، وبين كونها راجعة إلى نفس مفاد العموم ، في أنّ ذلك القيد المنفصل لا بدّ أن يكون تصرّفا في الجهة الثانية من الدلالة التصديقية المعبّر عنها بحجّية الظهور ، دون الجهة الأولى من الدلالة المذكورة المعبّر عنها بالظهور نفسه. فما ذكره في الحاشية (2) من أنّ عدم لزوم التجوّز إنّما يتمّ إذا قلنا برجوع القيود المنفصلة إلى المدخول ، دون ما لو قلنا برجوعها إلى نفس مفاد العموم ، وأنّه بناء على الثاني كما هو المختار للمحشي لا بدّ من سلوك طريقة التفصيل بين الارادتين ، ممّا لم يتّضح وجهه ، هذا. مضافا إلى أنّ ما اعتمده من التفصيل بين الارادتين هو بعينه هو الذي اعتمده شيخنا قدس سره ، وليست هذه الطريقة إلاّ مأخوذة ممّا أفاده قدس سره في تلك المقامات المتعدّدة التي أشرنا إليها فيما تقدّم ، فراجع.

ولا يخفى أنّ التخصيص الأفرادي من القضية الحقيقية في غاية الإشكال ، فإنّ إخراج زيد مثلا من مثل قوله : ( أكرم كلّ عالم ) إن كان من جهة خارجة عن مصداقيته لطبيعة العالم ، لم يكن التخصيص أفراديا ، بل كان نوعيا ، وكان الخارج هو صاحب تلك الجهة الزائدة. وإن لم يكن إخراجه من جهة خارجة عن

ص: 104


1- في الحاشية السابقة.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 303.

مصداقيته ، بل كان الخارج هو ذلك الفرد بما أنّه مصداق لطبيعة العالم ، بحيث يكون كغيره من المصاديق ، لم يكن الاخراج معقولا حينئذ ، لكونه مساويا لغيره من الأفراد في الدخول تحت طبيعة العالم ، وهو حاصل الدليل العقلي الحاكم بشمول طبيعة العالم لكلّ فرد ، أعني به ما سيأتي منه قدس سره (1) من أنّ الشمول في المطلق الشمولي إنّما هو بحكم العقل ، من جهة تساوي الأفراد في مصداقية طبيعة العالم.

نعم في القضية الخارجية يتصوّر الاخراج الأفرادي ، إذ ليس هو إخراج من عنوان يكون هو الموضوع ، بل إنّ الموضوع في القضية الخارجية ليس إلاّ نفس تلك الأفراد ، فلا مانع من إخراج زيد منها ، لأنّ الحكم لم يرد عليه وإنّما ورد على ما عداه من الأفراد.

قوله : مدفوع بما مرّ في بحث مقدّمة الواجب وسيجيء في بحث التعارض إن شاء اللّه تعالى ... الخ (2).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره قد التزم (3) بأنّ التخصيص الأفرادي راجع إلى التصرّف في المدخول بتقييده ولو بنحو غير زيد. كما أنّه قدس سره قد التزم (4) بأنّ كلّ ما يرجع إلى المدخول من قيود لا بدّ أن يكون الطارد له هو إطلاق المدخول ، لا نفس عموم « كلّ » من قولك كلّ عالم ، وأنّ لفظة « كلّ » وإن كانت موضوعة

ص: 105


1- أجود التقريرات 2 : 306.
2- أجود التقريرات 2 : 306 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 : 304 - 305.
4- لمزيد التوضيح راجع بحث المطلق والمشروط من أجود التقريرات 1 : 236 - 238.

للعموم والشمول لما يراد بالمدخول ، إلاّ أنّها لا تغني عن إطلاق المدخول وإجراء مقدّمات الحكمة فيه ، لأنّ ذلك بالنسبة إلى ما هو مفاد لفظ « كلّ » بمنزلة الموضوع من الحكم. وحينئذ يتوجّه السؤال بأنّه بعد فرض إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، المفروض كونه طاردا للتقييد الأنواعي مثل العادل ، وللتقييد الأفرادي مثل غير زيد ، يكون إدخال لفظة « كلّ » عليه لغوا صرفا. كما أنّه يتوجّه السؤال عن الوجه في تقديم العموم الذي اصطلحوا عليه بالأصولي أعني العموم المستفاد من لفظة « كلّ » على الشمول الاطلاقي.

والمتحصّل ممّا أفاده قدس سره فيما حرّره عنه في هذا الكتاب في الجواب عن ذلك : هو أنّ ما تفيده مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول هو تعلّق الحكم على الطبيعة المطلقة ، ولكن يبقى التسوية بين أفرادها راجعا إلى حكومة العقل ، وحينئذ يكون ما تفيده « كلّ » عند دخولها على تلك الطبيعة هو عين تلك الحكومة العقلية الراجعة إلى التسوية بين الأفراد ، ويكون ذلك من قبيل الدليل اللفظي الوضعي على تلك التسوية ، ويكون الاتيان بلفظة « كلّ » لأجل أنّ تفيد تلك الفائدة ، فلا يكون حينئذ ذكرها لغوا صرفا. ثمّ بعد ذلك لو تعارض العموم الأصولي مع الشمول الاطلاقي يكون الأوّل هو المقدّم ، لكن لا من جهة كونه بالوضع وذاك بمقدّمات الحكمة ، وأنّه يكون بيانا ، بل من جهة سقوط حكم العقل بالتسوية في ناحية الشمول الاطلاقي.

والظاهر من بعض كلماته قدس سره أنّ الوجه في ذلك هو كونه بيانا رافعا لمقدّمات الحكمة التي هي عدم البيان ، ومن البعض الآخر هو ما عرفت من أنّ الوجه في ذلك هو ارتفاع موضوع الحكم العقلي أعني التسوية بين الأفراد.

ولا يخفى أنّه لو تمّ ذلك فإنّه إنّما يتمّ في تصحيح حكومة الشمول اللفظي

ص: 106

على الشمول الاطلاقي في خصوص التخصيص الأفرادي دون الأنواعي ، فلو كان التعارض بينهما في نوع من الأنواع لم يكن وجه لتقديم الأوّل على الثاني.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا المطلب وهذا الإشكال في نهاية الصعوبة ، وقد تعرّضنا له في مقامات متعدّدة ، منها في هذا المقام ، ومنها في باب التعادل والتراجيح (1) ومنها في باب الأوامر في مسألة الدوران في القيد بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو رجوعه إلى مفاد المادّة (2). وفي أغلب هذه المواقع أنكرنا تقدّم العموم الأصولي على الاطلاق الشمولي ، لكن ذلك من جهة الاعتراف باحتياج العام الأصولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول.

وهذه الجهة التي أفادها شيخنا قدس سره هنا من أنّ اطلاق المدخول وإجراء مقدّمات الحكمة فيه لا يثبت إلاّ كون المحكوم عليه هو صرف الطبيعة ، وأنّ الحكم بالتسوية بين أفرادها راجع للحكومة العقلية بالتسوية المذكورة ، قابلة للمناقشة باعتبار أنّ التسوية عبارة أخرى عن عدم بيان الخصوصية الموجبة لاخراج زيد من دون الأفراد ، وذلك موقوف على سكوته عن إخراجه مع كونه في مقام البيان. مضافا إلى أنّها إنّما تنفع في التخصيص الأنواعي ، لأنّه مع الحكم باطلاق طبيعة العالم بالنسبة إلى العادل والفاسق يبقى احتمال اختلاف الأفراد ، فيحكم العقل بالتسوية بينهما ، ويكون ذلك هو فائدة إدخال لفظة « كلّ » على طبيعة العالم.

أمّا التخصيص الأفرادي فبعد الالتزام بكونه راجعا إلى المدخول أيضا وأنّه يقيّده ولو بمثل غير زيد ففيه تأمّل ، لأنّ هذه التسوية تكون ناشئة عن إطلاق

ص: 107


1- راجع حاشيته قدس سره على فوائد الأصول 4 : 730 في المجلّد الثاني عشر.
2- لم نجده في هذا الكتاب ، ولعلّه قدس سره يشير إلى ما بحثه في بعض مؤلّفاته المخطوطة.

الطبيعة في مقام البيان ، وأنّها لم تقيّد بمثل العادل ، ولا بمثل غير فرد معيّن من أفرادها ، وحينئذ يكون المحكوم عليه كلّ واحد من أفرادها ، ولا يكون استفادة التسوية إلاّ من نفس إطلاق المدخول في مقام البيان ، فأي فائدة حينئذ لادخال لفظة « كلّ » على ذلك المدخول ، بل بناء على ذلك يكون احتمال تقييد العالم بأنّه غير زيد موجودا حتّى مع وجود كل ، وهذا الاحتمال لا يرفعه إلاّ اطلاق المدخول ، وحينئذ يكون القول بأنّ المدخول لا يحتاج إلى إجراء مقدمات الحكمة ، وأنّ نفس دخول « كلّ » يفيد شموله لجميع أفراده بعد فرض أنّه لم يقيّده قويّا جدّا.

وليس المراد من قولنا لم يقيّده هو التمسّك بالاطلاق الموقوف على مقدّمات الحكمة ، بل المراد منه مجرّد عدم ذكر القيد وإن لم يكن في مقام البيان ، فيكون ذلك نظير قولنا إنّ القائل ( رأيت أسدا ) إذا لم ينصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي كان هو المراد ، وفيه تأمّل ، إذ لا يكون ذلك خارجا عن عدم البيان في مقدّمات الحكمة ، هذا.

ولكن هذا الوجه لا يمكن الالتزام به في قبال احتمال التقييد الأنواعي ، لأنّ مجرّد إرادة كلّ فرد من المدخول في مثل قولنا : ( كلّ عالم ) لا تعيّن لنا أنّ المدخول هو طبيعة العالم غير مقيّد بالعدالة إلاّ بعد إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول نفسه ، إذ ليس مفاد « كلّ » إلاّ كلّ فرد من أفراد ما يراد بالمدخول ، ومع الشكّ في أنّ المراد بالعالم هو خصوص العالم العادل ، أو هو مطلق العالم سواء كان عادلا أو غير عادل ، كيف يمكننا سحب هذا الحكم إلى كلّ فرد من أفراد العالم حتّى غير العادل منهم ، بعد فرض أنّه لا تعرض للفظ « كلّ » لبيان الأنواع ، وإنّما شأنها الشمول لكلّ واحد من الأفراد الداخلة تحت ما أراده المتكلّم من لفظ

ص: 108

المدخول.

ومن أقوى الشواهد على ذلك هو أنّه لو قيّد هذا العموم بقيد العدالة ، فقيل أكرم كلّ عالم عادل ، يكون العادل مربوطا بنفس المدخول ، ويكون هادما لظهوره المنعقد لو لا هذا القيد ، أعني بذلك ظهوره في إطلاق طبيعة العالم ، وأنّه لا فرق فيه بين العادل وغيره. ولا يدفعه ما في الحاشية بقوله : فهو يندفع بأنّ أداة العموم إنّما تدلّ بالوضع على سعة مدخولها ولحاظه على نحو اللاّبشرط القسمي الخ (1). وكيف تكون الأداة دافعة لما لو كان موجودا لكان متصرّفا في نفس المدخول ، من دون أن يكون متصرّفا في مفاد الأداة من الشمول ، وإن كان لازم تقييد المدخول هو ضيق دائرة ذلك الشمول. اللّهمّ إلاّ إنّ يقال إنّ مفاد الأداة يغني عن مفاد الاطلاق في المدخول الذي هو التسوية بين الأنواع ، لا أنّه يكون نافيا له ابتداء كي يقال إنّه لو توجّه القيد فلا يكون توجّهه إلاّ إلى المدخول ، لا إلى نفس مفاد أداة الشمول ، فتأمّل.

وحاصل الإشكال : أوّلا أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دلالة المطلق على التسوية بين نوعيه وضعية ، لا تحتاج إلاّ إلى أصالة عدم التقييد من باب أصالة عدم القرينة ، أمّا على ما هو التحقيق من الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة ، فلا تكون إضافة « كل » إلى طبيعة العالم مفيدة للشمول إلى الجميع حتّى الفسّاق إلاّ مع إجراء مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، وإلاّ كان العالم من هذه الناحية مجملا مردّدا بين خصوص العادل أو هو مطلق العالم وإن لم يكن عادلا ، وحينئذ لا تكون إضافة « كلّ » إلى هذا المجمل مفيدة للشمول للفرد الفاسق.

وثانيا : أنّ إضافة « كلّ » إنّما تفيد طرد الاحتمال الذي يكون مربوطا بها

ص: 109


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 292.

وهو التخصيص الأفرادي ، دون التقييد الأنواعي المفروض كونه غير مربوط بها.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أشكلنا به على ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الالتزام بكون التخصيص الأفرادي راجعا إلى المدخول ، يوجب الالتزام بأنّ طرد احتماله يكون حينئذ باطلاق المدخول ، وحينئذ يعود الإشكال ، يمكن الجواب عنه بأنّ التخصيص الأفرادي وإن رجع إلى المدخول لو كان موجودا ، ولكن في صورة عدم وجوده لا نحتاج في نفيه إلى التمسّك بمقدّمات الحكمة ، بل يكفي في ثبوت العموم الأفرادي وتسرية الحكم إلى كلّ فرد حكم العقل بالتسوية بين الأفراد ، وهذا الحكم العقلي لتقدّمه رتبة على إثبات مقدّمات الحكمة يكون مقدّما عليها ، وحينئذ ينفتح المجال لادخال لفظ « كلّ » ولا يكون ذكرها لغوا. وبعد أن صحّ قولنا أكرم كلّ عالم ، وحصل بيدنا هذا العموم اللفظي الأفرادي ، يكون مقدّما على الشمول الاطلاقي لو كان أفراديا.

ولكن مع ذلك كلّه فالأولى أن يقال : إنّ التصرّف في مثل هذا القول - أعني أكرم كلّ عالم - تارة يكون بنحو التقييد بمثل عادل ، وهذا ينفيه إطلاق نفس المدخول باجراء مقدّمات الحكمة فيه. وأخرى يكون بنحو الاستثناء والاخراج بإلاّ ونحوها ، وهذا إنّما يكون في قبال الشمول المستفاد من إضافة « كلّ » إلى لفظة العالم ، سواء كان الاخراج أفراديا مثل إلاّ زيدا ، أو كان أنواعيا مثل إلاّ الفسّاق. والظاهر أنّه لا فرق في هذا الشمول الذي يكون هذا الاخراج في قباله بين كونه بدليا مثل قولك أكرم عالما أو أيّ عالم شئت إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق ، لما عرفت من اشتمال العموم البدلي على الشمول لكلّ فرد في ناحية البدلية ، أو كون الشمول إطلاقيا كما في مثل أكرم العالم إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق ، فإنّ العالم في مثل هذا القول يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في نفس الطبيعة باعتبار عدم

ص: 110

تقييدها بالعدالة ، وبعد فرض كون المحكوم عليه من هذه الطبيعة ليس هو صرف الطبيعة لتكون القضية طبيعية ، كما أنّه ليس هو الطبيعة من حيث الوجود في ضمن فرد معيّن ، إذ لا عهد في البين ، ولا الطبيعة من حيث الوجود في ضمن فرد غير معيّن كما هو الحال في النكرة ، نحكم بأنّ المراد هو الطبيعة من حيث تمام الأفراد ، لأنّه لو كان المراد منها هو البعض لبيّنه ، ولمّا لم يبيّن علمنا أنّ المراد هو تمام الأفراد ، فيكون هذا الشمول مستفادا من الاطلاق في ناحية الأفراد ، وإجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في نفس الأفراد بعد إجرائها في ناحية نفس الطبيعة ، وأنّها لم تكن مقيّدة بقيد خاصّ ، فلا يكون هذا الشمول لتمام الأفراد مستفادا من حكم العقل بالتسوية وعدم التفاوت بينها ، بل هو مستفاد من مقدّمات الحكمة أيضا في ناحية الأفراد ، ولأجل ذلك يقدّم عليه العموم اللفظي الأصولي.

ومن ذلك يظهر لك الحال في العموم اللفظي الشمولي مثل أكرم كلّ عالم ، فإنّه أيضا مشتمل على هاتين المرحلتين ، أعني مرحلة نفي التقييد في ناحية المدخول بمثل العادل ، ومرحلة نفي الاخراج بمثل إلاّ زيدا أو إلاّ الفاسق. أمّا المرحلة الأولى فإنّما تكون باجراء مقدّمات الحكمة في المدخول ، وحينئذ يكون « كلّ » لعموم ما أريد بالمدخول. وأمّا المرحلة الثانية فإنّما تكون باضافة لفظ [ كل ] إليه ، فإنّ هذا الذي أفادته اضافة لفظة « كلّ » إلى المدخول من الشمول لكلّ فرد من أفراده يكون نافيا لاحتمال الاخراج من تلك الأفراد ، سواء كان أفراديا أو كان أنواعيا بمثل إلاّ زيدا أو إلاّ الفسّاق ، على وجه لو ألحق به مثل هذا الاخراج لكان هذا الاخراج في ابتداء الأمر تصرّفا في نفس الشمول لا في المدخول. وإن كان بعد التصرّف في الشمول يكون موجبا لتقيّد المدخول قهرا ، فلا يكون هذا

ص: 111

الذي ذكرناه منافيا لما سيأتي في محلّه (1) إن شاء اللّه تعالى من أنّ الاستثناء يوجب تقيّد المصب على وجه يمنع من التمسّك به في الشبهات المصداقية.

وبالجملة : أنّ الاخراج يكون تصرّفا في نفس الشمول ابتداء وإن كان موجبا لتقيّد المدخول قهرا ، وهو عكس التقييد فإنّه يكون تصرّفا في نفس المدخول ابتداء وإن كان موجبا لضيق دائرة الشمول قهرا.

ثمّ إنّ هذا التصرّف في نفس الشمول لا يوجب التجوّز ، أمّا في المتّصل فلما عرفت (2) من انحفاظ الارادة التمهيدية التي عليها المدار في الحقيقة والمجاز ، وأنّ أقصى ما في هذا التصرّف هو إسقاط الظهور في الشمول. وأمّا في المنفصل فلما عرفت من أنّه لا يصادم الظهور فضلا عن الدلالة التمهيدية ، وإنّما يصادم حجّية الظهور ، فلا يوجب إلاّ رفع اليد عن الحجّية فيما قام عليه الدليل الخاصّ.

فقد تلخّص لك من جميع ما قدّمناه : أنّ الاخراج مطلقا سواء كان أنواعيا أو كان أفراديا إنّما يكون في قبال الشمول ، سواء كان الشمول بدليا أو كان مجموعيا أو كان استغراقيا ، وسواء كان وضعيا أو كان إطلاقيا. نعم ، إنّه بعد مصادمته الشمول وإسقاط أصل الظهور فيه أو إسقاط حجّية الظهور فيه يكون موجبا لتقيّد المدخول تقيّدا قهريا ، أمّا التقييد بمثل عادل فهو إنّما يكون واردا ابتداء على إطلاق المدخول ، والمتكفّل لطرد الاحتمال الأوّل هو ما دلّ على الشمول من إطلاق أو وضع ، والمتكفّل لطرد الاحتمال الثاني هو إجراء مقدّمات الحكمة في نفس المدخول.

ص: 112


1- لاحظ الحاشية الآتية في الصفحة : 139 وما بعدها.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 95 وما بعدها.

أمّا لو ألحق العام المذكور بمثل ( غير زيد ) بأن قال أكرم كلّ عالم غير زيد ، فذلك ليس من قبيل التوصيف لطبيعة العالم ، وإنّما هو إخراج واستثناء ، لكون لفظ « غير » في هذا المقام استثنائية لا وصفية ، فلا توجب التصرّف في المدخول ، وإنّما هي تصرّف في نفس مفاد كلّ من العموم والشمول. ولو سلّمنا كونها وصفا فليست هي وصفا للعالم ، وإنّما هي وصف لكلّ عالم ، فتكون تصرّفا في مفاد « كلّ » لا في مدخولها.

وعلى أي حال ، لا يكون إطلاق المدخول متكفّلا بنفي هذا الاحتمال ، وإنّما يكون المتكفّل له هو مفاد « كلّ » من العموم لو قلنا إنّها للاستثناء ، أو إطلاق لفظ « كلّ » إن التزمنا بهذا الوجه البعيد أعني كونها وصفا للفظة كل ، وحينئذ يكون حالها حال الاطلاق الأحوالي الطارئ على كلّ واحد من كونه قائما أو قاعدا ، ونحو ذلك ممّا يكون المرجع فيه هو إطلاق « كل » لا إطلاق مدخولها ، فتأمّل ، هذا.

ولكن بعد هذا كلّه فللتأمّل مجال في تقديم عموم مثل ( أهن كلّ فاسق ) الذي هو وضعي على عموم ( أكرم العالم ) الذي هو إطلاقي ، لأنّ الذي يطرده العموم الوضعي في لفظة ( كلّ فاسق ) إنّما هو احتمال الاخراج والاستثناء لبعض الأفراد أو لبعض الأصناف ، أمّا لو احتملنا أنّ الفاسق في قوله ( أهن كلّ فاسق ) كان مقيّدا بالجاهل فلا يكون المتكفّل لطرد هذا الاحتمال هو لفظة كل ، بل يكون المتكفّل له هو إطلاق مدخولها وهو الفاسق. كما أنّ احتمال تقيّد العالم في قوله ( أكرم العالم ) بالعادل إنّما يطرده إطلاق العالم ، وحينئذ يكون التدافع بين الاطلاقين نفسهما ، لا بين العموم الوضعي في كلّ فاسق والاطلاقي في أكرم العالم ، فلا يتّجه تقديم أحدهما على الآخر ، ويكون الحاصل أنّ ما يكون طارده

ص: 113

هو لفظ كلّ ، أعني الاخراج والتخصيص في الدليل المقابل المفروض كونه إطلاقيا يكون مفاد « كلّ » مقدّما عليه ، وما يكون منه من قبيل التقييد للمدخول لا يكون تقديم « كلّ » عليه لمجرّد كونه وضعيا متّجها. وتمام الكلام في محلّه من باب التعارض (1) إن شاء اللّه تعالى.

والظاهر أنّ جميع موارد تعارض العموم من وجه ممّا يكون الشمول في أحدهما وضعيا وفي الآخر إطلاقيا من قبيل القسم الأوّل ، لأنّ فرض المعارضة بينهما إنّما تكون بالنفي والاثبات ، الذي لا يكون التقديم إلاّ بنحو الاخراج لا بنحو التقييد ، هذا.

ولكن ما ذكرناه من كون الاخراج من الشمول الذي هو مفاد « كلّ » وإضافتها إلى طبيعة العالم ، وأنّه لا يوجب تجوّزا فيه لانحفاظ الارادة التمهيدية قابل المنع ، لأنّ ذلك - أعني انحفاظ الارادة التمهيدية - إنّما ينفع في منع التجوّز فيما يكون من التصرّفات راجعا إلى نفس المادّة المدخولة. أمّا مع فرض كون التصرّف راجعا إلى مفاد كل ، فمنع استلزامه للتجوّز محلّ تأمّل. وتوجيه ذلك بكون التصرّف في المدخول لكن بلحاظ كونه موردا للشمول ، في قبال كون الشمول واردا على المادّة بلحاظ كونها مقيّدة بالعادل مثلا ، ولازمه أنّه عند عدم ذكر القيد يكون النافي لاحتماله هو الشمول المستفاد من لفظ كلّ ، لا مقدّمات الحكمة في المدخول ليتوجّه الإشكال في تحكيمه على الشمول الاطلاقي ، وإن كان وجيها في الجملة ، وهو مأخوذ ممّا أفيد في تقييد المادّة في قبال تقييد الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، كما حقّق في محلّه في الواجب المشروط (2) ، إلاّ أنّه

ص: 114


1- راجع حاشيته قدس سره على فوائد الأصول 4 : 730 في المجلّد الثاني عشر.
2- راجع بحث المطلق والمشروط في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 12 وما بعدها.

مع ذلك لا يخلو عن تأمّل ، ولعلّه خلاف فرض رجوع القيد إلى مفاد « كلّ » ابتداء.

وعلى كل حال ، الأولى أن يقال : إنّ هذه التصرّفات سواء كانت بطريق التقييد أو كانت بطريق الاخراج ، سواء كان المخرج عنوانا خاصا بأن كان التخصيص أنواعيا ، أو كان فردا خاصّا بأن كان التخصيص أفراديا لو تصوّرناه في القضايا الحقيقية ، كلّها راجعة إلى مفاد المدخول أعني نفس الطبيعة ، سواء كانت مجرّدة من لفظة [ كل ] أو كانت مدخولة لها ، لكن الحكم بالعموم عند عدمها تارة يكون لأجل الاطلاق ومقدّمات الحكمة ، أو لأجل تساوي الأفراد في الدخول تحت الطبيعة ، وذلك عند كونها مجرّدة من لفظة كل. وأخرى يكون لأجل دخول لفظة « كل » على تلك الطبيعة ، فإنّه بدلالته اللفظية يكون حاكما بعدم التخصيص الأنواعي والأفرادي ، وذلك عند وقوعها مدخولة لكل ، وبذلك يقدّم على ما يعارضه من المطلق الشمولي ، الذي لا يكون شموله لمورد المعارضة إلاّ بالاطلاق ومقدّمات الحكمة ، أو بحكم العقل بتساوي الأفراد في الدخول تحت الطبيعة. أمّا في الأوّل فلكونه بيانا ورافعا لموضوع عدم البيان ، وأمّا في الثاني فلكونه موجبا لرفع التساوي بين الأفراد. وأساس ذلك كلّه أنّ الشمول في لفظة « كل » لا يتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة في المدخول ، بل يكفي فيه مجرّد عدم التقييد في المدخول ، وأنّ الشمول في إضافة « كل » كما يطرد احتمال الاخراج فكذلك يطرد احتمال التقييد ، وأنّ كلا من التقييد والاخراج يكون راجعا إلى مادّة المدخول ، لا أنّ الأوّل راجع إلى المادّة والثاني راجع إلى ما تفيده إضافة لفظة « كل » إليها من الشمول ، وأنّ رجوع هذه الجهات إلى المادّة لا ينحصر نفي احتمالها بالاطلاق ، بل تكون لفظة « كل » كافية في نفي احتمالها ، وإنّما ينحصر

ص: 115

نفي احتمالها بالاطلاق إذا لم تكن لفظة « كل » موجودة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وحينئذ فيكون المخصّص كاشفا عن أنّ مدلول العام لم يكن بتمام المراد ، بل له قيد آخر أيضا ، فيكون المخصّص مقيّدا لاطلاق العام لا موجبا لمجازيته (1).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تسليم الوضع للمركّبات الذي هو عبارة عن دعوى أنّ المركّب من لفظ « كل » ومدخولها للعموم ، وحينئذ يكون الجواب بأنّ الدليل المنفصل يكون مقيّدا للمدخول غير ملائم لأصل الدعوى ، لأنّ هذا التقييد الطارئ على المدخول إنّما يؤثّر في عالم المفردات ، دون ما هو المدّعى من وضع المجموع المركّب من تلك المفردات.

نعم ، إنّ الظاهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي وما حرّرته عنه قدس سره هو أنّه بناء على الوضع للمركّبات لو التزمنا بالتجوّز لم يكن ذلك موجبا لسقوط ظهور اللفظ في الباقي ، لأنّ التجوّز إنّما كان باعتبار عدم دلالة اللفظ على خروج ما خرج لا باعتبار دلالته على الباقي ، وأنّ دلالته على الباقي لم تكن مربوطة بدلالته على الخارج المفروض زوالها. قال المرحوم الشيخ محمّد علي بعد التعرّض لوضع المركّبات زائدا على وضع المفردات ، وأنّ دعوى المجازية لا تستقيم إلاّ بذلك ما هذا لفظه : وحينئذ نقول لو سلّمنا هذه الدعوى الفاسدة فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض أفراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضي عدم دلالة العام على الأفراد الباقية ، إذ دلالة العام على الأفراد ليست على وجه الارتباطية (2) ، إلى آخر ما حرّره. وهو عين ما حرّر

ص: 116


1- أجود التقريرات 2 : 307 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 522.

عنه في هذا الكتاب في الفصل الآتي (1) ، فراجعها وتأمّل.

قوله : ربما يقال بأنّ العلم الاجمالي بحرمة اكرام زيد العالم أو الجاهل موجب لترك اكرامهما ... الخ (2).

لا يقال : إنّ زيدا العالم يكون من قبيل الدوران بين المحذورين ، لأنّه إن كان هو المراد بقوله لا تكرم زيدا ، كان محرّم الاكرام. وإن كان المراد بقوله لا يكرم زيد ، هو زيد الجاهل كان زيد العالم واجب الاكرام ، فلا يكون التحريم في حقّه منجّزا ، لكونه من الدوران بين المحذورين. وإذا لم يكن التحريم قابلا للتنجّز في زيد العالم ، لم يكن العلم الاجمالي المردّد بين حرمة إكرامه وحرمة إكرام زيد الجاهل منجّزا ، لعدم قابلية العلم الاجمالي للتنجيز إذا كان الحكم المعلوم غير قابل للتنجّز في أحد طرفيه.

لأنّا نقول : أقصى ما يقتضيه تردّد زيد العالم بين المحذورين هو عدم لزوم أحدهما في حقّه ، وذلك لا ينافي تنجّز التحريم في حقّه ولزوم ترك إكرامه من جهة وقوعه طرفا لعلم إجمالي آخر ، وهو العلم بحرمة الاكرام المردّدة بينه وبين زيد الجاهل ، غايته أنّه لا يكون الوجوب منجّزا في حقّه ، لأنّه ليس بمقرون بالعلم الاجمالي. نعم ، هو - أعني وجوب إكرام زيد العالم - لازم لأحد طرفي العلم الاجمالي بالتحريم ، وذلك الطرف هو ما لو كان المحرّم الاكرام هو زيدا الجاهل ، بخلاف ما لو كان المحرّم هو زيدا العالم ، فإنّه لا وجوب في البين ، فلا يكون الوجوب حينئذ إلاّ احتمالا بدويا ، فتجري فيه البراءة ويكون اللازم هو اجتناب إكرام كلا الطرفين.

ص: 117


1- أجود التقريرات 2 : 310 - 311.
2- أجود التقريرات 2 : 318 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ونظير هذه المسألة ما لو قال اعط زكاتك لكلّ فقير ، ثمّ قال لا تعط زكاتك لزيد ، وكان زيد المذكور مردّدا بين كونه غنيا أو كونه فقيرا ، فإن كان غنيا لم يكن ذلك من باب التخصيص ، وإن كان فقيرا كان من باب التخصيص ، فهل تجري أصالة العموم ويحكم بلازمها من كون زيد المذكور غنيا ، ولازم ذلك أن لا يجوز دفع باقي الحقوق إليه ، أو أنّ أصالة العموم لا تجري ويبقى زيد بحاله من كونه مشكوك الغنى والفقر؟ والشبهة في هذا الفرع مصداقية لكن ليس فيها علم إجمالي منجّز ، بخلاف الشبهة في الفرع السابق فإنّها مفهومية ، وفيها علم إجمالي منجّز ، وفي كلا الفرعين لا بدّ من كون الخاص منفصلا.

أمّا لو كانت الشبهة في الفرع السابق مصداقية بأن يكون قد أخرج زيدا العالم ، فإن تردّد مصداقا بين عالمين كان من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية في المخصّص المردّدة بين المتباينين ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى (1). وإن تردّد مصداقا بين عالم وجاهل كان من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، ولا يجوز التمسّك فيه بالعموم بلا كلام ، فتأمّل.

فقد تلخّص : أنّه إذا قال أكرم العلماء ، ثمّ قال لا تكرم زيدا ، وحصل التردّد في زيد ، فتارة يكون زيد المذكور مردّدا بين عالمين ، وأخرى يكون مردّدا بين عالم وجاهل ، وكلّ منهما تارة يكون على نحو الشبهة الحكمية وأخرى على نحو الشبهة الموضوعية ، فتكون الصور أربعا :

الأولى : ما يكون مردّدا بين عالمين والشبهة حكمية ، بأن يكون لنا من العلماء شخصان مسمّيان بزيد ، وقد تردّد زيد المذكور بينهما. وهذه هي الشبهة

ص: 118


1- في الحاشية الآتية في الصفحة : 139 وما بعدها.

المفهومية المردّدة بين المتباينين ، وقد تقدّم منه قدس سره (1) عدم جواز التمسّك بالعموم فيها ولزوم الرجوع في ذلك إلى الأصول العملية ، والأصل في مثل ذلك هو التخيير ، لأنّه من الدوران بين المحذورين في كلّ من الطرفين. وهل يلزمه إكرام أحدهما وترك الآخر مخيّرا فرارا عن المخالفة القطعية في ترك كلّ منهما وفي إكرام كلّ منهما ، أم يجوز له ذلك؟ محلّ تأمّل وإشكال ، وإن كان الظاهر هو تعيّن الأوّل أعني التبعيض. هذا لو كان مفاد التخصيص هو الحرمة ، ولو كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب لزم الاحتياط باكرامهما معا ، للعلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما.

الصورة الثانية : ما يكون مردّدا بين عالمين والشبهة مصداقية - وهو ما نذكره فيما سيأتي من مثال الشبهة المصداقية المردّدة بين المتباينين - بأن لا يكون لنا إلاّ زيد واحد هو عالم ، لكن لبعض العوارض اشتبه بشخصين عالمين لم نعلم أنّ أيّهما هو المسمّى بزيد. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنّه لا يجوز الرجوع إلى العام في مثل ذلك ، لا للعلم الاجمالي بتنجّز التحريم في كلّ منهما ، لأنّه لا يتأتّى فيما لو كان مفاد التخصيص هو مجرّد عدم الوجوب. ولا لتعارض أصالة العموم في كلّ منهما ، لأنّه لا يتأتّى فيما لو كان قد مات أحدهما ، بل لأنّ هذه الشبهة بنفسها مسقطة للعموم ، كما تسقطه لو كانت مصداقية مردّدة بين الأقلّ والأكثر.

ثمّ بعد الفراغ عن عدم جريان العموم فيها لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية ، وهي التخيير لو كان مفاد الدليل هو التحريم ، والاحتياط باكرامهما لو كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب ، على حذو ما تقدّم في الصورة الأولى.

ص: 119


1- أجود التقريرات 2 : 315.
2- في الحاشية الآتية في الصفحة : 139 وما بعدها.

الصورة الثالثة : ما يكون مردّدا بين عالم وجاهل والشبهة مفهومية ، بأن يكون من سمّي بزيد شخصين أحدهما المعيّن عالم والآخر جاهل ، ولم يعلم المراد به منهما. وهذه الصورة تقدّم الكلام فيها منه قدس سره (1) وأفاد أنّه يجري العموم في حقّ العالم منهما ويوجب انحلال العلم الاجمالي. ولا يخفى أنّ العلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما إنّما يكون إذا كان مفاد دليل التخصيص هو الحرمة ، أمّا إذا كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب فلا يكون في البين علم إجمالي ، ويجري العموم حينئذ في حقّ العالم بلا كلام ، لكونه بالنسبة إليه من قبيل الشكّ في التخصيص ، مع عدم تحقّق العلم الاجمالي الذي قد تخيّل أنّه مزاحم للعام.

الصورة الرابعة : ما يكون أيضا مردّدا بين عالم وجاهل لكن تكون الشبهة مصداقية ، بأن لا يكون لنا إلاّ شخص واحد معيّن مسمّى بزيد وكان عالما ، وهو المراد بقوله لا تكرم زيدا ، لكن لبعض العوارض اشتبه بشخص جاهل ، بحيث إنّهما حضرا أمامنا ولم نعرف أنّ أيّهما هو زيد المذكور. وفي هذه الصورة لا ريب في سقوط العموم في كلّ من الشخصين المزبورين ، وبعد الرجوع إلى الأصول العملية يكون كلّ منهما غير محتمل الوجوب ، لكن إن كان مفاد الدليل الخاص هو التحريم وجب الاجتناب عنهما ، للعلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما. وإن لم يكن مفاده إلاّ مجرّد عدم الوجوب فلا أثر للشبهة أصلا. هذا إذا كان المراد بقوله لا تكرم زيدا ، هو زيدا العالم وحصل الاشتباه المذكور.

وإن كان المراد منه هو زيدا الجاهل واشتبه زيد المذكور ببعض أفراد العلماء اشتباها خارجيا ، بحيث لم نعرف أنّ أيّهما هو زيد المذكور ، فلا ريب في

ص: 120


1- في الأمر الأوّل من أجود التقريرات 2 : 318.

سقوط العموم في كلّ منهما ، لكونه من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فإنّ كل واحد من الشخصين حينئذ يكون مشكوك العلمية ، وبعد الرجوع إلى الأصول العملية يكون كلّ منهما من دوران الأمر بين المحذورين إن كان مفاد الدليل هو التحريم ، وإن كان مفاده هو مجرّد عدم الوجوب كان من قبيل العلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما ، فيلزم إكرامهما معا. هذا تمام الكلام على الصور الأربع المذكورات.

وهناك صورة خامسة لصورة تردّد زيد المذكور ، هي خارجة عن هذه الصور الأربع المذكورات ، وهي ما لو قال لا تكرم زيدا ، وكنّا نعرف زيدا بشخصه ، لكن لم نعرف أنّه عالم فيكون قوله المذكور تخصيصا لقوله أكرم العلماء ، أم أنّه ليس من العلماء فلا يكون تخصيصا للعموم المذكور ، فيكون التردّد حينئذ من قبيل الدوران بين التخصيص والتخصّص. وهذه هي التي أشرنا إليها فيما تقدّم (1) وقلنا إنّها لا تكون إلاّ مصداقية. وأثر هذا التردّد والشكّ هو أنّه على الأوّل - وهو التخصيص - يمكننا أنّ نرتّب على زيد المذكور الآثار الأخر للعلماء التي هي غير وجوب الاكرام ، كحجّية فتواه مثلا ونحو ذلك ممّا نفرضه أثرا للعالم ، وكان ذلك الأثر غير وجوب الاكرام. وعلى الثاني وهو التخصّص - أعني كون زيد المذكور خارجا عن العلماء خروجا موضوعيا - فلا يمكننا أن نرتّب عليه أثرا من آثار العلماء ، لا وجوب الاكرام ولا غيره من الآثار.

وفي جريان أصالة العموم في مثل ذلك لنثبت بها أنّ زيدا المذكور ليس من العلماء ، وأنّه خارج عنهم خروجا موضوعيا ، محلّ تأمّل وإشكال ، منشؤه أنّا وإن قلنا بحجّية المثبت من الأصول اللفظية ، إلاّ أنّه لا بدّ في جريانها من ترتّب الأثر

ص: 121


1- في مثال إعطاء الزكاة للفقير المذكور في الصفحة : 118.

على مجراها ثمّ نثبت بذلك لازمها ، والمفروض في المقام أنّا لا نتمكّن من ترتيب أثر أصالة العموم في مجراها الذي هو زيد المذكور ، للعلم بأنّه غير واجب الاكرام ، فلا معنى لجريان أصالة عموم وجوب الاكرام في حقّه. اللّهمّ إلاّ أن يكتفى في صحّة جريانها فيه بمجرّد ترتّب ذلك اللازم وإن لم يترتّب عليه أثر نفس العموم المذكور ، فتأمّل ، انتهى منقولا ممّا كنت حرّرته تعليقا على ما أفاده شيخنا قدس سره.

وينبغي أن يعلم أنّ ما عنون به صدر المسألة بقوله : بقي هناك أمور (1) ، كأنّه لا يخلو عن سهو ، إذ لم يذكر إلاّ أمرين : أوّلهما صورة العلم الاجمالي ، وثانيهما التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. ولعلّ شيخنا قدس سره كان بناؤه على التعرّض لما في الكفاية (2) من مسألة النذر ، ومسألة ما لو علم بحرمة إكرام زيد واحتمل كونه عالما فيكون من باب التخصيص وكونه غير عالم فيكون من باب التخصّص.

وهذا الأخير تعرّض له المرحوم الشيخ موسى في ذيل الكلام على الأوّل ، فقال فيما حرّره عن شيخنا قدس سره بعد الفراغ عن الأوّل : نعم لو علم أنّ شخصا خاصّا مسمّى بزيد محرّم الإكرام ، ولم يعلم بأنّه عالم حتّى يكون خارجا عن حكم العام ، أو جاهل حتّى يكون تخصّصا ، فاحراز أنّ زيدا جاهل بأصالة العموم مشكل ، بل الحقّ عدم إحراز كونه جاهلا بأصالة العموم ، لأنّ بناء العقلاء على التمسّك بالأصول اللفظية في الشكّ في المراد ، لا مع إحراز خروج زيد والشكّ في التخصيص والتخصّص ، ولا يقاس المثال بما إذا كان هناك زيد عالم وزيد

ص: 122


1- أجود التقريرات 2 : 318.
2- كفاية الأصول : 223 - 226.

جاهل ، لأنّه لو كان زيدان مثلا وشكّ في خروج العالم منهما أو الجاهل فيشكّ في حكم زيد العالم ، وهذا بخلاف ما إذا كان المسمّى بزيد واحدا وشكّ في أنّه متّصف بالعلم أم لا ، لأنّ حكمه معلوم واتّصافه بالعلم مشكوك ، ولا يمكن إثبات جهله بأصالة العموم ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في أصالة عدم الاستخدام في الوجه الثاني من وجوه عدم معارضتها لأصالة العموم في مثل آية ( وَالْمُطَلَّقاتُ ) الخ (1) ، فراجع ما حرّر عنه في الكتاب ص 385 (2).

واعلم أنّ شيخنا الأستاذ المحقّق العراقي قدس سره كان على ما حرّرته عنه في الدرس يميل إلى التمسّك بالعموم في مقام الشبهة المذكورة ، أعني ما لو حرم إكرام زيد وتردّد بين كونه عالما فيكون من باب التخصيص ، أو كونه غير عالم فيكون من باب التخصّص. وعمدة الوجه الذي أفاده هناك هو استشهاده بتمسّك العلماء بالعموم في أمثال ذلك ، وهم من جملة من تثبت بهم السيرة العقلائية. لكنّه في المقالة المطبوعة عدل عن ذلك ، فقال بعد ذكر بعض الوجوه وردّها : بل عمدة الوجه عدم قابلية هذا الأصل لاثبات اللوازم والآثار ، فمرجعه إلى عدم مثبتية هذا الأصل كسائر الأصول المثبتة ولو كانت بنفسه أمارة ، كأصالة صحّة عمل الغير غير المثبت لملزومه مثلا مع كونه أمارة ، ومرجعه إلى عدم حجّية أصالة العموم مع كونه أمارة في لوازمه مع حجّيته في نفسه ومورده (3).

ص: 123


1- البقرة 2 : 228.
2- [ بحسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، وبحسب الطبعة الحديثة راجع أجود التقريرات 2 : 370 - 372 ].
3- مقالات الأصول 1 : 450.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المانع من أصالة العموم في المقام هو دعوى انحصار حجّيتها كما في الكفاية بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوما بحكمه كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأصول اللفظية وإن كان حجّة إلاّ أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هنا إلاّ السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل (1).

والحاصل : أنّ أصالة العموم إنما تجري لإدخال المشكوك تحت حكم العام ، لا في إخراجه عن مفهوم العام بعد العلم بأنّ حكمه غير حكم العام. ومن الغريب أنّ عبارة الكفاية بهذه الصراحة في عدم الاستناد في المنع عن حجّية العام في ذلك إلى المثبتية ، ومع ذلك يفيد الأستاذ قدس سره في المقالة ما ظاهره أنّ الوجه في منع الكفاية هو المثبتية ، حيث إنّه بعد أن نقل عنه أنّه منع في الكفاية من التمسّك بالعموم لأنّ دليلها لبّي ، وأنّ القدر المتيقّن منه هو صورة الجزم بدخول الفرد والشكّ في خروجه عن حكمه لا عكسه ، وأفاد أنّه قدس سره أجاد فيما أفاد ، قال : أقول بتوضيح منّا : إنّ وجه عدم حجّية أصالة العموم لاخراج المشكوك ليس من جهة عدم حجّية الأصل المزبور لاثبات الآثار لعموم أفراد العنوان واقعا ، إذ هو بمعزل عن التحقيق ، إذ مرجعه إلى عدم حجّية الأصل لما هو مفروض الفردية ، وشأن العمومات في أمثال القضايا الحقيقية إثبات الحكم لجميع أفرادها الواقعية فعلية أو فرضية ، وهو أيضا مورد اعترافهم بحجّية الأصل فيها ، إذ هو من باب التمسّك بالعام في متيقّن الفردية مع الشكّ في خروجه عنه حكما (2).

ولم أتوفّق لفهم المراد من هذه العبارة ، فإنّ ظاهرها أنّه ربما استدلّ على

ص: 124


1- كفاية الأصول : 226.
2- مقالات الأصول 1 : 450.

عدم حجّية أصالة العموم في هذا المقام ، لأنّها ليست بحجّة في إثبات الآثار لكلّ فرد من أفراد العالم الواقعي ، هذا إن أرجعنا قوله « واقعا » إلى افراد العنوان ، وإن أرجعناه إلى الآثار يكون معناه أنّه لا يثبت الآثار الواقعية ، وإن أرجعناه إلى الاثبات يكون معناه أنّها لا تثبت الآثار إثباتا واقعيا. وكلّ من هذه الوجوه لا محصّل له - كما أفاده - إلاّ عدم حجّية أصالة العموم حتّى في مقام الشكّ في الخروج عن الحكم مع فرض إحراز كون المشكوك من أفراد العام. مضافا إلى أنّ ذلك لا دخل له بعدم حجّية الأصل فيما نحن فيه.

وعلى كلّ حال ، لا أظنّ أحدا يتفوّه بذلك ، ولعلّه يشير بذلك إلى ما عن شيخنا قدس سره في هذا التحرير فيما لو قال لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد المذكور بين كون المراد منه هو زيدا العالم ، أو كون المراد منه هو زيدا الجاهل ، فيتولّد من ذلك العلم الاجمالي بحرمة إكرام أحدهما ، وأصالة العموم حاكمة بأنّ المراد منه هو زيد الجاهل ، فإنّه قدس سره قال : وربما يقال إنّ أصالة العموم لا تكون موجبة لانحلال العلم الاجمالي ، فإنّ دليل العموم إنّما هو بمنزلة الكبرى الكلّية الغير المتكفّلة لحال فرد ، وليس حاله حال البيّنة ، إلى أن قال : وأمّا دليل العام فحيث إنّه لا نظر له إلى خصوص فرد ، فلا يكون موجبا لانحلال العلم الاجمالي ، إلى أن قال : ولكنّه لا يخفى أنّ دليل العام وإن لم يكن متكفّلا لحكم خصوص فرد ابتداء ، إلاّ أنّه يثبت له الحكم بعد انضمام الصغرى إلى الكبرى الخ (1).

فحمل الأستاذ قدس سره هذه الجمل من شيخنا قدس سره على أنّ أصالة العموم لا تثبت الآثار للأفراد الواقعية ، فأورد عليه ما أورد. ولكن لا يخفى أنّ هذه الجمل لا دخل لها في هذه الجهة ، وإنّما المراد منها هو أنّ أصالة العموم لا تتضمّن إلاّ حكما

ص: 125


1- أجود التقريرات 2 : 318 ( بعض الفقرات نقلت بالمضمون ).

كبرويا ، من دون تعرّض لخصوص كلّ فرد ، ومن هذه الجهة لا تكون موجبة للانحلال ، بخلاف البيّنة القائمة على أنّ زيدا العالم واجب الاكرام ، فإنّها توجب الانحلال ، لتعرّضها لحال الفرد بخصوصه ، ولأجل ذلك أجاب عنه شيخنا قدس سره بأنّها وإن لم تكن متعرّضة لحال الفرد بخصوصه ابتداء ، إلاّ أنّها تكون مثبتة لحكمه بواسطة ضمّ الصغرى إليها ، وحينئذ ينتهي حالها إلى حال البيّنة ، لأنّ النتيجة بعد ضمّ الصغرى إلى الكبرى هي أنّ زيدا يجب إكرامه ، وذلك يوجب انحلال العلم الاجمالي. فأين هذا المطلب من دعوى أنّ أصالة العموم ليست بحجّة في إثبات الآثار لعموم أفراد العام واقعا ، الذي هو مساوق لعدم حجّية العموم عند الشكّ في التخصيص ، فلاحظ وتأمّل. وهذا أحد الموارد التي تكون فيها أصالة العموم مثبتة للوازم.

وأمّا ما أفاده من الركون في عدم حجّية أصالة العموم في المقام إلى عدم قابلية هذا الأصل لاثبات اللوازم والآثار الخ ، ففيه أنّ الظاهر أنّ هذا الأصل كسائر الأصول اللفظية الراجعة إلى أصالة الظهور ، ولا خصوصية لهذا الأصل من بينها توجب عدم كونه مثبتا دونها ، لوحدة الدليل الدالّ على حجّية هذه الأصول وهو بناء العقلاء. ولو كان المدّعى هو أنّ جميع الأصول اللفظية كذلك - يعني عدم كونها مثبتة - فهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، فإنّه يوجب سدّ باب الاثبات في أغلب الأمارات من أخبار الآحاد والمتواترات والآيات القرآنية ، إذ لا تجد فيها ما هو النصّ ، وإنّما جلّ الاعتماد في استفادة الأحكام منها على الظهور الراجع إلى هذه الأصول اللفظية ، وحينئذ يكون اللازم هو أن لا تكون هذه الأمارات كلّها حجّة إلاّ فيما يدخل تحت الدلالة اللفظية من مداليلها المطابقية والالتزامية ، دون ما يكون خارجا عن ذلك ولو مثل دلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، ونحو ذلك ممّا هو من

ص: 126

لوازم المداليل الخارجة عن المطابقة والالتزام الاصطلاحي ، بل يسري ذلك إلى الأقارير والبيّنات. أترى أنّه لو قامت البيّنة على حياة زيد بأن شهد العدول بحياته الآن ، لم يكن ذلك موجبا للحكم بنبات لحيته ، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به.

نعم ، هناك أمر صرّح به شيخنا قدس سره (1) في ردّ التمسّك بعموم السلطنة (2) على نفوذ إباحة التصرّفات المتوقّفة على الملك ، مع الالتزام بتقدير الملكية قبل التصرّف آناً ما ، فإنّ شيخنا قدس سره قد ردّ ذلك بأنّه إذا توقّف عموم العام وشموله لمورد على إعمال عناية في ذلك المورد مثل تقدير الملكية ، لا تكون أصالة العموم في ذلك جارية. وليس هذا براجع إلى أنّ أصالة العموم لا تثبت ذلك اللازم ، بل لأنّ أصالة العموم المتوقّفة على تصرّف شرعي لا يمكن إجراؤها قبل قيام الدليل على ذلك التصرّف الشرعي ، لأنّ إجراءها موقوف عليه ، فلا يمكن إثباته باجرائها.

وبالجملة : أصل هذه الجملة التي أفادها شيخنا قدس سره في هذا المقام وغيره هو أنّ فردية فرد للعام ، وشمول العام لذلك الفرد لو كان متوقّفا على إعمال عناية في ذلك الفرد ، لا يمكن التمسّك في ذلك الفرد بأصالة العموم وإحراز تلك العناية بأصالة العموم ، لأنّ جريان أصالة العموم يتوقّف على إحراز كون المورد فردا للعام ، والمفروض أنّ إحراز كونه فردا له يتوقّف على إحراز تلك العناية ، وإحراز تلك العناية يتوقّف على إجراء أصالة العموم ، وأين هذا من دعوى كون أصالة العموم لا تثبت اللوازم.

ص: 127


1- منية الطالب 1 : 175 ، 179.
2- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.

أمّا ما أسنده في المقالة إلى الفقهاء واستند إليه فيما حرّرته عنه في الدرس فمنه قوله في المقالة : قد يظهر من شيخنا العلاّمة قدس سره في باب المعاملات كثيرا التشبّث بأصالة العموم لاثبات ما شكّ في دخوله في العام ، مع الجزم بمخالفة حكمه له (1).

الأولى أن يقول بدل قوله « لاثبات » : لاخراج ما شكّ في دخوله. وكيف كان ، فإنّه يومئ في ذلك - كما صرّح به فيما حرّرته عنه في الدرس - إلى ما ذكره الشيخ قدس سره في مقام الجواب عن نقوض كاشف الغطاء (2) على القائلين بالاباحة في المعاطاة ، التي منها لزوم كون إرادة التصرّف مملّكة ، فقد قال الشيخ قدس سره في الجواب عنه : وأمّا ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرّف مملّكة ، فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرّف المطلق وأدلّة توقّف بعض التصرّفات على الملك ، فيكون كتصرّف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما بالوطء والبيع والعتق وشبهها (3).

وكأنّ الأستاذ قدس سره يتخيّل أنّ قيام السيرة العقلائية على نفوذ عتق المقبوض بالمعاطاة يدور الأمر فيه بين أن يكون العتق نافذا بلا تقدير الملكية ، أو يكون مع تقدير الملكية. وعلى الأوّل تكون السيرة المذكورة مخصّصة لعموم ما دلّ على أنّ عتق غير المالك لا ينفذ ، وعلى الثاني لا يكون العام المذكور مخصّصا بالسيرة ، بل يكون الحكم بنفوذ العتق المذكور من باب التخصّص ، لأنّه بتقدير الملكية يخرج عن كونه عتقا من غير المالك ، وأصالة العموم تعيّن الثاني فيكون

ص: 128


1- مقالات الأصول 1 : 449.
2- شرح القواعد 2 : 23.
3- المكاسب 3 : 48.

ممّا نحن فيه. وفيه ما لا يخفى ، فإنّه تكلّف في تفسير كلام الشيخ ، بل لعلّه تفسير بما لا يرضى صاحبه.

فالأولى أن يقال : إنّ مراد الشيخ قدس سره كما هو صريح عبارته هو العمل بذلك العموم ، لا عدم إعماله تخصّصا ، فإنّ ذلك العموم هو عبارة عن اشتراط المالكية في العتق ، وحاصله : أنّه يجب أن يكون المعتق مالكا ، ونحن إذا قدّرنا الملكية نكون قد عملنا بذلك العموم ، ولم يكن في البين تخصيص ولا تخصّص ، كما أنّا قد عملنا بما دلّت عليه السيرة من نفوذ العتق ، وأخذنا بالاستصحاب إلى حين القطع بخلافه وهو حين التصرّف.

نعم ، يرد على الشيخ قدس سره أنّه إصلاح للمسألة بالالتزام بشيء لا دليل عليه وهو تقدير الملكية ، بل الذي يقتضيه الجمع الأوّلي هو إمّا رفع اليد عمّا دلّت عليه السيرة وأصالة العدم ، أو رفع اليد عن العموم المذكور ، والمتعيّن هو رفع اليد عن مقتضى الأصل أعني استصحاب عدم الملكية ، والحكم بنفوذ العتق لكونه مملوكا من أوّل الأمر وأنّ المعاطاة تفيد الملكية ، لكنّه حينئذ لا يكون جوابا لكاشف الغطاء ، ويكون ما أفاده في الايراد على الجماعة مسجّلا.

قال المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في غرره عند تعرّضه لهذه المسألة : يظهر من كلماتهم التمسّك بأصالة عموم العام واستكشاف أنّ الفرد المفروض ليس فردا له ، إذ بعد ورود الدليل على وجوب إكرام كل عالم يصحّ أن يقال كلّ عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب. ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنّها لا تنجّس المحل ، فإن كانت نجسة غير منجّسة لزم التخصيص في قضية كلّ

ص: 129

نجس ينجّس ، وأمثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا المرتضى قدس سره (1) ثمّ إنّه قدس سره تأمّل في ذلك لقصور دليل الحجّية عن الشمول للمورد المذكور ، وجعله من قبيل أصالة الحقيقة في مورد العلم بالمراد مع الشكّ في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز ، ثمّ إنّه في الهامش بحاشية منه فرّق بينهما بأنّ مثال الحقيقة لا شكّ في المراد الجدّي منه لكونه معلوما بخلاف المقام ، انتهى.

وكان الأنسب أن يقول : ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنّها تطهّر المحل ، فإن كانت نجسة مطهّرة لزم تخصيص قضية كلّ نجس لا يطهّر. لكنّه قدس سره لعلّه نظر في ذلك إلى ما يقال من أنّه لو كانت الغسالة نجسة لنجّست ما اتّصل بالمحل النجس من اليد ، وهكذا ما اتّصل عند تطهيره إلى تمام البدن.

وكيف كان ، فقد ظهر لك الكلام في هذه المسألة من مسألة ماء الاستنجاء (2) ، ويكون ما دلّ على التطهير بالماء القليل في قبال ثلاث قواعد : الأولى أنّ القليل يتنجّس بالملاقاة. والثانية أنّ المتنجّس لا يطهّر. الثالثة أنّ المتنجّس منجّس. والأخيران ساقطان للعلم بالخروج عنهما إمّا موضوعا أو حكما فقط ، وتبقى قاعدة الماء القليل يتنجّس بالملاقاة بلا معارض ، فيكون محكوما بالنجاسة.

واعلم أنّ هذه العبارة هي بعينها عبارة الشيخ قدس سره في التقريرات ، فإنّه بعد أن ذكر المثال وأنّ أصالة عدم التخصيص تقول إنّه ليس بعالم ، ثمّ ذكر مثال العلم الإجمالي في زيد الخارج بين كونه هو زيدا العالم أو هو زيدا الآخر الجاهل ، وأنّ أصالة عدم التخصيص هي المرجع فيه ويحكم بأنّه هو الجاهل ، قال : فنقول إنّ

ص: 130


1- درر الفوائد 1 - 2 : 222.
2- التي سيتعرّض لها في الصفحة 132.

كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لم يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب ، وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنّها لا ينجّس المحل ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا كلّ نجس ينجّس (1).

وقد عرفت أنّا إذا قلنا بالطهارة يلزم تخصيص كلّ قليل ينجس بالملاقاة ، فالتخصيص لأحد العمومين لازم على كلّ حال ، وليست المسألة من دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص إلاّ بالنظر إلى كلّ نجس ينجّس ، الموجب لسقوطه ، إلاّ أن نقول بجريان أصالة العموم في هذه الكلّية الثانية بالمعنى الأعمّ من الخروج تخصيصا أو تخصّصا ، اللازم [ أن ] يكون لازمه بالاعتبار الثاني هو عدم النجاسة ، وحينئذ يكون هذا الأصل في هذه الكلّية معارضا لأصالة العموم في الكلّية الأخرى ، وهي كلّ قليل ينجس بالملاقاة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو قاعدة الطهارة. ولكنّه مع ذلك لا يكون المرجع هو قاعدة الطهارة ، لأنّ في خصوص الغسالة ما يدلّ على النجاسة من الأخبار ، مثل رواية العيص بن القاسم : « سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال عليه السلام : إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه ، وإن كان من وضوء الصلاة فلا بأس » (2).

وأمّا ما ذكره في حاشية الغرر من الفرق بين أصالة العموم في المقام وأصالة الحقيقة بأنّ المراد في الثاني معلوم بخلاف المقام ، ففيه ما لا يخفى ، لأنّ المراد معلوم في المقام أيضا ، للعلم بأنّ زيدا غير داخل في قوله أكرم كلّ عالم ، غايته

ص: 131


1- مطارح الأنظار 2 : 150.
2- وسائل الشيعة 1 : 215 / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب 9 ح 14 ، وقد ورد ذيله في كتاب الخلاف 1 : 179 - 180 المسألة 135.

الشكّ في أنّه خارج موضوعا أو أنّه خارج حكما ، وليس ذلك من قبيل الشكّ في المراد ، بل هو من قبيل الشكّ في أنّه كيف يريد ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك قوله قدس سره : ونظيره أيضا تمسّكهم بالاطلاقات في أمثال المورد في باب الاستنجاء لاثبات طهارته (1).

كأنّه قدس سره يريد بذلك حكمهم بطهارة ماء الاستنجاء بأن جعلوا ما دلّ على أنّه لا بأس به (2) دالا على طهارته ، استنادا إلى أنّه لو قلنا بنجاسته مع مجرّد العفو عنه يكون هذا الدليل مخصّصا لعموم ما دلّ على المنع من النجاسة في حال الصلاة ، بخلاف ما لو حكمنا بطهارته فإنّه حينئذ يكون من باب التخصّص بالنسبة إلى دليل المنع من النجاسة في حال الصلاة.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الحكم بطهارته أيضا يكون مخصّصا لعموم نجاسة ماء الغسالة ، أو نجاسة الماء القليل عند ملاقاته للنجاسة.

وبالجملة : أنّ لنا عمومين أو إطلاقين ، أحدهما إطلاق نجاسة ماء الغسالة ، الثاني إطلاق منع النجاسة في الصلاة ، وهذا الدليل الدالّ على أنّه لا بأس به لا بدّ أن يكون مقيّدا أو مخصّصا لأحدهما. ومدّعي النجاسة يدّعي أنّه لا يستفاد من ذلك الدليل إلاّ مجرّد العفو عنه في حال الصلاة ونحوها ، فيكون هذا الحكم من باب التخصيص بالنسبة إلى دليل المنع من النجاسة حال الصلاة ، ومن باب العمل بالعام بالنسبة إلى دليل نجاسة الغسالة أو الماء القليل. ومدّعي الحكم بالطهارة يدّعي أنّه يستفاد من ذلك الدليل النافي للبأس عنه طهارته وعدم نجاسته ، فيكون هذا الحكم بالنسبة إلى دليل المنع من باب التخصّص ، وبالنسبة إلى دليل نجاسة

ص: 132


1- مقالات الأصول 1 : 449.
2- وسائل الشيعة 1 : 221 / أبواب الماء المضاف ب 13 ح 1 وغيره.

الغسالة من باب التخصيص.

وبالجملة : ليس الحكم بالطهارة من باب الركون إلى أصالة الاطلاق الذي يكون نتيجته التخصّص ، بل إنّ لازمها هو التخصيص لأحد الاطلاقين ، والمدار في الترجيح على ما يستفاد من نفس دليل العفو ، وإلاّ فيمكن أن يقال : إنّ عموم المنع في الصلاة ساقط قطعا إمّا بالتخصيص أو بالتخصّص ، فيكون عموم نجاسة الماء القليل بحاله بلا مزاحم. إلاّ أن نقول : إنّه يستفاد من دليل نفي البأس أو ممّا اشتملت عليه الروايات من أنّ ما أصابه من الماء أكثر (1) أو أنّه لا ينجّس الثوب (2) أنّه طاهر ، فيكون مخصّصا لأدلّة الماء القليل أو الغسالة.

ومن ذلك قوله قدس سره : ومن هذا الباب أيضا تشبّثهم باطلاقات التحذير على مخالفة الأمر لاثبات خروج الأمر الاستحبابي عن مصداق الأوامر (3).

كأنّه قدس سره يريد أنّهم يقولون : إنّ الأمر في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (4) لا يشمل الأمر الاستحبابي الذي لا حذر في مخالفته ، فيكون المراد بالأمر في الآية الشريفة هو خصوص الوجوبي ، لأنّه لو كان عاما لهما لكان خروج الاستحبابي بالتخصيص ، وأصالة العموم في الأمر قاضية بخروجه تخصّصا.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّهم إنّما يريدون أنّه تعالى علّق الحذر على مجرّد مخالفة الأمر ، فدلّ على أنّه بذاته يقتضي الحذر ، فيكون بذاته مقتضيا للوجوب.

وأين هذا من الركون إلى أصالة العموم لاثبات التخصّص.

ص: 133


1- المصدر المتقدّم ح 2 وغيره.
2- المصدر المتقدّم ح 2 وغيره.
3- مقالات الأصول 1 : 449.
4- النور 24 : 63.

ومن ذلك يظهر لك ما في قوله : ومنه أيضا تمسّكهم باطلاقات ترتّب الآثار على الصلاة ، مثل كونها ناهية عن المنكر وقربان كلّ تقي (1) وأمثالها لاثبات أنّ الفاسدة منها ليست بصلاة. ومن المتمسّكين بذلك في مسألة الصحيح والأعمّ لاثبات مدّعاه من وضع الصلاة للصحيحة أستاذنا الأعظم في كفايته (2) ومع ذلك أنكر حجّية أصالة العموم في المورد في بحث العام من الكفاية (3) الخ (4).

فإنّك قد عرفت أنّ الاستدلال بذلك ليس من جهة الركون إلى أصالة العموم ، وأنّه لو كان شاملا للفاسد لاحتاج إلى التخصيص ، بل إنّما هو من جهة الاستظهار من نفس الدليل الدالّ على أنّ الصلاة قربان كلّ تقي ، بدعوى أنّه يستفاد منه أنّ ما هو قربان هو نفس الصلاة بما لها من المعنى ، فيكون لازمه أنّها بما لها من المعنى لا تشمل الفاسد.

وإن شئت فراجع الكفاية فإنّها صريحة في ذلك ، قال قدس سره في الكفاية : ثالثها الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات ، مثل الصلاة عمود الدين (5) ، إلى قوله : وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ، إلى قوله : خلاف الظاهر الخ (6) فإنّك تراه صريحا في أنّه لا يريد الاستدلال بأصالة العموم على خروج الفاسد ، بل يريد الاستدلال بأنّ ظاهر هذه الأخبار هو ثبوت هذه الآثار

ص: 134


1- وسائل الشيعة 4 : 43 / أبواب أعداد الفرائض ب 12 ح 1 ، 2.
2- كفاية الأصول : 29.
3- كفاية الأصول : 225 - 226.
4- مقالات الأصول 1 : 449 - 450.
5- وسائل الشيعة 4 : 27 / أبواب أعداد الفرائض ب 6 ح 12 ، 34 / ب 8 ح 13.
6- كفاية الأصول : 29.

لعنوان الصلاة بما لها من المعنى الذي يقتضيه حاق حقيقتها ، وحيث إنّ هذه الآثار لا تثبت للفاسد دلّ ذلك على أنّ حاق حقيقتها هو الصحيح.

ولا يخفى أنّه فيما حرّرته عنه في الدرس جعل من هذا القبيل كلّ ما وقع في كلمات الفقهاء من قولهم إنّ مقتضى الجمع بين القواعد هو أنّ المسألة تكون هكذا ، قال فيما حرّرته عنه : فإنّ معنى ذلك المحافظة على عمومات القواعد وإثبات شقّ خارج عن موضوعاتها ليبقى عموم الجميع بحاله ، إذ لو دخلت في موضوع إحدى القاعدتين دون الأخرى مع صدق كلا الموضوعين عليها لزم تخصيص الأخرى بتلك المسألة ، وهذا هو المراد بقولهم : إذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص فالتخصّص أولى ، انتهى.

أمّا ما نقله عن الفقهاء ، فإن كان مثل طهارة ماء الاستنجاء ومثل قول الشيخ قدس سره في الجواب عن إشكال كاشف الغطاء قدس سره فقد عرفت أنّه ليس من هذا القبيل ، وأمّا غير ذلك فيحتاج إلى الاطّلاع عليه لنعرف حاله.

وأمّا قولهم إنّ التخصّص مقدّم على التخصيص ، فهو نظير قولهم إنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، فإنّه إنّما يجري فيما لم يعلم المراد وتردّد بين كونه هو المعنى الحقيقي أعني الحيوان المفترس أو المجازي أعني الرجل الشجاع. أمّا [ لو ] علم المراد وأنّه هو النمر مثلا ولكن شكّ في أنّه كيف أريد هل على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز ، فقد حقّق في محلّه أنّ أصالة الحقيقة لا تجري في ذلك. وهذا أعني قولهم إنّ التخصّص أولى من التخصيص ، وأنّه عند العلم بأنّ زيدا يحرم إكرامه والشكّ في كونه غير عالم فيكون من باب التخصّص أو كونه عالما فيكون من باب التخصيص من هذا القبيل ، فلا تجري فيه أصالة العموم لتكون قاضية بأنّه من باب التخصّص.

ص: 135

هذا إذا كان المدرك في الأولوية المذكورة هو أصالة العموم. وإن كان المدرك هو الغلبة ونحو ذلك ، ففيه المناقشة في الصغرى ، وأنّ الغالب هو التخصيص.

وبالجملة : أنّ ذلك راجع إلى تلك الكلمات المجملة التي يدعونها في باب تعارض الأحوال التي قد حقّق في محلّه أنّه لا أصل ولا أساس لأغلبها ، فراجع.

وأمّا الاستدلال على إثبات أنّ زيدا المذكور ليس بعالم بعكس النقيض من جهة أنّ الأصل هو أنّ كلّ عالم واجب الاكرام ، وعكس نقيضه هو أنّ كلّ من ليس بواجب الاكرام فهو ليس بعالم فتكون النتيجة من قولنا إنّ زيدا المذكور ليس بواجب الاكرام ، هي أنّ زيدا المذكور ليس بعالم.

فحقّ الجواب عنه أن يقال : إنّ زيدا المذكور خارج عن الأصل ، لأنّه إن كان غير عالم فهو غير داخل في عنوان العالم ، وإن كان عالما فهو خارج عنه بما أنّه مراد ، بمعنى أنّ المراد الواقعي هو العالم ما عدا زيد ، فيكون حاصل عكس النقيض هو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس مصداق العالم أو ليس بمراد من العالم ، فيكون حاصل الشكل هو أنّ زيدا لا يجب إكرامه إمّا لأجل أنّه ليس بمصداق العالم أو أنّه ليس بمراد منه ، وكلّ من لا يجب إكرامه لأحد الوجهين فهو ليس بعالم بأحد الوجهين ، وتكون النتيجة أنّ زيدا المذكور ليس بعالم بأحد الوجهين.

والحاصل : أنّه لا إشكال في أنّ من لا يجب إكرامه نوعان : عالم لا يجب إكرامه وآخر جاهل لا يجب إكرامه ، وحينئذ لا تصحّ الكبرى القائلة إنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم ، لانّ بعض من لا يجب إكرامه هو عالم.

ولو أريد إثبات صحّة كلّية هذه الكبرى بكلّية أصلها وهو أنّ كلّ عالم يجب

ص: 136

إكرامه ، ففيه أنّ هذه الكلّية إنّما نسلّم كلّيتها إذا لم يوجد في قبالها الدليل القائل لا تكرم زيدا المفروض أنّا نحتمل كونه عالما ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يثبت عندنا أنّ كلّ عالم يجب إكرامه ، وهذا الاحتمال لا يمكن طرده إلاّ بأصالة العموم المفروض توقّفنا في إجرائها في إحراز كون زيد المذكور ليس بعالم ، إذ لو لم نتوقّف في ذلك كانت أصالة العموم بنفسها مثبتة لكونه غير عالم من دون حاجة إلى تكلّف الاستدلال بعكس النقيض.

ولعلّ ذلك هو المراد بما أفاده بقوله : ولكن نقول إنّ ذلك اللازم ( يعني عكس النقيض ) إنّما يترتّب في فرض حجّية أصالة العموم لاثبات لازم المدلول ( وهو أنّ زيدا المذكور ليس بعالم ) وإلاّ فلا يكون لنا طريق إلى هذه الكلّية المحكوم عقلا من اللوازم الخ (1) ، وإن كانت العبارة المذكورة قاصرة عن إفادة هذا المعنى.

وعلى كلّ حال ، لا حاجة إلى ما التزم به من التفكيك في الحجّية بين الأصل وعكس نقيضه ، بقوله : فلا محيص لهم في أمثال هذه القضايا الظنّية التعبّدية من التفكيك بين حجّية الظنّ في أصله دون عكس نقيضه الخ (2) ، مع أنّ التفكيك في حجّية الظهور بين الأصل ولازمه الذي هو عكس نقيضه غير ممكن ، لأنّ الملازمة عقلية فإذا ثبتت الكلّية في الأصل ثبتت في لازمه العقلي بالضرورة ، فتأمّل.

ولعلّ مراد المستدلّ بعكس النقيض هو أنّا نلتزم باختصاص حجّية أصالة العموم بمورد الشكّ في الخروج عن الحكم بعد إحراز الموضوع ، ونلتزم بأنّ الأصل وهو أنّ كلّ عالم واقعي واجب الاكرام باق على عمومه ، وأنّه لم يخرج منه

ص: 137


1- مقالات الأصول 1 : 450 - 451.
2- مقالات الأصول 1 : 451.

فرد واحد من أفراد العالم ، وذلك بأصالة العموم. وعكسه ، وهو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم واقعي أيضا كذلك ، يعني أنّه مورد أيضا لأصالة العموم. وبعد النظر إلى ما دلّ على أنّ زيدا لا يجب إكرامه نشكّ في أنّه خارج عن هذا العموم في ناحية عكس النقيض ، ومقتضى أصالة العموم فيه أنّ زيدا المذكور ليس بعالم.

ولكن لو كان ذلك هو مراد المستدلّ لكان جوابه واضحا أيضا ، لأنّ هذا الدليل الدالّ على أنّ زيدا لا يجب إكرامه واقف بالمرصاد لكلّ من الأصل وعكس نقيضه ، فلا بدّ من إصلاح حاله مع الأصل قبل لازمه الذي هو عكس نقيضه ، لكون الأصل سابقا في الرتبة على عكس نقيضه ، وطريق إصلاحه معه هو ما ذكرناه من خروجه عن الحكم في الأصل إمّا خروجا موضوعيا أو خروجا حكميا ، وعلى كلّ منهما فهو ليس بمراد بالعالم في قولنا كلّ عالم ، ويكون حاصل عكس النقيض هو أنّ كلّ من لا يجب إكرامه فهو ليس بعالم واقعا أو ليس بمراد من العالم ، وحينئذ لا تكون النتيجة إلاّ أنّ زيدا المذكور إمّا ليس بعالم واقعا أو ليس بمراد من العالم. ولو أجرينا أصالة العموم في ناحية الأصل وقلنا إنّ مفادها أنّ زيدا المذكور ليس بعالم كان مفادها كافيا عن الركون إلى التمسّك بعموم عكس النقيض. وعلى كلّ حال لا يكون الجواب محتاجا إلى الالتزام بالتفكيك في حجّية أصالة العموم بالنسبة إلى احتمال الخروج الحكمي بين الأصل والعكس بمعنى إجرائها في الأصل دون العكس ، ولو توقّف الجواب على ذلك كان الإشكال (1) مسجّلا قطعا ، لعدم معقولية التفكيك بين الأصل وعكس نقيضه في الأصل المزبور. وراجع ما أفاده في عبائره ولعلّ المراد غير هذا الذي

ص: 138


1- [ في الأصل : الاستدلال ، والصحيح ما أثبتناه ].

شرحناه فإنّ تلك العبارات لا يمكن تحصيل المراد منها إلاّ بنحو الاحتمال والظنّ.

قوله : الثاني إذا تردّد أمر فرد بين دخوله ... الخ (1).

قلت : لا يخفى أنّ الشبهة المصداقية كالشبهة المفهومية تارة تكون متردّدة بين المتباينين وأخرى بين الأقل والأكثر. مثال الأولى أن يقول : أكرم العلماء ثمّ يقول لا تكرم زيدا العالم ، ونفرض أنّه ليس بينهم إلاّ شخص واحد مسمّى بزيد ، لكن لأجل بعض العوارض تردّد ذلك الشخص بين شخصين عالمين بحيث لم نعرف أيّهما المسمّى بزيد ، هل هو الجالس في هذا الطرف مثلا أو الجالس في ذلك الطرف الآخر. ومثال الشبهة الثانية المثال المعروف وهو لو قال : لا تكرم الفاسق من العلماء ، وشككنا في فسق زيد وعدالته ، فعلى تقدير فسقه يكون الخارج من عموم العلماء أزيد منه على تقدير عدالته.

والظاهر أنّه لا ريب في عدم الرجوع إلى عموم العام في النحو الأوّل من الشبهة المصداقية ، أعني ما يكون من قبيل التردّد بين المتباينين ، لا من جهة العلم الاجمالي بحرمة اكرام أحدهما ، ولا من جهة تعارض أصالة العموم في كلّ منهما ، بل من جهة أنّ نفس أصالة [ العموم ] لا تجري في حقّ كلّ منهما وإن فرض موت الآخر ، هذا لو كان التردّد بين عالمين.

ولو كان التردّد بين عالم وجاهل وكانت الشبهة مصداقية بأن اشتبه العالم بالجاهل ، فلا ريب في عدم الرجوع إلى أصالة العموم في كلّ منهما لكونه من الشبهة المصداقية في ناحية العام ، فتأمّل.

وإنّما محلّ الكلام هو الشبهة المصداقية الثانية وهي المردّدة بين الأقلّ

ص: 139


1- أجود التقريرات 2 : 319.

والأكثر ، ولا يخفى أنّ عمدة ما يستدلّ به للقول بجواز التمسّك بالعام في مورد الشكّ المذكور هو قياس هذه الشبهة المصداقية المفروض تردّدها بين الأقل والأكثر بالشبهة المفهومية المردّدة كذلك مع كون الخاص منفصلا كما في مسألة تردّد الفاسق في قوله لا تكرم الفاسق من العلماء بين كون المراد منه هو خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب ولو كان مرتكبا للصغيرة فقط دون الكبيرة ، فكما تقدّم (1) في برهان جواز التمسّك في تلك المسألة من أنّ مرجعها إلى التخصيص الزائد على المعلوم ، وهو خصوص مرتكب الكبيرة ، فيبقى العام بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة بحاله ، فكذلك نقول هنا إنّ القدر الثابت الذي لزمتنا الحجّة بحرمة إكرامهم هو أولئك الأشخاص الذين علمنا فسقهم ، وبذلك المقدار يلزمنا رفع اليد عن عموم أكرم العلماء ، أمّا بالنسبة إلى هذا الشخص المشكوك فسقه فلمّا لم تلزمنا الحجّة بحرمة إكرامه ، فلا وجه لرفع اليد فيه عن عموم أكرم العلماء ، إذ لم يثبت في قبالها حجّة على الخلاف.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية ، فإنّ التخصيص لمّا كان عبارة عن إخراج أحد النوعين اللذين ينقسم إليهما ما هو مصبّ العموم ، كان عبارة أخرى عن تنويع العام إلى نوعين ، نوع خارج عن العموم ونوع يكون باقيا تحت العموم ، وفي الشبهة المفهومية يكون القدر المتيقّن من التنويع هو التنويع بحسب ارتكاب الكبيرة ، وأمّا التنويع بحسب ارتكاب الصغيرة فقط فلم يثبت بالدليل الخاص المفروض كونه مجمل المفهوم بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، فيكون عموم العام محكّما فيه ، ويكون إخراجه عن عموم العام تخصيصا زائدا على المقدار المعلوم ، بمعنى أنّ ذلك يكون تنويعا

ص: 140


1- أجود التقريرات 2 : 315 وما بعدها.

زائدا على التنويع بحسب مرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ قوله لا تكرم الفاسق لمّا نوّع العام إلى نوعين ، فاسق وغير فاسق ، وقد أخرج الفاسق عن عموم العام وانحصر العام في غير الفاسق ، لم يكن خروج زيد المشكوك عن حكم العموم خروجا زائدا على ما تضمّنه قوله لا تكرم الفاسق.

نعم ، على تقدير كون زيد المذكور فاسقا في الواقع يكون ذلك النوع الخارج وهو الفاسق أكثر أفرادا ممّا إذا لم يكن زيد المذكور فاسقا في الواقع ، لكن ليست هذه الزيادة زيادة في التخصيص الذي هو عبارة عن التنويع بحسب الفسق ، وإنّما هي زيادة تكوينية في أفراد النوع الخارج ، ولا ربط لهذه الزيادة التكوينية بزيادة التخصيص الذي هو عبارة عن التنويع وإلاّ لكان ارتكاب الشخص العالم لجريمة الفسق تخصيصا للعام ، ومن الواضح أنّ الارتكاب لجريمة الفسق ليس بنفسه تخصيصا للعام وإنّما الارتكاب عبارة عن إدخال النفس تحت العنوان الخارج.

وبالجملة : أنّ تحقّق الفسق واقعا ليس هو التخصيص. نعم هو محقّق للعنوان الخاصّ ، فلا يكون من كثرة التخريج وإنّما هو من كثرة الخارج ، ومن الواضح أنّه لا ربط لتكثّر الخارج تكثّرا تكوينيا بكثرة التخريج أعني التخصيص الذي هو فعل الحاكم الآمر ، وإلاّ لكان تحقّق التخصيص متوقّفا على تحقّق الفسق في الخارج على وجه لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم فسّاقهم واتّفق أنّهم الآن جميعا عدول لا فاسق فيهم ، لم يكن في البين تخصيص أصلا ، وأنّه لا يتحقّق التخصيص إلاّ بعد ارتكاب العالم جريمة الفسق ، وهذا واضح البطلان.

ومن ذلك يظهر لك اندفاع ما يقال في المقام من أنّ الموجب لتقيّد مدلول العام واقعا إن كان هو الخاصّ بما أنّه حجّة كان التمسّك بالعموم في الشبهة

ص: 141

المصداقية صحيحا كالتمسّك به في الشبهة المفهومية ، وإن كان الموجب للتقيّد المزبور هو الخاص على ما هو عليه من مدلوله الواقعي وإن لم يكن حجّة فعلية ، لم يصحّ التمسّك المذكور في الشبهة المفهومية كما لم يصحّ في الشبهة المصداقية ، فإنّه قد اتّضح لك من هذا الذي حرّرناه أنّ المدار إنّما هو على مقدار حجّية الخاصّ لا على مدلوله الواقعي ، لكن في الشبهة المفهومية يكون التمسّك بأصالة العموم في محلّه لكونه نافيا للتخصيص الزائد ، بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ التمسّك بأصالة العموم فيها لا يكون في محلّه لعدم كونه نافيا للتخصيص الزائد.

نعم ، لو كان لأصالة العموم حجّية في الشبهة بحيث إنّ المشكوك بعنوان كونه مشكوكا يكون مشمولا لدليل حجّية أصالة العموم ، على وجه يكون حجّية أصالة العموم جارية في عنوان العام مع الشكّ في التخصيص والخروج ، وجارية أيضا فيما يشكّ في كونه داخلا تحت الخاص ، لكانت نافعة في الشبهة المصداقية ، لكنّه بمراحل عن الواقع كما سيأتي (1) توضيحه فيما ننقله عن الأستاذ المحقّق العراقي فراجع وتأمّل ، فإنّ لازمه هو كون أصالة العموم متعرّضة للحكم الواقعي والحكم الظاهري معا ، ففي جريانها في طرد احتمال التخصيص يكون مفادها الحكم الواقعي كسائر الأدلّة الاجتهادية ، وفي جريانها في من هو مشكوك الفسق ، يكون مفادها الحكم الظاهري كسائر الأصول العملية.

وقد يستدلّ على جواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية بما قدّمنا الاشارة إليه ، وتوضيحه : أنّه إنّما يرفع اليد عن العموم لأجل قيام الحجّة على فعلية التكليف المخالف لحكم العام ، والمفروض أنّ التكليف بحرمة إكرام

ص: 142


1- في الصفحة : 148 وما بعدها.

الفاسق لم يكن فعليا في حقّ المشكوك فسقه ، فلا مانع من إجراء حكم العام عليه وهو وجوب الاكرام.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ المدار في عدم الأخذ بالعموم ليس على فعلية التكليف المخالف لحكم العام كي يدّعى أنّ عدم التنجّز لأجل عدم العلم بتحقّق المصداق راجع إلى عدم الفعلية كما أتعب به نفسه المستدلّ المذكور ، وإلاّ لكان عموم العام جاريا فيما لو كان حكمه تحريميا وكان حكم الخاص إيجابيا ، وسقط ذلك الايجاب لبعض المسقطات مثل الضرر أو الحرج ونحوهما.

ولعلّ هذا من موارد الخلط بين باب التزاحم وباب التعارض ، فإنّ عدم فعلية أحد التكليفين المتنافيين إنّما يسوّغ الرجوع إلى التكليف الآخر في خصوص باب التزاحم الذي لا يكون تقديم أحد الحكمين على الآخر موجبا لخروج المورد عن تحت الآخر خروجا موضوعيا ، بخلاف باب التعارض الذي يكون التقديم فيه موجبا للخروج عن تحت الآخر خروجا موضوعيا فإنّه لا مجال فيه للرجوع إلى الحكم الآخر وإن لم يكن الحكم الذي تضمّنه الدليل المقدّم فعليا كما حقّق في محلّه (1) في باب التزاحم من وجوه الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم.

ولو أصلحت هذه الجهة وقيل بأنّ المراد بالفعلية والتنجّز إنّما هو بالنسبة إلى نفس حجّية الخاصّ ، فإنّ العام إنّما يرفع اليد عنه إذا قامت في بعض أفراده أو أنواعه حجّة على الخلاف ، ومن الواضح أنّ مورد الشكّ المزبور أعني زيدا

ص: 143


1- لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى الفرق الرابع بين بابي التزاحم والتعارض المذكور في أجود التقريرات 2 : 48 ، وله قدس سره حاشية على ذلك مذكورة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب صفحة : 272 - 273.

المشكوك الفسق ممّا لم تتحقّق فيه الحجّة الفعلية على خلاف حكم العام ، فلا مانع حينئذ من الأخذ بالعام فيه.

وفيه : ما أشار إليه الأستاذ الأعظم قدس سره (1) من الاشارة إلى جوابه ، بأنّ قوله : لا تكرم الفاسق وإن لم يكن حجّة فعلية في حقّ زيد المشكوك فسقه ، إلاّ أنّ هذا القول قد أخرج الفاسق عن عموم أكرم العلماء وصار العالم الواجب الاكرام في الواقع مقيّدا بعدم الفسق أو بالعدالة ، ومع فرض تقيّد الواقع بالقيد المزبور وانحصار حجّية العام بذلك ، لا يمكن التمسّك به بالنسبة إلى ما يشكّ في كونه واجدا لذلك القيد ، وإن كان ظهور العموم بالشمول لكلّ عالم حتّى الفاسق باقيا بحاله لم ينثلم ، إلاّ أنّه لمّا كانت حجّيته مقصورة على مورد القيد لم يمكننا التمسّك به في مورد الشكّ في وجود ذلك القيد.

قلت : لا يخفى أنّ هذا الجواب وإن كان لا غبار عليه ، إلاّ أنّه يمكن الجواب عن الاستدلال المزبور بطريق آخر ، وهو أنّ عموم العام لا ريب في كونه دليلا من الأدلّة الاجتهادية ، لكن لو تحقّق الدليل المعارض له الأخصّ منه فلا ريب في أنّ تحقّق ذلك الدليل يوجب رفع اليد عنه ، ففي الشبهة البدوية وكذلك الشبهة المفهومية لمّا لم يكن الدليل على خلاف ذلك العام متحقّقا كان اللازم هو الأخذ بالعام في مواردهما ، أمّا في الشبهة الموضوعية كما في مثل لا تكرم الفاسق مع الشكّ في فسق زيد فلا ريب أنّها من موارد تحقّق الدليل على خلاف العام ، لقيام الدليل على ثبوت حرمة الاكرام بالنسبة إلى كلّ فاسق ، وحيث قد تحقّق قيام الدليل بالنسبة إلى كلّ فاسق وجب رفع اليد عن العموم في كلّ فرد من أفراد الفسّاق ، فكان العموم ساقط الحجّية بالنسبة إلى كلّ فاسق واقعي حتّى من كان من

ص: 144


1- أجود التقريرات 2 : 323.

الفسّاق مجهول الفسق للمكلّف ، إذ بعد سقوط العام عن الحجّية والدليلية الاجتهادية في من هو فاسق واقعا يكون عموم العام بالنسبة إلى ما شكّ في فسقه مشكوك الحجّية غير معلوم الدليلية الاجتهادية ، لاحتمال دخول ذلك المشكوك في من هو فاسق واقعا المفروض سقوط دليلية العام وحجّيته بالنسبة إليه ، وذلك لأنّ مجهول الفسق على تقدير كونه في الواقع فاسقا يكون داخلا في من قام الدليل الاجتهادي على حرمة إكرامه ، غايته أنّه لم يكن المكلّف محرزا لكونه فاسقا ، فإنّ عدم إحرازه وإن أوجب معذوريته إلاّ أنّه لا يوجب خروجه عن كونه ممّا قام الدليل فيه على خلاف حكم العام ، بخلاف عدم الاحراز في صورة الشبهة الحكمية وفي صورة الشبهة المفهومية فإنّ ذلك أعني عدم إحرازه يخرج المورد عن كونه ممّا قام الدليل الاجتهادي فيه على خلاف حكم العام وإن كان نفس ذلك الدليل موجودا في الواقع.

وبالجملة : أنّ دليلية الدليل الاجتهادي وإن كانت منوطة بالوصول إلى المكلّف إلاّ أنّ عدم إحراز الموضوع ليس ممّا ينافي الوصول ولا يوجب سقوط الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى كلّ ما ينطبق عليه حتّى ما لم يكن الموضوع فيه محرزا وإن كان معذورا بالنسبة إليه ، وإذا كانت دليلية لا تكرم الفسّاق غير ساقطة عن زيد المشكوك على تقدير كونه فاسقا في الواقع كانت حجّية العام ودليليته بالنسبة إلى زيد المذكور غير معلومة ، لاحتمال كونه ممّا قام الدليل الفعلي على خلافه الموجب لعدم حجّيته فيه.

ومن هذا التقرير يظهر لتقريب المنع من التمسّك بالعموم وجه آخر هو قريب من هذا الوجه أو من سنخه ، وهو أنّ إعمال الأدلّة الاجتهادية إنّما هو لاستكشاف الحكم الكلّي الوارد على العناوين الكلّية ، أمّا انطباق تلك العناوين

ص: 145

الكلّية على موضوعاتها الخارجية فليس هو من إعمال الأدلّة الاجتهادية ، وإنّما يرجع في ذلك إلى الوظائف المقرّرة المعبّر عنها بالأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية ، وقد حقّق أنّ إعمالها في مواردها ليس من وظيفة المجتهد الذي شغله استنباط الحكم الفرعي من دليله الاجتهادي.

وسواء قلنا إنّ إعمال الوظائف المقرّرة للشبهات الموضوعية من أشغال المستنبط أو لم نقل ، فلا ريب لنا في أنّ إزالة الشكّ في مورد الشبهة الموضوعية ليس بواقع في مرتبة إعمال الدليل الاجتهادي.

وبالجملة : بعد أن ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الفاسق منهم ، تمّت الأدلّة الاجتهادية في كلّ من الحكمين ، وتحقّق استنباط الحكم الواقعي في كلّ منهما ، فإن بقيت في البين شبهة وكانت حكمية أو مفهومية كان ذلك هو مورد إعمال الأدلّة الاجتهادية ، فإن عجزت الأدلّة الاجتهادية عن إزالتها تعيّن الرجوع إلى الأصول العملية.

وإن لم تكن تلك الشبهة الباقية حكمية ولا مفهومية بل كانت مصداقية كما تقدّم مثالها ، لم تكن تلك الشبهة ممّا يمكن الرجوع فيها إلى الدليلين المزبورين أعني لا تكرم الفسّاق أو أكرم العلماء.

وذلك لما عرفت من عدم تكفّلهما لازالة هذه الشبهة ، وأنّهما لا تعرّض لهما لأزيد من إثبات الحكم الواقعي على العنوان الكلّي ، وهو حسب الفرض معلوم واضح لا ريب فيه ، وإنّما وقع الشكّ في المرتبة المتأخّرة عنه أعني وقع الشكّ في تحقّق ذلك الموضوع الذي حكم عليه بالحرمة ، ولا دخل لذلك بما تكفّله الدليل الاجتهادي ، فيكون كلّ من دليل العام ودليل الخاصّ عاجزا عن إزالة ذلك الشكّ.

ص: 146

هذا إن أريد بالتمسّك بالعموم في زيد المذكور إدخاله في العموم بما أنّه مشكوك الفسق ، وإن أريد بالتمسّك المذكور إدخاله في العموم بما أنّه عالم مع بقاء جهة الشكّ المذكور وعدم التعرّض لحكمها ولا لازالتها فهذا أيضا غير ممكن ، إذ مع بقاء الشكّ المزبور ، ومع احتمال دخوله في الدليل الذي أوجب سقوط العموم بمقدار ما يشمله واقعا ، لا يمكن الحكم عليه بدخوله تحت العموم المزبور.

لكن لا يخفى أنّ هذا التقريب وسابقه يتوقّفان على ما تقدّم ذكره من سقوط حجّية العموم بالنسبة إلى من كان فاسقا واقعا. فالعمدة والأساس في عدم جواز التمسّك بالعموم هي هذه الجهة ، وهي على الظاهر لاينبغي الريب فيها ، فلا ينبغي الإشكال في المسألة.

بل يمكن أن يقال : إنّ الحجر الأساسي لعدم إمكان التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو ما قدّمناه (1) من عدم كون خروج مورد الشبهة تخصيصا زائدا ، ولولاه لأمكن أن يقال إنّ مجرّد انحصار حجّية العام في الفاسق الواقعي لا يوجب سقوطها عن مورد الشكّ المفروض عدم إحراز كونه فاسقا واقعا ، فإنّ حاله من هذه الجهة حال مرتكب الصغيرة في الشبهة المفهومية ، ومجرّد أنّ أصالة العموم لا يمكن أن تكون مزيلة للشكّ في الشبهة المصداقية ، لا يكون فارقا بين الشبهتين ، فإنّ الشكّ في الشبهة المفهومية أيضا كذلك ، لأنّ الشكّ في أنّ الفاسق هل يشمل مرتكب الصغيرة لا يمكن [ إزالته ] بعموم لا تكرم الفاسق ولا بعموم أكرم كلّ عالم ، إلاّ أنّ هذا الشكّ لمّا كان سببا في الشكّ في أنّ عموم أكرم كلّ عالم هل خرج منه مرتكب الصغيرة كما خرج منه مرتكب الكبيرة أو أنّه لم يخرج منه

ص: 147


1- في الصفحة : 141.

إلاّ مرتكب الكبيرة ، كانت أصالة العموم جارية في هذا الشكّ المسبّب عن الشكّ الأوّل ، لكون هذا الشكّ شكّا في التخصيص الزائد على ما علم من التخصيص بمرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشكّ في الشبهة الموضوعية فإنّ الشكّ في أنّ زيدا فاسق أو ليس بفاسق لا يتولّد [ منه ] إلاّ الشكّ في أنّ زيدا واجب الاكرام أو غير واجب الاكرام ، من دون أن يكون موجبا للشكّ في التخصيص الزائد ، فإنّ زيدا سواء كان فاسقا أو كان غير فاسق ، وسواء كان واجب الاكرام واقعا أو كان غير واجب الاكرام ، لا يكون موجبا لتخصيص في ناحية العام زائد على ما خرج بقوله لا تكرم الفاسق.

وممّا يشهد بعدم جواز التمسّك المذكور هو عدم التفوّه به في المتعارضين المقدّم أحدهما على الآخر سندا أو دلالة كما في العامين من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فإنّه بعد التعارض في العالم الفاسق لو قدّم أحد الدليلين على الآخر لكونه أقوى سندا أو دلالة ، بأن قدّمنا دليل الوجوب على دليل الحرمة وحكمنا بوجوب إكرام العالم الفاسق ، لو حصل لنا شخص معلوم الفسق مشكوك العلمية ، لكان اللازم على القول بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو الحكم بحرمة إكرامه استنادا إلى عدم تنجّز حجّية أكرم العالم فيه ، بل لو حكمنا بالتخيير وقلنا بأنّه ابتدائي ، واخترنا في مورد الاجتماع دليل الوجوب مثلا ، لكان اللازم عليه ما تقدّم فيما لو قدّمنا دليل الوجوب لكونه أقوى ، فتأمّل.

ومن جملة ما يتمسّك به لجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ما حرّرته عن درس بعض أجلّة العصر وحاصله : أنّ محصّل العموم هو الحكم على كلّ فرد من أفراد المدخول ، ومحصّل حجّيته هو الحكم بلزوم تصديقه وسدّ

ص: 148

أبواب احتمال عدم مطابقته للواقع ، وعدم مطابقته للواقع تارة يكون من جهة خروج بعض الأصناف عنه مثل الفاسق ، وأخرى يكون من جهة انطباق ذلك الوصف وهو الفاسق على جملة من أفراده بعد فرض دلالة الدليل على خروج الوصف المزبور.

فيكون الحاصل حينئذ أنّ تصديقه يكون من جهتين : الأولى أنّه لم يخرج عنه بعض الأصناف مثل الفاسق. والجهة الأخرى أنّه بعد فرض خروج الفاسق عنه نحتمل صدق قوله أكرم كلّ عالم ولو باعتبار احتمال كون الكلّ عدولا ، غايته أنّه بالنسبة إلى من علم فسقهم يسقط الحكم بتصديقه ، لكن بالنسبة إلى من لم يعلم فسقه لا يسقط الحكم بتصديقه ، فإنّه وإن سقط من الجهة الأولى أعني جهة عدم خروج الفاسق ، لكن لمّا أمكن الحكم بتصديقه من الجهة الثانية وهو جهة أنّه عادل ليس بفاسق ، فلا مانع حينئذ من جريان وجوب تصديق العموم في الفرد المزبور ولو باعتبار سدّ باب احتمال فسقه ليكون صدق قوله أكرم كلّ عالم عليه صحيحا مطابقا للواقع.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ أصالة العموم أو حجّية العموم أو حجّية الدليل المتضمّن للحكم العام ( ما شئت فعبّر ) لا تعرّض لها لأزيد من نفي احتمال التخصيص ، فإن كان خروج ذلك الفرد المشكوك فسقه تخصيصا زائدا كان العام حجّة فيه وإلاّ فلا. وأمّا احتمال كون صدق العام عليه مطابقا للواقع بأن لا يكون فاسقا في الواقع ، فلا تعرض للعموم ولا لحجّيته لاثبات هذا الاحتمال ، ولا لطرد احتمال مقابله أعني احتمال كون صدقه عليه غير مطابق للواقع ، بأن يكون المشكوك المذكور فاسقا في الواقع ، فإنّ دليل أصالة العموم ليس إلاّ بناء العقلاء الممضى أو عدم المردوع عنه من جانب الشارع ، ومن الواضح أنّ أقصى ما عندنا

ص: 149

من بناء العقلاء في ذلك إنّما هو البناء على أنّ عنوان العام أعني العالم هو تمام مراد المتكلّم ، بمعنى أنّه تمام موضوع الحكم ، وأنّه لا دخل لقيد آخر فيه مثل العدالة وعدم الفسق ، ومن الواضح أنّ ذلك لا تعرّض له لأزيد من طرد احتمال التخصيص ، ولا تعرّض له لطرد احتمال كون مورد الشكّ فاسقا في الواقع كي يكون مفاده لزوم التصديق من هذه الجهة ، ولو كان للعموم أو لحجّيته تعرّض لهذا الاحتمال لكان العام حجّة في المشكوك المزبور حتّى فيما لو كان المخصّص متّصلا ، فإنّ هذه الجهة على تقدير تعرّض العموم لها لا دخل لها بنفي احتمال التخصيص ، حيث إنّ العام في حدّ نفسه لو خلّي وطبعه يكون حينئذ دالا على كلا الجهتين ، وباتّصال إلاّ الفسّاق به لا يكون مسقطا إلاّ لظهوره في الجهة الأولى ، أعني نفي احتمال التخصيص بغير الفسّاق ، ويبقى ظهوره في الصدق على المشكوك باقيا بحاله من جهة احتمال مطابقته للواقع ، بأن لا يكون المشكوك المذكور فاسقا في الواقع ، فيلزم الحكم بتصديقه من هذه الجهة ، وإن سقط الحكم بتصديقه من الجهة الأولى أعني احتمال خروج الفسّاق منه لسقوط ظهوره من هذه الجهة ، فإنّ سقوط الظهور وعدم انعقاده من هذه الجهة لا ينافي بقاء ظهوره من تلك الجهة.

والحاصل : أنّ عنوان العلماء في قوله أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم صادق على المشكوك ، ويحتمل أنّ صدقه عليه مطابق للواقع ولو بواسطة احتمال أنّه ليس بفاسق ، فيجري في حقّه دليل التصديق.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العموم في المتّصل ليس هو مجرّد العلماء بل العلماء غير الفسّاق ، وهذا العنوان لمّا لم يحرز انطباقه على المشكوك المزبور لم يمكن أن يجري فيه دليل التصديق.

ص: 150

لكن هذا التوجيه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّ للعموم جهتين من التصديق ، والذي سقط باتّصال المخصّص به هو الجهة الأولى دون الجهة الثانية ، فيلزم على هذا أن يكون العام باقيا بحاله من حيث الجهة الثانية وإن سقط ظهوره من حيث الجهة الأولى ، فتأمّل.

والعمدة هو الجواب الأوّل ، وهو أنّ العام لا تعرّض له ولا لدليل حجّيته لأزيد من نفي الجهة الأولى ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه ذكر استدلال الكفاية (1) على المنع من جواز التمسّك المذكور بما حاصله : أنّ الخاصّ أوجب تنويع العام وانحصرت حجّيته في نوع خاص وهو ما عدا الفسّاق ، فلا يمكن التمسّك بحجّيته في مورد الشكّ المذكور للشكّ في حجّيته فيه. وأجاب عنه بمثل ما نقلناه عنه من عدم الاطلاق في سقوط الحجّية ، وأنّه إنّما سقطت الحجّية من الجهة الأولى أعني عدم التخصيص ، وذلك لا يوجب سقوطها من الجهة الأخرى أعني لزوم تصديقه والحكم بمطابقته للواقع ولو من جهة سدّ باب عدم الفسق والبناء على مطابقته للواقع من جهة احتمال أنّ ذلك المورد ليس بفاسق. وقد عرفت ما فيه من عدم تعرّض العام لأزيد من الجهة الأولى ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّه بنى على عدم جواز التمسّك بالعموم في مورد الشكّ المذكور ، وبرهن عليه بما حاصله : أنّه إنّما جمعنا بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية بتعدّد المرتبة ، وأنّ مرتبة الأحكام الظاهرية لمّا كانت متأخرة عن مرتبة الأحكام الواقعية لأخذ الجهل بالأحكام الواقعية في موضوع الأحكام الظاهرية جاز اجتماع المتنافيين منهما لاختلاف المرتبة ، ثمّ بيّن أنّ بعض الأحكام الظاهرية ربما يكون

ص: 151


1- كفاية الأصول : 221.

متأخرا عن بعضها باعتبار كون ذلك البعض المتأخر مأخوذا في موضوعه الشكّ في المتقدّم ، وأفاد أنّ ذلك مثل الأحكام المأخوذة من الأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنّها لمّا كان موضوعها هو الشكّ في الأحكام الظاهرية المأخوذة عن الأدلّة الاجتهادية كانت متأخرة عن الأحكام الظاهرية المذكورة ، لعين البرهان في تأخر الأحكام الظاهرية المأخوذة عن الأدلّة الاجتهادية عن الأحكام الواقعية ، وأفاد أنّ الحكم الثابت بدليل العام من الأحكام الظاهرية المأخوذ في موضوعها عدم العلم بالحكم الواقعي ، كما أنّ الحكم الثابت بدليل لا تكرم الفاسق على تقدير كون مورد الشكّ فاسقا في الواقع من هذا السنخ من الأحكام الظاهرية ، أعني أنّه متأخر عن الحكم الواقعي برتبة واحدة ، فيكون واقعا في رتبة الحكم الظاهري الثابت له بدليل أكرم العلماء ، فإذا أجرينا حكم العام في مورد الشكّ المزبور كان ذلك من الأحكام الظاهرية ، ومع ذلك أنّا نحتمل كونه من مصاديق الخاص واقعا ، فنحتمل أنّ حكمه هو عدم وجوب الاكرام أو حرمته ، وحيث إنّ هذا الحكم الآتي من ناحية الخاصّ أيضا ظاهري مأخذه الأدلّة الاجتهادية ، وهو في رتبة واحدة مع الحكم الظاهري الثابت بدليل أكرم العلماء ، فينتهي الأمر بالأخرة إلى احتمال وجود المتناقضين وهما في مرتبة واحدة ، وذلك محال كاجتماع المتناقضين.

وفيه : أوّلا : المناقشة في المبنى وهو تصحيح الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية باختلاف المرتبة كما حقّق في محلّه (1) من عدم الحقيقة للأحكام الظاهرية ، وأنّها ليست إلاّ طرقا في صورة الأحكام لا أنّها أحكام حقيقية.

ص: 152


1- راجع حاشيتي المصنّف قدس سره على فوائد الأصول 3 : 112 و 118 - 119 في المجلّد السادس.

وثانيا : أنّ هذا الإشكال بعينه جار في موارد الشبهة البدوية في التخصيص وموارد الشبهة المفهومية في المنفصل المردّد بين الأقل والأكثر ، لاحتمال كون مورد الشكّ محكوما بحكم الخاصّ مع فرض كونه محكوما بحكم العام ، بل إنّ ذلك جار في المخصّص المتّصل ، لاحتمال كون المورد محكوما بحكم العام ، مع احتمال كونه محكوما بحكم الخاصّ بمعنى أنّه على تقدير كونه محكوما بحكم العام يحتمل أن يكون محكوما بحكم الخاصّ ، فيكون من قبيل احتمال اجتماع المتنافيين في رتبة واحدة.

وقد أوردت عليه بالشبهة البدوية وأجاب كما حرّرته عنه : بأنّ أصالة عدم التخصيص نافية للاحتمال الثاني وهو كون المورد محكوما بحكم الخاصّ.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ أصالة عدم التخصيص عبارة أخرى عن حجّية العام ، فإن كانت حجّية العام نافعة في مورد الشبهة البدوية فلم لا تنفع في مورد الشبهة المصداقية.

مضافا إلى أنّا لو سلّمنا أنّ أصالة عدم التخصيص أصل مستقلّ برأسه في قبال أصالة العموم فهي غير نافعة في طرد الاحتمال الثاني إلاّ تعبّدا ، وذلك لا يوجب القطع بعدمه ، فأصالة عدم التخصيص لا ترفع الاحتمال الوجداني ، فلا تنفع في دفع إشكال احتمال اجتماع المتنافيين.

وثالثا : أنّا لو أسقطنا عموم العام لم يخرج مورد الشكّ المزبور عن كونه محلا لاجتماع المتنافيين لبقاء احتمال كونه محكوما بحكم العام ، مع أنّه على تقدير كونه محكوما بذلك يحتمل أيضا كونه محكوما بحكم الخاصّ ، فكان احتمال اجتماع المتنافيين الذي فرّ منه باسقاط العام باقيا بحاله بعد الاسقاط المزبور.

ص: 153

ورابعا : أنّه لا معنى للفرار من اجتماع المتنافيين باقتراح طرد أحدهما بلا موجب ، بل إنّ الفرار من اجتماعهما إنّما يكون بسدّ باب الدليل على كلّ منهما أو سدّ باب دليل أحدهما ، فكان اللازم هنا أن نسدّ باب كون المورد محكوما بحكم العام بأن نقول إنّ دليل العام لا يشمله ، ونعمل الحيلة في وجه عدم شموله له ، لا أنّا نسلّم شمول الدليل له ونسلّم أيضا احتمال كونه محكوما بحكم الخاصّ ثمّ نقترح على حكم العام بالارتفاع دفعا لاحتمال اجتماع المتنافيين ، فإنّ هذا ليس بأولى بأن نقول يلزمنا أن نقطع بأنّ المورد ليس محكوما بحكم الخاصّ دفعا لاحتمال اجتماع المتنافيين.

وخامسا : أنّ الأحكام الظاهرية على تقدير كونها أحكاما حقيقية لمّا كانت منوطة بالحجة الفعلية كان تحقّقها تابعا لتحقّق الحجّية بالعلم بها ووصولها إلى المكلّف ، فإن تحقّقت الحجّية ووصلت تلك الحجّة إلى المكلّف كان الحكم الظاهري الناشئ عنها مقطوعا به ، وإن لم تتحقّق الحجّية كان الحكم الناشئ عنها مقطوع العدم. وحينئذ نقول إن فرضنا أنّ الحجّة الفعلية في المقام أعني مورد الشكّ المزبور هي عموم العام دون دليل الخاصّ كما هو المفروض ، كان الحكم الظاهري الناشئ عن حجّية العام مقطوعا به. وأمّا الحكم الظاهري الناشئ عن حجّية الخاصّ فلا يكون إلاّ مقطوع العدم.

وبالجملة : الحكم الظاهري لا يكون له وجود واقعي كي يكون قابلا لتعلّق الظنّ والشكّ به بل هو تابع للعلم بالحجّية ، فلا يكون إلاّ مقطوع الوجود أو مقطوع العدم كنفس الحجّية ، فلا محصّل لكون المورد من قبيل احتمال اجتماع المتناقضين ، فإنّا على تقدير كون المورد محكوما فعلا بحكم العام وإن كنّا نحتمل أن يكون مشمولا لدليل الخاصّ ، لكن هذا الاحتمال لا يولّد لنا احتمال كونه

ص: 154

محكوما بالحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاص ، إذ المفروض أنّا نقطع بأنّ الخاصّ ليس بحجّة فيه ، ولازم ذلك أن نقطع بعدم كونه محكوما بالحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاص.

نعم إنّ احتمال كونه فاسقا في الواقع يولّد لنا احتمال كونه محكوما بالحكم الواقعي الذي حكاه الخاص ، وأين هذا الحكم الواقعي الذي حكاه الدليل الخاص من الحكم الظاهري الآتي من حجّية الخاصّ المفروض حصول القطع بعدمها.

فإن قلت : إنّا نحتمل دخوله فيما حكاه الخاصّ ، وحيث إنّ حكاية الخاصّ محكومة ظاهرا بلزوم التصديق فنحن نحتمل دخوله تحت ذلك الحكم الظاهري أعني لزوم التصديق.

قلت : إنّ احتمال دخوله في المحكي لا يلازم احتمال دخوله في دليل التصديق ، لأنّ دخوله في دليل التصديق يتوقّف على إحراز كونه محكيا بذلك الدليل والمفروض أنّا نشكّ في دخوله في الحكاية وذلك يوجب القطع بعدم دخوله في دليل التصديق للقطع بعدم حصول ما يتوقّف عليه وهو إحراز دخوله في الحكاية ، وهذا هو ما ذكرناه من توقّف الحكم الظاهري على إحراز الحجّية المفروض عدم إحرازها في المقام ، لعدم علم المكلّف بانطباقها على مورد الشكّ المزبور ، فتأمّل.

هذا كلّه فيما يتعلّق بما استفدته منه في الدرس ، ثمّ بعد ذلك طبعت مقالته قدس سره ، والذي يتلخّص ممّا أفاده فيها (1) هو أنّ الاستدلال على عدم صحّة التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية يكون بوجوه :

الأوّل : أنّ الخاصّ يوجب تقيّد العام ومع الشكّ في حصول القيد لا يمكن

ص: 155


1- مقالات الأصول 1 : 440 - 444.

التمسّك بالعموم. وهذا الوجه أبطله بالمنع من إفادة التخصيص تقييد العموم ، وأنّه لا يفيد إلاّ إخراج بعض الأفراد فيكون حاله حال موت بعضهم.

الثاني : أنّ الخاصّ يوجب انحصار حجّية العام في غير مورده ، ومع الشكّ يكون حجّية العام في ذلك المورد مشكوكة فلا يصحّ التمسّك. وأجاب عنه : بأنّ انحصار الحجّية إنّما هو في الشبهة الحكمية ، يعني أنّ العام بالنسبة إلى أصل المسألة أعني مسألة التخصيص من حيث الشبهة الحكمية وأنّه هل في البين تخصيص أو لا ، تكون حجّيته منحصرة فيما عدا خروج الخاصّ ، أمّا من حيث الشبهة الموضوعية وأنّ ما هو مشكوك الفسق هل هو فاسق فيكون خارجا عن العموم أو أنّه ليس بفاسق فيكون باقيا تحت العموم ، فهذا المقدار من الحجّية لا يكون مقصورا ، وتقريبه ما مرّ من أنّ أصالة العموم تفيد أنّ مؤدّاها مطابق للواقع سواء كان من جهة الشكّ في أصل الاخراج أو كان من جهة الشكّ في انطباق الخارج على هذا الفرد وعدم انطباقه.

الثالث : أنّ حجّية العام بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية المصداقية تكون في طول حجّيته في الشبهة الحكمية ولا يمكن الجمع بينهما في عبارة واحدة. وهذا الوجه كأنّه إشكال على ما أجاب به عن الاستدلال الثاني لا أنّه وجه مستقلّ. وعلى كلّ حال أنّه قدس سره قد أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّه لا مانع من الجمع بينهما في جعل واحد ، غير أنّ المجعول وهو الحجّية وتتميم الكشف يكون بعض موارده سابقا في الرتبة على البعض الآخر ، ونظّر ذلك بمسألة حجّية الإخبار مع الواسطة.

الرابع : هو دعوى قصور حجّية العام التي هي عبارة عن تتميم الكشف عن الشبهة المصداقية ، لأنّ الجهل الذي تتكفّل الحجّية لازالته هو الجهل الذي يكون

ص: 156

مختصّا بالمكلّف دون ما يكون منه مشتركا بينه وبين المتكلّم. ( قلت : وبعبارة أخرى أوضح وأبعد من سوء الأدب ، أنّ الشارع بما أنّه شارع ليس من وظيفته إزالة الجهل الناشئ عن الشبهات الموضوعية ). وأجاب عنه بأنّه يمكن للشارع أن يجعل لهذا الجهل أمارة ، وحينئذ لا مانع من جعل أصالة العموم أمارة في هذه المرتبة من الشكّ كما أنّها أمارة في المرتبة السابقة منه أعني الشبهة الحكمية على ما مرّ منه في الوجه الثالث.

الوجه الخامس : وهو الذي قد اختاره في المقالة ( وإن كان عند ما كنت أحضر درسه (1) قد اختار ما قدّمنا نقله ) وعلى كلّ حال أنّ محصّل هذا الوجه الذي قد اختاره هو دعوى قصور الظهور التصديقي الذي هو عبارة عن كون الألفاظ كاشفة عن المرادات ، فإنّ الظهور إنّما يتأتّى في الموارد التي يكون الآمر ملتفتا إلى ما يتعلّق به مراده منها ، أمّا ما يكون خارجا عن علمه فلا يعقل أن يكون المتكلّم قاصدا بكلامه كشفه وإبرازه. ثمّ ذكر أنّ هذا الوجه هو الذي يريده صاحب الكفاية قدس سره فقال بعد توضيحه الوجه المذكور : ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ، ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المرام بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبها فيه ، فلا يكون الظهور حينئذ تصديقيا كي يكون واجدا لشرائط الحجّية ، لا إلى منع شمول دليل الحجّية للظهور من حيث كونه أمارة لتعيين الموضوع كما توهّم ، كيف ومع الاغماض عمّا ذكرنا لا قصور في جعل المولى هذا الظهور أيضا من الأمارات على تعيين الموضوعات كسائر الأمارات المجعولة منه حتّى بالنسبة إلى ما هو بنفسه جاهل بوجوده كما هو ظاهر واضح ، وحينئذ العمدة في وجه المنع هو الذي أشرنا (2)

ص: 157


1- في سنين ما بين الأربعين والثلاثين بعد الثلاثمائة والألف [ منه قدس سره ].
2- مقالات الأصول 1 : 443 - 444.

انتهى ما أردت نقله من عبارة المقالة. ولا يخفى أنّ عبارة الكفاية (1) والحاشية على المكاسب (2) بعيدة عن هذا الوجه بمراحل.

ثمّ لا يخفى أنّ من يدّعي صحّة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية لا يدّعي أنّ قول القائل أكرم كل عالم - المفروض أنّه قائل أيضا لا تكرم فسّاق العلماء - يكون كاشفا عن أنّه أراد به كلّ عالم حتّى العالم الفاسق الذي كان المتكلّم جاهلا بفسقه أو كان شاكّا في فسقه بحيث كان المتكلّم نفسه محتملا لكونه خارجا عن مراده ، ومع ذلك نقول إنّ قوله المذكور كاشف عن إرادته له.

بل من يدّعي الصحّة يقول إنّ المدار في ذلك على علم السامع وجهله وشكّه ، ففي صورة يعلم بفسق الشخص يحكم بخروجه عن كلّ عالم ، وأنّ المتكلّم لا يريده لقوله لا تكرم الفاسق منهم ، وفي صورة يعلم بعدالته يحكم ببقائه تحت العام وأنّ المتكلّم يريده بقوله كلّ عالم ، وفي صورة يشكّ في فسقه وعدالته يتمسّك بظهور عالم في كونه شاملا له ، لكن لا بعنوان كونه مشكوك الفسق ، بل بعنوان كونه عالما ، وأنّ المتكلّم قد قصده بقوله كلّ عالم لأنّه عالم بالوجدان ، فالظهور فيه منعقد ، والدلالة التصديقية حاصلة ، فيلزم الأخذ بها لو لا وجود قوله لا تكرم الفاسق ، فإذا قلنا إنّ قوله لا تكرم الفاسق منهم إنّما تكون مقدّمة على العام لا بمدلولها الواقعي بل بما يحصل منها من حجّة فعلية ، والمفروض أنّها ليست بحجّة فعلا في هذا المشكوك ، فكان العام حجّة فيه بلا

ص: 158


1- كفاية الأصول : 221.
2- لعلّ المراد بها الحاشية على قول الشيخ قدس سره : فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة / ص 239 - 240.

مزاحم ، فيؤخذ فيه بمقتضى العموم من كون المتكلّم قد أراد هذا الشخص ، بل ربما نستكشف من ذلك أنّ ذلك الشخص في نظر المتكلّم ليس بفاسق لأجل خصوصية في ذلك المتكلّم من كونه حكيما عالما ، أمّا لو كان المتكلّم عاديا فينسد فيه هذا الاستكشاف ، لكن علينا أن نأخذ بمقتضى ظهور كلامه في أنّه يريد كلّ عالم حتّى هذا الشخص المشكوك عندنا ، وليس احتمالنا كون المتكلّم جاهلا بفسقه أو كونه شاكّا في ذلك بمؤثّر علينا في لزوم أخذنا بمقتضى ظاهر كلامه من كونه مريدا لذلك الشخص ، لأنّ ذلك تضليل أو تضييع جاء من قبله ونحن غير مسئولين عنه ، أمّا صورة قطع المتكلّم بالعدالة مع كونه فاسقا في الواقع فواضح بل لا أثر له ، لأنّا بعد اطّلاعنا على ذلك يلزمنا الجري على مقتضى ما نعلمه لا على ما كان المتكلّم يعتقده ، وأمّا صورة شكّه فكان عليه بناء على هذه الطريقة أعني حجّية العموم مع الشكّ المصداقي أن يبيّن للمكلّفين ذلك ويعرّفهم بأنّي شاكّ في عدالة هذا الشخص وفسقه ، بل يمكن القول بأنّه لا يجب عليه البيان بل عليه إلقاء القوانين الكلّية على طبق ما جرت به طريقة التفاهم العقلائية ، وهم عليهم أن يعملوا بتلك القوانين على حسب القواعد في باب الظواهر العقلائية.

والحاصل : أنّ علم المتكلّم وجهله وشكّه في عدالة الشخص الخاصّ وفسقه لا دخل له بظهور كلامه وانعقاد ذلك الظهور الكاشف عن الارادة ، والذي يؤثّر ويترتّب عليه العمل هو علم السامع وجهله وشكّه بعد فرض وجود مثل قوله إلاّ الفسّاق أو لا تكرم فسّاق العلماء ، وأنّ مقدار تقدّم هذه الجملة الثانية على الأولى أيّ مقدار من حيث إسقاط الحجّية بعد فرض انعقاد الظهور في الأولى وبقائه بحاله ، وأنّه ليس الساقط إلاّ حجّيته ولزوم العمل به.

تتمّة تاريخية للبحث : وهي أنّي قبل أن يصل أستاذنا المرحوم المحقّق

ص: 159

العراقي إلى هذه المباحث كنت استعرت منه بعض أجزاء المقالة في هذه المباحث فاستنسختها ، وكان الذي اعتمد عليه من تقريبات صحّة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية هو ذلك الوجه الأوّل الذي كان مرجعه إلى تكفّل أصالة العموم بسدّ الجهتين ، أعني الشبهة الحكمية والشبهة المصداقية ، ثمّ بعد الفراغ من تقريبه وتشييد أركانه قال ما نصّه :

نعم ، قصارى ما يرد على مثل هذا التقريب هو دعوى اختصاص دليل وجوب التصديق بالغاء احتمال المخالفة من حيث الشبهة الحكمية ، دون احتماله من حيث الشبهة الموضوعية كما هو الظاهر من التقرير المنسوب إلى شيخنا العلاّمة قدس سره (1) ولا أقل من الشكّ فيه فيقتصر على المتيقّن ، لعدم إطلاق في دليل حجّيته لكونه لبّيا ، ولازم ذلك حينئذ هو عدم جواز التمسّك حتّى في المخصّص اللبّي. ثمّ بعد هذا قال : ولكن لا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ لو لا دعوى العلاّمة الأستاذ أعلى اللّه مقامه في كفايته (2) من دعوى السيرة على التمسّك به فيها ، إذ مثل هذه السيرة يكشف عن تكفّل أصالة الظهور من حيث الشبهة الموضوعية أيضا ، وبعد ذلك لا يبقى مجال الفرق بين اللفظي واللبّي بتقريب تقطيع الظهور في الحجّية في الأوّل دون الأخير.

نعم ، بينهما فرق من جهة أخرى ربما يكون هو الموجب لاختصاص السيرة بخصوص اللبّي أو لا أقل من الشكّ في استقرارها في غيره أيضا ، وهو أنّ في مورد المخصّص اللفظي كان الفرد المشكوك على فرض كونه فاسقا واقعا تحت الحجّة على الخلاف ، لشمول لفظ الفسّاق الذي هو الحجّة على الأفراد

ص: 160


1- مطارح الأنظار 2 : 136 - 137.
2- كفاية الأصول : 222.

الواقعية لمثله ، وهذا بخلاف ما لو كان المخصّص لبّيا إذ مرجعه إلى حجّية قطعه بحرمة إكرام الفسّاق ، ومن المعلوم أنّ القطع بحكم الطبيعة لا يكاد يسري إلى أفرادها المشكوكة ، وحينئذ فهذا المشكوك على فرض كونه فاسقا واقعا لا يكون مشمولا للحجّة على الخلاف الذي هو قطعه ، فيكون وزان المخصّصات اللبّية من تلك الجهة وزان المجملات المفهومية حيث إنّ الفرد المشكوك فيها أيضا لو فرض واقعا فاسقا لا يكون مشمولا للحجّة على الخلاف واقعا ، وحينئذ كان لنا مجال دعوى اختصاص حجّية أصالة الظهور بصورة القطع بعدم كون المورد مشمول الحجّية على الخلاف ، ومثل هذا المعنى يختصّ بالمجملات المفهومية والمخصّصات اللبّية دون اللفظية المصداقية ، واللّه العالم (1).

وأنت ترى أنّه في هذا التحرير لم يكن المانع عنده من التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية إلاّ مجرّد هذه الدعوى وهو قصور دليل حجّية الظهور عن الشمول للشبهات المصداقية ، ثمّ لمّا وصل في الدرس إلى هذا المقام بيّن أنّ المانع هو ما عرفت من احتمال اجتماع النقيضين ، ثمّ بعد هذا كلّه ظهرت هذه المقالة المطبوعة التي هي خلاصة الدورة الأخيرة فكان المانع عنده هو ما ذكره فيها من قصور الظهور نفسه وتعرّض فيها للوجه السابق من قصور حجّية الظهور وأبطله ، وأمّا الوجه الثاني الذي حرّرته فلم يتعرّض له في كلا المقالتين ، فراجع وتأمّل.

ص: 161


1- وينبغي هنا مراجعة كتاب القضاء له قدس سره ص 107 كما ينبغي مراجعة المستمسك للسيّد سلّمه اللّه ص 136 ج 1 [ 1 : 292 - 293 ] وينبغي أيضا مراجعة ما علّقناه [ في المجلّد السابع في الحواشي على فوائد الأصول 3 : 380 وما بعدها ] في مباحث أصالة عدم التذكية من مباحث البراءة [ منه قدس سره ].

قوله : وفيه مضافا إلى أنّ عنوان المخصّص لا ينحصر في كونه من قبيل المانع مطلقا ، بل قد يكون من قبيل الشرط أو الجزء كما في قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) أو « بفاتحة الكتاب » (2) ... الخ (3).

اقتصر المرحوم الشيخ محمّد علي في هذه الجهة من الإشكال على قوله : لمنع كلّ من الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى فلأنّه لا طريق إلى احراز كون العام مقتضيا والخاصّ مانعا ، لامكان أن يكون عنوان الخاص جزء المقتضي. وأمّا الكبرى الخ (4) ، ولم يذكر لذلك مثالا. وكذلك المرحوم الشيخ موسى ، فإنّه في الدورة الأخيرة والدورة السابقة عليها اقتصر على قوله : وفيه ما لا يخفى صغرى وكبرى. أمّا في الأوّل فلأنّه قد يكون عنوان العام من قبيل المقتضي وعنوان الخاصّ من قبيل المانع كالعلم والفسق ، لا أنّه كذلك دائما. وأمّا في الثاني الخ.

والظاهر أنّ أغلب الأحكام الاثباتية يمكن دعوى كون الاستثناء فيها مسوقا لبيان المانع. أمّا الأحكام النافية مثل لا يجوز أو يحرم قبول الشهادة أو الاقتداء إلاّ من العادل أو بالعادل ونحو ذلك ، فالظاهر منها هو كون عنوان المستثنى شرطا لما هو مورد ذلك النفي أعني قبول الشهادة أو الاقتداء ونحوهما ممّا وقع موردا للنفي أو للتحريم ، ومن الواضح أنّ مجرّد كون العدالة مثلا شرطا في المنفي الذي هو قبول الشهادة أو جواز الاقتداء لا يوجب أن يكون نفس ذلك العنوان مانعا من نفس الحكم الذي هو نفي قبول الشهادة أو حرمة الاقتداء ، ومن هذا القبيل

ص: 162


1- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- مستدرك الوسائل 4 : 158 / أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ح 5.
3- أجود التقريرات 2 : 322 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
4- فوائد الأصول 1 - 2 : 528.

قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » أو مع الطهور ، فإنّ فاتحة الكتاب أو الطهور جزء أو شرط للمنفي الذي هو الصلاة لا أنّه مانع من الحكم الذي هو نفي الصحّة أو نفي الانعقاد أو الكمال على ما مرّ (1) شرحه في مفهوم الاستثناء في إبطال قول الحنفي.

وعلى أي حال ، يظهر لك أنّ ما أورده المحشي على شيخنا قدس سره بقوله التحقيق الخ (2) ، غير وارد. مضافا إلى أنّها مناقشة في مثال قد انفرد هو في التمثيل به ، وذلك ليس من دأب المحصّلين ، وقد تقدّم في مفهوم الحصر ما له تعلّق بأمثال هذه الجمل في خلاف أبي حنيفة ، فراجعه.

ثمّ إنّ في المقالة (3) تقريبين لكيفية التمسّك بقاعدة المقتضي فيما نحن فيه ، ينبغي مراجعتهما ، ومحصّل التقريب الأوّل : هو أنّ الظهور مقتض للحجّية إلاّ إذا قام المانع وهو حجّية الخاص ، فإذا لم يحرز المانع من حجّية الظهور يكون الأخذ بما يقتضيه من الحجّية لازما كما هو الشأن في كلّ حكم احتمل وجود مانع منه. ومحصّل التقريب الثاني هو كون العلم مقتضيا لوجوب الاكرام وكون الفسق مانعا منه. وقد أجاب عن كلّ منهما ، فراجع.

وكيف كان ، نقول إنّه إن كان التمسّك بقاعدة المقتضي بالنظر إلى أنّ عنوان العلم مقتض لوجوب الاكرام وأنّ عنوان الفسق مانع ، فقد عرفت الجواب عنه بما أفاده شيخنا قدس سره من المنع من ذلك صغرى وكبرى. وإن كان التمسّك بذلك بالنظر إلى أنّ الظهور في ناحية العام مقتض للحجّية وأنّ حجّية الخاص مانعة وأنّه لا

ص: 163


1- في الصفحة : 75.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 322.
3- مقالات الأصول 1 : 445 - 446.

يرفع اليد عن ذلك الظهور الذي هو المقتضي لحجّية العام إلاّ إذا تحقّق المانع الذي هو حجّية الخاصّ ، فقد عرفت الجواب عنه بأنّ الخاصّ وإن لم يكن حجّة في مورد الشكّ المزبور إلاّ أنّ العام لا مورد له فيه ، لأن محصّل حجّية العام هو أصالة العموم والحكم بعدم التخصيص ، وهو إنّما يكون في مورد احتمال التخصيص الزائد كما في مورد الشبهة المفهومية دون ما نحن فيه من موارد الشبهة المصداقية ، إذ ليس فيها احتمال زيادة في التخصيص كي تكون أصالة العموم نافية لتلك الزيادة.

قوله : وحيث إنّ دليل المخصّص لا يكون حجّة في الأفراد المشكوكة فيبقى حجّية العام فيها بلا معارض - إلى قوله - فمدفوع بأنّ دليل المخصّص بعد تقييده للعام بغير افراده الواقعية وثبوت هذا التقييد عند المخاطب ... الخ (1).

ظاهره أنّ الخاصّ يوجب تقيّد العام واقعا على حسب مدلوله الواقعي ، وحينئذ يتوجّه النقض بالشبهة المفهومية ، فلا بدّ من الالتزام حينئذ بأنّ الخاصّ إنّما يقيّد العام بمقدار ما يكون هو - أعني الخاصّ - حجّة فيه ، بمعنى أنّا لا يمكننا رفع اليد عمّا بأيدينا من الحجّة الفعلية التي هي العموم إلاّ بحجّة فعلية على خلافها هي أقوى منها ، ففي مورد يكون الخاص حجّة فعلية نرفع اليد عن العموم ، وفي المورد الذي لا يكون الخاصّ حجّة فعلية فيه لا نرفع اليد عن تلك الحجّة الفعلية لكونه بلا موجب كما في الشبهة المصداقية.

نعم إنّ نفس عموم العام أعني أصالة العموم وعدم التخصيص لا تجري في حدّ نفسها في مورد الشكّ المذكور ، لأنّ ذلك الفرد على تقدير كونه فاسقا في

ص: 164


1- أجود التقريرات 2 : 323 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الواقع لا يكون من قبيل التخصيص الزائد فلا تجري فيه أصالة العموم ، وحينئذ يكون رفع اليد عن أصالة العموم في ذلك الفرد من جهة عدم كونه موردا لها لا من جهة وجود ما هو الأقوى منها حجّية كما عرفت تفصيله فيما تقدّم فراجع.

ولكنّه مع ذلك كلّه قابل للتأمّل ، لأنّا إذا فرضنا أنّ مقدار التخصيص مقصور على مقدار حجّية الخاص لا على مدلوله الواقعي على ما هو عليه ، وفرضنا أنّ الخاص لم يكن حجّة في هذا الفرد المشكوك ، فقهرا يكون خروجه لو كان خارجا خروجا زائدا على ما قامت عليه حجّية الخاص ، فتجري حينئذ فيه أصالة العموم.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن لم يكن الخاص حجّة فيه وكان المقدار الثابت من التخصيص إنّما هو بالنسبة إلى ما عداه ممّا علم كونه فاسقا ، ولكنّه مع ذلك لو فرضنا كونه فاسقا في الواقع لا يكون خروجه خروجا زائدا ، بخلاف مورد الشبهة المفهومية أعني مرتكب الصغيرة فإنّه على تقدير شمول الفاسق له يكون خروجه خروجا زائدا على ما علم خروجه. ولعلّ سرّ الفرق هو أنّ خروج مرتكب الصغيرة يكون خروجا زائدا على ما ثبت بالدليل الاجتهادي ، بخلاف مشكوك الفسق فإنّه لو كان فاسقا في الواقع لا يكون خروجه خروجا زائدا على ما تكفّله الدليل الاجتهادي وإن كان زائدا على ما هو متأخّر عن الدليل الاجتهادي من الشكّ الموضوعي ، فإنّ الدليل الاجتهادي لا نقصان فيه وإنّما النقصان من ناحية عدم إحراز كونه فاسقا ، ولا ريب أنّ الأدلّة الاجتهادية المتكفّلة للأحكام الواقعية لا يناط حكمها بالجهل والعلم بموضوعاتها ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ الخاصّ في حدّ نفسه وفي مرتبة ظهوره يكشف عن كون المراد بالعام هو ما عداه ، فيكون كشفه عن كون المراد بالعام ما عداه من

ص: 165

شؤون دلالته التصديقية المعبّر عنها بالظهور ، وهذه الدلالة التصديقية مع قطع النظر عن حجّيتها لا توجب رفع اليد عن العام ، وإنّما توجب ذلك بواسطة دليل حجّيتها ، ففي الخاص المردّد بين الأقل والأكثر مع كون الشبهة مفهومية لمّا كانت دلالته التصديقية منحصرة في الأقل ، كان مقدار التخصيص مقصورا عليه ، بخلاف الشبهة المصداقية فإنّه لا قصور في دلالته التصديقية على خروج الفاسق بعنوانه الواقعي ، فيكون هو الخارج ، ويكون العام مقيّدا بما عداه ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة في الفرق بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية ، بأنّ الأولى ترجع إلى احتمال التخصيص الزائد بخلاف الثانية لا تخلو من تأمّل ، لما عرفت من أنّه بعد فرض كون التخصيص في طول الحجّية ، ومن أنّ الخاص لا يكون حجّة في موارد الشكّ ، سواء كان على نحو الشبهة المفهومية أو كان على نحو الشبهة المصداقية ، يكون تحكيم العام في مورد الشكّ تحكيما له في مورد احتمال التخصيص الزائد ، سواء كان ذلك المورد من قبيل مرتكب الصغيرة أو كان من قبيل مشكوك الفسق على نحو الشبهة الموضوعية.

وحينئذ فالمتعيّن في الفرق بين المسألتين هو هذا الذي أشرنا إليه أخيرا ، وحاصله أنّ الخاص في حدّ نفسه وفي مرتبة ظهوره المعبّر عنه بالدلالة التصديقية يكون دالا على أنّ المتكلّم أراد بالعام ما عدا ذلك الذي دلّ عليه ذلك الخاصّ ، فهو بمقدار ظهوره يقيّد العام بما عداه تقييدا واقعيا ، ففي الشبهة المفهومية لمّا لم يكن للخاص دلالة تصديقية إلاّ بالنسبة إلى خصوص مرتكب الكبيرة ، ولم يكن له ظهور بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، لم يكن بحسب هذه الدلالة وذلك الظهور إلاّ كاشفا عن أنّ المتكلّم لا يريد بالعام إلاّ ما عدا مرتكب الكبيرة ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّ ظهور الخاصّ ودلالته التصديقية بالنسبة إلى الفاسق

ص: 166

الواقعي المفروض كونه واضح المفهوم مبيّن الدلالة بالقياس إليه ، وحينئذ يكون كاشفا عن أنّ المتكلّم لا يريد بذلك العام إلاّ ما عدا الفاسق الواقعي.

وبعد تمامية الدلالة التصديقية وانتهاء مرتبة ظهور الخاصّ بما دلّ عليه من تقييد المراد الواقعي من العام بما عدا ما كان هو - أعني الخاصّ - ظاهرا فيه ، ننتقل إلى المرتبة الثانية وهي مرتبة حجّية ظهور ذلك الخاص ، فلا ريب أنّ الذي يكون معروضا لتلك الحجّية هو نفس ذلك الظهور بما اقتضاه من تقييد المراد الواقعي من العام ، ففي صورة الشبهة المفهومية يكون ما هو الحجّة هو تقييد العام بما عدا ما هو القدر المتيقّن من الخاصّ أعني خصوص مرتكب الكبيرة ، بخلاف مرتكب الصغيرة لأنّ الخاصّ لم يكن له ظهور في تقييد المراد الواقعي بالنسبة إليه كي يكون من قبيل قيام الحجّة على ذلك التقييد.

أمّا في صورة الشبهة المصداقية فلمّا كان الخاصّ كامل الظهور والدلالة التصديقية على تقييد المراد الواقعي من العام بما عدا معناه الواقعي المفروض كونه مبيّن المفهوم ، كانت حجّية ذلك الخاص موجبة للحكم بأنّ المراد من العام واقعا هو ما عدا ذلك الخاص ، وبعد قيام الحجّة على تقيّد المراد الواقعي من العام بما عدا الفاسق واقعا لا يمكن تحكيم ذلك العام فيما هو مشكوك الفسق على نحو الشبهة المصداقية ، وإن انطبق عليه عنوان العالم وكان العموم ظاهرا فيه في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه بعد تقييد المراد الواقعي منه بما عدا الفاسق يكون انطباق المراد الواقعي من العام على ذلك الفرد مشكوكا ، وهذا هو محصّل ما أفادوه من أنّ العام وإن انطبق على الخاص إلاّ أنّه لم يعلم انطباقه عليه بما أنّه حجّة.

وبالجملة : أنّ هذا الخاصّ أعني قوله لا تكرم فسّاق العلماء وإن لم يكن حجّة فعليه في زيد العالم المشكوك الفسق على نحو الشبهة المصداقية ، إلاّ أنّه حجّة في كون المراد الواقعي في قوله أكرم كلّ عالم هو ما عدا الفاسق الواقعي ،

ص: 167

وأنّ الحكم بوجوب الاكرام لا يشمل الفاسق الواقعي ، وهذا المقدار من حجّيته كاف في إسقاط حجّية العموم بالقياس إلى ذلك الفرد المشكوك.

وحاصل الفرق بين الشبهتين وأساسه : هو أنّ مرتبة الحجّية بعد مرتبة الظهور ، وفي مورد الشبهة المفهومية لا ظهور للخاصّ إلاّ في الأقلّ الذي هو مرتكب الكبيرة فقط ، فتكون حجّيته مقصورة على ذلك ، فلا يكون موجبا لتقييد العام إلاّ بمقدار ظهوره ، وهذا بخلاف مورد الشبهة المصداقية فإنّ الخاص في حدّ نفسه ظاهر في إخراج الفاسق الواقعي وتقييد العالم بمن هو ليس بفاسق واقعا ، وحينئذ تكون حجّية الخاصّ منطبقة على هذا المقدار من الظهور ، ويكون كلّ من كان فاسقا واقعا خارجا عن ذلك العموم ، وتكون حجّية العام مقصورة على من ليس بفاسق واقعا ، فلا يمكن تحكيمها في من هو مشكوك الفسق واقعا ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، غايته أنّه في مقام الحجّية ، ولا يكون حاله إلاّ حال التمسّك بمثل أكرم العلماء في من شكّ في علمه ، غايته أنّ ذلك تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية في ناحية العام من جهة مقام نفس الظهور ، وهذا من جهة مقام الحجّية.

وخلاصة الفرق بين المفهومية والمصداقية : أنّ العام في الشبهة المفهومية ينقسم إلى العادل أعني غير المرتكب ، وإلى مرتكب الكبيرة ومرتكب الصغيرة ، وقوله لا تكرم الفاسق منهم إنّما قام حجّة على اخراج الأوّل أعني مرتكب الكبيرة ، دون الثاني أعني مرتكب الصغيرة ، وحينئذ يبقى العام حجّة فيه أعني مرتكب الصغيرة.

وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فإنّه لو قال لا تكرم مرتكب الكبيرة منهم مثلا وقد شككنا في ارتكاب زيد العالم لها ، فعلى تقدير كونه مرتكبا لها لم يكن إخراجا زائدا وتخصيصا جديدا كي ينفى بأصالة العموم التي هي عبارة عن أصالة

ص: 168

عدم التخصيص ، بل لا يكون إلاّ من قبيل سعة الخارج سعة تكوينية ، نظير ما لو لم يكن فيهم مرتكب الكبيرة ثمّ بعد مدّة وجد فيهم مرتكبها ، فإنّ وجوده لا يكون تخصيصا وإخراجا من العام ، بل يكون وجودا للخاص الذي قد خرج من العام ، فتأمّل.

قوله : وأمّا قياس الأصل اللفظي بالأصول العملية فيبطله أنّ حجّية الأصل العملي في مورد الشبهة المصداقية ... الخ (1).

هذا القياس غريب ، فأين العموم في الأصل العملي ، وأين الخاص الذي في قباله كي يكون إجراء أصالة البراءة في مورد الشبهة الموضوعية من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية. وشيخنا قدس سره قد ذكر هذا القياس في الأدلّة العقلية في المسألة الرابعة ، أعني مسألة الشبهة التحريمية المصداقية حسبما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي فقال : بقي الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنّه كيف صحّ التمسّك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصحّ التمسّك بالأصول اللفظية فيها ، ولعمري أنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فإنّ الأصول اللفظية الخ (2). لكنّه لم يوضّح أصل الشبهة وأين هو الخاصّ الذي يكون في قبال العام.

نعم إنّ محرّر هذا الكتاب قد حرّره عنه قدس سره في الجزء الثاني في مسألة الشبهة التحريمية عن إجمال النصّ ، فجعل مثل النهي عن الغناء بمنزلة قوله لا تكرم الفسّاق من العلماء ، وجعل مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلال » (3) بمنزلة قولك أكرم كلّ عالم ، فيكون الخارج المتيقّن عن عموم قوله « كلّ شيء لك حلال » هو

ص: 169


1- أجود التقريرات 2 : 323.
2- فوائد الأصول 3 : 396.
3- وسائل الشيعة 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 ( مع اختلاف يسير ).

الغناء المشتمل على كلّ من الترجيع والإطراب ، فيبقى الواجد لأحدهما داخلا تحت عموم « كلّ شيء لك حلال » ، وبناء على سراية الإجمال إلى العام في الشبهة المفهومية ينبغي القول بسقوط البراءة في صورة اجمال النصّ.

وأجاب أوّلا بالمنع من السراية في الشبهة المفهومية. وثانيا بالفرق بين البابين فإنّ المخصّص في الأصول اللفظية يوجب تقيّد موضوع العام ، وهذا بخلاف الدليل في قبال الأصل العملي ، فإنّ الدليل الدالّ على حرمة الغناء لا يوجب تقييدا في موضوع الأصل وإنّما يوجب ارتفاعه (1).

والذي حرّرته عنه قدس سره هناك في مقام بيان الفرق بين البابين : هو أنّ باب التخصيص في قبال الأصل اللفظي يكون كلّ من العام والدليل الوارد على خلافه من سنخ واحد ، فيضمّ أحدهما إلى الآخر ، ويكون النتيجة هي تقييد العام واقعا ، فيوجب ذلك سقوطه عن الحجّية ، بخلاف الدليل في قبال الأصل العملي فإنّه ليس من سنخه فلا يمكن انضمامه إليه ، بل يكون الدليل واردا على الأصل العملي ، فلا ينضمّ إليه كي يسري إجماله منه إليه (2).

ص: 170


1- أجود التقريرات 3 : 344.
2- ومن جملة القائلين بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية المرحوم السيّد محمّد كاظم اليزدي قدس سره وقد تعرّض لذلك في كتاب الربا من ملحقات العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 6 : 34 مسألة 15 ] فراجعه. نعم في بعض تحريراته قدس سره ربما يظهر منه المنع ، فقال في رسالته في منجّزات المريض في مقام الردّ على الجواهر ، وفيه ما بيّن في محلّه من أنّ العمومات ليست متكفّلة لبيان حال الموضوعات ولا لبيان الأحكام الظاهرية والواقعية معا كما هو لازم التمسّك بها في الشبهات المصداقية كما لا يخفى [ رسالة في منجّزات المريض ( المطبوعة مع حاشية المكاسب الطبعة الحجرية ) : 9 ]. ولاحظ ما قبله فإنّه صريح في المنر. وقد ذكر المسألة في وصية العروة فراجع المسألة 3 [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 5 : 679 / فصل في الموصى به ]. أمّا قاعدة المقتضي فقد تعرّض لها في نكاح العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 5 : 499 - 501 مسألة 50 ] وبنى على حرمة النظر إلى من شكّ في كونها زوجته ، مستندا في ذلك إلى قاعدة المقتضي ، وإلى أصالة عدم تحقّق الزوجية في خصوص احتمال الزوجية ، وفي احتمال المحرّمية النسبية اقتصر على الأوّل. لكن في مسألة ملاقاة النجاسة لما هو مشكوك الكرّية ذكر أنّ الأقوى عدم الانفعال [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 83 مسألة 7 ] ، وفي مسألة القليل المشكوك المادّة حكم بالانفعال ، وفي مسألة الشكّ في كون الدم أقل من درهم أو في كونه من دم الجروح مع إحراز كونه أكثر من الدرهم بنى على المنع [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 217 مسألة 3 ، 213 مسألة 6 ] ، ولعلّه من جهة التمسّك بعمومات المنع مع النجاسة أو الدم ، أو من جهة قاعدة المقتضي ، لكن في مسألة الشكّ في كونه دم حيض مع إحراز كونه أقلّ من الدرهم بنى على الجواز [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 217 مسألة 3 ] ، ولعلّه من [ جهة ] التمسّك بعموم العفو عن الأقل مع فرض كون الشكّ في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى ما هو المخصّص لذلك العموم ، أعني ما لو كان الأقلّ دم حيض ، فراجعه وتأمّل [ منه قدس سره ].

قوله : بل إدراج التمسّك بقاعدة اليد في ذيل قاعدة التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية لا يمكن أن يتوهّم ، بناء على أنّ موضوع الحكم بالضمان من الأوّل مقيّد باليد العادية ، لما أخذ في معنى الأخذ من الغلبة والاستيلاء كما هو ليس ببعيد ... الخ (1).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ مفاد « على اليد » (2) هو اليد العدوانية ، يكون

ص: 171


1- أجود التقريرات 2 : 324 - 325 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- مستدرك الوسائل 14 : 7 / كتاب الوديعة ب 1 ح 12 ، عوالي اللئالي 2 : 345 / 10.

خروج اليد الأمانية بالتخصّص ، ولا يمكن إثبات الضمان حينئذ بما يأتي من الركون إلى أصالة عدم الإذن ، لأنّها لا تحرز العدوانية. إلاّ أن يقال : إنّ العدوان أمر عدمي وهو الاستيلاء مع عدم الإذن ، كما صرّح به المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأصالة عدم رضا المالك تثبت كون اليد يدا عادية ، إذ اليد العادية ليست إلاّ عبارة عن ذلك الخ (1). ولا يخفى ما فيه فإنّ العدوان أمر وجودي ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام بأنّ العدوان لم يكن مأخوذا في عموم على اليد وإنّما أقصى ما فيه هو أنّ الموجب للضمان هو اليد مع عدم الإذن من المالك ، والشاهد على ذلك هو الحكم بالضمان مع فرض عدم العدوان كما في المقبوض بالعقد الفاسد والمقبوض بالسوم.

وقد حرّر المرحوم الشيخ محمّد علي (2) هذا المطلب بنحو الترديد ، وأنّه على تقدير أخذ العدوان في اليد يكون أجنبيا عن التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية الخاص ، بل يكون من الشبهة المصداقية من ناحية العام ، بخلافه على تقدير عدم أخذه فيه فإنّ الشبهة تكون من ناحية الخاصّ ، ويمكن حينئذ إثبات الضمان بأصالة عدم إذن المالك ، لكنّه عقّبه بما عرفت من دعوى كون العدوان أمرا عدميا ، وقد عرفت ما فيه.

وقال قدس سره في رسالة اللباس المشكوك ص 290 : فإنّ المتحصّل ممّا دلّ على ضمان اليد ، بعد تخصّصه أو تخصيصه بما إذا لم يكن بإذن المالك ، هو ترتّب الضمان على الاستيلاء على مال الغير عند عدم إذنه فيه ، ومرجعه إلى تركّب سببه من عرضين لموضوعين ، فيكون كلّ منهما بالنسبة إلى محلّه من النعتي ، وبالنسبة

ص: 172


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 531.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 529.

إلى الآخر من المقارن ، ويكفي مسبوقية محلّه به في إحرازه بالأصل عند إحراز الآخر بالوجدان في التئام سبب الضمان بلا مئونة أمر آخر حسبما تحرّر ضابطه (1).

وليس مراده من كون خروج اليد المأذون فيها من باب التخصّص هو كون اليد المضمّنة معنونة بعنوان العدوان ، وإلاّ لما أمكن إحرازه بأصالة عدم الإذن ، بل مراده من التخصّص هو كون اليد المأذون فيها من المالك يدا للمالك ، فتكون خارجة عن مفاد « على اليد ما أخذت » لأنّها مسوقة ليد غير المالك ، ومجرّد الأخذ لا يعطي إلاّ اعتبار الاستيلاء الاستقلالي ، وهو أعني الاستيلاء الاستقلالي هو الموجب لكون يد الوكيل والأمين والودعي خارجة بالتخصّص عن عموم « على اليد » ، إذ لا ظهور في الاستيلاء والأخذ في كونه على نحو العدوان ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ محصّل طريقة التخصيص هو الالتزام بأنّ اليد في قوله عليه السلام « على اليد ما أخذت » شاملة لكلّ يد ، وأنّ اليد إذا كانت بإذن المالك تكون خارجة بالتخصيص عن هذا العموم ، وحينئذ لا بدّ من النظر في ذلك الدليل الذي تكفّل باخراج يد الأمانة مثلا ، فإن كان محصّله هو أنّ اليد التي هي متّصفة بكونها بإذن من المالك لا تكون موجبة للضمان بنحو مفاد كان الناقصة ، كان الباقي تحت العام هو اليد المتّصفة بعدم كونها بإذن المالك على نحو مفاد ليس الناقصة ، وحينئذ يكون حال هذه المسألة هو عين الحال في أصالة عدم القرشية.

نعم لا بدّ في دعوى كفاية عدم الإذن من المالك بما هو مفاد ليس التامّة من الالتزام بأنّ الخارج هو اتّفاق اجتماع الاستيلاء مع صدور الإذن من المالك في

ص: 173


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 459 - 460 ( مع اختلاف يسير ).

وعاء الزمان ، وحينئذ يكون الباقي تحت العام هو اليد المجتمعة في الزمان مع عدم الإذن من المالك ليكون استصحاب عدم الإذن من المالك بنحو مفاد ليس التامّة كافيا في تحقّق عنوان الباقي تحت العام ، ولا يخفى صعوبة إقامة الدليل على هذه الدعوى.

وأشكل من ذلك ما لو قلنا بالتخصّص وأنّ يد الأمانة هي يد المالك ، فإنّ ظاهره حينئذ هو كون عموم « على اليد » مسوقا ليد غير المالك ، فيصعب إثبات الضمان بأصالة عدم الإذن من المالك ، فتأمّل جيّدا.

والحاصل : أنّ الاستيلاء عرض لصاحب اليد ، والإذن والرضا عرض للمالك ، والأمانة مركّب منهما ، أعني أنّ يد الأمانة عبارة عن استيلاء صاحب اليد والإذن من المالك ، فيكون التركّب المذكور من قبيل مجرّد الاجتماع في وعاء الزمان ، من دون أن يكون أحد العرضين قيدا للآخر ، وإذا كان الخارج بالتخصيص أو التخصّص هو هذا المركّب يكون الباقي تحت العام ضدّه أو نقيضه وهو اجتماع الاستيلاء مع عدم الإذن من المالك ، فيكون أصالة عدم الاذن نافعة في ترتّب الحكم بالضمان وانطباق عموم على اليد على مورد الشكّ المزبور ، وتكون المسألة حينئذ من صغريات [ إحراز ] أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان ، لكونها من قبيل التركّب من عرضين لموضوعين.

وفيه تأمّل ، لأنّ هذه اليد وإن شئت فقل هذا الاستيلاء قابل لأن يكون متّصفا بكونه صادرا عن إذن من المالك وبكونه صادرا لا عن إذن منه ، أو أنّه يتّصف بعدم صدوره عن إذن من المالك ، ما شئت فعبّر ، في قبال ما يكون صادرا عن إذن من المالك ، فإنّ جميع ما يمكن التعبير به عنه لا يخرج عن مفاد ليس

ص: 174

الناقصة ، لكونه في قبال التركّب الوصفي الذي هو مفاد كان الناقصة (1) في ناحية الأمانة المفروض خروجها عن هذا العموم تخصّصا أو تخصيصا ، ومجرّد أنّ الاستيلاء عرض لصاحب اليد ، والإذن عرض للمالك ، لا يوجب تركّب اليد الأمانية من قبيل مجرّد الاجتماع في الزمان ، لأنّ اليد الأمانية ليست مركّبة منهما ليكون حاصلها هو الاستيلاء وعدم الإذن ، بل إنّما هي مركّبة من الاستيلاء الموصوف بكونه صادرا عن الاذن ، وإن شئت فقل هي الاستيلاء المأذون فيه من المالك ، فإنّه على أيّ حال يكون الجزء الثاني من موضوع الأمانة قيدا وصفة للجزء الأوّل منه الذي هو الاستيلاء ، وحينئذ يكون الباقي تحت ذلك العموم هو اليد التي ليست بالاذن من المالك ، أو اليد الصادرة لا عن إذن من المالك على نحو مفاد ليس الناقصة ، تبعا لما هو خارج عن ذلك العموم ، فكان ذلك الخاص قد قسّم العام إلى قسمين : قسم يكون الاستيلاء صادرا عن إذن من المالك ، وهذا هو الخارج. وقسم لا يكون الاستيلاء فيه عن إذن من المالك ، أو يكون الاستيلاء فيه لا عن إذن من المالك ، وهذا هو الباقي ، فيكون العدم فيه نعتيا بما هو مفاد ليس الناقصة كما هو مقتضى البرهان الذي تكفّلته المقدّمة الثانية ممّا أفاده قدس سره (2) في تسجيل الايراد على صاحب الكفاية قدس سره (3).

نعم يمكن أن يقال : إنّ اليد المضمّنة هي المركّبة من الاستيلاء وعدم الإذن على نحو مفاد ليس التامّة. لكن ذلك خلاف ما أفاده قدس سره من البرهان في المقدّمة الثانية الذي يكون حاصله أنّ الخارج لو كان بمفاد كان الناقصة لا بدّ من أن يكون

ص: 175


1- [ في الأصل : التامّة ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 2 : 331 وما بعدها.
3- كفاية الأصول : 223.

الباقي هو مفاد ليس الناقصة ، وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : لا يخفى - إلى قوله - لا يمكن إحراز دخول المشكوك في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي كما ذهب إليه المحقّق صاحب الكفاية قدس سره (2) ... الخ (3).

لا يخفى أنّه قد حرّر عنه قدس سره جملة من الأصحاب في مسألة التمسّك بأصالة العدم في أمثال هذه المقامات مباحث مفصّلة كما يظهر لمن راجع التقريرات المطبوعة وغيرها ، وقد حرّرنا عنه قدس سره جميع ذلك في مبحث اللباس المشكوك (4) فراجعه. ولكن هنا بعض النقاط نشير إليها.

منها : ما يظهر ممّا حرّر عنه (5) من أنّ صورة تركّب الموضوع من عرضين ولو لمحلّ واحد داخلة فيما تجري فيه قاعدة إحراز أحد جزأي الموضوع بالأصل والآخر بالوجدان ، فإنّ ذلك على إطلاقه لا يتمّ ، وينحصر جريان القاعدة في هذه الصورة بما إذا كان لحاظ العرضين لمحل واحد لحاظا استقلاليا لا عنوانا للمعروض ، فالأوّل مثل الصلاة وطهارة المصلّي ، ويظهر لك من ذلك أنّه ربما كان تركّب العرض وجوهره من قبيل مفاد كان التامة إن لوحظ العرض مستقلا. والثاني مثل العالم العادل ، فإنّ المثال الأوّل تجري فيه القاعدة المزبورة بخلاف الثاني ، وببالي أنّ لذلك إشارة فيما حرّرناه في مبحث اللباس المشكوك ، فراجع.

ص: 176


1- في الحاشية اللاحقة.
2- كفاية الأصول : 223.
3- أجود التقريرات 2 : 328 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
4- مخطوط ، لم يطبع بعد.
5- أجود التقريرات 2 : 325 - 327.

ومن جملة النقاط التي ينبغي الاشارة إليها : ما أفاده قدس سره فيما نقل عنه من المقدّمات الثلاث التي ساقها في مقام الردّ على الكفاية لاثبات عدم الجدوى بأصالة عدم الفسق والقرشية في ترتيب الحكم العام ، أعني وجوب الاكرام وعدم التحيّض بعد الخمسين ، فإنّ المقدّمة الأولى وإن كان لا غبار عليها على الظاهر إلاّ أنّ ما أفيد فيها من إطلاق كون العام يتقيّد دائما بنقيض الخاص ، سواء كان متّصلا أو منفصلا ، ليس كما ينبغي ، فإنّ أغلب التخصيصات المتّصلة لا تقيّد العام بضدّ الخاصّ ، بل تقيّده بنفس عنوان الخاصّ مثل أكرم كلّ عالم عادل ، وهكذا الحال فيما لو كان مثل هذا التخصيص منفصلا مثل أن يقول أكرم كلّ عالم ثمّ يقول أكرم العادل من العلماء.

اللّهمّ إلاّ أن يصلح ذلك ، بأنّ الكلام في التخصيص الذي هو الاخراج ، والأمثلة المذكورة لا تتضمّن التخصيص بل تتضمّن التقييد ، وحينئذ يتمّ الاطلاق المزبور ، فإنّ التخصيص بمعنى الاخراج ينحصر في الاستثناء وما جرى مجراه من الحكم بخلاف حكم العام ، كأن يقول أكرم العلماء ثمّ يقول لا تكرم الفسّاق منهم ، أو يقول أكرم العلماء لكن لا تكرم الفاسق منهم ، والأوّل من قبيل المنفصل والثاني من قبيل المتّصل ، فتأمّل. أو يقال إنّ المراد هو أنّ الباقي لا بدّ أن يكون معنونا بنقيض عنوان الخارج حتّى في مثل أكرم العلماء العدول فإنّ الخارج هو الفسّاق ، والباقي مقيّد بنقيض ذلك وهم العدول ، والمراد بالمخصّص حينئذ هو العنوان الخارج سواء كان بطريق الاستثناء أو كان بطريقة التوصيف ، فإنّ الخارج حينئذ يكون ضدّا لما بقي ، وعلى كلّ حال أنّ الأمر سهل لكونه مناقشة في التعبير.

وأمّا المقدّمة الثانية : فيمكن المناقشة فيها من جهتين :

ص: 177

الأولى : ما أفيد فيها من أنّ انقسام العام إلى أوصافه ونعوته القائمة به في مرتبة سابقة على الانقسام إلى لواحقه ومقارناته الخ ، لا يتوقّف عليها ما هو المطلوب من لزوم كون التقييد بأوصاف العام راجعا إلى مفاد كان الناقصة.

الجهة الثانية : ما أفيد في البرهان على عدم صحّة أخذ وصف الشيء بمفاد كان التامّة ، من الترديد بأنّه لو كان كذلك فإمّا أن يكون ذلك مع بقاء إطلاق الذات بالنسبة إلى جهة النعتية ، أو يكون مع التقييد بالجهة النعتية ، أو يكون مع الاهمال ، والثالث باطل لاستحالة الاهمال في الواقع ، والثاني باطل أيضا لاستلزامه لغوية التقييد بالعدم المحمولي ، والأوّل باطل أيضا لوضوح التدافع بين الاطلاق من جهة النعتية والتقييد بالعدم المحمولي الخ ، فإنّ هذا البرهان والتردّد بين الأمور الثلاثة جار بعينه في باب المقارنات التي يكون التركّب فيها بحسب الاجتماع في الزمان مثل اليد وعدم الاستئمان من ناحية المالك ، فإنّ الذات بالنسبة إلى العنوان المنتزع من ذلك المقارن مثل عنوان التأخر والتقدّم والتقارن إن أخذت مطلقة من جهة هذا العنوان حصل التدافع بين هذا الاطلاق وبين تقييد الذات بالاجتماع في الزمان مع ذلك المقارن ، وإن أخذت الذات مقيّدة بذلك العنوان المنتزع كان ذلك مغنيا عن تقييدها بالاجتماع المذكور ، وإن أخذت الذات مهملة توجّه عليه استحالة الاهمال في الواقع.

وحينئذ فلا بدّ من الجواب عن هذا البرهان في كلا المسألتين ، أعني مسألة تركّب الموضوع من الجوهر وعرضه ، وتركّبه من الجوهرين ، أو الجوهر والعرض لمحلّ آخر ، بأن نقول إن أخذ أحد الجزءين بالاضافة إلى الآخر بما هو مفاد كان أو ليس التامة وإن لزمه تقييد الذات بالاتّصاف به في المسألة الأولى - أعني تركّب الجوهر مع عرضه - وتقييدها بالعنوان المنتزع في باقي المسائل ، إلاّ

ص: 178

أنّ هذا التقييد غير قصدي بل هو قهري نظير لزوم تقييد المادّة على تقدير رجوع القيد إلى الهيئة كما مرّ تفصيله في مبحث الأوامر (1) في مسألة دوران الأمر في القيد الواحد بين كونه راجعا إلى المادّة وكونه راجعا إلى مفاد الهيئة ، وهذا التقييد القهري لمّا لم يكن بقصد وجعل من الحاكم لم يكن له دخل في موضوعية الموضوع ، فلا يحتاج في مقام جريان الأصل إلى إحرازه بعد فرض أن أحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، وحينئذ فلا يتمّ ما أفيد من التردّد بين الصور الثلاث المذكورة.

فالعمدة حينئذ في إثبات كون تركّب العرض ومحلّه من قبيل مفاد كان الناقصة دون التامّة ، هو ظهور الدليل الدالّ على أخذ الموضوع مركّبا منهما مثل أكرم العالم ، فإنّ مثل هذا الدليل ظاهر في أنّ موضوع وجوب الاكرام هو الرجل المتّصف بأنّه عالم ، وهكذا لو قال أكرم العالم الذي ليس بفاسق ، فإنّه ظاهر في أنّ هذا التركّب تركّب اتّصافي أعني اتّصاف العالم بأنّه ليس بفاسق ، فيكون على مفاد ليس الناقصة دون ليس التامّة ، فإنّ ذلك لو كان من قبيل ليس التامّة لكان موضوع الإكرام هو العالم وعدم الفسق لا العالم المقيّد بكونه ليس بفاسق ، وهكذا الحال في الباقي بعد التخصيص بقوله أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، فإنّ الخارج لمّا كان هو العالم المقيّد بالفسق على نحو مفاد كان الناقصة ، كان الباقي هو العالم الذي انتفى عنه الفسق بنحو مفاد ليس الناقصة ، إذ لا ريب في أنّ سلب العارض عن معروضه لا يكون إلاّ بمفاد ليس الناقصة ، وليس ذلك من باب التقيّد الذاتي القهري. نعم إنّه تقييد واقع في الدرجة الثانية من الاخراج ، بمعنى كون الاخراج وتضييق دائرة

ص: 179


1- راجع أجود التقريرات 1 : 232 ( الخاتمة ) ، وراجع أيضا ما ذكره المصنّف قدس سره في أوائل بحث المطلق والمشروط من المجلّد الثاني من هذا الكتاب صفحة : 43.

العموم سابقا في الرتبة على هذا التقييد.

ولكن الانصاف أنّه لا يخرج بذلك عن كون التقيّد ذاتيا ، وأنّه أجنبي عن المدخلية في الموضوع ، نعم نحن نحتاج إلى الأصل ليكون نافيا لما هو موضوع الحكم فيه ، لا لأجل حكم العام ابتداء ، لكنّه غير نافع في ذلك لكونه مثبتا. وعمدة النزاع مع الكفاية إنّما هو هذه الجهة أعني كون استصحاب العدم نافعا أو أنّه غير نافع لا في أنّ الأصل يحرز عنوان الباقي. والظاهر أنّ صاحب الكفاية لا يسلّم كون الباقي معنونا حتّى عنوان عدم الخاص ، بل يدّعي أنّ الباقي لم يقيّد بشيء ، وإنّما جلّ همّنا هو طرد عنوان الخاص ، وسيأتي (1) له مزيد توضيح إن شاء اللّه.

وكيف كان ، فإنّ هذه الإشكالات إنّما تجري في المركّبات التي على مفاد كان الناقصة ، أمّا لو كان التركّب من باقي المسائل مثل اليد وعدم الأمانة فإنّه ظاهر في أنّ موضوع الحكم هو اليد من طرف الآخذ وعدم الاستئمان من طرف المأخوذ منه ، فلا يكون ظاهرا إلاّ في التركّب بما هو مفاد ليس التامّة.

وأمّا المقدّمة الثالثة : فلا ينبغي أن تكون مسوقة لقبال الكفاية ، إذ ليس مراد الكفاية هو كون العدم السابق على وجود الموضوع هو مفاد ليس الناقصة كي يتوّجه عليه ما في المقدّمة المذكورة من كون العدم الناقص إنّما يطرأ بعد وجود الموضوع ، وأنّ العدم السابق ليس هو العدم الناقص بل هو العدم التامّ ، بل الظاهر أنّ مراد الكفاية هو الاكتفاء بأصالة العدم التامّ الثابت قبل وجود الموضوع في إثبات حكم العام بناء منه على أنّ الاخراج بالاستثناء لا يعنون العام كي يكون

ص: 180


1- في الصفحة : 185 ، وراجع أيضا الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : 197 وما بعدها والصفحة : 204 وما بعدها.

العدم المعتبر فيه هو العدم الناقص ، بل إنّ الاخراج المذكور لا يؤثّر إلاّ في طرد عنوان الخاصّ ، ويدّعي أنّ أصالة العدم ولو العدم التامّ تكفي لطرد عنوان الخاصّ ، وحينئذ فعمدة ما يرد عليه هو ما تضمّنته المقدّمة الأولى والثانية من أنّ الاخراج ملازم لتقيّد العام بنقيض الخاص ، فلا يكون ذلك التقييد العدمي إلاّ مفاد ليس الناقصة.

نعم هذه المقدّمة الثالثة نافعة لدفع شبهة أخرى تقال في هذا المقام وحاصل هذه الشبهة : هو أنّ الشخص قبل وجوده يتّصف بالعدم الناقص ، فيصحّ أن يقال إنّ زيدا ليس بفاسق ، إذ لو لم يصحّ ذلك لصحّ أن يقال إنّه فاسق ، لاستحالة ارتفاع النقيضين.

والجواب عنه : هو ما تضمّنته هذه المقدّمة الثالثة من أنّه لا يصحّ فيه كلا القضيتين ، وليس ذلك من قبيل ارتفاع النقيضين ، بل هو من قبيل ارتفاع المتقابلين تقابل العدم والملكة عند عدم وجود موضوعهما ، كما لا يصحّ أن يقال للجدار إنّه ليس بأعمى وإنّه ليس ببصير فإنّ الأمرين المتقابلين تقابل العدم والملكة من هذه الجهة بحكم الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كما في مثل الحركة والسكون ، فإنّ الضدّين اللذين لا ثالث [ لهما ] يكون وجود أحدهما ملازما لعدم الآخر ، فلو قلنا إنّه يصحّ أن يقال لغير الموجود فعلا إنّه ليس بساكن ، لكان لازم ذلك أنّه يصحّ أن يقال إنّه متحرّك ، ولازم ذلك أن يصحّ أن يقال إنّه ليس بمتحرّك وأنّه ساكن ، فيكون نفي كلّ منهما وإثباته صحيحا في حقّ غير الموجود ، وفساد ذلك لا يخفى ، وحينئذ فلا محيص من أن نقول إنّه لا يصحّ النفي فيه ، وأنّ مورد المقابلة إنّما هو الموجود دون المعدوم.

هذا ما كنت حرّرته سابقا ، ولكن فعلا عثرت على تحرير المرحوم الشيخ

ص: 181

موسى فوجدته لا بأس به على وجه يمكن جعله جوابا عن الإشكالات الموجودة هنا ، فإنّه قال : إنّ التركيب لو كان من العرض ومحلّه فلا بدّ أن تكون جهة الوحدة الملحوظة بين أجزاء المركّب هو اتّصاف المعروض بالعرض ، ونعتية العرض لمعروضه ، وعلّل ذلك بأنّه لا شبهة أنّ كلّ شيء بالنسبة إلى انقسامات نفسه مقدّم في اللحاظ بالنسبة إلى لحاظ انقساماته بالنسبة إلى مقارنه ، فلو جعل التركيب من العرض ومحلّه تقارنيا لزم إمّا الاهمال في نفس الأمر أو التناقض أو اللغوية ، لأنّه إذا فرض جعل موضوع الحكم مركّبا من زيد وعدالة نفسه على نحو الاجتماع في الزمان ومقارنا لوجوده ، فنقول زيد الذي هو أحد جزأي الموضوع إذا لوحظ في مقام التركيب بينه وبين العدالة ، فإمّا أن لا يلاحظ كونه عادلا أو فاسقا ، فيلزم الاهمال ، وإمّا أن يلاحظ مطلقا ، فتقييده بالعدالة مناقض له ، وإمّا أن يلاحظ مقيّدا بالعدالة ، فتقييده ثانيا لغو الخ.

ومراده أنّ لحاظ الذات مطلقة أو مقيّدة بالنسبة إلى صفاتها وعوارضها يكون سابقا في الرتبة على لحاظها مطلقة أو مقيّدة بالنسبة إلى ما يجتمع معها في وعاء الزمان ، فإذا لم نأخذ فيها صفة العدالة على نحو العارض للمعروض ، بل أخذناها فيها على نحو مجرّد الاجتماع في الزمان بحيث يكون الموضوع هو ذات زيد مع وجود نفس العدالة ، وكانت نسبة صفة العدالة إلى زيد كنسبة أحد الجوهرين إلى الآخر ، أو كنسبة عرض جوهر إلى جوهر آخر ، وحينئذ نقول إنّ زيدا المذكور في الرتبة السابقة أعني رتبة انقسامه إلى صفات نفسه من العدالة وعدمها دون الرتبة الثانية التي هي رتبة المقارنات ، وإن شئت فقل إنّه بالنسبة إلى اتّصافه بصفة العدالة وانقسامه في حدّ نفسه إلى المتّصف بالعدالة وعدم العدالة إن كان مهملا ، كان محالا لاستحالة الاهمال في الواقع ، وإن كان مقيّدا بعدمها كان

ص: 182

مناقضا للتقييد باجتماعه معها ، وكذلك لو كان مطلقا من جهة الاتّصاف بها وعدمه ، وإن كان مقيّدا باتّصافه بها كان تقيّده باجتماعه معها في وعاء الزمان لغوا. وهذا كلّه ناش عن اختلاف المرتبة.

وبهذا البيان يمكن الجواب عن الإشكالات التي كنت علّقتها. لكن مع ذلك للتأمّل فيه مجال ، لامكان الالتزام بالاهمال الواقعي في المرتبة الأولى مع التقييد في المرتبة الثانية ، والمحال إنّما هو الاهمال الواقعي في جميع المراتب.

وعلى كلّ حال الأولى أن يقال : إنّ العالم منقسم في الواقع إلى متّصف بالفسق وغير متّصف ، يعني من وجدت له صفة الفسق ومن انتفت عنه ، كلّ منهما على نحو العارض المتأخر عن أصل الوجود كما هو لازم التقابل بينهما ، فيكون الأوّل مفاد كان الناقصة والثاني مفاد ليس الناقصة ، فإذا خرج أحد القسمين كان الباقي هو القسم الثاني. وصاحب الكفاية قدس سره (1) ينكر كون الباقي مقيّدا بالعدم بمفاد ليس الناقصة ، فيكون الأصل بمفاد ليس التامّة نافعا فيه ، ومن تأخر عنه يقولون إنّ مفاد ليس الناقصة يتحقّق قبل وجود الموضوع على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، أو أنّه يكفي فيه تحقّق الذات قبل وجودها العيني.

وحاصل المقدّمة الثانية : هو أنّ التقييد والتركيب من الجوهر وعرضه لا بدّ أن يكون بمفاد كان الناقصة ، وأنّه لو خرج العالم الفاسق عن عموم قوله أكرم كلّ عالم يكون الخارج هو العالم المتّصف بالفسق بما هو مفاد كان الناقصة ، ويستحيل أن يكون الخارج هو العالم المقرون بالفسق بمفاد كان التامّة ليكون الباقي هو العالم المقرون بعدم الفسق بما هو مفاد ليس التامّة كما هو الظاهر من الكفاية.

ص: 183


1- كفاية الأصول : 223.

ثمّ بعد تمامية كون الخارج هو الفاسق بمفاد كان الناقصة (1) ننقل الكلام إلى المقدّمة الثالثة وهي أنّ الباقي لا بدّ أن يكون هو من انتفى عنه الفسق بمفاد ليس الناقصة قضية للتقابل بينهما.

وحينئذ يكون حاصل المقدّمة الأولى أنّ الاخراج يوجب تقييد الباقي ، فإن كان على نحو مفاد كان التامة وكان الخارج هو العالم الذي اقترن مع الفسق في وعاء الزمان كان الباقي هو العالم الذي اقترن مع عدم الفسق في وعاء الزمان على نحو مفاد ليس التامة ، وإن كان الخارج هو العالم الفاسق بمفاد كان الناقصة كان الباقي هو العالم الذي ليس فاسقا بمفاد ليس الناقصة.

وحاصل المقدّمة الثانية : أنّه لا بدّ في مثل الجوهر وعارضه من كون الخارج هو على نحو مفاد كان الناقصة. وحاصل المقدّمة الثالثة أنّه بعد كون الخارج هو مفاد كان الناقصة لا بدّ أن يكون الباقي هو السلب بمفاد ليس الناقصة ببرهان كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وأنّه قبل وجود الموضوع ينتفي كلّ من المتقابلين.

ولا يخفى أنّ الحجر الأساسي في المسألة إنّما هو المقدّمة الأولى والمقدّمة الثالثة ، أمّا المقدّمة الثانية فهي على ما شرحناه إنّما تكون مسوقة لبيان أنّ الخارج إذا كان مؤلّفا من العرض ومحلّه ، لا بدّ أن يكون تركّبه تركّب مفاد كان الناقصة ، وهذا المقدار لا أهميّة له ، لأنّا وإن فرضنا إمكان تركّب العرض ومحلّه من قبيل الاجتماع في وعاء الزمان إلاّ أنّ ذلك خلاف الظاهر من إخراج مثل القرشية من عنوان المرأة تحيض إلى خمسين ، فإنّ ظاهره هو أخذ الانتساب إلى قريش صفة للمرأة بما هو مفاد كان الناقصة ، وحينئذ يترتّب عليه ما ذكر في المقدّمة الثالثة من

ص: 184


1- [ في الأصل : التامّة ، والصحيح ما أثبتناه ].

كون قضية التقابل هو كون الباقي المرأة التي ليست منتسبة إلى قريش بمفاد ليس الناقصة الذي لا ينفع فيه الأصل بمفاد ليس التامّة.

واعلم أنّ عمدة همّ صاحب الكفاية قدس سره هو أنّ العام لا يعنون بعنوان أصلا لا وجودي ولا عدمي ، وإنّما جلّ همّه هو طرد احتمال كون المشكوك من أفراد الخاصّ ، وهذا إنّما يكون بالركون إلى أصالة عدم الفسق مثلا ليستريح من إشكال التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فليس غرضه من الركون إلى الأصل المذكور إلاّ طرد احتمال انطباق عنوان الخاص على المورد ، وحينئذ يتوجّه عليه أنّ الخارج هو الفاسق بعنوان كان الناقصة ، وهذا لا يمكن طرده بأصالة العدم بمفاد ليس التامة ، لأنّ العدم المحمولي لا يطرد الوجود النعتي إلاّ بالملازمة ، فيكون الأصل المذكور حينئذ من الأصول المثبتة.

وبناء على هذا التقريب لا يبقى موضع حاجة إلى هذه المقدّمات التي ساقها شيخنا قدس سره لاثبات تقيّد الباقي تحت العام بمفاد ليس الناقصة أعني العدم النعتي ، فإنّ ذلك وإن كان حقّا لا شبهة فيه ، لأنّ أصالة عدم الفسق على نحو ليس التامّة المعبّر عنه بالعدم المحمولي لا يكون مثبتا للعدم النعتي المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة المفروض كون الباقي تحت العام معنونا به ، إلاّ أنّ كلام صاحب الكفاية لم يكن مبنيا عليه ، بل هو مبني على ما عرفت من أنّ تطبيق العموم على هذا المشكوك لا يحتاج إلى إحراز عنوان غير عنوان العام ، لكن لمّا كانت الشبهة من ناحية الخاص مصداقية ، وكنّا في تطبيق العموم على المورد المذكور محتاجين إلى حلّ هذه الشبهة المصداقية وإزاحة العلّة من ناحيتها بالتمسّك بأصل موضوعي يكون نافيا لاحتمال كون المورد من أفراد ذلك الخاص ، اضطررنا إلى الركون إلى أصالة عدم الفسق لنستريح من كون الشبهة مصداقية من ناحية

ص: 185

المخصّص ، وحينئذ يكفي في ردّه أنّه بعد الاعتراف بكون الخارج هو الفاسق بمفاد كان الناقصة أعني الوجود النعتي ، فهذا لا يمكن طرده بمفاد ليس التامّة التي يكون مفادها العدم المحمولي ، وإنّما يمكن طرده بمفاد ليس الناقصة التي يكون مفادها العدم النعتي ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) توضيح ذلك فيما علّقناه على حواشي المقرّر لهذا الكتاب.

وهنا مبحث ينبغي الالتفات إليه : وهو أنّ لنا أمورا اصطلاحية أو واقعية ينبغي أن نتكلّم فيها ، وأنّه هل بعضها راجع إلى البعض الآخر أو لا ، وتلك الأمور هي قولهم : ربط السلب وسلب الربط ، وقولهم : موجبة معدولة المحمول وسالبة بسيطة ، وقولهم : مفاد ليس الناقصة ومفاد ليس التامّة ، وقولهم : العدم النعتي والعدم المحمولي ، فهل الأوّل من كلّ من هذه الجمل راجع إلى الأوّل في البواقي والثاني راجع إلى الثاني منها ، ليكون مفاد الجميع واحدا ، أو أنّها مختلفة.

فنقول : الظاهر اتّحاد الجملة الأولى مع الجملة الثانية ، فإنّ ربط السلب عبارة عن الموجبة المعدولة المحمول ، وسلب الربط عبارة عن السالبة البسيطة ، وذلك واضح.

وأمّا الجملة الثالثة : فالظاهر أنّ الجزء الأوّل ليس عبارة عن الجزء الأوّل من الجملتين السابقتين ، إذ ليس مفاد ليس الناقصة راجعا إلى المعدولة المحمول وإلى ربط السلب ، بل ليس مفاد الناقصة إلاّ عبارة عن الجزء الثاني من الجملتين السابقتين ، وأمّا الجزء الثاني من الجملة المذكورة أعني قولهم : مفاد ليس التامّة ، فكأنّه أمر أجنبي عن كلّ من الجملتين السابقتين ، بل هو عبارة عن العدم المطلق.

وأمّا الجملة الرابعة : فالظاهر من الجزء الأوّل منها هو أخذ العدم نعتا ،

ص: 186


1- في الصفحة : 194 وما بعدها.

فيكون منطبقا على الجزء الأوّل من كلّ من الجملة الأولى والجملة الثانية ، وأمّا الجزء الثاني منها أعني العدم المحمولي ، فإن كان المراد منه العدم المسلّط على المحمول كان منطبقا على الجزء الثاني من الجملتين السابقتين ، وإن كان المراد منه العدم المطلق كان منطبقا على الجزء الثاني من الجملة الثالثة أعني مفاد ليس التامّة ، ولا يصحّ أن يراد به العدم الذي يكون محمولا ، لأنّه حينئذ يكون عين الجزء الأوّل من هذه الجملة أعني العدم النعتي ، فلا تحصل المغايرة بين جزأي هذه الجملة ، لكن الظاهر أنّ مرادهم من العدم المحمولي هو المعنى الأوّل أعني العدم المسلّط على المحمول الذي عرفت انطباقه على الجزء الثاني من الجملتين الأوّلتين ، وبناء عليه تكون الجملة الرابعة متّحدة مع كلّ من الجملتين الأوّلتين (1).

وكيف كان ، فإنّ عدم العرض مثل عدم الفسق يكون له مراتب ثلاث :

المرتبة الأولى : مفاد الموجبة المعدولة المحمول بمعنى اتّصاف الذات بعدم الفسق ، فيكون نفس الاتّصاف المذكور ملحوظا بالمعنى الاسمي ، بحيث يكون الاتّصاف بعدم الفسق قيدا في الذات التي أخذت موضوع الحكم.

ص: 187


1- ربط السلب *** سلب الربط موجبة معدولة المحمول *** سالبة بسيطة مفاد ليس الناقصة *** مفاد ليس التامّة العدم النعتي *** العدم المحمولي الظاهر اتّحاد الجملتين الأوليين صدرا وذيلا ، والأخيران أيضا متّحدان صدرا وذيلا ، لكن الصدر منهما عين الذيل في الأوليين ، أمّا الذيل منهما فالظاهر أنّه خارج عن كلّ من صدر الأوليين وذيلهما ، وحينئذ ينبغي إسقاط ما حرّرناه من كون الصدر في الرابعة عين الصدر في الأوليين كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى شرحه فيما علّقناه على حواشي المقرّر [ منه قدس سره ].

المرتبة الثانية : مفاد ليس الناقصة المعبّر عنه بالسالبة البسيطة وبسلب الربط ، بحيث يكون القيد هو العدم المذكور ويكون لحاظ الاتّصاف به حرفيا ، بمعنى أنّ الموضوع هو الذات التي سلب عنها الفسق.

المرتبة الثالثة : مفاد ليس التامة المعبّر عنه بالعدم المطلق ، فلا يكون الاتّصاف به ملحوظا لا اسميا ولا حرفيا ، ويكون الموضوع هو الذات من جهة وعدم الفسق من جهة أخرى بلا أن يؤخذ عدم الفسق صفة للذات الذي هو مفاد ليس الناقصة فضلا عن أخذ الاتّصاف بذلك العدم قيدا فيها الذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول. وهذه المراتب وإن كانت متلازمة إلاّ أنّ الكلام وقع في أنّ أيّ مرتبة منها هي موضوع الحكم ويكون المرتبة السابقة عليها أجنبية عنه وإن كانت ملازمة لتلك المرتبة ، فلا يكون إحرازها بالأصل لازما.

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إنّه إذا قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم الفسّاق منهم ، أو قال إلاّ الفسّاق منهم ، لا ريب في أنّ هذا التخصيص يوجب تقيّد العام بما عدا الفسّاق ، ولكن لا ريب في أنّ هذا التقييد المستفاد من هذا التخصيص لم يكن على نحو المرتبة الثالثة من المراتب المذكورة ، ولو كان منها لكان أصل العدم نافعا في ترتّب حكم العام بلا كلام.

وكذا لا ينبغي الإشكال على الظاهر في عدم كون هذا التقييد على نحو المرتبة الأولى ، إذ ليس لنا في قبال العام إلاّ قوله لا تكرم الفسّاق منهم أو قوله إلاّ الفسّاق منهم ، وهذا المقدار لا يقتضي تقيّد العام بأن يكون كلّ واحد منهم متّصفا بعدم الفسق بحيث كان الحاكم لاحظ الاتّصاف بالعدم وجعل نفس ذلك الاتّصاف قيدا في العلماء ، ولو كان كذلك لكان القيد أمرا وجوديا وهو الاتّصاف ، غايته أنّ ذلك الأمر الوجودي أعني الاتّصاف المزبور كان متعلّقا بأمر عدمي وهو عدم

ص: 188

الفسق ، وذلك ممّا ينبغي القطع بعدم استفادته من دليل لا تكرم الفسّاق ، ولو دلّ الدليل عليه لكان جريان أصالة عدم الفسق بما هو مفاد ليس الناقصة غير نافع فيه فضلا عمّا هو مفاد ليس التامّة ، فإنّ استصحاب القضية القائلة ليس زيد فاسقا لا ينفع في إثبات اتّصافه بعدم الفسق فضلا عن استصحاب العدم المطلق المتعلّق بالفسق ، وينحصر الأمر في استصحاب الاتّصاف المذكور.

وحينئذ فينحصر الأمر في المرتبة الثانية بمعنى أنّ قوله لا تكرم الفسّاق يدلّ على تقيّد العلماء بعدم الفسق بحيث يكون عدم الفسق معتبرا في العالم ، من جهة انقسامه إلى الفاسق وعدم الفاسق ، والتخصيص دلّ على إخراج الأوّل ، فيبقى النوع الثاني وهو عدم الفاسق ، وحيث إنّ عدم الفاسق في قبال الفاسق فلا بدّ أن يكون مركز التقابل هو العالم بعد وجوده ، إذ قبل وجوده لا يلحقه عنوان الفاسق ، ففي تلك المرتبة لا يلحقه عنوان عدم الفاسق ، فيكون العدم المأخوذ قيدا هو العدم بعد وجود أصل الذات ، فقبل الوجود لا أصل لهذا العدم كي يستصحب ، وجرّ العدم الثابت قبل الوجود إلى ما بعد الوجود لا يثبت به ما هو المطلوب من العدم بعد الوجود إلاّ بالأصل المثبت كما أفاده قدس سره (1) فراجع وتأمّل.

بقيت في المقام شبهة راجعة إلى دعوى تحقّق هذا العدم قبل الوجود من جهة صدق السالبة البسيطة مع عدم وجود الموضوع ، تعرّض لجوابها قدس سره فيما حرّرناه عنه في مسألة [ اللباس ] المشكوك فراجع (2). وحاصل ما أفاده قدس سره في الجواب عن هذه الشبهة أوّلا : بمنع المبنى وأنّ الأشياء لا تحقّق لها قبل وجودها العيني. وثانيا : أنّ تحقّقها في ذلك الظرف على نحو وجودها العيني ، فهي إمّا أن

ص: 189


1- أجود التقريرات 2 : 329 - 337.
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.

تكون متّصفة بذلك العدم في ذلك الظرف وإمّا أن تكون متّصفة بالوجود النعتي فيه فلا يكون أصالة العدم المحمولي نافعا أيضا. قلت : بل لا معنى للأصل في ذلك الظرف إذ بناء عليه لا حدوث أصلا.

هذا ما كنت حرّرته سابقا ونزيده توضيحا فنقول بعونه تعالى : إنّ شيخنا قدس سره تعرّض في مسألة اللباس المشكوك لشبهة أنّ السالبة لا تستدعي وجود الموضوع. وأجاب عنها بأنّ أساس هذه الشبهة هو دعوى أنّ أجزاء القضية أربعة : الموضوع والمحمول والنسبة الناقصة التقييدية والوقوع واللاّوقوع الذي هو الايجاب والسلب ، وقد أشكل قدس سره على دعوى التربيع :

أوّلا : بأنّه لو كانت الأجزاء أربعة لكانت القضية اللفظية كذلك.

وثانيا : أنّ نفس النسبة التقييدية ليست من الماهيات القابلة لطروّ الوجود والعدم عليها.

وثالثا : أنّ نفس النسبة المذكورة معنى حرفي لا يعقل طروّ الايجاب والسلب عليه. واختار كون الأجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول ووجود المحمول للموضوع وعدم وجوده له ، والأوّل مفاد القضية الموجبة ، والثاني مفاد القضية السالبة ، وحيث إنّ كلا من وجود المحمول للموضوع وعدمه له يستدعي وجود الموضوع ، لكون مورد التقابل بينهما إنّما هو وجوده ، فكان من البديهي توقّف كلّ منهما على وجود الموضوع ، فلأجل ذلك أنكر قدس سره الفرق بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولة المحمول ، في كون الأولى لا تستدعي وجود الموضوع والثانية تستدعيه ، وأفاد أنّ مقتضى التثليث هو كون القضية مستدعية لوجود الموضوع ، سواء كانت سالبة بسيطة أو كانت موجبة معدولة المحمول ، وأنّه لا محصّل لقولهم سلب الربط وربط السلب ، ونحن ننقل نصّ عبارته قدس سره في

ص: 190

رسالته ، ثمّ ننقل ما حرّرناه عنه قدس سره فيما يتعلّق بذلك في مجلس الدرس.

قال قدس سره في الرسالة المطبوعة : فليس حديث سلب الربط حينئذ إلاّ من الشعريات التي لا محصّل لها إلاّ حسن العبارة ، فضلا عن أن يفرّق بين السالبة المحصّلة والمعدولة محمولها بمثله ، وإنّما الفارق بينهما هو ترتّب هذا الايجاب ( يعني الايجاب الذي تضمّنته الموجبة المعدولة المحمول ) على ذلك السلب ( يعني الذي تضمّنته السالبة البسيطة ) ترتّب العناوين الثانوية على محصّلاتها ، ولمكان التلازم بين العنوانين في التحقّق الخارجي فلا جدوى لهذا الفرق فيما نحن فيه ( يعني استدعاء كلّ منهما لوجود الموضوع وعدم جريان أصالة العدم في القيد المشكوك ) وإن كان مجديا في رجوع الشبهة المبحوث عنها إلى مرحلة التكليف ( يعني في السالبة البسيطة ) أو المحصّل ( يعني في الموجبة المعدولة ) حسبما تقدّم الكلام فيه (1) ، انتهى ما يتعلّق به الغرض من عبارته قدس سره.

وأمّا ما نقلته عنه قدس سره في مجلس الدرس فهو ما يلي :

ثمّ إنّك بعد معرفتك بما قرّرناه - من أنّه ليس لنا في الخارج إلاّ عدم المحمول لموضوعه أو وجوده له ، وأنّه عن الأوّل ينتزع كون الموضوع محدودا ومقيّدا بعدم المحمول ، ولذلك يكون العدم نعتيا ، وعن الثاني ينتزع كون الموضوع محدودا ومقيّدا بوجود محموله له ، ولذلك يكون الوجود نعتيا - تقدر على الفرق بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولة المحمول ، فإنّ مفاد الأولى يكون هو نفس عدم المحمول لموضوعه الذي ينتزع عنه كون العدم المذكور نعتا له واتّصاف الموضوع بالعدم المذكور. ومفاد القضية الثانية هو نفس هذا المعنى المنتزع أعني اتّصاف الموضوع بالعدم المذكور. وحينئذ ففي مقام الطلب المتعلّق

ص: 191


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 452 - 453.

بما اعتبر فيه قيد عدمي ، مثل الصلاة المقيّدة بعدم لباس الذهب مثلا أو غير المأكول ، فذلك العدم المأخوذ قيدا يمكن أن يكون مأخوذا على النحو الأوّل ، كما يمكن أن يكون على النحو الثاني ، ولا أثر لذلك فيما نحن بصدده من عدم جريان الاستصحاب العدمي ، حيث إنّ العدم في كلّ من الوجهين قد أخذ نعتيا محدّدا للموضوع ، فلا ينفع فيه الاستصحاب المحمولي. أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلأنّ المعتبر هو عدم اللباس للصلاة نظير العالم الذي ليس بفاسق ، فلا ينفع فيه العدم المتحقّق قبل تحقّق الصلاة ، إذ لا يترتّب عليه ما هو المعتبر من عدم ذلك المحمول لهذا الموضوع ، وقد مرّ تفصيل ذلك مكرّرا.

نعم ، يظهر الفرق بين هذين النحوين في جريان البراءة فيما شكّ فيه أنّه من الذهب أو من غير المأكول ، حيث إنّه على الأوّل يكون من موارد الشكّ في اعتبار عدم هذا في الصلاة بناء على ما تقدّم من انحلال المانعية ، وعلى الثاني يكون من موارد الشكّ في تحقّق ما هو المعتبر وهو اتّصاف الصلاة بعدم لباس الذهب كما مرّ ذلك مفصّلا. انتهى ما يتعلّق به الغرض ممّا حرّرته عنه قدس سره.

والغرض من نقل ذلك هو بيان أنّ بعض العبائر التي ربما صدرت عن شيخنا قدس سره التي مفادها هو كون العدم نعتيا ، أو اتّصاف الموضوع بالعدم ونحو ذلك من التعابير ، ليس المراد بها هو التنزيل على الموجبة المعدولة المحمول كي يتوجّه عليه ما أورد المحشّي في حاشيته المفصّلة على ص 466 (1) ، بل ليس المراد بذلك إلاّ مفاد السالبة البسيطة التي مرجعها إلى سلب المحمول عن الموضوع القابل لثبوته له واتّصافه به ، فيكون محصّلها سلب الاتّصاف ، وليس هذا المفاد ممّا يمكن تحقّقه قبل وجود الموضوع ، فما في الحاشية من قوله : إلاّ أنّ عدم

ص: 192


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 331.

العرض غير محتاج إلى وجود الموضوع الخ (1) من قبيل الخلط بين عدم ذات العرض وبين عدمه لموضوعه ، ومحلّ الكلام إنّما هو الثاني دون الأوّل ، وهذه السالبة البسيطة المسوقة لسلب العارض عن معروضه هي المعبّر عنها بمفاد ليس الناقصة ، وليس مفاد ليس الناقصة براجع إلى الموجبة المعدولة المحمول كما يظهر من الحاشية على ص 469 (2).

ثمّ لا يخفى أنّ سلب العرض عن معروضه هو المقابل لاثباته له ، فلا يكون إلاّ عبارة عن مفاد ليس الناقصة ، ولا يعقل أن يكون سلب العرض عن معروضه راجعا إلى العدم المحمولي كما يظهر من الحاشية على ص 470 المكمّلة بص 471 (3) ، والظاهر أنّ جميع ما في هذه الحواشي راجع إلى هذه الجهة.

وليت شعري كيف يعقل أن يكون عدم اتّصاف الموضوع بالعرض متحقّقا قبل وجود الموضوع ، ومن ذلك قوله : وإن شئت قلت إنّ قرشية المرأة ونفسها كانتا معدومتين في الخارج ... الخ (4) وكيف يتصوّر انعدام قرشية المرأة قبل وجودها مع أنّ انعدام قرشيتها في عرض اتّصافها بالقرشية. نعم لو أخذ الاتّصاف غير مضاف إلى الموضوع ، ونظر إليه بما أنّه معنى اسمي نظير القيام والقعود ، لأمكن القول بأنّ عدم نفس الاتّصاف لا يتوقّف على تحقّق الموضوع لكنّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّ الملحوظ إنّما هو عدم اتّصاف الموضوع. مضافا إلى أنّ نفس الاتّصاف في المقام ملحوظ بما أنّه معنى نسبي آلي بين العارض

ص: 193


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 332.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 334.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 336 ، 337.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 333.

والمعروض ، وهذا لا يعقل أن يكون ملحوظا مستقلا وفي حدّ نفسه كسائر الأعراض الاستقلالية. ولعلّ هذا راجع إلى أخذ النسبة جزءا ثالثا من القضية بناء على التربيع الذي أوضح فساده شيخنا قدس سره بما لا مزيد عليه ، أو هو مأخوذ من دعوى صدق السالبة البسيطة مع عدم الموضوع ، وقد أبطله شيخنا قدس سره أيضا بما لا مزيد عليه.

ومن طريف ما أفاده قدس سره في ذلك : أنّ لازم صدق السالبة البسيطة أن يصدق قولنا إنّ زيدا قبل وجوده ليس بساكن ، وحينئذ يلزمه أنّه متحرّك ، لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما فلا يرتفعان ، فإذا صحّ نفي أحدهما كان لازمه ثبوت الآخر ، وحينئذ يكون زيد قبل وجوده ليس بمتحرّك وساكن ، كما أنّه ساكن وليس بمتحرّك. ولا يخفى ما فيه من اجتماع الضدّين والنقيضين ، وينبغي مراجعة جميع ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره في دفع الشبهات في هذا المقام ، منها ما عرفت من كلمة المنطقيين من صدق السالبة مع انتفاء الموضوع ، وشبهة وجود ذات الأشياء قبل وجودها الخارجي العيني.

قوله في الحاشية : التحقيق أنّ استثناء عنوان وجودي من العام لا يستلزم أخذ عدم الخاص قيدا في العام ... الخ (1).

لا يخفى أنّ كون الباقي في المثال هو المرأة التي لا تكون متّصفة بكونها من قريش لا المرأة المتّصفة بأن لا تكون من قريش هو عبارة أخرى عن مفاد كان الناقصة ، وأمّا المرأة المتّصفة بأن لا تكون من قريش فإنّما هو مفاد الموجبة المعدولة ، وحينئذ نقول إنّ هذا المعنى الأوّل أعني المرأة التي لا تكون متّصفة بكونها من قريش لم يكن لاحقا للمرأة قبل وجودها ، لأنّ نفي الاتّصاف بكونها

ص: 194


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 329.

من قريش إنّما هو في رتبة الاتّصاف بأنّها من قريش المفروض كونه متأخرا في الرتبة عن وجودها ، فهي في هذه الرتبة أعني رتبة ما بعد الوجود إمّا أن تكون متّصفة بكونها من قريش وإمّا أن لا تكون متّصفة بذلك ، أمّا قبل الوجود فليست هي موردا لهذه المقابلة ، لما حرّر في محلّه من أنّ التقابل بين وجود العرض لمعروضه وعدم وجوده له من قبيل العدم والملكة ، وبهذه المناسبة سمّينا هذا العدم نعتيا ، لا باعتبار أنّه أخذ نعتا للمعروض على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، بل لأنّه لمّا كان مقابلا لوجود العرض لمحلّه ونعته بذلك العرض سمّيناه عدما نعتيا ، بمعنى كونه واقعا في مرتبة النعت لا أنّه نعت حقيقة بحيث أخذنا الذات موصوفة بذلك العدم ، وحينئذ يكون تسميته بكونه نعتيا في قبال ما لو أخذ العدم طاريا على نفس العرض في قبال لحاظ وجود ذات العرض في حدّ نفسه ، وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، لكن لم نلاحظ إلاّ نفس وجوده ، وواضح أنّ العدم المقابل لهذا الوجود لا يكون في مرتبة النعت للمعروض ، فلأجل ذلك لم يطلق عليه العدم النعتي بل أطلق عليه العدم المحمولي.

وهذا العدم المحمولي هو الذي يكون سابقا على أصل وجود المعروض وهو الذي يمكن جرّه إلى ما بعد وجود الموضوع بالاستصحاب ، إلاّ أنّه ليس بنافع في مورد يكون المطلوب فيه هو عدم وجود العرض لمعروضه الذي سمّيناه بالعدم النعتي ، وليس ذلك إلاّ نظير ما لو كان الأثر مترتّبا على عدالة زيد وأردنا الاكتفاء بترتيب ذلك الأثر بمجرّد استصحاب وجود طبيعي العدالة ولو مع فرض العلم بعدم اتّصاف غير زيد بها في الخارج ، وقد صرّح المحشّي في الحاشية بأنّه

ص: 195

من قبيل الأصل المثبت (1).

قوله في الحاشية : والسرّ في ذلك أنّ وجود العرض بذاته وإن كان محتاجا إلى وجود موضوعه ... الخ (2).

لا يخفى أنّ مجرّد كون العرض محتاجا إلى وجود موضوعه لا يدخل المسألة في الأصل المثبت ، إلاّ إذا أخذ العرض من حيث عروضه لمعروضه أعني أنّه كان الموضوع هو الذات المتّصفة بالعرض.

قوله : إلاّ أنّ عدم العرض غير محتاج إلى وجود الموضوع أصلا ... الخ (3).

نعم ، إنّ عدم العرض بما أنّه عدم محمولي لا يحتاج إلى ذلك ، لكن عدم حصول العرض لمعروضه يحتاج إلى ذلك كما عرفت فيما تقدّم.

قوله في الحاشية المذكورة : وإن شئت قلت : إنّ قرشية المرأة ونفسها كانتا معدومتين في الخارج ... الخ (4).

قد عرفت ممّا تقدّم أنّ القرشية قبل وجود المرأة لا يصحّ نسبة العدم إليها كما لا يصحّ نسبة الوجود إليها ، لما عرفت من أنّ التقابل بينهما إنّما هو في مرتبة وجود المرأة ، فقبل وجودها لا يصحّ أن يقال إن قرشية المرأة ليست موجودة ، وليس نسبة العدم إلى قرشية المرأة قبل وجودها إلاّ كنسبة عدم البصر إلى الجدار

ص: 196


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 332.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 332.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 332.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 333.

كما حقّقه شيخنا قدس سره (1) بما لا مزيد عليه.

قوله في الحاشية : إلاّ أنّ تركّبه من الذات وعدم ثبوت عرض ما له لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض في الموضوع على نحو مفاد ليس الناقصة ... الخ (2).

قد عرفت أنّ أخذ عدم ثبوت العرض لمعروضه في نفس ذلك الموضوع هو عبارة أخرى عن مفاد ليس الناقصة الذي لا يثبت بأصالة العدم إلاّ بالأصل المثبت.

قوله في الحاشية المذكورة : فيرد عليه أوّلا أنّه على تقدير تماميته يستلزم إنكار إمكان إحراز ... الخ (3).

تقدّم ما علّقناه سابقا (4) على المقدّمة بما مفاده ورود النقض المذكور ، وأنّه لا دافع له إلاّ الالتزام بأنّ هذه تقييدات قهرية لا يترتّب عليها الأثر المطلوب فيما نحن فيه من منع جريان الأصول العدمية ، وتقدّم (5) أيضا أنّ الاستثناء يوجب تقيّد الباقي بضدّ الخارج أو نقيضه ، ولكن هل هو تقيّد قهري فيكون حاله حال التقيّدات الذاتية ، أو أنّ نفس الاخراج يوجب التقييد على وجه يلحق بالتقييد

ص: 197


1- [ لعلّه يقصد قدس سره بذلك ما نقله عن شيخه قدس سره في مسألة اللباس المشكوك ، في الصفحة 518 وما بعدها ، راجع أيضا أجود التقريرات 2 : 336 ( المقدّمة الثالثة ) وراجع أيضا ما ذكره تعليقا على هذه المقدّمة في الصفحة 180 - 181 من هذا المجلّد ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 335.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 335.
4- في الصفحة : 178 ، قوله : الجهة الثانية ....
5- تقدّم ذلك في التعليق على المقدّمة الأولى في الصفحة : 177.

اللفظي الشرعي الذي يترتّب عليه كون موضوع الحكم مقيّدا بذلك القيد ، ولو من جهة انقسام العام في حدّ نفسه إلى النوعين ، فإذا أخرج منه أحد النوعين كان موضوع ذلك الحكم العام هو النوع الآخر؟ لا يبعد القول بذلك ، وهو الذي بنى عليه شيخنا قدس سره.

ولو سلّمنا أنّ الاخراج لا يتكفّل إلاّ خروج الفاسق مثلا ، أمّا كون الباقي مقيّدا بالعادل ، أو بعدم الفاسق ، أو بأن لا يكون فاسقا ، فلا تعرض لذلك الدليل المخرج لشيء من هذه التقييدات ، ولا يستفاد من مثل إلاّ الفسّاق إلاّ إخراج الفسّاق ، ولازمه هو انحصار الحكم العام في الباقي من دون إعطاء عنوان وجودي أو عدمي له ، وأنّ الحاجة إلى استصحاب عدم الفسق إنّما هي من جهة طرد احتمال عنوان الخاصّ ، وهو الظاهر من الكفاية (1).

وعمدة المناقشة مع صاحب الكفاية قدس سره أنّ استصحاب عدم الفسق بمفاد ليس التامّة لا ينقّح لنا أنّ هذا الشخص ليس من الفسّاق الخارجين.

ومن ذلك يتّضح لك ما في الحاشية بقوله : وثانيا - إلى قوله - وعليه فتقييد العام في مفروض الكلام بعدم كونه متّصفا بعنوان الخاص الخ (2) ، فإنّه صريح بالاعتراف بتقييد الباقي بعدم كونه متّصفا بالفسق الذي عرفت أنّه مفاد ليس الناقصة الموجب لعدم إمكان إحرازه بأصالة العدم بما هو مفاد ليس التامّة.

على أنّك قد عرفت أنّ الباقي لو لم يكن مقيّدا أصلا لا بقيد وجودي ولا عدمي فلا أقل من الاحتياج إلى طرد احتمال انطباق عنوان الخاص ، وأصالة العدم بمفاد ليس التامّة لا تتكفّل بطرده إلاّ على الأصل المثبت ، هذا كلّه.

ص: 198


1- كفاية الأصول : 223.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 335.

مضافا إلى ما قد يقال من أنّا لو سلّمنا كونه وافيا بطرد عنوان الخاصّ لم يكن ذلك نافعا في إجراء حكم العام عليه ، لأنّ مجرّد طرد احتمال الخاصّ لا يكفي في إجراء حكم العام عليه إلاّ باجراء أصالة العموم في حقّ الشخص المشكوك ، والمفروض أنّها لا تجري فيه ، إذ ليس في البين احتمال تخصيص زائد.

نعم لو كانت أصالة عدم الفسق بالنسبة إلى ذلك العام من الأصول الموضوعية المنقّحة لموضوع العام ، لكانت نافعة ، لكنّه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّها ليست إلاّ طاردة لاحتمال عنوان الخاصّ ، ومجرّد طرده لا ينقّح فيه الحكم العام ، إذ المفروض أنّ الباقي لم يكن معنونا بعنوان ليكون ذلك الأصل محرزا له ، إلاّ أن نقول إنّ ذلك العموم من قبيل المقتضي والخاصّ من قبيل المانع.

والحاصل : أنّا إذا التزمنا بأنّ الباقي لم يكن مقيّدا بعنوان أصلا ، لم يبق بأيدينا سوى عنوان العام ، ومن الواضح أنّ مجرّد نفي احتمال الخاصّ لا يوجب إجراء حكم العام ، بل كان إجراؤه فيه متوقّفا على إعمال أصالة العموم التي هي عبارة عن أصالة عدم التخصيص ، وهي إنّما تجري في احتمال التخصيص الزائد ، والمفروض أنّ ما نحن فيه على تقدير أنّه لا يجري فيه الحكم العام ليس من قبيل التخصيص الزائد.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الأخير أوّلا : بأنّ لازم ذلك هو أن لا يكون الأصل المذكور نافعا حتّى لو كان الشخص المشكوك مسبوقا بعدم الفسق على نحو ليس الناقصة.

وثانيا وهو العمدة : أنّ الكلام إنّما هو مع فرض كون الشكّ في جريان حكم

ص: 199

العام من ناحية احتمال كونه داخلا في عنوان الخاص ، فإذا فرضنا أنّ الأصل يحرز لنا أنّه لم يكن داخلا في عنوان الخاصّ لم يكن إجراء حكم العام فيه متوقّفا على إجراء أصالة العموم ، إذ لم يكن الشكّ فيه من جهة عموم العام له أو من جهة التخصيص من ناحية أخرى ، وإنّما كان منشأ الشكّ في جريان حكم العام عليه هو احتمال دخوله في عنوان المخصّص ، فإذا أحرزنا عدم دخوله في عنوان الخاص بالأصل المزبور ، كان ذلك كافيا في إجراء حكم العام عليه ، وليس ذلك من قبيل الأخذ بالمقتضي بعد إحراز عدم المانع ، بل هو من قبيل كون حكم العام فيه مقطوعا به لو لا احتمال دخوله في عنوان الخاص ، لأنّ المفروض أنّ الشكّ منحصر في ناحية احتمال دخوله في عنوان الخاصّ الذي هو الفاسق ، وإلاّ فإنّ كونه عالما وكون العالم يجب إكرامه مقطوع به ، فتأمّل فإنّه لا يخلو من إشكال المثبتية ، بل قال الأستاذ العراقي قدس سره في مقالته : لأنّ الأصل السلبي ليس شأنه إلاّ نفي حكم الخاصّ عنه ، لا إثبات حكم العام عليه ، لأنّ هذا الفرد حينئذ مورد العلم الاجمالي بكونه محكوما بحكم الخاصّ أو محكوما بلا تغيير عنوان بحكم العام (1) ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر كما هو ظاهر. وممّا يتفرّع على ذلك مسّ الميّت الذي يحتمل كونه شهيدا ، وقد ينظّر ذلك بأصالة عدم التذكية فيقال الأصل عدم الشهادة. وفيه : أنّ الحيوان حين حياته لم يكن مذبوحا فيستصحب هذا العدم بمفاد ليس الناقصة ويقال : مات بالوجدان ولم تفر أوداجه بالأصل ، فيتمّ موضوع الميتة ، بخلاف أصالة عدم الشهادة فإنّ الشهادة حالة للموت ، فلا يتّصف الحي بعدمها. ولو تنزّلنا وقلنا إنّها المقتولية بإذن الإمام ، وقلنا إنّها صفة للحي ، لما كان هذا الأصل نافعا إلاّ في رفع آثار الشهادة ، وأمّا آثار غير

ص: 200


1- مقالات الأصول 1 : 445.

الشهيد من وجوب الغسل بمسّه فلا يثبت إلاّ بالأصل المثبت. وبالجملة هما أمران وجوديان حاصلان عند الموت ، فلا يكون نفي أحدهما بالأصل مثبتا للآخر ، سواء كان النفي بمفاد ليس الناقصة أو كان بمفاد ليس التامّة.

قوله في الحاشية : لا يخفى ما في التعبير عن الوجود النعتي وما هو مفاد كان الناقصة بالمعنى الاشتقاقي المعبّر عنه بالعرضي المحمول من المسامحة الواضحة ، وذلك لأنّ الوجود النعتي إنّما هو وجود العرض لموضوعه أعني به وجود العرض بما هو عرض ... الخ (1).

لا يخفى أنّ لحاظ العرض بما هو عرض لموضوعه عبارة أخرى عن لحاظ انتسابه إليه واتّصافه به ، وذلك هو المعنى الذي تفيده هيئة المشتقّ مثل ضارب وعالم ، فليس المعنى الاشتقاقي إلاّ وجود العرض النعتي ، وليس وجوده النعتي إلاّ وجوده لموضوعه الذي لا يعقل إلاّ بعد فرض تحقّق موضوعه ، وهذا هو مفاد كان الناقصة ، ولو كان في البين اصطلاح على خلاف ذلك لم يكن مضرّا بهذه الجملة التي لو فرضنا صدورها من شيخنا قدس سره بهذه الألفاظ لم يكن فيه إلاّ الجري على طبق أمر واقعي ، وإن كان فيه مقدار من المسامحة بالنظر إلى الاصطلاح لو فرضنا أنّ في البين اصطلاحا خاصّا.

قوله في الحاشية المزبور : إلاّ أنّ الشأن إنّما هو في إثبات أنّ العدم المأخوذ في موضوع الحكم الثابت للعام بعد ورود التخصيص عليه ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بعد فرض كون الخارج هو العالم الفاسق بمفاد كان الناقصة ، لا

ص: 201


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 336.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 336.

يكون الباقي إلاّ ما يقابله وهو العالم الذي لم يكن فاسقا ، ومن الواضح أنّ هذا لم يكن عدما محموليا وإنّما هو عدم نعتي أعني به المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة ، وإن لم يكن نعتيا بمعنى الموجبة المعدولة ، لكن المحشّي يصطلح على هذا العدم المعبّر عنه بالعالم الذي لم يتّصف بالفسق بالعدم المحمولي ، وعلى مفاد ليس الناقصة بالموجبة المعدولة المحمول ، وما أدري أنّ العدم إذا لوحظ طارئا على نفس العرض في حدّ نفسه ما ذا يسمّيه ، وقد عرفت أنّ هذا هو العدم المحمولي وذاك أعني العدم الملحوظ طارئا على وجود العرض لمعروضه المفروض أنّه لا يعقل إلاّ بعد فرض وجود معروضه هو المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة ، ثمّ بعد هذا لو لوحظ الموضوع متّصفا بالعدم بحيث كان الملحوظ هو اتّصاف الموضوع بعدم العارض ، كان ذلك من قبيل الموجبة المعدولة المحمول ، والأخيران يشتركان في عدم جدوى أصالة عدم العرض المحمولي في إثباتهما.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك ما في الحاشية 1 ص 471 (1) فراجعها وتأمّل.

قوله في الحاشية : لامكان أن يتمسّك في مورده باستصحاب العدم النعتي بأن يقال : إنّ ما يشكّ في كونه ... الخ (2).

هذا الاستصحاب غريب ، لأنّ الذي كان متّصفا بأنّه ليس جزءا من الحيوان غير المأكول ، وبعبارة أخرى على نظر المحشي من الإرجاع إلى الموجبة المعدولة المحمول ، أنّ الذي كان قد حمل عليه أنّه ليس بجزء من الأرنب مثلا قبل أن يتحوّل إلى الأرنبية ، إن كان هي الصور النوعية المقابلة للأرنب من ماء

ص: 202


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 337.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 338.

وهواء ونبات ولحوم وغير ذلك ، فذلك غريب ، لأنّ تلك الصور النوعية قد تبدّلت إلى صورة أخرى ، فلا يمكن أن يقال إنّ هذا الشعر مثلا كان قبل هذا نباتا ولم نعلم أنّها تحوّلت إلى شعرة الأسد أو إلى شعرة الغزال. والحاصل أنّ تلك الصور السابقة بعد تبدّلها لا يمكن الاشارة إليها بأن يقال هذه كانت كذا.

مضافا إلى أنّه ما يدريك أنّها كانت نباتا قطعا فلعلّها كانت لحم أرنب فأكله الأسد فتحوّلت فيه إلى شعرة منه ، وهنا يتّحد الآكل والمأكول في الحكم فلو دار الأمر في هذا الجلد بين كونه جلد غنم مثلا أو جلد أسد مع احتمال أنّه متحوّل إلى الأسد من غير مأكول إلى غير مأكول ، وإن كان على تقدير كونه جلد غنم متحوّلا إليه من النبات مثلا ، وحينئذ يحتاج إلى أخذ المستصحب الصور قبل خلق الحيوان المحرّم الأكل ، هذه أشبه بالمساخر ، لا بالاستصحاب الذي هو مبني على الطريقية العرفية العقلائية لا الأمور الفلسفية.

وهكذا الحال فيما لو كان الذي نريد استصحاب عدم كونه شعر أرنب هو نفس المادّة الهيولائية التي كانت قبل هذا متصوّرة بصورة نوعية كالماء والهواء ونحوهما ، فإنّ تلك المادّة لا يمكن الاشارة [ إليها ] في ضمن هذا الجلد ليقال هذه المادّة الموجودة في هذا الجلد كانت غير متحوّلة إلى حيوان محرّم.

وأمّا تحويل الخل وانقلابه خمرا أو مائعا آخر فليس من هذا القبيل ، لكونه من الانقلاب الذي تنحفظ فيه الصورة النوعية وإن تبدّلت خواصه ، مضافا إلى منع هذا الاستصحاب فيه أيضا ، لأنّ المستصحب الذي كان متّصفا بأنّه ليس بخمر إن كان هو الخل فقد تبدّل ، وإن كان هو نفس القدر المشترك بأن يقال إنّ هذا المائع كان متّصفا بعدم الخمرية والآن كما كان ، فهو وإن كان له صورة اتّحاد في الجملة إلاّ أنّه ممنوع ، لأنّه بالنظر العرفي مختلف متباين ، ولأجل ذلك يقولون إنّ أمثال

ص: 203

هذه الأحكام تابعة للتسمية العرفية ، وإنّما المرجع في مثل ذلك إلى قاعدة الحل والطهارة لا استصحاب عدم الانقلاب إلى الخمرية.

قوله في الحاشية : قد عرفت أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما أخذ وجود العرض قيدا ... الخ (1).

وقد عرفت أنّ أخذ عدم العرض في الموضوع هو عبارة أخرى عن أخذه بمفاد ليس الناقصة ، وقد عرفت (2) الوجه في تسميته عدما نعتيا.

قوله في الحاشية : غرض المحقّق صاحب الكفاية قدس سره بما ذكره هو أنّ العام بعد ... الخ (3).

قد عرفت أنّ كلام صاحب الكفاية قدس سره يمكن أن يكون ناظرا إلى أنّ وظيفة الاستثناء هو الاخراج فقط من دون أن يكتسب العام من ذلك عنوانا حتّى العنوان العدمي ، كما أنّه يمكن أن يكون نظره إلى أنّ العام يكون مقيّدا بعدم الخاص على نحو مفاد ليس التامة ، كما أنّه من الممكن أن يكون نظره إلى أنّ العام وإن تقيّد بعدم الخاص بمفاد ليس الناقصة إلاّ أنّ أصالة العدم تكون محرزة لكون هذا المشكوك ليس بمتّصف بعنوان الخاصّ الذي هو مفاد ليس الناقصة ، ولو من جهة تلك التوجيهات ، أعني السالبة بانتفاء الموضوع ، ونحوها من كون السالبة لا تستدعي وجود الموضوع ، ونحو ذلك ممّا تعرّض شيخنا قدس سره للجواب عنه ، وقد نقلنا بعض ذلك فيما تقدّم (4).

ص: 204


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 339.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 194.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش 2 ) : 339.
4- في الصفحة : 185 و 198.

وأمّا ما بنى عليه المحشي من كون العام مقيّدا بعدم اتّصافه بعنوان الخاص أو بعدم كونه متّصفا بعنوان الخاص ، وأنّ هذا القيد ليس إلاّ من قبيل العدم المحمولي ، وأنّه ليس من قبيل مفاد ليس الناقصة ، وأنّ مفاد ليس الناقصة عبارة عن الموجبة المعدولة المحمول ، مع الاعتراف بأنّه لو كان العدم المذكور من قبيل مفاد ليس الناقصة لم يكن استصحاب العدم نافعا في إثباته ، فلا أظنّ أنّ صاحب الكفاية قدس سره موافق عليه.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما ذكره المحشي في الحاشية من قوله : وبالجملة أنّ ما أفاده المحقّق المزبور قدس سره في المقام هو بعينه ما اخترناه وشيّدنا أساسه وبنيانه (1) قابل للمنع والانكار ، فراجع كلمات المصنّف في الكفاية (2) ، وفي حاشيته على المكاسب في الشرط المخالف للكتاب ، وفي كتاب الحيض في مسألة الشكّ في كون المرأة قرشية (3) ، فلعلّها أصرح ممّا في الكفاية من كون مبناه على أنّ الباقي لم

ص: 205


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 340.
2- كفاية الأصول : 223.
3- قال صاحب الكفاية قدس سره في حاشيته على المكاسب قوله قدس سره فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة الخ [ المكاسب 6 : 31 ] ، فإنّ المخالفة مسبوقة بالعدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامة حين عدم ثبوت طرفها ، وإن لم تكن مسبوقة بالعدم الربطي الذي هو مفاد ليس الناقصة حيث إنّ الشرط وجد إمّا مخالفا أو غير مخالف. فإن قلت : أصالة عدم المخالفة بهذا المعنى لا يثبت كون الشرط غير مخالف إلاّ على الأصل المثبت كما لا يخفى. قلت : نعم ولكنّه لا حاجة إلى إثباته ، ويكفي ما يثبت به وهو عدم ثبوت وصف المخالفة له ، وبه ينقّح ما هو موضوع « المؤمنون عند شروطهم » [ وسائل الشيعة 21 : 276 / أبواب المهور ب 20 ح 4 ] فإنّ الخارج عنه بالاستثناء ليس إلاّ عنوان خاصّ ، والباقي تحته كلّ شرط كان غيره ، بلا اعتبار خصوص عنوان ، بل بأي عنوان لم يكن بذاك العنوان ، ومن الواضح أنّ الشرط الذي لم يثبت له المخالفة من ذلك ، فتأمّل فإنّه لا يخلو عن دقّة ، انتهى ما في الحاشية على مبحث الشروط [ حاشية كتاب المكاسب : 239 - 240 ]. وقال في كتاب الحيض ، في مقام الجواب عن إشكال أنّ استصحاب العدم لا ينفع ، لأنّها وجدت إمّا قرشية أو غيرها ما هذا لفظه : إنّها وإن لم تكن مسبوقة بانتساب إلاّ أنّ عدم الانتساب بقريش أزلي - إلى أن قال - بل ذات الأثر إنّما هي المرأة بلا عنوان آخر ومنها من لا يكون بينها وبينه انتساب بلا ارتياب ، وإلى هذا ترجع أصالة عدم الانتساب المتداولة في ألسنة الأصحاب في غير باب [ كتاب الدماء ( ضمن الرسائل الفقهية ) : 186 منه قدس سره ].

يكن معنونا بعنوان خاص سوى عدم عنوان الخاص.

وهذا المبنى أعني كون التخصيص غير موجب لتقيّد الباقي تحت العام بقيد أصلا هو الذي بنى [ عليه ] أستاذنا المرحوم العراقي في مقالته المطبوعة ، فإنّه قبل الدخول في مسألة التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ذكر مقدّمة بيّن فيها هذا المعنى فقال :

وتنقيح المبحث فيه يقتضي رسم مقدّمة موضّحة لمقدار من المرام ، وهو أنّ باب التخصيص عبارة عن إخراج فرد من العام بنحو لا يحدث في العام خصوصية زائدة عمّا فيه بالاضافة إلى بقية أفراده الخ (1). ثمّ إنّه أوضح ذلك بعدم الارتباط بين الأفراد في الدخول تحت العام ، فإذا خرج البعض منها يكون الباقي باقيا على ما كان عليه من الدخول تحت العام بلا أن يحدث ما يوجب تقيّده بقيد ،

ص: 206


1- مقالات الأصول 1 : 440.

ولا يكون خروج من خرج إلاّ بمنزلة موته ، ثمّ ذكر القول بأنّ التخصيص يوجب التقييد وتحديد العام بحدّ فقدان الخارج ، ومرجعه إلى وجوب إكرام كلّ عالم لم يكن فيه زيد مثلا ، ولا نعني من التقييد إلاّ هذا ، وحينئذ لازمه رجوع التخصيص أيضا إلى التقييد.

ثمّ إنّه دفع ذلك القول الذي سمّاه توهّما بقوله : مضافا إلى النقض بموت بعض الأفراد الغير الموجب لاحداث عنوان آخر للعام زائد عمّا له قبل موت هذا الفرد جزما ، إنّ طروّ الضيق من التخصيص إنّما جاء من قبل قصور الحكم للشمول لهذا الفرد ، ومثل هذا القصور وإن أوجب ضيقا في العام وتحديدا له بغير هذا الفرد الخارج ، إلاّ أنّ هذا الضيق الناشئ من قبل ضيق الحكم يستحيل أن يكون موجبا لتغيير العام في عالم موضوعيته للحكم المزبور ، لاستحالة أخذ الضيق الناشئ عن الحكم في موضوعه ، بل غاية الأمر أنّه مانع من شمول العام له مع بقائه على ما هو عليه من العنوان قبل التخصيص ، وبعد هذا البيان نقول إنّ مركز بحثهم في المقام ( يعني التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ) إنّما هو في فرض التخصيص ، وإلاّ ففي باب تقييد المطلقات لم يتوهّم أحد جواز التمسّك بالاطلاق عند الشكّ في القيد ، إلى آخر ما ذكره فراجعه ص 150 من المقالة المطبوعة (1).

ولا يخفى الفرق الواضح بين الموت والتخصيص ، فإنّ التخصيص لمّا كان موجبا لاخراج صنف خاصّ كان منوّعا للعام بخروج صنف وبقاء الصنف المقابل ، بحيث إنّ ذلك التخصيص يكشف عن أنّ المراد الواقعي هو ما عدا ذلك

ص: 207


1- قديما ، راجع الطبعة الحديثة من مقالات الأصول 1 : 440 - 442.

الصنف. ومن ذلك تعرف الجواب عن الإشكال الثاني فإنّ هذا التقييد الطارئ لم يكن منشؤه انحصار الحكم بالمقيّد ، بل إنّ الانحصار يكون ناشئا عنه.

والحاصل : أنّ العام في حدّ نفسه منقسم إلى هذين الصنفين المتقابلين ، ولمّا كان الاستثناء موجبا لخروج الصنف الفلاني ، فقد أوجب بعين ذلك تقيّد العام ولا أقل من كونه موجبا لتقيّده بعدم ذلك الصنف الخارج إن لم يكون موجبا لتقييده بضدّه ، وحاله في هذه الجهة من استلزام التقييد في ناحية المراد الواقعي حال المخصّص المتّصل ، ومن الواضح أنّ هذا التقييد لم يكن ناشئا عن قصور الحكم وإنّما كان قصور الحكم ناشئا عنه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الذي يظهر منه قدس سره أنّه بناء على التقييد لا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام في مورد الشكّ ، وأنّ محلّ النزاع في ذلك إنّما هو بناء على أنّ التخصيص بمنزلة الموت لا يوجب التقييد أصلا ، ولكن يمكن البناء على التقييد مع دعوى إمكان التمسّك بالعموم بالتقريب الذي ذكره في الكفاية (1) لصحّة التمسّك بالعموم من كونه حجّة بلا مانع ، لأنّ الخاصّ لا يكون حجّة فعلية في هذا المشكوك ، فلا يكون مزاحما لحجّية العام فيه لعدم كونه حجّة فعلية ، وذلك بأن يقال إنّ الخاصّ المنفصل إنّما يوجب تقيّد العام بالمقدار الذي يكون حجّة فيه على حذو ما تقدّم في الشبهة المفهومية المردّدة بين الأقل والأكثر ، ومن الواضح أنّ الخاصّ إنّما يكون حجّة في خصوص من علم فسقه ، أمّا من لا يكون معلوم الفسق فليس الخاصّ حجّة فيه ، وحينئذ لا مانع فيه من حجّية العام ، إلى آخر ما يذكر في تقريبات القول بجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

ص: 208


1- كفاية الأصول : 221.

قوله في الحاشية - في بيان مراد صاحب الكفاية قدس سره - : لأنّ غاية ما يترتّب على الاستثناء إنّما هو اعتبار عدم اتّصاف العام بالوصف الوجودي المأخوذ في ناحية ... الخ (1).

لا يخفى أنّ اعتبار هذا المعنى في العام وهو عدم اتّصافه بوصف الخاص هو عبارة أخرى عن مفاد ليس الناقصة الذي نعبّر عنه بالعدم النعتي الذي لا تحرزه أصالة العدم المحمولي.

نعم إنّ المحشّي لمّا تخيّل إرجاع مفاد ليس الناقصة إلى الموجبة المعدولة المحمول ، أفاد أنّ هذا المعنى وهو عدم اتّصاف العام بوصف الخاصّ يمكن إحرازه بالعدم المحمولي ، تخيّلا منه أنّ هذا المعنى هو عبارة عن العدم المحمولي ، ومن المحقّق أنّ صاحب الكفاية قدس سره لا يريد هذا المعنى ، بل إنّما يريد - كما شرحه المرحوم الشيخ محمّد علي فراجعه ص 336 (2) - أنّ العام لا يكون معنونا بعنوان أصلا لا وجودي ولا عدمي ، وأنّ أصالة العدم إنّما نحتاج إليها لطرد احتمال عنوان الخاص ، فيرد عليه حينئذ أنّ العدم المحمولي لا يطرد الوجود النعتي الذي هو مفاد كان الناقصة في ناحية الخاص.

نعم ، يرد على شيخنا قدس سره أنّ هذا الايراد الأوّل (3) الذي أورده على صاحب الكفاية في الاستثناء المتّصل لا يرد على صاحب الكفاية ، لأنّ صاحب الكفاية يعترف أنّ الاستثناء المتّصل يوجب قلب ظهور العام ، لكن لا بمعنى أنّه يوجب تعنونه بعنوان خاص وجودي أو عدمي ، بل بمعنى أنّه يوجب قلب ظهوره من

ص: 209


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 340.
2- حسب الطبعة القديمة من فوائد الأصول ، راجع الطبعة الحديثة 1 - 2 : 534.
3- أجود التقريرات 2 : 339.

كونه شاملا للخاص إلى عدم كونه شاملا له.

قوله في الحاشية : فالقيد المأخوذ في طرف العام منحصر بعدم كونه متّصفا بعنوان الخاص ... الخ (1).

قد عرفت كفاية اعتبار هذا العدم ، وأنّه عين مفاد ليس الناقصة. ولا يخفى أنّ إيراد شيخنا قدس سره (2) عليه إنّما هو من هذه الناحية ، أعني قوله : بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص الخ (3) ، وذلك لأنّ مفاد هذه الجملة هو كون العام مقيّدا بالعنوان الذي لم يكن هو عنوان الخاص كما شرحه المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : إنّ قوله « لم يكن ذلك بعنوان الخاص » هو عين التوصيف (4).

نعم إنّ شيخنا أورد على قوله « بل بكلّ عنوان » أنّه لا يخلو من مسامحة ، فراجع ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (5).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ مفهوم القرشية ... الخ (6).

الظاهر أنّ الياء في قرشية المرأة كالياء في قرشية الرجل ليست للنسبة ، وإنّما هي ياء المصدر الانتزاعي مثل القائمية والضاربية والزيدية ونحوها ، ومنشأ الانتزاع إنّما هو الانتساب إلى قريش ، فليس الانتساب إلى قريش متّحدا مفهوما مع قرشية المرأة أو قرشية الرجل كما تضمّنته الحاشية المذكورة ، كما أنّه ليس بمنتزع من قرشية المرأة أو قرشية الرجل كما أفاده شيخنا قدس سره.

ص: 210


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 340.
2- أجود التقريرات 2 : 340.
3- كفاية الأصول : 223 / إيقاظ.
4- فوائد الأصول4. 2 : 535.
5- فوائد الأصول4. 2 : 535.
6- أجود التقريرات 2 ( الهامش 2 ) : 340.

بل إنّ الأمر بالعكس ، بمعنى أنّ قرشية المرأة أو قرشية الرجل الذي هو عبارة عن المصدر الانتزاعي المشتقّ من مفاد ياء النسبة في قولنا هذه المرأة قرشية وهذا الرجل قرشي ، منتزعة من الانتساب إلى قريش الذي هو عرض من الأعراض الاضافية الراجعة إلى التولّد والبنوّة ، وصاحب الكفاية قدس سره لم يجر أصالة العدم المحمولي في مفاد ياء النسبة في قولنا هذه المرأة قرشية أو هذا الرجل قرشي ، لأنّ ذلك لا أصل له لكونه مفاد كان الناقصة ، فتمحل وأرجع مفاد ياء النسبة إلى أصله المنتزع منه ، وهو نفس الانتساب ، فذلك عنده نظير ما لو ترتّب الأثر على زيد العادل بمفاد كان الناقصة ، واستصحاب عدم العدالة بتخيّل أنّ استصحاب عدم عدالة زيد بمفاد ليس التامّة يجدي في طرد الحكم المترتّب على كون زيد عادلا ، وحينئذ يكون قد وقع فيما فرّ منه.

قوله : إذ اللازم في جريان الاستصحاب في العدم النعتي هو اتّصاف الموضوع به خارجا ولو آنا حكميا ، وسبق رتبة الموضوع على عرضه مع عدم انفكاكهما في آن خارجي لا يصحّح جريان الاستصحاب ... الخ (1).

فإنّ الاستصحاب هو الجر بحسب الزمان ، فلا بدّ فيه من تحقّق المستصحب في زمان ولو آنا لنسحبه إلى ما بعده من أزمنة الشكّ ، ومجرّد كون العرض معدوما عن معروضه في رتبته لا يكون محقّقا لذلك. مع أنّا لو سلّمنا الاكتفاء بالانتفاء في الرتبة لم يكن ذلك نافعا في إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى العدم النعتي ، لأنّ المعروض في رتبته كما لا يكون متّصفا بوجود العرض لا يكون أيضا متّصفا بعدمه ، لما عرفت من كون تقابلهما من قبيل تقابل العدم والملكة ، وهو إنّما يكون في المورد الصالح لذلك ، والمفروض أنّ المعروض في

ص: 211


1- أجود التقريرات 2 : 341 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

رتبته نفسه لا يعقل اتّصافه بكلّ من وجود العرض له وانعدامه عنه ، فحاله في هذه الرتبة كحاله قبل وجوده في عدم صلاحيته لكلّ من الأمرين ، أعني وجود العرض له وعدمه منه ، أعني بذلك الوجود والعدم النعتيين.

قوله : فالتحقيق أن يقال : إنّ ما يسمّى بالمخصّص العقلي إن كان بمعنى تقييد موضوع الحكم وتضييقه ... وأمّا إذا كان بمعنى إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا من دون تقييد موضوع الحكم به ، لعدم صلاحية تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فلا إشكال في جواز التمسّك بالعموم حينئذ وكشفه عن وجود الملاك ... الخ (1).

لمّا كان الأصل في هذه المسألة هو الشيخ قدس سره في التقريرات ، فالذي ينبغي أوّلا هو التأمّل في كلامه قدس سره لعلّنا نطّلع على مراده في هذه المسألة وأنّه كيف يمكن التمسّك بالعموم فيها مع كون الشبهة موضوعية مصداقية.

فنقول : إنّه قدس سره قال : هداية ، إذا علم تخصيص العام بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما ، ويمكن استيناسه من مذاق العلماء في جملة من الموارد أيضا ، ومثال ذلك ما إذا قال المولى أكرم العلماء وعلمنا من نفسه من تعبيره وتخصيصه (2) أنّه لا يريد إكرام الفاسق ، فإنّه إذا شكّ في زيد هل هو فاسق أو لا ، يجب تحكيم العام فيه والقول

ص: 212


1- أجود التقريرات 2 : 343 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ هكذا وردت العبارة في الطبعة الحجرية ، وفي الطبعة الحديثة ( تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ) ورد : « ومن تعبيره وتخصيصه للعام » ، ولعلّ الصحيح : « لا من تعبيره وتخصيصه ... » فلاحظ ].

بوجوب إكرامه ، وتحقيق القول الخ (1).

والظاهر ممّا أفاده في هذا التحقيق هو أنّ التخصيص تارة يكون على نحو التنويع وأخرى يكون على نحو القضية التعليقية بأن نكون قد علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه ، وأنّه لو كانت المسألة من النحو الأوّل سقط العموم في الشبهة المصداقية ، وعلى الثاني لا يسقط العموم ، والغالب في الأوّل هو التخصيصات اللفظية كما أنّ الغالب في الثاني هو التخصيصات اللبّية ، ثمّ إنّه أفاد أنّ المسوّغ للتمسّك بالعموم في الثاني أمران :

الأوّل : الركون إلى أصالة عدم الفسق. وأورد عليه بعدم كونه مجديا لكونه بمفاد ليس التامة.

الثاني : أنّ الرجوع إلى العام في المقام يوجب رفع الشكّ الموضوعي المفروض في المشكوك ، من جهة أنّ التعبير بالعموم من دون تقييده بعنوان آخر يكشف عن أنّ المتكلّم لا يرى في أفراد ذلك العام ما يصلح لمعارضة العام ، ومثّل لذلك بالتمسّك بعموم ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2) على عصمة النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام وبمثل « اللّهمّ العن بني أميّة قاطبة » (3) على عدم وجاهة أحد منهم. ومثّل أيضا بقول القائل « أكرم جيراني » مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه يستفاد منه أنّه لا يرى فيهم عدوا ، من دون أن يكون في البين تقييد للجيران بعدم العداوة ، غايته أنّا نعلم بالملازمة بين العداوة وعدم الاكرام ، وذلك لا يضرّ التمسّك بالعموم بل يؤكّده ، حيث إنّا نستكشف من ثبوت الاكرام الملازم لعدم

ص: 213


1- مطارح الأنظار 2 : 143.
2- البقرة 2 : 124.
3- الوارد في ضمن زيارة عاشوراء ، راجع بحار الأنوار 101 : 293.

العداوة عدم كونه عدوا كما هو الشأن في جميع ضروب الاستدلال.

ثمّ إنّه أفاد أنّ هذا النحو على نحوين : أوّلهما ما يمكن اعتباره قيدا في الموضوع كالجار الصديق والعالم العادل ونحو ذلك. وثانيهما : ما لا يمكن ذلك فيه ولا يعقل اعتباره فيه كما في الوصف المنتزع من تعلّق الأمر أو النفوذ كالصحّة والفساد سواء كان في العبادات أو كان في المعاملات ، وأنّ الأوّل قد عرفت الكلام فيه. وأمّا الثاني فالتمسّك بالعموم فيه كاد أن يكون من الضروريات ، فإذا شككنا في أنّ عتق الكافرة هل هو صحيح أو لا ، يجب الأخذ بالعموم أو الاطلاق ، ولا سبيل فيه للقول بأنّا نعلم بأنّ غير الصحيح من العتق غير مراد للمولى ، وحينئذ لا بدّ من إحراز الصحّة ، فإنّ ذلك باطل جدّا ، لأنّ الصحّة ليست إلاّ ما ينتزع من المأمور به ، والعموم يفيد كونه مأمورا به - إلى أن قال - وكيف كان لا وجه للتردّد في أمثال هذه المطالب الواضحة وإن صعب مأخذه بواسطة عدم التدرّب في كيفية المأخذ ، ولقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الصحيح والأعمّ فراجعه (1) ، انتهى ما اختصرناه من كلامه قدس سره.

وأنت بعد اطّلاعك على هذا تعرف أنّه ليس المراد من عدم أخذ القيد هو كونه دخيلا في الملاك ، بل إنّ عدم إمكان أخذه الذي عناه الشيخ قدس سره إنّما هو من جهة كونه منتزعا عن الحكم ، فلا يعقل أن يكون مأخوذا في متعلّقه كما في الصحّة التي هي بمعنى الموافقة للأمر.

وكيف كان ، فاللازم هو الانتقال إلى ما أفاده الشيخ قدس سره في القسم الثاني ، وكيفية تطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول بعونه تعالى : إنّ كيفية تطبيقه على ما نحن

ص: 214


1- مطارح الأنظار 2 : 143 - 148.

فيه هو أن يقال : إنّ مثل قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) نعلم أنّه قد خرج منه الفاسد ، لأنّه تعالى لا يأمر بالفاسد ، فما علمناه فاسدا حكمنا بخروجه ، وما شككنا في فساده كان الاطلاق والعموم محكما فيه ، لأنّ العلم بأنّه تعالى لا يريد الفاسد لا يوجب تقييدا في العام الذي هو الصلاة المأمور بها ، هذا هو حاصل تطبيق ذلك على ما نحن فيه.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال قد تعرّضوا له في باب الصحيح والأعمّ ، وأنّ ثمرة النزاع هي أنّه على الأعمّ يمكن التمسّك بالاطلاق والعموم بخلافه على الصحيح ، فأشكلوا على هذه الثمرة بأنّه لا يمكن التمسّك بالاطلاق حتّى على الأعمّ ، أمّا على الصحيح فواضح ، لكون الموضوع له هو خصوص الصحيح ، ومع فرض الشكّ في صحّته كيف يمكن التمسّك بالاطلاق. وأمّا على الأعمّ فلأنّ اللفظ وإن لم يكن موضوعا لخصوص الصحيح ، إلاّ أنّه عند وقوعه محلا للتكليف لا بدّ من أخذه مقيّدا ، لأنّ الأمر لا يتعلّق بالفاسد.

وأجيب هناك بأنّه على الأعمّ لا يكون المتعلّق مقيّدا بالصحيح ، بل إنّ وصف الصحّة يكون مأخوذا من الاطلاق ، وبرهانه أنّ تعلّق الأمر به من دون قيد يكشف عن أنّه لا يعتبر فيه القيد ، فيكون الفاقد لذلك القيد صحيحا ، لأنّه قد وقع تحت الأمر بمقتضى الاطلاق ، وما يكون متعلّقا للأمر لا يكون إلاّ صحيحا.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه بناء على الصحيح يكون الشكّ في الصحّة تارة على نحو الشبهة الحكمية وأخرى على نحو الشبهة الموضوعية. فالأولى مثل أن يشكّ في كون الاستعاذة شرطا أو جزءا من الصلاة على وجه تكون الصلاة الفاقدة لها فاسدة. والثاني أنّه بعد أن ثبت أنّ الصلاة مقيّدة بالفاتحة مثلا وأنّ الفاقدة

ص: 215


1- البقرة 2 : 43.

للفاتحة فاسدة ، نشكّ في أنّ هذه الصلاة الخاصّة فاقدة للفاتحة أو أنّها واجدة لها. ولا ريب في أنّه على القول بالصحيح لا يكون المرجع في كلا الشبهتين إلاّ الأصل العملي دون الاطلاق اللفظي. أمّا على القول بالأعمّ فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الاطلاق أو العموم غير نافع في الجهة الثانية من الشكّ وهي التي تقع في محلّ كلامنا. أمّا الجهة الأولى فهي راجعة إلى أنّ الاطلاق وعدم التقييد أو عدم التخصيص كاشف عن أنّ المتعلّق باق على إطلاقه لم يقيّد بمثل الاستعاذة ، نظير تمسّكنا باطلاق الرقبة على عدم لزوم تقييدها بالإيمان ، وليس ذلك من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل لو كان في البين عموم كان من قبيل الشكّ في أصل التخصيص على نحو الشبهة البدوية ، وكون الشارع لا يأمر بالفاسد ليس من باب التقييد بعدم الفاسد كي يكون التمسّك به فيما لو شكّ في اعتبار الاستعاذة من قبيل التمسّك بالعموم أو الاطلاق في مورد الشبهة المصداقية ، بل من باب استكشاف الصحّة من الاطلاق وعدم التقييد على ما عرفت تفصيله في مبحث الصحيح والأعمّ (1).

ولا يخفى أنّ هذا المورد هو العمدة فيما يدعى على المشهور التسالم فيه على التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصّص أو المقيّد لبّيا ، وقد عرفت أنّ هذا ليس من ذلك الوادي في مراح ولا مغدى.

ثمّ لا يخفى أنّه لا ريب في أنّ الشارع لا يأمر بالفاسد ، لكن ذلك لا يوجب تقيّد المأمور به بما عدا الفاسد أو بالصحيح ، فإنّ ذلك إنّما يمكن في القيود القابلة لأن تكون سابقة على الأمر ، أمّا ما يكون منتزعا عن تعلّق الأمر فلا يعقل كونه قيدا

ص: 216


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المتقدّمة في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 184 وما بعدها.

في متعلّقه ، بل إنّ الصحّة عبارة أخرى عن كون الشيء مطابقا للأمر الذي تعلّق به ، فيكون ذلك عبارة أخرى عن كونه مأمورا به ، فليس قولنا إنّ الشارع لا يأمر إلاّ بالصحيح إلاّ عبارة أخرى عن أنّ الشارع لا يأمر إلاّ بما هو المأمور به ، وليس قولنا إنّا نعلم أنّ غير الصحيح خارج عن المأمور به إلاّ بمنزلة قولنا إنّ ما هو غير مأمور به لا بدّ أن يكون غير مأمور به ، وحينئذ فلا محصّل للقول بأنّ ما نعلم كونه غير صحيح يكون خارجا عن عموم قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) مثلا ، وما يكون مشكوك الصحّة والفساد يكون أصالة العموم جارية فيه ، لأنّ ذلك بمنزلة قولنا إنّ ما علمنا من أفراد الصلاة أنّه غير مأمور به يكون بحكم العقل خارجا عن عموم المأمور به في قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) وما شككنا في أنّه مأمور به يكون أصالة العموم محكّمة فيه.

نعم ، بعد العلم بأنّ الصلاة مقيّدة بالركوع مثلا يكون الفاقد له منها خارجا عن العموم المذكور ، لأنّ ذلك هو مقتضى ما دلّ على تقيّدها بالركوع ، أمّا الفاقدة للاستعاذة المشكوك اعتبارها فيها فإنّ الشكّ في اعتبارها فيها وإن أوجب الشكّ في صحّة الفاقد لها إلاّ أنّ مقتضى عموم الصلاة في قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) قاض بكونها صحيحة ، وليس ذلك من باب التمسّك بالعموم في مورد الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل هو من باب التمسّك باطلاق المطلق أو عموم العام على عدم اعتبار ما شكّ في اعتباره فيه ، وهو من قبيل الشبهة الحكمية لا المصداقية ، ولأجل ذلك لو علمنا أنّ الشارع أو العقل حكم بأنّه لا بدّ في العقد من أن لا يكون بين الايجاب والقبول مثلا فاصل يعتدّ به وأوقعنا عقدا وشككنا في صحّته بعد وقوعه من جهة الشكّ في أنّه هل كان فيه ذلك الفاصل ، فإنّا لا

ص: 217

نتمسّك على صحّة ذلك العقد بعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وما ذلك إلاّ لكونه شبهة مصداقية ، سواء كان الحاكم باعتبار عدم الفاصل وبخروجه من ذلك العموم هو الشرع أو كان هو العقل ، وبعبارة [ أخرى ] سواء كان التخصيص بدليل لفظي أو كان بدليل لبّي ، بخلاف ما لو أوقعناه بالفارسية مثلا وشككنا في صحّته من جهة الشكّ في اعتبار العربية ، فإنّ العقل وإن حكم بأنّ الفاسد خارج عن ذلك العموم إلاّ أنّا نتمسّك بذلك العموم على صحّته ، وليس ذلك من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل هو كما عرفت من باب التمسّك باطلاق المطلق على عدم اعتبار ما شكّ في اعتباره على نحو الشبهة الحكمية.

ولو سلّمنا أنّه يصدق عليه أنّه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص العقلي اللبّي ، بدعوى أنّ العقل حاكم بخروج الفاسد ، وهذا العقد المشكوك الفساد يكون حاله كحال من شكّ في فسقه بعد قيام الدليل اللفظي على خروج الفاسق ، وحينئذ بهذا الاعتبار يكون ما نحن فيه من قبيل الشبهة المصداقية مع كون المخصّص لبّيا عقليا ، لم يكن ذلك إلاّ من قبيل النزاع في التسمية ، وأنّ هذا التمسّك هل يسمّى تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقية أو أنّه تمسّك بالعام في الشبهة الحكمية ، فلا يكون للنزاع المذكور أثر مهم بعد فرض أنّ هذا النحو من التمسّك صحيح لا ريب فيه ، إذ لو سلّمنا ذلك كلّه لم يلزم أن نقول بصحّة جميع موارد التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ، بل يكون الأمر مقصورا على هذه الصورة ، وهي ما كان القيد وهو الصحّة منتزعا من الأمر وكان متأخرا عنه رتبة ، وكان ذلك القيد عبارة أخرى عن كونه متعلّقا

ص: 218


1- المائدة 5 : 1.

للأمر ، فإنّ ذلك يصحّ التمسّك فيه بالعموم عند الشكّ في الصحّة من ناحية الشكّ في اعتبار شيء فيه ، فإن شئت فسمّه تمسّكا بالاطلاق في موارد الشبهة الحكمية ، وإن شئت فسمّه تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية.

ولا يخفى أنّه بعد فرض امتناع التقييد أو التخصيص في هذا النحو من القيود كيف يمكن أن يتصور العلم بخروج البعض الذي هو ملازم لتقيّد الباقي بما عداه ، بل كيف يمكن أن يتصوّر فيه الشكّ في المخصّص في الشبهة المصداقية من ناحية الخاص ، لأنّ المفروض هو امتناع التخصيص فكيف يتصوّر الشبهة من ناحية الخاص ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا القسم الأوّل أعني ما يمكن فيه التخصيص ولكن الخاص قد أخذ على نحو التعليق في قبال ما يكون مقسّما للعام تقسيما فعليا ، ففيه أنّ الكلام إنّما هو في القضايا الحقيقية ، ولا يكون الحكم فيها إلاّ بنحو القضية الشرطية ، فقوله : أكرم العلماء بمنزلة قوله أكرم الشخص لو كان عالما أو بمنزلة قوله كلّما وجد وكان عالما وجب إكرامه ، وقوله لا تكرم فسّاق العلماء هو بمنزلة أنّ كلّ ما وجد من العلماء وكان فاسقا لم يجب إكرامه ، وحينئذ فكلّ خاص لفظي يكون من هذا القبيل أعني القضية الشرطية ، ولازمه جواز التمسّك بالعام في جميع الموارد ، ولا يخفى ما فيه.

أمّا ما ذكره من أمثلة هذا القسم أعني القسم الأوّل الذي أفاد أنّه يجوز التمسّك فيه بالعموم في الشبهة المصداقية ، لكون حكم الخاصّ من قبيل التعليق ، وأنّه من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فالظاهر أنّه أيضا ليس من هذا القبيل ، بل الظاهر أنّه من قبيل أنّ العمل بخلاف الحكم العام في جماعة كاشف عن أنّهم ليسوا من ذلك العام ، كما في عموم قوله تعالى ( لا يَنالُ

ص: 219

عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) فيما لو فوّض اللّه سبحانه وتعالى منصب النبوّة أو الإمامة إلى شخص ، فإن جعل ذلك المنصب له كاشف عن أنّ ذلك الشخص لم يكن قد تلبّس بالظلم وإلاّ لما صحّ نصبه ، ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يتصوّر فيه التخصيص ولا الشكّ في التخصيص.

ومنه يظهر لك الحال في صدور لعن بني أميّة قاطبة من الإمام عليه السلام فإنّ هذا ليس من قبيل حكم شرعي عام بل هو عمل بحكم شرعي ، وهو وجوب أو استحباب لعن عدو أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ اللعن منه تعالى هو الطرد من رحمته ، ومنّا هو الدعاء والطلب من اللّه تعالى أن يطرد الشخص من رحمته ، وذلك ضدّ الصلاة ، فإنّها منه تعالى هي العطف والرحمة ، ومنّا عبارة عن الدعاء والطلب منه تعالى أن يصلّي على الذي نصلّي عليه وهو النبي صلى اللّه عليه وآله ، فالإمام عليه السلام يكون بلعنه لبني أميّة يكون عاملا بذلك العموم. وهناك عموم آخر وهو أنّه لا يجوز لعن المؤمن (2) ، وهذان العمومان لا تعارض بينهما ولا تخصيص ، أمّا هذا العمل وهو صدور اللعن لهم من الإمام عليه السلام فهو كاشف عن أنّهم جميعا من مصاديق العام الأوّل ، وأنّه ليس فيهم من هو من قبيل مصاديق الثاني ، فلو فرضنا ولو بعيدا أنّ فلانا الأموي ليس بعدو لأهل البيت بل هو موال لهم ، فلا يمكن القول بأنّه خارج عن عموم هذا اللعن بالتخصيص ، لكونه عليه السلام قد لعنهم بالفعل ، ولعنه لهم جميعا بمنزلة إقدامه على قتلهم ليس ممّا يدخله التخصيص ، لما عرفت من أنّه عمل خارجي.

وحينئذ نقول في هذا الفرض البعيد أنّ هذا العمل منه عليه السلام يكون مخصّصا

ص: 220


1- البقرة 2 : 124.
2- راجع وسائل الشيعة 12 : 301 / أبواب أحكام العشرة ب 160 ح 1.

لما دلّ على أنّ المؤمن لا يجوز لعنه ، وليس ذلك بأعظم من مسألة تترّس الكفّار بالمسلمين ، وهكذا الحال في أمره لنا بلعنهم فإنّه كأمره بقتلهم يكون آبيا عن التخصيص بالمرّة.

ولكن هذه الطريقة لا تخلو عن مجازفة فإنّه بالضرورة لا يجوز لعن المؤمن ، وليس ذلك من قبيل التترّس فإنّه جائز لأجل المصلحة الأهمّ ، بخلاف مسألة اللعن ، فالأولى الالتزام بأنّ ذلك المؤمن خارج عن عموم لعنه عليه السلام لهم ، أو نقول باستكشاف كونه غير مؤمن حقيقة وإن كان بحسب الصورة الظاهرية مؤمنا ، أو نقول إنّه وإن لم يكن الاخراج تخصيصا اصطلاحا إلاّ أنّه يجري مجراه عملا ، فلو قال اللّهمّ العن بني أميّة إلاّ فلانا كان في الحقيقة إخراجا من العمل ، نظير ما لو قتلهم بعد إخراجه منهم ، وحينئذ نقول لو فرضنا أنّ فلانا كان مؤمنا فقد أخرجه الإمام عليه السلام من دعائه ومن مورد الأمر باللعن فلاحظ.

وأمّا الأمثلة العامّة مثل أكرم جيراني ونحوه ، فكلّها راجعة إلى جهل الآمر على وجه لا يمكنه أن يحتجّ على المأمور بأنّك لم أكرمت فلانا الجار مع علمك بأنّه عدوي ، وأنّي لا أريد اكرام عدوّي ، ولا يكون قوله أكرم جيراني مع فرض جهله بأنّ فلانا الجار عدو له إلاّ كاقدامه هو على إكرامهم في أنّ ادخال ذلك الشخص فيهم لا يكون إلاّ من باب الجهل الصرف من دون أن يكون في البين تخصيص أصلا ، وليس ذلك إلاّ من قبيل ما لو أمره باكرام زيد وكان المأمور يعلم أنّ زيدا عدو له وأنّه يمنع من إكرام عدوّه أشد [ المنع ] فلو فعله المأمور لم يكن للآمر عليه حجّة في ذلك ، ولم يكن ذلك إلاّ من قبيل ما لو أقدم هو على إكرام ذلك الشخص ، ولا فرق بينهما غير أنّ ذلك تناقض في الارادة وهذا تناقض في العمل ، بمعنى أنّ عمله كان مناقضا لارادته النفسانية أو البارزة بقوله لا تكرم

ص: 221

عدوّي ، ولم يكن المنشأ في ذلك التناقض إلاّ جهل الآمر. وليس له في ذلك حجّة على المأمور إلاّ بأحد وجهين : أوّلهما أن يكون هذا الأمر مشتملا على التقييد ، بمعنى أنّ قوله أكرم زيدا أو أكرم هؤلاء أو جيراني يكون مقيّدا بقوله إن لم يكن عدوا. ثانيهما : أن يكون قوله الناشئ عن الجهل بمنزلة قول السكران والنائم لا يجوز للمأمور أن يأخذ به ويحتجّ به على الآمر ، ولأجل ذلك نقول إنّه لو (1) أمره بقتل هذا الشخص وكان هو متخيلا أنّه عدوّه مع كونه في الواقع أخاه أو ابنه ، أو أمره بقتل جماعة فيهم ابنه وهو لا يعلم ، وعلى أي حال يكون خارجا عمّا نحن فيه ، أمّا الثاني فواضح ، لما عرفت من كونه حينئذ ملحقا بكلام النائم والسكران ، وأمّا الأوّل فلأنّ ذلك التقييد يخرجه عمّا هو محلّ الكلام الذي عنونه الشيخ قدس سره بقوله : إذا علم تخصيص العام بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم (2).

وحاصل الإشكال : هو أنّ من علمنا بعداوته لا شكّ في عدم خروجه عن قوله أكرم جيراني إذا كان المتكلّم جاهلا بعداوته ، بل يكون الحكم بوجوب الاكرام فيه واردا على ذلك العدو ، كما لو أنّ المتكلّم بنفسه أقدم على إكرامهم جميعا أو قتلهم جميعا في صورة ما لو قال اقتل هؤلاء جميعا مع فرض كون بعضهم أخاه أو ابنه ، فإذا كان هذا حال صورة العلم بالخلاف وأنّها أجنبية عن التخصيص ، فخروج حال صورة الشكّ في ذلك بطريق أولى. وربما يتّفق مثل ذلك فيما لو كان الآمر عالما بوجود العدو لكن أمر باكرام الجميع احتراما وإن دخل فيهم من لا يستحقّ الاكرام ، كما لو أمر الشارع باحترام الذرّية مع العلم بأنّ البعض ليس أهلا لذلك إلاّ أنّه مع ذلك يجب احترامه احتراما له صلى اللّه عليه وآله أو للأغلب

ص: 222


1- [ لم يذكر جواب « لو » في العبارة ، لكنّ المعنى واضح ].
2- مطارح الأنظار 2 : 143.

منهم.

ولا فرق في ذلك بين كون القضية خارجية وكونها حقيقية ، وإن كانت قضايا القسم الثاني بالقضايا الخارجية أشبه منها بالقضايا الحقيقية.

ومن ذلك يتّضح لك ما في الحاشية على ص 475 (1) وما بعدها من الحواشي فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا إذا كان بمعنى إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا من دون تقييد موضوع الحكم به لعدم صلاحية تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ... الخ (2).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الغرض من الملاك في هذا المقام إن كان هو عبارة عن حكمة التشريع ، لم يكن تخلّفها موجبا للتخصيص لعدم اطرادها ولا انعكاسها ، وإن كان عبارة عن علّة الحكم كانت من قيود الموضوع لا محالة ، لأنّ الضابط فيها هو كونها صالحة لأن تلقى إلى المخاطب عنوانا كلّيا ، والظاهر أنّ الشقاوة من هذا القبيل.

وإن كان الغرض من الملاك هو المصالح والمفاسد التي تكون الأحكام تابعة لها عند العدلية كما يشهد به قوله : لعدم صلاحية تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فهي أجنبية عن باب التخصيص بالمرّة ولا ربط لها بالمكلّف ، ولا أثر

ص: 223


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 343 من الطبعة الحديثة.
2- أجود التقريرات 2 : 343 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وقد وردت هذه العبارة في ضمن المتن المتقدّم في صفحة : 212 ، كما سيأتي التعليق على هذه العبارة بصياغتها الجديدة في الصفحة : 232 ].

لشكّ المكلّف في تحقّق المصلحة في هذا الفرد وعدم تحقّقها ، بل لا معنى لأن يقول المكلّف إنّ هذا الفرد الفلاني خارج لعدم تحقّق مصلحة الحكم فيه ، إذ لا طريق له إلى العلم بذلك ، وإلاّ لصحّ لكلّ مبدع أن يقول إنّي أقطع بعدم المصلحة في بقاء الحكم ، كما ادّعى من يقول بحلّية الربا مثلا في هذا الزمان ، وكما لو ادّعى عمر بأنّه يقطع بانقضاء مصلحة حلّية المتعة كما نقل عنه في الهرولة بين الصفا والمروة.

نعم ، هنا مطلب أشار إليه شيخنا قدس سره (1) وهو أنّ التخصيص في مثل ذلك يكون أفراديا بالنسبة إلى من علم بعداوته ، وأمّا من شكّ في عداوته فهو وإن لم تقم عليه حجّة في قبال العام إلاّ أنّه يمكن التمسّك فيه بالعموم ، لأنّه لو كان عدوا لكان خارجا وكان تخصيصا زائدا ، بخلاف المخصّص اللفظي على ما عرفت من أنّه بعد سقوط حجّية الخاصّ فيه لا يمكن الرجوع فيه إلى العام لعدم كونه تخصيصا زائدا على ما تكفّله قوله لا تكرم فسّاق العلماء ، لكن يمكن التأمّل في ذلك أيضا ، وأنّ العلم بأنّه لا يريد العدو يكون موجبا لتقيّد العام بعدمه ، فلا يكون خروجه حينئذ تخصيصا زائدا ، فتأمّل ، هذا.

ولكن شيخنا قدس سره فرض في أصل المسألة فروضا لو سلّمت لم يكن التخصيص فيها إلاّ أفراديا ، وذلك لأنّه فرض أنّ الحكم الوارد على العام إنّما ورد عليه لملاك ، وأنّ موضوع ذلك العام لا يمكن أن يكون مقيّدا بوجود ذلك الملاك ، وأنّ هذا الملاك قد اطّلع المكلّف على أنّه لم يكن موجودا في هذا الفرد ، وبعد تسليم هذه المقدّمات لا بدّ أن يكون التخصيص أفراديا ، ولا يكون الخارج إلاّ ذلك الفرد الذي لم يكن الملاك متحقّقا فيه ، من دون أن يكون موجبا

ص: 224


1- أجود التقريرات 2 : 345.

لتقيّد ذلك العام بوجود الملاك ، ولازم ذلك أنّا إذا شككنا في فرد أنّه هل الملاك موجود فيه ، يكون الشكّ بالنسبة إلى ذلك الفرد شكّا في التخصيص ، وبعد إجراء العموم فيه يكون أصالة عموم العام فيه كأمارة على وجود الملاك فيه ، وحينئذ لا يرد عليه ما في الحاشية (1) من أنّ انعدام الملاك في فرد لا بدّ أن يكون لخصوصية فيه ، فيكون عدم تلك الخصوصية قيدا في العام ، فإنّ ذلك وإن كان مسلّما إلاّ أنّه قدس سره قد سدّ هذا الباب ، بالمقدّمة القائلة بأنّ الحكم يستحيل أن يتقيّد وجودا أو عدما بما هو راجع إلى ملاكه.

نعم ، يرد عليه المنع من هذه المقدّمة وغيرها ممّا قد عرفته. مضافا إلى أنّ الالتزام بكون التخصيص أفراديا وأنّ كلّ واحد من تلك الأفراد المنعدم فيها يكون خارجا خروجا مستقلا ، يوجب الالتزام بخروج المورد عن كونه من قبيل الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص اللبّي ويدخلها في باب الشكّ في أصل التخصيص على نحو الشبهة الحكمية ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى أنّ هذا الفرد هل هو خارج عن العموم خروجا مستقلا أو أنّه غير خارج عنه ، ولا ريب حينئذ في أنّ المرجع هو أصالة العموم وعدم التخصيص بالنسبة إلى ذلك الفرد المشكوك خروجه ، فتأمّل.

ينبغي مراجعة ما أفاده قدس سره في الجزء الثاني في مسألة عدم منجّزية العلم الاجمالي عند كون بعض أطرافه خارجا عن الابتلاء ، وأنّه لو حصل الشكّ في كون هذا الطرف خارجا عن الابتلاء ، فإنّه قدس سره على ما في تحريرات السيّد سلّمه اللّه (2) صرّح بكون الخروج عن الابتلاء وإن كان موجبا لسقوط التكليف بحكم

ص: 225


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 343.
2- أجود التقريرات 3 : 433 وما بعدها.

العقل إلاّ أنّه من قبيل القيود الراجعة إلى الملاك لا من قبيل ما يرجع إلى التصرّف في موضوع الحكم ، فراجع وراجع ما علّقناه (1) هناك على ذلك المقام.

وقد يقال : إنّ ملاك الحكم هو علّته ، ونحن إذا علمنا بعدم الملاك في فرد فقد علمنا بعدم الحكم فيه ، أمّا الفرد الذي احتملنا فيه وجود الملاك فلنا استكشاف الملاك فيه من عموم الحكم ، ويكون الانتقال من الحكم إلى وجود ملاكه انتقالا إنّيا نظير انتقالنا من الحكم الشرعي في مورد إلى تحقّق المصلحة في ذلك المورد بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح الواقعية ، وأمّا مسألة الصحيح والأعمّ فإنّ الأمر فيها بالعكس ، بمعنى أنّ وجود الأمر في هذه الصلاة يكون علّة في الحكم بصحّتها ، كما أنّ عدم الأمر بها يكون علّة في فسادها ، فعند وجود الأمر بالعبادة ننتقل إلى معلوله وهو الصحّة ويكون الانتقال لمّيا ، وإطلاق الأمر أو عمومه كاف في إثباته في مورد الشكّ وهو علّة في الحكم بصحّته ، فليس شيء من المسألتين من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

نعم [ يرد ] على الصورة الأولى أنّه لا طريق لنا إلى إحراز عدم تحقّق الملاك في مورد لنحكم بعدم تحقّق الحكم فيه.

تنبيه : قد يقال إنّ دليل حجّية خبر العادل مثلا عام ، وقد خرج منه الخبر الذي عورض بما هو أقوى منه سندا ، وعند الشكّ في كون هذا الخبر القائم على الحكم الفلاني هل له معارض ، يكون التمسّك بدليل الحجّية على حجّية ذلك الخبر تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية ، وهكذا فيما دلّ على حجّية العموم مثلا فإنّه قد خرج منه العام الذي يكون له مخصّص ، فإذا شككنا في أنّ هذا العام

ص: 226


1- في أواخر المجلّد السابع في الحواشي على فوائد الأصول 4 : 55 وما بعدها.

القائل بأنّه يجب إكرام العلماء هل له مخصّص ، يكون التمسّك بما دلّ على حجّية العموم على حجّية هذا العام تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية. وهكذا الحال في العموم القائل إنّ فتوى المجتهد حجّة على العامي ، فإنّه قد خرج منه ما لو كانت للأعلم فتوى مخالفة لفتوى هذا المجتهد ، فلو أفتى غير الأعلم بفتوى يكون التمسّك بذلك العموم على حجّيتها تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية.

ففي أمثال هذه الموارد يكون عموم دليل الحجّية ساقطا لكونه تمسّكا بالعموم في الشبهة المصداقية ، من دون حاجة إلى ما أفادوه في برهان وجوب الفحص عن المعارض وعن المخصّص وعن فتوى الأعلم من التمسّك بأذيال العلم الاجمالي أو المعرضية ، كما أنّه بناء على ذلك لا يكون الفحص وعدم العثور نافعا في جواز الرجوع إلى عموم دليل الحجّية ، لأنّ ذلك لا يخرج المسألة عن كونها من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية.

والجواب عن هذا الإشكال : هو أن يقال إنّ خروج العام المخصّص والخبر المعارض والفتوى المعارضة بفتوى الأعلم عن عمومات دليل الحجّية ليس من قبيل المخصّص اللفظي ، بل إنّ ذلك الخروج من قبيل المخصّصات اللبّية ، وبعد البناء على أنّه لا مانع من التمسّك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية من ذلك ، يكون اللازم هو الرجوع إلى عمومات دليل الحجّية في آحاد تلك الحجج ، وحينئذ لا يجب الفحص في إجراء حكم العام على أيّ واحد منها ، وإنّما نقول بوجوب الفحص فيها من جهة العلم الاجمالي بأنّ بعض الأخبار لها معارض وبعض العمومات لها مخصّص ، وبعض الفتاوى من غير الأعلم لها معارض وهو فتوى الأعلم ، أو من جهة المعرض في كلّ واحد من هذه الأمور ، ولأجل ذلك احتجنا في العمل بهذه الحجج الفعلية إلى الفحص عن المعارض.

ص: 227

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ القائل بجواز التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية فيما لو كان المخصّص لفظيا مثل ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم فسّاق العلماء ، وقد شككنا في كون زيد العالم فاسقا ، ينبغي أن يقول باجراء حكم العام عليه بدون توقّف على فحص إلاّ من جهة العلم الاجمالي بفسق بعض العلماء ، أو من جهة المعرضية إن اتّفق أنّ المورد من هذا القبيل ، فراجع وتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن القول بأنّ هذه المقامات وإن كان المخصّص فيها لبّيا إلاّ أنّا لمّا لم نفرّق بينه وبين المخصّص اللفظي في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لزمنا أن نقول إنّ ذلك يوجب الفحص ، والفحص يكون موجبا للاطمئنان بعدم كون المورد من مصاديق الخاص ، فيكون الفحص موجبا لخروج المورد عن الشبهة المصداقية ، كما أنّه يوجب خروجه عن المعرضية أو عن دائرة العلم الاجمالي ، أو نقول إنّ هذه الموارد ليست من باب التخصيص بل هي من باب تزاحم الحجّتين وتقدّم ما هو الأقوى ، وقد استقرّ بناء العقلاء على الأخذ بما ينبغي الأخذ به عند عدم إحراز المزاحم ، وليس ذلك من باب أصالة عدم التخصيص ولا من باب أصالة عدم المانع ، فلاحظ.

ويمكن تخريج المسألة على أصالة عدم المعارض بناء على أنّه يكفي في حجّية هذا الخبر وجوده وعدم وجود ما هو الأقوى منه أو عدم وجود معارضه ، فتكون المسألة من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان وإحراز الجزء الآخر بالأصل ، فتأمّل.

وما هذا الإشكال في المقام إلاّ كما إذا قيل إنّ الغريق لو ابتلي بمزاحم أهمّ يكون خارجا عن عموم انقذ كلّ غريق ، ومع الشكّ في وجود الأهمّ يكون

ص: 228

التمسّك في هذا الغريق بعموم انقذ كلّ غريق من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية. وهكذا الحال في جميع الواجبات فإنّا لو التزمنا بأنّ المزاحم يخرجها عن عموم الوجوب ، يكون التمسّك بعموم وجوبها في مقام احتمال المزاحم من قبيل التمسّك به في الشبهة المصداقية ، والجواب واحد وهو المنع من كون التزاحم من باب التخصيص.

قوله في الكفاية طبع بغداد ص 115 : والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شكّ فيه ... الخ (1).

لا يخفى أنّ القطع بأنّ المولى لا يريد إكرام العدو الواقعي يوجب القطع بخروج العدو الواقعي ، وذلك موجب لانقطاع حجّية العام بالنسبة إلى العدو الواقعي ، ولا وجه لانحصار سقوط حجّيته بخصوص من قطع بعداوته ، وليس سقوط حجّية العام فيما يكون المخصّص لفظيا إلاّ من هذه الجهة ، أعني من جهة كشف الخاص عن أنّ المتكلّم لا يريد بالعام ذلك النوع من الخاص ، وحينئذ يكون سقوط العام في صورة القطع بأنّه لا يريد الخاص أولى من سقوطه في قبال الخاص اللفظي ، لأنّ هذا الكشف بالتعبّد وذاك بالقطع.

لا يقال : إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام العدو لا يوجب القطع بالتخصيص باخراج البعض ، لجواز أن لا يكون فيهم عدو ، وحينئذ فلا يحصل القطع بالتخصيص والخروج إلاّ بالنسبة إلى من حصل القطع بعداوته.

لأنّا نقول : إنّ قوله لا تكرم فسّاق العلماء أيضا لا يوجب العلم التعبّدي بالتخصيص ، لجواز أن لا يكون فيهم فاسق ، لأنّ قضية الخاص كقضية العام قضية تعليقية ، فكما أنّ محصّل القطع المزبور هو أنّه لا يريد إكرام الجار لو كان عدوّا ،

ص: 229


1- كفاية الأصول : 222.

فكذلك محصّل ذلك الدليل اللفظي هو أنّه لا يريد إكرام العالم لو كان فاسقا ، وكما يقال إنّ قوله لا تكرم فسّاق العلماء منوّع ، فكذلك يقال إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام العدو منوّع للعام ، بمعنى أنّا نقطع بأنّه لا يريد العدو منهم وأنّه يريد الصديق منهم أو غير العدو.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّه لا أثر في الجهة التي نحن فيها لوجود الحجّة اللفظية الخاصّة في قبال العام ، لأنّ المدار إنّما هو على كون المتكلّم لا يريد ذلك البعض ، لا على خصوص وجود حجّة لفظية أخرى على خلافه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله قدس سره : فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلا بدّ من اتّباعه ما لم تقم حجّة أخرى على خلافه ، الخ (1). حيث قد ظهر لك أنّه لا خصوصية لقيام حجّة أخرى ، بل المدار على حصول العلم أو ما يقوم مقامه على أنّ المتكلّم لم يرد ذلك الخاص.

ولو قيل : إنّ القطع بأنّه لا يريد إكرام عدوّه لا يوجب القطع بأنّه لا يريد المشكوك ، وحينئذ يكون العام محكّما فيه لعدم وجود حجّة أخرى في خلافه.

لقلنا : إنّ قيام الحجّة اللفظية على أنّه لا يريد الفاسق الواقعي لا يوجب قيام الحجّة على أنّه لا يريد هذا المشكوك ، وما هو إلاّ الاحتمال وهو متحقّق في المقامين ، وكما أنّ إسقاط أصالة العموم في مشكوك الفسق لكونها لا تدفع تخصيصا زائدا ، فكذلك هي في مشكوك العداوة أيضا لا تدفع إخراجا زائدا على ما علمناه من أنّه لا يريد إكرام العدو. ولعلّ المراد هو أنّ القطع بأنّه لا يريد العدو يوجب خروج من قطع بعداوته من جهة كونه مقطوع الخروج ، وبعبارة أخرى أنّ الخارج هو المقيّد بالقطع ، وحينئذ يكون مشكوك العداوة بمنزلة مشكوك القطع

ص: 230


1- كفاية الأصول : 223.

وهو لا يزيد على الشكّ. وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الخارج بالقطع هو العدو الواقعي لا العدو المقيّد بالقطع كي يكون مشكوك العداوة مشكوك القطع ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الذي حرّره في المقالة هو عين ما حرّره في الكفاية ، فلا حاجة إلى نقل ما أفاده في المقالة ص 151 (1).

ومن جملة ما حرّره هنا قوله : ومن البديهي أنّ القطع بكلّ عنوان لا يسري إلى مصداقه المشكوك ، فبالنسبة إلى المصاديق المشكوكة لا يكون في البين حجّة على خلاف العام واقعا ، فلا قصور حينئذ في تطبيق الحجّة على المورد الخ (2).

وفيه : ما عرفت من أنّ القطع بعدم إرادة العدو الواقعي يوجب قصر حجّية العام على من عداه فتقف حينئذ حجّية العام في مقام الشكّ بلا أن يكون في ذلك المقام حجّة فعلية على خلافها.

قوله قدس سره في الكفاية : بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيا ، فإنّ قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنّه كان من رأس لا يعمّ الخاصّ - إلى قوله - والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شكّ فيه ... الخ (3).

لا يخفى أنّ مجرّد كون العام الملقى في المخصّص اللفظي كأنّه لا يعمّ الخاصّ من رأس لا يوجب سقوط العموم في الشبهة المصداقية ما لم ينضمّ إليه باقي الجهات المتقدّمة الموجبة لعدم إمكان التمسّك.

ولا يخفى أنّ القطع بعدم إرادة العدو في المخصّص اللبّي لا يوجب خروج

ص: 231


1- حسب الطبعة القديمة ، راجع الطبعة الحديثة من مقالات الأصول 1 : 443 - 444.
2- مقالات الأصول 1 : 444.
3- كفاية الأصول : 222.

العدو بما أنّه مقطوع الخروج كي يكون ما شكّ في عداوته من قبيل ما شكّ في كونه مقطوع الخروج الذي هو عبارة عن الشكّ في الخروج المصحّح للتمسّك بالعموم ، بل إنّ القطع بخروج العدو يكون موجبا لخروج العدو الواقعي كالقطع التنزيلي الحاصل من الدليل اللفظي القائل لا تكرم عدوّي منهم ، وحينئذ يكون الباقي تحت العام في صورة القطع الوجداني بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، هو ما عدا العدو من جيرانه ، فيكون حاله حال المخصّص اللفظي في كون الباقي هو ما عدا الخاصّ ، فلم يظهر الفرق بين النحوين ، نعم إنّ التفرقة العقلائية والسيرة العقلائية فارقة ، لكنّها محتاجة إلى إثبات ، فتأمّل.

قول شيخنا قدس سره وأمّا إذا كان المراد من المخصّص اللبّي إدراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، إمّا بنفسه أو لأجل قيام الإجماع على ذلك من دون أن يتقيّد موضوع الحكم به ، لعدم صلوح تقيّد موضوع الحكم بما هو ملاكه ... الخ (1).

إن كان المراد بالملاك هو المصالح والمفاسد ، أعني به الغاية المترتبة على مثل وجوب الصلاة من كونها ناهية عن الفحشاء مثلا ، فذاك وإن لم يكن صالحا لأخذه في موضوع الحكم ، إلاّ أنّ الشارع الحكيم لا بدّ أن يجعل موضوع حكمه مطابقا لتلك المصلحة التي يتوخّاها ولو باعتبار غلبة النهي عن الفحشاء.

وإن كان المراد من الملاك علّة الحكم كما يظهر من جعله النصب علّة في

ص: 232


1- أجود التقريرات 2 : 343 [ المتن المنقول هنا موافق للنسخة الحديثة من أجود التقريرات ، وقد تقدّم التعليق على هذا المتن بصياغته الموجودة في النسخة القديمة غير المحشاة في الصفحة : 223 ، كما ورد هذا المتن بصياغته القديمة في ضمن المتن المتقدّم في الصفحة : 212 ].

وجوب لعن بني أميّة ، فذلك عبارة أخرى عن كون الموضوع هو الناصبي ، نظير كون المسكر علّة في حرمة شرب الخمر ، فهل ترى من نفسك أن تقول إنّ ما قطعنا بعدم إسكاره خارج عن عموم حرمة شرب الخمر ، وأنّ ما شككنا في إسكاره يكون داخلا ، ومن دخوله نستكشف أنّه ليس بمسكر (1) ولو أرجعنا الاسكار إلى التجنّب عن الاسكار كان راجعا إلى القسم الأوّل أعني ما يكون غاية للحكم.

قوله : وهو أنّ الفرق بين الفحص هنا وبين الفحص في الشبهات البدوية ، هو أنّ الفحص في المقام إنّما هو عمّا يزاحم الحجّة ، بداهة أنّ الظهور في الكلام يتمّ بعدم القرينة المتّصلة وهو مقتض للعمل به ... الخ (2).

الأولى في المقام هو التفصيل بأن يقال : إنّ الكلام تارة يكون عن نفس المتفحّص عنه ، وأنّه على تقدير وجوده يكون مانعا من الأصل أو أنّه يكون موجبا لانعدام مقتضى الأصل. وأخرى يكون عن حال الأصل قبل الفحص ، وأنّ سقوطه في ذلك الحال هل يكون لأجل المانع ، أو أنّ سقوطه لأجل عدم المقتضي.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فحاصله : أنّ المتفحّص عنه في باب الأصول اللفظية إنّما هو المزاحم لما بأيدينا من الظواهر ، وفي باب الأصول العملية إنّما هو الوارد أو الحاكم على ما بأيدينا من الأصول العملية ، وعلى الظاهر أنّه ليس كلّ منهما من قبيل المانع ، فإنّ الخاص ليس بمانع من حجّية العام وإنّما هو مزاحم ، ومن الواضح أنّ المزاحم إنّما يكون في رتبة المزاحم لا أنّ عدمه من مقدّماته ،

ص: 233


1- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والصحيح : أنّه مسكر ].
2- أجود التقريرات 2 : 351 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

وإلاّ لكان عدم أحد الضدّين المتزاحمين من مقدّمات وجود الضدّ الآخر كما حقّق ذلك في مبحث الضدّ (1).

وأمّا الدليل على التكليف بالنسبة إلى الأصل النافي له فهو على تقدير وجوده يكون رافعا لموضوع الأصل العملي. هذا بالنسبة إلى نفس المتفحّص عنه الذي هو المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني ، أعني سقوط الأصل قبل الفحص وعدم حجّيته ، فهل يكون ذلك من باب عدم المقتضي أو من باب وجود المانع ، فإن استندنا في عدم الحجّية قبل الفحص إلى العلم الاجمالي ، فهو على الظاهر من باب وجود المانع ، لأنّ العلم الاجمالي على خلاف مقتضى الأصل مانع من الرجوع إليه ، من دون فرق في ذلك بين الأصول اللفظية والأصول العملية. نعم لو استندنا في الأصول اللفظية إلى المعرضية وفي الأصول العملية إلى القيام بما هو وظيفة العبودية ، كان سقوط الأوّل لوجود المانع وهو المعرضية ، وسقوط الثاني لعدم المقتضي.

وربما يتوهّم أنّ سقوط الأوّل لعدم المقتضي أيضا ، لأنّ المعرضية توجب عدم انعقاد الظهور أو لا أقل من عدم حجّيته في الكشف عن المراد.

ولكن لا يخفى أنّ الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ عدم انعقاد الظهور أو عدم الحجّية لم يكن لقصور في المقتضي وإنّما هو لأجل المانع ، وهو كون الكلام في معرض التخصيص بواسطة كون ديدن ذلك المتكلّم الخاصّ على الاعتماد على ما يأتي من القرائن المنفصلة.

ثمّ إنّ كون سقوط الأصول العملية قبل الفحص من باب عدم المقتضي

ص: 234


1- راجع أجود التقريرات 2 : 10 وما بعدها ، وراجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : 114 وما بعدها.

واضح لو كان المدرك فيه هو ما عرفت الاشارة إليه وهو مقتضى العبودية ، أمّا لو كان المدرك فيه هو الإجماع أو الاخبار فيمكن القول بأنّ ذلك لأجل المانع الذي هو الإجماع والاخبار المشار إليها ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ ذلك أيضا من باب عدم المقتضي ، لأنّ الأخبار والإجماع يوجبان تقييد مجرى الأصل ، فيكون انعدام القيد عبارة عن انعدام المقتضي الذي هو أصل الحجّية.

وعلى كلّ حال فالأمر هيّن لكونه راجعا إلى التسمية ، ولا أظنّ أنّ في البين أثرا يترتّب عليه. وما أدري ما الداعي لشيخنا قدس سره لتحرير هذه المقدّمة ، وأي دخل لها فيما رتّبه عليها ، وكأنّه تبع في ذلك لما في الكفاية (1) حيث إنّه بعد الفراغ عن الكلام على وجوب الفحص ذكر إيقاظا حاصله : الفرق بين وجوب الفحص في الأصول اللفظية وأنّه عن المزاحم ، وفي الأصول العملية حيث إنّ العقل بدونه لا يستقلّ بقبح العقاب والنقل مقيّد بالإجماع ، وظنّي أنّ ما صنعه في الكفاية من تأخير هذا البحث وجعله إيقاظا وتنبيها بعد الفراغ من أصل برهان وجوب الفحص أولى من جعله مقدّمة ، لأنّ هذا البحث لا يتّضح إلاّ بعد الفراغ عن أصل المسألة وأنّ مدرك وجوب الفحص ما ذا.

قوله : مانعة الخلو (2).

يعني بالمعنى الأعمّ ، وإلاّ ربما كانت قضية العلم الاجمالي منفصلة حقيقية كما لو علم بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر.

قوله : قضية متيقّنة إلى قضية مشكوكة ... الخ (3).

العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر صورة علم اجمالي ، وإلاّ ففي

ص: 235


1- كفاية الأصول : 227.
2- أجود التقريرات 2 : 355 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 : 356 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الحقيقة هو علم تفصيلي في شيء وشكّ بدوي في آخر كما يتّضح ذلك فيما لو كان المعلوم شخصيا ، كما لو كانت أمامك إناءات متعدّدة ووقعت نجاسة في أحدها المعيّن الذي هو الصغير مثلا واحتملت وقوع مثلها في غيره ، فإنّ عدّ ذلك من العلم الاجمالي بين نجاسة هذا الاناء أو نجاسته هو مع الآخر الكبير لا يخلو من تسامح في التعبير ، إذ لا واقع لذلك إلاّ العلم بنجاسة هذا الصغير والشكّ في نجاسة الكبير. وهكذا الحال لو كان المعلوم كلّيا مثل أن تعلم أنّك مشغول الذمّة لزيد إمّا بأربعة دراهم أو بخمسة دراهم ، أو تعلم بأنّ عليك قضاء فرائض مردّدة بين الأربعة والخمسة.

نعم ربما كان الأقل ملتفتا إليه حين العلم كما في هذه الأمثلة ، وربما كان العلم واسع المراتب على وجه لا يلتفت إلى الأقل ولا يكون منظورا إليه بما أنّه قدر متيقّن بحيث يكون الزائد عليه مشكوكا إلاّ بعد نحو من السبر ، وذلك كما لو جرت بينك وبين زيد معاملات كثيرة في أزمنة متطاولة وتعلم فعلا بأنّه قد بقي شيء في ذمّتك لزيد ولكنّه في منتهى الابهام من حيث القلّة والكثرة ، وهذا يستخرج الأقل المتيقّن فيه بنحو من السبر والترديد فتقول إنّه درهم ، فترى أنّ ما في ذمّتك أنّه أزيد من الدرهم ، وهكذا تذهب به صاعدا حتّى تصل إلى مقدار لا تعلم بأنّ ما في ذمّتك أزيد منه ، وحينئذ تقف على ذلك المقدار وتراه معلوما تفصيلا وترى الزائد عليه مشكوكا ، ثمّ تذهب في المشكوك الزائد حتّى تصل إلى درجة تعلم أنّه لا يزيد عليها.

قوله : وثالثة يكون مورد جمع فيه الأمران ... الخ (1).

ظاهر الكلام أنّ المراد بذلك هو العلم الاجمالي فيما يكون المعلوم فيه

ص: 236


1- أجود التقريرات 2 : 356 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

معلّما بعلامة خاصّة. والظاهر أنّ الاجتماع المذكور كما هو موجود فيه فهو موجود في العلم الاجمالي المرسل المردّد بين الأقل والأكثر ، فإنّك لو علمت أنّ في القطيع ما هو محرّم على الاجمال ولكنّك لا تعلم مقداره ، فإنّ ذلك المعلوم على ما هو عليه من القلّة أو الكثرة مردّد بين كونه في هذا النصف أو في ذلك النصف الآخر ، فيكون المعلوم مردّدا بين المتباينين ، كما أنّه مردّد بين الأقل والأكثر ، فيكون المعلوم في هذه الصورة كحاله فيما لو كان معلّما بعلامة خاصّة وكان ذلك المعلّم بتلك العلامة الخاصّة مردّدا بين الأقل والأكثر.

نعم ، بينهما فرق من جهة أخرى أشرنا إليها ، وهي أنّ ذلك المرسل وإن كان صورة مردّدا بين الأقل والأكثر لكنّه في الحقيقة محض تسامح في التعبير ، وإلاّ فهو علم بذلك الأقل وشكّ بدوي في الزائد ، وذلك الأقل يكون متردّدا بين المتباينين ، بخلاف المعلوم ذي العلامة فإنّه ليس بهذه المثابة ، بل إنّ البيض على ما هي عليه من قلّة وكثرة معلومة بالتفصيل ، وإنّما يقع الترديد بين وجودها في هذا النصف ووجودها في النصف الآخر ، فلا يكون ذلك المعلوم إلاّ مردّدا بين المتباينين ، أمّا التردّد في قلّته وكثرته فلا يخرجه عن كون البيض كلّها معلومة الحرمة على وجه لو حصل التردّد في الحرام غير المعلّم بين كونه عشرة أو كونه خمسة عشر فأنت لا ترى علمك إلاّ واقعا على العشرة ، وترى الخمسة الزائدة مشكوكة من أوّل علمك ، بخلاف المعلوم ذي العلامة فإنّك بعد أن علمت بحرمة جميع البيض الموجودة في هذا القطيع وتردّد مقدارها بين العشرة والخمسة عشر لا ترى الخمسة الزائدة على تقدير وجودها خارجة عن متعلّق علمك ، بل تراها داخلة منصبغة بعلمك بحرمة البيض ، فهي في نفسها وإن كانت مشكوكة الوجود في القطيع ، فلا تكون منجّزة من هذه الجهة ، إلاّ أنّ علمك التفصيلي بحرمة جميع

ص: 237

البيض موجب لتنجّزه ، وهذا هو المراد لشيخنا قدس سره من اجتماع المقتضي واللاّمقتضي ، فلا يكون اللاّمقتضي مزاحما للمقتضي.

ولكن قد يخدش ذلك : بأنّ الحالة بعد العثور على المقدار المتيقّن من عدد البيض هي أنّه يحتمل وجود بيض أخرى هي معلومة الحرمة ، وذلك لا يكفي في التنجّز ، فإنّ تلك البيض الأخرى لو كانت موجودة فهي وإن كانت معلومة الحرمة إلاّ أنّها فعلا غير معلومة الوجود فلا تكون منجّزة ، فإنّ العلم بحرمة البيض الموجودة في هذا القطيع إنّما يكون منجّزا من جهة العلم بوجود الحرام لا من جهة العلم بحرمة الموجود ، وإن كان أحدهما ملازما للآخر في غير هذا المورد ، لكنّه في هذا المورد لمّا حصل التفكيك فإنّه وإن علم بحرمة البيض الموجودة إلاّ أنّه بالنسبة إلى الخمسة المزبورة لا يكون إلاّ من قبيل العلم بحرمة البيض الموجودة ، وليس هو من قبيل العلم بوجود الحرام ، فلا يكون العلم المذكور منجّزا بالنسبة إلى الخمسة.

نعم ، لا بدّ في الجواب حينئذ من سلوك التأخّر الرتبي وهو ما شرحناه قبل ذلك ، وهو أنّ الشكّ والتردّد بين الأقل والأكثر في المقام الأوّل أعني ما كان معلّما بعلامة خاصّة ، لم يكن متعلّقا بنفس ما تعلّق به العلم الذي هو المعلوم في رتبة تعلّق العلم به ، وإنّما يكون متعلّق الشكّ والتردّد المزبور في الموجود من ذلك الذي تعلّق العلم به ، فلا يكون الشكّ في الأقل والأكثر رافعا لأثر العلم لعدم وجوده في مرتبته ، وهذا بخلاف المقام الثاني فإنّ الشكّ فيه في الأقل والأكثر يكون واقعا في رتبة العلم فيكون موجبا لانحلاله.

وتوضيح ذلك : أنّك ترى في صورة تعلّق العلم الاجمالي بحرمة البيض من هذا القطيع ، أنّ العلم تعلّق بعنوان البيض الموجودة في ذلك القطيع ، وفي هذه

ص: 238

المرتبة أعني مرتبة تعلّق العلم بالبيض لا ترى في علمك المذكور قضية متيقّنة وقضية مشكوكة ، بل في هذه المرتبة لا ترى إلاّ نفس البيض وأنّها محرّمة ، ولأجل تردّد ذلك الذي تراه تحت العلم بين كونه في هذا النصف مثلا وكونه في النصف الآخر ، فيلزمك الاجتناب عنهما معا.

نعم بعد الالتفات إلى عدد البيض يحصل لك الشكّ والتردّد بين الأقل والأكثر ، لكنّك ترى أنّ شكّك المذكور غير واقع في رتبة علمك ، بل تراه واقعا بعد العلم بحرمة البيض الموجودة في ذلك القطيع ، بمعنى أنّك ترى أنّ تلك البيض التي تعلّق علمك بوجودها مشكوكة العدد ، بحيث إنّ شكّك في عدد البيض يتعلّق بها بعد الفراغ عن تعلّق العلم بها ، فأنت ترى أنّ ذلك الذي كان جميعه متعلّقا لعلمك بحرمته قد وقع موردا لشكّك فيه من حيث العدد. وهذا بخلاف صورة تعلّق العلم الاجمالي بحرمة جملة من هذا القطيع فإنّك ترى أنّ ذلك العلم بعينه مؤلّف من قضية متيقّنة وأخرى مشكوكة ، فترى أنّك لا تعلم إلاّ بحرمة عشرة منها ، وأنّ ما زاد على ذلك أعني الخمسة مثلا لا تراها إلاّ مشكوكة من أوّل الأمر ، فيكون شكّك المردّد بين الأقل والأكثر واقعا في مرتبة علمك ، بل ترى أنّ علمك لم يكن إلاّ عبارة عن هذا الشكّ المردّد بين الأقل والأكثر ، وفي الحقيقة لم يكن لك علم إلاّ بحرمة العشرة دون ما زاد عليها.

وحاصل الفرق : أنّ العلم الاجمالي في صورة تعلّقه بحرمة جملة من القطيع تراه في مرتبة حدوثه متقطّعا إلى قضية متيقّنة وقضية مشكوكة ، بخلاف ما لو كان متعلّقا بحرمة البيض فإنّه في مرتبة حدوثه لا تراه إلاّ قضية واحدة يقينية غير مشوبة بشكّ أصلا ، وإنّما يكون الشكّ متعلّقا بمقدار الموجود من موضوع تلك القضية اليقينية.

ص: 239

فإن قلت : على هذا لو علمنا بحرمة الخمر الموجود في هذه الأواني التي نعلم أنّ بعضها خمر وبعضها خل ، وكانت أواني الخمر الموجودة مردّدة بين العشرة والخمس عشرة ، ينبغي أن لا يكون العلم التفصيلي بخمرية عشرة معيّنة موجبا لانحلال العلم المذكور ، لعين ما ذكرتموه في حرمة البيض ، فإنّ معلوم الحرمة هنا أيضا معلّم بعلامة خاصّة وهي الخمرية.

قلنا : هذه مغالطة واضحة ، فإنّ حرمة الخمر الكلّي معلومة بالتفصيل ، وإنّما المعلوم بالاجمال هو وجوده في جملة هذه الأواني ، وهذا الوجود الذي تعلّق به العلم لمّا كان مردّدا في مرتبة تعلّق العلم به بين الأقل والأكثر لم يكن ذلك العلم إلاّ متعلّقا بالعشرة منه دون الزائد ، فيكون حاله حال المعلوم المرسل غير المعلّم بعلامة خاصّة.

وبالجملة : أنّ الخمرية هي موضوع الحكم المعلوم وليست هي علامة لما هو الموجود من ذلك الموضوع ، بخلاف عنوان البيض فإنّه أجنبي عن موضوع التحريم الذي هو موطوء الإنسان مثلا وإنّما هو علامة لما هو الموجود من ذلك الموضوع.

نعم لو كانت الحرمة المعلومة متعلّقة بذات تلك الأواني ، وكان كونها خمرا علامة لها ، لكان مثل العلم بحرمة البيض ، لكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس متعلّق الحرمة وموضوعها إلاّ نفس الخمر وذلك معلوم بالتفصيل ، والعلم الاجمالي إنّما تعلّق بوجود الخمر في جملة من هذه الأواني ، والمفروض أنّه مردّد بين العشرة والخمسة عشر ، فلا يكون المعلوم وجوده إلاّ العشرة دون الزائد انتهى ، وهذا آخر ما كنا حرّرناه. ومن ذلك يعلم الحال في الفرائض الفائتة المردّدة بين الأقل والأكثر ، فإنّه من قبيل أواني الخمر الموجودة في ضمن مجموع الأواني.

ص: 240

ثمّ نقول : إنّك لو كنت رأيت أواني الخمر قبل اختلاطها ولم تكن عالما بعددها ثمّ اختلطت بباقي الأواني ولو لأجل الظلمة مثلا ، لكانت كلّها منجّزة عليك. بل لو كنت رأيت أواني متعدّدة وعلمت بنجاستها ولم تعلم بعددها ثمّ طرأ ما أوجب اختلاطها بغيرها من ظلمة ونحوها ، لكانت أيضا كلّها منجّزة.

والسرّ في ذلك أنّك قبل أن تختلط عليك تلك الأواني وإن كانت في ذلك الحال عندك مردّدة بين الأقل والأكثر ، إلاّ أنّ هذا التردّد لا أثر [ له ] في عدم تنجّز الزائد بعد فرض كونك في ذلك الحال عالما بحرمتها جميعا حينما كانت حاضرة أمامك غير مختلطة بغيرها.

وهذا على الظاهر لا إشكال فيه ، إذ لا يمكن أن يتفوّه أحد أنّ تردّدك في ذلك الحال يكون مؤثّرا في عدم تنجّز شيء من حرمة جميع ما تراه أمامك ، وحينئذ يكون حال تلك الأواني بعد الاختلاط كحالها قبل الاختلاط في كون الجميع منجّزا ، وهذا من الوضوح بمكان لا أظنّ أحدا أن يشكّك فيه.

ولا فرق على الظاهر بينه وبين ما نحن فيه سوى أنّ الاختلاط في هذا المثال كان بعد العلم بحرمة جميع تلك الأواني الموجودة ، وفيما نحن فيه كان الاختلاط سابقا على العلم بحرمة جميع البيض الموجودة في ضمن القطيع ، فإنّك ترى برؤية قلبية أنّ في ضمن هذا القطيع بيضا ، وأنّها بجميعها محرّمة ، وأنّك معاقب على مخالفة أي واحد منها ، ولنفرض أنّك في مرتبة هذه الرؤية متردّد في عدد تلك البيض الذي تراها بقلبك موجودة في ذلك القطيع ، فإنّ هذا التردّد منك في عددها لا يوجب عدم تنجّز شيء منها ، كما لم يوجب ذلك فيما لو كنت تراها ببصرك ، فكما تحكم هناك بعقلك أنّ جميع ما تراه ببصرك منجّز عليك مع كونك شاكّا في عدده ، فكذلك الحال هنا ، فتحكم بعقلك أنّ جميع ما

ص: 241

تراه بقلبك من البيض الموجودة في هذا القطيع منجّز عليك مع كونك شاكّا في عدده.

وحاصل الفرق حينئذ بين المعلّم وغير المعلّم ، أنّك في المعلّم ترى البيض الموجودة كلّها معلومة الحرمة لديك ، بخلاف غير المعلّم فإنّك لا ترى إلاّ القدر المتيقّن. وإن شئت قلت أنا في صورة غير المعلّم لا أرى محرّما في ذلك القطيع إلاّ الأقل بخلاف المعلّم فأنا أرى البيض بتمامها وأنّها جميعا محرّمة عليّ سواء كانت عشرة أو كانت خمس عشرة ، بخلاف غير المعلّم فأنا لا أرى شيئا موجودا محرّما إلاّ ما هو الأقل.

ولا يخفى أنّ هذا الطريق لا يتوقّف على دعوى تأخّر الشكّ والتردّد في العدد عن العلم بحرمة البيض ، ولعلّه أولى من الاستناد إلى التأخّر الرتبي ، حيث إنّ التأخّر الرتبي يمكن القول بأنّه لا يمنع من عدم التنجّز ، هذا.

ولكن كون ما نحن فيه من مخالفات الظواهر ومخالفات الأصول العملية الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، من قبيل المعلوم الاجمالي المعلّم بعلامة خاصّة ، لا يخلو عن غموض ، إذ لا يزيد حالنا على أنّا نعلم بوجود تلك المخالفات في الكتب المذكورة ، وليس هو إلاّ كعلمنا بوجود محرّمات في ضمن هذا القطيع ، ولا فرق بينها إلاّ أنّ ما نحن فيه يمكن العثور عليه بالفحص بخلاف المحرّمات مثل موطوء الإنسان الموجودة في ضمن هذا القطيع فإنّها غالبا لا يمكن العثور عليها بالفحص عنها في ذلك القطيع ، نعم لو كانت مثل الأرانب الموجودة في هذا القطيع لأمكن العثور عليها بالفحص عنها فيه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دائرة المعلوم بالإجمال هو نفس موارد الأصول اللفظية والعملية ، وأنّ جميع هذه الموارد هي أطراف العلم الاجمالي الذي

ص: 242

حاصله هو أنّ جملة من تلك الموارد تكون مخالفة الأصل فيها مبيّنة بما في تلك الكتب ، وحينئذ يكون المعلوم الاجمالي بالمخالفة للأصل فيه معلّما بعلامة خاصّة وهي كون ذلك المعلوم الاجمالي موجودا ما يخالفه في ضمن تلك الكتب.

لكن ذلك لا يزيد على ما إذا علمنا بأنّ في غنم هذه القرية ما هو موطوء الإنسان ، وأنّ ذلك المعلوم موجود في ضمن القطيع الشرقي مثلا ، وحينئذ ينحلّ ذلك العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصغير الذي هو القطيع الشرقي ، ويكون المدار على هذا القطيع الشرقي ، وحينئذ فيما نحن فيه يكون المدار على العلم الاجمالي في دائرة ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم في هذا العلم الاجمالي الصغير ليس بذي علامة خاصّة.

والحاصل أنّ العلم بالمخصّصات في الكتب لا يزيد على العلم بالحكم نظير العلم بالموطوء في القطيع ، وليس هو بزائد على أصل الحكم مثل البيض ، فلاحظ.

والخلاصة : هي أنّا في المعلّم بعلامة خاصّة مثل البيض يكون لنا علم تفصيلي بحكمه وبحرمته وإن لم نعلم بمقدار عدده ، والعمومات فيما نحن فيه وإن كثرت ونحن نعلم بحرمة العمل بالبعض منها وبسقوطه عن الحجّية ، إلاّ أنّ هذا الحكم المعلوم ليس بلاحق لذي علامة ، نظير لحوق الحرمة للبيض ، نعم هو أعني حرمة العمل والسقوط لاحق لما وجد مسقطه في أحد الكتب ، وهذا العنوان أعني ما وجد مسقطه في الكتب هو عين السقوط لا أنّه علامة خارجية لاحقة للساقط ، فإنّ حاصل علمنا هو أنّا نعلم بأنّ الكثير من هذه العمومات ساقط ومبيّن السقوط في الكتب ، ولا ريب في أنّ علمنا بأنّ بعض هذه العمومات ساقط ينحلّ

ص: 243

في حدّ نفسه إلى الأقل والأكثر في الدرجة الأولى لا في الدرجة [ الثانية ] كما في العلم بحرمة البيض.

ومثال الدين المعلوم في الدفتر من هذا القبيل أيضا ، يعني أنّه يجري فيه الإشكال المزبور وهو العلم بأنّ في الدفتر ديونا كالعلم بأنّ في القطيع محرّما ، غير أنّ ذلك يمكن العثور عليه بالفحص عنه في الدفتر ، بخلاف مثال القطيع ، ولعلّ ذلك (1) ، أعني إمكان العثور عليه بالفحص ، هو الذي أوجب الفحص ، وإن كانت الشبهة موضوعية بدوية بعد فرض انحلال العلم الاجمالي بالعثور على الأقل الذي هو القدر المتيقّن ، وليس هو إلاّ كمن احتمل أنّ لزيد عليه دينا في دفتره من دون علم إجمالي ، فإنّ عليه الفحص ، ولا يسوّغ له العقل الرجوع إلى الأصول النافية قبل الفحص ، بل لو احتمل أنّ هذا الحيوان الذي هو أمامه في الليلة الظلماء أرنب فإنّه لا يسوّغ له العقل أكله قبل الفحص عنه بالمقدار الممكن المتعارف ، وهذا ملاك آخر لا دخل له بالعلم الاجمالي مرجعه إلى أنّه لا يجوز تغميض العين عمّا يحتمل أنّه لو فتح عينه لاطّلع على حرمته مثلا ، وهذا الملاك في الشبهات الموضوعية أشبه شيء بالملاك في الشبهات الحكمية الراجع إلى الأخذ بمقتضى العبودية.

قوله : لأنّ غاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجّز بالاضافة إلى المقدار الزائد على المتيقّن ، لا أنّه يقتضي عدم التنجّز بالاضافة إلى ذلك المقدار ، فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأوّل للتنجّز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدّمة الثالثة ... الخ (2).

لا يخفى أنّه إذا وصلت النوبة إلى كون الخمسة الزائدة على العشرة

ص: 244


1- [ في الأصل : ولعلّه لأجل ذلك ، وقد غيّرناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 2 : 358.

المعلومة مشكوكة ، كان الشكّ المذكور مقتضيا لعدم تنجّزها ، إذ لا يعقل التنجّز بالنسبة إلى ما هو مشكوك ، فلم يبق إلاّ احتمال كون هذه الخمسة معلومة ، وذلك بمجرّده لا يوجب التنجّز ، بل إنّه بنفسه غير معقول ، إذ لا يعقل القول بأنّ هذه الخمسة المشكوكة يحتمل فيها المعلومية ، إذ لا معنى لاحتمال معلومية الشيء.

وبالجملة : أنّ كون الخمسة المذكورة معلومة وكونها مشكوكة متناقضان لا يجتمعان ، وغاية ما يمكن أن يقال في دفع هذا التناقض هو أنّ متعلّق الشكّ والترديد هو غير متّحد بما هو متعلّق العلم ، ففي مثال البيض المحرّمة المعلوم وجودها في ضمن هذا القطيع نقول إنّ العلم يكون متعلّقا بنفس البيض المحرّمة الموجودة في ذلك القطيع على ما هي عليه من العدد ، ويكون الشكّ والترديد متعلّقا بعددها المردّد بين العشرة والخمس عشرة على وجه يصحّ لنا أن نقول إنّها لو كانت عشرة فهي معلومة الوجود ، وإن كانت خمس عشرة فهي أيضا بتمامها معلومة الوجود.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ علمنا إنّما تعلّق بحرمة البيض الموجودة في ذلك القطيع على حين أنّنا غير عالمين بأنّ الموجود منها هو العشرة فقط أو الخمس عشرة ، وحينئذ لا يصحّ لنا أن نقول إنّها لو كانت خمسة عشر فهي معلومة الوجود ، بل أقصى ما يمكننا أن نقول إنّها لو كانت خمسة عشر فهي معلومة الحرمة ، وأنّ حرمتها منجّزة لو كانت موجودة ، لكنّا لمّا لم نحرز وجودها ، تكون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات ، فنحن الآن لم نحرز الخطاب بحرمة تلك الخمسة الزائدة.

لا يقال : إنّكم وإن لم تحرزوا الحرمة إلاّ أنّكم تحتملون الحرمة المنجّزة وذلك كاف في حكم العقل بتنجّزها.

ص: 245

لأنّا نقول : لا محصّل لاحتمال الحرمة المنجّزة ، بل هو تناقض ، إذ لا يجتمع التنجّز مع الاحتمال إلاّ مع العلم الاجمالي المفروض سقوطه بالنسبة إلى الخمسة المذكورة ، أو سلوك طريق مقتضى العبودية الذي أوجب الفحص مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، والمفروض أنّا نتكلّم في المسألة من ناحية اقتضاء العلم الاجمالي بوجود البيض ، لا من هذه الناحية أعني ناحية وجوب الفحص الثابت بطريق مقتضي العبودية الذي هو الوجه المختصّ بوجوب الفحص عمّا يخالف الأصول العملية.

وبالجملة : أنّ العمدة في بيان عدم انحلال العلم الاجمالي هو ما عرفته فيما تقدّم من الوجوه السابقة ، لا مجرّد أنّ المقام من قبيل اجتماع المقتضي واللاّمقتضي ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أفيد بقوله : لأنّ غاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني الخ ، إذ ليس لنا علمان إجماليان يكون الأوّل منهما متردّدا بين المتباينين والثاني منهما مردّدا بين الأقل والأكثر كي نقول إنّ عدم متنجّزية الأقل في العلم الثاني لا تنافي تنجّزه بالعلم الاجمالي الأوّل ، بل ليس لنا إلاّ علم إجمالي واحد وهو العلم بحرمة البيض المفروض كونها متردّدة بين الأقل والأكثر ، وأقصى ما في البين هو أنّ هذا العلم الاجمالي ذو جهتين ، من إحدى الجهتين يكون متردّدا بين المتباينين ، لتردّد تلك البيض على ما هي عليه من القلّة أو الكثرة بين المتباينين ، ومن الجهة الأخرى يكون متردّدا بين الأقل والأكثر ، لتردّد تلك البيض بين الأقل والأكثر ، فيكون حاله من هذه الجهة أعني اجتماع الجهتين كحال المعلوم غير المعلّم فإنّه أيضا واجد للجهتين المذكورتين ، وفي كلّ من العلمين يكون المعلوم متردّدا بين الأقل والأكثر.

ص: 246

فالعمدة في إبداء الفرق هو أنّ تردّد المعلّم بين الأقل والأكثر لا يوجب انحلاله ، بخلاف تردّد غير المعلّم بين الأقل والأكثر فإنّ هذا التردّد موجب لانحلاله ، وذلك بما تقدّم (1) من إحدى الطرق وهي :

أوّلا : ما أشار إليه شيخنا قدس سره من أنّ الزائد في صورة المعلّم يكون على تقديره متعلّقا للعلم بخلافه في صورة غير المعلّم.

وثانيا : هو ما تقدّم ذكره من كون التردّد بين الأقل والأكثر في الأوّل واقعا في الرتبة الثانية من العلم الاجمالي بخلافه في الثاني.

وثالثا : هو ما تقدّم ذكره أيضا من أنّ التردّد بين الأقل والأكثر فيما نراه بالرؤية القلبية من البيض المحرّمة في ضمن القطيع لا يوجب عدم تنجّز واحد منهما ، كما أنّ التردّد فيما نراه في الرؤية الحسّية للبيض الموجودة منعزلة وحدها بين الأقل والأكثر لا يوجب عدم تنجّز واحد منهما ، فراجع وتأمّل.

وبقيت أبحاث في هذه المسألة تعرّضنا لها في الجزء الثاني في مبحث توقّف البراءة على الفحص (2) ومع [ ذلك ] ففي النفس شيء من عدم الانحلال ، أمّا الأوّل وهو أنّ الزائد على تقديره يكون متعلّقا للعلم ، ففيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك راجع إلى احتمال وجوده ، وعلى تقدير وجوده يكون معلوم الحرمة ، لكن مع فرض عدم العلم بوجوده لا يكون معلوم الحرمة ، وذلك واضح ، ألا ترى أنّ هذا القطيع لو كان كلّه معلوم الحرمة ثمّ رأيت في جنبه شاة تحتمل أنّها منه وتحتمل أنّها من غيره ، فهل يكون لك مانع من إجراء البراءة وقاعدة الحل فيها.

وأمّا التأخّر الرتبي ، ففيه المنع من التأخّر ، بل يمكن القول بأنّ المتحقّق

ص: 247


1- راجع ما تقدّم في الحاشية السابقة.
2- فوائد الأصول 4 : 277 - 280 ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الثامن.

أوّلا في الذهن هو التردّد في تلك البيض بين الأقل والأكثر ، ثمّ يتحقّق العلم بحرمة تلك البيض على كلّ من طرفي الأقل والأكثر. مضافا إلى المناقشة في مانعية التأخّر الرتبي عن الانحلال.

وأمّا ما ذكرناه من الرؤية الحسية عند وجود البيض قبل اختلاطها ، وقياس الرؤية القلبية عليها بعد الاختلاط ، ففيه أنّه في مرتبة النظر حسا أو قلبا إلى البيض لا يكون انحلال ، ولكن الانحلال إنّما هو في مقام التطبيق كما [ إذا ] أغلق الباب على البيض وأخرجت تدريجا فخرج القدر المتيقّن ، ثمّ بعد ذلك نحتمل أنّ البيض قد انتهت ، وهذا الخارج من غنم أخرى ، فلا ريب في الانحلال وعدم لزوم الاجتناب عن الخارج الجديد إلاّ بالاستصحاب الذي لا شكّ في عدم جريانه في أمثال المقام ، وهكذا الحال في المخلوطة بعد العثور على القدر المتيقّن من عدد البيض ولو كانت البيض موجودة.

وما أشبه الكلام في عدم الانحلال في هذه المسألة بعدم الانحلال في من فاتته فرائض يعلم بعددها ثمّ نسيه ، بل إنّ شبهة احتمال التنجّز تجري حتّى في من احتمل أنّه فاتته فريضة وأنّه يحتمل أنّه عند فوتها كان ملتفتا إلى فوتها ويحتمل طرو النسيان.

وإن شئت فقل : إنّ العلم بحرمة تمام البيض الموجودة لا يوجب إلاّ تنجّز المقدار المعلوم الوجود وهو العشرة ، أمّا الزائد وهو الخمسة مثلا فلا موجب لتنجّزها إلاّ احتمال كون البيض الموجودة التي علم بحرمتها خمسة عشر ، وهذا غير محرز لا تفصيلا وهو واضح ، ولا إجمالا لأنّ أقصى ما في البين أنّه طرف للعشرة وهو الأقل وهو عين الانحلال. والخلاصة هي أنّه وإن علم بحرمة كلّ ما وجد هنا من البيض ، سواء كان عشرة أو كان خمسة عشر ، إلاّ أنّ هذا العلم لا

ص: 248

يكون علما إلاّ بحرمة عشرة في هذا القطيع ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : في الحاشية : لا يخفى أنّه إذا كانت التكاليف أو المخصّصات المعلوم وجودها إجمالا في الكتب المعتبرة مردّدة أيضا بين الأقل والأكثر كان حالها حال التكاليف الواقعية المعلوم وجودها في الشريعة المقدّسة ... الخ (1).

يعتقد المحشّي أنّ المعلوم الاجمالي المعلّم هو التكاليف الموجودة في الكتب ، فكونها في الكتب علامة للمعلوم الاجمالي ، ليكون حاصل علمنا هو أنّا نعلم بتكاليف موجودة في الكتب نظير قولك إنّا نعلم بمحرّمات موجودة في هذا القطيع ، ومن الواضح أنّ هذا ليس محلّ بحث شيخنا قدس سره فإنّ المعلوم منه مرسل وكونه في الكتب يكون عبارة عن دائرة العلم الاجمالي نظير العلم الاجمالي بحرمة مقدار من الشياه موجودة في هذا القطيع في قبال جميع الغنم الموجودة في القرية مثلا ، فعلمنا الاجمالي بتكاليف موجودة في الكتب لا يكون في الكتب علامة للمعلوم الاجمالي ، بل هو دائرة للعلم الاجمالي في قبال الدائرة الوسيعة في العلم الاجمالي الكبير أعني العلم بالتكاليف في الشريعة ، بل المراد بالمعلّم في بحث شيخنا قدس سره هو ما عرفت من أنّا لو نظرنا إلى العمومات التي بأيدينا التي هي ألف عام مثلا نعلم أنّ بعضها ساقط الحجّية ، وذلك المعلوم السقوط معلّم بعلامة خاصّة ، وهو كون مسقطه موجودا في الكتب.

وهكذا الحال في موارد احتمال التكليف التي هي ألف مورد مثلا التي هي في حدّ نفسها مورد لأصالة البراءة مثلا ، فهذه الموارد نحن نعلم إجمالا أنّ بعضها متعلّق التكليف ، وأنّ بيان ذلك البعض موجود في الكتب ، فدائرة العلم الاجمالي

ص: 249


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 356 - 357.

هو العمومات في الأصول اللفظية ومحتملات التكاليف في الأصول العملية ، والمعلوم بالاجمال في الأوّل هو سقوط بعض تلك العمومات وفي الثاني هو سقوط بعض تلك الأصول ، وهذا المعلوم في الطرفين معلّم بعلامة خاصّة هي كون بيانه في الكتب ، لا أنّ دائرة العلم الاجمالي هو في الكتب.

نعم في كون الموردين من قبيل المعلّم بعلامة خاصّة الزائدة على نفس التكليف ومركبه كما في البيض الذي هو عنوان زائد على الحرمة وعلى مركبها الذي هو ذات الغنم ، تأمّل وإشكال تقدّمت (1) الاشارة إليه ، وحاصله أنّ كون البيان في الكتب لا يزيد على المعلوم بالاجمال الذي هو أصل المخصّص وأصل التكليف ، كما أنّ أصل دعوى أنّ في كون المعلوم الاجمالي معلّما بعلامة خاصّة مثل البيض المحرّمة المردّدة بين الأقل مانعا عن الانحلال تأمّلا تقدّمت (2) الاشارة إليه فلاحظ وتدبّر.

قوله في الحاشية : كما إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعدّدة مردّد بين الواحد والأزيد ، وعلم أيضا بنجاسة إناء زيد بخصوصه المعلوم وجوده في ضمن تلك الاناءات ، فإنّه إذا علم بعد ذلك وجدانا أو تعبّدا بنجاسة أحد تلك الاناءات بعينه ، فهذا العلم وإن كان يوجب انحلال العلم الأوّل المتعلّق بوجود النجس في البين المردّد بين الأقل والأكثر ، إلاّ أنّه لا يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني المحتمل انطباق معلومه على كلّ واحد من الأطراف ... الخ (3).

لا يخفى أنّ العلم الأوّل قد انحلّ بالعلم الثاني الذي هو العلم الاجمالي

ص: 250


1- في الحاشيتين السابقتين.
2- في الحاشيتين السابقتين.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 357.

بنجاسة إناء زيد بخصوصه المعلوم إجمالا وجوده بين تلك الاناءات ، فإنّ هذا العلم الثاني وإن كان اجماليا إلاّ أنّه يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل كما يوجبه لو كان الثاني تفصيليا ، فكما أنّه إذا علم أنّ هذا الاناء الذي هو بعينه إناء زيد نجس ، يكون العلم الأوّل منحلا إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي فيما زاد عليه ، فكذلك ينحلّ العلم الأوّل المتعلّق بوجود نجس في البين مردّد بين الأقل والأكثر إلى العلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد المردّد بين تلك الاناءات والشكّ البدوي فيما زاد عليه ، وحينئذ نبقى نحن والعلم الاجمالي بنجاسة إناء زيد المردّد بين تلك الاناءات ، فإذا علمنا تفصيلا بنجاسة هذا الاناء الخاص ففي بادي النظر ينبغي أن نقول إنّ العلم الاجمالي بوجود إناء زيد النجس بين تلك الاناءات ينحلّ إلى هذا العلم التفصيلي كما لو علمنا إجمالا بوجود نجس واحد بينها من غير تقييد بكونه إناء زيد ، ثمّ علمنا تفصيلا بنجاسة هذا الاناء ، وحينئذ فما المانع من الانحلال في صورة كون المعلوم الاجمالي هو نجاسة إناء زيد ، إلاّ ما ذكره من احتمال انطباق اناء زيد المعلوم إجمالا على كلّ واحد من الأطراف ، والمفروض أنّه قد تنجّز بعنوان كونه إناء زيد ، وهذه الجهة المانعة موجودة فيما لو كان المعلوم نجاسته من إناء زيد مردّدا بين الواحد والأكثر.

بل إنّ هذا المثال أيضا يرجع إلى الأقل والأكثر باعتبار أنّا بعد أن علمنا بأنّ إناء زيد الواحد المردّد بين الاناءات نجس ، وعلمنا تفصيلا بأنّ هذا الاناء الخاصّ نجس ، نقول إن كان إناء زيد هو هذا الاناء فقد علمناه تفصيلا وسقط العلم الاجمالي بوجود إناء زيد بين الاناءات ، وإن كان غير هذا الاناء الذي علمناه تفصيلا ، كان عندنا نجس آخر هو غير هذا النجس الذي علمناه تفصيلا ، وذلك الآخر هو إناء زيد ، وحينئذ يكون الحاصل أنّا فعلا عالمون تفصيلا بنجاسة هذا

ص: 251

الاناء وشاكّون في وجود نجس آخر غير هذا الذي علمناه تفصيلا.

فلا بدّ أن نقول إنّ الذي يقف في قبال البراءة عن وجود ذلك الزائد ، هو أنّ إناء زيد الواقعي المفروض كونه نجسا الذي قد علمنا بوجوده على الاجمال في ضمن تلك الاناءات ، نحتمل انطباقه على إناء آخر غير هذا الذي علمنا وجوب الاجتناب عنه منجّزا ، لأنّا قد علمنا به ، وكان علمنا به منجّزا للاجتناب عنه ، وهذا كلّه ناشئ من كون المعلوم بالاجمال معلّما بعلامة خاصّة فيتمّ المطلوب ، وغاية الأمر أنّ نفس المعلوم المعلّم بعلامة خاصّة في هذا المثال لم يكن مردّدا بين الأقل والأكثر.

لكن قد عرفت أنّ الشكّ بعد العلم التفصيلي بنجاسة هذا الاناء يعود إلى العلم التفصيلي والشكّ في الزائد ، فلما ذا لا تجري فيه البراءة ، فلو كان إناء زيد في المثال مردّدا بين الواحد والأكثر ، ثمّ علمنا بأنّ هذا هو إناء زيد ، يكون حاله حال هذا المثال في أنّا قد علمنا تفصيلا بلزوم الاجتناب عن هذا الاناء والشكّ فيما زاد عليه ، فكما قلنا إنّ هناك مانعا من الرجوع إلى البراءة في ذلك الزائد وهو احتمال انطباق عنوان إناء زيد على ذلك المشكوك ، فكذلك نقول هنا إنّ المانع من جريان البراءة في الزائد هو احتمال انطباق عنوان إناء زيد على ذلك الزائد.

ولو قلنا بالانحلال في هذه الصورة أعني صورة ما لو كان إناء زيد مردّدا بين الواحد والأكثر ثمّ علمنا بأنّ هذا الاناء الخاص هو إناء زيد واحتملنا أنّ له إناء آخر باقيا بين تلك الاناءات ، لكان يلزمنا الانحلال في الصورة المزبورة فيما لو كان المعلوم تفصيلا هو مجرّد نجاسة هذا الاناء من دون علم بكونه إناء زيد ، لأنّ المفروض أنّ تردّد اناء زيد المعلوم اجمالا وجوده بين الاناءات بين الواحد والأكثر لا أثر له عند المحشي ، بمعنى أنّه لا يكون المتنجّز من العلم الاجمالي

ص: 252

بوجود إناء زيد المردّد بين الأقل والأكثر إلاّ الأقل الذي هو الاناء الواحد ، غايته أنّه إناء زيد ، فإذا علمنا تفصيلا بأنّ هذا الاناء نجس ينبغي أن ينحلّ العلم الاجمالي ، والمفروض أنّ المحشّي لا يقول بالانحلال كما مرّ فيما قدّمه من المثال ، فتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ محلّ بحث شيخنا هو العلم الاجمالي الواحد الذي يكون المعلوم بالاجمال معلّما بعلامة خاصّة ، ويكون هو أعني المعلّم مردّدا بين الأقل والأكثر ، وبذلك ينحلّ إلى العلم بين المتباينين والعلم بين الأقل والأكثر ، وما ذكره المحشي من قبيل العلمين الاجماليين ، يكون المعلوم في أحدهما مرسلا مردّدا بين الأقل والأكثر وفي الآخر يكون معلّما بعلامة خاصّة ، فإنّ ذلك خارج عن محلّ بحث شيخنا قدس سره سواء كان المعلوم الثاني المعلّم بالعلامة الخاصّة مردّدا بين المتباينين أو كان مردّدا بين الأقل والأكثر. نعم إنّ الثاني لو لم يكن فيه إلاّ العلم الثاني لكان هو محلّ بحث شيخنا وهو العلم بأنّ هذه الاناءات فيها ما هو لزيد ، وأنّ ما هو لزيد نجس ، وأنّه مردّد بين الواحد والأكثر ، فلاحظ وتدبّر. وعلى كلّ حال نقول في المثالين أنّ المعلوم المرسل ينطبق على المعلّم ويكون المدار على الثاني.

قوله في الحاشية : قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ العلم ( الاجمالي ) بكون مقدار من الدين مضبوطا في الدفتر لا يوجب الفحص - بعد الظفر بالمقدار المتيقّن ثبوته - عن الزائد المحتمل ثبوته ... الخ (1).

قد عرفت من مجموع ما تقدّم أنّه لو كان الدين المذكور من قسم المعلوم المعلّم بعلامة خاصّة كان الفحص بالنسبة إلى الزائد على القدر المتيقّن منه لازما

ص: 253


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 358.

على ما عرفت ، وقد عرفت (1) ما فيه من المناقشة ، كما عرفت (2) المناقشة في كونه من هذا القبيل ، وأنّ الظاهر كون ذلك من قبيل المعلوم المرسل فإنّه لا يعلم إلاّ بأنّ دفتره مشتمل على مقدار من الدين ، فيكون ذلك بمنزلة العلم بأنّ هذا القطيع مشتمل على ما هو الحرام ، وأنّ أقصى ما في البين هو أنّه يعلم إجمالا بأنّه مديون لزيد ، وأنّ ذلك الدين مذكور في دفتره ، فيكون حاله حال من علم بأنّ في غنم هذه القرية ما هو حرام ، وأنّ ذلك الحرام موجود في ضمن هذا القطيع.

قوله في الحاشية المذكورة : كما ادّعي ذلك في موارد الشكّ في بلوغ المال حدّ النصاب وفي حصول الاستطاعة ... الخ (3).

يعني بذلك الشبهات الموضوعية المبنية على الحساب. ولكن يمكن أن يقال إنّ ما نحن فيه أسهل من ذلك ، فإنّ الشبهة البدوية في أصل وجود الدين المذكور في الدفتر من قبيل الشبهة في أنّ هذا الحيوان أرنب أو غنم مع وجود الظلمة المحتاجة إلى الاستضاءة ، فتكون الشبهة من قبيل تغميض العين عمّا لو فتح عينه عليه لارتفعت ، وهذا النحو من الشبهات والشكّ والتردّد لا يكون بحسب النظر العرفي معدودا في الشبهات كي تشمله الأدلّة اللفظية للبراءة ، بل ولا العقلية لأنّ العقل لا يحكم في أمثاله بعدم البيان.

ومن ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره في هذه الحاشية من قوله : ويدلّ على ما ذكرناه - إلى قوله - مع أنّه لا يشكّ في أنّ المرجع حينئذ إنّما هي أصالة البراءة الخ ، فإنّك بعد أن عرفت أنّ هذا العلم الاجمالي ليس من قبيل ذي العلامة ، وأنّه من قبيل غير المعلّم بعلامة خاصّة الذي ينحلّ بالاطّلاع على المقدار

ص: 254


1- تقدّما في الهامش 1 و 2 من الصفحة 250.
2- تقدّما في الهامش 1 و 2 من الصفحة 250.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 358 - 359.

المتيقّن ، تعرف أنّ سقوط الفحص فيما لو ضاع الدفتر لا يكشف أنّ المعلّم بالعلامة يكون العلم فيه ساقطا بعد العثور على المقدار المذكور ، وذلك لأنّ ضياع الدفتر يخرج المسألة عمّا ذكرناه من الشبهات البدوية التي لا يعدّها العرف شبهة.

قوله في الحاشية : بل يصحّ الاستدلال بهذا الوجه بعينه على وجوب الفحص عن المخصّص المحتمل وجوده - إلى قوله - فلا يجوّز العقل العمل على طبق ظاهر كلام المولى في عموم الترخيص ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ملاك الرجوع إلى الظواهر إنّما هو بناء العقلاء وأهل اللسان ، وإن شئت هو البناء العرفي ، وأين هذا من عدم حكم العقل بجواز العمل على عموم الترخيص إلاّ بعد الفحص عمّا يحتمله من التكليف الالزامي ، بل إنّ هذا البناء العرفي وتباني أهل اللسان لا يختصّ بالرخص ، بل هو متأتّ في العمومات الالزامية مثل آية النداء للصلاة يوم الجمعة (2) المحتمل طروّ تخصيص عليها بالنسبة إلى مورد خاصّ وهو زمان الغيبة ، فإنّ العرف والعقلاء وأهل اللسان لا يأخذون بتلك العمومات إلاّ بعد الفحص وإن سوّغه العقل من باب أنّه على طبق الاحتياط ، بخلاف استصحاب وجوب الجمعة مثلا الثابت في زمان الحضور فإنّه لو عمل به المكلّف في زمان الغيبة بدون فحص لم يكن العقل مانعا له من ذلك ، فتأمّل.

وممّا عرفت يتّضح أنّ مدرك أصالة الظهور وما هو الملاك فيه قاصر عن العمومات التي تكون غالبا في معرض التخصيص ، وإن شئت قلت إنّ الظهورات قاطبة سواء كانت عموما أو كان غيرها لو كانت بمعرض المخالفة الكثيرة فهي وإن

ص: 255


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 359 - 360.
2- الجمعة 62 : 9.

كانت في حدّ نفسها منعقدة ، إلاّ أنّ العقلاء وأهل اللسان لا يأخذون بها ، يعني لا يجعلونها حجّة ، ومن ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره في الحاشية بقوله : مع أنّه لو بني على ذلك لما كان استقرار طريقة الشارع على إبراز مقاصده بالقرائن المنفصلة مانعا من جريان مقدّمات الحكمة في مدخول الأداة ، ومن انعقاد ظهور الكلام في العموم ، الخ (1).

ومن الواضح أنّه لو بني على ذلك لكان استقرار طريقة الشارع على إبراز مقاصده بالقرائن المنفصلة موجبا لانتفاء المقدّمة الأولى من مقدّمات الحكمة ، وهي كون المتكلّم في مقام بيان مراده ، ومع انتفاء المقدّمة الأولى كيف ينعقد للكلام ظهور إطلاقي كي نقول إنّه قد تمّ الظهور ، وأنّ العثور على القرينة المنفصلة لا يكون موجبا لانعدام الظهور ، وأنّه إنّما يكون موجبا لسقوطه عن الحجّية.

وأمّا الإشكال الذي ذكره في صدر هذه الحاشية على ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ العمدة في أصالة العموم هي مقدّمات الحكمة في المصب الخ ، فهو إشكال في المبنى ، وقد تقدّم الكلام فيه في أوائل مباحث العموم فراجع (2).

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام ونقل ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه فإنّ ذلك ممّا يزيد في وضوح ما أفاده قدس سره في مقام الفرق بين كون العام دليلا على مراد المتكلّم ، وكونه حجّة عقلائية في مقام الاحتجاج من المولى على العبد ومن العبد على المولى الذي يكون مرجعه إلى قاطعية عذر العبد وعدم قاطعية عذره.

ص: 256


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 361.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 105 وما بعدها.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ما هذا لفظه : وتوضيح ما تقدّم أنّ الأخذ بالظاهر تارة يكون لأجل كونه كاشفا محضا عن مراد المتكلّم ، لا من باب أنّه حجّة على ذلك ، بل لأجل أنّ السامع له غرض في الاطّلاع على مراد المتكلّم ، ويكون أخذه بظاهره لكونه كاشفا عن ذلك نظير كشف المعلول عن علّته ، لما هو الغالب من كون الارادة باعثة على إلقاء الكلام ( على طبق المراد الواقعي ) وكونه فيه منبعثا عن ذلك المراد. ولا بدّ في هذه المرحلة من حصول الظنّ الفعلي بل الوثوق التامّ بأنّ ذلك المعنى هو مراده ، فلو احتمل احتمالا يعتنى به أنّ المتكلّم قد اعتمد في إفهام مخاطبه على القرينة المنفصلة لم يمكنه أن يستكشف مراده من مجرّد ظهور كلامه على وجه يرتّب الغرض الذي يريد ترتيبه على تقدير كونه مراده.

وتارة أخرى يكون الأخذ بالظاهر في مقام الاحتجاج من جانب المولى أو من جانب العبد ، وهذا هو الذي يكون الظهور فيه حجّة عقلائية ويكون اعتباره عند العقلاء من باب الموضوعية ، لا بمعنى أنّه موضوع صرف ، بل بمعنى أنّ هذا الطريق معتبر عندهم وإن لم يكن كاشفا عن المراد بذلك النحو من الكشف الذي يعتبر فيه الوثوق والاطمئنان ، ولعلّ اعتبار الظنّ الفعلي أو الوثوق في حجّية الظواهر إنّما نشأ عن الخلط بين المقامين.

ثمّ إنّ ما تقدّم من كون ديدن المتكلّم على الاتّكال على القرائن المنفصلة يكون موجبا لعدم إمكان استكشاف مراده حتّى بعد الفحص وعدم العثور على القرينة (1) ، أمّا بالنسبة إلى المقام الثاني أعني مقام الاحتجاج من الطرفين فهو إنّما يوجب سقوط الظهور قبل الفحص ، أمّا بعده فلا يكون موجبا لذلك.

ص: 257


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ في العبارة سقطا لا يخفى على المتأمّل ].

والسر فيه هو أنّ كون ديدن المتكلّم على ذلك لا يكون موجبا لتنجّز القرينة المنفصلة بقول مطلق حتّى لو تفحّصنا عنها فلم نعثر عليها ، بل يكون أقصى ما فيه أنّه يكون موجبا للتوسّط في التنجّز بالنسبة إلى القرينة المنفصلة ، بمعنى أنّه إنّما ينجّز القرينة التي يمكن المكلّف أن يعثر عليها بالفحص عنها ، بحيث يكون جريان ديدن المتكلّم على ذلك موجبا لتنجّز القرينة المنفصلة لو كانت موجودة وكان المكلّف متمكّنا من العثور عليها بالفحص ، لأنّ العقلاء بعد اطّلاعهم على ديدن المتكلّم لا يرون المخاطب معذورا في الأخذ بظاهر كلامه المفروض أنّه يحتمل احتمالا قريبا أنّه أراد خلافه وأنّه اعتمد كجاري عادته على القرينة المنفصلة المفروض إمكان الاطّلاع عليها بالفحص.

أمّا بعد الفحص وعدم العثور فذلك الاحتمال أعني احتمال الاعتماد على القرينة المنفصلة كجاري عادته وإن كان موجودا إلاّ أنّه لمّا كان المكلّف حينئذ غير متمكّن من الوصول إلى القرينة على تقدير وجودها واقعا ، يرونه معذورا في الأخذ بذلك الظاهر ، ويرون أنّ له أن يحتجّ على الآمر ويعتذر بما هو ظاهر كلامه.

والحاصل : أنّ احتمال وجود القرينة المنفصلة قبل الفحص يكون احتمالا عقلائيا ، ويكون موجبا في أنظارهم للتوقّف في الأخذ بأصالة الظهور ، ولا يرونها حجّة قاطعة للعذر ، إذ مع إحراز كون ديدن المتكلّم على الاعتماد على القرائن المنفصلة يقوى احتمال وجودها واحتمال العثور عليها بالفحص ، ومع وجود هذين الاحتمالين القويين في أنظارهم لا يرون أصالة الظهور مستندا وحجّة قاطعة من الطرفين ، بخلاف ما بعد الفحص وعدم العثور فإنّه حينئذ يكون الاحتمال الثاني منعدما بالمرّة ويكون الاحتمال الأوّل في منتهى الضعف والسقوط في أنظارهم.

ص: 258

وبالجملة : أنّ الفحص وعدم العثور يكون موجبا لرفع ما يكون موهنا لأصالة الظهور من احتمال وجود القرينة التي لو تفحّص عنها لعثر عليها ، انتهى ما كنت حرّرته عنه قدس سره.

وقال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه : ويمكن الذبّ عن الإشكال أيضا ، بأنّ كون شأن المتكلّم ذلك يوجب عدم الاطمئنان والوثوق بأنّ واقع مراده هو ظاهر العام والمطلق ، فلو تعلّق غرض باستخراج واقع مراد المتكلّم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلّم الذي يكون شأنه ذلك ، كما يتّضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية ، فإنّه لو فرض أنّ أحد التجّار ... ، ثمّ قال : وأمّا إذا لم يتعلّق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلّم بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلّم وجعله حجّة قاطعة للعذر في مقام المحاجّة والمخاصمة ، فلا بدّ من الأخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلّم التعويل على المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص ، والسرّ في ذلك هو أنّ طريق الأخذ والالتزام والمحاجّة إنّما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أنّ العقل يحكم بذلك أيضا ، وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الأحكام العرفية الصادرة من الموالي العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنّه لا يكاد يشكّ في إلزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عمّا يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذا كان شأن المولى التعويل على المنفصل - إلى أن قال : -

والحاصل : أنّ كون المتكلّم من دأبه التعويل على المنفصلات إنّما يوجب عند العقلاء عدم الأخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، وأمّا بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ، ويكون ظاهر كلام

ص: 259

المتكلّم حجّة على العبد ، ولكلّ من المولى والعبد إلزام الآخر بذلك الظاهر ، الخ (1).

وعلى كلّ حال ، ليست المسألة منحصرة بالعموم أو الاطلاق ، بل هي جارية في كلّ ظاهر يريد المتكلّم خلافه اعتمادا على القرينة المنفصلة ، وهو المعنيّ بقولهم يجوز تأخير البيان عن الخطاب بل وعن وقت الحاجة ، فإنّه شامل لكلّ بيان حتّى بيان أنّ المراد من هذا النهي الذي هو ظاهر في التحريم هو الكراهة ، أو أنّ المراد من هذا الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب هو الاستحباب أو مجرّد رفع المنع من الفعل ، ونحو ذلك من القرائن على إرادة خلاف الظاهر ، ولو مثل قرائن المجاز ، ولا ينحصر الأمر في المخصّص في قبال العام أو في المقيّد في قبال الاطلاق ، سواء كان ما تضمّنه ذلك الظاهر من قبيل الرخصة ونفي التكليف ، وكانت القرينة على خلافه ، أو كان الأمر بالعكس.

ولكن مع ذلك كلّه فليست المسألة مسألة المعرضية ، وأنّ الشارع قد سلك في إفادته طريقا آخر غير الطريقة التي جرى عليها أهل اللسان. نعم إنّ في البين معارضات بنحو التباين أو بنحو العموم من وجه أو بنحو العموم والخصوص المطلق أو بنحو الاطلاق ، وكلّها راجعة إلى التزاحم في مرحلة الحجّية ، ولأجل مظنّة المزاحم لا يمكن الاعتماد في نفيه على أصالة العدم ، بل لا بدّ من الفحص عنه في مظانّه بمقدار يحصل الاطمئنان بعدمه كما عرفت فيما تقدّم (2) عند الكلام على دفع توهّم كون المقام بالنسبة إلى أصل دليل الحجّية من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية مع كون المخصّص لبّيا ، فراجع.

ويبقى الكلام في أنّه لما ذا صدر هذا التعارض ، وما الحكمة فيه في الأخبار

ص: 260


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 546 - 547.
2- في التنبيه المتقدّم في الصفحة : 226 وما بعدها.

كما في بعضها « نحن ألقينا ذلك بينهم » (1) وفي الآيات ناسخا ومنسوخا وعاما وخاصّا ، وليس هو إلاّ من قبيل تأخير البيان عن وقت الخطاب أو وقت الحاجة لحكمة هناك جرى عليها الشارع الحكيم ، كما يجري عليها العقلاء في تفاهمهم وفي بيان قوانينهم.

ويمكن القول بعدم كون ذلك من قبيل التوقّف في الظهور وأنّه لا ينعقد إلاّ بعد الفحص ، بل هو كما عرفت منعقد ، وينبغي أن يكون حجّة ، لكن احتجاج العقلاء به يتوقّف على إحراز عدم المزاحم ، وذلك لا يكون إلاّ بعد الفحص ، لأنّه لو لم يتفحّص يكون احتمال وجود المزاحم قويا على وجه لا يعتني العقلاء بأصالة العدم في نفيه والجري على طبق ما يقتضيه الظهور ، وكلّ عقلائي ، فكما أنّ الظهور عقلائي فكذلك حجّيته والأخذ به عقلائي أيضا ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل أنّ موضوع البحث إنّما هو ما إذا كان الكلام المتكفّل لبيان الحكم مشتملا على أداة من أدوات الخطاب ، وأمّا ما لم يكن فيه ذلك كما إذا ورد أنّ المؤمنين يجب عليهم كذا ، فلا إشكال في عمومه للحاضر والغائب والمعدوم على نحو واحد ... الخ (2).

قال في الكفاية : فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كما صحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة

ص: 261


1- [ ورد بمضمونه عدّة أحاديث ، منها : ما رواه في علل الشرائع : 395 / ب 131 ح 14 ، 15. ومنها : ما رواه الشيخ في مبحث الخبر الواحد من العدّة في أصول الفقه 1 : 130 مرسلا عن الصادق عليه السلام ].
2- أجود التقريرات 2 : 365 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

للخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدم صحّتها ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة ولا يخفى أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليا وعلى الوجه الأخير لغويا الخ (1).

قلت : لكن لا يخفى أنّ النزاع الأوّل خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ صحّة تكليف المعدوم وعدم صحّته لا دخل له بهذا العنوان وهو خطاب المشافهة ، بل الظاهر خروج الثاني أيضا عنه ، فإنّ توجيه الكلام إلى الغائب وجعله طرفا للمتكلّم في توجيه كلامه إليه وإن قلنا إنّه لا يصحّ عقلا إلاّ بعد التنزيل وبدون التنزيل لا يعقل توجيه الكلام إليه ، إلاّ أنّه خارج عن العنوان المذكور أعني خطاب المشافهة ، وحينئذ ينحصر الكلام في الثالث.

وهل المسألة لفظية صرفة أو هي عقلية صرفة أو هي صالحة للوجهين؟ الذي يظهر من شيخنا قدس سره هو الثالث. وقد أورد عليه في الحاشية (2) ما أورد. ولكن ليس غرض شيخنا قدس سره هو مجرّد الصلاحية ، بل الغرض منه هو أنّ ذلك على نحو الترتّب والطولية ، بمعنى أنّا أوّلا نحتاج إلى إثبات أنّه يمكن عقلا خطاب المعدوم ولو بواسطة تنزيله منزلة الموجود ، وبعد إثبات إمكان ذلك عقلا ننقل الكلام إلى مرحلة لفظية وهي أنّ الألفاظ الموضوعة للخطاب مثل حرف النداء والكاف هل هي موضوعة لخصوص خطاب الموجود حقيقة أو أنّها موضوعة للأعمّ منه ومن الموجود تنزيلا ، وفائدة هذا النزاع هو أنّه على الأوّل يكون استعمال كاف الخطاب لما هو موجود تنزيلا مجازا لا يحمل عليه اللفظ إلاّ بالقرينة ، بخلاف

ص: 262


1- كفاية الأصول : 228.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 365.

الثاني.

نعم إنّ المختار هو أنّها لمطلق الخطاب لمن هو موجود ، سواء كان موجودا حقيقة أو كان موجودا تنزيلا ، لكن كون هذا هو المختار لا يوجب الخلل في عموم النزاع ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده (1) من تصوّر الطلب الايقاعي الانشائي من دون إرجاع إلى القضية الحقيقية ، وجعل التمليك للمعدوم في الأوقاف من هذا القبيل ، ممّا لم أتوفّق لتعقّله ، بل إنّ جميع ذلك من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون المنشأ فيها معلّقا على الوجود ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : مدفوع بأنّ حجّية الظواهر وإن كانت عامّة لغير من قصد إفهامه أيضا ، إلاّ أنّ الخطاب مختصّ بخصوص المشافهين على الفرض ، فيحتاج إسراء الحكم المتكفّل له الخطاب إلى غيرهم إلى التمسّك بالقاعدة - إلى قوله - وبالجملة إذا فرضنا اختصاص الحكم المتكفّل له الخطاب بالمشافهين ، سواء كان حجّية الظواهر مختصّة بمن قصد إفهامه أم لا ، فلا محالة نحتاج في إثبات الحكم في حقّ غيرهم إلى دليل آخر ... الخ (2).

هذا الكلام مبني على أنّ الحكم الوارد في ذيل خطاب يكون مختصّا بمن توجّه إليه ذلك الخطاب ، فإذا فرضنا كون الخطاب مختصّا بالحاضرين كان ذلك الحكم مختصّا بهم ، واحتجنا في إجراء ذلك الحكم في حقّ غير المخاطب إلى

ص: 263


1- يعني صاحب الكفاية قدس سره.
2- أجود التقريرات 2 : 366 - 367 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

دليل الاشتراك ، سواء قلنا بمقالة المحقّق القمي (1) من اختصاص الحجّية بمن قصد إفهامه أو لم نقل ، وحينئذ لا تكون الثمرة المذكورة مبنية على مسلك المحقّق القمي قدس سره هذا من حيث كون التكليف الوارد في ذيل الخطاب شاملا للمعدومين ، نعم بناء على عدم اختصاص الحجّية بمن قصد إفهامه الذي هو المخاطب يمكن الغائبين التمسّك بمثل الاطلاق على أنّ هذا الحكم الذي كان متوجّها إلى أولئك المخاطبين الحاضرين لم يكن مقيّدا بالقيد الفلاني ، فنحن بعد أن نثبت بدليل الاشتراك أنّا مثلهم في الحكم ، يكون حكمنا كذلك يعني غير مقيّد بذلك القيد ، فلا نحتاج إلى تجشّم اتّحادنا معهم في الصنف إلى الدليل الخارج ، بل يكفي فيه إطلاق الخطاب المتوجّه إليهم عند كوننا مثلهم في واحدية ذلك الاطلاق ، إلاّ أنّ هذا ليس تفصيلا في الحكم وإنّما هو تفصيل في الحجّية.

والخلاصة : هي أنّ لحاظ الثمرة تارة بالقياس إلى نفس التكليف وأخرى بلحاظ الحجّية. أمّا الأوّل فقد عرفت الحال فيه ، وأمّا الثاني وهو التفصيل من حيث حجّية نفس الظهور بالنسبة إلى المعدومين ، فالظاهر أنّ الكلام في شمولها للمعدومين يكون مبنيا على النسبة بين المخاطب وبين من قصد إفهامه ، فبناء على التساوي بينهما وأنّ من كان مخاطبا هو بعينه من قصد إفهامه ، تكون الثمرة أعني حجّية الخطاب بالنسبة إلى المعدومين بناء على دخولهم في الخطاب مبنية على مسلك المحقّق القمي ، وأمّا بناء على عدم التساوي وأنّ النسبة هي العموم من وجه ، وأنّ من قصد إفهامه قد يكون أعمّ من المخاطب كما أنّ المخاطب قد يكون هو غير من قصد إفهامه ولو من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فلا تكون الثمرة المذكورة مبنية على مسلك المحقّق القمي قدس سره.

ص: 264


1- قوانين الأصول 1 : 398 و 403 ، 451 و 452.

ولعلّ ما في الكفاية (1) من تحرير ثمرتين للمسألة : الأولى في الحجّية ، والثانية بالنسبة إلى الاحتياج إلى دليل الاشتراك ، ناظر إلى هذا الذي ذكرناه ، فراجع الكفاية وارجع إلى ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره بقولنا عنه قدس سره : وليس ظهور هذه الثمرة مبنيا على القول باختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه ، فإنّا وإن قلنا بعموم الحجّية لمن لم يقصد إفهامه ، يتأتّى النزاع في شمول خطاب المشافهة لمن لم يكن مخاطبا. وبالجملة أنّ من قصد إفهامه ليس هو عين المشافه بل بين العنوانين عموم من وجه ، انتهى.

قوله : فإنّ خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية ، وظهور الخطابات في أنّها بلا عناية يدفع احتمالها (2).

خروج المعدوم عن القضية الخارجية إنّما يكون لأجل كونها خارجية وإن لم تكن مشتملة على الخطاب ، وإنّما يكون أثر الخطاب فيها هو إخراج الغائب من الموجودين ، والعناية إنّما هي لادخاله ، أمّا المعدوم فهو غير داخل فيها ، ولو أعملنا العناية في إدخاله وفرضنا وجوده كانت القضية حقيقية وخرجت عن كونها خارجية.

قوله : ضرورة أنّ الخطاب مع الغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود ، وهذا التنزيل إنّما هو مقوّم كون القضية حقيقية لا أمر زائد يكون مدفوعا بالأصل ... الخ (3).

أورد عليه في الحاشية بقوله : لا يخفى أنّ كون القضية حقيقية وإن كان

ص: 265


1- كفاية الأصول : 231.
2- أجود التقريرات 2 : 367.
3- أجود التقريرات 2 : 367 - 368 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يقتضي بنفسه فرض الموضوع موجودا ، أو الحكم على الموضوع المفروض وجوده ، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين ، ضرورة أنّ مجرّد وجود الموضوع خارجا لا يكفي في توجيه الخطاب إليه ، بل لا بدّ فيه من فرض وجوده مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب ، الخ.

هذا الكلام حقّ لا غبار عليه. ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض كون الحكم في القضية المشتملة على الخطاب مختصّا بالمخاطب ، وإن شئت فقل إنّ الحكم بعد فرض كونه متوجّها إلى المخاطب ، لا يعقل الجمع بين كونه عاما للمعدومين كما هو مقتضى كون القضية حقيقية ، وبين كون الخطاب مختصّا بالحاضرين مجلس الخطاب ، بل لا يعقل الجمع أيضا بين عموم الحكم للغائبين وبين كون الخطاب مختصّا بالحاضرين مجلس الخطاب الملتفتين إليه.

وحينئذ لا بدّ لنا في تصحيح ذلك من أن نقول : إنّ معنى فرض وجود الموضوع في القضية الحقيقية الخطابية هو فرض وجوده حاضرا مجلس الخطاب ملتفتا إليه. ولكن لا يخفى أنّ هذا الفرض فرض تصوّري ، ومرجعه إلى التنزيل بأن ينزّل المعدوم منزلة الموجود ويخاطبه خطاب الحاضر ، ومن الواضح أنّ ذلك وإن صحّ إلاّ أنّه لا دخل له بالفرض المستفاد من القضية الحقيقية مثل قوله أيّها المكلّفون ، فإنّ مرجع ذلك إلى القضية الشرطية ، وهي كلّما لو وجد وكان مكلّفا ، وهذا وحده لا يكفي في الخطاب ، إلاّ بأن نقول إنّه ينادي كلّ من لو وجد وكان مكلّفا ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى التنزيل فلاحظ.

والذي يهوّن الخطب أنّ هذا إنّما هو في القضايا الحقيقية المشتملة على خطاب المواجهة ، وهي منحصرة فيما يكون بلسان النبي صلى اللّه عليه وآله أو بلسان أحد الأئمّة عليهم السلام وهي قليلة جدّا ، بل لا يكاد يوجد في تلك الأحاديث ما هو قضية

ص: 266

حقيقية مشتملة على الخطاب الخاصّ ، بل إنّ ما صدر عنهم عليهم السلام فيما اشتمل على الخطاب كلّه من قبيل الخطابات الخاصّة بالسائل ونحوه ممّا وجّهوا إليه الكلام ، ويكون ثبوت ذلك من قبيل القضايا الخارجية التي يعلم أنّ الحكم فيها ليس بمختصّ بالمخاطب.

وإن شئت فقل : إنّ ذلك من باب كون الحكم عاما لكلّ أحد ، مع فرض كون الكلام المفيد ذلك الحكم متوجّها إلى طرف خاصّ وهو السائل ، ولا تكون حجّية الظهور مختصّة بخصوص من وجّه إليه ذلك الكلام ، أمّا قضايا الأحكام الخطابية الواردة في الكتاب الكريم فليس الخطاب فيها خطاب مواجهة ، بل هو نحو آخر لا يفرق فيه بين الموجود والمعدوم والحاضر والغائب والملتفت والغافل ، ذلك خطاب بنحو آخر نظير الخطاب بقوله تعالى : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (1) وقولهم : ( بَلى ) (2) فإنّ الظاهر أنّه ليس مبنيا على تنزيل المعدوم منزلة الموجود. نعم ربما كان الخطاب في الكتاب الكريم مختصّا بالنبي صلى اللّه عليه وآله مثل آية صلاة الخوف (3) ، فلا بدّ في مثل ذلك من الاعتماد على دليل الاشتراك ونحوه في تسرية الحكم إلى غير المخاطب.

وبالجملة : لا أرى التكلّم في هذه المسألة إلاّ تطويلا بلا طائل ، سوى تسويد الأوراق ، لأنّ القضية الحقيقية المشتملة على الخطاب إن كانت واقعة في الروايات فقد عرفت ندرتها بل عدمها ، ولو سلّم وجودها كأن يقول عليه السلام إن شككت أيّها المكلّف فابن على الأكثر ، فهي من قبيل الخطاب في كتب المصنّفين في أنّه لا يقصد به الخطاب مع شخص خاصّ ، وإن كانت في الآيات فقد عرفت

ص: 267


1- الأعراف 7 : 172.
2- الأعراف 7 : 172.
3- النساء 4 : 104.

أنّ خطابه تعالى ليس بخطاب مواجهة.

قوله في الحاشية المشار إليها : فالصحيح في تقريب عدم اختصاص الخطاب بالحاضرين مجلس التخاطب ، هو أنّ أدوات الخطاب حسبما ندركه من مفاهيمها عند استعمالاتها غير موضوعة للخطاب الحقيقي وإنّما وضعت للخطاب الانشائي وإظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداع من الدواعي ، فلا مانع من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه منزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الغائب وكذلك المعدوم إن نزّلناه منزلة الحاضر الملتفت صحّ خطابه الحقيقي فضلا عن مجرّد الخطاب الانشائي المدّعى كونه من مجرّد إظهار توجيه الكلام نحوه. وإن لم نتصرّف هذا التصرّف ولم ننزّل ذلك الغائب أو المعدوم منزلة الحاضر الملتفت ، لم يصحّ لنا إظهار توجيه الكلام نحوه فضلا عن خطابه الحقيقي ، فإنّ خطاب المعدوم بل الغائب ولو بنحو الخطاب الايقاعي مع بقاء المعدوم والغائب على ما هو عليه من الغيبة أو الانعدام غير معقول.

وإن شئت فقل : إنّ الخطاب ليس له درجتان إيقاعي وحقيقي ، بل ليس هو إلاّ حقيقة واحدة ، وأنّ العناية والتنزيل لا يكون إلاّ في المخاطب كما هو الشأن في جميع الحروف فإنّه لا يتصوّر فيها الاستعارة وإنّما يكون ذلك في المعاني الاسمية ، ونحن وإن قدّمنا في توجيه كون المسألة عقلية وكونها لفظية أنّه بعد الفراغ من إمكان توجيه الخطاب مع المعدوم بتنزيله منزلة الموجود الحاضر يقع الكلام في أنّ مفاد كاف الخطاب هل هو الحاضر الحقيقي أو هو الحاضر ولو تنزيلا ، إلاّ أنّ ذلك من مجرّد التوجيه للنزاع اللفظي بعد الفراغ عن إصلاح المسألة

ص: 268


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 368.

من ناحية الحكم العقلي ، لا أنّ معنى ذلك هو أنّا نقول بعد التنزيل المذكور أنّ الخطاب يكون مجازا ، بل إنّا لا نقول إلاّ بكونه حقيقة لكن بعد التنزيل المذكور ، ومحصّل ذلك أنّا نختار القول بالحقيقة لا أنّا ننفي النزاع من أصله.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ كاف الخطاب تستدعي الحضور والمواجهة فشمولها للغائب يحتاج إلى عناية بتنزيله منزلة الحاضر ، فلو خلّينا نحن وظاهر كاف الخطاب لكان مقتضاه الاختصاص بالحاضر ، لكن لمّا حصل القطع لنا بأنّ الغائبين عن الحضور في المسجد داخلون في الخطاب كان علينا أن نلتزم فيهم العناية المذكورة ، وأمّا المعدومون فلمّا فرضنا كونهم داخلين في القضية الحقيقية وأنّها تشملهم قطعا ، صار حالهم حال الغائبين في كوننا ملتجئين إلى أن نلتزم فيهم العناية المذكورة كما ذكره المحشّي بقوله : هذا مضافا - إلى قوله - على ما هو لازم كون القضية حقيقية ، وحينئذ فأي فرق بين ما ذكره هذا المحشّي بقوله : فالصحيح الخ ، وبين ما أفاده شيخنا قدس سره وأي إيراد له على شيخنا قدس سره.

قوله في الحاشية المزبورة : هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطابا من اللّه تبارك وتعالى بلسان رسوله صلى اللّه عليه وآله إلى أمّته ... الخ (1).

إن كان المراد من كون الخطاب منه تعالى بلسان رسوله صلى اللّه عليه وآله أنّه تعالى هو المنشئ للخطاب لكنّه بلسان رسوله نظير خطابه لموسى من الشجرة بإيجاد الكلام فيها ، فذلك لا يخرجه عن كونه خطابا منه تعالى ، فلا يكون داخلا في خطاب المواجهة. وإن كان المراد أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله هو المنشئ للخطاب لكنّه بعنوان التبليغ عنه تعالى ، لزمه أن يكون الخطاب من كلام الرسول صلى اللّه عليه وآله لا من كلامه تعالى.

ص: 269


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 368.

قوله في الحاشية المشار إليها : وأمّا إذا قلنا بأنّها نزلت عليه قبل قراءته صلى اللّه عليه وآله فبما أنّ المفروض أنّه لم يكن حال نزولها من يتوجّه إليه الخطاب حقيقة ... الخ (1).

لعلّ الغرض من قوله يكون النزاع - إلى قوله - باطلا من أصله ، أنّ الخطاب حينئذ يخرج عن محلّ النزاع ، فإنّ محلّ النزاع هو خطاب المواجهة وهذا خارج عنه. وإن كان المراد أنّ الخطاب الحقيقي لا يتصوّر لأنّ الجميع غائبون حال نزول الآية ، ففيه ما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ جميع ما في الحاشية المزبورة من التفصيل بين الخطاب الانشائي والخطاب الحقيقي كلّه هو مطلب الكفاية (2) ، وقد عرفت أنّ نفس الخطاب الذي هو مفاد الكاف لا يكون إلاّ حقيقة واحدة. وهكذا الحال في مفاد النداء الذي [ هو ] طلب الاقبال من المقابل ، ومرجع ذلك كلّه إلى توجيه الكلام نحو المقابل ، وهو لا يعقل إلاّ مع الوجود القابل لذلك حقيقة أو تنزيلا من دون أن يكون عناية أو تنزيل في ناحية الخطاب نفسه أو مفاد النداء نفسه أو في نفس توجيه الكلام ، بل إنّ هذه الأمور كلّها ليست إلاّ حقيقة واحدة إيجادية فعلية ، وإنّما تكون العناية والتنزيل فيما تقع عليه ، وهذا هو أحد الموارد التي يقال فيها إنّه لا يتصوّر الاستعارة بل ولا التجوّز في الحروف والأدوات ، وإنّما يتصوّر ذلك في مدخولاتها ومتعلّقاتها ، وإليه ينظر من قال إنّ الاستعارة فيها تكون بالتبع لمدخولاتها ، وفي الحقيقة لا استعارة فيها أصلا ولا تجوّز فيها ولا إعمال عناية ، كلّ ذلك أجنبي عن مفادها الذي هو مجرّد إيجاد معناها وإيقاع مفادها.

ص: 270


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 368.
2- كفاية الأصول : 228 - 230.

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذه المسألة ، إذ لعلّه أوضح في اندفاع الإشكال الذي حرّره في هذه الحاشية ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه قدس سره : وأمّا الجهة الرابعة فتفصيل الكلام فيها : هو أنّ القضية المتضمّنة للحكم إن كانت خارجية ، فالحقّ هو القول بعدم الشمول ، وإن كانت قضية حقيقية فالحقّ هو القول بالشمول ، فإنّ القول بعدم الشمول إن كان راجعا إلى كون القضية الحقيقية قضية خارجية فلا يخفى ما فيه من الخلف ، وإن لم يكن راجعا إلى ذلك بل كان راجعا إلى دعوى عدم شمول القضية الحقيقية المشتملة على أدوات الخطاب لمن يكون خارجا عن مجلس الخطاب ، ففيه أنّ هذه الدعوى إن كانت في مقام الثبوت فلا يخفى ما فيها ، حيث إنّ مرجع كلّ تكليف يتوجّه إلى شخص لا بدّ أن يكون في مقام الثبوت متوجّها إليه بعنوان الخطاب ، غايته أنّه يكون معلّقا على تقدير وجوده لا أنّه يكون حدوث التكليف والخطاب عند وجوده ليكون مرجع التكاليف إلى الاخبار بأنّه يوجد له التكليف عند وجوده ، وإن كانت هذه الدعوى في مقام الاثبات بأن يقال إنّ مقتضى وضع أداة الخطاب هو انحصاره بالموجود ، ففيه : أنّ ذلك مسلّم إلاّ أنّه لا ريب في إمكان توجّه الخطاب إلى من لا يكون قابلا له كالجماد والمعدوم ، بعد تنزيله منزلة القابل له ، والقضية الحقيقية بنفسها متضمّنة لهذا التنزيل حيث إنّها تتضمّن فرض وجود الموضوع وإجراء الحكم عليه على تقدير وجوده ، فلا مانع من شمول الخطاب له ، بل إنّ مقتضى هذا الذي تتضمّنه القضية هو ظهورها في الشمول ، ويكون عدم الشمول محتاجا إلى المخرج ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

ولا يخفى أنّ المراد من إجراء الحكم عليه على تقدير وجوده هو إجراء الحكم الخطابي ، إذ أنّ كلّ حكم خصوصا ما يكون تكليفيا يتضمّن الخطاب ، فإذا

ص: 271

كان هناك فرض وجود الموضوع فهو عبارة أخرى عن فرض وجود المخاطب القابل للخطاب.

قوله : وأمّا بناء على كونه حقيقة كما هو الصحيح فلا يكون هناك معنى آخر حقيقي أو مجازي للعام أريد من الضمير حتّى يلزم الاستخدام في الكلام (1).

لا يخفى أنّ مراد شيخنا قدس سره هو أنّ كون العام حقيقة أو مجازا عند ورود التخصيص عليه من الخارج أو ممّا احتف به إنّما يرتكز على أنّه عند التخصيص هل يكون التخصيص معنى جديدا للعام أو أنّه ليس بذاك ، بل إنّ العام سواء طرأه التخصيص أو لم يطرأه ، لم يستعمل إلاّ في أصل معناه الذي هو العموم والشمول للجميع ، وإنّما يكون التصرّف عند التخصيص فيما هو محطّ الحكم من ذلك العام الذي أحضرناه أمام السامع بواسطة اللفظ الموضوع ، وأنّ المحكوم عليه هو بعض أفراد ذلك العام لا تمامها ، وبناء على ذلك لا يكون الضمير راجعا إلاّ إلى نفس ذلك العام ، ويكون التصرّف في الجملة المشتملة على الضمير في ناحية المحكوم عليه فيها الذي هو الضمير ، وأنّ المراد هو بعض أفراده ، فلا فرق بين أن يقول وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ ، وبين أن يقول وبعولة المطلّقات أحقّ بردّ تلك المطلّقات ، فكما أنّ الثاني لا يوجب الخروج بالمطلّقات عن عمومها وإنّما يوجب تضيّق المحكوم عليه من ذلك العام ، فكذلك الأوّل المشتمل على الضمير العائد على المطلّقات على عمومها.

واللازم في هذا المقام مراجعة ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (2)

ص: 272


1- أجود التقريرات 2 : 370 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 552.

وعندي ما حرّره المرحوم الشيخ موسى من الدورة السابقة ، والتحريران متّفقان على بيان الايراد بالنحو الذي احتملنا هنا ، غير أنّ المرحوم الشيخ موسى لم يجعل ذلك إلاّ وجها واحدا.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عمّا في الحاشية الأولى على ص 493 (1) من الطبعة الجديدة والحاشية على ص 495 (2) ، وهاك ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام وهذا نصّه : وينبغي تحرير هذا البحث في جهات من الكلام :

الأولى : أنّ هذا النزاع إنّما يتوجّه على القول بأنّ التخصيص موجب للتجوّز في العام ، أمّا على القول بأنّه لا يوجب تجوّزا فلا وقع لهذا النزاع ، لأنّ اختصاص الحكم في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَ ) (3) بالرجعيات لا يوجب كون المراد بالضمير هو خصوص الرجعيات كي يكون الأمر دائرا بين تخصيص المرجع أو بقائه على عمومه مع اختصاص الضمير ببعض أفراده الذي هو محصّل الاستخدام ، بل يبقى حينئذ كلّ من الضمير ومرجعه على ما هو عليه من الاستعمال في عموم المطلّقات ، وأقصى ما في البين هو أن يكون الحكم في ناحية الضمير مختصّا بخصوص قسم من العام.

الجهة الثانية : أنّه لو سلّمنا كون التخصيص موجبا للتجوّز فلا يكون اختصاص الحكم في قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ ) موجبا لاختصاص الضمير والتجوّز فيه ، لأنّ التخصيص الحاصل في ناحية المحمول لا يكون موجبا له في ناحية الموضوع ، كما في مثل أكرم العلماء فإنّ اختصاص الإكرام بالأحياء لا يكون

ص: 273


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 370.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 373.
3- البقرة 2 : 228.

موجبا للتجوّز في ناحية الموضوع باخراج الأموات منه ، انتهى ما أردت نقله.

قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس سره في الدورة السابقة ، بعد أن حرّر النزاع وأنّه مبني على كون العام مجازا بعد التخصيص وأوضح ذلك ، قال : وبعبارة أخرى لو قلنا بأنّ تخصيص العام بقيد يلزم أن يكون العام مستعملا في المقيّد ، فمع فرض اختصاص حقّ الرجوع بالرجعيات يلزم أن يكون المطلقات مستعملا في الرجعيات وإلاّ يلزم الاستخدام.

وأمّا لو قلنا بأنّ تخصيصه لا يوجب أن يكون العام مستعملا في الخاص بل في نفس معناه ، ولا يلزم من التخصيص إلاّ تضيّق دائرة المصب كتقييد المطلق بناء على ما أوضحناه ، فلا دوران بين الاستخدام والتخصيص ، لأنّ اختصاص حكم الرجوع بالرجعيات لا يلزم أن يكون الضمير مستعملا في غير معناه ، بأن لا يكون مطابقا لمرجعه ، لأنّ الضمير راجع بالمطلقات بنفس معناها من دون استخدام ، ومجرّد العلم باختصاص أحد حكمي العام بخصوصية لا يوجب إمّا تصرّفا في العام باستعماله في الخاص ، وإمّا تصرّفا في ضميره الراجع إليه ، لأنّ هذه العبارة هي ما إذا انضمّ القيد المعلوم من الخارج بالضمير لفظا وقيل : وبعولتهنّ إذا كنّ رجعيات زوجهنّ أحقّ بردهنّ.

وبالجملة : العلم بأنّ أحد الحكمين في العام مخصوص لا يوجب أن يكون حكمه الآخر مخصوصا أو موجبا للتصرّف في الضمير الراجع إليه ، نعم لو كان من قبيل جاء زيد وهو يتكلّم ، مع العلم بأنّ المتكلّم زيد بن عمرو ، فلا بدّ من أحد التصرّفين ، إمّا باختصاص زيد بزيد بن عمرو حتّى يطابق الضمير المرجع ، وإمّا باستخدام في الضمير وجعل المجيء لزيد بن بكر ، والمفروض أنّ اختصاص الحكم الوارد بعد الضمير بالرجعيات لا يوجب - إذا كان المطلّقات بمعناه قبل

ص: 274

التخصيص - أن يكون الضمير راجعا إلى غير مرجعه إلى غير ما هو ظاهر في المرجعية ، فأصل النزاع إنّما يصحّ من القائلين بالمجازية ، وتبعهم المتأخرون في تحرير النزاع هكذا من دون ابتناء ، وهذا عجيب ، انتهى.

أمّا المرحوم الشيخ محمّد علي (1) فعبارته موجودة مطبوعة فراجعها ، وهي أصرح من هذا الذي نقلناه عن المرحوم الشيخ موسى ، غير أنّ المرحوم الشيخ موسى اقتصر على وجه واحد ولم يذكر لنفي الاستخدام وجهين كما ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي. ولعلّ الفرق بين الوجهين هو أنّ الوجه الأوّل راجع إلى أنّ التخصيص في ناحية الضمير نفسه ، وهو لا يوجب المغايرة لمرجعه ، والثاني راجع إلى أنّ الضمير لا تخصيص في ناحيته وإنّما كان التخصيص في ناحية الحكم المحمول عليه ، فلو سلّمنا أنّ التخصيص يوجب المغايرة لم يكن ذلك موجبا للاستخدام أيضا ، لأنّ هذا التخصيص لم يقع في ناحية الضمير وإنّما وقع في ناحية الحكم المحمول عليه ، وهذا الوجه الفارق بين الوجهين هو المستفاد ممّا تقدّم نقله ممّا حرّرناه عنه قدس سره.

أمّا الذي حرّرته عنه قدس سره فقد عرفته فيما نقلناه ، ولكنّي كنت في وقته ضربت عليه وحرّرت الجهة الأولى والثانية على نحو ما هو محرّر في هذا الكتاب ، ولا أعرف الوجه في ضربي عليه ، مع أنّه موافق لما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي والمرحوم الشيخ موسى في الدورة السابقة ، ولعلّ المنشأ في الاختلاف في هذه التحارير هو الاختلاف فيما فهمناه ممّا صدر عنه قدس سره. هذا ما كنت حرّرته سابقا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مراد شيخنا قدس سره بالايراد الأوّل أنّ الاستخدام منوط بأن يكون لمرجع الضمير معنيان حقيقي ومجازي ، ويكون الضمير ملائما

ص: 275


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 552 - 553.

للمجازي ، فإن أبقينا المرجع على أصالة الحقيقة ، وقلنا إنّ المراد به معناه الحقيقي ، كان الضمير مخالفا لمرجعه وهو الاستخدام ، وإن خرجنا بالمرجع عن أصالة الحقيقة وقلنا إنّ المراد به المعنى المجازي ، كان الضمير مطابقا لمرجعه ولم يكن في البين استخدام. والمفروض أنّ المرجع فيما نحن فيه هو العام أعني المطلّقات ، وهو لا يستعمل إلاّ في العام ، وفي مقام التخصيص أيضا لا يستعمل إلاّ في العام ، غايته يكون مركب الحكم بعض ذلك العام ، فالضمير في قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ ) (1) لو كان المراد به بعض المطلّقات وهنّ الرجعيات لا يكون راجعا إلاّ إلى المطلّقات السابقة ، حتّى لو كانت السابقة مختصّة بالرجعيات ، فعلى أيّ حال كان الضمير مخالفا لمرجعه ، سواء كان الحكم في الأوّل مختصّا بخصوص الرجعيات أو كان شاملا لجميع المطلّقات ، وحينئذ لا تكون أصالة العموم مزاحمة بأصالة عدم الاستخدام ، لتحقّق الاستخدام على كلّ من إبقاء العام على عمومه أو تخصيصه بخصوص الرجعيات.

وأمّا إيراده الثاني فكأنّه وارد على أصل المدّعى وهو جريان أصالة عدم الاستخدام حتّى في مثل :

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

للعلم بالمراد في نفس الضمير ، وإنّما كان الشكّ في كيفية إرادته ، وأصالة عدم الاستخدام التي من قبيل أصالة الظهور إنّما تجري في الشكّ في المراد لا في الشكّ في كيفية إرادته.

وأمّا إيراده الثالث فمرجعه إلى إنكار كون المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات بل هو عبارة عن نفس المطلّقات ، فكأنّه قال والمطلّقات بعولتهنّ أحقّ

ص: 276


1- البقرة 2 : 228.

بردهنّ ، أو بعولة المطلّقات أحقّ بردهنّ ، لكن في مقام الحكم عليه كان ذلك الحكم وهو الأحقّية بالردّ واردا على بعض تلك المطلّقات ، وذلك البعض هو الرجعيات ، فهو مثل قوله كلّ عالم يجب إكرامه إذا كان السامع عالما بأنّ وجوب الإكرام مختصّ بالعالم العادل أو أنّه لا يشمل الفاسق ، أو قام الدليل الخارجي على خروج الفاسق. وعلى أي حال ، يمكنك أن تقول إنّ عقد الوضع شامل لكلّ عالم ، وإنّما حكمنا بخروج الفاسق من جهة عقد الحمل.

ولا يخفى أنّه بعد شرح ما أفاده شيخنا قدس سره بهذا الشرح ، يتّضح لك أنّه لا يرد عليه شيء ممّا في الحواشي ، ولا يحتاج إلى الأجوبة التي حرّرناها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل أنّ لزوم الاستخدام في ناحية الضمير ... الخ (1).

قد يقال إنّ ما أفيد في هذا الوجه الأوّل إنّما يتمّ لو كان المقابل لأصالة عدم الاستخدام في الضمير هو أصالة الحقيقة في المرجع أعني المطلّقات ، فيقال إنّه يمكن القول بعدم كون الضمير مخالفا لمرجعه مع بقاء لفظ المطلّقات على الحقيقة وعدم التجوّز ، وذلك بالتقريب الذي تقدّم (2) في توجيه كون العام بعد التخصيص على الحقيقة ، أمّا لو كان المقابل للاستخدام هو أصالة الظهور في ناحية المرجع الذي هو المطلّقات فلا يمكن القول بامكان الجمع بين عدم الاستخدام وبقاء العام الذي هو المطلّقات على حجّية ظهوره من إرادة الجمع.

والحاصل : أنّ المقابلة إنّما هي بين أصالة عدم الاستخدام وأصالة العموم الذي هو عبارة عن حجّية الظهور في ناحية العام ، وهذا ممّا لا يمكن الجمع

ص: 277


1- أجود التقريرات 2 : 370.
2- في أجود التقريرات 2 : 303.

بينهما.

وفيه : ما لا يخفى ، لامكان الجمع بين عدم الاستخدام وبين حجّية ظهور العام ، وذلك لما حقّق في محلّه (1) من أنّ خروج البائنات عن قوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَ ) (2) لا يوجب استعماله في خصوص الرجعيات.

وأمّا ما أفيد بالثاني (3) فهو مسلّم ، وصاحب الكفاية (4) يقرّره ، لأنّ أصالة عدم الاستخدام إنّما هي من الأصول اللفظية التي يكون إجراؤها منحصرا في موارد الشكّ في الارادة لا في موارد الشكّ في كيفيتها بعد العلم بتحقّقها. وهكذا الحال في الثالث الذي عبّر عنه في الكفاية بقوله : أو إلى تمامه مع التوسّع في الاسناد (5) ، فإنّه أيضا من الأصول التي لا تجري إلاّ عند الشكّ في الارادة.

وقول شيخنا قدس سره المحكي في هذا التحرير : وإنّما أريد الرجعيات بدال آخر أعني به عقد الحمل الدالّ على كون الزوج أحقّ بردّ زوجته (6) ، لا يرد عليه ما في الحاشية من أنّه ليس الدال هو عقد الحكم ، وأنّ الدلالة منحصرة بالدليل الخارجي ، إذ يمكن الجواب عنه بأنّ هذه الدلالة مستفادة من عقد الحمل باعتبار اشتماله على القابلية للردّ ، وأنّ الزوج أحقّ بذلك الردّ ، بخلاف البائنة إذ ليست قابلة للردّ ليتفرّع عليه أنّ الزوج أحقّ بذلك الردّ ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 278


1- لعلّ المراد به الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : 95 و 97.
2- البقرة 2 : 228.
3- [ في الأصل : بالثالث ، والصحيح ما أثبتناه ].
4- كفاية الأصول : 233.
5- كفاية الأصول : 233.
6- أجود التقريرات 2 : 373 - 374 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ويمكن المناقشة فيما أفاده من إخراج المقام عمّا هو محتمل القرينية ، فإنّ اختصاص الضمير قابل للاعتماد عليه ، فيوجب سقوط أصالة الظهور في ناحية [ العام ] لا أنّه يوجب قلبه إلى الظهور في التخصيص ، فلاحظ.

وحاصل ما أفاده بقوله في الوجه الثاني : إن قلت الخ (1) هو عدم إمكان الاعتماد في المقام على أصالة عدم الاستخدام لنرتّب لازمها وهو عدم بقاء العام على حاله ، بل يلزمنا حينئذ أن نقول إنّ المراد به هو خصوص الرجعيات ، فيكون ذلك نظير ما لو علمنا بأنّ زيدا لا يجب إكرامه ولكن شككنا في أنّه عالم أو لا ، فنقول باجراء أصالة عموم أكرم العلماء ليثبت بذلك أنّ زيدا المذكور ليس بعالم ، إذ لو كان عالما لكان ذلك العموم مخصّصا ، وقد تقدّم (2) البحث عن ذلك وأنّ أصالة الظهور لا تجري في هذه المقامات لعدم كون الشكّ في الارادة.

لا يقال : إنّا لو قلنا بذلك لم تخرج المسألة عن المعارضة ، إذ كما أنّ لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من المطلّقات هو خصوص الرجعيات ، فكذلك لازم أصالة العموم في المطلّقات هو الاستخدام فيقع التعارض بين الأصلين باعتبار لازمهما.

لأنّا نقول : إنّ ذلك لا يخلو من الإشكال ، فكأنّه لأجل ذلك عدل شيخنا عن هذا الجواب إلى ما أفاده من الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، فلاحظ.

والذي يقع في النظر القاصر هو أنّ كون الضمير مخالفا لمرجعه هو خلاف الأصل فيه ، ولسنا نريد من إجراء أصالة عدم المخالفة إثبات مراده من ذلك

ص: 279


1- أجود التقريرات 2 : 371.
2- في الصفحة : 121 وما بعدها.

الضمير ، بل إنّا نقول إنّ المتكلّم بمثل هذه الآية الشريفة بعد العلم بأنّ المراد من ذوات الردّ هو خصوص الرجعيات لا بدّ له من ارتكاب خلاف الأصل. إمّا في المطلّقات بارادة بعضهنّ ، وإمّا في الضمير بارجاعه إلى خلاف ما أريد من مرجعه ، ونحن حيث لم نعلم بذلك الأصل الذي ارتكب المتكلّم خلافه بعد فرض علمنا أنّ المراد بالضمير هو خصوص الرجعيات ، يتساوى الاحتمالان عندنا ، فلا يمكننا الحكم على ذلك المتكلّم بأنّه ارتكب خلاف الأصل في العام ، كما لا يمكننا الحكم عليه بأنّه ارتكب خلاف الأصل في الضمير ، فلا طريق لنا إلى إثبات إرادة العموم من المرجع وتكون الجملة مجملة حينئذ ، ويكون الحال فيما نحن فيه كما هو الحال فيما لو قال المولى لعبده أكرم العلماء ثمّ عقّبه بجملة تردّد ذلك العبد في مفادها هل هو حرمة إكرام الفاسق منهم ، ليكون على خلاف أصالة العموم في العلماء ، أو أنّ مفادها هو حرمة إكرام الجهّال من الناس ليكون على خلاف أصالة العموم في مثل أوامر الإحسان مع الناس ، أو لا أقل من كونه على خلاف أصالة عدم حرمة إكرام الجهّال.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة فيما أفاده (1) من الفرق بين الأصول اللفظية وبين الأصول العملية ، بأنّه بعد الطولية لا ينبغي الإشكال في السقوط فيما إذا لم يكن محلّ للأثر السابق في كلّ من الأصول اللفظية والأصول العملية. نعم بعد فرض العرضية بين الآثار كما في مثل نجاسة الماء الذي أريق فإنّ لها آثارا وهي حرمة شربه وفساد الوضوء به ونجاسة ملاقيه ، وهذه كلّها لاحقة لنجاسة الماء من دون كون أحدها أثرا للأثر الآخر ، وحينئذ عند إراقته يسقط الأثر الأوّل وهو حرمة الشرب ، إذ لا موضوع له ، ويبقى الأثران وهما بطلان الوضوء من ذلك الماء قبل

ص: 280


1- أجود التقريرات 2 : 372.

إراقته ونجاسة ملاقيه ، وحينئذ فعند كونه مستصحب النجاسة إلى حين الاراقة لا يترتّب حرمة الشرب ، لكن يترتّب بطلان الوضوء الواقع منه ونجاسة ملاقيه قبل الاراقة ، ولو قامت البيّنة على نجاسته كان الحكم كذلك بطريق أولى ، وإنّما الفرق هو أنّه لو كان لتلك النجاسة أثر ولازم تكويني مثل أنّ شاربه يكون محموما وكان للمحموم أثر شرعي وهو وجوب التصدّق عليه ، رتّبنا ذلك الأثر في مورد قيام البيّنة بخلاف مورد قيام الأصل وهو استصحاب النجاسة ، إلاّ إذا قلنا بأنّه مثبت كالأمارة ، وهذا هو الفارق بين الأصل اللفظي والأصل العملي ، لا أنّه من قبيل طولية الآثار في الأصل العملي دون اللفظي.

هذا ما حرّرته في ربيع الأوّل / 1384 ، وينبغي الضرب على أغلب ما كنت حرّرته سابقا (1).

قوله : الثاني أنّا وإن سلّمنا كون العام المخصّص مجازا إلاّ أنّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري فيما إذا شكّ في إرادة معنى مجازي أو حقيقي آخر من الضمير لا فيما علم المراد منه ... الخ (2).

أورد عليه في الحاشية بقوله : المراد بالضمير في محلّ الكلام وإن كان معلوما إلاّ أنّ المدّعي لجريان عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في شيء - إلى قوله - بل إنّما هو يدّعي ظهور الكلام بسياقه في اتّحاد المراد بالضمير ومرجعه ، وبما أنّ المراد بالضمير في محلّ الكلام معلوم ، يدور الأمر بين رفع اليد

ص: 281


1- [ ينبغي التنبيه على أنّ هذه الحاشية حرّرها المصنّف قدس سره في الدورة الثالثة والأخيرة من دوراته الأصولية ، وكتبها في أوراق منفصلة وألصقها بالأصل ، وأمّا سائر حواشي هذا المبحث السابقة واللاحقة فهي محرّرة قبل هذه الدورة ].
2- أجود التقريرات 2 : 370 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

عن الظهور السياقي المثبت لعدم إرادة العموم من العام ، ورفع اليد عن أصالة العموم المقتضية للالتزام بالاستخدام ، الخ (1).

ولا يخفى أنّ هذا الظهور السياقي مسلّم لا شبهة فيه ، بل هو بمعنى المطابقة بين الضمير ومرجعه الواقعي قطعي قهري ، إذ لا مجال فيه للتغاير بينهما واقعا ، ولكن بعد أن علمنا أنّ المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات كان ذلك عبارة أخرى عن كون مرجع ذلك الضمير واقعا هو خصوص الرجعيات ، ولكن إن أبقينا العام على عمومه فقد سلكنا بالضمير خلاف الظاهر ، بأن أرجعناه إلى معنى هو مغاير لما هو الظاهر من لفظ مرجعه وهو معنى الاستخدام ، فلم نحتفظ بأصالة عدم الاستخدام. وإن التزمنا باسقاط العموم وقلنا إنّ المراد من لفظ المرجع هو المرجع الواقعي ، فقد احتفظنا بأصالة عدم الاستخدام ، لكن لم نحتفظ بأصالة العموم ، وحيث إنّ أصالة عدم الاستخدام ساقطة لكون المراد بالضمير معلوما ، كانت أصالة العموم بلا معارض.

والحاصل : أنّ المراد بأصالة السياق إن كان هو الوحدة الواقعية فهي قطعية لكنّها لا تنتج ، وإن كان المراد بها هو أنّ الأصل في الضمير أن يكون راجعا إلى ما هو الظاهر من اللفظ السابق عليه فهي عبارة أخرى عن أصالة عدم الاستخدام ، فلاحظ تمام الحاشية وتأمّل.

أمّا أنّه بعد العلم بأنّ المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات ، يكون مقتضى السياق وأصالة الوحدة بين الضمير ومرجعه هو حمل العام على طبق المراد بذلك الضمير ، فهو إن كان المراد بالسياق وأصالة الوحدة هو عدم الاستخدام فقد عرفت حالها ، وإن كان المراد به الاتّحاد ولو بالتصرّف بالعام ، ففيه

ص: 282


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 371.

أنّه لا أصل لهذا الأصل ، وإنّما أقصى ما عندنا هو أنّ الأصل في الضمير أن يكون مطابقا لمرجعه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بأنّ الأصل في المرجع أن يطابق ضميره الراجع إليه.

والحاصل : أنّ السياق والوحدة إنّما تحكم على الضمير وأنّه لا بدّ أن يكون على طبق مرجعه ، لا أنّها تحكم على المرجع وأنّه لا بدّ أن يطابق ضميره ، وحيث قد علم بالمراد بالضمير وأنّه قد خالف الظاهر من مرجعه فقد سقط فيه الأصل المزبور ولا أصل يوجب علينا أن نجعل المرجع مطابقا لضميره.

قوله : فإنّ إثبات تخصيص العام بأصالة عدم الاستخدام ليس من جهة كونه من آثاره شرعا ، بل هو من جهة ملازمته عقلا ، وبهذا الاعتبار يكون داخلا في الأصول المثبتة ، ومن الواضح أنّ إثبات لازم عقلي بأصل فرع إثبات ملزومه ، فالأصل إذا لم يمكن إثبات الملزوم به فكيف يمكن إثبات اللازم به مع أنّه فرعه وبتبعه (1).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ مبنى حجّية الأصول اللفظية في إثبات اللازم هو كونه بحسب نظر العقلاء من آثار مجرى الأصل ، فإن كانت الطولية هي السبب في التوقّف في الأصول اللفظية كانت سببا في التوقّف في الأصول فيما لو كان الأثر الشرعي أثرا ولو بألف واسطة ، وإن لم تكن الطولية موجبة للتوقّف في الأصول الشرعية ، لم تكن موجبة له في الأصول اللفظية.

والأولى أن يقال : إنّ الفارق هو وجود الاطلاق في ناحية الأصول العملية الشامل لجميع الآثار ، وأنّ الآثار الطولية لما هو مجرى الأصل آثار لنفس مجرى الأصل ، بخلاف الأصول اللفظية فإنّ الآثار الطولية فيها وإن كانت بنظر العقلاء

ص: 283


1- أجود التقريرات 2 : 372 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

آثارا لنفس مجرى الأصل ، إلاّ أنّه حيث لا إطلاق فيما يدلّ عليها ، إذ ليس الدليل عليها إلاّ بناء العقلاء المفروض عدمه أو الشكّ فيه عند عدم الأثر فيما هو الأثر الأوّل في مجرى الأصل كما فيما نحن فيه ، فلا يكون لنا ما يدلّ على حجّية الأصل اللفظي في الصورة المزبورة.

قوله : فلو كان المولى أراد من العموم خصوص البعض واتّكل في ذلك على معلومية إرادة البعض من الجملة الأخرى فقد أخلّ ببيانه ... الخ (1).

هذا التفصيل لو تمّ فإنّما يتمّ في صورة كون العموم ثابتا بمقدّمات الحكمة ، أمّا لو كان عمومه لفظيا وضعيا فلا مجال فيه لهذا الضابط الراجع إلى الإخلال بمقدّمات الحكمة ، بل تكون المسألة داخلة في احتمال قرينية الموجود ، ولم يعلم من حال العقلاء بناؤهم على الأخذ بأصالة الحقيقة أو الأخذ بأصالة الظهور عند احتمال قرينية الموجود.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ احتمال قرينية الموجود مانع من الأخذ بالظهور ، سواء كان مدرك الظهور هو مقدّمات الحكمة أو كان مدركه الظهور اللفظي الوضعي ، وسواء كان محتمل القرينية في نفس الجملة أو كان في جملة أخرى ما دام المتكلّم مشغولا بكلامه المفروض اتّصال بعضه ببعض ، فتأمّل. ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس سره في المسألة الآتية.

ولا يخفى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما يأتي ، فإنّ الكلام فيما يأتي إنّما هو في أنّ دليل الاخراج الذي هو الاستثناء هل هو مختصّ بالأخيرة أو يشمل الجميع. أمّا ما نحن فيه فإنّه لا ريب في أنّ التخصيص إنّما هو في الأخيرة ، ولكنّا نريد أن نجعل الاختصاص في الأخيرة التي هي مشتملة على الضمير قرينة على

ص: 284


1- أجود التقريرات 2 : 374 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الاختصاص في سابقتها وهي ذات مرجع الضمير ، ومن الواضح أنّ جعل ذلك المبحث من قبيل احتمال قرينية الموجود لا يوجب جعل هذا المبحث من هذا القبيل.

والخلاصة : هي أنّك قد عرفت أنّ أصالة عدم الاستخدام لا مجرى لها في المقام ، وأنّ الجاري فيه هو أصالة العموم ، وبعد تمامية ذلك لم يبق إلاّ احتمال سقوط أصالة العموم في نفسها ، لا لتقديم أصالة عدم الاستخدام عليها ، ولا وجه حينئذ لسقوطها.

وإن شئت فقل : إنّ الضمير لا يزيد على كونه إشارة إلى المطلّقات السابقة ، فلا يكون الحكم بأنّ بعولتهنّ أحقّ بردهنّ إلاّ حكما على تلك المطلّقات ، فيكون للمطلّقات السابقة حكمان أوّلهما التربّص وما بعده ، وثانيهما أنّ البعل أحقّ بردّها ، ولو كان الثاني بنفسه أو بواسطة الدليل الخارجي مختصّا بالرجعيّات لم يكن ذلك موجبا لاختصاص الأوّل بها ، سيّما إذا كان ذلك الاختصاص بواسطة الدليل الخارجي.

وبالجملة : ليس المقام من قبيل الاكتناف بما يصلح للقرينية على وجه يكون موجبا لسقوط أصالة العموم بالقياس إلى الحكم الأوّل.

قوله : والتحقيق أن يقال بعد ما عرفت من لزوم رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة ... الخ (1).

لا يخفى أنّ أدوات الاستثناء إنّما هي موضوعة لإيجاد الاخراج الفعلي العملي ، ولا فرق فيه بين كون المخرج منه جملة واحدة أو أكثر ، إذ لا يختلف

ص: 285


1- أجود التقريرات 2 : 375 - 376 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بذلك معنى أداة الاستثناء من إيجاد الاخراج ، ولا فرق في ذلك بين كون عقد الوضع مذكورا في الجملة الأولى فقط وبين كونه مذكورا في جميع الجمل (1) وذلك لأنّ الاخراج من الموضوع إنّما هو بلحاظ الحكم ، فيقع الكلام في أنّ هذا الاخراج من الموضوع الأوّل هل كان بلحاظ جميع الأحكام أو أنّه كان بلحاظ خصوص الأخير منها.

ومنه يظهر لك أنّه لو كان عقد الوضع مذكورا في الأخيرة لم يتعيّن الحكم على ذلك الاخراج بأنّه من خصوص الأخيرة ، وما أفيد بقوله : حيث إنّ عقد الوضع ذكر في الجملة الأخيرة مستقلا فقد أخذ الاستثناء محلّه ، ويحتاج تخصيص الجمل السابقة إلى دليل الخ (2) ، قابل للتأمّل ، فإنّ الاستثناء في مثل هذه الصورة قابل للرجوع إلى الجميع وللرجوع إلى الأخيرة ، وكأنّه مبني على أنّ الاستثناء يكون من السابق بعد اللاحق ، فيقال إنّه بعد أن أخذ الاستثناء محلّه لا وجه لتوجيهه إلى السابق ، وفيه ما لا يخفى فإنّه إخراج واحد وإنّما يتكلّم في أنّه إخراج من الأخير أو من الجميع. مضافا إلى أنّه لو كان الميزان أخذ المحل فلم لا نقول إنّه يرجع إلى الأوّل فيأخذ محلّه.

نعم ، في خصوص الآية الشريفة (3) ربما نقول إنّ الظاهر منها هو الرجوع إلى الأخيرة ، لمناسبة التوبة للحكم بعدم قبول الشهادة والحكم بالفسق دون ما

ص: 286


1- وكأنّه مبني على أنّه لو وقع الاخراج من الموضوع السابق على الأحكام المتأخّرة يكون كلّ واحد من تلك الأحكام المتأخّرة واردا عليه بعد الاخراج ، وفيه تأمّل [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 2 : 376 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- النور 24 : 4 - 5.

تقدّمها من الأحكام ، بل يمكن القول بعدم رجوعه إلى الأولى حيث إنّ الحدّ وهو الجلد لا يسقط بالتوبة.

ويمكن أن يقال : إنّ الاضراب وتغيير الأسلوب بإعادة الموضوع في خصوص الحكم الأخير يدلّ على أنّ ذلك ابتداء كلام جديد ، فيكون الاستثناء مختصّا بالحكم الأخير الذي هو الفسق دون ما تقدّمه حتّى عدم قبول الشهادة ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ عدم قبول الشهادة من جهة الفسق المفروض زواله بالتوبة بمقتضى الاخراج من الأخيرة ، وحينئذ يكون عدم قبولها محدودا بعدم التوبة أيضا ، وهكذا الحال فيما لو كان التعدّد في ناحية الموضوع ثمّ كرّر المحمول في بعضها أو جيء بمحمول آخر غير المحمول الأوّل كما لو قال أكرم العلماء والشعراء وأكرم السادات ، أو قال أكرم العلماء والشعراء والخطباء وخذ الفتوى من الفقهاء إلاّ الفسّاق ، فإنّه ربما كان تغيير الأسلوب قرينة على ابتداء كلام جديد.

وبالجملة : أنّ المقامات مختلفة والأحكام متفاوتة ومناسبات الاستثناء لبعضها دون بعض ونحو ذلك ممّا لا مجال للضابط فيه ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ مثال بخصوصه ، ومنه يظهر لك التأمّل فيما تضمّنته الحاشية على ص 496 (1) من ضابط التفصيل فلاحظ وتأمّل ، كما أنّ الحصر في خمسة أقسام لعلّه يتطرّق إليه الإشكال بالزيادة ، فإنّ الجمل امّا أن تختلف موضوعا ومحمولا أو تختلف موضوعا مع الاتّحاد في المحمول أو بالعكس ، والأوّل قسم واحد ، والثاني يمكن فيه ذكر المحمول في الأولى فقط أو فيها وفي الأخيرة أو في الجميع ، وهكذا الحال فيما لو اتّحد الموضوع واختلف المحمول ، فإنّ الموضوع ربما تكرّر في الجميع أو لم يذكر إلاّ في الأولى أو فيها وفي الأخيرة ، بل إنّ القسم الأوّل ربما كان

ص: 287


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 375.

مؤلّفا من بعض القسمين الأخيرين ، بأن يكون بعض الجمل يختلف مع البعض موضوعا ومحمولا ، وربما كان البعض متّحدا مع البعض موضوعا أو متّحدا [ محمولا ] كلّ ذلك تكثير للأقسام وتطويل بلا طائل.

كما أنّ الظاهر أنّ البحث لا يختصّ بالاستثناء بل يجري في جميع القيود المتأخّرة ، كما وقع النزاع في آية التيمّم أعني قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) الخ (1) ، في أنّ هذا القيد وهو لم تجدوا راجع إلى الجميع من قوله تعالى : ( كُنْتُمْ ) إلى آخره ، أو إلى الأخيرين ، أو خصوص الأخير.

والأولى أن يقال : إنّ الأمثلة تختلف ، فربما كان لنا موضوع واحد وأورد عليه أحكام متعدّدة ، سواء كان متأخّرا مثل قولك أكرم وعظّم وقلّد العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو كان متقدّما مثل قولك إذا دخل العلماء البلد فافتح أبواب المساجد واجمع الناس وافرش السوق وهيّئ الاستقبال إلاّ الفسّاق منهم ، فإنّه لا ينبغي [ الريب ] في رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع ، وأنّه يوجب التخصيص في الجميع. ولو كانت هناك موضوعات متعدّدة وأحكام متعدّدة مثل أحسن إلى النحويين وتعلّم من الكتّاب وبالغ في إكرام الهاشميين إلاّ الفسّاق ، أو كان هناك موضوع واحد متكرّر مثل أكرم العلماء وقلّد العلماء وتعلّم من العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فهو الذي وقع الكلام فيه في الرجوع إلى خصوص الأخيرة أو إلى الجميع.

والظاهر أنّ الآية الشريفة من قبيل الثاني ، فإنّ ذكر الضمير في كلّ جملة عبارة أخرى عن تكرار عقد الوضع ، وإلاّ فكيف كان عقد الوضع موجودا في الأخيرة مع أنّ الموجود فيها إنّما هو اسم الاشارة وهو كالضمير. كما أنّ الأولى

ص: 288


1- النساء 4 : 43 ، المائدة 5 : 6.

توسعة البحث إلى القيد المتأخّر كما عرفت في آية التيمّم وعدم التخصيص بالاستثناء.

قوله : والأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولوية من المدركات العقلية ، وأمّا إذا كانت عرفية كما في آية الأف (1) فيخرج عن المفهوم ويدخل في المداليل اللفظية العرفية (2).

أورد عليه في الحاشية بقوله : قد تقدّم من شيخنا الأستاذ قدس سره الاعتراف بأنّ المفهوم داخل في المداليل اللفظية ، فلا وجه لما أفاده في المقام من خروج ما إذا كانت الأولوية عرفية من المفهوم الموافق بالأولوية ، انتهى.

لا يخفى أنّ مراد شيخنا قدس سره هو التفرقة بين مثل قولك أكرم خدّام العلماء في دلالته بالأولوية على وجوب إكرام العلماء ، ومثل آية الأف ، فإنّ الأوّل لا يكون إلاّ بنحو من الملازمة والانتقال من الأضعف إلى موضوع آخر يكون هو الأولى بالحكم الوارد على غيره ، بخلاف آية الأف فإنّه مع هذه الأولوية يمكن أن يكون من قبيل الكبرى الكلّية التي ذكر منها فردها الأخفى ، فيخرج حينئذ عن عالم المفاهيم التي وقع الكلام في كون دلالتها لفظية أو عقلية. وقد اختار هو قدس سره كونها لفظية ، ويكون مفاد الآية الشريفة داخلا في المداليل اللفظية العرفية بلا كلام ، ويكون ذلك من قبيل ذكر ما هو الأخفى من أفراد موضوع الكبرى.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس سره في هذا المقام ما هذا لفظه :

ونعني بالمفهوم الموافق هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من

ص: 289


1- الإسراء 17 : 23.
2- أجود التقريرات 2 : 379 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) وكقولك أكرم خدّام العلماء ، حيث إنّ الأوّل يدلّ على حرمة الضرب والإيذاء الذي يكون أشدّ من قول أف ، والثاني يدلّ على وجوب إكرام العلماء ، ودلالتهما على ذلك إنّما تكون بمقدّمة عقلية قطعية وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول أف ، وأولوية إكرام العلماء من إكرام خدّامهم. بل يمكن أن يكون ذكر أف في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام ، وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي ، فتكون دلالة الآية على حرمة الإيذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم ، في مثل أكرم خدّام العلماء تكون الدلالة عقلية لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : أنّ المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد ، فتارة يكون استفادة المفهوم من باب المقدّمة العقلية القطعية ، وأخرى يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كلّ مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام ، الخ (1).

وقال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس سره : ثمّ وجه الأولوية قد يكون لحكم العقل بها ، أو لدلالة اللفظ عليها ، وأولوية حرمة إيذاء الوالدين بالضرب المستفادة من قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) يمكن أن يكون على كلا الوجهين ، لأنّ العقل يحكم بعد أن علم بحرمة الأف أنّ الضرب محرّم بطريق أولى ، فهذه الأولوية من الأحكام العقلية الملازمية ، واللفظ أيضا دالّ عليها بالدلالة السياقية ، لأنّه يفهم من هذا الكلام أنّه من قبيل التنبيه على العام بذكر الخاص ، فإنّه بصدد بيان أوّل درجة من الإيذاء وأدناه ، فحرمة أعلى درجته تستفاد من سوق الكلام ، انتهى.

ص: 290


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 555.

قوله : والثاني يتحقّق في منصوص العلّة ، ونعني به ما كان العلّة المذكورة فيه واسطة في العروض ... الخ (1).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره تعرّض في هذا المقام للضابط الفارق بين الواسطة في العروض وغيرها على سبيل الإجمال ، ووعدنا بأنّه يتعرّض له مفصّلا بعد الفراغ من هذه المباحث ، وبعد الفراغ من هذه المباحث ومباحث النسخ تعرّض قدس سره للضابط المذكور ، وقد حرّرناه عنه قدس سره هناك ، ولا بأس بنقله هنا ، وهذا هو نصّ ما استفدته منه قدس سره في ضمن درسين :

لا يخفى أنّه تقدّم في مبحث التخصيص بمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ذكر لمنصوص [ العلّة ] وهناك وعدنا قدس سره بأن يتعرّض لبيان الضابط لذلك ، وبعد الفراغ من مباحث النسخ تعرّض قدس سره لذلك الضابط ، فلا بأس بالحاقه بتلك المباحث ، والذي أفاده قدس سره في بيان ذلك هو ما يلي ، قال قدس سره فيما حرّرته عنه :

الكلام في ضابط العلّة المنصوصة وبيان الفارق بينها وبين حكمة التشريع. وقبل الشروع في المقصود ينبغي أن يعلم أنّ العلّة المنصوصة لا بدّ أن ترجع إلى الكبرى الكلّية بخلاف حكمة التشريع ، والعمدة من الذي نريد تحقيقه هو بيان الضابط الفارق بين هذين القسمين ، وأنّ أيّا منهما صالح لأن يكون كبرى كلّية وأيّا منهما غير صالح لذلك ، ولنقدّم لذلك مقدّمة وهي [ أنّ ] أهل المعقول قسّموا الواسطة إلى الواسطة في الثبوت والواسطة في العروض.

ومرادهم بالواسطة في الثبوت هي ما تكون علّة في عروض العارض على معروضه على وجه يكون المعروض هو نفس الذات الكذائية ، وتكون الجهة المذكورة أجنبية عن المعروضية لذلك العرض ، وإنّما تكون علّة في لحوق

ص: 291


1- أجود التقريرات 2 : 379 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

العرض لتلك الذات.

ومرادهم بالواسطة في العروض ما تكون هي المعروضة لذلك العرض ، وبسبب اتّحاد تلك الواسطة مع الذات الكذائية وانطباقها عليها تكون تلك الذات معروضة لذلك العرض ، وحيث إنّ الحكم اللاحق للموضوع الفلاني يكون لحوقه له لحوق العرض لمعروضه ، كان من هذه الجهة قابلا للقسمة المذكورة.

فيمكن أن يكون عروض الحكم على موضوعه بواسطة ثبوتية تكون علّة في ورود الحكم على ذلك الموضوع ، وتكون أجنبية عن معروض ذلك الحكم.

كما يمكن أن يكون عروضه عليه بواسطة عروضية تكون هي في الحقيقة مورد ذلك الحكم وتكون هي الموضوع والمعروض لذلك الحكم ، غير أنّه بواسطة انطباقها على الموضوع الفلاني واتّحادها معه يكون الحكم المذكور عارضا على ذلك الموضوع.

ثمّ إنّ ما كان من وسائط الأحكام من قبيل الثاني - أعني الواسطة في العروض - تكون مطّردة ومنعكسة ، بمعنى أنّ الحكم يدور مدار تلك الواسطة وجودا وعدما ، ويكون مرجعها إلى الكبرى الكلّية.

وما كان من قبيل الأوّل أعني الواسطة في الثبوت لا يلزم فيه الاطّراد والانعكاس ، بل كما يمكن فيه ذلك يمكن أن يكون للمورد خصوصية يكون الحكم تابعا لها وجودا وعدما ، لا أنّه تابع للواسطة المذكورة ، بل يجوز أن توجد الواسطة في غير المورد ولا يوجد الحكم لأجل فقدان خصوصية المورد ، وحينئذ لا تكون العلّة مطّردة ، كما يجوز أن لا توجد الواسطة في بعض أفراد ذلك المورد ويكون الحكم موجودا فيه ، وحينئذ لا تكون العلّة منعكسة ، ويكون جعل الحكم لتمام أفراد المورد على وجه يكون شاملا لما هو فاقد لتلك الواسطة نظير الحكم

ص: 292

الاحتياطي لئلاّ تفوت مصلحة تلك الواسطة ، لعدم الضابط المائز بين ما هو واجد لها من تلك الأفراد عمّا هو فاقد لها منها ، فيجعل الحكم على تمام الأفراد لئلاّ يشذّ عنه شيء ممّا هو واجد لتلك الجهة أعني الواسطة ، ولو كان على نحو لو لم توجد العلّة في ذلك الموضوع لم يكن الحكم موجودا فيه كانت العلّة منعكسة.

فقد تلخّص لك ممّا تقدّم : أنّ الواسطة في العروض هي المعبّر عنها بالعلّة المنصوصة ، وهي التي يكون الحكم دائرا مدارها وجودا وعدما ، وهي التي يتعدّى فيها عن مورد الحكم إلى كلّ ما تتحقّق فيه الواسطة المذكورة ، ويكون مرجع التعليل بها إلى الكبرى الكلّية ، وتكون مطّردة كما تكون منعكسة.

وأمّا الواسطة في الثبوت فإن كانت متحقّقة في تمام أفراد ذلك الموضوع الذي لحقه الحكم بواسطتها كانت من قبيل علّة الحكم ، وهي المعبّر عنها بالعلّة المستنبطة ، ولا يمكن فيها تسرية الحكم عندنا إلى ما هو من غير ذلك المورد ممّا تتحقّق معه الواسطة المذكورة إلاّ بعد إثبات أنّه لا خصوصية للمورد في ذلك الحكم ، وأنّ الحكم يسري إلى كلّ مورد تتحقّق فيه العلّة المذكورة ، ونعبّر عن ذلك بتنقيح المناط ، ويكون مطّردا ومنعكسا كالواسطة في العروض ، ولا فرق بينهما إلاّ في كون الأوّل من قبيل الكبرى المطوية فلا يجري فيه الاستصحاب عند الشكّ بخلاف الثاني. وإن لم تكن الواسطة في الثبوت متحقّقة في تمام أفراد ذلك الموضوع الذي لحقه الحكم بواسطتها كانت من قبيل حكمة التشريع التي لا يدور الحكم مدارها لا وجودا ولا عدما ، ويكون السرّ في جعل الحكم لتمام أفراد الموضوع وإن كان بعضها فاقدا لتلك الواسطة هو المحافظة عليها لئلاّ تفوت المكلّف لعدم الضابط المميّز بين ما هو واجد لها عمّا هو فاقدها من أفراد ذلك الموضوع. وربما كانت العلّة غير مطّردة لكنّها تكون منعكسة ، فينعدم الحكم عند

ص: 293

انعدامها من ذلك الموضوع ، وحينئذ تكون متوسّطة بين ما هو من قبيل تنقيح المناط وما هو من قبيل حكمة التشريع ، هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فحاصل الكلام فيه ، أنّ الحكم على العلّة المأخوذة في الحكم بأنّها من قبيل العلّة المنصوصة ، وأنّ الحكم غير مختصّ بمورده بل يكون تابعا لتلك العلّة أينما وجدت ، يتوقّف على أمور ثلاثة :

الأوّل : أن تكون العلّة من العناوين العرفية التي تكون معرفتها بيد العرف ليصلح أن يخاطب بها المكلّف ، وتلقى عهدتها عليه فعلا أو تركا ، وذلك مثل الاسكار ونحوه من العناوين العرفية القابلة للالقاء على عاتق المكلّف. أمّا لو لم تكن العلّة من هذا القبيل بل كانت أمرا مجهول الحقيقة عند العرف مثل النهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بالصلاة ونحو ذلك من العلل التي يجهلها العرف ولا يمكن أن تلقى إليه وأن يكلّفوا بها ، لم تكن العلّة المذكورة صالحة لأن تكون من منصوص العلّة ، ولا يتعدّى عن مورد الحكم إلى ما توجد فيه العلّة ممّا هو خارج عن مورد الحكم المذكور ، بل تكون حينئذ من قبيل حكمة التشريع غير المطّردة ولا المنعكسة.

الأمر الثاني : أن لا يكون للحكم المعلّل إضافة إلى المورد ، بحيث نحتمل فيه أن تكون العلّة المذكورة علّة لحكم خصوص ذلك المورد دون غيره ممّا وجدت فيه تلك العلّة ، كأن يقول إنّ تحريم الخمر لأجل الإسكار ، فإنّه يحتمل فيه كون الإسكار علّة لخصوص حرمة الخمر دون غيره ممّا وجد فيه الإسكار ، بل لا بدّ أن يؤخذ الحكم المذكور أعني التحريم مطلقا لتكون العلّة المذكورة أعني الإسكار علّة لذلك الحكم المطلق ليسري الحكم إلى كلّ ما وجدت فيه تلك العلّة.

ص: 294

الأمر الثالث : أن لا يكون للعلّة المذكورة إضافة إلى خصوص المورد بحيث يحتمل أن تكون العلّة في ذلك الحكم هي خصوص المضاف منها إلى ذلك المورد دون غيرها ممّا يضاف إلى الموارد الأخر كأن يقول الخمر حرام لإسكاره ، فإنّه يحتمل فيه كون العلّة في التحريم هو خصوص الإسكار المضاف إلى الخمر دون مطلق الإسكار ، بل لا بدّ أن تكون العلّة المذكورة مطلقة بأن يقول الخمر حرام لأجل الإسكار ليكون العلّة في التحريم هو مطلق الإسكار ، وتكون صحّة التعليل متوقّفة على تحقّق الكبرى الكلّية القائلة إنّ كلّ مسكر حرام ، فيكون التحريم ساريا إلى كلّ مورد تتحقّق فيه العلّة المذكورة أعني الإسكار ، بخلاف ما لو قال : الخمر حرام لأجل إسكاره ، فإنّ صحّة التعليل فيه لا تتوقّف على تحقّق تلك الكبرى الكلّية ، بل يكفي في صحّته كون إسكار خصوص الخمر علّة في تحريمه من دون حاجة إلى تلك الكبرى الكلّية.

وبالجملة : لا يمكن أن يكون التعليل راجعا إلى الكبرى الكلّية إلاّ حيث يكون حسن التعليل أو صحّته متوقّفا على تحقّق تلك الكبرى ، ولا يكون ذلك متوقّفا على ما ذكر إلاّ بعد تحقّق هذه الأمور الثلاثة ، ولو اختلّ واحد منها لم تكن صحّة التعليل متوقّفة على تلك الكبرى ليكون ذلك التعليل طريقا إلى استكشاف تلك الكبرى الكلّية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس سره.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من مجموع هذا التحرير أنّ لنا أمورا ثلاثة ، الأوّل : الواسطة في العروض ، وهي المسمّاة بالعلّة المنصوصة. والثاني : الواسطة في [ الثبوت ] ، وهي علّة الحكم ، وهي المسمّاة بالعلّة المستنبطة ، وهي التي تكون متحقّقة في جميع أفراد ذلك الموضوع ، وحينئذ إن كان الحكم فيها ساريا إلى كلّ ما وجدت فيه تلك العلّة سمّيت بتنقيح المناط ، وصارت مطّردة ومنعكسة.

ص: 295

والثالث : هو حكمة التشريع ، وهي لا تطّرد ولا تنعكس ، هذا في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات ، فهو قدس سره وإن ذكر الضابط فيه وحصره بالأمور الثلاثة ، إلاّ أنّ الأوّل من هذه الأمور لا مجال لانكاره ، إذ لا ينبغي الإشكال في أنّ ما يجهله العرف لا يمكن أن يجعل من قبيل الكبرى الكلّية التي هي مطّردة ومنعكسة ، بل لا بدّ أن يكون ذلك من قبيل حكمة التشريع.

أمّا الوجهان الأخيران فيمكن المناقشة فيهما في مقام الاستظهار ، فتكون المناقشة فيهما صغروية فقهية استظهارية. بل ربما أشكل على الأوّل منهما بعدم المعقولية ، إذ لا يعقل أن يكون مطلق الاسكار علّة لخصوص حرمة الخمر دون غيره من المسكرات ، اللّهمّ إلاّ أن تكون العلّة هي الاسكار المضاف إلى الخمر ، وحينئذ يكون الوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين راجعا إلى الأخير منهما ، ومراده قدس سره منه هو أنّ مجرّد احتمال الخصوصية كاف في التوقّف ، ولا يبعد ذلك.

أمّا ما في الحاشية (1) ممّا ظاهره الرواية فلعلّه إشارة إلى ما في الوسائل في باب ما يفعل فعل الخمر فهو حرام ، عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يحرّم الخمر لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها فما فعل فعل الخمر فهو خمر » (2).

وعلى كلّ حال لو ادّعى استفادة التعميم عرفا من مثل ذلك فإنّما هو من ما بعد هذه الجملة من قوله « فما فعل فعل الخمر فهو خمر » هذا مضافا إلى كثير من الروايات المتضمّنة لحرمة كلّ مسكر (3) وأنّ كلّ مسكر خمر (4) ، وأنّ اللّه حرّم الخمر وأنّ

ص: 296


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 380.
2- وسائل الشيعة 25 : 343 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 19 ح 2.
3- وسائل الشيعة 25 : 326 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 15 ح 5.
4- وسائل الشيعة 25 : 336 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 17 وغيره.

تحريم المسكر من رسوله صلى اللّه عليه وآله (1) وفي بعضها لم حرّم اللّه الخمر؟ قال لفعلها وفسادها (2) ، أو لأنّها أمّ الخبائث (3).

والحاصل : أنّ مسألة الخمر والاسكار معلومة الحال من الخارج ، وأنّ المدار في الحرمة على الاسكار وجودا وعدما في الخمر وغيره ، وإنّما جلّ غرض شيخنا هو التمثيل ، وأنّ إضافة العلّة إلى المورد ربما أوجبت احتمال الخصوصية كما يشاهد ذلك في قول الطبيب لا تشرب الخل لحموضته ، فإنّ احتمال الخصوصية فيه قوي ولذلك ربما أتبعه بقوله ولا بأس بشرب ماء الليمون أو ماء النارنج. ولا يقال : إنّ الخصوصية للخل لا لنفس الحموضة ، لأنّها بالذات من حيث الكيف الطعمي الخاص متّحدة في الجميع ، فتخرج حينئذ عن العلّية ويكون العلّة هو الخل نفسه. لأنّا نقول : هذا لا يسدّ باب الاحتمال المذكور ، لاحتمال كون الخصوصية للتركّب من المواد الخلية مع ذلك الطعم الخاصّ على وجه لو انسلخ الخل عن تلك الخصوصية من الطعم لم يكن يمنعه الطبيب ، كما لو قال ولا بأس بشرب العتيق منه المنقلب طعمه إلى الحلاوة.

وبالجملة : أنّ العلّة لو أضيفت لم يبعد احتمال الخصوصية في المضاف إليه ، وإمكان قول الطبيب لا تشرب الخل لحموضته ، ولا بأس بشرب ماء النارنج ، ولا مانع من شرب الخل العتيق الذي زالت حموضته ، يكشف عن إمكان كون المجموع من المضاف والمضاف إليه هو العلّة ، بل قد عرفت أنّ ذلك ليس ببعيد ، فما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه مع إضافة العلّة إلى خصوص المورد لا يمكن

ص: 297


1- وسائل الشيعة 25 : 325 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 15 ح 2 ، 4 ، 6 ، 24 - 26 ، 29.
2- وسائل الشيعة 25 : 305 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 9 ح 25.
3- وسائل الشيعة 25 : 317 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 13 ح 11.

الحكم بالعموم لا ينبغي الإشكال فيه. أمّا مسألة الاسكار والخمر فهي إنّما نحكم فيها بالعموم من جهات قيام الأدلّة الأخرى ، فهي خارجة عمّا هو غرض شيخنا قدس سره ، وإنّما ذكرها من باب المثال وأنّه لو خلّينا نحن وقوله حرّمت الخمر لاسكارها لم يمكن الحكم بعموم العلّة فيه لغير الخمر ، وبذلك يندفع ما أورده عليه في الحاشية على ص 499 (1).

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أنّ العلّة بعد فرض تمامية الدليل على كونها مطّردة ومنعكسة لا تخرج بذلك عن كونها واسطة في الثبوت ولا تكون واسطة في العروض ، والأثر المترتّب على ذلك يظهر في باب الاستصحاب كما في مسألة استصحاب نجاسة الماء بعد زوال التغيير بالنجاسة ، وكما في مسألة استصحاب حجّية الفتوى بعد زوال العدالة ، فإنّ الأوّل من قبيل الواسطة في الثبوت فيجري فيه الاستصحاب ، والثاني من قبيل الواسطة في العروض فلا يجري فيه الاستصحاب. وهذا الفرق أيضا راجع إلى مقام الاستظهار ولو بواسطة فهم العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، وسيأتي إن شاء اللّه (2) أنّ لذلك أثرا آخر يظهر في المعارضة.

قوله : والثاني ( يعني ما يكون بالمساواة ) يتحقّق في منصوص العلّة - إلى قوله - وقد يتحقّق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلّة فيما إذا أحرز مناط الحكم من الخارج يقينا ... الخ (3).

وهذا هو المسمّى بتنقيح المناط القطعي ، ومثّل له المرحوم الشيخ موسى

ص: 298


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 380.
2- راجع الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : 315 و 320.
3- أجود التقريرات 2 : 379 - 381 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بمسألة بئر بضاعة فقال ما هذا لفظه : وقد يستفاد المساواة من العلّة المطوية ويعبّر عنها بمستنبط العلّة ، وهذا إنّما يكون حجّة إذا حصل القطع بمساواة هذا الموضوع مع نظائره كما نقطع بعدم الفرق بين بئر بضاعة المسئول عنها وبين سائر الآبار ، وأمّا لو ظنّ بالمساواة فلا دليل على حجّيته عند الخاصّة ، انتهى.

قلت : ولعلّه إليه يرجع ما نجده في كثير من كلمات الفقهاء من أنّ الشيء الفلاني المذكور في الرواية لا خصوصية له ، وأنّه إنّما ذكر فيها من باب المثال. لكن يمكن أن يقال : إنّ ما وقع من ذلك ليس من قبيل العلّة المستنبطة المعبّر عنها بتنقيح المناط القطعي ، بل هو راجع إلى طريق آخر للمساواة غير منصوص العلّة وغير العلّة المستنبطة ، بل هو راجع إلى استفادة الكبرى الكلّية من الجملة ، وأنّ موضوع الحكم فيها أعمّ من الذي ذكر فيها ، وأنّ هذا الذي ذكر فيها مورد من موارد تلك الكبرى ، وأنّ ذكرها كان من باب المثال. ولا يخفى أنّ ذلك لا دخل [ له ] بالعلّة أصلا ، وإنّما هو اجتهاد في فهم الحكم الكبروي من الجملة ، وحينئذ يكون ذلك خارجا عن استفادة العلّة بالمرّة ، ولا دخل له بدعوى تنقيح المناط القطعي.

قوله : أمّا الكلام في المفهوم الموافق بالأولوية ، فربما يقال بأنّ المعارض للعام إن كان هو المفهوم ليس إلاّ ، فلا بدّ من تقديم المفهوم عليه مطلقا ، سواء كان النسبة بينهما عموما من وجه أو عموما مطلقا ، فإنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق والمفروض لزومه له بنحو الأولوية ، غير ممكن ، ورفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه مع عدم كونه معارضا للعموم بلا وجه ، فيتعيّن التصرّف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم لا محالة ... الخ (1).

الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما عن الشيخ قدس سره في التقريرات في تقريب ما عليه

ص: 299


1- أجود التقريرات 2 : 381 - 382 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المشهور أو الاتّفاق من تقديم المفهوم على العموم وإن كان بينهما عموم من وجه. وقد صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس سره بنسبة هذا القول إلى الشيخ في التقريرات ، فقال : وقد ذكر في التقرير لجهة الاتّفاق في تقديم المفهوم الموافق الخ.

والأولى نقل عبارة التقريرات بعينها ليتّضح المراد منها فنقول : قال الشيخ قدس سره فيما حرّره عنه في التقريرات : هداية ، لا كلام في تخصيص العام بمفهوم الموافقة الراجع إلى دلالة اللفظ بحكم العقل على ثبوت الحكم في الأشدّ بطريق أولى - إلى أن قال - ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون النسبة بين المفهوم والعموم عموما من وجه ، كما في قولك لا تكرم الفسّاق وأكرم خدّام العلماء ، فالتعارض إنّما هو في العالم الواجب الإكرام بالمفهوم ومحرّم الإكرام بالعموم ، أو كان المفهوم أخصّ كما إذا قيل أكرم خدّام العالم الفاسق.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفهوم في المقام قضية لبّية لا يمكن التصرّف فيها بنفسها بالتخصيص ، وإنّما هو يتبع المنطوق ، فلا بدّ إمّا من التصرّف في المنطوق بالقول بأن قولنا أكرم خدّام العلماء إنّما لا يراد منه وجوب إكرام الخدّام باخراجه عن الظاهر بالمرّة ، إذ على تقديره فلا معنى للمنع من ثبوت الحكم للمفهوم ، لاستقلال العقل بثبوت الحكم على وجه الأولوية ، نظير استقلال العقل بوجوب المقدّمة بعد فرض وجوب ذيها ، ولا يعقل القول ببقاء الدليل الدالّ على الوجوب مع المنع عن وجوب المقدّمة ، لرجوع ذلك إلى منع الملازمة بين الوجوبين ، وقد فرض حكم العقل بثبوتها ، ولا ريب أنّ ذلك تصرّف بارد لا ينبغي ارتكابه لمن له أدنى درية.

وأمّا القول بالتخصيص فهو متعيّن ولو لم يكن شائعا ، لما عرفت من

ص: 300

خصوصية المقام. وهذا هو الوجه في كونه محلا للاتّفاق دون مفهوم المخالفة.

ثمّ بيّن الوجه في عدم إمكان رفع اليد عن المنطوق في باب مفهوم المخالفة ، ثمّ قال : إلاّ أنّ منع ظهور اللفظ في ذلك ليس بتلك المكانة من البعد. ( يعني في باب مفهوم الموافقة ، فإنّ إلغاء ظهور اللفظ في اقتضائه لمفهوم الموافقة أبعد منه في مفهوم المخالفة ) ثمّ قال :

وأمّا الثاني ( يعني ما كان المفهوم فيه أخصّ ) فيظهر الوجه في وجوب تقديم المفهوم على العموم فيه ممّا تقدّم. مضافا إلى كون المفهوم أخصّ مطلقا أيضا.

وبالجملة : فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقولية التصرّف فيه بنفسه ، فيدور الأمر بين التصرّف في العام أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح. مضافا إلى ما تقدّم من أنّ اللفظ مسوق لبيانه ، فظهوره في المفهوم أولى من ظهور العام في العموم (1) ، انتهى كلامه قدس سره.

والظاهر من التصرّف بالمنطوق الذي منعه وأفاد أنّه تصرّف بارد هو التصرّف فيه باخراجه عن الدلالة على وجوب إكرام الخدّام الذي يكون بواسطته دالا على المفهوم ، نظير التصرّف في المنطوق في باب مفهوم المخالفة بالغاء دلالته على انحصار العلّة التي بها يكون مقتضيا للمفهوم ، الذي فرّق بينهما بأنّ التصرّف في المنطوق في باب مفهوم الموافقة أبعد منه في باب مفهوم المخالفة.

وكيف كان ، فليس المراد له قدس سره بالتصرّف في المنطوق هو حمله على العام وجعله موافقا له بالجمع بينهما بالتخصيص ، كي يكون العلّة في منع هذا الوجه هو ما أفاده شيخنا قدس سره في مقام النقل عنه بأنّ رفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه

ص: 301


1- مطارح الأنظار 2 : 213 - 215.

مع عدم كونه معارضا للعموم بلا وجه الخ.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) أنّ هذه الأمثلة لا ينحصر الأمر فيها بالتصرّف في المفهوم ابتداء من دون تصرّف في المنطوق ( بالغاء دلالته على المفهوم ) ، أو التصرّف في المنطوق بالغاء الجهة الدالّة على المفهوم ، أو التصرّف بالعام بكون المفهوم مخصّصا له كي يقال إنّه بعد إبطال الوجهين الأوّلين ينحصر الأمر بالثالث. بل هناك وجه آخر وهو الجمع بين المنطوقين ، لثبوت الاختلاف بينهما إمّا بالعموم المطلق أو العموم من وجه ، وحينئذ لا بدّ من ذكر أمثلة أخرى للمسألة لا يكون فيها تعارض بين نفس المنطوقين ابتداء كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله : فإن كان المنطوق أخصّ مطلقا من العموم كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء - إلى قوله - وأمّا إذا كانت النسبة بين المنطوق والعموم عموما من وجه كما إذا كان المنطوق أكرم خدّام العلماء ... الخ (2).

لا يخفى أنّه ينبغي أن يكون مورد استدلال المستدلّ المتقدّم هو أنّه لا يكون تعارض بين المنطوق والعموم ، لعدم دخول المدلول الابتدائي من أحدهما في الآخر كما في مثل النهي عن قول أف للوالد مع وجوب ضرب كلّ أحد ، إذ ليس التعارض بينهما إلاّ من جهة كون وجوب الضرب دالا بمفهوم الموافقة أيضا على جواز قول أف ، وهو شامل للوالد ، وكون حرمة قول أف للوالد دالا بمفهوم الموافقة على حرمة الضرب للوالد ، فتكون المعارضة الابتدائية بين منطوق كلّ

ص: 302


1- في الحاشية الآتية.
2- أجود التقريرات 2 : 382 - 383 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

منهما مع مفهوم الآخر ، فهذا ومثله هو الذي ينبغي أن يكون مورد كلام ذلك المستدلّ.

أمّا ما يكون نفس المنطوق فيه أخصّ من نفس منطوق العام ، أو كان أعمّ منه من وجه كما في المثالين ، فينبغي أن يكون خارجا عن مورد كلام ذلك المستدلّ ، فإنّ الأمر في مثله سهل جدّا ، لأنّ قوله أكرم فسّاق خدّام العلماء أخصّ مطلقا من قوله لا تكرم الفسّاق فيقدّم عليه ، ويكون فسّاق خدّام العلماء خارجا عن عموم لا تكرم الفسّاق ، وبالملازمة التي أفادها شيخنا قدس سره يكون فسّاق العلماء خارجا أيضا عن عموم لا تكرم الفسّاق ، وبه ترتفع المعارضة بين منطوق العموم في قوله لا تكرم الفسّاق وبين عموم المفهوم من قوله أكرم فسّاق خدّام العلماء ، أعني وجوب إكرام العالم سواء كان فاسقا أو كان عادلا.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان بين المنطوق وبين العام عموم من وجه كما في مثل قوله أكرم خدّام العلماء وقوله لا تكرم الفسّاق ، فيتعارض المنطوقان في الخادم الفاسق ، فإن حكّمنا فيه قوله أكرم خدّام العلماء وأخرجناه من عموم لا تكرم الفسّاق ، كان لازمه خروج العالم الفاسق منه أيضا ، وكان قوله لا تكرم الفسّاق مختصّا بما عدا فسّاق خدّام العلماء وما عدا فسّاق العلماء أنفسهم ، وإن عكسنا الأمر بأن قدّمنا لا تكرم الفسّاق وأخرجنا الفاسق من خدّام العلماء عن عموم قوله أكرم خدّام العلماء ، صار قوله أكرم خدّام العلماء منحصرا بما عدا الفاسق من الخدّام ، وينحصر مفهوم الموافقة منه بما عدا الفسّاق من العلماء ، فإنّ وجوب إكرام العدول من خدّام العلماء إنّما يدلّ بمفهوم الموافقة على وجوب إكرام العدول من العلماء لا على وجوب إكرام مطلق العلماء ولو كانوا فسّاقا. نعم

ص: 303

قد عرفت (1) أنّ المستدلّ هو الشيخ قدس سره وأنّه لم يمثّل إلاّ بتلك الأمثلة التي ينبغي أن تكون خارجة عن مورد استدلاله.

وبالجملة : أنّ الحساب في مثل هذه الأمثلة واضح ، وينبغي أن تكون خارجة عن مورد كلام المستدلّ ، والذي ينبغي أن يكون كلامه منحصرا بمثل قولك احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قولك أهن الفسّاق ، ومثل قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قولك أهن الفسّاق ، ومثل قولك لا تقل لوالدك أف بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، وللكلام على هذه الأمثلة ينبغي أن نقدّم مقدّمة هي مأخوذة ممّا أفاده شيخنا قدس سره فيما حكي عنه في هذا الكتاب بقوله : والسرّ فيه أنّ الحكم الثابت في المنطوق كما أنّه يثبت حكما آخر بالأولوية فكذلك نفي الحكم عن المفهوم الذي هو مقتضى العموم يكون مستلزما لنفي الحكم عن المنطوق أيضا بالأولوية ، فبالأخرة يقع التعارض بين المنطوقين الخ (2).

وهذه المقدّمة وإن ساقها شيخنا قدس سره لإثبات التعارض بين المنطوقين ، إلاّ أنّه ليس التعارض بينهما فيما ذكرناه من الأمثلة ابتدائيا بل هو بواسطة المفهوم من كلّ منهما ، وفي الحقيقة يقع التعارض الابتدائي بين منطوق كلّ منهما مع مفهوم الآخر ، ويترشّح من هذا التعارض التعارض بين المنطوقين (3) إلاّ أنّه ليس تعارضا أصليا ، بل هو متفرّع على التعارض الأصلي الواقع بين منطوق كلّ منهما مع مفهوم الآخر ، وفي الحقيقة أنّ هذا التعارض بين المنطوقين ليس في الحقيقة تعارضا

ص: 304


1- في الحاشية السابقة.
2- أجود التقريرات 2 : 382 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- [ في الأصل هنا زيادة « المعارضة بين المنطوقين » حذفناها للمناسبة ].

وتدافعا بين أنفسهما ، وإنّما بواسطة ما يؤدّي إليه كلّ منهما من لازمه الأولوي ، فتسميته حينئذ بالتعارض ليس إلاّ من باب التسامح والتساهل.

وكيف كان ، نقول في بيان هذه المقدّمة بعونه تبارك وتعالى :

إنّ محصّل طريق الأولوية هو أنّ ثبوت الحكم في ناحية المفهوم يكون أولى من ثبوته في ناحية المنطوق ، ولازم ذلك هو أنّه لو انتفى الحكم من ناحية المفهوم كان انتفاؤه من ناحية المنطوق بطريق أولى ، فإنّ وجوب احترام بيوت العلماء فيما ذكرناه من المثال ، أعني قوله احترم بيوت العلماء ، حيث إنّه يلزمه بطريق الأولوية وجوب احترام العلماء أنفسهم ، كان عدم وجوب احترام العلماء أنفسهم ملازما بطريق الأولوية لعدم وجوب احترام بيوتهم ، وحيث قد فرضنا أنّ منطوق العام كان معارضا مع مفهوم احترم بيوت العلماء الذي هو وجوب احترام العلماء أنفسهم ، فكان العام يقتضي عدم احترام فسّاق العلماء ، وقد عرفت أنّ ذلك أعني نفي الحكم عن فسّاق العلماء ملازم لنفيه عن بيوتهم ، فصار الحكم العام ملازما لرفع الحكم في ناحية المنطوق ، ويكون ذلك اللازم هو مفهوم العام المفروض كونه مخالفا للحكم في ناحية المنطوق ، فوجوب إهانة الفاسق الذي هو منطوق العام لمّا كان رافعا لوجوب احترام العالم الفاسق المفروض كون ارتفاعه موجبا لرفع وجوب احترام بيته بطريق الأولوية ، صار الحاصل أنّ وجوب إهانة الفاسق يكون موجبا لعدم احترام بيته بطريق الأولوية ، إذ كما أنّ ثبوت الحكم الذي هو وجوب الاحترام في الأضعف الذي هو بيوت العلماء يلزمه ثبوته في الأقوى أعني العلماء أنفسهم بطريق الأولوية ، فكذلك نفي ذلك الحكم في الأقوى يوجب نفيه في الأضعف بطريق الأولوية ، فكل عام نفرضه معارضا للمفهوم الذي هو بطريق الأولوية ، لا بدّ أن يكون له مفهوم أولوي يكون بذلك

ص: 305

المفهوم الأولوي معارضا للمنطوق ، ويستحيل أن يوجد لنا عام معارض بمنطوقه للمفهوم الأولوي من دليل آخر من دون أن يكون لذلك العام مفهوم أولوي به يكون معارضا لمنطوق ذلك الدليل ، لأنّه برفعه لذلك الحكم الثابت في مورد المفهوم الذي هو الأقوى ، يلزمه رفع ذلك الحكم الثابت في مورد المنطوق الذي هو الأضعف بطريق الأولوية ، وبناء على ذلك يكون منطوق كلّ من الدليلين معارضا لمفهوم الآخر ابتداء ، وعن هذا التعارض يترشّح المعارضة بين المنطوقين ، وبعد إصلاح التعارض الأصلي الواقع بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر ترتفع المعارضة الفرعية الواقعة بين المنطوقين قهرا.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول بعونه تعالى : إنّ التعارض الابتدائي الواقع بين منطوق كلّ من القضيتين ومفهوم الأخرى لا بدّ في علاجه من ملاحظة النسبة بين المتعارضين في كلّ من الطرفين ، فربما كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق في كلّ من الطرفين بحيث يكون منطوق هذه القضية أخصّ من مفهوم الأخرى ، كما أنّ مفهومها أيضا أخصّ من منطوق الأخرى ، كما يرى ذلك في مثل قولك لا تقل أف لوالدك بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، فإنّ منطوق الأولى وهو حرمة الأف للوالد أخصّ من مفهوم الثانية وهو جواز قول الأف لكلّ أحد ، كما أنّ مفهوم الأولى وهو حرمة ضرب الوالد أخصّ مطلقا من منطوق الثانية وهو وجوب ضرب كلّ أحد ، فيكون الوالد خارجا عن كلّ من منطوق الثانية ومفهومها ، غايته أنّ خروجه عن منطوقها بواسطة مفهوم الأولى ، وعن مفهومها بواسطة منطوق الأولى ، هذا فيما لو كان الدليل المقابل للقضية التي هي ذات مفهوم الموافقة أعمّ منها.

ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كان الدليل الآخر أخصّ من ذات مفهوم

ص: 306

الموافقة كما لو قال أكرم بيوت العلماء وقال لا تكرم النحويين ، كان الأمر بالعكس ، فيقدّم الأخص على ذات المفهوم ، إلاّ أنّ أحد المثالين عين الآخر ، لأنّ كلاّ من القضيتين ذات مفهوم موافقة وأحدهما أخصّ مطلقا من الآخر.

وربما كان التعارض بالعموم من وجه من الطرفين كما في مثل احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قوله اهن الفسّاق ولا تحترمهم ، فإنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العلماء ومفهوم الثانية حرمة احترام بيوت الفاسقين ، ولا ريب في أنّ النسبة بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية هي العموم من وجه ، والتعارض في بيت العالم الفاسق ، كما أنّ النسبة بين مفهوم الأولى ومنطوق الثانية هي العموم من وجه أيضا ، والتعارض في العالم الفاسق ، فإمّا أن نقدّم الأولى بكلا جهتي المعارضة منها على الثانية أو العكس ، ولا يمكن التفكيك بأن نقدّم منطوق الأولى على مفهوم الثانية ونلتزم بوجوب احترام بيت العالم الفاسق مع تقديم منطوق الثانية على مفهوم الأولى ، فنلتزم بحرمة إكرام العالم الفاسق ووجوب إهانته ، لما في ذلك من التناقض الذي عرفته في المقدّمة.

وربما كان التعارض بالعموم المطلق من أحد الطرفين وبالعموم من وجه من الطرف الآخر ، كما ترى ذلك في مثل قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قوله اهن الفسّاق ، فإنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العلماء وإن كانوا فسّاقا ، ومفهوم الثانية هو حرمة احترام بيوت الفاسقين وإن كانوا علماء ، ولا ريب أنّ منطوق الأولى معارض لمفهوم الثانية ، لكنّه أخصّ منه مطلقا ، فإنّ حرمة [ احترام ] بيوت فسّاق العلماء أخصّ مطلقا من حرمة احترام بيوت الفسّاق أعمّ من كونهم علماء أو جهّالا ، لكن منطوق الثانية وهو حرمة احترام الفاسق عالما كان أو غيره أعمّ من وجه من مفهوم الأولى وهو وجوب احترام العالم فاسقا كان

ص: 307

أو غيره. واللازم هو تقديم منطوق الأولى على مفهوم الثانية ، وبه ترتفع المعارضة الثانية ، وإلاّ لزم التناقض الذي تقدّمت الإشارة إليه.

ولو قيل إنّ مفهوم الأولى هو وجوب احترام العالم الفاسق ، وأمّا العادل فهو خارج عن كلّ من المنطوق والمفهوم ، فليس ببعيد كلّ البعد ، فإنّ منطوق الأولى هو وجوب احترام بيوت فسّاق العلماء ، ومفهومها الأوّلي هو احترام نفس ذوي البيوت المذكورين وهم فسّاق العلماء ، وهو أخصّ مطلقا من منطوق الثانية الذي هو حرمة احترام الفسّاق ، إذ لا دخل لبيوت فسّاق العلماء بنفس العدول من العلماء ، وحينئذ يكون الحال في هذا المثال هو بعينه في المثال الأوّل ، أعني قولك لا تقل أف لوالدك بالقياس إلى قوله اضرب كلّ أحد.

نعم ، بعد ثبوت هذا المفهوم وهو وجوب احترام فسّاق العلماء ، يلزمه ثبوت وجوب إكرام العدول بطريق الأولوية ، لكن هذا الحكم الثالث لا يدخل في المعارضة مع منطوق الثانية ، بل الذي يدخل في المعارضة المذكورة هو الحكم الثاني الذي هو لازم الحكم الأوّل الذي هو منطوق الأولى ، كما أنّ لقوله احترم بيوت فسّاق العلماء مفهوما آخر وهو احترام بيوت العدول منهم ، لا دخل له بمعارضة العموم.

ومن ذلك يظهر لك أنّ منطوق العام إذا كان معارضا لمفهوم الأولوية من دليل آخر لا بدّ أن يكون مفهوم ذلك العام معارضا لمنطوق ذلك الدليل ، وتكون المعارضة على وتيرة واحدة ، فإن كانت بين منطوق العام ومفهوم ذلك الدليل من قبيل العموم والخصوص المطلق ، كانت كذلك بين مفهوم العام ومنطوق الدليل المذكور ، وكذلك المعارضة بالعموم من وجه ، بل إنّ ذلك جار في مورد التعارض بالتباين كما تراه في وجوب احترام بيوت النحويين بالقياس إلى قوله

ص: 308

اهن النحويين ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ الدليلين اللذين يكون منطوق كلّ منهما معارضا لمفهوم الموافقة المستفاد من الآخر بطريق الأولوية لا بدّ أن يشتمل المنطوق في كلّ منهما على موضوع يكون هو المنشأ في التعارض المذكور ، كما ترى في قولك لا تقل لوالدك أف بالقياس إلى قولك اضرب كلّ أحد ، فإنّ الأوّل مشتمل على الوالد والثاني مشتمل على كلّ أحد ، والأوّل أخصّ من الثاني ، وكما في قولك احترم بيوت فسّاق العلماء بالقياس إلى قولك اهن الفسّاق ، فإنّ الأوّل مشتمل على فسّاق العلماء المحكوم عليهم باحترام بيوتهم ، والثاني مشتمل على الفسّاق المحكوم عليهم بالاهانة ، والأوّل أخصّ مطلقا من الثاني ، وكما في قولك احترم بيوت العلماء بالقياس إلى قولك اهن الفسّاق ، فإنّ الأوّل مشتمل على العلماء المحكوم عليهم باحترام بيوتهم والثاني مشتمل على الفسّاق ، وبين الأوّل والثاني عموم من وجه ، فكأنّ العلماء في قولك احترم بيوت العلماء قد حكم عليهم بحكمين طوليين ، الأوّل هو وجوب احترام بيوتهم ، والثاني هو وجوب احترام أنفسهم ، كما أنّ الفسّاق في قولك أهن الفسّاق قد حكم عليهم بحكمين طوليين ، الأوّل هو إهانة أنفسهم ، الثاني عدم احترام بيوتهم ، ويكون الحكم الأوّل من الدليل الأوّل معارضا للحكم الثاني من الدليل الثاني ، بمعنى أن الدليل الأوّل باعتبار حكمه الأوّل يكون معارضا للدليل الثاني باعتبار حكمه الثاني ، كما أنّ الدليل الأوّل باعتبار حكمه الثاني يكون معارضا للدليل الثاني باعتبار حكمه الأوّل.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره في قوله إنّ المعارضة بين المنطوقين. ومنشأ هذه المعارضة هو أنّ موضوع الحكمين في الدليل الأوّل هو العلماء ، وموضوعهما في الدليل الثاني هو الفسّاق ، وبينهما عموم من وجه ، فلا تكون

ص: 309

المعارضة في كلّ من الطرفين إلاّ من سنخ المعارضة بين الموضوعين إمّا على نحو العموم من وجه كما في هذا المثال ، أو على نحو العموم المطلق كما في المثالين السابقين ، ويستحيل حينئذ كون المعارضة من أحد الطرفين على نحو العموم المطلق ومن الطرف الآخر على نحو العموم من وجه.

ثمّ لا يخفى أنّه ربما كان الدليل المقابل لمفهوم الموافقة أخصّ مطلقا كما لو قال احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن فسّاق العلماء ، فبناء على ما ذكرناه يكون مفهوم احترم فسّاق خدّام العلماء هو احترام العلماء سواء كانوا فسّاقا أو عدولا ، وهو أعمّ مطلقا من منطوق قوله أهن فسّاق العلماء ، كما أنّ منطوقه أعمّ أيضا مطلقا من مفهوم قوله أهن فسّاق العلماء ، لأنّ مفهومه هو عدم وجوب احترام الفسّاق من خدّام العلماء الفسّاق ، ولا ريب أنّ قوله احترم فسّاق خدّام العلماء سواء كانوا عدولا أو فسّاقا أعمّ مطلقا من عدم احترام الفاسق من خدّام العلماء الفسّاق ، فيقدّم الخاصّ على العام.

أمّا بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره في قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله لا تكرم الفسّاق من أنّه لا بدّ أن يقدّم المفهوم على منطوق العموم وإن كان بينهما عموم من وجه ، وأفاد في توجيه ذلك في الطبعة الجديدة بقوله : والوجه في ذلك أنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم نفسه من دون التصرّف في المنطوق على ما مرّ بيانه ، كما أنّه لا يمكن التصرّف - في مفروض الكلام - في المنطوق لكونه أخصّ ، فينحصر الأمر بالتصرّف في العموم ، وإبقاء المفهوم على عمومه الخ (1) فإنّه يلزمه في هذا المثال أعني قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن فسّاق العلماء أن يقول إنّ مفهوم قوله احترم فسّاق خدّام

ص: 310


1- أجود التقريرات 2 : 382 - 383.

العلماء لا يمكن التصرّف فيه بدون التصرّف في المنطوق ، والمفروض أنّ هذا المنطوق لا يمكن التصرّف فيه ، إذ لا نسبة بين هذا المنطوق وبين قوله أهن فسّاق العلماء كي يتصرّف في أحدهما بالحمل على الآخر ، فيتعيّن حينئذ بقاء المفهوم على عمومه وسقوط قوله أهن فسّاق العلماء بالمرّة ، ففي مثل هذا المثال وإن حصلت معارضة ثانوية ترشّحية بين المنطوقين إلاّ أنّه لا يمكن الجمع بينهما في الدلالة كما صنعه في قوله احترم فسّاق خدّام العلماء بالقياس إلى قوله أهن الفسّاق من جعل منطوق الأوّل مخصّصا لمنطوق الثاني لكونه أخصّ منه مطلقا ، بخلاف هذا المثال لما عرفت من عدم التناسب فيه بين المنطوقين.

والذي تلخّص فيما سلكناه في هذه الدورة (1) : أنّ المدار في التقديم على ملاحظة النسبة بين المنطوق والدليل الآخر ، فإن كان الأوّل هو الأخصّ كان هو المقدّم بمنطوقه ومفهومه ، وإن كان بينهما عموم من وجه لم يكن في البين ما يوجب تقديم المنطوق ولا مفهومه وكان الحال فيه حال باقي المتعارضين من وجه ، وحينئذ فيكون محصّل الكلام هو ما في الكفاية (2) من الاتّفاق على كون مفهوم الموافقة مخصّصا للعام ، يعني أنّه لا يضرّ في أخصّيته الموجبة لتقدّمه كونه مفهوما لا منطوقا.

وهذا جار حتّى لو لم يكن المنطوق معارضا ابتداء للدليل الخارجي كما في مثل احترم بيوت العلماء بالنسبة إلى مثل لا تحترم الفسّاق ، فالأوّل دالّ على وجوب احترام العالم بالمفهوم واحترام بيته بالمنطوق ، والثاني بالعكس بمعنى أنّه يدلّ على عدم احترام الفاسق بالمنطوق وعدم احترام بيته بالمفهوم ، فيقع

ص: 311


1- 14 / ربيع الثاني سنة 1378 [ منه قدس سره ].
2- كفاية الأصول : 233.

التعارض بين احترام العالم واحترام الفاسق ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

ولو كان في البين ما هو أخصّ مطلقا كان هو المقدّم كما لو قال احترم بيت العالم الفاسق الدالّ بالمفهوم على وجوب احترام نفس العالم الفاسق ، في قبال قوله لا تحترم الفاسق الدالّ بالمفهوم على عدم وجوب احترام بيت الفاسق ، فإنّ العالم الفاسق حينئذ هو وبيته خارجان عن عموم الفاسق هو وبيته ، ولو كان مفاد الثاني هو قوله لا تحترم العالم الفاسق ، كانت النسبة بينه وبين الأوّل هي التباين ، وهكذا الحال في البواقي.

وبالجملة : لم يظهر للبحث عن التخصيص بمفهوم الموافقة أثر يميّزه عن سائر التخصيصات. وإن شئت فقل : لم يظهر أثر لمفهوم الموافقة يوجب تقديمه على معارضه غير ما هو المعروف من كون الخاصّ مقدّما على العام ، ومن التساقط عند التباين أو عند العموم من وجه ، فلاحظ (1).

ص: 312


1- [ وجدنا هنا ورقة مرفقة ارتأينا إدراجها في الهامش وهي : ] النسبة بين المفهوم والعموم عموم من وجه : أكرم خدّام العلماء ، مفهومه يجب إكرام العالم ، في قبال العموم القائل لا تكرم الفسّاق ، فيتعارضان في العالم الفاسق. النسبة بينهما عموم مطلق ، يعني أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من العام : أكرم خدّام العالم الفاسق ، مفهومه يجب إكرام العالم الفاسق ، في قبال لا تكرم الفسّاق. ويمكن أن يقال : : إنّ طريق الأولوية جار في العالم العادل ، بل في الخادم العادل ، وحينئذ يكون المفهوم هو وجوب إكرام العالم مطلقا ، وبينه وبين العام عموم من وجه. قال : وبالجملة فاللازم تقديم المفهوم الموافق على العموم كما عرفت ، لعدم معقولية التصرّف فيه بنفسه ، فيدور الأمر بين التصرّف في العام أو في المنطوق ، ولا ريب أنّ الأوّل أرجح [ مطارح الأنظار 2 : 214 ، 215 ]. ومراده كما صرّح به من التصرّف بالمنطوق هو التصرّف فيه باخراجه عن الدلالة على وجوب إكرام الخدّام الذي كان هو السبب في المفهوم ، وهذا هو الذي قال عنه إنّه تصرّف بارد [ مطارح الأنظار 2 : 214 ، 215 ]. مثال شيخنا قدس سره : أكرم فسّاق خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء. العام لا تكرم الفسّاق. وبين المفهوم والعام عموم من وجه. فالشيخ جعل المقابلة بين المفهوم والعموم ، فتارة يكون بينهما عموم من وجه ، وأخرى يكون الأوّل أخصّ مطلقا من الثاني. وشيخنا قدس سره جعل المقابلة بين المنطوق والعموم ، فتارة يكون بينهما عموم من وجه وأخرى يكون الأوّل أخصّ من الثاني. مثال الأوّل : أكرم خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء ، في قبال العام لا تكرم الفسّاق. مثال الثاني : أكرم فسّاق خدّام العلماء ، مفهومه أكرم العلماء ، في قبال العام لا تكرم الفسّاق. ويمكن أن يقال : : إنّ مفهومه أكرم العلماء الفسّاق ، ولو توسّعنا لكان المفهوم هو وجوب إكرام العالم مطلقا وخادمه العادل كما عرفته في المثال عن الشيخ قدس سره. والأولى أن يقال : إنّ محطّ الحكم هم الفسّاق خادما وعالما ، والأوّل بالمنطوق والثاني بالمفهوم. ثمّ هناك انتقال آخر من الفاسق من كلّ منهما إلى العادل ، ومركز المعارضة هو الأوّل وهو أخصّ من العام. مثال عدم التعارض بين العام والمنطوق مع العموم من وجه بين المفهوم والعام : احترم بيوت العلماء ، مفهومه احترم العلماء في قبال العام لا تحترم الفسّاق. مثال كون المفهوم أخصّ مطلقا من العام : احترم بيوت فسّاق العلماء ، مفهومه احترم فسّاق العلماء في قبال العام ، لا تحترم الفسّاق. مثال آخر : لا تقل لوالدك أف ، مفهومه لا تضرب والدك ، في قبال العام اضرب كلّ أحد.

ص: 313

قوله : كما إذا ورد لا تكرم الفسّاق وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء ، فيقدّم المفهوم على العموم ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه ، والمفروض تقدّم المنطوق لأخصّيته على العموم ، فيكون المقام من إحدى صور تقدّم أحد العمومين على الآخر لمرجّح فيه ، كما إذا لزم من تخصيص أحدهما بقاؤه بلا مورد دون الآخر فيقدّم عليه (1).

قد عرفت فيما تقدّم (2) أنّ هذا المثال خارج ، لأنّ منطوق القضية الثانية وهي أكرم فسّاق خدّام العلماء أخصّ مطلقا من منطوق القضية الأولى وهي لا تكرم الفسّاق ، وبعد خروج الخادم الفاسق عن قوله لا تكرم الفسّاق يلزمنا الحكم بخروج العالم الفاسق منه بطريق أولى ، وبذلك ترتفع المعارضة بين هذا القول وبين مفهوم القضية الثانية الذي هو أكرم العلماء ، بمعنى أنّ منطوق القضية الثانية لكونه أخصّ من منطوق القضية الأولى لا يدع مجالا لمنطوق القضية الأولى أن يعارض مفهوم القضية الثانية ، فإنّ التعارض بين المنطوقين والجمع بينهما سابق في الرتبة على التعارض بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية.

ص: 314


1- أجود التقريرات 2 : 382 - 383 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 302 - 303.

وليس التعارض بين منطوق الأولى ومفهوم الثانية من قبيل التعارض بين دليلين مستقلّين ، وأنّ منطوق الثانية كدليل ثالث يكون موجبا لانقلاب النسبة في أحد المتعارضين ، لما هو واضح من عدم استقلال المفهوم ، بل لو قلنا إنّه من ذلك القبيل وقلنا باستقلال المفهوم بالمعارضة لم يكن ذلك من قبيل كون الثالث موجبا لانقلاب النسبة ، بل إنّه موجب لخروج منطوق العام المعارض للمفهوم عن المعارضة وموجب لاختصاصه بما عدا مورد معارضته للمفهوم. ولو أبدلنا قوله قدس سره وورد أكرم فسّاق خدّام العلماء بما تقدّم من قولنا احترم بيوت فسّاق العلماء ، كان مفهومه كما عرفت هو وجوب احترام فسّاق العلماء ، وهو أخصّ مطلقا من منطوق العام وهو حرمة إكرام الفسّاق ووجوب إهانتهم.

قوله : وأمّا المفهوم بالمساواة بقسميه فيعلم حكمه ممّا ذكر ، فإنّه إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العموم عموما مطلقا فيقدّم المفهوم عليه مطلقا ، ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، وأمّا إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه فيأتي فيه التفصيل المتقدّم ... الخ (1).

الظاهر ممّا شرحناه فيما تقدّم (2) من مفهوم المساواة ، وهو إلغاء الخصوص والأخذ بعموم العلّة ، أو هو مورد قولهم إنّ الخاصّ قد ذكر من باب المثال ، هو كون الحكم عامّا كبرويا كسائر العمومات الكبروية ، وحينئذ فيجري على معارضه ما يجري على ما يكون معارضا للعمومات ، من كون المعارضة بينهما تارة بالعموم المطلق وأخرى بالعموم من وجه ، ولا خصوصية في خصوص هذا

ص: 315


1- أجود التقريرات 2 : 383 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : 291 ، 298.

العموم المساواتي عن غيره من العمومات ، ولا دخل له بمعارضة الدليل مع المفهوم.

ولعلّه لأجل هذه الجهة أسقط المرحوم الشيخ محمّد علي هذه الجملة فيما حرّره عنه قدس سره ، مع أنّه قال في طليعة المبحث ما هذا لفظه : والمقصود في المقام هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق ( ويعني به طريق الأولوية ) والمساوي الذي هو منصوص العلّة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف ، فنقول أمّا تعارض العام مع المفهوم الموافق الخ ، ثمّ بعد فراغه من الكلام عليه قال : وأمّا المفهوم المخالف الخ (1). ولم يذكر الحكم في تعارض العام مع مفهوم المساواة ، فإمّا أن يكون ذلك قد سقط من قلمه ، أو أنّ شيخنا قدس سره لم يتعرّض [ له ] كما أنّ المرحوم الشيخ موسى لم يتعرّض له أيضا.

وعلى كلّ حال أنّ الظاهر أنّ مفهوم المساواة خارج عن مبحث هذه المعارضات ، بل صرّح المرحوم الشيخ محمّد علي قبل هذا كلّه بأنّهم لم يصطلحوا عليه بالمفهوم (2).

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ مفهوم الموافقة بطريق المساواة المأخوذ من العلّة المنصوصة ونحوها هو بمنزلة الكبرى ، وأنّ الخصوصية فيه ملغاة ، فدائما تكون المعارضة بين العام وتلك الكبرى ، فإن كان مفاد الكبرى أخصّ من العموم قدّمت عليه بلا كلام ، وكذلك الحال لو كان الأمر بالعكس فإنّه يقدّم عليها ، ولو كان بينهما عموم من وجه لزم إعمال قواعد المعارضة في ذلك وهو واضح ، ولا دخل له بالتفاصيل المتقدّمة في مفهوم الموافقة بطريق الأولوية.

ص: 316


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 556 - 557.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 555.

نعم ، لو كان الدليل الأجنبي معارضا لنفس المورد كأن يقال الخمر حرام للاسكار ، واستفدنا منه العلّة المنصوصة التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما على وجه يكون الاسكار واسطة في العروض بحيث يكون موضوع الحكم هو المسكر ، فكان ذلك بمنزلة الصغرى والكبرى ، وهي أنّ الخمر مسكر وكل مسكر حرام ، ثمّ بعد هذا يقال الخمر ليست محرّمة ، فهذا القول الثاني وإن كان أخصّ من تلك الكبرى الكلّية ، لكنّه لأجل معارضته مع المورد الذي وردت فيه الكلّية المذكورة يعامل معه معاملة المباين. ومنه قولهم إنّ العام نصّ في مورده ، فما كان دالا على نفي الحكم العام عن مورده يعامل معه معاملة المباين ، وذلك أمر آخر غير ما نحن فيه من كون ذلك الدليل معارضا للمنطوق.

وبالجملة : أنّ الحاق مفهوم المساواة بما نحن فيه من مفهوم الأولوية مبني على كون المورد من قبيل المنطوق ، وتوسعة الحكم إلى كلّ ما وجدت فيه العلّة من قبيل المفهوم الناشئ عن الملازمة العقلية بين الحكمين على وجه يمتنع عقلا التفكيك بينهما ، لاستحالة التفكيك بين معلولي العلّة الواحدة ، بناء على أنّ العلّة من قبيل الواسطة في الثبوت ، غايته أنّها مطّردة ومنعكسة ، فيكون الحكم دائرا معها وجودا وعدما ، ويكون ما دلّ على نفي الحكم في ناحية المفهوم موجبا لنفي الحكم في ناحية المنطوق ، فمثل قوله يحلّ شرب النبيذ يكون معارضا لحرمة شرب الخمر المعلّلة بالاسكار على نحو الواسطة في الثبوت.

ولكن شيخنا قدس سره فيما تقدّم قد حصر العلّة المطردة المنعكسة بالواسطة بالعروض ، فقال : والثاني ( يعني ما كان المفهوم فيه بالمساواة ) يتحقّق في منصوص العلّة ، ونعني به ما كان العلّة المذكورة فيه واسطة في العروض لثبوت الحكم للموضوع المذكور في القضية ، بأن يكون الموضوع الحقيقي هو العنوان

ص: 317

المذكور في التعليل ، ويكون ثبوته للموضوع المذكور من جهة الانطباق كما في قضية لا تشرب الخمر فإنّه مسكر ، فإنّه ظاهر في أنّ موضوع الحرمة هو المسكر ، وحرمة الخمر من جهة انطباقه عليه ، فيسري الحكم حينئذ إلى كلّ مسكر ، ولا يكون للخمر خصوصية في ذلك.

وأمّا إذا كان المذكور في العلّة واسطة في الثبوت ، وداعيا لجعل الحكم على موضوعه ، من دون أن يكون هو الموضوع في الحقيقة كما في قضية لا تشرب الخمر لاسكاره ، فلا يسري الحكم إلى غير المورد ، لاحتمال خصوصية في إسكار الخمر غير موجودة في غيره. وقد يتحقّق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلّة فيما إذا أحرز مناط الحكم من الخارج يقينا فيحكم بسراية الحكم إلى كلّ مورد وجد فيه المناط ، وهذا القسم نادر التحقّق الخ (1).

وظاهره أنّ العلّة بمعنى الواسطة في الثبوت التي يكون الحكم فيها ساريا إلى كلّ ما وجدت فيه العلّة على وجه تكون مطردة ومنعكسة منحصرة في هذا القسم الأخير الذي أفاد أنّه نادر التحقّق الذي سمّاه بتنقيح المناط القطعي ، وأنّ ما يكون مطردا ومنعكسا من العلّة فإنّما هو الواسطة في العروض التي لا يكون الحكم فيها واردا إلاّ على العنوان الكلّي ، وأنّ المورد لا خصوصية له وإنّما يكون ذكره من باب الموردية أو من باب المثال ، ومن الواضح أنّ هذا النحو أعني ما كان من قبيل الواسطة في العروض لا تكون المعارضة فيه إلاّ واقعة مع ذلك الحكم الكبروي القابل للتخصيص ، فلو قيل إنّ النبيذ حلال لم يكن ذلك إلاّ من قبيل التخصيص للحكم الكبروي المستفاد من قوله لا تشرب الخمر فإنّه مسكر ، وهو

ص: 318


1- أجود التقريرات 2 : 379 - 381 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كلّ مسكر حرام ، وهذا التخصيص لا مانع منه ولا يكون مصادما لحرمة شرب الخمر.

نعم ، لو كان ذلك الدليل نافيا للحكم عن المورد المذكور مثل أن يقول إنّ الخمر حلال ، لعومل معه معاملة التباين ، فإنّ هذا القول وإن [ كان ] أخصّ من الحكم الكبروي أعني كلّ مسكر حرام ، إلاّ أنّه لمّا كان رافعا للحكم عن مورد ذلك الحكم الكبروي ، كان من قبيل تخصيص المورد وإخراجه عن الحكم العام الوارد فيه ، وقد حقّق في محلّه أنّه يعامل معه معاملة التباين ، لا من جهة التلازم ونحوه ، بل من جهة كون العام نصّا في مورده.

بل فيما نحن [ فيه ] زيادة على مجرّد الموردية ، وهي أنّ قوله لا تشرب الخمر لأنّه مسكر مشتمل على التصريح بحرمة شرب الخمر ، فيكون ما دلّ على حلّيته مصادما لهذا التصريح ، بخلاف مجرّد الموردية فإنّه إنّما يكون في مثل أن يسأل السائل عن حكم شرب الخمر ، فيقال له في الجواب إنّ كلّ مسكر حرام من دون أن يصرّح بقوله إنّ شرب الخمر حرام لأنّه مسكر وكلّ مسكر حرام ، فإنّ التصريح بذلك أقوى دلالة على حكم الخمر من كونه من مجرّد الموردية.

وعلى كلّ حال أنّ هذا وأمثاله لا يدخل في باب المفاهيم ، بل من قبيل العمومات الكبروية كما صرّح به المرحوم الشيخ محمّد علي فيما تقدّم من قوله إنّهم لم يصطلحوا عليه (1) ، ومن الواضح أنّ ذلك كلّه لا ينطبق على ما يكون الانتقال فيه من حكم على موضوع إلى حكم آخر على موضوع آخر لأجل اشتراكهما في العلّة ، فإنّ هذا لو وجد هو الذي ينبغي أن يسمّى بمفهوم المساواة ، وهو من باب المفاهيم الناشئة عن التلازم العقلي بين الحكمين ، لاشتراكهما في

ص: 319


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 555 ، وقد تقدّم في الصفحة : 316.

العلّة ، لا من باب الحكم الكبروي اللاحق للعنوان الكلّي المنطبق على كلّ من الموردين ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّه إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العموم عموما مطلقا ... الخ (1).

مثاله أن يقول : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، بالقياس إلى قوله : كلّ مائع حلال ، فإنّ قوله : لا تشرب الخمر ، أخصّ مطلقا من قوله كلّ مائع حلال ، ومفهوم قوله لا تشرب الخمر وهو حرمة ما عدا الخمر من المسكرات حتّى مثل الحشيشة والأفيون بينه وبين قوله كلّ مائع حلال عموم من وجه ، لاجتماعهما في النبيذ ، وانفراد الأوّل في مثل الخل وانفراد الثاني في الجامد من المسكرات كالحشيشة ، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق ، أعني حرمة شرب الخمر ، لكونه أخصّ من العموم ، كما أنّه لا يمكن تقديم العموم على المفهوم لأنّه موجب بالملازمة لرفع اليد عن المنطوق ، وهو محصّل قوله : إنّه لا يمكن التصرّف في المفهوم بدون التصرّف في المنطوق (2) ، وحينئذ يتعيّن رفع اليد عن العموم في مورد معارضته مع المفهوم.

ومثال ما كان بين المنطوق والعموم عموم من وجه هو قوله احترم خادم العالم لتعلّقه بالعالم ، بالقياس إلى قوله لا تكرم الفاسق سواء كان خادم العالم أو غيره ، فإنّ مفهوم الأوّل هو احترام كلّ ما يتعلّق بالعالم من ولده وزوجته وبيته ، وبين المنطوق والعام عموم من وجه ، يجتمعان في الخادم الفاسق ، كما أنّ بين العام والمفهوم عموما من وجه أيضا ، يجتمعان في ولده الفاسق ، وينفرد العام في

ص: 320


1- أجود التقريرات 2 : 383 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 382 - 383 ( مع اختلاف يسير ).

الفاسق الخارج عن التعلّق بالعالم ، وينفرد المفهوم في بيت العالم.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه الأمثلة هي من سنخ الأمثلة التي ذكرها شيخنا قدس سره لمفهوم الموافقة ممّا يكون فيه المنطوق بنفسه معارضا للدليل الآخر ، وقد تقدّم (1) الإشكال في ذلك ، وأنّه ينبغي أن تكون أمثلة ذلك مقصورة على المعارضة بين المفهوم والمنطوق لا بين المنطوقين نفسهما ، وحينئذ ينبغي لنا أن نمثّل لمفهوم المساواة بأمثلة مجرّدة أيضا من المعارضة بين المنطوقين بأن يقول أكرم النحويين لعلمهم ، فإنّ مفهوم المساواة فيه هو أنّ غير النحويين من العلماء يجب إكرامهم أيضا ، فإن قال لا تكرم الكاتب غير النحوي كان بين هذه الجملة ومفهوم الجملة الأولى عموم من وجه ، فيتعارضان في الصرفي الكاتب ، لكن لا يمكن الحكم فيه بعدم الاكرام ، بأن نقدّم منطوق الدليل المذكور على المفهوم ، لأنّ ذلك موجب للتفكيك في الحكم بين الصرفي والنحوي ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى رفع اليد عن منطوق أكرم النحوي من دون جهة تقتضيه ، هذا على تقدير تنزيل المثال على مفهوم المساواة ، وأنّ العلم واسطة في الثبوت.

أمّا لو نزّلناه على الواسطة في العروض ، بأن يكون قوله أكرم النحوي لعلمه عبارة أخرى عن قوله أكرم العالم سواء كان نحويا أو غيره ، وحينئذ تكون النسبة بينه وبين قوله لا تكرم الكاتب غير النحوي عموما من وجه ، لانفراد الأوّل في النحوي وانفراد الثاني في الكاتب غير العالم ، واجتماعهما في الكاتب العالم غير النحوي ، وحينئذ لنا أن نحكّم أيّا منهما شئنا في مورد الاجتماع ، من دون أن يلزم عليه التفكيك بين المتلازمين.

ومن ذلك يظهر الحال فيما لو كان الدليل المقابل أخصّ مطلقا من

ص: 321


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 302.

المفهوم ، مثل أن يقول أكرم النحوي لعلمه في قبال قوله لا تكرم الصرفي مثلا ، فإنّه بناء على كون المسألة من باب مفهوم المساواة يشكل تقدّم هذا الخاصّ على المفهوم ، لأنّ حرمة إكرام الصرفي وعدم وجوب إكرامه لا تجتمع مع كون إكرام النحوي واجبا ، لاشتراكهما في علّة وجوب الاكرام وهي العلمية ، بخلاف ما لو قلنا بأنّ المسألة من باب الواسطة في العروض والكبرى الكلّية ، لأنّ محصّل أكرم النحوي لعلمه حينئذ هو وجوب إكرام كلّ عالم نحويا كان أو غيره ، وهذا الحكم الكبروي لا مانع من إخراج الصرفي منه ، إذ لا ملازمة عقلية بين عدم إكرامه وعدم إكرام النحوي.

لا يقال : لا فرق بين أخذ الاسكار موضوعا وواسطة في العروض وبين أخذه علّة وواسطة في الثبوت ، فإنّه بناء على الثاني لا بدّ أن يكون الحكم كبرويا ، لأنّ العلّة الواحدة يستحيل أن يكون معلولها متعدّدا ، فالاسكار لو قلنا إنّه علّة للحرمة لا يكون موجبا لأحكام متعدّدة على موضوعات متعدّدة هي الخمر والنبيذ والفقّاع والأفيون ، ويكون الاسكار علّة واحدة في جميع هذه الأحكام على تعدّدها وتباينها حسب تعدّد موضوعاتها وتباينها ، بل لا بدّ أن ترجع تلك الموضوعات إلى قدر جامع يجمعها يكون هو المحكوم عليه بالحرمة المعلولة للاسكار ، وحينئذ يكون الأمر بالأخرة راجعا إلى حكم كبروي على القدر الجامع بين تلك الموضوعات المتعدّدة صورة.

لأنّا نقول : إنّ الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ الاسكار لا يكون هو موضوع الحكم المذكور ، بل هو علّة ذلك الحكم الوارد على القدر الجامع بين تلك الموضوعات ، وحيث إنّ الاسكار هو العلّة لتلك الكبرى الكلّية فيستحيل التفكيك بين صغرياتها باخراج بعض تلك الموضوعات عن تلك الكبرى ، لكونه

ص: 322

موجبا للتفكيك بين المعلولات للعلّة الواحدة ، بخلاف ما لو قلنا إنّه واسطة في العروض لأنّ التفكيك بين الصغريات على هذا التقدير ممكن لا مانع منه.

هذا كلّه فيما لو كان بين المفهوم والدليل المقابل عموم من وجه ، أو كان الدليل المقابل أخصّ مطلقا من المفهوم ، وأمّا ما يكون فيه المفهوم أخصّ مطلقا من الدليل المقابل ، فهو مثل قوله أكرم النحوي لعلمه ، بالقياس إلى قوله لا تكرم الرجل غير النحوي ، فإنّ مفهوم الأوّل وهو أنّ غير النحوي من العلماء يجب إكرامه أخصّ مطلقا من قوله لا تكرم الرجل غير النحوي ، فيقدّم عليه ، هذا على تقدير كون المسألة من مفهوم المساواة.

وأمّا على كونها من باب عموم الموضوع ، بأن نقول إنّ العلم واسطة في العروض ، وأنّ محصّل قوله أكرم النحوي لعلمه ، هو وجوب إكرام العالم نحويا كان أو غيره ، فيكون بين الدليلين عموم من وجه ، ينفرد الأوّل في العالم النحوي وينفرد الثاني في الرجل الجاهل ، ويجتمعان في الرجل العالم غير النحوي.

قوله : وأمّا المخالف فالمستفاد من ظاهر كلام الشيخ الأنصاري قدس سره (1) التفصيل بين ما إذا كان العموم ... الخ (2).

لا يخفى أنّ مفهوم المخالفة قد يكون أخصّ مطلقا من الدليل المقابل كما في مفهوم آية النبأ (3) أعني حجّية خبر العادل في قبال عموم التعليل أو في قبال

ص: 323


1- راجع مطارح الأنظار 2 : 215 - 216 ، وراجع أيضا فرائد الأصول 1 : 258 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 383 - 384 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- الحجرات 49 : 6.

النهي عن العمل بالظنّ ، وقد يكون الأمر بالعكس بأن [ يكون ] المفهوم أعمّ مطلقا من ذلك الدليل المقابل ، مثل أن يقول أكرم العلماء إن كانوا عدولا في قبال قوله أكرم فسّاق الفقهاء ، فإنّ مفهوم الأوّل هو أنّ الفسّاق من العلماء لا يجب إكرامهم ، سواء كانوا فقهاء أو كانوا نحويين أو غيرهم من العلماء الفسّاق ، وهو أعمّ مطلقا من قوله أكرم فسّاق الفقهاء ، وحيث إنّه لا يمكن رفع اليد عن المفهوم إلاّ بالتصرّف بالمنطوق ، نقول إنّ قوله أكرم العلماء إن كانوا عدولا وإن دلّ بظاهره على انحصار القيد بالعدالة ، إلاّ أنّ قوله أكرم فسّاق الفقهاء يكون موجبا لرفع اليد عن ظهوره في الانحصار ، لأنّه بمنزلة قولك أكرم العلماء إن كانوا فقهاء ، ويكون مقتضى الجمع هو أنّ الشرط يكون أحد الأمرين على سبيل منع الخلو أعني العدالة أو الفقاهة على ما مرّ تفصيل الكلام فيه في باب المفاهيم (1) ، فراجع.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان بين مفهوم المخالفة والدليل المقابل عموم من وجه ، مثل قوله عليه السلام « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) في قبال قوله « الماء الجاري لا ينجّسه شيء » (3) وتفصيل الضابط في هذه المعارضات هو ما كنّا حرّرناه سابقا بقولنا :

وأمّا مفهوم المخالفة فتحرير الكلام في بيان كونه معارضا للعام يتوقّف على تمهيد مقدّمة : وهي أنّ محلّ الكلام كما عرفت إنّما هو فيما لو كان الحكم الذي يتضمّنه الدليل العام غير مناف للمنطوق ، وإنّما محلّ الكلام هو كون حكم

ص: 324


1- تقدّم ذلك في أوّل هذا المجلّد ، راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة في الصفحة : 17 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 4 ، 6 ( وفيه : إذا كان ... ).
3- مستدرك الوسائل 1 : 190 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 1 ، 4.

العام منافيا للمفهوم المفروض كونه مخالفا للمنطوق ، وحيث إنّ مورد ذلك الحكم المخالف للمنطوق إنّما هو نقيض مورد الحكم في طرف المنطوق ، فينبغي أوّلا تنقيح حال مورد الحكم في طرف المنطوق ، وبيان النسبة بينه وبين مورد الحكم في الدليل العام ، وبذلك تعرف النسبة بين مورد الحكم في طرف المفهوم ومورد الحكم في الدليل العام.

فنقول : إنّ مورد الحكم في طرف المنطوق بالنسبة إلى مورد الحكم في طرف العام (1) لا يخلو من إحدى النسب الأربع : التساوي والتباين والعموم المطلق والعموم من وجه ، فتكون الصور أربعة :

الأولى : فيما لو كان مورد الحكم في طرف المنطوق مساويا لمورد الحكم في الدليل العام كأن يقول أكرم كلّ عادل ثمّ يقول أكرم الإنسان إن كان تاركا للكبائر والصغائر. وفي هذه الصورة لا يكون العام معارضا لشيء من المنطوق والمفهوم.

الثانية : فيما لو كان مورد الحكم في طرف المنطوق مباينا لمورد الحكم في الدليل العام ، فتارة يكونان من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وأخرى يكونان من قبيل المتباينين اللذين لهما ثالث. مثال الأوّل أن يقول الماء القليل لا ينفعل ، ثمّ يقول إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ، إذ لا يخلو الماء عن أحد الأمرين ، أعني القلّة والكثرة التي هي عبارة عن الكرّ. ومثال الثاني أن يقول تجب الزكاة في الغنم ، ثمّ يقول إذا كانت النعم من الإبل وجبت فيها الزكاة.

ففي المثال الأوّل يكون المفهوم معارضا للحكم العام معارضة التباين ، حيث إنّ عدم الكرّية المحكوم عليها في طرف المفهوم بالانفعال هي عين القلّة

ص: 325


1- بيان : لا يخفى أنّ مرادنا بالدليل العام في هذه الكلمات هو الدليل الذي يكون بازاء مفهوم المخالفة وإن لم يكن أعمّ منه [ منه قدس سره ].

التي حكم عليها في الدليل العام بعدم الانفعال ، لأنّ عدم أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما يكون عين وجود الآخر خارجا ، وإن خالفه مفهوما ، فلا بدّ من إعمال قواعد التعارض. ويمكن القول بأنّه ليس من معارضة العام للمفهوم بل هي من معارضته للمنطوق المستفاد منه انحصار علّة عدم الانفعال بالكرّية.

وفي المثال الثاني يكون مورد الحكم في طرف المفهوم أعمّ من مورد الحكم في طرف العام ، ضرورة كون غير الإبل أعمّ مطلقا من الغنم ، لأنّ نقيض أحد المتباينين أعمّ مطلقا من عين الآخر ، فيكون الحكم الذي تضمّنه العام أخصّ مطلقا من الحكم في ناحية المفهوم فيقدّم عليه سواء جعلناه من معارضة العام للمفهوم أو جعلناه من معارضة العام للمنطوق الدالّ على انحصار علّة وجوب الزكاة في الإبل ، فإنّه بناء عليه يكون ما دلّ على وجوب الزكاة في الغنم مخصّصا لهذا الانحصار.

الصورة الثالثة : فيما لو كان بين مورد الحكم في ناحية المنطوق ومورد الحكم في ناحية العام عموم مطلق ، فتارة يكون مورد الحكم في ناحية المنطوق هو الأخصّ ، وأخرى يكون الأمر بالعكس.

مثال الثاني أن يقول أكرم العالم العادل ثمّ يقول أكرم الشخص إن كان عالما. ولا يخفى أنّ المفهوم من هذه القضية لا يكون معارضا للعام وهو واضح ، لأنّ نقيض الأعمّ مطلقا مباين مع عين الأخصّ ، فلا يكون الحكم بعدم الوجوب في أحدهما منافيا للحكم بالوجوب في الآخر.

نعم ، إنّ نفس المنطوق وإن كان الحكم فيه موافقا للحكم في ناحية العام إلاّ أنّه لمّا كان مطلقا وكان دليل العام مقيّدا ، كان دليل العام حاكما عليه على ما هو الشأن في باب الاطلاق والتقييد.

ص: 326

وأمّا الأوّل ، وهو ما كان فيه مورد الحكم في ناحية المنطوق أخصّ منه في ناحية الدليل العام ، فهو وإن كان مورد الحكم في طرف المفهوم منه نقيضا لمورد الحكم في طرف منطوقه ، وكان نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ الذي هو مورد الحكم في ناحية الدليل العام ، إلاّ أنّ هذه المناقضة لمّا كانت في ظرف كون كلّ من المتناقضين مصداقا للعام ، لأنّها في مقام المفهوم الذي لا بدّ فيه من كون كلّ من نفس الشرط ونقيضه واردا على أمر واحد ، كان من الضروري هو كون مورد الحكم في ناحية المفهوم أخصّ مطلقا من مورد الحكم في الدليل العام ، مثال ذلك أن يقول : الماء لا ينفعل ، ثمّ يقول : إذا بلغ الماء كرّا لم ينفعل ، فإنّ مفهومه هو أنّ الماء إذا لم يبلغ كرّا ينفعل ، وهو أخصّ من مورد الحكم في ناحية العام الذي هو مطلق الماء ، فيكون مقدّما على العام بلا كلام.

نعم لو كان العنوان المأخوذ محفوظا في طرف المنطوق والمفهوم أعمّ مطلقا أو من وجه من العام ، وكان منطوق الشرط أخصّ من العام ، مثل أن يقول أكرم كلّ عالم ثمّ يقول أكرم كلّ رجل أو كلّ علوي إذا كان نحويا ، كان مورد المنطوق وهو الرجل النحوي أو العلوي النحوي (1) أخصّ مطلقا من العام الذي هو العالم ، مع كون المفهوم الذي هو الرجل أو العلوي غير النحوي أعمّ من وجه من العام. ولو لم يكن في البين عنوان محفوظ بل كان الحكم في المنطوق واردا على العنوان الخاصّ ، كان بين المفهوم والعام عموم من وجه ، لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ كما سيأتي (2) إن شاء اللّه في شرح صحيحة إسماعيل ابن جابر.

ص: 327


1- [ في الأصل : الرجل العلوي ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- في الصفحة : 337 - 338.

وينبغي مراجعة ما حرّرناه في ملحق ص 99 (1) من مباحث الظنّ في التعرّض للإشكال على آية النبأ بعموم التعليل.

وينبغي أيضا أن يلاحظ ما حرّرناه في حواشي التقريرات المطبوعة في النجف في قاعدة التجاوز ص 236 (2) في رواية إسماعيل بن جابر من أنّ مفهوم التحديد في قوله عليه السلام « إن شكّ في السجود بعد ما قام » (3) من جهة دلالته على أنّه لو شكّ في السجود عند ما نهض للقيام قبل أن يتمّ قيامه يلزمه الاعتناء ، يكون معارضا لعموم قوله عليه السلام في الذيل « كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه إلى غيره ».

الصورة الرابعة : أن يكون بين مورد الحكم في ناحية المنطوق وبينه في ناحية العام عموم من وجه ، مثل قوله : الجاري لا ينفعل ، وقوله : إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، وحيث إنّ نقيض أحد الأمرين اللذين بينهما العموم من وجه يكون غالبا بينه وبين عين الآخر أيضا عموم من وجه ، كان المفهوم من ذلك معارضا للعام بالعموم من وجه ، فيجري عليه حكم ذلك التعارض. نعم لو كان مورد المنطوق نقيضا لما هو أخصّ من مورد العام كان بينه وبين مورد العام عموم من وجه ، وكان مورد مفهومه أخصّ من مورد العام.

لكن على الظاهر أنّه لا يتصوّر له مثال فيما نحن بصدده من مفهوم المخالفة الذي هو مفهوم الشرط ونحوه ممّا يكون المنطوق فيه موافقا للعام ، حيث إنّه إنّما

ص: 328


1- الظاهر أنّ مراده قدس سره بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه النائيني قدس سره. وعلى أي حال راجع فوائد الأصول 3 : 170 وما بعدها ، وتعليق المصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد السادس من هذا الكتاب.
2- وهي الحواشي الآتية في المجلّد الحادي عشر على فوائد الأصول 4 : 634 وما بعدها.
3- وسائل الشيعة 6 : 369 / أبواب السجود ب 15 ح 4 ( نقل بالمضمون ).

يكون مع حفظ العام في ظرف وجود الشرط وعدمه ، وذلك مثل أن يقول : الماء ينفعل بملاقاة النجاسة ، ثمّ يقول : الماء ينفعل إذا لم يكن كرّا ، أو يقول : أكرم العالم ، ثمّ يقول : أكرم العالم إذا لم يكن فاسقا ، فإنّ المفهوم في كلّ منهما وإن كان أخصّ من مورد العام ، فإنّه في الأوّل عدم الانفعال إذا كان كرّا وفي الثاني عدم وجوب إكرام العالم إذا كان فاسقا ، وواضح أنّ الأوّل أخصّ من العام الذي هو انفعال مطلق الماء ، والثاني أيضا أخصّ من العام الذي هو وجوب إكرام العالم ، إلاّ أنّ المنطوق في كلّ منهما أخصّ مطلقا من العام ، فإنّ الماء الذي ليس بكرّ أخصّ مطلقا من مطلق الماء ، وكذلك العالم الذي ليس بفاسق أخصّ مطلقا من مطلق العالم.

نعم يتصوّر له مثال بعيد وهو ما لو كان العنوان المأخوذ محفوظا في طرف المنطوق والمفهوم أعمّ مطلقا أو من وجه من العام ، وكان منطوق الشرط نقيضا لما هو أخصّ مطلقا من العام ، مثل أن يقول : أكرم العلماء ، ثمّ يقول : أكرم كلّ رجل أو كلّ علوي إذا لم يكن نحويا ، فإنّ الرجل أو العلوي الذي ليس بنحوي أعمّ من وجه من العام الذي هو العالم ، مع أنّ المفهوم الذي هو الرجل النحوي أو العلوي النحوي أخصّ مطلقا من العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ مفهوم الأولوية دائما يكون من الموافق ولا يتصوّر فيه مفهوم المخالفة ، أمّا ما يستفاد من الواسطة في العروض كما في مثل حرمة الخمر لأنّه مسكر ، أو الواسطة في الثبوت كما في مثل حرمة الخمر لعلّة الاسكار ، فكما يتصوّر فيه الموافق فينتقل إلى كلّ مسكر أو كلّ ما وجدت فيه علّة الاسكار ، فكذلك يمكن أن يتأتّى فيه المفهوم المخالف ، وهو أنّ الخمر إذا لم يكن مسكرا ولم يكن فيه علّة الاسكار فليس بحرام ، وذلك من جهة أنّ الواسطة في العروض وكذلك الواسطة في الثبوت مطردة ومنعكسة ، فمفهوم الموافقة يتولّد من الاطراد ومفهوم المخالفة يتولّد من الانعكاس.

ص: 329

نعم ، لو كانت العلّة هي إسكار الخمر كما في التغيير الذي هو علّة لنجاسة الماء فإنّها خاصّة بالماء ، ففي مثل ذلك لا تكون العلّة مطردة فلا يكون له مفهوم موافقة ، لكنّها منعكسة فيتولّد منها مفهوم المخالفة ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في مثل إن كان الماء كرّا لم يتنجّس في أنّه لا يستفاد منه مفهوم الموافقة ، إذ لا تكون الكرّية مانعة من النجاسة في غير الماء المطلق. نعم يكون له مفهوم المخالفة ، وهو أنّ الماء إن لم يكن كرّا تنجّس بالملاقاة. أمّا حكمة التشريع فلا مفهوم له إذ ليست هي مطردة ولا منعكسة.

ثمّ لا يخفى أنّ المفهوم إذا كان في قبال العموم المخالف له لا بدّ أن يكون المنطوق مخالفا لذلك العام حتّى في مثل « إذا بلغ الماء كرّا لم ينجّسه شيء » (1) في قبال « خلق اللّه الماء طهورا » (2) ، وحتّى في مثل احترم بيوت العلماء الذي يكون مفهومه احترام العلماء في قبال لا تكرم الفسّاق ، ومن الواضح أنّ المفهوم هو في الرتبة الثانية من المنطوق ، ولا يمكن الأخذ بالمنطوق في الرتبة الأولى مع وجود مخالفه الذي هو العموم ، فلا بدّ أوّلا من الإصلاح بين المنطوق وذلك العام المخالف ، ثمّ بعد استراحة المنطوق من معارضه يتسنّى لنا الأخذ بمفهومه ، وحينئذ فالعملية تجري أوّلا بين المنطوق ومخالفه من إعمال قواعد التعارض ، وأنّ النسبة بين ذلك المنطوق وذلك المخالف له هل هي العموم المطلق أو العموم من وجه أو التباين ، وإجراء الجمع بينهما بالطرق المقرّرة.

وبالجملة : أنّ فرض كون المفهوم معارضا للعموم فرض صوري لا واقعية له ، وإن شئت [ فقل ] إنّ فرض وجود المفهوم كدليل مستقلّ فرض صوري ،

ص: 330


1- وسائل الشيعة 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 4 ، 6 ( وفيه : إذا كان ... ).
2- وسائل الشيعة 1 : 135 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9.

وليس في البين إلاّ نفس المنطوق ، وإجراء الحساب معه دون نفس المفهوم ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وأمّا توهّم أنّ عموم العلّة تكون مانعة عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، فمدفوع بأنّ الصلاحية للقرينية إنّما تتحقّق في غير موارد الحكومة ، وأمّا فيها فيستحيل ذلك ، فإنّ قرينيته إنّما تكون عند حفظ موضوعها ، والمفهوم رافع لموضوعه بالفرض ، فكيف يمكن أن يكون هو مانعا عن الظهور في المفهوم ... الخ (1).

ربما يقال إنّه يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ المفهوم لو كان أوّلا وبالذات يحكم بأنّ خبر العادل ليس من قبيل الظنّ ، لكان حاكما على عموم العلّة ونحوها ، أمّا لو كان رفعه للموضوع في طول إثباته حجّية الظنّ الحاصل من خبر العدل المفروض كون عموم العام مانعا من حجّيته ، فلا يمكن حكومته عليه ، فلا يكون المقدّم هو المفهوم ، إلاّ إذا التزمنا بطريقة التخصيص.

ثمّ إنّ الذي يظهر ممّا حرّرناه عنه قدس سره في مسألة حجّية خبر الواحد (2) هو إبطال طريقة التخصيص ، لكون العام متّصلا بالخاصّ ، فيكون من قبيل احتمال قرينية الموجود ، وأنّه قدس سره لم يعتمد في تقديم المفهوم إلاّ على طريقة الحكومة.

نعم ، هو قدس سره التزم في صحيحة إسماعيل بن جابر (3) في قاعدة التجاوز (4) بتقدّم المفهوم على العام المتّصل ، كما أنّه قدس سره في هذا المقام أيّد هذا المعنى وشيّده.

ص: 331


1- أجود التقريرات 2 : 385 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الحاشية على فوائد الأصول 3 : 171.
3- وسائل الشيعة 6 : 369 / أبواب السجود ب 15 ح 4.
4- لاحظ فوائد الأصول 4 : 633 وما بعدها / المبحث الرابع. وحواشي المصنّف قدس سره عليه تأتي في المجلّد الحادي عشر.

قوله : وأمّا الثاني فلأنّ الحكم العمومي إنّما يكون ناظرا إلى إثبات الحكم لافراده ليس إلاّ ، وأين ذلك من إثبات العدل للشرط المذكور في القضية الشرطية ... الخ (1).

يمكن التأمّل في ذلك ، بأنّ من يدّعي تقدّم العام المتّصل على المفهوم لا يحتاج إلى إثبات صراحة العام بإثبات العدل ، بل يكفي في ثبوت العدل هو إثباته الحكم في جميع أفراده ، فيكون مقدّما على ما دلّ عليه المنطوق من الانحصار ، سيّما بعد فرض كون عموم العام وضعيا وكون الانحصار بالاطلاق ، وبعد فرض كون مرجع عدم الانحصار هو كون الشرط هو القدر الجامع بين الشرطين الذي هو مقتضى العموم.

وأمّا ما حاوله المحشّي (2) من كون ذلك من قبيل تقدّم أصالة الظهور في القرينة ، سواء كانت متّصلة أو كانت منفصلة ، على أصالة الظهور في ذي القرينة ، فإنّ هذا المعنى وهو كون أصالة الظهور في القرينة ولو كان في غاية الضعف مقدّما وحاكما على أصالة الظهور في ذي القرينة ولو كان بمنتهى قوّة الظهور ، قد أسّسه وحقّقه شيخنا قدس سره في أوائل التعادل والتراجيح (3) - وسيأتي منه قدس سره قوله : لما مرّ من أنّ الأصل الجاري في القرينة الخ (4). وفي ص 411 (5) تعرّض لذلك تفصيلا -

ص: 332


1- أجود التقريرات 2 : 387 - 388 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 386.
3- أجود التقريرات 4 : 285 - 286 ، فوائد الأصول 4 : 720.
4- أجود التقريرات 2 : 389 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
5- حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات 2 : 442 ، وسيأتي تعليق للمصنّف قدس سره على ذلك في الصفحة : 457 من هذا المجلّد.

وهناك (1) علّقنا عليه ما مفاده التأمّل في هذه القاعدة ، وأنّ نفس ظهور نفس القرينة ليس هو عبارة عن القرينية بل ليس ظهورها إلاّ في نفس معناها ، وأنّه لو قدّمناه لكان قرينة والتقديم منحصر في الأظهرية ، مثلا لو قال رأيت أسدا يرمي فلفظ الأسد ظاهر في حدّ نفسه في الحيوان المفترس ولفظ يرمي أيضا ظاهر في رمي النبال ، فكلّ منهما لو أبقيناه على ظاهره لكان موجبا للتصرّف في الآخر ، فيكون كلّ منهما صالحا للقرينية على الآخر.

وكذلك الحال فيما نحن فيه ، فإنّ كلا من العام في دلالته على العموم ، والمنطوق في دلالته على الانحصار ، صالح للتصرّف في الآخر ، فلا يتعيّن القرينية لأحدهما على الآخر إلاّ بالأظهرية ، فلا وجه للقول بأنّ ظهور المنطوق قرينة على التصرّف في العموم ، إذ ليس هو بأولى من العكس ، خصوصا لو كان العموم وضعيا ودلالة المنطوق على المفهوم بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما سيأتي في الحاشية الآتية (2) من كون العموم الوضعي مقدّما على العموم الاطلاقي.

وبالجملة : ينبغي أن يكون المدار على الأظهرية حتّى لو كان الخاصّ والعام كلاهما وضعيين ، فما لم يكن الخاص في دلالته على الخصوص أقوى من دلالة العام على العموم لا يكون مقدّما على العام ، بل ربما كان الأمر بالعكس ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ تقديم العام على المفهوم المفروض كونه أخصّ منه بجعل الشرط أحد الأمرين غير ممكن ، لأنّ ذلك أعني كون الشرط هو أحد الأمرين إنّما يمكن فيما لا يكون الواقع منحصرا بالأمرين المذكورين ، بل كان

ص: 333


1- في المجلّد الثاني عشر في الحاشية على فوائد الأصول 4 : 720.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 388.

وجود غيرهما ممكنا كما لو كان المفهوم أعمّ من وجه من العام ، مثل أخبار الكرّ بالنسبة [ إلى ] مثل قوله : « الماء الجاري لا ينجّسه شيء » (1) ، فإنّهما يتعارضان في الجاري القليل ، فلو قدّمنا أخبار الجاري على المفهوم ، وحكمنا بأنّ الجاري القليل لا يتنجّس ، فإنّه حينئذ يصحّ جعل الشرط أحد الأمرين من الكرّ والجاري ، ويتحقّق المفهوم بانتفائهما معا ، بأن يكون الماء ليس بكرّ ولا بجار وهو القليل المحقون ، فيثبت فيه الحكم بالانفعال.

وهكذا الحال فيما لو كان الدليل المقابل للمفهوم أخصّ منه مثل قوله : أكرم العلماء إن كانوا عدولا ، في قبال قوله : أكرم فسّاق الفقهاء ، فإنّ مفهوم الأوّل هو لا تكرم العلماء إن كانوا فسّاقا ، ويكون قوله أكرم فسّاق الفقهاء مخصّصا للمفهوم ، وتكون النتيجة حينئذ أكرم العلماء إن كانوا عدولا أو كانوا فقهاء ، بخلاف ما لو كان الواقع منحصرا بالأمرين المذكورين فإنّه حينئذ لو كان الشرط هو أحدهما كان اشتراطه لغوا صرفا ، إذ لا يخلو الواقع من أحدهما كما فيما نحن فيه من فرض كون المفهوم الذي هو نقيض المنطوق أخصّ من العام ، كما في قوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » بالقياس إلى قوله : « خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء » (2) وكما في قوله : الخبر الواحد لا يكون حجّة إذا كان المخبر به فاسقا الذي هو المتحصّل من الآية الشريفة (3) لو لم نقل بالحكومة ، فإنّ مقابله عموم المنع عن العمل بالظّن ، سواء كان هو عموم العلّة أو كان هو عموم قوله

ص: 334


1- تقدّم استخراجه في الصفحة : 324.
2- تقدّم استخراجه في الصفحة : 330.
3- الحجرات 49 : 6.

تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (1) فإنّ مفهوم تلك الجملة الشرطية هو أنّ الخبر يكون حجّة إن لم [ يكن ] المخبر فاسقا بل كان عادلا ، فهذا العموم في أمثال هذه الأمثلة لو قدّمناه على المفهوم تكون النتيجة أنّ الشرط هو أحد الأمرين من وجود الشيء الذي هو إخبار الفاسق أو كون الماء كرّا ، ونقيضه الذي هو عدم إخبار الفاسق أعني إخبار العادل ، أو هو عدم الكرّية أعني القلّة ، ومن الواضح أنّه لا معنى ولا محصّل لكون الشرط هو أحد الأمرين اللذين لا يخلو الواقع عنهما ، فإنّ القدر الجامع بين القلّة والكثرة هو مطلق الماء ، ولا معنى لقوله إنّ الماء لا ينفعل بشرط تحقّق القدر الجامع بين كونه كثيرا وكونه غير كثير ، إذ ليس القدر الجامع بينهما إلاّ مطلق الماء الذي هو عين الموضوع في القضية المتضمّنة للشرط. وكذا لا معنى لقوله إنّ خبر الواحد ليس بحجّة بشرط تحقّق أحد الأمرين من كون المخبر فاسقا أو كونه عادلا ، لأنّ مرجع ذلك إلى أنّ الشرط هو القدر الجامع بينهما ، وليس القدر الجامع بينهما إلاّ الخبر نفسه الذي هو موضوع الحكم في القضية المقيّدة بالشرط.

وبالجملة : أنّ من يريد تقديم العام في أمثال هذه الأمثلة لا يمكنه التصرّف في المنطوق بما هو مفاد لفظة أو على وجه يكون الشرط هو أحد الأمرين ، بل لا بدّ له أن يرفع اليد عن أصل مفاد الاشتراط ، وذلك في غاية البعد والركاكة. أمّا التصرّف في المنطوق بحمل الشرط على كونه قيدا في الموضوع بحيث يكون المتحصّل أنّ الماء الكرّ لا ينفعل ، أو الخبر الذي يكون مخبره فاسقا لا يقبل ، فهذا أيضا موجب للغوية التقييد ، إذ لو كان وجوده مساويا لعدمه لكان ذكره لغوا ، ولسنا نريد أنّ تقييد الموضوع يفيد الانتفاء عند الانتفاء ، بل نريد أنّ تقييد الماء

ص: 335


1- النجم 53 : 28.

الذي لا ينفعل بكونه كرّا لا يجتمع مع التصرّف فيه بأنّ القليل أيضا لا ينفعل ، لأنّ هذه التوسعة موجبة للغوية التقييد.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ ظهور الشرط في رجوعه إلى الحكم لا إلى الموضوع أقوى من ظهور العام في العموم ، فيكون هو المقدّم على العموم دون العكس. ثمّ لو سلّمنا رجوع القيد إلى الموضوع ليكون المتحصّل أنّ الماء الكرّ لا ينفعل ، لكان ذلك بالقياس إلى قوله الماء لا ينفعل من قبيل المقيّد بالنسبة إلى المطلق ، فيكون مقيّدا لذلك المطلق ، لأنّ ظهور التقييد في ضيق دائرة الموضوع أقوى من ظهور المطلق في توسعة الدائرة ، وإن لم نقل بحجّية مفهوم القيد والوصف.

ويحذو حذو هذه الوجوه التصرّف في أصل الشرط بجعله غير مسوق للشرطية ، ليكون على حذو قوله تعالى : ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (1) كما قيل في آية النبأ (2) من التقييد بالفاسق تنبيها على فسق الوليد.

وأمّا ما أجاب به شيخنا قدس سره فيما حكي عنه (3) من كون هذا الظهور وضعيّا ، ففيه تأمّل ، أمّا أوّلا : فلإمكان القول بأنّ مفاد لفظ الشرط ليس هو إلاّ الربط ، وكون المربوط به هو الحكم أو موضوع الحكم أمر آخر خارج عن وضع الأداة.

نعم هي ظاهرة في الرجوع إلى الحكم. بل قد يقال : إنّ رجوعها إلى الموضوع رجوع بالأخرة إلى الحكم ، إذ لا معنى لتقييد الموضوع إلاّ بلحاظ

ص: 336


1- النور 24 : 33.
2- الحجرات 49 : 6.
3- أجود التقريرات 2 : 387.

حكمه كما مرّ مشروحا في باب المفاهيم (1) ، فراجع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ العام أيضا يمكن أن يكون ظهوره وضعيا ، فيتصادم الظهوران. نعم إنّ شيخنا قدس سره بنى على احتياج عموم العام إلى مقدّمات الحكمة على كلّ حال ولو بالقياس إلى مصبّ العموم.

وأمّا رواية إسماعيل بن جابر فهي المشتملة على قوله « قال عليه السلام إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2).

فإنّ مفهوم قوله عليه السلام : « بعد ما قام » وإن كان هو أنّ الشاكّ في السجود يعتني إذا لم يدخل في القيام ، إلاّ أنّ هذا المفهوم ليس أخصّ مطلقا من القضية العامّة المتّصلة به ، أعني قوله : « كلّ شيء شكّ فيه » الخ ، بل بينهما عموم من وجه ، لأنّ نقيض الخاصّ الذي هو الدخول بالقيام أعمّ من وجه من عين العام المستفاد من قوله عليه السلام « جاوزه ودخل في غيره » فإنّه بعد تطبيقه على السجود الذي هو أحد صغريات هذه الكبرى يكون المستفاد منه أنّ الشاكّ في السجود وقد دخل في غيره لا يعتني ، سواء كان ذلك الغير هو القيام ، أو كان هو النهوض إلى القيام ، وبينه وبين مفهوم قوله « بعد ما قام » وهو الشكّ في السجود إن لم يقم ، عموم من وجه ، لانفراد الثاني بصورة الشكّ في السجود قبل الدخول في شيء أصلا ، وانفراد الأوّل في صورة الشكّ في السجود بعد الدخول في القيام ، واجتماعهما في صورة الشكّ في السجود عند الدخول في النهوض ، لأنّه يصدق أنّه لم يقم ، وأنّه قد دخل في غير السجود.

ص: 337


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 58 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 6 : 369 / أبواب السجود ب 15 ح 4.

لكن لا يمكن تقديم هذا العموم على المفهوم ليكون المتحصّل هو كون الشرط في المضي وعدم الاعتناء بالشكّ في السجود هو أحد الأمرين من الدخول في القيام أو الدخول في النهوض ، لأنّهما من قبيل الأقل والأكثر الذي هو الدخول في القيام ، ولا محصّل لكون الشرط هو أحد الأمرين اللذين يكون أحدهما هو الأقل والآخر هو الأكثر ، لأنّ ذكر الأكثر حينئذ يكون لغوا ، لعدم إمكان استناد الحكم إليه لكونه مسبوقا دائما بالأقل ، وحينئذ ففي مثل هذه الصورة يتعيّن تقديم المفهوم على الدليل المقابل وإن كان بينهما عموم من وجه.

والأولى أن يقال : إنّه يجمع بينهما بطريقة الواو ، فيكون المدار حينئذ على الأكثر وهو الدخول في القيام ، اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ ذكر القيام من باب كونه الغالب ، وأنّ الشرط في الحقيقة هو الدخول في النهوض ، فتأمّل.

والفرق بين مثل هذه الرواية وبين ما تقدّم من مثل أخبار الكرّ بالقياس إلى قوله خلق اللّه الماء طهورا ، ومثل القضية الشرطية من آية النبأ بالقياس إلى عموم المنع عن العمل بالظنّ ، في كون نقيض الخاصّ أخصّ من العام في تلك الأمثلة ، وفي مثل هذه الرواية يكون نقيض الخاصّ أعمّ من وجه من العام ، هو ما تقدّمت (1) الاشارة إليه من كون العام في تلك الأمثلة محفوظا في كلّ من النقيضين ، المنطوق والمفهوم ، ولا ريب أنّ نقيض الخاصّ المحفوظ معه العام يكون أخصّ مطلقا من العام ، بخلاف الرواية المزبورة فإنّ العام فيها لم يؤخذ في منطوق القضية الشرطية ولا مفهومها ، وحينئذ تدخل في القاعدة القائلة إنّ نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 338


1- في الصفحة 326 - 327.

قوله : فلا يكون لتقدّم أحدهما على الآخر وجه من دون مرجّح خارجي ... الخ (1).

كما مرّ (2) في رواية إسماعيل بن جابر. وفي الحاشية أنّ من جملة المرجّحات كون أحد العامين وضعيا والآخر إطلاقيا ، قال : وذلك لما حقّقناه من عدم احتياج التمسّك بالعموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة الخ (3). حقّق ذلك شيخنا قدس سره في أوائل التعادل والتراجيح (4) أنّ العموم الوضعي مقدّم على الاطلاقي ، وقد حصل لنا هناك تأمّل في ذلك (5) ، فراجعه وراجع مسألة دوران رجوع القيد إلى المادّة ورجوعه إلى الهيئة في باب الأوامر ص 136 من هذا الكتاب (6).

ولا يخفى أنّ مثل أكرم العلماء في قبال قوله أكرم الناس إن كانوا عدولا يكون النسبة بين المفهوم من الثانية والمنطوق من الأولى عموما من وجه. ويمكن الجمع بمفاد لفظة أو ، فلا يسقط وجوب الاكرام إلاّ عند انتفاء الوصفين العلم والعدالة. ويمكن الجمع بمفاد الواو فينحصر وجوب الاكرام بالعالم العادل. ولعلّ الأوّل أولى ، لأنّ الثاني يوجب حمل قوله أكرم الناس إن كانوا عدولا على ما هو بمنزلة الفرد النادر وهو الجامع لوصفي العلم والعدالة ، وذلك وإن كان كثيرا في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى مفاد أكرم العدول من الناس يكون قليلا نسبيا ،

ص: 339


1- أجود التقريرات 2 : 388 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 337.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 388.
4- فوائد الأصول 4 : 729 - 730 ، أجود التقريرات 4 : 293.
5- راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول 4 : 730.
6- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 234 من الطبعة الحديثة.

فلاحظ. ومثل ذلك قوله : الجاري لا ينفعل ، وقوله : الماء إذا بلغ كرّا لا ينفعل.

قوله : وأمّا المخالفة البدوية كمخالفة المقيد والمطلق أو العام والخاص فهي لا تعدّ مخالفة حتّى تشملها الأخبار المانعة ، كيف ونقطع بصدور كثير من الأخبار المخالفة بهذا المعنى منهم صلوات اللّه عليهم ، فكيف يصحّ قولهم عليهم السلام : لم نقله (1) أو زخرف (2) أو باطل (3) وغير ذلك (4).

هذه العبارة لو ضممناها إلى سابقتها ، أعني قوله : فإنّ سيرة العلماء خلفا عن سلف قد جرت على العمل بالأخبار الموجودة في المجاميع المعتبرة ، مع أنّه لا يكون فيها خبر لا يكون على خلافه عموم كتابي ولو كان مثل عمومات الحل ونحوها الخ ، لحصل لنا القطع بأنّ مراده قدس سره من السابقة أعني قوله : لا يكون فيها خبر لا يكون على خلافه عموم كتابي الخ ، هو الكثرة المشار إليها بقوله في العبارة المتّصلة بها أعني قوله : كيف ونقطع بصدور كثير الخ. والذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المبحث مختصر جدّا ، وهو مقصور على أنّ المخالفة بالاطلاق والتقييد والعموم والخصوص لا تعدّ مخالفة. وأخصر منه ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (5) فراجع.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الدعوى وهي كثرة الأخبار المخالفة لعموم الكتاب

ص: 340


1- وسائل الشيعة 27 : 111 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 15 ( وفيه : فلم أقله ).
2- وسائل الشيعة 27 : 110 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 12 ، 14.
3- وسائل الشيعة 27 : 123 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 48.
4- أجود التقريرات 2 : 390 - 391 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
5- فوائد الأصول 1 - 2 : 561.

أو إطلاقه ، أو أنّ جميع أخبارنا هي كذلك ، الأصل فيها على ما أظنّ ما اشتمل عليه التقريرات عن الشيخ قدس سره في هذا المبحث ، أعني قوله : واستدلّ بعض الأفاضل على المطلب بأنّه لولاه لزم إلقاء الخبر بالمرّة ، إذ ما من خبر إلاّ وهو مخالف لعموم الكتاب ولا أقل من عموم ما دلّ على أصل البراءة. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الخبر المخالف لأصل البراءة لا يعقل أن يكون مخصّصا للعموم كما قرّر في محلّه ، وستعرفه بعد ذلك من عدم ورود الدليل والأصل في مورد واحد ، انتهى (1).

فكأنّه قدس سره سلّم هذه الكلّية ولكنّه ناقش في أنّ الخبر المخالف لما دلّ من الآيات على البراءة مخصّص لها ، فإنّه حاكم عليها لا مخصّص.

وأمّا ما في الحاشية الأولى ص 505 (2) من إنكار عمومات الكتاب في البراءة فلعلّه مناقشة في المبنى ، فإنّهم قد استدلّوا على البراءة بآيات ، فراجع.

وصاحب الكفاية قدس سره نحا هذا المنحى فقال : مع أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك (3). ثمّ في مقام الجواب عن أخبار المخالفة أجاب بأنّ المراد هو المخالفة العرفية دون مثل العموم والخصوص ، ثمّ قال : كيف وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم السلام كثيرة جدّا ، انتهى (4).

لكن يظهر من الحاشية الأولى على 505 (5) إنكار الغلبة فضلا عن الكلّية.

ص: 341


1- مطارح الأنظار 2 : 221.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 390.
3- كفاية الأصول : 236 ، 237.
4- كفاية الأصول : 236 ، 237.
5- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 390.

والإنصاف أنّ إنكار الكلّية في محلّه ، لما تقدّم في باب الصحيح والأعمّ من أنّ الاطلاقات الواردة في العبادات لم تكن في مقام البيان ، فراجع ص 35 (1) من هذا الكتاب وص 37 ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي وذلك قوله : فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ التمسّك بالاطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين ، ووجهه أنّه لا يمكن أن تكون تلك الاطلاقات واردة في مقام البيان (2).

والحاصل : أنّ إنكار الكلّية لا بأس [ به ] كما هو لازم ما صرّح به شيخنا قدس سره وغيره من أنّ اطلاقات الكتاب في العبادات لم تكن واردة في مقام البيان ، فإنّ لازمه هو كون الأخبار المثبتة للأجزاء والشرائط غير مخالفة للكتاب. أمّا إنكار الأغلبية أو إنكار الكثرة وإن لم تكن أغلبية فذلك أمر يحتاج إلى سبر الفقه وسبر الأخبار الواردة في جميع أبوابه ، وضبط الآيات الأحكامية ، وبعد ذلك يتّضح ما هو الحقّ من الأغلبية أو الكثرة أو الندرة. وعلى كلّ حال ، فلا أخال أنّ شيخنا قدس سره يدّعي الكلّية التامّة بل ولا الأغلبية الساحقة.

قوله : فهي لا تعدّ مخالفة ... الخ (3).

علّق المحشّي عليه قوله في الحاشية الثانية من الصفحة المذكورة : ويدلّ على ذلك جعل موافقة الكتاب من مرجّحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة ، فإنّه يستفاد منه أنّ حجّية الخبر المخالف في نفسه كانت

ص: 342


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 67 من الطبعة الحديثة.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 78.
3- أجود التقريرات 2 : 390.

مفروغا عنها الخ (1).

هذه المخالفة في الخبر المندحر في مقام المعارضة للخبر الموافق ، إن كانت هي مخالفة التباين ، خرجت المسألة عن التعارض ودخلت في مقابلة الحجّة بغير الحجّة ، لأنّ الخبر المباين للكتاب لم يقولوه.

وإن كانت هي المخالفة البدوية بين الخبر الخاصّ والآية العامّة ، احتجنا إلى دعوى أنّ المخالفة في باب التعارض مغايرة للمخالفة في باب العرض ، فالأولى بدوية والثانية تباينية ، فذلك وإن نفعنا في إثبات أنّ الخبر المخالف للكتاب بهذه المخالفة البدوية حجّة في نفسه ، وأنّه إنّما يسقط لأجل وجود المعارض بحيث إنّه لو لا المعارض لالتزمنا بحجّيته وتخصيص الكتاب به ، إلاّ أنّا نحتاج إلى دعوى أنّ المخالفة في باب التعارض مغايرة للمخالفة في باب العرض ، فالأولى بدوية والثانية تباينية ، وهذا في غاية الصعوبة ، لاتّحاد العبارة في البابين ، ولا مخلص عنه إلاّ بدعوى أنّ المراد بالمخالفة في باب التعارض هي مجرّد عدم الموافقة ، وحينئذ لا يكون في ذلك الترجيح دلالة على أنّ الخبر الأخصّ من الكتاب حجّة في نفسه ، بل إنّ الذي يكون الحجّة في نفسه هو الخبر غير الموافق للكتاب ، وأنّه عند معارضته بالخبر الموافق يكون ساقطا ، وأين هذا من دعوى كون الخبر المخالف للكتاب بالعموم والخصوص في مقابل الموافق أو في قبال غير المخالف حجّة في نفسه.

وقد تعرّض شيخنا قدس سره لبيان المراد من الموافقة في أخبار الترجيح في مبحث التعادل والتراجيح ، فراجعه وراجع ما حرّرناه هناك (2).

ص: 343


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 390.
2- فوائد الأصول 4 : 791. وله قدس سره حواش على ذلك تأتي في المجلّد الثاني عشر.

ثمّ لا يخفى أنّ ما صدّر به البحث في توجيه تقديم الخبر الخاصّ مع أنّه ظنّي على العام الكتابي مع أنّه قطعي السند ، بقوله قدس سره : لأنّ الخبر على تقدير ثبوت صدوره بنفسه قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الكتاب ، ورافع للشكّ فيما هو المراد به ، فالتعبّد بصدوره تعبّد بما هو قرينة على الكتاب ، ورافع لموضوع التعبّد بأصالة الظهور ، أعني به الشكّ في المراد (1) ، إلى آخر العبارة ، لو تمّ لكان الخبر الواحد في قبال العام الكتابي أقوى منه في قبال العام الوارد في السنة ، لكون الخاص الخبري رافعا لموضوع أصالة الظهور في العام الكتابي ، وليس حال هذا الخاصّ المنفصل مع العام الخبري كذلك ، بل أقصى ما في البين هو الجمع العرفي لا الحكومة.

نعم ، يتمّ ذلك فيما لو جعلنا سند كلّ منهما في قبال ظهور الآخر ، فيكون دليل سند الخبر الخاصّ في قبال أصالة الظهور في العام ، فيتمّ كونه حاكما عليه ، كما أنّ سند العام في قبال ظهور الخاصّ ، فيكون محكوما به. وتحقيق هذه الجهات موكول إلى ما حرّرناه فيها في أوائل التعادل والتراجيح (2) فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ مسألة القرينة وذي القرينة إنّما هي في العام المتّصل والخاص لا المنفصلين ، وليس التعبّد بصدور الخبر الخاصّ من قبيل الأصل الجاري في القرينة الذي هو عبارة عن أصالة الظهور فيها ، وأين أصالة الصدور من أصالة الظهور.

وكيف كان ، أنّ إنكار وجود أخبار مخصّصة أو مقيّدة لعمومات في الكتاب

ص: 344


1- أجود التقريرات 2 : 389.
2- في المجلّد الثاني عشر ، في حواشيه قدس سره على فوائد الأصول 4 : 717 - 725.

كما ربما يظهر من الحاشية الأولى على ص 505 (1) غريب ، وإن شئت فلاحظ آيات المواريث مع حرمان الزوجة ومع حرمان القاتل والعبد ومع مسألة ابن العمّ لأبوين مع العم لأب وغير ذلك ، تجد الكثير من هذا النحو ، فراجع حرمة الربا مع أنّه لا ربا بين الوالد وولده ، وهكذا.

قوله : وقد بيّنا في ذلك المبحث استحالة كون ورود العام لبيان الحكم الظاهري ضربا للقاعدة ، بل الحكم الظاهري إنّما يثبت من الدليل الدالّ على حجّية الظواهر من جهة كشفها عن المرادات الواقعية ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ الحكم الظاهري منحصر بأمرين ، أحدهما : ما يتكفّل الحكم في مورد الشكّ كأن يقول كلّ مشكوك الطهارة طاهر. ثانيهما : ما يتكفّل حجّية الأمارات والأصول العملية مثل خبر الواحد العادل حجّة والاستصحاب حجّة ونحو ذلك ، فإنّه باعتبار تكفّله للزوم الجري على طبق خبر الواحد أو الاستصحاب يكون متكفّلا لحكم ظاهري على التفصيل الذي ذكرناه في كيفية حجّية الأمارات والأصول العملية ، ومن الواضح أنّ ما يتكفّله العموم فيما نحن فيه ليس براجع إلى أحد الأمرين ، بل ليس العام فيما نحن فيه إلاّ مسوقا لبيان الحكم الواقعي لكونه ناظرا إليه وحاكيا عنه.

نعم ، أصالة العموم الحاكمة بلزوم الجري على طبق العام تكون متكفّلة للحكم الظاهري ، فيكون العام المذكور موردا للحكم الظاهري لا أنّه يكون متكفّلا للحكم الظاهري ، انتهى.

واعلم أنّ الشيخ قدس سره ذكر في التقريرات صور دوران الأمر بين التخصيص

ص: 345


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 390.
2- أجود التقريرات 2 : 394 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

والنسخ فقال : فاعلم أنّ الصور المتصوّرة كثيرة ، بل انتهت كما عن الوافية (1) إلى ما يقرب من ألفين ، بل يمكن تصوّرها بأضعاف ما ذكره ، إلاّ أنّ الحكم لا يختلف في كثيرها ، فنحن نقتصر على ما هو المعتد بها منها ، فذكر الأولى ، ثمّ قال : الثانية أن يعلم تقدّم العام على الخاص ، فعلى تقدير ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا بدّ من حمله على النسخ إذا أحرزنا ورود العام في مقام بيان الحكم الواقعي ، وأمّا إذا شكّ فيه ففيه إشكال ستعرفه ، والوجه فيه أنّه لولاه لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة (2).

والإشكال المشار إليه راجع إلى إجراء الاستصحاب ، وقد تعرّض له في التنبيه الثامن (3). ولا يخفى أنّ كون العام مسوقا لبيان الحكم الظاهري لم يكن مصرّحا به في كلام الشيخ قدس سره. نعم هو لازم التقييد من قوله : إذا أحرزنا ورود العام في مقام بيان الحكم الواقعي الخ.

وصاحب الكفاية صرّح بالتفصيل فقال : وإن كان ( يعني الخاص ) بعد حضوره ( يعني بعد حضور وقت العمل بالعام ) كان ناسخا لا مخصّصا لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلاّ كان الخاصّ أيضا مخصّصا له كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات الخ (4).

والظاهر منه أنّه قدس سره يعترف بأنّه لو كان العام في مقام بيان الحكم الواقعي كان

ص: 346


1- الوافية : 45.
2- مطارح الأنظار 2 : 228 - 229.
3- مطارح الأنظار 2 : 236.
4- كفاية الأصول : 237.

الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ناسخا له ، فرارا من لزوم تأخير بيان الحكم الواقعي ، مع فرض كونه في مقام بيانه ، لكونه حينئذ نقضا لما هو بصدده من البيان.

ولا يخفى أنّ ذلك جار فيما لو تأخّر البيان عن الخطاب فقط ، فإنّه بعد فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي في مقام الخطاب لا يمكن تأخير البيان عن وقت الخطاب لكونه نقضا للغرض.

اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ قبح تأخير البيان إنّما هو من جهة قبح إلقاء المكلّف بالجهل ، لا من جهة كونه نقضا للغرض ، وحينئذ يكون مختصّا بما إذا كان بعد حضور وقت العمل دون ما يكون قبله.

وعلى كلّ أنّ ذلك القبح إنّما هو فيما إذا كان المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي ، أمّا إذا لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي بل كان بصدد بيان الحكم الظاهري ، فلا مانع حينئذ من تأخير الخاص إلى بعد وقت الحاجة ، لأنّ هذا البيان المتأخّر بالنسبة إلى الحكم الظاهري يكون بمنزلة الناسخ ، لأنّ أمد الحكم الظاهري يكون إلى أن يتصدّى المتكلّم لإظهار خلافه ، فيكون ذلك الاظهار نسخا لذلك الحكم الظاهري ، وهذا البيان المتأخّر وإن كان بالنسبة إلى الحكم الواقعي من قبيل التخصيص ، لكنّه لا يكون من قبيل تأخير البيان فيما أراد المتكلّم بيانه ، لأنّ المفروض أنّ المتكلّم لم يكن سابقا بصدد بيان الحكم الواقعي ، وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري ، هذا هو المتحصّل ممّا أفاده في الكفاية بقوله : وإلاّ لكان الخاصّ مخصّصا الخ.

وحيث إنّ أساس هذا المطلب مبني على أنّ العام يكون متعرّضا للحكم الظاهري مع فرض عدم تعرّضه للحكم الواقعي ، وذلك ممّا لا محصّل له ، لأنّ

ص: 347

العام إنّما يتعرّض الحكم الواقعي ليس إلاّ ، وأنّ الحكم الظاهري إنّما يستفاد من دليل حجّية ذلك العام ، فيكون هذا الحكم الظاهري بمنزلة الطارئ على العام ، لا أنّ العام يكون متكفّلا له ، فقد أفاد شيخنا قدس سره في مقام الاعتراض على الكفاية بما عرفت ممّا حاصله : أنّه لا محصّل لكون العام متكفّلا للحكم الظاهري.

ومن ذلك يظهر التأمّل فيما تضمّنته الحاشية الأولى على ص 507 (1) ممّا ظاهره أنّه بعد المساعدة على مسلك الكفاية في بيان كيفية استعمال العام في مورد التخصيص ، من الركون إلى الارادة الاستعمالية التي يكون مقتضاها كون العام متكفّلا بالحكم الظاهري ، لا يكون ما سلكه في المقام رافعا لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنّ العام إن كان حجّة على إرادة الحكم الواقعي كان تأخير التخصيص عن وقت الحاجة قبيحا ، وإن لم يكن حجّة على الواقع لم يمكن أن يكون مدركا للحكم الظاهري ، لأنّ هذا الإشكال راجع إلى أنّ العام لا يمكن أن يكون عبارة عن الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن حجّية أصالة العموم إلاّ بعد إثباته الواقع وهو عين الإشكال الذي وجّهه عليه شيخنا قدس سره من أنّ العام لا يتكفّل بالحكم الظاهري وإنّما يتكفّل الحكم الواقعي ، وهو أعني العام بمنزلة الموضوع للحكم الظاهري المتولّد من دليل حجّيته.

أمّا مع قطع النظر عن هذا الإشكال فإنّ لصاحب الكفاية قدس سره أن يقول إنّ العام إن كان واردا في مقام بيان الحكم الواقعي تعيّن كون الخاصّ الوارد بعد العمل بالعام ناسخا له ، إذ لا يجوز تأخير بيان المراد الواقعي عن وقت الحاجة إليه ، وإن لم يكن العام إلاّ في مقام بيان الحكم الظاهري ، كان الخاص المتأخّر مخصّصا لذلك المراد الواقعي من العام ، ولا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنّ

ص: 348


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 394.

المفروض أنّ المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي كي يكون تأخير الخاصّ تأخيرا عمّا أريد بيانه من الحكم الواقعي.

نعم ، إنّ هذا المعنى أعني كون المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري إنّما يستكشف من الحكم على ذلك المتأخّر بأنّه مخصّص لا ناسخ ، ولو من جهة كثرة التخصيص ، وكونه هو المتعارف عند أهل اللسان ، فإنّا بعد الحكم بالتخصيص نستكشف أنّ المتكلّم لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي ، وأنّ ما كنّا قد حكمنا به من أنّه أراد بيان الحكم الواقعي كان خطأ منّا.

لكن بناء على ذلك يكون الشقّ الأوّل الذي حكم فيه بكون الخاصّ ناسخا من قبيل الفرض المجرّد الذي لا مصداق له ، إلاّ فيما أحرزنا من الخارج لا من أصالة العموم أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي.

وحينئذ يكون حاصل التقسيم الذي أفاده صاحب الكفاية قدس سره أنّا إذا أحرزنا من الخارج أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي ، وأنّ مراده الجدّي هو العموم والشمول لكلّ فرد ومع ذلك حضر وقت العمل ثمّ بعد حضور وقت العمل حكم على بعض أفراد العام بحكم آخر يخالف حكم العام ، فإنّا حينئذ نضطرّ إلى القول بأنّ هذا المتأخّر ناسخ للعام ، وإن لم يكن لدينا إلاّ أصالة العموم الحاكمة ظاهرا بأنّ المتكلّم قد أراد جميع الأفراد ، ثمّ بعد ذلك جاء الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام ، فهذا الخاصّ المتأخّر وإن كان بمقتضى أصالة العموم المتقدّمة أنّه ناسخ للعام ، إلاّ أنّه بعد فرض سقوط احتمال النسخ ولو من جهة قلّته أو غير ذلك من موجبات تقدّم التخصيص عليه ، نستكشف خطأنا في أصالة العموم ، وأنّه لم يكن المراد الجدّي هو تمام الأفراد ، وأنّه لم يكن المتكلّم بصدد

ص: 349

بيان المراد الواقعي وإنّما كان بصدد بيان الحكم الظاهري والجعل القانوني ، وأنّ هذا التأخير لم يكن تأخيرا لبيان ما أراد المتكلّم بيانه ، فلا بأس به.

نعم يتوجّه عليه زيادة على ما أفاده شيخنا قدس سره ما أشرنا إليه من أنّ قبح تأخير البيان إن كان مرجعه إلى نقض الغرض ، وأنّه لو كان بصدد بيان الحكم الواقعي لم يجز له تأخير البيان لكونه نقضا لغرضه الذي هو البيان ، فذلك مشترك بين تأخير البيان عن وقت الحاجة وتأخير البيان عن وقت الخطاب ، ويكون ورود الخاص في كلّ من الصورتين كاشفا عن خطئنا في حكمنا عليه بأنّه بصدد بيان الواقع الجدّي ، وإن كان مرجع القبح إلى قبح إلقاء المكلّف في خلاف الواقع ، فهذا القبح حاصل في صورة استكشاف أنّه لم يكن بصدد بيان المراد الجدّي ، لأنّ هذا القبح لو سلّم يكون مانعا من فرض كون المتكلّم لا يبيّن مراده الجدّي عند حضور وقت العمل به ، وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نقول بأنّ تأخير بيان المراد الجدّي عند حضور وقت العمل لا يكون قبيحا وإن كان فيه تفويت الواقع على المكلّف ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى إيضاحه من شيخنا قدس سره في الأمر الثالث (1).

وبالجملة : يرد على الكفاية أوّلا : ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه لا محصّل لكون العام متكفّلا للحكم الظاهري وأنّه غير متعرّض لبيان الحكم الواقعي.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا ذلك نقول : إنّ مدرك القبح إن كان هو عدم البيان في مورد إرادته البيان ، نظير ما حرّرناه في مقدّمات الحكمة في كون عدم البيان نقضا لغرض المتكلّم الذي هو كونه في مقام البيان ، كما هو مقتضى تفصيله بين كون العام واردا لبيان الحكم الواقعي وعدم كونه واردا لبيان الحكم الواقعي ، فذلك يقتضي اتّصال البيان بالخطاب ، ولا يجوز تأخيره عنه حتّى إلى ما قبل الحاجة.

ص: 350


1- أجود التقريرات 2 : 396 ( المقدّمة الثالثة ).

وتوجيهه بأنّ المراد من كونه في مقام بيان الحكم الواقعي هو الأعمّ من البيان المتّصل والبيان المنفصل ، خروج عن محلّ الفرض لأنّ العام المعتمد فيه على البيان المنفصل ولو إلى ما قبل الحاجة ، يوجب أن يكون العام من حين صدوره إلى حين ورود بيانه المنفصل حكما ظاهريا لا حكما واقعيا ، فإنّه لا ريب في شمول العام لمورد ذلك الخاص ، والمفروض أنّه لا يريده ، وأنّه قد اعتمد في بيان عدم إرادته على ما سيأتي من البيان ، وحينئذ العام من حين صدوره إلى حين صدور الخاصّ لا يكون مسوقا لبيان الحكم الواقعي ، بمعنى أنّه لا يكون المراد منه هو العموم إرادة جدّية ، بل يكون مرادا إرادة استعمالية قانونية وهي المعبّر عنها بكونه صادرا لبيان الحكم الظاهري ، فتكون هذه الصورة الأولى راجعة إلى الصورة الثانية ، هذا خلف.

وإن كان مدرك القبح هو إلقاء المكلّف بخلاف الواقع ، فذلك حاصل حتّى في صورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الظاهري ، فإنّ هذا الحكم الظاهري الذي جعل العام مسوقا لبيانه يكون موجبا لوقوع المكلّف في خلاف الواقع. وهذا الإشكال وارد على جميع الأحكام الظاهرية ، فكما يجاب هناك بأنّه لا بدّ أن يكون ذلك الحكم الظاهري لمصلحة ، فكذا الجواب هنا. وإذا انتهت المسألة إلى ذلك فلا داعي إلى هذا التطويل. وقل إنّ تأخير البيان وإن أوجب وقوع المكلّف في خلاف الواقع إلاّ أنّه لمصلحة يتدارك بها ما يفوت المكلّف.

ولا يخفى أنّ هذا الحكم الظاهري أسوأ حالا من الحكم الظاهري المتعارف ، لأنّ ذلك إنّما يكون بعد فرض إعمال الشارع وظيفته من جعل الحكم وبيانه والإعلان به ، غير أنّه لأجل بعض الطوارئ لم يصل إلى بعض المكلّفين ، فلزم أن يجعل لهم حكما ظاهريا بعد فرض عدم علمهم بالحكم الواقعي ،

ص: 351

بخلاف هذا الحكم الظاهري هنا أعني الحكم على الخاصّ بحكم العام في حين أنّه في الواقع محكوم بخلافه ولم يبين الشارع ذلك الحكم ، فيكون هو أوقع المكلّفين في خلاف الواقع ، بخلاف الحكم الظاهري المتعارف فإنّه إنّما يجعله في حقّهم بعد قيامه بوظيفته من الإعلان والإعلام ، وسيأتي (1) لذلك إن شاء اللّه تعالى مزيد توضيح.

وثالثا : أنّه لا مائز عند المكلّف بين الصورتين اللتين أفادهما ، أعني صورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الواقعي ، فيحكم على الخاصّ المتأخّر عن وقت الحاجة بأنّه ناسخ للعام ، وصورة كون المتكلّم بصدد بيان الحكم الظاهري ليس إلاّ ، فيحكم على الخاصّ المتأخّر عن وقت الحاجة بأنّه مخصّص للعام لا ناسخ له ، إلاّ بما أشرنا إليه من أنّه إذا أحرزنا من الخارج أنّ المتكلّم كان بصدد بيان الحكم الواقعي يكون الخاصّ المذكور ناسخا ، وإن لم يكن لدينا في إثبات العموم إلاّ أصالة العموم وحجّية الظهور الكاشفة عن أنّ المراد الواقعي هو العموم يكون الخاص المتأخّر مخصّصا لا ناسخا ، بحيث إنّا نستكشف من ذلك الخاصّ خطأ ذلك الحكم الظاهري.

لكن هذا التوجيه غير نافع ، لأنّ ذلك فرع ثبوت كون الخاصّ المتأخّر مخصّصا ، وإلاّ فلو قلنا بأنّه ناسخ لم يكن لنا طريق لاستكشاف خطأ الحكم الظاهري السابق.

ورابعا : أنّ الحكم في الصورة الأولى بكون الخاصّ المتأخّر ناسخا لا مخصّصا ، ينبغي أن لا يعلّل بالفرار عن تأخّر البيان عن وقت الحاجة ، إذ ليس في البين تأخير بيان ، بل ينبغي أن يعلّل بأنّه بعد فرض إحراز أنّ المتكلّم كان بصدد

ص: 352


1- في الصفحة : 357 وما بعدها.

بيان مراده الجدّي ، وأنّ مراده الجدّي هو شمول العام لكلّ فرد من أفراده ، وأنّ هذا الشمول هو الحكم الواقعي ، كان ذلك عبارة أخرى عن أنّ الخاص يكون محكوما عليه قطعا بحكم العام ، وحينئذ لا بدّ لنا من أن نقول إنّ الخاصّ المذكور ناسخ لذلك الحكم العام حتّى لو كان صدوره قبل وقت الحاجة على وجه لو جوّزنا النسخ قبل الحاجة فهو ، وإلاّ كان ذلك الخاصّ مصادما ومعارضا للعام ، هذا إذا كان إحرازنا لكون العام قد صدر لبيان الحكم الواقعي من طريق آخر غير أصالة العموم على وجه عرفنا وعلمنا من الخارج أن المتكلّم في إصداره لذلك العموم كان قاصدا لبيان الحكم الواقعي ، وأنّ مراده الواقعي الجدّي هو الحكم على جميع أفراد ذلك العام.

وإن لم يكن الأمر كذلك ، بل كان إحرازنا لذلك من طريق أصالة العموم وحجّية أصالة الظهور ، وأنّ الظاهر من حال المتكلّم أنّه يريد ما هو الظاهر من كلامه ، رجعت الصورة الأولى إلى الثانية.

قوله : الثانية : أنّهم ذكروا أنّ النسخ قبل وقت الحاجة غير معقول ، وعليه بنوا تعيّن ... الخ (1).

المراد بوقت الحاجة هو حضور وقت العمل ، والمراد بحضور وقت العمل هو حصول الشرط المأخوذ في ذلك الحكم الذي يراد نسخه ، وحينئذ تكون القضية الخارجية خارجة موضوعا عن هذا النزاع ، فإنّ الأحكام في القضايا الخارجية لا يدخلها الشرط ، وأقصى ما فيه أن يكون من دواعي جعل الحكم ليكون المدار فيه على علم الآمر بوجود ذلك ، لا على وجود الشرط واقعا.

وبعبارة أخرى لا يكون الحكم في القضية الخارجية مشروطا بشيء ، وإنّما

ص: 353


1- أجود التقريرات 2 : 394 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يكون الشرط فيها شرطا للجعل لا للمجعول ، وحينئذ لا يتصوّر في القضية الخارجية هذا التفصيل ، أعني كون النسخ قبل حصول شرط التكليف أو بعده ، فلا بدّ أن تكون خارجة عن موضوع هذا النزاع بالمرّة. وأمّا النسخ في قضية إبراهيم وإسماعيل ( عليهما الصلاة والسلام ) فالقضية وإن كانت خارجية إلاّ أنّ النسخ فيها لم يكن قبل حضور وقت العمل ، بل كان النسخ عند حضور الوقت ، إذ لا توقيت فيها. نعم إنّ النسخ فيها كان قبل إتمام العمل ، وأين هذا من كون النسخ قبل الشرط الذي هو عبارة عن كونه قبل حضور وقت العمل.

وأمّا الموقّتات من القضايا الحقيقية فلم يظهر الوجه في امتيازها عن سائر القضايا الحقيقية بعدم جواز النسخ فيها قبل حضور الشرط الذي هو الوقت ، دون سائر القضايا الحقيقية.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا فرق في القضايا الحقيقية بين كون الشرط في الحكم هو الزمان نفسه أو يكون الشرط زمانيا مثل الاستطاعة في أنّه قبل حصول الشرط يجوز النسخ فيها أو لا يجوز ، ويكون الجامع هو أنّه قبل حصول الشرط المعلّق عليه الحكم سواء كان زمانيا أو كان زمانا هل يجوز نسخ الحكم أو لا يجوز نسخه إلاّ بعد حصول ما علّق عليه الحكم من زمان أو زماني ، ويكون منشأ الإشكال هو لغوية جعل الحكم المشروط بالشرط المذكور مع علم الحاكم بأنّه يرفع ذلك الحكم قبل حصول شرطه.

وهذه المسألة تشارك مسألة أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط المأخوذ قيدا في الأمر ، فإنّها يتّجه عليها عين هذا الإشكال من اللغوية ، ولا يحتاج الجواب في كلّ من المسألتين إلى الالتزام بكون الأمر صوريا امتحانيا ، بل يمكننا الجواب عنه بأنّه أمر حقيقي مولوي ، غايته أنّه لا بدّ أن تكون هناك مصلحة مقتضية لجعله ،

ص: 354

وتكون تلك المصلحة من قبيل المصلحة في الجعل لا في المجعول ، وحينئذ يكون الحكم حكما حقيقيا ، ويكون نسخه رفعا حقيقيا ، ولا يكون من قبيل الدفع.

نعم ، يتوجّه على هذا الأخير أنّه خلاف مسلك شيخنا قدس سره من أنّ المصالح إنّما تكون في المجعول والمتعلّق لا في الجعل ، وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (1).

وأمّا ما في الحاشية الثانية على ص 507 (2) من التفصيل بين كون الموضوع أو الشرط من قبيل موارد جعل القصاص أو من غيره من الموارد ، بتأتّي اللغوية في الثاني وعدم تأتّيها في الأوّل ، فقد تقدّم الجواب عنه في مبحث جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط (3) ، فراجع.

وحاصل الجواب : أنّ جعل الآمر الوجوب المشروط بشرط اتّفق أنّ الآمر كان عالما بعدم تحقّق ذلك الشرط ، لا يوجب كون جعل الوجوب المشروط بالشرط المذكور لغوا ، لأنّ مرجع ذلك الجعل إلى جعل الملازمة بين الوجوب وبين الشرط ، وهذه الملازمة لا تستدعي تحقّق أحد المتلازمين أو كليهما.

نعم ، لا بدّ في جعل هذه الملازمة التي هي عبارة عن جعل الوجوب معلّقا على الشرط المذكور من مصلحة تقتضي ذلك الجعل ، أو من مصلحة في ذلك المجعول ، أو من مصلحة في نفس الفعل على تقدير تحقّق شرط وجوبه ، وأين

ص: 355


1- في الصفحة : 391.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 395.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 439 وما بعدها.

هذا من أنّه لا بدّ في ذلك الجعل من تحقّق الشرط الذي قد جعل الوجوب معلّقا على تقدير وجوده.

وأمّا مسألة القصاص مثل اقتلوا القاتل أو اقتلوا المكلّف إن تحقّق منه القتل ، وأنّ غرض الآمر منه هو إعدام موضوعه لكونه موجبا لعدم تحقّق الشرط الذي هو موضوع هذا الحكم كما هو مقتضى قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) الخ (1) ، ففيه أنّ كون هذا الحكم مقتضيا لاعدام هذا الموضوع ، بمعنى تقليل موارد تعمّد القتل التي هي موضوع القصاص ، ليس إلاّ من قبيل حكمة التشريع ، وإلاّ لكان الحكم معدما لموضوع نفسه ، وأين هذا من مسألة أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط الذي هو موضوع الحكم.

واعلم أنّ هذا المعنى ، أعني كون الحكمة في جعل الحكم هي إعدام موضوعه أو تقليل وجوده ، لا يختصّ بالقصاص ، بل هو جار في جميع الحدود كحدّ السرقة على السارق وحدّ الجلد على شارب المسكر وغير ذلك من أنحاء الحدود.

قوله : ولكن التحقيق أن يقال : إنّ بناء العقلاء وإن كان على بيان كلّ ما له دخل في موضوعات أحكامهم في مقام التخاطب إذا كانوا في مقام البيان من كلّ جهة ، إلاّ أنّه إذا كان عادة المتكلّم هو إظهار تمام مراده بقرائن منفصلة لأجل مصلحة اقتضت ذلك ، فلا قبح في تأخير البيان لا عن وقت الخطاب ولا عن وقت الحاجة ... الخ (2).

الظاهر أنّ الجملة الأولى وهي جريان عادة المتكلّم على الاعتماد على

ص: 356


1- البقرة 2 : 179.
2- أجود التقريرات 2 : 396 - 397 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

القرائن المنفصلة لا دخل لها في الجواب عن الإشكال. نعم هي أمر واقعي في خصوص أخبارنا. وعمدة ما له الدخل في الجواب عن الإشكال هو الجملة الثانية ، وهي كون التأخير لمصلحة مقتضية لذلك التأخير وإن وقع المكلّف طول تلك المدّة في خلاف الواقع.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح (1) حسبما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي تعرّض لهذه المسألة ، أعني مسألة أخبارنا المتأخّرة عن العمومات ، وذكر فيها احتمالات ثلاثة : كون الخاصّ المتأخّر ناسخا ، وكونه كاشفا عن اتّصال كلّ عام بمخصّصه وقد اختفت علينا تلك المخصّصات المتّصلة ، وكون الخاصّ المتأخّر بنفسه مخصّصا للعام المتقدّم. وأبطل الأوّل بالاستبعاد الذي أشار إليه هنا بقوله : إذ الالتزام بكون كل ذلك من قبيل النسخ ممّا لا يمكن أصلا (2) وبقي الترديد بين الوجهين الأخيرين ، ونقل هناك (3) عن الشيخ قدس سره استبعاد الأوّل منهما لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن ، فيكون المتعيّن عند الشيخ قدس سره هو الوجه الأخير ، وهو أن يكون التأخير لمصلحة مقتضية له ، فتكون المسألة من باب تأخير الخاصّ عن وقت العمل لأجل مصلحة موجبة لذلك التأخير.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره هناك (4) أفاد ما حاصله ترجيح الوجه الأوّل من الوجهين المذكورين على الثاني منهما ، نظرا إلى ما نراه من أنّ الكثير من المخصّصات

ص: 357


1- فوائد الأصول 4 : 734.
2- أجود التقريرات 2 : 396 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- فوائد الأصول 4 : 736.
4- فوائد الأصول 4 : 737.

الواردة في أخبارنا هي موجودة في أخبار العامّة عنه صلى اللّه عليه وآله ، بل إنّه قدس سره عيّن الوجه الأوّل ، نظرا إلى أنّ هذه المصلحة في التأخير إن لم تكن غالبة على مصلحة الواقع فلا وجه للتأخير ، وإن كانت غالبة على مصلحة الواقع حصل الكسر والانكسار وكان الواقع طول تلك المدّة خاليا عن المصلحة في الحكم عليه على خلاف الحكم العام ، بل تكون المصلحة مقتضية لأن يكون ذلك الخاص محكوما بحكم العام طول تلك المدّة ، وأنّ مصلحة الحكم عليه بخلاف حكم العام كانت مغلوبة إلى أوان البيان ، فعند ذاك تكون المصلحة في إخراجه عن حكم العام مؤثّرة وبلا مزاحم ، وحينئذ يرجع الأمر بالأخرة إلى النسخ بمعنى كون الخاصّ المتأخّر ناسخا للعام ، وهو ما قد فررنا منه.

فلا بدّ أن نقول بالوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين وهو كون الخاصّ المتأخّر كاشفا عن وجود المخصّص المتّصل بالعام ، مع غفلة الرواة في نقله إلينا.

ونحن علّقنا عليه هناك (1) أنّه لا داعي إلى الالتزام بالكشف عن خصوص المخصّص المتّصل ، بل يمكن الكشف عن المخصّص المنفصل السابق على العام أو المتأخّر عن الخطاب مع فرض تقدّمه على وقت الحاجة. ثمّ إنّا هناك (2) تأمّلنا في هذا الوجه الذي أفاده قدس سره لتعيّن الوجه الأوّل.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما نقله عن شيخنا قدس سره بعد نقله ما عن الشيخ قدس سره ما هذا لفظه : هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني ، ولكن الإنصاف أنّ الاحتمال الثاني ( يعني وجود المخصّصات المتّصلة مع اختفائها علينا وعدم وصولها لعدم ضبط الرواة ) لو لم

ص: 358


1- راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول 4 : 734.
2- راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول 4 : 737.

يكن أقرب من الاحتمال الثالث ( يعني كون الخاصّ المتأخّر هو المخصّص ، وقد تأخّر بيانه لمصلحة كانت في التأخير ) فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فإنّا نرى أنّ كثيرا من المخصّصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمّة عليهم السلام مروية عن العامّة بطرقهم عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده.

بل يمكن أن يقال باستحالة الوجه الثالث ، فإنّه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصّصات المنفصلة تامّة فلا بدّ من إظهاره والتكليف به ، وإن لم تكن تامّة ولو بحسب مقتضيات الزمان ، حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم ، فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتّى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصّصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأوّل وهو النسخ ، وقد عرفت أنّه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمّل جيّدا (1).

ونحن قد علّقنا عليه هناك ما هذا لفظه : لا يخفى أنّه يمكن الالتزام بأنّ مصلحة الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاص تامّة ولكن لم يمكن إظهاره وبيانه لمفسدة في الإظهار والبيان ، وهذه المفسدة لا تكون كاسرة لمصلحة الحكم الواقعي ، غايته أنّ المولى بعد لحاظه المفسدة في الاظهار والبيان يكون سكوته عن إظهار ذلك الحكم تفويتا على المكلّفين مصلحة ذلك الحكم الواقعي ، لكنّه تفويت قهري ، فلا يكون قبيحا على المولى ، ويكون المكلّفون معذورين في ذلك لعدم علمهم بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون أخذهم بذلك

ص: 359


1- فوائد الأصول 4 : 736 - 737.

العموم حكما ظاهريا محقّقا لعذرهم بالنسبة إلى مخالفة الحكم الواقعي في ناحية الخاص لعدم علمهم بمراد المولى ، ويكون الحاصل من مجموع ذلك من قبيل ما عن المحقّق الطوسي قدس سره في حقّ صاحب الأمر ( أرواحنا فداه ) من أنّ وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر ومنعه منّا (1).

وحاصل الأمر : أنّ المفسدة المانعة من إظهار الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاص لا توجب الخدشة في مصلحته الواقعية ، وأقصى ما فيها أن تكون مصحّحة لسكوت المولى عن بيانه ولمعذورية المكلّفين في مخالفته والأخذ في مورده بمقتضى عموم العام ، ولازم ذلك هو كون حكم العام في حقّهم في مورد الخاص حكما ظاهريا.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الجهة التي أفادها قدس سره أعني كون المفسدة في البيان كاسرة لمصلحة الواقع ، لو تمّت لكانت جهة أخرى مانعة من جعل الخاصّ المتأخّر مخصّصا للعام المتقدّم غير جهة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل إنّ هذه الجهة لو تمّت لكانت جارية في كلّ خاص متأخّر عن صدور العام حتّى لو كان ذلك الخاص صادرا قبل حضور وقت العمل بالعام ، فإنّ العام الصادر قبل حضور وقت العمل به المقرون بالمفسدة في إظهار الخاصّ معه يكون حينئذ حكما واقعيا ، ونظرا إلى أنّ المفسدة في إظهار الخاص تكون كاسرة لمصلحته ، لا بدّ أن نقول إنّ صدور الخاص بعده ولو قبل حضور وقت العمل بالعام يكون ناسخا ورافعا لحكم العام في مورد الخاصّ ، فيلزم عليه الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل ، وأن لا يكون الخاص المتأخّر عن الخطاب بالعام مخصّصا ،

ص: 360


1- كشف المراد : 362 [ لا يخفى أنّ الموجود في بعض النسخ : وعدمه منّا ، وفي بعضها الآخر : وغيبته منّا ].

بل لا بدّ أن يكون ناسخا ، سواء كان قبل حضور وقت العمل أو كان بعده ، هذا كلّه فيما يتعلّق بما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عن شيخنا قدس سره في ذلك المبحث.

أمّا ما نقله محرّر هذا الكتاب عن شيخنا قدس سره في ذلك المبحث فهذا نصّه في الجزء الثاني : والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان قبيحا في حدّ ذاته ، إلاّ أنّه لا مانع من عروض عنوان آخر على موجب لارتفاع قبحه ، بل لاتّصافه بالحسن ، نظير بقية العناوين القبيحة لو لا عروض عنوان آخر عليها ، فإذا فرض اقتضاء الحكمة من تقية أو غيرها تأخير البيان فلا بدّ من التأخير ، وإلاّ لزم العمل على خلاف الحكمة ، فالإشكال المذكور إنّما نشأ من تخيّل أنّ القبح في المقام نظير القبح الثابت للظلم الغير الممكن تخلّفه عنه ، مع أنّه من الضروري أنّ الأمر ليس كذلك بل هو تابع لتحقّق ملاكه ، فإذا اقتضت الحكمة تأخير البيان لمصلحة أقوى فلا مناص عن التأخير حفظا لتلك المصلحة ، انتهى (1).

ولا يخفى أنّ هذا الوجه هو عين ما حرّره هذا المحرّر هنا في الحاشية على ص 508 (2) فراجع هذه الحاشية تجدها عين ما نقله عن شيخنا قدس سره هناك.

ثمّ إنّ المحشّي بعد أن أوضح الوجه في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة بأنّه ليس من قبيل الظلم بل هو من قبيل الكذب القابل لانفكاكه عنه لوجود المصلحة المقتضية له ، قال : على أنّ قبح الالقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة قابل أيضا للانفكاك عنه فيما كانت في مورده مصلحة مقتضية له انتهى (3).

ولا يخفى أنّ تأخير البيان في حدّ نفسه لا يتّصف بحسن ولا بقبح ، بل هو

ص: 361


1- أجود التقريرات 4 : 300.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 2. 397.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 2. 397.

إنّما يتّصف بالقبح بواسطة ما يترتّب عليه من إلقاء المكلّفين في المفسدة ، فإن كان في التأخير مصلحة أو في التقديم مفسدة مقاومة لتلك المفسدة التي يقع المكلّفون فيها عند تأخير البيان تعيّن التأخير ، أمّا أنّ نفس الالقاء في المفسدة يكون فيه مصلحة موجبة لانقلابه من القبح إلى الحسن غير مصلحة التأخير أو مفسدة التقديم ، فذلك محتاج إلى تأمّل ونظر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هذا المطلب أعني الالتزام بكون التأخير عن وقت الحاجة لأجل مصلحة فيه أو لأجل مفسدة في البيان قبل الحاجة ، هو عين توجيه الشيخ قدس سره (1) في اختياره للوجه الثالث الذي أفسده شيخنا قدس سره فيما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (2) في ذلك المبحث بلزوم الكسر والانكسار ، وسقوط مصلحة حكم الخاصّ عن التأثير فيه ، ولزوم كون الخاصّ المتأخّر ناسخا ، إلاّ بأن نقول إنّه كاشف عن اقتران العام بالمخصّص ولم يصل إلينا. وحاصل ما عندنا فعلا في هذه المسألة هو ما أشرنا إليه (3) فيما نقلناه عمّا حرّرناه في التعليق على تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه.

وحاصل ذلك التأمّل : هو أنّ الصلاح في إخفاء حكم الخاصّ ولزوم عدم بيانه لا يقلب الحكم الواقعي لذلك الخاصّ إلى حكم العام ولا موجب للكسر والانكسار ، بل يكون حكم ذلك الخاصّ حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، غير أنّه لا يمكن إظهاره ، ويكون المكلّفون معذورين في الجري فيه على طبق العام استنادا إلى أصالة العموم ، ويكون ركونهم إلى أصالة العموم من هذه الجهة كركونهم إلى

ص: 362


1- لاحظ ما ذكره في مطارح الأنظار 2 : 232.
2- تقدّم نقله في الصفحة : 358 - 359.
3- في الصفحة : 359.

الحكم الظاهري المتعارف عند عدم علمهم بالحكم الواقعي ، ولا يكون الشارع هو الذي ألقاهم في خلاف الواقع. ولا فرق بين هذا الحكم الظاهري وبين بقية موارد الحكم الظاهري إلاّ أنّه في بقية الموارد يكون الشارع قد بيّن لهم الحكم الواقعي ، وإنّما كان وقوعهم في المفسدة بسبب الطوارئ والعوارض التي أوجبت عدم وصول ذلك البيان إليهم ، فلا يكون وقوعهم في المفسدة مستندا إلى الشارع ، وفي هذا المورد أيضا لا يكون وقوعهم في المفسدة مستندا إلى الشارع ، لأنّه لا يمكنه البيان ، فلا يكون هو المسئول عن وقوعهم في خلاف الواقع ، لأنّه لا يمكنه إيصال البيان إليهم لأجل ما فيه من المفسدة ، فيكون حاله كحال بقية الأحكام الظاهرية في كون الشارع معذورا في وقوعهم بخلاف الواقع ، إذ لا يلزمه إلاّ البيان المتعارف كما حقّق في محلّه (1) في كيفية جعل الطرق والأمارات والأصول العملية.

وإن شئت التفصيل ومزيد التوضيح فقل : إنّ الصور المتصوّرة في مسألة الكسر والانكسار ومسألة تفويت المصلحة على المكلّفين تكون في مقامات :

المقام الأوّل : مقام جعل الحكم وتشريعه ، فإنّ الفعل القابل لتعلّق التكليف به تارة يكون واجدا للمصلحة : وهذا يحكم بوجوبه. وأخرى يكون واجدا للمفسدة ، وهذا يحكم بحرمته. وثالثة يكون واجدا لكلا الجهتين ، وفي هذه الصورة يقع الكسر والانكسار ، ويكون الحكم الواقعي الذي يجعله الشارع لذلك الفعل تابعا لما هو الأقوى من هذين الملاكين المتزاحمين في مقام الجعل والتشريع بعد وقوع الكسر والانكسار بينهما ، ففي هذه الصورة يتحقّق الكسر

ص: 363


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة في المجلّد السادس على فوائد الأصول 3 : 96 ( راجع قوله قدس سره في أواخر الحاشية : والخلاصة هي أنّ في المقام أمورا ... ).

والانكسار ، إلاّ أنّه لا يكون في البين تفويت من الشارع بالنسبة إلى المكلّفين.

المقام الثاني : أنّ الشارع بعد أن جعل الحكم على طبق المصلحة ولم يكن في البين ما يوجب إخفاء ذلك الحكم ، وقام بمقتضى وظيفته من الإبلاغ والبيان على حسب المتعارف ، ولكن ربما لا يصل ذلك البيان إلى بعض المكلّفين ، فيكون ذلك البعض موردا للحكم الظاهري لأجل مصلحة تقتضي جعل ذلك الحكم الظاهري في حقّه ، بلا كسر وانكسار بين مصلحة الواقع ومصلحة الحكم الظاهري ، ومن دون تفويت شيء على المكلّفين من جانب الشارع كما حقّق في محلّه ومرّت الإشارة إليه. وهذا راجع إلى الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية ، فعلى الطريقية الصرفة لا يكون في البين مصلحة في ذلك الحكم الظاهري ، نعم على القول بالسببية يتأتّى الإشكال ، وهل يتأتّى على السببية السلوكية التي يقول بها الشيخ قدس سره؟ فيه بحث حرّرناه في محلّه في أوائل حجّية الظنّ (1) ، فراجع.

المقام الثالث : أنّ الشارع بعد أن جعل الحكم الواقعي لذلك الفعل على طبق المصلحة ، يكون هناك مفسدة في إظهاره وبيانه للمكلّفين ، فيلتجئ الشارع إلى عدم البيان مع فرض صدور الحكم الواقعي منه ، وحينئذ يكون المكلّفون جاهلين بذلك الحكم الواقعي ، فيكونون موردا للحكم الظاهري ولو بمثل أصالة البراءة أو بمثل التمسّك بالعموم فيما نحن فيه مع فرض كون الخاص محكوما في الواقع بخلاف حكم ذلك العام ، وقد عرفت أنّه لا يلزم في ذلك كسر وانكسار ولا تفويت شيء من جانب الشارع على المكلّفين ، لأنّ هذا الصلاح والفساد إنّما هو في المرتبة المتأخّرة عن جعل الحكم على طبق المصلحة التي اقتضت جعله ،

ص: 364


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة في المجلّد السادس على فوائد الأصول 3 : 96.

وتلك المرتبة هي مرتبة بيان الحكم والاعلان به وتبليغه على النحو المتعارف ، ولا ريب أنّ هذه المرتبة لا تؤثّر على المرتبة الأولى بعد فرض أنّها أثّرت أثرها ، بأن جعل الشارع الحكم على طبقها.

نعم ربما كان الوقت غير ملائم لجعل الحكم بحيث كانت هناك مفسدة تمنع من جعله ، لكن هذا وإن كان ممكنا إلاّ أنّ فرض الكلام إنّما هو خلافه ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو بعد أن كانت مصلحة الجعل تامّة غير مزاحمة بشيء ، وإنّما كان المانع مانعا من إظهاره والإعلان به.

والغرض من هذا كلّه مجرّد الامكان لينفتح لنا كون المسألة من باب التخصيص المنفصل ، مثلا لو كان ولدك يضرّه لبس الحرير بأن يكون لبسه له موجبا لوقوعه في حمّى أيّام قلائل ، لكنّك لو أخبرته بأنّه حرام عليه يموت ، ففي هذه الصورة تارة يكون الشارع الحكيم قد جعل له حرمة لبس الحرير لكنّه لا يخبره به مخافة موته من جهة إخباره به ، فكان الضرر الأهمّ في الإخبار لا في أصل الجعل والتشريع. وأخرى لا يجعل له الحرمة بل يؤخّر جعلها حتّى يرتفع محذور إخباره بها وعند ذاك يجعلها ويخبره بها لأجل جهة تمنع من أصل الجعل ، والكسر والانكسار إنّما يجري في الصورة الثانية دون الأولى.

والخلاصة : هي أنّ المفسدة الغالبة إن كانت في نفس الجعل كان المقام من قبيل الكسر والانكسار ورجع الأمر إلى النسخ ، وإن لم تكن المفسدة الغالبة إلاّ في البيان بعد الجعل لم يكن لغلبتها أثر إلاّ ترك البيان مع بقاء الحرمة الواقعية على ما هي عليه ، فلا يكون المقام إلاّ من قبيل تأخير البيان لا من باب النسخ ، وفي الحقيقة يكون الكسر والانكسار في البيان ، فإنّه واجب في حدّ نفسه على الحكيم من باب اللطف ، لكونه موصلا لهم إلى المصلحة الواقعية ومبعدا لهم عن

ص: 365

المفسدة الواقعية ، لكن إذا اتّفق أنّه إذا بيّن لهم وقعوا في المفسدة الأعظم يكون تركه لازما على الحكيم ، فيؤخّره إلى أن يرتفع ذلك المحذور أعني وقوعهم بواسطة البيان في المفسدة الأعظم.

والحاصل : أنّ وقوع المفسدة الأهمّ في البيان لا يوجب خللا في أصل مصلحة الجعل ، فلا يكون في البين ما يوجب عدم الجعل ، بل لا يكون إلاّ ما يوجب تأخير البيان بعد فرض تحقّق الجعل ، فلا تكون المسألة من وادي النسخ ، فلاحظ وتدبّر.

ويمكن أن يقال : إنّ الأحكام في أوّل البعثة كذلك ، بأن يدّعى أنّ الحجاب مثلا واجب من أوّل بدو الشريعة ، لكن هناك مفسدة تمنع من إظهاره ، ويكون المكلّفون حينئذ موردا للحكم الظاهري. ولكن الظاهر أنّ هذه الأحكام ليست من هذا القبيل ، بل إنّ الحجاب في أوّل الشريعة لم يكن ذا مصلحة تقتضي إيجابه ، أو كان كذلك لكن كانت هناك مصلحة أخرى تقتضي الحكم بجوازه ، وبعد وقوع الكسر والانكسار كان الحكم الواقعي على طبق ما هو الأقوى منهما وهو المصلحة الثانية ، فيكون الحكم الواقعي حينئذ في أوّل الشريعة هو الجواز وعدم وجوب الحجاب إلى أن انعدمت تلك المصلحة أو صارت مصلحة الإيجاب أقوى ، فحينئذ يكون واجبا ، ويكون ذلك أشبه شيء بالنسخ بل هو هو بعينه.

وما نحن فيه من تأخير بيان الخاص في قبال العام وإن أمكن أن يكون كذلك ، بمعنى أن تكون المصلحة عند صدور العام هي كون الخاص محكوما واقعا بحكم العام إلى أوان صدور الخاصّ ، فتتبدّل المصلحة وينقلب الحكم في الخاصّ ، وحينئذ يكون الخاص المتأخّر ناسخا للعام ، وعلى الظاهر أنّه لا فرق

ص: 366

في ذلك بين كون الخاص صادرا بعد وقت العمل بالعام أو كونه صادرا قبله بعد البناء على إمكان النسخ قبل حضور وقت العمل.

لكن هذا المعنى ، أعني كون الخاص المتأخّر ناسخا لحكم العام لا مخصّصا له بعيد في الغاية ، وحيث إنّ التخصيص ممكن بالتقريب الذي عرفته ، لا داعي إلى الالتزام بالنسخ المفروض بعده.

لا يقال : بناء على ما ذكرتموه من توجيه طريقة التخصيص ، تقع المزاحمة بين مصلحة الحكم فيما عدا الخاص ، فإنّها تقتضي إظهاره والاعلان به ، والمفسدة في بيان حكم الخاص على خلاف حكم العام ، فلو قدّمنا الأولى كما هو المفروض كان محصّله هو انكسار مصلحة حكم الخاصّ.

لأنّا نقول : إنّ مصلحة حكم الخاص لم تكن هي طرف المزاحمة ، بل إنّ طرفها هو المفسدة في إظهار حكم الخاص ، والشارع قد جمع بينهما فأظهر حكم العام فيما عدا الخاص ، كما أنّه أخفى الحكم الواقعي للخاص ، غير أنّه من إظهاره لما اقتضته تلك ، وإخفائه لما اقتضته هذه ، صار حكم الخاص مجهولا للمكلّف ، وكان حكمه الظاهري هو العمل على طبق أصالة العموم مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى الخاص على واقعه محفوظا.

ومن ذلك يظهر لك الحال في التقية ، فإنّها يمكن أن يكون الواقع محفوظا في موردها لم يتبدّل إلى مقتضى التقية ، ولا يكون العمل على طبق التقية إلاّ من باب العذر المحض ، كما يمكن أن يكون من باب الكسر والانكسار وانقلاب الحكم الواقعي إلى مقتضى التقية ، والظاهر من أخبارها هو الثاني ، فيكون من قبيل الكسر والانكسار من دون تفويت شيء من جانب الشارع على المكلّف.

ص: 367

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما وقع فيه الإشكال في المقام كما أشرنا إليه إنّما هي في تأخّر المخصّصات ... الخ (1).

الذي ينبغي عقد الكلام في مسألتين : الأولى : فيما تقدّم العام وتأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعام ، كما لو فرض أنّه قال : ادفعوا الخمس إلى الهاشميين ، ثمّ بعد العمل على ذلك قال : لا تدفعوا الخمس إلى بني لهب ، فهل تتحقّق المعارضة في هذه الصورة بين أصالة عدم النسخ وأصالة العموم أو لا؟

الذي ينبغي الجزم به هو الثاني ، فإنّ أصالة عدم النسخ يمكن أن تقرّب باستصحاب بقاء الحكم المحتمل نسخه. ويمكن أن تقرّب بالعموم الأزماني بالنسبة إلى ذلك الحكم ، وعليه يبتني قولهم إنّ النسخ تخصيص بحسب الأزمان. ويمكن أن تقرّب بالتمسّك بعموم قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (2). ويمكن أن يدّعى كونها أصلا عقلائيا برأسه ، فيكون نظير أصالة الحقيقة في قبال احتمال إرادة المجاز بناء على أنّه أصل برأسه ، وليس براجع إلى أصالة عدم القرينة الحاكمة بإرادة المجاز.

وهذه التقريبات وإن كان بعضها غير مسلّم ، إلاّ أنّ أصالة عدم النسخ لا تجري في المقام بأي وجه وجّهناها به من هذه الوجوه.

أمّا الأوّل فواضح كما أفاده شيخنا قدس سره (3) من أنّ الحكم الذي يراد استصحابه بالنسبة إلى بني لهب إنّما هو وجوب دفع الخمس إليهم ، ومع الشكّ في خروجهم من أوّل الأمر لا يكون حدوث هذا المعلوم متيقّنا متيقّنا سابقا كي يحكم ببقائه بالنسبة

ص: 368


1- أجود التقريرات 2 : 397 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.
3- أجود التقريرات 2 : 400.

إليهم من زمان صدور العام إلى زمان صدور الخاصّ ، حيث إنّه بعد صدور الخاص لا شبهة في عدم جواز الدفع إليهم ، وإنّما كان الأثر للاستصحاب هو لزوم قضاء ما دفعوه سابقا إليهم ، فالحكم الذي يراد استصحابه إنّما هو وجوب الدفع إليهم إلى زمان صدور الخاصّ ، وقد عرفت أنّ الشكّ إنّما هو في الحدوث لا في البقاء بعد فرض الحدوث ، إذ لو كان الحكم حادثا فلا شكّ في بقائه إلى زمان صدور الخاصّ وفي كون الخاص ناسخا له.

ومن ذلك تعرف الوجه في عدم جريان الأصل المذكور لو كان المستند فيه هو العموم الأزماني ، لأنّ العموم الأزماني في طول العموم الأفرادي ، والمفروض هو الشكّ في شمول ذلك العموم الأفرادي ، ومع الشكّ في دخولهم تحت ذلك الحكم العام كيف يمكننا أن نقول إنّ وجوب الدفع إليهم ثابت في كلّ آن.

وهكذا الحال فيما لو كان المستند هو عموم « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » فإنّ هذا أيضا متفرّع على دخولهم تحت العموم السابق. بل وهكذا الحال فيما لو كان المستند هو بناء العقلاء ، ليكون أصالة عدم النسخ أصلا برأسه ، فإنّ هذا لو سلّم كونه هو المدرك لم يكن جاريا فيما نحن فيه ، لأنّه أيضا متفرّع على دخولهم تحت العموم السابق ، إذ ما لم يثبت الحكم في حقّهم لم يكن معنى لبناء العقلاء على عدم نسخه.

على أنّ هذا الوجه لا وجه له ، إذ العقلاء بما أنّهم عقلاء لا ينظرون إلى النسخ إلاّ بما أنّه حادث من الحوادث ، فإذا شكّوا في حدوثه بنوا على عدم حدوثه ، فيكون راجعا إلى الوجه الأوّل ، لا أنّه أصل برأسه ، إذ لا يمكن القول بأنّ العقلاء بانون على كون عدم النسخ أصلا برأسه إلاّ إذا كان النسخ معروفا لديهم ، وكانوا لا يعتنون باحتماله ، نظير عدم اعتنائهم باحتمال التجوّز في قبال أصالة

ص: 369

الحقيقة.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ هذا الأصل يتوقّف جريانه على إحراز شيء يقع الشكّ في نسخه ، والمفروض أنّ الحكم مشكوك من أوّل الأمر ، ولو أغضي النظر عن ذلك وقيل إنّ المحتمل نسخه هو عموم العام ، لقلنا إنّه من الأصول الملحقة بالأصول الجهتية ، فيكون محكوما لأصالة العموم التي هي من الأصول المرادية المقدّمة على ما هو من سنخ الأصول الجهتية.

وبعد تحقّق عدم جريان أصالة عدم النسخ في المقام لا يبقى بأيدينا إلاّ أصالة العموم التي يكون مقتضاها هو النسخ. لكن هذا الأصل أيضا غير جار في المقام ، لأنّ الخاص واقف له بالمرصاد ، وحينئذ يكون الحكم بالنسخ دوريا ، لتوقّفه على أصالة العموم ، وتوقّف أصالة العموم على سقوط ذلك الخاص عن تخصيص ذلك العام وصيرورته ناسخا له ، وكونه كذلك موقوف على بقاء أصالة العموم بحالها ، وهذا بخلاف التخصيص فإنّه لا يتوقّف إلاّ على قابليته في حدّ نفسه لتخصيص العام ، فلا يقال إنّ التخصيص موقوف على عدم النسخ ، وعدم النسخ موقوف على عدم شمول العام وهو عبارة عن التخصيص ، لما قد عرفت من أنّ التخصيص لا يتوقّف على عدم النسخ ، بل إنّ مرتبة النسخ متأخّرة عن التخصيص ، حيث إنّ النسخ إنّما يكون بعد تمامية الدلالة على الحكم الذي يراد نسخه ، والمفروض أنّ الخاص يخصّص العام قبل الوصول إلى درجة نسخه به ، فتأمّل.

قال شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه في باب التعادل والتراجيح في بيان تقدّم التخصيص على النسخ في مقام الردّ على قول الشيخ قدس سره (1) بأنّ التخصيص مقدّم

ص: 370


1- فرائد الأصول 4 : 94 ، مطارح الأنظار 2 : 226.

على النسخ لشيوعه وكثرته بخلاف النسخ لندرته وقلّته ، فإنّه قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : وفيه أنّه إنّما يقدّم التخصيص على النسخ لأنّ النسخ متأخّر رتبة ، حيث إنّه إنّما يكون إذا بقي العام على عمومه ، ليكون ذلك الخاص ناسخا له ، والمفروض أنّ ذلك الخاصّ بمجرّد وجوده يكون قرينة على عدم إرادة العموم ، فيكون مخصّصا له ، فلا تصل النوبة إلى بقاء العام على عمومه ليكون ذلك الخاص ناسخا له. ثمّ إنّه قدس سره أوضح ذلك أيضا فيما حرّرته عنه هناك بقوله : فإنّ التخصيص لمّا كان مقدّما رتبة على النسخ كان مقدّما عليه في مقام المعارضة ، بل إنّ كلّ تجوّز إذا دار الأمر بينه وبين النسخ كان مقدّما عليه ، وسرّه هو أنّ النسخ إنّما يكون بعد حمل اللفظ على ظاهره من العموم أو غيره من المعاني الحقيقية ، ووجود ما كان مخالفا لهذا الأصل يكون رافعا له ، فلا يدعه باقيا على حقيقته حتّى تصل النوبة إلى كونه ناسخا له ، انتهى.

وحاصله : أنّ عملية التخصيص مقدّمة على عملية النسخ ، لأنّ مرجع تلك إلى تحقيق مراد المتكلّم ، ومرجع هذه إلى أنّ هذا الذي أراده المتكلّم ثابت باق أو أنّه قد نسخ ، والحاصل أنّ مرتبة النسخ وعدمه بعد إحراز المراد ، وإحراز المراد في المقام إنّما هو بأصالة العموم المفروض كون الخاص واقفا لها بالمرصاد ، وهو موجب بحسب النظر العرفي لحمل العام على الخاص ، وبعد تحقّق هذه العملية أعني عملية حمل العام على الخاص التي هي عبارة عن التخصيص لا مجال لاحتمال النسخ.

المسألة الثانية : فيما لو كان المتقدّم هو الخاص ، واحتمل كون العام الوارد بعد العمل بالخاص ناسخا ، فيجري في حكم الخاص أصالة عدم النسخ بمعنى استصحاب نفس حكم الخاص ، لكنّه محكوم بأصالة عموم العام ، فإنّ

ص: 371

مقتضى أصالة العموم هو كون الخاص محكوما بحكم العام ، ومعه لا يبقى شكّ في ارتفاع حكم الخاصّ ، وبذلك يندفع الإشكال على ذلك بما سيأتي نقله (1) عن شيخنا المحقّق العراقي من أنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لفظيا وفي الطرف [ الآخر ] حكميا لا يوجب الحكومة ، فإنّ ذلك إنّما هو فيما لو كان مورد الأصلين واحدا.

ووجه الاندفاع هو ما عرفت من أنّ أصالة العموم في طرف العام حاكمة بارتفاع الحكم السابق للخاص.

وبه أيضا يندفع ما في الحاشية ص 512 (2) من إنكار السببية والمسبّبية ، فراجع وتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ مورد كلّ من أصالة العموم واستصحاب بقاء الحكم السابق للخاصّ إنّما هو الخاص ، وهو مورد واحد ، فالأصل اللفظي فيه يكون حاكما على الأصل العملي. نعم لو صدرت جملة من المولى مجملة ولم نعلم أنّها كانت نسخا لحكم سابق كوجوب الدعاء عند رؤية [ الهلال ] أو أنّها كانت تخصيصا لعام سابق كوجوب إكرام العلماء ، بأن كنّا نحتمل أنّ تلك الجملة لاخراج النحويين مثلا من هذا العموم ، ففي مثل ذلك يمكن أن يقال الأصل اللفظي وهو أصالة العموم في أكرم العلماء لا تكون حاكمة على الأصل الحكمي في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أعني استصحاب عدم نسخ ذلك الحكم. على أنّ الأصل يمكن أن نقول بحكومته حتّى في مثل المثال ، لأنّ الأصل اللفظي يترتّب عليه لازمه العقلي الاتّفاقي وهو هنا تحقّق نسخ الوجوب المذكور.

ص: 372


1- في الصفحة : 380.
2- راجع أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 402.

نعم ، لو كان كلّ من الحاكم والمحكوم من الأصول العملية لم تكن الحكومة جارية عند تعدّد المورد كما في موارد العلم الاجمالي بطرو نجاسة على أحد الإناءين اللذين يكون أحدهما في حدّ نفسه مستصحب الطهارة والآخر موردا لقاعدة الطهارة.

وهكذا الحال لو كان المستند في أصالة عدم النسخ هو العموم الأزماني لحكم الخاص ، فإنّ هذا العموم الأزماني فرع الحكم نفسه ، ومع كون أصالة العموم في ناحية العام المتأخّر حاكمة بارتفاع حكم الخاص لا يبقى مورد ومحلّ لعمومه الأزماني ، لما عرفت فيما حقّق في محلّه (1) من كون نسبة العموم الأزماني إلى نفس الحكم من قبيل نسبة الحكم إلى موضوعه ، ومع كون أصالة العموم الأفرادي في ناحية العام حاكمة بارتفاع أصل الحكم الخاصّ ، لا يبقى محل ومورد لعمومه الأزماني ، بل قد عرفت في محلّه أنّ هذا العموم الأزماني يكون محكوما لما هو الأقل من العموم الأفرادي ، فإنّك قد عرفت في محلّه أنّ استصحاب حكم الخاصّ لو كان جاريا يكون حاكما على العموم الأزماني ورافعا لموضوعه.

وهكذا الحال لو كان المستند في أصالة عدم النسخ هو قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (2) فإنّ الحكم الثابت للخاصّ بأصالة العموم في ناحية العام هو أيضا داخل في حلاله وحرامه صلى اللّه عليه وآله ، لأنّا لو سلّمنا أنّه ليس في مقام

ص: 373


1- راجع فوائد الأصول 4 : 531 وما بعدها / التنبيه الثاني عشر. وراجع أيضا حواشي المصنّف قدس سره الآتية في المجلّد العاشر من هذا الكتاب.
2- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

بيان أنّه لا نبي بعده صلى اللّه عليه وآله بل كان في مقام بيان أنّ أحكامه صلى اللّه عليه وآله باقية لا ترتفع إلى يوم القيامة ، لم يكن ذلك منافيا لنسخ بعض أحكامه صلى اللّه عليه وآله من قبل نفسه صلى اللّه عليه وآله أو من يقوم مقام نفسه صلى اللّه عليه وآله من خلفائه ( صلوات اللّه عليهم ) لأنّ ذلك الحكم الناسخ هو أيضا من أحكامه صلى اللّه عليه وآله.

نعم ، لو كانت هذه القضية - أعني قوله صلى اللّه عليه وآله : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله » الخ - قضية خارجية ، وكان المنظور بها خصوص الأحكام التي كانت موجودة حين صدور هذه الجملة منه صلى اللّه عليه وآله لكان مقتضاها عدم طرو النسخ عليها حتّى من قبل نفسه صلى اللّه عليه وآله لكن الظاهر أنّها قضية حقيقية ، وأنّ مفادها هو أنّ كلّ ما يكون حلالا من قبله صلى اللّه عليه وآله فهو حلال إلى يوم القيامة ، ولا شبهة أنّ هذه القضية شاملة للأحكام التي تصدر منه صلى اللّه عليه وآله بعد بيانه هذه القضية الكلّية ، سواء كانت تلك الأحكام المتأخّرة أحكاما ابتدائية أم كانت ناسخة لحكم سابق ، فإنّ كلا منهما يصدق عليه أنّه حلاله صلى اللّه عليه وآله وحرامه ، وحينئذ يكون مفاد هذه القضية أنّ أحكامه صلى اللّه عليه وآله لا ينسخها أحد بعده ، فيكون مفادها أيضا راجعا إلى أنّه لا نبي بعده بنحو الكناية ، ولعلّ أن يكون فيه تلميح إلى النسخ والتغيير الصادر من مثل عمر وأمثاله ، وهذا إذا أضفناه إلى ما دلّ على كون خلفائه من ذرّيته صلى اللّه عليه وآله يقومون مقام نفسه يكون ما يصدر من الأئمّة عليهم السلام من النسخ خارجا عن عموم هذه القضية بالتخصّص ، لكون مفاد تلك الأدلّة هو أنّ نسخهم يكون عين نسخه.

وكيف كان ، فلا دلالة لهذه القضية على أنّ العام المتأخّر عن الخاصّ لا يكون ناسخا للخاصّ.

أمّا كون المستند في أصالة عدم النسخ هو بناء العقلاء وإن لم يكن راجعا

ص: 374

إلى شيء ممّا تقدّم من المستندات ، فقد عرفت (1) ما فيه وأنّه لا واقعية لهذا البناء العقلائي ، ومع قطع النظر عن ذلك فهو محكوم لأصالة العموم ، لكونها من الأصول المرادية ، وهو ملحق بالأصول الجهتية ، وحينئذ تكون هذه المسألة مشاركة للمسألة الأولى في أنّه لا مجرى فيها لأصالة عدم النسخ ، غايته أنّ تلك لا مورد فيها لأصالة عدم النسخ ، وهذه تكون أصالة عدم النسخ فيها محكومة لأصالة العموم ، فقد بقينا في هذه المسألة نحن وأصالة العموم ، ومقتضاها وإن كان هو النسخ ، إلاّ أنّها محكومة بالخاصّ ، وأنّ عملية التخصيص سابقة في الرتبة على عملية النسخ كما أشار إليه شيخنا قدس سره فيما نقلناه عنه فيما تقدّم (2).

وإن شئت قلت : إنّ كون هذا العام المتأخّر ناسخا للخاص المتقدّم متوقّف على جريان حكم العام على الخاصّ المذكور وهو عين أصالة العموم المحكومة بفرض سبق الخاص ، وهذه الحكومة أعني حكومة الخاص على العام لا ترتفع إلاّ بفرض كون العام ناسخا له ، فيكون النسخ متوقّفا على أصالة العموم ، وأصالة العموم موقوفة على عدم كون الخاص مخصّصا للعام ، وكونه كذلك متوقّف على كون العام ناسخا له.

ولا يتأتّى الدور من جانب العكس ، بأن يقال إنّ كون الخاص مخصّصا للعام متوقّف على عدم كونه ناسخا له ، وعدم كونه ناسخا له متوقّف على سقوط عمومه له ، وسقوط عمومه له متوقّف على كونه مخصّصا له ، لما عرفت فيما تقدّم (3) من أنّ كون الخاص مخصّصا للعام وموجبا لسقوط حجّية أصالة العموم فيه لا

ص: 375


1- في الصفحة : 369.
2- في الصفحة : 371.
3- في الصفحة : 370 - 371.

يتوقّف على عدم كون العام ناسخا له ، لأنّ اقتضاء الخاص تخصيص العام كان بطبيعة الحال لا بثبوت كون العام غير ناسخ له.

ثمّ إنّ من هذا الذي ذكرناه في بيان الوجه في سقوط أصالة العموم ، يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوهّم في المقام من أنّ أصالة العموم المفروض كونها محكومة بالخاص كيف جعلتموها حاكمة على أصالة عدم النسخ ، وهل يعقل أن يكون المحكوم بشيء حاكما على غيره.

فإنّ الجواب عن هذا التوهّم واضح ، حيث إنّا إنّما قلنا بأنّ أصالة العموم حاكمة على أصالة عدم النسخ من قبيل المماشاة مع الخصم الذي توهّم المعارضة بين الأصلين المذكورين ، فقلنا في جوابه إنّ أصالة عدم النسخ محكومة لأصالة العموم ، وإلاّ ففي الحقيقة هو هذا الذي ذكرناه أخيرا ، وهو أنّ النظر في كون العام ناسخا للخاص أو كونه غير ناسخ له ، إنّما يكون بعد تمامية مقام الكشف والدلالة في ناحية العام ، ونحن في الرتبة التي نريد أن نأخذ العام كاشفا عن المراد الواقعي يكون الخاص حاكما عليه في هذه الرتبة ، ويكون ذلك الخاص موجبا لخروج مورده عن عموم ذلك العام ، وبعد تمامية هذه العملية والفراغ عن مقام استكشاف المراد الواقعي من ذلك العام بضمّ الخاصّ إليه ، لا يبقى مورد لاحتمال كون العام ناسخا للخاص.

وبالجملة : أنّ ما اشتمل [ على ] هذا التوهّم من قوله إنّ أصالة العموم المحكومة بالخاص كيف تكون حاكمة على أصالة عدم النسخ ، هو بنفسه يكون جوابا عن التوهّم ، وذلك لأنّ محكومية العام بالخاصّ هي عين الحكم بأنّه لا نسخ في البين ، وأنّ احتماله ساقط ، وأنّه بعد فرض كون العام محكوما بالخاص لا يبقى مورد لاحتمال كونه ناسخا للخاص.

ص: 376

أمّا ما في الحاشية على ص 509 من الاستدلال على كون العام المتأخّر مخصّصا بالخاص المتقدّم ، لا أنّ العام يكون ناسخا للخاص ، بأنّ احتمال كون العام ناسخا للخاص المتقدّم إنّما يكون فيما إذا كان العام المتأخّر متكفّلا ببيان الحكم من حين صدور دليله ، وأمّا إذا كان متكفّلا ببيان الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة من أوّل الأمر - كما هو الظاهر في كلّ كلام صادر من أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام متكفّل بإثبات حكم شرعي - فلا يبقى في مورده مجال لاحتمال النسخ الخ (1).

فهو قوي متين ، لكن يبقى الإشكال في وجه تأخير حكم ذلك العام فيما عدا الخاص ، فإنّ هذا التأخير بالنسبة إلى ما عدا الخاص يكون من قبيل تأخير بيان الحكم في أوّل البعثة ، وقد عرفت أنّ الظاهر في تلك الأحكام هو أن لا يكون لها واقع قبل صدور بيانها ، وأنّ واقعها إنّما يتحقّق عند صدور بيانها ، وحينئذ نضطرّ إلى القول بأنّ الحكم في هذا العام المتأخّر صدوره عن الخاص إنّ تحقّق ما تضمّنه من الحكم إنّما هو عند صدور بيانه والإعلام به ، وحينئذ يكون احتمال كونه ناسخا للخاص موجودا ، ولا يندفع إلاّ بما عرفت من تقدّم التخصيص على النسخ رتبة ، فراجع وتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ ما عدا ذلك الخاص لو كان سابقا محكوما بحكم العام ، مثل أن يرد في الأوّل أكرم الفقهاء ولا تكرم النحويين ، ثمّ بعد العمل على كلّ منهما مدّة يرد قوله أكرم العلماء ، وحينئذ لا يكون الإشكال إلاّ في النحويين ، وأنّ حكمهم الذي هو الحرمة قد تبدّل إلى الوجوب ، فيكون منسوخا بأن يقول من الآن فصاعدا يجب إكرام جميع العلماء ، أو أنّه لم يتبدّل ويكون ما دلّ سابقا

ص: 377


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 398.

على حرمة إكرامهم مخصّصا لهذا العام المتأخّر. لكن على الثاني لا يكون قوله أكرم العلماء ذا حكم جديد ، وعلى الأوّل يكون بالنسبة إلى النحويين ذا حكم جديد ، وأمّا بالنسبة إلى الفقهاء فلا يكون إلاّ تأكيدا ، وهو بعيد في الغاية.

ومن ذلك يظهر الحال فيما لو شكّ في كونه حكما جديدا أو كونه حاكيا عمّا سبق ، فإنّه يتعيّن الثاني ، إذ على الأوّل لازمه التبعيض ، وهو كونه جديدا بالنسبة إلى النحويين ، وتأكيدا بالنسبة إلى الفقهاء وهو بعيد.

أمّا لو كان الفقهاء سابقا محكومين بحكم مخالف لحكم قوله أكرم العلماء ، فإن قلنا بالنسخ كان ناسخا للحكمين ، وإن قلنا بالتخصيص حصل التعارض بين الأدلّة السابقة وبين هذا العموم ، لكون المسألة حينئذ من قبيل إخراج جميع الأفراد.

نعم ، لو كان ما عدا النحويين محكوما بحكم عام لدليل يكون أعمّ من قوله أكرم العلماء ، كان هذا العام المتأخّر مخصّصا للعام في الفقهاء ومخصّصا - بالفتح - للدليل السابق القائل بحرمة إكرام النحويين ، ولا يمكن التبعيض بأنّ قوله أكرم العلماء ناسخ لبعض ما سبق ومخصّص - بالفتح - ببعض ما سبق.

ثمّ إنّ لشيخنا المحقّق الآغا ضياء الدين العراقي طاب ثراه كلاما في هذا المقام أنقله ملخّصا عمّا حرّرته عن درسه (1) ، فإنّه رحمه اللّه بعد أن ذكر إرجاع أصالة عدم النسخ إلى الأصول الجهتية ، ذكر الطولية بينها وبين الأصول المرادية ، وذكر توجيه تقدّم التخصيص على النسخ بهذه الطولية ، إلاّ أنّه عكسها فجعل أصالة الظهور في طول الأصول الجهتية ، بتقريب أنّ الحكم بأنّ الظاهر مراد ، الذي هو عبارة عن أصالة الظهور ، إنّما يكون بعد الفراغ عن أنّه قد صدر لبيان الواقع لا

ص: 378


1- سنة 1338 ه / ق [ منه قدس سره ].

لجهة أخرى غير بيان الواقع.

وبعبارة أوضح : أنّ ما صدر لبيان الواقع يحكم عليه بأنّ ظاهره مراد ، فيكون الأصل الجهتي مأخوذا في موضوع الأصل المرادي ، فيكون مقدّما عليه رتبة ، وبعد الفراغ عن ذلك التقدّم الرتبي رتّب عليه الوجه في تقدّم التخصيص على النسخ ، حيث إنّه عند الدوران بين رفع اليد عن أصالة عدم النسخ ورفع اليد عن أصالة عدم التخصيص يكون اللازم هو الحكم بالثاني دون الأوّل ، لما هو واضح من أنّ الأصل المتأخّر رتبة الذي هو أصالة عدم التخصيص لا يصلح لمعارضة الأصل المتقدّم عليه رتبة أعني أصالة عدم النسخ.

ثمّ إنّه أورد على توجيه التقديم بهذا التوجيه : أوّلا بأنّه إنّما يتمّ في العام المتقدّم صدوره على صدور الخاص ، لأنّ العام حينئذ هو مورد تعارض هذين الأصلين ، فيتأتّى فيه ما ذكر من أنّ الأصل المتأخّر أعني أصالة عدم كون العام مخصّصا لا يعارض الأصل المتقدّم أعني أصالة عدم كونه منسوخا.

أمّا لو كان الأمر بالعكس بأن كان صدور الخاص متقدّما على صدور العام ، فلا يتأتّى فيه التوجيه المذكور ، لعدم توارد هذين الأصلين على مورد واحد ، فإنّ مورد أصالة عدم النسخ هو الخاص ، ومورد أصالة عدم التخصيص هو العام ، وليست أصالة عدم التخصيص في العام بمتأخّرة في الرتبة عن أصالة عدم النسخ في الخاص كي يقال إنّها لا تعارضها لكونها متأخّرة عنها.

وثانيا : ما حاصله المنع من التقدّم الرتبي ، بدعوى أنّ كلا من أصالة الظهور والأصل الجهتي في عرض الآخر ، هذا حاصل وملخّص ما أفاده رحمه اللّه فيما حرّرته عنه.

ص: 379

ولكنّه يظهر من مقالته (1) اعتماده على هذا الوجه ، فإنّه بعد أن وجّه التقديم بنحو ما أفاده شيخنا الأستاذ الأعظم قدس سره وأنّ مرجع ذلك إلى حكومة الجمع والتصرّف الدلالي على التصرّف الجهتي ، قال : ولنا أيضا بيان آخر في وجه التقدّم ، وهو أنّ أصالة الظهور إنّما تجري في الظهورات الصادرة لبيان الحكم الحقيقي الواقعي ، فالأصول الجهتية ينقّح موضوع الأصول اللفظية ، ولازمه تقدّم الأصول الجهتية على اللفظية رتبة ، وحينئذ لا يصلح الأصول اللفظية للمعارضة مع الأصل الجهتي ، فلا مجال لرفع اليد عن الجهة باجراء الأصول اللفظية وإبقاء حجّية الظهور بحاله ، كيف ولا تنتهي النوبة إلى أصالة الظهور بلا جهة وعلّة ، فالأصول الجهتية جارية في رتبة نفسها بلا معارض ، وبعد جريانها ينتهي الأمر إلى الأصل الدلالي ، فيؤخذ به لو لا وجود ما هو أقوى دلالة عليه كما لا يخفى (2).

والجمع بين هذين الوجهين لا يخلو من غرابة ، فإنّ الوجه الأوّل الذي كانت نتيجته ما صرّح به من حكومة الجمع والتصرّف الدلالي على التصرّف الجهتي ، لا بدّ أن يكون مبنيا على أنّ أصالة العموم وعدم التخصيص سابقة في الرتبة على الأصل الجهتي الذي هو أصالة عدم النسخ ، وهذا الوجه الثاني مبني على العكس من ذلك ، وأنّ الأصل الجهتي سابق في الرتبة على الأصل اللفظي ، الراجع إلى مقام الدلالة ، أعني أصالة العموم وعدم التخصيص ، فكيف أمكن الجمع بين هذين الوجهين.

وعلى كلّ حال ، أنّك قد عرفت أنّ الحقّ من هذين الوجهين هو الأوّل منهما ، إن كان مبناه ما تقدّم عن شيخنا الأستاذ الأعظم قدس سره من كون عملية

ص: 380


1- المطبوعة سنة 1358 [ منه قدس سره ].
2- مقالات الأصول 1 : 486 - 487.

التخصيص سابقة على عملية النسخ. أمّا الوجه الثاني المبني على تقدّم أصالة عدم النسخ رتبة على أصالة عدم التخصيص ، فينبغي القطع بعدمه ، لما عرفت من أنّ الرتبة في ذلك على العكس ، فلا وجه لتقدّم أصالة عدم النسخ رتبة على أصالة العموم أو كونهما في عرض واحد ، وكيف يتخيّل أنّ إجراء أصالة عدم نسخ الحكم المستفاد من الدليل الفلاني يكون قبل إجراء أصالة الظهور في ذلك الدليل أو أنّهما يجريان في عرض واحد ، وهل يمكن أن يتكلّم في أنّ الحكم منسوخ أو غير منسوخ إلاّ بعد معرفة ذلك الحكم المتوقّفة على استفادته من اللفظ ببركة أصالة الظهور ، هذا كلّه بناء على كون النسخ من قبيل الرفع ، ليكون مرجع أصالة عدم النسخ إلى استصحاب بقاء الحكم.

وأمّا بناء على كونه من قبيل الدفع ، وأنّه من قبيل التخصيص الأزماني ، فالأمر في تقدّم أصالة العموم رتبة على أصالة عدم النسخ أوضح ، حيث إنّ العموم الأفرادي متقدّم رتبة على العموم الأزماني ، حيث إنّ العموم الأزماني بمعنى دوام الحكم واستمراره يكون واردا على الحكم الشرعي بما هو عليه من العموم لجميع الأفراد وعدم العموم كما حقّق ذلك شيخنا قدس سره في بعض تنبيهات الاستصحاب (1) ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ ما التزمنا به من كون أصالة العموم سابقة في الرتبة على أصالة عدم النسخ (2) لا يلزمه الحكم بتقدّم النسخ على التخصيص بتوهّم أنّ إجراء أصالة العموم في العام يوجب الحكم بأنّ ذلك الخاص ناسخ له ، لما عرفت فيما نقلناه عن شيخنا الأستاذ قدس سره من دفع ذلك التوهّم بكون عملية التخصيص سابقة

ص: 381


1- وهو التنبيه الثاني عشر ، راجع فرائد الأصول 4 : 531 ، وأجود التقريرات 4 : 168.
2- [ في الأصل : التخصيص ، والصحيح ما أثبتناه ].

في الرتبة على عملية النسخ ، وقد عرفت الوجه في ذلك ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الذي حرّرناه ونقلناه عن المقالة إنّما هو في الجزء الأوّل منها ، أمّا الثاني من المقالة فقد تعرّض فيه للمعارضة بين أصالة عدم النسخ وأصالة العموم في مبحث التعادل والتراجيح (1) ص 199 إلى ص 200 ، وكأنّه عدول عمّا ذكره في الجزء الأوّل ، فراجعه.

تنبيه : لا يخفى أنّ الطبعة الأولى من هذا الكتاب لا تخلو عن اضطراب في تحرير هذه المسألة ، بخلاف الطبعة الثانية ، ولأجل ذلك جعلنا تعليقنا في خصوص هذه المسألة على [ ما ] في الطبعة الثانية ، فنقول بعونه تعالى :

قوله : والوجه في ذلك هو أنّ أصالة العموم في هذه الموارد غير جارية في نفسها ، فلا بدّ من الحكم فيها بتخصيص العام ، واختصاص الحكم بغير مورد التخصيص - إلى قوله - فتحصّل أنّ عدم جريان أصالة العموم في هذه الموارد إنّما هو لأجل قصور مقتضي الجريان في نفسه ... الخ (2).

لا يخفى أنّ مجرّد عدم جريان أصالة العموم في المقام لا ينفع في سقوط أصالة عدم النسخ ، ولا في طرد احتمال النسخ ، فلنفرض أنّ أصالة العموم في صورة تأخّر الخاص غير جارية في حدّ نفسها ، لم يكن ذلك موجبا للحكم بعدم كون الخاص المتأخّر ناسخا. وهكذا الحال في صورة تأخّر العام ، فإنّا لو فرضنا أنّ أصالة العموم غير جارية فيه لم يكن ذلك موجبا للحكم بأنّه ليس بناسخ للخاص السابق على وجه نستغني عن إجراء أصالة عدم النسخ.

والحاصل : أنّ مجرّد كون أصالة العموم ساقطة بوجود الخاص لا يعيّن

ص: 382


1- مقالات الأصول 2 : 487.
2- أجود التقريرات 2 : 398 - 399.

التخصيص ، لامكان أن يقال من الطرف المقابل أنّ أصالة عدم النسخ ساقطة بوجود الناسخ ، وحينئذ لا بدّ من إتمام المطلب بما تقدّمت (1) الاشارة إليه في شرح ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره من أنّ الالتفات إلى النسخ وعدمه إنّما يكون بعد تمامية المراد ، وتمامية المراد إنّما تحصل بالأصول المرادية التي هي مثل أصالة العموم ونحوها.

فنحن أوّلا نحتاج إلى إثبات أنّ مراد المتكلّم ما ذا ، ثمّ بعد ثبوت مراده نتكلّم في أنّه ناسخ أو منسوخ ، وفي هذه المرتبة الأوّلية ننظر إلى عموم العام فنجد في قباله الخاص ، فنحكم بأنّ ذلك العام مخصّص بذلك الخاص ، وبعد الفراغ من عملية التخصيص لا نجد احتمالا للنسخ ، فتكون عملية التخصيص المفروض كونها سابقة على الالتفات إلى النسخ مذهبة لموضوع النسخ قبل الالتفات إليه ، وهذا هو الموجب لأن يكون المورد محكوما بالتخصيص دون النسخ ، سواء كان الخاص هو المتأخّر أو كان العام هو المتأخّر.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أفيد في مقام الجواب عن استدلال الشيخ قدس سره (2) بالأكثرية بقوله : فيرد عليه أوّلا : ما عرفت من أنّه لا تجري أصالة العموم في المقام في نفسها ، فكيف يعقل أن تكون معارضة لأصالة عدم النسخ (3).

فإنّ مجرّد سقوط أصالة العموم في حدّ نفسها لا ينفع ، بل إنّه يوجب خلو الميدان لأصالة عدم النسخ ولزوم البناء عليها ، فيكون مؤكّدا لما أراده الشيخ قدس سره من إسقاط أصالة العموم وإبقاء أصالة عدم النسخ ، غايته أنّ الشيخ أسقطها لكون

ص: 383


1- في الصفحة : 371.
2- فرائد الأصول 4 : 94 ، مطارح الأنظار 2 : 226.
3- أجود التقريرات 2 : 399.

الغالب هو سقوطها ، ونحن أسقطناها لأجل وجود المخصّص ، وهذا وحده لا ينفع ، بل لا بدّ من أن نثبت أنّ سقوطها كان لأجل الحكم بالتخصيص ، وأنّ عملية التخصيص سابقة على عملية النسخ ، وأنّه بعد التخصيص لا يبقى مورد للكلام على النسخ وعدمه.

وأمّا قوله : وثانيا أنّ أصالة العموم لو كانت جارية في المقام لم يبق مجال لجريان أصالة عدم النسخ فيه - إلى قوله - والوجه في ذلك أنّ أصالة العموم إنّما هي من الأصول اللفظية ، وأمّا أصالة عدم النسخ فهي من الأصول العملية الخ (1) فحاصله : أنّا لو خلّينا نحن وأصالة العموم وأصالة عدم النسخ لكانت أصالة العموم حاكمة على أصالة عدم النسخ ، ولكان مقتضاها هو الحكم بالنسخ. لكن لا تنحصر الحكومة بكون أصالة عدم النسخ من الأصول الحكمية ، بل هي أعني الحكومة متحقّقة بأي وجه كان من وجوه مدرك أصالة عدم النسخ على ما عرفت (2) تفصيله فيما لو كان المتأخّر هو العام ، أمّا لو كان المتأخّر هو الخاص فإنّ أصالة عدم النسخ لا مورد لها أصلا كما عرفت (3) توضيحه في المسألة الأولى أعني صورة تأخّر العام.

وأمّا ما أوضحه بقوله : بل إنّ أصالة عدم النسخ فيما كان الخاص فيه واردا بعد حضور وقت العمل بالعام - إلى قوله - فهي مدفوعة الخ (4) ، فهو ناظر إلى خصوص المدرك الأوّل من مدارك أصالة عدم النسخ ، أعني استصحاب بقاء

ص: 384


1- أجود التقريرات 2 : 399 - 400.
2- في الصفحة : 371 وما بعدها ( المسألة الثانية ).
3- في الصفحة : 368 - 370.
4- أجود التقريرات 2 : 400.

الحكم السابق لتكون أصلا حكميا.

وعلى أي حال ، فإنّ حاصل التوضيح المستفاد من قوله : بل إنّ أصالة عدم النسخ الخ ، هو أنّ استصحاب بقاء الحكم وعدم نسخه لا يجري في نفسه ، إذ لو كان العام هو وجوب دفع الخمس إلى الهاشميين مثلا وبعد العمل به في خصوص آل أبي لهب مثلا صدر المنع عن دفع الخمس إلى آل أبي لهب ، كان التردّد بين كون هذا الخاص ناسخا للعام وكونه مخصّصا له موجبا للشكّ في حكم هؤلاء من حين صدور ذلك العام إلى حين صدور الخاص ، وحينئذ لا يجري استصحاب عدم نسخ العام بالنسبة إلى حكم هؤلاء ، لأنّ حكمهم السابق لم يكن معلوما وكان من قبيل الشكّ في الحدوث لا من قبيل الشكّ في البقاء ، وكان ذلك نظير الشكّ الساري.

ثمّ لو أغضي النظر عن هذه الجهة ، وسلّمنا أنّ المورد من قبيل الشكّ في البقاء ، لم يكن الاستصحاب جاريا أيضا ، إذ لا أثر يترتّب على بقاء الحكم إلاّ صحّة الدفع السابق وعدم لزوم إعادته لو كان من قبيل النسخ ، وفساده ولزوم إعادته لو كان من قبيل التخصيص ، ومن الواضح أنّ هذا الأثر وهو لزوم الاعادة وعدمه لم يكن مترتّبا على البقاء ، بل هو مترتّب على أنّ حكمهم الحادث سابقا هل هو وجوب الدفع إليهم أو هو حرمته ، هذا.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال بكلا شقّيه لم يذكره المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عن شيخنا في هذه المسألة في مبحث التعادل والتراجيح ، نعم هو موجود بكلا شقّيه في تحرير صاحب هذا التحرير (1) فراجعه.

وقد حرّرت عن شيخنا قدس سره في هذا المقام في باب العموم والخصوص ما

ص: 385


1- أجود التقريرات 4 : 296 - 297.

هذا لفظه : أنّه في صورة تقدّم العام على الخاص وإن ترتّب الأثر العملي على الدوران بين التخصيص والنسخ بالنسبة إلى الأعمال السابقة على صدور الخاص فيما تجري فيه الاعادة والقضاء ، إلاّ أنّ هذا الأثر لا يمكن الحكم بترتّبه على جريان أصالة عدم النسخ ، لما عرفت من كون أصالة عدم النسخ عبارة عن استصحاب بقاء الحكم السابق ، ومن الواضح أنّ هذا الأثر - أعني عدم (1) الاعادة والقضاء - لا يترتّب على بقاء ذلك الحكم المشكوك نسخه إلاّ باعتبار لازمه الذي هو التخصيص ، فيكون من قبيل الحكم بترتّب أثر أحد الضدّين على نفي الضدّ الآخر بالأصل ، ولو أغضي النظر عن هذا الإشكال لكان فيه إشكال آخر من جهة أخرى ، انتهى. ثمّ أخذ في بيان الإشكال من الجهة الأخرى ممّا يرجع إلى أنّ كون المقام من قبيل الشكّ في الحدوث لا من قبيل الشكّ في البقاء.

أمّا إشكال المثبتية فتوضيحه : هو أنّه لو ورد حكم وقد عمل المكلّف على طبقه في أوّل الشهر مثلا ، ثمّ علم في وسط الشهر بأنّه قد صدر نسخ ذلك الحكم ولكن لا يعلم أنّ صدور الناسخ هل كان في وسط الشهر أو أنّه كان من أوّله ، وعلى الأوّل لا يجب عليه الاعادة ، بخلاف الثاني فإنّه بناء عليه يجب الاعادة لانكشاف كون عمله واقعا في ظرف الناسخ ، ففي مثل ذلك يكون استصحاب بقاء الحكم السابق وعدم نسخه إلى ما بعد فراغه من العمل السابق محقّقا لصحّة عمله السابق وعدم وجوب إعادته ، فيكون المترتّب على أصالة عدم النسخ في مثل المثال هو عدم وجوب الاعادة ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّ الأثر المترتّب فيه على كون الخاص ناسخا هو صحّة العمل السابق وعدم إعادته ، والأثر المترتّب على عدم كون الخاص ناسخا وكونه مخصّصا هو فساد عمله السابق ولزوم إعادته ، فيكون

ص: 386


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ « عدم » من سهو القلم ].

الغرض من إجراء أصالة عدم نسخ العام بالخاص هو نفي الأثر المترتّب على كونه ناسخا الذي هو عدم لزوم الاعادة ، فيكون الأثر المرتّب على أصالة عدم النسخ هو الاعادة ، ولا ريب أنّ مجرّد عدم النسخ لا

يترتّب عليه لزوم الاعادة ، وإنّما يكون ذلك أعني الاعادة مترتّبا على كون الخاص مخصّصا ، فيكون المقام من قبيل نفي أحد الضدّين الذي هو النسخ بالأصل ، ليترتّب على ذلك إثبات الضدّ الآخر الذي هو التخصيص فيكون من الأصول المثبتة.

قوله : وأمّا توهّم كون أصالة عدم النسخ أيضا من الأصول اللفظية ، استنادا إلى دعوى أنّ دليل الحكم ظاهر في استمرار ذلك الحكم ودوامه ، أو إلى دعوى قولهم عليهم السلام : « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (1) ... الخ (2).

قد عرفت (3) الاشارة إلى أنّ مدرك أصالة عدم النسخ ربما كان هو استصحاب بقاء الحكم المحتمل نسخه فيكون أصلا حكميا ، وقد يكون مدركه هو العموم الأزماني ، أو هو عموم « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال ... » ، وقد يدّعى أنّه أصل عقلائي مستقل نظير أصالة الحقيقة ، وهذه المدارك الثلاثة تلحقه بالأصول اللفظية. ومرجع هذا التوهّم إلى الأوّل والثاني من هذه الوجوه الثلاثة ، وتمام الكلام في هذين الوجهين موكول إلى محلّه (4) من التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب في مسألة الرجوع إلى عموم العام ، أو استصحاب حكم المخصّص. وأمّا الثالث فلم يتعرّض له شيخنا قدس سره.

ص: 387


1- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.
2- أجود التقريرات 2 : 401.
3- في الصفحة : 368.
4- أجود التقريرات 4 : 170 وما بعدها ، فوائد الأصول 4 : 534 وما بعدها.

وعلى أي حال ، فقد عرفت (1) أنّ أصالة العموم حاكمة على أصالة عدم النسخ بأي مدرك كانت من هذه المدارك. هذا في صورة كون المتأخّر هو العام ، وأمّا في صورة العكس فقد عرفت (2) أنّها لا أصل لها في المقام أصلا. ولعلّ المراد من كون الشكّ في النسخ مسبّبا عن الشكّ في بقاء عموم العام على عمومه هو ما عرفت من توجيه الحكومة ، وأنّ الشكّ في النسخ إنّما يكون بعد تنقيح المراد ، فلا يتوجّه عليه ما في الحاشية (3) من أنّ الشكّين ناشئان عن العلم الاجمالي ولا سببية ومسبّبية بينهما ، فإنّ ما في هذه الحاشية إنّما يتمّ لو كانا في عرض واحد ، وقد عرفت الطولية بينهما ، وهي التي أوجبت كون الأصل في الأوّل حاكما على الأصل في الثاني.

وأمّا ما ذكره في الحاشية المذكورة بقوله : فالصحيح في وجه عدم الالتزام بالنسخ في هذه الموارد هو ما أفيد أوّلا من أنّ أصالة العموم في هذه الموارد غير جارية في نفسها ، وإلاّ فهي لكونها من الأصول اللفظية تتقدّم على أصالة عدم النسخ لا محالة ، فلا بدّ من الالتزام في هذه الموارد بالنسخ مع أنّه غير صحيح ، انتهى.

ففيه : أنّ هذه الدعوى أعني كون أصالة العموم لو كانت جارية لكانت متقدّمة على أصالة عدم النسخ ، إنّما كانت بناء على أنّ أصالة عدم النسخ من الأصول الحكمية ، لأنّ الأصل اللفظي حاكم على الأصل الحكمي ، وأمّا بناء على أنّها من الأصول اللفظية فنحتاج في توجيه الحكومة إلى ما عرفت من تأخّر النسخ

ص: 388


1- في الصفحة : 371 وما بعدها
2- في الصفحة : 368 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 402.

رتبة عن الأصول المرادية ، وهو المراد بالسببية التي أفادها شيخنا قدس سره في هذا المقام. بقي الكلام فيما أشار إليه ب :

قوله : تذييل ... الخ (1).

وهل النسخ من قبيل الرفع أو من قبيل الدفع ، ولعلّ ما أفيد بقوله إنّ النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم المجعول لانتهاء الحكمة الداعية إلى جعله الخ (2) ، إشارة إلى الثاني ، ببرهان أنّ الحكم لمّا كان تابعا للمصلحة فإن كانت محدودة كان الحكم محدودا ، وإن لم تكن محدودة بالزمان كان الحكم كذلك ، فهو في الواقع لا يخلو عن هذين الوجهين ، فإنّ الإهمال في مقام الثبوت محال ، وحينئذ فإن كانت المصلحة غير محدودة وكانت مستمرّة مع الزمان ، كان الحكم كذلك واستحال نسخه ، وإن كانت المصلحة محدودة وجب إنشاء الحكم على طبقها في مقام الثبوت ، ويكون نسخه عند انتهاء أمد مصلحته من قبيل الدفع.

لكن يرد عليه حينئذ أنّ الشكّ في بقاء الحكم وعدم نسخه من قبيل الشكّ في المقتضي.

ويمكن أن يقال : إنّ الحكم لو كان محدودا في حدّ نفسه إلى حدّ زماني ثبوتا وإثباتا لم يكن انقطاعه عند الوصول إلى ذلك الحدّ من قبيل النسخ قطعا ، بل لو كان محدودا ثبوتا فقط بأن يكون في مقام الثبوت فقط محدودا ، فعند الوصول إلى ذلك الحد لا يكون انقطاع الحكم بذلك من قبيل النسخ أيضا وإن لم يكن الحكم المذكور محدودا بذلك إثباتا ، بمعنى أنّ الشارع عند بيانه لذلك الحكم لم يبيّن التحديد المذكور ، بل كان بيانه الحكم بصورة الاطلاق الذي يكون مقتضاه الدوام والاستمرار ، وعند الوصول إلى ذلك الحدّ الواقعي يبيّن التحديد المذكور ،

ص: 389


1- أجود التقريرات 2 : 403.
2- أجود التقريرات 2 : 403.

فإنّ قصارى ذلك أن يكون من قبيل تأخير البيان لا من قبيل النسخ ، وليس هو من التأخير عن وقت الحاجة ، بل أقصاه أنّه تأخير البيان عن وقت الخطاب فقط ، فإنّ وقت الحاجة إنّما هو عند انتهاء أمد الحكم ، وكأنّ منشأ دعوى كون النسخ من قبيل الدفع هو النظر إلى هذه الصورة ، فإنّها هي التي تكون من قبيل الدفع لا الرفع ، وهي التي تكون من التخصيص الأزماني ، وقد عرفت أنّها في الحقيقة من قبيل تأخير البيان ، وإنّما حقيقة النسخ هو أن يكون الحكم المجعول غير محدود بحدّ لا في مقام الثبوت ولا في مقام الاثبات ، ومقتضى كون الحكم غير محدود حتّى في مرحلة الثبوت هو بقاؤه واستمراره ، وأنّه لا يرتفع إلاّ برافع يرفعه ، وليس ذلك إلاّ نسخه.

والظاهر من أدلّة النسخ هو الثاني كما في قوله تعالى ( الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ ) (1) ومثل قوله تعالى ( عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (2) وقوله تعالى :

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ ) (3) وغير ذلك ممّا ظاهره الرفع لا الدفع.

وبالجملة : أنّ الحكم كسائر الأمور الانشائية التي يكون جعلها وإنشاؤها مقتضيا لبقائها واستمرارها ما لم يطرأ رافع يرفعها كالزوجية التي لا ترتفع إلاّ بالطلاق الذي هو رافعها ، ومجرّد علم الحاكم بأنّه يرفع ذلك الحكم بعد مضي المدّة الفلانية لأجل علمه بانتهاء أمد مصلحته لا يوجب كون ذلك الحكم في مرحلة الجعل محدودا بذلك الحدّ كي يخرج النسخ بذلك عن كونه رافعا للحكم ويكون من قبيل الدفع ، من دون فرق في ذلك بين تأخير النسخ إلى انتهاء أمد

ص: 390


1- الأنفال 8 : 66.
2- البقرة 2 : 187.
3- المجادلة 58 : 13.

مصلحة الحكم ، فيكون ذلك من قبيل تأخير الطلاق إلى انتهاء أمد مصلحة الزوجية ، أو إنشاء النسخ فعلا معلّقا ومشروطا بانتهاء أمد مصلحة الحكم ، ويكون ذلك من قبيل إنشاء الزوجية مقرونا بانشاء الطلاق المعلّق على انتهاء المدّة المعيّنة التي هي مدّة مصلحة الزوجية ، هذا كلّه في النسخ بعد حضور وقت العمل.

وأمّا قبله فقد يقال فيه إنّه لا بدّ من الالتزام بكونه من قبيل الدفع ، إذ لا يكون لنا حينئذ حكم واقعي حقيقي ، وإنّما هو حكم صوري ، فيكون نسخه من قبيل الدفع خصوصا على رأي شيخنا قدس سره من كون الأحكام تابعة للمصالح في المتعلّقات كما أوضحه في أوائل مبحث حجّية القطع الناشئ عن المقدّمات العقلية (1).

اللّهمّ إلاّ أن يلتزم بأنّ خصوص هذا النحو من الأحكام المنسوخة قبل حضور وقت العمل يكون تابعا للمصلحة في الجعل ، فيكون حكما حقيقة ، ولا مانع من الالتزام بذلك ، ويكون حاله حال الزوجية المجعولة في حال عدم القابلية للاستمتاع ، ثمّ بعد جعلها وتحقّقها يرفعها بالطلاق.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذا الحكم وإن لم يكن بداعي الاجراء والامتثال بل كان بداعي الامتحان مثلا ، إلاّ أنّه من ناحية كونه لا يرتفع إلاّ برافع كسائر الأحكام في أنّه لو لم ينسخ لكان باقيا ، إذ ليس محطّ الكلام هو الدوام بمعنى وجود الحكم في كلّ آن في مقابل وجوده محدودا ببعض الآنات ، فإنّ ذلك لا يتصوّر فيه الاهمال في مقام الثبوت ، فإن كانت المصلحة محدودة جعل الحكم على طبقها محدودا أيضا ، وإلاّ جعله دائميا موجودا في كلّ آن ، ولا يعقل الاهمال من هذه الجهة. ولو

ص: 391


1- أجود التقريرات 3 : 66 وما بعدها ، فوائد الأصول 3 : 57 وما بعدها.

كان النسخ في قبال هذا المعنى من الدوام لكان من قبيل الدفع وكان تخصيصا بحسب الأزمان ، لكن محلّ الكلام إنّما هو الدوام الذي هو عبارة عن البقاء بعد الحدوث في قبال عدم البقاء ، فإنّ هذا هو الذي يتصوّر فيه الاهمال وعدم الاطلاق والتقييد في مقام الثبوت ، بل يستحيل فيه لحاظ الاطلاق والتقييد في مقام الثبوت ، لاستحالة النظر في مقام جعل الحكم وحدوثه إلى جهة بقائه وعدم بقائه ، فإنّ مرتبة البقاء وعدمه إنّما هي بعد مرتبة الحدوث التي هي مرتبة جعل الحكم وهذه المرتبة أعني مرتبة البقاء هي فوق الحكم حتّى لو كان مقيّدا بالوجود في كلّ آن ، فيقال هذا الحكم الموجود في كلّ آن باق أو غير باق ، وهذه المرتبة أعني مرتبة البقاء هي التي يقابلها النسخ والارتفاع ، فلا يكون النسخ إلاّ رفع الحكم أيّا كان ذلك الحكم من كونه مقيّدا بالوجود في كلّ آن ، أو كونه مقيّدا ببعض الآنات ، كما أوضحناه في مبحث العموم الأزماني من تنبيهات الاستصحاب (1) ، فراجع.

والعمدة في المقام هو تنقيح هذه الجهة ، وهي أنّ الحكم هل يقتضي بذاته البقاء على وجه يكون غير قابل للاطلاق والتقييد من هذه الجهة ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ مصلحته لو كانت قصيرة الأمد فعلى الجاعل الحكيم أن يجعله ويجعل نسخه ورفعه عند الوصول إلى ذلك الأمد ، أو أنّه يجعله ويجعل رفعه ونسخه معلّقا على الوصول إلى ذلك الأمد على وجه لو لم يكن الجاعل حكيما ملاحظا للمصلحة لكان ذلك الحكم باقيا.

وبناء على ذلك لا يكون في الواقع إهمال لعدم تصوّر الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى ما يكون الحكم مقتضيا له في مرتبة جعله ، وإن كان بعد الفراغ عن

ص: 392


1- وهو التنبيه الثاني عشر في فوائد الأصول 4 : 531 وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس سره عليه تأتي في المجلّد العاشر من هذا الكتاب.

جعله لا بدّ أن يكون في الواقع متّصفا بأحد الأمرين من أنّ مصلحته محدودة ، فيرد عليه النسخ الذي هو رافعه ، أو أنّ مصلحته غير محدودة فلا يرد عليه النسخ أصلا ، وهو محصّل العموم الأزماني الطارئ على ذلك الحكم بعد فرض جعله ، إذ ليس العموم الأزماني مأخوذا في ناحية المتعلّق ، لأنّ ذلك أجنبي عمّا هو مفروض الكلام من كون العموم الأزماني واردا على نفس الحكم.

ثمّ إنّ محصّل العموم الأزماني بالنسبة إلى نفس الحكم ليس هو عبارة عن تعدّد الأحكام بحسب تعدّد الآنات ، بل لا يكون محصّله إلاّ استمرار ذلك الحكم وبقاءه في عمود الزمان ، فلو كان لنا مثل هذا العموم الأزماني بأن دلّ الدليل على أنّ هذا الحكم باق مستمرّ مع الزمان ، كان ذلك عبارة أخرى عن أنّه لا يرفعه رافع ولا ينسخه ناسخ ، فيكون حينئذ هذا معارضا لما دلّ على نسخه معارضة تباين لا العموم المطلق ، فلا يكون لقولهم إنّ النسخ تخصيص بحسب الزمان معنى محصّل ، لما عرفت من وقوع التباين بين قوله هذا الحكم مستمرّ باق مع الزمان مع قوله بأنّه مرفوع في الآن الفلاني ، وليس الأوّل إلاّ عبارة عن قولك هذا الحكم طويل الأمد أو أنّه لا نهاية له ، مع قولك إنّ هذا الحكم قصير الأمد أو أنّ له نهاية في كون الأوّل منافيا للثاني منافاة تباين.

ولو سلّمنا كون المعارضة على وجه العموم المطلق ، بأن يكون محصّل العموم الأزماني أنّ الحكم باق مستمرّ في كلّ آن ، ليكون قوله نسخته في الآن الفلاني مخصّصا لقوله في كلّ آن ، لم يكن ذلك منافيا لما ذكرناه من كونه بالنسبة إلى أصل الحكم رفعا ، وإن كان بالنسبة إلى ذلك الدليل تخصيصا ، فإنّ المتحصّل من الدليلين هو أنّ هذا الحكم باق مستمرّ مع الزمان لا أرفعه في جميع الآنات الآتية إلاّ في الآن الفلاني الذي هو بعد مدّة عشر سنين مثلا فإنّي أرفعه عنكم ، لكن

ص: 393

لا يخلو هذا الأخير من بعد ، لكونه من قبيل تخصيص الأكثر.

فالأولى هو ما ذكرناه أوّلا من أنّه لا محصّل للعموم الأزماني إلاّ الاستمرار والبقاء ، ومقتضاه أنّه لا يرد النسخ عليه ، ولو ورد مع ذلك ما يدلّ على نسخه في بعض الآنات الآتية كان بين الدليلين تباين ، كلّ ذلك على فرض أن يكون لنا عموم أزماني كذلك ، والظاهر عدمه ، وأنّه ليس في البين إلاّ عموم « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله حلال إلى يوم القيامة » (1) وليس مفاد هذا إلاّ عدم النسخ كما عرفت ، وهو بظاهره مباين لما دلّ على نسخ بعض الأحكام ، إلاّ أن نقول إنّ ذلك البعض المنسوخ خارج خروج تخصيص عن قوله صلى اللّه عليه وآله « حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله ... » أو خروج تخصّص على ما عرفت (2) من محصّل هذه الجملة الشريفة من أنّه لا ينسخ شريعته أحد بعده أو أنّه لا نبي بعده.

وينبغي مراجعة ما علّقناه على التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب (3) ، وأنّه هل يمكن أن يكون العموم الأزماني واردا في مرتبة جعل الحكم ، وحينئذ يتّجه قابلية الحكم للاطلاق والتقييد من هذه الجهة ، وحينئذ يستحيل الاهمال في مقام الثبوت بالنسبة إلى الجهة المذكورة ، أو أنّ العموم الأزماني الطارئ على الحكم لا يكون إلاّ في المرتبة المتأخّرة عن جعله كما أفاده شيخنا قدس سره (4) ، وحينئذ لا يستحيل إهماله واقعا في مقام جعله وإنشائه ، فراجع وتأمّل.

ص: 394


1- الكافي 1 : 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.
2- في الصفحة : 374.
3- في المجلّد العاشر في التعليق على فوائد الأصول 4 : 535 وكذا التعليقة المفصّلة على الفوائد 4 : 539.
4- أجود التقريرات 4 : 169 ، فوائد الأصول 4 : 539.

مباحث المطلق والمقيّد

قوله : وأمّا إذا أريد منه الساري في الجنس ، لأنّ معنى الشيوع هو السريان ، فينطبق على اسم الجنس والنكرة كليهما ... الخ (1).

يمكن أن يقال : إنّ هذا التعريف - وهو قولهم ما دلّ على شايع في جنسه - لا ينطبق على اسم الجنس حتّى لو قلنا بأنّ المراد من الشيوع هو السريان في الجنس ، إذ لا يكون اسم الجنس داخلا فيما دلّ على شايع في جنسه ، لأنّه إنّما يدلّ على الجنس نفسه لا على شيء شايع في جنسه. وأمّا الاعتذار عن ذلك بأنّ هذا التعريف إنّما هو ممّن يقول بعدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، فهو ممّا يزيد في الإشكال ، لأنّ خروج أسماء الأجناس عن المطلقات ممّا لا يمكن الالتزام به ، لأنّ لازم ذلك هو انحصار القضايا الأحكامية بما يكون موضوع الحكم فيها هو الفرد غير المعيّن الذي هو النكرة ، أو يكون موضوع الحكم فيها هو الأفراد نفسها على نحو العموم الشمولي ، وتكون القضية الكلّية عبارة عن قضايا شخصية.

قوله : وأمّا الاطلاق المتّصف به الجمل التركيبية ، أعني به ما يوجبه طبع نفس القضية الموجب للتوسعة مرّة وللتضييق أخرى فلم يقع التكلّم عنه في المقام ... الخ (2).

لا يخفى أنّ القيود الموجودة في الجمل التركيبية إن كانت راجعة إلى مفاد المادّة ، كانت داخلة في أسماء الأجناس ، وإن كانت راجعة إلى مفاد الهيئة ، كانت

ص: 395


1- أجود التقريرات 2 : 413 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 414 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

داخلة في إطلاق الحروف. نعم هناك كيفيات في الجمل التركيبية نعبّر عنها بعدم إعمال العناية ، مثلا التمسّك بأنّ صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، لأنّ الندب يحتاج إلى عناية وهي جعل الترخيص في الترك ، وأنّ الأمر يقتضي التعيين ، لأنّ التخيير يحتاج إلى العطف بلفظ أو ، وأنّ التعليق على الشرط يقتضي كون الشرط تمام العلّة وأنّه على نحو الانحصار ، لأنّ الاحتياج إلى شيء آخر ينضمّ إلى الشرط يحتاج إلى العطف بلفظ الواو ، وقيام شيء آخر مقام الشرط يحتاج إلى العطف عليه بلفظ أو ، هذه التمسّكات ليست براجعة إلى تمسّك باطلاق ، بل هي عبارة عن التمسّك بعدم العناية الزائدة ، لأنّ الطرف المقابل يحتاج إلى عناية لفظية زائدة عمّا هو موجود في عالم الألفاظ ، ومن الواضح أنّ ذلك في الحقيقة ليس من قبيل الاطلاق ، ولعلّ هذا النحو هو المراد لشيخنا قدس سره من إطلاق الجمل التركيبية. وفي تحريراتي التمثيل لاطلاق الجمل بالدرهم في مقام وقوعه في العقد ، وفرق بين كونه في العقد وكونه في الاقرار ، وأنّه ليس مدرك الفرق هو الانصراف في الأوّل دون الثاني ، وكذلك في تحريرات المرحوم الشيخ محمّد علي (1) ، والتفرقة مشكلة ، والاستناد إلى شيء غير الانصراف أشكل ، فراجع وتأمّل.

قوله : وكلّ منهما إمّا أن يكون في سياق النفي أو الاثبات ، وعلى تقدير وقوعهما في سياق النفي فلا إشكال في دلالتهما على العموم والاستيعاب ، وأمّا إذا كانا في سياق الاثبات ، فإن كان هناك ما يدلّ على البدلية من طرف المادّة كما في النكرة أو من طرف الهيئة كما في أسماء الأجناس ... الخ (2).

لا يخفى ما في العبارة من القلق ، لأنّ المقسم هو النكرة واسم الجنس ،

ص: 396


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 563.
2- أجود التقريرات 2 : 415 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فكيف يمكن أن يجعل أحد أقسامه هو النكرة واسم الجنس.

ثمّ إنّ قوله : وإلاّ فيكون الحكم استيعابيا الخ (1) ، ظاهره أنّ اسم الجنس والنكرة إذا وقعا في مقام الاثبات والايجاب ولم يكن ما يدلّ على البدلية من ناحية المادّة ولا من ناحية الهيئة يكون العموم استيعابيا ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يوجب الاستيعاب ما لم يكن في البين لفظ مثل لفظ كل أو اللام الاستغراقية أو غير ذلك من أدوات العموم ، ولا أقل من مقدّمات الحكمة ، وإلاّ كان اللفظ مجملا.

وبالجملة : أنّ ما أفيد في هذا الأمر الثاني من الحصر غير حاصر ، لكن يهوّن الخطب أنّ هذه الجهات واضحة تقدّم أغلبها في باب العموم والخصوص (2) ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في هذه المباحث بقيتها ، وليس الغرض من هذه المقدّمات إلاّ التمهيد لتلك المباحث لا أنّها حقائق راهنة ، مع أنّي لم أجد هذا التفصيل الموجود في هذا الأمر الثاني في تحريراتي عنه قدس سره.

نعم ، أشار إليه المرحوم الشيخ محمّد علي في أوائل البحث عند تفسيره الاطلاق بمعنى الارسال ، وأنّ اختلافه في كونه شموليا تارة وبدليا أخرى لا يوجب تفاوتا فيه ، فقال : بل الاطلاق في الجميع بمعنى واحد وهو الارسال ، غايته أنّ الحكم الوارد على النكرة أو الطبيعة تارة يقتضي البدلية كالنكرة الواقعة في سياق الاثبات ، والحكم على الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ، حيث إنّ نتيجته البدلية في مقام الامتثال (3) والاكتفاء بفرد واحد ، وأخرى يقتضي الشمول كالنكرة أو

ص: 397


1- أجود التقريرات 2 : 415 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع أجود التقريرات 2 : 294 وما بعدها.
3- [ هكذا ورد في الطبعة القديمة من الفوائد ، وأمّا الحديثة فقد جاء فيها : حيث إنّ نتيجة البدلية في المقام الامتثال ].

الطبيعة الواقعة في حيّز النفي أو الطبيعة الواقعة في حيّز الاثبات بلحاظ مطلق الوجود الخ (1) ، ولا يخفى أنّ هذا التفصيل لا خدشة فيه.

قوله : الثالث : أنّه قد ذكرنا سابقا أنّ سريان الحكم في العام الأصولي ... الخ (2).

تقدّم (3) البحث عن كون العام الأصولي محتاجا إلى مقدّمات الحكمة أو أنّه غير محتاج ، وقد قلنا هناك إنّه يحتاج إليها في طرد احتمال التقييد في ناحية المدخول ، وأمّا في طرد احتمال التخصيص الاخراجي فيتكفّله إضافة لفظة كلّ إلى المدخول ، كما أنّه قد تقدّمت الاشارة إلى وجه حكومة هذه العمومات الثلاثة بعضها على بعض ، فراجع ما حرّرناه في مباحث العموم والخصوص.

قوله : لتوقّف قصد القربة على ورود الأمر ، فلا يمكن أن يؤخذ في متعلّقه ، فيستحيل الاطلاق أيضا ... الخ (4).

تقدّم إقامة البرهان على ذلك في مبحث التعبّدي والتوصّلي وفي مبحث الترتّب ، وقد تعرّضنا في المقامين لعدم تمامية ما علّق من الحاشية على ذلك ، فراجع المقامين (5) وتأمّل.

ص: 398


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 562.
2- أجود التقريرات 2 : 415.
3- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 105 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 2 : 417 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
5- راجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب الصفحة : 409 وما بعدها ، وراجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : 363 وما بعدها.

قوله : الخامس : أنّ الاطلاق قد يكون في الأعلام الشخصية لا باعتبار الصدق والانطباق ، لعدم قابلية صدقها على كثيرين ، بل هو باعتبار الحالات والصفات ... الخ (1).

القيود اللاحقة صورة للأعلام الشخصية مثل أكرم زيدا في حال اتّصافه بالصفة الكذائية يمكن أن تكون لاحقة للأفعال المتعلّقة بالعلم مثل الاكرام ، وحينئذ يكون داخلا في محلّ النزاع ، وعلى كلّ حال أنّ إثبات الاطلاق ولو في ناحية العلم باعتبار كونه أحواليا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة. نعم ، لا يكون داخلا في محلّ النزاع بين السلطان (2) وغيره من كون هذا الاطلاق بالوضع أو كونه بمقدّمات الحكمة.

أمّا الاطلاق في الجمل التركيبية فقد عرفت (3) أنّه يمكن إرجاعه إلى إطلاق أسماء الأجناس إن كان القيد راجعا إلى المادّة ، أمّا لو قلنا برجوعه إلى مفاد الهيئة كان داخلا في إطلاق الحروف ، وهو أعني جريان الاطلاق في مفاد الحروف وعدم جريانه فيها مبنائي ، فبناء على مسلك صاحب الكفاية قدس سره يكون داخلا في محلّ النزاع ، وبناء على مسلك شيخنا قدس سره من استحالة الاطلاق فيها يكون خارجا من جهة عدم تصوّر الاطلاق والتقييد فيها ، لا من جهة أنّ إطلاقها خارج عن محلّ النزاع.

ص: 399


1- أجود التقريرات 2 : 419 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع حاشيته المطبوعة في هامش معالم الدين : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين.
3- في الصفحة : 395 - 396.

قوله : فإن قلنا بعدم الوضع في المركّبات كما هو الحقّ فحاله حال الاطلاق في الأعلام الشخصية ، وإلاّ فللنزاع المذكور فيه مجال كما في أسماء الأجناس ... الخ (1).

فيه تأمّل ، فإنّ محصّل القول بعدم الوضع في المركّبات أعني المجموع المؤلّف من المادّة والهيئة هو أنّه لا وجود له ، إذ ليس الموجود إلاّ المادّة والهيئة ، وحينئذ كيف يكون حاله حال الاطلاق في الأعلام الشخصية في الخروج عن محلّ النزاع أو في كون إطلاقه أحواليا أو نحو ذلك. وكيف يكون كذلك وهو لا وجود له أصلا.

وحينئذ لا بدّ أن نقول إنّ القيود الموجودة راجعة إلى مفاد المادّة ، فتكون داخلة في أسماء الأجناس ، أو إلى مفاد الهيئة فترجع إلى الاطلاق في مفاد الحروف.

ثمّ الظاهر أنّه لو قلنا بوجود المركّب ، وأنّه يكون موضوعا لحاصل الجملة ، فليس هو على نحو أسماء الأجناس في الدخول في النزاع بين السلطان والمشهور ، لأنّ ذلك النزاع واقع في أنّ الاطلاق الذي هو عبارة عن اللاّبشرطية في أسماء الأجناس هل هو داخل في الموضوع له أو أنّه إنّما يثبت فيها بمقدّمات الحكمة ، ومن الواضح أنّ ما يكون مفاده هو حاصل الجملة أجنبي عن ذلك.

قوله : وأخرى تعتبر بشرط لا ، بمعنى أن لا يكون معها خصوصية ، أي بشرط التجرّد عن كلّ خصوصية ، وبهذا الاعتبار تكون من الكلّيات العقلية غير الصادقة على الموجودات الخارجية ... الخ (2).

لو أخذنا الماهية بشرط لا بالاضافة إلى قيد مخصوص ، لكان الأمر في هذا

ص: 400


1- أجود التقريرات 2 : 419 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 421 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

التقسيم واضحا ، وهذا هو الذي ينفعنا في المطلقات والمقيّدات ، وهو الذي جرى عليه اصطلاح الفقهاء في الصلاة وغيرها ، فتراهم يقولون إنّ الركوع في كلّ ركعة معتبر بالقياس إلى الزائد على الواحد بشرط لا ، بخلاف الذكر فيه الصادق على التسبيحة الواحدة فإنّه معتبر لا بشرط ، وبخلاف السجود الصادق على السجدة الأولى فإنّه معتبر بشرط شيء وهو الانضمام إلى السجدة الثانية.

وحينئذ يكون حاصل التقسيم أنّك إذا تعلّق أمرك باحضار إنسان ، تارة تأمر باحضار الإنسان المقيّد بالكتابة وهو الإنسان بشرط شيء من حيث هذا العارض الخاص وهو الكتابة ، وأخرى تأمر باحضار الإنسان المقيّد بعدم الكتابة وهو الإنسان بشرط لا من حيث الكتابة ، وثالثة تأمر باحضار الإنسان مطلقا سواء كان كاتبا أو غير كاتب ، وهو الإنسان لا بشرط من حيث الكتابة ، وحيث إنّ الاعتبار الثاني راجع إلى تقييد الإنسان بعدم الكتابة ، كان مرجع القسمة الثلاثية إلى الثنائية. والجامع بين الأوّلين هو الإنسان بشرط شيء ، سواء كان وجوديا كالكتابة أو عدميا كعدمها ، وحينئذ ترجع المقابلة إلى المقابلة بين التقييد والاطلاق ، والجامع بينهما هو طبيعة الإنسان المهملة الصالحة لكلّ من الاطلاق والتقييد ، والسلطان يقول إنّ لفظ الإنسان موضوع لذلك الجامع ، والمشهور يقولون إنّه موضوع للقسم الأخير من أقسامه ، وهذا الجامع لا بدّ أن يكون مأخوذا لا بشرط ، لكن بالاضافة إلى كلّ من لحاظي الاطلاق والتقييد ، بخلاف القسم الأخير فإنّ معنى اللاّبشرطية فيه بالقياس إلى التقييد بذلك القيد الوجودي والعدمي.

والظاهر أنّ الكلّي الطبيعي هو نفس ذات الإنسان الصالحة لأن يطرأها كلّ من الاطلاق والتقييد ، أمّا القدر الجامع بين لحاظي الاطلاق والتقييد فليس هو الكلّي الطبيعي الذي يعرضه هذان اللحاظان ، فالظاهر أنّه لا وجود له حتّى في

ص: 401

الذهن ، لأنّ اللحاظين المذكورين عبارة عن تصوّر الماهية مقيّدة بالكتابة أو بعدمها ، وتصوّرها مطلقة شاملة لكلّ من الكاتب وغير الكاتب ، ولا وجود للجامع بين التصوّرين في الذهن فضلا عن الخارج ، بمعنى أنّه لا وجود له في الذهن في عرض وجودهما ، وإلاّ لم يكن جامعا بينهما ، وهذا لا ينافي تصوّر نفس ذلك الجامع الموجود بينهما وذلك عبارة أخرى عن وجود الجامع في الذهن لكن فوقهما لا في عرضهما كما سيتّضح إن شاء اللّه تعالى.

وهكذا الحال في كلّ مقسم بالنسبة إلى أقسامه ، فإنّه يكون كلّيا طبيعيا لها ولا يكون وجوده إلاّ عبارة عن وجودها ذهنا أو خارجا ، فالجامع بين الموجودات الذهنية يكون كلّيا طبيعيا لها ولا يكون له وجود ذهني في قبالها ، وإلاّ لم يكن جامعا لها بل كان موجودا آخر في عرضها ، كما أنّ الجامع بين الموجودات الخارجية لا يكون إلاّ كليا طبيعيا لها ولا يكون له وجود خارجي في قبالها ، بل لا يكون له وجود ذهني لعدم إمكان كون الوجود الذهني جامعا بين الموجودين الخارجيين.

لا يقال : يكون الجامع هو الوجود الذهني بما أنّه مرآة لما في الخارج.

لأنّا نقول : إنّ كون الجامع هو الموجود الذهني المأخوذ مرآة لما في الخارج عبارة أخرى عن كون الجامع هو ما في الخارج ، وليس له وجود في الخارج إلاّ نفس وجودهما.

نعم إنّك تتصوّر ذلك الجامع ، وذلك التصوّر نعبّر عنه بالوجود الذهني. هذا الذي نتعقّله من تقسيم الماهية إلى أخذها بالقياس إلى عارض من عوارضها بشرط شيء أو بشرط لا أو لا بشرط.

ولكن الجماعة أخذوا مفاد قولهم الماهية بشرط لا بمعنى تجرّدها عن

ص: 402

لحاظ كلّ شيء زائد على حقيقتها فكانت منحصرة بالوجود الذهني ، وحينئذ يكون الجامع بين الأقسام الثلاثة جامعا بين الموجود الذهني والموجود الخارجي ، وعبّروا عنه بالماهية لا بشرط المقسمي. ولا ريب أنّ ذلك الجامع لا يكون هو نفس الكلّي الطبيعي ، إذ لو كان الكلّي الطبيعي جامعا بين القسم الأوّل أعني المأخوذ بشرط لا الذي هو الوجود الذهني ، وبين غيره من الأقسام ، لكان الكلّي الطبيعي جامعا بين الكلّي العقلي والكلّي الخارجي ، والمفروض أنّ الكلّي الطبيعي في قبال الكلّي العقلي.

ولأجل ذلك أفاد شيخنا قدس سره (1) في مقام استبشاع ذلك واستنكاره بأنّه يلزم من ذلك كون الفرد العقلاني مصداقا من مصاديق الكلّي الطبيعي للإنسان ، فيكون حال هذا الفرد العقلاني في دعوى دخوله تحت طبيعة الإنسان حال المثل الأفلاطونية المعبّر عن كلّ واحد منها بربّ النوع بالقياس إلى ما تحت ذلك النوع من الأفراد الخارجية في كون كلّ واحد من تلك المثل مصداقا للكلّي الطبيعي الذي هو النوع ، وأفاد قدس سره أنّه لا بدّ إن نقول أنّ الكلّي الطبيعي هو القسم الأخير أعني الماهية لا بشرط القسمي ، وحينئذ ربما يتوجّه عليه أنّ لفظ الإنسان موضوع لذلك الكلّي الطبيعي فيتمّ ما عليه المشهور.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ لفظة الإنسان ليست موضوعة لذلك الكلّي الطبيعي ، بل هي موضوعة لذات الماهية الصالحة لكلّ لحاظ من اللحاظات الثلاثة والكلّي الطبيعي أحد تلك اللحاظات.

وفي هذا الجواب تأمّل ، بل الظاهر أنّ لفظة الإنسان اسم لجنس الإنسان ولذلك نقول إنّه اسم جنس ، والمراد بالجنس هو ماهية الإنسان وطبيعته وهي

ص: 403


1- أجود التقريرات 2 : 424.

عين الكلّي الطبيعي.

فالأولى أن يقال : إنّ الكلّي الطبيعي جامع بين القسمين الأخيرين أعني الماهية الملحوظة بشرط شيء وجودي أو عدمي ، والماهية الملحوظة لا بشرط القسمي على ما شرحناه ، فيكون الكلّي الطبيعي جامعا بين المطلق والمقيّد.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بالكلّي الطبيعي في المقام هو نفس الماهية التي هي عبارة عن ماهية الإنسان ، أمّا الكلّي الطبيعي أعني القدر المشترك بين الأقسام فهو كلّي طبيعي آخر غير هذا الكلّي الطبيعي المبحوث عنه ، بناء على ما عرفت من أنّ كلّ تقسيم لا بدّ فيه من قدر جامع بين الأقسام ، وأنّ ما هو الجامع بين الأقسام - أيّ أقسام كانت - لا بدّ أن يكون بالنسبة إلى تلك الأقسام كلّيا طبيعيا وإلاّ لم يكن هو الجامع بينها.

ثمّ إنّ المحشّي جرى في التقسيم على ما جرى عليه الجماعة ، لكنّه جاء ببعض الأقسام بأسمائها الاصطلاحية ، فسمّى الماهية المأخوذة بشرط شيء بالماهية المختلطة مثل الإنسان العالم. والظاهر أنّ الماهية المختلطة هي الماهية المأخوذ فيها عرض وجودي من عوارضها ، أمّا الماهية المقيّدة بقيد عدمي فالظاهر ليست عندهم من الماهيات المختلطة ، ولأجل ذلك يكون الابقاء على تسميتها الماهية بشرط شيء أولى بناء على أنّ المراد بشرط شيء هو الأعمّ من الوجودي والعدمي ، كما أنّه سمّى الماهية لا بشرط بالماهية المطلقة وهو واضح ، وسمّى الماهية بشرط لا بالماهية المجرّدة ، وجعل لحاظ التجريد أمرا زائدا على الماهية التي لا ينظر إلى مقام ذاتها التي هي الماهية من حيث هي التي ليست إلاّ هي ، وجعل هذه قسما مستقلا.

ولك أن تقول : هذه الماهية المأخوذة من حيث هي ليست إلاّ من أقسام

ص: 404

الماهية بشرط لا ، وحينئذ يكون الماهية بشرط لا قسمين : الأوّل الماهية من حيث هي ، التي لا يكون النظر فيها إلاّ إلى مقام الذات. والثاني : هي الماهية الملحوظ فيها شيء زائد على الذات ، وهو لحاظ تجرّدها. والأوّل هي الماهية بشرط لا حتّى عن كونها مقيّدة بشرط لا. والثاني هو الماهية المقيّدة بشرط لا ، والأمر في ذلك كلّه سهل لأنّه اصطلاح لا مشاحة فيه ، والعهدة في نسبته إلى القوم على مدّعيه.

لكنّه ذهب - في البساطة والتجرّد من كلّ شيء - بالكلّي الطبيعي إلى مناط الثريا فجعله فوق الجميع وجعله مجرّدا عن كلّ شيء حتّى لحاظ مقام الذات الذي هو الماهية من حيث هي ، ولو صحّ ذلك لكان الكلّي الطبيعي هو الجامع بين الأقسام الأربعة ، أعني الماهية من حيث هي هي ، والماهية المجرّدة ، والماهية المخلوطة ، والماهية المطلقة ، هذا ما ذكره في الحاشية على ص 523 (1).

ولكنّه ذكر في الحاشية على ص 525 ما هذا لفظه : لكنّك قد عرفت أنّ الكلّي الطبيعي إنّما هو نفس الماهية المتحقّقة بنفسها في الخارج وفي كلّ قسم من أقسام الماهية الملحوظة بلحاظ يختصّ به (2).

ولم أعرف المراد بقوله : إنّ الكلّي الطبيعي هو نفس الماهية المتحقّقة في الخارج بضميمة قوله : وفي كلّ قسم من أقسام الماهية الملحوظة بلحاظ يختصّ به ، فإنّ الظاهر من هذا الأخير هو الأقسام الأربعة ، فما معنى قوله قبله هو نفس الماهية المتحقّقة في الخارج ، اللّهمّ إلاّ أن يريد به هو الماهية من حيث هي هي الذي هو القسم الأوّل الذي ذكره قبل الثلاثة ، لكنّه بهذا الاعتبار لا يكون موجودا

ص: 405


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 421 - 423.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 424.

ومتحقّقا في الخارج ، لما عرفت من أنّ الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ، فلا يمكن أن تكون منظورا بها الوجود المتحقّق في الخارج.

وقد بقيت جهات من الكلام ، منها ما يتعلّق بشرح ما في الكفاية وغيره تعرّضنا له فيما علّقناه على ما حرّرناه عنه قدس سره (1) فراجعها فقد تركنا نقله هنا حذرا من الاطالة.

قال المحقّق الطوسي قدس سره في متن التجريد : الفصل الثاني : في الماهية ولواحقها ، وهي مشتقّة عمّا هو ، وهو ما به يجاب عن السؤال بما هو ، وتطلق غالبا على الأمر المتعقّل ويطلق الذات والحقيقة عليها مع اعتبار الوجود الخارجي والكل من ثواني المعقولات ، وحقيقة كلّ شيء مغايرة لما يعرض لها من الاعتبارات وإلاّ لم تصدق على ما ينافيها ، وتكون الماهية مع كلّ عارض مقابلة لها مع ضدّه ، وهي من حيث هي ليست إلاّ هي ، ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب السلب لكلّ شيء قبل الحيثية لا بعدها ، وقد تؤخذ الماهية محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضمّ إليها شيء لكان زائدا ولا تكون مقولة على ذلك المجموع ، وهو الماهية بشرط لا شيء ، ولا توجد إلاّ في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط شيء وهو كلّي طبيعي موجود في الخارج وهو جزء من الأشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه وممّا أضيف إليه (2).

قال العلاّمة قدس سره في شرح هذا الأخير - أعني قوله : وقد تؤخذ لا بشرط شيء الخ - : هذا اعتبار آخر للماهية معقول ، وهو أن تؤخذ الماهية من حيث هي هي لا باعتبار التجرّد ولا باعتبار عدمه ، كما يؤخذ الحيوان من حيث هو هو لا

ص: 406


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- كشف المراد : 85 - 87.

باعتبار تجرّده عن الاعتبارات بل مع تجويز أن يقارنه غيره ممّا يدخل في حقيقته ، وهذا هو الحيوان لا بشرط شيء وهو الكلّي الطبيعي لأنّه نفس طبائع الأشياء وحقائقها ، وهذا الكلّي موجود في الخارج الخ (1).

والمستفاد من هذا التقسيم أنّ القسمة ثلاثية ، وأنّ القسم الأوّل هو الماهية من حيث هي وهي ليست إلاّ هي ، وهي المجرّدة عن كلّ شيء حتّى قيد التجرّد. والقسم الثاني هو الماهية المقيّدة بالتجرّد وهو الماهية بشرط لا شيء. والقسم الثالث هو الماهية لا بشرط شيء. وبمقتضى تفسير العلاّمة قدس سره هو أنّ المراد من اللاّبشرطية هو أخذها لا بقيد التجريد كما في الثاني ولا بقيد عدم التجريد ، والمراد من كونها غير مقيّدة بعدم التجريد هو تقيّدها بشيء وهو الذي نعبّر عنه بالماهية بشرط شيء ، وحينئذ تكون الأقسام أربعة : الماهية من حيث هي ، والماهية المقيّدة بالتجرّد ، والماهية غير المقيّدة بالتجرّد ، والماهية المقيّدة بشرط شيء من لواحقها ، ومن الواضح أنّ الماهية غير المقيّدة بالتجرّد الذي عبّر عنه قدس سره بقوله : وقد تؤخذ لا بشرط شيء الخ ليست هي الماهية المطلقة السارية في كلّ واحد من أفرادها على نحو يتساوى فيه وجود القيد وعدمه على نحو الشمول أو على نحو البدلية ، بل المراد به هو المقابلة للمأخوذة بشرط لا شيء وبشرط التجريد عن لحاظ كلّ شيء زائد على نفس الماهية ، وأين هذا التقسيم حينئذ ممّا نحن بصدده من مباحث المطلق والمقيّد ، وهل إدخال تلك الاصطلاحات فيما نحن فيه مفيد لشيء إلاّ تبعيد المسافة على الطالب ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه وهو المستعان.

وقال المرحوم الشيخ عبد الهادي البغدادي المعروف بشليلة في شرح

ص: 407


1- كشف المراد : 87.

منظومته في المنطق في بيان أقسام الماهية من الاعتبارات العقلية وهي ثلاثة :

الأوّل : أن تلحظ من حيث هي ، أي لا بشرط اقترانها بشيء من لواحقها من كلّية أو جزئية أو ذاتية أو عرضية أو وجود أو عدم إلى غير ذلك ممّا يلحقها ذهنا أو خارجا ، ولا بشرط عدمه. وهي بهذا الاعتبار ليست إلاّ هي ، على معنى أنّها بملاحظتها في نفسها ومن حيث نفسها ليست عين شيء ممّا عداها ونفسه بل غيره وإن اتّحد معها خارجا أو ذهنا ، بل لا يمكن أن يعبّر عنها حينئذ إلاّ بهي المشار بها إلى ذاتها أو بلفظها الموضوع بازائها ، فلو أفيدت بغير ذلك كان ما تفاد به إمّا عنوانا منتزعا منها أو خارجا عنها لاحقا لها. وأيّا ما كان يكون مغايرا لها ولو بالاعتبار وإن اتّحد معها ذاتا ، فما هي من حيث هي إلاّ هي ، كذا يجب أن يفهم ذلك ، وتسمّى حينئذ الماهية المطلقة واللاّبشرط فلا تنافي الف شرط.

الثاني : أن تلحظ مع واحد من عوارضها على سبيل الشرطية أو الشطرية ، وتسمّى الماهية المقرونة والمخلوطة وبشرط شيء ، فلا تجتمع إلاّ مع ما لا ينافيه.

الثالث : أن تلحظ بشرط لا شيء معها أصلا ، وهي المسمّاة بالمجرّدة وبشرط لا. ولا يمكن زيادة اعتباراتها على ما ذكر. فانكشف أنّ الماهية لا بشرط شيء وكونها جزئية أو كلّية عرضية أو ذاتية جنسا أو فصلا ماشيا أو ضاحكا إلى غير ذلك شيء ، وأنّ أيّ ماهية فرضت مع أيّ صفة فرضت لها تلك الاعتبارات ، بل لا اختصاص لها بالماهية بذلك المعنى ، بل كلّ مفهوم إذا لوحظ مع آخر جرى فيه ما قلناه ومنه كافّة الجزئيات (1).

وقال في المقدّمة التي ساقها لبيان إقامة البرهان على وجود الكلّي الطبيعي :

ص: 408


1- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 70.

قد علم أنّ أحد إطلاقات الكلّي أن يطلق ويراد به الماهية من حيث هي لا بشرط ، والمراد بالماهية الأمر الواحد بالنوع الذي يشترك فيه كافّة الجزئيات المندرجة تحته ، ويكون كلّ واحد منها بحسبه عين الآخر بعد حذف النحو الخاص من أنحاء الوجود الخ (1).

فنراه قد جعل الماهية من حيث هي التي حكم عليها بأنّها ليست إلاّ هي ، هي الماهية لا بشرط ، وجعل الماهية بهذا الاعتبار هو عين الكلّي الطبيعي.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا أنّ الكلّي الطبيعي هو الماهية المأخوذة لا بشرط القسمي ، فلا نسلّم أنّ الماهية لا بشرط القسمي هي عبارة عن نفس الماهية من حيث هي هي المعبّر عنها فيما تقدّم بالماهية في مقام الذات ، فإنّ الماهية في مقام الذات أبسط وأبعد في التجريد من الماهية المجرّدة المعبّر عنها في كلام المحقّق الطوسي قدس سره (2) بالماهية بشرط لا شيء.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر ممّا عرفت من عبارة التجريد أنّ الماهية من حيث هي هي تكون قسيمة للماهية بشرط لا والماهية لا بشرط ، لا أنّها عين الماهية لا بشرط ، وأنّ الكلّي الطبيعي إنّما هو الماهية لا بشرط ، فلاحظ وتأمّل.

وقال المحقّق السيّد مير شريف في حاشيته على مبحث لازم الوجود ولازم الماهية من شرح المطالع في أثناء الكلام على صحّة ذلك التقسيم أعني تقسيم اللازم إلى لازم الماهية ولازم الوجود قال (3) : لا يقال قد اشتهر في كلامهم تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة ، هي المخلوطة والمشروطة بشرط لا وما لا شرط معها ،

ص: 409


1- منتقى الجمان في شرح لؤلؤة الميزان : 74.
2- المتقدّم في الصفحة : 407.
3- في ص 150 من الحواشي المذكورة طبع الآستانة [ منه قدس سره ].

فقد جوّزوا كون الشيء قسما لنفسه ونوعا منها. لأنّا نقول هذه فرية بلا مرية ، لأنّهم ذكروا أنّ الماهية قد تقيّد بعوارضها وقد تقيّد بعدمها ، وقد لا يعتبر معها شيء منهما ، والأوّلان مندرجان تحت الثالث اندراج نوعين متباينين تحت أعمّ ، وليس في ذلك تقسيم الماهية إلى تلك الأقسام بل بيان أنّ لها اعتبارات ثلاثة (1).

وهذا المعنى ، أعني كون الماهية من حيث هي هو عبارة عن الماهية لا بشرط ، هو الذي يظهر ممّا في التقريرات عن الشيخ قدس سره فإنّه قال : إنّ الماهية يمكن اعتبارها على وجوه مختلفة ، فتارة تعتبر على وجه التقييد بشيء خاص وقيد مخصوص ، سواء كان ذلك القيد ممّا يقتضي حصرها في شيء خاص كما في ماهية الإنسان الملحوظ معها خصوصية زيد على وجه لا يمكن التعدّي عنه ، أو كان ممّا يقضي بعدم حصرها في شيء خاصّ مثل ما يلحق الإنسان من الاعتبار الموجب لكفاية الاكرام لكلّ فرد منه ، يعني بذلك اعتبار الشيوع والاطلاق ، فإنّ الماهية المقيّدة بالاطلاق مطلقة في مقام الامتثال لو تعلّق الأمر باكرامه. ولا ريب أنّ ذلك اعتبار زائد على نفس المعنى ، ولا يلازمه دائما ، لجواز انفكاكه من الماهية ، وهذا هو المعبّر عنه عندهم بالماهية بشرط شيء.

وأخرى تعتبر على وجه عدم التقييد وهي المرسومة عندهم بالماهية بشرط لا - إلى أن قال - وأخرى تلاحظ على وجه الإرسال وعدم ملاحظة شيء معها من أمر وجودي أو عدمي ، فهي في هذه المرتبة ليست إلاّ هي ، ويمكن حذف جميع ما عداها وسلبها عنها ، كما أنّها في هذه المرتبة يحمل عليها الأضداد ، وهي الموسومة عندهم بالماهيّة لا بشرط شيء ، والتي يرتفع عنها النقيضان بمعنى عدم أخذهما فيها كما هو الموضوع لهما أيضا ، من دون حاجة لأن يلاحظ معها قيد

ص: 410


1- شرح المطالع : 70.

في صحّة حمل الأضداد أو المتناقضين عليها ، كيف وتلك القيود لا بدّ من رجوعها إلى الأضداد وهي ثابتة لها من دون قيد دفعا للتسلسل. ولا فرق بين هذا القسم والمقسم إلاّ بمجرّد الاعتبار والملاحظة على وجه حرّرناه في غير المقام ، وملخّصه أنّ القسم يمايز المقسم بالالتفات إلى أنّه في تلك الحالة كذلك ، وهو غير ملتفت به في المقسم وإن كان هو كذلك أيضا الخ (1).

فتراه جعل الماهية لا بشرط القسمي هي عين الماهية من حيث هي ، كما أنّه جعل الماهية المأخوذ فيها الشيوع أعني الماهية المطلقة من قسم الماهية بشرط شيء.

وهذه العبارة - أعني قوله : يعني بذلك اعتبار الشيوع والاطلاق فإنّ الماهية المقيّدة بالاطلاق مطلقة انتهى - ، مرسومة في نسختي على الهامش بالأحمر بعنوان التصحيح ، ويؤيّد ذلك قوله فيما بعد في أثناء الكلام ما هذا لفظه : ومن تلك الأطوار ظهوره على وجه السراية والشيوع ، فالماهيّة في هذه الملاحظة ملحوظة بشرط شيء ، لما أشرنا إليه من أنّ الشيء المشروط به أعمّ من ذلك ومن غيره ، ولذلك تكون القضية التي اعتبر موضوعها على هذا الوجه من المحصورة في وجه الخ (2).

وقال القوشجي في شرح التجريد : فاعلم أنّ للماهية بالقياس إلى تلك العوارض اعتبارات ثلاثة : أحدها أن تؤخذ بشرط مقارنتها ، وتسمّى الماهية حينئذ المخلوطة والماهية بشرط شيء. وقد تؤخذ بشرط أن لا يقارنها شيء من العوارض ، وتسمّى حينئذ الماهية المجرّدة والماهية بشرط لا. وقد تؤخذ غير

ص: 411


1- مطارح الأنظار 2 : 249 - 251.
2- مطارح الأنظار 2 : 251 - 252.

مشروطة لا بالمقارنة ولا بعدمها ، وتسمّى المطلقة والماهية لا بشرط شيء. والمجرّدة والمخلوطة متباينتان مندرجتان تحت المطلقة. وتوهّم بعض الناس أنّ القوم جعلوا الماهية منقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة ، فتمسّك بذلك على تجويز كون الشيء قسما من نفسه بناء على أنّ الماهية المطلقة نفس الماهية التي جعلت موردا للقسمة ، ومنشؤه الغفول عمّا أشرنا إليه من أنّ القوم لمّا بيّنوا أنّ ماهية كلّ شيء مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات أشاروا إلى أنّ للماهية بالقياس إلى تلك العوارض اعتبارات ثلاثة ، فمورد القسمة حال الماهية بالقياس إلى عوارضها (1).

قوله : فهي بهذا الاعتبار تكون من الكلّيات العقلية التي يمتنع صدقها على الموجودات الخارجية (2).

فلا تكون إلاّ من الموجودات الذهنية ، لا بمعنى أخذ الوجود الذهني قيدا فيها وإلاّ لم تكن بشرط لا ، بل بمعنى أنّها لو أخذت بشرط لا بالقياس إلى كلّ ما يكون خارجا عن أصل ذاتها يستحيل أن لا تنوجد إلاّ في الذهن ، إذ كلّ وجود يكون خارجا عن أصل ذاتها حتّى الوجود الذهني ، ولا تنافي بين وجودها الذهني وبين أخذها معرّاة حتّى عن الوجود الذهني.

لا يقال : فلم لا تقولون بأنّها موجودة في الخارج ، إذ لا تنافي بين وجودها الخارجي وبين أخذها معرّاة حتّى عن الوجود الخارجي.

لأنّا نقول : نعم لكن يكون لحاظها معرّاة حتّى عن الوجود الخارجي عبارة عن وجودها في الذهن ، لأنّ لحاظها هو عبارة عن وجودها في الذهن. لكن نقول

ص: 412


1- شرح تجريد الاعتقاد : 76.
2- أجود التقريرات 2 : 421 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

إنّ هذا الوجود الذهني داخل في النفي في قولنا مأخوذة بشرط لا ، بمعنى أنّا لاحظناها معرّاة عن كلّ شيء حتّى هذا الوجود أعني اللحاظ اللازم لتعريتها في حال لحاظها ، فلا يكون هذا الوجود الذهني مرآة لما في الخارج ، لما عرفت من أنّ أخذها بشرط لا بذلك المعنى يوجب عدم إمكان صدقها على ما في الخارج ، بل لا يكون صقعها حينئذ إلاّ الذهن ، وبذلك تختلف عن القسمين الأخيرين ، أعني لحاظها بشرط شيء أو لحاظها لا بشرط ، فإنّها وإن كانت في كلّ منهما موجودة في الذهن ، إلاّ أنّها لوحظت مرآة لما في الخارج ، فيمكن انطباقها على ما في الخارج من الواجد للقيد ومن فاقده ، ومن القدر الجامع بين الواجد والفاقد كما سيأتي (1) شرحه إن شاء اللّه تعالى (2).

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ لحاظ الماهية من حيث هي لا يكون إلاّ عبارة عن لحاظها من حيث هي نافيا عنها كلّ شيء حتّى لحاظها بشرط لا بالقياس إلى كلّ ما يكون خارجا عن ذاتها ، فهذا أعني أخذها من حيث هي يكون نافيا عنها كلّ شيء في مقام اللحاظ حتّى هذا القسم من اللحاظ أعني البشرطلائية بالقياس إلى كلّ شيء

ص: 413


1- في الصفحة : 418.
2- الغرض من هذا التقسيم هو بيان الخلاف بين المشهور وسلطان العلماء ، فالمشهور يقولون إنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية اللاّبشرط القسمي ، فلا يكون الاطلاق محتاجا إلى مقدّمات الحكمة ، والسلطان يقول إنّها موضوعة للماهية اللاّبشرط المقسمي ، فكما يكون تقييدها بشرط شيء محتاجا إلى القرينة فكذلك الإطلاق المقابل له أعني اللاّبشرط القسمي محتاج إلى دليل خارج وهو مقدّمات الحكمة. وعلى كلّ حال أنّهم ذكروا أنّ الماهية تارة تلاحظ بشرط لا وأخرى بشرط شيء وثالثة لا بشرط ، ومرادهم كما شرحه شيخنا قدس سره [ في أجود التقريرات 2 :2. 421 ] من الماهية بشرط لا هو أخذها مجرّدة عن كلّ شيء من عوارضها [ منه قدس سره ].

عداها ، وحينئذ يكون قسما رابعا.

وقد يقال : إنّه هو القدر الجامع بين الأقسام الثلاثة ، أعني اللاّبشرط المقسمي.

وفيه : أنّ هذا اللحاظ مباين لكلّ واحد من اللحاظات الثلاثة ، فكيف يكون قدرا جامعا ومقسما لها ، ومن شرط الجامع والمقسم قابلية الانطباق والحمل على كلّ واحد من الأقسام ، فإنّ الجامع لا يكون لا كلّيا طبيعيا لجميع ما تحته من الأقسام ، فيكون موجودا بعين وجودها ، ولا يكون موجودا بوجود آخر ، وإلاّ كان مباينا لها كما هو ظاهر في الجامع بين الموجودات الخارجية. أمّا الموجودات الذهنية فهي كذلك ، بمعنى أنّ الجامع والكلّي الطبيعي لها لا يكون له وجود ذهني في عرضها وإلاّ كان مباينا لها ، لكن حيث إنّ دائرة الذهن وسيعة ، ويمكنك أن تتصوّر ما هو موجود في ذهنك بكونه الجامع بين الموجودات الذهنية ، وإن كان هو موجودا ذهنيا في ضمن كلّ واحد منها ، إلاّ أنّك كما يمكنك أن تتصوّر كلّ واحد من تلك الموجودات الذهنية فيمكنك أن تتصوّر ذلك القدر الجامع بينها ويكون تصوّرك له فوق الجميع.

قوله : والماهية المأخوذة بشرط لا بهذا المعنى يقابلها أمران : أحدهما الماهية المعتبرة بشرط شيء - إلى قوله - وثانيهما الماهية المعتبرة لا بشرط ... الخ (1).

هذه المقابلة صحيحة ، لأنّ كلّ واحد من أخذها بشرط الكتابة أو عدم الكتابة ، وأخذها لا بشرط من حيث الكتابة وعدمها ، يقابل أخذها بشرط لا بالقياس إلى جميع العوارض ، فإنّ الكتابة وعدمها والاطلاق من حيث الكتابة

ص: 414


1- أجود التقريرات 2 : 421 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

وعدمها داخل في النفي في قولنا بشرط لا بالقياس إلى جميع الطوارئ والعوارض ، فإنّ وجود الكتابة وعدمها والاطلاق من ناحية ذلك الوجود والعدم جميع ذلك من الطوارئ الزائدة على أصل الماهية.

قوله : لا بشرط ، أعني بها ما لا يعتبر فيه شيء من الخصوصيتين المعتبرتين في الماهية المجرّدة والمخلوطة ... الخ (1).

هذا لا يخلو من غموض أو تأمّل. والأولى أن يقال : إنّ المراد من قولهم لا بشرط إنّما هو عبارة عن أنّها لم يؤخذ فيها شرط وجود الكتابة ولا شرط عدم الكتابة ، ولا دخل لذلك بالماهية المجرّدة التي عرفت أنّها أخذت بشرط لا بالقياس إلى جميع العوارض حتّى الاطلاق من ناحية الكتابة وعدمها.

ثمّ إنّه يريد أن يجعل اللاّبشرط هنا عبارة عن الكلّي الطبيعي فكيف يكون خلوّ الشرط في اللاّبشرط هنا شاملا لشرط لا الذي هو في الماهية المجرّدة التي لا تكون إلاّ في العقل ، مع فرض كون الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج.

والذي أظنّ أنّ قوله المجرّدة ، غلط من الناسخ ، وأنّ أصل العبارة هكذا : أعني بها ما لا يعتبر فيه شيء من الخصوصيتين المعتبرتين في الماهية المخلوطة الخ. والمراد من المخلوطة هي المخلوطة بالكتابة مثلا والمخلوطة بعدم الكتابة ، والمراد بالخصوصيتين هما الكتابة وعدمها.

وإن شئت فقل : إنّ القسم الأوّل هو الماهية المجرّدة ، والثاني هو المختلطة ، والثالث لمّا كان جامعا بين المختلطة مع الكتابة مثلا ومع عدم الكتابة ، كانت الماهية فيه أيضا مختلطة ومع وجود القيد الزائد وعدمه ، فيكون كلّ منهما من المختلطة المقابلة للماهية المجرّدة.

ص: 415


1- أجود التقريرات 2 : 421 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

وإن شئت فلاحظ ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي فإنّه أطنب في تحرير هذا التقسيم وقال ما هذا لفظه : وليس المراد من لا بشرط هو اللاّبشرطية عن البشرط اللائية والبشرط الشيئية ، بحيث يكون بشرط لا قسما من لا بشرط ، وبشرط شيء قسما آخر ، وكان لا بشرط يجتمع مع كلّ منهما ، فإنّه يكون حينئذ لا بشرط مقسما لهما لا قسيما الخ (1).

وقال المرحوم الشيخ موسى الخونساري فيما حرّره عن شيخنا قدس سره في الدورة السابقة ما هذا لفظه : وبعبارة واضحة نفس الطبيعة لا ملحوظا معها الضميمة ولا عدمها ، أي بما هي هي اللاّبشرط المقسمي ، وبلحاظ عدم تخصّصه بالخصوصيات هي بشرط لا ، وبلحاظ تخصيصها بالخصوصيات فتارة يتساوى كلّ خصوصية مع نقيضها بالنسبة إليها فهي اللاّبشرط القسمي - إلى أن قال - وأخرى يقيّد ويتخصّص بخصوصية خاصّة فهي الماهية بشرط شيء ، انتهى.

وقلت فيما حرّرته عنه قدس سره : وبالجملة أنّ الماهية لا بشرط القسمي عبارة عن القدر الجامع بين الواجد لذلك الطارئ والفاقد له - إلى قوله - فتكون عبارة عن القدر الجامع بين الصنفين ، أعني الواجد والفاقد ، وليست هي عبارة عن القدر الجامع بين أخذها بشرط لا وأخذها بشرط شيء ليكون كلّيا عقليا - إلى قوله - مع أنّ الضرورة شاهدة بأنّ أخذها لا بشرط من حيث وجدان الصفة وفقدانها إنّما هو قسيم ومقابل لكلّ من أخذها بشرط لا وأخذها بشرط شيء ، فإنّ ذلك ممّا يوجب بداهة عدم كون أخذها لا بشرط قدرا مشتركا بين الاعتبارين المذكورين ، وأنّه ليس إلاّ قدرا جامعا بين واجد الوصف وفاقده ، إلى آخر ما شرحناه هناك فراجع

ص: 416


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 569.

ص 179 (1).

والمستفاد من مجموع هذه الكلمات وممّا حرّره المرحوم الشيخ موسى وحرّره المرحوم الشيخ محمّد علي ، أنّ مراد شيخنا قدس سره من كون الماهية لا بشرط القسمي إنّما هو لا بشرط من حيث القيد الزائد مثل الكتابة وعدمه لا اللاّبشرطية من حيث الماهية المجرّدة والمخلوطة لتكون منطبقة على المخلوطة والمجرّدة التي هي لا موطن لها إلاّ في الذهن ، فلاحظ وتدبّر.

واعلم أنّ الطبعة الأولى خالية من هذه اللفظة ، وإن شئت فلاحظ قوله ص 400 في : اللاّبشرط القسمي ، أي ما لا يعتبر فيه خصوصية من الخصوصيات الخارجية (2) ، ولاحظ قوله في ص 402 هو أنّ الثاني ( يعني اللاّبشرط القسمي ) هو اللاّبشرط بالاضافة إلى الخصوصيات والأوصاف اللاحقة لها مثل العالمية والجاهلية للإنسان الخ (3).

ثمّ إنّ الذي يظهر منه قدس سره ومن غيره ما عرفته من الفرق بين القسم الأوّل وهو لحاظ الماهية بشرط لا والقسمين الآخرين أعني لحاظ الماهية بشرط شيء وجودي أو عدمي ، ولحاظ الماهية لا بشرط ، هو استحالة انطباق الأوّل على ما في الخارج ، بخلاف الأخيرين ، وليس مرجع ذلك إلى أنّ الأخيرين أعني الثاني والثالث من الموجودات الخارجية كما ربما يتراءى من عبارة مقرّر درس السيّد البروجردي فإنّه قال : وكيف كان فالماهية التي تكون بشرط لا ليست موجودة والبشرطشيء موجودة ، وكذلك اللاّبشرط بمعنى نفس الماهية لتحقّقها في

ص: 417


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 2 : 421 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 : 425 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ضمن البشرطشيء وحملها عليها (1).

بل المراد أنّ الثلاثة من مقولة الوجود الذهني ، غايته أنّ الأوّل ليس بصالح للانطباق على ما في الخارج بخلاف الأخيرين فإنّهما أعني لحاظ الماهية بشرط شيء أو لحاظها لا بشرط يكون الملحوظ فيهما آلة للحاظ ما في الخارج ، فكلّ واحد منهما صالح للانطباق على ما في الخارج.

لكن التحقيق أنّ ما هو موجود في الذهن لا يمكن انطباقه على ما في الخارج ، نعم إنّ ما هو الموجود تارة يكون صورة ذهنية لما في الخارج ، وأخرى لا تكون تلك الصورة الذهنية صورة ذهنية لما في الخارج ، والثاني فيما نحن فيه هو الماهية الملحوظة بشرط لا ، والأوّل هو الماهية الملحوظة بشرط شيء.

ثمّ إنّ في المقام تأمّلا آخر ، وهو أنّ الموجود الخارجي من الرقبة مثلا فردان أحدهما المؤمنة والأخرى ليست بمؤمنة ، والقدر الجامع بينهما هو الكلّي الطبيعي ، فهو موجود في الخارج بوجود فرديه ، سواء كان في البين ملاحظ يلاحظ أحد هذه الثلاثة أو لم يكن ، على إشكال في كيفية وجود ذلك الجامع في ضمن فرديه ، إذ ليس في الوجود إلاّ الحصّة في هذا الفرد والحصة في الفرد الآخر ، والجامع بين الحصتين لا وجود له في الخارج ، نعم إنّه مفهوم متصوّر منتزع منهما ، ونقول إنّ وجوده الخارجي عين وجودهما ، ووجوده الذهني منطبق على كلّ منهما ، كما أنّ وجود كلّ منهما ذهنا منطبق على نفسه في الخارج ، ثمّ لمّا جاء دور اللحاظ أعني دور الوجود الذهني كان هناك لحاظ للرقبة التي وجدت مقترنة بالإيمان وللرقبة التي وجدت مقترنة بعدم الإيمان ، ونعبّر عن الأوّل بلحاظ ماهية الرقبة بشرط شيء وهو الإيمان ، وعن الثاني بلحاظها بشرط لا وهو عدم

ص: 418


1- نهاية الأصول 1 : 372.

الإيمان ، وإن شئت فسمّ اللحاظين بلحاظ الماهية بشرط شيء ، سواء كان هو وجود الإيمان أو كان هو عدمه ، وكان هناك لحاظ لماهية الرقبة لا بشرط من حيث الإيمان وعدمه ، وهذا هو عبارة عن لحاظ الجامع بينهما وهو عبارة عن لحاظ الكلّي الطبيعي الصالح للانطباق على كلّ منهما أعني به ذلك الموجود خارجا في كلّ منهما بنسبة واحدة.

ثمّ إنّ هناك شيئا آخر هو الجامع بين الرقبة التي لوحظت بشرط الإيمان أو بشرط عدمه ، والرقبة التي لوحظت لا بشرط بالقياس إلى كلّ منهما وهو لحاظ نفس الرقبة لا بشرط من حيث كلّ من التقييد والاطلاق بالنسبة إلى الإيمان وعدمه ، وحينئذ يكون الفرق بين اللاّبشرط القسم واللاّبشرط المقسم أنّ الأوّل عبارة عن لحاظ الماهية مطلقة من ناحية الإيمان وعدمه ، والثاني عبارة عن لحاظ الماهية غير مقيّدة لا بالإيمان ولا بعدمه ولا بالاطلاق من ناحيتهما.

ولو أخذنا البشرطلا بالمعنى الأوّل أعني لحاظها مجرّدة وضممناه إلى الثلاثة أعني لحاظها بشرط الإيمان ولحاظها بشرط عدم الإيمان ولحاظها مطلقة من هذه الناحية كانت الأقسام أربعة ، ولو قلنا إنّ لحاظ الماهية من حيث هي هي قسم آخر ، كانت الأقسام خمسة وكانت كلّها عبارة عن وجودات ذهنية ، وكان الجامع بين هذه الوجودات الذهنية وجودا ذهنيا واسعا لكلّ واحد منها يكون نسبته إليها نسبة الكلّي الطبيعي الخارجي إلى أفراده الخارجية ، ولو أدخلناه في عالم اللحاظ والوجود الذهني لكان لحاظه ووجوده الذهني فوق الجميع لا أنّه في عرضها ، وإلاّ لم يكن جامعا بينها ولا أنّه في ضمنها لأنّه هو نفس ذلك الكلّي الطبيعي الذي جعلناه بمنزلة الكلّي الخارجي ، فلا بدّ أن يكون لحاظه فوقه لا أنّه عين لحاظه.

ص: 419

وعلى كلّ حال ، أنّ المدّعى هو أنّ اسم الجنس إنّما هو موضوع لذلك الوجود الذهني المعبّر عنه بلحاظ الماهية لا بشرط المقسمي الذي هو الجامع بين الوجودات الذهنية. أعني اللحاظات الثلاثة للماهية أو اللحاظات الأربعة أو اللحاظات الخمسة لها ، ولكن الظاهر أنّ اللحاظ لم يكن مأخوذا في أسماء الأجناس وإلاّ لم تنطبق على ما في الخارج ، بل الموضوع له اسم الجنس مثل الرقبة هو ذلك الجنس الواقعي الموجود في ضمن المؤمنة كما هو موجود في ضمن الكافرة ، فليس الموضوع له مقيّدا باللحاظ الذي هو الوجود الذهني ولا مقيّدا بالوجود الخارجي في ضمن كلّ واحد من أفراده ، بل الموضوع له إنّما هو المعنى الواقعي الذي هو طبيعة الرقبة.

نعم ، إنّه لا بدّ من لحاظه حين الوضع كما لا بدّ من لحاظه حين الاستعمال ، إلاّ أنّ هذا اللحاظ ليس إلاّ طريقا وآلة ليتمّ الوضع له والحكاية عنه ، حيث إنّ الوضع له والحكاية عنه لا يعقل إلاّ في حال لحاظه وتصوّره من دون أن يكون ذلك اللحاظ والتصوّر جزءا أو قيدا في الموضوع له أو في المستعمل فيه.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ الموضوع له اسم الجنس الذي هو الكلّي الطبيعي خارج عن كلّ من المقسم والأقسام المذكورة ، ولأجل ذلك نقول إنّ ثبوت الاطلاق أعني الاطلاق اللحاظي المعبّر عنه بقولنا سواء كانت الرقبة مؤمنة أو كانت غير مؤمنة ، يحتاج إلى دليل في مقام الاثبات ، ولا يكفي فيه إيراد الحكم على نفس الجنس أعني طبيعة الرقبة ، إلاّ إذا كان في مقام البيان ولم يبيّن ، وذلك عبارة عن مقدّمات الحكمة ، وإلاّ فلو لم يكن في مقام البيان كان من المحتمل إرادة نوع خاصّ من الرقبة ، فلاحظ وتدبّر.

ص: 420

ومن ذلك يظهر لك أنّ مذهب السلطان (1) لا يتوقّف على كون الموضوع له هو القدر الجامع أعني لحاظ الماهية لا بشرط المقسمي ، بل إنّ ذلك يوجب تقييد الموضوع له بالوجود الذهني وهو لا يقول به أحد لا السلطان ولا أحد من علماء المشهور المقابلين للسلطان.

والخلاصة : هي أنّ جميع هذه الأقسام للماهية ، أعني الماهية الملحوظة بشرط لا بالقياس إلى جميع الطوارئ والعوارض ، والماهية الملحوظة بشرط شيء وهو الكتابة ، والماهية الملحوظة بشرط عدم الكتابة ، والماهية الملحوظة لا بشرط من حيث الكتابة وعدمها ، تكون موجودة ذهنا ، وكذلك القدر الجامع بينها وهو الماهية الملحوظة لا بشرط المقسمي فإنّه موجود ذهنا ، بل لا وجود له إلاّ فيه ، لكونه القدر الجامع بين الأقسام المذكورة التي هي وجودات ذهنية ، وبعضها لا يمكن انطباقه على ما في الخارج وهو الماهية الملحوظة بشرط لا أعني الماهية المجرّدة ، وحينئذ كيف يمكننا القول بأنّ اسم الجنس موضوع لذلك القدر الجامع أعني اللاّبشرط المقسمي كما هو المنسوب إلى السلطان ، فإنّ لازمه عدم انطباق اسم الجنس على ما في الخارج.

أمّا ما نسب إلى المشهور من كون الموضوع له اسم الجنس هو الماهية الملحوظة لا بشرط القسمي ، فيجري الإشكال فيه أيضا ، فإنّ هذا الموجود الذهني وإن أمكن انطباقه على ما في الخارج ، إلاّ أنّه بعد تقييده باللحاظ المذكور الذي هو عبارة عن الوجود الذهني لا يكون انطباقه على ما في الخارج ممكنا ، فإنّ نفس الماهية التي طرأ عليها اللحاظ وإن كانت موجودة في الخارج إلاّ أنّها بقيد

ص: 421


1- راجع حاشيته المطبوعة في هامش معالم الدين : 155 ، ذيل قول الماتن : فلأنّه جمع بين الدليلين.

اللحاظ لا تكون موجودة فيه ، وهذا نظير ما حقّق في محلّه من أنّ تقييد المعنى الاسمي باللحاظ الاستقلالي ، والحرفي باللحاظ الآلي ، يكون موجبا لعدم انطباقهما على ما في الخارج.

وحينئذ فلا بدّ أن نقول إنّ الموضوع له اسم الجنس هو ذات الماهية الموجودة في الكاتب وفي معدوم الكتابة ، ولو أنكرنا وجود الطبيعي في الخارج أو قلنا بأنّه موجود فيه لكن الموضوع له اسم الجنس لا يكون مقيّدا بالوجود الخارجي كما أنّه لا يقيد بالوجود الذهني ، لقلنا إنّ الموضوع له اسم الجنس هو المعنى الواقعي ، وحينئذ نقول إنّ المشهور يكتفون في ثبوت الاطلاق بذلك الوضع ، والسلطان يقول إنّ الاطلاق وأخذ موضوع الحكم مطلقا كأخذه مقيّدا بمثل الكتابة يحتاج إلى دليل ، وفي التقييد يكون ذكر القيد دليلا عليه ، ولكن في المطلق حيث إنّ التقييد يحتاج إلى ذكر القيد كان عدم ذكر القيد مع أنّه في مقام البيان كافيا في إثبات الاطلاق.

والأولى أن يقال : إنّ المسألة بين السلطان وغيره مبنية على أنّ إرادة التقييد ولو بالقرينة المتّصلة توجب التجوّز ، كما أنّ إرادة الرجل الشجاع من لفظ الأسد توجب [ التجوّز ] وتحتاج إلى القرينة الصارفة ، ومع عدم القرينة ولو بأصالة العدم يكون اللفظ قاضيا بارادة المعنى الحقيقي ، بل قيل إنّه لا يحتاج إلى أصالة عدم القرينة ، بل إنّ أصالة الحقيقة كافية في الحكم بإرادة المعنى الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس في المثال ، ومطلق الرقبة فيما نحن فيه ، هذا تقريب مسلك المشهور.

وأمّا تقريب مسلك السلطان فهو مبني على أنّ إرادة التقييد لا توجب التجوّز في المطلق ، فإنّ المطلق يحضر معناه في ذهن السامع على كلّ حال ، لكن

ص: 422

لو أراد الحكم على بعض أصنافه قيّده بذلك الصنف ، وإذا أراد الحكم على جميع أصنافه احتاج إلى الدليل الخارج ، ويكفي فيه عدم ذكر القيد مع كونه في مقام البيان.

والخلاصة : هي أنّه بناء على كون التقييد من قبيل التجوّز ، لا يكون اللفظ قد أدّى وظيفته وهي إحضار المعنى وبقي على المتكلّم أن يبيّن أنّ الحكم على هذا المعنى الحقيقي أو على ذلك المعنى المجازي ، بل إنّ تأدية اللفظ لوظيفته إمّا بالقرينة ، فهو لا يدلّ إلاّ على المعنى المجازي وهو المحكوم عليه ، وإمّا مع عدم القرينة ، فهو لا يدلّ إلاّ على المعنى الحقيقي وهو المحكوم عليه.

نعم ، تارة نقول إنّ الحمل على الحقيقي محتاج إلى عدم القرينة بالأصل أو بالوجدان. وربما نقول إنّه لا يحتاج إلى عدم القرينة بل يكون اللفظ قاضيا بإرادة المعنى الحقيقي إلاّ أن يكون صارف يصرفه وهو القرينة ، نظير الأخذ بالمقتضي عند عدم إحراز المانع ، ولا يتصوّر الحاجة إلى مقام البيان ، ولأجل ذلك تراهم يحملون اللفظ على معناه الحقيقي من دون توقّف على كون المتكلّم في مقام البيان ، بل لا يتصوّر الاهمال فيه في مقام الثبوت إلاّ أن يكون الكلام متّصلا بما يحتمل القرينية.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ التقييد لا يكون من قبيل التجوّز فإنّه بناء عليه يكون اللفظ قد أدّى وظيفته وهي إحضار الجنس والماهية أمام السامع ، ولكن بقي على المتكلّم مقام الحكم على تلك الماهية التي أحضرها أمام السامع ، فربما أورد حكمه على بعض أصنافها ، وبيان ذلك هو أن يقيّدها بالمؤمنة مثلا ، وربما أورد حكمه على جميع أصنافها بأن يقول أعتق جميع أفراد الرقبة أو أي صنف من أصنافها ، لكن ربما كان كونه في مقام البيان وسكوته عن بيان أنّ مورد حكمي

ص: 423

هو خصوص الصنف الفلاني كافيا في بيان أنّ حكمي وارد على جميع الأصناف ، فلا يكون إيراد الحكم على الطبيعة كافيا في ثبوت [ الحكم ] لجميع الأصناف ، لأنّ المتكلّم بعد إحضار الطبيعة بلفظها أمام السامع لا بدّ له أن يلاحظها ثانيا في مقام الحكم ، وأنّ الملحوظ منها في حال إيراد الحكم هل هو نفس الطبيعة أو أنّ الملحوظ منها هو خصوص صنف من أصنافها ، وكلّ من هذين اللحاظين لدى السامع يحتاج إلى بيان من المتكلّم ، وبيان الثاني هو التقييد ، وبيان الأولى هو التوسعة والاطلاق ، إمّا بما يدلّ عليه وإمّا بالسكوت عن التقييد مع كونه في مقام البيان وقدرته عليه ، ليكون ذلك قرينة على كيفية إيراده الحكم من باب أنّ سكوته مع تمكّنه من بيان القيد هو عبارة أخرى عن لحاظ عدم التقييد ، أعني لحاظ الطبيعة مطلقة في مقام الحكم عليها.

ولأجل ذلك يتصوّر لنا هنا مقام ثالث في مقام الاثبات ، وهو مقام الاهمال والإجمال ، بأن يسكت عن ذكر القيد مع فرض عدم كونه في مقام البيان ، فيكون المقام من قبيل الاهمال في مقام الاثبات ، وإن كان ذلك أعني الاهمال مستحيلا في مقام الثبوت.

ويمكنك أن تقول : إنّ الموضوع له وإن كان هو نفس الجنس إلاّ أنّ المتكلّم في مقام إيراد الحكم عليه لا بدّ أن يلاحظه ، وحينئذ تأتي الأقسام التي ذكرها الجماعة من لحاظه بشرط لا ولحاظه بشرط شيء ولحاظه لا بشرط ، والجامع هو اللاّبشرط المقسمي ، وكلّ واحد من الثلاثة يحتاج السامع في إثباته ونسبته إلى المتكلّم إلى دليل ، غايته أنّ الثالث يكفي فيه عدم بيان مقابليه مع كونه في مقام البيان ، وإذا لم يكن في البين ما يدلّ على التعيين حتّى عدم البيان المذكور لم يمكن الحكم على المتكلّم إلاّ بنحو اللاّبشرط المقسمي ، وذلك عبارة أخرى عن

ص: 424

الاهمال أو الإجمال ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : بداهة أنّ كون المتكلّم في مقام التشريع يكون قرينة على أنّه ليس في مقام بيان تمام مراده - إلى قوله - وأمّا إذا كان المتكلّم في مقام بيان حكم آخر فلا يكون هناك دليل على كونه في مقام البيان من الجهة التي نريد أن نتمسّك بالاطلاق في إثباتها ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في توضيح هذه الجملة ما هذا لفظه : ثمّ إنّه لو شكّ في كون الكلام واردا في مقام البيان أو أنّه وارد في مقام الاهمال ، فلا ريب في أنّ مقتضى الأصل العقلائي هو الحكم بأنّه وارد في مقام البيان ، إذ الأصل في كلام كلّ متكلّم وإن لم يكن حكيما أن يكون صدوره منه لبيان تمام مراده ، واحتمال كونه صادرا في مقام الاهمال والاجمال منفي بهذا الأصل العقلائي الذي جرى عليه العقلاء في استكشاف مرادات المتكلّمين منهم ، ولا نخرج عن هذا الأصل إلاّ بما يوجب الخروج عنه بأحد الوجهين المذكورين ، وإن كان بينهما فرق واضح وهو أنّ الأوّل منهما يكون بمنزلة القرينة المانعة من الأخذ بهذا الأصل ، والثاني منهما يكون موجبا لعدم تحقّق موضوعه ، حيث إنّ صدور الكلام لبيان الحكم الأوّل يكفي في الحكم بأنّه صدر في مقام البيان وفي خروج الكلام عن كونه صادرا لبيان الحكم الثاني.

وبالجملة : أنّ الكلام لم يكن مسوقا لافادة الحكم الثاني كي يكون من هذه الجهة موردا لأصالة كون الكلام مسوقا في مقام البيان ، وإنّما كان الكلام المذكور مسوقا لافادة الحكم الأوّل ، فيكون من هذه الجهة موردا لأصالة كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة دون جهة الحكم الثاني ، فإنّه لمّا لم يكن الكلام مسوقا

ص: 425


1- أجود التقريرات 2 : 430 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

لافادته لم يتحقّق بالنسبة إليه موضوع أصالة كون الكلام مسوقا في مقام البيان ، فإنّ موضوع هذا الأصل هو أن يكون الكلام صادرا لافادة شيء ، وبعد كونه صادرا لافادته يكون الأصل أنّه مسوق لمقام البيان بالنسبة إلى ذلك الشيء الذي كان الكلام صادرا لافادته ، والمفروض أنّ الحكم الثاني لم يكن الكلام صادرا لافادته ، فلا يكون الأصل المذكور جاريا بالنسبة إليه ، لعدم تحقّق موضوع الأصل المذكور بالنسبة إليه ، لا أنّه قد تحقّق فيه موضوع الأصل المذكور ولكن منع مانع من الأخذ به كما في مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) في مقام التشريع ، فإنّ الكلام يكون مسوقا لافادة وجوب الصلاة ، فيكون موضوع أصالة كون المتكلّم في مقام بيان تمام ما له الدخل في ذلك الوجوب متحقّقا فيه ، ولكن منع من الأخذ بذلك الأصل أمر آخر وهو كون الكلام مسوقا لمجرّد بيان مشروعية وجوب الصلاة ، وبذلك نخرج عن مقتضى الأصل أعني الحكم بأنّه صادر لبيان تمام ما له الدخل في الوجوب المذكور ، انتهى.

قلت : الظاهر منه قدس سره انحصار ما يوجب سقوط الأصل المذكور بهذين الوجهين ، وبناء عليه يكون القطع بعدم تحقّق شيء منهما موجبا للقطع بكون الكلام صادرا لبيان تمام ما له الدخل في الحكم من دون حاجة إلى إعمال ذلك الأصل ، لأنّ الحاجة إليه إنّما تتحقّق في صورة الشكّ في كون الكلام مسوقا في مقام البيان لا فيما لو حصل القطع بذلك ، وحينئذ ينحصر الأخذ بذلك الأصل فيما لو شكّ في تحقّق أحد هذين الوجهين ، فإنّ الشكّ في ذلك يكون موجبا للشكّ في كون الكلام مسوقا في مقام البيان ، وبذلك الشكّ يكون موردا للأصل المذكور.

ص: 426


1- البقرة 2 : 43.

وبالجملة : أنّ الأسباب الموجبة لكون الكلام في مقام الاهمال لا في مقام البيان إذا فرض انحصارها في أمرين ، وحصل القطع بعدم تحقّق شيء منهما في الكلام الفلاني ، كان ذلك موجبا للقطع بأنّ ذلك الكلام مسوق في مقام البيان ، وإن حصل الشكّ في تحقّق شيء منهما كان ذلك موجبا للشكّ في كون الكلام مسوقا في مقام [ البيان ] فيكون موردا للأصل المذكور.

نعم ، قد يقال إنّ سبب الاهمال غير منحصر في هذين الوجهين ، لامكان أن يكون الاهمال والاجمال لأجل مصلحة أو مفسدة تقتضي عدم البيان ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ ذلك راجع أيضا إلى الوجه الأوّل وهو كون الكلام مسوقا لبيان أصل التشريع لا لبيان تمام ما له الدخل في الحكم.

هذا ما كنت حرّرته سابقا أصلا وتعليقا. ولكن يمكن التأمّل في النحو الثاني ، فإنّ وجوب غسل موضع العض بمعنى كونه شرطا في حلّية الأكل من جهة حرمة أكل النجس ، يمكن أن يكون من طوارئ حلية الأكل ، لكن لم يكن حلّية الأكل مسوقا إلاّ لأصل تشريع حلّية أكل الصيد من دون تعرّض لما يعتبر في كيفية ذلك الأكل ، وإلاّ لكان هذا الاطلاق دالا على الحلّية فيما وجد فيه الحياة المستقرّة ثمّ مات بعد ذلك من دون تذكية ، لدخوله في إطلاق قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (1) فتأمّل.

قوله : وقد بيّنا سابقا أنّ مراتب الدلالة ثلاثة : الأولى الدلالة التصوّرية الناشئة من سماع اللفظ ... الخ (2).

قد تقدّم الكلام على أقسام الدلالة في مباحث العموم في الحاشية على ما

ص: 427


1- المائدة 5 : 4.
2- أجود التقريرات 2 : 431.

في ص 355 (1).

قوله : وأمّا ما أخذه بعض المحقّقين من المقدّمات ، وهو أنّ تعيّن بعض الأفراد دون بعض بلا مرجّح ، وكون الحكم ثابتا للبعض غير المعيّن إغراء بالجهل ... الخ (2).

هو شريف العلماء على ما حرّرناه عن شيخنا قدس سره ، وعلى كلّ حال أنّ هذه الزيادة هو عين المقدّمات التي ذكرناها ، فإنّ الترجيح بلا مرجّح هو عين المقدّمة الثانية القائلة إنّ المتكلّم لم يبيّن ، وكون الحكم ثابتا للبعض غير المعيّن إغراء بالجهل ، هو عين كونه في مقام البيان الذي هو المقدّمة الأولى المعبّر عنه بأنّه لو أراد القيد ولم يبيّن مع كونه في مقام البيان لكان ناقضا لغرضه ، وليس المراد أنّه لو أراد خصوص المؤمنة ولم يبيّن يذهب الناس إلى عتق الكافرة فيكون ناقضا لغرضه ، بل المراد أنّه لمّا كان غرضه البيان ، فلو أراد المؤمنة ولم يبيّن ذلك كان ناقضا لغرضه ، أعني البيان الذي أخذه على عاتقه في هذا الكلام.

قوله : توضيح ذلك أنّا إذا بنينا على أنّ المراد من كون المتكلّم في مقام البيان ... الخ (3).

كنت قد حرّرت ما أفاده شيخنا قدس سره في توضيح مطلب الكفاية والايراد عليه (4) وهو ما يلي :

ص: 428


1- من الطبعة القديمة غير المحشاة ، وقد تقدّمت الحاشية في الصفحة : 95 من هذا المجلّد.
2- أجود التقريرات 2 : 432 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 : 433 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
4- ولم يسعني فعلا نقله ، ولكن قلعته من محلّه وألحقته بهذه التعليقة [ منه قدس سره ].

إنّ صاحب الكفاية قدس سره (1) يريد بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ما يكون موردا لورود المطلق ، كأن يقع السؤال عن حكم ماء بئر بضاعة (2) مثلا من حيث الطهارة والنجاسة ، فيقال في الجواب الماء طاهر ، فيكون ماء بئر بضاعة قدرا متيقّنا في مقام التخاطب ، لكونه موردا لاطلاق قوله في الجواب الماء طاهر ، ومع وجود هذا القدر المتيقّن لا تتمّ مقدّمات الحكمة ، لاحتمال أنّه أراد خصوص بئر بضاعة من قوله الماء طاهر وقد اتّكل في بيان هذا التقييد على كون المقيّد قدرا متيقّنا في مقام التخاطب باعتبار كونه موردا لورود ذلك المطلق ، فلا تكون إرادته له بلا بيان بل تكون مع البيان ، لأنّه حينئذ يكون قد بيّن مراده وأفهمه للسامع بهذه الواسطة أعني كونه موردا لذلك الاطلاق ، إذ لم يكن الغرض من كونه في مقام البيان إلاّ كونه في مقام إفهامه للسامع تمام مراده ، وقد حصل ذلك بواسطة كونه قدرا متيقّنا.

وليس الغرض من كونه في مقام البيان أنّه في مقام بيان أنّه تمام مراده ليتوقّف ذلك على إفهامه للسامع أنّ ماء بئر بضاعة تمام مراده ، لكي يقال إنّ وقوع بئر بضاعة موردا لورود هذا المطلق وكونه قدرا متيقّنا في مقام التخاطب لا يكون موجبا لافهام السامع أنّ بئر بضاعة تمام مراده.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ ورود المطلق في مورد خاصّ ، وصيرورة ذلك

ص: 429


1- كفاية الأصول : 247.
2- في الأصل : قضاعة والصحيح ما أثبتناه. قال في مجمع البحرين 4 : 2. مادّة بضع : بئر بضاعة بئر بالمدينة لقوم من خزرج ، وذكر في هامشه عن معجم البلدان 1 : 442 ما لفظه : بضاعة بالضم وقد كسره بعضهم والأوّل أكثر ، وهي دار بني ساعدة بالمدينة ، وبئرها معروف ، فيها أفتى النبي صلى اللّه عليه وآله بأنّ الماء طهور ما لم يتغيّر ....

المورد الخاص قدرا متيقّنا في مقام التخاطب ، لا يكون موجبا للاعتماد عليه في مقام البيان بحيث إنّه لو كان مراده هو خصوص ذلك المورد لكان ذلك أعني كونه قدرا متيقّنا بيانا له ، إذ لا أثر لكونه موردا لذلك المطلق إلاّ صيرورته متيقّن الارادة وأنّه مراد على كلّ حال ، فيكون حاله حال القدر المتيقّن في مقام الامتثال في عدم كون وجوده موجبا لعدم تمامية مقدّمات الحكمة.

والحاصل : أنّ كون مثل بئر بضاعة موردا لاطلاق قوله الماء طاهر ، إن كان بيانا على التقييد لو كان المراد هو المقيّد ، كان داخلا في المقدّمة القائلة إنّه لا بدّ من انتفاء القرينة على التقييد ، وإن لم يكن بيانا على ذلك كانت إرادة المقيّد حينئذ بلا بيان ، فتكون تمامية مقدّمات الحكمة غير محتاجة إلى انتفائه.

وتوضيح ذلك : أنّ كون المتكلّم في مقام البيان تارة يكون عبارة عن كون المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعي الجدّي ، وأخرى يكون عبارة عن كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، والمتعيّن هو الأوّل ، فيكون المراد من البيان في هذا المقام هو بيان مراده الواقعي ، نظير البيان في مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وليس المراد به بيان مراده الاستعمالي الذي عبّر عنه بالارادة الاستعمالية القانونية (1) ، لما عرفت غير مرّة من عدم المعنى المحصّل للارادة الاستعمالية ، وأنّه ليس في البين إلاّ الارادة الجدّية للمعنى الواقعي ، فإنّها هي المعبّر عنها بالدلالة التصديقية ، وهي المناط في باب الظهورات ، وهي التي يترتّب عليها الآثار ، ولا نتصوّر للارادة الاستعمالية معنى محصّلا سوى الدلالة التصوّرية التي هي ليست إلاّ عبارة عن خطور المعنى بالبال التي لا يترتّب عليها الأثر.

وكيف كان ، فلا يكون تمامية مقدّمات الحكمة متوقّفة على انتفاء القدر

ص: 430


1- كفاية الأصول : 248.

المتيقّن في مقام التخاطب بالمعنى المذكور ، أعني كون الخاصّ موردا لورود المطلق ، سواء كان المراد من البيان هو بيان المراد الواقعي كما هو التحقيق ، أو كان المراد منه بيان المراد الاستعمالي كما بنى عليه في الكفاية ، فإنّ ذلك أعني القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يكون بمجرّده بيانا لارادة المقيّد ، لا إرادة جدّية ولا إرادة استعمالية ، فلو كان المتكلّم مريدا للمقيّد كانت إرادته له بلا بيان ، سواء كانت إرادته جدّية أو كانت استعمالية.

نعم ، لو كان المقصود من كون المتكلّم في مقام البيان هو مجرّد أن يفهم السامع مراده ، ولو بواسطة كونه قدرا متيقّنا وإن لم يكن هو أعني المتكلّم مبيّنا له ، لكانت تمامية مقدّمات الحكمة متوقّفة على انتفائه ، لكن هذا غير مراد للكفاية قطعا ، فإنّ كون المتكلّم في مقام البيان عبارة عن كونه متصدّيا لأن يبيّن للسامع مراده ، فلا يكفي فيه فهم السامع لمراده في الجملة بواسطة كونه قدرا متيقّنا من الاطلاق.

وبالجملة : أنّه بعد أن فرض كونه بصدد بيان مراده للسامع لا يمكنه أن يتّكل في ذلك على كون السامع يفهم مراده بواسطة كونه قدرا متيقّنا ممّا يلقيه إليه من الاطلاق ، لأنّ ذلك لا يكون بيانا منه لمراده.

قلت : مضافا إلى أنّه لو فرض أنّ المقصود من كونه في مقام البيان هو ذلك ، أعني كونه في مقام أن يفهم السامع مراده ولو بواسطة كونه قدرا متيقّنا ، لكانت تمامية مقدّمات الحكمة متوقّفة على انتفاء مطلق ما يكون قدرا متيقّنا حتّى القدر المتيقّن في مقام الامتثال.

ولكن الظاهر من الكفاية أنّ مراده بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ليس مجرّد ما يكون متيقّن الارادة بواسطة كونه موردا للاطلاق ، ليرد عليه ما أفاده ( دام

ص: 431

ظلّه ) من أنّ حاله حال القدر المتيقّن في مقام الامتثال من جهة كونه أيضا متيقّن الارادة ، وأنّه يكون مجزيا قطعا في مقام الامتثال.

ولا يخفى أنّ كون أثر القدر المتيقّن الخارجي هو الإجزاء قطعا إنّما هو في المطلق البدلي دون المطلق الشمولي ، فإنّ الأمر فيه بالعكس ، فإنّ المجزي فيه إنّما هو الالتزام والعمل على الاطلاق الذي هو الشمول.

وعلى أي حال ، أنّ أخذ عدم القدر المتيقّن بهذا المعنى في مقدّمات الحكمة يوجب سقوط الاطلاق بالمرّة ، إذ ما من مطلق إلاّ وله قدر متيقّن في مقام الامتثال ، إلاّ إذا كانت القيود المحتملة متباينة ، سواء كان المطلق شموليا أو كان بدليا ، أمّا البدلي فواضح ، وأمّا الشمولي فكذلك ، سواء كان المراد القدر المتيقّن في مقام الارادة كالعدول فيما لو قال أكرم العلماء أو قال لا تهن العلماء ، أو كان المراد هو القدر المتيقّن في مقام الامتثال كجميع العلماء عدولا وفسّاقا عند قوله أكرم العلماء أو قوله لا تهن العلماء.

وعلى كلّ حال ليس ذلك هو المراد بالقدر المتيقّن ، بل مراده بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب هو اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية على التقييد لو كان المراد هو المقيّد على وجه أنّه لو أراد المقيّد لأمكن أن يكون متّكلا عليه في بيانه ، فلا تكون إرادته لذلك المقيّد بلا بيان ، بل تكون مع البيان.

والفرق بينه وبين القدر المتيقّن في مقام الامتثال ، أنّ ذلك لا يكون مصحّحا لأن يتّكل عليه المتكلّم في مقام البيان لو كان مراده هو خصوص ذلك المتيقّن ، بخلاف القدر المتيقّن في مقام التخاطب بمعنى ما يكون صالحا للقرينية مثل الرتبة الثانية من الانصراف ، ومثل القيد المتعقّب لاطلاقات متعدّدة بالنسبة إلى ما عدا الأخير ، ومثل عود الضمير المقيّد على ما يكون مطلقا ، إلى غير ذلك من

ص: 432

موارد اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، فإنّ جميع ذلك ممّا يمكن أن يتّكل عليه المتكلّم في بيان إرادة المقيّد لو كان مراده هو المقيّد ، وتكون إرادته حينئذ مع البيان.

نعم ، كون المطلق واردا في مورد الخاص قابل للمناقشة في الصغرى ، لامكان أن يقال إنّ ذلك أعني كون المطلق واردا في مورده لا يصيّره من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، بأن يكون قرينة على إرادة خصوص المورد ، فإنّ ذلك في غاية المنع ، ولأجل ذلك تراهم يقولون إنّ المورد لا يخصّص الوارد ، وأنّ أقصى ما فيه أن يكون ذلك موجبا لكونه متيقّن الارادة على وجه لا يمكن إخراجه ، ولأجل ذلك نراهم يقولون إنّ العام أو المطلق نصّ في مورده ، إلاّ أنّ هذه المناقشة صغروية.

والغرض أنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية يكون موجبا لسقوط الاطلاق وعدم تمامية مقدّمات الحكمة ، وأنّ مقدّمات الحكمة تتوقّف تماميتها على انتفاء ذلك ، وهذا على الظاهر أمر غير قابل للانكار ، وقد أوضحه الأستاذ ( دام ظلّه ) عند تعرّضه للمرتبة الثانية من مراتب الانصراف (1) ، غاية الأمر أنّ صاحب الكفاية يسمّي هذا المعنى أعني اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب.

وممّا يشهد بأنّ ذلك هو مراده بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ، هو أنّ الأستاذ ( دام ظلّه ) أفاد في تفصيل مراتب الانصراف بالنسبة إلى المرتبة الثانية منه ما محصّله أنّها تكون موجبة لسقوط الاطلاق ، لكونها صالحة للبيان ، فتكون من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية الموجب لسقوط ظهوره وإجماله ، فإنّ

ص: 433


1- أجود التقريرات 2 : 435.

صاحب الكفاية قدس سره (1) صرّح في تلك المرتبة بأنّ ذلك المنصرف إليه يكون قدرا متيقّنا من الكلام وإن لم تكن موجبة لظهوره فيه كما في المرتبة الأولى ، إلاّ أنّها تشاركها في إسقاط الاطلاق ، فإنّ هذا التصريح دليل على أنّ مراده بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب هو ما يكون من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّه لا يقول بأنّ المرتبة الثانية من الانصراف هي من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، لكنّه بعيد للغاية.

وبالجملة : لا شبهة كما أفاده الأستاذ ( دام ظلّه ) في أنّ المرتبة الثانية من الانصراف هي من قبيل ما يصلح للقرينية ولبيان التقييد لو كان المراد هو المقيّد ، وبملاحظة ما صرّح به في الكفاية من أنّها من قبيل القدر المتيقّن ينكشف لنا أنّ مراد الكفاية من القدر المتيقّن هو ما يكون من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، وحينئذ فيكون مراده من انتفاء القدر المتيقّن الذي جعله من المقدّمات هو انتفاء ما يصلح للقرينية. وقد أفاد ( دام ظلّه ) أنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية يكون موجبا لسقوط الاطلاق كما صرّح به ( دام ظلّه ) في بيان أقسام الانصراف ، وأنّ الرتبة الثانية منه تكون موجبة لسقوط الاطلاق ، لكونها من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، فيكون الحاصل من ذلك أنّه لا بدّ في تمامية مقدّمات الحكمة من انتفاء ما يصلح للقرينية المعبّر عنه في الكفاية بانتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

وحينئذ يتوجّه الايراد المتقدّم (2) فيقال إنّ ما يكون صالحا للقرينية إن كان بيانا على إرادة المقيّد كان داخلا في المقدّمة القائلة إنّه لا بدّ من انتفاء القرينة ، وإن

ص: 434


1- كفاية الأصول : 249.
2- في الصفحة : 430.

لم يكن بيانا على ذلك كانت إرادة المقيّد مع وجوده إرادة بلا بيان كإرادته مع عدمها.

ولا يخفى أنّ تمامية هذا الايراد متوقّفة على كون المراد من البيان البيان الفعلي المعبّر عنه بالبيان الواصل إلى المخاطب. وبعبارة أخرى إنّما يتوجّه هذا الايراد على ما ذكر من الاحتياج إلى المقدّمة المذكورة إذا كان المراد من البيان هو البيان الموجب لظهور اللفظ فيما يريد بيانه ، فإنّه حينئذ يقال إنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية على التقييد لا يكون موجبا لظهور اللفظ في التقييد كي يتّكل عليه في مقام بيان المراد بالمعنى المذكور ، أعني بمعنى إظهار المراد.

أمّا لو كان المراد هو البيان الواقعي وإن لم يكن موجبا لظهور اللفظ فيما يريد بيانه ، على وجه يكون ما يصلح لأن يكون بيانا داخلا في البيان المذكور وإن لم يكن بيانا فعليا موجبا للظهور على طبقه ، لم يكن الايراد المذكور متوجّها ، لأنّه مع وجود ذلك الصالح للبيانية لا يمكن القول بأنّه لو كان مريدا لخصوص المقيّد لكانت إرادته بلا بيان ، لكونها حينئذ مع البيان أعني البيان الواقعي الذي تكلّفه المتكلّم لأجل بيان مراده وإظهاره للسامع وإن لم يكن موجبا لكون اللفظ ظاهرا فيه.

وتوضيح هذا المبحث غاية الاتّضاح متوقّف على النظر في المراد من البيان المذكور في المقدّمتين - أعني كون المتكلّم في مقام البيان وأنّه لم يبيّن - فيمكن أن يكون المراد به بيان تمام مراد المتكلّم ، ويمكن أن يكون المراد به بيان ما له الدخل في مطلوبه ، والفرق بين المعنيين هو :

أنّ المعنى الأوّل أعني كون المراد بالبيان هو بيان تمام المراد يتصوّر بصورتين :

ص: 435

إحداهما : أن يكون الغرض بيان نفس تمام المراد ، بحيث كان عمدة همّ المتكلّم هو إيصال ذات تمام مراده إلى السامع وإعلامه بأنّه يريده على الاجمال ليتصدّى إلى الاتيان به وإن لم يعرف اتّصافه بأنّه تمام مراده.

ولا يخفى أنّ كون المتكلّم حينئذ بصدد البيان يكون عبارة أخرى عن كونه بصدد إيصال مطلوبه إلى المكلّفين ليعملوا على طبقه ، فهو عبارة أخرى عن إعمال الطريق للحصول على مطلوبه ، ولا ريب حينئذ أنّه يمكنه الاعتماد في ذلك على كلّ ما يوجب معرفتهم بأنّ المقيّد مطلوب له حتّى مثل كونه موردا لذلك المطلق ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى أجنبي عن كونه بصدد البيان ، ويكون القدر المتيقّن من الخطاب حاله حال القدر المتيقّن الخارجي في كونه محصّلا لما يتوخّاه المولى ، وهذا بخلاف البيان بالمعنى الثالث أعني كون المتكلّم بصدد بيان ما له الدخل في مطلوبه ، فإنّه لا يمكن الاعتماد فيه على المتيقّن الخارجي ولا على مثل كونه موردا.

الصورة الثانية : أن يكون [ الغرض ] بيان أنّه تمام المراد ، بمعنى أن يكون غرض المتكلّم متعلّقا بافهام السامع بأنّ هذا متّصف بأنّه تمام مرادي.

وعلى الصورة الأولى يكون معرفة السامع بأنّ هذا الشيء كان مرادا للمتكلّم كافيا في تحقّق ما كان المتكلّم بصدده من بيان تمام مراده له وإن لم يحصل له العلم بأنّ هذا الشيء متّصف بأنّه تمام مراده ، بخلاف الصورة الثانية فإنّ إفهام السامع أنّ هذا الشيء تعلّقت به إرادة المتكلّم في الجملة لا يكفي في تحقّق ما فرض فيها من كون المتكلّم بصدد البيان للسامع وإفهامه بأنّ هذا تمام المراد.

والحاصل : أنّه على الصورة الأولى يكفي في تحقّق ما فرض فيها من كون المتكلّم بصدد بيان تمام مراده ، أن يلقي إلى السامع كلاما يفهم منه ولو بواسطة

ص: 436

القرائن الخارجية ذات ما يكون تمام مراده في الجملة وإن لم يعرف انحصار مطلوبه به ، وعدم كفاية غيره عنه ، بخلاف الصورة الثانية فإنّه بناء عليها لا يكون فهم السامع من كلام المتكلّم ذات ما هو تمام مراده في الجملة من دون معرفة انحصار مراده به كافيا في تحقّق ما كان المتكلّم بصدده من بيان تمام مراده بالمعنى المذكور ، بل لا بدّ حينئذ من أن يلقي إلى السامع ما يفهم منه ولو بواسطة القرائن الخارجية انحصار مطلوبه فيما بيّنه في ذلك الكلام ، بأن يكون الكلام المذكور على وجه يفهم منه ولو بواسطة القرائن الخارجية اتّصاف ذلك الذي بيّنه بأنّه تمام المراد ، بحيث يكون المتكلّم متصدّيا لافهام السامع أنّ هذا الذي بيّنه له هو تمام المراد وأنّه لا يريد غير هذا الذي بيّنه له.

أمّا المعنى الثاني أعني كون المراد من البيان هو بيان ما له الدخل في مطلوبه فلا يتصوّر فيه إلاّ صورة واحدة ، وهي تفهيم السامع ولو بواسطة القرائن الخارجية مدخلية القيد الفلاني في مطلوبه أو عدم مدخليته فيه ، فإنّه لو كان المتكلّم بصدد تفهيم السامع ما له المدخلية في مطلوبه ، وكان لصفة الإيمان مثلا مدخلية في مطلوبه الذي هو عتق الرقبة ، لم يكف في تحقّق ما كان المتكلّم بصدده مجرّد فهم السامع أنّ عتق الرقبة المؤمنة داخل تحت إرادة المتكلّم ، وأنّه مطلوب له في الجملة من دون معرفة انحصار مطلوبه بها وعدم كفاية غيرها عنها ، بل لا بدّ في تحقّق هذا الذي كان المتكلّم بصدده من أن يفهم السامع ولو بواسطة القرائن الخارجية أنّ لصفة الإيمان مدخلية في مطلوبه ، وأنّه لا يجزي عنه ما يكون فاقدا لهذا الوصف ، أو أنّها لا مدخلية لها في مطلوبه ، وأنّه يجزي في مطلوبه عتق أيّ رقبة.

فتلخّص لك : أنّ للبيان المذكور في هذه المقدّمات احتمالات ثلاثة ،

ص: 437

والظاهر أنّ المراد به هو الاحتمال الأخير ، أعني كون المتكلّم بصدد إبداء ما له الدخل في مطلوبه وأنّه بصدد إظهاره للسامع ، لأنّ هذا هو الذي يثبته الأصل العقلائي.

أمّا الاحتمال الأوّل ففي الحقيقة أنّه لا يكون من قبيل البيان ، بل هو عين الإهمال والاجمال ، لأنّه إذا فرض أنّ الغرض هو مجرّد أن يفهم السامع ذات تمام مطلوب المتكلّم وإن لم يعلم أنّه على نحو الانحصار ، كان ذلك عين الاهمال والاجمال ، لتحقّق هذا المعنى أعني فهم السامع ذات تمام المطلوب في الجملة مع إجمال اللفظ إذا كان في البين قدر متيقّن في مقام الامتثال فضلا عن القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

وأمّا المعنى الثاني وهو كون المتكلّم بصدد إفهام السامع اتّصاف ذلك الذي فهمه من كلامه بأنّه تمام المراد ، فهو وإن كان موافقا في النتيجة للمعنى الثالث إلاّ أنّه ليس بمراد في هذا المقام قطعا ، إذ ليس لنا طريق إلى إثبات كون المتكلّم بصدد البيان سوى ما تقدّم ذكره من الأصل العقلائي أعني أنّ المتكلّم بصدد إظهار ما في ضميره لا يخفي على السامع شيئا ممّا ينطوي عليه ضميره وتتعلّق به إرادته ، ومن الواضح أنّ هذا لا يكاد ينطبق على المعنى الثاني أعني كون المتكلّم بصدد بيان أنّ ما يلقيه إلى السامع متّصف بأنّه تمام المراد ، بل إنّما ينطبق على المعنى الثالث أعني كونه في مقام بيان ما له الدخل في مطلوبه ، بحيث إنّه يبيّن كلّ ما له دخل فيه من شرط أو قيد ونحو ذلك ، فإذا أخلّ بشيء من ذلك كما لو كان مطلوبه في مقام الثبوت هو الرقبة المقيّدة بالإيمان ، بأن كان لصفة الإيمان في مقام الثبوت مدخلية في مطلوبه الذي هو عتق الرقبة ، ومع ذلك لم يقيّده في مقام الاثبات بالقيد المذكور ، كان جاريا على خلاف هذا الأصل العقلائي ، وكان ناقضا

ص: 438

لغرضه من إظهار ما في ضميره للسامع ، لأنّ من جملة ما في ضميره مدخلية صفة الإيمان في مطلوبه ، ولم يظهر ذلك للسامع ولم يبيّنه له ، فبالأصل العقلائي المذكور نثبت المقدّمة الأولى ، وهي أنّ المتكلّم بصدد البيان ، وأنّه قد تعلّق غرضه بأن لا يخفي على السامع شيئا ممّا له الدخل في مطلوبه ، فإذا ثبت بالمقدّمة الثانية أنّه لم يقيّد مطلوبه بقيد الإيمان مثلا ، نستكشف من ذلك أنّ صفة الإيمان ليس لها مدخلية في مطلوبه ، إذ لو كان لها مدخلية فيه ولم يذكرها لكان ناقضا لغرضه الذي أثبتناه بالأصل المذكور.

ولا يخفى أنّ هذا التقريب إنّما ينطبق على المعنى الأخير ، أعني كون المراد من البيان هو بيان ما له الدخل في مطلوبه ، دون المعنى الثاني وهو كون المراد من البيان هو بيان أنّ ما يلقيه إلى السامع متّصف بأنّه تمام مطلوبه ، بحيث إنّه زيادة على إفادة المعنى يفيد أنّ هذا المعنى هو تمام مطلوبي ، فإنّ ذلك وإن كان موافقا بالنتيجة للمعنى الأخير ، إلاّ أنّ الطريق مختلف.

وحيث قد تحقّق لك أنّ المراد بالبيان في هذا المقام هو بيان ما له الدخل في مطلوب المتكلّم ، فنقول إنّه لا ريب في أنّه لا يكفي الاعتماد على القدر المتيقّن في مقام الامتثال ، إذ لا يحصل به ما كان المتكلّم بصدده من بيان ما له الدخل في مطلوبه. أمّا القدر المتيقّن في مقام التخاطب - والمراد به كما صرّح به في الفوائد (1) كون المقيّد متيقّن الارادة في عالم الخطاب لا من الخارج ، بحيث يكون في عالم الخطاب وفي مرحلة الاثبات ما يوجب تيقّن إرادته من اللفظ ، لا مجرّد أنّه متيقّن الارادة منه ولو من الخارج - فإن كان المراد به أمرا آخر غير اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، كما أنّه غير القدر المتيقّن من الخارج ، فهو أمر لا

ص: 439


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 574.

نتعقّله كي نتكلّم عليه. وكيف كان فهو لا يزيد من هذه الجهة على القدر المتيقّن الخارجي أعني القدر المتيقّن في مقام الامتثال.

وإن كان المراد به هو اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، كان الكلام في الاحتياج إلى انتفائه مبنيا على ما تقدّم (1) ذكره من أنّ المراد من بيان ما له الدخل في مطلوبه هل هو البيان الواصل أو البيان الواقعي ، فإن كان المراد به البيان الواصل ، أعني ما يوجب ظهور اللفظ عند المخاطب ، لم يكن انتفاء القدر المتيقّن بهذا المعنى محتاجا إليه ، لأنّ المتكلّم لا يمكنه الاعتماد عليه في تحقّق ما هو بصدده من البيان الموجب لظهور اللفظ عند المخاطب.

وإن كان المراد من البيان هو البيان الواقعي وإن لم يكن موجبا لظهور اللفظ فيما أريد بيانه ، كان انتفاء القدر المتيقّن بالمعنى المذكور محتاجا إليه في تمامية المقدّمات.

والفاصل بين هذين الاحتمالين هو النظر فيما جرى عليه العقلاء من الأصل المذكور ، فإن كان ما جروا عليه هو الاظهار وعدم الاخفاء بالنسبة إلى كلّ أحد ، على وجه يتكلّفون إيصال مرادهم إلى كلّ أحد على اختلاف المراتب ، تعيّن الاحتمال الأوّل وهو الاستغناء عن المقدّمة الثالثة. وإن كان ما جروا عليه هو الاظهار بالنحو العادي ، تعيّن الاحتمال الثاني وهو عدم الاستغناء عنها ، لأنّ الفرض أنّ ذلك الذي اكتنف به الكلام ممّا يمكن الاعتماد عليه عادة.

والمتعيّن من هذين الوجهين هو الوجه الثاني كما هو واضح لا يخفى ، وعليه فتكون مقدّمات الحكمة محتاجة إلى انتفاء القدر المتيقّن بالمعنى المذكور ، أعني اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، فتكون المقدّمات مؤلّفة من

ص: 440


1- في الصفحة : 435.

ثلاث مقدّمات.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الأولى أعني عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة كافية عن الثالثة أعني عدم ما يكون صالحا للقرينية كما أفاده ( دام ظلّه العالي ) ووفّقنا للاستفادة منه إن شاء اللّه تعالى ، هذا هو عين ما كنت حرّرته عنه قدس سره وعين ما كنت علّقته عليه.

وحاصل البحث : أنّ الاستناد إلى مقدّمات الحكمة في إثبات الاطلاق راجع إلى قياس استثنائي ، محصّله أنّ المتكلّم لو أراد خصوص المقيّد لبيّنه ، لكنّه لم يبيّن فيستكشف من عدم البيان أنّه لم يرد خصوص المقيّد. وبرهان القضية الشرطية هو أنّه لو لم يبيّن مع فرض إرادته المقيّد لكان ناقضا لغرضه. والبيان الذي هو محطّ النفي والاثبات هو البيان المتعارف الذي جرى عليه العقلاء في التبليغ ، كما أنّ المراد بالمبيّن إنّما هو مدخلية القيد مثلا وعدمه لا مجرّد وصول مراد المولى إلى المكلّفين من دون معرفتهم أنّ له المدخلية أو أنّه لا مدخلية فيه ، ومن الواضح أنّ القضية الثانية الاستثنائية إنّما تتمّ عند تحقّق عدم البيان ، ومع فرض احتمال قرينية الموجود يكون المقام من قبيل احتمال البيان ، لأنّ القرينة بيان ، فيكون احتمال قرينية الموجود عبارة أخرى عن احتمال بيانية ذلك الموجود ، فلا يمكننا أن نقول لكنّه لم يبيّن ، لأنّ المفروض هو الشكّ في وجود البيان ، وحينئذ تكون المقدّمات محتاجة إلى المقدّمة الثالثة ، ولمّا كان المفروض هو كون المتكلّم في مقام البيان المتعارف الذي جرى عليه العقلاء ، يكون مرجع الشكّ في قرينية الموجود الموجب للشكّ في كونها بيانا إلى الشكّ في أنّ هذا المقدار من القرينة ممّا يعتمد عليه العقلاء وأهل اللسان في البيانية ، فلا يمكن الحكم عليه بأنّه لم يبيّن.

ص: 441

لكن هذا كلّه لو كان المراد من القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو احتمال قرينية الموجود ، فإنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار عدمه في مقدّمات الحكمة ، وإنّما حكم شيخنا قدس سره بالاستغناء عنه بناء على ما يظهر من الكفاية والفوائد (1) من أنّ المراد به هو كون المقيّد متيقّن الارادة في عالم الخطاب لا من الخارج ، كما لو كان موردا للمطلق ، فإنّه بهذا المعنى يكون حاله حال القدر المتيقّن من الخارج في عدم صلاحيته للبيان.

ويشهد بذلك ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قال في أثناء الايراد على صاحب الكفاية ما هذا لفظه : وثبوت القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك لأنّه لا يكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، إلاّ إذا رجع القدر المتيقّن إلى حدّ الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ، ويكون المتكلّم كأنّه قد بيّن القيد في اللفظ ، أو كان من الانصراف عنه بحيث يكون اللفظ منصرفا عمّا عدا القدر المتيقّن وإن لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقّن حينئذ ممّا يصلح للبيانية وإن لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأوّل. ولكن مجرّد وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يصلح لأن يكون بيانا ، ولا لأن يكون ممّا يصلح للبيانية ، وإلاّ لكان المورد أولى بذلك ، لأنّه أوضح مصاديق القدر المتيقّن ، مع أنّه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصّل : أنّ الاطلاق يتوقّف على أمرين لا ثالث لهما : الأوّل كون المتكلّم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متّصلا كان أو منفصلا ، فإنّ من ذلك يستكشف إنّا عدم دخل الخصوصية في متعلّق حكمه النفس الأمري ، قضية

ص: 442


1- كفاية الأصول : 247 ، فوائد الأصول 1 - 2 : 574.

تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات (1).

ولكن تفريع الانحصار بالمقدّمتين على هذا الشرح لا يخلو من تأمّل ، لأنّ عدم اقتران الكلام بما يحتمل القرينية ممّا لا بدّ منه حينئذ في المقدّمات ، فلا بدّ أن تكون المقدّمات ثلاثا : كونه في مقام البيان ، ولم يبيّن ، ولم يكن في البين ما يحتمل البيانية.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الثانية أعني عدم البيان كافية عن المقدّمة الثالثة فتأمّل ، بتقريب أنّ بيان التقييد تارة يكون مقطوع العدم وأخرى يكون مشكوكا ، فينفى بأصالة العدم ، والجامع هو أنّه لم يبيّن ، وحاصل المقدّمة الثانية : هو إحراز عدم البيان ، ومن المعلوم أنّه مع الشكّ في قرينية الموجود لا يكون عدم البيان محرزا لا وجدانا وهو واضح ، ولا بالأصل لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع احتمال قرينية الموجود ، فيكون الحاصل أنّه إنّما تتمّ المقدّمات عند إحراز عدم البيان ، ومع الشكّ في البيانية لا تتمّ المقدّمات ، فلا يكون ذلك مقدّمة ثالثة ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية (2) أخذ البيان بمعنى مجرّد إيصال المراد إلى المكلّفين ، فلو وصل إليهم مراده بمثل كونه موردا للمطلق كان ذلك كافيا ، وحينئذ لا يمكن التمسّك بعدم ذكر القيد على إرادة المطلق ، لأنّه يجوز أن يكون مراده هو المقيّد وقد اكتفى ببيانه واعتمد فيه على كونه موردا لذلك المطلق ، فإنّ كون المطلق واردا في ذلك المورد كاف في تفهيمهم مراده وإن لم يفهموا أنّه على نحو الانحصار.

ص: 443


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 576.
2- كفاية الأصول : 247 - 248.

وشيخنا قدس سره (1) أخذ البيان بمعنى إفهامهم ما له الدخل في متعلّق حكمه ، ومجرّد فهمهم أنّ مورد القيد مراد مع شكّهم في الانحصار لا ينفع في البيان المذكور ، إذ لم يحصل لهم فهم المدخلية وعدمها ، وحينئذ لا يكون فهمهم أنّ مورد القيد مراد إلاّ من قبيل القدر المتيقّن الخارجي الذي لا أثر له في إسقاط الاطلاق.

وهذا الذي أفاده شيخنا قدس سره من أنّ المراد من البيان هو بيان المدخلية وعدمها لا مجرّد إيصال مراده إليهم من دون فهم المدخلية ، هو الحقّ الذي لا محيص عنه ، لأنّ مجرّد إيصال مراده إليهم من دون أن يفهموا المدخلية إنّما يحسن في مقام كون الغرض هو حصول مراد المولى منهم ، وهذا المقدار من تفهيمهم كاف في حصول ذلك الغرض ، وهو سعيهم إلى الامتثال فيما فهموه من مراد المولى ، وهو فيما يكون واجدا للقيد ، فإنّه محصّل لمراد المولى على كلّ حال ، سواء كان مراده هو المقيّد أو كان مراده هو المطلق. على أنّه إنّما يتمّ ذلك فيما لو كان الاطلاق بدليا دون ما لو كان شموليا ، بل يكون الأمر فيه بالعكس ، بمعنى أنّه لو ورد أكرم العالم في مقام السؤال عن الفقهاء ، لا يكون فهمهم حكم الفقهاء وأنّه يريد إكرامهم محقّقا لمراد المولى على كلّ حال ، لجواز أن يكون مراده هو المطلق الذي يستدعي في المقام الشمول والعموم لكلّ عالم.

نعم يبقى شيء : وهو أنّه بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره هو أنّ الاطلاق يكون ساقطا فيما لو كان الكلام مكتنفا بما يحتمل أن يكون بيانا وقرينة على التخصيص ومدخلية وجود القيد ، مثل ما لو قال : اعتق رقبة قارئة للقرآن ، واحتملنا أن يكون اعتبار القراءة فيها كناية عن الإسلام ، لأنّ ذلك لازم الإسلام ، على وجه لو كان

ص: 444


1- أجود التقريرات 2 : 433.

مراده هو اعتبار الإسلام والإيمان لكان ذكره هذا القيد كافيا في بيان المدخلية والبيانية ، فمع احتمالنا لبيانية القيد المذكور لا يمكننا الأخذ بمقتضى القضية الاستثنائية القائلة إنّه لو أراد القيد لبيّنه لكنّه لم يبيّن فثبت أنّه يريد المطلق (1) ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نفي مثل ذلك ممّا يصلح للبيانية والقرينية يكفي فيه المقدّمة الثانية القائلة إنّه لم يبيّن ، لأنّ مثل هذا المثال لا يمكننا الحكم عليه بأنّه لم يبيّن. هذا كلّه فيما يتعلّق بالحاجة إلى المقدّمة الثالثة.

وأمّا المقدّمة الأولى ، وهو كون المتكلّم في مقام البيان ، فقد أفاد المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره في غرره (2) عدم الحاجة إليها ، ويكفي في الحكم بالاطلاق عدم ذكر القيد ولو كان في مقام الاهمال ، نظرا إلى أنّ إيراد الحكم على الطبيعة المهملة يوجب قهرا سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفرادها.

وهو في غاية الغرابة ، فإنّ إيراد الحكم على الطبيعة المهملة في مقام الاثبات لا يمكن أن يستكشف منه إرادة المطلق ، لجواز أن يكون المراد هو المقيّد وقد تأخّر بيانه لجهة من الجهات الموجبة لعدم البيان فعلا ، فما لم يحرز كون المتكلّم في مقام البيان على وجه يكون ناقضا لما هو بصدده لو كان مراده الواقعي هو المقيّد ، لم يمكن الحكم عليه بأنّه قد أراد المطلق ، وذلك واضح بعد ما تقدّم شرحه.

كما أنّه قد عرفت أنّه لا حاجة إلى المقدّمة الأخيرة ، وهي احتمال قرينية

ص: 445


1- وقد يشكل على الكفاية بأنّ كلامه يأبى عن الحمل على احتمال قرينية الموجود ، لأنّه يقول : إنّه بصدد بيان تمامه وقد بيّنه ، لا بصدد أنّه تمامه ، كي أخلّ ببيانه. وهذه الكلمات إنّما تناسب القدر المتيقّن في الامتثال [ منه قدس سره ].
2- درر الفوائد 1 - 2 : 234.

الموجود ، بل يكفي المقدّمة الثانية القائلة إنّه لم يبيّن ، إذ لا بدّ من احراز أنّه لم يبيّن ، ومع احتمال قرينية الموجود لا يكون السامع قد أحرز أنّه لم يبيّن ، فما أفاده شيخنا من الاستغناء عن الثالثة مع أنّه يعتني باحتمال قرينية الموجود لا ضير فيه.

قوله : وأخرى ينشأ من التشكيك في الماهية في متفاهم العرف. وهذا يكون على قسمين ، فإنّ التشكيك تارة يكون بحيث يرى العرف خروج بعض مصاديق الطبيعة عن كونه فردا فينصرف اللفظ عنه لا محالة كانصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان ، وأخرى يكون بحيث يشكّ العرف في كونه مصداقا له ، فينصرف اللفظ إلى غيره كانصراف لفظ الماء إلى غير ماء الزاج والكبريت ... الخ (1).

الذي حرّرته عنه قدس سره هو أنّ أفراد الطبيعة إذا كانت متواطئة ، بأن تكون متساوية الأقدام في صدق الطبيعة عليها ، لم يكن للانصراف في بعضها الناشئ عن قلّة الوجود وكثرته أثر. وإن لم تكن الأفراد متواطئة بل كانت من قبيل التشكيك ، على وجه يكون في بعضها نقصان عن البعض الآخر من حيث صدق الطبيعة ، كان الانصراف موجبا لظهور اللفظ في غيره ، وذلك كما في الماء ، فإنّ في ماء الزاج وماء الكبريت نقصانا في جهة صدق طبيعة الماء حتّى كأنّهما من غير جنسه ، وهكذا الحال في الإنسان ذي الحقوين.

إلاّ أنّ التشكيك قد يصل إلى درجة يوجب انصراف اللفظ عن ذلك الناقص وظهوره في غيره كما في الماء بالنسبة إلى ماء الكبريت والماء الزاجي ، وأخرى لا يكون موجبا إلاّ لانصراف اللفظ عن ذلك الناقص من دون أن يكون موجبا

ص: 446


1- أجود التقريرات 2 : 435 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

لظهوره في غيره ، وهذا لا يوجب إلاّ الاجمال كما في الانسان بالنسبة إلى ذي الحقوين.

والحاصل : أنّ نقصان الفرد قد يكون موجبا لانصراف اللفظ إلى غيره ، وقد يكون موجبا لانصرافه عنه ، والأوّل يكون موجبا لظهور اللفظ فيما عداه ، والثاني لا يوجب إلاّ اجمال اللفظ ، انتهى.

والانصاف : أنّ دعوى الانصراف في بعض المطلقات إلى بعض أصنافها أو عن بعض أصنافها ، ليس له ضابط تامّ يمكن التعويل عليه ، فإنّ من أظهر أفراد المشكّكات البياض والسواد ولا انصراف في كلّ منهما إلى مرتبة من مراتبهما. نعم ربما كان النقص في بعض الأفراد موجبا للانصراف ، لكنّه على وجه يعدّ كونه شذوذا في الطبيعة ، مثل الإنسان ذي الحقوين ونحو ذلك.

وكيف كان ، أنّ انصراف ما لا يؤكل عن الإنسان ليس ملاكه التشكيك ولا نقصا في الطبيعة ، بل ليس في البين إلاّ مجرّد الانصراف العرفي. قال شيخنا قدس سره فيما طبع من رسالة الصلاة في المشكوك : وأظهر من ذلك (1) خروج الإنسان بجملته وجميع فضلاته الطاهرة عن عناوين أدلّة الباب ، وما كان لها من عموم أو إطلاق ، إذ مضافا إلى اطراد ما تقدّم من موجب الانصراف في المقام أيضا ، فلا يخفى أنّ ما عدا الإنسان من أنواع الحيوان إنّما يتّصف بكونه محرّم الأكل أو محلّله أو كونه ممّا يؤكل أو لا يؤكل ونحو ذلك ، باعتبار أكل الإنسان له ، أمّا الإنسان فيحرم أكل كلّ فرد منه على أفراد نوعه ، فاختلفت الكيفية ، وتصوير الجامع العقلي وإن كان بمكان من الامكان ، لكن ظواهر الأدلّة منصرفة إلى الأنواع

ص: 447


1- إشارة إلى ما ذكره قبل هذا من الانصراف عن الحيوانات التي لا لحم لها ، أو التي يستقذر أكلها مثل القمل والبرغوث [ منه قدس سره ].

المحرّمة على نوع الإنسان ولا يعمّ أشخاص نوعه ، انتهى (1).

فتراه قدس سره لم يستدلّ على هذا الانصراف بالتشكيك ولا بنحوه من نقص الطبيعة ، بل لم يكن في البين إلاّ مجرّد الانصراف العرفي.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من القسم الثاني هو ما يوجب التوقّف في الحكم بإرادة المطلق ، لاحتمال كون ذلك المقدار من النقص في الفرد قرينة على عدم إرادته ، فيكون كما أفيد بقوله : إلاّ أنّ المطلق معه يكون في حكم احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية الخ (2) ، وحينئذ يكون الفرق بين القسمين هو أنّ القسم الأوّل يكون موجبا لظهور اللفظ فيما عداه ، بخلاف الثاني فإنّه لا يوجب إلاّ التوقّف ، وهذا المقدار من الفرق أيضا لا ضابط له.

وعلى أي حال ، ليس الملاك في الفرق بينهما هو ما يتراءى من عبارة الكتاب ، من أنّ اللفظ في الأوّل ينصرف عنه وفي الثاني ينصرف إلى غيره ، فإنّ الظاهر أنّ أحدهما عين الآخر ، فإنّ الانصراف عنه عين الانصراف إلى غيره ، بل الظاهر ممّا حرّرته عنه قدس سره وما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ اللفظ في الأوّل ينصرف إليه وفي الثاني ينصرف عنه ، هو أنّ الانصراف إلى الشيء أقوى من الانصراف عن الشيء.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي في مقام الردّ على الكفاية في عدم احتياج مقدّمات الحكمة إلى عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ما هذا لفظه : وثبوت القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنّه لا يكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، إلاّ إذا رجع القدر المتيقّن إلى حدّ الانصراف ، سواء كان من

ص: 448


1- رسالة الصلاة في المشكوك : 93 - 94.
2- أجود التقريرات 2 : 435 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الانصراف إليه ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلّم كأنّه بيّن القيد في اللفظ ، أو كان من الانصراف عنه بحيث يكون اللفظ منصرفا عمّا عدا القدر المتيقّن وإن لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقّن حينئذ ممّا يصلح للبيانية وإن لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأوّل الخ (1).

وعلى أي حال أنّ الانصراف عمّا عدا القدر المتيقّن لا بدّ أن يكون موجبا للانصراف إلى خصوص القدر المتيقّن ، فلا يحصل الفرق بين القسمين إلاّ بجعل الثاني منهما وهو ما عبّر عنه بالانصراف عمّا عدا القدر المتيقّن عبارة عمّا يوجب التوقّف في الشمول لما عدا القدر المتيقّن ، فيكون موجبا للاجمال لا أنّه انصراف تامّ ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس سره في التقريرات (2) قد ذكر للانصراف خمس مراتب : الأولى مجرّد الخطور. الثانية : ما له استقرار في الجملة لكنّه يزول بالتأمّل. الثالثة : ما يكون لاستمرار الشكّ واستقراره على وجه لا يزول بالتأمّل. الرابعة : ما يوجب التقييد. الخامسة : ما يوجب النقل إلى المعنى المشهور الذي هو المنصرف إليه.

وهذه المراتب كلّها إنّما هي في الشهرة بالنسبة إلى بعض أقسام المطلق وأصنافه ، ولا أثر للأوليين منها ، والثالثة توجب الإجمال ، والرابعة توجب التقييد ، والخامسة توجب النقل وصيرورة المطلق حقيقة في بعض أصنافه على حذو المجاز المشهور الذي ينقلب إلى الحقيقة. ولا يخفى أنّ هذه المراتب إنّما هي في شهرة بعض أصناف المطلق ، ولا دخل لذلك بكونه مشكّكا في قبال

ص: 449


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 576.
2- مطارح الأنظار 2 : 263 - 264.

المتواطئ ، ولا بنقصان في الطبيعة وشذوذها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الثاني : أنّ استفادة الكبرى الكلّية من العام وإن كانت محتاجة إلى اجراء مقدّمات الحكمة في مصبّ العموم كما أشرنا إليه مرارا ، إلاّ أنّ المطلق يفترق عن العام في أمرين : الأوّل أنّ كون المتكلّم في مقام البيان لا بدّ وأن يحرز ... الخ (1).

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرّره عنه قدس سره في بيان الاحتياج في إثبات الاطلاق إلى مقدّمات الحكمة : وفي أسماء الأجناس نحتاج إلى إعمال مقدّمات الحكمة في موردين ، باعتبار كلّ من التقييد الأنواعي والتقييد الأفرادي ، بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم فإنّه نحتاج فيها إلى مقدّمات الحكمة في ناحية المصبّ باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، وأمّا باعتبار الأفرادي فنفس العام يتكفّل ذلك بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة ، كما أنّ في المطلقات نحتاج إلى إحراز كون المتكلّم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، وفي العموم نفس أدلّة العموم تقتضي كون المتكلّم في مقام البيان ، فالفرق بين العام الأصولي والمطلق يكون من جهتين (2).

وحيث إنّ كلا من هذين التحريرين لا يخلو عن إجمال ، فالأولى نقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام وهو : أنّك قد عرفت في باب العموم والخصوص أنّ الشمول تارة يكون وضعيا مثل أكرم كلّ عالم ، وأخرى يكون إطلاقيا مثل أكرم العالم. والفرق بين المثالين مع احتياج إثبات الشمول في كلّ منهما إلى مقدّمات الحكمة ، أنّ المحتاج في المثال الأوّل إلى مقدّمات الحكمة إنّما هو مصبّ

ص: 450


1- أجود التقريرات 2 : 436 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 573.

العموم ، أعني مدخول أداة العموم ، أمّا نفس العموم فلا يكون في دلالته على الشمول لكلّ فرد محتاجا إلى مقدّمات الحكمة ، بل يكون وضع الأداة لذلك كافيا فيه ، بخلاف نفس الشمول في المثال الثاني فإنّه أيضا محتاج إلى مقدّمات الحكمة كمصب العموم.

وبالجملة : أنّ لنا في كلّ واحد من المثالين احتمالين ، الأوّل : احتمال التخصيص الأنواعي الذي يكون بمنزلة التقييد للمصب ، بأن يكون المراد من العالم الذي يجب إكرامه هو خصوص العادل مثلا ، فيكون العالم مقيّدا بذلك ويكون الفاسق خارجا عنه ، ويكون من قبيل التخصيص الأنواعي. وهذا التصرّف المحتمل إنّما هو تصرّف في مصب العموم ، أعني أنّ نفس العالم الذي هو مدخول كلّ في المثال الأوّل والذي هو مورد الشمول الاطلاقي في المثال الثاني ، يكون مقيّدا بخصوص العادل ، والنافي لاحتمال هذا التصرّف - أعني تقييد العالم بالعادل - هو مقدّمات الحكمة في كلّ واحد من المثالين.

ثمّ بعد الفراغ عن أنّ مصبّ العموم هو مطلق العالم عادلا كان أو غيره ، أو أنّه مخصوص بخصوص العادل ، ننقل الكلام إلى احتمال آخر وهو احتمال التخصيص الأفرادي ، لأنّه يحتمل أن يكون في خصوص زيد العالم مانع من دخوله تحت ذلك العموم ، بأن يكون زيد المذكور خارجا عن عموم مطلق العالم أو العالم العادل وإن كان عادلا. والمتكفّل لطرد هذا الاحتمال هو نفس وضع أداة العموم في المثال الأوّل. وأمّا في المثال الثاني فالمتكفّل فيه لطرد الاحتمال المذكور هو مقدّمات الحكمة ، بأن يقال : لو كان زيد المذكور خارجا في نظر المتكلّم عن عموم من يجب إكرامه لكان عليه أن يقيم دليلا على خروجه ، فلمّا لم يذكر ما يدلّ على خروجه عنه مع أنّه في مقام بيان تمام مراده ، كشف ذلك عن

ص: 451

عدم خروجه وأنّ حكمه شامل لجميع من هو مصداق للعالم المذكور.

فيكون المثال الثاني وهو الشمول الاطلاقي محتاجا إلى جريان مقدّمات الحكمة مرّتين ، مرّة بالنسبة إلى نفس المصب وأخرى بالنسبة إلى نفس العموم والشمول لذلك الفرد المشكوك ، بخلاف المثال الأوّل وهو الشمول الوضعي فإنّه لا يحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة إلاّ مرّة واحدة ، وهي اجراؤها في ناحية المصب في قبال احتمال التقييد والتخصيص الأنواعي ، أمّا بالنسبة إلى نفس العموم في قبال احتمال التخصيص الأفرادي فلا حاجة فيه إلى مقدّمات الحكمة ، بل إنّ نفس الموضوع كاف في طرد الاحتمال المذكور.

وهناك فرق آخر بين المثالين المذكورين ، وهو أنّ من جملة مقدّمات الحكمة كون المتكلّم في مقام البيان ، وهذه المقدّمة لا بدّ من إحرازها ، لكن في المثال الأوّل يكون وضع الأداة للعموم وكونها داخلة على ما هو مجرى مقدّمات الحكمة كافيا في إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، بخلاف المثال الثاني فإنّ إحراز كون المتكلّم في مقام البيان يكون متوقّفا فيه على التعلّق بالأصل العقلائي القاضي بأنّ الأصل في كلّ كلام صدر من متكلّم أنّ صدوره كان في مقام البيان ، إذ أنّ كونه في غير ذلك المقام أمر على خلاف ما يقتضيه طبع إلقاء الكلام من أنّه إنّما ألقي لأجل الافادة وإظهار المراد بتمامه ، وأنّ المتكلّم لم يكن قصده الاخفاء وعدم الاظهار ، انتهى ما كنت حرّرته عنه قدس سره.

أمّا ما أفاده قدس سره من كون العموم الوضعي مثل قوله أكرم كلّ عالم محتاجا إلى مقدّمات الحكمة في المدخول ، وأنّ مفاد لفظ كلّ هو العموم الأفرادي ، ومفاد إطلاق المدخول هو العموم الأنواعي ، فقد تقدّم الكلام عليه في مبحث العموم

ص: 452

والخصوص (1) ، وأنّ مفاد إضافة لفظ كلّ هو طرد احتمال الاخراج والتخصيص ، سواء كان الاخراج أنواعيا أو كان أفراديا. كما أنّ مفاد إطلاق المدخول هو طرد احتمال التقييد والتوصيف للعالم بكونه عادلا أو كونه غير زيد ، بمعنى كونه في قبال التقييد ، سواء كان أنواعيا أو كان أفراديا ، وإن كان الثاني بعيدا جدّا.

وعلى أي حال ، فإنّ ما أفاده قدس سره من احتياج الاطلاق الشمولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة مرتين ، يمكن التأمّل فيه ، فإنّه لو قال أكرم العالم وثبت بمقدّمات الحكمة أنّ طبيعة العالم هي موضوع الحكم غير مقيّدة بشيء ، يكون تعلّق الحكم بها باعتبار وجودها الخارجي كافيا في سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفرادها ، من دون حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في إثبات العموم الأفرادي ، كلّ ذلك بعد فرض كون الحكم المتعلّق بها منظورا به الطبيعة باعتبار وجودها الخارجي ، إذ يكفي في ذلك تساوي أفراد الطبيعة وعدم ترجيح بعضها على بعض ، وعدم مناسبة المقام لكون المراد هو صرف الوجود ليكتفى بفرد واحد من أفرادها.

ولعلّه لأجل ذلك عدل في هذا التحرير عن التعبير باحتياج المطلق الشمولي إلى إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في ناحية الأفراد ، إلى التعبير بقوله : الثاني أنّ سراية الحكم إلى تمام الأفراد في طرف المطلق إنّما يكون من جهة تساوي أفراد الطبيعة في صدق الطبيعة عليها الخ (2) ، ولعلّ هذا المعنى أعني التساوي هو المراد فيما حرّرناه عنه قدس سره من إجراء مقدّمات الحكمة ثانيا في

ص: 453


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : 105 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 436 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الشمول الافرادي ، بل لعلّه هو المراد ممّا تقدّم نقله (1) عن شريف العلماء من إدخال عدم الترجيح ونحوه في مقدّمات الحكمة ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره من أنّ كون المتكلّم في مقام البيان في صورة العموم الشمولي يكفي فيه نفس الشمول المستفاد من دخول كلّ ، لا يخلو عن تأمّل ، فإنّا لو قلنا بعدم الحاجة إلى إثبات إطلاق المدخول بمقدّمات الحكمة ، وأنّ دخول كلّ كاف ومغن عنه ، لتمّ ما أفاده قدس سره ، لكنّه بناء على ذلك لا نحتاج إلى مقدّمات الحكمة في ناحية المدخول ، لا أنّا نكون محتاجين إليها وأنّ إثبات كون المتكلّم في مقام البيان يكون من ناحية الشمول المستفاد من إضافة لفظ كلّ. وإن قلنا بمسلكه قدس سره من أنّه لا ربط لمفاد كلّ الذي هو الشمول الأفرادي بمفاد مقدّمات الحكمة في المدخول من الاطلاق الأنواعي لا يكون الشمول الأفرادي كاشفا عن كون المتكلّم في مقام البيان من ناحية الاطلاق الأنواعي ، إذ يجوز أن يصرّح بأنّ موضوع هذا الحكم ومتعلّقه هو كلّ فرد من أفراد المدخول ، لكنّه لا يكون في مقام البيان من ناحية إطلاق المدخول ، وأنّه هل للعدالة - مثلا - مدخل فيه بحيث يكون المدخول هو خصوص العادل ، أو أنّه لا مدخلية فيه للعدالة على وجه يكون ذلك الشمول الأفرادي واردا على كلّ من نوعي العالم العادل والفاسق.

والحاصل : أنّه لا ملازمة بين كون العام شاملا لكلّ فرد من أفراد العالم مع كون المتكلّم في مقام البيان من ناحية العالم نفسه ، وأنّه هل يختصّ بالعادل أو يشمل كلا القسمين ، إلاّ إذا قلنا إنّ الشمول الأفرادي في ناحية لفظ كلّ يكفي في سراية الحكم إلى كلّ واحد من أفراد العالم ، من دون فرق بين الفاسق من تلك الأفراد وبين العادل ، فتأمّل.

ص: 454


1- في الصفحة : 428.

قوله : الثالث : أنّ انقسامات المطلق حيث كانت كثيرة ... الخ (1).

الأولى نقل ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام لعلّه أوضح ، وهو : أنّك قد عرفت أنّ الاطلاق عبارة عن كون الصفة مساوية لنقيضها في الدخول تحت الماهية ، فتارة يكون ذلك التساوي بالنسبة إلى خصوص صفة كالهاشمية وغير الهاشمية ، بالنسبة إلى أكرم العالم ، وإن لم يتحقّق التساوي بالنسبة إلى صفة العدالة بل كانت هذه الصفة غير مساوية لنقيضها ، بأن كان العالم مقيّدا بالعدالة مثلا ، ويعبّر عن الاطلاق في مثل ذلك بالاطلاق الاضافي ، لكون العالم إنّما كان مطلقا بالاضافة إلى خصوص صفة الهاشمية وعدمها دون صفة العدالة وعدمها.

وأخرى يكون ذلك التساوي جاريا في جميع الصفات اللاحقة للماهية ، ويعبّر عنه بالاطلاق الحقيقي في قبال الاطلاق الاضافي.

ثمّ إنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان وإن كان جريانه بالنسبة إلى جميع الصفات ، فإذا فرضنا أنّه لم يقيّد الماهية بشيء من الصفات كان نتيجة ذلك هي الاطلاق بالاضافة إلى جميع الصفات ، إلاّ أنّه لو ورد بعد ذلك ما يوجب التقييد بصفة خاصّة لم يكن ذلك موجبا لاستكشاف أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان بالكلّية ، ليكون ذلك موجبا لسقوط ظهوره بالمرّة ، بل أقصى ما فيه أن يكون كاشفا عن أنّ المتكلّم لم يكن في مقام البيان من جهة خصوص تلك الصفة لا من جهة جميع الصفات ، بل يكون بالنسبة إلى باقي الصفات على ما هو عليه من كونه مجرى لأصالة كونه في مقام البيان ، فيبقى إطلاقه بالنسبة إلى باقي الصفات محفوظا ، غاية الأمر أنّه لا يكون إطلاقا حقيقيا ، بل يكون إطلاقا إضافيا ، هذا إن قلنا إنّ ورود التقييد ببعض الصفات يكون رافعا للمقدّمة الأولى أعني كون

ص: 455


1- أجود التقريرات 2 : 436 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المتكلّم في مقام البيان.

وهكذا الحال لو قلنا إنّه رافع للمقدّمة الثانية أعني عدم البيان المتّصل أو المنفصل ، فإنّ الاطلاق أعني تساوي الصفة ونقيضها إنّما تمّ بعد ثبوت أنّه ليس في البين تقيّد بها ، وبعد الظفر بالتقييد ينكشف لنا الخطأ فيما حكمنا به من عدم وجود التقييد بالنسبة إلى خصوص تلك الصفة دون غيرها.

فقد ظهر لك بذلك أنّ العثور على القيد المنفصل لا يوجب سقوط الاطلاق إلاّ بالنسبة إلى الصفة التي عثرنا على التقييد بها دون باقي الصفات ، بل يبقى ظهوره في الاطلاق بالنسبة إلى باقي الصفات بحاله. نعم لو كان التقييدات التي عثرنا عليها كثيرة جدّا لكانت موجبة لوهن ذلك الاطلاق ، فإنّ كثرتها توجب وهن كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الباقي ، أو وهن أصالة عدم التقييد المنفصل بالنسبة إلى الباقي ، انتهى.

قلت : إنّ العثور على التقييد المنفصل إنّما يوجب الخطأ في المقدّمة الثانية لو كان ذلك المنفصل موجودا حين صدور المطلق ، أمّا لو كان متأخّرا عن ذلك فلا يكون موجبا إلاّ لسقوط المقدّمة الأولى.

قوله : فإنّ ظاهر تعلّق الأمر بخصوصية من خصوصياتها هو كونه غيريا ومفيدا للشرطية أو الجزئية ... الخ (1).

وبعبارة أوضح على مسلكه قدس سره أنّ ظاهر تلك الأوامر هو الارشاد إلى الأمر النفسي الضمني الذي عنه تنتزع الجزئية أو الشرطية ، وهذا مثل أن يقول صلّ ثمّ يقول اركع في صلاتك أو توضّأ لها أو تستّر فيها ، أمّا لو قال صلّ مع الركوع أو مع الساتر والطهارة فذلك لا يخرج عن كونه من قبيل الاطلاق والتقييد ، مثل أعتق

ص: 456


1- أجود التقريرات 2 : 441 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

رقبة واعتق رقبة مؤمنة. ثمّ الأوّل وإن ادّعي ظهوره في الغيرية أعني الضمنية والقيدية ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون المراد منه الاستقلالية ، بأن يكون من قبيل الواجب في ضمن واجب ، ودعوى ظهوره الثانوي في التقييد قابلة للمنع.

قوله : الأولى : في بيان أنّ ظهور القرينة في الكلام يتقدّم على ظهور ذي القرينة وإن كان الثاني أظهر ... الخ (1).

تقدّم في بعض مباحث العموم (2) التأمّل في ذلك ، وأنّ الملاك هو تقديم أقوى الظهورين. نعم إنّه ارتكازي يجري عليه أهل اللسان من دون تأمّل ووهلة نظر ، كلّ ذلك حسب مرتكزاتهم الفطرية من دون أن يعرفوا أنّ هذا قرينة وذاك ذو القرينة ، وأنّ ظهور الثاني مقيّد الحجّية بعدم ظهور (3) ، بل إنّ هذه الدعوى وهي أنّ هذا قرينة وذلك ذو القرينة قابلة للمنع والقلب ، وإلاّ فلم لا نقول إنّ ظهور أسد قرينة على ظهور يرمي ، ومن فرض علينا أن يكون الثاني قرينة على الأوّل.

ومنه يظهر لك التأمّل في الضابط الذي أفاده قدس سره (4) في المقدّمة الثانية من كون ما هو فضلة في الكلام قرينة على ما هو العمدة فيه ، بل لعلّ كون العمدة قرينة أولى ، لكونه هو السابق في الذكر ، وهو الذي يتأثّر منه ذهن السامع على وجه يأخذه حاكما على ما يأتي بعده. ولعلّ هذا الذي أفاده قدس سره من كون الفضلة قرينة مناف لما أفاده قدس سره من كون ظهور ضرب قرينة على الفاعل والمفعول ، إذ المفعول فضلة.

ص: 457


1- أجود التقريرات 2 : 442 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- في الصفحة : 332.
3- [ هكذا في الأصل ، ولعلّ الأنسب إضافة « الأوّل » أو « أقوى » ].
4- أجود التقريرات 2 : 443.

والحاصل : أنّ هذه الأمور وإن ذكرها علماء العربية ، إلاّ أنّ الظاهر أنّها تحكمات وتخرّصات لا أساس لها. ومنه يظهر لك التأمّل في ضابط القرينة المنفصلة ، وأنّ المناط في جميع ذلك على تقديم ما هو الأقوى ظهورا ، وهو أمر ارتكازي لا يدخل تحت حدّ وضابط ، وهو حقيقة الاجتهاد في فهم الظهورات والجمع بينها ، ولو كان له ضابط محصور وحدّ محدود لانسدّ باب الاجتهاد في فهم الروايات والآيات.

قوله : فإن قلت : إذا قطعنا النظر عن المتعلّق ونظرنا إلى نفس الوجوب الصادر من المولى الجامع بين الخطابين ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : ولا يمكن الجواب عن هذا الدور بأنّ نفس التكليف سابق في لحاظ الاطلاق والتقييد على المكلّف به ، فيكون نفس وجوب العتق مطلقا في أحد المثالين ومقيّدا في المثال الآخر ، فيحمل المطلق على المقيّد ، وذلك لأنّ نفس وجوب العتق أعني القدر الجامع بين التكليفين لا واقعية له كي يكون موردا لحمل المطلق منه على المقيّد ، وخصوص كلّ واحد منهما لا يمكن الحمل فيه إلاّ بلحاظ كون التكليفين تكليفا واحدا المتوقّف على وحدة متعلّقهما الذي عرفت أنّه متوقّف على الحمل في ناحية نفس التكليف ، انتهى.

قلت : يمكن الجواب عن هذا الدور بأنّه من قبيل الدور المعي ، فإنّ حمل إطلاق التكليف في قوله أعتق رقبة مؤمنة على المقيّد في قوله إن ظاهرت فاعتق رقبة ، يكون في عرض حمل إطلاق المتعلّق في الثاني على المقيّد في الأوّل ، فهما في ذلك نظير ما لو قال أكرم العالم العادل ثمّ قال أكرم العالم الفقيه ، فإنّ

ص: 458


1- أجود التقريرات 2 : 445 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

مقتضى الجمع هو حمل الاطلاق في الأوّل من ناحية الفقه على التقييد به في الثاني ، وحمل الاطلاق في الثاني من ناحية العدالة على التقييد بها في الأوّل.

وحاصل الأمر : أنّه لو فهم العرف من الدليلين وحدة التكليف ، فلا محيص من حمل الاطلاق في كلّ منهما على الآخر. نعم يمكن الفرق في نظر العرف بأنّه في مثل المثال الثاني يكون وحدة التكليف أقرب إلى نظر العرف في المثال الأوّل ، بل إنّ المثال الثاني يكون من قبيل التقييدين الواردين على المطلق الأوّل ، وهو قوله أكرم العالم ، بل يمكن الفرق بينهما بأنّ القيدين في المثال الثاني في رتبة واحدة بخلافهما في المثال الأوّل.

والأولى تخريج المثال على ما لو تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، فيكون قوله أكرم العالم العادل بمنزلة قوله أكرم العالم إن كان عادلا ، وقوله أكرم العالم الفقيه بمنزلة قوله أكرم العالم إن كان فقيها ، والجمع بين الشرطين بعطف أحدهما على الآخر بمفاد لفظة الواو أو بمفاد لفظة أو ، ويكون ذلك موجبا لاختلاف الحكم ، وعلى الأوّل يكون الشرط هو اجتماعهما ، وعلى الثاني يكون الشرط هو أحدهما ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قال أعتق رقبة ثمّ قال إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، كان الظاهر هو لزوم حمل الاطلاق الأوّل من الجهتين على التقييد في الثاني وهو واضح ، ولكن الذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (1) هو التسوية في الإشكال بين هذه الصورة والصورة الأخرى ، أعني ما لو قال أعتق رقبة مؤمنة وإن ظاهرت فاعتق رقبة ، وهكذا فيما حرّرته عنه قدس سره فراجع وتأمّل. والظاهر جريان الإشكال فيه كما في الصورة المذكورة في هذا التحرير ، فلاحظ.

ص: 459


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 580.

قوله : الثاني : أن يكون كلّ من التكليفين إلزاميين ، إذ لو كان دليل القيد مفيدا للاستحباب لما كان هناك تناف بينه وبين الاطلاق ، فلا يكون هناك موجب للحمل. ولا فرق حينئذ بين أن يكون دليل المطلق إلزاميا أو لم يكن ، إذ الرافع للمنافاة عدم دلالة المقيّد على الالزام وترخيصه للترك غير المنافي لبقاء المطلق على إطلاقه ... الخ (1).

ومع هذا التصريح الأخير الدالّ على أنّ موجب الحمل إنّما هو دلالة المقيّد على الالزام بالقيد ، وأنّه لو لم يدلّ على الالزام فلا موجب للحمل ، أورد عليه في الحاشية بقوله : لا يذهب عليك أنّه لا يعتبر في حمل المطلق على المقيّد إلاّ كون خصوص دليل المقيّد إلزاميا ، وأمّا كون الدليل المطلق إلزاميا فلا ملزم له أصلا ، ثمّ أخذ في بيان ذلك الخ. وكأنّ هذا الايراد إنّما يرد على محض التعبير بقوله : أن يكون كلّ من التكليفين إلزاميين.

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : وأمّا اعتبار كون التكليفين إلزاميين فلما عرفت من أنّهما لو كانا استحبابيين لم يقع التنافي بينهما ، بل ستأتي الاشارة إلى أنّه لو كان المقيّد استحبابيا لا يقع التنافي بينهما ولو كان المطلق وجوبيا ، وسرّه ما ذكرناه من أنّ التكليف الاستحبابي لا يمنع من ترك متعلّقه كي يكون منافيا لما يقتضيه التكليف بالمطلق من جواز ترك ذلك القيد والاتيان بالصنف الآخر الخ.

قوله : وهذا هو السرّ في عدم حمل المشهور إطلاقات المستحبّات على مقيّداتها. نعم إذا كان المطلق في باب المستحبّات ناظرا إلى إثبات درجة خاصّة ، وكان دليل المقيّد ناظرا إلى إثبات تلك الدرجة بعينها ، لتحقّقت المنافاة بينهما ... الخ (2).

يمكن أن يقال : إنّ الأمرين الاستحبابيين إن اتّحدا فلا محيص عن الحمل ،

ص: 460


1- أجود التقريرات 2 : 447 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 448 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

وإن لم يتّحدا فلا بدّ أن يكونا من قبيل المطلوب في ضمن المطلوب ، وهو خارج عن مورد حمل المطلق على المقيّد ، كما أنّ التكليفين الوجوبيين أيضا كذلك.

وبالجملة : لم يظهر الفرق بين التكاليف الوجوبية والتكاليف الاستحبابية في أنّه مع وحدة التكليف لا بدّ من الحمل وبدونه ولو من جهة كونهما من قبيل المطلوب في ضمن المطلوب الآخر لا نحتاج إلى الحمل ، ومجرّد كون الأمر وجوبيا مانعا من الترك والأمر الاستحبابي غير مانع منه لا ينفع في رفع التنافي بين الأمرين الاستحبابيين.

أمّا أوّلا : فلأنّ الأمر الاستحبابي بمقدار ما فيه من مرتبة طلب الفعل يكون مانعا من الترك ، فيكون بذلك منافيا لما اقتضاه الأمر الآخر المتعلّق بالمطلق من عدم المنع من ترك ذلك المقيّد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ التنافي لا ينحصر في جهة المنع من الترك ، بل إنّه يكون ناشئا من وحدة نفس التكليف الاستحبابي مع كون متعلّقه موسّعا في أحد الدليلين ومضيّقا في الدليل الآخر ، ولأجل ذلك يلزم حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان أحد التكليفين الوجوبيين مقيّدا بشرط مخصوص ، مثل إن ظاهرت فصم شهرين متتابعين ومثل صم شهرين متتابعين ، ومن الواضح أنّ التنافي في هذين المثالين لم يكن ناشئا عن المنع من الترك. ومنه يظهر الحال فيما لو كان الأمران المذكوران استحبابيين ، فتأمّل.

وأمّا اختلاف درجات المستحبّات فهو إن رجع إلى تعدّد التكليف ، على وجه يكون المطلوب الأوّلي هو المطلق والثانوي هو المقيّد ، أعني كون المطلوب الثانوي هو تقيّد ذلك المطلق بذلك القيد ، كان خارجا عمّا نحن فيه من وحدة التكليفين ، وإلاّ لم يكن نافعا في التدافع بينهما.

ص: 461

قوله : المقتضي لحمل الأمر على الاستحباب ، وكون المقيّد هو أفضل الأفراد ... الخ (1).

لا يخفى أنّ حمل الأمر في ناحية الدليل المقيّد على الاستحباب وكون المقيّد هو أفضل الأفراد ، مع الاعتراف بكون المقيّد الذي هو الرقبة المؤمنة مصداقا للواجب المطلق ، وأنّ ذلك المقيّد الذي هو الرقبة المؤمنة أفضل الأفراد ، لا يتمّ إلاّ مع الالتزام بكون ذلك القيد أعني الإيمان من قبيل المستحبّ في ضمن واجب ، فيكون هذا الوجه الأوّل راجعا إلى الوجه الثاني أعني تعدّد المطلوب وكون القيد مطلوبا في ضمن مطلوب آخر ، غايته أنّ طلب القيد تارة يكون طلبا وجوبيا وأخرى يكون طلبا استحبابيا.

والحاصل : أنّ كون المطلق وجوبيا مع كون المقيّد استحبابيا لا يجتمع مع وحدة الطلب ، بل لا بدّ من تنزيله على تعدّد المطلوب وكون القيد مطلوبا في ضمن مطلوب آخر.

قوله : فهو مضافا إلى منافاته لظهور المقيّد في أنّ الواجب هو مجموع القيد والمقيّد دون القيد نفسه ... الخ (2).

هذا فيما لو كان الأمر في ناحية المقيّد متوجّها إلى نفس المقيّد كما في متعلّقات الأفعال بأن يقول أعتق رقبة مؤمنة في قبال قوله أعتق رقبة ، أمّا لو كان متوجّها إلى نفس القيد كما لو كان المطلق والمقيّد من قبيل الأفعال ، بأن يقول اجهر في القراءة في قبال قوله اقرأ بقول مطلق ، فالظاهر أنّه لا مانع من جعله من قبيل الواجب في ضمن واجب. أمّا القلّة والكثرة التي أشار إليها بقوله : بعيد في حدّ ذاته ، فإنّ وجود واجب في ضمن واجب من الندرة بمكان لا يمكن حمل

ص: 462


1- أجود التقريرات 2 : 449 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 449 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

مورد عليه من دون قرينة الخ ، فهي إنّما تكون في متعلّقات الأفعال مثل الرقبة والرقبة المؤمنة ، دون ما يكون من قبيل الأفعال مثل القراءة والجهر فيها ، فتأمّل.

قوله : فلا يمكن استكشاف وحدة التكليف المحقّقة للمنافاة بين الدليلين التي يدور عليها وجوب حمل المطلق على المقيّد ... الخ (1).

ربما استفيد وحدة التكليف من غير كون متعلّقه صرف الطبيعة ، مثل أن يقول إن قدمت البلد فتصدّق على كلّ فقير فيه ، ثمّ يقول إن قدمت البلد فتصدّق على كلّ فقير هاشمي فيه ، فإنّه يستفاد من مثله وحدة التكليف ، فلا يمكن أن يكون ذلك التكليف الواحد عاما شاملا لكلّ فرد ومختصّا بخصوص صنف خاصّ ، فلا بدّ حينئذ من حمل العام على الخاصّ ، وليس ذلك من جهة ثبوت المفهوم للقيد وإلاّ لكان ذلك المفهوم مخصّصا للعموم ، لكون المخالفة بينهما بالايجاب والسلب.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : نعم إذا علمنا من الخارج أنّ القيد إنّما أتي به في الكلام لافادة المفهوم وبيان تضييق المراد الواقعي ولم يؤت به بداع آخر ، فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد الخ ، لما عرفت من أنّ تقديم المفهوم النافي على العام الموجب لا يكون من باب حمل المطلق على المقيّد ، بل من باب المعارضة وكون النافي أخصّ مطلقا من المثبت.

قوله : الأوّل : أنّه لا موجب لحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبّات ... الخ (2).

تقدّم (3) البحث في ذلك وأنّه إذا كان الأمر الاستحبابي المتعلّق بالمطلق هو

ص: 463


1- أجود التقريرات 2 : 451.
2- أجود التقريرات 2 : 452.
3- في الصفحة : 461.

عين الأمر الاستحبابي المتعلّق بالمقيّد ، يكون اللازم هو حمل المطلق على المقيّد وإن كانا استحبابيين. وأوضح من ذلك ما لو كانت القضية في ناحية المقيّد ذات مفهوم في حدّ نفسها. وكون المستحبّات ذات مراتب لا يوجب صرف القضية عن الدلالة على المفهوم ، وأقصى ما في ذلك هو حمل المفهوم النافي للاستحباب في مورد انتفاء القيد على نفي مرتبة من الاستحباب ، وهو لا ينافي بقاء الاستحباب في ذلك الفاقد بمرتبة أخرى هي أضعف من تلك المرتبة المنفية.

وهذا الطريق لو سلّم يكون جمعا بين ثبوت الاستحباب الذي دلّ عليه العموم في فاقد الوصف وبين نفيه فيه الذي دلّ عليه المفهوم بنحو آخر يكون مرجعه إلى تعدّد المطلوب في واجد الوصف ، وأنّه من قبيل المستحبّ في ضمن المستحبّ ، وبه شرحنا (1) معنى أفضل الأفراد للواجب التخييري ، فإنّ ذلك الشرح يتأتّى في أفضل أفراد المستحبّ التخييري ، وهو أيضا متأت في أفضل الأفراد في المستحبّ الشمولي مثل قوله يستحبّ إكرام كلّ عالم ، وقوله يستحبّ إكرام كلّ عالم علوي ، إذا حملنا الثاني على كونه مشتملا على مستحبّ آخر وهو إكرام خصوص العالم العلوي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الثاني أنّ ملاك حمل المطلق على المقيّد - إلى قوله - فلا يفرق فيه بين ما إذا كان دليل المقيّد دالا على تقييد المتعلّق ( مثل صلّ وصلّ متطهّرا ) أو الموضوع ( مثل أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ) وبين ما إذا كان دالا على تقييد نفس الحكم ( مثل أعتق رقبة وإن ظاهرت فاعتق رقبة ) (2).

لكن قد عرفت (3) الفرق بين مثل صلّ وصل متطهّرا ، وقوله أعتق رقبة

ص: 464


1- في الصفحة : 462.
2- أجود التقريرات 2 : 452 - 453 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في الحاشية المتقدّمة في ص 462 ( قوله : فهو مضافا ).

وأعتق رقبة مؤمنة في ظهور الثاني في وحدة المطلوب وعدم ظهور الأوّل في ذلك ، وإمكان حمله على أنّ المطلوب هو أصل الصلاة ، وكونها مع الطهارة مطلوبا آخر سيّما إذا قال تطهّر في صلاتك.

كما أنّ ملاك الحمل في الثالث وهو أعتق رقبة وإن ظاهرت فاعتق رقبة ، ليس هو مجرّد كون المطلوب هو صرف الطبيعة ، بل حتّى لو كان المطلوب هو الشمول مثل قوله تصدّق على كلّ مسكين في البلد وقوله إذا شفى اللّه تعالى مريضك فتصدّق على كلّ مسكين في البلد ، فإنّ الأوّل يحمل على الثاني مع عدم كون المطلوب هو صرف الوجود ، فلاحظ وتأمّل.

وقد تمّ بحمد اللّه تعالى وفضله ما علّقناه على مباحث الألفاظ في اليوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ذي الحجّة سنة 1369 على يد مؤلّفه الأقل عيبة العيوب حسين الشيخ علي الحلّي قدس سره وقاه اللّه تعالى شرّ نفسه ، وجعل غده خيرا من أمسه إنّه أرحم الراحمين (1).

ص: 465


1- [ كتب المصنّف قدس سره في الهامش عبارات محصّلها : أنّه قدس سره قد أتمّ هذه الدورة في تاريخ 1375 ه / ق وشرع في دورة ثانية انتهى فيها من مباحث الجزء الأوّل والثاني ( مباحث الألفاظ ) في 1378 ، وأتمّ الدورة في 1381 ، ثمّ شرع في دورة ثالثة في شهر شوال من نفس العام ، وأتمّ البحث في الجزء الأوّل في أواخر ربيع الثاني من سنة 1384 ].

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

الأمر الثالث : تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء...

توضيح الفرق بين هذا الأمر والأمر الآتي ... 3

التعليق على كلام الماتن برجوع الوجه الأوّل من وجوه الجمع بين القضيتين إلى الثالث 6

المحتملات الأربعة التي ذكرها الآخوند قدس سره وبيان مختاره في المسألة ... 7

نقل ما حرّره عن الماتن في أنّ سقوط المفهومين مرجعه إلى العطف بأو ... 11

التعليق على كلام الآخوند قدس سره من توقّف التعارض بين الجملتين على القول بالمفهوم 12

تنبيه : في بيان النسبة بين الشرطين في الجملتين ... 15

تنبيه آخر : نقل كلام للمحقّق العراقي قدس سره في المقام ... 16

تحقيق مفصّل في كيفية دفع التعارض بين الشرطيتين في المقام ... 18

ما نقله عن فوائد الأصول في المقام ... 32

نقل كلام عن الشيخ موسى قدس سره في المقام ... 35

الكلام في تداخل الأسباب والمسبّبات ... 37

ص: 466

الكلام في مفهوم الوصف... 56

الكلام في مفهوم الغاية ... 64

الكلام في مفهوم الحصر ... 68

مبحث العام والخاص...

التعليق على ما ذكره الماتن من انقسام القضية إلى الحقيقية والخارجية ... 84

التسامح في تسمية العموم البدلي بالعموم ... 87

وجه دلالة الجمع المعرّف على العموم ... 89

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في المقام ... 89

الاستدلال على أنّ العموم المستفاد من « كل » يقتضي المجموعية دون الاستغراقية والجواب عنه 93

الكلام في النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ... 94

الكلام في أنّ العام المخصّص هل هو حقيقة أو مجاز ... 95

تقسيم الدلالة إلى الأقسام الثلاثة ... 95

قول المحقّق الحائري قدس سره بالدلالة التمهيدية ... 98

تحقيق الحال في وجه عدم لزوم التجوّز من التخصيص بالمتّصل والمنفصل ... 99

القول بلزوم التجوّز في التخصيصات الأفرادية ودفعه ... 103

الكلام فيما ذهب إليه المحقّق النائيني قدس سره من إجراء مقدّمات الحكمة في مدخول أداة العموم 105

دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ... 117

نقد كلام المحقّق العراقي قدس سره في المقام ... 123

ص: 467

نقل كلام المحقّق الحائري قدس سره في المقام ... 129

الكلام في منع التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للخاصّ ... 139

توضيح الاستدلال على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية والمناقشة فيه... 142

وجه آخر لمنع التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ... 145

ما ذكره المحقّق العراقي في الدرس لجواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية... 148

البرهان الذي ذكره المحقّق العراقي في الدرس لعدم جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية 151

ملخّص ما ذكر في المقالات من وجوه المنع عن التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية... 155

تتمّة تاريخية للبحث عن التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ... 159

التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع لجواز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية ... 162

الفرق بين الشبهة المفهومية والمصداقية في الرجوع إلى العام ... 164

قياس الأصل اللفظي بالأصول العملية من حيث جريانها في الشبهات المصداقية... 169

نسبة جواز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية إلى المشهور من جهة بعض فتاواهم 171

تحقيق الحال في دوران الأمر بين كون اليد عادية أو أمانية ... 171

الكلام في جريان أصل العدم الأزلي لاحراز الفرد المشتبه في العام ... 176

ص: 468

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في المقام ... 194

تحقيق الحال في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية من ناحية المخصّص العقلي اللبّي 212

التعليق على كلمات لصاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 229

الكلام في لزوم الفحص عن المخصّص وبيان الوجه في ذلك ... 233

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في المقام ... 249

الكلام في شمول الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ... 261

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في المقام ... 268

دوران الأمر بين التخصيص والاستخدام ... 272

حكم تعقّب الاستثناء جملا متعدّدة ... 285

تعارض العموم مع المفهوم ... 289

بحث في أقسام المفهوم الموافق والمخالف ... 289

حكم تعارض العموم مع المفهوم الموافق بالأولوية ... 299

حكم تعارض العموم مع المفهوم الموافق بالمساواة ... 315

حكم تعارض العموم مع المفهوم المخالف ... 323

تخصيص الكتاب بخبر الواحد ... 340

الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ... 345

نقل كلام صاحب التقريرات في صور المسألة ... 345

إيرادات على صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 350

المراد بوقت الحاجة في قولهم : النسخ قبل وقت الحاجة غير معقول ... 353

الكلام في تأخير البيان عن وقت الحاجة ... 356

ص: 469

عقد البحث في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ، في مقامين ... 368

تذييل : هل النسخ من قبيل الدفع أم الرفع ... 389

المطلق والمقيّد...

الإشكال على تعريف المطلق بأنّه ما دلّ على شايع في جنسه ... 395

الكلام فيما ذكره الماتن من عدم وقوع البحث في المقام عن إطلاق الجمل التركيبية 395

التعليق على ما ذكره الماتن في دلالة النكرة على العموم ... 396

تحرير محلّ النزاع في أنّ الاطلاق بالوضع أو بمقدّمات الحكمة ... 399

أنحاء اعتبار الماهية ... 400

مع السيّد الخوئي رحمه اللّه في ما اصطلحه من الماهية المختلطة ... 404

نقل كلمات أهل الفن كالمحقّق الطوسي وغيره في أقسام الماهية ... 406

تحقيقات للمصنّف قدس سره حول أقسام الماهية ... 412

تحرير محلّ النزاع بين سلطان العلماء قدس سره والمشهور ... 421

الكلام في مقدّمات الحكمة ... 425

الانصراف ومناشئه ... 446

الفرق بين العام والمطلق مع احتياج كلّ منهما إلى مقدّمات الحكمة ... 450

التقييد من جهة لا ينافي الاطلاق من جهة أخرى ... 455

الكلام في حمل المطلق على المقيّد وصور المسألة ... 456

حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات ... 460

فهرس الموضوعات... 465

ص: 470

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.