أصول الفقه المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

ISBN الدورة: 978-600-5213-23-2

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الرابع

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

النواهي

قوله : الحقّ أنّ المطلوب في النواهي هو نفس عدم الفعل دون الكفّ ... الخ (1).

تقدّمت (2) الإشارة في مبحث دلالة الأمر على النهي عن ضدّه العام بمعنى الترك إلى ما ربما يقال من الفرق بين الأمر والنهي بأنّ مفاد الأوّل طلب الفعل ومفاد الثاني الزجر عنه. والأوّل ناش عن صلاح في الفعل والثاني عن مفسدة. كما تقدّمت (3) الاشارة إلى أنّ مجرّد كون الأمر ناشئا عن صلاح في متعلّقه والثاني ناشئا عن فساد فيه لا يوجب كون النهي حقيقة وفي عالم التشريع من مقولة الردع والزجر ، بحيث يكون الحكم المشرّع واقعا هو مجرّد الردع والزجر ، بل إنّ ذلك جار في الأمر أيضا فإنّ كونه ناشئا عن صلاح في متعلّقه لا يوجب أن يكون الحكم الواقعي الذي هو موجود في صفحة التشريع هو البعث والتحريك نحو المتعلّق ، بل ليس الموجود في عالم التشريع في الأوامر إلاّ طلب المتعلّق ، كما أنّه ليس الموجود في النواهي إلاّ طلب الترك ، نعم في مقام إبراز ذلك الطلب يكون إبرازه في الأوّل بآلة البعث والتحريك وفي الثاني بآلة الردع والزجر ، فنحن وإن قلنا إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، إلاّ أنّ الحكم الناشئ عن المصلحة في

ص: 3


1- أجود التقريرات 2 : 119 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 98.
3- لاحظ المصدر المتقدّم.

المتعلّق لا يلزم أن يكون هو نفس البعث والتحريك ، كما أنّ الحكم الناشئ عن المفسدة في المتعلّق لا يلزم أن يكون هو نفس الردع والزجر ، بل إنّ البعث وكذلك الزجر إنّما يكون في مقام الابراز ، وإن شئت فقل : هي في مقام تحصيل ذلك الحكم الواقعي الذي هو الطلب يكون آلة ذلك هو البعث والزجر.

وبالجملة : أنّ الصيغة هي آلة البعث وآلة الزجر الناشئين عن ذلك الطلب الذي هو المحبوبية في الأوامر والمبغوضية في النواهي ، وتلك المحبوبية هي الباعثة على طلب ذلك الفعل المحبوب ، وهاتيك المبغوضية هي الباعثة على طلب ترك ذلك الفعل المبغوض ، فالحكم الحقيقي هو طلب الفعل وطلب الترك ، والصيغة الباعثة والزاجرة آلات يكون إيجادها معربا عن ذلك الطلب المتعلّق بالفعل والطلب المتعلّق بترك الفعل ، وليس البعث إلى الفعل الحاصل بصيغة الأمر إلاّ كالدفع الخارجي لو حصل من الآمر بيده للمأمور نحو الفعل ، وليس الزجر عنه الحاصل بصيغة النهي إلاّ كالدفع الخارجي لو حصل من الآمر بيده المأمور عن الفعل وتنحيته عنه تنحية خارجية ، فكما أنّ ذلك الدفع الخارجي إلى الفعل وذلك الدفع الخارجي عنه الحاصلين باليد ليسا من قبيل الأحكام الشرعية بل ليسا إلاّ ناشئين عنه ، فكذلك ما يحصل بصيغة الأمر وما يحصل بصيغة النهي ليس إلاّ ناشئا عن الحكم الذي هو طلب الفعل ومحبوبيته والنهي عنه وحرمته ومبغوضيته.

وحيث كان الحكم الحقيقي الواقعي الذي هو موجود في عالم التشريع ليس إلاّ عبارة عن طلب الترك المتعلّق بصرف الطبيعة كان مقتضاه السلب الكلّي ، بخلاف الطلب المتعلّق بوجود صرف الطبيعة فإنّه لا يكون إلاّ إيجابا جزئيا.

ثمّ إنّ ذلك السلب الكلّي تارة يكون عبارة عن السلب الواحد الوارد على

ص: 4

صرف الطبيعة فلا يكون إلاّ مجموعيا ، وأخرى يكون عبارة عن آحاد السلوب الواردة على الطبيعة باعتبار تعدّد وجودها فيكون انحلاليا ، وثالثة يكون ذلك السلب الواحد مأخوذا صفة للمكلّف ويكون من قبيل الموجبة المعدولة المحمول ، ورابعة يكون على نحو رفع الايجاب الكلّي مثل أن يقول لا تصدّق بكلّ خبر ولا تعمل بكلّ ظنّ.

وهذه الصور الأربع ذكرها شيخنا في هذا المقام وفي باب العموم والخصوص (1) وفي مسألة اللباس المشكوك (2) ولها آثار خاصّة من حيث الرجوع إلى البراءة والاشتغال في مقام الشكّ. وقد حرّر هذه الصور المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه (3) في هذا المقام فراجعه. والصورتان الأخيرتان لا محلّ لهما فيما نحن فيه من النواهي الشرعية ، وإنّما يكون الترديد في هذا المبحث بين الصورتين الأوليتين.

والظاهر من النواهي الشرعية هي الثانية منهما ، وتحرير ذلك أن يقال : قد حقّق في محلّه (4) أنّ العموم في مقام الثبوت والايجاب كما لو قال أكرم كلّ عالم ظاهره الانحلال ، وكون الافراد على نحو المجموعية والارتباط محتاج إلى عناية زائدة ، لكن المطلب في باب النواهي بحسب النظر البدوي على العكس من ذلك ، بمعنى أنّ مجرّد تعلّق الطلب بعدم الطبيعة يقتضي كونه عدما واحدا واردا على الطبيعة وسدّا واحدا لباب وجودها ، فيكون من قبيل العام المجموعي ،

ص: 5


1- لاحظ ما ورد في أجود التقريرات 2 : 299.
2- لاحظ ما ذكره قدس سره في رسالة الصلاة في المشكوك : 189 وما بعدها ، و268 وما بعدها.
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 394.
4- راجع أجود التقريرات 2 : 294 وما بعدها ( الأمر الثالث ).

ويعبّر عنه شيخنا بالسلب الكلّي ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة كون المنشأ في ذلك هو مبغوضية ذلك الوجود يكون ذلك من قبيل القرينة العامّة على أنّ كلّ واحد من تلك الافراد مطلوب عدمه على ما أوضحه شيخنا وأوضحه المحرّرون عنه ذلك ، فيكون موجبا لانقلاب ذلك إلى السلب الاستغراقي ويعبّر عنه شيخنا قدس سره بالعموم الأصولي.

وبالجملة : أنّ مقتضى العموم حينئذ هو الانحلال في باب الأوامر والنواهي ، لكنّهم في باب النذر لم يجروا على ذلك وبنوا على كونه من باب العموم المجموعي وحكموا بأنّه لو خالفه ولو مرّة واحدة سقط التكليف ، ولا بدّ من توجيه ذلك بأنّهم يفهمون من النذر أن قصد الناذر هو المداومة والمثابرة على الفعل فيما لو كان المنذور هو الفعل في كلّ يوم مثلا ، وأن قصده هو الاستمرار على العدم فيما لو نذر أن لا يشرب التنباك مثلا ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس سره (1) في مباحث الأقل والأكثر وفي مسألة اللباس المشكوك تجده صريحا في توجيه مسلك المشهور بما حرّرناه ، فإنّا قد أشبعنا النقل عنهم مثل شرح اللمعة (2) وحواشيها (3) والمحقّق القمي في السؤال والجواب (4) والمفاتيح (5) وشرحها وغير ذلك من الكتب الفقهية.

وأين ذلك ممّا حرّره في هذا المقام عن شيخنا قدس سره في توجيه مسلك

ص: 6


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره على فوائد الأصول 4 : 148 - 150 في المجلّد الثامن.
2- الروضة البهية 3 : 57.
3- شرح اللمعة 1 : 276 ( حجري ).
4- جامع الشتات 2 : 516 ، 520.
5- مفاتيح الشرائع 2 : 35 / 477 مفتاح [ النذر غير المؤقّت ].

المشهور حتّى أنّه وجّه عليه الإشكال بعدم ارتباط الإشكال والجواب بمحلّ الكلام (1) ، ولعمري إنّ هذا الذي حرّره بهذه الصورة يستحقّ أن يوجّه عليه الإشكال المزبور من عدم الارتباط بأصل المطلب وعدم صحّة الجواب عنه بذلك ، لكن قد عرفت أنّ الذي صدر عن شيخنا قدس سره في ذلك المقام ليس هو إلاّ أنّ المشهور قد جروا في باب النذر على العموم المجموعي وهو خلاف ما جروا عليه في باب النواهي الشرعية من العموم الاستغراقي الانحلالي ، وليس جوابه إلاّ دعوى استظهار المجموعية من قصد الناذر ، ولأجل ذلك قال بعضهم إنّ المتّبع في ذلك قصد الناذر لكن الجماعة أرادوا أن يجعلوا تلك الجهة التي أشرنا إليها قرينة عامّة على أنّ قصد الناذر هو المجموعية ، فراجع ما نقلناه عن شيخنا قدس سره وعنهم فيما حرّرناه في بعض مباحث الأقل والأكثر فيما علّقناه على ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي في ذلك المقام (2).

ثمّ إنّك قد عرفت فيما حرّرناه عن شيخنا قدس سره (3) أنّ الثمرة تظهر بين المجموعية والانحلالية بعد فرض شمول الطبيعة المنهي عنها للأفراد الطولية في التبعيض في مقام الاطاعة والعصيان بالنسبة إلى الأفراد الطولية ، أمّا بالنسبة إلى الأفراد العرضية فلا يمكن التبعيض في مقام الاطاعة والعصيان ، لأنّه بعصيانه بالاتيان بفعل واحد لا يكون الآخر الذي في عرضه مقدورا له كي يكون تركه له إطاعة ليتحقّق التبعّض ، بل تظهر الثمرة بينهما فيما لو أتى بفردين دفعة واحدة كما لو ضرب يتيمين ، فإنّه على المجموعية لا يكون الصادر إلاّ عصيانا واحدا ، وعلى

ص: 7


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 123.
2- تقدّم المصدر في الهامش (1) من الصفحة السابقة.
3- [ لعلّ مراده قدس سره بذلك تحريراته المخطوطة ].

الانحلالية يكون الصادر عصيانين.

قوله في الحاشية : كذلك صرف الترك ... الخ (1).

لو أخّر الصرف عن كلّ من الوجود والترك وقال إنّ المطلوب في الأوامر هو وجود صرف الطبيعة وفي النواهي هو ترك صرف الطبيعة لاستراح من هذا الإشكال.

وأنت إذا تأمّلت جميع ما حرّرناه يتّضح لك أنّ جميع ما أورده في هذه الحواشي ما بين غير وارد على ما حرّرناه عن شيخنا ، أو هو بنفسه كان قد تعرّض له قدس سره ، فراجع جميع التحارير وتأمّل.

ص: 8


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 120.

[ مبحث اجتماع الأمر والنهي ]

قوله : والمشهور بين الأصحاب عنوان البحث بجواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ... الخ (1).

لا يخفى بشاعة هذا العنوان ، لما هو واضح من أنّه لا يقول أحد بجوازه ، وهكذا لو غيّر إلى أنّ تعدّد الجهة هل يكفي في جواز الاجتماع ، فإنّ ذلك أيضا غير مستحسن ، لأنّ اجتماع التكليفين غير جائز ولو كان في البين ألف جهة.

والذي ينبغي هو تحرير المسألة بما أفاده شيخنا من أنّ تعلّق الأمر بشيء والنهي بشيء آخر لو اجتمعا في شيء واحد وجودا وإيجادا ، هل يكون ذلك موجبا لوحدة المتعلّق فيمتنع ، أو أنّه لا يوجب ذلك. والأولى أن يقال : إنّ تعدّد الجهة هل يوجب تعدّد ما هو الموجود أو لا.

قوله : بداهة أنّ الجهة إذا كانت تعليلية وورد كلّ واحد من الحكمين على مورد الآخر فلا محالة يكونان متعارضين وإلاّ فلا (2).

سيتّضح ممّا يفيده قدس سره فيما سيأتي (3) أنّه لا بدّ في الجواز من الجهة الأولى من كون التركّب بين الجهتين التقييديتين تركّبا انضماميا ، إذ لو كان التركّب اتّحاديا لم يكن للجواز مجال وإن كانت الجهات تقييدية.

ص: 9


1- أجود التقريرات 2 : 125.
2- أجود التقريرات 2 : 126 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- راجع أجود التقريرات 2 : 157 وما بعدها.

قوله : يمكن أن تكون المسألة كلامية باعتبار أنّه يبحث فيها عن استحالة اجتماع الحكمين في مورد واحد ... الخ (1).

الأولى جعل الملاك في عدّه من المسائل الكلامية - كما حرّرته عنه قدس سره - هو كونها باحثة عن أنّ تعدّد جهة الشيء موجب لتكثّره أو لا ، وإن شئت فقل : إنّها باحثة عن كون التركّب اتّحاديا أو انضماميا ، فليس الميزان في كونها كلامية هو كونها عقلية كي يتّجه عليه ما في الحاشية.

وأمّا عدّها في المسائل الفقهية فوجهه أنّها باحثة عن الصحّة والفساد ، لكن شيخنا قدس سره لم يرتضه ، لما سيأتي (2) من التحقيق عنده وأنّها من المسائل الباحثة عن مبادئ المسائل الأصولية باعتبار كونها محقّقة لصغرى التعارض إن قلنا بالامتناع من الجهة الأولى ، أو صغرى التزاحم إن قلنا بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية ، وحينئذ تكون هذه المسألة محقّقة لموضوع مسألة التعارض أو موضوع مسألة التزاحم ، فتكون من مبادئ المسألتين الأصوليتين.

وأمّا توجيه الحاشية (3) لعدّها من المسائل الأصولية باعتبار أنّها يترتّب على أحد القولين فيها وهو الجواز مسألة فرعية أعني صحّة العبادة.

قلت : ذلك حينئذ غريب ، لأنّها على أحد القولين مسألة أصولية وعلى القول الآخر وهو الامتناع من المبادئ. مضافا إلى أنّ الجواز لا يترتّب عليه [ ما ذكر ] بل إن كان من الجهة الأولى دخل في باب التزاحم ، وإن كان من كلا الجهتين

ص: 10


1- أجود التقريرات 2 : 127.
2- أجود التقريرات 2 : 128.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 128.

فقد حقّق في محلّه (1) أنّه لم يقل به أحد ، إذ لم يقل أحد منّا بأنّ الصلاة في الدار المغصوبة عمدا عن علم صحيحة ، فتأمّل.

قوله : ثمّ إنّ الموجود إمّا أن يكون موجودا في عالم العين أو في عالم الاعتبار وعلى كلّ منهما فإمّا أن يكون من الموجودات المتأصّلة أو من الموجودات الانتزاعية ... الخ (2).

لا يعجبني هذا التقسيم ، لأنّا بعد أن فرضنا الشيء موجودا في عالم الأعيان مثلا ، كيف يمكننا أن نجعل أحد قسميه ما يكون انتزاعيا مع فرض كون الانتزاعي ما ليس بحذائه شيء في الخارج المفروض كونه هو عالم الأعيان ، وهكذا الحال في الموجود في عالم الاعتبار.

فالأولى قلب هذا التقسيم بأن نقول إنّ الأمر الواقعي إمّا أن يكون متأصّلا وإمّا أن يكون انتزاعيا ، والمتأصّل إمّا أن يكون متأصّلا في عالم الأعيان كالإنسان وإمّا أن يكون متأصّلا في عالم الاعتبار كالملكية ، والانتزاعي إمّا أن يكون منتزعا ممّا هو متأصّل في عالم الأعيان كالفوقية المنتزعة من الجسمين الموجود أحدهما فوق الآخر ، وكالزوجية المنتزعة من الدراهم الأربعة مثلا ، وإمّا أن يكون منتزعا ممّا هو متأصّل في عالم الاعتبار كالزوجية المنتزعة من الملكيات الأربع أو المنتزعة من التكاليف الأربعة مثلا.

أمّا التمثيل لذلك بسببية العقد للملكية فهو محلّ تأمّل ، لأنّ السببية منتزعة من نفس العقد باعتبار كونه مؤثّرا في الملكية ، والعقد ليس من الأمور الاعتبارية. نعم يمكن القول بأنّ السببية منتزعة من الأمر الاعتباري بلحاظ نفس المسبّب

ص: 11


1- راجع أجود التقريرات 2 : 179.
2- أجود التقريرات 2 : 130.

الذي هو الملكية ، فإنّها من الأمور الاعتبارية وإن كان نفس السبب من الأمور غير الاعتبارية. والأمر سهل.

قوله : ثمّ إنّ كلّ مفهومين إمّا أن يكون صدقهما على أفرادهما من جهة واحدة ، فيكون جهة الصدق ... الخ (1).

ليس الاتّحاد في جهة الصدق إلاّ ميزانا في الترادف ، وإنّما ميزان التساوي هو التلازم في جهة الصدق ، كما كنّا أشكلنا به على شيخنا قدس سره وأشكله المحشي أيضا ، إلاّ أنّ كلام شيخنا قدس سره في هذا المقام ليس إلاّ على نحو الاشارة والاجمال ، ومحلّ تحقيق هذه المسألة في أوائل مباحث الألفاظ وأنّ حقيقة الترادف ما هي ، وهل يمكن الاتّحاد في جهة الصدق أو لا يمكن ، وقد تعرّض له شيخنا قدس سره في الأمر السادس (2) فراجعه.

وتوضيح ذلك : أنّهم وإن ذكروا أنّ الميزان في النسب الأربع بين الكلّيات هو المصاديق والأفراد ، فإن كان الكلّيان متّحدين مصاديق بالتمام كانا متساويين ، وإن تباينت المصاديق تماما كانا متباينين ، وإن كانت مصاديق أحدهما أكثر من الآخر كان الأوّل عاما مطلقا وكان الثاني خاصّا مطلقا ، وإن كان كلّ منهما أوسع من الآخر كان بينهما العموم من وجه ، إلاّ أنّ ذلك لا بدّ أن يكون لجهة تقتضي ذلك ، وتلك الجهة هي العلّة في صدق المفهوم الكلّي على مصداقه ، ولتسمّ تلك الجهة بالجهة التعليلية ، فإنّا إذا قلنا إنّ زيدا إنسان مثلا كانت جهة الإنسانية في زيد هي العلّة في صدق عنوان الإنسان عليه وحمله عليه بالحمل الشائع الصناعي ، وهكذا لو قلنا إنّ زيدا عالم يكون لنا مصداق وهو زيد ، وعنوان محمول عليه وهو

ص: 12


1- أجود التقريرات 2 : 131 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 76.

العالم ، ويكون علّة حمل العالم عليه هو ما فيه من العلم.

فقد ظهر لك أنّ الجهة التعليلية تارة تكون ذاتية وأخرى تكون من الأعراض الطارئة عليه ، ولا بدّ في هذه الثانية من كونها هي مبدأ اشتقاق ذلك العنوان العرضي أعني عنوان العالم.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ أقسام التساوي منحصرة في أمور :

الأوّل : أن يكون العنوانان من قبيل الاسمين لماهية واحدة ونوع واحد ، مثل البشر والإنسان والليث والغضنفر.

الثاني : أن يكونا من قبيل النوع وفصله مثل الإنسان والناطق.

الثالث : أن يكونا من قبيل النوع والخاصّة مثل الإنسان وقابل العلم.

الرابع : أن يكونا من الفصل والخاصّة مثل الناطق وقابل العلم.

الخامس : أن يكونا من قبيل الخاصّتين لنوع واحد مثل قابل العلم وقابل الكتابة.

السادس : أن يكون من قبيل المتلازمين مثل مستقبل المشرق ومستدبر المغرب ، أمّا مثل الضاحك والمتكلّم فإن كان المراد هو الفعلية لم يكن بينهما تساو بل كان بينهما عموم من وجه ، وإن كان المراد من له شأنية الضحك وشأنية التكلّم كانا من قبيل الخاصتين للنوع الواحد الذي هو الإنسان.

وبعد معرفتك هذه الأقسام من التساوي يكون اللازم هو النظر في كلّ واحد من هذه الأقسام ، وهل تكون الجهة التعليلية في الصدق في أمثال ذلك واحدة أم تكون مختلفة ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل وهما المترادفان مثل الإنسان والبشر ، فقد أنكره بعضهم وزعم امتناع الترادف والاتّحاد في جهة الصدق ، وأنّ جهة الصدق في مثل الإنسان

ص: 13

والبشر مختلفة ، بدعوى كون الأوّل ملحوظا جهة غير الجهة الملحوظة في وضع الآخر ولو مثل كون الأوّل مأخوذا من الانس والثاني مأخوذا من ظهور البشرة وبدوّها خالصة من شعر ووبر ، وبناء على ذلك يدخل الترادف في مختلف الجهة ويكون ملحقا بالمتلازمين أو بالخاصتين.

وبعضهم صحّح الترادف وقال إنّه بناء على أنّه لا بدّ من المناسبة بين اللفظ والمعنى لا بدّ من الالتزام بأنّ لفظ الإنسان قد وضع لهذا النوع عند طائفة من أهل اللغة ، لأنّهم يرون بمقتضى طبعهم أنّ هذا اللفظ مناسب لذلك النوع ، وعند طائفة أخرى قد وضع له لفظ البشر لأنّهم يرون بحسب طبعهم أنّ هذا اللفظ مناسب له ، وأنّ هذا الصوت الخاصّ يكون إيجاده إيجادا لذلك المعنى بنحو شرحناه مفصّلا في رسالة حرّرناها في أصل اللغات وتشعّبها ، ثمّ بعد جمع الألفاظ اللغوية واختلاطها وتكوين لغة خاصّة للعرب وتدوينها يكون الحاصل من الألفاظ لهذا النوع لفظين لفظ الإنسان ولفظ البشر فجعلوهما مترادفين.

وبناء على هذا الأخير تكون جهة الصدق في كلّ من هذين العنوانين المتساويين متّحدة كما أفاده شيخنا قدس سره بمعنى أنّ العلّة في صدق كلّ من هذين العنوانين على المصداق الواحد واحدة وهي الإنسانية مثلا.

أمّا باقي الأقسام فلا ينبغي الريب في أنّ جهة الصدق فيها مختلفة غير متّحدة حتّى في مثل القسم الثاني الذي هو من قبيل النوع والفصل مثل الإنسان والناطق ، فإنّ كلا منهما وإن كان ذاتيا للمصداق إلاّ أنّ جهة الصدق في الأوّل هي تمام حقيقته ، وجهة الصدق في الثاني هي جزء حقيقته ، وليسا متّحدين كما هو واضح ، وباقي الأقسام أوضح منه.

وأوضح من الجميع القسم الأخير وهما المتلازمان مثل مستقبل المشرق

ص: 14

ومستدبر المغرب ، فإنّ علّة الصدق في الأوّل هي الاستقبال وفي الثاني هي الاستدبار وهما مختلفان ، غايته أنّ التلازم بين الجهتين وعدم انفكاك إحداهما عن الأخرى أوجب التلازم بين معلوليهما الذي هو العنوان المنتزع منهما ، أعني عنوان المستقبل وعنوان المستدبر. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التلازم بين الجهتين لا بدّ أن يكون ناشئا عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة أو كون إحداهما معلولة للأخرى ، وحيث إنّ العلّة الثالثة هي الذات نفسها أو ما هو معلول لها ، كما أنّ ما يكون منهما علّة للأخرى يكون العلّة فيه هي الذات إمّا بلا واسطة أو بواسطة ، فبالأخرة ينتهي الأمر في هاتين الجهتين إلى كونهما معلولتين للذات ، فتكون الجهة التعليلية هي الذات فتكون متّحدة.

ومنه يعلم الحال في الخاصتين لنوع واحد فإنّ العلّة في جهتيهما هي الذات أيضا ، وهكذا الحال في الفصل والخاصّة ، بل وهكذا الحال في النوع والفصل ، فإنّ العلّة في جميع هذه العناوين تكون بالأخرة هي الذات نفسها ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ الجهة التعليلية في جميع أقسام التساوي هي واحدة وهي الذات التي هي العلّة الأخيرة في هذه الجهات. لكنّه على الظاهر لا يخلو عن خروج عن الاصطلاح ، لما عرفت فيما أشرنا إليه من أنّ المراد من الجهة التعليلية في خصوص العناوين العرضية إنّما هي مبدأ اشتقاقه ، وإن كانت العلّة في ذلك المبدأ واتّصاف الذات به هو الذات ، سيما بملاحظة أنّ هذه العناوين العرضية مثل الضاحك والعالم والقاعد والقائم إنّما هي منتزعة عن الذات باعتبار اتّصافها بالمبدإ الكذائي ، فيكون لذلك المبدأ مدخلية في صحّة انتزاعها عن الذات وحمله عليها ، فيكون هو الجهة التعليلية في ذلك الانتزاع والحمل ، هذا. مضافا إلى أنّ الذات هي التي يحمل عليها العنوان ، فتكون من الجهات التقييدية فلا يمكن أن

ص: 15

تكون جهة تعليلية ، فتأمّل.

فالأولى أن يقال : إنّ التساوي بين العنوانين يكون ناشئا تارة عن تلازم الجهتين مع تغايرهما ، وأخرى عن اتّحاد الجهتين ، والأوّل هو الغالب والثاني يكون من قبيل الترادف.

وإن شئت فقل : إنّ جهة الصدق في أحد العنوانين إن كانت عين جهة الصدق في الآخر كان أحد العنوانين عين الآخر ، وإن كانت جهة الصدق في أحدهما مغايرة لجهة الصدق في الآخر كان العنوانان متغايرين أيضا. فإن كان ذلك التغاير على نحو التعاند والتنافر كان العنوانان متباينين ، وإن لم يكن بين الجهتين تعاند وتنافر كما أنّه لم يكن بينهما اتّحاد وعينية بل كانا من قبيل المختلفين ، فإن كان بينهما تلازم فإن كان التلازم من الطرفين كان العنوانان متساويين من حيث الصدق على الافراد ، وإن كان التلازم من طرف واحد بحيث إنّه ينفك أحدهما عن الآخر لكن الآخر لا ينفك عنه كان بين العنوانين عموم مطلق ، وإن لم يكن بين الجهتين تلازم بل صحّ اجتماعهما وانفراد كلّ منهما عن الآخر كان بين العنوانين عموم من وجه.

ثمّ لا يخفى أنّ الغرض من التعرّض للجواب عن النقض بصفاته تعالى حسبما حرّرته عنه هو التعريض بما في الكفاية في قوله قدس سره : ثالثتها ، إلى استشهاده بالبيت الشعري : عباراتنا شتّى وحسنك واحد الخ (1) وهاك نصّ ما حرّرته عنه : والحاصل : أنّ العنوانين إن اتّحدت جهة صدقهما بحيث كانت جهة صدق أحدهما على مصداقه هي عين جهة صدق العنوان الآخر عليه ، كان أحد العنوانين عين العنوان الآخر ، وكانا متّحدين وامتنع أن يكونا مختلفين.

ص: 16


1- كفاية الأصول : 159.

ولا يمكن النقض على هذه القاعدة بالعناوين المتصادقة على الواجب تعالى وتقدّس ، بدعوى أنّ جهة صدقها عليه تبارك وتعالى متّحدة مع كون تلك العناوين في حدّ نفسها مختلفة ، فإنّ كلامنا إنّما هو في العناوين الصادقة على الممكن دون الصادقة على الواجب المقدّس ، فإنّ عقولنا لا تدركها ولا تحيط بكيفية صدقها ، وما للتراب وربّ الأرباب. وأقصى ما يمكننا أن نقول إنّ تلك العناوين من المقول بالتشكيك وأقصى مراتبه هو ما يكون بالنسبة إليه تعالى ، وجميع تلك العناوين فيه تبارك وتعالى راجعة إلى عنوانين وهما العلم والقدرة ، أو ثلاثة وهي الاثنان المذكوران والحياة. وأقصى ما يمكننا من الإيضاح في ذلك هو النظر إلى ما توجده مخيّلتنا من الصور الخيالية ، فإنّ علمنا بها عين قدرتنا عليها ، وذلك العلم هو أقصى مراتب العلم كما أنّ تلك القدرة هي أقصى مراتبها.

وكيف كان ، فإنّ صفاته تعالى أجنبية بالمرّة عمّا يراد في هذا المقام ، فلا يمكن التمسّك بها على أنّ اختلاف المفاهيم وتغايرها لا يوجب اختلافا وتغايرا في جهة الصدق فيها كي يقال كما في الكفاية إنّ اختلاف العناوين وتعدّدها لا يوجب تعدّدا في ناحية المعنون (1) ، وذلك لما هو واضح من أنّ اختلاف العناوين وتغايرها موجب لمغايرة جهة الصدق في أحدهما لجهة الصدق في الآخر ، ويكون ذلك التغاير في جهة الصدق هو المنشأ في اختلاف العناوين بالعموم من وجه أو العموم المطلق أو التباين ، انتهى.

قلت : إنّ هذا مسلّم لا تأمّل لأحد فيه على الظاهر ، فإنّ اختلاف العناوين في السعة والضيق كاشف قطعي عن عدم اتّحاد جهة الصدق فيها ، ولكن يمكن التأمّل في توجّه الإيراد بذلك على صاحب الكفاية ، فإنّا بعد أن أخذنا جهات

ص: 17


1- كفاية الأصول : 159.

الصدق جهات تعليلية لا بدّ لنا من الالتزام بأنّ تكثّر العناوين لا يوجب تكثّرا في المعنون ، أعني به ذلك المصداق الذي تحمل عليه تلك العناوين المتعدّدة ، فإنّ انطباق العالم والعادل ونحوهما على زيد وإن كان كاشفا عن تعدّد في الجهة التي هي العلّة في انطباق عنوان العالم وعنوان العادل ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب تعدّدا في المعنون ، وهو ذلك الفرد الإنساني أعني به زيدا المذكور ، بل يبقى على ما هو عليه من الوحدة قبل أن تنطبق عليه هذه العناوين وقبل أن تطرأ عليه جهاتها التعليلية التي كان اتّصافها بها علّة في انتزاع تلك العناوين منه وتطبيقها وحملها عليه ، ولأجل ذلك نقول : إنّ التركّب في مثل ذلك اتّحادي لا انضمامي ، بل قد عرفت فيما مضى (1) أنّه لا معنى للتركّب في أمثال ذلك حتّى الاتّحادي منه ، لما شرحناه هنا من وحدة المصداق وحدة حقيقية وإن كانت جهة الصدق أعني علّته متعدّدة فتأمّل ، فإنّ تعدّد تلك الجهة التعليلية لا يوجب تعدّدا في ذلك المصداق كي يقال إنّه تركّب تركّبا اتّحاديا.

نعم ، إنّما يتصوّر التركّب الاتّحادي في مثل تركّب الجنس والفصل ونحو ذلك ، دون ما نحن فيه من العناوين العرضية المنتزعة من الذات باعتبار اتّصافها بعرض من عوارضها هذا ، ولكن سيأتي منه قدس سره (2) عند التعرّض لكلمات صاحب الكفاية أنّ الحجر الأساسي في المسألة هو كون هذه الجهات هل هي من الجهات التعليلية أو من الجهات التقييدية ، وأنّه على الأوّل لا بدّ من الالتزام بكون التركّب اتّحاديا وعلى الثاني لا بدّ من كونه انضماميا.

والحاصل : أنّ صاحب الكفاية إن أراد من أنّ تعدّد العنوان لا يوجب

ص: 18


1- [ لم نجده فيما مضى ].
2- أجود التقريرات 2 : 155 - 157.

التعدّد في المعنون أنّه لا يوجب التعدّد أصلا حتّى بالنسبة إلى الجهة التعليلية ، فذلك ممّا يشهد الوجدان بخلافه ضرورة تعدّد الجهة المذكورة. نعم إنّ ذلك أعني إثبات التعدّد في ناحية الجهة التعليلية لا يضرّ بما قصده صاحب الكفاية من عدم إمكان الاجتماع ، لأنّ الجهة التعليلية ليست هي مركب الحكمين ، وإنّما مركبهما هو المعنون والمفروض أنّه واحد لا تعدّد فيه أصلا.

وإن أراد صاحب الكفاية إنكار تعدّد المعنون نفسه وإن تعدّدت الجهات التعليلية كما ربما يظهر ممّا رسمه على الهامش في الأمر الرابع (1) فذلك أمر لا بدّ منه بناء على ما قدّمناه من كون الجهة تعليلية ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ اختلاف العناوين وافتراق أحدها في الصدق عن الآخر كاشف قطعي عن اختلاف الجهة وتعدّدها ، فإنّك قد عرفت أنّه أعني تعدّد الجهة قطعي لا ريب فيه ، والمفروض أنّ صاحب الكفاية لا ينكره وإنّما ينكر تعدّد المعنون ، وهو أعني عدم تعدّد المعنون بناء على كون الجهة تعليلية أمر لا بدّ منه ولا محيص عنه.

لا يقال : كيف تقولون إنّ عدم تعدّد المعنون أمر لا ريب فيه في مثل العالم والعادل مع أنّ كلا من هذين العنوانين كلّي طبيعي ويكون وجوده بوجود فرده ، بل قد تقدّم (2) أنّ الفرد عين وجود كلّيه الطبيعي ، وحينئذ لا بدّ أن يكون في البين فردان أحدهما مصداق العالم والآخر مصداق العادل ، ويكون اجتماعهما في الخارج في وجود واحد من قبيل التركّب الاتّحادي.

لأنّا نقول : ليس أمثال هذه العناوين إلاّ من العناوين الانتزاعية التي ليس لها

ص: 19


1- كفاية الأصول : 160.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة 445 وما بعدها.

في الخارج ما بحذائها ، بل لا يكون فيه إلاّ ما هو منشأ انتزاعها وهو الذات بلحاظ تلبّسها بالحدث ، وحينئذ لا يكون في الخارج إلاّ ذات واحدة قد انتزع منها عنوان العالم بلحاظ عروض العلم لها ، كما قد انتزع منها عنوان العادل بلحاظ حصول العدالة لها ، فلا محصّل للقول حينئذ بأنّ ذلك من قبيل التركّب الاتّحادي ، لما عرفت من أنّه ليس في البين إلاّ تلك الذات الواحدة التي لم يطرأ لها التعدّد أصلا كي يقال إنّها تركّبت مع الذات الأخرى تركّبا اتّحاديا.

نعم يرد على ما في الكفاية أنّ قياس العناوين الصادقة على الممكن بالعناوين الصادقة على الواجب تعالى قياس في غير محلّه ، سواء كان المراد هو نفي تعدّد المعنون فقط أو كان المراد هو نفي تعدّد الجهة التعليلية ، وذلك لأنّ انتفاء التعدّد في الواجب إنّما هو من جهة ما ثبت بالدليل العقلي أنّ صفاته تعالى هي عين ذاته المقدّسة الذي يكون لازمه اتّحاد تلك الصفات ، وهو عبارة عن اتّحاد تلك الجهات فيه تبارك وتعالى ، ولا بدّ من توجيه ذلك وتحقيق كيفية صدق تلك العناوين عليه تعالى بما أفاده شيخنا قدس سره.

وأين ذلك من الممكن الذي تكون صفاته زائدة على ذاته ، وتكون الجهات فيه متباينة ذاتا وإن اجتمعت فيه اجتماعا انضماميا كما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى بيانه ، وأنّ اجتماع نفس العوارض أعني العلم والعدالة لا يكون إلاّ من قبيل التركّب الانضمامي ، بل التعبير بالتركّب ولو انضماميا لا يخلو من تسامح وتساهل ، إذ ليس في البين إلاّ اجتماع العوارض لا تركّب بعضها مع بعض ، وذلك فيما إذا كانا من مقولتين ، لوضوح كمال المباينة حينئذ بين العرضين أنفسهما.

ص: 20


1- في الحاشية التالية.

قوله : ومنه يظهر أنّ نسبة العموم من وجه لا يمكن أن يكون بين الجوهرين - إلى قوله : - بل هي إنّما تكون في جوهر وعرض كالحيوان والأبيض أو بين عرضيين كالأبيض والحلو (1).

التفصيل في ذلك هو أن يقال : إنّ الجوهرين لا يتصوّر فيهما العموم من وجه ويتصوّر فيهما باقي النسب من التساوي والعموم المطلق والتباين ، لكن لا يكون التركيب فيهما إلاّ اتّحاديا. أمّا العرضان إذا كانا من مقولتين فلا يتصوّر فيهما شيء من النسب الأربع إلاّ التباين ، ولا يكون اجتماعهما إلاّ من قبيل التركّب الانضمامي ، وهكذا الحال في الجوهر والعرض. أمّا إذا كانا من مقولة واحدة فيتصوّر فيهما العموم المطلق كما في الحركة والقيام ، بل ربما تصوّر فيهما العموم من وجه كما في التستّر بالثوب المغصوب ، فيجتمع التستّر والتصرّف في المغصوب ، وينفرد الأوّل عن الثاني في التستّر بالمملوك ، وينفرد الثاني عن الأوّل بالتعمّم بالمغصوب ، بل لعلّه يمكن تصوّر التساوي أيضا. ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما تضمّنته الحاشية (2).

أمّا الجوهر والعرضي مثل الإنسان والضاحك أو مثل الإنسان والماشي ، وكذلك العرضيان مثل الكاتب والضاحك فيتصوّر فيها جميع النسب ، ويكون تركّبها تركّبا اتّحاديا ، بل قد عرفت أنّ التعبير بالتركّب لا يصحّ إلاّ من باب المسامحة والتساهل وإلاّ فإنّه ليس في البين إلاّ الذات التي لا تعدّد فيها ، وإنّما يقع التعدّد في الجهة التعليلية التي هي نفس العرض الذي قد عرفت أنّ النسبة فيه هي

ص: 21


1- أجود التقريرات 2 : 132 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 132.

التباين وأنّ الاجتماع فيه لا يكون إلاّ انضماميا ، أمّا العرض مع العرضي مثل الضحك والضاحك فليس ذلك إلاّ من قبيل العرض الذي هو الضحك والجوهر ، أعني الذات الخارجية المحكية بعنوان الضاحك ، وقد عرفت أنّهما لا يكونان إلاّ متباينين وأنّ اجتماعهما لا يكون إلاّ انضماميا.

قوله : بداهة امتناع كون الشيء الواحد متفصّلا بفصلين عرضيين حتّى يكون صدق أحد الجوهرين من جهة وصدق الآخر من جهة أخرى ... الخ (1).

هذا برهان على استحالة تحقّق العموم من وجه بين العنوانين الجوهريين ، لكن العبارة لا تخلو من إجمال ، والمرحوم الشيخ محمّد علي ذكر في بيان هذا البرهان ما هذا لفظه : لأنّ جهة صدق العنوان الجوهري على شيء إنّما يكون باعتبار ما له من الصورة النوعية التي بها يكون الشيء شيئا ، وقد عرفت أنّ الصور النوعية متباينة بالتباين الكلّي لا يمكن أن يجتمعا الخ (2).

وهذه العبارة وإن كانت أوضح ممّا هو المذكور هنا إلاّ أنّها لا تخلو أيضا عن إجمال ، ولعلّ مراد شيخنا قدس سره هو أنّ تحقّق العموم من وجه بين العنوانين الجوهريين لما كان يتوقّف على اجتماعهما في شيء وانفراد كلّ منهما عن صاحبه في شيء آخر ، كان لازمه هو كون هذا العنوان الجوهري مشتركا بين هذا الشيء الذي هو مجمعهما وبين الشيء الآخر الذي ينفرد به فيكون جنسا لهما ، وهكذا الحال في العنوان الآخر ، وحينئذ يكون ذلك المجمع مشتملا على

ص: 22


1- أجود التقريرات 2 : 132 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 404.

الجنسين العرضيين ، فإن لم يكن له إلاّ فصل واحد كان ذلك مستلزما لتركّبه من جنسين عرضيين وفصل واحد وهو محال ، حيث إنّ كلّ جنس للماهية لا بدّ أن يكون له فصل ، وإن كان له فصلان كان عبارة عن نوعين كلّ منهما في عرض الآخر ، وقد عرفت التباين الكلّي بين النوعين العرضيين ، فكيف يعقل أن يكون الشيء الواحد عبارة عن نوعين عرضيين.

وفي تحريرات بعض أجلّة تلاميذه (1) ما هذا لفظه : وأمّا بين الجوهرين فلا يعقل لأنّهما ينحصران بالنوعين كالإنسان والبقر ، أو بالجنس والفصل كالحيوان والناطق. ففي الأوّل لا يمكن الاجتماع لأنّهما متعاندان في الوجود ، كما أنّ في الثاني لا يمكن الافتراق من طرف الفصل لأنّه لا ينفك عن الجنس ، ففرض مادتي الافتراق لنوعين من الطرفين لا يمكن في الثاني كما أنّه لا يمكن مادّة الاجتماع في الأوّل ، للتباين الكلّي بين النوعين كما لا يخفى ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا ليس ببرهان عقلي بل هو استدلال بالاستقراء ، وكان عليه أن يذكر الجنسين أو الجنس والنوع ، ويدفعه بأنّه لا بدّ أن يكون أحدهما أعمّ مطلقا من الآخر ، فهما نظير الجنس والفصل لا يمكن الافتراق في ناحية الأخصّ منهما ، وحينئذ لا بدّ أن يكونا من قبيل الجنسين العرضيين ، وقد دلّ الاستقراء على ترتّب الأجناس من سافل إلى عال ومن خاصّ إلى أعمّ منه وأنّ الجنسين العرضيين لا وجود لهما ، وحينئذ نحتاج إلى إقامة البرهان على امتناعه ، وهو ما ذكرناه واحتملنا كون البرهان المذكور في هذا التحرير وفي تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي راجعا إليه ، فتأمّل.

ص: 23


1- هو جناب السيّد جمال الدين سلّمه اللّه تعالى [ منه قدس سره ].

قوله : المقدّمة الثالثة : قد ذكرنا في مبحث المشتق أنّ مبادئ الاشتقاق مأخوذة بشرط لا ، بعضها بالاضافة إلى بعض والكل بالاضافة إلى الذوات المعروضة لها ، فلذا لا يصحّ الحمل بينها أصلا ... الخ (1).

تقدّم (2) في باب المشتق أنّ مبدأ الاشتقاق هو المادّة السارية في جميع المشتقّات حتّى المصدر بل حتّى اسم المصدر ، وهي أعني تلك المادّة ملحوظة لا بشرط بالاضافة إلى تلك الطوارئ التي تطرأ عليها ويتولّد منها سائر المشتقّات ، مثل الفعل الماضي واسم الفاعل ونحوهما من النسب الفعلية أو الوصفية التي هي مصحّحة لحملها على الذات ، أمّا المصدر نفسه فقد عرفت أنّه ملحوظ بشرط النسبة كسائر المشتقّات ، نعم اسم المصدر لوحظ فيه الحدث مجرّدا عن النسبة ونحوها من أخذه وصفا للذات وعنوانا لها.

وبعبارة أخرى : هو من هذه الناحية مأخوذ بشرط لا ولكن بالنسبة إلى النواحي الأخر والطوارئ الطارئة على نفس ذلك الحدث ، فهو ملحوظ لا بشرط ، ولذلك يصحّ وصفه بصفات عديدة مثل الشدّة والسرعة ونحوهما ، فيقال الضرب شديد والمشي سريع ، هذا بالقياس إلى ما يلحقه من الصفات والطوارئ والعوارض.

وأمّا بالنسبة إلى عرض آخر مثله فإن كان ذلك العرض الآخر من مقولة أخرى كان مباينا له ولا يصحّ حمله عليه ، وكان بالنسبة إليه مأخوذا بشرط [ لا ] ، بل التعبير في حقّ هذا العرض بالنسبة إلى عرض آخر من مقولة أخرى بأنّه

ص: 24


1- أجود التقريرات 2 : 132 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في أجود التقريرات 1 : 90 ( المقدّمة السادسة ). لاحظ حاشية المصنّف قدس سره في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 260 وما بعدها.

بالقياس إلى ذلك العرض مأخوذ بشرط لا ، لا محصّل له لما عرفت من كمال المباينة بينها ، وذلك أعني التباين مغن عن أخذه بالقياس إلى مباينة بشرط لا.

أمّا بالنسبة إلى عرض آخر من مقولته فربما كان مباينا له كما في الضرب والقيام ، وربما كان متّحدا معه اتّحاد العموم المطلق كما في مثل الحركة والقيام والفعل بمعناه اللغوي والضرب ونحو ذلك ، بل ربما كان بينها العموم من وجه كما في التستّر فإنّه يجتمع مع التصرّف بملك الغير كما لو تستّر بالمغصوب ، وينفرد التصرّف في المغصوب عن التستّر كما لو تعمّم بالثوب المغصوب ، وينفرد التستّر عن التصرّف بالمغصوب كما لو تستّر بثوب غير مغصوب. والظاهر أنّ تركّبهما من قبيل التركّب الاتّحادي لا الانضمامي ، ولعلّه يأتي له مزيد بحث وبيان إن شاء اللّه تعالى (1).

والغرض هنا مجرّد بيان أنّ مبادئ الاشتقاق أعني أسماء المصادر لا يلزمها أن تكون مأخوذة بشرط لا بالقياس إلى بعضها الآخر ، على وجه يمتنع حمل بعضها على بعض ، كما يمتنع حمل كلّ منها على نفس الذات ، بل إنّها في ذلك مختلفة. ولا ينحصر النسبة بينها بالتباين بل يتأتّى فيها العموم المطلق ، خصوصا في مثل العناوين الأوّلية والثانوية مثل الالقاء والإحراق والقيام والتعظيم بل العموم من وجه ، بل ربما يتأتّى فيها التساوي أيضا.

فقد تلخّص : أنّ أخذ اسم المصدر بشرط لا بالقياس إلى الطوارئ التي يتكوّن عنها باقي المشتقّات ومنها الصفات لا يوجب إلاّ عدم صحّة حمله على الذات الموصوفة ، أمّا حمله على أسماء الأحداث الأخر فليس هو براجع إلى

ص: 25


1- [ لعلّه قدس سره يشير إلى ما يأتي في هذه الحاشية ، أو ما يأتي في الصفحة 31 ، فلاحظ ].

أخذه بشرط لا أو أخذه لا بشرط ، بل هو راجع إلى أنّ هذا الحدث هل هو مباين لذلك الحدث الآخر ولو لكونهما من مقولتين ، أو أنّه غير مباين له لأجل أنّهما من مقولة واحدة وأنّ أحدهما أعمّ مطلقا من الآخر ، أو كونه عنوانا توليديا له ، أو كون أحدهما أعمّ من وجه من الآخر أو مساويا له. فإن كان الحدثان متباينين لم يصحّ حمل أحدهما على الآخر ، ولم يكن اجتماعهما إلاّ من قبيل الاجتماع الانضمامي ، وإلاّ صحّ حمل أحدهما على الآخر وكان اجتماعهما من قبيل التركّب الاتّحادي.

والحاصل : أنّ مجرّد أخذ الحدث بشرط لا ، لا يكون مانعا من حمله على الحدث الآخر إذا لم يكن مباينا له ، كما أنّه لا يوجب أن يكون تركّبه معه تركّبا انضماميا. ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أفيد في المقدّمة الرابعة بقوله : والسرّ في ذلك الخ (1).

كما أنّه يتّضح لك منه التأمّل فيما أفاده قدس سره من تقسيم الافتراق على قسمين وأنّ القسم الأوّل منه هو ما يكون الافتراق فيه بتبدّل حقيقة المصداق ، كما في انفراد العالم عن مورد الاجتماع مع عنوان الفاسق في العالم غير الفاسق ، فإنّ المصداق الذي ينفرد فيه العالم مباين في الهوية والحقيقة للمصداق الذي يجتمع فيه مع الفاسق. وأنّ القسم الثاني منه هو ما يكون الافتراق فيه بمجرّد انفكاك أحد العنوانين عن الآخر وانفصاله عنه من دون تبدّل في هوية المصداق ، كما في انفراد عنوان العلم عن عنوان الفسق ، فإنّ العلم المجرّد عن الفسق لا تختلف هويته عن العلم المقرون بالفسق. وجعل قدس سره هذا الفرق بين هذين القسمين هو الحجر الأساسي في كون التركّب في القسم الأوّل اتّحاديا وفي القسم الثاني

ص: 26


1- أجود التقريرات 2 : 134.

انضماميا ، فراجع ما حرّرناه عنه (1) وما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (2) في هذا التقسيم.

ووجه التأمّل أنّه أيضا مبني على المباينة بين الحدثين ، وإلاّ فلو لم يكونا متباينين بل كان بينهما العموم من وجه كما مثّلنا به في التستّر بالثوب المغصوب الذي هو مجمع لعنوان التستّر وعنوان التصرّف في المغصوب ، والتستّر الذي يكون بالثوب المملوك والتصرّف الذي يكون بالثوب المغصوب بغير التستّر بل بالتعمّم به مثلا ، فإنّ عنوان التستّر عند انفراده عن عنوان التصرّف في المغصوب يكون لمصداقه هوية هي غير هويته عند اتّحاده مع التصرّف في المغصوب ، وهكذا الحال في انفراد عنوان التصرّف بالثوب المغصوب عن عنوان التستّر به ، فإنّه حينئذ يكون في مصداق مباين في الهوية مع المصداق الذي اجتمعا فيه.

وأمّا ما أورده عليه في الحاشية (3) من أنّ ذلك إنّما يسلم في المصادر المتأصّلة دون الانتزاعية كالغصب ، فإنّ الموجود منه في غير الصلاة كلبس ثوب الغير أو أكل خبزه مغاير لما هو موجود مع الصلاة الذي هو من مقولة الأين ، فإنّه يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الغصب المقابل لما هو موجود مع الصلاة هو الغصب الأيني أيضا ، إلاّ أنّه في غير الصلاة بل في فعل آخر غيرها مثل القيام والمشي ونحوهما. فالعمدة هو ما أشرنا إليه من أنّ الغصب هل هو مباين للصلاة بالذات فيكون اجتماعهما انضماميا أو أنّه عينه في الخارج فيكون اتّحاديا ، ولازمه هو مغايرة الغصب الموجود في غير الصلاة مع الغصب الموجود فيها ،

ص: 27


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 406 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 135.

وأنّ مجرّد أخذه بشرط لا لا يترتّب عليه الأثر المطلوب.

فالحجر الأساسي لجميع هذه الأمور ولكون التركّب انضماميا هو ما عرفت من التباين بين الحدثين وعدم المباينة بينهما.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر منه قدس سره في جميع التحارير هو أنّ الحجر الأساسي في التباين بين المبادئ وعدم حمل بعضها على بعض وكون اجتماع بعضها مع بعض في ذات واحدة من باب التركّب الانضمامي هو كونها مأخوذة بشرط لا. وقد عرفت التأمّل في ذلك وأنّه لا أثر لأخذها بشرط لا إلاّ عدم صحّة حملها على الذات ، وكونها مباينة للذات التي تعرض لها ، أمّا بالنسبة إلى بعضها مع البعض الآخر منها فذلك تابع للتباين بين الحدثين وعدم التباين بينهما.

وقد عرفت أنّه يمكن أن لا يكون بين الحدثين تباين بل يكون بينهما العموم المطلق والعموم من وجه بل التساوي. لكن ذلك مستلزم لتركّب الحدث وعدم بساطته ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) التعرّض لذلك وأنّه لا يعقل فيه التركيب ، وأنّ ما به الامتياز في الاعراض عين ما به الاشتراك ، فلا تكون الأعراض إلاّ متباينة. لكن هذا لو تمّ يكون أساسا آخر للتباين غير مجرّد كونه ملحوظا بشرط لا ، فتأمّل.

وبالجملة : الظاهر أنّ أساس التركّب الانضمامي هو تباين العرضين لا مجرّد كون كلّ منهما ملحوظا بشرط لا ، بل يمكن أن يقال إنّ ما تعرّضت له المقدّمة الخامسة (2) من كون جهة الصدق في المشتقّات تعليلية وفي مبدأ الاشتقاق تقييدية لا يكون بنفسه منتجا للتركّب الانضمامي ، إذ أقصى ما في البين

ص: 28


1- أجود التقريرات 2 : 138.
2- أجود التقريرات 2 : 136.

هو اجتماع الجهتين التقييديتين ، وهذا لا يمنع من صدق إحدى الجهتين على الأخرى فيكون التركّب بينهما اتّحاديا ، إلاّ بعد الفراغ عن التباين بين الجهتين على وجه لا تصدق إحداهما على الأخرى وبسبب ذلك التباين يكون التركّب انضماميا. لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) الإشكال في كيفية الجامع بين هاتين الجهتين عند اجتماعهما ، وذلك الجامع بين الصلاة والغصب وهو الحركة ما حقيقته ، وهل يكون مصداقا لكلّ منهما فتكون الحركة الواحدة متّصفة بهما ، أو أنّ لكلّ منهما مصداقا مستقلا.

قوله : نعم بين المبادئ للاشتقاق وبين الهيولى والصورة فرق من جهة ، وهي أنّ مبادئ الاشتقاق ... الخ (2).

يمكن التأمّل فيه فإنّ مبدأ الاشتقاق لو أخذ لا بشرط لم يعبّر عنه بعبارة تستعصي عن الحمل ، بل يعبّر عنه بعنوان المشتق فيحمل على الذات وعلى مثله. وهكذا الحال في المادّة والصورة فإنّها عند أخذها لا بشرط يعبّر عنها بالجنس أعني الحيوان والفصل أعني الناطق ، وحينئذ يصحّ حمل أحدهما على الآخر وحمل كلّ منهما على النوع.

والخلاصة : أنّه لا فرق بين مبدأ الاشتقاق وبين المادّة في هذا الحال أعني حال الأخذ لا بشرط ، كما أنّه لا فرق بينهما في ذلك الحال أعني حال الأخذ بشرط لا ، فلاحظ وتأمّل.

ولو أنّ إنسانا تجاسر وأنكر هذه التركّبات العقلية أعني تركّب الأنواع من

ص: 29


1- راجع الحواشي الآتية في الصفحة : 34 - 38.
2- أجود التقريرات 2 : 133 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

هيولى وصورة أو من جنس وفصل ، وزعم أنّ الممكن منحصر في الأعراض والجواهر ، وأنّ الجواهر تنقسم إلى مادّيات ومجرّدات كالعقل والنفس ، وزعم أنّ ما يسمّى جنسا كالحيوان وفصلا كالناطق ليس إلاّ من العوارض ، إذ الحيوان من الحياة والناطق من النطق بمعنى التكلّم ، وكذلك الحال في الإدراك ونحوه من عوارض الإنسان ، وكما أنّ هذه الأعراض وأمثالها قائمة بالجواهر فتكون من قيام العرض بالجوهر فلم لا يمكن أن يكون للعرض نفسه عرض يقوم به ، وحينئذ تشترك الجواهر والأعراض في قابلية قيام العرض ، فكما أنّ البياض قائم بالجسم فلم لا تكون شدّته قائمة به وهما معا قائمان بالجسم ، فيكون الجسم متّصفا بالبياض الشديد ، وحينئذ فكما للجوهر عرض عام يشترك بينه وبين غيره من الجواهر وعرض خاصّ يميّزه عن غيره من الجواهر ، فلم لا يكون للعرض عرض يشترك بينه وبين غيره كالحركة المشتركة بين الصلاة وللغصب ، ولكلّ منهما جهة خاصّة تميّزه عن الآخر وتوجب كون الصلاة مباينة للغصب ، على وجه لا يتّحد أحدهما بالآخر عند اجتماعهما وإن انطبق عليهما عنوان الحركة واتّحدت مع كلّ منهما ، لا أنّها حركة واحدة تتّصف بالغصبية والصلاتية ، بل إنّ الحركة الموجودة في الغصب غير الحركة الموجودة في الصلاة ، نظير الحيوان الموجود في الإنسان عند اجتماعه مع الفرس غير الحيوان الموجود في الفرس ، بمعنى أنّ هناك شخصين من الحيوان ، فشخص هو الإنسان وشخص هو الفرس ، ومن الواضح أنّ أحدهما مباين للآخر ، فكذلك الحال في الحركة الموجودة في الغصب عند اجتماعه مع الصلاة هي شخص من الحركة غير الشخص الموجود في الصلاة.

ص: 30

وإن شئت فبدّل عنوان الحركة بالفعل الصادر من الفاعل فرارا من دعوى أنّ الغصب ليس من الحركة أو أنّ الصلاة ليست منها بل هي من الوضع ، فإن غرضنا هو ما عرفت من إمكان اشتراك العرضين في عنوان يشملهما ، واختصاص كلّ منهما بخصوصية توجب امتيازه عن صاحبه ، وأنّه عند اجتماعه لا يكون ذلك الاجتماع إلاّ من قبيل اجتماع المتباينين ، نظير اجتماع الفرس والإنسان. فإن شئت فسمّ ذلك الجامع بينهما جنسا وذلك المميّز لكلّ منهما عن الآخر فصلا ، وإن شئت فسمّ الأوّل عرضا عاما والآخر عرضا خاصّا ، سواء ذلك الجواهر والأعراض.

وأمّا دعوى كون ما به الاشتراك عين ما به الامتياز في البسائط فذلك أمر آخر مرجعه إلى أنّ الامتياز بالذات وأنّه لا اشتراك بينهما ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ ما أفاده في المقدّمة الخامسة بقوله : وهذا بخلاف تقييد العناوين الكلّية فإنّه يوجب تضييقها المانع من صدقها على فاقد القيد الخ (1) لا يختصّ بالعناوين الاشتقاقية ونحوها ، بل هو جار في مبادئ الاشتقاق ، فيكون الحاصل أنّ القيد إن كان في عالم المصداق كان موجبا لتكثّره وتعدّده كما في مصداق الغصب والصلاة ، وإن كان في عالم المفهوم كان موجبا لتضييق دائرته كما لو قيّدت مفهوم الغصب بأنّه الغصب الصلاتي. وفي الحقيقة أنّ الجهة التقييدية في الأوّل تكون عبارة عن نفس مصداق الغصب ونفس مصداق الصلاة ، وعند اجتماعهما يكون لنا مصداق للصلاة ومصداق آخر للغصب ، ولا يكون أحدهما عين الآخر بل يكون مغايرا له ، ويكون تركّبهما انضماميا لا اتّحاديا ، كلّ ذلك من

ص: 31


1- أجود التقريرات 2 : 138 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

جهة التباين بين حقيقة الغصب وحقيقة الصلاة ، ولا معنى للقول بأنّ بينهما عموما من وجه إلاّ أنّهما يجتمعان في الوجود من دون اتّحاد وينفرد كلّ منهما عن الآخر ، بخلاف ما لو اتّحدا عند الاجتماع كما في التصرّف في المغصوب والتستّر مثلا ، فإنّه عند الاجتماع يكون أحدهما عين الآخر ويكون تركّبهما اتّحاديا لا انضماميا ، فيكون من قبيل النهي عن العبادة لو كان التستّر المأمور به عبادة.

وهكذا الحال في مثل قراءة القرآن والغناء عند اجتماعهما ، فإنّ أحدهما حينئذ متّحد مع الآخر فيكون من قبيل النهي عن العبادة ، إلاّ بنحو ارجاعهما إلى التباين بما سيأتي في المقدّمة التاسعة من صرف النهي إلى متمّم المقولة ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) شرحه ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فيكون الحركة الخارجية من جهة وجود هوية الصلاة فيها فردا من الصلاة ومن جهة وجود هوية الغصب فيها فردا من الغصب ... الخ (2).

قال في الحاشية : قد عرفت أنّ الغصب ليس من الماهيات المتأصّلة ليستحيل اتّحاده مع الصلاة خارجا ، وأنّه من المفاهيم الانتزاعية قابلة الانطباق على ماهيات متعدّدة الخ (3).

قلت : لكنّه في المقام منطبق على الأين ، وهو كما فسّره به الكون في الدار ، وهو سواء كان منسوبا إلى المصلّي أو كان منسوبا إلى الصلاة نفسها يكون مباينا للصلاة من أي مقولة كانت ، إذ لا شبهة في عدم كونها من مقولة الأين ، وحينئذ

ص: 32


1- في الصفحة : 44.
2- أجود التقريرات 2 : 136 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 136.

يكون استحالة اتّحاده مع الصلاة من الواضحات ، فلا محصّل لقوله : فلا مانع من انطباقه على الصلاة ولو باعتبار بعض أجزائها. فإنّ أي جزء نفرضه من الصلاة لا بدّ له من أين يقع فيه ، وقد قلنا إنّ الأين مباين لما يضاف إليه.

قوله في هذه الحاشية : كالأذكار ، ضرورة أنّ التكلّم في الدار المغصوبة لا يصدق عليه التصرّف في الدار قطعا ... الخ (1).

قلت يكفي في كونه تصرّفا أنّه محتاج إلى تحريك الشفة ، وهو تصرّف في فضاء الدار فيكون ذلك أعني تحريك الشفة من مقولة الفعل ، وكونه في ذلك الفضاء من مقولة الأين ، وقد عرفت المباينة بينهما.

قوله في هذه الحاشية : والصحيح أنّها من مقولة الوضع ... الخ (2).

كونها من مقولة الوضع لا ينفي كونها مضافة إلى الأين ، وحينئذ تدخل فيما نريده من اجتماع المقولتين أعني الوضع والأين.

قوله : وتوهّم أنّها من مقولة الفعل ... الخ (3).

قد ذكر ذلك شيخنا قدس سره فيما حرّرناه عنه وبيّن أنّ أفعال الصلاة من مقولة الوضع ، فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي فيما طبع من تحريراته (4) ، بل إنّ هذا المحشي ذكره أيضا في هذا التحرير فراجع (5) وحينئذ فقوله : وتوهّم الخ ، متوجّه إلى أي شخص.

ص: 33


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 136.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 137.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 137.
4- فوائد الأصول 1 - 2 : 425 - 426.
5- أجود التقريرات 2 : 159.

قوله في هذه الحاشية : فإن قلنا بأنّهما من أجزاء الصلاة كان المأمور به متّحدا مع المنهي عنه وجودا ، فلا مناص عن القول بعدم جواز الاجتماع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ تركّب النهوض مثلا مع الغصب لا يكون اتّحاديا ، بل هو انضمامي لكونه من قبيل الفعل والأين ، فإنّه وإن صدق على النهوض أنّه تصرّف إلاّ أنّه باعتبار أينه لا باعتبار نفسه. ومنه يظهر الحال فيما ذكره في السجود من احتياجه إلى الاعتماد وهو تصرّف في الأرض ، فإنّ ذلك لا يخرجه عن كونه من مقولة الأين ، ولو سلم أنّه ليس من مقولة الأين فلا أقل من كونه من قبيل متمّم المقولة ، نظير لبس المغصوب في كون الحرمة المتعلّقة به لا باعتبار نفس اللبس ، بل باعتبار تعلّقه بثوب الغير الذي أفاد شيخنا قدس سره (2) كونه من قبيل متمّم المقولة الذي يعبّر عنه النحويون بالظرف اللغو ، وهو مباين لنفس المقولة فلا يكون تركّبه معها إلاّ من قبيل التركّب الانضمامي ، فراجع ما حرّرناه عنه وما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (3).

ومنه يظهر لك الإشكال فيما ذكره في الحاشية (4) في بيان انطباق التصرّف الحرام على نفس الحركة واتّحاده معها ، ومراد شيخنا قدس سره من صدور حركتين من المصلّي هو ما شرحه من الحركة في الأين الذي يرجع إليه الغصب والحركة في الوضع أو الفعل الذي يرجع إليه الصلاة ، فلا يتّجه عليه ما في الحاشية المذكورة

ص: 34


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 137.
2- أجود التقريرات 2 : 148.
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 415.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 138 - 139.

بقوله : لأنّه مع وضوح بطلانه في نفسه لبداهة عدم صدور حركتين من المصلّي في آن واحد الخ.

والحاصل : أنّ المحشّي تخيّل أنّ المراد بالحركة هي الحركة الخارجية الفعلية العرفية فأورد عليه هذه الايرادات ، ومراد شيخنا من الحركة هو الحركة باصطلاح أهل المعقول وهي الخروج من القوّة إلى الفعل ، وهي تكون في الوضع والأين ونحوهما ، فراجع ما حرّرناه عنه وما حرّره الباقون ، فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (1) ، بل إنّ ما حرّره المحشّي عنه قدس سره في هذا المقام كاف في بيان مراده قدس سره من أنّ المقصود هو الحركة في الأين والحركة في الصلاة ، وذلك قوله : بداهة أنّ الحركة نسبتها إلى المقولات التي تجري فيها نسبة الهيولى إلى الصور الخ (2).

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من هذه الحاشية أنّ جميع أفعال الصلاة لا ربط لها بالغصب ، لأنّ الذكر ليس بتصرّف والحركات الانتقالية ليست بأجزاء والقيام والركوع والسجود من مقولة الوضع ، فلم يبق بيد المحشّي سوى الاعتماد في السجود فجعله متّحدا مع الغصب الذي هو التصرّف.

ولا يخفى أنّ الاعتماد ليس بمنحصر في السجود بل جار في القيام والركوع. ويمكن أن يدّعى أنّ نفس هذا الشرط الذي هو الاعتماد لا دليل على عباديته على وجه لو جاء به محرّما لكان موجبا لبطلانه ، بل هو شرط عقلي لتحقّق مفهوم السجود والركوع والقيام ، لا أنّه شرط شرعي في ذلك على وجه يكون النهي عنه أو اتّحاده مع المنهي عنه موجبا لبطلان أصل العبادة ، وسيأتي إن

ص: 35


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 426 - 427.
2- أجود التقريرات 2 : 138 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

شاء اللّه تعالى (1) تحرير ذلك في بحث النهي عن شرط العبادة مثل التستّر. على أنّه يمكن أن تكون الصلاة في المكان المغصوب مع عدم كون الاعتماد على الأرض المغصوبة ، بأن كانت واقعة على جسر منصوب على الأرض المغصوبة لكن كان اعتماد طرفيه على مملوك أو كانت الأرض مملوكة له لكن كان الفضاء مغصوبا ونحو ذلك.

وبالجملة : أنّ هذه الفروض وأمثالها تمنع من أن يكون فتوى القوم ببطلان الصلاة في المغصوب مستندة إلى مجرّد كون السجود مشروطا بالاعتماد وهو متّحد مع التصرّف الغصبي هذا ، مضافا إلى ما عرفت من كون الاعتماد على الأرض ليس بمتّحد مع الغصب ، لكون الغصب في ذلك من قبيل متمّم المقولة ، على حذو ما حرّرناه في اللباس المغصوب والساتر ، بل الوضوء من الآنية المغصوبة أو الفضّة والذهب على ما حرّره شيخنا قدس سره (2) فراجع.

قوله : فلا يكون هناك فرق بين المبادئ والعناوين الاشتقاقية أصلا في كون الجهة تعليلية لا تقييدية ... الخ (3).

إنّ هذا الإشكال كأنّه مأخوذ من الكفاية حيث يقول : فالحركة في الدار من أي مقولة الخ (4).

وحاصله : أنّ الفعل الخارجي الذي هو مصداق ومجمع هو نفس الحركة ، وله جهتان الصلاة والغصب ، وهما بالنسبة إلى العنوان الصادق عليه منهما

ص: 36


1- في الصفحة : 298 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.
3- أجود التقريرات 2 : 138 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- كفاية الأصول : 159 - 160 ( مع اختلاف يسير ).

تعليليتان ، بمعنى أنّ اتّصاف تلك الحركة بكونه صلاة يكون علّة لانطباق أحد العنوانين على تلك الحركة ، واتّصافها بالغصب يكون علّة في انطباق العنوان الآخر على تلك الحركة ، وحينئذ يكون كلّ من الصلاة والغصب أجنبيا عن كلّ من العنوان والمعنون ، كما قلنا إنّ العلم والعدالة يكون أجنبيا عن عنوان العالم والعادل وعن المعنون بهما وهو تلك الذات الخارجية ، غايته أنّه يكون علّة في انطباق عنوان العالم على تلك الذات وانطباق العادل عليها.

وحينئذ لو قلنا إنّ الصلاة والغصب من الجهات التعليلية يكون محصّله هو أنّهما أجنبيان عن تلك الحركة كما أنّهما أجنبيان عن العنوان المنطبق عليها. لكن ذلك العنوان الذي كانا علّة في انطباقه على الحركة ما هو ، هل هو عنوان الصلاة والغصب بما لهما من المعنى الواقعي ، وحينئذ تكون الجهة المذكورة تقييدية لأنّ العنوان حينئذ بما له من المعنى الواقعي الذي هو ذات الصلاة منطبق على تلك الحركة ، فكانت ذات الصلاة محكية بذلك العنوان فكانت جهة تقييدية ، أو أنّ العنوان هو لفظ الصلاة مجرّدة عن معناها أو بمعنى آخر لتكون الصلاة أجنبية عنه ، وتكون علّة في انطباقه على تلك الحركة ، وحينئذ يكون متعلّق الأمر هو الحركة لا ذات الصلاة ، والمنهي عنه هو نفس الحركة لا ذات الغصب ، وهذا لا يخلو من طرافة.

قوله : فيكون نسبة كلّ منهما إلى الآخر نسبة التشخّص ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : بيان ذلك أنّ كلّ كلّي إذا وجد فلا بدّ أن تلحقه مشخّصات من الحالات والمقارنات والزمان والمكان وغير ذلك ، سواء كان لحوقها له قهريا أم كان اختياريا من الفاعل ، وكلّ خصوصية من تلك

ص: 37


1- أجود التقريرات 2 : 140 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

الخصوصيات لا بدّ أن تكون مصداقا لكلّي آخر ، وحينئذ نقول : إنّ الغصب كلّي من الكلّيات التي ما لم تتشخّص لم توجد ، وله مشخّصات كثيرة اختيارية وغير اختيارية فاتّفق أن وقع بعض مشخّصاته الاختيارية مصداقا لكلّي آخر مأمور به أعني الصلاة ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الصلاة حرفا بحرف ، فيكون كلّ من هذين الفعلين من مشخّصات الفعل الآخر.

ثمّ إنّه قدس سره قال : وتوضيح ذلك أنّهم أرجعوا الأعراض إلى المقولات التسع وقسّموا المقولات المذكورة إلى قسمين متأصّلة واضافية ، والمراد بالقسم الأوّل ما كان معقولا بنفسه كالكمّ والكيف ، والمراد بالثاني ما يكون معقولا بالاضافة إلى حقيقة أخرى كالأين وهو الكون في مكان. ثمّ إنّ الحقيقة التي يكون الأين معقولا بالاضافة إليها إمّا أن تكون من قبيل الجواهر مثل زيد في الدار ويعبّر حينئذ عن الأين المستفاد من لفظ في بالظرف المستقرّ ، وإمّا أن تكون من قبيل الأعراض مثل ضرب في الدار ويعبّر عنه بالظرف اللغو. وكلّ حقيقة يكون الأين معقولا بالاضافة إليها تكون من مشخّصات ذلك الأين ، كما أنّ كلّ أين يكون معقولا بواسطة الاضافة إلى الحقيقة يكون من مشخّصات تلك الحقيقة. وحينئذ يتّضح لك الحال في الصلاة التي هي حقيقة من الحقائق وكونها في المكان المغصوب الذي هو من مقولة الأين ، فإنّ كلّ واحد من الأين المذكور والحقيقة المزبورة يكون مشخّصا للآخر ، وحينئذ يكون التركيب الانضمامي على نحوين : أحدهما ما يكون من قبيل القوّة والفعل كالهيولى والصورة ، والثاني منهما ما يكون من قبيل ضمّ أحد العرضين إلى الآخر وصيرورة كلّ منهما من مشخّصات الآخر ، والأوّل يختصّ بالجواهر والثاني يختصّ بالاعراض انتهى.

ص: 38

قوله : فيخرج عن محلّ الكلام ما إذا كان النسبة بينهما عموما مطلقا كصلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة ... الخ (1).

لو كان المنهي عنه هو عين عنوان العام وزيادة كما في المثال كان خارجا عمّا نحن فيه ، لكون التركّب فيه اتّحاديا ، لكن يمكن أن يكون المنهي هو الأين الصلاتي ، كأن يقول لا تغصب في صلاتك أو لا تكن في صلاتك في الدار المغصوبة ونحو ذلك ممّا كان المنهي عنه هو نفس أين الصلاة ، ويكون اجتماعها معه على نحو اجتماعهما فيما لو كان بينهما عموم من وجه ، بأن يكون من قبيل انضمام أحد الفردين إلى الآخر من دون أن يكون بينهما اتّحاد وتصادق.

وبالجملة : كما صوّرنا العموم من وجه مع فرض عدم التصادق في مورد الاجتماع فلنتصوّر العموم المطلق كذلك ، بأن يكون العام مجتمعا مع الخاص على نحو اجتماع الفردين من دون تصادق من العام على الخاصّ ، ويكون المأمور به هو مطلق الصلاة ويكون المنهي عنه هو أينها لا الأين المطلق ، وحينئذ يكون ذلك داخلا فيما نحن فيه. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التزاحم هنا لمّا كان دائميا كان موجبا لدخول المسألة في باب التعارض ، وخروج مورد المزاحمة عن حيّز الأمر خروجا واقعيا فتأمّل.

قوله : ومنه يظهر خروج مثل اشرب الماء ولا تغصب عن محلّ الكلام أيضا فيما إذا كان الماء مغصوبا - إلى قوله : - إذ ليس هناك جهة أخرى انضمامية يتعلّق الأمر بها ، بل الغصب والشرب يتّحدان في الخارج والتركيب بينهما اتّحادي ... الخ (2).

أورد عليه في الحاشية بأنّه مناقض لما تقدّم منه قدس سره من استحالة اتّحاد

ص: 39


1- أجود التقريرات 2 : 140 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 141 - 142 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المبادئ بعضها مع بعض ، بدعوى أنّه يستلزم اتّحاد مقولتين متباينتين ، ضرورة أنه لا فرق بين الصلاة والشرب الخ.

لا يخفى ما في هذه المقايسة فإنّ الصلاة مقولة وأينها مقولة أخرى ، بخلاف شرب الماء المغصوب فإنّ نفس الشرب المأمور به هو بعينه منهي عنه ، لكونه مصداقا لقوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ... ) (1) وهو بنفسه أيضا مصداق لقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يحلّ مال امرئ ... » (2) فإنّ الغصب وإن لم يكن لنا فيه عموم أو إطلاق وكذلك التصرّف في مال الغير ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ نفس أكل المغصوب وشربه مصداق للنواهي المذكورة.

نعم في سائر التصرّفات المتعلّقة بمال الغير نحتاج إلى ادخالها في تلك النواهي ، باعتبار كونها استيفاء منفعة المال مثلا كالجلوس في الدار المغصوبة أو القيام أو الركوع فيها ونحو ذلك فتكون محرّمة من هذه الجهة ، وحينئذ يكون الجلوس في الدار منهيا عنه باعتبار كونه استيفاء لمنفعتها وكونها كذلك باعتبار أينها ، إذ ليس القيام بما أنّه من مقولة الوضع مثلا منفعة للدار ، وإنّما يكون كذلك باعتبار أينه ومحلّه الواقع فيه ، وحينئذ يكون النهي متوجّها إلى الأين المذكور ، أمّا ما يكون هو مصداقا للأكل بل هو هو بعينه فلا يكون محتاجا إلى الارجاع إلى الأين ، بل يكون بنفسه وبذاته محرّما ، فلو كان مع ذلك مأمورا به كان من مورد الاجتماع مع وحدة المتعلّق ، وهذا معنى قولنا في ذلك إنّه من قبيل التركّب الاتّحادي ، وإلاّ ففي الحقيقة لا تعدّد في متعلّق الأمر والنهي في ذلك كي يكون تركّبهما اتّحاديا ، بل لم يتعلّق الأمر إلاّ بنفس العنوان الذي تعلّق به النهي ، غاية

ص: 40


1- النساء 4 : 29.
2- وسائل الشيعة 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 3 ، 1 ( مع اختلاف يسير ).

الأمر لأجل تنقيح كونهما من باب العموم من وجه نقول : إنّ الأمر تعلّق بالشرب سواء كان مصداقا لأكل مال الناس أو لا ، والنهي تعلّق بأكل مال الناس سواء كان بالشرب أو كان بالأكل أو كان بالتملّك والتصرّف واستيفاء المنفعة.

وإن شئت فقل : إنّ هذا المثال أعني وجوب شرب الماء سواء كان مباحا أو كان مال الغير مع حرمة أكل مال الغير سواء كان ماء أو كان غير ماء ، هو عين ما تقدّم من وجوب اكرام العالم الشامل للفاسق والعادل وحرمة اكرام الفاسق الشامل للعالم وغيره.

ومن ذلك كلّه يعلم الحال في الشرب أو الوضوء من الاناء المغصوب أو آنية الذهب ، فإنّ المنهي عنه ليس هو نفس الشرب أو الوضوء ، بل هو جهة تعلّقه بذلك الاناء ، وقد عبّر شيخنا قدس سره عن ذلك التعلّق بكونه متمّما للمقولة. وعلى أي حال يكون المنهي عنه غير نفس المأمور به ، ويكون تركّبهما انضماميا كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه في المقدّمة التاسعة (1).

نعم ، يبقى الإشكال في الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب وهل هو من قبيل مسألة الاجتماع لكون التركّب فيه انضماميا ، أو هو خارج عن ذلك لكون التركّب فيه اتّحاديا؟ لا يبعد القول بأنّ حقيقة الوضوء والغسل هي مجرّد امرار الماء على البشرة ، فليست هي بنفسها إعداما للماء كما في مثل الشرب وإن كان ربما توقّفت على ذلك ، لكنّه أعني إعدام الماء ليس بداخل في حقيقتها ، فلم يبق إلاّ كون ذلك الوضوء تصرّفا في الماء المغصوب.

وحيث قد عرفت أنّ الوضوء ليس هو بنفسه إلاّ إمرار الماء على البشرة ، وإن شئت فقل : إنّه عبارة عن غسل البشرة وهذه الجهة هي المأمور بها ، وكونه

ص: 41


1- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.

متعلّقا بذلك الماء المغصوب من قبيل متمّم المقولة ، فيكون حاله حال التستّر بالمغصوب. لكنّه لا يخلو عن إشكال ، بل الظاهر أنّ نفس الوضوء بالماء المغصوب هو استعمال لذلك الماء بل هو إعدام له ، وحينئذ يتّحد متعلّق الأمر مع متعلّق النهي وتدخل المسألة في باب النهي عن العبادة ، وسيأتي في محلّه (1) إن شاء اللّه تعالى التعرّض للوجه في الحكم بفساده عند الجهل بالحرمة موضوعيا أو حكميا عند التعرّض لما عن بعض المحقّقين في كون المانعية منتزعة من الحرمة التكليفية.

وما ذكرناه في مسألة الوضوء من الآنية المغصوبة وآنية الذهب والفضّة من كونه من قبيل متمّم المقولة هو الذي أفاده شيخنا قدس سره فيما سيأتي في الأمر الثاني من المقدّمة التاسعة (2) من كونه داخلا في محلّ النزاع فلا يتّجه عليه ما في الحاشية (3). نعم ربما يقال إنّه مناف لما أفاده في باب الترتّب (4) ، وما أفاده في حواشي العروة (5) من الحكم بصحّة الوضوء فيما لم يكن الماء منحصرا بما في الآنية المذكورة ، وقد تقدّمت (6) الاشارة إليه في مسألة الترتّب وأنّه إنّما حكم بالصحّة لأنّ الوضوء غير الاغتراف الذي هو محرّم ، وقد تقدّم منّا احتمال كون ما أفاده هنا من كونه من مسألة الاجتماع إنّما هو في صورة الوضوء الارتماسي فراجع وتأمّل.

ص: 42


1- أجود التقريرات 2 : 221 - 223 ، راجع أيضا حواشي المصنّف قدس سره في الصفحة 301 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 149.
4- أجود التقريرات 2 : 101.
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 303 ، 313.
6- في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 423 وما بعدها.

وهذا الأخير هو المتعيّن فإنّه قدس سره صرّح به في حواشي العروة وفي الوسيلة ، قال في حاشية العروة : الصحّة مع عدم الانحصار أقوى ، وكذا مع الانحصار أيضا لو أخذ في الغرفة الأولى بمقدار الكفاية كما في المغصوب ، نعم لو ارتمس في الآنية من أحدهما أو المغصوب اتّجه البطلان مطلقا (1). وبنحو ذلك صرّح في الوسيلة (2).

نعم ، يبقى إشكال أشرنا إليه فيما تقدّم وحاصله التأمّل في الصحّة حتّى في مورد الاغتراف التدريجي ، لأنّ هذا الفرد من الافراد العرضية للوضوء مزاحم بحرمة الاغتراف ، كما أنّ هذا الفرد من الأفراد الطولية للصلاة مزاحم بوجوب الازالة ، وقد قلنا إنّ الطهارة المائية ينعدم ملاكها في صورة المزاحمة. اللّهمّ إلاّ أن يفرّق بينهما بأنّ طبيعة الوضوء غير مزاحمة بالحرمة وإن كان هذا الفرد مزاحما بها ، لكن هل يرجع ذلك إلى ما أفاده المحقّق الثاني (3) أو لا؟ ينبغي التأمّل في ذلك.

وقد صرّح قدس سره فيما سيأتي (4) أنّ التكليف المزاحم للمأمور به يكون سالبا للقدرة على المأمور به وانحصاره فيما عدا ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم ، من دون فرق بين الأفراد الطولية والعرضية ، ولأجل ذلك نقول إنّ هذا الفرد من الصلاة في الدار المغصوبة لا يكون مقدورا شرعا للمكلّف لكونه مبتلى بالنهي عن الغصب ، ويكون النهي عن الغصب موجبا لانحصار الأمر بالصلاة فيما عدا ذلك الفرد من بقية الأفراد العرضية ، فكذلك الحال فيما نحن فيه نقول : إنّ هذا الفرد من الوضوء

ص: 43


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 313 / مسألة (14).
2- وسيلة النجاة : 5.
3- جامع المقاصد 5 : 13 - 14.
4- أجود التقريرات 2 : 177.

لكونه مزاحما بحرمة الاغتراف يكون غير مقدور شرعا فينبغي الحكم ببطلانه ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ عدم القدرة شرعا إنّما يوجب بطلان الوضوء إذا كان موجبا للانتقال إلى التيمّم ، لكونه حينئذ داخلا تحت من لم يجد الماء ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ عدم وجدان ذلك الماء الخاصّ لا يوجب الانتقال إلى التيمّم لكونه واجدا لطبيعة الماء ، فتأمّل.

فلنعد إلى توضيح ما كنّا فيه من إلحاق ما هو متمّم المقولة بما هو من قبيل المقولة المستقلّة فنقول بعونه تعالى في توضيح ذلك : إنّك إذا قلت سرت من البصرة ، كان هناك عرض متأصّل وهو السير ، وكان هناك أيضا جوهر وهو البصرة ، وهناك أمر ثالث هو إضافة بينهما ، وتلك الاضافة هي المعبّر عنها في مقام لحاظها استقلاليا بالابتداء وفي مقام إيجادها بينهما في عالم الحكاية بلفظ من ، وهذه الاضافة وإن لم يكن لها تأصّل وليس لها ما بحذاء في الخارج كما حقّقه قدس سره في مبحث المعنى الحرفي (1) من أنّه في مثل سرت من البصرة لا يكون الموجود في الخارج إلاّ السير والبصرة ، وأنّ الابتداء ليس له ما بحذاء في الخارج إلاّ أنّها من الأمور الانتزاعية التي تنتزع من نحو وجود السير مربوطا ومتعلّقا بالبصرة ، أو يقال إنّها متأصّلة لكنّها من الأعراض الاضافية بأن تكون من مقولة الاضافة.

وسواء كانت متأصّلة أو كانت انتزاعية فهي على كلّ حال هي عرض من الأعراض قائم بما بين السير والبصرة ، على وجه يصحّ جعلها موردا للأمر بأن يقول الآمر : ابتدأ بسيرك من البصرة ، كما يصحّ جعلها موردا للنهي بأن يقول : لا تبتدئ بسيرك من البصرة. وهذا النحو من العرض كما لا ريب في أنّ تركّبه مع

ص: 44


1- لاحظ أجود التقريرات 1 : 25 وما بعدها.

البصرة لا يكون على نحو التركّب الاتّحادي بل يكون تركّبهما انضماميا ، فكذلك لا ينبغي الريب في أنّ تركّبه مع السير لا يكون تركّبا اتّحاديا ، بل هو تركّب انضمامي ، وذلك لما عرفت من أنّه وإن لم يكن مقولة مستقلّة في عرض سائر المقولات المتأصّلة إلاّ أنّه عرض من الأعراض ، والأشبه أن نقول إنّه من مقولة الاضافة.

وكيف كان ، فإنّ حقيقته هو تلك الاضافة بينهما ، ونسبته إليهما على حدّ سواء. فكما أنّ تركّبه مع الجوهر الذي هو البصرة يكون تركّبا انضماميا ويستحيل كونه تركّبا اتّحاديا ، فكذلك تركّبه مع الطرف الآخر من طرفيه الذي هو السير نفسه ، وقد عرفت أنّه بنفسه قابل لتعلّق الأمر به والنهي عنه ، وحينئذ يمكن أن يكون أصل السير مأمورا به ويكون الابتداء به من البصرة منهيا ، ويكون ذلك داخلا فيما نحن فيه ، ويكون حاله حال الأمر بالصلاة والنهي عن الكون في الدار المغصوبة فيما لو أوقع الصلاة فيها ، ولا فرق بينهما إلاّ في أنّ كون الصلاة في الدار المغصوبة من مقولة الأين وابتداء السير من البصرة من مقولة الاضافة ، بل هو في التركّب الانضمامي أوضح من الصلاة في الدار المغصوبة ، لامكان أن يقال إنّ الصلاة بنفسها تصرّف في الدار المغصوبة ، بخلاف السير والابتداء فإنّه لا يعقل أن يكون أحدهما عين الآخر ، فهما في ذلك نظير الصلاة واستقبال القبلة في كون الاستقبال واسطة بين الصلاة والقبلة في قوله صلّ إلى القبلة ، فإنّه مثل سر من البصرة.

وقد اصطلح شيخنا قدس سره (1) على هذا النحو من العوارض المأخوذة من تعلّق الجار والمجرور بالفعل بأنّه من قبيل متمّم المقولة ، وهذا المعنى الذي شرحناه

ص: 45


1- أجود التقريرات 2 : 148.

في مثل السير والابتداء والبصرة جار في كلّ فعل له جار ومجرور متعلّق به.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ مسألة الصلاة في الدار المغصوبة يمكن تنزيلها على المقولة وهي الصلاة ومتمّمها وهو كونها في المكان المغصوب الذي هو الأين ، لكن باعتبار كونه أينا للصلاة لا أينا لذات المصلّي ، على وجه لا تكون الصلاة مربوطة به ، ليكون حال الصلاة في حال كون ذات المصلّي في المكان المغصوب حال أعماله الفكرية التي تعرضه أو يفعلها وهو في ذلك المكان ، وإلاّ لخرجت المسألة عن مسألة الاجتماع بالمرّة ، بل لا بدّ من ربط الصلاة بذلك الأين ليكون أصلها مأمورا به ويكون متمّمها وأينها منهيا عنه.

وبعبارة أخرى : يكون المأمور به هو ذات الصلاة ويكون المنهي عنه هو ربطها بذلك المكان ، فيكون حالها حال السير المبتدأ به من البصرة في كونه في حدّ نفسه مأمورا به ، ويكون النهي متعلّقا بربطه بالبصرة ربط ابتداء نعبّر عنه بمتمّمه ، فلا يكون مسألة الاجتماع من قبيل التركّب من المقولتين ، بل يكون من قبيل التركّب من المقولة ومتمّمها فلاحظ وتدبّر ، وعلى أي حال لا يكون التركّب إلاّ انضماميا.

وبذلك ينحل لك ما أفاده قدس سره (1) في مثل قولنا توضأ ولا تتصرّف في الآنية المغصوبة ، عند ما يتوضّأ المكلّف من الآنية المغصوبة من أنّه من قبيل التركّب الانضمامي ، وأنّ كون الوضوء من الآنية المغصوبة متمّم لمقولة الوضوء وإن لم يكن بنفسه من المقولات المتأصّلة ، وهكذا الحال في الوضوء من آنية الذهب أو الفضّة.

أمّا الوضوء من الماء المغصوب فكونه من هذا القبيل موقوف على النظر

ص: 46


1- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.

في حقيقة الوضوء ، وهل حقيقته وتمام كيانه ليس إلاّ نفس غسل الأعضاء ، وكون ذلك الغسل بالماء يكون أمرا زائدا على حقيقته ، ليكون حاله حال كون السير مبتدأ به من البصرة ، ليكون تركّب الوضوء مع كونه بالماء من قبيل التركّب الانضمامي ، ليكون الوضوء بالماء المغصوب داخلا فيما نحن فيه ، أو أنّ حقيقته وتمام كيانه هو غسل الأعضاء بالماء ليكون كونه بالماء داخلا في حقيقته وهويته ، فيكون تركّب الغسل مع كونه بالماء من قبيل التركّب الاتّحادي.

وعلى الأوّل يكون الوضوء بالماء المغصوب داخلا فيما نحن فيه ، بخلافه على الثاني فإنّه بناء عليه يكون الوضوء المذكور داخلا في باب النهي عن العبادة ، وتكون مانعيته منتزعة من ذلك النهي النفسي المتعلّق بالعبادة المذكورة ، فيكون داخلا فيما تعرّض له شيخنا قدس سره في ذلك المبحث من أنّ سقوط مثل هذا النهي النفسي لأجل الجهل بالموضوع أو الحكم لا يوجب سقوط تلك المانعية خلافا للمشهور في ذلك ، فراجع ما أفاده قدس سره في ذلك البحث (1) وتأمّل.

قوله : وكذلك يخرج عن محلّ الكلام ما إذا كان العموم من وجه بين فعلين توليديين ... الخ (2).

والأولى بالخروج ما لو كان النهي متعلّقا بالعنوان الثانوي وكان الأمر متعلّقا بالعنوان الأوّلي ، كما لو أمر بتحريك اليد ولكن نهى عن تحريك المفتاح وجعل حركة يده تحريكا للمفتاح ، وكما لو أمر بالقيام ونهى عن تعظيم الفاسق فجعل قيامه تعظيما لفاسق. ولكن الذي خرج من ذلك ما لو كان المنهي عنه هو العنوان الثانوي وكان صدق العنوان الثانوي على الفعل بعنوانه الأوّلي صدقا ذاتيا لا باعتبار

ص: 47


1- راجع التنبيه المذكور في أجود التقريرات 2 : 221 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 142 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

أينه.

وحينئذ فلو كان مصبّ ماء الوضوء مغصوبا وكان إراقة الماء على يده مثلا بنفسها تصرّفا في ذلك المصب ، بحيث إنّ اراقته الماء على يده يكون اراقة له في ذلك المصب ، فإنّ نفس الاراقة عنوان أوّلي للفعل وكونه تصرّفا في المغصوب عنوان ثانوي ، ولكن صدق ذلك العنوان الثانوي على نفس الاراقة ليس إلاّ من جهة كونه أينا لتلك الاراقة ، فيكون المأمور به نفس الغسل والاراقة والمنهي عنه كونه في المكان المغصوب ، وحينئذ يندرج في مسألتنا ، بخلاف ما لو كان الماء ينزل من أعضائه إلى الأرض المباحة ثمّ يسيل عليها حتّى يصل إلى الأرض المغصوبة ، فإنّه يدخل في المقدّمة المحرّمة إذا كانت علّة تامّة للحرام على وجه لا يمكنه الحيلولة دون ذلك الحرام ، فإنّ المقدّمة تكون محرّمة حينئذ بنفسها وبذاتها ، فيدخل الفرض في باب النهي عن العبادة ، فيكون أولى بالفساد من الصورة الأولى وهي الراجعة إلى باب اجتماع الأمر والنهي.

واعلم أنّه قال في النجاة في عداد شرائط الوضوء : وإباحة المكان الذي هو بمعنى الفضاء الذي يقع فيه الغسل والمسح ، أمّا غيره كالمصب والأواني فمع انحصار الاستعمال فيه يبطل الوضوء ومع عدمه يقوى الصحّة ، والأحوط التجنّب الخ (1). وقال السيّد الشيرازي قدس سره في الحاشية على قوله : والأحوط التجنّب الخ ما هذا لفظه : بل الأقوى إذا كانت الطهارة تصرّفا في المصب (2). قال شيخنا قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ نظره قدس سره في ذلك إلى صورة كون التصرّف في المغصوب عنوانا ثانويا لصبّ الماء على أعضاء الوضوء ، لا إلى صورة ما إذا كان التصرّف في المغصوب معلولا للصبّ كما في الصورة الثانية. ولكن العلاّمة الآخوند قدس سره حمل

ص: 48


1- نجاة العباد : 39.
2- نجاة العباد : 39.

هذه الحاشية على الصورة الثانية ، ولأجل ذلك كتب على هذه الحاشية ما لفظه : يعني بنحو السببية والعلّية (1).

وقال شيخنا في حاشية العروة ما هذا لفظه : إذا كان إجراء الماء على أعضاء الوضوء هو بعينه الصب في المغصوب اتّجه البطلان مطلقا ، ومع تغايرهما العرفي واستلزام الوضوء لانصباب مائه فيه فإن عدّ ذلك تصرّفا في المغصوب عرفا يبطل وضوءه عند الانحصار بل مطلقا على الأحوط ، وإلاّ فالصحّة مطلقا هي الأقوى (2). وهذه العبارة لا تخلو من الغلق. وأوضح منها عبارته في الوسيلة (3) فراجعها ، فإنّها بمنزلة الشرح لهذه الحاشية.

وكيف كان ، فقد ظهر لك من ذلك أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من التوقّف في بطلان الصورة الثانية لا يخلو عن تأمّل ، لما عرفت من كونها موجبة للنهي عن نفس الغسل وأنّ النهي يكون فيها من قبيل النهي عن العبادة ، فينبغي أن تكون أولى بالبطلان من الصورة الأولى. كما أنّ ما أفيد في نفس النجاة من التوقّف في البطلان في صورة كون الآنية مغصوبة أو المصب مع أنّه قائل بامتناع الاجتماع ممّا لم يتّضح وجهه ، وكذلك تخصيص البطلان في حاشية السيّد بصورة المصب وعدم التعرّض لصورة كون الآنية مغصوبة لم يتّضح وجهه ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا القسم الثاني وهو ما إذا كانت السببية من جهة إضافة أخرى وجودية ... الخ (4).

لا يخفى أنّ العنوان الأوّلي يكون سببا وعلّة للعنوان الثانوي ، ولأجل ذلك

ص: 49


1- نجاة العباد ( المحشاة بحواشي الآخوند قدس سره ) : 34.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 403 / الرابع من شرائط الوضوء.
3- وسيلة النجاة : 6.
4- أجود التقريرات 2 : 150 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يصحّ توسّط الفاء بينهما.

ثمّ إنّه تارة يكون العلّة هو نفس العنوان الأوّلي من دون جهة تلحقه وهذا يستحيل فيه انفكاك أحدهما عن الآخر كما أفاده قدس سره ، وإلاّ لزم منه وجود العلّة بلا معلول أو وجود المعلول بلا علّة كما في الضرب والايلام. لكن في كون انفكاك الثاني عن الأوّل من قبيل وجود المعلول بلا علّة إشكال ، لامكان أن يكون معلولا لأمر آخر غير الضرب غاية الأمر يكون العلّة في الحقيقة هو القدر الجامع بينهما ، نعم لا ريب في كون انفكاك الأوّل عن الثاني من قبيل وجود العلّة بلا معلول.

وأخرى لا تكون العلّة هي نفس العنوان الأوّلي ، بل يكون العلّة هو لحوق بعض الجهات أو الحالات المقارنة لذلك الفعل توجب تأثيره في ذلك المعلول ، فإن تجرّد الفعل عن تلك الجهة أو الحالة لم يكن مؤثّرا ذلك الأثر ، فإن كانت تلك الجهة الموجبة لتأثير ذلك الفعل في ذلك المعلول هي القصد كما في قصد التعظيم بالقيام والتأديب بالضرب كانت تلك الجهة من قبيل الجهة التعليلية في صدق ذلك العنوان الثانوي على ذلك الفعل.

وأمّا إذا كانت تلك الجهة غير القصد كما في الالقاء والإحراق والصوم والضرر مثلا ، فإنّ تلك الجهة الموجبة لكون الالقاء علّة للإحراق والصوم علّة للضرر هي كون الالقاء في النار وكون الصوم في حال المرض ، فعلى الظاهر أنّ الجهة المذكورة أيضا جهة تعليلية كالقصد ، ضرورة صدق العنوان الثانوي على الفعل الموجّه بتلك الجهة لا على نفس تلك الجهة كما أفاده قدس سره كي تكون جهة تقييدية ، وحينئذ ففي مثل ذلك لو كان النهي متعلّقا بالعنوان الثانوي والأمر متعلّقا بالعنوان الأوّلي لم يكن ذلك من باب الاجتماع ، لكون ما تعلّق به الأمر هو عين ما تعلّق به النهي وهو نفس ذلك الفعل الخارجي ، بل يكون من قبيل حكومة ذي

ص: 50

العنوان الثانوي على ذي العنوان الأوّلي.

وأمّا ما تقدّم من مثال الصب في الأرض المغصوبة في باب الوضوء فليس هو من قبيل العنوان الأوّلي والثانوي ، لعدم كون التصرّف في الأرض المغصوبة في طول عنوان الصب بل هو في عرضه ، ويكون المجمع مؤلّفا منهما ، ويكون العنوان الأوّلي أعني الصب عبارة عن اراقة الماء من الاناء وتفريغه ، والثانوي هو كون ذلك في الأرض المغصوبة ، فيكون المجمع مؤلّفا من المقولة ومتمّمها ، نظير تألّف الصلاة في المكان المغصوب من هاتين الجهتين.

وإن شئت فقل : إنّ التصرّف في الأرض المغصوبة معلول لأين الاراقة لا لنفس الاراقة ، ولو كان الغصب أو التصرّف في المكان المغصوب عنوانا ثانويا لنفس الصب والاراقة لكان الغصب والتصرّف في المغصوب عنوانا ثانويا للصلاة.

وبالجملة : فكما أنّ الغصب أو التصرّف في المغصوب عنوان منتزع من أين الصلاة الذي هو كونها في المكان المغصوب لا أنّه عنوان ثانوي منطبق عليها ، فكذلك الحال في الصب في المكان المغصوب يكون الغصب أو التصرّف في المغصوب منتزعا من كون الاراقة في المكان المغصوب فتأمّل.

قد يقال : إنّ مبدأ الالقاء والاحراق هو اللقاء والحرقة وهما متباينان ، فلو تركّب الموضوع منهما يكون تركّبه انضماميا ، مضافا إلى كونهما من مقولتين ، فإنّ اللقاء من مقولة الفعل والحرقة من مقولة الانفعال ، وإذا كان اللقاء والحرقة كذلك كان الالقاء والاحراق أيضا كذلك ، لأنّ الالقاء بالنسبة إلى اللقاء من قبيل الايجاد والوجود ، ولا ريب في وحدتهما حقيقة وإن اختلفا اعتبارا ، وحينئذ فالالقاء والاحراق يكون التركّب منهما انضماميا ويجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما.

ص: 51

وفيه ما لا يخفى ، أوّلا : أنّ اللقاء ليس مباينا للحرقة بل إنّها بالنسبة إليه من قبيل العناوين التوليدية ، لأنّ اللقاء سبب للحرقة ، فيصحّ أن يقال إنّ اللقاء حرقة بهذا الاعتبار ، أعني باعتبار كون الثاني من العناوين التوليدية بالنسبة إلى الأوّل.

وثانيا : أنّ الالقاء ليس بمأخوذ من مادّة اللقاء ، لأنّ لقي متعدّ فيقال لقي الحطب النار ، وإذا زيدت عليه الهمزة فقيل ألقيت الحطب في النار ينبغي أن يقال ألقيت الحطب النار ، بل الظاهر الالقاء مأخوذ من مادّة أخرى لا وجود لها. ومعنى الالقاء هو اخلاء اليد من الشيء وطرحه في المحل ، لا مجرّد جعل أحدهما ملاقيا للآخر ، فإنّ ذلك لا يتمّ في مثل قوله تعالى : ( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) (1).

وثالثا : لو سلّمنا أنّ الالقاء مأخوذ من اللقاء فلا يلزم منه أن يكون عينه حقيقة ، إذ ليس ذلك من قبيل الايجاد والوجود ، فإنّه إنّما يكونان من هذا القبيل لو كانا من قبيل المصدر واسم المصدر ، والمفروض أنّ الالقاء واللقاء كلّ منهما مصدر على حدة ، غايته أنّ الأوّل مصدر من باب الافعال والثاني من باب الفعل ، فلا يلزم أن يكون أحدهما عين الآخر خارجا. وكيف يكون ما صدر عن الفاعل من قولنا أعلمت زيدا عين ما صدر عن الفاعل من قولنا علم زيد ، وهكذا الحال في مثل أقعدته وأقمته.

ورابعا : أنّ الوجدان شاهد على عدم المباينة بين الالقاء والاحراق ، ضرورة صحّة حمل الثاني على الأوّل فيقال الالقاء إحراق ، ولو كان تركّبهما انضماميا لما صحّ الحمل المذكور.

وخامسا : أنّه بعد جميع هذه المضايقات لا نعبّر بالالقاء ، بل نعبّر بالطرح واخلاء اليد أو الوضع أو ما أشبه ذلك ممّا هو خارج عن هذه الشبهة.

ص: 52


1- المائدة 5 : 64.

قوله : إذ متعلّق الأمر ليس نفس هذا الفرد بخصوصه بل صرف وجود الطبيعة ، غاية الأمر ترخيص المكلّف في تطبيقه على هذا الفرد - إلى قوله : - بخلاف ما إذا لم يكن كذلك وكان منهيا عنه تنزيها ، فإنّه لا ينافي بقاء الرخصة على حالها وإن كان التطبيق على هذا الفرد مرجوحا في نظر الشارع ... الخ (1).

ملخّصه : أنّ متعلّق الأمر هو صرف الطبيعة ومتعلّق النهي هو الخصوصية الفردية ، ولا منافاة بينهما لعدم وحدة المتعلّق ، ولأنّ النهي لو كان تحريميا لكان موجبا لسدّ باب الامتثال في ذلك الفرد ، بخلاف ما إذا كان تنزيهيا فإنّه لا يوجب سدّ باب الامتثال فيه.

ويمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ تركّب الخصوصية الفردية مع صرف الطبيعة المتحقّقة في ذلك الفرد إن كان على نحو التركّب الاتّحادي أوجب امتناع اجتماع الأمر مع النهي المذكور بعد الاعتراف بتضادّهما مع فرض اتّحاد متعلّقيهما ، وإن كان التركّب المذكور انضماميا كان اللازم هو القول بجواز اجتماعهما حتّى لو كان النهي تحريميا.

غاية الأمر أنّه يكون الفرق بين التحريمي والتنزيهي أنّ الأوّل يكون سادّا لباب الامتثال ، وهو راجع إلى الجهة الثانية من جهتي بحث الاجتماع ، فيكون العمل باطلا من هذه الجهة أعني الجهة الثانية بعد الفراغ عن جواز الاجتماع من الجهة الأولى ، بخلاف الثاني أعني النهي التنزيهي فإنّه كما لا يكون مانعا من الاجتماع من الجهة الأولى لا يكون مانعا منه من الجهة الثانية ، وحينئذ يكون

ص: 53


1- أجود التقريرات 2 : 170 - 171 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

تصحيح العبادة المكروهة في هذين القسمين أعني العموم من وجه والعموم المطلق مختصّا بذلك القول ، أعني الجواز من الجهة الأولى الذي يكون مبناه التركّب الانضمامي ، ولا يتأتّى تصحيحها على القول بالامتناع من الجهة الأولى الذي يكون مبناه التركّب الاتّحادي.

وحينئذ لو قلنا بالامتناع من هذه الجهة بأن منعنا التركّب الانضمامي وقلنا في أصل مسألة الاجتماع إنّ التركّب اتّحادي ، أو قلنا بأنّ التركّب في خصوص ما نحن فيه من العبادات المكروهة من قبيل التركّب الاتّحادي ، لم يكن لنا بدّ من حمل النهي على الارشاد إلى جهات طبيعية ، مثل البرص في الوضوء بماء اسخن بالشمس ، أو الارشاد إلى أكثرية ثواب غير تلك العبادة ، أو غير هذا الفرد من باقي أفراد الطبيعة ونحو ذلك ممّا سيأتي (1) شرحه إن شاء اللّه تعالى.

قوله : ولذا التزم جماعة تبعا للعلاّمة المحقّق الأنصاري قدس سره ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه بعد أن ذكر أنّ القسم الثالث لا يتأتّى فيه ما أفاده من الجواب في القسمين الأوّلين ما هذا لفظه : نعم لا بأس بذكر ما أفاده شيخنا أستاذ الأساتيذ قدس سره في التقريرات (3) وتبعه عليه في الكفاية ، وحاصله : أنّه يمكن أن يكون نفس الترك ذا مصلحة مقتضية لطلبه إمّا بأن يكون بنفسه ذا مصلحة ، وإمّا أن يكون ملازما لعنوان ذي مصلحة ، وعلى أي حال يكون كلّ من الفعل والترك مطلوبا لكون كلّ منهما ذا مصلحة.

وفيه - بعد إصلاحه بأنّ الغرض من العنوان الملازم للترك هو العنوان

ص: 54


1- في الصفحة : 66 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 172 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- مطارح الأنظار 1 : 644.

التوليدي المنطبق على الترك ، وإلاّ فإنّ مجرّد ملازمة الترك لذلك العنوان لا توجب كونه مطلوبا - : أنّه بناء على ذلك لا بدّ من الكسر والانكسار وتقديم ما هو الأقوى ملاكا في نظر الشارع ، فيكون ما يجعله الشارع مطابقا له ، حيث إنّ التزاحم المذكور إنّما يكون من قبيل التزاحم في مقام الجعل والتشريع الموجب للكسر والانكسار ، فإنّ هذا من أوضح موارده لكونه بين النقيضين. وهكذا الحال في استحباب الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل في استحباب أحد المتلازمين في الوجود وكراهة الآخر ، كما في استقبال المشرق واستدبار المغرب مثلا. وبناء على ما ذكرناه من لزوم الكسر والانكسار في أمثال ذلك لا بدّ أن يكون دليل الكراهة الذي مفاده استحباب الترك معارضا لدليل استحباب الفعل حتّى على القول بجواز الاجتماع ، فلا بدّ حينئذ من الجواب عن هذا القسم بجواب آخر ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ أغلب المستحبّات تكون متزاحمة في مقام الجعل والتشريع ، لعدم قابلية الوقت لجميع المستحبّات الواردة فيه بالخصوص فضلا عمّا يدخل فيه بطريق العموم ، ومن الواضح أنّهم لم يجروا فيها قاعدة الكسر والانكسار ، فليكن استحباب العبادة فيما نحن فيه وكراهتها بمعنى استحباب تركها من هذا القبيل ، كما هو مقتضى توجيه الشيخ قدس سره ، إذ ليس تنافي الفعلين أو الأفعال التي لا يسع الزمان إلاّ بعضها إلاّ كتنافي الفعل والترك في استحباب كلّ منهما ، غاية الأمر أنّ التنافي فيما نحن فيه يكون من قبيل تنافي المتناقضين ، وفي مثل المستحبّات المتعدّدة في زمان واحد يكون من قبيل تنافي التضادّ ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب التفرقة بينها في جريان قاعدة الكسر والانكسار في الأوّل دون الثاني.

ص: 55

وبالجملة : أنّ مناط الكسر والانكسار والتزاحم في مقام الجعل والتشريع إن كان هو عدم القدرة وكون ذلك على نحو الدوام فهو متحقّق في كلّ من البابين ، وكذلك الحال لو كان مناطه هو التدافع بين إرادة الفعل وإرادة تركه ، فإنّه أيضا متحقّق في إرادة أحد النقيضين وإرادة نقيضه الآخر (1) في زمان واحد ، لتدافع الارادتين الناشئ عن تدافع متعلّقيهما.

وأجاب قدس سره حينما عرضت ذلك بخدمته بما حاصله حسبما حرّرته عنه قدس سره بأنّ التزاحم الواقع فيما نحن فيه في مقام الجعل والتشريع كان بين الفعل والترك ، وفي سائر المستحبّات كان بين الأفعال المتضادّة ، وحيث إنّ استحباب أحد الفعلين لا يمنع من تركه والاشتغال بضدّه الذي هو مستحبّ آخر لم يكن بين الاستحبابين تناف ، بخلاف ما لو كان أحدهما وجوبيا فإنّه بعد فرض أنّ الزمان لا يسع إلاّ أحدهما وكان وجوب أحدهما مانعا من الاشتغال بالآخر كان موجبا لسدّ باب امتثاله ، سواء كان الآخر واجبا أو كان مستحبّا ، انتهى. هذا حاصل ما فهمته منه قدس سره حسبما ما حرّرته.

وشرح ذلك هو أنّ الفعل والترك وإن كان كلّ واحد منهما مشتملا على المصلحة إلاّ أنّ مجرّد المصلحة لا يكفي في جعل الحكم على طبقها ما لم تكن موجبة لرجحان ذيها على عدمه ، حيث إنّ الارادة الشرعية كالتكوينية لا يعقل أن تتعلّق بشيء ما لم يكن وجوده أرجح من عدمه في نظر المريد ، ولأجل ذلك ذكروا أنّ الممكن ما دام متساوي الطرفين لا يوجد إلاّ إذا كان وجوده أرجح من عدمه ، وحينئذ نقول : إنّ كلّ واحد من الفعل والترك إذا كان ذا مصلحة فإن كان مصلحة فعله أرجح من مصلحة عدمه تعلّق الأمر به ، ولا يمكن في هذه الصورة

ص: 56


1- [ هكذا في الأصل ، ولعلّ المناسب : أحد الضدّين وإرادة ضدّه الآخر ].

طلب تركه لأنّه ليس الترك بأرجح من الفعل. ومنه يظهر الحال في صورة العكس ، فإنّه إن كان مصلحة تركه أرجح من مصلحة فعله نهي عنه وتعلّق الطلب بتركه. ولو تساوى المصلحتان لم يمكن أن يؤمر به وأن ينهى عنه بحيث يكون كلّ من فعله وتركه مطلوبا على نحو التعيين ، لما عرفت من تناقض الارادتين ، مضافا إلى محالية كلّ منهما في حدّ نفسها لعدم رجحان متعلّقها على عدمه ، فلم يبق إلاّ التخيير الشرعي بين الفعل والترك ، وهو أيضا محال لكونه لغوا صرفا لعدم خلو المكلّف عن أحد الطرفين.

وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما فإن كان كلّ منهما ذا مصلحة وكان مصلحة أحدهما أقوى حكم باستحبابه لكون فعله أرجح من تركه ، إلاّ أنّه لا يكون الحكم باستحبابه منافيا للحكم باستحباب الآخر ، لأنّه أيضا يكون فعله أرجح من تركه. وإن كانا متساويين لم يمكن الحكم باستحباب كلّ منهما تخييرا ، لكونه لغوا لعدم خلو المكلّف عن أحدهما ، هذا.

لكنّه قدس سره أفاد حسبما فهمته وحرّرته عنه فيما تقدّم نقله عنه قدس سره أنّ الكسر والانكسار جار في استحباب الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وفي كراهة أحد المتلازمين في الوجود واستحباب الآخر. والظاهر أنّ نظره قدس سره في ذلك إلى قبح تشريع استحباب ما يكون وجوده ملازما للمرجوح ، وكلاهما من هذا القبيل. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّ فعل أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما ملازم لترك الآخر الذي هو مرجوح. إلاّ أنّ هذا لو تمّ لكان الأمر كذلك في الضدّين اللذين لهما ثالث ، لأنّ فعل كلّ واحد من الأضداد ملازم للمرجوح الذي هو ترك الآخر.

وهكذا الحال لو علّلنا الكسر والانكسار في ذلك بما مرّ من عدم إمكان تعلّق الارادة بالضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو تعلّق الارادة بالفعل الذي يكون

ص: 57

ملازما لما يكون تركه مراده ، إذ لا يعقل أن يصدر من الحكيم إرادة أحد المتلازمين مع إرادة عدم الآخر ، فإنّ هذه الجهة جارية بعينها في الضدّين اللذين لهما ثالث.

نعم ، في الضدّين اللذين لا ثالث لهما وفي ترك أحد المتلازمين مع فعل الآخر لا يتأتّى التخيير الشرعي ، فيتعيّن فيهما الكسر والانكسار كما بين الفعل وتركه. أمّا الضدّان اللذان لهما ثالث لو كان كلّ منهما ذا صلاح فإنّ الحكم فيهما يكون بالتخيير ، غايته أنّه بين المتساويين إن كان صلاح أحدهما مساويا لصلاح الآخر ، وإن كان أحدهما أقوى كان أفضل الافراد المستحبّة تخييرا.

فظهر لك أنّه في تزاحم المستحبّات في مقام التشريع إن كانا من قبيل الفعل والترك ، أو كانا من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو كانا من قبيل فعل أحد المتلازمين مع ترك الملازم الآخر لا بدّ من الكسر والانكسار إن كان في البين ما هو الأقوى ، وإن تساويا لم يعقل تعلّق الأمر الاستحبابي بهما ولو على نحو التخيير الشرعي بينهما ، بل كان الحكم هو الاباحة الأصلية.

وإن كانا من قبيل الضدّين اللذين لهما ثالث لم يجر الكسر والانكسار بينهما في الحكم الاستحبابي ، بل كان الجميع مستحبّا غايته أنّه على نحو الاستحباب التخييري ، سواء كان أحدهما أرجح أو كانا متساويين (1).

ومن ذلك يظهر لك ما في الكفاية أعني قوله قدس سره : فهما حينئذ يكونان من

ص: 58


1- ويمكن أن يقال : إنّه يجري فيه الكسر والانكسار ، ومقتضاه هو التعارض بين الدليلين ، إلاّ أنّه لمّا قام الإجماع مثلا على صحّة كلّ واحد من تلك المستحبّات لو أتى به المكلّف كان ذلك كاشفا عن الاستحباب التخييري. وربما جرى ذلك في الواجبات إن قام الدليل على صحّة كلّ واحد منها [ منه قدس سره ].

قبيل المستحبّين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهمّ في البين ، وإلاّ فيتعيّن الأهمّ الخ (1) ، فإنّه قد ظهر أنّه في تزاحم المستحبّات في مقام الجعل والتشريع لا بدّ من الكسر والانكسار ، وأنّه لا يتصوّر فيه التخيير إلاّ في القسم الأخير ، وهو لا ينحصر بصورة التساوي بل يتأتّى في صورة رجحان أحدهما ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : إلاّ أنّ ذلك فيما إذا كانت المصلحة مترتّبة على مطلق وجود الفعل والترك ، وأمّا فيما إذا كانت مترتّبة على حصّة خاصّة من الفعل كما هو الحال في موارد العبادات المكروهة في محلّ الكلام ... الخ (2).

لا يخفى أنّه بعد فرض مسلّمية امتناع اجتماع تعلّق الارادة بالفعل مع تعلّقها بترك ذلك الفعل لا وجه للفرض المذكور.

أمّا أوّلا : فلأنّ الكلام كان مع دعوى الكفاية (3) صلاح كلّ من الفعل والترك ولزوم استحباب كلّ منهما ، بحيث يكون الترك المستحبّ هو ترك نفس ذلك الفعل المستحبّ ، ففرض تعلّق الاستحباب بحصّة خاصّة من الفعل وتعلّق استحباب الترك بمطلق ذلك الفعل ، بحيث يكون الفعل المستحبّ هو الفعل المقيّد بقيد العبادة والترك المستحبّ هو ترك مطلق ذلك الفعل ، يكون مغايرا لما أسّسه في الكفاية من امكان تعلّق الأمر الاستحبابي بكلّ من الفعل وتركه.

وثانيا : أنّ الفعل العبادي كالصوم في يوم عاشوراء إنّما نتصوّر عباديته بتعلّق أمرين : أوّلهما متعلّق بذات الفعل ، والآخر بالاتيان به بداعي الأمر الأوّل ،

ص: 59


1- كفاية الأصول : 163.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 173.
3- كفاية الأصول : 163.

وحينئذ يقع نفس الفعل مأمورا به بالأمر الأوّل وقد كان الطلب متعلّقا بتركه فعاد الإشكال.

وثالثا : سلّمنا أنّ الأمر الاستحبابي يتعلّق بالفعل العبادي لكن هذا الأمر المتعلّق بهذه الحصّة وهذا القسم من الفعل مناقض للأمر المتعلّق بترك مطلق الفعل كما هو المفروض ، ضرورة مناقضة الموجبة الجزئية للسلب الكلّي ، فإنّ مفاد طلب خصوص الامساك العبادي في يوم عاشوراء يكون بمنزلة الايجاب الجزئي ، كما أنّ مفاد طلب ترك مطلق الامساك في ذلك اليوم يكون بمنزلة السلب الكلّي وهما متناقضان ، فيكون من هذه الجهة كما لو تعلّق الطلب بنفس الفعل وتعلّق الطلب الآخر بترك نفس ذلك الفعل في تحقّق المناقضة بين الطلبين.

وكون المكلّف غير قادر على الجمع بين هذين المتعلّقين ممّا يؤكّد المناقضة بينهما ، وكونه قادرا على تركهما لا يرفع التدافع والتنافي بين الطلبين.

نعم إنّ ذلك يصحّح الاستحباب على نحو التخيير الشرعي ، فيستحبّ له أن يصوم عبادة أو يترك مطلق الامساك ولو لا عن عبادة ، على تأمّل في امكان الاستحباب التخييري بين فعل الخاص وترك العام.

ورابعا : أنّ الكلام كان في توجيه كراهة الصوم العبادي في يوم عاشوراء وكراهة النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة ، بمعنى أنّ الكلام كان في توجيه طلب فعل تلك العبادة وطلب تركها ، فحمل النهي في ذلك على طلب ترك مطلق الامساك خلاف مفروض الإشكال ، لأنّ الإشكال كان في صحّة اجتماع طلب ترك العبادة مع طلب فعلها ، لا في صحّة اجتماع طلب فعل تلك العبادة مع طلب ترك مطلق الامساك الذي هو الأعمّ من الصوم العبادي.

والحاصل : أنّ الغرض من تلك النواهي هو المنع من تلك العبادة في ذلك

ص: 60

الوقت لأنّها عبادة بني أميّة وعبادة المجوس ، فيكون المطلوب هو ترك العبادة ، لا ترك مطلق الفعل وإن لم يكن عبادة.

وخامسا : أنّ ما ذكره من حمل النهي في ذلك على الارشاد خلاف الفرض أيضا ، لأنّ الكلام في توجيه النهي المولوي لا الارشادي فتأمّل.

ثمّ إنّه ربما يورد على ما أفاداه في التقريرات (1) والكفاية (2) من كون الفعل بنفسه مطلوبا مستقلا كما أنّ الترك أيضا مطلوب مستقلّ بأنّ الأمر الاستحبابي بالفعل يقتضي المنع عن ضدّه العام أعني الترك ولو استحبابا ، فيكون الترك منهيا عنه من جهة الأمر بضدّه الذي هو الفعل ومأمورا به من جهة أنّه بنفسه مطلوب ، فيجتمع الأمر والنهي في ذلك الترك ، وهكذا الحال في الفعل نفسه فإنّه مأمور به بنفسه ومنهي عنه من جهة كونه ضدّا عاما للترك المفروض كونه مطلوبا بنفسه. ويمكن الجواب عنه بما حقّق في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العام ولو بمعنى النقيض ، فراجع وتأمّل.

واعلم أنّ شيخنا قدس سره على ما نقله بعض المحرّرين عنه في الدورات السابقة كان يشكل على ما في التقريرات والكفاية باشكالات أخر ، مضافا إلى الإشكال السابق الذي محصّله عدم معقولية تعلّق الارادة بكلّ من الفعل والترك وعدم معقولية كون الفعل أرجح من الترك والترك أرجح من الفعل ، إذ لا يعقل أن يكون مجرّد المصلحة في الفعل موجبة لتعلّق الطلب به ما لم تكن تلك المصلحة موجبة لرجحانه على الترك ، وهكذا الحال في الترك نفسه.

فمن تلك الإشكالات أنّ ما أفاداه هو خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها أنّ

ص: 61


1- مطارح الأنظار 1 : 644.
2- كفاية الأصول : 163.

نفس الفعل مكروه لا أنّ تركه يكون راجحا.

ومنها : أنّ كون الترك علّة لترتّب أمر ذي مصلحة عليه ممنوع ، نعم إنّ العدم يمكن أن يكون شرطا لتأثير المقتضي ، بأن يكون وجوده مانعا وأمّا كونه مؤثّرا فلا.

لكنّه قدس سره أعرض في هذه الدورة الأخيرة عن هذين الإشكالين ، ولعلّ وجه الاعراض هو وضوح الجواب عنهما ، أمّا عن الأوّل فلوضوح أنّ هذا التوجيه وإن كان خلاف ظاهر الأدلّة إلاّ أنّه بعد فرض كون الظاهر غير معقول يتعيّن الخروج عنه بذلك أو نحوه ، وأمّا الثاني فلإمكان أن تكون المصلحة مترتّبة على مباينة بني أميّة والمجوس والظهور بخلاف مظاهرهم ، وهذا العنوان يترتّب على ترك العبادة في ذلك الوقت فيكون ذلك الترك مطلوبا. ولعلّ قوله - فيما حكيناه - (1) من قوله قدس سره بعد حكايته عن الشيخ قدس سره من قوله : وفيه بعد إصلاحه الخ إشارة إلى ذلك فتأمّل.

قوله : وأمّا المتعلّق للنهي التنزيهي فليس هو ذات العبادة لعدم مفسدة فيها ولا مصلحة في تركها ، بل المتعلّق له هو التعبّد بهذه العبادة لما فيه من المشابهة ... الخ (2).

قد تقدّم (3) أنّه لا بدّ من الكسر والانكسار في المتلازمين في الوجود فيما لو كان أحدهما راجحا والآخر مرجوحا ، ومن الواضح أنّ الأمر التعبّدي بصوم يوم عاشوراء مثلا من هذا القبيل ، لكون الفعل ملازما لجهة التعبّد ، إذ لا ينفكّ الصوم

ص: 62


1- في الصفحة 54.
2- أجود التقريرات 2 : 176 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في الصفحة 56 و58.

المأمور به في يوم عاشوراء عن جهة التعبّد. وبالجملة : لا معنى لتشريع الأمر بما يكون وجوده في الخارج على جهة المأمورية ملازما لما هو مرجوح.

ونظير هذا الإشكال إشكال آخر وهو أنّ نفس التعبّد والامتثال يكون مأمورا به ولو بمتمّم الجعل فلا يمكن أن يكون مكروها ، لما أفاده قدس سره من التنافي بين الحكمين لوحدة متعلّقهما وإن لم يكن شيء منهما إلزاميا.

وهذا الأخير ذكره في الحاشية (1) والظاهر أنّه متوجّه بناء على ظاهره من تعلّق الأمر بذات الصوم وتعلّق النهي بالاتيان به بداعي الأمر الذي هو عبارة أخرى عن التعبّد الذي يكون معتبرا في العبادة ولو بنحو متمّم الجعل. لكن لعلّ المراد هو تعلّق الأمر بذات الصوم على ما هو عليه من اعتبار كونه بداعي الأمر ، ولكن هذه العبادة في هذا اليوم تشتمل على التشبّه وهو مكروه. نعم يرد عليه أنّ التشبّه إن كان فعلا توليديا لتلك العبادة كان متّحدا معها خارجا ، وإن كان ملازما لها خارجا مع التزام المباينة بينهما كان حاله حال استحباب استقبال القبلة وكراهة ملازمه الذي هو استدبار الجدي ، فيخرج عمّا نحن فيه كما شرحناه فيما تقدّم (2).

وحينئذ لا محيص من الالتزام بالحاق القسم الثالث بالقسم الثاني ، وذلك بارجاع النهي إلى تشخيص المأمور به بالايجاد في الزمان الخاص ، فإن كان تحريميا كان موجبا للتخصيص ، وإن كان تنزيهيا لم يكن منافيا للامتثال وصحّة المأمور به في ذلك الزمان ، كما التزمنا بصحّته وعدم منافاته للأمر ، إذ كان النهي التنزيهي متوجّها إلى تشخّصه بالمكان. ولا فرق في الموردين إلاّ بكون العموم

ص: 63


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 176.
2- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة 54 وما بعدها.

في القسم الثاني بدليا وفي هذا القسم شموليا ، نعم الظاهر أنّه لو كان الأمر وجوبيا لم يتأت فيه التوجيه المزبور ، بخلاف ما لو كان بدليا فإنّه يمكن اجتماعه مع الكراهة الشخصية ، ولعلّ السرّ في ذلك هو اشتمال العموم البدلي على الترخيص في الجملة بخلاف عموم الأمر الشمولي. لكن الظاهر أنّ ذلك لا يخلو عن الإشكال ، إذ لا يجتمع الأمر الشمولي ولو ندبيا مع النهي ولو كان تنزيها ، إذ مرجعه إلى تعلّق الارادة بذلك الشخص وبتركه ، وهو عين الإشكال الذي أردنا دفعه.

وهل يمكن تنزيل الكراهة في جميع هذه الأقسام على التركّب الانضمامي والقول بالجواز؟ أمّا القسم الأوّل وهو الكون في مواضع التهمة فواضح.

وأمّا القسم الثاني وهو مثل الصلاة في الحمّام فبدعوى عدم توجّه النهي إلى نفس الصلاة ، بل إنّه إنّما يتوجّه إلى أينها الخاص ، غايته أنّ هذا الأين يكون أخصّ من متعلّق الأمر ، ومن الممكن تحقّق العموم المطلق في التركّب الانضمامي ، إذ ليس المراد منه هو صدق أحد العنوانين على الآخر وإلاّ لكان التركّب اتّحاديا حتّى في العامين من وجه ، بل المراد منه هو الاجتماع في الوجود مع الآخر والانضمام إليه ، فإن كان العنوانان ممّا ينضمّ أحدهما إلى الآخر في الوجود وينفرد كلّ منهما عن مقارنة الآخر والانضمام إليه كان بينهما العموم من وجه ، وإن كان الانفراد من أحدهما فقط كان بينهما العموم المطلق.

وبالجملة : أنّه يجوز أن يكون أحد العنوانين مجتمعا مع الآخر ومنفكّا عنه ولكن الآخر لا يوجد إلاّ مقارنا له ومجتمعا معه في الوجود.

نعم لو كان النهي المتعلّق بذلك الأخصّ تحريميا لكان موجبا لتخصيص الأمر ، فإنّه بناء على الجواز تكون المسألة من التزاحم ، وحيث إنّه دائمي يكون

ص: 64

من التزاحم الآمري فيجمع بينهما في مقام الاثبات بتقديم الخاص على العام ، سواء كان الأمر وجوبيا أو كان استحبابيا ، وسواء كان عمومه بدليا أو كان شموليا.

وأمّا القسم الثالث وهو النافلة المبتدأة في الأوقات المكروهة فبعين ما تقدّم ، غير أنّ السابق كان متعلّق النهي هو أين الفعل وفي هذا القسم يكون المنهي عنه هو زمانه المعبّر عنه بمقولة متى ، وغاية الفرق بينهما أنّ العموم هناك بدلي وهنا شمولي ، فلو كان النهي تحريميا لزم تخصيص الأمر بما عدا مورد النهي لما شرحناه فيما تقدّم ، وإن كان النهي تنزيهيا لم يكن مزاحما للأمر لعدم كونه مانعا لزوميا من امتثاله. نعم لا يتأتّى ذلك فيما لو كان الأمر وجوبيا ، لكونه مانعا لزوميا عن امتثال النهي.

هذا ما أمكنني تقريبه فيما تخيّلته من ابتناء مسألة الكراهة في العبادة على التركّب الانضمامي.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ النهي لم يكن متعلّقا بنفس مقولة الأين أو متى بالنسبة إلى الشخص ، بمعنى أنّ وجود نفس شخص المكلّف في ذلك المكان أو الزمان كان مكروها ، بل إنّما المكروه هو وجود الفعل أعني تلك العبادة في ذلك المكان ، بمعنى أنّ المكروه هو إيجاد المكلف تلك العبادة في المكان أو الزمان المذكورين ، فيكون المنهي عنه هو العبادة الموجودة في ذلك الظرف لا نفس الكون فيه.

وهذا وإن أمكن الجواب عنه بأنّ المنهي عنه ليس هو نفس العبادة بل إنّ المنهي عنه هو نفس الأين المتعلّق بها ، إلاّ أنّ فيه إشكالا آخر وهو مختصّ بالقسم الثالث ، أعني ما يكون عموم الأمر فيه شموليا مثل النوافل المبتدأة ومثل قراءة الجنب ، فإنّ الخصوصية الزمانية تكون فيه عين الفرد أو من لوازمه الدائمة ، ولا

ص: 65

يمكن تعلّق الطلب بفعل الشيء مع تعلّق الطلب بلازمه (1) ، فلا بدّ فيه من الالتزام بالكسر والانكسار في مقام الجعل والتشريع.

ولا يخفى أنّ عمدة الإشكال في العبادات المكروهة إنّما هو هذا القسم الأخير ، أمّا غيره فالأمر فيه سهل حيث إنّ الكثير من العبادات المكروهة يكون من باب الاجتماع كالصلاة في مواضع التهمة ، فإنّ الكون في مواضع التهمة مكروه وإن لم يكن في حال الصلاة ، وتصحّ الصلاة على القول بالجواز من جهة أنّ ما اجتمع معها من الكون المذكور الذي قد تركّب معها تركّبا انضماميا لم يكن تركه الزاميا.

أمّا ما يكون أخصّ من الصلاة مثل الصلاة في الحمّام فإن صحّ لنا إلحاقه بما يكون أعمّ من وجه في دخوله في محلّ النزاع ، وقلنا بالجواز ارتفع الإشكال فيه أيضا ، وإلاّ كان المتعيّن فيه حمل النهي فيه على الارشاد إلى ما هو خال من هذه المنقصة ممّا يكون أكثر ثوابا.

أمّا الصلاة في معابد اليهود والنصارى وفي مواضع النيران فيمكن إلحاقه بالأوّل إن قلنا بكراهة مطلق الكون في هذه الأمكنة ، وإن كان المنهي عنه هو خصوص الصلاة فيها كانت من قبيل القسم الثاني الذي يكون متعلّق الأمر فيه أعمّ مطلقا من متعلّق النهي مع كون التركّب انضماميا ، وإن لم يكن التركّب فيه انضماميا بل كان اتّحاديا تعيّن حمل النهي فيه على الارشاد إمّا إلى مسألة طبّية ، كما في مثل الوضوء بماء أسخن بالشمس كما علّله عليه السلام بأنّه يورث البرص (2) ، وإمّا

ص: 66


1- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ الصحيح : تعلّق النهي بلازمه ، أو تعلّق الطلب بترك لازمه ].
2- وسائل الشيعة 1 : 207 / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب 6 ح 2.

أن يكون إرشادا إلى دفع احتمال الخوف مثل الصلاة في مواطن الخوف ومواقع السيل مضافا إلى ما فيها من تشويش البال عند الالتفات إلى ذلك الاحتمال ، وإمّا إلى ما يكون أفضل منه وأكثر ثوابا مثل تغسيل الميت بماء أسخن بالنار ، وإمّا أن يكون إرشادا إلى مستحبّ آخر اتّفق مزاحمته له وكان ذلك أفضل وأكثر ثوابا ، مثل إرضاء الضيف لصاحب المنزل في ترك صومه بدون رضاه ، فالصوم وإن كان راجحا في حدّ نفسه وكان عبادة مأمورا بها استحبابا ويترتّب الثواب عليها ، لكن لما اتّفق مزاحمتها بما هو أرجح منها وهو إرضاء صاحب المنزل تعلّق النهي الارشادي بها ارشادا إلى ما هو الأكثر ثوابا وأولى بالرعاية.

وهذا المعنى جار حتّى في الواجبات كما لو زوحمت الصلاة الواجبة بانقاذ الغريق ، بل لو زوحم إنقاذ غريق بما هو أهمّ منه مثل غريق آخر أو إطفاء حريق يكون مؤدّيا إلى تلف كثير من النفوس.

ووجه اجتماع تشريع هذين الأمرين هو عدم التدافع الدائمي بين متعلّقيهما ، فيكون التزاحم بينهما مأموريا لا آمريا ، وهذا بخلاف النافلة المبتدأة في الأوقات المكروهة فإنّه وإن زوحم بما هو أهمّ إلاّ أنّ ذلك التزاحم دائمي فيكون آمريا ، ولأجل ذلك وقع الإشكال فيه دون ما نحن فيه ممّا يتّفق له المزاحمة بارضاء صاحب المنزل أو الزوج أو الوالد ممّا قد عدّ الصوم في مورده مكروها ، فإنّه يحمل النهي فيه على الارشاد إلى ما هو الأقوى ملاكا عند اتّفاق المزاحمة ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية علي بن حديد : « افطر فإنّه أفضل » (1) وقوله صلى اللّه عليه وآله في خبر داود : « لافطارك في منزل أخيك أفضل من الصيام سبعين

ص: 67


1- وسائل الشيعة 10 : 154 / أبواب آداب الصائم ب 8 ح 7.

صيفا أو تسعين » (1).

ومن ذلك ما يكون إرشادا إلى أفضل الأفراد ، كالنهي عن الصلاة في موضع العابرين والمارّة وإلى باب مفتوح وإلى إنسان مواجه ، فإنه إرشاد إلى الصلاة الخالية ممّا يوجب انشغال بال المصلّي ، ولعلّ منه ما تقدّمت الاشارة إليه من الصلاة في مواطن الخوف ، ومن ذلك الصلاة في المقابر فإنّه كاشف عن كونها في غيرها أكثر ثوابا ، فيكون النهي عنها ارشادا إليه.

والحاصل : أنّ الأمر سهل فيما يكون بين المتعلّقين عموم من وجه ، أو كان بينهما عموم مطلق وكان التركّب انضماميا بعد البناء على جواز الاجتماع. أمّا لو كان التركّب اتّحاديا فالأمر فيه سهل أيضا ، بحمل النهي فيه على الارشاد على نحو ما عرفت التفصيل في ذلك الارشاد من كونه ارشادا إلى جهة طبّية أو عقلية ، أو إلى مزاحم اتّفاقي يكون بالرعاية أولى ، أو إلى ما يكون من أفراد الطبيعة أكثر ثوابا.

وبقي الكلام فيما لا بدل له ولم يكن كراهته لأجل اتّفاق طرو ما هو الأرجح لكي يلحق بالتزاحم المأموري ، والظاهر انحصاره في المستحبّات دون الواجبات ، وذلك مثل قراءة الجنب ما زاد على سبع آيات مثلا ، ومثل النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة والصوم المستحبّ في السفر ، فإنّه لا بدّ فيه من الالتزام بكون الترك بذاته ذا مصلحة أرجح من مصلحة الفعل ، أو أنّه ينطبق عليه عنوان كذلك أو أنّه يلازمه العنوان المذكور ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو ذلك العنوان.

ص: 68


1- وسائل الشيعة 10 : 153 / أبواب آداب الصائم ب 8 ح 6 [ وفيه : « ... سبعين ضعفا أو تسعين ضعفا » مع اختلاف يسير أيضا في صدر الحديث ].

وحيث إنّ التزاحم في ذلك لا يكون إلاّ آمريا لكون التدافع دائميا ولم يتمّ الالتزام بما في الكفاية (1) من مطلوبية كلّ من الفعل والترك ، كما أنّ ما أفاده (2) شيخنا قدس سره (3) من كون متعلّق الأمر هو ذات الفعل ومتعلّق النهي هو عنوان التعبّد ، لم يكن لنا بدّ من الالتزام بمطلوبية الترك أو ذلك العنوان ، وعدم معقولية تشريع الأمر المتعلّق بالفعل ، وحينئذ لا بدّ لنا من الالتزام بما عرفت من مشروعية الأمر بالترك فقط ولازمه عدم صحّة الفعل عبادة ، فلو دلّ دليل قطعي على صحّة الفعل عبادة في مثل ذلك لم يكن أيضا بدّ من الالتزام بصحّته من جهة الاكتفاء بالملاك.

أمّا الترتّب فلا يتأتّى في أمثال ذلك من موارد التزاحم الآمري ، فضلا عمّا أفاده شيخنا قدس سره (4) من عدم معقولية الترتّب بين النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما. ويمكن القول بإنكار صحّته عبادة في هذه الموارد ، وأقصى ما في البين هو أنّه لو قرأ الجنب ما زاد على السبع لم يكن حراما ، أمّا أنّه فعل ما هو عبادة فلا ، وكذلك الحال في النوافل المبتدأة والصوم المستحبّ في السفر. نعم قد يقال بحرمة ذلك تشريعا إذا قصد الاتيان بها بداعي الأمر فتأمّل.

ويمكن اجراء هذه الطريقة في الصوم المستحبّ من الضيف بدون إذن صاحب المنزل ، بل يمكن إجراؤها في جميع ما تقدّم ممّا له البدل سواء كان من قبيل القسم الأوّل أو كان من قبيل القسم الثاني ، غايته أن يلتزم فيما يكون منه واجبا كصلاة الظهر في الحمّام مثلا ممّا دلّ الدليل القطعي على صحّته وكفايته عن

ص: 69


1- كفاية الأصول : 163.
2- [ هكذا في الأصل ، ولعلّ المناسب : كما لم يتمّ الالتزام بما أفاده ... ].
3- أجود التقريرات 2 : 176.
4- أجود التقريرات 2 : 92.

الاعادة بأنّ صحّته من ناحية الملاك لا من ناحية الأمر. وهكذا في المستحبّ الراتب ونحوه ممّا تدخله الاعادة والقضاء فتدبّر.

أمّا التمثيل للقسم الثالث بصوم يوم عاشوراء فلم يثبت ، لأنّ الظاهر من الأخبار (1) هو حرمة صومه بعنوان التبرّك والشكر ، وأنّه يصحّ صومه بعنوان الحزن (2). نعم في بعض الأخبار (3) ما يدلّ على عدم مشروعية الصوم فيه بتاتا ، وفي بعضها (4) ما يدلّ على استحباب الامساك فيه إلى ما بعد الزوال ، فكونه من قبيل النوافل المبتدأة غير معلوم ، فينبغي التأمّل والتتبّع لأقوال الفقهاء ولأخبار المسألة. وعلى كلّ حال ، لو ثبت أنّه من هذا القبيل جرى فيه ما تقدّم في مثل النوافل المبتدأة وقراءة الجنب ما زاد على سبع آيات ونحو ذلك ، هذا.

ولكن لا يخفى على من راجع كتب الأخبار والفقه في هاتين المسألتين أعني كراهة الصوم في يوم عاشوراء وكراهة النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة ما في ذلك من التعارض والإجمال في بعضها ، والخلاف بين الفقهاء في الكراهة أو الحرمة وفي الصحّة والفساد إلى غير ذلك ، وحينئذ فيمكن القول بأنّ المسألة من باب الكسر والانكسار وتقديم جانب النهي وسقوط الأمر وعدم صحّة العبادة ، إذ لا أثر يترتّب على صحّتها وفسادها ، إذ لا بدل لها كي يكون فسادها فاتحا لباب الاعادة وصحّتها موجبة لعدم الاعادة.

ص: 70


1- وسائل الشيعة 10 : 459 / أبواب الصوم المندوب ب 21 ح 2.
2- ربما أشار بذلك إلى ما روي في وسائل الشيعة 10 : 457 / أبواب الصوم المندوب ب 20 ح 1 - 6.
3- وسائل الشيعة 10 : 461 / أبواب الصوم المندوب ب 21 ح 4 - 6.
4- وسائل الشيعة 10 : 458 / أبواب الصوم المندوب ب 20 ح 7.

وقد يقال : إنّ الأثر يظهر في النذر كما لو نذر صوم يوم عاشوراء ، فلا يصحّ النذر على الثاني بخلاف الأوّل. وفيه : أنّه لا يصحّ حتّى على الأوّل بناء على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر. نعم على الأوّل أعني تقديم جانب لا يمكنه بها بداعي الأمر إلاّ تشريعا ، بخلافه على الثاني أعني تقديم النهي ، لكن ذلك أعني صحّة الاتيان بها بداعي الأمر قابل للمنع ، إذ لا إجماع على الجمع بين الكراهة وبين صحّة الاتيان بها بداعي الأمر (1).

وحينئذ تكون الخلاصة في كراهة العبادات هو تنزيل القسم الأوّل والثاني منها على اجتماع الأمر والنهي والقول بالجواز ، وامتناع ذلك على القول بالامتناع. وأمّا القسم الثالث فهو وإن أمكن تخريجه على مسألة الاجتماع ، بأن نقول إنّ نفس الحصّة من الصوم الموجود في يوم عاشوراء مثلا هو مستحبّ ، وكونه في اليوم المذكور مكروه ، ولا مانع من ذلك لأنّ النهي التنزيهي لا يسدّ باب الامتثال.

ولكن لا يخفى أنّ في المقام مانعا آخر وهو عدم القدرة على امتثال التكليفين ولو لم يكونا إلزاميين ، وقد حقّق أنّ عدم القدرة لو كان دائميا تدخل المسألة في التزاحم الآمري وفي باب التعارض وتخرج عمّا نحن فيه ، وهذا هو السبب في عدم إمكان استحباب كلّ من النقيضين وكلّ من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وفي استحباب أحد المتلازمين وكراهة الآخر ، وتخريج استحباب كلّ من الضدّين اللذين لهما ثالث على التخيير الشرعي. وما وجّهنا به (2) ما أفاده شيخنا قدس سره من كون المانع هو أنّ رجحان الفعل يوجب مرجوحية الترك الخ لا

ص: 71


1- [ لا يخفى ما في هذه العبارات من التشويش وسهو القلم ، وقد آثرنا إيرادها هنا كما هي في الأصل ].
2- في الصفحة : 57.

يخلو عن تأمّل ، لأنّ رجحان الفعل لا يوجب إلاّ سلب الرجحان عن الترك ولا يوجب مرجوحيته ، وإلاّ لكان ترك المستحبّ مكروها.

وبناء على ذلك نقول فيما نحن فيه إنّ المسألة تدخل في التزاحم الآمري ، والمرجع في مقام الاثبات هو التعارض ، فلو كان المقدّم هو النهي لم يمكن القول بالصحّة. وما أفاده بعض مقرّري بحث المرحوم السيّد البروجردي (1) من إمكان تصحيحه بالملاك ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ ذلك أعني التصحيح بالملاك إنّما يتأتّى في التزاحم المأموري دون التزاحم الآمري ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : التحقيق ... الخ (2).

لا يخفى أنّ كلام شيخنا قدس سره مبني على أنّ الأمر الاستحبابي إنّما هو المتوجّه إلى المنوب عنه ، وأنّ مركب الأمر الاجاري إنّما هو النيابة عنه في امتثال ذلك الأمر ، ومركب الأمر الأوّل هو الفعل نفسه ، وأمّا كيفية امتثال الأجير الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وأنّه كيف يمتثل الشخص أمرا متوجّها إلى غيره فذلك إشكال في المبنى ، وقد تعرّض شيخنا قدس سره (3) لدفعه وشرحناه فيما حرّرناه عنه قدس سره في مبحث الاجارة والنيابة في العبادات من المكاسب ، وأنّه بعد قيام الدليل على النيابة يكون محصّل الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه هو تعلّق الفعل بذمّته ، وأنّه مراد منه على نحو الأعمّ من المباشرة بأن يفعله هو بنفسه أو يفعله بنائبه ، وأنّ النائب لو أتى بالفعل بعنوان النيابة يكون قصد النيابة عبارة عن فعل النائب ذلك الفعل عن

ص: 72


1- في نهاية الأصول 1 : 267 ، 269.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 174.
3- المكاسب والبيع 1 : 46 ، منية الطالب 1 : 52 وما بعدها.

المنوب عنه ، ومحصّله أنّه يمتثل له الأمر المتوجّه إليه.

أمّا ما في الحاشية من كون الأمر الاستحبابي هو الأمر المتوجّه إلى النائب (1) في نيابته عن الميت تبرّعا ، فذلك لا يدفع الإشكال في كيفية تحقّق النيابة التي هي متعلّق هذا الأمر الندبي ، وأنّه كيف ينوب الأجير عن المنوب عنه في الفعل الذي توجّه أمره إلى نفس المنوب عنه ، وأنّه كيف تكون تلك النيابة ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس سره في تمام توضيح دفع الإشكال المزبور ، هذا.

مضافا إلى أنّ هذا الأمر أعني الأمر المتوجّه إلى الأجير في نيابته التبرعية عن الميت لا يكون إلاّ توصّليا كما أنّ الأمر الاجاري توصّلي أيضا ، وحينئذ كيف يكون ذلك العمل الذي يوقعه الأجير عباديا ، والمفروض أنّ هذا النائب سواء كان تبرّعيا أو كان مأجورا إنّما ينوب عنه في فعل العبادة ، لا في مجرّد الامساك أو پيكرة عمل الصلاة ، فتأمّل.

وملخّص النيابة هو أنّ الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وإن كان مقتضاه هو انبعاث المأمور بنفسه إلاّ أنّ دليل النيابة يكون مقتضاه الاكتفاء بانبعاث النائب ، بحيث يكون ذلك الانبعاث الصادر بعنوان النيابة كافيا ، بمعنى أنّ النائب يقصد أنّه ينبعث عن ذلك الأمر نيابة عن المنوب عنه ، فدليل النيابة يقول إنّه إذا انبعث غيرك نيابة عنك في ذلك الانبعاث كان ذلك كافيا عنك ، فمحصّله التوسعة في الانبعاث الذي اقتضاه الأمر بصرف طبعه وأنّه أعمّ من الانبعاث بنفسك أو بنائبك ، فإنّ النيابة في ذلك الانبعاث موجبة لانتساب ذلك الانبعاث إلى نفس المنوب عنه ، كما ينسب العقد الصادر من الوكيل بعنوان الوكالة إلى الموكل ، لأنّه محصّل قول

ص: 73


1- [ في الأصل : المنوب عنه ، والصحيح ما أثبتناه ].

الوكيل أعقد عن الموكل ، فكذلك قول النائب في ذلك الانبعاث إنّي أنبعث عن المنوب عنه ، وحاصل ذلك هو قابلية الانبعاث للوكالة والنيابة ، وليست التعبّدية إلاّ الانبعاث عن الأمر كما شرحناه في بيان ما بنينا عليه من أصالة التعبّدية (1) ، وحاصل النيابة فيه هو أنّ الغير ينبعث نيابة عن المأمور وبانبعاثه عن المأمور يكون النائب قد حصّل ذلك الانبعاث للمأمور.

والحاصل : أنّه لا يعتبر في العبادي إلاّ أن يأتي به المكلّف لذلك الأمر الذي تعلّق بذلك ، ومن الواضح أنّ النائب يمكنه أن يأتي بالفعل لأجل ذلك الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه نيابة عن المنوب عنه ، فيكون الفعل عباديا لأنّه أتى به لأجل الأمر ، ويكون بما أنّه عبادة منسوبا إلى المنوب عنه لكونه قد أتى به بعنوان النيابة عنه ، ويكون مسقطا لأمره المتعلّق به ومبرئا لذمّته لأنّ دليل النيابة متكفّل بذلك.

قوله قدس سره في الكفاية : كما يظهر من مداومة الأئمّة عليهم السلام على الترك ... الخ (2).

لا يخفى أنّ مداومتهم عليهم السلام على الترك إنّما تكشف عن نقصان في الفعل لا عن مجرّد كون الترك أرجح منه ، وإلاّ لكانوا ملازمين على ما هو الأرجح من المستحبّات المتزاحمة.

ص: 74


1- [ عند التعرّض لكلام المحقّق الكلباسي قدس سره ، فراجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 466 وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس سره قد أبطل هذا القول فيما بعد فراجع الصفحة :505- 506 من المجلّد الأوّل ].
2- كفاية الأصول : 163.

قوله قدس سره : فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين - إلى قوله : - كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات بل الواجبات ... الخ (1).

إنّما يكون الأمر كذلك فيما لو كان التزاحم مأموريا ، أمّا لو كان آمريا كما فيما نحن فيه حيث إنّ التعاند دائمي فلا وجه للطلب التخييري في صورة التساوي للغويته ، كما أنّه لو كان أحدهما أهمّ كان هو المأمور به وسقط الآخر عن الأمر بالمرّة ، نعم في الأضداد التي لها ثالث يكون الحكم بالتخيير شرعا ممكنا لكن يكون الأهمّ أفضل الأفراد.

قوله قدس سره : نعم يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا ... الخ (2).

لا يخفى أنّ حمل النهي على الارشاد إلى ما هو الأرجح والأكثر ثوابا إنّما يتمّ بعد كون ذلك الأرجح مطلوبا شرعا ، وإلاّ فلا يكون ممّا يترتّب عليه الثواب فضلا عن أكثريته.

قوله : ومورد كلامه قدس سره وإن كان في الأفراد الطولية إلاّ أنّ ملاك الكلام وجهة الجواز والامتناع تجري في الأفراد العرضية - إلى قوله : - وأمّا إذا قلنا بالثاني فلا مزاحمة بينهما أصلا ، لكفاية مقدورية الطبيعة في الامتثال بهذا الفرد ، فإنّ الانطباق قهري والاجزاء عقلي ... الخ (3).

بل قد يقال : إنّ ذلك المسلك أعني المسلك المنسوب إلى المحقّق

ص: 75


1- كفاية الأصول : 163.
2- كفاية الأصول : 164.
3- أجود التقريرات 2 : 177 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الثاني قدس سره (1) لا يجري في الأفراد الطولية كما في مزاحمة الأمر بالصلاة مع الازالة ، وإنّما يجري في الافراد العرضية كما فيما نحن فيه من مزاحمة الأمر بالصلاة مع النهي عن الغصب بناء على الجواز من الجهة الأولى.

وبيان ذلك : أنّ ملخّص مسلك المحقّق لمّا كان مبنيا على كون المانع من التكليف بغير المقدور ليس هو محالية التكليف الذي هو عبارة عن عدم صدور الارادة وتعلّقها بما لا يكون ، بل كان مبنيا على أنّ المانع منه هو قبح التكليف وإيجاب غير المقدور ، لكونه مستدعيا للعقاب على تركه مع فرض كون فعله غير مقدور فيكون العقاب على تركه ظلما ، وحينئذ نقول : إنّ الفرد المزاحم بتكليف آخر ليس هو بنفسه محطّ التكليف والعقاب على تركه ، بل إنّ محطّ التكليف إنّما هو نفس الطبيعة ، وهي في حدّ نفسها مقدورة ولو في ضمن الافراد الأخر السالمة من تلك المزاحمة فلا يكون مانع من الأمر بالطبيعة ، وبعد فرض تعلّق الأمر بها لو أتى المكلّف بها في ضمن ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم يكون انطباقها على ذلك الفرد انطباقا قهريا ، إلى آخر الجمل الثلاث أعني كون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا والاجزاء عقليا.

والسرّ في ذلك : هو أنّ ذلك الفرد لم يكن قد تعلّق به الايجاب الحتمي ، ولم يترتّب العقاب على ترك ذلك الفرد بخصوصه ، وإنّما كان مركز ذلك جميعه هو الطبيعة نفسها ، غايته أنّ المكلّف بسوء اختياره جاء بها في ضمن ذلك الفرد غير المقدور شرعا ، فلا مانع من شمول الطبيعة له ، إذ ليس في ذلك تحتيما لما هو غير المقدور ولا ترتّب عقاب على ترك ذلك الفرد بخصوصه ، وإنّما التحتّم والعقاب على أصل الطبيعة والمفروض أنّها في حدّ ذاتها مقدورة ولو في الافراد

ص: 76


1- جامع المقاصد 5 : 13 - 14.

الأخر.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة لا تتأتّى في مورد التزاحم في الافراد الطولية ، لأنّ الطبيعة المزاحمة بازالة النجاسة تكون في الزمان الذي يسع إزالة النجاسة غير مقدورة برمّتها ، وإنّما المقدور منها هو الافراد التي تكون فيما بعد ذلك الزمان ففي حال الأمر بالازالة لا تكون الطبيعة برمّتها مقدورة ، فلا يصحّ توجّه الأمر بها في ذلك الحال إلاّ بنحو الوجوب المعلّق ، لأنّ الأمر بتلك الطبيعة حينئذ ينحاز إلى ما بعد زمان الازالة ، فلو فرضنا وجود الأمر بها في ذلك الحال كان من قبيل الوجوب التعليقي ، لكون الوجوب حينئذ حاليا والواجب وهو الطبيعة المقدورة استقبالي وهو محصّل الواجب المعلّق.

وحيث قد حقّقنا في محلّه بطلانه فلا يمكننا القول بوجود الأمر بالطبيعة في حال الأمر بالازالة ، وهذا بخلاف الافراد العرضية كما فيما نحن فيه ، حيث إنّ النهي عن الغصب وإن كان موجودا في هذا الحال ، إلاّ أنّه لا ينافي وجود الأمر بالصلاة ، لكفاية القدرة عليها ولو في ضمن الافراد الأخر التي تكون في الدار المباحة أو في المسجد ونحو ذلك ، وحينئذ فلو قلنا : إنّ المانع من التكليف بغير المقدور هو مجرّد قبح تحتيم غير المقدور وقبح العقاب على تركه ، لم يكن ذلك المانع متأتّيا فيه ، لأنّ الطبيعة في حدّ نفسها مقدورة ولو في الافراد الأخر التي هي في عرض هذا الفرد المزاحم بالنهي عن الغصب ، لأنّ تلك الأفراد لكونها عرضية لا تكون متأخرة في الزمان عن هذا الفرد المبتلى بالمزاحمة ، ففي مثل ذلك ينحصر التخلّص من هذه الشبهة بالتعلّق بما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ محالية التكليف بغير المقدور ليست هي مجرّد تحتيم غير المقدور وقبح العقاب على تركه ، وإلاّ لصحّ الأمر الاستحبابي بغير المقدور ، إذ لا تحتيم فيه ولا عقاب على

ص: 77

تركه كي يكون ذلك قبيحا على الشارع لكونه منتهيا إلى الظلم وهو قبيح عليه ، بل إنّ محاليّته هي قبح إرادة ما لا يكون وإن لم يكن فيه تحتيم ولا عقاب ، بل إنّ نفس إرادة ما لا يكون الذي هو غير المقدور لا يعقل صدورها من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

وحينئذ نقول : إنّ هذا الفرد المبتلى بمزاحمة الغصب لا يعقل أن يكون مشمولا للطبيعة المأمور بها ، وإن لم يكن شمولها له مشتملا على التحتيم والعقاب على الترك بالنسبة إلى خصوص ذلك الفرد ، إلاّ أنّ كونه متعلّقا للارادة ولو باعتبار شمول الطبيعة له يكون محالا ، لأنّ إرادة ما لا يكون لا يعقل صدورها من العاقل وإن لم يكن في البين وجوب إلزامي وعقاب على الترك بالنسبة إلى خصوص ذلك الفرد ، وحينئذ لا بدّ من الحكم العقلي بتقييد الطبيعة المأمور بها بغير ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم ، سواء كان الفرد طوليا كما في باب المزاحمة بالازالة ، أو كان عرضيا كما فيما نحن فيه

والإنصاف أنّه لم يتّضح الفرق بين الوجهين لاعتبار القدرة ، فسواء قلنا إنّ التكليف بغير المقدور تكليف غير معقول أو قلنا إنّه مناف للعدل نقول إنّ ذلك إن اقتضى التقييد اقتضاه على كلا الوجهين ، وامتنعت طريقة المحقّق الثاني القائلة بأنّ الانطباق قهري على كلا الوجهين ، وإن لم يقتض التقييد صحّت طريقته على كلا الوجهين أيضا ، هذا في عدم القدرة عقلا.

وأمّا ما كان من ناحية التزاحم فكذلك ، وقد تقدّم (1) الكلام على أنّه لا تقييد في البين ، وأنّه ليس في البين إلاّ حكم العقل بلزوم تأخير امتثال الأمر بالصلاة عن امتثال الأمر بالازالة ، هذا في الطوليات. وكذلك الحال في العرضيات كما لو

ص: 78


1- في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 140 وما بعدها.

زوحمت الصلاة في هذا المكان بالنظر إلى الأجنبية ، إذ ليس في البين إلاّ حكم العقل بإيقاع الصلاة في المكان الخالي من هذه المزاحمة ، وعلى ذلك يمكننا أن نقول إنّه لو صلّى مع ابتلائه بالازالة أو مع ابتلائه بالنظر إلى الأجنبية يكون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا ، فيكون الاجزاء عقليا. ولكن هذه الطريقة لا يمكننا إجراؤها في الصلاة في الدار المغصوبة لجهات أخر ، وهي ما أفاده شيخنا قدس سره في جواب إن قلت المذكورة أوّلا (1) ، فلاحظ.

وهذه الجهة الأخرى هي المعبّر عنها في كلامه قدس سره بالقبح الفاعلي ، وبعد تماميتها تكون عنده مانعة من التصحيح بطريقة الملاك بعد فرض أنّه أبطل طريقة المحقّق القائلة بالانطباق القهري الخ ، لكن نحن بعد أن صحّحنا هذه الطريقة وجعلنا حكومة العقل مقصورة على التصرّف في مقام الامتثال لا بدّ لنا من الالتزام بالقضية الأولى وهي الانطباق القهري ، ويكون الممنوع عندنا هو القضية الثانية وهي كون الامتثال وجدانيا ، لما عرفت من تحقّق القبح الفاعلي ، وهو مانع من الامتثال كما يمنع من طريقة شيخنا قدس سره أعني طريقة الملاك.

ثمّ إنّ هذا المانع المعبّر عنه بالقبح الفاعلي ليس هو عبارة عن وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، لما يرد عليه من أنّه لا فرق بين الايجاد والوجود إلاّ بالاعتبار ، مضافا إلى أنّ محصّل الايجاد هو المعنى المصدري ومحصّل الوجود هو المعنى الاسم المصدري ، وقد حقّق في محلّه أنّ ما هو متعلّق التكاليف هو المعاني المصدرية لا الاسم المصدرية ، وحينئذ يعود محذور الاجتماع في شيء واحد ، فليس المانع هو وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، ولا هو وحدة المعنى المصدري وتعدّد المعنى الاسم المصدري. كما أنّه ليس المانع المذكور هو وحدة

ص: 79


1- أجود التقريرات 2 : 179 - 181.

الإرادة وتعدّد المراد ، لما يرد عليه من أنّه مع فرض تعدّد المراد الاختياري لا بدّ من تعدّد الارادة.

بل إنّ المانع هو عدم إمكان التقرّب بالفعل المأمور به المشتمل على خصوصية مبغوضة من المكان والمقارن واللون والصفة ونحو ذلك من الخصوصيات ، وهذه الموانع إنّما تؤثّر في المبغوضية لو كانت معلومة موضوعا وتكليفا دون ما لو كانت مجهولة ، وحينئذ تصحّ العبادة الخاصّة ، وليس ذلك براجع إلى مسألة التزاحم ، وأنّ المزاحم إنّما يسلب القدرة على فعل المأمور به عند تنجّزه ، إذ ليس المقام مقام القدرة على فعل المأمور به ، بل المقام إنّما هو مقام إمكان التقرّب بهذا المأمور به الخاصّ الذي كانت خصوصيته مبغوضة فلاحظ وتأمّل.

قال قدس سره : إنّ اعتبار القيود العدمية إمّا أن يكون مدلولا للنهي الغيري فيكون التقييد هو المستفاد من الدليل ابتداء ، وإمّا أن يكون مستفادا بالدلالة الالتزامية من النهي النفسي الدالّ على الحرمة كما في موارد النهي عن العبادة أو موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، وإمّا أن يكون لأجل مزاحمة المأمور به للمنهي عنه مع فرض تقديم جهة الحرمة على الوجوب (1).

مثال الأوّل : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه.

مثال الثاني : لا تصلّ في الحرير ، ومسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

ص: 80


1- أجود التقريرات 2 : 182 [ ستأتي في صفحة : 111 تعليقة أخرى للمصنّف قدس سره على هذا المتن ولكن بصياغته الموجودة في النسخة القديمة من الأجود ].

مثال الثالث : لا تلبس الحرير في الصلاة ، أو لا تلبس الحرير بقول مطلق ، ومسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وهناك صورة رابعة : وهي ما لو قلنا إنّ الصلاة مقيّدة بعدم لبس الحرير مثلا وأنّ لبسه حرام ، وكلّ من هذين الحكمين في عرض الآخر ، وهما ناشئان عن مفسدة أوجبت جعل كلّ واحد منهما في عرض الآخر ، لا أنّ الأوّل وهو المانعية معلول للثاني وهو الحرمة التكليفية.

وهذه الصورة هي محلّ ما أفاده قدس سره في الصورة الثانية ، وأمّا الصورة الثانية فهي عارية عن الحكم الشرعي الوضعي أعني تقيّد الصلاة بعدم لبس الحرير كي يتكلّم في أنّه في عرض الحرمة أو هو معلول لها. نعم لو دلّ الدليل على تقييد الصلاة بعدم الحرير كما دلّ على حرمة لبسه مطلقا أو في حال الصلاة كانت داخلة في الصورة المذكورة أعني الرابعة.

ولعلّ مراده بالثانية هو هذه الصورة ، إلاّ أنّ قوله : أو موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع من الجهة الأولى انتهى ، يمنع من ذلك إذ لا ريب في عدم تحقّق المانعية الوضعية أعني التقييد بالعدم في مسألة الاجتماع.

والحاصل : أنّ الصورة الثانية ممحّضة لكون الصلاة في الحرير منهيا عنها ، وكذلك الصلاة في المكان المغصوب بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، ومقتضى ذلك هو خروجها بالتخصيص عن عموم الأمر بالصلاة ، نظير خروج العالم الفاسق عن عموم الأمر باكرام عالم من العلماء. ولا يمكن تصحيحه بالجهل أو بالاضطرار ، لكن لو ثبت الحكم بالصحّة في مورد الجهل أو في مورد الاضطرار التزمنا بصرف قوله ( لا تصلّ في الذهب ) إلى النهي عن لبس الذهب في حال الصلاة ، وكذلك الحال في مسألة الاجتماع فإنّه لو ثبتت الصحّة في موارد الجهل

ص: 81

أو الاضطرار لا بدّ لنا من الالتزام بالجواز من الجهة الأولى ، وحصر الامتناع بالجهة الثانية.

نعم يمكن الالتزام بالصحّة عند الاضطرار إلى الغصب ولو مع القول بالامتناع من الجهة الأولى ، من جهة أنّ الاضطرار يقلب الغصب من الحرمة إلى الإباحة فلا تكون المسألة من موارد اجتماع الأمر والنهي ، وهذا بخلاف مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق حيث إنّ الاضطرار إلى إكرام الفاسق من العالم لا يكون موجبا لدخوله تحت الأمر.

وحاصل الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق وبين مثل صلّ ولا تغصب على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، أنّ المسألة الثانية وإن رجعت إلى التخصيص الواقعي حتّى بطريقة أخذ الغصب جهة تعليلية ، إلاّ أنّ ذلك التخصيص الواقعي ناشئ عن التزاحم.

وهذا التزاحم وإن كان واقعا في مقام الجعل والتشريع فيكون تزاحما آمريا لا مأموريا ، ويكون محصّل ذلك هو أنّ الشارع المقدّس نظر إلى الصلاة في المكان المغصوب فرأى فيها ملاكا يقتضي أن يجعل لها حكم الحرمة ، كما أنّه رأى فيها ملاكا يقتضي أن يجعل لها الوجوب ، فلمّا رأى أنّ ملاك الحرمة أقوى جعل الحكم على طبقه ، وجعل الأمر الوارد على الصلاة مختصّا بما عدا هذا الصنف. لكن كلّ ذلك بعد فرض أنّ الغصب [ فيه ] ملاك يقتضي جعل الحرمة ، وهو إنّما يكون مقتضيا لجعل الحرمة إذا لم يكن مضطرا إليه ، فحيث يكون مضطرا إليه لا يقتضي جعل الحرمة ، أو أنّ الاضطرار يكون مانعا من جعل الحرمة ، وحيث قد انسدّ باب جعل الحرمة لم يبق لدى الشارع ما يوجب اختصاص جعله الوجوب بما عدا مورد ذلك الغصب المضطرّ إليه ، فلا تكون

ص: 82

الصلاة في مورده فاسدة.

وهذا بخلاف مسألة أكرم عالما ولا تكرم الفاسق ، فإنّ الثاني إنّما يوجب إخراج مورده من الأوّل لا من جهة أنّ الحرمة لا تجتمع مع الوجوب ، بل من جهة أنّه لا ملاك للوجوب فيه ، أو أنّ الفسق مانع من تأثير ملاك الايجاب ، فيكون تقديمه على وجوب الاكرام من جهة تضمّنه عدم الوجوب ، لا من جهة خصوصية التحريم وأنّه لا يجتمع مع الوجوب ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة لا يرفعها الاضطرار.

وهكذا الحال في قوله صلّ وقوله لا تصلّ في الحرير ، فإنّ ظاهره أنّه مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق في كون التقديم لدلالته على عدم الوجوب الموجود في ضمن التحريم ، لا من جهة نفس التحريم.

وبالجملة : مقتضى الظهور هو كون النهي عن الصلاة في الحرير من جهة عدم المقتضي للوجوب أو من جهة المانع وهو الحريرية من تأثير مقتضي الوجوب في إيجاب تلك الصلاة.

نعم ، لو ثبت بالإجماع ونحوه صحّة الصلاة عند الاضطرار إلى لبس الحرير نزّلناه على ما ذكرناه في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، من كون ذلك التقديم من باب كون ملاك النهي أقوى من ملاك الوجوب.

ومن ذلك تعرف أنّه لا حاجة إلى ما ذكرناه من صرف النهي عن الصلاة في الحرير إلى النهي عن لبس الحرير مطلقا أو في الصلاة ، لكن ذلك كلّه إنّما يتمّ في مثل الاضطرار ممّا يكون مانعا من تأثير ملاك الحرمة في التحريم ، دون مثل الجهل والنسيان ممّا يكون غير مانع من تأثير المقتضي في الحكم وتكون مانعيته منحصرة في التنجّز واستحقاق العقاب ، فلا تكون الصلاة في مورد مثل هذه

ص: 83

الموانع إلاّ فاسدة ، فلاحظ وتدبّر.

فتلخّص لك : أنّ مثل نسبة لبس الحرير إلى الصلاة يتصوّر بصور أربع :

الأولى : أن يكون من قبيل المانع الصرف مثل مانعية محرّم الأكل من الصلاة ، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الوضعي وهو تقييد الصلاة بعدمه. وفي عدّ ما لا يؤكل من هذا القسم تأمّل ، لأنّ المانعية مقرونة بالحكم التكليفي وهو حرمة الأكل فتدخل من هذه الجهة في القسم الثاني ويتأتّى فيه النزاع في كونهما طوليين أو عرضيين. والأولى التمثيل للصورة الأولى بالنجاسة المانعة من صحّة الصلاة بناء على أنّ النجاسة مانعة لا أنّ الطهارة شرط.

الصورة الثانية : أن يضاف إلى ذلك كونه حرام اللبس أيضا ، مع فرض كون الأوّل معلولا للثاني أو كونهما معا معلولين لعلّة ثالثة وهي المفسدة الواقعية.

الصورة الثالثة أن لا يكون في البين إلاّ كون الصلاة فيه منهيا عنها ، ويلحق بها مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

الصورة الرابعة : أن لا يكون المنهي عنه إلاّ نفس اللبس ، ويلحق به مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وأنت إذا جعلت الصورة الثانية صورتين كما حرّرناه تكون الصور خمسا ، بل إذا جعلنا الثانية ثلاثا بادخال ما لا يؤكل لحمه فيها ولو من جهة أنّ الاضطرار إلى الأكل لا يكون اضطرارا إلى الصلاة فيه بخلاف الاضطرار إلى اللبس تكون الصور ستّا.

وهذه الصور كلّها يكون الاضطرار مسوّغا للصلاة مع الحرير ويوجب الحكم بصحّتها ، إلاّ في الصورة الثالثة وما يلحق بها من مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

ص: 84

ثمّ إنّ الاضطرار له صور ثلاث (1) :

الأولى : أن يضطرّ إلى لبس الحرير في الصلاة وغيرها من جهة البرد مثلا.

الثانية : أن يضطرّ إلى الصلاة فيه بمعنى أن يكون قاهر يمنعه من الصلاة في غيره ، ولا يسوغ له إلاّ الصلاة فيه.

الثالثة : أن يجبره ذلك القاهر على الصلاة فيه.

الرابعة : أن لا يكون له ساتر غيره ، من دون أن يكون محتاجا إلى لبسه على وجه يمكنه الصلاة عاريا.

1 - لا تصلّ فيما لا يؤكل عبارة عن مجرّد كون الصلاة مقيّدة بعدمه.

والأولى التمثيل بالميتة ولو كانت طاهرة.

2 - لا تصلّ في الحرير لمجرّد النهي التكليفي المتعلّق بالعبادة ، ويلحق به الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

3 - لا تلبس الحرير ، ليكون من النهي عن لبس الحرير إمّا مطلقا أو في خصوص حال الصلاة ، ويلحق به الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الثانية.

4 - اجتماع تقييد الصلاة بعدم الحرير مع كون لبسه محرّما مع كونهما عرضيين.

5 - كذلك مع كون التقييد في طول الحرمة التكليفية.

6 - تقييد الصلاة مع ما لا يؤكل مع حرمة الأكل وفرض كونهما عرضيين.

7 - كذلك وفرض كون التقييد في طول حرمة الأكل.

صور الاضطرار :

ص: 85


1- [ هكذا في الأصل ].

1 - يضطرّ إلى لبس الحرير مثلا لبرد ونحوه.

2 - يضطرّ إلى الصلاة فيه لقاهر يمنعه عن الصلاة إلاّ فيه.

3 - يضطرّ إلى ذلك لقاهر يقهره ويلزمه بالصلاة فيه.

4 - يضطرّ إلى ذلك لأنّه لا ساتر له دونه ، بحيث إنّه يمكنه الصلاة عاريا.

وبملاحظة هذه مع تلك تكون الصور 28 ، فتأمّلها فترى أنّك لو أجريت الصورة الثانية من الاضطرار مع الصورة الثالثة من صور النهي تكون المسألة من قبيل استلزام الصلاة لفعل المحرّم ، فلو جوّزناه في لبس الحرير بدعوى أنّ وجوب الصلاة أهمّ فلا يمكننا تجويزه في اللباس أو المكان المغصوب. وهكذا الحال في الصور المتأخرة حتّى صورتي ما لا يؤكل إن كان القهر على أكل اللحم لو أراد الصلاة لا على الصلاة مع جلده فتأمّل.

ولو أجريت الصورة الثالثة من الاضطرار مع الصورة الثالثة من صور النهي وما بعدها حتّى السابعة ترى أنّه لا مانع من صحّة الصلاة.

وأمّا الصورة الرابعة من صور الاضطرار فإنّك لو جمعتها مع كلّ واحدة من الصور السبع ترى أنّ المتعيّن هو الصلاة عاريا ، ما عدا الصورة الثانية من صور النهي ، لما عرفت من سقوط الأمر بالصلاة في موردها ، لخروجه عن عموم الأمر بالتخصيص فلا أثر فيه للاضطرار.

ومنه يظهر الحال في جمع كلّ واحدة من صور الاضطرار مع الصورة الأولى من صور النهي وهي المانعية المجرّدة ، فإنّه يوجب سقوط المانعية ما عدا الصورة الرابعة من الاضطرار فإنّه يوجب الصلاة عاريا.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي : ثمّ لا يخفى عليك أنّ المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب بحيث كان غير متمكّن من ترك الغصب

ص: 86

كالمحبوس ، وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب ، بحيث دار الأمر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب فهذا خارج عمّا نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بدّ من ملاحظة الأهمية والمهمّية ، ولا يجري فيه قوله عليه السلام الصلاة لا تسقط بحال (1) لأنّه إنّما يكون بالنسبة إلى القيود غير المحرّمة ذاتا فتأمّل جيّدا (2).

عن الذكرى : ولو صلّى في المغصوب اضطرارا كالمحبوس ومن يخاف على نفسه التلف بخروجه منه صحّت صلاته ، انتهى (3). ونحوه في جامع المقاصد (4).

وفي نجاة العباد : كلّ مكان تجوز الصلاة فيه إلاّ المغصوب للعالم بغصبيته المختار ، غاصبا كان أو غيره ، فريضة كانت الصلاة أو نافلة على الأصحّ دون الجاهل والمضطر كالمحبوس بباطل ونحوه الخ (5). وفي طبعة بمبائي : دون الجاهل والمضطرّ والمحبوس بباطل ونحوه. ولو صحّت هذه النسخة أمكن حمل المضطر فيها على من يخاف على نفسه التلف لو خرج.

لكن صاحب العروة قدس سره بعد أن ذكر حكم المحبوس قال : وأمّا المضطرّ إلى الصلاة في المكان المغصوب فلا إشكال في صحّة صلاته (6). فجعل الاضطرار

ص: 87


1- لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 446.
3- ذكرى الشيعة 3 : 77 - 78.
4- جامع المقاصد 2 : 116.
5- نجاة العباد : 96.
6- العروة الوثقى 2 ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ) : 369 / المسألة 8.

متعلّقا بالصلاة ، فلا بدّ أن يكون ذلك بقهر قاهر يجبره ويلزمه بالصلاة في المكان المغصوب وهو الصورة الثالثة ، لا أنّه يمنعه من الصلاة إلاّ في المغصوب أعني الصورة الثانية من صور الاضطرار ، لأنّ ذلك لا يسوّغ له الإقدام على الصلاة التي يكون فعلها مستلزما لارتكاب الغصب ، وهذه الصورة هي التي أشار إليها المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب الخ (1) فلاحظ.

وهل يصلّي في هذه الصورة صلاة المضطرّ نظير صلاته في حال الخروج ، أو أنّه يصلّي صلاة المختار؟ الظاهر الأوّل ، وحينئذ لا يبقى فرق بيّن بينه وبين المحبوس ، بل يكون هذا أسوأ حالا من المحبوس ، لأنّ المحبوس إنّما يمنع من التصرّف الزائد وهذا قد منع من صلاة المختار.

نعم ، لو كان القاهر قد قهره على صلاة المختار صلّى صلاة المختار ، فإنّه حينئذ يباح له الغصب بمقدار صلاة المختار ، فتصحّ صلاته حينئذ بناء على الجواز من الجهة الأولى دون ما لو قيل بالامتناع ، إلاّ أن يقال إنّ الغصب يخرج بالاضطرار عن الحرمة فتخرج المسألة عن مسألة الاجتماع ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : قد عرفت فيما تقدّم أنّ حقيقة الوجوب ليست إلاّ عبارة عن اعتبار كون فعل ما على ذمّة المكلّف ، وهذا المعنى في نفسه لا يقتضي اعتبار القدرة على ذلك الفعل ، وإنّما تكون القدرة معتبرة بحكم العقل في مقام الامتثال دون مرحلة التكليف ... الخ (2).

إنّ كون الفعل في ذمّة المكلّف إنّما يكون من آثار التكليف ، والتكليف

ص: 88


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 446.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 178.

ليس إلاّ الارادة ، وإرادة ما لا يكون قبيح عقلا ممتنع صدورها من العاقل فضلا عن الحكيم.

وبالجملة : أنّ التكليف إنّما يقتضي القاء الفعل على عاتق المكلّف وإشغال ذمّته به بواسطة الارادة ، ومن الواضح أنّ إرادة ما لا يكون قبيح من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم إلاّ إذا لم تكن إرادة حقيقية ، وهو خلاف المفروض من التكليف الحقيقي الذي هو عين الارادة الحقيقية أو لازمها ، فتأمّل.

قوله في الحاشية المزبورة : بل التحقيق جواز ذلك حتّى على القول باقتضاء طلب شيء اعتبار القدرة عليه ، لأنّ حرمة ما يكون مقارنا لفرد المأمور به لا تجعل ذلك الفرد غير مقدور عليه ... الخ (1).

إنّ هذا المقارن ليس كسائر المقارنات كالنظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، بل هو متّحد مع الصلاة إيجادا وإن باينها وجودا كما شرحه شيخنا قدس سره ، وحينئذ يكون ذلك الفرد غير مقدور باعتبار وحدتهما الفاعلية وإن كان بينهما كمال المباينة في الوجود. وانتظر توضيحا لذلك في التعليق على الحاشية الآتية.

قوله في الحاشية : التحقيق صحّة ذلك أمّا أوّلا ... الخ (2).

هذا الأوّل قد عرفت الجواب عنه فيما تقدّم (3) من عدم معقولية تعلّق الارادة من العاقل بما لا يكون. وأمّا الثاني فقد عرفت الجواب عنه في آخر ما علّقناه على مسألة الترتّب (4) فراجع.

ص: 89


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 178.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 180.
3- تقدّم ذلك في الحاشية قبل الأخيرة.
4- في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 452 وما بعدها.

والعمدة في جميع هذه الايرادات هو الثالث ، من أنّ التعدّد بحسب الوجود يستلزم التعدّد في الايجاد ، لعدم الاختلاف بين الايجاد والوجود إلاّ بالاعتبار. وليس مراد شيخنا قدس سره هو الاتّحاد في الايجاد حقيقة كي يتّجه عليه هذه الايرادات ، بل مراده هو وحدته العرفية ، حيث إنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن انحلّت إلى فعلين ووجودين بل إيجادين ، إلاّ أنّهما لمّا كانا صادرين بارادة واحدة كانت جهة الفاعلية فيهما واحدة عرفا بل حقيقة ، لما عرفت من وحدة الارادة الفاعلية ، وحيث اتّحدا في الجهة الفاعلية كانت جهة القبح الفاعلي بالاضافة إلى إيجاد الغصب سارية إلى الجهة الفاعلية في جهة إيجاد الصلاة ، بل لا معنى للتعبير بالسراية لكون الجهة الفاعلية فيهما واحدة ، وحينئذ فمع تقديم جهة الغصب تكون جهة فاعلية تلك الصلاة قبيحة فلا يمكن الامتثال فيها ، ولا يشملها الأمر عقلا وإن شملها شرعا ، فلاحظ وتأمّل.

وهذا المعنى الذي شرحناه - أعني الاتّحاد بينهما في الجهة الفاعلية التي ربما عبّر عنه شيخنا قدس سره بجهة الايجاد - هو الحجر الأساسي في كون الطبيعة في ذلك الفرد غير مقدورة ، وفي عدم جريان الترتّب فيه ، وفي عدم امكان التقرّب.

ولكن بقي في المقام إشكال آخر يتولّد من دعوى اتّحاد جهة الفاعلية التي هي جهة الايجاد ، وذلك الإشكال هو أنّ الجهة الفاعلية في قبال الجهة الفعلية ، والجهة الأولى هي التي نعبّر عنها بالجهة المصدرية والثانية هي المعبّر عنها باسم المصدر ، ولا ريب في أنّ التكاليف إنّما تتعلّق بالجهة المصدرية ، فإنّ ذلك هو مركز الايجاب والتحريم وبه يتعلّق البعث والزجر ، وحينئذ يعود المحذور في أصل الاجتماع من الجهة الأولى لكون التركّب فيما هو متعلّق التكليفين فيما نحن فيه تركّبا اتّحاديا ، لما ذكرناه من وحدة جهة الاصدار التي هي مركز التكليفين.

ص: 90

وحينئذ لا بدّ من التشبّث بوحدة الارادة مع الاعتراف بتعدّد الجهة الفاعلية التي هي جهة الاصدار المعبّر عنها بالمعنى المصدري ، إذ لا ريب في وحدة الارادة وإن كان المراد متعدّدا ذاتا وصدورا وفاعلية ، وهذه الوحدة في مقام الارادة هي المانعة من إمكان التقرّب ، إذ لا يمكن أن تكون تلك الارادة الواحدة المتعلّقة بالفعلين صادرة بداعي القرب فلا يكون الامتثال مقدورا ، ولا يمكن تأتّي الترتّب كما لا يمكن أن يتأتّى فيها التقرّب.

ولو قلنا إنّ هذه الارادة الواحدة منحلّة إلى إرادتين لكونها منبسطة على الفعلين لم يكن ذلك نافعا في إمكان التقرّب ، لعدم إمكان التقرّب بتلك الارادة وإن كانت منحلّة بدقّة النظر إلى إرادتين ، بل لو لم يكن إلاّ إرادة تلك الصلاة الخاصّة لم يمكن التقرّب بها لأجل ما اشتملت عليه من الخصوصية ، حتّى أنّه لو أمر بمقابلة زيد مثلا واتّفق أنّ مقابلته كانت مستلزمة لاستدبار المصحف وقلنا إنّه حرام مثلا ، وحينئذ يكون مثاله الأوضح أنّه لو صلّى وكان خلفه مصحف لم تصحّ صلاته لأنّه لا يمكنه التقرّب بتلك الصلاة التي اتّفق أنّها موجبة لاستدبار المصحف ، ويكفي في الحرمة والبطلان علمه بذلك وإن لم يكن مريدا قصدا لاستدبار المصحف.

ومن ذلك ما ذكره في العروة في مسألة 5 من أنّ المحمول إذا تحرّك بحركات الصلاة يوجب البطلان وإن كان شيئا يسيرا (1) ، فإنّ الحركات خارجة عن أفعال الصلاة وليست مركّبة منها لا اتّحاديا ولا انضماميا ، وإنّما تكون الصلاة فاسدة لما ذكرناه من أنّ الخصوصية مانعة من قصد التقرّب فتأمّل جيّدا.

وأنت إذا عرفت ذلك وأنّه ليس في البين إلاّ وحدة الارادة تعرف أنّ المقام

ص: 91


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 231.

خارج عن باب التعارض وعن باب التزاحم ، ويكون ما نحن فيه من قبيل النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، ولا فرق بينهما إلاّ من جهة الارادة ، حيث إنّ ما نحن فيه تكون الارادة فيه واحدة وذلك هو المانع من قصد التقرّب بها ، بخلاف مسألة النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة فإنّه يكون بارادتين ، فلا مانع من قصد التقرّب بالارادة المتعلّقة بنفس الصلاة وإن كان عاصيا بارادة النظر إلى الأجنبية فيها ، على وجه لو كان فيما نحن فيه ممّا يمكن فيه تعدّد الارادة لأمكن التقرّب بإحداهما وإن كان عاصيا بالأخرى ، لكنّه لا يمكن تعدّد الارادة فيه ، فإنّه لو لم يقصد إلاّ طبيعة الصلاة ولم يكن مريدا إلاّ هذه الصلاة الخاصّة الواقعة في الدار المغصوبة مع علمه بوقوعها في المكان المغصوب وعلمه بالغصب وحرمته لم يمكن التقرّب بتلك الارادة المتعلّقة بالصلاة الخاصّة الواقعة في الدار المغصوبة ، لعلمه بكون تلك الصلاة الخاصّة منهيا عن الجهة المقارنة لها ، كما أنّه لو أراد الصلاة الخاصّة التي تكون مشتملة على النظر إلى الأجنبية لكانت تلك الصلاة الخاصّة فاسدة ، لعدم إمكان التقرّب بتلك الصلاة الخاصّة المشتملة على النظر إلى الأجنبية في حالها لو كان قاصدا تلك الخصوصية. بل لو كان يعلم أنّه في حال قيامه تنظر إليه الأجنبية قهرا عليه نظر ريبة تكون موجبا لحرمة قيامه لكونه تمكينا لها من ذلك الحرام ، لا يمكنه التقرّب بتلك الصلاة الخاصّة الناشئة خصوصيتها عن اشتمالها على خصوصية نظر الأجنبية إليه الموجب لتحريم تمكينه لها من ذلك.

وبهذا البيان يكون الحكم بصحّة الصلاة عند الجهل بالغصب أو نسيانه أسهل منه على تقدير جعله من باب التزاحم ، لأنّ جعله من باب التزاحم يحتاج إلى دعوى سقوط النهي عن المزاحمة ، بخلاف هذا البيان فإنّه لا يحتاج إلى ذلك فتأمّل.

ص: 92

وبهذا البيان يندفع الإشكال في بطلان الصلاة في اللباس المغصوب مع العلم ، حيث إنّه على الظاهر ليس من قبيل التركّب الانضمامي والاتّحاد في الجهة الفاعلية.

وبعبارة : ليس هو من قبيل الصلاة في المكان المغصوب كي يدّعى أنّه من قبيل تعدّد الوجود واتّحاد الايجاد كي يكون الحكم فيه بالبطلان من هذه الجهة ، ولا هو من قبيل التركّب الاتّحادي ، فإنّه يمكن الحكم ببطلان هذه الصلاة من جهة أنّ هذه الارادة لا يمكن أن تكون مقرّبة ، لكون متعلّقها وهو الصلاة الخاصّة ممّا لا يمكن التقرّب فيه لأجل ما هو فيه من الخصوصية (1).

وهكذا الحال في كلّ خصوصية محرّمة لاحقة للصلاة ، سواء كانت حرمتها مطلقة حتّى في غير الصلاة كما في اللباس المغصوب والحرير ، أو كانت حرمتها

ص: 93


1- وهكذا الحال في لباس الحرير بناء على أنّ مرجع النهي عن الصلاة فيه إلى بيان المانعية العقلية ، وأنّه لا يمكن التقرّب بالصلاة المشتملة على لبس الحرير. وكذلك الحال في الصلاة مع لبس الذهب ، بل وكذلك الحال في الصلاة مع التزيّن بالذهب ، بناء على أنّ نفس الصلاة مع لبس الذهب أو مع التزيّن به وإن لم يكن لبسا ليست بمحرّمة نفسيا ، وأنّه لو كان في البين نهي لا يكون إلاّ إرشادا إلى مانعية ذلك عقلا من حصول التقرّب بتلك الصلاة ، فراجع ما حرّره المرحوم الحاج آقا رضا [ في مصباح الفقيه 10 ( كتاب الصلاة ) : 303 وما بعدها ، 344 وما بعدها ] والحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سرهما [ في كتاب الصلاة :61- 63 ] في مسألة لبس الحرير في الصلاة ولبس الذهب ، بل والتزيّن به وإن لم يكن يصدق عليه اللبس ، وأنّ جميع ذلك مبطل للصلاة وإن لم تكن الصلاة في ذلك محرّمة شرعا ، بل ولا كان النهي عنها في ذلك من قبيل الارشاد إلى المانعية الشرعية نظير النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه [ منه قدس سره ].

مختصّة بحال الصلاة كما لو قلنا بحرمة التكفير في حال الصلاة حرمة تكليفية صرفة لكنّها مختصّة بحال وقصد المصلّي أن يصلّي متكفّرا ، ونحو ذلك من الخصوصيات اللاحقة للصلاة - غير المتّحدة بها على وجه يكون تركّبها معها تركّبا اتّحاديا بحيث يكون النهي عنها نهيا عن الصلاة ، ولا تكون منفصلة عنها على وجه تكون أجنبية عن الصلاة بحيث تكون مرادة بارادة مستقلّة غير إرادة الصلاة ولا تكون لاحقة للصلاة - ولو باعتبار مقارنتها لها على وجه تكون مقارنتها للصلاة مكسبة للصلاة لونا خاصّا ، فإنّ النهي عن ذلك اللون وإن لم يكن منحلا إلى النهي عن الصلاة الملوّنة بذلك اللون إلاّ أنّه يوجب عدم امكان التقرّب بتلك الصلاة ، لعدم إمكان كون الارادة المتعلّقة بتلك الصلاة قربية بمعنى عدم إمكان كون تلك الارادة بداعي التقرّب.

لا يقال : لا يعتبر في العبادة كون إرادتها قربية ، وإنّما يعتبر فيها كونها صادرة بداع قربي. لأنّا نقول : معنى كون الصلاة صادرة بداع قربي هو أن تكون الارادة المتعلّقة بها ناشئة عن داع قربي ، ومع فرض كون متعلّق الارادة هو الصلاة الخاصّة الملوّنة بلون محرّم لا يعقل أن تكون تلك [ الصلاة ] الخاصّة بداع قربي ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما لو فرض أنّ الملك يسرّه رؤيتك وحضورك عنده فأنت تتقرّب إليه بذلك ، فلو فرض أنّه يبغض السواد على وجه لو نظر إلى السواد يموت ولده مثلا وأنت حضرت عنده باللباس الأسود ، فذلك الحضور لا يمكنك التقرّب به إليه بحيث تكون ارادتك لذلك الحضور إرادة قربية له.

وبذلك ينحلّ الإشكال في المانعية الناشئة عن الحرمة التكليفية مثل مانعية الحرير إن قلنا إنّ مثل لا تصلّ في الحرير ارشاد إلى حرمة لبس الحرير إمّا مطلقا أو في خصوص حال الصلاة ، فإنّ هذا النهي التحريمي المتعلّق بلبس الحرير مطلقا

ص: 94

أو في خصوص حال الصلاة يوجب عدم امكان التقرّب بتلك [ الصلاة ] فتفسد لو كان عالما بتلك الحرمة. أمّا لو كان جاهلا بها حكما أو موضوعا فإنّه لا يؤثّر. لكن لازم ذلك هو أنّه لو لم يكن أصل إرادته الصلاة مقرونة بذلك بل هو أراد الصلاة المطلقة لكن في الأثناء أراد أن يلبس الحرير أو المغصوب لم تكن صلاته فاسدة. اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّها تفسد بالنظر إلى الأجزاء التي وقعت مقرونة بذلك وحينئذ يشكل الفرق بين ما لو نظر إلى الأجنبية في الأثناء وبين ما لو لبس المغصوب في أثنائها ، اللّهمّ إلاّ أن يفرق بينهما بأنّ النظر إلى الأجنبية في حال الأجزاء لا يكسب تلك الأجزاء لونا ، بخلاف لبس المغصوب أو الحرير في أثنائها فإنّه يكسب تلك الأجزاء لونا خاصّا ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّا إنّما نلتزم بصحّة الصلاة في حال النظر إلى الأجنبية فيما إذا اتّفق النظر في الأثناء ولم يكن عالما به من أوّل شروعه وكان واقعا في أثناء السكونات ، أمّا ما لو لم يكن عالما به من أوّل دخوله في الصلاة لكنّه اتّفق وقوعه في أثناء أحد الأجزاء ، فإن لم يكن في حال فعله لذلك الجزء ملتفتا إليه ، ولم يكن صدوره عنه إلاّ بدافع تلك الارادة الأولى التي وقعت في أوّل الصلاة ، لم يكن وقوع النظر إلى الأجنبية في حال ذلك الجزء موجبا لبطلانه ولا لبطلان أصل الصلاة. نعم لو التفت إلى ذلك وقصد به الامتثال مع علمه بأنّه يشتمل على مقارنة النظر إلى الأجنبية كان تقرّبه بذلك الجزء غير صحيح ، فيكون فاسدا مفسدا للصلاة. ولعلّ إطلاق القول بأنّ النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة غير مبطل غير شامل لهذه الصورة فتأمّل.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك كلّه راجعت ما كنت حرّرته عنه قدس سره في مبحث اللباس والمكان من كتاب الصلاة فوجدته قدس سره قد بنى على أنّ المانع من الامتثال

ص: 95

هو هذا الذي حرّرته هنا من وحدة الارادة فيا قاتل اللّه النسيان ، وهاك ما حرّرته هناك :

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في درس الفقه من كتاب الصلاة عند التعرّض لاعتبار إباحة المكان ما هذا لفظه :

فإن قلت : إذا جاز عندكم الاجتماع من الجهة الأولى لما ذكرتموه من أنّ تعدّد الجهة كاف في تعدّد الحكم ، فيجوز أن يكون الفعل الواحد مأمورا به ومنهيا عنه باعتبار جهتين ، كان ذلك مستلزما لصحّة الصلاة في المغصوب ، حيث إنّ المجمع لمّا كان ذا جهتين جهة الأمر وجهة النهي فله أن يتقرّب بجهة الأمر وإن حصل العصيان بجهة النهي وكان عالما به حكما وموضوعا ، حيث إنّ امتثال الأمر على نحو تعلّقه ، فإذا جاز ذلك في مرحلة تعلّق التكليف وجعله فلم لم يجز في مرحلة الامتثال.

قلت : فرق بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ، فإنّ إرادة الآمر يمكن أن تتعلّق بعنوان الصلاة مجرّدة عن لحاظ الخصوصية الغصبية وسائر الخصوصيات الخارجة عن حقيقة الصلاة ، بخلاف إرادة المأمور الامتثال فإنّه إنّما يمتثل الأمر بهذا الفرد.

وبعبارة أخرى : أنّه يمتثل الأمر بما يأتي به من الفعل الخارجي الذي هو مركب مع الجهة المبغوضة وهي الغصبية ولو كان التركيب انضماميا ، فيتحقّق القبح الفاعلي فيما يأتي به فيمتنع تحقّق الامتثال به.

ودعوى أنّ الخصوصيات اللاحقة للطبيعة خارجة عن الارادة المتعلّقة بفعلها ، لا يخفى فسادها فإنّ الخصوصيات الفردية التي تكون خارجة عن الارادة إنّما هي الخصوصيات اللاحقة للطبيعة في مرتبة وجودها ، دون الخصوصيات

ص: 96

اللاحقة لها في المرتبة السابقة على وجودها ، وذلك فإنّ الخصوصيات اللاحقة للطبائع على نحوين :

الأوّل منها : ما يكون عارضا لنفس الطبيعة وتكون باعتبارها منقسمة إلى قسمين. وهذه لا بدّ أن تكون داخلة في متعلّق الارادة.

النحو الثاني منها : ما يكون من لوازم وجودها ككونها في المكان أو في الزمان. وهذا النحو يكون خارجا عن متعلّق الارادة. لكن كونها موجودة في هذا المكان المخصوص أو في هذا الزمان المخصوص من النحو الأوّل ، لأنّ ترجيح هذا المكان على غيره وهذا الزمان على غيره لا بدّ أن يكون بالارادة ، وهذا هو سرّ مسألة الاجتماع وتمام جهة التكلّم فيها ، وهو الموجب لما نختاره من جواز الاجتماع من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

ثمّ قال : ومن جملة ما يستثنى من الحكم ببطلان الصلاة في المغصوب الجاهل بالحكم إذا كان قاصرا دون من كان مقصّرا ، لا لما قيل من تأتّي نيّة القربة في الأوّل دون الثاني ، فإنّه لمّا كان الفعل منه مبغوضا لم يكد تأتّي التقرّب منه بما هو مبغوض ، فإنّ إمكان قصد التقرّب وعدمه لا يكون ميزانا وضابطا ، بل لأنّ البطلان إنّما جاء من قبل مزاحمة النهي للأمر وشاغلية النهي للمكلّف عن الاتيان بمتعلّق الأمر ، فيكون ذلك الفرد الذي وقع التزاحم عليه أعني مورد الاجتماع غير مقدور له ، فيخرج عن حيّز الأمر فلا يمكن الاتيان به بداعي الأمر ، ولا ريب أنّ النهي إنّما يكون شاغلا وموجبا لصرف القدرة في متعلّقه إذا كان منجّزا ، أمّا إذا لم يكن النهي منجّزا كما في مورد الجهل القصوري فلا يكون هناك ما يوجب خروج ذلك الفرد الذي هو المجمع عن كونه مقدورا ، فالمدار في الصحّة وعدمها على تنجّز النهي ، والمفروض أنّ الجاهل المقصّر يكون النهي في حقّه منجّزا فيكون

ص: 97

من هذه الجهة كالعالم.

وأمّا ناسي الحكم فهو في جميع موارده ملحق بالجاهل به بل هو هو ، وأمّا الجاهل بالحكم الوضعي الذي هو الفساد فلا أثر لجهله ، لعدم كون الفساد في هذه المسألة حكما شرعيا ، وإنّما هو حكم عقلي ناشئ من امتناع الاجتماع من الجهة الثانية ، وهو مترتّب حتّى في صورة الجهل به.

قلت : الأولى أن يعلّل الحكم بفساد صلاة الجاهل بحرمة الغصب إذا كان مقصّرا بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وحينئذ يقع ذلك الغصب المنضمّ إلى الصلاة مبغوضا ، وما كان مبغوضا يمنع من تحقّق التقرّب بما اقترن معه من الصلاة وإن تحقّق قصد التقرّب من المكلّف ، لأنّه قد تقرّب بما هو مبغوض فعلا.

ويشهد بهذا الذي ذكرناه من أنّ المانع هو عدم تحقّق التقرّب لا مجرّد عدم امكان قصد التقرّب هو ما صرّح به قدس سره فيما سيأتي ، وذلك أنّه قدس سره تعرّض لبيان أنّه لا يتأتّى الترتّب ولا قصد الملاك بالمجمع ، وأفاد ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : وهو أنّه بعد تقديم جانب النهي فيه على جانب الأمر لا يمكن تصحيحه بملاك الأمر ولا بالترتّب.

أمّا الأوّل : فلعدم كونه مقرّبا لكونه يصدر عنه مبغوضا عليه بواسطة الجهة الغصبية ، وما يقع مبغوضا لا يكون مقرّبا بل يكون مبعّدا ، فليس المانع فيه هو عدم تأتّي قصد التقرّب لأنّ قصد التقرّب أمر بيد الفاعل القاصد ، بل إنّ المانع هو ما ذكرناه من عدم وقوعه مقرّبا سواء قصد به التقرّب أم لم يقصد ، لحكم العقل بأنّ ما هو مبغوض ولو للجهة الخارجة عن حيّز الأمر لا يقع مقرّبا.

وتوهّم أنّه بجهته التي هي مورد الأمر يقع مقرّبا وإن كان مبعّدا بجهته التي

ص: 98

هي مورد النهي ، ولا مانع من اجتماع المقرّبية والمبعّدية ومن حصول الاطاعة والعصيان في شيء واحد إذا كان ذلك من جهتين كما ذكرتم أنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي إذا كان من جهتين ، فإنّ الامتثال والاطاعة إنّما هي متابعة الأمر حسبما تعلّق به ، والمفروض أنّه متعلّق بالجهة الصلاتية ولا ربط له بالجهة الغصبية فتكون الاطاعة حاصلة بالجهة الصلاتية ، ولا يضرّ بها اشتماله على الجهة الغصبية لكونها خارجة عمّا أريد تحصيل الاطاعة به الذي هو الجهة الصلاتية.

قد عرفت فساده بما حاصله الفرق بين مقام الأمر والنهي وبين مقام الاطاعة والعصيان ، فإنّ الأمر والنهي إنّما صحّحنا اجتماعهما في المجمع لكون إرادة الآمر كانت متعلّقة بالطبائع المجرّدة عن لحاظ الضمائم ، فتكون إرادته للفعل متعلّقة بنفس الصلاة وإرادته للترك متعلّقة بنفس الغصب ، ولا ربط لأحد المتعلّقين بالآخر كما تقدّم تفصيله. أمّا إرادة المكلّف التي هي إرادة الاطاعة فلا تتعلّق بنفس الطبيعة ، بل إنّما تتعلّق بما يأتي به من الأفعال على ما هي عليه من الجهات الطارئة ، فهو يقصد نفس هذا الفرد من الصلاة ويأتي به امتثالا للأمر الصلاتي ، فلا يكون متعلّق إرادته في مقام الاطاعة إلاّ نفس الفعل على ما هو عليه من الضمائم المبغوضة ، فلا يقع مقرّبا.

ثمّ إنّه بيّن الوجه في عدم إمكان التصحيح بالترتّب بما لا حاجة لنا إلى نقله هنا ، فإنّه موجود في الكتاب (1).

قلت : لا يخفى أنّ الاطاعة إنّما هي الاتيان بنفس ما تعلّق به الأمر ، والضمائم لا بدّ أن تكون خارجة عن قصد المطيع ، بل لو قصد الاطاعة بالفعل بما هو عليه من الضمائم ولو كانت مباحة لكان مفسدا لكونه حينئذ مشرّعا ، فالأولى

ص: 99


1- راجع أجود التقريرات 2 : 180 - 181 ، 114 - 115.

في الجواب عن هذا التوهّم هو ما أفاده قدس سره فيما تقدّم نقله عنه.

وتوضيحه : أنّه وإن أمكن أن يقصد الاطاعة بالفعل بجهته الصلاتية وتكون جهته الغصبية خارجة عن قصده الاطاعة به ، إلاّ أنّ العقل لا يرى مثل هذه الاطاعة اطاعة ، ولا يرى الاتيان بالمأمور به مقرونا بجهة مبغوضة مقرّبا ، بل يراه مبعّدا وإن كانت الجهة المبغوضة غير داخلة تحت متعلّق الأمر ومتعلّق الاطاعة المقصودة.

ويشهد بذلك ما أفاده قدس سره فيما يأتي في هذه المباحث الفقهية التي تعرّض فيها للتزاحم وصوره ، وأنّ منها ما يكون التزاحم ناشئا عن اتّفاق التلازم بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي كما يمثّل له في استدبار الجدي واستقبال القبلة لعامّة المكلّفين ، لا لخصوص من كان بالعراق فإنّه يكون دائميا ويدخل في باب التعارض ، فإنّه قدس سره قال بعد بيان أنّ من التلازم الاتّفاقي من قبيل التزاحم ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه في تلك المباحث : وبعد تقديم جانب النهي لكونه أقوى فهل يمكن تصحيح الواجب بالملاك أو بالترتّب ، أو لا يمكن ذلك؟ لا يبعد الثاني ، فإنّ الواجب وإن لم يكن متّحدا مع المحرّم كما في مسألة الاجتماع ، إلاّ أنّه لا يبعد أن يقال إنّ العقل لا يحكم بحسن مثل هذه الاطاعة التي يلازمها الاتيان بما هو المبغوض ، انتهى.

هذه النصوص التي حرّرتها عنه قدس سره في تلك المباحث نقلتها إلى هنا من محلّها على علاّتها ، لم أغيّر فيها شيئا حتّى ما كنت حرّرته عليه بلفظ قلت ، سوى تبديل ( دام ظلّه ) بلفظ قدس سره. ثمّ بعد هذا كلّه راجعت ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عنه قدس سره في مباحث الصلاة فوجدته مشتملا على جميع هذا الذي تقدّم نقله ممّا هو منقول عن تحريراتي ، وقد كان فراغه قدس سره من مباحث القراءة حسبما ضبطه المرحوم الشيخ محمّد علي في سنة 1345 ، فيكون سابقا على ما أفاده قدس سره في

ص: 100

مبحث الاجتماع من الأصول فإنّه قد فرغ منه سنة 1348 ، وكانت دروس هذه المسألة أعني مسألة الاجتماع في ربيع الثاني سنة 1347.

ومن جميع ذلك يظهر لك أنّه ليس الموجب لعدم تحقّق التقرّب أو عدم إمكانه هو وحدة الارادة أو تعدّدها ، بل ولا كون متعلّق إرادة المأمور به هو الطبيعة أو الفرد ، بل إنّ المانع الحقيقي هو كون تلك الطبيعة المأتي بها في هذا المكان أو في هذا الزمان أو مع ذلك الفعل الآخر المقارن أو غير ذلك غير صالحة لأن تكون مقرّبة ، فلا يمكن أن يريدها المكلّف قربة إليه تعالى ، بمعنى أنّ إرادتها لا تكون مقرّبة لأجل ما يقارنها من الخصوصيات المبغوضة ، ويكفي في ذلك علمه بترتّب تلك الخصوصية ، سواء كان ترتّبها بإرادة منه أو كان وقوع الطبيعة في ذلك الحال موجبا لترتّبه عليها ، كما ذكرناه من مثال حركة المغصوب المحمول بحركات الصلاة أو صلاته مع كون المصحف خلفه.

ولا يخفى أنّي راجعت بعد هذا ما حرّره عنه السيّد جمال الدين سلّمه اللّه والمرحوم الشيخ موسى في الأصول فوجدت التعليل مقصورا على القبح الفاعلي ، نعم عبّر السيّد جمال الدين بقوله : القبح الفاعلي الصدوري لا الفعلي. ولعلّ المراد من القبح الفاعلي هو ما شرحناه وشرحه قدس سره في درس الفقه من عدم إمكان تحقّق التقرّب الخ. وهذا هو أساس المنع لاكون إرادة المكلّف لا تتعلّق إلاّ بالأفراد أو أنّ له إرادتين أو إرادة واحدة ، فتأمّل.

لا يقال : على ما ذكرتموه ينبغي أن تقولوا ببطلان صلاة من تعمّد ترك الازالة لأنّها مقرونة بالمبغوض الذي هو ترك الازالة. لأنّا نقول : إنّ ترك الازالة ليس بمبغوض وإلاّ لكان ترك الواجب محرّما ، وقد حقّق في محلّه (1) أنّ ترك

ص: 101


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المتقدّمة في الصفحة : 452 وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

الواجب ليس بحرام كما أنّ ترك فعل الحرام ليس بواجب.

والأولى أن يقال : إنّ ترك الازالة ليس هو متّحدا مع الصلاة ولا من مشخّصاتها ولا من مقارناتها ، بل هو أمر مستقل عدمي صرف لا ربط له بالصلاة أصلا ، وهو حاصل بمنشئه الذي هو الصارف عن الازالة أو إرادة تركها.

ونظير هذا الإشكال ما ربما يقال من أنّه بناء على ما ذكرتموه ينبغي أن تقولوا ببطلان صلاة محلوق اللحية بناء على حرمة ذلك. والجواب عنه بأنّ المحرّم والمنهي عنه إنّما هو الحلق بنفسه أو بأمره والإذن فيه للحلاّق ، أمّا المحلوقية أعني كون الشخص محلوق اللحية الذي هو نتيجة ذلك الفعل فليس موردا لحكم من الأحكام التكليفية ، لما عرفت من أنّها إنّما تتعلّق بالمصادر لا بأسماء المصادر.

لا يقال : إنّ الحلق إذا كان بمعناه المصدري الذي هو إزالة الشعر محرّما اختصّ بما إذا كان هناك شعر ، أمّا لو حلق مرّة وارتكب الحرام واستمرّ كلّ يوم يمرّ الموسى على وجهه لم يكن ذلك الاستمرار محرّما. لأنّا نقول : إنّ ذلك داخل في المعنى المصدري ، بمعنى أنّ الفعل الذي ينشأ عنه عدم اللحية يكون محرّما فتأمّل (1).

وقد تأمّل المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس سره (2) في بطلان الصلاة في

ص: 102


1- [ ذكر قدس سره هنا عبارة وترك وراءها فراغا ، وإليك نصّ العبارة : ] ينبغي أن يتأمّل في أنّ السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض فيما لو كانت الأرض التي تكون جبهة المصلّي مماسة لها ، كما لو كانت التربة الحسينية مثلا مغصوبة وصلّى وسجد عليها ، هل يكون من قبيل الاجتماع أو يكون من قبيل النهي عن العبادة.
2- كتاب الصلاة : 47.

اللباس المغصوب ، نظرا إلى أنّ المحرّم هو اللبس وهو حاصل صلّى أو لم يصلّ ، والركوع والسجود بل سائر الانتقالات ليست تصرّفا آخر غير ذلك اللبس ، إذ ليس في ذلك إلاّ تغيير الهيئة تبعا لتغيير هيئات اللابس ، فلم تكن الأفعال الصلاتية تصرّفا محرّما آخر غير ما كان عليه قبل الصلاة ، انتهى ملخّصا.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ اللبس وإن كان حاصلا قبل الصلاة إلاّ أنّ الأفعال الصلاتية خصوصا الحركات الانتقالية لا تخرج عن كونها تصرّفا في المغصوب ، بمعنى نقله ولو بواسطة حركة البدن من حيّز إلى حيّز.

ولا يخفى أنّه قدس سره ادّعى أوّلا خروج مسألة اللباس المغصوب عن مسألة الاجتماع ، بدعوى أنّ الحركات الصلاتية على أصل اللبس. ثمّ إنّه قال : وقد يتفصّى عن كون المورد من قبيل اجتماع الأمر والنهي بوجه آخر الخ (1) ، وهو راجع إلى ما قد يدّعى من أنّ تلك الحركات خارجة عن أفعال الصلاة. لكنّه قدس سره أجاب عن هذا الإشكال أعني دعوى خروج الحركات المذكورة عن أفعال الصلاة التي هي من مقولة الوضع والهيئات بما حاصله :

أوّلا : جعل تلك الحركات هي مركز التكليف باعتبار كون تلك الهيئات نتائج عن تلك الحركات ، وجعل نسبة تلك النتائج إلى تلك الحركات كنسبة أسماء المصادر إلى المصادر ، وقاس ذلك على العناوين الثانوية المتولّدة من العناوين الأوّلية كتولّد الطهارة من الحدث من أفعال الوضوء ، وحينئذ يكون المكلّف به فيما نحن فيه هو تحصيل هيئة الركوع الذي هو من مقولة الوضع ، وهو أعني تحصيل الركوع متّحد مع حركة الهوي إليه وهي متّحدة مع الغصب.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ لنا مقدّمة تكون علّة لحصول ذيها الذي هو الواجب ،

ص: 103


1- كتاب الصلاة : 47.

وذلك مثل آخر حركة يتعقّبها الكون في المسجد أو على السطح لمن توجّه إليه الأمر بذلك.

ولنا فعل له عنوان أوّلي وعنوان آخر ثانوي على وجه يتخلّل بينهما الفاء كما في مثل الالقاء والاحراق ، مع أنّه ليس في الخارج إلاّ فعل واحد وهو إخلاء اليد من الشيء الذي يكون عنوانه الأوّلي هو الالقاء وعنوانه الثانوي هو الاحراق.

ولنا أيضا مصدر واسم المصدر ، وهذا الأخير لا يكون لنا فيه إلاّ فعل واحد وهو ذلك الحدث الصادر منّا ، إن لاحظناه في حدّ نفسه بما أنّه موجود من الماهيات ، غايته أنّه عرض لا جوهر نعبّر عنه باسم المصدر ، وإن لاحظنا صدوره منّا بأن لاحظنا جهة صدوره نعبّر عنه بالمصدر على ما مرّ غير مرّة في بيان الفرق بين المصدر واسم المصدر ، وليس في هذا الأخير تعدّد واقعي كما في الأوّل ولا تعدّد عنواني كما في الثاني على وجه يوجب تخلّل الفاء بين العنوانين ، بل ليس فيه إلاّ شيء واحد يلاحظ في حدّ نفسه أو يلاحظ بما أنّه صادر عن فاعله.

والظاهر أنّ الحركات الخارجية التي يتعقّبها تلك الهيئات الصلاتية كالهوي الذي يتعقّبه الركوع ليس إلاّ من قبيل القسم الأوّل ، فلا يكون الأمر المتعلّق بتلك الهيئة متعلّقا بنفس تلك الحركة ، بل لا تخرج الحركة بذلك عن كونها مقدّمة وجودية وكون الواجب مترتّبا عليها ، كترتّب الكون في المسجد على آخر حركة انتقالية واقعة من المكلّف الساعي لتحصيل ما وجب عليه من الكون فيه.

نعم إنّ الركوع نفسه يجري فيه لحاظ اسم المصدر وهو عبارة عن نفس تلك الهيئة الوضعية ، ولحاظ المصدر وهو عبارة عن جهة صدورها من المكلّف ، وهو بهذا الاعتبار الأخير يكون موردا للأمر والنهي إلاّ أنّ جهة صدوره ليس هي إلاّ عبارة عن إيجاد المكلّف له ، وليست هي عبارة عن تلك الحركة الانتقالية ،

ص: 104

وإنّما تلك الحركة الانتقالية مقدّمة لوجوده ، وإيجاده يحصل بها ، ومجرّد كون إيجاده والقدرة عليه حاصلا بواسطة إيجاد تلك المقدّمة لا يوجب اتّحاده مع تلك المقدّمة على وجه يكون أحدهما عين الآخر ولو مع تعدّد العنوان الأوّلي والثانوي ، فضلا عن الاتّحاد الأخير الذي هو اتّحاد المصدر مع اسم المصدر الذي هو من مقولة الفرق الاعتباري بين الايجاد والوجود فلاحظ وتأمّل ، هذا حاصل ما يتعلّق بما أفاده أوّلا في الجواب عن هذه الشبهة.

ثمّ إنّه قدس سره أجاب ثانيا بقوله : وأمّا ثانيا : على فرض امكان تعلّق التكليف بنفس النتيجة من دون الارجاع إلى المعنى المصدري نقول : لا يكاد يمكن حصول القرب من نتيجة فعل يكون محرّما ، لأنّ حسن الأفعال وقبحها إنّما يكون بملاحظة اختيار الفاعل ، ولو فرضنا أنّ الفاعل لم يتحقّق منه إلاّ الاختيار السوء وقصد المعصية فكيف يمكن أن يكون نتيجة هذا الاختيار السوء حسنا ومقرّبا ، وما قرع سمعك من عدم منافاة تحقّق الواجب العبادي مع كون المقدّمة محرّمة فهو فيما إذا بقي للمكلّف اختيار بعد الفراغ عن تلك المقدّمة المحرّمة ، كما في مثال الحجّ مع ركوب الدابة المغصوبة ، دون ما إذا لم يكن له إلاّ اختيار واحد كما فيما نحن فيه فليتأمّل جيّدا (1).

ولا يخفى أنّ عدم امكان التقرّب إنّما هو لأجل كونه غير اختياري ، وكونه بعد الفراغ عن تلك المقدّمة يكون خارجا عن حيّز الاختيار ، وإلاّ فلو فرضنا أنّه كان بعد المقدّمة اختياريا لم يكن حرمة مقدّمته مانعة من حصول التقرّب به ، بل وعن الأمر به معلّقا على الاتيان بمقدّمته ولو عصيانا على نحو الترتّب ، وقد تقدّم

ص: 105


1- كتاب الصلاة : 48.

في بعض ما علّقناه على ص 208 (1) ما له دخل في هذه الجهة ، أعني إمكان تعلّق الأمر بالمسبّب المباين للسبب مع فرض كون سببه مقدورا ، من جهة أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، أو أنّه لا يمكن ذلك وأنّ ما يكون من هذا القبيل إنّما يكون من قبيل العناوين الثانوية بالنسبة إلى الجزء الأخير من المقدّمة كما أشرنا إليه هنا وشرحنا ثمّة فراجع ، والغرض هنا هو أنّ مجرّد حرمة المقدّمة لا يكون مانعا من إمكان التقرّب بذيها ما لم يكن في البين مانع من عدم كون الفعل المتقرّب به داخلا تحت الاختيار.

والذي تلخّص أنّ الجزء الأخير من هذه الحركات الانتقالية يكون جزءا صلاتيا ، فيكون تحريكه اللباس أو المحمول موجبا لفساد الصلاة ، فيكون داخلا في مسألة النهي عن العبادة.

نعم إنّ هناك شيئا آخر وهو أنّ آخر حركة يتعقّبها الواجب الأصلي الذي هو الركوع أو الكون في المسجد يكون نسبتها إلى ذلك الواجب نسبة العناوين الأوّلية إلى العناوين الثانوية ، لأنّ تلك الحركة لا يبقى معها اختيار للمكلّف بالنسبة إلى ذلك الواجب ، وتكون هي محقّقة لذلك الواجب ، ولعلّ ذلك هو مراد المرحوم الحاج آقا رضا قدس سره في كتاب الصلاة عند تعرّضه للإشكال المزبور بقوله : والمناقشة في تسمية الحركة ركوعا أو سجودا أو قياما حيث إنّ هذه الأفعال بحسب الظاهر أسام للكون الحاصل عقيب تلك الحركات غير مجدية ، إلاّ على القول بعدم اعتبارها رأسا في ماهية الصلاة وإنّما هي من مقدّمات الأفعال ، وهو باطلاقه ضعيف كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى ، فيتمّ ما ذكر ( من كون الحركات

ص: 106


1- وهي الحاشية المذكورة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : 92 وما بعدها.

الواقعة في اللباس المغصوب الحاصلة بفعل الصلاة منهيا عنها ) وإن لم يصدق على الحركات اسم الركوع أو السجود ونحوه حقيقة كما هو واضح (1). وقوله : كما سيأتي ، إشارة إلى ما ذكره في مبحث الركوع (2) من كون الهوي داخلا في حقيقته أو أنّه مقدّمة له ، فراجع.

قوله : القسم الأوّل : فيما إذا كان خطاب المأمور به شموليا بحيث يشمل مورد الاجتماع أيضا كما أنّ الخطاب التحريمي كذلك ... الخ (3).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ، أعني مورد عدم المندوحة دائما ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : والتفصيل في ذلك أنّ عدم المندوحة تارة يكون دائميا كما لو فرض أنّ إطلاق الأمر كان شموليا ، كما في مثل الأمر بتعظيم كلّ عالم والنهي عن اكرام الفاسق واجتمع الاكرام والتعظيم في فعل واحد بالنسبة إلى شخصين يكون أحدهما عالما والآخر فاسقا ، أو شخص واحد يكون عالما وفاسقا بناء على كون ذلك من مسألة الاجتماع ، فإنّه حينئذ يكون ذلك الاطلاق أعني اطلاق الأمر شموليا ، ويكون كلّ فعل مأمورا به بأمر مستقلّ ، فيكون الفرد من الكلّي الذي هو متعلّق ذلك الأمر المجتمع مع الفرد من متعلّق النهي مأمورا به بأمر مستقل ، ولا يكون في امتثال الأمر المتوجّه إلى ذلك الفرد مندوحة عن ارتكاب عصيان النهي ، ويكون عدم المندوحة في امتثال ذلك الأمر دائميا ، فإنّ المأمور به وإن كانت له أفراد أخر إلاّ أنّ تلك الأفراد مأمور بها بأوامر أخر مستقلّة ، كما أنّ هذا الفرد مأمور به بأمر مستقل ، انتهى.

ص: 107


1- مصباح الفقيه 10 ( كتاب الصلاة ) : 356.
2- مصباح الفقيه 12 ( كتاب الصلاة ) : 413 - 415.
3- أجود التقريرات 2 : 181 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

قلت : لكن هذا المثال غير صالح لما نحن فيه من مسألة الاجتماع ، لكونه خارجا عن هذه المسألة من ناحية الموضوع أعني العالم والفاسق ، وأنّ تركّبهما اتّحادي كما مرّ في صدر المسألة (1) ، ولا يكون مثالا للجهة التي نحن فيه من مسألة الاجتماع التي يكون عدم المندوحة فيها دائميا إلاّ على فرض وقول أو احتمال تقدّم (2) بطلانه ، وهو كونه من مسألة الاجتماع.

والأولى أن يمثّل لذلك بالأمر الاستحبابي المتعلّق بمطلق الصلاة ، أعني النافلة المبتدأة في الدار المغصوبة ، فإنّ التزاحم بينه وبين مثل لا تغصب دائمي ، فينبغي أن يكون اجتماعهما داخلا في باب التعارض. لكن لازم كونهما من باب التعارض هو الحكم ببطلان النافلة المبتدأة في المكان المغصوب إذا كان المكلّف جاهلا بالغصبية. ولا يمكن الجواب عنه بأنّ الاستحباب لا يزاحم الحرام ، لما لا يخفى من تحقّق التدافع بينهما بالضرورة ، وإنّما نقول إنّ المستحبّ لا يزاحم الحرام لأنّا نقول إنّ الحرمة مقدّمة على الاستحباب في مقام التزاحم ، والمفروض أنّ المقام مقام تعارض لا مقام تزاحم.

والذي يهوّن الإشكال هو عدم ترتّب الأثر على فساد النافلة المبتدأة لو قدّمنا دليل التحريم على دليل الاستحباب بعد فرض المعارضة بينهما ، إذ ليس لها إعادة ولا قضاء إلاّ إذا كانت منذورة وجاء بها في الدار المغصوبة ، هذا ما حرّرته سابقا في التعليق على ما نقلته عنه قدس سره.

ولكن لا يخفى أنّ هذا المثال أيضا لا يصلح مثالا لما نحن فيه من مسألة الاجتماع وكون عدم المندوحة دائميا ، فإنّ عموم هذا الأمر الاستحبابي وإن كان

ص: 108


1- أجود التقريرات 2 : 141.
2- [ لعلّه تقدّم في تحريراته المخطوطة ].

شموليا ، وكانت النافلة في هذا الزمان الذي هو زمان الاتيان بها في الدار المغصوبة مأمورا بها في نفسها بالخصوص لا على البدل ، إلاّ أنّ هذه النافلة في هذا الزمان لمّا كانت في حدّ نفسها يمكن الاتيان بها في نفس ذلك الزمان لكن في مكان آخر ، لم تكن من باب عدم المندوحة. ولو فرض أنّه قد اتّفق أنّه لا يمكنه الاتيان بها إلاّ في ذلك المكان المغصوب كان من اتّفاق عدم المندوحة ، لا من باب دوام عدمها.

وبالجملة : أنّي حتّى الآن لم أتوفّق للعثور على مثال لمسألة الاجتماع مع كون عدم المندوحة دائميا ، أمّا مسألة وجوب استقبال القبلة وحرمة استدبار الجدي فهو أيضا خارج عن مسألة الاجتماع التي يكون فيها تركّب بين المتعلّقين ، غايته أنّه تركّب انضمامي لا اتّحادي ، لما تقدّم في محلّه (1) من خروج المتلازمين في الوجود عن باب الاجتماع ، فتأمّل.

فما يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي من التمثيل لذلك باستقبال المشرق واستدبار المغرب لم يتّضح وجهه ، فإنّه قد جعل العنوان هو ما لو فرض تعلّق الأمر بعنوان وتعلّق النهي بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتّحاديا ، ولكن كان كلّ من إطلاق الأمر وإطلاق النهي شموليا الخ. وذكر أنّه ينبغي التنبيه على ذلك وأنّه قد فاتنا التنبيه عليه ، إلى آخر ما ذكره في التحرير (2).

ولا يخفى أنّ شيخنا قدس سره قد نبّه على هذا المثال في أوائل مسألة الترتّب (3)

ص: 109


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 54 وما بعدها.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 443 - 444.
3- أجود التقريرات 2 : 53 ، راجع أيضا فوائد الأصول 1 - 2 : 321 ، 336.

عند تعرّضه لضبط موارد التزاحم ، وأفاد هناك أنّ التلازم بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي لو كان دائميا كان داخلا في باب التعارض وخارجا عن باب التزاحم ، فراجع.

وبالجملة : أنّ هذا المثال لا يصلح لما نحن فيه ، لأنّ خروجه عن باب الاجتماع ليس من جهة كون الأمر شموليا ، بل من جهة أنّه أمر بما يكون في حدّ نفسه ملازما للحرام ، مضافا إلى أنّه ليس من وادي التركّب الانضمامي ولا من وادي التركّب الاتّحادي ، بل هو من وادي اجتماع الفعلين المتلازمين غير المخلوط أحدهما بالآخر. ولو قيل إنّه ليس في البين إلاّ فعل واحد وهو ذلك الوضع الخاصّ الذي يكون مصداقا لكلّ من الاستقبال والاستدبار كان من التركّب الاتّحادي حينئذ ، فيكون خارجا عمّا صدّر به العنوان من التركّب الانضمامي.

قوله في الحاشية : التحقيق صحّة ما ذهب إليه المشهور (1).

يعني الطولية ، ولا يخفى أنّ المراد بالطولية هو أن يكون تقييد الصلاة بعدم الشيء فرعا عن حرمة ذلك الشيء ، لا مجرّد عدم الأمر بالعبادة الناشئ عن تعلّق النهي بها ، فإنّ هذا لا ينكره شيخنا قدس سره ولا غيره ، ولا يدّعي شيخنا قدس سره أنّه في عرض التحريم ، وإنّما الذي يدّعيه شيخنا هو أنّ تقييد الصلاة بمثل عدم الحرير [ لا ] يكون ناشئا عن حرمة لبسه ، وأنّ ذلك حاله حال تقييد الصلاة بعدم لباس ما يحرم أكل لحمه في كون التقييد في عرض حرمة الأكل لا في طوله ، ولأجل [ ذلك ] قلنا فيما سيأتي (2) إنّ الطولية مسلّمة في باب الاجتماع على القول بالامتناع ، وأنّ العرضية لا بدّ من الالتزام بها في اللباس من غير المأكول ومحلّ

ص: 110


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 182.
2- في الحاشية الآتية في الصفحة : 115 وما بعدها.

تأمّل في لباس الحرير والذهب. أمّا مجرّد النهي عن العبادة وكونه موجبا لعدم الأمر بها فهو لا يسقط إلاّ عند الاضطرار لتلك العبادة ، وهذا لا دخل له بالاضطرار إلى ما يحرم لبسه في العبادة.

وأمّا الاضطرار إلى مطلق التصرّف بالماء المغصوب وجواز الوضوء منه حينئذ ، ففيه أنّ نفس الوضوء إن كان حراما لم يكن الاضطرار إلى استعمال الماء المذكور مسوغا له ، وإن كان الحرام هو مطلق التصرّف فلو فرضنا أنّه صار مضطرا إلى التصرّف كان حاله حال من اضطرّ إلى لبس المغصوب لأجل البرد مثلا ، فلا مانع له من الصلاة فيه حينئذ ، وليس هذا له دخل بالمانعية العرضية التي يدّعيها شيخنا قدس سره ، لما عرفت من أنّ تلك هي عبارة عن القيد العدمي المأخوذ في العبادة ، لا مطلق ما يكون موجبا لفسادها الذي هو حرمتها بنفسها الموجب لعدم الأمر بها.

قوله : أمّا المقام الأوّل فتوضيح الحال فيه أن يقال : إنّ القيود العدمية المعتبرة في المأمور به ... الخ (1).

التفصيل في ذلك هو أنّ النهي تارة يكون مسوقا للمانعية الصرفة ، كما في مثل لا تصلّ في غير المأكول.

وأخرى يكون للنهي التكليفي عن اللبس كما في حرمة لبس الحرير والذهب ، فتكون الصلاة به باطلة من جهة عدم إمكان التقرّب بها لأجل ما هي عليه من الخصوصية المبغوضة. ويلحق بذلك مسألة الاجتماع إن قلنا بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وثالثة يكون المنهي عنه هو نفس الصلاة فيه ، كما يقال إنّ الذهب يحرم

ص: 111


1- أجود التقريرات 2 : 182 [ تقدّمت في صفحة : 80 تعليقة للمصنّف قدس سره على هذا المتن ولكن بصياغته الموجودة في النسخة الحديثة من الأجود ].

لبسه ويحرم أيضا الصلاة فيه حرمة تكليفية زائدة على حرمة لبسه ، وكذا إن قلنا إنّه لا يحرم لبسه بنفسه وإنّما يحرم الصلاة فيه ، فيكون نظير التكفير بناء على كون الصلاة معه حراما لا أنّه بنفسه حرام ، ومنه مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الأولى.

ورابعة تكون المانعية تابعة للنهي التكليفي أو تكون ناشئة عن منشئه ، بأن يكون كلّ منهما في عرض الآخر ، كما يقال ذلك في الصلاة في الحرير (1).

وجميع هذه الممنوعات تكليفا أو تقييدا يكون الاضطرار إلى مخالفته على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يكون هناك من يجبره على لبس ذلك في حال الصلاة ، بمعنى أنّه لا يدعه يصلّي حتّى يلبس ذلك الملبوس ، وإن كان هو غير مضطرّ إلى لبسه لكنّه لو أراد أن يصلّي لم يتمكّن من الصلاة إلاّ معه.

وهذا النحو هو الذي أراده في العروة بقوله في مسألة 8 : وأمّا المضطرّ إلى الصلاة في المكان المغصوب فلا إشكال في صحّة صلاته (2) بعد أن تعرّض لصلاة المحبوس.

ص: 112


1- اللّهمّ إلاّ أن يقال : يستفاد من دليل حرمة الصلاة فيه أنّ الحرمة مقصورة على ما إذا كان لبسه حراما ، أو يقال إنّ دليل جواز لبسه للحرب أو الضرورة مثلا يلزمه تجويز الصلاة فيه فتأمّل. والأوّل هو الذي يظهر من المرحوم الحاج آقا رضا في صلاته [ مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) 10 : 308 ] فراجر. لكن ظاهر الروايات [ لاحظ وسائل الشيعة 4 : 367 / أبواب لباس المصلّي ب 11 - 16 ] بناء على كونها تفيد الحرمة أنّها عرضية ، لأنّها جمعت في الحرمة بين لبسه والصلاة فيه ، فتأمّل [ منه قدس سره ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 369.

والثاني : أن يكون في حدّ نفسه مضطرّا إلى ذلك لبرد مثلا ، سواء صلّى أو لم يصلّ.

الثالث : أن لا يكون له ساتر غيره وإن لم يكن مضطرّا في نفسه إلى لبسه ، ولا كان مضطرّا إلى الصلاة فيه لإمكان أن يصلّي عاريا ، وإنّما يتصوّر ذلك في مثل اللباس دون المكان.

أمّا الصورة الثالثة : فقد حكموا فيها بعدم سقوط المنع ، وألزموا المكلّف في مثل ذلك بالصلاة عاريا ، ذكر ذلك في العروة مسألة 38 (1). نعم ربما احتيط بالتكرار في النجس أو ما لا يؤكل لحمه كما يظهر من العروة (2) ، وإن كان ظاهر عبارة شيخنا هو استحباب الاحتياط بالتكرار في الجميع ، فيصلّي عاريا مرّة ومعه أخرى.

وأمّا الثانية : فالظاهر سقوط جميع هذه الممنوعات وجواز الصلاة بل وجوبها مع أحدها (3) ، إلاّ فيما لو كان النهي متوجّها إلى الصلاة نفسها بأن يكون

ص: 113


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 348.
2- نفس المصدر المتقدّم.
3- لسقوط تلك النواهي بالاضطرار حتّى المسوق للمانعية الصرفة ، وحينئذ يشكل الحكم بأنّه يصلّي صلاة المختار ، لوقوع التزاحم بين وجوب الصلاة وحرمة الغصب وهو من حقوق الناس ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ مراده من الاضطرار إلى الصلاة فيه هو أن يجبر على أصل الصلاة وعلى إيقاعها فيه ، ففي مثل هذه الصورة يسقط حرمة الغصب كالصورة التي حرّرها أوّلا ، وحينئذ فلا يكون في البين خصوصية. ولعلّ مراده من ذلك هو ما لو أجبر على الصلاة تامّة الأجزاء ، بحيث إنّه يكون مجبورا على تلك الحركات التي هي حسب الفرض زيادة في الغصب ، وكأنّه لأجل ذلك لم يعلّق عليه شيخنا قدس سره. [ منه قدس سره ]

النهي قد توجّه إلى الصلاة مع الحرير ، ففي مثل ذلك تأمّل ، لوقوع التزاحم بين وجوب الصلاة وبين حرمتها مع الحرير.

وأمّا الأولى فإن كان المنع تقييديا صرفا فالظاهر سقوط القيد فيلزمه أن يصلّي مع غير المأكول ، ولا يجوز له ترك الصلاة ، وإن كان في البين حرمة تكليفية وقع التزاحم بينها وبين وجوب الصلاة ، ولا ريب في تقدّم الحرمة على الوجوب لو كان المحرّم هو نفس الصلاة ، وكذلك لو كان المحرّم هو اللبس لكن كان من حقوق البشر مثل الغصب ، أمّا لو كان من قبيل الذهب والحرير بناء على كون الحرمة مقصورة على لبسه ففيه إشكال ، وإن أمكن أن يقال بسقوط الحرمة أخذا من اطلاق أنّ الصلاة لا تسقط بحال (1) ، لكن ذلك محلّ تأمّل وإشكال. وإن شئت التفصيل فراجع ما حرّرناه (2) في هذا المقام على تحريراتنا عن شيخنا قدس سره في هذا المقام وفي مبحث النهي عن العبادة إن شاء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب ، إلى قوله : فتأمّل (3). أنّه قدس سره أخرج هذه الصورة من البحث عن الاضطرار لا بسوء الاختيار. ولعلّ في بعض ما حرّرته عنه أيضا إيماء إلى ذلك ، وإن كانت العبارة التي حرّرتها عنه في هذه الجهة مجملة لم يتّضح لي فعلا المراد

ص: 114


1- لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 446.

منها ، فراجع (1) وتأمّل.

قوله : كما في صورة الاضطرار إلى لبس الحرير أو غير المأكول المعتبر عدمها في الصلاة ... الخ (2).

الأولى إسقاط لبس الحرير وإخراجه عن هذا القسم الذي يكون النهي فيه ممحّضا للمانعية ، لكونه داخلا في القسم الثاني الذي تكون المانعية منتزعة عن الحرمة التكليفية أو في عرضها.

قوله : وأمّا القسم الثاني فإن قلنا فيه بأنّ القيدية تابعة للحرمة ومرتبتها متأخّرة عنها - إلى قوله : - وإن قلنا بأنّ القيدية والحرمة معلولان للنهي في مرتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما ... الخ (3).

قد تقدّم في صدر العبارة (4) أنّه أدخل في هذا القسم مورد اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع ، وحينئذ يتعيّن فيه الطولية ، لأنّ فساد الصلاة فيه يكون ناشئا عن حرمة الصلاة فيه ، وحرمة الصلاة فيه ناشئة عن حرمة الغصب لأجل دعوى تركّبها معه تركّبا اتّحاديا ، فإذا حلّ الغصب لأجل الاضطرار انعدم ما كان مترتّبا على حرمته من حرمة الصلاة وفسادها فيه ، وهذا بخلاف ما لو كان الغصب مجهولا فإنّه لا يرفع الحرمة الواقعية التي أوجبت خروج المجمع عن حيّز الأمر خروجا واقعيا ، لأنّ الجهل لا يوجب الحلّية ، وإنّما أقصاه أن يوجب

ص: 115


1- تحريراته رحمه اللّه مخطوطة ، لم تطبع بعد.
2- أجود التقريرات 2 : 182.
3- أجود التقريرات 2 : 182 - 183 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- المصدر المتقدّم : 182.

المعذورية التي لا تنافي بقاء الحرمة الواقعية ، فهو في ذلك نظير النهي المتعلّق بنفس العبادة في أنّ الجهل به لا يوجب سقوطه واقعا لتكون العبادة حينئذ صحيحة.

وبالجملة : أنّ باب الاجتماع على القول بالامتناع يتعيّن فيه الطولية ، ولا أظنّ أنّ أحدا يحتمل فيه العرضية ، ولكن مع ذلك كلّه ينبغي مراجعة هذا البحث في مبحث النهي عن العبادة عند التعرّض لأقسام المانعية ، وينبغي مراجعة ما علّقناه هناك (1).

أمّا ما يتعيّن للعرضية فهو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، فإنّ فساد الصلاة فيه وحرمة أكله كلاهما في عرض واحد ناشئان عن ملاك واحد ، وحينئذ لا يكون الاضطرار إلى أكله مسوغا للصلاة فيه. نعم لو اضطرّ إلى لبسه كان ذلك موجبا لسقوط المانعية وكان موردا للقسم الأوّل.

أمّا لباس الحرير والذهب فقد ورد النهي عنه كما ورد النهي عن الصلاة فيه ، فإن كان النهي التكليفي المتعلّق بالصلاة فيه ناشئا عن حرمة لبسه كانت المانعية الناشئة عن حرمة الصلاة فيه ناشئة أيضا عن حرمة لبسه ، وبعد فرض سقوط حرمة لبسه لأجل الاضطرار تكون حرمة الصلاة فيه والمانعية الناشئة عنها ساقطين أيضا.

وإن قلنا إنّ حرمة الصلاة فيه في عرض حرمة لبسه لم يكن سقوط حرمة اللبس لأجل الاضطرار إليه موجبة لسقوط حرمة الصلاة ، ولا للمانعية المتولّدة من تلك أعني حرمة الصلاة فيه ، وحينئذ يقع التزاحم بين هذه الحرمة ووجوب

ص: 116


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره المفصّلة في الصفحة : 301 وما بعدها.

الصلاة كما عرفت فيما تقدّم (1) ، هذا. ولكن لا يبعد القول بأنّ النهي عن الصلاة فيه إرشاد إلى حرمة لبسه ، أو لا أقل من كونه إرشادا إلى المانعية الناشئة عن حرمة لبسه ، وبعبارة أخرى أنّه إرشاد إلى عدم إمكان تأتّي القربة بالصلاة فيه.

فالذي تلخّص : أنّ النهي عن الصلاة في الحرير يمكن أن يكون إرشادا إلى المانعية وقيدية العدم مثل لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ، ويمكن أن يكون إرشادا إلى أنّ لبسه لمّا كان محرّما كان مفسدا للصلاة لعدم إمكان التقرّب بها ، ويمكن أن يكون تكليفا صرفا مثل النهي عن صلاة الحائض ، فيكون من قبيل النهي عن العبادة ويكون موجبا للفساد من هذه الجهة. والأظهر هو الوجه الثاني ، فيكون الفساد في طول الحرمة ، وأمّا على الأوّل والثالث فالظاهر العرضية.

قوله : ولا ريب أنّ الحركات الركوعية والسجودية تعدّ من التصرّفات الزائدة عرفا ... الخ (2).

أورد عليه في الحاشية بقوله : وأمّا دعوى أنّهما يعدّان بنظر العرف من التصرّف الزائد فهي دعوى بلا بيّنة وبرهان الخ (3) كأنّ المحشّي يدّعي أنّ العرف لا يعدّون ذلك تصرّفا زائدا ، ولأجل ذلك قال إنّ هذه الدعوى بلا برهان ، وما أدري من أين فهم من العرف أنّه لا يعدّون ذلك تصرّفا زائدا.

نعم ، يمكن أن يقال كما نقله المرحوم الشيخ محمّد علي عن شيخنا قدس سره :

ص: 117


1- في الصفحة 114.
2- أجود التقريرات 2 : 184 - 185 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 185.

إنّه لا عبرة بالنظر العرفي بعد ما كان تصرّفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص (1).

وهذا الذي حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عنه قدس سره لم أجده لغيره في من حرّر عنه قدس سره ، ولعلّه أخذه من درس الفقه في كتاب الصلاة ، فإنّه قدس سره (2) بنى هناك على مقتضى هذه الدقّة كما يومي إليه ما حرّرته عنه قدس سره.

والذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام هذا لفظه : وما يقال إنّ من اضطرّ إلى الكون في المكان المغصوب فقد اضطرّ إلى اشغال الحيّز المغصوب بمقدار جسمه بأي كيفية كان وبأي نحو أراد ، فلا يكون قيامه بعد جلوسه مثلا أو بالعكس تصرّفا زائدا ، وإن كان في الدقّة العقلية كذلك ( أعني أنّه لا يكون تصرّفا زائدا ) كما ذكرناه في درس الفقه. إلاّ أنّ الانصاف أنّ ذلك يعدّ عرفا تصرّفا زائدا ، والمدار في أمثال هذه الأمور على العرف لا على الدقّة العقلية ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ اللازم لعدّ الحركات المذكورة تصرّفا زائدا أن يكون المضطرّ كالمحبوس في المكان المغصوب يلزمه أن يبقى على الحالة التي وجد عليها في ذلك المكان ، ولا يغيّر شيئا من حالته الوضعية الأوّلية ، وحينئذ يكون حقّ التعبير أن يقال إنّه يصلّي على تلك الحالة ايماء ، بل يترك حتّى الايماء ، بل حتّى حركة الشفة لكون ذلك كلّه حركة زائدة ممنوعا عنها.

ولعلّ غرض من عبّر بقوله بشرط أن لا تكون الصلاة مستلزمة للتصرّف الزائد ، هو أنّه لو فرض أنّه كان في مكان قائما وكان النصف الأعلى مثلا من الفضاء مباحا بمقدار نصف قامته فإنّه يصلّي قائما ، وليس له الركوع والسجود والجلوس ، لأنّ كلّ واحد من هذه الأمور مستلزم للتصرّف الزائد على الغصب

ص: 118


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 446.
2- كتاب الصلاة ( للآملي قدس سره ) 1 : 328.

الذي اضطرّ إليه ، وهو اشغاله المغصوب بنصفه الأسفل فتأمّل.

ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يبيحه العسر والحرج ، بل إنّما يبيحه الاضطرار ، فلو لم يتمكّن من الاستقرار على ذلك المقدار جاز له رفع اضطراره المذكور بالمقدار الذي يرتفع به ضرره فتأمّل.

أمّا مجرّد العسر والحرج فالظاهر أنّهما لا مورد [ لهما ] فيما نحن [ فيه ] من حرمة التصرّف في أموال الناس ، فما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا قدس سره في هذه المسألة من كتاب الصلاة بقوله : إنّ كلا من هذه الأفعال نحو من وجودات مطلق الكون الذي اضطرّ إليه ، وليس لخصوصية شيء منها خصوصية مقتضية لتعيّنه (1) في غاية المتانة ، لكن ما ألحقه به بقوله : مع أنّه ينافيه أدلّة نفي الحرج ، فإنّ في الزام المحبوس في مكان مغصوب ببقائه على هيئة خاصّة من قيام أو قعود ونحوه مشقّة شديدة ، كاد أن يكون تكليفا بغير المقدور (2) ، الظاهر أنّه لا وجه له ، لما عرفت من عدم جريان أدلّة العسر والحرج في مثل ذلك لو سلّمنا أنّ تغيير الهيئة غصب زائد ، ولو سلّم اجراء دليل العسر والحرج أو دليل عدم المقدورية فإنّما هو بمقدار ارتفاع ذلك المحذور أعني الحرج أو عدم المقدورية أو الضرر ، فلا يمكن أن يستنتج منه أنّه يصلّي صلاة المختار كما فرّعه عليه بقوله : فعليه أن يصلّي حينئذ صلاة المختار.

وحينئذ فالعمدة هو ما عرفت من أنّ تغيير الهيئة ليس بتصرّف زائد ، وهذا هو الذي اختاره في الجواهر ، لكنّه مع ذلك قال ما هذا لفظه : ومن الغريب ما صدر من بعض متفقّهة العصر ، بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب

ص: 119


1- مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) 11 : 50.
2- مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) 11 : 50.

على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه ، إن قائما فقائم وإن جالسا فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا ، لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطّن أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرّف ، كما أنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشدّ ما عامله الظالم ، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد ، اللّهمّ إلاّ أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصا وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، انتهى (1).

ولا يخفى أنّ من يقول بذلك إنّما يقول به من جهة كون التغيير تصرّفا زائدا ، فلا يرد عليهم أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف لا دليل على ترجيحه ، نعم يرد عليهم أنّ التغيير ليس بتصرّف زائد. وأمّا ما أفاده بقوله : كما أنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم الخ فهو وإن كان كذلك إلاّ أنّه بعد فرض كونه تصرّفا زائدا لا مفرّ عن الالتزام بذلك الحبس الشديد ، ولا يرفعه الصعوبة ، نعم لو اضطرّ إلى تغيير الهيئة جاز له التغيير بمقدار ما يرفع اضطراره.

نعم ، إنّ الحركة لو كانت تصرّفا زائدا كان ممنوعا من حركة جفنه ، بل ممنوعا من حركة شفته ولسانه وإن كان محتاجا إلى ذلك ، لأنّ مجرّد الحاجة لا يكون مسوغا للغصب ، فما نقله عن بعضهم من اختصاص الحرمة بما يزيد على الحاجة لا وجه له بناء على أنّ كلّ حركة تكون تصرّفا زائدا.

قال في كشف الغطاء : ولو اختصّ الغصب بالفضاء الأعلى جلس ، فإن لم يسع اضطجع ، ولو اختصّ المباح بمقدار موضع القدمين وفراغ القامة وجب

ص: 120


1- جواهر الكلام 8 : 300.

الوقوف والايماء.

ثمّ قال : والمختار في دخول المغصوب وخروجه تبطل صلاته الكائنة حال دخوله ومكثه. وفي الخروج وجهان. وقد يقال بتخصيص الحال بضيق الوقت عن ركعة أو عن اكمال الصلاة لتفويت بعض الأعمال ، هذا إذا لم يكن تصرّف زائد على الخروج. وفي المجبور ( يعني دخولا فقط بأن يكون مختارا في الخروج ) مع ضيق الوقت لا ينبغي التأمّل في الصحّة مع عدم زيادة التصرّف وتلزم الأجرة على الجابر. ويحتمل لزوم الاقتصار على الواجبات ، والإسراع بقدر الامكان عادة. وتحريك اللسان من التصرّف في المكان إن جعل عبارة عن الفراغ ، والقول بخروجه منه أقوى. وفي إلحاق التائب بالمعذور لجبر أو جهل أو نحوهما إشكال ، وغير التائب أشدّ إشكالا.

ثمّ قال : والمجبور من غير المالك على الكون في المغصوب إذا لم يحصل منه تصرّف من جهة الصلاة زائد على أصل الكون تصحّ صلاته (1).

والظاهر أنّ مراده من التصرّف الزائد هو ما يحصل بواسطة الأفعال الصلاتية ، مثل أنّه لو حبس واقفا لكن كان المحلّ ممّا يتحرّك بالضغط كالرمل ونحوه ، فإنّه لو نام عليه أو سجد يكون ذلك موجبا لتحريكه ، وذلك تصرّف زائد على أصل الوقوف ، ونحو ذلك ممّا هو زائد على أصل الكون واشغال الحيز.

وأمّا ما ذكره بقوله : وتحريك اللسان من التصرّف ، فإنّما ذكره في سياق الصلاة في حال الخروج لمن ألقي في المكان المغصوب وكان في خروجه مختارا ، وأنّ التصرّف الزائد على الخروج يكون ممنوعا ، فذكر أنّ من جملة التصرّفات تحريك اللسان ، فلو كان ذلك زائدا على أصل الخروج [ حرم ] لكون

ص: 121


1- كشف الغطاء 3 : 50 - 52.

التصرّف الخروجي المفروض كونه جائزا لا دخل له بالتصرّفات الأخر وإن لم تكن موجبة لاطالة الخروج. ونظير ذلك ما لو أذن له المالك في الكون في المكان ، فإنّه يحتاج إلى الاذن في الصلاة فيه ولو بمثل الفحوى.

وبالجملة : أنّ حركة اللسان لا تزيد على أصل الكون ، ولو قلنا بذلك كان اللازم في جميع هذه الفروع التي ذكرها أن تكون مقصورة على الأفعال القلبية فتأمّل.

وقد يقال : إنّ التصرّف في الفضاء وإن كان تصرّفا في ملك الغير إلاّ أنّه بحسب النظر العرفي لا يعدّ تصرّفا في ملك الغير ، فلو رمى حجارة من داره إلى داره الأخرى وبينهما دار لشخص آخر ، فعبرت الحجارة على دار ذلك الشخص في الفضاء لم يعدّ عرفا أنّه تصرّف في دار الغير. وبذلك يمكن تسويغ العبور في الطرق التي تأخذها الحكومة من دور الناس بعد تبليطها ، فإنّه قبل التبليط يكون المشي على نفس أرض الغير ولكن بعد التبليط يكون وضع القدم على التبليط لا على أرض الغير ، فلم يبق إلاّ العبور في الفضاء وهو لا يعدّ تصرّفا عرفا. ومن ذلك يمكن القول في المحبوس قائما أنّه لا يجوز له الجلوس لأنّه حينئذ يتّسع تصرّفه في الأرض ، ولا السجود أيضا لأجل ذلك ، نعم له الركوع والمشي.

ولكن عدم عدّ ذلك تصرّفا محرّما ممنوع ، نعم إنّه تصرّف لا أهميّة له عندهم أو لا يقدّر بالمال لقلّته ، فلأجل ذلك لا يمنعون عن مثله ، لأجل حقارته لا لأجل أنّه ليس بتصرّف ، ولأجل ذلك يمنعونه بأشدّ المنع لو كان بقائيا استقراريا كما لو صنع صاحب الدارين جسرا من إحداهما إلى الأخرى وبنى عليه طابقا ، بل لو عبر في الطيارة لكن عند الوصول إلى فضاء الغير أسكن حركة الطائرة وبقيت واقفة.

ص: 122

والحاصل : أنّ هذا الذي يتسامحون فيه هو التصرّف العبوري السريع ، سواء كان لأجل المسامحة أو لأجل أنّه لا يعدّ تصرّفا في نظرهم ، أمّا لو جلس في ذلك الطريق المبلّط مدّة طويلة وجعل له فيه دكّانا ، بل لو صلّى فيه ، كلّ ذلك غير داخل في العبور المذكور ، بل إنّ العبور الذي تسامحوا فيه هو مثل عبور الطيارة السريعة فلعلّه لا يشمل المشي المتعارف في الطرقات

قوله في الحاشية : وهذا بخلاف الحكم الوضعي ، فإنّه يتبع ما في نفسه من الملاك المقتضي لجعله ... الخ (1).

ليست المقابلة بين جعل هذا الحكم الوضعي وبين جعل الأمر والنهي ، وإنّما المقابلة بين نفس الحكم الوضعي المجعول وبين متعلّق الأمر والنهي ، فكما أنّ متعلّق الأمر لا بدّ أن يكون ذا مصلحة ومتعلّق النهي لا بدّ أن يكون ذا مفسدة ، والفعل الواحد في الزمان الواحد لا يعقل أن يكون مشتملا على كلا الملاكين وإن كان زمان الأمر والنهي مختلفا ، فكذلك نفس الحكم الوضعي المجعول الذي هو الملكية مع وحدة المملوك ووحدة زمان الملكية لا يعقل أن يكون مشتملا على ملاك يقتضي جعله وعلى ملاك يقتضي نفيه.

وإن أردت تمام المقايسة بينهما فاجعل المقيس في مسألة البيع هو العقد نفسه وقل إنّه حكم عليه بحكمين متناقضين وهما الصحّة والفساد ، وبعبارة أخرى هما النفوذ وعدمه مع كون زمانه واحدا وإن كان زمان الجعل مختلفا ، فتأمّل.

وكما يمكن أن يجاب عن التنافي هنا بأنّه قبل الاجازة لا يكون مقتضي الجعل موجودا فيحكم بنفيها وبعد تحقّق الاجازة ينوجد مقتضي جعل الملكية ،

ص: 123


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 189.

فكذلك يمكن أن يقال هناك إنّه قبل الدخول يكون التصرّف الخروجي ذا مفسدة فيكون محرّما ، وبعد تحقّق الدخول يرتفع ما يقتضي الحكم بتحريمه ، ولو باعتبار تحقّق العصيان وارتفاع الحرمة خطابا مع بقائه على ما هو عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب. فهو من هذه الجهة يشارك ما عليه الجبائي (1) من اجتماع استحقاق العقاب على التصرّف الخروجي مع كونه مخاطبا بارتكابه ووجوبه الشرعي فعلا.

قوله : أمّا الموضع الأوّل فقد اختلف فيه بالأقوال الأربعة ... الخ (2).

نقل في الكفاية (3) قولا خامسا وهو كونه منهيا عنه فقط ، ونقله المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته (4). وهذه الأقوال إنّما تتأتّى فيما لو كان الخروج ممكنا ، أمّا لو لم يكن الخروج ممكنا ومع ذلك ارتكب الدخول بسوء اختياره - كما لو تعمّد ركوب المركب المغصوب - فالظاهر أنّه لا إشكال في حرمة مكثه ، ولا أقل من كونه مبغوضا وإجراء حكم المعصية عليه وأنّه يستحقّ عليه العقاب ، وحينئذ لا يتحقّق التقرّب بالصلاة فيه. وهكذا الحال في من اضطرّ إلى لبس الحرير أو المغصوب بسوء اختياره ، بأن كان الوقت باردا بحيث لا يمكنه نزعه وكان عنده غيره من الألبسة فأعدمها ، أو أنّه لم يكن عنده غيره ولكنّه تعمّد في الخروج إلى الصحراء على وجه لا يمكنه العود ، أو شرب ما يوجب اضطراره إلى

ص: 124


1- البرهان في أصول الفقه 1 : 208 ، بيان المختصر 1 : 391 ، التقريب والإرشاد 2 : 356 - 357.
2- أجود التقريرات 2 : 185 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- كفاية الأصول : 168.
4- فوائد الأصول 1 - 2 : 447.

لبسه ، كما يظهر ذلك من الكفاية بقوله : الأوّل - إلى قوله : - وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب (1).

وبالجملة : أنّ الحكم في هذه يكون عين الحكم في الصلاة حال الخروج على تقدير كونه غير واجب ، وسيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى التعرّض له فيما نعلّقه على ما أفاده شيخنا قدس سره إن شاء اللّه تعالى ، ولعلّ هذه الصورة هي المنظور إليها في عبارة كشف الغطاء فإنّه قال في ذيل عبارته المتقدّمة ما هذا لفظه : وفي إلحاق التائب بالمعذور لجبر أو جهل أو نحوهما إشكال ، وغير التائب أشدّ إشكالا (3).

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ ما تعرّض له من حكم الخروج فيما لو دخل بسوء اختياره إنّما مورده التوبة ، فإنّه لو لم يتب وخرج من قبل نفسه لم يكن إشكال في بطلان صلاته في حال الخروج كبطلانها في حال المكث ، وحينئذ يكون قوله في ذلك : وفي الحاق التائب الخ ، مختصّا بما إذا تاب ولم يمكنه الخروج. ولو سلّم فلا أقل من كون هذا شاملا لما إذا تمكّن من الخروج وصلّى خارجا ولما إذا لم يتمكّن منه وصلّى ماكثا ، كلّ ذلك بعد توبته ، فلا يكون مختصّا بما إذا صلّى خارجا بعد توبته ليكون كلامه السابق في الخروج بعد الدخول الاختياري مختصّا بالخروج بدون توبة ، لأنّ ذلك لا ينبغي التأمّل في فساد صلاته ، وإن كان الذي يظهر من كلمات الفقهاء مثل الحاج آقا رضا قدس سره (4) وغيره أنّ ذلك محلّ الكلام أيضا ، فراجع.

ص: 125


1- كفاية الأصول : 167 - 168.
2- في الصفحة 171 وما بعدها.
3- كشف الغطاء 3 : 51 ، وقد تقدّمت العبارة في الصفحة 121.
4- مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) 11 : 37 وما بعدها.

نعم ، لو كان ذلك اللباس نجسا أو من غير المأكول لزمه الصلاة فيه ، وإن كان معاقبا على تفويت قدرته على غيره أو على ما يوجب عدم تمكّنه من الصلاة عريانا ، ويكون حاله حال من عجّز نفسه عن بعض الأجزاء أو بعض الشرائط.

قوله : وتوهّم تصحيح تعلّق الحكمين في زمانين بموضوع واحد بالالتزام بالواجب التعليقي ... الخ (1).

أبدل العبارة في الطبعة الجديدة بقوله : وبالجملة الأمر والنهي إنّما يصدر من المولى ليكون باعثا للمكلّف إلى الفعل أو زاجرا له عنه ، فإذا فرض سقوط التحريم في ظرف إمكان صدور متعلّقه امتنع جعله ، ومن ذلك يظهر بطلان توهّم أنّ القول بصحّة الواجب المعلّق يستلزم صحّة تعلّق الحكمين الخ.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال على صاحب الفصول غير مربوط بدعواه كون الخروج مأمورا به ، وإنّما هو ممحّض للإشكال على دعوى كونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالعصيان ، وحينئذ لا يختصّ بصاحب الفصول ، بل هو متوجّه أيضا على الكفاية.

وحاصل الإشكال هو عدم إمكان صدور مثل هذا النهي من الحكيم ، لأنّ الغرض من النهي هو زجر المكلّف عن الاتيان بمتعلّقه ، وذلك إنّما يمكن في ظرف امكان حصول ذلك المتعلّق من المكلّف ، والمفروض أنّ هذا المتعلّق الذي هو الخروج لا يمكن حصوله من المكلّف ، أمّا قبل الدخول فواضح إذ لا يتصوّر صدور الخروج منه قبل الدخول ، وأمّا بعد الدخول فلأنّ المفروض أنّه بمجرّد الدخول يكون النهي عن الخروج ساقطا بالعصيان ، لكونه بعد الدخول لا يكون ترك الخروج مقدورا له ، وليس هذا إلاّ من قبيل ما لو تعلّق الوجوب بفعل

ص: 126


1- أجود التقريرات 2 : 189.

في الزمان الآتي مع كون ذلك الفعل في ذلك الزمان غير مقدور.

ومنه يظهر لك أنّ هذا الإشكال - أعني عدم معقولية هذا النهي - لا يندفع بالتعلّق بالتعليق ، بل الذي أفسده هو كون النهي معلّقا أعني كونه معلّقا على الدخول ، الذي هو حسب الفرض موجب لسقوط النهي فيكون الفساد والبطلان آتيا من ناحية أنّ هذا النهي لا يصحّ إلاّ معلّقا على الدخول ، الذي هو حسب الفرض موجب لسقوط النهي المذكور ، هذا. مضافا إلى أنّ التعلّق بالتعليق لا يدفع إشكال اجتماع المبغوضية الناشئة من النهي السابق والمحبوبية الناشئة من الأمر بالدخول.

ولأجل ما ذكرناه من أنّ هذه الجهة من الإشكال على النهي المذكور متوجّهة أيضا على صاحب الكفاية قدس سره حاول تصحيح ذلك النهي في ظرفه يعني قبل الدخول وإن سقط بعد الدخول بأنّ المتعلّق وهو الخروج مقدور في ذلك الظرف أعني قبل الدخول ، وإن كانت قدرته عليه بواسطة قدرته على الدخول ، وأنّه قبل الدخول يكون تاركا للخروج حقيقة ، غايته أنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا جار في المكث بل في جميع المحرّمات التدريجية مثل صلاة الحائض ومثل شرب الخمر مثلا ، فإنّ الجزء الثاني من الصلاة أو الشرب مثلا لا يكون مقدورا بل لا يكون له موضوع إلاّ بعد الفراغ من الجزء [ الأوّل ] وحينئذ يكون النهي عن الجزء الثاني مشروطا بفعل الجزء الأوّل أو أنّ ذلك من قبيل الواجب التعليقي.

والذي أتخيّله أنّ صاحب الكفاية قدس سره ملتزم بما التزم به صاحب الفصول من كون الخروج مبغوضا ، لكونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بواسطة الدخول ، فيكون الخروج مشتملا على ملاك النهي بل على المبغوضية الفعلية ، غايته أنّ

ص: 127

الخطاب الفعلي بالترك في ذلك الظرف أعني ما بعد الدخول يكون ساقطا ، كما أنّ الخروج أيضا يكون مشتملا على ملاك الأمر الذي هو المقدّمية للتخلّص من الغصب على وجه يعاقب على ترك ذلك الخروج ، غايته أنّه لا يخاطب بذلك خطابا فعليا ، وحينئذ فيكون الخروج عنده واجدا للملاكين ، غايته أنّه لا يكون في البين خطاب شرعي مولوي لا من ناحية النهي ولا من ناحية الايجاب ، فيكون على كلّ حال مستحقّا للعقاب ، والمصحّح له هو سوء اختياره ، وإن لم يكن مندرجا في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا بالمعنى الذي شرحه شيخنا قدس سره (1) ولا بالمعنى الذي شرحه في الكفاية (2) ، وصرّح بأنّ ما نحن فيه ليس من ذلك القبيل ، فراجع الكفاية وما أفاده شيخنا قدس سره وتأمّل.

وكيف كان نظر صاحب الكفاية قدس سره في ملاك الايجاب ، فإنّه مصرّح بأنّ هذا المكلّف بعد أن دخل الدار بسوء اختياره يدور أمره بين البقاء والخروج ، وكلاهما معصية للنهي السابق الساقط بالعصيان ، غير أنّ الثاني منهما أخفّ عصيانا لكونه أقل ، فيتعيّن عليه بحكم العقل نظرا إلى كونه أقل القبيحين ، لكنّه مع ذلك معاقب عليه ، وليس له أن يعتذر بأنّه بعد دخوله اضطرّ إلى ارتكاب أحدهما ، لأنّ هذا الاضطرار لمّا كان بسوء اختياره لا يكون معذّرا وموجبا لارتفاع العقاب عنه.

وهذا هو محصّل ما يقال من أنّ الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ، لكونه مختارا من أوّل الأمر في الاقدام على ما يعلم أنّه ينتهي به إلى ذلك الامتناع والاضطرار ، فهو لا يريد أن يدّعي أنّ نفس الحركة الخروجية صار تركها ممتنعا عليه كي يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا أوّلا من أنّ نفس الخروج ليس تركه ممتنعا

ص: 128


1- أجود التقريرات 2 : 189 - 193.
2- كفاية الأصول : 173.

عليه ، لضرورة كونه بعد أن دخل يمكنه فعله وتركه بأن يبقى في الدار ، بل إنّما يدّعي أنّه مضطرّ إلى ارتكاب أحد الأمرين من البقاء والخروج ، واضطراره إلى ذلك لكونه بسوء الاختيار لا يرفع العقاب عنه عند ارتكاب أحدهما ، فهو قائل بأنّ اضطراره هذا بمنزلة الاختيار ، بل هو إنّما كان بالاختيار فلا يكون العقاب على ارتكاب أحدهما قبيحا بنظر العقل.

هذا حاصل كلامه قدس سره غير أنّه لا يسمّيه قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لأنّه يفسّر القاعدة المذكورة بما محصّله : أنّها في مقام الردّ على الأشاعرة القائلين بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وتعلّق إرادته به توجب لزومه وخروجه عن قدرته ، فيجابون بأنّ ذلك الايجاب الذي هو عبارة عن امتناع الترك لما كان بالارادة والاختيار كان من قبيل الامتناع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار.

وحينئذ لا يتوجّه الايراد على ما أفاده شيخنا قدس سره أوّلا بما حاصله أنّ صاحب الكفاية لا يقول باجراء قاعدة الامتناع بالاختيار فيما نحن فيه ، وذلك لما عرفت من أنّه لا محيص لصاحب الكفاية من اجراء هذه القاعدة فيما نحن فيه.

نعم ، يتوجّه على شيخنا قدس سره ما عرفت من أنّ صاحب الكفاية لا يدّعي أنّ نفس ترك الخروج صار ممتنعا ، بل إنّما يدّعي أنّ ترك هذين المحذورين جميعا صار ممتنعا عليه بسوء اختياره ، فهو مضطرّ إلى ارتكاب أحدهما بسوء اختياره ، فلا يكون هذا الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما موجبا لرفع العقاب عنه لو اختار أحدهما. نعم العقل بعد تمامية هذا كلّه يعيّن عليه اختيار الخروج لكونه أخفّ العقابين وأهون القبيحين.

وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يدفع به إشكال شيخنا قدس سره ، لا ما في حاشية

ص: 129

هذا الكتاب (1) من الالتزام عن صاحب الكفاية بأنّ الخروج نفسه يكون مضطرّا إليه ، نظرا إلى حكم العقل بلزومه - وبنحو ذلك أشكل المرحوم الشيخ محمّد علي (2) في الهامش - أو نظرا إلى حكم الشرع بحرمة التصرّف الزائد الذي يشتمل عليه البقاء ، فإنّ هذه القاعدة أعني قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا يكون موضوعها إلاّ الامتناع الوجداني المولد من الاضطرار الوجداني إلى مخالفة التكليف ، فلا يدخل فيه الاضطرار المولد من حكم العقل بلزوم الخروج لكونه أهون القبيحين ، ولا الاضطرار المولد من الحرمة الشرعية اللاحقة للتصرّف الزائد الحاصل بالبقاء ، فإنّ الممنوع شرعا وإن كان كالممتنع عقلا إلاّ أنّه لا دخل له بموضوع مسألتنا ممّا يكون امتناعه بسوء الاختيار ، وأين الامتناع بسوء الاختيار من كون الشخص واقعا بسوء اختياره بين محذورين أحدهما أهون من الآخر عقلا أو شرعا ، فإنّ أشدّية قبح الطرف الآخر أو أكثرية المحرّم فيه لا تصيّر هذا الطرف الأهون مضطرّا إليه وتركه ممتنعا عليه بسوء الاختيار فتأمّل.

وبالجملة : أنّ حكم العقل بلزوم اختيار الأخفّ متأخّر في الرتبة عن تحقّق الاضطرار فكيف يكون محقّقا لذلك الاضطرار ، كما أنّ حرمة ما زاد شرعا لا تولّد الاضطرار المذكور ، وإنّما تكون مرجّحة للطرف الآخر بعد تحقّق الاضطرار إلى أحدهما.

ثمّ إنّه قبل الشروع في بيان ما أراده شيخنا قدس سره من الأمر الثاني والثالث والرابع ينبغي أن نقدّم مقدّمة ، وهي أنّ السرّ الوحيد في هذه الأمور وحجرها الأساسي أمران :

ص: 130


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 190.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 449.

الأوّل : هو دعوى استحالة الخطاب بترك الخروج والنهي عنه ، أمّا قبل الدخول فلكونه سالبة بانتفاء الموضوع ، ولا معنى لأن يخاطب الشخص الذي هو غير داخل في الدار بقوله لا تخرج منها. وأمّا بعد الدخول فلاستحالة خطابه بترك الخروج مضافا إلى ترك المكث ، لكونه حسب الفرض مضطرّا إلى أحد الأمرين من المكث أو الخروج فلا يتوجّه إليه الخطاب بتركهما. وبذلك يظهر لك أنّه لم يكن مخاطبا بالنهي عن الخروج في وقت من الأوقات ، وهذا هو محصّل ما يأتي (1) ذكره من أنّ هذا الخطاب يستحيل كونه مطلقا من حيث الدخول ، ويستحيل أيضا كونه مشروطا به ، فلا بدّ لنا من القول بأنّه لم يخاطب بالنهي المذكور في وقت من الأوقات. ثمّ بعد ثبوت استحالة النهي خطابا ننقل الكلام إلى :

الأمر الثاني : وهو استحالته ملاكا ، وبيان ذلك هو دعوى كون الخروج ذا ملاك حسن في جميع الحالات والأوقات ، لكونه في حدّ نفسه معنونا بعنوان الرد والتخلية ، وهو حسن عقلا مطلوب شرعا فلا يكون الخروج إلاّ مأمورا به.

والحجر الأساسي في الأمر الثاني والثالث هو الأمر الأوّل ، وأنّه بعد ثبوت كونه غير مخاطب بالنهي عن الخروج في وقت من الأوقات لا يكون من قبيل قاعدة الامتناع بالاختيار ، فإنّ ذلك إنّما يكون من هذه القاعدة إذا فرضنا صحّة توجّه النهي إليه ، والحجر الأساسي في الأمر الرابع هو الأمر الثاني من هذين الأمرين.

وعمدة ما يتوجّه عليه قدس سره هو منع الأمر الأوّل بامكان توجّه الخطاب المطلق

ص: 131


1- في الصفحة : 135 ، 138.

بالنهي عن الخروج ، ومنع الأمر الثاني بعدم الدليل على وجوب الردّ. وسيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى تفصيل ذلك وإقامة البرهان عليه ، وأنّ جميع ما أورده المحشّي عليه ممّا هو خارج عمّا ذكرناه غير متوجّه عليه قدس سره.

قوله : الثاني أنّ محلّ الكلام في القاعدة هو ما إذا كان ملاك العبادة مطلقا ، بحيث تكون هي واجدة للملاك ، وجد المقدّمة الاعدادية لها أم لا ... الخ (2).

لعلّ الأولى نقل نفس ما حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام ، إذ ربما كان أوضح وهذا لفظه :

الثاني : أن يكون ذلك الفعل الذي امتنع بسوء الاختيار بواسطة تفويت مقدّمة من مقدّماته الاعدادية قابلا لأن يتعلّق به التكليف المطلق من حيث الملاك ، وإن لم يمكن أن يكون مطلقا من حيث الخطاب بالقياس إلى تلك المقدّمة لتأخّره عنها زمانا ، وإنّما قلنا إنّ التكليف بذلك الفعل يكون بالقياس إلى تلك المقدّمة مطلقا من حيث الملاك لعدم مدخلية تلك المقدّمة في ملاك ذلك التكليف.

قلت : ولو لم يكن متعلّق ذلك التكليف مقيّدا بالزمان المتأخّر عن تلك المقدّمة كما لو قصر في تحصيل اللباس غير الممنوع فاضطرّ إلى الحرير ونحوه ، وكما لو دخل الوقت وكان متمكّنا من تحصيل الماء والتراب ولكنّه قصر في تحصيل ذلك فاضطرّ إلى عدم الطهور ، لكان ذلك التكليف بالقياس إلى تلك

ص: 132


1- راجع التتميم المذكور في الصفحة : 143 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 190 - 191 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

[ المقدّمة ] مطلقا خطابا وملاكا (1).

كما أنّه قابل لأن يتعلّق به التكليف المشروط بوجود تلك المقدّمة الاعدادية ، كما في الحجّ بالنسبة إلى قطع المسافة ، فإنّه مع تفويت تلك المقدّمة الاعدادية يكون ممتنعا ، ولكنّه يمكن قبل تفويت تلك المقدّمة الإعدادية أن يتعلّق به التكليف المطلق ، كما يمكن أن يتعلّق به التكليف المشروط بوجود تلك المقدّمة الاعدادية. وترك الخروج وإن سلمنا كونه ممتنعا عند تفويت مقدّمته التي هي ترك الدخول ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يقع قبل تفويت تلك المقدّمة متعلّقا للتكليف المطلق بالقياس إلى تلك المقدّمة ، لا لمدخليتها في ملاكه بل لجهة أخرى ، وهي أنّ موضوع ذلك التكليف المفروض تعلّقه بالخروج فعلا أو تركا يتوقّف على تحقّق تلك المقدّمة ، إذ لا معنى للخروج إلاّ بعد الدخول ، ويكون نسبة تلك المقدّمة إلى ذلك التكليف كنسبة الموضوع إلى الحكم ، ويكون التكليف بترك الخروج قبل الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

قلت : ولكن كون نسبة هذه المقدّمة - أعني الدخول - إلى المكلّف به - أعني ترك الخروج - دخيلة في الموضوع بعد فرض عدم مدخليتها في ملاكه لا يخرجها عن كون تفويتها من قبيل الامتناع بالاختيار هذا ، مضافا إلى ما تقدّم نقله (2) في توجيه كلام الكفاية من منع كونها دخيلة في الموضوع ، وأنّ التحريم في أمثاله لا يكون مشروطا بالشروع في الجزء السابق. وإن شئت فقل : ليس لنا إلاّ حرمة الغصب وحرمة التصرّف في المغصوب الشاملة للحركات الدخولية

ص: 133


1- [ الظاهر أنّ هذه العبارة والعبارة الآتية أعني « قلت » الثانية منه قدس سره ، وباقي العبارات هي عبارات شيخه قدس سره ].
2- في الصفحة : 127.

والمكثية والخروجية في عرض واحد ، وإن كانت تلك الحركات تدريجية ، إذ لا نظر في النهي عن ذلك إلى خصوص حركة خاصّة من الدخول أو الخروج أو المكث ، فتأمّل.

قوله : الثالث أنّ الملاك في القاعدة هو أن يكون المقدّمة موجبا للقدرة على ذي المقدّمة ... (1).

الأولى في تقريب هذا الوجه الثالث أن يقال : إنّ المقدّمة الاعدادية التي تكون موردا للقاعدة كالمسير يكون فعلها موجبا للتمكّن من فعل الواجب الذي هو الحجّ ، على وجه يكون المكلّف بعد فعله هذه المقدّمة أعني المسير مختارا في فعل الحجّ ، إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ، كما أنّ تركها يكون موجبا لعدم التمكّن منه. وواجبنا فيما نحن فيه هو ترك الخروج ومقدّمته الاعدادية هي ترك الدخول ، وهذه المقدّمة الاعدادية التي هي ترك الدخول يكون فعلها موجبا لعدم التمكّن من الواجب الذي هو ترك الخروج ، لأنّه مع تركه الدخول لا يكون ترك الخروج ممكنا له على وجه يكون صادرا بارادته ، لكونه حينئذ قهريا فلا يكون اختياريا له. وترك هذه المقدّمة التي هي ترك الدخول يكون موجبا للتمكّن من الواجب الذي هو ترك الخروج ، فإنّه عند الدخول الذي هو ترك المقدّمة المذكورة - التي هي ترك الدخول - يكون الواجب الذي هو ترك الخروج اختياريا له ، إن شاء خرج وإن شاء ترك وبقي. وما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (2) يحوم حول هذا.

أمّا ما في هذا الكتاب من قوله : فالدخول موجب لسقوط الخطاب

ص: 134


1- أجود التقريرات 2 : 191 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 450.

التحريمي ، إذ به يكون تركه غير مقدور على ما اختاروه ، فكيف يمكن أن يكون المقام من صغريات تلك القاعدة. وبالجملة : ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان ، إذ وجود المقدّمة فيما نحن فيه يعدم الخطاب وفي مورد القاعدة يكون موجدا له (1). وكذا ما حرّرته عنه قدس سره فإنّه قريب من ذلك.

ففيه تأمّل ، لما عرفت من أنّ المقدّمة هنا هي ترك الدخول وهي لا تسقط الخطاب ، وأمّا الدخول فهو ترك تلك المقدّمة التي هي ترك الدخول ، فهذا هو الذي زعموا أنّه يسقط الخطاب ، فتأمّل.

نعم ، تقدّم أنّه مع عدم الدخول لا يكون الخروج مقدورا لا فعلا وهو واضح ، ولا تركا لكونه حينئذ قهريا ، فحينئذ لا يكون الخروج مقدورا إلاّ مع الدخول ، فيكون الدخول مقدّمة اعدادية ، لكنّهم على ما اختاروه قالوا إنّه يكون مضطرا إلى الخروج بعد الدخول ، فيكون الخروج حينئذ غير مقدور بعد الدخول ، فيكون الدخول مسقطا للخطاب بترك الخروج ، فيكون على العكس من المقدّمات الاعدادية مثل المسير.

قلت : فيكون الحاصل حينئذ أنّ التكليف بترك الخروج لا يمكن أن يكون مطلقا بالقياس إلى الدخول على وجه يكون متحقّقا قبل الدخول ، لما عرفت من كونه من قبيل انعدام الموضوع. كما أنّه لا يمكن أن يكون مشروطا بالدخول ، لما عرفت من أنّ الدخول يسقطه لا أنّه يوجب فعليته وتحقّقه فتأمّل ، فلا بدّ أن نقول إنّ الخروج ليس بمحرّم أصلا ، إذ لا يعقل تحريمه قبل الدخول كما لا يعقل ذلك بعد الدخول.

ولا يخفى أنّ ما حرّرته عنه قدس سره مقارب لما في هذا الكتاب ، فإنّه نظيره في

ص: 135


1- أجود التقريرات 2 : 192 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

جعل المقدّمة هي الدخول ، فراجع وتأمّل.

وخلاصة الفرق أنّ الحجّ واجب ومقدّمته هي قطع المسافة ، فإن فعل المقدّمة كان الأمر بالحجّ في محلّه ، وإن كان تركها امتنع عليه ذلك الواجب وهو الحجّ ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ واجبنا هو ترك الخروج ومقدّمته هي ترك الدخول ، فإن فعل المقدّمة بأن ترك الدخول لم يكن الأمر بالواجب الذي هو ترك الخروج في محلّه ، لأنّه حينئذ تحصيل للحاصل ولأنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وإن عصى وترك هذه المقدّمة بأن لم يفعل المقدّمة ولم يترك الدخول بل فعله لم يكن الواجب وهو ترك الخروج ممتنعا عليه ، بل كان يمكنه ترك الخروج ولو بالبقاء (1).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في هذا الوجه ملاكا ... الخ (2).

قد عرفت (3) أنّ حاصل ما أفاده شيخنا قدس سره فيما نقلناه عمّا حرّرناه عنه في هذا الوجه الثاني هو مقايسة واجبنا - الذي هو ترك الخروج - بالحجّ نفسه ، وحيث إنّ هذا الواجب وهو ترك الخروج يكون ممتنعا على المكلّف بعد اقدامه على

ص: 136


1- [ وجدنا ورقة مرفقة بالمتن ذكر فيها قدس سره ما يلي : ] 1 - ليس مضطرا إلى الخروج وإنّما هو مضطر إلى القدر الجامع. 2 - مع فعل المقدّمة وهي ترك الدخول يكون الأمر بترك الخروج تحصيلا للحاصل. 3 - يكون عدم الخروج من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. 4 - تجري القاعدة لو لم يكن في البين عنوان حسن يقتضي الوجوب ، وهو فيما نحن فيه ردّ المال إلى أهله.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 190.
3- في الحاشية المتقدّمة صفحة : 132.

الدخول كما هو مبنى كلام صاحب الكفاية قدس سره (1) كان لازم ذلك أن يكون ترك الدخول مقدّمة اعدادية لذلك الواجب ، فيكون ترك الدخول بازاء المسير نفسه في كونه مقدّمة اعدادية للواجب.

لكن الفرق بينهما أنّ تلك المقدّمة الاعدادية التي هي المسير يكون وجوب الحجّ مطلقا بالقياس إليها قبل تفويتها ، بمعنى أنّ ذلك الوجوب يكون متحقّقا قبل تفويت المسير ، لكن مقدّمتنا الاعدادية هنا التي هي ترك الدخول لا يمكن أن يكون وجوب ترك الخروج مطلقا بالقياس إليها ، بمعنى أنّ وجوب ترك الخروج لا يكون متحقّقا قبل تفويت ترك الدخول ، وإنّما يكون متحقّقا بعد ارتكاب الدخول الذي هو تفويت تلك المقدّمة الاعدادية التي هي ترك الدخول ، لما ذكرناه من أنّه لا معنى لوجوب ترك الخروج قبل ارتكاب الدخول الذي هو محصّل النهي عن الخروج ، لكونه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، ومن الواضح أنّ المقدّمة الاعدادية التي يكون تفويتها شرطا في نفس الوجوب لا يعقل أن يكون تفويتها داخلا في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، هذا هو محصّل الوجه الثاني.

وأمّا محصّل الوجه الثالث فهو ما عرفت (2) من أنّه بعد فرض كون تفويت تلك المقدّمة موجبا لتحقّق التكليف بترك الخروج تتّجه علينا الناحية الأخرى ، وهي أنّ ذلك التفويت الذي هو عبارة عن ارتكاب الدخول يكون موجبا ( كما هو المفروض عندهم ) لسقوط التكليف بترك الخروج ، لأنّهم يقولون إنّه عند الدخول يكون ترك الخروج ممتنعا ، فلا بدّ أن نقول حينئذ إنّ التكليف بترك

ص: 137


1- كفاية الأصول : 168 وما بعدها.
2- في الحاشية السابقة.

الخروج إنّما يكون قبل ذلك التفويت ، وحينئذ يكون حالها على العكس من المسير ، فإنّ حفظه يكون محقّقا للقدرة على الحجّ وصحّة التكليف به ، وتضييعه يكون موجبا لعدم القدرة على الحجّ ولسقوط التكليف به ، بخلاف هذه المقدّمة وهي ترك الدخول ، فإنّ وجودها وحفظها يكون موجبا لعدم القدرة على ترك الخروج ولعدم صحّة توجّه التكليف به ، لما ذكرناه من كونه حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع ، ولازم ذلك أن يكون عدم هذه المقدّمة وتضييعها بارتكاب الدخول موجبا لصحّة ذلك التكليف وتحقّقه ، على العكس ممّا هو الحال في المسير.

وبتقريب أوضح : أنّه بالنظر إلى ما ذكرناه من أنّ الخروج قبل الدخول يكون غير مقدور فعلا وتركا يكون لازم ذلك هو انحصار القدرة عليه بعد الدخول ، ولازم ذلك هو كون الدخول مقدّمة إعدادية للخروج فعلا أو تركا ، لكن هذه المقدّمة الاعدادية على العكس من المسير ، فإنّ الدخول بوجوده يكون سالبا للقدرة على الواجب الذي هو ترك الخروج كما هو مفروض دعواهم ، وبعدمها يكون محقّقا للقدرة عليه ، وحينئذ يكون الدخول بوجوده رافعا لوجوب ترك الخروج وبعدمه يكون محقّقا لذلك الوجوب على العكس من المسير ، فلا يمكن اندراجها في قاعدة الامتناع بالاختيار.

والذي يتلخّص من هذين الإشكالين : أنّ التكليف بترك الخروج لا يعقل أن يكون بالقياس إلى الدخول مطلقا ، لأنّ لازم ذلك وجوب ترك الخروج قبل الدخول ، وهو غير معقول لكونه من السالبة بانتفاء الموضوع. كما أنّه لا يمكن أن يكون مشروطا به ، لما ذكروه من أنّ ترك الخروج يكون ممتنعا بعد الدخول.

وقد عرفت فيما تقدّم (1) أنّ هذه الإشكالات إنّما جاءت من دعوى عدم

ص: 138


1- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 126 وما بعدها.

امكان توجّه النهي عن الخروج قبل الدخول ، وعرفت أيضا أنّ ذلك لا مانع منه ، بل إنّ نظيره جار في جميع المحرّمات التدريجية ، فإنّ حرمة الجزء الأخير من مثل صلاة الحائض داخل في قوله في خطابها لا تصلّي أيّتها الحائض ، ومن الواضح أنّ الجزء الأخير إنّما يكون مقدورا لها بعد الفراغ ممّا سبقه.

وحلّ ذلك هو أنّ المنهي عنه هو ذلك الفعل المستمرّ المستطيل بنهي واحد من دون نظر إلى خصوص جزئه الأوّل أو الوسط أو الأخير ، فمن قال لا تغصب أو لا تتصرّف في الدار المغصوبة ليس ناظرا إلى النهي عن نفس الدخول أو المكث والخروج كلا بنهي مستقلّ ، كي يقال إنّ النهي عن الخروج لا يعقل قبل ارتكاب الخروج.

وهكذا الحال في الواجب التدريجي الحصول ، فإنّ الأمر يتعلّق به قبل الشروع ويكون الامتثال تدريجيا أو بآخر جزء ، وعلى كلّ حال هو مأمور قبل أن يشرع بجميع الأجزاء حتّى الجزء الأخير ، وليس أمره بالجزء الأخير معلّقا أو مشروطا بالنسبة إلى الأجزاء السابقة.

ولا فرق بين هذا النحو من الواجبات والمحرّمات وبين ما نحن فيه إلاّ أنّ ما نحن فيه إذا دخل في الجزء الأوّل لا يمكنه التخلّص من الجزء الأخير. وإن شئت فبدّل النهي فيما نحن فيه بالأمر وانظر ما ذا يكون حال الخروج بالنسبة إلى ذلك الأمر ، هل يكون متعلّقا للأمر قبل الدخول ، أو أنّ أمره مشروط أو معلّق بالدخول.

والحاصل : أنّ التكليف بالأجزاء المتأخرة فعلا أو تركا ليس من قبيل الواجب المشروط ولا من قبيل الواجب المعلّق مع فرض كون الأجزاء المتقدّمة مقدورة ، كما إذا كانت هناك مقدّمة وجودية اختيارية تحتاج إلى مقدار من الزمان ، فإنّها لا توجب جعل التكليف بذيها مشروطا أو معلّقا ، فراجع مبحث الواجب

ص: 139

المعلّق.

هذا هو غاية ما يمكن أن يقال في الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس سره ، وأنت ممّا حرّرناه في توضيح مرام شيخنا قدس سره من المقايسة المذكورة تعرف أنّه لا يتوجّه عليه شيء ممّا في هذه الحاشية من التفرقة بين المقدّمات المفوّتة في المحرّمات والمقدّمات المفوّتة في الواجبات ، كما أنّك قد عرفت فيما تقدّم (1) أنّ مسألة الممنوع شرعا كالممتنع عقلا لا دخل لها بما نحن فيه من قاعدة الامتناع بالاختيار كما هو أساس الايراد في الحاشية السابقة وهذه الحاشية ، فراجع وتأمّل.

قوله : الرابع أنّ الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان بحكم العقل ، وما كان كذلك لا يدخل تحت القاعدة قطعا ... الخ (2).

وقال في الطبعة الجديدة : فيكشف ذلك عن كونه مقدورا وقابلا لتعلّق التكليف به ... الخ.

والذي حرّرته عنه قدس سره في بيان هذا الأمر مقصور على مفاد الجملة الأولى من دون تعرّض لاستكشاف أنّه مقدور ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه وهو : أنّه يعتبر في هذه القاعدة أن يكون ذلك الفعل الممتنع غير منطبق عليه أحد العناوين الموجبة لحسنه ، المنافية لوقوعه على صفة المبغوضية ولاستحقاق العقاب عليه ، والخروج فيما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّه معنون بعنوان يحكم العقل بحسنه ، أعني عنوان التخلّص من الغصب ، فلا يمكن أن يكون واقعا على صفة المبغوضية ومستحقّا عليه العقاب ، وإن سلّمنا أنّه ممتنع بسوء الاختيار ، انتهى.

ص: 140


1- في الصفحة : 130.
2- أجود التقريرات 2 : 192 - 193.

وبنحو ذلك حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (1) من دون تعرّض لاستكشاف كونه مقدورا ، وحينئذ لا يتوجّه عليه ما في الحاشية من : أنّ كون الخروج واجبا بحكم العقل وإن كان لا بدّ فيه من كونه مقدورا تكوينا ، إلاّ أنّه مع ذلك غير قابل لتعلّق التكليف التحريمي به بعد تحقّق الدخول ، ضرورة أنّ تحريمه الفعلي مساوق للعجز عنه تشريعا ، ومن الواضح أنّه لا يجتمع مع كون التصرّف بغير الخروج حراما بالفعل كما هو المفروض ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وهو غير معقول الخ (2).

وبيان عدم توجّه هذا الايراد هو أنّ شيخنا لا يريد بذلك الوجه الرابع إلاّ بيان أنّ الخروج لا يكون مبغوضا كي يكون داخلا في قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل يريد أن يدّعي أنّ الخروج من أوّل الأمر غير منهي عنه ، وأنّ الكاشف عن كونه غير منهي عنه ولو بالنهي السابق هو كونه في حدّ نفسه معنونا بعنوان حسن ، وما يكون في حدّ نفسه معنونا بعنوان حسن يستحيل أن يتعلّق به النهي لا فعلا ولا سابقا. ولو سلّمنا أنّه قدس سره أراد ببيان ذلك الحسن العقلي استكشاف كونه مقدورا فذلك أيضا في محلّه ، لأنّ ما يحكم العقل بحسنه لا بدّ أن يكون مقدورا تكوينيا ، بل إنّ تحريم ما عداه شرعا كاشف أيضا عن كونه في حدّ نفسه مقدورا ، إذ لو كان في حدّ نفسه قهريا ومضطرا إليه لما صحّ تحريم ما عداه شرعا.

أمّا دعوى أنّ تحريم ما عداه مدخلة له في الممتنع تركه المضطرّ إليه بسوء الاختيار فقد عرفت فيما تقدّم (3) أنّ الاضطرار إلى الشيء الناشئ عن تحريم ما

ص: 141


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 450 - 451.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 192.
3- في الصفحة : 130.

عداه لا يدخله في قاعدة الامتناع بالاختيار.

نعم ، هنا مناقشة سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى التعرّض لها ، وهي المنع من كونه معنونا بعنوان حسن وهو التوصّل به إلى الواجب الذي هو ردّ المغصوب ، للمنع من كون ردّ المغصوب واجبا ، نعم إنّ العقل يحكم به لا من باب حسنه المذكور ، بل من باب ارتكاب أقلّ القبيحين وأهون العقابين ، ومنه يعلم أنّ المورد من موارد القاعدة ، نظرا إلى ما عرفته فيما تقدّم (2) في شرح مراد الكفاية من كونه بعد الدخول يكون مضطرا إلى ارتكاب أحد المحرّمين إمّا الخروج وإمّا المكث ، وأنّ الأوّل يعيّنه العقل لكونه أخفّهما ، ولا ينافي ذلك استحقاقه العقاب على كلّ منهما لو ارتكبه ، لأنّ اضطراره إلى أحدهما كان بسوء اختياره ، وما يكون امتناعه بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار في أصل الارتكاب الذي هو المصحّح لذلك العقاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لا وجه لما في هذه الحاشية من قوله : فلا وجه لما أفيد في المتن من دعوى الملازمة بين الالتزام بكون الخروج واجبا عقلا والالتزام بعدم سقوط حكمه الثابت له شرعا ، انتهى (3) يعني التحريم السابق ، لما عرفت من أنّ شيخنا قدس سره لا يريد الانتقال من هذا الحسن العقلي إلى أنّ الخروج مقدور والانتقال من كونه مقدورا إلى بقاء حكمه السابق الذي هو التحريم ، بل إنّما يريد الانتقال من هذا الحسن العقلي الثابت للخروج في حدّ ذاته إلى أنّه لا يعقل أن يكون حكمه السابق هو التحريم ، لأنّ ما يكون في حدّ نفسه حسنا لكونه

ص: 142


1- في الحاشية القادمة ، في الصفحة : 150 وما بعدها.
2- في الصفحة : 127 - 129.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 192.

ردّا للمغصوب لا يعقل أن يكون محرّما في وقت من الأوقات ، كي يكون داخلا بعد الدخول في الاضطرار إلى المحرّم بسوء الاختيار ، ليكون من موارد قاعدة الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار فتأمّل.

تتميم أو توضيح لما تقدّمت الاشارة إليه من إمكان تطرّق التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره من عدم معقولية النهي عن الخروج فنقول بعونه تعالى :

إنّه قد تقدّم منه قدس سره في مبحث الواجب المعلّق (1) أنّه ليس من الواجب المعلّق ما يكون من الأفعال الواجبة متوقّفا على مقدّمة اختيارية تحتاج إلى مقدار من الزمان ، كما في التكليف بالكون في مسجد الكوفة بالنسبة إلى من يحتاج في ذلك إلى قطع مقدار من المسافة ولو قليلا ، وهكذا الأجزاء المتأخرة بالنسبة إلى ما يتقدّمها من الأجزاء ، فإنّ ذلك كلّه ليس من قبيل الواجب المعلّق ولا الواجب المشروط ، بمعنى أنّ التكليف بالأفعال المتأخرة الموقوفة على أفعال متقدّمة لا يكون مشروطا بالنسبة إلى تلك الأفعال المتقدّمة ولا واجبا معلّقا ، بل إنّ الوجوب المتعلّق فعلا بتلك الأفعال المسبوقة بأفعال أخر يكون مطلقا بالنسبة إلى الأفعال السابقة ، فإنّ اللاحقة وإن كانت مقيّدة بالسابقة وكان وجودها متوقّفا على وجودها ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب تقيّد تلك الأفعال اللاحقة بزمانها اللاحق كي تكون من قبيل الواجب المعلّق بما لو تقيّدت الأفعال بالزمان اللاحق.

ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ تقيّدها بالزمان مع فرض كون الوجوب حاليا غير مشروط بذلك الزمان يكون مستدعيا لجرّ الزمان وهو محال غير مقدور للمكلّف ، بخلاف ما لو كان القيد أو المقدّمة الوجودية هو الأفعال الاختيارية

ص: 143


1- أجود التقريرات 1 : 201 وما بعدها ، وقد تقدّم ما يرتبط بذلك في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 50.

السابقة ، فإنّ أقصى ما في الجمع بين كونها قيدا في الفعل اللاحق أو مقدّمة وجودية له وكون التكليف غير مشروط بها هو لزوم الاتيان بها فعلا ، وذلك ممكن مقدور وهو المطلوب للآمر.

هذا حال الأوامر المتعلّقة بفعل موقوف على فعل سابق على وجودها أو بفعل مركّب أو استمراري ، ومنه يعلم الحال في النواهي المتعلّقة بهذا النحو من الأفعال ، مثل ما لو توجّه النهي عن دخول مسجد الكوفة ، فإنّه لا يفرق في صحّة توجّهه بين كون المتوجّه إليه واقفا على الباب ، وبين كونه بعيدا عنه على وجه لو أراد الدخول لاحتاج إلى طي مقدار من المسافة ولو قليلا ، فإنّه يصحّ أن يتوجّه الخطاب إليه بالنهي عن الدخول مطلقا غير مشروط بطي تلك المسافة ولا معلّق عليها ، وإلاّ لاختصّ مثل قوله تعالى : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ ) (1) بمن كان واقفا على الباب ولم يكن محتاجا في دخوله إلى اعمال فعل وقطع مسافة إلاّ رفع قدمه من خارج البيت إلى داخلها ، وذلك واضح البطلان.

وهكذا الحال في النهي عن فعل استمراري أو مركّب ، فإنّ النهي يتعلّق فعلا بمجموع ذلك الفعل ، ولا يكون تعلّقه بالجزء الأخير منه مشروطا أو معلّقا على الأجزاء الأول وإلاّ لكان كلّ محرّم كذلك ، إذ ما من فعل محرّم إلاّ وله مبدأ ووسط وآخر ، فلو لم يصحّ النهي عن الآخر قبل فعل الأوّل ولا بعد فعل الجزء الأوّل امتنع النهي عن كلّ فعل.

وحينئذ ينسدّ باب التكاليف التحريمية بالمرّة ، إذ ليس لنا فعل بسيط غير مشتمل على جزء أوّل ووسط وآخر مهما قلّ زمانه وضاق استمراره ، مثلا لو كان قراءة البيت الفلاني من الشعر محرّما لكان النهي متعلّقا بكلّ كلمة من كلماته ،

ص: 144


1- الأحزاب 33 : 53.

فتكون الأخيرة التي في ضمنه أعني الواقعة بعد الكلمات السابقة المقيّدة بسبق تلك الكلمات عليها محرّمة قبل الشروع في الكلمات السابقة. وهكذا الحال في الحرف الأخير من الكلمة الواحدة لو كانت محرّمة فيتوجّه فيها الإشكال المزبور ، وهو أنّ ترك الأخير بقيد كونه أخيرا يكون قهريا عليه فلا يعقل تحريمه قبل الشروع في الأوّل.

إذا عرفت ذلك يتّضح لك صحّة توجّه النهي عن الخروج من الدار المغصوبة على نحو الاطلاق ، لا مشروطا بالدخول ولا معلّقا عليه.

أمّا أوّلا : فلأنّ النهي المتوجّه إنّما هو النهي عن التصرّف ، وهذه الحركات أعني الحركات الدخولية والحركات المكثية والحركات الخروجية كلّها متساوية الاقدام في الدخول تحت هذه الطبيعة بنسبة واحدة ، من دون طولية في البين تستدعي كون النهي عن الدخول قبل النهي عن الخروج ، بحيث يكون النهي عن الخروج بعد الدخول ، إذ ليس المنظور إليه في هذا النهي إلى هذه العناوين للحركات المذكورة.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ الذي ينهى عن ذلك يكون ناظرا إلى تلك الحركات ، فهو إنّما ينظر إلى الحركة الواحدة المستمرّة من أوّل الدخول إلى آخر الخروج فينهى عنها بنهي واحد ، وقد عرفت أنّ النهي عن الفعل المستمرّ المتعاقب الأجزاء لا يكون النهي عن الجزء الأخير منه [ مشروطا ] أو معلّقا على الجزء الأوّل ، كما عرفت في الواجبات.

ولو سلّمنا أنّه لا بدّ في الواجب المتعاقب الأجزاء من كون الجزء الأخير بالنسبة إلى الجزء الأوّل من قبيل الواجب المعلّق ، بمعنى أنّ وجوبه يكون متحقّقا قبل وجود الجزء الأوّل ، وإن كان هو أعني الجزء الأخير لا يكون إلاّ بعد الجزء

ص: 145

الأوّل ، لقلنا إنّ الحال فيما نحن فيه كذلك ، بمعنى أنّ النهي عن الخروج يكون متوجّها قبل الدخول ، وإن كان المنهي عنه الذي هو الخروج لا يكون إلاّ بعد الدخول ، ولا ضير في ذلك.

وما أفاده شيخنا قدس سره (1) هنا في الردّ على صاحب الفصول (2) بعدم إمكان جعل النهي عن الخروج كذلك لأنّه بعد الدخول يمتنع ترك الخروج ويسقط النهي عنه ، يمكن الجواب عنه بأنّه ليس باللازم الباطل ، إذ لا مانع من الالتزام بتوجّه النهي عن الخروج قبل الدخول وإن كان بعد الدخول يسقط النهي ، وأثر ذلك النهي السابق هو استحقاق العقاب لو أقدم على المخالفة ودخل ، كما أنّه يمكنه الاطاعة بأن لا يدخل ، ويكون حاله حال من كان وقوعه في الزنا مثلا متوقّفا على خروجه من مجمع الناس ودخوله الدار التي يقع فيها الزنا ، على وجه لو دخل الدار يقع في الزنا لا محالة ولو بالاجبار عليه ، فإنّ مثل هذا الشخص يصحّ أن يتوجّه إليه النهي عن الزنا في حال كونه موجودا في المجمع قبل دخوله تلك الدار ، من دون أن يكون ذلك النهي مشروطا ، ولو صحّت دعوى أنّ النهي في مثل ذلك يكون معلّقا وأغضينا النظر عن أصل الإشكال في المعلّق لقلنا إنّ ما نحن فيه أيضا كذلك.

نعم ، هنا شيء لعلّه هو كان المنشأ في دعوى عدم صحّة توجّه النهي عن الخروج قبل الدخول ، وهو وضوح سماجة قولك للشخص الموجود أمامك غير داخل في الدار لا تخرج من الدار ، بل يكون هذا النهي مستهجنا عند العقلاء. ولعلّ هذه السماجة الذوقية وتلك الهجنة العقلائية ناشئة عن أنّ الظاهر لدى

ص: 146


1- أجود التقريرات 2 : 188 - 189.
2- الفصول الغروية : 138 ، 139.

العقلاء من مثل لا تخرج من الدار هو التحريض على استمرار البقاء فيها ، فلا يستحسن توجّهه إلى من هو غير داخل فعلا ولم يتلبّس بعد بالبقاء فيها كي يقال له استمرّ على بقائك فيها ولا تخرج منها ، أو أنّ الظاهر من النهي المذكور هو النهي عن تخليتها الذي هو عنوان ثانوي للخروج ، هذا.

ولكن من الواضح أنّ الخروج المدّعى كون النهي متعلّقا به قبل الدخول إنّما يراد به الحركات الأخيرة من الحركات المستمرّة من حين دخوله فيها ، وأنّ النهي عنها إنّما هو باعتبار كونها حركات في الدار وتصرّفات فيها لا باعتبار كونها خروجا وتخلية ، ولا أنّ النهي راجع إلى الحثّ على استمرار البقاء.

وبالجملة : أنّ النهي عن الخروج إنّما يستهجن توجّهه قبل الدخول إذا كان بمعنى الحثّ على استمرار البقاء فيها ، أو كان بمعنى الحثّ على عدم التخلية ، أمّا إذا كان بمعنى الحثّ على ترك ذات الحركة الخروجية غير منظور بها عنوانها الخروجي فالظاهر أنّه لا مانع عنه ، بل لا بدّ منه بعد فرض أنّ جميع الحركات في الدار المغصوبة تعد محرّم وظلم ممنوع عنه شرعا وعقلا.

نعم هناك شيء آخر ، وهو دعوى أنّ تلك الحركات وإن كانت في حدّ نفسها تصرّفات في ملك الغير بغير إذنه ، ومقتضى ذلك أن تكون محرّمة وممنوعة ، لكن لمّا كانت معنونة بعنوان التخلية وردّ المغصوب ونحو ذلك من العناوين الموجبة لحسنها عقلا ووجوبها شرعا لا تكون منهيا عنها ، لا من جهة كون النهي عنها قبل الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع وبعده تكون مضطرّا إليها ، بل من جهة أنّها في حدّ نفسها بواسطة انطباق ذلك العنوان عليها لا يعقل أن تكون مبغوضة ، بل تكون حسنة ومحبوبة.

وهذا هو الأمر الثاني من الأمرين اللذين هما أساس ما أفاده شيخنا قدس سره في

ص: 147

هذا المقام ، لكن سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى أنّ هذه العناوين ليست إلاّ منتزعة من ترك الظلم والغصب ، لا أنّها أمور أخر غير ترك الظلم كي يحكم العقل بحسنه ، وأي حسن في رفع اليد عن القبيح الذي هو الظلم والغصب والتعدّي.

وبالجملة : ما مثل ذلك إلاّ مثل من هو مقبل على ضرب اليتيم مثلا فأقلع عنه ، فإنّ بقاء ضربه واستمراره عليه وإن كان ظلما قبيحا إلاّ أنّ رفع يده عنه لا يعدّ حسنا ، بل أقصى ما فيه أنّه ترك للقبيح ، وأمّا نفس الحركة الخروجية التي يتولّد منها ذلك الاقلاع عن الظلم فهي ليست إلاّ مصداقا من تلك المصاديق الظلمية ، وإن ترتّب عليها رفع الظلم فتأمّل. وسيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى بيان أنّه لا دليل على لزوم ذلك ووجوبه شرعا ، وأنّه ليس في البين إلاّ حرمة التصرّف والاستمرار عليه.

فإن قلت : سلّمنا أنّ المنهي عنه هو ذات الحركة الخروجية لا عنوان الخروج الذي يكون النهي عنه مستهجنا قبل الدخول ، لكنّا مع ذلك نقول إنّ تلك الحركة قبل الدخول تكون منعدمة قهرا على المكلّف ، فيكون النهي عنها والتكليف بتركها قبل الدخول تحصيلا للحاصل أو بغير المقدور ، لأنّه كما يشترط في متعلّق النهي أن يكون تركه اختياريا للمكلّف فكذلك يشترط أيضا كون فعله اختياريا ، وإلاّ كان من قبيل النهي عن الممتنع ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ تلك الحركة غير منهي عنها قبل الدخول كما أنّه بعد الدخول يكون مضطرّا إليها.

والحاصل : أنّ فعلية النهي عنها قبل الدخول من قبيل النهي عن الممتنع أو من قبيل تحصيل الحاصل ، فلا يعقل توجّه النهي عن تلك الحركة ، ويكون ذلك

ص: 148


1- سيأتي ذلك في الحاشية اللاحقة.
2- سيأتي ذلك في الحاشية اللاحقة.

من قبيل توجّه الخطاب بشيء يكون الخطاب به في ظرف إمكانه وتحقّق الابتلاء به ساقطا ، لكون الابتلاء به بامكان إيجاده إنّما يكون بعد الدخول ، وهو في ذلك الظرف مضطرّ إليه لا يعقل توجّه الخطاب به.

قلت : أمّا كون تلك الحركة قبل الدخول ممتنعة فقد عرفت الجواب بأنّها في ذلك الظرف غير ممتنعة ، لامكان إيجادها بتوسّط إمكان ما تتوقّف عليه الذي هو الدخول ، وأمّا كونها من قبيل تحصيل الحاصل فلما هو واضح من أنّ المطلوب في باب النهي ليس هو العدم الصرف ، وإنّما هو إدامة ذلك العدم وإبقاؤه ، ومن الواضح أنّ إدامة عدم الخروج في إمكان المكلّف وفي قدرته.

وبالجملة : ليس المطلوب بالنهي نقض الوجود ليختصّ توجّهه بما إذا كان متعلّقه الذي هو الفعل موجودا مشغولا به المكلّف ، ليكون معنى النهي عنه هو نقض ذلك الوجود وتبديله بالعدم ، كي يكون توجّه النهي إلى الشيء في حال كونه معدوما تحصيلا للحاصل.

وحينئذ نقول : إنّ النهي عن تلك الحركة قد توجّه إليه قبل الدخول وصار ذلك النهي فعليا في حقّه ، وهو في ذلك الحال يمكنه إطاعته بادامة ذلك العدم الحاصل بادامة عدم الدخول ، كما أنّه يمكنه عصيانه بنقض ذلك العدم وهدمه ، وذلك بايجاد الدخول المستتبع لتلك الحركة الخروجية ، ولا ريب أنّ الإقدام على مقدّمة ملجئة إلى ارتكاب المنهي عنه محقّق لعصيانه ، ومن الواضح أنّ ظرف العصيان ظرف السقوط.

والحاصل : أنّ لذلك النهي المتعلّق بتلك الحركة دور إطاعة ودور عصيان ، ودور الاطاعة هو ما دام قبل الدخول ، ثمّ بعد ارتكاب الدخول يكون الدور دور العصيان وخروج الاطاعة من تحت [ قدرة ] المكلّف ، وفي هذا الدور يكون

ص: 149

الخطاب ساقطا ، كما هو الشأن في جميع النواهي المتعلّقة بما لا يمكن التخلّص بعد الاقدام على المقدّمة الملجئة إلى ارتكابه ، فإنّه لم يلتزم أحد بأنّ مثل تلك المتعلّقات لا تكون منهيا [ عنها ] كما في مثل الالتجاء إلى ارتكاب الزنا عند الدخول إلى الدار ، فإنّ من علم ذلك لا يخرج الزنا المذكور في حقّه عن كونه منهيا عنه ومخاطبا بتركه قبل الدخول ، نعم بعد الدخول والوقوع فيما يلجئه إلى ارتكاب الزنا يسقط حينئذ الخطاب بتركه ، مع أنّه مثل الخروج في أنّه قبل الدخول يكون منتركا ، وبعده يكون الوقوع في اختياره قهريا عليه ، فتأمّل.

قوله : بل هو داخل في قاعدة أخرى وهي وجوب ردّ مال الغير إلى صاحبه ... الخ (1).

أساس ذلك هو ما نقله في الكفاية عن تقريرات درس الشيخ قدس سره (2) وذلك قوله : وأمّا التصرّف بالخروج الذي يترتّب عليه رفع الظلم ، ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام ، فهو ليس بحرام ، إلى قوله : وبالجملة لا يكون الخروج بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص عن الحرام أو سببا له إلاّ مطلوبا ، ويستحيل أن يتّصف بغير المحبوبية الخ (3).

وغاية ما يمكن أن يشكل به على ذلك هو أنّ وجوب التخلّص عن الحرام ليس تكليفا استقلاليا ، وإنّما هو عبارة عن لزوم ترك الحرام الذي هو منتزع من النهي عنه ، فليس لنا في البين تكليف إلاّ حرمة التصرّف ، وقد تقرّر في محلّه (4) أنّ

ص: 150


1- أجود التقريرات 2 : 193 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- مطارح الأنظار 1 : 709 ، 716.
3- كفاية الأصول : 169 - 170.
4- راجع حاشية المصنّف قدس سره المتقدّمة في الصفحة : 97 وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

ترك الحرام ليس بواجب كما أنّ ترك الواجب ليس بحرام ، وإلاّ لنقصت الأحكام عن الخمسة أو لترامت ولزم التسلسل ، وهكذا في الأحكام العقلية فإنّ ترك القبيح لا يكون حسنا كما أنّ ترك الحسن لا يكون قبيحا.

نعم ، إنّ العقل بعد أن حكم بلزوم الاطاعة في النواهي كالأوامر كان حاكما في المقام بلزوم ترك هذا التصرّف من باب الاطاعة ، فليس في البين واجب شرعي يتوقّف حصوله على تلك الحركة الخروجية أو أنّه يكون عين تلك الحركة الخروجية ، وليس وجوب الخروج في ذلك إلاّ كوجوب نزع لباس الحرير أو الذهب في أنّه مجرّد تغيير عبارة عن حرمة بقاء اللبس ، وهذه الحركة الخروجية ليست إلاّ عبارة عن بقاء ذلك التصرّف المحرّم ، غايته أنّ الخطاب بترك تلك الحركة الخروجية يكون ساقطا مع بقائها على ما هي عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب عليها.

ثمّ إنّ هذه الحركة الخروجية لو كانت واجبة لانطباق عنوان التخلّص عليها أو عنوان الردّ أو كونها مقدّمة له ولم تكن مبغوضة بالذات لكونها عصيانا للنهي ، لكان اللازم هو عدم الاحتياج فيها إلى الاستئذان من المالك لو كان ذلك ممكنا ، ولا أظنّ أنّ أحدا يقول إنّه لا يجب عليه الاستئذان لو كان قد أمكنه ذلك فتأمّل ، لامكان القول بأنّ الاستئذان لو أمكن فهو تسليم فعلي مقدّم على الخروج.

وأمّا لزوم ردّ المال إلى صاحبه فهو لا يجري في كثير من الداخلين ، كمن دخل لزيارة صديقه الغاصب الموجود في الدار مع فرض أنّ دخوله لا يكون محرّما إلاّ من باب التصرّف في المغصوب ، لا من باب أنّه يكون ذا يد على الدار على وجه يجب عليه ردّ تلك الدار إلى مالكها بواسطة خروجه منها.

ص: 151

وأمّا الداخل الذي هو صاحب اليد العادية الموجبة لضمانه فهو وإن لزمه الردّ عقلا باعتبار كونه تركا للغصب كما ذكرناه في المتصرّف ، إلاّ أنّه لا دليل على وجوب ردّ المغصوب وجوبا شرعيا مولويا في عرض حرمة الغصب ، على وجه يعاقب عقابين أحدهما على عصيان حرمة الغصب والآخر على ترك الردّ ، وليس في البين إلاّ حرمة بقائه في يده ، وذلك وإن كان لا يقتضي أزيد من رفع يده ، إلاّ أنّه لأجل دفع الضمان عن نفسه المتوقّف على التسليم لا يخرج من عهدة ذلك الضمان إلاّ بردّه إلى صاحبه كما هو مفاد « حتّى تؤدّي » (1) مضافا إلى أنّ مجرّد رفع يده مع عدم تسليمه إلى مالكه يكون تضييعا واتلافا وهو محرّم آخر يقع فيه. وعلى كلّ حال ، أنّ ما نحن فيه لا يحتاج إلى ذلك.

أمّا ما في الشرائع والجواهر من قولهما ما هذا لفظه : النظر الثاني في الحكم : لا خلاف بيننا في أنّه يجب ردّ المغصوب ما دام باقيا ، بل الإجماع بقسميه عليه إن لم يكن ضرورة من المذهب ، مضافا إلى قوله عليه السلام في النصوص السابقة : « كلّ مغصوب مردود » (2) انتهى (3).

وبنحو ذلك صرّح المحقّق الرشتي فقال : التقاط : يجب على الغاصب ردّ المغصوب إلى الحالة التي غصب عليها بالأدلّة الأربعة ، ومن السنّة قوله عليه السلام : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » ، إلى أن قال : والدليل على ذلك هو الدليل على

ص: 152


1- مستدرك الوسائل 17 : 88 / أبواب كتاب الغصب ب 1 ح 4 ، عوالي اللآلي 2 : 345 / 10 ، وفي المصدر الأوّل : « ... حتّى تؤدّيه ».
2- وسائل الشيعة 9 : 524 / أبواب الأنفال ب 1 ح 4 ( وفيه : لأنّ الغصب كلّه مردود. نعم في التهذيب 4 : 130 / 2 : لأنّ المغصوب ... ).
3- شرائع الإسلام 3 : 218 ، جواهر الكلام 37 : 75.

وجوب أصل الردّ ، أعني رفع الظلم المدلول عليه بالأدلّة الأربعة ، انتهى (1).

ولكن الظاهر أنّ جميع هذه الأدلّة كلّها لا تتعدّى حرمة الغصب حدوثا وبقاء ، حتّى قوله عليه السلام : « كلّ مغصوب مردود ». ولعلّ قوله : والدليل على ذلك هو الدليل على وجوب أصل الردّ أعني رفع الظلم الخ إيماء إلى ذلك ، فإنّه فسّر الردّ بأنّه رفع الظلم الذي هو ذلك الاستيلاء الاستمراري ، فإنّ بقاءه أيضا ظلم كأصل حدوثه.

ويشهد بذلك أيضا أنّ هذه الأدلّة الأربعة نقلها في الجواهر (2) في آخر أوّل صفحة من كتاب الغصب عن الدروس أدلّة على تحريم الغصب ، وهذا نصّ عبارة الدروس : كتاب الغصب ، وتحريمه عقلي واجماعي وكتابي وسنّي ، قال اللّه تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (3) ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) (4) ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ) (5) وقال النبي صلى اللّه عليه وآله : « إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام » (6) « لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه » (7) « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس » (8) « لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادّا ولا لاعبا » (9)

ص: 153


1- كتاب الغصب : 53.
2- جواهر الكلام 37 : 12.
3- البقرة 2 : 188.
4- المطفّفين 83 : 1.
5- النساء 4 : 10.
6- وسائل الشيعة 29 : 10 / أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 3.
7- وسائل الشيعة 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 1.
8- وسائل الشيعة 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 3 ، مستدرك الوسائل 3 : 331 / أبواب مكان المصلّي ب 3 ح 1.
9- عوالي اللآلي 3 : 473 / 5.

انتهى.

وقال بعد ذلك : درس : يجب ردّ المغصوب إلى مالكه إجماعا ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (1).

ومنه يظهر أنّ تلك الأدلّة الأربعة إنّما هي في حرمة الغصب لا في وجوب ردّه ، وإنّما نطبّقها عليه باعتبار حرمة الغصب بقاء ، إذ لو كانت منطبقة عليه حقيقة لكان الأولى الاستدلال بها لوجوبه ، دون الاقتصار على الإجماع وحديث « على اليد » فتأمّل.

وبالجملة : لم يقم دليل قطعي على وجوب الردّ وجوبا شرعيا مولويا في عرض حرمة الغصب وحرمة التصرّف في المغصوب وبقائه تحت يده ، على وجه يكون استمراره على الغصب وعلى إبقائه تحت يده وتحت تصرّفه عصيانا لتكليفين ، أحدهما حرمة الغصب والتصرّف في المغصوب والآخر وجوب ردّه ، على وجه يكون معاقبا بعقابين ، لا أظنّ أنّهم يلتزمون بذلك ، فيكون عدم التزامهم به كاشفا عن أنّه ليس في البين إلاّ تكليف واحد وهو حرمة الغصب والتصرّف في المغصوب حدوثا وبقاء ، هذا.

مضافا إلى أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في المغصوب الذي يكون تحت اليد ، دون مثل ما نحن فيه ممّا لا يكون فيه أخذ ولا يد وليس في البين إلاّ مجرّد التصرّف في العين بالجلوس فيها مثلا ، التي لا يتوقّف رفع الغصب على ردّ المغصوب بل يكفي فيه مجرّد التخلية ، هذا.

مضافا إلى أنّا لو التزمنا بكون الخروج معنونا بعنوان مأمور به وهو ردّ المغصوب فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس من العناوين القصدية ، بحيث إنّ تحقّقها

ص: 154


1- الدروس الشرعية 3 : 105 ، 109.

واقعا متوقّف على قصد الردّ ، بل الظاهر أنّ الخروج والتخلية بنفسه ردّ ، وحينئذ يكون اللازم عدم التفرقة بين التائب وغيره ، وأنّ الصلاة في حاله تكون صحيحة على كلّ حال ، نعم ربما يقال إنّ غير التائب يكون قاصدا للحرام لتخيّله أنّه حرام فيكون من قبيل التجرّي ، ولأجل ذلك لا تكون صلاته صحيحة ، فتأمّل.

فهذه ثلاثة لوازم لكون الخروج واجبا لا أظنّ أن يلتزموا بها :

أوّلها : أنّ الخارج لا يحتاج إلى الإذن من المالك فيما لو أمكنه ذلك ، اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ الاستئذان تسليم فعلي عاجل ، فيكون في حال التمكّن منه مقدّما على الخروج.

ثانيها : لزوم تعدّد العقاب لو تعمّد البقاء.

ثالثها : كون الخروج غير محرّم واقعا على غير التائب ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك ، بل الظاهر ممّا عن الشيخ قدس سره في التقريرات (1) هو اختصاص هذا الوجوب بما إذا كان بعنوان التخلّص فراجع. وهو الظاهر من الجواهر أيضا فإنّه ذكر عبارة المتن وقال : إذا ضاق الوقت وكان هو - أي الغاصب - آخذا في الخروج متشاغلا به صلّى على هذا الحال وصحّت صلاته ، وإن كان قد أثم بابتداء الكون واستدامته إلى الخروج ، أمّا هو فلا ريب في اطاعته وعدم النهي له عنه ، وإلاّ كان تكليفا بما لا يطاق. وربما ظهر من المحكي (2) عن المنتهى الإجماع عليه كما ستسمع ، فالجمع حينئذ بين هذين الواجبين الفوريين ليس إلاّ بذلك ، لكن عن أبي هاشم (3) أنّ الخروج تصرّف في المغصوب فيكون معصية ، فلا تصحّ الصلاة

ص: 155


1- مطارح الأنظار 1 : 709.
2- حكاه عنه العاملي قدس سره في مفتاح الكرامة 3 : 345 ، 346.
3- بيان المختصر 1 : 391 ، شرح مختصر الأصول : 94 ، التقريب والارشاد 2 : 356 - 357.

حينئذ وهو خارج ، سواء تضيّق الوقت أم لا. وعن المنتهى أنّ : هذا القول عندنا باطل (1) بل في التحرير : أطبق العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في هذا المقام (2).

قلت : لا ريب في صحّة كلامه إذا كان الخروج لا عن ندم على الغصب ولا إعراض ، ضرورة كونه على هذا الفرض كالدخول تصرّفا فيه ، أمّا مع التوبة والندم وإرادة التخلّص من الغصب فقد يقال : إنّ محلّ التوبة بعد التخلّص ، والتخلّص بلا إثم هنا غير ممكن بعد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا قبح حينئذ في تكليفه بالخروج مع تحريمه عليه كما حقّق في الأصول ، فيتّجه حينئذ قول أبي هاشم بحرمة الصلاة (3).

وظاهره أنّ صورة عدم [ التوبة ] خارجة عن محل الكلام في صحّة الصلاة ووجوب الخروج ، وأنّ الخروج إنّما يقع على صفة الوجوب مع كونه في حدّ نفسه محرّما في خصوص صورة التوبة ، ومع ذلك يكون المختار عنده هو البطلان لكون الفعل في حدّ نفسه مبغوضا ، فراجع تمام كلامه ، وراجع ما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا في هذا المقام من صلاته (4).

ثمّ لا يخفى أنّه بناء على هذا الذي حرّرناه تندفع محاذير إيجاب ما هو مبغوض ، إذ لا إيجاب في البين. وبما حرّرناه من معقولية كون الخروج مشمولا للنهي عن الغصب المتوجّه إليه قبل الدخول يتّضح لك أنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ

ص: 156


1- منتهى المطلب 4 : 300 / الفرع السادس.
2- تحرير الأحكام 1 : 209.
3- جواهر الكلام 8 : 294.
4- مصباح الفقيه 11 ( كتاب الصلاة ) : 37 وما بعدها.

تلك الحركة الواقعة في حال الخروج هي منهي عنها بالنهي السابق ، الساقط بالاقدام على عصيانه ، مع فرض علمه بعدم تمكّنه من التخلّص بعد ذلك الاقدام على العصيان ، فليس في البين واجب وهو الردّ أو التخلية ومقدّمة واجب وهو الحركة الخروجية كي نحتاج إلى القول بسقوط الخطاب بذلك الواجب ، كسقوط الخطاب بالنهي عن مقدّمته التي يتوقّف عليها.

نعم ، في مثل شرب الخمر لأجل حفظ النفس بعد تعمّده ما ألقاه في ذلك الاضطرار يقع موقعا لهذا الإشكال ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام ببقاء مبغوضية الشرب مع انطباق محبوبية حفظ النفس ، من دون أن يكون خطاب شرعي بترك ذاك ولا بفعل هذا ، مع الالتزام بأنّه لو شرب عوقب على الشرب ولو ترك عوقب على تضييع نفسه ، كلّ ذلك من جهة سوء اختياره.

ومن الغريب ما في الحاشية (1) من الالتزام بوجوب حفظ النفس هنا شرعا مع الالتزام بمبغوضية مقدّمته التي هي الشرب ، وكيف يعقل أن يكلّف الحكيم بشيء ويوجّه الخطاب به مع علمه بأنّه متوقّف على شيء هو مبغوض له فعلا ، وحينئذ فلا محيص لنا إلاّ الالتزام فيه بما ذكرناه في مسألة الخروج بعد الدخول بأن نقول : إنّ هذا المكلّف بعد تلك العملية قد اضطرّ إلى أحد العصيانين ، أعني عصيان الأمر بحفظ النفس أو عصيان النهي عن شرب الخمر ، والعقل يلزمه بأخفّهما قبحا وهو الشرب ، ومع ذلك يكون معاقبا عليه من دون أن يكون خطاب في هذا ولا في ذاك.

وينبغي مراجعة الكفاية (2) فإنّه أوّلا أجاب عن إن قلت الأخيرة بما ذكره

ص: 157


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 195.
2- كفاية الأصول : 172.

المحشي هنا ، لكنّه قدس سره أصلحه بأنّ الخروج لمّا حكم العقل بلزومه دفعا لأشدّ المحذورين فلا مانع من تعلّق الإيجاب الشرعي بما يتوقّف عليه ، لكن المحشّي أخذه بدون إصلاح ، ثمّ أجاب ثانيا بما ذكرناه من أنّه لا خطاب بذلك الواجب مع الالتزام بملاكه واستحقاق العقاب على مخالفته.

وأغرب من ذلك ما ذكره في الحاشية من الايراد على ما أفاده شيخنا قدس سره ممّا تقدّم انكارنا له ، أعني كون الخروج واجبا من باب وجوب ردّ المال إلى مالكه ، فإنّه في الحاشية المذكورة سلّم وجوب التخلية فقال : إنّ وجوب التخلية بين المال ومالكه لا يستلزم وجوب الحركات الخروجية المتوقّف عليها الكون في خارج الدار ، لأنّها ليست معنونة بعنوان التخلية (1).

فنراه أعرض عن وجوب الردّ وبدّله بوجوب التخلية ، وأنكر كون الحركات الخروجية مصداقا لها ، مع ما هو واضح من أنّ تلك الحركات بالنسبة إلى التخلية من قبيل العنوان الأوّلي والثانوي الذي يلزمه الاتّحاد الخارجي ، فلو التزمنا بوجوبها كانت نفس الحركة الخروجية واجبة ، غايته أنّ تلك الحركات تكون واجبة بعنوانها الثانوي أعني التخلية دون العنوان الأوّلي.

وأغرب من ذلك أنّه جعل سند هذا الانكار هو كون الحركات المذكورة غصبا ، ومع كونها غصبا لا يعقل كونها مصداقا للتخلية الواجبة ، وما التفت إلى كون التخلية عنوانا ثانويا لها وهو موجب بالضرورة لصدقها عليها ، ومع كونها مصداقا للتخلية تخرج عن كونها مبغوضة وظلما ، وإن كانت تصرّفا في المكان بدون رضا مالكه ، إذ ليس كلّ تصرّف بغير الرضا يكون ظلما ومبغوضا.

ص: 158


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 193.

ومن ذلك تعرف الجواب عمّا ذكره في الحاشية (1) من دعوى التفرقة بين الخروج في الاضطرار لا بسوء الاختيار ، وبينه في الاضطرار بسوء الاختيار في هذا الحكم العقلي ، أعني حسن الردّ والتخلية وعدمه.

ثمّ إنّه ذكر دعوى وجوب الحركات المذكورة مقدّمة للتخلية المنطبقة على الكون في خارج الدار ، وردّ هذه الدعوى بتسليم كون الحركات المذكورة مقدّمة للكون خارج الدار ، لكن منع وجوب ذلك الكون والتزم بأنّه غير التخلية ، وأنّ عنوان التخلية لا ينطبق على الكون في خارج الدار ، لأنّه عبارة عن إيجاد خلاء الدار من التصرّف فيها ، فهو ملازم للكون خارج الدار لا أنّه منطبق عليه (2).

فيا ليت شعري بعد فرض الاعتراف بكون التخلية عنوانا من العناوين الواجبة ، وبعد فرض إنكار انطباقه على نفس الحركة الخروجية ، وانكار انطباقه على الكون خارج الدار ، إذن ما ذا يكون مصداقه ، وأي فعل يفعله ذلك المكلّف المسكين امتثالا وإطاعة لذلك الأمر المتعلّق بالتخلية ، هل يمكن أن نقول إنّ الشارع الحكيم قد أمره بعنوان بلا معنون!. ومن ذلك يعرف الإشكال في الحاشية الأولى والثانية على ص 380 وكذلك الحاشية على ص 381 (3).

وحينئذ ينحصر التخلّص من دعوى وجوب الخروج بما ذكرناه من أنّه ليس في البين إلاّ حرمة الغصب ، وأنّ كلّ ما يعبّر به في المقام من وجوب الردّ أو وجوب التخلية إنّما هو عبارة عن حرمة الغصب والظلم ، فليس في البين تكليف

ص: 159


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 196.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 193 - 194 ( نقل بالمضمون ).
3- حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 195 ، 196.

آخر زائد على حرمة الغصب.

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس سره قد علّق في الهامش على قوله : كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه إلخ ، توضيحا لذلك التوقّف فقال في الهامش ما هذا نصّه :

لا يخفى أنّه لا توقّف هاهنا حقيقة ، بداهة أنّ الخروج إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار ، لا مقدّمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام ، نعم بينهما ملازمة لأجل التضادّ بين الكونين ( يعني الكون خارج الدار والكون في الدار الذي ادّعى كون تركه واجبا ) ووضوح الملازمة بين وجود الشيء ( الذي هو الكون خارج الدار ) وعدم ضدّه ( الذي هو الكون داخل الدار ) فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه ( الذي هو ترك الكون داخلها ) حقيقة ( فيكون الواجب الحقيقي هو ترك الكون داخل الدار والواجب بالعرض هو الكون خارجها ) فتجب مقدّمته ( أي مقدّمة الكون خارج الدار ، وتلك المقدّمة هي الخروج منها ) كذلك ( أي وجوبا غيريا بالعارض ، كوجوب ذيها الذي هو الكون خارج الدار ، فإنّ وجوبه بالعارض ناش عن وجوب ملازمه الذي هو ترك الكون فيها ) وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أنّ مثل الخروج يكون مقدّمة لما هو الواجب (1).

يعني أنّا إنّما قلنا بأنّ الخروج مقدّمة للواجب من باب محض المماشاة ، وإلاّ فليس في البين واجب يكون الخروج مقدّمة له ، لأنّه إنّما يكون مقدّمة للكون خارج الدار ، والكون في خارجها ليس بواجب وإنّما هو ملازم لما يدّعى أنّه واجب وهو ترك الكون فيها لكونه تركا للحرام ، ومن الواضح أنّ ترك الحرام ليس

ص: 160


1- كفاية الأصول : 168.

بواجب شرعي ، إذ ليس هناك تكليف آخر غير نفس الحرمة المذكورة. هذا هو مراد صاحب الكفاية قدس سره وقد أوضحه بحاشية أخرى (1) له في هذا المقام على قوله في المتن : وليس التخلّص إلاّ منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج لا عنوانا له (2).

فهو قدس سره ينكر أنّ في البين واجبا آخر غير ترك الحرام الذي عرفت أنّه لا تكليف في ناحيته إلاّ حرمة ذلك المتروك ، لكن المحشّي التزم بأنّ في البين واجبا وهو التخلية ، ومع ذلك جرى على ما في حاشية الكفاية من انكار انطباقه على الخروج ، وانكار كون الخروج مقدّمة له ، وأنّه إنّما يكون مقدّمة للكون خارج الدار الذي هو ملازم لذلك الواجب. ويا ليته حينما جرى على هذا المقدار قد أخذ الباقي ونفى وجوب شيء في البين ، فإنّه لو صنع ذلك لم يرد عليه شيء ممّا أوردناه.

وقال في الحاشية الثانية ما هذا نصّه : قد عرفت ممّا علّقت على الهامش أنّ ترك الحرام غير مسبّب عن الخروج حقيقة ( لنقول إنّ الخروج مقدّمة لترك الحرام لعدم كون ترك الحرام مسبّبا عنه حقيقة ) وإنّما المسبّب عنه ( حقيقة ) إنّما هو الملازم له ( أي لترك الحرام ) وهو ( أعني ذلك الملازم لترك الحرام ) الكون في خارج الدار ( وحينئذ يكون الخروج مقدّمة للكون خارج الدار ، والكون خارج

ص: 161


1- وينبغي بل يلزم مراجعة هذه الحاشية المشار إليها ، فإنّها فيما ذكرناه من معنى الحاشية التي نقلناها أوضح ، فإنّه صرّح فيها بأنّه لا دليل في البين إلاّ على حرمة الغصب ، وأنّه لا دليل على وجوب الخروج ليجب اعماله كاعمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، فراجع الحاشية وتأمّل [ منه قدس سره ].
2- كفاية الأصول : 173.

الدار ملازم لترك الحرام الذي هو الكون في داخلها ، فليس ترك الحرام مسبّبا حقيقة عن الخروج ) نعم يكون ( ترك الحرام ) مسبّبا عنه ( أي عن الخروج ) مسامحة وعرضا ( لكونه ملازما لمسبّبه الحقيقي الذي هو الكون خارج الدار ) وقد انقدح بذلك أنّه لا دليل في البين إلاّ على حرمة الغصب ( ولكن لا يخفى أنّه لم ينقدح من ذلك إلاّ عدم كون الخروج مقدّمة لترك الحرام ، وإنّما هو مقدّمة لملازمه الذي هو الكون خارج الدار. فالذي ينبغي حينئذ هو ابدال هذه العبارة بقوله : وقد حقّق في محلّه أنّ ترك الحرام ليس بواجب ، فلا يكون ترك الغصب واجبا ، إذ لا دليل إلاّ على حرمة الغصب وأنّ كلا من البقاء والخروج غصب ، وحينئذ يكون حرمة كلّ منهما مع الانحصار بسوء الاختيار فيهما ) المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب أنّه أقلّ المحذورين وأنّه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر ( ككونه بنفسه تركا للحرام أو كونه مقدّمة لترك الحرام ) فحينئذ يجب اعماله أيضا ( أي لو دلّ الدليل على وجوب الخروج لقلنا بأنّه يجب اعمال الوجوب والحكم بأنّه واجب ) بناء على القول بجواز الاجتماع كاعمال النهي عن الغصب ليكون الخروج ( حينئذ ) مأمورا به ومنهيا عنه (1).

لا يقال : إنّه لو كان في مكان وعلم أنّه لو بقي في ذلك المكان لابتلي بالمحرّم كسماع الغيبة مثلا ، فإنّه يجب عليه الخروج من ذلك المكان لئلاّ يقع في ذلك المحرّم ، وحينئذ نقول إنّه لو توقّف امتثال النهي عن شيء على فعل وجودي كان ذلك الفعل الوجودي واجبا ، وليس ذلك مبنيا على أنّ ترك الحرام واجب ، بل على أنّ امتثال التكليف سواء كان هو الوجوب أو كان هو النهي والحرمة لو توقّف

ص: 162


1- كفاية الأصول : 173 ( الهامش ).

على فعل وجودي مقدور كان ذلك الفعل واجبا غيريا من باب المقدّمة لامتثال ذلك التكليف ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ امتثال النهي المتوجّه إلى الكون البقائي متوقّف على الخروج فيكون الخروج واجبا.

لأنّا نقول : لا دليل على وجوب الخروج عن المكان الذي يبتلي فيه باستماع الغيبة ، ولا معنى للوجوب الترشّحي من ناحية الحرمة ، فإنّ الحرمة إنّما يترشّح منها التحريم ، كما أنّ الوجوب النفسي لا يترشّح منه الحرمة وإنّما يترشّح منه الوجوب ، وحينئذ فأقصى ما يكون في البين هو أن يكون بقاؤه في ذلك المكان محرّما ، لكون بقائه فيه موقعا له في الحرام ، وإنّما يلزمه الخروج لا من باب أنّه واجب ولو غيريا ، بل من باب أنّ تركه واستمرار البقاء موجب لوقوعه في المحرّم.

وحينئذ ففيما نحن فيه نقول : إنّ تركه الخروج من الدار المغصوبة يكون حراما لكونه مؤدّيا إلى البقاء ، بل هو بعينه البقاء الذي هو الحرام ، فلا يرد أنّه كيف يكون ترك الخروج من الدار المغصوبة حراما مع فرض كون الخروج المذكور بنفسه حراما ، لنحتاج إلى الجواب عن ذلك بأنّ المصحّح له هو سوء الاختيار غايته أنّه يسقط الخطاب بكلّ من الحرمتين ، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد فرض كون ترك الخروج هو بعينه البقاء الذي هو المحرّم ، لا شيء آخر مؤدّ إلى المحرّم ، نعم يتّجه الإشكال فيه من ناحية أخرى ، وهي أنّه كيف يكون الخروج حراما مع كون البقاء حراما ، وحينئذ يجاب عنه بأنّ ذلك من جهة سوء الاختيار الذي لا يوجب إلاّ سقوط الخطاب.

نعم ، لو قلنا فيما تقدّم من المثال إنّه يجب الخروج عن المكان الذي يبتلي

ص: 163

فيه باستماع الغيبة فيه وجوبا شرعيا غيريا توصّلا إلى امتثال النهي عن الغيبة لا أنّ البقاء محرّم ، وقلنا فيما نحن فيه بمثل ذلك بأن نقول إنّ الحرام الزائد في البقاء يتوقّف امتثاله على الخروج ، فيكون الخروج واجبا مقدّمة لامتثال النهي المتعلّق بذلك الزائد.

وبعبارة أخرى : أنّ حرمة ذلك الزائد والنهي عنه تكون موجبة لتوجّه الأمر الغيري إلى الفعل الوجودي الذي هو الخروج ، المتوقّف عليه امتثال ذلك النهي عن التصرّف الزائد للبقاء على التصرّف الخروجي ، لكن لو كان لذلك الشخص فعلان أحدهما محرّم والآخر مباح كان الأمر الغيري متوجّها إلى ذلك المباح دون المحرّم ، ولو انحصر بالمحرّم كان من التزاحم بين حرمة ذلك الزائد وحرمة ذلك الفعل المحرّم ، نظير ما لو انحصرت مقدّمة الواجب بفعل الحرام ، ومع فرض كون ذي المقدّمة الذي هو حرمة الزائد أهمّ لكون المخالفة فيها أكثر يسقط التحريم عن مقدّمتها ، لكن ذلك إذا لم يكن الانحصار بسوء الاختيار ، أمّا لو كان بسوء الاختيار كما فيما نحن فيه ، لأنّه بسوء اختياره جعل امتثال ذلك النهي المهمّ متوقّفا على ارتكاب الحرام ، فلا أثر لذلك الانحصار إلاّ سقوط كلا الخطابين مع بقاء كلّ منهما على ما هو عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب ، نظير ما ذكرناه في من أقدم بسوء اختياره على جعل حفظ نفسه متوقّفا على ارتكاب الحرام أعني شرب الخمر ، فإنّ ذلك لا يوجب إلاّ سقوط الخطاب بكلّ منهما ، أمّا الشرب فلحكم العقل بارتكابه لكونه أقلّ القبيحين ، وأمّا حفظ النفس فلأنّه مع مبغوضية ما يتوقّف عليه لا يمكن توجّه الخطاب به ، وحينئذ يكون الخطاب بكلّ منهما ساقطا ، ويكون كلّ منهما مبغوضا فعلا مستحقّا عليه العقاب فتأمّل.

ص: 164

قوله : ثمّ إنّه إذا بنينا على أنّ الشارع لا يريد وقوع التصرّف في مال الغير بدون إذنه حتّى إذا كان بعنوان الخروج كما هو ليس ببعيد - إلى قوله : - فإنّ الشارع حيث إنّه لا يرضى بوجود شرب الخمر من أي شخص كان ، وليس حاله حال ترك الصلاة من الحائض حتّى لا يكون فيه ملاك المبغوضية ، ولذا لو توسّلت المرأة إلى الحيض لم يكن في ذلك بأس أصلا ، فلا محالة يحرم المقدّمة التي بها يضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر ، ولكن بعد عصيان هذا التكليف التحريمي لا يقع الشرب إلاّ محبوبا عقلا وشرعا ، فيكون حال الخروج أيضا كذلك ... الخ (1).

هذه الجمل أعني قوله : إنّ الشارع لا يريد وقوع التصرّف في مال الغير بدون إذنه حتّى إذا كان بعنوان الخروج كما هو ليس ببعيد. وقوله : حتّى لا يكون فيه ملاك المبغوضية ، لا تخلو من تأمّل.

وبمثل هذه الجمل عبّر المرحوم الشيخ موسى ، فإنّه قال : نعم يمكن أن يدّعى أنّ بعض الأمور ممّا لا يرضى الشارع بإيجاده في الخارج بأي عنوان ، فإذا ارتكب الفاعل المختار ما يوجب الوقوع فيه فالموجب له يصير حراما ، وفي المقام يصير الدخول محرّما من جهتين ، من جهة أنّه بنفسه تصرّف ومن جهة استلزامه لتصرّف زائد ، ولكن هذا أيضا لا يفيد ، لمبغوضية الخروج كما هو المدّعى ، انتهى.

وأهون العبارات إشكالا ما حرّرته أنا عنه قدس سره في هذا المقام وهذا نصّه :

وحيث قد ظهر لك أنّ الخروج أجنبي بالمرّة عن قاعدة الامتناع بالاختيار

ص: 165


1- أجود التقريرات 2 : 194 - 195 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فنقول : إنّ الدخول وإن ترتّب عليه الاضطرار إلى ذلك المقدار من التصرّف الغصبي أعني التصرّف الخروجي ، إلاّ أنّه ليس مطلق التصرّف في المغصوب محرّما ، بل إنّه إذا كان بعنوان التخلّص وردّ المغصوب لم يكن محرّما ، بل يكون واجبا بحكم العقل ، وإن كان الضمان باقيا ، إذ لا ملازمة بين بقاء الضمان وبقاء التحريم ، حيث إنّ الموجب لانقطاع الضمان إنّما هو التأدية المأخوذة غاية للضمان في ضمان اليد ، فما لم تحصل التأدية لا ينقطع الضمان وإن انقطع التحريم بواسطة الانقلاب إلى ما يحكم العقل بحسنه ولزومه.

ثمّ إنّ هذا الانقلاب ليس من قبيل الانقلاب الموضوعي كالحاضر والمسافر والحائض والطاهر ، بحيث إنّه يسوغ للشخص أن يجعل نفسه مسافرا بعد أن كان حاضرا ، أو أنّ المرأة تشرب ما يوجب حيضها بعد أن كانت طاهرا ، فإنّ ذلك مباح لا ريب فيه ، بل في المقام شيء آخر غير مجرّد تبديل الموضوع ، وهو أنّه بعد أن علمنا أنّ الشارع المقدّس يمنع من شرب الخمر مثلا كان كلّ ما أوقع فيه ممنوعا منه عنده. وهكذا الحال في التصرّف الغصبي ، فإنّه لمّا منع عنه الشارع كان كلّ ما يوجب الوقوع فيه ممنوعا منه عنده (1).

ص: 166


1- وهذه الجمل موجودة في عبارة المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأصول 1 - 2 : 451 - 452 ]. ولا بدّ أن يكون المراد هو أنّ كلّ ما يوقع في شرب الخمر يكون حراما ولو كان ذلك الشرب الذي وقع فيه واجبا. وهكذا الحال في حرمة كلّ ما يوقع في الغصب فإنّها شاملة لما إذا كان الغصب الذي وقع فيه واجبا ، لكونه مصداق التخلّص. والمراد من علمنا بأنّ الشارع يمنع من شرب الخمر هو العلم بذلك على نحو الاجمال ، فلا يلزمه كون شربه للتداوي حراما. ولأجل امكان إصلاح هذه العبارة بهذه الجهة قلنا إنّها أخف العبارات إشكالا ، ولكن مع هذا الإصلاح فإنّ عبارة المرحوم الشيخ محمّد علي أحسن ، لكون آخرها صريحا في هذا الاصلاح ، وعلى أي حال أنّ هذه الجمل الموجودة في هذا الكتاب ونحوها لا تخلو من تأمّل [ منه قدس سره ].

ثمّ إنّ نسبة المعلول إلى العلّة أنواع :

الأوّل : ما هو من قبيل العناوين التوليدية.

الثاني : ما يكون ترتّب الفعل عليه قهريا بلا اختيار من الفاعل ، كما في مثال الصبّ وجريان الماء إلى المكان المغصوب.

الثالث : ما يكون اختيار الفعل مترتّبا عليه ، كما في مثل شرب الدواء الموجب للمرض المهلك المتوقّف علاجه والشفاء منه على شرب الخمر ، فإنّ شرب ذلك الدواء يكون علّة لاختيار المكلّف شرب الخمر لحفظ نفسه ، والدخول بالقياس إلى ذلك المقدار من التصرّف المضطرّ إليه الممتنع تركه بعد الدخول يكون من النحو الثاني ، وبالنسبة إلى ذلك الخروج يكون من قبيل النحو الثالث.

وحينئذ يكون الدخول محرّما من جهتين ، الأولى : من جهة أنّه بنفسه تصرّف في المغصوب فيكون محرّما بنفسه ، الثانية : من جهة كونه علّة لذلك المقدار من التصرّف الغصبي الذي اضطرّ إليه واحتاج إلى صرفه في الخروج كان محرّما نفسيا بالغير ، إلاّ أنّ حرمته من هذه الجهة لا توجب حرمة الخروج أو كونه مبغوضا أو معاقبا عليه ، كما أنّ حرمة شرب الدواء الموجب للمرض المنحصر علاجه بشرب الخمر لا يكون موجبا لحرمة شرب الخمر للتداوي ، بل هو باق على ما هو عليه من كون شربه تداويا وحفظا للنفس المحترمة ليس بحرام بل واجب عقلا ، فكذلك الخروج الذي هو التخلّص من الغصب وردّ المغصوب إلى

ص: 167

أهله ، يكون باقيا على ما هو عليه من الحسن العقلي وعدم التحريم الشرعي ، وإن كان الموجب للوقوع فيه أعني الدخول محرّما من جهة كونه موقعا فيه ، انتهى.

فإنّها بظاهرها مناقضة لما يدّعيه شيخنا من كون الخروج وشرب الخمر لحفظ النفس محبوبا شرعا وحسنا عقلا ، والالتزام بهذه الجمل محتاج إلى دعوى الانقلاب ، بأن يدّعى أنّ الخروج قبل الدخول يكون مبغوضا لكنّه بعد الدخول ينقلب إلى المحبوبية.

والذي هو مراد شيخنا قدس سره في هذا المقام هو دفع ما ربما يستبعد هنا من أنّ لازم كون الشرب محبوبا هو أن لا يكون المقدم على ما يوجب اضطراره إلى شرب الخمر معاقبا أصلا ، وهكذا الحال في المقدم على الدخول الموجب لمحبوبية الخروج أن لا يكون معاقبا من ناحية ذلك الخروج أصلا ، ويكون حالهما حال إقدام المرأة على ما يوجب وقوعها في الحيض الذي يوجب ترك الصلاة ، فأراد قدس سره الجواب عن هذا الاستبعاد بالالتزام بحرمة المقدّمة الموقعة في ذلك ، وفرق بين أمثال هذه المقامات ومقام الحيض بأنّ الثاني من قبيل تبدّل الموضوع بخلاف الأوّل. وحاصل الفرق هو ما أشار إليه المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته ، فإنّه قال : فالعقاب لو كان إنّما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنّه حينئذ يحرم على الشخص إدخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر ، وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنّه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية إيقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة ، وهذا بخلاف شرب الخمر ، فإنّ إدخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه

ص: 168

بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أنّ إدخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرّف في مال الغير مبغوض للشارع (1).

ويمكن أن يقال إنّ موقع قوله : كما هو ليس ببعيد (2) ، هو هذه الجهة أعني دعوى حرمة المقدّمة التي توقعه فيما يوجب تكليفه بشرب الخمر حفظا لنفسه ، مع كون الشرب في ذلك الحال حسنا عقلا ومحبوبا شرعا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ عدم الحيض شرط ملاكي ، ولأجل ذلك جاز للمرأة أن تعمل ما يوجب إيقاعها فيه ، بخلاف مثل مطلق الطهور فإنّه شرط خطابي ، ولأجل ذلك كانت المرأة غير معاقبة على ذلك العمل ولا على ترك الصلاة ، وهذا بخلاف ما لو تعمّد ما يوجب عدم تمكّنه من مطلق الطهور ، فإنّه معاقب على ترك الصلاة من حين إقدامه عليه وإن سقط به الخطاب بها مع بقاء ترك الصلاة مبغوضا بحاله.

وحينئذ نقول : إنّ التصرّف الخروجي وشرب الخمر للعلاج وحفظ النفس ، وكذا ترك الصوم لمن أوقع نفسه في مرض يضرّه فيه الصوم ، إن كانت هذه الأمور من قبيل صلاة الحائض لم يكن المقدم على مقدّماتها مستحقّا للعقاب ، لا على المقدّمة ولا على المخالفة في هذه الأمور ، وإن كانت من قبيل صلاة فاقد الطهورين كان مستحقّا للعقاب على المخالفة فيها لا على المقدّمة ، فإنّ هذا الباب حينئذ من باب المقدّمات المفوّتة والتكليف فيها طريقي ، والعقاب فيها إنّما يكون على مخالفة التكاليف التي تؤدّي تلك المقدّمات (3) إلى الاضطرار إلى

ص: 169


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 451 - 452.
2- والذي تقدّم نقله عن أجود التقريرات في ص 165.
3- ينبغي هنا مراجعة ما أفاده شيخنا قدس سره في بحث المقدّمات المفوّتة وما علّقناه عليه [ منه قدس سره ].

مخالفتها ، ودخلت في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وهذا هو عين ما يدّعيه صاحب الكفاية.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الموجبة للوقوع في الاضطرار إلى شرب الخمر لحفظ النفس ليست حرمتها من ناحية الاضطرار إلى شرب الخمر ، الموجب لحفظ النفس الذي هو حسن على كلّ حال ، بل إنّ حرمتها من ناحية أنّها مؤدّية إلى هلاك النفس ، غايته أنّه بعد الوقوع في الإشراف على الهلاك يكون شرب الخمر حسنا ، لأنّه رافع لذلك الهلاك (1).

وهكذا الحال في الدخول ، فإنّه مع حرمته نفسا يكون حراما باعتبار ما يترتّب عليه من دوام الغصب ، غايته أنّ علاج ذلك المحذور يكون بالخروج والتخلية لو أراد التخلّص بعد الوقوع في تلك الورطة ، فيكون الخروج حينئذ حسنا عقلا وواجبا شرعا. وهكذا المقدم على ما يوجب مرضه الذي لا يتمكّن معه من الصوم ، فإنّ إقدامه على ما يوجب مرضه يكون حراما لكونه موقعا له في المرض ، غايته أنّ حكم ذلك المرض هو عدم وجوب الصوم.

نعم ، لو لم تكن تلك المقدّمة موجبة لوقوعه في المرض ، بل كانت موجبة لكون الصوم مضرّا له مع فرض كونه غير مريض ، لكان حرمتها طريقية من ناحية

ص: 170


1- لا يقال : بعد فرض أنّ الداخل بسوء اختياره قد اضطرّ إلى مقدار التصرّف الخروجي ، فلم لا يصحّ كونه مأمورا به بنحو الترتّب ، بأن يقال إن ارتكبت الدخول واضطررت إلى ذلك المقدار فاجعله خروجا ، فيكون الاتيان بالخروج عصيانا للنهي السابق واطاعة للأمر اللاحق. لأنّا نقول : إنّ هذا العصيان بنفسه هو مورد إطاعة اللاحق ، فيكون الأمر به على تقدير العصيان المذكور تحصيلا للحاصل [ منه قدس سره ].

استلزامها عدم القدرة على الصوم ، فيكون ترك الصوم في ذلك نظير ترك الصلاة لمن أقدم على اعدام الطهورين في كون ذلك الترك مبغوضا ، وإن كان الخطاب به ساقطا. ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره من الالتزام بحرمة المقدّمة مع الالتزام بحسن ما تؤدّي إليه من شرب الخمر العلاجي أو الخروج التخلّصي ، لكن العبائر المنقولة - حتّى ما حرّرته أنا عنه قدس سره فإنّه قريب ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي - لا يظهر منها ذلك ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في مسألة الصوم لا يخلو من إشكال ، إذ ليس حكم المريض بما أنّه مريض هو ترك الصوم ، وإن كان ذلك هو الظاهر البدوي من الآية الشريفة (1) حيث جعلته في مقابل المسافر ، بل إنّه إنّما يكون حكمه ترك الصوم باعتبار كونه مضرّا له ، وحينئذ فلا فرق فيه بين الصورتين ، ويكون الالتزام بحرمة ذلك الشرب وحسن ترك الصوم ووجوب الافطار موردا للسؤال السابق ، وهو أنّ عدم الضرر إن كان شرطا ملاكيا كان حاله حال شرب المرأة الدواء للحيض ، وإن كان أجنبيا عن الملاك كان حاله حال تعمّد فقدان مطلق الطهور فتأمّل جيّدا ، فإنّ المتّبع هو الدليل على حرمة ذلك التفويت ، ولا يمكن اتمام المسألة بحسب القواعد ، فراجع ما حرّرناه في مبحث المقدّمات المفوّتة.

قوله : وأمّا القبح الفاعلي المانع عن التقرّب فلا يكون فيما نحن فيه ... الخ (2).

لا يخفى أنّه قدس سره علّل الصحّة أوّلا على القول بالجواز ، وعلى القول بأنّ الخروج معاقب عليه وأنّه غير مأمور به ، بعد الحكم ببطلانها على القول بالامتناع ،

ص: 171


1- البقرة 2 : 184 ، 185.
2- أجود التقريرات 2 : 197 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس سره : بأنّ الصلاة لكونها إيمائية تكون أجنبية عن جهة الغصب.

قلت : لا يخفى أنّ الصلاة الإيمائية في حال الخروج إن كانت تعدّ تصرّفا في المكان ولو من جهة الإيماء إلى الركوع والسجود ، لم يكن فرق بين القول بالامتناع والقول بالجواز في الحكم ببطلانها ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّها لمّا كانت تصرّفا في المغصوب وقع التزاحم بين جهة الغصب وجهة الصلاة ، فيكون التكليف بها مع العقاب عليها تكليفا بغير المقدور ، ولا يبعد أن يقال بسقوط الأمر بالصلاة في هذه الصورة. وإن لم تكن الصلاة المذكورة تصرّفا في المغصوب كانت صحيحة على القول بالامتناع كالقول بالجواز.

وبالجملة : إن كانت هذه الصلاة داخلة في مسألة الاجتماع كان اللازم الحكم ببطلانها على كلا القولين ، وكان اللازم سقوط الأمر بالصلاة ترجيحا لجانب حرمة الغصب ، ولو مع عدم المندوحة كما هو المفروض ، وإن كانت خارجة عن مسألة الاجتماع كانت صحيحة على كلا القولين.

ثمّ إنّه قدس سره أفاد بعد ذلك أنّه لا ريب في كون الصلاة في حال الخروج تصرّفا في المكان المغصوب ، ولو من جهة كون القيام جزءا منها ، وهو قيام في المغصوب ، وحينئذ فإن قلنا بأنّ الخروج مأمور به وليس بمنهي عنه ولا معصية حكمية لم يكن إشكال في صحّة الصلاة المذكورة ، وإن قلنا بأنّه منهي عنه أو أنّه معصية حكمية كانت الصلاة في حاله داخلة في النزاع في مسألة الاجتماع ، فإن قلنا بالامتناع لم يمكن أن تكون تلك الصلاة مأمورا بها وكانت باطلة ، وإن قلنا بالجواز من حيث الجهة الأولى كانت الصلاة المذكورة صحيحة ، فإنّ صحّة الصلاة في مورد عدم المندوحة وإن كانت محلّ تأمّل وإشكال ، لوقوع التزاحم

ص: 172

بين الأمر والنهي فيها ، إلاّ أنّ ما نحن فيه أجنبي عن مورد عدم المندوحة ، لأنّ ذلك المورد إنّما يكون فيما إذا لم يكن واقعا في الغصب على كلّ حال ، فيدور الأمر بين ترك الصلاة وبين ارتكاب الغصب ، فيقع التأمّل والإشكال في أنّ أيّا منهما هو المقدّم ، أمّا ما نحن فيه فهو واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون من قبيل الدوران بين ترك الصلاة والغصب ، انتهى.

وبنحو هذا صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس سرهما فإنّه قال : أمّا على الجواز فلأنّ المبغوضية غير مانعة عن قصد التقرّب ، لأنّ المبغوض يصدر عن المكلّف على أي حال صلّى فيه أم لم يصلّ ، فإيجاد فعل الصلاة ليس موجبا لايجاد المبغوض ، ولا يؤثّر اجتماع عنوان المبغوض معه.

قلت : لا يخفى أنّ القبح الفاعلي الذي كان هو المانع عنده قدس سره من الجواز من حيث الجهة الثانية متحقّق في هذه الصورة على الظاهر ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القبح الفاعلي إنّما يتحقّق بعد تقديم جانب النهي ، وحينئذ نقول في مورد عدم المندوحة لا ريب في وقوع التزاحم بين الأمر والنهي ، فإن قدّمنا جانب النهي تحقّق القبح الفاعلي وكان مقتضاه بطلان الصلاة وسقوط الأمر بها ، وإن قدّمنا جانب الأمر كانت الصلاة صحيحة وسقط النهي ، وإن تردّدنا في ذلك لأنّ كلا منهما ليس له البدل توقّفنا في الحكم بالصحّة إذا كان عدم المندوحة بمعنى أنّه لا يتمكّن من الصلاة إلاّ في المكان المغصوب ، ولم يكن في نفسه مضطرّا إلى ذلك المكان ، على إشكال في ذلك تقدّم ذكره (1) وبيان أنّ النهي في مثل ذلك يكون مقدّما على الصلاة إذ لا إشكال في أنّه لا يشرع له الغصب لأن يصلّي.

وأمّا إذا كان عدم المندوحة لأجل اضطراره إلى المكان المغصوب صلّى أو

ص: 173


1- راجع الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : 80 و111.

لم يصلّ ، فإن كان الاضطرار لا بسوء الاختيار كان موجبا لسقوط النهي ، فلا يكون في البين قبح فاعلي ولا نهي فعلي ولا نهي حكمي كي يكون مانعا من صحّة الصلاة ، فلا مانع فيه من صحّة الصلاة لا خطابا ولا ملاكا.

وإن كان الاضطرار بسوء الاختيار وقلنا إنّ الاضطرار المذكور لا يخرج الخروج عن كونه معصية حكمية ، وإن سقط به الخطاب الفعلي بالنهي ، وقعت المزاحمة بين كونه معصية حكمية وبين الأمر بالصلاة ، فإن قدّمنا جانب الأمر صحّت الصلاة المذكورة لعدم القبح الفاعلي ، وإن لم نقدّم جانب الأمر كما هو الظاهر كان القبح الفاعلي مانعا من صحّة الصلاة.

وكأنّه قدس سره يقدّم جانب الأمر استنادا في ذلك إلى أنّ الأمر إنّما تزاحمه المعصية الحكمية إذا لم يكن واقعا فيها على كلّ حال ، أمّا إذا كان واقعا فيها على كلّ حال فلا تكون مزاحمة للأمر ، لعدم الدوران بينها وبين امتثال الأمر.

وفيه تأمّل ، لأنّ مجرّد كونه واقعا في المعصية الحكمية على كلّ حال لو كان مخرجا للفعل عن كونه معصية كما في الاضطرار لا بسوء الاختيار ، لكانت غير مزاحمة للأمر ، لكونها ساقطة بواسطة الوقوع فيها على كلّ حال ، يعني أنّها ساقطة بالاضطرار [ لا ] بسوء الاختيار. أمّا إذا لم يكن وقوعه فيها على كلّ حال مخرجا للفعل عن كونه معصية حكمية ، كما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، فلا تخرج به المعصية الحكمية عن كونها مزاحمة للأمر ، ومانعة عن إمكان التقرّب بذلك الفعل ، لتحقّق القبح الفاعلي فيه المانع من صحّة الامتثال والتقرّب به.

فالذي ينبغي أن يقال في هذه الصورة هو بطلان الصلاة ، وسقوط الأمر بها في الوقت ولزوم قضائها في خارج الوقت سقوطا خطابيا ، فيكون مستحقّا

ص: 174

للعقاب أيضا على ترك الصلاة في وقتها ، كما أنّه مستحقّ للعقاب على ذلك المقدار من الغصب.

هذا هو عين ما كنت حرّرته عنه قدس سره وعلّقته عليه في وقته ، نقلته على علاّته وإن كان مشتملا على ما لا دخل له في خصوص هذه المسألة التي نحن فيها ، ولم أغيّر شيئا منه سوى تبديل دام ظلّه بلفظ قدس سره.

وأمّا ما في هذا التحرير وغيره من التمسّك لصحّة الصلاة المذكورة بحديث إنّ الصلاة لا تسقط بحال (1) مع الاعتراف بالقبح الفاعلي ، ففيه تأمّل وإشكال ، بل هو ممنوع على الظاهر ، فإنّ هذا الحديث إنّما هو في مقام تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط دون مسألة القبح الفاعلي ، ولأجل ذلك منع قدس سره من التمسّك به في مسألة الاضطرار إلى الصلاة في الحرام مع كونه في حدّ نفسه لم يكن مضطرّا إلى الحرام ، كما لو أجبره شخص على أنّه إذا أردت الصلاة فلا أدعك تصلّي إلاّ مع المغصوب ، فإنّه قدس سره منع من التمسّك لصحّة الصلاة في ذلك بحديث لا تسقط بحال ، كما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قال هناك : ولا يجري فيه قوله عليه السلام الصلاة لا تسقط بحال ، لأنّه إنّما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرّمة ذاتا ، انتهى (2). وقد تقدّم (3) نقله في مسألة الاضطرار إلى مخالفة القيود العدمية فراجع.

وحاصل البحث : أنّ منشأ الإشكال إنّما هو عدم إمكان التقرّب بما هو

ص: 175


1- لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 446.
3- في الصفحة : 86 - 87 وكذا الصفحة 114.

مبغوض فعلا ، أو بما اقترن بالمبغوض ، بناء على ما قدّمناه (1) في وجه القول المختار ، أعني الامتناع من الجهة الثانية. ومجرّد أنّ المكلّف واقع في هذا المبغوض على كلّ حال صلّى أو لم يصلّ ، كما نقلناه عنه قدس سره وحرّره عنه المرحوم الشيخ موسى رحمه اللّه إنّما يؤثّر لو كان المنشأ في الإشكال المزبور هو كون المسألة من وادي التزاحم وتقديم جانب النهي ، فيقال إنّ التزاحم مورده الدوران بين الغصب والصلاة ، لا ما إذا كان واقعا في الغصب على كلّ حال.

لكنّك قد عرفت أنّ منشأ الإشكال هو عدم تحقّق التقرّب بما هو مبغوض أو مقارن للمبغوض وملازم له ولو في الوجود على ما شرحناه فيما تقدّم في توجيه الامتناع من الجهة الثانية ، وحينئذ لا يكون الوقوع بسوء الاختيار في المبغوض على كلّ حال رافعا لهذه الجهة من الإشكال (2).

كما أنّه لا يمكن التمسّك لرفعها بحديث إنّ الصلاة لا تسقط بحال ، لما عرفت فيما تقدّم نقله من أنّه إنّما سيق لتعذّر بعض الأجزاء والشرائط ، لا ما إذا كان في البين نهي أو مبغوضية تمنع من امكان التقرّب ، هذا مضافا إلى أنّ حديث لا تسقط الصلاة لا يمكن أن يرفع الحكم العقلي القائل إنّه لا يمكن تحقّق التقرّب بما قارنه المبغوض إلاّ برفع الحكم الذي نشأت عنه المبغوضية ، التي كان منع

ص: 176


1- راجع حاشيته المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : 89 وما بعدها.
2- والأنسب أن يجعل وقوعه في الغصب على كلّ حال توجيها لصحّة الترتّب ، بأن يخاطب بأنك بعد وقوعك في الغصب على كلّ حال فاشتغل في ذلك الحال بفعل الصلاة. لكنّك قد عرفت أنّ الترتّب لا يتأتّى في مثل ذلك إمّا لما أفاده شيخنا قدس سره من لزوم تحصيل الحاصل [ أجود التقريرات 2 : 105، 114 ] وإمّا لما عرفت من أنّ المبغوضية الفعلية مانعة عن التقرّب ، فلا يمكن أن يتوجّه إليه الأمر العبادي في ذلك الحال [ منه قدس سره ].

العقل من امكان التقرّب مستندا إليها ، ولأجل ذلك حاول إصلاح هذا التمسّك في الطبعة الجديدة بأنّ هذا الحديث يستفاد منه بالدلالة الالتزامية ارتفاع القبح الفاعلي عند مزاحمته لترك الصلاة رأسا (1).

ولكن يمكن المنع من هذه الدلالة ، ولعلّها من قبيل ما منعه شيخنا في باب العموم من أنّه لو توقّف عموم العام وشموله للمورد الفلاني على اعمال عناية في ذلك المورد ، ولو بمثل رفع حرمته الرافعة للمبغوضية المانعة من امكان التقرّب ، لم يمكن الحكم بشموله لذلك المورد استنادا إلى أصالة العموم.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الاستدلال بهذا الحديث فيما نحن فيه لم يذكره المرحوم الشيخ موسى ، ولم أجده في تحريراتي ، نعم ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه وذكر في المسألة وجوها وتفاصيل كلّها لا تخلو عن إشكال ، ولقد توسّع في عموم هذا الحديث حتّى أنّه حاول التمسّك به على القول بالامتناع ، لكنّه رحمه اللّه اعترف بعدم خلو ذلك عن الإشكال ، وبأنّ شيخنا قدس سره لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي ، انتهى (2) فراجع وتأمّل.

والذي أظنّ أنّ التمسّك في هذا المقام بحديث الصلاة لا تسقط بحال ، وكذلك ما حرّرته عنه قدس سره أوّلا من أنّ هذه الصلاة لكونها إيمائية تكون أجنبية عن جهة الغصب ، كلّ ذلك مأخوذ ممّا أفاده في الجواهر ، فإنّه قدس سره بعد أن اختار البطلان فيما نقلناه عنه فيما تقدّم (3) قال : نعم قد يقال إنّ الكون حال تشاغله بالخروج ليس صلاتيا كي يقتضي حرمته فسادها ، بل الصلاة ليس إلاّ النيّة

ص: 177


1- أجود التقريرات 2 : 197 - 198.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 453.
3- في الصفحة : 156.

والأقوال بناء على أنّها ليست من التصرّف ، وحينئذ فلا بأس بتكليفه بالصلاة في هذا الحال ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، والميسور بالمعسور (1). فراجع تمام كلامه قدس سره وتأمّل ، وراجع ما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا قدس سره في المقام من صلاته (2) وتأمّل.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا الذي أفاده في الجواهر من أنّ الصلاة في ذلك الحال لا تكون إلاّ النية والأقوال ، ولا يعتبر فيها شيء من الأفعال حتّى الايماء بالرأس أو بالطرف ونحو ذلك ، يكون البحث عن صحّة تلك الصلاة في ذلك الحال ساقطا ، إذ لا يكون في هذه الصلاة شائبة التصرّف في المغصوب كي يندرج في قاعدة الامتناع أو لا يندرج.

نعم ، قد لاحظ شيخنا قدس سره هذه الجهة من الإشكال فأدخل القيام ، فإنّه وإن كان في حال الركض للخروج إلاّ أنّه لا يخرج عن كونه جزءا من الصلاة. لكنّه لا يخلو عن إشكال ، لامكان فرض الخروج بغير القيام ، كما إذا أمكن خروجه محمولا في السيارة لكونها أسرع من خروجه راكضا ، هذا مضافا إلى أنّ القيام ليس بجزء دائما ، وإنّما هو في غير الركوع وما بعده ، ويمكن القول بأنّ فعله لا يكون في هذا الحال جزءا أو شرطا ، لأنّه لازم الخروج لا أنّه قد فعله بعنوان الجزء من الصلاة ، فتأمّل.

قوله في الطبعة الجديدة : وأمّا إذا وقعت في ضيق الوقت أو ممّن هو غير مكلّف إلاّ بمثل ما يأتي به حال الخروج ... الخ (3).

هذه الجملة الأخيرة المتعرّضة لفرد نادر زيادة على الطبعة الأولى لم أجدها

ص: 178


1- جواهر الكلام 8 : 294 - 295.
2- مصباح الفقيه 11 ( كتاب الصلاة ) : 37 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 2 : 197.

في غيره من التحارير ، فإنّ كلامه قدس سره في هذه الفروض منحصر في خصوص ضيق الوقت ، وحينئذ لا حاجة إلى ما علّقه في الحاشية (1) من التنبيه على خروج هذه الصورة ممّا نقله عن شيخنا قدس سره من حكم المسألة على القول بالجواز.

وأمّا ما ذكره في هذه الحاشية من قوله : لكنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّه لا أساس لدعوى القبح الفاعلي في أمثال المقام ، فلا مانع من التقرّب بما يأتي به حال الخروج الخ ، فكأنّه غفل عمّا ذكره هناك ، فإنّ مقتضاه هو صحّة الصلاة في الدار المغصوبة بقول مطلق كما صرّح به هو هناك ، فراجع ص 370 (2).

وأمّا ما ذكره في الحاشية الثانية (3) من أنّه يستفاد من هذا الحديث سقوط المبغوضية ، ففيه أن لازم ذلك هو صحّة الصلاة المذكورة على القول بالامتناع ، مع أنّه في الكتاب حكم ببطلانها ، وقد عرفت فيما تقدّم (4) وجه هذه الاستفادة والإشكال فيها ، وأنّ المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه قد حرّر عن شيخنا قدس سره محاولة التصحيح بذلك فيما نحن فيه حتّى على القول بالامتناع.

وبالجملة : أنّ من يلتزم بدلالة حديث لا تسقط على سقوط المبغوضية يلزمه أن يقول بأنّ الصلاة صحيحة حينئذ حتّى على القول بالامتناع ، هذا.

ولكن الذي ينبغي هو التأمّل فيما أفاده قدس سره في وجه عدم تأتّي القبح الفاعلي حسبما حرّرته وحرّره عنه المرحوم الشيخ موسى من قوله قدس سره : أمّا ما نحن فيه فهو واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون من الدوران بين ترك الصلاة والغصب ،

ص: 179


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 197.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 180.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 198.
4- في الصفحة 177.

انتهى. وقول المرحوم الشيخ موسى : فلأنّ المبغوضية غير مانعة من قصد التقرّب ، لأنّ المبغوض يصدر من المكلّف على أي حال صلّى فيه أم لم يصلّ ، فإيجاد فعل الصلاة ليس موجبا لإيجاد المبغوض ، فالصلاة صحيحة ولا يؤثّر اجتماع عنوان المبغوض معه ، انتهى.

وهذه الجمل ناظرة إلى ما مرّ منه قدس سره (1) في توجيه الفساد على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية بالقبح الفاعلي ، الذي عرفت شرحه فيما تقدّم من وحدة الارادة وتعدّد المراد أو وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، وبعبارة أصرح وحدة المعنى المصدري وتعدّد المعنى الاسم المصدري ، وهذه الوحدة في هذه الجهات هي المانعة من قصد التقرّب ، وهي متأتّية فيما لو كان خارج المغصوب ولكن هناك قاهر يمنعه من الصلاة إلاّ في المغصوب ، فإنّه هناك يقع التزاحم بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة ، ومع تقديم حرمة الغصب لا يمكن التقرّب ، لأنّ إيجاد الصلاة في ذلك يكون إيجادا للغصب ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّه واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون إيجاده الصلاة إيجادا للغصب ، فلا يتحقّق فيها القبح الفاعلي الذي هو كون إيجادها إيجادا للغصب ، فلا يتوجّه على شيخنا قدس سره شيء ممّا تقدّم ذكره.

وأمّا التمسّك في المقام بحديث الصلاة لا تترك بحال ، فعلى تقدير صدوره منه قدس سره فلعلّه كان في مقام الاستدلال على سقوط ما تفقده صلاة الخارج من الاستقرار والركوع والسجود التامّين ونحو ذلك ، فيكون الحاصل أنّه قد استدلّ على سقوط ذلك بحديث الصلاة لا تسقط بحال ، وعلى عدم تحقّق القبح الفاعلي

ص: 180


1- أجود التقريرات 2 : 181 ، وللمصنّف قدس سره تحقيق مفصّل في ذلك تقدّم في الصفحة : 89 وما بعدها من هذا المجلّد.

المانع من صحّة التقرّب بما عرفت من عدم كون إيجاد الصلاة مشتملا على إيجاد الغصب ، لأنّه قد وقع في الغصب على كلّ حال ، فليس له إرادة جديدة تتعلّق بالغصب حال الصلاة ، نعم ربما قيل بأنّ الحال كذلك في الصلاة في الدار المغصوبة اختيارا ، لأنّ الغصب واقع قبل الصلاة.

نعم بناء على ما شرحناه من أنّ المانع من التقرّب بهذه الصلاة هو تخصّصها بخصوصية مبغوضة فعلا ، وإن لم تكن منهيا عنها فعلا ، بمعنى عدم الخطاب فعلا بتركها ، فالذي ينبغي هو الحكم بالبطلان لاشتمالها على الخصوصية المبغوضة فعلا ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 181

[ دلالة النهي على الفساد ]

قوله : نعم لو كان المأمور به بخصوصه منهيا عنه ، كما إذا كان اطلاق الأمر شموليا ، فلا محالة يقع التعارض بينهما - إلى قوله : - لكن هذا خارج عن محلّ الكلام قطعا ، فإنّ محلّ الكلام فيما إذا كان التعارض وتقييد متعلّق الأمر من ناحية دلالة النهي على الفساد ، والتعارض في المورد لا يتوقّف عليها بالضرورة (1).

لا يخفى أنّ هذه الجملة الأخيرة - أعني قوله : لكن الخ - تفيد أنّ نتيجة النزاع في هذا المبحث هي الفساد ، وبعد الحكم بفساد العبادة نرتكب طريقة التخصيص ، الذي هو راجع إلى باب التعارض ، بخلاف ما لو كان الأمر شموليا وكان النهي التنزيهي متعلّقا ببعض أفراده ، بحيث كان النهي متعلّقا بذات العبادة الخاصّة ، فإنّه راجع إلى التخصيص والتعارض ابتداء ، من دون توسط الحكم بفساده ، وإن كنّا نحكم بفساده بعد إعمال قاعدة التعارض من التخصيص.

وهذه الجهة لم يتعرّض لها المرحوم الشيخ محمّد علي ، بل اقتصر على إنكار تعلّق النهي التنزيهي في العبادات بذات العبادة فقال : إلاّ أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر والنهي على ما تقدّم تفصيله ، فالقول بأنّ النهي التنزيهي كالنهي

ص: 182


1- أجود التقريرات 2 : 201 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهي للفساد ضعيف جدّا (1).

وبناء عليه يكون محصّل الجواب هو المناقشة في الصغرى ، ومن الواضح أنّه لا يدفع الإشكال ، لأنّه متوجّه على تقدير تحقّق الصغرى بأن نفرض أنّه كانت لنا عبادة تعلّق النهي التنزيهي بذاتها ، فهل يكون ذلك النهي موجبا لفسادها أو لا. وقد مرّ تصوير ذلك في النوافل المبتدأة في الأوقات الخاصّة ، وأنّ ما أفاده شيخنا قدس سره من التفكيك فيه بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي بجعل الأوّل متعلّقا بذات العمل والثاني بالتعبّد به ، محلّ تأمّل وإشكال ، فراجع (2).

ولا يخفى أنّ الذي وجدته في تحريراتي عنه قدس سره في المقام هو أوسع ممّا في هذا الكتاب ، لأنّ فيه توسعة الإشكال إلى النهي التحريمي في قبال الأمر الشمولي ، والحكم بأنّ هذا أيضا خارج عن محل النزاع كالنهي التنزيهي في قبال الأمر الشمولي ، وأنّ محلّ النزاع مقصور على النهي التحريمي في قبال الأمر البدلي ، للجهة المشار إليها ، وهي أنّ ما يكون في قبال الأمر الشمولي يكون راجعا ابتداء إلى باب التعارض بلا توسط الحكم بالفساد ، وإن كنّا نحكم بفساده بعد ارتكاب طريقة التخصيص ، أمّا ما يكون من النهي التحريمي في قبال الأمر البدلي فإنّا نحكم بفساده أوّلا ، ثمّ بعد الحكم بفساده يكون داخلا في باب التعارض ، هذا هو الذي يتحصّل ممّا حرّرته عنه قدس سره.

أمّا النهي التنزيهي في قبال عموم الأمر البدلي فقد أحاله قدس سره إلى مبحث العبادات المكروهة ، فإنّ متعلّق النهي فيما له البدل الذي هو محصّل كون عموم الأمر بدليا يكون غير العبادة ، فلا يكون داخلا فيما نحن فيه من النهي عن العبادة.

ص: 183


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 456.
2- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 62 وما بعدها.

ولا يخفى أنّ باب التعارض والتخصيص وباب اقتضاء النهي للفساد وإن كان كلّ منهما أجنبيا عن الآخر ، فإنّ النهي عن الشيء معارض للأمر به لعدم اجتماعهما ، وإن لم نقل بأنّ النهي يقتضي الفساد أو لم يكن الفعل المنهي عنه ممّا يفسده النهي ، كما في الأمر بغسل الثوب والنهي عن غسله في حالة خاصّة ، وكما في الأمر ببيع العبد بقول مطلق والنهي عن بيعه في وقت خاص. كما أنّ كون النهي موجبا للفساد لا دخل له بباب التعارض ، وليس مبنيا على تخصيص الأمر به ، بل إنّ النهي يكون موجبا لفساد العبادة وإن لم يكن في البين أمر متعلّق بها ، كما لو نهي عن العبادة بالتكتّف قائما وكما في النهي عن المعاملة لو قيل بأنّه مقتض للفساد.

وحينئذ نقول : لعلّ مراد شيخنا قدس سره - كما ربما يتّضح ممّا أفاده في توجيه اقتضاء النهي للفساد على ما حرّرته عنه هناك - أنّ الأمر لو كان بدليا ، وتعلّق النهي التحريمي ببعض أفراده ، نقول إنّ أوّل ما يؤثّره ذلك النهي هو سلب قدرة المكلّف عن امتثال ذلك الأمر البدلي في ذلك الفرد المنهي عنه ، والحكم العقلي بلزوم امتثاله في الأفراد الأخر ، فتكون المسألة حينئذ من صغريات التزاحم. لكن هذا المقدار من أثر النهي لا يوجب فساد المأمور به لو أتى به في ضمن ذلك الفرد المنهي عنه ، بل يمكن أن يحكم بصحّته اكتفاء بملاكه ، أو بالترتّب ، أو كما يقوله المحقّق الثاني (1) من أنّ الانطباق قهري والامتثال وجداني ، كما أنّ هذا المقدار لا يوجب تحقّق المعارضة بين الأمر والنهي على وجه يكون النهي مخصّصا للأمر تخصيصا شرعيا ، وإنّما أقصى ما في هذا المقدار هو التخصيص العقلي.

ص: 184


1- جامع المقاصد 5 : 13 - 14 ، وقد تقدّم نقل عبارته قدس سره في المجلّد الثالث من هذا الكتاب فراجع الحاشية المذكورة هناك في الصفحة : 136 وما بعدها.

نعم إنّما يتحقّق ذلك كلّه بعد طي المرحلة الثانية ، وهي أن نقول : إنّ ذلك النهي كما يوجب سلب الخطاب لكونه سالبا للقدرة ، يكون موجبا لسلب الملاك بالتقريب الذي بيّنه قدس سره في محلّه ممّا سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى ، وبعد ارتفاع الأمر خطابا وملاكا يتعيّن الحكم بفساد ذلك الفرد ، وبعد ذلك كلّه نقول : إنّه خارج عن العموم البدلي لذلك الأمر خطابا وملاكا ، وهو معنى التخصيص ، فكان التخصيص متولّدا من الحكم بالفساد. ومن ذلك يظهر لك أنّ الحكم بالفساد له مساس بوقوع المعارضة ، فلا يتمّ ما أورده في الحاشية المذكورة (2).

وهذا بخلاف ما لو كان العموم في ناحية الأمر شموليا ، فإنّه لا يتطرّق إليه احتمال إمكان امتثال ذلك الأمر المتعلّق بالطبيعة في هذا الفرد المنهي عنه ، كي نمنع ذلك بأنّ هذا الفرد لا يمكن امتثال الأمر فيه لعدم الملاك ، لأنّ الفرض أنّ ذلك الفرد بنفسه مأمور به ، وبعد فرض تعلّق النهي به لا يكون لنا أمر متعلّق بطبيعة كلّية كي نمتثله في ذلك الفرد الذي يكون انطباق الطبيعة عليه انطباقا قهريا.

وحينئذ ففي هذه الصورة يكون المرجع الأوّل هو التخصيص ، من دون توقّف على الحكم بالفساد ، نعم بعد عملية التخصيص يكون ذلك الفرد فاسدا ، ولأجل ذلك نقول : إنّ مثل هذا النهي الذي هو في قبال الأمر الشمولي لا يدخل في محلّ النزاع في أنّ نفس النهي يوجب الفساد.

ص: 185


1- سيأتي في الصفحة : 189 ( الصورة الثانية ) ما يرتبط بالمطلب ، وراجع أيضا أجود التقريرات 2 : 216 ، وللمصنّف قدس سره حاشية توضيحية على ذلك في الصفحة : 279 من هذا المجلّد.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 201.

والحاصل : أنّ اقتضاء النهي الفساد تارة يأتي من طريقة التخصيص وتلك خارجة عن المبحث ، وأخرى يأتي من طريقة أنّ النهي بنفسه يوجب فساد المنهي عنه عبادة كان أو غيرها ، سواء كان في قبال ذلك النهي أمر أو لم يكن ، وهذه هي محلّ البحث فيما نحن فيه. ومسألة الأمر الشمولي يكون الفساد فيها من ناحية الطريقة الأولى أعني طريقة التخصيص ، من دون فرق في صورة الأمر الشمولي بين كون النهي تحريميا وكونه تنزيهيا. وحينئذ فلا يتوجّه عليه شيء ممّا في الحاشية من أنّه لا فرق بين النهي التنزيهي والنهي التحريمي (1).

نعم ، يتوجّه عليه أنّ النهي كما يخصّص العموم الشمولي فيحكم بالفساد لأجل التخصيص ، فكذلك يقيّد الاطلاق فيحكم بالفساد لأجل التقييد. لكن جوابه واضح ممّا تقدّم ، فإنّه لو لا دلالة النهي على سلب الملاك الموجب للفساد لا يكون في البين تقييد تعارضي ، وإنّما أقصى ما في البين أن يكون تقييد عقلي ناشئ من عدم القدرة ، وحينئذ فالتقييد الشرعي متوقّف على كون النهي سالبا للملاك الذي هو عبارة أخرى عن الفساد.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه لا يتوجّه عليه ما في الحاشية من قوله : وأمّا كون التعارض بين دليلي الأمر والنهي متوقّفا على دلالة النهي على الفساد فلا مورد له أصلا (2).

نعم يتوجّه على ذلك أنّ مثل قوله صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة متعارضان ، فإنّ الأمر ولو كان بدليا يكون في ذلك الفرد معارضا ومنافيا للنهي عنه ، لا من جهة اقتضاء النهي للفساد ، بل لو لم نقل بالفساد أو لم يكن الفعل

ص: 186


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 201.
2- المصدر المتقدّم.

المذكور عباديا كما في قولك امش ولا تمش في الدار المغصوبة ، فإنّه يعد النهي منافيا لذلك الأمر البدلي ، ولو باعتبار تضمّنه الترخيص في ذلك الفعل ، وعلى هذا تدخل المسألة في باب التعارض ويسقط النزاع في اقتضاء النهي التحريمي للفساد ، سواء كان في قبال العموم البدلي أو كان في قبال العموم الشمولي ، وسواء كان الأمر وجوبيا أو كان استحبابيا ، لكون ذلك كلّه داخلا في باب التعارض.

وهكذا الحال في النهي التنزيهي باعتبار دلالته على مرجوحية متعلّقه ، فإنّه مناف للأمر الشمولي أو البدلي لذلك ، فإنّ ذلك الأمر الشمولي أو البدلي دالّ على رجحانه فيقع التعارض بينهما ويحكم بالتخصيص أو التقييد ، وليس هذا التعارض ناشئا عن الحكم بفساد ذلك المنهي عنه ، فإنّه آت حتّى لو قلنا إنّ النهي التنزيهي المتعلّق بذات العبادة لا يوجب فسادها وإن أوجب مرجوحيتها ، والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعارض جار فيما لو كان المنهي عنه تنزيها غير عبادي ، كما في النهي التنزيهي عن كسر العود حول القبر مع فرض توجّه الأمر بالكسر إمّا شموليا أو بدليا.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما تضمّنه المتن من قوله : إنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من اطلاق الأمر ، فلا يكون بينهما معارضة حتّى يقيّد به إطلاقه الخ (1) ، لما عرفت من أنّ المنافاة إنّما هي بين اطلاق دليل الأمر الذي [ يدلّ ] على رجحان متعلّقه على نحو يكون مقتضاه رجحان هذا الفرد أيضا مع ما يدلّ عليه النهي من المرجوحية ، وهذه المنافاة لا يفرق فيها بين كون النهي تحريميا وكونه تنزيهيا.

نعم لو كان مدرك المنافاة هو اقتضاء النهي عدم الرخصة في فعل متعلّقه مع

ص: 187


1- أجود التقريرات 2 : 200 - 201.

ما يقتضيه الأمر من عدم الرخصة في تركه ، لكانت مختصّة بباب النهي التحريمي والأمر الوجوبي ، لكنّك قد عرفت أنّ التنافي إنّما هو في الدلالة على المرجوحية والرجحان وهما متنافيان ، من دون فرق بين كون الأمر والنهي الزاميين أو كونهما غير الزاميين ، وقد مرّ (1) شطر من الكلام في ذلك في مبحث العبادات المكروهة عند التعرّض لقولهم بعدم جريان أحكام الاطلاق والتقييد في المستحبّات ، فراجع.

نعم ، لو صرفنا النهي إلى جهة أخرى غير نفس ما تعلّق به الأمر ارتفع التنافي بينهما من الجهة الأولى ، ويبقى الكلام في الجهة الثانية وهي القدرة على الامتثال ، وحينئذ ينفتح باب القدرة على الامتثال بهذه الجملة ، أعني عدم الالزام في هذا الفرد من الأمر ، لكون العموم فيه بدليا مشتملا ضمنا على الترخيص في ترك ذلك الفرد ، كما أنّ النهي ليس الزاميا ، بل هو لكونه تنزيهيا مقرون بالترخيص بالفعل ، فلا يكون أحدهما سالبا للقدرة على الآخر ، فلا يكون بينهما تزاحم في مقام الامتثال كما تقدّم (2) تفصيله في توجيه العبادات المكروهة ، فراجع.

وخلاصة البحث أو توضيحه : هو أنّ فساد العبادة الآتي من ناحية كون النهي عنها مخصّصا للأمر خارج عمّا هو محلّ كلامنا من اقتضاء النهي بنفسه لفساد العبادة المنهي عنها ، لأنّ التخصيص جار حتّى فيما لو لم يكن المنهي عنه ممّا يتّصف بصحّة ولا فساد. نعم فيما يتّصف بذلك من العبادة يحكم بفساده بعد تحقّق التخصيص ، لا لأجل أنّ النهي اقتضى فساده ، بل لأجل أنّه بعد أن خرج

ص: 188


1- لاحظ ما في ص 53 وما بعدها ، ولاحظ أيضا ما سيأتي في المجلّد الخامس ص 460 و463.
2- أجود التقريرات 2 : 170 - 171.

عن حيّز الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا يكون فاسدا بلا إشكال ، ولو كان المخرج له دليل آخر غير دليل النهي ، بأن يقول صلّ ثمّ يقول إنّ الصلاة في الدار المغصوبة غير مأمور بها أو هي خارجة عن ذلك العموم ، أو نحو ذلك من العبارات الدالّة على نفي ذلك الوجوب عن الصلاة في الدار المغصوبة.

كما أنّ كون النهي موجبا لفساد العبادة المنهي عنها جار حتّى لو لم يكن في قباله أمر. ويتّضح ذلك في النهي عن المعاملة بمعناها الاسم المصدري ، فإنّه بنفسه موجب لفسادها ، لكونه سالبا لسلطنة المكلّف عليها في عالم التشريع ، نعم إنّ سلب هذه السلطنة عن هذه المعاملة يكون موجبا لخروجها عن عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » (1) لكن ذلك لا دخل له فيما نحن بصدده من عموم أمر في البين ، بل إنّ هذا يوجب فساد هذه المعاملة بنفس كونه سالبا للقدرة عليها في مرحلة التشريع ، وإن لم يكن بأيدينا عموم « الناس مسلّطون على أموالهم ».

وحينئذ نقول : إنّ عموم الأمر إمّا أن يكون بدليا أو شموليا ، والنهي إمّا أن يكون تنزيهيا أو تحريميا ، فهناك صور أربع :

الأولى : ما لو كان عموم الأمر بدليا والنهي تنزيهيا. وهذه الصورة أخرجها شيخنا قدس سره من مسألتنا ، أعني مسألة النهي عن العبادة موجب لفسادها ، وأحالها على ما تقدّم في العبادات المكروهة التي لها بدل ، وهي عبارة عن كون عموم الأمر بدليا ، لأنّ النهي لم يكن في ذلك القسم متعلّقا بذات العبادة ، بل تعلّق بشيء آخر ، فتخرج عمّا نحن فيه من النهي عن ذات العبادة.

الصورة الثانية : هي ما لو كان عموم الأمر بدليا والنهي تحريميا مثل صلّ ولا تصلّ في المغصوب. وشيخنا قدس سره جعل هذه هي محلّ النزاع فيما نحن فيه ، وأنّ

ص: 189


1- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.

الحكم فيها بالفساد مقدّم رتبة على ارتكاب التخصيص ، بتقريب : أنّ أوّل ما يصنعه النهي في ذلك هو جعل الصلاة في ذلك المكان غير مقدورة شرعا ، وبذلك ينصرف الأمر عن ذلك الفرد ، وينحصر امتثاله بحكم العقل فيما عدا ذلك الفرد من الأفراد ، ويكون هذا المقدار من قبيل التخصيص العقلي غير الموجب لفساد ذلك الفرد ، لامكان تصحيحه بالملاك أو بالترتّب أو بما أفاده المحقّق الثاني (1) من كون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا ، ثمّ بعد ذلك ننظر في حال ذلك النهي ، وأنّه مولوي نفسي ناشئ عن مفسدة إمّا غالبة على صلاح أصل الطبيعة أو موجبة لارتفاع أصل المصلحة ، وأيّا ما كان يكون ذلك موجبا لسقوط الأمر ملاكا ، كما كانت العملية الأولى موجبة لسقوطه خطابا ، وذلك عبارة أخرى عن الفساد ، وبذلك يكون قوله لا تصلّ في الدار المغصوبة مخصّصا لقوله صلّ ، أو مقيّدا له.

فقد ظهر أنّ هذه الصورة تكون عملية التعارض والتخصيص متأخرة عن عملية الحكم بفساد العبادة الآتي من ناحية نفس النهي ، فتكون هذه الصورة داخلة فيما نحن فيه.

أمّا الصورة الثالثة والرابعة وهما ما لو كان الأمر شموليا والنهي تحريميا أو كان تنزيهيا ، فحيث إنّ الأمر فيهما متوجّه إلى خصوص ذلك الفرد الذي هو مورد النهي ، فأوّل عملية تحصل من النهي هي رفعه الأمر في مورده ، لا من جهة عدم القدرة فقط ، بل من جهة عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وهذا بخلاف الصورة السابقة ، لما عرفت من إمكان بقاء الأمر متعلّقا بالطبيعة ، غايته أنّه لعدم المقدورية يحكم العقل بانحيازه إلى ما عدا ذلك الفرد

ص: 190


1- تقدّم في الصفحة : 184.

من الأفراد ، فلا يكون إلاّ من قبيل التخصيص العقلي. وهذا المعنى لا يتأتّى في الصورتين المذكورتين ، لأنّ الأمر لمّا كان شموليا كان كلّ فرد مأمورا به على حدة ، فذلك الفرد الخاصّ يكون الأمر فيه منافيا للنهي ، وبعد تقديم النهي يخرج ذلك الفرد عن ذلك العموم الشمولي للأمر ، وبعد خروجه عنه تخصيصا شرعيا نحكم بفساده.

هذا ملخّص ما أفاده شيخنا قدس سره حسبما فهمته ، ولكن عمدة التأمّل في ذلك من جهتين :

الأولى : إمكان فرض كون النهي التنزيهي في قبال العموم البدلي متعلّقا بنفس العبادة لا بشيء خارج عنها ، وحينئذ يدخل في النهي عن العبادة ، ولكن حيث إنّه لا يسلب القدرة لا تتأتّى فيه العملية التي ذكرناها في النهي التحريمي ، فيكون أيضا داخلا في باب التعارض ، ولأجل تخصيص ذلك العموم بذلك النهي نحكم بفساد ذلك الفرد ، فيتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من خروج النهي التنزيهي بجميع أقسامه عن مسألتنا هذه.

الجهة الثانية من التأمّل : هي راجعة إلى امكان المناقشة فيما أفاده في وجه الحكم بفساد الصلاة في مثل النهي التحريمي عن الصلاة في الدار المغصوبة في قبال الأمر البدلي بقوله صلّ ، بأن يقال : لا داعي في ذلك إلى هذا التطويل ، بل إنّ نفس قوله لا تصلّ في الدار المغصوبة معارض لقوله صلّ ، وإن لم نحكم بفساد تلك الصلاة ، كما تراه في مثل قوله اقرأ ولا تقرأ ملحونا ، وقم ولا تقم ضاحكا ، فإنّ الثاني معارض للأوّل مقيّد له ، من دون توسّط الحكم بفساد ذلك المنهي عنه ، فكذلك الحال في قوله صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة.

وبناء على ذلك يكون الحكم بالفساد في جميع هذه الصور الأربع متولّدا

ص: 191

من التعارض والتخصيص أو التقييد ، ولم يكن عندنا صورة يكون منشأ فساد العبادة فيها هو مجرّد النهي عنها من دون أن يكون في البين أمر حتّى مثل ما تقدّم من مثال القيام متكتّفا ، فإنّه يكفي في عدم صحّته عدم الأمر وكونه تشريعا ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ قوله لا تصلّ ، عند ملاحظته مع قوله صلّ ، يكون بالنظر العرفي معارضا له ، وبالنظر إلى الجمع العرفي الارتكازي يكون مخصّصا له ، قبل النظر إلى أنّ هذا النهي سالب للقدرة وأنّ ملاكه مذهب لملاك الأمر أو غالب عليه ، فإنّ هذه الجهات متأخرة عمّا ذكرناه من التعارض العرفي والجمع الارتكازي فتأمّل ، فإنّ هذا التعارض والجمع حاصل حتّى لو قلنا بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

قوله : فإنّ الفساد كما عرفت سابقا إنّما يدور مدار عدم الأمر والملاك معا ، وما يكون مضادّا للنهي الغيري ويكون هو كاشفا عن عدمه هو الأمر بالصلاة لا كونها واجدة للملاك ، فيصحّ التقرّب بها من جهة الملاك وإن لم يكن مأمورا بها فعلا ... الخ (1).

حاصله : أنّ النهي الغيري في هذا المقام لا يرفع إلاّ ضدّه الذي هو الأمر ، فلا يكون دليلا إلاّ على عدم الأمر ، ولا دلالة فيه على عدم الملاك. ويمكن التأمّل في ذلك ، إذ ليس لنا دليلان أحدهما دلّ على الأمر والآخر على الملاك ، كي يكون سقوط ما دلّ على الأمر (2) بمعارضة النهي غير موجب لسقوط ما دلّ على الملاك ، وليس أيضا من قبيل الدلالتين لدليل واحد ، بحيث يكون لنا دليل واحد يدلّ على

ص: 192


1- أجود التقريرات 2 : 202 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ في الأصل : عدم الأمر ، والظاهر أنّه من سهو القلم ].

الأمر ويدلّ أيضا بدلالة أخرى على الملاك ، كي يقال إنّ سقوط الدلالة الأولى بالمعارضة لا يوجب سقوط الثانية ، بل إنّه ليس لنا في المقام إلاّ ثبوت الأمر بدليله ، ونحن بعد ثبوت الأمر بدليله نستكشف منه وجود الملاك في المورد الذي ثبت الأمر فيه.

ومن الواضح أنّه بعد فرض سقوط الدليل على الأمر في مورد من جهة معارضته لدليل النهي ، لا يبقى لنا في ذلك المورد ما يدلّ على الأمر كي نستكشف منه وجود الملاك في ذلك المورد ، إذ ليس هذا التخصيص إلاّ كسائر التخصيصات الشرعية الثابتة بالأدلّة الاجتهادية ، الموجبة لخروج المورد عن تحت عموم الأمر أو اطلاقه خطابا وملاكا ، وليس هو من قبيل التخصيص العقلي الناشئ عن عدم القدرة على المهمّ بعد تقديم الأهمّ ، لأنّ المسألة حينئذ من باب اجتماع الأمر والنهي في الصلاة التي صار تركها مقدّمة للازالة ، وليس التركيب انضماميا بل هو اتّحادي ، بل لا تركيب أصلا ، لأنّ المأمور به هو الصلاة بعنوانها والمنهي عنه هو الصلاة أيضا بعنوانها ، غاية الأمر أنّ علّة النهي هو كون تركها مقدّمة للازالة ، وقد حقّق في محلّه (1) أنّ عنوان المقدّمية من الجهات التعليلية لا التقييدية ، فتكون المسألة خارجة عن مسألة الاجتماع ، بل هي من تعارض العموم من وجه ، فإنّ الأمر بترك أضداد الازالة مع الأمر بالصلاة بينهما عموم من وجه ، لأنّ مفاد الأوّل اترك الأضداد سواء كانت صلاة أو غيرها ، ومفاد الثاني صلّ سواء كانت الصلاة ضدّا للازالة أو غيرها ، وحينئذ عند اجتماعهما في المورد لا بدّ من إعمال قواعد المعارضة ، وبعد تقديم دليل النهي تكون الصلاة المذكورة

ص: 193


1- راجع الحاشيتين المذكورتين في الصفحة : 86 ، 88 من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

خارجة عن حيّز الأمر خطابا وملاكا فتكون فاسدة ، فتأمّل.

والأولى أن يقال في توجيه خروج النهي الغيري المتعلّق بالعبادة عن محلّ النزاع من كون النهي مقتضيا للفساد : هو أنّ محلّ الكلام في اقتضاء نفس النهي للفساد إنّما هو مع قطع النظر عن كونه موجبا لخروج العبادة عن عموم الأمر ، وذلك من جهة كون النهي موجبا للمبغوضية المانعة عن إمكان التقرّب بذلك المنهي عنه ، ومن الواضح اختصاص ذلك بالنهي النفسي ، أمّا النهي الغيري فهو لأجل أنّه لا يستتبع عقابا ولا ثوابا لا يكون موجبا للمبغوضية ، فلا يكون بنفسه موجبا لفساد العبادة. أمّا كون العبادة فاسدة من ناحية أنّ ذلك النهي ولو كان غيريا يكون موجبا لتخصيص الأمر وخروجها عن عمومه خطابا وملاكا ، فذلك أمر آخر لا ربط له بما نحن فيه من كون النهي بذاته موجبا للفساد.

وهذا المقدار من الفساد الآتي من ناحية التخصيص كاف في تصحيح قولهم إنّ ثمرة النزاع في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه فساده إذا كان عبادة ، فلا يكون هذا القول مؤيّدا لدخول النهي الغيري أو التبعي فيما نحن فيه من اقتضاء النهي الفساد كما في الكفاية (1) ، لما عرفت من أنّ فساد الضدّ على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه لا يتوقّف على كون نفس النهي مفسدا له ، بل يمكن أن يحكم بفساده من ناحية التخصيص. وهكذا الحال في النهي التبعي ، فإنّ المراد هو النهي الناشئ عن ملازمة ترك الضدّ للواجب المأمور به ، وإن لم يكن ذلك الترك مقدّمة ، وحينئذ يكون حاله في عدم الدخول في محلّ النزاع حال النهي الغيري في أنّه لا يكون بنفسه موجبا للفساد ، لعدم اشتمال كلّ منهما على المبغوضية الموجبة لعدم إمكان التقرّب ، وإن كان ذلك النهي مخصّصا

ص: 194


1- كفاية الأصول : 181.

للأمر ، وكان ذلك التخصيص موجبا لفساد متعلّقه لخروجه عن حيّز الأمر خطابا وملاكا. اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ كلا من النهي الغيري والتبعي مؤثّر في المبغوضية ، فيكون بنفسه موجبا للفساد ، كما ربما يدّعى ظهور ذلك من الكفاية كما تضمّنته حاشية القوچاني رحمه اللّه (1) لكن عهدة هذه الدعوى على مدّعيها ، بل الظاهر أنّها ممنوعة أشدّ المنع.

وبذلك يتّضح لك الحال في النهي التنزيهي ، فإنّه بنفسه لا يوجب فساد العبادة ، لعدم اقتضائه المبغوضية المانعة من امكان التقرّب ، فلا يكون داخلا في محلّ النزاع من اقتضاء النهي بذاته للفساد.

نعم ، إنّ النهي التنزيهي يدلّ أو يقتضي مرجوحية متعلّقه ، وهو لا يجتمع مع دليل الأمر العبادي الذي يدلّ أو يقتضي رجحان متعلّقه ، فيكون ذلك النهي مخصّصا لذلك الأمر ، وموجبا لخروج متعلّق ذلك النهي عن عموم ذلك الأمر خطابا وملاكا ، فتكون العبادة بدونه تشريعا محرّما فتكون فاسدة ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إنّما هو من جهة اجراء قاعدة التعارض ، وهو خارج عمّا نحن بصدده من اقتضاء النهي بذاته للفساد بواسطة اقتضائه مبغوضية متعلّقه الموجبة لعدم امكان التقرّب به.

وحينئذ يصحّ لنا أن نقول : إنّ الكلام في اقتضاء النهي للفساد في الرتبة السابقة على رتبة إعمال قواعد التعارض ، فيكون الفساد المبحوث عنه فيما نحن فيه هو الفساد الحاصل في هذه الرتبة ، دون الفساد الحاصل من قواعد التعارض ، الذي هو مفروض في الرتبة الثانية من تعلّق النهي به وكون النهي منافيا للأمر به وكونه مخصّصا لذلك الأمر ، فإنّ هذا الفساد الآتي من نتيجة إعمال قواعد

ص: 195


1- كفاية الأصول ( مع تعليقة للشيخ علي القوچاني قدس سره ) : 147.

التعارض خارج عن محلّ هذا البحث ، فإنّه متحقّق حتّى لو قلنا إنّ النهي بذاته لا يقتضي الفساد ، كما أنّ الفساد المبحوث عنه - أعني اقتضاء النهي للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب - حاصل حتّى لو فرضنا عدم الأمر أو عدم كون النهي مخصّصا للأمر ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره فيما تقدّم (1) فيما أفاده في توجيه خروج النهي التنزيهي عن محلّ البحث.

ويمكن أن يقال : إنّ المرجوحية التي كشف عنها النهي التنزيهي كافية في فساد العبادة المفروض اعتبار الرجحان فيها ، بل هو داخل في قوامها ، وحينئذ يكون حال النهي التنزيهي حال النهي التحريمي في اقتضائه الفساد في المرتبة السابقة على تخصيص الأمر به ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الفساد المبحوث عنه في هذه المسألة - أعني مسألة اقتضاء النهي عن العبادة الفساد - ليس هو الفساد الناشئ عن عدم الأمر ، فإنّ ذلك لا يحتاج إلى توسّط النهي ، بل يكفي فيه أصالة عدم المشروعية في العبادة وأصالة عدم ترتّب الأثر في المعاملة. كما أنّه ليس المراد به الفساد الناشئ عن كون النهي مخصّصا لدليل الأمر ، فيكون دليل النهي بعد كونه مخصّصا لدليل الأمر أو لعموم ما دلّ على نفوذ المعاملة مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ونحوه من عمومات المعاملات كدليل اجتهادي يدلّ على عدم مشروعية العبادة أو عدم نفوذ المعاملة ، ومن الواضح أنّه لا خصوصية للنهي في ذلك ، بل إنّ كلّ ما يوجب تخصيص تلك العمومات ولو بمثل ما يدلّ على إباحة الفعل وعدم وجوبه أو عدم استحبابه يكون

ص: 196


1- أجود التقريرات 2 : 200 - 201 ، وقد مرّ تعليق المصنّف قدس سره عليه في الحاشية السابقة المذكورة في الصفحة : 182 وما بعدها.
2- المائدة 5 : 1.

منتجا لهذه النتيجة ، كما أنّ كلّ ما يدلّ على خروج المعاملة الكذائية عن عموم نفوذ المعاملة ولو بمثل قوله إنّ المعاملة الكذائية غير نافذة يكون مخصّصا لعموم الصحّة والنفوذ ، ولا خصوصية للنهي في ذلك ، سواء كان نهيا تنزيهيا أو كان نهيا غيريا أو كان نهيا تبعيا ، ويكون الضابط هو أنّ كلّ ما يكون مخصّصا للعموم يكون موجبا للفساد ، سواء كان نهيا أو غيره من المخصّصات ، وسواء كان النهي تحريميا أو كان تنزيهيا أو كان غيريا أو كان تبعيا.

نعم ، إنّ النهي التنزيهي أو التبعي لا يكون مخصّصا لعموم المعاملة ، بل ربما يقال إنّ النهي التحريمي لا يكون مخصّصا لعموم المعاملة إلاّ باعتبار سلب السلطنة.

والخلاصة : هي أنّ التخصيص لا يوجب الحرمة الذاتية في الخارج ، وأقصى ما فيه هو أنّه يوجب حرمته التشريعية ، وذلك لا ينافي الاتيان به من باب الاحتياط لاحتمال الخطأ في التخصيص ، وهذا بخلاف النهي عن العبادة فإنّه يوجب الحرمة الذاتية ويمنع من الاحتياط ، فالنهي التنزيهي خارج عنه ، فلا يكون داخلا في البحث عن أنّ النهي يوجب الفساد ، نعم إنّه يوجب التخصيص فيكون موجبا للفساد ، من دون أن يكون في البين حرمة ذاتية ، فإنّ الفساد الذي هو محلّ الكلام في النهي عن العبادة هو الفساد الآتي من ناحية كونه موجبا للمبغوضية المانعة عن التقرّب ، فيختصّ بالنهي التحريمي ، وربما نقول بشموله للنهي التنزيهي باعتبار كونه مقتضيا للمرجوحية المانعة من صحّته عبادة ، لاعتبار الرجحان فيها ، هذا في العبادات.

وأمّا المعاملات فالمراد به هو التحريمي ، لكونه موجبا لسلب السلطنة ، فيكون مخصّصا لعموم السلطنة ، وذلك مختصّ بالتحريمي دون التنزيهي

ص: 197

والغيري والتبعي ، بل يمكن أن يقال إنّ النهي الغيري وكذا التبعي يشارك التحريمي في سلب السلطنة ، فتأمّل.

وحينئذ يمكن أن يقال : إنّ هذا البحث في العبادات ساقط من أصله ، لأنّ اقتضاء النهي الفساد إنّما يكون بعد تمامية حجّيته ، وما دام العام باقيا بحاله لا يمكن الأخذ بما يخالفه من الدليل الخاص الذي هو النهي ، فلا بدّ أوّلا من إسقاط العموم بتخصيصه ، وبعد تخصيصه تكون العبادة فاسدة وإن أغضينا النظر عن عدم إمكان التقرّب بها لكونها مبغوضة فعلا ، فأي أثر لهذا البحث ، إذ ما من عبادة إلاّ ولها عموم يدلّ على مشروعيتها.

نعم ، لو فرضنا ولو محالا عدم عموم يدلّ على مشروعية هذه العبادة التي وقعت موردا للنهي يظهر لهذا البحث أثر ، وهو أنّا لو لم نقل باقتضاء ذلك النهي الفساد من جهة اقتضائه المبغوضية ، يكون الحكم بفسادها من باب أصالة عدم المشروعية ، بخلاف ما لو قلنا بالاقتضاء فإنّ النهي حينئذ يكون كدليل اجتهادي على فسادها.

نعم ، يظهر ذلك في المعاملات المبتكرة إذا لم يكن في البين عموم يشملها ، وشككنا في نفوذها وصحّتها وترتّب الأثر عليها ، ولم نرجع في ذلك إلى عموم السلطنة ، لعدم ورودها في مقام تشريع السبب وإنّما هي واردة في مقام نفوذه وعدم الحجر بعد فرض كونه سببا في حدّ نفسه ، يكون المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر لو لم يكن في البين ذلك النهي عن نفس المعاملة بمعنى المسبّب [ وإلاّ ] يكون ذلك النهي لتحجير شرعي سالبا لسلطان المالك على تلك المعاملة ، فتكون فاسدة بذلك الدليل ، لا بمجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر.

وخلاصة البحث : هو أنّا لا مندوحة لنا عن ملاحظة النهي عن العبادة أو

ص: 198

المعاملة بالقياس إلى ما بيدنا من العموم ، وتحكيم ذلك النهي على ذلك العموم وجعله مخصّصا له ، فإن كان المنهي عنه عبادة كان ذلك التخصيص موجبا لفسادها ، لا من باب أصالة عدم الأمر وعدم المشروعية ، بل من باب كون ذلك النهي مخصّصا لعمومات المشروعية ، أيّة كانت تلك العمومات ولو مثل عموم أوامر العبادة ، وأيّا كان ذلك النهي ، سواء كان نهيا تحريميا - نفسيا كان أو غيريا أو تبعيا - أو كان نهيا تنزيهيا ، وحينئذ يكون هذا البحث بالنسبة إلى العبادات من توابع باب التعارض والتخصيص ، فلا وجه لعقده بحثا مستقلا ، بل هو حينئذ من الثمرات الفقهية المترتّبة على التخصيص.

أمّا المعاملة فلا يكون النهي فيها مخصّصا لعمومات أصل مشروعيتها ونفوذها ، بل يكون مخصّصا لحديث السلطنة (1) ، فتفسد المعاملة بذلك ، وذلك مختصّ بالنهي التحريمي دون التنزيهي. أمّا الغيري والتبعي فيمكن القول بالحاقه بالنهي التحريمي النفسي في كونه سالبا للسلطنة ، ويكون موجبا لفساد المعاملة ، على تأمّل في ذلك.

وعلى أي يكون محصّل البحث في النهي عن المعاملة هو : أنّ النهي عنها هل يكون موجبا لسلب السلطنة عليها أو لا ، ولا يكون من ثمرات تخصيص العموم الوارد في باب المعاملة ، بل يكون نزاعا صغرويا في كونه سالبا للسلطنة ليكون واردا أو حاكما على حديث الناس مسلّطون ، فتأمّل.

ولمزيد التوضيح نقول : إنّ فساد العبادة يكون له مراحل ثلاثة مترتّبة :

الأولى : الفساد في مقام الثبوت والواقع بواسطة تعلّق النهي أو التحريم بها ، وفي هذه المرحلة لا عموم ولا تخصيص ، حيث إنّها مرحلة واقعية ثبوتية في

ص: 199


1- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.

عالم أصل التشريع واللوح المحفوظ. وهذه المرحلة هي محلّ العنوان في هذه المسألة ، أعني مسألة النهي عن العبادة يقتضي فسادها ، لكونه في ذلك المقام موجبا لمبغوضيتها فتفسد ولا يمكن التقرّب بها.

المرحلة الثانية : مرحلة الاثبات ومقام إعمال الدليل الاجتهادي ، بأن يكون لنا أمر عام يشمل هذه العبادة ، ومع ذلك يوجد لنا دليل خاص يتضمّن النهي عن هذه العبادة. وهذه المرحلة هي مرحلة إعمال الأدلّة الاجتهادية بدفع التعارض بتخصيص ذلك العام وإخراج مورد النهي عنه ، فيكون ذلك موجبا لفساده بحكم الدليل الاجتهادي ، أعني الدليل الخاص المفروض تقدّمه على ذلك العام. وهذا الفساد يكفي فيه مجرّد كون النهي منافيا للأمر ، مع قطع النظر عن كونه موجبا لمبغوضية متعلّقه ، وهذا المقدار لا يكون مختصّا بالنهي ، بل يجري في كلّ خاص مخالف للعام في الحكم ، حتّى لو كان بلسان أنّ الفعل الفلاني ليس بواجب أو ليس بمستحبّ أو هو مباح متساوي الطرفين أو أنّه مكروه ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الفساد الحاصل من هذه المرحلة خارج عن محلّ النزاع في اقتضاء النهي عن العبادة فسادها.

المرحلة الثالثة : هي مرحلة الوظيفة العملية عند الشكّ في مشروعية العبادة ، وهي أصالة الفساد. وهذه المرحلة أجنبية عمّا هو محلّ النزاع بمراحل ، فلا معنى لأن يقال إنّ النهي عن العبادة يخرجها عن عموم الأمر ، وبعد هذا يشكّ في مشروعيتها فنحكم بفسادها عملا بأصالة عدم المشروعية ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في ذلك من جهات :

الأولى : أنّ الفساد في مقام الثبوت لا يختصّ بالنهي التحريمي ، بل إنّ كلّ حكم واقعي يكون على خلاف ما يقتضي عبادية ذلك الفعل ، كالإباحة والكراهة

ص: 200

والنهي الغيري والنهي التبعي ، فإنّ هذه كلّها لو طرأ شيء منها في الواقع وفي مقام الثبوت على فعل من الأفعال لا يبقى مجال فيه لكونه عبادة صحيحة مأمورا بها قابلة للتقرّب بها.

الجهة الثانية : أنّ العلّة التي أوجبت الفساد في النهي المولوي التحريمي - أعني المبغوضية المانعة من إمكان التقرّب - يجري نظيرها في النهي الكراهتي ، لأنّه موجب لمرجوحية متعلّقه ، ومع فرض كونه مرجوحا لا يمكن الحكم بصحّته عبادة ، إذ لا بدّ في العبادة من كونها راجحة. وهذا هو الفساد الثبوتي الثابت في نفس الأمر والواقع للعبادة التي ورد عليها النهي في نفس الأمر من دون أن يكون في البين عموم في مقابله ، إذ لا عموم ولا تخصيص في هذه المرحلة كي يكون الفساد المذكور ناشئا عن إعمال قواعد التعارض. وهذا الفساد هو المراد من قولهم إنّ النهي عن العبادة يوجب فسادها ، فإنّ مرادهم به هو الفساد الواقعي الثابت في نفس الأمر والواقع ، من دون أن يكون في قباله عموم أصلا ، فلا يكون هذا الفساد إلاّ معلولا لنفس النهي الموجب للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب بها.

الجهة الثالثة : أنّ الكلام إن كان في الفساد الواقعي في مقام الثبوت الذي هو راجع إلى المرحلة الأولى ، فلا معنى للقول بأنّه بعد تحقّق الفساد المذكور يحكم بالتخصيص ، فإنّ الحكم بالتخصيص إنّما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت. مضافا إلى أنّ هذا التخصيص ليس بتخصيص شرعي ، وإنّما هو بحكم العقل ، فإنّ الحاكم بأنّ العبادة المبغوضة لا يمكن التقرّب بها وأنّها خارجة عن عموم الأمر إنّما هو العقل دون الشرع. مضافا إلى أنّ الحرمة الواقعية لا طريق لنا إليها إلاّ من جهة هذا الدليل الخاصّ ، الناهي عن صوم يوم العيد مثلا.

ص: 201

وحينئذ نقول : إنّ هذا الدليل الخاصّ إنّما يترتّب عليه الفساد بعد ثبوت مدلوله الذي هو النهي والحرمة ، وما دام عموم الأمر موجودا ولو مثل « الصوم جنّة من النار » (1) لا يمكننا الحكم بحرمة صوم يوم العيد كي نرتّب عليه الفساد ، وإنّما يتسنّى لنا ذلك كلّه بعد اسكات ذلك العموم بتخصيصه بذلك النهي الخاصّ ، وبعد التخصيص وخروج يوم العيد عن عمومات الأمر بالصوم خطابا وملاكا ، كما هو الشأن في التخصيصات الواقعية ، يكون صوم يوم العيد فاسدا ، وحينئذ تكون عملية التخصيص سابقة في الرتبة على الحكم بالفساد ، ويكون الفساد مستندا إلى التخصيص لا إلى نفس النهي والمبغوضية ، وبناء عليه يكون المناسب إرجاع هذه الثمرة إلى باب التعارض ، ويكون الفساد هنا من ناحية الجمع الدلالي ، أعني تحكيم الخاصّ على العام ، سواء كان ذلك الخاص متضمّنا للنهي المولوي التحريمي أو النهي الغيري أو النهي التبعي أو النهي الكراهتي ، أو كان متضمّنا لعدم الوجوب والاباحة.

ويمكن الالتزام بالجهة الثانية ، بل بالجهة الأولى باخراج النهي الغيري والتبعي والالتزام بكون الاباحة - بمعنى تساوي الطرفين وعدم الرجحان - منافيا للعبادة وموجبا لفسادها ، ولا ضير في ذلك.

كما أنّه مع قطع النظر عن هذه الجهة من المنافاة الواقعية بين العبادية وبين المبغوضية أو المرجوحية أو تساوي الطرفين القاضي بالفساد ، يمكن التطرّق إلى الفساد من ناحية أخرى ، هي دعوى كون التحريم أو الكراهة أو الاباحة بل الاستحباب لا يجتمع مع الوجوب ، فيكون ما دلّ على تحريم هذا الفعل أو كراهته أو إباحته - بمعنى أنّه ليس بواجب - مخصّصا لما دلّ بعمومه على وجوبه سواء

ص: 202


1- وسائل الشيعة 10 : 395 / أبواب الصوم المندوب ب 1 ح 1 وغيره.

كان العموم شموليا أو كان بدليا ، وبعد التخصيص الواقعي يبقى ذلك الفعل مجرّدا عن الأمر والملاك ، فلا يصحّ عبادة. نعم ، لو دلّ الدليل على استحبابه فهو وإن أخرجه عن عموم الوجوب إلاّ أنّه لا يوجب فساده ، لكونه حينئذ مأمورا به بالأمر الاستحبابي.

والحاصل : أنّه يمكن الاستدلال على اقتضاء النهي عن العبادة فسادها بكلّ من الطريقتين مع قطع النظر عن الأخرى ، وعلى هذا يكون النهي التنزيهي داخلا في محلّ النزاع كالتحريمي ، سواء كان العموم المقابل لذلك بدليا أو كان شموليا ، أو لم يكن في البين أمر أصلا إن تصوّرنا ذلك ، وكذلك تدخل الاباحة في محلّ النزاع - بمعنى تساوي الطرفين وعدم رجحان أحدهما على الآخر - فإنّها حينئذ تنافي العبادة القاضية برجحان الفعل على الترك.

ومن ذلك يظهر لك أنّ جميع هذا الذي حرّرناه فيما سلف من الدورات السابقة فيما يرجع إلى هذه الجهة إنّما هو خبط عشواء في الليلة الظلماء.

وتنفرد الطريقة الأولى أعني المنافاة مع قطع النظر عن العموم فيما لو فرض عدم العموم في البين ، مثل ما ذكرناه من العبادة بالتكتّف قائما نحو المعبود. كما تنفرد الطريقة الثانية أعني طريقة التخصيص فيما لم يكن الاخراج بواسطة دليل التحريم ، بل كان بالاستثناء أو بمجرّد قوله مثلا إنّ صوم يوم العيد خارج عن استحباب صوم كلّ يوم ، ومن ذلك كلّه يتبيّن لك أنّ الجهة الثالثة ليست بمانعة عن الاستدلال بالطريقة الأولى.

وأمّا النهي الغيري المتعلّق بالعبادة الناشئ عن الأمر بضدّها ، كما في الصلاة في مورد الأمر بالازالة ، فهو خارج عن محلّ البحث بالطريقة الأولى ، لعدم تأتّيها فيه ، إذ لا يكون مثل ذلك النهي موجبا للمبغوضية ولا للمرجوحية. أمّا الطريقة

ص: 203

الثانية فالظاهر أيضا خروجه عنها ، لما سيأتي بيانه (1) إن شاء اللّه تعالى من أنّ هذا الخروج عن عموم الأمر لا يكون خروجا واقعيا ناشئا عن التعارض ، وإنّما من باب التزاحم ، وهو لا يقتضي انتفاء الأمر ملاكا وإن نفاه خطابا ، هذا كلّه في العبادات.

وأمّا المعاملات فالوجه في اقتضائه للفساد هو أنّ عمومات المعاملة مقيّدة أو مخصّصة بعموم السلطنة ، بمعنى أنّ تلك العمومات لا تجري فيما يكون المالك فيه مسلوب السلطنة ، ولا بدّ في جريانها والحكم بالنفوذ فيها من الاعتماد على حديث السلطنة ، وإخراج المورد عن احتمال كونه محجرا عليه من ناحية هذه المعاملة لكونه ممنوعا منها ، وحينئذ يكون النهي التحريمي سالبا للسلطنة وواردا أو حاكما على حديثها فتفسد ، ولا يمكن الحكم بترتّب الأثر عليها.

والظاهر أنّ النهي الغيري والتبعي يشاركان النهي التحريمي النفسي في هذه الجهة ، فلم يخرج عن ذلك إلاّ النهي التنزيهي ، فإنّه لا يوجب سلب السلطنة ، وحينئذ يكون الحكم بالفساد في ذلك ناشئا عن النهي نفسه ، لا عن كونه مخصّصا لعموم في البين كي يكون من ثمرات ذلك التخصيص ، بل هو ناش عن نفس النهي التحريمي لكونه موجبا لسلب السلطنة ، فتفسد لكونه غير مسلّط عليها ، ويكون النزاع في ذلك صغرويا ، بمعنى أنّه هل يكون التحريم الوارد على المعاملة موجبا لسلب السلطنة كي يكون بذلك حاكما أو واردا على حديثها ، وليس ذلك من باب التخصيص في شيء ، لأنّ عمومات المعاملة قد تقيّدت وتخصّصت بحديث السلطنة ، بمعنى كون تلك المعاملات قد خرج منها كلّ ما لا سلطان للمالك عليه ، وإنّما أقصى ما يحدثه النهي هو سلب السلطنة المذكورة.

ص: 204


1- في الصفحة : 206 - 209.

وهذا غاية ما يمكن من توجيه كون اقتضاء النهي الفساد للمعاملة راجعا إلى الجهة الأولى ، وحاصله المقابلة بين باب العبادة وباب المعاملة ، فكما أنّ العبادة يعتبر فيها إمكان الرجحان والتقرّب ، والنهي يوجب سلب الرجحان وعدم إمكان التقرّب بها ، فيفسدها في المرتبة الأولى من دون حاجة إلى إعمال أدلّة اجتهادية في البين ، فكذلك المعاملة هي معتبر فيها السلطنة ، والنهي يسلب السلطنة عن تلك المعاملة فتفسد ، من دون حاجة إلى إعمال أدلّة اجتهادية وقواعد تخصيصية ، كي يكون ذلك الفساد خارجا عمّا نحن فيه وراجعا إلى الفساد من ناحية التخصيص والجمع بين الأدلّة ، وهو الفساد في المرتبة الثانية التي قلنا إنّه خارج عن محلّ النزاع فيما نحن فيه أصلا.

ولكن لا يخفى الفرق الواضح ، فإنّ الحاكم بتوقّف صحّة العبادة هو العقل ، وهو الحاكم بأنّ المبغوض لا يمكن التقرّب به ، فلا يكون الفساد الآتي من قبل النهي متوقّفا على إعمال تحكيم ولا على تخصيص في دليل اجتهادي ، بل يكون الفساد ابتدائيا بمجرّد تعلّق النهي ، وهذا بخلاف باب المعاملات فإنّ الحاكم بأنّه يعتبر فيها السلطنة إنّما هو الشرع حسبما أفاده الجمع بين مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ومثل قوله صلى اللّه عليه وآله : « الناس مسلّطون على أموالهم » (2) وحينئذ يكون النهي عن المعاملة مؤثّرا في سلب السلطنة ، وبذلك يكون موجبا لخروجه عن عموم ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) فيكون فاسدا بواسطة ذلك ، لا بمجرّد ارتفاع السلطنة وسلبها كي يكون راجعا إلى المرتبة الأولى من مراتب الفساد ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما تكرّر في هذه الأوراق من كون دليل النهي عن المعاملة حاكما أو

ص: 205


1- البقرة 2 : 275.
2- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.

واردا على حديث السلطنة ممنوع ، بل هو مخصّص لحديث السلطنة ، فإنّ مفاد الحديث هو أنّ المالك مسلّط على أن يتصرّف في ماله جميع التصرّفات ، وحينئذ يكون النهي عن هذه المعاملة موجبا لخروجها عن تلك التصرّفات ، وموجبا لرفع السلطنة على ذلك التصرّف الذي هو تلك المعاملة.

نعم ، بعد فرض كون عموم مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) مقيّدا بالبيع الذي للمالك سلطان عليه يكون النهي عن بيع خاصّ حاكما على ذلك العموم ، فالفساد الآتي من ناحية هذا النهي إنّما هو بواسطة ذلك التخصيص وتلك الحكومة ، فلا يكون إلاّ من ناحية إعمال الأدلّة الاجتهادية وتحكيم بعضها على بعض ، فلا يكون الفساد المذكور الناشئ عن ذلك إلاّ عبارة عن الفساد الناشئ عن الجمع بين الأدلّة الاجتهادية ، وتخصيص بعضها على بعض وتحكيم بعضها على بعض ، فلا يكون حاله حال الفساد الطارئ على العبادة الآتي من ناحية النهي نفسه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في المقام إشكالا ، وهو كيف تكون المعاملة المنهي عنها خارجة عن حديث السلطنة ، بحيث إنّها لو لا النهي لكانت داخلة فيه.

والجواب أنّه إنّما يكون في مثل معاملة المريض ، فإنّه لو نهي عنها خرجت عن عموم السلطنة القاضي بنفوذها ، ولا يتأتّى ذلك في المعاملة الجديدة التي لم يشملها عموم حتّى حديث السلطنة ، لكون الشكّ من جهة السبب غير داخل في حديث السلطنة ، فلو ورد النهي عنها لم يكن ذلك النهي مخرجا لها عن حديث السلطنة.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من كون النهي الغيري أو التبعي موجبا للفساد في المرحلة الثانية - أعني التخصيص - إنّما هو مماشاة مع القوم القائلين بأنّ ثمرة كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه هو فساد ذلك الضدّ لو كان عبادة ، وأنّ النهي

ص: 206

الغيري يكون موجبا للفساد ، كلّ ذلك بناء على كون النهي المذكور مخصّصا لدليل الأمر وإن كان بينهما عموم من وجه ، لما تقدّم من الاتّحاد بين المتعلّقين ، بمعنى أنّ الصلاة المزاحمة بالازالة تكون مأمورا بها ، نظرا إلى مثل قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) الشامل لما إذا كانت ضدّا للازالة أو لم تكن ، كما أنّها بنفسها تكون منهيا عنها ، نظرا إلى ما دلّ على حرمة الفعل الذي هو ضدّ للمأمور به أعني الازالة ، سواء كان ذلك الضدّ هو الصلاة أو كان غيرها ، فيجتمعان في الصلاة المزاحمة بالازالة ، وبعد تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب تكون الصلاة المذكورة خارجة عن عموم الأمر خروجا واقعيا وتخصيصا شرعيا ، موجبا لاخراجها عن الأمر خطابا وملاكا.

وهذا كلّه إنّما يتمّ لو كان لنا دليل يدلّ على حرمة الضدّ استقلالا ذا (2) كيان في حدّ نفسه ، أمّا إذا لم يكن ذلك التحريم إلاّ مولدا من الأمر بالازالة الذي لا ريب في كون نسبته إلى الأمر بالصلاة نسبة التزاحم دون التعارض ، فحينئذ يستحيل كون ذلك التحريم المولد من الأمر بالازالة معارضا للأمر بالصلاة ، بل لا يكون بينهما إلاّ عين تلك النسبة أعني نسبة التزاحم ، وحينئذ لا يكون تقدّم ذلك التحريم الغيري الطارئ على الصلاة إلاّ من قبيل التقدّم في باب المزاحمة دون التعارض ، وحيث كان التقديم المذكور تقديما تزاحميا لا تقديما تعارضيا فلا يكون نتيجته إلاّ إسقاط الأمر بالصلاة خطابا لا ملاكا ، وحينئذ يتأتّى تصحيح الصلاة المذكورة بالملاك كما يتأتّى تصحيحها بالترتّب ، ويكون حال الصلاة المذكورة على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ كحالها فيما

ص: 207


1- البقرة 2 : 43.
2- [ هكذا في الأصل ].

لو لم نقل بذلك ، في جريان تصحيحها بالملاك أو بالأمر الترتّبي كما أفاده شيخنا قدس سره ، وكأنّ القول بأنّها لا بدّ من الالتزام بفسادها بناء على القول المزبور ، ناشئ عن دعوى كون ذلك النهي والتحريم كسائر النواهي يكون حكما مستقلا ذا كيان استقلالي ، كما إذا ورد النهي عن المزاحم للازالة بنهي وتحريم مستقل غير متولّد من الأمر بالازالة ، فإنّه بناء على هذه الدعوى لا بدّ من إعمال قواعد التخصيص الشرعي ، الذي يكون لازمه خروج الصلاة المذكورة عن عموم الأمر خطابا وملاكا. لكنّك قد عرفت المنع من هذه الدعوى ، وأنّ هذا النهي على تقدير القول به لا يكون إلاّ متفرّعا عن الأمر بالازالة ومتولّدا عنه ، بل ليس ذلك النهي الناشئ عن ذلك الأمر إلاّ كوجود ظلّي لذلك الأمر ، فيستحيل أن يكون ذلك النهي أقوى من ذلك الأمر ، على وجه تكون منافاته للأمر بالصلاة منافاة تعارض مع فرض كون منافاة أصله - الذي هو الأمر بالازالة - مع الأمر بالصلاة منافاة تزاحم.

وحاصل ذلك : أنّه لا يعقل أن يكون تقديم ذلك النهي على الأمر بالصلاة موجبا لخروجها عن حيّز الأمر خطابا وملاكا ، مع فرض أنّ تقديم أصله وأساسه الذي هو الأمر بالازالة على الأمر بالصلاة لا يكون موجبا لخلل في الصلاة ، إلاّ من حيث سقوط وجوبها خطابا فقط ، من دون أدنى خلل يمسّ كرامة ملاكها.

وإن شئت إقامة البرهان على ذلك فقل : إنّ النهي الغيري عن الصلاة معلول للأمر بالازالة ، فلو كان ذلك النهي معارضا للأمر بالصلاة على وجه لا يجتمعان في عالم التشريع ، بحيث كان النهي عن ضدّ الازالة منافيا في عالم التشريع للأمر بالصلاة ، كانت هذه المنافاة في عالم التشريع سارية بالضرورة إلى علّة ذلك النهي الذي هو الأمر بالازالة ، فلازمه أن تكون هذه العلّة منافية في عالم التشريع ومعارضة للأمر بالصلاة ، وقد تقرّر أنّه لا منافاة في عالم التشريع بين الأمر بالصلاة

ص: 208

والأمر بالازالة ، هذا خلف ، وحينئذ لا بدّ أن نقول إنّ ذلك المعلول غير مناف للأمر بالصلاة.

وبالجملة : أنّا نستكشف من عدم التعارض وعدم المنافاة بين الأمر بالإزالة والأمر بالصلاة عدم ذلك التنافي بين الثاني وهو الأمر بالصلاة ومعلول الأوّل وهو النهي عنها ، إذ لو كان المعلول المذكور منافيا لكانت علّته أيضا منافية بالضرورة ، ونتيجة ذلك كلّه هو أنّ النهي المذكور ليس إلاّ وجودا ظلّيا للأمر بالازالة ، وكلّ أثر راجع إلى ذلك النهي من تقديمه على الأمر بالصلاة واخراجها عن عموم الأمر إنّما هو في الحقيقة راجع إلى أساسه وأصله الذي هو الأمر بالازالة ، فإنّ ذلك الفعل والتأثير لذلك النهي إنّما هو بقوّة ذلك الأساس الذي هو الأمر بالازالة ، فلا بدّ أن يكون تقديم ذلك النهي على الأمر بالصلاة مقصورا على المقدار الذي يتأتّى من الأمر بالازالة من التصرّف في ناحية الأمر بالصلاة في المرحلة الخطابية ليس إلاّ.

وبالجملة : ليس حال هذا النهي الغيري عن الصلاة الناشئ عن الأمر بالازالة بالنسبة إلى نفس الأمر النفسي بالصلاة إلاّ كحال الأمر الغيري المتعلّق بسلوك الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق بالنسبة إلى حرمة السلوك نفسيا ، في أنّ تنافيهما لا يكون إلاّ من باب التزاحم دون باب التعارض ، وإن كان بينهما فرق في جريان الترتّب فيما نحن فيه دون مسألة حرمة السلوك مقدّمة لإنقاذ الغريق ، كما حقّقه شيخنا قدس سره في تنبيهات الترتّب (1) ، فراجع.

فالذي تلخّص : هو أنّ النهي المذكور لا يوجب الفساد ، لا من جهة عدم

ص: 209


1- لاحظ ما ذكره المصنّف قدس سره في حاشيته المتقدّمة في الصفحة : 434 وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

ترتّب العقاب عليه كما عن المحقّق القمي قدس سره (1) لكي يرد عليه ما في الكفاية (2) وما عن الشيخ قدس سره في التقريرات (3) ، بل من جهة أنّ الفساد في المرتبة التي قدّمنا ذكرها إنّما ينشأ عن المبغوضية ، والنهي الغيري لا يؤثّر في المبغوضية. ولعلّ مراد المحقّق القمي قدس سره من استتباع العقاب هو لازمه ، أعني المبغوضية التي هي تمام الملاك في اقتضاء النهي الفساد ، فلا يرد عليه حينئذ ما أورداه قدس سرهما من أنّه ليس الملاك في افساد النهي هو استتباعه العقاب. وأمّا الفساد في المرتبة الثانية التي هي ناشئة عن التخصيص فهي إنّما تتمّ لو كان ذلك التخصيص ناشئا عن التعارض ، والمفروض أنّه ليس من هذا القبيل ، وأنّ المسألة ليست من وادي التعارض ، بل هي من وادي التزاحم.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما في الكفاية (4) من كون ملاك الفساد متحقّقا في النهي الغيري ، سيّما بعد تفسير الملاك بما في حاشية المرحوم القوچاني (5) بالمبغوضية ، فراجع وتأمّل.

هذا كلّه في العبادة المأمور بضدّها على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وأمّا المعاملة الواقعة ضدّا لما هو الواجب ، فينبغي القول بعدم الفساد فيها ، ولو بناء على ما تقدّم من كون تحريم المعاملة موجبا لبطلانها وسلب السلطنة عليها ، وذلك لأنّ هذا النهي لمّا كان متولّدا من الأمر بالضدّ الذي

ص: 210


1- قوانين الأصول 1 : 102 ضمن المقدّمة السادسة.
2- كفاية الأصول : 181.
3- مطارح الأنظار 1 : 728.
4- كفاية الأصول : 181.
5- كفاية الأصول 1 ( مع تعليقة القوچاني رحمه اللّه ) : 147 / تعليقة 49.

هو غير معارض لدليل نفوذ تلك المعاملة بل ولا مزاحم له ، لم يعقل كون ذلك النهي المتولّد منه معارضا لدليل نفوذ تلك المعاملة أو مخصّصا له بل ولا مزاحما له.

ولكن مع ذلك ينبغي التأمّل في المسألة ، فإنّه قد تحقّق في محلّه في بعض مباحث المكاسب وباب الاجارة أنّه لا تصحّ الاجارة على ما يضادّ الواجب ، فلو آجر نفسه نهارا تامّا بطلت الاجارة فيه بمقدار أداء الصلاة اليومية ، لأنّ الأمر الفعلي بتلك الصلاة سالب للقدرة على العمل المضادّ لها ، وحينئذ نقول : إنّ الأمر بالازالة مثلا يكون سالبا للقدرة على نفس المعاملة الواقعة ضدّا له ، فيكون هذا الشخص المأمور فوريا بالازالة غير قادر في عالم التشريع على البيع مثلا في وقتها ، فيكون ذلك عبارة أخرى عن كونه في عالم التشريع مسلوب السلطنة على تلك المعاملة ، فينبغي القول بفسادها.

نعم ، يمكن المناقشة في ذلك من باب المناقشة المثالية ، بأن يقال : إنّ المضادّ للازالة ليس هو نفس المعاملة بمعناها الاسم المصدري ، بل هو بمعناها المصدري. وإن شئت فقل : إنّ المزاحم للازالة إنّما هو السبب ، وسلب القدرة في عالم التشريع على السبب لا يوجب سلبها عن المسبّب ، وعلى كلّ حال فالمطلب الكبروي هو أنّ المسبّب بنفسه لو وقع ضدّا لما هو الواجب فهل يكون ذلك موجبا لفساده أم لا ، ومقتضى ما ذكره قدس سره في مثل الشاة المنذورة للصدقة ونحوها من بطلان البيع ، لكون وجوب الوفاء بالنذر سالبا للسلطنة على البيع ، هو الحكم بالفساد فيما ذكرناه من المعاملة التي هي ضدّ للواجب ، فإنّ من الواضح أنّ نفس البيع لم يكن فيه ما يوجب الفساد سوى كونه ضدّا للواجب الذي هو التصدّق ، سواء قلنا إنّ النذر كالشرط محدث للحقّ للمنذور له أو للشارع ، أو كونه تكليفا

ص: 211

صرفا ، وحينئذ تكون النتيجة هي بطلان المعاملة الواقعة ضدّا للواجب ، سواء قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ أو لم نقل ، لكفاية وجوب ذلك الواجب في سلب سلطنة المالك على المعاملة التي هي ضدّه ، وقد تقرّر أنّ من شرط نفوذ المعاملة هو كون المالك مسلّطا عليها ، وأنّ كلّ ما يوجب عدم سلطنته عليها في عالم التشريع يكون موجبا لبطلانها ، فراجع وتأمّل.

فقد تلخّص لك من جميع ما حرّرناه : أنّ العبادة المأمور بضدّها تكون صحيحة بالملاك أو بالترتّب حتّى على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وأنّ المعاملة المأمور بضدّها تكون فاسدة حتّى على القول بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

وانتظر تتمّة لذلك في مبحث اقتضاء النهي عن المعاملة فسادها ، فإنّا قد حقّقنا هناك (1) أنّه ليس كلّ ضدّ يكون الأمر به سالبا للسلطنة على المعاملة ، بل إنّما هو خصوص ما يكون تصرّفا في المال بنحو يضادّ المعاملة ، مثل وجوب التصدّق بالمال المعيّن بنذر أو شبهه في قبال بيعه ، دون مثل إزالة النجاسة عند وقوع البيع مزاحما لها ، فإنّه وإن سلب القدرة على البيع إلاّ أنّه لا يوجب سلب السلطنة عليه ، وليست المعاملة مقيّدة بالقدرة شرعا ، وإنّما هي مقيّدة بالسلطنة على المال وعدم الحجر عليه ، فراجع وتأمّل.

قوله قدس سره في الكفاية في الأمر الرابع : ضرورة أنّها بواحد منها لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النهي ... الخ (2).

إن كان المراد من تفسير العبادة في قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها

ص: 212


1- في الصفحة : 334 وكذا 346 - 348.
2- كفاية الأصول : 182.

بما نقله قدس سره هو أنّها تكون كذلك بعد تعلّق النهي بها ، بحيث إنّها تكون مصداقا لأحد هذه العناوين الثلاثة - أعني ما أمر به لأجل التعبّد به ، أو ما يتوقّف صحّته على النيّة ، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء - حتّى بعد ملاحظة تعلّق النهي بها ، فذلك ضروري البطلان كما أفاده قدس سره. أمّا على الأوّل فواضح ، إذ لا يعقل تعلّق النهي بما هو مأمور به فعلا. ومن ذلك يتّضح لك عدم معقولية الاجتماع على التفسيرين الأخيرين ، حيث إنّ توقّف الصحّة على نية التقرّب لا يكون إلاّ من جهة كون الأمر به يستدعي توقّف صحّته على نيّة التقرّب ، وكذلك الوجه الأخير أعني كونه لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء ، إذ المراد أنّه لا يعلم المصلحة الداعية إلى الأمر به ، فكان الأمر الفعلي معتبرا على كلا الوجهين ، ولا يمكن اجتماعه مع النهي.

وإن كان مراد من قال إنّ المراد بالعبادة هو ما يكون في حدّ نفسه لو لا لحاظ تعلّق النهي مصداقا لأحد هذه العناوين فذلك واضح لا غبار عليه ، غايته أنّه بعد لحاظ طرو النهي عليه يكون خارجا عن ذلك ، لكون النهي مخصّصا للأمر.

ومنه يتّضح لك التأمّل فيما أفاده أوّلا من تفسير العبادة بما يكون في حدّ نفسه خضوعا أو خشوعا ، أو سجودا له تعالى أو تسبيحا أو تقديسا له تعالى ، أو ما لو أمر به لكان عبادة ، فإنّ جميع هذه العبادات المنهي عنها تكون لو لا النهي مأمورا بها ، ولا أقل من عمومات إقامة الصلاة ، والندب إلى الصوم ، والبعث على العبادة ولو مثل قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) وغير ذلك من

ص: 213


1- البيّنة 98 : 5. [ في الأصل : فاعبدوه مخلصين له الدين. وهو من سهو القلم. ويحتمل أن يريد بذلك قوله تعالى ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) غافر 40 : 65، أو قوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) الزمر 39 : 2 ].

الأدلّة العامّة ، فإنّ عموم هذه الأدلّة شامل لما ذكره قدس سره من العبادات ، غير أنّه بعد لحاظ تحقّق النهي عنها تكون خارجة عن تلك العمومات ، لكون النهي عنها مخصّصا أو مقيّدا لتلك العمومات ، وكأنّه قدس سره يريد أنّ قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها أنّها بعد النهي تكون عبادة ، غايته أنّها عبادة فاسدة ، فاضطرّ إلى تفسير العبادة بما يكون في حدّ نفسه عبادة وإن كان منهيا عنه فعلا ، وهو العبادة الذاتية المنهي عنها فعلا ، أو ما يكون عبادة ومأمورا به لو لم يكن منهيا عنه ، هذا.

ولكن لا داعي إلى هذه المضايقة ، بل الظاهر أنّ المراد بالعبادة في ذلك ما يكون عبادة في حدّ نفسه مع قطع النظر عن تعلّق النهي به ، وإن خرج عن كونه عبادة بواسطة تعلّق النهي به. فالمراد بالعبادة ما يكون في حدّ ذاته مقرّبا أو يكون مقرّبا بواسطة الأمر ، لكن بملاحظة تعلّق النهي به يخرج الأوّل عن كونه مقرّبا بل يكون مبعدا ، ويخرج الثاني عن كونه مأمورا به ، بل يكون محرّما ومنهيا عنه ، وحينئذ يلتئم قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها مع كلّ واحد من تفاسير العبادة الراجعة إلى ما يكون مقرّبا ، من دون حاجة إلى هذا التكلّف ، هذا.

مضافا إلى أنّه قدس سره قد ارتكب هذا التسامح بقوله : ما يكون بنفسه مقرّبا لو لا حرمته ، فإنّه إن صحّ هذا التسامح فلم لا يصحّحه في تفسير العبادة بما أمر به ، ويكون المراد أنّه مأمور به لو لا حرمته ، كما قال قدس سره إنّه يكون مقرّبا لو لا حرمته ، فتأمّل.

قوله : والمراد من المعاملة ليس كلّ ما لم يكن عبادة حتّى يشمل مثل الحيازة والتحجير وأمثالهما ، بداهة أنّ غير العقود والايقاعات لم يتوهّم فيها دلالة النهي على الفساد ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : الخامسة أنّ للعبادة اطلاقين ، أحدهما : العبادة

ص: 214


1- أجود التقريرات 2 : 203 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بالمعنى الأخصّ ، وهو ما أمر به لأن يتعبّد به ، بحيث كان قصد التقرّب معتبرا فيه بنحو من الأنحاء ، كما في الصلاة ونحوها. ثانيهما : العبادة بالمعنى الأعمّ ، وهو ما يكون الأمر به صالحا لأنّ يتعبّد به ، سواء كان مقيّدا بقصد التعبّد أو كان غير مقيّد بذلك ، ولكنّه كان بحيث لو أتى بمتعلّقه بقصد الامتثال والتعبّد لترتّب عليه الثواب ، كما في تطهير الثوب ونحوه ، وكلّ منهما يكون النهي عنه موجبا لفساده.

أمّا الأوّل فيكون النهي عنه موجبا لفساده في نفسه لكونه بنفسه عبادة ، فلا يقع مسقطا للأمر. وأمّا الثاني فيكون موجبا لفساد جهة عباديته مع بقائه على ما هو عليه من كونه مسقطا للأمر.

أمّا المعاملة فلها ثلاثة إطلاقات ، كلّ واحد أخصّ من لاحقه :

الأوّل : ما يكون بين شخصين ، كما في جميع العقود.

الثاني : ما يكون واقعا بانشاء وجعل من الشخص ، أعمّ من أن يكون قائما بين شخصين كما في العقود ، أو يكون عن شخص كما في الايقاعات.

الثالث : ما يكون من أفعال الشخص منشأ لأثر شرعي ولم يعتبر في صحّته قصد الامتثال والتقرّب ، فيشمل العقود والايقاعات وجميع أبواب المعاملات كما في التذكية واحياء الموات والسبق إلى الوقف والحيازة ونحو ذلك ، بل يشمل جميع أبواب الفقه ما عدا الواجبات العبادية ، حتّى في مثل الغسل من الخبث ونحوه. والمراد بالمعاملة في هذه المسألة هي المعاملة بالاطلاق الثاني ، فيشمل العقود والايقاعات ، ولا يشمل مثل إحياء الموات والحيازات.

نعم لو كان النهي في مثل ذلك إرشادا إلى عدم ترتّب الأثر المرغوب من متعلّقه كان دالا على فساده. إلاّ أنّه خارج عمّا هو محلّ النزاع من النهي التحريمي فتأمّل ، انتهى.

ص: 215

قلت : إن كان النهي عن الحيازة - كحيازة الماء مثلا - متوجّها إلى التصرّف بالآلة الغصبية ، كما مثّل به المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : فإنّ النهي عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح ، إلاّ إذا كان النهي إرشادا إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيي ، وهذا خارج عمّا نحن فيه ، انتهى (1) كان خارجا عمّا نحن فيه من النهي الموجب لفساد المنهي عنه ، لأنّه من باب الاجتماع باعتبار كون المنهي عنه هو التصرّف بالمغصوب ، والذي هو منشأ الأثر هو نفس الحيازة ، ويكون حاله حال التستّر الواجب إذا حصل باللباس المغصوب.

وإن شئت فقل : إنّ النهي عن الاحياء بالآلة المغصوبة متوجّه إلى سبب المعاملة ، والكلام في النهي عن نفس المعاملة ، فلو توجّه النهي إلى نفس الاحياء أو إلى نفس الحيازة أو إلى نفس التحجير فلا يبعد القول باقتضائه الفساد ، بمعنى أنّ ذلك النهي يكون سالبا لسلطنة المكلّف على إيجاد ذلك الأثر ، كما قلناه في النهي عن البيع المتوجّه إلى نفس المعاملة.

وبعبارة أخرى : يكون النهي متوجّها إلى المسبّب الذي يحدث بفعل المكلّف لا إلى الفعل نفسه. وإن شئت فقل : إنّه متوجّه إلى المعنى الاسم المصدري لا إلى نفس المصدر ، فلو قال لا تسبق العالم أو العلوي إلى الصفّ الأوّل في المسجد عند صلاة الجماعة كان ذلك موجبا لعدم ترتّب الأثر على السبق المذكور ، لامكان القول بأنّ النهي عن السبق المذكور يكون موجبا لعدم ذلك السبق في عالم التشريع ، ويكون مخصّصا لمثل قوله عليه السلام : « من سبق إلى ما

ص: 216


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 456.

لم يسبقه إليه أحد فهو أحقّ بذلك » (1).

وفيه تأمّل ، نعم لو كان مرجع النهي إلى الارشاد إلى عدم ترتّب الأثر ، أو إلى بيان أنّه ليس له حقّ السبق في مثل ذلك ، لتمّ ما ذكرناه من الفساد ، أمّا مجرّد تحريم السبق تحريما مولويا فلا يكون موجبا لعدم ترتّب الأثر إلاّ إذا قلنا إنّ السبق أو الحيازة ونحوهما من الأمور القصدية الانشائية ، بمعنى أنّه ينشئ بتلك الأفعال تحقّق الملكية أو الحقّية ، فإنّه حينئذ يكون حاله حال المعاملات الانشائية ، فلو كان النهي متوجّها إلى أثرها المقصود إنشاؤه بذلك الفعل كان موجبا لعدم قدرته في عالم التشريع على إيجاده ، فتأمّل.

وقد استشكل شيخنا قدس سره (2) في حواشيه على العروة من حصول الطهارة بالاستنجاء بالروث والعظم ، ولعلّ منشأ تخصيص الإشكال بالروث والعظم ما في بعض الأخبار العامية بعد أن « نهى النبي صلى اللّه عليه وآله أن يستنجى بروث أو عظم ، قال : إنّهما لا يطهّران » (3) فراجع وتأمّل.

قال في الجواهر : وقد صرّح بعدم حصول الطهارة في المبسوط (4) والمعتبر (5) كما عن ابن إدريس (6) بل ربما نقل عن المرتضى (7) : قال في الأوّل

ص: 217


1- مستدرك الوسائل 17 : 111 / أبواب كتاب إحياء الموات ب 1 ح 4 ( مع اختلاف يسير ).
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 1 : 334 / مسألة (1).
3- سنن الدارقطني 1 : 56 / 9.
4- المبسوط 1 : 17 ( مع اختلاف يسير عمّا ينقله بعد قليل ).
5- المعتبر 1 : 132 ، 133.
6- السرائر 1 : 96.
7- نقله الشهيد رحمه اللّه في ذكرى الشيعة 1 : 171.

( يعني المبسوط ) : كلّ ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد ، انتهى ما نقله في الجواهر (1) عن المبسوط.

وقال الشيخ قدس سره فيما حكاه عنه في التقريرات : فالمراد بالشيء هو العبادة بالمعنى الأعمّ ، والمعاملة التي تتّصف بالصحّة والفساد شرعا ، وقد عرفت وجه التخصيص في الثاني. وأمّا وجه التعميم فيه بالنسبة إلى ما يتّصف بالصحّة فأمران :

أحدهما : عموم الأدلّة كما ستعرف. الثاني : ما ذكره الشيخ قدس سره في محكي المبسوط. ثمّ بعد نقل عبارة المبسوط المتقدّمة قال : وقد نقله في المعتبر ، ولم يعترض عليه بخروجه عن محلّ الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا بعدم اقتضاء النهي الفساد الخ (2).

وهذه شهادة من أستاذي الفنّ بأنّ النهي عن المعاملة في هذه المسألة شامل لمثل الأفعال التي لها آثار شرعية ، ولا يختصّ بالعقود والايقاعات.

نعم ، بعد فرض دخوله في محل النزاع لا يلزمنا القول بكون النهي عن مثل الاستنجاء بالعظم أو الروث موجبا للفساد ، إمّا لانكار أصل كون النهي في المعاملة يوجب الفساد ، وإمّا لتسليم كون النهي في المعاملة موجبا لفسادها. إلاّ أنّ ذلك إنّما هو في المعاملة التي يتوقّف نفوذها على الاعتماد على حديث السلطنة (3) والنهي يسلب السلطنة فتفسد من هذه الجهة. أمّا هذا النحو من المعاملات فلما

ص: 218


1- جواهر الكلام 2 : 54.
2- مطارح الأنظار 1 : 731 - 732.
3- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.

لم يكن ترتّب الأثر عليه منوطا بحديث السلطنة فلم يكن النهي مؤثّرا في ناحية من نواحي ترتّب الأثر عليه فلا يكون موجبا لفساده ، ولأجل ذلك نقول إنّه لو نذر أن لا يستنجي إلاّ بالماء وخالف ، ترتّب الأثر على فعله من الطهارة وإن كان قد عصى وأحنث ، وحينئذ يكون المختار هو عدم اقتضاء النهي في مثل ذلك الفساد. إلاّ أنّ ذلك اختيار لنا ، لا أنّه يوجب خروجه عن محل النزاع.

وهناك طريقة أخرى لاقتضاء الفساد هي غير سلب السلطنة ، وهي أنّ كلّ فعل من هذه الأفعال التي هي مورد ترتّب الأثر لا بدّ له من عموم ، مثل أوامر الغسل وأوامر الاستنجاء ، أو عموم إباحة مثل عموم أدلّة الاحياء والحيازة والسبق ونحو ذلك ، فإذا تعلّق النهي بفعل من تلك الأفعال كان ذلك النهي مخصّصا لذلك العموم الوارد في ذلك الباب ، سواء كان أمرا أو كان من مجرد الاباحة ، وبعد خروج المنهي عنه عن ذلك العموم نحتاج في ترتّب الأثر عليه إلى دليل ، وحيث لا دليل كانت أصالة عدم ترتّب الأثر عليه محكّمة فيه ، فتكون النتيجة حينئذ هي الفساد في المرتبة الثالثة ، فتأمّل.

وفي الجواهر في أثناء شرحه لعبارة المصنّف قدس سره وهي قوله - بعد أن منع من الاستنجاء بالعظم والروث والمحترم - : ( ولو استعمل شيئا من ذلك لم يطهر ) بعد أن نقل القول بعدم الطهارة عن الشيخ في المبسوط (1) ونقل عبارة المبسوط التي تمسّك فيها على عدم حصول الطهارة بذلك بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ، ثمّ نقل القول بحصول الطهارة عن العلاّمة (2) وجمع من المتأخرين ،

ص: 219


1- تقدّم استخراجه ونقل العبارة في ص 218.
2- مختلف الشيعة 1 : 101 مسألة 58 ، قواعد الأحكام 1 : 180 ، تذكرة الفقهاء 1 : 127 - 128 مسألة 37.

قال قدس سره : وأقصى ما يمكن أن يستدلّ به للأوّل ( يعني عدم حصول الطهارة ) الأصل ، وعدم شمول ما دلّ على الاستنجاء لما نهى الشارع عنه ، ولا أقل من إفادته الإذن التي لا تشمل المنهي عنه ، إلى أن قال : وأقصى ما يمكن أن يستدلّ به للثاني ( يعني حصول الطهارة ) تناول الاطلاقات والعمومات ، والنهي لا يقتضي الفساد في مثل المقام ، لكونه من قبيل المعاملات. ودعوى عدم تناولها له لاستفادة الإذن منها فلا تشمل المنهي عنه يدفعها أنّ الحكم الوضعي المستفاد منها شامل للجميع. على أنّ الاستفادة ليس من المدلول في شيء ، وعلى تقديره فلا دلالة فيها على شرطية الإذن بالنسبة للطهارة. ولعلّ الأقوى التفصيل بين ما نهي عن الاستنجاء به كالعظم والروث ، فإنّا وإن لم نقل باقتضاء الفساد في مثله عقلا ، لكن نقول باستفادته عرفا كما لا يخفى ، إذ هو كالنهي عن نفس المعاملة ونحوه ممّا يستفاد من ( منه ظ ) عدم ترتّب الأثر عليه ، بل قوله : « لا يصلح » (1) ظاهر في عدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، وبين ما لم ينه عن الاستنجاء به ، بل جاءت حرمة الاستنجاء به لأمر خارج مثل المحترمات ، فإنّه لا نهي عن الاستنجاء بها ، لكنّه يحصل الحرمة من جهة منافاته للاحترام المأمور به ، فحالها كحال الحجر المغصوب ونحوه (2) ، انتهى ما أردنا نقله.

ولعلّ نظر شيخنا قدس سره (3) في التفصيل في الإشكال بين المحترمات وبين الروث والعظم إلى هذه الجهة التي أفادها في الجواهر من الفرق بين النوعين.

وكيف كان ، فإنّ الغرض من نقل هذه العبارة بطولها بيان مطلبين :

ص: 220


1- وسائل الشيعة 1 : 357 / أبواب أحكام الخلوة ب 35 ح 1.
2- جواهر الكلام 2 : 54 - 55.
3- المتقدّم في ص 217.

الأوّل : أنّ النزاع في اقتضاء النهي عن المعاملة الفساد شامل لمثل هذه الأفعال التي يترتّب عليها الأثر الشرعي ، وإن لم تكن من قبيل العقود والايقاعات.

الثاني : أنّا لو لم نقل بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ، أو قلنا بذلك لكن لم نقل به في مثل هذه الأفعال ، من جهة أنّا إنّما نقول به في المعاملة التي يعتبر فيها السلطنة ليكون النهي عنها سالبا للسلطنة ، دون مثل هذه الأفعال التي لا مدخل للسلطنة في ترتّب الأثر عليها ، ومع ذلك كلّه يمكننا الحكم بفساده من ناحية كون النهي مخصّصا لما دلّ عليه دليل كونها مطهّرة ، من كونها مأذونا فيها ، ويكون الحاصل أنّ دليل المطهّرية يدلّ على المأذونية الشرعية في ذلك الفعل المطهّر ، والنهي عن بعض أفراد ذلك الفعل أو بعض أنواعه يخرجه عن المأذونية المذكورة ، وحينئذ يبقى دليل كون ذلك الفعل مطهّرا غير شامل لما هو مورد النهي ، فيكون حصول أثره وهو المطهّرية مشكوكا.

وهكذا الحال فيما لو كان المقابل لذلك النهي هو الأمر ، كما في الأمر بغسل الثوب للصلاة ، واتّفق أن صار بعض أفراد الغسل موردا للنهي ، فإنّه أيضا يخصّص ذلك الأمر ، ويبقى ترتّب الأثر على ذلك المنهي عنه مشكوكا.

وليس الغرض من ذلك كلّه هو الاختيار أو تقوية هذه الاستدلالات ، بل الغرض هو بيان أنّ مثل هذه الأفعال داخلة في محلّ النزاع في اقتضاء النهي الفساد ، سواء كان من طريق دعوى سلب السلطنة ، أو كان من طريق دعوى تخصيص ما دلّ على ترتّب الأثر من تلك الأوامر أو تلك الاذن والاباحة ، فتأمّل جيّدا.

قال في القوانين : المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحّتها إلى النيّة ، وبعبارة أخرى ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء. ثمّ قال : والمراد بالمعاملات

ص: 221

هنا ما قابل ذلك أي ما لا يحتاج صحّتها إلى النيّة ، سواء كان من الواجبات كغسل الثياب والأواني ، أو من العقود أو الايقاعات ، فإنّ المصالح فيها واضحة لا يتوقّف حصولها على قصد الامتثال ، وإن لم يحصل الثواب في الواجبات ، وحصل العقاب في إتيانها واتيان المعاملات على الطريق المحرّم ، ولذلك لا يكلّف من غسل ثوبه بماء مغصوب أو باجبار غيره عليه ، أو بحصوله من مسلم دون اطّلاعه باعادة الغسل ، وكذلك ترتّب الآثار على الأفعال في المعاملات المحرّمة كترتّب المهر والارث والولد لمن دخل بزوجته في حال الحيض وغير ذلك ، انتهى (1).

فصرّح بأنّ مثل غسل الثياب داخل في العنوان ، مع أنّه قد صرّح بأنّه لو كان قد وقع على جهة التحريم لم يكن ذلك موجبا لعدم ترتّب أثره عليه ، وما ذلك إلاّ من جهة أنّ كونه بحسب نظره لا يقتضي الفساد لا ينافي كون العنوان شاملا له.

وقال المرحوم الشيخ محمّد تقي في حاشية المعالم : ثانيها أنّ ما يتعلّق به النواهي قد تكون قابلة للصحّة والفساد كالعبادات والعقود والايقاعات ، وغيرها من الأفعال الموضوعة لترتّب آثار معيّنة كغسل الثياب والتذكية ، وقد لا تكون قابلة لذلك كالنهي عن الزنا والسرقة ونحوهما ممّا أشرنا إليه.

والثاني ممّا لا كلام فيه ، ولا كلام أيضا في عدم خروجه عن حقيقة النهي. ومحلّ الخلاف هو الأوّل ، سواء قام هناك دليل عام على الصحّة أو لا. ومن المقرّر أنّ الأصل الأصيل في الجميع هو الفساد ، لوضوح توقّف العبادة على تعلّق الأمر بها ، وهو خلاف الأصل. كما أنّ ترتّب الآثار على المعاملات على خلافه ، لأصالة بقاء الشيء على ما هو عليه. وحينئذ فالحكم بصحّتها يتبع الدليل الدالّ عليها من عموم أو خصوص ، وحينئذ فإن قام دليل على صحّة العبادة أو المعاملة وتعلّق

ص: 222


1- قوانين الأصول 1 : 154 - 155.

النهي به كان ذلك دليلا على فسادها ، وخصّ به الدليل الدالّ على الصحّة ، بناء على القول بافادته الفساد ، وإن لم يقم دليل على الصحّة كان عدم الدليل كافيا في الحكم بالفساد من جهة الأصل ، والنهي أيضا دليل لفظي دالّ على فساده. والفرق بين الدليلين ظاهر ، ولا أقل من كونه مؤكّدا ، فتخصيص النزاع بالصورة الأولى كما نصّ عليه بعض الأفاضل ممّا لا وجه له (1).

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس سره بقوله فيما نقله : بداهة أنّ غير العقود والايقاعات لم يتوهّم فيها دلالة النهي على الفساد الخ (2).

فإنّك قد عرفت أنّ ذلك قد قال به أساطين الفن وأساتذة الأصول ، نعم الفساد المدّعى في ذلك ليس هو الفساد في المرتبة الأولى ، أعني به ما هو آت من ناحية نفس النهي ولو لم يكن في مقابله عموم أمر أو عموم إباحة وإذن ، بل إنّ الفساد المدّعى هو الفساد في المرتبة الثانية ، أعني به ما هو آت من ناحية التخصيص ، أو لا أقل من الفساد في المرتبة الثالثة الآتي من ناحية الأصل.

نعم إنّ هذا النهي لا أثر له في ناحية الحكم بفساد تلك المعاملة ، لأنّها حسب الفرض مورد لأصالة عدم ترتّب الأثر ، سواء كان في البين ذلك النهي أو لم يكن.

والخلاصة هي : أنّه لو لم يكن في البين إلاّ الأمر بفعل من الأفعال ثمّ ورد النهي عن بعض أنواعه ، كان ذلك النهي موجبا لخروج مورده عن حيّز الأمر ، ولو كان له مورد آخر لوجبت الاعادة ، مثل ما لو أمره بالتكلّم مع زيد ونهاه عن شتمه

ص: 223


1- هداية المسترشدين 3 : 120.
2- أجود التقريرات 2 : 203 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فكلّمه شاتما له.

ولو كان لذلك الفعل المأمور به أثر وضعي مترتّب عليه كما في غسل الثوب ، فإن لم ينحصر الدليل على ذلك الأثر بذلك الأمر ووقع الفعل منهيا عنه بأن غسل الثوب بالماء المغصوب ، لم يحصل امتثال الأمر وذهب موضوعه ، ولكن يترتّب الأثر استنادا إلى عموم « خلق اللّه الماء طهورا » (1).

ولو انحصر الدليل على ترتّب الأثر بذلك الأمر كما في الأمر بالاستنجاء المخيّر بين الماء والأجسام القالعة ، واستجمر بالعظم والروث أو بالجسم المحترم أو بالحجر المغصوب ، فنظرا إلى خروج الجميع عن حيّز الأمر ينبغي أن يقال بعدم حصول الطهارة ، إذ لا دليل عليها إلاّ ذلك الأمر التخييري المفروض كون المورد قد خرج منه تخصيصا ، إلاّ أن يدّعى أنّ الأمر متعلّق بازالة النجاسة أعني المسبّب ، والنهي في الأوّل متعلّق بالمسبّب فيفسد ، بخلاف الأخيرين فإنّ النهي فيهما يتعلّق بالسبب فلا يوجب الفساد ، أو يقال بأنّ الأمر متعلّق بالمسبّب والنهي في الجميع متعلّق بالسبب ، إلاّ الأوّل فإنّه يستفاد منه الارشاد إلى عدم الأثر ، وذلك من قوله صلى اللّه عليه وآله بعد النهي إنّه لا يطهّر (2).

ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في الأفعال المباحة ذات الأثر الشرعي ، مثل التذكية والحيازة والاحياء ، فإنّ النهي في ذلك إن تعلّق بالسبب لم يوجب الفساد ، بخلاف ما لو تعلّق بالمسبّب فإنّه يوجب الفساد ، كما هو الشأن في المعاملات الانشائية ، فلاحظ وتدبّر.

ص: 224


1- وسائل الشيعة 1 : 133 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9.
2- تقدّم مصدره في الصفحة 217.

قوله : وأمّا من جهة آثار نفسها مع قطع النظر عن عباديتها كحصول التطهير فلا يدلّ النهي على الفساد من هذه الجهة ... الخ (1).

الظاهر أنّ هذا القسم من العبادات - أعني الذي لم يكن مقيّدا بقصد التقرّب - يتصوّر فيه كون النهي ناشئا عن مانعية المنهي عنه أو عن شرطية عدمه ، كما أنّ النهي النفسي فيه المتعلّق بنفس العمل يكون موجبا لفساده ، لا لخصوص عدم إمكان قصد التقرّب به مع بقائه مسقطا للأمر ، بل يكون موجبا لفساده بمعنى عدم كونه مسقطا للأمر ، لكونه بواسطة النهي خارجا عن عموم الأمر ، بحيث إنّه لو أمر باكرام عالم ونهي عن إكرام العالم الفاسق أو عن إكرام العالم بالاطعام مثلا كان ذلك النهي موجبا لخروج ذلك الاكرام عن عموم الأمر أو عن إطلاقه ، وكان يلزمه الاتيان باكرام آخر غير منهي عنه ، كما أفاده قدس سره (2) في باب التعبّدي والتوصّلي من اقتضاء الأمر عدم الاكتفاء بالفعل الواقع على جهة التحريم ، وأنّ النهي يوجب تخصيص متعلّق الأمر بما عداه ، ولا يمكن الاكتفاء بما وقع على جهة التحريم إلاّ بدليل خاصّ ، أو كان الفعل المحرّم معدما للموضوع ، أو كان محصّلا للغاية المطلوبة من الأمر كما في غسل الثوب بماء مغصوب ونحو ذلك ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الفساد من الجهة الأولى من المراتب التي قدّمنا ذكرها (3) وإن لم يكن متأتّيا في مثل ذلك ، لكنّه بالنسبة إلى المرتبة الثانية الراجعة إلى

ص: 225


1- أجود التقريرات 2 : 203 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 154 - 155 ، وقد تقدّمت حاشية للمصنّف قدس سره على ذلك في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 384 وما بعدها.
3- في الصفحة : 200.

تخصيص العموم بذات النهي يتأتّى فيه ، ولازمه عدم الاكتفاء بما وقع منهيا عنه ، لكونه خارجا عن عموم ذلك الأمر ، فلا يكتفى به في سقوط الأمر إلاّ إذا قام الدليل على السقوط بأحد الوجوه المذكورة ، وحينئذ يمكن الحكم بفسادها من ناحية التخصيص ودلالة النهي على انحصار ذي الأثر فيما عداه ، ولا أقل من أصالة عدم ترتّب الأثر ، لكنّه مع ذلك خارج عن العبادات وداخل في المعاملات بالمعنى الأعمّ حسبما عرفت فيما تقدّم (1).

قوله : المقدّمة الرابعة : أنّ التقابل بين الصحّة والفساد ليس تقابل الايجاب والسلب يقينا ، بداهة أنّه لا يكون إلاّ في العدم والوجود المحموليين اللذين لا يخلو منهما ماهية من الماهيات ، ومن الواضح أنّ الصحّة والفساد ليسا كذلك ، بل يحتاج صدقهما إلى فرض محلّ قابل لهما ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه : إنّ تقابل الصحّة والفساد من قبيل تقابل العدم والملكة ، لا من قبيل تقابل النقيضين أعني الايجاب والسلب ، ولا من قبيل تقابل الضدّين الوجوديين.

أمّا الثاني - أعني أنّ تقابلهما ليس من قبيل تقابل الضدّين الوجوديين - فلأنّ الصحّة وإن كانت أمرا وجوديا إلاّ أنّ الفساد ليس بأمر وجودي ، لعدم توقّفه على إفاضة وجود ، بل يكفي فيه عدم تحقّق موجب الصحّة ، فيكون أمرا عدميا.

وأمّا الأوّل - أعني أنّه ليس تقابلهما من قبيل تقابل النقيضين أعني الايجاب

ص: 226


1- في الحاشية السابقة.
2- أجود التقريرات 2 : 203 - 204 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

والسلب - فلأنّ ضابط تقابل النقيضين هو التقابل الراجع إلى تقابل الوجود والعدم المحموليين اللاحقين لكلّ ماهية ، ممكنة كانت أو ممتنعة ، فإنّ أي ماهية من الماهيات إمّا أن تكون موجودة فيحمل عليها الوجود وإمّا أن تكون معدومة فيحمل عليها العدم.

وأمّا تقابل العدم والملكة فهو التقابل الراجع إلى تقابل الوجود والعدم النعتيين اللاحقين لما من شأنه الاتّصاف بالصفة الكذائية ، فإمّا أن يكون متّصفا بها وإمّا أن يكون غير متّصف بها ، ويكون مورد الاتّصاف بالصفة الكذائية وعدم الاتّصاف بها هو الشيء بعد وجوده.

ومن الواضح أنّ كون الشيء صحيحا أو فاسدا ليس من النحو الأوّل ، فإنّ الفساد وإن كان أمرا عدميا والصحّة أمرا وجوديا إلاّ أنّهما ليسا محموليين ، بل هما نعتيان لاحقان للشيء بعد وجوده ، فإنّ الشيء بعد وجوده إمّا أن يكون واجدا لوصف الصحّة ، وإمّا أن يكون وصف الصحّة معدوما فيه مع كونه من شأنه أن يكون صحيحا ، فيكون تقابلهما فيه تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّه ربما قيل إنّ الصحّة أمر عدمي ، بمعنى عدم طرو المفسد ، وذلك كما في صحّة الأشياء الطبيعية مثل مزاج الإنسان أو الحيوان ، لكن ذلك خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ الصحّة المبحوث عنها هي الجامعية ، ويقابلها الفساد بمعنى انفقاد بعض الأجزاء أو الشرائط ، فتكون الصحّة وجودية والفساد عدميا.

ثمّ بعد هذا نقول : إنّ مراده قدس سره أنّ الصحّة والفساد الذي هو عبارة عن عدم الصحّة لا ريب في كونهما من قبيل الوجود والعدم ، إلاّ أنّ ما يطرؤه الوجود

ص: 227

والعدم إن كان من الجواهر فلا ريب في أنّ نسبة كلّ منهما إليه إنّما تكون باعتباره في نفسه ، وحينئذ يكون الوجود والعدم بالقياس إليه من قبيل الوجود والعدم المحموليين ، ويكون تقابلهما فيه من قبيل تقابل الايجاب والسلب ، وهو تقابل النقيضين ، ويعبّر حينئذ عن ذلك الوجود بمفاد كان التامّة ، وعن ذلك العدم بمفاد ليس التامّة.

وإن كان ما يطرؤه الوجود والعدم من الأعراض مثل القيام والقعود ونحو ذلك ، فتارة يكون نسبة الوجود والعدم إليه باعتباره في نفسه ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الجوهر في أنّ وجوده وعدمه من قبيل الوجود والعدم المحموليين ، ويكون تقابلهما فيه من تقابل الايجاب والسلب وتقابل النقيضين ، ويكون مفاد الوجود فيه مفاد كان التامّة ، ومفاد العدم فيه مفاد ليس التامّة ، وتارة يكون نسبة الوجود والعدم إليه لا باعتباره في حدّ نفسه ، بل باعتباره وجوده لمعروضه المعبّر عنه بالموضوع والمحل الذي يقوم فيه ، بحيث يلاحظ القيام بالنسبة إلى الذات التي يتقوّم بها فيقال إنّه موجود لتلك الذات أو إنّه معدوم منها ، ويعبّر عن ذلك بقيام زيد مثلا وبعدم قيامه ، ولا ريب أنّ وجود القيام لزيد وعدمه له إنّما يكون بعد فرض وجود زيد ، فيقال كان زيد قائما أو ليس قائما.

وحينئذ يكون وجود القيام وعدمه نعتيين لكونهما مأخوذين نعتا لزيد ، ويعبّر عن الأوّل بمفاد كان الناقصة ، وعن الثاني بمفاد ليس الناقصة ، فيكون زيد بعد فرض وجوده منعوتا بوجود القيام له أو منعوتا بعدم وجود القيام له ، وحينئذ يكون تقابلهما فيه من قبيل تقابل العدم والملكة ، لا من قبيل تقابل النقيضين والايجاب والسلب الصرفين ، بل إنّ ذلك السلب ملحوظ فيه جهة إيجاب في الجملة وهي لحاظ كونه - أي كون ذلك السلب أعني سلب القيام - ثابتا ولا حقا

ص: 228

لزيد بعد تحقّق وجود نفسه وذاته.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفساد وإن كان هو عبارة عن عدم الصحّة ، إلاّ أنّهما لم يكونا ملحوظين في حدّ أنفسهما ، بمعنى أنّ الصحّة عارض من عوارض الماهية القابلة للاتّصاف بها ، إلاّ أنّها لم تلاحظ في حدّ نفسها فيقال إنّ الصحّة موجودة وإنّها معدومة ، ليكون نسبة الوجود والعدم إلى نفس الصحّة من قبيل الوجود والعدم المحمولي ، ويكون التقابل حينئذ تقابل النقيضين ، بل إنّما لوحظت الصحّة في ذلك منسوبة إلى الماهية القابلة للاتّصاف بها ، فيقال إنّ وصف الصحّة وجد لتلك الماهية وأنّه انعدم منها ، وحينئذ يكون الوجود والعدم في ذلك نعتيا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ويكون نفس تلك الماهية هي مركز ذلك التقابل ، ويكون حال تلك الماهية بينهما كحال زيد بين قيامه وعدم قيامه في كون تقابلهما فيه تقابل العدم والملكة ، وأنّهما بالنسبة إليه من قبيل الوجود والعدم النعتيين.

وإن شئت مزيد الايضاح في ذلك فقل : إنّ نفس الصحّة بما أنّها عرض من الأعراض قابلة لأن يلاحظ وجودها وجودا محموليا ، فيكون عدمها أيضا عدما محموليا ، إلاّ أنّ عنوان الفساد ليس هو عبارة عن مجرّد ذلك العدم المحمولي ، ليكون حاله حال عدم القيام في امكان أخذه عدما صرفا محمولا على القيام فيقال إنّ القيام معدوم ، بل هو مشتمل على جهة زائدة على أصل ذلك العدم الصرف ، إذ ليس مجرّد عدم الصحّة فسادا ، بل الفساد إنّما هو عدم كون الشيء صحيحا ، فلا بدّ فيه من لحاظ نسبة ذلك العدم إلى شيء هو قابل لأن يعرضه وصف الصحّة فيقال إنّ ذلك الشيء انعدمت صحّته ، وحينئذ يكون العدم المأخوذ مصداقا للفساد هو العدم النعتي ، ويكون مقابله الذي هو وجود وصف الصحّة وجودا

ص: 229

نعتيا.

وهكذا الحال في كلّ أمر عدمي عبّر عنه صورة بعنوان وجودي مثل العمى ، فإنّه وإن كان عدم البصر إلاّ أنّه ليس هو عدم البصر بما أنّه عدم صرف ، بل بما أنّه عدم البصر عن شيء قابل لأن يتّصف بالبصر ، فلا يكون إلاّ عدما نعتيا ، ولا يكون مقابله الذي هو وجود البصر إلاّ وجودا نعتيا.

وحينئذ فوصف وجود الصحّة إن قوبل بعدم الصحّة كان حاله حال القيام المقابل بعدم القيام في امكان أخذهما محموليين فيكون تقابلهما تقابل النقيضين ، وإمكان أخذهما نعتيين فيكون تقابلهما تقابل العدم والملكة. وإن قوبل بالفساد لم يمكن أخذهما محموليين ، بل يتعيّن أخذهما نعتيين ، وكان تقابلهما تقابل العدم والملكة.

وهكذا الحال في البصر ، فإنّه إن قوبل بعدم البصر كان من الممكن أخذهما محموليين فيكون تقابلهما تقابل النقيضين ، وأخذهما نعتيين فيكون تقابلهما تقابل العدم والملكة. وإن قوبل بالعمى تعيّن كونهما نعتيين وكان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وامتنع كونهما من تقابل النقيضين. ويكون مركز التقابل هو الشيء القابل للاتّصاف بذلك الوصف الوجودي وعدمه ، بخلاف ما لو أخذا محموليين فإنّ ذلك الشيء المعروض لهما لا يكون مركزا للمقابلة بينهما ، بل يكونان متقابلين في حدّ أنفسهما من دون لحاظ ما يعرضان عليه ، بمعنى أنّ نفس ذلك العارض يتقابل فيه الوجود والعدم ، لا أنّ وجود ذلك العارض يتقابل مع عدمه بالنسبة إلى المعروض ، كي يكون كلّ منهما نعتا لذلك المعروض.

ويترتّب على هذا الضابط أثر مهمّ في باب استصحاب العدم بما هو مفاد ليس التامّة ، أو بما هو مفاد ليس الناقصة.

ص: 230

والذي يؤيّد ما ذكرناه - من أنّ الصحّة لو قوبلت بالعدم كانت المقابلة بينهما من قبيل مقابلة النقيضين ، بمعنى امكان لحاظ نفس وجود الصحّة وجودا محموليا - هو ما صرّح به المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس سره في هذا المقام ، فإنّه قال : وأمّا عدم كون التقابل بينهما تقابل الايجاب والسلب لأنّ التقابل كذلك إنّما هو في المهيات ، فإنّها هي المتّصفة بالوجود والعدم المحمولي ، لا في أوصاف الشيء وأعراضه فإنّه يتّصف بالوجود والعدم النعتي. ولا شبهة أنّ الصحّة ليست وجودا محموليا ، فإنّ العرض لو لوحظ بما أنّه شيء يكون موجودا أو معدوما ، وأمّا لو لوحظ بما أنّه عارض فيكون إمّا وصفا للشيء أو لا. فالعدم والملكة عبارة عن الايجاب والسلب إلاّ أنّهما أضيق من الايجاب والسلب ، فإنّ المعروض القابل لأن يعرضه وصف إذا عرضه الوصف فهو الملكة ، وإذا لم يعرضه فهو العدم ، كالعمى والبصر للإنسان. وبالجملة : لا بدّ أن يكون المحل قابلا للانقسام ، انتهى.

قوله : ثمّ إنّ مقابل الصحّة قد يكون هو الفساد فيراد منه عدم ترتّب الأثر على الشيء بالمرّة ، وقد يكون هو المعيب فيراد منه عدم ترتّب الأثر بتلك المرتبة المرغوبة منها. لا كلام لنا على الثاني ، وأمّا الأوّل فتارة يكون في الأمور الخارجية وأخرى في الأمور الشرعية. لا كلام لنا على الأوّل ، وأمّا الثاني فمورده ليس الأمور البسيطة ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الصحّة في مقابل المعيب بمعنى الناقص عن مجراه العادي أو الطبيعي يمكن إن يتأتّى في العبادات والمعاملات بأن تكون فاقدة لشرط أو

ص: 231


1- أجود التقريرات 2 : 204 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

جزء ، وذلك موجب لسراية الفساد إلى باقي الأجزاء والشرائط الموجودة. إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه من الفساد الآتي من ناحية النهي فإنّه يكون موجبا لفساد المجموع ابتداء ، من دون توسّط فقدان الجزء أو الشرط.

نعم إنّ العيب ربما لم يكن ساريا إلى الباقي ، كما في عيوب الحيوان ونحوه من الجواهر ، وهذا لا تتّصف به المعاملات والعبادات إلاّ على القول بوضعها للأعمّ من الصحيح والفاسد ، فإنّهم إنّما يريدون بالفاسد في ذلك النزاع هو الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ، وذلك الفقدان يوجب انفقاد الماهية بما أنّها مأمور بها ، بل يوجب انفقاد نفس الماهية بناء على الوضع لخصوص الصحيح. وأمّا على القول بالأعمّ فلا يكون موجبا لانفقاد أصل الماهية الموضوع لها اللفظ ، وإن لم يترتّب عليها الأثر المهم الذي هو اسقاط الأمر. وفي هذه المرحلة يكون العيب فيها كعيوب الحيوان فتأمّل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الفساد المدّعى في باب النهي عن العبادة أو المعاملة ليس إلاّ عبارة عن فقدان أهمّ شروطهما ، وهو إمكان التقرّب في العبادة والسلطنة في المعاملة ، فإنّ النهي عن العبادة يوجب مبغوضيتها وعدم إمكان التقرّب بها الذي هو أهمّ شروطها ، والنهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة في عالم التشريع عليها ، وهي أيضا أهمّ شروطها ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لا بدّ أن يكون ذلك المنهي عنه مركّبا كي يكون النهي عنه موجبا لفقدانه لهذين الشرطين ، حيث إنّ كلامنا إنّما هو في الفساد الآتي ابتداء من ناحية النهي ، أمّا الفساد في العبادة الآتي من ناحية كون النهي مخصّصا للأمر بها خطابا وملاكا فهو لا يتوقّف على كونها مركّبة ، إذ لو فرضنا - ولو محالا - أنّ لنا عبادة بسيطة اتّفق تعلّق النهي ببعض

ص: 232

أفرادها أو بعض أنواعها ، لكان ذلك النهي موجبا لخروج متعلّقه عن عموم ذلك الأمر ، وهو كاف في الحكم بفسادها ، إلاّ أنّه من ناحية الأمر وكون العبادة بدونه تشريعا محرّما ، وهو خارج عن محلّ كلامنا من كون النهي موجبا للفساد مع قطع النظر عن كونها خارجة عن عموم الأمر وعن كونها تشريعا محرّما.

وهكذا الحال في المعاملات فيما لو قلنا بأنّها أسماء للمسبّبات البسيطة ، فإنّ النهي عن بعض أنواعها لو فرضنا كونه مخصّصا للعموم الوارد في مشروعية تلك المعاملة من دليل الحلّية والنفوذ ، إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه من كون النهي بنفسه موجبا لفسادها.

هذا ما حرّرناه سابقا ، وفيه تأمّل ، لأنّ المبغوضية إنّما توجب الفساد لأنّ العبادة يعتبر فيها عدم المبغوضية فكانت مركّبة ، وكان النهي موجبا لفقدان ذلك القيد وهو عدم المبغوضية. وإذا تمّ ذلك في ناحية المبغوضية فهو جار في ناحية التخصيص فنقول : إنّ العبادة لا بدّ في صحّتها من وجود الأمر والملاك ، وهذا النهي يوجب فقدان هذا القيد أعني الأمر والملاك ، فتفسد لفقد بعض الشرائط.

وهكذا الحال في المعاملة بعد فرض كونها مقيّدة بالسلطنة ، ويكون النهي عنها موجبا لفقدان ذلك القيد ، فلو قلنا إنّها اسم للمسبّب المفروض كونه بسيطا لا يكون ذلك موجبا لخروجها عمّا نحن بصدده. نعم إنّ في كونها كذلك إشكالات أخر ، نحتاج إلى دفعها بما حرّر في محلّه (1) من عدم كونها من قبيل الأسباب والمسبّبات ، بل هي من قبيل الآلة وذي الآلة.

ص: 233


1- راجع أجود التقريرات 1 : 73 - 75 ، وراجع أيضا حواشي المصنّف قدس سره في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 199 وما بعدها.

قوله في الحاشية : قد تقدّم في بحث الصحيح والأعمّ أنّه ليس انشاء الملكية مثلا عبارة عن إيجادها خارجا لما مرّ من أنّ الملكية الشرعية غير قابلة لتعلّق الايجاد بها من غير الشارع ، مع أنّ المتبايعين ربما لا يلتفتان إليها أصلا ... الخ (1).

لم يدّع شيخنا قدس سره أنّ المجعول للمتبايعين هو الملكية الشرعية ، وإنّما جلّ كلامه هو أنّ المجعول لهما إنّما هو الملكية الانشائية التي تكون هي محلّ الامضاء الشرعي أو عدم الامضاء ، فإنّ الملكية من الاضافات القابلة للجعل بالانشاء ، وبجعلها انشاء تنجعل في وعائها من عالم الاعتبار العقلائي الذي جرى عليه العقلاء ، وليست هي إلاّ من قبيل التكليف الذي ينجعل بالجعل ممّن له الجعل ، غايته أنّ الجاعل في باب التكاليف الشرعية لما كان هو المشرّع لم يحتج إلى امضاء ممض ، بخلاف الملكية المجعولة انشاء من قبل العاقد ، فإنّها وإن تحقّقت في عالم الانشاء إلاّ أنّ ذلك لا يكفي ما لم يمضها الشارع. ولا ريب أنّ مجرّد اعتبار المالك لا يكفي في تحقّقها في وعاء الانشاء ما لم يكن في البين انشاء وجعل ، بل لا بدّ في ذلك من إنشاء وجعل ولو كان ذلك بقوله جعلت الملكية ، أو كان بفعل من الأفعال التي تكون موجدة لها ، ويكون جميع ما تنشأ به تلك الملكية من قبيل آلة إيجادها ، ويكون نسبة الانشاء الذي هو إيجاد تلك الملكية إلى نفس الملكية التي وجدت في عالم الانشاء من قبيل الايجاد والوجود. ولم يدّع شيخنا قدس سره أنّ نفس اللفظ يكون إيجادا لها كي يتوجّه عليه قول المحشي : فكيف يعقل أن يكون وجود اللفظ إيجادا للملكية الخ.

ومن ذلك يظهر لك ما في قول المحشي : وأمّا الملكية الاعتبارية القائمة

ص: 234


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 205.

بهما بالمباشرة فاعتبارها منهما لا يحتاج إلى سبب أو آلة. فإنّه قد ظهر لك أنّ الملكية المجعولة للمتعاقدين لا بدّ في جعلها من آلة تجعل بها في عالم الانشاء ، وليس مجرّد البناء على جعلها كافيا في انجعالها ، بل لا بدّ في ذلك من آلة تكون آلة في انشائها وجعلها ، ويكون ذلك كافيا في تحقّقها لدى العقلاء وفي ترتيب الأثر عليها عندهم ، فإن أمضاه الشارع على ما هو عليه عندهم فهو وحينئذ تكون الملكية صحيحة عنده ، وإلاّ كانت تلك الملكية التي اعتبروها غير كافية عنده في عالم التشريع وكانت فاسدة من أصلها. وإن اعتبر في كيفية انشائها أو في آلة انشائها أو في المتعاقدين أنفسهما أو في أحد العوضين أو كليهما أمورا أخر غير ما هو عند العقلاء ، كان جميع ما هو فاقد لذلك فاسدا عنده ، وحينئذ يكون مركز الصحّة والفساد هو نفس ذلك الانشاء والجعل ولو باعتبار الخلل في آلته ونحوها ممّا عرفت.

والحاصل : أنّ المسبّب إذا كان هو الملكية الشرعية فهي لا تتّصف بالصحّة والفساد ، وإنّما تتّصف بالوجود والعدم. وإن كان هو نفس الملكية الانشائية التي أوجدها المتعاقدان في عالم الانشاء فهي تتّصف بذلك لا باعتبارها بنفسها ، بل باعتبار إيجادها بآلتها وما يرجع إلى آلتها من المتعاقدين أو العوضين ، باعتبار جامعية هذه الأمور لما اعتبره الشارع في ترتيب الأثر عنده في عالم التشريع ، واسم المعاملة كلفظ البيع إنّما هو موضوع لنفس ذلك النقل الانشائي الذي يوجده المتعاقدان ، أعني مبادلة المال بالمال ، فتارة يؤخذ بمعناه الاسم المصدري وأخرى يؤخذ بمعناه المصدري ، أعني أنّه يلاحظ فيه جهة صدوره من المتعاقدين التي هي عين انشائه ، وهو في هذه المرحلة ومن هذه الناحية يتّصف بالصحّة والفساد. والألفاظ المذكورة وإن قلنا إنّها موضوعة للصحيح إلاّ أنّها لو

ص: 235

وردت مطلقة وكان إطلاقها في مقام البيان ، نستكشف أنّ الشارع لم يعتبر فيها شيئا زائدا على ما يعتبره العقلاء فيها ، فلاحظ وتأمّل ، وراجع ما حرّرناه في هذه المسألة في مبحث الصحيح والأعمّ (1) وتأمّل.

قوله قدس سره في الكفاية : تنبيه وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريان ... الخ (2).

ظاهر ما أفاده قدس سره في هذا التنبيه مخالف لما تقدّم (3) من كون الصحّة والفساد لا يختلف حالهما باختلاف الآثار. وعلى كلّ حال ، فإنّ نظره قدس سره في هذا التنبيه إلى نفس الأثر المترتّب على الصحّة والفساد ، فالأثر الذي هو مهمّة المتكلّم - أعني به موافقة الشريعة أو الأمر - لا يكون إلاّ انتزاعيا صرفا ناشئا عن مطابقة الفعل لما هو المأمور به وعدم مطابقته له ، والأثر المهمّ للفقيه الذي هو عبارة عن إسقاط الاعادة والقضاء لا يكون أمرا انتزاعيا ، ولا حكما شرعيا مجعولا ابتداء أو تبعا لجعل شرعي ، ليكون نظير الجزئية المجعولة في نظره تبعا لجعل الأمر بالكل المشتمل على ذلك الجزء ، بل لا يكون هذا الأثر إلاّ حكما عقليا صرفا.

نعم هذا في نسبة كلّ فعل إلى أمره المتعلّق به ، أمّا بالنسبة إلى غيره كالفعل الاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي والمأتي به مطابقا للأمر الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي مع فرض قيام الدليل على الإجزاء ، فلا يكون ذلك الأثر الذي هو إسقاط الاعادة والقضاء بالنسبة إلى ذلك الأمر الواقعي الأوّلي إلاّ حكما

ص: 236


1- راجع الحاشيتين المذكورتين في الصفحة : 199 و211 من المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.
2- كفاية الأصول : 183.
3- كفاية الأصول : 182.

شرعيا ، هذا حال العبادات.

وأمّا المعاملات فحيث إنّ أثرها هو المسبّب وهو لا يكون إلاّ حكما شرعيا ، فلا جرم تكون الصحّة بالقياس إليه شرعية.

قلت : لو لوحظت الآثار المترتّبة على الصحّة فالظاهر كما أفاده قدس سره ، إلاّ في خصوص كون اسقاط الأمر الواقعي الأوّلي مجعولا ، فإنّه ليس الاسقاط بمجعول مع فرض بقاء الشرطية والجزئية بحالهما ، بل إن التصرّف الشرعي إنّما هو في اسقاط الجزئية والشرطية ، وحينئذ يكون الأثر المترتّب على الفاقد - أعني كونه مسقطا للاعادة والقضاء - عقليا صرفا ، لكون أمره الواقعي قد تبدّل إلى ذلك الفاقد. أمّا الصحّة نفسها فلا تكون إلاّ عبارة عن التمامية وواجدية جميع ما هو منشأ الأثر المترتّب عليها ، ولا تكون إلاّ انتزاعية صرفة.

قوله قدس سره في الكفاية : نعم الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين ، بل إنّما هي تتّصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به ... الخ (1).

لا يخفى أنّا ولو فسّرنا الصحّة بمعنى إسقاط الاعادة والقضاء فليست هي وصفا للكلّي المأمور به ، فإنّ ذلك الكلّي الطبيعي لا يتّصف بصحّة ولا فساد ، وإنّما المتّصف بذلك هو مصداقه الخارجي ، وحينئذ فالذي نحكم عليه شرعا بأنّه مسقط للأمر الواقعي ليس هو كلّي ما تعلّق به الأمر الظاهري ، فإنّ ذلك الكلّي في حدّ نفسه لا يسقط الأمر الواقعي ، وإنّما الذي يسقطه هو هذا الفعل الخارجي الذي وقع على طبق الأمر الظاهري ، ويكون ما هو موضوع إسقاط الأمر الواقعي هو متعلّق الأمر الظاهري ، ويكون ذلك المتعلّق مأخوذا في الحكم بالاسقاط على

ص: 237


1- كفاية الأصول : 184.

نحو القضية الحقيقية ، بأن يقول إنّ ما تأتي به امتثالا للأمر الواقعي يكون محكوما عليه عندي بأنّه مسقط للأمر الواقعي ، فلا يكون الاسقاط المذكور لا حقا لما هو متعلّق الأمر الظاهري إلاّ بعد فرض وجوده خارجا ، كما هو الشأن في القضايا والأحكام التي لا تكون إلاّ حقيقية. وحينئذ لو قلنا إنّ الصحّة بمعنى الاسقاط ، وأنّ الاسقاط في ذلك يكون مجعولا شرعا ، يكون المتّصف بهذه الصحّة هو الفعل الخارجي ، وتكون صحّته شرعية لا انتزاعية.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أفاده قدس سره بعد هذا في المعاملات بقوله : نعم صحّة كلّ معاملة شخصية وفسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه الخ (1). فإنّ الصحّة لو أخذت بمعنى ترتّب الملكية فالشارع لم يجعل على طبيعة العقد ، بل إنّما جعل الملكية على تقدير تحقّق العقد ، فيكون المتّصف بالصحّة المذكورة هو العقد بعد وجوده لا قبل وجوده.

وما أفاده قدس سره من قياس المقام بمقام متعلّق التكليف بقوله : كما هو الحال في التكليفية من الأحكام ، ضرورة أنّ اتّصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما ليس إلاّ لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام ، انتهى. لا يخلو من تأمّل ، فإنّه على الظاهر قياس مع الفارق ، حيث إنّ التكليف كالوجوب - مثلا - إنّما يعرض المتعلّق كالصلاة قبل وجودها ، فهي قبل الوجود متّصفة بالوجوب ، ولا بدّ حينئذ من أن نقول إنّما تتّصف هذه الصلاة الخارجية بالوجوب لأجل انطباقها مع ذلك الذي طرأ عليه الوجوب وهو طبيعة الصلاة ، وهذا هو الشأن في متعلّقات التكاليف. لكن أين ذلك ممّا نحن فيه ممّا يكون من قبيل الموضوعات للحكم الشرعي ، التي لا تكون مأخوذة إلاّ على نحو القضية الحقيقية ، على وجه أنّ ذلك

ص: 238


1- كفاية الأصول : 184.

الحكم لا يكون فعليا ولا يتحقّق خارجا إلاّ بعد وجود ذلك الموضوع خارجا ، ولا يتّصف ذلك الكلّي المأخوذ موضوعا بذلك الحكم اتّصافا فعليا إلاّ بعد وجوده خارجا.

نعم قبل وجوده ليس إلاّ الحكم التعليقي الذي نعبّر عنه بالشرطية اللزومية القائلة إنّه لو وجد هذا الموضوع لكان محكوما عليه بكذا ، فتأمّل.

قوله : بل بضميمة ما ذكرنا في باب الإجزاء - إلى قوله : - يظهر لك أنّ الصحّة في موارد الأوامر الواقعية الثانوية غير قابلة للجعل حتّى بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي أيضا ، وأمّا الصحّة والفساد في موارد الأوامر الظاهرية بالنسبة إلى الأوامر الواقعية فالحقّ أنّهما مجعولان بنفسهما قبل انكشاف الخلاف وبعده ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في أثناء البحث على كون الصحّة والفساد مجعولين أو غير مجعولين عند تعرّضه لصورة الاضطرار ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : إن قلنا : إنّ الأمر الواقعي في حال الاضطرار يتبدّل وينقلب إلى الأمر الاضطراري ، لسقوط كلّ جزء أو شرط اضطرّ إلى تركه ، لم تكن الصحّة والفساد قابلين للجعل ، إذ ليست الصحّة حينئذ والفساد إلاّ عبارة عن مطابقة المأتي به لذلك الكلّي المأمور به الثانوي ، أمّا الواقعي الأوّلي فقد سقط ، ولا أثر لمطابقة المأتي به له وعدم مطابقته.

وإن قلنا : إنّ ذلك الواقعي الأوّلي لم يسقط ، بمعنى أنّه لم يتبدّل إلى الواقعي الثانوي ، وأنّ غاية ما في الباب هو اكتفاء الشارع بذلك المأتي به عن الواقعي الأوّلي ، كان الحكم بالاكتفاء بذلك المأتي به عن ذلك الواقعي الأوّلي عبارة عن

ص: 239


1- أجود التقريرات 2 : 210 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

تنزيله منزلة المنطبق عليه ، وحينئذ تكون الصحّة مجعولة شرعا.

وأمّا الظاهري فيقع الكلام فيه تارة قبل انكشاف الخلاف وأخرى بعده ، أمّا قبل الانكشاف فبناء على ما حقّقناه في محلّه من أنّ الحكم الظاهري عبارة عن التنزيل الشرعي وجعل الهوهوية يكون مرجعه إلى جعل المأتي به بالأمر الظاهري منطبقا على الكلّي الواقعي ، فتكون الصحّة وكذلك الفساد في هذه المرحلة مجعولة أيضا. وأمّا بعد انكشاف الخلاف فقد حقّقنا في محلّه أنّ مجرّد الحكم الظاهري لا يقتضي الاجزاء بعد انكشاف الخلاف ، فلا يتصوّر حينئذ الصحّة في هذه المرحلة. نعم ، لو دلّ الدليل على الاجزاء في هذه المرحلة كان مرجعه إلى التصرّف في مقام الامتثال والحكم الشرعي بانطباق ذلك المأتي به على ذلك الكلّي الواقعي ، فتكون الصحّة في هذه المرحلة مجعولة شرعا. هذا بعض ما حرّرته عنه قدس سره في هذا البحث ، وهو مفصّل فإن شئت فراجعه (1).

قلت : والذي يظهر من هذا التحرير ومن هذه الكلمات التي حرّرتها عنه قدس سره أنّ شيخنا قدس سره أخذ الصحّة من حيث مطابقة الفعل لما هو المأمور به أو لما هو المشرّع ، وهذه المطابقة تكون انتزاعية صرفة إلاّ في الفعل المأمور به بالأمر الظاهري بالنسبة إلى ما هو المأمور به واقعا ، فإنّ هذه المطابقة لا تكون إلاّ بحكم الشارع بتنزيل المأتي به منزلة الواجد.

وهذا المطلب بعد محتاج إلى التأمّل ، أمّا بالنسبة إلى الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف فلأنّ مرجع الأمر الظاهري إلى تنقيح ما هو المأمور به واقعا ، وبعد تنقيحه بالأمر الظاهري يكون انطباق المأتي به على ذلك المأمور به الواقعي الثابت بدليل الأمر الظاهري انطباقا قهريا. ولا دخل له بالجعل الشرعي. وأمّا

ص: 240


1- مخطوط لم يطبع بعد.

بالنسبة إلى ما بعد انكشاف الخلاف فلأنّ مرجع الحكم بالإجزاء إن كان بلسان إسقاط الجزء أو الشرط الذي كان المأتي به فاقدا له كان انطباقه على المأمور به انطباقا قهريا ، وكذلك لو قلنا إنّ مرجع الإجزاء إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، إذ لا محصّل لذلك التنزيل بعد انكشاف الخلاف إلاّ إسقاط لزوم ذلك الذي انفقد.

أمّا القول بأنّ الإجزاء من باب اكتفاء الشارع بالفاقد كما أفاده قدس سره في أواخر البراءة فقد شرحنا هناك (1) أنّه لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك الفاقد مفوّتا لمصلحة الواجد ، وموجبا لعدم إمكان استيفائها ، ومعه لا صحّة أصلا كي نتكلّم في كونها مجعولة أو منتزعة. ومن ذلك كلّه يظهر الحال في الأوامر الاضطرارية.

ثمّ إنّه قدس سره بعد هذا الذي تقدّم ممّا يظهر منه أنّ الصحّة في موارد الحكم الظاهري وفي موارد الاجزاء تكون مجعولة ، أفاد حسبما حرّرته عنه توضيحا أو استدراكا لما تقدّم بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه وهو : أنّ الصحّة دائما انتزاعية ، وإنّما الاختلاف فيما تنتزع عنه ، فما ينتزع عنه صحّة كلّ مأتي به بالنسبة إلى كليّه الواقع في درجته يكون واقعيا لا تناله يد الجعل ، وما ينتزع عنه صحّة المأتي به بالنسبة إلى كلّي آخر ، أعني ذلك الحكم الشرعي الوارد على ذلك المصداق بأنّه مطابق للكلّي الواقعي الأوّلي يكون مجعولا للشارع ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح المرحوم الشيخ محمّد علي في هذا المقام ، فإنّه قال فيما حرّره عنه قدس سره بعد ذكره الخلاف في كونهما مجعولين ما هذا لفظه : والأقوى كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والمانعية ، وإنّما المجعول هو منشأ الانتزاع ، وهذا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول. ثمّ أخذ في تفصيل ذلك إلى أن قال :

ص: 241


1- [ الظاهر أنّ مراده قدس سره تحريراته المخطوطة ].

وعلى كلّ حال ، الصحّة والفساد أينما كانا فإنّما يكونان من الانتزاعيات (1). ومراده بقوله : بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول ، موارد الفعل بالنسبة إلى أمره المتعلّق به لا بالنسبة إلى أمر آخر ، فإنّ منشأ الانتزاع في الأوّل كنفس عنوان الصحّة المنتزع غير مجعول ، فلاحظ. وهكذا صرّح بذلك كلّه في باب الاستصحاب ص 146 (2) فراجعه بما علّقناه عليه (3) وكذلك صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما عثرت عليه من تحريراته عنه قدس سره في هذا المقام ، فإنّه بعد تعرّضه للصحّة في مورد الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف ولها فيه بعد انكشاف الخلاف قال ما هذا لفظه : وكيف كان ، فالحقّ أنّهما منتزعان في خصوص هذين الموردين ، وأمّا في غيرهما فلا هما مجعولان متأصلا ولا انتزاعا الخ.

ولكن مع هذا كلّه فالمطلب بعد يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ الشارع في مورد انكشاف الخلاف إن أسقط جزئية الجزء المفقود كانت الصحّة غير مجعولة كمنشإ انتزاعها ، وكان حال ذلك الفاقد في كون صحّته انتزاعية وكون منشأ انتزاعها غير مجعول حال المأمور به الواقعي بالنسبة إلى أمره. وإن لم يسقط الجزئية المذكورة كان اللازم هو الاعادة.

وهذا التنزيل الذي أفاده شيخنا قدس سره لا يجتمع مع بقاء وجوب ذلك الجزء بحاله ، وليس المتحصّل من تنزيل الفاقد في هذا الحال منزلة الواجد إلاّ أنّ هذا في هذا الحال كالواجد في حال الالتفات ، في كون كلّ منهما مطابقا لما تعلّق به من الأمر ، وذلك عبارة أخرى عن سقوط الجزئية في هذا الحال. ولو سلّمنا صحّة

ص: 242


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 460 - 461.
2- فوائد الأصول 4 : 400.
3- في المجلّد التاسع.

التنزيل المذكور مع فرض أنّ الشارع لم يسقط وجوب ذلك الجزء ، كان مرجعه إلى جعل هذا الفاقد منطبقا تنزيلا وتعبّدا مع ذلك الواجد ، وحينئذ يكون نفس الصحّة التي هي المطابقة لما هو الواقع المأمور به مجعولة من جانب الشارع ، لا أنّ المجعول هو شيء آخر والصحّة بمعنى المطابقة منتزعة عنه ، إذ ليس في البين شيء قابل للتصرّف الشرعي ومغاير لاسقاط الجزئية إلاّ ذلك التنزيل الراجع إلى جعل المطابقة ، وحينئذ تكون الصحّة مجعولة شرعا ، فتأمّل. وسيأتي (1) له مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.

هذا كلّه في الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف ، وأمّا هو قبل الانكشاف فتارة يكون في مقام الجعل والتعلّق ، كأصالة البراءة من الجزئية والشرطية في مسألة الأقل والأكثر ، بل كالخبر الوارد بأنّ الجزء الفلاني ليس بواجب أو أنّه واجب. وأخرى يكون في مقام الفراغ ووادي الامتثال ، مثل قاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما ممّا يجري في وادي تحقّق الامتثال ، ولو مثل الأمارة القائمة على الاتيان بالجزء ، كالظنّ بناء على حجّيته في الأفعال. فإن كان الأوّل فهو أجنبي عن جعل الصحّة لا ظاهرا ولا واقعا ، إذ ليس هو إلاّ منقّح لما هو المأمور به كلّية ، ويتفرّع على ذلك مطابقة المأتي به له وعدم مطابقته. وأمّا الثاني فكذلك أيضا ، إذ ليس الحكم في ذلك كلّه إلاّ من قبيل الأحكام الظاهرية الجارية في تحقيق الموضوعات الخارجية ، مثل موت زيد وحياة عمرو ، إذ لا فرق بين قيام الحكم الظاهري بأنّ زيدا قد مات في ترتّب أثره عليه من قسمة ميراثه ، وبين قيام الحكم الظاهري على هذا في الركوع بعد الفراغ ، بأنّه قد ركع بمقتضى قاعدة الفراغ أو بمقتضى الظنّ مثلا ، في ترتّب أثر الركوع عليه من سقوط الأمر وعدم الاعادة ،

ص: 243


1- في هذه الحاشية والحاشية اللاحقة.

وليس ذلك في شيء من جعل الصحّة.

وبالجملة : أنّ الصحّة التي هي عبارة عن مطابقة العمل للواقع أو التمامية هي من الأمور الواقعية ، فيكون حالها حال الأمور الواقعية في كونها قابلة للثبوت بالأمارات الشرعية ، وبما جعله الشارع مثبتا لها مثل قاعدة الفراغ ، فيترتّب على ذلك آثارها الشرعية ، من سقوط الأمر وعدم وجوب الاعادة والقضاء وغير ذلك ، وليس ذلك من قبيل جعل الصحّة في شيء. وأي فرق بين من صلّى ثمّ شكّ في كونه صلّى إلى القبلة وجرت في حقّه قاعدة الفراغ ، ومن قامت عنده البيّنة بعد صلاته بأنّها كانت إلى القبلة. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المجعول في حقّهما معا هو كون تلك الصلاة قد وقعت إلى القبلة ، فكانت مطابقة لما هو المأمور به واقعا ، ويكون جميع ذلك راجعا إلى جعل الصحّة ظاهرا ، فتأمّل.

وحاصل البحث أو خلاصته أو توضيحه : أنّ صاحب الكفاية قدس سره (1) نظر إلى أثر الصحّة ، وحيث إنّه عند المتكلّم مطابقة المأمور به ، فحكم بأنّها عند المتكلّم انتزاعية صرفة ، ولمّا كان أثرها عند الفقيه إسقاط الأمر المتعلّق بالعبادة وهو عقلي بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بذلك الفعل المأتي به ، حكم بأنّها عند الفقيه عقلية صرفة لا انتزاعية ولا جعلية لا أصالة ولا تبعا ، نعم بالنسبة إلى إسقاط الاعادة أو القضاء عن الأمر الآخر الواقعي الأوّلي ، الذي هو عبارة عن الإجزاء الذي لا يكون إلاّ بحكم الشارع ، حكم بأنّها في ذلك مجعولة للشارع ، كما هو الحال في صحّة المعاملة لكون أثرها وهو الملكية مثلا مجعولا شرعا. هذا بالنسبة إلى الكلّيات ، وأمّا انطباق هذا الشخص من الفعل الخارجي الذي أوقعه المكلّف فهي لا تكون إلاّ منتزعة صرفة. هذا خلاصة ما في الكفاية.

ص: 244


1- كفاية الأصول : 183 / تنبيه.

ويرد عليه أنّه مناف لما حقّقه (1) أوّلا من أنّ الصحّة ليست إلاّ عبارة عن التمامية ، وأنّ هذه لا تكون إلاّ آثارا للصحّة ، وحينئذ لا تكون الصحّة إلاّ ذلك الأمر الواقعي الذي هو الواجدية لتمام ما اعتبر فيها في ترتّب الأثر المطلوب عليها ، فلا تكون الصحّة مجعولة في شيء من الموارد ، وإنّما المجعول في بعض الموارد المذكورة هو أثرها المترتّب عليها. مضافا إلى أنّ نفس الأثر في صورة الإجزاء لا يكون مجعولا ، فإنّ الإجزاء لا يكون إلاّ بعد فرض إسقاط الشارع جزئية المفقود ، وحينئذ يكون المأمور به في ذلك الحال هو ذلك الفاقد ، ولا ريب أنّ إسقاطه القضاء والاعادة حينئذ لا يكون إلاّ عقليا.

وشيخنا قدس سره أخذ الصحّة بمعنى انطباق المأتي به على ذلك الكلّي المأمور به ، أو انطباقه على ذلك الكلّي الذي رتّب عليه الشارع الملكية ، وهذا أعني الانطباق المذكور لا يكون إلاّ عقليا ، نعم في موارد الإجزاء ربما كان الانطباق بجعل الشارع ، فتكون الصحّة حينئذ مجعولة إذا فرضنا بقاء المجعول الواقعي على حاله ، وكان مرجع الحكم بالانطباق إلى التنزيل منزلة الواجد ، كما في موارد الإجزاء في الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف. أمّا موارد الإجزاء في الأوامر الاضطرارية فحيث إنّه إنّما يكون بتبدّل التكليف عن الواجد إلى ذلك الفاقد ، لا يكون الانطباق المذكور إلاّ عقليا وانتزاعيا صرفا.

والذي هو محلّ التأمّل هو ما أفاده قدس سره في موارد إجزاء الأمر الظاهري عند انكشاف الخلاف ، فإنّه أيضا لا بدّ لنا من الالتزام بسقوط الأمر بذلك الجزء المفقود ، وحينئذ يكون حاله حال الإجزاء في الأوامر الاضطرارية ، لكنّه قدس سره التزم

ص: 245


1- كفاية الأصول : 182.

هنا حسبما حرّره عنه في هذا الكتاب (1) بأنّ الأمر بالجزء المفقود باق بحاله ، وأنّ الأمر الواقعي لم يتغيّر عمّا هو عليه من تعلّقه بالمركّب التامّ ، غير أنّ الشارع من باب التسهيل والمنّة على المكلّفين حكم بأنّ هذا الفاقد منزل منزلة الواجد ، وأنّه مطابق لذلك الواجد مطابقة تنزيلية بحكم الشارع ، فيكون المجعول الأوّلي هو هذه الجهة أعني المطابقة ، فتكون المطابقة مجعولة بنفسها.

والذي يظهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (2) وغيره هو أنّ الصحّة عنوان منتزع من المطابقة ، فإن كانت المطابقة واقعية لم تكن الصحّة مجعولة ، كما أنّ منشأ انتزاعها الذي هو المطابقة لم يكن مجعولا. وإن لم تكن المطابقة واقعية ، بل كانت تنزيلية بجعل الشارع ، كما في موارد الأحكام الظاهرية قبل الانكشاف أو بعده لو قلنا بالاجزاء ، كانت المطابقة التي هي منشأ انتزاع عنوان الصحّة مجعولة ، ولكن الصحّة نفسها لا تكون مجعولة ، بل هي كما في بقية الموارد انتزاعية صرفة.

ولا يخفى أنّ هذا لا يتوقّف على كون الصحّة منتزعة من المطابقة ، بل الظاهر تأتّيه لو قلنا بأنّها منتزعة من التمامية. كما أنّ الأوّل الذي حرّره عنه قدس سره في هذا الكتاب لا يتوقّف على دعوى كون الصحّة عبارة عن نفس المطابقة ، بل يتأتّى مع دعوى كونها عبارة عن التمامية ، فإنّ نفس التمامية يتأتّى فيها ما تأتّى في المطابقة ، بأن يقال إنّ التمامية تارة تكون واقعية وأخرى تكون جعلية تنزيلية ، كما في موارد الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف وبعده.

وعمدة التأمّل في هذا الذي أفاده قدس سره بكلا تقريريه هو من ناحية أنّ التنزيل

ص: 246


1- أجود التقريرات 2 : 210 - 211.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 460.

ليس بمقصور على نفس المطابقة أو على نفس التمامية ، بل يكون مرجعه إلى إسقاط جزئية المفقود بعد انكشاف الخلاف ، فيكون حال إجزاء الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف حال إجزاء الأمر الاضطراري في كون الصحّة فيه غير مجعولة ، سواء فسّرناها بالمطابقة أو بالتمامية. وأمّا الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف فليس حاله إلاّ كحال الأوامر الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية في عدم تكفّله إلاّ للحكم الظاهري بترتيب أثر الصحّة الواقعية من دون حاجة إلى الالتزام بجعل صحّة ظاهرية ، بل نقول إنّ الصحّة عبارة عن التمامية أو عن المطابقة ، وهذه من جملة الموضوعات الخارجية لها آثار عملية ، فمرجع التعبّد بتحقّقها كمرجع التعبّد بحياة زيد أو موته في أنّه غير متضمّن لجعل موت أو حياة ، بحيث يكون لنا موت أو حياة مجعولان شرعا ولو جعلا ظاهريا.

ثمّ إنّ ما تضمّنه تقرير المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ الصحّة منتزعة من المطابقة ربما لا يساعد عليه الذوق ، فإنّ الظاهر أنّ نفس المطابقة منتزعة من التمامية ، والتمامية هي الصحّة نفسها لا أنّها أمر آخر منتزع من التمامية. وإن شئت فقل : إنّ الصحّة ليست منتزعة من التمامية ولا من المطابقة ، بل هي إمّا التمامية نفسها وإمّا المطابقة نفسها ، وإذا كان في البين جعل فإنّما هو راجع إلى نفس التمامية أو إلى نفس المطابقة.

لكنّك قد عرفت أنّه لا جعل بالنسبة إلى التمامية ولا بالنسبة إلى نفس المطابقة ، بل إنّ كلا منهما - أعني المطابقة أو التمامية - إنّما هو من الأمور الواقعية ذات الآثار الشرعية العملية ، فبالنسبة إلى ما قبل الانكشاف يكون جريان الحكم الظاهري فيها كجريانه في غيرها من الموضوعات الواقعية ، في كونه لا يتضمّن الجعل ولو ظاهرا بالنسبة إلى نفس الموضوع الخارجي ، وإنّما يتضمّن الجعل

ص: 247

الظاهري بالنسبة إلى آثاره ، هذا. مضافا إلى أنّ شيخنا قدس سره أنكر في محلّه (1) جعل الأحكام الظاهرية حتّى ما كان منها جاريا في الشبهات [ الحكمية ] ، وأفاد هناك أنّه ليس في مثل قيام الخبر الصحيح على وجوب الشيء الفلاني إلاّ جعل الحجّية ، الذي يعبّر عنه بجعل الهوهوية ، من دون تكفّل بجعل وجوب ظاهري.

وأمّا بالنسبة إلى ما بعد انكشاف الخلاف ينقطع ذلك الحكم الظاهري ، ويكون الدور هو دور الإجزاء ، فإن دلّ دليل على الإجزاء كان محصّله هو سقوط اعتبار ذلك المفقود من جزء أو شرط ، ويكون حال المكلّف حينئذ فيما بعد الانكشاف كحال من أتى بما هو المأمور به الواقعي ، وعلى تقدير الحكم بالصحّة تكون الصحّة واقعية لا ظاهرية.

وتوضيحا لذلك نقول : قد عرفت أنّ شيخنا قدس سره أخرج مسألة إجزاء الأمر الاضطراري عمّا هو محلّ الكلام ، وجعلها من قبيل تبدّل الأمر الواقعي من الواجد إلى الفاقد ، ويكون حينئذ حاله بعد ارتفاع الاضطرار كحال من قد أتى بما هو المأمور به واقعا ، في كون الصحّة فيه بمعنى التمامية أو بمعنى المطابقة لما هو الواقع ، غير مجعولة لا هي بنفسها ولا بما هو منشأ انتزاعها. وينبغي أن يكون الحال في الأجزاء الذكرية والشرائط العملية كذلك ، يعني من قبيل التبدّل وأنّ ذلك الجزء المفقود أو الشرط المفقود لنسيان أو جهل لا يكون معتبرا في ذلك الحال. وهكذا الحال في جميع ما هو مورد لحديث لا تعاد (2) ونحوه ممّا دلّ على عدم لزوم الاعادة عند حدوث خلل فيه ، وإن كان ذلك - أعني عدم الاعادة - مقرونا بلزوم قضائه بعد الصلاة ، مثل السجدة المنسية أو التشهّد المنسي

ص: 248


1- راجع فوائد الأصول 3 : 105 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة 6 : 401 / أبواب التشهّد ب 7 ح 1.

ونحوهما ، سواء كان ذلك من باب النسيان المحض ، أو كان من باب الاعتماد على مثل قاعدة التجاوز ثمّ بعد أن فات محلّه انكشف الخلاف ، فإنّ جميع ذلك لا يكون من قبيل إجزاء الأمر الظاهري ، بل هو من باب سقوط اعتبار ذلك المفقود في ذلك الحال. وإن شئت فراجع ما حرّرناه عنه قدس سره (1) في بيان مفاد حديث لا تعاد وأنّه حاكم على الأدلّة الأوّلية المتكفّلة للأجزاء والشرائط ، وأنّ الحديث مسوق لبيان عدم الجزئية عند انحصار أثرها بالاعادة. كما أنّ من الواضح خروج ما كان من قبيل الجهر والاخفات والقصر والاتمام ممّا يحكم فيه بعدم الاعادة مع بقاء التكليف الواقعي بحاله ، بحيث إنّه يعاقب على مخالفته ، فإنّ مرجع ذلك إلى الحكم بفساد العمل مع عدم التمكّن من الإعادة لكون ذلك العمل مذهبا لمصلحة الواجب أو معدما لموضوعه.

أمّا ما يكون الاعتماد فيه على مجرّد إجزاء الأمر الظاهري فالظاهر أنّه لا صغرى له فيما لدينا ولا كبرى ، ولو ثبت ذلك في بعض الموارد كان ملحقا بما تقدّم من كونه من قبيل سقوط ذلك الجزء أو الشرط المفقود.

نعم ، ادّعي الإجماع على الإجزاء في موارد تبدّل التقليد أو تبدّل الرأي ، والظاهر اختصاص ذلك بموارد القضاء في العبادات ، فلا يشمل الاعادة فيها ولا يشمل المعاملات.

وهذا الإجماع لو تمّ فلا يمكن تنزيله على ما ذكرناه من سقوط اعتبار ذلك الجزء أو الشرط المفقود ، وإلاّ لكانت جميع تلك الأجزاء والشرائط علمية بهذا المقدار ، بمعنى أنّ جزئيته تكون منوطة بعدم قيام الأمر الظاهري على خلافها في خصوص الشبهة الحكمية ، لأنّ ذلك مورد تبدّل التقليد أو الرأي. وحينئذ لا بدّ من

ص: 249


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.

تنزيل ذلك الإجماع على تخصيص أدلّة القضاء ، وأنّه إنّما يجب القضاء فيما عدا موارد تبدّل الرأي أو تبدّل التقليد ، ولا دخل لذلك بالصحّة التنزيلية أصلا ، بل إنّه حينئذ يكون مؤكّدا للحكم بفساد ذلك المأتي به ، لكنّه مع ذلك لا يجب قضاؤه استنادا إلى الإجماع المذكور. أو نقول إنّ هذا الإجماع كاشف عن اختصاص حجّية الفتوى المتأخرة بما يكون من الأعمال متأخرا عنها ، فتخرج المسألة عمّا نحن فيه. على أنّ ثبوت هذا الإجماع محلّ نظر وإشكال ، فراجع ما حرّرناه فيما علّقناه في هذا الكتاب على مباحث الاجزاء (1).

والحاصل : أنّ دليل الاجزاء لا دخل له بالصحّة التنزيلية وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، وليس هو من الأحكام الظاهرية ، بل هو حكم واقعي لا تنزيل فيه أصلا ، فإن كان في مورد الاعادة كان مخصّصا لدليل الجزئية أو الشرطية ، وكان ملحقا لهما بالأجزاء والشرائط العلمية ، وإن كان في مورد القضاء كان مخصّصا لدليل القضاء ، ولا دخل لشيء من ذلك بالحكم الظاهري والصحّة الظاهرية ولا الصحّة الواقعية ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّ الصحّة حينئذ لا تكون من الأحكام الظاهرية الصرفة ، بل تكون متوسّطة بينها وبين الأحكام الواقعية الثانوية ، فمن جهة أخذ الشكّ في موضوعها تكون من الأحكام الظاهرية ... الخ (2).

قد تقدّم (3) ما يظهر لك منه أنّ هذه الصحّة على تقدير كونها مجعولة للشارع ليست هي إلاّ واقعية ، ولا دخل لها بالأحكام الظاهرية. وكون موردها هو

ص: 250


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 427 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 211 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
3- تقدّم ذلك كلّه في الحاشية السابقة.

الفعل الفاقد لبعض الأجزاء الذي وقع امتثالا للأمر الظاهري لا يوجب كونها ظاهرية ، بعد فرض أنّ مورد الحكم بها إنّما هو بعد انكشاف الخلاف. ومنه يظهر لك أنّه لم يؤخذ الشكّ في موضوعها ، وإنّما كان موضوعها هو الفعل الذي علم أنّه مخالف للواقع.

ونظير هذه العبارة موجود فيما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي في هذا المقام ، فقال : نعم للشارع بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحّة ، ومرجع الصحّة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما أتى به امتثالا للواقع عن الواقع ، وهذه ترجع إلى الصحّة الواقعية بوجه (1). فقوله : وهذه ترجع إلى الصحّة الواقعية بوجه ، إشارة إلى هذا التفصيل الموجود في هذا الكتاب ، من كون هذه الصحّة متوسّطة بين الواقعية والظاهرية فتأمّل.

هذا كلّه في الصحّة المجعولة بعد انكشاف الخلاف ، وقد عرفت أنّها على تقدير القول بها لا تكون إلاّ حكما واقعيا. لكن قد تقدّم (2) ما عرفت منه أنّه لا مورد لهذه الصحّة إلاّ في موارد تبدّل التقليد أو تبدّل الرأي ، وقد عرفت الحال فيهما ، وأنّ القول بالاجزاء وعدم القضاء في مثل ذلك لا يرجع إلى الصحّة. أمّا ما يكون من الصحّة الظاهرية قبل انكشاف الخلاف فقد عرفت (3) المناقشة في كونها مجعولة ظاهرا ، لما تقدّم أوّلا من أنّ شيخنا قدس سره لا يقول بجعل الأحكام الظاهرية حتّى ما يجري منها في الشبهات الحكمية ، فضلا عمّا يكون جاريا منها في الشبهات الموضوعية. وثانيا أنّ الصحّة والفساد بعد الفراغ عن كونهما في مقام

ص: 251


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 461.
2- تقدّم ذلك كلّه في الحاشية السابقة.
3- تقدّم ذلك كلّه في الحاشية السابقة.

الواقع من الأمور الواقعية ، يكون حالهما حال الموت والحياة في أنّ إثباتهما بأمارة أو أصل لا يكون مرجعه إلى جعلهما ، بل إلى جعل آثارهما ، هذا ما تقدّم.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ذلك أعني جعل الآثار إنّما يمكن الالتزام به فيما لو كان في البين آثار شرعية ، فإنّه حينئذ يكون مرجع التعبّد بذلك الموضوع إلى التعبّد بآثاره ، حتّى في مثل الصحّة في المعاملة المحرزة بقاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة ، فإنّه يمكن القول بأنّ مرجع التعبّد بالصحّة في ذلك إلى التعبّد بآثارها ، وهي النقل والانتقال أعني الملكية ، وهي أثر شرعي. أمّا الصحّة الظاهرية في باب العبادة المحرزة بأصالة الصحّة ، أو بقاعدة الفراغ أو بقاعدة التجاوز ، فإنّه لا يترتّب على التعبّد بهذه الصحّة إلاّ إسقاط الأمر الواقعي وحصول الامتثال ، ومن الواضح أنّ ذلك أيضا من الأمور الواقعية الغير الراجعة إلى الجعل الشرعي. وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نلتزم بأنّ الصحّة قابلة للجعل الظاهري ، أو نقول إنّ التعبّد الظاهري لم يرد على الصحّة نفسها ، وإنّما ورد على أثرها وهو حصول الامتثال وسقوط الأمر ، فيكون ذلك الأثر هو المجعول الشرعي ظاهرا لا الصحّة نفسها التي هي التمامية أو المطابقة ، لكن الأمر سهل (1) بعد الالتزام بأنّه لا بدّ من الالتزام بجعل أحد الأمرين من الصحّة أو أثرها.

ص: 252


1- والوجه في هذه السهولة هو أنّه لا يتأتّى في هذه الصحّة الظاهرية ما تأتى في صورة الاجزاء الواقعي ، من أنّه كيف يمكن الحكم واقعا بأنّ هذا مجز عن الواقع مع أنّ الواقع باق بحاله لم يتغيّر. وهذا الإشكال لا يتأتّى في الصحّة الظاهرية التي يكون أثرها الاجزاء الظاهري ، الراجع إلى أنّ هذا هو الواقع ظاهرا ، من دون فرق في ذلك بين أن نجعل مركز هذا التعبّد الظاهري هو الصحّة نفسها ، أو هو أثرها الذي هو اسقاط الأمر الواقعي ظاهرا ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

قوله : ومع دليل النهي يكون الحكم بالفساد من جهة الدليل ، فيكون رافعا لموضوع الشكّ ... الخ (1).

هذا في العبادات واضح من جهة أنّ النهي يوجب المبغوضية ، وهي موجبة لعدم امكان التقرّب ، فيكون النهي كدليل اجتهادي على الفساد ، فلو فرض أنّ الشكّ في مشروعية العبادة يوجب القطع بفسادها ، كما أنّ الشكّ في حجّية الأمارة يوجب القطع بعدم حجّيتها ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي كون النهي موجبا للقطع بالفساد وعدم الحجّية ، وأنّ ما كان من جهة الشكّ نظير الحكم الظاهري ، وما جاء من جهة النهي من قبيل الحكم الواقعي.

وأمّا في المعاملة ففيه إشكال ، وهو [ أنّ ] أقصى ما في النهي عنها هو سلب السلطنة ، فلو كانت المعاملة المشكوكة مشمولة في حدّ نفسها لحديث السلطنة (2) كان النهي عنها موجبا لفسادها ، وذلك مثل منجزات المريض لو ورد النهي عنها (3). أمّا لو كانت من قبيل المعاملات الجديدة فلو فرضنا أنّها لا يشملها في حدّ نفسها - مع قطع النظر عن النهي عنها - عموم من العمومات حتى مثل « الناس مسلّطون على أموالهم » لأنّها لا تجري في مقام الشكّ في مشروعية السبب ، فتلك المعاملة لا يكون النهي عنها كدليل اجتهادي على الفساد ، وحينئذ يكون اللازم خروجها عن محلّ النزاع ، إذ لا أثر حينئذ في هذه المعاملة لكون النهي سالبا للسلطنة في الحكم بفسادها.

لكن الجواب عن هذا الإشكال واضح ، لأنّ مرجعه إلى دعوى عدم دلالة

ص: 253


1- أجود التقريرات 2 : 211 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.
3- راجع وسائل الشيعة 19 : 300 / كتاب الوصايا ب 17 ح 11 ، 13 ، 14.

النهي على الفساد في مثل ذلك ، وهذا لا يوجب خروجه عن عنوان النزاع ، وحينئذ نقول إنّ مثل هذا النهي داخل في محلّ النزاع ، غايته أنّ المختار فيه هو عدم الدلالة على الفساد ، وهو لا ينافي ما نريده من أنّ الدخول في محلّ النزاع لا يتوقّف على كونه في حدّ نفسه محكوما بالصحّة لو لا النهي ، بل يدخل فيه ما كان في حدّ نفسه محكوما بالفساد. والغرض أنّ النهي لو اقتضى الفساد لكان كدليل اجتهادي عليه ، وإن كان هو في حدّ نفسه لو لا النهي محكوما بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد.

بل يمكن أن يقال إنّ هذه المعاملة فاسدة وإن لم يكن حديث السلطنة شاملا لها مع قطع النظر عن النهي ، لكونها من قبيل الشكّ في نفوذ ذلك السبب ، وحديث السلطنة لا يرفع الشكّ من هذه الناحية لعدم كونه مشرعا ، إلاّ أنّ حرمة هذه المعاملة كافية في الحكم بفسادها ، استنادا إلى أنّ النهي يوجب عدم قدرة المكلّف في عالم التشريع عليها ، وهو كاف في الحكم بفسادها ، وإن لم يكن ذلك النهي موجبا لخروجها عن عموم حديث السلطنة وغيره.

وحينئذ يكون فسادها مستندا إلى الدليل الاجتهادي ، الذي هو النهي السالب للقدرة في عالم التشريع على المعاملة ، وبذلك تخرج عن الفساد المستند إلى أصالة الفساد.

قوله : ولو لم يكن تمثيله بما ذكره لأمكن حمل كلامه قدس سره على إرادة القابلية من الاقتضاء ... الخ (1).

قال في القوانين : الثالثة محلّ النزاع في هذا الأصل ما تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد عن الشارع له جهة صحّة ، ثمّ ورد النهي عن بعض أفراده ، أو خوطب به

ص: 254


1- أجود التقريرات 2 : 211 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

عامّة المكلّفين ثمّ استثني منه بعضهم ، فمثل الامساك ثلاثة أيّام والقمار ونحو ذلك ليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ الكلام والنزاع في دلالة النهي على الفساد وعدمه ، وما ذكر فاسد بالأصل ، لأنّ الأصل عدم الصحّة ، وأمّا الفساد فيدلّ عليه عدم الدليل الخ (1).

والظاهر أنّا لو أسقطنا هذا المثال لم يمكننا أن نحمل العبارة المذكورة على ما تقدّم (2) من أنّه يعتبر في محلّ النزاع أن يكون الشيء في حدّ نفسه قابلا للاتّصاف بالصحّة والفساد ، ليخرج منه ما لا يكون كذلك.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره أفاد فيما حرّرته عنه أنّ محلّ النزاع شامل لما تكون الشبهة في صحّته لو لا النهي حكمية كهذا المثال ، والأولى تبديله بصوم الصمت ، ولما تكون الشبهة فيه مفهومية ، كما لو ورد النهي عن النافلة الرباعية مع الشكّ في كون النافلة المشروعة شاملة للرباعية ، ولما تكون الشبهة في صحّته لو لا النهي مصداقية ، كما لو شككنا في الصلاة إلى هذه الجهة الخاصّة في كونها صلاة إلى القبلة وورد النهي عن الصلاة إلى تلك الجهة ، فكلّ هذه الأمثلة يكون النهي فيها داخلا في محلّ النزاع.

قلت : وهذه الأمثلة وإن كانت لو لا النهي محكومة بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد ، لأنّ الفرض أنّه لا عموم يشملها كي يكون ذلك العموم حاكما بصحّتها لو لا النهي ، إلاّ أنّها مع ذلك هي داخلة في محلّ النزاع ، لأنّها على تقدير القول يكون النهي فيها مقتضيا للفساد تكون محكومة بالفساد لأجل الدليل الاجتهادي الذي هو النهي ، وذلك كاف في الثمرة المترتّبة على دخولها في محلّ النزاع ، وإن

ص: 255


1- قوانين الأصول 1 : 155.
2- في المقدّمة الرابعة ، راجع أجود التقريرات 2 : 204.

كانت هي لو لا النهي أيضا محكومة بالفساد ، إلاّ أنّ ذلك من جهة الأصل أعني أصالة الفساد ، وهذا من جهة الدليل الاجتهادي. ثمّ لا يخفى أنّه يمكن القول بجعل صوم الوصال من قبيل الشبهة المفهومية نظير النافلة الرباعية ، والأمر سهل.

قوله : فإنّ مقتضى الأصل في المعاملة دائما هو الفساد - إلى قوله : - وأمّا في العبادات فإن كان الشكّ في الصحّة والفساد من جهة شبهة موضوعية ... الخ (1).

الذي ينبغي هو أن يحرّر الكلام تارة في الشبهة مع قطع النظر عن النهي ، وأخرى في الشبهة الناشئة عن النهي ، ويتكلّم على كلّ واحدة من هاتين على حدة ، وإن كانت الشبهة من الجهة الأولى خارجة عمّا نحن بصدده ، إلاّ أنّه لا بدّ من الكلام عليها أوّلا ليتّضح حالها ، وليكون الكلام على الجهة الثانية ممحضا لها ، فلا يدخله الشكّ من الناحية الأولى ، فنقول بعونه تعالى :

أمّا الكلام من الجهة الأولى فتارة يكون في العبادات ، وأخرى في المعاملات. أمّا العبادات فإن كانت الشبهة حكمية صرفة كما في مثل صوم الصمت فالظاهر أنّ الحكم فيها هو الفساد ، للشكّ في المشروعية ، وكذلك الحال فيما إذا كانت الشبهة مفهومية ، بأن يشكّ في شمول النافلة المشروعة للنافلة الرباعية. وإن كانت الشبهة المفهومية راجعة إلى الشكّ في الشرطية والجزئية ، بأن شكّ في اعتبار الاستعاذة أو التحنّك في الصلاة ، ولم يكن في البين اطلاق ، كان المرجع هو البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في مسألة الأقل والأكثر. وأمّا لو كانت الشبهة مصداقية فيجري فيها حكم الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط أو عدم

ص: 256


1- أجود التقريرات 2 : 212 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المانع ، ولكلّ حكم مذكور في محلّه (1) من حيث الاشتغال في الأوّل أو البراءة في الثاني. ولو كان الشكّ المذكور بعد التجاوز أو الفراغ فالمرجع هو قاعدته ، هذا حال الشبهة في العبادات.

وأمّا المعاملات فإن كانت الشبهة فيها حكمية ، كما لو شكّ في نفوذ معاملة كالمغارسة مثلا ، كان المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، إلاّ أن يدّعى أنّ لنا عمومات أو إطلاقات دالّة على نفوذ كلّ معاملة لم يثبت ردع الشارع عنها ، أو يدّعى أنّ الأصل في كلّ معاملة لم يثبت ردع الشارع عنها هو النفوذ ، من دون حاجة إلى عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة كلّ معاملة. ولعلّ في هذا الوجه الثاني رجوعا إلى عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » (2) وشموله لمقام الشكّ في السبب ، فتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو كانت الشبهة مفهومية ، كما لو شكّ في شمول مثل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (3) للبيع بلا ثمن ، فإنّ الأصل في مثل هذا الشكّ هو عدم ترتّب الأثر أيضا ، إلاّ أن يدّعى الركون إلى أحد الأصلين المذكورين ، فإنّ أقصى ما فيه حينئذ هو سقوط العموم الوارد على عنوان البيع ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع عن دخوله تحت كلّي التجارة نظير الصلح بلا ثمن ، أو تحت كلّي المعاملة العرفية التي لم يثبت ردع الشارع عنها ، فتأمّل.

وإن كانت الشبهة مصداقية كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو الحكم بعدم ترتّب الأثر ، لو لم يكن في البين ما يقتضي الصحّة ولزوم ترتّب الأثر ، من الحمل

ص: 257


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره على فوائد الأصول 4 : 203 - 204 في المجلّد الثامن.
2- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.
3- البقرة 2 : 275.

على الصحّة أو قاعدة الفراغ ونحو ذلك من الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية في باب المعاملات لو كان الشكّ بعد الفراغ ، ولو كان قبله جرى فيه أصالة عدم ترتّب الأثر ، هذا حال الشبهة في العبادات والمعاملات من الجهة الأولى.

وأمّا الشبهة فيهما من الجهة الثانية فالذي ينبغي أن يكون موردها هو بعد الفراغ من الجهة الأولى ، بمعنى أن تكون المعاملة أو العبادة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكوما بصحّتها ، إذ لو كانت في حدّ نفسها محكوما بفسادها ولو بأصالة الفساد ، لم يكن للكلام عليها أثر من ناحية الجهة الثانية ، إذ لا محصّل للبحث عن أنّه هل الأصل في مثل صوم الصمت بعد نهي الشارع عنه هو كون النهي عنه موجبا لفساده أو كونه غير موجب لذلك ، بعد فرض كون الصوم المذكور في حدّ نفسه قبل ملاحظة طروّ النهي عليه محكوما بأصالة الفساد للشكّ في مشروعيته. إلاّ أن يقال إنّ ذلك بحث علمي وإن لم يترتّب عليه أثر عملي ، وحاصل ذلك : أنّ البحث عن صحّة مثل تلك العبادة يكون من ناحيتين : من ناحية نفسها ، ومن ناحية تعلّق النهي بها الراجع إلى الشكّ في مانعية النهي التحريمي ، لامكان الرجوع إلى أصالة البراءة من هذه المانعية ، مع فرض كون العبادة في حدّ نفسها محكومة بأصالة عدم المشروعية.

وبالجملة : أنّا وإن تقدّم (1) منّا ما قدّمناه في الإشكال على صاحب القوانين قدس سره ، إلاّ أنّ ذلك إنّما كان باعتبار أنّ الفساد الناشئ عن النهي غير الفساد الناشئ عن الأصل ، لكون الناشئ عن النهي يكون راجعا إلى الدليل الاجتهادي ، والناشئ عن الأصل يكون من قبيل الأصل العملي. لكن ذلك إنّما هو لو أثبتنا

ص: 258


1- في الحاشية السابقة.

دلالة النهي على الفساد ، أمّا لو لم يثبت عندنا شيء من ذلك ، وتوقّفنا في كلّ من اقتضاء النهي الفساد وعدم اقتضائه له ، وتولّدت عندنا من ذلك التوقّف مسألة ، عنوانها هل يكون المرجع عند الشكّ في كون النهي عن العبادة أو المعاملة موجبا للفساد هو أصالة الفساد أو الصحّة أو الاشتغال أو البراءة ، إلى غير ذلك من الأصول ، ولا ريب أنّ تلك العبادة لو كانت في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكومة بالفساد ، فلا أثر عملي للكلام على أنّ ذلك النهي المشكوك كونه مفسدا لها هل يكون الأصل فيه أنّه مفسد لها أو لا.

وربما يتّضح لك ذلك عند الكلام على الجهة الثانية فنقول بعونه تعالى : تقدّمت الاشارة إلى مطلب حقّق في محلّه ، وهو أنّه عند الشكّ في الجزئية والشرطية والمانعية على نحو الشبهة الحكمية أو المفهومية يكون المرجع الأوّلي هو الاطلاق أو العموم لو كان لنا ذلك ، بأن يدّعى أنّ الصلاة في مثل اطلاق قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) شامل للصلاة الفاقدة للاستعاذة مثلا ، المفروض كون جزئيتها مشكوكة وأنّ المرجع بعد العجز عن اتمام حجّية ذلك الاطلاق هو البراءة ، فإنّ هذا الاطلاق بعد سقوطه عن الحجّية في مثل ذلك وإن كان المرجع الأوّلي بعد سقوطه هو أصالة عدم مشروعية هذه العبادة ، إلاّ أنّ أصالة البراءة الشرعية من وجوب الاستعاذة فيها يرفع هذا الأصل ، ويحكم بصحّة الصلاة المذكورة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لو ورد نهي عن صلاة مخصوصة مثل صلاة الحائض ، فإن حكمنا بأنّ ذلك النهي يوجب فسادها فلا إشكال ، سواء كان لنا عموم يشمل هذه العبادة لو لا النهي أو لم يكن. وإن توقّفنا في ذلك ولم نجزم

ص: 259


1- الإسراء 17 : 78.

بكون النهي المذكور مفسدا ، كما أنّا لم نجزم بكونه غير مفسد ، كان علينا أن نقول إنّه لو كان لنا عموم يشمل هذه العبادة ، بحيث إنّها لو لا هذا النهي لكانت صحيحة جزما ، لكنّا بعد النظر إلى ورود النهي عنها ، ولم نجزم بأنّ النهي مفسد لها ، تدخل الحرمة المذكورة في احتمال المانعية ، بمعنى أنّا نحتمل أنّ تحريم العبادة مانع من صحّتها ، نظير لباس ما لا يؤكل لحمه ، فحينئذ نجري أصالة البراءة في مانعية التحريم المزبور ، ويلزمنا الحكم بصحّتها ، ويكون حال احتمال مانعية التحريم المذكور حال احتمال جزئية الاستعاذة فيما تقدّم ، من أنّه برفع تلك الجزئية أو هاتيك المانعية بحديث الرفع (1) يرتفع الشكّ في صحّة تلك الصلاة.

هذا فيما لو كانت الصلاة المذكورة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكومة بالصحّة ، أمّا إذا كانت الصلاة المذكورة في حدّ نفسها محكومة بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد ، لعدم عموم أو اطلاق يشملها في حدّ نفسها ، فأي أثر عملي حينئذ للشكّ في مانعية هذا التحريم ، وأي فائدة عملية ترتّب على اجراء أصالة البراءة في مانعية ذلك التحريم ، مع فرض كونها في حدّ نفسها محكوما عليها بالفساد ، وإنّما يظهر أثر ذلك فيما لو كان احتمال الفساد متطرّقا إلى هذه الصلاة من خصوص احتمال كون التحريم مانعا ، فإنّ أصالة البراءة حينئذ من هذه المانعية تنفعنا في إزالة الشكّ الآتي من ناحية تلك المانعية ، ويترتّب على ذلك حكمنا بصحّتها.

ومن ذلك يظهر الجواب عن ما ذكر في الحاشية على هذا الكتاب من قوله : لأنّ صحّة العبادة كما عرفت تتوقّف على وجود الأمر بها ، أو اشتمالها على ملاك المحبوبية غير مزاحم بملاك المبغوضية ، وشيء منهما لا يكون بمتحقّق في

ص: 260


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1 ، الخصال : 417 / 9.

فرض كون العبادة منهيا عنها الخ (1) فإنّ هذا وأمثاله كلّه عبارة عن اختيار كون النهي مقتضيا للفساد ، وكلام شيخنا قدس سره إنّما هو على تقدير الشكّ في ذلك وأنّه ليس لدينا إلاّ عبادة منهي عنها ، فهل يكون تحريم تلك العبادة موجبا لفسادها ، وأنّ الأصل في الشكّ في كون هذا النهي مقتضيا للفساد ما ذا ، وحينئذ يكون التحريم الطارئ على العبادة محتمل المانعية ، فهل يكون المرجع فيه حينئذ هو البراءة من مانعية التحريم أو لا ، ومن ذلك يظهر لك ما في الحاشية الثانية (2).

ومن المجموع يظهر لك التأمّل في عبارة الكفاية في طبعة بغداد ، وهي المرسومة في طبعة حاشية المرحوم القوچاني (3) على الهامش برسم نسخة بدل وهو قوله : وأمّا العبادة فكذلك ، لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى (4) ، فإنّ هذا أيضا اختيار للقول بالفساد ، غايته أنّه ليس من طريق مبغوضية المنهي عنه ، بل من طريق كون النهي مخصّصا للأمر ، فيكون حينئذ خارجا عن فرض المسألة من الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ، فإنّ التخصيص الذي هو عبارة عن كون النهي موجبا لارتفاع الأمر وانعدامه من جملة أدلّة كون النهي مقتضيا للفساد ، فإنّ صاحب الكفاية قدس سره بنفسه بعد أن استدلّ على ذلك بأنّ الحرمة موجبة للفساد ، فإنّها لا تجتمع مع كون الفعل موافقا للأمر ، وأنّه لا يصلح حينئذ للتقرّب ، قال بعد ذلك : هذا مع أنّه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة لكان دالا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشريعية ، فإنّه لا أقل من دلالته على أنّها ليست بمأمور بها

ص: 261


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 212.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 213.
3- كفاية الأصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه اللّه ) 1 : 152.
4- كفاية الأصول : 184.

وإن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه (1).

وأمّا ما في الأصل المذكور (2) من قوله في « أمّا » الثانية : وأمّا لو كان الشكّ لأجل دوران الواجب بين الأقل والأكثر الخ ، فكأنّه مبني على احتمال مانعية التحريم ، بحيث يكون الواجب مقيدا بعدم كونه محرّما ، على ما مرّ في توجيه مانعية التحريم مانعية وضعية ، فتدخل المسألة في مسائل الأقل والأكثر.

وأمّا ما فيه أيضا من قوله في أمّا الأولى : وأمّا العبادة فكذلك لو كان الشكّ في أصل ثبوت الأمر ، أو في صحّة المأتي به وفساده لأجل الشكّ في انطباقه مع ما هو المأمور به حين إتيانه ، وإلاّ فأصالة الصحّة بعد فراغه متبعة ، انتهى. فلعلّه ناظر في الشقّ الأوّل إلى أنّ الشكّ في كون النهي يوجب الفساد يرجع إلى الشكّ في أنّ النهي يوجب تخصيص الأمر ، وخروج متعلّق النهي عن متعلّق الأمر ، بحيث إنّه لا يكون لدينا عموم أو اطلاق يثبت الصحّة ، وبقينا نحن والعبادة المنهي عنها التي يشكّ في كونها مأمورا بها ، وحينئذ تكون الشبهة حكمية. وقوله : أو في صحّته الخ ، تلويح إلى الشبهة الموضوعية بأن يكون الأمر محرزا وبعد طرو التحريم على هذا الفعل لو اتّفق حصول الشكّ في انطباقه على ما هو المأمور به ، مثلا بعد تحقّق النهي عن الصلاة في الحرير يحصل الشكّ في كون هذه الصلاة مع الحرير ، ففي مثل ذلك يحكم بالفساد ، نعم بعد الاقدام على الاتيان بالفعل المذكور ولو غفلة يكون المرجع هو قاعدة الصحّة أو قاعدة الفراغ.

ثمّ إنّ ما أفاده من الترديد المذكور ممّا لم أتوفّق لفهمه ، لأنّ عموم الأمر لو كان موجودا وشككنا في كون النهي مخصّصا له كانت أصالة العموم محكمة. نعم

ص: 262


1- كفاية الأصول : 187.
2- [ المقصود نسخة الكفاية المحشاة بحاشية الشيخ القوچاني رحمه اللّه ].

يمكن القول بأنّ الشبهة مفهومية ، لاحتمال كون الصلاة المأمور بها غير شاملة لما هو المحرّم منها ، لاحتمال كونها مقيّدة بعدم التحريم ، فيكون التحريم مانعا ، وتكون مانعيته وضعية على حذو مانعية لباس غير المأكول ، وحينئذ تدخل مسألة الشكّ في مانعية التحريم في مسائل الأقل والأكثر ، وهو ما أشار إليه بقوله في أمّا الثانية : وأمّا لو كان الشكّ لأجل دوران الواجب الخ.

وبالجملة : أنّه أشار في أمّا الأخيرة إلى كون الشبهة مفهومية ، وفي الشقّ الأوّل من أمّا الأولى إلى الشبهة الحكمية ، وفي الشقّ الثاني منه إلى الشبهة الموضوعية. ولعلّ صاحب الكفاية قدس سره نظر في المسألة الفرعية إلى العبادة أو المعاملة تكون صحّتها مشكوكة فانتقل من ذلك إلى مطلب كلّي ، وهو أنّ حكم المعاملة التي يشكّ في صحّتها وإن لم يكن ذلك من ناحية كونها منهيا عنها ، بل كان الشكّ من نواح أخر من نواحيها ، هو أنّه لو كان في البين عموم أو إطلاق كان هو المرجع ، وإلاّ كان المرجع هو أصالة الفساد بمعنى عدم ترتّب الأثر ، سواء كانت الشبهة حكمية صرفة ، أو كانت مفهومية بأن حصل الشكّ بأنّ مفهوم البيع يشمل المعاطاة أو أنّه مقيّد بالبيع العقدي ، أو كانت موضوعية صرفة بأن حصل لنا الشكّ مثلا في بلوغ المشتري ، ونحو ذلك من موارد الشبهة الموضوعية ، فإنّ المرجع في الجميع لو لم يكن في البين إطلاق أو عموم هو أصالة الفساد ، إلاّ في الشبهة الموضوعية لو كان الشكّ بعد الفراغ ، فإنّ المرجع هو أصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ.

وأمّا العبادات فإن كانت الشبهة حكمية صرفة ، بأن شككنا في كون مثل صوم الصمت مأمورا به ، كان المرجع هو أصالة عدم المشروعية. وإن كانت الشبهة موضوعية صرفة ، كما لو شككنا في أنّ هذه الجهة مثلا هي القبلة ، فإنّ

ص: 263

المرجع حينئذ قبل العمل هو أصالة الاشتغال ، لعدم إحراز الشرط أو الجزء ، وإن كان بعد الفراغ. كان المرجع هو قاعدة الفراغ وإن كانت الشبهة مفهومية بأن احتملنا أنّ الصلاة الواجبة يعتبر فيها الاستعاذة جزءا والتعمّم شرطا ، فالمرجع هو ما عليه البناء في مسألة الأقل والأكثر من البراءة أو الاشتغال. ولكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه خارج عمّا نحن فيه من كون الشكّ ناشئا عن تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة ، وهل الأصل في المعاملة أو العبادة المنهي عنها هو الصحّة أو الفساد ، بعد العجز عن تحقيق الحال في أصل اقتضاء النهي الفساد كلّية ، فتأمّل.

وبذلك عرفت أنّه يتصوّر الشكّ في مانعية التحريم المذكور على نحو الشبهة الحكمية ، كما أنّه يمكن أن تكون على نحو الشبهة المفهومية ، بأن يكون حاصل الشكّ راجعا إلى أنّ الصلاة المأمور بها هل هي مختصّة بالصلاة مع عدم الحيض ، أو هي شاملة للصلاة مع الحيض ، وعلى كلّ حال يكون المرجع هو البراءة من المانعية المزبورة. كما أنّه ربما أمكن تصوّر الشبهة الموضوعية في ذلك ، بأن تكون حرمة الصلاة في الحرير مثلا معلومة لدينا ، وأنّ نفس تلك الحرمة مانعة من الصحّة على حذو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، لكن شككنا في كون هذا اللباس حريرا ، فقد شككنا في حرمة الصلاة فيه ، وذلك عبارة أخرى عن الشكّ في تحقّق المانع الذي هو الحرمة مع كون الشبهة حينئذ موضوعية ، ويكون المرجع حينئذ هو أصالة البراءة من حرمة الصلاة في ذلك اللباس ، أو أصالة البراءة من مانعية حرمتها لو كانت. ولكن يشكل الأمر في الشبهة المفهومية أو الحكمية مثل صلاة الحائض فإنّ مقتضى البراءة فيها هو وجوبها عليها ، وهو خلاف الامتنان ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ تحرير المسألة الفرعية بهذا التحرير - أعني مانعية

ص: 264

التحريم على نحو المانعية الوضعية - ليس كما ينبغي ، إذ ليس مانعية التحريم التي هي حكم وضعي متفرّعة على اقتضاء النهي الفساد وعدمه ، إذ لو قلنا بعدم دلالة النهي على الفساد لكان من الممكن أن يجعل الشارع حرمة العبادة مانعة من صحّتها ، نظير جعله مانعية غير المأكول ، وذلك كاشف عن أنّ مانعية التحريم التي هي حكم وضعي لا تترتّب على اقتضاء النهي للفساد ، فلا يكون الشكّ في المانعية المزبورة ناشئا عن الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ، كي يتفرّع على الشكّ في ذلك الاقتضاء الشكّ في المانعية المزبورة بالمعنى المذكور ، أعني المانعية الوضعية على حذو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، بل إنّ هذا الشكّ الثاني لو حصل لا يكون إلاّ شكّا مستقلا ، لا دخل له في الشكّ في كون النهي مقتضيا للفساد.

فالأولى أن يقال : إنّا إذا عجزنا عن إقامة الدليل على كون النهي مقتضيا للفساد ، ولا على عدم اقتضائه الفساد ، وتوقّفنا في كلّ من الطرفين ، ولم يبق لدينا إلاّ الشكّ في الاقتضاء ، كان ذلك الشكّ كافيا في كون هذه العبادة مشكوكة الصحّة ، فيحكم بفسادها لأصالة الفساد ، فلا دخل لذلك بمسألة كون التحريم مانعا وضعيا وإجراء حديث الرفع (1) في المانعية ، بل يكون المرجع هو أصالة الفساد ، ويكون الحال فيما نحن فيه كحال الشكّ في صحّة العبادة وفسادها فيما لو لم يكن ذلك ناشئا عن النهي. وبعبارة يكون المرجع في الشكّ من الجهة الثانية - أعني الفساد الآتي من ناحية النهي - هو المرجع في الفساد المشكوك من الجهة الأولى ، أعني به الشكّ في فساد العبادة فيما لا يكون ناشئا عن النهي.

وحاصل الأمر هو أنّ ملخّص الشكّ في كون النهي عن هذه العبادة موجبا لفسادها هو أنّا لم نتمكّن من الجزم بفسادها نظرا إلى كون النهي موجبا

ص: 265


1- تقدّم ذكر مصدره في الصفحة 260.

للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ، كما أنّا لم نجزم بصحّتها بدعوى كون التحريم والمبغوضية غير مانعة من إمكان التقرّب ، وأيضا أنّا لم نتمكّن من الجزم بفسادها نظرا إلى كون النهي مخصّصا للأمر ، كما أنّا لم نجزم بصحّتها نظرا إلى دعوى كون النهي غير مخصّص للأمر ، بل بقينا نحن والعبادة المنهي عنها المشكوك صحّتها ، فيكون الأصل فيها هو الفساد.

وهكذا الحال في المعاملة ، لكن الفرق بين الأصلين فيهما هو أنّه في العبادة يكون بمعنى أصالة عدم المشروعية ، وفي المعاملة بمعنى أصالة عدم ترتّب الأثر ، هذا لو كانت الشبهة حكمية ، أمّا لو كانت الشبهة موضوعية فالظاهر جريان أصالة البراءة من الحرمة ، وبذلك تخرج العبادة والمعاملة عن أصل المسألة ، وهي مسألة الشكّ في أنّ النهي يقتضي الفساد ، لارتفاع النهي حينئذ من أصله بأصالة البراءة.

وفي تعليق المرحوم الشيخ محمّد علي على ما نقله عن شيخنا قدس سره في هذا المقام من اندراج المسألة في مبحث الأقل والأكثر أنّ ذلك إنّما يكون راجعا إلى البحث المزبور لو كان النهي متعلّقا بجزء أو شرط. أمّا المتعلّق بنفس العبادة فلا يكون راجعا إلى ذلك ، إذ ليس هو من قبيل الشكّ في المانعية ، لاقتضاء النهي حرمة العبادة على كلّ حال وإن شكّ في اقتضاء الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هنا شيء وراء العبادة تعلّق النهي به يشكّ في مانعيته حتّى ينفى بالأصل (1).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ دخول ما نحن فيه في مبحث الأقل والأكثر إنّما هو بناء على كون نفس الحرمة مانعا ، لا أنّ هناك شيئا محرّما يكون داخلا في العبادة

ص: 266


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 462 ( الهامش ، نقل صدره بالمضمون ).

كي يكون ذلك الفعل الحرام مانعا ، ليختصّ بالنهي عن الجزء أو الشرط. وقوله : ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، خلاف الفرض ، لأنّ الفرض أنّا مع حرمتها شاكّون في اقتضاء التحريم الفساد ، وهذا القول وهو قوله : مع حرمتها لا يمكن تصحيحها ، إنّما يكون اختيارا للقول باقتضاء الفساد ، فيكون خارجا عن الفرض الذي هو فرض الشكّ.

وينبغي أن يعلم أنّ المنقول عن شيخنا قدس سره في التحارير عن درسه مختلف غاية الاختلاف ، فالذي يظهر من هذا التحرير أنّ حكم الشكّ في كون النهي موجبا للفساد في العبادة ، هو أنّ الشبهة إن كانت موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الحكم بالفساد ، وأنّه إن كانت الشبهة حكمية كانت راجعة إلى مسألة الأقل والأكثر من الرجوع إلى الاشتغال أو البراءة. وفي الطبعة الجديدة زاد على ذلك أنّه بحسب القواعد الأوّلية مع قطع النظر عن قاعدة الفراغ أو التجاوز أو أصالة الصحّة (1) والظاهر أنّ ذلك استثناء من حكمه بالاشتغال في صورة كون الشبهة موضوعية.

والذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي أنّ الشكّ في اقتضاء النهي الفساد يوجب الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر ، هذا إذا كان أمر بالعبادة مع قطع النظر عن النهي ، وأمّا لو لم يكن أمر بها فالشكّ في اقتضاء النهي الفساد يوجب الشكّ في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضي عدم المشروعية (2). وأشكل عليه في الحاشية بأنّ مانعية المنهي عنه إنّما تتصوّر فيما لو كان المنهي عنه جزءا أو شرطا ، دون ما إذا كان نفس العبادة بتمامها

ص: 267


1- أجود التقريرات 2 : 213 ( نقل بالمضمون ).
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 462.

منهيا عنها ، وقد عرفت ما في هذا الإشكال.

والذي وجدته فيما عثرت عليه من تحريرات المرحوم الشيخ موسى الخونساري رحمه اللّه أنّه لو شكّ في دلالة النهي على الفساد فلا أصل لفظي يعول عليه ، والأصل العملي في المعاملات هو الفساد لو لم يكن هناك عموم يقتضي صحّة المنهي عنه. وفي العبادات لو كان الشكّ في أصل تعلّق الأمر بها فكذلك ، ولو كان من جهة الأجزاء أو الشرائط من جهة احتمال مانعية المنهي عنه فمبني على مسألة البراءة والاشتغال. وهذا التحرير موافق لتحرير المرحوم الشيخ محمّد علي.

والموجود فيما حرّرته عن شيخنا قدس سره يرجع إلى ذلك أيضا ، فإنّ هذا نصّه : وإن كان المنهي عنه هو العبادة ، فإن كانت الشبهة حكمية بأن شكّ في مشروعية العبادة المنهي عنها كان المرجع هو أصالة عدم المشروعية ، فيحكم على تلك العبادة بالفساد. وإن كانت الشبهة مفهومية كان المرجع هو البراءة أو الاشتغال ، على الكلام في مسألة الأقل والأكثر. وإن كانت الشبهة موضوعية كان المرجع هو الاشتغال ، انتهى.

وقد عرفت (1) الكلام في تصوير كون الشبهة موضوعية في المقام ، وذلك بأن يكون حرمة العبادة في حال الحيض محرزة ، وكذلك كونها مانعة من الصحّة يكون محرزا أيضا ، ويكون المشكوك هو تحقّق الموضوع وأنّ الحال هل هو حال حيض مثلا ، ولكن يجري حينئذ أصالة البراءة من أصل الحرمة وكذلك يجري أصل البراءة من مانعية هذا الحال. فالأولى إسقاط الشبهة الموضوعية في هذا المقام ، لأنّها أجنبية عمّا نحن فيه من حكم الشكّ في كون النهي مقتضيا للفساد ، فإنّ هذه الشبهة الموضوعية إنّما تتصوّر بعد الفراغ عن كونه مقتضيا

ص: 268


1- في الصفحة : 264.

للفساد. كما أنّ الأولى أيضا إسقاط الشبهة الحكمية بالمعنى المذكور ، أعني بمعنى الشكّ في الأمر ، لما عرفت من أنّ تلك العبادة حينئذ تكون في حدّ نفسها محكوما عليها بالفساد ، لعدم ثبوت مشروعيتها ، وحينئذ لا محصّل للنزاع في أنّه بعد تعلّق النهي بها ولم يثبت عندنا كونه مقتضيا للفساد هل الأصل فيه هو الفساد أو لا.

ولعلّ إدخال الشبهة الحكمية وكذلك الموضوعية كان منّا معاشر المحرّرين تبعا لما في الكفاية في النسخ الطهرانية (1) من التعرّض للأقسام الثلاثة ، غفلة عن حقيقة ما أجمله شيخنا قدس سره في هذا المقام.

والذي يعجبني في هذا المقام ما وجدته في تحريرات نجل شيخنا قدس سره حضرة الأخ الفاضل الميرزا علي آقا سلّمه اللّه ، فإنّه حينما كان يكتب الدرس يعرضه بخدمة والده قدس سره ، ولعلّ الكثير منه كان باملائه قدس سره. وهاك نصّ ما تفضّل باطلاعي عليه :

قال سلّمه اللّه : وبالجملة فهذا الشكّ السببي - يعني هل النهي يقتضي الفساد أو لا - ليس موردا لأصل أصلا ، ولكن الشكوك المسبّبة المتولّدة منه يجري فيها الأصل ، وحيث إنّ مرجع البحث إلى استتباع النهي للمانعية ، ففي العبادات يرجع إلى تردّد المكلّف به بين الأقل والأكثر ، ويبنى الصحّة والفساد حينئذ على البراءة والاشتغال ، فعلى الأوّل يحكم بالصحّة وعدم المانعية ، وعلى الثاني بالمانعية والفساد. وفي المعاملات أيضا يرجع إلى الشكّ في ترتّب الأثر المعاملي على مورد النهي ، فيكون الأصل مقتضيا للفساد إلاّ إذا فرض أصل حاكم

ص: 269


1- كفاية الأصول ( المطبوعة في طهران قديما ) : 110 ، وقد وردت هذه العبارة في الطبعة المحشاة بحاشية المرحوم القوچاني قدس سره كما تقدّم في الصفحة : 219 من هذا المجلّد ، وذكرت أيضا في هامش الطبعة الحديثة المحشاة بحاشية المرحوم المشكيني قدس سره 2 : 231.

على أصالة الفساد ، والظاهر أن لا يكون هناك أصل حاكم على أصالة الفساد من الجهة التي نحن فيها ، انتهى ما أردت نقله من التحريرات المشار إليها.

وأنت ترى كيف حصر الشبهة فيما نحن فيه بما يرجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر ، نظرا إلى أنّ الشكّ حينئذ يكون في كون الحرمة المذكورة مانعة ، فتكون المسألة من قبيل الشكّ في المانعية على نحو الشبهة المفهومية بالنسبة إلى ما هو متعلّق الأمر ، وأنّه هل هو مطلق الصلاة مثلا ، أو أنّه هو خصوص ما لم يكن واقعا على جهة التحريم.

نعم ، يبقى في المقام إشكال آخر ، وهو أنّ الشكّ في المانعية المتفرّع على الشكّ في اقتضاء التحريم الفساد إن كان المراد بالمانعية العقلية التي هي عبارة عن مانعية المبغوضية عن امكان التقرّب ، فذلك لا يرجع إلى الشكّ في المانعية الوضعية التي هي بجعل الشارع ، كي يكون المرجع فيها هو البراءة أو الاشتغال. وإن كان المراد بالمانعية فيه هي المانعية الوضعية ، فمن الواضح أنّ هذه المانعية لا تتفرّع عن الفساد الآتي من ناحية النهي ، الذي هو عبارة عن عدم إمكان التقرّب بالمبغوض.

وحينئذ فالأولى هو أن يقال : إنّ الشكّ في الفساد إن كان المراد بالفساد فيه هو ما ذكرناه من مانعية المبغوضية من قصد التقرّب ، بمعنى أنّا نشكّ في إمكان التقرّب به ، فلو فرضنا حصول الشكّ في ذلك ، خلافا لما حقّقناه في محلّه (1) في مسألة استصحاب الأحكام العقلية من أنّ الأحكام العقلية لا يعقل فيها الشكّ من ناحية العقل الذي هو الحاكم فيها ، فالأصل فيه حينئذ هو الاشتغال ، بمعنى الشكّ في حصول التقرّب الذي يتوقّف عليه الامتثال. وإن كان الفساد المدّعى هو الآتي من ناحية تخصيص الأمر أو تقييد اطلاقه فمع الشكّ فيه يكون أصالة العموم أو

ص: 270


1- راجع حواشيه قدس سره على فوائد الأصول 4 : 320 - 322 في المجلّد التاسع.

الاطلاق محكمة ، فيكون الأصل هو الصحّة حينئذ. اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّا نعترف بكون النهي موجبا للتخصيص ، ولكن مع ذلك نشك في تقيّد متعلّق الأمر بعدم متعلّق النهي. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ تسليم التخصيص يوجب إحراز الفساد ، لعدم الأمر حينئذ خطابا وملاكا ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ النهي لو كان مقتضيا للفساد لكان ذلك بحكم العقل ، من جهة كونه موجبا للمبغوضية التي لا تجتمع مع محبوبية العبادة ، أو من جهة كونه موجبا لخروج متعلّقه عن عموم الأمر خطابا وملاكا ، فلا تكون مانعية النهي إلاّ مانعية عقلية ، فلو شككنا في اقتضائه الفساد لم يكن ذلك من الشكّ في المانعية الشرعية الناشئة عن تقييد الشارع العبادة بعدم النهي عنها ، كي يكون المرجع في ذلك إلى البراءة الشرعية من تلك المانعية.

نعم يمكن أن يقال : إنّ طريقة التخصيص توجب خروج متعلّق النهي عن عموم الأمر ، وتكون النتيجة هي تقييد المأمور به بعدم متعلّق النهي ، وهذا التقييد بالعدم هو عين المانعية الشرعية ، وهذه المانعية وليدة التخصيص ، فيكون الشكّ في التخصيص الموجب للبطلان راجعا إلى الشكّ في تقيّد الصلاة بعدم مورد النهي ، فيكون من قبيل الشكّ في المانعية الشرعية.

نعم ما ذكرناه من عدم إمكان البراءة في مثل صلاة الحائض مسلّم ، ولكنّه في العموم الشمولي أعني وجوب الصلاة في كلّ يوم وقد خرج منه أيّام الحيض ، فلا امتنان في رفع هذه المانعية ، ولكن مع ذلك يكون المرجع عند الشكّ في أنّ النهي يوجب التخصيص هو العموم. أمّا لو كان العموم بدليا ، كما لو نهي عن الصلاة في الحرير ، فإنّه يرجع إلى إخراج الصلاة في الحرير عن ذلك العموم ، فيتقيّد العام بعدم الصلاة في الحرير ، يعني أنّ الصلاة الواجبة مقيّدة بأن لا تكون

ص: 271

صلاة في الحرير ، وحينئذ نقول إنّا لو شككنا في ذلك الاخراج فقد شككنا في التقييد المذكور ، ومقتضى الأصل هو البراءة من القيد المذكور. لكنّه لا حاجة إلى البراءة ، بل التمسّك بالعموم البدلي كاف في المسألة.

والخلاصة : هي أنّ الشكّ الآتي من ناحية النهي حاله حال الشكّ المتعلّق بفساد المعاملة أو العبادة من ناحية أخرى قبل تعلّق النهي ، وعند ما تكون الشبهة فيه حكمية يكون المرجع فيه هو العمومات والاطلاقات لو كانت ، وإلاّ كان المحكّم هو أصالة الفساد في المعاملة وأصالة عدم المشروعية في العبادة ، وأنّ المسألة في العبادة لا ترجع إلى مسألة الأقل والأكثر ، وأنّ هذا التطويل الذي ذكرناه في توجيه ما في الكفاية وما في كلام شيخنا قدس سره من إرجاع المسألة إلى مسألة الأقل والأكثر تطويل بلا طائل ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الشبهة الموضوعية فيهما قبل الاقدام فهي كما أفيد في أصالة عدم ترتّب الأثر في المعاملة وأصالة الاحتياط في العبادة ، لكن بعد الاقدام ولو غفلة يكون المرجع أصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ ونحوهما ، فتأمّل.

قوله : الثانية أنّ العبادة وإن فرضنا إمكان تعلّق النهي بها إلاّ أنّه لا يوجب فسادها ، إذ الفساد يكون مترتّبا على عدم مشروعيتها ولو لم تكن منهيا عنها ، فلا يكون مترتّبا على النهي. وفيه : أنّ الفساد عند عدم النهي إنّما يكون من جهة الأصل ، وهي أصالة عدم المشروعية ، وعند النهي إنّما يكون مستندا إلى الدليل على الفساد الرافع لموضوع الأصل ، فالفساد في ظرف النهي يكون مستندا إلى النهي ليس إلاّ (1).

لا يخفى أنّ الظاهر من تقرير هذه الشبهة هو أنّ المنظور إليه إنّما هو مقام

ص: 272


1- أجود التقريرات 2 : 214 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الثبوت ، وأنّ المراد من قولهم إنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد هو ذلك المقام أعني مقام الثبوت ، ونحن إذا نظرنا إلى مقام الثبوت لا نجد فساد العبادة مستندا إلى النهي ، وإنّما يكون المستند فيه هو عدم الأمر ، فيكون فسادها الواقعي الثبوتي ناشئا عن عدم تعلّق الأمر والتشريع بتلك العبادة ، بمعنى أنّ فسادها يكون مستندا إلى كونها في الواقع غير مشروعة ، فلا يكون تعلّق النهي بها واقعا هو الموجب لفسادها.

ومن الواضح أنّ تقرير هذه الشبهة بهذه الصورة لا يدفعه أنّ الفساد الآتي من ناحية أصالة عدم المشروعية لا ينافيه الحكم بالفساد من جهة النهي لكونه دليلا اجتهاديا عليه ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المنظور إليه هو مقام الاثبات ، فإنّه حينئذ يكون الفساد الثابت بدليل النهي فسادا بحكم الدليل الاجتهادي ، والفساد الثابت قبل ملاحظة النهي هو الفساد من ناحية الأصل العملي. أمّا لو كان المنظور في الشبهة المذكورة هو مقام الثبوت ، فالذي ينبغي أن يقال في جوابه هو أنّ العبادة في مقام الثبوت وإن كان حكمها الواقعي هو الفساد من جهة عدم الأمر ، إلاّ أنّ طروّ النهي عليها يوجب عدم إمكان تعلّق الأمر بها واقعا ، فتكون فاسدة من جهة عدم الأمر خطابا وملاكا.

وحاصله : أنّ الفعل قد يكون في حدّ نفسه ذا مصلحة يقتضي تعلّق الأمر به ، ويكون حصول تلك المصلحة منه متوقّفا على الاتيان به على الوجه العبادي ، بمعنى أنّ ذلك الفعل في حدّ نفسه يكون من سنخ العبادات التي يتوقّف حصول الغرض منها على الاتيان بها بعنوان العبادية ، فذلك الفعل لو خلي ونفسه لتعلّق الأمر العبادي به وكان عبادة صحيحة ، إلاّ أنّ ذلك الملاك لما زوحم في مقام التشريع بملاك النهي وكان الثاني أقوى ، كان موجبا لتعلّق النهي به ، وكان تعلّق

ص: 273

النهي به موجبا لعدم تأثير ملاكه في تعلّق الأمر به. فالفساد في هذه الصورة وإن كان في الحقيقة مستندا إلى عدم الأمر الناشئ عن مغلوبية ملاكه لملاك النهي ، إلاّ أنّه يمكن التوسّع في استناده إلى النهي ، لكون تعلّقه بذلك الفعل ملازما لمغلوبية ملاك الأمر فيه. أمّا ما لا يكون في حدّ نفسه واجدا لذلك الملاك فلا يكون فساده ناشئا إلاّ عن عدم الأمر ، سواء كان منهيا عنه أو لم يكن. وهكذا الحال فيما لو كان ذا ملاك لكن كان ملاك النهي فيه مساويا لملاك الأمر ، فإنّ فساده لا يكون ناشئا إلاّ عن عدم الأمر.

وإن شئت فقل : إنّ عدم صحّة كونه عبادة ناشئ عن عدم وجدانه للملاك المؤثّر في تعلّق الأمر به ، وفي الحقيقة أنّ ذلك الفعل في المرتبة السابقة على تشريع كلّ من الأمر والنهي لا يتّصف بصحّة ولا بفساد ، وإنّما يتّصف بذلك في المرتبة المتأخرة عن التشريع ، وحيث إنّ ملاك النهي فيه كان غالبا كان الحكم المشرّع فيه هو النهي ، وحينئذ يكون فساده مستندا إلى تشريع النهي فيه أو إلى عدم الأمر في مرتبة التشريع. أمّا عدم الأمر السابق في الرتبة على التشريع فلا يكون مؤثّرا في فساده قطعا ، لما عرفت من أنّه في الرتبة السابقة على التشريع لا يتّصف بصحّة ولا فساد.

وحينئذ فما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (1) من استناد الفساد فيه إلى عدم الأمر ، لكونه سابقا على النهي ، لم يتّضح وجهه ، إذ لو كان المراد هو العدم السابق على التشريع فقد عرفت أنّه في تلك الرتبة لا يتّصف بأحدهما ، وإن كان المراد به العدم في رتبة التشريع فليس هو - أعني ذلك العدم - سابقا على النهي ولو رتبة [ لما تقدّم ] في محلّه من عدم كون عدم أحد الضدّين سابقا [ في

ص: 274


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 463.

الرتبة على الضدّ الآخر ] هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات فإنّا إذا نظرنا إلى عبادة ، وشككنا في صحّتها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها ، نقول إنّها إن كان لها عموم أمر يشملها حكمنا بصحّتها ، وإن لم يكن حكمنا بفسادها استنادا إلى أصالة الفساد. ثمّ إذا ورد دليل يدلّ على النهي عن تلك العبادة حكمنا بفسادها ، لكشف ذلك النهي عن عدم ملاك الأمر فيها ، أو عن غلبة ملاك النهي فيها على ملاك الأمر ، وإلاّ لم يعقل تعلّق النهي بها ، وحينئذ يكون ذلك النهي بالنسبة إلى ذلك العموم مخصّصا ، وبالنسبة إلى الأصل حاكما على حذو حكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الاستغناء عن الاستدلال على اقتضاء النهي الفساد في العبادة بطريق المبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ، فإنّ هذا الاستدلال وإن كان صحيحا إلاّ أنّ تلك الطريقة كافية عنه. مضافا إلى ما عرفت فيما تقدّم (1) من أنّ هذه الطريقة إنّما تجري بعد ثبوت كون الفعل منهيا عنه ، وما دام العموم باقيا بحاله لا يدع مجالا لاثبات كون الفعل منهيا عنه ، وحينئذ تكون هذه الطريقة متأخرة رتبة عن التخصيص ، فيكون الفساد مستندا إليه لا إليها.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة أعني طريقة التخصيص لا تتوقّف على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وإن كان الأمر كذلك عندنا ، إلاّ أنّ الطريقة المذكورة تتمّ حتّى عند القائلين بعدم التبعية ، إذ يكفي في التعارض والتخصيص مجرّد التنافي بين الأمر والنهي ، ومع التخصيص الواقعي تكون تلك العبادة غير مأمور بها واقعا ، فلا يمكن تصحيحها. وأمّا دعوى تصحيحها بالملاك فإنّما هو على تقدير القول بالملاكات والمصالح والمفاسد ، ولا تتأتّى على قول المنكرين

ص: 275


1- راجع الصفحة : 201 ( الجهة الثالثة ).

لذلك ، وقد عرفت أنّه بناء على القول بالتبعية يكون النهي مخصّصا للأمر خطابا وملاكا. ومن ذلك كلّه أيضا يظهر لك أنّ الاقتضاء لا يتوقّف على التشبّث بالقبح الفاعلي.

ويمكن أن يقال : إنّه بعد عدم كون المنظور إليه هو المرتبة السابقة على التشريع ، بل كان المنظور هو مرتبة التشريع وما بعدها ، نقول إن توقّفنا في صحّة العبادة على الأمر كان عدم صدور الأمر بها كافيا في فسادها (1) ، سواء تعلّق النهي بها أو تعلّق بها الاباحة أو تركت بلا حكم ، وحينئذ يكون الفساد مستندا إلى إبقاء الشارع عدم الأمر. وإن قلنا بكفاية الملاك وعدم توقّف صحّة العبادة على الأمر ، لم يكن بقاء عدم الأمر كافيا في فسادها بعد فرض إحراز الملاك فيها ، بل لا بدّ من طرو جهة توجب عدم صحّتها ، وذلك هو حرمتها ، وحينئذ يكون الفساد مستندا إلى التحريم لا إلى عدم الأمر ، على وجه لو لم تطرأ عليها الحرمة لأمكن التقرّب بها ، وإن بقيت غير مأمور بها ، بأن لم يجعل الشارع لها حكما أصلا إن تصوّرنا ذلك ، أو جعلها مباحة مثلا ، كلّ ذلك بعد إحراز الملاك غير المغلوب.

أمّا الكلام في إحرازه وبأي طريق يكون ذلك فذلك أمر آخر ، لا دخل له بما نحن فيه من دعوى كون الفساد مستندا إلى النهي ، لا إلى مجرّد بقاء عدم الأمر ، فإنّ هذا النهي يكون موجبا لعدم تمامية الملاك لو قلنا بامكان التقرّب وتصحيح العبادة به من [ دون ] توقّف على وجود الأمر. هذا كلّه في مقام الثبوت ، ومنه يتّضح الحال في مقام الاثبات ، وأنّه على الأوّل أعني التوقّف على الأمر يكون النهي كاشفا عن عدم الأمر ، فتفسد لعدم الأمر. وعلى الثاني لا حاجة إلى استكشاف عدم الأمر ، بل لو كان عدمه مقطوعا به لأمكن الحكم بصحّتها ، بل لا بدّ

ص: 276


1- [ في الأصل : صحّتها ، والصحيح ما أثبتناه ].

حينئذ من جعل النهي كاشفا عن عدم ملاك الأمر ، أو عن مغلوبيته وعدم تماميته وهو الموجب للبطلان ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الثالثة أنّ النهي عن العبادة لأمر آخر كجزئه - إلى قوله : - وجوابه أنّ الخصوصيات التي بها يتخصّص العبادة منها ما لا يكون موجبا لتنوّع العبادة بنوعين أو بصنفين ، بل يكون أمرا آخر موجبا لتشخّص العبادة كالنظر إلى الأجنبية وأمثالهما ، ومنها ما يكون موجبا لذلك ، وحينئذ فإذا تعلّق النهي بما هو متشخّص بمثل هذا التشخّص ... الخ (1).

الذي حرّرته عنه قدس سره في هذا المقام هو : ثمّ إنّهم مثّلوا للقسم الأوّل من هذه المسألة - أعني ما يكون منهيا عنه من العبادة لنفسه لا لجزئه ولا لوصفه - بصلاة الحائض وبصوم يوم العيد. وقد أشكل على ذلك بأنّه أيضا لا يكون نوع العبادة فيه منهيا عنه ، بل يكون النهي متعلّقا بها لأجل الخصوصية اللاحقة لها ، أعني كونها في أيّام الحيض أو كون الصوم في يوم العيد ، فيكون ذلك من قبيل ما نهي عنه لجهة زائدة على حقيقة العبادة ، نظير النهي عن الصلاة في لباس الحرير. ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ الخصوصية فيما ذكر من المثال لا تكون زائدة على النوع فهي في ذلك نظير خصوصية المكلّف في كونها غير موجبة لخصوصية زائدة في النوع ، بخلاف الخصوصية في مثل الصلاة في لباس الحرير.

قلت : والأولى أن يقال : إنّ الخصوصية اللاحقة للعبادة إذا كان الأمر بالنسبة إليها انحلاليا ، كما في صلاة كلّ يوم أو صوم كلّ يوم ، وورد النهي عن الصلاة أو الصوم في بعض الأيّام ، كان النهي متوجّها إلى نفس العبادة المأمور بها ، ويكون

ص: 277


1- أجود التقريرات 2 : 214 - 215 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فيه النهي نهيا عن العبادة بذاتها ، بخلاف التي يكون الأمر بالنسبة إليها بدليا ، كما في مثل الصلاة في لباس الحرير ، فإنّ تعلّق النهي بمثله يكون لأجل الخصوصية الزائدة على نفس العبادة المأمور بها.

والحاصل : أنّ عمدة الإشكال إنّما هو إنكار القسم الأوّل ، بدعوى أنّه لا يوجد لنا عبادة منهي عنها لذاتها ، وأنّ جميع الأمثلة من قبيل العبادة المنهي عنها لوصفها أو شيء زائد على أصل حقيقتها النوعية ، حتّى في مثل صلاة الحائض وصوم العيد ، لأنّ النهي فيهما لأجل الخصوصية الزمانية. والجواب عنه هو ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ هذه الخصوصية الزمانية ليس من الخصوصيات الزائدة على نوع الصلاة ، فلأجل ذلك قلنا إنّ هذا من قبيل ما نهي عنه لذاته النوعية لا لجهة زائدة. والأولى أن يجاب بما عرفت من أنّ العموم لو كان بدليا لكان من الممكن دعوى كونها زائدة على حقيقته النوعية ، بخلاف ما لو كان شموليا كما هو المفروض في صوم يوم العيد أو صلاة الحائض ، فإنّ نفس العبادة المأمور بها في ذلك الزمان تكون منهيا عنها.

وأمّا ما في هذا التحرير من جعل الخصوصية تارة غير مقسّمة للعبادة اللاحقة لها كالنظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، وأخرى مقسّمة مثل صوم الوصال وصوم الحائض ، فلعلّه لا يخلو من تأمّل في عدم انطباق الجواب فيه على دفع الإشكال ، لأنّ الإشكال إنّما كان في إمكان القسم الأوّل ، وهذا المذكور في هذا التقسيم لا يكون جوابا له ، وإلاّ فأي هذين القسمين يكون قد تعلّق النهي به لذاته وأيّهما تعلّق النهي به لجزئه أو وصفه ، وما دخل مثال النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة فيما نحن بصدده من دعوى امكان تعلّق النهي بذات العبادة في قبال تعلّقه بها باعتبار جزئها أو وصفها.

ص: 278

ومن ذلك يتّضح لك أنّ ما تضمّنته الحاشية (1) من الإشكال على كون النظر إلى الأجنبية لا بدّ أن يكون هو مورد النهي وإن كان صحيحا في نفسه ، إلاّ أنّه غير وارد على ما أفاده شيخنا حسبما وجدته فيما حرّرته عنه ، وحسبما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قدس سره (2) لم يذكر عنه قدس سره أنّه تعرّض لمسألة النظر إلى الأجنبية. وبالجملة : أنّ النظر إلى الأجنبية وإن أمكن كونه علّة في توجّه نهي إلى الصلاة نفسها ، إلاّ أنّه لم يكن هو العمدة في المثال ، وإنّما جلّ الغرض هو تصوير مثال يكون النهي فيه عن العبادة لأجل نفسها لا لأجل علّة أخرى ، فجعل النظر إلى الأجنبية قسما وجعل الباقي مقابلا له لم يتّضح المراد منه.

قوله : فلأنّ الملاك الذي يمكن التقرّب به من المولى بحكم العقل إنّما هو الملاك الذي هو في حدّ العلّة التامّة للبعث ، وليس عدم التكليف به إلاّ من جهة عدم القدرة ، كما في موارد التزاحم في مقام الامتثال ... الخ (3).

وتوضيح ذلك : أنّ متعلّق النهي في المقام بعد أن كان هو بنفسه متعلّقا للأمر من دون تعدّد جهة في البين ، كان التزاحم حينئذ تزاحما آمريا لا مأموريا ، فإن تساوى الملاكان في نظر الشارع المقدّس لم يجعل الحكم على طبق أحدهما ، بل لا بدّ أن يحكم في ذلك بالتخيير أو الاباحة ، وإن كان الغالب هو ملاك الأمر كان الفعل واجبا من دون أن يكون منهيا عنه ، وإن كان الغالب هو ملاك النهي كان الفعل منهيا عنه ولم يكن واجبا ، سواء كان غلبة ملاك النهي على نحو بحيث ينعدم بسببه ملاك الأمر ، كما في غلبة ذي الرائحة الردية على ما فيه من الرائحة

ص: 279


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 215.
2- راجع فوائد الأصول 1 - 2 : 464.
3- أجود التقريرات 2 : 216 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الطيبة ، أو كانت الغلبة لا على نحو الانعدام ، بل من مجرّد أنّ ملاك النهي أقوى من ملاك الأمر ، فإنّه على أي حال يكون ذلك الفعل خارجا عن حيّز الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا ، من دون فرق في ذلك بين كون عموم الأمر بدليا أو كونه شموليا. وقد تقدّم (1) تفصيل الحال في كيفية الفساد الناشئ من هذه الغلبة ، فراجع.

قوله : هذا مضافا إلى أنّ تحريم الجزء مستلزم لأخذ العبادة بالقياس إليه بشرط لا ... الخ (2).

لا يخفى أنّ هذه الجهة أعني كون النهي عن الجزء يوجب تقيّد الكل بعدمه ، بحيث إنّه يعتبر الكل بالقياس إليه بشرط لا ، هي العمدة في إثبات كون النهي عن جزء العبادة موجبا لفسادها. ولكن المرحوم الشيخ موسى حسبما عثرت على تحريراته لم يتعرّض لها ، وتكلّم في مسألة النهي عن الجزء من الناحية الفقهية ، وهي ما يعود إلى تحقّق الزيادة فيه فيما لو أبدله بجزء غير منهي عنه ، أو تحقّق النقيصة فيما لو اقتصر على الجزء المنهي عنه ، إلى غير ذلك من مبحث لزوم القران بين السورتين فيما لو قرأ العزيمة وقرأ غيرها من السور.

أمّا المرحوم الشيخ محمّد علي فقد تعرّض لذلك (3) وأفاد أنّ الجزء المنهي عنه يوجب فساد العبادة ، لكون النهي عن الجزء موجبا لتقيّد الصلاة بعدمه ، وجعل كلا من بطلان الصلاة به من ناحية كونه زيادة وبطلانها من ناحية كونه كلاما موجبا لبطلان الصلاة وإن لم يكن من كلام الآدميين ، إضافة إلى ذلك الحجر

ص: 280


1- راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 272 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 : 218 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- فوائد الأصول 1 - 2 : 465 - 466.

الأساسي وهو تقيّد الصلاة بعدمه واعتبارها بشرط لا بالاضافة إلى ذلك الجزء المنهي عنه.

وكنت في وقت استفادة هذا الدرس من شيخنا قدس سره فيما يعود إلى هذا الحجر الأساسي قد علّقت عليه ما هذا لفظه : لا يخفى أنّ النهي عن الجزء لا يكون بمجرّده موجبا لبطلان العبادة إلاّ إذا أتى به بقصد الجزئية ، ليكون من باب النقيصة لو اقتصر عليه ، بل يكون حينئذ من باب النقيصة والزيادة العمديتين لو اقتصر عليه ، ومن باب الزيادة العمدية لو لم يقتصر عليه ، أو إذا كانت هناك جهة أخرى موجبة للبطلان لكونه قرانا بين سورتين ، بناء على حرمة القران وتقييد الصلاة بعدم القران ، وحينئذ لو أتى بالعزيمة مع سورة أخرى يكون البطلان من ناحية الزيادة والنقيصة ومن ناحية القران أيضا. أمّا إذا لم يقصد به الجزئية ولم يقتصر عليه ، ولم يكن ذلك الجزء مأخوذا بشرط لا ، ولم تنضمّ إليه جهة أخرى ، فعلى الظاهر أنّه لا يكون موجبا لبطلان العبادة وإنّما يكون من قبيل الفعل المحرّم في أثنائها. وأمّا ما أفاده دام ظلّه من أنّ النهي عنه في الصلاة يكون موجبا لتقيّدها بعدمه فللتأمّل فيه مجال ، لأنّ مجرّد النهي النفسي عن شيء في حال العبادة لا يكون موجبا لتقيّدها بعدمه ، بل أقصى ما فيه أنّه يكون من قبيل فعل شيء محرّم في أثناء الصلاة ، فتكون الصلاة بمنزلة الظرف لذلك الفعل المحرّم. وهذا الإشكال من قبيل ما يقال إنّ مجرّد الأمر بشيء في حال الصلاة أمرا نفسيا لا ضمنيا لا يدلّ على أنّه جزء منها ، لأنّه حينئذ يكون من قبيل الواجب في ضمن واجب آخر ، فيكون التحريم النفسي فيما نحن فيه من قبيل التحريم النفسي لذلك الجزء في ضمن العبادة في عدم اقتضائه التقيّد بعدمه.

ثمّ بعد أن طبع هذا الكتاب علّقت على هذه الوجوه الثلاثة بأنّ هذه الوجوه

ص: 281

الثلاثة كلّها قابلة للمناقشة.

أمّا الأوّل : فلأنّ النهي عن شيء في الصلاة إذا لم يكن غيريا ، بل كان تحريما نفسيا استقلاليا لا ضمنيا ، لم يكن موجبا لتقيّد الصلاة بعدمه ، وإلاّ لكان النهي النفسي عن الوصف أو الشرط موجبا للبطلان. وسيأتي منه قدس سره المنع من ذلك (1). وأمّا أخذ العبادة بالاضافة إليه بشرط لا فلا يجري في كلّ جزء منهي عنه ، وإنّما يتأتّى ذلك في خصوص ما إذا كان الجزء الواجب في الصلاة مقيّدا بعدد خاص ، فإنّه لو أضيف إليه مثله كان موجبا للبطلان ، لكن ليس ذلك من جهة كونه محرّما ، بل من جهة كونه موجبا لعدم تحقّق قيد الجزء.

وبالجملة : أنّ ما أخذ فيه عدد خاص تكون الزيادة عليه مبطلة ، وإن لم يكن ذلك الزائد محرّما في نفسه ، وليس ذلك هو محلّ الكلام ، وإنّما الكلام في مبطلية كون الجزء المأتي به محرّما مع قطع النظر عن كون بعض الأجزاء مقيّدا بعدمه.

وأمّا الوجه الثاني : فهو متّجه في خصوص الأجزاء المحرّمة التي هي من سنخ أجزاء الصلاة ليكون من قبيل الزيادة ، والظاهر أنّه لا صغرى له في باب الصلاة. وأمّا المحرّمات التي هي من قبيل الذكر كقول آمين ، أو من قبيل القرآن كسورة العزيمة ولو بين السجدتين مثلا ، فالظاهر أنّه لا يتحقّق كونها زيادة إلاّ بقصد الجزئية ، حيث إنّ الذكر والقرآن غير المحرّمين وإن جاز فعلهما في أثناء الصلاة ، إلاّ أنّها لو فعلت لا تكون جزءا ، وإنّما تكون ذكرا جائزا في أثناء الصلاة ، إلاّ إذا قصد بها الجزئية فتكون من الزيادة.

ص: 282


1- أجود التقريرات 2 : 219 - 221 ، وستأتي حاشية المصنّف قدس سره على ذلك في الصفحة : 297 وما بعدها من هذا المجلّد.

ولا يبعد القول بأنّها لو أتي بها بقصد الجزئية تكون مبطلة ، أمّا ما يكون محرّما منها فينبغي أن يكون كذلك ، بمعنى أنّها لو لم يؤت بها بقصد الجزئية فلا تكون إلاّ من قبيل المحرّم في أثناء الصلاة ، ولا يدخل في الزيادة إلاّ إذا قصد به الجزئية ، وحينئذ يكون مبطلا من جهة قصد الجزئية لا من جهة كونه محرّما. اللّهمّ إلاّ أن يلتزم في مطلق الذكر والقرآن بأنّه من قبيل الزيادة الغير المبطلة لكون زيادته مغتفرة فلا يكون اتّصافه بالزيادة متوقّفا على قصد الجزئية ، فتأمّل فإنّه قدس سره لا يقول بذلك.

وأمّا الوجه الثالث : فكأنّ المراد به هو أنّ مقتضى الأدلّة الأوّلية هو أن لا يؤتى في أثناء الصلاة بغير اجزائها المنصوصة ، وقد خرج من ذلك مطلق الذكر والقرآن للأدلّة الدالّة على ذلك ، ولكن خرج من تلك الأدلّة المسوغة مثل قوله آمين وقراءة سورة العزيمة ، وحينئذ يكون الحكم فيها هو مقتضى الأدلّة الأوّلية من عدم الاتيان بها في أثناء الصلاة.

ويمكن التأمّل في ذلك بمنع أنّ مقتضى الأدلّة الأوّلية هو عدم الاتيان في أثناء الصلاة بشيء غير أجزائها المنصوصة ، على وجه يكون ذلك المنع موجبا لتقيّد الصلاة بما عدا أجزائها المنصوصة ، فلم يبق لنا إلاّ مجرّد حرمة قول آمين وقراءة العزيمة في أثناء الصلاة ، وقد عرفت أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب البطلان.

نعم لو كان التحريم المذكور مخرجا لهما عن مطلق الذكر والقرآن ، وملحقا لهما بكلام الآدميين ، لكان موجبا لافسادهما الصلاة ، لكنّه قدس سره منع من ذلك.

والحاصل : أنّ المراد من النهي عن الجزء هو تعلّق النهي بما لو فرض الأمر به ولم يكن منهيا عنه لكان جزءا من الصلاة ، ومن الواضح أنّ مجرّد تعلّق النهي بمثل ذلك لا يوجب كونه مبطلا للصلاة إلاّ فيما تكون الصلاة مقيّدة بعدمه ، كما

ص: 283

في الاجزاء المقيّدة بعدد خاص ، أو كان ذلك المنهي عنه من سنخ أجزاء الصلاة على وجه يكون زيادة عمدية من دون توقّف على قصد الجزئية ، ومن الواضح أنّ الفساد في هذين الموردين لا يكون مستندا إلى التحريم ، بل تكون الصلاة فاسدة حتّى لو لم يكن ذلك المأتي به محرّما ذاتا في الصلاة ، انتهى ما كنت حرّرته سابقا.

وحيث قد ظهر لك أنّ الحجر الأساسي في دعوى كون النهي عن جزء العبادة موجبا لفسادها هو ما أفاده شيخنا قدس سره من كون ذلك النهي موجبا لتقيّدها بعدم ذلك الجزء المنهي عنه ، على وجه يكون ذلك النهي النفسي الاستقلالي المتعلّق بذلك الجزء موجبا لأخذ العبادة بشرط لا بالقياس إلى ذلك المنهي عنه ، فاعلم أنّ أساس ذلك ليس هو مجرّد كون ذلك الجزء منهيا عنه ، لينتقض بجميع المحرّمات حتّى مثل النظر إلى الأجنبية كما في الحاشية الثانية على ص 397 من الطبعة الجديدة (1) ، بل إنّ أساسه هو كون ذلك المنهي عنه قد أخذ في النهي عنه ظرفية وقوعه في الصلاة ، فإنّ النهي عن قول آمين مثلا ليس مطلقا في جميع الحالات حتّى في حالة عدم الصلاة ، بل إنّ ظرفية الصلاة مأخوذة فيه ، فقول آمين تكون حرمته مختصّة بحال الصلاة ، والمدّعى أنّ أخذ هذه الظرفية في ذلك النهي تعطي النهي عن جعله في جملة أجزاء الصلاة ، على وجه يكون ذلك المنهي عنه لو بدّل النهي عنه بالأمر به ، بأن يكون قوله : قل آمين بعد الحمد ، بدل قوله : لا تقل ، يكون ذلك الأمر أمرا ضمنيا واردا على جزء من أجزاء الصلاة ، فيكون ذلك النهي واردا أيضا على جزء من تلك الأجزاء ، وبذلك يستفاد كون الصلاة مقيّدة بعدم ذلك الجزء.

ص: 284


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش 1 ) : 218.

ويعجبني في هذا المقام نقل ما حرّره بعض أجلّة تلامذته (1) في هذه الجهة ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وأمّا إذا تعلّق بجزئها ويكون نهيا نفسيا كالنهي المتعلّق بقراءة العزائم في الصلاة ، فلا إشكال في أنّه بنفس تعلّقه به يخرجه عن دائرة عموم الأدلّة الدالّة على جزئية كلّ سورة وكلّ قرآن ، ويلزمه تقييد الجزء بعدمه وتقييد القرآن بما عدا هذا ، لعدم إمكان كونه جزءا مأمورا به مع تعلّق النهي به ، وكون النهي نفسيا كاشف عن وجود مفسدة في هذا المنهي عنه ، وهو لا يجتمع لا مع الأمر ولا مع ملاكه ، فإذا لم يكن فيه ملاك الجزئية فيخرج عن كونه جزءا ، وحيث إنّ المفروض أنّه مشتمل على المفسدة التي لا يمكن اجتماعها مع المصلحة الصلاتية ، فلا محالة يقيّد الصلاة بعدمه. ولا نعني بالمانعية إلاّ تقييد الصلاة وكلّ مركّب بعدم شيء في النواهي الغيرية ، فإذا أتى بالصلاة مع هذا الأمر الذي قيّدت الصلاة بعدمه لا تكون واجدة لجميع ما يعتبر فيها ، فلم يؤت بها على وجهها الذي أمر به ، فلا يمكن أن تكون مجزية ، هذا. مضافا إلى أنّ الاتيان به في الصلاة يوجب كون الصلاة مشتملة على الزيادة العمدية الموجبة لبطلانها كما لا يخفى.

ثمّ ذكر النهي عن الشرط وأفاد أنّ الشرط هو الستر ، وأنّ النهي عن التستّر لا يفسده ، فلا ربط له بالنهي عن العبادة ، ثمّ قال : والفرق بينه وبين الجزء أنّ الجزء داخل وجوده في المركّب ، ويكون وجود المركّب بوجود أجزائه ، فإذا نهي عن الجزء فيفيد تقييد الصلاة بعدمه ، فيفيد مفاد النهي الغيري ، ولكن بخلاف الشرط فإنّ الداخل في المركّب هو تقيّد المركّب به ، والمفروض أنّ النهي لم يرد عليه ، بل ورد على ما يتحقّق به تلك الاضافة والتقييد لا عن أصل القيد ، فيكون مفاده

ص: 285


1- وهو المرحوم حجّة الإسلام السيّد جمال الدين قدس سره [ منه قدس سره ].

تقييد ما يحصل به ذلك القيد والاضافة بغيره ، انتهى ما حرّره سلّمه اللّه تعالى عن شيخنا قدس سره.

ومع هذا التطويل فهو لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ النهي النفسي الاستقلالي كما هو المفروض لو تعلّق بالاتيان بسورة العزيمة في أثناء الصلاة لا يلزمه أن تكون الصلاة مقيّدة بعدمه ، نعم يمكن أن نأخذ هذا التقييد من طريقة أخرى ، بأن نقول إنّ هذا النهي يكون مخصّصا لما دلّ على كون السورة جزءا ، ولمّا كان هذا التخصيص بطريق النهي النفسي استفيد منه كون الصلاة مقيّدة بعدمه ، لأنّه يستفاد عرفا من قوله لا تقرأ سورة العزيمة في الصلاة فإنّ ذلك حرام وهي ليست بجزء من الصلاة ، أنّ هذه الصلاة قد اعتبرت في عالم التشريع خالية من سورة العزيمة. وهكذا الحال في مثل لا تقل آمين بعد الفاتحة ، فإنّه يستفاد منه أوّلا حرمة قول آمين في ذلك الموقع حرمة نفسية استقلالية ، ولازم ذلك أنّ هذه الكلمة خارجة عن عموم الذكر في الصلاة ، ويستفاد من هذا التخصيص أنّ الصلاة قد أخذت في عالم التشريع خالية من هذه الجملة ، إذ لا يجتمع بحسب النظر العرفي هذه الحرمة في هذا الموقع الخاص مع بقاء إطلاق الصلاة بحاله من ناحية هذه الجملة ، بل لا بدّ عند العرف بعد اطّلاعهم على تشريع الحرمة المذكورة ، وبعد حكمهم بأنّها موجبة لتخصيص ما دلّ على جزئية كلّ ذكر بما عدا هذه الجملة ، من أن يحكموا بأنّ الشارع عند ما أمرنا بالصلاة قد نظر إليها مجرّدة عن هذه الجملة ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التقييد المزبور ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس سره فيما حرّر عنه في هذا التحرير الذي نقلناه. وعلى كلّ حال ، ليس مراد شيخنا قدس سره هو أنّ تحريم الفعل يوجب تقييد الصلاة بعدمه ، أي فعل كان ، وإن كانت حرمته مطلقة غير مختصّة بحال الصلاة ، بل إنّ مصبّ كلامه هو كون المنهي

ص: 286

عنه هو الجزء ، أعني ما لو لم يكن منهيا عنه لكان في حدّ نفسه جزءا من الصلاة ، فذلك الجزء لو لا النهي يكون النهي عنه موجبا لاخراجه عن الجزئية ، وأنّ العرف يستفيد من ذلك أنّ الصلاة في نظر الشارع عند ما يعلّق أمره بها تكون مجرّدة عن ذلك الجزء ، فلا يرد عليه ما في الحاشية المشار إليها.

وأمّا ما ذكره في الحاشية الأولى من هذه الصفحة (1) فعلى الظاهر أنّه لا يتوجّه على شيخنا قدس سره فإنّ هذه الجملة التي نقلها عنه قدس سره من قوله : بل لو بنينا على جواز القران الخ (2) ، المراد منها أنّ الدليل الأوّلي هو أنّ الجزء سورة واحدة ، ومقتضاه عدم جواز اضافة سورة أخرى إليها ، كما في جميع الأجزاء التي أخذ فيها عدد خاص ، ولمّا قام الدليل على جواز القران والجمع بين الجزءين في خصوص [ السورة ] قلنا بجوازه ، لكن دليل حرمة سورة العزيمة يكون مخصّصا لذلك الدليل الذي دلّ على جواز الجمع بين سورتين ، لأنّ مفاده هو خروج هذه السورة فيما لو كانت هي إحدى السورتين ، وحينئذ يبقى الدليل الأوّلي الحاكم بعدم جواز التكرار في الأجزاء بحاله.

نعم ، يمكن المناقشة في هذا الترتيب ، لامكان أن يقال : إنّه لا دليل عندنا يدلّ في حدّ نفسه على المنع من الجمع بين الجزءين لنرتّب هذا الترتيب : إذ ليس بيدنا إلاّ وحدة الجزء القاضية بعدم اضافة غيره إليه لكونه مقيّدا بالوحدة ، ويمكن إنكار ذلك بأن يقال يستفاد من مجموع الأدلّة أنّ طبيعة السورة جزء ، سواء كانت في ضمن الواحد أو الكثير ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّي لم أعثر على مثل هذه الجملة أو ما يؤدّي مؤدّاها في جملة ما

ص: 287


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 217.
2- أجود التقريرات 2 : 217.

تتبّعته من التحارير عنه قدس سره ، نعم وجدتها أو نظيرها فيما حرّره المرحوم الشيخ موسى رحمه اللّه ، ولا بأس بنقل جملة ممّا حرّره في هذا المقام وإن كان لا يخلو من تطويل ، إلاّ أنّه لا يخلو من فائدة راجعة إلى شرح مرام شيخنا قدس سره على النحو الذي شرحناه ، على وجه لا يرد عليه ما في هذه الحاشية ، وهذا نصّه ، قال : نعم لو دلّ دليل على جواز زيادة هذا السنخ من الجزء ، كما ورد في القرآن والذكر ، فاتيانهما لا يوجب زيادة في المكتوبة إلاّ إذا قصد بهما الجزئية ، لأنّه بلحاظ هذا الدليل ينقلب الدليل الدالّ على أنّ الجزء بالنسبة إلى فرده الطولي بشرط لا إلى أنّه لا بشرط ، فيصير الجزء ببركة هذا الدليل بالنسبة إلى فرده الطولي كفرده العرضي لا بشرط.

ثمّ إنّ هذا بالنسبة إلى غير سورة العزيمة ، وأمّا بالنسبة إليها فاتيانها موجب لفساد الصلاة ولو لم يقصد بها الجزئية ، لأنّ الدليل الدالّ على جواز قراءة القرآن والذكر والدعاء يخصّص بالنهي عن قراءة سور العزائم ، لا من جهة كونه كلاما آدميا ، بل لأنّه قرآن محرّم ، بل لو لم تكن الزيادة موجبة للبطلان أيضا لقلنا بفساد الصلاة بقراءة سور العزائم ، إمّا لجهة القران بناء على كونه منهيا عنه ، أي بناء على اعتبار بشرط لا في السورة كالركوع والسجود ، وإمّا لأنّ النهي عنها يقتضي أن ينقلب لا بشرطية في السورة إلى بشرط لا بالنسبة إلى سور العزائم. فعلى أي حال ، قراءة العزائم يوجب البطلان ، نعم هل المفسد اتمام السورة ، أو إنهاؤها إلى آية السجدة ، أو الشروع فيها؟ وجوه محلّها في الفقه ، انتهى كلامه رحمه اللّه.

ولا يخفى أنّ هذه الجملة الأخيرة - أعني قوله : وإمّا لأنّ النهي عنها يقتضي أن ينقلب لا بشرطية في السورة إلى بشرط لا بالنسبة إلى سور العزائم الخ - إشارة إلى مفاد هذه الجملة المذكورة في هذا الكتاب ، يعني قوله : بل لو بنينا على جواز

ص: 288

القران الخ.

وحاصل ذلك : هو ما عرفت ممّا شرحناه ، وهو أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية أن يكون حال السورة حال الركوع في كونها مقيّدة بشرط لا ، ثمّ جاء الدليل على أنّه لا مانع من قراءة القرآن ، فدلّ على أنّ السورة معتبرة لا بشرط من حيث الزيادة عليها ولو بسورة كاملة ، ثمّ جاء الدليل على حرمة سورة العزيمة في الصلاة ، فأخرجها من مطلق القرآن وجعل قراءة القرآن مقيّدة بشرط لا بالنسبة إلى سورة العزيمة ، فإذا قرأ سورتين إحداهما من العزائم يكون قد أتى بذلك الجزء فاقدا لهذا القيد ، أعني كونه بشرط لا من جهة سورة العزيمة ، فيفسد الجزء ويكون فساده موجبا لفساد الصلاة حينئذ ، لكونها فاقدة لجزئها المفروض كونه مقيّدا بعدم سورة العزيمة.

وخلاصة البحث : هو أنّه لا ريب في أنّ الفعل ربما كان واجبا نفسيا استقلاليا بقول مطلق ، سواء كان في الصلاة أو كان في غيرها ، كردّ السلام مثلا.

وربما كان طلبه النفسي الاستقلالي مختصّا بحال الصلاة ، كما في مثل القنوت لو قلنا بأنّه واجب مستقل في ظرف الصلاة. وربما كان وجوبه النفسي ضمنيا لكونه في ضمن المجموع المركّب ، وعن هذا الوجوب تنتزع القيدية والجزئية دون ما تقدّم.

وهكذا الحال في الفعل المحرّم ، فإنّه ربما كان الفعل حراما سواء كان في الصلاة أو كان في غير الصلاة ، كالنظر إلى الأجنبية. وربما كانت حرمته النفسية الاستقلالية مختصّة بحال الصلاة ، بحيث تكون حرمة قول آمين على حذو وجوب القنوت في كونها حرمة نفسية استقلالية ، لكن موضع ذلك وموقعه هو الصلاة دون غيرها ، كما ربما يقال بذلك في الارتماس للصائم من أنّه حرام غير

ص: 289

مفسد للصوم ، وهذه الحرمة والتي قبلها لا ينتزع منهما قيدية العدم المعبّر عنها بالمانعية ، على وجه تكون الصلاة مأخوذة بشرط لا بالنسبة إلى ما هو متعلّق إحدى هاتين الحرمتين ، وإنّما تنتزع القيدية المزبورة عن الحرمة النفسية الضمنية ، التي هي داخلة في الطلب المتعلّق بالمركّب من أفعال وجودية وأخرى عدمية ، فإنّ كلّ واحد من تلك الأفعال الوجودية يكون واجبا نفسيا ضمنيا ، وكلّ واحد من تلك الأمور التي أخذ عدمها في ذلك المركّب يكون محرّما نفسيا ضمنيا ، وعن ذلك الوجوب النفسي الضمني تنتزع الجزئية ، كما أنّ المانعية تنتزع عن تلك الحرمة النفسية الضمنية ، وهذا المقدار لا إشكال فيه عند شيخنا قدس سره ، فإنّه إن لم يكن هو المؤسّس له فلا أقل من كونه ممّن شرحه وأوضحه.

مضافا إلى أنّه قدس سره (1) قد صرّح في مسألة النهي عن الشرط والوصف بأنّ تحريم فعل في أثناء الصلاة نفسيا لا يوجب المانعية ، فكيف يمكن أن ننسب ذلك إليه قدس سره هنا على اطلاقه.

لكنّه قدس سره في المقام له جهة أخرى يومي إليها ، وهي أنّ بعض الأفعال لو خليت ونفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها تكون أجزاء من الصلاة ، كالذكر والقرآن فإنّ كلّ واحد من أفرادهما يكون جزءا من الصلاة إمّا جزءا استحبابيا أو أنّه جزء وجوبي ، ومع ذلك تعلّق به النهي النفسي الاستقلالي ، مثل قول آمين ومثل قراءة العزيمة ، فإنّ هذا النهي النفسي وإن كان استقلاليا إلاّ أنّه يوجب تقيّد الصلاة بأن لا يكون ذلك المنهي من أجزائها بما عرفته فيما تقدّم من تقريب الفهم العرفي ، هذا خلاصة ما يمكن أن نشرح به ما أفاده قدس سره ، ولكن فيه تأمّل من ناحيتين :

ص: 290


1- أجود التقريرات 2 : 220.

الأولى : أنّ مقتضى سير المسألة هو أن يكون ذلك الأمر النفسي الضمني بواسطة النهي مبدّلا إلى النهي النفسي الضمني لا الاستقلالي ، ولا ريب في انتزاع المانعية من النهي النفسي الضمني ، كانتزاع الجزئية من الأمر النفسي الضمني ، فلا يكون هذا النهي إلاّ ضمنيا لا استقلاليا.

الناحية الثانية - وهي العمدة - : هو أنّا لو التزمنا بالحرمة النفسية الاستقلالية ومع ذلك نقول إنّ الصلاة تكون مقيّدة بعدم ذلك الحرام النفسي الاستقلالي ، بحيث كانت الصلاة الواجبة مركّبة من أفعالها المعروفة ومن عدم قول آمين فيها ، كان لازم ذلك هو مطلوبية عدم ذلك القول فيها مطلوبية نفسية ضمنية ، إذ أنّ كلّ قيد عدمي يكون مأخوذا في واجب يكون مطلوبا ضمنيا في ضمن تعلّق الأمر بذلك المركّب ، وإلاّ لم يكن ذلك العدم قيدا في ذلك المركّب ، وحينئذ يكون عدم ذلك القول - أعني قول آمين - مطلوبا بطلبين : نفسي استقلالي وهو ما يتكفّله دليل النهي ، ونفسي ضمني وهو ما يتكفّله الأمر المتعلّق بالصلاة المقيّدة بعدمه ، المأخوذة حسب الفرض بالقياس إليه بشرط لا ، وليس المقام مقام تأكّد لنقول باندكاك أحد الطلبين في الآخر ، إذ ليس في البين ملاكان ، بل لم يكن لنا إلاّ ملاك واحد (1). وحينئذ لا مخلص لنا من هذا الإشكال إلاّ بأن نقول بأنّ هذا النهي نفسي ضمني ، أو أن نقول بأنّه استقلالي فلا مانعية.

لا يقال : إنّ هذا كلّه لو التزمنا بأنّ المانعية دائما منتزعة من الحرمة النفسية الضمنية ، وحينئذ يكون التزامنا بالمانعية في المقام موجبا لاجتماع حرمتين

ص: 291


1- ينبغي هنا مراجعة ما ذكره قدس سره في اندكاك الأمرين في الوضوء في صفحة 150 [ منه قدس سره ] راجع أجود التقريرات 1 : 260 ( قوله : ففيما نحن فيه ... ) - 262 ( قوله : ... غير مختصّ بمقام مخصوص ).

نفسيتين استقلالية وضمنية. أمّا لو قلنا بأنّ المانعية يمكن انتزاعها من الحرمة النفسية الاستقلالية ، فلا يلزمنا أن نقول بالحرمتين المذكورتين.

لأنّا نقول : إنّ هذه الحرمة النفسية الضمنية يكون الالتزام بها قهريا علينا ولو قلنا بأنّ المانعية منتزعة من الاستقلالية ، لأنّا إذا التزمنا بأنّ الصلاة مقيّدة بعدم ذلك القول ، وأنّها مأخوذة في مقام تعلّق الأمر بها بالقياس إليه بشرط لا ، كان لازم ذلك قهرا هو تعلّق الوجوب بها مقيّدة بترك ذلك القول ، فيكون لازم ذلك قهرا هو مطلوبية ترك ذلك القول مطلوبية ضمنية ، وهو ما ذكرناه من الحرمة النفسية الضمنية مضافة إلى الحرمة النفسية الاستقلالية.

وحاصل ذلك : أنّ لازم القول بأنّ الحرمة النفسية الاستقلالية موجبة للتقييد هو أنّ تلك الحرمة موجبة لتعلّق الأمر بالمقيّد بعدم ذلك القول ، ولازم تعلّق الأمر بالمقيّد هو كون ذلك القيد العدمي مطلوبا ضمنا ، وهو الحرمة النفسية الضمنية مضافا إلى الاستقلالية. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نفس ذلك القول لو وقع في أثناء الصلاة تكون فيه مفسدة توجب النهي عنه وتحريمه نفسيا استقلاليا ، كما أنّ نفس الصلاة يكون وفاؤها بمصلحتها متوقّفا على تجريدها من ذلك القول ، أو أنّ وجود ذلك القول في أثنائها يكون موجبا لفساد فيها مضافا إلى فساد نفس ذلك القول الواقع فيها.

وحينئذ يكون هناك ملاكان : أحدهما يقتضي الحرمة النفسية المتعلّقة بذلك القول الواقع في ضمن الصلاة ، والآخر يقتضي تقيّد الصلاة بعدم ذلك القول وتعلّق الطلب به ضمنيا ، وهو المعبّر عنه بالحرمة النفسية الضمنية الذي تنتزع عنه المانعية ، وحينئذ لا بأس باجتماع الحرمتين واندكاك إحداهما بالأخرى ، لكن ذلك لا يكفي في إثباته مجرّد النهي النفسي الاستقلالي المتعلّق

ص: 292

بذلك القول ، بل لا بدّ من دليل آخر يدلّ على الحرمة النفسية الضمنية ، اللّهمّ إلاّ أن يقال بكفاية دليل الحرمة النفسية الاستقلالية الواردة على ما يكون بحسب طبعه جزءا من الصلاة في الدلالة على كلّ من الحرمة النفسية الاستقلالية والحرمة النفسية الضمنية ، ويكون اجتماعهما فيه موجبا لاندكاك إحداهما بالأخرى ، فتأمّل.

قوله : ويترتّب على أخذ العبادة بالاضافة إليه بشرط لا أمور ثلاثة ، كلّها موجبة للبطلان ... الخ (1).

أمّا الأمر الأوّل من هذه الأمور فهو عين كون العبادة مأخوذة بشرط لا ، وأمّا الأمران الآخران فهما غير متفرّعين على قيدية العبادة بعدمه ، بل لو لم نقل بالقيدية المزبورة تأتّى فيه الأمران المذكوران من كونه زيادة ، وكونه داخلا في الكلام وخارجا عن عموم الذكر والقرآن وإن لم يكن من كلام الآدميين ، فالأوجه هو ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (2) من جعل الأساس هو الأمر الأوّل ، وهو تقيّد العبادة بعدمه ، وجعل الأمرين الآخرين إضافة وعلاوة على ذلك.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا البحث كلّه متفرّع على أنّ مثل النهي الوارد عن قول آمين وعن قراءة العزائم نهي نفسي استقلالي ، وأمّا لو قلنا بكونه نهيا نفسيا ضمنيا - وربما عبّرنا عن ذلك بكونه غيريا أو كونه إرشادا إلى المانعية - فهذا البحث يكون بالنسبة إليهما ساقطا بالمرّة ، ويكون النهي المذكور موجبا لفساد العبادة

ص: 293


1- أجود التقريرات 2 : 218 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وستأتي في الصفحة : 295 حاشية أخرى على هذه العبارة ، ولكن بصياغتها المذكورة في الطبعة المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 465 - 466.

حينئذ بلا كلام ، لأنّه حينئذ يكون مسوقا للمانعية ، وذلك غير بعيد بعد ملاحظة ما ورد فيه من الأخبار (1) ، فراجع وتأمّل.

قال الشيخ المرتضى قدس سره فيما حرّر عنه في التقريرات في مباحث النهي يقتضي الفساد :

السابع : أنّ متعلّق النهي إمّا أنّ يكون نفس العبادة أو جزأها أو وصفها الداخلي أو الخارجي ، مع اتّحادهما أو مع اختلافهما في الوجود الخارجي ، إلى أن قال : وأمّا الثاني ففي العبادة قد يمثّل له بمثل قولك : لا تصلّ الصلاة المشتملة على العزائم ، أو قولك : لا تقرأ العزائم ، بناء على أنّ نهي الجزء يلازم النهي عن الكلّ ، ولا يلزم منه حرمة الشروع ، نظرا إلى أنّ الكل محرّم حينئذ ، لأنّ متعلّق النهي هو المجموع فإيجاد الجميع حرام ، وهو لا يصدق مع الشروع ، مع أنّ التزام حرمة الشروع فيما لو قصد من أوّل الأمر قراءة العزائم غير بعيد ، لأنّ هذه الصلاة المفروضة غير مشروعة ، فيكون الشروع فيها محرّما على الوجه المذكور ، انتهى (2).

وظاهر ما صدّر به الكلام هو كون المنهي عنه هو الجزء نفسه لا الكل ، لكن الذي يظهر من المثال هو أنّ المراد من كون الجزء متعلّقا للنهي هو كون النهي الوارد على الكل ، هو أنّ وروده عليه كان العلّة فيه هو الجزء ، بحيث يكون الجزء واسطة في الثبوت بالنسبة إلى النهي عن الكل ، لكن ذلك خلاف الظاهر من أخذهم النهي عن الجزء في قبال النهي عن الكلّ. وعلى كلّ حال ، فإنّك تراه جعل النهي عن قراءة العزيمة الذي هو الجزء ملازما للنهي عن الكل ، ولا بدّ من

ص: 294


1- وسائل الشيعة 6 : 67 / أبواب القراءة في الصلاة ب 17 ، 40.
2- مطارح الأنظار 1 : 743 - 744.

أن يستند في هذه الملازمة إلى فهم العرف. ولعلّ ما صنعه شيخنا قدس سره من كون النهي عن الجزء ملازما عرفا لتقيّد الكل بعدم ذلك الجزء أهون وأخفّ مئونة من دعوى كون النهي عن الجزء ملازما للنهي عن الكلّ ، فتأمّل.

قوله : ويترتّب على ذلك أمور كلّها موجبة لبطلان العبادة المشتملة عليه ، الأوّل : كون العبادة مقيّدة بعدم ذلك الشيء ... الخ (1).

مثال ذلك النهي عن قول آمين في الصلاة ، ولكن في ترتّب هذه الأمور الثلاثة تأمّل وإشكال. أمّا الأوّل : فلأنّ مجرّد النهي عن شيء في شيء لا يوجب تقيّد المظروف (2) بعدمه ، كما في الأمر بشيء في شيء لا يكون موجبا لتقيّد المظروف (3) بوجوده إلاّ بما شرحناه فيما مضى (4) ، حيث نقلنا في توضيحه ما حرّره عنه بعض أجلاّء تلامذته.

وأمّا الثاني : فلما تعرّضنا له فيما تقدّم (5) من توقّف صدق الزيادة في الذكر والقرآن على قصد الجزئية ، فلاحظ.

وأمّا الثالث : فلأنّا وإن سلّمنا عدم كون الذكر المنهي عنه من كلام الآدميين ، إلاّ أنّه لا يزيد عن كونه زيادة عمدية ، وهو الأمر الثاني ، إلاّ بما شرحناه فيما مرّ (6) من دعوى دلالة الأدلّة الأوّلية على عدم إدخال غير الأجزاء ، ثمّ جاء دليل الذكر

ص: 295


1- أجود التقريرات 2 : 218 [ تقدّمت حاشية للمصنّف قدس سره على هذه العبارة في الصفحة : 293 ].
2- [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : الظرف ].
3- في الصفحة : 285 - 287.
4- [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح : الظرف ].
5- في الصفحة : 282.
6- في الصفحة : 283.

والقرآن مسوغا ، ومع النهي عن آمين والعزيمة يخرجان عن المسوغ ويبقيان على المنع من الادخال. هذا حال النهي عن مثل قول آمين ، وأمّا النهي عن قراءة العزيمة فهي كذلك.

نعم ، هناك مطلب آخر في سورة العزيمة ، وهو كون السورة بعد الفاتحة جزءا من الصلاة ، وهذا الجزء مقيّد بشرط لا ، بمعنى سورة واحدة لا سورتين أو أكثر ، مضافا إلى حرمة القران بين سورتين ، وحينئذ فلو قرأ العزيمة في أثناء الركوع أو بعد السجود فلا ريب في أنّه لا يترتّب عليه إلاّ ما ترتّب على قول آمين من الأمور الثلاثة لو سلّمناها. ولو قرأ العزيمة بعد الفاتحة ترتّب عليها الأمور المذكورة ، فلو اقتصر عليها أضاف إلى جريمتها جريمة نقصان الجزء ، لكنّه لا أثر له لكونه بعد بطلان الصلاة بها. ولو أنّه قرأ سورة الإخلاص مثلا بعدها لم يكن لها أثر ، لكونها بعد بطلان الصلاة. ولو قدّم سورة الإخلاص ثمّ قرأ العزيمة بعدها لم يكن بذلك مفسدا للسورة ، فإنّها وإن قيّدت بشرط لا إلاّ أنّ هذا القيد إنّما هو بالقياس إلى ما عدا العزيمة ، فإنّ تحريم العزيمة أوجب انحصار الجزء الواجب بما عداها ، وهذا الجزء الواجب مقيّد بأن يكون وحده وبانعدام غيره من السور الصالحة للجزئية.

ومنه يظهر الكلام في عدم تأتّي حرمة القران ، لأنّه إنّما يكون بين الجزءين ، لا بين الجزء وما هو خارج عن الاجزاء ، بدليل تحريمه في الصلاة. نعم إنّ هذا التحريم أوجب خروج العزيمة من عموم السورة التي هي جزء الصلاة ، وهذا الخروج أوجب تقيّد الجزء بعدمه ، بمعنى أنّ السورة الباقية تحت عموم الجزئية هي ما عدا العزيمة ، وذلك هو سورة القدر والتوحيد مثلا ، لا أنّ سورة التوحيد تكون مقيّدة بعدم انضمام العزيمة إليها. فالذي تلخّص : أنّ هذا النهي لا يؤثّر شيئا

ص: 296

في ناحية السورة - أعني سورة التوحيد مثلا - لأنّه لا يترتّب عليه إلاّ تقيّد الصلاة بعدم العزيمة ، والزيادة العمدية وكونها كلاما وكلّ منها محل كلام ، والمسلّم هو مجرّد الحرمة التكليفية. وعلى كلّ حال ، لا يترتّب في المقام أثر على كون الجزء مأخوذا بشرط لا أو أنّه مأخوذ لا بشرط ، إذ لا يكون وجود المحرّم ناقضا لقيده المذكور أعني البشرطلائية ، فلاحظ.

قوله : وأمّا النهي عن الشرط أو الوصف فلا يكون موجبا لفساد المشروط أو الموصوف فيما إذا لم يكن النهي عنهما مستلزما للنهي عن العبادة ، كما في النهي عن الجهر بالقراءة ، فإنّه متّحد مع النهي عن القراءة التي يجهر بها ، فيدخل في باب النهي عن الجزء أو العبادة ، وإن كان النهي لوصفه أو شرطه ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : وأمّا الثاني - أعني ما لو كان النهي متعلّقا بشرط العبادة ، أو ما هو وصف من أوصافها - فعلى الظاهر أنّ نفس الشرط لا يكون عباديا ، فإنّ الطهارة من الحدث التي هي شرط في الصلاة ليست عبادية ، وإنّما العبادي هو تلك الأفعال ، وليست هي شرطا بنفسها ، وإنّما الشرط هو أثرها وهو الطهارة. نعم لو وقعت تلك الأفعال منهيا عنها لفسدت ، وكان فسادها موجبا لانعدام الشرط أعني أثرها.

وحينئذ نقول : إنّ ما نهي عنه من الشرائط أو الأوصاف إن كان متّحدا مع العبادة - كما في الجهر والاخفات - كان النهي عنه نهيا عن العبادة المتّحدة معه ، فيكون موجبا لفساد العبادة. وإن لم يكن متّحدا معها ، بل كان خارجا عنها ، لم

ص: 297


1- أجود التقريرات 2 : 219 - 220 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يكن النهي عنه موجبا لفساد العبادة ، وكان النهي عنه كالنهي عن النظر إلى الأجنبية حال الصلاة في عدم استلزامه لفسادها. وإن كان شرطا في العبادة كالتستّر فإنّه لو فرض أنّه نهي عن تستّر خاصّ ، لم يكن الاتيان بما هو منهي عنه موجبا لفساد العبادة ، لحصول الشرط وإن كان قد وقع على جهة التحريم ، انتهى.

وكنت علّقت عليه في وقته بما هذا لفظه : ويمكن أن يقال : إنّ النهي عن نحو خاصّ من الشرط يكون موجبا لتخصيص الأمر الشرطي بما عداه ، فتكون العبادة مع ذلك النحو من الشرط المنهي عنه فاقدة للشرط فتكون فاسدة.

وأجاب دام ظلّه عن ذلك بما حاصله حسبما فهمته : أنّ الشرط هو كونه متستّرا ، وهذا المعنى حاصل حتّى مع كون إيجاد ذلك النحو من التستّر منهيا عنه. وكأنّه دام ظلّه يشير في ذلك إلى أنّ الشرط هو التستّر بمعناه الاسم المصدري والمنهي عنه هو التستّر بمعناه المصدري. ولكن لا يخفى أنّه لو كان الشرط هو المعنى الاسم المصدري ، والمنهي عنه هو المعنى المصدري ، كان النهي أيضا موجبا لتخصيص الشرط فيما عدا مورد النهي ، فإنّ منشأ التخصيص هو منافاة النهي للأمر الشرطي ، وهذه المنافاة جارية بعينها فيما يكون الشرط هو اسم المصدر والمنهي عنه هو المصدر ، فإنّ المنع عن المصدر يوجب عدم إمكان الأمر باسم المصدر.

وبالجملة : أنّ الأمر الشرطي المتعلّق بالاستقبال مثلا مناف للنهي المتعلّق بالاستقبال على نحو خاص. وأمّا ما يقال من سقوط الأمر الغيري بالفرد المحرّم ، فإنّما هو في المقدّمات العقلية والعادية التي يتوقّف عليها حصول الواجب توقّفا عقليا أو عاديا ، كما في ركوب الدابة المغصوبة للحجّ ، دون ما يكون شرطا شرعيا فتأمّل ، انتهى ما كنت علّقته في ذلك الوقت.

ص: 298

ولا يخفى أنّ ما ذكره قدس سره في مسألة النهي عن الجزء من كونه موجبا لتقيّد العبادة بعدمه يمكن أن يتأتّى في النهي عن الشرط ، فإنّ المنهي عنه لو لا النهي يكون مأمورا به بالأمر الشرطي ، لشمول عموم ذلك الشرط له ، فيمكن أن يقال إنّ النهي عن ذلك الذي لو خلي ونفسه لكان داخلا في عموم الشرط يوجب تقيّد العبادة بعدمه ، على حذو ما أفاده قدس سره في أنّ النهي عن ذلك الذي لو خلي ونفسه لكان داخلا في عموم الجزء يوجب تقيّد العبادة بعدمه.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره هنا من أنّ الشرط في باب الوضوء هو أثر الأفعال لا نفسها ، لعلّه مناف لما أفاده في مباحث الأوامر ص 147 وص 148 (1) من أنّ عبادية هذه الأفعال إنّما جاءت من ناحية الأمر الشرطي الضمني النفسي ، فإنّ ظاهر ما أفاده قدس سره هناك أنّ الشرط هو نفس هذه الأفعال ، وأنّ الأمر الشرطي الضمني النفسي إنّما هو متعلّق بها ، وهو المصحّح لعباديتها ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره من كون النهي عن الجهر في القراءة هو عين النهي عن القراءة يمكن التأمّل فيه ، فإنّ الجهر وإن كان صفة للقراءة إلاّ أنّه خارج عن حقيقتها.

نعم ، إنّ متعلّق النهي الذي هو الجهر في القراءة أخصّ ممّا هو متعلّق الأمر ، وسواء قلنا بأنّ تركّبهما انضمامي نظرا إلى أنّهما من مقولتين ، لأنّ الأولى أعني القراءة من مقولة الفعل ، والثانية أعني الجهر بمنزلة الكيف للأولى. أو قلنا بأنّ تركّبهما اتّحادي ، بدعوى كونهما من مقولة واحدة ، أو أنّهما وإن كانا من مقولتين لكن لمّا كانت الثانية صفة للأولى كان تركّبهما اتّحاديا. وسواء قلنا بالاتّحاد أو

ص: 299


1- حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات 1 : 255 من الطبعة الحديثة ( قوله : والتحقيق في الجواب عن الإشكال ... ) - 257.

الانضمام لا بدّ من الالتزام بعدم إمكان الاجتماع فيها من الجهة الأولى ، وحينئذ تكون القراءة بنفسها منهيا عنها ، نظرا إلى ما عرفته من كون الثانية أخصّ من الأولى.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره ذكر الوصف الذي يكون النهي عنه راجعا إلى النهي عن العبادة وهو الاجهار ، أمّا ما لا يكون النهي عنه راجعا إلى النهي عن العبادة فقد ذكره بقوله : وأمّا في غير ذلك الخ ، لكنّه لم يذكر له مثالا.

قال في الكفاية : وأمّا القسم الرابع فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها ، لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها ، مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا عنها فعلا كما لا يخفى. وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا ، كما في القسم الخامس ، فإنّ النهي عنه لا يسري إلى الموصوف إلاّ فيما إذا اتّحد معه وجودا ، بناء على امتناع الاجتماع ، وأمّا بناء على الجواز فلا يسري إليه ، كما عرفت في المسألة السابقة (1).

ومراده بالقسم الرابع والخامس ما مرّ في طليعة البحث بقوله : أو وصفها الملازم لها كالجهر والاخفات [ للقراءة ] ، أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكّة عنها (2). وقال في حاشية منه على الهامش على قوله :

« كالجهر والاخفات » ما هذا لفظه : فإنّ كلّ واحد منهما لا يكاد ينفك عن القراءة ، وإن كانت هي تنفك عن أحدهما ، فالنهي عن أيّهما يكون مساوقا للنهي عنها كما لا يخفى ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الجهر بنفسه ينفكّ عن القراءة ، فما معنى قوله : إنّ كل واحد

ص: 300


1- كفاية الأصول : 185.
2- كفاية الأصول : 184.

منهما لا ينفكّ عنها. ولو كان المراد هو أنّ الجهر في القراءة بقيد كونه في القراءة لا يكاد ينفكّ عن القراءة ، فلا ريب أنّ كلّ فعل في حال القراءة بقيد كونه واقعا في حال القراءة لا يكاد ينفكّ عن القراءة. ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ كلا منهما لا يكاد ينفكّ عن القراءة ، لم يكن ذلك بمجرّده موجبا لكون النهي عنه نهيا عنها ، فإنّه قد حقّق في محلّه (1) أنّ النهي عن أحد المتلازمين لا يوجب النهي عن الملازم الآخر. نعم إنّ النهي عنه لا يجتمع مع الأمر بما هو ملازمه ، وحينئذ فالأولى هو ما تقدّم من كون الجهر في القراءة من الأوصاف المتّحدة مع القراءة ، بمعنى كون تركّبهما تركّبا اتّحاديا ، ولا دخل لذلك بمسألة الانفكاك وعدمه.

قوله : تنبيه ذكر جملة من المحقّقين أنّ المانعية واعتبار عدم شيء في العبادة يتصوّر ... الخ (2).

كنت علّقت في هذا المقام على ما حرّرته عن شيخنا قدس سره تعليقا مفصّلا ، لم أجد فرصة فعلا لتجديد النظر فيه ولا لاستنساخه ، بل قلعته برمّته من ذلك الدفتر وألحقته بهذه الأوراق ، لعلّ اللّه أن يوفّقني بعد هذا لتجديد النظر فيه ، وهاك عين ذلك التعليق بأوراقه ، وهو هذا :

لا يخفى أنّه في خصوص لباس الحرير قد ورد (3) النهي عن عنوانين ، أحدهما لبسه ، والآخر عن الصلاة فيه ، فتكون لنا مسألتان. ولا شبهة على الظاهر في كون النهي الأوّل نفسيا تحريميا ، لكن الظاهر أنّه لا أثر له في ناحية الصلاة ولا في الأمر بها ، فإنّ النهي عن لبس الحرير وإن كان بينه وبين الأمر بالصلاة عموم من

ص: 301


1- راجع أجود التقريرات 2 : 7.
2- أجود التقريرات 2 : 221 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- وسائل الشيعة 4 : 367 / أبواب لباس المصلّي ب 11.

وجه ، إلاّ أنّه عند اجتماعهما لا يكون إلاّ من قبيل حرمة النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، حيث إنّه لا يؤثّر في ناحيتها أثرا أصلا ، ولأجل ذلك تراهم يفتون بصحّة الصلاة فيما هو من هذا القبيل ، أعني لباس الشهرة ولبس الرجل لباس المرأة وبالعكس ، فإنّهم يفتون بصحّة الصلاة في ذلك مع التزامهم بحرمة اللباس المذكور.

وبالجملة : أنّ النهي النفسي التحريمي المتعلّق بلباس الحرير لا أثر له في ناحية الصلاة ، إلاّ بدعوى أنّ اجتماعه مع الصلاة من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، بنحو من التخيّل أو التعمّق ، أو نقول كما حقّقناه (1) في بيان الامتناع من الجهة الثانية من مسألة الاجتماع : إنّ كلّ محرّم مقارن للصلاة يوجب عدم إمكان التقرّب بها ، وإن لم يكن تركّبه معها تركّبا انضماميا فضلا عن كونه اتّحاديا. نعم لو تستّر المكلّف بالحرير كان من قبيل النهي عن شرط العبادة ، لكنّه يكون خارجا عمّا نحن بصدده من بيان القسم الثاني من أقسام المانعية ، أعني ما تكون المانعية فيه ناشئة عن النهي النفسي ، كمسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

أمّا النهي الثاني - أعني النهي المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير - : فإن قلنا إنّه نهي غيري فلا كلام لنا فيه أيضا ، لكونه حينئذ عبارة عن القسم الأوّل من أقسام المانعية ، نظير النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، وليس هو محلّ كلام الجماعة من المانعية الناشئة عن النهي النفسي ، إذ ليست هذه المانعية الثابتة بالنهي عن الصلاة في لباس الحرير ناشئة عن النهي النفسي المتعلّق بنفس لبس الحرير ، ولا يتأتّى فيها ما أفادوه من أنّ تحقّق النهي موجب لانعدام الأمر ، لما

ص: 302


1- تقدّم ذلك مفصّلا في الحاشية المذكورة في الصفحة : 89 وما بعدها من هذا المجلّد.

عرفت من أنّ تحقّق النهي عن لبس الحرير لا يكون موجبا لارتفاع الأمر بالصلاة مع لباس الحرير ، إذ لا منافاة بين النهي عن لبس الحرير وبين شمول الأمر للصلاة التي تكون مع لباس الحرير ، كما ذكروه في مسألة الصلاة بلباس الشهرة ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بكون الملاك والعلّة في هذا النهي المفروض كونه غيريا المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، هي نفس الملاك والعلّة في النهي عن لبس الحرير كما يظهر ممّا أفاده الأستاذ قدس سره (1) ، أو يكون الملاك والعلّة فيه أمرا آخر ، بحيث يكون كلّ من النهيين معلولا لعلّه مستقلّة غير علّة النهي الآخر ، فإنّ النهي الغيري المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير ، يكون متضمّنا لحكم شرعي مستقلّ ، لا ربط له بحرمة لبس الحرير فلا دليل على كونهما معلولين لعلّة واحدة ، فلا يستقيم حينئذ ما أفاده قدس سره (2) من أنّه لو كان دليل الاضطرار رافعا للحرمة النفسية خطابا وملاكا لكان موجبا لارتفاع المانعية المزبورة ، فإنّه إنّما يوجب ارتفاعها لو قام الدليل على أنّ العلّة في المانعية المزبورة المستفادة من مثل لا تصلّ في لباس الحرير ، هي العلّة في الحرمة النفسية المستفادة من النهي عن لبس الحرير ، الذي وقع الاضطرار إليه.

وبالجملة : أنّ ما أفادوه من برهان المانعية وأنّها ناشئة عن النهي النفسي ، أعني منافاة النهي النفسي مع الأمر ، وأن تحقّق النهي يوجب ارتفاع الأمر عمّا تعلّق به النهي ، وتقيّد الأمر واختصاصه بما عدا مورد النهي ، كلّ ذلك لا ينطبق على النهي النفسي المتعلّق بلبس الحرير.

ص: 303


1- راجع أجود التقريرات 2 : 224 ، وقد صرّح بذلك في فوائد الأصول 1 - 2 : 468 ( قوله : وثانيا ... ).
2- المصدر السابق.

والحاصل : أنّ النهي النفسي الذي جعلوا مضادّته مع الأمر برهانا على سببيته للمانعية ، وكذلك النهي النفسي الذي سلّم الأستاذ قدس سره مضادّته مع الأمر ولكن أنكر كون تحقّقه علّة في ارتفاع الأمر (1) ، ليس هو النهي النفسي المتعلّق بلبس الحرير ، لما عرفت من عدم مضادّته للأمر بالصلاة ، سواء كان المنهي عنه هو مطلق اللبس ، أو كان هو خصوص اللبس في حال الصلاة ، بناء على كون النهي في ذلك نفسيا. أمّا النهي المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، فإن قلنا إنّه نهي غيري فلا شبهة في خروجه عن مورد كلماتهم في هذا التنبيه ، لدخوله في القسم الأوّل من أقسام المانعية. وكذا لو قلنا إنّه نفسي ولكن يستفاد منه النهي الغيري ، فإنّه أيضا يكون خارجا عن محلّ كلامهم ، فإنّ المانعية فيه تكون منتزعة عن النهي الغيري. غايته أنّه استفيد ذلك النهي الغيري من النهي النفسي. مضافا إلى المنع من هذه الاستفادة ، إذ لا وجه لها. مع أنّ مانعية لباس الحرير والنهي الغيري عنه بعد فرض تعلّق النهي التحريمي النفسي بالصلاة مع لباس الحرير ، الموجب لخروج الصلاة المزبورة عن حيّز الأمر خروجا واقعيا ، لا يكون إلاّ لغوا صرفا.

ومن مجموع هذا الذي حرّرناه يظهر لك : أنّ مرادهم من النهي النفسي الذي هو السبب في المانعية هو النهي المتعلّق بالصلاة المزبورة ، وأنّ ذلك النهي نهي نفسي وأنّه محقّق للمانعية ابتداء بلا توسّط نهي غيري ، على وجه لا يكون في البين من الأحكام الشرعية إلاّ ذلك التحريم النفسي وتلك المانعية ، غايته أنّ الجماعة يدّعون الطولية بين هذين الحكمين الشرعيين ، ويقولون إنّ المانعية التي هي حكم من الأحكام الشرعية مسبّبة عن النهي التحريمي النفسي المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، والأستاذ قدس سره يقول بالعرضية ، وأنّ المانعية المذكورة هي في

ص: 304


1- راجع أجود التقريرات 2 : 224.

عرض النهي المذكور ، وإن اشتركا في كونهما معلولين لعلّة واحدة ، وهي المفسدة في الصلاة المزبورة.

ولكن نحن لو نظرنا إلى الدليل الدالّ على النهي عن الصلاة في لباس الحرير واستفدنا منه التحريم النفسي ، وجمعناه مع عمومات الأمر بالصلاة ، سواء كانت بدلية أو كانت شمولية ، وجدناهما متنافيين في مقام الدلالة والحكاية ، فلا بدّ حينئذ من إدخالهما في باب التعارض ، وحيث كان دليل النهي أخصّ مطلقا من دليل الأمر ، فلا محيص من جعله مخصّصا لدليل الأمر ، بحيث يكون موجبا لانحصار مدلول الأمر بما عدا مورد النهي ، كما هو الشأن في جميع ما كان من هذا القبيل ، كصلاة الحائض ونحوها من العبادات التي تعلّق بها النهي النفسي التحريمي ، فلا يكون في البين إلاّ التخصيص الواقعي ، وإخراج مورد النهي عن عموم الأمر إخراجا واقعيا ، وتقييد متعلّق الأمر بما عدا مورد النهي. ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده ليس من الأحكام الشرعية المجعولة للشارع ، كي نتكلّم على أنّ هذا الحكم الشرعي هل هو في طول الحرمة النفسية كما يقوله الجماعة ، أو هو في عرضها كما يقوله الأستاذ قدس سره ، إذ ليس في قبال النهي النفسي حينئذ إلاّ التخصيص والخروج الواقعي والتقيّد القهري لمتعلّق الأمر بما عدا مورد النهي ، وذلك أجنبي عن الأحكام الشرعية بالمرّة ، سيّما على مسلك الأستاذ قدس سره من عدم كون المانعية التي هي عبارة عن تقيّد المأمور به بقيد عدمي مجعولة بنفسها ، وأنّ المجعول إنّما هو منشأ انتزاعها كالجزئية والشرطية.

نعم ، يصحّ ذلك على مسلك من يقول إنّ التقييد للمأمور به بقيد وجودي أو بقيد عدمي مجعول بنفسه للشارع ، وأنّ الأمر الغيري المتعلّق بذلك القيد الوجودي والنهي الغيري المتعلّق بذلك الذي اعتبر عدمه في المأمور به منتزع عن

ص: 305

التقييد المزبور ، فإنّه بناء على هذا القول يمكن أن يقال هنا : إنّ النهي المتعلّق بالصلاة مع الحرير بناء على كونه نفسيا لما أوجب تقيّد المأمور به بما عدا مورد النهي ، كان ذلك - أعني التقييد المزبور - حكما شرعيا مسبّبا عن النهي المذكور ، وذلك التقيّد هو المعبّر عنه بالمانعية. وهذا التقييد وإن كان من محض التعبير ، إذ لا واقعية في البين إلاّ للحرمة الشرعية النفسية ، وأمّا التقيّد المزبور فليس حكما شرعيا ، بل هو لازم قهري لكلّ تخصيص ، لكن له صورة في الجملة عند أرباب هذا القول ، أعني القائلين بجعل الجزئية والشرطية والمانعية ، التي هي عندهم ليست إلاّ تقيّد المأمور به بقيد وجودي أو بقيد عدمي.

وأمّا عند الأستاذ قدس سره الذي يقول بعدم جعل هذه الأمور ، ويقول إنّها انتزاعية محضة ، وإنّ المجعول إنّما هو منشأ انتزاعها ، الذي هو الأمر الغيري المتعلّق بالأمور الوجودية والنهي المتعلّق بالأمور العدمية ، فلا يصحّ له أن يقول هنا إنّ لنا حكما آخر في عرض الحرمة النفسية ، لما عرفت من أنّه ليس في البين إلاّ تلك الحرمة النفسية وتقيّد المأمور به بما عدا مورد النهي. فليس في البين حكم شرعي آخر في مقابل الحرمة النفسية يكون هو المعبّر عنه بالمانعية ، على وجه يكون ذلك الحكم باقيا بعد ارتفاع تلك الحرمة النفسية بالاضطرار ونحوه ، أو يكون هو في حدّ نفسه مجرى للأصل العملي في قبال جريان الأصل في ناحية تلك الحرمة في مقام الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، كما أفاده قدس سره (1) في ردّ القائلين بالطولية.

ومنه يظهر التأمّل فيما أفاده قدس سره من قياس هذه الحرمة النفسية المتعلّقة بالصلاة مع لباس الحرير بالحرمة النفسية المتعلّقة بالأكل في مسألة مانعية عدم المأكولية من الصلاة ، بحيث إنّه قدس سره أفاد ما حاصله : أنّه كما لا يكون الاضطرار

ص: 306


1- راجع أجود التقريرات 2 : 225.

المسوغ لأكل لحم الأرنب مثلا ، أو البراءة الشرعية المسوّغة لأكل اللحم عند الشكّ رافعين للمانعية ، فكذلك حالهما فيما نحن فيه. ووجه التأمّل واضح ، فإنّ المانعية في غير المأكول لما كانت منتزعة عن النهي الغيري المتعلّق بما يؤخذ من حيوانات خاصّة عبّر عنها في الروايات الشريفة بما لا يؤكل لحمه ، لم يكن حل أكل لحم حيوان خاصّ عند الاضطرار ، أو عند الشكّ موجبا لاندراج ما يؤخذ من ذلك الحيوان في ذلك الصنف الخاصّ ، المعبّر عنه بأنّه مأكول اللحم ، الظاهر في كونه بعنوانه الأوّلي مأكول اللحم.

وحاصل الفرق بين المسألتين : هو أنّ حرمة الأكل ليس الإشكال مقصورا عليها ، بل يوجد في قبالها حكم شرعي آخر ، وهو النهي الغيري عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، الذي هو منشأ انتزاع التقييد المعبّر عنه بالمانعية ، بخلاف حرمة الصلاة في لباس الحرير بناء على هذا التحرير ، فإنّها لا يوجد في قبالها حكم شرعي آخر ، إذ ليس في البين إلاّ التقيّد والخروج الواقعي الناشئ عن أخصية دليل الحرمة من دليل الأمر ، فلو سقطت الحرمة المذكورة لاضطرار لم يكن في البين ما يوجب التقييد. وكذلك الحال في صورة الشكّ ، نعم في خصوص الشبهة الموضوعية إشكال ، وسيأتي (1) توضيح ذلك كلّه ، وبيان أنّ الحكومة ظاهرية أو واقعية إن شاء اللّه تعالى.

ولكن لا يبعد بل ينبغي القطع بأنّ مراده قدس سره بالحرمة النفسية في هذا المقام هي الحرمة المتعلّقة بنفس لبس الحرير ، ومراده بالمانعية هي المستفادة من النهي عن الصلاة فيه ، بناء على كون مفاده هو النهي الغيري ، وحينئذ تتمّ المقايسة التي

ص: 307


1- في الصفحة 312 - 313 ( المقام الثالث ).

أفادها قدس سره (1) ، وإن كان حمل كلامه قدس سره على ذلك منافيا لما سلّمه من المضادّة بين الحرمة النفسية والأمر ، فإنّ المضادّة لا تنطبق إلاّ على حرمة الصلاة في الحرير. اللّهمّ إلاّ أن يكون تسليمه المضادّة المزبورة من باب المماشاة مع الجماعة ، كما سيأتي الاشارة إليه في آخر المبحث إن شاء اللّه تعالى (2).

وكيف كان ، فالذي ينبغي هو تحرير الكلام في هذا النهي المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير ، بناء على هذا الذي يظهر من الجماعة من كونه نفسيا تحريميا في مقامات أربعة ، وتلحق بذلك في كلّ مقام من هذه المقامات الاشارة إلى حكم مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، ومسألة النهي الغيري لو كان النهي المتعلّق بالصلاة بلباس الحرير من قبيل النهي الغيري ، مثل النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما هو غير بعيد ، لما سيتّضح (3) إن شاء اللّه من عدم انطباق جملة من الفتاوى المسلّمة ظاهرا عندهم على دعوى كون النهي المزبور نفسيا. مضافا إلى كون ذلك خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها هو مجرّد النهي الغيري عن الصلاة مع لبس الحرير ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما لا يخفى على من لاحظ الأدلّة المقرون جملة منها بما لا يؤكل (4) ، والمعبّر في بعضها بلا يصحّ الصلاة فيه (5) فنقول بعونه تعالى :

ص: 308


1- أجود التقريرات 2 : 224.
2- في الصفحة : 320.
3- لاحظ ما سيأتي في الصفحة : 315.
4- راجع ما رواه إسماعيل بن سعد الأحوص عن الرضا عليه السلام المروي صدره في وسائل الشيعة 4 : 354 / أبواب لباس المصلّي ب 6 ح 1 ، وذيله في ب 11 ح 1.
5- لم نعثر على هذا اللفظ في الروايات الناهية عن الصلاة في الحرير.

المقام الأوّل : في مورد تنجّز النهي المزبور ، وعدم عروض ما يوجب المعذورية في مخالفته من جهل أو غفلة أو نسيان أو شكّ أو اضطرار. ولا ريب في بطلان الصلاة في هذا المورد ، لما عرفت من أنّ النهي عن الصلاة في لباس الحرير لمّا كان أخصّ من الأمر بالصلاة كان مخصّصا له ، وموجبا لخروج الصلاة المذكورة عن تحت الأمر خطابا وملاكا ، وقهرا تكون فاسدة ، من دون أن يكون في البين مانعية وممنوعية ، لا في طول النهي المذكور ولا في عرضه (1). وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى. نعم في مسألة النهي الغيري يكون الفساد مستندا إلى المانعية الشرعية. ومن ذلك يعلم الكلام في :

المقام الثاني : وهو مورد الجهل أو الغفلة أو النسيان ، سواء تعلّقت هذه الأمور بالحكم أو كانت متعلّقة بالموضوع ، إذ بعد أن اتّضح خروج الصلاة مع الحرير عن الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا ، لم يكن حينئذ أثر للعلم بذلك

ص: 309


1- [ وجدنا ورقة مرفقة بالأصل ارتأينا إدراجها في الهامش. وهي كما يلي : ] هذا ولكن لا يخفى أنّ إخراج الصلاة مع الحرير يوجب قهرا تقيّد العام بما عداها ، كما حقّق في محلّه في باب العموم ، وإذا كان مركب الأمر بالصلاة هو الصلاة المقيّدة بعدم الحرير كان ذلك عبارة أخرى عن المانعية. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إخراج الصلاة مع الحرير لا يوجب تقيّد الصلاة بعدم الحرير ، بل إنّما يوجب تقيّدها بعدم الصلاة مع الحرير ، بمعنى أنّ الباقي تحت العام هو كلّ صلاة غير الصلاة مع الحرير ، فيكون القيد هو عدم الصلاة مع الحرير ، لا نفس عدم الحرير. إلاّ أنّ ذلك لا يخرج عن تقيّد الصلاة المطلوبة ، وأنّ المطلوب هو خصوص الصلاة مع عدم الحرير وأنّ الصلاة مع الحرير خارجة. والمطلب محتاج إلى مزيد تأمّل ، فتأمّل جيّدا [ وسيأتي في الهامش 1. من الصفحة 311 ما يرتبط بالمطلب ].

والجهل به ، ولا للغفلة ولا للنسيان في جميع مواردها من التعلّق بالحكم أو التعلّق بالموضوع ، فيكون مقتضى ذلك هو الحكم ببطلان الصلاة في الصور المفروضة جميعا ، إلاّ بدليل آخر مثل حديث لا تعاد (1) ونحوه ، ممّا يستند إليه في تصحيح الصلاة التي وقعت مخالفة للأمر من جهة بعض الأجزاء أو الشرائط عن جهل أو نسيان أو نحوهما ، إن قلنا بجريان حديث لا تعاد في مثل ذلك.

وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فكما أفاد قدس سره (2) أنّ التخصيص هناك يكون واقعيا لا يؤثّر فيه الجهل والنسيان ، فكذلك ينبغي أن يقول هنا بذلك. ولو قلنا بجريان حديث لا تعاد في هذه المسألة - أعني مسألة حرمة الصلاة في لباس الحرير - لزمنا القول به في تلك المسألة ، أعني مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، لكنّه قدس سره جعل ما تسالموا عليه من الحكم بصحّة الصلاة في مورد الاجتماع عند الجهل والنسيان برهانا على بطلان القول بالامتناع من الجهة الأولى ، ولم أتوفّق لمعرفة وجه الفرق بين المسألتين ، فإنّه قدس سره (3) وإن لم يكن الحديث الشريف جاريا عنده في صورة الجهل ، وإنّما يجريه في خصوص النسيان ، إلاّ أنّهم على الظاهر يجرون حديث لا تعاد في كلّ من صورتي الجهل والنسيان في مسألة لباس الحرير ، فلم لا يمكن أن يقال إنّ الوجه في حكمهم بالصحّة في صورة الجهل والنسيان في مسألة الاجتماع ، مع قولهم بالامتناع من الجهة الأولى ، هو الاستناد

ص: 310


1- وسائل الشيعة 6 : 401 / أبواب التشهّد ب 7 ح 1.
2- أجود التقريرات 2 : 163.
3- كتاب الصلاة ( للآملي ) 3 : 5 وما بعدها.

إلى حديث لا تعاد (1).

نعم ، يمكن المناقشة في جريان حديث لا تعاد في كلا المسألتين ، بدعوى أنّه إنّما يجري في خصوص ما لو كان المأمور به محفوظا ، غايته أنّه وقع ناقصا لبعض الأجزاء والشرائط أو واجدا لبعض الموانع. أمّا لو فرض أنّ الواقع خارج عن المأمور به خطابا وملاكا كما هو مقتضى التخصيص ، فلا يكون الحديث جاريا فيه ، وإن أمكن دفع المناقشة بأنّ كلّ فاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط أو الواجد لبعض الموانع يكون خارجا عن المأمور به ، لأنّ التقييد بالجزء أو الشرط أو بعدم المانع يوجب خروج الفاقد عن حيّز الأمر ، فإنّ كلّ تقييد ينتهي إلى التخصيص ، فتأمّل (2).

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في مسألة النهي الغيري ، فإنّ مقتضاه هو المانعية الواقعية ، فتكون الصلاة المخالفة له فاسدة حتّى في مورد الجهل والنسيان ، إلاّ أن يستند في الصحّة في هذه الموارد إلى حديث لا تعاد. ولتوضيح

ص: 311


1- فائدة : في مسألة الصلاة بلباس الحرير ، ومثل التقدّم على قبر المعصوم ونحو ذلك ، إن كان لجهل بالحكم بطلت صلاته ، لعدم جريان حديث لا تعاد في موارد الجهل بالحكم ، أمّا موارد الجهل بالموضوع فالظاهر الصحّة لحديث لا تعاد [ منه قدس سره ].
2- ونحن وإن قلنا إنّ خروج بعض الأفراد أو الأنواع عن العموم يوجب تقيّد الباقي بعدم ذلك الخارج ، مثلا إذا قال : أكرم عالما أو أكرم كلّ عالم ، ثمّ قال لا تكرم العالم الفاسق ، فإنّ هذا الأخير يوجب تقيّد الباقي بعدم العالم الفاسق ، إلاّ أنّ ذلك التقييد ليس براجع إلى المانعية ، فإنّ مرجع المانعية إلى مطلوبية عدم المانع طلبا ضمنيا ، وهذا إنّما يتصوّر في الجهة الزائدة على أصل المطلوب. أمّا إذا كان المضاف إليه العدم هو نوع خاصّ من ذلك العام مثل العالم الفاسق ، فلا يكون إخراجه موجبا للمانعية الشرعية أصلا ، فتأمّل [ منه قدس سره ].

مفاد هذا الحديث الشريف ، وبيان جريانه في موارد الجهل بالحكم وعدم جريانه مقام آخر. ومن الكلام في هذا المقام يظهر لك الكلام في :

المقام الثالث : وهو مورد الشكّ ، سواء كان من قبيل الشبهة الحكمية أو كان من قبيل الشبهة الموضوعية ، فإنّ جريان البراءة في حرمة الصلاة في هذا اللباس يكون مسوغا للاتيان بها ، من دون حاجة إلى أصل آخر يجري في طرف المانعية ، لما عرفت من أنّه ليس في البين مانعية ولا ممنوعية. ثمّ لو انكشف الخلاف بعد الفراغ كان اللازم هو الاعادة أو القضاء ، إلاّ إذا استند إلى حديث لا تعاد ، بناء على جريانه فيما نحن فيه من موارد التخصيص على ما عرفت الاشارة إليه أو إلى الإجماع على إجزاء الأوامر الظاهرية في خصوص باب العبادات.

ومنه يظهر لك المنع ممّا أفادوه ممّا يظهر من كلامهم ، أعني الصحّة الواقعية لأجل حكومة البراءة على الشكّ في المانعية ، لما عرفت من أنّه بناء على كون النهي عن الصلاة في لباس الحرير تحريميا نفسيا لا يكون في البين مانعية ، وإنّما هو الخروج الواقعي ، فلو صحّ لنا أن نسمّي ذلك التخصيص الموجب للتقييد المزبور بالمانعية ، وصحّ لنا أن نقول إنّه حكم شرعي ، لم تكن الحكومة إلاّ حكومة ظاهرية لا واقعيّة. ومن ذلك يظهر لك الكلام في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

نعم ، يبقي لنا إشكال في خصوص الشبهة الموضوعية ، حيث إنّ مجرّد الحكم الظاهري برفع الحرمة أو بعدم استحقاق العقاب عليها ، لا يصحّح الاقدام على الصلاة بعنوان الامتثال بعد فرض خروج الصلاة مع الحرير عن عموم الأمر خروجا واقعيا ، فلا يكون التمسّك بالعموم في مورد الشكّ المزبور إلاّ من قبيل التمسّك به في الشبهة المصداقية. وبالجملة : لا يمكن الاقدام على الصلاة إلاّ مع

ص: 312

إحراز الأمر بها بالتمسّك بعموم الأمر ، فإن كانت الشبهة حكمية لم يكن مانع من التمسّك بالعموم بعد جريان حديث البراءة في الحرمة النفسية ، وإن كانت الشبهة موضوعية كان التمسّك به من قبيل التمسّك في الشبهة المصداقية.

والفرق بين ما نحن فيه وبين المانعية المستفادة من النهي الغيري ، أنّ المانعية لمّا كانت هناك انحلالية كان مرجع الشبهة المصداقية إلى الشكّ في اعتبار عدم هذا اللباس الخاصّ في المأمور به ، فلو جرت البراءة من اعتباره ، بمعنى أجرينا البراءة في ذلك النهي الغيري المتعلّق بذلك اللباس الخاص ، كان ذلك مصحّحا للعموم في ذلك المورد ، لرجوع الأمر بالأخرة إلى الشكّ في تخصيص العام بهذا اللباس الخاص. وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فيما نحن فيه ، فإنّ النهي التحريمي وإن كان انحلاليا ، إلاّ أنّه لمّا أوجب خروج مورده عن تحت العام خروجا واقعيا ، كان التمسّك بالعموم في مورد الشبهة المزبورة تمسّكا به في الشبهة المصداقية.

وفي الفرق المذكور تأمّل ، لامكان أن يقال إنّ النهي التحريمي أيضا يوجب تقيّد المأمور به بما عدا مورده ، فإذا جرت فيه البراءة في مورد الشبهة المزبورة كان مرجعها إلى رفع ذلك المنع الموجب للتقييد ، فلا يكون في البين ما يمنع من جريان العموم ، فتأمّل.

ومن ذلك يتّضح لك الكلام في مسألة النهي الغيري ، فإنّ الكلام في مورد الشكّ فيها مبني على مسألة الشكّ في الأقل والأكثر.

وأمّا المقام الرابع : وهو مقام الاضطرار ، فالكلام موقوف على تحرير مقدّمة ، وهي أنّ الاضطرار إنّما يكون رافعا للحرمة التي كان متعلّقها موردا للاضطرار دون غيرها ، فلو كان الاضطرار متعلّقا بفعل لم يكن هو متعلّقا للحرمة ،

ص: 313

بل كان المتعلّق لها غيره ، لم يكن الاضطرار المذكور رافعا للحرمة المفروض عدم تعلّقها بما تعلّق به ، وذلك واضح لا يحتاج إلى شرح ولا بيان.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الاضطرار في مثل مسألة لباس الحرير والصلاة فيه يكون على صور :

الأولى : أن لا يكون مضطرّا إلى لبسه ، ولكن انحصر ساتره بالحرير على وجه يكون متمكّنا من أحد أمور ثلاثة : الصلاة عريانا ، أو الصلاة مع الحرير ، أو ترك الصلاة.

ولا ريب في خروج هذه الصورة عمّا نحن فيه ، أعني الاضطرار إلى متعلّق الحرمة النفسية ، الذي هو حسب الفرض نفس الصلاة في الحرير. والحكم في هذه الصورة هو بقاء الحرمة المذكورة بحالها ، فيسقط الاحتمال الثاني ويبقى الأمر دائرا بين الاحتمال الأوّل وهو الصلاة عريانا والاحتمال الثالث وهو ترك الصلاة ، وتكون المسألة من باب تعذّر الشرط أعني ستر العورة ، وحيث إنّ الصلاة لا تترك بحال يتعيّن الاحتمال الأوّل. وهكذا الكلام في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

وأمّا مسألة النهي الغيري ففي هذه الصورة تكون من قبيل التزاحم بين المانعية والشرطية. وهل يكون الساقط هو شرطية الستر فيصلّي عريانا ، أو أنّ الساقط هو المانعية فيصلّي فيما لا يؤكل لحمه - مثلا - محلّ تأمّل وإشكال ، والكلام في ذلك موكول إلى محلّه من باب التزاحم (1).

الصورة الثانية : أن يكون مضطرّا إلى لبس الحرير لبرد ونحوه ، من دون

ص: 314


1- راجع أجود التقريرات 2 : 50 ، وللمصنّف قدس سره حواشي على الفائدة الاستطرادية المذكورة هناك تبدأ من الصفحة 273 من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

اضطرار إلى نفس الصلاة وإن كانت واجبة عليه لضيق الوقت.

ولا يخفى أنّ الاضطرار في هذه الصورة إنّما يسقط حرمة لبسه ، دون حرمة الصلاة فيه ، إذ لم تكن الصلاة بنفسها هي مورد الاضطرار ، وإنّما كان مورد الاضطرار هو مجرّد اللبس ، وبناء على ذلك يقع التزاحم بين حرمة الصلاة المزبورة ووجوب أصل الصلاة ، ولا بدّ حينئذ في تقديم وجوب أصل الصلاة من الركون إلى مثل : إنّ الصلاة لا تترك بحال (1) ونحوه ، وإلاّ كان الحكم بصحّة الصلاة المزبورة بناء على تعلّق الحرمة النفسية بنفس الصلاة في غاية الإشكال ، بل بناء على الحرمة المزبورة لا يبعد القول بتقديم جانب النهي ، ولزوم تأخير الصلاة إلى ما بعد ارتفاع الاضطرار ولو بعد الوقت فتكون قضاء. ولكن الظاهر منهم قدس سرهم التسالم على صحّة الصلاة في الصورة المزبورة استنادا إلى الاضطرار ، وهو ممّا يؤيّد بل يدلّ على بنائهم على عدم حرمة الصلاة في الحرير ، وإن حرم مطلق لبسه ، بل وإن حرم لبسه في خصوص حال الصلاة.

وكيف كان ، فلو قلنا بحرمة الصلاة في الحرير ، وبعدم سقوط تلك الحرمة في هذه الصورة ، يظهر لك الفرق بين هذه المسألة على هذا التقدير ، وبين مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فإنّه لو اضطرّ إلى المكان المغصوب أو اللباس المغصوب لا بسوء الاختيار صحّت الصلاة فيه بلا إشكال ، من دون حاجة إلى أنّ الصلاة لا تترك بحال. والسرّ في ذلك : أنّه ليس لنا في تلك المسألة حرمتان ، تعلّقت إحداهما بلبس المغصوب والأخرى بالصلاة فيه ، كي نقول إنّه لا يلزم من سقوط الأولى سقوط الثانية ، وإنّما الحرمة في تلك المسألة

ص: 315


1- لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال ». راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.

ممحضة للجهة الأولى ، أعني حرمة لبس المغصوب والتصرّف فيه ، وحيث إنّ الصلاة - بناء على الامتناع من الجهة الأولى - متّحدة مع التصرّف المزبور حكمنا عليها بالحرمة المزبورة ، فإذا سقطت الحرمة المزبورة بالاضطرار إلى لبس المغصوب لم يكن في البين مانع من صحّة الصلاة فيه.

ومن ذلك يظهر لك الحال في النهي الغيري ، فإنّه لو اضطرّ إلى لبس ما لا يؤكل لحمه كان ذلك موجبا لسقوط المانعية ، لعدم القدرة على تحصيل ذلك القيد العدمي ، فيكون ذلك موجبا لسقوطه ، ولو من جهة أنّ الصلاة لا تترك بحال ، الحاكم على مقتضى القيدية من سقوط المقيّد عند تعذّر قيده ، المعبّر عنه بالقيدية المطلقة. وممّا ذكرناه في هذه الصورة يظهر لك الحكم في :

الصورة الثالثة : وهي ما لو لم يكن مضطرا إلى لبس الحرير ولا إلى الصلاة فيه ، ولكنّه لو أراد أن يصلّي لم يتمكّن من الصلاة إلاّ مع لبس الحرير ، لتقية أو لحكم قاهر عليه يمنعه من الصلاة إلاّ مع الحرير ، فإنّ الكلام فيها عين الكلام في الصورة الثانية ، لكن لو اتّفق مثلها في المغصوب على القول بالامتناع من الجهة الأولى لم يجز له الإقدام على الصلاة فيه بلا كلام ، لدوران الأمر حينئذ بين الغصب الحرام أو الصلاة ، ولا ريب في تقدّم الأوّل على الثاني لكونه من حقوق الناس. ولو اتّفق مثل ذلك في مسألة النهي الغيري لزمه الصلاة معه ، لسقوط المانعية بذلك كما عرفت في الصورة الثانية.

الصورة الرابعة : ما لو كان مضطرا إلى الصلاة مع لبس الحرير. والظاهر أنّها لا صغرى لها ، نعم يتصوّر ذلك في الإكراه والالجاء ، كأن يقهره قاهر على لبس الحرير وعلى الصلاة فيه ، بحيث إنّه لا يرضى منه بمجرّد لبسه. لكنّها ليست من صغريات الاضطرار ، بل هي من صغريات الاكراه.

ص: 316

وكيف كان ، فالحكم في هذه الصورة هو صحّة الصلاة المذكورة بحسب الجمع العرفي بين الأدلّة اللفظية ، فإنّ دليل حرمة الصلاة فيه وإن كان مخصّصا لدليل الأمر بالصلاة ، إلاّ أنّه لمّا كانت أدلّة الاكراه أو الاضطرار حاكمة على دليل التحريم ، كان دليل حرمة الصلاة بلباس الحرير مختصّا بما عدا مورد الاكراه والاضطرار ، فيكون الخارج عن عمومات الأمر هو الصلاة الاختيارية في لباس الحرير ، دون ما كان منها واقعا بالاكراه أو الاضطرار ، من دون حاجة إلى ما أفادوه من كون المانعية في طول الحرمة النفسية ، لما عرفت (1) من أنّه ليس في البين مانعية وممنوعية ، لا طولية ولا عرضية.

وأمّا ما أفاده قدس سره (2) ، من الإشكال على ذلك بأنّ الترخيص للاضطرار أو للاكراه لا يكون رافعا إلاّ للخطاب التحريمي ، دون ملاكه الذي هو المفسدة الواقعية ، فلو كان المراد بالحرمة المذكورة فيه هي الحرمة المتعلّقة بالصلاة في لباس الحرير ، ولو بقرينة اعترافه قدس سره بكون الحرمة النفسية مضادّة للأمر ، وبقرينة إلحاقه مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى بهذه المسألة ، لكان قابلا للتأمّل والإشكال من جهات :

أمّا أوّلا : فلأنّ المفسدة إنّما استكشفناها من الخطاب التحريمي ، ومع كون دليل الاكراه حاكما على دليل التحريم وموجبا لاختصاصه بما عدا مورد الاكراه تخصيصا واقعيا ، لم يبق عندنا ما يستكشف منه الملاك المزبور. بل يمكن أن يقال بدلالة دليل الاضطرار على سقوط التحريم خطابا وملاكا كما اعترف به قدس سره (3).

ص: 317


1- في الصفحة : 305 - 307.
2- راجع أجود التقريرات 2 : 224.
3- المصدر السابق.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من عدم المانعية الشرعية على هذا التقدير ، وأنّه بناء عليه لا يكون في البين إلاّ النهي النفسي التحريمي المتعلّق بالصلاة بلباس الحرير ، وهذا هو المخصّص لدليل الأمر الموجب لبطلان الصلاة المذكورة ، ومع فرض كون هذا الدليل - أعني دليل الحرمة المزبورة - مخصّصا بدليل الاكراه بما عدا مورد الاكراه ، لم يبق لنا ما يوجب خروج الصلاة المزبورة التي أكره عليها عن عموم الأمر ، ومجرّد وجود ملاك التحريم المفروض كونه مرخّصا فيه شرعا لا يوجب التخصيص ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّا لو سلّمنا خروج الصلاة المذكورة عن الأمر ، فلا ينبغي لنا الإشكال في جواز الإقدام عليها حتّى لو قلنا بالمانعية الشرعية زيادة على الحرمة النفسية. وإنّما الكلام حينئذ في كونها مسقطة للاعادة أو القضاء ، ويمكننا الحكم بذلك حينئذ استنادا إلى حديث لا تعاد (1) ، بناء على جريانه في مثل ذلك. ومن ذلك يظهر الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، وفي مسألة النهي الغيري ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن لا يخفى أنّ هذه التأمّلات الثلاثة إنّما تتوجّه على ما أفاده قدس سره لو كان مراده بالحرمة النفسية المدّعى ارتفاعها بالاضطرار هي حرمة الصلاة بلباس الحرير ، المستفادة من النهي عنها ، بناء على كون مفاد النهي المذكور هو الحرمة النفسية.

أمّا لو كان مراده قدس سره بالحرمة المذكورة هي الحرمة المتعلّقة بلبس الحرير فلا مورد للتأمّلات المسطورة ، لوضوح أنّ ارتفاع حرمة اللبس بالاضطرار إليه لا يوجب ارتفاع المانعية المستفادة من النهي عن الصلاة فيه ، بناء على كون مفاده

ص: 318


1- وسائل الشيعة 6 : 401 / أبواب التشهّد ب 7 ح 1.

المانعية ، بل لا بدّ حينئذ من إسقاط المانعية بمثل أنّ الصلاة لا تسقط بحال ونحوه. وهذا المعنى - أعني كون المراد بالحرمة النفسية هي الحرمة المتعلّقة بنفس لبس الحرير وكون النهي عن الصلاة فيه ممحضا للمانعية والنهي الغيري - هو الذي ينبغي أن يجزم به ، وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلامه قدس سره ، فيتّجه حينئذ ما أفاده من الإشكال على سقوط المانعية بالاضطرار إلى مخالفة النهي : أوّلا بعدم كون المانعية مسبّبة عن الحرمة النفسية ، وثانيا بأنّ الاضطرار إنّما يسقط الخطاب بالتحريم ، دون ملاكه الذي هو أيضا ملاك المانعية.

نعم ، يتوجّه الخدشة فيما أفاده من تسليم المضادّة بين الحرمة النفسية والأمر وإنكار كون تحقّق الحرمة سببا لعدم الأمر (1) ، فإنّ هذه المضادّة لا تنطبق على حرمة لبس الحرير ، وإنّما تنطبق على حرمة الصلاة فيه. اللّهمّ إلاّ أن يكون تسليمه المضادّة من باب المماشاة مع الجماعة ، بناء على أنّ مرادهم من الحرمة المضادّة للأمر هي الحرمة المتعلّقة بلبس الحرير. لكنّه خلاف ظاهر ما نقله قدس سره (2) عنهم ، فإنّ ظاهر كلامهم هو أنّ الحرمة المضادّة للأمر هي حرمة الصلاة في الحرير ، دون حرمة لبسه ، ولأجل ذلك ألحقوا بهذه المسألة مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فإنّ ظاهر هذا الالحاق هو أنّهم يريدون بالحرمة هي حرمة الصلاة بالحرير ، إذ لو كان مرادهم بالحرمة حرمة اللبس لكان القول بالجواز من الجهة الأولى أيضا من قبيل هذه المسألة ، لاشتماله على حرمة اللبس ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 319


1- أجود التقريرات 2 : 224.
2- أجود التقريرات 2 : 221.

وقد تقدّم من شيخنا قدس سره (1) في أوّل المسألة عند التعرّض لمسألة الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ما يستفاد منه أنّ نفس التحريم مانع ، فإنّ الصلاة تكون مقيّدة بعدمه ، لكن قد عرفت فيما تقدّم (2) أنّ هذه المانعية عقلية لا شرعية.

هذا تمام الكلام على مانعية النهي الغيري ومانعية النهي النفسي ، ويلحق به مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

وأمّا على ما هو المختار من الجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية ، فالذي ينبغي أن يحكم به هو صحّة الصلاة واقعا في مورد الجهل والغفلة والنسيان ، وفي مورد الشكّ أيضا ، بلا حاجة إلى مثل حديث لا تعاد ، وفي الصورة الثانية والرابعة من صور الاضطرار. وأمّا في مورد العلم والاختيار ، وفي الصورة الأولى والثانية (3) من صور الاضطرار ، فيتعيّن الحكم ببطلان الصلاة وعدم جواز الإقدام عليها مع المغصوب ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت هذا المبحث راجعت تقريرات درس الشيخ المرتضى قدس سره الذي أظن أنّه الأصل في هذا التقسيم - أعني تقسيم المانعية إلى الأقسام الثلاثة المذكورة - فوجدته صريحا في أنّ مرادهم بالنهي الذي هو سبب الفساد والمانعية هو النهي النفسي المتعلّق بالعبادة ، فإنّه في مبحث دلالة النهي على الفساد ذكر أنّ النواهي الواردة في العبادة على قسمين : القسم الأوّل النواهي الغيرية ، والثاني النواهي النفسية. ومثّل للثاني بمثل لا تصلّ في الدار المغصوبة ، ثمّ قال : فالحقّ أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة في مورد شخصي ، فالنهي

ص: 320


1- راجع ما تقدّم في الصفحة : 267 وما بعدها.
2- راجع ما تقدّم في الصفحة : 267 وما بعدها.
3- [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ الصحيح هو : الثالثة ].

يلازم فساد ما تعلّق به. ولكن ليس الفساد الحاصل من النهي في المقام مثل الفساد في القسم الأوّل ، لأنّ الفساد في المقام تابع للنهي ، فمتى وجد النهي يمكن الحكم بالفساد ، ومتى انتفى النهي لمانع - كالغفلة والنسيان والضرورة ونحوها ممّا يرتفع معها التكليف - فلا فساد ، بخلاف الفساد في القسم الأوّل ، فإنّه ليس تابعا للنهي ، بل النهي إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فعند ارتفاع النهي بواسطة الضرورة - مثلا - لا يمكن الحكم بعدم الفساد ، الخ (1).

وهو كما ترى صريح في أنّ التحريم الذي جعلوه سببا للمانعية وأنّ المانعية ترتفع بارتفاعه هو التحريم اللاحق لنفس العبادة ، وهو ما يستفاد من قوله : لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تصلّ في الحرير ، وأمّا ما أفاده في القسم الأوّل - أعني النهي الغيري - من أنّه ليس تابعا للنهي ، بل إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فكأنّه إيماء إلى أنّ النهي الغيري يكون منتزعا عن المانعية ، التي هي عبارة عن تقيّد العبادة بعدم ذلك المنهي عنه.

وينبغي مراجعة ما حرّره في مسألة اجتماع الأمر والنهي في ذيل الجواب عن الوجه الثالث ممّا احتجّ به المجوّزون (2) ، إذ لا يخلو من منافاة لما أفاده في هذا المقام ، فإنّ المتحصّل من كلامه هناك أنّ النهي المتعلّق بالعبادة لصفة لاحقة لها وكان أخصّ من الأمر ، ومثّل لذلك بقوله لا تصلّ في الدار المغصوبة ، وأفاد أنّ هذا القسم لا يؤثّر فيه السهو والنسيان والاضطرار ، بخلاف ما لو كان متعلّق النهي أعمّ من وجه من متعلّق الأمر. ولعلّه أراد ممّا هو أخصّ من متعلّق الأمر هو خصوص النهي الغيري ، ويشهد بذلك أنّه ذكر في بيان هذا النهي الذي هو أخصّ

ص: 321


1- مطارح الأنظار 1 : 750 - 751.
2- مطارح الأنظار 1 : 691 - 692.

مطلقا من الأمر جميع ما ذكره في بيان النهي الغيري ، فلا منافاة بين المقامين.

نعم ، يبقى الإشكال فيما أفاده في خصوص ما كان بينهما عموم من وجه ، من تأثير السهو والنسيان والاضطرار فيه ، فإنّه لا يجتمع مع قوله بالامتناع (1) ، إذ بناء على هذا القول يكون مورد الاجتماع ملحقا بالنهي عن العبادة ، الذي مقتضاه التخصيص الواقعي وخروج مورد الاجتماع عن عموم الأمر خطابا وملاكا ، فلا يؤثّر فيه السهو والنسيان والاضطرار ، لكنّه مع قوله بامتناع الاجتماع أجرى عليه حكم باب التزاحم ، فيتوجّه عليه حينئذ الإشكال الذي توجّه على الكفاية ، من أنّ المسألة على القول بالامتناع من الجهة الأولى لا تدخل في باب التزاحم ، وإنّما هي داخلة في باب التعارض (2).

ص: 322


1- مطارح الأنظار 1 : 693.
2- بسمه تعالى لا يخفى أنّه قد تقدّم الكلام على كثير من هذه الجهات في مسألة الاضطرار لا بسوء الاختيار من تنبيهات مسألة الاجتماع [ أجود التقريرات 2 : 182 - 183 ، والحواشي على هذا المطلب تقدّمت في الصفحة : 80 - 88 وكذا في الصفحة : 110 وما بعدها ] وأهمّها هو المنع من تولّد المانعية من النهي النفسي المتعلّق بالعبادة. نعم ، إنّ النهي عن مثل الصلاة في الحرير يوجب خروج تلك الصلاة عن عموم الأمر ، فيكون الباقي تحت الأمر هو ما عداها ، وبذلك يتعنون الباقي بعنوان عدم تلك الصلاة ، كما هو الحال في جميع التخصيصات ، إلاّ أنّ ذلك التقييد أعني تقييد الباقي واتّصافه بعدم الخارج ليس مرجعه إلى كون الخارج مانعا بالاصطلاح ، أعني تقيّد المأمور به بعدمه ، بل هو نحو آخر لا دخل له بالمانعية التي هي في قبال الجزئية والشرطية. وبالجملة : يكون حال قوله ( لا تصلّ في الحرير ) بالنسبة إلى قوله ( صلّ ) حال قوله ( لا تكرم العالم الفاسق ) بالنسبة إلى قوله ( أكرم عالما ). نعم تقدّم [ في الصفحة : 82 - 83 ] الفرق بين التخصيص في مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق من العلماء ، وبينه في مثل صلّ ولا تصلّ في الحرير ، وفي مثل صلّ ولا تغصب ، بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، فراجع [ منه قدس سره ].

قوله : اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ سقوط الخطاب إن كان لدليل عقلي فلا يكون كاشفا عن سقوط الملاك ... الخ (1).

لا يخفى أنّا بعد أن ذكرنا في مقام التشريع أنّ ملاك النهي قد غلب على ملاك الأمر ، لا يكون النسيان أو الاضطرار المسوّغان لارتكاب ذلك المنهي مصحّحين لتعلّق الأمر بتلك العبادة ، إلاّ أن نقول بأنّ طروّ الاضطرار أو النسيان يوجب انقلاب تلك الغلبة من جانب ملاك [ النهي ] إلى جانب ملاك الأمر ، فلا يمكننا الحكم بالصحّة إلاّ إذا أحرزنا الانقلاب المذكور.

نعم ، في مقام الاثبات ربما نجعل دليل الاضطرار المسقط للحرمة (2) ، مثلا أن نقول إنّه مع دليل التحريم نستكشف أنّ الغالب هو ملاك التحريم ، أمّا مع فرض خروج الاضطرار عن حيّز دليل التحريم كان في إمكاننا أن نقول إنّه في مورد الاضطرار لا دليل على الغلبة المذكورة ، أو لا دليل على أصل ملاك التحريم.

وفيه تأمّل ، إذ كما أنّه لا دليل على غلبة ملاك التحريم ، أو لا دليل على أصل وجود ملاكه ، فلا دليل لنا أيضا على وجود ملاك الايجاب أو غلبة ملاكه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق الأمر وشموله للاضطرار الخارج عن عموم النهي كاف في إثبات ذلك. لكن هذا ليس بأولى من أن نقول إنّ مقتضى إطلاق

ص: 323


1- أجود التقريرات 2 : 224 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ هكذا وردت العبارة في الأصل ].

النهي هو وجود ملاكه وغلبته على ملاك الأمر ، ولم يحرز من مقاومة دليل الاضطرار لذلك الاطلاق إلاّ مجرّد الترخيص في فعل ذلك الحرام ، ولم يحرز منه انتفاء ملاك التحريم أو انتفاء غلبة ملاكه ، فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّه بعد الاعتراف بهذا التخصيص لا وجه لدعوى كونه تخصيصا عقليا ناشئا عن التزاحم المفقود في صورة عدم تنجّز النهي كما في الكفاية (1) ، لما عرفت مرارا من أنّ التزاحم هنا آمري ، فيكون التخصيص الناتج منه واقعيا ، وليس هو تزاحما مأموريا كي لا يكون التخصيص فيه إلاّ عقليا ناشئا عن عدم القدرة ، كي ينحصر بصورة تنجّز التحريم. كما أنّه لا وجه لما في الحاشية (2) من الاشارة إلى حاشية تقدّمت في مبحث الاجتماع من أنّ ملاك النهي وإن كان موجودا ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن مؤثّرا في توجّه النهي لم يكن هناك ما يمنع من تأثير ملاك الأمر المفروض كونه مغلوبا ، وذلك لما عرفت من أنّ الملاك المغلوب لا يؤثّر ولو مع تعطيل الملاك الغالب عن التأثير بواسطة طروّ الاضطرار ، فإنّ المانع من الأمر حينئذ هو قصور ملاكه ، لا وجود أثر ملاك النهي. إلاّ أن ندّعي كما تقدّمت الاشارة إليه أنّ طروّ الاضطرار يوجب انقلاب تلك الغلبة.

وبالجملة : ليس المانع من الأمر هو التمانع بينه وبين النهي ، بل المانع منه هو مغلوبية ملاكه ، وهي موجودة مع الاضطرار ، إلاّ أن يكون ذلك الاضطرار موجبا لتحويل الغلبة من جانب ملاك النهي إلى جانب ملاك الأمر ، فراجع الحاشية المشار إليها وتأمّل.

ص: 324


1- [ لعلّه قدس سره يشير بذلك إلى ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره في التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فراجع كفاية الأصول : 174 - 176 ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 223.

نعم ، تقدّمت الاشارة (1) إلى الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم العالم الفاسق وبين مثل صلّ ولا تصلّ في الحرير - مثلا - بأنّ الأوّل يكون الخروج فيه واقعيا ولا يكون الاضطرار فيه مصحّحا ، لعدم الملاك. وهذا بخلاف الثاني فإنّه من باب التزاحم في مقام التشريع ، وغلبة ملاك النهي على ملاك الأمر. ومقتضاه وإن كان هو الالحاق بالأوّل ، إلاّ أنّه لمّا قام الإجماع على الصحّة في مورد الاضطرار كان ذلك الإجماع كاشفا عن تأثير ملاك الأمر عند سقوط التحريم بالاضطرار ، وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

قوله : وأمّا المقام الثاني : وهو النهي عن المعاملات فتوضيح الحال فيه : أنّ النهي المتعلّق بمعاملة تارة يكون نهيا غيريا مسوقا لبيان المانعية ، فلا إشكال في دلالته على الفساد ، سواء تعلّق بالسبب فيدلّ على تقيّده بعدمه ، أو تعلّق بالمسبّب فيدلّ على عدم ترتّبه به ، فيدلّ على تقيّد السبب بعدمه ... الخ (2).

مثال النهي عن السبب النهي عن بيع المنابذة ، ومثال النهي عمّا يكون وجوده مفسدا للمعاملة النهي عن الفصل الطويل بين الايجاب والقبول ، ومثل قوله عليه السلام : « لا تسمّ بذرا ولا بقرا » (3) ومثال النهي عن المسبّب النهي الوارد عن نقل أمّ الولد.

لكن تسمية أمثال هذه النواهي بالنواهي الغيرية تسامح. أمّا الأوّل والأخير

ص: 325


1- لاحظ ما تقدّم في الصفحة : 82 - 83.
2- أجود التقريرات 2 : 226 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- وسائل الشيعة 19 : 43 / كتاب المزارعة والمساقاة ب 8 ح 10 ، 6 ( نقل بالمضمون ).

فواضح ، إذ ليس في البين قيد ومقيّد كي يكون النهي عمّا اعتبر عدمه نهيا غيريا. وأمّا الثاني فلأنّ المنهي عنه وإن كان قد اعتبر عدمه في المعاملة ، إلاّ أنّ ذلك لا يصحّح النهي عنه بالنهي الغيري ، كما في العبادات التي يكون المانع فيها مطلوب العدم في ضمن الطلب المتعلّق بالكل ، إذ ليس في البين طلب ، وإنّما المانعية هنا عبارة عن كون ما يترتّب عليه الأثر من العقد مقيّدا بعدم ذلك المانع ، سواء قلنا إنّ هذه المانعية منتزعة من جعل الأثر مترتّبا على المقيّد بالعدم ، أو قلنا بأنّها مجعولة ابتداء ، فإنّه على أي حال لا يكون في البين طلب أصلا.

فالأولى في المقام تبديل النهي الغيري بالارشادي ، ويكون النهي في الأوّل ارشادا إلى عدم ترتّب الأثر على مثل بيع المنابذة. وفي الثاني ارشادا إلى مانعية الفصل الطويل من ترتّب الأثر ، أو إلى تقيّد السبب بعدمه. وفي الثالث إرشادا إلى عدم حصول النقل والانتقال. والعبارة الجامعة هي كون النهي ارشاديا ، كما صنعه المرحوم الشيخ محمّد علي (1) تبعا للكفاية (2).

والأولى أن يقال : إنّ مفاد الأوّل - وهو النهي عن بيع المنابذة - هو الاستثناء من عموم السبب ، ومفاد الثالث هو الاستثناء من عموم المسبّب ، ومفاد الثاني هو تقيّد السبب من ناحية ترتّب الأثر عليه بعدمه ، فيكون وزان التقيّد بالعدم وزان جزء العقد أو شرطه. والجامع هو عدم ترتّب الأثر ، ويكون النهي عن كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة إرشادا إلى عدم ترتّب الأثر. ومنشؤه في الثاني هو التقيّد ، وفي الأوّل والثالث هو الاستثناء.

ويمكن أن يجعل النهي عن البيع وقت النداء في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ

ص: 326


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 471.
2- كفاية الأصول : 187.

لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1) إرشادا إلى وجوب الصلاة ، وأنّها هي المطلوب في ذلك الحال ، فيكون ذلك حثّا على حضورها بالنصيحة في ترك البيع وأمثاله من الأمور الدنيوية ، لا أنّه متضمّن للحرمة التكليفية ، كما هو الشأن في كلّ ما هو ضدّ للمأمور به. وحينئذ تدخل المعاملة المذكورة فيما سيأتي (2) التعرّض له إن شاء اللّه تعالى من المعاملات المأمور بضدّها ، وأنّ ذلك هل يوجب سلب السلطنة عليها مطلقا ، أو نفصّل بين ما يكون الضدّ ممّا يتعلّق بالمال فيوجب الفساد ، دون ما ليس له الدخل في المال ، مثل إزالة النجاسة ونحوها ، فلا يكون الأمر به موجبا لسلب السلطنة على المال.

وسيأتي (3) إن شاء اللّه تعالى بيان أنّه لو كان هذا النهي تحريميا لما كان دالا على الفساد ، لا لأنّه من قبيل النهي المتعلّق بالسبب ، إذ ليس المراد بالبيع هاهنا سببه الذي هو العقد نفسه ، لوضوح أنّ المراد به هو نفس المعاملة التي هي عبارة عن تبديل المالين ، بل لأنّ هذا النهي المتعلّق بهذه المعاملة لم يتعلّق بها بما أنّها تصرّف ومن حيث كونها تصرّفا في المال ، بل إنّ النهي تعلّق بها بما أنّها فعل من الأفعال باعتبار كونها فعلا شاغلا عن الصلاة ، كسائر الأفعال الأخر مثل الأكل والشرب ونحوهما ، وإنّما ذكر خصوص البيع من جهة خصوصية المورد ، أعني به سبب النزول كما يعطيه قوله تعالى : ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ) (4) الخ ، فلا

ص: 327


1- الجمعة 62 : 9.
2- في الصفحة : 333 - 336 و346 - 347.
3- في الصفحة : 333 - 336 و346 - 347.
4- الجمعة 62 : 11.

يكون النهي عنها من الناحية المذكورة موجبا لفسادها ، وإنّما يكون النهي عنها موجبا لفسادها لو كان تعلّق النهي بها من الناحية الأخرى ، أعني كونها تصرّفا في المال بالنقل والانتقال. فقد تلخّص لك من جميع ذلك : أنّ النهي عن البيع في قوله تعالى ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) لا يكون موجبا للفساد ، سواء جعلناه إرشادا إلى وجوب السعي ، أو جعلناه تكليفا مولويا متعلّقا بالمسبّب الذي هو البيع بما أنّه فعل من الأفعال لا من باب أنّه عبارة عن النقل المالي ، أو جعلناه متعلّقا بالسبب بمعنى العقد نفسه.

قال الشيخ قدس سره فيما حكاه عنه في التقريرات : وتوضيح الحال : أنّ النواهي في المعاملات على أقسام :

أحدها : أن يكون النهي متعلّقا بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف ، فيكون إيجاد السبب والتلفّظ بالايجاب والقبول - مثلا - وقت النداء مثل شرب الخمر محرّما ، من غير ملاحظة أنّ ذلك الفعل المحرّم يوجب نقلا وانتقالا ، ولا ريب في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد ، فإنّ غاية مدلوله التحريم ، وهو لا ينافي الصحّة ، فإنّ المعصية تجامع ترتّب الأثر ، كما يشاهد في الأسباب العقلية بالنسبة إلى الآثار العقلية ، والشرعية أيضا.

وثانيها : أن يكون مفاد النهي هو مبغوضية إيجاد السبب ، لا من حيث إنّه فعل من الأفعال المتعلّقة للأمر والنهي باعتبار المصالح والمفاسد ، بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود مسبّب مبغوض في نفسه ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ، فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمرا غير مطلوب مبغوض ، وهو سلطنة الكافر على المسلم بناء على القول بالصحّة ، إلى أن قال : وهذا القسم أيضا يمكن القول بعدم دلالة النهي فيه على الفساد ، إذ لا مانع من صحّة البيع

ص: 328

حينئذ ، إلى أن قال : إلاّ أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقلية ، قد اطّلع الشارع عليها وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد. وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعية إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة منها ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضا. وكأنّه إلى ذلك ينظر ما حكي عن الفخر (1) بأنّ قضية اللطف عدم امضاء المعاملات التي تكون مبغوضة عنده. فإنّ ذلك على اطلاقه ربما لا يساعده دليل ولا ضرورة (2).

وأنت إذا تأمّلت هذه الكلمات تقدر على تفسيرها بما ذكرناه ، من كون النظر في النهي عن المعاملة تارة إلى ناحية كونها عملا من أعمال يتوخّى الناهي تركه وانعدامه ، كما في مثل النهي النفسي عن المعاملة عند إرادة سكون المكلّف وعدم اقدامه على فعل من الأفعال. ومن ذلك إيقاع العبد عقد البيع بين البائع والمشتري بتوكيل منهما ، مع فرض كونه مملوكا لغيرهما ، وكما في ضماناته لما يتبع به بعد العتق ، ونحو ذلك ممّا لا تعلّق له بسيده ، فإنّ نفس إيجاد المعاملة يكون محرّما ، لكونه غير مأذون بها من سيّده. لكن هذا التحريم لا يوجب الفساد ، لتعلّقه بإيجاد المعاملة المعبّر عنه بالمعنى المصدري ، لا بما هو ملحوظ قنطرة لحصول اسم المصدر ، كما في معاملته فيما يتعلّق به حقّ سيّده من نقل ما يملكه العبد أو تزويج نفسه ، فإنّ النهي عنه يوجب الفساد لكن تصلحه الإجازة خلافا لما يظهر من شيخنا قدس سره (3) ومن الشيخ (4) أيضا في مبحث معاملة العبد من

ص: 329


1- [ لم نعثر عليه ].
2- مطارح الأنظار 1 : 751 - 752.
3- المكاسب والبيع 1 : 484 ، منية الطالب 1 : 425.
4- كتاب المكاسب 3 : 338.

المكاسب ، وكلام شيخنا قدس سره هناك لعلّه مخالف لما هنا ، فإنّه هناك جعل المعنى المصدري من باب المسبّب ، وهنا جعله من باب السبب ، فراجع وتأمّل.

وأخرى يكون النظر في ذلك النهي إلى ناحية كونه نقلا ماليا ، كما في مثل النهي عن نقل المصحف أو العبد المسلم إلى الكافر ، أو ناحية كونه علقة ازدواجية ، كما في مثل قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (1) ، وليس هذا النهي بارشاد إلى الفساد ، لقوّة ظهوره في التحريم بواسطة ما اكتنف به من استثناء ( ما قَدْ سَلَفَ ) في زمان الجاهلية وتسميته ( مَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ) . وهكذا الحال في مثل قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) إلى قوله تعالى : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ ) (2) فإنّ جميع هذه النواهي نواه تحريمية نفسية ، وعلى الظاهر أنّه لم يتردّد أحد في استفادة الفساد منها.

وكيف كان ، نقول إنّك تقدر على ارجاع ما أفاده الشيخ قدس سره في النحو الأوّل إلى ما ذكرناه في النحو الأوّل ، وارجاع ما أفاده في الوجه الثاني إلى ما ذكرناه في النحو الثاني من النهي ، فيكون مراده من السبب هو المعاملة بجهة النظر إلى كونها فعلا خارجيا ، ويكون مراده من المسبّب هو المعاملة أيضا لكن بملاحظة جهة النقل والانتقال فيها.

نعم ، الفرق بين ما ذكرناه في النحو الثاني وبين ما ذكره الشيخ فيه ، هو أنّ الشيخ يستدلّ على اقتضائه الفساد بنحو من الدلالة العرفية ، ونحن نريد أن نجعل النهي موجبا للفساد قهرا لكونه علّة لسلب السلطنة ، فلاحظ وتأمّل.

بل يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا قدس سره إلى هذا التفصيل ، خصوصا مثل قوله

ص: 330


1- النساء 4 : 22.
2- النساء 4 : 23.

في مقام بيان النهي عن السبب بقوله : أمّا الأوّل ( يعني السبب ) فلأنّ مبغوضية الايجاد بما هو فعل من أفعال المكلّف لا تلازم عدم ترتّب أثر المعاملة عليها بوجه (1).

وبنحو ذلك عبّر المرحوم الشيخ محمّد علي فقال : إنّ النهي لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة فهو لا يقتضي الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحقّقه الخ (2).

وقال المرحوم الشيخ موسى في النهي عن المعاملة ما هذا لفظه : وهذا على قسمين ، لأنّ متعلّقه تارة المعاملة من حيث الانشاء ، أي من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّف ، وغير ناظر إلى المنشأ ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فهذا لا إشكال في عدم دلالته على الفساد. وأخرى متعلّقه نفس المنشأ كبيع المصحف والعبد المسلم من الكافر الخ.

قوله : وعلى ذلك يترتّب حكمهم بفساد الاجارة في الواجبات المجانية ، فإنّ العمل بعد خروجه عن سلطان المكلّف وكونه مملوكا له تبارك وتعالى ، لا يمكن له تمليكه من الغير بالاجارة ، وحكمهم ببطلان بيع منذور الصدقة ، فإنّ المكلّف بنذره يكون محجورا عن كلّ ما ينافي الوفاء بنذره ، فلا ينفذ تصرّفاته الناقلة ، وحكمهم بفساد البيع من شخص خاصّ إذا اشترط في ضمن العقد عدم البيع له ، فإنّه بالاشتراط يكون محجورا عن البيع منه ... الخ (3).

أمّا الاجارة على الواجبات فقد حقّق في محلّه أنّه يعتبر في متعلّق الاجارة

ص: 331


1- أجود التقريرات 2 : 228 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 471.
3- أجود التقريرات 2 : 228 - 229 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

أن يكون زمام العمل بيد الأجير شرعا ، وأن يكون ذلك العمل حاصلا للمستأجر ، والايجاب الشرعي يخرجه عن ذلك ، فتكون الاجارة عليه فاسدة وإن لم نقل بكون الفعل الواجب مملوكا للشارع. وأمّا توجيه بطلان الاجارة على ذلك بما في الحاشية من دعوى العلم الخارجي بتقييد العمل بالمجانية فيمكن منعه ، وإلاّ صحّ عمله للغير تبرّعا بلا أجرة.

وهل المانع من أخذ الأجرة على الواجبات هو كون الواجب على الأجير مملوكا للشارع وغير مملوك للأجير ، أو أنّ الايجاب يسلب سلطنة الأجير على ذلك الفعل ، أو أنّ الايجاب على الأجير يوجب عدم حصول الفعل للمستأجر ، لأنّه بعد الايجاب على المؤجّر لا يمكن أن يحصل إلاّ للمؤجّر نفسه. كلّ هذه الجهات محلّها باب أخذ الأجرة على الواجبات ، وقد تعرّض له شيخنا قدس سره (1) في تلك المباحث ، فراجعه بما علّقناه (2) عليه هناك. وقياس ما نحن فيه به مبني على كون المانع هو الجهة الأولى أو الجهة الثانية ، وكان الأنسب قياس ما نحن فيه بأخذ الأجرة على الفعل المحرّم. وعلى كلّ حال ، أنّ محلّ البحث في هذه المسائل إنّما هو ذلك البحث ، فراجعه وتأمّل.

وكذلك الاجارة على الفعل المحرّم ، هل المانع فيه هو عدم المملوكية ، أو عدم المقدورية ، أو سلب السلطنة ، أو أنّ التحريم يوجب سلب المالية ، أو النصوص الخاصّة و « أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه » (3)؟ كلّ ذلك محرّر في تلك

ص: 332


1- منية الطالب 1 : 48 ، المكاسب والبيع ( للآملي ) 1 : 43 وما بعدها.
2- مخطوط لم يطبع بعد.
3- عوالي اللآلي 2 : 110 / 301 ، راجع مستدرك الوسائل 13 : 73 / أبواب ما يكتسب به ب 6 ح 8.

المباحث ، فراجعه.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلمة الجامعة هنا هي أنّ باب المعاملات من حيث اعتبار السلطنة فيها يكون حالها حال التكاليف المشروطة شرعا بالقدرة ، في أنّ أقلّ التكاليف المشروطة بالقدرة عقلا يوجب سقوطها ، فإنّ التكليف في باب المعاملات إذا كان سالبا للسلطنة كانت المعاملة فاسدة من هذه الجهة ، وهذا المانع جار في كون متعلّق الاجارة في حدّ نفسه واجبا أو محرّما ، وفي المعاملة المأخوذ ضدّها أو نقيضها شرطا في معاملة أخرى أو منذورا ، مثل ما لو شرط عليه أن لا يبيع فباع ، أو شرط عليه البيع من عمرو فباعه من زيد. وهكذا الحال فيما لو كان المنذور هو أحد هذين الأمرين ، لا من جهة أنّ الشرط أو النذر يحدثان حقّا للمشروط له أو للشارع ، بل من جهة حرمة المخالفة الموجبة لسلب السلطنة ، فبالاقدام على مثل تلك المعاملة يكون قد فعل حراما ، وبه يتحقّق الخيار للمشروط له والحنث الموجب للكفّارة في باب النذر ، هذا. مع الالتزام بفساد ما أقدم عليه من المعاملة المزبورة. وقد حقّقنا هذه الجهات في بعض ما حرّرناه في المجموعة الفقهية ، هذا.

ولو كان المنذور ضدّه عبادة ، مثل ما لو نذر أن يصلّي ظهر هذا اليوم جماعة فصلاّها منفردا ، فإنّ صلاته تكون صحيحة كما صرّح به في العروة مسألة 1 قال : وقد تجب ( يعني الجماعة ) بالنذر والعهد واليمين ، ولكن لو خالف صحّت الصلاة وإن كان متعمّدا ، ووجبت عليه الكفّارة الخ (1).

والفرق بينه وبين المعاملة المنذور ضدّها هو ما أشرنا إليه من كون المعاملة ملحقة بالتكاليف المشروطة بالقدرة الشرعية لاعتبار السلطنة فيها ، ووجوب

ص: 333


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 3 : 114.

ضدّها يخرجها عن السلطنة ، بخلاف مثل صلاة الفرادى فإنّها مشروطة بالقدرة العقلية ، فلا يكون التكليف بضدّها موجبا لبطلانها ، لامكان تصحيحها بالملاك وبالترتّب. نعم ، لو كان المنذور هو ترك الصلاة فرادى بطلت الصلاة المزبورة ، لكونها حينئذ محرّمة ، كما ذكروه في مسألة نذر ترك الصلاة في الحمّام.

ثمّ لا يخفى أنّ الأمر بضدّ المعاملة إنّما يكون موجبا لسلب السلطنة عليها لو كان ذلك الضدّ متعلّقا بما هو مورد المعاملة ، مثل ما لو وجب عليه التصدّق بهذه الشاة بنذر ونحوه ، فإنّه يكون سالبا للسلطنة على بيعها ، حيث إنّ وجوب التصدّق بتلك الشاة يسلب سلطانه عليها ، بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، مثل لزوم إزالة النجاسة عن المسجد لو زاحم المعاملة ، بأن يترك الازالة ويشتغل بالبيع والشراء مثلا ، فإنّه لم يتخيّل أحد أنّ ذلك موجب لسلب سلطانه على البيع ، بحيث يكون البيع فاسدا عند مزاحمته لازالة النجاسة عن المسجد ، ولعلّ من هذا القبيل البيع وقت النداء.

والسرّ في الفرق هو ما عرفت من أنّ التكليف المتعلّق بنفس العين يوجب سلب السلطنة على تلك العين ، بخلاف التكليف المتوجّه إلى الشخص من دون تعلّق له بالعين مثل إزالة النجاسة ، فإنّه لا يوجب إلاّ سلب سلطنة الشخص على نفسه ، وسلب قدرته على الأفعال المضادّة لذلك الفعل ومن جملتها المعاملة ، لكنّه لا يوجب إفسادها ، إذ لم تكن القدرة على المعاملة بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية مأخوذة في صحّتها ، وإنّما المأخوذ في صحّتها هو السلطنة على المال الذي تقع عليه تلك المعاملة. ومن الواضح أنّ سلب القدرة على المعاملة بما أنّها فعل خارجي لا يوجب قصر سلطنته على العين التي تقع عليها تلك المعاملة.

نعم ، لا تصحّ الاجارة على ما هو ضدّ للواجب الذي هو الازالة المذكورة ،

ص: 334

فإنّ ذلك الضدّ يكون حينئذ غير مقدور شرعا ، ولا تصحّ الاجارة عليه حينئذ ، ولأجل ذلك التزموا بخروج مقدار أداء الصلاة فيما لو آجر نفسه من الصبح إلى الغروب ، بمعنى كون الاجارة فيما قابل مقدار أداء الصلاة تكون باطلة. ولا منشأ له إلاّ الضدّية المذكورة ، على وجه لو عصى الأجير ولم يصلّ لم يكن للمستأجر الزامه بالعمل في مقدار المدّة المزبورة.

ومن هذا الفرق الذي ذكرناه بين الضدّ الذي يكون تصرّفا في المال والضدّ الذي لا يكون تصرّفا فيه في كون الأوّل موجبا لسلب السلطنة على المعاملة دون الثاني ، يتّضح لك مطلب مهمّ في أصل المسألة ، أعني مسألة النهي عن المعاملة ، فإنّ النهي عنها ربما يتعلّق بها بما أنّها تصرّف في المال ، فيكون موجبا لفسادها ، لكونه سالبا للسلطنة عليها. بخلاف ما لو كان النهي عنها متعلّقا بها بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية ، لا باعتبار كونه تصرّفا في المال وإن كان هو تصرّفا فيها ، كما لو نذر أن لا يفعل في هذه الساعة فعلا من الأفعال ، فإنّ ذلك وإن أوجب حرمة البيع مثلا ، إلاّ أنّه لا يوجب فساد البيع المذكور.

ولعلّ من قال إنّ النهي عن المعاملة لا يوجب فسادها إنّما ينظر إلى هذا النحو من النهي ، دون النحو الأوّل ، بل لعلّ نظر شيخنا قدس سره في بيان أنّ النهي عن السبب لا يوجب بطلان المعاملة ، معلّلا ذلك بقوله : لأنّ مبغوضية الايجاد بما هو فعل من أفعال المكلّف لا تلازم عدم ترتّب أثر المعاملة عليها بوجه ، فلا ينافي حرمة البيع وقت النداء مع وقوع المبادلة به في الخارج الخ (1) إلى هذا الذي ذكرناه من كون الملحوظ في النهي هو مجرّد الفعل ، لا بما أنّه تصرّف في المال ، وإلاّ فإنّك قد عرفت أنّ النهي عن المسبّب لا بدّ أن يتعلّق به باعتبار إيجاده ، ولا يعقل

ص: 335


1- أجود التقريرات 2 : 228 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

أن يتعلّق النهي به والزجر عنه بما أنّه حدث وعرض من الأعراض في قبال الجواهر.

قوله : وأخرى نهيا تحريميا نفسيا ، وهو تارة يكون متعلّقا بالسبب أي بالايجاد بما هو ، من دون أن يكون ما يوجد مبغوضا كالنهي عن البيع وقت النداء ... الخ (1).

أمّا البيع وقت النداء فيمكن كما عرفت (2) أن يكون النهي عنه كناية عن الأمر بضدّه على نحو لا يكون سالبا للسلطنة على المال. وأمّا إرجاع النهي عن السبب إلى النهي عن الايجاد - أي إيجاد المعاملة - ففيه تأمّل ، لأنّ إيجاد المعاملة ليس إلاّ المسبّب.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من بعض التحارير عنه قدس سره أنّ النهي تارة يكون عن السبب ، وأخرى عن المسبّب. وفسّر المسبّب بالمعنى الاسم المصدري ، وفسّر السبب بالمعنى المصدري. ولا يبعد أن يقال : إنّ المعنى الاسم المصدري المجرّد عن لحاظ النسبة الذي يكون المنظور إليه هو ذات الحدث غير منسوب إلى فاعل ، ممّا لا وجه لتعلّق النهي به ، وإنّما يكون كذلك لو لوحظ منسوبا إلى الفاعل. نعم ، هو قابل لتعلّق الحكم الوضعي به ، كما في مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (3) إذا أخذنا الحلّية فيه وضعية بمعنى النفوذ والصحّة ونحوهما ، فإنّها يصحّ تعلّقها بالبيع بالمعنى الاسم المصدري.

ص: 336


1- أجود التقريرات 2 : 226 - 227 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 326 وما بعدها.
3- البقرة 2 : 275.

أمّا السبب المجرّد فهو العقد نفسه ، فإنّه ربما توجّه النهي إليه باعتبار كونه في حدّ نفسه كلاما لفظيا ، مثل ما لو حرم عليه الكلام ، وهذا هو الذي ينبغي فيه أنّه لا يقتضي الفساد حتّى لو كان منحصرا. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تحريم السبب المنحصر ملازم لسلب السلطنة على تلك المعاملة ، لكنّك قد عرفت أنّ ذلك أقصى ما فيه أن تكون المعاملة بما أنّها فعل من الأفعال غير مقدورة ، وذلك لا يوجب فسادها ، بل يكون الفساد الطارئ على المعاملة من ناحية كونها منهيا عنها منحصرا بما يرجع إلى سلب السلطنة على المال ، ولا يكفي فيه مجرّد كون المعاملة غير مقدورة شرعا ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : فالتحقيق في هذا المقام أن يقال : إنّ هناك ثلاثة أمور ، أحدها : اعتبار الملكية - مثلا - القائم بمن بيده الاعتبار أعني به الشارع ، وثانيها : اعتبار الملكية القائم بالمتبايعين - مثلا - مع قطع النظر عن امضاء الشارع له وعدم امضائه ، وثالثها : إظهار المتبايعين في مفروض المثال اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره ... الخ (1).

قد عرفت مرارا أن الملكية من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل والايجاد في وعائها من الاعتبار ، وهذا الجعل والايجاد أو الانشاء إنّما يكون محتاجا إلى آلة ينشئ الجاعل بها ذلك الأمر الاعتباري فيتحقّق في وعائه من الاعتبار ، وتلك الآلة هي الانشاء العقدي أو الفعلي. أمّا ما تضمّنته الحاشية من كون الملكية قائمة في نفس الجاعل الذي هو الشارع ، أو في نفس المتبايعين ، وأنّ هذه الأحكام الشرعية أو هذه العقود الانشائية ليست إلاّ مظهرات لذلك الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر ، فذلك ممّا لا وجه له ، وإلاّ لكان الانشاء إخبارا عن تلك الحالة

ص: 337


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 226.

النفسانية ، ولا أظن أنّ أحدا يقول بهذا التفصيل.

نعم ، في باب التكاليف قال بعضهم إنّه عبارة عن الارادة أو الطلب القائم بنفس الطالب ، وأنّ الطلب الانشائي يكون مظهرا لذلك الطلب النفساني. لكن لو تمّ هذا فإنّما هو في خصوص الطلب الذي هو من مقولة الارادة دون مثل الملكية والعتاق والطلاق ونحو ذلك. فراجع ما حرّر في باب اتّحاد الطلب والارادة ، وبيان الفرق بين الانشاء والاخبار ، وتأمّل.

قوله في الحاشية المشار إليها : وأمّا الاعتبار القائم بالمتبايعين مثلا فهو وإن كان قابلا لتعلّق النهي به ، إلاّ أنّه لا يدلّ على عدم امضاء الشارع له ، لأنّ سلب القدرة عن المكلّف في مقام التكليف لا يستلزم حجر المالك وعدم إمضاء اعتباره على تقدير تحقّقه في الخارج ... الخ (1).

ليت شعري أي عبارة أدلّ على الردع وعدم الامضاء في باب النكاح من قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) الخ (2).

ويمكن أن يقال : إنّ الردع لا يتوقّف على جريان سابق على النهي ، بل يكفي فيه مجرّد توهّم النفوذ. ثمّ إنّ هذا الردع مرجعه إلى التخصيص فيما لو كان في البين عموم ، وقد تقدّم (3) نقل الكلمات التي مفادها الاستناد بفساد المعاملة المنهي عنها إلى التخصيص ، فدعوى كون دلالة النهي على الردع خارج عن محل كلامهم كما في آخر هذه الحاشية قابل للمنع. ولا يخفى أن اقتضاء النهي للردع لا يتوقّف على قصد الردع ، بل يكفي نفس النهي في تحقّق الردع ، بل ليس الردع إلاّ

ص: 338


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 227.
2- النساء 4 : 22.
3- في الصفحة : 219 وما بعدها.

نفس النهي ، فلا يكون اقتضاؤه الردع متوقّفا على كونه واردا في ذلك المقام.

وبالجملة : أنّ الردع والتخصيص من لوازم النهي قهرا ، بل إنّ الأوّل - أعني الردع - عين النهي ، فلا محصّل للقول بأنّه يتوقّف على القصد والدلالة ، أو على كونه واردا في ذلك المقام فتأمّل ، كما ربما يظهر من المرحوم شيخنا الأستاذ العراقي كما في مقالته المطبوعة (1) ، فراجع.

والحاصل : أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أنّ النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها في مرحلة التشريع وإن كان قويا متينا ، إلاّ أنّه يكفي في الحكم بالفساد ما يدلّ عليه النهي من الردع والزجر الموجب لخروج مورده عن العمومات الواردة في تلك المعاملة. وحينئذ يكون اقتضاء هذا النهي الشرعي لفساد المعاملة أوضح من اقتضاء وجوب العمل على الأجير فساد أخذه الأجرة عليه ، كما أنّه أيضا أوضح من اقتضاء تعلّق النذر بما هو ضدّ المعاملة أو بما هو نقيضها لفسادها. بل يمكن أن يقال : إنّ النهي المتعلّق بالمعاملة وإن سلب سلطان المالك عليها إلاّ أنّه لا أثر لذلك السلب ، لأنّه لا يكون مخصّصا لحديث السلطنة (3) ، لأنّ حديث السلطنة لا يعمّ المعاملة المشكوكة النفوذ في حدّ نفسها على نحو الشبهة الحكمية ، لما حقّق في محلّه أنّه إنّما ورد في مقام توهّم الحجر ، لا في مقام أصل تشريع المعاملة.

وبالجملة : أنّ حديث السلطنة غير شامل للمعاملة المنهي عنها قبل تعلّق النهي بها ، كما أنّه غير شامل لها بعد تعلّق النهي بها.

ص: 339


1- مقالات الأصول 1 : 390.
2- أجود التقريرات 2 : 228.
3- بحار الأنوار 2 : 272 / 7 ، عوالي اللآلي 1 : 222 / 99.

نعم ، يمكن أن يقال إنّ عمومات المعاملة مقيّدة بعدم الحجر وبالسلطنة على المعاملة التي يوقعها المكلّف ، وحينئذ يكون النهي موجبا لخروجها عن القيد المزبور ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ حديث السلطنة لا شغل له ببعض المعاملات ، مثل النكاح وما يتبعه ممّا لا يكون تصرّفا في الأموال ، فتأمّل.

وهنا مطلب لا بأس بالاشارة إليه ، وهو أنّ الشيخ قدس سره (1) منع من جريان حديث السلطنة في مقام الشكّ في السبب ، كما لو شككنا في نفوذ المعاطاة في البيع ، وحصر موارد التمسّك به بما لو كان الشكّ في المسبّب. وهذه إن كانت من قبيل المعاملات المبتدأة ، مثل الاباحة بالعوض ومثل الإعراض المدّعى كونه موجبا لانسلاخ الملكية ، يكون الشكّ فيها راجعا إلى مقام السبب ، وحينئذ ينحصر مورد التمسّك بالحديث المزبور بما لو حصل الشكّ في الحجر.

وكنّا قد أشكلنا على ذلك بأنّ الشبهة في الحجر إن كانت موضوعية كان التمسّك بالحديث من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية ، وإن كانت الشبهة حكمية كما في مثل معاملة المريض رجع الأمر فيها إلى السبب ، للشكّ حينئذ في اشتراط عدم مرض الموت في المعاملة المالية ، فيرجع الأمر إلى الاشتراط في ناحية أحد المتعاقدين ، فيرجع الأمر إلى الشكّ في ناحية السبب ، فينبغي أن لا يتمسّك فيه بحديث السلطنة.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ احتمال اشتراط عدم المرض الموتى في المعاملة ليس لجهة استقلالية مثل الاختيار ونحوه ، بل هو على تقديره لا يكون ناشئا إلاّ عن احتمال كون المريض محجورا عليه ، فإذا نفينا ذلك بحديث السلطنة ارتفع الشك في اشتراطه في العاقد ، وحينئذ يكون حديث

ص: 340


1- المكاسب 3 : 41.

السلطنة نافعا في موارد الشكّ في الحجر على نحو الشبهة الحكمية.

فإذا قلنا إنّ النهي عن المعاملة يكون سالبا شرعيا للسلطنة عليها كانت تلك المعاملة فاسدة ، لعدم كونه مسلّطا عليها شرعا ، وبذلك تخرج عن عموم الحديث المذكور الذي استفيد منه تقيّد المعاملة بالسلطنة وعدم الحجر ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره وإن كان ما ذكرناه من الاستناد في الفساد إلى كون النهي موجبا للردع عن المعاملة أسهل تناولا ، فتأمّل وراجع ما حرّرناه على درس المكاسب في أوائل بحث المعاطاة (1).

ولا يخفى أنّ بعض العبائر المنقولة عن شيخنا ربما تساعد على اعتماده في الفساد على كون النهي ردعا ، وذلك قوله : ودليل النهي يدلّ على عدم كونها ممضاة في نظر الشارع الخ (2).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ بيع منذور الصدقة إذا لم يكن النذر من نذر النتيجة ليس ممّا تسالم الفقهاء على بطلانه ، بل هو محلّ الخلاف بينهم ... الخ (3).

قال المرحوم الشيخ محمّد علي بعد أن ذكر البيع المخالف للنذر أو المخالف للشرط ، وغير ذلك من الفروع ما هذا لفظه : وبعض ما يترتّب على ذلك من الفروع كأنّه متسالم عليه عند الأصحاب ، وإن كان بعضه الآخر لا يخلو عن

ص: 341


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- [ هذه العبارة وردت في الطبعة القديمة غير المحشاة ، وقد أبدلت في الطبعة الحديثة بقوله : غاية الأمر أنّ النهي عنه يقتضي حجر المكلّف عنه المستلزم لعدم إمضاء الشارع له الخ ، أجود التقريرات 2 : 231 ].
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 229.

خلاف (1).

وقال المرحوم الشيخ موسى بعد أن بيّن أنّ النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها ما هذا لفظه : ولذا اخترنا في باب النذر أنّه لا يجوز التصرّف في منذور الصدقة ، وهكذا في باب الشرط ، وسرّه خروج المنذورة عن تحت سلطنة الناذر ، وهكذا بالنسبة إلى المشروط عليه ، فتدبّر جيّدا ، انتهى.

وإن شئت فراجع ما حرّره الحقير عنه قدس سره في هذا المقام (2) ، فإنّه على طوله ليس فيه نقل عن الأصحاب بعنوان التسالم ، ولا بعنوان غيره ، بل جلّه مقصور على بيان مقتضى القاعدة. وكيف يقول شيخنا إنّ المعاملة المخالفة قد تسالم الأصحاب على بطلانها ، وها هو في حواشيه على العروة خصوصا في باب الاجارة وغيرها في خلاف عظيم مع الماتن قدس سره ، فالسيّد قدس سره يذهب إلى صحّة المعاملة المخالفة وهو يعلّق عليها ببطلانها ، فراجع العروة في الاجارة ص 224 وص 227 (3) وغيرهما.

نعم ، في مسألة الاجارة على الواجبات نقل الشيخ قدس سره في المكاسب المحرّمة في قوله : الخامس ممّا يحرم التكسّب به الخ ، نقل الإجماع على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات (4). ومع ذلك إنّي لا أتذكّر أنّ شيخنا قدس سره في هذا المقام نقل الإجماع أو التسالم على عدم جواز أخذ الأجرة. ولعلّ ذلك هو مراد

ص: 342


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 472.
2- مخطوط لم يطبع بعد.
3- ويقصد بها النسخة المحشاة بحاشية المحقّق النائيني قدس سره طبعة دار المسيرة ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 5 : 77 ، 86.
4- المكاسب 2 : 125 - 126.

المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : « وبعض ما يترتّب على ذلك من الفروع كأنّه متسالم عليه » ، لكنّه لم يذكر فرع الاجارة ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث أو توضيحه : هو أنّ شيخنا (1) استشهد لما أفاده من كون النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها فتفسد بأمور :

الأوّل : عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات. وكان الأنسب الاستشهاد بعدم جواز أخذ الأجرة على المحرّمات ، لأنّ المنع عن الفعل يوجب سلب السلطنة عليه فلا تصحّ الاجارة عليه.

الثاني : عدم نفوذ المعاملة المنذور ضدّها ، أو المنذور تركها.

الثالث : عدم نفوذ المعاملة المشروط ضدّها ، أو المشروط تركها.

أمّا الفرع الأوّل : فمحلّ الكلام فيه هو ما تعرّضوا له في المكاسب المحرّمة وفي كتاب الاجارة وملخّصه : أنّ دعوى المنع من أخذ الأجرة على الفعل الواجب على الأجير قد وجّهت بأمور :

الأوّل : أنّ الوجوب الطارئ على الفعل يوجب كونه مملوكا للشارع ، فلا يصحّ للمكلّف الذي وجب عليه ذلك الفعل أن يملكه للغير ، نظير ما لو ملك عليه العمل باجارة ، فإنّه لا يصحّ له أن يملك نفس ذلك العمل من شخص آخر غير المستأجر الأوّل.

وهذا التوجيه قابل للمناقشة بأنّ المراد من ملكية الشارع إن كان بمعنى أنّه تعالى مالك كلّ شيء ، ومالك الملك والصعلوك والمالك والمملوك ، فتلك ملكية أخرى لا تنافي التمليك من الغير ، فإنّه تعالى مالك لك ولعبدك ومع ذلك يصحّ لك أن تملّك عبدك من شخص مثلك بالبيع ونحوه من النواقل. وإن كان المراد

ص: 343


1- أجود التقريرات 2 : 228 وما بعدها.

من مالكية الشارع للعمل الواجب أنّه يملكه على المكلّف بنحو مالكية المستأجر العمل على الأجير ، فهذا ممنوع أشدّ المنع.

التوجيه الثاني : أنّ إيجاب العمل يوجب سلب سلطنة المكلّف على ذلك العمل ، بل يوجب سلب قدرته عليه ، لأنّه لا بدّ في السلطنة والقدرة من كون طرفي الفعل وجودا وعدما بيد الفاعل ، والايجاب يوجب سلب قدرته على الترك ، كما أنّ التحريم يوجب سلب قدرته على الفعل ، ويكون الفعل بطروّ الوجوب أو التحريم عليه خارجا في عالم التشريع عن قدرة الفاعل وعن سلطنته عليه ، فلا يصحّ أخذ الأجرة عليه ، لأنّه لا بدّ في الاجارة من كون الأجير مسلّطا على الفعل مقدورا له.

وهذا التوجيه وإن نوقش فيه في محلّه ، إلاّ أنّ نظر شيخنا قدس سره في الاستشهاد بالفرع المذكور إلى هذا التوجيه الثاني ، وإن كانت بعض كلماته تشير إلى التوجيه الأوّل.

التوجيه الثالث لبطلان الاجارة : هو أنّه لا بدّ في صحّة الاجارة من كون العمل الذي تقع عليه الاجارة حاصلا للمستأجر ، ولو كان الفعل واجبا عليه لم يكن ذلك العمل حاصلا للمستأجر ، على تفصيل مذكور في محلّه الذي أشرنا إليه.

وهذا التوجيه لو كان هو المستند في بطلان الاجارة على الواجبات لم يكن محل للاستشهاد بها لما نحن فيه. وشيخنا قدس سره في ذلك المبحث جعل بطلان الاجارة مستندا إلى كلّ واحد من هذه الوجوه ، وإن كان كلّ واحد منها على انفراده كافيا في الحكم بفساد الاجارة ، فراجع ذلك المبحث بتمامه وتمام ما حرّرناه في

ص: 344

التعليق عليه (1).

ومن ذلك يظهر لك الحال في الفعل المحرّم ، فإنّه إنّما يكون بطلان الاجارة عليه شاهدا لما نحن فيه لو وجّهنا ذلك بما تقدّم من الوجه الثاني ، أعني كون النهي سالبا للسلطنة. أمّا لو وجّهنا ذلك بأنّ النهي عن الفعل يوجب سلب ماليته ، قياسا على المنافع المحرّمة التي يكون تحريمها موجبا لسلب مالية العين ذات المنفعة المذكورة ، فلا شاهد فيه على ما نحن فيه. وكذلك لو كان المستند في بطلان الاجارة عليه النصّ الدالّ على « أنّ اللّه تعالى إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه » (2) أو ما تضمّنته رواية تحف العقول (3) من الدلالة على بطلان الاجارة على المحرّمات.

أمّا مسألة النذر والشرط فقبل بيان الوجه في الاستشهاد بها لما نحن فيه ينبغي تقديم مقدّمة ، وهي أنّه لا ريب في أنّ النذر يوجب طروّ الوجوب الشرعي المولوي على الفعل المنذور. وأمّا المشروط فقال بعضهم - وهو الشهيد الثاني (4) على ما نقله الشيخ قدس سره في باب الشروط - أنّه لا يحدث وجوبا شرعيا على الشرط ، وأنّ أقصى فائدة الشرط هو أنّ المشروط له يكون مسلّطا على الخيار عند تخلّف المشروط عليه عن الشرط ، وحينئذ لا يكون موجبا لفساد المعاملة المخالفة

ص: 345


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- عوالي اللآلي 2 : 110 / 301 ، راجع مستدرك الوسائل 13 : 73 / أبواب ما يكتسب به ب 6 ح 8.
3- تحف العقول : 334.
4- بل هو الشهيد الأوّل قدس سره في اللمعة الدمشقية ( راجع الروضة البهية 3 : 506 ) راجع المكاسب 6 : 62.

للشرط ، ويكون أجنبيا عمّا نحن فيه. لكن الحقّ هو كون الشرط موجبا لوجوب فعل الشرط على المشروط عليه كما في النذر.

وبعد ثبوت الوجوب الشرعي يقع الكلام في أنّ الشرط هل يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، بحيث يكون مالكا عليه ذلك الشرط على وجه يكون له اجباره على الوفاء بذلك الشرط ، أو أنّه ليس في البين إلاّ الوجوب الشرعي. والمختار لشيخنا قدس سره (1) هو الأوّل. ولعلّ كون الشرط ممّا يورث من أقوى ما يستفاد منه كونه من الحقوق لا مجرّد التكليف ، بل ربما قيل إنّ النذر يكون كذلك ، بحيث إنّه يحدث حقّا للشارع على الناذر ، وبناء على الحقّية المذكورة لا ينبغي الريب في بطلان المعاملة المخالفة لذلك الشرط أو النذر ، كما لو كان قد اشترط أن لا يبيعه من زيد فباعه منه. وقد تعرّض له الشيخ قدس سره في باب الشروط (2) وفي مسألة اشتراط عدم الفسخ بخيار المجلس (3).

أمّا لو قلنا بعدم الحقّية وأنّه ليس في البين إلاّ الوجوب الشرعي فالحقّ أيضا هو بطلان المعاملة المشروط أو المنذور عدمها لأنّ وجوب ترك المعاملة على المكلّف يوجب سلب سلطنته عليها فتفسد ويكون حينئذ من جملة ما نحن فيه. فتكون معاملته المذكورة باطلة محرّمة وموجبة للخيار في الشرط وللكفّارة في النذر كما حقّقناه في بعض ما حرّرناه في مجموعتنا الفقهية فراجع (4).

أمّا المعاملة المشروط أو المنذور ضدّها ، كما لو شرط عليه التصدّق بهذه

ص: 346


1- منية الطالب 3 : 246 وما بعدها.
2- المكاسب 2 : 76.
3- المكاسب 5 : 56.
4- مخطوط لم يطبع بعد.

العين ، أو أنّه قد نذر ذلك ، فلا يكون بيعها نافذا ، لأنّ الأمر بالشيء وإن لم يوجب النهي عن ضدّه ، إلاّ أنّه يوجب سلب القدرة والسلطنة على ذلك الضدّ ، فتفسد من هذه الجهة ، ويكون العصيان وتخلّف الشرط وحنث النذر حاصلين بما قارن تلك المعاملة - أعني ترك ذلك الضدّ المشروط أو المنذور - لا بنفس المعاملة المذكورة. هذا فيما كان ذلك الضدّ تصرّفا في نفس العين ، مثل الصدقة ونحوها من التصرّفات في العين التي قد وقعت شرطا أو منذورة. أمّا ما لا يكون تصرّفا في نفس تلك العين ، بل كان فعلا خارجيا اتّفق أن قد صار ضدّا للمعاملة التي أوقعها ذلك المكلّف ، كما لو وجب عليه عمل خارجي بنذر أو بشرط ، ولم يكن ذلك العمل تصرّفا في تلك العين ، لكنّه اتّفق مضادّته للمعاملة التي أوقعها المكلّف من جهة أنّ الزمان لا يسعهما والمكلّف لا يقدر على الجمع بينهما في آن واحد ، فلا يكون ترك ذلك الفعل الواجب بالنذر أو الشرط والاقدام على تلك المعاملة المزاحمة له موجبا لفساد المعاملة ، وإن أوجب ذلك الترك العصيان والخيار والكفّارة بالحنث.

ونظير ذلك ما لو وجبت عليه إزالة النجاسة عن المسجد فوريا وعصى واشتغل بالبيع ، فإنّه لا يوجب بطلان البيع المزبور. ومن هذا القبيل البيع وقت النداء بناء على أنّه ليس في البين إلاّ وجوب المسارعة إلى الصلاة ، وأنّ قوله تعالى : ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (1) إرشاد إلى ذلك. بل قد عرفت (2) أنّ من هذا القبيل النهي عن البيع لا بما أنّه تصرّف في المال ونقل للملكية ، بل بما أنّه فعل خارجي فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : أنّ مثل هذه التكاليف لا توجب سلب سلطنة المكلّف على

ص: 347


1- الجمعة 62 : 9.
2- في الصفحة : 335.

التصرّف في ماله بما أنّه نقل في عالم الملكية ، وإنّما أقصى ما فيها هو أنّها توجب سلب قدرته عليها بما أنّها فعل خارجي ، وقد عرفت أنّ ذلك لا يوجب الفساد.

مضافا إلى أنّ سلب السلطنة لو ثبت فلا إشكال في كونه مفسدا ، وإنّما الإشكال فيما نحن فيه في أنّ النهي هل يوجب سلب السلطنة. وهذه الموارد لا تنفع فيه.

قوله في الحاشية : والوجه في ذلك : أنّ نكاح العبد بغير إذن سيّده ليس من التصرّفات المحرّمة شرعا (1).

لا يخفى أنّ تصرّف العبد في نفسه ببيع نفسه مثلا أو بتزويج نفسه من أعظم التصرّفات في أموال الناس ، فيكون محرّما كما حقّقنا ذلك في الفضولي ، لكن هذه الحرمة لمّا كان ملاكها هو عدم الرضا المرتفع بالاجازة ، كانت الاجازة نافعة في انفاذ العقد من حينها ، وإن لم يكن نافذا قبل ذلك.

والوجه في ذلك : هو ما شرحناه في مسألة الفضولي من أنّ ذلك التبديل وهاتيك العقدة النقلية قد وقعت على جهة من موقعها وهو الفضولي ، وهي بما أنّها منسوبة إليه باقية على ما هي عليه من التحريم ، الذي مقتضاه عدم النفوذ من ناحيته ، لكن الاجازة تنسب نفس تلك العقدة وذلك النقل إلى المالك ، ولا ريب أنّ فعله ونقله بما أنّه منسوب إليه لا يكون متّصفا بصفة التحريم ، فينفذ من هذه الجهة ، وآخر كلمة للشيخ في ذلك البحث ناظرة إلى ذلك (2) ، فراجعه وراجع ما حرّرناه (3) في توضيحه وتأمّل.

ص: 348


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 232.
2- [ لعلّه قدس سره يريد بذلك ما ذكره الشيخ قدس سره في ذيل أدلّة صحّة بيع الفضولي من المسألة الأولى ، راجع المكاسب 3 : 363 ].
3- مخطوط لم يطبع بعد.

قوله : ولذا لو عقد العبد لغير نفسه لما احتاج نفوذه إلى إجازة سيّده قطعا (1).

راجع ما أفاده الشيخ قدس سره (2) في هذا المقام تجد أنّ عقد العبد لغيره غير نافذ لكونه عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وإنّما العمدة في أنّ الاجازة بعد ذلك هل تصلح العقد الواقع من العبد للغير. وقد تعرّض الشيخ قدس سره لذلك مفصّلا فراجعه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ عقد العبد لغيره وإن كان محرّما من جهة إيجاد المعاملة المعبّر عنه بالمعنى المصدري ، إلاّ أنّ هذه الحرمة لا توجب الفساد ، وإنّما توجبه فيما لو كان النهي عن الايجاد باعتبار كونه إيجادا للمعاملة ، بحيث يكون المنهي عنه في الحقيقة هو نفس المعاملة من حيث إيجادها لا الايجاد نفسه ، كما عرفت الاشارة إليه فيما تقدّم (3) ، والاجازة ترفع هذه الجهة ، بخلاف ما لو كان النهي عن الايجاد بالنحو الأوّل ، فإنّه لو قلنا بكونه موجبا للفساد لا يرتفع أثره وهو الفساد بالاجازة اللاحقة.

قوله : كما أنّ غير العبد لو عقد للعبد لاحتاج نفوذه إلى اجازة السيد بلا إشكال (4).

نعم ، إنّه يحتاج إلى الاجازة بلا إشكال ، لكن لم يقل أحد بأنّ الاحتياج إلى الاجازة منحصر بما لو كان العقد واقعا عصيانا ، كي يقال إنّه لا عصيان في البين.

ص: 349


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 232.
2- المكاسب 3 : 337 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 2 : 226 - 228 ، وراجع ما ذكره المصنّف قدس سره في ص 330 - 331 وص 335 وص 336.
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 232.

نعم ، إنّ مورد الرواية (1) كان مشتملا على العصيان ، لكون العقد صادرا من العبد عصيانا ، ومعنى عصيان العبد لسيده هو وقوع العقد منه بدون إذن سيده ، فإذا لحقته الاجازة صحّ ، فيدخل فيه عقد الغير له وعقده للغير وعقده لنفسه ، ويشتمل الأخيران على عصيان الشارع لكونهما تصرّفا في مال السيد بدون إذنه ، بل يكون الغير في الأوّل عاصيا أيضا بهذا المعنى ، إلاّ أنّ هذا العصيان الشرعي يرتفع بالاجازة اللاحقة ، لا بمعنى أنّ ما وقع ينقلب من حينه ، بل بمعنى أنّ الاجازة تؤثر الصحّة في ناحية العقد بقاء.

والأولى أن يقال : إنّ هذا العصيان الشرعي لا يكون هو الملاك في البطلان في المقام ، لكونه واردا على المعاملة لا بما أنّه نقل ، بل بما أنّها مخالفة للسيد ، ويكون المؤثّر في بطلانه هو المخالفة المذكورة التي هي عبارة عن التصرّف في ملكه بدون رضاه ، ويكون هذا التحريم الشرعي الوارد على تلك المعاملة بما أنّها مخالفة للسيّد كالتحريم الوارد عليها بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية.

وفيه تأمّل ، لإمكان القول بأنّ حرمة ذلك النقل من جهة كونه تصرّفا في سلطان الغير ليس إلاّ عبارة عن كون نفس النقل والانتقال محرّما ، وحينئذ ينحصر الجواب بما أشرنا إليه ممّا حرّرناه (2) في مسألة بيع الفضولي ، فراجع.

وكيف كان إنّ ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله - في الطبعة الجديدة - : وأمّا إذا ارتفع ( يعني النهي ) باجازة من له الحقّ تلك المعاملة ارتفع النهي أيضا (3) ، لا ينفع في دفع الإشكال ، لأنّ ذلك لا يوجب ارتفاع الحرمة السابقة ، ولا يغيّر الفعل عمّا وقع

ص: 350


1- وسائل الشيعة 21 : 114 / أبواب نكاح الإماء والعبيد ب 24 ح 1.
2- مخطوط لم يطبع بعد.
3- أجود التقريرات 2 : 233.

عليه من جهة التحريم ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ عقد الغير له بإذن من العبد أو بامضاء منه يشتمل على جهة الفضولية من ذلك الغير وعلى جهة العصيان من ناحية العبد بنفسه ، ويحتاج إلى اجازة السيد من الجهتين.

قوله في الحاشية المشار إليها سابقا : ويؤيّد ما ذكرناه أنّه لو كان العقد محرّما لعارض كما إذا قصد به إضرار مسلم ونحو ذلك لما حكم بفساد العقد قطعا (1).

هذا وإن لم أتصوّر له مثالا فعلا ، لكن لو فرضنا أنّ الضرر الحرام كان مترتّبا على نفس النقل ، بحيث كان النقل مضرّا بالغير ، لكانت المعاملة فاسدة قطعا. كما أنّ تصرّفات الشخص في ملكه بالتصرّفات الخارجية لو كانت مضرّة بالغير تكون محرّمة ، وبذلك يكون مسلوب السلطنة عليها.

أمّا الروايات الواردة في الباب فمنها : ما نقله في الكفاية (2) عن الكافي (3) والفقيه (4) عن زرارة عن الباقر عليه السلام : « سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيده ، فقال عليه السلام : ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت : أصلحك اللّه تعالى ، إنّ حكيم بن عتبة (5) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون إنّ أصل النكاح فاسد ، ولا تحلّ اجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّه لم يعص اللّه ، إنّما عصى

ص: 351


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 232.
2- كفاية الأصول : 188.
3- الكافي 5 : 478 / 3.
4- كتاب من لا يحضره الفقيه 3 : 350 / 1675.
5- [ هكذا في الأصل ، لكن في المصادر الحديثية المشار إليها : الحكم بن عتيبة ].

سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (1).

ومنها : ما في الوسائل : « عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ، ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال عليه السلام : ذاك لمولاه ، إن شاء فرّق بينهما ، وإن شاء أجاز نكاحهما ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلاّ أن يكون قد اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا (2) ، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر : فإنّ أصل النكاح كان عاصيا ، فقال أبو جعفر : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، إنّما عصى سيده ولم يعص اللّه ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (3).

ومنها : « في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال عليه السلام : عاص لمولاه ، قلت : حرام هو؟ قال عليه السلام : ما أزعم أنّه حرام ، وقل له أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه » (4).

ومنها : « أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبدا بغير إذن مواليه فقد أباحت

ص: 352


1- وسائل الشيعة 21 : 114 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب 24 ح 1.
2- وذلك لأنّ العقد فاسد ، والظاهر أنّ الوطء بالقياس إليها شبهة ، فهي إنّما تستحقّ مهر أمثالها دون الزائد على ذلك ولو كان ما سمّاه أقلّ من مهر أمثالها لم يكن لها إلاّ ما سمّاه ، ولا تستحقّ الزائد ، لاقدامها على ما هو أقلّ من مهر أمثالها ، فهي حينئذ تستحقّ أقل الأمرين من المسمّى ومهر أمثالها ، ولا يبعد دلالة الرواية على ذلك. ويمكن أن يقال إنّ الاقدام منوط بصحّة العقد ، فمع بطلانه فلا إقدام منها على هدر الزائد. وتمام الكلام في محلّه في الفضولي [ منه قدس سره ].
3- وسائل الشيعة 21 : 115 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب 24 ح 2.
4- وسائل الشيعة 21 : 113 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب 23 ح 2.

فرجها ولا صداق لها » (1).

ومنها : « في الأمة تزوّجت بغير إذن مواليها ، فقال عليه السلام : يحرم ذلك عليها ، وهو زنا » (2).

ولا يبعد أن يكون المراد من نفي الحرمة فيما عدا هذا الأخير هو نفي الحرمة بالأصالة ، كما في مثل النكاح في العدّة ، وفي هذا الأخير هو الحرمة باعتبار كون العقد بغير إذن السيّد ، فيكون حراما شرعا ولو بواسطة مخالفة السيد ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس سره (3) من أنّ المراد بالعصيان المنفي هو العصيان التكليفي ، دون الوضعي يعني مخالفة الأحكام الوضعية في باب النكاح ، أعني مجرّد مخالفة ما يعتبر فيه من الشروط وعدم الموانع وإن لم يكن له مساس بالحرمة التكليفية. والشاهد على أنّه ليس المراد هو مجرّد الحكم الوضعي التمثيل له بالنكاح في العدّة ، الذي لا إشكال في حرمته تكليفا ، وإن كان فاسدا أيضا وضعا. والشاهد على ذلك هو أنّ العصيان لا يكون إلاّ بمعنى العصيان التكليفي ، إذ لا جهة وضعية في ناحية السيد كي يكون مخالفا له فيها.

وأخذ العصيان فيها بمعنى الاقدام مع عدم الإذن كما في الكفاية (4) لعلّه غير ملائم لظاهر المورد بالنسبة إلى عصيان اللّه ، لأنّ مجرّد عدم الإذن منه تعالى وعدم الامضاء لا يوجب البطلان إلاّ استنادا إلى أصالة الفساد. وهكذا الحال لو فسّرناه

ص: 353


1- وسائل الشيعة 21 : 115 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب 24 ح 3.
2- وسائل الشيعة 21 : 120 / أبواب نكاح العبيد والإماء ب 29 ح 3 ( مع اختلاف يسير ).
3- أجود التقريرات 2 : 233.
4- كفاية الأصول : 188.

كما حرّره قدس سره (1) في الحاشية على الهامش بأنّه بالنسبة إليه تعالى بمعنى الاتيان بغير المشروع. إلاّ أن يرجع إلى المخالفة في الحكم الوضعي بما يرجع إلى عالم اجتماع الاجزاء والشرائط ، وحينئذ لا يحسن مقابلته بعصيان السيد ، فتأمّل.

قوله : فإنّه إذا شكّ في مشروعية عبادة وعدمها يكون الحكم الواقعي بالقبح محرزا بالوجدان ، لفرض أعمّية موضوعه ، فلا يجري أصالة عدم المشروعية ... الخ (2).

علّق في الحاشية على ما هو في هذا المقام ما هذا لفظه : التحقيق أنّه لا مانع من جريان الأصل في كلّ مورد كان مجرى الأصل فيه قابلا للوضع والرفع ، فيحرز بجريانه وجود ذلك الأمر القابل للوضع والرفع أو عدمه ، فإذا جرت أصالة عدم مشروعية شيء أحرز بها عدم مشروعيته شرعا ، فيكون حرمة التشريع حينئذ لأجل إحراز عدم المشروعية ، لا لأجل الشكّ في المشروعية ليكون ذلك من تحصيل الحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، الخ.

قلت : لا يخفى أنّه بعد أن تمّ أنّ قبح التشريع من قبيل الأحكام العقلية ذات الملاك الواحد في مورد العلم بعدم المشروعية وفي مورد عدم العلم بها ، وأنّ ملاكه هو القول بما لم يعلم أنّه من الشريعة ، سواء علم بأنّه ليس منها أو لم يعلم ذلك. وبعد أن تبيّن أيضا أنّ حرمة التشريع شرعا تابعة للقبح العقلي المفروض كون موضوعه هو عدم العلم ، سواء كان معلوم العدم أو لم يكن معلوما ، لا يبقى موقع لهذه الحاشية ، لأنّ الذي يحرز بأصالة عدم المشروعية والذي يترتّب على

ص: 354


1- المصدر المتقدّم.
2- أجود التقريرات 2 : 236 - 237 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ذلك ليس هو إلاّ ما كان متحقّقا بالوجدان ، فلا فرق في ذلك القبح العقلي والحرمة الشرعية التابعة له بين ما كان مورده إحراز عدم المشروعية ، أو كان مورده هو عدم الاحراز. فتلك الحرمة وذلك القبح العقلي الذي كان محقّقا وجدانا مع قطع النظر عن جريان الأصل المحرز لعدم التعبّد ، هو بعينه يكون مترتّبا على إحراز عدم المشروعية بالأصل ، فلا يكون اجراء أصالة عدم المشروعية لأجل أن يترتّب عليه القبح والحرمة المذكوران إلاّ من قبيل التوخّي لاحراز شيء بالأصل كان هو محرزا بالوجدان.

نعم ، إحراز التشريع بالأصل أو بالتعبّد بالأمارة ، كما في موارد استصحاب الحجّية أو قيام الدليل التعبّدي عليها ، يكون له أثر مترتّب عليه ، وهو الحكم بالحجّية والمشروعية ، وبه يخرج المورد عن كونه من قبيل عدم إحراز المشروعية ، كما حقّقناه في محلّه في باب حجّية الظنّ (1) وباب الاجتهاد والتقليد (2) ، فراجع.

وهذا هو الشأن في هذا الباب أعني الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، فإنّ ذلك التعبّد إن كان على وفق ما كان موضوعه محرزا بالوجدان لم يكن ذلك التعبّد جاريا. بخلاف ما لو كان على خلافه ، لكون التعبّد حينئذ رافعا تنزيليا لموضوع ذلك الأمر المحرز بالوجدان.

ونظير ذلك ما لو شكّ في سعة الوقت للصلاة مع الطهارة المائية ، فإذا لم يعلم مقدار ما بقي من الوقت لزمه الوضوء ، استنادا إلى استصحاب بقاء الوقت. بخلاف ما لو علم مقدار الباقي ولكن شك في كونه يسع الصلاة مع الطهارة

ص: 355


1- من هذا الكتاب في الحاشية على فوائد الأصول 3 ( الهامش ) : 129.
2- مخطوط لم يطبع بعد.

المائية ، فإنّه يلزمه التيمّم ، لخوف فوت الوقت مع عدم المؤمّن ، الذي هو الاستصحاب في المسألة الأولى ، فإنّ موضوع وجوب التيمم وإن كان هو الخوف ، إلاّ أنّ استصحاب بقاء الوقت رافع شرعي لذلك الخوف الوجداني ، لأنّه عبارة عن احتمال عدم بقاء الوقت إلى الحدّ الذي تكمل فيه الصلاة مع الطهارة المائية. وإلى ذلك ينظر السيد قدس سره في العروة (1) في التفرقة بين المسألتين ، وإن كانت عبارته لا تخلو من إجمال ، ولعلّ هذا الإجمال هو الذي أوجب توجّه الايراد عليه من جماعة من المحشّين بما حاصله أنّه لم يظهر الفرق بين الصورتين.

نعم ، هناك مطلب آخر لعلّه هو المنشأ في الحكم بعدم الفرق بين الصورتين وهو دعوى عدم جريان الاستصحاب في الصورة الأولى لكونه مثبتا ، فإنّه بناء على أنّ موضوع سقوط الوضوء هو الخوف الوجداني أعني تلك الحالة النفسانية ، وهي ليست عين احتمال عدم بقاء الوقت أو عدم العلم ببقائه ، كي يكون استصحاب بقاء الوقت حاكما تعبّدا بنفيها ، بل هي لازمة عقلا للاحتمال المذكور ، فلا يكون استصحاب بقاء الوقت حاكما تعبّدا بعدمها إلاّ على الأصل المثبت.

أمّا مسألة خوف الضرر من الصوم فهي نظير المسألة الثانية ، التي لا مجرى فيها للاستصحاب أصلا فضلا عن كونه مثبتا. واستصحاب الصحّة وعدم المرض لا أثر له ، إذ الأثر إنّما هو مترتّب على الضرر والخوف منه ، لا على الصحّة والمرض. ولو صام مقدارا من اليوم فلم يضرّه الصوم لم يمكنه استصحاب عدم مضرّيته فيما يأتي من باقي ذلك اليوم ، لأنّ كون ما مضى من الامساك غير مضرّ لا

ص: 356


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) 2 : 184 - 185.

دخل له بما سيأتي من الامساك الذي يحتمل الضرر فيه ، فتأمّل.

أمّا ما في آخر الحاشية المزبورة (1) من قياس ما نحن فيه بالبراءة العقلية والاباحة الظاهرية ، ففيه ما لا يخفى ، لأنّ الاباحة الظاهرية حكم شرعي ظاهري ، وأين هو من مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان كي يقال إنّ المحرز بالأوّل هو المحرز بالثاني ، كي يكون من قبيل اللغوية ، أو من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وكان الأولى هو النقض بحديث الرفع (2) في موارد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بناء على أنّ المرفوع بحديث الرفع هو العقاب ، لكنّه ليس بوارد أيضا ، لأنّ الممنوع أو المحال إنّما هو الاحراز التعبّدي في مورد الاحراز الوجداني ، دون حكم الشرع بحكم واقعي مع فرض حكم العقل.

نعم ، في هذا التوجيه لحديث الرفع بأنّه لرفع العقاب إشكال آخر ، وهو أنّ رفع العقاب ليس بشرعي ، ولأجل ذلك نقول : إنّ حديث الرفع حينئذ لا يكون إلاّ اخبارا عن أمر واقعي عقلي ، وهو عدم استحقاق العقاب ، لا أنّه حكم تعبّدي. أو نقول كما حقّق في محلّه (3) إنّه من قبيل الدفع لايجاب الاحتياط ، بمعنى أنّ الشارع لمّا كان يمكنه تحصيل مراده الواقعي في مورد الشكّ فيه بجعل وجوب الاحتياط ، كان حديث الرفع مسوقا لدفع ذلك الايجاب الاحتياطي ، بمعنى أنّ الشارع لم يجعل وجوب الاحتياط ، فراجع وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الأصل في هذه الشبهة هو ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس سره

ص: 357


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 237.
2- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
3- راجع حاشية المصنّف قدس سره على فوائد الأصول 3 : 338 - 339 في المجلّد السابع.

في حاشيته على الرسائل ، فقد قال الشيخ قدس سره في أوائل حجّية الظن : وقد يقرّر الأصل بوجوه أخر ، منها أنّ الأصل عدم الحجّية وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به. وفيه : أنّ الأصل وإن كان ذلك ، إلاّ أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء ، فإنّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ، من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثمّ إثبات الحرمة (1).

وقال العلاّمة الخراساني قدس سره في حاشيته : قلت الحجّية وعدمها وكذا إيجاب التعبّد وعدمه بنفسهما ممّا يتطرّق إليه الجعل ، وتناله يد التصرّف من الشارع ، وما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه جاريا ، كان هناك أثر شرعي يترتّب على المستصحب أو لا. وقد أشرنا إلى أنّه لا مجال للأصل في المسبّب مع جريان الأصل في السبب كما حقّق في محلّه هذا. مع أنّه لو كان الحجّية وعدمها من الموضوعات الخارجية ، التي لا يصحّ الاستصحاب فيها إلاّ بملاحظة ما يترتّب عليها من الآثار الشرعية ، فإنّما لا يكون مجال لاستصحاب عدم الحجّية فيما إذا لم يكن حرمة العمل إلاّ أثرا للشك فيها لا لعدمها واقعا ، وأمّا إذا كانت أثرا له أيضا فالمورد وإن كان في نفسه قابلا لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحكم هذا الشكّ ، إلاّ أنّه لا يجري فعلا إلاّ الاستصحاب لحكومته عليها ، إلى آخر كلامه قدس سره (2).

ولكن الذي يظهر منه في الكفاية العدول عن ذلك ، فإنّه بعد بيان أنّ الأصل هو عدم الحجّية جزما ، وبعد أن شرح آثار الحجّية قال ما هذا لفظه : فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء

ص: 358


1- فرائد الأصول 1 : 127 - 128.
2- حاشية كتاب فرائد الأصول : 43.

الموضوع معه (1).

فتراه قد عدل عمّا حرّره في الحاشية من الايراد على الشيخ ، وسلك عين المسلك الذي سلكه الشيخ قدس سره ، وهو عين مسلك شيخنا قدس سره. وأنت إذا تأمّلت ما في الحاشية (2) ترى أنّ جلّها راجع إلى ما أفاده المحقّق الخراساني قدس سره في الحاشية ، الذي عدل عنه إلى ما في الكفاية ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره (3) في هذا المقام أثبت فساد العبادة التشريعية التي صادف أنّها في الواقع مشروعة ، مع عدم علم المشرّع بذلك في حال اتيانه بها بمقدّمات :

الأولى : حكم العقل بقبح التشريع من باب الأحكام العقلية ذات الملاك الواحد ، الموجود في حال العلم بالعدم وحال عدم العلم.

الثانية : أنّ هذا الحكم العقلي ليس من قبيل الاطاعة والمعصية غير القابلة للتشريع على طبقه ، بل هو قابل لذلك ، وبقاعدة الملازمة يستكشف الحرمة الشرعية على طبق ذلك الحكم العقلي.

الثالثة : أنّ هذا الحكم العقلي وهاتيك الحرمة الشرعية ليست بمقصورة على الفعل القلبي ، بل هما ساريان إلى نفس الفعل الذي يتحقّق به التشريع.

الرابعة : أنّه بعد فرض سريان الحرمة إلى ذلك الفعل تكون الحرمة المذكورة مدافعة لوجوبه الواقعي ، وحيث إنّها مقدّمة عليه وموجبة لتقييد الأمر وتخصيص متعلّقه بما عدا موردها يكون ذلك الفعل فاسدا.

ص: 359


1- كفاية الأصول : 280.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 236.
3- أجود التقريرات 2 : 237 - 240.

ثمّ إنّه قدس سره استشكل في ذلك بأنّ هذه الحرمة لمّا كان الملاك فيها هو عدم العلم بالوجوب ، كانت متأخرة رتبة عن ذلك الوجوب ، وحيث قد اختلفت الرتبة فيهما فلا مانع من الجمع بينهما. وكأنّه قدس سره قد سلّم هذا الإشكال لكنّه سلك للحكم بالفساد من طريق آخر غير طريقة التخصيص وتلك الطريقة هي طريقة القبح الفاعلي. فكأنّه قدس سره أعرض عن طريقة المنافاة بين الحكمين الموجبة للتخصيص ، وأثبت الفساد من ناحية القبح الفاعلي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة - أعني طريقة القبح الفاعلي - لا تتوقّف على تلك المقدّمات التي حرّرها ، بل يكفي فيها مجرّد قبح التشريع عقلا ، الموجب للقبح الفاعلي المانع من التقرّب ، هذا.

مضافا إلى أنّه قدس سره لا داعي له إلى الاعراض عن طريقة التخصيص ، بل هي جارية فيما نحن فيه ، فإنّه بعد فرض كون معروض الحرمة الشرعية التشريعية هو الفعل الخارجي ، وأنّها غير مقصورة على الفعل القلبي ، يكون مورد كلّ من الوجوب الواقعي والحرمة التشريعية هو ذلك الفعل الخارجي. ومجرّد اختلافهما في الرتبة لكون الحرمة التشريعية معلّقة على عدم العلم بالوجوب الواقعي ، الذي هو متأخر رتبة عن الوجوب الواقعي ، لا ينفع في رفع التنافي بينهما ، وإلاّ لصحّ اجتماع الوجوب مع الحرمة المعلّقة على العلم بذلك ، لأنّها حينئذ مثلها في التأخر الرتبي ، إذ كما أنّ عدم العلم بالوجوب الواقعي متأخر رتبة عن نفس الوجوب ، فكذلك العلم بذلك الوجوب يكون متأخرا عنه.

اللّهمّ إلاّ أن يفرق بين الصورتين بقبح الثانية ، لكونها موجبة للتناقض في نظر المكلّف ، بخلاف الأولى. لكن هذا لا يدفع الإشكال من الناحية التي نحن فيها وهي التناقض بين الوجوب الواقعي وبين الحرمة الواقعية ، سواء كانت

ص: 360

الحرمة الواقعية مشروطة بالعلم بالوجوب الواقعي ، أو كانت مشروطة بعدم العلم به ، أو كانت مطلقة (1).

والتحقيق هو أن يقال : إنّ هذه الحرمة التشريعية مناقضة لذلك الوجوب ، وموجبة للتخصيص وانحصار مورد الوجوب بما عدا مورد التشريع ، ويكون حرمة التشريع الطارئة على الفعل باعتبار الاتيان به بصفة الوجوب مع عدم العلم بالوجوب كسائر العناوين الثانوية ، الموجبة للتحريم والرافعة للحكم الأوّلي اللاحق للشيء في حدّ نفسه ، وحينئذ ينحصر وجوب تلك العبادة فيما إذا لم يؤت بها بعنوان الوجوب التشريعي ، ومع هذا التخصيص تكون العبادة فاسدة من دون حاجة إلى القبح الفاعلي ، ولا إلى المبغوضية الفعلية التي ذكرها المحشي (2).

ثمّ إنّ لنا طريقة أخرى للحكم بفساد العبادة المذكورة ، وهي أنّ ذلك المكلّف لم يأت بها بداعي أمرها ، بل إنّما أتى بها بداعي ذلك الأمر الذي شرعه من قبل نفسه ، سواء كان التشريع قبيحا أو لم يكن ، كان في البين قبح فاعلي أو لم يكن ، كان في البين حرمة شرعية تشريعية أو لم تكن ، كان في البين تخصيص أو لم يكن ، حتّى أنّا نلتزم بأنّ من علم بأنّ هذه الصلاة واجبة شرعا ، ولكن أراد أن يخترع لنفسه شريعة خاصّة ، فأوجب على نفسه أو على غيره أشياء ، وحرّم على

ص: 361


1- إذا كان اختلاف الرتبة مجديا في رفع التناقض لم يكن معنى محصل للقول بأنّ مثل « إذا علمت بوجوب الشيء فقد حرم » لا يصحّ ، لأنّ المخاطب يراه تناقضا ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ التحريم في الرتبة المتأخرة عن الايجاب الأوّلي كاف في الحكم بالفساد في هذه الرتبة ، بل هي في هذه الرتبة خارجة عن الوجوب في رتبتها ، وإن كان وجوبها في الرتبة السابقة باقيا [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 240.

نفسه أشياء خالف فيها الشارع المقدّس ، غير أنّه في هذه العبادة الخاصّة كصوم شهر رمضان وافق الشارع فيها ، بمعنى أنّه أيضا قال قد أوجبته ، ولكنّه أتى به بداعي ذلك الوجوب الذي جعله من قبل نفسه ، كان عمله المذكور فاسدا أيضا ، لأنّه لم يأت به بداعي الأمر الشرعي الذي يعلمه ، بل أتى به بداعي أمره الذي هو شرعه من قبل نفسه.

واعلم أنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في العبادة التي لها إعادة وقضاء لو وقعت فاسدة ، واتّفق أنّ شخصا كان معتقدا لعدم وجوبها أو كان شاكّا في ذلك فبنى تشريعا منه على وجوبها ، وأتى بها بذلك الداعي ، ثمّ انكشف أنّها واجبة في الواقع.

والأقرب لتحقّق هذه الثمرة التمثيل بجزء من أجزاء الصلاة الركنية كالركوع مثلا ، فاعتقد أنّه غير واجب أو شكّ في وجوبه فشرّع وجوبه ، وأتى به بذلك الداعي ثمّ انكشف أنّه واجب ، فبناء على عدم كون التشريع في العبادة مفسدا لها تكون صلاته المذكورة صحيحة ، بخلاف ما لو قيل بأنّه مفسد لها تكون صلاته المذكورة فاسدة ، إذ لا أقل من فقدانها الجزء المذكور.

قوله : والحسن والقبح فيهما لو انتهى إلى وجوب آخر لدار أو تسلسل ... الخ (1).

وربما أمكن الجواب عن هذا التسلسل بأنّه لا مانع منه في مثل ذلك ، فإنّه إذا توقّف شيء على آخر والآخر على آخر فأقصى ما فيه هو أنّ حصول الشيء الأوّل محال ، وإذا كان هذا الموجود صادرا عن آخر وآخر عن آخر وهكذا فهو

ص: 362


1- أجود التقريرات 2 : 238 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

محال أيضا ، من جهة انتهائه إلى قدم العالم.

أمّا مثل ما نحن فيه من التكاليف التي يكون وجودها بالاعتبار فلا مانع منه ، ولا يستلزم الجعل الدائم ولا التشريع المستمر ، بل يكفي فيه الجعل الواحد على نحو القضية الحقيقية ، بأن يقول أطع كلّ أمر لي ، وتكون القضية شاملة لنفسها ، على حذو ما ذكروه في مثل كلّ خبر لي فهو صادق. نعم ، مثل قوله : كلّ خبر لي فهو كاذب ، لو كانت القضية شاملة لنفسها لا يمكن الحكم بتصديقها ، لأنّه يلزم من التصديق عدمه.

ولا يخفى أنّ ذلك لا يتوقّف على كون القضية شاملة لنفسها ، بل يمكن أن يتأتّى ذلك بطريق حكم العقل بحسن الاطاعة مع ضميمة أنّ كلّ ما حكم به العقل يحكم به الشارع. فكلّ أمر له إطاعة ، وكلّ إطاعة حسنة عقلا ، وكلّ ما حسّنه العقل أوجبه الشارع ، فكلّ اطاعة أوجبها الشارع.

لكن قد يقال بانقطاع السلسلة على الاطاعة الأولى ، لأنّ إطاعة الأمر بالاطاعة لا يراها العقل شيئا قابلا للحسن أو القبح ، كي يحكم بحسنها ويستكشف الحكم الشرعي من حكم العقل بحسنها.

وإن شئت فقل : إنّ التسلسل الباطل هو التسلسل في العلل ، بأن يكون هذا الشيء معلولا لشيء آخر ، وذلك الآخر معلولا لثالث وهكذا ، فإنّه يلزم من وجود المعلول عدمه ، لتوقّف علّته على علّتها ، وهكذا إلى ما لا يتناهى. أمّا التسلسل في المعلولات بأن يكون هذا الشيء علّة لآخر ، وذلك الآخر - المفروض كونه معلولا - علّة لآخر وهكذا فلا مانع منه. فالأمر الأوّل الصادر من الشارع علّة لتحقّق عنوان الاطاعة في امتثاله ، وهذا العنوان علّة في تولّد الأمر بالاطاعة ، وهكذا.

والالتزام بكون هذه الأوامر ارشادية إلى ما يحكم به العقل من حسن

ص: 363

الاطاعة أو لزومها ، لا حاجة إليه بعد إمكان كونها مولوية ، ويكون حكم الشارع بوجوب إطاعة أوامر نفسه كحكم العقل بوجوب إطاعة أوامر نفسه ، فكما أنّ حكم العقل بلزوم إطاعة أوامر نفسه لا تكون إرشادا إلى شيء خارج عن الحكم العقلي ، فكذلك حكم الشارع بوجوب إطاعة أوامر نفسه لا يكون إرشادا إلى حكم آخر خارج عن الحكم الشرعي.

نعم ربما يشكل على هذه الطريقة فيما نحن فيه بلزوم عقابات متعدّدة غير متناهية عند العصيان ، وثوابات كذلك عند الاطاعة. ويمكن الجواب عنه بأنّ هذه الأوامر وإن كانت مولوية ، إلاّ أنّها لا يترتّب الثواب على إطاعتها ولا العقاب على مخالفتها ، لكونها طريقية صرفة ، لا يكون المقصود بها إلاّ الواجب الأصلي الأوّلي ، وحينئذ يتوجّه إشكال اللغوية ، لتكفل حكم العقل بما يراد منها. فيكون الإشكال الوحيد على مولوية هذه الأوامر هو ما عرفت من اللغوية - دون لزوم التسلسل - التي يرجع إليها ما قيل من أنّ مقام الاطاعة غير قابل للتصرّف والجعل الشرعي ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ ما يدّعى من وجوب المقدّمات وجوبا شرعيا مولويا يشاركها في هذه اللغوية ، حيث إنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان بها من باب الاطاعة أيضا ، ولا يترتّب على وجوبها عقاب ولا ثواب ، ولا تحتاج في سقوطها إلى قصد الامتثال.

نعم فرق بينهما أنّ أوامر الاطاعة لو قلنا بمولويتها والتزمنا بذهابها إلى ما لا نهاية له ، يستحيل فيها الاتيان بمتعلّقها بداعي أمره وإنّما أقصى ما في البين هو الاتيان بمتعلّق الأمر الأصلي - أعني الصلاة مثلا - بداعي قوله : « صلّ » ، وبذلك يتحقّق اطاعته ، وتكون هذه الاطاعة محقّقة لما تعلّق به قوله : « أطع أمر الصلاة ».

ص: 364

أمّا قوله : « أطع أمر الاطاعة المتعلّقة بالصلاة » فليس له اطاعة ثانية مضافة إلى الأمر المتعلّق باطاعة الصلاة ، بل لا يكون ما يصدر من المكلّف في البين إلاّ إطاعة واحدة هي إطاعة الأمر بالصلاة ، وهذه الاطاعة مسقطة للأمر المتعلّق بها وهو أوّل أمر من تلك الأوامر ، وبسقوطه تسقط الأوامر الباقية.

وإن شئت فقل : إنّ جميع أوامر الاطاعة تسقط بفعل الصلاة الموجب لسقوط الأمر المتعلّق بها ، لبقائها حينئذ بلا موضوع. وهكذا الحال في عصيان الأمر المتعلّق بالصلاة ، الموجب لسقوطه بالعصيان ، فإنّه يوجب ارتفاع موضوعها أيضا. ولعلّه لأجل ذلك لم يكن في البين إلاّ عقاب واحد عند العصيان ، وثواب واحد عند الاطاعة للأمر المتعلّق بالصلاة نفسها.

ثمّ إنّ ما ذكر من لزوم التسلسل في الوجوبات إنّما يلزم لو قلنا إنّ كلّ أمر لا بدّ أن تكون إطاعته واجبة حتّى أوامر الاطاعة ، بنحو ما ذكرناه من كون القضية شاملة لنفسها. أمّا لو قلنا بعدم ذلك وأنّ وجوب الاطاعة للأوامر لا يشمل أوامر الاطاعة وأنّه مقصور على الأوامر المتعلّقة بأفعال المكلّفين العادية مثل الصوم والصلاة ، دون الاطاعة نفسها ، فلا يكون لنا في سائر الأوامر إلاّ أمران : أمر متعلّق بالفعل ، وأمر آخر متعلّق باطاعة ذلك الأمر ، من دون أن يكون في البين أمر باطاعة أمر الاطاعة.

قوله : إنّ وجوب امتثال كلّ تكليف وحرمة عصيانه ينتهي بالأخرة إلى ما بالذات ، وهو حسن الطاعة وقبح المعصية ، والحسن والقبح فيهما لو انتهى إلى وجوب آخر لدار أو تسلسل ... الخ (1).

إنّ من يدّعي أنّ أوامر الاطاعة مولوية لا يريد أن يقول إنّ حسنها يتوقّف

ص: 365


1- أجود التقريرات 2 : 238 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

على تعلّق الأمر المولوي بها ، كي يقال له إنّ حسنها ذاتي لا يتوقّف على أمر آخر.

ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ حسن إطاعة الأمر يتوقّف على أمر ، فأقصى ما يكون في البين هو أنّ حسن اطاعة طبيعة الأمر - أيّ أمر كان - يتوقّف على أمر ، فلا ريب أنّ هذا الأمر الذي يتعلّق بنفس الاطاعة ليس هو نفس الأمر الذي كان هو المطاع كي يلزم الدور. نعم يلزم التسلسل ، لكنّك قد عرفت (1) الحال في محاليته.

والحاصل : أنّي لم أتوفّق لكيفية تأتّي الدور فيما نحن فيه (2) ، نعم في قوله : « ولو انتهى هو أيضا إلى غيره لدار أو تسلسل » (3) يتأتّى الدور ، لأنّا لو فرضنا أنّ حجّيته العلم متوقّفة على الدليل وقيام حجّة عليها ، فلا ريب أنّ تلك الحجّية متوقّفة على العلم بها ، ولا بدّ من إثبات حجّيته ، فيكون حجّية العلم متوقّفة على حجّيته. وعلى أيّ لا معنى هناك - أعني في حجّية العلم - للتسلسل ، فتأمّل.

إلاّ أن نغاير بين العلوم فيقال إنّ العلم بوجوب الصلاة مثلا حجّة لقيام الرواية الفلانية عليه ، وحجّية الرواية المذكورة إنّما هي بالعلم بها ، وحجّية هذا العلم بالبيّنة مثلا ، وحجّية البيّنة بالعلم ، وحجّية هذا العلم بالإجماع ، وحجّية الإجماع بالعلم ، وهكذا ، فإن عادت السلسلة إلى الأوّل جاء الدور ، وإن ذهبت إلى ما لا نهاية له جاء التسلسل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ التسلسل الباطل هو عدم التناهي في سلسلة العلل ، بأن

ص: 366


1- في الصفحة 363.
2- اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نفس الاطاعة متوقّفة على وجود الأمر ، وإذا كان حسنها متوقّفا على تعلّق الأمر بها جاء الدور [ منه قدس سره ].
3- [ هذه العبارة وردت في النسخة القديمة غير المحشاة ، وأبدلت في الطبعة الحديثة بقوله : ولو انتهى العلم إلى غيره في حجّيته لدار أو تسلسل ].

يكون هذا الشيء مثلا معلولا لشيء آخر ، وذلك الآخر معلولا لآخر وهكذا ، فإنّ ذلك محال ، لأنّ حصول المعلول الأخير يتوقّف على حصول العلّة الأولى ، ومع فرض عدم تناهي العلل لا يكون حصول العلّة الأولى ممكنا ، وحينئذ يلزم من فرض وجود ذلك المعلول عدمه. أمّا التسلسل في المعلولات بأن يكون هذا الشيء علّة لآخر ، وذلك الآخر - المفروض كونه معلولا - علّة لآخر وهكذا فلا مانع منه. وحينئذ نقول : إنّ الأمر الأوّل المتعلّق بالصلاة مثلا يكون علّة لانطباق عنوان الاطاعة على امتثاله ، وهذا العنوان علّة في تولّد الأمر بالاطاعة المذكورة ، وهكذا.

ويعبّر عن الأوّل بعدم التناهي في العلل ، بحيث تذهب العلل إلى ما لا نهاية له ، فإنّه محال. ومنه يظهر لك فساد ما يظهر من الشمسية (1) من أنّه لا مانع من حصول أمور نظرية غير متناهية للنفس على القول بقدمها ، فإنّ هذه المسألة مثلا لو كانت نظرية مكتسبة من ثانية أخرى ، والثانية من الثالثة ، والثالثة من الرابعة وهكذا ، كان العلم بالأولى معلولا للعلم بالثانية ، والعلم بالثانية معلولا للعلم بالثالثة ، والعلم بالثالثة معلولا للعلم بالرابعة وهكذا ، وحينئذ لا يحصل لنا العلم بالأولى ولو قلنا بقدم النفس وبقائها سرمديا.

ويعبّر عن الثاني بعدم التناهي في المعلولات ، والظاهر أنّه لا مانع منه ، فإنّ العلّة الأولى بعد أن أوجدها الواجب المقدّس تكون هي المعلول الأوّل ، وهي توجد المعلول الثاني ، وهو يوجد المعلول الثالث ، وهكذا يستمرّ التوالد والانتقال من المعلول إلى ما بعده. مثلا لو حصل لنا العلم بمسألة ضرورية فهذا العلم الضروري نحصّل به مسألة نظرية ، وهذه بعد حصولها لنا نحصّل بها

ص: 367


1- شرح الشمسية : 9.

أخرى ، وهكذا تستمرّ سلسلة التحصيل ما دامت النفس موجودة. فلو قيل ببقائها إلى ما لا نهاية له كان تحصيلها للمعلومات غير متناه أيضا.

ولا يخفى أنّ النفس وإن لم تكن قديمة بل حادثة ، لكن لا برهان على عروض العدم عليها ، بل إنّ الأدلّة السمعية الدالّة على أنّ أهل النار فيها خالدون وأهل الجنّة فيها خالدون دالّة على بقاء البشر إلى غير النهاية.

بل يمكن القول بأنّ عدد النفوس غير متناه ، لا من جهة بقاء التوالد ، بل من جهة امكان وجود نفوس أخرى غير النفوس البشرية ، وتكون تلك النفوس التي أوجدها الواجب تعالى غير متناهية ، غايته أن نقول إنّها مجرّدة غير مادّية ، لدعوى استحالة عدم التناهي في المادّة ، لبرهانين ذكرهما الطوسي قدس سره في التجريد فقال :

الفصل الثالث : في بقية أحكام الأجسام. وتشترك الأجسام في وجوب التناهي (1) ، فراجع. ولو لا هذين البرهانين ونحوهما ممّا أقاموه على عدم معقولية عدم التناهي في المادّة لأمكننا القول بوجود عوالم مادّية غير متناهية ، وهي كعالمنا وكنظام شمسنا.

أمّا البراهين التي أقاموها على عدم معقولية عدم التناهي :

فمنها : برهان التطبيق ، وهو أنّه لو فرضنا خطّين غير متناهيين ، ونقصنا من أحدهما مقدارا ، وطبّقنا أحدهما على الآخر ، فإن تساويا لزم عدم تأثير ذلك التنقيص وهو محال ، وإن لم يتساويا لزم التناهي فيهما وهو المطلوب. وفيه : أنّه أوّلا منقوض بتسلسل المعلولات ، فإنّا لو نقصنا من إحدى السلسلتين مقدارا من العلل والمعلولات فإن كان الباقي مساويا لما لم ننقص منه لزم عدم تأثير ذلك التنقيص ، وإن لم يكن مساويا له لزم التناهي في السلسلتين. وثانيا : أنّ التنقيص

ص: 368


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 167.

من أوّل الخطّ لا ينافي ذهاب الباقي إلى غير النهاية. وبالجملة : أنّ كون مبدأ الخطّ محدودا لا ينافي كون آخره غير متناه ، وإن كان الخطّان غير محدودين مبدءا ونهاية فلا معنى للتنقيص من أحدهما.

ومنها : برهان تناهي ما بين الحاصرين ، كما لو قام أحد الخطّين على الآخر ، فإنّ الزاوية تتّسع بامتداد الضلعين ، فإذا فرضنا ذهابهما إلى غير النهاية كان ما بينهما غير متناه ، وهو محال لكونه بين حاصرين وهما الضلعان ، ولا يعقل عدم التناهي فيما هو محدود بين الحاصرين.

وفيه : أوّلا أنّه منقوض بما يدّعونه من تركّب الجسم ممّا لا يتناهى من الأجزاء ، بناء على استحالة التركّب من الأجزاء غير القابلة للقسمة ، وأنّ كلّ جزء منه لا بدّ أن يكون منقسما إلى جزءين ، فإنّه يلزم عدم التناهي في الأجزاء مع كونها بين حاصرين ، أعني الخطين المحيطين بالجسم.

وثانيا : أنّ عدم التناهي فيما بين الخطّين الحاصرين إنّما يلزم إذا وصل الخطّان إلى غير النهاية ، وهو خلف ، لفرض عدم تناهيهما ، فأي نقطة نفرض انتهاء الخطّين إليها فهي متناهية ، ولا بدّ أن يكون ما بينهما متناهيا أيضا ، ولا يعقل انتهاء الخطّين إلى غير النهاية كي يلزم أن يكون ما بينهما غير متناه ، كي يشكل عليه بأنّه بين حاصرين وأنّه لا يعقل عدم التناهي فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره (1) استطرد أمورا هي غير دخيلة فيما يتوخّاه من استنتاج كون النهي التشريعي موجبا للفساد ، لكن من باب أنّ الشيء بالشيء يذكر والحديث ذو شجون تعرّض لهذه الأمور التي أشرنا إليها ، وهي تنحصر في جهات ثلاث :

ص: 369


1- أجود التقريرات 2 : 235 وما بعدها.

الأولى : هي ما تعرّض له من الفرق بين الأحكام الشرعية والعقلية فيما يعود إلى الجهل والعلم.

الثانية : هي ما تعرّض له من الفرق بين هذا النحو من الأحكام العقلية ممّا هو قابل للتصرّف والحكم الشرعي على طبقه ولو بقاعدة الملازمة ، وبين ما هو غير قابل لذلك ، كحكمه بحسن الاطاعة وقبح المعصية ، وكحكمه بحجّية العلم.

الجهة الثالثة : هي ما تعرّض له من الفرق بين حرمة التشريع عقلا وشرعا وبين غير التشريع من موارد سائر الأحكام العقلية وما يتبعها من الأحكام الشرعية ، كقبح ارتكاب الضرر بالنفس وحرمته ، في كون الأوّل لا مورد فيه للتعبّد بالأصل في الجملة ، بخلاف الثاني.

أمّا الكلام في الجهة الأولى فحاصله : هو أنّ حكم العقل بحسن بعض الأفعال في قبال حكم الشرع بإيجابها ، وحكمه بقبح بعض الأفعال ويقابله حكم الشرع بحرمتها ، فإنّ الايجاب والتحريم لاحقان للفعل الذي تعلّقا به وإن كان الفاعل له جاهلا به أو بحكمه الواقعي ، بخلاف الحسن والقبح فإنّهما إنّما يلحقانه بشرط العلم به والإقدام عليه اختيارا من الفاعل ، ليكون موردا لحكم العقل بحسن فعله واستحقاقه المدح عليه ، أو بقبح فعله واستحقاقه الذمّ عليه. فمن أضرّ غيره جاهلا بذلك الضرر لم يحكم العقل بقبح فعله ، وإن كان ذلك الفعل منه محرّما في الواقع غايته أنّه معذور فيه. وهكذا في من فعل الإحسان إلى الغير جاهلا بأنّه إحسان واجب ، فإنّه قد فعل واجبا شرعيا ، لكنّه لا يحكم العقل على ذلك الفعل منه بالحسن ، ولا باستحقاق المدح عليه.

وهذا الفرق واضح في الجملة لا غبار عليه ، نعم في اتّصاف الفعل بكونه في الواقع واجبا شرعا مع الجهل بوجوبه حكما أو موضوعا إشكال ، من جهة

ص: 370

خروج ذلك الفعل عن سلسلة الايجاب ، وتقيّد الفعل الذي وقع موردا للايجاب تقيّدا قهريا بكونه واقعا في سلسلة الايجاب وبداعيه ، فما لم يكن بداعيه ولو من جهة الجهل بوجوبه حكما أو موضوعا يكون خارجا عن تلك السلسلة ، ولأجل ذلك قلنا في محلّه (1) إنّ الأصل في الوجوب هو كونه تعبّديا ، فراجع ما علّقناه على هذه الجهة من مبحث التعبّدي والتوصّلي.

ثمّ إنّ هناك فرقا آخر بين الأحكام الشرعية والأحكام العقلية - ومحلّ الكلام في تنبيهات الاستصحاب (2) - وهو قابلية الحكم الشرعي للشكّ فيه بنحو الشبهة الحكمية والموضوعية ، بخلاف الحكم العقلي فإنّه لمّا كان الحاكم فيه هو العقل ، فلا يتأتّى فيه الشكّ على نحو الشبهة الحكمية ، نعم يتأتّى فيه الشكّ على نحو الشبهة الموضوعية.

وأمّا الجهة الثانية : فقد أشرنا - فيما تقدّم (3) - إليها ، وأنّه لم يتّضح كون الاطاعة والمعصية موردا لقاعدة « أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات » فإنّ من يدّعي صحّة تعلّق الأمر المولوي بالاطاعة مثلا لا يدّعي أنّ حسنها بالغير الذي هو الأمر المولوي ، كي يتوجّه عليه أنّه لا بدّ أن تنتهي السلسلة إلى إطاعة حسنة بالذات ، وإن لم يحصل ذلك الانتهاء يلزم التسلسل ، بل أقصى ما يدّعيه القائل بالمولوية هو أنّ الإطاعة حسنة عقلا ، وأنّه لا مانع من أن تكون موردا للحكم

ص: 371


1- [ عند التعرّض لكلام المحقّق الكلباسي قدس سره ، فراجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : 466 وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس سره قد أبطل هذا القول فيما بعد ، فراجع الصفحة :505- 506 من المجلّد الأوّل ].
2- في التنبيه الخامس في فوائد الأصول 4 : 449 وتأتي حواشي المصنّف قدس سره عليه في المجلّد التاسع.
3- في أوّل هذه الحاشية ، فراجع الصفحة : 366.

الشرعي بالوجوب ، ولا يلزمه التسلسل ، إلاّ إذا قلنا بأنّ كلّ إطاعة هي حسنة بحكم العقل وأنّ كلّ إطاعة مأمور بها لقاعدة الملازمة (1). أو أنّ مثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ* ) (2) من قبيل شمول القضية لنفسها.

وقد عرفت المنع من ذلك. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلما عرفت (3) من أنّ العقل وإن حكم بحسن الاطاعة ، إلاّ أنّ حكمه بذلك مقصور على إطاعة الأوامر العادية المتعارفة مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ* ) (4). أمّا هذا الأمر المتعلّق باطاعة الأمر بالصلاة فلا يرى العقل إطاعته فعلا آخر في قبال اطاعة الأمر بالصلاة كي يحكم بحسنه ، ليكون حكمه بحسنه مستتبعا لحكم الشارع بوجوبه ، وهكذا ، ليلزم منه التسلسل ، هذا كلّه مضافا إلى ما عرفت (5) الاشارة إليه من عدم المحالية في هذا النحو من التسلسل.

وعلى كلّ حال ، لا يلزم من كون إطاعة الأمر بالصلاة مأمورا بها شرعا أن يكون إطاعة الأمر المتعلّق بالاطاعة المذكورة موردا للثواب ، ولا عصيانه موردا

ص: 372


1- والإنصاف أنّه لو تمّ هذا التسلسل وقلنا بمحاليته لكان من أقوى الأدلّة على بطلان الملازمة بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية. ولا يمكن الجواب عنه بخروج خصوص الاطاعة من قاعدة الملازمة ، فإنّ الملازمة لو كانت عقلية لم يعقل التخصيص فيها ، لأنّه تفكيك بين المتلازمين بلا جهة في البين ، سوى أنّه لو جرت الملازمة لكان اللازم هو التسلسل ، فتأمّل [ منه قدس سره ].
2- آل عمران 3 : 32 ، 132.
3- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 362 - 365.
4- البقرة 2 : 43 ، 83.
5- المصدر المتقدّم في الهامش (3) ، وراجع أيضا ما تقدّم ذكره في الصفحة : 366 قوله : والحاصل ....

للعقاب ، لما عرفت (1) فيما أشرنا إليه من أنّ هذا الأمر طريقي صرف ، لا يترتّب عليه أثر. وهذا - أعني عدم ترتّب الأثر على هذا الأمر المولوي ولزوم لغويته - هو الذي ينبغي أن يكون الإشكال الوحيد في المسألة ، لكنّهم التزموا بمثله في وجوب المقدّمة وجوبا شرعيا وإن كان غيريا ، وحينئذ فالذي ينبغي هو إسقاط الإشكال بالتسلسل. أمّا إشكال الدور فقد تقدّم (2) أنّي لم أتوفّق لتطبيقه في المقام ، فتأمّل. إلاّ أن يراد منه أنّ الأمر المتعلّق بالاطاعة في الدرجة الثانية هو الأمر المتعلّق بالاطاعة في الدرجة الأولى.

أمّا مسألة حجّية العلم عقلا فهي مورد هذه القضية ، أعني قضية أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات ، لأنّا إذا قلنا إنّ حجّية العلم غير ذاتية وأنّها محتاجة إلى دليل ، فذلك الدليل لا يمكننا إثبات حجّيته إلاّ بالعلم ، وحينئذ يلزم الدور ، لأنّ حجّية العلم موقوفة على الدليل ، وحجّية ذلك الدليل موقوفة على العلم بحجّيته ، التي هي عبارة أخرى عن حجّية العلم.

أمّا تقريب التسلسل فيه فهو أن يقال : إنّ حجّية ذلك الدليل موقوفة على العلم بها ، وحجّية العلم بها موقوفة على الدليل وهكذا. لكن الظاهر أنّ العلم الواقع في هذه السلسلة هو نفس العلم الذي أردنا إثبات حجّيته لا شيئا آخر ، فلا يكون في البين إلاّ إشكال الدور ، فتأمّل.

وأمّا الجهة الثالثة : فقد عرفت تفصيل الكلام فيها فيما قدّمناه (3) وأنّ ما

ص: 373


1- في الصفحة 364.
2- في الصفحة : 366.
3- في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : 354.

في الحاشية (1) غير متوجّه على ما أفاده شيخنا قدس سره بعد الالتزام بكون حكم العقل بقبح التشريع وحرمته الشرعية من قبيل ما هو متحقّق وجدانا بملاك واحد في مورد العلم بالعدم ومورد عدم العلم ، فلا يجري فيه استصحاب العدم أعني عدم الحجّية ، إذ لا يترتّب عليه إلاّ ما هو متحقّق وجدانا من القبح والحرمة الشرعية المنوطين بعدم العلم والعلم بالعدم بملاك واحد.

ومن الغريب ما في آخر هذه الحاشية من قياس ما نحن فيه بالبراءة العقلية والاباحة الشرعية الظاهرية ، وذلك لوضوح أنّ الاباحة الشرعية الظاهرية حكم من الأحكام الشرعية ، وأين ذلك من مجرّد قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ فكيف تكون الاباحة الشرعية الظاهرية من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجدانا ، أو من قبيل اللغوية كما هو ظاهر الحاشية ، فإنّ اللغوية إنّما تكون فيما لو كان الأثر الحاصل بأصالة الحل هو بعينه حاصلا بقاعدة قبح العقاب من دون بيان ، والمفروض أنّ أثرهما مختلف. واشتراكهما في مطلق تجويز الاقدام لا يوجب ذلك مع فرض كون أحدهما عقليا والآخر شرعيا ، فتأمّل.

نعم ، استصحاب الحجّية نافع في المقام ، لأنّه يخرجه عن موضوع عدم إحراز الحجّية أو إحراز عدمها إلى إحراز الحجّية ، الموجبة لخروجه عن موضوع المنع عن التشريع عقلا وشرعا. أمّا الأمارة القائمة على عدم الحجّية فقد تعرّض شيخنا قدس سره في أوائل مباحث حجّية الظنّ للفرق بينها وبين استصحاب عدم الحجّية ، فراجعه بما علّقناه عليه هناك (2) وتأمّل.

ص: 374


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 236.
2- راجع فوائد الأصول 3 : 128 ، وله قدس سره حاشية على ذلك وحاشية أخرى مفصّلة على فوائد الأصول 3 ( الهامش ) : 130. وستأتي الحاشيتان في المجلّد السادس من هذا الكتاب.

[ مبحث المفاهيم ]

قوله : والمفهوم بهذا الاعتبار يختصّ بالمفاهيم الافرادية ، والمفهوم المقابل للمنطوق الذي هو محلّ الكلام يختصّ بالجمل التركيبية ، والدلالة مشتركة بين القسمين ... الخ (1).

عقّبه في الطبعة الجديدة بقوله : فلفظ المفهوم حينئذ يكون مشتركا لفظيا بين المعنيين ، بخلاف لفظ المدلول فإنّه مشترك معنوي بينهما الخ.

كون لفظ المفهوم مشتركا لفظيا بينهما محلّ تأمّل ، لعدم ثبوت اصطلاح جديد ، بل الظاهر أنّه باق على ما هو عليه من كونه اسم مفعول من الفهم ، غايته أنّه قد يطلق على ذلك المعنى البسيط المعبّر عنه بالصورة العقلية من الشيء ، باعتبار كونه مفهوما من اللفظ الدالّ عليها ، وأخرى يطلق على الجملة المستفادة من جملة أخرى بطريق الملازمة ، باعتبار أنّها يفهم محصّلها من تلك الجملة. والأمر في ذلك سهل.

ثمّ لا يخفى أنّ المرحوم الشيخ محمّد علي قال ما هذا لفظه : والمفهوم كما يكون في الألفاظ الأفرادية كذلك يكون في الجمل التركيبية الخ (2). وفيه تأمّل ، فإنّ مرجعه إلى إنكار القضية العقلية ، التي هي على طبق القضية الخارجية المحكية بالقضية اللفظية.

ص: 375


1- أجود التقريرات 2 : 243 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 476.

قوله : وتدخل الدلالة التضمّنية بهذا الاعتبار في الدلالة الالتزامية ، ولا تكون قسما آخر في قبالها ، إذ اللازم في الدلالة الالتزامية كون انفهام شيء لازما لانفهام الموضوع له ، كما في مثال العمى والبصر ، لاكون ما يفهم من اللفظ لازما للموضوع ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ملاك الملازمة بين الدلالتين - أعني المطابقة والالتزام - هو كون المعنى في الثانية خارجا لازما للمعنى في الأوّل ، على وجه يكون تصوّر الأوّل موجبا لتصوّر الثاني. وهذا التفسير لا ينطبق على جزء المعنى ، لكونه داخلا فيه ، ولأجل كون الجزء داخلا في الكلّ يكون انفهامه في ضمن انفهام الكل ، كما أنّ إرادة المتكلّم له تكون في ضمن إرادته للكل ، فهي في ذلك نظير وجوب الجزء في ضمن وجوب الكلّ ، لا الوجوب المدّعى ترشّحه عليه من وجوب الكل ، أعني بذلك الوجوب الغيري.

ومن الواضح أنّ انفهام الجزء لو كان بطريق الالتزام لكان متأخرا رتبة عن انفهام الكل ، كتأخّر الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي الطارئ على الكلّ ، وقد عرفت أنّه يكون انفهامه في ضمن انفهام الكلّ فيكون في رتبته ، إذ ليس هو انفهاما آخر متأخّرا عن انفهام الكل ، ولأجل ذلك نقول : إنّا لو قلنا إنّ مفاد الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك يكون دلالة الأمر الوجوبي على النهي عن الترك بالدلالة التضمّنية ، فتأمّل.

نعم ، إنّ المرحوم الشيخ محمّد علي قد نقل عنه قدس سره (2) البرهان على إنكار الدلالة التضمّنية بما حاصله : أنّ المفهوم الذي هو المدرك العقلاني بسيط لا

ص: 376


1- أجود التقريرات 2 : 243 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 476.

تركيب فيه. قلت : لا يخفى أنّ هذا البرهان مبني على أنّ ما تحكيه الألفاظ هو تلك الصور العقلية ، ويمكن منعه ، بل إنّ المحكي باللفظ والمقصود به هو المعنى الواقعي لا بقيد وجوده الذهني ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ أهل المنطق وإن ذكروا أنّ اللزوم المعتبر في الدلالة الالتزامية هو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، كالبصر بالنسبة إلى العمى ، فإنّ لفظ العمى يحدث معناه في ذهن السامع ، وحيث إنّ تصوّر معنى العمى لا ينفكّ عن تصوّر البصر قالوا إنّ دلالته عليه التزامية ، فلا يكون ملاك الدلالة الالتزامية عندهم هو الملازمة الواقعية بين المعنيين ، بل ملاكه هو الملازمة بين التصوّرين. ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتأتّى في الدلالة التصوّرية التي هي عبارة عن حضور المعنى في ذهن السامع ، دون الدلالة التصديقية التي هي عبارة عن الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك المعنى اللازم. ولا دخل لذلك بالتلازم بين التصوّرين. ومن الواضح أنّ هذه الدلالة لا دخل لها بالدلالة الالتزامية التي اصطلح عليها أهل المنطق ، وجعلوا الملاك فيها هو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فإنّ تلك الملازمة لا دخل لها بعالم الارادة ، ( إذ الغالب فيها أنّ المتكلّم لا يكون مريدا للازم وإن كان ذلك اللازم يحضر في ذهن السامع لكن لا يحكم السامع بأنّ المتكلّم أراد ذلك اللازم ) وإلاّ لكان قوله تعالى : ( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) (1) دالا على أن جاءه البصير.

وهناك فرق آخر بين الدلالة الالتزامية المصطلحة لأهل المنطق وبين ما نحن فيه من المفهوم ، فإنّ تلك في المفردات باعتبار تلازمها في مقام التصوّر ، وهذه في الأحكام الخبرية أو الانشائية باعتبار تلازمها في عالم التحقّق في وعاء اعتبارها ، ولا معنى لأن يقال إنّ مفهوم الجملة الثانية ملازم لمفهوم الجملة الأولى

ص: 377


1- عبس 80 : 2.

الموجود في عالم المنطوق لزوما ذهنيا بيّنا بالمعنى الأخصّ ، خصوصا في مثل مفهوم حرمة الضرب بالنسبة إلى حرمة قول أف ، بل إنّ هذا اللزوم لزوم خارجي بين الحكمين.

وهكذا الحال في مفهوم الحصر ، مثل ما لو حصر جواز الفعل المحرّم في حدّ نفسه بصورة الاضطرار بمثل قوله : إذا اضطررت جاز لك شربه ، أو إنّما يجوز عند الاضطرار ، فإنّ هذا الحكم وهو الحكم بالجواز بنحو الحصر يلزمه واقعا انتفاء الجواز في غير المورد المحصور فيه. وهكذا سائر المفاهيم. ولا دخل لذلك باللزوم الذهني البيّن بالمعنى الأخصّ الذي هو مجرّد التلازم بين التصوّرين.

وبناء على هذا الذي حرّرناه يكون النزاع في أنّ الجملة هل لها مفهوم أو لا ، راجعا إلى أنّها هل تدلّ على خصوصية يكون تحقّق تلك الخصوصية في وعائها ملزوما لتحقّق المفهوم في وعائه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفيد في الطبعة الجديدة بقوله : إنّ النزاع في حجّية المفهوم وعدمها إنّما هو نزاع في وجود المفهوم وعدمه لأنّ النزاع في الحقيقة إنّما هو في دلالة اللفظ عليه بنحو الالتزام وعدمها (1). وذلك لأنّ النزاع ليس في دلالة اللفظ على المفهوم ابتداء ، بل إنّما هو في دلالته على ما هو ملزوم ذلك المفهوم ، إذ بعد دلالته على الملزوم يكون لازمه الذي هو المفهوم متحقّقا قهرا. مثلا دلالة الجملة الفلانية على أنّ الجهة الفلانية علّة للحكم على نحو الانحصار يلزمه انتفاء ذلك الحكم عند انتفائها.

وإنّما نسمّي هذه الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء لفظية باعتبار دلالته على

ص: 378


1- أجود التقريرات 2 : 245.

ملزوم الانتفاء عند الانتفاء ، بخلاف دلالة مثل كفّر على سببية الوطء للكفّارة ، ودلالة الآيتين على أقل الحمل ، فإنّها إنّما تكون بعنايات أخر وجهات أجنبية عن الدلالة على الملزوم الموجبة لانتقال الذهن إلى لازمه ، وبناء على ذلك يكون دلالة الأمر بالشيء على إيجاب مقدّمته ونحو ذلك من قبيل الدلالة اللفظية بهذه العناية.

والذي تلخّص من هذا المبحث : هو أنّ دلالة اللفظ على ما هو لازم معناه بالمعنى الذي ذكروه للبين بالمعنى الأخصّ إنّما هي من محض حضور اللازم في ذهن السامع عند حضور ملزومه في الذهن بواسطة سماع اللفظ ، ليست من الدلالة التصديقية التي مرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك اللازم. وحينئذ يقع الكلام في أنّه هل لنا دلالة تصديقية لفظية التزامية ، بحيث يكون منشأ الحكم بأنّ المتكلّم أراد ذلك اللازم هو الملازمة بين المعنيين؟

والظاهر أنّه لا وجود لمثل هذه الدلالة ، نعم بعد تحقّق الملازمة بين المعنيين لو دلّ الكلام اللفظي على تحقّق الملزوم ننتقل نحن إلى أنّ لازم ذلك المعنى قد تحقّق أيضا بعد ثبوت الملازمة بينهما. ومن الواضح أنّ هذا الانتقال ليس من الدلالة اللفظية التصديقية في شيء. أمّا تحقّق الملازمة بين المعنيين وبما ذا تثبت به تلك الملازمة بينهما فذلك أمر آخر ، وربما كان مجرّد تصوّر الملزوم كافيا في إثبات الملازمة بينهما ، كما يقال إنّ تصوّر معنى الاثنين كاف في الحكم بأنّها ضعف الواحد (1) وربما سمّي هذا النحو من اللزوم بأنّه البيّن بالمعنى الأخصّ ، وربما كان ذلك غير كاف في الحكم باللزوم بينهما ، بل يكون الحكم

ص: 379


1- ولكن لقائل أن يقول : إنّ ذلك ليس من قبيل الملازمة ، بل إنّ أحدهما عين الآخر ، وما ذلك إلاّ من قبيل تغيير العبارة نحو أنت وابن أخت خالتك [ منه قدس سره ].

باللزوم بينهما متوقّفا على تصوّر اللازم أيضا ، ككون الكل أعظم من الجزء ، فإنّ هذا اللازم للكل - وهو كونه أعظم من الجزء - لا يكفي في الحكم بلزومه للكل مجرّد تصوّر الكل ، بل لا بدّ في ذلك من تصوّر الجزء ، بأن تتصوّر الكل وتتصوّر الجزء وبعد تصوّرك الطرفين تحكم حينئذ بأنّ الكل أعظم من الجزء. ويسمّى هذا النحو باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، وتسمّى هذه القضية القائلة بأنّ الكل أعظم من الجزء بأنّها من القضايا التي قياساتها معها ، لكفاية تصوّر طرفيها في التصديق بها.

وربما كان الحكم باللزوم بينهما محتاجا إلى تصوّر النسبة بينهما مضافا إلى تصوّرهما ، فيكون الحكم باللزوم بينهما محتاجا إلى تصوّرات ثلاثة : تصوّر الملزوم وتصوّر اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، مثل كون الاثنين ربع الثمانية ، فإنّ الحكم على الاثنين بأنّها ربع الثمانية يحتاج إلى تصوّر الاثنين وتصوّر الثمانية وتصوّر النسبة بينهما. والذي يظهر من التهذيب (1) أنّ هذا هو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، لكن الذي ذكره في الشمسية (2) أنّ اللزوم بالمعنى الأعمّ هو السابق ، أعني ما توقّف الحكم به على تصوّر الطرفين فقط.

ثمّ إنّه ربما كان الحكم بالملازمة متوقّفا على جهات أخر زائدة على تصوّر الطرفين وتصوّر النسبة بينهما ، وهذا هو غير البيّن بالمعنى الأعمّ.

وعلى كلّ حال ، فالذي ينبغي أن يسمّى بالبيّن بالمعنى الأخصّ هو الذي يكفي في الحكم باللزوم فيه مجرّد تصوّر الملزوم ، فإنّ ما يكفي في الحكم باللزوم فيه مجرّد التصوّر الواحد الذي هو تصوّر الملزوم أخصّ ممّا يحتاج إلى

ص: 380


1- الحاشية على تهذيب المنطق : 46.
2- شرح الشمسية : 44.

تصوّرين أو ثلاثة تصوّرات ، لأنّه كلّما كفى التصوّر الواحد كفى التصوّران أو الثلاثة ، ولا عكس. أمّا ذلك البيّن الذي اصطلحوا عليه بأنّه البيّن بالمعنى الأخص ، أعني ما يكون فيه حضور الملزوم في الذهن موجبا لحضور اللازم فيه وإن كان بينهما كمال المباينة ، كما في مثل البصر بالنسبة إلى العمى ، أو الأبوّة بالنسبة إلى البنوّة ، فينبغي أن يكون أجنبيا عن هذا اللزوم الذي سمّوه بيّنا بالمعنى الأعمّ ، بل بينهما كمال المباينة ، لأنّ ذلك في ناحية ، وهذا في ناحية ، فلا معنى للقول بأنّه أخصّ منه ، لأنّ هذا في ناحية ما يكفي في الحكم باللزوم بينهما ، وذاك راجع إلى أنّ حضور الملزوم في الذهن موجب لحضور اللازم فيه ، وأين هذه الناحية من ناحية الحكم باللزوم بينهما ، هذا.

مضافا إلى أنّ هذا اللازم ليس من عوارض الملزوم ، فكيف صحّ أن يعدّ من أقسام الخاصّة والعرض العام بقوله : وكلّ منهما إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية أو الوجود ، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم (1).

نعم ربما كانت العبارة في بعض النسخ مبدّلة بقوله : بيّن يلزم من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما والنسبة بينهما الجزم باللزوم (2). وحينئذ يكون اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ منطبقا على ما ذكرناه من مثل لزوم ضعف الواحد للاثنين ، فيكون من عوارض الملزوم ، ويكون تصوّر الملزوم فيه كافيا في الحكم باللزوم. لكنّه على الظاهر من الغلط في العبارة من قبل النسّاخ ، فإنّه لم يذكر هذا المعنى للبين بالمعنى الأخصّ غيره من المنطقيين ، فراجع وتأمّل.

وعلى كلّ حال أنّ هذه الناحية - أعني الحكم بأنّ هذا العارض لازم لذلك

ص: 381


1- الحاشية على تهذيب المنطق : 46.
2- راجع المصدر المتقدّم.

المعروض ، وأنّه لا ينفكّ عنه - بعد ثبوتها بأحد الطرق السابقة تكون موجبة للحكم بأنّه متى وجد الملزوم فقد وجد لازمه ، فيكون اللفظ الدالّ على وجود الملزوم دالا على وجود اللازم ، بمعنى أنّا بعد أن ثبت عندنا وجود الملزوم بذلك الدليل اللفظي أو بغيره من الأدلّة نحكم بأنّ اللازم موجود أيضا ، وهذا على حذو ما يقال من أنّ الأمارات حجّة في إثبات اللوازم.

وقد عرفت أنّ ذلك ليس من قبيل الدلالة اللفظية ، بل هو من قبيل الدلالة العقلية ، فإنّ اللفظ لا يدلّ إلاّ على وجود الملزوم ، ونحن نحكم بوجود اللازم بعد أن تحقّق عندنا وجود الملزوم ، ولا ريب أنّ الانتقال من وجود الملزوم إلى الحكم بوجود اللازم لا يكون إلاّ بحكم العقل ، فاللفظ الدالّ على وجوب ذي المقدّمة ، سواء كان إخبارا عن وجوبه أو كان انشاء لجعل وجوبه يكون عندنا موجبا لتحقّق وجوبه ، ونحن بعد أن تحقّق عندنا وجوبه نحكم بأنّ مقدّمته واجبة أيضا ، لأنّه قد ثبت عندنا من الخارج أنّ وجوب المقدّمة لازم لوجوب ذيها. وهكذا الحال في جميع ما هو من هذا القبيل ، حتّى ما نحن فيه من مفهوم القضية الشرطية الذي هو الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّ القضية الشرطية بعد أن دلّت على أنّ علّة الحكم في ناحية الجزاء هو المقدّم ، وأنّه على نحو العلّة المنحصرة ، يتحقّق عندنا المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّ هذا المعنى - أعني الانتفاء عند الانتفاء - لازم للانحصار المذكور ، نعم حيث إنّ هذه الملازمة يكفي في الحكم بها مجرّد تصوّر الملزوم الذي هو انحصار علّة الحكم بالمقدّم ، فلنا أن نقول : إنّ هذا اللزوم بيّن بالمعنى الأخصّ بذلك المعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي اصطلح عليه أهل المنطق ، واللفظ المذكور وهو القضية الشرعية وإن كانت لم تدلّ إلاّ على الملزوم ، لكن لمّا كان لزوم ذلك اللازم بيّنا واضحا ، فلنا أن نقول إنّ اللفظ

ص: 382

يدلّ عليه بنحو من المسامحة ، وإلاّ فإنّ هذه الدلالة عقلية صرفة.

تنبيه : ربما أشكل على ما ذكروه من كون مدرك الدلالة الالتزامية هو اللزوم الذهني البيّن بالمعنى الأخصّ ، الذي هو عبارة عن كون تصوّر الملزوم موجبا لتصوّر اللازم ، بما يكون لازما للوجود الذهني ، مثل الكلّية بالنسبة إلى الإنسان ، حيث إنّها إنّما تعرضه في الذهن ، لأنّه في الخارج لا يتّصف بالكلّية ، وإنّما يتّصف بها عند وجوده في الذهن. وهكذا في لازم الماهية مثل زوجية الأربعة ، فإنّها تعرّضها في الذهن أيضا كما في الخارج. وحينئذ يلزم أن نقول : إنّ دلالة الإنسان على الكلّية والأربعة على الزوجية دلالة التزامية ، لأنّ وجود الإنسان في الذهن يلازم وجود كلّيته في الذهن ، وكذلك وجود الأربعة في الذهن يكون ملازما لوجود زوجيتها في الذهن ، فيكون مثل العمى بالنسبة إلى البصر ، حيث إنّ وجوده في الذهن يلازم وجود البصر في الذهن ، فينبغي أن تكون دلالة الإنسان على كونه كلّيا ودلالة الأربعة على كونها زوجا دلالة التزامية ، مع أنّ الملازمة بينهما ليست من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، بل هي من قبيل البيّن بالمعنى الأعمّ.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّ وجود الإنسان في الذهن وإن كان يلزمه اتّصافه بالكلّية ، وهكذا وجود الأربعة في الذهن وإن لازم اتّصافها بالزوجية في الذهن ، إلاّ أنّ ذلك ليس من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، إذ لا يكون تصوّر الإنسان موجبا لتصوّر الكلّية كما أنّ تصوّر العمى موجب لتصوّر البصر ، بل أقصى ما في البين هو أنّ الكلّية تعرضه عند وجوده في الذهن ، وهذا أمر آخر غير أنّ نفس تصوّر الإنسان يوجب تصوّر الكلّية ، إذ ربما نتصوّر الإنسان ونغفل عن كونه كلّيا.

وبالجملة : أنّ كون الكلّية لازمة له عند وجوده في الذهن الذي هو ملاك

ص: 383

لزومها له ذهنا غير كون تصوّره موجبا لتصوّر كلّيته ، وهكذا الحال في زوجية الأربعة.

وهذا الجواب مأخوذ ممّا حقّقه السيّد الشريف في حاشيته على شرح الشمسية (1) في الجواب عن الإشكال في لازم الماهية ، وأنّه يلزم أن يكون من البيّن بالمعنى الأخصّ.

ولعلّ عبارته صريحة في أنّ اللازم الذهني هو البيّن بالمعنى الأخصّ ، وأنّ الإشكال إنّما هو في لازم الماهية.

وكيف كان ، فإنّ في هذا الجواب مجالا للنظر ، لأنّا إذا اعترفنا أنّ الكلّية لازمة لوجود الإنسان ذهنا كان محصّله أنّ الإنسان إذا وجد في الذهن لحقته الكلّية في الذهن فكانت كلّيته موجودة في الذهن ، وليس الوجود الذهني إلاّ التصوّر ، وحينئذ يكون تصوّر الإنسان الذي هو عبارة عن وجوده ذهنا ملزوما لتصوّر كلّيته الذي هو عبارة عن وجود كلّيته.

فالذي يتلخّص : توجّه الإشكال عليهم من جهات :

الأولى : عدّ مثل اللازم البيّن من عوارض الملزوم ، وقد عرفت أنّه كثيرا ما لا يكون منها ، مثل لزوم البصر للعمى.

الثانية : أنّ جعل اللزوم المذكور ملاكا للدلالة الالتزامية لا يتسرّى إلى الدلالة التصديقية.

الثالثة : أنّ البيّن بالمعنى الأخص بالتفسير المذكور لا يصحّ فيه أن نقول إنّه أخص من البيّن بالمعنى الأعمّ.

ص: 384


1- شروح الشمسية 1 : 280 - 281.

الرابعة : أنّ جعل الملاك في الدلالة الالتزامية هو اللزوم المذكور يوجب عدم انحصار الدلالة الالتزامية فيه ، بل ينبغي تسريتها إلى مطلق اللزوم الذهني ، فتأمّل.

قال أستاذنا المحقّق المرحوم آغا ضياء الدين العراقي قدس سره فيما حرّرته عن درسه في هذا المقام ما هذا لفظه : إنّ الملازمة تارة تكون بعيدة جدّا ، بحيث إنّه لا ينتقل الذهن من الملزوم فيها إلى اللازم إلاّ بعد بيان ملاك الملازمة وبرهانها ، وليسمّ باللزوم غير البيّن. وتارة تكون أظهر من ذلك ، بحيث لا يحتاج الانتقال المذكور إلى أزيد من الالتفات إلى نفس الملازمة تفصيلا ، وليسمّ باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ. وثالثة تكون أظهر من هذا أيضا ، بحيث لا يحتاج في الانتقال المذكور إلى الالتفات إلى الملازمة تفصيلا ، لكونها ملتفتا إليها إجمالا حيث إنّها ارتكازية ، وليسمّ ذلك بالبين بالمعنى الأخصّ. والمراد بالملازمة في الدلالة اللفظية الالتزامية هو هذا الأخير ، أمّا إذا كانت الملازمة على أحد النحوين الأوّلين فلا تكون الدلالة على اللازم فيه من قبيل الدلالة اللفظية ، وإن كانت حجّة متّبعة عند العقلاء ، وهي مدار المطالب العلمية. ولا يخفى أنّ المفهوم حيث يدّعى فهو من قبيل القسم الأخير ، أعني ما كان لزومه للمنطوق من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، انتهى ما حرّرته عن درسه قدس سره.

وقال هو قدس سره في مقالته المطبوعة ما هذا نصّه : مقالة في المفهوم والمنطوق ، وعرّفوهما بما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق أو في محلّه. ولكن لا يخفى ما فيه من أنّ هذا البيان في المفهوم يشمل مطلق المداليل الالتزامية حتّى غير البيّنة منها بالمعنى الأعمّ ، ولازمه كون المنطوق منحصرا بالدلالة المطابقية والتضمّنية لأنّها

ص: 385

يكون مدلولها في محلّ النطق لا غير ، والحال أنّ بناءهم على حصر المفهوم المصطلح بالبيّنات بالمعنى الأخصّ ، الذي كانت الملازمة بينهما بمثابة من الوضوح الموجب للانتقال من الملزوم إلى اللازم في عالم التصوّر ، بلا التفات إلى الملازمة تفصيلا ، بل يختصّ المفهوم المصطلح أيضا بالقضايا ، ولا يشمل دلالة المفردات على لازمها ولو كانت بتلك المثابة كدلالة الحاتم على الجود ، بل ينحصر اصطلاح المفهوم بصورة تعليق سنخ الحكم لا شخصيته وإلاّ فليس ذلك بمفهوم ، وحينئذ فلو فرض حصر المعنى عندهم بالمفهوم والمنطوق ، لازمه دخول غير ما هو مفهوم عندهم في المنطوق ، كما صرّح الفصول حيث جعل دلالة الآيتين على أقلّ الحمل في المنطوق ، وحينئذ يختلّ أمر التعريفين كليهما (1).

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي أفاده قدس سره في بيان مراتب الملازمة من حيث الجلاء والخفاء وإن كان صحيحا في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه على الظاهر لا ينطبق على ما اصطلحوا عليه في البيّن بالمعنى الأخصّ ، فإنّ الذي اصطلحوا في هذا النحو من اللزوم هو أن يكون تصوّر أحد الطرفين كالعمى موجبا لتصوّر الآخر الذي هو البصر ، من دون أن يكون بينهما ملازمة ذاتية ، كي يقال إنّ وضوح ذلك التلازم الذاتي بينهما هو الذي أوجب الانتقال في عالم التصوّر من تصوّر الأوّل إلى تصوّر الثاني ، بل إنّ الذي أوجب هذا الانتقال التصوّري من الأوّل إلى الثاني هو كون الثاني مأخوذا في الأوّل ، لأنّ العمى لمّا كان معناه الموضوع له هو عدم البصر عمّا من شأنه أن يكون بصيرا ، كان تصوّر معناه المذكور موجبا لتصوّر البصر ، لأنّ معناه هو عدم [ البصر ] عمّا من شأنه أن يكون بصيرا ، فكان حضور هذا المعنى

ص: 386


1- مقالات الأصول 1 : 395.

في الذهن ملازما لحضور معنى البصر في الذهن أيضا ، من دون أن يكون بينهما تلازم ذاتي ، كي يقال إنّ هذا التلازم التصوّري الذي هو عبارة عن الانتقال في عالم التصوّر من الأوّل إلى الثاني منشؤه وضوح الملازمة بينهما.

ولو كان المراد أنّ وضوح الملازمة بين التصوّرين هو الذي أوجب ذلك الانتقال ، ففيه أنّ الملازمة بين التصوّرين ليست إلاّ كون تصوّر الأوّل موجبا للانتقال إلى تصوّر الثاني ، فلا معنى لاتّصافها بالوضوح والخفاء ، ولا لكون الوضوح هو الذي أوجب ذلك الانتقال ، لما عرفت أنّ ذلك الانتقال التصوّري هو عين الملازمة المذكورة.

وهكذا الحال في الأبوّة والبنوّة فإنّهما ليسا من المتلازمين بحسب الذات ، إذ التلازم الذاتي إنّما ينشأ عن كون [ أحد ] الأمرين معلولا للآخر أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمفروض أنّهما لا علّية ومعلولية بينهما وليسا معلولين لعلّة ثالثة ، ومع ذلك يكون تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الثاني ، فلا يمكن أن يقال إنّ منشأه هو وضوح الملازمة ، لما عرفت من أنّه لا ملازمة بينهما ، بل إنّ منشأه هو التضايف بينهما الموجب لكون تعقّل أحدهما مستدعيا تعقّل الآخر ، وحينئذ لو خصصنا اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ بما يكون منشأ الانتقال التصوّري فيه هو وضوح الملازمة ، لخرجت هذه الأمثلة عن كونها من قبيل اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ.

نعم ، يمكن أن نوسّع المنطقة في اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، ونقول إنّه عبارة عن كون تصوّر الأوّل موجبا لتصوّر الثاني ، سواء كان ذلك ناشئا عن كون الثاني مأخوذا في معنى الأوّل بالنحو الذي شرحناه في العمى والبصر ، أو كان

ص: 387

ناشئا عن كونها من قبيل المتضايفين ، أو كان ناشئا عن اشتهار الموصوف في صفة خاصّة كاشتهار حاتم بالجود على وجه يكون حضوره في الذهن مستدعيا لحضورها فيه - وهذه الثلاثة لا لزوم فيها بين الذاتين. وتكلّف التفتازاني (1) للثالث وألحقه بالملازمة وسمّاها ملازمة عرفا - أو كان ناشئا عن وضوح الملازمة الذاتية بينهما على وجه يكون تصوّر أحدهما موجبا لتصوّر الآخر ، لأنّهما لشدّة الملازمة بينهما ووضوحها وجلائها لدى العقل يرى أنّ أحدهما عين الآخر ، على وجه يكون العقل بتعقّل أحدهما متعقّلا للآخر ، بحيث إنّه يغفل عن كونهما متغايرين وأنّ الثاني منهما لازم لذات الأوّل ، بل بواسطة وضوح الملازمة لا يرى التغاير بينهما.

وهذا الأخير إنّما يكون في اللازم الذي يكون فيه مجرّد تصوّر الملزوم كافيا في الحكم باللزوم ، كما في مثل لزوم ضعف الواحد للاثنين ، ومنه ملازمة الانتفاء عند الانتفاء للعلّية المنحصرة. ولكن هذا لو تمّ فإنّما يوجب كون اللفظ الموجب لحضور الأوّل منهما في ذهن السامع موجبا لحضور الثاني أيضا في ذهنه ، وهذه المرحلة ليست إلاّ مرحلة الدلالة الخطورية المعبّر عنها بالدلالة التصوّرية ، وأين ذلك من الدلالة التصديقية التي مرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد الثاني.

نعم ، إنّا بعد أن تحقّق عندنا الملازمة الذاتية بينهما وأخبرنا المخبر بوجود الأوّل ننتقل إلى الحكم بوجود الثاني ، وهذا هو عبارة عن الاستدلال العقلي ، ولا دخل له بالدلالة اللفظية ، ولا دخل فيه أيضا لوضوح الملازمة وجلائها ، فإنّه

ص: 388


1- لم نعثر عليه.

يجري حتّى في الملازمة الخفية ، وحينئذ يكون إدراج مثل ذلك في الدلالة اللفظية منوطا بأنّ هذه الملازمة لوضوحها يكون اللفظ الدالّ على وجود الملزوم دالا على وجود اللازم لأنّ ذلك الوضوح يسلب ما بينهما من التغاير ، فيكون الاخبار بأحدهما إخبارا بالثاني ، فيكون ذلك هو الملاك في كون هذه الدلالة لفظية ، لا أنّ ملاكه هو كون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني ، بل إنّ ذلك أعني وضوح الملازمة هو الملاك أيضا في كون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ وضوح الملازمة بتلك الدرجة لما لم يكن له ضابط يضبطه ، جعلوا الضابط فيه هو كون الملازمة بدرجة من الوضوح بحيث يكون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني ، ويتفرّع على الوضوح بهذه الدرجة كون الاخبار عن الأوّل إخبارا عن الثاني ، وحينئذ يكون الأمر في ذلك سهلا ، لأنّا لا بدّ لنا بعد أن ثبت وجود الأوّل أن نحكم بوجود الثاني ، بحيث ننتقل من وجود الأوّل إلى وجود الثاني. وهذا المقدار لا إشكال فيه ، غايته أنّ ذلك الانتقال هل هو عقلي صرف أو أنّه بدلالة اللفظ الدالّ على وجود الأوّل ، بحيث يكون اللفظ الدالّ على الملزوم دالا على وجود اللازم دلالة لفظية. ولو صحّحنا ذلك فلا يكون إلاّ بنحو من التسامح ، وإلاّ فإنّ الدالّ على وجود الملزوم لو كان أمرا عقليا لم يكن ذلك الأمر العقلي دالا ابتداء على وجود [ اللازم ](1) ، وإنّما يدلّ ابتداء على وجود الملزوم ، ونحن ننتقل من وجود الملزوم إلى وجود اللازم ببرهان آخر ، وهو استحالة وجود الملزوم بدون اللازم ، فتأمّل.

ص: 389


1- [ في الأصل : الملزوم ، والصحيح ما أثبتناه ].

قوله : وعلى أن يكون من باب ترتّب المعلول على علّته ، لا على نحو ترتّب العلّة على المعلول أو ترتّب أحد المتلازمين على الآخر كما في البرهان الإنّي ، فإنّ غاية ما يقتضيه البرهان الإنّي هو كون تحقّق المقدّم مستلزما لتحقّق التالي حتّى يترتّب انكشاف التالي على انكشاف المقدّم ، ولا يكون فيه دلالة على امتناع وجود التالي من دون المقدّم ، فلا يكون فيه دلالة على المفهوم قطعا (1).

توضيح هذه الجمل يتوقّف على ذكر مصطلحات لأهل المنطق ذكروها في قسم التصديقات ، فاللازم ذكر تلك المصطلحات ، وينحصر بيان ذلك في أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ صاحب التهذيب قال : ثمّ إن كان الأوسط مع علّيته للنسبة في الذهن علّة لها في الواقع فلمّي ( يعني فالقياس لمّي ) وإلاّ فإنّي (2) ، يعني أنّ الوسط المتكرّر في الشكل القياسي ، الذي هو علّة لانتقال الذهن إلى التصديق بالنسبة الواقعة في النتيجة ، إن كان في الواقع علّة لتلك النسبة كان ذلك الاستدلال القياسي لمّيا ، وإن لم يكن علّة لها في الواقع كان الاستدلال القياسي إنّيا ، وهو منحصر في ثلاثة : كون الوسط معلولا لتلك النسبة ، وكونهما معا معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين مثل قولك : زيد أب وكلّ أب له ابن فزيد له ابن.

ولا يخفى أنّ الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر يشتمل على الانتقال أوّلا من المعلول الأوّل إلى علّتهما ، وعلى الانتقال ثانيا من وجود العلّة لهما إلى وجود المعلول الثاني ، فهو يشتمل على الانتقال من المعلول إلى العلّة

ص: 390


1- أجود التقريرات 2 : 248 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- الحاشية على تهذيب المنطق : 112.

لهما فيكون إنّيا من هذه الجهة ، وعلى الانتقال من علّتهما إلى المعلول الثاني فيكون لمّيا من هذه الجهة ، لكنّهم أدرجوه في الإنّي ، نظرا إلى أنّ الحجر الأساسي في الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر هو الانتقال الأوّل وهو إنّي ، فلأجل ذلك أطلقوا عليه اسم الإنّي ، وإلاّ فهو في الحقيقة مشتمل على كلا الانتقالين.

الأمر الثاني : أنّهم قسّموا التلازم وحصروه باعتبار منشئه في : كون أحد المتلازمين معلولا للآخر ، وكونه علّة له. وكونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين ، ولأجل ذلك كانت القضية الشرطية اللزومية منحصرة في أربعة أقسام : كون المقدّم علّة للتالي ، وبالعكس ، وكونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين مثل إن كان زيد أبا لعمرو فعمرو ابنه ، وحيث إنّ القضية الشرطية تشتمل على انتقال الذهن من المقدّم إلى التالي ، لأنّ قولنا إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا يشتمل على الانتقال الذهني من طلوع الشمس إلى وجود النهار ، نقول إنّ المقدّم فيها إن كان علّة للتالي كانت من قبيل الاستدلال والانتقال اللمّي. وإن لم يكن علّة للتالي بل كان الأمر بالعكس ، أو كانا معلولين لعلّة ثالثة ، أو كانا متضايفين ، كانت القضية الشرطية من قبيل الاستدلال والانتقال الإنّي.

ويمكن أن يقال : إنّ المتضايفين راجعان إلى المعلولين لعلّة واحدة ، حيث إنّ العلّة في أبوّة هذا لذاك وبنوّة ذاك لهذا هو تولّد هذا من ماء الأب ، وذلك التولّد هو العلّة في كون هذا أبا وذاك ابنا.

الأمر الثالث : أنّ صاحب التهذيب في القياس الاستثنائي قال : الاستثنائي ينتج مع المتّصلة وضع المقدّم ورفع التالي (1).

ص: 391


1- الحاشية على تهذيب المنطق : 103.

فلو قلت : لو كان هذا إنسانا كان ناطقا ، كان وضع المقدم بقولك لكنّه إنسان منتجا وضع التالي وهو أنّه ناطق ، كما أنّ رفع التالي بقولك لكنّه ليس بناطق يكون منتجا رفع المقدّم وهو أنّه ليس بإنسان. أمّا رفع المقدّم بقولك لكنّه ليس بإنسان فلا يكون منتجا رفع التالي ، وكذلك وضع التالي بقولك لكنّه ناطق لا يكون منتجا وضع المقدّم. وذكر أنّ السرّ في عدم انتاج ذلك هو أنّه ربما كان التالي أعمّ ، لجواز أن يكون اللازم أعمّ من الملزوم ، مثل قولك : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ، فلمّا كان مثل ذلك لا يكون نفي المقدم فيه موجبا لنفي التالي ، ولا إثبات التالي إثبات المقدّم ، وكانت قواعدهم عامّة ، قالوا إنّ القياس الاستثنائي في القضية المتّصلة لا يكون المنتج منه إلاّ وضع المقدّم ورفع التالي ، ولا يكون رفع المقدم ولا وضع التالي فيه منتجا ، فإنّه وإن صحّ الانتاج فيما لو كانا متساويين كما في مثل : لو كان هذا إنسانا كان ناطقا ، بأن تقول : لكنّه ليس بإنسان فهو ليس بناطق ، أو لكنّه ناطق فهو إنسان ، لكنّه لمّا لم يجر فيما لو كان التالي أعمّ من المقدم سدوا باب هذا الانتاج ، واقتصروا على وضع التالي ورفع المقدّم ليكون ذلك قاعدة كلّية جارية في كلا قسمي الشرطية ، أعني كون التالي أعمّ من المقدم وكونه مساويا له.

ولا يخفى أنّه لا يعقل كون التالي أخصّ من المقدّم ، إذ لا يصحّ أن تقول : إن كان هذا حيوانا كان إنسانا ، على نحو القضية الكلّية ، بأن تقول : كلّما كان الشيء حيوانا كان إنسانا ، فإنّ المراد من القضية الشرطية المنتجة في القياس الاستثنائي هي القضية الكلّية.

ولا يخفى أنّ مثل قولك : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ، لو ادّعى مدّع أنّها خارجة عن الأقسام الأربعة لم يكن ذلك بضائر ، لأنّ ابراز مثل هذه القضايا الحملية بقالب القضايا الشرطية إنّما هو من قبيل المسامحة والتوسّع في التعبير ،

ص: 392

وإلاّ فإنّ الجنس متّحد بالنوع ومحمول عليه ، لا أنّه شيء آخر يكون معلولا له أو علّة أو مضافا له.

ثمّ لا يخفى أنّ كون التالي أعمّ لا يتصوّر في القضية الشرطية المؤلّفة من المتضايفين ، ولا في القضية الشرطية التي يكون التالي فيها علّة للمقدّم ، إذ لا يعقل أعمّية أحد المتضايفين على الآخر ، ولا يعقل أعمّية العلّة من المعلول ، وإنّما يتصوّر ذلك فيما لو كان التالي معلولا للمقدّم ، فإنّه يتصوّر فيه كون المعلول أعمّ من العلّة باعتبار إمكان صدوره من علّة أخرى ، مثل : إن رمست يدك النجسة في الكرّ كانت طاهرة ، فإنّه يمكن حصول طهارتها من علّة أخرى هي غسلها بصب الماء القليل عليها. وكذلك يتصوّر كون التالي أعمّ من المقدّم في صورة كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، بأن يكون المعلول الأوّل مساويا لتلك العلّة ولكن يكون الثاني أعمّ منها باعتبار امكان حصوله من غيرها.

وبعد الفراغ من هذه المقدّمات نقول بعونه تعالى : إنّك قد عرفت أنّ أهل المنطق قالوا إنّ رفع المقدّم لا ينتج رفع التالي ، ولا يخفى أنّ انتاج رفع التالي (1) لرفع المقدّم هو عبارة أخرى عن المفهوم الذي اصطلح عليه أهل الأصول ، فإنّ أهل الأصول يقولون إنّ قولنا إن كان هذا إنسانا كان ناطقا ، يلزمه أنّه إن لم يكن إنسانا لم يكن ناطقا وهو عبارة أخرى ممّا يتحصّل من قولك لكنّه ليس بإنسان فهو ليس بناطق ، الذي قال المنطقيون إنّه ليس بصحيح. وقد عرفت أنّ عدم صحّته حقيقة إنّما هو في صورة كون المقدّم علّة للتالي وفي صورة كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، أمّا في صورة كون المقدّم معلولا للتالي وفي صورة كونهما متضايفين فقد عرفت أنّه صحيح حقيقة ، لكنّهم إنّما منعوه ليحتفظوا بقاعدتهم

ص: 393


1- [ لا يخفى أنّ هذا من إضافة المصدر إلى المفعول ].

الكلّية.

ونحن معاشر الأصوليين بعد أن لم نتقيّد بمصطلحات المنطقيين ، وقلنا بأنّ القضية الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي يكون لها مفهوم ، بشرط انحصار العلّة الذي هو عبارة عن كون التالي مساويا للمقدم وليس بأعمّ منه ، كان الأجدر بنا أن نقول بالمفهوم فيما لو كان المقدّم معلولا للتالي ، وفيما لو كانا متضايفين ، فلما ذا حصرناه في صورة كون المقدم علّة للتالي.

والحاصل : كما أنّ انتفاء المقدم الذي هو علّة للتالي يكون ملازما لانتفاء التالي ، فكذلك انتفاء المقدم الذي هو المعلول للتالي أو المتضايف معه يكون ملازما لانتفاء التالي ، بل إنّ الملازمة في هذين أولى منها في الأوّل ، لأنّ الانتفاء عند الانتفاء في الأوّل يتوقّف على كون العلّة منحصرة ، بخلافه في الأخيرين.

نعم ، في القضية الشرطية المؤلّفة من المعلولين لعلّة ثالثة لا يمكننا القول بالمفهوم فيها ، لأنّ ذلك يتوقّف على كون العلّة الثالثة بالنسبة إلى التالي من قبيل العلّة المنحصرة ، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك كما أثبتناه في صورة كون المقدم علّة بطريق الاطلاق ونحوه.

والحاصل : أنّ الانتقال من نفي المقدم إلى نفي التالي الذي هو عين المفهوم قد منعه المنطقيون في صورة كون المقدم علّة للتالي. وإنّما منعوه نظرا إلى أنّه ربما كان المعلول أعمّ ، فلا يكون نفي الخاصّ دليلا على نفي العام. وهذا المانع يرتفع فيما لو كانت العلّة منحصرة ، فإنّ التالي حينئذ لا يكون أعمّ من المقدّم ، فنحن قيّدنا العلّة بالانحصار لأجل ارتفاع المانع المذكور ، وحينئذ ففيما كان المقدم متضايفا مع التالي ينبغي أن نقول فيه بثبوت المفهوم بطريق أولى. وهكذا فيما لو كان المقدم معلولا للتالي ينبغي أن نقول فيه بثبوت المفهوم بطريق

ص: 394

أولى ، لأنّ انتفاء المعلول يلزمه انتفاء العلّة ، سواء كانت العلّة منحصرة أو كانت غير منحصرة. مضافا إلى أنّ المعلول الذي لا تكون علّته منحصرة بالتالي لا يصحّ جعله مقدّما ، إذ لا يصحّ لك أن تقول إن طهر ثوبك فقد رمسته في الماء الكثير ، إذ ليس الرمس بالماء الكثير لازما لطهارة الثوب ، لجواز حصول طهارته بالغسل بالماء القليل ، وإنّما يصحّ جعل المعلول مقدما في خصوص ما لو كان التالي الذي هو علّته من قبيل العلّة المنحصرة ، فلما ذا نقول إنّ المفهوم يتوقّف على كون المقدم علّة للتالي ، ولا يتأتّى فيما لو كان الأمر بالعكس أو كانا متضايفين.

أمّا ما أفاده في الجواب عن هذا السؤال في هذه العبارة الموجودة في هذه الطبعة الأولى (1) ، وكذلك ما أفاده وأوضحه في العبارة الموجودة في الطبعة الجديدة بقوله : ضرورة أنّ وجود المعلول ( الذي أخذناه مقدما ) وإن كان يكشف عن وجود علّته التامّة بجميع أجزائها وعن جميع ما يترتّب عليه ، إلاّ أنّ عدم المعلول لا يكشف عن عدم ذات العلّة ، لجواز استناده إلى وجود المانع ، مثلا وجود ممكن ما يكشف عن وجود الواجب بالذات ، لاستحالة وجود الممكن بنفسه. وأمّا عدمه فلا يكشف عن عدم الواجب ولا عن عدم ممكن آخر ، لجواز استناده إلى أمر يخصّه ولا يعمّ غيره ، وعلى ذلك فالقضية الشرطية التي لا يكون ترتّب التالي على المقدّم فيها من قبيل ترتّب المعلول على علّته لا يكون فيها دلالة على المفهوم قطعا ، انتهى (2).

ففيه تأمّل ، أمّا أوّلا : فلأنّا لو فتحنا هذا الباب - أعني أنّ عدم المعلول لا يكشف عن عدم علّته ، لجواز وجود العلّة مع المانع من وجود المعلول - لانسدّ

ص: 395


1- [ وهي العبارة المتقدّمة أوّل الحاشية ].
2- أجود التقريرات 2 : 248 - 249.

علينا باب البرهان اللمّي ، أعني الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول ، إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ العلّة وإن كانت موجودة إلاّ أنّ وجودها لا يكشف عن وجود معلولها ، لجواز اقتران تلك العلّة بالمانع ، فلا يكون وجود العلّة كاشفا عن وجود المعلول ، وبذلك يبطل الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول الذي هو البرهان اللمّي ، بل بذلك يبطل منطوق القضية الشرطية التي يكون مقدّمها علّة في جزائها ، إذ لا يكون وجود تلك العلّة محقّقا لوجود المعلول ، لجواز اقتران تلك العلّة بالمانع من المعلول ، فلا يصحّ قولنا إن كانت الشمس طالعة كان الأفق مضيئا. وبذلك ينهدم أساس ما رمناه من أخذ المفهوم من القضية الشرطية التي يكون مقدمها علّة في الجزاء حتّى بعد إثبات كونها علّة منحصرة ، إذ مع بطلان نفس المنطوق كيف يمكننا أخذ المفهوم منه.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو فرضنا كون العلّة مركّبة ولو من ذات العلّة وعدم المانع وقابلية المحل المعبّر عنه في إيجاد الممكن بالمصلحة وغير ذلك ممّا يتوقّف عليه وجود الممكن ، وإن صحّ لنا أن نستدلّ من وجود الممكن على وجود ذات علّته ، ونشكّل من ذلك قضية شرطية ونقول إنّه إن كان الممكن موجودا كانت ذات علّته موجودة أو كان انعدام مانعة محقّقا ، إلاّ أنّ ذلك تسامح في التعبير ، بل إنّ وجود الممكن إنّما يكون دليلا على وجود تمام علّته ، وبعد أن يثبت عندنا تحقّق تمام علّته ننتقل إلى تحقّق الجزء الفلاني من علّته ، فعلينا حينئذ أن نشكّل من ذلك قضيتين شرطيتين فنقول إنّه إذا وجد الممكن فقد وجدت تمام علّته ، ثمّ نقول إنّه إذا وجدت تمام علّته فقد وجد الجزء الفلاني في ضمنها ، لأنّه إذا وجد الكل فقد وجد الجزء في ضمنه.

وحينئذ نقول : إنّ انتفاء المقدم في القضية الأولى يلزمه انتفاء التالي فيها ،

ص: 396

ثمّ نقول إذا انتفى المقدم في الثانية يلزمه انتفاء التالي فيها ، ولكن التالي هو وجود الجزء في ضمن الكل ، وأقصى ما يكون من النتيجة حينئذ هو انتفاء الجزء في ضمن الكل ، بمعنى أنّ مفهوم القضية الأولى هو أنّه إن لم يوجد الممكن لم توجد علّته التامّة ، ومفهوم القضية الثانية هو أنّه إن لم توجد علّته التامّة لم يكن جزؤها الفلاني موجودا في ضمنها. ومن الواضح أنّ نفي وجود ذات العلّة في ضمن تمام العلّة لا ينافيه وجود ذات العلّة في حدّ نفسها لا في ضمن مجموع أجزاء العلّة.

وحاصل القضية الأولى أنّه إن وجد الممكن فقد اجتمعت أجزاء علّته ، وحاصل القضية الثانية أنّه إن اجتمعت أجزاء علّة الممكن فقد وجد في ضمنها أحد أجزائها الذي هو ذات الواجب ، وحينئذ يكون مفهوم الأولى أنّه إن لم يوجد الممكن فلم تجتمع أجزاء علّته ، وحاصل مفهوم الثانية أنّه إن لم تجتمع أجزاء علّة الممكن لم يكن ذات الواجب في ضمنها ، وكلّ هذا لا ضير فيه ولا إشكال.

وبالجملة : أنّ عدم وجود الممكن لا يمكن أن يكون دليلا إلاّ على عدم اجتماع أجزاء علّته ، وعدم اجتماع أجزاء علّته لا يكون دليلا إلاّ على عدم كون الجزء الفلاني موجودا في ضمنها ، لا على عدم وجوده أصلا. وهكذا الحال من طرف الاثبات ، إذ لا علقة بين المعلول وبين أحد أجزاء علّته بما أنّه في حدّ نفسه أمر استقلالي ، وإنّما العلقة بينه وبين ذلك الجزء باعتبار كونه داخلا في ضمن أجزاء علّته ، فيكون وجود المعلول دليلا على وجود ذلك الجزء من العلّة في ضمن مجموع العلّة ، وحينئذ لا يدلّ وجود الممكن ابتداء ولا يكشف بدوا إلاّ عن اجتماع أجزاء علّته ، كما أنّ اجتماع أجزاء علّته لا يكون دليلا إلاّ على وجود الجزء الفلاني في ضمنها ، لا أنّ الاجتماع يكون دليلا على أصل وجود ذلك الجزء وإن لم يكن في ضمن المجموع ، ليكون انتفاء اجتماعها دليلا على انتفاء

ص: 397

أصل وجود ذلك الجزء. وما أشبه هذه المغالطة بالمغالطة في قولك : كلّما وجدت الثلاثة فقد وجدت الاثنان ، وكلّما وجدت الاثنان كانت زوجا ، لتكون النتيجة أنّه كلّما وجدت الثلاثة كانت زوجا.

وحاصل المراد : هو أنّه عند كون العلّة بسيطة لا ريب في أنّ وجودها كاشف عن وجود المعلول ، وعدمها كاشف عن عدمه ، سواء جعلنا المقدم هو العلّة أو جعلناه هو المعلول. أمّا لو كان العلّة مركّبة من أربعة أجزاء مثلا فالعلّة إنّما هو اجتماع تلك الأجزاء الأربعة ، فيكون اجتماعها كاشفا عن وجود المعلول ، وعدم اجتماعها كاشفا عن عدم وجوده. كما أنّ وجود ذلك المعلول يكشف عن اجتماعها ، وعدم وجوده لا يكشف إلاّ عن عدم اجتماعها. وحينئذ يصحّ لنا أن نقول بتمامية المفهوم فيما لو كان ذلك المعلول هو المقدّم ، لأنّ عدمه يكشف عن عدم علّته وهو اجتماع تلك الأربعة ، ولا يتوقّف صحّة مفهوم تلك القضية على كون عدم ذلك المقدم كاشفا عن عدم وجود ذات الجزء الأوّل من علّته المزبورة.

فالذي تلخّص : أنّ ثبوت المفهوم للقضية الشرطية لا يتوقّف على كون المقدّم علّة ، بل إنّه لو ثبت كون المقدم علّة يتوقّف ثبوت المفهوم على ثبوت انحصار تلك العلّة ، أمّا إذا كان الشرط معلولا فلا يتوقّف ثبوت المفهوم فيه على شيء ، كما لو قلنا إنّه إن وجبت المقدمة الفلانية فقد وجب ذوها ، فإنّ مفهومه واضح ، وهو أنّه إن لم تكن تلك المقدّمة واجبة لم يكن ذوها واجبا ، انتقالا من عدم المعلول إلى عدم علّته.

وهكذا الحال في المتضايفين لو تصوّرناه في القضايا الأحكامية ، بأن ندّعي أنّ الطلب الالزامي إضافة بين الفعل وتركه ، فبالاضافة إلى الفعل يكون إيجابا ، وبالاضافة إلى الترك يكون تحريما ، فنقول إن وجب الفعل الفلاني فقد حرم

ص: 398

تركه ، ومفهومه أنّه إن لم يجب لم يحرم تركه ، بل في المعلولين لعلّة ثالثة لو تصوّرناه في الأحكام كما سيأتي (1) في رواية معاوية بن وهب من قوله عليه السلام « إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » (2) فإنّ كلا من التقصير والافطار معلول لعلّة واحدة وهي السفر. وكما في مقدّمتين لفعل واحد مثل الوضوء وتطهير البدن للصلاة ، فنقول حينئذ إن وجب الوضوء مقدمة للصلاة فقد وجب تطهير البدن ، ومفهومه أنّه إن لم يجب الوضوء فلا يجب التطهير المذكور. نعم هذا يحتاج إلى إثبات انحصار مورد وجوب التطهير بمورد وجوب الوضوء ، كما في صورة كون المقدم علّة للتالي ، ويمكننا إثبات ذلك من الطرق التي بها أثبتنا الانحصار في ذلك.

والسرّ في ذلك هو ما عرفت من أنّ مثل هذه القضايا ينحل إلى قضيتين ، مثلما قلنا (3) في كون الاستدلال به ينحل إلى استدلالين ، فنقول إنّ محصّل القضية الأولى هو أنّه إن وجب الوضوء غيريا للصلاة فقد تحقّقت علّته وهي وجوب الصلاة ، وإن تحقّقت علّته المذكورة تحقّق المعلول الآخر وهو وجوب التطهير ، فيكون حاصل القضية الثانية أنّه إن وجبت الصلاة فقد وجب التطهّر.

وهذه القضية الثانية وإن أمكن فيها كون التالي أعمّ ، لامكان وجوب التطهير للثوب بعلّة أخرى هي وجوب الطواف مثلا ، فتكون هذه القضية داخلة فيما يكون المقدم فيها علّة للجزاء ، فيتوقّف ثبوت المفهوم فيها على ثبوت الانحصار. ويمكننا إثبات الانحصار من القضية الأولى اللفظية وهي قولنا إن

ص: 399


1- في الفائدة المذكورة في الصفحة : 408.
2- وسائل الشيعة 8 : 503 / أبواب صلاة المسافر ب 15 ح 17.
3- في الصفحة : 390.

وجب الوضوء للصلاة فقد وجب التطهير ، فإنّ ظاهرها انحصار المورد الذي يجب فيه التطهّر بالمورد الذي يجب فيه الوضوء. أو نقول إنّه بعد إحراز كونهما معلولين لعلّة واحدة يكون محصّل القضية الأولى هي أنّه إن وجد هذا المعلول لأجل هذه العلّة فقد وجد المعلول الآخر لأجل تلك العلّة ، فيكون المنفي عند الانتفاء هو المعلول الآخر المترشّح من تلك العلّة ، ففي المثال لا بدّ أن يكون محصّل القضية الأولى أنّه إن وجب الوضوء للصلاة فقد وجب التطهير للصلاة ، فيكون المنفي عند انتفاء وجوب الوضوء للصلاة ، هو وجوب التطهير للصلاة لا مطلق الوجوب ولو ما يكون للطواف.

وعلى كلّ حال ، أنّ توقّف ثبوت المفهوم في مثل هذه القضية على استفادة الانحصار شيء ، وكون المفهوم منحصرا في صورة كون المقدم علّة للتالي على وجه لا يكون غيرها من القضايا الشرطية ذات مفهوم شيء آخر. وإن شئت فقل : إنّ كون القضية الشرطية ذات مفهوم لا يتوقّف على كون الشرط علّة ، بل يتأتّى فيما لو كان الشرط هو المعلول.

ومن ذلك يظهر لك أنّ المفهوم لا ينحصر بالانتقال من عدم المقدّم إلى عدم التالي ، بل يتأتّى الانتقال من عدم التالي إلى عدم المقدّم. فالقضية التي يكون مقدّمها هو العلّة يكون لها مفهومان : الانتقال من عدم مقدمها إلى عدم تاليها ، والانتقال من عدم تاليها إلى عدم مقدمها. كما أنّ القضية التي يكون مقدمها معلولا لتاليها يكون لها هذان المفهومان. غاية الأمر أنّ الانتقال من عدم العلّة إلى عدم المعلول لا يكون إلاّ إذا كانت العلّة منحصرة ، من دون فرق في ذلك بين كون العلّة هي المقدم كما في النحو الأوّل ، أو كونها هي التالي كما في النحو الثاني.

والحاصل : أنّ ما ذكروه من كون الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة

ص: 400

للتالي ذات مفهوم بعد قيام الدليل على انحصار العلّة ، جار في القضية التي يكون المقدم فيها مع التالي معلولين لعلّة ثالثة بعد قيام الدليل على حصر مورد المعلول الثاني الذي هو التالي بمورد المعلول الأوّل الذي هو المقدّم. ودليل الحصر فيهما واحد ، وهو أنّ مقتضى إطلاق الشرطية هو حصر موارد الجزاء بموارد الشرط الذي هو العلّة أو أحد المعلولين ، هذا.

مضافا إلى أنّ انكارهم المفهوم للقضية الشرطية التي يكون المقدم فيها معلولا للتالي أو يكونان متضايفين لم يتّضح وجهه ، مع أنّهما أولى بالمفهوم من القضية الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي ، لأنّ المفهوم في هذه يتوقّف على دعوى الانحصار بخلافهما ، فإنّ انتفاء العلّة عند انتفاء المعلول وكذلك انتفاء أحد المتضايفين عند انتفاء الآخر لا يتوقّف على انحصار العلّة ، ولا يتصوّر في ذلك كون الجزاء الذي هو العلّة أعمّ من المقدم الذي هو المعلول ، أو الجزاء الذي هو أحد المتضايفين أعمّ من الآخر الذي هو المقدّم.

وما أفاده شيخنا قدس سره من البرهان على عدم صحّة المفهوم للقضية التي يكون المقدّم فيها معلولا قد عرفت (1) التأمّل فيه ، هذا. ولكن لا يخفى أنّ القضية التي يكون مقدّمها معلولا للتالي ، مثل إن وجب الوضوء فقد وجبت الصلاة ، لا يكون منطوقها صحيحا إذا كان للوجوب الطارئ على الوضوء علّة أخرى غير وجوب الصلاة ، إذ لا يكون وجوب الوضوء حينئذ كاشفا عن وجوب الصلاة ، فلا بدّ من إصلاحه بأنّ المراد منه الوجوب الغيري للصلاة. وحينئذ يتمّ المنطوق ويكون حاصل المفهوم أنّه إن لم يكن الوضوء واجبا بذلك الوجوب الخاصّ لم تكن الصلاة واجبة.

ص: 401


1- في الصفحة : 395.

ولو جيء بمثال آخر يكون المقدم فيه معلولا للتالي لم يصحّ المنطوق إلاّ فيما كانت العلّة منحصرة بذلك التالي ، وحينئذ يتشارك مع القضية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي في التوقّف على الانحصار ، غايته أنّ التوقّف هناك للمفهوم بعد صحّة المنطوق في نفسه وفي هذا يكون التوقّف للمنطوق. وعلى أي حال لا يكون أخذ المفهوم من القضية الشرطية متوقّفا على كون المقدّم هو العلّة ، بل يأتي فيما لو كان المقدم معلولا ، غايته بعد الانحصار كما لو كان المقدم علّة.

وبالجملة : فيما لو كان المقدم هو المعلول لا بدّ من اصلاح المنطوق فيه بدعوى انحصار العلّة أو بدعوى كون المراد من المقدّم - أعني وجوب الوضوء - هو الوجوب الآتي من ناحية وجوب الصلاة ، أو التعبير بقولك قد يكون إذا وجب الوضوء وجبت الصلاة. وعلى أي واحد من هذه الاصلاحات يكون انتفاء ذلك المقدم كاشفا عن انتفاء ذلك التالي.

نعم ، إنّ في المقام مطلبا آخر ، وهو أنّه ربما يشكل على ما تقدّمت (1) الاشارة إليه في الأمر الثاني من حصر التلازم في الأقسام المذكورة ، فيقال إنّ العارض الذي هو من لوازم الماهية مثل زوجية الأربعة ، والعارض الذي هو من لوازم الوجود الخارجي مثل حرارة النار ، والعارض الذي هو من لوازم الوجود الذهني مثل الكلّية للإنسان ، ليست من قبيل العلّة والمعلول ، ولا من قبيل المعلولين لعلّة ثالثة ، ولا من قبيل المتضايفين ، فإنّ هذا النحو من التلازم قسم مستقلّ آخر وهو ملازمة العارض لذات المعروض ، بمعنى أنّ الزوجية لازمة لذات الأربعة ، لأنّها بالذات زوج لا أنّ ذاتها أوجدت الزوجية فكانت هي العلّة في

ص: 402


1- في الصفحة : 391.

الزوجية ، ولا أنّهما معلولان لعلّة ثالثة.

والجواب عنه بأن يقال : إنّ الزوجية لمّا كانت باقتضاء الذات كانت معلولة للذات ، فكانت داخلة في القسم الأوّل.

إذا عرفت الجواب عن هذا الإشكال فاعلم أنّ قضايا الأحكام يكون التالي فيها هو الحكم ، والمقدم فيها هو شرطه أو موضوعه ، والشارع بعد أن جعل الحكم مترتّبا على ذلك الموضوع ، كان نسبة ذلك الموضوع إلى ذلك الحكم كنسبة العلّة إلى معلولها في كونه سابقا في الرتبة على ذلك الحكم ، على وجه أنّ ذلك الحكم بعد جعل الشارع له مترتّبا على ذلك الموضوع يكون من قبيل لوازم الوجود الخارجي بالنسبة إلى ذلك الموضوع ، وبعد أن دخلت القضية الشرطية المؤلّفة من الشرط والحكم ساحة اللازم والملزوم والعارض والمعروض ، وقد فهمنا من الاطلاق ونحوه انحصار الشرط والعلّة على وجه لا يعقل ولا يمكن الحكم ببقائه بعد انتفاء الشرط ، كان ذلك ملازما لانتفائه عند انتفائه.

والحاصل : أنّا إنّما حصرنا المفهوم في الشرطية الدالّة على كون المقدم علّة للتالي من جهة أنّ قضايانا الأحكامية منحصرة فيما يكون من قبيل علّة الحكم ، لا من جهة أنّ القضية الشرطية لا تكون ذات مفهوم إلاّ إذا كان الشرط علّة للجزاء.

وحاصل الأمر أنّ محطّ كلمات المنطقيين هو الاستدلال والبرهان اللمي أو الإنّي ومحلّ كلامنا هو القضايا الأحكامية التي جعلت الأحكام فيها على موضوعاتها وأبرزت بقالب القضية الشرطية ، على وجه صار الموضوع في مقام الشرط والحكم في مقام الجزاء ، فكان هذا الوضع ظاهرا في ترتّب الجزاء على الشرط على نحو ترتّب المعلول على العلّة ، فهل يكون هذا الترتّب موجبا ودالا على الانتفاء عند الانتفاء.

ص: 403

فليس محلّ كلامنا إلاّ في مرحلة الدلالة اللفظية ، وهي أجنبية عن تلك المباحث البرهانية المنطقية ، ولأجل ذلك تكون القضية الشرطية التي يكون مقدمها معلولا للتالي خارجة عمّا نحن فيه من دلالة الشرط على تقييد الحكم ، وتكون داخلة في الاستدلالات البرهانية وإن كانت في حدّ نفسها موجبة للانتفاء عند الانتفاء ، حيث إنّ انتفاء المعلول يكشف عن انتفاء علّته ، إلاّ أنّ هذه القضية بالخصوص لا تكون مسوقة إلاّ لاستكشاف تمامية العلّة من وجود المعلول ، على وجه يجعل انتفاء العلّة التي هي الجزاء كاشفا عن عدم المعلول الذي هو الشرط ، لما ذكروه من أنّ القياس الاستثنائي يكون وضع المقدّم فيه منتجا لوضع التالي ، ورفع التالي منتجا لرفع المقدم.

هذا هو الذي يتوخّاه المنطقيون من القضايا الشرطية ، وأين هذا ممّا نتوخّاه نحن من القضايا الشرطية ، أعني ادّعاء ظهورها في كون الشرط قيدا للحكم في ناحية الجزاء ، وأنّ مقتضى كونه قيدا فيه هو انتفاؤه عند انتفائه بعد إثبات كونه من القيود المنحصرة ، وقد شرحنا هذه القيدية في محلّه من بحث الواجب المشروط (1) ، وقلنا إنّ المراد بها هو الاناطة ، أعني إناطة الحكم في ناحية الجزاء بتقدير وجود الشرط ، فليس ذلك من قبيل القيود الاصطلاحية النحوية. هذا هو الذي يريده شيخنا قدس سره ، وليس غرضه من اخراجها ممّا نحن فيه هو أنّ نفي المعلول الواقع في ناحية الشرط لا يدلّ على نفي العلّة الواقعة في ناحية الجزاء.

وإن شئت فراجع ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي. وأوضح منه ما

ص: 404


1- في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 33 وما بعدها ، وراجع أيضا الصفحة : 27 - 28.

حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى (1) ، فإنّه صريح فيما ذكرناه من كون نفي المعلول

ص: 405


1- قال المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس سره في هذا المقام : وبالجملة لو ثبت ظهور القضية الشرطية وضعا أو اطلاقا لترتّب الجزاء على الشرط وجودا وعدما ، فكون الشرط معلولا لا علّة للجزاء أو كونهما متلازمين في الوجود لا يضرّ الظهور ، لأنّه على فرض الظهور كان الشرط معلولا أو ملازما ينتفي بانتفائه الجزاء. أمّا لو كان معلولا فواضح ، لأنّ مع عدمه لا يمكن وجود العلّة ولو كان المعلول أعمّ. نعم لا يستند انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، ولكن الاستناد ليس مدّعى القائل بالمفهوم. وأمّا لو كان ملازما فمع الظهور يدّعى التلازم وجودا وعدما ، كما أنّ قول المنطقيين إنّ رفع المقدم لا ينتج رفع التالي لا يصادم الظهور اللفظي ، لأنّ كلامهم ناظر إلى مقام البرهان ، والبرهان العقلي يصادمه الاحتمال ، وهو كون اللازم لازما أعمّ لا ينتفي بانتفاء أحد ملزوماته. ولو لم يثبت الظهور فإثبات العلّة في مقام الثبوت وكذلك الانحصار لا يفيد للمفهوم ، لأنّ أغلب القضايا المتعارفة واردة في مقام الاثبات والبرهان ، وغير ناظرة إلى مقام الثبوت المقتضي لتقدّم ما هو المقدّم طبعا وتأخر ما هو المؤخّر. فالأولى أن يكون النزاع ناظرا إلى ظهور القضية في التقييد وعدمه ، أي مفهوم الوصف والشرط والغاية كمفهوم اللقب ، أي ليس في القضية خصوصية مفيدة لتقييد الحكم بقيد ، بل ليس فيه إلاّ الحكم على موضوعه من دون تعرّض لنفيه عمّا عداه ، أو ليس كمفهوم اللقب بل ظاهر في التقييد والاناطة ، فينتفي المقيّد بانتفاء قيده بعد إثبات الانحصار بالاطلاق. وبالجملة : هل ظاهر التعليق في القضية الشرطية لبيان فرض وجود الموضوع أو لتقييد الحكم ، والظاهر في القضايا المتعارفة كونه لتقييد الحكم وتنقيحه يتوقّف على تمهيد مقدّمة الخ. وقال المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأصول 1 - 2 : 480 - 481 ] فيما حرّره في دلالة الجملة على كون الشرط علّة : إلاّ أنّه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إنّ سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا هو أن يكون الكلام على وفق ما هو الواقر. بمقتضى تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ، فإنّه لو كان الجزاء علّة للشرط أو كانا معا معلولين لعلّة ثالثة لكان الكلام مسوقا لبيان البرهان الإنّي ، ويتوقّف ذلك على كون المتكلّم في مقام الاستدلال على انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء حسبما يقتضيه الاستدلال الإنّي ، وهذا يحتاج إلى مئونة خارجية ، وإلاّ فإنّ طبع الكلام يقتضي كون المقدم هو المقدم والتالي هو التالي في الواقع وعالم الثبوت ، فيكون الكلام قد سيق على طبق الواقع انتهى [ منه قدس سره ].

الواقع في ناحية الشرط يستلزم نفي العلّة الواقعة في ناحية الجزاء ، لكن القضية المتضمّنة لذلك لا توجب رفع اليد عمّا ادّعيناه من ظهور الجملة الشرطية في حدّ نفسها في كون الشرط قيدا في الحكم الواقع في ناحية الجزاء ، كما هو الشأن في قضايانا الأحكامية. بل إنّه قدس سره صرّح بأنّه لو كان الشرط علّة للجزاء علّة تكوينية تكون تلك القضية خارجة عمّا هو محلّ كلامنا من القضايا الأحكامية ، التي يكون مفادها تقييد الحكم بالشرط ، كما صرّح بذلك فيما نقله عنه في هذا الكتاب ، فلاحظ عبارته هناك في مقام دفع توهّم أنّه لا بدّ من كون الشرط علّة للجزاء بقوله : فمدفوع بأنّ الموضوع بالاضافة إلى حكمه وإن لم يكن علّة له ، إلاّ أنّه مترتّب عليه نحو ترتّب المعلول على علّته ، ولا تدلّ القضية الشرطية إلاّ على ترتّب التالي على المقدم. وأمّا كون الترتّب بنحو العلّية فهو ليس مفاد القضية الشرطية ، وإنّما هو من باب انحصار الترتّب في غير الأحكام في الترتّب بنحو المعلولية الخ (1).

ولاحظ أيضا عبارته في مقام الردّ على دعوى الكفاية (2) أنّ ترتّب المعلول

ص: 406


1- أجود التقريرات 2 : 251 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الأصول : 195 - 196.

على علّته المنحصرة ليس مغايرا في السنخ مع ترتّبه على غير المنحصر ، وبذلك منع التمسّك بالاطلاق على الانحصار ، فقال شيخنا في ردّه حسبما نقله في هذا الكتاب بقوله : وجه الفساد هو أنّ التمسّك بالاطلاق ليس من جهة إثبات انحصار العلّة حتّى يرد عليه ما ذكره ، لما عرفت من أنّه ليس كون الترتّب بنحو المعلولية مفادا للقضية الشرطية ، بل مفاده إنّما هو ترتّب التالي على المقدم ليس إلاّ الخ (1). وإن شئت فلاحظ هذه المقامات في الطبعة الجديدة لهذا الكتاب ، فإنّها فيه أوضح وأبسط ممّا في هذه الطبعة.

وأوضح من ذلك ما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي في مقام الرد على الاستدلال على الانحصار باطلاق العلّية بقوله : وثانيا أنّ القضية الشرطية لا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط وكون وجوده معلولا لوجوده ، بل غاية ما تدلّ عليه القضية الشرطية هو الترتّب بين الجزاء والشرط ، ووجود الجزاء عند وجود الشرط ، إلى قوله : ولكن لا يخفى عليك أنّ هذه الكلمات كلّها أجنبية عن مسألة استظهار المفهوم للقضية الشرطية ، بل استظهار المفهوم لها يحتاج إلى بيان آخر ، وحاصله الخ (2).

والخلاصة : هي أنّ قضايانا الأحكامية مسوقة لجعل الحكم على موضوعه ، فإن قلنا بأنّ المجعول هو السببية كان الموضوع علّة للحكم ، لكن علّيته له شرعية لا تكوينية. وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا إنّ المجعول هو الحكم على تقدير الشرط ، كان الشرط بمنزلة العلّة ، وكانت القضية في دلالتها على المفهوم متوقّفة على الدلالة على الانحصار.

ص: 407


1- أجود التقريرات 2 : 253 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 481 - 482.

هذا حاصل قضايانا الشرعية ، وليس فيها ما يكون الشرط معلولا ، نعم في باب الملازمات كما في وجوب المقدمة المعلول لوجوب ذيها يتأتّى ما ذكره المنطقيون من البرهان اللمي والإنّي ، فتارة يكون المقدم هو وجوب ذي المقدمة فيكون الانتقال لمّيا ، وأخرى يكون المقدم هو وجوب المقدمة فيكون الانتقال إنّيا ، ويكون انتفاء المقدم كاشفا عن انتفاء التالي في كلا الصورتين ، كما أنّ تحقّقه يكون كاشفا عن تحقّق التالي في كلّ منهما.

ولا يخفى أنّه بعد أن كان كلّ ما في المطلب هو كون الشرط موضوعا وكون الجزاء حكما لذلك الموضوع ، وأن ليس في البين إلاّ مجرّد التسمية ، فيسمّى الشرط علّة باعتبار ترتّب الحكم عليه ، ويسمّى الجزاء معلولا باعتبار كونه متأخرا رتبة عن الشرط وأنّه يتحقّق عند تحقّق الشرط ، نكون في غنى عن إثبات الأمر الأوّل ، أعني كون القضية لزومية في قبال الاتّفاقية ، بل نكون في غنى أيضا عن إثبات الأمر الثاني وهو كون الشرط علّة ، لما عرفت من أنّ المدار على كون الشرط موضوعا للجزاء ، وهذا أعني تشخيص كون المقدم موضوعا وشرطا أمر جلي واضح ، لا يحتاج إلى إقامة البرهان ولا إلى استظهار من لفظ القضية.

نعم ، يبقى الكلام في الأمر الثالث وهو الانحصار ، ونعني به انحصار موضوع ذلك الحكم بالشرط المذكور ، كما نراه في الاستطاعة ووجوب الحجّ أعني حجّة الإسلام ، فإنّه لا موضوع لوجوبها إلاّ الاستطاعة ولا يقوم مقامها شيء آخر ، بخلاف وجوب الكفّارة في مثل إن ظاهرت فكفّر ، فإنّ انتفاء الظهار لا يكشف عن انتفاء وجوب الكفّارة ، لجواز وجوبها بالافطار مثلا. فعلى القائل بالمفهوم إثبات الانحصار وأنّ هذا الموضوع لا يقوم مقامه موضوع آخر.

فائدة : قال في المستند فيما لو نوى الاقامة وصلّى رباعية بتمام ما هذا

ص: 408

لفظه : ثمّ إنّه بعد إيقاع الصلاة الواحدة تامّة لو رجع كما يصلّي باقي الصلوات تامّة يصوم أيضا ، لمفهوم « إذا قصرت أفطرت » ويجبر عدم دلالته على الوجوب بالإجماع المركّب (1).

قلت : لا يخفى أنّ الرواية المشار إليها هي ما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن وهب ، التي يقول في آخرها : « قال قلت : إن دخلت بلدا أوّل يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشرا ، قال عليه السلام : قصّر وافطر ، قلت : فإن مكثت كذلك أقول غدا وبعد غد ، فأفطر الشهر كلّه وأقصّر؟ قال عليه السلام : نعم ، هذا واحد ، إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » (2).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية الشريفة مشتملة على جملتين إحداهما عكس الأخرى ، وهما قوله عليه السلام : « إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » ودلالة الجملة الأولى على وجوب الصوم في المسألة المذكورة - أعني ما لو عدل عن نيّة الاقامة بعد الصلاة الرباعية بتمام - بطريق المفهوم باصطلاح الأصوليين ، وهو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، فيحتاج دلالته على وجوب الصوم إلى الاعتضاد بالإجماع المركّب ، لأنّ المنطوق هو أنّك إذا قصرت وجب الافطار ، فمفهومه أنّك إذا لم تقصر لم يجب الافطار. ومجرّد نفي وجوب الافطار لا يدلّ على وجوب الصوم وحرمة الافطار إلاّ بالإجماع المركّب ، وهو أنّه لا قائل بجواز الصوم ، لأنّ المسألة ذات قولين : قول بوجوب الصوم وقول بحرمته ، فإذا دلّ المفهوم على عدم وجوبه فقد دلّ على حرمته ووجوب الافطار ، وهكذا الحال في

ص: 409


1- مستند الشيعة 8 : 261.
2- وسائل الشيعة 8 : 503 / أبواب صلاة المسافر ب 15 ح 17 ، الفقيه 1 : 280 / 1270.

الافطار. لكن يمكن أن يقال إنّ المفهوم هو أنّك إذا لم تقصر لم تفطر ، وهو دالّ بنفسه على عدم جواز الافطار.

ثمّ لا يخفى أنّ الجملة الثانية - وهي إذا أفطرت قصّرت - تدلّ على الحكم في المسألة المزبورة بطريق المفهوم في اصطلاح المنطقيين ، وهو أنّ نفي الجزاء يوجب نفي الشرط ، وذلك بطريق القياس الاستثنائي بأن يقال إنّ هذا الراجع عن نية الاقامة بعد أن صلّى الرباعية بتمام لا يجوز له الافطار ، لأنّه لو أفطر لقصر الصلاة ، لكن قصرها غير جائز ، فتكون النتيجة أنّ افطاره غير جائز.

وملخّصه : أنه لو أفطر لقصر الصلاة لكنّه لا يقصرها فهو محكوم بأنّه لا يفطر ومن الواضح أنّ ذلك لا يحتاج إلى الاعتضاد بالإجماع المركّب ، وهكذا الحال في مسألة التردّد ثلاثين يوما ، فتأمّل.

هذا ما حرّرته في سالف الزمان ، ولكن الظاهر أنّ كلا من الجملتين خارج عن اصطلاح الأصوليين وأنّهما على اصطلاح المنطقيين ، فإنّ كلا من تقصير الصلاة والافطار حكم معلول لتحقّق السفر ، فالسفر علّة لكلّ منهما ، وانتفاء كلّ منهما يكون برهانا على انتفاء الآخر ، لأنّ انتفاء أحدهما يكشف عن عدم العلّة ، وهو أعني عدم العلّة يوجب عدم المعلول الآخر.

قوله : وحيث إنّ حال التقييد مع الانحصار وعدمه تختلف لا محالة ، فيكون اطلاق القيد وعدم ذكر عدم له مفيدا لانحصاره لا محالة (1).

الإنصاف : أنّه لم يتّضح تمام الاتّضاح اختلاف التقييد مع الانحصار وعدمه على وجه يكون التقييد مع الانحصار غير محتاج إلى مئونة زائدة والتقييد مع عدم

ص: 410


1- أجود التقريرات 2 : 253 - 254 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الانحصار محتاجا إلى ذلك ، ليكون ما نحن فيه من قبيل الاستدلال بالاطلاق على إرادة أحد نوعي المطلق الذي لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، ليكون نظير الواجب التعييني في قبال الواجب التخييري. فالأولى تقريب التمسّك بالاطلاق على الانحصار بنحو آخر يكون من باب التمسّك بالمطلق على إرادة المطلق ، أعني بذلك اطلاق نفس التقييد وشموله لما إذا وجد الطرف الآخر الذي يحتمل قيامه مقام القيد المذكور في الشرط ، فإنّ مقتضى اطلاق كون الشرط قيدا هو كونه قيدا بقول مطلق حتّى عند وجود ذلك الطرف الآخر ، فإذا فرضنا أنّ ذلك الشرط يكون قيدا في ذلك الحكم حتّى في حال وجود طرفه المذكور ، كان محصّل ذلك هو أنّ ذلك الطرف لا يقوم مقامه ، وذلك هو عين الانتفاء عند انتفاء القيد المذكور ، الذي هو عبارة عن الانحصار.

والحاصل : أنّ طبع التقييد يقتضي تضييق الدائرة الذي هو عبارة عن الانتفاء عند الانتفاء ، ولكن نشكّ أنّه عند انتفاء ذلك القيد ووجود الطرف الآخر المحتمل القيدية والقيام مقام ذلك القيد المذكور في ناحية الشرط ، هل يكون الحكم المذكور في ناحية الجزاء باقيا على ما هو عليه من كونه مقيّدا بذلك القيد المذكور في ناحية الشرط ، أو أنّ تقيّده به مختصّ بما إذا لم يوجد ذلك الطرف الآخر ، فإذا أثبتنا بمقتضى إطلاق التقييد أنّ ذلك الشرط قيد في ذلك الحكم حتّى في حالة وجود ذلك الطرف الآخر ، كان محصّله أنّه في ذلك الحال أيضا يكون الحكم المذكور مضيّق الدائرة بوجود الشرط ، وأنّه ينعدم عند انعدامه ، ويكون محصّله أنّ الحكم في ذلك الحال - أعني حال وجود الطرف الآخر - يكون منعدما عند انعدام الشرط ، وهو معنى المفهوم ، وهو معنى كون الشرط قيدا منحصرا.

وإن شئت فقايس ما نحن فيه من قيود الحكم الذي هو الوجوب مثلا بقيود

ص: 411

الفعل الواجب كالصلاة مثلا ، فإنّها قد قيّدت بقيود كثيرة منها التسبيحات في الركعتين الأخيرتين ، ولا ريب أنّ تقيّدها بالتسبيحات يكون مقيّدا بأن لا تخلفها الفاتحة ، فلا يكون انتفاء التسبيحات عند وجود الفاتحة في مقامها موجبا لانتفاء الصلاة أعني صحّتها ، وحينئذ تكون الفاتحة بدلا من التسبيحات بدلا عرضيا. وربما كان لبعض قيودها بدل طولي ، كما في الطهارة المائية التي لها بدل طولي الذي هو الطهارة الترابية ، ولازم ذلك انحصار قيدية الطهارة المائية للصلاة بما إذا كان متمكّنا منها ، كما هو الحال في القيود التي تسقط بالاضطرار أو النسيان بلا أن يكون لها بدل.

وهناك قيد آخر تكون قيديته مطلقة ، على وجه يكون انتفاؤه موجبا لانتفاء صحّة الصلاة بقول مطلق ، ولازمه سقوط الصلاة عند عدم التمكّن من ذلك القيد ، وذلك مثل مطلق الطهور ، بناء على أنّه يستفاد من قوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) تقيّد الصلاة به تقيّدا مطلقا.

وربما يقال : إنّ طبع التقييد يقتضي القيدية والانتفاء عند الانتفاء ، ولا يحكم بسقوط القيدية في حال من الأحوال إلاّ بدليل خاصّ. لكن الظاهر أن طبع التقييد لا يكفي في ذلك أعني الحكم بالانتفاء عند الانتفاء ، بل لا بدّ من إثبات اطلاق التقييد وسرايته إلى ذلك الحال ، وحينئذ لو لم يكن في البين ذلك الاطلاق وبقينا نحن ومجرّد ثبوت التقييد على نحو الاهمال ، لم يمكن أن نحكم بالانتفاء عند انتفائه ، بل لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية في ذلك. وتمام الكلام موكول إلى محلّه.

والغرض أنّه لو كان لدليل تقييد الصلاة بمثل الطهور مثلا اطلاق يشمل ما

ص: 412


1- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

إذا لم يوجد الطهور ووجد غيره ممّا يحتمل كونه قائما مقامه كالاستغفار مثلا على نحو الطولية أو على نحو العرضية ، وكان اطلاق دليل تقييد الصلاة بالطهور شاملا لما إذا فعل المكلّف الاستغفار ، سواء كان مع تمكّنه من الطهور بأن يكون الاستغفار بدلا عرضيا أو مع عدم تمكّنه منه بحيث يكون بدلا طوليا ، لم يكن لنا بدّ من الحكم في ذلك الحال بعدم تحقّق المقيّد الذي هو صحّة الصلاة ، وبأنّ انتفاء ذلك القيد الذي هو الطهور يوجب انتفاء المقيّد الذي هو صحّة الصلاة.

وبعين هذا الاطلاق نتمسّك فيما نحن فيه فنقول : إنّه قد ثبت بقوله مثلا إذا خسف القمر فصلّ صلاة الآيات أنّ وجوب صلاة الآيات مقيّد بما إذا انخسف القمر ، ومقتضى ذلك تضييق دائرة ذلك الوجوب ، ولكن نشكّ بأنّ ذلك التقييد وتضييق الدائرة هل هو شامل لما إذا بلغ القمر الليلة الرابعة ، بحيث إنّه في الليلة الرابعة من الشهر يكون تقيّد وجوب صلاة الآية بالانخساف باقيا على حاله ، ومقتضاه أنّه في هذا الحال أعني الليلة الرابعة لا تجب صلاة الآية ، لانتفاء قيدها المفروض كونه قيدا فيه حتّى في هذه الليلة ، أو أنّ تقيّده بالانخساف لا يشمل هذه الليلة ، فيمكن أن يتحقّق الوجوب المذكور في هذه الليلة ، لاحتمال كونها قائمة مقام الانخساف في ترتّب الوجوب المذكور عليها ، فلا يكون للقضية الشرطية مفهوم. وحيث إنّا تمكّنا باطلاق دليل التقييد في القضية الشرطية من إثبات القيدية المطلقة كان لازمه الانتفاء عند الانتفاء. وهو عبارة أخرى عن الانحصار وأنّ الليلة الرابعة لا تقوم مقام الانخساف في القيدية المزبورة ، فتأمّل جيدا.

لا يقال : ليس في المقام لفظ يدلّ على التقييد كي يكون اطلاقه حجّة على كون ذلك التقييد مطلقا ، إذ ليس في البين إلاّ جعل الحكم على تقدير الشرط.

ص: 413

لأنّا نقول : إنّ ذلك الجعل هو تكوّن للتقييد ، حيث إنّا لا نقول بجعل التقييد ولا بجعل السببية ، وأنّ المجعول هو الحكم على ذلك التقدير ، وعن ذلك الجعل ينشأ التقييد والسببية ، فهما منتزعان من ذلك الجعل ، فيكونان في هذه الجهة تابعين لما هو منشأ انتزاعهما وهو ذلك الجعل ، وعدم العطف بلفظ « أو » في كيفية الجعل هو المنشأ في انتزاع القيدية المطلقة. على أنّك قد عرفت أنّ طبع التقييد المنتزع من ذلك الجعل كاف في التوقّف والانتفاء عند الانتفاء ، من دون حاجة إلى إثبات الاطلاق ، فتأمّل (1).

ثمّ إنّه ربما يتمسّك لدلالة القضية الشرطية على الانحصار الذي لازمه المفهوم الذي هو الانتفاء عند انتفاء الشرط ، بأنّ الظاهر من التعليق على هذا الشرط الخاصّ هو أنّ لخصوصيته دخلا في الحكم المذكور في ناحية الجزاء ، فلو كان في البين شرط آخر يقوم مقام الشرط المذكور في القضية لكان الشرط هو القدر الجامع بينهما ، فيكون حينئذ ذكر الخصوصية لغوا ، وهو خلاف الظاهر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذه الطريقة لا تفيدنا إلاّ أنّ هذه الخصوصية لها دخل في الحكم ، في قبال احتمال كون المدخلية للقدر الجامع ، ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب انتفاء كلّي الحكم عند انتفاء الشرط المذكور الذي هو المطلوب في المفهوم ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب انتفاء الحكم الموجود في هذه القضية المعلّق على خصوصية ذلك الشرط ، وهذا المقدار لا يكفينا في الحكم بالمفهوم ، فإنّ هذا المقدار من نفي الحكم يشترك فيه جميع القضايا ، حتّى القضايا الحملية التي نعبّر عنها باللقب ، فإنّ من الضرورة هو انتفاء شخص الحكم عند انتفاء موضوعه ، وإنّما عمدة الكلام في المفهوم هو كون انتفاء الشرط موجبا لانتفاء

ص: 414


1- لاحظ ما تقدّم في الصفحة : 412 - 413.

كلّي الحكم.

وحينئذ فعلينا أن نقول : إنّه بعد أن ثبت أنّ للخصوصية دخلا في شخص ذلك الحكم الموجود في الجزاء ، أن نتكلّم في أنّها هل هي منحصرة على وجه يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء كلّي الحكم ، أو أنّه يمكن أن يخلفها شرط آخر مباين لهذا الشرط ، ويكون ذلك الشرط موجبا لحدوث فرد آخر من الحكم. وحينئذ لو ادّعينا المفهوم بالمعنى المذكور - أعني انتفاء سنخ الحكم وكلّي الوجوب مثلا عند انتفاء الشرط المذكور في القضية - فعلينا أوّلا أن نثبت أنّ المعلّق على ذلك الشرط هو كلّي الوجوب ، وبعد إثبات أنّ كلّي الوجوب معلّق على ذلك الشرط ومقيّد به ، هل ذلك على نحو الانحصار فيكون لازمه هو انتفاء الحكم الكلّي عند انتفاء ذلك الشرط ، أو أنّه ليس على نحو الانحصار ولازمه امكان ثبوت فرد من ذلك الحكم الكلّي على تقدير شرط آخر غير الشرط المذكور.

ومن ذلك يعلم أنّ الانحصار وحده لا ينفع في إثبات ذلك المفهوم ، إذ لو كان المعلّق على الشرط المنحصر هو شخص الحكم لا كلّيه فأقصى ما يفيده الانحصار هو انتفاء ذلك الحكم الشخصي عند انتفاء ذلك الشرط الخاصّ ، في قبال احتمال كون الشرط في ذلك الحكم الخاص هو القدر الجامع بين هذا الشرط وبين ما يخلفه ، أو في قبال احتمال قيام شخص آخر مباين له. والأوّل مبني على أنّ الشرط علّة ولا يسوغ اجتماع علّتين متباينتين على معلول واحد ، والثاني مبني على إنكار علّية الشرط أو إنكار امتناع تباين العلل مع وحدة المعلول.

والذي يتلخّص من مجموع ما حرّرناه : أنّ المفهوم للقضية الشرطية يتوقّف على ثبوت الانحصار في الشرط ، وعلى كون الحكم المعلّق هو سنخ

ص: 415

الحكم لا شخصه ، إذ لو كان الشرط منحصرا ولكن لم يكن المشروط هو طبيعة الحكم بل كان شخصه ، لم يكن انتفاء الشرط المنحصر موجبا لانتفاء كلّي الحكم ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه يوجب انتفاء الشخص ، وليس ذلك من المفهوم في شيء. ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المعلّق هو السنخ ، ولكن كان الشرط غير منحصر ، لم يكن انتفاؤه موجبا لانتفاء السنخ.

ولشيخنا الأستاذ المحقّق الآغا ضياء الدين العراقي قدس سره في هذا المقام تحقيق مفصّل كما حرّرته عنه في الدرس ، وحرّره هو قدس سره في مقالته المطبوعة (1) يتلخّص في أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ انحصار الشرط أمر مفروغ منه حتّى عند القائلين بعدم المفهوم ولأجل ذلك نراهم يحكمون بالتعارض بين مثل أكرم زيدا إن جاءك وأكرم زيدا بقول مطلق ، ويحملون الثاني على الأوّل بشرط استفادة وحدة الحكم ، فإنّ قولهم إنّه لو استفيد منه وحدة الحكم يحصل التعارض مع أنّهم لا يقولون بالمفهوم كاشف عن أنّهم لا يفهمون من مثل ذلك كون المعلّق السنخ ، فقالوا بعدم المفهوم أعني انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط ، وحينئذ يكون التعارض مستندا إلى أنّ الشرط منحصر ، وأن شخص ذلك الحكم الواحد ينتفي عند انتفاء الشرط ، كما هو مفاد القضية الأولى ، فيكون مفاده منافيا لثبوته مع عدم الشرط ، كما هو مقتضى اطلاق القضية الثانية (2) ، فيقع التعارض بينهما ، وعلاج هذا التعارض الجمع الدلالي بحمل المطلق على المقيّد.

الثاني : أنّ إثبات الانحصار في الشرط يحصل بظهور الجملة في أنّ

ص: 416


1- مقالات الأصول 1 : 396 وما بعدها.
2- [ في الأصل : الأولى ، والصحيح ما أثبتناه ].

لخصوصية ذلك الشرط مدخلية في الحكم ، في قبال احتمال كون الشرط والمؤثّر هو القدر الجامع ، أمّا احتمال كون قيام غيره مقامه ممّا هو مباين له ، فذلك ممّا يقطع بعدمه ، لامتناع تعدّد العلّة مع وحدة المعلول.

الثالث : أنّ المراد من السنخ الذي هو العمدة والأساس في ثبوت مفهوم القضية الشرطية ، هو كون المعلّق على الشرط هو طبيعة الحكم بتمام وجوده ، فإن انتفاء الشرط حينئذ يكون موجبا لانتفاء طبيعة ذلك الحكم ، بخلاف ما لو كان المشروط هو الطبيعة المهملة الصالحة للانطباق على خصوص المعلّق على ذلك الشرط ، فإنّ انتفاء الشرط لا يدلّ إلاّ على انتفائه ، لا على انتفاء الطبيعة الكلّية. وأفاد أنّ ذلك - أعني إثبات أنّ المعلّق هو السنخ - يحتاج إلى عناية زائدة على أصل إفادة التعليق على الشرط. وفي تحريراتي عنه أنّه ربما كان لنبرة الصوت مدخلية في ذلك.

وفيه تأمّل ، أمّا الأوّل : فلامكان أن يكون حكمهم بالتعارض في ذلك من جهة كون سعة الحكم الواحد منافية لضيقه ، كما أفاده في الكفاية (1) في مبحث مفهوم الوصف من التنافي بين مثل ائتني بإنسان وائتني بحيوان مع وحدة التكليف ، إذ من الواضح أنّه ليس في البين شرط أو علّة كي يدّعى أنّ منشأ التنافي هو الانحصار وانتفاء شخص الحكم عند الانتفاء.

وأمّا الثاني : فلأنّا لو سلّمنا كون الشرط علّة في الحكم ، ولو باعتبار كونه علّة في حدوث المصلحة الموجبة لجعل الحكم على طبقها ، وأنّ العلّة لا يجوز تعدّدها ، وأنّه في صورة تعدّد العلل لا بدّ من ارجاعها إلى قدر جامع ، إلاّ أنّه ربما كان ذلك القدر الجامع بعيدا عن الأذهان العرفية على وجه لا يطّلع عليه العرف ،

ص: 417


1- كفاية الأصول : 206.

ففي مثل ذلك لا يمكن طرد احتمال عدم الانحصار بظهور الجملة في مدخلية الخصوصية ، لأنّ ذلك إنّما يمكن فيما لو كان التعليق على القدر الجامع ممكنا ، فإنّه حينئذ يقال لو كان الشرط هو القدر الجامع لكان على المتكلّم أن يذكره ويجعل الجزاء معلّقا عليه لا على فرده الخاصّ ، أمّا في صورة عدم إمكان ذكر القدر الجامع لفرض قصور الأذهان العرفية عن فهمه ، فاحتمال التعدّد في مثل ذلك لا يمكن طرده باستظهار مدخلية الخصوصية في قبال القدر الجامع ، بل لا بدّ في الاستناد في طرد ذلك الاحتمال من الاستناد إلى الاطلاق وعدم العطف على الشرط بأو ونحو ذلك ممّا تقدّم ، ولا ينفع فيه ظهور الشرط في مدخلية الخصوصية.

ومن ذلك يظهر لك أنّه في صورة كون الجامع قريبا نحتاج في إثبات الانحصار إلى الاستناد إلى عدم العطف بلفظ أو ، فإنّ أقصى ما في البين هو أنّا قد طردنا احتمال كون الشرط هو ذلك القدر الجامع العرفي القريب بأنّ الظاهر أنّ للخصوصية الشخصية مدخلية ، ولكن إثبات الخصوصية لزيد مثلا إنّما تنفي أن يكون الأثر مترتّبا على كلّي الإنسان الذي هو قدر جامع بين زيد وعمرو ، وهذا لا ينفي أن يكون لخصوصية عمرو مدخلية كما لخصوصية زيد مدخلية على البدل ، وحينئذ نكون محتاجين إلى طرد ذلك الاحتمال بعدم ذكر العطف بأو ، إذ لا جامع عرفي بين الخصوصيتين ، وإن كان هناك جامع عرفي بين الفردين.

وأمّا الثالث : ففيه أنّ تعليق نفس الحكم الذي يوجد على ذلك التقدير لا معنى له ، لاستحالة أخذ الموضوع في نفس الحكم عند جعل الحكم على موضوعه ، إذ لا بدّ في مقام الجعل من لحاظ الحكم منحازا عن موضوعه ، ولحاظ موضوعه منحازا عنه ، وفي هذه المرتبة من اللحاظ يجعل الحكم على ذلك

ص: 418

الموضوع أو على ذلك الشرط ، وحينئذ يكون الحكم المجعول هو طبيعة الوجوب بما له من الحقيقة ، وهذا المقدار كاف في حكمنا بأنّ الحكم المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب بما له من الحقيقة ، فيكون ذلك الشرط دخيلا في طبيعة الوجوب المذكور ، فإذا أثبتنا انحصار الشرط كان لازمه انتفاء طبيعة الوجوب عند انتفاء ذلك الشرط ، من دون توقّف على ثبوت اطلاق في ناحية الحكم المجعول ، بحيث يكون الجاعل في حال جعله الحكم قد نظر إلى طبيعة الوجوب وعلّقها بتمام ما لها من الوجود على الشرط المزبور ، بل قد يقال باستحالة ذلك الاطلاق في مرحلة الجعل كما يستحيل التقييد.

وكأنّه قدس سره قد قصد التصدّي لدفع هذا الإشكال في مقالته المطبوعة فقال : وحينئذ لا محيص في مقام تعليق شخص الوجوب مثلا أن يراد من الشخص ما هو المحدود بحدود خاصّة ملازم مع ما علّق عليه الحدّ لا الناشئ من قبله ، في قبال سنخه الملازم لتجريده عن هذه الخصوصية الملازم لأخذ اطلاق في الحكم من هذه الجهة زائدا عمّا هو مدلول خطابه من الطبيعة المهملة الخ (1).

ولا يخفى أنّ هذا تكلّف في تسجيل الإشكال ، الموجب للتوقّف في أخذ المفهوم بلا داع. وأي داع يدعو الآمر أن ينظر إلى الحكم مقيّدا بجهة ملازمة مع تحديده بحدوده الخاصّة كي يكون الاطلاق المدّعى بازاء هذا التقييد.

وبالجملة : أنّ المتحصّل من مجموع ما أفاده قدس سره فيما حرّرته عنه وفيما حرّره هو في مقالته هو أنّ انحصار الشرط أمر مفروغ عنه حتّى عند المنكرين للمفهوم ، وأنّ منشأ النزاع في المفهوم هو كون المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم ، بحيث يكون المتكلّم ناظرا إلى طبيعة الوجوب وأنّه بتمامه معلّق على

ص: 419


1- مقالات الأصول 1 : 398.

الشرط ، وهذه جهة زائدة على ما تفيده الدلالة اللفظية من جعل طبيعة الوجوب المهملة معلّقة على الشرط ، فكأنّه قدس سره يرى أنّه لا بدّ في المفهوم من كون المتكلّم بصدد حصر الوجوب وقصره على الشرط ، ولأجل ذلك قال فيما حرّرته عنه : ولعلّ لنبرة الصوت مدخلية في ذلك.

ولا يخفى أنّ كون المتكلّم بصدد حصر الوجوب الكلّي وأنّه مقصور على مورد الشرط أمر آخر ، غير ما هو محطّ البحث في استفادة المفهوم ، فإنّه لو ثبت كون المتكلّم بصدد حصر طبيعة الوجوب وأنّه بتمام طبيعته معلّق على الشرط ، يكون دلالة ذلك على المفهوم من قبيل دلالة الحصر ، فكأنّه يقول لا وجوب إلاّ في مورد الشرط ، وحينئذ يخرج عن الكلام في مفهوم الشرط ويدخل في الكلام في مفهوم الحصر ، بحيث يكون الكلام صادرا في مقام الردّ على من تخيّل الوجوب في غير مورد الحصر أو في مقام دفع توهّمه ، ليكون من قبيل قصر الافراد ، وهو خارج عن عالم مفهوم الشرط ، بل يكون راجعا إلى مفهوم الحصر ، فكأنّ المتكلّم بواسطة تلك القرينة المقامية يقول إنّه لا وجوب إلاّ في مورد الشرط. كما أنّ جهة الانحصار بالشرط لو كان محصّلها هو كون الكلام صادرا في مقام الردّ على من تخيّل أنّ الشرط الفلاني أيضا يترتّب عليه الحكم ، أو في مقام توهّم ذلك لكان خارجا عن مفهوم الشرط بل كان راجعا إلى مفهوم الحصر ، فكأنّ المتكلّم بواسطة تلك القرينة المقامية يقول إنّه لا شرط ولا قيد لذلك الوجوب إلاّ هذا الشرط ، وليس ذلك من مفهوم الشرط في شيء ، بل هو حينئذ من قبيل قصر الافراد.

وبالجملة : أنّه قدس سره يقول : إنّ الحكم بوجوب الكفّارة الوارد على تقدير تعمّد الافطار لا يمكن أخذه مقيّدا بذلك تقييدا لحاظيا ، كما أنّه لا يمكن أن يكون

ص: 420

مطلقا وشاملا لذلك الوجوب الوارد على الافطار وعلى غيره ، بحيث يكون له اطلاق لحاظي في ذلك ، وحينئذ لا بدّ من أخذ الوجوب المذكور مهملا من هذه الناحية ، فلا يكون انتفاء ذلك الشرط موجبا إلاّ لانتفاء الوجوب بما له من الطبيعة المهملة ، وذلك غير نافع في باب المفهوم ، وحينئذ فلا بدّ من قرينة خارجية تدلّ على أنّ المتكلّم في مقام حصر الوجوب بذلك الشرط. والذي هو موقع التأمّل من ذلك هو أنّ المعلّق ليس هو الطبيعة المطلقة إطلاقا لحاظيا ، ولا المقيّدة بذلك الشرط ، بل ولا المهملة ، بل إنّ المعلّق هو صرف طبيعة الوجوب ، وذلك كاف في إثبات المفهوم (1) بعد إثبات الانحصار في الشرط. أمّا كون المتكلّم في مقام حصر طبيعة الوجوب في المعلّق على الشرط فهو وإن أفاد المفهوم ، إلاّ أنّه من سنخ مفهوم الحصر ، وكلامنا إنّما هو في مفهوم الشرط ، فإنّ الكلام فيه ممحّض إلى أنّ تعليق الوجوب على الشرط وتقييده به هل يدلّ ذلك بمجرّده لا بواسطة تلك القرينة المقامية على أنّ هذا الشرط قيد في ذلك الوجوب بقول مطلق ، حتّى لو وجد غيره ممّا يحتمل كونه قيدا أو أنّه يخلفه ، أو أنّه لا دلالة له على ذلك.

وحاصل الأمر : أنّ نفس تعليق الوجوب على الشرط الفلاني هل يقتضي انحصار الشرط على وجه يكون انتفاؤه موجبا لانتفائه ، بحيث يكون عدم الانحصار هو المحتاج إلى البيان الزائد على ما سلكه شيخنا قدس سره (2) ، فيكون إطلاق التقييد قاضيا بالانحصار المذكور. ولا يخفى أنّ هذه الجهات أجنبية عن دعوى القرينة على كون المتكلّم في مقام بيان حصر كلّي الوجوب على الشرط المذكور ، أو في مقام حصر كلّي الشرط في الشرط المذكور.

ص: 421


1- [ في الأصل : إثبات الوجوب ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 2 : 252 - 254.

وكيف كان ، فإنّ الذي تلخّص لك من هذا التحرير : هو كون المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب لا الوجوب الخاصّ أمر ينبغي أن يكون مفروغا منه ، وأنّ الكلام إنّما هو في انحصار الشرط وعدمه ، على خلاف ما أفاده قدس سره من كون الانحصار أمرا مفروغا منه ، وأنّ الكلام إنّما هو في كون المعلّق هو السنخ أو الشخص ولو بالمعنى الذي فسّره لارادة الشخص ، أعني إرادة ما يلازم التشخّص المذكور ، وحينئذ لا داعي إلى ما أفاده من كون المعلّق هو الطبيعة المهملة ، بل الظاهر أنّ المعلّق هو ذات طبيعة الوجوب ، ويكون إطلاقها إطلاقا ذاتيا لا إطلاقا لحاظيا ، والاطلاق الذاتي كاف في انحصار كلّي الوجوب بمورد الشرط المذكور ، فتأمّل جيّدا.

قوله : وأمّا إن كان معنى حرفيا مستفادا من مثل هيئة الجمع المعرّف ونحوها وغير قابل لأن يكون معلّقا ... الخ (1).

لو كان العموم يستفاد من حرف مثل لام الاستغراق ونحوها فهو وإن كان بنفسه لا يمكن أن يكون هو المعلّق على الشرط ، إلاّ أنّه بالنحو الذي تصوّرنا التعليق فيه فيما لو كان الوجوب مستفادا من صيغة افعل نتصوّره هنا. وأمّا النكرة في سياق النفي فهي على الظاهر ملحقة بالحروف ، لأنّ الدالّ على العموم إنّما هو نفس أداة النفي ، غايته أنّ المنفي هو النكرة ، فهي من الأدلّة اللفظية على العموم ، ولا وجه على الظاهر لاخراجها من عالم الألفاظ ، وإن أطلق على مثل ذلك العموم المستفاد من السياق ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ لفظ كلّ وجميع ونحوهما من ألفاظ العموم وإن كانت بمصطلح اللغة أسماء ، إلاّ أنّها من حيث كونها موجدة معانيها فيما تضاف إليه من

ص: 422


1- أجود التقريرات 2 : 258 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

الأسماء ، ملحقة بالحروف من ناحية عدم حكاية المعنى الاستقلالي ، فهي من هذه الجهة ملحقة بالحروف في عدم الاستقلال باللحاظ وعدم قابليتها للتقييد ابتداء ، بل يكون القيد لاحقا لمدخولها على حدّ قيود الحروف والهيئات ، فتأمّل.

قوله : ربما يقال بأنّ المفهوم إنّما هو رفع الحكم المذكور في التالي ، وحيث إنّ نقيض السالبة الكلّية ... الخ (1).

علّق عليه في الحاشية بقوله : الظاهر أنّ هذا القول هو الصحيح ، لأنّ المستفاد من القضية الشرطية إنّما هو تعليق مدلول التالي بمدلول المقدّم ، وبما أنّ مدلول التالي في محلّ البحث ليس إلاّ أمرا واحدا - أعني به الحكم المجعول على الطبيعة السارية - يكون المنتفي عند انتفاء الشرط المذكور هو ذلك الحكم أيضا الخ (2).

لا يخفى أنّ المعلّق في القضايا الشرطية ليس هو نفس الجعل وإنّما هو الحكم المجعول ، وحينئذ لو كان الحكم مجعولا على الطبيعة السارية في تمام الأفراد ، فتارة يكون المنظور إليه في التعليق هو سريان ذلك الحكم إلى تمام الافراد ، وبعبارة أخرى يكون المعلّق على الشرط هو كلّية ذلك ، ليكون محصّله أنّ كلّية ذلك الحكم وسريانه إلى كلّ واحد من أفراد الطبيعة هي المعلّقة على الشرط ، فلا يكون المنتفي حينئذ بانتفاء ذلك الشرط إلاّ نفس الكلّية. ولكن هذا بعيد عن مساق القضايا الأحكامية التي يكون الحكم فيها في ناحية الجزاء كلّيا ، خصوصا فيما لم تكن الكلّية مستفادة من لفظ كلّ ، بل كانت مستفادة من اللام الاستغراقية أو من وقوع النكرة في سياق النهي.

ص: 423


1- أجود التقريرات 2 : 255 - 257.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 255 - 256.

وحيث قد تحقّق عندك أنّه لا يكون المنظور في التعليق هو نفس الكلّية ، بل كان المنظور إليه هو الأحكام السارية في افراد الطبيعة فنقول : إنّ العموم الموجود في ناحية الجزاء مثل « إذا هلّ شهر رمضان فاكرم كلّ عالم » إن أخذ مجموعيا بحيث إنّه لم يكن لنا إلاّ حكم واحد وارد على الجميع ، على وجه يكون نسبة كلّ واحد من تلك الافراد إلى نفس المجموع كنسبة الجزء إلى الكل ، لم يكن انتفاء الشرط موجبا إلاّ لانتفاء ذلك الحكم الوارد على ذلك المجموع ، وهذا لا ينافيه ثبوت حكم آخر من وجوب الاكرام لبعض الافراد من العلماء.

وأمّا إذا أخذ العموم الموجود في ناحية الجزاء استغراقيا منحلا إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد الأفراد ، فحيث إنّ الكلّية والشمولية ليست هي مركز التعليق كما عرفت ، فلا جرم يكون مركز ذلك التعليق هو نفس ذلك الحكم المنبسط على تلك الأفراد الذي هو عبارة عن أحكام متعدّدة ، فيكون مركز ذلك التعليق هو نفس تلك الأحكام المتعدّدة. ومجرّد أنّها مجعولة بجعل واحد لا ينافي كون كلّ واحد من آحاد تلك الأحكام معلّقا على ذلك الشرط ، وذلك لما عرفت من أنّ نفس الجعل ليس هو مركز التعليق.

وحينئذ فلا محصّل لقوله في هذه الحاشية : فالحكم المجعول في التالي وإن كان بحسب مقام اللب ونفس الأمر ينحل إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعه ، إلاّ أنّه بحسب مقام الجعل أمر واحد ومستفاد من دليل واحد ، ومن الواضح أنّ تعدّد الحكم في غير مقام الاثبات لا تأثير له في كيفية استفادة المفهوم من الكلام في مقام الاثبات والدلالة ، انتهى. وذلك لما عرفت من أنّ وحدة الجعل لا تنافي تعدّد المجعول ، وأنّ مركز التعليق إنّما هو المجعول لا الجعل. ولا يخفى أنّ هذا التعدّد إنّما هو في مقام الاثبات ، بمعنى أنّا إنّما استفدنا

ص: 424

الشمولية والاستغراق - الذي هو عبارة عن تعدّد الحكم ، في قبال المجموعية التي هي عبارة عن وحدة الحكم - من مقام الاثبات والدلالة ، ولم يكن هذا التعدّد الناشئ عن الاستغراق والشمول في غير مقام الاثبات كي يقال إنّه لا تأثير له في كيفية استفادة المفهوم من الكلام. إنّ ذلك لعمري من الغرائب.

ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ المعلّق في أمثال هذه القضايا هو العموم لا الآحاد ، إلاّ أنّا في خصوص أخبار الكر نقول إنّ المعلّق هو الآحاد ، لكونها واردة في موارد خاصّة من بول الدواب وولوغ الكلاب واغتسال الجنب ، مثل قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم قال « قلت له : الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1). فمثل هذه الصحيحة شاهد على أنّ النظر في ذلك إلى الآحاد لا إلى عمومية العام.

وأمّا ما ذكره من الأمثلة العرفية مثل إذا لبس زيد لامة حربه لم يخف أحدا ، أو إذا غصب الأمير لم يحترم أحدا ، ونحو ذلك فلا شاهد فيه على ما نحن فيه ، إذ ليس المقصود من أحد هو كلّ أحد حتّى الطفل الصغير ، بل المراد هو من يكون من أقرانه ممّن يمكن الخوف منه أو ممّن يستحقّ الاحترام ، وحينئذ يكون المقام مسوقا لبيان أنّه إذا لبس لامة حربه لا يبالي بمن ينبغي المبالاة منه ، فلا بدّ أن يكون مفهومه أنّه إن كان أعزل يبالي بمن ينبغي المبالاة منه ، فيكون خارجا عمّا نحن فيه ، لوجود القرينة السياقية. مضافا إلى أنّه لو نزّلناه على العموم الاستغراقي وكان مفاده أنّه لا يبالي بكلّ واحد من أقرانه ، فلا مانع من أن يكون مفهومه أنّه يبالي عند ما يكون أعزل بكلّ واحد من أقرانه.

ومن جميع ما حرّرناه تعرف أنّه لم يكن فيما ذكرناه من كون المفهوم

ص: 425


1- وسائل الشيعة 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 5.

موجبة كلّية خروج عن القواعد المنطقية ، لأنّ رفع الشيء وإن كان هو عين نقيضه إلاّ أنّ الذي نرفعه بالمفهوم ليس هو السالبة الكلّية التي في طرف المنطوق ، بحيث يكون المرفوع هو كليتها ، لما عرفت من أنّ الذي نرفعه بالمفهوم إنّما هو الحكم المجعول على الشرط ، وقد عرفت أنّ المعلّق على الشرط فيما نحن فيه ليس هو كلّية السلب ، وإنّما المعلّق على الشرط هو آحاد السلوب ، وحينئذ فلا يكون المرفوع بارتفاع ذلك الشرط إلاّ نفس تلك الأحكام الجزئية التي كانت معلّقة على الشرط.

وبعبارة أخرى : لو كان المعلّق على الشرط هو الشمولية لكان المرتفع بارتفاع الشرط هو الشمولية ، ورفع شمولية السلب يحصل بالايجاب الجزئي كما أنّ رفع عمومية الايجاب المعبّر عنه برفع الايجاب الكلّي يحصل بالسلب الجزئي ، لكن المعلّق على الشرط هو آحاد السلوب ، فيكون المرتفع بارتفاع الشرط هو آحاد تلك السلوب. ومن الواضح أنّ ارتفاع آحاد السلوب إنّما يحصل بموجبات جزئية شخصية في قبال تلك السوالب الجزئية الشخصية ، فلا يكون نقيض السالبة الشخصية إلاّ موجبة شخصية ، وحينئذ يكون ما حرّرناه موافقا للقواعد المنطقية لا مخالفا لها كما ربما يظهر ممّا حرّر عن شيخنا قدس سره.

وأمّا ما أشكل به على شيخنا قدس سره في مسألة المتنجّس ففيه أنّ غرض شيخنا قدس سره هو أنّا بعد أن قلنا بأنّ المتنجّس كالنجاسة ينجّس كلّ شيء لاقاه ، يكون ذلك كافيا في دخوله تحت ذلك الإجماع الذي هو عبارة عن عدم القول بالفصل ، فإنّه بعد أن ثبت في المنطوق أنّ الماء البالغ كرّا لا ينجّسه شيء ممّا هو منجّس يكون المتنجّس بعد ثبوت كونه منجّسا داخلا في ذلك العموم المنطوقي. ثمّ بعد أن التزمنا بأنّ المفهوم هو عبارة عن أنّه إذا لم يبلغ كرّا ينجّسه شيء من تلك

ص: 426

المنجّسات ، فلنفرض أنّ ذلك الشيء هو البول ، فإذا ثبت بذلك المفهوم أنّ البول ينجّس الماء القليل كان علينا أن نسحب هذا الحكم إلى كلّ ما ثبت أنّه منجّس حتّى المتنجّس ، وإن لم يكن عدم القول بالفصل متحقّقا بالنسبة إلى نفس المتنجّس بخصوصه ، وذلك لأنّ عدم القول بالفصل بالنسبة إلى كلّ ما ينجّس كاف في ذلك الحكم بعد أن ثبت لدينا أنّ المتنجّس منجّس. وإن شئت فبدّل عدم القول بالفصل بفرض قيام الإجماع على أنّ كلّ منجّس يكون منجّسا للماء القليل ، فكون المتنجّس منجّسا وإن لم يكن داخلا في ذلك الإجماع ابتداء ، إلاّ أنّه بعد أن أقمنا الدليل على أنّه منجّس يكون داخلا في مورد الإجماع على أنّ كلّ منجّس فهو ينجّس الماء القليل.

وإن شئت فقايس ذلك بما هو من النجاسات محلّ الكلام مثل عرق الجنب من الحرام ، فلا ريب في أنّك تقول إنّا بعد أن حقّقنا الصغرى فيه وأنّه نجس يكون داخلا في الإجماع المفروض على كون النجس منجّسا للماء القليل. وهكذا الحال في دخوله بعدم القول بالفصل ، بل لو فرضنا أنّ لنا شيئا ليس بنجس لكنّه منجّس لكان داخلا في عموم المنطوق ، وكان الحكم ساريا إليه من الموجبة الجزئية في ناحية المفهوم بواسطة عدم القول بالفصل.

نعم ، إنّ في المقام إشكالا آخر ، وهو أنّ المفهوم القائل إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء لا يكون إلاّ مهملا ، فلا يكون حجّة في شيء من أعيان النجاسة كي يثبت الحكم فيه ونسرّيه إلى البقية بحكم عدم القول بالفصل. اللّهمّ إلاّ أن يقال إنّ هذا الشيء وإن لم يكن له تعيّن في مقام الاثبات ، إلاّ أنّ له تعيّنا في الواقع ، فنقول إنّ ذلك الشيء الواقعي من النجاسات - أيّ شيء هو كان - بعد أن ثبت أنّه ينجّس الماء القليل يسحب الحكم منه إلى غيره من النجاسات بعدم

ص: 427

القول بالفصل ، فتأمّل ، فإنّ الظاهر أنّ الشيء في هذا المقام لا تعيّن له في الواقع ، بل هو من قبيل من أسلم على خمس في لزوم مفارقة واحدة غير معيّنة لا في مقام الاثبات ولا في مقام الثبوت ، فيكون مخيّرا في مفارقة أيّهنّ شاء. لكن التخيير في المقام لا معنى له.

وينبغي أن يعلم أنّ ما يمكن أن يستند إليه في كون المتنجّس منجّسا هو روايات واردة في خصوص الماء القليل ، مثل « اهرقهما وتيمّم » (1) ومثل صحيح شهاب عن أبي عبد اللّه عليه السلام « في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الاناء قبل أن يغسلها ، أنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء » (2) وما عن أبي بصير عنه عليه السلام « عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه ، قال عليه السلام : إن كانت يده قذرة فاهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال اللّه تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) » (4) ونحوهما حسنة زرارة (5) وموثّقة سماعة (6) وخبر علي بن جعفر(7) . وفي صحيح البزنطي « سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل

ص: 428


1- وسائل الشيعة 1 : 169 / أبواب الماء المطلق ب 12 ح 1 ( نقل بالمضمون ).
2- وسائل الشيعة 1 : 152 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 3.
3- الحج 22 : 78.
4- وسائل الشيعة 1 : 154 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 11.
5- وسائل الشيعة 2 : 229 / أبواب الجنابة ب 26 ح 2.
6- وسائل الشيعة 2 : 153 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 9 ، 10.
7- [ لعلّ نظره الشريف قدس سره إلى ما روي في كتاب مسائل علي بن جعفر : 207 / 446 الذي استدلّ به في الجواهر 1 : 114 ، ووصفه بالخبر وهو مرويّ في قرب الاسناد : 179 / 659 ، وراجع وسائل الشيعة 1 : 223 / أبواب الماء المضاف ب 14 ح 1. ويحتمل أن يكون نظره قدس سره إلى ما رواه علي بن جعفر عليه السلام واستدلّ به أيضا في الجواهر 1 :109- 110 ولكنّه صحيح السند وهو مروي في وسائل الشيعة 1 : 216 / أبواب الماء المضاف ب 10 ح 1 ].

يدخل يده في الاناء وهي قذرة ، قال عليه السلام : يكفئ الاناء » (1).

ولا يخفى أنّ هذه الأخبار لو تمّت كانت مغنية عن عموم المفهوم ، لدلالتها على أنّ الماء القليل يتنجّس بملاقاته المتنجّس ، فتكون مغنية عن عموم المفهوم وعن التمسّك بعدم القول بالفصل على تقدير كون المفهوم موجبة جزئية ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا ممّا حرّره عنه في هذا الكتاب بقوله : فإذا ثبت تنجيس المتنجّس بدليل آخر ( يعني غير هذا المفهوم ) فهو كاف في انفعال الماء القليل بملاقاته ، من دون احتياج إلى إثباته بمفهوم الرواية ، وإن لم يثبت ذلك فهو ليس بداخل في عموم المنطوق حتّى يثبت نجاسة القليل بملاقاته بالمفهوم على تقدير كون المفهوم موجبة كلّية ، انتهى (2).

نعم ، لو لم يكن دليل تنجيس المتنجّس إلاّ مثبتا لكونه منجّسا في الجملة - كما فرضه المحشي (3) - لكنّا محتاجين إلى عموم المفهوم لكلّ منجّس ، أو إلى عدم القول بالفصل الذي منعه المحشي في خصوص المتنجّس ، ونحن قد ناقشناه في هذا المنع وقلنا ما حاصله : أنّه لو سلّمنا عدم عموم المفهوم ، وقلنا بأنّ ما دلّ على تنجيس المتنجّس مقصور على تنجيسه في الجملة من دون إثبات تنجيسه الماء القليل ، لأمكننا إثبات كونه منجّسا للماء القليل بعدم القول بالفصل ،

ص: 429


1- وسائل الشيعة 1 : 153 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 7.
2- أجود التقريرات 2 : 259 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 256.

بعد فرض كون المفهوم مثبتا لكون الماء القليل يتنجّس بشيء من المنجّسات.

وهذا الذي قلناه مأخوذ ممّا حرّرناه عن شيخنا قدس سره ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه : وأمّا انفعاله بملاقاة المتنجّس فهو أجنبي بالمرّة عن كون المفهوم في هذه القضية الشرطية هو الموجبة الجزئية أو الكلّية ، بل هو مبني على مطلب آخر ، وهو أنّ المتنجّس هل يكون ملحقا بالنجاسة في كونه منجّسا لما يلاقيه أم لا ، وبعد إثبات ذلك بالدليل الدالّ عليه يكون كأحد أنواع النجاسات ، يجري عليه فيما نحن فيه ما يجري عليها ممّا يترتّب على كون المفهوم موجبة كلّية أو كونه موجبة جزئية ، وأنّه لو سلّم كونه موجبة جزئية نتمّم المطلب - أعني الايجاب الكلّي - بعدم القول بالفصل ، انتهى.

ونحن وإن وجّهنا هذا التتميم في المتنجّس بما تقدّم ذكره ، إلاّ أنّ ظنّي أنّ شيخنا قدس سره لا يريد ذلك ، بل إنّ الذي يريده هو ما عرفت من أنّه في خصوص تنجيس المتنجّس للماء القليل يكفينا الأدلّة الخاصّة التي تقدّم (1) ذكرها كما نقله عنه في هذا الكتاب ، فلا داعي إلى الالتزام بكون تلك الأدلّة غير دالّة إلاّ على التنجيس في الجملة ، لكي نكون في حاجة إلى عموم المفهوم أو إلى عدم القول بالفصل.

ولا يخفى أنّ هذا المعنى الذي حرّره عنه في هذا الكتاب يوافقه عليه ما حرّره عنه المرحوم الشيخ موسى رحمه اللّه فإنّه قال ما هذا لفظه : لأن تنجّس ماء القليل بالمتنجّس له دليل آخر ، وقلنا به أو لم نقل لا دخل له بالإشكال في المفهوم ، لأنّه وارد في تنجّس ماء القليل بالنجاسات لا بالمتنجّسات ، وفي النجاسات لم يقل أحد بالتفصيل ، لأنّه لو تنجّس بأحدها فيتنجّس بالجميع ، انتهى.

ص: 430


1- في الصفحة : 428.

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

مبحث النواهي...

الفرق بين الأمر والنهي من حيث المعنى ... 3

أقسام النهي من حيث الانحلالية والمجموعية و... 4

توجيه حمل النذر على المجموعية دون الانحلال ... 6

اجتماع الأمر والنهى...

الإشكال في عنوان البحث وتغييره بما يناسب ... 9

ملاك كون البحث كلاميا أو فقهيا أو أصوليا ... 10

المناقشة في تقسيم الموجودات إلى عينية واعتبارية وكلّ منهما إلى متأصّلة وانتزاعية... 11

تحقيق رشيق حول ملاك النسب الأربع ... 12

أقسام التساوي الستّة والبحث عن جهة الصدق فيها ... 13

التعريض بصاحب الكفاية في النقض بصفات اللّه على تعدّد المعنون بتعدّد العنوان... 16

الكلام في تصوّر النسب الأربع بين جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض ... 21

ص: 431

اختلاف مبادي المشتقّات من حيث أخذها بشرط لا ولا بشرط ... 24

التأمّل في ملاك التركيب الانضمامي والاتّحادي ... 26

التأمّل في التفرقة بين مبادي المشتقّات وبين المادّة والصورة ... 29

الكلام فيما يدّعى من التركّبات العقلية ... 29

إمكان القول بقيام العرض بعرض آخر ... 30

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في تركّب الصلاة مع الغصب ... 32

نقل ما حرّره المصنّف عن المحقّق النائيني قدس سرهما في المقام ... 37

هل يخرج عن محلّ النزاع ما إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما وخصوصا مطلقا... 39

خروج اجتماع مثل الشرب والغصب عن محلّ الكلام ومناقشة السيّد الخوئي قدس سره في المقام 39

هل الوضوء أو الغسل بالمغصوب داخل في النزاع؟ ... 41

توضيح إلحاق ما هو متمّم المقولة بما هو من قبيل المقولة المستقلّة ... 44

خروج النهي المتعلّق بالعنوان الثانوي والأمر بالعنوان الأوّلي عن محلّ النزاع ... 47

اجتماع الأمر والنهي في الأسباب والمسبّبات ... 49

تحقيق الحال في العبادات المكروهة ... 53

توضيح ما ذهب إليه المحقّق الثاني قدس سره من صحّة الأمر بالطبيعة الجامعة بين الأفراد المقدورة وغيرها 75

الكلام في الاضطرار إلى الحرام لا بسوء الاختيار وأنحاء اعتبار القيود العدمية في الصلاة 80

صورة مانعية لبس الحرير في الصلاة ... 84

ص: 432

صور الاضطرار إلى لبس الحرير ... 85

المناقشة مع السيّد الخوئي قدس سره في التزامه بالجواز من الجهة الثانية ... 88

توجيه ما ذهب إليه المحقّق النائيني قدس سره من استحالة التقرّب بالمجمع لاتّحاد المأمور به والمنهي عنه في مقام الايجاد والتأثير 90

تأمّل المحقّق الحائري قدس سره في بطلان الصلاة في اللباس المغصوب ... 102

المناقشة في التمثيل لمورد عدم المندوحة دائما في مسألة الاجتماع ... 107

عود لمسألة الاضطرار لا بسوء الاختيار ... 110

الكلام حول موارد صدق التصرّف الزائد في الغصب للمضطرّ إليه وعدم صدقه... 117

الأقوال في حكم الخروج من الدار المغصوبة لمن توسّطها بسوء اختياره ... 124

الإشكال فيما ذكر في الفصول قدس سره من كون الخروج واجبا فعلا ومنهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار 126

كلام مبسوط حول حقيقة مختار الآخوند قدس سره في حكم الخروج ... 127

التعليق على ما ذكره النائيني قدس سره من عدم دخول المقام في قاعدة الامتناع... 130

تتمّة أو توضيح في صحّة النهي عن الخروج على نحو الاطلاق ... 143

التعليق على ما ذهب إليه الماتن قدس سره من دخول المقام في قاعدة ردّ المال إلى صاحبه 150

تحقيق رشيق في عدم دليل على وجوب ردّ مال الغير سوى ما دلّ على حرمة الغصب 152

مناقشات المصنّف مع السيّد الخوئي قدس سرهما في المقام ... 157

تعاليق على كلمات صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 160

ص: 433

التعليق على ما ذهب إليه الماتن قدس سره من عدم حرمة الخروج ... 165

حكم الصلاة حال الخروج من الغصب ... 171

دلالة النهي على الفساد...

الكلام في شمول النهي في المقام للنهي التنزيهي ... 182

الكلام في شمول النهي للنهي الغيري ... 192

مراحل فساد العبادة ... 199

معنى العبادة في المقام ... 212

معنى المعاملة في المقام ... 214

بيان نوع التقابل بين الصحّة والفساد ... 226

الكلام فيما يقابل الصحّة من الفساد والعيب ... 231

مناقشة مع السيّد الخوئي قدس سره في اتّصاف المعاملات بالصحّة والفساد ... 234

تعاليق على كلمات لصاحب الكفاية قدس سره في معنى الصحّة والفساد ... 236

هل الصحّة والفساد مجعولان أو غير مجعولين؟ ... 239

عموم النزاع لما إذا لم يكن دليل على صحّة المنهي عنه لو لا النهي ... 253

مقتضى الأصل العملي عند الشكّ في صحّة العبادة والمعاملة ... 256

شبهة عدم استناد فساد العبادة إلى النهي والجواب عنها ... 272

شبهة عدم وجود عبادة منهي عنها لذاتها والجواب عنها ... 277

الاستدلال على اقتضاء النهي عن عبادة فسادها ... 279

الاستدلال على اقتضاء النهي عن جزء العبادة فسادها ... 280

الاستدلال على اقتضاء النهي عن وصف العبادة أو شرطها فسادها ... 297

صور مانعية شيء عن صحّة العبادة وبحث مفصّل حول مانعية لبس الحرير ... 301

ص: 434

الكلام في اقتضاء النهي عن معاملة فسادها ... 325

الكلام في أخذ الأجرة على الواجب أو الحرام وحكم المعاملة أو العبادة المأمور بضدّها 331

المناقشة في تفسير السبب بإيجاد المعاملة والمسبّب باسم المصدر ... 336

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره فيما ذهب إليه من أنّ المعاملات تتضمّن اعتبارا نفسيا ومبرزا خارجيا وأنّ النهي عنهما لا يقتضي الفساد ... 337

عود إلى مسألة أخذ الأجرة على الواجب أو الحرام وحكم المعاملة المأمور بضدّها أو بتركها 343

مناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في مسألة نكاح العبد بدون إذن سيّده ... 348

ذكر الروايات الواردة في نكاح العبد بدون إذن سيّده ... 351

هل تجري أصالة عدم المشروعية عند الشكّ في مشروعية العبادة؟ ... 354

بحث حول أصل عدم الحجّية ونقل كلام الآخوند والشيخ قدس سرهما في المقام... 357

مقدّمات أثبت بها الماتن فساد العبادة التشريعية التي تبيّن مشروعيتها في الواقع... 359

الجواب عن محذور لزوم التسلسل من القول بمولوية أوامر الاطاعة ... 362

إشارة إلى بعض البراهين التي أقاموها على عدم معقولية عدم التناهي ... 368

ذكر أمور استطرد بها الماتن في نهاية بحث اقتضاء النهي التشريعي للفساد ... 369

مبحث المفاهيم...

التأمّل في كون المفهوم مشتركا لفظيا ... 375

دخول الدلالة التضمّنية في الدلالة الالتزامية ... 376

الفرق بين المفهوم وبين الدلالة الالتزامية باصطلاح المنطقيين ... 377

ص: 435

الفرق بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ والأخصّ ... 380

تنبيه : في الجواب عن إشكال ربما يذكر على كون مدرك الدلالة الالتزامية هو اللزوم الذهني البيّن بالمعنى الأخصّ 383

نقل كلام العراقي قدس سره في أقسام الملازمة ومراتبها ... 385

الكلام في مفهوم الشرط ... 390

تحقيق رشيق حول ما يتوقّف عليه ثبوت المفهوم من علّية الشرط وانحصارها ... 390

خلاصة ما ذكره المحقّق العراقي قدس سره في المقام ... 416

في جزئية المفهوم وكلّيته مع كون الحكم في التالي موجبة أو سالبة كلّية ومناقشات مع السيّد الخوئي قدس سره في المقام 423

ما يمكن أن يستند إليه في كون المتنجّس منجّسا ... 428

فهرس الموضوعات ... 431

ص: 436

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.