أصول الفقه المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

ISBN الدورة: 978-600-5213-23-2

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الثالث

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

[ مقدمة الواجب ]

قوله : فان علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة كالصلاة والصوم ... الخ (1).

لا يخفى أن مراد شيخنا قدس سره في هذا المقام أمر آخر هو أجنبي عن ظاهر هذا التحرير ، وإن شئت فراجع ما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي في هذا المقام ، فانه قال : فان البحث في المقام إنما يكون عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته لا عن نفس وجوب المقدمة ، بل يكون وجوب المقدمة نتيجة الملازمة على القول بها ، فلا وجه لجعل المسألة من المسائل الفقهية (2).

وقال فيما حررته عنه : وقد يقال إن هذه المسألة من المسائل الفقهية باعتبار كون البحث فيها عن حكم فرعي وهو وجوب المقدمة. ولا يخفى ما فيه من التعسف ، إذ ليس ذلك بحثا عن حكم فرعي وإنما هو بحث عن أمر كلي ، وهو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقف عليه ، ولأجل ذلك نقول إن الأولى عدّها من المسائل الاصولية الباحثة عن أمر عقلي وهو الملازمة المذكورة ، انتهى.

والحاصل : أن ما يبحث عنه في الأصول هو نفس الملازمة ، وليست هي أمرا فرعيا. نعم بعد ثبوت الملازمة في الأصول يتفرع عليها حكم

ص: 3


1- أجود التقريرات 1 : 310.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 261.

فرعي وهو وجوب نفس الذات التي تكون مقدمة لواجب ، كما هو الشأن في المسائل الاصولية ، فان نتائجها تكون مثبتة للحكم الفرعي في الفقه. ومراده من الأمر الكلي الذي لا يختص بباب دون باب هو نفس الملازمة ، لا وجوب المقدمة كي يتوجه عليه الاشكال بكونه من قبيل العناوين الثانوية نظير المنذور وما أمر به الوالد ونحو ذلك ممّا لا يختص بباب دون باب ومع ذلك هو مسألة فقهية لا أصولية كما في الحاشية (1) فلاحظ وتدبر.

ثم بعد انعقادها أصولية يقع الكلام في كونها من مباحث الألفاظ أو كونها من قسم الأدلة العقلية ، وإن كان ذلك ليس بمهم إلاّ أن الأولى هو إلحاقها بالأدلة العقلية فانها من أبحاث الملازمات ، وهي تارة تكون عقلية صرفة كما في مسألة التحسين وقاعدة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، واخرى تكون لفظية كما في مبحث المفاهيم الذي هو عبارة عن دلالة المنطوق على المفهوم بالملازمة ، من جهة دعوى كون مفاد القضيّة الشرطية هو علّية الشرط في الحكم في ناحية الجزاء وأنه تمام العلة وأنه من العلة المنحصرة ، فان ذلك يلزمه الانتفاء عند الانتفاء ، فيكون من سنخ مبحث الألفاظ ، لا من جهة كونه من قبيل الدلالة الالتزامية في قبال المطابقية والتضمن ، فان شرط تلك هو كون اللزوم بينا بالمعنى الأخص بل من جهة أن اللفظ إذا دل على الملزوم ننتقل إلى ثبوت لازمه ، ومن جهة أن أساسها هو دلالة اللفظ أدرجناها في مباحث الألفاظ.

وهناك نحو من التلازم العقلي يكون النظر فيه إلى مجرد التلازم بين

ص: 4


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 310.

الأمرين تلازما واقعيا من دون [ نظر ](1) إلى ثبوت أحدهما بالدليل اللفظي أو غيره ، وذلك مثل ما نحن فيه ، فان النظر فيه إلى أمر واقعي وهو مجرد التلازم بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ليحصل الانتقال من وجوب ذي المقدمة إلى وجوبها ، سواء كان الدليل على وجوب ذي المقدمة لفظيا أو كان لبيا كالاجماع ونحوه ، أو كان عقليا كما لو أثبتنا وجوب ذي المقدمة بقاعدة التحسين والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فإنّ هذه الامور تكون من قبيل الصغريات في مسألتنا وهي حكم العقل بالتلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة.

وحيث كان المنظور إليه في البحث في مسألتنا هو هذه الجهة أعني حكم العقل بالتلازم بين الوجوبين ، كان المتعين عدّها من المباحث العقلية دون اللفظية ، وإن كان إثبات أحد المتلازمين أعني وجوب ذي المقدمة قد يكون بالدليل اللفظي ، لما عرفت من أن نسبة ذلك إلى أصل محل البحث كنسبة الصغرى إلى الحكم الكبروي ، فلاحظ وتأمل.

فلا فرق بين أن يكون الدليل على أحد المتلازمين هو اللفظ ، أو كان هو الاجماع ونحوه ، أو كان عقليا صرفا كما لو أثبتنا وجوب ذي المقدمة بقاعدة الملازمة والتحسين العقلي ، والفرق بينها وبين المفاهيم واضح ، فان الدليل في المفاهيم منحصر باللفظ الذي هو المنطوق ، فأخذنا الملازمة بين الحكمين مسلّمة وجعلنا محل البحث هو دلالة اللفظ الذي هو المنطوق على الملزوم ، فكان البحث فيها لفظيا ، بخلاف مسألتنا فان محل البحث

ص: 5


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

فيها هو التلازم ، أما إثبات الملزوم وهو وجوب ذي المقدمة فذلك أجنبي عن محل البحث ، ولا يكون النزاع فيه إلاّ صغرويا.

قوله : وعليه فلا يكون النزاع إلاّ علميا محضا (1).

وسيجيء الكلام إن شاء اللّه (2) في ثمرة هذا النزاع مفصلا ، وعلى خصوص المقدمة لو انحصرت في الحرام كما في سلوك الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق ، فانه بعد فرض التزاحم بين وجوب إنقاذ الغريق وبين حرمة ذلك المشي في تلك الأرض ، وتقدم الأول على الثاني ، تكون حرمة الثاني ساقطة بقول مطلق إلاّ بنحو من الترتب بأن يقول إن لم تنقذ فلا تسلك. ثم بعد سقوط حرمة السلوك يقع الكلام في أن الواجب مقدمة هو خصوص الموصل أو ما قصد به التوصل أو مطلقا. ولعل قول الفصول (3) بأن الواجب هو خصوص الموصل مبني على هذه الجهة ، وأن الساقط بالمزاحمة هو حرمة خصوص الموصل دون غير الموصل. وسيأتي البحث معه في ذلك إن شاء اللّه تعالى (4).

والخلاصة : هي أن القول بأن الواجب هو نفس ذات الفعل دون المقيد بالايصال أو دون المقيد بقصد التوصل ، يلزمه القول بأن الساقط بالمزاحمة هو حرمة نفس ذلك السلوك لا خصوص ما يتوصل به إلى الانقاذ ، بدعوى كون الضرورة تقدر بقدرها ، فانه لو كان الأمر كذلك لكان

ص: 6


1- أجود التقريرات 1 : 313.
2- في صفحة : 41 وما بعدها. راجع أيضا صفحة : 62 وما بعدها ، وكذلك صفحة : 79 وما بعدها.
3- الفصول الغروية : 86 / التنبيه الأول.
4- في صفحة : 62 وما بعدها.

ما لم يتوصل به إلى الانقاذ باقيا على حرمته ، فكيف يمكننا القول بوجوبه وأنه ليس بحرام. ومن ذلك يتضح لك ما في الحاشية (1) فلاحظ.

والخلاصة : هي أن التزاحم الواقع بين وجوب الانقاذ وحرمة السلوك إن كان بين نفس التكليفين كان تقديم الأول على الثاني موجبا لسقوطه بتاتا ، فلا يكون السلوك محرّما حتى إذا لم يتعقبه الانقاذ ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، غايته أنه يمكن الخطاب الترتبي بأن يقال إن لم تنقذ فلا تسلك ، فتكون الحرمة معلّقة على عدم الانقاذ ، ولا أثر في ذلك للقول بوجوب المقدمة وعدمه.

وكذلك الحال إن قلنا إن التزاحم إنما هو بين الاطلاقين ، وقدّمنا إطلاق الأول على اطلاق الثاني ، فان مقتضاه تقيد حرمة السلوك بعدم توقف الانقاذ عليه ، فيكون جوازه منحصرا بما لو توقف الانقاذ عليه ، من دون فرق في ذلك أيضا بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.

وهكذا الحال لو قلنا إن المزاحم لوجوب الانقاذ ليس هو حرمة مطلق السلوك ، بل المزاحم له هو حرمة السلوك الانقاذي ، فانه يكون موجبا لسقوط حرمة السلوك الانقاذي مع بقاء السلوك لغيره على حرمته ، ومع فرض سقوط حرمة السلوك الانقاذي لا أثر للقول بوجوب ذلك السلوك وعدمه ، إذ لو قلنا بوجوبه لا يكون وجوبه مزاحما لحرمته ، إذ المفروض عدم حرمة السلوك الانقاذي.

ونحن وإن قلنا بوجوب المقدمة مطلقا ، موصلة كانت أو غير موصلة ، قصد بها التوصل أو لم يقصد ، فان ذلك أعني وجوب المقدمة

ص: 7


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 312.

إنما نقول به في غير ما هو المحرم منها. ولعل المنشأ فيما أفاده الفصول هو النظر إلى هذه الصورة ، وكذلك الحال فيما أفاده الشيخ (1) من اعتبار قصد التوصل ، وسيأتي البحث عن ذلك مفصلا في محله (2) إن شاء اللّه تعالى.

قوله : ولا يخفى أن هذا النحو من الوجوب وإن كان ثابتا للمقدمة كما ستعرف ، إلاّ أنه لا تترتب على البحث عنه ثمرة أصلا لعدم كونه مدار استحقاق الثواب والعقاب ولا التقرب من المولى والبعد عنه ... الخ (3).

لا يخفى أنه لقائل أن يقول : إنه لو ثبت هذا الوجوب لكان اللازم ترتيب هذه الآثار عليه. لكن الأولى إنكاره لكونه من الانوجاب لا من الايجاب ، فهو نظير الانوجاب بناء على جعل السببية ، فالشارع يجعل الزوال سببا لايجاب الصلاة فلا يكون إيجابها بفعله ، بل لا يكون في البين إلاّ الانوجاب. وقد أبطل شيخنا قدس سره (4) القول بأن المجعول هو السببية بهذه الطريقة واختار كون المجعول هو المسبب عند وجود السبب ، فالذي ينبغي في المقام هو إنكار كون انوجاب المقدمة مسببا عن إيجاب ذيها.

وأما القول بأن الشارع يوجب المقدمة عند إيجابه لذيها ، فقد عرفت أنه يتوقف على الالتفات إلى التوقف والمقدمية ، ومع هذا الالتفات يمكننا إنكار هذه الملازمة ، إذ ليس من اللازم على الشارع أن يوجب المقدمة عند إيجابه لذيها ، بل من الممكن أن لا يكون منه إلاّ إيجاب ذيها ، ويذر

ص: 8


1- مطارح الأنظار 1 : 353.
2- راجع صفحة : 41 وما بعدها وكذلك صفحة : 62 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 1 : 311 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- فوائد الأصول 4 : 393 وما بعدها ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره في المجلّد التاسع.

المكلف وما يقتضيه عقله من لزوم الاطاعة والسعي في الحصول على ذي المقدمة بتحصيل مقدماته.

وهذا الأخير هو العمدة في إنكار وجوب المقدمة شرعا ، وإلاّ فلو قسنا مسألتنا هذه بمسألة السببية لقلنا إن الشارع لا يجعل إيجاب ذي المقدمة سببا في انوجاب المقدمة ليتخرج على جعل السببية ، بل يمكننا تخريج البحث على جعل المسبب عند حصول السبب ، فالشارع يجعل وجوب المقدمة عند تحقق وجوب ذيها ، فالعمدة هو لغوية هذا الجعل لا مكان عدم صدوره من الشارع وإيكال المكلف إلى ما يحكم به عقله عند تحقق وجوب ذي المقدمة ، من لزوم الاتيان بها مقدمة للحصول على الاطاعة وفرارا عن الوقوع في المعصية ، فتأمل.

قوله : والتحقيق في هذا المقام أن يقال : إن ما يسمى علة ومعلولا إما أن يكون وجود أحدهما مغايرا لوجود الآخر - إلى قوله - أو يكونا عنوانين لفعل واحد غاية الأمر طوليا لا عرضيا ... الخ (1).

لا يبعد كون الفرق بين القسمين تعبيريا صرفا ، وإلاّ فان معلول الالقاء في النار إن لوحظ بعنوان الاحتراق أعني به المصدر اللازم كان مباينا للالقاء ، وإن لوحظ بعنوان الاحراق أعني به المصدر المتعدي كان عنوانا ثانويا للالقاء ، ولا ريب في عدم صحة تعلق الأمر بعنوان الاحتراق ، لا لمجرد كونه غير مقدور كي يجاب عنه بأنه مقدور بالواسطة ، بل لأنه ليس من الأفعال القابلة للانتساب إلى المخاطب ليكون هو مورد الأمر النفسي وتكون علته موردا للأمر الغيري ، وإنما يصح تعلق الأمر به بعنوان

ص: 9


1- أجود التقريرات 1 : 319 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الاحراق ، فلا يكون العنوان الأولي موردا للأمر الغيري ، بل يكون تعلق الأمر النفسي بأحدهما عين تعلق ذلك الأمر بالآخر ، وحينئذ ينسد باب الأمر الغيري في الأسباب.

ومن ذلك ما سيأتي في ص 188 (1) من الإشكال في الشروط على قولهم إن الأمر يتعلق بالتقيد والقيد خارج ، فان التقيد لا يتعلق به الأمر النفسي لكونه انتزاعيا ومعلولا لوجود القيد ، وإنما يتعلق الأمر النفسي بمنشإ انتزاعه وهو إيجاد القيد الذي يتولد عنه التقييد ، فلا تكون ذات الشرط واجبا بالوجوب الغيري ، بل يكون واجبا بالوجوب النفسي أعني إيجاد القيد الذي يتولد عنه التقييد. أما باب الايجاد والوجود والمصدر واسم المصدر فهو خارج عن باب العلل والمعلولات ولا دخل له بما نحن بصدده ، ومن ذلك يتضح لك ما في الحاشية (2).

ثم لا يخفى أن هذه التقسيمات والسعي وراء هذه الاصطلاحات ربما كان موجبا لتضييع الواقع.

والخلاصة : هي أن المقدمة إن كانت بحيث يترتب عليها معلولها من دون حاجة إلى شيء آخر حتى توسط الاختيار بينها وبين معلولها ، سواء كان من الغير أو من نفس الفاعل ، دخلت في العناوين الأولية والثانوية وخرجت عن الوجوب الغيري ، ولا يكون في البين إلاّ وجوب واحد نفسي متعلق بالفعل الخارجي ، سواء كان تعلقه به بعنوانه الأولي أو كان تعلقه به بعنوانه الثانوي ، وذلك مثل الالقاء والاحراق ومثل شرب الماء ورفع

ص: 10


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 323 من الطبعة الحديثة ، وراجع أيضا صفحة : 19 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 319.

العطش.

وإن احتاجت إلى توسط الاختيار ، فان كان ذلك الاختيار من الغير كما في أفعال الزارعين بالنسبة إلى صيرورة الزرع حبا أو سنبلا المتوقف على الأفعال الالهية ، فتلك الأفعال لا تكون إلاّ من قبيل المعدّ بالنسبة إلى ما يترتب عليها من صيرورة الزرع سنبلا ، ولو كان في البين أمر أو تكليف فهو لا يتعلق إلاّ بنفس تلك الأفعال ، وتكون واجبة نفسيا لا غيريا.

وإن كان ذلك الاختيار من الفاعل كما في مشي الرجل وحركته ليتوصل إلى الجلوس في المجلس أو في المسجد أو إلى الصلاة فيه ، فان جميع تلك الحركات مقدمات إعدادية لما يترتب عليها من الجلوس أو الصلاة في المسجد ، لكن ترتب ذلك عليها محتاج إلى اختيار من الفاعل. فان كان في البين أمر نفسي فهو لا يتعلق إلاّ بالغاية المذكورة ، وتكون تلك الحركات الانتقالية التي سميناها إعدادية مقدمة لتلك الغاية ، فان كانت الغاية واجبة نفسيا كانت تلك الحركات واجبة غيريا إن قلنا بوجوب المقدمة.

قوله : لا إشكال في خروج المقدمات العقلية عن محل الكلام وعدم جواز تأخرها عن المعلول ... الخ (1).

الظاهر وحدة الاشكال في الجميع. وكما يمكن دفعه في المقدمات الشرعية بالتمسك بأذيال كون الشرط هو العنوان المنتزع من وجود المتأخر بدعوى كون العناوين الانتزاعية كالتقدم إنما تنتزع من نفس المتقدم ، وأنه لا دخل لوجود المتأخر في انتزاعها كما سيأتي في الأمر الثاني (2) ، فكذلك

ص: 11


1- أجود التقريرات 1 : 321.
2- أجود التقريرات 1 : 321 - 322 [ وسيأتي التعرض لذلك في صفحة : 12 من هذا المجلّد ].

يتأتى هذا الدفع بعينه في المقدمات العقلية بأن يدعى أن الشرط ليس هو ذات المتأخر ، بل الشرط هو العنوان المنتزع له باعتبار تقدمه على ذلك المتأخر ، فلاحظ.

اللّهم إلاّ أن يدعى أن العنوان المنتزع لا يدخل في المقدمات العقلية والعلل والمعلولات الخارجية ، إذ لا تحقق خارجا للعنوان المنتزع كي يكون جزء العلة الحقيقية. نعم يمكن القول بمدخليته في الأمور الاعتبارية كالتكاليف والأحكام الوضعية كالملكية والرقية والزوجية ونحو ذلك.

قوله : مدفوع بأن السبق إنما ينتزع عن نفس السابق بالقياس إلى ما لم يوجد بعد ... الخ (1).

لكن لا بدّ من وجود اللاحق في ظرفه في علم اللّه ، فلو لم يكن يوجد في ظرفه لم يكن الأول موردا لانتزاع عنوان السابق ، وفي الحقيقة أن السابق إنما ينتزع عن نحو وجود السابق ، وليس للاحق دخل في انتزاعه منه ، وإن كان أنه لو لم يوجد لم ينطبق على الأول عنوان السابق ، غاية الأمر أن وجوده فيما يأتي ملازم لانتزاع عنوان السابق للأول لا أنه له دخل فيه هذا.

ولكن قد يقال : إنه بعد فرض الملازمة بين هذا العنوان وبين ذلك الوجود المتأخر إن كان منشأ التلازم هو كون العنوان المذكور علة للوجود اللاحق ، كان من قبيل تأخر المعلول زمانا عن علته وهو محال ، وإن كان الأمر بالعكس كان محالا أيضا لاستحالة تقدم المعلول على علته زمانا ، وإن كانا معلولين لعلة ثالثة كان محالا أيضا ، ضرورة كشف وجود المعلول الأول

ص: 12


1- أجود التقريرات 1 : 322 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

عن وجود علته ، فيكون تأخر الثاني من قبيل تأخر المعلول عن علته. وإن كان الأول جزءا من علة الثاني ، والجزء الآخر منها يوجد عند وجوده ، فان كان الجزء الآخر من العلة المذكورة أجنبيا عن وجود الجزء الأول منها الذي هو عنوان السابق ، لم تتحقق الملازمة ، وحينئذ لا بدّ من الملازمة بين جزأي العلة المذكورة ، ولا بدّ فيها من تأتي التقسيم السابق من كون منشأ الملازمة ما هو؟ هل هو كون الأول علة للثاني أو بالعكس أو أنهما معلولان لعلة ثالثة. وعلى كل منها يستحيل التأخر ، فتأمل (1).

ثم لا يخفى أن الاحتياج إلى أخذ العنوان المنتزع شرطا إنما هو للفرار عن تأخر الشرط عن المشروط ، ويمثّل له في التكاليف بوجوب تعلم أحكام الصوم قبل وقته بناء على كون وجوب التعلم نفسيا مشروطا بأنه يكلف بالصوم فيما بعد ، وفي الوضعيات بالاجازة لعقد الفضولي بناء على الكشف ، وفي المأمور به بمثل الأغسال الليلية لما سبقها من صوم النهار وبالأجزاء اللاحقة بالنسبة إلى السابقة ، لكون صحة الجزء السابق من المركبات الارتباطية مشروطة بلحوق باقي الأجزاء.

أما مثال التكليف فيمكن أن يقال : إن مثل وجوب التعلم على تقدير كونه نفسيا إنما يتوجه إلى من يبقى إلى زمان التكليف بالصوم مثلا أو من يبتلى به فيما بعد ، ومثل هذه العناوين ليست من قبيل العناوين الانتزاعية بل هي عناوين واقعية منطبقة على المكلف المزبور باعتبار تلبسه فعلا بحاصل النسبة الاستقبالية ، فان العناوين المنطبقة على الذوات مأخوذة من

ص: 13


1- لإمكان الجواب بأن منشأ هذا التلازم هو التضايف بين التقدم والتأخر نظير الأبوة والبنوة ، وهما أعني التقدم والتأخر منتزع عن نحو وجودهما في الزمان نظير الوجود في المكان [ منه قدس سره ].

النسب الخبرية الماضية أو الحالية أو الاستقبالية ، لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف. ففي مثل « قام زيد في الزمان الماضي » ينتزع منه أن زيدا ينطبق عليه فعلا أنه قائم في الزمان الماضي ، وفي مثل « يقوم زيد في الغد » ينتزع منه أن زيدا ينطبق عليه فعلا أنه قائم غدا.

وهذا أعني الالتجاء إلى مثل هذه العناوين لا محيص عنه فيما يأتي (1) من الأمر بالمقدمة قبل حصول شرط وجوب ذيها الذي نسميه بمتمم الجعل ، فان وجوب تلك المقدمة مشروط بأنه يتوجه إليه الوجوب الآتي المتعلق بذيها.

وكذلك لا محيص عنه في تصحيح وجوب الامساك في أول الفجر ، فانه مشروط ببقائه على شرائط التكليف بالصوم إلى آخر النهار ، فوجوب الصوم في أول النهار مشروط ببقاء شرائط الوجوب في آخر النهار كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) ، وحيث إنا نقول بمحالية الشرط المتأخر لا محيص لنا من القول بأن الشرط في الوجوب أول النهار هو العنوان المنتزع بالنحو المذكور ، أعني ما يكون مأخوذا من القضية الاستقبالية.

وأما الاجازة فالظاهر أن أخذ العنوان المنتزع لا يصلحها ، لأن تلك الاجازة حين صدورها ان كانت من المالك الواقعي كان لازم ذلك هو عدم تأثير العقد قبلها ، وان لم تكن صادرة عن المالك لكون العقد قد أثّر في الانتقال من حينه لم تكن تلك الاجازة مؤثرة لعدم كونها من المالك ، بل كانت لغوا صرفا. وهذه إحدى جهات الاشكال الذي أشكل به المحقق

ص: 14


1- بل فيما تقدّم في الصفحة : 121 من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.
2- بل تقدّم في الصفحة : 102 - 103 من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

صاحب المقابيس (1).

والانصاف : أن ما أفاده الشيخ قدس سره في المكاسب (2) وكذا ما أفاده غيره لم يكن حاسما لهذه الجهة من الاشكال.

وأما الثالث أعني شرط المأمور به مثل الأغسال الليلية بالنسبة إلى صوم النهار السابق ، فالظاهر أن العنوان المنتزع لا يصلحه أيضا ، لنحو ما تقدم من إشكال الاجازة ، فان الأمر بالصوم إن كان قد سقط في وقته لكونه واجدا لما هو الشرط الذي هو العنوان المنتزع ، لم يبق محل للأمر الغيري بالغسل ليلا ، إذ لا يعقل بقاء وجوب المقدمة مع سقوط الأمر بذيها وحينئذ فبأيّ داع يفعله المكلف.

وإن لم يكن الأمر بالصوم قد سقط في ظرفه لم يكن الشرط هو العنوان المنتزع ، بل كان الشرط هو نفس الغسل ، وكان لازمه توقف الامتثال وسقوط الأمر بالصوم على الاتيان بالغسل ليلا ، وحينئذ يتوجه إشكال آخر وهو أن ذلك الصوم السابق بعد فرض أنه في ظرفه كان غير متصف بالصحة كيف يمكن أن يلحقه وصف الصحة بعد انقضائه وانعدامه. وإشكال آخر أيضا في غير الصوم ممّا يكون فعلا مشروطا صحته بفعل متأخر ، فانه قبل ذلك الفعل المتأخر يلزمه تكرار ذلك الفعل السابق الذي هو المأمور به ، لأنه قبل الاتيان بذلك المتأخر لم يسقط أمره.

وهذا الأخير هو الاشكال المنسوب إلى المحقق السيد الشيرازي قدس سره على القول بتوقف امتثال أمر الجزء الأول من الصلاة على الاتيان بالجزء الأخير حسبما نقله عنه شيخنا قدس سره في مبحث استصحاب الصحة من مباحث

ص: 15


1- [ الظاهر أنّ المراد بذلك ما نقله الشيخ قدس سره من الاشكالات عن صاحب المقابس قدس سره في مسألة ما لو باع شيئا ملكه ، فراجع الاشكال الرابع في المكاسب 3 :1. 443 ، ومقباس الأنوار : 134 ].
2- [ الظاهر أنّ المراد بذلك ما نقله الشيخ قدس سره من الاشكالات عن صاحب المقابس قدس سره في مسألة ما لو باع شيئا ملكه ، فراجع الاشكال الرابع في المكاسب 3 :1. 443 ، ومقباس الأنوار : 134 ].

زيادة أجزاء المركب حسبما حررته عنه ، وهذا نص ما حررته عنه : أنه لا شبهة في كون وجود الأجزاء في الخارج تدريجيا لا دفعيا ، ولكن هل الامتثال وسقوط الأمر بكل واحد من تلك الأجزاء يكون تدريجيا أيضا ، بمعنى أن أمر كل جزء يسقط عند الاتيان به ، وهكذا إلى الآخر ، غاية الأمر من جهة الارتباطية يكون السقوط مشروطا بشرط متأخر وهو الاتمام ، ويكون الشرط في الحقيقة هو تعقب الجزء المأتي به بباقي الأجزاء والشرائط على النحو المعتبر فرارا عن الشرط المتأخر ، أو أن الامتثال والسقوط يكون دفعيا وهو لا يحصل إلاّ عند الاتمام ، فلا يحصل الامتثال ولا يسقط الأمر إلاّ عند ميم السلام عليكم؟ وجهان.

اختار الأول سيدنا الاستاذ الشيرازي قدس سره واختار الثاني سيدنا السيد محمد الاصفهاني قدس سره وكان بينهما نزاع شديد في ذلك ، وكان سيدنا الشيرازي قدس سره يستدل على مسلكه بأنه لولاه يلزم المكلف أن يكرر التكبيرة إلى ما لا نهاية له ، لعدم سقوط أمرها بالاتيان بها ، وما لم يسقط أمرها يجب الاتيان بها وهكذا. وكان سيدنا السيد محمد قدس سره يجيب عن ذلك بأن الأمر لا يسقط بالاتيان ، بل هو باق بحاله ولكن يسقط اقتضاؤه البعث والتحريك فالأمر بتكبيرة الاحرام بعد الاتيان بها وإن كان باقيا على فعليته لم يسقط إلاّ أنه لا يحرّك ولا يبعث نحو متعلقه. وفي الحقيقة أن هذا الذي كان يجيب به السيد محمد قدس سره التزام بالسقوط التدريجي على نحو الشرط المتأخر الراجع إلى المقارن الذي هو التعقب ، وذلك عين مسلك سيدنا الشيرازي قدس سره. وكيف كان ، فيترتب على اختلاف المسلكين آثار كثيرة في باب الخلل ، انتهى ما حررته عنه قدس سره في ذلك المبحث.

هكذا نقلت هذه الجملة الأخيرة ولم أتوفق للوجه فيها ، فإن ما يفيده

ص: 16

المرحوم السيد محمد قدس سره إنما هو فرار من الالتزام بالعنوان المنتزع ، الذي عرفت أن لازمه هو سقوط الأمر الغيري بما بقي من الأجزاء وإن كان أمرها النفسي باقيا ، ويظهر أثر الاشكال جليا فيما لو كان المتأخر هو الشرط وأن المتقدم هو مجموع الأجزاء ، حيث إن ذات القيد غير مأمور به بالأمر النفسي الضمني كي يكون الاتيان به بداعي ذلك الأمر النفسي الضمني كما في الجزء المتأخر ، بل إن الأمر به ممحض للأمر الغيري المقدمي ، ومع سقوط الأمر بذي المقدمة لا معنى لبقاء الأمر الغيري بالمقدمة ، بخلاف الجزء المتأخر فانه ليس بمقصور على الأمر الغيري ، بل له أمر نفسي ضمني فيمكن أن يؤتى به بداعي ذلك الأمر النفسي الضمني بعد فرض سقوط أمره الغيري المقدمي الناشي عن كون انضمامه إلى الأول قيدا في صحة الأول.

والظاهر أن هذا التبعيض في مقام السقوط نظير التبعيض في مقام التنجز ، فذات الفعل وإن سقط أمره إلاّ أن الأمر بتقيده بذلك القيد المتأخر باق ، وعند الاتيان بذلك القيد المتأخر يتقيد ذلك الفعل السابق ويتصف بالصحة وتمامية الامتثال ، حيث إن الفعل المتقدم وإن انصرم إلاّ أنه يتصف بلحوق ذلك القيد له ، فيحصل له ذلك التقيد المعتبر فيه ، ولذلك يقال إن مرجع التكليف بالمقيد إلى سدّ باب العدم من ناحية ذات المقيد وسدّ باب عدمه من ناحية قيده ، فعند الاتيان بذات الفعل قد حصل الامتثال من الجهة الأولى وبقي الامتثال من الجهة الثانية ، وهي سدّ باب عدمه من ناحية قيده وهكذا الحال في المركب ، هذا.

ولكن هذه التقريبات لا تخلو عن خدشة ، فإنه لو ترك ذلك القيد ولم يأت به في ظرفه فهل يكون العقاب على ترك التقيد فقط ، أو يكون العقاب على ترك المأمور به بتمامه أعني الذات والقيد؟ الظاهر هو الثاني ، ومقتضى

ص: 17

هذه التقريبات هو الأوّل.

وإن أمكن الجواب عنها : بأن مقتضى الشرط المتأخر أو كون الشرط هو التعقب [ أن ](1) يكون معاقبا على ترك الكل عند إخلاله بما هو المتأخر إذ لم يحصل الشرط في سقوط الأمر بالمتقدم وهو نفس المتأخر أو تعقبه به ، بل وكذلك الحال في التخريج على سدّ أبواب العدم من ناحية نفس الذات ومن ناحية نفس القيد ، فإنّه عند عدم الإتيان بالقيد يكون عاصيا لما أمر به من سدّ أبواب عدم المقيد ، فتأمّل.

فالأولى هو الركون إلى نفس ما أفاده السيد محمد قدس سره وهو سقوط الاقتضاء لا سقوط الأمر بالذات ، ويعني من سقوط الاقتضاء أن الاتيان بذلك الجزء الأول لأنه لما كان امتثاله متوقفا على الاتيان بالجزء الثاني يكون ذلك الاتيان غير مسقط للأمر المتعلق بذات الجزء الأول ، غايته أنه مع الاتيان بتلك الذات لا يكون الأمر بها مقتضيا لها ، ويبقى الحال على ذلك حتى يأتي بقيدها ، فعندئذ يسقط أمرها ، وذلك نظير ما لو أمرت عبدك باحضار ماء مبرّد فأحضره أمامك لكنه بعد مشغول بتبريده ، فأنت تجد من نفسك أنّك لا تحرّكه حينئذ على إحضار ذات الماء ، مع أنك ترى أن أمرك به غير ساقط ، لأنك ترى أنك تعاقبه على ترك ما أمرته به من إحضار الماء المبرّد فيما لو لم يبرّده ، لا على ترك التبريد ، بمعنى أن ذلك الماء الفاقد لا يدخل فيما أردته إلاّ بعد تبريده.

وإن شئت فقل : إن الأمر في رتبة امتثاله وإن كان موجودا لم يسقط إلاّ في الرتبة الثانية من امتثاله أعني أن سقوطه بعد امتثاله ، إلاّ أنه في هذه الرتبة أعني رتبة الامتثال لا يعقل كونه محرّكا وباعثا على متعلقه ، لكون هذه الرتبة

ص: 18


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

أعني رتبة الامتثال متأخرة عنه ، وما نحن فيه أعني كون العبد في حال الامتثال هي رتبة الامتثال ، فلا يعقل أن يكون للأمر فيها تحريك ثان غير ذلك التحريك السابق الذي يكون العبد فعلا متحركا عنه ، ولعل هذا هو ما يريده المرحوم السيد محمد قدس سره ، وبه يحصل الفرار من الشرط المتأخر ومن أخذ العنوان المنتزع ومن لزوم التكرار ، فتأمل.

قوله : قلت قد بيّنا في مبحث الواجب المشروط أن العناوين الانتزاعية حيث لا تحقق لها خارجا فيستحيل تعلق الأمر بها بأنفسها بل الأمر يتعلق بمناشئ انتزاعها - إلى قوله - وأمّا في الأخير فيتعلق الأمر بالشرط أيضا لا محالة ، فيكون الامتثال مراعى باتيانه في ظرفه كحال الأجزاء بعينها ، غاية الأمر أن تعلق الأمر بالجزء من جهة دخله قيدا وتقيدا ، وبالشرط من جهة دخل تقيده فقط ، وهذا لا يكون فارقا بعد تعلق الأمر بكل منهما ودخل كل منهما في الامتثال ... الخ (1).

لا يبعد القول بأن هذه الجمل متهافتة ، لأن قوله « بل الأمر يتعلق بمناشئ انتزاعها » وقوله « فيتعلق الأمر بالشرط أيضا لا محالة » يعدّ مناقضا لقوله : إن تعلق الأمر بالشرط من جهة دخل تقيده فقط فان الأمر النفسي الضمني إن تعلق بذات الشرط كان الشرط داخلا في المأمور به قيدا وتقييدا.

ثم لا يخفى أن لازم صرف الأمر النفسي المتعلق بالتقيد إلى نفس القيد هو كون الجزء مأمورا به نفسيا ضمنيا من جهتين ، من جهة ذاته ومن جهة كونه محصلا لتقيد الجزء الآخر به ، ولعل نظره قدس سره في الفرق بينهما إلى هذه الجهة ، وهي أن الشرط وإن كان مأمورا به نفسيا ضمنيا إلاّ أن هذا

ص: 19


1- أجود التقريرات 1 : 323 - 324 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الأمر النفسي الضمني إنما طرأ عليه من ناحية كونه محصّلا للعنوان المنتزع أعني تقيد المأمور به ، بخلاف الجزء فانه يكون مأمورا به نفسيا ضمنيا من جهتين ، إحداهما هذه أعني كونه محصّلا لتقيد الجزء الآخر به ، والأخرى كونه بذاته مطلوبا نفسيا ضمنيا.

وهذه التمحلات كلها إنما نشأت من صرف الأمر بالعنوان المنتزع أعني التقيد لكونه غير مقدور إلى ما هو منشأ انتزاعه أعني ذات القيد أعني ذات الشرط.

ويمكن أن يقال : إن التقيد وإن لم يكن بالنسبة إلى نفس القيد من العناوين الثانوية نظير الاحراق والالقاء ، إلاّ أنه من قبيل المسببات المباينة لأسبابها ، وهذه المسببات لعدم دخولها تحت إرادة الفاعل قد نقول إنه يمتنع تعلق الأمر بها ، فلا بد من صرف الأمر النفسي المتعلق بها صورة إلى أسبابها ، إلاّ أنه قد تقدم في ص 185 (1) ما حاصله أنه لا مانع من تعلق الأمر بها ، لكونها مقدورة بالواسطة أعني القدرة على أسبابها ، فتتعلق بها إرادة الفاعل ، وعن إرادتها تنشأ منه إرادة تتعلق بسببها ، وبناء على ذلك نقول إن المأمور به النفسي الضمني هو نفس التقيد ، ولكن ينشأ عن هذا الأمر الضمني النفسي أمر غيري متعلق بسببه الذي هو نفس القيد.

ثم لا يخفى أن الالتزام بصرف الأمر النفسي إلى القيد لا يدفع الاشكال السابق الذي أشار إليه بقوله : وحينئذ فيسأل عن أن هذه الاضافات عند تأخر الشرائط هل توجد قبل تحقق الشرائط أو عند تحققها ، وعلى الأول يلزم وجود الأمر الانتزاعي قبل وجود منشأ انتزاعه ، وعلى الثاني يلزم

ص: 20


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 319 من الطبعة الحديثة.

تحقق الاضافة مع انعدام أحد طرفيها وهو المشروط ... الخ (1) فإنّ الالتزام بكون الامتثال مراعى بالاتيان بالشرط في ظرفه وصرف الأمر إليه لا يدفع اعتبار التقيد الذي هو الاضافة المشار إليها فيما تقدم.

وحينئذ يقال : إن هذه الاضافة أعني التقيد قد حصلت بعد انعدام أحد طرفيها الذي هو المشروط. فلا بد في الجواب عن ذلك بما تقدمت الاشارة إليه في الحاشية السابقة (2) من أنه لا مانع من لحوق الشرط واتصاف ذلك الفعل السابق بكونه قد لحقه ذلك الشرط ، وذلك هو عبارة عن تقيده بلحوق الشرط ، بل لا يعقل أن يتصف بكونه مقيدا بلحوق الشرط له إلاّ بأن يتحقق ذلك الفعل ثم يلحقه الشرط المذكور.

ولا يخفى أن ما أفيد في الاشكال من الشق الأول مناف لما تقدم في الأمر الثاني من أن الأمر الانتزاعي إنما ينتزع عن نفس السابق الخ (3).

ثم لو سلّمنا مساواة الشرط للجزء كان الاشكال باقيا ، إذ لا ريب في كون التقيد دخيلا فيها ، فيسأل حينئذ عن أن التقيد بتلك الاضافة هل هو حاصل قبل اللاحق أو لا يحصل إلاّ بعد اللاحق ، فعلى الأول يلزم وجود ذلك التقيد الذي هو أمر انتزاعي قبل وجود قيده ، وعلى الثاني يلزم تحقق الاضافة مع انعدام أحد طرفيها.

والحاصل : أنه يرد على هذا الذي افيد هنا أوّلا : أنّه مخالف لما افيد سابقا من أن العنوان الانتزاعي معلول للأول دون الثاني.

وثانيا : أنه مخالف لما افيد سابقا (4) من أن السبب المباين مقدور

ص: 21


1- أجود التقريرات 1 : 323.
2- في صفحة : 17.
3- أجود التقريرات 1 : 322.
4- أجود التقريرات 1 : 319.

بواسطة القدرة على سببه.

وثالثا : أن هذا الاشكال إنما نشأ عن تقيد الأول بالقيد المذكور لا عن كون الثاني غير داخل في الأمر ، فلا يرفعه دعوى كون الشرط المتأخر داخلا في الأمر كالجزء ، فان هذا الاشكال يأتي في كل من الشرط والجزء سواء قلنا بأن الشرط داخل في الأمر كالجزء أو قلنا بخروجه عن حيّز الأمر وأن الواجب فيه هو التقيد فقط.

ولا مدفع للاشكال المزبور إلاّ ما اشير إليه بقوله : فيكون الامتثال مراعى باتيانه في ظرفه كحال الأجزاء بعينها.

ورابعا : أن دعوى كون الشرط بذاته واجبا كالجزء مناف لما هو معلوم وصرّح به هنا من كون القيد في الشرط خارجا ، وأن الداخل هو التقيد فقط.

وخامسا : أن هذا التقريب الموجب لانصراف الأمر إلى ذات الشرط يلزمه أن يكون الجزء واجبا نفسيا ضمنيا من جهتين ، إحداهما من جهة ذاته ، والأخرى من جهة صرف الأمر الوارد على التقيد به إلى نفسه ، فيكون واجبا بوجوبين نفسيين ضمنيين أو أن وجوبه متأكد.

وسادسا : أنه بعد جميع هذه التمحلات يكون الاشكال السابق الراجع إلى السؤال المذكور باقيا بحاله في كل من الجزء والشرط ، فإنه وإن اندفع الشق الأول منه بدعوى كون الامتثال حاصلا عند حصول المتأخر لا قبله ، إلاّ أن الشق الثاني وهو المعبّر عنه بقوله : وعلى الثاني ... الخ ، باق بحاله فلا بد من دفعه بما تقدمت الاشارة إليه ، هذا.

ولكن الذي حررته عنه قدس سره في هذا المقام ، أعني بيان كون شرائط

ص: 22

المكلف [ به ](1) فيما لو كانت متأخرة خارجة عن محل النزاع في الشرط المتأخر ، مقصور على بيان أن الامتثال لا يحصل إلاّ عند حصولها ، فيكون حال الشرائط المتأخرة حال الجزء المتأخر في كونه قيدا في صحة السابق وأنّ الامتثال لا يحصل إلاّ عند حصولها ، فلا يكون لها دخل بالشرط المتأخر ، وإنّما تكون من هذا الوادي لو قلنا بأن الامتثال يحصل قبل حصول تلك الامور المتأخرة ، فراجع ما حررته عنه قدس سره في هذا المقام (2) ، هذا.

ولكنك بالتأمل فيما ذكرناه في حاشية ص 185 (3) يمكنك الجواب عن هذه الاشكالات ، فان الشرط بعد أن صار مركبا للوجوب النفسي ، وكان بالنسبة إلى التقيد من قبيل نسبة العناوين الأولية إلى العناوين الثانوية تخرج المسألة عن كون الشرط في السابق هو العنوان المنتزع أعني عنوان السبق أو اللحوق ، ولا يكون الامتثال حاصلا إلاّ عند وجود اللاحق ، ولأجل ذلك أراد شيخنا قدس سره إخراج باب شرائط المكلف [ به ](4) عن محل الكلام وأرجعها إلى باب الأجزاء المتأخرة ، وكأنه في هذا المقام يختار مسلك استاذه السيد محمد الاصفهاني في أن التكليف لا يسقط إلاّ عند الجزء الأخير ، ولا يمكن تخريج المسألة على كون الشرط هو عنوان السبق واللحوق.

ثم لا يخفى أن كون العناوين الانتزاعية لا تحقق لها خارجا لا يوجب

ص: 23


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.
3- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، وقد تقدمت الحاشية في ص 9 من هذا المجلّد.
4- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

صرف الأمر بها إلى الأمر بمنشإ انتزاعها ، لإمكان القول بكونها بنفسها متعلقة للأمر ، غايته أنها مقدورة بالقدرة على منشأ انتزاعها ، فلا يكون وجوبه إلاّ مقدميا ، فلا بد من شرح ذلك بما قدمناه من كون المقام من قبيل العناوين الأولية والعناوين الثانوية ، وأن نفس وجود القيد يكون علة توليدية لوجود التقييد ، وهذا كله - أعني الالتزام بانبساط التكليف على وجود القيد - إنما صرنا مضطرين إليه لأجل تصحيح ما عن السيد الشيرازي قدس سره من كون الامتثال حاصلا عند كل جزء ويكون الشرط هو التعقب ، ففي الأجزاء يكون الجزء الأخير واجبا لأنه بنفسه واجب ، لكن في الشرط المتأخر لمّا كان غير واجب بنفسه وإنما وجب مقدمة لحصول القيد فيما تقدمه ، فلو التزمنا بسقوط الأمر فيما تقدمه لم يبق ما يوجب علينا الاتيان بالشرط المتأخر.

قوله : الأمر الرابع : لا ينبغي الريب في أن العلة الغائية وملاكات الأحكام التي هي علل تشريعها لا تكون بوجودها الخارجي مؤثرة في تشريع الحكم وجعله ، بداهة أنها متأخرة في الوجود الخارجي عن متعلقات الأحكام فضلا عن نفسها ... إلخ (1).

قد مرّ مرارا أن غاية الفعل ما كانت بوجودها الخارجي معلولة للفعل وبوجودها العلمي علة باعثة على إرادته وصدوره من الفاعل ، وملاكات الأحكام كالنهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الصلاة مثلا إنما هي غاية نفس الفعل أعني الصلاة ، فتكون بوجودها الخارجي معلولة له وبوجودها العلمي علة باعثة على تعلق إرادة الفاعل بذلك الفعل ، ولا دخل لها بالحكم

ص: 24


1- أجود التقريرات 1 : 325 [ المنقول هنا مخالف للنسختين ].

المتعلق بذلك الفعل ، أعني الايجاب الذي هو فعل صادر من الشارع. نعم إن الايجاب يكون غايته الامتثال وغاية الامتثال هي النهي عن الفحشاء. وبنحو من التسامح نقول : إن ملاكات الأحكام هي غاية جعلها باعتبار كونها غاية الغاية.

وعلى أيّ حال ، لا دخل لهذه الغايات بما هو محل البحث أعني شرط التكليف. نعم يمكن أن نسمّيها شرطا بمعنى شرط الجعل لا شرط المجعول ، ومعنى كونها شرط الجعل كونها علة غائية لذلك الجعل هذا كله في الملاكات وغايات جعل الأحكام. أما ما يناط به الحكم أعني شرط المجعول فهو أجنبي عن ملاكات الأحكام ، نعم إن تحقق ملاك الحكم متوقف عليه ، ولأجل ذلك جعل ذلك الحكم منوطا ومشروطا به ، وهذا هو محل الكلام في إمكان تأخره كما يرى في من علم بأنه يرده ضيف في آخر الشهر تتوقف ضيافته على استعداد من أول الشهر ، وكما في من علم بأنه يكلف بالحج مثلا في السنة الآتية وأنّ تعلم أحكام الحج لا يحصل عليه إلاّ إذا شرع فيه من هذه السنة ، فلو أمره الشارع بالاستعداد أو التعلم من الآن كانت له صورتان :

الاولى : أن يقول إن من علم بأنه يضيف في الآتي يجب عليه الاستعداد من الآن ، وحينئذ يكون الشرط هو علم المأمور بنحو تمام الموضوع ، ويصح كونه بنحو جزء الموضوع ، وليس ذلك من قبيل الشرط المتأخر في شيء ، لأن الشرط إنما هو العلم بذلك المتأخر لا أن المتأخر هو الشرط.

الصورة الثانية : أن يقول : إن من يتكلف في آخر الشهر يجب عليه

ص: 25

الاستعداد من أول الشهر ، وحينئذ يكون الشرط هو كونه بحيث يتكلف في آخر الشهر أو كونه يستطيع في السنة الآتية ، وهذا العنوان حاصل ومتحقق في الحال ، إذ لا ريب في أن زيدا يصدق عليه فعلا أنه يموت في المستقبل أو أنه يسافر إلى الحج مثلا ونحو ذلك من الامور الاستقبالية ، وليس ذلك من الشرط المتأخر في شيء ، بل لعله ليس من قبيل كون الشرط هو العنوان المنتزع أعني عنوان التعقب ونحو ذلك مما تصلح به غائلة الشرط المتأخر.

ثم بعد جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية باحدى الصورتين المذكورتين ربما وجّه الآمر أمره إلى المكلف أمرا مطلقا إن كان الآمر عالما بأنه واجد لذلك الشرط ، وإن لم يكن المأمور عالما بأنه واجد لذلك الشرط بأن تقول لمن تعلم بأنه يستطيع في السنة الآتية تعلّم أحكام الحج ، وهذا من قبيل تطبيق الكبرى الكلية على الصغرى المفروضة الحصول وأخذ النتيجة من ذلك ، ويكون المصحح لتوجيه الأمر فعلا هو علم الآمر بتحقق الشرط فيما سيأتي ، وليس من قبيل القضية الخارجية المشتملة على جعل مختص بذلك الفرد الخارجي ، ولا من قبيل تأخر الشرط كي نقول إن تجويز تأخر الشرط مبني على الخلط بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ولا من قبيل غاية جعل الحكم كي يكون وجودها العلمي مؤثرا في جعل الآمر كي نقول إن تجويز تأخر الشرط مبني على الخلط بين غاية الحكم وبين شرطه ، أو نقول إنه مبني على الخلط بين شرط الجعل وشرط المجعول ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، لو لم يكن في البين إحدى الكبريين ، بل لم يكن إلاّ قوله تعلّم الآن أحكام الحج ، بأن كان هذا إنشاء وجعلا جديدا ، يقع الكلام حينئذ أنه إنما أمره بذلك لعلم الآمر بأنه يتكلف بالحج فيما سيأتي ليكون من قبيل

ص: 26

القضية الخارجية ، أو أنه إنما أمره بذلك مشروطا بأن يتكلف الحج فيما سيأتي ، وحينئذ تكون قضية تعليقية حقيقية. وعلى الأوّل يكون التكليف بالحج فيما سيأتي من قبيل الداعي ، وعلى الثاني من قبيل القيد والشرط.

ويتخرج على ذلك ما لو أذن لزيد بدخول داره وكان زيد يعلم أنه عدوّ له وأنه لو اطلع على ذلك لما أذن له ، فعلى الداعي يجوز له الدخول وعلى التقييد لا يجوز ، لكن كل ذلك فيما إذا لم يكن مسبوقا بجعل كبروي ، أما لو كان قد صدر منه ذلك الجعل الكبروي بأن قال لا يجوز لمن هو عدوي دخول داري ثم بعد ذلك رأى شخصا وأذن له ، لا من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى وأخذ النتيجة ، بل كان ذلك الأمر الشخصي المتوجه إلى زيد أمرا جديدا ولو من جهة الغفلة عن ذلك الجعل الكبروي فعلى التقييد لا إشكال في أنه لا يجوز له الدخول ، وعلى الداعي ينبغي القول بأنه يجوز له الدخول ، لكن مقتضى انطباق الكبرى عليه أنه لا يجوز له ذلك ، فيلزم اجتماع الحكمين المتناقضين ، إلاّ أن نقول إن صدور هذا الاذن الشخصي لزيد يكون ناسخا أو تخصيصا قهريا لتلك الكبرى ، أو نقول بلغوية هذا الاذن الشخصي ، فلاحظ وتأمل. هذا كله في شرح ما أفاده شيخنا قدس سره.

ولكن لا يخفى أن الذي تلخص : هو أن مدخلية شيء في الحكم أو في الفعل الاختياري يكون على ثلاثة أنحاء :

الأول : نحو الداعي ، وهو ما يكون بوجوده الخارجي معلولا للفعل وبوجوده العلمي علة في الفعل لكون العلم بترتبه على الفعل موجبا لتعلق الارادة بذلك الفعل.

النحو الثاني : ما يكون من قبيل الاعتقاد المقارن ، مثل تهيئة أسباب

ص: 27

الضيافة لمن يعلم أنه يرده الضيف في غد مثلا. والفرق بين النحوين أن الأول لا يكون وجوده الخارجي إلاّ متأخرا عن الفعل ، بخلاف الثاني فان وجوده الخارجي ربما كان سابقا على الفعل ، كأن تحسن إلى زيد باعتقاد أنه أحسن فيما مضى إليك أو إلى من تتعلق به. وربما كان مقارنا للفعل بأن تقوم في المجلس تعارفا لزيد باعتقاد أنه فعلا ورد المجلس في حين أنه لم يرد المجلس لا هو ولا غيره. وربما كان متأخرا عن الفعل كأن يعطي الملك الجائزة فعلا لمن ورده باعتقاد أنه يسافر غدا في حين أنه لا يسافر أصلا.

وهذه الأقسام الثلاثة وإن اصطلحنا عليها بأنّها من قبيل الاعتقاد المقارن ومن قبيل تخلف الاعتقاد ، إلاّ أنها يمكن إرجاعها بنحو من الشرح إلى الدواعي.

ومن ذلك يظهر لك أن الداعي وما الحق به لا يكون وجوده الخارجي إلاّ متأخرا عمّا يدعو إليه ، ولا يتحقق فيه التقدم الخارجي ولا المقارنة.

ومن ذلك يظهر لك التأمل في توسعة الكفاية (1) لما يكون مؤثرا بوجوده العلمي الذي هو الداعي وما ألحق به إلى المتقدم والمقارن والمتأخر خارجا.

وعلى كل حال ، أن هذين النحوين في قبال النحو الثالث وهو ما يكون قيدا في الشيء وشرطا في تحققه.

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إن الفعل الخارجي الاختياري بعد تحققه لا يدخله التقييد والتعليق الذي هو النحو الثالث ، وينحصر ما يدخله

ص: 28


1- كفاية الأصول : 93.

بأحد الأولين أعني الداعي والاعتقاد المقارن. أما الأحكام وما هو من سنخها من الانشائيات فالأمر فيها بالعكس ، فان الحكم كالوجوب أو الملكية لا يدخله الداعي ولا الاعتقاد المقارن وإنما يدخله التقييد والتعليق. نعم إن إنشاء الحكم وجعله في عالم الاعتبار لمّا كان من الأفعال الاختيارية للحاكم كان موردا للدواعي ولما يكون من قبيل الاعتقاد المقارن ، ولا يدخله التقييد والتعليق. ولذلك تراهم يستدلون على بطلان التعليق في العقود بالاجماع ، فلا يصح البيع في قولك بعتك هذا إذا طلعت الشمس أو إذا جاء زيد ، لأجل محض الإجماع ، لا لأجل أن الانشاء غير قابل للتعليق كما ربما صدر عن بعضهم فأوردوا عليه بأن هذا القيد ليس قيدا للانشاء لأن الانشاء فعل خارجي لا يعقل التعليق فيه ، وإنما القيد قيد للمنشإ الذي هو نفس البيع فلا مانع منه عقلا ، ولكن العمدة في منعه هو الاجماع على البطلان واعتبار التنجز في العقود ، فراجع (1).

وهذه الجهة أعني عدم دخول الداعي والاعتقاد المقارن في الحكم لا يفرق فيه بين كون القضية حقيقية وكونها خارجية ، حتى في مثل قولك لمن تعلم أنه مستطيع : حج أيّها الانسان ، فإن هذا الاعتقاد - أعني اعتقادك باستطاعته - له الدخل في إنشائك وجوب الحج عليه من دون أن تقيده بالاستطاعة ، فلاحظ وتأمل.

نعم ، إن نفس الحكم في القضية الخارجية كما لا يدخله الداعي والاعتقاد فكذلك لا يدخله التقييد ، وإلاّ خرجت القضية عن كونها خارجية وعادت قضية حقيقية تتضمن الملازمة بين الاستطاعة ووجوب الحج ، وإن

ص: 29


1- المكاسب 3 : 170.

كان ذلك في خصوص ذلك الشخص كما حققناه في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية (1).

قوله في الحاشية : فلأن شرطية شيء للمأمور به ليست إلاّ بمعنى دخل ذلك الشيء في المأمور به ، وكون الأمر متعلقا بالمقيد به الذي هو عبارة عن حصة خاصة من الطبيعي - إلى قوله - فوجود القيد المتأخر لا شأن له إلاّ أنه يكشف عن وجود تلك الحصة في ظرف كونها مطلوبة ... الخ (2).

الظاهر من كون المطلوب هو الحصة هو حديث التوأمية الذي أفاده الاستاذ العراقي قدس سره (3) أعني كون المطلوب هو الحصة التي هي توأم مع القيد وعليه يكون كل من القيد والتقييد خارجا عن الطلب ، فلا يكون القيد دخيلا في المأمور به ، فلا يلتئم الصدر مع الذيل. وعلى أيّ حال أن هذا التحصص هو وليد وجود القيد ، فلم يندفع محذور الشرط المتأخر إلاّ بما تقدمت الاشارة إليه (4) من أخذ العنوان المنتزع قيدا. وهكذا الحال في قيود التكليف أو الوضع فان إصلاحه منحصر بما عرفت من العنوان المنتزع ، أو ما يرجع إليه من أخذ الشرط هو كون المكلف على الصفة الكذائية في الاستقبال ، كما عرفت (5) من أخذ الشرط في وجوب تعلم أحكام الحج في الحال هو كون المكلف يستطيع في الاستقبال.

وما تضمنته الحاشية أعني قوله : وربما يجعل الحكم على الموضوع

ص: 30


1- راجع صفحة : 10 - 11 من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 328.
3- راجع مقالات الأصول 1 : 243.
4- في صفحة : 13.
5- في صفحة : 25 - 26.

المقيد بقيد أخذ مفروض الوجود بعد وجوده ... الخ (1) ، هو عين كون الشرط هو الصفة الاستقبالية التي هي نحو العنوان المنتزع الموجب لعدم تأخر الشرط ، إذ ليس الشرط هو الذات المتأخرة وإنّما الشرط هو تأخرها وهو متحقق فعلا ، فلاحظ.

قوله في الحاشية : إلاّ أنه لا بد من الالتزام بالكشف الحقيقي بمعنى آخر - إلى قوله - فالمال مثلا قبل الإجازة كان محكوما بكونه مملوكا لمالكه الأول ، وبعد الاجازة يحكم بكونه ملكا للمجيز من حال صدور العقد - إلى قوله في دفع المضادة - فوحدة زمان الملكيتين مع تغاير زمان الاعتبارين لا محذور فيها أصلا ... الخ (2).

هذا هو عين النقل مع الانقلاب من حين الاجازة ، وهو مسلك العلاّمة الخراساني قدس سره في حاشية المكاسب (3) ولا دخل لذلك بالكشف الحقيقي ، فانه مسلك ثالث مغاير للقول بالكشف والنقل الحقيقيين.

قوله في الحاشية : إذا فرضنا تعلق الاجازة بالملكية المنشأة قبل الاجازة ... الخ (4).

هذا أحد أدلة الكشف ، وقد أجيب عنه في محله (5) بأن الملكية المنشأة لم تكن مقيدة بالزمان الذي وقعت فيه ، كما أن الإجازة لم يكن متعلقها هو الملكية المقيدة بالزمان السابق ، بل الواقع سابقا هو نفس الملكية ، كما أن المجاز هو نفس الملكية لا الملكية السابقة ، وحينئذ فبعد

ص: 31


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 328 - 329.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 330.
3- حاشية كتاب المكاسب : 61.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 331.
5- راجع المكاسب 3 : 403.

الامضاء لا يعقل أن يكون أثر الإجازة سابقا عليها ، فراجع.

وقول شيخنا قدس سره : إن الملكية الشرعية الثابتة حين الاجازة لا ربط لها بالملكية المنشأة ... الخ (1) ليس المراد به أن الملكية المنشأة تكون مقيدة بالزمان ، نعم هي واقعة فيه ، وفرق بين كون الشيء واقعا في الزمان المخصوص وبين كونه مقيدا بذلك الزمان ، وسيأتي توضيح ذلك منه قدس سره (2).

قوله في الحاشية : إنشاء الأمر المتأخر ... الخ (3).

إن ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : على أنا قد بينا سابقا ... الخ (4) ليس هو مختاره ، بل هو جدل مفاده أنه لو سلّمنا تقييد المنشأ فمن الممكن أن يكون المنشأ هو الملكية في زمان الاجازة فلا يتم دليل القائل بالكشف فلاحظ. وليس ذلك من قبيل تأخر المنشأ عن الانشاء ، إذ ليس المنشأ هو الملكية المطلقة ، بل المنشأ إنّما هو الملكية على تقدير الموت ، وهو حاصل فعلا وإن لم تكن الملكية موجودة فعلا في عالم الانشاء ، بل الموجود في عالم الانشاء هو الملكية على تقدير الموت كما تقدّم (5) تحقيقه في الواجب المشروط.

قوله في الحاشية : وهل يكون العقل أو العرف مشرّعا في قبال الشارع؟ كلا ... الخ (6).

لا يخفى أن ذلك لم يدّعه شيخنا قدس سره ، وإنّما جلّ غرضه هو أنه بعد

ص: 32


1- أجود التقريرات 1 : 330 - 331.
2- أجود التقريرات 1 : 333 - 334.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 331.
4- أجود التقريرات 1 : 331.
5- في صفحة : 6 - 7 وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.
6- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 332.

أن كانت الاجازة بحسب النظر العرفي والعقلي مؤثرة بذات وجودها لا بالعنوان المنتزع ، لم يمكن القول بالكشف بدعوى كون الشرط هو العنوان المنتزع. وفي الحقيقة أن هذا الوجه الثالث ليس من وجوه تصحيح الشرط المتأخر بل هو ضد الشرط المتأخر ، وإنّما هو توجيه للقول بالكشف بغير الالتزام بالشرط المتأخر.

ثم بعد البناء على أن النظر العرفي قاض بكون الاجازة بوجودها الخارجي مؤثرة لو ورد دليل يدل على ترتيب آثار الملكية قبلها كما في قضية عروة البارقي (1) ، كان منزّلا على مجرد التعبد وتنزيل الملكية الآتية عند الاجازة منزلة الموجودة فعلا وهو معنى الكشف الحكمي ، وهذا الحكم وإن أمكن جعله حقيقيا عن ملكية حقيقية ، إلاّ أن ذلك النظر العرفي القاضي بكون الاجازة مؤثرة بوجودها يقضي سدّ باب هذا الاحتمال.

قوله في الحاشية : فيرد عليه أوّلا : أنا نفرض الكلام في موارد الاجارة الفضولية ... الخ (2).

لا يخفى أن تقدم المملوك وهو المنفعة السابقة لا دخل له بتقدم الملكية ، كما أنّ تأخره كما في الاجارة على المنفعة في العام الآتي لا دخل له بتأخر الملكية.

قوله في الحاشية : وثانيا - إلى قوله - والاهمال غير معقول ... الخ (3).

لا يخفى أن هذا أعني دعوى عدم معقولية الاهمال وأنه إذا انسدّ باب

ص: 33


1- مستدرك الوسائل 13 : 245 / أبواب عقد البيع ب 18 ح 1 ، عوالي اللآلي 3 : 205.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 332.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 332.

التقييد لا بدّ من تحقق الاطلاق إنما هو في المفاهيم دون الأفعال الخارجية وما نحن فيه من قبيل الثاني ، إذ لا فرق بين إيجاد الكسر الخارجي بآلته وبين إيجاد الملكية في صقع الانشاء بآلته التي هي العقد ، فان الموجود هو نفس الذات لا المقيد بالزمان الحالي ولا المطلق ، فلاحظ.

قوله : وأمّا المسألة الفقهية فعدم جريان الأصل فيها لعدم ترتب الأثر عليه - إلى قوله - إذا لم يكن هناك أثر عملي مترتب على جريانه (1).

كان الأنسب أن يكون هذا البحث بعد البحث الآتي المتعرض لثمرة النزاع ، لكن حيث تحقق هناك عدم الثمرة العملية صح له هنا أن يقول بعدم الأثر العملي.

قول صاحب الكفاية قدس سره : نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لما صح التمسك بالأصل كما لا يخفى (2).

الظاهر أن مراده هو أنه يعتبر في الأصل النافي للتكليف (3) كون ذلك التكليف لو فرضنا تحققه واقعا لكان من الممكن نفيه في المرتبة الفعلية كما هو في جميع موارد النفي من الأحكام الظاهرية ، فانها منحصرة في المورد القابل للتفكيك فيه بين الواقع والفعلية ، فان محصّل الأصل النافي هو الحكم بعدم فعلية الحكم سواء كان موجودا في الواقع أو لم يكن موجودا فيه ، وكما أنه ليس الأصل النافي مقيدا بوجود الحكم الواقعي

ص: 34


1- أجود التقريرات 1 : 335 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الأصول : 126.
3- [ في الأصل هنا زيادة : هو ، حذفناه لاستقامة العبارة ].

فكذلك ليس بمقيد بعدمه ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، فلا يتأتى إلاّ في المورد القابل للاطلاق.

أما لو كان الحكم الواقعي بحيث إنه لو فرضناه موجودا في الواقع لكان فعليا ، على وجه لا يمكن الحكم بعدم فعليته بقول مطلق - سواء كان موجودا في الواقع أو كان غير موجود فيه - فلا تجري فيه الاصول النافية.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان وجوب المقدمة لو كان موجودا في الواقع لكان ذلك ناشئا عن الملازمة بينه وبين وجوب ذيها المفروض كونه فعليا ، والمفروض أن هذه الملازمة محققة حتى في المرتبة الفعلية ، فيكون الحاصل أن هذا الوجوب لو كان موجودا في الواقع لكان فعليا ، ولاستحال عدم فعليته مع فعلية ملازمه الذي هو وجوب ذي المقدمة ، ومن الواضح أنه حينئذ غير قابل لأن تجري فيه الاصول النافية ، فان محصل جريانها في المورد الذي تجري فيه هو نفي التكليف الفعلي في ذلك المورد ، سواء كان موجودا في الواقع او لم يكن موجودا ، إذ ليس محصل إجراء الأصل النافي هو عدم ذلك التكليف واقعا حقيقة بنحو التصويب ، بل محصله هو أن ذلك الحكم ليس بفعلي حتى لو كان موجودا في الواقع ، وهذا المحصل لا يتأتى فيما يكون وجوده واقعا ملازما لفعليته وأنه لو لم يكن فعليا لزم التفكيك بين المتلازمين.

ومن ذلك يظهر أنه لا داعي لحمل عبارة الكفاية في توجيه المنع من إجراء الأصل النافي ، بأن احتمال عدم الوجوب المقدمي عبارة اخرى عن احتمال التفكيك بين المتلازمين ، كي يتوجه عليه بأنه يكفي في تحقق احتمال عدم الوجوب احتمال عدم الملازمة ، وأن عموم دليل الأصل النافي يكون كاشفا عن نفي الملازمة نظير كشف عموم « لعن اللّه بني أمية » عن أنه

ص: 35

لا مؤمن فيها. مضافا إلى أن ذلك لا يرفع الاحتمال الوجداني للملازمة في مقام الفعلية ، وحينئذ يتحقق في الحكم بعدم وجوب المقدمة احتمال كونه تفكيكا بين المتلازمين ، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك بينهما ، فإن تحقق المحال مما لا يمكن [ أن يكون ](1) متعلقا للاحتمال ، وما ذلك إلاّ من قبيل احتمال اجتماع الضدين أو النقيضين.

نعم ، يظهر من الكفاية أنّ بناءه على عدم الملازمة في مقام الفعلية وأنها منحصرة في الواقع ، وحينئذ يتوجه عليه أن الملازمة على تقدير ثبوتها لا بد من تحققها في المرتبة الفعلية ، ولا يعقل نفي الملازمة الذاتية بين شيئين في المرحلة الفعلية مع الاعتراف بتحققها واقعا ، فتأمل.

ويمكن أن يقال : يكفي في الحكم بعدم الفعلية احتمال عدم الوجوب واقعا من جهة احتمال عدم الملازمة ، وإن كان ذلك الوجوب لو كان موجودا واقعا لكان فعليا. وبالجملة : أن احتمال الوجوب واقعا مساوق في المقام لاحتمال فعليته ، وهذا الاحتمال بعينه لا يمنع من جريان الأصل النافي الحاكم بعدم الفعلية ، إذ ليس محصل الحكم بعدم الفعلية هو الحكم بذلك على كل من احتمالي وجود الوجوب واقعا وعدمه واقعا ، كي يقال إنه على التقدير الأول أعني احتمال الوجوب واقعا يلزم التفكيك بين المتلازمين ، أعني وجوب المقدمة ووجوب ذيها أو فعلية وجوبها ووجوبها الواقعي ، بل إن محصل الأصل النافي هو مجرد الحكم بعدم الفعلية ولو من جهة احتمال عدم الوجوب واقعا.

وبعبارة أخرى : أن مفاد الأصل النافي ليس هو مقيدا بوجود التكليف واقعا ولا بعدمه واقعا ، لبطلان كل منهما ، ولا بد حينئذ من أن لا يكون مطلقا

ص: 36


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

بالقياس إلى كل منهما بحيث يكون محصّله هو الحكم بعدم الفعلية على كل من تقديري وجود الوجوب واقعا وعدمه واقعا.

وفيه تأمل ، لأن ذلك موجب للاهمال واقعا وهو محال.

فالأولى أن يقال : إنه ليس مفاد الاستصحاب هو الحكم بعدم الفعلية بل مفاده ليس إلاّ إحراز عدم الوجوب واقعا سيما إذا أنكرنا الحكم الظاهري فيه وفي باب الأمارات ، وأنه ليس في البين إلاّ الحجية وجعل الاحراز ، ولا تنافي بين قيام الحجة الشرعية على عدم وجوب المقدمة مع قيام الحجة العقلية - أعني القطع - على وجوب ذيها مع فرض احتمال الملازمة بين الوجوبين ، فانه يكفي في صحة الحجة الشرعية على عدم وجوب المقدمة مجرد احتمال العدم واقعا ، وإن كان المنشأ في احتمال العدم المزبور هو احتمال عدم الملازمة ، فتأمل فان ذلك كله لا يدفع احتمال كون الحكم المذكور موجبا للتفكيك ، واحتمال التفكيك محال كنفس التفكيك.

قوله : وأمّا المقام الثاني : فالحق فيه هو القول بوجوب المقدمة الخارجية بالوجوب الترشحي القهري الملازم لوجوب ذي المقدمة الخ (1).

ظاهر هذه الجملة أن وجوب المقدمة لازم قهرا لوجوب ذيها ، بحيث إنه إذا تعلق الوجوب بذي المقدمة توجب المقدمة حتى لو كان الآمر غافلا عن التوقف على المقدمة ، فيكون مفاد هذه الجملة راجعا إلى ما في الكفاية (2) من كون وجوبها من قبيل لوازم ماهية وجوب ذيها ، غايته أنه مجعول بالتبع ، لا بالجعل البسيط ولا بالجعل التأليفي.

ويمكن الجزم بعدم صحة هذه الدعوى ، إذ لا يكون من الآمر إيجاب

ص: 37


1- أجود التقريرات 1 : 335 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الأصول : 125.

للمقدمة وإنما هو الانوجاب قهرا على الآمر ، وهذا الانوجاب مما لا نتعقله.

لكن شيخنا قدس سره أصلحه بأن الملازمة بين الايجابين لا بين الوجوبين ، وذلك قوله : فيدفعه أن المدعى هو تعلق الارادة بها قهرا عند إرادة ذي المقدمة ، فلا يتمكن المريد لذي المقدمة من عدم إرادتها ليتوقف تحققها على فائدة وغاية (1).

لكن هذا المقدار من الملازمة قابل للانكار ، إذ لازمه أن يكون إيجاب المقدمة قهريا على الآمر غير اختياري له. ولا يخفى ما فيه سيما بالنسبة إلى الشارع المقدس ، ولعله أردأ من ظاهر الكفاية من الالتزام بانوجاب المقدمة عند إيجاب ذيها ، فلاحظ وتأمل.

وأقصى ما يمكن القول به هو حكم العقل على الآمر الذي أوجب ذا المقدمة أن يوجب المقدمة ، لأن عدم إيجابها منه مع إيجابه لذيها كالتناقض أو كالتهافت ، فلا يكون حال الملازمة بين إيجاب ذي المقدمة وإيجاب المقدمة إلاّ كالملازمة بين حكم العقل بحسن الشيء وبين إيجاب الشارع بمعنى أنه يلزم على الشارع الحكيم أن يوجب ما حكم العقل بحسنه فكذلك نقول في هذا المقام إنه يجب على العاقل الذي صدر منه إيجاب ذي المقدمة أن يصدر منه إيجاب المقدمة محافظة على ذي المقدمة وبذلك يخرج إيجاب المقدمة عن اللغوية ، فان تم هذا فهو وإلاّ كان القول بوجوب المقدمة شرعا باطلا من أصله.

ثم إنه لو تم ذلك نقول : إن هذا المقدار كاف في الحكم بالملازمة بين الإيجابين بل بين الوجوبين أيضا ، فيقع الكلام حينئذ في ان هذا التلازم هل هو محقق في جميع مراتب وجوب ذي المقدمة ، كي يكون موجبا لعدم

ص: 38


1- أجود التقريرات 1 : 336 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

جريان الأصل في وجوب المقدمة مع فرض وجوب ذيها ، لأن مقتضى الأصل المذكور الجاري في فرض وجوب ذي المقدمة هو القطع بعدم الملازمة بين الوجوبين في مرحلة الظاهر ، وهو ينافي احتمال الملازمة المطلقة بينهما ، أو أنّ هذا التلازم إنما يكون بين الوجوبين في الواقع فلا يمنع من جريان الأصل المذكور. والذي يظهر من الكفاية (1) هو الثاني ، لكن الظاهر هو الأول ، فراجع ما حررناه في شرح عبارة الكفاية (2).

ثم إن هذا المقدار من التلازم كاف في تحقق إيجاب كل ما يتوقف عليه الواجب ، من دون حاجة إلى الالتفات إلى خصوص هذه المقدمة والاطلاع على أنها يتوقف عليها الواجب ، بل يكفي في ايجابها إيجاب كل ما يتوقف عليه الواجب ، وهذا المقدار يلتفت إليه كل آمر.

وأمّا قياس الارادة الشرعية على الارادة التكوينية فهو مسلّم ، إلاّ أن الارادة التكوينية لو تعلّقت منك بالكون في مسجد الكوفة كانت تلك الارادة باعثة لك على تعلق إرادتك التكوينية أيضا بالحركة من محلك إلى نفس المسجد ، وهذه الثانية متولدة عن الاولى ، ونسبتها إليها نسبة المنفذ ومن قبيل فتح الطريق لتأثير الاولى وإزالة العقبات الواقعة دون نفوذها ، فهي نظير أوامر الاطاعة ، فلو قسنا الارادة الشرعية على ذلك لم يكن مقتضاه إلاّ كون الأمر بالمقدمة تنفيذا للأمر بذي المقدمة ، فلا يكون إلاّ من سنخ أوامر الاطاعة فلا تكون مولوية ، ولأجل ذلك لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب. نعم يمكن القول بأنها مولوية منشؤها المحافظة على المراد الأصلي على حذو المراد التكويني ، فهي شرعية مولوية وإن لم يترتب عليها الثواب

ص: 39


1- كفاية الأصول : 125 - 126.
2- [ الظاهر أن مراده ما تقدم في صفحة : 34 ].

والعقاب ، وليست إرشادية بحيث تكون إرشادا إلى ما يحكم به العقل من لزوم إطاعة المولى بالاتيان بما تعلقت به إرادته.

ومنه يظهر لك أن الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الايجابين ويكون الثاني منهما حافظا للأول ، ويكون تحقق الثاني مشروطا بالالتفات إلى التوقف ، ولا يخرج عن كونه اختياريا للآمر ، بل هو اختياري له بعد التفاته وكونه حكيما ، نظير إيجابه الواجب الذي حكم بحسنه العقل.

نعم ، لو قلنا إن الملازمة هي بين الوجوبين أو هي بين إيجاب ذي المقدمة ووجوب المقدمة ، لكان وجوبها قهريا على الآمر.

ومن ذلك يظهر لك أنه لا يقاس وجوبها بوجوب الاحتياط في بعض موارد الشبهات الحكمية كما في الدماء والفروج ، كما أنه لا يقاس بالوجوب الشرعي الناشئ عن حكم العقل بالحسن بناء على الملازمة. أما الأول فلأن في وجوب الاحتياط فائدة وهي إيصال المكلف إلى المراد الواقعي وإن لم يترتب عليه الثواب أو العقاب ، فانه لو لا هذا الوجوب لأجرى البراءة العقلية. وأمّا الثاني فلأنه يترتب عليه الثواب والعقاب وبواسطتهما يتوصل المولى إلى لطفه بعباده من إيصالهم إلى ما فيه مصالحهم ، إذ لولاه لما وصلوا إلى ذلك لعدم اعتنائهم بمجرد الحسن العقلي.

نعم إن المحافظة على الارادة النفسية ربما كان لها أثر في إيجاب المقدمة قبل الوقت إذا فرض أنه لا يتمكن منها عند الوقت ، فالشارع محافظة على مراده المهم في الوقت يوجب المقدمة قبل الوقت محافظة على ذلك المراد الذي هو ذو الأهمية عند الشارع كما في المقدمات المفوّتة ، لكن ذلك ليس كليا بل ينحصر في الموارد التي لها أهمية توجب

ص: 40

على الحكيم إيجاب المقدمة قبل الوقت ، وفائدة ذلك أنه لو ورد إيجاب للمقدمة قبل الوقت قلنا بامكانه وحملناه على هذا التوجيه ، فيكون من قبيل الوجوب الغيري ، لكنهم سمّوه بالوجوب النفسي بالغير في قبال ما يكون واجبا نفسيا بالذات.

وعلى كل حال ، أن هذا النحو من وجوب المقدمة لا يتبع وجوب ذيها بالاطلاق والتقييد ، بل يكون وجوبها مطلقا فعليا مع أن وجوب ذيها مشروط بشرط لم يأت بعد ، فتأمل.

قوله : وإن كان نظره قدس سره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة كما تساعد عليه جملة من عبارات التقرير ... الخ (1).

وتقريب ذلك بأن يقال : إن المزاحم لوجوب إنقاذ الغريق هو حرمة السلوك في الأرض لانقاذه لا حرمة السلوك للتنزه مثلا ، فان حرمته لا تزاحم وجوب الانقاذ ، فلو قدّمنا جانب الايجاب كان المرتفع هو حرمة السلوك بقصد إنقاذ الغريق ، فما لم يكن بقصد إنقاذه لا يكون مرتفع الحرمة ، فإن نتيجة التزاحم والتقديم لأحد المتزاحمين هي تقييد الآخر بما يرتفع به المزاحمة ، فيكون ارتفاع الحرمة مقصورا على ذلك المقدار مما يوجب التزاحم ، وتكون أدلة الحرمة مقيدة بما لا يزاحم وجوب الانقاذ من دون فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها ، إذ على القول بوجوب المقدمة يكون الواجب من ذلك السلوك المحرم هو ما قصد به التوصل إلى الانقاذ.

وهذه الطريقة تتضح بلحاظ باب الترتب في مزاحمة وجوب الصلاة مع وجوب الازالة ، فإن محصّل وجوب الصلاة هو كون تركها حراما ، وهذه

ص: 41


1- أجود التقريرات 1 : 342 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الحرمة للترك وقعت مزاحمة لوجوب إزالة النجاسة ، وليس المزاحم لوجوب إزالة النجاسة هو حرمة مطلق ترك الصلاة ولو لم يتوصل به إلى إزالة النجاسة ، بل المزاحم هو حرمة الترك الذي يتوصل به إلى إزالة النجاسة ، فتكون حرمة الترك المتوصل به إلى إزالة النجاسة مرتفعة ، ويكون الحاصل هو أن ترك الصلاة الذي يتوصل به إلى إزالة النجاسة ليس بحرام وهو عبارة اخرى عن بقاء الترك الذي لا يتوصل به إلى إزالة النجاسة على حرمته ، فيكون ترك الصلاة عند عدم التوصل به إلى إزالة النجاسة حراما ويكون فعلها واجبا ، وهو محصل قولنا إن لم تأت بالازالة ولم يكن تركك للصلاة موصلا للازالة كان (1) ذلك الترك محرّما وكانت الصلاة واجبة ، وهو عين قول القائلين بالترتب إنه يجب الصلاة عند ترك الازالة ، أعني إن لم تزل النجاسة فصلّ.

ولكن هذه الطريقة تجري في صورة كون السلوك في حدّ نفسه مباحا ، بمعنى الاباحة الاقتضائية التي هي عبارة عن تساوي الطرفين ، فإن الذي ينافي وجوب الانقاذ هو إباحة السلوك الذي يتوصل به إلى الانقاذ فتكون إباحته ساقطة ، ويكون الواجب من السلوك هو ما يقصد به التوصل دون ما لم يقصد به التوصل ، بل ذلك يبقى على إباحته.

بل قد يقال : إن ذلك يجري حتى على الاباحة بمعنى عدم الاقتضاء فإنه بناء على الملازمة يكون الواجب هو خصوص ذلك الذي يقصد به التوصل.

نعم ، بناء على عدم وجوب المقدمة وإنكار الملازمة لا مانع من بقاء ذلك السلوك الخاص على ما هو عليه من تساوي الطرفين فضلا عن عدم

ص: 42


1- [ في الأصل : لم يكن ، والصحيح ما أثبتناه ].

الاقتضاء. ولعل ذلك هو مراد صاحب المعالم حيث يقول : إن وجوب المقدمة منحصر عند إرادة ذيها (1) ، فلاحظ وتأمل.

قوله : نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة ... الخ (2).

لو تم هذا الترتب كما لعله سيأتي في بابه (3) إن شاء اللّه تعالى لكان من الممكن جعله مدركا لاعتبار قصد التوصل في خصوص المقدمة المحرمة في مورد الانحصار ، لأن المفروض حينئذ هو حرمة السلوك في الأرض المغصوبة على تقدير عدم إنقاذ الغريق ، فلو كان بانيا على إنقاذه كان ذلك كاشفا عن عدم حصول شرط التحريم الذي هو عدم الانقاذ ، فلا تكون المقدمة محرمة بل تكون واجبة غيريا ، ولو لم يكن بانيا على ذلك لم يحصل عنده ما يكشف عن عدم حصول ذلك الشرط ، فلا يسوغ له الاقدام على سلوك تلك الأرض ، ويكون الحاصل هو انحصار وجوبها الفعلي في مورد يكون بانيا على الانقاذ ، وذلك عبارة اخرى عن كون المقدمة المذكورة مقيدة بقصد التوصل ، فتأمل.

وجه التأمل : هو أن قصد التوصل لا يكون معتبرا إلاّ من جهة الطريقية على وجه لو قصد بها التوصل ثم بعد الفراغ منها بدا له فلم ينقذ الغريق انكشف بذلك حرمة السلوك واقعا ، لكنه لا يوجب عقابا عليه وإنما يوجب العقاب على ترك إنقاذ الغريق ، أما السلوك فقد وقع في حال كونه قاطعا باباحته بل بوجوبه ، وهذا التوجيه لا ينطبق على ما أفاده الشيخ قدس سره (4)

ص: 43


1- معالم الدين : 71.
2- أجود التقريرات 1 : 343 - 344 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في صفحة : 434 وما بعدها.
4- مطارح الأنظار 1 : 357.

لأنّ ظاهر كلامه هو كون القيد المذكور أعني قصد التوصل معتبرا على نحو الموضوعية لا الطريقية.

قوله : كي يقال إن الايصال إنما هو في مرتبة الاتيان بالواجب فكيف يعقل أن يتصف المقدمة بالوجوب بعده (1).

وهذا المحذور لا يصلحه أخذ الشرط هو العنوان المنتزع من حصول الواجب بعدها ، لأن محصّله هو أنك إذا كنت ممن يأتي بالمقدمة ويأتي بالواجب بعدها وجبت عليك تلك المقدمة ، فكان وجوب المقدمة مشروطا بالعنوان المنتزع من أنه يأتي بالمقدمة بعد ذلك ، ومن الواضح أن المكلف إذا كان واجدا في حدّ نفسه لذلك العنوان أعني أنه يأتي بالمقدمة بعد هذا الآن ، لا يعقل أن يكون موردا وموضوعا لوجوبها ، والمحذور فيه عين المحذور فيما لو كان الشرط في وجوبها هو نفس الاتيان بها أو كان الشرط هو إرادة الاتيان بها ، فلاحظ (2).

ص: 44


1- أجود التقريرات 1 : 344 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ ألحق المصنف قدس سره هذه العبارات بما سبق ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش وهي كالتالي ] : أما ما عن الفصول [ الفصول الغروية : 81 ، 86 ] من اعتبار قيد الايصال فملخص ما أورده عليه شيخنا قدس سره [ لاحظ أجود التقريرات 1 : 345 - 346 ، فوائد الاصول 1 - 2 : 290 ] أوّلا بالدور ، فان وجوبها آت من وجوب ذيها ، فلو كان ذوها قيدا فيها لكان واجبا مقدمة لها ، فيكون وجوبها متوقفا على وجوبه ووجوبه متوقفا على وجوبها. ولكن يمكن الجواب عنه : بأن وجوبها متوقف على وجوبه النفسي ، وهو - أعني وجوبه النفسي - غير متوقف على وجوبها. نعم إن وجوبه الغيري باعتبار كونه قيدا فيها يكون متوقفا على وجوبها. وثانيا : أن لازم ذلك هو كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها ، وهي مقدمة له لتوقفه عليها ، فتكون المقدمة مقدمة لنفسها ، لأنّها مقدمة لذي المقدمة وذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، وبقياس المساواة أن مقدمة مقدمة الشيء مقدمة لذلك الشيء ، فتكون المقدمة مقدمة لنفسها. ولا يخفى أن محصل كونها مقدمة لذيها هو توقف وجوده الخارجي على ذاتها ، ومحصل كون ذيها مقدمة لها ليس هو كون ذيها مقدمة لذاتها ، بل هو كون ذيها مقدمة لما يتصف بالوجوب منها وهو المقدمة الموصلة ، فذاتها مقدمة لذاته وذاته مقدمة لاتصافها بصفة الوجوب لا لذاتها ، فكانت النتيجة أن ذاتها مقدمة لاتصافها بصفة الوجوب لا أن ذاتها مقدمة لذاتها. وهذا المقدار أعني كون ذاتها مقدمة لاتصافها بالوجوب لا ضير فيه ، بل هو جار في كل واجب مقيد بقيد. نعم إن العمدة هو كذب القضية الثانية أعني قولنا كون ذيها مقدمة لما يتصف بالوجوب منها ، بمعنى أنّه يعتبر في المقدمة الواجبة الايصال ، لما حقق من أنه لا يعتبر في الواجب إلاّ ما له الدخل في وجوبه ، ومن الواضح أن الايصال لا دخل له في الجهة الموجبة لايجاب المقدمة وهي توقف الواجب النفسي عليها. إلاّ أن يقال : إن الشارع لا غرض له في نفس السير إلى مسجد الكوفة ، ولو كان الأمر منّا لعرفنا أنّا لا حب لنا ولا عشق يتعلق بالسير ، وما هو إلاّ من جهة كونه موصلا إلى المحبوب بالذات الذي هو الكون في مسجد الكوفة ، فلو كان في البين وجوب للمقدمة فلا يكون مورده إلاّ المقدمة الموصلة ، أما السير الذي لا يوصل إلى الكون في مسجد الكوفة بمعنى أنه لا يتعقبه الكون في المسجد فليس هو بمراد لنا ولا بمحبوب. نعم يمكن القول بانكار الوجوب الشرعي للمقدمة كما مر وجهه فيما تقدم [ في الصفحة : 8 - 9 وكذا 37 وما بعدها ]. وذلك كله لا يخلو عن تأمل ، لإمكان كون الغرض من إيجاب المقدمة هو مجرد فتح باب إمكان ذيها ، فلا يكون في البين ما يوجب تقيدها بالايصال ، فلاحظ وتأمّل. وثالثا : لزوم التسلسل ، فان الواجب من المقدمة لو كان هو الذات المقيدة بالايصال كان الواجب مركبا ، وكانت ذات المقدمة مقدمة لذلك المركب ، وحينئذ لا بد من اعتبار الايصال فيها إلى ذلك المركب ، وهكذا إلى ما لا نهاية له. ويمكن الجواب عنه : بأن قيد الايصال إنما يعتبر في المقدمة المباينة لذيها ، وكان وجود ذيها يتوقف على وجودها قبله ، دون ما يكون من قبيل الجزء في المركب من نفس الفعل وقيده الذي هو الايصال. هذا كله لو كان مراد الفصول هو كون الايصال قيدا في الواجب لا قيدا في الوجوب ، وإلاّ كان وجوبها متوقفا على وجود ذيها وبعد وجوده لا يعقل وجوبها. ويمكن الجواب عنه : بأن الشرط في وجوبها ليس هو وجوده الخارجي ، بل إن الشرط هو العنوان المنتزع وهو تعقب الواجب النفسي بها ، ومن تعقبه بها نستكشف أنها كانت واجبة. بل نقول إن المكلف إذا حصل له العلم بأنه يأتي بذي المقدمة لكونه بانيا على ذلك ، كان عالما من أول الأمر بحصول شرطها الذي هو العنوان المنتزع ، لكن في كون وجوبها مشروطا بالعنوان المنتزع من وجود ذيها مع كون وجوب ذيها غير مشروط بذلك العنوان ، تفكيك في الملازمة بين وجوبها ووجوب ذيها على ما تقدمت الاشارة إليه [ الظاهر أن مقصوده قدس سره ما تقدم في أجود التقريرات 1 : 338 ] في تفسير كلام صاحب المعالم من كون إرادة ذيها شرطا في وجوبها لا في وجوبه ، فلاحظ. نعم ، إن أخذ العنوان من تعقب الواجب يوقعنا في إشكال آخر ، وهو كون وجوب المقدمة مشروطا بوجودها فيما سيأتي ، لأن محصل كون وجوبها مشروطا بالعنوان المنتزع من تعقبها بذيها هو كون تحققها فيما يأتي المتعقب بذيها شرطا في وجوبها ، فيؤول ذلك إلى اشتراط وجوبها بوجودها فيما يأتي ، وهو محال كما شرحناه فيما تقدم [ في صفحة : 44 فراجع ].

ص: 45

قوله : فيرد عليه أن جواز المنع عن بعض المقدمات لا يوجب اختصاص ملاك الوجوب الغيري في نفسه بغيرها من المقدمات (1).

هذا تغيير عمّا في الطبعة الاولى (2) ولا يخلو من خلل ، لأن الغرض

ص: 46


1- أجود التقريرات 1 : 346.
2- [ ويقصد بها الطبعة غير المحشاة وقد ذكر فيها : فيرد عليه أن الأمر بالمقدمة الموصلة فقط إن كان أمرا نفسيا غير مترشح من أمر آخر فمرجعه إلى اشتراط الوجوب النفسي بأمر متأخر وهو الإيصال ، وقد سبق الكلام في إمكانه وامتناعه مفصلا. وإن كان أمرا غيريا مترشحا من الأمر النفسي فيسأل عن أن الملاك في الوجوب الغيري ما هو ، فان التزم بكونه مطلق التوقف وامتناع ذي المقدمة بدون ما فرض كونه مقدمة ، فلا بدّ له من الالتزام بوجوب جميع المقدمات من دون أخذ قيد آخر فيه ، وإن التزم بعدم كفاية ذلك في الوجوب الغيري فلا بدّ له إما من انكار وجوب المقدمة رأسا أو الالتزام بوجوب خصوص المقدمة السببية التي يترتب عليها الواجب قهرا ، وكلاهما مما لا يلتزم به قدس سره فالتفكيك وتخصيص الوجوب الغيري بخصوص الموصلة منها غير معقول ].

هو منع جواز المنع ، لا أنه جائز لكنه لا يوجب الاختصاص ، فلاحظ.

قوله : وأما دعوى ... الخ (1).

كانت هذه الجملة مقدمة في الطبعة الاولى (2) ، والمراد هو أن وجوب المقدمة لو كان نفسيا وكان مشروطا بالاتيان بذيها رجع ذلك إلى الشرط المتأخر ، ولا يصلحه العنوان المنتزع كما عرفت ، لكنّه في هذه الطبعة الثانية أخّر هذه الجملة فأوجب التأخير الغلق في العبارة.

ولا يخفى أن عدم معقولية اشتراط وجوب المقدمة بالاتيان بذيها لا يفرق فيه بين كون وجوبها نفسيا وكونه غيريا.

أما الأول فللشرط المتأخر ، وأمّا الثاني فلذلك ولما تقدم (3) من أنه مع الاتيان بذيها لا يعقل تعلق الأمر الغيري بها ، فلاحظ.

ولعل ما حررته عنه قدس سره في هذا المقام أوضح وأبعد من التعقيد ، وهذا نصه :

وقد استدل صاحب الفصول (4) على ما صار إليه بجواز أمر المولى بالحج مع الأمر بقطع المسافة التي يترتب عليها الحج ، بأن يقول اريد منك الحج واريد قطع المسافة التي يترتب عليها الحج ولا اريد قطع المسافة التي لا يترتب عليها الواجب المذكور.

وفيه : أن هذا الفرض خارج عن محل الكلام من المقدمة الواجبة بالوجوب الغيري المترشح عن إيجاب ذيها ، فان قطع المسافة في المثال المذكور يكون واجبا بوجوب نفسي مستقل ، كما أن الحج واجب بوجوب

ص: 47


1- أجود التقريرات 1 : 347.
2- [ كما يتضح ذلك من ملاحظة الهامش (2) من الصفحة السابقة ].
3- في الحاشية السابقة في صفحة : 44 وفي الهامش في صفحة : 46.
4- الفصول الغروية : 86.

نفسي ، لأن كلا منهما حسب الفرض مراد بارادة نفسية مستقلة غير أن التوصل إلى الحج وترتبه على قطع المسافة يكون قيدا فيها ، وليس الكلام في الارادة النفسية ، وإنما الكلام في الارادة الغيرية المتولدة عن الارادة النفسية المتعلقة بذي المقدمة ، وقد تقدم أنه لا يمكن أن تكون تلك الارادة بنفسها مقيدة بالتوصل إلى ذي المقدمة ، كما أنه لا يمكن أن يكون متعلقها مقيدا بذلك. أمّا الأول فلما تقدم من استحالة كون ذي المقدمة شرطا في وجوبها المترشح عن وجوبه ، وأما الثاني فلما تقدم من أن اللازم عليه أن يكون وجود ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها ، مضافا إلى أن الملاك في وجوب المقدمة ليس هو التلازم بين وجودها ووجود ذيها بحيث يكون وجوده عند وجودها وإلاّ لانحصرت بالعلة التامة ، بل الملاك إنما هو التلازم بين عدمها وعدم ذيها ، بمعنى أن ذا المقدمة يكون منعدما عند انعدام المقدمة ، وهذا الملاك لا يفرق فيه بين المقدمة الموصلة وبين غيرها ، حيث إن كلا منهما يكون انعدامه موجبا لانعدام ذي المقدمة ، انتهى.

فانت تراه إنما أدخل الوجوب النفسي بناء على ما فرضه صاحب الفصول من تعلق الارادة بقطع المسافة ، فله أن يقيد هذا المأمور به المراد بارادة مستقلة بترتب الحج عليها ، كما أنك تراه لم يجعل الدور في ناحية كون وجوب ذي المقدمة متوقفا على وجوب المقدمة ووجوب المقدمة متوقفا على وجوب ذي المقدمة ، ليندفع بأن غايته اجتماع المثلين في وجوب ذي المقدمة ( الوجوب النفسي والوجوب الغيري ) ، وأن الذي يتوقف على وجوب المقدمة هو وجوبه الغيري ، وأن الذي يتوقف عليه وجوب المقدمة هو وجوبه النفسي ، بل جعل الدور في ناحية نفس المقدمة

ص: 48

لصيرورة الواجب النفسي الذي هو ذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، والمقدمة مقدمة للواجب النفسي. نعم يمكن الجواب عنه بأن ذات المقدمة وإن كانت مقدمة لذي المقدمة ، إلاّ أن ذا المقدمة ليس مقدمة لذات المقدمة وإنما هو مقدمة لوقوعها على صفة الوجوب ، فلاحظ وتأمل.

قوله : وهذا مستلزم للدور ، فان وجوب المقدمة إنما نشأ من وجوب ذي المقدمة ، فلو ترشح وجوب ذي المقدمة من وجوبها لزم الدور (1).

فيه تأمل ، فان وجوب المقدمة وإن كان متوقفا على وجوب ذيها نفسيا إلاّ أن وجوبه النفسي لم يكن متوقفا على وجوب مقدمته ، وإنما الذي لزم هو توقف وجوبه الغيري على وجوبها ، ومن الواضح أن وجوب المقدمة لا يتوقف على وجوبه الغيري وإنما يتوقف على وجوبه النفسي.

وبالجملة : يكون لذي المقدمة وجوب نفسي وهو الذي يتوقف عليه وجوب المقدمة ، ووجوب غيري وهو الذي يتوقف على وجوب المقدمة فلا دور من هذه الجهة.

نعم ، إن نفس كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة مستلزم للدور ، لأن وجوده متوقف على وجودها ، وحيث كان هو مقدمة لها يكون وجودها متوقفا على وجوده ، فتكون النتيجة أن وجوده متوقف على وجوده.

وإن شئت قلت : لمّا كان مقدمة لمقدمته ومقدمة المقدمة مقدمة يكون هو مقدمة لنفسه ، وذلك باطل من جهتين : الاولى أن لازمه هو كون وجوبه الغيري ناشئا عن وجوبه النفسي فيكون واجبا غيريا مقدمة لنفسه. والثانية : ما عرفت من كونه راجعا إلى الدور لتوقفه على مقدمته وتوقف مقدمته عليه

ص: 49


1- أجود التقريرات 1 : 345 - 346 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

لكونه مقدمة لها ، فيكون هو متوقفا على نفسه ، وقد عرفت (1) أن هذا الاشكال إنما يتجه لو قلنا بالتقييد بالايصال ، أما لو قلنا بأن المقدمة هي الذات التي توجد توأما مع ذيها فلا ورود له كما عرفت فيما تقدم ، ومع قطع النظر عن ذلك نقول :

أما الجهة الأولى من الاشكال فالظاهر أنه لا مانع من كون الوجوب الغيري المتعلق بالفعل ناشئا عن الوجوب النفسي المتعلق بنفس ذلك الفعل سوى الجهة الثانية من الاشكال ، وهي استحالة كون الشيء مقدمة لنفسه لكونه موجبا للدور. ولكن يمكن الجواب عن الدور بأن الكون في مسجد الكوفة مثلا وإن توقف على نفس قطع المسافة ، إلاّ أن نفس قطع المسافة لا يكون متوقفا على الكون المذكور ، بل إن الذي يتوقف على الكون في مسجد الكوفة إنما [ هو ](2) صحة تلك المقدمة أعني قطع المسافة ، بمعنى أن وقوع قطع المسافة على صفة الوجوب الغيري ومسقطا لأمره الغيري يكون متوقفا على تحقق الكون في مسجد الكوفة ، فيكون الدور المذكور مندفعا.

ولعل اندفاع الدور فيما نحن فيه أوضح منه في الأجزاء الارتباطية حيث إن تكبيرة الاحرام مثلا تكون صحتها متوقفة على صحة الركوع وصحة الركوع متوقفة على صحة تكبيرة الاحرام ، لأن كل واحد من تلك الأجزاء يكون شرطا في صحة الجزء الآخر ، فتكون النتيجة أن صحة تكبيرة الاحرام متوقفة على صحة نفسها.

ولا بدّ من الجواب حينئذ بأن صحة تكبيرة الاحرام من ناحية الركوع

ص: 50


1- سيأتي في صفحة : 59.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

وإن كانت متوقفة على صحة الركوع ، إلا أن صحة الركوع في حد نفسه لا تتوقف على صحة تكبيرة الاحرام من ناحية الركوع ، وإنما تتوقف على صحة تكبيرة الاحرام من ناحية نفسها.

وبتقرير آخر نقول : إن هذا الاشكال متأت بعينه في الأجزاء التدريجية الارتباطية كأجزاء الصلاة ، فان كل جزء يكون شرطا في صحة الآخر ، فيكون الأول مشروطا بالآخر كما أن الآخر مشروط بالأول ، وحيث إن شرط الشرط شرط يكون كل واحد شرطا لنفسه ، وهو عبارة اخرى عن كونه مقدمة لنفسه ، لأن الشرط من المقدمات ، وكما يجاب عن الاشكال هناك بأن الشرط ليس هو وجود الجزء المتأخر بل هو العنوان المنتزع فكذلك نجيب هنا بأن الايصال المعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ليس هو عبارة عن نفس وجود ذيها ، بل هو العنوان المنتزع من ذلك أعني تعقبها بذيها ، ويكون هذا العنوان هو الشرط فيها فيكون هو المقدمة لها ، لا أن نفس وجود ذيها يكون هو الشرط ليكون بنفسه هو المقدمة لها.

وحينئذ نقول : إن وجود ذي المقدمة يتوقف عليها ، وهي إنّما تتوقف على حصول العنوان المذكور ، وهذا العنوان وإن كان منتزعا عن وجود ذيها إلاّ أنه لا يكون تحقق هذا العنوان متوقفا على وجوده كما مرّ في التخلص عن مشكلة الشرط المتأخر بالالتجاء إلى جعل الشرط هو العنوان المنتزع فلم يلزم من ذلك كون ذي المقدمة مقدمة لمقدمته ليكون مقدمة لنفسه ويكون متوقفا على نفسه ، فتأمل وراجع (1) ما حررناه في كيفية الارتباطية وفي كون الشرط هو العنوان المنتزع. وبالجملة : أن ما يصحح به ارتباطية

ص: 51


1- الصفحة : 12 وما بعدها.

الأجزاء يكون هو المصحح لارتباطية المقدمة بوجود ذيها ، فراجع وتأمل.

قوله : مضافا إلى أن ذات المقدمة تكون مقدمة للمقدمة أيضا بداهة أن ما هو الواجب عنده ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه : وأما ما في الفصول (2) من اعتبار نفس التوصل ، فان كان المراد به أن ذلك يكون من قبيل شرط الوجوب لها فقد تقدم أنه لا يعقل أن يكون نفس الاتيان بذي المقدمة شرطا في وجوبها وصاحب الفصول لا يقول بذلك بل يصرح بأن التوصل شرط في وجودها لا في وجوبها ، وحينئذ يرد عليه أن اللازم عليه حينئذ أن يكون نفس ذي المقدمة مقدمة للمقدمة لكونه قيدا فيها. مع أن اللازم عليه أن تكون المقدمة هو المجموع المركب من القيد والمقيد أعني ذات المقدمة المقيدة بالايصال ، فتكون الذات المذكورة مقدمة للمقدمة ، فإن كانت بنفسها مقدمة لزم عليه أن لا تكون المقدمة مقيدة بالايصال وهو كرّ على ما فرّ منه ، وإن كانت مقيدة بالايصال نجرّ الكلام حينئذ إلى أجزاء ذلك المركب وهلم جرا ، فيلزم التسلسل أو الوقوف على كون المقدمة هي نفس الذات مجردة من قيد الايصال ، وإذا صح ذلك قلنا به من أول الأمر.

والحاصل : أن هذا القيد على تقدير اعتباره ليس هو كسائر القيود المنوّعة بحيث تكون المقدمة على نوعين : أحدهما واجد في نفسه لصفة الايصال والآخر غير واجد له ، نظير الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة ، كي يقال إن الواجب بالوجوب الغيري هو القسم الأول دون القسم الثاني ، ويكون لازمه انحصار المقدمة الواجبة بالعلة التامة ، بل المقدمة في الخارج ليس إلاّ

ص: 52


1- أجود التقريرات 1 : 346 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- الفصول الغروية : 81 ، 86.

نفس تلك الذات التي يتوقف عليها الواجب النفسي ، غاية الأمر إن لحقها الواجب النفسي كانت متصفة بالايصال وإلا فلا ، فيكون اتصافها بالايصال إنما جاء من قبل الاتيان بعدها بذيها الذي هو فعل اختياري للمكلف فعلى تقدير كون المقدمة الواجبة مقيدة بالايصال يكون الاتيان بذيها بعدها واجبا غيريا لها لكونه محققا للقيد المعتبر فيها أعني الايصال ، كما تكون ذات المقدمة واجبة بالوجوب الغيري لما قيّد بالايصال منها ، حيث إن كل واحد من ذات المقيد وقيده يكون مقدمة للمقيد ، وحينئذ يرد عليه مع عدم معقولية كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة أن كل واحد من ذات المقدمة وذات ذيها بعد أن صار مقدمة للمقدمة وكان واجبا غيريا لها إن لم يكن مقيدا بالايصال إليها فهو كرّ على ما فرّ منه ، وإن كان مقيدا بذلك نقلنا الكلام إلى أجزاء ذلك المقيد ، فان وقفت المسألة في سلسلة ذلك على مقدمة هي بنفسها وذاتها واجبة بلا تقييد لها بالايصال انقطع التسلسل ولكنه كرّ على ما فرّ منه ، وإلاّ ذهب التسلسل إلى ما لا نهاية له وهو واضح البطلان ، انتهى.

قلت : يمكن الجواب عن ذلك أوّلا : بأن هذا التسلسل ليس من التسلسل المصطلح الذي هو واضح الفساد ، أعني عدم التناهي في سلسلة العلل ، بل إنّما هو من مجرّد عدم التناهي في العناوين مع فرض تحققها بوجود واحد ، وهذا مما لم يقم البرهان على محاليته ، فانه أسهل مما التزموا به من تركب الجسم الطبيعي من أجزاء غير متناهية بناء على كون كل جزء منها قابلا للقسمة ، ومحالية تركبه من أجزاء لا تتجزأ كما حقق في محله (1) من استحالة الجزء الذي لا يتجزأ ، فتأمل.

ص: 53


1- كشف المراد : 143 وما بعدها.

وثانيا : أنّ أخذ الايصال قيدا في المقدمة وإن كان ملازما لكون الواجب الغيري هو الذات المقيدة بالايصال ، إلا أن نفس الذات لا تكون مقدمة لهذا المقيد ، كما أن الواجب النفسي لو كان مشروطا بشرط كالصلاة المشروطة بالطهارة لا تكون ذات الصلاة فيه مقدمة لهذا الواجب بل هي عينه ، نعم يكون القيد الزائد على الذات المذكورة مقدمة لهذا الواجب فنفس الذات وإن كانت جزءا تحليليا عقليا من ذلك الواجب ، إلاّ أنها لا يعقل أن تكون بنفسها مقدمة لذلك الفعل الواجب أعني الفعل المقيد ، سيما إذا كان من قبيل كون التقيد داخلا والقيد خارجا ، بل تقدم الاشكال في كون الجزء الخارجي مقدمة للمجموع ، فكيف يمكن أن يدعى أن نفس الذات المقيدة التي هي في الحقيقة تكون مقدمة لذلك الواجب بمجرد كونه مركبا عقليا تحليليا (1) فتأمل.

ولو سلّمنا كون ذات المقيد مقدمة للمجموع المركب من الذات والقيد ، أمكن القول بأن صاحب الفصول إنما يعتبر الايصال في المقدمة المباينة مثل قطع المسافة والكون في المسجد ، دون ما لو كانت المقدمة متحدة بالذات خارجا مع ذي المقدمة.

ولعل المنشأ في دعوى كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من ذات المقدمة وقيدها الذي هو التوصل هو الارتباطية الموجبة لكون كل جزء شرطا في الآخر ، وكون الشرط مشروطا بوجود المشروط ، كما أن ذات المشروط مشروطة بوجود الشرط.

لكنه قدس سره فيما تقدم (2) في عبادية الطهارات الثلاث فيما لو توضأ بداعي

ص: 54


1- [ لعل في العبارة سقطا فلاحظها ].
2- في الصفحة : 235 - 236 من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

الصلاة ثم بدا له استشكل في صحة ذلك الوضوء الذي هو شرط في الصلاة ، نظرا إلى الارتباطية الموجبة لبطلان الشرط عند عدم إلحاق المشروط به ، كما يحكم ببطلان الجزء الأول عند عدم إلحاق الجزء الآخر به.

ثم دفع الاشكال حسبما حررته عنه قدس سره بأنه لا دليل على هذه الارتباطية بالشروط ، ومحصّله أن الشرط للمأمور به لا يكون مشروطا بوجود ذات المأمور به. وحينئذ نقول فيما نحن فيه : لو قلنا إن المقدمة الواجبة هي ذات الفعل بشرط ذات ذيها ، بحيث تكون المقدمة المأمور بها غيريا مشروطة بذي المقدمة ، لا يلزم منه أن تكون ذات المقدمة شرطا في المجموع المركب من ذاتها والقيد المذكور - أعني نفس ذي المقدمة - كي تكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب المذكور ، فراجع ما حررناه هناك وتأمل.

وثالثا وهو العمدة : أن هذا الاشكال مبني على أخذ الايصال قيدا وشرطا في المقدمة ، وقد عرفت فيما تقدم (1) وسيأتي (2) إن شاء اللّه توضيحه فيما أفاده صاحب الحاشية قدس سره أنه يمكن أن يكون الواجب بالوجوب الغيري هو ذات المقدمة التي هي توأم مع ذيها لا المقيدة بذيها ، فلا يلزم منه كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من الذات والقيد ، ولا كون ذيها مقدمة لها ، فيندفع الاشكال بكلا جهتيه ، فتأمل.

لكن اندفاع كون ذيها مقدمة لها في غاية الاشكال ، لتوقف ذات المقدمة التي هي توأم مع الايصال على وجود ذي المقدمة ، وإلاّ لم تكن

ص: 55


1- سيأتي في صفحة : 59.
2- في أجود التقريرات 1 : 348 - 351 ، وينبغي مراجعة حواشي المصنف قدس سره في الصفحة : 71 - 79 من هذا المجلّد.

توأما مع الايصال.

قوله في الكفاية : فإنّه لا يعتبر في الواجب إلاّ ما له دخل في غرضه الباعث على إيجابه والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة الخ (1).

ملخص ما يريده قدس سره هو أن الفعل لا يجب إلاّ إذا كانت له فائدة مترتبة عليه تكون تلك الفائدة هي الغرض الباعث على إيجابه ، سواء كانت تلك الفائدة هي المصلحة المترتبة على ذلك الفعل أو كانت شيئا آخر.

ثمّ إن كل ما يتوقف عليه حصول تلك الفائدة من ذلك الفعل لا بد من أخذه قيدا في ذلك الفعل فنقول : إن مقدمة الواجب فعل من الأفعال والفائدة المترتبة على ذلك الفعل هي عبارة عن كون ذلك الفعل فاتحا باب القدرة على ذي المقدمة من ناحيته ، بمعنى أن الواجب قبل فعل هذه المقدمة المفروض توقفه عليها غير مقدور للمكلف ، لكن مع فعل تلك المقدمة يكون ذلك الواجب مقدورا له من ناحية تلك المقدمة ، ومن الواضح أن نفس ترتب ذلك الواجب على فعل تلك المقدمة لا يكون له مدخلية في تلك الفائدة الباعثة على إيجابها ، فلا وجه لأخذه قيدا فيها.

نعم ، لو قلنا إن الغرض والفائدة المترتبة على المقدمة ليس هو مجرد فتح باب القدرة على الواجب ، بل إن الغرض والفائدة المترتبة عليها هو ترتب ذلك الواجب عليها وحصوله بعدها ، ونعبّر عن ذلك بكونها موصلة إلى الواجب ، لكانت المقدمة الواجبة منحصرة بالتي يترتب عليها الواجب دون غيرها من المقدمات ، لكن ذلك عبارة اخرى عن انحصار الوجوب المقدمي بما يكون سببا توليديا للواجب النفسي ، فإنّها هي التي يكون

ص: 56


1- كفاية الاصول : 115 - 116 ( مع اختلاف يسير عمّا في المصدر ).

حصول الواجب النفسي بعدها من فوائدها المترتبة عليها ، دون غيرها من المقدمات التي يكون فعل الواجب بعدها بارادة المكلف واختياره ، فلو كان القول بالمقدمة الموصلة مبنيا على أنّ الغرض والفائدة المترتبة على المقدمة هو ترتب الواجب النفسي عليها لا مجرد فتح باب القدرة عليه ، لكان ذلك عبارة اخرى عن انحصار الوجوب المقدمي بما يكون سببا توليديا أو ما يكون علة تامة للواجب النفسي ، هذا.

ولكن لا يخفى أنه لصاحب الفصول أن يقول إن المقدمة وإن لم تكن فيها فائدة مترتبة عليها إلاّ مجرد فتح باب القدرة من ناحيتها ، إلاّ أنّها لمّا كان النظر إليها في عالم الايجاب وتشريع الطلب نظرا آليا ، وكان المقصود بالذات والمنظور إليه بالاستقلال هو ذاها ، كان دخولها في هذه السلسلة أعني سلسلة الطلب المذكور منوطا بوقوع الواجب النفسي بعدها ، فما لم يقع الواجب النفسي بعدها تكون أجنبية عن سلسلة ذلك الايجاب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالى (1).

قوله : وهي لا تكاد تتصف بالوجوب لعدم كونها بالاختيار وإلاّ لتسلسل ... الخ (2).

لا يخفى أنا لو قلنا باتصافها بالوجوب لا يندفع الاشكال على صاحب الفصول ، أعني لزوم انحصار الوجوب المقدمي بما يكون من قبيل العلة التامة أو السبب التوليدي ، فان فعل الواجب النفسي وإن كان معلولا للارادة المتعلقة به ، وكانت تلك الارادة واجبة من باب المقدمة له لكونها

ص: 57


1- عند التعرض لكلام صاحب الحاشية قدس سره في أجود التقريرات 1 : 348 - 351. وقد علّق المصنّف قدس سره على ذلك فراجع الصفحة :1. 79 من هذا الكتاب ، خصوصا ما أورده في الصفحة : 77 - 78.
2- كفاية الاصول : 116 - 117.

علة تامة بالقياس إليه ، إلاّ أن الوجوب المقدمي يكون أيضا منحصرا بها دون باقي المقدمات الخارجة عن الارادة. اللّهم إلاّ أن يقال : إن العلة التامة هو مجموع تلك المقدمات والارادة ، فيكون المجموع المذكور واجبا بالوجوب الغيري ، فتأمل.

قوله : ولأنّه لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها من دون انتظار لترتب الواجب عليها ... الخ (1).

كأن سقوط وجوبها عند الفراغ منها وقبل الاتيان بذيها مسلّم ، وبعد الفراغ عن كونه مسلّما يستدل قدس سره بذلك السقوط على أنه من قبيل الموافقة للأمر ، فلا يكون الواجب المذكور مقيدا بالايصال وإلاّ لما حصل ذلك السقوط.

ولكن لا يخفى أن السقوط بذلك هو أول الكلام ، وأن مطلب صاحب الفصول (2) ليس هو إلاّ عبارة عن دعوى عدم سقوط الأمر المتعلق بالمقدمة بمجرّد الاتيان بها ، بل إن سقوطه يتوقف على اتصافها بالايصال وهو لا يكون إلاّ بعد الاتيان بذيها.

نعم قد يقال : إنه لا بد من الالتزام بالسقوط وإلاّ لزم التكرار. لكن هذا الاشكال وارد في كل ما هو مقيد بقيد متأخر ، وقد تقدّم (3) الجواب عنه في كيفية الامتثال بالنسبة إلى الواجبات الارتباطية ، وكأنه لأجل هذه الجهات عدل شيخنا قدس سره عن الايراد على صاحب الفصول بهذه الايرادات ، وأورد (4)

ص: 58


1- كفاية الأصول : 117.
2- الفصول الغروية : 81 ، 86.
3- في صفحة : 15 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 1 : 344.

على صاحب الفصول إيرادات أخر ، حاصلها أنه لو كان مراد صاحب الفصول من حصر الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة هو أن بعض المقدمات يترتب عليها الواجب بذاتها ونفسها وبعضها ليست كذلك ، والاولى هي العلة التامة والاخرى هي المقدمات الأخر ، والوجوب منحصر بالقسم الأول ، كان مرجعه إلى حصر الواجب من المقدمات بما يكون من قبيل العلة التامة ، لكنه لا يقول بذلك ، فلا بد أن يكون مراده أن المقدمة الواجبة هي المقيدة بما يختار المكلف بعدها فعل ذيها ، فيكون ذلك عبارة اخرى عن أنّ الواجب المقدمي مقيد بقيد اختياري وهو الاتيان بذيه بعده ، فيكون نفس ذي المقدمة قيدا فيها ، فيكون مقدمة لمقدمته ، وتكون ذات الفعل الذي هو قطع المسافة مثلا مقدمة للمقدمة التي هي المجموع المركب من قطع المسافة المقيدة بوقوع ذي المقدمة بعدها ، ولازم الأول الدور ولازم الثاني التسلسل.

لكن توجه هذا الايراد مبني على أن ذات الواجب النفسي يكون قيدا في المقدمة. ويمكن المنع من ذلك بأن نقول إن الواجب الغيري هو ذات المقدمة التي هي توأم مع وجود الواجب لا الذات المقيدة بوجوده كما مرّت (1) الاشارة إليه ، ويأتي (2) شرحه إن شاء اللّه تعالى عند الكلام على ما أفاده صاحب الحاشية ، فلا يلزم منه أن تكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب من المقدمة وقيدها ، ولا يلزم منه أيضا أن يكون الواجب النفسي مقدمة لمقدمته لعدم أخذه حينئذ قيدا فيها. على أنّ هذا الأخير ممنوع من ناحية اخرى ، وهي أنا لو سلّمنا كون الواجب الغيري هو الذات المقيدة فلا

ص: 59


1- لعل المقصود ما تقدم في صفحة : 56 - 57.
2- راجع أجود التقريرات 1 : 348 - 351 ، وراجع صفحة : 76 - 77 من هذا المجلّد.

نسلّم أن القيد هو نفس وجود الواجب النفسي ، بل لنا أن نقول إن القيد هو العنوان المنتزع من وجوده ، كما هو الشأن في الأجزاء الارتباطية كما نحرره إن شاء اللّه تعالى فيما يأتي (1) ، فلا يلزم منه كون الواجب النفسي مقدمة لمقدمته.

لكن يبقى الاشكال الأول وهو كون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب ، وينحصر دفعه بما سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى من أن المقيد (3) المذكور وإن كان مقدمة للمجموع المركب ، إلاّ أن ذات المقيد لا يكون مقدمة لذلك المجموع ، لأنّ ذات المشروط لا يكون مقدمة للمشروط وإن كان الشرط من مقدمات المشروط.

قول صاحب الكفاية قدس سره : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإن الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد اخرى ، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عمّا يقارنه أحيانا ... إلخ (4).

يمكن أن يقال : إنه بعد البناء على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده المأخوذ من كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، يكون ترك الصلاة واجبا لكونه مقدمة للازالة ، ونحن وإن قلنا إن الواجب هو الترك الخاص أعني الترك الموصل إلى فعل الازالة كما يدعيه صاحب الفصول (5) إلاّ أن هذا الترك الخاص قد وجب مقدمة لفعل الازالة.

ص: 60


1- في صفحة : 49 - 52.
2- في صفحة : 53 ( قوله : وثانيا ... ).
3- [ هكذا في الأصل ، ولعل المراد : المقيّد - بالكسر - أي القيد ].
4- كفاية الاصول : 121.
5- الفصول الغروية : 81 ، 86.

وحينئذ نقول : إن نفس الصلاة وإن لم تكن هي عين نقيض ذلك الترك الخاص لأنها ليست بنفسها رفعا لذلك الترك الخاص ، إلاّ أنا يمكننا أن نقول إنها ضد لذلك الترك الخاص ، لعدم إمكان اجتماعهما وإن أمكن ارتفاعهما بأن يتحقق الترك المجرد ، وحينئذ يكون تركها مقدمة لذلك الترك الخاص فيكون واجبا فيكون فعلها محرما ، غايته أن تركها الواجب هو خصوص ما يتوصل به إلى تركها الخاص ، وهذا لا يضر في وجوب تركها الذي يتولد منه حرمتها.

نعم ، بناء على مسلكه قدس سره من انحصار الواجب بالمقدمة الموصلة يكون ما هو الواجب مقدمة لذلك الترك الخاص ليس هو مطلق ترك الصلاة ، بل تركها الخاص الذي يترتب [ عليه ](1) ذلك الترك الخاص وهلمّ جرّا ، وهو راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس سره من لزوم التسلسل ، فراجع وتأمل.

وحاصل الجواب عن هذه الثمرة : هو أن الواجب مقدمة للازالة وإن كان هو ترك الصلاة المتوصل به إلى فعل الازالة ، إلاّ أن هذا القيد أعني التوصل إلى فعل الازالة لا يكون شرطا في الوجوب لأن يكون مقتضاه عدم وجوب الترك عند عدم التوصل ، بل هو قيد في الواجب ، فهو في حالة عدم التوصل يجب عليه أن يترك الصلاة ويتوصل بتركها إلى فعل الازالة فتكون الصلاة في ذلك الحال واجبة الترك فيكون فعلها محرما.

ولعل هذا هو المراد لصاحب الحاشية قدس سره حيث إنه قال في مقام الايراد على هذه الثمرة ما نصه : ويشكل بأنه لا إشكال في حرمة ترك المقدمة الموصلة ، وكذا في وجوب ترك المانع الموصل إلى فعل الواجب ،

ص: 61


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة به ].

فالمكلف مع وجود الصارف عن الواجب إذا ترك الواجب وترك مقدمته يكون تاركا لواجب نفسي ولمقدمته الموصلة إليه ، فكيف يصح القول بكون ما يقدم عليه من ترك المقدمة جائزا ، ومجرد مقارنته لوجود الصارف مع حرمته أيضا لا يقضي بجواز الترك الحاصل منه ، وإذا ترك الواجب وأتى بضده فقد ترك نفس الواجب ومقدمته الواجبة التي هي ترك ضده الموصل إليه ، ومن البيّن أن ما أتى به من فعل الضد ترك لترك الضد الموصل إلى الواجب أيضا ، فيلزم أن يكون حراما من تلك الجهة ، وإن لم يكن ترك الضد في المقام موصلا إلى الواجب بسوء اختيار المكلف ، ولا مانع من اجتماع حصول التركين في المقام بفعل الضد كما لا يخفى ، فلا يتم الحكم بصحة ما أتى به من الضد أيضا وسيجيء الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى (1). انتهى كلامه رفع مقامه.

قوله : وأما ما استدل به على ما ذكره من أن للمولى المنع عن المقدمات غير الموصلة ، وليس له المنع عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها ، وذلك آية عدم اتصاف المقدمة من غير قيد الايصال بالوجوب ... إلخ (2).

لا يخفى أن صاحب الفصول قدس سره قد تعرض لهذه المسألة ، وهي كون المقدمة مقيدة بالايصال في مقامين ، أحدهما في التنبيه الأول من تنبيهات مقدمة الواجب (3) ، ولم يذكر فيه هذا الاستدلال وإنما ذكر فيه ما نقله عنه في

ص: 62


1- هداية المسترشدين 2 : 178.
2- أجود التقريرات 1 : 346 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- الفصول الغروية : 86.

الكفاية المشتمل على قوله : وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم اريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصل به إليه ... إلخ (1) ، ولم يذكر في هذا المقام تصريح المولى بالمنع عما لا يتوصل بها من المقدمات.

نعم في المقام الآخر وهو ما تعرض له قبل البحث عن مقدمة الواجب من تقسيم الوجوب إلى المطلق والمشروط والمنجّز والمعلّق ، فإنه قال في ذيل ذلك البحث : ثم هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك ، أو يعتبر قصد التوصل إليه أو إلى الامتثال به وإن لم يترتب عليه ، أو يعتبر الأمران ، أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه ، والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأول - ثم بعد بيان الوجه في ذلك قال : - وتظهر الثمرة فيما لو وجب عليه الدخول في ملك الغير بغير إذنه لانقاذ غريق يتوقف عليه ، فدخله لغير ذلك فبدا له فأنقذه - ثم بعد أن أطال الكلام في بيان ذلك قال : - فقد اتضح مما قررنا أن الواجب الغيري إذا لم يترتب عليه فعل الغير جاز أن يتصف بغير الوجوب من سائر الأحكام حتى الحرمة لانتفاء الوجوب المضاد لها حينئذ ، واحفظ هذا فإنه ينفعك في بعض المباحث الآتية (2).

والظاهر أن مراده من المباحث الآتية هو ما تعرض له في التنبيه الأول الذي تقدم نقله ، فيكون ذلك بمنزلة استدلال منه قدس سره على اعتبار الايصال

ص: 63


1- كفاية الاصول : 117 - 118.
2- الفصول الغروية : 81.

بما لو كانت المقدمة المنحصرة محرمة وكان الواجب النفسي أهم ، فانه حينئذ تكون المقدمة غير الموصلة محرمة ، ويكون الوجوب الغيري منحصرا بما يترتب عليه الواجب النفسي.

والخلاصة : هي أن صاحب الفصول في مقدمة الواجب استدل على الانحصار بقوله : وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم ... الخ ، وقبلها استدل عليه بجواز النهي عما لا يوصل. وصاحب الكفاية ذكر دليله الأول وأجاب عنه بقوله : وقد انقدح بذلك ... إلخ (1) ، ثم إنه ذكر دليله الثاني وأجاب عنه بقوله : ثم إنّه لا شهادة ... إلخ (2).

قوله : ومع الغض عمّا ذكرناه فلا يرد عليه ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس سره من أنه حينئذ يلزم أن لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا ... إلخ (3).

لا يخفى أن مسلك صاحب الكفاية قدس سره (4) لمّا كان هو بطلان الترتب كانت المسألة المذكورة أعني انحصار المقدمة بالمحرم واضحة عنده ، فانه يلتزم بسقوط التحريم ، ويكون الدخول في الأرض المغصوبة واجبا ، سواء ترتب عليه إنقاذ الغريق أو لم يترتب ، بأن دخلها لا لأجل ذلك ولم يكن دخوله إلاّ لمحض الغصب ، ولم يترتب على ذلك اشتغاله بانقاذ الغريق ولأجل ذلك جعل الكلام مع صاحب الفصول في صورة خاصة وهي ما لو صرّح الآمر بحرمة المقدمة التي لا يترتب عليها الواجب ، وأخيرا التجأ إلى

ص: 64


1- كفاية الأصول : 118 ، وفيها : وقد انقدح منه ...
2- كفاية الاصول : 120.
3- أجود التقريرات 1 : 348 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- كفاية الاصول : 134 - 136.

محالية المنع المذكور.

وهو قدس سره وإن صدّر الوجه للمحالية بأنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا لعدم التمكن منه شرعا إلخ (1) ، إلاّ أنه أخيرا صرّح وأوضحه بحاشية منه بأن المحالية فيه من جهة كونه من طلب الحاصل ، حيث إن الوجوب النفسي موقوف على كون الواجب مقدورا ، وكونه كذلك متوقف على عدم حرمة مقدمته ، وعدم حرمتها متوقف على وجوده بعدها.

وإن شئت قلت : إن القدرة على الواجب موقوفة على فعله لكونها موقوفة على عدم حرمة مقدمته ، وعدم حرمتها متوقف على وجوده فتكون القدرة عليه فعلا متوقفة على وجوده بعد مقدمته وهو محال ، وحينئذ يكون حاصل ما في الكفاية أنه بالنظر إلى ترك الواجب تكون مقدمته محرمة فيكون غير مقدور ، وبالنظر إلى فعله يكون طلبه طلبا للحاصل.

والأولى أن يقال : إنه إشكال واحد ذو جهتين ، لأن أصل الاشكال هو لزوم كون وجوب الواجب مشروطا بالاتيان به ، وهذا اللازم يتوجه عليه إشكال لزوم تحصيل الحاصل وإشكال أن تركه لا يكون محققا للعصيان ولأجل ذلك صدّر في الكفاية بالثاني ثم أعقبه بالأول.

وشيخنا قدس سره أورد على الشق الأول من كلامه بأنه لا يكون غير مقدور لكونه بالوجدان مقدورا بالقدرة على مقدمته وارتفاع تحريمها بالاقدام عليها وعليه.

وفيه تأمل ، لأن أقصى ما في ذلك أنه يقدر أن يطيع ، لكنه لا يدفع الاشكال بأنه لو لم يطع لم يكن عاصيا.

ص: 65


1- كفاية الأصول : 120.

فالعمدة في المسألة هو الشق الثاني من إشكال الكفاية ، ولم يتعرض له شيخنا قدس سره هنا ولكن تعرض (1) له في توجيه الترتب في المسألة المشار إليها ، أعني انحصار مقدمة إنقاذ الغريق بسلوك الأرض المغصوبة ، فإنه قدس سره التزم بترتب الحرمة على تقدير عدم الانقاذ ، ولازمه هو كون الوجوب الغيري وارتفاع الحرمة منحصرا بما لو ترتب عليها الانقاذ ، وحينئذ يتجه إشكال الكفاية من أن لازمه طلب الحاصل ، لأن وجوب الانقاذ موقوف على القدرة عليه ، وهي على عدم تحريم مقدمته ، وهو أعني عدم التحريم متوقف على تحقق الانقاذ ، فيكون وجوب الانقاذ موقوفا على تحققه.

وقد أفاد قدس سره هناك بما حاصله : أن وجوب تلك المقدمة الذي هو عين ارتفاع حرمتها لا يعقل أن يكون مقيدا بعدم الاتيان بذيها ولا بالاتيان بل إن الأمر بها لمّا كان واقعا في تحصيل ذيها كان حاله حال الأمر بذيها في عدم إمكان تقييده أو إطلاقه من ناحية وجود متعلقه وعدم وجوده ، فلمّا لم يعقل أن يكون وجوبها مقيدا بوجود ذيها ، لم يكن انحصار التحريم بما لم يترتب عليه الواجب موجبا لتقيد الأمر بالمقدمة بما إذا حصل ذلك الواجب ، ليكون وجوب الانقاذ المتوقف على ارتفاع حرمة السلوك متوقفا على تحقق الانقاذ ، فتأمل.

لكن هذا لا يدفع إشكال تحصيل الحاصل عن صاحب الفصول لأنه قدس سره التزم بتقييد الواجب بالتوصل ، ولازمه تحصيل الحاصل عند المنع عن بعض المقدمات.

وحاصل الجواب عن إشكال لزوم طلب الحاصل في خصوص مسألة

ص: 66


1- لاحظ أجود التقريرات 2 : 106 وما بعدها ، وفوائد الأصول 1 - 2 : 383 وما بعدها ، ولاحظ أيضا حاشية المصنف قدس سره الآتية في الصفحة : 441 من هذا المجلّد.

السلوك بعد الالتزام بالترتب وعدم الالتزام بتقيد الواجب بالايصال ، هو أن وجوب الانقاذ وإن توقف على القدرة وهي على عدم حرمة السلوك ، لكن ارتفاع حرمة السلوك لا يتوقف على وجود الانقاذ فيما بعد ، بل إن الارتفاع المذكور لا يتوقف إلاّ على أهمية الانقاذ من ترك السلوك.

فان قلت : إن حرمة السلوك لمّا كانت متوقفة على عدم الانقاذ كما هو مقتضى الترتب ، كان ارتفاعها متوقفا على ارتفاع موضوعها الذي هو عدم الانقاذ ، فيكون ارتفاعها موقوفا على تحقق الانقاذ لأنه عبارة اخرى عن ارتفاع عدم الانقاذ.

قلت : إن هذه الحرمة الترتبية المشروطة بعدم الانقاذ لا يكون وجوب الانقاذ متوقفا على ارتفاعها ، لعدم المزاحمة بينها وبين وجوب الانقاذ لعدم التدافع بينهما ، لكون وجوب الانقاذ هادما لموضوعها فلا يكون مزاحما لها ، كما أنها لا تزاحمه وتدافعه لأنها في مرتبة عدم تأثيره ، كما هو الأساس في دفع التدافع بين التكليفين المتزاحمين بطريقة الترتب كما حقق في محله فراجع (1).

وخلاصة البحث أو توضيحه : هي أن صاحب الفصول (2) استدل على مسلكه بامكان منع المولى عن المقدمة غير الموصلة.

وشيخنا قدس سره (3) أجاب عنه بجواب وجداني وهو أنّه بعد كون الموصلة وغيرها مشتركتين في ملاك الوجوب الغيري ، فليس للمولى تخصيص

ص: 67


1- لا بد من مراجعة ما حررناه في هذه المسألة في مبحث الترتب [ في صفحة : 434 وما بعدها ] ، وقد تعرضنا هناك لبعض الاشكالات التي أوردها المحرر في الحاشية. [ منه قدس سره ].
2- الفصول الغروية : 86.
3- أجود التقريرات 1 : 346.

إحداهما بالوجوب والاخرى بالمنع عنها.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (1) أوّلا : بأن المنع لا يدل على اختصاص الوجوب بالموصلة ، بل لا يكون خروج غير الموصلة إلاّ بواسطة النهي عنها.

وثانيا : بأن النهي عن غير الموصلة يوجب توقف وجوب الواجب النفسي على وجوده من جهة توقف وجوبه على القدرة عليه ، وهي على جواز مقدمته ، وهو على وجود الواجب بعدها.

وهذا الاشكال - أعني توقف وجوب الشيء على وجوده - ينشأ منه إشكال لزوم تحصيل الحاصل وإشكال عدم كون ترك الواجب عصيانا ، لأنه عند تركه لا يكون واجبا. وأصل هذا الاشكال إنما نشأ من كون جواز المقدمة متوقفا على وجود الواجب الذي هو التوصل بها إليه.

ولأجل ذلك أجاب عنه شيخنا قدس سره كما في الطبعة الجديدة من التحرير بالمنع من هذا التوقف ، فقال : ويدفعه أن جواز المقدمة غير مشروط بالايصال ليتوقف تحققه على تحقق الايصال خارجا ، بل المتوقف عليه إنما هو تحقق ما هو جائز شرعا ، إذ المفروض أن الايصال قيد للواجب لا للوجوب ، فجواز المقدمة ثابت قبل تحقق الايصال في الخارج ... إلخ (2) فقاس الجواز على الوجوب ، فكما كان الوجوب المتعلق بالمقيد مطلقا من ناحية وجود القيد وإن كان نفس الواجب مقيدا به ، ويكون إطلاق الوجوب وشموله لحالة فقد القيد ، ويترتب على ذلك لزوم تحصيله ، فكذلك الحال في الجواز المتعلق بالمقيد ، فانه موجود في حالة

ص: 68


1- كفاية الاصول : 120.
2- أجود التقريرات 1 : 348.

عدم وجود القيد وإن كان متعلقه هو ذلك الفعل الواجد للقيد ، وحينئذ فيما نحن فيه يكون جواز المقدمة الموصلة مطلقا موجودا حتى في حالة عدم الايصال ، إلاّ أن متعلقه هو المقدمة المقيدة بالايصال ، هذا غاية توضيح ما افيد في هذا التحرير.

ولكنه لا يخلو عن تأمل ، لإمكان الفرق بين الوجوب والجواز ، بقابلية التفكيك في الأول وأثره لزوم تحصيل القيد ، بخلاف الثاني. ومع قطع النظر عن ذلك بأن سلّمنا كون الجواز مطلقا وإن كان متعلقه هو المقيدة بالتوصل ، وحينئذ تكون المقدمة المتصفة بالجواز متوقفة على وجود القيد الذي هو الايصال ووجود الواجب ، فكان الحاصل هو توقف وجوب الواجب النفسي على اتصاف مقدمته بالجواز وهو متوقف على وجوده ، فان نفس الجواز وإن لم يكن متوقفا على وجود الواجب لاطلاقه وعدم كونه مشروطا به ، إلا أن اتصاف المقدمة بالجواز متوقف عليه لفرض كون القيد قيدا للجائز لا للجواز ، وحينئذ نقول إن وجوب الواجب النفسي كما يتوقف على جواز مقدمته فكذلك يتوقف على اتصاف مقدمته بالجواز ، وهو متوقف على وجود الواجب ، فاشكال الكفاية على الفصول بحاله فلاحظ. هذا ما حررناه سابقا.

ولكن لا يخفى أن صاحب الفصول استدل بجواز تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة ، ثم زاد عليه فيما سبق بأنه يجوز أن ينهى الآمر عن غير الموصلة ، وصاحب الكفاية منع جواز تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة ، وذلك قوله : وقد انقدح منه ... إلخ (1) ، كما أنه منع من تصريح

ص: 69


1- كفاية الاصول : 118.

الآمر بالنهي عن غير الموصلة ، وذلك قوله : ثم إنه لا شهادة ... إلخ (1).

أما موقف شيخنا قدس سره فالذي ينبغي هو ملاحظة ما حرره عنه المرحوم الشيخ محمد علي (2) والذي يظهر منه أنه وافق الكفاية على الجواب الأول وأن تصريح الآمر بأنه لا يريد غير الموصلة إنما يتم لو كان وجوب المقدمة نفسيا ، فيجوز أن يكون الايصال دخيلا في ملاك وجوبها النفسي ، فيصرح بأنه لا يريد غير الموصل منها ، أما الوجوب الغيري فليس ملاكه إلاّ التوقف والتلازم بين العدمين ، فلا يصح اعتبار الايصال كي يتسنى للآمر الحكيم بأن يقول لا اريد غير الموصل.

أما الجواب الثاني ، فالظاهر أن شيخنا قدس سره قد التزم بأن الشرط في جواز المقدمة هو التوصل ، لكن لا بوجوده الخارجي بل بالعنوان المنتزع منه ، وطريق إحراز ذلك العنوان المنتزع هو المكلف نفسه لو كان عازما على الاتيان بذي المقدمة ، ويكون الحاصل أنك إن كنت عازما على الاتيان بذي المقدمة جاز لك فعل تلك المقدمة ، هذا.

ولكن تقدم منه قدس سره (3) الاشكال على أخذ التوصل شرطا في وجوب المقدمة ، لأن وجوبها حينئذ يكون بعد وجود ذيها ، وقد تقدم التأمل فيه بما أفاده هنا في جواز المقدمة من إمكان كون الشرط في جوازها هو العنوان المنتزع من وجود ذي المقدمة ، وتقدم (4) أيضا أن هذا الاشكال لا يدفعه العنوان المنتزع ، لأن محصل ذلك هو أن الشرط في وجوب المقدمة أو في

ص: 70


1- كفاية الأصول : 120.
2- فوائد الأصول 1 - 2 : 291 - 292.
3- أجود التقريرات 1 : 344 ، فوائد الأصول 1 - 2 : 290.
4- في الحاشية المتقدمة في صفحة : 44 وفي الهامش في صفحة : 46.

جوازها هو وجودها وتعقب ذي المقدمة ، ومن الواضح فساده. وأما القياس على شرطية الغسل للصوم فيمكن التأمل فيه ، حيث إن شرطية الغسل في الصوم من قبيل شرط الواجب ، فلا تصرف فيه بالنسبة إلى الحكم الذي هو الوجوب أو الجواز ، فلاحظ.

وأما ما أفاده هنا في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي من قوله : فلا يجوز له الدخول إلاّ إذا كان من عزمه إنقاذ الغريق ... الخ (1) فكأنه إنما يلائم مسلك الشيخ (2) من كون الشرط هو قصد التوصل لا التوصل ، فلاحظ وتأمل.

قوله : بقي الكلام فيما أفاده المحقق صاحب الحاشية في المقام من أن المقدمة إنّما وجبت من حيث الايصال ، لا مقيدة بكونها موصلة ، وقد أصرّ على ذلك في مواضع من كلامه وأنكر وجوب المقدمة الموصلة ... إلخ (3).

قال في الحاشية : رابعها أنّه قد يتخيل أنّ الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره. ثم ذكر أن ذلك قد يستفاد من عبارة المعالم (4) ثم قال : والأظهر كما هو ظاهر الجمهور وجوب المقدمة من حيث إيصالها إلى أداء الواجب ، فالمقدمة التي لا يتحقق بها الايصال إلى الواجب واجب الحصول من حيث التوصل بها إلى الواجب ، فيجب

ص: 71


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 292.
2- مطارح الأنظار 1 : 353.
3- أجود التقريرات 1 : 348 - 349.
4- أي من قوله في معالم الدين : 71 فحجة القول بوجوب المقدمة ... حق النظر ، كما صرّح به في هداية المسترشدين.

الاتيان بها والتوصل إلى الواجب من حينها ، فإذا لم يتوصل المكلف بها إلى الواجب لم تخرج المقدمة عن الوجوب ، فإذا وجب علينا شيء وجب الاتيان بما يتوقف عليه ، لا من جهة ذاته بل من حيث أدائه إلى الواجب ويجب علينا الاقدام على فعل الواجب بعد الاتيان بمقدمته ، فعدم الاقدام على الواجب بعد الاتيان بالمقدمة لا يخرج ما أتى به من المقدمة عن الوجوب ، فانها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه لاهمال المكلف ، فإن عدم حصول الأداء بها لا ينافي اعتبارها من حيث كونها مؤديا ليحكم بوجوبها من تلك الجهة.

وبالجملة : أنّه لا تتنوع المقدمة من جهة إيصالها إلى ذي المقدمة وعدمه إلى نوعين ليقال بوجوب أحدهما دون الآخر ، بل ليس هناك إلاّ فعل واحد يتصف بالوجوب من حيث كونها موصلة إلى الواجب ، سواء أتى بها على تلك الجهة أو لا ، وتلك الجهة حاصلة فيها سواء تحقق بها الايصال إليه أو لا. نعم لو فرض انتفاء الجهة المذكورة عن المقدمة لم تكن واجبة وحينئذ يخرج عن عنوان المقدمة كما لا يخفى. فلا فرق في وجوبها بين وجود الصارف الاختياري عن أداء الواجب وعدمه ، ولو كان هناك صارف عن الواجب خارج عن اختيار المكلف خرجت به المقدمة عن الوجوب لانتفاء الحيثية المذكورة ، وحينئذ يسقط التكليف بالواجب أيضا ، والتأمل في الأدلة المتقدمة لوجوب المقدمة قاض بما قلناه كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وقد نص على ما ذكرنا غير واحد من أفاضل المتأخرين مصرّحا بأن ما دل على وجوب المقدمة إنّما ينهض دليلا على الوجوب

ص: 72

المطلق إذا أمكن صدور الواجب عن المكلف (1). انتهى كلامه قدس سره.

وقد نقلناه بطوله ليتضح أن مراده بكون المقدمة واجبة من حيث الايصال إنما هو في مقابل احتمال كونها واجبة بالذات على وجه لو تعذر ذو المقدمة تكون المقدمة باقية على وجوبها ، وأنّ المقدمة تكون واجبة ومتصفة بالوجوب ، سواء لحقها الواجب النفسي أو لم يلحقها كما صرّح به في قوله « فانها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه لاهمال المكلف » ويظهر ذلك أيضا من الثمرات التي رتّبها على القولين. وبالجملة : أن ما أفاده شيخنا قدس سره في تفسير كلامه قوي متين دقيق ، لكنه أجبني عمّا أراده صاحب الحاشية.

ثم قال في الحاشية - بعد الفراغ عمّا تقدم نقله عنه - : ويتفرع على الوجهين المذكورين امور ، منها : أنه إذا كان للمكلف صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدم عليه من ترك مقدماته ممنوعا عنه على الأول ، إذ المقدمات المتروكة غير موصلة إلى الواجب مع وجود الصارف عنه ، وإنما الممنوع عنه هو ترك المقدمة الموصلة وليس ذلك بشيء من تلك التروك وتتفرع عليه صحة أداء الواجب الموسع عند مزاحمته للمضيق ، إذ لا يتحقق فعل الموسع إلاّ مع وجود الصارف عن المضيق ، وحينئذ فلا يكون ما يأتي به من الموسع منهيا عنه ليقضي النهي بفساده ، بخلاف ما لو قيل بالثاني لتعلق النهي به حينئذ لكون تركه مقدمة لأداء الواجب ، فيكون واجبا من حيث كونه موصلا إلى الواجب (2).

ثم إنه أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : أنه ينبغي الحكم بفساد الموسع وإن قلنا باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، إذ لا ريب عنده

ص: 73


1- هداية المسترشدين 2 : 176 - 178.
2- هداية المسترشدين 2 : 178.

في وجوب ترك الصلاة الموصل إلى فعل الازالة ، فيكون ترك ذلك الترك حراما وهو عين فعل الموسع.

ومن الثمرات التي ذكرها : عدم جواز أخذ الاجرة على فعل المقدمة وإن لم يترتب عليها الواجب بناء على الثاني دون الأول.

ومنها : مسألة برّ النذر المتعلق بأداء واجب بفعل المقدمة وإن لم يترتب عليها الواجب بناء على الثاني دون الأول.

ومنها : مسألة جواز الاتيان بالوضوء عند دخول وقت الصلاة بعنوان الوجوب ، وإن لم يكن من نيته الصلاة ولم يترتب عليه فعلها (1).

ومن هذه الثمرات يظهر لك أنه يقول بأن الواجب هو مطلق المقدمة وإن لم يترتب عليها ، لا خصوص الذات التي يترتب عليها الواجب.

وقد يقال : إن ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أن صاحب الحاشية يلتزم على مسلكه بصحة الواجب الموسع لجريان الترتب فيه ، محتاج إلى التأمل في كلام صاحب الحاشية ، فانه صريح بأنه على القول الثاني الذي هو مختاره يكون الواجب الموسع فاسدا ، وأنه إنما يحكم بصحته على القول الأول أعني التقييد بالايصال ، ثم مع ذلك أشكل على الحكم بصحته حتى بناء على القول المزبور أعني القول الأول.

ولكن كلام صاحب الحاشية في مسألة الضد (3) صريح في جريان الترتب في المقدمة المحرمة ، سواء كانت متقدمة مثل سلوك الأرض المغصوبة أو كانت مقارنة مثل ترك الأهم وفعل المهم.

ص: 74


1- هداية المسترشدين 2 : 178 - 179.
2- أجود التقريرات 1 : 352.
3- هداية المسترشدين 2 : 272 - 273.

ولا يخفى أن صاحب الفصول (1) أيضا ذكر ثمرات أخر ، وقد جمع الجميع في البدائع (2) فراجعها.

قوله : لكنه لا يلزم من امتناع التقييد بالايصال لما ذكرناه من المحاذير اللازمة من التقييد ، سواء كان القيد للوجوب أو الواجب ، أن تكون المقدمة متصفة بالوجوب على نحو الاطلاق كما ذهب إليه المحقق العلاّمة الأنصاري قدس سره (3).

فانه قدس سره (4) قد تمسك بالاطلاق على نفي قيد التوصل وإن التزم هو (5) بالتقييد بقصد التوصل.

ثم لا يخفى أن المحاذير اللازمة من تقييد نفس الوجوب بالتوصل وإن كانت موجبة لامتناع إطلاقه من هذه الجهة أعني جهة الايصال ، إلاّ أن المحاذير اللازمة من تقييد الواجب به أعني ما تقدم (6) من لزوم كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة ، وكون ذات المقدمة مقدمة للمجموع المركب منها ومن قيد الايصال ، لا توجب امتناع الاطلاق من هذه الجهة ، إذ لا تتجه هذه المحالية في كون الفعل الواجب مقدمة مطلقا من حيث كونه موصلا وعدم كونه موصلا.

نعم يمكن أن يقال : إنه إذا كان تقيد الواجب ممتنعا لم يمكن التمسك باطلاقه على إرادة المطلق ، لإمكان أن يكون ترك تقييده لأجل

ص: 75


1- الفصول الغروية : 81.
2- بدائع الأفكار : 338 - 339 ، 340.
3- أجود التقريرات 1 : 350 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- لم نعثر عليه في مظانه.
5- مطارح الانظار 1 : 353.
6- تقدمت محاذير ثلاثة في هامش الصفحة : 44 - 46. راجع أيضا الصفحة :49- 56.

المحذور في ذلك التقييد.

لكنه واضح الاندفاع ، لأنه إذا فرض عدم إمكان صدور التقييد يتعين كون الواجب شاملا لواجد القيد وفاقده. اللّهم إلاّ أن نقول كما تقدم (1) بأن الواجب هو الذات التي هي توأم مع القيد لا الذات المقيدة ، فتأمل.

نعم ، لو كان التقييد اللحاظي ممتنعا نظير التقييد بداعي الأمر لكان الاطلاق ممتنعا أيضا ، وتقريبه في المقام بأن يقال : إن الأمر بالمقدمة لمّا لم يكن أمرا مستقلا وإنما هو ناش عن نفس الأمر بذيها ، بمعنى كون الأمر بها حاصلا بالأمر بذيها ، كان حاله حال الأمر بذيها في عدم إمكان تقييده بنفس ذيها ، فكان ذلك موجبا لعدم إمكان إطلاقها بالنسبة إلى وجود ذيها ، كما لا يمكن إطلاق متعلق الأمر بذيها بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه ، فلاحظ.

قوله : وأما بناء على ما ذهب إليه المحقق المذكور فلمّا كان التقييد الموجب لانقسام المقدمة إلى قسمين محالا ، فلا محالة يكون الحكم بالحرمة على نحو الترتب ... إلخ (2).

الظاهر أنه لا فرق بين ما أفاده صاحب الفصول (3) من التقييد بالايصال وما نقله قدس سره (4) عن صاحب الحاشية من كون الواجب (5) هو الذات التي هي توأم مع الايصال ، إلاّ أن التقييد في الأول يكون لحاظيا وفي الثاني يكون ذاتيا ، وعلى أيّ حال لا تكون الذات التي هي لا يترتب عليها الايصال واجبة ، فلا مانع من بقاء حرمتها من دون حاجة إلى الالتزام

ص: 76


1- في صفحة : 55.
2- أجود التقريرات 1 : 352 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- الفصول الغروية : 81 ، 86.
4- أجود التقريرات 1 : 349.
5- [ في الأصل هنا زيادة : « هو الواجب » حذفناه للمناسبة ].

بالترتب. نعم بناء على ما نقلناه (1) عن الحاشية من أن الواجب هو مطلق المقدمة تكون الحرمة عند عدم التوصل محتاجة إلى الترتب ، فتأمل.

قوله : وأما إذا كانت منفكة عن ذلك ووقعت مجردة عن بقية أجزاء العلة ، فحيث إنه لم يترتب عليها الغرض الداعي إلى إيجابها فلا محالة لا يقع في الخارج على صفة الوجوب ، نظير الأجزاء فان كل واحد منها إنما يقع على صفة الوجوب النفسي المنبسط عليه إذا وقع في الخارج منضما إلى بقية الأجزاء ، لا إذا وقع مجردا عن ذلك ... إلخ (2).

يمكن أن يقال بالتفرقة بين المقدمة والأجزاء ، فان الأجزاء ثبتت فيها الارتباطية من ناحية تعلق الأمر بالمجموع ، فكان تقييد بعضها ببعض ناشئا عن تعلق الأمر بالمجموع ، فيكون التقييد فيها لحاظيا ، بخلاف ما نحن فيه لأن المفروض هو عدم كون التقييد بالايصال لحاظيا ، بل إن جل المدعى هو التقيد الذاتي الناشئ عن كون أجزاء العلة واقعا في طريق الوصول إلى المعلول ، وهذا بمجرده لا يوجب انحصار الواجب الغيري بخصوص ما كان واقعا في طريق الوصول إلى المعلول ، نعم إن ذلك - أعني كونه واقعا في طريق الوصول إلى الواجب النفسي - كان هو الغرض الداعي إلى إيجابه ، فلو تخلف لم يكن إلاّ من قبيل تخلف الداعي كما افيد بقوله : فحيث إنه لم يترتب عليها الغرض الداعي إلى إيجابها فلا محالة لا يقع في الخارج على صفة الوجوب ... الخ.

ومن الواضح أن حقيقة الداعي هو الوصول إلى ذي المقدمة ، فإذا لم يحصل ذلك الداعي لم يكن ذلك إلاّ من قبيل تخلف الداعي ، وذلك لا

ص: 77


1- في صفحة : 71 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 349 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يوجب كون ذلك الفعل المجرد عن ذي المقدمة غير واقع على صفة الوجوب.

بل يمكن أن يقال كما أفاده في الكفاية (1) : إن الداعي ليس إلاّ فتح باب التمكن من ذي المقدمة وهو لم يتخلف. نعم لو لم يكن في البين إلاّ أمر واحد تعلق بالعلة ومعلولها كان ذلك موجبا لكون ما وقع من أجزاء العلة مجردا عن الباقي غير متصف بالوجوب ، لكن ما نحن فيه لم يكن كذلك ، بل الأمر النفسي تعلق بذي المقدمة ، ولمّا كان فعله متوقفا على فعل المقدمة ترشح من الأمر به أمر غيري متعلق بتلك المقدمة ، وذلك لا يوجب انحصار ما تعلق به ذلك الأمر الثاني بما يكون الواجب واقعا عقيبه ، هذا.

مضافا إلى أن هذه الجهة - أعني كون المقدمة من أجزاء علة ذي المقدمة - لا تكون ملحوظة إلاّ على نحو الجهات التعليلية فلا تكون موجبة للانحصار.

نعم يمكن دعوى انحصار المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل كما نقل عن الشيخ قدس سره (2) وذلك بنحو ما حررناه في مبحث التعبدي (3) من أن طبع الأمر يقتضي الاتيان بمتعلقه بداعيه ، بحيث يكون الباعث على الاتيان به هو ذلك الأمر على وجه يكون الاتيان به لا بذلك الداعي بل بداع آخر خارجا عن تحت ذلك الأمر ، فلا يكون مأمورا به وإن أجزأ عن المأمور به بدليل خاص ، لكنه يكون من قبيل الاكتفاء بغير المأمور به ، نظير الاكتفاء بفعل شخص آخر أو بفعل الريح والمطر مثلا.

وحينئذ نقول فيما نحن فيه : لا بد في وقوع المقدمة تحت الأمر

ص: 78


1- كفاية الأصول : 116 - 119.
2- مطارح الأنظار 1 : 353.
3- عند التعرض لكلام المحقّق الكلباسي قدس سره ، فراجع المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : 466 وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس سره قد أبطل هذا القول فيما بعد. فراجع الصفحة :505- 506 من المجلّد الأول.

الغيري من الاتيان بها بداعي ذلك الأمر الغيري بحيث يكون الانبعاث إليه ببعثه ، ويكون ما يؤتى به لا بباعثية ذلك الأمر خارجا عن حيّز ذلك الأمر ويكون السلوك في الأرض المغصوبة محرّما لو فعله بغير داعي التوصل إلى إنقاذ الغريق وإن اتفق أن أقدم على إنقاذه بعد ذلك ، كما أنه يكون متصفا بالوجوب لو فعله بذلك الداعي لكنه بعد أن فعله بدا له فلم يقدم على إنقاذ الغريق ، وحينئذ يكون ما افيد نقلا عن الشيخ قدس سره من انحصار المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل متجها غاية الاتجاه ، فتأمل.

هذا ما حررناه سابقا ، لكنه لا يخلو عن تأمل ، فان أقصى ما في البين هو أنه لا بد للمكلف من فعل المقدمة بداعي أمرها ، فلا بد أن يقصد بالاتيان بها امتثال ذلك الأمر المتعلق [ بها ] ، أما أنه لا بد أن يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة فذلك أمر آخر يتوقف على أن متعلق الأمر الغيري هو ذات المقدمة أو أن متعلقه هو ذات المقدمة المقيدة بقصد التوصل أو المقيدة بنفس التوصل ، فعلى الأول لا يحتاج في الامتثال إلى أزيد من الاتيان بذات المقدمة بداعي أمرها المفروض أنه متعلق بذاتها ، وعلى الثاني يحتاج إلى قصد ما تعلق به الأمر الغيري وهو المقيدة بالقيد المذكور ، فلاحظ وتأمل.

قوله : فاعلم أن المقدمة المحرمة إذا لم تقع في الخارج على صفة الايصال فهي تقع على صفة الحرمة بناء على ما ذهب إليه صاحب الفصول (1) - إلى قوله - بلا احتياج إلى الالتزام بالترتب ... إلخ (2).

لو كان التزاحم واقعا بين وجوب المقدمة وحرمتها لم يمكن اتصافها

ص: 79


1- الفصول الغروية : 81.
2- أجود التقريرات 1 : 351 - 352.

بالحرمة المعلّقة على عصيان الأهم الذي هو نفس وجوبها ، من دون فرق بين قول صاحب الفصول وقول غيره ، نعم على قول صاحب الفصول لا يقع تزاحم بين وجوب المقدمة وحرمتها ، إذ لا يكون مركبهما واحدا وهكذا الحال لو كان التزاحم واقعا بين حرمتها ووجوب ذيها بناء على كون الايصال دخيلا في كونها مقدمة ، إذ لا تزاحم بين الحكمين حينئذ ، نعم لو كان دخيلا في اتصافها بالوجوب دون اتصافها بالمقدمية وقع التزاحم بينهما.

بل يمكن أن يقال : إن ما التزم به صاحب الفصول (1) من أن المقدمة إذا لم يؤت بالواجب بعدها تبقى على حالها من الاباحة أو الحرمة ، هو عين الالتزام بترتب حكمها الذي هو الاباحة أو الحرمة على عصيان الأمر بذيها ، فلاحظ.

قوله : فان كانت المقدمات محرمة بأجمعها فلا محالة يقع التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة ، فلا بد من رفع اليد عن أحدهما ... إلخ (2).

فان كان ذلك التزاحم دائميا كان آمريا ، وإن كان اتفاقيا كان مأموريا ولكل حكمه.

قوله : وإن كان بعضها محرمة دون الاخرى ، فان كانت المقدمة توصلية فلا محالة يسقط الغرض باتيانها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لا ... إلخ (3).

يمكن أن يقال : إن الغرض هو أنها على القول بالوجوب تكون من باب الاجتماع بخلاف القول بعدم الوجوب ، وكون المقدمة توصلية تسقط بالمحرم لا ينافي هذه الثمرة. نعم لا أثر عملي إلاّ على تقدير الاتيان بها

ص: 80


1- الفصول الغروية : 81.
2- أجود التقريرات 1 : 358 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 1 : 358 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بداعي الأمر ليترتب الثواب مع كونه مستحقا للعقاب ، إلاّ إذا قلنا بأنه على الجواز لا يمكن التقرب كما هو المختار.

قوله : فان بنينا على كفاية الجهة في صحة العبادة وإن لم تكن مأمورا بها بل كانت محرمة لصحت المقدمة أيضا ... إلخ (1).

لم أعرف الوجه في كفاية الجهة في صحة العبادة مع فرض كونها مجمعا للحكمين ، إلا على القول بالجواز فتكون الصحة متفرعة عليه ، لكن ظاهر العبارة بل صريحها هو الحكم بالصحة على تقدير القول بالامتناع.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن المراد مجرد الفرض ، بمعنى أنا لو اكتفينا في صحة العبادة بقصد الجهة حتى لو كان الفعل محرما لم يكن فيما نحن فيه أثر لوجوب المقدمة ولا لمسألة الاجتماع ، وكان الحال في ذلك هو بعينه فيما لو كانت المقدمة توصلية ، ويكون هذا الفرض من مجرد الجدل الذي لا واقعية لما فرض فيه.

وينبغي أن يعلم أن هذه الجملة المتضمنة لتصحيح العبادة بالملاك والجهة غير موجودة في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي قدس سره ، وإنما هي موجودة في هذا التحرير الذي هو تحرير عن الدورة المتأخرة عن الدورة التي كتب عنها المرحوم الشيخ محمد علي. نعم إن ما حررته عنه قدس سره في هذه الدورة الأخيرة مشتمل على نحو ما اشتمل عليه هذا التحرير ، ولكن لا تصريح فيه بالصحة حتى مع كونها محرمة كما اشتمل عليه هذا التحرير ، وهذا نص ما حررته عنه قدس سره : وإن قلنا بالامتناع فان قلنا بكفاية الجهة والملاك في صحة العبادة صحت المقدمة المذكورة ، سواء قلنا بالوجوب أو لم نقل ، انتهى.

ص: 81


1- أجود التقريرات 1 : 358 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ويمكن أن يكون الوجه فيه هو أنه بعد البناء على الامتناع ، فان كان الامتناع من الجهة الاولى دخلت المسألة في التعارض بالعموم من وجه ، وإن كان الامتناع من الجهة الثانية فقط دخلت المسألة في باب التزاحم وعند عدم الترجيح يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة غير مأمور بها ولا منهيا عنها فعلا ، فيمكن القول بتصحيحها بالجهة والملاك إن قلنا بكفايته. لكن يشكل قولنا : سواء قلنا بالوجوب أو لم نقل ، فانا إن لم نقل بالوجوب لا تدخل المسألة في التزاحم ، فانها إنما تدخل في ذلك إن كان هناك وجوب للمقدمة ليكون وجوبها مزاحما لحرمتها بناء على الجواز من الجهة الاولى والامتناع من الجهة الثانية. أما وجوب ذي المقدمة فهو لا يزاحم حرمة بعض أفراد المقدمة ، لأن هذه المزاحمة إنما تتأتى في المقدمة المحرمة المنحصرة ، دون ما إذا لم تكن منحصرة وكان للمقدمة فرد آخر غير محرم ، فلاحظ.

نعم ، إن الوجوب الشرطي الآتي من تعلق الوجوب النفسي بالمشروط بتلك المقدمة يكون في قبال حرمتها ، وكذلك الاستحباب النفسي الذي هو متعلق بالكون على الطهارة ، وحينئذ يكون ذلك التقابل من باب الاجتماع ، وحيث نقول بالامتناع وعدم فعلية كل من التحريم ومقابله يمكن القول بالتقرب بجهة ذلك الأمر وملاكه ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل بوجوبها.

قوله : نعم إذا بنينا على عدم كفاية الجهة ، فان قلنا بجواز الاجتماع لصحت المقدمة ... الخ (1).

ص: 82


1- أجود التقريرات 1 : 358 - 359 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

هذا خلاف مسلكه قدس سره (1) من الحكم بفساد العبادة حتى على القول بالجواز إلاّ في مورد الجهل والنسيان ونحوهما ، ولعل ذلك مجاراة منه قدس سره على مشرب القوم من أنه بناء على الجواز يكون العمل صحيحا.

قوله : فالثمرة تظهر في خصوص هذا الفرض فقط (2).

يمكن المناقشة في ظهور الثمرة في ذلك ، لا من جهة ما يأتي من أن الفرد المحرم يكون خارجا عن حيّز الأمر ، لما سيأتي (3) إن شاء اللّه من أنه لا وجه للحكم بخروجه على القول بالجواز ، بل من جهة أن عبادية المقدمة غير ناشئة عن أمرها الغيري كما تقدم منه قدس سره (4) ، وحينئذ لا يكون لوجوبها الغيري أثر ، وإنما الأثر لذلك الأمر النفسي الذي أوجب كونها عبادة ، فان صححنا اجتماعه مع التحريم صحت المقدمة العبادية على ما تقدم ، وإلاّ بأن قلنا بالامتناع فسدت عبادية المقدمة ، من دون فرق في ذلك بين القول بوجوبها الغيري وعدمه. ولعل ما في الكفاية (5) من الاشكال ثالثا ناظر إلى ذلك.

قوله : ولكن التحقيق أن المقدمة إذا كانت على قسمين محرم وغير محرم ، فلا محالة يترشح الأمر الغيري من الواجب إلى خصوص المقدمة غير المحرمة ... إلخ (6).

وبنحو ذلك صرح في الكفاية بقوله : وثانيا ... إلخ (7). ولم أتوفق

ص: 83


1- أجود التقريرات 2 : 180 - 181.
2- أجود التقريرات 1 : 359.
3- في الحاشية اللاحقة.
4- أجود التقريرات 1 : 255.
5- كفاية الأصول : 125 [ وهو الإشكال الثاني في الطبعات الجديدة ].
6- أجود التقريرات 1 : 359 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
7- كفاية الأصول : 125 [ وقد حذف هذا الاشكال من النسخ المصححة كما أشير إليه في الهامش ].

لمعرفة الوجه في ذلك ، فان ارتكاب التخصيص إنما يتأتى على القول بالامتناع من الجهة الاولى ، أما على القول بالجواز فلا وجه للتخصيص المزبور ، ولو تم هذا التخصيص هنا لتم في مسألة صلّ ولا تغصب عند الصلاة في الدار المغصوبة في مورد المندوحة ، فيقال إن الأمر بالصلاة يكون منحصرا بما عدا المحرم أعني ما يكون في الدار المغصوبة ، فلا يبقى لنا حينئذ مورد يكون من قبيل الاجتماع.

ولكن الفرق بين ما نحن فيه وبين مثل الصلاة والغصب واضح ، فان التركب في مسألة الصلاة والغصب يكون انضماميا وهو مورد النزاع في الجواز والامتناع ، بخلاف مسألة المقدمة لو كان بعض أنواعها محرما ، كما لو كان له إلى الحج أو إنقاذ الغريق طريقان أحدهما في أرض مغصوبة فسلك في الأرض المغصوبة ، فانه وإن كان من باب العموم من وجه بين قوله لا تغصب وقوله تجب المقدمة ، ويجتمعان في السلوك المذكور ، إلاّ أنهما من قبيل التركب الاتحادي ، نظير أكرم عالما ولا تكرم الفاسق في اجتماعهما في العالم الفاسق ، فانه لا يدخل في باب الاجتماع بل يدخل في باب التعارض ، فان قدّمنا الأمر كان السلوك واجبا وغير محرم ، وإن قدمنا النهي كان محرما ولم يكن واجبا.

وعلى أيّ حال ، لا أثر للمسألة في هذا المثال لكون الوجوب توصليا ، فلا بد من فرض المسألة في الوجوب العبادي. وأحسن مثال له هو ما لو كان الصائم مجنبا في نهار رمضان وحضرت الظهر وأراد الاغتسال ، فاغتسل مرتمسا وهو حرام لكونه مفطرا ، فهذا ومثله لا يتنزل على التركب

ص: 84

الانضمامي ليدخل في مسألة الاجتماع ، بل هو من قبيل التركب الاتحادي ، ويكون اجتماع النهي عن الارتماس للصائم ووجوب الغسل عليه من قبيل العامين من وجه ، ويكون النهي مخصصا لدليل الأمر ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس سره : ولكن التحقيق أن المقدمة إذا كان لها فردان محرم وغير محرم فلا محالة يترشح الأمر الغيري إلى غير المحرم.

ومن ذلك كله يتضح لك توضيح ما أفاده في الجواب عن الجواب (1) ، وأن المراد به هو ما عرفت من المثال ، دون مسألة السير والحج وإن كان هو قدس سره قد مثّل بذلك. ومنه يتضح الجواب عمّا ذكره المحشي (2) في المقام ، فلاحظ.

ويمكن التمثيل لكون وجوب المقدمة العبادية مع فرض حرمتها من باب الاجتماع الذي يكون التركب فيه انضماميا بالغسل أو الوضوء مقدمة للصلاة الواجبة فيما لو أوقعه في المكان المغصوب مع التمكن من إيقاعه في المكان المباح ، فانه يكون حاله حال الصلاة في المكان المغصوب في كونه من باب الاجتماع وكون التركب فيه انضماميا ، من دون الالتزام بالتخصيص وإخراج مورد النهي عن دليل الأمر ، بناء على ما عرفت من كون الامتناع في مثل ذلك من الجهة الثانية فقط ، ويكون التركيب فيه انضماميا لا اتحاديا ، ولا يتم فيه ما أفاده شيخنا قدس سره من لزوم إخراج المحرم عن دليل الوجوب ، فتأمل.

ثم إن كون هذا المثال - أعني الاغتسال في المكان المغصوب - من

ص: 85


1- أجود التقريرات 1 : 360.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 359.

باب الاجتماع لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة ، بل يكون كذلك حتى لو لم نقل بوجوبها ، لأن المفروض كونها عبادة ، وعباديتها لا بد أن تكون ناشئة عن أمر ، وذلك الأمر إما هو الأمر بوجوب المقدمة أو هو الأمر الشرطي في ضمن الأمر بالمشروط ، أو يدعى استحبابه نفسيا كما قيل به في غسل الجنابة ، بل يمكن ادعاؤه في كل ما يرفع الحدث ويحصل به الكون على الطهارة ، سواء كان وضوءا أو كان غسلا ، بناء على ما يستفاد من الأدلة من استحباب الكون على الطهارة.

قوله : نعم لو كان النهي متعلقا بذات المقدمة الخارجية ... إلخ (1).

الأولى أن يقال : نعم لو كان الأمر متعلقا بالذات الخارجية ، وذلك لأن ذلك هو مدعى صاحب الكفاية (2) حيث إنه قد أخذ عنوان المقدمة جهة تعليلية ، ليكون الوجوب واردا على ذات المقدمة المحرمة لا على عنوان يكون مجتمعا مع العنوان المحرم ، فتأمل.

قوله : ففيه : أن الحكم مثلا إذا كان واجبا فيكون السير لا محالة أيضا واجبا بالوجوب المقدمي ، فإذا فرض أنّه سار في المكان المغصوب فينطبق عليه عنوانان ، عنوان السير الواجب مقدمة وعنوان الغصب ، فيكون من باب الاجتماع ، فليس الغرض من اجتماع العنوانين اجتماع عنوان المقدمة بالحمل الأولي مع عنوان الغصب مثلا ، بل الغرض اجتماع عنوان ما هو مقدمة بالحمل الشائع مع عنوان

ص: 86


1- أجود التقريرات 1 : 360.
2- كفاية الأصول : 113 ، 124.

آخر محرم كما في كل مورد اجتمع فيه الأمر والنهي ... إلخ (1).

قلت : قد يقال إنه لا يوجد عندنا مقدمة يكون الوجوب الغيري فيها واردا على العنوان الكلي ، بدعوى أن الوجوب الغيري إنما يرد على نفس الفعل الخارجي الذي يتوقف عليه الواجب النفسي ، حيث إن ملاك هذا الوجوب إنما هو التوقف ، وهو إنما يكون في الفعل الخارجي لا العنوان الكلي المنطبق عليه ، فتأمل.

والحاصل : أن عنوان المقدمة وإن لم يكن المراد به ما هو مقدمة بالحمل الذاتي الأولي ، بل كان المراد به ما هو مقدمة بالحمل الشائع ، إلاّ أن هذا العنوان في الوجوب الغيري لم يكن مأخوذا على نحو الجهات التقييدية ، بل هو من قبيل الجهات التعليلية ، لكونه علة في ورود الأمر الغيري على ما يحمل عليه أنه مقدمة بالحمل الشائع الصناعي ، فيكون مركب ذلك الأمر هو ذات الفعل الخارجي لا عنوان المقدمية ولا عنوان التوقف ، وهذا على الظاهر واضح.

والعمدة هو ما افيد في صدر الكلام من أنّ مركب الأمر الغيري هو عنوان السير الكلي ، وقد اجتمع هذا العنوان المأمور به أعني عنوان السير مع العنوان المنهي عنه وهو عنوان الغصب ، وهذا هو الدافع لاشكال الكفاية ، لكنه مع ذلك محل التأمل حيث إنه يمكن تطرق [ الاشكال ](2) إلى أن مركب الأمر الغيري هو عنوان السير الكلي ، لأن ذلك العنوان الكلي ليس هو بنفسه ما يتوقف عليه الواجب ، بل إن الواجب إنما توقف على الفعل

ص: 87


1- أجود التقريرات 1 : 360 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

الخارجي ، فيكون ذات الفعل مأمورا به ، فاذا كانت تلك الذات هي المأمور به كان انطباق عنوان الغصب عليها من قبيل النهي عن العبادة أو المعاملة لا من قبيل الاجتماع ، فتأمل. وبالجملة أن التركب في مثل ذلك يكون اتحاديا لا انضماميا كما شرحناه فيما تقدم.

قوله : ومنها : أن المقدمة إذا كانت محرمة فعلى القول بوجوبها يتحقق هناك أمر ونهي ... إلخ (1).

أشكل صاحب الكفاية قدس سره (2) على هذه الثمرة بامور ثلاثة : أوّلا : أن الواجب ليس هو عنوان المقدمة بل إنه جهة تعليلية ، وحينئذ يكون الوجوب واردا على ذات [ المقدمة ](3) ، فلا يكون النهي عنه إلاّ من قبيل النهي عن العبادة.

وثانيا : بأن المقدمة إن كانت منحصرة في المحرم دخلت المسألة في باب التزاحم ، وإن كانت غير منحصرة خرج المحرم منها عن الوجوب.

وثالثا : بأن المقدمة إذا كانت توصلية صحت مطلقا ، وإن كانت تعبدية فان قلنا بالامتناع بطلت مطلقا ، قلنا بالوجوب أو لم نقل به ، وإن قلنا بالجواز صحت مطلقا ، قلنا بالوجوب أو لم نقل به.

والذي يظهر من شيخنا قدس سره أنه وافقه في هذه الايرادات إلاّ في الأول ، فانه قد دفعه بأن عنوان المقدمية وإن كان جهة تعليلية إلاّ أن ما ورد عليه الوجوب يكون عنوانا كليا مثل السير في الأرض المغصوبة.

ولا يخفى أن مركب الوجوب وإن كان ربما كان عنوانا كليا لا

ص: 88


1- أجود التقريرات 1 : 358 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 124 - 125 [ وقد ذكر الإشكالان الأول والأخير في متن نسخة الكفاية التي اعتمدنا عليها في الاستخراج ، بينما ذكر الثاني في الهامش ، فلاحظ ].
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

خصوص مصداق ما يتوقف عليه ، إلاّ أنه لو سلّمنا كونه عنوانا كليا فلا يخفى أنه لا يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان تركبه مع ما هو مركب الحرمة تركبا انضماميا ، دون ما لو كان التركب اتحاديا كما في مثل التستر والتستر بالمغصوب والوضوء والوضوء بماء مغصوب ، وقد تعرضنا لذلك في مسألة الاجتماع (1) ، وشيخنا (2) جعل ذلك من قبيل متمم المقولة ، هذا.

مضافا إلى ما أشرنا إليه من أن الوضوء والتستر وإن كان عنوانا كليا إلاّ أن مركب الأمر الغيري ليس هو ذلك العنوان الكلي ، بل لا يكون مركبه إلاّ ذات الفعل الخارجي من حيث توقف الواجب النفسي عليه ، نعم إن قيد الصلاة هو عنوان الوضوء وعنوان التستر ، إلاّ أن الكلام في مركب الأمر الغيري.

أما الايراد الثاني فالتزم به شيخنا قدس سره ، وفيه تأمل لأن طريقة التخصيص إنما هي بعد فرض الامتناع من الجهة الاولى ، أو بعد فرض مطلق الامتناع ، وكأنه لأجل ذلك ضرب صاحب الكفاية على قوله : ثانيا.

وأما الايراد الثالث ، فقد التزم شيخنا قدس سره بصحة العبادة لو قلنا بالجواز ، وهو مناف لمسلكه (3) من عدم إمكان التقرب الذي يصطلح بالامتناع من الجهة الثانية ، نعم لو قلنا بالجواز من الجهة الثانية أيضا كان لازمه الصحة مع الالتفات والتعمد ، لكنهم لم يلتزموا به كما هو محرر في مسألة الاجتماع فراجع. ومع ذلك فقد التزم شيخنا هنا بأمر ثالث وهو إمكان التقرب بالجهة حتى لو قلنا بالامتناع ، وسيأتي منه قدس سره في مبحث

ص: 89


1- راجع حاشية المصنّف قدس سره في صفحة : 39 وما بعدها من المجلّد الرابع من هذا الكتاب.
2- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.
3- راجع أجود التقريرات 2 : 179 - 181.

الاجتماع أنه لا يمكن التقرب بمورد الاجتماع حتى على القول بالجواز ، وكيف يمكن التقرب بالجهة مع كون الفعل مبغوضا ، فلاحظ وتأمل.

والخلاصة : أنه قدس سره التزم بامور ثلاثة هنا كلها على خلاف مسلكه :

التخصيص ، وصحة العبادة على القول بالجواز ، واحتمال صحتها بالتقرب بالجهة على القول بالامتناع. إلاّ أن يقال : إن ذلك كله مجاراة مع القوم على مسلكهم. وفيه تأمل لأن الأول وكذلك الثالث لا ينطبق حتى على مسالك القوم ، بل الثاني لا يلتزمون به ، وإن كان على مقتضى مسلكهم هو الالتزام به.

قوله : فتكون الحرمة المتعلقة بالغصب متعلقة باجراء الماء على البدن ، فيدخل بذلك في باب اجتماع الأمر والنهي (1).

لا يخلو ذلك عن تأمل ، فان هذا الفعل الخارجي له عنوان أولي وهو صب الماء على اليد مثلا ، وعنوان ثانوي وهو التصرف في أرض الغير وهو بعنوانه الأولي وإن كان واجبا إلاّ أنه بعنوانه الثانوي يكون محرما ودليل ذي العنوان الثانوي يكون حاكما على دليل ذي العنوان الأولي فيكون من قبيل النهي عن العبادة لا من قبيل الاجتماع كما حقق في مسألة الاجتماع (2) من أنّ تعدد العنوان أوليا وثانويا لا يوجب الدخول في مسألة الاجتماع ، لعدم كونه من التركب الانضمامي ، بل هو من أوضح موارد التركب الاتحادي.

وينبغي أن يعلم أن هذا المبحث - أعني مقدمة الحرام - لم يذكره المرحوم الشيخ محمد علي ، وقد ذكرته في تحريراتي عنه قدس سره وهذا نص ما حررته عنه : وإن كانت المقدمة المذكورة علة للحرام ، فان كانت هي ومعلولها من قبيل العناوين التوليدية كانت محرمة ، بل لا معنى لتحريم

ص: 90


1- أجود التقريرات 1 : 361 - 362.
2- في المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 47 وما بعدها.

معلولها إلاّ تحريمها ، لكون أحدهما عين الآخر خارجا ، انتهى. وليس فيه ما اشتمل عليه هذا التحرير من قوله : فالحكم المتعلق بالفعل التوليدي يكون بنفسه متعلقا بما يتولد منه كما عرفت سابقا ، فتكون الحرمة المتعلقة بالغصب متعلقة باجراء الماء على البدن ، فيدخل بذلك في باب اجتماع الأمر والنهي (1).

ولا يخفى أن كونه من باب الاجتماع كالمناقض لما تضمنه صدر العبارة من كون الحرمة للمسبب متعلقة بما يتولد منه ، فلاحظ.

ولا يخفى أنه سيأتي في الحاشية الآتية أن القسم الثاني ملحق بالقسم الأول ، بل يمكن القول بأن القسم الثالث ملحق بالأول ، باعتبار أن صبّ الماء على اليد مع تعمد ترك الحاجز يكون عنوانه الثانوي التصرف في ملك الغير. لكن لو سلّمنا عدم كونه منه نلتزم بحرمته باعتبار كون ترك الحرام متوقفا على تركه ، وهكذا الحال في القسم الأخير فان ترك الحرام يكون متوقفا على ترك الصب أو على إيجاد الحاجز بعد وقوع الصب ، فيكون أحدهما واجبا ، بمعنى أنه يترك الصب فان فعله يلزمه إيجاد الحاجز ، ولا يبعد القول بذلك في الصورة الاولى ، أعني ما لو علم من نفسه أنه لو ارتكب المقدمة أعني الدخول إلى الدار يقع في إرادة الحرام ، على وجه تغلبه نفسه ويحدث عنده الشوق الموجب لتعلق إرادته واختياره لذلك ، لإمكان القول بأن إطاعة النهي عن ذلك الحرام تتوقف على ترك الدخول ، فيكون ترك الدخول واجبا.

قوله : وعلى الثاني فاما أن يكون عنوان الحرام وعنوان ما هو مقدمة منطبقين على شيء واحد كما في الأفعال التوليدية - إلى قوله -

ص: 91


1- أجود التقريرات 1 : 361 - 362.

أو يكونا عنوانين لمعنونين ... الخ (1).

تقدم نظير هذا البحث في ص 185 (2) وحاصله : أن الأسباب والمسببات تارة تكون من قبيل العناوين التوليدية ، بحيث يكون لنا فعل خارجي واحد وهو الالقاء الذي هو عبارة عن إخلاء اليد من الشيء ، وله عنوان أوّلي وهو الالقاء وثانوي وهو الاحراق ، وفي مثله لا فرق بين كون التكليف متعلقا بذلك الفعل الخارجي أو بعنوانه الأولي أو بعنوانه الثانوي ولا يكون في البين مقدمة وذو المقدمة.

واخرى تكون من قبيل التباين بين السبب والمسبب ، وفي هذا القسم يكون السبب مقدمة للمسبب ، ويكون التكليف قابلا للتعلق بنفس المسبب لكونه مقدورا بالواسطة ، ويكون السبب مقدمة لذلك المسبب.

قلت : ولكن يمكن التأمل في هذا التقسيم ، فان الظاهر أنه ليس لنا في الأفعال القابلة للتكليف ما يكون من قبيل النحو الثاني ، بل الظاهر أن جميع ما يكون من الأفعال علة لفعل آخر لا يكون إلاّ من قبيل العناوين الأولية والثانوية ، حتى في مثل المثال الذي مثّل به في ذلك المقام أعني شرب الماء لرفع العطش ، فانه من قبيل العناوين الأولية والثانوية. نعم يمكن لحاظ رفع العطش اسم مصدر ويعبّر عنه بارتفاع العطش ، فيكون غير متعدّ فيقال إنه حينئذ مباين للشرب ، وهكذا الحال في نسبة الالقاء إلى الاحتراق.

وبالجملة : أن ذلك المسبب إن لوحظ بما أنه اسم مصدر كان مباينا لكن لم يصح تعلق التكليف به ، لا لأجل أنه غير مقدور بل لأجل أنه لا يقع

ص: 92


1- أجود التقريرات 1 : 361 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 319 - 320 من الطبعة الحديثة.

موردا للارادة الفاعلية ، وإن لوحظ بما أنه مصدر بأن لوحظ فيه جهة الاصدار كان عنوانا ثانويا متحدا مع العنوان الأولي ، حتى في مثل الكون في المحل المغصوب بالنسبة إلى الحركة الأخيرة التي يعقبها الكون ، وحتى في مثل جريان الماء في الأرض المغصوبة بعد إجرائه على اليد ثم على الأرض المملوكة ثم منها إلى الأرض المغصوبة.

ثم لو سلّمنا ما أفاده قدس سره من المباينة فلا دليل على حرمة المقدمة وإنما الحرام هو ذو المقدمة لفرض كونه مقدورا بالواسطة ، أما حرمة نفس الواسطة فلا دليل عليها ، وما أفاده قدس سره من سراية الحرمة منه إليها لم أتوفق لمعرفة الوجه فيه بعد فرض أن الحرمة تعلّقت به أوّلا.

وبالجملة : بناء على المباينة فاما أن نقول بتوجه الحرمة أوّلا إلى المقدمة لأنها هي المقدورة فلا يكون لذيها حكم أصلا ، وإما أن نقول بتوجه الحرمة إلى ذي المقدمة لكونه مقدورا بالواسطة ، فذلك لا يوجب سراية تلك الحرمة النفسية إلى الواسطة ، وأما حرمتها الغيرية فلا دليل عليها إلاّ بدعوى كون ترك ذيها واجبا ، وتوقف ذلك الواجب على ترك تلك المقدمة.

وأما الكلام في القسم الأول وهو ما يتوسط فيه اختيار المكلف لكنه عند فعل المقدمة يعلم أنه لا ينزجر عن فعل ذيها أو أنه قابل لأن ينزجر فعلى الظاهر أنه لا يوجب الحرمة الشرعية النفسية لنفس المقدمة على وجه يترتب عليه العقابان لو فعل ذا المقدمة ، أما الحرمة الغيرية فقد عرفت الحال فيها. نعم في الصورة الأولى منهما يلزمه بحكم العقل ترك المقدمة بخلاف الثانية ، وليس فيها إلاّ العزم على المعصية ، فلاحظ وتأمل.

ص: 93

[ مبحث الضد ]

قوله : أما المقام الأول فربما يدعى فيه أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ... إلخ (1).

الذي ينبغي في المقام أوّلا هو تذكر ما مضى (2) من أن الوجوب هل هو مركب من طلب وجود الشيء مع المنع عن تركه ، أو أنه عبارة عن نفس الطلب البسيط.

ثم بعد هذا يتذكر النزاع الآتي (3) في أن النهي هل هو من مقولة الطلب أو أنه عبارة عن المنع والزجر عمّا تعلق به فعلا كان أو تركا. وعلى تقدير كونه من مقولة الطلب هل الفرق بينه وبين الأمر بالمتعلق ، بأن يكون متعلق الطلب في الأمر هو إيجاد المتعلق وفي النهي هو ترك المتعلق ، أو أن الفرق بينهما في حدّ أنفسهما مع وحدة المتعلق بأن يكون المتعلق فيهما واحدا وإنما الاختلاف واقع بينهما ، فالأمر عبارة عن نفس طلب إيجاد المتعلق والنهي عبارة عن طلب ترك المتعلق؟

أقوال أو وجوه ثلاثة في الفرق بين الأمر والنهي ، فلو لاحظنا الوجهين في تفسير الأمر وأنه هل هو بسيط أو مركب يحصل لنا وجوه ستة ، بعضها صحيح يمكن القول به وبعضها باطل لا يمكن القول به ونحن إذا دخلنا في هذه المسألة أعني مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده

ص: 94


1- أجود التقريرات 2 : 6.
2- في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، صفحة : 349 وما بعدها.
3- راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 3 - 4.

العام بمعنى الترك أو عدم اقتضائه ، وعلى تقدير الاقتضاء هل أنه على نحو العينية أو أنه على نحو التضمن أو أنه على نحو اللزوم بأحد نحويه من اللزوم البيّن وغير البيّن بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم ، فعلينا تنقيح مسلكنا في المسألة أعني مسألة بساطة الوجوب وتركبه ، ومسألة الفرق بينه وبين النهي.

فلو كان مختارنا هو بساطة الوجوب وكون النهي من مقولة الردع والزجر الناشئ من المفسدة في الفعل ، يتعين علينا إنكار الاقتضاء بقول مطلق ، وليس لمن اختار التركب في الوجوب الايراد علينا بأنه يدل على المنع من الترك بالتضمن. وكذلك الحال لو قلنا بأن مفاد الأمر هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، وقلنا إن النهي من مقولة المنع والردع ، كان لازمه كون الأمر بالشيء دالا على النهي عن تركه بالدلالة التضمنية ، وهكذا الحال في باقي الأقوال في المسألتين السابقتين إذا التزم بمسلكه فيهما بما يقتضيه هنا ، ليس لنا الرد عليه بمقتضى مسلكنا ، نعم يمكننا المناقشة معه في أصل مبناه في المسألتين السابقتين ، ومحل تلك المناقشة هو المسألتان لا هاهنا فلاحظ وتأمل.

قوله : فطلب ترك الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما إنما هو بحسب المفهوم فقط ... الخ (1).

هذا هو الحجر الأساسي في هذا القول ، ومبناه على بساطة الوجوب وعلى أن النهي عبارة عن طلب الترك ، فلا يكون طلب وجود الشيء إلاّ عين طلب ترك ترك ذلك الشيء ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد وهو

ص: 95


1- أجود التقريرات 2 : 6.

طلب الفعل ، يعبّر عنه تارة بوجوب الفعل واخرى بحرمة ترك (1) ذلك الفعل ، والمستفاد من الثانية عين المستفاد من الاولى وبالعكس ، وهذا بخلاف دعوى الملازمة فان البناء عليها يوجب التعدد ، غايته أن أحد الحكمين يلزمه الحكم الآخر ، فتكون هناك إطاعتان وعصيانان. ولا يخفى ما فيه من كونه مما يقطع بخلافه.

وأما ما افيد من قياس الارادة التشريعية بالارادة التكوينية فعلى الظاهر أنه أجنبي عن دعوى الاتحاد والعينية ، وعلى كل حال لو كانت مناقشة فانما هي في أن النهي ليس من سنخ الطلب المتعلق [ بالترك ](2) ليكون محصل تعلقه بالترك هو طلب ترك الترك ليكون عين الأمر بذلك الشيء ، أما بعد تسليم ذلك فلا مجال للمناقشة معه بما أفاده شيخنا قدس سره من أنه ربما يغفل الآمر بالشيء عن تركه فضلا عن ترك تركه (3) ، كما لا مجال للمناقشة معه بما في الحاشية (4) من أنه قول لا محصّل له ، لأن القائل بذلك يعترف به وأنه عنده من قبيل أنت وابن اخت خالتك ، فلاحظ.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أنه يمكن أن يقال : إنا وإن قلنا بأن النهي من مقولة الردع والزجر فلا يكون بين الأمر بالشيء وبين النهي عن تركه اتحاد ولا تلازم ، إلاّ أنا نقول إن الأمر بالشيء هو عين طلب ترك تركه. وإن شئت فقل : إن الأمر بالشيء هو عين الأمر بترك تركه ، ولا يكون ذلك إلاّ من قبيل أنت وابن اخت خالتك ، إلاّ أنه لا يترتب عليه أثر عملي حتى في

ص: 96


1- [ في الأصل : بحرمة ترك ترك ذلك ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- [ لاحظ أجود التقريرات 2 : 6 ، فان المذكور فيها : ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به وكذا في الطبعة القديمة. ولعل ما ذكره قدس سره هنا منقول من تقريراته المخطوطة ].
4- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 6.

الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان الأمر بأحدهما كالحركة وإن كان هو عين الأمر بترك ترك الحركة ، إلاّ أن ترك الحركة ليس هو نفس السكون كي يكون ذلك موجبا لكون السكون مطلوب الترك فيفسد لو كان عبادة. نعم إن ترك الحركة ملازم للسكون فلا يكون ترك ترك الحركة عين ترك السكون كي يكون طلب ترك ترك الحركة عين طلب ترك السكون ، وقد تقرر في محله (1) أن حكم الشيء لا يسري إلى ملازمه.

ومنه يظهر لك الحال في الضدين اللذين لهما ثالث لو اريد أحد الأضداد الوجودية ، فان كلي أحد الأضداد ليس هو عين ترك الضد المأمور به بل هو ملازم له ، وقد عرفت أن الحكم لا يسري من الشيء إلى ملازمه ، هذا. مضافا إلى أن مفهوم أحد الأضداد ليس هو عين كل واحد منها كي يقال إنه لو كان مطلوب الترك لكان كل واحد مطلوب الترك.

قوله : بتقريب أن عدم العدم وإن كان مغايرا للوجود مفهوما إلا أنه عينه خارجا ، لما عرفت سابقا ... إلخ (2).

قبل الشروع في هذه المسألة أعني كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الترك ينبغي تقديم مقدمتين : الأولى راجعة إلى شرح حقيقة الوجوب ، وقد تقدم في أول الأوامر (3) أنه بسيط لا تركيب فيه ، وإنما التركيب في ناحية الاستحباب وأنه طلب الفعل مع تجويز الترك ، أما الوجوب فيكفي فيه صرف الطلب عاريا من انضمام تجويز الترك ، لا أنه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك.

ص: 97


1- أجود التقريرات 2 : 7.
2- أجود التقريرات 2 : 6.
3- في صفحة : 349 وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

المقدمة الثانية راجعة إلى شرح حقيقة التحريم ، وسيأتي في محله (1) إن شاء اللّه تعالى أنه عبارة عن المنع عن الشيء والزجر والردع عنه الناشئ عن مفسدة في ذلك الشيء ، سواء كان ذلك الشيء المشتمل على المفسدة هو الفعل أو كان هو الترك ، بخلاف الوجوب فانه طلب الشيء الناشئ عن صلاح فيه ، سواء كان ذلك الشيء فعلا أو كان تركا.

وقيل : إن النهي والتحريم من مقولة الطلب كالوجوب ، غير أن الطلب في باب الوجوب متعلق بالفعل وفي باب النهي متعلق بالترك. نعم على هذا القول يمكن أن يقال : إن الطلب المتعلق بالترك إن كان ناشئا عن صلاح في الترك كان من قبيل إيجاب الترك ، وإن كان ناشئا عن مفسدة في الفعل كان من قبيل التحريم.

وبعد هاتين المقدمتين نقول : إنه لو قلنا بأن الأمر الوجوبي مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، كان الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الردع عن الترك على نحو التضمن ، لكن قد عرفت بساطة الأمر الوجوبي وأنه غير مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، أما لو أخذنا النهي بمعنى طلب الترك فلا وجه لكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن تركه أعني طلب تركه بالتضمن حتى لو قلنا بأنّ الأمر الوجوبي مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك ، اذ لا دخل للمنع من الترك بطلب الترك.

وكيف كان ، فنحن بعد أن قلنا ببساطة الأمر الوجوبي لا يبقى وجه لدعوى كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام بمعنى الترك بالتضمن.

ص: 98


1- لاحظ المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 3 - 4.

وأما دعوى العينية فلا وجه لها أيضا بناء على كون النهي من مقولة الردع والزجر ، وأما بناء على كونه من قبيل طلب الترك فقد يقال بالعينية نظرا إلى أن طلب ترك الترك عين طلب الفعل خارجا وإن اختلفا مفهوما أعني أن الحكم في مقام الثبوت واحد ، تارة يعبّر عنه بعبارة واضحة وهي وجوب الفعل أو طلبه أو الأمر به ونحو ذلك ، واخرى يعبّر عنه بعبارة بعيدة المسافة وهي طلب ترك تركه أو النهي عن (1) تركه بمعنى طلب ترك تركه ، وهذا مطلب لا نزاع فيه.

وحينئذ فما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : وفيه أن محل الكلام هو أنه إذا تعلق الأمر بشيء فهل هو بعينه نهي عن الترك أم لا ، لا أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهي عن الترك فهل هما متحدان أم لا ، والدليل إنما يكفي للاتحاد في المقام الثاني لا الأول ... إلخ (2) لا يخلو عن تأمل ، فانه بعد تسليم الوحدة في مقام الثبوت يكون ذلك الحكم الواقعي المحقق في مقام الثبوت قابلا لأن يعبّر عنه بكل من العبارتين ، ولا يضر في ذلك غفلة الآمر عن الترك ، فان كل أمر واقعي صالح لأن يعبّر عنه بعبارتين - مثل الشخص الذي هو عالم وهاشمي - لا يضر في دعوى وحدته وصلاحية التعبير عنه بكل من العبارتين غفلة المعبّر عن إحدى العبارتين ، فان زيدا بعد أن كان هو عين ابن [ اخت ](3) خالته لا يضر بهذا الاتحاد والعينية الغفلة عن خالته حينما نخبر عنه فنقول زيد قائم.

وأما دعوى الاقتضاء بمعنى الالتزام ، فان كانت بالاضافة إلى النهي

ص: 99


1- [ في الأصل هنا زيادة : « ترك » حذفناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 2 : 6 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

بمعنى طلب ترك الترك فقد عرفت الاتحاد بينهما والعينية ، فلا وجه لدعوى الملازمة لأنها تستدعي الاثنينية ، وإن كانت بالاضافة إلى النهي عن الترك بمعنى الردع والزجر عنه الناشئ عن مفسدة فيه ، ففيه المنع من اللزوم بكل معانيه ، وإلاّ لكان الأمر بالشيء عبارة عن تكليفين وجوب الفعل وحرمة الترك ، وكان الاستحباب بمعنى طلب الفعل وكراهة الترك ، وهكذا ، بحيث يكون تارك الواجب عاصيا لتكليفين.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما افيد من الدلالة الالتزامية سواء كانت بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو البيّن بالمعنى الأعم ، فانه بعد فرض عدم الملازمة بين الحكمين واقعا وفي مقام الثبوت كيف يمكن القول بها في مقام الدلالة والاثبات ، فتأمّل.

ثم لا يخفى أن هذه العينية المدعاة بين الأمر بالشيء وبين طلب ترك تركه لا تكون ناشئة إلاّ عن ملاك واحد وهو الصلاح في الفعل ، لا أنه يكون الأمر بالشيء الناشئ عن الصلاح فيه عين طلب ترك تركه الناشئ عن مفسدة في تركه ، وإلاّ لكان لنا في مقام الثبوت حكمان أحدهما الوجوب وطلب الفعل الناشئ عن صلاح في ذلك الفعل ، والثاني النهي والتحريم المعبّر عنه بطلب ترك ترك ذلك الشيء الناشئ عن مفسدة في ترك ذلك الشيء ، وحينئذ لا يعقل الاتحاد بينهما في مقام الثبوت ، ولا يكونان من باب الاختلاف في مجرد التعبير ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إن وجوب الصلاة مثلا لا يتضمن إلاّ طلب وجودها ، وهو لا تعرض فيه لعدمها وتركها ، وكذلك لا تعرض فيه لترك تركها ، فلو ورد النهي عن تركها الذي هو عبارة عن طلب ترك تركها كان ذلك طلبا آخر مفاده طلب ترك تركها ، نعم إن ترك تركها ينطبق على فعلها

ص: 100

خارجا لا أنه عين فعلها ، فأقصى ما في البين هو كون الصلاة بنفسها مطلوبة الوجود بواسطة تعلق الأمر بها ، كما أنها مطلوبة الوجود أيضا بواسطة انطباق ترك تركها الذي هو المطلوب بالنهي عن تركها ، وهو أعني ترك تركها منطبق على وجودها ، فيجتمع في وجودها الطلبان ، أما إذا لم يكن في البين إلاّ مجرد الأمر بفعلها ولم يصدر من الشارع النهي عن تركها الذي هو عبارة عن طلب ترك تركها فلا يكون الطلب الثاني متحققا ، وليس الطلب الأول عين الطلب الثاني ولا أنه ملازم له ، ولعل هذا هو المراد مما أفاده بقوله في هذا التحرير : إن محل الكلام إنّما هو ... إلخ ، حيث إن التفرقة بين المقامين عبارة اخرى عن هذا التفصيل الذي حررناه.

وحاصل مراده قدس سره : هو أن الحاكم في مقام جعل الوجوب للقراءة مثلا لا نظر له إلى تركها ، ولو سئل عن تركها وأنه ما حكمه فلعله فعلا لا يحكم عليه بشيء ، وهكذا الحال بالنسبة إلى ترك ذلك الترك ، فانه في مقام جعل الوجوب للقراءة ليس له نظر إلى جعل حكم لتركها ولا لترك تركها سواء كان ذلك الحكم القابل للجعل لترك الترك هو عين الوجوب الذي جعله للقراءة أو مثله أو يخالفه ، ثم بعد هذا لو صدر منه قوله يحرم عليك ترك القراءة بناء على أن مفاد الحرمة والنهي هو طلب الترك ، وهذا أعني طلب الترك يكون قد علّقه بالترك ، فيكون الحاصل هو طلب [ ترك ](1) ترك القراءة ، كان اللازم علينا النظر في هذا القول منه هل هو تأكيد لقوله الأول أعني قوله تجب القراءة ، فلا يكون في البين حكم جديد كي نقول إنه متحد مع الحكم الأول ، بل يكون كأنه قال مرة ثانية تجب القراءة غير أنه

ص: 101


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

بعبارة اخرى ، أو أن هذا القول الثاني صدر منه تأسيسا لحكم جديد وهو جعل الطلب وإيراده على ترك ترك القراءة ، وحينئذ يكون هذا الحكم غير الأول وليس هو عينه بل ولا ملازمه. نعم إن هذا الحكم يجتمع مع الحكم الأول في نفس القراءة فتكون واجبة باعتبار نفسها حيث إنها قد امر بها كما أنها واجبة باعتبار كونها مصداقا لترك تركها ، وهذا الوجه الثاني لقوله الثاني في غاية البعد ، فانه وإن كان الأصل يقتضي التأسيسية إلاّ أن التأسيس لا أثر له ، حيث إنه لا أثر حينئذ لقوله الثاني إلاّ الالزام بفعل القراءة ، وهو حاصل بقوله الأول أعني إيجاب القراءة.

لا يقال : إن قوله الثاني وهو قوله : يحرم عليك ترك القراءة ، لو حملناه على التأسيس لا يكون عبثا بلا فائدة ، لأنه إذا حرم ترك القراءة فقد حرم كل فعل مضاد للقراءة ، سواء كان ذلك الفعل بالنسبة إلى القراءة من الضدين اللذين لا ثالث لهما أو كان لهما ثالث ، وإنما يحرم ذلك الفعل لكونه مصداقا لترك القراءة المفروض حرمته ، فلو كان ذلك الفعل عبادة بأن ترك القراءة واشتغل بالصلاة كانت تلك الصلاة فاسدة.

لأنا نقول : إن حرمة ترك القراءة لا توجب حرمة الفعل الذي أوجده في حال ترك القراءة لعدم الاتحاد ، وإنما هو من مجرد المقارنة لو كان لهما ثالث أو الملازمة إن لم يكن لهما ثالث ، ولا تسري الحرمة إلى المقارن ولا إلى الملازم ، فان سريان الحكم إلى المقارن هو عين شبهة الكعبي (1) فلاحظ.

وحينئذ يكون المتعين في القول الثاني هو الوجه الأول أعني التأكيد لقوله الأوّل ، لكن هذا لا يوجب أن يكون لقوله الأول أعني قوله : تجب

ص: 102


1- لمزيد الاطلاع عن هذه الشبهة راجع أجود التقريرات 2 : 20 ، والفصول الغروية : 88 ، وهداية المسترشدين 2 : 233.

القراءة اقتضاء لأزيد من وجوب القراءة ، بأن يكون مقتضيا لطلب ترك ترك القراءة ، سواء كان ذلك الاقتضاء المدعى من قبيل الاتحاد والعينية أو كان من قبيل التلازم والاثنينية ، بل ينبغي الجزم بعدم ذلك.

أما الاتحاد فلأن محصّله هو كون الثاني مؤكدا للأوّل كما عرفت ، وهذا أعني التأكيد إنما يكون فيما لو افيد بجملة اخرى بعد الجملة الاولى ، ولا يعقل تحقق هذا التأكيد للجملة الاولى بنفس الجملة الاولى.

وأما دعوى الاثنينية والتلازم فقد التزم بها شيخنا قدس سره (1) ، لكن لا يبعد المنع عنها لعدم الملازمة بين الحكمين. مضافا إلى أن هذا الملازم الثاني لا فائدة فيه ، لما عرفت من كون نتيجته اجتماع الوجوبين على نفس القراءة وليس ذلك من قبيل وجوب المقدمة اللازم لوجوب ذيها ، فان ذلك وإن لم يكن يستتبع عقابا ولا ثوابا إلاّ أنه وجوب آخر متعلق بعمل آخر ، فلا بأس بالقول بكونه لازما للأول الذي هو وجوب ذي المقدمة ، وهذا بخلاف الوجوب الثاني الوارد على القراءة بواسطة النهي عن تركها فانه لا يكون إلاّ لغوا صرفا.

والخلاصة : هي أن الحكمين بعد فرض كونهما حكمين لا يعقل اتحادهما ، وأقصى ما في البين هو اجتماعهما ، ولو كانا مثلين كان أحدهما مؤكدا للآخر لاندكاك أحدهما بالآخر. نعم يمكن إبراز الحكم الواحد بعبارتين ، ولكن ذلك كله إنما يتأتى فيما لو صدر كلتا العبارتين ، أما لو لم يكن في البين إلاّ العبارة الاولى فهي خارجة عن ذلك ، إذ ليس في البين حكمان ولا عبارتان.

ص: 103


1- أجود التقريرات 2 : 7.

نعم ، لو أبدلنا الترك بالنقيض وقلنا إن وجود الصلاة هو نقيض عدمها وإذا تعلق النهي بهذا النقيض الذي هو عدم الصلاة كان مفاده هو طلب نقيض ذلك العدم ، فيكون المطلوب بالنهي هو نقيض العدم الذي هو نقيض وجود الصلاة ، فيكون المطلوب به هو نقيض نقيض الصلاة ، ومن الواضح أن نقيض نقيض الصلاة هو نفس الصلاة ، فيكون هذا النهي عين ذلك الأمر لا أنه حكم آخر ، فلاحظ وتدبر. هذا كله في الوجوب المتعلق بالفعل.

أما لو كان الوجوب متعلقا بالترك كما لو قال يجب ترك الغيبة مثلا بناء على أن الوجوب هو عبارة عن طلب متعلقه ، سواء كان المتعلق هو الفعل كما في وجوب الصلاة أو كان هو الترك كما في وجوب ترك الغيبة فهذا الوجوب المتعلق بترك الغيبة هو عين النهي المتعلق بالغيبة بناء على أن مفاد النهي هو طلب ترك المتعلق ، فيكون مفاد النهي عن الغيبة هو طلب ترك الغيبة ، وهو عين مفاد وجوب ترك الغيبة الذي هو عبارة عن طلب ترك الغيبة ، فكان أحدهما عين الآخر ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد وهو طلب ترك الغيبة ، يعبّر عنه تارة بوجوب ترك الغيبة واخرى بحرمة الغيبة والنهي عنها.

قوله : بداهة أن الآمر بالشيء ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به ... إلخ (1).

لا يخفى أنا إذا جوّزنا غفلة الآمر عن ترك الترك كان لازم ذلك هو القول بأن الأمر بالشيء لا يلزمه طلب ترك تركه ، وحينئذ فكيف يصح لنا

ص: 104


1- أجود التقريرات 2 : 6.

أن ندعي أن الأمر بالشيء يدل على طلب ترك تركه بالالتزام.

اللّهمّ إلاّ أن نقول : إن الأمر بالشيء يلزمه طلب ترك تركه قهرا على الآمر وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك اللازم ، كما قيل في باب المقدمة من أن الأمر بالشيء يلزمه الأمر بما يتوقف عليه وجود ذلك الشيء ، وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك التوقف.

وهكذا الحال فيما لو أخذنا النهي بمعنى الردع والزجر نقول إن الأمر بالشيء يلزمه قهرا المنع والردع عن تركه ، وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى تركه ، وحينئذ يكون الأمر بالشيء دالاّ بالدلالة الالتزامية على المنع عن ضده العام الذي هو تركه ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بكون هذا اللزوم بيّنا بالمعنى الأخص ، أو نقول بكونه بينا بالمعنى الأعم ، أو نقول بأنه لزوم غير بيّن ، لكن كل ذلك فرع عما ذكرناه من أن النهي عن ترك ذلك الشيء المأمور به لازم قهري للأمر به وإن لم يكن الآمر ملتفتا إلى ذلك.

إلاّ أن هذا المقدار من النهي القهري لا يمكن عدّه من الأحكام الشرعية بحيث يكون ترك ذلك المأمور به من جملة المحرمات الشرعية على وجه يكون وجوب الشيء منحلا إلى حكم صريح أوّلي وهو وجوب الشيء المذكور ، والآخر ثانوي لازم قهري للأوّل وهو تحريم تركه ، بحيث إنه لو تركه يكون مستحقا لعقابين ، أحدهما على عدم الاتيان بالواجب ، والآخر على الاتيان بما هو حرام شرعا وهو ترك ذلك الواجب.

وهنا أمر ينبغي الالتفات إليه وهو أنا لو سلّمنا أن الأمر بأحد النقيضين يلزمه النهي عن النقيض الآخر ، فلم لا نقول بأن النهي عن أحد النقيضين يلزمه الأمر بالنقيض الآخر ، سواء قلنا بأن النهي من مقولة الردع أو قلنا بأنه من مقولة طلب الترك.

ص: 105

أما الأوّل فلأن النهي عن شرب الخمر بمعنى الردع عنه يلزمه الأمر بنقيضه الذي هو ترك الشرب. وأما الثاني فلأن النهي عن شرب الخمر بمعنى طلب تركه يلزمه الأمر بتركه ، على حذو ما قلنا في أن الأمر بالشيء يلزمه النهي عن نقيضه. ويزيد الطين بلة لو سرينا هذا التلازم إلى الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بدعوى أن (1) أحدهما وإن لم يكن نقيضا صريحا للآخر إلاّ أنه ملازم لما هو النقيض كما افيد ذلك في ص 211 (2) وحينئذ يتحرج الموقف في الضدين اللذين لهما ثالث ، فانهما راجعان إلى الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، فان كل واحد من الأضداد الوجودية وإن لم يكن بالقياس إلى الضد المأمور به من الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، إلاّ أن الجامع بين جميع الأضداد الوجودية بالنسبة إلى ذلك الضد المأمور به من الضدين اللذين ليس لهما ثالث.

وما أفاده شيخنا قدس سره (3) من الجواب عنه - أوّلا : بأن الجامع هو مفهوم أحد الأضداد ، وهو أمر انتزاعي لا واقعية له إلاّ نفس كل واحد من الأضداد الخاصة على البدل. وثانيا : بأنه لو سلّمنا كونه متأصلا لم تكن مناقضته لما هو المأمور به سارية إلى كل واحد من أفراده - لا يخلو من تأمل كما حررناه فيما علّقناه في هذا المقام على تحريراتنا ، فراجعه بما حرره عليه قدس سره بقلمه الشريف (4).

والحاصل : أن الأمر بفعل خاص كالازالة موجب لكون ذلك الفعل

ص: 106


1- [ في الأصل هنا زيادة : عدم ، حذفناه للمناسبة ].
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 : 9 من الطبعة الحديثة.
3- أجود التقريرات 2 : 9.
4- مخطوط لم يطبع بعد.

الخاص واقعا تحت الطلب ، فيكون لازم ذلك هو النهي عن نقيضه وعمّا هو ملازم لنقيضه ، أعني ضده الذي هو مطلق الفعل الجامع بين جميع الأفعال المقابلة للازالة حتى السكون ، وذلك الضد الذي هو مطلق الفعل غير الازالة يكون ضدا للازالة ، وهما لا ثالث لهما ، فيكون ذلك الضد الذي هو مطلق الفعل منهيا عنه ، فيسري النهي إلى كل واحد من مصاديقه ، كما هو الشأن في كل نهي متعلق بالطبيعة. والتفكيك بين الكلي بكونه منهيا عنه لكونه هو بمنزلة النقيض لما هو المأمور به والمصداق لذلك الكلي بكونه غير منهي عنه لعدم كونه بمنزلة النقيض لما هو المأمور به ، وإن كان صحيحا بالقياس إلى خصوصية المصداق ، بمعنى خروج الخصوصية عن ملاك النهي ، إلاّ أن ذلك المصداق باعتبار كونه متحدا مع نفس الكلي - أعني مطلق الفعل المعاند للمأمور به - يكون منهيا عنه ، لكونه بذلك الاعتبار أعني اعتبار اتحاده مع ذلك الكلي عين ذلك الكلي. والخصوصية اللاحقة وإن كانت ضدا أيضا للازالة ، وكانت هذه الضدية بين الازالة وذلك الخاص من قبيل ما يكون لهما ثالث ، إلاّ أن اجتماع الخصوصية مع الطبيعة من قبيل المقتضي واللامقتضي ، هذا حاصل ما كنّا حررناه.

ولكن لا يخفى أن وجود الطبيعة المعاند للازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها - أعني عدم الازالة - إنما هو الطبيعة بتمام أفرادها ، فان تمام أفراد ما عدا الازالة يكون هو الضد لها ، ويكون تمام أفراد ما عدا الازالة مع الازالة نفسها من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لكونه أعني جميع ما عدا الازالة هو المتحد مع نقيض الازالة أعني عدمها ، ويكون ذلك الجميع هو المنهي عنه بواسطة الأمر بالازالة ، ومن الواضح أن جميع تلك الأفراد

ص: 107

لا ينطبق على الحصة الموجودة في الصلاة أو على الفرد الخاص من أفراد ذلك الجميع.

والحاصل : أن الوجود المساوق لعدم الازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها الذي يكون الأمر بالازالة ملازما للنهي عنه إنما هو تمام أفراد ما عدا الازالة ، فان هذا التمام بالنسبة إلى الازالة هو الذي يكون مع الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لا الفرد من تلك الطبيعة الكلية المعبّر عنها بما عدا الازالة ، فتأمل.

والحاصل : أن نقيض المأمور به أعني عدمه إذا لم يكن له ما يتحقق به ويتحد معه خارجا إلاّ وجود ضده كما في الحركة والسكون كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وكان الأمر بالحركة يلزمه النهي عن السكون لكون السكون حينئذ متحدا مع عدم الحركة ، لأن عدم الحركة ليس له ما يتحقق معه إلاّ السكون ، أما الازالة بالنسبة إلى طبيعة ما عداها فليسا من هذا القبيل إلاّ إذا اخذ طبيعة ما عدا الازالة بمعنى جميع ما عدا الازالة ، فان ذلك أعني جميع أفراد ما عدا الازالة ليس لعدم الازالة ما يتحقق به غير تمام تلك الأفراد ، فيكون تمام تلك الأفراد بالنسبة إلى الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، أما أحد تلك الافراد أو طبيعة تلك الافراد أعني طبيعة ما عدا الازالة بمعنى صرف الطبيعة أعني الكلي الطبيعي من الأفعال المقابلة للازالة فليس تقابله للازالة من تقابل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل هما من الضدين اللذين لهما ثالث ، أما مفهوم أحد تلك الأفعال فواضح ، وكذلك صرف الطبيعة من تلك الأفعال فانه ينطبق على بعضها ، وليس مقابلة ذلك البعض مع الازالة من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل هي من قبيل

ص: 108

الضدين اللذين لهما ثالث ، وهو صرف الطبيعة الحالة في البعض الآخر فتأمّل (1).

والخلاصة : هي أن من يقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر ، لا يقول به فيما لو كان اللازم أعم من الملزوم كما في باب الازالة وترك الصلاة ، فان ترك الصلاة لازم أعم من فعل الازالة لتحققه بالنوم مثلا فلا يسري الحكم من الازالة إلى ترك الصلاة من جهة التلازم ، نعم فيما لو كان المتلازمان متساويين سرى الحكم من أحدهما إلى الآخر ، كما في ترك أحد الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كما لو أمره بالاجتماع فان وجوبه يسري إلى ملازمه الذي هو ترك الافتراق ، كما أن الحكم من ترك الافتراق يسري إلى ملازمه المساوي الذي هو الاجتماع ، فكأنهم قاسوا التلازم بحسب الوجود على التلازم في الصدق كما في الإنسان والناطق فان الحكم من أحدهما يسري إلى الآخر ، بخلاف ما لو كان أحدهما أعم مطلقا من الآخر فلا يسري الحكم من الإنسان إلى ما هو أعم منه الذي هو الحيوان ، ومن هذه الجهة انفتح باب الاشكال في الضدين اللذين لهما ثالث كما في الازالة والصلاة ، بأن لا نأخذ المقابل للازالة نفس الصلاة بل نأخذ مقابلها ما عدا الازالة ، فيكون هذا الضد الذي هو ما عدا الازالة بالنسبة إلى نفس الإزالة من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فيكون الوجوب الطارئ على الازالة

ص: 109


1- وينبغي الضرب على ما حررناه أخيرا من قولنا : « و [ لكن ] لا يخفى أن وجود الطبيعة المعاند للازالة الذي يكون متحدا مع نقيضها أعني عدم الازالة إنما هو الطبيعة بتمام أفرادها - إلى قولنا - وهو صرف الطبيعة الحالة في البعض الآخر فتأمل ». فان صرف طبيعة ما عدا الازلة متحد مع عدم الازالة ، فمع حرمة عدم الازالة يكون صرف الطبيعة حراما ، وحيث إن صرف الطبيعة صار حراما ، وهو منطبق على هذا الفرد الذي هو الصلاة ، كان ذلك موجبا لحرمة الصلاة ، ولو انطبق على النوم كان النوم حراما أيضا. [ منه قدس سره ].

ساريا إلى ترك ما عدا الازالة ، فيكون ترك ما عدا الازالة واجبا ، ومن جملة ما عدا الازالة نفس الصلاة فيكون تركها واجبا ، كما وجب ترك الافتراق عند وجوب الاجتماع.

وملخص الجواب عن ذلك هو أن يقال : إنا لا نقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر ، وإنما نقول بوجوب ترك الضد الذي لا ثالث معه ، لا من جهة الملازمة بل من جهة ما ذكرناه في حرمة الضد العام الذي هو الترك ، لا من جهة العينية بل من جهة الملازمة بين وجوب الفعل وحرمة (1) تركه ، فان التلازم من قبيل التلازم بالمعنى الأخص ، والانتقال من حرمة ترك الفعل إلى حرمة ضده الذي لا ثالث له من قبيل التلازم بالمعنى الأعم ، وهذا المقدار من التلازم ليس بمتحقق بين حرمة ترك الفعل وبين حرمة طبيعة ما عدا الفعل.

ولا يخفى أن هذا التلازم المدعى في الضد العام بمعنى الترك إن كان هو بين نفس الفعل وتركه فلا يخفى المنع منه ، ولأجل ذلك قال : بداهة أن الآمر بالشيء ربما يغفل عن ترك تركه فضلا عن أن يأمر به (2). وإن كان بين وجوب الفعل وحرمته فكذلك ، وأقصى ما في البين هو أن يدعى أن من أوجد وجوب الفعل يلزمه تحريم تركه ، وبناء على ذلك كان من الممكن إنكار العينية في الضد العام بمعنى الترك ، بل من الممكن إنكار الملازمة في ذلك. ومنه يتضح الوجه في إنكار التلازم في الضدين اللذين لا ثالث لهما فضلا عما لو كان لهما ثالث ، حتى لو أرجعناه إلى ما عدا المأمور به ليكونا من قبيل ما لا ثالث لهما ، فتأمّل.

ص: 110


1- [ في الأصل هنا زيادة : ترك ، حذفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 2 : 6.

ثم لا يخفى أنا لو تمّ لنا هذا أعني إلحاق أحد الأضداد الوجودية بالضدين اللذين لا ثالث لهما ، ولو تمّ ما افيد من إلحاق الضدين اللذين لا ثالث لهما بالنقيضين ، وتمّ ما افيد من أن الأمر بأحد النقيضين يلزمه النهي عن الآخر ، وتمّ ما ذكرناه من إلحاق النهي بالايجاب بحيث قلنا إن النهي عن الشيء يلزمه الأمر بنقيضه ، كانت شبهة الكعبي (1) قوية ، لأن النهي عن شرب الخمر مثلا يلزمه حينئذ إيجاب نقيضه الذي هو تركه وأحد الأضداد الوجودية من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وقد ألحقناهما بالنقيضين وقلنا إن حرمة أحدهما يلزمها إيجاب الآخر ، فتأمل. وهكذا الحال في وجوب أحد الضدين كالازالة يلزمه حرمة تركه وحرمة أضداده الوجودية.

وقد أورد المقرر في الحاشية (2) على التقرير بما هذا لفظه : ثم لا يخفى أنه على تقدير تسليم الدلالة الالتزامية في الضد الخاص فيما إذا لم يكن للضدين ثالث لا بدّ من تسليم الدلالة فيما إذا كان للضدين ثالث أيضا ضرورة أن ملاك الدلالة على النهي إنما هو استلزام وجود الشيء لعدم ضده ، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد ، وأما استلزام عدم الشيء لوجود ضده المختص بما إذا لم يكن للضدين ثالث فهو أجبني عن الملاك المزبور بالكلية ... الخ (3).

وفيه : ما لا يخفى ، فان ملاك الاستلزام المدعى إنما هو الثاني دون

ص: 111


1- تقدّم ذكر بعض مصادرها في الصفحة : 102.
2- من أول الشروع إلى هنا لم تكن هذه الحاشية واصلة إلينا ، وإنما وصلت إلينا عند وصول البحث إلى هذه الموارد 8 / ربيع الثاني / 1368 [ منه قدس سره ].
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 8.

الأوّل ، لأنّ المدعى إنما هو إلحاق الضدين [ اللذين ](1) ليس لهما ثالث بالنقيضين بواسطة كونهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فيكون (2) أحدهما بمنزلة النقيض للآخر ، وحيث قد تحقق أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن نقيضه كان الأمر بأحد هذين الضدين دالاّ على النهي عن ضده الآخر لكون ذلك الضد الآخر متحدا مع نقيض الضد المأمور به ، بحيث كان السكون - مثلا - الذي هو ضد الحركة المأمور بها متحدا مع عدم الحركة الذي هو نقيض الحركة المأمور بها ، فكان عدم الحركة المأمور بها الذي هو نقيض المأمور به مستلزما لوجود السكون ، فكان نقيض المأمور به مستلزما لوجود ضده الآخر ، لفرض أنه لا ثالث لهما.

وأما الاستلزام الأوّل أعني استلزام وجود المأمور به أعني الحركة لعدم الضد الآخر الذي هو السكون ، فليس هو ملاك استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده الآخر المفروض عدم الثالث لهما ، بل إنما ذلك الاستلزام هو عبارة اخرى عن دعوى المقدمية ، أعني استلزام وجود أحد الضدين المأمور به لعدم الآخر ، لأن وجود ذلك موقوف على عدم ذاك ، وليس ذلك هو الملاك فيما نحن فيه ، بل الملاك فيه هو ما عرفت من كون وجود الضد ملازما لنقيض المأمور به ، كي يكون حاله حال النقيض في أن الأمر به مستلزم للنهي عن نقيضه.

والحاصل : أن الدعوى إنما هي أن ضد المأمور به إذا لم يكن لهما ثالث يكون نقيض ذلك المأمور به أعني عدم المأمور به المفروض كونه منهيا عنه ملازما ومتحدا مع وجوده ، فيكون منهيا عنه لاتحاده مع عدم

ص: 112


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ في الأصل هنا زيادة : عدم ، حذفناه للمناسبة ].

المأمور به ونقيضه المنهي عنه ، وهذا هو الملاك في النهي المستفاد من الأمر بأحد الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان ملاكه إنما هو اتحاد نقيض المأمور به بما هو ضده ، فيكون الملاك هو ملازمة عدم أحدهما المفروض كونه مأمورا به لوجود الآخر ، وهذا بخلاف ملازمة وجود أحدهما المأمور به مع عدم الآخر ، فانه ليس هو ملاك إلحاق الضدين اللذين لا ثالث لهما بالنقيضين ، بل هو ملاك النهي عن الضد الخاص للمأمور به ، لتوقف وجوده على عدمه ، فيكون عدمه مقدمة لوجود الضد الآخر المأمور به ، فإذا وجبت الحركة وجب عدم السكون لكون عدمه مقدمة لوجود المأمور به أعني الحركة ، وإذا وجبت الازالة وجب ترك الصلاة لكون تركها مقدمة لوجود الازالة ، أو لكون وجود المأمور به أعني الحركة أو الازالة ملازما لعدم ضده أعني السكون أو الصلاة ، ومن الواضح أن كلا من هذين الوجهين لا دخل له بمحط كلمات شيخنا قدس سره من الالحاق بالنقيضين ، وإن كان أقصى ما يحصل من الالحاق هو تسرية الحرمة من نقيض المأمور به إلى ملازمه الذي هو السكون ، نظير تسرية الوجوب من الواجب الذي هو الحركة إلى ملازمه الذي هو عدم السكون ، فتأمل.

والانصاف : أن شيخنا قدس سره بقياسه الضدين اللذين لا ثالث لهما على المتناقضين ، وتطرقه المسألة من ناحية حرمة نقيض المأمور به إلى ضده الوحيد دون غير الوحيد قد طوّل المسافة ، فان جل غرض المستدل هو تسرية الوجوب من أحد الضدين إلى ملازمه في الوجود الذي هو عدم الآخر ، وجوابه هو المنع عن تسرية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر.

نعم ، لو كان المراد هو ملازمة وجود الضد غير المأمور به مع عدم الضد المأمور به واتحاده معه ، بحيث إنه لا يتحقق عدم المأمور به إلاّ مع

ص: 113

وجود ذلك الضد الآخر ، لكان راجعا إلى الأوّل ، وكان ذلك هو ملاك الالحاق المذكور ، لكنه حينئذ كان مختصا بالضدين اللذين لا ثالث لهما حيث إن ما يكون لهما ثالث لا يكون وجود غير المأمور به متحدا مع نقيض المأمور به على وجه يكون عدم ذلك المأمور به متحدا معه في الخارج.

قوله : بداهة أنه عند وجود أحد الضدين يستحيل وجود المقتضي للضد الآخر ، فعدمه مستند إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود الضد ... الخ (1).

لا يخفى أن هذا كله يدور على مطلب واحد وهو استحالة اجتماع المقتضيين ، فان هذا هو الذي أخذه قدس سره برهانا على منع المانعية من الطرفين ، بضميمة أن المانع إنما يكون مانعا إذا كان المقتضي للممنوع موجودا ، فلا يكون وجود أحد الضدين مانعا من الآخر ، لأنه حينئذ إنما يكون مانعا إذا كان مقتضي الآخر موجودا ، فيلزم منه أن يكون مقتضي الضد المعدوم الذي هو الممنوع مجتمعا مع مقتضي الضد الموجود الذي هو المانع ، وقد تحقق امتناع اجتماع المقتضيين.

ويمكن التأمل في ذلك أوّلا : باجتماع الارادتين من شخصين. وثانيا : بتأتي الاشكال في جميع الموانع ولو في غير الضدين ، فان المانع لا يعقل اجتماعه مع الممنوع لتنافيهما ، فيكون هذا التنافي موجبا للتنافي بين مقتضاهما ، فلا يعقل اجتماع مقتضي الممنوع مع ما هو مقتضي المانع ، فعند وجود مقتضي المانع يكون مقتضي الممنوع معدوما ، وعند انعدام مقتضي الممنوع لا يكون المانع مانعا.

ص: 114


1- أجود التقريرات 2 : 12 - 13.

ويمكن أن يقال : إن اجتماع مقتضي المانع مع ما هو مقتضي الممنوع لا مانع منه إذا لم تكن المانعية إلاّ من طرف واحد ، كما في مقتضي الاحراق وهو النار ومقتضي الرطوبة وهو الماء أو مقتضي الماء ، فانه لا مانع من اجتماعهما إذا فرضنا أن ما يقتضيه الماء وهو الرطوبة مانع مما تقتضيه النار وهو الاحتراق دون العكس ، فان الاحتراق الذي هو الممنوع ليس بمانع عن الرطوبة ، وهذا بخلاف ما لو كان التمانع من الطرفين فان اجتماع المقتضيين محال كاجتماع المتمانعين.

ولكنه أيضا لا مانع من اجتماع المقتضيين للضدين ، فان أقصى ما فيه أن يقع التزاحم بين المقتضيين ، فيكون المؤثر ما هو الأقوى منهما ، وإن تساويا لم يؤثر شيء منهما ، كما هو الحال في باب تزاحم الأمرين اللذين تعلق أحدهما بأحد الضدين وتعلق الآخر بالضد الآخر ، غايته أنه عند تزاحم الأوامر مع عدم وجود الأقوى يكون المكلف مخيّرا بين المتعلقين لا أنه يسقط الأمران معا على وجه يجوز له تركهما ، وسيأتي في كلام شيخنا قدس سره ما يدل على ذلك ، وذلك قوله في مقام الرد على المحقق الخونساري : ثم إنه كان من الواجب على المحقق الخونساري أن يمنع استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر ... إلخ (1).

أما ما تضمنته الحاشية من قوله في تصحيح اجتماع المقتضيين : لأن كلا من المقتضيين إنما يقتضي أثره في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر ... الخ (2).

ففيه : أنه لا ريب في أن كلا من المقتضيين إنما يقتضي أثر نفسه

ص: 115


1- أجود التقريرات 2 : 15.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 12.

ولا دخل له بأثر المقتضي الآخر ، ولكن الاشكال إنما جاء من اجتماعهما ، ومع تنافر أثرهما لا يمكن اجتماعهما إلاّ بنحو يكون أحدهما غالبا على الآخر ، وهذه جهة اخرى تصحح اجتماعهما ، إلاّ أن ذلك يخرج الأثرين عن التمانع ويوجب كون التمانع واقعا في المقتضيين ، بمعنى أن المانع هو غلبة المقتضي الغالب وذلك يوجب كون المانع هو وجود المقتضي الغالب. وإن شئت فلاحظ الأمر بالازالة والأمر بالصلاة ، فان كلا منهما وإن كان لا يقتضي إلاّ متعلق نفسه لكن لا يمكن اجتماع الأمرين ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال أن الأولى في الجواب هو إخراج باب متعلقات التكاليف عن حيّز هذه القواعد ، فانها أفعال اختيارية وينحصر المقتضي فيها بارادة المكلف ، ولا مانع ولا ممنوع في ذلك فتأمل. وأما غير الأفعال الاختيارية من الموانع والممنوعات التكوينية فيجاب عن مانعية أحد الضدين فيها لوجود الآخر بالاستحالة من ناحية كون المانع سابقا في الرتبة على الممنوع ، فيؤدي ذلك إلى تقدم كل منهما رتبة على نفسه. فراجع ما حررناه مفصلا في تحريراتنا (1).

ويمكن أن يقال : إن هذه الدعاوي لعله لا أساس لها ، حتى دعوى كون العلة مؤلفة من المقتضي والشرط وعدم المانع حتى في التكوينيات إذ لا مؤثر في الكون إلاّ إرادته تعالى ، وليس هناك مانعية ولا ممنوعية. ولو سلّمنا أنه تعالى أودع في الموجودات قوى بها يكون بعضها مؤثرا في بعض ، كان لنا أن نقول : وحينئذ تقع المسألة في حيّز تزاحم العلل وتقدم ما هو الأقوى ، حتى في مثل النار واحتراق الحطب ، فكما أن النار علة

ص: 116


1- صفحة : 321 [ منه قدس سره ] ويقصد به تحريراته المخطوطة.

لاحتراق الحطب فكذلك الماء علة في عدم احتراقه ، وحينئذ يكون المقدم هو الأقوى ، وعند وجود الأقوى يمتنع تأثير الضعيف ، فلو قلنا بالمانعية فانما هي قوة المقتضي على المقتضي الآخر ، لا أن وجود المعلول في هذا يكون مانعا من وجود المعلول في الآخر ، وشيخنا قدس سره (1) وإن ذكر مثل هذا في الضدين إلاّ أنه جار في كل مقتض ومانع ، بل قد عرفت أنه لا محصل للمانعية إلاّ قوة هذا المقتضي على المقتضي الآخر.

قوله : إلاّ أن لازمه إنكار أصل التوقف والمقدمية في المقام لا إنكار لزوم الدور ... إلخ (2).

إن قيل : إن حاصل ما أفاده قدس سره في المنع عن كون فعل أحد الضدين مقدمة لترك الآخر ، وكون ترك أحدهما مقدمة لفعل الآخر ، أن المقدمية المذكورة تتوقف على المانعية ، وهي أعني المانعية متوقفة على تحقق المقتضي وهو محال ، فتكون المقدمية المذكورة محالا ، والمراد بالمقتضي هنا هو الارادة المتعلقة بالفعل المدعى كون ترك ضده مقدمة له أو كون فعل ضده مقدمة لتركه ، فيلزم من ذلك أن تكون المقدمية متوقفة على إرادة ذي المقدمة ، وهو نظير ما عن المعالم بل أسوأ منه.

وتوضيح ذلك : أنه بناء على ما تقدم من توقف كون الشيء شرطا أو مانعا على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ربما يتوهم أنه نظير ما في المعالم (3) من توقف وجوب المقدمة (4) على تحقق إرادة ذيها ، حيث إنه

ص: 117


1- أجود التقريرات 2 : 15.
2- أجود التقريرات 2 : 14.
3- معالم الدين : 71.
4- [ في الأصل : توقف الوجوب ، والمناسب ما أثبتناه ].

يلزم على ذلك أن تكون المقدمية متوقفة على تحقق الشرطية والمانعية وهما موقوفان على تحقق المقتضي الذي هو إرادة المأمور به. والحاصل أنه بناء على كون الارادة هي المقتضي لوجود المأمور به يكون كل مقدمة من مقدماته من قبيل الشرط والمانع ، وقد ذكرتم أن كلا من شرطية الشرط ومانعية المانع موقوف على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ، فتكون المقدمية موقوفة على تحقق إرادة المأمور به.

ومنشأ هذا التوهم هو تخيل كون جميع المقدمات من قبيل شروط تأثير الارادة أو موانع تأثيرها ، فيلزم مما ذكر من توقف الشرطية والمانعية على تحقق المقتضي الذي هو الارادة أن تكون المقدمية متوقفة على تحقق الارادة ، وهو عين ما في المعالم بل هو أسوأ منه ، حيث إن ما في المعالم هو توقف وجوب المقدمة على إرادة ذيها ، وهذا اللازم عبارة عن توقف نفس المقدمية على إرادة ذيها فضلا عن وجوبها.

قلنا في الجواب : إن حاصل هذا التوهم أنه مبني على مقدمتين : الأولى : أن إرادة المأمور به من قبيل المقتضي. الثانية : أن جميع ما تقدم في مقدمة الواجب من المقدمات من قبيل الشرط أو المانع بالنسبة إلى تأثير المقتضي المذكور ، وبضميمة ما افيد من توقف شرطية الشرط ومانعية المانع على تحقق المقتضي الذي هو الارادة ، ينتج من ذلك أن مقدمية جميع المقدمات متوقفة على تحقق الارادة وتعلقها بالفعل المأمور به.

والمقدمة الأولى وإن كانت مسلّمة في الجملة إلاّ أن عمدة الاشتباه إنما نشأ عن المقدمة الثانية ، فانها إنما نشأت عن الخلط بين ما هو محل الكلام في باب الضد من الشرط والمانع الواقعين في رتبة الارادة ، ولهما الدخل في تأثيرها في رشحها في متعلقها ، وبين سائر المقدمات التي تكون

ص: 118

تحت الارادة كشرط المأمور به وسببه ومقدمته الاعدادية ، ونحو ذلك من المقدمات التي يتوقف عليها نفس المأمور به لا رشح الارادة فيه ، فان جميع هذه المقدمات لا يعقل أن تكون واقعة في رتبة إرادة ذي المقدمة على وجه يكون وجودها من قبيل الشرط في تأثير تلك الارادة ، أو من قبيل الدافع لرشحه كي يقال إن مقدميتها الناشئة عن كونها شرطا أو مانعا متوقفة على تحقق تلك الارادة ، بل يكون جميع ما ذكر من المقدمات واقعا تحت الارادة المذكورة ، بمعنى أن الارادة بعد تعلقها ابتداء بنفس الفعل المأمور به تتعلق ثانيا بتلك المقدمات ، أو أن الارادة لمّا تعلّقت بنفس الفعل المأمور به تترشح منها إرادة ثانية متولدة من الارادة الاولى تكون متعلقة بتلك المقدمات التي يتوقف عليها وجود ذلك الفعل المأمور به.

ومن الواضح أن هذه المقدمات لا يعقل أن تكون شرطا في رشح الارادة أو مانعة من رشحها في متعلقها ، لما عرفت من كونها هي المتعلق لتلك الارادة وأنها واقعة تحتها ، فلا يعقل أن يكون وجودها شرطا في رشحها أو مانعا من رشحها.

والحاصل : أن الشرط والمانع اللذين ذكرنا في هذا المقام أن مقدميتهما متوقفة على تحقق الارادة مرتبطان بنفس الارادة وواقعان في درجتها ، ولا دخل لهما بناحية المراد الذي هو تحت الارادة إلاّ باعتبار كونهما لهما الدخل في نفس الارادة التي هي فوقه ، والمقدمات المذكورة في مقدمة الواجب التي ذكرنا أن مقدميتها وكذلك وجوبها غير متوقف على تحقق الارادة إنما ترتبط بنفس المراد ، لكونها واقعة في درجته من كونها تحت الارادة ، ولا ربط لهذه المقدمات بنفس الارادة إلاّ باعتبار كونها تحتها ، باعتبار كونها مرتبطة بما هو متعلقها من حيث توقفه عليها ، فلا

ص: 119

يعقل أن تكون مقدميتها التي هي عبارة عن توقف التمكن من المراد عليها موقوفة على نفس الارادة ، لما عرفت من عدم الربط بين هذه المقدمات وبين الارادة.

وإن شئت فقل : إن توقف الفعل على شرط تأثير الارادة المتعلقة به وعلى عدم الدافع لرشح تلك الارادة إنما نشأ من كون رشح تلك الارادة متوقفا على ذلك ، فلا يتحقق التوقف المذكور ولا يكون فعليا إلاّ إذا كانت الارادة المذكورة موجودة ، أما توقف الفعل على باقي المقدمات فلم يكن ناشئا عن كونها لها الدخل في رشح الارادة المتعلقة به أو دفع ذلك الرشح بل إنما يكون ناشئا عن الارتباط الذاتي أو الشرعي بين تلك المقدمات وبين ذيها على وجه يكون وجودها موجبا للتمكن من إيجاد ذيها ، ويكون عدمها موجبا لعدمه ، وهذا الارتباط متحقق بين المقدمات المذكورة ، كانت هناك إرادة متعلقة به أو لم تكن ، لعدم دخله في الارادة أصلا.

ولا يخفى أنه بناء على هذا التقرير لو سلّمنا صحة ما ادعي من كون عدم أحد الضدين بالنسبة الى وجود الضد الآخر الذي هو المأمور به من قبيل عدم المانع لما كان ذلك من المقدمات الواجبة ، لكون ذلك حينئذ من متممات تأثير الارادة المتعلقة بالمأمور به غير القابلة لأن تقع تحت الارادة ومن الواضح أن كل ما هو في مرتبة الارادة لا يعقل أن يتعلق به الوجوب الشرعي ، لكونه عبارة عن الباعث لارادة المكلف نحو المأمور به ، فلا بدّ أن يكون متعلقه مما يمكن أن تتعلق به إرادة المكلف بحيث يكون واقعا تحتها ، ليكون تعلق الأمر به باعثا لتعلق إرادة المكلف به ، أما ما لا يعقل كونه واقعا تحت الارادة على وجه لا يمكن تعلقها به فلا يعقل أن يقع متعلقا للأمر ، من دون فرق في ذلك بين الأمر النفسي والأمر الغيري.

ص: 120

ثم إنه قد يقال : إنه يمكن الاستدلال على ما ذكرناه من استحالة كون شرط تأثير الارادة والمانع من تأثيرها واقعين تحت الارادة ولو بارادة اخرى غيرية مترشحة عن الارادة الاولى المتعلقة بأصل الفعل المعبّر عنه بذي المقدمة ، بأن نقول إن الارادة المتعلقة بالفعل المزبور إما أن تكون علة تامة في وجوده بمعنى أنها لا يتوقف تأثيرها في وجوده على وجود شرط أو عدم مانع ، أو أنها لا تكون علة تامة بل يكون تأثيرها فيما تعلقت به متوقفا على تحقق الشرط وانتفاء المانع ، فان كان الأوّل سقط الكلام على مانعية الضد بالمرة وكان البحث ساقطا من أصله ، وإن كان الثاني ننقل الكلام الى الشرط والمانع فنقول إنهما إن احتاجا الى الارادة نقلنا الكلام الى تلك الارادة المتعلقة بهما ، فان كانت علة تامة لزمه ما ذكرنا من سقوط البحث من أصله ، وإن كانت محتاجة في تأثيرها الى الشرط والمانع نقلنا الكلام إليهما ، وهل هما داخلان تحت الارادة أو لا ، وهلمّ جرّا فيلزم التسلسل ، فلا محيص من أن نقول بعدم دخول الشرط والمانع اللذين هما في مرتبة العلة في تحقق المراد تحت الارادة ، سواء كانت هي نفس الارادة السابقة أو كانت هي إرادة ثانية مترشحة عن الارادة الاولى.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن التسلسل إنما يذهب في الشرط والمانع الاختياريين ، أما إذا انتهيا الى شرط ومانع غير اختياريين بل تكوينيين أو الى شرط وعدم مانع تكون الارادة علة في تحققهما من دون توقف على شرط ومانع ، فلا ريب في انقطاع الشرط ، فتأمل.

ويمكن القول بسقوط هذا البحث أعني كون الارادة مقتضية أو علة تامة من أصله ، لأن العلة أو المقتضي الذي يوجد الفعل ويكون علة في وجوده إنما هو الفاعل ، من دون فرق بين الأفعال الاختيارية وغيرها كما

ص: 121

يصدر سهوا أو نسيانا ، وليست الارادة في الأفعال الاختيارية إلاّ كيفية في صدورها عن فاعلها الذي هو العلة الحقيقية في إيجادها ، ولو ترقينا بالارادة وغالينا فيها لم تكن إلاّ في مرتبة شرط تأثير العلة في خصوص الأفعال الاختيارية ، والمطلب محتاج إلى التأمل.

والأولى أن يقال : إن كلا من المقتضي والشرط وعدم المانع من مقدمات المأمور به ، وعلى تقدير القول بوجوب المقدمة نقول بوجوبها إلاّ أن ذلك لا دخل له بنفس إرادة الفعل الواجب وشرط تأثيرها والمانع من تأثيرها ، فانها كلها وإن كانت من مقدمات وجود الفعل الواجب إلاّ أنها لا تدخل في حساب المقدمات الواجبة ، فان تلك أعني المقدمة الواجبة ما تكون واقعة تحت إرادة الفاعل تبعا لارادته الفعل الواجب ، دون الارادة نفسها وما يكون في صقعها من الشرط والمانع من تأثيرها ، ولا مانع من كون مقدمية هذا النحو من المقدمات - أعني شرط تأثير الارادة وعدم المانع من تأثيرها - متوقفة على تحقق الإرادة وتعلقها بالفعل المأمور به.

وبالجملة : لا ريب في أن إرادة الفعل علة وأجزاءها أجزاء العلة ، لكن إن هذه العلة لا تكون قابلة لتعلق الوجوب بها ليترشح عليها من وجوب معلولها. وشيء آخر وهو أن عدم الضد لا يكون من قبيل عدم المانع من تأثير الارادة ليكون من أجزاء علة الشيء ليكون واجبا بوجوب ذلك الشيء حتى لو قلنا بوجوب الارادة.

ثم إنه قد يجاب من قبل المحقق الخونساري بما حاصله : أن توقف عدم الازالة على وجود الصلاة وإن كان محالا ، لتوقف استناد عدم الازالة إلى وجود الصلاة على تحقق المقتضي للازالة ، وهو محال فيكون التوقف المذكور محالا ، إلاّ أن ذلك لا يستلزم القول بمحالية توقف وجود الازالة

ص: 122

على عدم الصلاة.

وتوضيح ذلك : أن مانعية المانع لا تتوقف على وجوده ، بل هو مانع سواء كان موجودا أو كان معدوما ، وحينئذ نقول إنه إذا وجد المقتضي للازالة فوجود المقتضي للصلاة حينئذ وإن كان محالا لما ذكر من استحالة اجتماع المقتضيين ، إلاّ أنه مع ذلك يصدق أن الصلاة لو وجدت لكان وجودها مانعا ، فيكون وجود الازالة حينئذ متوقفا على عدم الصلاة وأقصى ما في البين هو أن وجود الصلاة عند وجود المقتضي للازالة محال ، وهو لا ينافي ما ذكرنا من القضية التعليقية القائلة إنه لو وجدت الصلاة لكانت مانعة من الازالة ، وهذا المقدار من التعليق كاف في إثبات مانعية الصلاة ، لما عرفت من أن المانعية للشيء لا تتوقف على وجود الشيء ، بل يكفي فيها مجرد كونه لو وجد لكان مانعا وإن كان معدوما فعلا ، وحينئذ تكون نسبة عدم الصلاة إلى الازالة من قبيل عدم المانع ، وهو كاف في المقدمية وتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر ، وإن كان العكس أعني توقف عدم أحدهما على وجود الآخر محالا ، وحينئذ لا يتوجه على المحقق الخونساري ما تقدم من أن جوابه عن الدور بمنع توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر مستلزم لمنع توقف وجود أحدهما على عدم الآخر.

قلت : حاصل هذا التوهم أن الضد الموجود لا يكون مانعا من وجود الآخر ، لكن الضد المعدوم يكون مانعا من وجود الآخر ، وذلك عبارة اخرى عن أن عدم أحد الضدين لا يستند إلى الضد الموجود ، لكن الضد الموجود يستند إلى عدم الآخر.

وفيه : ما لا يخفى ، أما أوّلا : فلأنا قد قدمنا أنه لا معنى لأن يكون الوجود مستندا إلى العدم ، وإنما صح لنا أن نقول إن وجود الممنوع يستند

ص: 123

إلى عدم مانعة ، لأن مانعة لو وجد لكان الممنوع منعدما ، لكون وجود المانع دافعا لتأثير مقتضي الممنوع ، وبهذا الاعتبار صح لنا أن نقول إن وجود الممنوع مستند إلى عدم مانعة ، [ فلا بد ](1) في كون وجود الازالة مستندا إلى عدم الصلاة من كون الصلاة لو وجدت كانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، ومن الواضح أن وجود أحد الضدين أعني الصلاة لا يمكن أن يكون دافعا لتأثير مقتضي الازالة ، لأن الصلاة عند وجودها إنما توجد مع مقتضيها ، ومع كون مقتضيها موجودا لا يكون مقتضي الازالة موجودا ، فلا يصح لنا أن نقول إن وجود الصلاة دافع لتأثير مقتضي الازالة كي يصح أن يقال إن وجود الازالة مستند إلى عدم الصلاة.

وثانيا : نقول إن وجود أحد الضدين إن كان في حدّ نفسه مانعا من وجود الآخر جاء الدور المذكور ، وإن لم يكن وجود أحدهما بنفسه مانعا من الآخر لم يصح أن نقول إن وجود أحدهما يتوقف على عدم الآخر. ومرجع ما ذكر من التفكيك إلى أن المانع إنما يكون مانعا عند انعدامه وأنه عند وجوده لا يكون مانعا ، وحاصل ذلك أن الضد يكون مانعا عند عدمه لا عند وجوده ، فان حاصل ذلك التفكيك أنه إن وجدت الصلاة انعدم مقتضي الازالة ، فلا تكون الصلاة الموجودة مانعة منها ، وإن انعدمت الصلاة ووجدت الازالة كانت الصلاة مانعة منها ، ومحصله أن مانعية الصلاة منحصرة في عدمها ، وعند وجودها (2) لا تكون مانعة ، فيتوجه حينئذ ما ذكرناه من أنها إن كانت متصفة بالمانعية في حد نفسها كانت مانعة في حالتي وجودها وعدمها ، وإن لم تكن متصفة بذلك لم تكن مانعة في حالة

ص: 124


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ في الأصل : مانعية الصلاة في وجودها وعند عدمها ، والصحيح ما أثبتناه ].

وجودها ولا في حالة عدمها ، ولا يعقل التفكيك بين حالة وجودها وحالة عدمها.

وثالثا : أن المراد من التالي فيما ذكر من القضية القائلة إنه لو وجدت الصلاة عند وجود الازالة لكانت هي أعني الصلاة مانعة منها ، هو اتصاف الصلاة بالمانعية ، ليكون ذلك معلّقا على وجودها عند وجود الازالة ، وحينئذ نقول إن كان المراد من المقدّم أعني وجود الصلاة وجودها مجردة عن مقتضيها كان المقدّم المذكور محالا ، لاستحالة وجود الشيء بدون مقتضيه ، فتكون المانعية المعلّقة عليه محالا وهو المطلوب ، وإن كان المراد من المقدّم هو وجود الصلاة بمقتضيها منعنا الملازمة المذكورة ، لما هو واضح من أنه عند وجود الصلاة مع وجود مقتضيها ينعدم مقتضي الازالة فلا تكون الصلاة مانعة منها حينئذ.

لا يقال : نختار الشق الأوّل ونقول عند وجود الازالة ووجود مقتضيها لو وجدت الصلاة ولو من دون مقتضيها لكانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة وهذا المقدار كاف في إثبات فعلية المانعية ، وإن كان ما علّق عليه دافعية الصلاة لتأثير مقتضي الازالة محالا ، حيث إن المانعية منتزعة من مجرد كون الصلاة لو وجدت ولو بلا مقتضيها لكانت دافعة لتأثير مقتضي الازالة وإن كان وجودها بلا مقتضيها محالا ، وهو معنى ما تقدم من إن مانعية الشيء لا تتوقف على وجوده ، بل يكفي فيها القضية التعليقية القائلة إنه لو وجد لكان دافعا لتأثير المقتضي وإن كان المعلّق عليه محالا.

لأنا نقول : إن المانعية وإن لم تتوقف على وجود المانع بل كان المانع مانعا حتى في حال عدمه ، لكونها أعني المانعية الفعلية منتزعة من القضية التعليقية القائلة إنه لو وجد لكان دافعا لتأثير المقتضي ، وهذا المقدار

ص: 125

من التعليق كاف في إثبات المانعية فعلا وإن لم يكن المانع موجودا فعلا بل كان معدوما ، لكن لا بد فيها أعني المانعية الفعلية من كون ما علّق عليه الدفع المذكور أعني وجود المانع ممكنا ، وإلاّ لكان كل شيء مانعا من كل شيء ألا ترى أن النار مقتضية للاحراق ، وحرارة الشمس في حدّ نفسها ليست بمانعة من ذلك ولا دافعة لتأثير هذا المقتضي ، ولكن لو فرضنا محالا أن حرارة الشمس مولّدة لوجود الماء فيما تقع عليه من الحطب ، لصح أن يقال إن حرارة الشمس لو كانت مولّدة للماء فيما تقع عليه لكانت دافعة لتأثير المقتضي المذكور أعني النار في الاحراق ، فلو كان تعليق الدافعية على الفرض المحال موجبا لتحقق المانعية للشيء لكانت الحرارة المذكورة مانعة من الاحراق.

والحاصل : أن المعلّق عليه الدافعية في القضية الآنفة الذكر - أعني قولنا لو وجدت الصلاة عند الفرض المزبور أعني وجود الازالة بوجود مقتضيها لكانت الصلاة دافعة لتأثير مقتضي الازالة - إن كان هو وجود الصلاة بالنحو الممكن ، بمعنى وجودها مع المقتضي لها ، كانت الملازمة ممنوعة لعدم كون الصلاة في هذا الفرض دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، حيث إن الصلاة عند وجودها بمقتضيها ينعدم مقتضي الازالة ، فلا يصح أن يقال إنها دافعة في هذا الفرض لمقتضي الازالة. وإن كان المراد من المقدّم المذكور هو وجود الصلاة بالنحو الممتنع أعني وجودها مجردة عن مقتضيها فالملازمة المذكورة وإن كانت صحيحة إلاّ أن مجرد هذه التي يكون الملزوم فيها ممتنعا لا يكفي في تحقق المانعية ، بل لا بدّ في تحقق المانعية من كون الملزوم ممكنا.

مضافا إلى أنه يمكننا أن نمنع الملازمة حتى في هذه الصورة ، أعني

ص: 126

ما لو كان المراد من المقدّم الذي هو وجود الصلاة وجودها بالنحو الممتنع أعني وجودها مجردة عن مقتضيها ، إذ من الممكن أن يقال إنها في هذا الفرض أعني فرض وجودها مجردة عن علتها ومقتضيها لا تكون دافعة لتأثير مقتضي الازالة ، حيث إن فرض وجود الصلاة مجردة عن علتها ومقتضيها عبارة عن فرض تغيير في ذاتها على وجه تكون موجودة مجردة عن علتها ، ومن الجائز أن يكون الفرض رافعا لما في ذات الصلاة من خاصية التدافع وعدم الاجتماع مع الازالة ، فلا يكون وجودها على هذا النحو دافعا لتأثير مقتضي الازالة.

لا يقال : إن مانعية المانع كما لا تكون متوقفة على وجوده بل يكون المانع مانعا في حال عدمه ، فكذلك لا تكون مانعيته متوقفة على إمكان وجوده ، بل المانع يكون مانعا حتى لو كان وجوده محالا ، حيث إن المانعية إنما تنتزع عن كون الشيء لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي ، فإذا كانت حاله هذه كان متصفا بالمانعية وإن كان معدوما أو كان وجوده محالا. وبالجملة : أن محالية وجود الشيء أمر وكونه لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي أمر آخر ، والمانعية إنما تنتزع من الثاني أعني القضية التعليقية ، ومن الواضح أنها غير متوقفة على إمكان وجود الشيء. والحاصل أن المحال لا يخرج بمحاليته عن اقتضاء ذاته من كونه لو وجد لكان دافعا لأثر المقتضي.

لأنا نقول : إنا لا ننكر إمكان كون الشيء المحال في حدّ نفسه مانعا من شيء آخر ، وإنما ننكر أن تكون الدافعية المعلّقة على النحو المحال من وجود الشيء منشأ في مانعيته كما فيما نحن فيه ، حيث إن نفس وجود أحد الضدين أعني الصلاة ليس بمحال ، وإنما المحال هو نحو من أنحاء وجوده أعني وجوده بلا علة وبلا مقتض يقتضيه مع وجود مقتضي الضد الآخر

ص: 127

أعني الازالة ، ونقول إن القضية المتضمنة لتعليق الدافعية على هذا النحو من الوجود غير مسلّمة ، لما قررناه من أن هذا النحو من وجود الشيء مستلزم لخروج ذاته حينئذ عن مقتضياتها وخواصها التي منها انسلاخه عن علته ومقتضيه ، فمن الممكن أن يكون ذلك موجبا أيضا لعدم المنافرة بينه وبين ضده على وجه لا يكون دافعا لتأثير مقتضيه ، ومن الواضح أن هذه الجهة لا تأتي فيما هو محال في حد نفسه ، خصوصا إذا كانت محاليته ذاتية ، فتأمل.

ثم إنه لو سلّم ذلك كله فأقصى ما فيه هو أن تكون الصلاة عند وجود الازالة مانعة ، ويكون عدمها بالنسبة إليها من قبيل عدم المانع ، لكنه لا ينتج ما هو المطلوب من كون العدم المذكور واجبا ليكون فعلها محرما ، لما عرفت من كون وجودها في هذا الظرف محالا ، فيكون عدمها ضروريا ويكون وجوبه تحصيل الحاصل وتحريمها تحريمها لما هو ممتنع الحصول.

قوله : ومما يدلك على عدم مقدمية ترك أحد الضدين للآخر أنه لا شبهة في أن عدم كل شيء يناقض وجوده في مرتبة واحدة ... الخ (1).

هذا برهان آخر على عدم كون ترك أحد الضدين سابقا في الرتبة على الضد الآخر ، وحاصل ذلك البرهان هو أن كل متقابلين يكون تقابلهما في رتبة واحدة ، إذ لو كان أحدهما في رتبة وكان الآخر في رتبة سابقة لم يكن بينهما تقابل ، فإذا كان السواد ضدا مقابلا للبياض مثلا كان كل منهما في رتبة الآخر ، وحينئذ لا بدّ أن يكون عدم السواد في رتبة البياض ، إذ لو كان

ص: 128


1- أجود التقريرات 2 : 16 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

عدم السواد سابقا في الرتبة على البياض كان السواد نفسه حاصلا في تلك الرتبة أيضا ، لأنه نقيضه والنقيض مساو لنقيضه في الرتبة ، فيكون نفس السواد أيضا سابقا في الرتبة على البياض ، وقد كان توأما معه في الرتبة لكونه ضده ، هذا خلف.

ومن ذلك يظهر لك أنه لو كان عدم كل منهما سابقا في الرتبة على الآخر لكان كل منهما سابقا في الرتبة على الآخر ، فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه. ويزيد الطين بلّة في المتناقضين ، فانه لو كان وجود أحد المتناقضين متوقفا على عدم النقيض الآخر بحيث كان عدم أحد النقيضين سابقا في الرتبة على النقيض الآخر ، كان ذلك عبارة اخرى عن ارتفاع النقيضين ، مضافا إلى ما تقدم من الاشكالين في الضدين ، مثلا القيام وعدمه متناقضان ، فلو كان عدم الثاني سابقا في الرتبة على الأوّل الذي هو القيام لكان ذلك عبارة أخرى عن ارتفاع النقيضين ، أما الأوّل وهو القيام فلفرض الكلام في السابق على رتبته ، فهو في تلك الرتبة منتف ، وأما الثاني وهو عدم القيام فلأنا فرضنا كون عدمه سابقا على رتبة القيام ، ففي تلك الرتبة لا يكون عدم القيام حاصلا كما لم يكن القيام حاصلا فيها أيضا وهو ارتفاع النقيضين ، كذا قيل (1).

لكن فيه تأمل ، لأن هذا الاشكال باق حتى لو لم نقل إن عدم أحد النقيضين متقدم رتبة على النقيض الآخر ، فانه لا شبهة في أن القيام مناقض لعدم القيام ، فلا بدّ أن يكونا في رتبة واحدة ، لكن في الرتبة السابقة على القيام لا يكون أحد النقيضين وهو القيام متحققا ، فلو كان النقيض الآخر

ص: 129


1- يظهر ذلك مما أفاده القوچاني في حاشيته على الكفاية [ 1 : 112 / تعليقة 231 منه قدس سره ].

وهو عدم القيام متحققا في تلك الرتبة ، لكان أحد النقيضين وهو عدم القيام حاصلا في الرتبة السابقة على نقيضه الذي هو القيام وقد قلتم إنه محال لكونهما في رتبة واحدة ، وإن لم يكن ذلك النقيض الآخر وهو عدم القيام متحققا في تلك الرتبة لزم ارتفاع النقيضين أعني القيام وعدم القيام ، أما انتفاء الأوّل فلأن الكلام في الرتبة السابقة عليه ، وأما الثاني فلفرض انتفائه.

ولا مخلص عن هذا الاشكال إلاّ أن نقول : إنهما في الرتبة السابقة على القيام غير متناقضين ، فلا مانع من ارتفاعهما ، بمعنى أن عدم القيام في الرتبة السابقة على القيام لا يكون مناقضا للقيام ، كما أن القيام لو لوحظ في الرتبة السابقة على عدم القيام لا يكون مناقضا لعدم القيام ، فتأمل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما تقدم في الضدين ، فانا لو قلنا إن عدم السواد سابق في الرتبة على البياض لا يكون لازمه أن السواد سابق في الرتبة على البياض ، بدعوى كون السواد نقيضا لعدم السواد فيكون مثله سابقا في الرتبة على البياض.

وبيان التأمل في ذلك : هو أن النقيض هو بديل الشيء في رتبته لا في رتبة أخرى ، وحينئذ يكون النقيض لعدم السواد السابق على البياض هو السواد الذي هو بديله في تلك الرتبة السابقة على البياض ، لا السواد الذي هو في رتبة البياض ، بل هو - أعني السواد في رتبة البياض - إنما يكون نقيضا لعدم السواد الذي هو توأم مع رتبة البياض لا عدم السواد الذي هو سابق في الرتبة على البياض. والحاصل أن عدم السواد الذي هو توأم مع البياض يناقضه السواد الذي هو توأم مع البياض ، كما أن عدم السواد السابق في الرتبة على البياض إنما يناقضه السواد الذي هو في رتبته ، فتأمل.

نعم ، في المقام إشكال آخر غير إشكال الدور المذكور وغير هذا

ص: 130

الاشكال ، وذلك الاشكال في مانعية كل من الشيئين للآخر ، فان مقتضى كون هذا مانعا عن ذاك هو كونه واقعا في رتبة علته وجودا أو عدما ، فيكون سابقا في الرتبة على ذاك ، وذلك بعينه جار في كون ذاك مانعا من هذا فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على صاحبه ، فيكون سابقا في الرتبة على نفسه.

والحاصل : أن المانع وإن لم يكن وجوده مؤثرا في وجود الممنوع بمعنى أنه ليس جزء العلة المؤثرة ، وأن أقصى ما فيه هو أن وجوده يكون مانعا من تأثير المقتضي في وجود الممنوع ، وأنه عند عدمه يكون المقتضي مؤثرا في وجود الممنوع ، إلاّ أنه يكون واقعا وجودا أو عدما في رتبة العلة بالنسبة إلى الممنوع ، فيكون سابقا في الرتبة على الممنوع ، وحينئذ يستحيل كون كل من الشيئين مانعا من الآخر ، لانتهائه إلى كون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه ، فيتأتى فيه عين إشكال الدور الناشئ عن كون كل منهما علة مؤثرة في صاحبة.

ولعل هذا هو المراد مما أفاده المرحوم شيخنا المحقق الآغا ضياء قدس سره في مقالته - فانه بعد أن أجاب عن إشكال الدور بما يرجع إلى إنكار المانعية ، قال ما هذا لفظه : نعم الذي يرد على المقدمية في الطرفين هو استلزام كون وجود كل واحد في رتبة متأخرة عن الآخر ، نظرا إلى حفظ الرتبة الواحدة بين النقيضين ، ونفس هذه الجهة محذور مستقل ، بل هو في الحقيقة وجه استحالة الدور أيضا ، انتهى (1) - لو لا قوله : نظرا إلى حفظ الرتبة الواحدة بين النقيضين ، فان هذه الجملة لا تساعد على إرادته ما

ص: 131


1- مقالات الاصول 1 : 340.

ذكرناه ، بل هي مساعدة على إرادته الاشكال السابق ، أعني ما تقدم من أنه لو كان عدم السواد سابقا في الرتبة على وجود البياض كان نقيض ذلك العدم الذي هو السواد نفسه سابقا أيضا ، نظرا إلى حفظ الرتبة في النقيضين ، فيكون السواد سابقا في الرتبة على البياض ، وهكذا الحال في ناحية البياض ، فان عدمه لو كان سابقا على السواد لكان هو أعني البياض سابقا على السواد أيضا لأنه نقيض عدم البياض ، وحينئذ يكون كل من السواد والبياض سابقا في الرتبة على الآخر.

وهذا الاشكال وإن تقدم الجواب عنه إلاّ أنا نزيد الجواب وضوحا بأنا لو لم نقل بأن عدم أحد الضدين الذي هو السواد مثلا مقدمة لوجود الآخر الذي هو البياض ، إلاّ أنا نقول إنه في الرتبة السابقة على البياض هل يكون الحاصل في تلك المرتبة هو السواد ، فيكون سابقا في الرتبة على صاحبه ، أو يكون الحاصل في تلك الرتبة هو عدم السواد ، فيكون السواد أيضا في تلك الرتبة حفظا لوحدة الرتبة في النقيضين ، أو يكون كل من السواد وعدمه غير حاصل في تلك الرتبة فيلزم ارتفاع النقيضين. وحينئذ لا محيص لنا من أن نقول إن الحاصل في تلك المرتبة هو السواد ، إلاّ أنه ليس بضد للبياض المتأخر رتبة عنه ، أو نقول إن الحاصل في تلك الرتبة هو عدم السواد ، إلاّ أنه ليس بنقيض للسواد الذي هو ضد وتوأم مع البياض ، لكونه متأخرا عنه رتبة.

وهكذا الحال في مسألة العلة والمعلول ، فان عدم المعلول وإن كان نقيضا للمعلول إلاّ أن العدم الذي هو نقيض للمعلول يكون في مرتبة المعلول ، ولا يتعدى هذه المرتبة إلى رتبة العلة ، بل إن عدم المعلول الحاصل في مرتبة العلة إنما يكون نقيضه هو المعلول في تلك المرتبة أعني

ص: 132

مرتبة العلة ، إذ لو كان نقيضه هو المعلول المتأخر رتبة عن العلة كانا من اجتماع النقيضين ، لتحقق كل منهما في رتبته.

والحاصل : أن نفس المعلول وعدمه متناقضان في كل من المرتبتين أعني أنهما متناقضان في مرتبة العلة ، والموجود منهما هو عدم المعلول ، وفي مرتبة وجود المعلول يعني مرتبة ما بعد العلة والموجود منهما هو المعلول نفسه. ولا يصح القول بأن العدم الذي هو في مرتبة العلة نقيض للمعلول الذي هو في مرتبة ما بعد العلة ، فلا يتجه ما قيل في الحاشية (1) من أن العدم الذي هو في مرتبة المعلول يكون سابقا عليه وحاصلا في رتبة العلة ، لأن المقارن لما هو متأخر في الرتبة لا مانع من كونه مقارنا لما هو سابق لذلك المتأخر ، فانه يرد عليه أنه كيف يكون ذلك كذلك والحال أن هذا العدم المقارن لرتبة العلة قد اجتمع مع وجود المعلول الذي هو متأخر في الرتبة ، فلو كان ذلك العدم السابق رتبة نقيضا لذلك الوجود المتأخر رتبة لكان قد اجتمع النقيضان.

فتلخص لك أن عمدة الاشكال على التمانع بين الضدين امور أربعة :

الأوّل : أن المانع سابق في الرتبة على الممنوع ، فيكون كل منهما سابقا في الرتبة على نفسه.

الثاني : أن كلامنا إنما هو في الأفعال الاختيارية التي تقع متعلقا للتكليف ، وينحصر المقتضي فيها بارادة المكلف وليست هي إلاّ واحدة ، ففي ظرف تعلقها بأحد الفعلين لا يكون مقتضي الآخر موجودا كي يكون أحدهما مانعا من الآخر.

ص: 133


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 16.

الثالث : الدور الذي عرفته.

الرابع : أن عدم المانع ولو في غير الضدين إنما يكون في مرتبة العلة بالنسبة إلى الممنوع ، فلا يكون إلاّ في صقع المقتضي لذلك الممنوع ، وقد عرفت أن المقتضي هو الارادة ، فتكون مقدمية ترك المانع متوقفة على مانعيته ، وهي أعني المانعية إنما تكون عند المقتضي الذي هو إرادة الممنوع ، فيكون الحاصل أن مقدمية المقدمة متوقفة على إرادة ذيها ، وذلك أسوأ مما عن صاحب المعالم (1) من أن وجوبها موقوف على إرادة ذيها وحينئذ لا محيص لنا من أن نقول إن هذا الترك وإن توقف عليه الفعل الذي هو ذو المقدمة ، إلاّ أن هذا الترك أعني ترك المانع لا يكون واجبا لعدم دخوله تحت الارادة ، وإنما هو في المرتبة السابقة على المراد ، فان ما يعتبر في تأثير الارادة لا يعقل أن يتعلق به التكليف ، لكون التكليف إنما يكون باعثا على تعلق إرادة المكلف ، فلا بدّ أن يكون متعلقه هو ما تحت الارادة أعني المراد ، ولا يعقل أن يكون متعلقه هو ما يكون معتبرا في رشح إرادته ، هذا.

ولكن تقدم (2) الكلام على ذلك وأن الارادة وأجزاءها من المقدمات ولا مانع من كون مقدمية عدم المانع متوقفة على إرادة ذي المقدمة ، لكن الارادة لا يتعلق بها الوجوب ، وإنما يتعلق الوجوب بما هو تحت الارادة من مقدمات وجود الشيء وأجزاء مقدماته ، حتى علته التكوينية وأجزائها التي يكون عدم المانع من جملتها ، إلاّ أن أحد الضدين ليس بمانع من الآخر ليدخل تحت هذا الحساب ، لما عرفت من محالية ذلك بل محالية التمانع

ص: 134


1- معالم الدين : 71.
2- في صفحة : 122.

بين الشيء ومقابله وإن لم يكونا ضدين.

وفي المسألة إشكال خامس ، وهو أنا لو سلّمنا جميع ما تقدم وقلنا إن ترك الصلاة يكون مقدمة للازالة وأن ذلك الترك واجب ، فلا نسلّم أن وجوب ذلك الترك مقتض للنهي عن الصلاة إلاّ بعد الفراغ عن أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ، بمعنى الترك الذي هو نقيضه ، أعني نفس الصلاة التي هي نقيض ذلك الترك الواجب ، أو هي عين ترك ذلك الترك ، ولكن هلمّ الكلام في ذلك الضد العام الذي هو نقيض لترك الصلاة أعني الصلاة نفسها ، فانا وإن قلنا إنها ضد عام لذلك الترك الواجب لكونها نقيضا له أو ملازمة لما هو نقيضه ، إلاّ أنا كيف قلنا إنها منهي عنها بحيث قلنا إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فانا إن أخذنا النهي بمعنى الردع والزجر فلا ريب أن وجوب ترك الصلاة لا يقتضي الردع والزجر عن نفس الصلاة ، لما تقدم (1) من أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام بمعنى الردع والزجر الناشئ عن فساد في ذلك المنهي عنه.

وإن أخذنا النهي بمعنى طلب الترك ليكون طلب ترك الصلاة الناشئ عن كون ذلك الترك مقدمة للازالة عبارة اخرى عن النهي عن فعلها ، بناء على أن النهي من مقولة الطلب غايته أنه متعلق بالترك ، ففيه ما تقدم (2) في ذلك المبحث أيضا من أن النهي وإن قلنا إنه عبارة عن طلب الترك إلاّ أنه لا بدّ أن يكون ناشئا عن فساد في الفعل ، وإلاّ فان طلب الترك الناشئ عن صلاح في ذلك الترك لا يكون موجبا لتحريم ذلك الفعل ، فالصلاة حينئذ لا تكون محرمة ولا منهيا عنها ، غايته أن تركها كان مطلوبا لصلاح في ذلك

ص: 135


1- راجع الحاشية المتقدمة في صفحة : 97 وما بعدها.
2- راجع الحاشية المتقدمة في صفحة : 97 وما بعدها.

الترك ، لكونه يتوقف عليه الواجب الذي هو الازالة ، فلا يصح لنا القول بأن الأمر بالازالة يقتضي النهي عن الصلاة وتحريمها ، وإن صح لنا أن نقول إن الأمر بالازالة يقتضي طلب ترك الصلاة ، لما عرفت من أن مجرد طلب ترك الشيء الناشئ عن صلاح في ذلك الترك لا دخل [ له ](1) بحرمة ذلك الشيء والنهي عنه الناشئ عن فساد في نفس ذلك الشيء ، ومورد النهي هو هذا الثاني دون الأوّل ، فتأمل. لكن لو وصلت المسألة إلى وجوب ترك الصلاة ترتبت الثمرة وهي فسادها ، وإن لم نقل إن وجوب تركها موجب لحرمتها.

قوله : وأورد المحقق الثاني قدس سره على إنكار الثمرة في صورة مزاحمة الموسع بالمضيق ... الخ (2).

لا يخفى أن هذه المسألة ومسألة الترتب نسبها شيخنا قدس سره (3) إلى المحقق الثاني في جامع المقاصد في كتاب الدين عند التعرض لحكم مزاحمة الصلاة الموسعة مع أداء الدين عند المطالبة ، قال العلاّمة في القواعد : ولا تصح صلاته في أوّل الوقت ، ولا شيء من الواجبات الموسعة المنافية في أوّل وقتها قبل القضاء مع المطالبة ، وكذا غير الدين من الحقوق كالزكاة والخمس ، انتهى (4).

قال في جامع المقاصد - بعد أن تكلم في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده ومنعها بجميع اسسها من المقدمة وغيرها - فان قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسع ، لأنه

ص: 136


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 2 : 22.
3- راجع الهامش رقم (2) من فوائد الأصول 1 - 2 : 312.
4- قواعد الأحكام 2 : 102 ( مع اختلاف يسير ).

حين وجوب الصلاة إذا تحقق وجوب القضاء على الفور يلزم تكليف ما لا يطاق وهو باطل ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري. قلنا : لا نسلّم لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع أوجبت عليك كلا من الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسع ، فان قدمت المضيق فقد امتثلت وسلمت من الاثم ، وإذا قدمت الموسع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. والحاصل أن الأمر يرجع إلى وجوب التقديم وكونه غير شرط في الصحة والامتثال. مع انتقاضه بتضيق الوقت ، فانه إن بقي الوجوب لزم ما سبق ، وإن خرج لزم خروج الواجب عن صفة الوجوب ، مع أنه لا دليل على الترجيح إذ هما واجبان مضيّقان قد تعارضا ، فلا بدّ من خروج أحدهما عن صفة الوجوب لئلا يلزم المحذور ، والدلائل تدل على خلافه ، ومع تسليمه فلا دليل يقتضي خروج واحد بعينه من الصلاة في آخر الوقت وقضاء الحق المضيق (1) ، فالحكم بصحة الصلاة في آخر الوقت أيضا باطل لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح (2) انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس سره وإنما نقلناه بطوله لتطلع على مرامه.

وكأن شيخنا قدس سره يجعل الجزء الأوّل من كلامه إشارة إلى الترتب والجزء الثاني وهو قوله : مع تسليمه ... الخ ، إشارة إلى هذه الجهة أعني ما يقال في النقل عن المحقق قدس سره من أن الانطباق قهري والامتثال وجداني والاجزاء عقلي ، فتأمل في كلامه.

وكيف كان ، فقد ذكر شيخنا قدس سره أن مورد كلام المحقق إنما هو في

ص: 137


1- ذكر قدس سره في الأصل عبارة جامع المقاصد هكذا : في أجزاء الوقت ( آخر الوقت ) للحق المضيق ...
2- جامع المقاصد 5 : 12 - 14.

المضيق والموسع لا في المضيقين ، نعم لو كان المزاحم للفوري هو أحد الأفراد العرضية من الواجب الآخر كانا من قبيل المضيق والموسع.

ثم إنه بعد ذلك أفاد (1) في الإيراد عليه ما حاصله : أنه إن كان المانع من تكليف العاجز هو محض القبح العقلي تم ما افيد من الانطباق القهري وإن كان المانع هو أن التكليف من قبيل إحداث الداعي وتوجيه قدرة المكلف إلى فعل المأمور به لم يتم ذلك ، لأنه بناء على ذلك يكون ذلك الحكم العقلي موجبا لتقييد المأمور به وانحصاره بما هو مقدور للمكلف.

ولا يخفى أن توجيه القدرة إنما هو بواسطة إحداث الداعي ، بمعنى أن الأمر يكون الغاية منه هو إحداث الداعي ، ويترتب على إحداث الداعي توجيه قدرة المكلف إلى الفعل المأمور به ، فلا يرد عليه ما في الحاشية (2) من أن لا محصل للتكليف إلاّ جعل المكلف به على عاتق المكلف ، وأن توجيه القدرة إنما هو بحكم العقل ، وذلك إنما يكون بعد التنجز والعلم بالتكليف ، هذا.

مضافا إلى أن ما ذكره من كون محصل التكليف هو مجرد جعل المكلف به على عاتق المكلف ممنوع ، لأنه إنما يقتضي ذلك بواسطة تعلق الارادة به من قبل الآمر ، ومن الواضح أن إرادة ما لا يكون لكونه غير مقدور للمكلف لا يعقل صدورها من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

وأما ما في الحاشية المذكورة (3) من الايراد على الجزء الأوّل بكونه

ص: 138


1- أجود التقريرات 2 : 23 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 24.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 23 [ لعله قدس سره يريد الحاشية المذكورة من المقرر ، وإلاّ فهي غير الحاشية المتقدمة آنفا ].

منافيا لمسلكه قدس سره من عدم صحة الواجب المعلق أعني ما يكون مقيدا بالزمان المتأخر ، فلا يتجه عليه قدس سره أيضا ، لأنه بناء على الجزء الأوّل لا يكون الواجب مقيدا بالزمان المتأخر ، أعني أن فرض الكلام هو أنه قدس سره يدعي أنه بناء على الجزء الأوّل لا يكون في البين ما يوجب التقييد ، فان كانت مناقشة فهي في عدم استلزام الجزء الأوّل للتقييد ، لا أنّه بعد تسليم عدم التقييد يكون المقام من قبيل الواجب المعلق.

ولكن الظاهر أنه لا بدّ من التقييد ، غايته أن القيد لا يكون دخيلا في الملاك كأغلب القيود الزمانية. نعم لو كانت بقية الأفراد عرضية كما في باب الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى يندفع الاشكال المزبور. وإن شئت توضيح الحال في مسلك المحقق وعدم تأتيه في الأفراد الطولية لكونه منتهيا إلى الواجب المعلق فراجع ما علّقناه على هذا الكتاب في ذلك المبحث عند الكلام على الجهة الثانية ص 300 (1).

نعم يبقى إشكال الفرق بين الوجهين ، وأن نتيجة الوجه الثاني هو التقييد بخلافه على الأوّل. والذي رسمته عنه قدس سره في بيان ذلك هو أن الوجه الأوّل يرجع إلى تقييد المكلف بالقادر ، بخلاف الوجه الثاني فانه يرجع إلى تقييد المكلف به ، وأن لهذين الوجهين آثارا تترتب عليهما ، ومن تلك الآثار ما نحن فيه.

لكن يمكن التأمل في ذلك صغرى وكبرى ، أما الأوّل فلإمكان ادعاء كون كل (2) من الوجهين راجعا إلى تقييد المأمور به ، وأما الثاني فلإمكان

ص: 139


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 : 177 من الطبعة الحديثة ، وسيأتي تعليقه قدس سره في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في صفحة : 62 ، 76.
2- [ في الأصل هنا زيادة : منها ، حذفناه لاستقامة العبارة ].

ادعاء رجوع تقييد المكلف إلى تقييد المكلف به. وبعبارة اخرى أنه يمكن التأمل أوّلا : في رجوع الوجه الأوّل إلى تقييد المكلف نفسه ، بل قد يقال إنه راجع إلى تقييد المكلف به. وثانيا : أنا وإن سلّمنا كون الأوّل راجعا إلى تقييد المكلف فهو أيضا موجب لحصر الأمر بما عدا القادر (1) ، وقهرا يكون الوجوب منحصرا بمورد القدرة.

ويمكن أن يقال : إن وجه الفرق بين الوجهين أن الحكم العقلي في الثاني يوجب سحب الأمر إلى ما بعد فعل المضيق ، فلا يكون الأمر موجودا في وقت المضيق ، بخلافه على الوجه الأوّل فانه لا يوجب سحب الأمر إلى ما بعد المضيق ، بل أقصى ما فيه أنه يوجب تأخير الموسع إلى ما بعد المضيق ، مع الاعتراف بأن الفرد الموجود من الموسع في وقت المضيق فرد للطبيعة المأمور بها.

وفيه تأمل ، لأن العقل بعد حكمه بعدم مطلوبية غير المقدور ، يكون حاكما بعدم مطلوبية ذلك الفرد المزاحم للمضيق ، لكونه غير مقدور له بواسطة سلب القدرة عنه إلى فعل المضيق.

وقد يقال : إنه لا تزاحم بين الموسع والمضيق ، نظير ما قالوه في عدم التزاحم بين المستحبات ، لعدم اشتمالها على تحتيم الفعل ، فكذا الحال فيما نحن فيه فان الفرد من الموسع المزاحم بالمضيق لمّا لم يكن فيه تحتيم ، لم يكن الأمر به مزاحما للأمر بالمضيق ، ولو بأن يقال إن الأمر بالطبيعة لا يكون مشتملا على النظر إلى الأفراد ، وإنما المنظور فيه هو صرف الطبيعة من حيث الوجود وهي مقدورة ، غاية الأمر أن الأمر بالمضيق

ص: 140


1- [ هكذا في الأصل ، ولعل الصحيح : حصر الأمر بالقادر ].

يوجب عقلا على المكلف أن لا يأتي فعلا بالطبيعة المأمور بها ، مع اعترافه بأنه لو أتى بها في ذلك فهي مصداق للمأمور به.

وقد يقرّب ذلك بأن هذه الحكومة العقلية ليست راجعة إلى القدرة وإنما هي راجعة إلى تصرف في مقام الامتثال ، مع الاعتراف بأن هذا الفرد المأتي به فعلا هو امتثال ، لكنه يلزم بتأخيره ، فهو لا ينكر الفردية ولا الامتثال وإنما يوجب تأخير الامتثال ، ولعل صدر كلام المحقق الثاني راجع إلى ذلك لا إلى دعوى الترتب.

ومن هذا الذي حررناه في وجه عدم المزاحمة بين الموسع والمضيق يظهر لك الجواب عما ربما يشكل عليه بأن عدم المزاحمة إنما هي لأن الموسع ينحصر بما عدا مورد المزاحمة ، فيرجع الأمر حينئذ إلى التقييد ، فانه قد ظهر لك أن الوجه في عدم المزاحمة إنما هو مجرد عدم التحتيم في ناحية الموسع ، وهذه الجهة - أعني عدم التحتيم في ناحية الموسع - تكون مصححة للحكومة العقلية بلزوم تأخير امتثال الموسع إلى ما بعد امتثال المضيق ، لا أن العقل يتصرف في نفس الأمر بالموسع بحيث إنه يخرج منه الأفراد المزاحمة بالمضيق على وجه يحكم العقل بخروجها عن حيّز الأمر بل إنه مع اعترافه بعدم خروجها عن حيّز الأمر الموسع يقول أخّر امتثال ذلك الأمر الموسع ، هذا.

وربما يقال : إن ما نحن فيه من موارد سلب القدرة شرعا أجنبي عن باب التكليف بغير المقدور ، فان المكلف وإن كان مأمورا فعلا بالمضيق يكون مأمورا بالموسع أيضا ، فلا الأمر بالمضيق تكليف بغير المقدور ولا الأمر بالموسع في حد نفسه تكليف بغير المقدور ، وغير المقدور إنما هو الجمع بينهما ، ومن الواضح أن الأمر بالموسع في وقت المضيق

ص: 141

لا يقتضي الجمع بينهما ، وإن كان كل منهما مطلقا بالقياس إلى وجود الآخر وعدمه ، لما عرفت من أنه لا تحتيم فيه ، فهو أعني الأمر بالموسع لا يحتم عليه الجمع بينهما ، بل إن العقل حاكم عليه بلزوم تأخير الموسع والمفروض أن الشارع لم يمنعه من التأخير كي يلزم منه التكليف بالجمع بينهما ، فلو أتى بالموسع في ظرف المزاحمة كان ذلك المحال من قبله لا من قبل الشارع. وحاصل ذلك أن الحكم العقلي بلزوم التأخير لم يكن من قبيل التخصيص لدليل الأمر بالموسع ، بل كان تصرفا منه في كيفية امتثاله ، وهذا بخلاف ما لو كان بعض الأفراد غير مقدور تكوينا ، فان العقل يحكم بخروجه عن مدلول الأمر تخصيصا ، فتأمل.

ثم إنه ربما يورد على الجزء الثاني مما أفاده شيخنا من كون الأمر من قبيل إحداث الداعي ، بأن لازمه عدم توجه الأمر إلى من يعلم الشارع عصيانه ، وأنه لا يكون ذلك الأمر داعيا له على الفعل.

وفيه : ما لا يخفى ، فان المراد من إحداث الداعي ليس هو إحداثه في نفس المكلف فعلا وبالمباشرة ، بل المراد بذلك هو فتح باب الداعي له ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1) وهذه الغاية أعني فتح باب الداعي وسلب المعذورية جارية في من يعلم الشارع بعصيانه كما هي جارية في حق من يعلم باطاعته ، بل هي جارية في من يعلم بحصول الداعي له على الفعل من قبل نفسه لا من جهة الأمر ، ولعل جريانها مما يؤيد ما حررناه في التعبدي والتوصلي (2) من أصالة التعبدية ،

ص: 142


1- الأنفال 8 : 42.
2- عند التعرض لكلام المحقّق الكلباسي قدس سره في إشارات الأصول ، راجع المجلّد الأول من هذا الكتاب صفحة : 466 وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس سره قد ابطل هذا القول فيما بعد. فراجع الصفحة :2. 506 من المجلّد الأول.

وأن الغرض من الأمر هو أن يكون داعيا ، فمن كان داعيه غير الأمر لا يكون ممتثلا ولا آتيا بذلك المأمور به فتأمل. نعم هي لا تجري في حق العاجز غير القادر على الفعل ، لعدم إمكان إحداث الداعي في حقه وسيلة إلى تحريك إرادته وتوجيه قدرته نحو الفعل ، إذ لا قدرة له عليه ، فتأمل.

وحاصل ما ندعيه امور : الأوّل ، أن عدم المقدورية ولو عقلا لا تقتضي تقييد الموسع ، وإنما أقصى ما في ذلك هو تصرف العقل في مقام الامتثال بالحكم بالمعذورية في حال عدم القدرة ولزوم التأخير إلى ما بعد القدرة ، ولعل هذا هو المراد من التقييد الخطابي ، وهو عين الترتب حسبما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1).

الثاني : أنا لو سلّمنا التقييد في صورة عدم المقدورية عقلا فلا نسلّمه في صورة عدم المقدورية شرعا ولو فيما كان الأمران مضيقين.

الثالث : أنا لو سلّمنا ذلك في المضيقين فلا نسلّمه فيما لو كان أحدهما مضيقا والآخر موسعا ، لما عرفت (2) من عدم المزاحمة بينهما ، ومن ذلك يعلم أنه لا حاجة في ذلك إلى الترتب ، وإنما يحتاج اليه في المضيقين بعد فرض تقييد المهم بعدم الأهم ، وهو عبارة أخرى عن الترتب ، لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى في الحاشية على بعض ما في ص 227 (3) ما هو التحقيق في ذلك.

الرابع : أن ما ذكرناه من أن المضيق الموجب لسلب القدرة شرعا

ص: 143


1- راجع صفحة : 303 - 306.
2- في صفحة : 140.
3- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 : 35 من الطبعة الحديثة وستأتي الحاشية في الصفحة : 176.

لا يكون مؤثرا على ما يقابله من التكليف الآخر ، فيما لو كان ذلك الآخر غير مشروط شرعا بالقدرة ، أما لو كان كذلك بأن كانت القدرة مأخوذة شرعا فيه بحيث كانت دخيلة فيه خطابا وملاكا ، كان المضيق المفروض كونه غير مشروط شرعا بالقدرة حاكما على ذلك التكليف الآخر لكونه رافعا لموضوعه ، فان الشارع بعد فرض أنه سلب قدرة المكلف بواسطة أمره بالمضيق يكون ذلك المكلف غير قادر في نظره ، فيكون خارجا عن موضوع التكليف الآخر الذي قد أخذ القدرة فيه.

الخامس : أنه لا محصل لكون القدرة شرطا خطابا لا ملاكا إلاّ ما عرفت من عدم التصرف في مفاد الأمر ، وأن حكم العقل مقصور على مقام الامتثال ، وإلاّ فانا بعد أن بنينا على أن الخطابات من قبيل القضايا الحقيقة العامة لجميع المكلفين لا وجه لاخراج غير القادر عن ذلك الخطاب إلاّ بجعل القدرة شرطا شرعا وهو خلاف الفرض ، وحيث إنها لم تكن شرطا شرعيا لم يكن في البين إلاّ حكم العقل بمعذورية الجاهل أو استحالة الطلب في حقه ، وكل منهما لا يقتضي التقييد الشرعي ، وإنما أقصى ما فيه هو التقييد العقلي الذي لا محصل له إلاّ التصرف في المعذورية.

قوله في الكفاية : وعن البهائي قدس سره (1) أنه أنكر الثمرة بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الأمر به ، لاحتياج العبادة إلى الأمر ... إلخ (2).

تقريب إنكار الثمرة بهذا التقريب مرجعه إلى دعوى عدم ترتب الأثر العملي على النزاع في الاقتضاء ، لأنه يكفي في فساد العبادة المأمور بضدها

ص: 144


1- زبدة الأصول : 118.
2- كفاية الأصول : 133.

عدم الأمر بها سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، غايته أنه على الأوّل تكون فاسدة من جهتين إحداهما عدم الأمر بها والاخرى وجود النهي عنها وعلى الثاني يتمحض الفساد من جهة عدم الأمر بها ، ولأجل ذلك أورد عليه في الكفاية بمنع توقف صحة العبادة على الأمر ، بل يكفي الرجحان الذاتي أعني الملاك في صحتها ، وحينئذ فلو قلنا بالاقتضاء كانت فاسدة لوجود النهي ، بخلاف ما لو قلنا بعدم الاقتضاء فانها وإن لم تكن مأمورا بها إلاّ أنه يكفي في صحتها الملاك ، وحينئذ تكون الثمرة عملية.

ولكن لا يخفى أنه بناء على ذلك يكون النزاع في وجود الثمرة العملية مبنائيا ، فبناء على الاحتياج إلى الأمر كما هو مبنى البهائي قدس سره لا تكون الثمرة عملية ، بخلاف ما لو قلنا بعدم الاحتياج [ إلى ](1) الأمر كما هو مبنى صاحب الكفاية فان الثمرة العملية تكون ظاهرة على هذا القول وكأنه لأجل ذلك عدل شيخنا قدس سره (2) عن تقريب إنكار الثمرة بهذا التقريب بل قرّبه بمطلب آخر وهو عدم الأثر لهذا النهي ، لأنه مولد من الأمر بالمقدمة وهو لا أثر له ، فيكون وجوده مساويا لعدمه في عدم التأثير على العبادة ، وحينئذ يكون الفساد مترتبا على القول بالاحتياج إلى الأمر وعدمه ، فان قلنا بالاحتياج إلى الأمر كانت العبادة فاسدة سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، وإن قلنا بعدم الاحتياج كانت العبادة صحيحة سواء قلنا بالاقتضاء أو قلنا بعدمه ، وعليه تكون الثمرة منتفية علميا وعمليا.

أما إشكال المحقق الثاني (3) على إنكار الثمرة فهو راجع إلى الالتزام

ص: 145


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].
2- أجود التقريرات 2 : 21 - 22.
3- راجع جامع المقاصد 5 : 13 - 14.

بالثمرة لو قلنا بالاحتياج ، فانه بناء على الاقتضاء يكون النهي مانعا عن الأمر فتفسد العبادة ، وبناء على عدم الاقتضاء لا تكون العبادة بلا أمر كي تكون فاسدة ، بل يكفي في صحتها تعلق الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا على نحو السريان ، فان الانطباق يكون قهريا والامتثال وجداني على ما أوضحه شيخنا (1) ، فيصح الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الطبيعة من دون حاجة إلى التمسك بأذيال الملاك.

هذا كله لو قلنا بالاحتياج إلى الأمر ، أما لو قلنا بعدم الاحتياج فان قلنا بعدم الاقتضاء فلا إشكال في صحة العبادة ، ولو قلنا بالاقتضاء فالذي ينبغي هو القول بالفساد استنادا إلى النهي الموجب للتخصيص وخروج تلك العبادة عن دائرة الأمر خطابا وملاكا ، إلاّ أن يدعى أن هذا التخصيص ليس على وتيرة التخصيصات الموجبة للخروج ملاكا ، بل هو ناشئ عن التزاحم غير المنافي لبقاء الملاك ، هذا هو مشرب الكفاية (2) في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع.

لكن شيخنا قدس سره يشكل بأنه بناء على الامتناع يكون التخصيص واقعيا ويكون التزاحم آمريا وتدخل المسألة في باب التعارض ، ومع تقديم جانب النهي يكون التخصيص واقعيا ، والنهي فيما نحن فيه مع غض النظر عن كونه غيريا لا أثر له كما هو المفروض ، يكون حاله حال النهي في مسألة الاجتماع بناء على الامتناع من الجهة الأولى وتقديم جانب النهي ، وبناء على ذلك فالذي ينبغي في تقريب الاشكال على إنكار الثمرة هو الالتزام بترتب الثمرة ، وهي فساد العبادة بناء على الاقتضاء سواء قلنا بالاحتياج إلى

ص: 146


1- أجود التقريرات : 22 - 23.
2- كفاية الأصول : 157 ، 175.

الأمر أو قلنا بعدم الاحتياج ، وعدم فساد العبادة بناء على عدم الاقتضاء سواء قلنا بالاحتياج أو قلنا بعدمه ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأوّل أعني الاحتياج فلما افيد من أن الانطباق قهري والامتثال وجداني.

ولكن شيخنا قدس سره في تقريب ما أفاده المحقق الثاني جعل النظر إلى خصوص ما لو قلنا بالاحتياج ، وسكت عن ترتب الثمرة بنظر المحقق الثاني فيما لو قلنا بعدم الاحتياج ، فلاحظ وتدبر. بل صرح فيما يأتي في توضيح إيراده على المحقق بأنه : إذا بنينا على كفاية الملاك في الصحة فلا بدّ من الالتزام بصحة الفرد المزاحم حتى بناء على كونه منهيا عنه أيضا لما ستعرف في بحث النهي عن العبادة إن شاء اللّه تعالى من أن النهي المانع من التقرب بالعبادة إنما هو النهي النفسي لا الغيري ، إلخ (1).

وينبغي أن يعلم أن تكليف غير القادر تارة نقول إنه من التكليف بالممتنع فيكون من الظلم ، وأخرى نقول إنه من التكليف الممتنع ، لأن الغرض من التكليف إحداث الداعي ، والداعي لا يعقل حدوثه في حق غير القادر ، فيكون تكليفه حينئذ لغوا ممتنعا من العاقل. والأوّل راجع إلى مسألة العدل وربما لم يمنعه الأشاعرة ، بخلاف الثاني فانه يكون التكليف لغوا لا يصدر من سائر العقلاء ولا يلتزم به أحد حتى الأشاعرة. ومقتضى الأوّل تقييد المأمور به بالمقدور ، ومقتضى الثاني تقييد التكليف بالقدرة ، ولكن لا يترتب أثر من هذه الجهة ، لما حقق في محله (2) من أن القيود غير الاختيارية وإن كانت راجعة إلى المادة إلاّ أنها بالأخرة يكون الطلب مقيدا

ص: 147


1- أجود التقريرات 2 : 25 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع أجود التقريرات 1 : 196 ، وحاشية المصنف قدس سره في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 39 وما بعدها.

بحصولها ، وكذلك لو أرجعناه إلى الهيئة فان المادة تتقيد به قهرا ، فحينئذ لا محيص عن الالتزام بتقيد كل من المادة والهيئة بالقدرة وخروج غير المقدور عن حيّز الطلب ، فالمبنيان يتعاكسان فان الأوّل يوجب تقييد المادة ابتداء وتقييد الهيئة ثانيا ، والثاني بالعكس ، وبالأخرة هما يشتركان في تقييد كل من المادة والهيئة.

هذه هي خلاصة ما يأتي في محله شرحه إن شاء اللّه تعالى من كون المسألة من باب التكليف بالممتنع أو من باب التكليف الممتنع.

أما هذا الوجه الأوّل الذي أفاده شيخنا قدس سره في مقام الايراد على المحقق قدس سره بقوله : وفيه أن ما ذكره قدس سره إنما يتم بناء على أن يكون منشأ اعتبار القدرة شرطا للتكليف هو قبح تكليف العاجز الخ ، في قبال الوجه الثاني الذي أفاده بقوله : وأما إذا بنينا على أن اعتبار القدرة إنما هو لاقتضاء نفس التكليف - إلى قوله - توضيح ذلك : أن الآمر إنما يأمر بشيء ليحرك عضلات العبد نحو الفعل بالارادة ... إلخ (1) فلم أتوفق لفهمه ، فان مقتضى الوجه المقابل للوجه الثاني هو كون القدرة قيدا ابتدائيا في المكلف به حسبما عرفته ، أما هذا الوجه الذي هو مجرد قبح تكليف العاجز على وجه لا يكون راجعا إلى أحد الوجهين المتقدمين ، فمما لم أتوفق لفهم المراد منه ، فلاحظ وتأمل.

وعلى أيّ حال نحن بعد أن قلنا بتعلق الأمر بصرف الطبيعة على نحو يكون المطلوب منها هو صرف الوجود لا الطبيعة السارية ، لم يكن عدم القدرة على بعض أفرادها موجبا لتخصيص المتعلق ، سواء كان المانع من تعلق الطلب بغير المقدور هو قبح تكليف العاجز ، أو كان المانع منه هو

ص: 148


1- أجود التقريرات 2 : 23 - 24 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كون الباعث على الطلب كونه على نحو الداعي لارادة المكلف ، لما قدّمه قدس سره (1) من أن عدم القدرة على بعض الأفراد لا يخرج صرف وجود الطبيعة عن كونه مقدورا ، ولو قلنا بأن المطلوب هو الطبيعة على نحو السريان كان عدم القدرة على البعض موجبا لخروجه عن متعلق الأمر ، سواء كان المانع هو قبح تكليف العاجز أو كان المانع هو داعوية الأمر إلى إرادة المكلف.

وإن شئت فقل : إن النزاع مع المحقق الثاني إنما هو في أن عدم القدرة على بعض الأفراد الطولية للطبيعة الناشئ عن الأمر بضدها في ذلك الوقت ، هل يكون موجبا لانثلام في متعلق الأمر أو في الأمر نفسه بواسطة ذلك المقدار من عدم القدرة ، أو أنه لا يؤثر على الأمر بالطبيعة أصلا ولا يوجب اعتبار عدم تلك القدرة في ناحية الأمر ولا في ناحية المأمور [ به ](2) ، وهذا لا دخل له بكون المانع من الأمر بغير المقدور هو قبح تكليف العاجز أو الداعوية ، إذ بناء على مسلك المحقق المذكور لا يكون في البين عجز ولا عدم قدرة بالنسبة إلى متعلق الأمر ، فلاحظ.

وهذا يؤيد ما شرحناه من أن مراد المحقق قدس سره هو بقاء كل من الأمرين بحاله ، وفورية الفوري وإن كانت شرعية وهي قاضية بتأخير الموسع لكن ذلك لا بنحو الاشتراط والتقييد في متعلقه ، بل بنحو التصرف في امتثاله ، مع اعتراف لسان الفورية للفوري بأن ما يؤتى به من الموسع في زمان الفوري مصداق للامتثال ، فهي من هذه الجهة أشبه شيء بالحكومة العقلية بالتأخير بل هي هي بعينها ، لأن فورية هذا شرعا لا تقتضي النهي

ص: 149


1- راجع أجود التقريرات 2 : 22 - 23 وقد تقدّم نقل كلام المحقّق الثاني قدس سره في الحاشية السابقة ، صفحة : 136 وما بعدها.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

شرعا عن امتثال غيره في وقته ، وإنما أقصى ما في البين هو أن لزوم إطاعة الفورية الحاكم بها العقل قاضية بحكم العقل بالتأخير المذكور ، فان الأمر الشرعي بالفورية وإن اقتضى النهي عن ضدها العام أعني ترك الفورية ، إلاّ أن ترك الفورية ليس هو عين فعل ضده في محله ، بل هو مقارن لذلك الترك فضلا عن كونه ملازما له ، إذ يمكن ترك الفورية بدون فعل ذلك الضد الخاص أعني الموسع ، وبناء عليه يمكن التفرقة بين ما لو كان الموسع في أوّل الوقت غير مقدور وجدانا وما إذا كان مزاحما فيه بواجب مضيق ، ففي الأوّل يلتزم بتقييد الواجب أو الوجوب بما بعد بخلاف الثاني.

والخلاصة : هي أن التكليف بالمضيق لا يوجب عدم القدرة على الموسع وإنما يوجب لزوم تقديم امتثاله على امتثال الموسع ، وحينئذ ينحصر الجواب عما أفاده المحقق الثاني قدس سره بأن متعلق الواجب الموسع وإن كان هو صرف الطبيعة لا الطبيعة السارية ، وفورية الواجب الفوري في حد نفسها وإن لم تكن قاضية بتقييد متعلق الواجب الموسع ، إلاّ أنها بواسطة امتثالها تسلب القدرة عليه ، فتكون قاضية بسقوط إطلاق وجوب الواجب الموسع وشموله لصورة الاتيان بالواجب الفوري ، ولا تكون نتيجة ذلك إلاّ صحة الأمر بالموسع معلّقا على عدم الاتيان بالمضيق ، وهو الترتب الذي يأتي شرحه إن شاء اللّه تعالى.

وعلى هذا الذي شرحناه من مسلك المحقق الثاني قدس سره يكون حاصله هو أنه قدس سره يعترف بكون التكاليف مقيدة بالقدرة ، إلاّ أن التكليف بالمضيق لا يوجب سلب القدرة عن الموسع ، بل أقصى ما فيه أنه يولّد تصرفا في مقام الامتثال بلزوم تقديم المضيق وتأخير الموسع ، مع الاعتراف بكونه امتثالا لو قدّمه ، ولكن أوردنا عليه بأن إطلاق الأمر بالموسع لا يشمل حال

ص: 150

امتثال المضيق ، فقهرا ينحصر الأمر بالموسع بحال عدم امتثال المضيق وهو معنى الترتب.

ولكن لا يخفى أنه ما المانع من القول بأن إطلاق الموسع يشمل حال امتثال المضيق إلاّ أن الأمر بالموسع في حال امتثال المضيق أمر بغير المقدور ، فيكون المانع من الشمول هو عدم القدرة ، فيكون الأمر بالمضيق بواسطة اقتضائه الامتثال سالبا للقدرة على الموسع ، فيعود الأمر حينئذ إلى التقييد بالقدرة ، وهكذا الحال في ذلك الذي ذكرنا أنه تصرف في مقام الامتثال ، إذ لا وجه لذلك التصرف إلاّ كون الموسع غير مقدور في حال امتثال الأمر بالمضيق ، وإلاّ فلا وجه للزوم تأخير الموسع ، وإذا انتهى الأمر بالأخرة إلى أن الأمر بالمضيق بواسطة اقتضائه الامتثال يكون سالبا للقدرة على الموسع ، كان ذلك عبارة اخرى عن الالتزام بأن الأمر بالموسع مقيد بعدم امتثال الأمر بالمضيق ، وأن منشأ هذا التقييد هو عدم القدرة على امتثاله في حال اقتضاء الأمر بالمضيق امتثاله بالاتيان بمتعلقه الذي هو المضيق وحينئذ ينحصر الأمر في تصحيح الموسع في وقت المضيق بالاكتفاء بالملاك أو سلوك طريقة الترتب.

قوله : قلت : إذا كان معروض الطلب مقيدا بالقدرة كما في آية الحج (1) أو الوضوء (2) ، فلا محالة يكون كاشفا عن أن ما هو واجد للملاك هو المقيد بها أيضا - إلى قوله - وأما إذا لم يكن المعروض مقيدا بالقدرة ، بل كان عروض الطلب له مقيدا بذلك ... إلخ (3).

قلت : لا يخفى أن استكشاف الملاك في مورد بعد فرض توقفه على

ص: 151


1- آل عمران 3 : 97.
2- المائدة 5 : 6.
3- أجود التقريرات 2 : 27 - 28 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ثبوت التكليف في ذلك المورد المفروض توقفه على ثبوت الاطلاق بالنسبة إلى ذلك المورد ، يكون الطريق إليه منسدا لما حرر من سقوط الاطلاق.

والحاصل : أنه بعد فرض سقوط الاطلاق بالنسبة إلى مورد عدم القدرة لا يمكن استكشاف الملاك في ذلك المورد ، لعدم ثبوت التكليف فيه ، فان ثبوت التكليف فيه منحصر بالاطلاق المفروض سقوطه في المورد المزبور ، وحينئذ ينحصر دفع الاشكال باختلاف الرتبة.

وليس المراد به كما يظهر من صدر هذه العبارة وذيلها أن القيود التي لها الدخل في الملاك تكون لاحقة للمادة ، والقيود التي ليس لها دخل في الملاك تكون لاحقة لعروض الطلب ، وأن مرتبة المعروض سابقة على رتبة عروض العارض له ، فان ذلك بظاهره واضح الفساد ، حيث قد تحقق في مبحث الواجب المشروط (1) أن القيد فيه راجع إلى المادة في مرتبة عروض الطلب عليها ، وأن القيد اللاحق للمادة قبل عروض الطلب عليها إنما هو قيد الواجب لا قيد الوجوب ، ومن الواضح أن ما يكون دخيلا في ملاك الطلب على وجه يكون وجوده بمنزلة السبب في تعلق الطلب بالمادة إنما هو قيد الوجوب لا قيد الواجب.

بل المراد باختلاف الرتبة هو أن قيود الوجوب وشروطه ، سواء كانت دخيلة في الملاك أو لم تكن كالقدرة كلها تكون لاحقة للمادة في مقام عروض الطلب عليها ، لكنها تختلف باعتبار أن منشأ التقييد بها تارة يكون هو عليتها للطلب وهي القيود التي لها دخل في الملاك ، وربما كانت القدرة من جملتها كما في وجدان الماء وكما في الاستطاعة. واخرى يكون منشأ التقييد بها هو علية الطلب للتقيد بها ، وهي القدرة وما يحذو حذوها

ص: 152


1- في صفحة : 12 وما بعدها من المجلّد الثاني من هذا الكتاب.

كالدخول في ابتلاء المكلف ، بل عدم الاضطرار أيضا ، فان المنشأ في تقيد الطلب بها والعلة فيه هو الطلب نفسه ، حيث إنه بعث على الارادة ، ولا يمكن تحقق الارادة فيما ليس بمقدور أو فيما هو خارج عن الابتلاء أو فيما هو مضطر إليه.

فإذا كانت حيثية التقييد مختلفة من حيث الرتبة يكون الاطلاق أيضا مختلفا من الحيثية المذكورة ، بحيث يكون للطلب الواحد ناحيتان من الاطلاق. وإن شئت فقل : تكون له جهتان من الاطلاق ، الجهة الاولى إطلاقه من حيث اشتراطه بما يكون له العلية في نفس الطلب ، والجهة الثانية هي إطلاقه من حيث اشتراطه بما يكون نفس الطلب علة في اشتراطه ، وإذا سقط إطلاقه من الجهة الثانية بالنسبة إلى مورد عدم القدرة فلا يكون ذلك موجبا لسقوط إطلاقه من الجهة الاولى.

لكن قد يقال في الايراد على ذلك : بأنه بعد فرض التقييد وسقوط الاطلاق من الجهة الثانية ، لو قلنا ببقاء الاطلاق من الجهة الاولى كان مقتضاه ثبوت الطلب في مورد عدم القدرة ، وذلك مناف للتقييد من الجهة الثانية لأن مقتضى التقييد من الجهة الثانية هو عدم تحقق الطلب في مورد عدم القدرة.

اللّهم إلاّ أن يجاب عنه باختلاف الحيثية أعني اختلاف الرتبة ، فيقال إن الطلب في مورد عدم القدرة ثابت من حيث عدم تقيده بما يكون علة فيه ، وليس بثابت من حيث تقيده بما يكون التقيد به معلولا للطلب ، وذلك عبارة اخرى عن ثبوت الطلب من حيث الملاك دون الخطاب ، فتأمل.

والأولى أن يجاب عن أصل الاشكال : بأن مقتضى الاطلاق هو ثبوت الطلب في مورد عدم القدرة ، ويكون ثبوت الطلب في ذلك المورد كاشفا

ص: 153

عن ثبوت الملاك ، ولا يرفع اليد عن هذا الاطلاق إلاّ بمقدار دلالة الدليل الدال على خلافه ، وليس لنا في قبال هذا الاطلاق إلاّ حكم العقل بقبح الطلب من غير القادر أو عدم إمكان تعلق الطلب بغير المقدور ، فإذا وسّعنا غير المقدور إلى ما يكون غير مقدور شرعا ولو من جهة الأمر بالضد الأهم كان هذا التقييد الناشئ عن هذا الحكم العقلي مقصورا على عدم تأثير ذلك الطلب المتعلق بالمهم في حق من ابتلي بالضد الأهم ، من دون أن يكون موجبا لقصور في متعلق الطلب المتعلق بالمهم ، بل من دون قصور في نفس طلب المهم ، بمعنى أن العقل يحكم على ذلك المكلف بأن يتأثر عن الطلب المتعلق بالأهم ولا يتأثر عن الطلب المتعلق بالمهم ، فلا يكون العقل حاكما بخروج المهم عن تحت دائرة الطلب فضلا عن دائرة الملاك.

ولو أطلقنا عليه الاخراج والتخصيص فانما هو بهذا المقدار ، لا أنه تخصيص وإخراج واقعي ليكون من قبيل الخاص والعام ، فان هذا التقديم إنما هو من باب التزاحم الذي سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) تحقيق أنه لا يرجع إلى التخصيص ، وأن التقديم الناشئ عن التزاحم لا ربط له بالتقديم الناشئ عن التعارض ، فان ذلك - أعني التقديم الناشئ عن التعارض - هو الذي يكون موجبا للتخصيص دون التقديم الناشئ عن باب التزاحم ، ولعل أصل هذا الاشكال من جملة الاشكالات الراجعة إلى الخلط بين باب التزاحم وباب التعارض.

ثم إن هذا المبنى وهو عدم تأثر المكلف من ناحية الأمر بالمهم في مورد عدم القدرة عليه لكونه مأمورا بالأهم هو المصحح للترتب ، بأن يكون عدم تأثر المكلف من ناحية الأمر بالأهم المعبّر عنه بعصيان الأهم شرطا في

ص: 154


1- راجع أجود التقريرات 2 : 48 ، وراجع أيضا الصفحة : 272 من هذا المجلّد.

توجه الخطاب بالمهم ، وبه ينحل الأمر بالجلوس في الصلاة عند عدم القدرة على القيام ، ليكون محصل الأمر بالجلوس هو أنك إن لم تتأثر بالأمر بالقيام لعدم كونه مقدورا لك فصلّ من جلوس ، بخلاف ما لو قلنا إن محصله هو أنك إن لم تقدر على القيام فصلّ من جلوس ، على حذو قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (1) ليكون ذلك موجبا لاشتراط التكليف الأولي بالقدرة ، ليكون من قبيل ما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، ليتأتى فيه عدم الترتب أو عدم التصحيح بالملاك فيما لو زوحم القيام بما هو أهم منه فانتظر ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في باب التزاحم في تزاحم الأجزاء والشرائط (2) من شبهة كونها مشروطة بالقدرة الشرعية بواسطة أن أبدالها مشروطة بعدم القدرة عليها ، ليكون حالها حال الطهارة المائية التي كان مدرك كونها مشروطة بالقدرة هو اشتراط بدلها الذي هو الطهارة الترابية بعدم التمكن منها ، ببرهان أن التفصيل قاطع للشركة ، ليرد عليه أن مزاحمة القيام مثلا للركوع من قبيل تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية.

قوله : ففيه مضافا إلى أن هذا إنما يتم فيما إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في الملاك - إلى قوله - أن لزوم نقض الغرض ليس من مقدمات التمسك بالاطلاق ، بل من مقدماته تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ... إلخ (3).

الأولى نقل ما حررته عنه في هذا المقام فلعله أوضح ، فانه أجاب عنه أوّلا : بأن المدار في الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس هو الوقوع

ص: 155


1- النساء 4 : 43.
2- في صفحة : 274 ، راجع أيضا الصفحة : 182 و 251.
3- أجود التقريرات 2 : 29 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

في خلاف الواقع ، كي يقال إن ترك التقييد فيما نحن فيه مع إرادة المقيد في الواقع لا يوجب الوقوع في خلاف الواقع ، بل المدار في ذلك هو نقض الغرض ، وأن المتكلم إذا كان بصدد بيان ما له الدخل في ملاك حكمه وكان ملاك حكمه منحصرا بالقدرة ومع ذلك لم يبين ذلك ، كان ناقضا لغرضه من كونه بصدد البيان.

وثانيا : أن عدم البيان في المقام يكون موجبا للوقوع في خلاف الواقع ، حيث إن المراد من عدم القدرة ليس هو خصوص عدم القدرة وجدانا ، بل المراد به الأعم منه ومن عدم القدرة بواسطة الأمر بالأهم ، ففي هذه الصورة لو أتى المكلف بالمهم اعتمادا على ثبوت الملاك مستندا في ذلك إلى الاطلاق كان واقعا في خلاف الواقع. وبالجملة : أن كلا من الصغرى والكبرى ممنوعة فيما نحن فيه من الاشكال المذكور ثالثا.

قوله : قلت : التمسك بالاطلاق تارة يكون لأجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام ، ومن المعلوم أنه يتوقف على إحراز كونه في مقام البيان ، وإلاّ لما كان الاطلاق كاشفا عن تعلق إرادته بالمطلق واخرى يكون لأجل كشف المعلول عن علته بطريق الإنّ ، وهذا لا يتوقف على كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه ، وما نحن فيه من هذا القبيل ... إلخ (1).

تقدم (2) أن استكشاف الملاك في مورد يتوقف على ثبوت التكليف في ذلك المورد ، وحينئذ فلو كان غرضنا استكشاف الملاك في مورد عدم القدرة كان علينا أن نثبت إطلاق التكليف بالنسبة إلى مورد عدم القدرة

ص: 156


1- أجود التقريرات 2 : 30 - 31 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 151 - 152.

لننتقل من ثبوت التكليف فيه انتقالا إنيا إلى ثبوت الملاك ، ومن الواضح أن ذلك موقوف على جريان مقدمات الحكمة بالنسبة إلى مورد عدم القدرة ومنها كونه في مقام البيان.

فالحجر الأساسي في حل الاشكال هو إثبات الاطلاق بالنسبة إلى مورد عدم القدرة المتوقف على كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة ، وأنت بعد أن عرفت أن في المقام جهتين من الاطلاق ، إحداهما سابقة في الرتبة على الاخرى ، وأن سقوط الاطلاق في الجهة الثانية لا يستلزم سقوطه في الجهة الاولى ، تعرف أنّ تمسكنا بالاطلاق من الجهة الاولى إنما هو من قبيل النحو الأوّل من التمسك دون النحو الثاني.

نعم ، بعد الفراغ من تمامية التمسك بالاطلاق في الجهة الاولى على النحو الأوّل ، أعني كشف ما هو مراد المتكلم ، ننتقل إلى النحو الثاني ، أعني أنا بعد تصحيح الاطلاق من الجهة الاولى واستكشاف أن مراد المتكلم هو الاطلاق من الجهة الاولى وثبوت إطلاق الطلب ، ننتقل إلى علته انتقالا إنيا ، فيكون استكشاف الملاك في طول المراد المستكشف من الاطلاق من الجهة المذكورة ، بمعنى أنه بعد أن ثبت بالاطلاق أن مراد المتكلم هو إطلاق متعلق الطلب وعدم تقييده من الجهة المذكورة بالقدرة نستكشف عدم مدخلية القدرة في تحقق الملاك. ومن ذلك يظهر لك التأمل في الحاشية (1) وعدم ورود شيء منها على ما أفاده شيخنا قدس سره.

والحاصل : أنه ربما يتوجه الاشكال على التمسك بالاطلاق من الجهة الاولى على إثبات الملاك عند فقد القيد ، لأن التمسك بالاطلاق لاثبات الملاك يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة أعني جهة

ص: 157


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 30 - 31.

الملاك ، ومن الواضح أن الآمر بالفعل لا يكون ناظرا إلى ملاكه كي يمكن القول بأنه في مقام البيان من ناحية الملاك.

وأجاب عنه بأن ثبوت الاطلاق وعدم ذكر القيد في الجهة الاولى أعني جهة المتعلق لا يكون متوقفا على كونه في مقام البيان من ناحية الملاك ، بل يكفي فيه كونه في مقام البيان من ناحية المتعلق ، وبذلك يثبت كون المتعلق مطلقا ، وهو بناء على مسلك العدلية يكون كاشفا عن عدم مدخلية القيد في الملاك وأن الملاك متحقق عند عدم القيد ، كشف المعلول عن علته ، وذلك أعني كشف المعلول عن علته يكون قهريا تابعا لواقعه من دون حاجة إلى نظر المتكلم إلى الملاك ، ولا على أنه في مقام البيان من ناحية الملاك.

لكن هذه الطريقة لا تخلو عن وعورة كما عرفت فيما تقدم (1) ، فلا بدّ أن نقول أوّلا : أن حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور أو بمحاليته لا يؤثر على تقييد الطلب على وجه يكون مخصصا له ، بل إن ذلك الحكم العقلي مقصور على الرتبة الثانية أعني رتبة المعذورية والامتثال ، وليس حالها إلاّ حال المعذورية بالنسبة إلى من لم يصله ذلك الخطاب ، حيث إن كلامنا إنما هو في التكاليف العامة التي تكون على نحو القضايا الحقيقية دون التكاليف الشخصية التي تكون على نحو القضية الخارجية.

وثانيا : أنا لو سلّمنا ذلك التقييد في القدرة التكوينية فلا نسلّمه في القدرة الشرعيّة التي يكون عدمها ناشئا عن التكليف بما هو الأهم أو المضيق ، فان مثل ذلك لا تكون الحكومة العقلية فيه إلاّ في مقام الامتثال دون مقام أصل الطلب ، وإلاّ خرجت المسألة عن باب التزاحم ودخلت في

ص: 158


1- راجع الحاشية المتقدمة ، صفحة : 151 وما بعدها.

باب التعارض ، من دون فرق في ذلك بين المضيقين أو الموسع والمضيق أما الثاني فواضح لما عرفت (1) من عدم المزاحمة بين الموسع والمضيق وأما الأوّل فلأن التكليفين وإن كانا مضيقين إلاّ أنهما ليسا مضيقين بالأصالة وإلاّ لكانا من باب التعارض ، وإنما الكلام فيما لو طرأ الضيق على أحدهما بأن كانا معا موسعين ولكن اتفق تضيقهما ، أو كان أحدهما مضيّقا بالأصالة وكان الآخر موسعا ثم طرأه التضييق ، فانهما حينئذ يدخلان في باب التزاحم ، وحينئذ لا تكون الحكومة العقلية إلاّ من قبيل التصرف في مقام الامتثال ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أن الموسعين لا تزاحم بينهما أصلا سواء كانت القضية خارجية أو كانت كلية حقيقية ، أما المضيقان فان كانت القضية خارجية كانا من باب التعارض ، وكذلك لو كان التزاحم دائميا ولو في القضية الكلية ، كما في وجوب الاستقبال وحرمة الاستدبار ، وكما في وجوب الكون بعرفات يوم التاسع من ذي الحجة ووجوب الكون في المسجد في ذلك اليوم. ولو كانت القضية كلية وكان التزاحم اتفاقيا لم تكن من باب التعارض ، وكانت من باب التزاحم ، ولو قلنا بالحاق عدم القدرة شرعا بعدم القدرة عقلا ، وقلنا بأن عدم القدرة موجب للتقييد ، لزمنا القول بكونهما من باب التعارض ، وكذلك الحال في الموسع والمضيق ، لكن لا فرق فيه على الظاهر بين كون القضية خارجية وكونها كلية ، فانهما على كل حال لا يكونان إلاّ من باب التزاحم ، ولو قلنا بأن عدم القدرة الشرعية موجب للتقييد والتخصيص كانا من باب التعارض لا التزاحم.

وحاصل البحث : أن التقييد بالقدرة في المرحلة الثانية مسلّم لكن

ص: 159


1- في صفحة : 140 وما بعدها.

لا أثر له في عالم الملاك ، بل إن عالم الملاك تابع للاطلاق والتقييد في المرحلة الاولى ، هذا حاصل ما أفاده قدس سره.

ولكن ذلك لا يخلو عن تأمل ، لأنه مع فرض كون القدرة قيدا في المرحلة الثانية يرتفع الأثر في التقييد بها في المرحلة الاولى إلاّ في ناحية الملاك ، والمفروض أنه خارج عن نظر الآمر ، وظهور الأثر في غير المقدور شرعا غير نافع إلاّ بدعوى أن غير المقدور الشرعي بمنزلة غير المقدور عقلا فلا بدّ من تسوية المسألة في غير المقدور العقلي لنقيس عليه غير المقدور الشرعي.

ولا يخفى أنه قد تقدم في بعض المباحث (1) أن ما يكون دخيلا في الملاك على نحوين :

الأوّل : ما يكون بمنزلة الفتق ، مثل حدوث الآية باعتبار أن حدوثها يوجب نقصا يتلافى بصلاة الآيات ، ونحو ذلك من الحوادث التكوينية مثل طلوع الفجر وحدوث الزوال ، بل إن ذلك جار في بعض الحوادث الاختيارية مثل الافطار العمدي الذي يكون تلافي ما يحدث به في نفس الإنسان من النقص بالكفارة ، وهذا النحو يعبّر عنه بشرط التكليف وهو مفاد لفظة إن الشرطية ونحوها من أدوات الشرط ، وربما لم يكن لأجل حدوث نقص بحدوث ذلك الحادث ، بل يكون حدوثه علة في صيرورة الفعل ذا مصلحة ، فلا يخرج عن كونه شرطا في التكليف بذلك الفعل وعن التعبير عنه بمفاد إن الشرطية ونحوها من أدوات الشرط ، وعلى كل حال تكون مرتبته قبل الحكم.

ص: 160


1- وهو مبحث المطلق والمشروط ، راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، صفحة : 40.

النحو الثاني : ما تكون مدخليته بمنزلة الرتق ، بأن يكون رتق الصلاة الواجبة عند الآية مثلا متوقفا على كونها إلى القبلة أو كونها مع الطهارة أو كونها في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني ، ونحو ذلك من القيود التي يكون بعضها داخلا في الاختيار وبعضها خارجا عن الاختيار ، ويعبّر عن هذا النحو بكونه شرط الواجب وبكونه من متعلقات الفعل الواجب ، مثل صلّ متطهرا أو إلى القبلة أو في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني ، إلى غير ذلك من أنحاء متعلقات الفعل ، وكلها تكون واقعة تحت الطلب والايجاب ، فما كان منها اختياريا كان واجبا بايجاب الصلاة المقيدة به ، وما كان خارجا عن الاختيار يكون دخيلا في الملاك ، إلاّ أنه لا يتعلق به البعث مع فرض كون الصلاة المقيدة به متصفة بالوجوب.

وهكذا الحال في نفس الصلاة إذا اتفق كونها غير مقدورة ، فانها لا تخرج بواسطة عدم القدرة عليها عن كونها مركبا للوجوب ، وإن لم يتوجه البعث إليها في حال عدم القدرة عليها ، فان هذه المراتب أعني مرتبة البعث والزجر بل واستحقاق العقاب على المخالفة وإن كانت متفرعة عن جعل الوجوب لها ، إلاّ أن حكم العقل بعدم تحققها لا يوجب سقوط أصل وجوبها ولا ينافي بقاء ملاك الرتق فيها ، وهذا - أعني أصل وجوبها وكونها مشتملة على ملاك الرتق - وإن لم يكن له [ أثر ](1) في صورة عدم القدرة عقلا إلاّ أنه يظهر أثره في صورة عدم القدرة شرعا كما لو زوحمت بما هو الأهم كالازالة ، فان المزاحمة المذكورة وإن أوجبت سلب القدرة عنها إلاّ أن هذه القدرة ليست دخيلة في الملاك لا فتقا ولا رتقا ، فلا يكون انتفاؤها

ص: 161


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

موجبا لانتفاء الملاك رتقا ولا فتقا ، فلا يكون موجبا لسقوط أصل الوجوب ، ولا لسقوط ملاك الرتق فيها ، فينفتح بذلك باب الاتيان بها بداعي الملاك وليس في البين إلاّ مجرد حكم العقل بعدم باعثية الوجوب وهو لا يوجب سقوط الملاك.

بل لو قلنا بسقوط الوجوب أيضا لعدم اجتماعه مع وجوب ما هو الأهم الذي تكون مزاحمته لوجوبها موجبا لسلب القدرة عليها شرعا ، إلاّ أن ذلك ليس تقييدا شرعيا لايجابها بالقدرة عليها على وجه تكون القدرة شرطا في كونها ذات ملاك ، بل أقصى ما فيه هو سقوط طلبها والبعث إليها ، لما عرفت من أن هذه القدرة ليست دخيلة في الملاك لا فتقا ولا رتقا ، فلا يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء الملاك ، بل تبقى الصلاة على ما هي عليه من الملاك الفتقي والرتقي ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بسقوط البعث حتى لو قلنا بحكم العقل بسقوط الوجوب لم يكن ذلك موجبا لسقوط ملاك الصلاة رتقا ولا فتقا.

لا يقال : لعل القدرة على الصلاة تكون لها المدخلية في كونها راتقة ومع عدم القدرة عليها لا تكون واجدة لملاك الرتق.

لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك لكانت القدرة عليها دخيلة في ملاك الفتق ، بأن يكون الحاصل أنه إن وقعت الزلزلة وكنت قادرا على الصلاة كانت الصلاة المقدورة سادّة لذلك النقص الحادث ، وهذا المعنى يدفعه إطلاق الأمر بالصلاة وعدم تقييده بالقدرة بمفاد لفظة إن الشرطية ، وأقصى ما قيّد به هو حدوث الزلزلة ، أما مجرد حكم العقل بعدم وجود الأمر في مورد عدم القدرة فليس براجع إلى التقييد في مرحلة الفتق ، أو ما يرجع إليه

ص: 162

من صيرورة الصلاة ذات مصلحة توجب إيجابها ، بل هو تصرف في مقام البعث والمحركية ، لا في مقام العلية للايجاب ليكون عن قصور في الملاك والمصلحة ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما لو علمنا بوجود المصلحة التامة في الفعل ولكن كان هناك مانع يمنع المولى من الايجاب ، بل هو هو بعينه ، لأن فعلية الأمر بالأهم تمنع المولى من طلب مزاحمه الذي هو المهم.

وليس في البين إلاّ أنه ما دامت المزاحمة فلا أمر ولا إيجاب للصلاة لكن انتفاء الأمر ليس لأجل عدم الملاك فيها بل لأجل المزاحمة ، فإذا قلنا بالصحة وعدم توقف العبادية على الأمر واكتفينا بالملاك كانت العبادة صحيحة ، وإن منعنا من ذلك تعلّقنا بالترتب الذي ندعي أنه يدفع المزاحمة الموجبة للتدافع ، ولعل من صحح المسألة بالملاك قد تعلق في ذهنه الترتب فأبرزه بقالب الملاك.

قوله : ثم إنه ربما يورد على ما ذكرناه من تصحيح العبادة بالملاك بأن الأمر بالصلاة مع الأمر بالازالة مثلا بعد امتناع اجتماعهما متعارضان ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات ... إلخ (1).

توضيح الاشكال : هو أن يقال : كما أن بين مثل أكرم العلماء أو أكرم عالما ولا تكرم الفساق ، تعارض العموم من وجه ، فكذلك بين مثل أزل النجاسة وصلّ أيضا هذا التعارض ، غايته أن العموم في الأوّل أفرادي وفي الثاني أحوالي ، حيث إن الثاني من المثال الثاني يدل على وجوب الصلاة بقول مطلق ، سواء وجبت عليك إزالة النجاسة أو لم تجب ، كما أن الأوّل منه يدل على وجوب الازالة وجبت عليه الصلاة أو لم تجب ، ففي مورد

ص: 163


1- أجود التقريرات 2 : 32.

الابتلاء بهما معا يلزم توجه كلا الأمرين ، وهما متنافيان ، فلا بدّ من إسقاط ذلك الاطلاق في أحدهما.

وتوضيح الجواب يتوقف على تمهيد مقدمات :

الاولى : أن بعض التكاليف ما هو مشروط شرعا بالقدرة ، فتكون القدرة دخيلة في ملاكه ، وبعض التكاليف لا يكون مشروطا شرعا بالقدرة ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بعدم إطلاق الخطاب بالبعث لمورد عدم القدرة ، فتكون القدرة شرطا للخطاب لا للملاك بالنحو الذي تقدم شرحه في الحواشي السابقة (1) ولو بمعنى حكم العقل بعدم امتثال ما هو متأخر في مقام التزاحم. وحاصل الفرق هو أن سقوط الاطلاق في الأوّل يكون بحكم الشارع وفي الثاني بحكم العقل.

وبالجملة : أن الموجب لسقوط الاطلاق في مورد عدم القدرة إن كان هو عدم الملاك كان الحاكم به هو الشارع ، وإن كان الموجب لسقوطه هو حكم العقل بقبح خطاب غير القادر أو محاليته كان الحاكم به هو العقل ، ونعبّر عن الأوّل بالمشروط بالقدرة الشرعية وعن الثاني بالمشروط بالقدرة العقلية.

الثانية : أن التعارض إنما يكون في مقام الاثبات والحكاية عن الحكم الشرعي الواقعي المفروض كونه واحدا ، لا في مقام الثبوت ، فان مقام الثبوت لا يعقل فيه التعارض حتى تعارض العموم المطلق فضلا عن التباين والعموم من وجه ، نعم في مقام الثبوت وإن شئت فقل مقام الجعل والتشريع ربما كان للشيء ملاكان أحدهما يقتضي التحريم مثلا والآخر يقتضي الايجاب ، ولكن لا بدّ للشارع من ملاحظة الأهم منهما فيجعل

ص: 164


1- راجع الصفحة : 159 وما بعدها.

الحكم على طبقه ، ويبقى الآخر لغوا لا يستتبع حكما ، فان لم يترجح عنده أحد الملاكين على الآخر حكم بالتخيير أو الاباحة ، ويسمى ذلك بالتزاحم الآمري أعني تزاحم الملاكات في مقام الجعل والتشريع. وعلى أيّ حال لا تكون النتيجة في اجتماع الملاكين في ذلك المقام إلاّ جعل حكم واحد كما لو لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد.

ثم بعد جعل الحكم الواقعي تصل النوبة إلى مقام الاثبات والحكاية فربما كانت رواية تدل على حرمة الشيء واخرى تدل على وجوبه ، وحينئذ قهرا نحن نعلم أنهما معا غير مجتمعين على الصدق والمطابقة للواقع ونحتمل صدق إحداهما ومطابقتها للواقع دون الاخرى ، كما نحتمل عدم مطابقتهما معا للواقع وأن الحكم الواقعي على خلافهما ، و [ في ](1) هذا المقام أعني مقام الحكاية عن الواقع يقع التعارض ، وهو منحصر في ثلاثة أنواع : تعارض التباين ، وتعارض العموم من وجه ، وتعارض العموم والخصوص المطلق ، ومنه تعارض الاطلاق والتقييد.

أما التزاحم فان كلا من الحكمين فيه مفروض المطابقة للواقع ، وإنما يقع التدافع بينهما لأجل اتفاق عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فالتعارض لا يكون إلاّ في مقام التنافي في مقام الحكاية مع فرض وحدة المحكي أعني الحكم الواقعي وعدم تعدده ، واحتمال كون المطابق هو إحدى الحكايتين دون الاخرى ، أو احتمال عدم مطابقتهما مع فرض العلم بعدم صدقهما معا ، والتزاحم إنما يكون بعد فرض صدق كل من الحكمين وأن التدافع بينهما إنما هو في مقام الخروج عن عهدتهما ، لعدم إمكان

ص: 165


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

امتثالهما معا وأنه لا بدّ من رفع اليد عن امتثال أحدهما.

المقدمة الثالثة : أن التدافع بين التكليفين تارة يكون لأجل عدم إمكان اجتماعهما وتنافيهما بحسب الذات ، كما في حرمة الفعل وإباحة نفس ذلك الفعل فانهما متنافيان ذاتا ، ولا ربط لهذا التنافي بقدرة المكلف ويلحق به ما انضم إلى هذا التنافي عدم قدرة المكلف على امتثالهما مثل وجوب الشيء وحرمته ، فان عدم قدرة المكلف في مثل ذلك لا أثر له في ذلك التنافي الذاتي بينهما ، إذ لو سوّغنا التكليف بغير المقدور لكان هذا التنافي موجودا بينهما لاستحالة اجتماعهما ، لكونه من قبيل اجتماع النقيضين ، ويكون حالهما من هذه الجهة حال اجتماع حرمة الشيء وإباحته ، ومن ذلك الوجوب المتعلق بالضدين ، فان الأمر بكل منهما محال مع قطع النظر عن قدرة المكلف وعدم قدرته ، وذلك لأن وجوب أحد الضدين مضاد لوجوب الضد الآخر ، فإذا دل دليل على وجوب أحد الضدين مثل بيّض هذا الجسم ، كان معارضا لما يدل على وجوب الضد الآخر مثل قوله : سوّد ذلك الجسم بعينه.

وتارة اخرى يكون التدافع بين التكليفين ناشئا عن مجرد عدم قدرة المكلف على امتثالهما ، مع فرض عدم التناقض والتضاد بين التكليفين ولا بين متعلقيهما ، وذلك كما في مثال أزل النجاسة وصلّ ، فان كل واحد من هذين الوجوبين في حد نفسه لا يدافع الوجوب الآخر ، كما أنه لا مضادة بين متعلقيهما ، وأقصى ما في البين هو الاطلاق المذكور في كل منهما ، أعني قوله أزل النجاسة سواء كانت الصلاة واجبة أو لم تكن وكذلك العكس ، ولا ريب أنه لا تدافع بينهما في صورة عدم وجوب الصلاة مثلا كما أنه لا تدافع بينهما في صورة وجوب الصلاة لو كان الجمع بينهما

ص: 166

مقدورا ، وإنما يقع التدافع بينهما في صورة واحدة وهي صورة عدم القدرة على الجمع بينهما.

وفي هذه الصورة إن حكم الشرع بكون أحدهما مقيدا بالقدرة ارتفع التدافع بينهما ، وكان ما لم يقيده الشارع بالقدرة حاكما على ما قيّده الشارع بها ، وإن حكم بكون كل منهما مقيدا بالقدرة كان المقدم في مقام التدافع هو الأسبق زمانا إن كان سبق زماني ، وإلاّ كان المكلف مخيرا بينهما ، وإن لم يحكم الشارع بشيء من التقييد كان التقييد بها عقليا صرفا وكان من باب التزاحم المأموري ، ولا ربط له بمقام التزاحم الآمري ، ولا بباب التعارض في مقام الاثبات والحكاية.

ومن ذلك كله يظهر لك الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم الفساق ومثل صلّ وأزل النجاسة ، فانه قد ظهر لك أن التدافع في المثال الأوّل لمّا كان راجعا إلى نفس التكليفين وإلى تنافيهما في حدّ نفسهما مع قطع النظر عن قدرة المكلف ، كان ذلك واقعا بينهما في مقام الثبوت ، وحيث إنه يستحيل اجتماعهما على هذه الكيفية في مقام الثبوت والواقع فلا جرم يكون التكاذب بينهما في مقام الحكاية ، فيكونان من قبيل المتعارضين بخلاف الثاني فان التدافع فيه لمّا كان منحصرا في ناحية قدرة المكلف كان الرافع له هو العقل بتقديم ما هو الأهم ، وتقييد الخطاب بالمهم بعدم الاتيان بالأهم إن كان أحدهما أهم ، وإلاّ كان كل منهما بنظر العقل مقيدا بالآخر وهو عبارة عن التخيير العقلي بينهما ، ويكون حالهما في ذلك حال باقي التكاليف المشروطة بالقدرة العقلية في إطلاق التكليف الواقعي وعدم تقييده في اللوح المحفوظ بالقدرة ، فلا يقع بينهما تكاذب في مقام الحكاية عن الواقع لكي يكونا من قبيل التعارض ، بل لا يكون التدافع بينهما إلاّ في مقام

ص: 167

إطلاق الخطاب الراجع إلى مقام التزاحم دون التعارض.

ومنه يظهر لك الفرق بين المثال ومثل صلّ ولا تغصب بناء على الاجتماع من الجهة الاولى استنادا إلى كون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، فان الشخص المجمع في المثال الأوّل يكون مأمورا به من القرن إلى القدم ، كما أنه يكون منهيا عنه كذلك ، وحيث إن ذلك محال في مقام الثبوت كان بينهما تكاذب في مقام الحكاية عن الواقع ، بخلاف المجمع في الصلاة والغصب فانه إنما يكون المأمور به هو ناحية الصلاة منه المعبّر عنه بمقولة الوضع ، والمنهي عنه هو ناحية الغصب منه المعبّر عنه بمقولة الأين ، فلا تلاقي بين الحكمين كي يكونا متنافيين في مقام الثبوت ، وإنما يكون التدافع بينهما في مقام الامتثال من جهة عدم القدرة ، فلا يكونان إلاّ متزاحمين.

فقد تلخص لك : أن الفرق بين التعارض والتزاحم في مورد التدافع والتضاد يكون من وجوه ، وإن شئت فقل : إن المورد في التعارض والمورد في التزاحم يختلف كل منهما عن الآخر من وجوه :

الأوّل : أن مورد التعارض هو التدافع بين نفس الحكمين مع قطع النظر عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، ومورد التزاحم هو التدافع الناشئ عن مجرد عدم القدرة مع فرض إمكان اجتماعهما بنفسهما. وهذا المقدار من الفرق كبروي ربما حصلت المناقشة في بعض صغرياته وإلحاق ما يكون ناشئا عن عدم القدرة بالتدافع الذاتي كما لو كان عدم القدرة دائميا ، وما لا يكون المنشأ فيه هو عدم القدرة بالتزاحم ، كما في مثال الزكاة الآتي ذكره في أقسام التزاحم إن شاء اللّه تعالى (1).

ص: 168


1- أجود التقريرات 2 : 53 ، راجع أيضا الصفحة : 290 وما بعدها من هذا المجلّد.

والوجه في إلحاق التكليفين اللذين يكون عدم القدرة على الجمع بينهما دائميا بالتعارض هو لغوية أحدهما ، ولو باعتبار علم الشارع بأن المكلف يحكم عقله بسقوط إطلاقه خطابا أو بسقوط لزوم امتثاله ، ومع العلم بلغوية أحدهما يكون المكلف عالما بأن الروايتين اللتين تضمنتاهما غير صادقتين معا ، فيلزمه إجراء أحكام التعارض عليهما.

وهذا بخلاف اتفاق عدم القدرة ولو في التكاليف الانحلالية مثل أنقذ كل غريق وأطفئ كل حريق ، واتفق اجتماع الغريق والحريق مع عدم إمكان الجمع بينهما ، فان كل واحد من هذين وإن كان موردا للوجوب ، وكان عدم إمكان اجتماع وجوبه مع وجوب الآخر دائميا ، إلاّ أنه لا يضر بصدور ذلك التكليف الكلي المتضمن لانقاذ كل غريق وإطفاء كل حريق ، إذ لا يكون ذلك الحكم الكلي لغوا ، وأقصى ما فيه أن بعض أفراده غير مقدور وهو ما اتفق مع الآخر ، وهذا الفرد يحكم العقل بسقوط التكليف فيه خطابا أو بعدم لزوم امتثال الأمر الانحلالي المتعلق به ، إلاّ أن الشارع يمكنه أن يصدر الحكم الكلي وإن كان ساقطا في بعض أفراده خطابا ، ولا يلزمه بيان سقوطه في ذلك الفرد اعتمادا على الحكومة العقلية المذكورة ، بخلاف ما لو كان عدم القدرة في التكليف بتمامه دائميا ، لأن صدوره من الشارع مع فرض حكم العقل بأنه ساقط بتمامه خطابا ، أو بأن العقل حاكم بسقوطه امتثاله بتمامه يكون لغوا صرفا.

وبالجملة : أن حكم العقل بسقوط الحكم الواقعي الكلي في بعض أفراده خطابا أو في مقام الامتثال لا يوجب لغوية ذلك الحكم الكلي للاكتفاء بخروجه عن اللغوية بباقي الأفراد التي هي ليست موردا لذلك الحكم العقلي ، وهذا بخلاف حكم العقل بسقوط تمام ذلك الحكم الواقعي

ص: 169

الكلي ولو من جهة مرحلة الامتثال أو السقوط الخطابي ، فانه يوجب لغوية جعل ذلك الحكم الكلي ، بحيث إن العقل يحكم بأن الصادر من جانب الشارع هو أحد ذينك الحكمين الكليين ، فتكون الرواية المتضمنة لذلك الحكم معارضة للرواية الاخرى المتضمنة للحكم الآخر المفروض دوام عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فتجري عليهما أحكام باب التعارض وإن كان منشأ التدافع بينهما هو عدم قدرة المكلف ، ويكونان بمنزلة الحكمين اللذين يقع التدافع بينهما لذاتهما.

الثاني : أن مورد التدافع التعارضي إنما هو في مقام الإثبات والحكاية عن الحكم الواقعي ، ومورد التدافع التزاحمي إنما يكون في الحكمين الواقعيين المعبر عنه بالتزاحم المأموري.

الثالث : أن مورد التدافع التعارضي حيث إنه يكون مجهول الحكم الواقعي يكون مما يستحسن فيه السؤال من الشارع عن حكمه الواقعي بخلاف مورد التدافع التزاحمي حيث إنه لا يستحسن فيه السؤال من الشارع عن حكمه الواقعي ، حيث إن الشارع في مورد التزاحم المأموري يكون قد فرغ من بيان الحكم الواقعي في كل من المتزاحمين ، وكان الحكم الواقعي فيهما قد وصل إلى المكلف ، وإنما وقع الاشكال فيه من جهة التدافع بينهما في مقام الامتثال ، وذلك المقام ينحصر الرجوع فيه إلى العقل دون الشرع.

الرابع : أن مورد التزاحم يكون متأخرا في الرتبة عن مورد التعارض لما عرفت من أن المرتبة الاولى هي تزاحم الملاكات في مقام التشريع ونعبّر عنه بالتزاحم الآمري ، والرتبة الثانية هي مرتبة الاثبات والحكاية وفي هذه المرتبة يقع التدافع التعارضي ، وبعد الفراغ عن هذه المرتبة يقع التدافع في مقام الامتثال وهو التزاحم المأموري.

ص: 170

وهذه الجهات الأربع من الفرق بينهما كلها إنما تكون باعتبار المورد ، وهو المقام الأوّل الذي أشار إليه بقوله : أما الأوّل فتوضيحه أنه ... الخ (1).

قوله : وأما الثاني فلأن الحاكم بالترجيح والأخذ بذي المزية أو التخيير عند عدمها هو العقل في باب التزاحم والشرع في باب التعارض ، بناء على المختار من حجية الأمارات من باب الطريقية ، إذ مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط وعدم الاعتبار بمزية أحد الدليلين فيكون الحكم بالترجيح أو التخيير من باب التعبد الشرعي ... إلخ (2).

إن ما أفيد في هذا المقام الثاني لا يخلو من الاجمال ، لما عرفت (3) من أن تزاحم الملاكات في مقام التشريع الذي عبّرنا عنه بالتزاحم الآمري وإن كان الحاكم فيه هو الشارع ، ولا مجال للحكم العقلي فيه ، إلاّ أنه خارج عما نحن فيه من التدافع التعارضي والتدافع التزاحمي المعبّر عنه بالتزاحم المأموري.

ثم إن الشارع بعد الفراغ عن جعله الحكم الواقعي ووصوله إلى درجة الاثبات والحكاية يقع التدافع التعارضي ، وفي هذه المرحلة - أعني مرحلة الاثبات والحكاية عن الحكم الواقعي - لو وقع التعارض بأن كانت رواية معتبرة في حد نفسها تدل على أن الحكم الواقعي للفعل الفلاني هو التحريم ، وكانت رواية اخرى تدل على أن حكمه هو الايجاب ، فهذا هو باب التعارض ، فان قلنا بالسببية رجع إلى باب التزاحم ، وإن قلنا بالطريقية فان حكم فيه الشارع بحكم من ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى أو

ص: 171


1- أجود التقريرات 2 : 33 [ الموجود في النسخة المحشاة مغاير لفظا للنسخة القديمة ].
2- أجود التقريرات 2 : 34 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في صفحة : 164.

التخيير بينهما كان هو المتبع ، وإلاّ كان المرجع هو ما يحكم به العقل من التساقط ونحوه مما حرر في محله من أن الأصل في باب تعارض الأمارات هو التساقط أو التخيير.

ثم بعد إصلاح هذا التدافع التعارضي تصل النوبة إلى التدافع الناشئ عن عدم القدرة المعبّر عنه بالتدافع التزاحمي ، فان كان في البين تصرف شرعي في مقام عدم القدرة بأن قيّد أحدهما شرعا بالقدرة كان غير المقيّد بها مقدّما على المقيد ، وإن كان كل منهما مقيدا بها قدّم المقدم زمانا ، وإن لم يكن في البين تقييد بها في أحدهما كان المرجع في ذلك هو ما يحكم به العقل من الجهات العقلية الموجبة للتقديم في هذه المرتبة من التدافع.

وبالجملة : أن الحاكم في باب التعارض يمكن أن يكون هو العقل بالتساقط أو التخيير ، نعم لو حكم الشارع بالترجيح أو التخيير كان حكمه متبعا ، وسقط الحكم العقلي الذي كان مع قطع النظر عن الحكم الشرعي كما أن الحاكم في باب التزاحم إنما يكون هو العقل فيما إذا لم يكن في البين تصرف شرعي ، أما مع التصرف الشرعي بأن أخذ الشارع القدرة في أحدهما شرطا شرعيا كان لازمه هو سقوطه عند مزاحمته لما هو مشروط بالقدرة العقلية.

ولكن لا يخفى الجواب عن هذه الجهات ، فان ما أفاده شيخنا قدس سره إنما هو بعد فرض ثبوت الترجيح في البابين يكون الحاكم به في باب التعارض هو الشارع وفي باب التزاحم هو العقل ، وإن كان ذلك الحكم العقلي بواسطة كون أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية.

نعم ، يبقى من الترجيح في باب التعارض ما لم يكن راجعا إلى المرجحات السندية ، بل كان راجعا إلى المرجحات الدلالية ، وهو جميع

ص: 172

موارد الجمع الدلالي ، وهي مرجحات عقلائية ، بل قيل إن اغلب المرجحات السندية المنصوصة عقلائية ، وأن الترجيح الشرعي بها من باب الارشاد إلى المرجح العقلائي. اللّهم إلاّ أن يقال : إن ذلك أيضا راجع إلى المرجح الشرعي ، نظرا إلى أن الترجيح بقوة الدلالة ، أو بكون المقدم بالنسبة إلى المقدم عليه من قبيل القرينة وذيها ونحو ذلك من الاصول العقلائية في باب الجمع الدلالي ، كلها راجعة إلى المرجح الشرعي ولو باعتبار إمضاء الشارع لذلك الأصل العقلائي.

وهكذا الحال في المرجحات السندية المدعى كونها عقلائية ، فان القواعد العقلائية ما لم يكن لها إمضاء من جانب الشارع ولو من باب عدم الردع لا اعتبار بها. وكيف كان ، فالأمر سهل في هذه الجهات كلها لوضوحها.

وخلاصة البحث : أن ما أفاده قدس سره من الفرق بأن التنافي في مورد التعارض يكون لذات الحكمين وفي مورد التزاحم لاتفاق عدم القدرة على الجمع بينهما يحتاج إلى توضيح ، وهو أن الضدين المأمور بكل منهما تارة يكون التضاد بينهما دائميا واخرى اتفاقيا.

فما كان التضاد بينهما اتفاقيا يتصور على صور ثلاث ، الاولى : أن يكون وجوب كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واخرى : يكون أحدهما مشروطا بذلك دون الآخر ، وثالثة : لا يكون شيء منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، بل تكون القدرة في كل منهما شرطا عقليا.

أما لو كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا دون الآخر كان الثاني حاكما على الأوّل ، فان شئت فسمّه تعارضا ، وهذه الحكومة جمع دلالي كما في الجمع بين دليل حجية الأمارة ودليل حجية الأصل ، فانه عند اجتماعهما في مورد يكون الأوّل حاكما على الثاني ، وإن شئت فسمّه

ص: 173

تزاحما ، وهذا التقديم بحكومة العقل ، إذ لا نزاع في التسمية بعد أن وضح الطريق في رفع التنافي.

وأما لو كان كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا فالمقدّم هو المقدّم زمانا ، ولو تقارنا كان المقام من قبيل التخيير كما هو الشأن في بعض صور التخيير الشرعي ، هذا هو حل رفع التنافي فما شئت فقل في التسمية.

وأما الأخير وهو كون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فقد تقدم أن التنافي بينهما إنما هو في مرتبة البعث والتحريك (1) ، فان كان أحدهما أهم سقط الآخر عن هذه المرتبة ، ولا وجه لسقوطه ملاكا ، بل لا وجه لسقوط أصل التكليف ، وهذا السقوط هو المعبّر عنه بكون الشرط شرطا في الخطاب لا في الملاك.

ولو لم [ يكن ](2) في البين ما يوجب التقديم تولد التخيير ، ونتيجته هي أن كلا منهما محرّك عند عدم التحرك عن الآخر. وهذه الطريقة لا معدل عنها سواء سميناهما متعارضين أو سميناهما متزاحمين ، وسواء قلنا إن العقل هو الحاكم بها أو فرضنا أن الشارع قد تنازل وحكم بها ، فان حكمه لا يكون إلاّ من قبيل الارشاد إلى ما يحكم به العقل. وعلى أيّ حال أن الشارع في هذا المقام ليس له أن يداوي هذا التدافع بينهما باسقاط المهم خطابا وملاكا ، لأن الدواء إنما هو في مرحلة الداء ، والداء وهو التدافع إنما كان في الاقتضاء والباعثية دون نفس التكليف فضلا عن مرحلة الملاكية. هذا كله فيما لو كان التدافع والتضاد اتفاقيا.

أما لو كان دائميا ، فان لم يكونا مشروطين بالقدرة الشرعية كان

ص: 174


1- راجع الصفحة : 161 - 162.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

التزاحم آمريا ، فان كان أحدهما في نظر الشارع أهم جعل الحكم على طبقه دون المهم إلاّ مشروطا بعدم القدرة على الأهم أو مشروطا بعصيان الأهم والأوّل خارج عن محل الكلام من كون كل منهما مقدورا في حد نفسه وإنما جاء التدافع من جهة عدم القدرة على الجمع بينهما ، والثاني راجع إلى الترتب. وإن لم يكن أحدهما أهم تولد من ذلك التخيير الشرعي بينهما الذي يكون مرجعه تعين أحدهما عند عدم القدرة على الآخر أو عند عدم امتثاله. وكذلك الحال فيما لو كانا مشروطين بالقدرة الشرعية ، فانه يوجب التخيير الشرعي بينهما. وإن كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر سقط ما هو المشروط بها دون الآخر ، إلاّ إذا فرضنا عدم القدرة على الآخر وكان المشروط مقدورا توجه الأمر بالمشروط بالقدرة الشرعية مقيدا بها وبعدم القدرة على الآخر.

قوله : فان الواجب التخييري بالنسبة إلى خصوص فرده المزاحم لا اقتضاء ، بخلاف الواجب التعييني فان فيه اقتضاء لخصوص الفرد المزاحم لفرض تعينه ، ومعلوم أن ما ليس فيه اقتضاء لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ... إلخ (1).

لا يخفى أن لازم ذلك هو اجتماع الوجوب التخييري مع التعييني لعدم التزاحم بينهما ، بمعنى أنّ توجه الأمر التعييني بالازالة مثلا لا يوجب التخصيص العقلي في خطاب الوجوب التخييري وصرفه خطابا إلى غير مورد المزاحمة ، كي يبقى الفرد المزاحم للواجب التعييني بلا أمر تخييري بل إنه يبقى على ما هو عليه من كونه مشمولا للأمر التخييري خطابا وملاكا لأن نفس الخطاب التخييري بذلك الفرد لعدم كونه اقتضائيا لأنه لا تحتيم

ص: 175


1- أجود التقريرات 2 : 35 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فيه لا يزاحم الخطاب بذلك الواجب التعييني ، وحينئذ لا نكون في مثل تزاحم الازالة مع الصلاة محتاجين في تصحيح الصلاة إلى الترتب ، بل بناء على ذلك لا معنى للترتب ، إذ لا يمكن أن يكون الخطاب التخييري بالصلاة مشروطا بعصيان الأمر بالازالة ، بل يكون أمرها التخييري متحققا خطابا في درجة الأمر بالازالة لعدم التنافي بينهما ، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في بعض الحواشي السابقة (1).

وبالجملة : أن هذا الأمر التخييري لعدم كونه اقتضائيا ولعدم اشتماله على التحتم يكون حاله حال الاباحة ، فكما أنا نقول إن الأمر بالازالة لا ينافي إباحة الاشتغال بشغل آخر مثل النوم ونحوه على وجه لا يكون موجبا لخدشة في إباحة النوم ولو في مرحلة الخطاب ، فكذلك ينبغي أن نقول في نسبته إلى الأمر بالصلاة بعد فرض كونه تخييرا لا تحتيم فيه.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الأمر التخييري ولو كان غير اقتضائي لا يكون مؤثرا ولو بتلك الدرجة من الطلب التخييري في مقام مزاحمته مع الأمر بالازالة ، فيكون تخييريته وعدم كونه اقتضائيا موجبا لاندحاره عند المزاحمة مع الأمر بالازالة ، لا أن عدم اقتضائيته مصححة للجمع بينه وبين الأمر بالازالة.

وفيه تأمل ، فان شأن الواجب التخييري سواء كان شرعيا أو كان عقليا ما كان يجوز تركه إلى بدله ، سواء كان ذلك - أعني الحكم بجواز تركه إلى بدله - شرعيا أو كان عقليا ، ومع فرض كونه محكوما ولو بنظر العقل بجواز تركه إلى بدل لا يكون توجهه منافيا ومعاندا لما يكون محكوما بعدم جواز

ص: 176


1- في صفحة : 140 ، 143.

تركه ، فلا تكون معاندة بين هذا النحو من الوجوب وبين غيره مما لا يكون محكوما بجواز الترك.

إلاّ أن نقول : إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، بأن نقول إن الأمر بالمضيق الذي هو الازالة (1) يستدعي حكم العقل بعدم جواز تركه وذلك موجب لحكم العقل بعدم جواز فعل غيره الذي هو الموسع لأنه ملازم لتركه ، وما حكم العقل بعدم جواز فعله أعني الموسع يكون خارجا عن حيّز الأمر التخييري ، سواء كان التخيير شرعيا أو كان عقليا. لكنك قد عرفت في المباحث السابقة المنع من ذلك ، فلا يكون حكم العقل بعدم جواز ترك المضيق موجبا لحكمه بعدم جواز الفعل الموسع ، فراجع وتأمل ، هذا.

ولكن المسألة بعد محل تأمل وإشكال ، فان العقل مع فرض حكمه بلزوم الاتيان بالازالة لا يعقل أن يحكم بالتخيير بين هذا الفرد من الصلاة المزاحم للازالة وبقية الأفراد غير المزاحمة لها في عرض حكمه بوجوب إطاعة الأمر بالازالة ، ومع فرض عدم إمكان هذا التخيير في نظر العقل لا يمكن صدوره أيضا من جانب الشارع فيما لو فرضنا أن التخيير شرعي لا من جهة لغوية التخيير بين الفرد غير المقدور والفرد المقدور مثل أن يخيّره بين الصلاة مثلا والطيران إلى السماء ، كي يدفع اللغوية فيما نحن فيه بأن في هذا التخيير فائدة ، وهي أنه لو عصى الازالة يكون ذلك الأمر التخييري مصححا لفعل الصلاة كما تضمنه غرر المرحوم الشيخ عبد الكريم قدس سره (2).

ص: 177


1- [ في الأصل هنا زيادة : لأنه ، حذفناه للمناسبة ].
2- درر الفوائد 1 - 2 : 139 - 140.

بل لما عرفت من أن العقل يمنع من صحة التخيير المذكور في عرض حكمه بلزوم إطاعة الازالة ، وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نقول إن العقل إنما يصحح هذا التخيير في فرض عصيان المكلف ما حكم به العقل والشرع من لزوم الإتيان بالازالة في ذلك الوقت الخاص ، وذلك عبارة اخرى عن الالتزام بالترتب.

ومن ذلك يظهر لك الحال فيما لو كان ضد الازالة مباحا كالنوم مثلا فان الأمر بالازالة لمّا كان سالبا للقدرة على النوم يكون موجبا لسقوط إباحته ، بمعنى أنه يوجب سقوط الحكم الشرعي بأنه يجوز لك فعل النوم على حذو سقوط الخطاب الالزامي بالصلاة.

قوله : أحدهما فيما إذا كان أحد الواجبين تخييريا عقليا أو شرعيا مع كون الواجب الآخر تعيينيا ... إلخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه : إن ما ليس له بدل مقدّم على ما له البدل في البابين ، ولكن ملاك التقديم فيهما مختلف ، ففي باب التعارض إذا كان مفاد أحد الدليلين العموم الشمولي مثل لا تكرم الفاسق ومفاد الآخر العموم البدلي مثل أكرم عالما ، كان الأوّل مقدّما على الثاني ، لما حققناه (2) في باب التعارض من حكومة الأوّل على الثاني ، لأن مدرك العموم في الثاني هو الاطلاق وعدم البيان ، والدليل الأوّل صالح لأن يكون بيانا ، سواء كان عمومه الشمولي بالوضع كما في مثل لا تكرم الفسّاق أو بالاطلاق كما في مثل لا تكرم فاسقا. وفي باب التزاحم إذا كان أحد المتزاحمين موسّعا

ص: 178


1- أجود التقريرات 2 : 35 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 4 : 293 ، فوائد الأصول 4 : 729.

والآخر مضيّقا قدّم الثاني على الأوّل ، لأن الموسع لكونه له البدل لا يزاحم المضيق لكونه لا بدل له. ومورد الأوّل هو كون المجمع مصداقا واحدا لكل من العامين من وجه ، مثل الشخص الواحد الذي يكون مصداقا للعالم والفاسق ، فيتعارض فيه الدليلان. ومورد الثاني هو كون المجمع مصداقين مثل الازالة والصلاة فيتزاحم التكليفان. وسيأتي في هذا التقرير الاشارة إلى ذلك في ص 233 (1) إن شاء اللّه تعالى.

قوله : ثانيهما فيما إذا كان لأحد الواجبين بدل شرعا دون الآخر ، كما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء والأمر بتطهير البدن للصلاة ... الخ (2).

كأن مجرد جعل البدلية ولو طولية يوجب تأخر ذي البدل عما لا بدل له. ولكن لا يبعد القول بأن منشأ التقديم هو كون ما له بدل طولي لا بدّ أن يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، ولو باعتبار كون بدله مقيدا بعدم القدرة على المبدل منه كما يستفاد ذلك من آية التيمم (3) كما تقدم تحريره عنه قدس سره في ص 222 (4) ، وحينئذ يكون هذا القسم راجعا إلى القسم الآتي وهو تزاحم ما هو مشروط بالقدرة العقلية مع ما هو مشروط بالقدرة الشرعية (5) ، ولا فرق بينهما إلاّ أن هذا بعد سقوطه خطابا وملاكا بواسطة عدم القدرة يكون الشارع قد قرر له بدلا وهو التيمم ، بخلاف ما سيأتي فان الشارع لم

ص: 179


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 : 48 من الطبعة الحديثة.
2- أجود التقريرات 2 : 35 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
3- النساء 4 : 43.
4- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 : 26 من الطبعة الحديثة.
5- [ في الأصل : بالقدرة العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].

يقرر له بدلا بعد سقوطه خطابا وملاكا بسبب عدم القدرة عليه.

وهذا المقدار من الفرق لا أثر له فيما نحن بصدده من كون المشروط بالقدرة العقلية مقدّما على المشروط بالقدرة الشرعية ، وكأن نظره قدس سره إلى أن ما له البدل الطولي وإن كان مشروطا بالقدرة الشرعية ، وكان مقابله المشروط بالقدرة العقلية مقدّما عليه ، فيدخل في القسم الآتي ، إلاّ أن هذا القسم ينفرد فيما لو كان ما ليس له البدل أيضا مشروطا بالقدرة الشرعية فانه وإن كان مساويا لما له البدل الطولي في كون كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، إلاّ أنه لمّا كان الآخر له البدل يكون ما ليس له البدل مقدّما عليه في مقام التزاحم كما سيأتي التصريح بذلك بقوله : والسر فيه ... الخ (1) وجعل مزاحمة الوضوء لبعض قيود الصلاة وأجزائها من ذلك القبيل بناء على أن القيود مشروطة بالقدرة الشرعية.

وفيه : المنع من ذلك ، لأن مجرد جعل البدل عند عدم الامكان لا يوجب كون المبدل منه مشروطا بالقدرة الشرعية. وثانيا : بأن تلك القيود مساوية للوضوء في جعل البدل لها.

والأولى التمثيل لذلك بمزاحمة الوضوء لوجوب الحج لو كان على وجه لا يتيسر له الماء في الطريق ، ولكنه مع ذلك لا يكون تقديم مثل الحج على الوضوء خاليا عن تأمل ، لتساويهما في الرتبة الاولى ، فلا وجه للتقديم ، ويكونان حينئذ داخلين فيما سيأتي (2) من تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية ، وأن الترجيح فيهما ينحصر بالتقدم الزماني ، وغاية ما

ص: 180


1- أجود التقريرات 2 : 49.
2- أجود التقريرات 2 : 36 - 37 ، وسيأتي أيضا في كلام المصنف في الصفحة : 219 من هذا المجلّد.

يمكن أن يقال : إن ما له البدل لو أسقطناه نحصل على مصلحة بدله ، بخلاف ما ليس له البدل فانه يسقط بتاتا ، وبذلك يعلل لو كانا معا غير مشروطين شرعا بالقدرة ، كما لو زوحم القيام في الصلاة بازالة النجاسة عن المسجد ونحو ذلك مما يكون موجبا لعدم القدرة على ... (1).

وفيه : أن من الممكن أن تكون المصلحة الفائتة باسقاط ما له البدل أهم من المصلحة فيما ليس له البدل ، بأن تكون المصلحة في الطهارة المائية في الوضوء أهم من المصلحة في ذلك الواجب المزاحم لها الذي لا بدل له.

والخلاصة : هي أن ما له البدل الطولي ومزاحمه إن كان أحدهما مشروطا شرعا بالقدرة دون الآخر تقدم ما لم يكن مشروطا بذلك على ما هو مشروط بها ، سواء كان هو ما له البدل أو كان هو ما ليس له ، مثال الأوّل مزاحمة غسل البدن للطهارة المائية ، ومثال الثاني مزاحمة القيام في الصلاة لوجوب الحج. ولو كانا معا مشروطين شرعا بالقدرة كما في مزاحمة وجوب الحج للطهارة المائية ، أو كانا معا غير مشروطين بذلك كما في مزاحمة القيام في الصلاة لوجوب إزالة النجاسة ، لم تكن البدلية موجبة لتقديم ما لا بدل له ، بل كان المتبع هو مرجحات تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية أو مرجحات تزاحم المشروطين بالقدرة العقلية كما سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام فيهما.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده صاحب الجواهر قدس سره فانه قال :

ص: 181


1- [ كذا في الأصل ].
2- أجود التقريرات 2 : 36 و 43. وتأتي تعليقات المصنف قدس سره على هذين المطلبين في صفحة : 219 وما بعدها ، و 251 وما بعدها.

وحاصل البحث أنه متى عارض الطهارة المائية واجب آخر أرجح منها قدّم عليها كحفظ النفس ونحوه ، بل لعل منه كل واجب لا بدل له كازالة النجاسة عن البدن والساتر الذي ليس له غيره ، إذ هو وإن كان ظاهرا من تعارض الواجبين إلاّ أن مشروعية البدل لأحدهما تشعر برجحان غير ذي البدل عليه في نظر الشارع وأن الاهتمام بشأنه أكثر كما قيل ، أو يقال إن في ذلك جمعا في العمل بهما فهو أولى من غيره (1).

فلم يبق إلاّ دعوى كون الطهارة من الخبث مشروطة بالقدرة العقلية والطهارة المائية أعني الوضوء مشروطة بالقدرة الشرعية ، وقد حققنا في باب الاجزاء في الأمر الاضطراري (2) أن هذه القيود المعتبرة في الصلاة ليست من قبيل الواجب في ضمن الواجب ، وإلاّ لكان لازمه عدم الاعادة في صورة تعمد الترك ، بل هي قيود معتبرة في صحة العمل ، فان كانت قيديتها مطلقة حتى في مورد تعذرها في تمام الوقت كان لازمه سقوط الأمر بالصلاة ، وإن كانت قيديتها مقيدة بحال التمكن منها ولو في آخر الوقت كانت قيديتها مشروطة شرعا بالقدرة عليها ، فيكون وجوبها أيضا كذلك ، ومن الواضح أن الطهارة من الخبث من القسم الثاني ، فيكون وجوبها مشروطا بالقدرة الشرعية ، كما أنّ الوضوء أيضا مشروط بذلك ، فلا يتم التقديم حينئذ من هذه الناحية.

ولعل هذا هو المراد لشيخنا قدس سره فيما أفاده في العبارة المشار إليها أعني قوله : وكلما دار الأمر بين سقوط خصوص الطهارة المائية وبين سقوط

ص: 182


1- جواهر الكلام 5 : 116.
2- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، صفحة : 400.

قيد غيرها فيسقط الطهارة المائية ، والسر فيه أن أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعا ، لما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال إلاّ أن خصوص الطهارة المائية ممتازة عن البقية بجعل البدل لها فتتأخر رتبتها عن الجميع (1).

فتكون جميع الأجزاء والقيود مقيدة بالقدرة الشرعية ، لأن منشأ قيديتها هو توقف مصلحة الصلاة عليها ، وحكم الشارع بسقوطها عند التعذر يكشف عن أن مصلحة الصلاة لا تتوقف عليها في حال تعذرها فيكون ملاك اعتبارها منوطا بالقدرة عليها ، وعند عدم القدرة عليها تسقط من دون جعل بدل لها ، كما تراه في طهارة البدن أو اللباس ، فانه عند تعذره يسقط اعتباره بلا بدل ، وهذا بخلاف أصل الطهور أعني القدر الجامع بين المائية والترابية ، فان مصلحة الصلاة تتوقف عليه ، فلو تعذر سقط أصل [ الصلاة ](2) لا نفس القيد.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأن مثل الطهارة من الخبث وكذلك القيام مثلا لا يتوقف عليه أصل المصلحة ، كي يكون لازمه سقوط الصلاة بتعذره لكونها حينئذ بلا مصلحة كما في أصل الطهور ، ولا أن مدخليته في أصل مصلحتها منوطة بالتمكن منه ليكون تقيدها به عند عدم التمكن منه خاليا من المصلحة ، ليكون وجوبه وتقيد الصلاة به مشروطا بالقدرة الشرعية ، بل إنه مما يزيد في مصلحة الصلاة ، وهذه المصلحة الزائدة الحاصلة بتقيد الصلاة به غير منوطة شرعا بالتمكن منه والقدرة عليه ليكون

ص: 183


1- أجود التقريرات 2 : 49 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

خاليا من الملاك عند عدم القدرة عليه ، بل باق على ما هو عليه من تحصيل تلك المصلحة الزائدة ، غايته أن الساقط هو الخطاب به ، فتكون قيديته مشروطة عقلا بالقدرة ، ولازمه هو سقوط الخطاب به مع بقاء ملاكه ، ويكون اللازم هو الاتيان بالصلاة فاقدة له لأجل لزوم استيفاء أصل مصلحتها.

وحينئذ يتم ما ذكرناه من أن الواجب الأولي هو الصلاة مع القيد المذكور ، ومع تعذره يكون الواجب هو الصلاة الفاقدة لذلك القيد ، فيكون الواجب الأولي مما له بدل طولي مع كون الواجب الأولي أعني المبدل منه غير مشروط بالقدرة شرعا ، فيقدّم على الواجب الأولي في الطهارة المائية ، فانهما وإن اشتركا في كون كل منهما له بدل طولي ، إلاّ أنه لمّا كان الواجب الأولي في الطهارة المائية مشروطا بالقدرة الشرعية كان هذا الواجب الأولي مقدّما عليه في مقام التزاحم ، لأن ما هو مشروط عقلا بالقدرة مقدّم على ما هو مشروط بها شرعا.

والحاصل أوّلا : أنه لا وجه لاندحار ذي البدل الذي هو الطهارة المائية بعد أن كان ما لا بدل له مثله في كونهما مشروطين بالقدرة الشرعية.

وثانيا : أنه لا وجه لدعوى كون التقييد لا بدل له ، لأن الصلاة الفاقدة للقيد الذي هو الطهارة من الخبث مثلا بدل عن الصلاة الواجدة له.

وثالثا : ما عرفت من عدم ثبوت كون التقييد مشروطا شرعا بالقدرة لما عرفت من إمكان عدم مدخلية القدرة في ملاكه ، فلا يكون اعتبار القدرة فيه إلاّ عقليا ، وبذلك يتقدم على الوضوء كما تتقدم عليه إزالة النجاسة عن المسجد فيما لو لم يكن عنده من الماء إلاّ ما يكفي لأحدهما فقط.

لكن هذا الوجه الثالث لا يتخلص عن شبهة كون القيد حينئذ من قبيل

ص: 184

الواجب في واجب ، الذي يكون مقتضاه أنه لو تعمد تركه عصى وسقط الواجب الأولي بامتثاله.

إلاّ أن يتخلص من ذلك بنظير ما في الكفاية (1) في الأوامر الاضطرارية من بقاء شيء من المصلحة قابلة الاستيفاء ، ويكون استيفاؤها لازما بالاعادة فراجع.

ومن جميع ما تقدم يظهر لك التأمل فيما أفاده في العروة في المسوّغ السادس من مسوغات التيمم في مسألة تقديم الطهارة من الخبث على الوضوء ، من أن الوجه في التقديم هو كون الطهارة من الخبث لا بدل له والوضوء له البدل - ثم قال - مع أنه منصوص في بعض صوره (2).

أما البدلية فقد عرفت حالها ، وأما النص فقد قال في الحدائق في الفرع الثاني عشر : إن المسألة لا نص فيها (3) ، نعم قال في الجواهر بعد أن استدل للمسألة بالبدلية والاجماع ما هذا لفظه : وقد يشهد له مع ذلك أيضا ما في خبر أبي عبيدة « سئل الصادق عليه السلام عن المرأة ترى الطهر في السفر وليس معها ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال عليه السلام : إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي » الحديث (4) لتقديمه إزالة النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها لولاه (5).

وفي دلالتها تأمل ، لعدم تعرضها للوضوء وإلاّ لكان ينبغي الأمر

ص: 185


1- كفاية الأصول : 85.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 179.
3- الحدائق الناضرة 4 : 263 - 264.
4- وسائل الشيعة 2 312 / أبواب الحيض ب 21 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).
5- جواهر الكلام 5 : 117.

بتيممين أحدهما بدل الغسل والآخر بدل الوضوء ، فاما أن نقول إن الرواية ساكتة عن الوضوء ، أو نقول هي من أدلة عدم وجوب الوضوء في غسل الحائض.

وعلى كل حال فالظاهر أنه لا خلاف في المسألة ، قال في المعتبر : ولو كان على جسده نجاسة ومعه ماء يكفيه لازالتها أو للوضوء ، أزالها به وتيمم بدلا من الوضوء ، ولا أعلم في هذه خلافا بين أهل العلم ، لأن للطهارة بدلا وهو التيمم ولا كذلك إزالة النجاسة (1).

وقال في المنتهى : لو كان على بدنه نجاسة ومعه من الماء ما يكفي أحدهما صرفه إلى الازالة لا إلى الطهارة ، لأن الطهارة واجب لها بدل بخلاف إزالة النجاسة ، ولا نعرف فيه خلافا. وكذا لو كانت النجاسة على ثوبه. وقال أحمد : يتوضأ ويدع الثوب لأنه واجد للماء (2) ، وهو ضعيف إذ المراد بالوجدان التمكن من الاستعمال ، وهذا غير متمكن منه شرعا (3).

وكأنه في هذا الأخير يومئ إلى أن الوضوء مشروط شرعا بالقدرة بخلاف إزالة النجاسة عن الثوب أو البدن ، وهذا هو العمدة في المسألة فلاحظ وتدبر.

وأما الفرع الثاني : فيمكن أن يوجّه فيه تقديم الوقت في بعض أجزاء الصلاة على الوضوء ، بأن ملاك الأمر بالوضوء هو المقدمية للصلاة بتمام شئونها وشروطها التي يكون الوقت منها ، فلو كان مفوّتا للوقت ولو في بعض أجزاء الصلاة كان خارجا عن ذلك الأمر خطابا وملاكا ، وحاصل ذلك

ص: 186


1- المعتبر 1 : 371.
2- المغني 1 : 309 ، الشرح الكبير ( بهامش المغني ) 1 : 286.
3- منتهى المطلب 3 : 131.

أن الطهارة المائية شرط في صحة الصلاة في الوقت ، فتكون متأخرة في الرتبة عن نفس الصلاة بجميع شئونها ومنها الوقت.

ولا يخفى أنه ليس بأولى من القول بأن الوقت متأخر في الرتبة عن الطهارة المائية مع فرض التمكن منها ، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلي الطهارة الأعم من المائية والترابية.

نعم ، يمكن أن يدعى دلالة صحيحة زرارة أو حسنته على تقديم الوقت ، وهي ما عن أحدهما عليهما السلام « قال عليه السلام : إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصلّ في آخر الوقت ، فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل ... » (1).

ولا أثر فيما نحن بصدده لاختلاف النسخة في قوله عليه السلام : فليطلب أو فليمسك ، ولعل الثانية أدل على ما نحن فيه.

لا يقال : إنه لو صحت النسخة الثانية أعني قوله عليه السلام « فليمسك » لكانت الرواية أجنبية عما نحن فيه ، بل كان محصّلها هو عدم جواز البدار لمن ليس عنده الماء ، وأنه يلزمه الامساك عن التيمم والصلاة ، بل يؤخر ذلك إلى خوف فوت الوقت.

لأنا نقول : إنها وإن دلت على ذلك أعني عدم جواز البدار لذوي الأعذار ، إلاّ أنها تدل أيضا على تقدم الوقت على الطهارة المائية ، لأن المفروض أنه يتمكن من الوضوء بعد الوقت ومع ذلك امر بالتيمم والصلاة في الوقت ، بناء على أنها يستفاد من إطلاقها أن خوف [ فوت ](2) الوقت مصحح للتيمم ولو في غير مورد عدم الماء ، سواء خاف فوت الوقت

ص: 187


1- وسائل الشيعة 3 : 366 / أبواب التيمم ب 14 ح 3.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].

بتمامه أو خاف فوت بعضه ، وهو غير بعيد.

وقد تعرض لهذه المسألة في الجواهر في آخر شرحه لعبارة المصنف قدس سره في السبب الأوّل : ولو أخلّ بالطلب حتى ضاق الوقت - إلى قوله - كمن أراق الماء في الوقت (1). ونقل عن المعتبر (2) وجامع المقاصد (3) وكشف اللثام (4) والمدارك (5) القول بلزوم الوضوء حتى لو وقعت الصلاة كلها في خارج الوقت ، فانه قدس سره بعد أن حكم بتقديم الوقت ووجوب التيمم وفاقا للمنتهى (6) والتذكرة (7) والمختلف (8) والروضة (9) وغيرها ، بل في الرياض أنه الأشهر (10) ، واستدل لذلك بما لا مزيد عليه ، قال : وخلافا للمعتبر وجامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك ، لثبوت اشتراطها بالطهارة المائية مع عدم ثبوت مسوّغية ضيق الوقت للتيمم ، لتعليقه على عدم الوجدان الذي لا يتحقق صدقه بذلك ، فحينئذ يتطهر ويقضي ولذا يصدق اسم الواجد لغة وعرفا ، وبذلك يفرق بينه وبين من أخل بالطلب حتى ضاق الوقت (11).

قال في مفتاح الكرامة : وفي المعتبر وجامع المقاصد أن واجد الماء

ص: 188


1- جواهر الكلام 5 : 86 - 88.
2- المعتبر 1 : 366 / الفرع السادس.
3- جامع المقاصد 1 : 467.
4- كشف اللثام 1 : 436.
5- مدارك الأحكام 2 : 185 / الأول من مسوغات التيمم.
6- منتهى المطلب 3 : 38 / السابع من مسوغات التيمم.
7- تذكرة الفقهاء 2 : 161 - 162 / مسألة 291.
8- مختلف الشيعة 1 : 285 / مسألة 211.
9- الروضة البهية 1 : 173 / الفصل الثالث في التيمم.
10- رياض المسائل 2 : 8.
11- جواهر الكلام 5 : 91 - 92.

المخل باستعماله حتى ضاق الوقت عن استعماله أنه يتطهر ويقضي. وفي المدارك أنه الأظهر. قلت : وهو لازم قول الشيخ (1) بطريق أولى - إلى أن قال : - لكن قيد الاخلال في كلامهم يؤذن بأنه لو لم يخلّ واتفق ضيق الوقت كما إذا كان نائما لكان الواجب عليه التيمم ، وفي الفرق بين الأمرين تأمل (2).

ومراده من قول الشيخ قدس سره هو قوله بأن من قصّر في الطلب حتى ضاق الوقت يتيمم ويصلي وتجب عليه الاعادة. ووجه الأولوية هو أن ذلك القول في التقصير في الطلب الذي هو طريق لتحصيل الماء مع فرض عدم وجود الماء عنده حين أداء الصلاة ، بخلافه في هذه المسألة فانه في التقصير في استعمال الماء بعد فرض وجوده لديه وتمكنه من استعماله.

وبالجملة : أن الشيخ إنما حكم في صورة التقصير في الطلب بلزوم الاعادة ، لأن تكليفه الأصلي هو الطهارة المائية ، لكنه لمّا قصّر في تحصيلها لزمه التيمم لأنه تكليفه الفعلي ، والاعادة مع الوضوء عند التمكن من الماء لأنه تكليفه الأصلي وقد قصّر في عدم تحصيله ، ومن الواضح حينئذ أن تكليفه الفعلي الأصلي فيما نحن فيه هو الوضوء وإن كان عاصيا ومقصّرا في تفويت الوقت ، فتأمل.

وقال في الحدائق : التاسع اختلف الأصحاب فيما لو كان الماء موجودا عنده فأخلّ باستعماله حتى ضاق الوقت عن استعماله ، فهل ينتقل إلى التيمم ويؤدي أو يتطهر بالماء ويقضي؟ قولان اختار أوّلهما العلاّمة في

ص: 189


1- المبسوط 1 : 31 / التيمم وأحكامه ، النهاية : 48 / التيمم وأحكامه.
2- مفتاح الكرامة 2 : 884 - 885.

المنتهى - إلى أن قال - واختار ثانيهما المحقق في المعتبر (1) ، ثم نقل عبارة المعتبر ، وكأنه فهم منها التقييد بالاخلال بالعمدي كما فهمه صاحب مفتاح الكرامة.

وفي المستند في الثاني من المسوّغات بعد أن نقل القول بتقديم الطهارة المائية على الوقت ونسبه إلى المحقق في المعتبر قال ما هذا لفظه : وفرّق المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بين من كان الماء موجودا عنده بحيث يخرج الوقت باستعماله ، وبين من كان بعيدا عنه بحيث يخرج بالسعي إليه ، فلم يجوّز التيمم وأوجب المائية في الأوّل دون الثاني ، استنادا إلى انتفاء صدق عدم الوجدان في الأوّل وصدقه في الثاني (2). وهو الحق لا لما ذكره ، لما أورده عليه في الرياض (3) من أن المراد بوجدان الماء في باب التيمم فعلا أو قوة ، فلا يتم الفرق لصدق الوجدان في الصورتين ، بل لقوله عليه السلام في مرسل العامري (4) السابق « ولم ينته إلى الماء ... » فانه يشمل من علم وجود الماء ولم يمكنه الوصول إليه إلاّ بفوات الوقت. ثم إنه لا فرق في جميع ما ذكر بين ما إذا كان تأخير الطهارة بالماء إلى الضيق عمدا أو نسيانا أو اضطرارا كأن يكون نائما أو محبوسا أو نحو ذلك ، لجريان الدليل ، وإن احتاج في تعدي المرسلة إلى جميع الصور إلى ضم الاجماع

ص: 190


1- الحدائق الناضرة 4 : 258.
2- جامع المقاصد 1 : 467 ( نقل بالمضمون ).
3- [ الظاهر أنه من سهو قلمه قدس سره والصحيح روض الجنان 1 : 344 - 345 ].
4- « عن رجل أجنب فلم يقدر على الماء وحضرت الصلاة فتيمم بالصعيد ، ثم مرّ بالماء ولم يغتسل وانتظر ماء آخر وراء ذلك ، فدخل وقت الصلاة الاخرى ولم ينته إلى الماء وخاف فوت الصلاة ، قال : يتيمم ويصلي ... » [ منه قدس سره. وسائل الشيعة 3 : 377 / أبواب التيمم ب 19 ح 2 ].

المركب ، وصرح في البيان (1) بالتيمم في الأخير مطلقا (2).

والأولى نقل عبارة هؤلاء الجماعة المنقول عنهم. قال في المعتبر في تعداد الفروع التي عنونها بعد ذكر شروط التيمم ما هذا لفظه : ( و ) من كان الماء قريبا منه وتحصيله ممكن لكن مع فوات الوقت ، أو كان عنده وباستعماله يفوت ، لم يجز له التيمم وسعى إليه لأنه واجد (3) وظاهرها عدم التقييد.

وقال في جامع المقاصد - بعد أن فرغ من مسألة الاخلال بالطلب ما هذا لفظه - : فعلى هذا لو كان الماء موجودا عنده فأخل باستعماله حتى ضاق الوقت ، فهل يتيمم ويؤدي أم يتطهر به ويقضي؟ ظاهر إطلاق الشيخ بطلان التيمم والصلاة قبل الطلب للفاقد ، يقتضي الثاني بطريق أولى ، وكلام المصنف يقتضي الأوّل ، وقد صرح به في المنتهى (4). والذي يقتضيه النظر استعمال الماء ، لانتفاء شرط التيمم وهو عدم وجدان الماء ، ولم يثبت أن فوات الأداء سبب لمنع استعمال الماء - إلى أن قال : - نعم لو كان الماء بعيدا عنه بحيث لو سعى إليه لخرج الوقت فتيمم وصلّى مع الضيق ، فلا إعادة عليه لعدم صدق الوجدان (5). وصدر العبارة وإن كان مختصا بصورة الاخلال إلاّ أن تعليله عام لما إذا لم يكن في البين إخلال.

ومثلها عبارة المدارك فانه قال : الثالث لو كان الماء موجودا عنده فأخل باستعماله حتى ضاق الوقت عن الطهارة المائية والأداء ، فهل يتطهر

ص: 191


1- البيان : 84 ، 88.
2- مستند الشيعة 3 : 365 - 366 / الثاني من مسوغات التيمم.
3- المعتبر 1 : 366 / الفرع السادس.
4- منتهى المطلب 3 : 38 / السابع من مسوغات التيمم.
5- جامع المقاصد 1 : 467.

ويقضي أو يتيمم ويؤدي؟ فيه قولان أظهرهما الأوّل ، وهو خيرة المصنف في المعتبر (1) ، انتهى (2) ثم علله بنحو ما في جامع المقاصد.

قال في كشف اللثام - بعد أن حكم بلزوم التيمم على من قصّر في الطلب حتى ضاق الوقت ، وأنه لا إعادة عليه ما هذا لفظه - : بخلاف واجد الماء إذا ضاق الوقت عن الوضوء ، إذ لا صلاة إلاّ بطهور ، ويجب الماء مع التمكن ، والضيق لا يرفعه ، مع احتمال المساواة (3) وهي قريبة من عبارة المعتبر في ظهورها بعدم التقييد ، اللّهم إلاّ أن يدعى دلالتها على التقييد من جهة السياق. لكن لا يظن بالمحقق قدس سره أنه يقول بتقديم الطهارة المائية على الوقت بقول مطلق ، فلا بدّ من حمل عبارته على صورة التقصير في استعماله.

ومما يؤيد ذلك : أن العلاّمة في المنتهى لم ينقل القول بتقديم الوقت بقول مطلق إلاّ عن العامة ، فانه قال : السابع ( أي من الأسباب المسوّغة للتيمم ) ضيق الوقت ، فلو كان الماء موجودا إلاّ أنه إن اشتغل بتحصيله فاته الوقت جاز له التيمم ، وهو قول الأوزاعي (4) والثوري (5) ، خلافا للشافعي (6) وأبي ثور (7) وأصحاب الرأي (8) فانهم منعوا من جواز التيمم وأوجبوا عليه التحصيل وإن خرج الوقت (9). ثم إنه بعد أن استدل

ص: 192


1- المعتبر 1 : 366 / الفرع السادس.
2- مدارك الأحكام 2 : 185.
3- كشف اللثام 2 : 436.
4- المغني 1 : 301، الشرح الكبير ( بهامش المغني ) 1 : 275 ، 312 ، المجموع 2 : 244.
5- المغني 1 : 301، الشرح الكبير ( بهامش المغني ) 1 : 275 ، 312 ، المجموع 2 : 244.
6- المجموع 2 : 244 ، فتح العزيز ( بهامش المجموع ) 2 : 219 ، المغني 1 : 301.
7- المغني 1 : 301، الشرح الكبير ( بهامش المغني ) 1 : 275 ، 312.
8- المغني 1 : 301، الشرح الكبير ( بهامش المغني ) 1 : 275 ، 312.
9- منتهى المطلب 3 : 38.

على الجواز ذكر استدلال العامة القائلين بالمنع ، وهو عين هذه الاستدلالات المذكورة في جامع المقاصد وغيره ، وأبطله بما لا مزيد عليه ، ولم ينقل عن أحد من أصحابنا القول بعدم جواز التيمم ، وهذا مما يؤيد التقييد في عبارة المعتبر بما لو كان قد قصّر في الاستعمال ، لأنه خبير بأقوال المحقق فكيف لا ينسب هذا الاطلاق إليه.

وعن المنتهى أنه : لو كان بقرب المكلف ماء وتمكن من استعماله وأهمل حتى ضاق الوقت ، فصار بحيث لو مشى إليه خرج الوقت فانه يتيمم وفي الاعادة وجهان أقربهما الوجوب (1).

وكيف كان ، أن عمدة الرد على هذا القول امور :

الأوّل : ما يستفاد من مذاق الشارع في الوقت وأهميته بالنسبة إلى غالب الأجزاء والشرائط التي حكم الشارع بسقوطها ، ولو لا أهمية الوقت لحكم بالانتظار إلى خروج الوقت وارتفاع [ العذر ](2) والصلاة قضاء ، هذا. مضافا إلى ما يستشم من كثير من أخبار التيمم مثل قولهم عليهم السلام : « إنه أحد الطهورين » (3) و « أنه نصف الطهارة » (4) و « إن ربّ الماء هو ربّ التراب » (5) ونحو ذلك من مساهلة الشارع في الطهارة المائية.

الثاني : ملاحظة مذاق الشارع في خصوص الطهارة المائية وأن الوقت مقدّم عليها ، وإلاّ لم يكن التيمم مشروعا عند عدم وجود الماء ، بل

ص: 193


1- منتهى المطلب 3 : 123.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].
3- وسائل الشيعة 3 : 381 / أبواب التيمم ب 21 ح 1 ( وفيه : التيمم أحد الطهورين ).
4- وسائل الشيعة 3 : 387 / أبواب التيمم ب 24 ح 3 ( نقل بالمضمون ).
5- وسائل الشيعة 3 : 370 / أبواب التيمم ب 14 ح 13.

كان اللازم هو الانتظار إلى وجدان الماء ولو في خارج [ الوقت ](1) والصلاة قضاء مع الطهارة المائية ، ولازم ذلك هو انحصار مشروعية التيمم لفقد الماء بما إذا لم يجد الماء في تمام عمره.

اللّهم إلاّ أن يفرّقوا بين صورة عدم وجدان الماء في تمام الوقت فانه يقدّم فيها الصلاة في الوقت مع التيمم على الصلاة في خارجه مع الوضوء ، وبين صورة وجود الماء وعدم التمكن من الجمع بين الوضوء مع الصلاة في الوقت ، لا مكان الالتزام في هذه الصورة بتقدم الوضوء على الوقت ، فلا يلزم من تقديم الوقت في الصورة الاولى تقديمه في الصورة الثانية ، لأن الاولى لا يصدق عليها التمكن من الماء في الوقت ، بخلاف الصورة الثانية فانه يصدق فيها أنه متمكن من الماء في الوقت ، وحاصله الفرق بين عدم وجدان الماء في تمام الوقت ، وبين وجدانه وعدم سعة الوقت لاستعماله مع الصلاة فيه.

وفيه : ما لا يخفى ، فان التمكن من الماء في الوقت لا أثر له إلاّ من جهة كونه موجبا للتمكن من الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية ، وحيث إنه لا يتمكن من الصلاة مع الوضوء في الوقت يصدق عليه أنه غير واجد للماء الوضوئي للصلاة في الوقت.

والحاصل : أنه لا فرق في عدم التمكن من الصلاة مع الطهارة المائية الذي هو المسوّغ للانتقال إلى التيمم بين كونه ناشئا من عدم وجدان الماء في الوقت مع فرض وجدانه في خارج الوقت ، وبين وجدانه في الوقت لكن كان الوقت غير واسع له مع الصلاة في الوقت ، في أن كلا منهما

ص: 194


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].

يصدق عليه أنه غير متمكن من الوضوء للصلاة في الوقت ، فيكون التيمم لازما في كل من الصورتين.

وهذا مأخوذ مما أفاده في المنتهى ، فانه ذكر الاستدلال لهذا القول بأن شرط التيمم هو الفقدان وهو منتف هنا ، وبأنه قادر على الماء. وأجاب عن الأوّل بأنا لا نسلّم أنه واجد ، إذ المراد به التمكن من الاستعمال ، وهذا غير متمكن منه مع تعين الصلاة عليه. وعن الثاني بذلك أيضا ، فانكم إن عنيتم بقدرة تحصيل الطهارة القدرة على تحصيل طهارة هذه الصلاة فهو ممنوع ، إذ البحث فيما إذا خاف فوت الوقت ، وإن عنيتم القدرة على تحصيل الطهارة للصلاة الآتية غير هذه فذلك غير محل النزاع انتهى (1).

الثالث : ما تقدم من صحيحة زرارة أو حسنته (2). ويؤيدها تقييد بعض أخبار الطلب سؤالا أو جوابا بما دام في الوقت (3).

ثم بعد ثبوت تقدم الوقت على الطهارة المائية نقول : إنه لا فرق بين الوقت بتمامه أو في بعض أجزاء الصلاة ، ولا أقل من الاستناد في ذلك إلى إطلاق صحيحة زرارة المذكورة.

وقد يقال : إن الوجه في تقديم الوقت على الطهارة المائية أنهما وإن اشتركا في كون كل منهما له البدل ، فبدل الطهارة المائية هو الطهارة الترابية وبدل الصلاة في الوقت الصلاة في خارج الوقت ، إلاّ أن دليل البدلية في الأوّل حاكم على دليل البدلية في الثاني ، حيث إن لسان البدلية في الأوّل

ص: 195


1- منتهى المطلب 3 : 39 / السابع من مسوغات التيمم.
2- وسائل الشيعة 3 : 366 / أبواب التيمم ب 14 ح 3 [ وقد تقدمت في صفحة : 187 ].
3- منها ما ورد في وسائل الشيعة 3 : 342 / أبواب التيمم ب 2 ح 1.

لسان التنزيل وأن الطهارة الترابية (1) طهارة ، بخلاف الثاني فانه لا يتضمن أزيد من وجوب الصلاة في خارج الوقت.

وفيه : أن محصله إنكار البدلية في الثاني لكونه من باب محض سقوط اعتبار الوقت.

تتمة وتكميل لا بأس به : وهو أن المنقول عنه قدس سره في بعض ما حرره عنه المرحوم الشيخ أبو الفضل قدس سره ما هذا لفظه : أن المستظهر من مجموع أدلة باب الصلاة هو لزوم مراعاة الوقت وأهميته بالنسبة إلى الوضوء ، فان القدر المشترك من الصلاة المنقسم إلى الطهارة المائية وغيرها هو الصلاة في مجموع الوقت ولا عكس كما لا يخفى ، انتهى.

وتوضيحه : أن الوقت قيد لكل من الصلاة مع الطهارة الترابية والطهارة المائية ، فيكون المطلوب هو إيقاع تمام الصلاة في الوقت على كلا تقديري الطهارة ، وإذا كان الوقت معتبرا في كلا حالتي الصلاة من الطهارة الترابية والطهارة المائية يكون التدرج من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية مقيدا بحفظ الوقت ، فلا يعقل أن تكون الطهارة المائية مقدمة على حفظ الوقت ، هذا.

ولعل قائلا يقول : إن هذا التقرير لا ينتج هذه النتيجة ، إذ ليس قولنا إن الوقت معتبر في كلا حالتي الطهارة بأولى من القول بأن الوضوء معتبر في الصلاة في كلا حالتي الاتيان بها في الوقت والاتيان بها في خارجه ، فالأولى أن يقال : إن المستفاد من قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ - إلى قوله تعالى : - فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) إلخ (2) هو كون الوضوء قيدا للصلاة

ص: 196


1- [ في الأصل : الطهارة المائية ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- المائدة 5 : 6.

على ما هي عليه من شروط وأجزاء ، ومن جملة الشروط الوقت ، وهذه الصلاة المقيدة بالوقت لو لم يتمكن من الطهارة المائية لها ينتقل فيها إلى الطهارة الترابية ، فتكون النتيجة أن التدرج من المائية إلى الترابية إنما هو مع حفظ الوقت ، فلا يعقل أن تكون الطهارة المائية مقدمة على الوقت.

وربما يقال : إنه يستفاد من الوجوب المقدمي الذي دلت عليه الآية الشريفة أن وجوب الطهارة المائية مشروط شرعا بامكان الاتيان بتلك الصلاة في وقتها المضروب لها ، كما هو الشأن في جميع الواجبات الغيرية فمع عدم سعة الوقت للطهارة المائية والصلاة ينبغي القول بسقوط كل من المائية والصلاة ، إلاّ أنه دل الدليل على أن الصلاة لا تترك بحال (1) ، وحينئذ يلزم الانتقال إلى التيمم استنادا إلى ما تضمن أنه أحد الطهورين (2). وفيه تأمل.

ولكن مع ذلك كله يمكن ادعاء بقاء الاشكال ، إذ كل ما يمكن أن يدعى في ناحية شرطية الطهارة المائية بالنسبة إلى الوقت يمكن إجراؤه في الوقت بالنسبة إلى الطهارة المائية ، إذ كما نقول إن هذه الصلاة المقيدة بالوقت عند التمكن منه لو لم يتمكن من الطهارة المائية لها ينتقل بها إلى الطهارة الترابية ، يمكننا أن نقول إن هذه الصلاة المقيدة بالوضوء عند التمكن منه لو لم يتمكن من الاتيان بها في الوقت ينتقل إلى الاتيان بها خارج الوقت.

ومن ذلك كله يظهر لك الاشكال فيما افيد في هذا التقرير (3) من

ص: 197


1- لعل المراد به ما ورد في وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.
2- وسائل الشيعة 3 : 381 / أبواب التيمم ب 21 ح 1.
3- لعل مراده قدس سره ما ورد في أجود التقريرات 2 : 35.

إنكار بدلية الصلاة في خارج الوقت ، استنادا إلى أن ذلك مقيد بالعجز والمفروض أنه ليس بعاجز ، فان بدلية التيمم عن الوضوء أيضا كذلك.

نعم يمكن أن يقال : إن الصلاة في خارج الوقت ليست بدلا عن الصلاة فيه ، بل إن ذلك من مجرد سقوط قيد الوقت ، وهكذا الحال في صورة كون بعض الصلاة في خارج الوقت ، فانه أيضا من باب سقوط الوقت في ذلك الباقي من الأجزاء. لكن دليل من أدرك ظاهر في كونه منزّلا منزلة من أدرك الوقت كله ، فيكون من باب البدلية.

فيكون حاصل الاشكال على هذه العبارة أوّلا : أن مجرد البدلية في أحدهما لا توجب التقديم. وثانيا : أنهما مشتركان في كون كل منهما ذا بدل ، لأنّ الصلاة في بعض الوقت بدل عن الصلاة في تمام الوقت.

فالأولى أن يقال : إنا بعد الفراغ عن سقوط الطهارة المائية إذا كانت مفوّتة للوقت بتمامه من جهة ما تقدم من صحيحة زرارة أو حسنته ونحو ذلك من الأدلة ، يمكننا إثبات هذا الحكم فيما يكون مفوّتا لبعض الوقت استنادا إلى إطلاق تفويت الوقت كما عرفت فيما تقدم.

ثم إنه لو أقدم على الوضوء في المثال الأوّل كان وضوءه باطلا على جميع الوجوه المتقدمة ، أما على تقدير كون إزالة النجاسة مشروطة بالقدرة العقلية فواضح ، لأنّ وجوبها سالب للقدرة على الوضوء فيسقط الأمر به خطابا وملاكا ، فلا يصححه الملاك ولا الترتب ، بل وكذا لو قلنا بكونهما معا مشروطين بالقدرة الشرعية ، سواء قلنا إن إزالة النجاسة لها البدل وهو الصلاة عاريا أو مع النجس ، أو قلنا بأنها لا بدل لها ، فانه بعد أن ثبت إما من الرواية أو من الاجماع أو من مقتضى ثبوت البدلية في ناحية الوضوء

ص: 198

وعدمها في ناحية الازالة كما أفاده شيخنا قدس سره (1) أن المقدّم هو إزالة النجاسة يكون الوضوء ساقطا خطابا وملاكا ، فلا يمكن تصحيحه بالملاك ولا بالترتب ، كل ذلك بعد فرض كون الوضوء مشروطا بالقدرة الشرعية.

ومع قطع النظر عن هذه الجهة بأن قلنا إن الوضوء غير مشروط بالقدرة الشرعية لا يمكننا الجزم ببطلان الوضوء ، لا مكان تصحيحه حينئذ بالملاك أو بالترتب ، ولا ينفعنا في الحكم بفساده ما أفاده صاحب الجواهر قدس سره بقوله : ولعله لوجوب صرف الماء في إزالة النجاسة ، فهو غير واجد للماء فلا خطاب بالوضوء ولو ندبا ، ولانه مكلف بالتيمم حينئذ الخ (2) ، فانا إن أتممنا ذلك بكون الوضوء مشروطا بالقدرة الشرعية فهو وإلاّ كان ذلك بمجرده غير نافع ، فان وجوب صرف الماء في إزالة النجاسة كما يكون موجبا للمنع عن التصرف في الماء إلاّ فيها ، فكذلك وجوب صرفه في الوضوء يكون موجبا للمنع عن التصرف في الماء إلاّ فيه ، ما لم يكن في البين أهمية كما في وجوب صرفه على النفس المحترمة ، هذا كله فيما لو خالف في الفرع الأوّل.

ومنه يظهر الكلام فيما لو خالف في الفرع الثاني ، لكن ذكروا أن البطلان منحصر بما لو كان قد توضأ لهذه الصلاة ، أما لو كان لغيرها فلم يلتزموا بالبطلان ، وحينئذ يتوجه السؤال عن الفرق ، فان الوضوء للصلاة الاخرى كالقضائية مثلا أيضا مشروط بالقدرة الشرعية ، فيكون وجوب التيمم لهذه الصلاة رافعا للقدرة على الوضوء للصلاة القضائية ، فينبغي الحكم ببطلانه أيضا.

ص: 199


1- أجود التقريرات 2 : 35 و 49.
2- جواهر الكلام 5 : 117.

وبالجملة : أنا كما حكمنا ببطلان الوضوء لهذه الصلاة لكون لزوم ملاحظة الوقت رافعا للقدرة على الوضوء لتلك الصلاة ، فكذلك ينبغي أن نحكم ببطلان الوضوء للصلاة الاخرى لكونه غير قادر عليه بواسطة الأمر بهذه الصلاة في الوقت ولو مع التيمم.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إن اشتراط وجوب الطهارة المائية بالقدرة الشرعية إنما استفيد من جعل التيمم بدلا عنها عند عدم التمكن منها ، ولا ريب أن جعل هذا البدل أعني التيمم إنما هو في خصوص مورد التمكن منه ، وحينئذ يكون اشتراط الطهارة المائية بالقدرة الشرعية منحصرا بخصوص مورد التمكن من التيمم ، بحيث إنه إذا سقط الوضوء وجب التيمم ، أما عند عدم التمكن من التيمم فلا يكون وجوب الوضوء مشروطا شرعا بالقدرة ، بل أقصى ما فيه أن يكون حينئذ مشروطا عقلا بالقدرة (1) ، فعند المزاحمة بتكليف آخر يكون أهم منه ، لو فرض الاقدام على عصيان ذلك الأهم والاتيان بالوضوء ، يكون ذلك الوضوء صحيحا بالملاك أو بالترتب كما فيما نحن فيه ، لأن المفروض فيه هو عدم القدرة على التيمم للصلاة (2) الاخرى غير الصلاة التي ضاق وقتها ، لأنه متمكن من الوضوء

ص: 200


1- لانحصار مطلق الطهور به حينئذ ، فيكون ذلك المزاحم مفوّتا لمطلق الطهور ، ومن الواضح أن مطلق الطهور غير مشروط بالقدرة شرعا وإنما مشروط بها عقلا. ولازم ذلك أنه لو بقي من الوقت مقدار أداء الصلاة مع الغسل أو أدائها مع التيمم بعد إزالة النجاسة عن المصحف مثلا ، أنه لا يشرع له الغسل ، وأنه لو عصى أمر الازالة يتيمم ويصلي ، نظير ما لو وجب صرف الماء على العطشان لكنه عصى ، فانه لا يشرع له الوضوء ويلزمه التيمم حينئذ وإن كان الماء موجودا عنده [ منه قدس سره ].
2- راجع العروة في مسائل ص 222. [ منه قدس سره ] ، والظاهر أن مقصوده بذلك المسائل المذكورة في المسوّغ السابع من مسوّغات التيمم ، فراجع المسألة 29 وما بعدها.

لها ، فلا يكون التيمم لها مشروعا فلا يكون مقدورا.

ولعل السر في ذلك : هو أن ذلك التكليف الأهم لو كان مزاحما لنفس تقيد الصلاة بالطهارة المائية كان موجبا لسقوط التقييد خطابا وملاكا أما إذا لم يكن مزاحما لنفس التقيد المذكور ، بل كان مزاحما لنفس الغاية المشروطة به ، لم تكن تلك المزاحمة موجبة لسقوطه خطابا وملاكا ، بل يكون في ذلك تابعا لغايته المشروطة به ، وحيث إنها لم تكن مشروطة شرعا بالقدرة بل كانت القدرة فيه عقلية صرفة ، لم يكن تقدم ذلك التكليف المفروض أهميته موجبا إلاّ لسقوطه خطابا لا ملاكا ، فيمكن الحكم حينئذ بصحته إما بالملاك أو بالترتب ، وذلك كما لو كان وقت الصلاة واسعا وابتلي بازالة النجاسة عن المسجد ، فان المزاحمة تقع بين الازالة وبين الصلاة مقيدة بمطلق الطهارة الأعم من المائية والترابية.

وفي هذه الجهة من الاشكال مباحث دقيقة شريفة فصلناها فيما علقناه على ما حررناه عن شيخنا قدس سره في هذه المسألة ، فراجعها هناك (1) وتأمل فيها حق التأمل.

والذي صرح به شيخنا قدس سره في رسالة المشكوك (2) : أن الوضوء بالنسبة إلى أصل وجود الماء وإن كان مشروطا بالقدرة الشرعية المستفاد من التفصيل الذي تضمنته الآية الشريفة (3) ، إلاّ أنه بالنسبة إلى استعمال الماء في الوضوء لا يكون إلاّ مشروطا بالقدرة العقلية ، وحينئذ يكون الوضوء للصلوات الاخرى في مورد وجوب التيمم للصلاة التي ضاق وقتها صحيحا

ص: 201


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- رسالة الصلاة في المشكوك : 227 - 228.
3- المائدة 5 : 6.

بالملاك ، وهذا بخلاف موارد وجوب التيمم لأجل وجوب صرف الماء في حفظ نفس محترمة. هذا ملخص ما أفاده هناك.

قلت : وحينئذ يشكل الأمر في الوضوء للصلاة الحاضرة ، فانه من هذا القبيل لكون الماء موجودا عنده ، وإنما المزاحم هو استعماله ، والمفروض أنّ القدرة عليه شرط عقلي (1).

اللّهم إلاّ أن يقال : إنه يبطل من جهة اخرى ، وهي أن ملاكية الوضوء لهذه الصلاة هو مقدميتها لها ، فإذا فرض كونه مفوّتا لها أو لبعضها في الوقت كان خاليا من الملاك المذكور فلا يصح لذلك ، لكن يبقى الاشكال في موارد أخر يكون التكليف المزاحم مزاحما لنفس الاستعمال كما في الموارد التي تكون الطهارة المائية فيها مفوّتة لواجب فعلي ، مثل المسارعة في أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد ونحو ذلك مما تكون الطهارة المائية موجبة لتفويته إذا اتفق مزاحمتها له ، هذا كله. مضافا إلى إمكان التأمل في أصل هذا المطلب وهو التفرقة بين القدرة على أصل وجود الماء والقدرة على استعماله ، وقد تعرضنا لذلك فيما علّقناه على ما حررناه (2) ، وأيضا حررناه في رسالة مستقلة (3) فراجع وتأمل.

لا يقال : قد تقدم (4) أن المستحب وكذلك الواجب التخييري لا يزاحم المضيق سواء كان التخيير شرعيا أو كان عقليا ، فالذي ينبغي أن يقال في جواب هذا الاشكال : إن الغاية التي يتوضأ لها ليست من الواجبات المضيقة ، بل هي إما مستحبة وإما واجبة تخييرا ولو عقليا مثل صلاة القضاء

ص: 202


1- [ في الأصل : شرعي ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- مخطوط ، لم يطبع بعد.
3- مخطوط ، لم يطبع بعد.
4- في صفحة : 140 ما بعدها.

لكونها موسعة ، وحينئذ يكون وضوءه لها أيضا كذلك ، فلا مانع من كونه مامورا به بهذا النحو من الأمر الموسع ، فلا يكون الأمر به منافيا للأمر بالتيمم للصلاة الحاضرة التي قد ضاق [ وقتها ](1) ، فيكون ذلك هو الوجه فيما حكموا به من صحة الوضوء لغاية اخرى.

لأنا نقول : إن الوضوء المذكور وإن كان مستحبا أو كان واجبا موسعا تبعا لتوسعة غايته ، إلاّ أن الوضوء كيف كان الطلب المتعلق به لا يكون إلاّ مشروطا بالقدرة الشرعية ، الذي عرفت أنه يسقط خطابا وملاكا بمزاحمة المضيق له ، فان الوضوء المستحب أو الواجب التخييري تكون مزاحمته للواجب المضيق موجبة لارتفاع الطلب المتعلق به خطابا وملاكا ، ومعه لا يمكن توجيه الحكم بصحته بهذا التوجيه ، لأنّ الطلب المشروط بالقدرة الشرعية سواء كان استحبابيا أو كان واجبا تخييريا أو كان واجبا تعيينيا يسقط خطابا وملاكا بواسطة الأمر بالمضيق ، فلا بدّ في توجيه الحكم بصحة الوضوء فيما نحن فيه بما قدمناه (2) ، فتأمل.

ثم إنك قد عرفت فيما تقدم (3) أنه لو خالف وأقدم على الوضوء في مورد ضيق الوقت مع علمه بالضيق كان وضوءه باطلا ، لكن الظاهر أن ذلك لا لمجرد كون الوضوء مشروطا بالقدرة الشرعية والوقت بعد فرض تقديمه عليه يكون سالبا لقدرته ، وبعبارة اخرى أن ذلك ليس لمجرد المزاحمة ، بل هو لجهة اخرى وهي قيام الأدلة مثل إطلاق صحيحة زرارة ونحوها مما

ص: 203


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].
2- في صفحة : 200 - 201.
3- في صفحة : 199.

تقدم (1) من الأدلة على سقوط الأمر بالوضوء في الفرض المزبور ، ولو من جهة المحافظة على الوقت ، على وجه لو فرضنا أن الوضوء غير مشروط بالقدرة الشرعية لكانت تلك الأدلة كافية في الدلالة على أنه غير مأمور به في المقام.

ولو لا هذه الجهة وبقينا نحن والمزاحمة للوقت ، وأن الوقت مقدّم ورافع في مقام المزاحمة للقدرة على الوضوء ، لكان لازم ذلك هو صحة الوضوء في مورد الجهل بالضيق وقد أفتوا بفساده ، ألا ترى أنه لو كان عنده من الماء ما لا يكفيه إلاّ لأحد الأمرين من إزالة النجاسة عن المصحف أو المسجد أو صرفه في الغسل أو الوضوء ، فانه يسقط الوضوء أو الغسل ، لكون صرف الماء في إزالة النجاسة عن المسجد أو المصحف موجبا في مقام المزاحمة لسلب قدرته على الغسل أو الوضوء ، فيكون وضوءه باطلا مع العلم بالنجاسة المذكورة ، أما مع الجهل بها فلا يكون وضوءه المذكور باطلا.

وهكذا الحال فيما لو كان عالما بالنجاسة المزبورة لكنه تخيل أن الماء يكفيه لازالتها وللطهارة المائية ، ثم بعد أن أقدم على الطهارة المائية تبيّن له أن الماء لا يكفي لهما ، فان طهارته المائية تكون صحيحة.

وهكذا الحال فيما لو كان معه عطشان مشرف على التلف من العطش وكان صاحب الماء لا يعلم بذلك وأقدم على الوضوء بذلك الماء ، فان وضوءه يكون صحيحا.

وهكذا الحال فيما لو بقي من الوقت مقدار الصلاة مع الغسل أو هي

ص: 204


1- في صفحة : 193 - 195.

مع التيمم وإزالة النجاسة عن المسجد أو المصحف وكان عالما بذلك الضيق والنجاسة ، فان غسله يكون باطلا ، بخلاف ما لو كان جاهلا بذلك ، سواء كان جاهلا بأصل النجاسة أو كان عالما بها لكنه تخيل سعة الوقت لكل منهما فتبين خلافه.

والحاصل : أن التكليف المزاحم لما هو مشروط بالقدرة الشرعية يكون حاله حال ما لو زاحم المشروط بالقدرة العقلية ، في أن سالبيته للقدرة ومزاحمته له منوطة بالتنجز بالعلم ، وأن الجهل بأصل التكليف المزاحم أو الجهل بالمزاحمة بعد فرض العلم بأصل التكليف المزاحم يكون رافعا للمزاحمة ، وموجبا لعدم كون ذلك التكليف المزاحم سالبا للقدرة على ذلك التكليف الآخر ، سواء كان ذلك التكليف الآخر مشروطا بالقدرة العقلية أو كان مشروطا بالقدرة الشرعية ، حيث إن سالبيته للقدرة إنما هي من حيث التنجز واقتضائه اشتغال المكلف به ، لا بمجرد وجوده الواقعي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، حيث إن الجاهل بالضيق وإن كان عالما بوجوب إيقاع الصلاة في الوقت ، إلاّ أنه لما تخيل سعة الوقت لم تكن عنده الطهارة المائية مزاحمة للوقت ، فكان يرى نفسه قادرا عليها ، فلا تكون في البين مزاحمة كي تكون طهارته المائية باطلة ، وحينئذ لا بدّ لنا في الحكم ببطلان الوضوء في هذه الصورة مع الجهل بالضيق من رفع اليد عن طريقة المزاحمة ، وسلوك الطريقة المتقدمة أعني الادلة على سقوط الأمر بالوضوء وعدم مشروعيته ، فيكون الوضوء باطلا سواء كان عالما أو كان جاهلا بالضيق.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن المزاحمة إنما يسقطها الجهل إذا كان الجهل متعلقا بأصل التكليف المزاحم ، أما الجهل المتعلق بنفس المزاحمة كالجهل

ص: 205

بالضيق فيما نحن فيه وفي مثال ضيق الوقت عن الجمع بين الطهارة المائية وازالة النجاسة عن المصحف أو المسجد (1) أو الجهل بعدم كفاية الماء لكل منهما ، فلا يكون مسقطا للمزاحمة ، فتكون الطهارة المائية في مثل ذلك باطلة لتحقق المزاحمة ، فتأمل فان ذلك غير بعيد.

بل لا يبعد القول بأن الجهل بوجود النجاسة لا يؤثر في رفع المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة الشرعية الذي هو الوضوء ، فان هذا الشخص الجاهل بوجود النجاسة في المصحف أو المسجد أو الناسي لذلك وإن لم يكن فعلا مخاطبا بها ، إلاّ أن الأمر الواقعي بازالتها يكون في الواقع رافعا لموضوع الطهارة المائية الذي هو القدرة ، فلا يكون في الواقع مكلفا بالوضوء ، وإنما يكون الجهل المذكور نافعا فيما لو كان ذلك التكليف الآخر غير مشروط شرعا بالقدرة ، فينبغي أن يحكم ببطلان الوضوء في مورد الجهل بالنجاسة في المسجد أو على المصحف.

لكنهم على الظاهر لم يلتزموا ببطلان الوضوء في مثل ذلك ، كما يشهد بذلك ما ذكره في العروة في كتاب الحج ، وذلك قوله قدس سره : وإن اعتقد عدم مانع شرعي فحج فالظاهر الاجزاء إذا بان الخلاف ، وإن اعتقد وجوده فترك فبان الخلاف فالظاهر الاستقرار (2) ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره. ومراده من المانع الشرعي هو التكليف المزاحم لوجوب الحج الذي يكون مقدما على الحج في مقام المزاحمة.

ص: 206


1- مع قطع النظر عن كونها فورية ، فان فوريتها توجب عليه تقديمها لاعتقاده سعة الوقت. والأولى أن يمثّل لذلك بما لو اعتقد كفاية ما عنده من الماء لطهارته ولمن يخاف عليه العطش ، فتوضأ ثم تبين أنه لا يكفي [ منه قدس سره ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 421 / ضمن المسألة 65.

والمستفاد من ذلك هو أن المشروط بالقدرة الشرعية ، كالمشروط بالقدرة العقلية في توقف سقوطه بالمزاحمة على العلم بذلك التكليف المزاحم ، بحيث إنه لو لم يكن عالما بذلك التكليف لا يكون ذلك التكليف المجهول مزاحما لما بيده من التكليف المشروط بالقدرة الشرعية ، كما هو الحال في المشروط بالقدرة العقلية ، وحينئذ يكون الجهل بذلك التكليف الواقعي رافعا للمزاحمة ، بمعنى أنه لا يكون موجبا لسلب القدرة على ما بيده من التكليف ، فيكون ذلك على خلاف ما يستفاد من حكمهم ببطلان الوضوء عند الجهل بالضيق من أن ذلك الجهل لا يرفع المزاحمة ، ويكون التكليف المعلوم المتعلق بايقاع الصلاة في الوقت مزاحما للتكليف بالطهارة المائية وإن كان جاهلا بمزاحمتها لايقاع الصلاة في الوقت لتخيله سعة الوقت لهما ، إلاّ أن يكون المنشأ في الحكم ببطلان الوضوء في الصورة المزبورة هو الأدلة الخاصة مثل حسنة زرارة المتقدمة (1) ، فتأمل.

قوله : فيقدّم فيه ما كان الاشتراط فيه عقليا فانه قابل لأن يكون رافعا لشرط الآخر ومعجّزا ... الخ (2).

ويمكن تقريب الحكومة بنحو آخر وهو أن يقال : إن كون أحد التكليفين سالبا للقدرة على الآخر إنما هو بخطابه المقتضي لانشغال المكلف فيه لا بملاكه ، ومن الواضح أن مرتبة الملاك مقدمة على مرتبة الخطاب ، وحينئذ لو كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا دون الآخر كان الآخر رافعا لملاك الأوّل ، من دون أن يكون ذلك الأول قابلا لأن يرفع الخطاب بالثاني ، لأن المفروض أن الثاني قد رفع ملاك الأوّل قبل أن يصل

ص: 207


1- في صفحة : 187.
2- أجود التقريرات 2 : 36 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

هو - أعني الأوّل - إلى مرتبة الخطاب به التي بها يكون هو - أعني الأوّل - رافعا للخطاب بالثاني ، فكان الثاني رافعا للأول قبل أن يصل إلى الدرجة التي يمكن فيها أن يكون رافعا للثاني ، فلا يعقل أن يكون الأوّل صالحا لرفع الخطاب بالثاني ، لأنه أعني الثاني قد رفعه قبل أن يصل إلى درجة إمكان رفعه به ، فتأمل.

قوله : ولا يفرق في هذا القسم بين تقدم الوجوب غير المشروط شرعا على المشروط أو تأخره عنه زمانا ... إلخ (1).

كما أنه لا مورد فيه للترجيح بالأهمية ، لكن صرح في العروة بالترجيح بالتقدم الزماني وبالأهمية ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس سره شيئا ، فقال في مسألة 64 من كتاب الحج ما هذا لفظه :

إذا استلزم الذهاب إلى الحج تلف مال له في بلده معتد به لم يجب ، وكذا إذا كان هناك مانع شرعي من استلزامه ترك واجب فوري سابق على حصول الاستطاعة أو لاحق مع كونه أهم من الحج ، كانقاذ غريق أو حريق الخ (2) فجعل ملاك تقديم ما هو مشروط بالقدرة العقلية على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية منحصرا بأحد أمرين ، التقدم الزماني وإن لم يكن أهم ، أو الأهمية وإن لم يكن تقدم زماني ، فيستفاد منه أن ما هو مشروط بالقدرة العقلية لو لم يكن أهم ، ولم يكن متقدما زمانا ، لم يكن مجرد كونه مشروطا بالقدرة العقلية موجبا لتقدمه على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية. وبنحو ذلك صرح في مسألة 31 (3) فراجعه.

ص: 208


1- أجود التقريرات 2 : 36 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 417 - 418.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 393.

وراجع ما أفاده في العروة أيضا في مسألة 66 : إذا حج مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب محرم لم يجزه عن حجة الاسلام وان اجتمع سائر الشرائط ، لا لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده - إلى قوله : - بل لأن الأمر مشروط بعدم المانع ، ووجوب ذلك الواجب مانع الخ (1).

وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، لما سيأتي (2) في شرح الاستطاعة من شمولها لما إذا لم يكن في البين تكليف شرعي مزاحم للحج ، سواء كان توجهه سابقا على الاستطاعة أو كان متأخرا عنها. نعم في خصوص الواجب أو الحرام الذي يضطر إلى مخالفته في الطريق مثل أكل النجس كلام سيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) ، وقد تعرض له في العروة وحاشيتها في مسألة 69 (4).

والحاصل : أن أضعف التكاليف ملاكا مما هو مشروط بالقدرة العقلية يكون مقدّما على ما هو أقواها ملاكا مما هو مشروط بالقدرة الشرعية ويكون الأوّل رافعا لموضوع الثاني ، وبذلك يكون مسقطا له خطابا وملاكا وإن كان زمان توجهه متاخرا عن زمان توجه الثاني ، والسر في ذلك أن الشارع بعد أن أخذ القدرة شرطا في توجه الثاني على وجه كانت معتبرة فيه خطابا وملاكا ، وحينئذ لو توجه إلى المكلف تكليف من النحو الأوّل يكون ذلك المكلف في عالم التشريع غير قادر على امتثال الثاني ، فهو بنظر الشارع مسلوب القدرة على الثاني ، ومع كونه بنظره مسلوب القدرة على

ص: 209


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 427 - 429.
2- في صفحة : 214 - 216.
3- في صفحة : 219 وما بعدها.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 432.

الثاني يكون ذلك التكليف الثاني غير متوجه إلى ذلك المكلف ، لعدم تحقق شرطه في عالم التشريع في حق ذلك المكلف ، ولأجل [ ذلك ](1) نقول إنه لا يتأتى فيه الترتب ، لأن شرط الترتب إحراز الملاك ، ومع وجود التكليف الأوّل يكون الثاني ساقطا خطابا وملاكا.

لا يقال : لا ريب في توقف صحة الخطاب على القدرة ، وقلتم إن الخطاب بالمهم المشروط بالقدرة العقلية يصح توجهه على تقدير عصيان الأهم ، فيكون المهم على تقدير عصيان الأهم مقدورا ، ويصح الخطاب به حينئذ على هذا التقدير أعني تقدير عصيان الأهم ، فإذا صححتم الخطاب بالمهم في فرض عصيان الأهم لأجل أنه مقدور على هذا التقدير ، فلم لم تصححوا الأمر بما هو مشروط بالقدرة الشرعية على تقدير عصيان ذلك المشروط بالقدرة العقلية ، ويكون ذلك المقدار من القدرة المصححة للخطاب بالمهم المشروط بالقدرة العقلية مصححا للتكليف بما هو مشروط بالقدرة الشرعية على تقدير عصيان ما كان مقدما عليه مما هو مشروط بالقدرة العقلية.

لأنا نقول : إن الفرق بين البابين واضح ، فان القدرة المصححة للخطاب فيما هو مشروط بالقدرة العقلية يكفي فيها رفع استقباح الخطاب بما هو غير مقدور ، وتقدير عصيان الأهم كاف في رفع ذلك القبح ، بخلاف القدرة المصححة للملاك فيما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فان توجه التكليف به يتوقف على كونه مقدورا للمكلف في عالم التشريع ، بحيث إن الفعل يكون مقدورا بنظر الشارع ، ومع بقاء الأمر الأوّل لا يكون ذلك الفعل

ص: 210


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

مقدورا بنظر الشارع. ومجرد أخذ عصيان الأوّل فيه لا يجعله مقدورا بنظر الشارع وإن كان أخذ ذلك العصيان مصححا للخطاب ، لأن مجرد صحة الخطاب وارتفاع قبحه لا يلازم كونه مقدورا بنظر الشارع كي يكون مصححا لتوجه التكليف الذي أخذت القدرة فيه شرعا ، المتوقف على كونه مقدورا بنظر الشارع ، فتأمل.

والحاصل : أنّ الموجب للقبح هو التدافع بين الأمرين ، وأخذ العصيان في الثاني رافع لذلك التدافع ، بخلاف ما يكون مشروطا شرعا بالقدرة ، فان سقوطه عند التدافع لأجل أن الأوّل رافع لموضوعه الذي هو القدرة بنظر الشارع ، وهذا الارتفاع منوط ببقاء الأمر الأوّل ، ومن الواضح أن مجرد عصيان الأوّل لا يوجب ارتفاعه كي يكون ذلك محققا للقدرة على الثاني بنظر الشارع ، وحيث كان الأمر الأوّل باقيا في ظرف عصيانه يكون استلزامه لعدم القدرة على الثاني باقيا بحاله ، فلا يكون شرطه الشرعي الذي هو القدرة متحققا حينئذ ، وبناء على ذلك يكون الأمر الثاني باقيا على ما هو عليه من كونه ساقطا خطابا وملاكا في ظرف عصيان الأوّل.

وإن شئت فقل : إن قولنا بصحة الترتب في المشروط بالقدرة العقلية ليس من جهة أن عصيان الأهم يوجب تحقق القدرة على المهم ، وكيف يكون محققا للقدرة على المهم مع فرض أن عصيان الأهم لم يكن مسقطا للأمر بالأهم الذي هو الموجب لسلب القدرة على المهم ، بل إنما قلنا بصحته من جهة أن عدم القدرة لا يرفع الملاك ، فلم يبق إلاّ إشكال التدافع بين الأمرين وعدم إمكان الجمع بين إطلاقيهما ، فكان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم دافعا للمحذور المذكور أعني المطاردة والمدافعة بين الأمرين ، ومن الواضح أن ذلك كله إنما يتم فيما هو مشروط بالقدرة

ص: 211

العقلية ، أما ما هو مشروط بالقدرة الشرعية فان المانع فيه هو ارتفاع ملاكه عند الأمر بالأهم ، ومن الواضح أن التعليق على عصيانه لا يوجب سقوط الأمر بالأهم كي يكون محققا للقدرة على المهم كي يكون محققا لملاكه.

والخلاصة : أن عصيان الأهم لا يولّد القدرة على المهم على وجه يجعله مقدورا في نظر الشارع وإن كان مقدورا في نظر العقل ، وإنما أقصى ما في ذلك أن التعليق عليه يوجب رفع قبح الخطاب بالمهم ، لأن ملاك صحة الخطاب به إنما هو راجع إلى العقل ، والمفروض أنه مقدور في نظر العقل ، وقبح المطاردة مندفع بالتعليق على العصيان ، وهذا إنما يؤثر في المشروط بالقدرة العقلية ، أما المشروط بالقدرة الشرعية فالخطاب به يتوقف على كونه مقدورا بنظر الشارع ، لأنه هو الحاكم بالتقييد بالقدرة فلا بدّ فيه من كون المكلف به مقدورا في نظره ، والعصيان لا يجعله مقدورا في نظره.

وسرّ الفرق بينهما راجع إلى ما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب من أن المزاحم بمجرد توجهه يكون رافعا للقدرة على المشروط بالقدرة الشرعية ، بخلاف المشروط بالقدرة العقلية فانه إنما يرفع القدرة بامتثاله ، وأن عدم امتثال الأمر بالأهم لا يولّد القدرة الشرعية على امتثال المهم على وجه لو كان مشروطا شرعا بالقدرة لكان ذلك كافيا فيه ، لما عرفت من أنه مع بقاء الأمر بالأهم لا يكون في نظر الشارع قادرا ، وأن أقصى ما يولّده عدم امتثال الأمر بالأهم هو القدرة العقلية على امتثال المهم المصححة للخطاب به في حكم العقل ، فراجع ما حررناه

ص: 212


1- في الصفحة : 300 وما بعدها.

في مقدمات الترتب.

تتميم لا بأس به : وهو أنه قد يناقش في خصوص الطهارة المائية بأنها لو كانت مشروطة بالقدرة شرعا بحيث كانت القدرة دخيلة في وجوبها خطابا وملاكا ، لكان حالها حال الاستطاعة في الحج ، ومن الواضح أنه لا يجب تحصيل الاستطاعة بقبول الهبة أو الاستيهاب ، مع وجوب قبول الماء أو استيهابه إذا لم يكن موجبا للوهن المنتهى إلى الضرر ، بل صرح بعضهم بوجوب التكسب لتحصيل الماء (1) ، ولا أقل من الفرق بينهما فيما هو معلوم من جهة لزوم طلب الماء بالضرب في الأرض ، ومن الواضح أنه لا يجري مثله في باب استطاعة الحج.

ويمكن الجواب عن خصوص الطلب في الأرض بأنه على خلاف القاعدة ، للنص (2) الذي لا بدّ من توجيهه بأنه من قبيل متمم الجعل الكاشف عن أن ملاك الطهارة المائية يقتضي هذا المقدار من لزوم الطلب ، وأما بالنسبة إلى الكسب والاستيهاب وقبول الهبة فيمكن دعوى لزومه من باب متمم الجعل أيضا ، بدعوى استفادة ذلك من نصوص الضرب في الأرض.

والأولى أن يقال في الجواب عن لزوم مثل ذلك في القدرة على الماء دون استطاعة الحج : إن الشرط هو القدرة على الماء ، وهي حاصلة لمن يقدر على تحصيله بالكسب أو الاستيهاب أو قبول الهبة ، بخلاف

ص: 213


1- قال المرحوم الحاج آغا رضا قدس سره [ في مصباح الفقيه ( الطهارة ) 6 : 127 - 128 ] : ولو وهبه واهب وكان في قبولها منة يشق على الطباع تحملها لم يجب كما صرح به غير واحد وإلاّ يجب ، بل ربما يجب الاستيهاب عند ابتذال الماء واستغناء المالك عنه ، كما أنه يجب تحصيله بسائر أنحاء الاكتساب ما لم يترتب عليه ضرر أو مشقة رافعة للتكليف ، وهذا مما يختلف بحسب الموارد والاشخاص كما لا يخفى [ منه قدس سره ].
2- وسائل الشيعة 3 : 341 / أبواب التيمم ب 1.

الاستطاعة فانها مفسرة بملك الزاد والراحلة ، وهي غير حاصلة لمن كان قادرا على ملكهما بالكسب ونحوه.

لا يقال : بعد فرض تفسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة فمن أين جاء اشتراط القدرة حتى جعلتم الحج من المشروط بالقدرة الشرعية.

لأنّا نقول : إن التفسير بهما لا يدل على الحصر ، مع أن في بعض الروايات الصحيحة (1) إضافة صحة البدن وتخلية السرب ، فيمكن أن يجعل المستند في كونه مشروطا بالقدرة الشرعية وأن التكليف الالزامي المشروط بالقدرة العقلية رافع له بما اشتملت عليه هذه الروايات من تخلية السرب فان ظاهرها وإن كان هو الأمن في الطريق إلاّ أنه بدوي ، يمكن التوسع فيه بارادة عدم المانع حتى من جانب التكاليف الشرعية. وليس ذلك ببعيد فتأمل.

أو يقال : إن أوّل ما يعتبر في تحقق مفهوم الاستطاعة هو القدرة ولكن لمّا كانت الاستطاعة التي علّق الحكم على وجودها أضيق دائرة من القدرة المطلقة ، تعرضت الروايات لبيان الشروط الاخرى التي تحتاج إلى بيان ، مثل ملك الزاد والراحلة ومثل تخلية السرب ومثل الصحة من المرض ونحو ذلك من الشروط التي لو لم تتعرض لها الروايات المفسرة وتبين لنا اعتبارها في الاستطاعة ، لحكمنا بعدم اعتبارها وقلنا بوجوب الحج بمجرد القدرة ولو بالمشي والتسكع ، كما هو مذهب بعض العامة وهو مالك (2) على ما حكي عنه ، فيكون المتحصل من مجموع ظاهر الآية الشريفة (3) وما ورد

ص: 214


1- وسائل الشيعة 11 : 34 / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب 8 ح 4 ، 7.
2- راجع بداية المجتهد 1 : 319 ، المغني 3 : 168 ، لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 634.
3- آل عمران 3 : 97.

في تفسيرها بما ذكر هو اعتبار القدرة واعتبار أمر آخر فوق القدرة وهو ملك الزاد والراحلة ، والروايات تعرضت للثاني لاحتياجه إلى بيان دخوله في قيد الاستطاعة ، بخلاف الأوّل فان مجرد القدرة لا محل للتشكيك في اعتبارها في وجوب الحج بعد قوله : ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) لأن ذلك أوّل درجات الاستطاعة.

ولعل هذا الوجه أولى مما في الحدائق (2) من حمل الروايات المزبورة المقيدة بخصوص ملك الزاد والراحلة على التقية لأنه مذهب جمهور العامة (3) ، وبذلك رجح الأخبار الدالة على تفسير الاستطاعة بالأعم من الزاد والراحلة على الأخبار المزبورة ، فراجع وتأمل.

وان شئت فراجع المستند (4) فانه تعرض للأخبار المشتملة على الزاد والراحلة ، وليس جلها بلسان التفسير ، بل جلها أو كلها بلسان أنه إن ملكهما فهو ممن يستطيع الحج ، ومن الواضح أنه لا دلالة في هذا اللسان على الحصر ، بل أقصى ما فيه أن مالكهما من جملة من يستطيع الحج بمعنى أنه لا يعتبر فيه أزيد من ملكهما ، لا أنه لا يعتبر فيه مطلق القدرة ، بل في صحيحة الحلبي « إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره اللّه فيه ، فقد ترك شريعة من شرائع الاسلام » (5) وتكاد تكون هذه الصحيحة صريحة في اعتبار القدرة ، وأنه إذا كان تركه لشغل يعذره اللّه

ص: 215


1- آل عمران 3 : 97.
2- الحدائق الناضرة 14 : 84 - 85.
3- بدائع الصنائع 2 : 122 ، المغني 3 : 169 ، لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 633 وما بعدها.
4- مستند الشيعة 11 : 27 وما بعدها.
5- وسائل الشيعة 11 : 26 / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب 6 ح 3 ( مع اختلاف يسير ).

فيه لم يكن الحج واجبا عليه. ومن الواضح أن من جملة الأشغال المحققة للمعذورية الاشتغال بأداء واجب شرعي ، فان ذلك من أهم الأشغال التي توجب العذر عند الشارع ، لما حققناه (1) من أن الأمر الايجابي تعجيز مولوي ، فراجع تمام ما أفاده في المستند في الجواب عن شبهة الاختصاص بملكية الزاد والراحلة ، ويتضح لك حينئذ أن اعتبارهما لا دخل له بما نحن فيه من اعتبار القدرة شرعا.

تنبيه : ذكر السيد قدس سره في العروة : أن غير المحترم الذي لا يجب قتله بل يجوز كالكلب العقور والخنزير والذئب ونحوها لا يوجبه ، وإن كان الظاهر جوازه (2).

وقال شيخنا قدس سره في الحاشية على ذلك : جوازه في الأمثلة الثلاثة ونحوها مشكل ، نعم في غير المؤذي من الحيوان غير المحترم لا يبعد جوازه (3).

ثم قال السيد قدس سره : وفي الثانية ( يعني الصورة التي نقلناها ) يجوز (4) ، وقال شيخنا قدس سره في الحاشية : ما لا يبعد جوازه هو إعدام الماء بصرفه على ذلك الحيوان ، فينتقل التكليف إلى التيمم ، أما التخيير بين الطهارتين مع التمكن من الماء عقلا وشرعا فقد تقدم أنه لا يبعد القطع بعدمه (5).

قلت : لكن جواز صرف الماء على ذلك الحيوان في الصورة المفروضة وإخراج المكلف نفسه من الواجد إلى الفاقد يحتاج إلى دليل والظاهر أنه ليس في البين ما يصلح لذلك سوى بعض الاطلاقات (6) وهي

ص: 216


1- راجع ما ذكره قدس سره في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب ، الصفحة : 300 وما بعدها.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 176.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 176.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 177.
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 177.
6- وسائل الشيعة 3 : 388 / أبواب التيمم ب 25.

واردة في حفظ الماء لخوف العطش لا في جواز صرفه.

والحاصل : أنه كما قلنا إنه لا يبعد القطع بعدم التخيير بين الطهارتين نقول إنه لا يبعد القطع بعدم جواز صرف ذلك الماء الموجود ، فان وجوب الوضوء إن كان متوجها إليه في ذلك الحال كان مقتضاه هو صرف ذلك الماء في الوضوء ، ومقتضى لزوم صرفه فيه عدم سلطنته على صرفه في غيره ، فلا يبعد القطع بعدم اجتماع وجوب الوضوء وجواز صرف ذلك الماء في غيره ، إلاّ إذا قام دليل قطعي يدل على جواز صرفه في ذلك الغير فان ذلك الدليل يكون محصله هو جواز إخراج نفسه من موضوع الواجد إلى موضوع الفاقد. والحاصل : أن جواز صرف ذلك الماء على ذلك الحيوان المفروض أن حفظه غير واجب ، وأنه لا ضرر ولا حرج على المكلف في عطبه وتلفه ، لا يكون إلاّ من قبيل جواز إراقة الماء في ظرف تحقق وجوب الوضوء ، فراجع وتأمل.

استطراد : ربما يقال إن المدار في مسألة ضيق الوقت على الخوف الوجداني ، كما لو ادعي استفادة ذلك من صحيحة زرارة المتقدمة (1) ، وحينئذ لو شك في سعة الوقت وبقائه على وجه يسع الطهارة المائية والصلاة لم يكن استصحاب بقاء الوقت نافعا ، لأنّ أقصى ما فيه هو الحكومة على ما يكون موضوعه الشك والاحتمال ، لا على ما يكون موضوعه الخوف الوجداني الملازم للاحتمال إلاّ على تقدير الأصل المثبت ، بل لو قلنا بحجية الأصل المثبت لم يكن نافعا ، لأن أقصى ما فيه هو الحكم بنفي ذلك اللازم تعبدا ، والمفروض فيما نحن فيه أن ذلك اللازم وهو الخوف موجود وجدانا فلا يعقل التعبد بعدمه.

ص: 217


1- في صفحة : 187.

ومنه يظهر لك أنه لو قامت بيّنة على بقاء الوقت لم تكن نافعة ، لأن أقصى ما فيها هو أن قيام البينة يوجب زوال الشك والاحتمال تعبدا وأنها حجة في نفي لازم الشك تعبدا ، وأقصى ما فيها أن تكون قائمة على عدم الخوف ، فانها لا تنفع مع فرض وجود الخوف وجدانا ، إلاّ أن يكون مرجع ذلك إلى تنزيل هذا الخوف منزلة عدمه في عدم ترتب الأثر عليه. وهذا البحث جار في كل ما يكون من الأحكام الشرعية موضوعه الخوف ، مثل خوف الضرر ونحوه في حرمة السفر وفي وجوب الافطار.

أما استصحاب الضرر لو جرى فانه أيضا لا ينفع ، لأنه من قبيل الاحراز التعبدي لما هو محرز بالوجدان ، لأن حرمة الصيام حينئذ محققة وجدانا بواسطة الخوف ، فلا يكون إثباتها تعبدا باستصحاب الضرر إلاّ من قبيل الاثبات التعبدي لما هو محرز وجدانا ، فتأمل.

ثم إنه يمكن القول بسقوط استصحاب بقاء الوقت فيما تقدم في مسألة الوضوء حتى مع قطع النظر عن كون الموضوع هو الخوف ، بل كان الموضوع لسقوط الوضوء ووجوب التيمم هو ضيق الوقت واقعا ، وذلك بدعوى أن مفاد الصحيحة المشار إليها هو وجوب التيمم في مورد احتمال الضيق ، وهو غالبا مقرون باستصحاب بقاء الوقت ، فيكون ذلك دالاّ على عدم اعتناء الشارع بالاستصحاب المذكور ، ويكون ذلك مثل تقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب في موردها ، باعتبار كون موردها مقرونا غالبا باستصحاب عدم الاتيان بما شك من الأجزاء ، فلاحظ وتأمل ، وراجع العروة (1) وحواشيها في هذه المسألة أعني مسألة التيمم في مورد احتمال

ص: 218


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 184 / مسألة 27.

عدم سعة الوقت ، وراجع ما حررناه (1) هناك ، وأهم ذلك هو ضم مرسلة العامري إلى صحيحة زرارة (2) في لزوم التيمم عند خوف فوت الصلاة بفوات وقتها ، وهذه المرسلة ذكرها في الوسائل (3) في باب انتقاض التيمم بوجدان الماء ، كما أن صاحب الجواهر (4) ذكرها أيضا في ذلك الباب فراجع.

قوله : وأما القسم الثاني فيقدّم ما كان بحسب الزمان متقدّما على الآخر في الفعلية والانطباق ... إلخ (5).

لعل من هذا القبيل ما هو مسلّم من أنه لو علم أنه لا يتمكن من الطهارة المائية في طريقه إلى الحج لا يكون ذلك موجبا لسقوط الحج ويمكن أن يعلل الحكم المذكور بأن مجرد العلم بفوات الطهارة المائية والانتقال إلى الترابية لا يكون مانعا من السفر المباح فضلا عن الواجب ، فلا يكون ذلك رافعا للقدرة على الحج. ولعل الطريقة الثانية أولى وأنفع وحاصله : أن هذه الفروع مبنية على جواز السفر لمن علم أنه في سفره يضطر إلى ما يجوز ارتكابه عند الاضطرار ، مثل الاخلال بالصلاة أو ارتكاب أكل النجس ونحوهما ، وعلى هذا الاساس يبتني ما أفاده قدس سره من الاشكال في الحاشية على ما في العروة في مسألة انحصار الطريق بالبحر وكان مستلزما لمثل هذه الامور.

قال في العروة مسألة 69 : لو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه إلاّ مع خوف الغرق أو المرض خوفا عقلائيا ، أو استلزامه الاخلال بصلاته

ص: 219


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- وسائل الشيعة 3 : 366 / أبواب التيمم ب 14 ح 3.
3- وسائل الشيعة 3 : 377 / أبواب التيمم ب 19 ح 2.
4- جواهر الكلام 5 : 237.
5- أجود التقريرات 2 : 36 - 37 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

أو إيجابه لأكل النجس أو شربه. ولو حج مع هذا صح حجه ، لأنّ ذلك في المقدمة وهي المشي إلى الميقات ، كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات (1).

وعلّق شيخنا حاشية على قوله : لأكل النجس ، هذا نصها : سقوط الحج وحرمة ركوب البحر باستلزامه للامور الأخيرة لا يخلو عن إشكال (2).

وقد يقال : إن ما أفاده في المتن مخالف لمسلكه من الترجيح بالتقدم الزماني ، حيث إن التكليف بالحج سابق على التكليف بهذه الامور ، كما أن إشكال شيخنا قدس سره في الحاشية مخالف لمسلكه من تقديم ما هو مشروط بالقدرة العقلية على ما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فانه بناء على ذلك ينبغي أن يقال بتقدم هذه التكاليف على الحج ، لأنها مشروطة بالقدرة العقلية وهو مشروط بالقدرة الشرعية.

والجواب : أن مثل هذه المسألة خارج عن كل واحد مما أفاداه ، بل إن هذه المسألة داخلة في أن طروّ الاضطرار في الطريق إلى شرب النجس أو الاخلال بشيء من أجزاء الصلاة أو شرائطها ، هل يكون العلم بطروّه موجبا لحرمة السفر لو كان الطريق منحصرا ، والظاهر أنه لا مانع منه لدخوله في جواز تعجيز الانسان نفسه عن التكليف قبل حدوث زمانه المشروط به (3) ، وحينئذ لا يكون مسقطا للاستطاعة.

ولعل الوجه في هذه الحاشية هو استفادة فقهية ، من جهة أن طروّ مثل هذه الامور مما لا ينفك عنه السفر غالبا ، فلو منعناه لأجلها لم يكن السفر مشروعا أصلا ، ولا نسدّ باب الحج وباب الاستطاعة بالمرة.

وهذا الوجه ( أعني جواز السفر لمن علم أن سفره يوجب الاخلال

ص: 220


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 432.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 432.
3- [ في الأصل : المشروط هو ، والصحيح ما أثبتناه ].

بصلاته ، أو أنه يوجب اضطراره لأكل النجس أو شربه ، مع كون ذلك أعني الصلاة وحرمة أكل النجس وشربه من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ) هو الموجب لعدم سقوط وجوب الحج ، لما عرفت من جواز السفر في الصورة المفروضة ، وإن لم يكن السفر لأجل الحج فضلا عما لو كان السفر للحج الواجب.

وبعد الفراغ عن جواز السفر في هذه الصورة أعني لو كان السفر مستلزما لترك واجب مشروط بالقدرة العقلية ، يكون جوازه فيما لو كان مستلزما لترك ما هو مشروط بالقدرة الشرعية كما في السفر في طريق لا ماء فيه فيوجب الانتقال إلى التيمم بطريق أولى ، وحينئذ يكون جوازه للسفر للحج الواجب بطريق أولى ، ويكون هو الموجب لتقدم الحج في الصورة المذكورة على الطهارة المائية ، لا أن الموجب له هو كون الحج لا بدل له والطهارة المائية لها بدل طولي وهو التيمم مع فرض كونهما معا مشروطين بالقدرة الشرعية ، فان الاعتماد في التقديم على هذا الوجه كما يظهر من شيخنا قدس سره لا يخلو عن تأمل ، فان وجوب الحج يكون بازاء وجوب الطهارة المائية ، فلا بدّ من إعمال الترجيح بينهما ، فان سقط وجوب الحج تعين وجوب الطهارة المائية ، وإن سقطت الطهارة المائية تعين وجوب الحج وبعد سقوط الطهارة المائية يكون الانتقال إلى بدلها وهو التيمم ، والاعتماد في الترجيح على مجرد أن الطهارة المائية لو سقطت لها بدل طولي بخلاف الحج ، لا يخلو عن نحو من الاستحسان.

ومن ذلك يتضح الاشكال فيما لو كانت عليه كفارة مرتبة من العتق والاطعام والصيام وكان لولاها مستطيعا ، إلاّ أنّ شراءه العبد وعتقه يوجب سلب استطاعته ، كما أنّ صرف المال في الاستطاعة والحج يوجب عدم

ص: 221

قدرته على شراء العبد ، فهل يقدم الحج لأنه لا بدل له ويسقط العتق لأن له بدلا وهو الصيام؟

تنبيه : ربما يقال إن ما أفاده في العروة في ذيل المسألة بقوله : ولو حج مع هذا صح حجه ، لأن ذلك في المقدمة وهي المشي إلى الميقات كما إذا ركب دابة غصبية إلى الميقات (1) لا يخلو عن إشكال ، وذلك لأنّ الظاهر من حكمه بصحة الحج هو صحة كونه حجة الاسلام كما يعطيه صدر الكلام ، ومن الواضح أنّه بعد البناء على ما صدّر به المسألة من كون هذه الامور مسقطة لوجوب الحج ، لا يمكن الحكم بكون حجه حجة الاسلام لأنّ المفروض هو صورة الانحصار.

وبالجملة : أنه إن كان الطريق منحصرا بما يستلزم هذه الامور وقلنا بسقوط الحج بذلك ، لم يكن وجه للحكم بصحته عن حجة الاسلام لو أقدم على الارتكاب كما صرح بذلك في مسألة 66 (2) ، وإن لم يكن الطريق منحصرا بذلك أو كان منحصرا ولم يكن مستلزما للامور المذكورة واتفق الارتكاب ، لم يكن اختياره لذلك الطريق مسقطا لوجوب الحج ، كما أن ارتكابه لم يكن مخلا بحجة الاسلام. وهكذا الحال في ركوب الدابة المغصوبة. اللّهم إلاّ أن يريد بقوله « صح حجه » (3) مجرد الحكم بصحة الحج وإن لم يكن من باب حجة الاسلام ، لكن قد عرفت أنه لا يلائم مع صدر الكلام ، هذا.

ولكن الجواب عن الاشكال المزبور واضح على الظاهر ، فانه وإن لم

ص: 222


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 432 / المسألة 69.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 427.
3- [ المذكور في المسألة 69 ، المتقدمة في الصفحة : 219 - 220 ].

يجب عليه الحج قبل خروجه ، لكن بعد أن خرج وارتكب ما ارتكب ووصل إلى الميقات ، أو قبل أن يصله فارغا من تلك الارتكابات ، وكان في ذلك الحال واجدا لجميع الشرائط المعتبرة ، توجه إليه الحج الإسلامي من ذلك الحين ، نظير من أقدم متسكعا وقبل الميقات حصلت له الشرائط من المال ونحوه.

قوله : قلت أما حديث عدم اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا فيمنعه أن وجوب الوفاء تابع لما نذره ، وحيث إن النذر تعلق بالفعل المقدور لاقتضاء نفس تعلق النذر ذلك ... إلخ (1).

لا ينبغي الريب في أن النذر مشروط بالقدرة الشرعية وأنه ليس كسائر الواجبات المشروطة بالقدرة العقلية ، وإلاّ كان اللازم تقدمه على الحج حتى لو كان صدور النذر بعد تحقق الاستطاعة ، وهذا مما لم يقل به أحد على الظاهر ، وذلك مما يكشف عن أنه ليس من قبيل المشروطات بالقدرة العقلية.

ثم إنّ ملخص ما أفاده قدس سره في هذا المقام أوّلا : دعوى كون متعلق وجوب الوفاء بالنذر مشروطا بالقدرة الشرعية تبعا لأصل النذر ، إذ لا يتعلق بغير المقدور. وثانيا : اعتبار الرجحان في متعلق النذر في ظرف وقوعه لا في ظرف تعلق النذر به. وثالثا : اعتبار كونه غير محلل للحرام أو محرم الحلال.

ولا يخفى أن الأوّل وكذا الثالث يشترك فيه النذر مع الاجارة والصلح والشرط ، ولا إشكال في تقدمها على الحج وعلى ما يزاحمها مما هو مثل

ص: 223


1- أجود التقريرات 2 : 38 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

طروّ حق الزوج ، فراجع ما حررناه (1) في حواشي الاجارة على العروة ، وما أفاده قدس سره (2) في حاشية المناسك من الفرق بين النذر والاجارة ، وما حررناه (3) عنه قدس سره في هذا المقام من الفرق بين الشرط والنذر ، بأنّ الأوّل مشتمل على حق المشروط له ، كما ينبغي مراجعة ما حررته (4) في شرح كون الشرط محللا للحرام ومحرما للحلال من كونه ابتداء تصرفا في نفس الحلية والحرمة على نحو ما ذكرناه في كونه مخالفا للكتاب ، وعلى أيّ حال هو لا يوجب تقدم الحج.

ثم إنّ القدرة المأخوذة في هذه الأبواب ليست من سنخ القدرة الملاكية ، وإنما هي من سنخ القدرة العقلية ، باعتبار كون مورد هذه الامور أعني النذر والشرط والاجارة والصلح لا بدّ من كونه مقدورا ، ويكون وجوب الوفاء واردا على ما ورد عليه العقد فيها ، ومن الواضح أن القدرة المذكورة لا دخل لها في ملاك هذه العقود ، ولا في ملاك الأمر بالوفاء بها.

نعم ، لا مجال لانكار اعتبار القدرة في متعلقها وإلاّ لكان انشاء الالتزام بها وجعلها لغوا صرفا ، ولأجل ذلك جعلوها من شروط صحة هذه المعاملات ، وحينئذ يكون حالها حال القدرة الشرعية التي هي دخيلة في الملاك ، فلو زاحمها ما هو مشروط بالقدرة العقلية قدّم عليها وأوجب انحلالها أو كشف عن بطلانها فيما هو مورد المزاحمة ، كما لو اتفقت آية في زمان الاجارة ، فان الاجارة تنحل في مقدار أداء صلاة الآيات ، ويلزمه

ص: 224


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- سيأتي نصّه في صفحة : 226.
3- راجع ما حرره عنه في صفحة : 226 الآتية.
4- مخطوط لم يطبع بعد.

الاتيان بصلاة الآيات ، ولو عصى لم يجب عليه العمل المستأجر عليه في ذلك ، لا بالملاك ولا بالترتب ، لانكشاف بطلان الاجارة بالنسبة إلى ذلك المقدار من الزمان.

والحاصل أنه يمكن أن يقال : إن الظاهر مما دل على أنه يشترط في متعلق النذر والعهد واليمين والشروط أن لا يكون محللا للحرام وأن لا يكون مخالفا للكتاب ، هو أن لا يكون كذلك بنفسه بحيث يكون المنذور هو ترك الواجب أو فعل الحرام ، أما إذا كان مستلزما لذلك وكان مقارنا له كما فيما نحن فيه ، حيث إنه ليس المنذور هو ترك الحج وإنما المنذور هو الزيارة التي يكون فعلها مستلزما لترك الواجب ، ففي دخوله تحت هذا العموم تأمل وإشكال ، لتوقف ذلك على تقدم الحج وهو أول الكلام لامكان القول بأن تقدمه يتوقف على تحقق الاستطاعة ، والوجوب النذري رافع لها ، ولا أقل من تساوي الاحتمالين ، لكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر ، ولأجل ذلك نقول : إنه لو قوبل الشرط أو الاجارة بما هو مشروط بالقدرة العقلية كان الثاني هو المقدّم ، مع كون كل من الاجارة والنذر مشروطا بكل من القدرة وعدم تحليل الحرام ، وهكذا الحال في عقد الصلح على الفعل المضاد للحج.

وقد أجاب قدس سره عن ذلك حينما عرضت بخدمته النقض بالشرط بما حاصله حسبما حررته عنه : بأن دليل الشرط المذكور أوسع من ذلك ، فان المراد من عدم كونه محللا للحرام أوسع من أن يكون كذلك بنفسه أو يكون مستلزما أو مقارنا له ، وأما تقديم شرط الزيارة على وجوب الحج فلأن في الشرط جهة اخرى زائدة على جهة النذر ، وهي كون المشروط ملكا للمشروط له على المشروط عليه ، وبذلك يخرج المشروط عليه عن

ص: 225

الاستطاعة ، انتهى.

ويمكن التأمل فيه ، فانه فرع انعقاد الشرط في قبال وجوب الحج بمعنى أن وجوب الحج لو قلنا بتقدمه لكان رافعا لموضوع الشرط ، فان المالكية فرع بقاء نفوذ الشرط ، والحج يكون رافعا لذلك.

وبنحو ذلك أجاب عن النقض بالاجارة فيما تعرض له قدس سره في أوائل مناسك الحج ، وهذا نص ما تفضل به في هامش المناسك : الفرق بين النذر والاجارة هو كفاية سلطنة الموجر على منفعة نفسه عند عقد الاجارة في صحة تمليكها وتملك المستأجر لها ، فلا يبقى مورد لتأثير الاستطاعة ، بخلاف النذر فان اشتراطه حدوثا وبقاء برجحان المنذور من حيث نفسه ومع الغض عن تعلق النذر به ، يوجب انحلاله بالاستطاعة (1).

ويمكن التأمل في ذلك بعين ما تقدم من التأمل في الشرط من جهة اعتبار القدرة وعدم محللية الحرام في كل منهما ، نعم العمدة في الفرق هو اعتبار الرجحان في متعلق الأمر (2) ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء اللّه تعالى.

والحاصل : أن التفرقة بين هذه الامور أعني الاجارة والصلح والشرط في ضمن العقد اللازم ، وبين العهد واليمين والنذر من هذه الجهة أعني أخذ القدرة شرعا في كل منها ، وأنه لا بدّ في كل منها من عدم كونه محللا للحرام على وجه تكون الثلاثة الاول مقدمة على الحج بخلاف الأواخر ، في غاية الاشكال ، ونحن نراهم يقدّمون الاول على الحج لو كانت سابقة على الاستطاعة ، ويقدّمون الحج عليها لو كانت متأخرة عن الاستطاعة ، فالذي ينبغي أن تكون الثلاثة الأخيرة أيضا كذلك. وهكذا الحال في حقوق الزوج

ص: 226


1- دليل الناسك : 29.
2- [ كذا في الأصل ، والصحيح : متعلق النذر ].

لو كانت هذه الأمور سابقة على التزويج ، بخلاف ما لو كان التزويج متأخرا عنها ، أما بالنسبة إلى تزاحمها مع ما هو مشروط بالقدرة العقلية فانه يقدّم عليها مطلقا ، سواء كان توجهه إلى المكلف سابقا على هذه المعاملات أو كان لاحقا لها ، كما عرفت فيما لو طرأت صلاة الآيات على من كان مقيدا بأحد هذه المعاملات ، من دون فرق في ذلك بين هذه الامور الستة من ناحية اعتبار القدرة وعدم محللية الحرام في كل منها.

وأما الثاني فالمراد به هو الرجحان الذاتي ، فلا تضره مزاحمة الواجب كالحج ، لأن ذلك لا يخرجه عن الرجحان إلاّ بعد تحقق موضوع الحج ، وهو أوّل الكلام. فالأولى في توجيه التقديم هو دعوى استفادة المساهلة من الشارع في النذر ، وأنه يستفاد من مثل قولهم عليه السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » (1) أنه يسقطه كل ما يزاحمه مما هو خير منه ، من دون فرق في ذلك بين كون المنذور هو مثل الكون في يوم عرفة عند مشهده عليه السلام أو الكون في الكعبة ، أو كون المنذور هو الحج غير حجة الاسلام ، فراجع وتأمل.

ثم لا يخفى أن مقتضى تقدم الحج على النذر وانحلاله به [ أن ](2) لا يكون موردا للترتب ، بحيث إنه لو عصى الحج لم يجب عليه الوفاء بالنذر ، لا بالملاك ولا بالترتب ، لانكشاف بطلان النذر وانحلاله بذلك.

نعم ، لا يتوجه عليه النقض بما في العروة (3) من تقدم النذر على الزكاة فيما لو نذر في أثناء الحول التصدق ببعض النصاب أو بتمامه عند

ص: 227


1- وسائل الشيعة 23 : 240 / كتاب الأيمان ب 18 ح 1 [ وفيه : ... فدعها ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 19 / مسألة 12.

الحول ، بأن يقال إن التصدق الذي هو مقتضى الوفاء بالنذر يكون مزاحما لوجوب الزكاة ، لكون كل منهما يكون متوجها عند رأس الحول.

وبيان عدم ورود النقض : أن النذر وإن لم ينفذ في حصة الزكاة لكون وجوبها حاكما على وجوب الوفاء بالنذر ، إلاّ أنه لمّا كان بالنسبة إلى ما عدا حصة الزكاة نافذا بلا إشكال ، فذلك كاف في رفع شرط وجوب الزكاة وهو إمكان التصرف بتمام النصاب ، فراجع العروة وما شرحناه (1) في ذلك الفرع المشار إليه.

وفيه تأمل ، فانه يتوجه أيضا القول بتقدم الزكاة ، لأنّ النذر بواسطة كونه موجبا لارتفاع موضوع الزكاة ينبغي أن نقول بعدم نفوذه ، نظير قولنا إن نذر الزيارة غير نافذ بواسطة كونه موجبا لارتفاع موضوع الحج ، فتأمّل.

والحاصل : أن ملاك تقديم الحج إن كان هو اعتبار الرجحان الذاتي في متعلق النذر ووجوب الحج رافع لرجحانه فيمكن التأمل فيه ، فانه إنما يرفع رجحان المنذور بواسطة تحقق وجوبه ، والمفروض أن تحقق وجوبه متوقف على عدم تحقق وجوب المنذور ، فيكون سقوط وجوب المنذور متوقفا على سقوط رجحانه ، وسقوط رجحانه متوقف على تحقق وجوب الحج ، وتحقق وجوب الحج متوقف على سقوط وجوب المنذور.

وإن كان ملاك تقديم الحج هو اعتبار كون المنذور غير محلل للحرام بمعنى كونه غير موجب لترك الواجب ، فيمكن التأمل فيه بنحو ما تقدم فان سقوط وجوب المنذور يتوقف على كونه موجبا لترك واجب وهو الحج ، وكونه كذلك يتوقف على تحقق وجوب الحج ، وتحقق وجوب الحج يتوقف على سقوط وجوب المنذور.

ص: 228


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنه يشترط في وجوب المنذور أن لا يكون مزاحما لواجب ولو بكونه رافعا لموضوعه ، لكن هذا مدرك آخر يمكن إثباته بما استفيد من مذاق الشارع في النذور والأيمان ولو من مثل قولهم عليهم السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » وهو مطلب آخر لا دخل له باعتبار عدم محللية الحرام ، وإلاّ لجرى في الشرط والصلح والاجارة ونحوها.

ثم لا يخفى أنه قدس سره أعرض عما ذكره في السؤال ثانيا من تقدم النذر زمانا ، لأن ذلك مسلّم عنده ، وقد يمنع عن ذلك كما في الحاشية من المقرر (1) نظرا إلى أن وجوب الخروج إلى الحج سابق في الزمان على وجوب الوفاء بالنذر.

ويمكن الجواب عنه أوّلا : بأنّ وجوب الخروج بالنسبة إلى أعمال الحج في أيامه لا يكون إلاّ من قبيل المقدمات المفوّتة ، وحينئذ يكون وجوب البقاء بالنسبة إلى الوفاء بالنذر أيضا كذلك ، لكونه من المقدمات المفوّتة أيضا.

وثانيا : أن يوم عرفة وإن كان متأخرا عن كل من النذر والخروج إلى الحج ، إلاّ أن الوجوب المشروط بذلك الزمان لكل من المنذور والوقوف بعرفة يكون بالنسبة إلى المنذور أسبق منه بالنسبة إلى الوقوف بعرفة ، لأن سببه يكون سابقا على سبب الحج الذي هو الاستطاعة ، فكان وجوب المنذور المشروط بذلك الزمان واردا على ذلك اليوم قبل ورود وجوب الوقوف المشروط بذلك الزمان.

وبالجملة : أن وجوب الزيارة ووجوب الوقوف وإن كانا متحدين زمانا وهو يوم عرفة ، وكان كل من الوجوبين مشروطا بذلك اليوم ، إلاّ أن

ص: 229


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 37.

وجوب الزيارة سابق على وجوب الوقوف لتقدم سببه ، فكان تقدمه أشبه شيء بالتقدم الرتبي.

وثالثا : أن الكلام أوسع من كون المنذور هو زيارة عرفة ، بل هو جار فيما لو كان المنذور هو الحج الندبي في ذلك العام ثم طرأت الاستطاعة في ذلك العام أيضا.

ورابعا : أنه في خصوص النذر المتعلق بالزيارة لا يكون تاما في جميع موارده ، لأنه إنما يتم في خصوص من كان في العراق ، وأما من كان في المدينة فلا تكون مقدمات الحج فيه أعني الخروج مع الرفقة سابقة على مقدمات الزيارة ، بل الأمر في مثل ذلك على العكس.

تكميل : لا يخفى أنه قدس سره قد أفاد في بعض ما حررته في الدروس الفقهية في مباحث الوقت من كتاب الصلاة عند الكلام على نذر النافلة في الأوقات المكروهة ، فانه قدس سره تعرض هناك استطرادا لمسألة الحج والنذر بعد بيان اعتبار الرجحان في الثاني ، وأن المدار فيه على الرجحان حين العمل لا حين النذر ، وأفاد قدس سره ما نصّه ، أعني نص ما وجدته في تحريراتي عنه قدس سره وهو :

أن المدار في هذه المسألة على كون الرجحان في صحة النذر هل يكفي فيه رجحان الفعل حال النذر ، أم لا بدّ فيه من رجحان الفعل في محله وظرفه. وهذا النزاع إنما يمكن أن يتوجه على فرض إمكان الشرط المتأخر أو تصوير الواجب المعلّق ، فانه حينئذ يمكن أن يقال : إن الرجحان المتأخر شرط في الانعقاد فعلا ، أو أن الفعل في ظرفه يكون راجحا فعلا ، وأما بناء على عدم صحتهما كما حققناه في محله فلا بدّ من أن يكون الرجحان كسائر شرائط صحة النذر ووجوب الوفاء به ، فيكون الانعقاد مشروطا برجحان

ص: 230

المتعلق ، ففي مثل زيارة عرفة لو نذرها قبل زمان الحج ينحل النذر لعدم تحقق شرط انعقاده أعني الرجحان ، لكونه في وقت الحج لا يكون إلاّ مرجوحا ، انتهى ما وجدته في تحريراتي عنه قدس سره في ذلك المبحث.

وهذا الوجه وإن كان مساقه هو الاستدلال على أن الرجحان المعتبر هو الرجحان حال الفعل لا حال النذر ، إلاّ أنه يمكن أن يجعل دليلا على تقدم الحج على النذر بأن يقال : إنه بعد أن قام الدليل على اعتبار رجحان الفعل في انعقاد النذر لا بدّ لنا حينئذ من القول بأنه لا ينعقد إلاّ عند الفعل بمعنى [ أن ](1) النذر لا يكون متصفا بالانعقاد إلاّ عند زمان الفعل المنذور واتصاف ذلك الفعل بصفة الرجحان ، إذ بعد كونه شرطا في الانعقاد لا يعقل أن يكون أثره وهو الانعقاد متقدما على زمان الفعل ، لأن فرض تقدم الأثر لا يخلو عن وجهين باطلين : أوّلهما أن نقول : إنه من باب الشرط المتأخر بحيث يكون الرجحان المتحقق في ظرف الفعل المتأخر مؤثرا في الانعقاد من حين النذر. ثانيهما أن نقول : إن رجحان الفعل من الصفات التي تلحق الفعل قبل وجوده ، بحيث يكون فعل الغد متصفا فعلا بالرجحان الحالي ، على وجه يكون الرجحان فعليا والراجح استقباليا.

وبطلان الأوّل راجع إلى مبحث الشرط المتأخر ، وأما بطلان الثاني فهو واضح لكونه أشبه شيء بالواجب المعلّق ، بل هو أقبح منه ، لأن الاشكال في ذلك راجع إلى عدم القدرة على جرّ الزمان ، بخلاف الاشكال هنا فانه راجع إلى اتصاف الشيء بصفة خارجية قبل وجوده ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الذي هو صفة عارضة على الفعل عارضا عليه قبل وجوده.

نعم ، يمكن أن يحكم عليه فعلا بالرجحان في ظرفه ، بمعنى أن

ص: 231


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

يحكم فعلا على ذلك الفعل الذي ظرفه الغد بأنه راجح بمعنى أنه راجح في غد ، بحيث يكون المحمول فعلا على ذلك الفعل هو الرجحان في غد وإن كان الحمل الآن ، ولا ريب أن ذلك ليس من باب اتصاف ذلك الفعل بالرجحان الآن ، بل هو من باب توصيفه الآن بالرجحان الآتي ، فهو نظير الحكم بالمحبوبية على ولدك الذي يولد فيما بعد.

ومن الواضح أن الشرط في انعقاد النذر إنما هو عروض صفة الرجحان على متعلقه الذي لا يكون إلاّ في ظرفه ، دون مجرد الحكم فعلا على ذلك الفعل بالرجحان الموجود في ظرفه ، وحيث كان الشرط هو الرجحان الآتي فلا ريب في توقف الانعقاد ووجوب الوفاء عليه ، ويكون الانعقاد ووجوب الوفاء متحققا في ظرفه ، كما هو الشأن في جميع ما يكون شرطا للوجوب على نحو القضية الحقيقية ، ويكون تحقق الرجحان في ظرفه محققا للانعقاد ولوجوب الوفاء على نحو النقل الصرف دون الكشف ، ومن الواضح أن تحقق الانعقاد في ذلك الحال يكون مسبوقا بفعلية وجوب الحج الموجب لرفع رجحان الفعل.

لا يقال : إن وجوب الحج حيث كان مشروطا بالقدرة الشرعية على أفعاله التي من جملتها أعمال يوم عرفة ، يتأتى فيه ما ذكرتم في رجحان الفعل المنذور ، بأن يقال إن القدرة المعتبرة هي القدرة الحاصلة يوم عرفة ففي ذلك اليوم يقع التصادم بينهما.

لأنا نقول : يكفي في فعلية الحج الموجبة لسقوط رجحان متعلق النذر في يوم عرفة فعلية وجوب ما سبق من أعماله ، ولو باعتبار الخروج مع الرفقة وقطع المسافة ، فيكون وجوب الحج سابقا زمانا على وجوب الوفاء بالنذر. نعم لو لم يكن في البين إلاّ أعمال يوم عرفة التي هي متعلق

ص: 232

النذر لكان ذلك اليوم مورد التصادم ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، أوّلا : أن وجوب الأعمال السابقة متوقف على القدرة على اللاحقة ومنها أعمال يوم عرفة.

وثانيا : ما تقدمت الاشارة إليه (1) من النقض بالشرط ، فان مقتضى هذا الوجه هو تقدم الحج عليه وإن كان الشرط سابقا زمانا على الاستطاعة لأنّ ما ذكر في وجه تقدمه على النذر من أنّ النذر لا ينفذ إلاّ في ظرف تحقق ما هو الشرط في نفوذه الذي هو رجحان الفعل في ظرفه ، يتأتى حرفا بحرف في نفوذ الشرط ، فانه لمّا كان نفوذه مشروطا بأن لا يكون محللا للحرام كان نفوذه متوقفا على تحقق ذلك الشرط في ظرف وقوع الفعل الواجب بمقتضى الشرط.

وثالثا : أن ما تقدم (2) من حصر أخذ الرجحان بالوجهين السابقين يمكن منعه ، لامكان أخذ الشرط في انعقاد النذر تعقبه برجحان متعلقه في ظرفه ، وإن كان في ذلك تأمل أشرنا إليه في مباحث الشرط المتأخر (3) من كونه راجعا إليه ، من جهة كون التعقب معلولا لذلك الرجحان المتأخر ، فتأمل.

ورابعا : أنا لو قلنا بصحة الشرط المتأخر أو قلنا بالواجب المعلّق لم يكن ذلك نافعا في انعقاد النذر فعلا ، لأنّ تحقق الرجحان فعلا موقوف على كون الفعل في وقته غير مزاحم بما يرفع رجحانه إما على نحو الشرط المتأخر أو على نحو الواجب المعلق ، والمفروض أن الفعل في وقته مزاحم

ص: 233


1- راجع ما تقدم في صفحة : 223 وما بعدها.
2- في صفحة : 230 - 231.
3- لاحظ الحاشية المتقدمة في صفحة : 12 وما بعدها.

بذلك ، فلا يمكننا الحكم فعلا بأنه راجح ولو على نحو الشرط المتأخر أو على نحو الواجب المعلق ، إلاّ أن يكون المدعى أن انقلاب الفعل إلى المرجوحية في ظرفه لا يكون مخلا بالحكم فعلا بأنه راجح.

فالانصاف : أنه لم يتحقق حتى الآن الوجه في حكمه قدس سره بتقدم الحج على خصوص النذر فيما لو تقدم النذر زمانا على الاستطاعة.

نعم ، يمكن أن يقال : إن ذلك مأخوذ من إطلاق قولهم عليهم السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدع » (1) ، بدعوى أنه يستفاد منه أن مطلق عروض ما يكون فعله أرجح من الوفاء بالنذر يكون موجبا لانحلال النذر. أو يقال : إنه يستفاد من مجموع ما ورد في أبواب اليمين وأخويه أن كونه مفوّتا لواجب ولو برفعه موضوع ذلك الواجب يكون موجبا لانحلاله أو عدم انعقاده. والحاصل : أنه يستفاد من كثير من الأخبار تساهل الشارع في النذر على وجه يكتفى في الحكم بمرجوحيته مجرد مزاحمته للحج ، ولو كان ذلك برفعه موضوع وجوب الحج ، فراجع وتأمل.

أما العهد واليمين فالظاهر أن ما أفيد من أن اعتبار الرجحان في متعلق النذر في ظرفه هو الموجب لانحلاله عند مزاحمته الحج ، لا يتأتى فيهما لعدم اعتبار الرجحان في متعلقهما ، فلم يبق إلاّ ما ذكرناه من دعوى أنه يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في تلك الأبواب مساهلة الشارع في ذلك على وجه تنحل هذه الامور عند مزاحمتها بالحج ونحوه من التكاليف الالزامية ولو كانت مشروطة بالقدرة الشرعية.

وفي الجواهر - بعد أن سرد الأخبار وكلمات الأصحاب في انعقاد اليمين على متساوي الطرفين من جهة الدنيا والدين ، وأنه لو كان أحد

ص: 234


1- وسائل الشيعة 23 : 240 / كتاب الأيمان ب 18 ح 1 [ وفيه : ... فدعها ].

طرفيه أرجح من الآخر ولو بحسب الدنيا لا تنعقد اليمين على الطرف المرجوح ، قال بعد المناقشة مع المسالك - ما هذا لفظه :

نعم ، ما سمعته من النصوص وغيرها ظاهر في عدم انعقاد اليمين على ذلك حتى في صورة التجدد ، بمعنى أنّه كان عند اليمين راجحا ثم صار مرجوحا دنيا أو آخرة ، كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا - ثم قال : - بقي شيء وهو الاجمال في خيرية (1) خلاف اليمين التي تقتضي عدم الحنث وعدم الكفارة ، هل هو نقيض اليمين كالترك بالنسبة إلى الفعل وبالعكس ، أو الأعم منه ومن أضدادها مثل أن يحلف على أن يعطي لزيد كذا وكان عطاؤه لعمرو مثلا خيرا له من عطائه لزيد ، بل الاجمال في نفس الخيرية أيضا ، ضرورة أنّ عدم الوفاء بالحلف على مال أو عمل مع فرض عدم رجحان فيه خير له من الوفاء ، لبقاء ماله في يده وعدم تحمله مشقة التعب في العمل ، ولكن يسهّل الخطب أنّ الضابط وجوب الوفاء في جميع محال الشك ، لعموم ما دل على وجوب الوفاء به (2). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ هذا الذي أفاده قدس سره في اليمين من عدم انعقاده فيما هو مرجوح ولو بحسب الدنيا ، وإن كان من حيث الدين لا رجحان لأحد طرفيه ، وأنه لو طرأت المرجوحية ولو بحسب الدنيا فيما بعد اليمين انحلت اليمين ، يتأتى في النذر بطريق أولى ، لأنه يعتبر فيه الرجحان بحسب الدين ، وحينئذ لو التزمنا بالمرجوحية فيما لو كانت ناشئة من أرجحية الضد كان علينا أن نلتزم بسقوط النذر في قبال وجوب الحج عند طروّ

ص: 235


1- هذا إشارة إلى ما سرده من الأخبار الدالة على ما تقدمت الاشارة إليه من أنه « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » ، فراجع الأخبار التي ذكرها قدس سره [ منه قدس سره ].
2- جواهر الكلام 35 : 277.

الاستطاعة ، إذ يكفي في المرجوحية حينئذ مجرد تفويت الحج ، وإن كان ذلك بواسطة رفع موضوعه الذي هو الاستطاعة.

ولا يخفى أني لم أعثر في كلامه قدس سره على هذا الذي نسب إليه من تقديم النذر على الحج ، وأن المدار في الرجحان على الرجحان حال النذر لا في هذه المقامات أعني أبواب العهد والنذر واليمين ولا في غيره ، حتى أني راجعته فيما لو نذر الحج ثم استطاع (1) فلم أجد له تصريحا في شيء من هذين المطلبين ، بل اقتصر في ذلك على نقل كلام الشهيد في الدروس (2) ونقل مناقشة المدارك (3) له وتأويله (4) كلام الدروس.

وبالجملة : أني فعلا أستبعد صدور ذلك منه قدس سره خصوصا الاكتفاء بالرجحان حال النذر ، سيما مع ملاحظة هذا الذي نقلناه عنه في باب اليمين ، فراجع وتأمل لعلك تعثر على شيء من ذلك في كلماته قدس سره.

بل ربما يظهر مما أفاده في باب نذر التصدق في أوائل كتاب الزكاة ما ربما يظهر منه التوقف عند المزاحمة مع وجوب الزكاة (5).

ويمكن أن يقال : إن كلماته قدس سره في تفسير كلام الشهيد مشعرة بذلك ، فانه قال في آخر ما تعرض له في مسألة ما لو نذر الحج ثم استطاع ، من نقل كلام الدروس والمدارك ما هذا لفظه : وقد يقال إن مراد الشهيد - بقرينة تفريعه - عدم وجوب حجة الاسلام بحصول الاستطاعة في عام النذر المطلق إلاّ أن تبقى إلى السنة الثانية ، لصيرورة الحج بالنذر إن كان

ص: 236


1- راجع جواهر الكلام 17 : 347.
2- الدروس الشرعية 1 : 318.
3- مدارك الأحكام 7 : 100.
4- أي تأويل صاحب الجواهر قدس سره.
5- راجع جواهر الكلام 15 : 42 وما بعدها.

مطلقا كالدين ، فيعتبر في وجوب حجة الاسلام حينئذ وفاؤه ، وليس المراد منه عدم وجوب الحج بالنذر إلاّ بملك الزاد والراحلة نحو حجة الإسلام ضرورة أنه لا دليل عليه ، ومن المستبعد جزم الشهيد به.

ولا يرد عليه النقض بما أفاده في بحث اليمين من انحلاله لو طرأته المرجوحية ، لامكان الجواب عنه بأن صيرورة الحج المنذور مرجوحا يتوقف على تقديم وجوب الحج ، ولا يكفي في مرجوحيته مجرد كونه مزاحما لوجوب الحج ولو كان هو رافعا لموضوع وجوب الحج.

قوله : وهذا الذي ذكرناه مطرد في كل ما اشترط وجوبه على أن لا يكون محللا للحرام ، ويتأخر وجوبه عند التزاحم عن الواجب الآخر وإن كان مشروطا بالقدرة شرعا ... الخ (1).

قد عرفت فيما تقدم (2) أن كلا من الاجارة والصلح والشرط في متن العقد مشروط بعدم كونه محللا للحرام ، ومع ذلك لا إشكال في تقدمها على الحج ، وقد تقدم (3) ما نقلناه عنه قدس سره في وجه تقدم الاجارة والشرط على الحج ، وتقدم أيضا التأمل في ذلك الوجه.

قوله : وما عن السيّد الفقيه الطباطبائي قدس سره من أن اللازم في متعلق النذر أن لا يكون محللا للحرام ولو بلحاظ وجوب الوفاء به ، نظرا إلى جواز نذر الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر والتطوع في وقت الفريضة ، فيظهر ضعفه مما ذكرناه من أن اللازم هو عدم كون نفس المتعلق محللا للحرام لا بلحاظ حكمه المشروط بذلك ، مضافا

ص: 237


1- أجود التقريرات 2 : 39 - 40 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 223.
3- في صفحة : 225.

إلى أن لازمه حلية جميع المحرمات بالنذر ... إلخ (1).

ذكر السيّد قدس سره ذلك في كتاب الحج في الاحرام قبل الميقات ، واستدل على ذلك بالنص ، فقال : وذلك لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من الأخبار (2) ، واللازم رجحانه حين العمل ولو كان ذلك للنذر ، ونظيره مسألة الصوم في السفر ، المرجوح أو المحرم من حيث هو مع صحته ورجحانه بالنذر ، ولا بدّ من دليل يدل على كونه راجحا بشرط النذر ، فلا يرد أن لازم ذلك صحة نذر كل مكروه أو محرم. وفي المقامين المذكورين ( يعني الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ) الكاشف هو الأخبار ، انتهى (3).

وأنت ترى أنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على النص ، غايته أنه قدس سره أراد أن يجعل النص كاشفا عن رجحانه ، وأنه يكفي في الرجحان الكاشف عنه النص الرجحان الآتي من ناحية النذر. نعم يرد عليه أنه بعد هذا كله لا ينطبق النص على القاعدة ، إذ لا يعقل أن يكون الرجحان الآتي من ناحية النذر مصححا للنذر بعد فرض اشتراطه بكون متعلقه راجحا في حد نفسه. وعلى كل حال ، فقد تعرض هو قدس سره لدفع هذا اللازم الذي أشار إليه شيخنا قدس سره بقوله : مضافا إلى أن لازمه حلية جميع المحرمات بالنذر الخ.

ثم إن محط كلام السيّد قدس سره وان كان هو في ناحية الرجحان لا في ناحية محللية الحرام ، إلاّ أن أصل المسألة - وهو الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر - إنما هو فرض حرمة ذلك في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، فيكون النذر عنده رافعا لكل من المرجوحية والحرمة

ص: 238


1- أجود التقريرات 2 : 40 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع وسائل الشيعة 11 : 326 / أبواب المواقيت ب 13.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 643 - 644 / المسألة (1).

الذاتية. ومن الغريب أن شيخنا قدس سره لم يعلّق شيئا في حاشيته على العروة عند ما حرره السيّد قدس سره في ذلك المقام.

نعم في مسألة الصوم المندوب في وقت الصوم الواجب في كتاب الصوم فيما لو كان المندوب منذورا التي هي لا نص فيها على الظاهر ، قال السيّد قدس سره : ولا يبعد أن يقال : إنه لا يجوز بوصف التطوع ، وبالنذر يخرج عن الوصف ، ويكفي في رجحان متعلق النذر رجحانه ولو بالنذر ، وبعبارة اخرى : المانع هو وصف الندب ، وبالنذر يرتفع المانع (1).

وعلق شيخنا قدس سره على قوله : يخرج عن الوصف ، ما هذا لفظه : هذا هو الصحيح ، لكن لا بدعوى كفاية الرجحان الناشئ عن النذر في صحته إذ فيه من المحذور ما لا يخفى ، بل لأن متعلق النذر هو ذات الصوم دون التطوع ، ومرجوحية التطوع لا يستلزم مرجوحية ذات الصوم ، بل هو على رجحانه الذاتي ، فينعقد نذره ويرتفع موضوع التطوع بذلك. ويطّرد ذلك في جميع ما كان من قبيله (2).

وقد تقدم الكلام في اجتماع النذر والأمر الاستحبابي وأنه يندك أحدهما بالآخر في مباحث مقدمة الواجب ومباحث الواجب النفسي والغيري (3) ، فراجع وتأمل.

نعم ، إن السيّد قدس سره في مسألة 17 من كتاب الصلاة في مسألة نذر النافلة في وقت الفريضة على القول بالمنع ، أراد أن يجعل النذر رافعا لذلك التحريم والمنع - إلى أن قال : - ولا يعتبر في متعلق النذر الرجحان

ص: 239


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 :619- 620 / ضمن المسألة (3).
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 :619- 620 / ضمن المسألة (3).
3- راجع أجود التقريرات 1 : 258 - 259 ، وراجع أيضا حواشي المصنف قدس سره على ذلك في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 218 وما بعدها.

قبله ومع قطع النظر عنه (1). وعلّق عليه شيخنا قدس سره (2) بما محصله : أنّه مختص بالاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ، ولا يقاس عليهما غيرهما وإلاّ تبدل حكم كل حرام بنذره ، فراجع.

ولا يخفى أن شيخنا قدس سره كأنه يلتزم بحرمة هذه الامور ومرجوحيتها لكنه قدس سره يقول إن المنذور هو ذات العبادة ، وهي بنفسها غير محرمة ولا مرجوحة وبالنذر تكون واجبة ، وبذلك تخرج عن موضوع التحريم والمرجوحية وهو التنفل في وقت الفريضة ، وحيث إنّ الكلام في ذلك مبني على ما تقدم من دعوى الاندكاك فلا بأس باعادة الاشارة إليه ، فنقول بعونه تعالى :

إنه قد تقدم منه قدس سره في بعض مباحث المقدمة والوجوب الغيري أن الأمر النذري فيما لو نذر النافلة يقع على ذات [ العبادة ](3) ، كما أن أمرها الأصلي الاستحبابي يقع على الذات المذكورة ، فيندك أحدهما بالآخر ويعطي كل منهما ما يفقده الآخر ، ويتولد من ذلك أمر وجوبي عبادي. وقد تقدم الاشكال في ذلك من جهتين :

الاولى : أن الأمر النذري لم يقع على ذات العبادة ، فان النذر إنما تعلق بامتثال ذلك الأمر الاستحبابي ، فلم يتحد المتعلقان.

الجهة الثانية : أن الأمر النذري لو سلّمنا تعلقه بعين ما كان قد تعلق به الاستحبابي لم يكن ذلك موجبا لانعدام ذلك الأمر الاستحبابي بالذات ، بل تبقى ذاته باقية ، غايته أن حدّه الآخر وهو جواز تركه ينعدم ، نظرا إلى

ص: 240


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 274 / فصل في أوقات الرواتب.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 274 / فصل في أوقات الرواتب.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

[ أن ](1) ذلك الفعل بعد طروّ الوجوب عليه لا يمكن الحكم عليه بأنّه يجوز تركه.

وقد تقدم تفصيل ذلك ، ولكن أعدناه لمحض التذكر ، والغرض الآن هو بيان أنه بناء على الجهة الاولى من الاشكال يكون النذر فيما نحن فيه قد تعلق بامتثال الأمر الاستحبابي المتعلق بالنافلة في وقت الفريضة ، فيكون متعلق النذر مرجوحا فلا ينعقد ، فلا يتم ما افيد من صحته استنادا إلى أن النذر متعلق بذات العبادة في ذلك الوقت وهي راجحة ، لما عرفت من أن المنذور ليس هو نفس الذات ، وإنما المنذور هو ذلك المأمور به بالأمر الاستحبابي ، فيكون مرجوحا فيبطل النذر ، ولا نص يدل على صحته ، وإنما أرادوا تصحيحه على القاعدة ، وقد عرفت أن القاعدة حينئذ تقتضي فساده لمرجوحية متعلقه.

ثم لا يخفى أن شيخنا قدس سره قال في الوسيلة في تعداد ما يشرع له التيمم ما هذا لفظه : أما ما يحرم على المحدث كمس كتابة القرآن وقراءة العزائم ومكث الجنب ونحوه في المساجد واجتيازه في المسجدين ونحوهما ، فلا يشرع التيمم لشيء منه إلاّ إذا وجب بنذر ونحوه ، إلخ (2).

ويمكن أن يتجه عليه نظير ما أفاده من الاشكال على السيد في العروة بأن يقال : إن نفوذ النذر في ذلك يتوقف على جواز الدخول في المسجد ، وجوازه يتوقف على مشروعية التيمم له ، ومشروعية التيمم لذلك يتوقف على وجوب الدخول ، ووجوب الدخول يتوقف على نفوذ النذر ، فلو كان النذر ابتداء متعلقا بذلك الدخول مع التيمم بأن كان نذره بعد جنابته

ص: 241


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- وسيلة النجاة : 52 - 53.

كان باطلا من أصله ، وكان حاله حال ما لو استطاع ثم نذر الزيارة. ولو كان النذر مطلقا وكان حين النذر واجدا للطهارة المائية لكنه فقدها ، انحل نذره بالنسبة إلى ما بعد فقدها فيما لو تضيق وقت المنذور ، فلو نذره ثم أجنب ولم يتمكن من الطهارة المائية كان حاله حال ما لو نذر الزيارة ثم طرأته الاستطاعة.

وبالجملة : أن الدخول مع التيمم لا يمكن أن يكون مشمولا للنذر إلاّ بنحو ما عرفت من الدور ، ويكون النذر في ذلك محققا لشرط صحته الذي هو ارتفاع حرمة الدخول ، لأن الدخول بالنذر يكون واجبا وعند وجوبه يصح التيمم له ، وإذا صح التيمم له كان ذلك رافعا لحرمته ومجوّزا للدخول ، فان الدخول وإن كان في حد نفسه راجحا إلاّ أن الدخول في حال الجنابة خارج عنه لكونه محرما ، فلا يكون مشمولا للنذر ولا يكون النذر رافعا لحرمته إلاّ بما عرفته من لزوم الدور ، سواء كان نذره قبل الجنابة أو كان بعدها.

ثم إنك بعد اطلاعك على جميع هذا الذي حررناه وعلى جميع ما حرره السيّد قدس سره في نذر النافلة في وقت الفريضة ونذر الصوم المندوب في وقت الواجب (1) ، يتضح أنه قدس سره يريد أن يجعل دليل النذر مقدّما على دليل حرمة التنفل ، لأن كلامه بعد الفراغ عن حرمة التنفل ، فتراه في باب الصوم يقول : ولا يبعد أن يقال إنه لا يجوز بوصف التطوع ، وبالنذر يخرج عن الوصف إلخ (2). وتراه في كتاب الصلاة يقول : وأما إذا قيّده بوقت الفريضة فاشكال على القول بالمنع ، وإن أمكن القول بالصحة ، لأن المانع إنما هو

ص: 242


1- تقدمت مصادرهما في صفحة : 239 ، 240.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 619 / المسألة (3).

وصف النفل ، وبالنذر يخرج عن هذا الوصف إلخ (1). فهو في هذه الأمثلة يقول : إن دليل النذر يرفع موضوع التحريم وهو التطوع والتنفل ، لأنه يجعل المنذور واجبا ، فليس كلامه ممحضا لناحية الرجحان والمرجوحية ، بل جل غرضه هو كون النذر رافعا لموضوع الحرمة ، وبارتفاع الحرمة ترتفع المرجوحية ويتحقق الرجحان.

نعم قد يقال : إنه لا يرد عليه لزوم تحليل جميع المحرمات بالنذر لما عرفت من أن ذلك مختص بما إذا كان النذر رافعا لموضوع الحرمة وهو التطوع والتنفل ، ولأجل ذلك أفاد ما أفاده في مسألة الاحرام قبل الميقات (2) من الاقتصار على مورد النص (3) ، وأنه لا يرد النقض المذكور ، والسر في ذلك أن النذر المتعلق بالاحرام قبل الميقات لا يكون رافعا لما هو موضوع الحرمة ، بخلاف نذر التطوع والنافلة.

نعم ، يبقى الكلام معه في كيفية كون النذر في مثل ذلك رافعا لموضوع الحرمة ، وأن ارتفاع الحرمة الآتي من قبل النذر لا يصحح النذر ، فلا بدّ في بيان ذلك بأن يقال كما أفاده شيخنا قدس سره (4) : إن النذر يتعلق بذات العبادة وهي في نفسها راجحة غير محرمة ، فينعقد نذرها فتجب وتخرج عن كونها تطوعا ، لا أن نفس وجوب الوفاء بالنذر يقلب التطوع في وقت الفريضة من حكمه التحريمي إلى الايجابي مع الاحتفاظ بعنوان التطوع ، كي يرد عليه حلية جميع المحرمات بالنذر ، هذا.

ص: 243


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 273 / المسألة (17) ( مع اختلاف يسير بين الطبعات ).
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 643 - 644 / المسألة (1).
3- راجع وسائل الشيعة 11 : 326 / أبواب المواقيت ب 13.
4- تقدم مصدره في صفحة : 240.

ولكن لا يبعد أن يكون هذا الذي أفاده شيخنا قدس سره هو مراد السيد كما ربما يظهر ذلك من عبارته في كتاب الصلاة ، أعني قوله : وذلك لأن الصلاة من حيث هي راجحة ، ومرجوحيتها مقيدة بقيد يرتفع بالنذر إلخ (1) ، فكأنه يقول إن ذات الصلاة راجحة وتعلق النذر بذاتها صحيح ، وبعد صحته تخرج تلك الذات عن كونها تطوعا ، فهو عين ما أفاده شيخنا قدس سره.

ومن ذلك كله يتضح لك أنه لا بدّ لمن يريد تصحيح النذر في مثل ذلك من الاعتماد على هذا الذي أفاده شيخنا قدس سره ، وبدونه يتوجه عليه الاشكال المذكور ، فما في الحاشية على هذا التقرير من أن ذلك لا يستلزم أن تكون جميع المحرمات محللة بالنذر (2) مما لم يتضح وجهه كما أن ما فيها من أنه : لا فرق بين القول باشتراط انعقاد النذر برجحان متعلقه في نفسه ، والقول بكفاية الرجحان الناشئ من متعلق النذر - إلى قوله : - فلا نتيجة عملية إلخ (3) ، مما لم يظهر وجهه ، حيث إنك قد عرفت أنه على القول الأوّل لا يمكننا الحكم بصحة نذر العبادة المرجوحة إلاّ بالنص أو بالطريقة التي أفادها شيخنا قدس سره بخلافه على القول الثاني. نعم قد عرفت التأمل في الطريقة التي سلكها شيخنا قدس سره ، فبناء على ذلك التأمل يلزمنا القول ببطلان ذلك النذر على القول الأوّل بخلافه على القول الثاني ، وحيث إنه لا ريب في بطلان القول الثاني كان المتعين هو الحكم ببطلان النذر المذكور.

وخلاصة هذا المبحث وزبدة المخاض منه : هو أن هذه الستة - أعني الاجارة والصلح والشرط في متن العقد واليمين والعهد والنذر - لو زوحمت بواجب مشروط بالقدرة العقلية كان مقدما عليها ، سواء تأخرت

ص: 244


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 274 / المسألة (17).
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 40.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 40.

عنه في الزمان أو تقدمت. ولو زوحمت بما هو مشروط بالقدرة الشرعية كالحج ، فان كانت متأخرة عن الاستطاعة زمانا تقدم الحج عليها ، لكون كل منهما مشروطا شرعا بالقدرة فيتقدم المتقدم زمانا وهو الحج.

وإن كانت متقدمة زمانا على الاستطاعة ، فالثلاثة الاول ، أعني الاجارة والصلح والشرط تتقدم على الحج ، لاشتراكها معه في الاشتراط شرعا بالقدرة ، فيكون الترجيح بالتقدم الزماني ، ولا يضر ذلك باشتراطها بعدم محللية الحرام ، لكونها بواسطة تقدمها الزماني تكون رافعة لموضوع الحج الذي هو الاستطاعة ، وتخرج بذلك عن كونها محللة للحرام.

وأما الثلاثة الأخيرة أعني النذر وأخويه فهي وإن كانت مشاركة للثلاثة الاول في ذلك ، إلاّ أنها لمّا كانت مقيدة بعدم المرجوحية كان الحج مقدما عليها وإن تقدمت زمانا ، لأن تفويت الواجب بها وإن كان برفع موضوعه كاف في مرجوحيتها الموجبة لانحلالها ، وحاصله ما تقدمت (1) الاشارة إليه من أنه يستفاد من مساهلة الشارع فيها أن كونها رافعة لموضوع الحج كاف في مرجوحيتها.

وإن شئت فقل : إنهما وإن اشتركا في الاشتراط شرعا بالقدرة ، وكان كل واحد منهما صالحا لرفع موضوع الآخر ، إلاّ أن اعتبار عدم المرجوحية في متعلقها كان موجبا لتقدم الحج عليها ، إذ لو فرضنا محالا أنهما معا مقدوران لم يخرج متعلقها عن كونه مرجوحا بواسطة كونه مفوّتا للحج.

ولكن قد يقال : إن مرجوحيتها لم يكن لأجل تفويت الحج مع قطع النظر عن وجوبه ، وإنما تكون مرجوحة بواسطة كونها مفوّتة للواجب الذي هو الحج ، وتقدمها الزماني يخرجه عن كونه واجبا ، فلا تتحقق مرجوحيتها

ص: 245


1- في صفحة : 234.

حينئذ ، فلا مندوحة لنا في تقدم الحج عليها إلاّ من ناحية إطلاق قولهم عليهم السلام : « إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها » (1) فان حجة الإسلام في ذلك الظرف خير من الوفاء بأحد هذه الثلاثة. فتأمل.

ولكن حققنا في بعض حواشي العروة في أوائل الزكاة أن مرجوحية النذر ليست من جهة كونه مفوّتا لموضوع الحج ، بل من جهة أنه في حد نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به يكون مزاحما لأفعال الحج ، فيكون مرجوحا من هذه الجهة لكونه مزاحما لواجب وهو الحج فيبطل ، ولا يكون التقدم الزماني مجديا لكونه فرع قابليته لاسقاط الحج ، وقابليته إنما تكون بعد استكمال شرطه وهو الرجحان في وقته ، الموقوف على عدم وجوب الحج ، فتأمل.

واعلم أن نسبة هذه الستة إلى حقوق الزوج كنسبتها إلى وجوب الحج في تقدم حق الزوج عليها لو تأخرت عن الزواج ، ولو تقدمت عليه كانت الثلاثة الاول مقدمة عليه ، وكانت الثلاثة الأخيرة متأخرة عنه ، بمعنى كونه مقدّما عليها ، فان حق الزوج مثل الحج في تقييده بعدم المانع الشرعي.

قوله : فلعل الملاك عند المزاحمة في طرف المهم دون الأهم - إلى قوله : - فيمكن أن يكون الخطاب في طرف المهم رافعا للملاك في طرف الأهم ... إلخ (2).

هذه العبائر لا تخلو من مسامحة ، فإنها إنما تحسن في مورد احتمال أن يكون أحدهما مقدما على الآخر ، والمفروض هو القطع بعدم ذلك ، وحق التعبير أن يقال : إن كلا منهما رافع لموضوع الآخر لكونه سالبا لقدرة المكلف.

ص: 246


1- وسائل الشيعة 23 : 240 / كتاب الأيمان ب 18 ح 1.
2- أجود التقريرات 2 : 42 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

وبالجملة : ليس المقام مقام استظهار كي يحسن التعبير عنه بمثل هذه العبائر ونحوها مما عبّر عنه في الطبعة الجديدة ، فما في الحاشية (1) من أن ذلك إنما هو في باب التعارض لا في باب التزاحم إنما يكون واردا على هذه العبارات ، لا على أصل المطلب.

قوله : وإثبات أن الأهمية توجب فعلية ملاكه دون الطرف الآخر ، دونه خرط القتاد ... إلخ (2).

لا يخفى أن مدعي التقديم لا يدعي أن الأهمية توجب الفعلية ابتداء وإنما يدعي أنها مرجحة.

قوله : فالتحقيق هو التخيير مطلقا ، وهذا التخيير شرعي كشف عنه العقل ، بداهة أنه إذا كان أحد الملاكين لا بعينه ملزما فلا بدّ للمولى من إيجاب أحد الفعلين لا بعينه (3).

التخيير الشرعي تارة يكون ناشئا عن اشتراك الفعلين بملاك واحد بحيث يكون كل منهما وافيا بذلك الملاك على نحو يكون الجامع بينهما هو المؤثر في الملاك ، لكن لمّا لم يكن الجامع عرفيا خيّرنا الشارع بينهما واخرى يكون ناشئا عن ملاكين ، لكل من الفعلين ملاك على حدة ، لكن استيفاء أحد الملاكين موجب لانتفاء موضوع الملاك في الآخر.

وقد يقال : إن ما نحن فيه ملحق بالنحو الثاني ، فان عدم القدرة على الجمع بين الفعلين أوجب كون أحدهما لا بعينه غير واجد للملاك ، لأخذ القدرة في كل من التكليفين خطابا وملاكا ، مع فرض أنه قد اتفق أن لا قدرة للمكلف إلاّ على أحدهما.

ص: 247


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 41 - 42.
2- أجود التقريرات 2 : 42 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 2 : 42 - 43 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

لكن لا يخفى أنه لو كان التخيير شرعيا ولو باستكشاف حكم العقل كان ينبغي انحصاره بما إذا تساويا ملاكا ، أما لو كان أحدهما أهم فالذي ينبغي أن يقال إن الشارع يقدّم ذا الملاك الأهم كما هو الشأن في التزاحم الآمري ، ولو لم يكن في البين استكشاف التخيير الشرعي وكان الحاكم هو العقل ، فالعقل لا ينبغي له أن يحكم بالتساوي بينهما بعد اطلاعه على أن أحدهما أهم ملاكا من الآخر.

ولكن لا يخفى أن إرجاع ذلك إلى الحكومة الشرعية لا يمكن الالتزام به فيما نحن فيه ، لأنّ ذلك إنما هو في التزاحم الآمري الراجع إلى باب التعارض ، دون ما نحن فيه من التزاحم المأموري الذي هو راجع إلى باب التزاحم ، ومن هذه الجهة قد نقول إن التخيير عند التساوي عقلي لا شرعي.

ومن ذلك يظهر التأمل فيما علّقه المحرر في الحاشية (1) على التخيير الشرعي ، فانه جعل التخيير العقلي ناشئا عن أن الشارع لم يلزمه بأحدهما المعيّن. ولا يخفى أن محصل أن الشارع لم يلزمه بأحدهما المعيّن هو التخيير الشرعي. ثم لا يخفى أن لازم تعلق الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الآخر الذي جعله عين التخيير العقلي ، هو أنه قبل الشروع في كل منهما يتحقق كلا الملاكين ، فتأمل.

وبالجملة : أنا لو سلّمنا أن هذا التخيير راجع إلى الشارع فليس هو من باب التخيير الناشئ عن ملاكين يكون كل منهما موجبا لسقوط الآخر فان مقتضى ذلك هو أنه عند عدم كل منهما يكون مكلّفا بكل منهما لتحقق ملاك كل منهما حينئذ ، نعم بفعل أحدهما يسقط الآخر ، بل هو من باب

ص: 248


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 42.

التخيير الناشئ عن ملاك واحد مردد بين الملاكين ، فعند عدم كل منهما لا يكون في البين إلاّ ملاك واحد وتكليف واحد مردد بين التكليفين ، فهو على تقدير كون التخيير فيه شرعيا يكون قسما ثالثا.

لكن هذا إنما يتم لو كان أصل تأسيس الحكم منظورا به ذلك المورد الخاص الذي هو مورد المزاحمة ، وحينئذ يكون الحكم الشرعي تخييريا ونتيجته وجوب أحدهما على البدل كما لو كان التزاحم دائميا ، ولازم ذلك انحصار هذا الحكم الشرعي بمورد التساوي ملاكا ، أما لو كان أحدهما أهم ملاكا في نظر الشارع فهو لا يجعل الحكم إلاّ على طبقه ويسقط الملاك الآخر.

إلاّ أن كلامنا لمّا كان في القضايا الحقيقية ولم يكن التزاحم دائميا كان اللازم علينا سلوك طريقة اخرى ، وهي تتضح مما تقدم (1) في تقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية لكونه رافعا لموضوعه ، فيكون هذا التقديم من باب الحكومة أو الورود. ولا ريب أن المحكوم يسقط بقول مطلق ، ولا ينفعه كون ملاكه أهم لأن التقديم بالأهمية فرع تحقق الملاك ، والمفروض أنه منتف ومرتفع بالحكومة المذكورة.

وحينئذ نقول : إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية كان كل منهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه ، فهما متحاكمان مترافعان ، ونظرا إلى أن كلا منهما محكوم لا يجديه في تخلصه من هذه الحكومة كون ملاكه أهم كما عرفت ، فالترجيح بالأهمية حينئذ لا وجه له.

أما دعوى تعين الأهم للحكومة فممنوعة للزوم الدور ، حيث إن كونه

ص: 249


1- في صفحة : 207 وما بعدها.

حاكما يتوقف على تحقق ملاكه ، وذلك متوقف على سقوط الأمر بالمهم وسقوطه يتوقف على كون الأهم حاكما ، فتكون النتيجة حينئذ هو عدم فعلية حكومة أحدهما على الآخر لما عرفت من لزوم الدور ، وعدم تحقق كل منهما إذ لا ملاك إلاّ واحد ، وعدم ارتفاع كل منهما لتحقق الملاك لأحدهما ، وحينئذ تكون النتيجة هي ثبوت أحدهما وتحققه ، فيكون المكلف به هو أحدهما على البدل ، وهو التخيير الشرعي المستكشف بطريق العقل من طريق هذا التحاكم والتوارد بين الحكمين.

وبعبارة اخرى : أن طبع المسألة يفضي بعد كون كل منهما رافعا لموضوع الآخر إلى أن الثابت بحكم العقل هو التكليف الشرعي بأحدهما على البدل ، فليس ذلك من باب التزاحم الآمري ليرجع إلى باب التعارض ولا من التزاحم المأموري ليكون التخيير عقليا ويكون الترجيح بالأهمية ، بل هو من باب التوارد والتحاكم ، ونتيجته هو أن الثابت والمحقق في وعاء التشريع هو أحد هذين التكليفين الشرعيين ، بعد أن حكم العقل بمحالية التوارد والتحاكم ، فتأمل. وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى عند التعرض للمشروطين بالقدرة العقلية (1) ، وعند الكلام على المقدمة الاولى والمقدمة الخامسة من مقدمات الترتب (2) ، وقد تقدم له مزيد توضيح في مبحث الواجب التخييري (3).

نعم ، إنّ انسداد باب الترجيح بالأهمية قابل للمناقشة ، لأن كلاّ منهما في حد نفسه مع قطع النظر عن الآخر مقدور ، وإنما يحصل التحاكم بالنظر

ص: 250


1- راجع الحاشية المذكورة في الصفحة : 256 وما بعدها.
2- راجع الصفحة : 300 وما بعدها ، وكذا الصفحة : 371 وما بعدها.
3- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 262 وما بعدها.

إلى كون خطاب الآخر سالبا للقدرة ، فيمكن العقل أن يرجح سلب القدرة في جانب الأهم كما في المشروطين بالقدرة العقلية ، فتأمل.

قوله : مثال الأوّل ما إذا وقع التزاحم بين وجوب القيام في جزءين طوليين من الصلاة - إلى قوله : - ومثال الثاني ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الكسوف قبل الظهر وبينه في صلاة الظهر ... الخ (1).

يمكن التأمل في كون القيام في صلاة الظهر أرجح منه في صلاة الآيات ، إلاّ أن يدعى أن الصلاة اليومية مقدمة على صلاة الآيات عند المزاحمة ، وحينئذ يكون ذلك كاشفا عن أهمية الجزء في الصلاة اليومية على الجزء في صلاة الآيات. وكيف كان ، فيمكن التأمل في كون ذلك من تزاحم المشروطات بالقدرة العقلية ، بل لا يبعد كونه من تزاحم المشروطات بالقدرة الشرعية ، فيكون الترجيح حينئذ بالتقدم الزماني ، وذلك لما قدّمناه من أن جميع أجزاء الصلاة وشرائطها من قبيل المشروط بالقدرة الشرعية ، لما تقدم في بعض المباحث السابقة (2) وفي مبحث إجزاء الأمر الاضطراري من أن هذه الأجزاء في الصلاة ليست من قبيل الواجب في واجب بل هي من قبيل التقييد ، فإذا كانت القيدية مطلقة كان مقتضاه سقوط المركب بتعذرها ، وإن كانت مقيدة بحال التمكن كان ذلك عبارة أخرى عن كونها مشروطة بالقدرة الشرعية (3) ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى التصريح منه بأنها من قبيل المشروطات بالقدرة الشرعية ، فلاحظ الفائدة الاستطرادية (4) ، لكنه قدس سره هناك

ص: 251


1- أجود التقريرات 2 : 43 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع الصفحة : 182.
3- [ في الأصل : العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].
4- أجود التقريرات 2 : 49.

مع تصريحه بقوله : والسرّ فيه أن أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعا الخ ، حكم بترجيح ما هو قيد في الركن على ما هو قيد في غيره ، وذلك مناف لما أفاده هنا من أنه لا ترجيح بالأهمية في المشروطات بالقدرة الشرعية.

قال في المستمسك في مسألة تعذر القيام الاستقلالي الاستقراري والدوران في أبداله من أنحاء القيام : ثم إن الدوران بين الأحوال المذكورة في هذا المقام ليس من باب التزاحم الذي يكون الحكم عقلا فيه الترجيح إذا علمت الأهمية في واحد بعينه - إلى قوله : - وليس المقام كذلك ، إذ مصلحة الصلاة واحدة ، وإنما التردد فيما يكون محصلا تلك المصلحة والحكم فيه عقلا وجوب الاحتياط بالتكرار ... إلخ (1).

وفي مسألة 17 : لو دار أمره بين الصلاة قائما مومئا أو جالسا مع الركوع والسجود إلخ ، قال : والمقام وإن لم يكن من باب التزاحم ... بل من باب الدوران في تعيين البدل الاضطراري للتردد في تطبيق قاعدة الميسور ... إلخ (2).

لا يخفى أنه لو كان لنا واجب بسيط وقد تعذر وقام الدليل على قيام بدل مقامه ، وتردد ذلك البدل بين فعلين ، لكان الأمر كذلك من الخروج عن باب التزاحم. لكن الظاهر أن هذه المقامات ، من الواجب المركب ودار الأمر بين جزءين من أجزائه ، ليست من هذا القبيل ، بدعوى أن مصلحة الصلاة واحدة ودار الأمر في محصلها ، أو دعوى أنه بعد أن سقطت الصلاة التامة يدور الأمر في إجراء قاعدة الميسور بين الفاقد للجزء الأوّل أو الفاقد للجزء الثاني ، نظير ما لو أمره بصبغ هذا الجسم الذي طوله عشرة أشبار

ص: 252


1- مستمسك العروة الوثقى 6 : 114.
2- مستمسك العروة الوثقى 6 : 134.

مثلا ولم يتمكن إلاّ من صبغ تسعة أشبار منه ، إما بأن يسقط الشبر الأوّل ويصبغ الباقي ، أو أن يسقط الشبر الأخير منه ويصبغ ما قبله ، فانه بعد سقوط الأمر الأوّل التام يبقى الكلام في أنّ كلاّ من الباقيين ميسور ، ومع العلم بأنه لا يجب الأمران معا يكون الداخل في الميسور أحدهما ، ويكون المقام من قبيل العلم بخروج أحد الشخصين عن العام وبقاء الآخر ومقتضى الاحتياط الجمع لو أمكن والتخيير لو لم يكن ، ويكون المقام من قبيل الدوران بين الحجة واللاحجة في الدخول تحت عموم دليل حجية تلك الأمارة ، فان ذلك كله متفرع على وحدة الملاك والواجب الذي هو الصلاة التامة.

لكن لا يخفى أن الوجوب وإن ورد على المجموع المركب ، إلاّ أن كل واحد من أجزائه يكون له حظ من الوجوب ، ويكون وجوبه الضمني لأجل صلاح فيه ولو من جهة مدخليته في المصلحة ، فيكون كل واحد من الأجزاء ذا مصلحة وقد وقع اتفاق عدم القدرة على الجمع بين الجزءين فلا يكون إلاّ من باب التزاحم حتى في مثل القيام بالنسبة إلى قيوده المعتبرة من الاستقلال والاستقرار وتمام الاستقامة ، فان كل واحد من هذه القيود يكون واجبا ضمنيا عن مصلحة تقتضيه ، ولو سلّمنا عدم المصلحة وصرنا أشاعرة فان باب التزاحم ليس بمنسد عندهم ، وليس ذلك إلاّ من جهة اتفاق عدم قدرة المكلف على امتثال كلا الواجبين.

قوله : ومثال الثاني ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الكسوف قبل الظهر وبينه في صلاة الظهر على القول بأن ملاك الصلوات اليومية يتم بدخول اليوم وإن كان خطابها مشروطا بدخول أوقاتها ، فحيث إن المكلف بعد تمامية الملاك يكلف بحفظ القدرة أو

ص: 253

بتحصيلها بتكليف نفسي ... إلخ (1).

قد تقدم (2) في مباحث المقدمات المفوّتة الاشكال في لزومها ، وحينئذ يكون التكليف بالقيام فعلا لصلاة الكسوف بلا مزاحم فعلي فيكون هو المقدم.

ثم إنك قد عرفت (3) الاشكال في كون الأجزاء الصلاتية ومنها القيام من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ، وأنها من قبيل المشروط بالقدرة الشرعية كما سيأتي (4) التصريح بذلك منه قدس سره ، ولكن مع ذلك يمكن القول بكونها من قبيل المشروط بالقدرة العقلية ، بمعنى عدم مدخلية القدرة في ملاكها وإن كان لها المدخلية في الخطاب بها ، فان ما ذكرناه من البرهان على كونها مشروطة بالقدرة الشرعية - أعني كون قيديتها مختصة بحال التمكن - لا يزيد على التصريح بالاشتراط ، وهو لا يدل دلالة قطعية على ذلك ، كما قد ادعي أن الزوال مع تصريح الآية (5) وغيرها بالتقييد به غير دخيل بالملاك. نعم إن ظاهر الاشتراط هو مدخليته في الملاك ، لكن لمّا دلت الأدلة على عدم مدخليته فيه ولو من جهة دعوى قيام الدليل على لزوم حفظ المقدمة المفوّتة قبل الوقت ، كان الدليل كاشفا عن تحقق الملاك قبله.

وحينئذ فيمكننا أن نقول فيما نحن فيه : إن تقييد جزئية القيام أعني وجوبه الضمني بحال التمكن لا يكون دليلا قطعيا على مدخلية التمكن في

ص: 254


1- أجود التقريرات 2 : 44 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ، وقد ورد هذا المثال في المحشاة بعنوان المثال الثالث ].
2- في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 111 وما بعدها.
3- في الصفحة : 182 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 2 : 49.
5- الاسراء 17 : 78.

ملاك ذلك الوجوب الضمني ، لكن ذلك يحتاج إلى قيام الدليل على ما يكشف عن عدم مدخليته في الملاك ، مثل لزوم حفظ المقدمات قبله لو دل الدليل عليه لكن قد تقدم في ذلك المبحث أن مجرد قيام الدليل على لزوم حفظ المقدمات قبل الوقت أو حرمة تفويتها لا يدل على ذلك ، لامكان كون ذلك ناشئا عن أهمية الملاك في ظرفه عند الشارع ، على وجه يلزم الشارع أن يحافظ عليه قبل حصول ظرفه بذلك الالزام بحفظ المقدمات من باب متمم الجعل ، فراجع.

ثم لو سلّمنا كونه مشروطا شرعا بالتمكن وأنه دخيل فيه ملاكا فأقصى ما فيه أن لا يكون الترجيح حينئذ بأهمية الملاك ، أما الترجيح بالركنية أو بكونه جزءا من الصلاة اليومية التي هي أهم عند الشارع من صلاة الآيات فليس ذلك راجعا إلى الترجيح بالأهمية ، بل يمكن القول بأن ذلك من قبيل المرجح المنصوص ، بمعنى أنا نستكشف من حكم الشارع على ذلك الجزء بكونه ركنا أو حكمه بأنه لو زاحمت الآية الصلاة اليومية قدّمت اليومية ، أن الركن أو القيام في اليومية مقدّم على مقابله من القيام غير الركني أو القيام في صلاة الآيات ، ولا ضير في ذلك التعبد حتى لو قلنا بأن كلا منهما مشروط بالقدرة الشرعية ، لأن ذلك من قبيل التعبد على خلاف القاعدة ، فتأمل جيدا.

قوله : ذهب جماعة منهم المحقق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس سرهما (1) إلى أن التخيير بينهما شرعي ، نظرا إلى أنّ اجتماع الخطابين التعيينيين حال المزاحمة مستحيل ، وترجيح أحدهما على

ص: 255


1- [ ستأتي عبارة المحقق الرشتي وتعليق المصنف عليها في صفحة : 261 - 262 ].

الآخر بلا مرجح ، فيسقطان لا محالة ... إلخ (1).

تقدم (2) في تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية فيما لو لم يكن في البين مرجح أن وحدة الملاك الناشئة عن وحدة القدرة موجبة للقطع بعدم توجه كلا التكليفين ، كما أن وجود القدرة ولو بالنسبة إلى واحد منهما لا بعينه موجب للقطع بعدم انتفاء كلا التكليفين ، وأنه لا بدّ من استكشاف تكليف واحد مردد بينهما ، فيكون المكلف به هو أحدهما لا كل منهما بشرط عدم الآخر ، وإلاّ لتوجه إليهما كل منهما في ظرف عدم كل منهما وهو مما يقطع بعدمه ، لأن توجههما معا ولو بهذا النحو من الاشتراط يكشف عن ثبوت ملاكيهما معا في ذلك الحال ، والمفروض أنا قد قطعنا بعدم ذلك ، وحينئذ لو تركهما معا لا يكون مستحقا إلاّ لعقاب واحد ، وهذا التقريب بعينه متجه فيما نحن فيه بالنسبة إلى مرتبة الخطاب.

والحاصل : أن ذلك التقريب السابق الراجع إلى حكومة كل منهما على الآخر في مقام أصل التكليف ملاكا وخطابا يكون بعينه جاريا فيما نحن فيه في خصوص مرحلة الخطاب ، فان الخطاب بكل منهما يكون رافعا للقدرة على الآخر التي هي موضوع الخطاب في الآخر ، وكما قلنا هناك إن المستنتج من حكومة كل منهما على الآخر هو تحقق أحد التكليفين لا بعينه خطابا وملاكا ، وسقوط الآخر أيضا خطابا وملاكا ، فكذلك ينبغي أن يكون الحال فيما نحن فيه ، بأن يكون المستنتج من حكومة كل منهما على الآخر في مرحلة الخطاب هو تحقق الخطاب بأحدهما لا بعينه وسقوط

ص: 256


1- أجود التقريرات 2 : 45 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الحاشية المذكورة في الصفحة : 248 وما بعدها.

الخطاب بالآخر ، وذلك بأن نقول : إنا وإن قطعنا بتحقق كلا الملاكين إلاّ أن الخطاب بكل من الفعلين لمّا كان متوقفا على القدرة ، وليس لنا في البين إلاّ قدرة واحدة ، وكان العقل حاكما بسقوط الخطاب عند عدم القدرة نقول : إنا نقطع بعدم تحقق كلا الخطابين ، إذ ليس لنا إلاّ قدرة واحدة ، كما أنا نقطع بعدم سقوط كلا الخطابين للقطع بأن أحدهما مقدور لنا ، وحينئذ لا بدّ أن يكون المتوجه لنا هو أحد الخطابين لا بعينه ، ويكون الآخر الساقط هو أحدهما لا بعينه أيضا ، ويكون المكلف حينئذ مخيرا في امتثال أيهما شاء.

وبذلك يظهر التأمل فيما أفاده المحققان قدس سرهما من دعوى سقوط كل منهما استنادا إلى الترجيح بلا مرجح ، لأنا لا نريد أن ندعي التعيين في أحدهما كي يقال إنه ترجيح بلا مرجح.

كما أنه يظهر من ذلك أيضا التأمل فيما أفاده شيخنا قدس سره (1) من كون كل منهما مقيدا بعدم الآخر ، إذ يكفي في رفع المحالية الناشئة من إطلاق الخطاب في كل منهما الالتزام بسقوط أحدهما لا بعينه ، وذلك عبارة اخرى عن كون الساقط هو إطلاق أحدهما أعني كون أحدهما لا بعينه مقيدا بعدم الآخر ، وحينئذ يكون المكلف مخيرا في امتثال أيهما شاء.

وإن شئت فقل : إنا لا نحتاج إلى تقييد كل منهما بعدم الآخر ، بل ولا إلى تقييد أحدهما لا بعينه ، بل يكفي في ذلك الالتزام بما تقتضيه وحدة القدرة المصححة للخطاب ، وهو كون المتوجه هو الخطاب بأحدهما لا بعينه وكون الخطاب بالآخر ساقطا. وبعبارة اخرى : أن طبع المسألة يقتضي أن يكون أحد الخطابين لا بعينه ساقطا ، وحينئذ يكون الباقي هو

ص: 257


1- أجود التقريرات 2 : 45 - 46.

أحدهما لا بعينه ، فيكون المتوجه إليه هو أحد الخطابين لا بعينه ، وتكون النتيجة موافقة لما أفاده صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس سرهما.

والحاصل : أن تحرير النزاع على نحو يكون محله هو كون التخيير شرعيا أو يكون عقليا لا يخلو من تسامح ، بل الأولى هو جعل محل النزاع هكذا ، وهو أن المخاطب به المكلف شرعا هو أحدهما ، أو أن المخاطب به هو كل منهما بشرط عدم الآخر ، وقد عرفت أن العقل إنما يحكم بالأوّل دون الثاني ، فتأمل.

وسيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى في المقدمة الاولى والخامسة من مقدمات الترتب بيان الفرق بين المشروطات بالقدرة الشرعية والمشروطات بالقدرة العقلية ، وأن طريقة التحاكم والترافع إنما تتجه في القسم الأوّل دون الثاني. وينبغي مراجعة حواشي ص 255 (2) فانّ فيها ما يوجب الميل إلى ما نقل عن صاحب الحاشية.

ثم لا يخفى أن كون كل من التكليفين مشروطا بعدم متعلق الآخر إنما يحسن فيما لو كان هناك ملاكان ، وكان تحقق أحد الملاكين واستيفاؤه موجبا لارتفاع موضوع الملاك الآخر ، كما في دفن الميت مثلا شقا ودفنه تلحيدا ففي مثل ذلك يمكن أن يتوجه إلى المكلف كل من التكليف بالشق وبالتلحيد مشروطا كل منهما بعدم الآخر ، ويكون تحقق أحد الفعلين مسقطا للتكليف بالآخر ، وكذلك يحسن هذا النحو من الاشتراط فيما لو

ص: 258


1- في صفحة : 300 وما بعدها ، وراجع أيضا الصفحة : 373 وما بعدها.
2- [ هذا بحسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، وله قدس سره على هذه الصفحة حاشيتان مذكورتان في الصفحة : 385 - 390 من هذا المجلّد ].

فرض أن عدم كل من المتعلقين شرط في تحقق ملاك الآخر ، فكان عدم المتعلق في كل منهما له المدخلية في الآخر خطابا وملاكا ، فانه حينئذ يحسن أن يتوجه إلى المكلف تكليفان مشروط كل منهما بعدم الآخر.

ولا فرق بين الأوّل والثاني إلاّ أن وجود أحد المتعلقين في الأوّل يكون مسقطا للتكليف الآخر ، وفي الثاني يكون كاشفا عن عدم توجه الآخر ، أما مثل ما نحن فيه مما كان الملاكان متحققين في حد نفسهما ولكن اتفق أن المكلف لم يقدر على الاتيان بكل من الفعلين ، فلا ينتج من ذلك إلاّ سقوط أحد الخطابين لا بعينه ، لا كون كل من الخطابين مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، فان سالب القدرة عن هذا الفعل ليس هو الاتيان بالفعل الآخر ، بل إن السالب للقدرة هو الخطاب بالآخر ، وهذا لا يداويه جعل أحدهما مشروطا بعدم الآخر ، لأنه في ظرف عدم كل منهما يتحقق الخطاب بكل منهما ، بل إن الذي يداويه هو انعدام الخطاب الآخر عند الخطاب بأحدهما ، وحينئذ يكون الناتج هو الخطاب بأحدهما ، هذا.

ولكن لا يخفى أن المكلف في ظرف إتيانه بأحدهما يكون غير قادر عقلا على الاتيان بالآخر ، وهو محذور الجمع بين الضدين ، فيمكن إصلاحه بالأمر بأحدهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وعند عدم كل منهما لا مانع من اجتماع الأمرين مشروطين بهذا النحو من الاشتراط ، وبذلك يسقط إطلاق كلا الخطابين ، ولعلنا يمكننا إجراء هذه الطريقة في المشروطين بالقدرة الشرعية ليكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر على حذو ما ذكر في المثال الثاني.

ص: 259

ثم لا يخفى أنه قد تقدم في الواجب التخييري (1) أنه ربما كان ناشئا عن كون كل من الفعلين له ملاك يخصه ، فيكون ناشئا عن ملاكين لا يمكن الجمع بينهما لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فيكون الاتيان بكل منهما موجبا لسقوط الآخر ، ويكون محصله هو كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر ، ويكون وجود الآخر موجبا لسقوط طرفه ، ويكون الحال فيه بعينه هو الحال على مسلك شيخنا قدس سره ، غير أن القائل به يدعي أن ذلك بحكم الشارع ، وشيخنا قدس سره يدعي أنه بحكم العقل.

وبناء على ذلك يتحد المسلكان في الثمرة ، لأن الاختلاف في الثمرة المذكورة إنما يتم لو كان التخيير الشرعي المدعى ناشئا عن وحدة الملاك لا ما إذا كان ناشئا عن ملاكين لا يمكن الجمع بينهما ولو من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فلا تترتب الثمرة على المسلكين حتى مسألة تعدد العقاب لو تركهما معا ، فضلا عن كون المرجع في مقام الشك هو أصالة الاشتغال دون البراءة.

وهكذا الحال في الثمرة الثالثة ، لأن القيام الثاني لو كان هو الأهم كان اللازم هو حفظ القدرة له على كلا المسلكين ، وإذا لم تكن أهمية في البين كان المتعين هو الاتيان بالقيام الأوّل على كلا المسلكين ، لما عرفت من أن محصل الوجوب التخييري في المقام هو كون التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الآخر ، فيلزمه الاتيان بالقيام الأوّل وإسقاط القيام الثاني على كلا المسلكين ، وهكذا الحال فيما لو كانت مقدمة الواجب محرمة ، فلاحظ

ص: 260


1- راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 249 ، وراجع أيضا الحاشية المذكورة في الصفحة : 261 من المجلّد الثاني.

وتدبر.

مضافا إلى الاشكال في المثال (1) حيث لو ترك محتمل الأهمية وأتى بمقابله لا تبقى له قدرة على الاتيان بمحتمل الأهمية ، ليكون المقام من قبيل الشك في السقوط ، وتكون أصالة الاشتغال قاضية بلزوم الاتيان بما هو محتمل الأهمية بعد الفراغ عن إتيانه بطرفه ، إلاّ أن نقول إن هذا الحساب قبل أن يأتي بالطرف ، وعقله يلزمه بعدم الاتيان به ، بل يلزمه بالاتيان بمحتمل الأهمية تخلصا من هذه الورطة.

قال في البدائع : بقي الكلام فيما إذا كان كلاهما مضيقين ، والكلام هنا في مقامين : الأوّل في أن يكون أحدهما عند اللّه تعالى أهم من الآخر - إلى أن قال : - المقام الثاني فيما إذا تساويا في الأهمية ، لا خلاف في أن الحكم حينئذ هو التخيير ، لكن فيه إشكال لا بدّ من دفعه ، وهو أن ما مرّ في تعارض الاصول والأمارات من خروج المتعارضين عن الدليل آت هنا أيضا ، إذ البناء على دخولهما معا تحت الدليل القاضي بوجوبهما العيني تكليف بما لا يطاق ، وترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح ، فمقتضى القاعدة المشار إليها سابقا - أي التساقط - هو الحكم بخروج المتزاحمين عن عموم الدليل وعدم العمل به في شيء منهما ، دون التخيير.

والجواب عنه بوجوه : أحدها - إلى أن قال بعد ابطال الوجه الأوّل والثاني ما هذا لفظه : - وثالثها وهو المختار الالتزام بالخروج اللفظي عن عموم الدليل مع ثبوت الحكم بالمناط القطعي ، فان لازم ذلك هو التخيير العقلي ، وإنما لم نقل به في تعارض الاصول والأمارات حيث بنينا فيها على

ص: 261


1- [ الظاهر أن المراد به الثمرة الثانية ، فلاحظ ].

التساقط لو لم يكن دليل من الخارج ، لأن المناط القطعي بل الظني فيها غير متضح ، إذ الاصول والأمارات شرعت لمصالح عرضية خارجية بناء على عدم التصويب ، واحتمال اختصاص المصلحة الشرعية بالصورة السليمة عن المعارض قائم ، ولا سبيل إلى القطع أو الظن بوجودها عند التعارض ، بخلاف الأحكام الواقعية مثل وجوب إنقاذ الغريق ووجوب أداء الدين وأمثالهما ، فان المصلحة الباعثة على التشريع بعينها موجودة في صورة المزاحمة أيضا ، فمقتضى الوجوب في كل منهما موجود ، وإنما لم يترتب عليه المقتضى وهو وجوب الامتثال عينا لوجود العجز ، وبعد ملاحظة المقدمتين - أي وجود المقتضي وعدم القدرة على امتثالهما معا - يحكم العقل بالتخيير (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت بعد تأملك فيه تجده صريحا في أن التخيير عقلي لا شرعي ، وأنه ليس مبنيا على التساقط ، نعم ظاهر قوله : وثالثها وهو المختار الالتزام بالخروج اللفظي عن عموم الدليل مع ثبوت الحكم بالمناط القطعي ، فان لازم ذلك هو التخيير العقلي إلخ ، ظاهر في أن الحكم بالتخيير العقلي بعد رفع اليد عن كل من الدليلين والحكم بسقوطهما في مقام المزاحمة ، وحينئذ فالمتعين هو ما ذكرناه من كون الساقط هو أحدهما لا بعينه.

أما ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أن المتعين هو تقييد كل منهما بعدم متعلق الآخر ، فالذي يمكن أن يتحصل في وجهه مما حررته عنه قدس سره هو أمران :

ص: 262


1- بدائع الأفكار : 365 - 367.
2- أجود التقريرات 2 : 45 - 46.

الأوّل (1) : هو أن المحالية والتدافع إنما هي من ناحية إطلاق كل منهما ، لا من ناحية نفسهما مع قطع النظر عن إطلاقهما ، وحينئذ فيكون المحكوم عقلا بسقوطه هو إطلاق كل منهما ، لأن ذلك هو منشأ المحالية التي هي الانتهاء إلى الأمر بالجمع بينهما.

وهذا الوجه لا يخلو عن تأمل ، أو لعله أشبه شيء بالجمع التبرعي فان الموجب لتقييد أحدهما إن كان هو ذات الآخر فهو ممنوع ، لما أفاده قدس سره من أن ذات أحدهما لا تنافي الآخر ، فلا بدّ أن نقول إن الموجب لتقييد أحدهما هو إطلاق الآخر ، فيكون إطلاق كل منهما موجبا لتقييد الآخر ، وهو غير معقول لتوقفه على ثبوت إطلاقه ليكون رافعا لاطلاق الآخر ، والمفروض أن إطلاق كل منهما رافع لاطلاق الآخر ، فلا يستقر الاطلاق لأحدهما كي يكون رافعا لاطلاق الآخر ، فلم يبق في البين إلاّ أنه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين ، وذلك لا يوجب تقييد إطلاق كل منهما بعدم الآخر ، إذ لا يكون ذلك إلاّ من قبيل الجمع التبرعي.

ولعله لاجل ذلك أفاد قدس سره فيما حررته عنه في الجواب عن لزوم العقابين في الترتب ما هذا لفظه : فان لم يكن في البين مرجح وكانا متساويين في الأهمية كان كل من الخطابين صالحا لسلب القدرة على الآخر ، فلا يمكن إبقاء كل من الاطلاقين بحاله وكان الاطلاقان متدافعين ، فلا بدّ من إصلاح ذلك التدافع ، وهو بأحد وجوه ، الأوّل : إسقاط كل منهما. الثاني : إسقاط أحدهما المعين. الثالث : إسقاط واحد لا بعينه ، كما هو

ص: 263


1- [ لم يذكر الأمر الثاني بعنوانه ، ولعله ما يأتي بعد هذا من قوله : ولعله لأجل ذلك ... ].

الشأن في كل حكمين اتفق عدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم مدخلية القدرة في ملاك كل منهما كما في الاصول في باب الشبهة المحصورة. وقد حققنا في محله إبطال الوجه الثالث فتعين أحد الوجهين الاولين ، ولا سبيل إلى الثاني لكونه موجبا للترجيح بلا مرجح فيتعين الأوّل. وهذا باب واسع جار في كل ما هو من هذا القبيل ، انتهى.

فجعل محط المزاحمة هو الاطلاق ، وبعد أن أبطل تعين أحدهما للسقوط لكونه ترجيحا بلا مرجح وأحال إبطال الثالث إلى محله تعين حينئذ سقوط كل من الاطلاقين ، ولعل المحل المشار إليه هو مبحث العلم الاجمالي وتعارض الاصول في أطرافه.

وكيف كان ، فقد عرفت أنا لو التجأنا إلى تقييد الاطلاق فلنا أن نلتزم بأن الساقط هو إطلاق أحدهما فقط ، إلاّ أنك قد عرفت أن مقتضى تحكيم كل منهما على الآخر في مرحلة الخطاب هو سقوط الخطاب بأحدهما فقط ، فراجع وتأمل ، وانتظر ما حررناه (1) في المقدمة الاولى والثانية من خروج ذلك عن الجمع التبرعي ، هذا.

ولكن لا يخفى أن ما أشار إليه قدس سره بقوله : وقد حققنا في محله إبطال الوجه الثالث ، وقوله قدس سره : وهذا باب واسع جار في كل ما هو من هذا القبيل ، علينا أن نتأمله حق التأمل ، وهو أن ما ذكرناه في تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية ، وفي تزاحم المشروطين بالقدرة العقلية ، وفي تزاحم الاطلاقين ، من أن الباقي هو أحدهما والمرفوع هو أحدهما أيضا ، إن كان

ص: 264


1- راجع الصفحة : 306 - 307.

المراد به هو مفهوم أحدهما فذلك لا محصل له ، إذ لا معنى لرفع المفهوم ، مضافا إلى أنه لا يرفع التزاحم ، فان إسقاط مفهوم أحدهما وإبقاء مفهومه لا يرفع ما وقع من التزاحم بين هذين الموجودين ، مضافا إلى أنه لا يعقل توارد البقاء والرفع على مفهوم أحدهما.

وإن كان المراد به هو مصداق أحدهما فذلك إنما يمكن في صورتين : إحداهما فيما لو كان ذلك المصداق متعينا في الواقع ونحن لا نعرفه بعينه ، كما في مثل وجوب أحد الفعلين من صلاة الجمعة وصلاة الظهر مثلا ، ومن الواضح أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

والصورة الاخرى فيما لو كان الحكم الواحد متعلقا بالفرد المردد بين الفردين ، مثل وجوب إكرام أحد هذين الشخصين ووجوب أحد الفعلين من الاطعام والصيام ، ونتيجته التخيير. ومثله ما لو أسلم الكافر على أزيد من أربع أزواج كالخمس مثلا ، فان الذي يبين منه هو مصداق إحدى تلك الخمس ويعيّنها بالقرعة. ومثل ما لو صححنا طلاق إحدى زوجيته أو عتق أحد عبديه مما لا تعين له واقعا ولا ظاهرا ، فانه حينئذ يكون التعيين بالقرعة أو باختياره ، كما لو باع صاعا من هذه الصبرة.

ومن الواضح أن ما نحن فيه ليس براجع إلى شيء من هذه الصور فان الباقي من أحد الوجوبين كالساقط منهما لا تعيّن له واقعا ، وكما أنه ليس هو مفهوم أحدهما فكذلك ليس هو مصداق أحدهما على نحو الفرد المردد ، إذ لا يعقل نسبة البقاء ولا نسبة السقوط إلى الفرد المردد بينهما ولو

ص: 265

على نحو النكرة على رأي صاحب الفصول (1) ، فليس لنا أن نقول إن الباقي هو أحد هذين التكليفين لا بعينه ، نظير ما نقول إن المنعتق هو أحد هذين العبدين لا بعينه ، فان الانعتاق قابل للتعلّق بما هو مصداق أحدهما بناء على معقولية تعلق العتق بالفرد المردد ، بخلاف البقاء والسقوط بالنسبة إلى نفس هذين التكليفين فانه غير قابل للتعلق بالفرد المردد بين التكليفين ، فليس لنا أن نقول إن الباقي هو أحد التكليفين المتعلق أحدهما بانقاذ الغريق والآخر باطفاء الحريق إلاّ بقلب المسألة ، بان نقول : إن ذلك المكلف بعد تزاحم ذينك التكليفين وتساقطهما يتوجه إليه تكليف واحد يتعلق بأحد الأمرين من إطفاء الحريق وإنقاذ الغريق ، ومن الواضح أنه ليس هذا براجع إلى الأول ، للفرق الواضح بين كون المتوجه إلى المكلف هو واحدا من ذينك التكليفين ، وكون المتوجه إليه هو التكليف بأحد ذينك الفعلين ، فان هذا الثاني تكليف جديد لا ربط له بما تقدم من أحد التكليفين المتزاحمين.

وبالجملة : أن من أعتق أحد عبديه قد أوجد عتقا واحدا ، وإنما كان الترديد في متعلقه ، فنفس العتق لا تردد فيه وإنما كان المردد هو ما تعلق به ذلك العتق الواحد ، ولا يعقل أن يكون العتق الذي أوجده المعتق مرددا بين عتقين ، فان ذلك التردد موجب لعدم تحقق العتق ، فان قوله أوجدت عتق عبدي سعيد أو أوجدت عتق عبدي خالد نظير أن يقول أوجدت عتق هذا العبد أو أوجدت تزويج عبدي الآخر من جاريتي فلانة ، فان ذلك الترديد الواقع على كل من العتق والتزويج يوجب عدم وقوع شيء منهما ، وهكذا الحال فيما يوجده الآمر في قوله صم أو صل. فالترديد تارة يكون في

ص: 266


1- راجع الفصول الغروية : 163.

متعلق ذلك الوجوب الذي أوجده أعني الصوم والصلاة مع فرض كون المجعول شيئا واحدا وهو الوجوب ، وهذا لا بأس به ولا مانع منه لأنه من قبيل الواجب التخييري ، وتارة يكون الترديد في نفس ذلك الوجوب المجعول بين كونه وجوب صيام أو كونه وجوب صلاة ، بمعنى أن نفس المجعول مردد بين شيئين ، فهو نظير أن يقول أوجبت عليك القيام أو حرّمت عليك الكلام ، فان هذا الترديد في ناحية المجعول يوجب أن لا يكون قد جعل شيئا منهما.

إذا عرفت هذا فنقول : إن ما ذكرناه في المترافعين خطابا وملاكا أو المترافعين خطابا لا ملاكا من أنهما لا يمكن تحققهما معا لكون كل منهما رافعا للآخر ، ولا يمكن ارتفاعهما معا لتحقق موضوع أحدهما خطابا وملاكا أو خطابا فقط ، ولا يمكن أن يتعين أحدهما المعيّن للارتفاع والآخر معينا للبقاء لكونه ترجيحا بلا مرجح ، فلا بدّ أن يكون المرتفع أحدهما لا بعينه والباقي هو أحدهما لا بعينه ، لا يكون منتجا للتخيير الشرعي ، بل هو منتج لكون المجعول هو أحد الوجوبين الذي قد عرفت عدم معقوليته.

لكن عدم المعقولية إنما هي في مقام أصل الجعل ، أما في مقام البقاء بعد أن تم الجعل بالنسبة إلى كل من التكليفين وقد طرأ ما يوجب ارتفاع واحد منهما لا بعينه ، فالظاهر أن ما ذكرناه من عدم المعقولية لا يتأتى فيه ، فان ذلك نظير ما لو أسلم على أزيد من أربع حيث إنه يوجب بطلان زوجية إحداهن ، بمعنى بطلان إحدى تلك العلق الحاصلة بينه وبين كل واحدة من تلك الزوجات ، وحينئذ فلا مانع من القول بأن الباقي هو أحد التكليفين.

نعم ، لو قلنا إن ذلك غير معقول كما في مقام أصل الجعل ، لم يكن

ص: 267

لنا بدّ من أن نقول بسقوط كل من الوجوبين ، وأن المجعول في المقام شيء واحد وهو الوجوب ، وأن الترديد يتوجه إلى متعلقه ، فيكون من قبيل الوجوب التخييري ، ويكون ذلك الوجوب التخييري وجوبا شرعيا مستكشفا بطريق العقل ، وهو ما ذكرناه من الترديد العقلي الراجع إلى إبطال الشقوق الأربعة أعني ارتفاعهما ، وبقاءهما ، وارتفاع أحدهما المعيّن وبقاء الآخر ، وارتفاع أحدهما المردد وبقاء الآخر.

وبعد إبطال هذه الوجوه الأربعة نلتزم بأن المجعول هو وجوب واحد ويكون الترديد في متعلقه ، وذلك عبارة أخرى عن الوجوب التخييري الشرعي.

أما لو جعلنا التدافع بين الاطلاقين فلا تتأتى فيه الطريقة المزبورة ، لأنا بعد إبطال كل واحد من الشقوق الأربعة لا يمكننا استكشاف شيء نظير ذلك الوجوب التخييري ، ولأجل ذلك حكم شيخنا قدس سره بسقوط كلا الاطلاقين. لكنك قد عرفت أنه لا يمكننا الحكم بسقوطهما ، لأن الذي يسقط الخطاب في أنقذ الغريق هو إطلاق الخطاب في أطفئ الحريق ، وتحقق الاطلاق في الثاني موقوف على سقوط الاطلاق في الأوّل ، وهكذا الحال من طرف العكس ، فلا بدّ لنا من القول بكون كل من الخطابين في نفسه رافعا للخطاب في الآخر إلى آخر ما تقدم في كيفية الترافع بين التكليفين خطابا لا ملاكا ، وتكون النتيجة هي الخطاب الواحد بأحد الفعلين على ما عرفت تفصيله.

وما أفاده قدس سره من أن التدافع إنما هو بين الاطلاقين ببرهان أنا لو قيدناهما يرتفع التدافع بينهما ، قد عرفت التأمل فيه من جهة إمكان أن يقال

ص: 268

إن التدافع بين الخطابين نفسهما ، غايته أنه يرتفع هذا التدافع بتقييد كل منهما ، ومن الواضح أن مقتضى القاعدة هو التساقط حينئذ ، ومجرد أنه يمكن الجمع بينهما بتقييد كل منهما أشبه شيء بالجمع التبرعي ، فتأمل وانتظر الكلام على المقدمة الاولى والخامسة من مقدمات الترتب (1) ، فانا قد تعرضنا هناك للفرق في هذه الجهة بين المشروطات بالقدرة الشرعية والمشروطات بالقدرة العقلية.

قوله : إذ الحكم في طرف محتمل الأهمية وكونه مبرئا للذمة معلوم ، بخلاف الطرف الآخر فان أصل الحكم فيه وكونه مبرئا للذمة مشكوك ... إلخ (2).

العبارة لا تخلو عن مسامحة ، والمراد هو أن الحكم في ناحية محتمل الأهمية معلوم على كل من احتمال أهميته ومساواته للطرف الآخر ، والاقدام على فعل الطرف الآخر لم يحرز كونه مسوّغا ومسقطا لما هو محتمل الأهمية ، لأن ذلك متوقف على إحراز المساواة وهي غير محرزة ، فلا مسوّغ لرفع اليد عن محتمل الأهمية والاقدام على الطرف الآخر استنادا إلى احتمال مساواته له. وكيف كان فالظاهر أن هذا المعنى - وهو كون المرجع عند احتمال الأهمية هو أصالة الاشتغال - جار على مسلكهما أيضا ، لأن التخيير على مسلكهما لو سلّمناه لا يكون من ذي الملاك الواحد الذي قيل فيه بالبراءة عند احتمال التعيين ، بل هو من ذي الملاكين ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، والمتعين في ذلك هو أصالة الاشتغال لا البراءة.

ص: 269


1- تقدم المصدران في الصفحة : 258.
2- أجود التقريرات 2 : 46 - 47 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ومن ذلك يظهر لك أن لازم مسلكهما هو تعدد العقاب لو تركهما ، لأن المفروض أن نسبة كل منهما إلى الآخر نسبة المسقط ، نعم بناء على ما سلكناه لا يكون في البين إلاّ عقاب واحد ، إذ لا خطاب إلاّ بأحدهما. أما من حيث أصالة الاشتغال فمسلكنا مساو لمسلكه قدس سره ولمسلكهما أيضا ، فلاحظ وتدبر.

قوله : وأما على المختار فحيث إن الاشتغال بامتثال كل منهما هو الذي يكون مسقطا ... الخ (1).

يمكن المناقشة فيه بناء على مسلكه قدس سره من وجوب حفظ القدرة ، أنه يجب حفظ القدرة للثاني ، فيكون مزاحما لوجوب القيام الأوّل ، فينبغي أن يقال إنه قبل أن يشرع في القيام الأوّل قد تحقق في حقه كل من التكليفين ، ويكون عدم القيام الأوّل اشتغالا بحفظ القدرة للثاني ، فيكون ذلك مسقطا لوجوب القيام الأوّل ، ولا أقل من التخيير بين امتثال أمر القيام الأوّل أو امتثال حفظ القدرة للثاني ، هذا على مسلكه قدس سره.

وأما على مسلكهما قدس سرهما فالذي ينبغي أن يقال هو لزوم القيام الأوّل ، لما عرفت (2) من كون التخيير بينهما من قبيل ذي الملاكين ، فيكون سقوط كل منهما متوقفا على فعل الآخر ، وحيث إن القيام الثاني متأخر عن القيام الأوّل فالقيام الأوّل في ظرفه لم يحصل مسقطه ، فلا يمكن التخلف عن الأمر المتعلق به. نعم على ما سلكناه من كون الواجب والمخاطب هو أحدهما يكون قضية ذلك جواز ترك القيام الأوّل إلى القيام الثاني.

ص: 270


1- أجود التقريرات 2 : 47 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الحاشية السابقة.

قوله : وأما في غيره ( وهو ما لو كان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية أو كان المشروط بها هو أحدهما ) فلا تصل النوبة إلى الترجيح بها أصلا (1).

بل يكون التقديم في ذلك من باب الحكومة الواقعية أو الورود ، كما عرفت تفصيله فيما تقدم (2).

قوله : نعم ربما يكون المرجح الأوّل لباب المزاحمة مرجحا لباب التعارض أيضا - إلى قوله : - لكنه بملاك آخر ... إلخ (3).

تقدم توضيح الفرق بين الجهتين في آخر حاشية قوله : ثم إنه ربما يورد إلخ (4) ، وفي الحاشية على قوله أحدهما (5).

قوله : ومن جميع ما ذكرناه يظهر وضوح كون الضدين من باب التزاحم لا التعارض ... إلخ (6).

لكن ذلك فيما لو كان اتفاقيا ، دون ما لو كان دائميا فانه يرجع إلى باب التعارض ، وقد تقدم توضيح ذلك في آخر الأوّل مما تلخص من الفرق بين التزاحم والتعارض (7).

قوله : وأما في الرابع فلأن التقديم في باب التعارض مع حفظ

ص: 271


1- أجود التقريرات 2 : 47 - 48 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- في الحواشي المتقدمة في الصفحة : 207 و 208 و 247.
3- أجود التقريرات 2 : 48 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- وهي الحاشية المتقدمة في الصفحة : 163 - 171.
5- وهي الحاشية المتقدمة في الصفحة : 178 - 179.
6- أجود التقريرات 2 : 49 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
7- راجع الصفحة : 169 - 170.

الموضوع ... إلخ (1).

حاصله : أن نتيجة التقديم في باب التعارض في المرجحات الدلالية هي التخصيص والتقييد ونحوهما مما يكون تصرفا في مقام الاثبات ، بخلاف نتيجة التقديم في باب التزاحم فانها تكون من باب التخصص وهو ما عبرنا عنه فيما تقدم (2) من الحكومة الواقعية ، لكون الأوّل رافعا لموضوع الثاني رفعا واقعيا ، إما خطابا وملاكا كما لو كان الثاني مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو خطابا فقط كما لو كان الثاني مشروطا بالقدرة العقلية ، وذلك متحد مع ما قدمناه من الحكومة الواقعية ، لكنه لا يلتئم مع ما أفاده قدس سره من أن كلا منهما يكون موجبا لتقييد الآخر فيما لو كانا متساويين ، أو كون الأهم موجبا لتقييد المهم ، فراجع وتأمل. ولا يخفى أن من موجبات الحكومة والورود والتخصيص (3) وهذه لا مورد لها في باب التزاحم وإنما موردها هو التعارض ولو صوريا.

والذي ينبغي أن يقال : إن أول المراحل هي مرحلة التزاحم الآمري ، وهي مرحلة ملاحظة الشارع ما هو الأهم من الملاكات المتزاحمة فيجعل الحكم على طبقه ، ثم بعد هذه المرحلة أعني مرحلة مقام الثبوت وجري الشارع فيها على ما رجحه في التزاحم الآمري تصل النوبة إلى مقام الاثبات بالنسبة إلى ذلك الحكم الواقعي الذي جعله الشارع ، فربما تدافعت الأدلة في مقام الاثبات وتكاذبت ، وذلك باب واسع يرجع إليه باب التعادل

ص: 272


1- أجود التقريرات 2 : 48 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع الحواشي المتقدمة في الصفحة : 207 و 208 و 247 و 256.
3- [ كذا في الأصل ].

والتراجيح وتقديم بعض الأدلة على بعض سندا أو دلالة تخصيصا أو تخصصا حكومة أو ورودا ، وهذه المرحلة هي مرحلة التعارض والتكاذب ولو صوريا ، ومرجعها إلى إصلاح التكاذب بين الأدلة على الأحكام الواقعية ولو تكاذبا صوريا كما في موارد التخصيص والورود والحكومة.

ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى مقام العمل فربما حصل التدافع بين الحكمين على قدرة المكلف ، وهذا هو باب التزاحم الذي لا يكون التدافع فيه إلاّ من ناحية القدرة ، وله أطوار ومرجحات ونتائج لا دخل لها بأطوار التعارض والتكاذب ولا بمرجحاته ولا بنتائجه ، وجميع ما فيه راجع إلى إصلاح النزاع بين التكليفين على قدرة المكلف من دون تكاذب بين المتنازعين.

قوله : فائدة استطرادية (1).

ينبغي مراجعة ما حررناه في حاشية ص 231 (2) وفيما قبل ذلك من الحواشي ، فراجع وتأمل.

قوله : إلاّ أن خصوص الطهارة المائية ممتازة عن البقية بجعل البدل لها ، فتتأخر رتبتها عن الجميع ... إلخ (3).

تقدم الاشكال في الترجيح بمحض البدلية في حاشية ص 227 (4) على قوله ثانيهما ، وتقدم هناك أيضا الوجه في تأخر الطهارة المائية عن مثل

ص: 273


1- أجود التقريرات 2 : 49.
2- [ بحسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، وله قدس سره على هذه الصفحة حاشيتان تقدمتا في الصفحة : 251 و 254 ].
3- أجود التقريرات 2 : 49 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- [ بحسب الطبعة القديمة من أجود التقريرات ، راجع صفحة : 179 وما بعدها ].

الوقت ونحوه ، فراجع وتأمل.

والذي ينبغي أن يقال : إن ما دل على تشريع الأمر الاضطراري وأن الصلاة لا تسقط بحال ظاهره تقييد الجزئية والشرطية بحال التمكن ولو في آخر الوقت ، وحينئذ يكون جميع الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة الشرعية ، فيشكل الأمر في مزاحمة هذه الأوامر الضمنية بعضها مع البعض منها ، إلاّ فيما يكون في البين تقدم زماني.

ويمكن أن يؤيد الاشتراط بالقدرة العقلية بأنه لا ريب في كون مجموع الصلاة بأجزائها وشرائطها من المشروطات بالقدرة العقلية ، فلو قلنا بأن كل جزء أو شرط دل الدليل على سقوطه بالتعذر يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، كان ذلك منافيا لكون المجموع مشروطا بالقدرة العقلية ، حيث إن جميع ما يعتبر في الصلاة من الأجزاء والشرائط مما قام الدليل على سقوطه بالتعذر حتى الوقت.

نعم إن الطهور الأعم لا يسقط بالتعذر ، فيكون هو وحده مشروطا بالقدرة العقلية ، فلا يصح لنا أن نقول إن مجموع الأجزاء والشرائط مشروط بالقدرة العقلية مع فرض كون كل واحد من تلك الأجزاء والشرائط على حدة مشروطا بالقدرة الشرعية ، بل إن الطهور أيضا مشروط بالقدرة الشرعية كما لو فرض عدم التمكن منه في الوقت وخارجه بتمام العمر ، فان ذلك لا يوجب سقوط الصلاة بل يوجب سقوطه بنفسه ، فيكون حينئذ أيضا من المشروطات بالقدرة الشرعية ، وهذا ( أعني كون كل واحد من أجزائها وشرائطها مشروطا بالقدرة الشرعية ) لا يلتئم مع كون المجموع غير مشروط بذلك ، فلا بدّ لنا من القول بأن هذه الأدلة الدالة على تشريع الأوامر

ص: 274

الاضطرارية لا تستلزم الاشتراط بالقدرة شرعا ، بل أقصى ما فيه هو الدلالة على سقوط الوجوب الضمني عند تعذر ذلك الواجب ، فلا يكون دالاّ إلاّ على سقوطه خطابا لا ملاكا ، خصوصا بعد ما حقق في محله (1) من أنه لا محصل للجزئية والشرطية إلاّ الأوامر الضمنية التي لا إشكال في سقوطها خطابا عند تعذر متعلقاتها وإن بقيت ملاكاتها.

وبالجملة : بناء على كون المجعول هو الأوامر الضمنية لا معنى لأن يقال إنها مطلقة لحال التعذر ، فتأمل. وحينئذ فلنا أن نقول : إنه يمكن أن يقال إن ذلك ( أعني تشريع الأوامر الاضطرارية وأن الصلاة لا تسقط بحال ) لا يدل إلاّ على سقوط الأمر الضمني الذي تعلق بذلك الجزء أو الشرط غير المقدور ، وسقوط تقيد المركب بذلك الجزء أو الشرط ، إما كونه ساقطا خطابا وملاكا كما هو ظاهر التقييد بالتمكن المستفاد من دليل السقوط عند عدم التمكن ، أو أنه إنما يسقط خطابا فقط لا ملاكا ، لامكان بقاء ملاك التقييد والمصلحة الباعثة على ذلك التقييد بحيث تكون المصلحة في المركب متوقفة عليه ، ولكن شرع سقوطه والاتيان بالفاقد ولو فاقدا لبعض المصلحة لدوران الأمر بين فوات المصلحة الناشئة منه والمصلحة الناشئة من الوقت ، وأن مصلحة الوقت أهم من مصلحة ذلك المفقود ، بمعنى أن الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط لها مصلحة بعشرين درجة مثلا ، لكن لو فقدت القيام تنقص بمقدار ثلاث درجات ولو فقدت الوقت تنقص بمقدار عشر درجات ، فتكون المحافظة على الوقت أهم ، فيلزم الاتيان بها في الوقت فاقدة للقيام ، إلاّ أن ذلك أيضا موقوف على الدليل على هذه

ص: 275


1- راجع فوائد الأصول 4 : 393 ، ويأتي تعليق المصنّف قدس سره عليه في المجلّد التاسع.

الجهة وإلاّ فمن أين علمنا أن مصلحة الوقت أهم.

ومن ذلك يظهر لك أنا محتاجون إلى دليل يدل على التقديم من دون فرق بين القول بأن هذه الأجزاء والشرائط مشروطة شرعا بالتمكن ، وبين القول بكونها مشروطة به عقلا ، أما على الأوّل فواضح ، لأنها بعد فرض كونها جميعا مشروطة بالقدرة شرعا ينحصر التقديم بالتقدم الزماني ، فإذا دل الدليل على التقدم بجهة اخرى كان ذلك الدليل على خلاف القاعدة. وأما على الثاني فلما عرفت من الاحتياج إلى الدليل أيضا لنستكشف منه الأهمية عند الشارع.

وحيث قد تحقق أنا محتاجون في التقديم إلى النص والدليل كان علينا في جميع موارد هذه المزاحمات هو اتباع الدليل ، والقدر الثابت هو تقديم الطهور على جميع البواقي حتى الوقت من جهة قولهم عليهم السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) ونحوه مما يدل على سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين.

وكذلك ثبت لنا أن الوقت بتمامه مقدّم على ما عدا مطلق الطهور ، وذلك مما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال ونحوه مما دل على مشروعية الأوامر الاضطرارية ، فانها بأسرها لا يكون محصّلها إلاّ ملاحظة الوقت وأنه مقدّم في مقام المزاحمة على جميع الأجزاء والشرائط ما عدا مطلق الطهور ، وإلاّ لكان اللازم هو الانتظار ولو بعد خروج الوقت.

وكذلك أيضا ثبت لنا بالدليل تقديم جميع الأجزاء والشرائط على الطهارة المائية على ما تقدم (2) تفصيله ، فيلزم الانتقال إلى التيمم في جميع

ص: 276


1- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
2- في الحاشية المتقدمة في الصفحة : 179 وما بعدها.

تلك الموارد حتى لو تزاحمت الطهارة المائية مع الطهارة من الخبث كغسل الثوب مثلا ، لما تقدم من الاجماع.

ويمكن أن يلحق بما تقدم من موارد قيام الدليل مزاحمة الركن لغيره ، بدعوى أنه يستفاد من كون الجزء ركنا تبطل الصلاة بنقصه عمدا وسهوا ، أهميته في نظر الشارع على ما هو غير ركن. وهذه الجهة لو تمت لأمكن تسريتها إلى ما يكون شرطا للركن وما يكون شرطا لغير الركن ، أو ما يكون جزءا غير ركن ، فيقدّم ما هو شرط للركن على ما هو جزء غير ركن وعلى ما هو شرط لغير الركن ، وكذلك يقدّم الركن نفسه على ما هو شرط فيه. بل يمكن أن يقال بتقدم كل جزء على ما هو شرط فيه.

ولا يخفى أن هذه الاستفادة من دليل الركنية يمكن إجراؤها في كل واحد من الخمسة المستثنيات في حديث لا تعاد (1) أعني الطهور والقبلة والوقت والركوع والسجود ، لكن أصل هذه الاستفادة من دليل الركنية الذي تكون دلالته مقصورة على كون تركه مبطلا عمدا وسهوا على وجه يكون ذلك كاشفا عن أهميته في نظر الشارع ، بحيث إنه يقدّم على غيره عند المزاحمة ، في غاية الاشكال ، خصوصا بناء على الوجه الأوّل أعني كون الأجزاء والشرائط مشروطة بالقدرة الشرعية ، فانك قد عرفت أنه بناء على هذا الوجه لا بدّ من دليل يدل على التقديم ولا يكفي فيه مجرد ما يكشف عن الأهمية.

قوله - في الفائدة الاستطرادية - : قد ذكرنا في بعض المباحث

ص: 277


1- وسائل الشيعة 6 : 401 / أبواب التشهد ب 7 ح 1.

السابقة ... إلخ (1).

تقدم في بعض المباحث السابقة ، أنه لو كان دليل التقييد مطلقا كان ذلك موجبا لسقوط المقيد عند تعذر القيد ، وعند عدم الاطلاق لدليل التقييد يكون المرجع هو إطلاق دليل المقيد لو كان ، وحينئذ يكون اللازم الاتيان به فاقد القيد ، وعند عدم كل من الاطلاقين يكون المرجع هو الاصول الأخر مثل استصحاب الوجوب في المقدور أو قاعدة ما لا يدرك أو قاعدة الميسور ، كل ذلك في غير باب الصلاة.

أما في باب الصلاة فان ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال قاض بأنها لا تسقط بتعذر قيد من قيودها أو جزء من أجزائها ، ولكن هل هذه القاعدة شاملة للوقت على وجه لو تعذر إيجادها في الوقت كان اللازم الاتيان بها في خارج الوقت ، وهكذا الحال في مطلق الطهور على وجه لو تعذر الحصول على الطهور لم يكن ذلك موجبا لسقوط أصل الصلاة ، بل كان اللازم الاتيان بها فاقدة للطهور.

ولا يخفى أن قضية « الصلاة لا تسقط بحال » على القول بأن القضاء بأمر جديد لا تشمل الوقت ، لأنّ محصلها حينئذ هو أن الصلاة في الوقت لا تسقط بحال ، وإنما تشمله لو قلنا بأنه بالأمر السابق ، ليكون مفادها حينئذ هو أن ذات الصلاة لا يوجب سقوطها شيء حتى الوقت لو تعذر الاتيان بها فيه ، وعليه تتفرع مزاحمة الوقت بتمامه لبعض الأجزاء والشرائط ولو مثل مطلق الطهور ، وإلاّ كانت المسألة من قبيل تعذر ذلك القيد ، لدوران الأمر

ص: 278


1- أجود التقريرات 2 : 49.

حينئذ بين ترك ذات الصلاة وبين ترك قيدها المفروض ، هذا.

ولكن الظاهر أنه لو لم يتمكن من الصلاة في الوقت كان ذلك موجبا لسقوط التقييد به ، ويلزمه الاتيان بها خارج الوقت ليكون الوقت مشمولا لهذه القضية ، وحينئذ ينفتح باب التزاحم بينه وبين بقية القيود ، أما مطلق الطهور لو تعذر في الوقت وكان ممكنا في خارجه دخل في التزاحم بين الوقت ومطلق الطهور ، ونحتاج في تقديم أحدهما على الآخر إلى الدليل.

لكن لا يخفى أنا لو فرضنا ولو بعيدا أنه لا يتمكن من مطلق الطهور لا في الوقت ولا في خارجه كما في من حكم عليه بالاعدام وهو فعلا لا يجد التراب ولا الماء إلى أن ينفذ فيه حكم الاعدام ، فهل يكون الساقط هو أصل الصلاة أو أن الساقط هو تقيدها بالطهور؟ قد يقال بالثاني لدخول الطهور تحت قولهم « الصلاة لا تسقط بحال » (1) وقد يقال بالأوّل نظرا إلى قولهم عليهم السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2).

وبناء عليه يكون المقدّم عند التزاحم الصوري هو الطهور ، فيصلي خارج الوقت ليحصل على الطهور وإن فاته الوقت ، بخلاف ما لو صلى في الوقت بلا طهور فانه وان حصل على الوقت إلاّ أنه قد فاته أصل الواجب أعني ذات الصلاة ، إذ لا صلاة إلاّ بطهور ، وهي حاكمة على قضية الصلاة لا تسقط بحال.

والخلاصة : هي أنه إن قلنا بكون كل منهما مشمولا لقضية « الصلاة

ص: 279


1- [ ورد هذا في المتون الفقهية دون الروائية ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال ». راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 ].
2- وسائل الشيعة 1 : 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

لا تسقط بحال » انفتح باب التزاحم بينهما ووقعت الحيرة في توجيه تقديم الطهور على الوقت ، وإن قلنا بعدم شمولها للطهور كان تقديم الطهور على الوقت متجها ، لا من باب التزاحم بين القيدين ، بل هو من باب مزاحمة قيد الصلاة الذي هو الوقت لأصل الصلاة الواجبة أخذا من قولهم عليهم السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » وهو الذي أراده شيخنا قدس سره بقوله فيما حررته عنه من أن وجه التقديم هو كون قيدية مطلق الطهور مطلقة وقيدية غيره مقيدة بحال التمكن ، فان قولهم عليهم السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » قاض باطلاق القيدية. لكن لازم ذلك أنه لو اتفق عدم التمكن من مطلق الطهور لا في الوقت ولا في خارجه هو سقوط الصلاة ، وهو لا يخلو من استغراب.

والانصاف : أن ما أفاده شيخنا قدس سره في هذا المقام لا يخلو عن إجمال كما ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي (1) ، وقد حررت عنه (2) ما هذا نصه : وحاصل الكلام : أن في تزاحم الأجزاء والشروط قواعد كلية مسلّمة فيما بينهم :

الاولى : أن مطلق الطهور الأعم من الطهارة المائية والترابية مقدّم على غيره من الشرائط ، حيث إن قيديته مطلقة وقيدية غيره مقيدة بحال التمكن كما هو مفاد « الصلاة لا تسقط بحال » فيكون دوران الأمر بين حفظ قيديته وحفظ قيدية غيره راجعا إلى الدوران بين فعل الصلاة وتركها.

قلت : لكن يشكل الأمر فيما لو دار الأمر بينه وبين الوقت فانه حينئذ يدور الأمر بين المحافظة على الطهور فلا يصلي في الوقت ، والمحافظة على الوقت فيصلي في الوقت من دون طهور ، والأوّل راجع إلى ترك

ص: 280


1- فوائد الأصول 1 - 2 : 335.
2- في درس ليلة الأربعاء 24 / ذي الحجة / 1346 [ منه قدس سره ].

الصلاة ، ولكنهم مع ذلك يقدّمون الأوّل على الثاني.

الثانية : أن الوقت بالنسبة إلى مقدار ركعة يقدّم على جميع القيود ما عدا الطهور ، لكنه بالنسبة إلى ما عدا الركعة يكون حاله حال سائر القيود.

الثالثة : أن الأجزاء مطلقا ما عدا السورة مقدّم على جميع القيود ما عدا الطهور والوقت بالنسبة إلى مقدار ركعة ، لما عرفت من تقدم الأجزاء رتبة على الشرائط.

الرابعة : أن القيام المتصل بالركوع لكونه ركنا في الركوع مقدّم على غيره حتى القيام حال تكبيرة الاحرام.

الخامسة : أن القيام حال تكبيرة الاحرام مقدّم على القيام الذي بعده ، لا لكونه ركنا كما قيل : بل لتقدمه الزماني ، وهكذا الحال في قيام الركعة الاولى بالنسبة إلى القيام في الركعة الثانية.

السادسة : أن شرط شرط الصلاة لو وقع التزاحم بينه وبين شرطها الابتدائي ، فان كان شرط الشرط فضلة مثل الطمأنينة كان غيره من القيود الابتدائية مقدّما عليه دون ما إذا كان عمدة.

وأما بقية موارد التزاحم في هذا الباب فهي غير منضبطة ، ومرجع التزاحم فيها إلى النصوص الخاصة وإلاّ فإلى الاحتياط بالجمع ، فتأمل.

قلت : ومن ذلك ما لو فرض أنه لا يتمكن من القراءة الصحيحة إلاّ بالاجهار فيها ، ففي مثل صلاة الظهر يقع التزاحم بين صحة القراءة والاخفات ، ولا يبعد تقدم الأوّل ، فيأتي بالقراءة صحيحة ولو مع الجهر بها ، فان لزوم صحة القراءة راجع إلى لزوم الاتيان بها على ما هي عليه من مخارج الحروف والحركات الاعرابية ، وهذه الجهات كلها معروضة لصفات

ص: 281

الجهر والاخفات ، فيكون من قبيل التزاحم بين نفس الشيء ووصفه كما لو لم يتمكن من أصل القراءة إلاّ مع الجهر بها فتأمل ، أو منعه مانع من الجهر في الصلاة الجهرية كخوف العدو ونحوه ، انتهى ما حررته عنه وما ألحقته في الدرس المذكور.

أما مزاحمة ذات الصلاة لشرطها مثل الاستقبال فلا محصل له ، إذ يدور الأمر حينئذ بين الاتيان بالصلاة فاقدة للاستقبال وبين تركها ، والأوّل مقدّم على الثاني ، إلاّ إذا كانت شرطية الشرط مطلقة مثل الطهور ، ولا محصل للمزاحمة بين نفس الصلاة بلا شرط وبين نفس الشرط بلا صلاة. وهكذا الحال في المزاحمة بين نفس الجزء وبين شرط نفس ذلك الجزء. نعم يتصور المزاحمة بين نفس الجزء وبين ما هو الشرط لمجموع الصلاة ، كما لو اتفقت المزاحمة بين القيام وبين الاستقبال مثلا ، أو المزاحمة بين نفس الجزء وبين ما هو الشرط لجزء آخر ، أو بين نفس الصلاة وبين ما هو الشرط لجزء من أجزائها ، ولا يمكن القول بأن الشرط في هذه الأمثلة ساقط في قبال مزاحمه بقول مطلق.

وأما دعوى كون الشرط للصلاة متأخرا رتبة عن نفس الصلاة فلا يخلو عن إشكال ، لأن (1) تأخر الشرط رتبة عن المشروط إنما هو فيما في لحاظهما قبل تعلق الأمر ، أما في رتبة تعلق الأمر بالمجموع المركب من الأجزاء والشرائط فان الجميع في رتبة واحدة.

1 - (2) الطهور الأعم من المائية والترابية مقدّم على غيره من الأجزاء

ص: 282


1- [ في الأصل هنا زيادة : الشرط ، حذفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ وجدنا في الأصل هنا أوراقا مرفقة ارتأينا إدراجها في المتن حسب الترتيب الموجود فيها ].

والشرائط حتى الوقت بتمامه.

2 - الطهارة المائية متأخرة عن جميع الأجزاء والشرائط لأنها لها البدل بخلاف غيرها ، على تأمل في السورة.

3 - الوقت بتمامه مقدّم على غيره ما عدا مطلق الطهور ، لأهمية الوقت. يمكن استفادته من تشريع صلاة المضطرين كالغرقى ونحوهم.

4 - الوقت بالنسبة إلى بعض الركعات متأخر عن الجميع لقاعدة من أدرك ، إلاّ السورة لسقوطها في الاستعجال.

5 - الأجزاء مقدّمة على الشرائط لتأخر الشرط رتبة عن الجزء.

6 - الركن كالركوع مقدّم على غيره كالقيام.

7 - أصل الشرط مقدّم على شرط الشرط مثل الساتر ، فانه مقدّم على شرطه وهو كونه طاهرا مثلا ، لتقدم أصل الشرط رتبة على القيد المعتبر فيه.

8 - الطمأنينة في الأركان مقدّمة على الطمأنينة في غير الأركان ، وهو مشكل.

9 - القيام قبل الركوع مقدّم على القيام حال القراءة لكونه ركنا ومقوّما للركن ، بخلاف القيام حال القراءة.

10 - القيام قبل الركوع مقدّم على القيام حال تكبيرة الاحرام ، لكون الأوّل بنفسه ركنا بخلاف الثاني فانه شرط في الركن.

11 - القيام في الركعة الاولى مقدّم على القيام في الركعة الثانية لتقدّمه زمانا.

ص: 283

12 - القيام حال التكبير مقدّم على القيام حال القراءة ، لتقدّمه زمانا ، ولكونه شرطا للركن.

[ فرع ] في مثل التزاحم بين القيدين مثل القبلة والساتر ، مع فرض كون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا لا شرعا ، إن كان أحدهما وهو القبلة أهم من الآخر لزمه الاستقبال وترك التستر ، لكن هل يمكن إجراء عصيان الأهم والاتيان بالمهم من جهة الملاك أو من جهة الترتب؟ قد يقال بالمنع ، لأنّ ذلك إنما يتأتى في الواجبات الاستقلالية ، أما القيود فلا ، وذلك من جهة أنه في الصورة المفروضة يكون اللازم عليه تقييد الصلاة بالقبلة وبتركها تبطل الصلاة.

ولكن ينبغي أن ينظر في حكم هذا النحو من التزاحم ، فيقال إنه لو أمكنه تكرار الصلاة مرة واحدة للقبلة دون الساتر واخرى بالعكس ، كان ذلك لازما عليه ، لأنّ مرجع القيد إلى وجوب المركب من القبلة والمركب من الساتر ، فلو أمكنه جمعهما في صلاة واحدة فهو ، وإلاّ كما هو المفروض في التزاحم كان الواجب عليه كلا المركبين إن تمكن من التكرار. ولو لم يتمكن إلاّ من صلاة واحدة ، فان كان الأهم هو ذات القبلة فعلها ولا شيء عليه ، وكانت هي ضدا لفاقدة القبلة وواجدة الساتر ، ولو عصى الأمر بذلك الأهم أعني المركب من القبلة الفاقد للساتر وجاء بالصلاة الفاقدة للقبلة الواجدة للساتر عصى في ترك ذاك وأطاع في فعل هذا ، إما بالملاك أو بالترتب.

[ فرع ] لو زوحمت الطهارة المائية ببعض الوقت كان هو المقدّم ، ولو توضأ لهذه الصلاة بطل الوضوء لعدم الملاك لكونه مشروطا بالقدرة شرعا. ولو كان المزاحم لبعض الوقت بعض الأجزاء أو الشرائط الأخر تقدم الوقت

ص: 284

أيضا ، لكن لو عصى صح ذلك الجزء كالقيام والتشهد ونحوهما إما بالملاك أو بالترتب ، وكان حاله حال ما لو أخر بسوء اختياره فوقع بعض أجزاء الصلاة أو كلها في خارج [ الوقت ](1) ، ومجرد كون القيام مثلا أو التشهد موجبا لوقوع بعض الصلاة في خارج [ الوقت ](2) لا يوجب كونه عصيانا ، لعدم كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده. ويلزم القائلين بانكار اشتراط الطهارة المائية بالقدرة القول بصحة الوضوء في مورد مزاحمة الوقت ، لكنهم يقولون ببطلانه ، ويعللون ذلك البطلان بعدم الأمر.

ولا يخفى أن عدم الأمر إنما هو عدمه خطابا بناء على مسلكهم لا ملاكا ، وذلك لا يوجب انتفاء الملاك الموجب للبطلان ، فلاحظ.

[ فرع ] فيما لو كان مكانان يتمكن في أحدهما من الصلاة قائما لكن مع الايماء للركوع والسجود ، وفي الآخر لا يتمكن من القيام لكن مع إكمال الركوع والسجود ، رجح شيخنا قدس سره الثاني في حاشيته على العروة في مبحث المكان (3). ولو دار الأمر في المكلف بين الاحتفاظ بالقيام مع الايماء إليهما أو الاحتفاظ بهما مع عدم القيام ، رجح شيخنا قدس سره الأوّل في حاشيته على مباحث القيام (4).

ولعل الفرق من جهة أن المسألة الأولى يكون الدوران فيها بين المكانين ، وتحصيل المكان واجب في الصلاة ، وان شئت فقل : إنه قبل الدخول في الصلاة يتردد بين الصلاتين ، فيكون من قبيل التزاحم في

ص: 285


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 383 - 384 / السادس ممّا يشترط في المكان.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 484 - 485 / مسألة (17).

المشروط بالقدرة العقلية ، فيكون المقدّم هو الثاني لأهميته باعتبار اشتماله على الركن مع فرض عدم تقدم الابتلاء بأحد الفردين.

أما المسألة الثانية ، فلأنه لا بدّ له من الدخول في الصلاة ولا بدّ أن يكبّر للاحرام ، وهو في هذا الآن قادر على القيام الواجب ، ومزاحمه وهو السجود متأخر ، فلو قلنا بأن المقدّم هو الأسبق ابتلاء كان المقدّم هو القيام على كلام في ذلك ، أعني تقديم الأسبق ابتلاء في باب التزاحم ، ولكن هذا المقدار يكفي لابداء الفرق بين الحاشيتين ، فلاحظ وتأمل.

قوله : الأوّل فيما إذا كان عدم القدرة اتفاقيا كما في تزاحم وجوب إنقاذ كل من الغريقين فيما لم يتمكن المكلف من إنقاذهما معا. الثاني : في باب الضدين إذا كان التضاد اتفاقيا ... إلخ (1).

المراد بالأوّل ما كان التزاحم ناشئا عن اتفاق عدم القدرة على الفعلين مثل القيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية ، ومثل الصوم في اليوم الأوّل والصوم في اليوم الثاني ، ويكون الفعلان طوليين غالبا ، وربما كانا عرضيين يسعهما الزمان الواحد لكن اتفق عدم القدرة على الجمع بينهما مثل التزاحم الواقع بين الصيام في هذا اليوم والصلاة فيه إذا اتفق أن المكلف لا يقدر على الجمع بينهما ، وعدّ الغريقين في النحو الأوّل مبني على أنهما في حد نفسهما يمكن إيجادهما في زمان واحد بأن ينقذهما معا دفعة واحدة ، أو أنهما في حد أنفسهما يمكن إيجادهما تدريجا ولكن اتفق أن المكلف لا يقدر على إنقاذهما معا دفعة واحدة ، وأن إنقاذهما تدريجا لا يمكن ، لأنه لو اشتغل بأحدهما هلك الآخر.

ص: 286


1- أجود التقريرات 2 : 52 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

والحاصل : أن المراد بالأوّل هو ما لم يكن التزاحم إلاّ من محض عدم القدرة. والمراد بالثاني ما كان منشأ التزاحم فيه هو مطلوبية كل منهما في الزمان الخاص المفروض أنه لا يسع إلاّ أحدهما (1) كما في مثل الازالة

ص: 287


1- أما مثل تزاحم الصوم والصلاة فهو وإن كان في عداد القسم الأوّل ، إلاّ أن الذي ينبغي إخراجه منه ، وجعل القسم الأوّل مقصورا على ما إذا كان المتزاحمان مترتبين بحسب الزمان ، مثل القيام في الركعة الاولى والقيام في الركعة الثانية ، ومثل الصوم في اليوم الأوّل والصوم في اليوم الثاني ، وجعل القسم الثاني شاملا لكل عرضيين بحسب الزمان. والحاصل : ان الغرض من هذا التقسيم هو التمهيد للترتب ، وأن ترتب الأمر بالمهم في القسم [ الثاني ] على عصيان الأهم يكون من قبيل الشرط المقارن ، بخلافه في القسم الأوّل فان الترتب فيه إن كان الأهم هو المقدّم زمانا يكون من قبيل الشرط المتقدم ، لأن قوله : صم في الثاني إن عصيت الأوّل ، يكون اشتراط وجوب الصوم في اليوم الثاني بعصيان الأوّل من قبيل الشرط المتقدم ، ولو كان الأهم هو اليوم الثاني لكان اشتراط وجوب الصوم في الأوّل بعصيانه في الثاني من قبيل الشرط المتأخر ، بخلاف الترتب في القسم [ الثاني ] فان اشتراط وجوب الصلاة بعصيان الازالة يكون من قبيل الشرط المقارن ، ويمتد هذا الشرط بامتداد فعل [ الصلاة ] يبتدأ بابتدائها وينتهي بانتهائها. نعم في مثل الصلاة والصيام لو علّق الأمر بأحدهما على عصيان الآخر لا يكون من قبيل الشرط المقارن ، بل لو اشترطنا وجوب الصلاة في النهار بعصيان الصوم كان من الشرط المتقدم ، ولو اشترطنا وجوب الصوم بعصيان الصلاة النهارية كان من الشرط المتأخر ، وحينئذ يكون اللازم هو إدخاله في القسم الأوّل. أما مثال الغريقين فهو وان صح عدّه من القسم الأوّل باعتبار أن الزمان يسعهما بأن ينقذهما بانقاذ واحد ، لكن القدرة لا تسعهما ، لأنه لا يتمكن من إنقاذهما دفعة واحدة بانقاذ واحد ، فلا بدّ له من أن ينقذ أحدهما في الزمان الأوّل وثانيهما في الزمان الثاني ، وهو لا يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما ، فهو من قبيل المكلف بفعلين لا تضاد بينهما لكنه لا يقدر على الجمع بينهما فيدخل في القسم الأوّل. كما أنه يصح عدّه في القسم الثاني باعتبار أنه لمّا لم يتمكن من إنقاذهما دفعة واحدة بانقاذ واحد صار محتاجا إلى إنقاذين في آنين مترتبين ، ولمّا لم يمكن ذلك لتلف الثاني صار محتاجا إلى إنقاذ هذا على حدة وإنقاذ هذا على حدة في زمان واحد ، وحينئذ يكون الحاصل إيقاع الانقاذين في زمان واحد لا يسع إلاّ أحدهما ، فيكون من قبيل طروّ التضاد عليهما ، وإنما قلنا إنقاذ هذا على حدة وانقاذ هذا على حدة لأنه لا يمكنه إنقاذهما معا بانقاذ واحد ، فيحتاج إلى تعدد الانقاذ مع أن الزمان لا يسع إلاّ إنقاذا واحدا. ولا يخفى أن إلحاق هذا المثال بالقسم الثاني أولى ، لأن الترتب فيه يكون بنحو الشرط المقارن مثل الترتب بين الصلاة والازالة ، إذ لو قلنا أنقذ الأهم فان عصيت فانقذ المهم ، كان اشتراط الأمر بالمهم بعصيان الأهم من قبيل الشرط المقارن لا المتقدم ولا المتأخر ، وحينئذ يكون إدخاله في القسم الثاني أولى من إدخاله في القسم الأوّل. [ منه قدس سره ].

والصلاة ، فان فورية الأوّل تقتضي إيجاده في أوّل أزمنة الامكان ، فلو توجه إليه التكليف بالصلاة في نفس ذلك الزمان كان راجعا إلى الأمر بالضدين في زمان واحد ، فيكون منشأ التزاحم فيه هو التضاد بين المتعلقين مع وحدة زمانهما.

ويمكن أن يلحق بذلك الغريقان فانه بعد أن [ كان ](1) المكلف لا يقدر على إنقاذهما دفعة واحدة ، وأنه لا يمكن إنقاذهما تدريجا لتلف الثاني عند الاشتغال بأحدهما ، يكونان بمنزلة المتضادين اللذين لا يسعهما الزمان ، بمعنى أنه بعد عدم إمكان الجمع بينهما دفعة واحدة يكون مكلفا بانقاذ هذا وحده وإنقاذ هذا وحده ، وبذلك يحصل التضاد بينهما ، فلو توجه الأمر الفوري بانقاذ كل منهما كان من قبيل الأمر بفعلين متضادين في زمان لا يسع إلاّ أحدهما ، والأمر في المثال سهل ، والعمدة إنما هي في الفرق بين القسم الأوّل والثاني ، وقد عرفت وضوح الفرق بينهما باعتبار وحدة الزمان في الثاني وعدمه في الأوّل ، وهذا المقدار له أثر فيما هو قدس سره

ص: 288


1- [ لم يكن في الأصل ، وانما أضفناه لاستقامة العبارة ].

بصدده من الترتب ، فان الترتب في الأوّل يكون بنحو غيره في الثاني كما سيتعرض له قدس سره في بقية مسائل الترتب إن شاء اللّه تعالى ، فراجع ما سيأتي في ص 264 من القسم الثاني من أقسام الترتب (1) ، وهو منحصر في الطوليين مثل القيامين.

فما في الحاشية من عدم الفرق بين الوجهين مما لم يتضح وجهه ، كما أنه لم يتضح الوجه فيما في الحاشية المذكورة من أنه في صورة التضاد الدائمي إذا كان لهما ثالث يلزم تقييد كل منهما بعدم الآخر ، وأن نتيجة ذلك هو ثبوت حكمين كل منهما مشروط بعدم الاتيان بمتعلق الآخر إلخ (2) فان ذلك - أعني تقييد كل منهما بعدم الآخر - إنما يكون بحكم الشارع ، فلا يخرج عن كونه من باب التعارض ، غايته أن إصلاحه كان بالتقييد المذكور ، على أنه لا ينحصر الاصلاح بينهما بذلك ، بل يمكن أن يكون ذلك باسقاطهما معا أو باسقاط أحدهما المعيّن أو غير ذلك مما يلاحظه الشارع.

وبالجملة : أن ذلك ليس من قبيل الجمع الدلالي ، بل هو من قبيل التدافع في مقام الأمر والتشريع ، وعلى كل هو ليس من قبيل التزاحم المأموري ، فلا وجه لما يظهر من الحاشية من عدّه من التزاحم بقرينة قوله :

نعم إذا علم من الخارج كذب أحد الدليلين تحقق المعارضة إلخ ، وإن كان الذي يظهر من صدر العبارة أنه من قبيل التعارض. والحاصل أن التقييد المذكور لا يخرج المسألة عن كونها من التزاحم الآمري الذي هو راجع إلى

ص: 289


1- أجود التقريرات 2 : 102 [ هذا القسم ذكر في الطبعة القديمة بعنوان القسم الثاني ، وفي الطبعة المحشاة بعنوان القسم الأول ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 52.

باب التعارض (1) ، ولا يدخلها في التزاحم المأموري الذي هو باب التزاحم ، فتأمل.

وأما ما في الحاشية الثانية (2) من المناقشة في مسألة الاجتماع ، فهو إشكال على المبنى ، وأنه بناء على الاجتماع من الجهة الاولى وفرض وجود المندوحة هل يمكن التقرب بمورد الاجتماع فتصح الصلاة فلا تزاحم ، أو أنه لا يمكن التقرب فتدخل المسألة في باب التزاحم حينئذ ، ومختار شيخنا قدس سره هو الثاني ، والاشكال عليه في هذه الحاشية مبني على اختيار الوجه الأوّل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى التعرض لذلك في المسألة الأخيرة من مسائل الترتب (3) وفي مباحث الاجتماع (4).

قوله : الثالث : باب اجتماع الأمر والنهي على الامتناع ... إلخ (5).

ينبغي إبدال لفظ الامتناع بلفظ الجواز كما أصلحه في الطبعة الجديدة ، وهكذا الحال في الأمر الخامس فان التلازم بين الأمرين للعراقي مثال للدائمي لا للاتفاقي ، وقد أصلحه في الطبعة الجديدة فراجع. والأولى التمثيل لذلك بما لو اتفق أن الاستقبال في الصلاة [ كان ](6) ملازما لاستدبار المصحف وقلنا بحرمة استدباره.

قوله : وأما التزاحم من غير ناحية القدرة فكما إذا صار المكلف

ص: 290


1- [ في الأصل : التزاحم ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 53.
3- أجود التقريرات 2 : 114 - 115 ، راجع الحاشية في الصفحة : 452 من هذا المجلّد.
4- أجود التقريرات 2 : 180 - 181 ، راجع الجزء الرابع من هذا الكتاب ، صفحة : 89 وما بعدها.
5- أجود التقريرات 2 : 53 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
6- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

واجدا للنصاب الخامس من الابل ... إلخ (1).

كيفية المزاحمة في هذه المسألة هو أن يقال : إن لنا في البين حكمين ، أوّلهما أنّ من ملك خمسا وعشرين من الابل وحال الحول عليها وجب عليه خمس شياه. وثانيهما : هو أنّ من ملك ستا وعشرين من الابل وحال الحول عليها وجب عليه بنت مخاض ، فهذا الشخص لمّا ملك خمسا وعشرين وحال عليه الحول وجب عليه خمس شياه ، ثم إنه لمّا كان قد ملك في نصف السنة ناقة زائدة على تلك الخمس والعشرين إلى أن تم النصف الأوّل من السنة الثانية دخل في موضوع الحكم الثاني فوجب عليه بنت مخاض ، فالخمس والعشرون بالنسبة إلى النصف الثاني من السنة الاولى إلى كمال السنة الاولى تكون داخلة في موضوع الأوّل وهي أيضا داخلة في موضوع الثاني ، فمن هذه الجهة يجري عليها حكم الزكاة مرتين في عام واحد باعتبار أنها في هذه الستة أشهر الثانية من السنة الاولى داخلة في حكم السنة الاولى ، وداخلة أيضا في حكم السنة الثانية ، فلو بقينا نحن وهذان الحكمان لكان اللازم هو الأخذ بكل من الحكمين ، ودخول هذه الخمس والعشرين في زكاة السنة الاولى وفي زكاة السنة الثانية التي يكون مبدؤها من حين ملكه السادسة والعشرين ، لكن قام الدليل على أن المال الواحد لا يزكى في عام واحد مرتين (2) ، فلزمنا أن نرفع اليد عن أحدهما ، فلا يبعد أن يترجح الأخذ بالأوّل وإسقاط الثاني ، بمعنى جعل ابتداء حول الستة والعشرين من حين انتهاء السنة الاولى.

وفي المثال مناقشة ، وهي أنه بعد أن تم الحول الأول ووجب في

ص: 291


1- أجود التقريرات 2 : 53 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- مثل ما رواه في وسائل الشيعة 9 : 100 / أبواب من تجب عليه الزكاة ب 7 ح 1.

الخمس والعشرين خمس شياه ، لا يصدق عليه أنه مالك للست والعشرين من حين ملك السادسة إلى نصف الحول الثاني بل ينقص خمس شياه ، سواء كان قد أدى الخمس شياه على رأس الحول الأوّل أو لم يؤدها ، وحينئذ فالأولى هو المثال بما لو كان عنده ثلاثون من البقر وفي أثناء السنة ملك إحدى عشرة بقرة ، فراجع الجواهر (1) والعروة (2) وغيرهما.

وأما ما في الحاشية من أن هذا الدليل يوجب تقييد أحد الاطلاقين فيقع التعارض ... إلخ (3) فمما لم يتضح وجهه ، وكيف يمكن الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة مع فرض كون كل من الحكمين قطعيا كما هو المفروض ، لأن المفروض أن لزوم الزكاة لكل من النصابين لا شبهة فيه وإنما جاء الاشكال من ناحية أنه لا يمكن الجمع بينهما نظرا إلى أن المال لا يزكى في العام الواحد مرتين.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن هذه المسألة نظير ما لو قال ادفع لكل عالم دينارا ، وقال أيضا ادفع لكل هاشمي دينارا ، واتفق العنوانان في شخص واحد ، وقام الدليل القطعي على أنه لا يجب في الشخص الواحد إلاّ دينار واحد ، فهذا الدليل يوجب العلم بخروج ذلك الشخص عن أحد هذين العمومين ، فيكونان من قبيل ما طرأه التعارض. وما نحن فيه من هذا القبيل فان عموم من ملك حولا خمسا وعشرين عليه خمس شياه شامل لهذه الخمس والعشرين في تمام السنة الاولى ، وكذلك عموم من ملك ستا وعشرين عليه بنت مخاض شامل لها من حين ملكه السادسة والعشرين إلى

ص: 292


1- جواهر الكلام 15 : 104.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) : 4 : 48 / مسألة (13).
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 54 ( نقل بالمضمون ).

تمام الحول ، يعني إلى تمام نصف السنة الثانية ، وهذا الدليل - أعني لا يزكى المال الواحد في عام واحد مرتين - يوجب خروج هذه الخمس والعشرين عن عموم الأوّل بالنسبة إلى النصف الثاني من السنة الاولى ، أو أن الست والعشرين خارجة عن العموم الثاني بالنسبة إلى النصف المذكور ، أعني النصف الثاني من السنة الاولى ، هذا.

ولكن لا وجه حينئذ لترجيح التصرف الثاني على التصرف الأول كما هو ظاهر الاساطين ، فانه لا وجه له على الظاهر إلاّ دعوى تقدم الأوّل بحسب الزمان على الثاني ، وذلك كاشف عن كونه بحسب نظرهم من قبيل التزاحم ، ولعل هذا هو العمدة في نظر شيخنا قدس سره في جعل المسألة من قبيل التزاحم.

قال في الجواهر - بعد أن نقل القول المزبور عن جماعة من الأساطين واختاره هو قدس سره - ما هذا لفظه : لوجوب إخراج زكاة الأوّل عند تمام حوله لوجود المقتضي وهو اندراجه في الأدلة وانتفاء المانع ، ومتى وجب إخراج زكاته منفردا امتنع اعتباره منضما إلى غيره في ذلك الحول للأصل ، وقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا ثنى في صدقة » (1) ، وقول أبي جعفر عليه السلام (2) : « لا يزكى المال من وجهين في عام واحد » (3) ، ولظهور أدلّة النصاب المتأخر في غير المفروض ... إلخ (4).

وقد نقل الشيخ قدس سره في الزكاة من ملحقات كتاب الطهارة عن بعض

ص: 293


1- كنز العمال 6 / 332 / 15902.
2- [ في وسائل الشيعة وكذا في الكافي 3 : 520 / 6 عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، نعم في التهذيب 4 : 33 / 85 عن أبي جعفر عليه السلام ].
3- وسائل الشيعة 9 : 100 / أبواب من تجب عليه الزكاة ب 7 ح 1.
4- جواهر الكلام 15 : 105.

مشايخه المعاصرين له وهو صاحب المستند القول بالعمل بكلا الحكمين ، فانه قال في أوّل هذه المسألة ( وهي ما لو كان عنده ثلاثون (1) من البقر فملك في نصف السنة إحدى عشرة زائدة عليها ) ما هذا لفظه : وحينئذ فلا إشكال في وجوب تبيع إذا حال حول الثلاثين ، وإنما الاشكال في مبدأ حول الأربعين هل هو من حين الزيادة ، فيجب المسنة في المثال المفروض بعد مضي ستة أشهر من حول الثلاثين لحول حول الأربعين ، إذ يصدق عليها أنها أربعون حال عليها الحول ، أو هو من حين كمال حول الثلاثين ، لأن الثلاثين في حولها متعلقة لزكاة ذلك الحول ، فالتبيع المخرج منها متعلق بها ومشاع فيها ، فلا يتعلق بها الزكاة إلاّ بعد حلول حول عليها ، فلو تعلق بها شيء بعد ستة أشهر لزم تعلق الزكاة بها في سنة مرتين ، يردّه قوله عليه السلام - في رواية زكاة القرض على المقترض - إنه : « لا يزكى المال من وجهين في عام واحد » ، وصدق أنه حال الحول على أربعين مسلّم ، لكن حلول الحول ليس سببا لوجوب الزكاة إلاّ في ذلك الحول ، والمفروض أن في ذلك الحول تعلق الزكاة بالثلاثين ولو في النصف الأوّل من ذلك الحول ، فيلزم أن يكون أول نصف هذا الحول مؤثرا في تعلق زكاتين بالثلاثين ، زكاة في نفس الثلاثين وزكاة في ضمن الأربعين. ومن الغريب ذهاب بعض مشايخنا المعاصرين ( وهو صاحب المستند ) إلى هذا الاحتمال قال : ولا أرى له مبطلا ولا إجماع على خلافه وإن لم يصرح أحد باختياره (2) ، وأبطل ما اخترناه ( يعني إكمال الحول الأوّل ثم ابتداء حول الجميع ) بعموم ما دل على وجوب الزكاة بحلول الحول على النصاب ،

ص: 294


1- [ في الأصل : أربعون ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- مستند الشيعة 9 : 88 ( نقل بالمضمون ).

إلخ (1).

ثم قال الشيخ قدس سره أقول : أما العمومات فقد عرفت أنها تدل على وجوب الزكاة بحلول الحول على المال الذي لم يجر في حول آخر ، والمفروض أن النصاب الأوّل قد جرى في النصف الأوّل من حول الضميمة ، فلا يجري في حول الضميمة مرة أخرى فيكون ستة أشهر له محسوبا من حولين.

ثم بعد كلام طويل نقل عن العلاّمة (2) طريقة التوزيع ، ثم قال : ولا يخفى أن هذا مجرد اعتبار ، لأن أدلة حولان الحول على الأربعين لو شمل هذا فلا محيص عن وجوب المسنة ، وإلاّ فلا دليل على وجوب الربع ، والجمع بهذا الوجه بين ما دل على وجوب التبيع في رأس حول الثلاثين ووجوب المسنة في رأس حول الأربعين بعد تعارضهما بضميمة ما ثبت من عدم تعدد الزكاة في عام واحد لمال واحد ، حسن لو استفيد من أدلة الفريضة في النصاب كون حولان الحول على كل جزء من النصاب سببا لوجوب حقه من النصاب ولو لم يكن مثلها في مثله ، وهو بعيد عن مدلول اللفظ وان كان قريبا إلى الاعتبار ، بل الظاهر توقف الوجوب في كل جزء على مصاحبة الوجوب في غيره توقف معية لا توقف دور كما في الايضاح ، انتهى (3).

والغرض من نقل هذه الكلمات على طولها هو التأمل في مدرك قولهم يتقدم النصاب الأوّل ، وهل يكون مدركه بعد قيام الدليل على عدم

ص: 295


1- كتاب الزكاة : 171 - 172.
2- قواعد الأحكام 1 : 333.
3- كتاب الزكاة : 173 - 174.

تزكية المال مرتين إلاّ كون المسألة من باب التزاحم ، وأن المقدّم هو المقدّم الزماني كما يعطيه قول صاحب الجواهر قدس سره (1) من وجود المقتضي وعدم المانع ، وقول الشيخ قدس سره (2) لا إشكال في وجوب التزكية عند تمام الحول الأوّل ، فان ذلك ونحوه كاشف عن كون المسألة عندهم من باب التزاحم لا من باب التعارض ، لأنها لو كانت من هذا القبيل لكانت من قبيل تعارض العموم من وجه ، لدلالة الأوّل على وجوب خمس شياه على الخمس والعشرين سواء ملك السادسة والعشرين في أثناء الحول أو لا ، ودلالة الثاني على وجوب بنت مخاض في حول الستة والعشرين ، سواء كان قد ملك الجميع في ابتداء السنة أو كان قد ملك قبلها خمسا وعشرين ، فمقتضى القاعدة الجمع بينهما فيما نحن فيه بدفع خمس شياه عند انتهاء السنة ، ودفع بنت مخاض بعد ستة أشهر من انتهاء السنة ، وحيث قام الدليل على عدم التزكية مرتين أوجب ذلك التعارض بين هذين العمومين في المورد المذكور ، وحينئذ يكون اللازم هو إجراء أحكام تعارض العموم من وجه من الرجوع إلى التساقط عند انتفاء المرجح الدلالي ، فلا يكون تقدم الأوّل زمانا مرجحا.

نعم ، يمكن هنا سلوك طريقة اخرى وهي الطريقة التي ينبغي إجراؤها في الرواية الدالة إحداهما مثلا على وجوب الجمعة والاخرى على وجوب الظهر ، فان الدليل على أنه لا يجب صلاتان في يوم واحد يوجب تعارضهما ، وبعد التساقط لا يمكن القول بنفيهما للعلم بوجوب إحداهما ، وحينئذ يلزم الاحتياط بالاتيان بهما ، فكذلك نقول فيما نحن فيه إنه بعد

ص: 296


1- المتقدم في صفحة : 293.
2- المتقدم في صفحة : 295.

التعارض والتساقط يلزم الاحتياط بدفع كلا الزكاتين ، وهذا الاحتياط لا ينافي الدليل المذكور كما لا ينافيه الاحتياط في الجمع بين الصلاتين.

إلاّ أن يقال : إن العلم الاجمالي لا يوجب الاحتياط في التكاليف المالية كما قيل ، وحينئذ يكون المكلف مخيرا ، لكن يلزمه اختيار الأوّل لتقدمه زمانا. وفيه تأمل ، لأنه بناء على التعارض لا يكون محرزا لكونه مصداقا للأوّل فكيف يرجح بالتقدم الزماني.

والحاصل : أن الترجيح بالتقدم الزماني يكشف عن كونه مصداقا لكل من الحكمين واقعا وأنه لا بدّ من إسقاط أحدهما ، ويتعين الثاني للاسقاط لتأخره زمانا عن الأوّل ، وأن ذلك ليس من وادي الكشف والدلالة والتدافع في مقام الاثبات والحكاية ، بل إن نفس الحكمين لا تدافع بينهما ، وأن الدليل (1) الدال على عدم التزكية مرتين تكون نسبته إلى نفس الحكمين كنسبة اتفاق عدم القدرة على الجمع بين التكليفين.

ومن ذلك يظهر الفرق بين هذه المسألة ومسألة الظهر والجمعة فانه قدس سره جعل مسألة الظهر والجمعة من باب التعارض وجعل هذه المسألة من باب التزاحم ، مع أن الظاهر أنهما من واد واحد ، فراجع ما أفاده قدس سره في أوّل مباحث التعادل ص 263 وفي ثانيه (2) ص 264 ، وحاصل الفرق هو ما عرفت من أن مسألة الجمعة والظهر بعد النظر إلى الاجماع على عدم صلاتين في يوم واحد تكون من قبيل التزاحم الدائمي فتدخل في باب التعارض ، ومسألة الزكاة بعد فرض الدليل على أن المال الواحد لا يزكى

ص: 297


1- وهو ما تقدم ذكره في صفحة 293.
2- الأرقام مذكورة حسب الطبعة القديمة وراجع الطبعة الحديثة من فوائد الأصول 4 : 702 ، 707 ، وراجع أيضا أجود التقريرات 4 : 274 ، 278.

لعام واحد مرتين تكون من التدافع الاتفاقي.

والحاصل : أن كلا منهما لا يمكن المكلف الجمع بينهما بعد النظر إلى الدليل المذكور ، لكن عدم إمكان الجمع يكون في الاولى دائميا فتدخل في التعارض ، وفي الثانية يكون اتفاقيا فتدخل في التزاحم ، وليس شيء من البابين من باب العموم من وجه ، أما الظهر والجمعة فواضح ، بل هما من باب الفعلين اللذين لا يقدر المكلف على الجمع بينهما بعد ثبوت الاجماع المذكور. وأما مسألة الزكاة فأيضا كذلك ، بمعنى أن هذه الخمس والعشرين وإن دخلت في نصاب الخمس والعشرين ودخلت أيضا في نصاب الست والعشرين ، إلاّ أنها ليست في الثاني من قبيل المصداق بل هي جزء منه ، فلا تدخل في العموم من وجه ، بل تكون من قبيل أن المكلف لا يقدر أن يزكيها باعتبار كونها من الأوّل وباعتبار كونها جزءا من الثاني.

وإن شئت فقل : إن هذه المسألة نظير ما مرّ (1) من مثال العالم والهاشمي بعد قيام الدليل على أنه لا يدفع للشخص الواحد إلاّ مالا واحدا ، فانه حينئذ يكون الدليل القائل ادفع شاة للعالم مزاحما للدليل القائل ادفع دينارا للهاشمي ، لا أنه يكون معارضا له بحيث يكون من قبيل الدوران في خروجه عن أيّ العنوانين ، بل يكون من قبيل الدوران في العمل بأيّ الوجوبين ، فتأمل. وما تقدم من كونه من قبيل التعارض لا وجه له خصوصا فيما لو كان الواجب في أحدهما مباينا لما هو الواجب في الآخر.

ص: 298


1- في صفحة : 292.

[ مبحث الترتب ]

قوله : كدخول المسجد وقراءة القرآن ومع ذلك كان الطلبان بنحو الترتب ، بأن يكون طلب أحدهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ... إلخ (1).

لا شبهة في أنه لو كان الترتب من طرف واحد بأن قال له اقرأ وادخل المسجد إن لم تقرأ ، وأقدم المكلف على الاتيان بهما دفعة واحدة بأن دخل المسجد قارئا ، كان الثاني خارجا عن حيّز الأمر خطابا وملاكا إن كان الشرط المذكور - أعني عدم القراءة في وجوب الدخول إلى المسجد - دخيلا فيه خطابا وملاكا ، وإن لم يكن دخيلا فيه ملاكا وكان دخيلا فيه خطابا فقط كان الدخول حينئذ خارجا عن حيز الخطاب وإن كان واجدا للملاك في ذلك الحال أعني حال القراءة ، ولازم ذلك أنه لو كان الترتب من الطرفين كان كل منهما عند اقترانه بالآخر خارجا عن الأمر خطابا وملاكا أو خطابا فقط.

قوله : الثاني أن منشأ التزاحم الموجب لإيقاع المكلف في محذور عدم القدرة لا بدّ وأن يرتفع هو فقط ... إلخ (2).

لا يخفى أنه قد تقدم الكلام (3) على أن طروّ عدم القدرة على الجمع بين التكليفين يوجب حكومة المقدّم على غيره ، إما ملاكا وخطابا كما في المشروطات بالقدرة الشرعية ، أو خطابا فقط كما في المشروطات بالقدرة

ص: 299


1- أجود التقريرات 2 : 55.
2- أجود التقريرات 2 : 56 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في الحواشي المتقدمة في الصفحات : 207 و 208 و 247 و 256.

العقلية ، وأنه لو لم يكن في البين جهة توجب التقدم كان كل منهما حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه خطابا وملاكا في الأوّل وخطابا لا ملاكا في الثاني ، وأن نتيجة هذا التحاكم والترافع هو بقاء أحد التكليفين وارتفاع الآخر خطابا وملاكا في القسم الأوّل وخطابا فقط في القسم الثاني. وحينئذ ففيما نحن فيه ينبغي أن يقال بسقوط الخطاب بالمهم ، لا أن الخطاب يكون مشروطا بعدم الاتيان بالأهم.

ولكن التحقيق أن تلك الطريقة التي سلكناها فيما تقدم إنما تتم في خصوص المشروطات بالقدرة الشرعية ، حيث إن تقديم أحد التكليفين يكون رافعا لموضوع الآخر ، ففي صورة التساوي يتحقق التحاكم والترافع وفي صورة تقدم أحدهما لجهة توجب التقديم يكون المقدّم بنفس توجهه سالبا للقدرة على الآخر ، لأن نفس التكليف المقدّم يوجب كون المكلف غير قادر على امتثال الثاني في نظر الشارع ، وحيث إن الشارع قد قيّد الثاني بالقدرة كان نفس توجه الأوّل سالبا بنظر الشارع قدرة المكلف على الثاني ، لأنه بعد النظر إلى أنه قد كلّفه بالأوّل يكون ذلك المكلف غير قادر في نظر الشارع على امتثال التكليف الثاني.

وهذا بخلاف ما لو كان الثاني مشروطا بالقدرة العقلية ، فان الخطاب به حينئذ لا يسقط إلاّ إذا كان المكلف غير قادر بنظر العقل ، والعقل لا يحكم بكونه غير قادر بمجرد توجه التكليف الأوّل ، وإنما يحكم بكونه غير قادر بالنظر إلى امتثاله التكليف الأوّل ، بمعنى أن المكلف في ظرف امتثاله للتكليف الأوّل يكون بنظر العقل غير قادر على الثاني ، فالعقل حينئذ لا يحكم بسقوط الخطاب بالثاني إلاّ في ظرف امتثال الأوّل ، ولازم ذلك أن العقل لا يحكم على ذلك المكلف بأنه غير قادر على امتثال الثاني في ظرف

ص: 300

عدم امتثاله للتكليف الأوّل ، فلا يحكم بسقوط الخطاب عنه في ذلك الظرف ، وذلك هو معنى كون الخطاب بالثاني مشروطا بعدم امتثال التكليف [ الأول ](1) ، لأنه في ذلك الظرف أعني ظرف عدم امتثال الأوّل في نظر العقل قادر على امتثال التكليف الثاني ، فلا يكون العقل مانعا من خطابه به في ذلك الظرف وإن منع من خطابه به في ظرف امتثاله التكليف الأوّل ، لكونه في ذلك الظرف أعني ظرف امتثاله الأوّل غير قادر على امتثال التكليف الثاني ، ففي خصوص ذلك الظرف يحكم العقل بسقوط الخطاب بالثاني.

والحاصل : أن التكاليف التي أخذ الشارع القدرة شرطا فيها يكون التكليف المزاحم لها بنفس توجهه سالبا للقدرة عليها في نظر الشارع ، فيكون بنفس توجهه حاكما ورافعا لموضوعها الذي هو القدرة في نظر الشارع ، وهذا بخلاف التكاليف التي لم يحكم الشارع بأخذ القدرة فيها ، وإنما تكون القدرة فيها شرطا عقليا باعتبار قبح تكليف العاجز أو استحالته ، فان العقل لا يحكم بسقوط الخطاب فيها عن المكلف إلاّ في المورد الذي يراه العقل غير قادر ، والمفروض أن العقل لا يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف المزاحم ، وإنما يراه غير قادر بالنظر إلى ظرف اشتغاله بذلك المزاحم ، فالعقل لا يحكم بسقوط ذلك الخطاب عنه إلاّ في ذلك الظرف ، أعني ظرف امتثاله للتكليف المزاحم دون ظرف عدم امتثاله ، وحينئذ قهرا تكون النتيجة هي انحصار حكم العقل بسقوط الخطاب بخصوص ظرف امتثاله لذلك المزاحم ، أما في ظرف عدم امتثاله له فلا يراه العقل غير قادر ،

ص: 301


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

فلا يكون عند العقل ما يمنع من توجه الخطاب إليه في ذلك الظرف ، وذلك عبارة أخرى عن حكم العقل بكون ذلك الخطاب مشروطا بعدم امتثال ذلك التكليف المزاحم ، وأنه عند عدم الأهمية يكون الخطاب بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، لكون كل منهما مقدورا في نظر العقل عند عدم الاشتغال بمتعلق الآخر ، وإن لم يكن مقدورا في نظر الشرع ، لكون الشارع يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف الآخر إليه وإن لم يمتثله بعد.

إلاّ أنك قد عرفت أن ذلك إنما يؤثر فيما لو كان الشارع هو الذي أخذ القدرة في موضوع ذلك التكليف ، لأنه حينئذ يراه غير قادر بمجرد توجه التكليف الآخر إليه ، فيكون نفس توجه ذلك التكليف إليه سالبا لقدرته على الآخر في نظر الشارع ، فيكون بنفس توجهه حاكما على الآخر ورافعا لموضوعه خطابا وملاكا ، بخلاف ما لو لم يكن في البين إلاّ حكم العقل بقبح خطاب غير القادر ، فان ذلك التكليف لا يرتفع الخطاب به بمجرد توجه التكليف المزاحم ، لأن العقل حينئذ لا يراه غير قادر وإنما يراه غير قادر بالنظر إلى مشغوليته بامتثال ذلك التكليف ، فهو لا يسلب القدرة على الآخر بنظر العقل إلاّ بامتثاله ، فعند امتثاله له يحكم العقل بسقوط الخطاب بالآخر ، فيكون الخطاب بذلك الآخر مشروطا بنظر العقل بعدم الاتيان بمتعلق ذلك المزاحم.

لا يقال : بناء على هذا التحرير إنه لو كان مشغولا بمباح يكون الخطاب ساقطا عنه ، لأنه في ظرف اشتغاله بالمباح يكون غير قادر على الامتثال في نظر العقل. والحاصل : أن سالب القدرة إن كان هو نفس الخطاب بالأهم بنفس توجهه إلى المكلف على حذو ما تقدم في

ص: 302

المشروطات بالقدرة الشرعية ، كان مقتضاه سقوط الخطاب بالمهم لا تقييد خطابه بعدم الاتيان بالأهم ، وإن كان السالب للقدرة هو اشتغاله بالأهم كان اشتغاله كاشتغاله بالمباح ، فيكون اشتغاله بالمباح سالبا للقدرة ، فينبغي أن يقيد الأمر ولو خطابا بعدم اشتغاله بالمباح.

لأنا نقول : لا هذا ولا ذاك ، بل إن السالب للقدرة بنظر العقل هو اشتغاله بالأهم بما أنه امتثال للأمر بالأهم ، لأن عدم القدرة إنما جاء من قبل اقتضائهما الاجتماع ، وحينئذ لو توجه إليه الأمر بالمهم في مرتبة اشتغاله بامتثال الأمر بالأهم كان مقتضى اجتماع هذين الأمرين هو الجمع بين الفعلين ، وهو غير مقدور ، فالعقل حينئذ يحكم بانه في ظرف اشتغاله بامتثال الأمر بالأهم يكون خطابه بالمهم ساقطا ، أما على تقدير عدم اشتغاله بالأهم فلا يكون توجه الخطاب إليه بالمهم مستلزما للجمع بين الفعلين ، فلا يحكم العقل بسقوط الخطاب بالمهم في ذلك الحال ، وهو عبارة اخرى عن حكم العقل بتقييد الخطاب بالمهم بما إذا لم يكن المكلف مشتغلا بامتثال الأمر بالأهم ، ومنه يعلم الحال فيما لو تساويا في الأهمية فان العقل حينئذ يحكم بسقوط الخطاب في كل منهما عند الاشتغال بامتثال الآخر ، فيكون كل من الخطابين في نظر العقل مشروطا بعدم امتثال الآخر ، هذا.

ولكنه لا يخلو عن تأمل ، فانه عند انشغاله بالأهم يمكنه رفع اليد عنه والانشغال بالمهم ، وما المانع من ذلك إلاّ الأمر بالأهم ، وهو كما يكون مانعا في الأثناء يكون مانعا في الابتداء ، وحينئذ تكون النتيجة هي سقوط كلا الخطابين في صورة التساوي وسقوط خطاب المهم في مقابلة الأمر بالأهم.

ولنا أن نقول : إنه ليس في البين سقوط خطاب وإنما هو مجرد

ص: 303

حكم العقل بالمعذورية ، وذلك في صورة التساوي عند الاتيان بأحدهما وفي صورة الأهمية عند الاتيان بالأهم ، أما في صورة تركهما في الأوّل فلا يكون معذورا لا عن هذا ولا عن ذاك ، وكذلك في الثاني. نعم لو فعل المهم امتثله لكنه لا يكون معذورا في ترك الأهم ، وهذا هو محصل الترتب المعقول.

ثم إنه لو كان المنظور من كون امتثال الأهم سالبا للقدرة على المهم هو تمامية الامتثال ، كان الموجب لسلب القدرة هو انشغال الزمان بالأهم ، ولا فرق حينئذ بينه وبين الانشغال بالمباح أو مضي الزمان دون فعل من الأفعال. وفي الحقيقة لا يكون السالب للقدرة إلاّ الأمر بالأهم ، ولو لم يكن في البين أهم كان كل واحد منهما سالبا للقدرة عن الآخر ، فان كان في البين تقييد كان من هذه الناحية ، وعلى الأوّل أعني وجود الأهم بينهما يكون الأمر بالمهم مقيدا خطابا أو لا يكون مقيدا ، بل يكون ساقطا ، وكذلك الحال على الثاني من الطرفين.

وليس ذلك كله إلاّ عبائر اصطلاحية ، وإلاّ فليس في البين إلاّ حكم العقل بمعذرية المكلف في ترك أحدهما المعيّن أو غير المعيّن مع بقاء الأمر بحاله ملاكا وخطابا ، فلو فعل الأهم عذره العقل من ناحية المهم ، ولو ترك الأهم لم يعذره العقل من ناحية المهم كما لم يعذره من ناحية الأهم ، وحينئذ ففي هذا الحال أعني حال تركه الأهم لو فعل المهم كان قد فعله امتثالا لأمره ، لأن الأمر الشرعي كما عرفت لم ينخدش ملاكا وخطابا ، حيث إنه ليس في البين إلاّ مثل قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) وهذا

ص: 304


1- البقرة 2 : 43.

الفرد مطلوب منه إيجاد الصلاة باعتبار كونه من جملة المخاطبين ، لا أن له صلّ خاصة به من جانب الشارع ، وإنما هي قضايا انتزاعية ينتزعها العقل من القضايا الحقيقية ، ولا يكون محصل ذلك الانتزاع إلاّ ما عرفت من عدم المعذورية في المخالفة أو المعذورية ، من دون فرق في ذلك بين كون تلك الكبرى بلسان الطلب كما في مثل : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أو كونها بلسان الاخبار عن التكليف الذي هو الوجوب ، مثل أن يقول إن كل مكلف تجب الصلاة في حقه ، فان جعل الكبرى وإن انحل إلى صغريات إلاّ أن الحكم في كل من تلك الصغريات لم يكن مجعولا مستقلا ، بل ليس هو إلاّ عين الحكم الذي تضمنته الكبرى.

وعلى كل حال ، أن هذه التقييدات الشخصية الناشئة عن القدرة العقلية لا تلحق الحكم الذي تضمنته الكبرى ، بل ولا الحكم الانتزاعي في الصغرى ، وليست هي في الحقيقة تقييدات شرعية وهو واضح ، ولا عقلية إذ لا محصل للقيد الذي يحكم به العقل إلاّ حكم العقل بأنه لا بدّ للشارع أن يقيد الحكم به ، فيعود القيد شرعيا وان كان هو بحكم العقل ، ولا محصل لكون القيد قيدا عقليا صرفا في الحكم الشرعي إلاّ ما عرفت من مجرد المعذورية ، ويكون الحاصل فيما نحن فيه هو وجود الأمرين الأمر بالازالة والأمر بالصلاة ، غير أن المكلف لو فعل الأوّل كان معذورا من ترك امتثال الثاني ، ولو ترك الأوّل لم يكن معذورا في تركه بل ولا في تركه الثاني ، ومع ذلك يمكنه في ذلك الحال - أعني حال تركه الأوّل - الاتيان بالثاني امتثالا لأمره ، وهذه هي حقيقة الأمر الترتبي.

وإلى هنا ينتهي البرهان على صحته في الأحكام الكلية ، وأما في القضايا الخاصة مثل أن تقول لولدك أخرج إلى السوق فان عصيت فاشتغل

ص: 305

بالكتابة ، فذلك يحتاج إلى تقييد في خطاب المهم ، وإلاّ حصل التنافي الموجب لدخول المسألة في التعارض على ما عرفت في التضاد الدائمي.

وإن شئت فقل : إن هذه الجهة من البحث هي الحجر الأساسي في الترتب ، وتوضيح الحال في ذلك : هو أنه بعد الالتزام بأن نفس الأمر بالأهم لا يكون سالبا لقدرة المكلف على المهم ، وإنما يكون السالب لقدرته على المهم هو نفس امتثال الأهم ، فيرد عليه حينئذ أن الاتيان بالمباح بل بالحرام أو المستحب في ذلك الظرف ، بل عدم الاتيان بشيء من الأفعال في ذلك الظرف لو تعقلناه ، يكون سالبا لقدرته على المهم ، فيجاب عن ذلك بأن ذلك كله من باب سلب القدرة من نفسه باختياره ، وذلك لا ينافي كون فعل المهم مقدورا في حقه في حد نفسه ، فيقال حينئذ إن امتثال الأهم أيضا كذلك ، فانه باختياره قد أقدم عليه ، فيكون هو السالب لقدرة نفسه على المهم.

وأقصى ما في البين من الفرق أن العقل يعذره في هذه الصورة في سلبه قدرة نفسه على المهم بصرفها في الأهم ، بخلاف سلبه قدرة نفسه عليه في بقية الصور أعني فعله المباح ونحوه ، فان العقل لا يراه معذورا في ذلك ، وبالأخرة لا يكون الأمر بالمهم ساقطا عند الاتيان بالأهم ، ولا يكون منحصرا بصورة عدم الاتيان بالأهم ، بل يجتمع الأمران ، وأقصى ما في البين هو حكم العقل بمعذورية المكلف عند فعله الأهم وتركه المهم ، ولو ترك الأهم فالعقل مضافا إلى حكمه بعدم معذوريته في ترك الأهم يحكم عليه بالاتيان بالمهم ، لأن تركه في هذا الحال لا يكون معذورا فيه عند العقل ، بل العقل يلزمه في ذلك الحال - أعني حال تركه الأهم - بالاقدام على فعل المهم ، وإلى هنا يتم الترتب على هذه الطريقة.

ص: 306

بل يتم الترتب على طريقة شيخنا قدس سره من كون السالب للقدرة هو امتثال الأهم ، لأنه قد ثبت أن المكلف عند اشتغاله بامتثال الأهم لا يكون الخطاب بالمهم متوجها إليه ، لأنه حينئذ مسلوب القدرة عليه. نعم لو لم يمتثل الأهم توجه إليه الخطاب بالمهم ، لأنه حينئذ غير مسلوب القدرة عليه ، فيكون الحاصل أنه عند عصيانه الأهم يكن مأمورا بالمهم ، وهذا هو عين الترتب. نعم تتوجه عليه إشكالات يحتاج دفعها إلى بعض المقدمات.

وبالجملة : أن ما عدا المقدمة الاولى من المقدمات راجع إلى دفع الاشكالات الواردة ، لا أنها الحجر الأساسي في أصل الترتب ، بل يمكن أن يقال إنه قدس سره لا يحتاج إلى دعوى كون المحالية وهي طلب الجمع آتية من الاطلاقين ، وأنه لو قيدنا كلا منهما بعدم الاتيان بالآخر ارتفع المحذور المذكور ، كي يتوجه عليه ما تقدم في بعض المباحث (1) من أنه لا يخرج عن الجمع التبرعي ، ولعل المراد هو ما عرفت من أن انسلاب القدرة في كل منهما إنما هو عند الاتيان بالآخر ، ولازم ذلك هو انحصار الخطاب في كل منهما بما لو لم يأت بالآخر ، فتكون النتيجة أن كلا منهما مقيد بعدم الاتيان بالآخر ، وأن الأمر بالمهم مشروط بعدم الاتيان بالأهم ، وذاك ترتب من الطرفين وهذا من طرف واحد.

والخلاصة : هي أن الذي أتخيله هو أن هذه المقدمة هي الحجر الاساسي في الترتب ، فانه بعد البناء على أن التكاليف المشروطة بالقدرة عقلا يكون الاشتغال بامتثال أحدها موجبا لسلب القدرة عن الآخر ، يكون امتثال الأمر بالأهم موجبا لسلب القدرة عن المهم ، فيكون الخطاب بالمهم

ص: 307


1- في صفحة : 263.

ساقطا عند الاشتغال بالأهم ، ولازمه انحصار الخطاب بالمهم بصورة عدم امتثال الأمر بالأهم ، وهذا هو محصل الترتب ، أعني كون توجه الخطاب بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأمر بالأهم ، من دون حاجة إلى دعوى أن المحالية إنما جاءت من الاطلاقين وعند التقييد ترتفع المحالية ، وبناء على ذلك يكون الترتب على طبق القاعدة.

وأما باقي المقدمات فكلها إنما سيقت لدفع بعض الايرادات على الترتب المذكور ، ولكنك قد عرفت الاشكال في ذلك ، وأن الاشتغال بالأهم وإن كان سالبا للقدرة على المهم إلاّ أنه يشاركه في ذلك سائر الأفعال المباحة بل حتى المحرمة ، فلم يبق إلاّ دعوى كون الأمر بالأهم باعتبار اقتضائه الامتثال يكون سالبا للقدرة على المهم ، لكنك قد عرفت أنه إنما يسلبها شرعا لا تكوينا ، والمفروض أن القدرة التي هي شرط في الخطاب بالمهم إنما هي القدرة العقلية لا التشريعية ، والمفروض وجود تلك القدرة العقلية التكوينية ، غايته أنه باختياره صرفها في أداء الأهم أو في فعل المباح أو في فعل الحرام ، وكل ذلك لا يخرجه عن كونه في نفسه قادرا على المهم الذي هو شرط في صحة خطابه به ، فلم يبق لدينا إلاّ أنه مأمور بكل من الأهم والمهم ، لكون كل منهما مقدورا له في حد نفسه ، غايته أنه عند اشتغاله بالأهم يعذره العقل في مخالفة خطاب الأمر بالمهم ، أما عند عدم اشتغاله بالأهم فالعقل لا يعذره في مخالفة ذلك الخطاب ، هذا كله حسبما تقتضيه القواعد.

أما لو صرح الآمر بالأمر الشخصي بقوله : أزل النجاسة وإن لم تفعل فصل ، فلا ينبغي الاشكال في صحته وعدم انتهاء ذلك إلى الأمر بالجمع بين الضدين ، وكأن جميع هذه المقدمات مسوقة لمثل هذا الأمر الشخصي

ص: 308

وأنه لا مانع منه عقلا ولا شرعا ، وأن دفع كل ما يتوهم من الموانع راجع إلى مقدمة من المقدمات المذكورة ، فلاحظ.

ويمكننا الاختصار بأن نقول : إن نفس الخطاب بالأهم سالب للقدرة على المهم ، فيكون موجبا لسقوط الخطاب بالمهم ، ولكن العمدة هو أن الأمر بالأهم وإن كان مطلقا بالنسبة إلى إطاعة الأمر بالمهم وعصيانه ، ومقتضاه سقوط الأمر بالمهم في قبال الأمر بالأهم ، إلاّ أنّ الأمر بالأهم لا إطلاق له بالنسبة إلى عصيان نفسه لا إطلاقا لحاظيا ولا إطلاقا ذاتيا ، بل إن هذه المرحلة أعني مرحلة العصيان لا يتصور فيها الاجمال فضلا عن الاطلاق الذاتي أو الاطلاق اللحاظي ، ففي هذه المرحلة أعني مرحلة عصيان الأهم لا مانع من الخطاب بالمهم ، غايته أنه يكون مشروطا بعصيان الأهم وهو معنى الترتب. ومرحلة اطاعة [ الأهم ](1) وإن كانت كذلك فلا يكون الخطاب بالأهم في هذه المرحلة هو السالب للقدرة على المهم لعدم تحققه في مرحلة إطاعة [ نفسه ](2) إلاّ انّ الاطاعة بنفسها سالبة للقدرة على المهم ، لان العقل بعد أن يراه مشغولا بما يلزمه إطاعته وهو الأمر بالأهم يراه غير قادر على المهم في هذه [ المرحلة ](3) أعني مرحلة إطاعة الأهم ، فيحكم العقل حينئذ بسقوط الخطاب بالمهم في هذه المرحلة ، ويكون الحاصل هو حكم العقل ببقاء خطاب المهم في مرتبة عصيان الأهم ، وبسقوط خطاب المهم في مرتبة إطاعة الأهم ، وهذه الحكومة العقلية قابلة لأن يستكشف منها تقييد الشارع لخطابه بالمهم بعصيان الأهم ، غايته أنه تقييد في مرحلة الخطاب وسقوط خطابه بالمهم عند إطاعته الأهم ، وهو

ص: 309


1- [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].
2- [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].
3- [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].

مقصور على سقوط الخطاب دون الملاك ، ولو منعنا من الاستكشاف المذكور كان محصل الحكومة العقلية هو تقييد الخطاب الشرعي بقيد عقلي.

وإن شئت فقل : إن محصله هو معذورية المكلف عن المهم عند اشتغاله بالأهم ، وعدم معذوريته عنه عند عدم اشتغاله بالأهم ، وذلك هو محصل التقييد العقلي ، فان هذا التقييد كتقييد الأمر بالمهم بكونه مقدورا في كونه تقييدا عقليا ، حيث إن القدرة على المهم منحصرة بعصيان الأهم ، لأن سالب القدرة على المهم إنما هو الخطاب بالأهم ، وهذا الخطاب غير متحقق في هذه المرحلة أعني رتبة عصيان الأهم ، لما عرفت من عدم إطلاق الخطاب بالنسبة إلى مرتبة عصيان نفسه.

لا يقال : قد حقق في محله (1) الاشكال على الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية باختلاف الرتبة ، بأن اختلاف الرتبة لا يجوّز اجتماع النقيضين أو الضدين ، فالذي ينبغي هنا هو المنع من تجويز الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم استنادا إلى اختلاف الرتبة.

لأنا نقول : أوّلا : لا يخفى الفرق بين كون المعلق عليه هو الجهل بالحكم الأولي وكون المعلق عليه هو عصيان الحكم الأولي ، لما عرفت (2) من تحقق إطلاق الحكم بالنسبة إلى الجهل به ، غايته أنه إطلاق ذاتي لا لحاظي ، وهذا بخلاف العصيان فان الحكم الأولي لا إطلاق له بالنسبة إلى عصيانه لا إطلاقا لحاظيا ولا ذاتيا.

وثانيا وهو العمدة : أن الأهم والمهم وإن كانا ضدين إلاّ أن الأمر

ص: 310


1- في المجلّد السادس فانّ له قدس سره حاشيتين على الصفحة : 14 و 112 من فوائد الأصول.
2- في المجلّد السادس ، الحاشية على قوله في فوائد الأصول 3 : 12 فلا بدّ من جعل ...

بالأهم ليس بضد للأمر بالمهم ، نعم لا يجتمع الأمران لأن اجتماعهما يوجب طلب الجمع بين الضدين وهو محال لكونه غير مقدور ، وبعد فرض كون الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر بالأهم لا يكون اجتماعهما موجبا لطلب الجمع بين الضدين ، إذ لا مانع من أن يقول القائل اصبغ هذا الجسم بالبياض وإن لم تفعل فاصبغه بالسواد ، ولا يكون محصله هو طلب الجمع بين اللونين ، فتأمل.

وثالثا : أن ما ذكر من [ أن ](1) اختلاف الرتبة لا يسوّغ اجتماع النقيضين ، لعله منقوض بالعلة والمعلول ، فان المعلول معدوم في المرتبة السابقة على العلة وموجود في المرتبة المتأخرة عن العلة ، وهكذا الحال في العلة نفسها فانها معدومة في مرتبة المعلول موجودة في الرتبة السابقة على المعلول.

ويمكن الجواب عن هذا النقض : بأنه من قبيل الخلط بين الوجود الخارجي وبين التحقق بحسب الرتبة ، فان المنفي من المعلول قبل العلة هو تحققه رتبة لا وجوده الخارجي ، كما أن الثابت منه بعد العلة إنما هو تحققه لا وجوده الخارجي ، وإلاّ فان الوجود الخارجي من كل منهما مقارن في الزمان لوجود الآخر ، فلم يجتمع الوجود والعدم منهما في الزمان الواحد ، فتأمل وراجع ما حررناه في أوائل مباحث القطع (2).

وقد سلك بعض مشايخنا قدس سره في مقالته (3) مسلكا آخر بناه على

ص: 311


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- في المجلّد السادس ، الحاشية على قوله في فوائد الأصول 3 : 14 وإذا تعلق بحكم ...
3- فراجع مقالته المطبوعة قدس سره [ في مقالات الاصول 1 : 342 - 344 ] ولعل عبارتها غير واضحة ، وراجع ما حررناه عنه في الدرس ، فان حضورنا في درسه كان في أثناء هذه المسألة أعني مسألة الترتب ، وكان ذلك في 23 ج 1 / 1338 [ منه قدس سره ].

نقصان التكليف ، فان التكليف التام يكون متكفلا بطرد جميع أعدام متعلق ذلك التكليف ، وهذا لا يجتمع مع التكليف بالضد الآخر ، بخلاف ما لو كان التكليف ناقصا غير متعرض لسد باب العدم من ناحية وجود الضد الآخر فانه لا مانع من توجهه مع التكليف بالضد الآخر بالنحو المسطور ، وبعد توجه كلا التكليفين فالعقل يتصرف في كل منهما ويحكم بنقصان كل منهما عن الاقتضاء التام إن كانا متساويين ، وإلاّ حكم العقل بتمامية التكليف بالأهم ونقصان التكليف بالمهم ، وتمامية الأهم لا تدافع التكليف الناقص المتعلق بالمهم ، لأنها إنما تسد باب عدم الأهم ولو من ناحية الاتيان بالمهم ، فهي تطرد عدم الأهم الآتي من ناحية وجود المهم ، والتكليف الناقص المتعلق بالمهم لمّا لم يكن مقتضيا لحفظ المهم وسد عدمه من ناحية وجود الأهم لم يكن مقتضيا لطرد عدمه الآتي من ناحية وجود الأهم ، فلم يكن ذلك التكليف الناقص المتعلق بالمهم مدافعا للتكليف التام المتعلق بالأهم في اقتضائه سد باب عدم الأهم من ناحية وجود المهم ، فان ذلك الأمر بالمهم لا يقتضي فتح باب ذلك العدم كي يتدافعا فيه.

ويمكن التأمل فيه : بأنه لا معنى لنقصان نفس الطلب ، لما حقق في محله (1) بأنه مرتبة بسيطة غير قابلة للكمال والنقصان ولا للشدة والضعف. نعم يمكن تصوير ذلك النقصان من الطلب بالحاقه بالحكم بجواز الترك بالاشتغال بالضد الآخر ، نظير ما تصورنا الطلب الاستحبابي باقترانه بالحكم بجواز الترك ، وحينئذ يكون الحاصل في صورة التساوي أن كلا منهما مطلوب ، وأن العقل حاكم بجواز ترك كل منهما بالاشتغال بالآخر ، وفي

ص: 312


1- راجع أجود التقريرات 1 : 143 - 144 ، وراجع حاشية المصنّف قدس سره في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : 349 وما بعدها.

صورة الاختلاف يكون العقل حاكما ببقاء الأمر بالأهم بحاله ، ويكون حكم العقل بجواز الترك منحصرا بالتكليف بالمهم ، بمعنى أن العقل يحكم بأنه يجوز تركه بشرط اشتغاله بامتثال الأهم ، وهذا عبارة اخرى عما أفاده شيخنا قدس سره من كونه مشروطا بعدم امتثال الأمر بالأهم.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الحكم العقلي على الخطاب بجواز المخالفة عند امتثال الآخر لا يكون راجعا إلى اشتراط الخطاب بعدم ذلك الامتثال ، لأن اشتراط الخطاب بذلك موجب لعدم تحقق الخطاب عند امتثال الآخر ، وهذا بخلاف الحكم العقلي على ذلك الطلب ونقصانه وأنه تجوز مخالفته عند الاشتغال بامتثال الآخر ، فان ذلك المقدار من الطلب يكون ثابتا ومتحققا ولو عند الاشتغال بامتثال الآخر.

ولكن لا يخفى أنه لو سلّم جميع ذلك كان حاصله هو حكم العقل بالتخيير ، وأن نتيجة ذلك التخيير العقلي هو حكمه على كل من الخطابين بجواز المخالفة عند الاشتغال بالآخر ، وقد تقدم البحث عن ذلك وأن نتيجة الأمرين هل هي التخيير العقلي أو هي تقييد كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، فراجع وتأمل.

قال قدس سره في مقالته : فان قلت كيف لم يكن حينئذ المطاردة بينهما مع أن الطلب التام في الطرف الآخر يطرد الأمر الناقص بمقتضاه ، وإن لم يكن الأمر الناقص يطرد التام ، لأنّ مقتضاه حفظ الوجود من سائر الجهات غير ما يلازم وجود غيره.

قلت : بعد ما اعترفت أن مقتضى الطلب الناقص حفظ سائر الجهات في ظرف انسداد الباب الملازم لوجود الضد ، كيف يقتضي الطلب التام طرد هذا المقتضى ، إذ نتيجة طرده منع انسداد تلك الجهة ، وفي ظرفه

ص: 313

لا اقتضاء للطلب الناقص ، فأين المطاردة ولو من طرف واحد فضلا عن الطرفين (1).

(2) ( مع أن الطلب التام في الطرف الآخر ) الذي هو الأهم ( يطرد الأمر الناقص ) المتعلق بالمهم ، فان ذلك الطلب التام المتعلق بالأهم يكون ( بمقتضاه ) طاردا للطلب الناقص المتعلق بالمهم ، لأنّ الطلب بالأهم لكونه تاما يكون مقتضيا لحفظ وجود ذلك الأهم وسدّ أبواب عدمه حتى عدمه المقرون بوجود [ المهم ](3) ، فيكون الطلب بالأهم طاردا للطلب بالمهم لكونه مزيلا للمهم ( وإن لم يكن ) هو أعني ذلك ( الأمر الناقص ) المتعلق بالمهم له القابلية لأن ( يطرد ) الطلب ( التام ) وذلك ( لأن مقتضاه ) أعني مقتضى الطلب الناقص المتعلق بالمهم هو مجرد ( حفظ الوجود ) أعني وجود المهم ( من سائر الجهات ) الموجبة لعدمه ( غير ما ) هو من الأعدام ( يلازم وجود غيره ) أي غير المهم الذي هو الأهم.

والحاصل : أن الطلب الناقص المتعلق بالمهم وإن كان غير طارد للطلب التام المتعلق بالأهم لعدم تعرضه لجهة عدمه الآتية من ناحية وجود الأهم ، وإنما يتعرض ويطرد الأعدام الأخر الآتية من غير ناحية وجود الأهم ، إلاّ أن الطلب التام لكونه متعرضا لسد جميع أبواب عدمه حتى العدم الملازم أو المقارن لوجود المهم يكون من هذه الجهة طاردا للطلب بالمهم حتى في ظرف كون طلب المهم مقتضيا لوجود ذلك المهم ، وحينئذ تعود

ص: 314


1- مقالات الأصول 1 : 343.
2- [ لا يخفى أنّ ما يأتي مما جعل في قوسين هو نص عبارات كتاب مقالات الاصول قد شرحه المصنف قدس سره ].
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

المطاردة بين الطرفين.

( قلت : بعد ما اعترفت أن مقتضى الطلب الناقص ) مقصور على ( حفظ سائر الجهات في ظرف ) اتفاق ( انسداد ) باب عدمه من ناحية وجود ضده الأهم ، فكان ذلك الطلب الناقص غير متعرض لسد ذلك الباب من أبواب عدمه ، أعني به ( الباب الملازم لوجود الضد ) الأهم ، ومع هذا الاعتراف ( كيف ) تقول لا بد أن ( يقتضي الطلب التام ) المتعلق بالأهم ( طرد هذا ) المقدار من ( المقتضى ) للطلب الناقص المفروض أنه - أعني ما يقتضيه الطلب الناقص - منحصر بسد أبواب عدم المهم غير العدم المقارن أو الملازم لوجود الأهم ، فكيف يعقل أن يكون ما يقتضيه الطلب التام طاردا لما يقتضيه الطلب الناقص ، ( إذ ) لو قلنا بكونه طاردا له لكان ( نتيجة طرده ) له هي ( منع انسداد تلك الجهة ) من وجود المهم ، بمعنى أن إحدى جهات وجود المهم هي عدم الأهم ، فالطلب بالمهم لو كان تاما لكان سادا لهذه الجهة من وجوده أعني بها عدم الأهم ، لكنه لمّا كان ناقصا لم يكن مقتضيا لسد تلك الجهة ، وحينئذ فالطلب التام المتعلق بالأهم لو قلنا إنه طارد لذلك الطلب الناقص لكان أقصى ما في ذلك هو كونه طاردا ومانعا من انسداد تلك الجهة من وجود المهم ، والمفروض أن طلب المهم لا يسد تلك الجهة كي يكون منع طلب الأهم من انسدادها مدافعا لطلب المهم.

والحاصل : أن طلب الأهم وإن منع من انسداد عدمه الآتي من ناحية وجود المهم ، إلاّ أن طلب المهم لا يسدّ باب عدمه الآتي من ناحية وجود الأهم ، فهو لا يطرد عدم الأهم ولا يفتح باب العدم على وجود الأهم المفروض كون طلب الأهم سادا لها ، لأن طلب المهم لا يقتضي حفظ

ص: 315

وجوده من ناحية وجود الأهم ، بمعنى أنه لا يقتضي فتح باب عدم الأهم ، ( و ) إنما قلنا بذلك ، لأن وجود الأهم ( في ظرفه لا اقتضاء للطلب الناقص ) لأن اقتضاء الطلب الناقص إنما هو حفظ وجود المهم من غير ناحية وجود الأهم ، ففي ظرف وجود الأهم لا اقتضاء للطلب الناقص ، فكيف يكون ذلك الطلب التام المتعلق بالأهم طاردا لاقتضاء الطلب الناقص.

وإن شئت مزيد التوضيح لذلك فراجع ما حررناه (1) عنه في الدرس فانه ربما يكون أوضح من هذا الذي حررناه.

وعلى كل حال ، أنه قدس سره بعد أن التزم بنقصان الطلب بالمهم بالمعنى الذي شرحناه من كونه مقرونا بجواز تركه إلى فعل الأهم ، لا يكون بينه وبين الطلب التام المتعلق بالأهم تزاحم وتدافع ، لأن الطلب الناقص المتعلق بالمهم المفروض كونه مقرونا بجواز تركه إلى فعل الأهم يكون بالنسبة إلى فعل الأهم لا اقتضاء ، فلا يزاحم ما فيه الاقتضاء ، على حذو ما ذكرناه من عدم المزاحمة بين المضيق والموسع ، وحينئذ فلا داعي إلى سلوك هذه الطرق الملتوية.

قوله : غاية الأمر أن العقل يكشف عن خطاب تخييري شرعي لئلا يلزم تفويت الملاك ... الخ (2).

تقدم أن القائلين بسقوط كلا الخطابين إنما يقولون بالتخيير العقلي دون الشرعي ، فراجع ما نقلناه عن البدائع فيما تقدم (3).

ص: 316


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 2 : 56 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- في صفحة : 261 - 262.

قوله : فيكون التخيير عقليا لا شرعيا ، إذ يكون حينئذ كل من الخطابين مشروطا ومترتبا على عدم الاتيان بمتعلق الآخر ... الخ (1).

ظاهره أن التخيير العقلي راجع إلى تقييد كل من الخطابين بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، لكن قد عرفت (2) أن التخيير العقلي يمكن إرجاعه إلى النقصان في درجة الطلب بالنحو الذي حررناه من حكم العقل بجواز المخالفة عند الاشتغال بالآخر ، فيكون حال هذا التخيير العقلي كحال التخيير الشرعي الراجع إلى حكم الشارع بجواز ترك كل من المتعلقين عند الاتيان بمتعلق الآخر. لكن ذلك في التخييريات الشرعية محل تأمل ، إذ لازمه أنه لو أتى بهما معا في آن واحد كان كل واحد منهما واجبا بالوجوب التخييري المذكور ، كما أن لازم تقييد الطلب شرعا بعدم الآخر هو خروج كل منهما عن المطلوبية عند الاتيان بهما معا ، وحينئذ لا بدّ من إرجاع هذا الشرط إلى مرحلة المسقط ليكون الحاصل أنه في رتبة عدم كل منهما يكون كل منهما واجبا ، وأنه لو أتى بأحدهما سقط الآخر ، ولو أتى بهما معا دفعة واحدة كان كل منهما واجبا ، وتمام الكلام في محله من باب الواجب التخييري (3).

قوله : المقدمة الثانية قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أن شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع ... إلخ (4).

هذه المقدمة مسوقة لبيان أن وجوب المهم بعد أن فرضناه مشروطا

ص: 317


1- أجود التقريرات 2 : 56 - 57 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 312 وما بعدها.
3- لاحظ المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : 251 و 267 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 2 : 57.

بعدم الاتيان بالأهم ، وقد فرضنا تحقق ذلك العدم ، يكون ذلك الوجوب فعليا ، لكن فعليته لا توجب إطلاقه بحيث يكون ذلك الوجوب عند تحقق شرطه المذكور الذي هو عدم الأهم مطلقا من ناحية ذلك العدم ، ولا ينقلب عما هو عليه من كونه مشروطا بحيث يكون طاردا لعدم (1) ذلك الضد الذي هو الأهم ، كما هو مقتضى إطلاقه من ناحية وجود الأهم وعدمه ، وإلاّ لكان ذلك خلفا ، لما تقرر من كون ذلك الوجوب مشروطا بعدم الأهم ، وهذا الوجوب الذي وجد بوجود موضوعه وجوب شخصي غير قابل للاطلاق والتقييد ، إلاّ أنه فرد من ذلك الوجوب الكلي المشروط ، فيكون هو بنفسه مشروطا بذلك الشرط ، لكونه فردا من ذلك المشروط ، ويستحيل أن لا يكون مشروطا بذلك الشرط وإلاّ لم يكن فردا من ذلك المشروط ، بل كان فردا لوجوب كلي آخر غير مشروط بالشرط المذكور ، وهذا أمر واضح سواء قلنا بأن الشرط راجع إلى الموضوع أو قلنا بأنه لا يرجع إلى ذلك ، بدعوى أن شرط التكليف غير ما هو موضوعه ، فان هذه الدعوى وإن كانت غير صحيحة ، إلاّ أنا لو سلّمناها لم تكن مخلة بما نحن بصدده من أن الوجوب المشروط لا ينقلب بواسطة تحقق شرطه عما هو عليه من الاشتراط به إلى الاطلاق من ناحية ذلك الشرط ، فان ذلك الانقلاب موجب للخلف على كل حال من رجوع الشرط إلى الموضوع وعدم رجوعه إليه. نعم ربما كان ذلك الخلف والمحال على تقدير رجوع الشرط إلى الموضوع أوضح منه على تقدير عدم رجوعه إليه.

ومنه يعرف الحال لو قلنا بأنّ الشرط من مقولة دواعي جعل الحكم ،

ص: 318


1- [ هكذا في الأصل ، فليتأمل ].

فانا لو قلنا بتلك المقالة الفاسدة وجعلنا الشرط من دواعي جعل الحكم عند تحققه بحيث يكون مرجع قوله « حج إن استطعت » إلى الاخبار بأنّ الشارع يجعل وجوب الحج عند ما تتحقق الاستطاعة ، لم يكن ذلك الوجوب الذي يجعله الشارع فيما بعد الاستطاعة مطلقا من ناحيتها ، على وجه يكون ذلك الوجوب الذي يجعله الشارع فيما بعد الاستطاعة شاملا لوجود الاستطاعة وعدمها ، فان ذلك أيضا موجب للخلف ، إذ لو أخرجنا ذلك الحكم عن كونه من قبيل القضايا الحقيقية وجعلناه من قبيل القضية الخارجية ، لم يكن هو إلاّ في ظرف الاستطاعة ، فكون الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة لا يكون إلاّ من قبيل الخلف لما هو المفروض من كونه مجعولا على ذلك المكلف بعد فرض تحقق استطاعته.

والحاصل : أنا لو قلنا بكون الاستطاعة من دواعي جعل الحكم على المكلف ، فان كان ذلك الجعل أعني جعل وجوب الحج حاصلا الآن كان محصله أنه يجب عليه الحج الآن قبل تحقق الاستطاعة ، وهو خلف لما هو المفروض من أن الوجوب إنما يكون بعد الاستطاعة ، وحينئذ ينحصر الأمر بأن نقول : إن الجعل إنما يكون بعد الاستطاعة ، فلا يكون إلاّ من قبيل الاخبار الآن بأنه يجعل الوجوب بعد الاستطاعة ، فلو قلنا إن ذلك الوجوب الذي يجعله فيما بعد الاستطاعة مطلق من ناحية الاستطاعة كان لازمه وجود الوجوب سواء كانت الاستطاعة معدومة أو كانت موجودة ، وهو خلف لما أخبر به من أنه إنما يجعل الوجوب بعد الاستطاعة ، حتى أنا لو قلنا بأنه من قبيل الواجب المعلق لم يخرج ذلك عن الخلف ، لأن مع فرض كون الاستطاعة المتأخرة داعيا في جعل الوجوب الآن لا يكون ذلك الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة ، بحيث إنه يكون شاملا لما إذا لم تتحقق

ص: 319

الاستطاعة فيما بعد.

وهكذا الحال فيما لو قلنا بأن سببية الاستطاعة لذلك الوجوب سببية تكوينية ، وأن الاستطاعة علة تكوينية لوجوب الحج ، فانه أيضا لا يعقل أن يكون ذلك الوجوب المعلول تكوينا للاستطاعة مطلقا من ناحية الاستطاعة.

وبالجملة : أن هذه الدعاوي - أعني دعوى عدم رجوع الشرط إلى الموضوع ، أو دعوى كون « مثل حج إن استطعت » من قبيل الإخبار عن أنه يوجب عليه الحج بعد تحقق الاستطاعة ، أو دعوى كون الاستطاعة علة تكوينية لوجوب الحج - وإن كانت كلها دعاوي فاسدة ، إلاّ أنا لو التزمنا بأحدها لم يكن شيء منها مصححا لكون ذلك الوجوب مطلقا من ناحية الاستطاعة ، على وجه يكون الحج واجبا على ذلك المكلف سواء تحققت له الاستطاعة أو لم تتحقق له. نعم إن عدم الانقلاب بناء على ما أفاده شيخنا من كونه من القضايا الحقيقية ورجوع الشرط إلى الموضوع أوضح منه بناء على إحدى هذه الدعاوي الفاسدة.

قوله : ولا يبعد أن يكون ذلك من جهة خلط موضوع الحكم بداعي الجعل وعلّة التشريع ، بتوهّم أنّ الشرط خارج عن الموضوع وهو من قبيل الداعي لجعل الحكم على موضوعه ... الخ (1).

لا يخفى أنّا لو سلّمنا عدم رجوع الشرط إلى موضوع الحكم فلا يلزمنا الالتزام بكونه من قبيل داعي الجعل ، بل لنا أن نقول إنّه خارج عن باب الدواعي أيضا ، بأن نقول إنّه - أعني باب الشرط - باب مستقل خارج عن باب الدواعي كما هو خارج عن باب الموضوع.

ص: 320


1- أجود التقريرات 2 : 58 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

قوله : وقد بيّنا في ذلك المبحث أنّ هذا إنّما يتم بناء على أن يكون الأحكام المجعولة في الشريعة من قبيل الإخبار عن إنشاءات عديدة لكل مكلّف عند تحقّق شرطه ... إلخ (1).

بيان ذلك : أنّه بعد البناء على أنّ شرط التكليف من قبيل الداعي لجعل الحكم يكون ذلك الشرط بوجوده العلمي مؤثرا في الجعل ، فيكون له المدخلية في الجعل لا في المجعول ، وإذا كان له المدخلية في الجعل كان محصّل قوله « حجّ إن استطعت » أنّك إن استطعت أجعل عليك وجوب الحج ، فقبل تحقّق الاستطاعة لا جعل ولا مجعول ، وإنّما يكون الجعل عند الاستطاعة ، ويكون حاصل قوله « حج إن استطعت » هو الإخبار عن أنّه يجعل عليه وجوب الحج بعد تحقّق الاستطاعة ، وهذا هو أحد اللوازم الباطلة المترتبة على كون الشرط من قبيل داعي جعل الحكم ليكون علّة مؤثّرة في ذلك الجعل.

وهناك لازم باطل آخر ، وهو كون مدخلية ذلك الشرط في الجعل وتأثيره فيه مدخلية واقعية لم تكن بجعل من الشارع لا ابتداء ولا انتزاعا ، بحيث إنّ ذلك الشرط يكون علّة في جعل الشارع الوجوب وفي تشريعه ذلك الوجوب ، ومن الواضح أنّ ما هو علّة في أصل تشريع الحكم وجعله لا يعقل أن يكون بجعل وتشريع من قبل الشارع ، بل لا بدّ أن تكون مدخليته في جعل ذلك الحكم وتشريعه مدخلية واقعية ، فيكون علّة تكوينية لذلك الجعل والتشريع ، غايته أنّها تكون علّة بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، لكونها على الفرض من قبيل الدواعي.

ص: 321


1- أجود التقريرات 2 : 58 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ولأجل هذا التخيّل افيد ما افيد في الكفاية من تصحيح الشرط المتأخّر ، ومن كون السببية خارجة عن حيّز الجعل الشرعي لا استقلالا ولا تبعا ، وأنّها إنّما تكون مجعولة تكوينا عرضا بعين جعل موضوعها تكوينا ، فراجع ما أفاده في الكفاية في باب الشرط المتأخّر (1) وفي باب الأحكام الوضعية في مباحث الاستصحاب (2) فانّ ذلك كلّه مبني على أساس أنّ الشرط شرط للجعل لا للمجعول ، وأنّه من قبيل الداعي ، وأنّ مدخليته في الجعل باعتبار وجوده العلمي ، لكونه من دواعي الجعل والتشريع لا من حدود المجعول وقيوده.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ من جملة ما يلزم القول بأنّ الشرط من مقولة دواعي الجعل والتشريع هو ما عرفت من كون مدخليته في ذلك التشريع والجعل مدخلية تكوينية لا شرعية ، فلازمه كون الشرطية والسببية سببية تكوينية ، فهي حينئذ خارجة عن حيّز الجعل والتشريع أصلا ، وذلك خروج عن كلا القولين في السببية من كون المجعول ابتداء هو نفس السببية أو أنّ المجعول هو المسبّب عند وجود السبب ، وأنّ السببية منتزعة من جعل المسبب عند وجود السبب.

نعم ، قد أورد شيخنا قدس سره في محلّه على القول بأنّ المجعول ابتداء هو السببية أنّ لازمه أن لا جعل للشارع إلاّ جعل الدلوك مثلا سببا لوجوب الصلاة ، فبعد هذا الجعل ينوجد الوجوب تكوينا عند وجود الدلوك ، فلا يكون الوجوب المذكور مستندا إلى الشارع ، بل يكون الشارع بجعله السببية قد أعطى سلطة التشريع للدلوك ، وجعله موجبا لفيض الوجوب ورشحه

ص: 322


1- كفاية الأصول : 93.
2- كفاية الأصول : 400 - 401.

على حدّ سائر العلل التكوينية ، غايته أنّ هذه السلطة والعلّية للدلوك كانت بجعل الشارع ، لا أنّ الشارع هو الذي يجعل الوجوب عند وجود الدلوك ، إذ بعد فرض جعله الدلوك علّة لوجوب الصلاة يكون جعله الوجوب المذكور عند الدلوك لغوا صرفا ، وحيث إنّ الضرورة قائمة على الثاني - أعني كون الوجوب مجعولا شرعيا - كان ذلك ملازما بالضرورة لأنّ الشارع لم يجعل السببية والعلّية للدلوك ، بل إنّما جعل الوجوب على تقدير الدلوك.

وبالجملة : أنّ أحد هذين الجعلين موجب للغوية الجعل الآخر ، وتمام الكلام في هذه الجهة من الإشكال في محلّه (1) إن شاء اللّه تعالى.

وإنّما حررنا هذا الإشكال هنا ليتضح لك أنّ ما تقدّم من الإشكال على كون الشرط من الدواعي بأنّ لازمه ما التزم به في الكفاية من كون مدخليته في الجعل تكوينية ، هو إشكال آخر غير هذا الإشكال الذي وجّهه قدس سره على القول بأنّ المجعول الشرعي ابتداء هو نفس السببية.

قوله : وتوهّم لزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زمانا ببيان أنّ وجوب الإمساك مثلا إن لم يكن متقدّما على الإمساك في أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن يكون المكلف ... الخ (2).

ما أشبه الالتزام بتقدير الوجوب قبل الفعل والشرط آناً ما بتقدير الملكية قبل التلف آناً ما في موارد كثيرة التزم بها شيخنا قدس سره وغيره ، مثل التلف قبل القبض (3) ، والتلف في زمان الخيار ثم فسخ ذو الخيار (4) وغير

ص: 323


1- فوائد الأصول 4 : 393 وما بعدها ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره في المجلّد التاسع.
2- أجود التقريرات 2 : 60 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
3- راجع منية الطالب 3 : 357 و 338.
4- راجع منية الطالب 3 : 357 و 338.

ذلك. وقد حررنا رسالة في إبطال تقدير الملكية في أغلب تلك الموارد.

ثم إنّ القائل بهذا التقدير حسبما حررته عنه قدس سره هو المحقّق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس سرهما ، ولم أتوفق للعثور في كلامهما على أنّ الداعي لهما في الالتزام بهذا التقدير هو هذه الجهة التي أفادها قدس سره في توجيه التقدير المذكور ، وهي أنّه لو لا التقدير لزم تحصيل الحاصل أو المحال ، بل إنّ الظاهر من كلامهما هو تصحيح الترتّب بنحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلّق ، قال في الحاشية بعد أن ذكر نظير ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّ تقييد أحد الإطلاقين أو كليهما يرفع غائلة نتيجة الإطلاقين من تعلّق الأمر بالجمع بينهما ، ما هذا لفظه :

فان قلت : لو كانت المقدمة المفروضة ( يعني ترك الأهم ) متقدمة على الفعل المفروض تم ما ذكر ، لتعلق الوجوب به بعد تحقّق شرطه فيصح تلبّسه به ، وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل كما هو المفروض في المقام فلا يتم ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره عن المكلّف ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتم ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود وعدم جواز توقف الشيء على الشرط المتأخر ، بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط ، وأمّا إذا قيل بجواز ذلك كما هو الحال في الإجازة المتأخرة الكاشفة عن صحة عقد الفضولي وتوقّف صحة الأجزاء المتقدمة من الصلاة على الأجزاء المتأخرة

ص: 324

منها ، فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق الوجوب به ، وصحّ منه الإتيان بالفعل.

فان قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتى يصح الحكم بصحة الفعل المفروض ، مع أنّ مقتضى الأصل الأولي انتفاء الصحة.

قلت : إنّ ذلك أيضا قضية إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهم ، وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به بحسب الواقع فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهم ، فإذا علم المكلف ذلك بحسب حاله لم يكن هناك مانع من اشتغاله بغير الأهم ، ولا من تكليفه بالإتيان به ، ولا قاضي إذن بالالتزام بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه (1).

وقال في البدائع : فان قلت : الواجب المشروط لا يجب قبل الشرط ، فإذا كان ترك أحدهما شرطا لوجوب الآخر فكيف يتصف بالوجوب مقارنا للترك قبل تحققه. قلت : الشرط هو تقدير الترك لا نفس الترك ، وهو الفارق بين الواجب المشروط وبين ما نحن فيه ، فانّ الوجوب إن كان مشروطا بوجود شيء فهذا هو الواجب المشروط الذي يتوقّف وجوبه على وجود الشرط ، ولا يتصف بالوجوب قبله ولو مقارنا. أمّا لو كان مشروطا بتقديره لا بتحققه ووجوده فهذا يتصف بالوجوب قبل وجوده ، لأنّ الشرط هو تقدير الوجود لا نفسه ، والتقدير محقّق قبل وجوده ، فلا مانع من تحقق الوجوب قبل تحققه. وهذا يسميه بعض بالواجب المعلّق ، قسيم الواجب

ص: 325


1- هداية المسترشدين 2 : 273.

المشروط والمطلق ، وبعض بالواجب المترتب نظرا إلى ترتّب الوجوب على تقدير عدم الآخر ، وبعضهم يسميه بالواجب المشروط بالشرط المتأخر ، والكل واحد. والمراد تصحيح الأمر بالضدين بوجه من الوجوه في آن واحد مع كون أحدهما مضيقا أو أهم ، وبعد صحة الوجه تسمّيه ما شئت (1).

وأنت بعد تأملك في كلماتهما قدس سرهما تعرف أنّ جلّ نظرهما إنّما هو تصحيح الترتب من ناحية الشرط المتأخر ، وأنّ جلّ نظرهما إنّما هو إلى الصلاة المقارنة زمانا لعدم الإتيان بالإزالة الذي هو شرط في وجوبها وأنّهما أخذا الشرط هو تمام العدم في تمام الوقت ، فلا بدّ أن يكون التكليف المشروط به المتعلق بالصلاة متأخرا عن ذلك العدم ، فيقع الإشكال حينئذ في صحة الصلاة قبل أوان وجوبها.

ولأجل هذه الشبهة جعلا وجوبها مشروطا بالعدم المذكور من باب الشرط المتأخر ، ليكون وجوبها متحقّقا في أوّل الوقت وإن كان شرطه متأخرا. نعم يلزم منه اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم ، لإطلاق الأوّل وحصول شرط الثاني وهو العصيان المتأخر ، فلا بدّ من الجواب عنه بأنّ الأوّل لمّا كان هادما لموضوع الثاني لم يكن اجتماعهما محالا ، سواء أخذنا العصيان الخارجي المتأخر بنفسه شرطا بناء على صحة الشرط المتأخر ، أو أخذنا الشرط هو العنوان المنتزع من تأخره بناء على بطلان الشرط المتأخر.

ولا يخفى أنّ إشكال الاجتماع لا يختص بمسلكهما ، بل يتأتّى على مسلك شيخنا قدس سره من أنّ الشرط هو العصيان المستمر في الخطاب

ص: 326


1- بدائع الأفكار : 390.

المستمر ، القاضي بالفعل المستمر أعني الصلاة ، فانّه أيضا يلزمه اجتماع الأمرين. ويجاب عنه بأنّه لمّا كان الأوّل هادما لموضوع الثاني لم يكن اجتماعهما محالا ، وهو الذي تتكفّله المقدمة الرابعة بمعونة ما تقدم في المقدمة الثانية من أنّ الوجوب المشروط لا ينقلب بوجود شرطه عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا.

نعم ، في الكفاية في مسألة تصحيح الواجب المعلّق بعد أن بيّن أنّه لا مانع من كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا قال ما هذا لفظه : مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلاّ بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به ، بأن يتصوّره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (1).

قلت : بل قد يقال : إنّ نفس الطلب مثل قولك « قم » لا يكون المنظور فيه إلاّ القيام المتأخر عن نفس هذا الطلب ولو في ثاني زمانه ، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون المراد من القيام في قوله « قم » هو القيام المقارن في الزمان لهذا الطلب ، بل لا بدّ أن يكون متأخرا عنه ولو في الآن الثاني منه وبعد البناء على ذلك نقول فيما نحن فيه إنّه لا يمكننا القول بأنه قد اجتمع الشرط والطلب والمطلوب في آن واحد ، كما أنّه لا يمكننا القول بأنّ هذا المطلوب وهو الصيام متأخر عن أول الفجر بمقدار تحقّق الطلب ليكون

ص: 327


1- كفاية الأصول : 103.

واقعا في ثاني زمان الطلب ، لأنّ لازم ذلك أن يكون الصيام في ذلك الآن - أعني آن الطلب - غير داخل تحت ذلك الطلب ، وهو آن نهاري قامت الضرورة على دخوله تحت الطلب. فلا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بالتقدير المذكور ، بأن نلتزم بتحقّق الطلب قبل الفجر إصلاحا للمسألة ، ليكون ذلك الآن - أعني الآن المقارن لطلوع الفجر - داخلا تحت الطلب ، كما أنّه يكون متأخرا عنه وواقعا في الآن الثاني منه ، وبذلك نحتفظ بما قامت به الضرورة من كون الإمساك في أوّل الفجر داخلا تحت الطلب ، وبما قدّمناه من القاعدة العقلية وهي استحالة كون نفس المطلوب مقارنا لزمان الطلب.

ولا يخفى أنّ تقريب المسألة بهذا الوجه لا ينفع في رده كونه مستلزما للشرط المتأخر أو للواجب المعلّق ، لأنّ صاحب هذه المقالة ملتزم بصحة كل منهما ، بل هو إنّما التزم بلزوم تأخر الفعل الواجب عن الطلب إصلاحا للواجب المعلّق ، كما أنّه لا ينفع في رده النقض بالواجب الموسّع ، لأنّه لا بدّ من الالتزام به لمن التزم بأنّه لا بدّ في كل باب التكاليف من تأخر الفعل الواجب عن الطلب المتعلق به ، بل نحن القائلون ببطلان كل من الشرط المتأخر والواجب المعلّق يلزمنا بعد تمامية ما تقدم من استحالة مقارنة الفعل المطلوب لزمان الطلب وأنّه لا بدّ من تقدير الطلب ، أن نلتزم بذلك ونجعله من قبيل شرطية التعقب. كما أنّه لا ينفع في رده الاستناد إلى العلم بالتكليف في محركية المكلّف إلى فعل المكلّف به في الزمان المقارن لتعلّق ذلك التكليف ، لأنّ هذا المانع من المقارنة في الزمان بين نفس التكليف ونفس الفعل المكلّف به هو مانع واقعي ، لا دخل له بأنّ المكلف كيف يتحرك إلى المكلّف به ، كي يندفع بأنّ المحرك له هو العلم. كما أنّه

ص: 328

لا يدفعه كون الفعل واقعا بتحريك التكليف لكونه بمنزلة علته ، فانّا بعد أن قلنا بأنّ التكليف لا يعقل أن يتناول الفعل المقارن له بحسب الزمان كيف يمكننا أن نقول إنّ ذلك الفعل الواقع في زمان توجه التكليف كان واقعا بداعي ذلك التكليف ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنما يتم لو قلنا بأنّ التكليف زماني يحتاج إلى مقدار من الزمان ، فانّه بناء على ذلك لا يمكننا القول بكون الفعل الواقع في ذلك الزمان داخلا تحت ذلك التكليف إلاّ بزحلقة ذلك التكليف إلى ما قبل الفجر آناً ما. وهذه الدعوى - أعني كون التكليف الذي هو البعث والخطاب يحتاج إلى مقدار من الزمان - هي إحدى موارد الخلط بين القضايا الحقيقية والقضية الخارجية ، فيتخيل المتخيل أنّه عند طلوع الفجر يتوجه الطلب والأمر بالصوم ، بمعنى أن يكون الزمان المذكور شرطا في الجعل ، وقبله لا جعل أصلا ولا تشريع ، وإنما يكون الجعل والتشريع عند طلوع الفجر ، ولا ريب أنّ الجعل والتشريع فعل من أفعال الشارع الآمر ، وهو محتاج إلى زمان يقع فيه ذلك الجعل والتشريع.

وإن شئت فقل : إنّ الطلب فعل من أفعال الطالب ، يحتاج إلى زمان يقع فيه ، فلو كان وقوع الطلب في أوّل الفجر لكان محتاجا إلى آن ما يقع فيه ذلك الطلب ، وقهرا يكون نفس المطلوب الذي هو فعل الصوم متاخرا في الزمان عن زمان الطلب ولو في ثاني زمان الطلب ، فلا بدّ حينئذ من مضي آن ما بعد الفجر ليكون ذلك الآن آن الطلب ، ويكون المطلوب واقعا في الآن الثاني ، وحيث إنّ ذلك مخالف لما قامت عليه الضرورة نصا وفتوى من أنّ مبدأ الصوم من أوّل الفجر ، كنّا مجبورين على زحلقة الطلب إلى ما

ص: 329

قبل الفجر آناً ما وتقدير وقوعه قبله لنتخلّص من هذا المأزق. فهذا التقدير نظير تقدير الملكية قبل التلف في الموارد التي التزموا فيها بالملكية التقديرية تصحيحا للقواعد المسلّمة.

وهذه الجهة من الإشكال إنّما تتجه على ذلك المبنى الفاسد ، أعني كون القضية من قبيل القضية الخارجية وأنّ الشرط في مثل ذلك من قبيل شرط الجعل ، وأنت بعد أن اتضح عندك فساد هذا المبنى ، وأنّ قضايا الأحكام كلّها من قبيل القضايا الحقيقية ، وأنّ هذه الشروط كلّها شروط للمجعول ولا دخل لها بعالم الجعل والتشريع ، تعرف أنّه عند الفجر وإن صار وجوب الصوم فعليا إلاّ أنّ صيرورته فعليا لا تحتاج إلى آن من الزمان بل يكفي في تحقّق فعليته تحقّق ما هو شرطه الذي هو بمنزلة موضوعه ويكون تحقّق الفجر عين تحقّق لازمه الشرعي الذي هو الوجوب. ففعلية الوجوب المفروض أنّه مجعول على تقدير تحقّق الفجر لا تحتاج إلى مضي زمان ما بعد تحقق الفجر. نعم إنّ الفعل المقارن بالزمان لنفس الجعل والتشريع لا يكون داخلا في حيّز الطلب ، لكن قد عرفت أنّ زمان جعل الوجوب على تقدير الفجر وتشريعه هو سابق على طلوع الفجر ، بل هو بمعنى آخر مجرد عن الزمان حتى فيما مضى.

ولا يخفى أنّ هذا الذي حررناه مقتبس ممّا أفاده قدس سره في تحريراتي ، قال في بعض تلك الفوائد والاستدراكات على ما تقدم ما هذا لفظه الذي حررته عنه قدس سره : إنّا عند ما تكلّمنا على ما التزموا به من التقدير في المضيقات ذكرنا أنّ حجّتهم عليه هي استحالة الانبعاث عن البعث المقارن ، لأنّه مؤد إلى تحصيل الحاصل أو التكليف بالمحال ، وقد عرفت شرح هذه

ص: 330

الحجة وما يرد عليها.

وهناك حجّة اخرى على ما ذكروا من التقدير فاتنا التنبيه عليها والجواب عنها في ذلك المقام ، وهي أنّ الانبعاث عن البعث يحتاج إلى العلم به ، وانبعاث الإرادة عن ذلك العلم بتصوّره وتصور ما يترتب على فعله وتركه من الثواب والعقاب ، وذلك محتاج إلى مقدار من الزمان يتخلل بين البعث والامتثال ، فلو كان البعث مقارنا لزمان الامتثال كما في المضيقات لم يكن لنا محيص عن الالتزام بتقدير البعث قبل زمان الامتثال بمقدار ما يتوقف عليه من العلم بالبعث والإرادة المتعلّقة بامتثاله. وإلى ذلك أشار في الكفاية (1) عند التعرض للشبهة الواردة على الواجب المعلّق بما حاصله : أنّ الأمر لا بدّ أن يكون باعثا على المتأخر ، ويستحيل أن يكون باعثا إلى المقارن.

والجواب عن هذه الحجة بعد اصلاحها بأنّه ليس المراد كون المأمور به مقيدا بالتأخر ، وأنّ المراد هو أنّ زمان متعلّقه لا بدّ أن يكون متأخرا قهرا عن زمانه ، أنّ هذه الحجة لا تتأتى في الأوامر التي تكون على نحو القضايا الحقيقية ، لما تقدم من كفاية تقدم العلم بالخطاب قبل حصول شرطه في الانبعاث عنه عند توجهه ، من دون حاجة إلى علم ثان يكون متخللا بين توجهه وامتثاله. أمّا القضايا الخارجية فان كان الواجب فيها موسعا لم تكن محتاجة إلى ما ذكر من التقدير ، وإن كان مضيقا كان على المولى أن ينشئ الوجوب قبل الوقت ليعلم به المكلّف ويتمكن من امتثاله في وقته ، فان لم يقدّم ذلك الوجوب كان المولى مفوّتا لغرضه.

ص: 331


1- كفاية الأصول : 103.

قلت : وحينئذ تنقلب القضية حقيقية لأخذ التقدير الآتي فيها. ولا يخفى أنّ لزوم هذا التقديم متأت في الموسع بناء على ما أفاده (1) من أنّه يجوز أن يكون امتثاله في أوّل أزمنة الإمكان كالمضيق. وقد عرفت أنّ الموجب لتأخر الامتثال زمانا عن نفس التكليف ربما يقرر بوجه آخر مبني على كون نفس التكليف محتاجا إلى زمان يشغله ، ويستحيل أن يكون الفعل المفروض كونه امتثالا له واقعا معه في زمانه على وجه يكون نفس الفعل امتثالا للأمر في أثناء زمان إنشاء الأمر وجعله قبل إتمام جعله وإنشائه ، ولأجل ذلك التزموا بالتقدير. ولعلّ ما التزموا من التقدير هو عين هذا الذي أفاده شيخنا قدس سره من أنّه في هذه الصورة يكون اللازم على الآمر تقديم إنشائه الوجوب ، فينشئه مشروطا بالزمان الآتي ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أنّ جعل التكليف المشروط بطلوع الفجر وتشريعه سابق على طلوع الفجر ، فانّ المجعول إنّما هو الوجوب على تقدير طلوع الفجر ، وهذا أعني جعل الوجوب وتشريعه على تقدير طلوع الفجر لو قلنا بأنّه زماني يحتاج في وقوعه إلى زمان يقع فيه ، فانّما هو فيما قبل الفجر ، وبعد جعل ذلك الحكم المشروط لا يكون في فعليته وتحقّقه بتحقّق موضوعه وشرطه محتاجا إلى زمان ما ، بل ينوجد ذلك الوجوب ويتحقّق بوجود شرطه ، ويكون تحقّق ذلك الشرط سابقا في الرتبة على تحقّق الوجوب المشروط به ، من دون أن يكون في البين سبق زماني للشرط المذكور على فعلية المجعول أعني الوجوب المشروط به ، إذ لا يكون لفعلية ذلك الوجوب زمان تقع فيه فعليته ، وإنّما تكون فعليته عين فعلية شرطه. كما أنّ

ص: 332


1- أجود التقريرات 2 : 62.

نفس الإتيان بالفعل في أوّل الفجر يكون أيضا متأخرا رتبة عن كل من تحقّق ذلك الشرط وتحقّق الوجوب المشروط به من دون تأخر زماني ، ولو تأخر زمانا لم يكن ذلك التأخر سائغا ، لكون الوجوب المذكور إنّما تعلق بالفعل الذي يكون في أوّل الفجر.

ولعلّ هذا التقرير هو المراد لشيخنا قدس سره (1) من أنّه ليس في البين إلاّ التأخر الرتبي دون التأخر الزماني ، بأن يكون ذلك مبنيا على كون تحقّق نفس الوجوب وفعليته غير محتاج إلى زمان ، وإنّما المحتاج إلى الزمان نفس جعله وتشريعه ، أعني جعل الوجوب على تقدير طلوع الفجر ، ومن الواضح أنّ فعل الصوم في أوّل الفجر لم يكن مقارنا في الزمان لتشريع ذلك الوجوب التعليقي وإنشائه ، كي نكون واقعين في ذلك المأزق الذي ينحصر التخلّص منه بالتقدير المذكور.

نعم ، بناء على هذا التقرير لا يحسن التعبير بأنّ الفعل الواجب مقارن في الزمان للوجوب ، لما عرفت من أنّ نفس فعلية الوجوب لا زمان لها كي يكون فعل الواجب مقارنا في الزمان لتلك الفعلية.

بل يمكن أن يقال : إنّ نفس الشرط ليس هو بزمان ولا زماني ، فانّ الشرط في مثل الزوال والفجر ونحو ذلك ليس إلاّ عبارة عن انتهاء ما مضى. وبعبارة اخرى : أنّ الشرط في مثل ذلك ليس هو بجزء من الزمان ، بل هو الحد الفاصل بين أجزاء الليل وأجزاء النهار ، ومن الواضح أنّه ليس هو بآخر جزء من الليل ولا بأول جزء من النهار ، بل هو حد وهمي لا وجود له ، وهو المقسّم لمجموع أجزاء الليل والنهار على ما حقّق في

ص: 333


1- أجود التقريرات 2 : 60.

محلّه من كيفية انقسام الكم المتصل. نعم لو كان الشرط هو دخول النهار كان تحققه بتحقّق أول جزء من أجزائه وكان الوجوب الفعلي واردا على ذلك الجزء المتحقّق وكان الوجوب مستمرا مع استمراره ، ولا معنى لأن يقال إن الوجوب أو الواجب مقارن للشرط بحسب الزمان ، لأنّ الفرض أنّ الشرط هو نفس الزمان ، بل العبارة الصحيحة هي أن يقال : إنّ وجود الوجوب أو الواجب مقارن لوجود الشرط الذي هو نفس الزمان ، كما يرى ذلك في مثل « إن جاءت الساعة الثامنة من النهار فاسكت فيها بتمامها ».

هذا إن لم يكن الشرط هو تحقّق جميع أجزاء الزمان الذي هو النهار بمعنى المضي والانقضاء ، وإلاّ كنّا محتاجين إلى أخذ التعقب شرطا ، وخرج الشرط عن كونه زمانا أو زمانيا. وهكذا الحال فيما لو كان الشرط فعلا زمانيا أو تركا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) شرحه في كيفية أخذ العصيان شرطا ، وأنّ الشرط هل هو نفس عدم الأهم في تمام الزمان فيكون مستمرا من أول الأمر بالمهم ، أو أنّ الشرط هو انتهاء ذلك العدم في تمام الزمان ليكون الشرط في الحقيقة هو التعقب بالترك في تمام الزمان.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ قوله في أوّل هذه المقدمة الثالثة : إنّ فعلية الخطاب في المضيقات تكون مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه ... إلخ (2) لا يخلو من تأمل ، لأنّ الشرط في مثل وجوب الصوم إن كان هو انتهاء الليل ، فليس هو ( أعني الليل ) هو الموضوع أو الشرط كي يكون فعلية وجوب الصوم مساوقة لآخر جزء منه ، على أنّها أعني الفعلية

ص: 334


1- في الحاشية الآتية ، صفحة : 336 - 338.
2- أجود التقريرات 2 : 59.

ليست مساوقة لوجود آخر جزء منه ، بل هي مساوقة لانتهائه. وإن كان الشرط هو دخول النهار فكذلك ، بل تكون مساوقة لوجود أوّل جزء منه إن كان الشرط هو نفس وجود النهار ، وإن كان الشرط هو انتهاءه كان من قبيل الشرط المتأخر ، نعم يتصوّر ذلك في الأفعال الزمانية المأخوذ فيها مجرد مقارنتها للوجوب لا انتهاؤها ومضيها.

قوله : منها أنّ عصيان الأمر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم ، فلا بدّ من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو يستلزم ... الخ (1).

محصّل ذلك أنّ القائلين بلزوم التقدير قيدوا أنفسهم بجهتين : الجهة الاولى : هي أنّه لا بد أن يكون الشرط سابقا في الزمان على التكليف المشروط به. الجهة الثانية : أنّه لا بدّ أن يكون التكليف سابقا في الزمان على زمان امتثاله. وبعد أن التزموا بهاتين الجهتين أشكلوا على الترتب إشكالات :

الأوّل : مبني على الجهة الثانية وحاصله : أنّ امتثال الأمر بالمهم مقارن لزمان عصيان الأهم ، وحيث إنّه لا بدّ في التكليف من كونه سابقا في الزمان على امتثاله لزمهم أنّ الأمر بالمهم سابق على امتثاله الذي هو مقارن في الزمان لعصيان الأهم ، فيلزمه أن يكون التكليف بالمهم سابقا في الزمان على عصيان الأهم ، وحيث إنّه مشروط به كان ذلك من قبيل الشرط المتأخر أو من قبيل الواجب المعلّق.

الإشكال الثاني : مبني على الجهة الاولى وحاصله : أنّه إن كان نفس

ص: 335


1- أجود التقريرات 2 : 62 - 63.

العصيان شرطا في التكليف بالمهم كان لازم ذلك تقدم العصيان زمانا على التكليف بالمهم ، فيكون توجه التكليف بالمهم بعد تمامية عصيان الأهم التي هي عين سقوطه ، فيكون الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، فلم يجتمع الأمران.

الثالث : أنّ نفس الأمر بالأهم لمّا كان سابقا في الزمان على امتثاله كان سابقا في الزمان على عصيانه ، لأنّ العصيان قرين الامتثال في الزمان ، فيكون الأمر بالأهم سابقا على زمان عصيانه ، وحينئذ لو صحّحنا كون الأمر بالمهم في زمان عصيان الأهم كان زمانه هو زمان سقوط الأمر بالأهم ، فلم يجتمع الأمران. وسيأتي (1) توضيح هذه الإشكالات.

قوله : ومنها أنّ الشرط للأمر بالمهم إمّا أن يكون هو نفس العصيان أو كون المكلّف ممن يعصي فيما بعد ... الخ (2).

توضيح ذلك : هو أنّه بعد الالتزام بأنّه لا بدّ أن يكون شرط التكليف سابقا في الزمان على نفس التكليف ، وبأنّ نفس التكليف لا بدّ أن يكون سابقا في الزمان على نفس فعل المكلّف به المعبّر عنه بزمان الامتثال ، وجّهوا الإيراد على القائلين بصحة الترتب بما حاصله : أنكم زعمتم أنّ تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم يرفع التدافع بينهما مع فرض كونهما متوجهين إليه في زمان واحد ، وحينئذ يتوجه عليكم أنّ هذا العصيان الذي أخذتموه شرطا في التكليف بالمهم إن كان هو العصيان فيما بعد ، بحيث يكون الشرط في توجّه التكليف بالمهم في هذا الزمان هو

ص: 336


1- [ الظاهر أن نظره قدس سره إلى الحواشي الثلاث التالية ].
2- أجود التقريرات 2 : 63.

كون المكلّف بحيث يتحقّق منه عصيان الأهم فيما بعد ذلك ، كي يكون الشرط في الحقيقة هو العنوان المنتزع ، فالتكليفان وإن اجتمعا في زمان واحد إلاّ أنّ التدافع بينهما باق بحاله ، لم يرتفع بواسطة أخذ العنوان المنتزع من العصيان المتأخر شرطا في التكليف في هذا الزمان بالمهم ، لأنّ المفروض أنّ عصيان الأهم لم يتحقّق بعد ، فكان الأمر بالأهم موجودا في هذا الآن مع الأمر بالمهم فيتدافعان. وقد أجاب قدس سره عن ذلك بأنّا لا نقول بكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولو قلنا بذلك كان أيضا كافيا في رفع المطاردة بين التكليفين ، نظرا إلى أنّ اشتراط الأمر بالمهم بعدم العصيان فيما سيأتي كاف في رفع التطارد بينهما ، لأنّه إنّما تنشأ المطاردة من ناحية اقتضاء الجمع ، ومع فرض التقييد المذكور لا يكون اجتماع التكليفين على النحو المسطور موجبا للجمع بينهما ، لأنّ وجود الأهم هادم لموضوع الأمر بالمهم.

وإن كان العصيان المأخوذ شرطا في التكليف بالمهم هو نفس العصيان بوجوده الواقعي ، فنظرا إلى ما تقدم من أنّه لا بدّ أن يكون شرط التكليف سابقا عليه في الزمان لا بدّ أن يكون عصيان الأمر سابقا على التكليف بالمهم ، فلا يتوجّه التكليف بالمهم إلاّ بعد تمامية عصيان الأهم ، ومعه يكون الأمر بالأهم ساقطا بانتهاء عصيانه ، وبعد أن سقط الأهم بالعصيان المتقدم يتوجه الأمر بالمهم ، فلم يجتمع الأمران في زمان واحد. وأجاب قدس سره عن هذه الجهة من الإشكال بأنّ الشرط هو نفس العصيان ، لكن لا باعتبار انقضائه ومضيه بل باعتبار نفس وجوده المقارن مع التكليف بالمهم ، وقد تقدم أنّه لا مانع من اقتران التكليف زمانا بشرطه وإن كان نفس

ص: 337

التكليف متأخرا عن شرطه رتبة ، وحينئذ يكون الأمر بالمهم مقارنا بحسب الزمان للأمر بالأهم ، ويكون ما ذكرناه من كون الأمر بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأهم رافعا لذلك التدافع.

قول صاحب الكفاية قدس سره : ثم إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم أو المقارن ... إلخ (1).

ربما يقال : إنّ الوجه في حصره صورة أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر ، لأنّ العصيان لو كان متقدما على الأمر بالمهم لكان موجبا لسقوط الأمر بالأهم قبل توجه الأمر بالمهم ، بمعنى أنّ الأمر بالمهم لا يتوجه إلاّ بعد سقوط الأمر بالأهم ، وحينئذ لا يجتمع الأمران في زمان واحد. أمّا لو كان مقارنا فلأنّ العصيان آني فيحتاج إلى مضي زمان ، كما أنّ الأمر بالمهم آني فيحتاج إلى مقدار من الزمان ، ولا يكون نفس فعل المهم إلاّ بعد هذين الزمانين ، والمفروض أنّا نريد تصحيح الصلاة بمجرد عصيان الأهم ، فلا بدّ من الالتزام بتقدير الأمر بالمهم قبل عصيان الأهم ، وحينئذ يكون العصيان شرطا متأخرا ، ولا يصح كونه مقدما ولا مقارنا. نعم في صورة كون الشرط هو العزم على العصيان يتصور فيه التقدم والمقارنة ، لكن يتصور فيه أيضا كونه على نحو الشرط المتأخر ، بأن [ يكون ](2) الأمر بالمهم مشروطا بأن يتأخر عنه العزم على عصيان الأمر بالأهم ولو آناً ما.

ص: 338


1- كفاية الأصول : 134.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

وفيه ما لا يخفى ، أمّا أولا (1) : فلأنّ مقتضى توجيه عدم تصور كون العصيان من قبيل الشرط المتقدم هو أخذ العصيان الانقضائي الذي يحتاج إلى مرور تمام زمان الأهم ، على وجه يكون ذلك العصيان موجبا لسقوط الأمر بالمهم بتاتا ، ومن الواضح أنّه لو كان العصيان هو العصيان الانقضائي لم يمكن أخذه مقارنا ، إذ ليس العصيان الانقضائي إلاّ عبارة عمّا عرفت من مضي زمان الأهم ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتصور فيه المقارنة مع الأمر بالمهم ، بل لا بدّ أن يكون متأخرا عن الأمر المذكور ، ولا يتصور فيه إلاّ كونه من قبيل الشرط المتأخر دون المقارن والمتقدم. أمّا العزم على العصيان فهو يمكن أخذه على نحو الشرط المقارن والمتقدم ، فنكون في غنى عن أخذ العزم المذكور بنحو الشرط المتأخر وإن كان أخذه فيه ممكنا.

ثم لا يخفى أنّه لو كان المانع من أخذ العصيان شرطا مقارنا هو ما ذكر من كون الأمر بالمهم زمانيا ، وأنّ أخذه شرطا في التكليف يوجب الالتزام بتقدير التكليف قبله فيكون من قبيل الشرط المتأخر ، لكان ذلك أيضا موجبا لكون أخذ العزم شرطا من قبيل الشرط المتأخر ، لأنّ التكليف بالمهم يحتاج إلى مضي مقدار من الزمان ، فيكون زمان ذلك التكليف فاصلا بين العزم وبين نفس الصلاة ، فلا يتم ما أفادوه من صحة الصلاة بمجرد العزم كما هو مدعى القائل بالترتب ، فنضطر حينئذ إلى تقدير الأمر بالمهم قبل العزم ، فيكون من قبيل الشرط المتأخر ، ولا يعقل كونه شرطا متقدما أو مقارنا.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية (2) وإن كان بانيا على كون التكليف

ص: 339


1- [ لم يذكر قدس سره ثانيا ، فلاحظ ].
2- كفاية الأصول : 103.

زمانيا يحتاج إلى مضي زمان يسعه كما ربما يظهر منه ذلك في مبحث الواجب المعلّق ، بأنّ جميع الواجبات وإن كانت حالية لا تكون متعلّقة إلاّ بما هو متأخر عنها ، لكن هذا لو سلّمنا كونه بانيا عليه ، إلاّ أنّ كلامه هنا ليس مبنيا على ذلك الأساس ، بل هو ناظر إلى النقل عن القائلين بالترتب ، وأنّهم يصلحونه بأخذ العصيان شرطا أو أخذ العزم عليه شرطا ، وأنّه لو أخذوا العصيان بنفسه شرطا فهو لا يتم إلاّ على أخذه شرطا متأخرا ، بخلاف ما لو أخذوا الشرط هو العزم على العصيان ، فانّه لا يتوقّف على كونه على نحو الشرط المتأخر ، بل يصحّ أخذه شرطا متقدما وشرطا مقارنا.

قوله : فان قلت ... إلخ (1).

هذا الإشكال راجع إلى الجهة الثانية ممّا تقدم (2) ذكره ، وهي الالتزام بأنّ التكليف سابق في الزمان على الامتثال ، وتقريب ذلك هو أن يقال : سلّمنا أنّ عصيان الأهم مقارن في الزمان لما هو مشروط به - أعني الأمر بالمهم - على ما تقدم تفصيله ، لكن هناك إشكال آخر وهو أن الأمر بالأهم لا بدّ أن يكون سابقا في الزمان على امتثاله ، ولا ريب أنّ نفس الامتثال قرين العصيان ، فكما يكون الأمر بالأهم سابقا في الزمان على امتثاله يكون سابقا أيضا على عصيانه ، بحيث يكون زمان عصيان الأهم متأخرا زمانا عن الأمر به ، ومن الواضح أنّ الأمر بالأهم يكون ساقطا في زمان عصيانه ، فالأمر بالمهم الذي قد انوجد في زمان عصيان الأهم يكون منوجدا في زمان سقوط الأمر بالأهم ، وحينئذ لم يجتمع الأمران في زمان واحد.

وقد أجاب قدس سره عن ذلك بما تقدم من المنع من لزوم تقدم التكليف

ص: 340


1- أجود التقريرات 2 : 65.
2- في صفحة : 335.

على امتثاله زمانا كي يكون ذلك موجبا لتقدمه زمانا على عصيانه ، بل إنّ التكليف السابق يبقى إلى تمام إطاعته أو عصيانه ، لا أنّه ينعدم في أوّل زمان إطاعته أو عصيانه ، إذ لا معنى لإطاعة الأمر المنعدم أو عصيانه.

والحاصل : أنّ التكليف بالأهم وإن كان سابقا على زمان إطاعته أو عصيانه ، إلاّ أنّه لا ينعدم بأوّل زمان إطاعته أو عصيانه ، بل يبقى مستمرا إلى أن تكمل إطاعته أو عصيانه ، ولا يسقط إلاّ بانتهاء زمان إطاعته أو زمان عصيانه ، وحينئذ ففي أثناء الزمان الذي يستمر فيه العصيان يكون الأمر بالأهم باقيا موجودا ، وقد تحقّق أيضا الأمر بالمهم ، فاجتمع الأمران.

قوله : ثم إنّ ما ذكرناه من أنّ خطاب المهم وامتثاله متحدان زمانا مع عصيان خطاب الأهم إنّما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين ... الخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه : فان كان الأمران مضيقين كما في الغريقين اللذين يكون أحدهما أهم من الآخر ، كان كل من حصول شرط الأمر بالأهم ونفس الأمر بالأهم وعصيان ذلك الأمر وتحقّق الأمر بالمهم وإطاعته واقعا مع البواقي في آن واحد وإن اختلفت في الرتبة ، لكون كل واحد منها مقدما على ما يليه رتبة ، وكان إطلاق الأمر بالمهم الشامل في حد نفسه لصورة إطاعة الأهم وصورة عصيانه مقيدا بالصورة الثانية ، أعني صورة عصيان الأهم.

وإن كان أحد الأمرين مضيقا والآخر موسعا كما في إزالة النجاسة والصلاة ، كانت هذه الامور الخمسة أيضا متحدة بحسب الزمان مختلفة

ص: 341


1- أجود التقريرات 2 : 66 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

بحسب الرتبة ، إلاّ أنّ الأمر الموسع لمّا لم يكن في حد نفسه وبتمامه مزاحما للمضيّق ، وإنما كان المزاحم له إطلاقه وشموله للفرد الواقع في وقت الإزالة ، وكان شمول الأمر الموسّع لذلك الفرد مطلقا في حد نفسه ، بمعنى أنّ شموله للفرد المذكور وعمومه له شامل لصورة الإتيان بالمضيّق وصورة عدم الإتيان ، بحيث إنّ الأمر بالصلاة يشمل الصلاة المزاحمة للازالة في كل من صورتي الإتيان بالإزالة وعدم الإتيان بها ، وهو غير ممكن إلاّ بالترتب ليكون مقتضاه تقييد شموله للفرد المذكور بصورة عدم الإتيان بالإزالة.

قلت : إنّ حكم العقل بخروج ذلك الفرد متولد عن المزاحمة وكون الإزالة أهم ، فانّه حينئذ يحكم العقل بخروج ذلك الفرد عن إطلاق الأمر بالصلاة ، ولكن إنّما يحكم بخروجه في صورة الإتيان بالإزالة ، ويبقى في صورة عدم الإتيان بالإزالة على ما هو عليه من كونه شاملا للفرد المذكور ، وحينئذ يجتمع في زمان واحد كل من شرط وجوب الإزالة ونفس وجوبها وعصيانه وشمول الأمر بالصلاة لذلك الفرد والإتيان بذلك الفرد.

لكن هذا كلّه بعد فرض حكم العقل بخروج ذلك الفرد المزاحم للإزالة ، وقد عرفت فيما تقدّم (1) أنّه لا مزاحمة بينهما ، فيجتمع إطلاق الأمر بالصلاة وشموله لذلك الفرد مع الأمر بالإزالة ، ولا مزاحمة بينهما ، إذ لا إلزام من ناحية الأمر بالصلاة كي يكون ذلك الالزام مدافعا ومزاحما للأمر بالإزالة.

قوله : المقدمة الرابعة وهي أهم المقدمات : أنّ انحفاظ الخطاب في تقدير ما إنّما يكون بأحد وجوه ثلاثة .. إلخ (2).

يمكن تحليل هذه المقدمة إلى امور :

ص: 342


1- في صفحة : 140.
2- أجود التقريرات 2 : 66.

الأوّل : أن التقدير الذي يمكن إضافة التكليف إليه تارة يكون مما يمكن جريان التقييد والإطلاق بالنسبة إليه ، من دون فرق في ذلك بين اللحاظيين والذاتيين ، وتارة لا يمكن فيه كوجود متعلق ذلك التكليف وعدمه.

الأمر الثاني : أنّ النحو الأوّل من التقدير يكون التقييد به موجبا لكونه بالنسبة إلى ذلك التكليف من قبيل العلّة بالنسبة إلى معلولها ، كما أنّ إطلاق التكليف من ناحيته يوجب ذلك أيضا ، إمّا لأنّ مقتضى إطلاق التكليف بالنسبة إليه راجع إلى تحقّق التكليف في كل من صورتي وجوده وعدمه ، فيكون كل من وجوده وعدمه سابقا في الرتبة على التكليف ، وإمّا لأنّ الإطلاق إنّما هو في قبال التقييد ، لكونه عدم التقييد ممّا من شأنه القابليّة للتقييد ، فيكون كل من وجود ذلك التقدير وعدمه واقعا في رتبة التقييد به ، فيكون سابقا في الرتبة على التكليف ، وتكون نسبته إلى ذلك التكليف من قبيل نسبة العلّة إلى معلولها.

أمّا النحو الثاني من التقدير فحيث إنّ التكليف يستدعي وضعه ، وباستدعائه وضعه يكون هادما لعدمه ، فيكون كل من وجوده وعدمه بمنزلة المعلول لذلك التكليف. أمّا الوجود فواضح ، وأمّا العدم فلكونه بديل الوجود ونقيضه ، فيكون واقعا في رتبته من ذلك التكليف أعني رتبة المعلولية ، أو لكون الوجوب لمّا كان مستدعيا لوضع الوجود كان بواسطة ذلك هادما لنقيض ذلك الوجود ، فيكون العدم بهذه الواسطة بمنزلة المعلول للتكليف المذكور.

الأمر الثالث : أنّ التكليف محفوظ في كل واحد من التقديرين المذكورين ، ولكن انحفاظه مع الأوّل من قبيل انحفاظ المعلول مع وجود

ص: 343

علته ، وانحفاظه مع الثاني من قبيل العلّة مع وجود معلولها.

الأمر الرابع : أنّ التقدير الذي هو بمنزلة علّة التكليف يستحيل أن يكون انحفاظ التكليف معه موجبا لاقتضاء ذلك التكليف لوجوده ، أو كونه موجبا لانهدام عدمه ، لأنّ ما هو بمنزلة معلول الشيء يستحيل أن يكون بمنزلة علّة ذلك الشيء وإلاّ لزم تقدمه رتبة على نفسه. كما أنّ التقدير الثاني الذي هو بمنزلة معلول التكليف يستحيل أن يكون بمنزلة العلة للتكليف ، فما يقتضي التكليف وضع وجوده وهدم عدمه يستحيل أن يؤخذ ذلك التكليف مشروطا به أو مطلقا من ناحيته ليكون بمنزلة علّة ذلك التكليف ، لأنّ ما هو معلول الشيء يستحيل كونه بمنزلة علّته ، وإلاّ لكان مقدما على نفسه رتبة.

الأمر الخامس : أنّ عدم الأهم بالإضافة إلى نفس الأمر بالأهم يكون من قبيل المعلول ، لكونه مستدعيا لهدمه ، وما هو من قبيل المعلول للتكليف يستحيل أخذه شرطا فيه ليكون بمنزلة العلة لذلك التكليف ، وبالإضافة إلى الأمر بالمهم يكون من قبيل العلة ، فيستحيل أن يكون بالنسبة إليه من قبيل المعلول ، فلا يكون حينئذ مقتضيا. فالأمر بالأهم هادم لعدمه ، والأمر بالمهم لا يقتضي ذلك العدم ، فأين التدافع؟ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك (1).

وتوضيح ما أفاده قدس سره في المقدمة الرابعة يحصل ببيان امور :

الأول : تقسيم التقادير إلى ما يجري فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي أو

ص: 344


1- [ إلى هنا تنتهي الحاشية ، لكنه قدس سره أضاف إلى ذلك توضيحا في ورقة مستقلة ، وقد ارتأينا إدراج ذلك في المتن ].

الذاتي وما لا يجري فيه ، وهو ما يقتضي التكليف وضعه كوجود المكلف به ، وما يقتضي التكليف هدمه ورفعه وهو عدم المكلف به.

الثاني : أنّ نسبة التقدير الأوّل الذي يكون قيدا في التكليف إلى نفس ذلك التكليف كنسبة العلّة إلى معلولها ، وهكذا الحال في التقدير الذي يكون التكليف مطلقا من ناحيته ، فانّ كلا من وجود ذلك التقدير وعدم وجوده حيث كان التكليف ثابتا على كل منهما يكون كل منهما بالنسبة إلى التكليف كنسبة العلّة إلى معلولها ، بمعنى كون كل منهما ملحوظا في الرتبة السابقة على التكليف.

أمّا التقدير الثاني الذي يكون التكليف متضمّنا لوضعه أو رفعه فتكون نسبته إلى التكليف كنسبة المعلول إلى علته ، فانّ ما يقتضي التكليف وضعه يكون معلولا للتكليف ، وكذلك ما يقتضي التكليف رفعه أعني عدم المكلّف به ، لأنّ عدم الشيء نقيض وجوده وبديله في مرتبته ، أو لأنّ التكليف بواسطة اقتضائه الوجود الذي هو نقيض العدم يكون بعين اقتضائه الوجود هادما للعدم.

وعلى أيّ حال يكون عدم متعلّق التكليف كوجوده في رتبة معلول التكليف ، وهذا بخلاف التقدير الذي يكون التكليف مشروطا به أو مطلقا بالقياس إليه ، فانّه يكون في رتبة علّة التكليف.

الثالث : أنّ التقدير الذي يكون بالنسبة إلى التكليف من قبيل العلّة يستحيل أن يكون ذلك التكليف مقتضيا لرفعه أو وضعه ، وإلاّ لعادت علة التكليف معلولة له ، والتقدير الذي يقتضي التكليف وضعه أو رفعه يستحيل أن يكون علّة للتكليف ، بأن يكون التكليف مشروطا به أو مطلقا من

ص: 345

ناحيته ، وإلاّ لعاد المعلول للتكليف علّة له ، وكان ما هو في مرتبة المعلول واقعا في مرتبة العلّة.

ومن هذا الأمر الثالث يتضح لك استحالة تقييد التكليف بوجود المكلّف به أو بعدمه ، أو إطلاقه بالنسبة إليه من طريق آخر غير ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من لزوم تحصيل الحاصل أو التكليف بالمحال.

الرابع : أنّ التكليف محفوظ في كل من التقديرين السابقين ، ولكن انحفاظه مع الأوّل من قبيل انحفاظ المعلول مع علته ، ومع الثاني من قبيل انحفاظ العلّة مع معلولها.

الخامس : أنّ عدم الأهم بالنسبة إلى الأمر بالأهم يكون من التقادير التي يقتضي التكليف هدمها ، فيكون من قبيل ما هو المعلول للتكليف بالأهم ، وبالنسبة إلى التكليف بالمهم يكون من التقادير التي لا يقتضي التكليف وضعها ولا رفعها. فالتكليف بالأهم يقتضي رفع ذلك العدم وهدمه ، والتكليف بالمهم لا يقتضي وضع ذلك العدم ، فلا تدافع بينهما.

السادس : لا بدّ من دفع إشكال التدافع بينهما من ناحية اخرى غير العدم المذكور ، وتلك الناحية هي أنّ التكليف بالأهم يقتضي وضعه ، والتكليف بالمهم يقتضي وضعه أيضا ، فيؤول الأمر حينئذ إلى التكليف بوضع كل منهما.

وقد يقال في الجواب عنه : إنّ الأوّل لمّا كان هادما للثاني ولو بواسطة هدمه لموضوعه ، لم يكن الأمر بكل منهما على النحو المسطور منتهيا إلى الجمع بينهما ، والشاهد على ذلك أنّهما لو كان جمعهما مقدورا وأتى

ص: 346


1- أجود التقريرات 2 : 68.

المكلف بهما معا دفعة واحدة لم يقع الثاني منهما على صفة الوجوب ، كما تقدم من مثال وجوب دخول المسجد بقول مطلق ووجوب القراءة مشروطا بعدم دخول المسجد.

وفيه : أنّ مجرد كون الأوّل هادما للثاني لا يخرج الأوّل عن كونه مقتضيا لوضع متعلّقه ، والثاني أيضا قاض بوضع متعلقه ، فيلزم طلب الاجتماع. والعمدة في الجواب : هو أنّ تقيد الثاني بعصيان الأوّل يخرجهما عن اقتضاء الجمع.

وقد يشكل بالنقض فيما لو قيّدنا الثاني باطاعة الأوّل ، فانّ الأوّل يكون موجبا لوضع موضوع الثاني ، والثاني إن لم يكن موجبا لحفظ موضوع نفسه فلا أقل من عدم كونه هادما لموضوع نفسه ، فينبغي أن يقال إنّه لا يحصل التدافع بينهما. ولا بدّ في الجواب من التقريب السابق (1) وهو أنّ الأمر الأوّل وإن لم يكن متحققا في مرتبة إطاعة نفسه ليكون هو السالب للقدرة على الثاني ، لكن امتثال الأوّل يكون سالبا للقدرة على الثاني ، فيمتنع الثاني عند إطاعة الأوّل لكونه غير مقدور حينئذ.

السابع : لا بدّ من التعرض للمقدمة الوجودية ، فانّ التكليف يقتضي وضعها مع أنّه مطلق من ناحيتها ، فكيف صحّ لكم القول في الأمر الثالث بأنّ ما يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه يستحيل كون التكليف مقتضيا له.

وإجمال الجواب هو المنع من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى ما يكون من المقدمات الوجودية واجبا ، غايته أنّ التكليف محفوظ مع كل من وجودها وعدمها على نحو انحفاظ العلّة مع معلولها ، والشاهد على ذلك

ص: 347


1- المتقدم في صفحة : 309.

أنّها لو كانت شرطا في التكليف لاستحال كون ذلك التكليف مقتضيا لوجوبها ، ولازم ذلك أنّ التكليف لو كان مطلقا بالقياس إليها بحيث إنّه كان ثابتا على كل من تقديري وجودها وعدمها ، لكان اقتضاء ذلك التكليف لإيجادها محالا ، فلا بدّ من القول بأنّها بعد فرض كونها واجبة بالوجوب الغيري الذي اقتضاه الوجوب النفسي المتعلق بذيها ، لا يمكن أن يكون ذلك الوجوب الوارد عليها مقيدا بوجودها ، أو مطلقا من ناحية وجودها وهو واضح. فهي من هذه الجهة نظير الإطاعة والعصيان في استحالة تقييد الطلب أو إطلاقه من ناحيتهما ، لكونهما بالنسبة إلى ذلك التكليف من قبيل المعلول بالنسبة إلى علّته ، فيستحيل وقوعهما منه منزلة العلة.

قوله : الثالث : أن يكون الخطاب بنفسه مقتضيا لوضع هذا التقدير أو لرفعه ، فيكون محفوظا في الصورتين لا محالة .. الخ (1).

المراد من المحفوظية في هذا القسم كما مرّ وسيأتي (2) هي نحو محفوظية العلّة مع وجود معلولها ، بمعنى أنّ ذلك التكليف يكون ثابتا ومتحققا في صقعه مع فرض وجود ما تعلق به وعدمه ، لا أنّه موجود في مرتبة وجود متعلقه وعدمه ، لما عرفت وسيأتي من الفرق بين المحفوظيتين. ففي القسم الأوّل والثاني تكون من قبيل محفوظية المعلول الذي هو نفس التكليف مع التقدير المشروط به ، أو المطلق بالقياس إليه الذي هو بمنزلة علة ذلك التكليف ، وفي القسم الثالث تكون محفوظية التكليف بالقياس إلى وجود متعلقه وعدمه من قبيل محفوظية العلة مع وجود معلولها وعدمه

ص: 348


1- أجود التقريرات 2 : 67.
2- في الحاشية السابقة واللاحقة.

الذي هو بديل وجوده في مرتبته.

قوله : أما استحالة التقييد فلأنّ وجوب فعل لو كان مشروطا بوجوده ، فلازمه اختصاص مطلوبيته بتقدير وجوده خارجا ، وهو طلب الحاصل ... إلخ (1).

مضافا إلى ما عرفت (2) من أنّ وجود المتعلق وعدمه يكون واقعا في مرتبة معلول التكليف ، فيستحيل أخذه قيدا أو مطلقا في ذلك التكليف ، لكونه حينئذ واقعا في مرتبة علّة التكليف ، فيستحيل أخذه شرطا فيه. أما الوجود فواضح ، لأن كون التكليف مقتضيا له مناف لكونه شرطا فيه ، لأن مقتضى كونه شرطا هو أن لا يكون مقتضيا له. وأمّا العدم فلأنّ التكليف هادم له ، فيستحيل أخذه شرطا فيه ، لأنّ مقتضى كونه شرطا فيه هو أن لا يكون متعرضا له بوضع ولا برفع ، لاستحالة كون الحكم رافعا لموضوعه وشرطه.

نعم يصح أن يقال : إن لم تصلّ فصلّ ، لكنه على معنى إن لم تصلّ فيما مضى فصلّ فيما سيأتي ، فلا يكون الشرط هو نفس عدم الصلاة ، بل يكون الشرط هو مضي العدم ، ولا كلام لنا فيه ، وإنّما كلامنا في الشرط المقارن أعني العدم الذي يقترن به ذلك التكليف ، ليكون الحاصل أنّ عدم الصلاة المقرون بالتكليف بها يكون شرطا في نفس ذلك التكليف ، فيكون الحاصل هو الأمر بايقاع الصلاة مقرونا بعدمها.

فاتضح بذلك فساد ما ربما يقال هنا من أنّ كل تكليف إنّما يتوجه

ص: 349


1- أجود التقريرات 2 : 68 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 344 ، 345.

عند عدم متعلقه ، لأنّ توجهه مع فرض وجود متعلقه يكون من تحصيل الحاصل ، لأنّك قد عرفت أنّ توجه التكليف في حال عدم متعلقه لا يوجب كون ذلك العدم شرطا في ذلك التكليف. نعم لازم ذلك أن لا يصح التقييد بكل من الوجود والعدم ، كما لا يصح أن يكون التكليف في الواقع مطلقا بالقياس إلى كل منهما ، وحينئذ يكون اللازم هو الإهمال في الواقع من هذه الناحية ، أعني وجود المتعلق وعدمه.

لكن يمكن الجواب عنه : بأنّ التكليف إنّما يتعلق في الواقع بنفس الذات ، فانّه طلب الوجود ، ولا ريب أنّ معروض طلب الوجود إنّما هو نفس [ الذات ](1) المعرّاة عن كل من الوجود والعدم ، كما هو الشأن في نفس معروض الوجود ، فلا إطلاق ولا تقييد من هذه الناحية بل ولا إهمال بمعنى الصلاحية لكل من التقييد والإطلاق ، وذلك ممكن معقول ، كما لو لاحظنا نفس التكليف بالنسبة إلى وجود نفسه وعدمه ، فانه لا يكون مطلقا من هذه الناحية ولا مقيّدا ولا مهملا ، بل في هذه المرحلة لا يكون الملحوظ إلاّ نفس التكليف.

وهكذا الحال في متعلق التكليف فانّ التكليف الوارد على الفعل مثلا لا يكون في الواقع مقيدا بوجود ذلك الفعل ، ولا مقيدا بعدمه ولا مطلقا من هذه الناحية بل ولا مهملا ، لأنّ ذلك كلّه إنما يتصور فيما يمكن أن يكون التكليف بالقياس إليه واسعا أو مضيقا ، أمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يتحقق فيه تقييد ولا إطلاق ولا إهمال ، كما هو الحال في نفس متعلق ذلك التكليف ، فانّه لا يعقل أن يكون الوجوب واردا على الفعل المقيد بالوجود

ص: 350


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

أو المقيد بالعدم أو المطلق من هذه الناحية ، بل ولا المهمل ، فتأمّل.

ونظير ما تقدم من التوهم توهم إيراد آخر وقع في نفسي ، قد يتخيل توجّهه على ما أفاده قدس سره من استحالة كون التكليف مقتضيا للتقادير التي يكون انحفاظه معها لكونه مطلقا بالقياس إليها ، فيقال : إنّ كل تكليف بالنسبة إلى المقدمات الوجودية لمتعلقه يكون انحفاظه معها لكونه مطلقا بالقياس إليها ، مع أنّه يقتضي وضعها. وعن هذا التوهم ينشأ الإيراد على كل ما رتّبه قدس سره على إلحاق التقادير التي ينحفظ معها التكليف لكونه مطلقا بالقياس إليها بالتقادير التي يكون انحفاظه لكونه مقيدا بها ، سوى إمكان كون التكليف ناظرا إليها من حيث الإطلاق والتقييد.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهة على تقدير تماميتها لا تخل بغرضه قدس سره من عدم التدافع بين الأمرين في مسألة الترتب ، لأنّ هذه الشبهة مبنية على الفرق بين التقادير التي يكون انحفاظ التكليف معها لأجل أنّه مقيد بها ، والتقادير التي ينحفظ معها لأجل أنّه يقتضيها ، كيف ما كانت التقادير التي يكون انحفاظه معها لأجل كونه مطلقا بالقياس إليها ، وإن كان الظاهر أنّه قسم ثالث لكونه جامعا لآثار كل من القسمين.

وحاصل هذا التوهم الذي وقع في نفسي هو أنّ جميع المقدمات الوجودية لما هو متعلق التكليف لا يكون التكليف بالقياس إليها مشروطا ، بل يكون مطلقا ، فيكون انحفاظ التكليف معها لأنّ التكليف مطلق بالقياس إليها ، ومن الواضح أنّ التكليف يكون مقتضيا لها. فالذي ينبغي بناء على هذا التوهم جعل ما يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه قسما ثالثا ، ويقال إنّ ما يكون انحفاظ التكليف معه لكونه - أي التكليف - مشروطا بالقياس إليه

ص: 351

يستحيل أن يكون التكليف مقتضيا له ، وما يكون انحفاظ التكليف معه لكونه - أي التكليف - مطلقا بالقياس إليه يمكن أن يكون ذلك التكليف مقتضيا له كما في المقدمات الوجودية ، ويمكن أن لا يكون التكليف مقتضيا له كما في غير المقدمات الوجودية ممّا يكون التكليف مطلقا بالقياس إليه ، وما يكون انحفاظ التكليف معه لأجل أنّه يقتضيه يستحيل أن يكون التكليف مطلقا أو مقيدا بالقياس إليه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ التكليف يقتضي المقدمات الوجودية ، فينبغي أن لا يكون مطلقا بالقياس إليها ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ التكليف إن كان بنفسه يقتضي التقدير استحال كونه مطلقا بالقياس إليه ، أمّا إذا كان اقتضاؤه له بواسطة توقف متعلقه عليه فلا مانع من كونه مطلقا بالقياس إليه. لكن الإشكال بعد باق ، لأنّ التكليف إن كان مقتضيا للتقدير ولو بواسطة توقف متعلقه عليه يكون ذلك التقدير في مرتبة معلول الحكم ، وحينئذ يستحيل أن يكون مطلقا بالقياس إليه ، لأنّ كونه مطلقا بالقياس إليه يستدعي كون ذلك الحكم في مرتبة المعلول له.

اللّهم إلاّ أن نمنع هذه الجهة أعني جهة كون إطلاق التكليف بالقياس إلى التقدير موجبة لكون ذلك التقدير بمنزلة العلة لذلك التكليف ، فانّ ذلك إنّما هو في خصوص التقييد به ، أمّا إطلاقه بالقياس إليه فلا يستلزم ذلك ، فانّ وجوب الحج لو كان مطلقا من حيث الاستطاعة لم يكن محصله إلاّ أنّه غير مقيد بها ، وأنّ ذلك الوجوب موجود في ظرف وجودها وفي ظرف عدمها ، وذلك لا يستلزم التقدم الرتبي للاستطاعة ولا لعدمها على وجوب الحج ، وحينئذ لو اتفق أن كان نفس الواجب متوقفا على الاستطاعة ، بحيث إنّها كانت مقدمة وجودية للحج لاتفاق توقّفه عليها ، لكان وجوب الحج

ص: 352

مقتضيا لإيجادها ، ولا يكون اقتضاؤه لإيجادها منافيا لكون الوجوب نفسه غير مشروط بها ، وأنّه موجود سواء كانت موجودة أو كانت معدومة ، غايته أنّها لو كانت معدومة كان على المكلف إيجادها لكون ذلك التكليف مستدعيا لإيجادها.

ولا يخفى أنّ المنشأ في هذه الشبهة هو ما اشتهر على الألسنة من أنّ التكليف بالقياس إلى المقدمات الوجودية لما هو متعلّق به يكون مطلقا لا مشروطا.

ولا يخفى أنّ دفع هذه الشبهة بأنّه لا مانع من إطلاق التكليف بالقياس إلى بعض ما يكون هو - أعني التكليف - مقتضيا له قد يقال إنّه لا يمكن الالتزام به ، فانّ ما أفاده قدس سره من الدليل على استحالة كون التكليف مقتضيا لما يكون انحفاظه معه لكونه مطلقا بالقياس إليه كان برهانا عقليا غير قابل للتخصيص بالمقدمات الوجودية ، ولأجل ذلك لمّا عرضت بخدمته قدس سره هذا التوهم أجاب عنه بأنّ المقدمات الوجودية إنّما هي القسم الأخير ، أعني ما يكون انحفاظ التكليف معه لأجل أنّه يقتضيه ، لا لأجل كونه مطلقا بالقياس إليه.

وتوضيحه : أنّ ما اشتهر على الألسنة من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى المقدمات الوجودية من قبيل ربّ مشهور لا أصل له ، حيث إنّ التكليف المفروض كونه مقتضيا للمقدمات الوجودية يستحيل أن يكون مطلقا بالقياس إليها ، كما يستحيل أن يكون مشروطا بها ، لما عرفت فيما تقدّم من جواب التوهم الأوّل.

وبالجملة : أنّ الغرض من كون التكليف مطلقا بالقياس إلى شيء أنّه يمكن أن يكون التكليف مقارنا لوجود ذلك الشيء ، كما يمكن أن يكون

ص: 353

مقارنا لعدمه ، فقولنا إنّ وجوب الصلاة مطلق بالقياس إلى قيام زيد مثلا أنّه يمكن أن يكون وجوبها متحققا في حال قيامه وفي حال عدم قيامه ، بحيث يكون وجوب الصلاة وامتثاله مقارنا لقيام زيد كما يكون مقارنا لعدمه ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يتأتى في المقدمات الوجودية بالقياس إلى التكليف المتعلق بذيها ، لاستحالة أن يكون التكليف بذي المقدمة وامتثاله مقارنا لوجود المقدمة أو لعدم وجودها ، وحينئذ فلا بدّ أن يكون انحفاظ التكليف معها لأجل أنّه يقتضيها ، لا لأجل أنّه مطلق بالقياس إليها.

فتلخّص لك : أنّ المقدمات الوجودية يستحيل أن يكون التكليف بالقياس إليها مطلقا كما يستحيل أن يكون مشروطا ، فلا يكون انحفاظه معها لأجل ذلك ، بل لأجل أنّه يقتضيها ، فلا يكون من التقادير ما يكون التكليف بالقياس إليه مطلقا ويكون انحفاظه معه لأجل أنّه مطلق بالقياس إليه ، ومع ذلك يكون ذلك التكليف مقتضيا له ، فتأمل.

لا يقال : إذا شك في كون مقدمة الوجود شرطا في الوجوب فلا إشكال عندكم في التمسّك باطلاق الوجوب على عدم كونها شرطا ، فكيف قلتم إنّ الوجوب لا يعقل أن يكون مطلقا بالنسبة إلى مقدمة الوجود.

لأنّا نقول : إنّا لم نتمسك بالإطلاق المذكور على عدم كونها شرطا في الوجوب بعد فرض كونها مقدمة وجود واجبة ، حيث إنّه مع الفرض المذكور - أعني كون المقدمة المذكورة واجبة - لا يبقى مجال للشك في كونها شرطا للتكليف ، لما هو واضح من أنّ ما هو شرط التكليف لا يعقل أن يكون واجبا ، وإنّما نتمسك بالإطلاق المذكور فيما إذا شككنا في وجوب تلك المقدمة وكان الشك في وجوبها ناشئا عن الشك في كونها شرطا في التكليف ، فبالإطلاق ننفي كونها شرطا في التكليف ، ويتفرع عليه

ص: 354

أنّ المقدمة المذكورة واجبة ، لا أنّا ننفي الشرطية المذكورة بالإطلاق المذكور بعد فرض الفراغ عن كونها واجبة ، كي يتوجه عليه حينئذ ما ذكر من دعوى عدم معقولية الإطلاق بالنسبة إلى المقدمة الواجبة.

لا يقال : بناء على ذلك لا يكون الإطلاق كاشفا عن وجوب المقدمة ، بل تكون المقدمة المذكورة غير داخلة تحت الطلب ، سواء كان الطلب مقيدا بها أو كان مطلقا من جهتها. أمّا الأوّل فواضح ، لما ذكرنا من أنّ قيد الطلب لا يدخل تحته. وأمّا الثاني فلما ذكرتم من استحالة ما يكون الطلب مطلقا بالقياس إليه أن يكون داخلا تحت الطلب ، فأيّ فائدة في التمسك بالإطلاق المذكور؟

لأنّا نقول : إنّا لم نجعل الإطلاق دليلا على وجوب المقدمة ابتداء ، بل جعلنا الإطلاق دليلا على أنّها لم تكن شرطا في التكليف ، وبعد إثبات أنّها ليست شرطا نبقى نحن ومقدمة وجودية غير مأخوذة شرطا في التكليف بذيها ، فنحكم بأنّها واجبة بوجوب ذيها ، إذ لا مانع منه إلاّ كونها شرطا في التكليف ، وقد نفيناه بالاطلاق ، وبعد ثبوت وجوبها يحكم العقل باستحالة إطلاق الوجوب بالقياس إليها ، فتأمل فانّ لازم ذلك أن يكون الإطلاق ممّا يلزم من وجوده عدمه.

والجواب الحاسم لأصل هذا التوهم هو أن يقال : إنّه قد مرّ (1) في مبحث المقدمة الموصلة وسيأتي (2) في بعض مباحث الترتب أنّ وجوب

ص: 355


1- [ الظاهر أنه قدس سره يشير بذلك إلى ما ذكره المحقق النائيني قدس سره تفسيرا لكلام المحقق صاحب الحاشية قدس سره. وقد تقدم ذلك في أجود التقريرات 1 : 1. ويأتي في أجود التقريرات 2 : 107 - 108 ].
2- [ الظاهر أنه قدس سره يشير بذلك إلى ما ذكره المحقق النائيني قدس سره تفسيرا لكلام المحقق صاحب الحاشية قدس سره. وقد تقدم ذلك في أجود التقريرات 1 : 1. ويأتي في أجود التقريرات 2 : 107 - 108 ].

المقدمة واقع في مرتبة وجوب ذيها من كون الآمر بصدد تحصيل ذيها ، فيكون الوجوب الغيري الذي هو باقتضاء الوجوب النفسي المتعلق بذيها متوجها إلى خصوص ما يكون من المقدمة واقعا في سلسلة علل ذيها ، فلا يكون ذلك الوجوب مقتضيا إلاّ لخصوص ما يكون في درجة وجود ذيها كي تكون واقعة في سلسلة علله. وحينئذ فما يقتضيه الوجوب هو خصوص ما كان واقعا في سلسلة علل ذيها ، أعني ما يتعقبها ذوها. وما يتمسك باطلاق الوجوب على عدم كونه شرطا فيه هو مطلق وجود المقدمة ، فيكون الذي ينحفظ معه الوجوب لأنّه يقتضيه هو خصوص ما يقع في سلسلة علل ذي المقدمة وما يتعقبه وجوده ، وهذا لا يكون الوجوب مطلقا بالقياس إليه ولا ما هو نتيجة الإطلاق ، لكونه في الرتبة الثانية من رتبة الوجوب المذكور ، حيث إنّه رتبة إطاعته ، ويكون الذي ينحفظ معه الوجوب من المقدمة لأجل أنّ الوجوب مطلق بالقياس إليه هو المقدمة قبل هذه المرتبة ، أعني مرتبة وجودها في سلسلة علل ذيها.

والحاصل : أنّ المقدمة التي يقتضيها الوجوب هي الواقعة في مرتبة إطاعة الأمر بذيها ، وهذه لا يعقل إطلاق الوجوب بالنسبة إليها ، والتي يكون الوجوب مطلقا بالقياس إليها هي المقدمة في الرتبة السابقة على رتبة الإطاعة ، فيتمسك بالإطلاق على عدم كونها شرطا فيه ، حيث إنّ كون الشيء شرطا في الوجوب وعدم كونه شرطا فيه إنّما هو في الرتبة السابقة على رتبة إطاعة ذلك الوجوب.

ولكن لا يخفى ما في ذلك كلّه من التطويل بلا طائل ، فانّ الشبهة واهية من أصلها ، حيث إنّها ناشئة عن الخلط بين نسبة وجود المقدمة إلى

ص: 356

الوجوب النفسي المتعلق بذيها ونسبة وجودها إلى نفس الأمر الغيري المتعلق بها ، ومن الواضح [ أن ](1) التكليف الذي يكون منحفظا معها لكونه مقتضيا لها إنّما هو أمرها الغيري ، أمّا الأمر النفسي المتعلق بذيها فلا يكون انحفاظه إلاّ من جهة كونه مطلقا بالقياس إليها ، لا من جهة أنّه يقتضيها ، فانّ الأمر النفسي لا يكون هو الباعث على إيجاد المقدمة ، وإنّما يكون الباعث على إيجادها هو الأمر الغيري المعلول لذلك الأمر النفسي بناء على الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها.

وفيه تأمّل ، لأنّ لازم كون الوجوب النفسي المتعلّق بذيها مطلقا من ناحيتها أن يكون عدمها سابقا في الرتبة على ذلك الوجوب النفسي ، وهو سابق في الرتبة على الوجوب الغيري ، وهو سابق في الرتبة على عدمها ، لكونه مقتضيا لهدمه ، فيكون واقعا منه في مرتبة المعلول.

والصحيح ما تقدم (2) نقله عن شيخنا قدس سره في جواب هذه الشبهة ، من أنّ المقدمة الوجودية تكون واقعة في مرتبة ذيها ، من حيث كون الوجوب النفسي مقتضيا لها ، فلا بدّ أن لا يتصور إطلاق ذلك الوجوب النفسي بالنسبة إليها ، كما لا يتصور بالنسبة إلى نفس ذيها ، وهذا لا ينافي انحفاظ الوجوب معها لكونه مقتضيا لها ، فراجع وتأمل.

ثم إنّه قد يتوهم الإيراد على ما فرّعه قدس سره (3) على هذه المقدمة من ارتفاع التدافع في الأمرين المترتبين ، فيقال إنّ أقصى ما في هذه المقدمة أن لا يكون بين الأمرين تدافع بالنسبة إلى عدم الأهم ، حيث إنّ الأمر بالأهم

ص: 357


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- في صفحة : 353 - 354.
3- أجود التقريرات 2 : 72.

وإن كان محفوظا معه كالأمر بالمهم ، إلاّ أنّه لمّا كان انحفاظ الثاني معه لا لأجل كونه مقتضيا له بل لأجل كونه مشروطا ومقيدا به ، بخلاف انحفاظ الأوّل معه لأنّه إنّما يكون محفوظا معه لأجل كونه مقتضيا له لا لأجل كونه مقيدا ومشروطا به ، فكان الأوّل رافعا للتقدير المذكور وكان الثاني غير متعرض لرفعه أو وضعه ، فلم يكن بينهما تدافع بالقياس إليه ، إلاّ أنّهما بينهما التدافع بالقياس إلى اقتضاء نفس الأهم ، فانّ الأوّل يقتضيه في عرض اقتضائه رفع عدمه ، بمعنى أنّ الأمر بالأهم في حال كونه رافعا لعدمه وهادما له يكون مقتضيا لوضع الأهم (1) ، وقد كان الأمر بالمهم في ذلك الحال مقتضيا لوضع المهم ، فعاد محذور التدافع بين الأمرين المذكورين بحاله.

ولا يخفى ما في هذا التوهم ، فانّه إن كان المراد من أنّ الأمر بالأهم يقتضي وضع الأهم في حال عدم الأهم أنّه يقتضي وضعه في مرتبة عدمه ، بحيث يكون وضعه مقارنا لعدمه ، فقد عرفت أنّه محال ، لرجوعه إلى كون الأمر بالأهم مطلقا بالقياس إلى عدم متعلقه. وإن كان المراد أنّه يقتضي وضعه في الرتبة السابقة على عدمه ، بمعنى أنّه في الرتبة السابقة على مرتبة وجوده وعدمه يكون الأمر به مقتضيا لوضعه ، كما يكون مقتضيا في تلك الرتبة لرفع نقيضه أعني عدمه ، فذلك لا إشكال فيه ، إلاّ أنّ الأمر بالمهم لا يكون مقتضيا لوضع المهم في تلك الرتبة ، بل ليس الأمر بالمهم متحققا في تلك الرتبة ، أعني الرتبة السابقة على وجود الأهم وعدمه ، بل إنّما يقتضيه في الرتبة المتأخرة عن عدم الأهم ، لكونه مشروطا بذلك العدم.

لا يقال : إنّ الأمرين المذكورين وإن كانا مختلفين بحسب الرتبة إلاّ

ص: 358


1- [ في الأصل : المهم ، والصحيح ما أثبتناه ].

أنّهما متحدان زمانا ، فيكون مأمورا بكل من الضدين في آن واحد فيعود المحذور.

لأنّا نقول : ليس المحذور في اجتماعهما إلاّ ما عرفت من التدافع المنتهى إلى الأمر بالجمع بين الضدين ، وذلك التدافع مندفع بما ذكرنا من الطولية الموجبة لتعاكسهما في الاقتضاء ، فانّ الأمر بالأهم (1) وإن كان مقتضيا له إلاّ أنّ اقتضاءه له عين هدمه لموضوع الأمر بالمهم ، والأمر بالمهم إنّما يكون مقتضيا للمهم على فرض عدم تحقق ما يقتضيه الأمر بالأهم من رفع نقيضه الذي هو عدم الأهم. وهذا كلّه مستفاد ممّا أفاده شيخنا قدس سره (2) من أنّ الأمر بالأهم لا ينزل إلى مرتبة الأمر بالمهم ، والأمر بالمهم لا يكون صاعدا إلى مرتبة الأمر بالأهم.

وأمّا ما في الكفاية (3) من تسليم القضية الثانية وإنكار القضية الاولى فهو ممّا لا نعرف له معنى محصلا ، وكأنّه قدس سره يرى أنّ الأمر بالأهم لمّا كان مطلقا من جهة عدم متعلقه فيكون متحققا عند عدم متعلقه ، الذي يكون الأمر بالمهم متحققا عنده أيضا.

وفيه : ما عرفت من استحالة إطلاق الأمر بالأهم بالنسبة إلى عدم متعلقه ، مع أنّه قدس سره إذا سلّم أنّ الأمر بالمهم لا يصعد إلى مرتبة الأمر بالأهم لكونه متأخرا عنه رتبة فكيف يعقل أن يكون الأمر بالأهم نازلا إليه ، وهل ذلك إلاّ إنكار لما بينهما من التقدم والتأخر الرتبي. وبالجملة فانّ تسليمه للقضية الثانية وإنكاره للقضية الاولى من قبيل الجمع بين المتنافيين ، فتأمل.

ص: 359


1- [ في الأصل : بالمهم ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 2 : 72 ، 73.
3- كفاية الأصول : 134.

لا يقال : إذا كان التقدم والتأخر الرتبي مسوّغا لتوجه الأمرين المذكورين ، فليكن كذلك فيما إذا علّق الأمر بالمهم على وجود الأهم.

لأنّا نقول : ليس مجرد التأخر الرتبي كافيا في ذلك ، بل هو بضميمة ما أفاده قدس سره في هذه المقدمة من التعاكس بين الأمرين ، وأنّ الأوّل منهما يكون طاردا لموضوع الأمر بالمهم ، وأنّ الثاني لا يكون حافظا لذلك الموضوع الذي يطرده الأوّل ، بضميمة ما أفاده قدس سره (1) في المقدمة الاولى من أنّ الأمر بالمهم لمّا كان مقيدا بعدم الإتيان بالأهم ، كان ذلك مخرجا للأمرين عن كونهما مستلزمين للأمر بالجمع بين الضدين.

وبالجملة : أنّ الأمرين في هذه الصورة لا بأس باجتماعهما ، بخلاف الصورة المفروضة فانّ الأمر الأوّل فيها يكون مقتضيا لحفظ موضوع الثاني ، والثاني وإن لم يكن متعرضا لذلك الموضوع بوضع ولا برفع ، إلاّ أنّه لمّا كان محصّله لزوم الإتيان بالمهم في حال الاتيان بالأهم ، كان من هذه الجهة من قبيل الأمر بالجمع بين الضدين ، فيكون محالا من هذه الجهة وإن كان متأخرا في الرتبة عن الأمر بالأهم.

وملخص ذلك : أنّ توجه الأمر بالمهم مشروطا بالإتيان بالأهم في نفسه محال ، كان الأمر بالأهم متحدا معه في الرتبة أو كان متقدما عليه في الرتبة ، بل إنّ ذلك الأمر محال وإن لم يكن في البين أمر بالأهم أصلا ، فتأمل.

ولو قال : إن أمرتك بالأهم أو إن علمت بالأمر بالأهم فافعل المهم أو فاترك الأهم ، كان ذلك محالا من جهة اخرى ، وهي لزوم المناقضة أو

ص: 360


1- أجود التقريرات 2 : 55.

المضادة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي مع كونهما في رتبة واحدة ، فانّه لو قال : إن أمرتك بالشيء أو إن علمت به فافعل ضده أو اتركه ، كان الأمر الشرعي الثاني متأخرا عن الأوّل رتبة ، إلاّ أنّه مضاد أو مناقض لما يحكم به العقل من وجوب الإطاعة ، فانّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالمأمور به ، فكيف يحكم الشرع في هذه المرتبة بلزوم ضده أو لزوم تركه.

والحاصل : أنّ حكم العقل بالإطاعة متأخر عن رتبة الحكم الشرعي الأوّل ، ويكون الحكم الشرعي الثاني مناقضا أو مضادا لذلك الحكم العقلي ، مع كونهما في رتبة واحدة ، فتأمل.

هذا ما كنت حررته سابقا ، والإنصاف أنّه لغير أوانه ، فانّه سيأتي في المقدمة الخامسة تعرضه قدس سره لهذا الإشكال والجواب عنه مفصلا (1) ، بل إنّ المقدمة الخامسة إنّما هي مسوقة للجواب عن هذه الجهة من الإشكال. نعم إنّي كنت أكتب الدرس والحقه بما اعلّقه عليه ثم بعد ذلك يتعرض قدس سره فيما يأتي من الدروس للجهة التي تعرض بالبال حينما حررت ما سبق من الدرس ، وقد نقلته هنا على علاته حرصا على ما أتخيّله فيه من بعض الإيضاحات ، والكمال له تعالى وحده فكيف بهذا الأحقر الذي هو أنقص من كل ناقص.

ثم إنّه سيأتي إن شاء اللّه تعالى في بعض الحواشي التي علقتها على ص 255 (2) بيان الإشكال في هذه الطولية التي حررناها هنا بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وأنّ تلك الطولية لو سلّمناها بينهما لأشكل الأمر في الترتب من الطرفين ، فانّ لازم ذلك هو كون كل من الأمرين مقدما على نفسه ،

ص: 361


1- أجود التقريرات 2 : 83 - 84 ، راجع الصفحة : 382 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- حسب الطبعة القديمة من الأجود. راجع الصفحة : 387 وما بعدها من هذا المجلّد.

وحينئذ فلا محيص من إنكار كون الشرط في الأمر بالمهم هو عدم الإتيان بالأهم بما أنّه عصيان للأمر بالأهم ، ولا بما أنّه نقيض لوجود الأهم المعلول للأمر بالأهم ، بل بما أنّه عدم محض وبما أنّه مجرد خلو الزمان عن فعل الأهم ، وإن كان اعتبار ذلك العدم وخلو الزمان منه منحصرا بما إذا توجه الأمر بالأهم وكان الأمر به منجزا ، لكن ذلك لا يوجب كون الشرط هو العدم الخاص ، أعني به العدم العصياني أو العدم الواقع في رتبة وجود الأهم بما أنّه معلول للأمر بالاهم. وحينئذ لا يكون الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم فضلا عن كون هذه الطولية بمجرّدها هي المصحّحة للجمع بين الأمرين ، بل إنّ عمدة المصحّح لذلك هو كون الأمر بالأهم هادما بامتثاله لما هو موضوع الأمر بالمهم ، وأنّ الأمر بالمهم لا تعرض له لإثبات ذلك الموضوع فتأمل.

ولا يخفى أنّ مجرد كون امتثال الأمر بالأهم هادما لموضوع الأمر بالمهم لا يوجب تقدمه عليه رتبة ليعود محذور الدور في الترتب من الطرفين ، فتأمل.

ولو قلنا بأنّ الشرط في الأمر بالمهم ليس هو مجرد ترك الأهم معرّى عن لحاظ كونه تركا لما هو المأمور به ، وإلاّ لكان الأمر بالشيء مشروطا بترك كل مباح مضاد له ، بل الشرط إنّما هو ترك الفعل المأمور به بما أنّه مأمور به ، فحينئذ لا مناص لنا عن الالتزام بالطولية ، وحيث إنّها موجبة للدور في المتساويين في الأهمية ، لم يكن لنا بدّ من الالتزام فيهما بالسقوط في كل منهما واستكشاف تخيير عقلي أو شرعي بينهما ، فراجع ما سيأتي في حواشي ص 255 (1) وما حررناه في باقي مباحث المسألة وتأمل.

ص: 362


1- حسب الطبعة القديمة من الأجود ، راجع الصفحة 390 من هذا المجلّد.

قول المحشي في الحاشية : وقد مرّ في البحث المزبور ... إلخ (1).

تقدم (2) البحث في ذلك ، وإن كان الأولى هو نقل ما ذكره في الحاشية على ذلك المبحث ، وبيان عدم توجه تلك الإشكالات التي وجهها هناك ، فنقول بعونه تعالى : إنّه قد قال في تعليقته على هذه الجهة من مبحث التعبدي والتوصلي : ضرورة أنّ متعلق الشوق لا بدّ وأن يكون متعينا في ظرف تعلقه به ولو بعنوانه الإجمالي ، ويستحيل فرض الإهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعيّن له في مرحلة تعلّقه به ... إلخ (3).

ليت شعري ما هذا الشوق ، هل هو صفة زائدة على أصل الإرادة أو العلم بالصلاح الذي هو عين الذات المقدسة ، أو هو عين هاتيك الإرادة وذلك العلم؟ فإن كان هو الثاني فما معنى هذا التقييد والإطلاق؟ وإن كان الأوّل أعني كون الشوق صفة زائدة فهل هي قائمة بنفس الذات المقدسة طارئة عليها ، أو غير ذلك؟ كل ذلك لا أتعقله.

إنّما أعرف أنّ الملاك المعبّر عنه بالصلاح والعلم به والإرادة الواقعية التي هي عين العلم بالصلاح كل ذلك تابع للواقع على واقعه ، إن واسعا فواسع وإن ضيقا فضيق ، وليس هذا محل كلامنا من الإطلاق والتقييد ، وإنّما محل كلامنا بعد بنائنا على أنّ في البين شريعة وتشريعا وجعل أحكام ذات موضوع وذات متعلق ، لا أنّ جميع ما جاءت به الرسل من الشرائع كلّها من باب الإخبار عن الصلاح أو عن الإرادة أو عن العلم بالصلاح الذي هو عين الذات ، أو عن الشوق الذي هو حالة نفسانية من مقولة الانفعال ، أو هو

ص: 363


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 67.
2- في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، الصفحة : 409 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 156.

شيء آخر لم أتعقله ، كل ذلك لا يمكننا القول به.

وإنّما الذي نعرفه ونتعقله هو ما عرفت من أنّ في البين أحكاما شرعية جعلها الشارع على موضوعاتها ، وأنّ كل حاكم في مقام جعله الحكم على موضوعه لا بدّ له أن يلاحظ ما هو موضوع حكمه وما هو متعلق تكليفه ، الذي يجعل ذلك الحكم أو ذلك التكليف واردا عليه ، وحينئذ إن أمكن أن يلاحظه مقيدا أو مطلقا فهو ، وإن لم يمكن ذلك كما إذا كانت القيود متأخرة في الرتبة عن جعل الحكم ، مثل العلم والجهل المتعلقين بنفس ذلك الحكم ، ومثل كون الفعل مقيدا بداعي ذلك الحكم الذي هو الوجوب ، ينحصر طريقه بأن يجعل الحكم على نفس الذات معراة عن لحاظ تلك الطوارئ ، وذلك أمر ممكن معقول ، كما هو متحقق في نفس ذلك الحكم الذي يجعله ، فانّه لا يمكن أن يكون منظوره في حال جعله إلاّ ما هو ذات الحكم مجردا عن لحاظ كونه مقيدا بوجود نفسه أو بعدم نفسه ، وكما في مقام الحكم على الطبيعة بالوجود ، فانّ الحاكم عليها بالوجود لا ينظر إلاّ إلى نفس الطبيعة معراة عن كونها مقيدة بالوجود أو بالعدم أو مطلقة من هذه الناحية. وهكذا الحال فيما يجعله من طلب الوجود المتعلق بها ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ الأمر هو طلب الوجود ، أو إنّه عبارة عن نفس الطلب وأنّ المطلوب هو وجود الطبيعة ، أو أنّ المطلوب هو نفس الطبيعة من حيث الإيجاد ، فانّ الطبيعة في جميع هذه الصور لا تكون ملحوظة إلاّ بذاتها ، معرّاة في حال طرو ذلك الطلب عليها عن لحاظها موجودة أو معدومة أو مطلقة.

ثم إن كان المانع من لحاظ التقييد أو الإطلاق هو محض كون الانقسام متأخرا في الرتبة عن نفس ذلك الحكم ، كما في داعي التقرب أو الجهل

ص: 364

والعلم بذلك الحكم ، كان من الممكن للشارع أن يكمل ذلك الجعل الذي أورده على نفس الطبيعة بجعل آخر متمم للجعل الأوّل ، ليكون مقتضاه هو التوسعة أو التضييق ، ويكون مجموع الجعلين منطبقا على ما علمه من المصلحة والملاك.

وإن كان المانع هو استلزام التكليف بتحصيل الحاصل أو التكليف بما هو محال ، كما في التقييد أو الإطلاق من ناحية وجود المأمور به أو عدم وجوده ، مضافا إلى ما في ذلك من لزوم كون ما هو معلول الطلب واقعا في مرتبة علته ، استحال فيه كل من التوسعة والتقييد ولو بواسطة متمم الجعل ، وبقي الحال على ما هو المجعول الأوّل من تعلّق الطلب بصرف الطبيعة وذاتها ، معرّاة عن كونها مقيدة بوجودها أو عدمها أو إطلاقها من هذه الناحية ، وليس ذلك من الإهمال الصالح لطرو التقييد أو الإطلاق ، بمعنى كونه المقابل لكل من الإطلاق والتقييد ، بل هو كما عرفت من كمال الوضوح والإيضاح ، وهو تعلّق الطلب بنفس الذات معرّاة عن كل من لحاظ الوجود والعدم ، إذ معنى الإهمال هو ما يحسن السؤال من الشارع بأنّك هل أردت المقيد أو المطلق ، ومن الواضح أنّه في هذه الموارد لا يحسن أن يتوجه السؤال من جانب المكلّف إلى الشارع ، وأنّك هل أردت الطبيعة الموجودة أو المقيدة بالعدم أو المطلقة الشاملة لكلا القسمين ، أو أنّك هل كان طلبك لهذه الطبيعة مشروطا بوجودها أو كان مشروطا بعدمها ، أو كان طلبك مطلقا شاملا لكل من الطرفين بحيث إنّه كان واردا على الطبيعة في كل من حالتي وجودها وعدمها ، كل ذلك غير معقول ، إذ لا يعقل الشك والترديد من المكلف في مثل ذلك ، وهو ممّا يكشف أنّ ذلك الحكم لا غموض فيه من هذه الناحية ولا إجمال ولا إهمال ، بل إنّه من أوضح

ص: 365

الواضحات ، وما ذلك إلاّ عبارة عن كون ذلك الطلب واردا على نفس الطبيعة معرّاة من هذه الناحية عن كل من الاعتبارين ، أعني اعتبار وجودها أو اعتبار عدمها أو اعتبار إطلاقها.

وحاصل الفرق بين النحوين : أنّ الطبيعة في النحو الأوّل - وهو ما يكون من الانقسامات اللاحقة لها باعتبار تعلّق الحكم بها - قابلة في الواقع ولو في مقام الملاك للسعة والتضيق من تلك الناحية ، غايته أنّها في مقام جعل ذلك الحكم عليها لا يمكن لحاظها واسعة أو ضيّقة من تلك الناحية ، فلا بدّ للشارع من جعل الحكم على صرف الطبيعة ونفس ذاتها معرّاة عن لحاظ التوسعة والتضيق ، ثم بعد ذلك يجعل جعلا ثانيا يوجب توسعة ما قد جعل ذلك الحكم عليه أو تضييقه ، ويكون الجعلان منطبقين على ما هو واقع الملاك.

أمّا النحو الثاني فانّ الطبيعة في حد نفسها في مقام إيجادها أو في مقام الإخبار عن وجودها يستحيل فيها التوسعة والتضييق من ناحية ذلك القيد ، أعني به نفس وجودها أو عدمها ، وهكذا الحال في مقام طلب إيجادها. وبالجملة : أنّ الطلب كما أنّه في مقام إيجاده وجعله وإنشائه يستحيل أن يكون واسعا أو ضيّقا من حيث نفس وجوده أو عدمه ، فكذلك حال الطبيعة في مقام طلب إيجادها ، فإنّه يستحيل فيه أن يكون واسعا أو مضيقا من حيث نفس وجوده أو عدمه ، بحيث يكون نفس ذلك الشيء من حيث تعلق الطلب به مقيدا أو مطلقا من ناحية وجوده أو عدمه ، ليكون وجوبه مطلقا أو مشروطا بشيء من ذلك على ما حقّق في محلّه (1) من كون

ص: 366


1- في المجلّد الثاني من هذا الكتاب : 12 وما بعدها.

الشرط راجعا إلى المادة في مقام تعلق الطلب بها.

ولا محيص في مثل هذا النحو من الانقسام من تعلّق الطلب بصرف الطبيعة ، ولا يمكن فيه التضييق أو التوسعة حتى بالجعل الثاني ، ويكون حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الطبيعة التي تعلّق بها الطلب كحال الوجود والعدم بالنسبة إلى نفس الطلب ، فكما أنّ الطلب في حد نفسه في مقام جعله وإنشائه يستحيل أن يكون مضيقا أو موسعا من هذه الناحية - أعني ناحية وجود نفسه وعدمه على وجه لا يمكن فيه ذلك ولا يعقل حتى بمتمم الجعل - فكذلك نفس الطبيعة في مقام طلب إيجادها ، لا يعقل فيها التوسعة والتضييق من ناحية وجودها أو عدمها حتى بواسطة متمم الجعل ، بل إنّ وفاء تلك الطبيعة بالملاك الذي دعا إلى إيجابها شرعا لا يعقل فيه التوسعة والتضييق من تلك الناحية ، بمعنى أنّ ترتب ذلك الملاك على وجود الطبيعة لا يعقل أن يكون ترتبه على وجودها مقيدا بوجودها أو بعدمها ، أو كونه - أعني ترتب الملاك على وجود تلك الطبيعة - مطلقا وشاملا لما إذا كانت موجودة أو كانت معدومة.

وهذا بخلاف النحو الأوّل ، فانّ الطبيعة فيه في مقام الملاك يمكن أن تكون مقيدة أو موسعة من ناحية التقسيم الآتي من ناحية تعلق الحكم بها ، ولأجل ذلك قلنا فيه بالإطلاق والتقييد الذاتيين ، بخلاف نفس الوجود والعدم.

ثم لا يخفى أنّ هذه الجهة المانعة من التقييد اللحاظي أو التقييد الذاتي هي بعينها مانعة من الإطلاق ، لا أنّ المانع مختص بخصوص التقييد وأنّ إسقاطنا الإطلاق لمحض عدم إمكان التقييد ، ببرهان أنّ الإطلاق هو عدم التقييد فيما يكون المقام قابلا في حد نفسه للتقييد ، وأنّه إذا كان التقييد

ص: 367

ممتنعا كان الإطلاق ممتنعا ، وإن كان ذلك هو المتوهم من بعض عبائر شيخنا قدس سره ، بل المراد هو ما عرفت من أنّ نفس تلك الجهة التي منعت التقييد اللحاظي أو التقييد الذاتي هي بعينها مانعة من الإطلاق اللحاظي والإطلاق الذاتي.

وبناء على ذلك لا يتوجّه شيء من الإشكالات التي ذكرها المحشي (1) من النقض بجهل الإنسان بحقيقة ذات الواجب المقدس مع استحالة مقابله الذي هو العلم بتلك الذات ، ونحو ذلك من الإشكالات ، فانّ الجهل بمعنى عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون عالما يستحيل في حق الإنسان بالنسبة إليه تعالى ، نعم لو اخذ الجهل بمعنى عدم العلم لكان ممكنا واقعا. كما أنّه لا يتوجه شيء من الإشكالات التي ذكرها المحشي هنا في الحاشية الاولى والثانية (2) فراجع الحواشي وتأمل.

قول المحشي في الحاشية الثانية : لا من جهة اعتبار كل منهما فيها ... إلخ (3).

نعم إنّه لم يعتبر كلاّ منهما في فعلية الحكم ، إلاّ أنّه قد جعل الحكم على كل واحد من التقديرين ، ولازمه أن يكون لحاظه لكل واحد منهما سابقا على نفس لحاظه الحكم. فكل منهما وإن لم يكن شرطا في ذلك الحكم ، إلاّ أنّ موضوع ذلك الحكم هو كل منهما ، على ما عرفت من كونه قد لاحظ كلاّ منهما وأورد الحكم على القدر المشترك بينهما ، فلا يكون سمة كل منهما بالنسبة إلى ذلك الحكم إلاّ سمة التقدم الرتبي ، أعني سمة

ص: 368


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 156.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 67 ، 68.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 68.

العلّة بالنسبة إلى المعلول كما عرفت تفصيله فيما شرحناه فيما تقدم ، ومن ذلك يتضح لك اندفاع جميع ما رتبه على هذه الجهة من الاشكالات.

قوله في هذه الحاشية : ثم لا يخفى أنّه لا دخل لهذه المقدمة في إثبات صحة الترتب ... إلخ.

كيف لا يكون لها دخل في ذلك وهي المتكفّلة لاستحالة كون الأهم مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّقه ، وأنّه لا تعرض فيه لذلك العدم بأزيد من الهدم والرفع ، إذ لو كان الأمر بالأهم مشروطا ومقيدا بعدم متعلّقه كما قد يقال إنّ الأمر بالشيء إنّما يتوجه في ظرف عدمه ، لكان الأمر بالأهم واقعا في رتبة الأمر بالمهم ، وكان كل منهما مشروطا بذلك العدم ، فيلزم الإتيان بهما في ذلك الحال.

ولا ريب أنّ دفع هذا التوهم من أهم مقدمات صحّة الترتب ، كما أنّ الجزء الثاني من هذه المقدمة وهو استحالة كون الأمر بالمهم حافظا لذلك العدم أيضا من أهم ما يثبت به الترتب.

نعم ، بعد ثبوت أنّ الأهم غير مشروط بعدم متعلقه وأنّ المهم غير مقتض لذلك العدم ، ننقل الكلام إلى المقدمة الخامسة ، وهي أنّ المتحصّل من هذين الطلبين هو كون المطلوب واحدا من الفعلين (1) على نحو الطولية لا الجمع بينهما. وحاصل المقدمة الخامسة أنّ اجتماع الطلبين في زمان واحد بهذا النحو من الاجتماع الذي هو على نحو الطولية ، على وجه كان الأوّل هادما للعدم الذي هو موضوع الثاني وكان الثاني غير متعرض لوضع ذلك العدم ، لا يكون موجبا ومنتجا لكون المطلوب هو الجمع بينهما.

ص: 369


1- [ في الأصل : الفعل ، والصحيح ما أثبتناه ].

نعم إنّ في المقام شيئا ، وهو أنّ عمدة الإشكال إنّما هو الفرق بين قولنا : أزل النجاسة وإن لم تزل النجاسة فصلّ ، وبين كل واحدة من هذه الجمل الثلاث ، أعني قولنا : إن أمرتك بالإزالة فصلّ ، وقولنا : إن علمت بالأمر بالإزالة فصلّ ، وقولنا : إن امتثلت الأمر بالإزالة فصلّ ، فإنّ الأمر بالصلاة في هذه الجمل الثلاث يكون متأخرا في الرتبة عن الأمر بالإزالة ، كما هو كذلك في الجملة الاولى أعني قولنا : أزل النجاسة وإن لم تفعل فصلّ.

وهذه المقدمة الرابعة مسوقة لبيان أنّه لا عبرة بالتأخر الرتبي ، بل العبرة إنّما هي يكون امتثال الأمر الأوّل هادما لموضوع الأمر الثاني ، وهذا مختصّ بالجملة الاولى دون الجمل الثلاث الأخر ، بل قد عرفت فيما تقدم (1) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنّ الجملة الاولى التي [ هي ](3) محل الكلام خالية من التأخر الرتبي ، وإلاّ كان كل منهما متقدما رتبة على الآخر فيما لو كان كل منهما مقيدا بعدم الآخر.

فالعمدة هو تحقيق الهادمية ، والمقدمة الخامسة مسوقة لذلك. أمّا ما اشتملت عليه الخامسة من كون الشرط لأحد الخطابين تارة يكون غير داخل تحت القدرة والرفع الشرعي ، واخرى يكون داخلا في ذلك ، لكن التكليف الآخر لا يكون متعرضا له برفع ولا بوضع ، وثالثة يكون التكليف الآخر متعرضا له بالرفع أو الدفع ، فهو وإن كان في الجملة صحيحا ، إلاّ أنّ إدخال كون أحدهما أو كل منهما مقيدا بعدم الآخر في القسم الأوّل وفي القسم

ص: 370


1- لاحظ ما تقدم في صفحة : 361 - 362.
2- لاحظ ما سيأتي في صفحة : 388 - 390.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

الثاني لعلّه لا يخلو عن تهافت ، لأنّ فرض كون أحدهما أو كل منهما مشروطا بعدم الآخر يوجب كون أحدهما أو كل منهما هادما لموضوع الآخر أعني اشتراطه بعدم الآخر. والأمر سهل ، فلاحظ وتأمل.

قوله : المقدمة الخامسة : في بيان محل الكلام في بحث الترتب وبيان أنّ طلب الجمع بين الضدين ... إلخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه : المقدمة الخامسة : في تنقيح ما أشرنا إليه أوّلا من أنّ الأمر بالجمع بين الضدين إنّما ينشأ عن إطلاق الخطابين ، وأنّه بتقييد أحدهما أو كليهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر يرتفع المحذور المذكور. ولا يخفى أنّ أساس الترتب إنّما يبتني على هذه المقدمة والمقدمتين اللتين قبلها.

أمّا المقدمة الاولى وهي ما تعرضنا فيها لبيان أنّ المحذور هل كان ناشئا عن إطلاق الخطابين أو أنّه ناش عن فعلية كل منهما ، فهي متضمنة لتحرير النزاع في صحة الترتب وعدم صحته ( يعني أنّها متعرضة لإثبات صغرى ذلك النزاع ، فإنّه بعد إثبات أنّ المحذور الذي هو الجمع ناش عن الإطلاقين لا عن فعلية كل منهما ، يقع النزاع في أنّ تقييد الإطلاق من الطرفين أو من طرف واحد هل يرفع ذلك المحذور أو لا ).

وأمّا المقدمة الثانية وهي ما تعرضنا فيها لبيان الواجب المضيق ، وأنّ شرط الوجوب ونفس الوجوب وامتثاله كلّها متحدة الزمان في الواجب المضيق ، من دون حاجة إلى ما تقدم ذكره من التقدير ، فانّما هي بيان أمر واقعي ، وليس لها الدخل فيما يتوقف عليه صحة الترتب ، وإنّما ذكرناها

ص: 371


1- أجود التقريرات 2 : 73 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

لبيان أنّ وجوب الأهم من هذا القبيل من الواجبات المضيقة ، وأنّه لا يحتاج فيه إلى الالتزام بالتقدير المذكور.

وإنّما عمدة ما يتوقف عليه صحة الترتب هو المقدمات الثلاث الأخيرة وهي : الاولى : ما تعرضنا فيها لبيان أنّ الواجب المشروط لا يخرج بحصول شرطه عن كونه واجبا مشروطا ، ولا ينقلب بذلك إلى كونه واجبا مطلقا. المقدمة الثانية : هي ما تعرضنا فيها لتقسيم التقادير التي ينحفظ معها التكليف إلى ما يكون انحفاظه معها من جهة كونه مقيدا بها أو مطلقا بالقياس إليها ، وما يكون انحفاظه معها من جهة أنّ نفس التكليف يقتضيها ، وبيان الفرق بين هذين القسمين. المقدمة الثالثة : هي هذه المقدمة التي نحن الآن بصددها.

قوله : ولو فرضنا إتيان المكلّف بهما بداعي المطلوبية لكان مشرّعا لا محالة ... إلخ (1).

لو كان أحدهما بعينه مشروطا بعدم الآخر دون العكس لكان الإتيان بما هو المشروط لغوا صرفا ، ولو كان كل منهما مشروطا بعدم الآخر لكان كل منهما لغوا ، لكن ذلك إنّما هو فيما لو أتى بهما دفعة واحدة ، أمّا لو كان تدريجا كان المتعيّن للغوية هو المتأخر.

قوله : وتوهم أنّه لا مانع من طلب الجمع ولو لم يكن مقدورا في هذا الفرض ، لتمكن المكلّف من إعدام موضوعه ، فلا يقع في محذور المخالفة ... إلخ (2).

كما لو تزاحم الإنفاق على المملوك مع الإنفاق على أحد الأقارب

ص: 372


1- أجود التقريرات 2 : 74 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 : 74 - 75 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الواجب النفقة ، فإنّه قد يتوهم أنّه لمّا كان المكلّف يمكنه إعدام موضوع الإنفاق على المملوك ببيعه أو عتقه مثلا ، كان وقوعه في التكليف بالجمع الذي هو غير مقدور بسوء اختياره ، فلا يحكم العقل بقبحه. والجواب عنه واضح كما افيد في الأصل.

قوله : فتحصّل أنّ حال هذا القسم هي حال القسم الأوّل بعينها وأنّ طلب الجمع إنّما هو من لوازم إطلاق الخطابين ... إلخ (1).

لعل الأولى نقل ما حررته عنه قدس سره في هذه الأقسام وبيان أحكامها ، لأنّ الظاهر أنّه أوضح في الجملة. قال قدس سره فيما حررته عنه بعد التعرض الإجمالي للأقسام المذكورة ما هذا لفظه : قد عرفت أنّ شرط التكليف إمّا أن لا يكون قابلا لكل من الرفع أو الدفع الاختياري والشرعي كما في جميع الشروط الخارجة عن الاختيار ، وإمّا أن يكون قابلا لذلك كما في الشروط الاختيارية في الجملة ولو بمقدمات عديدة ، كما في الاستطاعة ومالكية النصاب وفاضل المئونة بالنسبة إلى الحج والزكاة والخمس.

ثم إنّ التكليف المشروط بالشرط القابل للتصرف الشرعي أو الاختياري بالرفع أو الدفع ، تارة يكون الشرط فيه معتبرا بجهة حدوثه واخرى بجهة بقائه. وما كان معتبرا فيه جهة البقاء إمّا أن يكون المعتبر هو البقاء في تمام الوقت ، أو البقاء في بعضه ، وقد عرفت أمثلة هذه الأقسام كلّها فيما تقدم.

وعرفت أيضا أنّ التكليف المذكور تارة يكون مجامعا لتكليف يكون بنفس توجهه هادما لشرط التكليف المذكور ، واخرى يكون هادما له

ص: 373


1- أجود التقريرات 2 : 76.

بامتثاله لا بمجرد توجهه ، وثالثة لا يكون هادما له أصلا ، لعدم تعرضه لهدمه لا بتوجهه ولا بامتثاله. وعرفت أيضا أنّ هذا القسم الثالث ملحق بالقسم الأوّل ، أعني ما يكون الشرط فيه غير قابل للتصرف الشرعي أو الاختياري بشيء من الرفع والدفع ، وأنّ القسم الأوّل منها يكون فيه ذلك التكليف واردا على التكليف المشروط بالشرط المذكور ، ولا يكون التكليفان منتهيين إلى إيجاب الجمع بين متعلقيهما ، سواء كان الجمع بينهما في حدّ نفسه ممكنا أو ممتنعا ، من دون حاجة إلى تقييد أحدهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر. وعرفت أيضا أنّ الترتب المبحوث عنه هو من القسم الثاني من هذه الأقسام.

ولا بأس بذكر بعض الفروع الفقهية التي هي من القسم الأوّل أو القسم الثاني من هذه الأقسام ، فنقول : قد عرفت أنّ وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، ووجوب الخمس مشروط بفاضل المئونة ، ووجوب الزكاة مشروط بمالكية النصاب. وعرفت أيضا أنّ الشروط المذكورة قابلة لكل من الرفع أو الدفع الاختياريين والشرعيين ، فنقول :

أمّا الرفع الاختياري في هذه الأمثلة فهو بأن يخرج الإنسان نفسه عن كونه مستطيعا أو مالكا لفاضل المئونة والنصاب ، بهبته لما في يده من المال أو بيعه محاباة أو نحو ذلك ممّا يوجب خروجه عن ملكه. ولكن هذه الأمثلة يختلف الحكم فيها بالنسبة إلى مثل هذه التصرفات ، أمّا في الحج فتكون التصرفات المذكورة نافذة ، إلاّ أنّها لا تكون مسقطة لوجوب الحج عليه ، بل يلزمه الحج متسكعا. وأما في الخمس فلا تكون نافذة إلاّ إذا كانت لائقة بحاله مناسبة لشأنه ، على وجه لا تعد تبذيرا بل تعد مئونة. وأمّا في الزكاة فتكون نافذة ورافعة لموضوع وجوبها عليه.

ص: 374

وأمّا التصرف الشرعي فهو بأن يتوجه إليه تكليف مالي في أثناء السنة ، ويكون ذلك التكليف هادما لموضوع تلك التكاليف المشروطة بما ذكر ، على اختلاف بينها في كونه هادما له بنفس توجهه أو هادما له بامتثاله ، فإنّ ذلك التكليف المالي إمّا أن يكون متعلقا بالعين ، وإمّا أن يكون متعلقا بالذمة. فإنّ كان متعلقا بالعين كان هادما لموضوع التكليف في كل من هذه الأمثلة الثلاثة ، وإن كان متعلقا بالذمة ، فان كان في مقابل الحج ، فان كان حالا بأن كان وقت أدائه قبل الحج ، فلا إشكال في كونه بمجرد توجهه هادما لموضوع الحج ، سواء أدّاه أو عصى ولم يؤدّه. وإن كان مؤجلا إلى ما بعد الفراغ من الحج ، فان لم نعتبر الرجوع إلى الكفاية في وجوب الحج لم يكن لذلك التكليف المالي أثر بالكلية ، وإن اعتبرنا فيه الرجوع إلى الكفاية كان ذلك التكليف المالي أيضا هادما لموضوع وجوب الحج بنفس توجهه.

وأمّا بالنسبة إلى الزكاة فلا أثر فيه للمؤجل إلى ما بعد الحول ، وفيما يكون حالا قبل الحول لا يكون لمجرد توجهه أثر ، نعم لو أدّاه من عين النصاب كان موجبا لانهدام موضوع وجوب الزكاة ، فان كان ماله منحصرا في النصاب كان من قبيل ما يكون بامتثاله رافعا ويكون من الرفع الشرعي ، وإن لم يكن ماله منحصرا فيه كان أداؤه من مال النصاب من قبيل الدفع الاختياري.

وأمّا بالنسبة إلى الخمس ففيه تفصيل ، فإنّ التكليف المالي المتعلّق بالذمة إن كان من قبيل أداء الدين الذي استدانه لنفقته في سنة الربح ، لم يفرق فيه بين الحال والمؤجل في كونه بتوجهه هادما لموضوع وجوب الخمس فيما قابله ، أدّاه أو لم يؤده. وإن لم يكن من هذا القبيل بل كان من ديون السنة السابقة ، فان كان حالا وأداه في سنة الربح كان موجبا لدفع

ص: 375

موضوع وجوب الخمس فيه ، وإلاّ فلا أثر لمجرد اشتغال ذمته به ، سواء كان مؤجلا أو كان حالا ولم يؤده ، وحينئذ يكون هذا النحو من الدين هادما لموضوع وجوب الخمس بامتثاله لا بمجرد توجهه. وهكذا الحال في الغرامات والضمانات المتوجهة إليه في عرض السنة ، فإنّه لا يبعد أن يكون الهادم لوجوب الخمس فيما قابلها من الربح هو أداءها لا مجرد توجهها.

واعلم أنّ كل ما يكون هادما بامتثاله لا بتوجهه يكون بالنسبة إلى آخر السنة الذي هو وقت وجوب إخراج الخمس من قبيل الترتب ، لأنّه في ذلك الآن مأمور بأداء ذلك المال ، فان لم يؤده وجب عليه إخراج خمسه. هذا كلّه في نسبة هذه التكاليف الثلاثة - أعني وجوب الحج والزكاة والخمس - إلى غيرها من التكاليف المالية الواردة عليها.

وأمّا نسبة بعضها إلى بعض ، فان كان بعضها في أثناء سنة الآخر كان مقدما عليه ، كما إذا تمت سنته الزكوية قبل تمام سنة الربح ، فانّ المقدم حينئذ هو الزكاة ، ويكون مجرد توجه الزكاة هادما لموضوع وجوب الخمس. ولو كان الأمر بالعكس كان الحكم على العكس ، فيقدم الخمس على الزكاة لو تمت سنته في أثناء سنة الزكاة ، ويكون توجه الخمس إليه هادما بنفسه لوجوب الزكاة. ولو اقترنا كانت الزكاة مقدمة لكون الخمس مشروطا بمالكية فاضل المئونة ، والتكليف بالزكاة لا يدعه مالكا لذلك.

قلت : هذا كلّه في نسبة كل واحد من هذين إلى الآخر ، وأمّا نسبة كل واحد منهما إلى وجوب الحج فالظاهر أنّ كلاّ منهما إذا تمت سنته في أثناء سنة الاستطاعة كان بنفس توجهه هادما لموضوع وجوب الحج ، وإن كان بالعكس كان الحج هادما لموضوع كل منهما بامتثاله ، ولو اقترن أحدهما أو كلاهما معه كانا مقدّمين عليه بنفس التوجه لا بالامتثال.

ص: 376

ثم لا يخفى أنّ ما ذكرنا من تقدم حول الزكاة على حول الخمس الظاهر أنّه يمكن جريانه فيما يعتبر فيه الحول من الزكويات كالأنعام والنقدين ، فانّه إذا فرض أنّ رأس سنة الخمس هو أوّل محرم ، وكان قد ملك النصاب المذكور أوّل ذي الحجة ، واتفق أنّه عند الحساب في أول محرم هذه السنة تبين أنّ عنده خسارات كثيرة ولم يكن عنده فاضل مئونة ، وبقي عنده النصاب إلى أن كمل حوله في ذي الحجة ، فكان عليه أن يزكيه لكنّه لم يفعل ، ولمّا جاء محرم كانت عنده أرباح كثيرة ، فيلزمه تخميس ما عنده إلاّ الناقة التي كانت زكاة. وقد يتصور ذلك في زكاة الغلات بأن يكون له زراعة يتم حاصلها في أثناء سنة الربح فيلزمه أداء الزكاة ، وبعد تمامية سنة الربح يلزمه إخراج خمس باقي ذلك الحاصل إن كان فاضلا عن مئونته. وقد ذكر في العروة (1) في أوائل الزكاة وكذلك في الجواهر (2) فروعا متعلقة باجتماع النذر والزكاة واجتماع الزكاة مع الحج ، ونحن أفردناها مشروحة في أوراق مستقلة (3) ، فراجعها إن شاء اللّه تعالى.

ثم اعلم أنّ ما يكون من التكاليف هادما بامتثاله لشرط التكليف له أمثلة في الفقه كثيرة ، منها ما عرفت من بعض صور الأمثلة السابقة ، ومنها أمثلة في باب السفر والحضر ، كمن كان مسافرا وحرمت عليه الإقامة لجهة من الجهات ، فانّه إن عصى وأقام وجب عليه الصوم ، فهو من أول الفجر إلى الزوال مخاطب بحرمة الإقامة ولزوم تركها ، كما أنّه مأمور في ذلك الوقت بالصوم المشروط بالإقامة التي هي عصيان التحريم المذكور. فان قلنا

ص: 377


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 19 - 25 / مسألة ( 12 و 13 ).
2- جواهر الكلام 15 : 43 - 48.
3- مخطوطة ، لم تطبع بعد.

إنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر مع بقاء موضوعه كان حرمة الإقامة من قبيل الأمر بالأهم ، والأمر بالصوم على تقدير الإقامة وعصيان ذلك التحريم من قبيل الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم ، من دون أدنى فرق بين المسألتين ، فانّه بناء على أنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر يكون امتثال النهي عنها بنفسه هدما لموضوع وجوب الصوم ، كما أنّ امتثال الأهم يكون بنفسه هدما لموضوع الأمر بالمهم.

وبناء على أنّ الإقامة قاطعة لموضوع السفر لم يكن امتثال النهي المذكور بنفسه هدما لموضوع وجوب الصوم ، بل إنّما يكون هدما له بلازمه ، لأنّ امتثال النهي المذكور يلزمه أن يكون داخلا في موضوع المسافر ، وذلك اللازم أعني المسافر هو الهادم لموضوع وجوب الصوم ، إذ ليس الهادم لموضوع وجوب الصوم هو مجرد [ ترك ](1) الإقامة.

والحاصل : أنّه إذا قلنا إنّ الإقامة قاطعة لحكم السفر كان عصيان النهي عنها بنفسه شرطا في وجوب الصوم ، فيكون من قبيل الأهم والمهم تحقيقا. وإن قلنا إنّها قاطعة لموضوع السفر كان عصيان النهي عنها محققا لموضوع وجوب الصوم ، أعني عنوان الحاضر ، أو من لم يكن مسافرا. وعلى الأوّل يكون بين وجوب الصوم وحرمة الإقامة واسطة واحدة وهي عصيان حرمة الإقامة ، وعلى الثاني يكون بينهما واسطتان : عصيان الإقامة وتحقق موضوع وجوب الصوم ، أعني الحضر أو عدم السفر (2) ، فتأمل.

فقد تلخّص لك : أنّ كل تكليف يكون بامتثاله هادما لموضوع

ص: 378


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ في الأصل : الصوم ، والصحيح ما أثبتناه ].

التكليف الآخر يكون تحقق ذلك التكليف الآخر متوقفا على عدم امتثال ذلك التكليف الذي يكون امتثاله هادما لموضوعه ، سواء كان متعلّق كل من التكليفين في نفسه صالحا للاجتماع مع متعلق الآخر أم لم يكن صالحا ، ومنه ما نحن فيه من الأمر بالأهم والأمر بالمهم المعلّق على عصيان الأمر بالأهم. وعمدة الكلام في أمثال ذلك هو أن كون أحد التكليفين بامتثاله هادما لموضوع التكليف الآخر ، وكون التكليف الآخر مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الأوّل ، هل يكون مخرجا للتكليفين عن كونهما إيجابا للجمع بين المتعلقين ليصح الأمران فيما كان المتعلقان في أنفسهما غير ممكني الجمع ، أو أن ذلك لا يكون مخرجا للأمرين المذكورين عن كونهما مستلزمين لإيجاب الجمع ، ليصح في خصوص ما أمكن فيه الجمع دون ما لم يمكن.

فخلاصة الكلام في المسألة هو : أنّ الأمرين المذكورين اجتمعت فيهما جهتان متلازمتان : الاولى كون أحد التكليفين هادما لموضوع التكليف الآخر ، والاخرى كون ذلك التكليف الآخر مشروطا بعدم امتثال التكليف الأوّل. فهل يكون كل من هاتين الجهتين أو إحداهما نافعا في إخراجهما عن إيجاب الجمع ، أو أنّه لا يكون شيء منهما نافعا في ذلك؟

قوله : وبالجملة فرض اشتراط طلب المهم بترك الأهم وفرض كونه مطلوبا معه ممّا لا يجتمعان ، ولازم الفرضين هو استلزام الشيء لنقيضه واجتماعه مع علّة عدمه ، وكلاهما مستحيلان ... إلخ (1).

قال قدس سره فيما حررته عنه بعد كلام مفصّل في ذلك ما هذا لفظه : والحاصل : أنّك قد عرفت أنّ مناط الأمر بالجمع هو أن يكون الأمر بالقراءة

ص: 379


1- أجود التقريرات 2 : 82 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

مقتضيا لها في حال الاشتغال بالقيام ، إمّا من جهة أخذ القيام قيدا للوجوب أو أخذه قيدا في الواجب ، وإمّا من جهة إطلاق وجوبها بالنسبة إلى امتثال الأمر بالقيام وعدم امتثاله ، فانّه أيضا يكون موجبا لأن يكون الأمر بالقراءة مقتضيا لها في حال القيام. فإذا قيد الأمر بها بعدم القيام ، وكان التقييد المذكور موجبا لانحصار القراءة المأمور بها بحال عدم القيام ، فقد انحصر كل من الوجوب المذكور ومتعلّقه بنقيض ما هو مناط الجمع ، فلا يعقل أن يكون حينئذ موجبا للأمر بالجمع بينها وبين القيام إلاّ بأحد وجهين :

أحدهما : تبديل القيد المذكور بنقيضه بأن يقال : إنّ وجوب القراءة مع فرض كونه مقيدا بعدم القيام يكون عند فعليته مقيدا بالقيام.

ثانيهما : أن يقال : إنّ وجوب القراءة مع فرض كونه مشروطا بعدم امتثال الأمر بالقيام ، يكون عند فعليته مطلقا شاملا لصورة امتثال الأمر بالقيام.

وكل من هذين الوجهين خلف لما فرض من كون الأمر بالقراءة مقيدا بعدم امتثال الأمر بالقيام ، فالقائل بأنّ الأمر الترتبي مستلزم لإيجاب الجمع إمّا أن يلتزم بأحد هذين الوجهين ، وهو ما ذكرناه من الخلف ، وإمّا أن يلتزم بأنّ القيد المذكور وهو عدم القيام لا يتبدل عند فعلية الوجوب المذكور ، ولا يكون الوجوب المذكور عند فعليته منقلبا عن التقييد إلى الإطلاق. فان قال مع ذلك الالتزام إنّ الأمر المذكور مستلزم للأمر بالجمع ، فقد عرفت أنّ تقييد الوجوب موجب لتقيد الواجب ، فيكون تقييد الأمر بالقراءة بعدم القيام موجبا لتقيد القراءة بذلك ، ولا ريب أنّ تقيد القراءة المطلوبة بعدم القيام نقيض لما هو مناط الجمع أعني كونها متقيدة بالقيام ،

ص: 380

فيكون استلزام الأمر بها المقيد بعدم القيام لما ذكر من الجمع من قبيل استلزام الشيء لنقيضه.

وأيضا فإنّه بعد فرض كون عدم القيام شرطا في وجوب القراءة يكون وجود القيام علّة لعدم وجوبها ، ولا ريب في أنّ الوجوب المتعلّق بالقراءة يكون علّة لها وتكون القراءة معلولة عنه ، وحينئذ لو قلنا إنّ الوجوب المزبور يكون علّة للجمع - أعني كون القراءة مطلوبة في حال القيام - لكان ذلك من قبيل كون الطلب المذكور علّة لان يقترن معلوله وهو القراءة بالقيام الذي هو علّة عدمه ، فان انعدم الطلب المذكور لتحقق القيام الذي هو علّة عدمه ، كان كونه علّة لما ذكر من الجمع من قبيل علّية المعدوم لما ذكر من الجمع ، وإن بقي محفوظا كان من قبيل اقتران الشيء بعلة عدمه.

قوله : وليس حال المهم عند فعلية الأمر بالأهم إلاّ كحال المباحات ... إلخ (1).

بل إنّ المباح لا تكون إباحته مشروطة بترك الأهم ، بخلاف المهم فإنّ وجوبه يكون مشروطا بعدم الإتيان بالأهم ، وبذلك يكون عدم المنافاة فيه أوضح من المباحات ، فتأمل.

والإنصاف : أنّ النقض بالمباح غير وارد ، إذ لا إلزام فيه ، بخلاف الواجب المهم. إلاّ أن يقال إنّه أيضا لا إلزام فيه ، باعتبار أنّ له تركه والإتيان بالأهم ، غاية الأمر أنّ المباح له تركه وإن لم يفعل الأهم ، بخلاف المهم فانّه إنّما يكون له تركه عند فعله الأهم ، وهذا المقدار كاف في إمكان الجمع بين الأمر به والأمر بالأهم ، فلاحظ.

ص: 381


1- أجود التقريرات 2 : 83.

قوله : وأمّا بالحل ، فلأنّ طلب الجمع إنّما هو من لوازم انحفاظ كل من إطلاقي الخطابين بالنسبة إلى الإتيان بمتعلّق الآخر وعدمه كما ذكرناه مفصلا ، وأمّا إذا كان أحد الطلبين مقيدا بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر فلا تسوية له بالنسبة إلى الإتيان بمتعلّق الآخر وعدمه ، ويستحيل أن يقع متعلّقه على صفة المطلوبية في عرض الإتيان بمتعلّق الآخر ... الخ (1).

لم يتّضح الحل كل الاتضاح ، فانّ هذه التقريبات قد تقدمت ومع ذلك سأل السائل ذلك السؤال الذي كان جلّ غرضه فيه هو الاتجاه نحو الأمر بالأهم ، وأنّه مطلق فعلي في ظرف فعلية الأمر بالمهم ، فكان محصّل الأمر بالأهم هو لزوم إيجاده في حال انشغال المكلّف بالمهم ، المفروض كونه واقعا أيضا على جهة اللزوم ، وإن كان لو أتى المكلّف بالأهم لكان الإتيان به موجبا لارتفاع الأمر بالمهم ، إلاّ أنّ تلك مرحلة اخرى لا دخل لها بجهة الإشكال. وحاصل هذه الجهة من الإشكال أنّ المكلّف في حال كونه ملزما بفعل المهم وهو مشغول به يكون مكلفا بالأهم ، فيكون حاصل ذلك أنّه ملزم بايجاد الأهم على ذلك المهم المفروض كونه مشغولا به على جهة الالزام.

نعم ، للجهة المذكورة من الإشكال جواب إجمالي ، وهو ما افيد بقوله : وبالجملة محذور طلب الجمع إنّما يترتب على وحدة زماني المطلوبين ، بحيث لو وجدا في الخارج معا لاتّصفا بصفة المطلوبية ، لا على وحدة زماني الطلبين مع اختلافهما في الرتبة ، وما يلزم من الخطابين على

ص: 382


1- أجود التقريرات 2 : 84 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

نحو الترتب هو الثاني دون الأوّل (1). إلاّ أنّ الظاهر منه هو الاستناد في عدم محالية اجتماع الطلبين في الزمان إلى مجرد الاختلاف في الرتبة ، وقد عرفت فيما تقدّم (2) أنّ مجرد الاختلاف في الرتبة لا ينفع في ذلك ، وإلاّ لصحّ أن يقال « إن أمرتك بازالة النجاسة فصلّ » مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما.

والجواب الذي يحصل به انحلال هذه الشبهة برمتها : هو التعرض لحال المهم في حال انشغال المكلّف به وورود الأمر بالأهم في ذلك الحال بمقتضى إطلاقه ، بأن يقال : إنّ المحالية إنّما هي في طلب الأهم في حال فعل المهم الملزم به ، على وجه يكون باقيا على كونه ملزما به في حال الإتيان بالأهم ، والمفروض أنّ الإتيان بالأهم يخرج المهم عن كونه ملزما به ، فلا يكون اجتماعهما من قبيل الجمع بين فعلين ملزم بهما ، بل يكون ورود الفعل الأهم على فعل المهم مزيلا للالزام به.

وتوضيح ذلك هو ما أفاده شيخنا قدس سره في الجواب الحلّي عن هذه الشبهة حسبما حررته عنه قدس سره ، فانّه قال بعد النقض بفعل المباح ما هذا لفظه : وثانيا بالحل ، وهو أنّ إطلاق الوجوب بالنسبة إلى فعل آخر عبارة عن انحفاط الوجوب عند ذلك الفعل ، بمعنى أنّ الوجوب يكون متحققا عند الفعل المذكور ، لا أنّ ما تعلّق به الوجوب يكون موجودا ومنحفظا عند الفعل المذكور. وبالجملة : أنّ إطلاق الوجوب بالنسبة إلى فعل من الأفعال لا يقتضي أزيد من انحفاظ الوجوب عند ذلك الفعل ، فلا يكون مجرد الإطلاق المذكور موجبا للالزام بمتعلق ذلك الوجوب مقترنا بذلك الفعل

ص: 383


1- أجود التقريرات 2 : 84 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- في الصفحة : 370 ، وراجع أيضا الصفحة : 360 - 361.

وموجبا للجمع ، إلاّ إذا كان ذلك الفعل ملزما به عند وجود ذلك المتعلق. وما تقدم منّا من أنّ إطلاق كل من التكليفين يقتضي إيجاب الجمع بينهما ليس معناه أنّ الإطلاق هو العلّة التامة في ذلك ، نعم هو الجزء الأخير من العلة المذكورة ، بمعنى أنّ التكليفين بعد فعليتهما وتنجزهما هل يكون مجرد ذلك موجبا لكونهما أمرا بالجمع بين المتعلقين ، أو أنّه لا بدّ في ذلك من مقدمة اخرى ، وهي إطلاق كل من الخطابين بالنسبة إلى متعلّق الآخر ، لأنّه حينئذ يكون كل منهما ملزما فعلا بمتعلقه إلزاما مطلقا بالقياس إلى فعل لازم وهو متعلق الآخر.

أمّا إذا كان أحدهما غير مطلق من هذه الجهة بل كان مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الآخر ، لم يكن موجبا للجمع ، فانّهما حينئذ وإن كانا فعليين إلاّ أنّه لمّا كان أحدهما مشروطا بما ذكر لم يكن شيء منهما موجبا للجمع. أمّا المشروط فواضح ، وأمّا المطلق فلأنّ إطلاقه بالنسبة إلى فعل الآخر لم يكن إطلاقا بالنسبة إلى ما فيه الإلزام على كل تقدير من امتثال ذلك المطلق وعصيانه ، بل كان إطلاقا بالنسبة إلى ما لا إلزام فيه على تقدير امتثاله ، فلا يكون الأمر المطلق مقتضيا للجمع ، بل أقصى ما فيه أن يكون مقتضيا لمتعلّقه الذي يكون وجوده موجبا لرفع الإلزام عن متعلق الآخر ، فيكون الأمر المطلق حينئذ إلزاما بما يرفع الإلزام بالآخر ، لا أنّه إلزام بمتعلّقه في حال فعل اللازم الآخر كي يكون موجبا للجمع بينهما.

وبعبارة اخرى : لزوم الجمع إنّما يتأتى إذا كان وجود كل من المتعلقين متصفا بالمطلوبية ، وملزما به عند فعل الآخر. أمّا إذا كان وجود أحدهما رافعا للإلزام بالآخر ودافعا له ، فلم يكن وجود ذلك الآخر متصفا بالمطلوبية عند وجوده ، فلا يكون تحقق الوجوب المطلق عند وجود متعلّق

ص: 384

الوجوب المشروط مقتضيا للجمع بينهما.

وبالجملة : أنّ المتحقّق في حال فعل المهم إنّما هو إيجاب الأهم ، لا نفس فعل الأهم ، ومن الواضح أنّ إيجاب الأهم وإن اقتضى الإتيان به ، إلاّ أنّه لمّا كان الاتيان به موجبا لارتفاع صفة المطلوبية عن المهم ، لم يكن إيجاب الأهم في ذلك الحال موجبا لاتصاف كل من الفعلين لو فرض إمكان وجودهما معا بصفة المطلوبية كي يكون موجبا للجمع بين الضدين. فليس مطلوبية الأهم في حال فعل المهم إلاّ كمطلوبيته في حال ما يكون مباحا من سائر الأفعال المضادّة له في عدم اقتضائه للأمر بالجمع بينهما.

والسّر في ذلك : أنّ الفعل الذي يكون الإلزام بالأهم عند تحققه إن كان في نفسه لازما كان من قبيل الجمع بين الضدين ، كما لو كان الأمر بالأهم مقيدا بذلك الفعل اللازم ، أو كان مطلقا من جهته وكان الإلزام بذلك الفعل أيضا مطلقا من جهة الإتيان بالأهم وعدمه. أمّا إذا لم يكن الفعل المذكور لازما عند وجود الأهم ، كما إذا كان مباحا أو كان لزومه مندفعا بوجود الأهم ، لم يكن توهّم (1) الإلزام بالأهم في حال ذلك الفعل موجبا للجمع بينهما.

قوله : فانّه عليه لا يكون الأمر بالأهم رافعا لموضوع الأمر بالمهم وهادما له تشريعا ، فانّ الأمر بالأهم إنّما يقتضي عدم عصيانه ، لا عدم العزم على عصيانه ... الخ (2).

تقدم مرارا منه قدس سره أنّ الأمر بالأهم إنّما يكون رافعا لموضوع الأمر بالمهم بامتثاله لا بنفس توجّهه ، ومن الواضح أنّ امتثال الأمر بالأهم يكون

ص: 385


1- [ كذا في الأصل ].
2- أجود التقريرات 2 : 85.

هادما للعزم على عصيانه ، لكونه هادما لنفس عصيانه ، ومع انهدام نفس العصيان لا يبقى مجال للعزم على العصيان ، لكن ليس ذلك من جهة أنّ متعلّق الأمر بالأهم هو الحصة الاختيارية منه ليكون الأمر بالمهم مشروطا بعدم تلك الحصة الاختيارية ، ويكون نفس الأمر بالأهم هادما لعدم تلك الحصة الاختيارية ، وبذلك يكون هادما للعزم على عدم الإتيان بتلك الحصة الاختيارية كما تضمنته الحاشية (1) ، فانّ الأمر بالأهم لا يهدم بنفسه ذلك الموضوع الذي هو عدم تلك الحصة ، وإنّما يهدمها بامتثاله ، وبواسطة ذلك يكون هادما لموضوع المهم ، سواء قلنا إنّ موضوعه هو عدم الأهم بقول مطلق ، أو أنّه هو عدم تلك الحصة الاختيارية. نعم إنّ موضوع الأمر بالمهم هو مجرد العصيان وعدم الإتيان بالأهم ، والعزم على العصيان أجنبي عن ذلك الموضوع.

ولعل الشيخ قدس سره لا يرى نفس ترك الأهم موضوعا للأمر بالمهم ، بل إنّه يرى أنّ موضوع الأمر بالمهم هو خلو الزمان الوافي بكل منهما عن وجود الأهم فيه ، وهذا المعنى - أعني خلو تمام الزمان عن الأهم - لا يمكن للمكلف إحرازه إلاّ إذا كان قاطعا بعدم إقدامه على الأهم وبانيا على عصيانه ، فيكون الشرط في الحقيقة هو العنوان المنتزع من خلو الزمان بتمامه ، وهذا العنوان المنتزع إنّما يحرزه المكلّف بقطعه وعزمه على عدم الإتيان بالأهم ، فكأن لسان حال الآمر يقول املأ الزمان بالإزالة وإن أخليت ذلك الزمان من الإزالة فاملأه بالصلاة ، وهذا المعنى - أعني إخلاء الزمان من الإزالة - لا يمكن إحرازه إلاّ بالعزم على ذلك ، فيكون اعتبار العزم على

ص: 386


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 85.

العصيان من باب الطريق المحرز لما هو الشرط ، أعني خلو الزمان عن الإزالة. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في التنبيه الرابع (1) ما لعلّه يوضّح ما ذكرناه من أنّ الشرط هو عنوان التعقّب.

قوله : وأمّا السر في تعبيرنا بشرطية العصيان دون نفس الترك ، فلأنّ مجرد الترك حاصل عند الجهل به أيضا ، والكلام في باب التزاحم إنّما هو في فرض العلم بالخطاب بالأهم وتنجّزه ، فالتعبير بالعصيان أولى ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حررته عنه في هذا المقام ما هذا لفظه وهو : أنّا في مقام التعبير عن الشرط الذي علّق عليه الأمر بالمهم نعبّر عنه بعصيان الأمر بالأهم ، ولم نعبّر عن ذلك بترك الأهم ، إيماء وإشارة إلى أنّ عدم الأهم المأخوذ شرطا في الأمر بالمهم إنّما اخذ شرطا فيه إذا كان ذلك الترك عصيانا ، ولا يكون ذلك إلاّ مع تنجّز الأمر بالأهم بواسطة تحقّق العلم به ، ويتفرع على ذلك أنّ الأمر بالأهم إذا لم يكن معلوما لا نحتاج في توجّه الأمر بالمهم إلى الترتب وتعليقه على ترك الأهم ، فانّ الاحتياج إلى ذلك فرع تحقّق التزاحم بين الأمرين ، ومع كون الأمر بالأهم غير معلوم لا يكون في البين تزاحم كي نحتاج إلى إصلاحه بما ذكرنا من الترتب ، فانّ الأمرين إنّما يتزاحمان إذا كان كل منهما منجّزا ، دون ما إذا كان أحدهما غير منجّز للجهل به ، وحينئذ يكون الغرض من العصيان هو منشأ انتزاعه ، أعني ذلك الترك بما أنّه مؤد إليه ومحقّق له ، انتهى.

ومن هذا الذي حررناه عنه قدس سره تعرف أنّ التعبير عن الشرط بعصيان

ص: 387


1- أجود التقريرات 2 : 98 - 99.
2- أجود التقريرات 2 : 86 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الأهم لا يكون إلاّ من باب الطريقية لما هو الشرط ، أعني عدم الأهم في مورد تنجّز الأهم ، فانّ الشرط لا يكون إلاّ نفس ذلك العدم ، غاية الأمر أنّ الاحتياج إلى الاشتراط إنّما يكون في مورد انطباق العصيان عليه الذي هو مورد تنجّز الأهم. فليس العصيان بنفسه هو الشرط ، بل هو طريق إلى بيان انحصار الاحتياج إلى الاشتراط بما إذا كان الأمر بالأهم منجزا.

قلت : بل قد يقال : إنّ أخذ العصيان شرطا مخل بما لو كان الترتب من الطرفين ، كما في مورد التساوي ، لأنّ عصيان التكليف متأخر عنه رتبة ، ونفس التكليف متأخر رتبة عن شرطه ، فيكون كل من الخطابين متأخرا عن الخطاب الآخر ، ويكون كل منهما حينئذ متأخرا عن نفسه ، إلاّ أن ندفعه بالدور المعي ، بأن نقول : إنّ التدافع بين الإطلاقين حيث كان بالنسبة إلى كل واحد منهما كنسبته إلى الآخر ، كان موجبا لسقوط كل منهما في رتبة سقوط الإطلاق الآخر ، وكان تقييد كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر في رتبة تقييد الآخر بذلك أيضا. ولكن لا يخفى أنّ لازم ذلك هو إنكار طولية الأمر بالمهم بالنسبة إلى الأمر بالأهم.

وبالجملة : أنّ هذا الإشكال - أعني إشكال الدور في الترتب من الطرفين - متوجّه حتى لو لم نقل بأنّ العصيان هو الشرط ، بل كان الشرط هو مجرد الترك ، لما تقدم (1) في المقدمة الرابعة من أنّ عدم الأهم الواقع في مرتبة نفس وجود الأهم يكون متأخرا في الرتبة عن نفس الأمر بالأهم ، وأنّ نسبة ذلك العدم إلى نفس الأمر بالأهم كنسبة المعلول إلى علّته ، كما أنّ نسبته إلى الأمر بالمهم كنسبة العلّة إلى معلولها ، وبذلك يكون الأمر بالأهم

ص: 388


1- في صفحة : 342 - 343.

سابقا على الأمر بالمهم برتبتين. وحينئذ لو صحّحنا الترتب من الطرفين لكان كل من التكليفين سابقا على الآخر برتبتين ، فيكون كل منهما سابقا على نفسه برتبتين.

فالأولى هو إنكار هذه الطولية ، وأنّ العدم المأخوذ شرطا في الأمر بالمهم ليس هو إلاّ خلو الزمان من الأهم ، بمعنى أنّ ذات ذلك الخلو هو الشرط ، وإن كان نفس ذلك الخلو في حدّ نفسه ينطبق عليه عصيان الأهم عند كون الأهم منجّزا ، كما أنّ نفس ذلك الخلو باعتبار كونه نقيضا للوجود الناشئ عن الأمر بالأهم يكون متأخرا رتبة عن الأمر بالأهم ، إلاّ أنّه لم يؤخذ شرطا بما أنّه نقيض لذلك الوجود المعلول للأمر بالأهم ، بل بما أنّه عدم محض نعبّر عنه بخلو الزمان من الأهم. وهذا التقييد والاشتراط إنّما هو في مورد كون الأهم (1) مأمورا به بأمر منجّز ، لا أنّ الشرط هو تلك الحصة الخاصة من العدم الذي هو توأم مع الوجود المعلول للأمر بالأهم كي يكون متأخرا عنه رتبة ، ليكون الأمر بالأهم سابقا على الأمر بالمهم برتبتين ، ليكون الترتب من الطرفين محالا.

وبالجملة : ليس الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم فضلا عن كون هذه الطولية بمجردها هي المصحّحة للجمع بين الأمرين ، بل إنّ عمدة المصحّح لذلك هو كون الأهم بامتثاله هادما لما هو موضوع الأمر بالمهم ، وأنّ الأمر بالمهم لا تعرّض له لإثبات ذلك الموضوع. ولا يخفى أنّ مجرد كون امتثال الأمر بالأهم هادما لموضوع الأمر بالمهم لا يوجب تقدمه عليه كي يكون سابقا عليه في الرتبة ، ليعود محذور الدور في الترتب من

ص: 389


1- [ في الأصل : الأمر ، والصحيح ما أثبتناه ].

الطرفين ، فتأمل.

ولو قلنا بأنّ الشرط في الأمر بالمهم ليس هو مجرد ترك الأهم معرّى عن لحاظ كونه تركا لما هو المأمور به ، وإلاّ لكان الأمر مشروطا بترك كل مباح ، بل إنّ الشرط إنّما هو ترك الفعل المأمور به بما أنّه مأمور به ، وحينئذ لا مناص عن الالتزام بالطولية ، وحيث إنّها موجبة للدور في المتساويين في الأهمية لم يكن بدّ فيهما من الالتزام بالسقوط في كل منهما ، واستكشاف تخيير عقلي أو شرعي بينهما ، فراجع ما قدّمناه (1) في المقدمة الرابعة وباقي أبحاث المسألة وتأمل.

قوله : وبالجملة بعد تقييد إطلاق أحد الخطابين بعصيان الآخر يكون وقوع المتعلقين على صفة المطلوبية بنحو القضية المنفصلة الحقيقة - إلى قوله : - ويتحصّل أنّه إمّا أن يوجد الأهم على صفة المطلوبية ، أو يتصف المهم بذلك ... الخ (2).

أفاد قدس سره في توضيح ذلك فيما حررته عنه : أنّ كل طلب إنشائي ينحل إلى قضية حملية موضوعها المطلوب ومحمولها الطلب ، فيقال في مثل « صلّ » الصلاة مطلوبة ، وقد ذكرنا في أوائل مباحث صيغة الأمر أنّ مفادها ينحل إلى نسبتين : إحداهما نسبة الفعل إلى فاعله ، والاخرى النسبة الطلبية ، وهي كيفية للنسبة الاولى ، ويكون المتحصّل في مثل « صلّ » انتساب الصلاة إلى المخاطب على جهة طلبها منه ، وحينئذ نقول : إنّ مفاد الأمر بالمهم المعلّق على عصيان الأهم هو تعليق نسبة على عدم اخرى ، والنسبة المعلّقة هي النسبة الطلبية التي عرفت انحلالها إلى النسبتين ، والنسبة المعلّق على

ص: 390


1- في صفحة : 361 - 362.
2- أجود التقريرات 2 : 86 - 87 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

عدمها ليست هي النسبة الطلبية ليكون الأمر بالمهم مشروطا بعدم الأمر بالأهم ، فانّ ذلك خارج عما نحن فيه من الخطاب الترتبي ، بل المعلّق على عدمها هي النسبة الفاعلية ، بمعنى أنّ نسبة فعل الأهم إلى فاعله هي التي يكون طلب المهم معلقا على عدمها ، فتكون صورة الطلبين هكذا : « أزل النجاسة فان لم تزلها فصلّ » وإذا حلل ذلك إلى القضية الحملية كانت صورته هكذا : « الإزالة مطلوبة ، وإن لم تزل فالصلاة مطلوبة » فكان محمول الثانية معلّقا على عدم النسبة في الاولى ، غايته أنّ المعلّق عليه هو النسبة بجهتها الفاعلية لا بجهتها الطلبية ، والمحمول في الاولى غير معلّق على شيء.

وحيث إنّ كل قضيتين حمليتين يكون المحمول في إحداهما معلقا على عدمه في الاخرى دون العكس ينتجان قضية منفصلة مرددا فيها بين المحمولين على سبيل منع الجمع ( الحقيقية ) ، فيتحصّل من ذلك قضية منفصلة مانعة الجمع ( حقيقية ) مفادها إمّا أن يكون ما هو المطلوب بالأمر بالأهم موجودا ومتحققا خارجا وإمّا أن يكون المهم مطلوبا ، على حذو قولنا « إنّ المريض إمّا أن يشرب الدواء وإمّا أن يموت » فيما لو فرضنا كون عدم شرب الدواء علّة للموت ، ومن الواضح أنّ لازم القضية المنفصلة المانعة الجمع هو أن يكون كل [ من ](1) طرفيها مجتمعا مع عدم الآخر لا مع وجوده. ففيما لو كانا عرضيين يكون كل منهما معلّقا على عدم الآخر ، ويكون عدم كل منهما علّة لوجود الآخر ، وفيما لو كانا طوليين كما مثلنا من شرب الدواء والموت يكون الثاني منهما معلّقا على عدم الأول ، ويكون

ص: 391


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

عدم الأول علّة في وجود الثاني. وما نحن فيه من قبيل الأول إن لم يكن في البين أهمية لأحدهما ، ومن قبيل الثاني إن كانت في البين أهمية لأحدهما كما في مثال الأهم والمهم.

وعلى أي حال فلا يعقل أن يكون ذلك منتهيا إلى طلب الجمع ، لما عرفت من أنّ لازم القضية المانعة الجمع هو كون كل واحد من طرفيها ملازما لعدم الآخر ، ويستحيل أن يكون كل منهما مجتمعا مع الآخر ، وإلاّ لم تكن القضية مانعة الجمع ( حقيقية ) بل كانت مانعة الخلو.

قوله : هذا مضافا إلى أنّه لا يلزم في تصوير تعدد العقاب أن يكون الجمع بين العصيانين مقدورا للمكلف ، بل يكفي فيه كون كل من العصيانين في حدّ نفسه ومع قطع النظر عن عصيان الخطاب الآخر مقدورا للمكلّف ... الخ (1).

لا يخفى أنّه ليس العصيان إلاّ ترك المأمور به ، ومن الواضح أنّ الجمع بين التركين مقدور للمكلّف ، فلا حاجة إلى هذا التجشّم لإثبات كون الجمع بين العصيانين مقدورا. نعم إنّ كون ترك الفعلين مقدورا للمكلّف يتوقّف على قدرته على فعلهما ، وإلاّ لكان تركهما لازما له. لكن هذا - أعني توقف كون تركهما مقدورا على قدرته على فعلهما - لا دخل له بما نحن بصدده من دعوى كون الجمع بين التركين مقدورا ، إذ يكفي فيه القدرة على أحد الفعلين وإن لم يكن كل منهما مقدورا له.

والذي حررته عنه قدس سره في هذا المقام هذا لفظه وهو : أنّه إن كان المراد بأنّ هذا العقاب عقاب على غير مقدور ، لأنّه عقاب على عصيان الأمر

ص: 392


1- أجود التقريرات 2 : 89 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

بالجمع بين المتعلقين ، فقد عرفت أنّ الأمرين لا يقتضيان الجمع كي يكون العقاب على تركه. وإن كان المراد به أنّه عقاب على ترك كل واحد منهما على انفراده ، ليكون هناك عصيانان منفردا كل منهما عن الآخر ، ويكون كل ترك مستتبعا لعقاب ، ففيه أنّ العقاب حينئذ لا يكون عقابا على غير مقدور ، لأنّ كل واحد من التركين كان مقدورا بمعنى أنّ ترك الأهم مثلا كان مقدورا له ، لأنّ كل واحد من طرفيه داخل تحت اختياره ، فيمكنه أن يفعله ويمكنه أن يتركه ، وهكذا الحال في ترك المهم عند ترك الأهم. ولو سلّم أنّ العقاب كان على الجمع فانّما هو على الجمع بين العصيانين ، لا على ترك الجمع بين الفعلين ، وحينئذ فلا يكون الجمع المذكور - أعني الجمع بين العصيانين - أمرا غير مقدور.

وبالجملة : أنّ العقاب تابع لنحو التكليف ، والمفروض أنّه كان على الترتب والطولية ، فهكذا الحال في العقابين ، فيعاقبه على أنّه لم تركت الأهم ، وعلى أنّه لم تركت المهم عند تركك الأهم ، ويكون الحاصل أنّه لم جمعت بين التركين ، لا أنّه لم لم تجمع بين الفعلين. انتهى.

قوله : إنّه يمكن أن يقال : إنّه بعد ما ثبت تمامية ملاك المهم في ظرف المزاحمة ... الخ (1).

هذا نافع لو قلنا بأنّ التزاحم يوجب سقوط كلا الخطابين في مورد التساوي وخصوص غير الأهم في مورد كون أحدهما أهم ، فانّه حينئذ قد يقال بعد سقوط الخطاب بالمهم نستكشف خطابا بالمهم مشروطا بعدم الإتيان بالأهم ، استكشافا لميا مبنيا على ثبوت الملاك وعدم المانع من الأمر به

ص: 393


1- أجود التقريرات 2 : 90 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

شرعا مشروطا بعدم الإتيان بالأهم ، على قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

قوله : لكن هل يلتزم القائل بالترتب بتعدد العقاب عند عصيانهما والاشتغال بفعل آخر ... الخ (1).

إنّ القائلين بعدم الترتب الملتزمين بتصحيح العبادة في مورده بالملاك هل يقولون بأنّ الامتثال بداعي الملاك من قبيل الاستحباب الذي لا يوجب مخالفته استحقاق العقاب؟ وحينئذ فكيف يكون مجزيا عن الواجب ، وما ذا تكون نية ذلك الفاعل؟ هل هي امتثال الفريضة أعني صلاة الظهر مثلا أو امتثال الملاك؟ وكيف صحّ هذا الأمر الاستحبابي مع وجود الأمر الوجوبي بالأهم من دون ترتب؟ ولو أغضينا النظر عن كون الأمر به شرعيا وقلنا إنّه عقلي فكيف اجتمع هذا الأمر العقلي من العقل مع أمره باطاعة الأمر بالأهم؟

وبالجملة : أنّ القائل بالصحة من ناحية الملاك لا يتخلّص من الترتب ، ولا بدّ له من الالتزام بعدم صحة العبادة ، وأنّه لا يكلف إلاّ بتكليف واحد وهو التكليف بالأهم ، وأنّه لو كانت الفريضة مضيّقة وزوحمت بما هو أهم مثل إنقاذ الغريق لكن المكلّف ترك كلا منهما ، فلازمه أنّه لا يستحق العقاب إلاّ على ترك إنقاذ الغريق ، لا أنّه يستحق العقاب على ذلك وعلى تركه للصلاة. وهكذا الحال في صورة عدم أهمية أحدهما كما في الغريقين ، أو كما في غريق وحريق تكون له أهمية مثل الحريق (2). وشيخنا قدس سره يشكل عليهم بالوجوب الكفائي ، وكان ينبغي أن يشكل عليهم بالوجوب التخييري الناشئ عن ملاكين ، بحيث كان التكليف بكل من

ص: 394


1- أجود التقريرات 2 : 87 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ هكذا في الأصل ، ولعل الأنسب : الغريق ].

العدلين مشروطا حدوثا أو بقاء بعدم الإتيان بالعدل الآخر.

قوله : ومنه يظهر أنّ تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم بالملاك أو بالخطاب الترتبي غير ممكن - إلى قوله : - ولأجل ذلك لم يذهب العلاّمة المحقّق الشيخ الأنصاري قدس سره ولا العلاّمة المحقّق تلميذه استاذ أساتيذنا قدس سره إلى الصحة في الفرض المزبور ، مع أنّ الأول منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة ، والثاني يرى جواز الخطاب الترتبي ، وكأن ذهاب السيد المحقّق الطباطبائي اليزدي قدس سره إلى الصحة ناش عن الغفلة عن حقيقية الأمر (1).

وقد حررت عنه في هذا النقل ما هذا لفظه : ولأجل ذلك لم نلتزم بصحة الوضوء في موارد التيمم كما في النجاة (2) ولم يعلّق عليه كل من شيخنا استاذ الأساتيذ وسيدنا الاستاذ قدس سرهما. نعم علّق على ذلك السيد محمد كاظم قدس سره وذكر ذلك في العروة ، ونحن علقنا عليها الحاشية فراجع ، انتهى. وكان شيخنا قدس سره هذا دأبه في النقل عن الشيخ ، فيعبر عنه باستاذ الأساتيذ وعن السيد الشيرازي بسيدنا الاستاذ قدّس سرهم.

ثم لا يخفى أنّ المرحوم السيد في العروة في مسألة كون الوضوء أو الغسل ضرريا حكم ببطلان الوضوء أو الغسل ، فقال في المسوّغ الثالث للتيمم : وإن كان ( يعني الضرر ) في استعمال الماء في أحدهما ( يعني الوضوء أو الغسل ) بطل (3).

وفي المسوّغ السادس فيما لو عارض الطهارة المائية واجب أهم

ص: 395


1- أجود التقريرات 2 : 90 - 91 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- نجاة العباد : 56.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 171 / ضمن المسألة 18.

كازالة النجاسة الخبثية عن الثوب أو البدن حكم بالبطلان قال : وإذا توضأ أو اغتسل حينئذ بطل ، لأنّه مأمور بالتيمم ، ولا أمر بالوضوء أو الغسل (1).

وفي مسألة الضيق مسألة 29 قال : من كانت وظيفته التيمم من جهة ضيق الوقت عن استعمال الماء إذا خالف وتوضأ أو اغتسل بطل ، لأنّه ليس مأمورا بالوضوء لأجل تلك الصلاة (2).

نعم في مسألة الضرر قال : وأمّا إذا لم يكن استعمال الماء مضرا ، بل كان موجبا للحرج والمشقة كتحمل ألم البرد أو الشين مثلا فلا يبعد الصحة ، وإن كان يجوز معه التيمم لأنّ نفي الحرج من باب الرخصة لا العزيمة ، لكن الأحوط ترك الاستعمال وعدم الاكتفاء به على فرضه ، فيتيمم أيضا (3). وعلّق شيخنا قدس سره على قوله قدس سره : « فلا يبعد الصحة » قوله قدس سره : بعيد غايته ، بل لا يبعد القطع بعدم التخيير بين الطهارة المائية والترابية (4).

وقال أيضا في مسألة صرف الماء على النفس المحترمة التي لا يجب حفظها وإن كان لا يجوز قتلها ، قال : وفي الثانية ( يعني الصورة المشار إليها ) يجوز ( يعني التيمم ) ويجوز الوضوء أو الغسل أيضا (5).

وعلّق عليه شيخنا قدس سره ما هذا لفظه : ما لا يبعد جوازه هو إعدام الماء بصرفه على ذلك الحيوان ، فينتقل التكليف إلى التيمم ، أمّا التخيير بين الطهارتين مع التمكن من الماء عقلا وشرعا فقد تقدّم أنّه لا يبعد القطع بعدمه (6).

ص: 396


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 179.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 186.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 171 / ضمن المسألة 18.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 171 / ضمن المسألة 18.
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 177 / المسوغ الخامس.
6- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 177 / المسوغ الخامس.

ولا يخفى أنّ الخلاف بينهما في ذلك غير مربوط بالقدرة الشرعية بل إنّه في المسألة الاولى ناشئ عن الخلاف في مفاد أدلّة العسر والحرج وهل تدل على مجرد الترخيص امتنانا أو أنّها تدل على نفي التشريع فيبطل الوضوء حينئذ؟ والثاني هو مختار شيخنا قدس سره.

وأمّا الخلاف في المسألة الثانية فهو أيضا غير ناشئ عن القدرة الشرعية ، بل هو ناشئ عن أنّ جواز صرف الماء على ذلك الحيوان هل يوجب التخيير بين الطهارتين ، أو أنّه لا يوجب إلاّ جواز صرف الماء على ذلك الحيوان ، وبعد صرفه عليه يكون تكليفه التيمم ، فإذا كان المكلف لم يقدم بعد على صرفه فلا ينبغي الحكم بجواز تيممه مع فرض وجود الماء عنده وعدم لزوم صرفه على الحيوان ، فيدخل حينئذ في عنوان واجد الماء وهو لا يشرع فيه التيمم. وهذا هو مختار شيخنا قدس سره ، فلأجل ذلك علّق عليه الحاشية المذكورة. ويمكن القول بأنّه إذا جاز صرف الماء للحيوان فقد [ جاز ](1) ترك الوضوء والالتجاء إلى التيمم من دون توقف على الصرف الفعلي ، مضافا إلى أنّ الدّال عليه إنّما هو الموثق القائل « ويستبقي الماء » (2) وهو صريح في أنّه يجوز له الابتداء بالتيمم.

وقد صرّح في كتاب الحج في مسألة فيما لو حج مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب محرم : لم يجزه عن حجة الإسلام ، لا لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده - إلى قوله : - بل لأنّ الأمر مشروط بعدم المانع ووجوب ذلك الواجب مانع ... الخ (3) ، فراجعه وراجع ما نقلناه عن العروة

ص: 397


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- وسائل الشيعة 3 : 388 / أبواب التيمم ب 25 ح 3.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 427 - 429 ( مع اختلاف يسير ).

في هذه الجهة فيما علّقناه على ص 228 من هذا الكتاب (1).

وأمّا نجاة العباد فانّه قال فيها : ومنها ( أي من المسوغات ) وجوب استعمال الموجود من الماء في غسل نجاسة ونحوه ممّا لا يقوم غير الماء مقامه ، فانّ الظاهر تعيّن التيمم حينئذ ، فلو خالف وتطهّر بطل ، بل لا يبعد ذلك في ضيق الوقت عن استعماله إذا كان قد فعله للأمر به من حيث الصلاة ... الخ (2).

وقد علّق المرحوم السيد قدس سره على قوله : « تعين التيمم حينئذ » قوله : والأحوط صرف الماء أوّلا ثم التيمم. وظاهر هذا الاحتياط وإن كان هو التوقف في الفتوى فيكون وجوبيا ، ولكنّه في العروة (3) صرّح بأنّ الأولى هو ذلك ، بعد أن صرح أوّلا وأخيرا بأنّه لو توضأ أو اغتسل بطل لأنّه مأمور بالتيمم ولا أمر بالوضوء ، وإن كان تعليله بالبدلية أو النص محل تأمّل. وقد تقدم الكلام على هذا الفرع مفصّلا في الحاشية التي علقناها على صفحة 227 فراجع (4).

قوله : الأول أنّ محلّ الكلام في بحث الترتب كما عرفت سابقا هو ما إذا كان التضاد بين المتعلقين اتفاقيا قهريا حتى يمكن فرض المزاحمة ، وأمّا إذا كان التضاد دائميا كمثال الجهر والإخفات ... الخ (5).

لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره في درس الفقه في بعض مباحث صلاة المسافر

ص: 398


1- راجع الصفحة : 208 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- نجاة العباد : 56.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 179 / المسوغ السادس.
4- راجع الصفحة : 179 وما بعدها من هذا المجلّد.
5- أجود التقريرات 2 : 91 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بل فيما حررته عنه في الاصول في اخريات تنبيهات البراءة تعرض للكلمة المنقولة عن كاشف الغطاء قدس سره من تصحيح المسألة بالترتب ، وأفاد أنّه لعل مقصوده من الترتب في هذا المقام غير الترتب المعروف ، وقد اصطلح عليه بالترتب الشرعي ، وهو راجع إلى مقام الجعل والتشريع ، بأن يكون ملاك أحد الضدين تاما في حد نفسه ، ويكون ملاك الآخر مقيدا بعدم الإتيان بالضد الأول لكون التكليف به مجهولا ، فانّه بناء على ذلك يكون إيجاب الأول مطلقا وإيجاب الثاني مشروطا بعدم تأثير إيجاب الأول لكونه مجهولا ، على تفصيل شرحناه في محلّه من درس الفقه وفيما حررناه عنه في تنبيهات البراءة. وقد تعرضنا لذلك تفصيلا فيما علّقناه على ما حرره المرحوم الشيخ محمد علي عنه قدس سره في تنبيهات البراءة ، فراجع (1).

وهذا كلّه على تقدير أن يكون مراد كاشف الغطاء قدس سره من الترتب هو ذلك الذي احتمله شيخنا قدس سره ، لكن عبارته في كشف الغطاء صريحة في أن مراده بالترتب هو الترتب المعروف الناشئ عن التزاحم المأموري ، فانه قدس سره قال في أثناء البحث الثامن عشر الذي عقده للبحث في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده لكنه لا يوجب الفساد : وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا ، كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد. ومن تتبع الآثار وأمعن النظر في السيرة المستمرة من زمن النبي المختار صلى اللّه عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام بل من زمن

ص: 399


1- فوائد الأصول 4 : 293 ويأتي تعليق المصنّف قدس سره عليه في أواخر المجلّد الثامن.

آدم عليه السلام إلى هذه الأيام علم أنّ القول بالفساد ظاهر الفساد ، كيف لا ولو بني على ذلك لفسدت عبادات أكثر العباد ، لعدم خلوّهم عن حق غريم مطالب من نفقة أو دين أو حق جناية أو عبادة تحمل أو واجبة لبعض الأسباب الأخر إلى غير ذلك ، ولزم الإتمام على أكثر المسافرين لعدم خلوّهم عن بعض ما تقدم أو وجوب التعلّم ونحو ذلك ، مع الخلو عن التعرض لمثل ذلك في الكتاب وكلام النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام وأكثر الأصحاب ، مع أنّه ممّا تتوفر الدواعي على نقله ، فيلزم حصول التواتر في مثله ، وخلوّ المواعظ والخطب أبين شاهد على ثبوت هذا المطلب. ولو قيل بالفرق بين ما يكون فيه باعثية على الترك وغيره ويختص الفساد بالقسم الأول لم يكن بعيدا. والأقوى ما تقدم (1).

ومن الواضح أنّ مراده في ذلك هو الترتب المصطلح ، وحينئذ يتوجّه عليه هذا الإشكال الأول. ولا يمكن التفصي عنه بما في الحاشية (2) ، فانّ كل ما في هذه الحاشية ناظر إلى الترتب الناشئ عن التزاحم الآمري ، فراجع وتأمّل.

ولا يخفى أنّه لو صحّ ما احتمله شيخنا قدس سره من أنّ المراد هو الترتب المذكور أعني ما سماه بالترتب الشرعي (3) لم يكن ذلك موجبا للتخلص من الإشكال الثاني ، أعني لزوم طلب الحاصل في الضدين اللذين لا ثالث لهما لتوجّه هذا الإشكال على كل من الترتب الآمري والترتب المأموري فيما لو

ص: 400


1- كشف الغطاء 1 : 171.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 91 - 92.
3- وينبغي أن يسمى بالترتب الآمري في قبال الترتب المأموري الناشئ عن التزاحم المأموري [ منه قدس سره ].

كان الضدان لا ثالث لهما.

وأمّا ما في الحاشية من أنّ كون ما نحن فيه من الضدين اللذين لا ثالث لهما غير مطابق للواقع ، بدعوى كون المأمور به في الصلاة إنّما هو القراءة الجهرية أو الإخفاتية ، واستيضاح كونهما من الضدين اللذين لهما ثالث ... الخ (1) ، فهو غير مطابق للواقع ، لأنّ المأمور به إنّما هو نفس القراءة ، وكونها جهرية أو إخفاتية واجب آخر إمّا من قبيل الواجب في واجب ، وإمّا من قبيل الشرط للقراءة ، أو أنّه من قبيل شرط الصلاة في حال القراءة ، على تفصيل مذكور في محلّه (2). وعلى أي حال لا يكون هذا الواجب أعني الجهر والإخفات إلاّ من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما.

نعم ، لو قلنا إنّ الواجب هو خصوص القراءة الجهرية أو خصوص القراءة الإخفاتية لكان من الضدين اللذين لهما ثالث ، وهو ترك القراءة بالمرة ، إلاّ أنّ ذلك خلاف الواقع ، لأنّ الوجوب الوارد على خصوص القراءة الجهرية مثلا ينحل إلى وجوب جزئي متعلّق بذات القراءة ووجوب شرطي يتعلّق بالإجهار فيها ، كما هو الشأن في جميع المركبات الانحلالية الارتباطية ، مثل الصلاة متطهرا أو إلى القبلة وغير ذلك من الواجبات المقيّدة ، فانّها جميعا تنحل إلى وجوب ذات الفعل ووجوب قيده. ومن الواضح أنّ القيد فيما نحن فيه من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما فراجع وتأمّل. وقد تعرضنا لهذه المسألة مفصّلا في أواخر البراءة (3) فيلزم ملاحظته.

ص: 401


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 92 - 93 ( نقل بالمضمون ).
2- راجع على سبيل المثال كتاب الصلاة ( تقريرات الشيخ الآملي قدس سره ) 2 : 168.
3- راجع حاشية المصنّف قدس سره في المجلّد الثامن على فوائد الأصول 4 : 293 والحاشية التي قبلها.

قوله - في الإيراد على ما أفاده كاشف الغطاء في كون مسألة الجهر والإخفات من قبيل الترتب - : إلاّ أنّ الغرض من التعرض في المقام هو بيان ... الخ (1).

حاصل الإيراد الأول : أنّ الترتب فرع التزاحم المأموري ، ومع كون التضاد دائميا كما في الجهر والإخفات تكون المسألة من باب التزاحم الآمري ، والمرجع فيها هو التعارض.

وحاصل الإيراد الثاني : هو أنّ الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يعقل فيهما كون الأمر بأحدهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر ، لأنّ عدم الجهر مثلا هو عين الإخفات ، فيكون تقييد الأمر بالإخفات بعدم امتثال الأمر بالجهر من قبيل اشتراط الأمر بمتعلقه ، فالأمر بالإخفات مشروط بالإخفات الذي هو عبارة عن عدم الجهر.

وحاصل الإيراد الثالث راجع إلى جهتين : الاولى : أنّ الجهل بوجوب الجهر يوجب سقوطه عن المزاحمة للأمر بالإخفات ، فلا يجري فيه الترتب. الثانية : أنّ التكليف المتعلّق بالإخفات لمّا كان مشروطا بعصيان الأمر بالجهر لم يعقل أن يكون مؤثرا في ناحية المكلّف الجاهل بوجوب الجهر ، فهو بمنزلة « أيّها الجاهل بوجوب الجهر إن تركت الجهر وجب عليك الإخفات » ، وهذا لا يمكن أن يلتفت إليه الجاهل بوجوب الجهر ، ويكون الإشكال فيه عين الإشكال في خطاب الناسي.

قوله : لانتفاء الجهتين الأخيرتين ، أعني بهما تحقّق العصيان والعلم به ... الخ (2).

الظاهر أنّ المانع في ذلك هو عدم تحقّق الجهة الأخيرة وهي العلم

ص: 402


1- أجود التقريرات 2 : 91.
2- أجود التقريرات 2 : 95 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بتحقّق العصيان ، كما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي ، فانّه لا يفقد إلاّ الجهة الأخيرة. أمّا الاولى وهي التنجز والفعلية واستحقاق العقاب فهي متحقّقة فيه ، وفي صورة الشبهة قبل الفحص ، وفي صورة الخطاب المهم القاضي بالاحتياط الشرعي. كما أنّ الجهة الثانية أعني العصيان متحققة في ذلك. نعم إنّ هذه الجهة غير محرزة كما أنّ العقاب غير محرز في ذلك ، وذلك إنّما يؤثر على الجهة الثالثة وهي إحراز العصيان عند الترك. وهذه الجهة هي التي تنتهي إلى إناطة الخطاب الترتبي بالجهل بالحكم الواقعي الأولي ، أعني الجهر مثلا في أخذ عصيانه عند الجهل به موضوعا لوجوب الإخفات ، الذي قلنا إنّ عصيانه عند ذلك عبارة عن عدم الإتيان بمتعلّقه مع فرض استحقاق العقاب على ذلك ، فلاحظ وتدبر.

قوله : الثالث : أنّ الخطاب الترتبي إنّما يكون فعليا عند تنجّز الخطاب المترتب عليه ... الخ (1).

لا يخفى أنّ الترتب وإن كان لا يتوقف على التقييد بعصيان الأهم ، بل إنّما هو كما عرفت فيما تقدم (2) لا يوجب إلاّ تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم ، إلاّ أنّ الاحتياج إلى تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم إنّما هو فيما لو كان الأمر بالأهم منجزا ليكون مزاحما للأمر بالمهم ، ويكون التقييد المزبور علاجا لذلك التزاحم. أمّا إذا لم يكن الأمر بالأهم منجزا لكونه مجهولا مثلا ، فلا حاجة فيه إلى التقييد المزبور الذي هو حقيقة الترتب ، بل يكون إطلاق الخطاب بالمهم باقيا بحاله.

ولعلّ هذا هو مراد شيخنا قدس سره من هذا الإشكال الثالث. وحاصله أنّ

ص: 403


1- أجود التقريرات 2 : 93 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 387 - 388.

الترتب والالتزام باسقاط إطلاق الخطاب في طرف المهم إنّما هو في مورد يكون فيه الأهم منجزا ، دون ما إذا لم يكن منجزا ، فلا وجه في المقام لجعل وجوب الجهر مثلا مقيدا بعدم الإخفات أو بعصيان الأمر بالإخفات ، بل لا بدّ من تقييده بالجهل بالأمر بالإخفات ، ومن الواضح أنّ هذا التقييد طريقة اخرى لا ربط لها بعالم الترتب.

ومن ذلك يتضح لك عدم توجّه شيء ممّا في الحاشية الثالثة (1) على ما أفاده شيخنا قدس سره فتأمّل.

مضافا إلى أنّ عمدة هذا الإشكال الثالث هو أنّ العصيان المأخوذ شرطا في وجوب الإخفات مثلا إنّما هو عصيان وجوب الجهر في ظرف كونه مجهولا ، وهو غير محرز. وإن شئت فقل : إنّ الجاهل بوجوب الجهر لا يمكن أن يكون موضوعا لوجوب الإخفات ، بلا فرق بين أن يكون القيد هو ترك الإجهار أو يكون هو عصيان الأمر بالإجهار.

وإن شئت فقل : إنّا بعد أن التزمنا بأنّ موضوع وجوب الإخفات هو ترك الجهر في ظرف الجهل بوجوبه ، لا مطلق ترك الجهر ، وإلاّ لكانت صلاته صحيحة عند تعمده الإخفات مع فرض علمه بوجوب الجهر عليه ، وهذا ممّا لا يقوله أحد ، لم يكن بد من جعل الشرط هو ترك الإجهار في ظرف الجهل بوجوبه (2) ، بأن يقول : أيّها التارك للجهر عن جهل بوجوبه يجب عليك الإخفات ، وبعبارة اخرى : أيّها الجاهل بوجوب الجهر يجب عليك الإخفات ، وهذا لا يمكن إحرازه للجاهل المذكور ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الناسي.

ص: 404


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 93.
2- [ في الأصل : في ظرف وجوبه ، والصحيح ما أثبتناه ].

قوله : كما في الشبهة قبل الفحص أو في الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها ... الخ (1).

مثال الشبهة قبل الفحص ما لو شك في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد على نحو الشبهة الحكمية ، وقبل الفحص عن ذلك ابتلي بها في وقت الصلاة. ومثال الموارد المهمة التي يجب فيها الاحتياط ما لو ابتلي بغريق لا يعلم أنّه مؤمن أو كافر وقد حضر وقت الصلاة. ومثال الشبهة في مورد العلم الإجمالي هو ما لو عرضته هذه الشبهة الحكمية - أعني الشك في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد - قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، أو كانت طرفا لما لا ينافي الصلاة كما لو علم إمّا بوجوب الإزالة أو بحرمة هذه المرأة عليه.

والذي يظهر مما أفاده شيخنا قدس سره هو أنّ عدم جريان الترتب في مثل ذلك إنّما هو لأجل عدم تحقق العصيان بالنسبة إلى التكليف الواقعي ، وعدم علم المكلف بانطباقه عليه.

والأولى أن يقال : إنّ عدم تأتي الترتب في مثل ذلك لعدم التزاحم بين ذلك التكليف الواقعي على تقدير وجوده وبين التكليف الفعلي ، فانّ ذلك التكليف الواقعي لو كان موجودا وإن كان فعليا وكان موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته لأجل قيام الطريق عليه من إيجاب الاحتياط ونحوه إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يكون ذلك التكليف الواقعي شاغلا بنفسه للمكلّف وإنّما الشاغل له هو طريقه. فان كان في البين ترتب وشاغلية ومزاحمة فانّما هي بين الصلاة مثلا وبين لزوم الاحتياط في الدماء. هذا فيما يكون المنجّز هو

ص: 405


1- أجود التقريرات 2 : 95 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

الاحتياط الشرعي ، أمّا الاحتياط العقلي كما في الشبهة قبل الفحص فحيث إنّه ليس في البين أمر شرعي بالاحتياط فلا يكون التزاحم هنا بين تكليفين شرعيين ، بل بين حكم عقلي وآخر شرعي ، ولا محل فيه للترتب بل يمكن أن يقال : إنّ العقل لا يرجّح احتياطه العقلي على امتثال التكليف الشرعي ، وإن كان ما احتاط فيه على تقدير وجوده واقعا أهم عند الشارع من ذلك التكليف المقابل له ، فتأمل.

قوله : وإذا كان التكليف في أطراف العلم الإجمالي ، ففعلية التكليف الواقعي أو العصيان عند المصادفة وإن كانا متحققين ، إلاّ أنّ الجهة الأخيرة وهو العلم بتحقق العصيان الموجب لفعلية الخطاب المترتب مفقودة ، إذ العلم بتحقق العصيان موجب لانقلاب ما هو من أطراف العلم الإجمالي إلى كونه معلوما تفصيلا ، وهو خلف ... الخ (1).

لم يتضح المراد من تصوير المسألة في أحد أطراف العلم الإجمالي وتقدم (2) أنّه يمكن التمثيل لذلك بالشبهة الوجوبية في إزالة النجاسة عن المسجد قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، وبما لو كانت طرفا لما لا يكون الاحتياط فيه منافيا للصلاة ، مثل ما لو علم إجمالا إمّا بتنجس هذه الأرض من المسجد أو بحرمة هذه المرأة عليه ، فلا يمكنه الاحتياط في طرف الإزالة وإن أمكنه في طرف المرأة ، وحينئذ يعلّق الأمر بالصلاة على عصيان الأمر بالإزالة على تقدير وجوده واقعا.

ولكن فيما حررته عنه قدس سره وقع التمثيل لذلك بما لو كان هناك غريقان أحدهما بني ، وكان هناك غريق آخر ثالث يعلم كونه مؤمنا. لكن فيه تأمل ،

ص: 406


1- أجود التقريرات 2 : 95 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الحاشية السابقة ، صفحة : 405.

فانّ ذلك المكلّف لو كان قادرا على إنقاذ الاثنين اللذين هما طرف العلم الإجمالي لزمه ذلك ، ولو ترك تحقّق عنده العصيان الوجداني بترك إنقاذ النبي الذي هو أحدهما. ولو لم يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما ففي صورة كون طرف النبي مؤمنا يكون أحدهما واجب الإنقاذ قطعا ، لأنّه إمّا نبي أو مؤمن ، ويكون مقابلة أحدهما بذلك الثالث الآخر المفروض كونه مؤمنا من قبيل مقابلة ما هو محتمل الأهمية لغيره. ولا شبهة حينئذ لدى العقل بترجيحه على ذلك الثالث ، ولا يكون للعلم الإجمالي أثر لفرض عدم القدرة على الجمع بين أطرافه ، بل يكون نظير باب المتزاحمين اللذين يحتمل أهمية أحدهما المعيّن.

وعلى الظاهر أنّه يتأتى فيه الترتب ، ولازمه أنّه لو ترك الجميع يعاقب عقابين ، نظير العقاب في من تركهما مع فرض تساويهما. أمّا العقاب على ترك الأهم لو صادف فيمكن الالتزام به فيما لو كان أحد الفعلين محتمل الأهمية وصادف أنّه أهم في الواقع. أما في مثل المثال أعني محتمل النبوية ففيه إشكال ، إذ ليس ذلك المحتمل معينا ، فهو لو ترك إنقاذ الثلاثة كان تركه في مورد لم يتنجّز فيه إنقاذ النبي الموجود في أحد الطرفين. اللّهم إلاّ أن يقال : بعد فرض كون أحدهما نبيا وفرض عدم القدرة على الجمع يلزمه تبعيض الاحتياط بالإقدام على إنقاذ أحدهما ، فلو ترك الثلاثة أو ترك الاثنين وأنقذ الثالث الخارج عن طرفي العلم الإجمالي كان مستحقا لعقاب ترك إنقاذ النبي ، وهو مشكل غاية الإشكال.

هذا فيما لو كان كل من طرفي العلم الإجمالي بالنبوة واجب الإنقاذ في نفسه ، لكون كل منهما مؤمنا. أمّا لو كان صورة العلم الإجمالي هي كون أحدهما نبيا والآخر كافرا ، وكان في البين ثالث خارج عنهما هو معلوم

ص: 407

الإيمان ، ولم يقدر إلاّ على إنقاذ واحد ، كان من قبيل المزاحمة في غريقين أحدهما مؤمن والآخر مردد بين الكفر والنبوة ، فهل يقدّم إنقاذ الأول لكونه معلوم الإيمان أو الثاني لكونه محتمل النبوة وإن كان محتمل الكفر أيضا؟ فيه تأمل وإشكال. ولو قلنا بتقدم الثاني كان مرجعه إلى تقديم الاحتياط في حفظ النبي على التكليف المعلوم تفصيلا ، وهو لزوم إنقاذ المؤمن الذي هو الطرف ، وحينئذ يتأتى فيه الترتب العقلي ، وفيه تأمّل.

ونظير ذلك ما لو كان هناك غريقان لا يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما وكان يعلم إجمالا بأنّ أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فانّه في ذلك يلزمه إنقاذ أحدهما إما لأجل تبعيض الاحتياط أو لأجل أصالة الاحترام في الدماء والنفوس. لكن إذا زاحم ذلك وجوب الصلاة هل يكون المقدّم هي أو إنقاذ أحدهما؟ ولو قلنا بالتقديم فهل يتأتى الترتب؟ ولو قلنا بالتساوي فهل يستحق عقابين لو ترك الجميع؟ كل ذلك محل تأمّل.

قوله : فغير سديد - إلى قوله : - فانّ الحكم المتعلّق بعنوان الناسي يستحيل أن يكون فعليا آناً ما ، لأنّه مع الالتفات إلى نسيانه يخرج عن الموضوع ، وبدونه يستحيل فعلية الحكم المقيّد به ، فإذا امتنعت الفعلية يمتنع الجعل أيضا ، لما عرفت فيما مرّ من أنّ جعل الأحكام إنّما هو بنحو القضايا الحقيقية التي تكون الفعلية فيها منوطة بفعلية موضوعاتها ... الخ (1).

فيه تأمّل ، لأنّه لو قلنا مثلا إنّ وجوب الجهر مختص بالذاكر وأنّ تكليف الناسي إنّما هو الإخفات ، وقد نسي المكلّف الإجهار وأخفت في

ص: 408


1- أجود التقريرات 2 : 96 - 97 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

صلاته ، كان حكمه الواقعي هو الإخفات ، وهو وإن لم يكن ملتفتا إلى كونه ناسيا إلاّ أنّه لمّا قصد الأمر الواقعي في ضمن قصده امتثال ما تخيّله من الأمر بالإجهار ، كان قاصدا في ضمن ذلك للأمر بالإخفات.

وبعبارة اخرى : هو يقصد امتثال أمره الواقعي لكنّه يتخيّل أنّه الأمر بالإجهار ، والمفروض أنّه في الواقع هو الأمر بالإخفات وقد جاء به امتثالا لأمره المذكور ، ولا يضرّه كونه غافلا عن نسيانه ، لأنّ ذلك - أعني الغفلة عن انطباق عنوان الموضوع عليه - إنّما يضر في تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته. أمّا فعليته بمعنى تحقّقه في حقّه واقعا وانطباق ذلك التكليف الواقعي عليه انطباقا قهريا لتحقّق فعلية موضوعه في حقه ، فهو لا ريب فيه ، ويكون ذلك نظير من كان قد دخل عليه الوقت وصار وجوب الصلاة فعليا في حقّه وهو غافل وغير عالم بدخول الوقت.

وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فانّا لو قلنا إنّ الجهر واجب في حق من كان عالما به ، وأنّ من كان جاهلا بالوجوب يكون تكليفه الواقعي هو الإخفات ، فهذا الشخص الجاهل بوجوب الجهر عليه ، القاطع بأنّ الواجب عليه هو الإخفات ، لو أخفت يكون قد امتثل الأمر بالإخفات الذي هو أمره الواقعي ، لكنّه كان يتخيّل أنّ هذا هو تكليفه الأولي ، والمفروض في الواقع أنّ تكليفه الأولي هو الإجهار ، لكنّه لأجل جهله به تبدّل تكليفه الواقعي إلى الإخفات.

لكن هذا التوجيه صحيح في الجملة ، إلاّ أنّه لا دخل له بمسألة الترتب. نعم لو كان المراد بالتقريب المذكور هو دعوى كون التكليف الواقعي هو الإجهار ، وأنّه عند عصيان ذلك التكليف الواقعي ولو باعتبار كون ترك امتثاله ناشئا عن التقصير في التعلّم ، يكون تكليفه الواقعي هو

ص: 409

الإخفات ، ويكون الحاصل هكذا « اجهر في صلاتك ، وإن عصيت ولو لجهلك بذلك الوجوب الناشئ عن التقصير في التعلّم فأخفت » ، فيكون الأمر بالإخفات مشروطا بعصيان الأمر بالإجهار عصيانا ناشئا عن الجهل والتقصير في التعلّم ، كان ما يأتي به من الصلاة الإخفاتية صحيحا وإن لم يكن ملتفتا إلى التكليف الواقعي الإجهاري ، ولا كان قد أحرز انطباق عنوان العصيان على نفسه ، وذلك لأنّه قد أتى بما هو المأمور به الواقعي ، غاية الأمر أنّه تخيّل أنّه أمره الواقعي الأولي وهو ليس في الواقع كذلك ، بل إنّ أمره الواقعي الأولي إنّما هو الإجهار ، وإنّ هذا الأمر ثانوي في حقّه باعتبار انطباق عنوان عصيان الأمر الأولي عليه ، وكان هو جاهلا بذلك الانطباق.

نعم يرد على هذا التقريب : أنّ الترتب فرع شاغلية الأول ، والمفروض أنّه بنفسه غير شاغل. كما أنّه يرد عليه ما تقدم (1) من عدم تأتي الترتب في الضدين اللذين لا ثالث لهما. هذا لو اريد به الترتب المصطلح ، ولو اريد به الترتب الشرعي الذي مرّت (2) الإشارة إليه توجّه عليه الإيراد الثاني ، فانّ الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يتأتى فيهما كل من الترتب الشرعي والترتب المصطلح ، فتأمل.

قوله : وما ذكره صاحب التقريرات قدس سره (3) في تصحيح ذلك بتحليل الداعي ... الخ (4).

الذي ينبغي في هذا المقام تحرير امور أربعة : الأول : في بيان المراد

ص: 410


1- أجود التقريرات 2 : 92 ، راجع أيضا الصفحة : 400 - 402 من هذا المجلّد.
2- في صفحة : 398.
3- قال المحقّق الكاظمي قدس سره في فوائد الأصول 4 : 211 : حكاه شيخنا الاستاذ ( مدّ ظله ) عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل ، وهو إلى الآن لم يطبع.
4- أجود التقريرات 2 : 96 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

من تحليل الداعي. الثاني : في جريانه في كلّ باب النسيان ، ومنه ما لو نسي الجهر فأخفت في موضع وجوب الجهر. الثالث : في تطبيق تحليل الداعي على مسألة الجهر والإخفات فيما لو أخفت في موضع الجهر جاهلا بوجوب الجهر ، والتكلّم في هذا الأمر الثالث يكون من ناحيتين : إحداهما : من ناحية تصحيح أصل المسألة بتحليل الداعي ، والاخرى : من ناحية إدخال هذه المسألة في باب الترتب بناء على تحليل الداعي. الأمر الرابع : في التعرض لما أفاده شيخنا قدس سره من الإشكال على تطبيق تحليل الداعي في مسألة النسيان وفيما نحن فيه ، بأنّ الحكم الواقعي في حق الناسي والجاهل لا يمكن أن يكون فعليا ، فنقول بعونه تعالى :

أمّا محصّل تحليل الداعي : فقد يقال إنّه راجع إلى الخطأ في التطبيق ، كما لو اعتقد بقاء الوقت فصلى بعنوان الأداء فتبيّن بعد الفراغ أنّ الوقت كان خارجا ، وأنّ صلاته بتمامها كانت في خارج الوقت ، فانّهم يصحّحون ذلك بطريقة الخطأ في التطبيق ، فيقولون إنّ أمره الواقعي هو القضاء ، فان كان ما أتى به بعنوان الأداء على نحو التقييد ، بحيث إنّه قيّد امتثال الأمر بكونه أدائيا على وجه لو لم يكن كذلك لم يكن يقدم على امتثاله ، كانت صلاته فاسدة. وإن كان من باب الخطأ في التطبيق بأن كان الداعي له إلى الامتثال هو الأمر الواقعي ، لكنّه لأجل تخيل بقاء الوقت وصفه بكونه أداء ، كان هذا من الخطأ في التطبيق.

وأمّا معنى تحليل الداعي فيمكن أن يقال إنّه أدق من ذلك ، بأن يقال إنّ داعيه وإن كان هو الأمر الأدائي إلاّ أنّ هذا الداعي يتحلّل إلى جهتين : الأمر الواقعي ، وكونه أدائيا. فالجهة الثانية تلغو لكونها مخالفة للواقع ، فتبقى الجهة الاولى وهي جهة كون الداعي هو الأمر الواقعي ، غايته أنّه لم

ص: 411

يكن كونه قضائيا واقعا في مرحلة داعويته ، بل الذي وقع في مرحلة داعويته هو كونه أدائيا. وهذه الثانية لمّا الغيت لكونها مخالفة للواقع تكون الجهة الاولى كافية في تصحيح ذلك العمل ، فيكون ذلك من قبيل تعدد المطلوب في التقييد. فلو كان قصده امتثال الأمر المقيّد بكونه أدائيا يكون له مطلوبان : قصد الأمر الواقعي وقصد كونه أدائيا.

وأمّا الأمر الثاني : وهو إجراء تلك الطريقة أعني تحليل الداعي أو الخطأ في التطبيق في كل باب النسيان ، ومنه ما لو نسي من وجب عليه الجهر أن يجهر في صلاته وأخفت فيها ، بأن يقال إنّ التكليف بالجهر مختص بالذاكر والتكليف بالإخفات مختص بالناسي ، فهذا المكلّف الناسي للجهر قد قرأ إخفاتا امتثالا للأمر الواقعي الذي يعتقد أنّه الجهر ، لكنّه أخطأ في اعتقاده ، وإنّما كان أمره الواقعي هو الإخفات ، فهو قد أتى بما هو تكليفه الواقعي غير أنّه كان يعتقد أنّه الجهر وهو في الواقع الاخفات.

وأمّا الأمر الثالث : فمن الجهة الاولى أعني تطبيق تحليل الداعي على مسألة الجاهل بالجهر والإخفات فتقريبه أن يقال : إنّ المكلّف به أوّلا هو الجهر ، لكن هذا التكليف مختص بالعالم به ، أمّا الجاهل به فتكليفه هو الإخفات. أو نقول : إنّ الجاهل بوجوب الجهر يكون تكليفه الواقعي هو التخيير بين الجهر والإخفات ، بمعنى أنّ قراءته لم تكن مقيّدة بالجهر. ويظهر أثر هذين الوجهين فيما لو اتفق أنّه أجهر في صلاته ، فانّها تكون باطلة على الأول وصحيحة على الثاني. وعلى أيّ حال أنّ هذا الجاهل بوجوب الجهر لو أخفت في موضع الجهر كانت صلاته صحيحة ، وإن قصّر وعوقب على تقصيره ، إلاّ أنّه لأجل جهله يكون تكليفه الواقعي هو الإخفات ، وقد أتى بما هو متعلّق ذلك التكليف الواقعي ، غايته أنّه كان يعتقد أنّ هذا

ص: 412

هو تكليفه الأولي المتوجه إليه وإلى عامة المكلفين ، وهو في الواقع ليس كذلك ، بل إنّه إنّما توجّه إليه هذا التكليف باعتبار كونه جاهلا بالتكليف الأولي الذي هو الجهر ، وهذا المقدار من الخطأ لا يضر بصحة عمله ، بل يمكن أن يقال إنّه خارج عن مسألة تحليل الداعي ومسألة الخطأ في التطبيق.

الجهة الثانية : في تقريب جريان الترتب في المسألة المذكورة مبنيا على تحليل الداعي ، فنقول بعونه تعالى : إنّ هذا المكلّف يكون تكليفه الواقعي الأولي هو الجهر ، لكنّه إن خالف ذلك التكليف الأولي وعصاه عصيانا ناشئا عن جهله به يكون تكليفه هو الإخفات ، فالمولى يقول له : اجهر في صلاتك ، وإن عصيت لكونك جاهلا بذلك جهلا ناشئا عن ترك التعلّم فأخفت فيها. فهذا المكلّف قد أتى بالصلاة الإخفاتية امتثالا لأمرها المرتّب على عصيان الأمر بالصلاة الجهرية ، وأقصى ما فيه أنّه كان يعتقد أن ذلك هو أمره الأولي ، في حين أنّه ليس بأمره الأولي ، بل هو أمر ثانوي مشروط بعصيان الأمر الأولي ، وهذا المقدار من الجهل والخطأ لا بأس به ، وهو على الظاهر خارج عن باب الخطأ في التطبيق وتحليل الداعي. نعم ، يرد على هذا التقريب أنّه ليس من الترتب المصطلح ، لأنّ الترتب المصطلح متفرع على شاغلية الأمر الأولي ، والمفروض أنّ الأمر الأولي ليس له مرتبة شاغلية المكلّف ، لكونه في حدّ نفسه مجهولا لديه هذا. مضافا إلى ما تقدّم (1) من عدم تأتي الترتب في الضدين اللذين لا ثالث لهما. ولو كان المراد من الترتب هنا غير ذلك الترتب المصطلح ، بل كان المراد به هو الترتب السابق الذي كان يصطلح عليه شيخنا قدس سره (2) بالترتب

ص: 413


1- أجود التقريرات 2 : 92 ، راجع أيضا الصفحة : 400 - 402 من هذا المجلّد.
2- كما تقدّم في صفحة : 399.

الشرعي ، كان الإيراد الثاني وهو عدم إمكانه في الضدين اللذين لا ثالث لهما كافيا في إبطاله وردّه.

وعلى كل حال ، نحن بعد أنّ صحّحنا الصلاة في مورد التكليف بالإزالة بطريقة الترتب التي هي عبارة عن كون الأمر بالصلاة مقيدا بعدم الإقدام على الإزالة ، لزمنا الحكم بصحّتها في مورد الجهل بوجوب الإزالة سواء كان الجهل موجبا للمعذورية أو كان مقترنا بما يوجب التنجز واستحقاق العقاب ، كما لو كانت الشبهة في وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مقرونة بالعلم الإجمالي ، بأن صارت طرفا للعلم الإجمالي بوجوب الإزالة أو حرمة هذه المرأة عليه ، أو علم بوقوع النجاسة إمّا في هذه القطعة من المسجد أو في تلك الآنية من الماء فحرم عليه الشرب منها ، أو كانت من قبيل الشبهة الحكمية قبل الفحص أو قبل انحلال العلم الإجمالي الكبير ، إلى غير ذلك من موجبات استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو صادف ، فانّ هذه الأمور كلّها لا تنافي ما ذكرناه من صحة الأمر بالصلاة على تقدير عدم الإزالة لتكون الصلاة صحيحة بالأمر الترتبي ، فانّ المكلّف في جميع هذه الصور لم تصدر منه الصلاة إلاّ مع عدم الإزالة ، غاية الأمر أنّ الأمر بالصلاة في بعض هذه الصور يمكن الالتزام باطلاقه وشموله لما إذا فعل الإزالة ، لتكون الإزالة بالنسبة إلى الأمر بالصلاة نظير الأفعال المباحة في عدم كون عدمها شرطا في التكليف بالصلاة.

ولكن هذا إنما يكون في خصوص الجهل البسيط الموجب للمعذورية ، ويلحق به الجهل المركّب بأن قطع بعدم وجوب الإزالة ، أمّا إذا احتمله وكان العقل حاكما بالاحتياط ولو من جهة كون الشبهة قبل الفحص فلا يكون الأمر بالصلاة مطلقا في نظر العقل ، بل لا بدّ للعقل من أن يقيّده

ص: 414

بما لو عصيت الأمر الاحتياطي ولم تأت بالإزالة فصلّ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الجاهل بالجهر جهلا مركبا لا يحتاج إلى تقييد الأمر له بالإخفات بعدم الجهر ، ولو كان المكلّف غير معذور في هذا الجهل المركّب لكونه عن تقصير في التعلّم ، ولا يكون حاله بالنسبة إلى وجوب الإخفات إلاّ كحال المباح.

فالعمدة في عدم جريان الترتب في مسألة الجهر والإخفات عند القطع بعدم وجوب الإخفات هو هذه الجهة ، وهي كون الجهر في ذلك الحال بمنزلة المباح. ويضاف إلى ذلك الجهة السابقة ، وهي عدم معقولية تقييد الأمر بالإخفات بعدم الإتيان بالجهر لكونهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، وإلاّ فلو فرضنا أنّ لهما ثالثا فان قلنا إنّ الواجب هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية والثالث هو عدم القراءة أصلا ، دخلهما الترتب في صورة العلم التفصيلي بوجوب القراءة الجهرية.

وأمّا الأمر الرابع : فانّ أصله هو الإشكال في باب النسيان والجهل من ناحية عدم توجّه الخطاب ، حيث إنّه إن كان مع التفات المكلّف إلى عنوان النسيان والجهل خرج عن ذلك الموضوع ، وإن لم يكن المكلّف ملتفتا إلى ذلك استحال خطابه. والحاصل : أنّ خطاب الناسي والجاهل بعنوان كونه ناسيا أو جاهلا غير ممكن.

وهذا إشكال محل الجواب عنه في بعض مباحث الأقل والأكثر ، وقد تعرض له شيخنا قدس سره (1) في ذلك المبحث وذكر له أجوبة ، واختار في الجواب عنه بأن يكون التكليف بما عدا المنسي شاملا لكل من الذاكر والناسي ، ويكون التكليف بالمنسي مختصا بالذاكر. ونقل هناك الجواب

ص: 415


1- أجود التقريرات 3 : 518 ، فوائد الأصول 4 : 211.

عن هذا الإشكال بطريقة الخطأ في التطبيق عن تقريرات بعض تلامذة الشيخ قدس سره وأجاب عنه بما حاصله هو لزوم لغوية تكليف الناسي ، لأنّه لا يقع داعيا ومحركا للمكلّف في آن من الآنات ، فراجع ما حررناه (1) عن شيخنا قدس سره في ذلك المقام.

قلت : والظاهر أنّا لو أغضينا النظر عن هذه الجهة - أعني جهة كونه غير محرك للمكلّف في آن من الآنات - لم يكن أيضا وافيا بدفع إشكال الخطاب ، حيث إنّ ذلك التكليف الواقعي المختص بالناسي لا يمكن أن يتوجّه الخطاب فيه إلى خصوص الناسي بعنوان كونه ناسيا.

وأمّا ما يظهر ممّا أفاده شيخنا قدس سره (2) في هذا المقام من تقريب الإشكال على طريقة الخطأ في التطبيق بعدم إمكان فعلية التكليف في حق الناسي ، فيمكن الجواب عنه بأنّ فعلية التكليف في حق من انطبق [ عليه ](3) العنوان الذي هو موضوع ذلك التكليف لا يتوقف على التفات المكلف إلى تعنونه بذلك العنوان ، نعم تنجزه واستحقاق العقاب على مخالفته يتوقف على التفاته إلى تعنونه بذلك العنوان ، وهذا مطلب آخر لا دخل له بتصحيح عمله الذي قد طابق تكليفه الواقعي الفعلي من حيث لا يعلم ، فتأمل.

ولعل المراد من عدم الفعلية في هذا المقام هو عدم فعلية التحريك والداعوية.

ثم لا يخفى أنّ الذي حررته عنه قدس سره في تقريب هذا الإشكال هو هذا الذي أنقله وهو : أنّ تحليل الداعي إنّما يتصوّر فيما لو كان هناك تكليف

ص: 416


1- الظاهر أن مراده قدس سره بذلك تحريراته المخطوطة.
2- أجود التقريرات 2 : 96.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].

واقعي محرز عند المكلف ، غاية الأمر أنّه كان استحبابيا وتخيّله المكلّف وجوبيا ، أو كان أدائيا وتخيّله المكلّف قضائيا ، فانّه في مثل ذلك يتأتى تحليل الداعي والخطأ في التطبيق. أمّا مثل ما نحن فيه ومثل النسيان ممّا يكون التكليف مجهولا ، وتخيل المكلّف أنّ المتوجه إليه هو تكليف آخر فلا يتأتى فيه تحليل الداعي والخطأ في التطبيق ، انتهى.

قلت : لعل الوجه هو ما أشار إليه فيما تقدم نقله عنه قدس سره من لزوم لغوية ذلك الحكم المجهول دائما ، لعدم كونه محركا وداعيا في آن من الآنات ، بخلاف باقي موارد الخطأ في التطبيق ، فانّ الحكم الواقعي فيها يمكن العلم به والالتفات إليه ، فيكون عند ذاك محركا وداعيا. وحاصل الفرق هو دوام المجهولية فيما نحن فيه ، بخلاف باقي الموارد.

وكيف كان ، إنك قد عرفت أنّ أصل التكليف بالنسبة إلى الناسي معلوم ، وإنّما المجهول هو الخصوصية المختصة بالناسي. مثلا التكليف بأصل الصلاة معلوم لديه ، وإنّما المجهول هو كونها إخفاتية باعتبار نسيانه للجهر وهو مع ذلك قد أتى بالإخفاتية غافلا عن كونه قد أخفت.

نعم يمكن أن يقال : إنّ المجهول هو التكليف بالإخفات وهو تكليفه الواقعي ، وقد تخيّل أنّه مكلّف بالجهر ، ولكنّه مع ذلك أخفت نسيانا ، فيكون ممّن كان في الواقع مكلفا بشيء وقد تخيل أنّه مكلّف بشيء آخر مباين للأول ، لكنّه مع ذلك جاء بما هو الواقع لا ما تخيله.

وكيف كان ، فما نحن فيه من صورة الإخفات جهلا بوجوب الجهر لا يكون من هذا القبيل ، بل قد عرفت أنّ التكليف بالإخفات معلوم لدى المكلف ، وإنّما المجهول له هو التكليف الأولي ، نعم قد عرفت أنّ ذلك لا دخل له بمسألة تحليل الداعي ولا بمسألة الخطأ في التطبيق.

ص: 417

قوله : الأمر الثالث : قد أشرنا سابقا إلى أنّ المهم إذا كان مضيّقا ولم يكن له أفراد طولية ... الخ (1).

تقدم الكلام (2) على هذه الجهة مفصّلا عند تعرضه قدس سره لما عن صاحب الحاشية قدس سره فراجع. كما تقدم (3) أنّه يمكن القول بعدم التزاحم بين المضيّق والموسع باعتبار كون الموسع لا تحتيم فيه ، فراجع.

قوله : الأمر الرابع : إذا كان الواجبان المتزاحمان آنيين ... الخ (4).

يمكن تصوّر المثال لما يكون الأمر المترتب على عصيان الأهم فعلا آنيا غير محتاج إلى مقدار من الزمان ممّا يكون من قبيل الأفعال القلبية أو ما هو بمنزلتها ، مثل نية الاقامة ومثل العدول عنها ومثل الفسخ ومثل الرجوع بالمطلقة الرجعية. نعم لا يتصور ذلك في الأفعال الخارجية العلاجية مثل القيام والقعود ونحوهما.

نعم ، فيما لو كان عصيان الأهم آنيا مثل أن يكون مشغولا بالصلاة ويحرم عليه قطعها ، ولكنّه لو عصى وقطعها يجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد ، أعني النجاسة الحادثة في أثناء الصلاة ، بناء على أنّ الإتمام أهم من إزالة النجاسة الحادثة. ففي مثل هذه الصورة لا يحتاج الترتب على عصيان الأهم إلى عنوان التعقب ، بل لا يجتمع الخطابان في آن واحد فلاحظ. وليسمّ هذا العصيان بالعصيان الآني ، وهو جار في المشروط بالقدرة شرعا ، مثل ما سيأتي (5) من وجود الماء المباح في الآنية المغصوبة ،

ص: 418


1- أجود التقريرات 2 : 97.
2- [ الظاهر أن صاحب الحاشية قدس سره من سهو القلم ، والصحيح المحقق الثاني قدس سره فراجع الحاشية المتقدمة في الصفحة : 136 وما بعدها ].
3- [ الظاهر أن صاحب الحاشية قدس سره من سهو القلم ، والصحيح المحقق الثاني قدس سره فراجع الحاشية المتقدمة في الصفحة : 136 وما بعدها ].
4- أجود التقريرات 2 : 98.
5- أجود التقريرات 2 : 101 ، راجع أيضا الصفحة : 423 وما بعدها من هذا المجلّد.

فيقال إنّه يجب عليه الوضوء إن تصرّف في تلك الآنية وأخذ منها ما يكفيه لوضوئه. نعم لا يتأتى ذلك في الاغتراف التدريجي ، لأنّه بمنزلة العصيان التدريجي الموجب لعدم جريان الترتب في المشروط بالقدرة شرعا فلاحظ.

قوله : إذا عرفت ذلك فنقول : الخطاب بالمهم إنّما التزمنا بكونه مشروطا بعصيان خطاب الأهم ... الخ (1).

تقدم الكلام (2) على ذلك عند التعرض لما أفاده كاشف الغطاء قدس سره من أخذ العزم على العصيان شرطا ، وأنّ الشرط الواقعي هو خلوّ الزمان عن الأهم ، وأنّ العزم على العصيان إنّما هو طريق لإحراز الشرط ، الذي [ هو ](3) خلو الزمان بتمامه عن الأهم ، الذي نعبّر عنه في مقام دفع إشكال الشرط المتأخر بكون الشرط هو التعقب بخلو الزمان عن الأهم ، وأنّ ذلك من باب كونه محققا للقدرة بنظر العقل وإن لم يكن موجبا للقدرة بنظر الشرع ، كما تقدّم (4) تفصيل الكلام فيه عند التعرض لبيان عدم تأتي الترتب فيما هو مشروط بالقدرة الشرعية ، فراجع.

قوله : فقد يكون العلم بخطاب الأهم قبل الشروع في امتثال خطاب المهم ، واخرى يكون بعد الشروع فيه ... الخ (5).

مثال الأول ما لو علم بالنجاسة قبل الدخول في الصلاة ، ومثال الثاني ما لو علم بها أو طرأت وهو في أثناء الصلاة. وقد تعرضنا للفرق بين

ص: 419


1- أجود التقريرات 2 : 99 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في الصفحة : 385 - 386.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].
4- لعل المراد به ما تقدم في المقدمة الاولى من مقدمات الترتب ، الصفحة : 299 وما بعدها.
5- أجود التقريرات 2 : 99 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المسألتين فيما حررناه عنه قدس سره وحاصله : أنّ حرمة الإبطال في الصورة الاولى تكون كأصل الخطاب بالصلاة مشروطة بعدم الإقدام على إزالة النجاسة ، فهو بعد الشروع في الصلاة كما يكون استمرار أمره بها مشروطا بعدم الإقدام على الإزالة ، فكذلك استمرار حرمة قطعها يكون مشروطا بالشرط المذكور ، وحينئذ فيمكنه في كل آن أن يشتغل بالإزالة فيقطع الصلاة.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فانّ أمره بالصلاة يكون مطلقا ، فيكون حرمة إبطالها أيضا كذلك ، ولا تتحقق المزاحمة إلاّ عند العلم بالنجاسة في أثناء الصلاة ، وحيث إنّ كلا منهما فوري مضيّق فلا تتقدم الإزالة على حرمة القطع ، بل يكون المقدم هو حرمة الإبطال لكونه مشغولا به فعلا اشتغالا صحيحا غير مشروط بترك الإزالة.

أمّا لو علم بها قبل الصلاة ثم غفل وصلّى ثم التفت إلى ذلك في أثناء الصلاة فهل هو ملحق بالصورة الاولى ، أو أنّه ملحق بالصورة الثانية؟ الظاهر الثاني ، لكون الغفلة عذرا كالجهل. لكنه قدس سره في حاشية العروة (1) على مسألة (5) ألحقها بالصورة الاولى فحكم فيها بلزوم الإبطال. ولم يتّضح وجهه ، وبعد عرض ذلك بخدمته أمر بالضرب على قوله في الحاشية : « ثم غفل عنها » فراجع ما حررناه فيما علقناه على ما حررناه عنه قدس سره في هذا المقام (2).

ص: 420


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 181 / ضمن فصل أحكام النجاسات.
2- في ص 346 فيما يتعلق بدرس 16 و 17 ذي الحجة / 1346 [ منه قدس سره ].

ثم إنّ في الفرق بين الصورتين - أعني صورة تقدم النجاسة والعلم بها على الاشتغال بالصلاة ، وصورة التأخر عن الصلاة - في عدم جواز قطع الصلاة في الثانية دون الاولى تأملا ، فانّ دخوله في الصلاة في الثانية وإن لم يكن بطريق الترتب ، إلاّ أنّه بعد أن دخل ووقعت النجاسة في الأثناء يقع التزاحم بين الإتمام وإزالة النجاسة ، إلاّ أن يدعى أنّ الإتمام أهم.

ولا يخفى أن العبارة في الطبعة الثانية قد غيّرت عن الطبعة الاولى بما يمكن أن يكون غلطا مطبعيا ، فلاحظ قوله : « فلا يتحقق حينئذ عصيان خطاب الصلاة » (1). ولعلّ الأولى إبداله ب- « خطاب الإزالة » فلاحظ.

قوله : فرع : لا إشكال في جواز أخذ الماء من الآنية المغصوبة أو الذهب والفضة إذا كان بعنوان التخليص ، والمراد به هو ما إذا كان الماء مملوكا لمن يريد التصرف ... الخ (2).

قال قدس سره فيما حررته عنه : إنّهم ذكروا أنّه إذا كان تفريغ الآنية المغصوبة من الماء بعنوان التخلّص لم يكن محرما. وربما يتوهم أنّ التخلّص يتحقق بالنية ، ولا يخفى ما فيه ، إذ لا مدخل للنية والقصد في إخراج التصرف في ملك الغير عن كونه تصرفا فيه الذي عليه يدور التحريم ، بل إنّ الغرض من عنوان التخلّص أمر آخر ، وهو أنّه إذا كان الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له ، وكان إيجاده في تلك الآنية بغير اختياره بأن كان بفعل الغير ، صحّ له تفريغ تلك الآنية بل وجب ، وكان ذلك تخليصا للآنية المذكورة ، انتهى.

ص: 421


1- أجود التقريرات 2 : 100.
2- أجود التقريرات 2 : 100 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

قلت : لكن الظاهر أنّه لا بدّ في ذلك من كونه بنية التخليص وبداعيه ، إذ لو كان بقصد التصرف كان حراما على الظاهر.

ثم إنّه إنّما يكون واجبا إذا أذن المالك للآنية بتفريغها ، أمّا مع عدم الإذن ففيه إشكال تأتي الإشارة إليه (1).

أمّا ما يكون في آنية الذهب والفضة فانّ المدار في وجوبه على كون بقائه استعمالا لها ، أمّا مع عدم كون بقائه استعمالا لها فلا يجب ، لكن إذا كان الأخذ يعدّ استعمالا كان حراما ، وإن لم يكن يعدّ استعمالا بل كان من مجرد التفريغ والتخليص كان الأخذ جائزا.

قوله : فانّه يجوز التصرف فيها ، بعموم « الناس مسلطون على أموالهم » (2) ... الخ (3).

فيه تأمل ، فانّ حديث السلطنة وإن كان مقتضاه جواز أخذه ذلك الماء ، إلاّ أنّه معارض به في ناحية صاحب الآنية ، إلاّ أن يكون هو أعني صاحب الآنية هو الذي أوجد الماء في آنية نفسه.

والحاصل : أنّ واضع الماء في الإناء إن كان هو صاحب الماء حرم عليه أخذه منه بل وتخليص الإناء ، لأنّه لا يخرج عن كونه تصرفا في الإناء ، إلاّ إذا أذن مالك الإناء بالتخليص فيجوز أو طلبه فيجب. وإن كان الواضع هو صاحب الإناء جاز تفريغه لصاحب الماء ، وهنا مورد حديث السلطنة. وإن كان الواضع غيرهما لم يكن لأحدهما تخليص ماله إلاّ بأذن صاحبه.

ص: 422


1- في الحاشية الآتية.
2- بحار الأنوار 2 : 272 / 7.
3- أجود التقريرات 2 : 100 - 101 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

قوله : فلا يجب الوضوء على تقدير عدم التمكن من ماء آخر ... الخ (1).

ويلزمه حينئذ التيمم. أمّا لو كان له ماء آخر فلا إشكال في أصل وجوب الوضوء عليه. وهل يصح أن يتوضأ من تلك الآنية تدريجا؟ الظاهر الصحة وإن فعل حراما في الاغتراف ، لكن ليس ذلك من قبيل الترتب.

نعم ، لو كان الماء الآخر بعيدا عنه ، بحيث إنّه لو شرع في الوضوء من هذه الآنية وأراد إتمامه من الماء الآخر لذهبت الموالاة ، فالظاهر عدم صحة وضوئه منها ، لأنّه لا يقدر على إتمامه. فهو في أول غرفة وإن عصى إلاّ أنّه لا يمكنه أن يغسل بها وجهه للوضوء ، إذ لا تتأتى منه نية إتمام الوضوء ، لعدم تمكّنه من إتمام ذلك الوضوء إلاّ بالعصيان الثاني ، وترتب الأمر بالإتمام على العصيان فرع صحة نيته إتمام الوضوء من حين ابتداء غسل وجهه. والحاصل : أنّه في هذه الصورة لا يصح وضوءه من تلك الآنية ، ولكن لا يكون حكمه الانتقال إلى التيمم ، بل يكون حكمه هو لزوم الوضوء من الماء الآخر.

نعم لو كان الماء الآخر موجودا أمامه ، بحيث لا يكون انتقاله من الوضوء من هذه الآنية إلى الآنية الاخرى المباحة مفوّتا للموالاة ، كان وضوءه من الآنية المغصوبة صحيحا إن لم نقل ببطلانه من ناحية كون نفس الوضوء تصرفا فيها ، كما أشار إليه السيد في العروة بقوله : « مطلقا » (2). وعلّق

ص: 423


1- أجود التقريرات 2 : 101.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 303 / مسألة (1) من مسائل حكم الأواني.

عليه شيخنا قدس سره بقوله : « الصحة مع عدم الانحصار أقوى والتجنب أحوط » (1). وقد تعرضنا لذلك أيضا في الشرط الرابع من شرائط الوضوء (2) فراجع.

والحاصل : أنّه في صورة عدم الانحصار يحكم السيد ببطلان الوضوء ، لأنّه بنفسه استعمال للمغصوب ، وشيخنا يقول إنّ الحرام هو نفس الاغتراف دون الوضوء ، فلا يكون وضوءه باطلا.

ونظير هذا الخلاف بينهما الخلاف في مسألة آنية الذهب والفضة فيما لو كان السماور مثلا من أحدهما ، فانّ السيد قدس سره (3) يحكم بأنّ الشرب استعمال ، فيكون نفس الشرب حراما. وشيخنا قدس سره (4) لا يرى ذلك ، بل إنّ نفس الشرب منه مباح وإنّما الحرام هو مقدمته ، فراجع باب الأواني متنا وحاشية.

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (5) في باب اجتماع الأمر والنهي التمثيل لبعض صوره - وهو ما يكون متعلق الوجوب من مقولة ومتعلق النهي متمما لتلك المقولة - بالوضوء من آنية الذهب والفضة ومن الآنية المغصوبة. ولعل ذلك في صورة الوضوء الارتماسي ، أو هو مبني على ما ذكره السيد قدس سره فراجع وتأمل. والمتعين هو الحمل على الوضوء الارتماسي كما صرّح به

ص: 424


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 303 / مسألة (1) من مسائل حكم الأواني.
2- الظاهر أنه قدس سره يقصد بذلك ما حرره في الفقه.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 310 / ذيل مسألة (1) من مسائل حكم الأواني.
4- المصدر المتقدم.
5- أجود التقريرات 2 : 148 - 149.

في حاشية العروة (1) وبنحوه صرّح في الوسيلة (2).

لكن بقي إشكال في غير الوضوء الارتماسي ، فانّه مزاحم بالحرام ، وهو سالب للقدرة على ذلك الفرد من الوضوء ، كما أنّ مزاحمة الصلاة بالإزالة موجب لسلب القدرة على ذلك الفرد من الصلاة ، غايته أنّ الفردية في مثال الصلاة والإزالة طولية ، وفي باب الوضوء والاغتراف من الآنية المغصوبة عرضية ، وقد تقرّر أنّ سلب القدرة في باب الطهارة يوجب بطلانها. اللّهم إلاّ أن يقال : إنّه يكفي في الصحة الأمر بالطبيعة وإن كانت منحصرة في غير ذلك الفرد. وفيه تأمّل ، لأنّ ذلك راجع إلى ما أفاده المحقق الثاني (3) ، وقد منعه شيخنا قدس سره (4) فتأمل.

ثم لا يخفى أنّه لا فرق فيما نحن فيه في الوضوء الارتماسي بين كون نية الوضوء في حال الارتماس ولو بسحب اليد وهي في الماء ، أو كونه في حال الإخراج. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ النية إنّما هي بالنسبة إلى حال خروج كل قطعة ، وذلك هو مورد النهي ، إذ لا تكون النية في الخارج بعد خروجه ، فتأمّل.

ومما ينبغي الالتفات إليه هو أنّ تدرج الاغتراف من الآنية المغصوبة مثلا لو صحّحناه بالترتب فليس هو من قبيل الترتب المعروف ، الذي يكون فيه عصيان الأهم مقارنا لفعل المهم ، بل يكون فيه فعل المهم متأخرا عن عصيان الأهم ، فهو نظير قولك : إن عصيت وسلكت الأرض المغصوبة

ص: 425


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 313 / ضمن المسألة 14 من حكم الأواني.
2- وسيلة النجاة : 5.
3- جامع المقاصد 5 : 13 - 14.
4- أجود التقريرات 2 : 23 وما بعدها.

ووصلت إلى المسجد فأزل النجاسة عنه.

قوله : والالتزام بشرطية عنوان التعقب قد عرفت أنّه يدور مدار قيام الدليل عليه ، ولم يقم في غير مورد الاشتراط بالقدرة دليل على ذلك ... إلخ (1).

قد يشكل على ما أفاده قدس سره من أنّ عصيان التكليف المتأخر غير راجع إلى شرطية القدرة فلا يتأتى فيه ما تقدم من كون العنوان المنتزع هو الشرط ، بما حاصله : أنّه بعد فرض عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين يكون لعدم امتثال كل منهما مدخلية في القدرة على امتثال الآخر. وكون القيام السابق مقدورا وجدانا لا ينفع ، حيث إنّ كل مزاحم بغيره يكون في حد نفسه مقدورا وجدانا. ولعلّ ما في الحاشية (2) في هذا المقام راجع إلى هذا الإشكال.

وكيف كان ، فلا بدّ حينئذ من توجيه ما أفاده قدس سره بحيث لا يتوجه عليه الإشكال المزبور ، بأن يقال : إنّ اشتراط كل من التكليفين المتزاحمين بعدم امتثال الآخر إنّما يحكم به العقل من جهة اطلاعه على أنّ بقاء إطلاقهما هو الذي يؤدي إلى المحالية ، أعني طلب الجمع وتكليف ما لا يطاق ، فإذا كان عصيان أحدهما مقارنا للآخر أو كان العصيان متقدما عليه كان داخلا في مورد حكمه المزبور ، أمّا إذا كان العصيان متأخرا عن التكليف المزاحم فلا يمكن للعقل أن يجعله شرطا في توجه التكليف السابق ، لحكمه باستحالة الشرط المتأخر ، ولا يمكنه أيضا أن يجعل الشرط هو العنوان المنتزع ، أعني كونه بحيث يتعقبه عصيان التكليف السابق لاحتياج ذلك إلى الدليل ،

ص: 426


1- أجود التقريرات 2 : 103 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 103.

والعقل لا يرجح هذا الوجه على حكمه باسقاط التكليف السابق بقول مطلق ، بل إنّ العقل يعيّن الوجه الثاني ، وهو إسقاط الخطاب بالقيام السابق بالمرة ، لأنّ تقييده بالعنوان المنتزع من العصيان المتأخر يوجب تقييده بعصيان حفظ القدرة للثاني ، إذ لا يمكن أن يقيد بعنوان عصيان المتأخر أو بالعنوان المنتزع منه مع بقائه مطلقا من ناحية لزوم حفظ القدرة للثاني ، وحينئذ يكون التكليف بالقيام الأول مقيدا بعصيان التكليف بالقيام الثاني وعصيان لزوم حفظ القدرة له ، وذلك موجب للوقوع في المحال الذي أشار إليه شيخنا قدس سره ، هذا.

مضافا إلى أنّ أخذ العنوان المنتزع شرطا لا يكون موجبا لرفع المطاردة كما تقدم (1) منه قدس سره في الجواب عمن أخذ الشرط هو العنوان المنتزع من تحقق العصيان فيما بعد فرارا عن اجتماع الشرط والتكليف المشروط به في زمان واحد.

نعم ، يمكن أخذ العنوان المنتزع شرطا في التكليف السابق من باب شرطية القدرة ، لكن ذلك في مقام آخر وهو ما تقدم (2) فيما لو كان المهم المعلّق على عصيان الأهم تدريجيا مركبا من أجزاء ارتباطية كما في مثل الصلاة ، بحيث تكون القدرة على الجزء الثاني منها شرطا في توجّه التكليف بالجزء الأول كما هي شرط في توجه التكليف بالجزء الثاني أيضا ، ففي مثل ذلك نقول إنّ عصيان الأمر بالأهم لمّا كان له المدخلية في تحقق القدرة على امتثال الجزء الثاني من المهم ، التي هي حسب الفرض شرط

ص: 427


1- [ لاحظ أجود التقريرات 2 : 65 - 66 ، فان الذي يظهر منه هناك أن أخذ العنوان المنتزع على تقدير القول به يرفع المطاردة ، ولعل « لا » في هذه العبارة من سهو القلم ].
2- راجع أجود التقريرات 2 : 98 - 99.

في توجه التكليف بالجزء الأوّل منه ، وكانت شرطية القدرة على الجزء الثاني في التكليف بالجزء الأوّل مأخوذة على نحو العنوان المنتزع ، فلا جرم يكون مدخلية عصيان الأهم في حال الجزء الثاني بالنسبة إلى التكليف بالجزء الأوّل من قبيل العنوان المنتزع.

ولعل مراده قدس سره من عدم رجوع العصيان إلى شرطية القدرة هو نفي ذلك المعنى ، أعني نفي كون العصيان فيما نحن فيه من قبيل العصيان في تلك المسألة ، أعني مسألة كون المهم مركبا من أجزاء ارتباطية تدريجية ، يعني أنّ العصيان فيما نحن فيه ليس من ذلك القبيل من العصيان ، كي يقال إنّ الدليل على أخذ العنوان المنتزع منه شرطا في التكليف السابق هو العقل الحاكم باعتبار القدرة.

والحاصل : أنّ التكليف بكل جزء من أجزاء الواجب التدريجي يكون مشروطا بالقدرة الموقوفة على عصيان الأهم ، وحيث إنّ التكليف بالجزء الأوّل مشروط بالقدرة على الجزء الأخير ، يكون اشتراط وجوب الجزء الأوّل بالعصيان في حاله من باب الترتب. أمّا اشتراطه بالعصيان في حال الجزء الأخير فليس هو من وادي الترتب ، بل هو من وادي اشتراطه بالقدرة على الجزء الأخير ، وهي من باب العنوان المنتزع. وهذا بخلاف اشتراط وجوب القيام في الركعة الاولى ، فإنّه ليس من وادي القدرة ، بل من وادي الترتب ، فلا يمكن أن يكون هو - أعني عصيان القيام المتأخر - بنفسه شرطا ، لكونه من الشرط المتأخر ، ولا يكون الشرط حينئذ هو العنوان المنتزع لكونه متوقفا على الدليل.

وبالجملة : أنّ كل ما يكون التكليف بالجزء الأخير متوقفا عليه

ص: 428

ومربوطا به يكون التكليف بالجزء الأول متوقفا عليه ومربوطا به ، لأجل الارتباطية بين الأجزاء تكليفا وامتثالا ، فلا بدّ أن يكون ذلك من قبيل العنوان المنتزع. وهذا بخلاف عصيان التكليف بالجزء بالقيام الثاني ، فانّه لا دليل يلجئنا أن نجعل التكليف بالقيام الأول متوقفا عليه كي نلتزم بكون ذلك من قبيل العنوان المنتزع. وعصيان الإزالة في حال الجزء الأخير من الصلاة بالنسبة إلى الجزء الأوّل منها من قبيل النحو الأول ، فلا بدّ أن يكون مدخليته في الجزء الأوّل بنحو عنوان التعقب.

ثم لا يخفى أنّ لازم ما أفاده قدس سره من استحالة كون التكليف بالمهم الذي هو القيام المتقدم مترتبا على عصيان الأهم الذي هو القيام المتأخر ، هو عدم صحّة تقييد كل من التكليفين بعدم متعلّق الآخر في صورة تساويهما ، بل بناء عليه يتعيّن بقاء الأمر بالقيام الأوّل بحاله ، لعدم إمكان تقييده بعدم امتثال الأمر بالثاني ، غايته أن يتقيد الأمر بالثاني بعدم امتثال الأوّل.

لكن النتيجة بين هذه الطريقة والطريقة التي أفادها قدس سره من تقييد كل منهما بعدم الآخر واحدة ، وهي أنّه لا يجوز له ترك القيام الأول. ولو فرض أنّه تركه عصيانا ولم يكن تركه موجبا لبطلان أصل العمل كما في القيامين في الصلاة ، كان ذلك موجبا لتعين الثاني عليه ، كما في اليومين من شهر رمضان إذا فرض أنّه لا يقدر على صومهما معا.

ثم بعد البناء على جريان الترتب في القيام المتقدم لا ينبغي الريب في إمكان تصحيحه بالملاك ، وكونه بنفسه مصداقا لتفويت القدرة على القيام الثاني لا يوجب سقوطه عن الملاكية ، بل ولا المحبوبية النفسية ، لما تقدّم مرارا من أنّ هذا النحو من التكليف - أعني التكليف بحفظ القدرة والمنع

ص: 429

عن تضييعها - ليس هو من التكاليف النفسية الناشئة عن ملاكات خاصة بها ، إذ لا ملاك لها إلاّ ملاك ذيها الذي تحفظ القدرة له ، فتأمّل.

ثم لا يخفى أنّ الحجر الأساسي في منع الترتب في مثل ما نحن فيه من الطوليين كالقيامين هو لزوم حفظ القدرة للثاني الذي هو الأهم ، وهذا أعني لزوم حفظ القدرة إنّما يتأتى فيما لو كان الثاني متأخرا عن الأوّل ، وحينئذ لا يجري هذا الإشكال في أصل مسألة الترتب بأن يقال إنّ الأهم يلزم حفظ القدرة له وصرفها فيه ، فلا يعقل أن يكون الأمر بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأهم ، لكونه موجبا لكونه مشروطا بعدم امتثال حفظه القدرة للأهم ، وهو أعني كون الأمر بالمهم مشروطا بعدم امتثال الأمر بحفظ القدرة وصرفها في الأهم بصرفها في غيره ، وذلك الغير إن كان هو المهم كان تحصيل الحاصل ، وإن كان غيره كان من التكليف بما لا يطاق. ومنشأ عدم جريانه هو ما عرفت من أنّ حفظ القدرة لا يتأتى في ذلك ، إذ ليس لزوم صرف القدرة في الأهم إلاّ عبارة عن لزوم الإتيان بالأهم ، فتأمل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الجواب عمّا تضمنته الحاشية من أنّه لا حاجة إلى الالتزام بالترتب بالنسبة إلى لزوم حفظ القدرة ... إلخ (1) ، فانّه قد اتضح لك أنّه الحجر الأساسي في المزاحمة وأنّه يتوجّه قهرا ، فلا بدّ من إصلاحه ، وأنّ الترتب بالقياس إليه غير ممكن ، وهو العمدة في عدم تأتي الترتب في هذه المسألة ، فراجع وتأمّل.

وخلاصة الفرق : هي أنّا في مسألة الترتب المعروف بين الإزالة والصلاة لم يكن التزامنا بأخذ العنوان المنتزع من العصيان المتأخر ناشئا عن

ص: 430


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 103 ( نقل بالمضمون ).

مجرد عدم إمكان الجمع بينهما وإمكان الجمع بين أحدهما وعدم الآخر ، كي يكون ذلك بعينه جاريا في الترتب بين القيام الأول والقيام الثاني ، بل إنّ التزامنا بذلك في مسألة الصلاة والإزالة كان لخصوصية في نفس الصلاة وإن لم يكن في البين أمر بالإزالة ولا تزاحم ولا ترتب ، وذلك من جهة الارتباطية بين أجزاء الصلاة القاضية بأنّ القدرة على الجزء الأخير منها شرط في وجوب الجزء الأول مع فرض توجه الأمر بها ، فانّ ذلك يلجئنا للقول بأنّ العنوان المنتزع من القدرة المتأخرة شرط في وجوب الجزء الأول ، غاية الأمر أنّه عند الابتلاء بالمزاحم الأهم الذي هو الإزالة يكون القدرة على الجزء الأخير من الصلاة متولدا عن عصيان الإزالة وعدم الإتيان بها في ذلك [ الحال ](1) ، فلأجل ذلك يصح لنا التعبير بأنّ الأمر بالجزء الأول من الصلاة مشروط بالتعقب بعصيان الإزالة.

وهذا بخلاف ما نحن فيه من ترتب القيام الأول على ترك القيام الثاني عند فرض كون الثاني أهم ، فإنّ الالتزام بالتعقب لا دليل عليه ، لإمكان سقوط الأمر بالأول بتاتا ، وجعله مشروطا بالتعقب بعصيان الثاني يحتاج الى دليل. نعم لو ثبت الأمر بالأول مع فرض كون الثاني أهم وفرض عدم القدرة على الجمع بينهما ، لالتزمنا بكون الامر بالأول مشروطا بالعنوان المنتزع من عصيان الثاني المتأخر.

ثم مع قطع النظر عن عدم الدليل على ذلك نقول : إنّه غير نافع في حصول القدرة على القيام الأوّل ، وذلك لوجود مزاحم ثالث وهو حكم الشارع بلزوم حفظ القدرة للثاني ، بناء على كونه من متمم الجعل الجاري

ص: 431


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة المعنى ].

في الواجب قبل حصول زمانه ، فلا بدّ من إصلاح الأمر بالقيام الأول مع الأمر بحفظ القدرة للثاني بالترتب أيضا ، وهو مستلزم لطلب الحاصل أو لطلب المحال.

ومن ذلك يتضح لك أنّ هذا الإشكال لا يتأتى في الترتب بين العرضيين مثل الإزالة والصلاة ، إذ ليس هناك إلاّ حكم العقل بلزوم صرف القدرة في متعلق التكليف ، وليس هو إلاّ عبارة عن وجوب الإطاعة ، وهو بخلاف ما لو كان الثاني متأخرا عن الأول ، فانّ حفظ القدرة فيه يكون واجبا شرعيا نفسيا بالغير كما حققه في المقدمات المفوتة (1). فلو سلّمنا ذلك الوجوب كنّا فيما نحن فيه محتاجين الى أخذ وجوب القيام الأول مشروطا بعدم حفظ القدرة للثاني ، وهو موجب لطلب الحاصل أو طلب المحال كما شرحه قدس سره (2).

ومن ذلك يتضح لك عدم ورود شيء من الحواشي على ما أفاده قدس سره فلاحظ وتأمل.

نعم ، إنّ في المقام أمرا آخر وهو عدم صحة قول الآمر : إن عصيت الأمر بالقيام الثاني فاحفظ قدرتك ، بحيث يكون الأمر بحفظ القدرة للتكليف الآتي واردا في صورة عدم صرف القدرة فيه. وما ذلك إلاّ من قبيل ما تقدم في المقدمة الموصلة من رفع حرمة السلوك في الأرض المغصوبة في صورة عدم إنقاذ الغريق ، وسيأتي الكلام في تأتي الترتب في مثل ذلك إن شاء اللّه تعالى في الأمر الثالث (3).

ص: 432


1- أجود التقريرات 1 : 227 - 228.
2- أجود التقريرات 2 : 105.
3- [ الظاهر أن مراده قدس سره بذلك هو القسم الثالث من أقسام الترتب وهو المذكور في الطبعة الحديثة من أجود التقريرات بعنوان القسم الثاني ، وعلى أي حال فينبغي مراجعة الحواشي الثلاث التالية ].

وإن شئت فقل : إنّ حفظ القدرة وإن قلنا بوجوبه من باب متمم الجعل ، إلا أنّه ليس وجوبا مستقلا في عرض وجوب الفعل الآتي ، إذ ليس له عصيان وعقاب مستقل ، بل ليس هو إلاّ وجودا ظليا لوجود التكليف الآتي ، فلا يكون مؤثرا في مرتبة عصيان التكليف الآتي.

وحينئذ لم يبق في تحقق الترتب إلاّ إشكال عدم الدليل على أخذ العنوان المنتزع من العصيان المتأخر. ويمكن التخلّص منه بأنّا عند صورة التعقب بعصيان التكليف الآتي يكون الملاك في التكليف الفعلي متحققا ، فيمكننا استكشاف التكليف بالقيام الأول نظرا الى تحقق ملاكه في صورة كون المكلّف ممن يعصي الأمر بالقيام الآتي.

وهذه الطريقة - أعني طريقة استكشاف الأمر بالملاك - وإن أمكن سلوكها في البرهان على الترتب حتى في مثل الإزالة والصلاة ، بأن يقال إنّه عند عصيان الإزالة يكون ملاك الصلاة متحققا ، فنستكشف به أمر الشارع بالصلاة عند عصيان الأمر بالإزالة أمرا جديدا مشروطا بعدم الإزالة ، من دون حاجة إلى التمسك بالأمر الأول والالتزام بتقييده ، إلاّ أنّ ذلك في مثل الإزالة والصلاة تبعيد للمسافة من دون داع ، فانّ الأمر بالصلاة المشروط بعدم الإزالة إن لم يكن منافيا للأمر بالإزالة كفى فيه الأمر الأول ، ولا حاجة الى تكلّف هذه الطريقة. وإن كان منافيا له لم تكن الطريقة المذكورة مصلحة له ودافعة للمنافاة. وهذا بخلاف مثل القيام الأول والقيام الثاني ، إذ ليس المطلوب فيهما إلاّ الدليل على الأمر المشروط.

ص: 433

قوله : أمّا الأوّل فلأنّ لازم الخطاب الترتبي في المقام وإن كان هو الالتزام بشرطية عنوان التعقب ، إلاّ أنّها بمقتضى حكم العقل كما في موارد الاشتراط بالقدرة ... إلخ (1).

توضيح ذلك : أنّه بعد الفراغ عن حرمة المقدّمة ذاتا ، والفراغ عن أهمية الواجب وسقوط حرمتها الذاتية لأجل ذلك ، وبعد الفراغ عن أنّ ما هو الواجب من المقدّمة لا يمكن أخذ قيد الإيصال فيه ولا يمكن أخذ قيد قصد التوصل فيه ، ولا يمكن القول أيضا بأنّ الواجب هو الذات التي تكون توأما مع الإيصال الى الواجب ، ولا يمكن أيضا أخذ إرادة فعل الواجب قيدا في وجوبها ، كل هذه التوجيهات قد فرغنا عن إبطالها.

وبعد ذلك كلّه قد بقينا في قبال ذلك الذوق الفقهي ، الذي كان محصّله هو استبشاع الذوق الحكم على سلوك الأرض المغصوبة بأنّه واجب حتى في مورد يكون سلوكها لأجل التنزّه أو تعمّد الغصب لا لأجل إنقاذ ذلك الغريق ، لم يكن لنا حينئذ بد من دفع ذلك الاستبشاع بأن نقول : إنّ السلوك الذي لا يتعقبه الإنقاذ يكون حراما ، فتكون الحرمة مترتبة على تقدير عدم الإنقاذ ، وهذا هو معنى الترتب في حرمة السلوك ، بأن نقول : إنّه إذا عصى ولم ينقذ ذلك الغريق يكون سلوكه في تلك الأرض حراما ، وحيث إنّ ظرف العصيان متأخر عن ذلك السلوك فتكون حرمته سابقة على العصيان ، ويكون من باب الشرط المتأخر ، ويكون اللازم حينئذ هو الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب بالعصيان.

وهو وإن كان محتاجا الى الدليل إلاّ أنّه يكفي في الدليل عليه ما

ص: 434


1- أجود التقريرات 2 : 110 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

ذكرناه من دفع الاستبشاع المذكور ، بعد أن كانت الوجوه التي يتخيّل دفعها له كلّها باطلة عقلا ، فلم يبق بأيدينا إلاّ هذا الوجه المفروض إمكانه بعد ما عرفت من أنّ وجوب المقدمة يكون هادما لموضوع حرمتها ، كما أنّ حرمتها لا تعرض لها بوضع ذلك الموضوع ، الى آخر ما حررناه في إمكان الترتب في هذه المسألة (1) ، وإمكان الجمع بين الوجوب المذكور وبين الحرمة المعلّقة على عصيان الأمر بذي المقدمة ، فانّك بعد أن عرفت إمكان ذلك لم يبق عندنا إلاّ المطالبة بالدليل على أخذ عنوان التعقب شرطا ، وما ذكرناه من إبطال الوجوه السابقة مع ذلك الاستبشاع كاف في الدليل عليه ، وحينئذ فما نحن فيه وإن لم يكن من باب القدرة إلاّ أنّه نظيره في لزوم الالتزام به بعد الفراغ عن الأمور المذكورة ، فلاحظ وتأمل.

وينبغي أن يعلم أنّا في هذا المقام بصدد توجيه ما أفاده شيخنا قدس سره من أنّه بعد الفراغ عن إبطال الوجوه السابقة في المقدمة الموصلة لا بد من الالتزام بالترتب ، المبني على أخذ عنوان التعقب بالعصيان شرطا في حرمة المقدمة المذكورة ، فلا يكون ما حررناه هنا منافيا لما حررناه هناك (2) من أنّ الأقوى هو مسلك الشيخ قدس سره (3) من كون الواجب الغيري من المقدمة ما يكون واقعا بقصد التوصل به الى ذيها ، بناء على ما حررناه في مبحث التعبدي والتوصلي من أصالة التعبدية ، نظرا الى تقيد الواجب قهرا بما يكون بقصد الامتثال ، وأنّ ما يكون بغير هذا القصد لا ينطبق عليه الواجب وإن كان هو مسقطا عنه.

ص: 435


1- راجع ما تقدم في الصفحة : 67.
2- لاحظ الصفحة : 78 - 79 ، فانه قدس سره قوّى مسلك الشيخ قدس سره أوّلا ثم تأمّل فيه.
3- مطارح الأنظار 1 : 353 وما بعدها.

كما أنّا حررنا هناك أعني في المقدمة الموصلة أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في توجيه ما نقله عن صاحب الحاشية من أنّ الواجب هو المقدمة من حيث الإيصال وإن لم تكن مقيدة بالإيصال ، ظاهره الانطباق على دعوى كون الواجب من المقدمة هو الذات التي تكون توأما مع الإيصال ، لا أنّها تكون مقيّدة بالإيصال ، وإن قلنا إنّ نفس كلام صاحب الحاشية غير ظاهر في ذلك ، بل إنّ ظاهره هو إخراج المقدمة التي اتفق عدم القدرة على ذيها ، فراجع ما نقلناه هناك عن صاحب الحاشية ، وراجع ما علّقناه في شرح مراده من تلك العبارة (1).

ولا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا قدس سره في ذلك المقام (2) في شرح مراد صاحب الحاشية هو عين ما أفاده قدس سره هنا من كون وجوب المقدمة واقعا في طريق الإيصال الى ذيها ، وكونه واقعا في رتبة وجوب ذي المقدّمة.

والحاصل : أنّ لازم كون وجوب المقدمة واقعا في طريق الإيصال الى ذيها هو انحصاره في الذات التي تكون توأما مع وجود ذي المقدمة ، ومعه لا حاجة الى الالتزام بترتب حرمتها على عصيان الأمر بذيها ، بل إنّ لازم ذلك هو انحصار وجوبها بالذات التي تكون توأما مع الإيصال ، أمّا الذات الاخرى فهي باقية على ما هي عليه من الحرمة.

لكنه قدس سره في ذلك المبحث أفاد (3) أنّه على مسلك صاحب الحاشية لا بد من الالتزام بالترتب ، لاستحالة انقسام المقدمة إلى قسمين ، وانحصار الوجوب بخصوص ما يترتب عليه الواجب ، فلاحظ وتأمّل.

ص: 436


1- راجع الصفحة : 71 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 348 - 351.
3- أجود التقريرات 1 : 352.

قوله : وتوضيح ذلك : أنّ المقدمة بعد ما فرضنا أنّها محكومة بالحرمة في حد ذاتها ، وفرضنا أنّها سابقة على ذي المقدمة زمانا ، وأثبتنا في المقدّمة الاولى أنّ خطابها في مرتبة خطاب ذيها ، فلا محالة يكون وجوبها في تلك المرتبة وحرمتها في مرتبة العصيان ، إذ رفع اليد عن الحرمة إنّما كان لأجل المقدمية ، فإذا فرضنا عدم وقوعها في طريق التوسل الى ذي المقدمة فلا تكون الحرمة ساقطة ، وليس هذا إلاّ عين الالتزام باشتراط حرمتها بالتعقب بالعصيان ... الخ (1).

لا يخفى أنّ هذه المطالب الثلاثة - أعني كون المقدمة محرمة في حد ذاتها ، وكونها سابقة في الزمان على ذيها ، وكون وجوبها الغيري في مرتبة وجوب ذيها - لا تكون منتجة للترتب ، بل الظاهر أنّ نتيجتها هي ما تقدمت (2) الإشارة إليه من بقاء الحرمة الذاتية عند عدم وقوعها في طريق التوسل ، وانحصار وجوبها الغيري بما إذا كانت واقعة في طريق التوسل ، وليس ذلك من قبيل الترتب ، بل ولا من باب اشتراط حرمتها بالتعقب بالعصيان ، بل لا يكون إلاّ من باب الأخذ بمقتضى الحرمة الذاتية ، وانحصار الواجب الغيري بما يكون واقعا في طريق التوسل الى ذيها ، إمّا لأنّ الوجوب الغيري مقيّد بارادة ذي المقدمة كما هو عن صاحب المعالم (3) ، وإمّا لأنّ الواجب مقيّد بقصد التوسل كما عن الشيخ قدس سره (4) ، أو أنّه مقيد بنفس التوصل كما عن صاحب الفصول (5) ، أو أنّ الواجب الغيري هو

ص: 437


1- أجود التقريرات 2 : 110 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في آخر الحاشية السابقة.
3- معالم الدين : 71.
4- مطارح الأنظار 1 : 353 وما بعدها.
5- الفصول الغروية : 81 ، 86.

خصوص الذات التي تكون توأما مع التوصل كما ربما يحتمله ما عن صاحب الحاشية (1).

وحينئذ فلا بدّ في الجواب عن المطالبة بالدليل على أخذ التعقب شرطا ، بما تقدم (2) من أنّه بعد إبطال هذه الوجوه لا بد من دفع ذلك الاستبشاع الذوقي ، بالالتزام بالترتب وإن أدى إلى أخذ عنوان التعقب شرطا. نعم لا بد من إثبات إمكان الترتب في المقام ودفع إشكال لزوم اجتماع الحكمين بما تقدم (3) ويأتي (4) من كون الوجوب الغيري للمقدمة واقعا في مرتبة وجوب ذيها ، وأنّه لا تدافع بين ذلك الوجوب الغيري والحرمة المعلّقة على عصيان ذي المقدمة ، لكون الأول هادما لموضوع الثاني.

ومن الواضح أنّ هذا المطلب - أعني إثبات عدم التدافع بين الحكمين - لا دخل له بالإشكال المذكور أعني لزوم أخذ التعقب شرطا من دون دليل ، فانّ هذا الإشكال إنّما يتجه بعد الفراغ عن إمكان الترتب ، وليس مرجعه إلى مجرد المطالبة بالدليل. فينبغي أن يكون جوابه مقصورا على إقامة الدليل عليه ، وهو منحصر بما عرفته من ضرورة الالتجاء إليه في الخروج عن ذلك الاستبشاع ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما تضمنته الحاشية الثانية على ص 322 (5) من الاكتفاء في دفع هذا الإشكال بمجرد إمكان الترتب ، وأنّ الالتزام

ص: 438


1- وقد نقله المصنف قدس سره في الصفحة : 71 وما بعدها.
2- في الصفحة : 434 - 435.
3- في الصفحة : 66 - 67.
4- في الصفحة : 441 وما بعدها.
5- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 109.

بالشرط المتأخر أو عنوان التعقب لا يتوقف على دلالة دليل بالخصوص عليه بعد فرض إمكان الترتب ، لما عرفت من أنّ مجرد إمكان الترتب إنّما يكفي في إثبات نفس الترتب ، أمّا لو كان هناك لازم آخر وهو أخذ التعقب شرطا فلا يكفي فيه مجرد الإمكان ، بل لا بد من إقامة الدليل عليه.

ثم إنّ في هذه الحاشية منع الترتب لكونه مستلزما لاجتماع الحكمين وقال : وأمّا ما افيد في المتن من أنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة فلا استحالة في اجتماعهما فقد عرفت ما فيه ... إلخ. والظاهر أنّه يشير في ذلك إلى ما مرّ منه في الحاشية الثانية من ص 321 من أنّ كل خطاب لا يقتضي إلاّ حصول متعلقه في الخارج ... إلخ (1) ، فلعله غفلة عما حرره مكررا عن شيخنا قدس سره في بيان الوجه في كون الأمر المقدمي في رتبة الأمر بذي المقدمة في كونهما تحصيلا لذي المقدمة ، وسيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى (2).

ثم إنّه قال : وبالجملة : إذا توقف واجب فعلي على مقدمة محرمة في نفسها ، فان كان وجوب المقدمة مشروطا بايصالها إلى الواجب النفسي استلزم ذلك التفكيك بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط ، وهو محال ، مع أنّه يرد عليه جواز ترك الواجب النفسي من دون عذر ، وأن يكون وجوبه مشروطا بوجوده على ما مر بيان ذلك في بحث المقدمة الموصلة. وأمّا إذا كان وجوب المقدمة مطلقا وغير مشروط بالإيصال المزبور ، استلزم ذلك اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة في زمان واحد ... إلخ (3).

ص: 439


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 107.
2- في الحاشية اللاحقة صفحة : 441.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 109.

هذا الشق الثاني هو الذي بنى عليه شيخنا قدس سره (1) وذلك بابقاء الأمر الغيري المتعلق بالمقدمة على حاله غير مشروط بنفسه ولا بمتعلقه بشيء مما يرجع إلى الإيصال ، وبذلك تسقط الحرمة على وتيرة ذلك الوجوب الغيري ، لكن لو عصى المكلّف ولم يأت بالواجب النفسي الذي هو ذو المقدمة تتوجه إليه حرمة المقدمة. وقد عرفت أنّه لا مانع من اجتماع الحكمين المذكورين في هذه المقدمة ، لكون الأول منهما هادما لموضوع الثاني.

أمّا الشق الأوّل فهو أجنبي عما يريده شيخنا قدس سره ، فانّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون الحرمة للمقدمة مقيدة بعصيان الأمر بذي المقدمة لا يلزمه القول بأنّ الوجوب الغيري للمقدمة يكون مشروطا ومقيدا بالإيصال وصريح كلامه يأبى ذلك ، فانّه قدس سره (2) يصرح بأن الوجوب الغيري الطارئ على المقدمة كالوجوب النفسي الطارئ على ذيها غير قابل للتقييد بوجود ذي المقدمة ، وحينئذ فلا يكون ما وجّهه المحشي على هذا الشق الأول واردا على مسلك شيخنا قدس سره ، بل هو وارد على ذلك المسلك الذي يقول إنّ الوجوب الغيري يكون مشروطا بالإيصال.

لكن المحشي في بحث المقدمة الموصلة وجّه عين هذا الإشكال على الترتب الذي يفيده شيخنا قدس سره في هذه المسألة ، أعني المقدمة المحرمة المنحصرة ، وحاصل ذلك الإشكال هو لزوم تحصيل الحاصل وجواز ترك الواجب النفسي من غير عذر ، فراجع حاشية ص 236 (3).

ص: 440


1- أجود التقريرات 2 : 110 - 111.
2- صرّح بذلك في موارد منها ما في هذا المقام ، فراجع أجود التقريرات 2 : 108.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) 343 - 344.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال هو عين الإشكال الذي أفاده صاحب الكفاية قدس سره متنا وهامشا على صاحب الفصول قدس سره ، وذلك قوله : ثم إنّه لا شهادة على الاعتبار (1). وسيأتي إن شاء اللّه (2) توضيح الجواب عنه ، وقد مر في محلّه (3) أيضا الجواب عنه ، فراجع وتأمل.

قوله : فانّ وجوب المقدمة لكونه في مرتبة وجوب ذيها يقتضي وضع تقدير الإطاعة وهدم تقدير المعصية ... الخ (4).

توضيحه هو ما تكرر في كلامه قدس سره من أنّ وجوب المقدمة ليس وجوبا استقلاليا وإنّما هو وجوب آلي وطريقي. وبعبارة اخرى هو وجوب متحد بنحو من الاعتبار مع وجوب ذي المقدمة ، حيث إنّ كلاّ منهما إنّما هو في صراط تحصيل ذي المقدمة. فوجوب المقدمة وإن كان في حد نفسه حافظا لها ومانعا وهادما لعدمها ، إلاّ أنّه باعتبار اتحاده مع وجوب ذي المقدمة في كونه واقعا في طريق تحصيل ذي المقدمة يكون بهذا الاعتبار حافظا لوجود ذي المقدمة وهادما لعدمه ، فهو بهذا الاعتبار واقع في مرتبة وجوب ذي المقدمة وإن كان هو معلولا له. ومعنى كونه في مرتبة وجوب ذي المقدمة أنّ كلا منهما يكون في مرتبة العلة لوجود ذي المقدمة ، لأنّ كلا منهما واقع في مرتبة حفظه وهادم لعدمه ، وحينئذ فمن الغريب بعد أن تكثر تكرار ذلك في كلامه قدس سره أن يوجّه إليه المحشي ما في حاشية 2 صفحة 321 (5) من أنّ الأمر لا يحفظ إلاّ متعلقه ولا يهدم إلاّ عدمه ، فراجع.

ص: 441


1- كفاية الأصول : 120.
2- في الحاشية الآتية.
3- راجع الصفحة : 67 وما بعدها.
4- أجود التقريرات 2 : 111 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
5- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 107.

أما ما ذكره في الحاشية 1 صفحة 322 (1) مما يتعلق بالإهمال الواقعي فقد تقدم الجواب عنه فيما تقدم من مقدمات الترتب (2) فراجع ، وأمّا ما في الحاشية الثانية من الصفحة المذكورة من الإشكال بلزوم ترك الواجب النفسي من غير عذر ، وكون وجوب الواجب النفسي مشروطا بوجوده ... إلخ (3) ، فانّ المحشي وإن وجّهه على القول بكون الوجوب الغيري مشروطا بالإيصال ، إلاّ أنّه في بحث المقدمة الموصلة (4) وجّهه على مسلك شيخنا قدس سره من الترتب في هذا المقام ، وحينئذ يكون هذا الإشكال راجعا إلى ما في الكفاية وحاشية المصنف عليها ، وذلك فيما تقدم في بحث المقدمة الموصلة من الإشكال على الفصول ، وذلك قوله : ثم إنّه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلاّ فيما إذا رتب الواجب عليه ... الخ (5).

وتطبيق ذلك فيما نحن فيه أن يقال : إنّه لو كانت حرمة المقدمة في مثل سلوك الأرض المغصوبة المنحصر فيها السلوك إلى إنقاذ الغريق مشروطة بعدم الإنقاذ ، وكان جوازها مشروطا بالإنقاذ ، لزم منه جواز ترك الواجب من دون عذر ، وعدم استحقاق العقاب على مخالفته ، لأنّه بتركه تحرم مقدمته فيكون غير مقدور ، ويكون العقاب على تركه عقابا على غير المقدور. وأيضا فانّه لو كان جوازها متوقفا على فعل ذيها لكان وجوبه

ص: 442


1- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 108.
2- وهي المقدمة الرابعة وقد تقدمت حواشي المصنف قدس سره عليها في الصفحة : 342 وما بعدها ، كما أنه قدس سره علّق على حواشي المحقق الخوئي قدس سره في الصفحة : 363 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 109 ( نقل بالمضمون ).
4- أجود التقريرات ( الهامش ) : 352 - 353.
5- كفاية الأصول : 120.

موقوفا على وجوده ، لأنّ وجوبه موقوف على القدرة عليه ، وهي على ارتفاع الحرمة ، وهو على وجود ذي المقدمة ، فيكون وجوبه متوقفا على وجوده (1) ، وهو الإشكال المعبّر عنه بلزوم تحصيل الحاصل. وقد تقدم الجواب فيما تقدم هناك فيما حررناه في الحاشية على صفحة 200 (2) عن كل من هذين الإشكالين.

أمّا الإشكال الأول فقد أجاب عنه شيخنا قدس سره هناك بأنّ الترك لما كان باختيار المكلّف كان مصححا لعقابه ، غايته أنّه لو عصى فهو بقيد ذلك العصيان لا يقدر على الامتثال ، وكل عاص إذا لوحظ بقيد العصيان لا يقدر على الامتثال ، لكن ذلك لا ينافي كون عصيانه باختيار.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني فقد تقدم أيضا فيما حررناه في الحاشية المشار إليها وحاصله : أنّ الحرمة الذاتية وإن كان وجوب المقدمة متوقفا على ارتفاعها ، إلاّ أنّ ارتفاعها لا يكون متوقفا على نفس الوجوب بل على أهميته من ملاك التحريم ، وإلاّ فلا ريب عند هذا المشكل وغيره بأنّه في مورد الإنقاذ تكون الحرمة ساقطة ، وحينئذ يتجه إشكال الدور بأن يقال : إنّ وجوب الإنقاذ موقوف على ارتفاع حرمة السلوك ، لعدم القدرة على الانقاذ بدون ارتفاعها ، وارتفاعها موقوف على الوجوب ، إذ لا وجه لارتفاعها عند عدم وجوب الإنقاذ. فكما لا بدّ من الجواب عن هذا الدور بأنّ الارتفاع ليس بموقوف على الوجوب بل على أهمية ملاكه ، فكذلك نحن نجيب به ، هذا حال الحرمة الذاتية.

ص: 443


1- [ في الأصل : وجوبه ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع الحاشية المتقدمة في الصفحة : 64 وما بعدها من هذا المجلّد.

وأمّا الحرمة المشروطة بنحو الترتب بعصيان الأمر بذي المقدمة فلا يخفى أنّ الكلام فيها بعد فرض عدم اختصاص ذلك الوجوب بخصوص الموصلة ، أو التي قصد بها الإيصال ، أو الذات التي هي توأم مع الإيصال ، وبعد الفراغ أيضا عن أنّ ذلك الوجوب محفوظ في كل من حالتي الإيصال وعدمه ، لا بمعنى أنّه مطلق من هذه الناحية ، بل بمعنى أنّه منحفظ في كل من الحالتين على ما مرّ تفصيل ذلك (1).

وبعد الفراغ عن هذه الجهات نقول : إنّه لا محصل للقول بأنّ ذلك الوجوب يتوقف على ارتفاع الحرمة المشروطة بعصيانه لكونها متأخرة عنه في الرتبة ، بل هي مجتمعة مع الوجوب المذكور زمانا وإن تأخرت عنه رتبة ، وليس مجرد التأخر الرتبي هو المسوّغ لاجتماعها مع الوجوب المذكور ، بل هو كونه هادما لموضوعها ، وهي لا تتكفل بحفظ ذلك الموضوع.

وهذا هو الأساس في جواز الاجتماع المذكور لا مجرد التأخر الرتبي لإمكان أن يورد عليه بضرورة عدم إمكان الاجتماع في مثل « اقرأ ، وإن علمت بهذا الوجوب فلا تقرأ أو فاكتب » مع كون الأمر الثاني متأخرا رتبة عن الأول ، فلو كان مجرد التأخر الرتبي مجوّزا للاجتماع لجاز في مثل ذلك. وإن أمكن الجواب عنه بأنّ الأمر الثاني وإن لم يكن في رتبة الأمر الأول ، إلاّ أنّه في رتبة حكم العقل بلزوم إطاعة الأمر الأول ، فيكون هذا الحكم الثاني مناقضا أو مضادا للأمر العقلي المذكور ، فيكون باطلا من هذه الجهة ، لكونه مع حكم العقل المذكور في رتبة واحدة.

لا يقال : بناء على ذلك ينبغي القول ببطلان الترتب في مثل « أزل

ص: 444


1- راجع الصفحة : 351 - 357.

النجاسة ، وإن عصيت فصلّ » لأنّ الأمر الثاني وإن تأخر رتبة عن الأول ، إلاّ أنّه واقع في رتبة حكم العقل بلزوم إطاعة ذلك الأمر أعني الأمر الأول فينبغي أن يكون ذلك محالا باطلا.

لأنّا نقول : إنّه وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ ذلك الحكم العقلي لمّا كان كأصله الذي هو الحكم الشرعي هادما لموضوع الأمر الثاني ، وكان الأمر الثاني غير متعرض لوضع ذلك الموضوع ، لم يكن بينهما تدافع وتمانع.

ثم إنّ ممّا يشهد بأنّ هذه الحرمة الترتبية المترتبة على عصيان الأمر بذي المقدمة لا يكون الوجوب لذي المقدمة متوقفا على ارتفاعها ، هو أنّ نفس المقدمة لو كانت غير محرمة ذاتا ، بل كانت في حدّ ذاتها إحدى المباحات لكن الشارع أمر بذيها فوجبت غيريا ، ثم إنّه أعني الشارع يمكنه أن يجعل لها حرمة معلّقة ومشروطة بعصيان الأمر بذيها فيقول له « في صورة عدم إتيانك بذي المقدمة لا تفعل تلك المقدمة » فهذا ممّا لا ريب في إمكانه ، ولا أظن أنّ أحدا يتصدى لدعوى بطلانه واستحالته.

وسرّه أنّ الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة لا يكون متوقفا على رفع الحرمة الناشئة من عصيان ذلك الأمر بذي المقدمة ، غاية الأمر أنّ الفرق بين هذا المثال وبين ما نحن فيه أنّ الحرمة المعلّقة في هذا المثال على عصيان الأمر بذي المقدمة حرمة جديدة ، والحرمة المعلّقة عليه فيما نحن فيه هو نفس تلك الحرمة الذاتية ، وإنّما كان المعلّق على عصيان ذي المقدمة هو بقاءها وعدم ارتفاعها. والحاصل : أنّ أصل الوجوب النفسي إنّما يتوقف على ارتفاع أصل الحرمة الذاتية ، وهو غير متوقف على بقائها وعدم ارتفاعها الناشئ عن عصيان نفس ذلك الأمر.

وإن شئت فقل : إنّه يتوقف على ارتفاع الحرمة المطلقة الشاملة

ص: 445

لحالتي إطاعته وعصيانه ، أمّا الحرمة المقيدة بعصيانه فلا يتوقف على ارتفاعها ، وسرّه هو ما عرفت من إمكان الجمع بين الوجوب الغيري وتلك الحرمة ، الذي هو عبارة اخرى عن اجتماعها مع الوجوب النفسي المتعلّق بذي المقدمة ، فتأمل.

قوله : وربما يورد على الخطاب الترتبي في هذا القسم بأنّ لازمه اجتماع الوجوب والحرمة في طرف الأهم أيضا ، فانّ الإزالة مثلا واجبة لفرض كونها أهم ، وحيث إنّ تركها مقدمة للصلاة الواجبة بالخطاب الترتبي فيكون تركها أيضا واجبا ... الخ (1).

التكليفان المجتمعان في هذه الناحية - أعني ناحية الأهم - هما عكس التكليفين المجتمعين في ناحية المهم على تقدير الترتب المذكور ، فانّه في ناحية المهم يكون وجوب ترك الصلاة هو الأوّلي ، وهو وجوب غيري لكونه مقدمة للإزالة ، ويكون حرمة تركها المشروطة بعصيان الإزالة هي التكليف الثانوي وهو تكليف نفسي ، ويكون اجتماع هذا التكليف الثانوي النفسي المشروط بعصيان ذي المقدمة الذي هو الإزالة مع التكليف الغيري الأوّلي جائزا ممكنا ، لما تقدم (2) من كون الثاني في طول الأول وكون الأول هادما لموضوع الثاني.

====

3. في الحاشية السابقة.

ص: 446


1- تنبيه : لا يخفى أهمية إثبات الترتب في هذه المسألة ، أعني مسألة الأهم والمهم على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فانّ هذا الترتب يصحّح لنا العبادة حتى على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده وتوقف صحة العبادة على الأمر وعدم الاكتفاء بالملاك الذي لا ينافيه النهي الغيري. [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 2 : 111 - 112 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

أمّا التكليفان في ناحية الأهم فهما على العكس من ذلك ، فانّه بعد الفراغ عن صحة ذلك الترتب يكون الأهم الذي هو الإزالة مجمعا للحكمين المتنافيين ، والأولي منهما هو وجوبه النفسي غير المشروط بشيء ، والثانوي منهما هو وجوب تركه مقدمة لفعل الصلاة المشروط وجوبها بعصيان التكليف النفسي الأولي اللاحق للأهم الذي هو الإزالة ، وهذا التكليف الغيري الثانوي يكون في طول التكليف النفسي الأولي ، والأول منهما هادم لموضوع الثاني.

ومن ذلك يظهر التأمل فيما أفاده شيخنا قدس سره فيما نقله بقوله : فيلزم اتصاف الأهم بالوجوب والحرمة في زمان واحد في رتبة واحدة ، لعدم الترتب في طرف الأهم ... الخ (1) فانّ كون التكليف الأولي أعني وجوب الأهم لا ترتب فيه لا يوجب اتحاده في الرتبة مع التكليف الثانوي ، الذي هو حرمته ولزوم تركه مقدمة للصلاة. كما أنّ التكليف الأولي في ناحية المهم أيضا كذلك ، فانّ التكليف الأولي هناك - وهو وجوب ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة - لم يكن فيه ترتب أصلا ، بمعنى أنّ كلاّ من التكليفين الأوليين غير مشروط بعصيان تكليف آخر كي يكون مشتملا على الترتب.

والحاصل : أنّ التكليف الأولي في ناحية الأهم أعني وجوبه النفسي يكون سابقا في الرتبة على التكليف الثانوي ، أعني حرمته ولزوم تركه مقدمة لفعل الصلاة ، لما هو واضح من أنّ وجوب ترك الإزالة انّما هو مقدمة لفعل الصلاة ، فيكون متأخرا في الرتبة عن وجوب الصلاة ، المفروض كونه متأخرا في الرتبة عن وجوب الإزالة لكونه مشروطا بعصيانه. وحينئذ يكون الوجوب النفسي للإزالة مقدما رتبة على حرمتها أو

ص: 447


1- أجود التقريرات 2 : 112 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

بعبارة اخرى على وجوب تركها مقدمة لفعل الصلاة ، وذلك الوجوب النفسي المفروض تقدمه رتبة على ذلك التحريم الغيري هادم لموضوع الحرمة الغيرية ، لكونه هادما لما هو الشرط في وجوب ذيها الذي هو عصيان الأمر النفسي بالإزالة.

ولعلّ هذا التقدم الرتبي في ناحية الأهم أوضح منه في ناحية المهم لأنّ التكليف الأولي في ناحية المهم أعني الوجوب الغيري لتركه إنّما يكون متقدما رتبة ، بدعوى أنّ هذا الوجوب الغيري واقع في رتبة وجوب ذي المقدمة الذي هو وجوب الإزالة ، وبواسطة ذلك يكون سابقا في الرتبة على التكليف النفسي المشروط بعصيان ذي المقدمة الذي هو حرمة ترك الصلاة ، بخلاف الوجوب النفسي للأهم ، فانّ تقدمه رتبة على التكليف بتركه لا يحتاج إلى تلك الدعوى.

ولكن لا يخفى أنّ بين المقامين فرقا آخر ، وهو أنّ الوجوب النفسي الطارئ على الصلاة يكون مشروطا بعصيان تكليف آخر وهو الأمر بالإزالة بخلاف الوجوب الغيري فيما نحن فيه الطارئ على ترك الإزالة ، فانّه يكون مشروطا بعصيان الأمر بالإزالة لا بعصيان تكليف آخر.

وبالجملة : أنّ الأمر الترتبي في مسألة الصلاة يكون مشروطا بعصيان تكليف آخر متعلق بالإزالة ، بخلاف الأمر الترتبي في الإزالة أعني الأمر الغيري المتعلق بترك الإزالة ، فانّه يكون مشروطا بعصيان الأمر المتعلق بالإزالة. وفي الحقيقة تكون الإزالة مأمورا بها نفسيا أصليا ، ومأمورا بتركها غيريا ترتبيا مشروطا بعصيان ذلك الأمر النفسي ، ويكون الحاصل « إنّك مأمور بالإزالة ، فان عصيت وجبت الصلاة ووجب ترك الإزالة حينئذ مقدمة لها » ، ويكون حاصل ذلك « إنّك إن تركت الإزالة وجب تركها » وذلك

ص: 448

موجب لتحصيل الحاصل ، وهو الناشئ من كون شرط التكليف بالصلاة الذي هو ترك الإزالة واجبا غيريا.

وكأنّه لأجل هذه الجهة أفاد شيخنا قدس سره ما أفاده. وما ذكرناه من التأمل في كلامه قدس سره ليس راجعا إلى إنكار ذلك ، بل إنّما كان جلّ همّنا هو بيان التأمل فيما أفاده من إنكار الطولية ، فلاحظ وتأمل.

وأمّا الجواب عن ذلك بأنّ ما هو شرط التكليف لا يكون واجبا غيريا ، فيمكن المناقشة فيه بأنّ ما يتوقف عليه الواجب وهو ترك الإزالة لا يكون شرطا في التكليف ، فانّ اشتراط وجوب الصلاة بترك الإزالة إنّما جاء من الترتب ، فلم نلتزم به ، بل ينبغي أن نمنع الترتب ، لأنّه يلزم منه كون الواجب وهو ترك الإزالة شرطا في التكليف بالصلاة. إلاّ أن يدعى أنّ الترتب على القاعدة ، فاذا حكّمناه لأنّه مقتضى القاعدة لزمنا القول بعدم وجوب تلك المقدمة التي هي ترك الإزالة. لكن قد يقال : إنّ كون الترتب على القاعدة إنّما هو بناء على إنكار المقدمية ، وأنّ عدم أحد الضدين لا يكون مقدمة لوجود الضد الآخر ، فلاحظ وتأمل.

قوله : وأنت بعد ما عرفت أنّ ما هو العمدة في امتناع اتصاف المقدمة الوجوبية بالوجوب المقدمي هما الوجهان الأولان الساريان إلى كل مقدمة وجوبية ، تعرف بطلان الإيراد المذكور ، وأنّ توقف المحقّق المورد قدس سره عن القول بالترتب لأجل هذه الشبهة ، وتشنيعه على المحقّق صاحب الحاشية قدس سره من جهة ذهابه إلى الترتب في غير محلّه انتهى (1).

المحقّق المورد بهذا الإيراد هو صاحب البدائع قدس سره فانّه ذكره إيرادا

ص: 449


1- أجود التقريرات 2 : 114 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

خامسا على القول بصحة العبادة المأمور بضدها ، وبعد كلام طويل في الإيرادات الأربعة قال : وأمّا الإيراد الخامس فهو غير مندفع ، وقد أجاب عنه بعض المحقّقين ( يعني صاحب الحاشية ) بأنّ ترك المضيق مقدمة وجوبية ، حيث إنّه شرط لوجوب الموسع ، وإن كان مقدمة لوجوده أيضا ، ومقدمة الوجوب غير واجبة مطلقا بالاتفاق. ولا ينافي كونها شرطا للوجوب كونها متأخرة عنه ، لأنّ الشرط المتأخر جائز في الشرع ، فإذا جاز ذلك وراعينا ما هو المقرر عندهم من عدم وجوب شرائط الوجوب وإن كانت مقدمة للوجود ، لزم القول بتعلق الأمر الموسع قبل ترك الإزالة من دون سراية الوجوب المقدمي إليه (1).

ثم قال صاحب البدائع : ولعمري إنّ هذا الكلام من مثله من الغرائب ، وفي شأنه المثل إنّ الجواد قد يكبو ، وذلك لأنّ شرائط الوجوب إنّما لا تتصف بالوجوب إذا كانت سابقة عليه ، وهو محط أنظار القوم في الحكم بعدم وجوب مقدمة الوجوب مطلقا ولو كانت مقدمة للوجود ، وهو الذي يقضي به بداهة العقل ، لاستحالة وجود المعلول قبل العلّة ، والوجوب المقدمي معلول لوجوب ذيها ، فقبل وجوبه كيف تجب مقدمته. وأمّا إذا كانت متأخرة عن الوجوب ، وصحّحنا الشرط المتأخر بأحد الوجوه المذكورة في بابه ، فلا محيص عن القول بوجوبها أيضا وإن كانت متأخرة ، إذ العبرة بجريان الدليل القاضي بعدم الوجوب ، وهو لزوم تقدم المعلول على العلة وعدمه ، وهو كما ترى لا يأتي في الشروط المتأخرة ، ضرورة فرض تحقق وجوب الواجب الذي هو علّة لوجوب المقدمة قبل وجودها ،

ص: 450


1- هداية المسترشدين 2 : 272 - 273.

فكيف يتخلّف المعلول عن العلة. فكما أنّ الوجوب في صورة التقدم يستلزم تقدم المعلول على العلة ، فكذا عدم الوجوب في صورة التأخر مع كونه مقدمة للوجود أيضا يستلزم تخلف المعلول عن العلة ، وكلاهما في الاستحالة بمكان ... الخ.

ثم إنّه نقل عن السيد الصدر أنّه قال في شرحه (1) : إنّ هذا الإشكال لا حاسم له إلاّ بانكار وجوب المقدمة أو بتجويز اجتماع الأمر والنهي ، وقال : وهو في غاية السداد والجودة (2). انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى أنّ الظاهر من مجموع هذا الذي نقلناه عنهما أنّ بناءهما قدس سرهما على أنّ ترك الأهم المأخوذ شرطا في ناحية الأمر بالمهم إنّما هو من قبيل الشرط المتأخر ، وصاحب الحاشية قدس سره لم يفرّق في شرط الوجوب بين كونه متقدما أو متأخرا في عدم معقولية كونه واجبا غيريا. وصاحب البدائع قدس سره فرّق بينهما بدعوى أنّ المانع من الوجوب الغيري لما هو شرط الوجوب هو لزوم تقدم المعلول على العلة ، وأنّ هذا المانع منحصر بما لو كان الشرط متقدما ، أمّا المتأخر فبعد أن فرضنا صحته وفرضنا تحقق الوجوب قبله فلا يتأتى فيه المانع المذكور ، لأنّ المفروض أنّ الوجوب قد تحقق قبل وجود الشرط ، فأيّ مانع حينئذ يمنع من اقتضائه وجوب ذلك الشرط المفروض كونه مقدمة وجود أيضا ، بل لا محيص حينئذ عن الالتزام بوجوبه ، وإلاّ لكان اللازم وجود العلة وهو وجوب ذي المقدمة مع عدم تحقق المعلول وهو وجوب المقدمة.

وهذا الكلام منه قدس سره وإن كان قابلا للمناقشة من جهات ، منها أنّ

ص: 451


1- مخطوط لم يطبع بعد.
2- بدائع الأفكار للمحقّق الرشتي رحمه اللّه : 391.

المانع من وجوب الشرط ليس هو مجرد تقدم المعلول على العلة ، بل هو أنّ ما هو مأخوذ في التكليف على نحو فرض الوجود يستحيل أن يترشح عليه ذلك التكليف ، إلاّ أنّ الغرض هو بيان أنّ محطّ النقض والإبرام بينهما هو قابلية الشرط المتأخر لطروّ الوجوب الغيري عليه. أمّا كون المسألة مبنية على التقدير الذي تقدم الكلام عليه في بعض مقدمات الترتب (1) فذلك ممّا لم أتوفق لمعرفته. فدقق النظر في كلامهما لعلك تطلع على ذلك ، واللّه سبحانه هو الموفق والمسدد.

ولعل مراده قدس سره أنّ كون المسألة من باب الشرط المتأخر ، مبني على أن ترك الأهم يكون مقارنا لفعل المهم ، ويكون الوجوب المذكور سابقا عليهما ، فتدخل المسألة حينئذ في التقدير المشار إليه. لكن يمكن أن يكون نظرهما إلى أنّ الشرط إنّما هو انقضاء العصيان ، وهو متأخر عن كل من نفس فعل المهم ووجوبه المشروط بالعصيان المذكور ، فتأمل.

قوله : القسم الخامس : وهو ما إذا وقع التزاحم لأجل اتحاد متعلّق الأمر والنهي في الوجود ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي ، فلا يعقل الخطاب الترتبي فيه أيضا ... الخ (2).

هذا التعبير كغيره من التعبيرات المحررة عنه قدس سره في هذا المقام لا يخلو عن مسامحة ، فانّ مسألة الاجتماع إنّما يتوهم فيها جريان الترتب إذا كانت من باب التزاحم ، وهي إنّما تكون من ذلك الباب إذا قلنا فيها بالجواز من الجهة الاولى ، أمّا إذا قلنا فيها بالامتناع من الجهة الاولى فلا تكون إلاّ من باب التعارض ، لاتحاد متعلق الأمر فيها مع متعلق النهي. فلا تكون من

ص: 452


1- وهي المقدمة الثالثة ، راجع الحاشية المتقدمة في الصفحة : 323 من هذا المجلّد.
2- أجود التقريرات 2 : 114 [ وقد ذكرت فيه العبارة بعنوان القسم الرابع ].

باب التزاحم إلاّ إذا قلنا بما هو المختار لشيخنا قدس سره من الجواز من الجهة الاولى والامتناع من الجهة الثانية ، فانّ الامتناع من الجهة الثانية يدخلها في باب التزاحم.

ولا ريب أنّ هذا - أعني الجواز من الجهة الاولى - مبني على عدم اتحاد متعلق الأمر بما هو متعلق النهي ، وأنّه لا تدافع بين التكليفين في حدّ أنفسهما ، وإنّما يكون التدافع بينهما في مقام الامتثال ، وهذا - أعني عدم التدافع بين نفس الحكمين وانحصار التدافع بينهما في مقام الامتثال - هو الملاك في كون المسألة من باب التزاحم ، ومن الواضح أنّه بعد فرض عدم التدافع بين هذين التكليفين في حد أنفسهما يكون التدافع بينهما في مقام الإطاعة والامتثال ، لما أفاده شيخنا قدس سره ممّا حاصله (1) أنّ الفعلين أعني الصلاة والغصب وإن لم يكونا متحدين من ناحية ذاتهما المعبّر عنها بالجهة الفعلية ، إلاّ أنّهما متحدان من ناحية الجهة الفاعلية. وهذه الجهة أعني الجهة الفاعلية هي مورد القبح المعبّر عنه في بعض كلماته قدس سره (2) بالقبح الفاعلي ، وهما من هذه الناحية متحدان. وربما عبّر قدس سره عن ذلك بأنّهما متحدان من حيث الإيجاد وإن اختلفا وتباينا من حيث الوجود.

ولا ريب أنّ هذه الجهة أعني جهة الإيجاد أو الجهة الفاعلية هي عبارة اخرى عن مقام الإطاعة والامتثال ، فكان التكليفان حينئذ متزاحمين في مقام الامتثال ، فكانت الصلاة من هذه الجهة أعني جهة الامتثال التي هي عبارة عن جهة الإيجاد والجهة الفاعلية متحدة بالغصب ، فكان امتثال الأمر بالصلاة متحدا مع عصيان النهي عن الغصب ، فيكون مراده في هذا المقام

ص: 453


1- [ في الأصل هنا زيادة : من ، حذفناها للمناسبة ].
2- كما في أجود التقريرات 2 : 181.

باتحاد متعلق الأمر مع متعلق النهي هو الاتحاد بينهما في مقام الإطاعة والامتثال ، الذي هو عبارة عن جهة الإيجاد والفاعلية.

ويكون الحاصل أنّهما في ذلك المقام أعني مقام الإطاعة الذي هو مركز الجهة الفاعلية وجهة الإيجاد متزاحمان ، بحيث إنّه لا يمكن إطاعة الأمر بالصلاة إلاّ بعصيان النهي عن الغصب ، وحينئذ يتوهم إجراء طريقة الترتب ، بأن يكون محصّله هو الأمر بايجاد الصلاة على تقدير عصيان النهي الذي هو عبارة عن إيجاد الغصب ، وحينئذ يكون مرجعه إلى الأمر بايجاد الصلاة على تقدير إيجادها ، لما عرفت من اتحاد إيجاد الصلاة بايجاد الغصب ، وأنّهما في مقام الإيجاد والفاعلية والإطاعة متحدان ، وهو ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من لزوم تحصيل الحاصل إن كان عصيان النهي عن الغصب حاصلا بايجاده في ضمن إيجاد الصلاة ، أو التكليف بالمحال إن كان إيجاده في ضمن إيجاد فعل آخر غير الصلاة. فليس المراد به هو ظاهره ، وإلاّ لورد هنا بعينه على الترتب في الصلاة والإزالة ، ويقال إنّه عند ترك الإزالة إن فعل الصلاة كان الأمر بها تحصيلا للحاصل ، وإن فعل غيرها كان التكليف بها تكليفا بالمحال ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لا يتوجه عليه قدس سره شيء ممّا في الحاشية (2). نعم إنّ هناك إشكالا في المبنى ، وهو أنّه بعد أن فرضنا عدم الاتحاد بينهما وجودا هل يعقل الاتحاد بينهما إيجادا ، وهو إشكال آخر لا ربط له بما نحن بصدده ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء اللّه تعالى في

ص: 454


1- أجود التقريرات 2 : 114 - 115.
2- أجود التقريرات 2 ( الهامش ) : 114 - 115.

محله (1).

والاولى أن يقال : إنّ الترتب هنا وإن كان صحيحا بحيث يجعل الأمر بالصلاة معلّقا على فعل الغصب ، لكنّه لا ينفع في صحة التقرب بعد فرض وحدة الإرادة ، وإنّما ينفع في صورة الجهل والنسيان ، لأنّ المانعية من التقرب إنّما هي في صورة التنجز ، وقد تعرضنا لذلك (2) فيما علقناه على العروة في أحكام الجنابة وأنّه لا يجوز إجارة الجنب لكنس المسجد ، فلاحظ ما علّقناه هناك (3).

ص: 455


1- في المجلّد الرابع الصفحة : 89 وما بعدها.
2- في 18 ربيع الأوّل / سنة 1381 [ منه قدس سره ].
3- مخطوط ، لم يطبع بعد.

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

مقدمة الواجب ... 3

هل البحث عن وجوب المقدمة عقلي أم شرعي ... 3

هل البحث لفظي أم عقلي ... 4

هل تترتب ثمرة على وجوب المقدمة ... 6

الكلام في دخول المقدمات الخارجية في محل النزاع ... 10

الكلام في الشرط المتأخر ... 11

دخول المقدمات العقلية في محل النزاع ... 11

خروج العناوين الانتزاعية عن محل النزاع ... 12

ذكر موارد الحاجة إلى أخذ العنوان المنتزع شرطا والمناقشة فيها ... 13

الكلام في شمول النزاع لشرائط المأمور به ... 19

خروج شرائط الجعل عن محل النزاع ... 24

أنحاء مدخلية شيء في الحكم أو في الفعل الاختياري ... 27

عدم تصور التقدم الخارجي ولا المقارنة في الدواعي ... 28

عدم تصور الداعي والاعتقاد في الأحكام بل المتصور فيها هو التقيد والتعليق ... 29

ص: 456

التعريض بالسيد الخوئي قدس سره في تصوير الشرط المتأخر وفيما اختاره من الكشف في إجازة البيع الفضولي 30

شرح عبارة الآخوند في توجيه المنع من إجراء أصل عدم وجوب المقدمة ... 34

بيان مراد المحققين الآخوند والنائيني قدس سرهما من وجوب المقدمة والمناقشة في ذلك ... 37

شرح محتملات كلام الشيخ قدس سره في اعتبار قصد التوصل ... 41

دعوى صاحب الفصول اعتبار خصوص المقدمة الموصلة وذكر المناقشات فيها ... 44

نقل كلام الآخوند قدس سره في مناقشة كلام صاحب الفصول والمناقشة فيه ... 56

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ... 60

تعريض المحقق النائيني بصاحب الكفاية قدس سرهما في مناقشة الفصول والجواب عنه ... 64

خلاصة البحث أو توضيحه في مبحث المقدمة الموصلة ... 67

نقل كلام صاحب الحاشية في المقام ... 71

التعرض لبعض كلمات المحقق النائيني والآخوند قدس سرهما في ثمرة البحث عن وجوب المقدمة 80

الكلام في مقدمة الحرام ... 90

مبحث الضد... 94

الكلام في الضد العام بمعنى الترك ... 94

ابتناء المسألة على المختار في تفسير الأمر والفرق بينه وبين النهي ... 94

دعوى عينية الأمر بشيء للنهي عن ضده ... 95

دعوى تضمن الأمر بشيء للنهي عن ضده ... 98

دعوى الاقتضاء بمعنى الالتزام ... 99

ص: 457

عدم تعدد الملاك على القول باقتضاء الأمر بشيء عينا للنهي عن ضده ... 100

توضيح وتفسير كلام المحقق النائيني قدس سره في وجه المنع عن الاقتضاء بنحو العينية والاتحاد 101

إشكالات أخر على القول بالاقتضاء بنحو الالتزام ... 103 و 104

الكلام في الضد الخاص ... 106

دعوى ملازمة الأمر بشيء للنهي عن ضده الخاص ... 106

مناقشة المصنف للسيد الخوئي قدس سرهما في المقام ... 111

دعوى اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده الخاص من باب المقدمية ... 114

مناقشة المصنف للسيد الخوئي قدس سرهما في المقام ... 115

الكلام في مانعية فعل أحد الضدين لفعل الضد الآخر ... 117

ما يجاب من قبل المحقق الخونساري قدس سره في المقام ... 122

برهان آخر على عدم كون ترك أحد الضدين مقدمة للآخر ... 128

الاشكال في مانعية كل من الشيئين للآخر ... 131

عمدة الاشكالات على التمانع بين الضدين ... 133

إشكال خامس على ما يدعيه الخصم من حرمة الضد الخاص ... 135

الكلام في ثمرة القول بالاقتضاء وعدمه ... 136

نقل كلام المحقق الثاني قدس سره في بيان الثمرة ... 136

مناقشة المصنف للسيد الخوئي قدس سرهما في المقام ... 138

القول بعدم التزاحم بين الواجب الموسع والمضيّق ... 140

الامور الخمسة التي ادعاها المصنف في المقام ... 143

تقريب إنكار الشيخ البهائي للثمرة ... 144

إشكال المحقق الثاني قدس سره على إنكار الثمرة ... 145

مناقشة المصنف للمحقق النائيني قدس سرهما في المقام ... 148

ص: 458

توضيح كلام المحقق النائيني قدس سره في كيفية استكشاف الملاك مع النهي ... 151

تحقيق للمصنف قدس سره في المقام ... 158

الاشكال بدخول المقام في المتعارضين فلا يمكن استكشاف الملاك في العبادة المزاحمة بالأهم 163

ذكر مقدمات لتوضيح الجواب عن الاشكال في المقام ... 164

اختلاف مورد التعارض عن مورد التزاحم من وجوه أربعة ... 168

اختلاف بابي التعارض والتزاحم من حيث الحاكم بالتخيير أو الترجيح ... 171

توضيح ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من التفرقة بين بابي التعارض والتزاحم... 173

افتراق التعارض عن التزاحم في جهة التقديم ... 175

تقديم الواجب التعييني على التخييري ... 175

تقديم ما له بدل طولي على ما ليس له بدل والمناقشة في ذلك ... 179

مناقشة ما أفاده صاحب الجواهر في المقام ... 181

مناقشة المصنف للمحقق النائيني قدس سرهما في تقديم غير الطهارة المائية عليها... 182

التأمل فيما أفاده صاحب العروة من تقديم الطهارة من الخبث على الوضوء ... 185

الكلام في تقديم الوقت على الطهارة المائية عند المزاحمة ... 186

نقل كلمات الأعلام في المقام ... 188

الوجوه التي ذكرها المصنف قدس سره لتقديم الوقت على الوضوء ... 193

تتمة : في نقل ما حرره الشيخ أبو الفضل عن النائيني قدس سره في المقام ... 196

حكم ما لو خالف وأقدم على الوضوء عند مزاحمته للطهارة من الخبث ... 198

حكم ما لو خالف وأقدم على الوضوء عند مزاحمته مع الوقت ... 199

ص: 459

تقدم الواجب المشروط بالقدرة عقلا على المشروط بها شرعا ... 207

تصريح صاحب العروة بالترجيح بالتقدم الزماني وبالأهمية ... 208

بيان الوجه في لزوم تحصيل الماء للوضوء وعدم لزوم تحصيل الاستطاعة للحج مع أخذ القدرة شرعا فيهما 213

الاشكال في اشتراط الحج بالقدرة الشرعية وجوابه ... 214

تنبيه : فيما ذكره صاحب العروة قدس سره من حكم مزاحمة الوضوء مع سقي حيوان ... 216

استطراد : حكم الشك في سعة الوقت للوضوء ... 217

الكلام في تزاحم المشروطين بالقدرة الشرعية والترجيح بالتقدم الزماني ... 219

حكم تزاحم الحج مع الوفاء بالنذر ... 223

تكميل : فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره في الفقه مما يعود إلى تقدم الحج على النذر ... 230

وجوه أربعة ترد على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في المقام ... 233

نقل ما ذكره صاحب الجواهر في المسألة ... 234

نقل ما ذكره صاحب العروة في مسألة اشتراط الرجحان في متعلق النذر ... 237

التعرض لما ذكره المحقق النائيني قدس سره في الوسيلة ... 241

خلاصة الكلام في مزاحمة الامور الستة - الاجارة ونحوها - لواجب آخر ... 244

الحكم بالتخيير في مزاحمة المشروطين بالقدرة شرعا مع تقارنهما زمانا ... 246

هل التخيير في المقام عقلي أو شرعي ... 247

تزاحم المشروطين بالقدرة عقلا ... 251

الاشكال في كون دوران الأمر بين الواجبات الضمنية من باب التزاحم وجوابه... 252

هل التخيير عقلي بين المتزاحمين مع عدم أهمية أحدهما أو أنه شرعي ... 255

ص: 460

نقل كلام صاحب البدائع في المقام ... 261

توضيح ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في المقام والتأمل فيه ... 262

الثمرة بين القول بالتخيير الشرعي وبين القول بالتخيير العقلي ... 270

افتراق التزاحم عن التعارض في كيفية التقديم ... 272

الكلام في تزاحم الأجزاء والشروط في الصلاة وأنّ المقدّم أي واحد منها ... 273

ذكر القواعد المسلّمة في تزاحم الأجزاء والشروط ... 280

ذكر فروع ترتبط بالتزاحم في شروط الصلاة ... 284

ذكر مواضع التزاحم لعدم قدرة المكلف على الامتثال ... 286

بيان الفرق بين التضاد الاتفاقي وعدم القدرة اتفاقا ... 286

كيفية المزاحمة لا من جهة عدم قدرة المكلف والتمثيل له بمسألة الزكاة ... 290

الكلام في الترتب... 299

تعليق المصنف قدس سره على المقدمات التي ذكرها المحقق النائيني قدس سره في طليعة بحث الترتب 299

التعرض لمقالة المحقق العراقي قدس سره في المقام ... 311

عدم انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق بتحقق شرطه ... 317

التعليق على المقدمة الثالثة من مقدمات البحث ... 323

نقل كلام صاحب الحاشية قدس سره في المقام ... 324

نقل كلام صاحب البدائع قدس سره في المقام ... 325

نقل كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 327

التعرض لبعض الاشكالات الواردة على الترتب ... 335

توضيح كلام صاحب الكفاية قدس سره فيما نقله من أخذ العصيان شرطا متأخرا... 338

تحليل المقدمة الرابعة في كلام النائيني قدس سره إلى امور ... 342

ص: 461

استحالة كون التكليف مطلقا أو مقيّدا بالنسبة لوجود متعلقه أو عدمه ... 349

توهم إيراد على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من عدم اقتضاء التكليف للتقادير التي يكون مطلقا بالقياس إليها 351

توهم إيراد على ما فرّعه المحقق النائيني قدس سره على المقدمة الرابعة من ارتفاع التدافع بين الأمرين المترتبين 357

مناقشة مع صاحب الكفاية قدس سره في المقام ... 359

إشكال نقضي على جواز اجتماع الأمرين المترتبين وجوابه ... 360

توضيح ومناقشة المصنف لكلام السيد الخوئي قدس سرهما في المقام ... 363

التعليق على المقدمة الخامسة في كلام المحقق النائيني قدس سره ... 371

ذكر بعض الفروع الفقهية في المقام ... 374

التعليق على ما أفاده كاشف الغطاء قدس سره من اشتراط الأمر بالمهم بالعزم على عصيان الأهم 385

وجه التعبير بشرطية العصيان دون نفس الترك ... 387

خلاصة برهان المحقق النائيني قدس سره على إمكان الترتب ... 390

تصوير تعدد العقاب بترك الأهم والمهم ... 392

الكلام في تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم ... 395

هل صحة الجهر موضع الاخفات وبالعكس هو من باب الترتب ... 398

ما ذكره صاحب التقريرات قدس سره من إمكان أمر الناسي بعنوانه ... 408

فرع : أخذ الماء من الآنية المغصوبة أو الذهب والفضة ... 421

جريان الترتب فيما كان موجب التزاحم عدم قدرة المكلف على الجمع اتفاقا ... 426

جريان الترتب فيما إذا وقع التزاحم لأجل توقف واجب فعلي على فعل

ص: 462

محرم أو ترك واجب ... 434

نقل كلام صاحب البدائع في المقام ... 449

جريان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي ... 452

فهرست الموضوعات... 456

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.