أصول الفقه المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: آية اللّه الشيخ حسين الحلّي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

ISBN الدورة: 978-600-5213-23-2

المكتبة الإسلامية

أصول الفقه

تأليف: الأصولي الشهير آية اللّه العظمی الشيخ حسين الحلّي قدس سره

(1309 - 1394 ه)

الجزء الثاني

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

[ الواجب المطلق والمشروط ]

قوله : ثم إن الحكم في القضايا الخارجية - إلى قوله - قد يكون مطلقا غير معلّق على شيء أصلا لعلم الآمر بوجود الشرائط - إلى قوله - وتارة يكون مشروطا بشيء لعدم علمه بوجودها ... إلخ (1).

سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أن القضية المشروطة بشيء لا تنقلب مطلقة عند وجود ذلك الشيء ، نعم يكون الحكم فيها فعليا عند وجود الشرط ، فلا يكون قولك للمستطيع حج إلاّ من باب النتيجة الحاصلة من الصغرى وهي أنك مستطيع والكبرى وهي قوله كل مستطيع يجب عليه الحج ، فلو كان الآمر عالما بوجود الشرط فانه وإن صح له أن يوجّه إليه الخطاب مطلقا إلاّ أنه ليس ذلك إلاّ نتيجة ذلك الشكل.

ثم لا يخفى أن القضية الخارجية لا يدخلها التعليق من جهة من الجهات وإلاّ عادت القضية قضية حقيقية ، هذا في غير الشرائط العامة. أما الشرائط العامة فان أدخلناها في حساب الواجب المطلق والمشروط لم يبق عندنا ما يكون مطلقا على حقيقته بل لا يكون الاطلاق إلاّ إضافيا ، وحينئذ يكون حال هذه الشرائط حال غيرها في كون القضية المتضمنة للتكليف المشروط بها قضية حقيقية ، وأنّ علم الآمر بوجود الشرط لا يكون إلاّ من باب نتيجة تطبيق الكبرى على الصغرى إلاّ إذا كان التكليف خاصا بخصوص المخاطب ، وسيأتي الفرق بين كون ذلك من باب انطباق الكبرى

ص: 3


1- أجود التقريرات 1 : 186 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 38.

أو من باب القضية الخارجية ، وعلى الأوّل لا يخرج ذلك الشرط عن كون التكليف المتوجه إلى ذلك الشخص مشروطا به ، وأن علم الآمر بوجود الشرط لا يوجب انقلاب التكليف من الاشتراط إلى الاطلاق ، ولا يكون ذلك إلاّ من باب تطبيق الكبرى على الصغرى.

ولا يخفى أن ذلك إنما يكون من باب تطبيق الكبرى فيما إذا لم يكن العلم بوجود الشرط من قبيل الداعي على وجه يكون التخلف من باب الخطأ في التطبيق ، وإلاّ كانت القضية خارجية وكان التكليف تابعا لعلم الآمر ولو كان خطأ.

وخلاصة ذلك : أنك لو كنت ترى المصلحة في خروج عبدك من الدار مثلا عند طلوع الشمس ، فكان طلوع الشمس في نظرك شرطا في وجوب خروجه ، لكنك اعتقدت طلوع الشمس فأمرته بالخروج مستغنيا عن الاشتراط لعلمك بتحقق الشرط ، وفي الحقيقة أن أمرك كان مشروطا لكنك استغنيت عن الشرط لعلمك بوجوده ، فهذه الصورة لو تمت لم تكن القضية خارجية ولا يكون الوجوب فيها مطلقا ، بل لا يكون إلاّ مشروطا ولا يكون إلاّ من باب تطبيق الكبرى وأخذ النتيجة وهي فعلية الوجوب ، وفي هذه الصورة نقول إن تحقق الشرط لا يوجب انقلاب الوجوب عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا ، لكن هذه الصورة بعيدة جدا ، والمتعارف هو كون المسألة من باب الخطأ في التطبيق وأن الآمر عند ما يعلم بوجود الشرط فلا ينشئ الآمر إلاّ أمرا مطلقا بتخيل أنه لا يحتاج إلى الاشتراط لعلمه بوجود الشرط ، وحينئذ لا يكون الصادر منه إلاّ الأمر المطلق على وجه لا يجوز لعبده التخلف عن هذا الأمر ولو مع علمه واطلاعه على حقيقة الحال ، فان باب الاطاعة إنما يدور على ما يجعله المولى لا على ما هو متخيله ، ونظير

ص: 4

ذلك ما لو كان عتق عبده الذي هو زيد مستحسنا عنده ولكن استحسانه أو موافقته لمصلحته كان منوطا بما إذا كان قد مات أبوه وكان السيّد يعتقد موت أبيه ، ولأجل هذا الاعتقاد أنشأ عتق زيد عتقا مطلقا غير مشروط بشيء أصلا ، فانه ينعتق ولو صادف حياة أبيه.

وأما دعوى كونه من تطبيق الكبرى على وجه يكون المجعول هو عتقه على تقدير الموت أو أنه أعتقه مقيدا بالموت ولم يصرح به اعتمادا على علمه بوجود الشرط ، أو أنه قد أنشأ عتقه قبل ذلك معلّقا على الموت ثم لمّا علم به قال له أنت حر ، فلا يكون قوله بعد علمه بموت أبيه أنت حر إلاّ من قبيل الاخبار بحريته لا أنه إنشاء لحريته ، فهذه الوجوه كلها في غاية البعد ، بل الظاهر كونه من باب الخطأ في التطبيق ، وإن شئت فقل إنه من باب تخلف الداعي غير المنافي لتحقق الحرية ولو بعد أن انكشف الخلاف بعد إنشائه الحرية.

والأولى عدم التعبير عن ذلك بكونه من الخطأ في التطبيق فانه يوهم كون المقام من قبيل تطبيق الحكم الكبروي ، فالأولى الاقتصار في ذلك على كونه من باب تخلف الداعي ، ولعل الأولى هو التعبير عن ذلك بكونه من قبيل الخطأ في الاعتقاد المقارن.

وإلى هذا الذي ذكرناه من كون المدار في القضية الخارجية على العلم بوجود الشرط وإن كان من قبيل الداعي أو الخطأ في التطبيق أو الاعتقاد المقارن لا على وجود الشرط واقعا ، بخلاف القضية الحقيقية فان المدار فيها على وجود الشرط واقعا لا على علم الآمر ، أشار بقوله : الوجه الثاني أن المؤثر في القضية الخارجية من حيث الموضوع والملاك ... (1).

ص: 5


1- أجود التقريرات 1 : 190 - 191 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

ولا فرق في هذه الجهة التي ذكرناها بين كون ذلك الأمر الذي تضمنته القضية الخارجية أمرا صادرا من السيّد بالنسبة إلى عبده وبين كونه صادرا من الشارع بالنسبة إلى أحد المكلفين ، في أن ذلك الأمر يكون مطلقا وأن علم الآمر هو الميزان سوى أن الأمر الصادر من الشارع بهذه الكيفية لا يتصور فيه الخطأ في التطبيق ولا تخلف الداعي ، بخلاف ما لو كان صادرا من السيد بالنسبة إلى عبده فانه لجهل الآمر يمكن أن يطرقه الخطأ في التطبيق أو تخلف الداعي ، هذا.

ولكن لا يخفى أن المصلحة من قبيل شرط الجعل في كل من القضية الخارجية والحقيقية ، ويكون المؤثر في الجعل والتشريع في كل منهما هو المصلحة بوجودها العلمي ، وأما شرط الوجوب مثل القدرة ونحوها فهو في القضايا الحقيقية يكون من قبيل شرط المجعول ، فيكون المدار في فعلية الحكم وتحققه خارجا في القضايا الحقيقية على وجود الشرط واقعا لا على وجوده العلمي ، بخلاف ما لو كانت القضية خارجية فان الشرط يكون فيها من سنخ شرط الجعل لا من قبيل شرط المجعول ، ويكون حاله في القضية الخارجية حال المصلحة في أن المدار في صدور الجعل من الآمر على وجوده العلمي لا على وجوده الواقعي.

قوله : بل حالها حال القضايا الحقيقية ، وتوضيح الحال فيها أن كل حاكم يأخذ في موضوع حكمه عنوانا عاما يشير به إلى الموضوعات الخارجية ويأخذه في موضوع حكمه على نحو الفرض والتقدير ويحكم على ذات المفروض ... إلخ (1).

دع عنك الأحكام الشرعية الكلية ، ولكن هلمّ في مجعولاتنا ومنشئاتنا

ص: 6


1- أجود التقريرات 1 : 189 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

التي نجعلها وننشئها معلّقة على وجود شيء مثل قول السيّد لعبده في التدبير أنت حر بعد وفاتي ، ومثل قول المالك في الوصية التمليكية هذا لزيد بعد وفاتي ، ومثل قولك لعبدك إذا خرج ولدي من الدار فاخرج معه ، بل مثل قول الزوج لزوجته أنت طالق إذا خرجت من الدار ، فانه معقول غايته قام الاجماع منّا على عدم صحة التعليق في الطلاق ، لكن من يدعي صحته ما ذا يقول في مثل ذلك ، فانظر إلى مثال التدبير فهل أن ذلك إخبار من السيّد بأنه ينشئ العتق بعد موته ، كلا ثم كلا ، أو أنه ينعتق عند الموت بذلك الانشاء السابق ، وهذا هو المتعين ، ولكن لننظر إلى الزمان الذي هو ما بين قوله أنت حر بعد وفاتي وبين موت السيّد ، وأن الواقع في ذلك الزمان هل هو فعلية الحرية ، كلا لأنها معلّقة على الموت فلا يمكن أن تنوجد قبل الموت ، أو أن ذلك الزمان خال من الحرية أصلا وأنها لا تتحقق إلاّ بعد الموت فيلزم تخلف المنشأ عن الانشاء وتأخره زمانا عن الانشاء ، وهو مساوق لتخلف الوجود وتأخره زمانا عن الايجاد ، وهو مما لا إشكال في بطلانه.

وما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه اللّه (1) من الجواب عن ذلك بمقايسة الزمان بالمكان ، فكما أنه يمكن إلقاء حجر من مكانه إلى مكان بعيد ، فكذلك يمكن لمن له السيطرة على الزمان أن يوجد حكمه في الزمان المتأخر لأن الحاكم فوق الزمان.

لا يخفى ما فيه أوّلا : أنه إنما يتأتى فيما لو كان الجاعل هو الشارع الذي هو المسيطر على الزمان.

وثانيا : أنه لا يخلو عن نحو من الشعر والخيال أو الخطابة ، فان

ص: 7


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 177.

الكلام في تخلف المنشأ وتأخره عن الانشاء الذي هو مساوق لتأخر الوجود عن الايجاد.

وحينئذ ينحصر الجواب بأن الموجود في ذلك الزمان المتخلل بين الانشاء وما علّق عليه المنشأ الذي هو الحرية مثلا إنما هو الحريّة على تقدير الموت ، وهذا المعنى أعني الحرية على تقدير الموت أمر اعتباري له حظ من الوجود كالحرية التي تنوجد فعلا عند تحقق الموت ، وربما تترتب عليه آثار عرفية وشرعية على وجه لو لم يقم دليل على أن له العدول عمّا أنشأه لكان ملزما بذلك كما يقولون به في الطلاق المعلّق على الخروج من الدار ، وكما نقول به نحن في الملكية على تقدير لو أخذت بنحو شرط النتيجة في متن عقد لازم بأن يقول له بعتك هذا الكتاب وشرطت لك ملكية داري على تقدير مجيء زيد ، فانه لا يصح له العدول عن ذلك ولو قبل مجيء زيد ، وهذا الأمر الاعتباري الموجود قبل حصول المعلق عليه أعني الحرية على تقدير الوفاة هو المجعول وهو المنشأ وهو لم يتأخر زمانا عن الانشاء ، نعم إن الذي يتأخر هو فعلية الحرية وتحققها خارجا وليست هي المنشأة وإنما المنشأ هو الحرية على تقدير الوفاة ، وهذا أعني الحرية على تقدير الوفاة له حظ من الوجود وهو لم يتأخر زمانا عن الانشاء ، ولو سميت ذلك بالحرية الشأنية أو بالحرية الانشائية أو الحرية التعليقية فلا مشاحة في التسمية والاصطلاح.

وعلى هذا المثال من التعليقيات فقس سائر الأمثلة من منشئاتنا التعليقية ، وقس على الجميع الأحكام الشرعية الكلية أو الجزئية المعلّقة في جعل الشارع على تحقق شرط أو عنوان أو سبب ، فان مرجع الجميع إلى تعليق الحكم المنشأ على وجود ذلك الشيء.

ص: 8

وقد استراح من قال بجعل السببية ، فانه يقول إن المجعول والذي ينوجد في مثل قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) هو السببية والملازمة بين الدلوك والوجوب ، وهذه لا تتأخر زمانا عن الانشاء. ولكن ترد عليه الاشكالات من هاهنا وهاهنا كما حرر في محله (2) وكما أشار إليه شيخنا قدس سره في هذا المقام إشارة إجمالية ، وحيث التزمنا ببطلان القول بجعل السببية وقلنا إن المجعول هو المسبب عند وجود السبب يكون حال تلك القضايا حال ما عرفت من قول السيّد لعبده أنت حر بعد وفاتي في أن المجعول هو الحرية عند الموت الذي [ هو ](3) سببها وكل ما جرى في ذلك إشكالا وجوابا يجري في قول الشارع إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة (4).

قوله : بخلاف القضية الحقيقية فان الفعلية فيها تدور مدار فعلية الموضوع خارجا ، وتتأخر الفعلية عن الانشاء زمانا ... إلخ (5).

الظاهر أن مراده هو إمكان التأخر زمانا لا أنه كذلك دائما ، فلا يرد عليه أنه ربما كان الموضوع موجودا سابقا على الانشاء أو مقارنا له ، فلا يكون حينئذ إلاّ التأخر الرتبي.

ولعله قدس سره ناظر في ذلك إلى القضايا الحقيقية في الأحكام الشرعية فان إنشاءها يكون سابقا على وجود موضوعها في الخارج إلاّ ما ربما اتفق في بدء الاسلام ، كما لو اتفق أن بعض المسلمين حينما صدر الانشاء

ص: 9


1- الإسراء 17 : 78.
2- فوائد الاصول 4 : 393 وما بعدها ، وسيأتي كلام المصنّف قدس سره في ذلك في المجلّد التاسع.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
4- وسائل الشيعة 1 : 372 / أبواب الوضوء ب 4 ح 1 ( نقل بالمضمون ).
5- أجود التقريرات 1 : 190.

وتشريع وجوب الحج بقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) كان واجدا للاستطاعة بحيث لا يكون وجود الموضوع متأخرا زمانا عن زمان إنشاء الحكم وتشريعه ، وليس مثل هذا الفرض محطّ نظر شيخنا قدس سره بل محط نظره هو ما عدا هذه الفروض التي اتفقت في أوّل التشريع.

نعم ، يرد عليه أنه بناء على هذا لا يتصور الاشتراط في القضية الخارجية بالنسبة إلى من كان جاهلا بوجود الشرط ، إلاّ أن يرجع محصل الاشتراط فيها إلى أنه إن كنت فعلا واجدا للشرط فأنت مأمور فعلا ، وإن لم تكن واجدا له فأنت لست بمأمور أصلا حتى لو وجد لك الشرط بعد ذلك. ومنه يظهر لك اندفاع ما أورده عليه في الحاشية صفحة 128 (2).

قال قدس سره فيما حررته عنه ما هذا لفظه : إن التكليف في القضية الخارجية لا واسطة بين إنشائه وفعليته ، بل يكون إنشاؤه عين فعليته سوى الاختلاف بينهما بالرتبة ، بخلاف التكليف في القضية الحقيقية فانه لمّا كان إنشاؤه عبارة عن جعله على من يوجد من أفراد موضوعه لم يكن فعليا بمجرد إنشائه بل كان تحققه الفعلي متوقفا على تحقق موضوعه الذي أخذ فيه مفروض الوجود ، وربما تأخر ذلك بزمان طويل عن إنشائه وجعله.

قوله : الوجه الثاني ... إلخ (3).

السر في هذا الوجه الثاني وفي الوجه الثالث الآتي بل في الوجه الأوّل أيضا هو أن ما نسمّيه بالشرائط في القضية الخارجية إنما هي أسباب أو

ص: 10


1- آل عمران 3 : 97.
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 190 من الطبعة الحديثة.
3- أجود التقريرات 1 : 190.

شرائط ، وبالأحرى إنما هي دواع للجعل ، فلا تكون فعلية الحكم متوقفة على وجودها الخارجي ، بل يكون الحكم فعليا بمجرد إنشائه الناشئ عن علم الآمر بوجود تلك الامور في مواطنها ، ولا يكون المؤثر في فعلية الحكم هو وجودها الخارجي بل يكون المؤثر هو وجودها العلمي ، فيمكن أن يكون المتأخر وهو مجيء الضيف غدا داعيا لاصدار تكليف إلى العبد بالاستعداد له ، بخلاف القضية الحقيقية فان الشرط فيها إنما يكون سببا للمجعول ، وبالأحرى هو موضوع للمجعول فيستحيل تأخره أو تقدمه ويكون بوجوده الخارجي مؤثرا ، ويتأتى فيها النزاع في كون المجعول ما هو هل هو السببية كما قيل ، أو هو المسبب عند وجود السبب كما هو المختار ، وهذا بخلاف القضية الخارجية فان السبب فيها كما عرفت لا يكون إلاّ بمعنى الداعي على الجعل ، ولا معنى للقول بأن داعويته هي المجعولة بل لا يكون المسبب فيها إلاّ الجعل.

والخلاصة : لا يكون هناك جعل في السبب الذي هو الداعي ولا في المسبب الذي هو نفس الجعل ، ولا يكون ذلك إلاّ من قبيل تأثير الدواعي في الأفعال الاختيارية ، وذلك لا يكون بتصرف من الشارع ، بل لا يكون التأثير لهاتيك في تلك الارادة الصادرة عنها المتعلقة بذلك الفعل إلاّ تأثيرا واقعيا ، فلا معنى للنزاع فيها في أن المجعول هو المسبب أو السببية ، فلاحظ.

وكان الأولى جعل هذا الثالث من جملة ما تقدم من موارد الخلط بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، فيقال إن البحث في كون المجعول هو المسبب أو أن المجعول هو السببية إنما يتأتى في القضايا الحقيقية دون

ص: 11

القضايا الخارجية ، فهو على العكس مما تقدم من الأبحاث التي تنحصر في القضية الخارجية.

قوله : الأمر الثاني في رجوع القيد في القضية الشرطية بحسب القواعد العربية إلى الهيئة أو المادة أو الجملة المركبة منهما. والتحقيق أن يقال : إن كلاّ منها وإن كان يرجع إلى الآخر بحسب النتيجة إلاّ أن الحق هو رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة ... إلخ (1).

لا يخفى أن شيخنا قدس سرّه قد أطال الكلام في توضيح مختاره الذي هو مختار الشيخ قدس سره (2) من رجوع القيد إلى المادة بلحاظ تعلق الطلب بها ، وكان ذلك في ليال متعددة ، وقد ذكر الاحتمالات المتصورة في المقام وأنهاها إلى ستة :

الأول : رجوع القيد إلى المادة.

الثاني : رجوعه إليها بلحاظ تعلق النسبة الطلبية بها.

الثالث : رجوعه إلى نفس النسبة الطلبية.

الرابع : رجوعه إلى المادة بعد تعلق النسبة الطلبية بها.

الخامس : رجوعه إلى نفس المكلف ، فيلحقه القيد ثم يتعلق به الطلب.

السادس : رجوعه إلى نفس المكلف أيضا ولكن بلحاظ تعلق التكليف به.

ثم أخذ في ردّ بعض هذه الوجوه إلى بعض ، وأن المتحصل هو رجوع القيد إلى المادة بلحاظ تعلق النسبة الطلبية بها فرارا من رجوعه إلى نفس مفاد الهيئة ، لكونه معنى حرفيا آليا غير قابل للحوق القيد به ، فلا بدّ من

ص: 12


1- أجود التقريرات 1 : 192 - 193.
2- كما سيأتي في صفحة : 19.

رجوعه إلى المادة بلحاظ كونها مطلوبة ، وقهرا يتقيد الطلب بذلك القيد. وكنت قد حررت تعليقا على تلك الافادات ، وهذا نص ما علّقته :

قلت : لا يخفى أنا إنما فررنا من جعل القيد راجعا في مقام الاثبات إلى نفس مفاد الهيئة من جهة كونه معنى حرفيا لا يمكن أن يطرأه التقييد لاستدعائه اللحاظ الاستقلالي ، ومن الواضح أنه بناء على ما أفاده دام ظله من إرجاع القيد إلى المادة بلحاظ تعلق النسبة الطلبية بها يتأتى الاشكال المذكور من جهتين ، حيث إن لحوق القيد إلى المادة المعروضة للطلب معناه رجوعه إلى المادة المقيدة بطرو مفاد الهيئة عليها ، فيكون مفاد الهيئة قيدا للمادة وجزءا من المقيد بالشرط ، والأوّل أعني أخذ مفاد الهيئة قيدا للمادة يستدعي لحاظها استقلالا كما يقتضيه أخذه مقيدا ، والثاني أعني كون مفاد الهيئة جزءا من المقيد بالشرط يستدعي أيضا لحاظه استقلالا ، فانه وإن لم يكن بنفسه هو المقيد بالشرط إلاّ أنه جزء من المقيد به حيث إن المقيد بالشرط على هذا الوجه هو المادة المطلوبة ، فيكون الطلب جزءا من المقيد بالشرط ، فينبغي أن يكون ملحوظا مستقلا كما لو كان بنفسه هو المقيد بالشرط.

وأجاب دام ظله حسبما فهمته منه : أن المقيد بالشرط على هذا الوجه ليس هو المادة المقيدة بأنها مطلوبة كي يعود المحذور من وجهين ، بل المقيد به إنما هو نفس المادة المعروضة للطلب بحيث يكون الطلب خارجا عن حيّز التقييد ، ولكن حيث إنه لحق القيد للمادة التي هي معروضة له فلا جرم تكون النتيجة انحصار تعلق الطلب بالمادة بمورد وجود القيد.

قلت : والمطلب بعد محتاج إلى التأمل ، فان القيد إن رجع إلى نفس المادة ولم يكن للطلب مساس به فلا بدّ أن يكون الطلب غير مقيد به ، وإن رجع إلى المادة المعروضة للطلب على وجه يكون لعروض الطلب عليها

ص: 13

مدخلية في ذلك التقييد لزم ما تقدم من أن اللازم عليه هو لحاظه استقلالا.

ولعل المراد أن التقييد لمّا كان تضييقا لما يرد عليه ، فان كان ما يرد عليه التقييد هو نفس المادة لم يكن ذلك موجبا للتقييد في ناحية الطلب ، وإن كان ما يرد عليه التقييد هو الحصة من تلك الطبيعة التي هي مفاد المادة أعني الحصة التي عرض عليها الطلب بحيث إن الآمر في مقام إيراد القيد على مفاد المادة لم يلاحظ نفس الطبيعة ، بل لاحظ الطبيعة التي تكون تحت الطلب وأورد القيد على تلك الطبيعة التي رآها تحت الطلب ، فانه حينئذ يكون الطلب منحصرا في مورد وجود ذلك القيد وإن لم يكن مقيدا قصدا ، بمعنى أن ذلك الطلب المستفاد من الهيئة لا تقييد فيه في نفسه أصلا وإنما طرأ التقييد على الطبيعة التي رآها الآمر تحت الطلب ، ولأجل ضيق ما تحت الطلب يتضيق واقع الطلب قهرا ، لا الطلب الذي دلت عليه الهيئة.

وفيه : أن مجرد كون ما تحت الطلب مقيدا لا يوجب تقييدا في واقع الطلب ، وإلاّ لكان الطلب المتعلق بالصلاة المقيدة بالوضوء مقيدا بذلك القيد.

اللّهمّ إلاّ أن يفرّق بينه وبين ما نحن فيه بأن ما نحن فيه يكون الطلب ملحوظا طروّه على مفاد المادة قبل طروّ التقييد عليها ، فانه مورد القيد على المادة الملحوظ تعلق الطلب بها ، بمعنى أن تلك المادة في ذلك الحال تكون مقيدة بهذا القيد ، فقهرا ينحصر الطلب بوجود ذلك القيد ، بخلاف ما ذكرناه من المثال فان الملحوظ فيه أوّلا هو تقييد الصلاة بالوضوء ثم يورد الطلب على ما هو مقيد بذلك القيد ، فلا يلزمه أن يكون واقع الطلب مقيدا بذلك القيد فتأمل ، انتهى ما علّقته (1).

ص: 14


1- في ليلة الاثنين 20 / ربيع الثاني / 1346 [ منه قدس سره ].

ولا يخفى أن سيدنا المرحوم السيد أبو الحسن قدس سره كان يرتئي هذا الرأي (1) وقد حررت ذلك عنه وأشكلت عليه بعين هذا الاشكال ، وأجاب عنه حسبما وجدته فعلا في تقريراتي بما هذا لفظه :

وقد أجاب سلّمه اللّه تعالى عن هذا الاشكال بما حاصله لا يكون راجعا إلى المادة المقيدة بالطلب حتى يرد أنه كيف يكون الطلب قيدا وجزءا من المقيد بالشرط ، وليس راجعا إلى نفس المادة حتى يرد أنه التزام بما ذكره الشيخ قدس سره بل يكون راجعا إلى المادة لكن بعد عروض الطلب عليها أو في حال كونها معروضة له ، فهو واسطة بين تقييدها بالطلب وأخذها مطلقة ، فانه إذا قيدت المادة بقيد حال كونها معروضة للطلب فلا إشكال في سريان ذلك القيد إلى نفس الطلب وإن لم نجعله قيدا للمادة.

وبالجملة : المادة حال تقييدها بالشرط لم تلاحظ مطلقة من جهة الطلب ولا مقيدة به ، بل لوحظت مطلقة في حال الطلب فورد عليها الشرط كذلك ، وهو أمر وجداني تضيق عنه العبارة.

قلت : هذا المطلب محتاج إلى تأمل ، فانا لا نتعقل الواسطة بين لحاظ المادة مقيدة بالطلب وبين لحاظها مطلقة من جهته ، فتأمل لعلك تطلع على حقيقة الحال. انتهى ما كنت حررته هناك في وقته بألفاظه.

والخلاصة من هذه الكلمات هي : أن أخذ المادة ملحوظا تعلق الوجوب بها وإيراد القيد عليها بهذا اللحاظ يوجب تقيد الطلب قهرا. ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أن كل قيد يرد على المادة لا بدّ أن تكون المادة في مرتبة ورود القيد عليها ملحوظا تعلق الطلب بها ، وإلاّ لم يمكن أن

ص: 15


1- وبالأخص في الدورة التي شرع فيها سنة / 1336 [ منه قدس سره ].
2- في صفحة : 32.

يطرأها التقييد.

وعلى كل حال أن هذا هو الذي فسّروا به كلام الشيخ قدس سره وبه فسّروا ما عنه في الكفاية (1) من أخذ القيد في الواجب المشروط على نحو لا يجب تحصيله ، وليس مرادهم بذلك تقدم تعلق الطلب بها زمانا بل ولا رتبة ، بل مرادهم به هو لحاظ تعلق الطلب بها عند إيراد القيد عليها ، وبالأخرة يكون كل من الطارئين أعني الطلب والتقييد في رتبة واحدة ، ولا بدّ حينئذ من كون كل منهما ملحوظا في المادة في مرتبة ورود الآخر عليها.

وربما يقال في الفرق بين تقييد المادة بالقيد في الواجب المشروط وتقييدها به في الواجب المطلق : إن المادة في الأوّل مقيدة بفرض وجود القيد ، بخلافه في الثاني فان المادة فيه مقيدة بنفس وجود القيد ، فيقال على الأوّل إن الشرط وهو الاستطاعة اخذ في المادة مفروض الحصول ثم علّق بها الطلب ، بخلافه على الثاني فان الشرط الذي هو الطهارة مثلا اخذ بنفسه قيدا في المادة ثم علّق الطلب بالصلاة المقيدة بالطهارة ، فتكون النتيجة على الأوّل عدم دخول نفس الاستطاعة في التقييد فلا يجب تحصيلها بخلافه على الثاني.

ولعل هذا هو الذي أراده صاحب الدرر بقوله ، وتوضيح ذلك : أن الطالب قد يلاحظ الفعل المقيد ويطلبه ، أي يطلب المجموع ، وهذا الطلب يقتضي إيجاد القيد إن لم يكن موجودا كما في قوله صلّ مع الطهارة ، وقد يلاحظ القيد موجودا في الخارج ، أي يفرض في الذهن وجوده في الخارج ثم بعد فرض وجوده في الخارج ينقدح في نفسه الطلب فيطلب المقيد

ص: 16


1- كفاية الاصول : 95 - 96.

بذلك القيد المفروض وجوده ، فهذا الطلب المتعلق بمثل هذا المقيد المفروض وجود قيده وإن كان متحققا فعلا بنفس الانشاء ، لكن تأثيره في المكلف يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض وجوده حقيقة ، ووجهه أن هذا الطلب إنما تحقق مبنيا على فرض وجود الشيء ، وهذا الفرض في لحاظ الفارض حاك عن حقيقة وجود ذلك الشيء فكأنه طلب بعد حقيقة وجوده ، فكما أنه لو طلب بعد وجود ذلك الشيء المفروض وجوده حقيقة ما أثّر الطلب في المكلف إلاّ بعد وجود ذلك الشيء واقعا لعدم الطلب قبله ، كذلك لو طلب بعد فرض وجوده لم يؤثر إلاّ بعد وجوده الخارجي وإن كان الطلب الانشائي محققا قبله أيضا ، فهذا الطلب يقع على نحو يشترط تأثيره في المكلف على شيء في الخارج ، فتدبر جيدا ، انتهى (1).

ولقد تدبرت هذه الكلمات فلم أهتد إلى المراد منها ، فان فرض وجود الشيء في الذهن وانقداح الطلب في نفس الفارض متعلقا بما هو المقيد بذلك المفروض الوجود إن كان عبارة اخرى عن اشتراط الطلب بذلك القيد ، لم يوجب انقداح الطلب بالمقيد ، بل إنما يوجب تعلق الطلب بنفس الذات على تقدير حصول ذلك القيد ، وإن لم يكن إلاّ من مجرد تصور وجود القيد كان الطلب مطلقا ومؤثرا في نفس المكلف وباعثا له على إيجاد القيد والمقيد.

وقد اعترف في البدائع (2) بجزئية المعنى الحرفي ، لكن جعل الاشتراط بيانا زائدا نظير التخييرية والكفائية والغيرية ، فعدم ذكر ذلك البيان الزائد يحمل الفرد على ما لا يحتاج إلى البيان ، فليس هناك إطلاق ولا تقييد

ص: 17


1- درر الفوائد 1 : 104 - 105.
2- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 313.

ولا توسعة ولا تضييق.

وفيه : أن الكلام في ربط ذلك الزائد بالكلام وهل يكون مربوطا بالمادة أو يكون مربوطا بالهيئة ، مضافا إلى أن ما نحن فيه ليس من قبيل الترديد بين الوجوب التعييني والتخييري مثلا لأنهما فردان متقابلان من مطلق الوجوب ، فبعد فرض عدم إمكان كون المجعول هو القدر الجامع بينهما وكون الأوّل غير محتاج إلى البيان الزائد وكون الثاني هو المحتاج إلى ذلك ، يكون عدم البيان موجبا لحمل الطلب على الفرد الأوّل ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فان الوجوب المطلق والوجوب المشروط وإن اشتركا في مطلق الطلب إلاّ أن التقابل بينهما من مقابلة المقيد الذي هو الوجوب المشروط بالاستطاعة مثلا للمطلق الذي هو الوجوب المطلق من حيث الاستطاعة وعدمها ، فيكون الوجوب المشروط مختصا بحال الاستطاعة بخلاف المطلق فانه شامل لحال الاستطاعة وعدمها ، فيكون عدم التقييد بالاستطاعة موجبا لحمل الوجوب على الوجوب المطلق الشامل لحال الاستطاعة وعدمها ، فيكون حال الوجوب فيما نحن فيه حال الرقبة في كونها مقيدة بالايمان وكونها غير مقيدة به ، فلا يكون من الفردين المتباينين الذي يكون أحدهما محتاجا إلى البيان الزائد بخلاف الآخر ، ومفاد الصيغة وإن كان هو الفرد الموجود من الطلب إلاّ أن الموجود من الطلب تارة يكون هو الطلب الخاص المختص بحال الاستطاعة وهو الوجوب المشروط ، وأخرى يكون الموجود هو الطلب المطلق الشامل لحال الاستطاعة وعدمها ، فالتقابل بينهما من تقابل المقيد للمطلق ، فلاحظ وتدبر.

قوله : بيان ذلك ، أن المراد من تقييد المادة ليس ما هو ظاهر تقريرات شيخنا الأنصاري قدس سره - إلى قوله : - حتى يرجع إلى الواجب

ص: 18

المعلّق باصطلاح صاحب الفصول قدس سره - إلى قوله : - وقد نقل الاستاذ دام ظله عن السيّد العلاّمة الشيرازي قدس سره عدم صحة هذه النسبة إلى العلاّمة الأنصاري قدس سره بل المراد منه هو تقييد المادة المنتسبة ... إلخ (1).

هذا تعريض بما في الكفاية في بحث المعلق والمنجز ، فانه بعد ذكر عبارة الفصول وبعد ذكر ما عن الشيخ قدس سره من إنكار تقسيم الوجوب إلى المعلق والمنجز وبعد ذلك كله قال : ومن هنا انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط ... إلخ (2) ، والغرض أن عبارة التقرير في إبطال رجوع القيد إلى الهيئة وإن كان لها ظهور في الجملة فيما أفاده صاحب الكفاية قدس سره إلاّ أن عبائره المتأخرة تدل على أن المراد من تقييد المادة هو تقييدها بما أنها معروضة للطلب ، فيكون المقيد في الحقيقة هو نفس الطلب الذي أوجدته الهيئة في المادة ، وهذا هو المراد من تقييد المادة ، فانه قال في الهداية التي عقدها لما إذا ثبت وجوب شيء وشك في كونه مشروطا أو مطلقا بملاحظة أمر من الامور المحتملة ما هذا لفظه :

إذا تعلق الأمر بشيء فهناك وجوه ، أحدها : أن يكون الأمر غير معلّق على صفة مع إطلاق الفعل المأمور به ، كأن يكون الأمر مطلقا مادة وهيئة نحو قولنا أكرم رجلا ، فانه ليس في المقام ما يحتمل رجوعه بحسب القواعد العربية إلى الهيئة ليكون قيدا للأمر بحسب ما هو الظاهر وإن كان راجعا إلى تقييد المادة كما عرفت ، ولا ما يحتمل أوله إلى المادة ، فعند الشك في قيد سواء كان قيدا للوجوب أو قيدا للفعل يجب التمسك بالاطلاق في دفع الشك.

ص: 19


1- أجود التقريرات 1 : 193 - 194 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 101.

ثم قال : وثانيها : أن تكون الهيئة خالية عمّا يحتمل رجوعه إليها بحسب القواعد العربية ، لكن المطلوب فعل مقيد بقيد خاص ، كما إذا أمر المولى بأداء فعل خاص في مكان خاص كالصلاة في المسجد - إلى أن قال - فالحكم ما عرفت في الوجه الأوّل ، ومن ذلك ما إذا شك في اشتراط الوجوب بالقيد المذكور أيضا ، فان الأصل في المقام هو الاطلاق أيضا.

ثم أخذ في بيان القيد المذكور الراجع إلى المادة وأنه على نحوين ، نحو يجب تحصيله ونحو لا يجب تحصيله ، ثم قال : فالآمر لا بدّ أن يكشف عن مقصوده في جميع هذه المراتب بلفظ قابل لذلك المطلب وذلك ظاهر ، ففيما نحن بصدده نقول : إن تقييد المأمور به ثابت وتقييد الأمر ليس ثابتا والأصل عدمه ، ولا ينافي ذلك ما قلنا من أن قيد الأمر يرجع إلى المأمور به ، فان المقصود بالأصل هو ما عرفت من أن التقييد ثابت على الوجه الذي لا يستفاد منه عدم الوجوب عند عدم القيد كما في الجمل الشرطية أو ما يقوم مقامها في الافادة المذكورة ، بل المستفاد منه هو الوجوب المطلق التابع للمصلحة على وجه الاطلاق ، فظهر المراد بأصالة الاطلاق في المقام.

وثالثها : عكس الثاني كأن تكون الهيئة مقيدة دون المادة ، ومرجعها على ما عرفت إلى تقييد المادة بقيد لا يحسن أن يكون القيد موردا للتكليف.

إلى أن قال : ورابعها : ما اجتمع فيه القيدان ، والحكم يظهر مما مرّ من غير فرق.

خامسها : أن يثبت قيد ولكن لا يعلم أنه من القيود التي يجب الاتيان بها حتى يكون من قيود الفعل مطلقا ، أو من القيود التي لا يجب الاتيان بها حتى يكون من قيود الفعل بوجه خاص وهو اعتبار وجوده لا على وجه

ص: 20

التكليف. وهذه الصورة هي ما قلنا بأنها يحتمل أن يكون مراد السيد.

وكيف كان ، فقد يظهر من بعض المتأخرين أنه لا بدّ من التوقف - إلى أن قال : - وأما التمسك بأصالة الاطلاق في جانب الهيئة لأن تقييد المادة معلوم على الوجهين ، إذ تقييد الهيئة لا ينفك عن تقييد المادة بخلاف تقييد المادة فيبقى إطلاق الهيئة في محله ، فقد يجاب عنه بأن تقييد المادة غير معقول بما هو مقيد للهيئة ... إلخ. وحاصل الجواب : هو أن تقييد المادة بقيد يقضي بوجوب ذلك ، ولو قيّدت به الهيئة كان وجوب ذلك القيد متوقفا على وجوده.

إلى أن قال : فلا يصح اعتبار شيء واحد في المادة والهيئة معا ، نعم يصح التقييد ( يعني تقييد الهيئة ) بالنسبة إلى المقدمة الوجودية الواقعية ، لكن لا على وجه تكون تلك المقدمة معتبرة في المادة في نظر الآمر لما عرفت - إلى أن قال - نعم ذلك يتم بناء على ما احتملناه من رجوع المقدمة الشرعية المأخوذة في المأمور به إلى المقدمة العقلية المحضة على وجه لا يكون من قيود الفعل المأمور به ، فلا يجب إيجادها بما هو مفاد الأمر ، وحيث إنها من المقدمة العقلية الواقعية صح التقييد بها فلا يجب عند عدمها. كما هو كذلك بالنسبة إلى القدرة فان من شرائط وجود الفعل المأمور به في الواقع هو التمكن مع أنه من شرائط الوجوب أيضا ، ولكن ذلك خلاف ما يظهر منهم في الموارد كما لا يخفى. وكيف ما كان ، ففي هذه الصورة بناء على مذاق القوم لا بدّ من الأخذ بالاطلاق في جانب الهيئة والحكم بتقييد المادة بوجهين ... إلخ (1).

ص: 21


1- مطارح الأنظار 1 : 247 - 252.

ومراده من قوله « على مذاق القوم » هو مقابل ما ذكره من محالية كون ما هو قيد المادة قيدا للهيئة ، لا مقابل ما تقدم منه (1) من أن تقييد الهيئة محال لكونها غير قابلة للتقييد لكون معناها حرفيا ، فان مراده من تقييد الهيئة هنا هو تقييد المادة بنحو يوجب تقيد الهيئة وهو ما عرفت تصريحه به في هذه العبائر التي نقلناها عنه. ويشهد بذلك قوله : وثانيهما أن تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادة لما عرفت من المحذور إلاّ أنه مع ذلك ... إلخ ، فان المحذور الذي أشار إليه هو ما تقدم من أن تقييد المادة بقيد يقضي بوجوب ذلك القيد ، والمفروض أن ذلك القيد بنفسه قد اخذ قيدا في الهيئة ، فتكون النتيجة أن وجوب ذلك القيد متوقف على وجوده.

قال : هداية ، يصح اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرم مقدم عليه زمانا ، سواء كان من المقدمات الوجودية لذلك أم لا ، بل ذلك واقع في الشريعة.

فمن الأوّل الحج المشروط بطيّ المسافة على دابة مغصوبة ، فانه من مقدماته الوجودية ، ومع ذلك فعل محرم ويشترط وجوب الحج بوقوعه عند انحصاره في وجه محرم ، ولا ضير في ذلك ، إذ قبل وقوعه لا وجوب وبعده يجب ، والمحرم واقع عند ذلك فلا محذور.

ومن الثاني أنواع الكفارات المترتبة على الأفعال المحرمة من الافطار والاصطياد ... إلخ (2).

وقال أيضا : هداية ، قد عرفت في تضاعيف ما قدّمنا القول فيه أن المقدمات الوجودية للواجبات المشروطة مما يتصف بالوجوب على نحو

ص: 22


1- [ لعل المراد ما تقدم منه قدس سره في مطارح الأنظار 1 : 236 ].
2- مطارح الأنظار 1 : 283.

اتصاف ذيها به ، وقضية ذلك عدم وجوب الاتيان بها قبل وجوب الاتيان بذيها ، إذ لا يعقل أن تكون المقدمة أعلى شأنا من ذيها. ثم ذكر الاشكال في حكمهم بوجوب الغسل قبل الصبح في ليالي رمضان ونقل الأجوبة عن ذلك وأطال الكلام فيه ، إلى أن قال : ولنا في المقام مسلك آخر لعله حاسم لمادة الشبهة بحذافيرها (1) ، وأطال الكلام في ذلك أيضا.

وأوائل كلامه يوهم تحقق الوجوب لذي المقدمة قبل الشرط ، إلاّ أنه بعد اعتراضات وأجوبة صرح بأن الحاكم هو العقل من باب تفويت القدرة وأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فراجعه.

وقبل هذه الجملة أعني قوله « ولنا في المقام ... » له كلمات صريحة في أنه لا فرق بين قوله : افعل كذا في وقت كذا ، وقوله : إذا جاء وقت كذا فافعل كذا ، وأن رجوع القيد إلى الطلب عين رجوعه إلى المادة ، وأنه لا يعقل أن يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون المطلوب.

وقال قبل هذه الهداية في مسألة إقامة الحدود ونصب الامام عليه السلام : ويحتمل أن لا يكونا واجبين لاحتمال إطلاق المادة وتقييد الهيئة على ما ستعرف المراد من تقييد الهيئة ، وإلا فعلى ما ذكرنا سابقا لا وجه للقول بتقييد الهيئة ، إذ لا يتصور في مفاد الهيئة إطلاق كما عرفت (2).

وهذه العبارة الأخيرة ظاهرة كغيرها مما تقدم في أن مراده من رجوع القيد في الواجب المشروط إلى المادة هو رجوعها إليها على وجه يوجب تقييد مفاد الهيئة ويخرج ذلك القيد عن تحت الطلب ، وذلك بما عرفت من أخذ

ص: 23


1- مطارح الأنظار 1 : 259 - 268.
2- مطارح الأنظار 1 : 245.

لحاظ طروّ الطلب عليها في مرتبة تقييدها بالقيد المزبور ، وهو المعبّر عنه بتقييد المادة المنتسبة إلى الفاعل بالنسبة الطلبية ، فلاحظ باقي عبائره قدس سره وتأمل.

قوله : فالمعلّق في الحقيقة هو المادة بعد الانتساب ، لا بمعنى البعدية الخارجية حتى يكون ملازما للنسخ ، بل بمعنى البعدية الرتبية ، فان اتصاف المادة بالوجوب فرع وقوع النسبة الطلبية عليها ، وتقييد الجملة الانشائية بأداة الشرط إنما هو بلحاظ هذا الاتصاف فقط ... الخ (1).

ولكن يكون الأمر بالعكس فان تعليق الاتصاف بالطلب على ما هو مدخول أداة الشرط يوجب تقدم مفاد الشرط رتبة على اتصاف المادة بالطلب ، ولو كان المنظور إليه هو أن اتصاف نفس المادة بالطلب يكون سابقا في الرتبة على تقييدها بالقيد ، ففيه أنه لا موجب لهذا التقدم الرتبي بل هو اعتباري للآمر ، فتارة يلاحظ المادة مطروّة للطلب فيورد القيد عليها بهذا اللحاظ ، واخرى يلاحظ المادة مطروّة للقيد فيورد الطلب عليها بهذا اللحاظ ، والأول هو محصّل الوجوب المشروط الذي لازمه عدم دخول القيد تحت الطلب ، والثاني هو محصل الوجوب المطلق الذي يكون لازمه دخول القيد تحت الطلب ، وفي الأول يكون التقييد بالطلب سابقا في الرتبة على التقييد بالقيد ، وفي الثاني يكون الأمر بالعكس بمعنى كون تقييد المادة بالقيد سابقا في الرتبة على تقيدها بالطلب ، فان هذين التقييدين الطارئين على المادة يكون كل واحد منهما قابلا لأن يكون موردا وموضوعا للآخر.

ولكن الحق أنهما طارئان معا على نفس المادة ، ويكون طروّ كل منهما في عرض طروّ الآخر عليها من دون تقدم رتبي لأحدهما على

ص: 24


1- أجود التقريرات 1 : 195 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

الآخر ، ولكن هذه القيود تعمل عملها ما دام الكلام متصلا وتكون النتيجة هي تعلق الطلب بالمادة المقيدة ، نظير تعلق الاخبار بالمجيء في قولك جاءني رجل عالم بالرجل المقيد بالعالم ، وتكون النتيجة فيما نحن فيه في مثل صلّ إلى القبلة أو مع الساتر أو عند الزوال ، هو تعلق الطلب بالصلاة المقيدة بالقيود المزبورة ، ولا يكون ذلك من قبيل النسخ ، لما عرفت من تواصل الكلام بعضه ببعض ، أما إذا أراد تقييد النسبة الطلبية الذي هو حاصل الجملة بقيد فلا يكون إلا بنحو آخر ، أعني الاناطة والتعليق الذي تفيده الجملة الشرطية على نحو ما شرحناه ، أو بنحو أخذ ذلك القيد في الموضوع أعني المكلف كأن يقول : يجب الحج على المستطيع ، أو يقول يجب الحج عند الاستطاعة ، ونحو ذلك مما يفيد تعليق الحكم على وجود ذلك القيد ولو بأخذه ظرفا للوجوب ، أو للنسبة الطلبية كأن يقول حج عند الاستطاعة ، وهذه امور لفظية استظهارية لا تدخل تحت ضابط.

وقد صرّح شيخنا قدس سره فيما حررته عنه : بأن البعدية ليست زمانية بل ليست برتبية ، لامكان القول بالاقتران زمانية (1) ، وإنما المقصود بالبعدية البعدية اللحاظية ، فيلاحظ المادة معروضة للنسبة الطلبية ويلحقها القيد ملحوظة بهذا اللحاظ وتكون النتيجة أن الوجوب مقيد بهذا القيد.

قوله : والجواب عن ذلك بأن المعاني الحرفية معان كلية لا جزئية - إلى قوله - فغير صحيح ، لأن المانع عن الاطلاق والتقييد ليس الجزئية كما توهمه المجيب قدس سره (2) بل كون المعنى ملحوظا آليا ، وهذا

ص: 25


1- [ هكذا في الأصل ولا يخلو من تأمل ].
2- المجيب هو صاحب الكفاية [ منه قدس سره ].

لا يرتفع بكون المعنى كليا ... الخ (1).

لا يقال : إنا لو سلّمنا لصاحب الكفاية قدس سره (2) مسلكه في المعاني الحرفية من عدم دخول اللحاظ الآلي في المستعمل فيه فيها ولا في الموضوع [ له ](3) كان ذلك جوابا عن الاشكال من الجهتين ، أعني جهة كونه جزئيا غير قابل للتقييد وجهة كونه ملحوظا آليا غير قابل لوقوعه طرفا للنسبة التقييدية.

أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأن نفس المعنى المستعمل فيه اللفظ لم يكن آليا كي لا يمكن وقوعه طرفا للنسبة التقييدية.

لأنا نقول : إن وقوعه طرفا للنسبة التقييدية يتوقف على لحاظه مستقلا وذلك لا يجتمع مع لحاظه آليا ، ولو كان اللحاظ من أطوار الاستعمال ولم يكن داخلا في المستعمل فيه.

ولا محصل لدعوى لحاظه أوّلا في نفسه ومقيدا بقيد ثم في مقام الاستعمال يلاحظ آليا ، لأن القيود إنما تلحق المعاني في مقام الاستعمال ، ولا أثر لتصور المعنى مقيدا قبل الاستعمال مع فرض كونه في مقام الاستعمال غير مقيد ، مضافا إلى أن القيد موجود في الجملة اللفظية فكيف يرتبط بذلك المتصور الذي لم يدخل الألفاظ إلاّ مع امتناع تقييده. ولأجل ذلك لا يصح جعل المعنى الحرفي مسندا إليه أو موصوفا ، ولكن سيأتي إن شاء

ص: 26


1- أجود التقريرات 1 : 194 - 195 [ المذكور هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 11 - 12 ، 41 - 43.
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

اللّه تعالى (1) أن ارتباط أداة الشرط بالنسبة الطلبية ليس من مقولة التقييد الذي هو راجع إلى الاسناد الناقص التقييدي ، ولا هو من قبيل تضييق مفهوم الطلب ، بل إن ذلك من مقولة الربط بمعنى أن أداة الشرط تربط حاصل الجزاء بحاصل الشرط على جهة الاناطة والتعليق ، كما أن الحروف العاطفة جملة على جملة اخرى تربط بينهما على جهة الترتيب والتراخي أو بلا تراخ ، فلا يكون ذلك تضييقا في مفهوم الطلب الذي أوجدته الصيغة سواء قلنا إنه جزئي أو كلي ، ولا توصيفا للطلب بصفة خاصة على نحو التركيب التقييدي ، وهذا جار حتى لو أبرزنا مفاد الصيغة بقالب اسمي كما في مثل إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، فان الوجوب وإن كان اسميا كليا قابلا للتقييد والتوصيف إلا أن قولك إذا زالت الشمس ليس مما يكون توصيفا للوجوب أو يكون موجبا لتضييق دائرته ، بل إن « إذا » رابطة بين حاصل الشرط الذي هو تحقق زوال الشمس وحاصل الجزاء الذي هو تعلق الوجوب بالطهور والصلاة ، ربط إناطة وتعليق للثاني على تحقق الأول.

قال العلامة الاصفهاني في حاشيته : بل التحقيق أن المعنى الانشائي وإن كان جزئيا حقيقيا إلا أنه يقبل التقييد بمعنى التعليق على أمر مقدر الوجود وإن لم يقبل التقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ، فالمراد من الاطلاق عدم تعليق الفرد الموجود على شيء ، ومن البديهي أن المعلّق عليه الطلب ليس من شئونه وأطواره كي يكون موجبا لتضييق دائرة مفهومه فافهم واستقم (2).

ص: 27


1- في صفحة : 33 وما بعدها.
2- نهاية الدراية 2 : 60.

ولا يخفى أن التعليق كما لا تمنعه الجزئية في المعنى الحرفي فكذلك لا تمنعه آلية المعنى الحرفي ، بل إن التعليق لا يكون إلا في عالم النسبة سواء كانت خبرية أو إنشائية ، ولا يعقل التعليق في نفس المعنى الاسمي.

وعلى هذا الاساس يمكننا القول بأن الحروف روابط الكلم أعني الأسماء ، وأول ربط هو ربط النسبة مثل هيئة خرج زيد في كونها رابطا بين الخروج وزيد على جهة الانتساب وطروّ الأول على الثاني ثم تلحقه بقولك وعمرو ، فكان الواو قد أوجد الربط بين زيد وعمرو ، ولكن (1) هذا الربط هو ربط اشتراك بينهما في الخروج ، ثم تلحقه بقولك من الدار ، فلفظ « من » يربط بين الدار وما تقدم من خروجهما ربط ابتداء ، وهكذا في كل ما يلحق هذه الجملة من أدوات وظروف وكيفيات ، ثم تقول جاء خالد إلى الدار ثم خرج زيد وعمرو من الدار ، فتجد أنك ربطت جملتك الأولى بجملتك الثانية ربط تعقب وترتيب بمهلة ، ولو أسقطت لفظة « ثم » وأبدلتها بلفظة « إن » في طليعة الجملتين فتقول إن جاء خالد إلى الدار خرج زيد وعمرو منها ، فتجد أنك قد ربطت بين الجملتين ربط إناطة وتعليق يكون موجبا لتوقف مفاد الثانية على تحقق مفاد الاولى ، فهل تجد هناك شيئا مطلقا وأنت قد قيّدته وضيّقت دائرته بلفظة « إن » أو أنك قد جعلته مسندا إليه ، لكونك قد قيّدته وتقييد الشيء إسناد إليه.

نعم ، ربما كان الربط الذي تحدثه بعض الحروف والأدوات ربط تقييد ، مثل هيئة التركيب الوصفي في قولك جاءني رجل عالم ، فان الهيئة

ص: 28


1- [ في المصدر هنا زيادة « ما » والصحيح حذفه ].

التركيبية بينهما تحدث ربط الرجل بالعلم وربط العالم بالرجل ربط تقييد وتضييق وإسناد ناقص.

قوله في الحاشية : التحقيق أن يقال - إلى قوله : - وليس في موارد الانشاء من إيجاد المعنى باللفظ عين ولا أثر ... الخ (1).

لو سلّمنا أن حقيقة الانشاء إبراز ما في النفس من اعتبار كون المادة على عاتق المكلف ليكون إخبارا عن ذلك الاعتبار النفساني ويخرج عن كونه إنشاء وإيجادا لتلك الاعتبارات في عالم الانشاء ، فهل يكون ذلك موجبا لتعين رجوع القيد إلى مفاد الهيئة دون المادة بلحاظ طروّ الطلب عليها.

وبالجملة : أن هذا البحث اللفظي وهو هل أن مثل الظرف أو الجار والمجرور في مثل حج عند الاستطاعة أو في زمان الاستطاعة ، هل يتعلق بمفاد الهيئة أو أنه يتعلق بنفس المادة بعد لحاظ طروّ مفاد الهيئة عليها ، لا دخل له بأن أدوات الانشاء إبراز لما في النفس ، وأنه لا إيجاد في المعاني الانشائية بايجاد أدوات الانشاء.

قوله : لا يستلزم عدم قبوله للتقييد المساوق للتعليق ... الخ (2).

كان الأنسب جعل هذا أعني كون ما نحن فيه من قبيل التعليق لا التقييد جوابا عن كل من الاشكال بالجزئية والاشكال بالآلية. نعم إن المرحوم العلامة الاصفهاني قدس سره (3) ذكره جوابا عن الأول من جهة أن الكفاية (4) لم تتعرض إلا للاشكال الأول وأجابت عنه بانكار الجزئية.

ص: 29


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 192.
2- المصدر المتقدم.
3- نهاية الدراية 2 : 59.
4- كفاية الاصول : 96 ، 97.

قوله : أوّلا ، أن كون المعنى الحرفي ملحوظا آليا إنما يمنع عن تقييده حال لحاظه كذلك ... الخ (1).

كأنه إشارة إلى ما فى الكفاية من قوله : مع أنه لو سلّم أنه فرد فانما يمنع من التقييد لو أنشئ أوّلا غير مقيد ، لا ما إذا أنشئ من الأول مقيدا غاية الأمر قد دل عليه بدالين ، وهو غير إنشائه أوّلا ثم تقييده ثانيا ، فافهم (2). وسيأتي الكلام على هذه العبارة من الكفاية إن شاء اللّه تعالى ، وإلا فلا محصّل للحاظ المعنى الذي هو الطلب في حدّ نفسه مقيدا قبل الاستعمال ثم بعد تقييده قبل الاستعمال يلاحظه ذلك المقيد لحاظا آليا ، وحينئذ فلو كان التقييد قبل الاستعمال فلا تقييد في مرحلة الاستعمال ، فأين يتعلق القيد في قوله عند الاستطاعة الموجود في مقام الاستعمال.

قوله : وثانيا (3).

هذا إشارة إلى جواب الكفاية أوّلا ، جعله ثانيا ، وجعل جواب الكفاية ثانيا بقوله « مع أنه لو سلّم » أوّلا.

قوله : الثالث : أن إيجاب المولى - إلى قوله : - وغير خفي أنّ أساس هذا الاشكال مبني على تخيّل أن الجمل الانشائية موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، مع الغفلة عمّا حققناه من أنه لا يوجد بها شيء أصلا ، وإنما هي مبرزات للامور القائمة بالنفس الممكن تعلّقها بأمر متأخر (4).

قد عرفت أن كون الظرف أو الجار والمجرور أو القيد لا بدّ له من

ص: 30


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 192.
2- كفاية الاصول : 97.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 193.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 193.

متعلق في عالم الاستعمال ، وأن المتعلق هل هو مفاد الهيئة أو هو المادة بلحاظ مفاد الهيئة ، لا دخل له بكون أدوات الانشاء إخبارا أو إبرازا لما في النفس ، أو كونها إيجادا لمعانيها في صقع الانشاء. ومنه يظهر لك أن الايجاب عبارة عن إيجاد الوجوب لا إبراز الوجوب ، وقد ذكر صاحب الكفاية (1) وشيخنا قدس سره (2) هذا الاشكال ، وأجابا عنه بما هو مبني على كون الايجاب بمعنى جعل الوجوب.

قوله : ولأجله ذكرنا في محله (3) أن بطلان التعليق في العقود والايقاعات إنما هو من جهة الاجماع ... الخ (4).

ذكر ذلك كل من تعرض لبطلان التعليق في العقود والايقاعات ، فراجع المكاسب (5) وحواشيها (6). وسيأتي في هذا التحرير عن شيخنا قدس سره قوله : وقيام الاجماع على بطلان تعليق المنشأ على غير الموت في الوصية ... إلخ (7) فراجع.

قوله : وملخص ما ذكرناه - إلى قوله : - فهي لا بد وأن تكون رابطة بين الجملتين - إلى قوله : - فالمعلّق في الحقيقة هو المادة بعد الانتساب ... إلخ (8).

لا يخفى أن إرجاع القيد إلى المادة ملحوظا فيها النسبة الطلبية بمعنى

ص: 31


1- كفاية الاصول : 97.
2- أجود التقريرات 1 : 190.
3- مصباح الفقاهة 3 : 70.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 193.
5- المكاسب 3 : 163 ، 170 ، 172.
6- منها منية الطالب 1 : 253 ، حاشية المكاسب ( للهمداني ) : 45 ، غاية الآمال 5 : 25.
7- أجود التقريرات 1 : 213.
8- أجود التقريرات 1 : 195.

لحاظ المادة معروضة للطلب وإيراد القيد عليها ، بحيث يكون عروض الطلب عليها سابقا في اللحاظ على عروض القيد عليها ، لا أنه سابق زمانا بل ولا رتبة على ما شرحناه فيما علّقناه على ما حررناه عنه قدس سره على طوله ، لا يحصل به الفرار عن إشكال عدم استقلال المعنى الحرفي ، حيث إنه حينئذ يكون قيدا في المادة ويكون هو والمادة موردا للتقييد بالاستطاعة مثلا ، وحينئذ يتأتى الاشكال المزبور من ناحيتين : إحداهما أنه كيف أمكن أن يكون مفاد النسبة الطلبية قيدا في المادة بحيث يكون الملحوظ هو المادة المقيدة بعروض الطلب ، والاخرى أنه كيف أمكن أن يكون المقيد بالاستطاعة هو مجموع المادة والطلب بحيث يكون مفاد الهيئة جزءا من معروض القيد الذي هو الاستطاعة ، فراجع ما حررناه هناك (1).

ثم إن هذا لو تم لكان جاريا بعينه في قيد الواجب كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، فان تقييد الصلاة بكونها عن طهارة لا بد أن يكون بلحاظ الطلب ، لأن كل تقييد (2) يطرأ على المطلق إنما هو بلحاظ الحكم الطارئ عليه ، ولا يعقل طروّ التقييد على الذات بدون لحاظ طروّ حكم عليها ، وحينئذ لا يحصل الفرق بين مثل الاستطاعة بالنسبة إلى الحج ومثل الطهارة بالنسبة إلى الصلاة. وما افيد هناك من أنه في مثل الاستطاعة يكون الملحوظ أوّلا هو طروّ الطلب على المادة والملحوظ أوّلا في مثل الطهارة هو تقيد الصلاة بالطهارة ثم عروض الطلب عليها غير نافع ، فانك قد عرفت أنه لا يمكن عروض التقييد للصلاة بمثل الطهارة إلا بملاحظة عروض

ص: 32


1- في صفحة : 13.
2- [ في الأصل هنا زيادة « إنما » حذفناه لاستقامة العبارة ].

الحكم عليها الذي هو الوجوب.

ثم لا يخفى أنه لا يمكن التخلص عن الاشكال بما حررناه (1) في المعنى الحرفي من أن مفاد الهيئة ليس إلا إيجاد النسبة وكونها طلبية من قبيل جهات تلك النسبة ، فيكون قيد الاستطاعة (2) راجعا إلى جهة تلك النسبة التي أوجدناها بالهيئة وتلك الجهة هي الطلب ، فلا دخل له بالمادة كي يشكل عليه بأنه يكون حينئذ حاله حال مثل الطهارة التي تكون قيدا للمادة ، كما أنه لا دخل له بنفس مفاد الهيئة الذي هو إيجاد النسبة كي يشكل عليه بأنه معنى حرفي ، بل يكون هذا القيد أعني الاستطاعة راجعا إلى جهة تلك النسبة الذي هو الطلب ، ولا ضير فيه لأنه ليس بمفاد نفس الهيئة الذي هو معنى حرفي ، وبيان عدم إمكان التخلص أن جهة النسبة غير دخيلة بما هو مفاد الألفاظ حينئذ فكيف يصح إرجاع القيد إليه.

وهذه التمحلات كلها ناشئة عن تخيل أن مفاد إن الشرطية هو التقييد على وجه يكون هناك قيد ومقيد ونسبة تقييدية ، فيسأل عن أن المنسوب إليه في هذه النسبة التقييدية أعني المقيد بهذا القيد ما هو ، هل هو نفس المادة أو هو مفاد الهيئة ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل إن مفاد إن الشرطية ليس إلا إحداث الربط بين مفاد الجملتين ، فليست هي إلا أداة ربط بين الجملتين وحالها في هذه الجهة حال الحروف العاطفة جملة على جملة مثل ثم والفاء في كونها للربط بين الجملتين على جهة كون الثانية مترتبة على الأولى بفاصل أو بلا فاصل ، وحال إن الشرطية كذلك في كونها رابطة

ص: 33


1- راجع الصفحة : 55 من المجلّد الأول من هذا الكتاب.
2- [ في الأصل : المقيد بالاستطاعة ، والصحيح ما أثبتناه ].

بين جملة الشرط وجملة الجزاء في كون الحكم في الثانية مترتبا على الحكم في الاولى.

ويمكن استفادة ذلك من كلمات شيخنا قدس سره في هذا المقام وذلك قوله قدس سره فيما حكاه عنه في التحرير : وملخص ما ذكرناه هو أن أداة الشرط بما أنها وضعت لجعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، فهي لا بد وأن تكون رابطة بين الجملتين ، فلا يعقل أن يكون مدخولها قيدا للمادة قبل النسبة ولا في رتبتها ، لأنها مفهوم إفرادي وأداة الشرط موضوعة لربط الجملتين ... الخ (1).

فان هذا الكلام صريح في عدم كون المقام من باب التقييد للمادة أو للنسبة الطلبية ، بل هو من باب التعليق القاضي بكون حاصل جملة الجزاء منوطا ومتوقفا على تحقق حاصل جملة الشرط ، من دون فرق في ذلك بين كون الطلب واقعا بالصيغة الذي هو معنى حرفي وكونه واقعا بلفظ الطلب أو الوجوب الذي هو معنى اسمي كأن يقول إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة ، ولا دخل لهذه الاناطة والتعليق بأن مفاد النسبة الطلبية بصيغة افعل مفهوم حرفي وملحوظ آلي.

(2) ثم إذا أضفنا إلى هذا الكلام الذي نقلنا عنه أن الشرط موضوع وأن الموضوع [ مقدّر الوجود ](3) وأنه لا فرق فيما اخذ مقدّر الوجود في الحكم بين أن يؤخذ شرطا أو عنوانا أو موضوعا ، فان كلا من هذين يكون تقدير وجوده مأخوذا في الحكم ويكون الحكم مجعولا على تقدير وجوده ، هذه

ص: 34


1- أجود التقريرات 1 : 195 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- [ في الأصل هنا زيادة « والحاصل أنه إذا كان » حذفناه لاستقامة العبارة ].
3- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

كلماته وأمثالها كثيرة في كلامه ، فراجع ما حررته وحرره غيري عنه قدس سره.

وأنت بعد اطلاعك على ذلك كله تعرف أنه ليس المقام عنده من قبيل القيد والمقيد الاصطلاحي نظير تقييد الرقبة بالايمان ليلزمنا الفرار منه من جهة جزئية المعنى الحرفي وآليته المنحصر بما لو كان الطلب مستفادا من الصيغة دون ما لو كان من لفظ الطلب أو من لفظ الوجوب ، إذ ليس التقييد في مثل الجملة الشرطية من قبيل تضييق دائرة المفهوم لينحصر في المفاهيم الاسمية ويمتنع في المعاني الحرفية ، بل هو من قبيل تضييق دائرة الوجود وتقليل موارده بحيث يكون الموجود من الوجوب عند جعلك له على تقدير الزوال هو الوجوب عند الزوال فلا يكون الوجوب قبل الزوال موجودا ، لا أنك أحضرت مفهوم الوجوب في ذهن السامع وقيّدته بكونه خصوص الوجوب الزوالي.

والخلاصة : هي أنه إذا كان مفاد الجملة الأولى شرطا فيما هو مفاد الثانية يتم المطلوب من دون تكلف إرجاع إلى المادة أو إرجاع إلى الهيئة حتى في مثل إن جاء زيد فصه أو مه ، فان مفاد الجزاء هنا ليس مركبا من مادة وهيئة كي يتكلم في أن هذا الشرط راجع إلى المادة أو إلى الهيئة ، بل هو راجع إلى ما هو المتحصل من ذلك الموجود في طرف الجزاء وهو طلب السكوت ، هذا إذا كان الشرط مستفادا من مثل أداة الشرط مثل إن الشرطية وأخواتها.

وأما لو كان مستفادا من مثل الظرف كأن يقول حج عند الاستطاعة فالكلام فيه أوضح ، لأن هذا الظرف يكون ظرفا لنفس النسبة ، بمعنى أن المتكلم أوجد النسبة الطلبية في هذا الظرف ، وليس ذلك من قبيل المركب التقييدي الراجع إلى التوصيف والاسناد الناقص كي يقال كيف أمكن كون مفاد

ص: 35

الهيئة طرفا في هذا التقييد ، هذا كله في القيود الراجعة إلى نفس الطلب.

وأما القيود الراجعة إلى نفس الواجب فهي لا تكون إلا من قبيل التوصيف للمادة ، مثل صلّ عن طهارة أو مع الطهارة ونحو ذلك مما يدل على توصيف الصلاة بأنها مع الطهارة ، حتى في مثل الظرف ونحوه على وجه يكون ذلك الظرف ظرفا للمادة لا ظرفا لمفاد الهيئة ، وبذلك يرتفع الاشكال بحذافيره.

وهذا كله اخذ من هذه الجملة أعني قوله قدس سره : إن أداة الشرط رابطة بين الجملتين (1) ، وهو مأخوذ من قولهم في تعريف القضية الشرطية بأنها ما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير نسبة اخرى ، سواء كان ذلك بلسان القضية الشرطية المشتملة على مقدّم وتال ، أو كان بلسان آخر يكون مرجعه إلى الملازمة بين الأمرين أعني الاستطاعة ووجوب الحج.

لا يقال : إن إيجاد الربط بين الجملتين يستدعي النظر إلى كل من المرتبطين ، فان كان المربوط هو مجموع الجملة بما اشتملت عليه من مادة وهيئة كان مفاد الهيئة جزء ذلك المنظور إليه ، وإن كان المربوط هو نفس مفاد الهيئة كان الاشكال أوضح. والحاصل : أن مفاد الهيئة لا يمكن أن يكون منظورا إليه سواء كان في ضمن الجملة أو كان منظورا بنفسه.

لأنا نقول : إن إحداث الربط بين الجملتين عبارة اخرى عن إيجادهما مربوطين ، وعلامة ذلك هو أداة الربط بينهما ، فليس في البين جملتان مستقلتان ثم بعد إيجادهما يحدث الربط بينهما كي نكون محتاجين إلى النظر إلى ما هو المربوط ، وما ذلك إلا من قبيل النسبة على نحو الحصر فان المتكلم يوجد النسبة محصورة وعلامته هو أداة الحصر مثل « إنما » لا أنه

ص: 36


1- أجود التقريرات 1 : 195 ( نقل بالمضمون ).

يوجد النسبة ثم يحصرها ب- « إنما » كي يكون محتاجا إلى النظر إلى نفس النسبة بعد إيجادها ، وبمثل ذلك نقول في صورة ذكر ظرف النسبة مثل حجّ عند الاستطاعة ، فانه لا يوجد النسبة أوّلا ثم يجعلها مظروفة لعند الاستطاعة كي يحتاج إلى النظر الثاني إلى النسبة ، بل هو محال لأن النسبة بعد إيجادها وتحققها في عالمها لا يعقل أن يطرأ عليها الربط ولا المظروفية.

والحاصل : أن مراد المتكلم هو جعل الوجوب المتعلق بالحج مربوطا بالاستطاعة ، وهذا المراد يحصل بايجاد النسبة الطلبية بواسطة الهيئة ، وبايجاد ربطها بالاستطاعة بواسطة أداة الشرط ، وبمجموع ذلك يحصل ما هو مراده وهو وجوب الحج على تقدير الاستطاعة. ولعل ذلك هو مراد صاحب الكفاية قدس سره (1) من أنه من قبيل تعدد الدال ووحدة المدلول.

وإن شئت قلت : إن المربوط ليس هو نفس الجملة بمجموعها من مادة وهيئة كي يتوجه عليه الاشكال المذكور ، أعني أن معنى النسبة لا يصح جعله جزءا من المربوط كما لا يصح جعلها بنفسها هي المربوطة ، بل المربوط إنما هو حاصل الجملة الطلبية في طرف الجزاء بحاصل الجملة في طرف الشرط ، ومن الواضح أن المتحصل من الجملتين قابل للربط والنظر إليه استقلالا فلا يتوجه الاشكال المزبور.

ولعل هذا هو مراد الشيخ قدس سره (2) وشيخنا قدس سره من كون المقيد هو المادة بلحاظ الطلب ، كما يظهر ذلك مما أفاده شيخنا في مسألة أصالة كون الوجوب نفسيا في قبال كونه غيريا ، فراجع ما حررته عنه (3) ، بل إنه صرّح

ص: 37


1- كفاية الاصول : 97.
2- كما تقدم استظهاره في صفحة : 19 وما بعدها.
3- في صفحة : 222 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

بمثل ذلك فيما حررته عنه هنا (1) ، فراجع.

ولا يخفى أن هذا المعنى أعني كون المربوط والمشروط هو حاصل الجملة يتأتى في الجار والمجرور بأن تقول أسير من البصرة إلى الكوفة إن كان زيد فيها ، وإن لم يكن فيها فأسير إلى المدينة ، فان هذه الجملة الأخيرة أعني قولك وإن لم يكن فيها ... ، قرينة على أن الشرط في الاولى أعني قولك إن كان زيد فيها راجع إلى مفاد الجار والمجرور في قولك إلى الكوفة ، فان مفاده انتهاء السير إلى الكوفة ، وأن هذا المعنى أعني انتهاء السير إلى الكوفة مشروط بكون زيد فيها ، فان أصل السير واقع على كل حال وإنما كان المشروط هو انتهاءه إلى الكوفة.

تنبيه : قول صاحب الكفاية قدس سره : تذنيب : لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة ... إلخ (2) ، يمكن الاشكال عليه بأن الواجب المشروط عند حصول الشرط لا ينقلب عن الاشتراط إلى الاطلاق ، فالحج عند تحقق الاستطاعة لا يخرج عن كونه واجبا مشروطا بها وإن صار بذلك فعليا ، وحينئذ فلو قلنا إن الحج واجب ، فان أردنا بذلك أنه واجب مطلق كان مجازا ، سواء كان ذلك الحمل قبل حصول الاستطاعة أو كان بعدها ، وإن أردنا بذلك أنه مشروط بمعنى أنه واجب بشرط الاستطاعة كان ذلك الحمل حقيقة ، سواء كان قبل الاستطاعة أو كان بعدها. وهكذا الحال في صيغة الأمر من قولك حج فانه إن قرن بقوله إن استطعت ، كان حقيقة ، وإن لم يقرن به كان مجازا.

ودعوى الفرق بينهما بأنه عند ذكر القيد يكون من قبيل تعدد الدال

ص: 38


1- في صفحة : 162 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].
2- كفاية الاصول : 100.

مشكلة ، لأن قولك الحج واجب بشرط الاستطاعة أيضا يكون من قبيل تعدد الدال على مسلكه من أن كل مطلق اريد به المقيد مع ذكر قيده يكون من قبيل تعدد الدال حتى في مثل رقبة مؤمنة.

ومجرد كون معنى الهيئة حرفيا على مسلكه غير فارق ، لأنه يرى أن المعاني الحرفية قابلة للاطلاق والتقييد كالمعاني الاسمية ، فتأمل.

قوله : فمن اشتاق ... الخ (1).

أوضحنا في آخر مسألة اجتماع الأمر والنهي (2) في البحث عن الخروج عن الدار المغصوبة أن سرّ الفرق بين القيد الذي هو الزمان وبين القيد الذي يكون فعلا اختياريا للمكلف وإن كان محتاجا إلى الزمان ، هو أن تقييد الواجب بالزمان مع فرض كون الوجوب حاليا غير مشروط بذلك الزمان يكون مستدعيا لجر الزمان وهو محال غير مقدور ، بخلاف ما لو كان القيد هو الأفعال السابقة على ذلك الواجب ، أو كانت مقدمته الوجودية فعلا سابقا عليه ، فان أقصى ما في الجمع بين كونها قيدا ومقدمة للفعل الواجب اللاحق وكون التكليف به غير مشروط بها ، هو لزوم الاتيان بها فعلا ، وذلك ممكن مقدور ، وهو بعينه مطلوب الآمر أيضا ، فراجع ما حررنا هناك وتأمل.

قوله : الامر الثالث : لا ريب في أن وجود الموضوع وصفاته الخارجة عن دائرة الاختيار ... إلخ (3).

هذا المبحث حول أن القيد تارة يكون قيدا للوجوب واخرى يكون قيدا للواجب وثالثة يكون قيدا لهما ، وحيث إنا قائلون بتبعية الأحكام

ص: 39


1- أجود التقريرات 1 : 203.
2- في المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : 143.
3- أجود التقريرات 1 : 196.

للمصالح في المتعلقات لم يكن لنا بدّ في توجيه كون التقييد ناشئا عن مصلحة ، من الالتزام بأنه تارة يكون دخيلا في المصلحة في الفعل على وجه يكون صلاح ذلك الفعل متوقفا على وجود ذلك القيد فيكون ذلك القيد قيدا في الوجوب ، واخرى يكون دخيلا فيها على وجه يكون وفاء الفعل بتلك المصلحة متوقفا على تقيده بذلك القيد ، فيكون ذلك القيد قيدا في الفعل الواجب. وعلى الاول يكون القيد خارجا عن تحت الطلب فلا يجب تحصيله بخلافه على الثاني.

وربما كان القيد واجدا لكلا الجهتين ، بمعنى أن الزوال مثلا كما يكون ممّا يتوقف عليه مصلحة الصلاة الباعثة على تعلق الوجوب بها فكذلك يكون ممّا يتوقف عليه وفاء الفعل بالمصلحة ، فتكون النتيجة هي أن وجوب الصلاة مشروط بالزوال كما أن الصلاة الواجبة تكون مقيدة بذلك القيد ، اعني وقوعها في ذلك الوقت على وجه لو فرض خروجها عن ذلك الوقت ولو محالا لم تكن وافية بالمصلحة.

وقد مثل قدس سره فيما حررته عنه للمصلحة الباعثة على الوجوب بالفتق وللمصلحة الباعثة على تقييد الواجب بالرتق ، فانخراق الثوب يحدث مصلحة في رتقه تكون تلك المصلحة باعثة على وجوب رتقه ، لكون رتقه بعد الفتق ذا مصلحة تقتضي وجوب الرتق. ثم إنّ قيام هذا الرتق بتلك المصلحة ربما كان متوقفا على أجزاء وقيود تكون دخيلة في قيامه بتلك المصلحة ، فيكون القيد الأول قيدا في أصل الوجوب ، وتكون القيود الأخر قيودا في الواجب.

وهكذا الحال في المرض فانه يحدث مصلحة في شرب الدواء تكون علة في ايجابه عند المرض ، ويكون المرض شرطا لوجوب شرب الدواء.

ص: 40

وهناك قيود أخر في الدواء تكون لها المدخلية في كونه وافيا بتلك المصلحة وتكون قيودا في الواجب.

فالزمان الذي هو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ربما كان دخيلا في مصلحة صلاة الصبح على وجه لو لم يدخل الوقت المذكور لم تكن الصلاة ذات مصلحة ، ثم بعد أن دخل الوقت المذكور وصارت الصلاة المذكورة ذات مصلحة وتعلق الوجوب بها يكون قيامها بتلك المصلحة الباعثة على وجوبها مشروطا بكونها واقعة في الوقت المذكور ، على وجه لو لم تقع في ذلك الوقت ووقعت في خارجه لم تكن وافية بتلك المصلحة وعلى ذلك يكون الوقت المذكور شرطا في كل من الوجوب والواجب.

وفي تحقق هذه الصورة بل في إمكانها إشكال ، حيث إن ما هو شرط الطلب لا يعقل أن يكون بنفسه متعلق ذلك الطلب ، فلا بد في أخذه في الواجب من كونه بنحو آخر غير أصل وجوده أعني كونه ظرفا له ، مثل إذا وجد الوقت الذي هو ما بين الطلوعين فصلّ فيه ، على وجه يكون قيد الوجوب هو أصل وجود الوقت وقيد الواجب هو وقوعه في ذلك الوقت.

وربما لم يكن وفاء الصلاة بتلك المصلحة منوطا بتقيدها بذلك القيد على وجه لو وقعت في خارج ذلك الوقت لكانت وافية بالمصلحة الحاصلة بواسطة دخول الوقت التي كانت باعثة على إيجابها ، وحينئذ يكون الوقت شرطا في الوجوب ولا يكون شرطا في الواجب.

وربما كان الأمر بالعكس بأن كانت المصلحة في الصلاة غير متوقفة على دخول الوقت بل كانت ذات الصلاة مشتملة على المصلحة ولو قبل دخول الوقت ، لكن وفاؤها بتلك المصلحة متوقف على تقيدها بالوقت ، وحينئذ يكون الوقت قيدا في الواجب لا في الوجوب. وهنا مفرق الطريق

ص: 41

بين مسلك شيخنا قدس سره وصاحب الفصول قدس سره (1) ، فشيخنا قدس سره يرى أن الوقت وإن لم يكن يتوقف عليه الوجوب ملاكا إلا أنه لمّا كان ذلك القيد أعني الوقت المذكور غير مقدور للمكلف يكون ذلك الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالقيد المذكور متوقفا عليه خطابا ، بخلاف مسلك صاحب الفصول فانه يلتزم في هذه الصورة باطلاق الوجوب ملاكا وخطابا ، ويكون المقيد هو الواجب ، فيكون الوجوب عنده حاليا مع كون الواجب استقباليا ، وهو ما يسميه بالواجب المعلّق ، بخلاف الواجب المشروط المنحصر بالصورة الاولى والثانية.

وشيخنا قدس سره يرى أن الوجوب في الصور الثلاث مشروط ، غير أنّه في الاولى والثانية يكون الوجوب مقيدا بالزمان خطابا وملاكا ، وفي الثالثة يكون الوجوب مقيدا بالزمان خطابا لا ملاكا. وفي هذه الصورة الثالثة مسلك آخر غير مسلك شيخنا وصاحب الفصول ، وهو مسلك صاحب الكفاية (2) بتخريج المسألة على الوجوب المشروط بشرط متأخر.

وعلى الزمان فقس بقية القيود غير الاختيارية ، مثل وجوب الصلاة عند حدوث الآية ونحو ذلك من القيود غير الاختيارية ، وطبّق عليها الصور الثلاث وخذ النتائج على حذو أخذها فيما لو كان القيد هو الزمان.

وهكذا الحال في القيود الاختيارية مثل وجوب الاستغفار عند القيام ، لكن بالنسبة إلى الصورتين الاوليين ، أما الثالثة الأخيرة فلا خلاف فيها بين شيخنا قدس سره وصاحب الفصول وصاحب الكفاية ، بل يكون الوجوب حينئذ مطلقا بالقياس إلى وجود القيد وعدمه ، ويكون هذا الاطلاق قاضيا بوجوب

ص: 42


1- الفصول الغروية : 80.
2- كفاية الاصول : 103.

القيام ليحصل على الواجب المطلق الذي هو الاستغفار في حال القيام ، ولا داعي عنده لجعله مقيدا بوجود القيد ولو خطابا.

ومع جميع ذلك يظهر لك أنه لا مانع من كون ما هو شرط الوجوب شرطا للواجب ، لكن بالمعنى المزبور أعني كون شرطيته للواجب بمعنى كون الفعل مظروفا له مثلا. كما أنه قد ظهر لك أنه لا مانع من الالتزام بان كل ما يوجب تقييد الهيئة يكون موجبا لتقيد المادة كما عن الشيخ قدس سره في المسألة الآتية (1).

ومحصّل ذلك : هو أنّ ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب بالمعنى المذكور ، أعني أن تقيد مفاد الهيئة الذي هو الوجوب يكون موجبا لتقيد المادة بذلك القيد ، والسر في ذلك هو أن الفعل الواجب يكون متفرعا عن الوجوب ، والوجوب متفرع عن الشرط ، فلا يكون الفعل الواجب إلاّ متفرعا عن وجود الشرط ، بمعنى أن الفعل الواجب بما أنه واجب لا يتحقق إلا بعد تحقق الشرط ، فصحّ أن يقال ولو تسامحا إن ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب ، لا بمعنى أن تقييد الوجوب بشيء يكون موجبا لتقييد الواجب بذلك الشيء على وجه يكون ذلك الشيء داخلا تحت الوجوب ، بل بمعنى أن ما يكون الوجوب واقعا تلوه يكون الواجب واقعا تلوه أيضا. والأمر في ذلك سهل ، وإنما أردنا التوفيق بين هاتين الجملتين أعني قولهم إن ما يؤخذ شرطا في الوجوب يستحيل إدخاله شرطا في الواجب ، وقولهم أيضا إن ما هو شرط الوجوب يكون شرطا للواجب

ص: 43


1- [ لعل المراد بها مسألة دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو إلى المادة ، حيث استدل الشيخ قدس سره بأن تقييد الهيئة موجب لسقوط إطلاق المادة ، فراجع أجود التقريرات 1 : 239 ، وراجع صفحة : 144 من هذا المجلّد ].

فلاحظ وتأمل. وسيتعرض لذلك شيخنا قدس سره فيما سيأتي من الخاتمة (1).

ثم لا يخفى أن الصورة الثالثة وهي ما لو كان الصلاح في الفعل المقيد بالقيد غير الاختياري غير متوقف على وجود القيد ، وكان وفاء الفعل بذلك الصلاح متوقفا على تقييده بذلك القيد ، لا بدّ أن يكون من قبيل كون التقييد داخلا والقيد خارجا عن حيز الأمر ، ولكن ذلك لا يغني عن أخذ وجود القيد شرطا في توجه التكليف بذلك المقيد ، فيكون وجوب المقيد مشروطا بوجود ذلك القيد ، غايته أنه مشروط بذلك خطابا لا ملاكا ، هذا على مسلك الاستاذ قدس سره.

وأما على مسلك صاحب الفصول فقد عرفت أنه يلتزم بفعلية الوجوب مع كون الواجب استقباليا. ولا يستشكل من ناحية القدرة ، لأن الفعل المقيد مقدور في زمانه. وكذلك على مسلك صاحب الكفاية قدس سره فانه يلتزم بكون الوجوب فعليا أيضا مع كونه مشروطا بالزمان المتأخر ، لأن ذلك عنده من قبيل الشرط المتأخر وهو جائز عنده. ولكن المحشي على صفحة 133 (2) أورد على شيخنا أنه لا مانع من تعلق التكليف الفعلي بالفعل المقيد من حيث إنه مقيد مع فرض كونه مشروطا بالزمان ، فيكون ذلك من الواجب المعلق المشروط بشرط متأخر.

ولا يخفى أن هذين المطلبين أعني الوجوب المعلق والشرط المتأخر هما عمدة نقطة التقاطع بين مسلك شيخنا قدس سره ومسلكيهما ، وسيأتي (3) إن

ص: 44


1- أجود التقريرات 1 : 232 وما بعدها.
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 197 - 198 من الطبعة الحديثة.
3- أجود التقريرات 1 : 201 وما بعدها ، 328 وما بعدها.

شاء اللّه من شيخنا قدس سره إقامة البراهين على محالية كل منهما. وسواء تمت هذه البراهين أو لم تتم فالكلام عليها مع شيخنا قدس سره في مواقفهما الآتية. فتوجيه الايراد على ما أفاده شيخنا قدس سره هنا من الالتزام باشتراط الزمان خطابا لا ملاكا ، من قبيل تعجيل الايراد لغير أوانه. فراجع الحاشية المذكورة تجد أن عمدة ما فيها هو تخريج المسألة على الواجب المعلّق والواجب المشروط بالشرط المتأخر والالتزام بكل منهما.

ومنه يظهر لك الحال في مسألة وجوب الاستقبال في الصلاة ، فان الداخل تحت الوجوب وإن كان هو تقيد الصلاة بكونها إلى القبلة لا نفس القبلة ، لكن ذلك لا يخرج ذلك التكليف عن كونه مشروطا بوجود القبلة ، غايته أنه مشروط به خطابا لا ملاكا. بل يمكن القطع بأنه مشروط به ملاكا أيضا ، لأنا لا نعلم أنه لو فرض محالا والعياذ باللّه انعدام القبلة من الوجود يكون التوجه إليها باقيا على ما هو عليه من الصلاح ، بل يكاد يحصل القطع بأن صلاح التوجه إليها في الصلاة وغيرها متفرع عن وجودها ، وحينئذ يكون وجوب التوجه إليها في الصلاة من قبيل الصورة الاولى أعني كون شرط التكليف شرطا في المكلف به ، غايته كما عرفت سابقا أن ما هو شرط التكليف خطابا وملاكا هو نفس وجود القبلة ، وما هو شرط المكلف به هو كون التوجه في الصلاة إليها ، فلم يكن ما هو شرط التكليف بعينه هو شرط المكلف به تخلصا من المحذور السابق.

ومن ذلك كله يظهر لك التأمل فيما في الحاشية على صفحة 133 (1)

ص: 45


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 197 - 198 من الطبعة الحديثة.

وكأنه قد بنى على عدم إمكان الجمع بين تقييد الوجوب بوجود القبلة وتقييد الواجب بها ، ولأجل ذلك نراه قد منع من أخذه قيدا في الوجوب ، بدعوى أن أخذه قيدا فيه يوجب عدم تقييد المأمور به بالقبلة. فأورد عليه بأن لازمه جواز التوجه إلى غير القبلة ، ولا بدّ حينئذ من رجوعه إلى المادة ، وأخرجه من التكليف بغير المقدور ، لأن الواجب هو التقيد لا القيد.

وقد عرفت أنه لا ينبغي الريب في وجوب التوجه إلى القبلة ، وأن هذا أعني التوجه المعبّر عنه بالاستقبال قيد في الصلاة ، وأنه لا بدّ في مثل هذا التكليف المربوط بموضوع خارجي من كونه مشروطا بذلك الموضوع الخارجي ، غايته أن الاشتراط تارة يكون خطابا وملاكا واخرى يكون خطابا فقط. والظاهر أن الاشتراط في مثل الاستقبال يكون خطابا وملاكا ، فأين هذه الجهات من كون الواجب هو التقيد وأن القيد خارج ، إذ لا ريب أنه كذلك في أمثال هذه الموارد مما يكون القيد مربوطا بموضوع خارجي بمعنى أن نفس الموضوع الخارجي لا يكون داخلا تحت التكليف.

وقوله - في الحاشية المشار إليها - : ومن ذلك يظهر أن أخذ القيد الخارج عن الاختيار أو الداخل تحته مفروض الوجود وإن كان يلازم اشتراط التكليف به ، إلاّ أنه لا ينافي تعلق التكليف بالمقيد بما هو مقيد ... الخ (1).

مسلّم ، إلاّ أن ذلك التكليف المتعلق بالمقيد بما هو مقيد لا يكون فعليا قبل وجود ذلك الشرط بل يكون مشروطا بوجود ذلك ، وهذا أعني الاشتراط هو غاية ما يرومه شيخنا الاستاذ قدس سره في قبال صاحب الفصول

ص: 46


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 197 - 198.

الذي يدعي فعلية التكليف مع كون متعلقه فعلا استقباليا ، وحينئذ فلا محصل لقول المحشي : فتحصل أن كل قيد خارج عن اختيار المكلف فتحققه في الخارج وإن كان شرطا في فعلية التكليف الوجوبي لا محالة إلاّ أنه لا يستلزم عدم تعلق الوجوب بالمقيد بما هو كذلك بعد فرض كونه مقدورا في ظرف حصول قيده ... الخ ، فانه بعد فرض كون القيد شرطا في الوجوب المتعلق بالمقيد بما هو مقيد لا يكون ذلك الوجوب فعليا إلاّ بعد وجود القيد ، بل لا يكون قبل وجوده إلاّ مشروطا بوجوده ، ولازم ذلك أن الوجوب فعلا لا يتعلق بالمقيد بما أنه مقيد ، بل إنما يتعلق به بعد وجود القيد ، أما قبله فلا وجوب أصلا.

أما الجملة الأخيرة وهي كون الفعل مقدورا في ظرف حصول قيده فذلك مطلب آخر يتمسك به صاحب الفصول القائل بأن الوجوب فعلي وإن كان الواجب استقباليا ، فانه يشكل عليه بأنّ المقيد فعلا غير مقدور فكيف يتعلق به الوجوب الفعلي ، فيجيب عنه بأنه مقدور في ظرفه الذي هو ظرف حصول القيد.

وسواء صحت هذه الجملة في الجواب عن هذا الاشكال أو لم تصحّ فليست هي نافعة في تصحيح الفعلية بعد الاعتراف بأن القيد قد اخذ في الوجوب مفروض الوجود الموجب لعدم فعلية الوجوب قبل حصول القيد. فلا وجه لما فرّعه على ذلك بقوله : فلا مانع في تعلق الوجوب الفعلي بالأمر المتأخر المقيد بقيد غير مقدور ... الخ ، كيف والمانع من الفعلية هو أخذ القيد مفروض الوجود. نعم إنّه بملاك عدم القدرة فيكون تقييد الوجوب به خطابا لا ملاكا ، إلاّ أن ذلك لا يوجب فعلية الوجوب قبل

ص: 47

حصول ذلك القيد الذي اخذ فيه مفروض الوجود.

ومن ذلك تعرف التأمل على الحاشيتين على صفحة 135 (1) ، نعم يمكن الالتزام بفعلية الوجوب قبل حصول شرطه الذي هو القيد وجعل ذلك من قبيل الشرط المتأخر كما هو الظاهر من الحاشية الثانية ، فلاحظ قوله : إلاّ أنه لا يقتضي كونه شرطا مقارنا له ... الخ ، فانه ظاهر في بناء المسألة على الشرط المتأخر. وأصرح من ذلك ما تضمنته الحاشية الاولى.

وهذه إحدى مشكلات الواجب المعلّق ، فانه وإن فرض الشرط المتأخر فلم يجعل نفس الزمان المتأخر شرطا في التكليف بل جعل الشرط فيه هو العنوان المنتزع من تأخره ، إلاّ أنه لمّا كان ملتزما بكون الواجب مقيدا بالزمان المتأخر يتوجه عليه أنه إن دخل الزمان تحت الطلب فلازمه جرّ الزمان ، وإن لم يدخل تحت الطلب فلا بدّ من أخذه فيه مفروض الوجود ، وحينئذ يستحيل وجود الطلب قبله إلاّ على الالتزام بالشرط المتأخر.

ثم لا يخفى أن جميع هذه الحواشي من صفحة 133 إلى صفحة 142 (2) بل إلى ما بعد ذلك يبتني الغالب منها على الالتزام بالشرط المتأخر ، وأن الواجب المعلّق الذي ابتكره صاحب الفصول هو من قبيل الشرط المتأخر ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) أن صاحب الفصول إنما ابتكر الواجب المعلّق فرارا من الشرط المتأخر ، فانه يدعي كون الشرط هو العنوان المنتزع وهو من الشرط المقارن ، فلا وجه لما في الحاشية الاولى

ص: 48


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 200 من الطبعة الحديثة.
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 197 - 209 من الطبعة الحديثة.
3- في صفحة : 58 ، 66 - 67 ، 81.

وغيرها صفحة 136 (1) من أن الوجوب المشروط بشرط متأخر إذا كان متعلقه أمرا استقباليا هو الذي سماه صاحب الفصول بالوجوب التعليقي.

نعم ، يرد على صاحب الفصول قدس سره ما عرفت الاشارة إليه ويأتي إن شاء اللّه تعالى (2) توضيحه أنه لم يتخلص من محاذير الشرط المتأخر مع أنه يريد الفرار من تلك المحاذير.

وخلاصة البحث هي : أن قيد الوجوب يتوقف عليه الملاك ، فلا بدّ أن يؤخذ مفروض الوجود ، ولا يكون داخلا تحت الأمر ، سواء كان خارجا عن الاختيار أو كان داخلا تحت الاختيار ، وهذا بخلاف قيد الواجب فانه لا يتوقف عليه ملاك الوجوب ، ولا يصح أخذه مفروض الوجود ، ولا بدّ أن يكون تحت الطلب ، ولا بدّ أن يكون اختياريا. أما لو كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، ويكون له المدخلية في الوجوب خطابا وإن لم يكن له الدخل فيه ملاكا ، وهذا على رأي شيخنا قدس سره ، لكن صاحب الفصول يخرّج ذلك على الواجب المعلّق ، وصاحب الكفاية يخرّجه على المشروط بشرط متأخر.

أما دعوى إمكان تقييد الواجب بأمر غير اختياري على نحو يكون القيد خارجا والتقييد داخلا فهو لا يرد على شيخنا قدس سره ، لأن الذي منعه إنما هو تعلق الوجوب المطلق بالمقيد بقيد غير اختياري ، وهذا لا يكون الوجوب فيه مطلقا بل يكون مشروطا بذلك القيد الخارج. نعم إن ذلك القيد يكون قيدا في كل من الوجوب والواجب ، وهو محال ، لأن مقتضى

ص: 49


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 201 من الطبعة الحديثة.
2- في صفحة : 58 - 59 ، 65 - 66.

الأول هو تقدمه على الوجوب ومقتضى الثاني هو تأخره عنه ، لكن الذي صحّح ذلك هنا هو أن نفس القيد خارج عن المأمور به ، والذي هو داخل فيه هو تقيده به ، وذلك لا يستدعي تأخر نفس القيد رتبة عن الوجوب ، وإنّما أقصى ما فيه هو كون تقيد الواجب به متأخرا عن الوجوب لا أن نفس ذلك القيد متأخر عن الوجوب ، فلا يكون ذلك منافيا لكونه شرطا في الوجوب القاضي بتقدمه رتبة على الوجوب.

وخلاصة الفرق بين ما يكون زمانه متأخرا مثل وجوب صلاة الفجر المتوجه في أول الليل ، وبين ما يكون متوقفا على طي المسافة المتوقفة على مقدار من الزمان كالأمر لمن كان بالنجف مثلا بالكون في مسجد الكوفة ، فالأول لا محيص فيه لنا من أخذ نفس الزمان فيه شرطا وإن كان بالنسبة إلى الخطاب فقط ، بخلاف الثاني فانه وإن تأخر عن زمان توجه التكليف إلاّ أنه عند توجه التكليف به إلى المكلف يكون المكلف قادرا عليه ولو بالقدرة على طي المسافة إليه ، فان الشخص الموجود في النجف قادر الآن على الكون في مسجد الكوفة ، وذلك بأن يسعى ويقطع المسافة إليه. نعم إن الكون في المسجد الآن غير مقدور له ، فلا يصح أن يكلف بالكون الآن في مسجد الكوفة ، لأن الكون الآن في مسجد الكوفة غير مقدور له أصلا.

فصار الحاصل أن الفعل المتوقف على طي مسافة بمقدار ساعة مثلا كما لا يصح التكليف به فعلا مقيدا بما بعد تلك الساعة ، كذلك لا يصح التكليف به فعلا مقيدا بكونه واقعا في هذا الآن ، بل إن هذا أردأ من الأول ، إذ يصح في الأول أن يتوجه إليه التكليف مشروطا بمضي ذلك الزمان

ص: 50

فيكون الزمان الآتي شرطا في التكليف ، بخلاف الثاني فانه لا يصحّحه الاشتراط ، إذ لا يصح أن يتوجه الآن إلى النجفي تكليف فعلي بالكون الآن في مسجد الكوفة ، لأن مرجع ذلك إلى التكليف بايجاد الكون المذكور بلا طي مسافة ، وهو محال ولو كان مشروطا بألف شرط.

ويمكن أن يقال : إن ما ذكروه في مسألة نية القطع في باب الصوم ونية القاطع ، وأنه في الأول مبطل للصوم بخلاف الثاني إلاّ من جهة لزوم نية الاتمام ، مبني على هذا ، أعني أخذ الزمان المتأخر قيدا ، أو أنه من باب توقف المقدمة عليه ، فان الصائم لو كان في أول النهار مثلا ونوى أنه يقطع صومه في آخره ولكنه عدل عن ذلك قبل الوصول إلى الآخر فانه يكون من باب نية القاطع أعني نية الافطار ، وهي لا توجب شيئا إلاّ باعتبار لزوم نية الاتمام ، بخلاف ما لو نوى الأكل وكان الأكل متوقفا على إحضار الطعام ومدّ يده إليه والتناول منه إلى أن يوصله إلى حلقه ، ولكنه لما وضع يده على الطعام وأوصله إلى فمه عدل من ذلك ولفظ الطعام من فمه ويده. فهو في هذا المقدار من الزمان غير ناو للصوم الذي هو ترك الأكل بل كان ناويا للاكل ، فقد مضى عليه ذلك الآن وهو غير ناو فيه لترك الأكل ، وهو بنفسه موجب للافطار ، بخلاف الصورة الاولى فانه فيها لم يمض عليه زمان كان غير ناو فيه لترك الأكل ، فلا بأس فيه إلاّ من ناحية أنه يلزمه نية الاتمام ، بخلاف الصورة المفروضة فانك قد عرفت أنه فيها قد مضى عليه زمان لم يكن ناويا فيه للصوم الذي هو الترك أو الامساك.

نعم بناء على ذلك لا يكون الأكل غالبا مفطرا ، لأنه يكون بعد نية الأكل ، وهي المفطرة دونه لأنه قد جاء بعدها ، لكن بناء على ذلك ينبغي أن

ص: 51

يقال إنه إذا عدل لا كفارة عليه لأنه لم يأكل ، وإن وجب عليه القضاء لأنه قد أبطل صومه. وقد نقول بوجوب الكفارة أيضا بناء على أنه يستفاد من أدلتها ترتبها على ترك الصوم عمدا وإن لم يحصل منه الأكل.

قوله : وأما إذا كان مقيدا بقيد غير اختياري فلا شبهة في تعلق الارادة التكوينية به أيضا ، لكن لا بوصف الفعلية والتحريك بل بوصف التقديرية والاناطة نظير القضايا الحقيقية ... الخ (1).

الانصاف أن إدخال التعليق على الارادة التكوينية التي هي كسائر الأفعال الخارجية على وجه يكون التعليق فيها نظير التعليق في الأحكام الشرعية في غاية الاشكال ، فانّ المعلق على مجيء الزمان الفلاني لو كان حكما مثل إذا دخل الوقت وجبت الصلاة ، أو مثل إذا جاء زيد فكتابي ملك لك أو أنت حر ونحو ذلك ممّا لا إشكال فيه ، سواء قلنا إنه من قبيل جعل المسبّب عند تحقق السبب أو قلنا إنه من قبيل جعل السببية. أما لو كان المعلّق على الزمان الفلاني أو على مجيء زيد هو قيامي أو خروجي من الدار أو إرادتي للكون في مسجد الكوفة ونحو ذلك ، فلا إشكال في عدم كونه من ذلك القبيل ، بل إنّ مرجع ذلك إلى الاخبار بالقيام أو بالخروج أو بارادة الكون في مسجد الكوفة على تقدير تحقق المعلق عليه.

نعم ، يمكن أن يكون من قبيل جعل السببية والملازمة كما لو أخذت على نفسك أن تعتق عبدك عند مجيء زيد بنحو شرط السبب بأن تقول له إن جاء زيد أعتقتك أو إني أعتقك إن جاء زيد ، فانّ مرجع ذلك إلى التعهد بالملازمة بين مجيء زيد وبين صدور العتق منك لعبدك عند مجيئه ، فلو

ص: 52


1- أجود التقريرات 1 : 204.

كان ذلك التعهد لازم الوفاء كان يلزمك أن تعتق عبدك عند مجيء زيد. وعلى أيّ حال لا يكون في البين شيء قبل حصول المعلق عليه ، وهذا هو مراد شيخنا قدس سره من تعليق الارادة التكوينية (1) ، سواء قال إذا دخل الوقت الفلاني فأنا عند ذاك تتعلق إرادتي بالكون في مسجد الكوفة ، أو لم يكن في البين قول أصلا سوى أنه تصور أنّ الكون في المسجد يكون ذا مصلحة موافقة له عند دخول الوقت الفلاني ، فانه حينئذ يتصور أنه تتعلق به إرادته عند دخول الوقت الفلاني لا أن تكون هناك إرادة تعليقية ، فلا يرد عليه حينئذ ما تضمنته الحاشية رقم (1) على صفحة 138 (2).

ولكن هذا إنما يدفع الجزء الثاني من الاشكال أعني تصوير كون الارادة التكوينية حالية وكون المراد بها مقيدا بوقت استقبالي خاص ، فانه بهذا البيان يتضح لك أنه قبل حضور ذلك الوقت لا يكون في البين إرادة من الفاعل لا فعلية ولا تعليقية ، ولكن يلتزم الفاعل بالاتيان بالمقدمات لأنه يعلم أنه سوف يريد ذلك الفعل ، فيكون ترك مقدماته مفوّتا عليه ما يكون موافقا لغرضه وتتعلق بعد ذلك به إرادته.

أما الجزء الأول من الايراد الذي حرّره في الكفاية (3) جوابا عن السيد الاصفهاني قدس سره الذي أورد على الفصول بأنه لا يعقل فعلية الارادة التكوينية وتأخر المراد عنها زمانا ، فقد أورد عليه صاحب الكفاية بجريان ذلك أعني

ص: 53


1- بمعنى أنه قبل حصول المعلّق عليه لا يكون في البين إرادة بل ولا الشوق ، فانّ تصوره لمصلحة شرب الماء على تقدير العطش لا يولّد في حقه إرادة فعلية متعلقة بشرب الماء ، بل ولا ينقدح في نفسه الشوق إلى شرب الماء على تقدير العطش. [ منه قدس سره ].
2- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 204 من الطبعة الحديثة.
3- كفاية الاصول : 102.

انفصال المراد زمانا عن الارادة فيما لو كان المراد نفس الكون في مسجد الكوفة المفروض أنه يتوقف على السير إليها المحتاج إلى مضي مقدار من الزمان ، فانّ إرادته لذلك السير تكون ناشئة عن تعلق إرادته بالكون في المسجد ، وقد انفصل عن الارادة بمقدار الزمان الذي تحتاجه تلك المقدمات.

وهذا النقض مأخوذ من كلمات صاحب الفصول قدس سره فانه قال : ومن هذا النوع ( يعني الواجب المعلق الذي يكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا ) كل واجب مطلق توقف وجوده على مقدمات مقدورة غير حاصلة ، فانه يجب قبل وجوب المقدمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه ، وإلاّ لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أو التكليف بما لا يطاق ، وكلاهما ضروري الفساد (1).

وعلى أي حال لا بدّ في الجواب عن هذا النقض بأن يقال : إنه لم تتعلق إرادته بالكون إلاّ بعد الفراغ عن المقدمات ، ويكون إقدامه على تلك المقدمات ناشئا عن حبه وشوقه إلى الكون وإن لم تتم إرادته إلاّ بعد الفراغ عن تلك المقدمات.

ولا يبعد أن يكون النزاع لفظيا في هذا المقدار من الحب والشوق الباعث على المقدمات ، فالسيد قدس سره لا يقول إنه عين الارادة بل هو من مقدماتها ، وصاحب الكفاية قدس سره يقول إنه عين الارادة غايته أنها لا تؤثر في تحقق المراد لأنه لم يحن وقته بعد فيما لو كان المراد موقتا ، أو لأنه لمّا كان تحقق المراد متوقفا على تلك المقدمات كان تأثيرها متوقفا على الفراغ منها.

ولا يخفى أنه لو كانت تلك الارادة الموجودة قبل الشروع في

ص: 54


1- الفصول الغروية : 80.

المقدمات هي المؤثرة لم يكن محتاجا إلى إرادة جديدة ، إلاّ أن يدعى أنها باقية مستمرة إلى الفراغ من المقدمات بل إلى حصول المراد.

ويمكن أن يكون هذا النزاع جوهريا منشؤه النزاع في اتحاد الطلب والارادة وتغايرهما ، فمثل شيخنا قدس سره (1) يقول إن في النفس قبل الفعل امورا أربعة : تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق إليه وطلبه بمعنى حملة النفس عليه. وغيره يقول إن الطلب هو نفس الارادة التي هي نفس الشوق. وعلى الأول يكون الأمر الاستقبالي فاقدا للجزء الرابع بخلافه على الثاني فانه لا يفقد شيئا ، لأنهم يقولون إن الطلب عين الارادة وهي عبارة عن نفس الشوق المؤكد ، وهو حاصل في الفعل المستقبلي كما هو بعينه وبمرتبته حاصل في الفعل الحالي.

وكيف كان ، فالذي أخاله أن محل النزاع أعني إمكان كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا لا دخل له بمسألة إمكان تعلق الارادة التكوينية فعلا بفعل يكون متأخرا عنها زمانا. فسواء قلنا بامكان تأخر المراد زمانا عن إرادتنا التكوينية أو قلنا بعدم إمكانه فذلك لا دخل له بالارادة الشرعية الآمرية ، فان الارادة التشريعية التي نتكلم عنها وأنها عين الوجوب ليست هي من سنخ إراداتنا التكوينية ولا من سنخ الشوق المؤكد ، بل هي من سنخ الأحكام الشرعية ، لأنها عين الوجوب الذي عرفت شرحه فيما تقدم (2) وأن له شبها بالأحكام الوضعية المنجعلة بالجعل.

فان قلنا إنه عبارة عن البعث والتحريك ، أو قلنا إنه أعني الوجوب

ص: 55


1- أجود التقريرات 1 : 135 وما بعدها.
2- راجع ما تقدم في المجلّد الأول من هذا الكتاب ، في صيغة الأمر صفحة : 339 وما بعدها ، وصفحة : 349 وما بعدها.

منتزع من البعث والتحريك ، أو قلنا إنه يلزمه ذلك وإن لم يكن هو عينه ، أو اتفق أنه قد ابرز بقالب البعث والتحريك أعني صيغة افعل وما يؤدي مؤداها من البعث والتحريك وإن كان بصورة الجملة الخبرية مثل قوله تعالى : ( تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1) فلا ينبغي الريب في عدم معقولية البعث الفعلي إلى ما يكون زمانه بعد ذلك.

وإن قلنا بأنه أعني الوجوب اعتبار صرف محصله هو كون العبد ملزما بالفعل وأنه على عاتقه ونحو ذلك من التعبيرات ، فعلى الظاهر أنه لا مانع من تحققه قبل زمان الفعل الواجب. ولعل من هذا القبيل ما لو استؤجر فعلا على عمل يكون زمانه بعد زمان عقد الاجارة. وليس المراد التنظير من ناحية الملكية كي يجاب عنه بما عن شيخنا قدس سره (2) بامكان حصول الملكية مع تأخر المملوك ، بل المراد التنظير من ناحية كون الفعل على عاتق الأجير فعلا مع كون زمانه متأخرا عن صيرورته على عاتقه.

ولكن مع ذلك كله نقول إن الوجوب ولو كان مجردا عن البعث والتحريك لو كان متعلقا بفعل مقيد بالزمان المتأخر كان من اللازم كونه مشروطا بذلك الزمان ، إما بنحو الشرط المتأخر كما هو مسلك صاحب الكفاية قدس سره (3) ، وإما بنحو يكون الشرط هو العنوان المنتزع من وجود ذلك الزمان المتأخر كما هو مسلك صاحب الفصول قدس سره (4). والبحث في الأول في محله من الكلام على الشرط المتأخر ، وفي الثاني هو الذي ينبغي أن

ص: 56


1- الصف 61 : 11.
2- أجود التقريرات 1 : 210.
3- كفاية الاصول : 103.
4- الفصول الغروية : 80.

يتكلم عليه في هذا المقام ، وسيأتي (1) الكلام عليه مفصلا في حواشي صفحة 120 (2) إن شاء اللّه تعالى.

وحاصل ما سيأتي وخلاصته : هو أنّا لو سلّمنا كون الشرط هو العنوان المنتزع من وجود الزمان المتأخر ، وأن الوجوب فعلي ومتعلقه هو الفعل المقيد بالزمان الآتي ، فنفس الزمان الآتي لا يعقل دخوله تحت الوجوب الفعلي حتى لو أخذنا الوجوب عبارة عن كون الفعل على عاتق المكلف وجرّدناه عن التحريك والبعث فانه لا يمكن كون الزمان الآتي ملقى على عاتق المكلف ، وإلاّ كان اللازم كون جرّ الزمان الآتي إلى الآن الفعلي على عاتق المكلف وذلك واضح البطلان.

وإذا قلنا بخروجه عن حيّز الوجوب الفعلي لزمنا القول بأن الزمان الآتي قد أخذ في هذا الوجوب الفعلي مفروض الحصول ، فيكون الزمان الآتي بنفسه شرطا في الوجوب ، فلا يكون الوجوب متحققا إلاّ بعد حصول ذلك الزمان ، فلا يتم القول باطلاق الوجوب الحالي إلاّ إذا جعلنا ذلك الشرط من الشرط المتأخر ليخرج عن حيّز الوجوب ، ويكون الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان الآتي فعليا في هذا الزمان ، هذا.

ولكن يرد النقض بالفعل المستأجر عليه لو كان مستقبلا مع كون الاجارة في الحال ، فانها توجب كون ذلك الفعل المقيد بالزمان المستقبل على عاتق الأجير فعلا مع أن قيده وهو الزمان المستقبل لا يمكن الالتزام بكونه داخلا في التعهد الاجاري.

ومنشأ هذا الاشكال هو تخيل كون الوجوب التكليفي من سنخ الوضع

ص: 57


1- في صفحة : 60 وما بعدها.
2- من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

الصرف ، أعني كون الفعل ملقى على عاتق المكلف ، فانه حينئذ يكون حاله حال باب الاجارة وسائر التعهدات الحالية المتعلقة بفعل استقبالي. ولا ينبغي الريب في فساد هذا التخيل ، فان الوجوب وإن جردناه من البعث والتحريك الفعليين إلاّ أنه يغاير التعهد الصرف بواسطة كون الوجوب تكليفا بالاتيان بالفعل الذي تعلق به الوجوب ، فان كان الوجوب فعليا كان مقتضاه لزوم الاتيان فعلا بذلك الفعل المقيد بالزمان المستقبل ، ولا يكون ذلك إلاّ بجر الزمان ، إلاّ باخراج القيد عن حيز الوجوب وأخذه فيه مفروض الوجود ليكون الوجوب مشروطا بوجوده. وهذا بخلاف التعهد الصرف فانه وإن تبعه وجوب الوفاء بما تعهد به إلاّ أنّ الوفاء بذلك يحصل بالاتيان بالفعل في ظرفه المستقبل ، بحيث إنه لو جاء به قبل ذلك كان على خلاف ذلك التعهد.

والخلاصة : هي أن الوجوب الفعلي لا يلتئم مع كون الواجب مقيدا بالزمان المستقبل ، بخلاف التعهد الفعلي فانه يلتئم مع كون الفعل الذي تعهد به مقيدا بالزمان المستقبل.

ثم لا يخفى أن صاحب الفصول قد فرّ من الشرط المتأخر إلى حيلة كون الشرط هو العنوان المنتزع ، وقد وقع في محذور الشرط المتأخر وهو تأثير اللاحق في السابق. وهذا المحذور جار في العنوان المنتزع فانه معلول لوجود الزمان المتأخر ، فكيف يتحقق هذا العنوان المنتزع فعلا مع أنه معلول لما هو المتأخر ، إلاّ أن ندعي أن العلة في هذا العنوان المنتزع ليس هو وجود الزمان المتأخر بل العلة فيه هو تقدم الطلب.

وبعبارة اخرى : أن العنوان المنتزع ليس هو تأخر الزمان عن الطلب بل هو سبق الطلب على الزمان المتأخر. وإن شئت فقل : إن العنوان المنتزع هو عبارة عن الاضافة المتقومة بين المكلف وبين الزمان الآتي ، فان كان

ص: 58

لحوق اللاحق له المدخلية في انتزاع هذه الاضافة استحال تحققها قبل تحقق ذلك اللاحق ، وإن قلنا إن قوامها هو سبق السابق أمكن القول بتحققها قبل لحوق اللاحق.

والظاهر هو الأول ، فلا يكون في أخذ العنوان المنتزع تخلصا من محذور الشرط المتأخر. وقد شرحنا ذلك في مبحث الفضولي على القول بكون الاجازة كاشفة عن تحقق الشرط أعني العنوان المنتزع وهو كون العقد بحيث تلحقه الاجازة فراجع (1). وسيأتي (2) الكلام عليه مفصلا في مباحث الشرط المتأخر في حواشي صفحة 186 (3) وما بعدها إن شاء اللّه تعالى.

وبالجملة : لا مخلص عن إشكال دخول الزمان المتأخر تحت الطلب إلاّ بدعوى أن نفس ذلك الزمان وإن لم يكن شرطا في الطلب ، بل كان الشرط فيه هو العنوان المنتزع ، إلاّ أن نفس الزمان المتأخر لا يدخل تحت الطلب لأنه بمنزلة ما لو كان بنفسه شرطا ، حيث إن نفس ذلك الزمان يكون سابقا في الرتبة على الشرط الذي هو العنوان المنتزع. وهذا العنوان المنتزع سابق في الرتبة على نفس الطلب لكونه شرطا فيه ، فكما لا يعقل دخول هذا الشرط أعني العنوان المنتزع تحت الطلب لكونه سابقا في الرتبة على الطلب ، فكذلك لا يعقل دخول نفس الزمان تحت الطلب لكونه سابقا في الرتبة على ما هو سابق على الطلب.

وهذه الدعوى عبارة اخرى عن الالتزام بكون الزمان المتأخر علة في المتقدم الذي هو العنوان المنتزع ، فيعود محذور الشرط المتأخر وهو تأثير

ص: 59


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- في صفحة : 12 وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.
3- من الجزء الأول من أجود التقريرات حسب الطبعة القديمة غير المحشاة.

اللاحق في السابق. وإن شئت فقل : إن الشرط لو كان هو العنوان المنتزع من الزمان المتأخر وكان هذا العنوان متوقفا على الزمان المتأخر ، رجع الأمر بالأخرة إلى توقف الطلب على نفس ذلك الزمان المتأخر ، فلاحظ وتأمل.

قوله : مع الغفلة من أن المانع هو استحالة تعلق التكليف بغير المقدور ... الخ (1).

قد يشكل على الواجب المعلق بعدم القدرة ، وبأن الفعل المتأخر لا تتعلق به الارادة الفاعلية فعلا ، فلا وجه لتعلق الطلب به ، إما لأن الارادة التشريعية يجري فيها ما يجري في الارادة التكوينية ، فكما أن الارادة التكوينية من العبد لا تتعلق بما هو متأخر زمانا فكذلك الارادة الشرعية ، أو نقول إن الغرض من الارادة الشرعية إنما يكون هو تحريك إرادة العبد ، فلو كان تعلق إرادة العبد بالفعل المتأخر محالا لكونه غير مقدور كانت الارادة الشرعية ممتنعة.

وحينئذ فلا يكون المنشأ في امتناع تعلق كل من الارادة الشرعية والارادة التكوينية من العبد إلاّ كون الفعل المتأخر غير مقدور ، فيمكن حينئذ أن يجاب عن ذلك بما في الكفاية (2) من كون الفعل مقدورا في وقته ولا يعتبر في الفعل الواجب أن يكون مقدورا حين الأمر بل حين الامتثال.

وقد أخذنا في تحريراتنا هذا الجواب وشرحناه بما لا مزيد عليه ، وحاصله : أن كلا من القدرة والمقدور متأخر. وقد اطلع شيخنا قدس سره على ذلك التحرير وتفضّل بأن كتب عليه الجواب عنه بخطه الشريف بما فيه

ص: 60


1- أجود التقريرات 1 : 207 - 208 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 103.

الكفاية وحاصله : أن الارادة الشرعية والارادة التكوينية بالنسبة إلى قيد ذلك الفعل أعني الزمان المتأخر إن كانت مقيدة بذلك الزمان كانت الارادة مشروطة به ، وإن كانت مطلقة كان مقتضاه وقوع ذلك القيد أعني الزمان تحت الطلب فلازمه جرّ الزمان وهو غير مقدور ، فراجع ذلك كله في تحريراتنا (1) من صفحة 172 إلى صفحة 178.

ولا يخفى أن ذلك أعني عدم دخول ذلك الزمان تحت الطلب مسلّم عند كل من صاحب الفصول وصاحب الكفاية قدس سره ، فانهما يلتزمان بأخذه مفروض الوجود ، ولكنهما مع ذلك يدعيان تحقق الوجوب المطلق قبل مجيء ذلك الزمان ، وطريقة صاحب الكفاية في ذلك هي الالتزام بالشرط المتأخر وأنّ ذلك الزمان الآتي يكون مؤثرا فعلا في الوجوب ، وتكون النتيجة أن الوجوب حالي وهو فعلي قبل ذلك الزمان ومتعلقه أعني الفعل الواجب استقبالي. وطريقة صاحب الفصول في ذلك هي الالتزام بأنّ الشرط هو العنوان المنتزع من الزمان المتأخر ، فيكون الوجوب أيضا فعليا حاليا ويكون الواجب استقباليا.

وعلى كل من الطريقتين لا يكون نفس الزمان داخلا تحت الطلب ، وحينئذ فالذي ينبغي هو حصر الاشكال عليهما من ناحية شيخنا قدس سره بعدم تعقل كون الوجوب حاليا مع كون الواجب استقباليا ، حيث إن الوجوب عبارة عن البعث والتحريك ، ومع فرض كون الواجب استقباليا لا بعث ولا تحريك. وهذا هو ما تعرض له قدس سره (2) من عدم معقولية فعلية الارادة مع

ص: 61


1- من صفحة 172 إلى صفحة 178 [ منه قدس سره. ولا يخفى أنها مخطوطة لم تطبع بعد ].
2- أجود التقريرات 1 : 204.

كون المراد استقباليا.

نعم ، له قدس سره معهما مناقشات أخر مبنائية وهي محالية الشرط المتأخر أو عدم معقولية كون الشرط هو العنوان المنتزع من ذلك المتأخر ، فهذه كلها خارجة.

إلاّ أن الذي ينبغي في المقام أن يقال : إنا لو سلّمنا صحة كون الشرط هو العنوان المنتزع من المتأخر أو سلّمنا صحة كون المتأخر بنفسه شرطا مؤثرا في المتقدم ، فانما يكون ذلك فيما لو كان الفعل الواجب حاليا ، أما مع فرض كون الفعل الواجب المشروط وجوبه بذلك المتأخر نفسه أو بذلك العنوان المنتزع استقباليا كما فيما نحن فيه فلا يصح فيه ذلك ، لأن الوجوب الحالي المشتمل على البعث والتحريك لا يعقل تعلقه بأمر استقبالي.

إلاّ أن يدعى عدم كون الوجوب عبارة عن البعث والتحريك بل هو اعتباري صرف ، وهو كون الفعل في ذمة المكلف وعلى عاتقه ، فالظاهر أنه لا مانع منه من هذه الجهة ، وحينئذ ينحصر النزاع مع صاحب الكفاية ومع صاحب الفصول في المبنى ، وهو الشرط المتأخر أو كون الشرط هو العنوان المنتزع.

أما الأول : فيأتي في محله (1) إن شاء اللّه.

وأما الثاني : فتفصيل الكلام فيه ، هو أن صاحب الفصول قدس سره (2) يدعي أن الوجوب في الواجب المعلق مشروط بالعنوان المنتزع من وجود الزمان المتأخر ، ويكون بلوغ الشخص إلى ذلك الزمان كاشفا عن كون الوجوب متحققا قبله ، وحينئذ نقول إن نفس ذلك الزمان المتأخر لا يمكن أن يكون

ص: 62


1- أجود التقريرات 1 : 321 وما بعدها ، وقد علّق المؤلف قدس سره عدّة تعليقات على البحث المشار إليه ، فراجع صفحة 12 وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.
2- الفصول الغروية : 80.

شرطا في ذلك الوجوب ، لأن المفروض أن العنوان السابق المنتزع من وجوده يكون هو الشرط ، وأن الوجوب حاصل قبل نفس ذلك الزمان المتأخر فكيف يعقل أن يكون بنفسه شرطا.

وحينئذ لا بدّ لنا من الالتزام بأن ذلك الوجوب مطلق من حيث نفس ذلك الزمان ، بمعنى أن الوجوب يكون موجودا بلا توقف على وجود ذلك الزمان ، لا بمعنى أن الوجوب يكون موجودا وان لم ينوجد ذلك الزمان أصلا ، لأن ذلك خلف لما تقدم من كون الوجوب مشروطا بالعنوان المنتزع ، بل بمعنى أن الوجوب يحصل قبل حصول ذلك الزمان.

والحاصل : أنا بعد أن أخذنا العنوان المنتزع شرطا في الوجوب ، فان شئت فقل ، إن ذلك الوجوب بالنسبة إلى نفس وجود ذلك الزمان لا يكون مطلقا كما لا يكون مقيدا ، وإن شئت فقل إنه يكون بالنسبة إليه مطلقا لكن لا بقول مطلق بحيث يكون ذلك الوجوب موجودا وإن لم يحصل ذلك الزمان في ظرفه ، بل بالمعنى المذكور أعني أن وجوده لا يكون متوقفا على مقارنته له أو تقدمه عليه وإن كان لا بدّ من تأخره عنه ، إلاّ أنّ هذه اللابدية قهرية ناشئة من أخذ العنوان المنتزع منه شرطا في ذلك الوجوب ، فلا يلزمها أن يكون ذلك الوجوب مشروطا شرعا بنفس ذلك الزمان المتأخر.

نعم ، إن نفس ذلك الزمان المتأخر يكون سابقا في اللحاظ والرتبة على نفس ذلك الوجوب المتقدم ، لأن رتبته سابقة على العنوان المنتزع منه ، وهو سابق في اللحاظ والرتبة على ذلك الوجوب لكونه شرطا فيه ، وحينئذ فمع قطع النظر عن كونه غير مقدور لا يعقل تعلق ذلك الوجوب به ، كما أنه لا يعقل أن يكون نفس ذلك الزمان المتأخر قيدا في الفعل

ص: 63

الواجب ، لأن مرتبة الفعل الواجب متأخرة عن الوجوب ، فلا يعقل أخذه قيدا في الفعل الواجب وإن لم نقل بوجوب ذلك القيد لكونه غير مقدور.

والحاصل : أن نفس ذلك الزمان المتأخر بعد أخذ العنوان المنتزع منه شرطا في الوجوب لا يعقل أخذه قيدا في متعلق ذلك الوجوب ، سواء قلنا بوجوبه على تقدير كونه قيدا في الواجب أو قلنا بعدم وجوبه لكونه غير مقدور ، كما أنه لا يعقل دخوله تحت ذلك الوجوب سواء قلنا بأنه قيد في المتعلق أو لم نقل. وحينئذ فالجمع بين كون العنوان المنتزع من نفس ذلك الزمان المتأخر قيدا وشرطا في الوجوب ، وبين كون الفعل الواجب مقيدا بنفس ذلك الزمان من قبيل الجمع بين المتناقضين ، فان مقتضى الأول هو تقدم ذلك الزمان رتبة على ذلك الوجوب ، ومقتضى الثاني هو تأخره عنه رتبة. ولو أغضي النظر عن ذلك لكان التناقض من ناحية اخرى ، وهي أن مقتضى الأول هو خروج ذلك القيد عن حيز الوجوب بمعنى أنه يقتضي عدم وجوب ذلك القيد بل استحالة إيجابه ، ومقتضى الثاني هو دخوله في حيز الوجوب بمعنى استحالة عدم دخوله تحت الايجاب. ومن ذلك يعلم أنه لا يعقل كون الشرط الراجع إلى أصل الوجوب راجعا أيضا إلى الواجب بحيث يكون كل منهما مشروطا به لحاظا وإن كان لازم الأول قهرا تقيد الثاني كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (1).

وملخص البحث : أن أخذ عنوان منتزع من أمر متأخر ، فعلا اختياريا كان ذلك المتأخر أو زمانا ، في وجوب شيء يوجب خروج ذلك المتأخر عن كونه بنفسه شرطا في ذلك الوجوب وعن كونه غير شرط فيه ، بمعنى

ص: 64


1- [ لعل المراد به ما سيأتي في الخاتمة ، فراجع صفحة : 142 وما بعدها ].

أن ذلك الوجوب المشروط بالعنوان المنتزع عن ذلك المتأخر لا يكون بالنسبة إلى نفس ذلك المتأخر مطلقا ولا يكون مشروطا ، كما أن ذلك الوجوب لا يكون مستدعيا لايجاب نفس ذلك المتأخر ، وحينئذ فقد يقال إنه لا يتوجه عليه ما أفاده شيخنا قدس سره (1) من أن ذلك الوجوب بالقياس إلى نفس الزمان المتأخر إن كان مشروطا لم يكن الوجوب المذكور حاصلا قبله ، وإن كان بالنسبة إليه مطلقا كان مقتضى إطلاق ذلك الوجوب بضميمة كون نفس ذلك الزمان قيدا في الفعل الواجب هو جرّ الزمان المذكور.

إلاّ أنه يرد عليه ، أي على الواجب المعلّق :

أوّلا : أنه يستحيل كون ذلك المتأخر قيدا في الفعل الواجب ، لما عرفت من أن ذلك المتأخر يكون سابقا في الرتبة على العنوان المنتزع منه ، وهو أعني ذلك العنوان المنتزع سابق في الرتبة على ذلك الوجوب لكونه شرطا فيه ، ويستحيل أخذ ما هو سابق في الرتبة على الوجوب قيدا في متعلق ذلك الوجوب.

وثانيا : أن عدم توجه ما أورده شيخنا قدس سره ممنوع أشد المنع ، فإن أخذ ذلك المتأخر قيدا في الفعل الواجب يكون مستلزما لايجابه ، فإن ذلك الوجوب وان لم يكن مطلقا بالقياس إليه بقول مطلق إلاّ أنك قد عرفت كما اعترف به صاحب الفصول (2) أنه مطلق بالقياس إليه ، بمعنى أن تحقق الوجوب فعلا لا يكون متوقفا على وجوده فعلا وإن توقف على حصوله فيما بعد ، وحينئذ يكون الوجوب فعليا ومتعلقه وهو الفعل الواجب يكون

ص: 65


1- أجود التقريرات 1 : 208 - 209 ، راجع أيضا ما نقله عن شيخه قدس سرهما صفحة 60 - 61 من هذا المجلّد.
2- تقدم نقل كلامه في صفحة : 54.

مقيدا بنفس ذلك المتأخر ، وحيث تعلق الايجاب الفعلي بذلك الفعل المقيد بذلك القيد كان مقتضاه إيجاب ذلك القيد فعلا.

وثالثا : أنّك قد عرفت في محله (1) أن أخذ العنوان المنتزع عن المتأخر شرطا في الوجوب المتقدم لا يخرج المسألة عن إشكال الشرط المتأخر ، حيث إن العنوان المنتزع عن المتأخر معلول لذلك المتأخر ، ويستحيل تقدّم المعلول على علته.

ورابعا : أن دعوى كون العنوان المنتزع شرطا في ذلك الوجوب لا دليل عليها ، وكأن صاحب الفصول قدس سره (2) إنما ادعاه إصلاحا للمسألة حيث إنه أورد على نفسه بما حاصله : أن ذلك الزمان المتأخر المأخوذ قيدا في الفعل الواجب إن كان شرطا في الوجوب كما أنه قيد في الواجب لم يكن الوجوب ثابتا قبله ، وإن لم يكن شرطا في الوجوب بل كان قيدا في الواجب كان تعلق الايجاب الفعلي بالفعل المقيد بالزمان المتأخر من قبيل التكليف بالمحال ، لأن مقتضاه وقوع ذلك القيد الذي هو الزمان تحت ذلك الطلب الفعلي ، ولازم ذلك هو أنه يجب على ذلك المكلف فعلا إيجاد ذلك الفعل المقيد بالزمان المتأخر ، وهو محال لاستدعائه كما أفاده شيخنا قدس سره جرّ الزمان ، فأراد صاحب الفصول قدس سره التخلص من هذه الورطة فجعل ذلك الوجوب بالقياس إلى نفس ذلك الزمان المتأخر مطلقا.

وأجاب عن إشكال المحالية بأن الايجاب الفعلي المتعلق بالفعل المقيد بالزمان المتأخر لا يستدعي لزوم إيجاد ذلك الفعل المقيد بالزمان

ص: 66


1- راجع صفحة : 58 - 59.
2- الفصول الغروية : 80.

المتأخر قبل حصول ذلك الزمان ، بل إنما يقتضي إيجاده في زمانه المتأخر وهو في ذلك الزمان المتأخر مقدور له ، وحينئذ تكون القدرة عليه في زمانه شرطا في توجه إيجابه إليه قبل ذلك الزمان ، فيكون من قبيل الشرط المتأخر كما أفاده في الكفاية (1).

فصاحب الفصول لأجل الفرار عن محالية الشرط المتأخر جعل الشرط هو العنوان المنتزع من ذلك المتأخر ، وعبّر عن هذا العنوان المنتزع بكون المكلف ممّن يبلغ إلى ذلك الزمان المتأخر ، فوقع في محذور آخر وهو ما تقدمت الاشارة إليه (2) من أخذ ما هو سابق في الرتبة على الوجوب في متعلق ذلك الوجوب ، ولم يتخلص عن إشكال عدم القدرة على الفعل الواجب وجوبا فعليا كما عرفت فيما أفاده شيخنا قدس سره فراجع وتأمّل.

والحاصل : أن نفس الزمان المتأخر الذي فرضنا كون العنوان المنتزع منه شرطا في تعلق الوجوب بالفعل المفروض كونه مقيدا بالوقوع فيه ليس من الأمور التي لا يتصور فيها إطلاق التكليف واشتراطه بالنسبة إليها ، غاية الأمر أن لازم أخذ العنوان المنتزع من نفس ذلك الزمان هو أن لا يكون نفس ذلك الزمان شرطا في ذلك التكليف ، وذلك لا ينفي كونه مطلقا بالقياس إليه بمعنى أن الوجوب يتحقق قبل تحقق ذلك الزمان ، ومقتضى تعلق الوجوب الفعلي بالفعل المقيد بالزمان المتأخر هو دخول ذلك القيد تحت ذلك الوجوب ، فلازمه وجوب جرّ ذلك الزمان ، وهو ما أفاده شيخنا قدس سره.

ص: 67


1- كفاية الاصول : 103.
2- في صفحة : 65.

ودعوى خروج ذلك الزمان عن تحت الطلب استنادا إلى أن أخذ العنوان المنتزع منه شرطا في ذلك الوجوب يوجب خروجه عن حيز الطلب ، مسلّمة إلاّ أنها لا تنافي إيجابه من ناحية كون نفسه قيدا في ذلك الفعل الواجب ، فان ذلك أعني كون العنوان المنتزع منه شرطا في الوجوب لا يكون إلاّ من قبيل عدم المقتضي لايجاب نفس ذلك الزمان ، فلا ينافي ما يقتضي إيجابه وهو كونه بنفسه قيدا في الواجب الفعلي كما لو كان ذلك الزمان بنفسه شرطا في الوجوب ، فإنّ ذلك لا يكون إلاّ من باب أن كونه شرطا لا يكون مقتضيا لايجابه لا أنه يكون مقتضيا لعدم إيجابه.

والحاصل : أن ذلك الزمان قد اجتمعت فيه جهتان : الاولى مقتضية لايجابه وهي كونه قيدا في الفعل الواجب الذي تعلق به الايجاب الفعلي. والثانية أقصى ما فيها أنّها من باب عدم المقتضي لايجابه ، وهي كون العنوان المنتزع منه شرطا في ذلك الوجوب ، فهذه الجهة لا تدفع الاشكال عليه بأن مقتضى تعلق الايجاب الفعلي بالواجب المقيد بذلك الزمان هو جرّ ذلك الزمان ، هذا مضافا إلى أن هذه الجهة الثانية لو كانت مقتضية لعدم إيجاب ذلك القيد لا أنّها من باب عدم المقتضي ، لكان في المقام إشكال آخر ، وهو التناقض بين أخذ نفس الزمان قيدا في الفعل الواجب وأخذ العنوان المنتزع منه شرطا في وجوب ذلك الفعل المقيد بالزمان ، لأنّ لازم الاولى هو إيجابه ولازم الثانية هو عدم إيجابه.

وبالجملة : أن لازم كون الزمان بنفسه أو بالعنوان المنتزع من وجوده شرطا في الايجاب هو خروج نفس ذلك الزمان عن حيّز ذلك الايجاب ، ولازم كون ذلك الزمان قيدا في متعلق ذلك الايجاب هو دخول نفس ذلك

ص: 68

الزمان في حيز الايجاب المذكور ، فمع قطع النظر عمّا أفاده شيخنا قدس سره من أن لازمه جرّ الزمان يتوجه عليه إشكال التناقض والتدافع بين هذين التقييدين للتدافع بين لازميهما ، لما عرفت من أن لازم الأول هو خروج نفس ذلك الزمان عن حيز ذلك الايجاب ، ولازم الثاني هو دخوله تحت الايجاب المذكور ، هذا.

مضافا إلى ما عرفت من استحالة أخذ ما هو سابق في الرتبة على الوجوب قيدا في متعلق ذلك الوجوب.

وبالجملة : أن ما أفاده شيخنا قدس سره متوجه على أخذ الزمان المتأخر قيدا في الفعل الواجب مع فرض فعلية الوجوب قبل ذلك الزمان ، وهذه الجهات التي ذكرناها من التدافع بين التقييدين متوجهة على أخذ العنوان المنتزع من ذلك الزمان المتأخر شرطا في ذلك الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بنفس ذلك الزمان المتأخر (1).

بقي في المقام شيء : وهو أن صاحب الكفاية قدس سره قد وسّع الواجب المعلّق فقال : ثم لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور ، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر ، اخذ على نحو يكون موردا للتكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب ، أو لا ... الخ (2).

ص: 69


1- لا يخفى أن أغلب ما في هذه الحاشية على طولها اختصرناه وأوضحناه فيما تقدم [ صفحة : 52 ] من الحاشية على قوله « وأما إذا كان مقيدا بقيد غير اختياري » وكان ينبغي الضرب عليها ، لكن أبقيناها بحالها لأن جملة ممّا فيها لم تشتمل عليه الحاشية السابقة ، وإن كان البعض منها قد ظهر فساده ممّا ذكرناه في الحاشية المشار إليها ، كما أنّه ينبغي مراجعة ما ذكرناه [ صفحة : 49 ] قبل هذه الحاشية بقولنا : وخلاصة البحث. [ منه قدس سره ].
2- كفاية الاصول : 103.

وبذلك تكون أقسام الواجب المعلّق ثلاثة.

الأوّل : ما يكون حصوله متوقفا على أمر غير مقدور كالزمان.

والثاني : ما يكون حصوله متوقفا على فعل اختياري ويكون ذلك الفعل الاختياري متأخرا وداخلا تحت الطلب ، مثل : تصدّق على أول فقير تراه في طريقك عند سفرك بعد الزوال ، فإنّ هذا الواجب وهو التصدق مقيد بالسفر بعد الزوال ، وهو - أعني السفر - اختياري وداخل تحت الطلب فيما لو كان المطلوب هو السفر.

الثالث : ما يكون كذلك لكن يكون خارجا عن حيّز الطلب ، مثل : إن استطعت في المستقبل فحج ، أو مثل : إذا أفطرت غدا فكفّر.

ولا يخفى أن الفعل الواجب إذا كان حصوله متوقفا على فعل اختياري ، وكان ذلك الفعل الاختياري مقيدا بزمان يأتي ، كان ذلك الفعل الواجب مقيدا بالزمان الآتي ، فيرجع الثاني إلى الأول ، بل يرجع الثالث إليه لاشتراك الجميع في التوقف على الزمان الآتي.

وبناء على ما شرحناه (1) في مسلك صاحب الفصول قدس سره من كون الشرط هو العنوان المنتزع من الزمان الآتي يمكن القول بدخول ذلك القيد تحت الطلب كما يمكن القول بخروجه عنه ، فكما يمكن أن تكون هذه الجملة وهي قولك : إذا كنت ينطبق عليك عنوان السفر في غد فتصدق عند سفرك على أول فقير تراه في سفرك ، واردة في مقام كون السفر واجبا ولو مقدمة للصدقة ، فكذلك يمكن أن تكون واردة في مقام كون الصدقة مأمورا بها لو فرض اتفاق السفر لا بنحو الواجب المشروط ، بل بنحو أخذ السفر

ص: 70


1- في صفحة : 62.

مفروض الحصول.

ولعله لاجل الاشكال في كون الفعل المأخوذ منه العنوان المنتزع داخلا في التكليف ، غيرت النسخة فزيد لفظ « لا » النافية بين « نحو » و « يكون ». وشدّد الواو من قوله « أولا » ونوّنت اللام ، أو حذفت هذه الكلمة أعني قوله « أولا » ليكون الحاصل هو الصورة الثالثة. وحينئذ يكون قوله « ويترشح » عطفا على المنفي أو يكون معطوفا على الخبر أعني قوله « موردا للتكليف » ، هذا.

ولكن صاحب الكفاية قدس سره لم ينظر إلى الواجب المعلق الذي ابتكره صاحب الفصول قدس سره بنظر كونه مشروطا بالعنوان المنتزع من الأمر المتأخر ، بل نظر إليه بنظر كونه واجبا مطلقا من جميع الجهات ، وأن وجوبه الفعلي الحالي مطلق من جميع الجهات سوى أن متعلقه كان استقباليا لكونه مقيدا بالزمان المستقبل ، ولأجله قال فيما سبق : نعم ، يمكن أن يقال إنه لا وقع لهذا التقسيم ، لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصية كونه حاليّا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم ، وإلاّ لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ، ولا اختلاف فيه ، فان ما رتّبه عليه من وجوب المقدمة فعلا - كما يأتي - إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته لا من استقبالية الواجب ، فافهم (1).

وقال هنا بعد العبارة السابقة : لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلّق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالي فيه ، فيترشح منه الوجوب على المقدمة

ص: 71


1- كفاية الاصول : 101 - 102.

بناء على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فيه إلاّ بعد الشرط. نعم ، لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر وفرض وجوده كان الوجوب المشروط به حاليّا أيضا ، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليّا ، وليس الفرق بينه وبين المعلّق حينئذ إلاّ كونه مرتبطا بالشرط بخلافه وإن ارتبط به الواجب (1).

وكأنه لأجل هذا النظر وسّع الواجب المعلّق إلى هذه التوسعة ، فالواجب المعلّق عند صاحب الكفاية ما كان مقصورا على كون الوجوب مطلقا حاليا وكون الواجب استقباليا ، أما كون الوجوب مطلقا وحاليا فلعدم كونه مشروطا بشيء ، وأما كون الواجب استقباليا فتارة يكون لأجل أن الواجب مقيد بالزمان المستقبل. واخرى يكون لأجل أنه مقيد بأمر مستقبل غير اختياري ، مثل أن تقول : ستحدث الزلزلة في آخر الشهر فصلّ الآيات عند حدوثها ، وثالثة يكون لأجل أن الواجب مقيد بأمر مستقبل اختياري ، مثل أن تقول : لمخاطبك : إنّك ستذهب غدا إلى زيد فأبلغه عني السلام. ورابعة هي هذه الصورة الثالثة ولكن يكون هذا الأمر الاختياري داخلا تحت الطلب مثل أن تقول : أبلغ زيدا عني السلام عند ذهابك إليه غدا ، على وجه يكون المطلوب هو إبلاغ السلام ويكون الذهاب واجبا من باب المقدمية لابلاغ السلام. وبناء على هذا النظر فالتوسعة في محلها ، ولا ينبغي الضرب على بعض العبارة أو زيادة شيء فيها.

ولكنك قد عرفت أن المعلّق بنظر صاحب الفصول من قبيل الواجب المشروط غايته أن الشرط ليس هو نفس المتأخر ، بل العنوان المنتزع من

ص: 72


1- كفاية الاصول : 103 - 104.

وجود اللاحق هو الشرط في الوجوب ، ويكون ذلك الوجود اللاحق غير داخل في حيّز الوجوب ، إمّا لكونه غير مقدور كالزمان ، أو لأجل كونه فعلا محرما كركوب الدابة المغصوبة. وهذا - أعني إدخال المقدمة المحرمة - هو أقصى توسعة صاحب الفصول. ولم تدخل فيه المقدمة الاختيارية غير المحرمة سواء كانت واجبة أو كانت غير واجبة ، فلاحظ وتأمل.

وربما يقال : إن هذه التوسعة التي أفادها في الكفاية بمنزلة الايراد على صاحب الفصول ، قد تعرض لها صاحب الفصول أيضا ، فإنّه قال : واعلم أنه كما يصح أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه ، كذلك يصح أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة. فالتحقيق : أن وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدمة ، وليس مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار. والفرق أن الوجوب على التقدير الأول يثبت قبل حصولها ، وعلى الثاني إنّما يثبت بعد تحققها لامتناع المشروط بدون الشرط. وبعبارة اخرى حصول المقدمة على الأول كاشف عن سبق الوجوب وعلى الثاني مثبت له كما مر (1).

وهذا الذي أفاده في الفصول - أعني ما لو توقف فعل الواجب على أمر مقدور وهو ركوب الدابة المغصوبة ، وكان ذلك المقدور خارجا عن حيّز الطلب لكونه محرما - ليس هو عين القسم الثالث الذي أشار إليه في الكفاية

ص: 73


1- الفصول الغروية : 80.

أعني ما لو كان القيد فعلا اختياريا استقباليا الذي عرفت أنه راجع إلى الأول ، فإن عبارة صاحب الفصول وإن كانت مجملة إلاّ أنه يمكن الجزم بأن مراده بهذه التوسعة هو أنه لو كان القيد غير مقدور شرعا كما في ركوب الدابة المغصوبة ، كان حاله حال ما لو كان غير مقدور عقلا كالزمان ونحوه وكنا مجبورين فيه على جعل الوجوب في ذلك مشروطا بالعنوان المنتزع من وجوده المتأخر ، فيكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا.

ولكن لم يتضح الوجه في تخصيص الحج الواجب بالحج النذري دون حجة الاسلام ، لأن الانحصار بركوب الدابة المغصوبة لو كان حاصلا حين الوجوب ، فكما يكون مانعا من تحقق الاستطاعة فكذلك يكون مانعا من انعقاد النذر ، إذ لا يصح نذر الحج مع فرض توقفه على ركوب الدابة المغصوبة. ولو كان الانحصار طارئا بأن استطاع أو نذر ولم يحج في السنة الاولى وأخّر إلى السنة الثانية واتفق الانحصار فيها ، جرى ما ذكره من التعليق في الحج الاستطاعتي كما يجري في الحج النذري.

ثم إنه قد أجرى هذه الطريقة في الطهارة الحدثية مع الاغتراف من الآنية المغصوبة مع الانحصار كما يأتي (1) في كلماته ، وقد حقق شيخنا قدس سره في محله (2) أن اشتراط الوجدان كاشتراط الاستطاعة في كون التكليف في المقامين مشروطا بالقدرة الشرعية ، وأن الترتب لا يجري في مثل ذلك ، من دون فرق في ذلك بين أخذ العصيان شرطا متقدما أو شرطا متأخرا ، أو أخذ العنوان المنتزع من تأخره شرطا. نعم يجري ذلك فيما يكون مشروطا بالقدرة العقلية ، كما لو توقف إزالة النجاسة عن المسجد على سلوك الأرض

ص: 74


1- المصدر المتقدم
2- أجود التقريرات 2 : 27 - 28.

المغصوبة.

وقوله قدس سره : وليس مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار ... الخ (1).

المتحصل : أن في مسألة ركوب الدابة المغصوبة أو سلوك الأرض المغصوبة للتوصل إلى أداء واجب ، إن كان المقدم هو وجوب الواجب سقط التحريم ووجبت المقدمة ، وحينئذ لو تصوّرنا الترتب فانما هو في جانب الواجب بأن يقال : إن لم تفعل الواجب فلا تفعل المقدمة ، إما بنحو الشرط المتأخر أو بنحو العنوان المنتزع ، ولا يتأتى فيه الاشتراط بنفس عصيان الواجب بنحو الشرط المقارن أو المتقدم. وإن كان المقدم هو حرمة المقدمة وسقط وجوب الواجب كان الترتب في جانب المحرم بأن يقال : لو عصيت وارتكبت المقدمة فافعل الواجب ، إما بنحو العنوان المنتزع من العصيان الآتي وهي طريقة صاحب الفصول (2) ، وإما بنحو الشرط المتأخر وهي طريقة الكفاية (3) ، ويشتركان في تحقق الوجوب قبل العصيان ، وإما بنحو الشرط المتقدم ولازمها أن لا وجوب قبل العصيان ، وإنما يكون الوجوب بعد تحقق العصيان ، وهذه هي الطريقة التي أشار إليها بقوله : وليس مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار ، هذا.

ولكنك قد عرفت أن هذه الطرق إنما تجري فيما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، بل كان مشروطا بالقدرة العقلية كما عرفت مثاله ، وهو ما لو توقف إزالة النجاسة عن المسجد على سلوك الأرض المغصوبة ، وقلنا بتقدم

ص: 75


1- الفصول الغروية : 80.
2- المصدر المتقدم.
3- كفاية الاصول : 103.

التحريم في ذلك على الوجوب ، فيصح أن يؤمر بالازالة على تقدير عصيان النهي ، لكن إذا كان بنحو الشرط المتأخر كما هو طريقة صاحب الكفاية قدس سره فهو وإن كان موجبا لتحقق الوجوب حالا قبل سلوك الأرض المغصوبة ، إلاّ أن فيه إشكال الشرط المتأخر ، وحيث قد قلنا ببطلان الشرط المتأخر فلا بد لنا من الالتزام بكون ذلك من قبيل الشرط المتقدم أو المقارن كما هي طريقة شيخنا قدس سره ، فلا يتحقق الوجوب إلاّ بعد العصيان وسلوك الأرض المغصوبة.

أما جعل الشرط هو العنوان المنتزع من العصيان المتأخر كما هو طريقة صاحب الفصول ليكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا وهو الازالة بعد العصيان ، ففيه إشكال اجتماع الوجوب والتحريم في سلوك الأرض المغصوبة. أمّا الثاني أعني التحريم فواضح ، وأمّا الأول فلأن نفس السلوك لا يكون هو الشرط بنفسه كي يكون ذلك موجبا لخروجه عن حيّز الطلب كما هو على طريقة صاحب الكفاية وعلى طريقة شيخنا قدس سرهما ، فان الشرط حينئذ لا يكون إلاّ نفس العنوان المنتزع من السلوك أعني كونه يتعقبه السلوك ، أما السلوك نفسه فهو خارج عن دائرة الشرط ، وحيث قد تعلق الوجوب الحالي بالازالة المفروض توقفها على السلوك كان ذلك مقتضيا لوجوب السلوك لكونه مقدمة للواجب ، كما عرفت ذلك فيما لو كان الواجب متوقفا على الزمان الآتي ، وأن مقتضى كون الشرط هو العنوان المنتزع هو لزوم جرّ الزمان.

ولا مدفع للاشكال المذكور إلاّ بأن يقال : إن الوجوب متوقف على العنوان المنتزع ، وذلك العنوان متوقف على تحقق ما ينتزع منه ، وبالأخرة يكون الوجوب متوقفا على تحقق ما ينتزع منه ذلك العنوان ، فلا يكون

ص: 76

الوجوب حاليا إلاّ إذا كان ذلك من قبيل الشرط المتأخر الذي قد فرّ منه صاحب الفصول إلى العنوان المنتزع.

وبالجملة : أن الالتزام بفعلية الوجوب حالا مع إخراج القيد المتأخر أعني السلوك في الأرض المغصوبة عن حيز الوجوب لا يتم إلاّ بالالتزام بالشرط المتأخر.

تكملة :

قال في الكفاية : إن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية ، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها ، هو فعلية وجوب ذيها ، ولو كان أمرا استقباليا كالصوم في الغد والمناسك في الموسم ، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود اخذ فيه ولو متأخرا أو مطلقا ، منجّزا كان أو معلّقا فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا ، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك ، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله وتقدير وجوده بلا اختيار أو باختياره موردا للتكليف ، ضرورة أنّه لو كان مقدمة الوجوب أيضا ، لا يكاد يكون هناك وجوب إلاّ بعد حصوله ، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل ، كما أنّه إذا اخذ على أحد النحوين يكون كذلك. فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف ، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به فافهم (1).

إن هذه الامور الأربعة - أعني كون وجوب ذي المقدمة مشروطا بشرط مقارن موجود ، أو مشروطا بشرط متأخر ينوجد فيما بعد ، وكونه مطلقا منجزا أو كونه مطلقا لكنه معلّق لكون متعلقه استقباليا - كلها تشترك

ص: 77


1- كفاية الاصول : 104.

في كون وجوب ذي المقدمة فعليا وأنّ فعلية وجوبه قاضية بفعلية وجوب المقدمة الوجودية.

وقد استثنى من هذه المقدمة الوجودية التي يكون وجوب ذيها فعليا صورا ثلاثا ، الاولى : أن تكون المقدمة الوجودية التي يكون وجوب ذيها فعليا مقدمة للوجوب أيضا ، مثل قوله : حج إن استطعت ، فالاستطاعة مع كونها مقدمة وجودية هي مقدمة للوجوب أيضا ، فهذه المقدمة لا تجب.

الثانية : أن تكون عنوانا مأخوذا في المكلف بأن يقول : يجب الحج على المستطيع.

الثالثة : أن يكون الفعل الواجب الذي هو ذو المقدمة مقيدا باتفاق حصول تلك المقدمة باختيار من المكلف أو بلا اختيار ، مثل أن يقول : يجب عليك الحج الذي اتفق فيه حصول الاستطاعة ، سواء كان باختيارك أو كان بلا اختيارك ، فهذا النحو من المقدمة الوجودية لا يكون واجبا.

ولا يخفى أن المقدمة في هذه الصور الثلاث وإن كانت مقدمة وجودية ، إلاّ أن ذا المقدمة لا يكون قبل حصولها واجبا فعليا ، فلا يحسن استثناؤها من المقدمة الوجودية التي يكون وجوب ذيها فعليا قبل حصولها. ولعل قوله قدس سره « فافهم » إشارة إلى ذلك ، أو أنّه إشارة إلى مطلب آخر وهو أن ما يكون مأخوذا عنوانا للمكلف مثل قوله : يجب الحج على المستطيع ، يكون راجعا إلى مقدمة الوجوب ، لرجوع مثل هذا العنوان إلى كون الاستطاعة شرطا في الوجوب ، إذ لا فرق بين قوله : « حج إن استطعت » وقوله « يجب الحج على المستطيع » في كون الاستطاعة شرطا في وجوب الحج ، فتكون الصورة الثانية راجعة إلى الصورة الاولى.

وكذلك الحال في الصورة الثالثة ، وهي ما اخذ اتفاق حصوله باختيار

ص: 78

المكلف أو بلا اختياره قيدا في الفعل الواجب ، مثل قوله : « يجب عليك الحج الذي اتفق فيه حصول الاستطاعة » فإنّه إن رجع إلى اشتراط الوجوب بالاستطاعة ولو بالنحو الذي ذكره الشيخ قدس سره (1) من كونه تقييدا للمادة أعني الحج في حال عروض الوجوب عليها الموجب لتقيد الوجوب بذلك قهرا ، كان من قبيل الصورة الاولى وهي ما يكون شرطا للوجوب ، وإن لم يرجع إلى اشتراط الوجوب بالاستطاعة واقتصرنا في ذلك على تقييد الحج باتفاق حصول الاستطاعة كان الوجوب مطلقا ، وكان مقتضاه وجوب تحصيل ذلك القيد ، ويكون إقحام لفظة « اتفاق الحصول » في قوله « يجب عليك الحج المقيد باتفاق حصول الاستطاعة » لغوا صرفا لا يخرج عن لقلقة اللسان ، لأنّ الحج حينئذ لا يكون إلاّ مقيدا بنفس الاستطاعة لا باتفاق حصولها.

ثم قال في الكفاية : فانقدح بذلك أنه لا ينحصر التفصّي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق ، أو بما يرجع إليه من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط ... الخ (2).

ولا يخفى أن الواجب المعلّق الذي ادعاه في الفصول (3) عبارة عن كون الوجوب مشروطا بالعنوان المنتزع من الزمان المتأخر ، وحينئذ يكون الوجوب فعليا قبل مجيء ذلك الزمان كما لو قلنا بمقالة المصنّف قدس سره (4) من أن الشرط هو نفس الزمان الآتي وأنّه من قبيل الشرط المتأخر ، فإنّ وجوب ذي المقدمة يكون حاليا فتجب مقدمته الوجودية وإن كان الواجب

ص: 79


1- كما تقدم استظهاره في صفحة : 19 وما بعدها.
2- كفاية الاصول : 104.
3- الفصول الغروية : 79 - 80.
4- كفاية الاصول : 103.

استقباليا.

أمّا لو قلنا بمقالة الشيخ قدس سره في الواجب المشروط من كون القيود في الواجب المشروط راجعة إلى المادة ، فقد عرفت أنّها توجب تقيد الوجوب قهرا ، لأن التقييد الطارئ على المادة لو كان طارئا عليها بلحاظ تعلق الوجوب بها كان ذلك موجبا لتقيد الوجوب قهرا. وإذا تقيد الوجوب ولو قهرا كان اللازم هو عدم حصول الوجوب قبل حصول ذلك القيد الذي هو الزمان المتأخر ، فينبغي أن لا تجب المقدمات الوجودية لذلك الواجب قبل حصول ذلك الزمان.

لكن المصنّف قدس سره (1) يرتئي أن مسلك الشيخ قدس سره في الواجب المشروط هو راجع إلى مسلك صاحب الفصول قدس سره في الواجب المعلّق ، ولأجل ذلك أفاد أنه راجع إليه ، لكنك قد عرفت أن مسلك الشيخ قدس سره في الواجب المشروط من كون القيد راجعا إلى المادة ليس براجع إلى مسلك الفصول في الواجب المعلّق.

وبالجملة : أن الشيخ قدس سره لا يلتزم بتحقق الوجوب قبل حصول الشرط وإن التزم بارجاعه إلى المادة ، ومنشؤه ما عرفت من أن الشيخ قدس سره يرى أن تقييد المادة بلحاظ طروّ الوجوب عليها يوجب تقيد الوجوب قهرا.

وبناء على ذلك فهذه العويصة أعني وجوب المقدمة كالغسل ليلا لمن يجب عليه الصوم نهارا باقية على مسلك الشيخ بحالها ، لأنه من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، فلاحظ وتأمل.

وينبغي ملاحظة كلماته قدس سره في مبحث المقدمات المفوّتة (2) فإن ظاهر

ص: 80


1- كفاية الاصول : 101.
2- مطارح الأنظار 1 : 268 وما بعدها.

أوائلها وإن كان يوهم تحقق الوجوب قبل الشرط إلاّ أنه أخيرا صرح بخلاف ذلك ، وأن هذه المقدمات إنما تجب لقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

قال في الكفاية في أوائل الواجب المعلق ما هذا لفظه : وربما اشكل على الواجب المعلّق أيضا بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث مع أنها من الشرائط العامة. وفيه : أن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه لا في زمان الايجاب والتكليف ، غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا ، فراجع (1).

قد عرفت مرارا أن صاحب الفصول لا يلتزم بصحة الشرط المتأخر ، وهو إنما ابتدع الواجب المعلق فرارا عن الشرط المتأخر ، فنراه يلتزم بتحقق وجوب الصوم في الليل مع أن الوجوب المذكور مشروط بالزمان المتأخر ، فهو فرارا من ذلك يلتزم بأن الشرط في الوجوب المذكور ليس هو الزمان المتأخر بل الشرط عنده هو العنوان المنتزع من ذلك الزمان المتأخر ، وعبّر عن ذلك العنوان المنتزع بكون المكلف يبلغ ذلك الزمان ، والتزم بالكشف في مثل إجازة الفضولي ونحو ذلك مما يتخيّل أن المتأخر فيه يؤثر في المتقدم.

وبناء على ذلك يكون الشرط في باب القدرة ليست هي القدرة المتأخرة ليكون ذلك من باب الشرط المتأخر ، بل الشرط هو العنوان المنتزع من القدرة المتأخرة ، وذلك العنوان هو كون المكلف أو التكليف بحيث تلحقه القدرة على الفعل في زمانه ، فكما أنه قلب نفس الزمان

ص: 81


1- كفاية الاصول : 103.

المتأخر عن كونه بنفسه شرطا في الوجوب بل جعل الشرط هو العنوان المنتزع من تأخره ، فكذلك هو يقلب نفس القدرة المتأخرة عن كونها بوجودها الخارجي المتأخر شرطا في الوجوب المتقدّم إلى جعل الشرط هو العنوان المنتزع من تلك القدرة المتأخرة ، ليكون من قبيل الشرط المقارن.

ولكنك قد عرفت أن المصنّف لم ينظر إلى معلّق الفصول من الناحية التي رامها صاحب الفصول من كون الوجوب في الواجب المعلق مشروطا بالعنوان المنتزع ، بل لم ينظر إلاّ إلى كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، فأجاب عن إشكال القدرة بأنّها من قبيل الشرط المتأخر الذي عرفت أن صاحب الفصول ينكره أشد الانكار.

نعم ، إن هذا الجواب - أعني كون القدرة من قبيل الشرط المتأخر - صحيح على مذهب المصنّف قدس سره (1) من صحة الشرط المتأخر ، ولكنه لا ينفع صاحب الفصول الذي ينكر الشرط المتأخر ، فلاحظ وتأمل.

تنبيه :

الذي يظهر من البدائع أن شرط الوجوب إذا كان على نحو الشرط المتأخر وكان اختياريا كان واجبا ، بدعوى أن خروج شرط الوجوب عن الوجوب المقدمي إنما هو فيما يكون سابقا على الوجوب لا فيما يكون متأخرا عنه ، فراجعه في مبحث الترتب (2) ، بأن يكون وجوب الصلاة مشروطا بعدم الازالة على نحو الشرط المتأخر ، ويكون مقتضاه وجوب الترك لكونه مقدمة لفعل الصلاة ، فلاحظ.

ص: 82


1- كفاية الاصول : 93.
2- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 391.

قوله : قلت أمّا لزوم الالتزام بالشرط المتأخر في التكليف بالتدريجيات فسيجيء في محله إن شاء اللّه تعالى ... الخ (1).

ملخص ما أفاده قدس سره : أن الواجبات التدريجية تارة يكون الزمان فيها ظرفا وقيدا للواجب ، واخرى يكون ظرفا للوجوب ، وثالثة لا يكون دخيلا في الواجب ولا في الوجوب.

فالأوّل وهو ما يكون الزمان فيه قيدا للواجب كالامساك من الفجر إلى الغروب ، تتأتى فيه شبهة الشرط المتأخر لكون الوجوب في الجزء الأول مشروطا بوجوده في الجزء الأخير. والجواب عنه : هو كون الشرط هو العنوان المنتزع. كما تتأتى فيه شبهة الوجوب المعلّق ، لأن الجزء الأخير يتعلق به الوجوب في أول الفجر فيكون الوجوب حاليا والواجب وهو الامساك في الجزء الأخير استقباليا. ويجاب عنه بأن الحاصل في الأول ليس إلاّ وجوب الجزء الأول ، وأما وجوب الجزء الثاني فهو لا يحصل إلاّ في الجزء الثاني من الزمان. وفيه تأمل ، لكونه موجبا لعدم التمكن من نية تمام العمل في أول الفجر.

وأمّا الثاني وهو ما لو اخذ الزمان قيدا في الوجوب فالظاهر من تحرير المرحوم الشيخ محمد علي (2) أنه تتأتى فيه أيضا شبهة الشرط المتأخر وشبهة الواجب المعلق. والجواب هو الجواب ، وأن الفرق بين الصورة الثانية والاولى منحصر بأن الوجوب والكفارة بالنسبة إلى من يطرؤه ارتفاع بعض الشروط يكون على الاولى على خلاف القاعدة بخلافه على الثانية.

ص: 83


1- أجود التقريرات 1 : 214.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 208 - 211.

ولكن الذي يظهر من تحريرات غيره (1) هو أنّ الشبهة لا تتأتى في الصورة الثانية ، لأن الوجوب واحد مستمر من أول الفجر إلى الغروب ، وأنّ الواجب غير مقيد بذلك الزمان وإن كان هو حاصلا فيه قهرا ، فلا يكون وجود الشرائط في آخر الوقت مثلا شرطا في الوجوب أول الوقت ، ولأجل ذلك يكون وجوب الامساك لمن يطرؤه العذر واجبا قبل طروّ ذلك العذر ، وعليه الكفارة لو خالف ، ويكون ذلك على القاعدة. كما أن الامساك في آخر الوقت لا يكون قد تعلق به الوجوب في أول الوقت. وعلى أيّ حال أن هذه الصورة التي أفادها قدس سره لا تخلو من تأمل لمنافاتها للارتباطية.

وأمّا الصورة الثالثة ، فهي خالية من كل شبهة. ويورد عليه بأن لا أقل من اعتبار الحياة والقدرة في الجزء الأخير بالنسبة إلى الوجوب في الجزء الأول ، فتأتي شبهة الشرط المتأخر ، وإن كان سالما من شبهة الواجب المعلق ، هذا ولكنه قدس سره (2) تعرض لذلك ، وأن المنظور له في الصورة الثالثة هو ما بعد أول الوقت بمقدار أداء العمل ، فإنّه إذا مرّ عليه ذلك الوقت ولم يصلّ يكون قد حصل على شرط التكليف في الأول والآخر ، ولأجل ذلك لو مات يقضى عنه ، فلم يبق عنده إلاّ تفريغ ذمته ممّا قد اشتغلت به ، من دون فرق في ذلك بين الموقت الموسع كما في صلاة الظهر أو الموسع ولم يكن موقتا كما في صلاة الآيات كالزلزلة.

وعلى الظاهر ليس لنا من الموقتات ما يكون الأول منطبقا على الأول والآخر منطبقا على الآخر إلاّ الصوم والقيام من الزوال إلى الغروب في عرفة. وعلى كل حال فليكن الكلام في الموسع سواء كان موقتا كالصلاة

ص: 84


1- أجود التقريرات 1 : 214 - 215.
2- أجود التقريرات 1 : 215 - 216 ، فوائد الاصول 1 - 2 : 212 - 213.

في أول وقتها أو لم يكن موقتا كما في صلاة الزلزلة من أول وجوبها إلى مقدار أدائها ، وهل تجري في ذلك شبهة الواجب المعلّق أو لا.

وينبغي أن يعلم أن صاحب الفصول (1) يدعي أن الواجب المعلق مشروط بالعنوان المنتزع من الزمان المتأخر الذي اخذ قيدا في الفعل الواجب.

وعمدة إشكال شيخنا قدس سره (2) عليه هو أن الزمان لا يصلح لأن يكون قيدا في الواجب ، لأنّ مقتضاه تعلق الوجوب به كما هو الشأن في قيود الواجب التي يكون التقييد بها موجبا لدخولها تحت الوجوب ، ولأجل ذلك أفاد قدس سره أنّ لازمه جرّ الزمان ، وهذا في الزمان المتأخر.

ومنه يظهر الاشكال في أخذ الزمان الحالي قيدا في الواجب الحالي فإنّ لازمه أيضا دخول الزمان تحت اختيار المكلف ليكون التقييد به موجبا لتعلق الوجوب به ، ومن الواضح أن هذا الاشكال - أعني لزوم دخول الزمان تحت الوجوب - إنما يتوجه فيما لو كان الزمان قيدا في الفعل الواجب ، أمّا إذا لم يكن الزمان قيدا بل كان الفعل بحسب طبعه زمانيا فذلك لا يوجب دخوله تحت الطلب ، ولأجل ذلك لو كان الواجب الحالي متوقفا على مقدمة تحتاج إلى مقدار من الزمان فان ذلك وإن أوجب تأخر الفعل الواجب عن أول وجوبه ، إلاّ أنّه ليس ذلك بمقتض لكون ذلك الزمان المتأخر داخلا تحت الوجوب لعدم أخذه قيدا في الواجب.

وبالجملة : أن الاشكال إنما هو في أخذ الزمان سواء كان حاليا أو كان استقباليا قيدا في الواجب ، فانه موجب لتعلق الوجوب بقيده المذكور

ص: 85


1- الفصول الغروية : 80.
2- أجود التقريرات 1 : 209 ، وراجع أيضا ما نقله عن شيخه قدس سرهما في صفحة : 60 - 61 من هذا المجلّد.

الذي هو الزمان ، سواء كان حاليا أو كان استقباليا ، أما مجرد كون الفعل لا بدّ له من زمان يقع فيه أو مجرد لزوم تأخره لكونه محتاجا إلى مقدمة زمانية ، فذلك ممّا لا يدخله تحت الوجوب فلا مانع حينئذ من تأخر الفعل عن زمان إيجابه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا دخل الزوال مثلا فقد وجبت الصلاة أربع ركعات ، ولنفرض أن كل ركعة تحتاج إلى ربع ساعة من الزمان ، فالركعة الرابعة وإن وقعت في الربع الرابع إلاّ أنّها ليست مقيدة به ولا هو مختص لها ، بل إن هذا الوقت أعني مجموع الساعة وقت لمجموع ذلك العمل الذي هو أربع ركعات ، على وجه لو قدّم الأخير وشرع من السلام إلى التكبير لم يكن الخلل فيه من ناحية الوقت وأنّه قد جاء بالعمل في غير وقته ، بل الخلل فيه إنّما هو من ناحية الترتيب ، ولأجل لزوم الترتيب كان موقع الركعة الأخيرة هو الربع الأخير ، فلا يكون تأخرها إلاّ كتأخر الفعل غير المقيد بالزمان المتأخر لكن كانت له مقدمة تستدعي انشغال الزمان الحاضر بها وتأخر ذيها إلى الزمان المتأخر.

ولعلّ هذا هو الشأن فيما بين الفريضتين المستفاد من قوله عليه السلام : « إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (1) ، فإن نسبة الأجزاء المترتبة إلى سابقها من الأجزاء كنسبة الفريضة الثانية أعني العصر إلى الظهر في أنه ليس في البين إلاّ الترتيب ولو كانت الدائرة بين الصلاتين فيها بعض الضيق ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ ما بين الأجزاء لا يكون إلاّ مجرد الترتيب من دون شائبة اختصاص للأول بالزمان الأول والثاني بالزمان الثاني.

فعلى هذا أنّ الركعة الأخيرة وإن وجبت بأول الزوال كالاولى وكان

ص: 86


1- وسائل الشيعة 4 : 126 / أبواب المواقيت ب 4 ح 5 ، 20 وغيرهما.

وقوعها في الزمان الأخير ، إلاّ أنها ليست مقيدة بالزمان الأخير كي يلزم كون وجوبها معلّقا على وجه يكون الزمان الأخير داخلا قيدا في الركعة الأخيرة ليرد عليه ما ورد على الواجب المعلق ، بل إن تأخرها إنما كان للحصول على الترتيب وبعديتها بالنسبة إلى الركعات قبلها ، فلا يكون حالها إلاّ كحال الواجب الحالي المحتاج إلى مقدمة تستوعب مقدارا من الزمان.

ولو اصطلح الفصول أو بعض من يرتئي رأيه في الواجب المعلّق على أنّ هذا النحو من المتأخر من قبيل الواجب المعلق فنحن لا نضايقه في التسمية ، ولا نمنع من صحة هذا النحو من التأخر ، وإنّما نمنع من أخذ الزمان قيدا في الفعل الواجب من دون جعل الوجوب متوقفا عليه ، الذي عرفت أنه يستدعي وجوب ذلك الزمان ، سواء كان الزمان حاليا أو كان استقباليا.

وحينئذ نقول : إن أخذ الزمان الحالي قيدا في الواجب وان لم يجعله من الواجب المعلّق باصطلاح صاحب الفصول لانحصاره بما يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، إلاّ أنا نقول ببطلان التقييد بالزمان الحالي كما قلنا ببطلان التقييد بالزمان الاستقبالي. وأما ما يكون واقعا قهرا في الزمان المتأخر عن الوجوب فصاحب الفصول وإن اصطلح عليه بأن المعلق يشمله ، إلاّ أنا نقول إن السبب الموجب للبطلان من أخذ الزمان قيدا في الواجب لا يكون موجودا فيه ، فنحن لا نمنعه.

والخلاصة : هي عدم تأتي إشكال الواجب المعلق في هذا النحو من الواجبات التدريجية كي نحتاج إلى الجواب عنه بما أفاده شيخنا قدس سره من جعل وجوب الركعة الأخيرة مشروطا بحصول الربع الرابع من الساعة الاولى ، كي يتوجه علينا الاشكال بعدم تأتي نية تمام العمل في أول الوقت.

ص: 87

نعم ، يتأتى فيه إشكال الشرط المتأخر باعتبار كون الركعة الاولى مشروطة بالركعة الأخيرة ، الموجب لكون القدرة على الركعة الاولى بقيدها المذكور مشروطة بالقدرة على الركعة الأخيرة ، فيكون ذلك من الشرط المتأخر ، فنحتاج إلى الجواب بأن الشرط هو العنوان المنتزع كما افاده شيخنا قدس سره ، ولا مخلص منه إلاّ بما أفاده بقوله : فإنّا قد ... الخ (1) ، وحاصله هو ما ذكرناه في آخر الحاشية المتعلقة بصفحة : ص 115 (2) من أن الفعل المتوقف على مقدمة يكون مقدورا فعلا بواسطة القدرة على مقدمته ، وذلك بأخذ الآن قيدا في القدرة عليه ، إذ لو اخذ الآن قيدا في ذلك الفعل لم يكن مقدورا قطعا.

فنقول فيما نحن فيه : إن الركعة الأخيرة المأخوذة قيدا في الاولى هي مقدورة الآن ، فلا يكون أخذ القدرة عليها في وجوب الاولى من قبيل الشرط المتأخر.

ولك سلوك طريقة اخرى في التخلص عن الشرط المتأخر ، وذلك بالتفكيك بين الارتباطية في الوجوب والارتباطية في الواجب ، بأن تقول إن تقييد الركعة الاولى بالأخيرة يكون مشروطا بالقدرة على الأخيرة ، وحيث لا تكون مقدورة يكون تقيد الاولى بها ساقطا ، فلا يكون وجوب الاولى حينئذ مشروطا بالقدرة على الأخيرة. وهذا هو ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى (3) من التفكيك بين الارتباطية في الوجوب والارتباطية في الواجب.

ص: 88


1- أجود التقريرات 1 : 215.
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع صفحة : 50 من هذا المجلّد.
3- في الحاشية اللاحقة ، راجع صفحة : 95 وما بعدها.

ومن ذلك يظهر لك الجواب عمّا في الحاشية على ص 147 (1) فانه إنما يرد على التخلص الأول دون الثاني.

ولعل نظر شيخنا قدس سره إلى مجرد نفي الوجوب المعلق. أما شبهة الشرط المتأخر مع الالتزام بكون الشرط هو العنوان المنتزع فعلى الظاهر أنه لا محيص عنها حتى في مسألة الحركة إلى الكوفة ، فإن وجوبها ولو مقدمة يتوقف على وجوب ذيها ، ووجوب ذيها يتوقف على بقاء الحياة بعد المقدمة ، فلا بد في جعل الشرط هو العنوان المنتزع من تأخر الحياة إلى ما بعد الفراغ من المقدمة. ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى (2) أنه يمكن التخلص من الشرط المتأخر والعنوان المنتزع في باب الصلاة ، إذ ليس في أجزائها ما يكون تعذره موجبا لسقوط الأمر بالباقي ، فلا ارتباط فيها بين الوجوبين ليكون كل منهما من قبيل الطهور ، وحينئذ لا يكون الوجوب في الأول ملازما للوجوب في الثاني كي يكون من الشرط المتأخر.

نعم ، ربما يرد الاشكال من ناحية صحة الأول بمعنى إسقاطه الأمر فإنّه منوط بالحاق الثاني فنحتاج إلى العنوان المنتزع. لكن ذلك لو كان السقوط حاصلا عند فعل الأول ، أمّا لو قلنا بأن السقوط يتوقف على تمامية العمل ، وعند تتميم السلام يتحقق سقوط الأمر بالجميع ، فلا يكون في البين شرط متأخر كي نحتاج في الجواب عنه إلى العنوان المنتزع.

وممّا ذكرناه يظهر لك أنه يمكن إجراء ذلك في الصوم ، فلا يتأتى فيه إشكال الوجوب المعلّق ، وذلك بأن يقال : إن الواجب هو ذلك الامساك الواحد المستمر من الفجر إلى الغروب ، وهذا الفعل الواحد المستمر يتعلق

ص: 89


1- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 216 من الطبعة الحديثة.
2- في صفحة : 95 - 96.

به الوجوب فعلا ، وأن شرط الوجوب هو وجود الزمان وقد وجد بأول جزء منه ، ويبقى وجوده مستمرا إلى انتهائه أعني الغروب ، فالوجوب يحصل عند الفجر وهو يتعلق بالامساك المستمر إلى الغروب ، وامتثاله يحصل بالشروع فيه إلى إتمامه.

وبالجملة : ليس لنا إلاّ وجوب واحد حالي يتعلق بذلك الامساك المستمر ، وهذا الوجوب مشروط بوجود اليوم ، وقد وجد الشرط المذكور بأول جزء من الفجر ، وهذا الشرط وذلك الوجوب يبقيان إلى انعدام اليوم بانتهائه ، فلا تقطيع في ذلك الواجب المستمر كي يقال إن آخره الذي يكون في آخر اليوم يكون وجوبه متحققا قبل زمانه ، كي يكون ذلك من الواجب المعلّق ، أعني كون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، فتأمل جيدا.

ويمكن التخلص عن شبهة الوجوب المعلّق بأن يقال : إن الواجب وإن كان هو الإمساك المستمر من أول الفجر إلى الغروب ، إلاّ أن الزمان المذكور لم يؤخذ إلاّ شرطا للوجوب ، أما بالنسبة إلى نفس الواجب فلا يكون الزمان إلاّ ظرفا له لا قيدا فيه كي يكون تعلق الوجوب به مستلزما لوجوب قيده الذي هو الزمان ، ولأجل ذلك نقول إنه عند الشك في بقاء النهار لأجل الشبهة الموضوعية يمكن استصحابه ، ويكون استصحابه كافيا في وجوب الصوم ، ولا يرد عليه أنه لا يثبت كون الامساك في تلك القطعة واقعا في النهار.

وإن شئت فقل : إن الإمساك مستمر من أول الفجر إلى الغروب ، كما أن اليوم مستمر أيضا من الفجر إلى الغروب ، والأوّل وهو الامساك وإن اخذ مقيدا بالثاني أو مظروفا له ، إلاّ أنه لا ميز بين الآنات كما أنه لا ميز بين الامساكات ، فلا يكون أحد الامساكات مقيدا بالآن الذي وقع فيه ، وليس في

ص: 90

البين إلاّ كون المجموع من الامساكات مقيدا بالوقوع في مجموع الآنات.

وبالجملة : ليس كل قطعة من قطع الامساك مقيدة بتلك القطعة التي وقعت فيها من آنات اليوم ليكون الوجوب السابق من قبيل الوجوب المعلق ، بل ليس في البين إلاّ أنّ مجموع ذلك الامساك المتساوي الأجزاء لا بد فيه أن يكون واقعا في مجموع ذلك اليوم ، على وجه لو أمكن محالا وقوعه في جزء واحد من آنات اليوم لم يكن ذلك مخالفا للتقييد المزبور. وحينئذ لا يكون من قبيل الواجب المعلق الذي عرفت أنه عبارة عن كون الوجوب حاليا والواجب هو المقيد بالزمان الاستقبالي ، لا أن مجرد توجه الوجوب الآن واتفاق تأخر الواجب ووقوعه في الزمان الآتي يكون من المعلق ، كما عرفته في الكون في مسجد الكوفة المتأخر زمانا عن مقدمته التي هي طي المسافة.

فانحصرت الشبهة فيه بالشرط المتأخر ، ويكون الحال فيه كما هو الحال لو قلنا بأن الزمان ظرف وقيد للوجوب لا للواجب ، وذلك باعتبار ارتباطية الامساك الأول بالامساك الأخير ، وهذه الارتباطية لو كان بين الوجوبين كما هي بين الواجبين كنا محتاجين إلى الجواب بأن الشرط هو العنوان المنتزع ، وحينئذ يبقى الاشكال في وجوب الامساك لمن علم بطروّ العذر وفي وجوب الكفارة.

أمّا لو أنكرنا ذلك ولم نقل إلاّ بالارتباطية بين الواجبين لم تكن الارتباطية بينهما قاضية بالشرط المتأخر لنحتاج في الجواب عنه إلى العنوان المنتزع ، وحينئذ نكون في راحة من وجوب الامساك في القطعة قبل طروّ العذر ومن وجوب الكفارة لو خالف فيها ، لكن أدلّة عدم تبعض الصوم قاضية بالركنية والارتباطية بين الوجوبين في الأول وفي الجزء الأخير ، لعدم وجوب

ص: 91

القضاء قطعا. وحينئذ نحتاج إلى القول بأن وجوب الامساك في القطعة المذكورة والكفارة على خلاف القاعدة كما سيأتي (1) إن شاء اللّه تعالى توضيحه (2).

ص: 92


1- في صفحة : 93 - 94.
2- [ ملحوظة : وجدنا ورقة منفصلة في هذا الموضع من الأصل ، ويظهر أن ما ورد فيها تتمة لكلام آخر ، ولكن لم يتيسر لنا تحديده فآثرنا إيراد ما فيها هنا لأن الظاهر ارتباطه بآخر بحث الشرط المتأخر ، لما فيه من إنكار أي مورد له والإحالة على ما سبق ، وما ذكره فيها من التفكيك في الركنية قد فنّده صريحا فيما سبق ، ومن ثمّ يحتمل إعراضه قدس سره عنه ، ونص ما في الورقة هكذا : ] كما في باب الصوم ، ولكن يمكننا التفكيك بالركنية بأن نلتزم فيه بالتفكيك بين السابق بالنسبة إلى اللاحق ، فلا يكون الوجوب في السابق مشروطا بالوجوب في اللاحق ، فلو طرأ العذر في اللاحق لم يكن ذلك موجبا لسقوط الوجوب في السابق. ولأجل ذلك نقول إنه يجب الصوم في السابق وإن علم بطروّ العذر في اللاحق ، وأنه لو أفطر في السابق كان عليه الكفارة ، كما في من علم أنه مسافر قبل الزوال ، وكما فيما لو علمت المرأة أنها تحيض بعد الفجر ، فان عليهما الامساك فيما سبق ، ولو وقع الافطار من أحدهما كان عليه الكفارة ، وهذا بخلاف اللاحق فان وجوب الامساك فيه مشروط بالوجوب في السابق ، على وجه لو طرأه العذر في السابق لم يجب عليه الامساك في اللاحق إلاّ في صورة دخول المسافر إلى وطنه قبل الزوال ولم يتناول شيئا ، فانه يلزمه تجديد النية لأجل الدليل الخاص. وعلى كل حال لا يكون في البين شرط متأخر كي نحتاج فيه إلى الشرط المتأخر ، أعني العنوان الذي لا يخلو من شبهة الشرط المتأخر ، حيث إن العنوان المنتزع معلول لذلك المتأخر ، إلاّ أن نقول إنه ليس بمعلول لتأخر ذلك المتأخر ، بل هو معلول لتقدم المتقدم ، فينطبق عليه عنوان السابق لأجل تقدمه لا لأجل تأخر ذلك المتأخر. وعلى كل حال أنك قد عرفت أنه لم يبق عندنا ما هو من قبيل الشرط المتأخر لا في الصلاة ولا في الصوم كي نحتاج إلى العنوان المنتزع. نعم ربما يقال إن ذلك آت في الصحة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة بمعنى إسقاطها الأمر المتوقف على الاتيان بالأجزاء اللاحقة ، وقد عرفت الجواب عنه. وقد يتخيل الشرط المتأخر في وجوب طي المسافة للكون في مسجد الكوفة ، فانّ وجوبه يتوقف على وجوب ذي المقدمة وهو الكون في مسجد الكوفة ، وهو إنما يكون إذا بقيت الحياة إلى ما بعد تمامية طي المسافة ، فيكون وجوب طي المسافة مشروطا بالشرط المتأخر وهو الحياة إلى ما بعد تمامية طي المسافة. وفيه : ما لا يخفى ، فان وجوب الكون في مسجد الكوفة ليس بمشروط ببقاء الحياة إلى ما بعد طي المسافة ، وأقصى ما في البين هو كونه مشروطا بالقدرة ، وقد عرفت أن القدرة عليه حاصلة فعلا بالقدرة على سببه الذي هو طي المسافة. نعم إن وجوب طي المسافة مشروط بالحياة وهي مستمرة من حين الشروع فيها إلى تمامها ، ففي كل آن هو حيّ ووجوب ، وهما مستمران إلى حين الفراغ ، فكل جزء من أجزاء طي المسافة هو واجد للحياة فيجب الطي ، وهكذا إلى الآخر ، فيكون الحال كما ذكرناه في عصيان الازالة الذي هو شرط في وجوب الصلاة ، ففي كل آن من أول الشروع في الصلاة إلى آخرها عصيان للازالة ، فوجوب للصلاة ، وهكذا إلى آخر الصلاة ، فلا يكون من قبيل الشرط المتأخر بل هو من الشرط المقارن ، غايته أنّ الشرط وهو عصيان الازالة سابق في الرتبة على وجوب الصلاة ، ووجوب الصلاة سابق في الرتبة على نفس الصلاة ، وإن كان الجميع من الشرط والمشروط بل والواجب وهو نفس الصلاة كلها في زمان واحد مع تقدم الأول رتبة على الثاني والثاني على الثالث.

قوله : ثم لا يخفى أن الزمان المفروض قيدا إمّا أن يكون قيدا للواجب - إلى قوله : - وإما أن يكون قيدا للوجوب .... إلخ (1).

ظاهره أن الزمان لو كان قيدا للوجوب لا يتأتى فيه إشكال الشرط المتأخر كي نحتاج إلى أخذ عنوان التعقب ، ويكون وجوب الامساك في الجزء الأول وكذلك ترتب الكفارة على القاعدة.

لكن الظاهر أن هذا التوجيه لا يلتئم مع ارتباطية الصوم ، إذ مع فرض الارتباطية لا يكون الامتثال في الجزء الأول من النهار وحده مقدورا ، بل لا بد في القدرة عليه من ضم الامتثال في الجزء الثاني ، فان شأن الارتباطية هو التلازم بين الامتثالين وعدم إمكان التفكيك بينهما ، فإذا فرض أنه في الآن الثاني يسقط عنه الأمر لانعدام الشرط ويكون من قبيل تبدل الموضوع ،

ص: 93


1- أجود التقريرات 1 : 215.

فان قلنا بسقوط التكليف في الآن الأول لعدم القدرة على امتثاله وحده كما هو شأن الارتباطية ، كان ذلك عبارة أخرى عن كون الشرط في الآن الثاني شرطا في التكليف في الآن الأول ، واحتجنا إلى التوجيه بأن الشرط هو التعقب ، وحينئذ يكون الامساك في الجزء الأول ووجوب الكفارة بمخالفته على خلاف القاعدة.

وإن قلنا بعدم سقوط التكليف في الآن الأول بدعوى إمكان امتثاله وحده وان لم يمكن الامتثال في الآن الثاني لسقوط أمره بسقوط شرطه ، فهو وإن كان وجوبه ولزوم الكفارة بمخالفته على القاعدة إلاّ أنّ ذلك عبارة اخرى عن عدم الارتباط بين الامتثالين.

ويمكن الجواب عنه باختيار الشق الثاني ، وتدفع الارتباطية بين الامتثالين بأنها إنما تكون معتبرة فيما كان التكليف في الآن الثاني متحققا بتحقق شرطه ، أما إذا لم يكن التكليف في الآن الثاني متحققا لعدم تحقق شرطه ، فلا يكون امتثال التكليف الأول ملازما لامتثال التكليف الثاني.

والحاصل : أن الارتباطية التي هي شرط في صحة المأمور به هي عبارة عن التلازم بين التكليفين إطاعة وعصيانا ، وهي إنما تتم فيما إذا كان كل من التكليفين متحققا كما لو فرض أنه بقي إلى آخر النهار واجدا للشرائط ، أما لو فرض سقوط التكليف عنه في أثناء النهار لأجل ارتفاع أحد الشرائط لم يكن ذلك موجبا لسقوط التكليف في الآن الأول ، لما عرفت من أن التكليف الأول لم يشترط إلا بتحقق الشرط في ظرفه دون تعقبه بتحقق الشرط في الآن الثاني ، ولم تكن الارتباطية موجبة لسقوطه ، لأنها إنما تعتبر فيما لو كان كلا التكليفين متحققا ، أما إذا انتفى التكليف فيهما لانتفاء شرطه فلا معنى للقول بأن امتثال التكليف الأول وإطاعته

ص: 94

منوطة بامتثال التكليف [ الثاني ](1) واطاعته ، فإذا لم يكن التكليف الثاني متحققا لم يكن امتثاله ممكنا ، وإذا لم يكن امتثال الثاني ممكنا كان امتثال الأول غير مقدور من جهة إناطة امتثاله بامتثال التكليف الثاني ، لأن ذلك كله إنما يتوجه على تقدير بقاء الارتباطية حتى في مورد سقوط التكليف الثاني.

ولا يخفى ما فيه ، بل إن اقصى ما في الارتباطية هو أنه لا تفكيك بين الامتثالين وأنّ عصيان أحد التكليفين عصيان للتكليف الآخر ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان كل من التكليفين متحققا دون ما إذا كان المتحقق أحدهما فقط ، فتأمّل.

وبالجملة : أن الارتباطية تارة تكون في ناحية نفس التكاليف بأن يكون أحد التكليفين مشروطا بتوجه التكليف الآخر لكون التكليف الأول مشروطا بتعقب شرط التكليف الثاني ، ويكون التكليف الثاني مشروطا بتقدم شرط التكليف الأول ، فيكون التكليفان متلازمين ، ويكون سقوط أحدهما بسقوط شرطه موجبا لسقوط التكليف الآخر ، كما تقدم (2) في الوجه الأول في باب الصوم أعني جعل الزمان قيدا في الواجب.

وتارة تكون الارتباطية في ناحية الامتثال بأن يكون امتثال أحد التكليفين متوقفا على امتثال التكليف الآخر ، ويكون عصيان أحدهما موجبا لعصيان الآخر ، لاعتبار الارتباطية في متعلق التكليفين ، بمعنى أنه لو كان كلا التكليفين متحققا لكان امتثال أحدهما متوقفا على امتثال الآخر ، بمعنى أنه يشترط في صحة متعلّق أحدهما أن يكون مسبوقا أو ملحوقا بمتعلق الآخر بحيث إنه لو تجرد عن ذلك لما كان صحيحا مسقطا للأمر. أما لو لم يتحقق

ص: 95


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- راجع صفحة : 83.

أحد التكليفين لعدم تحقق شرطه لما كان امتثال التكليف الآخر متوقفا على امتثاله.

ومن الواضح أنه لا تلازم بين هذين النحوين من الارتباطية ، لامكان اشتراط الارتباط في متعلق التكاليف من دون تحقق ما يوجب الارتباط في نفس التكاليف من كون كل واحد منهما مشروطا بتحقق شرط ما قبله وشرط ما بعده ، فلا يكون سقوط الثاني بسقوط شرطه موجبا لسقوط الأول كما في باب الصلاة ، فانّ أجزاءها ارتباطية ولكن التكاليف المتعلقة بتلك الأجزاء غير ارتباطية ، ولأجل ذلك لو سقط وجوب أحد الأجزاء لأجل عدم القدرة لم يكن موجبا لسقوط وجوب الأجزاء الأخر ما لم يكن ذلك الساقط ركنا ، فان سقوطه يوجب سقوط الكل ، وتكون الارتباطية من الجهتين كما في مثل أصل الطهور.

لكن الظاهر أن هذا المعنى منعدم في أجزاء الصلاة حتى ما يكون من قبيل الركوع ، فانّ تعذره لا يوجب سقوط الوجوب عن الباقي ، فلا يكون الوجوب الوارد على الجزء الاول منها مشروطا ملازما لوجوب الجزء الآخر ، فلا مجال فيها للشرط المتأخر لنحتاج إلى الجواب عنه بأن الشرط هو العنوان المنتزع.

نعم ، ربما تأتي هذه الشبهة من ناحية صحة الأول بمعنى سقوط الأمر به عند الاتيان به ، فانها مشروطة بالاتيان بالباقي للتلازم بين الاطاعتين وحينئذ يكون من قبيل الشرط المتأخر ونحتاج إلى الجواب عنه بأن الشرط هو العنوان المنتزع.

ولكن يمكن الفرار عن ذلك بأن نقول إن امتثال الجزء الأول لا يكون قبل حصول الجزء الثاني بل يبقى الأمر بالجميع بحاله ، غايته أنه فاقد

ص: 96

للباعثية ولا يسقط إلا بالفراغ من الجزء الأخير ، فلا يكون في البين شرط متأخر حتى بالنسبة إلى الصحة وإسقاط الأمر.

ومن ذلك يظهر أنه لا مورد لنا من هذه الموارد تدخله شبهة الشرط المتأخر كي نحتاج إلى التخلص منها بأخذ العنوان المنتزع الذي لعله راجع إلى الشرط المتأخر ، فان العنوان المنتزع من المتأخر يكون تحققه منوطا بذلك المتأخر فلا يكون خاليا من شبهة تأثير المتأخر في المتقدم.

وأما مثل طي المسافة بالنسبة إلى الكون في مسجد الكوفة فانا وإن ذكرنا أنه تأتي فيه شبهة الشرط المتأخر باعتبار بقاء الحياة إلى الفراغ من طي المسافة والوصول إلى باب المسجد ، فان ذلك شرط في توجه التكليف بالكون فيه ، وهو أعني وجوب الكون شرط في وجوب طي المسافة ، لكن لا يخفى ما فيه ، فانه موجب لعدم وجوب الكون قبل طي المسافة ، ولا يصح لنا القول بتحقق وجوب المقدمة بالعنوان المنتزع من وجوب ذيها المفروض تأخره إلى الحياة حينه ، بل لا بد لنا من القول بأن نفس الكون واجب فعلا وهو مقدور بالقدرة على سببه الذي هو طي المسافة ، إذ أن وجوب الكون لم يكن مشروطا ببقاء الحياة إلى تمامية طي المسافة. نعم إن وجوبه مشروط بالقدرة على سببه الذي هو طي المسافة وذلك حاصل فعلا ، وليست الحياة بنفسها شرطا إلاّ باعتبار كونها محققة للقدرة.

وإن شئت فقل : إن الكون ومقدمته واجبان ، غايته أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، والوجوبان حاصلان فعلا وهما مشروطان بالقدرة والحياة من أول الشروع فيهما إلى الفراغ ، وذلك أعني الحياة والقدرة حاصلان من أول الشروع إلى الفراغ ، ففي كل آن هو حيّ وقادر فيجب

ص: 97

الفعل وهكذا إلى الفراغ.

كما انه من الممكن انفكاك الارتباطية الاولى عن الارتباطية الثانية بأن يكون التكليفان متلازمين ، ولا يكون امتثال أحدهما متوقفا على امتثال التكليف الآخر.

لا يقال : بناء على كون الزمان ظرفا للوجوب لا للامساك لا داعي للالتزام بارتباطية الامساكات.

لأنا نقول : إن ذلك لا محيص عنه من جهة أنه لا ريب في اعتبار نية الامساك إلى الغروب ، وبناء على كون الظرف ظرفا للوجوب لا للامساك لا يتم الوجه في اعتبار نية الامساك إلى الغروب إلا بما ذكرناه من الارتباطية.

مضافا إلى أن لازم عدم الارتباطية على هذا الوجه أنه لو عصى في الأثناء لم يكن عليه إلا قضاء ما عصى فيه دون تمام ذلك اليوم.

ثم لا يخفى أن الارتباطية بين التكاليف التي عرفت أنها منتفية على هذا الوجه إنما هي بين الأول والثاني ، بمعنى أن وجود التكليف الأول لا يتوقف على وجود التكليف الثاني ، وأما العكس فالظاهر أنه لا ريب فيه ، إذ لا ريب في أن سقوط الشرائط في الأول موجب لسقوط التكليف في الآن الثاني كما في الحيض والمرض ونحوهما ، نعم في السفر والبلوغ لا يؤثر انتفاء الشرط قبل الزوال فتأمل ، هذا.

ولكن الظاهر أن كل واحد من الامساكات المتأخرة تكون على نحو الركنية ، فيكون سقوط التكليف فيها موجبا لسقوطه من الأول ولو قلنا بأن التقييد بالزمان راجع إلى الحكم ، إذ ليس محصّل رجوعه إلى الحكم هو كون الوجوبات متعددة حسب تعدد الآنات على وجه يكون كل آن فيه وجوب متعلق بالامساك ، ويكون ذلك الوجوب وجوبا مستقلا لا ربط له

ص: 98

بالوجوب الآخر على وجه لو سقط الوجوب الآخر لعروض ما يسقطه يبقى الوجوب الأول بحاله ، ليتفرع عليه أن مقتضى القاعدة هو لزوم الكفارة في الصورة المفروضة ، بل إنه لا يكون إلاّ وجوبا واحدا مستمرا من أول الفجر إلى الغروب ، بحيث إن ذلك الوجوب ينحلّ ويسقط بتمامه عند سقوطه في قطعة واحدة ، كما يشاهد ذلك فيما لو كان انتفاء بعض الشروط في أول الوقت ثم في أثنائه حصل الشرط الذي كان مفقودا. والظاهر أنه لا فرق بين السقوط من الأول والسقوط من الآخر في كون كل منهما يكون موجبا لانحلال ذلك الوجوب وسقوطه في تمام الوقت.

أما الكفارة فلا دليل عليها يعتد به سوى الإجماع المنقول في بعض فروع المسألة وهي مسألة تأخر السفر ، أو الشهرة في غيرها وهي ما لو طرأ الجنون أو الحيض في آخر النهار. وعلى كل حال فلو ثبتت الكفارة لم يكن ثبوتها كاشفا عن أن تلك القطعة السابقة هي قطعة صوم حقيقي واقعي ، بل أقصى ما فيه أن نقول : إنه يجب الامساك لمن علم أنه يطرؤه العذر لأجل الاحترام ليس إلا ، وأن هذا المقدار من الحكم الاحترامي تترتب الكفارة على تعمد مخالفته لا أنه صوم شرعي.

والحاصل : أن من طرأه العذر في آخر الوقت خصوصا مثل الحيض والجنون لا يكون الصوم في الواقع واجبا عليه من أوّل الوقت ، سواء قلنا بأن المقيد بالزمان هو نفس الوجوب أو قلنا بأن المقيد به هو الواجب الذي هو الامساك.

أما الثاني فواضح ، لأن مقتضى تعلق الوجوب بالامساك الحاصل في جميع أجزاء النهار يوجب أن تكون الشروط في الآنات اللاحقة شروطا في نفس ذلك الوجوب السابق ، غايته أنها لما كانت متأخرة قلنا إن الشرط هو

ص: 99

العنوان المنتزع أعني التعقب ، كما أن تعلق الوجوب فعلا بالامساك الذي هو في آخر النهار لا يكون من قبيل المعلق ، لأنه بالنسبة إلى تلك القطعة المتأخرة من الامساك يكون مشروطا بحصول زمانها بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره ، وقد تقدم (1) الاشكال فيه.

وأما على الأول فلما عرفت من ارتباط الوجوب الذي هو في الآن الأول بالوجوب الذي هو في الآن الثاني على وجه التلازم بينهما حدوثا وسقوطا ، لأن الارتباطية في المتعلق وإن لم تكن موجبة إلاّ التلازم في مرحلة الامتثال دون التلازم بين التكليفين ، بحيث إنه لو كان التكليف بالجزء الثاني موجودا كالتكليف بالجزء الأول لكان مقتضى الارتباطية هو توقف صحة الامتثال في الأول على الامتثال في الثاني كالعكس ، وأما لو كان التكليف بالثاني ساقطا سقطت الارتباطية كما تراه في تعذر بعض أجزاء الصلاة ، فانه لا يوجب سقوط الباقي ، وحينئذ فلا تكون الارتباطية بنفسها موجبة للتلازم بين التكليفين إلا إذا كان المتعذر ركنا كما في الطهور ، فان ارتباطيته مع باقي الأجزاء والشرائط كانت على نحو الركنية على وجه لو تعذر يكون تعذره موجبا لسقوط الأمر بالباقي ، فهذه الارتباطية توجب كون القدرة على الثاني واجتماع الشرائط فيه معتبرة في التكليف الأول ، والامساك المتأخر بالنسبة إلى المتقدم يكون من هذا القبيل ، بمعنى أنا وإن قلنا إن الزمان قيد في الوجوب إلاّ أن شرائط الوجوب المتأخر تكون معتبرة في الوجوب المتقدم ، لأن نسبة الامساك المتأخر إلى مجموع الامساك في تمام النهار يكون من قبيل الركن الذي يكون انتفاؤه موجبا لانتفاء الكل ، إذ لا يتبعّض الصوم ، وحينئذ فبالأخرة تكون القدرة واجتماع شرائط الوجوب في

ص: 100


1- في صفحة : 83.

الزمان المتأخر شروطا في التكليف الموجود في الزمان المتقدم.

فالأولى أن يجعل ثمرة هذا النزاع هو الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند سقوط العموم ، كما لو شككنا في القطعة التي هي ما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، فانه بناء على كون المقيد بالزمان هو الحكم يمكن استصحاب ذلك الحكم إلى تلك القطعة بناء على أخذه ظرفا لا قيدا ، بخلاف ما لو قلنا إن الزمان قيد للمتعلق الذي هو الامساك ، فانه بعد سقوط ذلك العموم للشك في شموله لتلك القطعة لا يمكن الرجوع إلى استصحاب نفس الحكم في تلك القطعة ، بناء على أن رجوع هذا القيد إلى المتعلق يكون موجبا لأن محصل الحكم هو وجوب كل واحد من تلك الامساكات ، فيكون كل واحد موضوعا برأسه ويكون الاستصحاب من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن رجوع العموم الأزماني إلى المتعلق لا يكون موجبا لتقيد كل واحد من ذلك الفعل بزمان خاص ، بل لا يخرج بذلك عن الظرفية ، فلا يكون في البين حينئذ مانع من الاستصحاب حتى بناء على رجوع القيد فيما نحن فيه إلى المتعلق ويكون النهار ظرفا للامساك لا للوجوب ، فراجع ما حررناه في تنبيهات الاستصحاب (1) ، وتأمل.

والحاصل : أنه لا ريب في ارتباطية الصوم وأنه لا يتبعّض من حيث الاطاعة والعصيان بحيث إنه لو أمسك في أول النهار ثم إنه أفطر في آخره أو بالعكس لم يكن مطيعا فيما أمسك فيه ، وهذا المقدار مسلّم لا ريب فيه ، فانا لو قلنا بأن الزمان قد اخذ ظرفا للوجوب لا للامساك يكون لنا وجوبات متعددة حسب تعدد الآنات ، أو يكون لنا وجوب واحد مستمر

ص: 101


1- في المجلّد العاشر من هذا الكتاب.

من أول الفجر إلى الغروب ، وعلى أيّ حال يكون لنا إمساكات متعددة حسب تعدد تلك الوجوبات ، أو إمساك واحد مستمر حسب استمرار ذلك الوجوب ، وحينئذ نقول إنه لا ريب في ارتباطية تلك الامساكات ، أو ارتباطية أجزاء ذلك الامساك الواحد المستمر.

وبالجملة : أنا لو أخذنا الزمان قيدا في الوجوب لم يكن ذلك موجبا للخروج عن مقتضى هذه الارتباطية التي عرفت أنها مسلّمة لا ريب فيها ، وعليه نقول إن ارتباط بعض الأجزاء ببعض تارة يكون في مقام الاطاعة والعصيان فقط ، فلو طرأ على بعض هذه الأجزاء ما يوجب سقوط التكليف بها ولم يكن اعتبار ذلك البعض على وجه يكون تعذره موجبا لتعذر المجموع بحيث يكون سقوط التكليف به موجبا لسقوط الأمر بالباقي ، ففي مثل ذلك لا يكون مقتضى هذه الارتباطية إلاّ مجرد التلازم في مقام الاطاعة والعصيان ، من دون أن يكون سقوط التكليف في بعضها موجبا لسقوطه في الباقي.

أما لو كان اعتبار ذلك البعض المتعذر مطلقا ويعبّر عنه بالركن ، كما في مطلق الطهور بالنسبة إلى الصلاة ، فان تعذره يوجب تعذر الصلاة ، ويكون سقوط الأمر به موجبا لسقوط الأمر بالصلاة ، ففي مثل ذلك تكون الارتباطية موجبة للتلازم بين التكليفين في مقام البقاء والسقوط ، مضافا إلى التلازم في مقام الامتثال ، وقد فهمنا من مجموع الأدلة الواردة في باب الصوم أن كل جزء من أجزاء النهار لو طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف بالامساك فيه كان ذلك موجبا لسقوط الأمر به في باقي أجزاء النهار ، كما يستفاد ذلك من أدلة اشتراط عدم الحيض والجنون والسفر ، فيكون نسبة كل إمساك من تلك الامساكات إلى باقيها كنسبة الركن إلى المركب في أن

ص: 102

سقوط التكليف به يكون موجبا لسقوط التكليف بالباقي.

ويمكن أن يقال : إنه لا حاجة في إثبات الارتباطية بين التكاليف في باب الصوم إلى الأدلة الخاصة ، بل إن تعلق الوجوب بهاتيك الامساكات يقتضي سقوطه عند تعذر بعضها ، إذ لا يمكن القول ببقاء التكليف بالنسبة إلى الباقي إلاّ بدليل خاص مثل ما ورد في باب الصلاة من أنها لا تسقط بحال (1) بخلاف باب الصوم فانه لم يرد فيه مثل ذلك الدليل ، فبقي على ما يقتضيه التركيب من انحلال المركب وسقوط أمره بسقوط بعض أجزائه ، وعلى أي حال يكون الوجوب في الآن الأول ( بناء على كون الزمان قيدا للوجوب ) مشروطا باجتماع الشرائط فيه وفيما بعده من الآنات ، فلا بد حينئذ من الالتزام بكون الشرط هو التعقب فرارا من الالتزام بالشرط المتأخر ، كما هو الحال فيما لو قلنا بأن الزمان قيد للامساك لا للوجوب ، ومقتضاه هو أن لا يكون الوجوب في الآن الأول متحققا في حق من يكون في آخر النهار خارجا عن هذه الشروط ، فلا وجه حينئذ لوجوب الكفارة عليه ، بل لا وجه للالتزام بكون الامساك واجبا عليه فيما لو علم بأنه في آخر النهار يطرأه زوال بعض الشرائط.

اللّهم إلا أن يستفاد من الاجماع ونحوه وجوب الامساك عليه وجوبا احتراميا لا أنه صيام حقيقي ، والشاهد على ذلك هو عدم التزامهم بوجوب القضاء في مثل الموت والجنون ونحوهما من الأعذار التي لا مورد للقضاء فيها. أما الكفارة فمقتضى القاعدة هو عدم وجوبها في مخالفة ذلك الحكم

ص: 103


1- لم يرد نص بهذا اللفظ ، نعم ورد في المستحاضة : « ولا تدع الصلاة على حال » ، راجع وسائل الشيعة 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5.

الاحترامي ، إلاّ أن يدعى أنه يستفاد من أدلتها التوسعة لمثل هذه الجرأة على المخالفة وان لم يكن ذلك الذي خالفه وهو الأمر بالامساك صوما حقيقة (1).

وقد استدل الجماعة قدس سرهم لوجوب الكفارة عليه في بعض فروع المسألة وهي مسألة السفر بعد الافطار العمدي فرارا من الكفارة بما اشتملت عليه صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم في حديث طويل ، قالا : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أيما رجل كان له مال وحال عليه الحول (2) فانه يزكّيه ، قلت له : فان وهبه قبل حلّه بشهر أو يومين ( بيوم )؟ قال عليه السلام : « ليس عليه شيء أبدا » وقال زرارة عنه عليه السلام أنه قال عليه السلام : « هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوما في إقامته ثم خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره إسقاط الكفارة التي وجبت عليه » وقال عليه السلام : « إنه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ، ولكنه لو وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء ، بمنزلة من خرج ثم أفطر ... » (3) والمشار إليه بقوله عليه السلام « هذا » هو الفرض الأول وهو من أراد الفرار من الزكاة بعد تعلقها بتمام الحول عليه.

ولم أتوفق للوجه في دلالة هذه الجملة الشريفة لما نحن فيه ، فان المفروض فيها هو السفر في آخر النهار ، ولا إشكال في أنه لا يسقط وجوب الصوم فيما قبله ، وإنما الذي يسقطه هو السفر قبل الزوال ، فان

ص: 104


1- وسيأتي [ في صفحة : 107 ] ان شاء اللّه تعالى انه يمكن التفكيك ، فيكون الوجوب السابق شرطا في الوجوب اللاحق دون العكس. ويتفرع على ذلك أنه يجب الامساك في السابق وعليه الكفارة ولو تعقبه العذر [ منه قدس سره ].
2- « ثم وهبه ». عن الجواهر في زكاة النقدين في اشتراط الحول [ جواهر الكلام 15 : 188، ذكره في عدم وجوب الزكاة في السبائك ] : ولعله سقطت كلمة « ثم وهبه » من قلم النسّاخ أو اكتفى عنها بدلالة ما بعدها. [ منه قدس سره ].
3- وسائل الشيعة 10 : 134 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 58 ح 1.

ذلك هو محل الكلام في أنه لو طرأ هل يوجب سقوط الكفارة ، دون ما لا يكون مسقطا للصوم الذي هو السفر بعد الزوال.

ولم أعثر على من استشكل في دلالة الرواية من هذه الجهة إلاّ المرحوم الحاج الشيخ عبد اللّه المامقاني قدس سره في حواشيه (1) على ما كتبه والده قدس سره في الصوم. ولم أعثر لهذا الاشكال على إشارة من أحد الاصحاب أو تلويح إليه ، ولعلهم فهموا منها أن قصد الفرار بالسفر لا يكون رافعا للكفارة. وحاصله : أن الرواية تعطي المقابلة بين السفر والهبة وبين الزكاة ووجوب الكفارة ، فان كانت الهبة قبل أوان وجوب الزكاة والسفر قبل أوان وجوب الكفارة فلا شيء عليه ، وإن كان السفر بعد أن وجبت عليه الكفارة وكانت الهبة بعد أن وجبت عليه الزكاة لم يكن ذلك مسقطا لهما.

والحاصل : أنه يستفاد من مجموع الرواية أن المدار في وجوب الكفارة على عدم كون موجب الكفارة قبل السفر ، سواء كان السفر قبل الزوال أو بعده. ولا يخفى أن استفادة هذا الاطلاق من الرواية مع تصريحها بأن السفر في آخر النهار يحتاج إلى فقاهة قوية يقصر عنها ذهني القاصر ، فان المقابل للهبة في الرواية إنما هو السفر في آخر النهار ، وهو الذي يكون بعد تحقق الكفارة لأنه واقع بعد أن تم وجوب الصوم عليه في تمام النهار ، فلا يكون وقوعه رافعا للكفارة. ولا تعرض للرواية للسفر قبل الزوال ، بل قد يقال إن تقييد السفر المحكوم عليه بأنه لا يسقط الكفارة بكونه في آخر النهار لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أنه لو كان قبل الزوال لم يكن محكوما عليه بأنه لا يسقط الكفارة ، بل كان محكوما عليه بأنه مسقط لها

ص: 105


1- منتهى مقاصد الأنام في شرح شرائع الإسلام : 486 / تعليقة رقم 37.

ويكون حاله حال من وهب قبل وجوب الزكاة عليه.

وتقريب هذا البحث بنحو أوضح هو أن يقال : بناء على أخذ الزمان فيما نحن فيه في متعلق الحكم الذي هو الامساك ، لا وجه لكون اجتماع الشروط في الجزء الأخير معتبرا في الوجوب من الأول إلاّ ارتباطية أجزاء تلك الامساكات ، والارتباطية في حدّ نفسها لا تقتضي كون سقوط التكليف في بعض الأجزاء موجبا لسقوطه في البواقي ، كما في مثل تعذر بعض أجزاء الصلاة غير الركنية ، وإنما تكون مقتضية لذلك فيما هو من قبيل الركن كالطهور بالنسبة إلى الصلاة. ولا دليل فيما نحن فيه على ركنية كل واحد من تلك الامساكات إلا قاعدة عدم تبعض الصوم المستفادة من مجموع النصوص والفتاوى ، التي من جملتها وجوب قضاء تمام اليوم الذي طرأ العذر في أثنائه ، إذ لو أمكن التبعيض لكان الواجب هو القضاء في حدّ طروّ العذر ، دون ما تقدمه ممّا تم فيه الامساك جامعا لباقي الشرائط.

وهذه القاعدة أعني قاعدة عدم تبعّض الصوم مسلّمة عندهم لا ريب فيها ، ولولاها لما تمّ لنا هنا ما افيد من أنه على تقدير رجوع الزمان إلى المتعلق الذي هو الامساك كان مقتضاه هو الشرط المتأخر والجواب عنه بالتعقب.

وحينئذ نقول : إن هذه القاعدة بنفسها تكون محكّمة فيما لو قلنا بأن الزمان راجع إلى الوجوب نفسه لا إلى الامساك ، فانّ رجوعه إلى الوجوب وإن كان لو خلّي ونفسه مقتضاه هو عدم اشتراط السابق بالشرائط في اللاحق ، ولازمه تحقق الوجوب من الفجر إلى حين طرو العذر ، إلاّ أن قاعدة عدم تبعض الصوم قاضية عليه بأنه لا بدّ من ارتباط الوجوب المتحقق في الآن الأول بالوجوب في الآن الثاني من حيث اجتماع الشرائط على وجه

ص: 106

تكون الشرائط في الوجوب المتأخر معتبرة في الوجوب المتقدم ، ولا بد من إرجاعها إلى عنوان التعقب. ولا بد أيضا من الالتزام بأنه عند طروّ العذر في آخر الوقت يكون الوجوب ساقطا من الأول ، ويكون الحكم بوجوب الامساك على من علم بأنه يطرؤه العذر بعد ذلك على خلاف القاعدة إن تم الاجماع عليه ، ويكون ذلك حكما احتراميا لا أنه صوم حقيقي.

نعم ، يبقى إشكال الفرق بين كون العذر طارئا في آخر الوقت وبين ما كان موجودا في أول الوقت ثم ارتفع في أثناء النهار ، إلاّ أن يلتزم في ذلك ايضا بالوجوب الاحترامي.

أما الكفارة فلا دليل عليها إلاّ دعوى الاجماع في بعض صور المسألة وهي الطوارئ غير الاختيارية ، وعلى تقديره فيكون لزوم الكفارة محتاجا إلى ارتكاب خلاف القاعدة من جهتين :

الاولى : ما أشرنا إليه من أن القاعدة تقتضي عدم وجوب الامساك ، فيكون وجوبه الاحترامي على خلاف القاعدة.

الجهة الثانية : هي أن الكفارة إنما دلت أدلتها ، على لزومها في مخالفة أوامر الصوم ، أما الامساك الاحترامي الذي هو ليس بصوم حقيقي فيحتاج ثبوت الكفارة في مخالفته إلى دليل أو توسعة في دليلها ، بأن يدعى أنه يستفاد منه لزومها على مطلق وجوب الامساك ولو لم يكن صوما حقيقيا. أما الرواية عن الصادق عليه السلام فقد عرفت عدم دلالتها على لزوم الكفارة فيما نحن بصدده ، وقد تعرض شيخنا قدس سره (1) لهذه المسألة في ذيول التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب الراجع إلى مسألة عموم العام واستصحاب

ص: 107


1- فوائد الاصول 4 : 553.

حكم المخصص ، فراجعه وراجع ما علقناه هناك (1).

ويمكن القول بالتبعيض في الركنية ، فيكون الوجوب السابق شرطا في الوجوب اللاحق ، فلو كان في السابق غير مكلف كما لو كانت المرأة حائضا لم يجب الامساك في اللاحق ، بخلاف ما لو كان مكلفا في السابق وحصل المانع في اللاحق فلا يكون الوجوب السابق مشروطا بالوجوب اللاحق ، وحينئذ يتم ما قالوه من وجوب الصوم على من يعلم أنه يلحقه العذر وأنه يجب فيه الكفارة لو خالفه ، بخلاف ما لو كان في السابق معذورا فانّ ذلك يوجب ارتفاع الوجوب في اللاحق فيكون الوجوب اللاحق مشروطا بالوجوب السابق ، فلا يكون ذلك من باب الشرط المتأخر. وأما أنه لو ترك يكون عليه القضاء بامساك يوم تام فذلك من قبيل ما لو كان عاجزا عن بعض أفعال [ الصلاة ](2) لكنه لم يأت بالباقي ، فان قضاءه يكون بقضاء صلاة تامة ، بخلاف ما لو أتى بالامساك الأول ثم جنّ مثلا فانه لا قضاء عليه ، بخلاف ما لو حاضت المرأة فان عليها القضاء ، ولعله من جهة دليل القضاء الشامل لما إذا طرأها الحيض في أثناء النهار ، فتأمّل جيدا (3).

ص: 108


1- في المجلّد العاشر ، في الحاشية على قوله : فان كان في البين قرينة ...
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنّما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- [ وجدنا أوراقا منفصلة في نسخة الأصل ويصلح ما ورد فيها أن يكون تعليقا على قوله في أجود التقريرات 1 : 217 - 218 : « تتميم : لا إشكال - إلى قوله : - ومنها فتواهم بوجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر - إلى قوله : - واجيب عن الاشكال تارة بالالتزام بالواجب المعلق واخرى بالالتزام بالشرط المتأخر ... إلخ » ونص ما في الأوراق هكذا : ] ذكروا أنه يجب الغسل ليلا لمن يجب عليه الصوم في الغد ، وحيث إنه لا يمكن القول بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، أجاب صاحب الكفاية [ في كفاية الاصول : 104 - 105 ] عن ذلك بأن وجوب الصوم المتوجه ليلا مشروط بالشرط المتأخر وهو دخول الفجر. أما صاحب الفصول [ راجع الفصول الغروية : 80 ] فحيث إنّه لا يقول بصحة الشرط المتأخر فقد التزم بأن الشرط هو العنوان المنتزع من تأخر الفجر ، وهو أعني العنوان المنتزع حاصل ليلا ، وحينئذ يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا كما هو كذلك عند صاحب الكفاية. والفرق بينهما أن صاحب الكفاية يقول إن الشرط هو نفس الفجر لكنه يؤثر في الوجوب المتقدم ، وصاحب الفصول يقول إن الشرط للوجوب هو العنوان المنتزع وهو موجود فعلا. وشيخنا قدس سره [ راجع أجود التقريرات 1 : 332 ] وإن التزم في بعض موارد الشرط المتأخر بأن الشرط هو العنوان المنتزع ، إلاّ أنه لم يوافق صاحب الفصول على نظريته المذكورة المبنية على كون الشرط للوجوب هو العنوان المنتزع ، والسرّ في ذلك هو أن صاحب الفصول يأخذ الزمان قيدا في الواجب ، ولذلك يقول إنّ الوجوب حالي والواجب استقبالي ، ومع أخذ الزمان الآتي قيدا في الواجب يكون ذلك القيد متأخرا رتبة عن الوجوب ، لأنّ نفس الواجب بجميع شراشره من أجزاء ومن قيود اختيارية مثل الطهارة وقيود غير اختيارية يكون متأخرا عن الوجوب رتبة ، ومع فرض تأخر القيد عن الوجوب رتبة لا يعقل أخذه شرطا في الوجوب ، لأن مقتضى كونه شرطا في الوجوب تقدمه رتبة على الوجوب ، من دون فرق في ذلك بين أخذه مقارنا في الزمان للوجوب أو متقدما عليه زمانا أو متأخرا عنه زمانا كما هو عند صاحب الكفاية. وكذلك العنوان المنتزع من ذلك المتأخر ، فان العنوان المنتزع متأخر رتبة عمّا ينتزع منه الذي هو الزمان المتأخر أعني الفجر في مثالنا ، والمفروض أنه أعني الفجر نفسه متأخر رتبة عن نفس الوجوب لكونه حسب الفرض قيدا في الواجب الموجب لتأخره عن الوجوب ، فكيف يعقل أن يكون ذلك العنوان المنتزع المتأخر عن الوجوب برتبتين شرطا في ذلك الوجوب الموجب لكونه متقدما رتبة على الوجوب. نعم لو فرضنا تعرية الواجب عن الزمان بحيث إنه لم يؤخذ قيدا فيه ، وكان الوجوب المشروط بطلوع الفجر مثلا متعلقا بنفس الامساك المطلق أعني غير المقيد بالزمان ، لم يتجه فيه هذا الاشكال أعني لزوم تقدم ما هو متأخر رتبة ، بل كان الاشكال فيه متمحّضا للشرط المتأخر كما تقدّم تفصيله [ راجع الصفحة : 105 ، قوله : وتقريب هذا البحث ... ]. وحينئذ يتسنى لنا الجواب عنه بالعنوان المنتزع. ولا يقال : لا داعي لأخذ نفس الزمان قيدا في الواجب ليكون ذلك موجبا لكونه شرطا في الوجوب لعدم كونه مقدورا ، لنلتزم بأنه شرط في الوجوب كي يكون شرطا متأخرا ليجاب عنه بالعنوان المنتزع ، وذلك لامكان القول بأن الواجب وإن كان مقيدا بالزمان إلاّ أنه بنحو يكون التقييد داخلا والقيد أعني نفس الزمان خارجا. لأنا نقول : هنا يتأتى إشكال القدرة أيضا ، فإن التقييد بالزمان وإن كان بنحو يكون القيد فيه خارجا إلاّ أنّ نفس التقييد لا يكون مقدورا إلاّ بعد تحقق الزمان ، وحينئذ لا بد من أخذه شرطا في الوجوب وهو حسب الفرض متأخر عن الوجوب. فيتأتى لنا أن نقول إن الشرط هو العنوان المنتزع فيكون الوجوب حاليا ، لكن لا يكون الواجب استقباليا بل يكون الواجب حاليا أيضا ، فتكون النتيجة أن المكلف يجب عليه في أول الليل أن يمسك في أول الليل. أمّا الأول فلأنّ شرط الوجوب هو العنوان المنتزع وهو موجود ، فيكون المشروط به الذي هو الوجوب موجودا أيضا. وأمّا الثاني فلأن الواجب الذي هو الامساك لم يتقيد بالزمان الآتي ، فصار الحاصل أن طبيعة الامساك تعلق بها الوجوب من الآن أعني من أول الليل ، فيكون اللازم هو إيجادها عند تعلق الوجوب بها ، فلا تكون هذه الطريقة مصلحة لما كنا بصدده من أنه كيف وجبت المقدمة قبل وجوب ذيها ، ويعود المحذور من أول الليل ، فيقال إنه يجب الإمساك في أول الليل عن طهارة ، فلا بد أن نقول إنه لا بد من الغسل قبل أول الليل ، فيعود محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، مضافا إلى ما هو خلاف الضرورة من الدين من كون الامساك من أول الليل. لا يقال : إنا لا نأخذ الزمان بنفسه شرطا في الوجوب ولا بالعنوان المنتزع ، بل نقول إن الواجب مقيد بالزمان وهو أعني هذا الواجب مقدور ، غايته أنه مقدور في ظرفه لا حين الوجوب ، والقدرة المعتبرة هي القدرة على الواجب في ظرفه لا القدرة في ظرف تعلق الوجوب به. والفعل الواجب وإن قيدناه بالزمان الآتي إلاّ أنه على نحو يكون التقييد داخلا ويكون القيد خارجا ، وحينئذ فلا مانع من كون الوجوب حاليا مع كون الواجب استقباليا ، لأنّ ذلك الواجب مقدور في ظرفه ، وهي - أعني القدرة عليه في ظرفه - كافية في صحة تعلق الوجوب الفعلي به من أول الليل. لأنا نقول : إن القدرة على الواجب في ظرفه آتية من وجود الزمان عنده ، فيكون الوجوب مشروطا بالقدرة على الواجب في ظرفه ، والقدرة عليه في ظرفه مشروطة بتحقق الزمان ، فيكون الوجوب حينئذ مشروطا بتحقق الزمان ، فعاد محذور الشرط المتأخر. والجواب عنه بالعنوان المنتزع لا يدفع إشكال شيخنا قدس سره من أن لازم ذلك هو التكليف بجرّ الزمان ، فان الوجوب قد تحقق فعلا ، ومتعلقه هو الفعل المقيد بالزمان الآتي وإن كان على نحو يكون القيد خارجا ، لكن بعد فرض كون الوجوب متحققا فعلا لا بد من كون متعلقه تحت الوجوب ، فيجب فعلا إيجاد ذلك المقيد بما أنه مقيد ، نظير تعلق الوجوب بالصلاة إلى القبلة ، فيلزمه فعلا إيجاد الصلاة المقيدة بكونها إلى القبلة ، وحيث إن القبلة موجودة كان إيجاد الصلاة إلى القبلة فعلا غير متوقف على شيء ، بخلاف التقييد بالزمان الآتي ، فان إيجاد العمل المقيد به بما أنه مقيد به يتوقف على جر الزمان وهو غير معقول ، فلا بد أن نقول إن الوجوب مشروط بتحقق الزمان على نحو الشرط المتقدم. وحيث قد تبين لك أنه لا يمكن دفع الاشكال في مثل مسألة الغسل ليلا لمن وجب عليه الصوم نهارا بالشرط المتأخر ، ولا بالوجوب المعلّق المفروض كونه من الشرط المتأخر وإصلاحه بالعنوان المنتزع ، فلا بدّ لنا من طريق آخر في إصلاح هذه المسألة وهو مأخوذ من قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ثم بعد بيان مفاد هذه القاعدة نتكلم على إدخال ما نحن فيه في موارد القاعدة المزبورة. أما الكلام في مفاد هذه القاعدة فهو أن يقال إن هذه القاعدة يلحق به ما في صفحة 22 [ هذا ، ولم يظهر موضع الإلحاق ولكن سيتعرض المؤلف قدس سره للقاعدة المذكورة في الحاشية اللاحقة على ما في أجود التقريرات ، فلاحظ ].

ص: 109

ص: 110

قوله : الثانية : أن القدرة قد تكون شرطا عقليا فقط وغير دخيل في ملاك الفعل أصلا ، واخرى تكون شرطا شرعيا دخيلا في ملاكه ... إلخ (1).

لا يخفى أن الكلام إنما هو في المقدمات التي يدعى وجوبها قبل

ص: 111


1- أجود التقريرات 1 : 220 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

حضور وقت ذيها ، فلا بد أن [ لا ](1) يكون ذلك الوجوب الوارد على ذي المقدمة مشروطا بالزمان المتأخر ولا بد أن لا يكون ذلك الوجوب النفسي الوارد على ذي المقدمة حاصلا قبل حصول ذلك الزمان ، بناء على بطلان الواجب المعلق وبطلان الشرط المتأخر ، وحينئذ يكون الكلام في القدرة على ذلك الفعل المتأخر زمانه وزمان وجوبه ، وهل تكون تلك القدرة شرطا عقليا أو أنها تكون شرطا شرعيا؟

ثم أنه قدس سره قد حقق أن أخذ الزمان في وجوب ذلك الواجب تارة من جهة توقف ملاك الوجوب عليه فيكون من قبيل الشرط الشرعي الذي يكون دخيلا في ملاك الوجوب ، واخرى لا يكون كذلك بل لا يكون له الدخل إلاّ في مصلحة ذلك الواجب من دون أن تكون له المدخلية في ملاك الوجوب ، وحينئذ هو أعني الزمان بالنسبة إلى ذلك الوجوب لا يكون إلا شرطا عقليا له الدخل في الوجوب خطابا لا ملاكا. ففي صورة كون القدرة شرطا عقليا تارة يكون الزمان المتأخر شرطا عقليا واخرى يكون شرطا شرعيا. وعلى الأول يكون ملاك الوجوب متحققا قبل تحقق الزمان بخلافه على الثاني فانه لا يكون ملاك الوجوب حاصلا إلا عند تحقق الزمان.

فقوله فيما يأتي : بداهة أن الملاك في ظرفه تام لا قصور فيه ، فتفويته ولو بتفويت أول مقدمته ولو كان قبل البلوغ تفويت له بالاختيار ، وهو لا ينافي العقاب وان كان ينافي الخطاب في ظرفه ، فبهذه المقدمة العقلية يستكشف وجوب المقدمة شرعا حفظا للغرض ، فيكون متمما للجعل

ص: 112


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

الاول ، إلخ (1) ظاهر في الشمول لكلتا الصورتين ، أعني كون الزمان له المدخلية في الملاك وكونه لا مدخلية له فيه.

وهذا الطريق العقلي الذي نستكشف به وجوب تلك المقدمة السابقة على الزمان من باب متمم الجعل ليس إلاّ عبارة عن أن الشارع يلزمه المحافظة على غرضه الذي هو ملاك الوجوب في ظرف ذلك الزمان ، سواء كان ذلك الملاك حاصلا قبل حصول ذلك الزمان إن لم يكن للزمان مدخلية فيه ، أو لم يكن حاصلا إلاّ عند حصول ذلك الزمان إن كان للزمان مدخلية فيه ، ولأجل أن الشارع يلزمه المحافظة على ذلك نقول إنه لا بد قد أوجب تلك المقدمة السابقة ، وإلا لم يحصل على غرضه الذي هو ملاك الوجوب الذي يرد على ذي المقدّمة عند حصول ذلك الزمان.

وحينئذ يمكن المناقشة في أمرين :

الأول : أن هذا الاستكشاف لو تم لم يكن منشؤه قاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، بل كان منشؤه هو لزوم محافظة الشارع على غرضه.

الثاني : أنه ينبغي في الاستكشاف أن يكون بالعكس ، بمعنى أن الشارع لو حكم بوجوب تلك المقدمة استكشفنا من إيجابه لها أن ذلك من باب متمم الجعل ، وأن ذلك الملاك له أهمية في نظره على وجه يحافظ عليه بايجاب المقدمة السابقة التي يكون تركها في وقتها مفوتا لذلك الملاك ، لكون ذلك الترك موجبا لعدم القدرة على ذلك الفعل الواجب في وقته.

ولا يخفى أن لو بنينا على العكس بمعنى أنا نستكشف من تحقق

ص: 113


1- أجود التقريرات 1 : 221 [ مع اختلاف يسير عما في النسخة الحديثة ].

الملاك فيما بعد محافظة الشارع عليه على وجه نستكشف منه أنه أوجب تلك المقدمة السابقة ، كان ذلك جاريا في كل واجب مشروط بشرط استقبالي كما تقدم في قوله : إلاّ أنه لا يتم في جميع الموارد. الخ (1) ولو أصلحنا ذلك بجعل الاستكشاف مختصا بما كان من الملاك ذا أهمية توجب إيجاب المقدمة قبل زمان ذيها ، لم يكن ذلك موجبا للتخلص عمّا يلزمنا من تشريعات أحكام كثيرة استنادا إلى أن ملاك الحكم يوجب تشريعه. وثبوت أصل الملاك من ناحية الوجوب المشروط وإن كان قطعيا ، إلاّ أن كونه بدرجة من الأهمية على وجه يلتزم الشارع بالمحافظة عليه بايجاب تلك المقدمة لم يكن معلوما لدينا ، فلا محيص لنا من القول في هذا المقام بما استفدناه منه قدس سره من أنه لا يجب على المكلف التصدي لحفظ الملاكات وإنما ذلك بعهدة الشارع ، وحينئذ يكون المتبع هو الدليل الشرعي الدال على وجوب المقدمة إن كان ، وإلا لم يكن على المكلف أن يحافظ على ملاك الشارع.

نعم ، فيما يكون التوقف غالبيا كما مثّل له قدس سره (2) بالخروج مع الرفقة على وجه لو لم نقل بوجوب الخروج لكان إيجاب الحج مشروطا بوقته لغوا ، يمكننا الحكم بأن الشارع قد أوجب ذلك الخروج إخراجا لايجابه الحج عند وقته عن اللغوية. وقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما هي فيما لو توجه التكليف إلى المكلف ، وبعد أن توجه إليه جعله غير مقدور في حقه بسوء اختياره كان مستحقا للعقاب ، أما أنه لو جعل نفسه غير قادر على امتثال التكليف المشروط قبل حصول شرطه ، على وجه ترك

ص: 114


1- أجود التقريرات 1 : 219 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسختين ].
2- أجود التقريرات 1 : 224.

تلك المقدمة في ظرفها قبل حصول شرط الوجوب الذي هو الزمان المتأخر فلا يكون موردا للقاعدة المذكورة.

وان شئت فقل : إن هذه القاعدة ليست من القواعد الشرعية المنصوصة ، وإنما هي قاعدة عقلية مرجعها إلى المعذورية وعدمها ، وحينئذ يكون المرجع في مثله هو الحكم العقلي. وهل يكون العقل في مثل ذلك حاكما بمعذورية هذا الشخص أو لا؟ والظاهر الاول ، فان الحجة في قبال تجويز ترك تلك المقدمة إن كانت هي علم ذلك المكلف بأنه سوف يبتلى بالوجوب الآتي فلا ريب في منعها ، لأن التكليف حين ذلك الترك لم يكن فعليا في حقه وإن علم بأنه يكون فعليا عليه في الزمان الآتي. وإن كانت الحجة هي علمه بالملاك الآتي فهي ممنوعة أيضا ، لما عرفت من أنه لا يلزمه المحافظة على الملاك خصوصا فيما إذا لم يكن الملاك حاصلا فعلا بل كان متوقفا على الزمان كما إذا كان للزمان دخل فيه.

وأما ما افيد بقوله : قلت البلوغ إنما يكون شرطا ... إلخ (1) فهو قابل للتأمل سيما بعد مثل قوله صلى اللّه عليه وآله : رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ (2). نعم لو دل دليل خاص على وجوب مقدمة خاصة على الصبي المراهق لزمنا قبول ذلك ، لأن تكليفه ليس بمحال ، ويكون نسبته إلى مثل حديث رفع القلم نسبة المخصص. وهكذا الحال لو قلنا بأن ذلك من باب حكم العقل محضا ، فان العقل لا يحكم على الصبي بلزوم المحافظة على الملاكات الآتية خصوصا ، أما أنا من قبل أنفسنا نشرّع له تكليفا استنادا إلى قاعدة الامتناع بالاختيار التي قد عرفت حالها فلا يمكننا ذلك. وهكذا الحال في

ص: 115


1- أجود التقريرات 1 : 222.
2- بحار الأنوار 88 : 134 / 5.

وجوب النظر في العقائد على الصبي المزبور ، فتأمل.

وأما ما افيد من مقايسة المقام بالارادة في صورة حفظ الماء للعطش ، فعلى الظاهر أنه مسلّم ، لكن كان ذلك المريد لحفظ الماء هو صاحب ملاك ذي المقدمة الذي هو شرب الماء عند العطش ، فيلزمه إرادة الماء من باب المحافظة على ذلك المراد المتأخر ، فتلك الارادة المتعلقة بحفظ [ الماء ](1) تكون بازاء إرادة الشارع فعل المقدمة السابقة من باب متمم الجعل ، فتأمل.

والحاصل : أن قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا إنما هي مسوقة لبيان أن من امتنع عليه الفعل الواجب وكان امتناعه عليه بسوء اختياره كان مستحقا للعقاب ، فالمدار فيها على تنجز التكليف وفعليته في حقه بحيث صار بدرجة استحقاق العقاب على مخالفته ، وقد صيّر نفسه بسوء اختياره غير قادر على امتثاله ، فلا بد أن يكون سلب القدرة عن نفسه بسوء اختياره واقعا بعد فعلية ذلك التكليف في حقه ، وليست هي قاعدة شرعية كي يتمسك باطلاقها لما إذا جعله ممتنعا في حقه قبل وصول ذلك التكليف إلى درجة الفعلية في حقه ، وإنما هي حكم عقلي في مورد استحقاق العقاب على المخالفة ، وأن هذه المخالفة الناشئة عن الامتناع الناشئ عن سوء الاختيار لا توجب رفع استحقاق العقاب على تلك المخالفة.

نعم ، بعد فرض حكم الشارع بلزوم تلك المقدمة ولو من باب متمم الجعل يكون موردا لهذا الحكم العقلي ، وهذا الحكم الشرعي لا يمكننا أن نشرّعه من قبل أنفسنا ولو من باب أن الشارع يلزمه المحافظة على ملاكات الأحكام ، لأن ذلك - أعني لزوم محافظة الشارع على ملاكات الأحكام - تابع

ص: 116


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

لأهميتها في نظره ، وذلك أمر راجع إليه ، وليس علمه عندنا وإلاّ لزمنا استكشاف أحكام كثيرة بمجرد اعتقاد صلاحها فينفتق علينا ما لا يمكن رتقه.

ولو سلّمنا ذلك وصححناه لم يكن ذلك بواسطة حكم العقل بقاعدة الامتناع بالاختيار ، لأن تلك قاعدة عقلية في مقام الامتثال والاطاعة واستحقاق العقاب لا دخل لها في مقام تشريع حكم شرعي ، وليست هي قابلة لأن يستنتج منها حكم شرعي مولوي. فراجع ما حررناه في هذا المقام في تحريراتنا (1) ، وراجع ما أفاده في البدائع (2) في مقام الرد على دعوى استحقاق العقاب على تارك تلك المقدمات.

ولا يخفى أنه قدس سره في البدائع بعد أن ردّ على توجيهات وجوب تلك المقدمات بذلك ونحوه اختار كون وجوبها من باب التهيؤ ، وبيّن أنه تابع لدليله من النص في بعض الموارد والاجماع في بعضها وقرائن الأحوال في البعض الآخر. ونحن نصطلح على ذلك الوجوب الذي سمّاه تهيئيا بأنه من باب متمم الجعل ، وهو في الحقيقة تهيئي إلاّ أنه لمّا كان صادرا عن المحافظة على ملاك التكليف النفسي الآتي نقول إنه من باب متمم الجعل بالنسبة إلى ملاك ذلك التكليف الآتي ، فراجع وتأمل.

قوله : وأما الشق الثاني فحاله حال الشق الأول طبق النعل بالنعل ، غاية الأمر أن القدرة ... إلخ (3).

لا يخفى أن هذا الشق يتأتى فيه وفي باقي الشقوق ما ذكرناه في الشق الأول من كون الزمان تارة له المدخلية في الملاك ، واخرى لا يكون كذلك.

ص: 117


1- مخطوطة لم تطبع بعد.
2- بدائع الأفكار للمحقق الرشتي قدس سره : 332.
3- أجود التقريرات 1 : 222 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

وفي كلتا الصورتين يتأتى فيه ما تقدم (1) من الاشكال بأن المدار فيه على ثبوت الوجوب الشرعي الكاشف عن ملاحظة الشارع للملاك والمحافظة عليه بذلك الايجاب المتعلق بالمقدمة السابقة ، ولا دخل لذلك بقاعدة الامتناع بالاختيار ، وأنه لا مورد لها إلا بعد ثبوت ذلك الوجوب الشرعي المتعلق بالمقدمة السابقة.

بل يمكن أن يتأتى فيه إشكال آخر ، وهو أن الملاك إذا كان ناشئا عن تلك القدرة كيف يعقل أن يكون نفس ذلك الملاك مؤثرا في لزوم المحافظة عليها عقلا؟ بل كيف يمكن أن يكون مؤثرا في لزوم المحافظة عليها شرعا؟ فان ذلك لا يخلو عن شبهة الدور أو نظيره ، فانه من قبيل كون المعلول حافظا لعلته ، أو من قبيل كون الحكم حافظا لموضوع نفسه.

بل يمكن أن يقال : إن القدرة بعد فرض كونها دخيلة في الملاك يكون حالها حال السفر أو الحضر في كونهما بمنزلة موضوع الحكم ، ولا ريب في أنّ المكلف له أن يخرج نفسه من موضوع إلى موضوع آخر خصوصا فيما إذا كان قبل حصول الشرط الآخر الذي هو الزمان فيما نحن فيه.

ولقد حاول الشيخ قدس سره في التقريرات (2) دفع هذا الاشكال بابداء الفرق بين ما اخذ عنوانا للمكلف مثل الحاضر والمسافر وبين غيره ، ولكنه لم يأت بشيء يدفعه كما اعترف به المقرر فراجع. وبالجملة : لا بد من إقامة الدليل على المنع حتى في مثل السفر لمن تعيّن عليه الصوم في القضاء المضيق ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة الجواز ، فلاحظ.

ص: 118


1- في صفحة : 112 وما بعدها.
2- مطارح الأنظار 1 : 273.

نعم ، يمكن الأمر الشرعي بنحو متمم الجعل على أن يكون متعلقا بلزوم حفظ القدرة بعد فرض حصولها ، لا بتحصيلها مع فرض عدم حصولها ، ففي مثل ذلك يمكن التفرقة بين حفظ القدرة وبين تحصيلها فيجب في الأول دون الثاني ، لكن بعد ورود الدليل الشرعي على ذلك ، لا أنا نشرّعه من قبل أنفسنا.

ثم إنّ ما افيد في القسم الثالث والرابع من عدم لزوم المقدمة المفوّتة إن كان مستنده هو عدم حصول الملاك قبل الاستطاعة أو عدم حصوله قبل الوقت ، فهو جار في القسم الثاني ، بل هو جار في القسم الأول ، بل هو جار في القسم الثالث فيما بين الاستطاعة وزمان الوجوب فيما لو كان للزمان مدخلية في الملاك. وما افيد بقوله : وهذا بخلاف الأقسام الاول ، إلخ (1) غير نافع في الفرق ، لأنا إذا فرضنا مدخلية الزمان في الملاك لا يكون الملاك حاصلا قبله ، فكيف يتوجه الأمر بالمحافظة عليه قبل حصوله.

نعم ، بناء على ما ذكرناه من التوقف على ثبوت الأمر الشرعي الكاشف عن أهمية الملاك في نظر الشارع لا ينبغي الفرق بين جميع هذه الصور ، فان الشارع لو كان الملاك في نظره ذا أهمية يلزمه الأمر بلزوم كل ما يحفظه سواء كان ذلك الملاك متحققا عند صدور ذلك الأمر الشرعي أو كان موقوفا على ما يأتي من الزمان.

ولا يخفى أن الذي حررته عنه قدس سره يستفاد [ منه ](2) أنّ هذا التقسيم الرباعي لكيفية أخذ القدرة إنما هو في خصوص ما يكون الزمان فيه أجنبيا عن ملاك الحكم ، بحيث يكون مدخليته في ذلك التكليف الآتي مدخلية

ص: 119


1- أجود التقريرات 1 : 223.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

خطابية لا ملاكية ، وأن ما يكون للزمان فيه مدخلية ملاكية بحيث يكون ملاك التكليف الآتي متوقفا على تحقق ذلك الزمان غير داخل في هذا التقسيم ، وأنه خارج عن مورد حرمة تفويت تلك المقدمات. ونحن وإن حررنا فيما علقناه هناك بعض الاشكالات المفصلة على الالتزام بخروج هذه الصورة بما ينبغي مراجعة تلك المباحث المفصلة هناك ممّا يصعب عليّ نقله على تفصيله (1) إلا أن الغرض أن هذا التقسيم الرباعي وإن كان قد صدر منه قدس سره كما حررته في تلك المباحث ، إلاّ أن المنظور إليه في ذلك التقسيم هو خصوص ما كان الزمان فيه شرطا خطابيا ، فراجع وتأمل.

ومن جملة الاشكالات التي حررناها هناك ما أشرنا إليه من أنه لو كان المدار على تفويت الملاك فلا فرق بين كونه حاصلا قبل الوقت أو أنه لا يحصل إلاّ بعد الوقت.

وفي البين إشكال آخر وهو أنه لو لم يكن للزمان مدخلية إلاّ في الخطاب لم يكن اشتراطه حينئذ إلا من ناحية القدرة ، فكيف يكون من أقسامه ما لو كانت القدرة دخيلة في الملاك ، اللّهم إلاّ أن يقال : يمكن التفكيك بين القدرة من ناحية الزمان فلا تكون دخلية في الملاك ، والقدرة من ناحية المقدمة السابقة فتكون دخلية في الملاك. كما أنه يمكن العكس بأن تكون القدرة من ناحية الزمان دخيلة في الملاك ، والقدرة من ناحية المقدمة السابقة أجنبية عنه فلا مدخلية لها إلاّ في الخطاب.

ولا يخفى أن هذا القسم الرابع يمكننا الموافقة فيه على لزوم حفظ

ص: 120


1- وهو من أواخر صفحة 182 إلى صفحة 206. [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

المقدمات فيه بل لزوم تحصيلها ، أما الثاني فواضح ، لأن المفروض تحقق وجوب ذي المقدمة. وأما الأول فلما عرفت من أن المسلّم من جريان قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا هو ما إذا تحقق الوجوب ، وقد تحقق في هذا القسم الرابع.

ولكن يمكن أن يقال : إن ذلك أعني لزوم حفظ القدرة في زمان الواجب إنما يلتزم به فيما لو كانت القدرة شرطا عقليا ، أما لو كانت شرطا شرعيا فلا مانع من تفويتها ولو في زمان الواجب ، لأنه من قبيل تبديل الموضوع وإخراج نفسه من موضوع إلى آخر ، كما في السفر في نهار رمضان قبل الزوال ، فتأمل.

ثم إن الظاهر أن الاستطاعة عبارة اخرى عن القدرة بمنطقة أوسع ، فلا يتصور فرض للصورة الثالثة وهي القدرة قبل زمان الاستطاعة.

وحاصل البحث وخلاصته هو : أن المقدمة المفوتة إن دل الدليل الشرعي على وجوبها قبل وجوب ذيها من نص أو اجماع أو قرينة ولو مثل لزوم لغوية وجوب ذلك الواجب لو لا إيجابها قبلناه ، وصحّحنا ذلك الوجوب الشرعي الوارد على تلك المقدمة بأنه من قبيل متمم الجعل ، أما لو بقينا نحن وتلك المقدمة المفوتة فلا يمكننا الحكم بوجوبها شرعا بدعوى أنه يلزم الشارع أن يوجبها حفظا للملاك ، لأن ملاك وجوب تلك المقدمة شرعا ليس هو مجرد وجود الملاك الآتي الكاشف عنه الوجوب الآتي الذي سيرد على ذي المقدمة ، بل لا بد أن يكون ذلك الملاك الآتي عند الشارع بدرجة من الاهمية على وجه يلزمه المحافظة عليه بايجاب تلك المقدمة ، وهذا أمر علمه عند الشارع لا عندنا.

ص: 121

كما أنا لا يمكننا الحكم بوجوب تلك المقدمة عقلا من باب المحافظة على الملاك الشرعي في التكليف الآتي المتعلق بذي المقدمة ، لما عرفت من أن العقل لا يحكم علينا بلزوم المحافظة على ملاكات التكاليف الشرعية ، بل إنّ ذلك إنما هو وظيفة الشارع خاصة.

وأما استكشاف ذلك الوجوب الشرعي الوارد على تلك المقدمة من حكم العقل بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما يظهر من الكلمات في هذا التحرير ، ففيه :

أوّلا : أن هذا الحكم العقلي على تقدير تسليمه إنما هو في المرحلة المتأخرة عن ثبوت التكليف ، فان هذا الحكم العقلي راجع إلى بيان أن من فوّت تلك المقدمة مستحق للعقاب لكونه عاصيا بسوء اختياره ، وأن هذا الامتناع الناشئ عن تقصيره في المقدمة لا يكون موجبا للمعذورية. وأين هذا الحكم العقلي الراجع إلى تسجيل العصيان واستحقاق العقاب على ذلك المكلف من كونه كاشفا عن حكم شرعي ، وهو وجوب تلك المقدمة شرعا الذي هو المنشأ في تسجيل ذلك العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

وثانيا : أن ذلك لو تم لجرى في كل مقدمة يكون التقصير من ناحيتها موجبا لسلب القدرة على الواجب النفسي.

وثالثا وهو العمدة : أن هذه القاعدة لم يرد بها نص ولم يقم عليها إجماع ، أعني أنها ليست بثابتة شرعا ، وإنما هي من باب حكم العقل باستحقاق العقاب. ونحن في شك من هذه الحكومة العقلية فيما نحن فيه أعني ما لو لم يحصل فعلا شرط الوجوب ، وأن المكلف لو ترك مقدمة في ذلك الحال يكون بنظر العقل مستحقا للعقاب ، ويكون هذا التعذر الناشئ

ص: 122

عن ترك تلك المقدمة قبل حصول شرط وجوب ذيها يكون موجبا لاستحقاق العقاب ، وأن حكم ذلك المكلف من حيث استحقاق العقاب حكم ما لو كان متمكنا من الفعل في وقته وتركه اختيارا. نعم لو كان ذلك التفويت بعد حصول شرط الوجوب لكان من الممكن إلحاقه بالعاصي المتعارف ، أما لو كان ذلك التفويت أو التقصير في تحصيل القدرة قبل تحقق شرط وجوب ذي المقدمة كما هو المدعى فنحن في شك من كونه بحكم العاصي خصوصا فيما يكون القدرة فيه شرطا شرعيا.

والحاصل : أنه ليس لنا إلاّ حكم واحد عقلي وهو لزوم الاطاعة والمنع من المعصية ، وأما حكم العقل بلزوم الاستعداد للاطاعة وهو المعبّر عنه بلزوم تحصيل القدرة وحرمة تفويتها في الظرف الذي لا أمر فيه ولا نهي ، وإنما كل ما في البين أنه يتوجه إليه التكليف فيما بعد ، فذاك مما يمكن منعه وأن العقل لا حكومة له في ذلك.

وأما مسألة الهوي من الشاهق فالظاهر أنه عصيان واحد لتكليف واحد وهو إلقاء النفس في التهلكة أو إتلاف النفس ، فانه منهي عنه وقد فعله بأول إخلاء نفسه من الشاهق ، فليس في البين تكاليف متعدّدة يكون امتثالها ممتنعا بواسطة سوء الاختيار بتقصيره في إزالة القدرة على امتثالها في وقتها من أول ما ألقى نفسه من ذلك الشاهق.

ولو سلّمنا ذلك وأنّ في البين تكاليف متعددة لقلنا إنّ إخلاء النفس من ذلك الشاهق لمّا كان هو المقدمة المفوّتة ، وكان قد دلّ الدليل على حرمته ولو بعموم ( لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (1) كان ذلك ممّا

ص: 123


1- البقرة 2 : 195.

قدمناه (1) من أنه لو ثبت بالدليل الشرعي التكليف بتلك المقدمة لكان مقبولا موجّها بكونه من قبيل متمم الجعل.

وأما المثال الذي افيد من حكم العقلاء بلوم تارك حمل الماء لقاطع المفازة فهو مسلّم ، إلاّ أن ذلك لمّا كان من قبيل متمم الجعل بمعنى أن ذلك الشخص القاطع لتلك المفازة تكون له ارادة لشرب الماء مشروطة بالعطش في تلك المفازة ، وملاك تلك الارادة هو حفظ نفسه من التلف ، كانت إرادته المتعلقة بحمل الماء معه من قبيل إرادة تلك المقدمة المفوّتة في كونها متممة لغرضه من الأمر المشروط بما سيأتي من الزمان الآتي ، فيكون أقصى ما في هذا البرهان هو أن الشارع لا بد أن تتعلق إرادته بتلك المقدمة. وأين هذا من المدعى وهو أن عقل العبد يلزمه بالاتيان بتلك المقدمة محافظة على إرادة الشارع الآتية فيما بعد ذلك.

والحاصل : أن هذا برهان على أن الشارع لا بدّ أن تتعلق إرادته بالمقدمة المزبورة من باب متمم الجعل ، لأنه يعلم أنه عند حصول الشرط فيما يأتي من الزمان لا يتمكن من الأمر بها وإرادتها من المكلف لفرض أنه غير قادر حينئذ ، وأين هذا من أنه لو لم يأمر الشارع بتلك المقدمة كان العقل حاكما بها تنفيذا للإرادة الشرعية الآتية.

ثم لا يخفى أن هذا الوجوب الوارد على المقدمة قبل زمان وجوب ذيها الذي نعبّر عنه بمتمم الجعل الذي قلنا إنه موقوف على ثبوته شرعا ، لا بد أن يكون مشروطا بتوجه الوجوب النفسي إليه فيما بعد ، لكنه ليس من قبيل الشرط المتأخر لأن الشرط إنما هو العنوان المنتزع من تلك النسبة

ص: 124


1- في صفحة : 121 ( قوله : وحاصل البحث ... ).

الاستقبالية ، أعني كونه بحيث يتوجه إليه التكليف النفسي فيما بعد وهذا النحو من العناوين الانتزاعية لا يتوقف على وجود المنتزع منه ، بل هو كما عرفت فيما تقدم (1) في بعض مباحث الشرط المتأخر من لوازم تحقق النسبة الخبرية الاستقبالية ، فانّ من يكلّف فيما بعد بتكليف ينطبق عليه فعلا أنه مكلف في الاستقبال. ولا تنافي بين كون الحمل فعليا والمحمول هو حاصل النسبة الاستقبالية ، فان من يقوم غدا ينطبق عليه فعلا أنه قائم في غد انطباقا حقيقيا على أن يكون « الآن » قيدا وظرفا للنسبة الحملية التطبيقية و « الغد » قيدا وظرفا للنسبة الوقوعية ، على ما حرر في المشتق (2) من أن الاستقبال لو اخذ ظرفا للحدث أعني باعتبار نسبته الوقوعية يكون حمل العنوان المأخوذ منه منطبقا فعلا على الذات انطباقا حقيقيا.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة في أخذ العنوان المنتزع ممّا هو متأخر شرطا فيما هو متقدم جارية في كل ما نضطر إليه من هذا القبيل ، مثل ما سيأتي (3) في كيفية وجوب الصوم بناء على كون الامساك في الجزء الأول من النهار مشروطا وجوبه ببقاء الشرائط في الجزء الأخير منه ، إذ لا محيص لنا حينئذ من أن نقول إن الشرط هو كون المكلف يبقى على حالته إلى آخر النهار.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنه قدس سره في حواشيه على التيمم من العروة (4) منع من الاراقة وأجاز إبطال الوضوء ولو بعد دخول الوقت ، وذلك لا يخلو

ص: 125


1- بل فيما سيأتي في صفحة : 13 من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.
2- في صفحة : 244 من المجلّد الأول من هذا الكتاب.
3- بل فيما تقدم في صفحة : 102 - 103.
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 168 / المسألة 13.

من إشكال شرحناه فيما علقناه على العروة ، فراجع (1).

قوله : هذا في غير التعلم من المقدّمات التي لها دخل في القدرة ذاتا أو وصفا ، وأما هو فحاله حال جميع الطرق في أن وجوبه طريقي لتنجيز الواقع عند الاصابة ، ومخالفته لا تكون موجبا للعقاب ... إلخ (2).

لا يخفى أن وجوب التعلم إن كان في قبال إجراء البراءة قبل الفحص وحينئذ يكون محصل وجوب التعلم هو لزوم الفحص ، فهذا ممّا لا ريب فيه لتنجز التكاليف بمجرد احتمالها إما بالعلم الاجمالي أو بنحو آخر ممّا يذكر في باب لزوم الفحص في باب البراءة في الشبهات الحكمية ، ومن الواضح أن ذلك لا دخل له في لزوم التعلم قبل حصول شرط الوجوب ، وليس هو بلازم عقلا وإنما هو في مقام عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص. نعم في موارد دوران الأمر بين المحذورين حيث لا يمكنه الاحتياط ربما نقول بأنه يلزمه الفحص.

ومن موارد وجوب التعلم موارد أحكام السهو والشكوك في باب الصلاة ، فان تلك الأحكام وإن كانت مشروطة بموضوعاتها أعني السهو والشك إلاّ أنه يجب تعلمها قبل الدخول في الصلاة ليتسنّى له نية إتمام الصلاة عند الشروع فيها ، فتكون مقدمة وجودية بالنسبة إلى وجوب النية. ولكن هذا الاشكال جار في الشكوك المبطلة ، فانه مع احتمالها لا يمكنه نية الاتمام إلاّ مع الركون إلى أصالة عدم طروّها ، وحينئذ يكون هذا الاصل

ص: 126


1- مخطوط ، لم يطبع بعد.
2- أجود التقريرات 1 : 229 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

جاريا في الشكوك التي لا يعلم حكمها.

نعم ، قد نقول إنه واجب قبل وقت الصلاة إما بالدليل الشرعي الخاص من باب متمم الجعل أو من باب استكشاف وجوبه من جهة الابتلاء به غالبا على وجه يكون إيجاب النية في الصلاة عند وقتها لغوا صرفا ما لم يحافظ الشارع على الاقتدار عليها قبل الوقت بايجاب تعلمها من باب متمم الجعل ، نظير ما أفاده قدس سره (1) في مسألة الخروج إلى الحج مع الرفقة مع كون الوجوب الوارد على الحج مشروطا بالزمان المتأخر.

أما وجوب تعلم الأحكام قبل حصول شرطها كما في الصبي المراهق على وجه يكون متفقها في أحكامه ودينه حتى اصول العقائد فذاك يحتاج إلى دليل قوي ، نعم ربما يتجه برهان الغلبة في بعض الأحكام ، لكن الحكم الكلي بوجوب تعلم كل حكم يبتلى به فيما بعد كما هو محل الكلام أول الكلام.

فقد تلخص لك : أن ملاك وجوب التعلم في مسألة البراءة هو رفع احتمال العقاب ، وملاكه في مسألة الشكوك ونحوها هو وجوب نفس النية المتوقفة على العلم بتلك الأحكام ، وأما وجوب التعلم قبل البلوغ وقبل حصول شرط الوجوب فعلى الظاهر أنه لا يكون ملاكه إلاّ الملاك في المقدمات المفوتة. وهكذا الحال في وجوب تعلم أحكام الصلاة من الشكوك وغيرها قبل وقت وجوبها ، نعم من ناحية النية يمكن إصلاحه بالاستصحاب ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا بقوله : ولكنه لا يخفى أن الاستصحاب ... الخ (2). لكن من ناحية اخرى وهي وجوب العمل بحكم

ص: 127


1- أجود التقريرات 1 : 224.
2- أجود التقريرات 1 : 231 [ المنقول هنا موافق مع النسخة القديمة غير المحشاة ].

الشك في ظرفه مع عدم علمه وجهله به عن تقصير ، يكون غير معذور ولا ينفعه الاستصحاب ، وفيه تأمّل.

ومنه يظهر أنه لو جرى الاستصحاب الموضوعي العدمي في مثل الاستطاعة لم يجب بقية المقدمات.

والأولى في ضبط موارد وجوب التعلم أن يقال : إن ذلك إما أن يكون في قبال البراءة ونعبّر عنه بلزوم الفحص ، وليس هو بواجب شرعا ولا عقلا. نعم إنّه شرط في الرجوع إلى البراءة ، فانه لا يصح الرجوع إليها إلاّ بعد الفحص وعدم العثور على ثبوت ذلك التكليف الذي يراد نفيه بالبراءة ، وهو مورد ما افيد من أن الأحكام تتنجز بمجرد احتمالها وأنه طريقي صرف.

والظاهر أنه عقلي لا شرعي ، وهو منحصر بموارد الالتفات إلى نفس ذلك التكليف مع الشك فيه وإمكان الاحتياط ، فيكون في مرتبة الاحتياط ويكون المكلف مخيرا بينه وبين الالتزام بالاحتياط.

ولو لم يكن الاحتياط ممكنا كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين فلا شبهة أيضا في توقف التخيير على الفحص ، فيكون الفحص قبل الرجوع إليه لازما أيضا بملاك تنجز التكليف الواقعي بمجرد الاحتمال. ويمكن أن يقال إنه بملاك تحصيل القدرة على امتثال التكليف الواقعي المحتمل في البين ، فان ترك التعلم في مثل ذلك يوجب عدم القدرة على امتثال التكليف الواقعي ، فان امتثاله في مثل ذلك يكون متوقفا على العلم التفصيلي به.

أما لو كان ترك التعلم موجبا لعدم الالتفات إلى الحكم في ظرفه

ص: 128

بحيث إنه لو لم يتعلم لم يحصل له الالتفات إلى نفس الحكم على وجه يكون عدم التفقه والتصدي لتعلم الأحكام موجبا للقطع بعدم وجوب الفعل الفلاني وعدم حرمة الفعل الفلاني ، ويكون ترك التعلم موقعا له في الجهل المركب كما هو الحال في أغلب العوام ، فانهم لأجل تقصيرهم في التعلم لا يلتفتون إلى وجوب كثير من الواجبات ولا إلى حرمة كثير من المحرمات على وجه أنهم لا يلتفتون إلى احتمال التكليف في مثل ذلك ولا يتمكنون من الاحتياط لأنه فرع الالتفات والشك. ولا ريب في وجوب التعلم عليهم ، لكن لا بملاك تنجز التكاليف بمجرد احتمالها ، لما عرفت من أنهم لا يحتملون التكليف في مثل ذلك ، ولا بملاك مفوّت الرجوع إلى الأصل النافي على الفحص ، بل بملاك مفوّت القدرة ، فان ترك ذلك التعلم موجب للجهل المركب الذي هو القطع بعدم الحكم ، ومع فرض القطع بعدم الحكم لا يكون امتثاله مقدورا.

نعم ، يمكننا القول بأن نفس التكليف الواقعي يكون منجزا ، لا من جهة احتماله بل إنه بنفسه يكون منجزا في مورد إمكان حصول العلم به ولو بواسطة التفقه المنجر إلى العلم به بعد فرض كونه قاطعا بعدمه من جهة جهله المركب. مضافا إلى إمكان القول بأن المكلف وإن كان في ظرف الحكم قاطعا بعدمه بمعنى كونه غافلا عنه ، لكنه عند ما يشعر بأنه داخل تحت قلم التكليف يحتمل على الاجمال أنّ هناك تكاليف تأتي ربما يكون في ظرفها غافلا عنها ، وهذا المقدار كاف في تنجز تلك التكاليف وكونها منجزة ولو بمجرد الاحتمال ، هذا.

مضافا إلى الأدلة الشرعية الدالة على وجوب التعلم والتفقه في الدين

ص: 129

فيكون وجوبه حينئذ وجوبا شرعيا من باب متمم الجعل ، ويكفي في الدليل عليه الأدلة العامة الدالة على وجوب التفقه مثل آية النفر (1) ونحوها مثل حكاية الحساب بقولهم هلاّ تعلمت (2) ونحو ذلك مما يستفاد منه وجوب التفقه ، فان ثبوت هذا الوجوب يكون مصححا لاستحقاق العقاب على المخالفة الناشئة عن الجهل المركب الناشئ عن التقصير في أصل التفقه والتعلم. ويلحق بذلك موارد الالتفات والشك في الحكم مع عدم إمكان الاحتياط ، كما عرفت من موارد دوران الأمر بين المحذورين على وجه لو كان قد تفقه لعرف أن الواقع هو الوجوب مثلا أو هو الحرمة. ومن ذلك ما لو عرف أنّ في البين حكما لكنه لا يعرفه ما هو مثل ما لو علم أنّ من أكل في نهار رمضان عامدا عليه شيء لكنه لا يعرفه ما هو على وجه لا يمكنه الاحتياط فيه لكثرة محتملاته ، بحيث إنه لو كان قد تفقّه وتصدى لتعلم الأحكام الشرعية لعرفه أنه الكفارة المخيرة ، فيكون ترك ذلك منه ولو قبل الابتلاء به بل قبل الابتلاء بوجوب الصوم موجبا لعدم قدرته على امتثاله ، فان لزوم مثل هذا التعلم ليس بملاك تنجز الأحكام بمجرد احتمالها بل هو بملاك متمم الجعل ، وهو داخل في كليات الأمر بالتفقه.

وهكذا الحال في أحكام الخلل في أبواب العبادات ومنها الصوم والحج والطهارات وأهمها الصلاة ، فان الملاك في الجميع واحد وهو توقف القدرة على امتثال تلك التكاليف على ذلك التعلم والتفقه ، أو هو كون الأحكام الواقعية لغوا بدون ذلك التعلم.

ص: 130


1- التوبة 9 : 122.
2- بحار الأنوار 2 : 29 / 10 و 180 / 3 ونصّه : « أفلا تعلّمت ».

وعلى أيّ حال نحن في غنى عن بحث ملاك وجوب ذلك التعلم بعد فرض ثبوته بالأدلة العامة التي عرفت أنها من قبيل متمم الجعل ، وفي أحكام الخلل من باب الصلاة خصوصية أخرى توجب التعلم وهي توقف نية إتمام الصلاة عليه. ولكن يمكن أن يكون الملاك في الجميع هو تنجز الأحكام بمجرد احتمالها ، ويكون حكم الشارع بوجوب التفقه من باب الارشاد ، لكن تمامية هذا الحكم العقلي قبل تحقق شرط التكليف محل تأمل سيما في مورد كون المكلف غافلا في ظرف الحكم.

فقد تلخص لك من هذا كله : أن لزوم التعلم في الموارد التي يمكن فيها الاحتياط لا يكون إلاّ من قبيل الشرط في الرجوع إلى الأصل النافي ، وأن ملاكه هو تنجز الأحكام بمجرد احتمالها ، وفي الموارد التي لا يمكن فيها الاحتياط لا يكون إلاّ بملاك متمم الجعل ، فلا يكون وجوبه إلاّ شرعيا ويتوقف على الدليل عليه ، ويكفي فيه الأدلة العامة الدالة على وجوب التفقه ، من دون فرق في ذلك كله بين أن يكون قبل حصول شرط التكليف أو يكون بعده. وقد عرفت أنه يمكن أن يكون الجميع من باب تنجز الاحتمال ولو قبل الوقت وقبل الفحص حتى في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، بل حتى في صورة القطع بالعدم والغفلة عند الوقت عن احتمال التكليف ، فان ذلك كله من باب تنجز التكاليف بمجرد وجودها ، لا من قبيل تحصيل القدرة على امتثالها. نعم إن ذلك لا يكون إلاّ بمتمم الجعل وإيجاب التعلم شرعا قبل الوقت ، لا من باب حكومة العقل لامكان المنع من حكومة العقل في أمثال ذلك.

أما مسائل الخلل فليست هي من باب توقف نية الاتمام وإلاّ جاء

ص: 131

الاشكال في الشكوك المبطلة ، بل هي أيضا من باب متمم الجعل شرعا ، ومجرد نية الاتمام يسهل الأمر فيها بالاعتماد على أصالة عدم طروّها ، على إشكال فيما تعم به البلوى ويكثر الابتلاء به كما سيأتي (1) توضيحه إن شاء اللّه تعالى. والخلاصة في هذا الأصل : أنه إن كان لأجل إحراز نية الاتمام فلا غبار عليه كما في احتمال طروّ الشك المبطل ، وإن كان لدفع احتمال العقاب لو صادف الشك وخالف الحكم الواقعي ، وهذا على الظاهر لا مانع منه فيكون مؤمّنا على وجه لو اتفق لم يكن مستحقا للعقاب ، ويكون ذلك بمنزلة استصحاب الحجية في حكومته على حكم العقل بقبح التشريع الذي هو أثر ملاك واحد.

وهذا كله إنما يكون في الشكوك التي لا يمكن الاحتياط فيها ، أما ما يمكن فيه الاحتياط ولو بالاتمام والاعادة مثلا عند الشك في مبطلية العارض فالظاهر خروجه عمّا نحن فيه ، ويكون حال الفحص فيه حاله بالنسبة إلى الرجوع إلى البراءة.

قوله (2) : ثم إن وجوب التعلم كما عرفت طريقي والعقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ... إلخ (3).

قد حررت عنه قدس سره في هذا المقام ما لعله أبسط وأوضح ، فالأولى نقل عين ما حررته عنه قدس سره وهو ما يلي :

قال قدس سره : ثم لا يخفى أنّا قبل هذا كنا نشترط في وجوب التعلم أحد أمرين : أحدهما العلم بأنه يتوجه إليه التكليف فيما بعد أو ما يقوم مقامه من

ص: 132


1- في الحاشيتين اللاحقتين.
2- [ وسيأتي تعليق آخر على هذه العبارة في الصفحة 140 ].
3- أجود التقريرات 1 : 230 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الوثوق والاطمئنان. ثانيهما كون ذلك التكليف ممّا تعم به البلوى ، وأنه ما لم يكن في البين أحد الأمرين لا يكون التعلم واجبا. وحيث تنقّح عندنا الآن أن وجوب التعلم طريقي كوجوب الفحص يدور مدار احتمال التكليف واقعا ، كان وجوب التعلم عندنا ممّا يحكم به العقل بمجرد احتمال توجه التكليف فيما بعد وإن لم يكن معلوما أو مما تعم به البلوى. فلا بد لنا من تغيير ما كنا رسمناه في رسائلنا العملية من اشتراط وجوب التعلم بأحد الأمرين المذكورين ، وقد تقدم أن استصحاب عدم حصول الشرط فيما بعد لا ينفع في رفع ذلك الحكم العقلي ، لما حققناه في محلّه من أن الحكم العقلي يكون على نحوين :

أحدهما : ما نصطلح عليه بأنه ذو الحكمين كقبح الظلم فانه ذو حكمين : أحدهما واقعي وهو حكم العقل بقبح ما يكون ظلما واقعا ، ثانيهما طريقي وهو حكم العقل بقبح ما يحتمل كونه ظلما واقعا تحرزا من الوقوع في الظلم الواقعي ، ولأجل ذلك كان الأصل في باب الدماء والفروج والأموال هو لزوم الاجتناب.

النحو الثاني من الحكم العقلي : ما نصطلح عليه بأنه ذو الحكم الواحد كحكم العقل بقبح القول بما لا يعلم ، فانّ مجرد احتمال عدم المطابقة للواقع كاف في الحكم العقلي بالقبح سواء كان في الواقع مطابقا للواقع أم لم يكن ، فلا يكون في البين إلاّ حكم واحد عقلي وموضوعه هو عدم العلم.

والنحو الأوّل من الأحكام العقلية تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية كالاستصحاب لأن المدار فيه على الواقع ، فينفع فيه ما يكون

ص: 133

محرزا للواقع نافيا كان أو مثبتا ، وباحراز الواقع يرتفع الحكم الثاني الذي هو طريقي محض.

أما النحو الثاني فلمّا كان حكما واحدا واقعيا وكان موضوعه هو عدم العلم ، كان الشك وعدم العلم كافيا في تحققه سواء صادف الواقع أو لم يصادفه ، ولازم ذلك أنه لا تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية سواء كانت مطابقة لذلك الحكم العقلي أو كانت مخالفة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن حكم العقل بلزوم التعلم فيما نحن فيه لا يدور مدار الواقع ، بل يدور مدار احتمال توجه التكليف فيما بعد ، فيكون لزوم التعلم حكما عقليا واقعيا وموضوعه احتمال توجه التكليف فيما بعد ، سواء صادف الواقع أو لم يصادف ، وحينئذ لا تجري في مورده الأمارات والاصول الاحرازية ، انتهى.

قلت : لا يقال كيف قلتم إن حكم العقل بوجوب التعلم حكم واقعي وقد تقدم منكم أنه طريقي ، وبالجملة : أن مقتضى ما تقدم منكم من أن وجوب التعلم طريقي أن يكون حكم العقل بلزوم التعلم من النحو الأوّل دون النحو الثاني.

لأنا نقول : مرادنا ممّا تقدم من كون حكم العقل طريقيا أنه طريق إلى التكليف الشرعي فلا ينافي كونه واقعيا في نفسه. وبالجملة أن الطريقية التي ذكرناها في النحو الأوّل إنما هي الطريقية إلى حكم العقل وليست هي الطريقية إلى الحكم الشرعي ، ومن الواضح أن حكم العقل بلزوم التعلم لم يكن طريقيا إلى حكم عقلي بل إنما كان طريقيا إلى الحكم الشرعي ، وذلك أعني كونه طريقا إلى الحكم الشرعي لا يوجب كونه من النحو الأوّل بل هو

ص: 134

من النحو الثاني ، ولا منافاة بين كونه في نفسه واقعيا وبين كونه طريقا إلى الحكم الشرعي.

ثم لا يخفى أنا لو سلمنا أن حكم العقل بلزوم التعلم من قبيل النحو الثاني لم يكن ذلك مانعا من جريان الأصل الاحرازي الحاكم بعدم الابتلاء بذلك الحكم ، مثل استصحاب عدم طروّ الشك أو السهو ونحوهما من موضوعات أحكام الخلل ، ومثل استصحاب عدم حصول الاستطاعة فيما بعد ، فانّ مثل هذا الأصل يحرز له عدم ابتلائه بموضوع ذلك الحكم الذي هو جاهل به فعلا ، فلا يلزمه حينئذ تعلم ذلك الحكم. وليس ذلك إلاّ من قبيل استصحاب الحجية الرافع لموضوع قبح التشريع الذي هو القول بما لم يعلم ، وإن منعنا من الرجوع إلى استصحاب عدم الحجية لكونه من قبيل الاحراز التعبدي لما هو محرز بالوجدان. ومثل أصالة عدم الحجية فيما نحن فيه (1) الأصل الذي يحرز له ابتلاءه بموضوع ذلك التكليف [ فانه ](2) لا يجري ، مثل ما لو وجد الاستطاعة في أوّل العام واحتمل بقاءها إلى أيام الخروج ، إذ لا أثر لجريانه إلاّ لزوم التعلم المفروض أنه محرز بالوجدان ، على تأمل في ذلك أيضا ، لأن هذا الأصل لو جرى يكون موجبا لاخراج المورد عن كونه محتمل التكليف وإدراجه فيما يكون التكليف به محرزا ، وذلك كاف في جريانه.

وبالجملة : أن تارك التعلم استنادا إلى أصالة عدم حصول شرط الوجوب فيما بعد يكون معذورا عقلا ، إذ ليس وجوب التعلم أقوى من

ص: 135


1- [ في الأصل هنا زيادة « نعم » حذفناه لاستقامة العبارة ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

وجوب المقدمة عند الشك في وجوب ذيها وجريان أصالة البراءة من وجوبه ثم يتبين وجوبه بعد عدم التمكن من مقدمته وبقاء وقته ، إذ لا شبهة في كونه معذورا مع كونه عند الترك يحتمل أنّ ذا المقدمة واجب واقعا وأنه بعد ذلك يحتمل أن يثبت وجوبه ، فكما ساغ نفي تلك الاحتمالات بأصالة البراءة فلم لا يسوغ نفي احتمالات الشرط فيما نحن فيه بالاستصحاب ، وبذلك يرتفع تعبدا ما هو موضوع حكم العقل بلزوم التعلم ، وهو احتمال توجه التكليف الذي لا يعلم حكمه فعلا ، فلا يتم ما أفيد من أن موضوع ذلك الحكم العقلي هو الاحتمال الوجداني ، الذي لا ينفع في رفعه النفي التعبدي لكونه من قبيل النفي التعبدي لما هو محرز بالوجدان كما حررته عنه قدس سره (1).

ثم إنه قدس سره أفاد فيما حررته عنه (2) وهذا نصه :

وأما وجوب التعلم فهو وإن أوجب تركه ترك الواجب في وقته إلاّ أنه ليس من باب الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لما تقدم ويأتي في محله إن شاء اللّه تعالى من أن الجهل بالحكم لا يوجب عدم القدرة على الواجب ، لامكان الاتيان به وإن كان جاهلا بحكمه ، فان الأحكام الواقعية يشترك فيها الجاهل والعالم. بل هو داخل في باب آخر وهو الباب الجامع بين وجوب تعلم الأحكام والنظر في المعجزة والفحص عن الأحكام في الشبهات الحكمية وفي بعض الشبهات الموضوعية والفحص عن المخصص والمقيد والمعارض لما في اليد من الدليل ، إلى غير ذلك من موارد وجوب التعلم والفحص ، فان جميع هذه الموارد داخلة في باب

ص: 136


1- في صفحة : 204 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].
2- في صفحة : 204 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

واحد ومندرجة في مناط واحد وهو تنجز الأحكام بمجرد وجودها واقعا ، بل بمجرد احتمال وجودها أو احتمال توجهها فيما بعد ، وأن العقل لا يرى الجهل الناشئ عن التقصير في التعلم والفحص في أمثال ذلك عذرا مؤمّنا من العقاب على مخالفة الواقع لو صادفت ، فيكون وجوب التعلم والفحص في جميع ما هو من هذا القبيل طريقيا لا يترتب على مخالفته سوى العقاب على مخالفة الواقع لو صادفه والتجري لو لم يصادف ، انتهى.

وكنت علّقت على ذلك بما حاصله : أنه إنما يتم فيما لو كان التكليف موجودا واقعا ، فان وجوب الفحص حينئذ يكون توأما مع إيجاب الاحتياط ، ويكون الوجوب حينئذ شرطيا بمعنى أنه لا يصح الرجوع إلى البراءة إلاّ بعد الفحص. أما ما يكون الوجوب فيه مشروطا بشرط لم يحصل بعد ففيه تأمل حتى في صورة العلم بحصول الشرط فيما سيأتي ، إلاّ أن يتمم ذلك بقاعدة الامتناع بالاختيار أو ببرهان متمم الجعل ، لكن الظاهر منه قدس سره هو إتمام الأمر من غير هاتين الجهتين ، هذا.

ولكن الانصاف أن العقل لا يحكم بمعذورية الجاهل المقصر في التعلم ولو كان ذلك بواسطة ترك التعلم قبل الوقت ، ولا أقل من عموم قوله عليه السلام في مقام حكاية محاسبة الجاهل الذي يقال له « هلاّ تعلّمت » (1) فانه شامل لمن ترك التعلم قبل الوقت ، بل لا يبعد أن يكون ذلك هو الغالب.

لكن قد يقال : إنه على تقدير تمامية هذا الاستدلال يكون أيضا من باب متمم الجعل لا من باب أن العقل حاكم وحده بعدم المعذورية. نعم

ص: 137


1- بحار الأنوار 2 : 29 / 10 ، 180 / 3 ونصّه : « أفلا تعلّمت ».

ترك التعلم قبل البلوغ لا يكون موردا لذلك الحكم العقلي أو الشرعي المتعلق بوجوب التعلم بل بوجوب المعرفة على إطلاقها حتى في اصول العقائد ، إذ لا أقل من التمسك فيه بحديث رفع القلم (1) ، وكونه قرين المجنون والنائم الذي لا يكون ما يصدر عنه من فعل أو ترك منشأ لشيء من الآثار.

وبالجملة : الظاهر أن الصبي لا يجب عليه التعلم سواء قلنا إنه شرعي من باب متمم الجعل أو قلنا إنه عقلي طريقي ، فانه لا يصحح عقابه على ما يأتي من التكاليف ، لاطلاق رفع القلم عنه الموجب أنه لا يترتب على أفعاله وتروكه عقاب. فلا يمكن القول بأن حكم العقل بعدم معذوريته يكون مخصصا لحديث رفع القلم كما افيد فيما حررته عنه قدس سره (2) ، وكذلك لا يتم ما افيد فيما حررته (3) من كون جهله الناشئ عن ترك التعلم قبل البلوغ جهل تقصير لا قصور ... إلخ ، فانّ تقصيره منحصر بما إذا تمكن من التعلم بعد البلوغ فتركه اختيارا.

وبالجملة : الظاهر أنه لا أثر لتروك الصبي وأفعاله له حتى في تصحيح العقاب على مخالفة ما يتوجه إليه بعد البلوغ. وما افيد من التخصيص لحديث رفع القلم محل تأمل ، إذ لا مخصص إلاّ هذا الحكم العقلي المدعى وهو عدم معذورية الجاهل ، وقد عرفت أنه لا يجري في حق من كان منشأ جهله هو عدم التعلم قبل البلوغ مع فرض كونه غير متمكن منه بعده.

ص: 138


1- وسائل الشيعة 1 : 45 / أبواب مقدمة العبادات ب 4 ح 11.
2- في صفحة : 192 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].
3- في صفحة : 198 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

ثم لا يخفى أن الذي يظهر من بعض إفاداته قدس سره أن وجوب التعلم شرعي طريقي من باب متمم الجعل ، قال فيما حررته عنه (1) :

وأما وجوب التعلم فليس هو من هذا الوادي أعني الايجاب الغيري ، بل هو من قبيل وجوب الفحص في الشبهات الحكمية وبعض الشبهات الموضوعية ، ووجوب الاحتياط في موارد وجوبه شرعا وسائر الأوامر الطريقية كما في الأمارات والاستصحابات المثبتة للتكليف ، فان جميع تلك الأوامر وإن كانت من قبيل متمم الجعل إلاّ أنها لا تكون إلاّ طريقية ولا يترتب عليها شيء أصلا سوى أنها لو أصابت الواقع كانت إطاعتها إطاعة لذلك الواقع ومخالفتها مخالفة لذلك الواقع ، فيكون الثواب والعقاب على ذلك الواقع ، ولا يكون الأمر الطريقي إلاّ موصلا إلى ذلك الواقع ، ولو أخطأت لم يكن هناك إلاّ الانقياد أو التجري ، من دون فرق في هذه الجهة بين كون الأمر الطريقي هو وجوب التعلم أو وجوب الفحص أو وجوب الاحتياط أو وجوب العمل بالأمارة أو الاستصحاب ، فليست هذه الأوامر مما يدخل تحت قاعدة الامتناع بالاختيار بل هي أوامر طريقية شرّعت لتتميم الغرض من الواجبات الواقعية ، حيث إن تلك الوجوبات الواقعية لمّا لم يمكن تأثيرها في موارد تلك الأوامر الطريقية كان على الشارع المقدس جعل هذه الأوامر الطريقية لتؤثر تلك الوجوبات الواقعية في مواردها ، فتلك الأوامر الطريقية من قبيل متمم الجعل بالنسبة إلى تلك الأحكام الواقعية ، انتهى.

ولا يخفى أنه قدس سره (2) اختار في باب الفحص قبل البراءة أن العقاب

ص: 139


1- في صفحة : 200 [ منه قدس سره ويقصد به تحريراته المخطوطة ].
2- أجود التقريرات 3 : 559 وما بعدها.

يكون على ترك التعلم لكن عند مصادفة التكليف الواقعي ، وهذا لا ينافي ما أفاده هنا ، لأن ما ذكره هناك راجع إلى ما ذكره هنا ، غايته أن العقاب إنما يستحق لو أصاب ذلك الطريق الواقع واتحد به ، فيكون العقاب حينئذ على المجموع أعني الواقع المتحد مع الأمر الطريقي ، في قبال من يقول إن العقاب على مخالفة نفس الطريق أو يقول إنه على مخالفة نفس الواقع. نعم الذي يظهر منه قدس سره هنا أنّ وجوب التعلّم عقلي ، بخلاف ما يظهر منه قدس سره هناك فانه ظاهر في كونه شرعيا.

قوله (1) : ثم إنّ وجوب التعلم كما عرفت طريقي والعقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، وهذا فيما علم المكلف أو اطمأن بالابتلاء في غاية الوضوح ، وكذا فيما كان الابتلاء عاديا ولو كان نفس العادة على خلاف العادة كمسائل الشكوك ... إلخ (2).

الأولى نقل ما حررته عنه قدس سره في هذا المقام (3) لأنّه أوضح ، قال : فقد تلخص أنه يجب التعلم بمجرد احتمال الابتلاء بالتكليف احتمالا عقلائيا نعم لو كان احتمال ابتلائه بالتكليف احتمالا بعيدا خارجا عن مجرى العادة لم يحكم العقل بوجوب تعلم أحكامه (4) ، وربما يعدّ من ذلك أحكام الشكوك والسهو الواقع في الصلاة بالنسبة إلى من يثق من نفسه عدم ابتلائه

ص: 140


1- [ وقد تقدم تعليق آخر على هذه العبارة في الصفحة : 132 ].
2- أجود التقريرات 1 : 230 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- صفحة : 204 [ منه قدس سره ، ويقصد به تحريراته المخطوطة ].
4- وهذا هو ما تقدمت الاشارة إليه [ في صفحة : 132 - 133 ] فيما نقلناه عنه أنه عدل عنه ، وهو موافق لما في المسألة من الوسيلة ، وأما أحكام الشكوك فقد تعرض لها في المسألة التي هي بعد هذه المسألة [ منه قدس سره ].

فيها.

وفيه : أنّ مثل الشكوك والسهو لا يمكن الحكم بحصول الظن الاطمئناني بعدم اتفاقهما لأي مكلّف كان ، لأنّها أطوار نفسانية غير داخلة تحت قاعدة عادية ، بل هي امور قهرية لا يمكن دخولها تحت ضابطة من عادة ونحوها ، فيجب تعلم أحكامهما على كل أحد ، وحيث يجب التعلم فهو طريقي كما تقدم ، لا يترتب على مخالفته سوى العقاب على مخالفة الواقع لو صادفه والتجري لو لم يصادفه ، انتهى.

قال في الوسيلة في ذيل المسألة الثالثة : ولو علم الفوات بالتأخير ( يعني تأخير التعلم ) أو احتمله ، فان علم أنه يبتلى بها لا محالة وجب السبق إلى التعلم ، ولو لم يعلم ذلك فان عمت البلوى بها وجب التعلم أيضا وإلاّ فلا يكفي مجرد احتمال الابتلاء بها في وجوبه (1).

وهذا هو الذي عدل عنه وجعل المدار في وجوب التعلم على مجرد الاحتمال وإن لم يكن مما تعم به البلوى. نعم لو كان احتمال الابتلاء بعيدا على وجه لا يعتني به العقلاء لم يلزم التعلم ، وهنا محل الكلام في الاعتماد على استصحاب عدم تحقق الشرط ، لكنه قدس سره منع من جريان الاستصحاب المذكور ، وقد عرفت أنّه لا مانع منه ، فراجع (2).

ثم قال في المسألة الرابعة : وأما مسائل الشك والسهو فيجب تعلمها تفصيلا على كل تقدير ويكون عاصيا بتركه ، ولو لم يتعلمها فان كان واثقا عند النية بأنّه لا يتفق شيء منها في صلاته ولم يكن متزلزلا في قصده

ص: 141


1- وسيلة النجاة : ه [ لا يخفى أن الصفحات الاولى منها رمز لها بالحروف دون الأرقام ].
2- صفحة : 135.

صحت صلاته ، لكن لمّا كان منشأ عروضها هو الطوارئ الاتفاقية فأنّى له بهذا الوثوق ، انتهى.

ولا يخفى أنّ تسجيل العصيان بمجرد ترك التعلم مناف لما ذكره هنا وفي مسألة الفحص قبل البراءة (1) بأنه إنما يتحقق العصيان واستحقاق العقاب عند اتفاق وجود التكليف واتحاده مع ذلك الأمر الطريقي ، أما نفس التعلم فلا عقاب على مجرد مخالفته ، ولأجل ذلك وجّه الاشكال على ما في بعض الرسائل العملية المنسوبة إليه (2) من كون تارك التعلم عاصيا فاسقا.

ثم لا يخفى أن المقام لا يجري فيه استصحاب عدم الابتلاء بالشك أو السهو إذ ليس له حالة سابقة ، واستصحاب عدم الشك بمفاد ليس التامة لا أثر له إلاّ على تقدير الأصل المثبت.

قوله : خاتمة (3).

هذه الخاتمة معقودة لبيان الخلاف في دوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة ، والترديد ثنائي وإن كان الذي يظهر من الكفاية أنّه ثلاثي ، وذلك قوله قدس سره : وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج بحيث يجب تحصيله أو لا يجب إلخ (4) فجعل الثاني أعني رجوعه إلى المادة مرددا بين كونه على نحو يجب تحصيله وكونه على نحو لا يجب تحصيله ، وهذا مبني على ما أفاده في الايراد على صاحب

ص: 142


1- أجود التقريرات 3 : 559 وما بعدها.
2- أي إلى الشيخ الأعظم قدس سره راجع أجود التقريرات 1 : 231 - 232.
3- أجود التقريرات 1 : 232.
4- كفاية الاصول : 105.

الفصول (1) بقوله : ثم لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور ، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر اخذ على نحو يكون موردا للتكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب أو لا (2) ، إلى آخر تلك المباحث التي كان أغلبها مبنيا على تصور أخذ قيد المادة مفروض الحصول ، ولا يكون من قبيل الوجوب المشروط ، وقد تقدم (3) البحث على ذلك مفصلا ، كما أنه قد تقدم (4) توجيه دخول الشيخ قدس سره في هذا النزاع مع أنّه قائل بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة (5).

وعلى كل حال ، أنّ الذي ينبغي هو تحرير هذه المسألة تحريرا ثنائيا على وجه يكون مطابقا لمذاق القوم من كون القيد في الواجب المشروط قيدا لنفس مفاد الهيئة ، بخلاف ما لو جعلنا واجبا مطلقا وجعلنا القيد راجعا إلى المادة على وجه يكون القيد داخلا تحت الطلب ، فلو تردد الأمر في قيد بين كونه راجعا إلى الهيئة بالمعنى المزبور أو راجعا إلى المادة بالمعنى المذكور (6).

ولا يخفى أنّ الشيخ قدس سره لم يصرح في أنّ ما هو محل النزاع هو القيد المتصل ليكون نظير القيد المتعقب جملا متعددة في كونه موجبا للإجمال ، أو أنّه هو القيد المنفصل ليكون ذلك بعد انعقاد الظهور في كل من الطرفين أعني الهيئة والمادة.

ص: 143


1- الفصول الغروية : 79.
2- كفاية الاصول : 103.
3- في صفحة : 69 وما بعدها.
4- راجع صفحة : 19 وما بعدها.
5- [ في الأصل : المادة ، والصحيح ما أثبتناه ].
6- [ هكذا في الأصل فلاحظ ].

والذي يظهر من الكفاية (1) هو الأوّل ، ولكن الذي يظهر من شيخنا قدس سره (2) هو الثاني وأنّ القيد المتصل لا شك في كونه موجبا لسقوط كلا الاطلاقين ، وإجمال كل من الجهتين أعني المادة والهيئة. ولعلّه يتضح الحال في أثناء الاستدلال والأجوبة إن شاء اللّه تعالى.

ولا يخفى أن استدلال الشيخ قدس سره (3) على تقييد المادة بأنّ عمومها بدلي وعموم الهيئة شمولي والثاني مقدّم على الأوّل ، مخدوش بما أفاده شيخنا قدس سره (4) من أنه إنما يكون في مورد التعارض بين العمومين مثل أكرم عالما ولا تكرم فاسقا ، دون ما نحن فيه مما تردد القيد بين رجوعه إلى المادة ورجوعه إلى الهيئة.

نعم ، لعله يتم استدلاله الثاني من جهة سقوط إطلاق المادة على كل من رجوع القيد إليها ورجوعه إلى الهيئة ، فيبقى إطلاق الهيئة بلا معارض. لكنّه لا يتم على مذهبه من استحالة تقييد الهيئة لكونها معنى حرفيا كما تقدم (5) في توجيه مسلكه هنا من كون المراد من تقييد الهيئة هو اعتبار ورود التقييد على المادة بعد اعتبار طروّ الطلب عليها ، وفي قباله اعتبار طروّ الطلب بعد طروّ التقييد على المادة.

وعلى هذه الطريقة نقول : إن القيد لو كان غير اختياري مثل الزمان ونحوه فلا ريب في لزوم إخراجه عن حيّز الطلب ، ويتعين إرجاعه إلى مفاد الهيئة ، ولو كان القيد اختياريا واتفق وجوده فلا يبقى حينئذ شك ، بل

ص: 144


1- كفاية الاصول : 107.
2- أجود التقريرات 1 : 234.
3- مطارح الأنظار 1 : 252.
4- أجود التقريرات 1 : 238.
5- في صفحة : 12 وما بعدها.

يحكم بتحقق كل من الوجوب ولزوم الاتيان بالواجب لانوجاد القيد المردد بين كونه للهيئة وكونه للمادة.

نعم ، في صورة عدم وجود القيد ، والمفروض إمكان إيجاده مثل أن يقال تصدق بدرهم عند قيامك ، فهل يكون الوجوب مطلقا والواجب هو التصدق المقيد بالقيام ، أو أنّ وجوب التصدق مشروط بالقيام بمعنى أنك إن حصل منك القيام وجب عليك التصدق بدرهم ، ففي مثل ذلك يتعارض إطلاق المادة من ناحية الطلب في مرتبة عروض التقييد عليها ، ومقتضاه أن المقيد هو المادة وأن الطلب طارئ على المقيد والقيد ، مع إطلاق المادة من القيد في مرتبة عروض الطلب عليها ، ومقتضاه طروّ الطلب على نفس المادة وأنّ القيد طارئ على المادة المطلوبة ، ومقتضاه تقيد الطلب ، ومع التعارض والتساقط يكون المرجع في حالة عدم وجود القيد هو أصالة البراءة من الوجوب ، للشك في إطلاقه أو تقييده بالقيد المفروض فعلا عدم وجوده ، فيكون المرجع في ذلك الحال هو أصالة البراءة من الوجوب.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أنّه بعد وصول النوبة إلى التعارض بين الاطلاقين - أعني إطلاق المادة من حيث عروض الطلب في مرتبة طروّ القيد عليها ، وإطلاق المادة من حيث عروض التقييد عليها في مرتبة عروض الطلب ، والأوّل قاض باطلاق الطلب ووجوب القيد ، والثاني قاض بتقييد الطلب وعدم وجوب القيد لكونه حينئذ شرطا للوجوب لا قيدا في الواجب - تأتي طريقة الشيخ من ترجيح الاطلاق الأوّل لكونه شموليا على الثاني لكونه بدليا ، فان المسألة حينئذ تكون من تعارض الاطلاقين نظير تعارض أكرم عالما ولا تكرم فاسقا ، لا من قبيل تردد الدليل الثالث بين هدمه للاطلاق الأوّل أو هدمه للاطلاق الثاني.

ص: 145

ولكن يمكن الخدشة في ذلك بأنّ الشمولي إنما يقدم على البدلي فيما لو تعارضا في مورد واحد الذي هو العالم الفاسق في قوله أكرم عالما ولا تكرم فاسقا ، أما في مثل ما نحن فيه من إطلاق المادة من الطلب في تعلق القيد بها القاضي بكون الطلب مطلقا والمطلوب مقيدا ، وإطلاق المادة من القيد في تعلق الطلب بها القاضي بكون الطلب مقيدا بالقيد وعدم تقيد المطلوب وإن انحصر قهرا في مورد ، فالظاهر أنه لا مورد فيه لهذه القضية القائلة بتقديم الشمولي على البدلي ، فان منشأ التقديم هو كون الشمولي بمنزلة القرينة على التصرف في البدلي ، وهذه الجهة لا تتأتى فيما نحن فيه فتأمل.

قوله : فانّ تقديم الاطلاق البدلي يقتضي رفع اليد عن مقدار من مدلول الاطلاق الشمولي وهو العلماء الفساق ، بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي فانّه لا يقتضي رفع اليد عن مقدار من مدلوله ، فانّ المفروض أنه الواحد على البدل وهو محفوظ لا محالة ، غاية الأمر أنّ دائرته كانت وسيعة فصارت ضيّقة ... إلخ (1).

لا يخفى أنّ هذا المقدار من الضيق الحاصل في مدلول البدلي كاف في كون تقديم الشمولي موجبا للتصرف في ناحية البدلي باخراج ذلك البعض الذي هو مورد العام الشمولي عن مدلول المطلق البدلي.

قوله : وبعبارة أخرى ... إلخ (2).

لا يخفى أنّ هذا مطلب آخر غير ما تقدم وذلك هو ما افيد في باب

ص: 146


1- أجود التقريرات 1 : 236 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 236 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

التعادل والتراجيح (1) من ان العام الشمولي وإن كان إطلاقيا مقدّم على البدلي. وفي وجه التقديم المزبور إشكال حررناه في تعليقنا على ما أفاده قدس سره في ذلك الباب ، وحاصل الاشكال هو أنّ التساوي بين الأفراد إن كان من مقدمات الحكمة في المطلق البدلي فهو أيضا من تلك المقدمات في المطلق الشمولي ، لامكان أن يقال إنّ تسرية الحكم إلى كل فرد من أفراد الطبيعة موقوف على كون ذلك الفرد مساويا لباقي الأفراد في عدم المانع من تسرية الحكم إليه ، كما أن نقول إن سعة الاطلاق البدلي لذلك الفرد متوقف على كونه مساويا لباقي الأفراد في عدم المانع من سعة الحكم وشموله ولو بدليا لذلك الفرد ، فراجع ما حررناه هناك (2) وتأمل.

قوله : وبعبارة اخرى المتيقن تقييد المادة بذاتها ، وأما تقييدها بعد الانتساب فمشكوك يدفعه الاطلاق ... إلخ (3).

حاصل ذلك هو التمسك باطلاق المادة من ناحية كونها ملحوظا فيها الطلب في حال تعلق القيد بها ، فيكون الطلب حينئذ غير مقيد بذلك القيد ، ولازمه هو كون ذلك القيد واقعا تحت الطلب. لكن يعارضه التمسك باطلاق المادة من ناحية القيد المزبور في حال طروّ الطلب عليها فلا يكون ذلك القيد واقعا تحت الطلب ، ولازمه كون ذلك القيد راجعا إلى الطلب يعني إلى المادة من حيث عروض الطلب عليها.

والحاصل : أن كلا من الطلب والقيد من طوارئ المادة ، فان كان الملحوظ أوّلا هو الطلب وطرأ التقييد بالقيد المزبور على المادة الملحوظ

ص: 147


1- فوائد الاصول 4 : 732.
2- في المجلّد الثاني عشر في الحاشية على قوله : لأنّ من مقدمات الحكمة ...
3- أجود التقريرات 1 : 240 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فيها الطلب ، كان ذلك القيد قيدا للطلب. وإن كان الملحوظ أوّلا هو التقييد بالقيد المزبور وكان طروّ الطلب على المادة الملحوظ فيها القيد المزبور ، كان ذلك القيد قيدا للواجب وكان داخلا تحت الطلب ، فكما يمكن التمسك باطلاق المادة من ناحية الطلب في حال طروّ القيد عليها على عدم تقييد الطلب بذلك القيد ليكون لازمه كون القيد داخلا تحت الطلب ، فكذلك يمكن التمسك باطلاق المادة من ناحية ذلك القيد في حال طروّ الطلب عليها ، فلا يكون ذلك القيد داخلا تحت الطلب ، ولازمه كون ذلك القيد قيدا للطلب أيضا ، فراجع ما حررناه في هذه المقامات في تحريراتنا (1).

ولا يخفى أنّ مقابل المادة من حيث تعلق النسبة الطلبية بها وإن لم يكن هو المادة بشرط لا بل هو المادة لا بشرط ، إلاّ أنّه أعني لحاظ المادة لا بشرط مباين للحاظها بشرط شيء الذي هو لحاظها مطروّة للطلب ، فلا يكون من قبيل الأقل والأكثر كي يكون لحاظها بشرط شيء هو المحتاج إلى المئونة الزائدة ، بل هو من قبيل التباين في احتياج كل منهما إلى المئونة ، فان لحاظ المادة لا بشرط القسمي الذي هو المراد في المقام يباين لحاظها بشرط شيء ، وإن كان اللابشرط القسمي والبشرطشيء من قبيل الأقل والأكثر ، فان ذلك إنما هو في الخارج لا في مقام اللحاظ ، وليس المقصود في المقام هو اللابشرط المقسمي لما حقق في محله أن ذلك أعني اللابشرط المقسمي خارج عن دائرة الأحكام.

ثم لو سلّمنا كونهما من قبيل الأقل والأكثر وأن لحاظ المادة بشرط شيء يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام اللحاظ ، فذلك بمجرده غير نافع ،

ص: 148


1- مخطوطة لم تطبع بعد.

لأنّ زيادة المئونة في مقام اللحاظ إنما تنفع لو كانت موجبة لزيادة المئونة في مقام الاثبات وفي عالم الدلالة وعالم الحكاية اللفظية ، فانه حينئذ يمكن التمسك بالاطلاق اللفظي على عدمها ، أما إذا كانت مقصورة على مقام اللحاظ فقط فلا مورد فيها لأصالة الاطلاق. نعم يمكن الاعتماد في نفيها على أصالة العدم وذلك مطلب آخر غير التمسك بالاطلاق اللفظي ، والاعتماد عليه في المقام في غاية الاشكال ، مضافا إلى ما عرفت من أنّ المقام من قبيل التباين لا من قبيل الأقل والأكثر لحاظا ، فتأمل.

ثم لا يخفى أن هذا كلّه بناء على طريقة الشيخ قدس سره (1) في كون القيد في الواجب المشروط قيدا للمادة بلحاظ النسبة الطلبية ، وأما بناء على مسلك المشهور من رجوع القيد ابتداء إلى مفاد الهيئة فالتمسك باطلاق الهيئة عند التردد واضح ، لأنّ الاطلاق في ناحية الهيئة حينئذ بلا مزاحم لسقوط إطلاق المادة ، إما لكونها هي المقيدة أو لكون المقيد هو الهيئة الموجب لتقييد المادة وانحصارها بمورد وجود القيد انحصارا قهريا ، وحيث قد سقط التمسك باطلاق المادة كان إطلاق الهيئة باقيا بحاله بلا مزاحم ، هذا في القيد المنفصل. والظاهر أنه كذلك في القيد المتصل ، إلاّ أن يدعى أن اتصال القيد يوجب الاجمال في ناحية الهيئة أيضا ، فلاحظ وتأمل.

وأما ما افيد (2) من التمسك باطلاق القيد على عدم أخذه مفروض الوجود ، فيمكن التأمل فيه من جهة ابتنائه على كون الفرق بين قيد الوجوب وقيد الواجب بعد فرض تساويهما في الرجوع إلى نفس المادة في حال طروّ الطلب عليها ، بأن الأوّل مأخوذ مفروض الوجود بخلاف الثاني ،

ص: 149


1- كما تقدم استظهاره في صفحة : 19 وما بعدها.
2- أجود التقريرات 1 : 341.

وقد تقدم (1) أنه بعد الاعتراف برجوع كل منهما إلى المادة في حال طروّ الطلب عليها لا محصل لأخذ القيد مفروض الوجود ، بل يكون تقيد المادة بالقيد في حال طروّ الطلب عليها موجبا لدخول ذلك القيد تحت الطلب ، ولأجل ذلك أشكلنا على الواجب المعلّق بأنّ لازمه وجوب جرّ الزمان وإلاّ كان لصاحب الفصول أن يجيب بأنه لا يستدعي جرّ الزمان ، لأنّ الزمان قد أخذ مفروض الوجود.

والحاصل : أنّ أخذ القيد مفروض الوجود لا يلتئم مع كون المقيد به هو المادة في حال طروّ الطلب عليها ، وإنما يلتئم مع كون المقيد هو الطلب لا المادة المعروضة للطلب بأن المقيد هو المادة من حيث عروض الطلب عليها كما هو المبنى ، فان كون القيد راجعا إلى المادة المعروضة للطلب لا يناسب أخذ القيد مفروض الوجود ، بل يكون الذي هو مفروض الوجود حينئذ هو الطلب. هذا مضافا إلى أنّ أخذه مفروض الوجود كأخذه غير مفروض الوجود لا يكون لذلك القيد إطلاق ينفيه ولا يثبته ، فراجع ما حررناه في هذا المقام على ما حررناه عنه قدس سره (2).

وان شئت فقل : إنّ أخذ القيد مفروض الوجود لا يلتئم مع مسلك الشيخ قدس سره بل لا يلتئم مع مسلك الجماعة الذين يقولون برجوع القيد إلى الهيئة ، وإنما يلائم ما تقدم (3) فيما شرحناه من كون ذلك راجعا إلى القضايا الشرطية ، وأن الأداة تربط بين جملة الشرط وجملة الجزاء على نحو كون

ص: 150


1- في صفحة : 16 - 18.
2- مخطوطة لم يطبع بعد.
3- في صفحة : 33 وما بعدها.

الثاني ثابتا على تقدير وجود الأوّل ، وهو عبارة أخرى عن جعل المسبب على تقدير وجود السبب أو جعل السببية بينهما ، وهذا المفاد كما هو محقق في مقام الاثبات يكون هو المحقق في مقام الثبوت ، فان المجعول واقعا هو الوجوب على تقدير وجود الزوال ، وهو على طبق الجملة القائلة إذا زالت الشمس فصلّ ، فيكون مقام الاثبات منطبقا على مقام الثبوت ، وهكذا الحال لو قلنا بجعل السببية.

وعلى كل حال أنّ ما أفاده الشيخ قدس سره وكذلك ما أفاده الجماعة من جعل القيد راجعا إلى مفاد الهيئة لا يطابق القول بجعل المسبب ولا القول بجعل السببية ، كما أنه لا يطابق القول بأنّ ما هو شرط الوجوب يكون مفروض الوجود ، ومع قطع النظر عن ذلك كلّه فدعوى كون أخذ القيد مفروض الوجود محتاجا إلى عناية زائدة يكون إطلاق نفس القيد نافيا لها ، مما لم أتوفق لمعرفة الوجه فيه.

وأما الوجه الثالث فهو راجع إلى دعوى ظهور القيد في كونه راجعا إلى المادة بنفسها لا إليها من حيث طروّ الطلب عليها ، وذلك أمر آخر غير ما نحن بصدده من دعوى التمسك باطلاق المادة.

قوله : وأما إذا كانت لبية من إجماع ونحوه فيجري فيه الوجهان الأوّلان ... إلخ (1).

لا يخفى أنه لا يتأتى الوجه الثاني أعني التمسك باطلاق القيد فيما لو كان دليل التقييد لبيا مثل الاجماع ، إذ لا لفظ في البين في ناحية القيد كي يتمسك باطلاقه.

ص: 151


1- أجود التقريرات 1 : 242 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

قوله : فان تقييد الهيئة كما عرفت غير معقول ... إلخ (1).

قد تقدم في مطاوي الأبحاث السابقة (2) أنّ الشيخ قدس سره لا يريد التمسك باطلاق الهيئة ، بل إن مبنى كلامه قدس سره على أن الفرق بين قيد الوجوب وقيد الواجب هو كون الأوّل راجعا إلى المادة ملحوظا فيها الطلب ، والثاني راجعا إليها قبل طروّ الطلب ، وأنه في مورد الدوران يكون رجوع القيد إلى المادة ملحوظا فيها الطلب موجبا لانهدام إطلاق المادة بذاتها ولتقييد ذلك الطلب لبا ، بخلاف رجوعه إلى المادة قبل طروّ الطلب عليها فانه لا يوجب إلاّ سقوط إطلاق ذات المادة ، من دون أن يكون له مساس بناحية الطلب فيكون الثاني أولى من الأوّل. نعم يرد عليه أن العمل الذي يكون موجبا لانهدام الاطلاق في ناحية ذات المادة ليس هو على خلاف الأصل ، فراجع وتأمل.

ص: 152


1- [ هذه العبارة وردت في النسخة القديمة غير المحشاة بعنوان الإشكال على ما أفاده الشيخ قدس سره من دوران الأمر بين تقييد المادة فقط أو تقييد الهيئة المستلزم لبطلان محل الإطلاق في المادة. وقد حذفت هذه العبارة في الطبعة الجديدة المحشاة ].
2- راجع صفحة : 144 ، 147 وما بعدها.

[ الواجب النفسي والغيري ]

قوله : وما قيل من أنّها مقدورة بالواسطة - إلى قوله : - إنّه إنّما يتم في الأفعال التوليدية لا في العلل المعدّة (1).

سيأتي في ص 185 (2) من مباحث مقدمة الواجب ما مفاده خروج العناوين التوليدية عن مبحث المقدمة ودخول الأسباب في محل النزاع ، أعني خصوص ما يكون المسبب فيها مباينا في الوجود للسبب ، وأن هذا القسم من الأسباب هو مورد قولهم إن المقدور بواسطة القدرة على سببه مقدور ، وذلك مثل شرب الماء ورفع العطش ، بل هو مثل الخطوة الأخيرة من قطع المسافة إلى الكوفة مثلا بالنسبة إلى الواجب الذي هو الكون في المسجد ، فانه أعني الكون في المسجد مسبب عن مجموع تلك الخطى غير أن الجزء الأخير هو الذي ينشأ عنه المسبب المذكور ، وذلك المسبب مقدور بواسطة القدرة على سببه.

قوله : وأما الثاني : فلأنّ حسن الأفعال إن كان ناشئا من مقدميتها لمصالح فيها فهو عين الالتزام بالوجوب الغيري (3).

قال في الكفاية : فالأولى أن يقال إن الأثر المترتب عليه وإن كان لازما

ص: 153


1- أجود التقريرات 1 : 244.
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 319 - 320 من الطبعة الحديثة.
3- أجود التقريرات 1 : 244 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

إلاّ أن ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله بل وبذم تاركه ، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا ، بخلاف الواجب الغيري لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي ، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلاّ أنه لا دخل له في إيجابه الغيري (1).

وكنا شرحنا قوله الأوّل : ولا ينافيه ، أن وجه عدم المنافاة أن كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا يكون مؤكدا لطلبه النفسي لا أنه موجب لتعلق طلب آخر به من مقولة الطلب الغيري. ويظهر هذا من قوله في الواجب الغيري : لتمحض وجوبه الخ ، فانه دليل على أن الطلب النفسي غير متمحض بل هو من جهتين النفسية والغيرية. وشرحنا قوله ثانيا : ولا ينافي الخ ، أنّ وجه عدم المنافاة هو أنّ الطلب الغيري يكون في طول الطلب النفسي ، فلا يكون ذلك من قبيل اجتماع المثلين ولا من قبيل التأكد ، فتأمل. هذا ما كنا شرحنا به العبارة المذكورة في تعليقاتنا على الكفاية.

ولكن لا يخفى أن هذه الطوليّة لا اختصاص لها بالقسم الثاني ، بل يمكن أن تأتي في القسم الأوّل أيضا. ومنه يظهر لك أنه لا وجه لكون الوجوب في القسم الثاني ممحضا للغيرية.

والحاصل : أنه بناء على هذا الذي أفاده من كون ذي الأثر ذا عنوان حسن في حد ذاته مضافا إلى كونه مقدمة لأمر مطلوب ، يكون ذلك الفعل مجمعا للملاكين النفسية والغيرية ، فان كانت الطولية نافعة في اجتماع الوجوبين كانت جارية في كل من القسمين ، وإلاّ كان اللازم هو الالتزام

ص: 154


1- كفاية الاصول : 108.

بالتأكد في كل من القسمين ، ومجرد تغيير العبارة بجعل الحسن الذاتي في الأوّل مقدّما في الذكر على كونه مقدمة لواجب آخر وجعل كونه مقدمة مقدما في الذكر في القسم الثاني على كونه ذا عنوان حسن ، لا يوجب تغييرا في أصل المطلب أعني كون الفعل مضافا إلى حسنه الذاتي مقدمة لواجب آخر ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام بأن ذلك الفعل يكون مجمعا لكل من الوجوبين ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ ظاهره هو أن الفعل يكون في حد نفسه ذا عنوان حسن ، وأنه بواسطة ذلك العنوان يمدح فاعله ويذم تاركه ، هذا قبل تعلق الوجوب الشرعي به ، وأن ملاك هذا الوجوب الشرعي هو حسنه الذاتي الموجب لمدح فاعله وذم تاركه مع قطع النظر عن تعلق الايجاب الشرعي به ، وليس لنا من الواجبات الشرعية ما يكون كذلك أعني أنه يمدح فاعله ويذم تاركه مع قطع النظر عن تعلق الوجوب الشرعي إلاّ ما يقال من مثل حسن الاحسان ، وأين ذلك من جميع الواجبات النفسية عبادية كانت أو توصلية ، وظاهره أن جميع الواجبات تكون كذلك من جهة الالتزام بترتب المصالح عليها ، وأنه قدس سره يلتزم بوجوب تلك المصالح ويريد أن يقول إنه لا منافاة بين كون تلك الأفعال مقدمة لتلك المصالح اللازمة وبين كونها واجبة نفسيا لكونها معنونة بعنوان حسن ، لأنه قدس سره يريد أن يجمع بين كون تلك الأفعال واجبة نفسيا وبين كونها مقدمة لواجب آخر ، وهو الفائدة المترتبة عليها أعني المصالح الحاصلة من تلك الأفعال.

وثالثا : أن الحسن الذاتي للفعل منحصر بترتب المصلحة على ذلك الفعل ، فلو لا تلك المصالح المترتبة على تلك الأفعال لم تكن معنونة بعنوان حسن يقتضي إيجابها نفسيا. وبعبارة أخرى أن المقتضي للوجوب النفسي

ص: 155

هو ترتب المصلحة على ذلك الفعل ، لا أنه من حيث ترتب المصلحة عليه يكون واجبا غيريا ومن حيث عنوانه الحسن يكون واجبا نفسيا.

ورابعا : أنه قد حقق في محله (1) أنّ المصالح المترتبة على الأفعال لا يتعلق الوجوب النفسي بها ، بل إن الوجوب النفسي إنما يتعلق بنفس تلك الأفعال التي تترتب عليها تلك المصالح ، فلا تكون تلك المصالح إلاّ عللا غائية للوجوب النفسي المتعلق بتلك الأفعال ، لا أنها بنفسها تكون واجبة نفسية وتكون تلك الأفعال مقدمة لتلك المصالح المترتبة عليها ، إذ ليست هي من قبيل العناوين الثانوية بالنسبة إلى تلك الأفعال ، أعني كونها بالنسبة اليها من المسببات التوليدية ، وإلاّ كان اللازم هو الالتزام بالاحتياط عند الشك في الجزئية والشرطية بالنسبة إلى تلك الأفعال ، ولا يبقى مجال للرجوع إلى البراءة في شيء من ذلك.

قوله : نعم ، يرد على تعريف المشهور النقض بوجوب المقدمات التي يترتب على تركها فوت الواجب في ظرفه ، فانّه داخل في تعريف الوجوب الغيري على تعريف المشهور ، مع أنّه من أقسام الوجوب النفسي (2).

يمكن إصلاح تعريف المشهور بأنّ مرادهم من الواجب الآخر ما يكون واجبا فعلا ، ولا ريب أن الواجب الآخر في هذه المقدمات ليس بواجب فعلا فلا يصدق عليها بأنها واجبة للتوصل إلى واجب آخر ، والأمر في ذلك سهل لأنه تابع لقصد المعرفين ولا مشاحة في القصد.

ص: 156


1- أجود التقريرات 1 : 56 - 59.
2- أجود التقريرات 1 : 244.

قوله : ثم إنه إذا شك في واجب أنّه نفسي أو غيري ، فقد أفاد صاحب التقريرات قدس سره عدم إمكان التمسك بالاطلاق لاثبات النفسية ، لأن مفاد الهيئة جزئي غير قابل للتقييد ... الخ (1).

الذي يظهر من مجموع هذه الكلمات من تقرير مطلب الشيخ (2) وتقرير إشكال الكفاية (3) عليه ، والاشكال على إشكال الكفاية ، والاشكال على مطلب الشيخ قدس سره ، هو أن الشيخ قدس سره يمنع من تقييد مفاد الهيئة لكونه جزئيا حقيقيا ، وأن جزئيته إنما نشأت من كونه حرفيا ، وعليه فيكون محل النزاع هنا مبنيا على محل النزاع في المعنى الحرفي وأنه هل يكون جزئيا أو أنّه يكون كليا ، فكأنّ الشيخ قدس سره يقول بكونه جزئيا وصاحب الكفاية يقول إنه كلي ، وشيخنا قدس سره يورد عليهما بأن المانع من التقييد هنا ليس هو الجزئية ، بل إن المعنى الحرفي وإن قلنا بأنّه كلّي بأن بنينا على عموم الموضوع له والمستعمل فيه ، يكون المانع من قابليته للتقييد هو كون المعنى الحرفي آليا.

ولا يخفى أن هذا النزاع - أعني كون المعنى الحرفي جزئيا أو كونه آليا - ليس بالنزاع الجديد ، ولكن الذي يظهر من كلام الشيخ قدس سره في التقريرات (4) هو أن في البين مطلبا آخر وهو كون مفاد الهيئة جزئيا باعتبار كونه عبارة عن نفس الصفة المنقدحة في نفس الطالب ، لأنه يقول : والتحقيق هو القول بأن هيئة الأمر موضوعة لخصوصيات الطلب المنقدحة

ص: 157


1- أجود التقريرات 1 : 245 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- مطارح الأنظار 1 : 332 وما بعدها.
3- كفاية الاصول : 109.
4- مطارح الأنظار 1 : 332.

في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ، ولا تختلف تلك الافراد باختلاف الدواعي اختلافا يرجع إلى اختلاف الطلب نوعا ، إلى أن قال ما حكاه عنه في الكفاية (1).

والظاهر من هذه الكلمات هو أن جزئية مفاد الهيئة من جهة كون مفادها هو الطلب الواقعي المنقدح في نفس الطالب ، ولأجل ذلك يتجه عليه ما في الكفاية من أن ما في نفس الطالب غير قابل للانشاء.

ولكن لا يخفى أن هذا ليس من قبيل خلط المفهوم بالمصداق بل هو أعظم منه ، إذ لا ربط لما هو قائم في نفس الطالب من الصفة النفسية بما هو المنشأ بالصيغة. نعم إن ما ينشأ بالصيغة هو مصداق الطلب في قبال مفهوم الطلب الذي هو اسمي ، وهذا هو محل الخلط بين المفهوم والمصداق ، وأما ما يكون من الطلب قائما بنفس الطالب فهو أمر آخر غير ما ينشأ ويوجد بالصيغة وغير ذلك المفهوم الكلي ، فراجع وتأمل.

قوله : ثم إنّه لو كان لأحد الدليلين إطلاق دون الآخر ، فيتمسك به لنفي كلا التقييدين أحدهما بالمطابقة والآخر بالملازمة ... الخ (2).

مثلا لو جرت أصالة الاطلاق في ناحية المادة المأمور بها نفسيا أعني الصلاة مثلا وحكمنا بأنّ الصلاة غير مقيدة بالغسل ، كان لازم هذا الاطلاق هو كون الوجوب الوارد على الغسل وجوبا نفسيا ، وهذا واضح بعد الفراغ عن كون أصالة الاطلاق من قبيل الأمارات التي يترتب عليها لازمها. أما العكس بأن ثبت الاطلاق في ناحية وجوب الغسل ولم يثبت في ناحية

ص: 158


1- كفاية الاصول : 108 - 109.
2- أجود التقريرات 1 : 246 - 247.

المادة في وجوب الصلاة ، فلا يكون إطلاق الأمر بالغسل إلاّ نافيا كونه غيريا ومعينا لكونه نفسيا.

لكن هذا أعني ثبوت وجوب الغسل نفسيا لا يلزمه عدم تقيد الصلاة به ، لامكان كونه قيدا فيها مع فرض كونه واجبا نفسيا ، فلا ملازمة بين كون وجوب الغسل نفسيا وبين كون الصلاة غير مقيدة به ، لامكان أن يجتمع في الغسل كلا المطلبين أعني كونه واجبا نفسيا وكونه مقدمة للصلاة أيضا لكونه شرطا فيها ، كما في صلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنا نعلم من الخارج أنه ليس للغسل ملاكان أو وجوبان بل ليس في البين إلاّ مطلب واحد ، وهو هذا الذي تضمنه قوله اغتسل ، المردد بين النفسية والغيرية ، وأنه على الأول أعني النفسية نقطع من الخارج أنه ليس بشرط في الصلاة ، فبناء على هذا الفرض يكون عدم تقييد الصلاة بالغسل ملازما لكون وجوبه نفسيا ، فاذا ثبت كون وجوبه نفسيا باطلاق الهيئة في اغتسل دل ذلك بالملازمة على إطلاق الصلاة وأنها غير مقيدة بالغسل.

لكن هذه ملازمة اتفاقية يشكل الحكم فيها بترتب اللازم على الأصل اللفظي العقلائي ، فانّ العقلاء إنما يرتبون اللوازم على مجاري الاصول اللفظية فيما لو كان اللزوم واضحا بينا لا فيما إذا كان اتفاقيا ناشئا عن المصادفات الاتفاقية. ولو تم الاطلاق من الجانبين توافقا ولزم العمل بهما.

ولا يخفى أن الاطلاق من الجهة الاولى أعني مادة الواجب النفسي إنما ينفع في نفي الوجوب الغيري عمّا يحتمل وجوبه الغيري فيما لو كان وجوبه الغيري من جهة احتمال كونه قيدا في المأمور به النفسي ، دون ما لو

ص: 159

كان احتمال وجوبه الغيري ناشئا عن كونه مقدمة عادية لواجب نفسي آخر.

تنبيه وتكميل :

لا يخفى أن الشيخ قدس سره في التقريرات بعد أن برهن على عدم إمكان تقييد الطلب بما قدّمنا (1) نقله من أن هيئة الأمر موضوعة لخصوصيات الطلب المنقدحة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها ولا تختلف تلك الأفراد باختلاف الدواعي اختلافا يرجع إلى اختلاف الطلب نوعا ، إلى آخر ما نقله عنه في الكفاية من اتصاف الفعل بالمطلوبية بواسطة واقع الطلب لا بواسطة مفهوم الطلب ، قال : نعم يصح التمسك بالاطلاق من جهة المادة حيث إن المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلم الحكيم ، وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالاطلاق ، ويحكم بأن الواجب نفسي غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الاتيان به مع إمكانه انتهى (2).

ولم أتوفق لمعرفة الوجه في التمسك باطلاق المادة من قوله اغتسل على كون الوجوب نفسيا ، إذ بعد فرض منع التمسك باطلاق الهيئة كيف يقال إنه يجب على الحكيم بيان أن الواجب نفسي غير منوط بالغير.

ولعله قدس سره يريد أنه لو كان الوجوب غيريا لكان ذلك الوجوب مشروطا بوجوب ذلك الغير ، فيكون حاله حال الوجوب المشروط في كون القيد راجعا إلى المادة من حيث تعلق الطلب بها ، فيتمسك باطلاق المادة

ص: 160


1- في صفحة : 156 - 157.
2- مطارح الأنظار 1 : 333.

من حيث تعلق الطلب بها على أن الوجوب مطلق غير مشروط ، وحينئذ يكون ذلك راجعا إلى ما أفاده شيخنا قدس سره من قوله : فلا بد وأن يرجع إلى نتيجة الجملة وهو وجوب الغسل ، أو إلى المادة المنتسبة ، الخ (1).

ولكن لا يخفى أنه لو كان المانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة هو مجرد كونه معنى حرفيا لأمكن إصلاحه بهذه الحيلة من جعل معروض القيد هو المادة من حيث تعلق النسبة الطلبية بها ، أو هو حاصل الجملة أعني وجوب الغسل كما تقدم (2) تفصيله في الواجب المشروط ، لكن قد عرفت أنّ ظاهر كلامه هو أن المانع أمر آخر وهو كون مفاد الهيئة هو الطلب الواقعي النفساني الذي هو صفة منقدحة في نفس الطالب ، ومن الواضح أن ذلك الطلب الواقعي الذي هو عبارة عن تلك الصفة النفسانية القائمة بنفس الطالب التي هي نظير العلم والقدرة والشجاعة ، كما أنه غير قابل لطروّ التقييد عليه ابتداء لا يكون قابلا لطروّ التقييد عليه بواسطة طروّ القيد على المادة الملحوظ تعلق ذلك الطلب بها ، ليكون القيد واردا على المادة من حيث عروض ذلك الطلب عليها ، ليكون المقيد في الحقيقة هو عروض الطلب عليها ، فانّ تلك الصفة النفسانية لا تقبل التقييد بهذه الوسيلة كما لا تقبله ابتداء.

وهنا إشكال آخر يرد على دعوى كون الوجوب الغيري مشروطا بوجوب ذلك الغير ، وحاصل الاشكال هو أن وجوب الغسل غيريا وإن كان معلولا لوجوب الصلاة وكان وجوب الغسل باعتبار كونه مقدمة للصلاة

ص: 161


1- أجود التقريرات 1 : 246.
2- في صفحة : 33 وما بعدها.

مشروطا بوجوب الصلاة ، بمعنى أن كلي المقدمة يكون وجوبها مشروطا بوجوب ذيها ، إلا أن هذا الوجوب الكلي الطارئ على كلي المقدمة ليس هو محل الكلام ، وإنما محل الكلام هو ذلك الوجوب الشخصي الوارد على الغسل الذي هو مفاد قوله اغتسل بعد قوله صل ، فانه لا يكون مشروطا بوجوب الصلاة ، بل يكون وزان هذا الوجوب الخاص الحاصل بقوله اغتسل بعد قوله صل وزان القضية الخارجية المتضمنة إيجابا على الشخص الخاص في مورد تحقق ما هو شرط لذلك الوجوب ، لا أنا نقول إن الوجوب المشروط ينقلب مطلقا عند وجود شرطه ، بل نقول إن المعلول الذي هو وجوب الغسل الذي يتكفله قوله اغتسل بعد قوله صلّ لا يكون مقيدا بوجوب الصلاة ، إذ لا محصّل لقوله اغتسل إذا وجبت عليك الصلاة بعد قوله صل. نعم لو كان الأمر بالاغتسال غيريا وكان صدوره قبل الأمر بالصلاة صح تقييده بوجوب الصلاة ، بأن يقول اغتسل إذا أمرتك بالصلاة ثم بعد ذلك يقول صل.

وبالجملة : أنّ هذا الخطاب أعني قوله اغتسل بعد قوله صلّ ، لا يكون إلا من قبيل القضية الخارجية التي يكون العلم بتحقق الشرط موجبا لتوجه الايجاب المطلق إلى الشخص ، فلا يكون المؤثر في ذلك الايجاب المطلق إلا العلم بتحقق الشرط ، لا أنّ المنشأ يكون مشروطا بوجود الشرط واقعا. نعم لو كان لوجوب الصلاة شرائط خاصة بها كان وجوب الغسل غيريا مشروطا بها تبعا لوجوب الصلاة ، كما لو قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، وورد قوله : اغتسل ، مجردا عن ذلك الشرط أعني الزوال ، فانّ إطلاق الأمر بالاغتسال من ناحية هذا الشرط أعني الزوال كاشف عن أنّه ليس مقدمة للصلاة ، إلا أنّه خارج عمّا هو محل الكلام ، لأنّ الكلام إنّما هو

ص: 162

في مفاد قوله اغتسل ، بعد أن تحقق الأمر بالصلاة.

ويمكن دفع هذا الاشكال بأنّ قوله اغتسل بعد قوله صلّ لو كان وجوبه غيريا لا يخرج عن كونه من القضايا الحقيقية ، فان حاصل قوله اغتسل هو توجه الأمر بالغسل إلى من توجه إليه الأمر بالصلاة ، فكأنّه قال يا أيها الذي توجه إليه الأمر بالصلاة اغتسل ، فيكون توجه الأمر بالصلاة موضوعا لتوجه الأمر بالغسل ، وذلك عبارة اخرى عن أنّ وجوب الغسل مختص بمن توجه إليه الأمر بالصلاة ، فيكون الأمر بالصلاة شرطا في توجه الأمر بالغسل بحسب اللب والواقع ، وإن لم يكن الأمر بالغسل في مقام توجه الأمر بالصلاة مشروطا خطابا بتوجه الأمر بالصلاة ، استغناء عن ذلك بوجود ما هو الشرط لبا وواقعا ، فتأمل.

ثم لا يخفى أنّه بناء على تقييد المقدمة بالايصال أو بقصد التوصل يمكن التمسك باطلاق المادة في مثل قوله اغتسل على كون الوجوب نفسيا ، بتقريب أنّه لو كان وجوب الغسل غيريا لكان الغسل مقيدا بالايصال أو بقصد التوصل ، وحيث إنه لم تقيد مادة الغسل بذلك كشف عن كون ذلك الوجوب المتعلق به وجوبا نفسيا لا غيريا. لكن هذا التقريب متوقف على كون الايصال أو قصد التوصل قيدا شرعيا في وجوب ما هو المقدمة ، وسيأتي (1) إن شاء اللّه أن ذلك ليس من التقييدات اللفظية كي يتمسك باطلاق المادة على عدم اعتباره ليجعل ذلك الاطلاق دليلا على كون وجوبه نفسيا لا مقدميا.

وهناك طريقة اخرى للتمسك باطلاق قوله اغتسل على كونه نفسيا

ص: 163


1- راجع أجود التقريرات 1 : 350 - 351 ، وراجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 75-76.

وهي أن الوجوب الغيري يكون أشبه شيء بالطريقي ، بمعنى أنّ الغسل الواجب لو كان وجوبه غيريا لا يكون منظورا إليه بنفسه ، بل بما أنّه طريق للوصول إلى الصلاة المقيدة بالغسل ، وظاهر إطلاق الأمر هو كون المأمور به منظورا بنفسه لا بما أنه آلة موصلة إلى الغير الذي هو الواجب النفسي ، أعني الصلاة المقيدة بالغسل.

والذي يترجح في النظر القاصر هو تعين هذه الطريقة في الحكم بكون الوجوب نفسيا عند الشك في كونه نفسيا أو غيريا ، لسلامتها من الاشكالات السابقة على الطرق المتقدمة ، فراجع وتأمل.

ويمكن أن يقال : إن هذه الطريقة مأخوذة مما أفاده شيخنا قدس سره فيما حررته عنه (1) عند الكلام على ترتب الثواب على امتثال الأمر الغيري ، وهذا نصه : وهو أن ترتب الثواب على الامتثال استحقاقا أو وعدا وتفضلا إنما هو في الأمر النفسي دون الغيري ، لما هو واضح من أن الترتب المذكور إنّما يكون لاحقا للاطاعة بالمعنى الأخص أعني الاتيان بمتعلق الأمر بداعيه ، وإنما يمكن أن يؤتى بمتعلقه بداعي الأمر الذي ناله من تعلق الأمر النفسي بما هو مركب منه أو مشروط به.

وتوضيح ذلك : أنّا قد تقدم منا تحقيق الفرق بين الأمر النفسي والأمر الغيري ، وقلنا إن الأول مطلق والثاني مقيد بأنه للغير بحيث إن هذا القيد كان داخلا في هويته ، على وجه يكون الأمران مختلفين بالهوية من جهة كون متعلق الأول في عالم تعلق الأمر به ملحوظا في نفسه ، فلا يكون الأمر به مقيدا بأنه لأجل الغير ، ومتعلق الأمر الثاني كان ملحوظا في عالم تعلق الأمر

ص: 164


1- في صفحة : 226 [ منه قدس سره ، ويقصد به تحريراته المطبوعة ].

به بأنه لأجل الغير ، على وجه يكون اعتبار كونه لأجل الغير طارئا عليه مقيدا باعتبار تعلق الأمر به ، فلا يكون في نفسه متعلقا للأمر بل إنما يكون يتعلق به الأمر بما أنّه جزء من الغير أو شرط له ... الخ.

قوله : لا إشكال في أنّ الشك في القسمين الأولين متمحض في الشك في تقييد الصلاة بالطهارة ، فتجري البراءة عن التقييد (1) فيثبت نتيجة الاطلاق ، فيكون المكلف مخيرا بين الاتيان بالصلاة قبل الطهارة وبعدها ... الخ (2).

كأنّه قدس سره ناظر إلى خصوص مثل وجوب الغسل لمن فاتته صلاة الآيات مثلا ولزوم قضائها ، في أنّ وجوب الغسل لو كان غيريا كان اللازم تقديمه على الصلاة ، بخلاف ما لو كان وجوبه نفسيا فانه يجوز تقديمه عليها وتأخيره عنها ، وحينئذ تكون الغيرية موجبة لتكليف زائد فيه وفي الصلاة ، كما أنّه موجب لمئونة زائدة في مادة الصلاة ومادة الغسل. ويمكن التمسك لنفي الغيرية باطلاق مادة الصلاة وباطلاق مادة الغسل في كون الصلاة غير مقيدة بتقدم الغسل عليها ، وفي كون الغسل غير مقيد بتقدمه على الصلاة ، ومع سقوط الاطلاق من كل من المادتين يكون المرجع هو أصالة البراءة من تقييد الصلاة بتقدم الغسل عليها ، ومن تقييد الغسل بتقدمه على الصلاة.

وخلاصة الأمر أنّ في كون الأمر غيريا كلفة زائدة على المكلف في ناحية الأمر بالصلاة وفي ناحية الأمر بالغسل ، بخلاف كون الأمر به نفسيا

ص: 165


1- [ هكذا في المخطوط ، ولكن في الأصل ( أي الطبعة القديمة من الأجود ) : التقيد ، وسيشير قدس سره إلى ذلك في صفحة : 170 ].
2- أجود التقريرات 1 : 247 - 248 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فانّه لا يوجب تقيدا في الصلاة ولا تقيدا في الغسل.

ومن ذلك يتضح لك التأمل فيما تضمنته الحاشية الأولى من أنّ أصالة البراءة من تقيد الصلاة بالوضوء معارض بأصالة البراءة من وجوب الوضوء نفسيا ... الخ (1) لانحلال هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بأنّه ملزم بالغسل مع الشك في اعتبار أمر زائد وهو تقدمه على الصلاة فينفى بالبراءة ، وليس ذلك من قبيل ما لو علم إجمالا أنّه ملزم إما بكون التحنك شرطا في الصلاة وإما التصدق بدرهم في عدم انحلال العلم الاجمالي.

وإن شئت فقل : إنّ المقابل للنفسية هو مطلق تقيد الصلاة بالأعم من المقدم والمقارن والمتأخر ، وهذا المقدار لا يتصور فيه الانحلال وليس هو محل الكلام ، وإنّما محل كلامنا هو ما لو كان اعتبار التقيد مشتملا على أمر زائد وهو كون القيد متقدما ، والانحلال وإجراء البراءة إنما هو في هذه الجهة الزائدة من

الضيق وهي كون القيد سابقا ، وهذا المقدار من البراءة مما لا محيص عنه حتى لو كانت القيدية والغيرية معلومة بالتفصيل لكن حصل التردد في اعتبار خصوص التقدم أو خصوص التقارن أو خصوص التأخر فانّ المرجع في هذه الخصوصية الزائدة هو البراءة ، فلاحظ.

نعم ، يمكن التأمل فيما أفاده شيخنا قدس سره بما حاصله : أنّ التقدم والتأخر زائد على أصل الغيرية التي هي طرف الترديد ، وحينئذ يكون فرض الأزمنة خارجا عن أصل المسألة ، فلاحظ.

ومنه يظهر لك أنه لا بد من الالتزام بالتنجز لو لم يكن في البين هذه الجهة أعني جهة التقدم والتأخر ، كما لو كان ظرف ذلك الواجب المردد بين

ص: 166


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 248 ( نقل بالمضمون ).

النفسية والغيرية على تقدير كونه نفسيا منحصرا بما قبل الصلاة كما في الاقامة على القول بوجوبها لو ترددنا في وجوبها بين النفسية والغيرية ، أو كان ظرفه في أثناء الصلاة كما قيل في الاستقرار حال القيام أو في حال الركوع والسجود في كونه واجبا نفسيا ، أو كونه واجبا غيريا بأن يكون الركوع مثلا مشروطا به ، وكما في متابعة المأموم للإمام وكما في الجهر والاخفات وكما في ترك الارتماس في أثناء الصوم ، إلى غير ذلك مما اختلفوا في كون وجوبه نفسيا أو كونه غيريا.

وأثر هذا الاختلاف لا يظهر في التقديم والتأخير ليكون المرجع فيه هو إطلاق مادة الصلاة من حيث تقدمه عليها ، أو يكون المرجع فيه هو أصالة البراءة من التقيد بالتقدم ، وإنما يظهر الأثر فيما لو تركه سهوا أو عمدا ، وفي هذه الصورة أعني الترك سهوا أو عمدا لا مجال للتمسك باطلاق المادة في ذلك المشكوك. نعم يمكن التمسك باطلاق المادة في نفس ما وجب فيه أعني الصلاة أو الركوع أو القراءة. ولو لم يتم الاطلاق المذكور لا يمكن الرجوع إلى البراءة في ناحية المشكوك وهو واضح ، ولا في ناحية ما وجب فيه بأن يقال الأصل البراءة من تقيد الصلاة بالاقامة أو البراءة من تقيد الركوع بالاستقرار أو البراءة من تقيد القراءة بالاجهار ، فانّ هذه الاصول لا توجب منّة وتوسعة على المكلف ، فتأمل.

وخلاصة البحث : هي أنّه لا ينحصر أثر احتمال الشرطية في التقدم والتأخر ، بل يظهر أثره فيما لو تركه عمدا أو نسيانا ، كما لو علمنا بحرمة الارتماس في حال الصوم واحتملنا كون النهي عنه غيريا لكون الارتماس مفطرا ، بأن يكون النهي عن ارتماس الصائم مرددا بين كونه نهيا نفسيا لا أثر

ص: 167

له إلا مجرد الحرمة ، وكونه غيريا لكونه مفطرا كالأكل والشرب ومع ذلك تعمده الصائم ، فعلى الأول لا يكون في البين إلا مجرد عصيان ذلك النهي ، وعلى الثاني يكون قد أفسد صومه وعليه القضاء والكفارة. وكما لو تردد الأمر بالجهر بالقراءة في الصلاة بين كونه نفسيا وكونه شرطيا وتركه عمدا ، فيلزمه الاعادة على الثاني دون الأول.

والظاهر أنه لا مجال في ذلك للبراءة العقلية ولا الشرعية ، للعلم بوجوبه واستحقاق العقاب على تركه مع الشك في صحة الصوم والصلاة ، فيلزمه الاحتياط بالاعادة أو القضاء. ولا يجري استصحاب الصحة الثابتة قبل ذلك العصيان لما حقق في محلّه (1) من أنّه لا أصل لهذا الأصل.

وبالجملة : أن الشك من هذه الناحية أعني ناحية الشك في تقيد الصلاة بالجهر أو تقيد الصوم بعدم الارتماس وإن كان من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، إلا أنه لا مجال فيه للبراءة العقلية والشرعية ، للعلم بوجوب ذلك المشكوك واستحقاق العقاب عند تركه ، فيكون المرجع هو الاحتياط بالاعادة والقضاء. وليس هو من قبيل ما لو كان التقييد مشتملا على جهة زائدة على أصل الالزام الجامع بين النفسية والغيرية وهي جهة تقدم القيد ، فانّ تلك الجهة الزائدة قابلة الرفع بالبراءة.

نعم ، لو كانت القيدية المقابلة للنفسية هي الأعم من التقدم والتقارن والتأخر ، بأن علم بوجوب التحنك مثلا إما نفسيا أو غيريا لكونه قيدا في الصلاة بالأعم من سبقه عليها أو مقارنته لها أو تأخره عنها ، على وجه لو كان قيدا لكان يكفي فيه إحدى هذه الكيفيات الثلاث ، لم يكن مجال

ص: 168


1- فوائد الاصول 4 : 232 ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره عليه في المجلّد الثامن.

لأصالة البراءة من القيدية. والظاهر أن ما نحن فيه من مثال الاقامة والجهر من هذا القبيل في عدم اشتمال القيدية على كلفة زائدة على أصل الالزام الجامع بين النفسية والغيرية.

وخلاصة البحث : أنّ قيد التقدم ربما كان زائدا على أصل وجوب الشيء كما في صلاة الظهر ، فانّها واجبة بنفسها وقيد لصلاة العصر ، فتكون الجهة الغيرية زائدة على أصل الوجوب. لكن ما نحن فيه ليس الأمر كذلك فان مقابل الوجوب النفسي للوضوء أمر واحد بسيط وهو وجوب تقدمه على الصلاة ، فيتعارض فيه الأصلان.

نعم ، لو كان المقابل للوجوب النفسي أمرا مركبا وهو الوجوب الغيري مع كونه متقدما على الصلاة يكون الوجوب الغيري في قبال النفسي مع جهة زائدة فيه وهي وجوب تقدمه على الصلاة ، لأمكن الرجوع في ذلك الأمر الزائد إلى البراءة.

والحاصل : أنّ المقابل للنفسية إن كان هو مطلق القيدية بالأعم من التقدم والتأخر والتقارن فمن الواضح أنّه لا مورد فيه للبراءة ، وكذلك الحال فيما لو كان المقابل للنفسية هو اعتبار نفس التقدم ، بحيث يكون الوجوب الغيري منصبا على نفس التقدم. نعم لو كان المقابل للنفسية هو نفس التقييد وكان لذلك التقييد جهة زائدة وهي التقدم ، لأمكن الرجوع إلى البراءة في تلك الجهة الزائدة ، وكانت النتيجة هي أنه لا بد من الاتيان بالوضوء لكنه مخير بين التقدم والتأخر والمقارنة ، ولو تركه بالمرة يلزمه إعادة الصلاة ، لأنّ أصل القيدية لم تجر فيه البراءة وكانت منجزة ، فتأمل.

ولو كان الأمر بالعكس بأن كانت النفسية المحتملة مقيدة بأن يكون محله في أثناء الصلاة ، بخلاف الغيرية فان محلّه يكون هو الأعم من كونه

ص: 169

في أولها أو وسطها أو آخرها ، كانت البراءة جارية في قيد النفسية وكانت النتيجة موافقة للغيرية.

ومن ذلك تعرف أنّ محل الكلام هو القيد الزائد على أصل الالزام أعني خصوص التقدم أو التأخر أو التقارن ، فما كان محله معيّنا كالاقامة ونحوها مما تقدم ذكره لا مدخل له في محل النزاع ، إذ ليس في البين جهة زائدة في احتمال الغيرية ولا في احتمال النفسية كي تكون موردا للبراءة.

نعم ، في صورة الترك نسيانا لعلنا نقول إن الاقامة لو كانت قيدا في الصلاة بحيث كانت صحة الصلاة مقيدة بها لكانت صلاته باطلة فيلزمه إعادتها ، بخلاف ما لو كانت واجبة نفسيا فيمكننا إجراء البراءة في الغيرية باعتبار هذا الأثر ، فالاقامة وإن لم يمكن إجراء البراءة فيها للعلم باستحقاق العقاب على تركها ، لكن تقيد الصلاة بها القاضي ببطلان الصلاة عند تركها لمّا كان مجهولا كان من الممكن إجراء البراءة فيه ، وهذه الطريقة يمكن إجراؤها في صورة الترك عمدا وعصيانا ، فتأمل.

بل لو تمت هذه الطريقة أعني جعل مصب البراءة هو التقيد - تقيد الصلاة بالاقامة مثلا - لا نفس القيد بل ولا نفس التقييد الراجع محصله إلى نفي القيد ، لأمكننا الرجوع إلى البراءة في مورد الشك في الوضوء ، وهل هو نفسي أو أنّه واجب غيري ، وصببنا الوجوب الغيري على نفس التقدم ليكون المحصّل هل الوضوء واجب بنفسه أو أنّ الواجب تقدمه لكون الصلاة مقيدة بتقدمه لا بنفسه ، اذ يمكننا أن نقول إن تقيد الصلاة بالتقدم مجهول فيمكن رفعه بالبراءة ، ولعل التعبير في الطبعة الاولى (1) بالتقيد إيماء

ص: 170


1- [ أي الطبعة القديمة غير المحشاة من أجود التقريرات ، صفحة : 143 ].

لذلك فتأمل ، هذا.

ولكن لا يخفى أن أقصى ما يمكننا القول به هو إمكان كون الوجوب الغيري منحلا إلى الأقل والأكثر ، بأن نقول إنّ ذات الوضوء مثلا قيد في الصلاة ، وزيادة على تلك القيدية أن نقول إن ما هو القيد هو الوضوء المقدم دون المتأخر أو المقارن ، فيكون أصل القيدية في قبال النفسية ، وهذه الجهة أعني كون القيد مقدما جهة زائدة قابلة للنفي بالبراءة حتى لو لم يكن في البين احتمال النفسية وعلمنا بأنّ الصلاة مقيدة بالوضوء لكن شككنا في اعتبار التقدم في هذا ، فانّ المرجع فيه إلى البراءة. أما تقيد الصلاة فليس هو أمر زائد على اعتبار القيد أو التقييد.

أما مسألة الاقامة ونسيانها فيمكن ابتناؤها على أن تقييد الصلاة بها هل هو مطلق أو في خصوص حال الذكر ، والثاني هو القدر المتيقن ، والزائد وهو تقييد الصلاة بها في حال النسيان مشكوك منفي بالبراءة. لكن ذلك لا يختص بصورة الدوران بين النفسية والغيرية بأن نقول : هل الاقامة واجبة نفسيا أو غيريا بأحد النحوين أعني الاطلاق أو التقييد بحال الذكر ، بل هو جار فيما علمنا بأنّه ليس بواجب نفسي ، وأن ليس في البين إلا الوجوب الغيري لكن تردد ذلك الوجوب الغيري الذي هو عبارة عن وجوب القيد أو التقييد أو التقيد ما شئت فقل ، الغرض هو أنّ الوجوب الغيري يتردد بين الاطلاق والشمول لحال النسيان ، أو أنه مختص بحال الذكر فتجري البراءة في هذه الجهة الزائدة. ومن الواضح أنّ هذا الترتيب لا يتأتى في صورة تعمد الترك. نعم يتأتى في صورة كون المقابل للنفسية هو نفس التقدم ولكن حصل التردد بين الاطلاق والاختصاص ، بل لعلّه يتأتى أيضا في صورة العلم بالوجوب النفسي ومع ذلك حصل الترديد المذكور.

ص: 171

نعم ، يمكن أن يقال : إن الوجوب الغيري في صورة النسيان يكون له أثر زائد على أصل الوجوب ، وذلك فيما لو كانت الغيرية على تقديرها معتبرة على نحو الركنية بحيث إنها لا تسقط في صورة النسيان ويكون لازمها البطلان ، فانه يمكننا إجراء البراءة من الغيرية باعتبار هذا الأثر الموجب للضيق على المكلف ، وحينئذ يسقط الوجوب النفسي بسقوط محلّه ، ولا يكون الرجوع إلى البراءة مختصا بخصوص ما لو كان الوجوب الغيري المحتمل ساقطا بالنسيان ، بل تجري البراءة فيما لو كانت الغيرية على تقديرها على نحو الركنية بحيث لا تسقط بالنسيان وتكون موجبة للبطلان ، فتجري البراءة فيها من هذه الجهة من الضيق على المكلف وإن لم تكن جارية في ذات الوجوب.

قوله : نعم ، هناك جهة اخرى للشك والنتيجة معها للنفسية ، وهي الشك في أنّ الوضوء قبل الوقت يسقط عن الوضوء فيما بعد الوقت أم لا. وبعبارة اخرى يكون الشك في أنّ وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق أو مختص بمن لم يتوضأ قبله ، ومقتضى البراءة هو عدم الوجوب بالاضافة إلى المتوضئ قبله ... الخ (1).

الظاهر أنّ الشك من هذه الناحية يكون من قبيل الشك في المسقط ، وما افيد من التكلف في إرجاعه إلى البراءة بصرف الشك إلى الشك في وجوب الوضوء على من توضأ قبل الوقت لم يخرجه عن الشك في المسقط ، لأنّ الشك في وجوب الوضوء بالاضافة إلى من كان قد توضأ قبل الوقت ليس شكا في وجوب جديد ، وإنّما المشكوك هو ذلك الوجوب

ص: 172


1- أجود التقريرات 1 : 249 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

المستفاد من قوله اغتسل ، هل هو نفسي فيكون حادثا قبل الوقت ويكون ذلك الوضوء المقدم امتثالا له ، أو أنّه غيري مشروط بالوقت فيكون ذلك الوضوء السابق لغوا ويلزمه الاتيان به بعد الوقت ، فيكون الشك راجعا إلى الشك في أنّ ذلك الوجوب هل يسقط بالفعل السابق أو أنّه لا يسقط إلا بالفعل بعد الوقت.

ولعل الوجه في عدم كونه من قبيل الشك في السقوط هو أنّه لو توضّأ وبعده دخل الوقت ، يكون في ذلك الحال مرددا بين تكليف سابق قد امتثله وبين تكليف جديد حادث عند الوقت ، وفي مثله يكون المرجع البراءة. إلا أنّ ذلك إنّما يتم فيما لو طرأ العلم عند الوقت ، أما لو كان قد حصل له العلم الاجمالي المذكور من أول الأمر فلا يكون إلا من قبيل الشك في المسقط ، فتأمل.

لكن لا يخفى أنه قبل الوقت وإن علم بكون الوضوء واجبا إما لنفسه وإما مقدمة للصلاة التي لم يحصل فعلا شرط وجوبها ، لم يكن من العلم الاجمالي ، بل كان الوجوب النفسي موردا للبراءة ، وإنّما يتم العلم الاجمالي بعد الوقت ، والمفروض أنه قد امتثل الوجوب النفسي قبل الوقت ، فهو من قبيل من كان في يوم الخميس وعلم أنه إما أن تجب عليه الصدقة بقول مطلق ، أو أنه يجب عليه الصيام (1) إن جاء الخميس الآتي وقد أقدم على الصدقة في الخميس الأول.

والأولى نقل ما حررته عنه قدس سره في هذا المقام لعله أوضح وأوفى بمقصوده قدس سره وهذا نصه :

ص: 173


1- [ في الأصل هنا زيادة « في » حذفناه لاستقامة العبارة ].

الصورة الثانية : أن يكون الوجوب الثاني أعني وجوب الصلاة فيما مثّلنا مشروطا بشرط كدخول الوقت الفلاني ، ولا يكون ما دل على وجوب الغسل مشتملا على اشتراطه بذلك الشرط ، فان كان وجوب الغسل وجوبا غيريا كان تابعا لوجوب الصلاة في الاشتراط بالشرط المذكور ، وإن كان وجوبا نفسيا لم يكن تابعا له في الاشتراط بالشرط المذكور ، وحينئذ يكون للشك في كون الوجوب للغسل نفسيا أو غيريا جهتان :

إحداهما : من حيث كون الوجوب المذكور مشروطا بذلك الشرط أعني دخول الوقت المذكور ، فقبل دخوله لا يكون الغسل واجبا ، ومن هذه الجهة يكون المرجع هو البراءة من وجوب الغسل قبل حصول ذلك الشرط ، فيتوافق مع احتمال كونه غيريا ، لأن مقتضى الغيرية أن لا يكون الغسل واجبا قبل حصول شرط وجوب الصلاة.

الجهة الثانية : من حيث الشك في كون صحة الغسل مشروطة بتحقق شرط وجوب الصلاة بناء على الغيرية ، فان وجوبه لو كان غيريا لكان وجوبه مشروطا بتحقق ذلك الشرط ، ومقتضى أن شرط الوجوب شرط للواجب يكون صحة الغسل مشروطة بتحقق ذلك الشرط ، ويكون الغسل المذكور مقيدا بوقوعه عند تحقق ذلك الشرط ، بخلاف ما إذا كان وجوبه نفسيا فان وجوبه حينئذ لا يكون مشروطا بذلك الشرط ، فلا تكون صحته مشروطة بتحقق ذلك الشرط ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى الشك في كون الغسل مشروطا ومقيدا بتحقق ذلك الشرط ، فيكون المرجع من هذه الجهة هو البراءة من التقييد المذكور فيتوافق مع احتمال كون وجوبه نفسيا.

قلت : لا يخفى أنّ هاتين الجهتين جاريتان فيما لو كان وجوب الغسل ممحضا للنفسية وقد شك في كونه مشروطا بالزوال مثلا ، ولم يكن

ص: 174

في البين إطلاق لفظي ، وكان المرجع هو الاصول العملية ، فان مقتضاها هو البراءة من وجوبه قبل الزوال والبراءة أيضا من اشتراط صحة الغسل بالزوال ، فلو أراد الاحتياط من الجهة الاولى بأن أراد الامتثال الاحتياطي وجاء بالغسل قبل الزوال يبقى عنده الشك من الجهة الثانية ، فيمكنه الرجوع إلى البراءة من هذه الجهة ، لأن تقييد ذلك الغسل الواجب بكونه بعد الزوال مرفوع بالبراءة ، فيكون أصل البراءة من الجهة الاولى مخالفا في النتيجة للبراءة من الجهة الثانية ، حيث إنّ البراءة من الجهة الاولى توافق كون الوجوب مقيدا بالوقت ، ومن الجهة الثانية توافق كونه مطلقا من ناحية التقييد بالوقت.

ثم لا يخفى أنّ الصورة الثانية يتأتى فيها ما تأتى في الصورة الاولى من الشك في الشرطية بالنسبة إلى نفس الصلاة ، وأن المرجع فيه هو البراءة. نعم تزيد الصورة الثانية على الاولى أنه في الاولى لا يكون شك في الشرطية في ناحية مادة الغسل بخلاف الثانية.

لا يقال : إن الشك في الشرطية في ناحية الغسل جار في الاولى أيضا ، لأنّه على تقدير كون الغسل واجبا غيريا تكون صحته مشروطة بايقاعه قبل الصلاة ، إذ لو اوقع بعدها لكان لغوا ، بخلاف ما لو كان نفسيا فانه يقع صحيحا سواء كان قبلها أو كان بعدها.

لأنا نقول : لا معنى للشك في الشرطية في ناحية الغسل في الصورة الاولى ، إذ لو كان وجوبه غيريا لم يكن معنى محصل للقول بأنّه لو اخّر عن الصلاة لكان باطلا إلا أن مقدمة الصلاة وشرطها لم يحصل ، إذ لا يكون حينئذ واجبا مستقلا حتى يتكلم في كونه صحيحا أو باطلا ، بل أقصى ما في ذلك هو أن لا يحصل مقدمة الصلاة وشرطها فتكون الصلاة باطلة ،

ص: 175

فيرجع الأمر بالأخرة إلى الشك في الشرطية في ناحية الصلاة.

وللتأمل في هذا مجال ، فانّ ما أفاده قدس سره في تقريب الشك في الشرطية في ناحية الغسل في الصورة الثانية بناء على ما حررناه عنه قدس سره ليس إلا بنظر هذا المعنى ، أعني أن الغسل لو كان وجوبه غيريا لكانت صحته مشروطة بدخول الوقت ، فلو قدّمه عليه كان باطلا ، ومن الواضح أنه لا معنى لبطلانه حينئذ إلا بطلان الصلاة لكونها حينئذ بلا مقدمة.

اللّهم إلا أن يقال : إنّ بطلان الغسل بتقديمه على الوقت لا يكون موجبا لبطلان الصلاة كي يرجع الشك في الشرطية في ناحيته إلى الشك في الشرطية في ناحية الصلاة ، وذلك لامكان الاتيان به ثانيا بعد دخول الوقت ، وهذا بخلاف الصورة الاولى فان بطلان الغسل فيها بتأخيره عن الصلاة على تقدير كونه غيريا يكون عبارة اخرى عن خلوّ الصلاة عن قيدها ، فتكون الشرطية في ناحيته عبارة عن الشرطية في ناحية الصلاة.

وعلى أي حال لا أثر لهذا الاشكال ، إذ أقصى ما فيه أن يكون الشك في الشرطية في الصورة الاولى من الجهتين ، أعني من جهة الغسل ومن جهة الصلاة ، فيكون المرجع هو البراءة من كلتا الجهتين ولا محذور فيه لتوافقهما لانطباق كل منهما على النفسية.

وإنّما الاشكال فيما أفاده قدس سره في الصورة الثانية من الرجوع إلى البراءة في الشك في وجوب الغسل قبل تحقق شرط وجوب الصلاة الموافق مع احتمال الغيرية ، والرجوع إلى البراءة في الشك في كون صحة الغسل مشروطة بتحقق ذلك الشرط الموافق مع احتمال النفسية. ولا ريب في أنّ الجهتين من الشك المذكور متلازمتان مع أن مقتضى الأصل في الاولى مناف لمقتضاه في الثانية.

ص: 176

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذا التنافي إنما يضر لو كان الأصل الأول مثبتا للغيرية والثاني مثبتا للنفسية ، أما إذا لم يكن الأصل المذكور مثبتا لذلك ولم يكن في البين إلا العمل على طبق احتمال الغيرية في الأول والعمل على طبق النفسية في الثاني ، لم يكن في العمل على طبق كلا الأصلين بأس ، إذ ليس مقتضى الأصل الأول إلاّ أنّ الغسل لا يجب قبل تحقق شرط وجوب الصلاة ، وليس مقتضى الأصل الثاني إلا أنّه لا يشترط في صحة الغسل أن يؤتى به عند تحقق الشرط المذكور بل لو تحقق قبله لكان صحيحا أيضا ، ومن الواضح أنه لا بأس في الجمع بين هذين المطلبين ، غاية الأمر أنّ مقتضى الأصل الأول أنه لا أمر به قبل تحقق الشرط المذكور فلا يمكن الاتيان به بداعي الأمر ، لكن لو فرض أنه فعله قبل الشرط المذكور إما غفلة أو نحوها ، وإما لأجل فرض كونه غير عبادي ، لكان صحيحا بمقتضى الأمر الثاني.

وفيه تأمل فانّ فرض كونه غير عبادي يوجب عدم كون تقدمه مضرا ولو كان غيريا ، وأما الغفلة فلا فائدة فيها ، لأنّه بعد الالتفات وتحقق الشرط أيضا يبقى شاكا في أنّه هل كان وجوبه متحققا قبل الشرط فيكون وجوبه المذكور منفيا بالبراءة فلا يمكن الحكم بصحته فعلا. اللّهم إلا أن يقال : إنّ البراءة بعد الالتفات وتحقق الشرط لا تكون جارية في وجوبه قبل الشرط ، لأنّ جريانها فيه خلاف الامتنان ، فتأمل.

والأولى أن يقال : إنه يظهر أثر ذلك في الاحتياط ، فانّ البراءة وإن جرت في وجوبه النفسي قبل تحقق الشرط إلا أن جريانها لا يمنع من الاتيان به قبل الشرط احتياطا لاحتمال وجوبه النفسي ، وحينئذ يقع الشك بعد تحقق الشرط في وجوبه الغيري الذي مقتضاه لزوم إعادته ، لأنّه لو كان

ص: 177

وجوبه غيريا لم يكن ما وقع منه قبل تحقق الشرط صحيحا ، وحينئذ تجري البراءة من اعتبار كونه بعد تحقق الشرط ، أو يقال يكفي في تصحيح البراءة من الجهة الثانية إجراؤها في اعتبار كونه واقعا قبل الصلاة ، فتأمل.

وخلاصة البحث : أنّ هذه الصورة يتصور فيها جهات من الشك ، ويكون الأصل العملي في بعض تلك الجهات موافقا للنفسية وفي بعضها موافقا للغيرية.

الجهة الاولى : جهة الشك في وجوب الغسل قبل الوقت ، ومقتضى الأصل هو البراءة من وجوبه قبل الوقت ، وهذه الجهة توافق الغيرية. وهذه الجهة قد اشتملت التحارير الثلاثة على ذكرها.

الجهة الثانية : جهة الشك في تقيد الصلاة بالغسل ، وأثره لزوم تقديمه عليها ، ومقتضى الأصل هو البراءة من هذا التقييد. وهذه الجهة توافق النفسية. وهذه الجهة مذكورة في تحرير السيد سلمه اللّه تعالى ، وذلك قوله - في الطبعة الاولى (1) - : فالشك من جهة تقيد الصلاة بها حاله حال القسمين الأولين في التمسك بالبراءة لرفعه ... الخ. وكذلك قوله - في الطبعة الثانية - : فالشك فيها من جهة تقيد ما علم كونه نفسيا بالآخر يكون مجرى للبراءة ... الخ (2).

كما أنّ هذه الجهة مذكورة في تحرير المرحوم الشيخ محمد علي ، وذلك قوله : وحينئذ يكون من أفراد الشك بين المطلق والمشروط ، وقد تقدم أن مقتضى الأصل العملي هو الاشتراط ، للشك في وجوبه قبل

ص: 178


1- [ ويقصد بها قدس سره الطبعة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 248.

الزوال ، وأصالة البراءة تنفي وجوبه كما تنفي شرطية الصلاة بالوضوء ، ولا منافاة بين إجراء البراءة لنفي وجوب الوضوء قبل الزوال ، وإجراء البراءة لنفي قيديته للصلاة كما لا يخفى (1). فالبراءة الاولى هي الجهة الاولى والثانية الثانية ، هذا.

ولكن تحرير الأقل (2) فاقد لهذه الجهة الثانية من الشك. وقد عرفت (3) الكلام في جريانها في الصورة الثانية إلحاقا لها بالصورة الاولى ، فلاحظ.

وقد يتخيل التدافع بين أصالة البراءة من تقييد الصلاة بالوضوء التي تكون موافقة للنفسية ، وبين أصالة البراءة من وجوب الوضوء قبل الوقت التي تكون موافقة للغيرية.

ويمكن المنع من هذا التدافع فان مورد الأول هو بعد دخول الوقت ، إذ لا أثر لاحتمال التقييد قبل دخول الوقت ، ومورد الثاني هو قبل الوقت ، إذ لا شبهة في وجوب ذلك القيد المحتمل بعد دخول الوقت ، فاذا اختلف موردهما ارتفع التدافع بينهما.

نعم ، لو كانت البراءة حجة في اللوازم نظير الأمارات حصل التعارض بين الأصلين المذكورين باعتبار لازم كل منهما ، فتأمل.

الجهة الثالثة من الشك : جهة الشك في تقييد مادة الغسل بالوقت والأصل البراءة من تقييده بذلك ، وهي موافقة للنفسية كما عرفت تفصيله (4) فيما حررته عنه قدس سره.

ص: 179


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 223.
2- المتقدم في صفحة : 173 وما بعدها.
3- في صفحة : 175 وما بعدها.
4- في صفحة : 173 وما بعدها.

ولكن هذه الجهة لم يذكرها السيد سلمه اللّه تعالى في تحريره ، ولم يصرح بها المرحوم الشيخ محمد علي في تحريره ، لكن قوله قبيل تلك العبارة لا ينطبق إلاّ عليها ، أعني قوله : ففي هذا القسم يرجع الشك في غيرية الوضوء ونفسيته إلى الشك في اشتراطه بالزوال وعدم اشتراطه الخ. اللّهم إلاّ أن يكون مراده من اشتراطه بالزوال اشتراط وجوبه بالزوال فلاحظ.

الجهة الرابعة من الشك : جهة الشك في أنّه لو اغتسل قبل الزوال ثم دخل الزوال ، فان كان وجوبه نفسيا فقد سقط وجوبه ، وإن كان غيريا فقد حدث وجوبه عند الزوال وكان غسله السابق لغوا ، ولو جرت البراءة من حدوث وجوب الغسل عند الزوال كانت موافقة للنفسية. وهذه الجهة من الشك لم يذكرها المرحوم الشيخ محمد علي ولم أجدها في تحريراتي وهي التي اعتمد السيد عليها في موافقة النفسية ، فقال : نعم هناك جهة اخرى للشك والنتيجة معها للنفسية وهي جهة الشك الخ ، مع أنّه قد صدّر تحريره بقوله : فالشك فيها من جهة تقيد ما علم كونه نفسيا بالآخر يكون مجرى للبراءة الخ (1) وقد عرفت (2) أن الأصل في هذه الجهة من الشك - أعني أصالة البراءة من تقيد الصلاة بالغسل - يكون موافقا للنفسية أيضا. نعم إن الذي يتمحض للغيرية هو أصالة البراءة من وجوب الغسل قبل الوقت ، فلاحظ وتدبر.

قوله - في الحاشية الثانية - : إذا كان الوجوب النفسي المحتمل ثبوته للوضوء في مفروض المثال مقيدا بايقاعه قبل الوقت - إلى قوله :

ص: 180


1- أجود التقريرات 1 : 249 ، 248.
2- في الجهة الثانية صفحة : 178.

- في التدريجيات أيضا (1).

لم يعلم المراد من قوله : مقيدا بايقاعه قبل الوقت ، هل أن هذا القيد قيد للوجوب أو أنّه قيد للواجب ، وظاهر العبارة هو الثاني. نعم تقدم (2) أن تقييد الواجب بالزمان لكونه غير مقدور يكون موجبا لتقييد الوجوب. وقد حقق في محلّه في التدريجيات الفرق بين أخذ الزمان قيدا وبين كونه ظرفا نظير المعاملة الربوية المرددة بين الواقعة في أول الشهر والواقعة في وسطه.

وعلى أيّ حال أن هذه الصورة المفروضة خارجة عمّا أفاده شيخنا قدس سره في هذه الصورة الثانية ، فان الصورة ممحضة لكون الزمان الآتي قيدا في وجوب الواجب النفسي المعلوم أعني الصلاة ، دون وجوب الوضوء المردد بين النفسية والغيرية.

قوله : وأما إذا كان الوجوب النفسي على تقدير ثبوته متعلقا به غير مقيد بايقاعه قبل الوقت ، فلا معنى للرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه قبل الوقت أصلا ... الخ (3).

لم يتضح الوجه في عدم جريان البراءة ، وليست هذه المسألة إلا عبارة عن تردد الوجوب بين المطلق وبين المشروط بشرط لم يحصل بعد في أن المرجع فيها هو أصالة البراءة قبل حصول ما هو محتمل الشرطية في وجوب ذلك الواجب ، وما ذلك إلا من قبيل ما لو توجه الأمر بالحج في حال عدم حصول الاستطاعة وحصل الشك في كون ذلك الأمر مشروطا بالاستطاعة ، إذ لا فرق بينهما إلا في أن ما هو محتمل الشرطية في هذا

ص: 181


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 248.
2- في صفحة : 41 - 42.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 248.

المثال أعني الاستطاعة غير معلوم الحصول فيما بعد ، بخلاف ما هو محتمل الشرطية فيما نحن فيه أعني الزمان الآتي فانّه معلوم الحصول فيما بعد ، وهذا المقدار لا يوجب تنجز الوجوب قبل الوقت إلا على تخريج المسألة على الشرط المتأخر أو على الواجب المعلق ، فلاحظ.

وسيأتي من المحشي في الحاشية 1 / على صفحة : 171 (1) ما ظاهره الالتزام بأنّه لا ريب في أنّ المرجع هو أصالة البراءة في نظير هذه الصورة بعد تنزيل كلام صاحب الكفاية قدس سره (2) عليها ، فلاحظ.

ولعل المراد من عدم جريان البراءة هو كون المقام من التدريجيات ، لكنّك قد عرفت أنّ العلم الاجمالي فيها إنّما يكون منجزا فيما لم يكن الزمان قيدا في الواجب الآتي.

ولعل الوجه في عدم جريان البراءة فيما لو كان الشرط الآتي محقق الوقوع كالزمان هو أنّه يعلم أنّه يجب عليه الغسل إمّا موسعا من الآن إلى ما بعد ذلك الزمان ، أو أنه لا يجب عليه إلا عند ذلك الزمان ، فلا يكون الاحتمال الأول إلا احتمال توسعة الوجوب وهي لا محل فيها للبراءة ، بخلاف ما لو كان الشرط غير محقق الوقوع فانّه يوجب الشك في أصل وجوب الغسل فيرجع فيه إلى البراءة.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ وجوب الغسل على تقدير كونه نفسيا وإن كان موسعا إلى ما بعد الزمان الآتي ، لكن تحقق ذلك الوجوب الموسع من الآن إلى مجيء الزمان الآتي موجب للضيق على المكلف ، ولو باعتبار أنّه لو

ص: 182


1- حسب الطبعة المحشاة القديمة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 249 من الطبعة الحديثة.
2- كفاية الاصول : 110.

مات أو طرأه عدم القدرة عليه قبل الزمان الآتي لكان معاقبا على عدم الاتيان به قبل الزمان الآتي ، ونحن وإن جوزنا له التأخير استنادا إلى استصحاب بقاء الحياة والقدرة ، إلا أنّ خوف الفوت بالتأخير ولو مع الاعتماد على هذا الاستصحاب كاف في الركون إلى أصالة البراءة ولو في خصوص تلك القطعة التي هي من الآن إلى الزمان الآتي ، وهي حاكمة على الاستصحاب لكونها رافعة لموضوعه ، وفي الحقيقة هي جارية في رفع الموسع في تمام الزمان حتى في الزمان الآتي ، لكن أقصى ما في البين أنّه عند مجيء الزمان يلزمه الاتيان به ، للعلم بلزومه عليه حينئذ إمّا لنفسه أو لغيره ، وبه يرفع اليد عن مقتضاها فيما يأتي من الزمان.

ولا يخفى أنّ هذا الاشكال بعينه جار فيما لو توجه الخطاب بفعل هو واجب نفسي ولكن تردد وجوبه بين الاطلاق أو الاشتراط بالزمان الآتي ، فانه قبل الزمان الآتي يجوز له عدم الاتيان به قبل الزمان الآتي إما لكونه موسعا أو لكون وجوبه النفسي مشروطا بالزمان الآتي ، إلا أنّ ذلك لا يسد باب البراءة الشرعية والعقلية فيه في تلك القطعة من الزمان أعني ما قبل الزمان الآتي ، فلاحظ وتدبر. وإن شئت فقل : إنّه يكفي في جريان البراءة في ناحية الوجوب النفسي أنّه لو كان كذلك لكان لا يجوز له التأخير إلا مع إحراز التمكن منه فيما بعد ، وهذا المقدار من الضيق كاف لجريان البراءة العقلية والشرعية ، فلاحظ.

وقد مثل في تحريرات نجله سلمه اللّه تعالى للواجب النفسي المحتمل كون هذا الواجب مقدمة له وقيدا له بالحج المشروط بالاستطاعة في ظرف عدم حصولها.

ص: 183

قوله : وحينئذ إذا لم يتوضأ المكلف حتى دخل وقت الصلاة فلا بد له أن يتوضأ ويوقع الصلاة بعده ، لأنّه مقتضى العلم الاجمالي الموجب للاحتياط كما عرفت (1).

هذا أعني وجوب الوضوء عليه عند دخول الوقت مما لم ينكره أحد ، نعم إلزامه بتقديم الوضوء على الصلاة محل إشكال ، لما عرفت من أصالة البراءة من تقيد الصلاة بتأخرها عنه ، وأصالة البراءة من تقيد الوضوء بتقدمه عليها ، وهو محل البحث مع المحشي في الحاشية الاولى (2).

قوله : وأما إذا توضّأ قبله فلا يجب عليه إعادة الوضوء بعد دخوله ، لأنّ تقييد الوضوء بوقوعه فيما بعد الوقت ولو على تقدير كون وجوبه غيريا مجهول ، فيرجع معه إلى البراءة (3).

هذا الأصل منتج للنفسية ، وهو الذي تضمنته تحريرات الأقل عن الاستاذ قدس سره (4) ، وتوافقه أصالة البراءة من تقيد الصلاة بتأخرها عنه ، وأصالة البراءة من تقيده بتقدمه عليها.

قوله : ومما ذكرناه يظهر الخلل فيما أفاده شيخنا الاستاذ قدس سره في المقام فلا تغفل (5).

قد عرفت (6) الخلل في تحريره سلمه اللّه تعالى عن الاستاذ قدس سره في بيان الأصل القاضي بالنفسية ، وأنّه أصالة البراءة من تقيد الغسل بالوقت كما

ص: 184


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 248.
2- [ تقدم الإشكال على الحاشية الاولى في صفحة : 165 وما بعدها ].
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 248.
4- والتي تقدمت في صفحة : 173 وما بعدها.
5- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 248.
6- في صفحة : 179.

حررته عنه قدس سره أو أصالة البراءة من تقيده بالتقدم على الصلاة ، أو أصالة البراءة من تقيد الصلاة بتأخرها عنه ، لا أصالة البراءة عن وجوبه عند الوقت فيما لو فعله قبل الوقت ، كما أنّه قد ظهر لك الخلل فيما تضمنته الحاشية المذكورة ، فلاحظ ولا تغفل.

قوله في الحاشية : وأن يكون مقدمة لواجب غير فعلي كما إذا علمت الحائض غير المكلّفة بالصلاة بوجوب الوضوء المردد بين أن يكون نفسيا وأن يكون غيريا ، ولا ريب أنّ المرجع في هذه الصورة هي أصالة البراءة ، للشك في الوجوب الفعلي (1).

إن كان عدم الفعلية لأجل عدم حصول الشرط فعلا كما في الصلاة قبل الوقت ومنه صلوات الحائض فيما بعد انقضاء الحيض ، كان هذا عين ما تقدم منه في الحاشية الذي قال فيها : فلا معنى للرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه قبل الوقت ... الخ (2).

اللّهم إلا أن يفرق بين المقامين ، ففي المقام الأول لمّا كان الشرط محقق الوقوع فيما يأتي رجع الأمر بالأخرة إلى القطع بوجوب الوضوء فيما سيأتي والشك في كونه موسعا من الآن ، بخلاف المقام الثاني بأن يفرض الشرط الآتي غير محقق الوقوع ، لكنك قد عرفت الاشكال في الفرق المذكور.

وإن كان عدم الفعلية لأجل أنه مجهول الوجوب وأنه في حد نفسه مرجع للبراءة كان هذا هو عين ما فسّر به الاستاذ قدس سره (3) كلمات الكفاية ،

ص: 185


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 249.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 248 ، وقد تقدمت هذه الحاشية والمناقشة فيها في صفحة : 181 - 183.
3- أجود التقريرات 1 : 249.

فلاحظ وتأمل.

قوله : واخرى لا يعلم إلا وجوب ما يدور أمره بين المقدمية والنفسية ، ويحتمل أن يكون هناك واجب آخر فعلي يكون هذا مقدمة له ، وحينئذ لا إشكال في وجوب الاتيان به على كل حال للعلم باستحقاق العقاب على تركه إما لنفسه أو لكونه مقدمة لواجب فعلي ، وأما ترك الواجب النفسي المحتمل من غير ناحيته فهو جائز لأصالة البراءة ... الخ (1).

لا يخفى أنه قدس سره في مسألة الأقل والأكثر بعد أن ذكر إشكال الكفاية (2) على الانحلال من جهة أن تنجز الأقل متوقف على تنجز الأكثر ، قال كما في تقريرات المرحوم الشيخ محمد علي عن درسه قدس سره ما هذا لفظه : ولا يخفى ما فيه ، فانه يرد عليه أوّلا : أن ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير أن يكون متعلق التكليف هو الأكثر ، فيستقيم حينئذ ما أفاده من أن العلم التفصيلي بوجوب أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع تردد وجوبه بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الطرف الآخر - على تقدير أن يكون هو الواجب المعلوم بالاجمال - لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ألا ترى أنه لو علم إجمالا بوجوب نصب السلّم أو الصعود على السطح وتردد وجوب نصب السلّم بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فان العلم التفصيلي بوجوب نصب السلّم لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب النصب أو الصعود ، فان العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على

ص: 186


1- أجود التقريرات 1 : 249 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 364.

وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود ، وذلك كله واضح ، إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدم من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا على كل تقدير ، سواء كان متعلق التكليف هو الأقل أو الأكثر ، فان الأجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل ، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري (1).

وقد حررت عنه قدس سره في ذلك المقام ما حاصله : أنّ العلم بوجوب النصب إما لنفسه أو لغيره لا يوجب انحلال العلم بالوجوب النفسي المردد بين الكون على السطح أو نصب السلّم ، فانه وإن احتمل انطباق الوجوب المعلوم بالاجمال عليه ، إلا أنّ العلم بوجوب نصب السلّم المردد بين النفسي والغيري لا يكون علما من سنخ ذلك الوجوب النفسي المعلوم بالاجمال المردد بينه وبين الكون على السطح ، انتهى.

قلت : وإن شئت قلت : إنّ العلم الاجمالي المردد بين وجوب نصب السلّم ووجوب الكون على السطح يكون سابقا في الرتبة على العلم الاجمالي المردد بين وجوب نصب السلّم نفسيا أو وجوبه غيريا ، فلا يكون العلم التفصيلي بلزوم نصب السلّم المتولد من هذا العلم الاجمالي الثاني موجبا لانحلال العلم الاجمالي الأول لتأخره عنه برتبتين ، وهذا بخلاف مسألة الأقل والأكثر ، لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل نفسيا إما وحده أو في ضمن الأكثر غير متأخر في الرتبة عن العلم الاجمالي المردد بين الأقل

ص: 187


1- فوائد الاصول 4 : 156 - 157.

والأكثر ، بل إنه عينه ، انتهى.

وتقريب كون الوضوء فيما نحن فيه أعني التردد بين وجوبه نفسيا ووجوبه غيريا بأن يكون المكلف مرددا بين وجوب الوضوء نفسيا وليس في البين واجب آخر غيره ، ووجوب الصلاة مقيدة بالوضوء ليكون الوضوء واجبا غيريا وليس في البين وجوب آخر متعلق بنفس الوضوء ، وفي الحقيقة يكون الأقل هو وجوب الوضوء وحده وهو المعبّر عنه بالوجوب النفسي ، والأكثر هو وجوبه مع الصلاة وهو المعبّر عنه بالوجوب الغيري ، فيكون القدر المتيقن وجوبه هو نفس الوضوء ، ويكون وجوب الصلاة بعده مشكوكا منفيا بأصالة البراءة ، فيكون ذلك نظير قولنا إن وجوب الأربعة قدر متيقن والزائد مشكوك منفي بأصالة البراءة ، فانّ الأربعة في ضمن الخمسة تكون قيدا في مجموع الخمسة ، ويكون وجوبها غيريا لوجوب الخمسة كوجوب الوضوء في ضمن وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء يكون قدرا متيقنا ، والزائد وهو كونه في ضمن الصلاة المقيدة بالوضوء يكون مشكوكا منفيا بأصالة البراءة.

والغرض من نقل هذا المبحث على طوله هو دفع توهم أن ما نحن فيه من العلم التفصيلي بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره وهو الصلاة لاحتمال وجوبها نفسيا ، لا ربط له بما ذكر في ذلك المبحث من العلم الاجمالي المردد بين كون الواجب النفسي هو الغسل أو أنه هو الصلاة المقيدة بالغسل ، بدعوى أنه يلزم من هذا العلم التفصيلي المتعلق بوجوب الغسل المردد بين كون الغسل واجبا لنفسه وكونه واجبا لغيره أعني الصلاة لاحتمال وجوبها ، انتهاء الأمر في هذا العلم التفصيلي إلى العلم الاجمالي المردد بين كون الواجب نفسيا هو الغسل أو كون الواجب النفسي هو الصلاة.

ص: 188

وبيان دفع هذا التوهم : هو أنّ العلم التفصيلي في تلك المسألة بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره يكون معلولا للعلم الاجمالي المردد بين وجوب الغسل نفسيا ووجوب الصلاة ، فلا يكون موجبا لانحلاله لتأخره عنه رتبة ، بخلاف العلم التفصيلي فيما نحن فيه المتعلق بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره فانه مقدم رتبة على العلم الاجمالي المردد بين كون الواجب النفسي هو الغسل وكونه هو الصلاة ، لكون هذا العلم الاجمالي معلولا للعلم التفصيلي بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره ، فلا يكون هذا العلم الاجمالي الناشئ عن ذلك العلم التفصيلي مؤثرا في تنجز طرفيه.

وبيان المعلولية هنا هو أنا بعد أن علمنا بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره نقول إنّه على تقدير كونه واجبا لغيره الذي هو الصلاة يكون الواجب النفسي هو الصلاة ، فيدور الأمر بالأخرة بين كون الواجب النفسي هو الغسل وكونه هو الصلاة ، وحيث إن هذا العلم الاجمالي وقع معلولا للعلم التفصيلي بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره ، لا يكون ذلك العلم الاجمالي الناشئ عنه المردد بين وجوب الغسل نفسيا ووجوب الصلاة نفسيا مؤثرا في تنجز طرفيه المذكورين بعد أن تنجز الطرف الأول ، وهو وجوب الغسل بالعلم الأول المتعلق بوجوب الغسل إما لنفسه أو لغيره. فما أفاده شيخنا قدس سره من عدم انحلال العلم الاجمالي في تلك المسألة لا يلزمه القول بعدم انحلاله فيما نحن فيه.

نعم ، إن لازم ما أفاده صاحب الكفاية (1) في أصل مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من عدم الانحلال لاستلزامه المحال كما شرحه هناك ، يلزمه

ص: 189


1- كفاية الاصول : 364.

القول فيما نحن فيه بعدم الانحلال ، إلا أن يكون ذلك في ناحية البراءة العقلية دون الشرعية كما صنعه هناك (1).

والخلاصة : هي أن واجبنا مردد بين الأقل وهو الوضوء وحده والأكثر وهو الوضوء والصلاة ، فالقدر الزائد هو الصلاة منفي بالبراءة ، ولا محصل للقول بالعلم الاجمالي المردد بين وجوب الوضوء ووجوب الصلاة. كما لا محصّل للقول في مسألة الأقل والأكثر التي يكون العلم فيها مرددا بين وجوب الأربعة ووجوب الخمسة أنا نعلم إجمالا إما بوجوب الأربعة وإما بوجوب الخامس ، ليس الخامس في قبال ... (2) فكذا نقول فيما نحن فيه إن الثاني وهو وجوب الصلاة ليس في قبال وجوب الأول الذي هو الوضوء بل إن مقابل وجوب الوضوء وحده هو المجموع من الوضوء والصلاة فتأمل.

قوله : وأما ما في الكفاية من التمسك بالبراءة في المقام فغير سديد - إلى قوله : - للعلم التفصيلي باستحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب إما لنفسه أو لتوقف واجب فعلي عليه وكونه قيدا له وإن لم يكن ذاك الوجوب منجزا من جهات أخر ... الخ (3).

قال في الكفاية : هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأما إذا لم يكن فلا بد من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا ، للعلم بوجوبه فعلا وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلا فلا ، لصيرورة الشك فيه بدويا

ص: 190


1- ينبغي ملاحظة ما حررناه [ في المجلد السابع في الحاشية على فوائد الاصول 4 : 158 ] في أوائل مباحث الأقل والأكثر عند التعرض لمطلب الكفاية [ منه قدس سره ].
2- [ في الأصل سقط هنا ولعله : إذ ليس الخامس في قبال الأربعة ].
3- أجود التقريرات 1 : 249 - 250 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كما لا يخفى (1).

ومراده بالصورة الاولى هو ما ذكره شيخنا قدس سره من الصورة الاولى ، وهي ما إذا كان كل من وجوب الغسل والصلاة غير مشروط بشرط ، وتلحق به الصورة الثانية وهي ما لو كانا مشروطين بمثل الوقت وقد تحقق الشرط. ومراده بالصورة الثانية هو ما ذكره شيخنا قدس سره من الصورة الثانية ، وهي ما كان وجوب الغسل غير مشروط وكان وجوب الصلاة مشروطا بمثل الوقت ، وكان الكلام قبل تحقق الشرط المذكور ، فانه لا إشكال حينئذ في جريان البراءة من وجوب الغسل قبل تحقق ذلك الشرط ، إذ لم يكن وجوب الصلاة التي احتمل كون الغسل شرطا لها وجوبا فعليا حينئذ ، لأن الفرض هو عدم تحقق شرط وجوبها ، ويلحق به ما يكون فيه وجوب الصلاة مثلا غير فعلي لعدم كونها مقدورة مثلا.

أما الصورة الأخيرة التي أفادها شيخنا قدس سره وهي ما لو كان وجوب الصلاة غير منجّز لكونه في حدّ نفسه موردا للبراءة لكونه مجهولا ، فالظاهر أنّ عبارة الكفاية لم تتعرض لها ، خصوصا بعد الاطلاع على مصطلحة في الفعلية التي هي عبارة عن تحقق التكليف وإن لم يكن منجزا لكونه مجهولا.

والحاصل : أن فرض الكفاية في مورد جريان البراءة في وجوب الغسل المردد بين كونه نفسيا أو غيريا مقدمة للصلاة ، إنما هو فيما إذا لم يكن وجوب الصلاة فعليا ، ولا ريب أنه مع فرض عدم فعلية وجوب الصلاة لا يكون وجوب الغسل المردد بين النفسية والمقدمية للصلاة غير

ص: 191


1- كفاية الاصول : 110.

الفعلية إلا من قبيل المشكوك البدوي ، والمرجع فيه هو البراءة لعدم كونه من قبيل العلم بوجوب فعلي على كل تقدير.

ويحتمل أن يقال : إن مراد الكفاية بالفعلية هو ما يكون معلوم الوجوب ، بأن تكون الصلاة معلومة الوجوب ويكون الغسل معلوم الوجوب لكنه حصل التردد بين كونه لنفسه أو كونه مقدمة للصلاة المعلومة الوجوب ، ومراده بقوله « وإلا » هو ما لم تكن الصلاة معلومة الوجوب لكن حصل العلم بأن الغسل واجب إما لنفسه وإما مقدمة للصلاة ، فكانت الصلاة غير معلومة الوجوب بل كانت موردا للبراءة ومع ذلك يريد إجراء البراءة في وجوب الغسل لتردده بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري للصلاة المحكومة بعدم الوجوب بالبراءة ، فلا يبقى إلا احتمال وجوب الغسل نفسيا والمرجع فيه البراءة ، إذ لا أثر لوجوبه الغيري المقدمي مع فرض جريان البراءة في ذي المقدمة ، وحينئذ يصح ما في هذا التحرير من النسبة إلى الكفاية ، ويتوجه عليه إيراد شيخنا قدس سره فلاحظ وتأمل.

بل يتوجه عليه أنه في مثل هذه المسألة قائل بأن العلم التفصيلي المردد بين النفسية والغيرية لا يوجب انحلال العلم الإجمالي المردد بين الوجوب النفسي للمقدمة والوجوب النفسي لذي المقدمة ، وقد التزم هنا بجريان البراءة في كل من الوجوبين النفسيين ، وذلك موجب للمخالفة القطعية لكل منهما.

ثم لا يخفى أن ظاهر شيخنا قدس سره هنا هو المفروغية عن الانحلال في مسألة الأقل والأكثر ، وقد منعه هناك (1) ، وإنما ينحل العلم الاجمالي عنده

ص: 192


1- أجود التقريرات 3 : 491 ، 494.

هناك (1) بواسطة البراءة الشرعية. ولعل نظره قدس سره هنا في الانحلال إلى الانحلال الشرعي بواسطة البراءة الشرعية ، دون الانحلال العقلي بواسطة العلم التفصيلي بوجوب الأقل.

قوله في الحاشية : وثانيهما : قصد التوصل بها إلى الواجب ، فانّه أيضا كما عرفت موجب لوقوع المقدمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعا ... الخ (2).

قصد التوصل بالمقدمة إلى ذي المقدمة وإن قلنا بأنّه موجب للثواب ، إلا أن في كونه موجبا لعباديتها إشكالا ، وإن وقع ما يظهر منه قدس سره الالتزام بكونه موجبا لعباديتها كما حكاه المحرر عنه من قوله : وفيه ما عرفت من أنّ المقدمة إذا اتي بها بداعي التوصل إلى ذي المقدمة وامتثالا لأمره ، فلا محالة يكون عبادة ويترتب عليه الثواب (3). وقوله : إنّ الأوامر الغيرية المتعلّقة بالطهارات الثلاث لا توجب عباديتها وترتب الثواب عليها إلاّ إذا كان الاتيان بها بقصد التوصل بها إلى غاياتها (4).

لكن ذلك في غاية الاشكال ، وقد شرحنا (5) هذه العبائر وأوضحنا أن نسبة كون قصد التوصل كافيا في العبادية إليه قدس سره لعله كان اشتباها.

وعلى أي حال أن الاكتفاء به في غاية الاشكال أما أوّلا : فلأن قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها يتوقف على كونها مقدمة له ، وكونها مقدمة له يتوقف على كونها عبادة حسب الفرض ، وكونها عبادة يتوقف على قصد

ص: 193


1- أجود التقريرات 3 : 491 ، 494.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 256.
3- أجود التقريرات 1 : 254.
4- أجود التقريرات 1 : 261 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].
5- سيأتي في صفحة : 196 - 197 ، 231.

التوصل بها إلى ذيها ، وهو الدور الواضح ، نظير الدور الوارد على كون الأمر الغيري هو المصحح لعباديتها.

وأما ثانيا : فلأنّ قوام العبادية إنّما هو داعوية [ الأمر ](1) ، ومجرد قصد التوصل بها إلى ذي المقدمة لا يكون من داعوية الأمر في شيء.

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أن يقال : إنّ المصحح لعباديتها هو الاتيان بها بداعي التوصل إلى امتثال الأمر المتعلق بذيها ، بأن يقال لا حاجة في عبادية الفعل إلى الاتيان به بداعي الأمر المتعلق به ، بل يكفي فيه الاتيان به بداعي الأمر ولو كان ذلك الأمر متعلقا بما هو متوقف على ذلك الفعل. ولعل فيما نقله عن شيخنا قدس سره إشارة إلى ذلك ، وذلك قوله : ولكنّه خلاف التحقيق لما عرفت من أن المحرّك في فرض قصد التوصّل هو الأمر النفسي ، وبما أنّ الاتيان بها في هذا الفرض إنّما كان بتحريك الأمر النفسي وبداعي إطاعته ، ولا يعتبر في العبادة أزيد من كونها بداعي الأمر وبتحريكه ... الخ (2).

ولكن تعرضنا للاكتفاء بعبادية المقدمة باتيانها بداعي الأمر المتعلق بذيها ، فراجع (3).

وعلى كل حال أنّ المحشي لم يعتمد في هذا الأمر الثاني أعني قوله : وثانيهما ... الخ (4) على هذه الجهة ، بل اكتفى بمجرد دعوى كون قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها كافيا في عباديتها ، وهو الذي أخذه من ظواهر

ص: 194


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 1 : 263 [ المنقول هنا مخالف للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- ما يأتي في صفحة : 200.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 256.

العبائر التي نقلها عن شيخنا قدس سره وقد عرفت ما في ذلك فلاحظ ، وتأمل.

ولا يخفى أنّ هذا الاشكال بعينه وعين الجواب في طريقة الاكتفاء في عبادية المقدمة بقصد التوصل بها إلى ذيها قد نقله الآملي في تحريره (1) عن درس الاستاذ العراقي قدس سره وذكر إشكال الدور الذي ذكرناه ، وأجاب عنه بما أجابوا عن الدور في التعبدي ، وهو التقرب بالأمر المتعلق بذات العمل في ضمن الأمر المتعلق بالمركب من ذات العمل وقصد داعي الأمر ، وقد تقدم (2) الكلام في ذلك. على أن الحصة من الأمر المتعلقة بذات العمل وإن أمكن هناك الاتيان بذات العمل بداعيها ، فيحصل المركب وهو ذات العمل مع داعي الأمر ، إلا أنّ هذه الطريقة لا تتأتى فيما نحن فيه من جهة ، فانّ جزء الموصل إذا اتي به بقصد الايصال لا يوجب تحقق الموصل ، وهو الذات مع قصد التعبد الذي هو التوصل حسب الفرض ، فلاحظ.

وحاصل الفرق أن التركب هناك ناش من تعلق الأمر بالمركب ، وهنا من ناحية كون الموقوف عليه مركبا واقعا ، فلو كانت جهة التوقف ملحوظة كان الملحوظ هو المركب لا الجزء.

وعلى أيّ حال فالذي أظن أنّ الأصل في هذا الذي زعموه من كون الاتيان بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى ذيها كافيا في عباديتها ، هو ما أفاده في الكفاية في التذنيب الثاني في عدم اعتبار قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها في وقوعها عبادة ، وأنه لو كان المصحح لعباديتها هو قصد أمرها الغيري لكان ذلك القصد معتبرا فيها - إلى أن قال : - فان الأمر الغيري لا يكاد

ص: 195


1- بدائع الأفكار : 380 - 381.
2- في صفحة : 393 وما بعدها من المجلد الأول من هذا الكتاب.

يمتثل إلا إذا قصد التوصل إلى الغير حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا ، وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهم من أنّ المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية ... الخ (1).

قوله : وكذا لا إشكال في أن الأمر الغيري بما هو أمر غيري لا حقيقة له إلا كونه واقعا في طريق التوسل إلى الواجب النفسي ، فلا إطاعة له إلا مع قصد الأمر النفسي ، وحينئذ فالآتي بالواجب الغيري قاصدا به التوسل إلى الواجب النفسي شارع في امتثال الأمر النفسي ويثاب على إطاعته ... الخ (2).

وقوله : ثم إن الظاهر أن الثواب المترتب على إتيان الواجب الغيري بقصد التوسل متحد مع الثواب المترتب على نفس الواجب النفسي ، غاية الأمر أن الثواب يزيد عند إتيان المقدمة بقصد التوسل وتكون الاطاعة من حين الشروع بالمقدمة ... الخ (3).

وقوله - فيما بعد هذه العبارة - : وفيه ما عرفت من أن المقدمة إذا اتي بها بداعي التوسل إلى ذي المقدمة وامتثالا لأمره ، فلا محالة يكون عبادة ويترتب عليه الثواب ... إلخ (4).

لا يخفى أن مقتضى الجملة المتوسطة هو أنه لا ثواب إلاّ الثواب على

ص: 196


1- كفاية الاصول : 112 - 113.
2- أجود التقريرات 1 : 251 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 1 : 253.
4- أجود التقريرات 1 : 254.

نفس ذي المقدمة ، فلا ثواب على نفس المقدمة وإن اتي بها بداعي التوسل إلى ذي المقدمة ، وأما الحكم بزيادة ثواب ذي المقدمة فذلك أمر آخر منشؤه صيرورة ذي المقدمة شاقا بواسطة كثرة مقدماته ، وذلك أعني كونه شاقا منحصر بما كان الاتيان بالمقدمات بقصد التوسل إليه ، لأن الاتيان بها لا بهذا القصد لا يوجب كون نفس ذلك العمل الذي هو ذو المقدمة شاقا. وأما الحكم عليه بالاطاعة من حين الشروع في المقدمات فالظاهر أن منشأه كونه بصدد الاطاعة ، وذلك نظير الحكم عليه بالعصيان عند ترك أول مقدمة لا أنّه بفعل تلك المقدمة يكون مطيعا حقيقة وبتركها يكون عاصيا حقيقة.

ثم لا يخفى أنه لو أتى بالمقدمات بقصد التوسل ولكن لم يتهيأ له ذو المقدمة ولو من جهة عروض المرض أو الموت ، فهل يحكم عليه بترتب الاطاعة والثواب بالنسبة إلى نفس ذي المقدمة؟ الظاهر لا. نعم يمكن أن يقال إن ذلك من باب الانقياد المقرون بالفعل والحركة في الجملة على طبق تلك الارادة الانقيادية ، فيكون له ثواب ذلك الانقياد.

وعلى كل حال أن ما افيد في الجملة الأخيرة من صيرورة المقدمة عبادة عند الاتيان بها بذلك القصد أعني قصد التوسل ، مما لا يمكن الالتزام به وإلاّ كنّا في غنى عن التمحلات في عبادية الطهارات الثلاث ، إلاّ إذا كان المراد من قصد التوسل هو الاتيان بها بداعي الأمر الشرعي الشرطي الذي نالها من الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة ، فراجع ما حررناه عنه قدس سره في هذا المقام.

وبالجملة : أن الظاهر من هذه الجملة الأخيرة ، ومن قوله : فتحصل من جميع ما ذكرناه في الطهارات الثلاث أنّ أوامرها الغيرية لا توجب

ص: 197

عباديتها وترتب الثواب عليها إلاّ إذا كان الاتيان بها بقصد التوسل بها إلى غاياتها ... الخ (1) ، ومن قوله : ولكنه خلاف التحقيق ، لما عرفت من أن المحرّك في فرض قصد التوسل هو الأمر النفسي ، فالاتيان بها في هذا الفرض بتحريك الأمر الصلاتي مثلا وإطاعة له حين الفعل ، ولا يعتبر في العبادة أزيد من كونها بداعي الأمر وتحريكه وهو موجود حين الفعل ... الخ (2) ، كل هذه الجمل ظاهرة في أن منشأ عبادية هذه الطهارات هو الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بذي المقدمة الذي هو الصلاة مثلا ، وبنحو ذلك صرح قدس سره فيما حررته عنه.

ولكن قوله : وحاصله أن الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلا كما أنّ له تعلقا بأجزائها وهو موجب لكونها عبادة لا يسقط أمرها إلاّ بقصد الأمر ، فكذلك له تعلق بالشرائط المأخوذة فيها ، فلها أيضا حصة من الأمر النفسي وهو الموجب لعباديتها ، فالموجب للعبادية في الأجزاء والشرائط على نحو واحد ... إلخ (3) ، وهكذا الكثير مما حررته عنه أيضا ، ظاهر في أن منشأ العبادية هو الأمر الشرعي الشرطي الذي ينال ذلك الشرط في ضمن الأمر المتعلق بالمشروط.

قال فيما حررته عنه (4) : والتفصيل أنه فيما إذا كانت المقدمة جزءا من ذيها لا إشكال في ترتب الثواب على الاتيان بها بداعي الأمر ، أعني الأمر الضمني النفسي الذي نالها بواسطة تعلق الأمر النفسي بالمركب منها ومن

ص: 198


1- أجود التقريرات 1 : 261 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 263 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
3- أجود التقريرات 1 : 255 - 256 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
4- في صفحة : 227 [ منه قدس سره ، ويقصد به تحريراته المخطوطة ].

غيرها ، وكذا لو كانت شرطا شرعيا وكان الشرط نفس الأفعال ، فانها حينئذ يؤتى بها بداعي ذلك الأمر النفسي الذي نالها بواسطة تعلق الأمر النفسي بالمشروط بها ، وأما لو كان الشرط هو العنوان المتولد من تلك الأفعال فكذلك ، لأن الأمر الضمني النفسي المتعلق بذلك العنوان متعلق في الحقيقة بتلك الأفعال ، لما حققناه غير مرة من عدم الفرق في العنوان التوليدي بين تعلق الأمر بالعنوان التوليدي وتعلقه بالفعل الذي يتولد منه ذلك العنوان ... الخ.

وهكذا الحال في المقدمات الاعدادية لنفس الفعل المأمور به بالأمر النفسي ، فان الأمر المتعلق بفعل متوقف على مقدمات إعدادية عقلية كانت أو عادية يكون محرّكا على الاتيان بما يتوقف عليه ذلك الفعل من تلك المقدمات ، فإذا أتى المكلف بتلك المقدمات بداعي الأمر المتعلق بما يتوقف عليها ترتب عليه الثواب ، من دون فرق في جميع ذلك بين القول بتعلق الوجوب الغيري بالمقدمة للدليل الشرعي أو للملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، وبين القول بعدم الوجوب الغيري بالمقدمة وأنه ليس في البين إلاّ حكم العقل بلزوم الاتيان بها توصلا إلى الاتيان بذيها الذي تعلق به الوجوب النفسي ... الخ.

وكيف كان ، نقول إن المنشأ في العبادية إن كان هو الاتيان بها بداعي التوسل بالمقدمة إلى ذيها بحيث يكون الداعي على الاتيان بها هو الأمر المتعلق بذيها ، فذلك قابل للتأمل ، فان الأمر المتعلق بذي المقدمة لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به وهو ذو المقدمة ، فلا يعقل أن يكون داعيا إلى نفس المقدمة ، وإلاّ لكانت المقدمة داخلة فيما هو المأمور به نفسا.

ص: 199

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة وإن لم يكن متعلقا بنفس المقدمة إلاّ أنّه لا مانع من كون حركة المكلف نحو المقدمة بتحريك ذلك الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة ، بحيث يكون انبعاثه نحو المقدمة بتحريك الأمر المتعلق بذيها ، بأن كان قصده من فعلها هو التوسل بها إلى فعل ذيها ، وهذا المقدار من الداعوية يكفي في ترتب الثواب عند الشروع في المقدمة ، لكنه ليس على نفس المقدمة بل إنما الثواب على ذيها ، وإن كان فعلها موجبا لكثرة الثواب على ذيها باعتبار كونه شاقا على ما مرّ شرحه (1) ، لكنه لا يوجب عبادية تلك المقدمة ، ويكون غرض شيخنا من ذلك هو بيان مجرد تصحيح الثواب لا تصحيح العبادية ، وتكون نسبة كونه مصححا للعبادة إليه اشتباها. والشاهد على ذلك هو التوسعة التي نقلناها (2) عنه في مسألة الثواب إلى المقدمة العقلية والعادية وتنصيصه في توجيه العبادية على خصوص المقدمة التي تكون شرطا شرعيا.

نعم ، يمكن أن يقال بكون ذلك - أعني قصد التوسل الذي هو عبارة عن الاتيان بالمقدمة بداعي الأمر بذيها - كافيا في عباديتها ، إذ ليست العبادة إلاّ ما يؤتى بها بداعي الأمر سواء كان ذلك الأمر متعلقا بها بنفسها أو كان متعلقا بما يتوقف فعله على وجودها ، فتأمل.

ولكنه لا يخلو عن إشكال ، فالأولى هو الاعتماد في تصحيح عبادية مثل الطهارات على ما أفاده من الأمر الشرطي الذي نالها من الأمر بالفعل المشروط بها ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إن الشرط هو نفس تلك

ص: 200


1- في صفحة : 197.
2- في صفحة : 199 [ وتقدم في صفحة : 198 - 199 ما استظهر منه أن العبادية ناشئة من الأمر الشرعي الشرطي ].

الأفعال أو أنه العنوان المتولد منها كما أفاده قدس سره فيما حررناه فيما تقدم (1) نقله ، ولعل الثاني هو المتعين كما يشهد بذلك ما لو كان متوضئا لغاية سابقة وحضر وقت الصلاة ، إذ لو كان الشرط هو نفس الأفعال لاحتاج إلى تجديدها.

نعم ، يبقى في البين إشكال آخر وهو أن الشرط الشرعي من قبيل دخول التقييد وخروج القيد ، وحينئذ يكون نفس الشرط الذي هو الأفعال الوضوئية أو العنوان المتولد منها خارجا عن حيّز الأمر النفسي ، ويكون نفس القيد مقدمة عقلية.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن القيد وإن كان خارجا وكان الداخل تحت الطلب هو التقيد به إلاّ أن التقيد يكون متولدا عن فعل القيد نفسه ، فيكون حاله من هذه الجهة حال نسبة الأفعال الوضوئية إلى ما يتولد منها أعني الطهارة وارتفاع الحدث في أنه لا فرق بين كون متعلق الأمر النفسي الضمني هو نفس الفعل أو ما يتولد منه ، فتأمل. فانه يمكن أن يقال : إن الأفعال الوضوئية بالنسبة إلى التقيد ليست من قبيل الأسباب التوليدية ، بل هي من المقدمات الاعدادية لتوسط الاختيار بينهما ولو كان هو اختيار الفاعل نفسه أعني بذلك اختياره إيجاد الصلاة بعد أن فعل الطهارة ، وفي الحقيقة أن الذي هو من الأسباب التوليدية بالنسبة إلى التقيد المذكور هو إيجاد الصلاة بعد فعله الطهارة ، وحينئذ لا تكون الأفعال الوضوئية بالنسبة إلى ما ورد عليه الوجوب الشرطي الضمني إلاّ من قبيل المقدمات الاعدادية ، وبعد الفراغ عن كونها عبادية تكون عباديتها ناشئة عن الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بذيها ، فإن الأمر المتعلق بذي المقدمة يدعو إلى جميع ما يتوقف عليه ،

ص: 201


1- في صفحة : 199.

غايته أن بعض تلك المقدمات لا يعتبر فيها الاتيان بها بداعي ذلك الأمر وبعضها يعتبر فيها العبادية ، فلا بدّ من الاتيان بها بداعي ذلك الأمر المتعلق بذيها وإن لم يكن هو متعلقا بها ، فان الأمر يحرّك المكلف إلى كل ما يتوقف عليه متعلقه. أو يؤتى بها بداعي الجهة الاستحبابية ، فتأمل.

وقد يقال : إن هذا التوجيه لعبادية الطهارات لا يلتئم مع ما عليه عمل الناس ، فانهم لا يشعرون بذلك الأمر الشرعي الشرطي كي يأتوا بها بداعي امتثاله ، وإنما يتحركون عن الأمر الغيري.

وفيه : ما لا يخفى ، فان حاصل ذلك التوجيه هو أن المصحح لعبادية الوضوء مثلا هو الاتيان به بداعي الأمر المتعلق بما هو مشروط به ، وهو عين ما يقع من عامة الناس ، فانهم لا يقصدون بالوضوء إلاّ التوصل به إلى ما هو مشروط به ، وهو عين الاتيان به بداعي ذلك الأمر الشرطي ، لا أنهم يأتون به بداعي الأمر الغيري المتولد من الأمر النفسي ، لأنهم غافلون عن ذلك الأمر الغيري ، ولا يلتفتون إلاّ إلى الأمر النفسي المتعلق بما هو مشروط بالوضوء وإلى الأمر النفسي الشرطي المتعلق بذلك الشرط ، فتأمل.

نعم ، إن هذا التوجيه إنما يتم فيما يكون من الطهارات مقدمة لعبادة مثل الوضوء للصلاة ، دون ما يكون لمجرد الكون على الطهارة أو الجهات الأخر مثل مس المصحف ومثل وضوء الحائض والوضوء للنوم والوضوء الرافع لكراهة الجنابة على الجنابة ، وهكذا الحال في الأغسال المستحبة ، فلا بدّ في جميع ذلك من الالتزام بأن المصحح للعبادية هو الأمر الاستحبابي النفسي ، سواء كان رافعا للحدث كما في مثل الوضوء لمسّ المصحف ، أو لم يكن رافعا له كما في وضوء الحائض ووضوء الجنب ، بل الوضوء

ص: 202

التجديدي فيما لو لم يصادف الحدث في الواقع ، باخراج صورة ما لو توضأ تجديدا وكان وضوء السابق فاسدا مثلا.

ثم إن استحباب الوضوء نفسيا وإن كان قابلا للانكار لعدم الدليل القاطع على ذلك ، فان أغلب ما ذكر له من الأدلة لا تدل على الاستحباب النفسي كما لا يخفى على من راجع الكتب الفقهية. نعم الظاهر أن دلالة جملة منها على استحباب الكون على الطهارة غير قابلة للانكار (1) ، وحينئذ فلا يكون النزاع في الاستحباب النفسي إلاّ شبيها بالنزاع اللفظي ، فان نفس أفعال الوضوء بالنسبة إلى الكون على الطهارة من الأسباب التوليدية ، وقد حقق قدس سره (2) أنه لا فرق فيها بين تعلق الأمر بنفس الأفعال وتعلقه بما يتولد منها ، وحينئذ يكون عدّ الكون على الطهارة من غايات الوضوء باعتبار تولده منه ، لا باعتبار كون الوضوء مقدمة له مثل مقدميته لجواز مس

ص: 203


1- [ منها : ] ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [ البقرة 2 : 222 ] ، ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) [ التوبة 9 : 108 ] ، وقول علي عليه السلام : « الوضوء على الطهور عشر حسنات فتطهروا » [ وسائل الشيعة 1 : 377 / أبواب الوضوء ب 8 ح 10 ( مع اختلاف يسير ) ] فان ظاهر الأمر الاستحباب ، ولا اختصاص له بمورده من وضوء التجديد. [ وفي ] الحديث القدسي : « من أحدث فما توضأ فقد جفاني ، ومن توضأ ولم يصل ركعتين فقد جفاني ، ومن توضأ وصلى ركعتين ودعاني ولم اجبه فيما سأله من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست برب جاف » [ وسائل الشيعة 1 : 382 / أبواب الوضوء ب 11 ح 2 ( مع اختلاف عمّا في المصدر ) ] ، وعن الأمالي من قوله صلى اللّه عليه وآله : « يا أنس أكثر من الطهور يزد اللّه في عمرك ، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل ، فانك إذا متّ على طهارة متّ شهيدا » [ وسائل الشيعة 1 : 383 / أبواب الوضوء ب 11 ح 3 ، أمالي المفيد : 60 / 5 ]. وعن النوادر عن أمير المؤمنين عليه السلام : « كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إذا بالوا توضئوا أو تيمموا مخافة أن تدركهم الساعة ] » [ بحار الأنوار 80 : 312 / 28 ، النوادر ( للراوندي ) : 189 / 339 منه قدس سره ].
2- راجع أجود التقريرات 1 : 56 - 57.

المصحف أو لصحة الصلاة.

ولا يخفى أن ذلك أعني عدّ الكون على الطهارة من الغايات لا يخلو من تسامح. وينبغي مراجعة ما أفاده قدس سره في الوسيلة (1) من المسائل السبع التي ذكرها في البحث الثاني فيما يجب أو يستحب له الوضوء سيما المسألة الاولى والسادسة والسابعة ، ومن ملاحظة ما أفاده قدس سره في المسألة الاولى يتضح الوجه فيما أفاده في حواشي العروة (2) من الاحتياط بقصد الكون على الطهارة ، ولكن مع ذلك كله لا يخلو الاحتياط المذكور عن الضعف ، ولعل مبنى الاحتياط المذكور هو كون الكون على الطهارة من العناوين التي يتوقف حصولها على القصد بعد الفراغ عن كونه من العناوين التوليدية ، فراجع وتأمل.

قوله : مع أن الأمر النفسي الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب ... الخ (3).

مراده من الوجوب الذي ينعدم الاستحباب بعروضه هو الوجوب النفسي الشرطي الضمني لا الوجوب الغيري ، لما سيأتي (4) إن شاء اللّه من أن الوجوب الغيري لا يوجب اندكاك الأمر الاستحبابي النفسي لاختلاف متعلقهما ، بخلاف الوجوب الضمني الشرطي لوحدة المتعلق فيهما ، فينعدم الاستحباب بعروضه ، لكن جهة الاستحباب تبقى ، فيصح الاتيان بالوضوء بداعي الجهة الاستحبابية مع فرض طروّ الوجوب النفسي الضمني الشرطي

ص: 204


1- وسيلة النجاة : لد - م [ لا يخفى أنّ الصفحات الاولى منها رمز لها بالحروف دون الأرقام ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 350 ، 360.
3- أجود التقريرات 1 : 254.
4- أجود التقريرات 1 : 258 - 260.

وزوال الاستحباب بحدّه كما سيأتي صفحة 150 (1) إن شاء اللّه وأشار إليه في حواشي العروة (2).

قال قدس سره فيما حررته عنه ما حاصله : أن المتحصل مما أفاده الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة (3) في بيان الاشكال على عبادية الطهارات الثلاث هو أن عباديتها إن كانت من ناحية الأمر الغيري كان مستلزما للدور ، لتوقف الأمر الغيري على كونها مقدمة ، وكونها كذلك متوقف على كونها عبادة ، وكونها عبادة متوقف على ذلك الأمر الغيري.

وإن كانت عبادية هذه الطهارة من ناحية الاستحباب النفسي المتعلق بتلك الأفعال من جهة حسنها الذاتي ، ففيه أوّلا : أن هذا لا يتم في التيمم لعدم استحبابه ذاتا. وثانيا : أن الاستحباب النفسي ينعدم عند طروّ الوجوب الغيري عليها. وإن أجاب هو عن هذا الأخير بالمنع من انعدام الاستحباب النفسي عند طروّ الوجوب الغيري.

ثم بعد أن أفاد أن الأمر الاستحبابي لا ينفع لعدم كونه مقصودا في مرحلة الداعي كما سيأتي نقله قال : وأما ما أفاده الشيخ قدس سره (4) من عدم انعدام الاستحباب النفسي عند طروّ الوجوب الغيري ، فقد تقدم منا على الاجمال أن ذلك من باب اندكاك إحدى الجهتين بالاخرى وأخذ كل من الطلبين من الآخر ما هو فاقد له ، وأن الاستحباب النفسي يندك بالوجوب الغيري ويتحد معه ، ويكون الطلبان طلبا واحدا وجوبيا نفسيا عباديا ، وقد

ص: 205


1- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 261 من الطبعة الحديثة ، وراجع أيضا صفحة : 222 - 223 من هذا المجلّد.
2- كما سيأتي في صفحة : 222.
3- كتاب الطهارة 2 : 54.
4- كتاب الطهارة 2 : 55.

أفتى المشهور بصحة الوضوء أو الغسل بقصد الجهة الاستحبابية وإن اندك ما اقتضته من الطلب الاستحبابي في الوجوب الغيري.

إلاّ أنا لا نعني من الطلب الغيري في ذلك هو الطلب الصوري الذي هو في الحقيقة لا واقعية له ، أعني المتولد من تعلق الأمر النفسي بما يتوقف على تلك الطهارات من العبادات ، فان ذلك لا يعقل أن يندك فيه الطلب الاستحبابي كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه تعالى.

بل المراد به هو ذلك الوجوب النفسي المتعلق بهذه المقدمات أعني ما نالها من الوجوب النفسي المتعلق بما يتوقف عليها ، الذي ذكرنا أنه هو المصحح لعبادية تلك المقدمات وهو المنشأ في ترتب الثواب عليها ، ولنصطلح على هذا الطلب بالطلب الشرطي النفسي وقد عبرنا عن هذا الطلب بأنه غيري كما لم نزل نعبّر عن الأمر المتعلق بالجزء وعن النهي المتعلق بالمانع بأنه طلب غيري ، فليس مرادنا بالغيرية هو ذلك المعنى أعني ما يكون متولدا عن تعلق الأمر النفسي بالمركب والمشروط ، بل المراد بها في قبال النفسية الاستقلالية ، ونعني بذلك أن الطلب المتعلق بهذه الامور ليس هو بطلب استقلالي على وجه تكون مطلوبة بنفسها مستقلا كسائر المطلوبات ، بل إنّها إنما تعلق بها ذلك الطلب لتنشأ عنه الجزئية فيما يكون جزءا والشرطية فيما يكون شرطا والمانعية فيما يكون مانعا ، وإلاّ فان ذلك الطلب نفسي لا غيري بالمعنى السابق.

وبالجملة : أن مرادنا من الوجوب الغيري فيما تقدم من قولنا إن الطلب الاستحبابي يندك به ويتحد معه هو ذلك الوجوب النفسي الضمني المتعلق بالشرط أعني المقدمات المذكورة ، ولنعبّر عنه بالوجوب النفسي الشرطي. وينبغي أن يعلم أنه لا أثر لاندكاك الاستحباب النفسي في هذا

ص: 206

الطلب الوجوبي الشرطي النفسي إلاّ صيرورتهما طلبا واحدا وجوبيا ، فيكون الأول مكتسبا من الثاني صفة الوجوب ، أما النفسية والعبادية فكل منهما واجد لها ، فلا يكون أحدهما مكتسبا لها من الآخر ... إلخ.

قوله : مع أنه يصح الاتيان بجميع الطهارات بقصد الأمر النفسي المتعلق بذيها من دون التفات إلى الأمر النفسي المتعلق بها ثالثا ، فليس حالها حال صلاة الظهر والصوم ... الخ (1).

أفاد قدس سره فيما حررته عنه : أن عبادية الفعل بالقياس إلى أمر إنما تتحقق إذا كان هو الداعي على الاتيان بذلك الفعل ، ولا يكون داعيا إلاّ إذا كان معلوما وملتفتا إليه بنفسه مقصودا بذاته ليكون باعثا ومحرّكا على الاتيان بذلك الفعل ، فكيف يعقل أن يكون ذلك الأمر الاستحبابي النفسي باعثا ومحرّكا على الاتيان بتلك الأفعال مع كونه غير معلوم بنفسه وغير مقصود بذاته وإنما يقصد إجمالا. مضافا إلى أنه غالبا يكون مغفولا عنه بالمرّة وغير ملتفت إليه بتاتا ... الخ.

قلت : بل يمكن أن يقال : إن ذلك الأمر النفسي المتعلق بالوضوء مثلا لو كان معلوما وملتفتا إليه لكن المكلف أتى بالوضوء بداعي أمره الغيري ، لم يكن ذلك الأمر النفسي مصححا لعبادية الوضوء ، لأن المكلف وإن كان عالما وملتفتا إلى أن الوضوء مستحب نفسا إلاّ أنه لم يأت به بداعي استحبابه النفسي ، وإنما أتى به بداعي أمره الغيري ، فأقصى ما فيه أنه أتى بذلك الوضوء الموصوف عنده بكونه مستحبا نفسيا بداعي أمره الغيري ، فلم يكن المحرك والداعي هو أمره الاستحبابي النفسي ، بل كان الداعي هو

ص: 207


1- أجود التقريرات 1 : 254 - 255.

أمره الغيري فلا تصح عباديته.

والحاصل : أنها لو كانت عباديتها من جهة أمرها النفسي الاستحبابي توقف ذلك على كونه هو الباعث والمحرّك على إيجادها ، والقصد الاجمالي للأمر الاستحبابي بقصد الأمر الغيري لا يكفي ، لأن ذلك إنما يتم لو كان اعتبار قصد الأمر في العبادية هو قصده وصفا لا قصده داعيا. والخلاصة هي أن الأوصاف يدخلها القصد الإجمالي في قبال القصد التفصيلي ، أما دعوة الأمر وتحريكه المكلف نحو الفعل فلا يتصف بالاجمال والتفصيل بل بالوجود والعدم ، فلاحظ.

قوله : وحاصله أن الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلا كما أنّ له تعلّقا بأجزائها - إلى قوله : - فكذلك له تعلق بالشرائط المأخوذة فيها ، فلها أيضا حصة من الأمر النفسي ... إلخ (1).

اورد عليه كما في تقرير درس الاستاذ العراقي قدس سره (2) وكما في الحاشية [ على ] صفحة 175 (3) بما حاصله : أن ذلك خلاف ما هو المعروف من كون الشروط خارجة عن حيّز الأمر النفسي المتعلق بالمشروط ، وليس حالها في ذلك حال الأجزاء ، بل إن الأجزاء من باب دخول كل من القيد والتقييد ، بخلاف الشروط فانها من باب أن التقييد داخل والقيد خارج ... إلخ.

ولا يخفى أن هذا الفرق بين الأجزاء والشرائط كثيرا ما يقع في كلمات شيخنا قدس سره خصوصا في هذه المقامات وفي باب المقدمة (4) عند

ص: 208


1- أجود التقريرات 1 : 255 - 256 [ مع اختلاف يسير عما في النسخة المحشاة ].
2- بدائع الأفكار ( للمحقق الآملي قدس سره ) : 380.
3- حسب الطبعة القديمة المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 255.
4- أجود التقريرات 1 : 313.

تقسيمها إلى داخلية وخارجية وعادية وعقلية ، فإنه صرح هناك بأن المراد من الداخلية هي الأجزاء والخارجية هي الشرائط ، لكون الشرط نفسه خارجا عن تحت الأمر وإنما الداخل هو التقيد به لكونه من باب أن التقييد داخل والقيد خارج ، فراجع كلماته هناك.

وتوضيح مرامه قدس سره هو أن يقال : إن كلا من الأجزاء والشرائط له حظ من الوجوب النفسي الضمني ، بخلاف المقدمة العادية والعقلية ، ولكن الأجزاء لها الحظ من الوجوب النفسي الضمني الجزئي ، والشرائط لها حظّها من الوجوب النفسي الضمني أيضا ، لكنه وجوب شرطي لا جزئي ، فتلك واجبة بالوجوب النفسي الضمني الجزئي ، وهذه واجبة بالوجوب النفسي الضمني الشرطي.

والحجر الأساس في الفرق هو كون ذلك جزئيا وكون هذا شرطيا. وبيان ذلك هو أن المركب المأمور به أعني الصلاة مثلا لمّا كان مقيدا بالطهارة مثلا كان الذي تحت ذلك الأمر النفسي هو أجزاءها وتقيدها بالطهارة ، وأما نفس الطهارة فهي خارجة عن حيّز ذلك الأمر النفسي المتعلق بالصلاة المقيدة بالطهارة. نعم إن التقيد بالطهارة داخل تحت ذلك الأمر النفسي فيكون واجبا ضمنيا كالأجزاء ، لكن هذا الواجب الذي هو التقيد ليس هو في عرض الأجزاء وإلاّ لكان جزءا ، بل هو كيفية لها. وإن شئت [ قلت ](1) إنهما من قبيل المادة والصورة ، فلا يكون وجوبه على نسق وجوبها ، بل يكون على نسق وجوده ، وهذا هو الوجوب النفسي الضمني الشرطي في قبال الوجوب النفسي الضمني الجزئي.

ص: 209


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

ثم إن هذا التقيد لمّا كان مسببا توليديا عن إيجاد القيد عند إيجاد الصلاة ، كان فعلا توليديا لذلك القيد ، وكان تعلق ذلك الأمر النفسي الضمني الشرطي بالتقيد عبارة اخرى عن تعلقه بسببه التوليدي الذي هو نفس القيد ، أعني ما يعبّر عنه بذات الشرط ، فصح لشيخنا قدس سره أن يقول : إن الشرط أعني ذات القيد الذي هو نفس أفعال الوضوء مثلا أو لبس الساتر خارج عن تحت الأمر النفسي ، وأنه ليس بواجب بالوجوب النفسي الضمني الجزئي وإن كان هو واجبا بالوجوب النفسي الضمني الشرطي الذي كان تعلّقه به بعين تعلقه بمسببه التوليدي الذي هو التقييد.

ولا فرق في ذلك بين أن نقول إن الشرط والقيد هو نفس الأفعال الوضوئية ، أو أن نقول إن الشرط والقيد هو المسبب والمتولد عن تلك الأفعال ، أعني ذلك المعنى النفساني من ارتفاع الحدث. أما الأول فواضح كما عرفت. وأما على الثاني فلأن الأفعال الوضوئية سبب لذلك الشرط ، وهو أعني الشرط سبب للتقيد ، فيكون الأمر المنصبّ على ذلك التقيد منصبا على نفس الأفعال ، لكون التقيد مسببا توليديا عن القيد الذي هو الطهارة ، وهي مسبب توليدي عن الأفعال الوضوئية ، فحال الأفعال الوضوئية بالنسبة إلى الطهارة المتولدة منها التي تكون مولدة لما هو الواجب الشرطي أعني تقيد الصلاة ، حال القيام المولد للتعظيم الموجب لاستمالة زيد لو كانت الاستمالة واجبة.

وهذه الطريقة جارية في لبس الثوب المولد للتستر الموجب لحصول الواجب الشرطي أعني تقيد الصلاة بالتستر ، ولا فرق بينهما إلاّ في أن أفعال الوضوء لا يترتب عليها مسببها الأول أعني الطهارة إلاّ إذا كانت عبادة ، بخلاف لبس الثوب فانه يترتب عليه مسببه الأول أعني كون الشخص

ص: 210

متسترا من دون توقف على كون اللبس عباديا ، هذا حال الشروط.

وأما الأجزاء فهي بأنفسها واجبة بالوجوب النفسي الضمني الجزئي ، ولها أيضا وجوب نفسي ضمني شرطي ، وهو الناشئ عن كون كل واحد من الأجزاء قيدا في البواقي كما هو شأن الارتباطية ، إلاّ أن هذا الوجوب النفسي الضمني الشرطي قد اندكّ في وجوبه النفسي الضمني الجزئي.

ثم نعود إلى ذلك الوجوب النفسي الضمني الشرطي الذي تعلق بالوضوء ونقول : إن حاله حال الوجوب النفسي الضمني الشرطي المتعلق بالتستر ، لكن دل الدليل على اعتبار العبادية في الأول ، فكان حاله حال العبادات في كيفية العبادية فيه. وهل يمكن القول بأن متعلق الأمر مقيد بالاتيان بداعيه ، أو أن الحاكم هو العقل على مسلك صاحب الكفاية (1) ، أو أنه لا بد في ذلك من أمر ثان يتعلق بالاتيان به بداعي الأمر الأول وهو مسلك الشيخ قدس سره (2) ، أو غير ذلك من المسالك التي عرفتها في مباحث التعبدي ، وليس للطهارات خصوصية زائدة في البحث عن هذه الجهة حينئذ ، هذا كله لو تمّ ما شرحناه في مسلك شيخنا قدس سره من الأمر النفسي الضمني الشرطي.

ولو أنكرناه وقلنا إنه ليس في البين إلاّ كون الصلاة الواجبة هي المقيدة بالطهارة ، فلا تكون أفعال الطهارة إلاّ من قبيل المقدمة العقلية أو العادية التي يتوقف عليها الواجب عقلا أو عادة ، فلو قلنا بأن المقدمة واجبة غيريا وجوبا شرعيا ، كان لنا أن نقول إنه بعد أن دل الدليل على عبادية الوضوء كان اللازم هو الاتيان به بداعي أمره الغيري المذكور بأحد المسالك

ص: 211


1- كفاية الاصول : 72.
2- مطارح الأنظار 1 : 303.

المشار إليها ، أعني التقييد الشرعي أو العقلي أو تعدد الأمر أو غير ذلك من مسالك التعبدي. وأما الاشكال بالدور فليس هو إلاّ عين الاشكال المذكور في مبحث التعبدي (1) ، فلم يبق إلاّ القول بأن الأمر الغيري لا يحقق العبادية لأنه توصلي ، وهو غريب لأن التوصلية أو العبادية إنما هي من طوارئ متعلق الأمر ، ولو قلنا إنها من أطوار نفس الأمر فذلك فيما إذا لم يقم الدليل على اعتبار العبادية في متعلقه.

نعم ، إن هناك جهة اخرى وهي أنه لا واقعية للأمر الغيري وأنه صوري وأنه ليس بمجعول شرعي ، وأن الأمر الحقيقي إنما هو الأمر المتعلق بذي المقدمة ، إلاّ أن هذا إنكار لأصل الوجوب الغيري لا إنكار لقابلية التعبد به لو فرضنا وجوده وأنه أمر حقيقي شرعي ، بل قد نقول إن المقدمة لو فرضنا عدم تعلق الأمر الغيري الشرعي بها كان من اللازم علينا القول بأن هذه المقدمة واجبة شرعا وجوبا غيريا ، فان الشارع بعد اطلاعه على توقف المأمور به الأصلي أعني الصلاة على الاتيان بهذه المقدمة أعني الوضوء بعنوان العبادية المتوقفة على الأمر ، كان لزاما على الشارع أن يأمر بنفسها أوّلا ، وثانيا بالاتيان بها بداعي الأمر الأول ، غايته أنه يمكننا القول بأن هذا الأمر في هذه الحالة ليس بغيري صرف ، بل نفسي بالغير على حذو المقدمات المفوّتة قبل الوقت ، فلاحظ.

والخلاصة : هي أنه ليس الاشكال في عبادية الطهارات إلاّ ذلك الاشكال الوارد في باب التعبدي وليس هو إشكالا آخر ، فلاحظ وتدبر.

قال شيخنا قدس سره فيما حررته عنه : الأمر الثاني مما ينبغي التنبيه عليه أن

ص: 212


1- أجود التقريرات 1 : 160 - 162.

الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة (1) وفيما نقله عنه في التقريرات (2) استشكل في عبادية بعض المقدمات كالطهارات الثلاث ، وقد استعظم هذا الاشكال واهتم به غاية الاهتمام ، ونحن لا نراه إلاّ عين الاشكال السابق في باب التعبدي والتوصلي ، وكان المرحوم العلاّمة المحقق السيد محمد الاصفهاني مصرّا على أن هذا الاشكال هو غير الاشكال السابق في التعبدي ، إلاّ أنه قدس سره لم يأت بشيء يوجب المغايرة بين الاشكالين.

قلت : الظاهر أنه إن قرر الاشكال فيما نحن فيه بطريق الدور كما أفاده الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة كان عين الاشكال السابق ، وإن قرر كما في التقريرات من أن الأمر الغيري غير صالح للعبادية كان هذا الاشكال أجنبيا عن الاشكال السابق ، لكونه راجعا إلى وجود الأمر المصحح للعبادية لا إلى كيفية كونه عباديا بعد وجوده.

وعلى كل حال ، أنه لا يرد على مسلك شيخنا قدس سره بعد ما عرفت من شرحه ، ما أورده عليه في التقريرات المشار إليها من أنه لا يترتب عليه دفع الاشكال ، إذ انبساط الأمر النفسي على الشرائط ليس لملاك نفسي فيها كما اعترف بذلك هو قدس سره ، وإنما ذلك من جهة التخلص عن عدم إمكان تعلق الأمر بالتقيد ، فلا محالة يلتزم بتعلقه بأصل القيد الذي هو منشأ انتزاعه ، وعليه فلا يترتب على تعلق مثل هذا الأمر بها كونها عبادة (3).

وفيه ما لا يخفى ، فان نفس التقيد مشتمل على الملاك ، وهو عين نفس القيد على ما عرفت من كونه مسببا توليديا عنه ، وأن جعل نفس القيد

ص: 213


1- كتاب الطهارة 2 : 54.
2- مطارح الأنظار 1 : 349 وما بعدها.
3- بدائع الأفكار ( للمحقّق الآملي قدس سره ) : 381.

متعلقا للأمر ليس باختيار أحد وإنما هو قهري ، حيث إن المسبب التوليدي عين السبب ، فلاحظ وتدبر.

نعم ، ربما توجه الاشكال بأنه لا فرق بين هذا الشرط وبين غيره من الشروط في أنه يناله حظه من الوجوب النفسي الشرطي العبادي ، فكيف صار مثل الطهارة عباديا ولم يكن التستر عباديا.

وما أفاده قدس سره (1) من إمكان التفكيك حتى في الأجزاء مما لا يمكن الالتزام به ، إذ لا يمكن أن يتبعض الأمر الواحد في العبادية والتوصلية.

كما أنه ربما قيل إن هذه الطريقة أعني الاتيان بالطهارة بداعي الأمر النفسي الضمني الشرطي لعلها لا تنطبق على عمل النوع ، وأنها لا تتأتى فيما يكون منها مقدمة لما هو غير عبادي ، كما في الوضوء لمسّ المصحف وتيمم الجنب في المسجد ليخرج به ونحو ذلك.

فالأولى بل المتعين هو الالتزام بأن المصحح للعبادية هو الأمر الغيري ، ولا يرد عليه سوى ما عرفت (2) من كونه صوريا وطريقيا وأنه لا حقيقة له ، ولكن نلتزم في خصوص باب الطهارة بكون الأمر الغيري اللاحق لها ذا خصوصية توجب النظر الاستقلالي ، نظير الأمر بالمقدمات المفوّتة ، لعدم حصول الغرض والملاك الأصلي إلاّ بذلك النحو من الأمر وهو المسمى بالأمر النفسي بالغير ولزوم صدوره من الحكيم من باب متمم الجعل ، وكذلك الحال فيما نحن فيه فانه لمّا رأى ملاك الصلاة لا يستوفى إلاّ مع الطهارة ، وأن الطهارة لا تكون إلاّ عبادة ، وعباديتها لا تكون إلاّ بالأمر بها لأجل الحصول على قيد الصلاة ، كان من اللازم على ذلك الحكيم

ص: 214


1- أجود التقريرات 1 : 257.
2- في صفحة : 212.

إصدار ذلك الأمر بها ، وقد صدر كما تضمنته الآية الشريفة ( إِذا قُمْتُمْ ... ) (1).

لا يقال : إن التقيد بالشرط - أيّ شرط كان - إن دخل تحت الأمر النفسي وناله حظه منه الذي سميناه بالوجوب النفسي الضمني الشرطي تمّ ما أفاده شيخنا قدس سره من كون الأمر بالتقيد عين الأمر بنفس القيد ، وإن لم يكن التقيد داخلا تحت الأمر امتنع جريان حديث الرفع (2) في الشك في الشرطية.

لأنا نقول : قد حقق في محله (3) جريانها في مسألة الشك في الشرطية ولو لأنها ترفع ذلك التضييق والكلفة الزائدة في ذلك على المكلف.

لا يقال : إن الوجوب الغيري لا يوجب الثواب ، ومن المعلوم ترتب الثواب على نفس الطهارات.

لأنا نقول : تقدم (4) الوجه في ترتب الثواب عليها ، ولكن هل هو نفس الثواب على ذي المقدمة ، أو أن ثوابه يزيد بواسطتها ، أو أن لها في حدّ نفسها ثوابا غير ثواب ذيها. وإنما يتوجه الاشكال على تقدير هذا الأخير فقط ، ونحن بعد التزامنا بكون هذا الأمر نفسيا بالغير فلا مانع من ترتب الثواب عليه ، فلاحظ.

وأما الاشكال على الأمر الغيري بالدور فليس هو إلاّ عين الاشكال في كيفية كون الأمر عباديا الذي تصدوا لدفعه بالطرق المذكورة في باب التعبدي ، التي كان منها الالتزام بتعدد الأمر وكون الأمر الثاني من قبيل متمم

ص: 215


1- المائدة 5 : 6.
2- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
3- فوائد الاصول 4 : 189 ، راجع أيضا الحاشية على فوائد الاصول 4 : 162 - 163 في المجلد الثامن.
4- راجع صفحة : 197 وما بعدها.

الجعل ، غاية الأمر أنّا نلتزم بكون الأمرين من باب متمم الجعل ، فان الأمر الغيري بما أنه صوري وطريقي لا ينفع ، وفي الحقيقة ليس هو بأمر حقيقي ، فلا بدّ للآمر أن يتصدى لجعل الأمر الغيري تكميلا للأمر المتعلق بالصلاة المقيدة بالطهارة العبادية ، ثم بعد جعل هذا الأمر الذي نسميه بالأمر النفسي للغير يتصدى للأمر بالاتيان بمتعلقه أعني الطهارة بداعيه لا بداع آخر ، فالأمر الثاني المتعلق بالطهارة يكون متمما لجعل الأمر الأول المتعلق بالصلاة المقيدة بالطهارة التي هي عبادة ، والأمر الثالث يكون متمما لجعل الأمر الثاني ، فلاحظ وتأمل.

قوله : فان قلت : ما الفرق بين الطهارات الثلاث وبين بقية الشروط في أن الأمر النفسي ... إلخ (1).

إذ لا ريب في أن من توجه إلى القبلة غفلة عن أصل اشتراط الصلاة بذلك أو جاهلا به لكنه صادفها تصح صلاته ، وهكذا لو كان جاهلا بشرطية ستر العورة لكنه اتفاقا ستر عورته وصلى ، وهذا المعنى وإن تأتى نظيره في الطهارة كالغسل من الجنابة أو الوضوء مثلا لمن كان جاهلا بكونه شرطا في صحة الصلاة لكنه أتى به بداع آخر مصحح له ، إلاّ أن الفرق بينهما أنه فيما لم يأت به بداع آخر مصحح بأن فعل أفعال الوضوء أو الغسل غفلة فانها لا تصح ، بخلاف ما لو تستر أو صلى إلى القبلة غفلة فانها تصح.

وبالجملة : أن الشرطية كما حقق في محله (2) ليست هي مجعولة ابتداء وإنما هي منتزعة من التكليف ، وذلك التكليف الذي هي منتزعة عنه

ص: 216


1- أجود التقريرات 1 : 256 - 257.
2- فوائد الاصول 4 : 392 - 393 ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره عليه في المجلّد التاسع.

ليس هو الأمر بالشرط استقلالا ، بل إنما هي منتزعة من الأمر بالشرط في ضمن الأمر بالمشروط ، وبعبارة اخرى هي منتزعة من تعلق الأمر بالمشروط ، فإن الأمر بالشرط يتحقق في ضمن الأمر بالمشروط ، وعن ذلك الأمر الضمني المتعلق بالشرط تنتزع الشرطية ، ولا ريب في وحدة ذلك الأمر وعدم تعدده ، إذ ليس لنا إلاّ الأمر بالصلاة مع الطهارة والساتر مثلا ، وهذا الأمر بمجموعه عبادي ، فكيف صار الأمر الشرطي بالطهارة الذي هو في ضمنه عباديا دون الأمر بالساتر.

والجواب : هو أن الشرط هو كون الصلاة مقرونة بالطهارة ومقرونة بانستار العورة على نحو كون القيد خارجا والتقييد داخلا ، والعبادي هو مجموع الصلاة المتصفة بمقارنة الطهارة ومقارنة الساتر ، وإلى هذا الحد لا فرق بين انستار العورة والطهارة.

لكن الفرق بينهما من ناحية اخرى وهي أن حصول انستار العورة يحصل قهرا من لبس الساتر وإن لم يكن اللبس بعنوان العبادة والتقرب ، بخلاف الطهارة فانها لا تحصل من الأفعال المحصّلة لها أعني أفعال الوضوء إلاّ إذا كانت تلك الأفعال عبادية وقربية ، ففي صورة الاتيان بتلك الأفعال للغايات الآخر تكون عباديتها ناشئة عن الأمر النفسي إن قلنا إنها مستحبة نفسيا ، أو عن الأمر الشرطي الاستحبابي فيما لو كانت لغاية عبادية مستحبة كما في الوضوء لصلاة النافلة ، وفي صورة الاتيان بها لغاية الصلاة الواجبة تكون عباديتها ناشئة عن ذلك الأمر الشرطي الوجوبي.

والحاصل : أن الشرط هو نفس ارتفاع الحدث والطهارة ، ولكن علمنا من الخارج أن هذا الشرط أعني ارتفاع الحدث لا يحصل من تلك

ص: 217

الأفعال ولا يتولد منها إلاّ إذا كانت قربية عبادية ، وهذا بخلاف باقي الشروط مثل انستار العورة فان ترتبه على الفعل المتولد منه أعني لبس (1) الساتر لا يتوقف على عبادية ذلك الفعل.

فقد تلخص لك : أنه لا فرق بين الشروط في كون بعضها عباديا وبعضها غير عبادي مع فرض كونها جميعا قيودا لواجب عبادي على نحو كون القيد خارجا والتقييد داخلا ، وإنما الفرق هو ما عرفته من اختلاف الأفعال التي يتولد عنها تلك القيود.

قوله : وتوضيح ذلك أن في الوضوء والغسل بعد الوقت جهات ثلاثة ... إلخ (2).

وقد يتأمل في ذلك فان الأمر الشرطي لم يتعلق إلاّ بما يكون من الطهارات عبادة ، لأنّها هي التي يتوقف عليها المشروط ، لأن المفروض أن الشرط هو ما يكون من هذه الأفعال عبادة ، أعني ما يؤتى به بقصد الأمر فالأمر النفسي الشرطي لا يتعلق إلاّ بامتثال ذلك الأمر الاستحبابي النفسي المتعلق بالطهارة ، وحينئذ يختلف متعلقهما ، وكما أن تعلق الأمر الشرطي في صلاة الظهر بامتثال أمرها أوجب اختلاف متعلق الأمرين فلا يعقل اندكاك أحدهما بالآخر فكذلك ما نحن فيه.

وبالجملة : أن الأمر النفسي الشرطي في كلا البابين غير متحد مع متعلق الأمر النفسي ، ومخالف له في الرتبة لكونه واقعا في طوله في كلا البابين ، فلا يعقل اندكاكه فيه في كل منهما. ومنه يظهر الحال في باب النذر

ص: 218


1- [ في الأصل : لباس الساتر ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- أجود التقريرات 1 : 258 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

فانه إنما يتم الاندكاك فيه إذا كان النذر متعلقا بنفس النافلة ، أما إذا كان متعلقا بامتثال أمرها الندبي ويعبّر عن ذلك بالتعبد بالنافلة ، فلا ريب في اختلاف المتعلقين حينئذ فلا يعقل الاندكاك فيه ، هذا ما كنت حررته.

وأجاب قدس سره - فيما حررته عنه - عن هذا الأخير : بأن النذر لا يمكن تعلّقه بامتثال الأمر المندوب بعنوان كونه مندوبا ، لأنه غير مقدور بعد النذر كما هو المعتبر فيه.

وفيه تأمل ، إذ لا مانع من كون الامتثال لازما بتكليف آخر ، مع أن التكليف الممتثل ليس إلزاميا مثل أمر السيد عبده بامتثال المستحبات ، وإنما يسلم بطلان مثل هذا النذر لما أفاده قدس سره من أن متعلقه وهو امتثال الأمر الندبي غير مقدور بعد تعلق النذر ، ولا ريب أن ذلك إنما لا يكون مقدورا لأجل عدم بقاء ذلك الأمر على صفة الندب ، وعدم بقائه إنما ينشأ عن الانقلاب والاندكاك وهو غير مسلّم ، بل لا يمكن جريانه في هذه الصورة من جهة اختلاف المتعلق فكيف يمكن جعله علة للبطلان.

ثم لا يخفى أنا لو سلّمنا الاندكاك فلا نسلّم أن ذلك موجب لانقلاب الأمر النذري عباديا على وجه لا يسقط الأمر النذري إلاّ بالاتيان بمتعلقه عبادة ، بل يمكن القول بسقوطه بدون قصد التعبد وإن لم يسقط بذلك الأمر الاستحبابي العبادي ، وقد تعرضنا لذلك في بحث استحباب الاحتياط من تنبيهات البراءة فراجع (1) وراجع ما علّقناه على ص 342 (2) من هذا التحرير في مسألة التداخل.

ص: 219


1- حاشية المصنّف قدس سره على فوائد الاصول 3 : 403 في المجلّد السابع.
2- من الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع الحاشية في صفحة : 49 وما بعدها من المجلّد الخامس.

ولو قيل إن الأمر الشرطي المتعلق بالطهارة كان متعلقا بنفس ما تعلق به أمرها النفسي الاستحبابي ، لقلنا إن الأمر الشرطي المتعلق بصلاة الظهر أيضا متعلق بنفس ما تعلق به أمرها الوجوبي النفسي ، فينبغي الاندكاك في البابين. نعم لمّا كان كل من الأمرين في صلاة الظهر نفسيا عباديا وجوبيا لم يكن لاندكاك أحدهما بالآخر أثر ، بخلاف الأمرين في باب الطهارة فان الأول منهما وإن كان نفسيا عباديا كالثاني ، إلاّ أنّه لمّا كان الأول منهما استحبابيا والثاني وجوبيا كان لاندكاك الأول منهما بالثاني أثر عملي.

ولكن هذا الفرق غير نافع ، فان للاندكاك في باب صلاة الظهر أيضا أثرا عمليا ، لأن الطلبين المتعلقين بها وإن كانا مشتركين في الجهات المذكورة إلاّ أنهما مختلفان في جهة اخرى ، وهي أن الأول منهما لمّا كان نفسيا استقلاليا كان اللازم الاتيان بمتعلقه لنفسه ، والثاني منهما لمّا كان نفسيا شرطيا كان اللازم الاتيان بمتعلقه بقصد التوصل إلى ما هو شرط له.

وقد أجاب قدس سره (1) عن ذلك بأن الطلب الثاني في باب صلاة الظهر لم يتعلق بنفسها بل تعلق بامتثال أمرها النفسي ، فان الشرط في صلاة العصر إنما هو تفريغ الذمة من صلاة الظهر نظرا إلى الترتيب بينهما ، فلا يكون الشرط في العصر إلاّ امتثال الأمر بالظهر ، فلم يتحد المتعلقان فيه ، فلا يندك فيها أحد الطلبين بالآخر ، بخلاف الطلب الثاني في باب الطهارة فانه متعلق بعين ما تعلق به أمرها النفسي الاستحبابي ، فيندك معه لاتحاد متعلقهما ، وذلك فان ما هو مشروط بالطهارة إنما يتوقف على نفس الطهارة لا على امتثال أمرها النفسي الاستحبابي ، نعم المتوقف عليه هو الطهارة العبادية ،

ص: 220


1- راجع أجود التقريرات 1 : 260.

لكن لم تكن عباديتها من قبل أمرها النفسي الاستحبابي كي يكون المطلوب بهذا الطلب الثاني هو امتثال أمرها النفسي ، بل عباديتها في ذلك الحال إنما هي من قبل هذا الطلب الثاني فلا يكون متعلقه إلاّ نفسها.

تنبيه :

لا يخفى أن الطلب في حدّ نفسه لا يقبل الشدة والضعف فلا يكون الاندكاك إلاّ عبارة عن ارتفاع الاثنينية ، ومعنى التأكد هو عبارة عن تعدد الملاك ، كما أنك قد عرفت (1) في أول الأوامر أن الفرق بين الوجوب والاستحباب ليس بشدة الطلب وضعفه ، بل إن الوجوب طلب مجرد لا ترخيص معه في الترك ، بخلاف الاستحباب فانه ينضم فيه إلى الطلب الترخيص في الترك ، وحينئذ عند اجتماعهما واندكاك أحدهما بالآخر لا يكون الاستحباب آخذا شيئا من الوجوب ، بل يكون الاستحباب فاقدا للجهة الزائدة فيه على الوجوب وهي الترخيص في الترك ، لكن الذي يظهر منه قدس سره أن الطلب قابل للشدة ، ولأجله قال : وأما ذات الطلب فهي باقية عند الاشتداد والتبدل إلى مرتبة أكيدة ... الخ (2).

ثم لا يخفى أنه إذا امتنع الترخيص وبقي الطلب وحده كان ذلك الطلب وجوبيا لأنّه طلب مع فرض أنه لم يلحقه الترخيص في الترك ، إلاّ أن يقال إن الترخيص في الترك باق إلاّ أنّه من ناحية جهة الاستحباب ، ولا ينافيه انعدام الترخيص من ناحية جهة الوجوب ، وعلى ذلك يجتمع الوجوب والاستحباب من دون التزام بالاندكاك.

ص: 221


1- راجع صفحة : 350 وما بعدها من المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.
2- أجود التقريرات 1 : 258.

ولا يخفى أيضا أنه بعد الوقت قد ينضم إلى ذلك الوجوب النفسي الضمني الشرطي استحباب شرطي أيضا كما في الوضوء للصلاة الواجبة والوضوء لصلاة الزيارة مثلا ، بل ربما يجتمع الوجوبان الشرطيان مثل الطواف الواجب والصلاة الواجبة ، وربما اجتمع الاستحبابان الشرطيان وربما اجتمع الجميع.

قال في العروة في المسألة 6 : وإذا اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبة أيضا يجوز قصد الكل ويثاب عليها ، وقصد البعض دون البعض ولو كان ما قصده هو الغاية المندوبة ، ويصح معه إتيان جميع الغايات ، ولا يضر في ذلك كون الوضوء عملا واحدا لا يتصف بالوجوب والاستحباب معا ومع وجود الغاية الواجبة لا يكون إلاّ واجبا ، لأنه على فرض صحته لا ينافي جواز قصد الأمر الندبي وإن كان متصفا بالوجوب ، فالوجوب الوصفي لا ينافي الندب الغائي ، لكن التحقيق صحة اتصافه فعلا بالوجوب والاستحباب من جهتين (1).

وعلّق شيخنا قدس سره على قوله « فرض صحته » : هذا هو الصحيح (2) والذي لا ينافيه ذلك هو قصد الغاية المندوبة وجهة مطلوبيته دون أمره الندبي. وعلى قوله « من جهتين » : جواز اجتماع الحكمين من الجهتين وإن كان في مورده هو التحقيق ، لكن المقام أجنبي عنه.

ولم يتضح المراد من جهة الندب هنا بعد فرض اندكاك الندب

ص: 222


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 366 - 368.
2- يعني أنه مع وجود الغاية الواجبة لا يكون الوضوء إلاّ واجبا هو الصحيح ، ولكن الذي لا ينافيه ذلك - أعني اجتماع التكليفين - هو قصد الغاية المندوبة وجهة مطلوبيته دون أمره الندبي. [ منه قدس سره ].

بالوجوب ، فان كان المراد بها ملاك الندب فالظاهر أنه قدس سره لا يلتزم به ، لأنّه لا يرتب أثرا على الملاك ما لم يكن في البين تكليف شرعي على طبقه ، وإن كان المراد به هو الجهة التعليلية للندب أعني كونه شرطا في صحة الصلاة المندوبة ، فهو أيضا لا يؤثر في صحة التعبد بالعمل بعد فرض اندكاك الأمر الندبي.

ولكن الذي يظهر من قوله في هذا التقرير : لأن ذات الطلب الاستحبابي موجود بعد عروض الوجوب النفسي ، غاية الأمر أن مرتبته الاستحبابية زالت وتبدلت بالمرتبة الوجوبية ، لا أن أصل الطلب الاستحبابي وذاته ينعدم بعد عروض الوجوب ... إلخ (1) أن نفس الطلب الاستحبابي باق ، غايته أن الذي ينعدم هو الجهة التي امتاز بها عن الطلب الوجوبي وهي جهة الترخيص في الترك كما شرحناه. ولكن لازم ذلك هو بقاء كل من الطلبين بحاله ، فلا يصح لنا أن نقول إنه قد اندك أحد الطلبين بالآخر بل يكون كل منهما باقيا بذاته ، فلو كان أحدهما وجوبيا لم يسقط الطلب الوجوبي إلاّ بقصده ، ولو كانا معا وجوبيين لم يسقط كل منها إلاّ بقصده ، فلو قصد أحدهما دون الآخر كان بالنسبة إلى ذلك الآخر عاصيا ، لكن في خصوص المقام أعني باب الطهارة يكون الآخر ساقطا ، بمعنى أنه لو أراد امتثال الغاية الواجبة كانت تلك الطهارة التي حصل عليها بفعل الوضوء بداعي الغاية المستحبة كافية في صحة الغاية الواجبة ، بل إن هذه الجهة أعني عدم سقوط الوجوب إلاّ بقصده ، وأنه لو كان كل من الجهتين وجوبيا لا بدّ من قصدهما معا وإلاّ لكان عاصيا بالنسبة إلى ما لم يقصده ، لازمة حتى

ص: 223


1- أجود التقريرات 1 : 261 - 262 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

لو قلنا بالأول أعني كون الباقي هو جهة الطلب لا نفسه.

وبالجملة : أنه لا مانع من اجتماع الوجوبين أو الوجوب والاستحباب في فعل واحد ، ودعوى الاندكاك والاشتداد قابلة للمنع ، لأن الطلب بما أنه طلب لا يقبل الشدة والضعف ، نعم إن الذي يقبل ذلك هو ملاكه ، فتأمل فان اجتماع المثلين كالبياضين في شيء واحد غير معقول كاجتماع الضدين ، فلا بدّ من الالتزام بسقوط الخطابين وتولد خطاب جديد (1).

والأولى الالتزام بتعدد المتعلق ويكون الاكتفاء بفعل واحد من باب التداخل ، ويسهل الأمر لو أنكرنا الوجوب النفسي الضمني الشرطي وحصرنا المسألة بالوجوب الغيري ، لأن الوجوب حينئذ واحد وعلله متعددة.

وينبغي مراجعة مسألة 7 ومسألة 9 ومسألة 10 ومسألة 11 من مبحث النية من كتاب الصوم من العروة (2) فان بعضها يظهر منه خلاف هذا الذي ذكرناه ، فراجع وتأمل.

قوله في العروة : فالوجوب الوصفي لا ينافي الندب الغائي (3) فيه تأمل آخر ، وهو أنه بعد فرض الاندكاك وعدم إمكان اجتماع الوجوب مع الندب لا بد من قصد الوجوب غاية ، وأخذه وصفا غير نافع ، بل لا بد من أخذه

ص: 224


1- وربما يقال في دفع غائلة اجتماع المثلين : بأنه يندفع بما إذا قيّد متعلق أحد الأمرين بالآخر ، مثل أن يقول اذكر في الركوع ذكرا واحدا ويقول أيضا اذكر فيه ذكرا آخر ، وحينئذ لا يكون مركب الأمرين واحدا. وفيه : أن التقييد بالآخر لا يرفع غائلة الاجتماع ، لأن كل واحد من أفراد الطبيعة هو آخر بالقياس إلى غيره من الأفراد ، ولأجل ذلك لا يندفع محذور الاجتماع فيما لو تعلق الأمر بأحد الفعلين والنهي بآخر بأن يقول اضرب ولا تضرب ضربا آخر. [ منه قدس سره ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 531 - 533.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 367.

داعيا وغاية. ثم أنه لو سلّمنا أنّ أخذ الوجوب وصفا كاف في صحة الفعل نقول إنّه يمكن أخذ الندب غاية ، والمفروض انتفاء الندب واندكاكه بالوجوب.

قوله : مثال الأوّل تعلق النذر بفعل مستحب - إلى قوله - فتكون النتيجة وجوبا واحدا نفسيا ... إلخ (1).

فلو أتى به بداعي الجهة الاستحبابية صح بناء على ما هو المشهور في باب الوضوء ، وفي كفايته وإسقاطه النذر إشكال ينشأ من كون الوفاء بالنذر توصليا فينبغي سقوطه بذلك ، ومن كون سقوطه متوقفا على قصد الوفاء فينبغي القول بعدم سقوطه ، ولعل الأوجه هو الثاني. وينبغي مراجعة المسألة 7 و 9 و 10 و 11 من مبحث النية من كتاب الصوم من العروة (2).

وينبغي مراجعة حواشي مسألة 31 من مسائل شرائط الوضوء من العروة (3).

وينبغي مراجعة ما أفاده في مباحث الوضوء في الوسيلة فانه قدس سره أفاد هناك ما هذا لفظه : ولو اجتمعت غايات وجوبية مع اخرى ندبية فالغاية الوجوبية تقتضي وجوبه ، ويضمحل الطلب الندبي في ضمن الوجوب اضمحلال كل ضعيف في الشديد من سنخه ، فليس الوضوء حينئذ إلاّ واجبا ولا الطلب به إلاّ وجوبيا ، ولكن جهة الندب محفوظة في ضمنه ، فلو كان المكلف قاصدا للغايات الوجوبية بعضا أو كلا صح قصد الوجوب وصفا وغاية كما فيما تقدم ، ولو لم يكن قاصدا سوى الغاية الندبية أو الكون على الطهارة فالوجوب الوصفي وإن جاز قصده لكنه لا يجدي في

ص: 225


1- أجود التقريرات 1 : 259 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- تقدم ذكر المصدر آنفا.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 437.

العبادية ، ولا يجوز قصد الأمر الوجوبي إذ ليس ناويا امتثاله ولا الندبي لانتفائه ، وإنما يصح له قصد جهة الندب والمطلوبية الموجودة من هذه الجهة في ضمن الوجوب وهي المعبّر عنها بالقربة المطلقة ، فلو أراد من عليه فريضة حاضرة أو فائتة لا يريد الاتيان بها بهذا الوضوء أن يتوضأ لغاية مندوبة أو قبل الوقت للكون على الطهارة في أوله أو لكونه شاكا في دخول الوقت ونحو ذلك صح وضوءه في جميع ذلك إذا نوى به القربة المطلقة (1).

والغرض من نقل ذلك هو بيان أن مراده من قصد الجهة هو قصد ذات الطلب الندبي المحفوظ في ضمن الطلب الوجوبي (2) ، فليس مراده من الاندكاك هو ارتفاع كل من الأمرين وتولد أمر ثالث. لكن تصريحه قدس سره بأنه لا يجوز قصد الأمر الندبي لانتفائه ... الخ ، لعله لا يلائم دعوى بقائه بذاته ، كما أنه بعد البناء على انتفاء الأمر الندبي وبعد فرض أنه ليس في البين إلاّ الطلب الوجوبي وأن المكلف لم يكن قاصدا امتثاله فأيّ معنى حينئذ لقصده القربة المطلقة.

قال في العروة في مبحث النية من كتاب الصوم مسألة 7 : إذا نذر صوم يوم بعينه لا تجزئه نية الصوم بدون تعيين أنه للنذر ولو إجمالا كما مرّ (3). ولو نوى غيره فان كان مع الغفلة عن النذر صح ، وإن كان مع العلم والعمد ففي صحته إشكال (4).

وقال شيخنا قدس سره في الحاشية على قوله « إشكال » ما نصه : والأظهر

ص: 226


1- وسيلة النجاة : م [ لا يخفى أن الصفحات الاولى منها رمز لها بالحروف دون الأرقام ].
2- [ في الأصل : الطلب الندبي ، والصحيح ما أثبتناه ].
3- يعني في أول مبحث النية [ منه قدس سره ].
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 531.

البطلان (1).

أما الوجه في قوله : لا تجزئه نية الصوم بدون تعيين أنه للنذر ، فلأن الوفاء بالنذر يتوقف على القصد وإن لم يكن الوفاء تعبديا. لكن الاشكال في التفصيل في الحكم بصحة الغير بين صورة الجهل والغفلة عن النذر وصورة العمد والالتفات ، فان النذر المعيّن إن كان يوجب عدم صحة غيره فيه مثل رمضان فلا وجه للفرق المذكور ، لأن رمضان لا يصح غيره فيه مطلقا. وإن كانت المسألة من باب الترتب كما هو غير بعيد كان مقتضاه هو صحة ذلك الغير سواء كان مستحبا أو كان واجبا موسعا ، من دون فرق في ذلك بين العمد وغيره. نعم لو كان ذلك الغير واقعا نيابة عن شخص آخر كان باطلا ، لأن النذر أوجب سلب سلطنته على جعل صوم ذلك اليوم لغيره.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن النذر كما يوجب سلب سلطنته على جعل صوم ذلك اليوم لغيره فكذلك يوجب سلب سلطنته على جعله عن نفسه امتثالا لأمر مستحب أو امتثالا لواجب موسع ، وكأنه لأجل هذه الجهة حكم في المسألة العاشرة فيما لو كان اليوم المعيّن نذر صومه مصادفا لأيام البيض ، بأنه لا يجوز له أن يقصد به أيام البيض دون وفاء النذر ، وإن كان لو قصدهما اثيب عليهما لأنه حينئذ من قبيل التداخل ، فيكون محصّل الحكم بأنه لا يجوز قصد أيام البيض دون وفاء النذر ، هو عدم صحته عن أيام البيض. وإن أمكن أن يقال : إن نظره في عدم الجواز إلى ترك نية النذر مع فرض كون الاتيان به بقصد أيام البيض صحيحا للترتب. لكن يبقى

ص: 227


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 531.

إشكال الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة التي اقتصر فيها على مجرد الاشكال ولم يفت بصحة ولا فساد ، فتأمّل.

قوله - في المسألة التاسعة - : إذا نذر صوم يوم خميس معيّن ونذر صوم يوم معيّن من شهر معيّن فاتفق في ذلك الخميس المعيّن ، يكفيه صومه ويسقط النذران ، فان قصدهما اثيب عليهما وإن قصد أحدهما اثيب عليه وسقط عنه الآخر (1).

الظاهر أنه إذا نذر صوم غد مثلا ثم نذره ثانيا لا يكون النذر الثاني صحيحا ، لأن النذر الأوّل سلب سلطنته على صوم الغد ، وبناء على ذلك يكون الصحيح فيما ذكره من المثال هو السابق من النذرين ويبطل الثاني. ثم لو صححناهما أو كانا قد وقعا في رتبة واحدة يعني في نذر واحد بأن نذر أن يصوم أول خميس من هذا الشهر واليوم الثاني منه بنذر واحد واتفق اتحادهما ، فالذي ينبغي أن يقال إنه يلزمه أن يقصدهما ، وأنه لو قصد أحدهما دون الآخر كان عليه الكفارة.

ومن ذلك يظهر لك الاشكال فيما أفاده في المسألة الحادية عشرة : إذا تعدد في يوم واحد جهات من الوجوب أو جهات من الاستحباب أو من الأمرين فقصد الجميع اثيب على الجميع ، وإن قصد البعض دون البعض اثيب على المنوي وسقط الأمر بالنسبة إلى البقية (2) ، فان ذلك اليوم لو اجتمع فيه جهات من الوجوب كان اللازم هو قصدها أجمع ، ولو قصد بعضها دون البعض كان عاصيا بالنسبة إلى ما لم يقصده ، سواء قلنا باندكاك أحد الطلبين بالآخر وتولد طلب واحد منهما ، أو قلنا بعدم الاندكاك وأنه

ص: 228


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 532.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 3 : 533.

يبقى كل من الطلبين بذاته. والظاهر أنه لو ترك صوم ذلك اليوم أو أنه صامه بداعي جهة اخرى كان مستحقا للعقاب على كل منها. والظاهر أن الوجه في سقوط ما لم ينوه في هذه المسألة وفي سابقتها أعني المسألة التاسعة هو كونه من الموقتات التي تسقط بفوات وقتها.

قوله : مع أن الجهة التعليلية في المقام أيضا واحدة ، ضرورة أن الداعي إلى طلبه هو رفع الحدث وهو واحد لا تعدد فيه ، فما نحن فيه أجنبي عن باب تعدد الدواعي أيضا (1).

لا يخفى أنه إذا أخرجنا ما نحن فيه عن كونه من قبيل تعدد الجهات التقييدية وأخرجناه أيضا عن تعدد الجهات التعليلية ، لم يبق لنا ما يوجب الطلبين حتى نقول إنه يندك أحدهما بالآخر وتبقى جهة الندب محفوظة. وبالجملة أن رفع الحدث وإن كان واحدا إلاّ أنه هو المطلوب لا أنه علة للطلب ، وهذا المطلوب قد اجتمعت فيه جهتان ، إحداهما جهة طلبه الندبي وهي كونه شرطا في صحة الصلاة المندوبة التي يريد المكلف الاتيان بها ، والاخرى جهة طلبه الوجوبي وهي كونه شرطا في صحة الصلاة الواجبة ، وهاتان الجهتان من الجهات التقييدية لا التعليلية ، وإنما أخرجناه من باب الاجتماع لأن اجتماع هذه الجهات ليس من قبيل التركب الانضمامي ، بل هو من قبيل التركب الاتحادي.

قوله في الكفاية : وأما ما ربما قيل (2) في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين - إلى قوله : - لا يكاد يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها

ص: 229


1- أجود التقريرات 1 : 262 - 263 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- مطارح الأنظار 1 : 351 - 352.

لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الأمر بالغايات ، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ليتمكن به من المقدمة في الخارج ، هذا مع أنّ في هذا الالتزام ... الخ (1).

لا يخفى أنا لو قلنا بأنّ الأمر الغيري غير قابل للتعبد به لم يكن تعدده مصحّحا للعبادية ، وإن قلنا بأنه قابل للتعبد به كانت المقدمة حالها حال الواجبات النفسية العبادية في كفاية تعدد الأمر في تصحيح عباديتها ، واندفاع الدور السابق الآتي في العبادات النفسية ، فكما أن مثل الصلاة التي هي واجبة نفسيا نقول إن تعلق الأمر بها يتوقف على الصلاح فيها ، وهو موقوف على كونها عبادة ، وكونها كذلك موقوف على الأمر بذاتها ، ويندفع ذلك بتعدد الأمر ، فكذلك المقدمة العبادية نقول إن تعلق الأمر الغيري بها يتوقف على كونها مقدمة ، وكونها مقدمة بحيث يتوقف عليها الواجب النفسي متوقف على عباديتها ، وعباديتها متوقفة على تعلق ذلك الأمر الغيري بها ، ويندفع ذلك بتعدد الأمر بأن نقول إن الشارع لمّا رأى توقف الصلاة على الوضوء العبادي لزمه الأمر بذلك الوضوء العبادي أمرا غيريا ، وذلك الامر الغيري لا يكفي فيه الجعل الواحد ، بل يحتاج إلى جعلين أحدهما يتعلق بذات الوضوء والثاني يتعلق بالاتيان به بداعي الأوّل ، وكل منهما غيري ناشئ عن ملاك واحد وهو توقف الصلاة على ذلك الوضوء العبادي.

وأما ما يقال من الفرق بين المقدمات والواجبات النفسية ، من أن الأمر الغيري ليس داخلا تحت اختيار الآمر حتى يلتزم فيه بتعدد الأمر ، بل

ص: 230


1- كفاية الاصول : 112.

إنه تابع لملاكه ، فان كان ملاكه وهو التوقف موجودا في الأفعال الوضوئية بنفسها تعلق بها الأمر الغيري ، وإلاّ لم يعقل تعلق الأمر الغيري بها.

ففيه : أن الأوامر النفسية أيضا كذلك ، فانّ ملاكها وهو الصلاح في الأفعال إن كان موجودا تعلق بها ، وإلاّ لم يعقل تعلق الأمر النفسي بها كي يلحقه بأمر آخر يتعلق بالاتيان به بداعي ذلك الأمر. وكما أنا نقول في الجواب عن ذلك بأن في البين ملاكا واحدا لا يمكن استيفاؤه إلاّ بأمرين ، فكذلك نقول فيما نحن فيه إن في البين ملاكا واحدا وهو توقف الصلاة على الوضوء العبادي ، فلا بدّ من الالتزام بذلك الوضوء العبادي ، وذلك أعني الالتزام بذلك الوضوء العبادي لا يمكن استيفاؤه إلاّ بجعل أمرين غيريين ، يتعلق أحدهما بنفس الأفعال والآخر بالاتيان بها بداعي الأوّل فتأمّل.

قوله في الكفاية : بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا ... الخ (1).

لا يخفى أن قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها مع قطع النظر عن أمر في البين يكون متعلقا بها لا يوجب عباديتها ما لم تكن واقعة بداعي الأمر الشرعي ، فلا بدّ حينئذ في عبادية المقدمة من قصد ذلك الأمر الغيري. فالقول بأنه لا حاجة إلى قصده ممنوع.

نعم لو كان الغرض من قصد التوصل بها إلى ذيها هو الاتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلق بذيها أو بداعي الأمر النفسي الشرطي الذي

ص: 231


1- كفاية الاصول : 113.

تعلق بها في [ ضمن ](1) الأمر النفسي المتعلق بذيها ، لكان ذلك صحيحا وكان راجعا إلى ما أفاده شيخنا قدس سره (2) من أن المصحّح لعباديتها هو قصد الأمر النفسي الضمني الشرطي ، أو قصد الأمر النفسي المتعلق بذيها بحيث يكون الباعث والمحرك على الاتيان بالمقدمة هو الأمر المتعلق بذيها ، ويكون ذلك الأمر المتعلق بذيها داعيا إلى ما يتوقف عليه ذوها كما يكون داعيا إلى نفس ذيها على ما مرّ (3) شرحه في إمكان تصحيح العبادية في المقدمات العادية ، فراجع وتأمل. أو على ما يأتي (4) شرحه في توجيه اعتبار قصد التوسل بها إلى ذيها بأنّ المصحّح للعبادية هو الأمر الشرطي النفسي الضمني ، لكن دعوة هذا الأمر الضمني لمّا كانت في ضمن دعوة الأمر المتعلق بالمجموع ، كان الاتيان بها بداعي الأمر بالمجموع عبارة أخرى عن الاتيان بها بقصد التوسل بها إلى المجموع فراجع وتأمل.

قوله : فتحصل من جميع ما ذكرناه في الطهارات الثلاث أنّ أوامرها الغيرية لا توجب عباديتها وترتب الثواب عليها إلاّ إذا كان الاتيان بها بقصد التوسل بها إلى غاياتها ... إلخ (5).

لا يخفى أن الذي تقدم كان مفاده هو أنّ عبادية الطهارة إنما جاءت من قبل الأمر الشرطي النفسي الضمني ، وأن الأمر الغيري أجنبي عن عباديتها ، وحينئذ نقول إنّ هذه المقدمة لو كان المصحّح لعباديتها هو ذلك الأمر الغيري كانت عباديتها موقوفة على قصد التوسل بها إلى الغير ، أما لو

ص: 232


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- أجود التقريرات 1 : 255 وما بعدها.
3- في صفحة : 199.
4- في صفحة : 234.
5- أجود التقريرات 1 : 261 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كان المصحّح لها هو أمرها الشرطي الضمني نظير عبادية الجزء كالركوع الذي تكون عباديته من ناحية الأمر الجزئي النفسي الضمني ، فكما أنّ عبادية ذلك الجزء لا تتوقف على قصد التوسل به إلى المجموع فكذلك عبادية الشرط لا تتوقف على قصد التوسل به إلى المجموع ، بل ينبغي أن نقول إنه لو قصد التوسل به إلى المجموع وجاء به بداعي ذلك الأمر الغيري لا يكون عبادة ، كما لا يكون مثل قطع المسافة عبادة لو قصد به التوسل إلى الحج مثلا مع الاتيان به بداعي ذلك الأمر الغيري.

نعم ، هناك مطلب آخر ربما يظهر من بعض كلماته قدس سره وهو أنّ الاتيان بالمقدمة ولو عادية غير الطهارات الثلاث بداعي الأمر المتعلق بذيها بحيث يكون المحرك على الاتيان بالمقدمة هو الأمر المتعلق بذيها يكفي في عباديتها ، كما يظهر ذلك من قوله : فالاتيان بها في هذا الفرض ( يعني فرض قصد التوسل ثم بدا له فلم يتوسل ) بتحريك الأمر الصلاتي مثلا وإطاعة له حين الفعل ، ولا يعتبر في العبادة أزيد من كونها بداعي الأمر وبتحريكه وهو موجود حين الفعل ... الخ (1) وكما يظهر ذلك من كلماته في تصحيح الثواب على المقدمة لو أتى بها بداعي التوسل بها إلى ذيها فراجع العبارات في ص 145 و 146 (2).

وحينئذ يكون المراد من الاتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلق بذيها هو الاتيان بها بداعي الأمر الشرطي الحاصل في ضمن الأمر النفسي المتعلق بذيها.

ص: 233


1- أجود التقريرات 1 : 263 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات 1 : 251 وما بعدها من الطبعة الحديثة.

وإن شئت فقل : إن الأمر الشرطي الضمني كما أنه لا يكون إلاّ في ضمن المجموع ، فكذلك تحريكه المكلف نحو متعلقه لا يكون إلاّ في ضمن تحريك الأمر بالمجموع إلى المجموع ، فلا بدّ له حينئذ من قصد التوصل بذلك الشرط إلى حصول المجموع ، ويكون قصد التوصل به إلى المجموع عبارة أخرى عن الاتيان بذلك الشرط بداعي الأمر بالمجموع ، فيصح لنا أن نقول إن الأمر الغيري لا يوجب عباديتها ، وإنما الموجب لعباديتها هو الاتيان بها بقصد التوسل إلى المجموع الذي هو غاياتها المشروطة بها ، وقصد التوسل إلى المجموع عبارة اخرى عن الاتيان بها بداعي الأمر بالمجموع المفروض كون دعوة الأمر الشرطي في ضمنه. وحينئذ لا يكون ذلك منافيا لما تقدم من كون المصحّح للعبادية هو الأمر النفسي الشرطي الضمني ، وذلك لأن قصد الأمر بالمجموع قصد للأمر الضمني الشرطي ، لما عرفت من أن دعوة الأمر الشرطي الضمني إنما هي في ضمن دعوة الأمر المتعلق بالمجموع إلى المجموع.

قوله : بقي في المقام شيء ، وهو أن المكلف إذا أتى بالطهارات الثلاث بداعي التوسل بها إلى غاياتها ولكنه بدا له بعد الفعل ، فهل عدم التوسل بها خارجا يمنع عن حصول الاطاعة بها وامتثال الأمر بها ... الخ (1).

لا يخفى أنّ ترتيب ما حررته عنه قدس سره هو أنه قدس سره بعد الفراغ من تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري وبيان حقيقة كل منهما ، قال : ينبغي التنبيه على أمور :

ص: 234


1- أجود التقريرات 1 : 263 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الأوّل : هو ما يتعلق بأن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب ولا على مخالفته العقاب. وذكر توجيه الثواب في بعض المقدمات مثل الطهارات الثلاث.

الأمر الثاني : فيما يتعلق بتوجيه عبادية الطهارات الثلاث وأنه الأمر النفسي الشرطي الضمني ، لا الأمر الغيري ولا الأمر الاستحبابي النفسي المتعلق بها مع قطع النظر عن كونها مقدمة لواجب كالصلاة.

الأمر الثالث : فيما يتعلق بأن عباديتها وامتثال الأمر بها منوط بالإتيان بها بقصد التوسل ، وأنّ هذا المعنى أعني قصد التوصل بها إلى المشروط بها ليس من قبيل الجهات التعليلية بل هو من الجهات التقييدية.

الأمر الرابع : فيما يتعلق بأنه بعد الوقت هل يصح الاتيان بها بداعي الجهة الاستحبابية ، والبحث في ذلك مع صاحب العروة قدس سره.

الأمر الخامس : هو هذا الذي اشير إليه هنا بقوله « بقي في المقام شيء » فالأولى نقل نص ما حررته عنه قدس سره في هذا الأمر الخامس ، وهذا نصه : الأمر الخامس ممّا ينبغي التنبيه عليه : هو أنه لو توضأ بداعي امتثال الأمر النفسي المتعلق بالصلاة الواجبة المشروطة بالوضوء ، وكان من قصده التوصل بذلك الوضوء إليها ، ولكن بعد الفراغ عن الوضوء بدا له فلم يأت بالصلاة ، فهل يكون وضوءه المذكور صحيحا على وجه له أن يصلي به صلاة أخرى مستحبة أم لا؟

ربما يتوهم الثاني من جهة تخيل أنّ صحة وضوئه منوطة بامتثال الأمر المتعلق بذلك الواجب المشروط به ، لأنه إنما صحّ عباديا لأجل أنه يؤتى به بداعي ذلك الأمر المتعلق بما هو مشروط به ، لما ذكرناه من أن كون ذلك الأمر داعيا على الاتيان بالوضوء إنما كان داعيا إلى الاتيان بما هو

ص: 235

مشروط به ومتوقف عليه ، فيكون الصحيح منه هو ما يتوصل به إلى ذلك المشروط به ، دون ما لم يتوصل به إليه وإن كان حين وقوعه مقصودا به التوصل.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذا كله لا يقتضي أزيد من لزوم الاتيان به بقصد التوصل ، ولا يكون موجبا لاعتبار التوصل الفعلي على وجه لو لم يتوصل به إليه لكان باطلا.

وقد يتوهم الثاني أيضا من جهة أخرى ، وهي أن ذلك الأمر الوجوبي الوارد على الوضوء من جهة كونه شرطا لما هو الواجب ارتباطي ، ولأجل ذلك لا يسقط وجوبه مع بقاء وجوب بقية الأجزاء والشرائط فيما لو لم يأت إلاّ بهذا الشرط واستمر عاصيا إلى أن نقض وضوءه أو خرج الوقت ، بل يكون ذلك موجبا لعدم امتثال الجميع حتى الأمر المتعلق بهذا الشرط الذي أتى به. وإذا كان هذا الوجوب المتعلق بالوضوء ارتباطيا كانت صحته منوطة بالاتيان بباقي الأجزاء والشرائط ، وما لم يأت بها كان ذلك الوضوء باطلا. فتكون صحة ذلك الوضوء مراعاة بلحوق ما هو مشروط به ، فان لم يتحقق ذلك إلى أن نقض وضوءه أو خرج الوقت ، انكشف أنه كان باطلا من أوّل الأمر كما هو الشأن في سائر الواجبات الارتباطية ، ويتفرع على ذلك أنه لو صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى غير التي قصدها ثم بعد ذلك أحدث قبل أن يصلي الصلاة التي قصدها ، كانت الصلاة التي صلاها فاسدة.

وفيه : ما لا يخفى ، فان هذه الارتباطية بالنسبة إلى هذا الشرط ممّا لا دليل عليها ، وما ذكرناه في برهان اعتبار قصد التوصل أجنبي عن هذه الارتباطية. وحينئذ لا مانع من صحة هذا الوضوء وسقوط أمره الشرطي النفسي وإن لم يأت بعد ذلك بما هو المشروط به.

ص: 236

قلت : ويمكن أن يقال إن الذي إن الذي يتعلق به الوجوب الشرطي الضمني إنما هو تقيد الصلاة بالوضوء على وجه يكون القيد خارجا والتقيد داخلا. وانما صحّ كون نفس الوضوء عبادة لا للأمر الوارد على نفس ذلك الشرط أعني الوضوء كالأمر الوارد على الجزء ، بل للأمر الوارد على المشروط فانه يدعو إلى الاتيان بكل ما يتوقف عليه حتى المقدمات الاعدادية. ففي الحقيقة أن الشرط هو التقيد ، ولم يحصل في مسألتنا هذه كي يكون موجبا لسقوط أمره ، والذي حصل هو نفس الأفعال الوضوئية ، وليست هي بنفسها شرطا كي يقال إنها لا تصح إلاّ بلحوق المشروط ، فتكون نسبتها إلى الفعل المقيد كنسبة مقدماته الاعدادية إليه ، غاية الأمر أنها من بينها لا بدّ أن تكون عبادية ، بخلاف غيرها فانه يمكن الاتيان بها بداعي أمر ذيها فتكون عبادية ويمكن الاتيان بها لا بداعيه فلا تكون عبادية.

لكن هذا وان رفع إشكال الارتباطية بالنسبة إلى نفس الوضوء ، إلاّ أنه يفتح علينا إشكالا آخر ، وهو أن لا يكون الواجب الشرطي هو نفس الوضوء بل يكون الواجب الشرطي هو تقيد الصلاة به ، فيختلف متعلق الوجوب الشرطي مع متعلق الاستحباب النفسي فلا يندك أحدهما بالآخر.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الذي لا يندك في أمرها الاستحبابي النفسي هو الوجوب المتعلق بنفس الشرط الذي هو نفس التقيد ، وليس ذلك الأمر هو المصحّح لعباديتها ، وإنما المصحّح لعباديتها هو الأمر الذي نالها بما أنها مقدمة إعدادية لذيها وذلك الأمر متعلق بها بنفسها. هذا ما حررته سابقا.

ولكن قد تقدم (1) في بعض المباحث السابقة توجيه تعلق الأمر

ص: 237


1- في صفحة : 209 وما بعدها.

الشرطي بنفس تلك الأفعال أو ما يتولد منها وإن كان القيد خارجا ، نظرا إلى أن التقيد متولد من وجود القيد فهو عنوان ثانوي له ، وأنه لا فرق في ذلك بين كون الأمر متعلقا بالعنوان الأولي أو متعلقا بالعنوان الثانوي.

وحينئذ فالأولى في هذه المسألة أن يقال : إن الذي انكشف بطلانه وعدم إطاعة أمره هو الشرط لتلك الصلاة التي لم يأت بها ، بمعنى أن الأمر الشرطي في تلك الصلاة الوارد ضمنا على الوضوء لم يحصل امتثاله ، وهذا لا ينافي كون تلك الأفعال الوضوئية التي أتى بها بذلك الداعي مؤثرة في ارتفاع الحدث وحصول الطهارة النفسانية. وهذا المعنى أعني ارتفاع الحدث وحصول الطهارة كاف في صحة الصلاة الاخرى الاستحبابية. وإن شئت قلت : إن الذي قد انكشف هو عدم صحته شرطا للصلاة التي لم يأت بها لا عدم تأثيره في ارتفاع الحدث وحصول الطهارة ، فتأمل.

والحاصل : أن هذا النزاع لو كان راجعا إلى أنه بعد أن بدا له ولم يأت بذلك الفعل الذي قصد بالوضوء التوصل إليه ، يستكشف أنّ وضوءه السابق لم يكن واجدا لشرائط الواجب الشرطي التي هي انضمامه إلى بقية الأجزاء والشرائط ، فلا يكون مسقطا لأمره الشرطي ، فذلك ممّا لا بدّ منه لما عرفت من أنّ ذلك هو مقتضى الارتباطية ، من دون فرق في ذلك بين القول بالمقدمة الموصلة وعدمه.

أما على الأوّل فواضح ، وأما على الثاني فلأنا وإن لم نعتبر الايصال في وقوع المقدمة على صفة الوجوب الغيري ولا في عباديتها ، إلاّ أن خصوص هذه المقدمة التي هي شرط شرعي ينبسط عليها الوجوب النفسي في ضمن تعلقه بالمجموع لا تكون مسقطة لذلك الوجوب الشرطي ، كما

ص: 238

أن الجزء لو لم يلحقه باقي الأجزاء ينكشف عدم وقوعه على صفة الوجوب ، لكن ذلك أعني عدم وقوع ذلك الشرط على صفة الوجوب الشرطي لا يستلزم بطلانه على وجه لا يكون مؤثرا في رفع الحدث وحصول الطهارة بحيث لا يسوغ معه الدخول في صلاة اخرى ، فانّ هذا المعنى أعني كونه بحيث لا يترتب عليه رفع الحدث ممّا لا يمكن الالتزام به سواء قلنا بالمقدمة الموصلة أو لم نقل ، فلا يمكن أن يكون هذا النزاع راجعا إلى صحته وبطلانه بمعنى عدم مؤثريته في ارتفاع الحدث.

وإن شئت قلت : إنّ لهذه الأفعال الوضوئية أثرين : أحدهما رفع الحدث ، والآخر سقوط الأمر الشرطي. والارتباطية إنما توجب عدم ترتيب الأثر الثاني أعني إسقاط الأمر الشرطي ، ولا توجب عدم ترتيب الأثر الأوّل أعني ارتفاع الحدث. ولعل مراده من عدم الدليل على الارتباطية في هذا المقام هو عدم الدليل عليها من الناحية الاولى أعني رفع الحدث ، لا من الناحية الثانية أعني سقوط الأمر الشرطي ، فتأمل فان المسألة لا تخلو من غموض ، فانّ هذه الأفعال الوضوئية وإن كانت هي عين ما يتولد منها أعني رفع الحدث ، إلاّ أنّ تحقق رافعية الحدث يتوقف على كون تلك الأفعال امتثالا للأمر الشرطي ، والمفروض أنها لم يكن محققة لذلك الامتثال.

فالأولى حينئذ هو ما أفاده قدس سره من أنه لا دليل على كون سقوط الأمر بالشرط متوقفا على سقوط الأمر بالمشروط ، وإن كان سقوط الأمر بالمشروط متوقفا على سقوط الأمر بالشرط ، وذلك حاصل ما أفاده قدس سره من أنه لا دليل على هذه الارتباطية ، وإلاّ لكانت كافة الأجزاء شرطا في صحة

ص: 239

الشرط فتنقلب الجزئية إلى الشرطية. أو يقال بما تقدم (1) في توجيه العبادية أعني أن الوجوب إنما يتعلق بالتقيد وأن الأفعال الوضوئية بالنسبة إلى ذلك التقيد من قبيل المقدمة الاعدادية ، وأن المصحح لعباديتها هو الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بذيها أعني مجموع الصلاة المقيدة بالطهارة ، فلو أتى بها المكلف بذلك الداعي صحت وترتب عليها الأثر أعني ارتفاع الحدث وإن لم يحصل بذلك امتثال الأمر الشرطي الوارد على نفس التقيد الذي لا يحصل إلاّ بالاتيان بتلك الصلاة بعد حصول الطهارة ، فتأمل.

ثم لا يخفى أن قوله : أما على القول بالمقدمة الموصلة ، فلا إشكال في أنّ عدم الايصال الخارجي يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها من أول الأمر ، وكان تعلق الأمر بها تخيّلا من الفاعل ، الخ (2) ظاهر في أنّ هذه المقدمة التي بدا له فيها لا يكون الوجوب متعلقا بها بحيث إنها وقعت في مورد عدم الوجوب. ولكن ذلك غير مراد قطعا ، لأن القول بالمقدمة الموصلة لا يكون راجعا إلى اشتراط الوجوب بالايصال ، بل إنما هو راجع إلى اشتراط الواجب ، وحينئذ فيكون المراد هو أن اتفاق عدم الايصال الخارجي يكشف عن عدم صحة تلك المقدمة لعدم اشتمالها على شرط صحة الواجب وهو تحقق الايصال بها ، ويكون الحاصل حينئذ هو استكشاف فساد تلك المقدمة على كل من القول باعتبار الايصال في المقدمة والقول بعدم اعتباره.

أما الأوّل فواضح ، وأما الثاني فلأن الايصال وإن لم يكن معتبرا في

ص: 240


1- في صفحة : 237 وأيضا في صفحة : 200 - 201.
2- أجود التقريرات 1 : 263.

مطلق المقدمة إلاّ أن المقدمة إذا كانت عبادة لا بدّ من اعتبار الايصال فيها ، لأن ذلك معتبر في عباديتها لتوقف كونها عبادة على الايصال.

وحاصل الجواب : هو اختيار الشق الثاني ومنع مدخلية الايصال الخارجي في عبادية المقدمة ، بل المعتبر فيها إنما هو الاتيان بها بداعي الأمر المتعلق بذيها ، وهو الذي عبّرنا عنه بقصد التوسل بها إلى ذيها. والمفروض أنه قد حصل ذلك عند الاتيان بتلك المقدمة. وبعد تحقق صحتها عبادة لا تنقلب عمّا وقعت عليه من الصحة بما حصل له من البداء المذكور.

نعم ، يبقى إشكال آخر وهو ما نقله (1) عنه قدس سره من انكشاف فساد الشرط قضية للارتباطية ، وقد عرفت الجواب عنه.

وبه يتّضح الجواب أيضا عن الاشكال لو قلنا بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ذلك هو أن استكشاف عدم واجدية تلك المقدمة لما هو شرط صحة كونها شرطا في الصلاة الواجبة مثلا ، لا يوجب فسادها بمعنى كونها رافعة للحدث.

نعم في الموارد التي يتخيل المكلف وجوب الوضوء ومشروعيته في حقه كما في مورد تخيل سعة الوقت مع فرض كونه في الواقع ضيّقا ، يكون الوضوء باطلا بحيث إنه لا يترتب عليه ارتفاع الحدث كما حقق ذلك في محله.

وإن شئت فقل : إن شرط الايصال بناء على المقدمة الموصلة وشرط لحوق المركب بتمامه بناء على كون الوجوب شرطيا نفسيا ضمنيا إنما

ص: 241


1- [ هكذا في الأصل ، ولعل الصحيح : نقلته ، راجع صفحة : 236 ].

يكون دخيلا في سقوط الأمر بالوضوء ، بمعنى أن سقوط الأمر بالوضوء يتوقف على الاتيان بالصلاة ، كما أن سقوط الأمر بالجزء السابق يتوقف على الاتيان بالأجزاء اللاحقة. أما نفس الوضوء أو الجزء السابق فهو صحيح في نفسه على وجه لو لحقه الباقي لسقط الأمر المتعلق به ، وهذا المقدار من الصحة كاف في كون الوضوء محصّلا لارتفاع الحدث الذي هو شرط في صحة الصلاة الاخرى.

ولا يخفى أنا لو التزمنا بأن الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة ، وأنه عند عدم الايصال لا تكون المقدمة متصفة بالوجوب ، لم ينفع في تصحيحها دعوى المحبوبية الذاتية اللاحقة لها من غير جهة توقف الواجب النفسي عليها كما في الحاشية (1) ، وذلك لوضوح أن تلك المحبوبية إنما هي باعتبار المطلوبية النفسية ، والمفروض أن الآتي بها في هذا الحال لم يقصد تلك الجهة وإنما قصد خصوص جهة التوصل بها إلى ذي المقدمة ، فلاحظ (2).

ولا يخفى أن النزاع في وجه الثواب بالاستحقاق أو بالتفضل ، يمكن فيه إبطال الاستحقاق نظير إجارة الأجير ، كما أنه يمكن إبطال التفضّل بمعنى كونه غير لازم على المولى ، وحينئذ لا بدّ من ادعاء كون النزاع لفظيا وأنّ المراد هو أنّ إثابة المطيع مستحسنة عقلا ، وما يستحسنه العقل ويستقبح تركه يكون لازما على الحكيم. ولا فرق بين كون الأمر نفسيا وكونه غيريا إلاّ في أنّ الغالب في النفسي كونه عبادة وأنه لا يسقط بدون

ص: 242


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 263.
2- هذا ما كنا حررناه سابقا وهو تطويل بلا طائل ، والآن لمّا وصل البحث بنا إلى هذه المواقع في شوال 1382 كان خلاصة المذاكرة هو ما تجده في الورقتين [ منه قدس سره. ومراده قدس سره من الورقتين ما يبتدئ بقوله : ولا يخفى أن النزاز. .. إلى آخر الحاشية ].

قصد الأمر بخلاف الغيري ، ولأجل ذلك قلنا إن الأصل في الأوامر العبادية ، بمعنى أنه لا بدّ فيها من كونها بداعي الأمر ، ولا يكون ساقطا بدونه إلاّ بدليل يكون من قبيل ذهاب الموضوع.

وحينئذ يمكننا القول بأنّ عبادية الطهارة يكفي فيها الأمر الغيري. وقول شيخنا قدس سره (1) إنه دور ، عين إشكال العبادية في النفسيات ، غايته أنه لمّا كان الغالب في الغيريات هو التوصل كان اعتبار العبادية فيها محتاجا إلى دليل. وقول صاحب الكفاية (2) إن الأمر النفسي هو منشأ العبادية ، والاكتفاء بقصد الأمر الغيري لأنه لا يدعو إلاّ إليه غير نافع ، لأن ذلك إنما يقال فيما لو اخذ الأمر النفسي وصفا لا فيما اخذ داعيا.

وأما ما أجاب به شيخنا قدس سره (3) من أنّ قوام الغيرية لو كان هو الأمر النفسي كيف يمكن قصد الأمر بدونه ، فيمكن الجواب بالاكتفاء بالقصد الاجمالي. ولعلّ هذه الجهة أعني عدم توقف الصحة على قصد الأمر النفسي هي العمدة في [ ردّ ](4) دعوى توقف العبادية على أمرها النفسي.

أما ما أجاب شيخنا قدس سره (5) أوّلا من عدم جريانه في التيمم ، فيمكن الجواب عنه بأن التيمم يصح في كل مورد صحت الطهارة المائية فيه ولو في مقام الاستحباب النفسي ، استنادا لمثل قوله عليه السلام « أحد الطهورين » (6).

وأما ما أفاده عليه ثانيا من الاندكاك عند الأمر الغيري ، ففيه أنه

ص: 243


1- أجود التقريرات 1 : 254.
2- كفاية الاصول : 111.
3- أجود التقريرات 1 : 255.
4- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
5- أجود التقريرات 1 : 254.
6- وسائل الشيعة 3 : 381 / أبواب التيمم ب 21 ح 1.

لا وجه للاندكاك بعد أن كان الأمر الغيري في طول الأمر النفسي ، بمعنى كانت المقدمة هي الطهارة التي يؤتى بها امتثالا لأمرها النفسي. مضافا إلى أنّا لو سلّمنا الاندكاك لم يكن مانعا ، لأن اتحاد الأمرين يوجب إعطاء كل منهما ما يفقده الآخر فيكون الأمر نفسيا عباديا ، فتأمل.

وأما ما أفاده ثالثا ، فهو العمدة في رد توقف العبادية على قصد الأمر النفسي ليكون حالها حال الظهر بالنسبة إلى العصر.

ثم إنه قدس سره (1) اختار كون المصحّح للعبادية هو أمرها النفسي الضمني الشرطي ، واورد عليه بأن الشرط خارج ، وأجبنا فيما سبق (2) بأنّ التقيد داخل وفعل القيد الذي هو الوضوء يكون سببا فيه ، فيكون من الأفعال التوليدية ، ويكون نفس الوضوء واجبا باعتبار عنوانه الثانوي أعني تحصيله للتقيد. ولكنه لا يخلو عن تأمل ، لأن المعتبر في الأفعال التوليدية أن لا يتوسط الاختيار بينها وبين ما يتولد منها ، والمفروض هنا توسطه بأن يختار إيقاع الصلاة بعد فعل الطهارة. مضافا إلى أنّه يشكل ذلك بأنه لا يلتفت إليه الكثير فكيف نصحّح عملهم ، إلاّ أن نكتفي إجمالا بقصدهم الأمر الغيري.

ثم إنه بعد هذا البيان لا يبقى موقع للأمر الغيري ، حيث إنّ ذات الوضوء صار مأمورا به نفسيا شرطيا في ضمن الأمر بالمركب ، ويكون حاله حال الأجزاء ولا يعقل كونها مقدمة للمركب ، وسيأتي (3) في مبحث مقدمة الواجب تحقيق ذلك ، وهل أن الأجزاء والشرائط داخلة في النزاع أو لا.

ص: 244


1- أجود التقريرات 1 : 255.
2- [ تقدم الإيراد والجواب عنه في الصفحة : 207 - 208 وما بعدها ].
3- أجود التقريرات 1 : 313.

وأما ما أفاده قدس سره بقوله : بقي في المقام شيء ... الخ (1) فلا يخفى أنا لو وجهنا العبادية والثواب بالأمر الغيري المقدمي المتعلق بأفعال الوضوء المحصلة للطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة ، فلا إشكال في البطلان في الصورة المفروضة ، أعني ما لو لم يعقب تلك الأعمال بالصلاة التي جاء بها من أجلها ، بناء على اعتبار الايصال في متعلق الأمر الغيري. أما بناء على عدم ذلك فلا ينبغي الاشكال في الصحة.

وكذلك الحال لو قلنا بأن المصحّح للعبادية هو قصد أمرها النفسي الاستحبابي ، غايته أنه عند وجوب الصلاة المشروطة بها يكون امتثال ذلك الأمر النفسي مقدمة للصلاة ، ويكون المأمور به الغيري هو امتثال ذلك الأمر النفسي ، فهو يمتثل الأمر النفسي المتعلق بالكون على الطهارة ، لأجل أن نفس الكون على الطهارة شرط في صحة الصلاة ، فلو لم يأت بالصلاة لم يكن ذلك موجبا لبطلان العبادية. وأقصى ما في البين هو استكشاف أن تلك العبادة لم تكن على طبق الأمر الغيري ، نظير ما لو جاء بالظهر امتثالا لأمرها مقدمة لحصول شرط العصر وبدا له في الاتيان بالعصر ، في أنه لا أثر له إلاّ استكشاف أن الظهر لم تقع على صفة الوجوب الغيري بناء على اعتبار الايصال في الواجب الغيري.

وربما اشكل على ذلك بأنه من قبيل داعي الداعي والتخلف فيه مضرّ بالصحة ، فانّ داعيه على الاتيان بتلك الأفعال هو امتثال أمرها النفسي ، وداعيه على امتثال أمرها النفسي هو امتثال أمرها الغيري ، فاذا لم يحصل امتثال الأمر الغيري بناء على اعتبار الايصال لم يحصل امتثال أمرها النفسي.

ص: 245


1- أجود التقريرات 1 : 263.

وفيه : ما لا يخفى ، فان امتثال الأمر النفسي حاصل وجدانا غايته أنه تخلف الداعي إليه وهو التوصل به إلى ذي المقدمة.

وأما بناء على ما أفاده شيخنا قدس سره ففيه تأمل ، لأنّ عدم الاتيان بالصلاة يكشف أن تلك الأفعال الوضوئية لم تقع على صفة الوجوب النفسي الضمني الشرطي الذي كان هو المصحّح لعباديتها ، لعدم كون تلك الأفعال حينئذ من قبيل الأفعال التوليدية بالنسبة إلى ما هو الواجب الذي هو نفس التقيد. مضافا إلى ما عرفت من الاشكال في أصل كونه من قبيل الأسباب التوليدية ، إذ المعتبر في الأسباب التوليدية أن لا يتوسط الاختيار بينها وبين ما يتولد منها ، والمفروض هنا أن نفس الوضوء لا يترتب عليه المسبب وهو تقيد الصلاة إلاّ بأن يختار المكلف إيقاع الصلاة بعده ، وهذا لا يضر بما هو المسلّم من كون شروط الصلاة من الاستقبال والتستر ونحوها من قبيل الأفعال التوليدية ، لأن الأفعال التوليدية في هذه المرحلة هي إيقاع الصلاة إلى القبلة أو إيقاعها مع الساتر أو إيقاعها مع الطهارة ، وذلك كله حاصل من اختيار المكلف إيقاع الصلاة في هذه المراحل ، ويترتب عليه كون الصلاة إلى القبلة وكونها مع الساتر وكونها مع الطهور بلا حاجة إلى اختيار جديد بعد اختيار إيقاع الصلاة في الموارد المذكورة ، ويترتب ذلك التقيد ترتبا قهريا بعد فرض إقدام المكلف على التستر وعلى التطهر من باب كونه ممّا يتوقف عليه الواجب ، وبعد تمامية المقدمة وتحققها في الخارج يكون إيقاع الصلاة في موردها موجبا قهرا لترتب اتصاف الصلاة بأنها إلى القبلة مثلا ترتبا قهريا ، بلا توسط اختيار بعد اختيار ايقاع الصلاة في المورد المذكور ، وحينئذ لا مانع من كون ذلك من قبيل الأسباب التوليدية.

ص: 246

ثم إنّ لازم ما ذكرناه من التصحيح بالأمر الغيري مع الالتزام بكون الفعل في نفسه مستحبا هو اندكاك أحدهما بالآخر ، لأن هذه الأفعال بنفسها مركب للأمر النفسي ، وهي بنفسها مركب للأمر الغيري ، وقد دل الدليل على اعتبار العبادية في كل من الأمرين. ففي حال كونها مقدمة للصلاة الواجبة تكون واجبة ، فلو أتى بها المكلف بداعي الأمر الوجوبي الغيري تصح ، ولو أتى بها بداعي الاستحباب النفسي صحت ، لكن بما أشار إليه شيخنا قدس سره (1) من كون الذات هو ذات الطلب الاستحبابي لا بحدّه. ومع صحتها تصح الاتيان بالصلاة بعدها. وفي الحقيقة أن الذي هو المطلوب النفسي والمطلوب الغيري هو هذه الأفعال لكونها محققة للحكم الشرعي الوضعي أعني الطهارة. وهذا الحكم بعد تحققه يكون موجبا لصحة الصلاة.

وبعبارة أخرى : كون الانسان واجدا لهذا الحكم الشرعي الوضعي مستحب في نفسه وواجب غيري لكونه شرطا في صحة الصلاة ، وهو مقدور للقدرة على إيجاد موضوعه الذي هو تلك الأفعال ، فان أتى بها بداعي الاستحباب النفسي صحت وحصل شرط الصلاة قهرا وإن لم يحصل بذلك امتثاله. ولو أتى بها بداعي الأمر الغيري صحت أيضا وصح الاتيان بالصلاة بعدها ، وكانت امتثالا لذلك الأمر الغيري وإن لم تكن امتثالا لذلك الأمر الاستحبابي النفسي. وهكذا الحال فيما لو كانت الغاية مستحبة كالوضوء لقراءة القرآن ، بل وهكذا لو كانت هناك غاية مستحبة وغاية واجبة مضافا إلى كونها مستحبة نفسيا ، يكون الامتثال والثواب تابعا للأمر الذي قصده.

ص: 247


1- أجود التقريرات 1 : 258 ، 261.

ويمكن أن يقال : إن مركب الاستحباب النفسي وإن كان هو نفس تلك الأفعال إلاّ أن مركب الأمر الغيري هو امتثال ذلك الأمر النفسي ، فعند الاجتماع لا اندكاك ، فان لم يقصد إلاّ الامر النفسي الاستحبابي صحت وحصل المأمور به الغيري قهرا ، وإن قصد الأمر الغيري لا يكون محصّله إلاّ أنه يمتثل الأمر النفسي ، ويكون امتثاله له بداعي الأمر الغيري ، وحينئذ يحصل الامتثالان ويترتب الثوابان ، لكن لو لم يقصد إلا امتثال الأمر الغيري لم يكن ذلك صحيحا ، لأن الذي يحصل به امتثال الأمر الغيري هو امتثال الأمر النفسي ، ولا يجدي في ذلك ما أفاده في الكفاية (1) من الاكتفاء بقصد أمرها الغيري لأنه لا يدعو إلاّ إلى متعلقه الذي هو امتثال الأمر النفسي ، لما عرفت من أن امتثال الأمر النفسي لا يكون إلاّ بقصده داعيا لا صفة ، فتأمل.

ص: 248


1- كفاية الاصول : 111.

[ الواجب التعييني والتخييري ]

قوله : إنما الاشكال في تصويره من جهة أن الارادة التي هي من الصفات النفسانية لا بدّ وأن يكون متعلقها أمرا معيّنا غير مبهم ، فلا يعقل تعلقها بما له البدل وما هو مردد بين الأمرين ، والوجوه التي يذب بها عن المدعى امور ... الخ (1).

حاصل هذه الامور : هو أن الواجب هل هو مصداق أحدهما ، أو أنه هو مفهوم أحدهما ، أو أنه القدر الجامع بين الأفراد ، أو أن الواجب هو كل واحد منها مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وهذا الأخير مبني على أن لكل واحد من تلك الأطراف ملاكا يخصّه ولكن اتفق أن تلك الملاكات كانت متزاحمة في مقام الاستيفاء. فمع استيفاء أحدها لا يمكن استيفاء الملاك الآخر ، إما لذهاب الموضوع كما في دفن الميت في قبال تغريقه ، أو قتل الكافر بالسيف في قبال قتله بالحجر ونحوه ، ولازمه عدم قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين. وإما لأن تلك الملاكات لها خصوصية توجب لغوية الثاني مع استيفاء أحدها وإن كان المكلف متمكنا من الجمع بين الفعلين إلاّ أنّه يكون الثاني منهما لغوا مع استيفاء أحدهما. لكن هذا النحو من تزاحم الملاكات لا يتعين أن تكون نتيجته عند التساوي هو الأمر بكل من الفعلين مشروطا بعدم الآخر ، بل يمكن أن يقال إن النتيجة هي كون المؤثر هو أحد الملاكين ، ويلزمه أن لا يكون في البين إلاّ أمر واحد متعلق بأحد الفعلين

ص: 249


1- أجود التقريرات 1 : 264 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الذي هو مصداق أحدهما أو مفهوم أحدهما ، فيكون حاله حال ما لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد معيّن وكان ذلك الملاك المعيّن قابلا للحصول عليه بأحد الفعلين.

نعم ، هناك نحو آخر لتزاحم الملاكين في عالم التشريع ، وهو ما إذا كان كل من الفعلين له ملاك خاص به غايته أنّ كونه ذا ملاك يكون مشروطا حدوثا وبقاء بعدم وجود الفعل الآخر ، وحينئذ يكون وجود أحد الفعلين موجبا لعدم الملاك في الآخر لا أنه موجب لسقوط الملاك فيه ، بل يكون وجود أحدهما كاشفا عن عدم الملاك في الآخر من أول الأمر ، ولازمه أنه لا يكون المكلف به إلاّ واحدا وأنه عند تركهما يكون مكلفا بكل منهما ، كما أنه عند فعلهما معا يكون غير مكلف بشيء منهما ، لأن وجود كل منهما كاشف عن عدم الملاك في الآخر ، وفي صورة الاتيان بأحدهما يكون المكلف به هو ذلك الذي أتى به ، لأنه يكون كاشفا عن عدم الملاك في الآخر. ولعل القول بأن المكلف به هو ما يختاره المكلف مأخوذ من هذه الطريقة الوعرة.

وكيف كان ، أن هذه الطريقة لا ترجع إلى كون الملاك واحدا لتكون نتيجتها هو التكليف بأحدهما مصداقا أو مفهوما. وحينئذ تنحصر طريقة تزاحم الملاكين بالطريقة الاولى وتكون نتيجتها هي الوجه الرابع.

وشيخنا قدس سره (1) أشكل عليه أوّلا : أنه خلاف ظاهر الأدلة ، وأنه فرض محض. وثانيا : أنه مبني على إمكان الترتب. وثالثا : ما عرفت من أن الملاك المزاحم بمساويه لا يصلح لأن يكون باعثا للمولى على الأمر بذي الملاك ،

ص: 250


1- أجود التقريرات 1 : 268 - 269.

وحينئذ يتولد من ذلك أن الملاك الباعث على الأمر هو أحد الملاكين فتكون النتيجة هي الأمر بأحد الفعلين.

قلت : ويمكن التأمل فيما افيد أوّلا ، بأنا ليس كلامنا إلاّ في مقام الثبوت والامكان ، وأما مقام الاستظهار والاثبات فهو مقام آخر.

وأما فيما افيد ثانيا ، فبأنا قد صحّحنا الترتب فليكن الوجوب التخييري مبنيا عليه. ولا يضرنا بقاء من يقول ببطلان الترتب في حيرة من تصحيح الوجوب التخييري بعد البناء على انحصار توجيهه بما عرفت من الوجه المبني على صحة الترتب.

ثم إنه يمكن القول بأن الاشتراط فيما نحن فيه أجنبي عن الترتب ، لأن الاشتراط فيه واقعي ، بخلاف باب الترتب فانه إنما يكون في مرحلة حسن الخطاب. وبالجملة أن اشتراط المهم بعصيان الأهم لا يوجب سقوط الأهم ، فالاتيان بالمهم لا يوجب سقوط الأهم ، بخلاف ما نحن فيه فان الاتيان بأحدهما يوجب سقوط الآخر. ولا ضير في اشتراط بقاء التكليف بشيء بعدم الاتيان بمتعلق الآخر بحيث يكون بقاء الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، على وجه يكون الاتيان بكل منهما مسقطا للأمر بالآخر وإن كان لازمه أنه لو تركهما معا كان معاقبا على كل منهما لكونه حينئذ مكلفا بكل منهما ، وحاصله : أنه يكون في بدو الأمر دائما مكلفا بهما معا لكونه في مورد عدم كل منهما.

ثم إنه لو أتى بهما معا يكون كل منهما مسقطا للآخر مع فرض أن كلا منهما يكون امتثالا للأمر المتعلق به ، على إشكال في ذلك لكونه واقعا في مرتبة سقوط أمره ، فتأمل.

وأما ما أفيد ثالثا ، فيمكن التأمل فيه بأن تزاحم الملاكين في مقام

ص: 251

الجعل والتشريع - كما فيما نحن فيه - إن كان أحدهما أهم وجب الحكم على طبقه وسقط الآخر ، وإن تساويا فهل يكون التزاحم موجبا لسقوطهما معا والحكم بحكم آخر ، مثل ما لو تزاحم الصلاح في الفعل مع الفساد فيه مع فرض التساوي فانه ينتج حكما ثالثا وهو الاباحة ، أو أنه يوجب سقوط التعين ويتولد أمر بأحدهما ولا يكون المؤثر إلاّ أحد الملاكين على سبيل الاهمال كما يظهر من شيخنا قدس سره في هذا المقام ، أو أنه لا يسقط شيء من الملاكين بل يؤثر كل منهما أثره من التكليف بالمتعلق ، لكن يكون كل من التكليفين مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر كما هي طريقته قدس سره في إصلاح تزاحم المتساويين في مقام الامتثال بجعل كل من الاطلاقين مشروطا بعدم امتثال الآخر كما صرح به قدس سره في باب الترتب (1) وكما صرح به في الواجب الكفائي (2) بناء على تعدد الملاكات والأغراض ، فراجع.

وبالجملة : لا يبعد الجزم بأنه لا يمكن الانبعاث عن أحد الملاكين الداعيين على التكليف ، وإنما يعقل انبعاث الآمر عن كل منهما إلى التكليف مشروطا بقاء بعدم الاتيان بمتعلق الآخر.

ولكن الذي يهوّن الخطب هو بعد هذه الطريقة ، أعني طريقة تزاحم الملاكين في مقام الجعل والتشريع الناشئة عن دعوى اجتماع الملاكين ، ويكفي في الجزم بعدمه هو ما يلزمه من فعلية كل من الطرفين عند عدم كل منهما على وجه يستحق عند تركهما معا عقابين ، ولو فعلهما دفعة واحدة يكون وجود كل منهما مسقطا لملاك الآخر أو كاشفا عن عدم الملاك له.

ولأجل ذلك نقول : إن الظاهر أنه ليس في البين إلاّ ملاك واحد يقوم به

ص: 252


1- أجود التقريرات 2 : 45 - 46.
2- أجود التقريرات 1 : 272.

مصداق أحد الفعلين لا على التعيين ، أو يقوم به القدر الجامع بينهما. أما قيامه بمفهوم أحدهما ليكون التكليف تابعا لما يقوم به الملاك فهو أمر غير معقول ، لعدم معقولية قيام الملاك بمفهوم أحد الشيئين.

وحينئذ تنحصر الأقوال أو الاحتمالات بأحد الوجهين ، أعني كون الواجب وذي الملاك هو مصداق أحدهما ، أو كونه القدر الجامع بينهما ولا ريب في تعين الثاني ، إذ لا يعقل أن يكون الملاك الواحد ناشئا عن أحد أمرين متباينين على وجه تكون إحدى الخصوصيتين على البدل دخيلة فيه ، فيتعين الوجه الثاني. نعم حيث كان ذلك الجامع ممّا لا تصل إليه الأفهام العرفية توصّل الشارع المقدس في إيصال المكلفين إلى مقصوده بطريقة العطف بأو. وهذه الطريقة هي المائز بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي.

قوله : والمكلف قادر على إتيان الفعلين معا ... الخ (1).

قد تقدم (2) أنه ربما يكون غير قادر على الجمع بينهما كما في قتل الكافر ودفن الميت.

قوله : فالفرق هو أن التزاحم هنا في الملاك وهناك في الخطاب ... الخ (3).

تحقق توضيحه في محله (4) وأن هذا راجع إلى باب التعارض وذلك إلى باب التزاحم ، ويعبّر عن الأوّل بالتزاحم الآمري وعن الثاني بالتزاحم المأموري.

ص: 253


1- أجود التقريرات 1 : 264 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- في صفحة : 249.
3- أجود التقريرات 1 : 264 - 265 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
4- لاحظ المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 164 ، 171.

قوله : وكذا تعلق الارادة التشريعية [ بالكلي ، كالصلاة الغير المقيدة بزمان ومكان ] ... إلخ (1).

سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى في بحث تعلق الأمر بالطبائع أن ما هو متعلق الارادة التكوينية هو بعينه يكون متعلقا للارادة التشريعية.

ومن الغريب ما في الحاشية (3) من أن المعلوم بالاجمال هو إحدى الخصوصيتين لا القدر الجامع ، فراجعها وتأمل.

والحاصل : أن ما هو المنكشف في باب العلم الاجمالي إنما هو القدر المشترك لا واقع المصداق ، ولأجل ذلك نقول إنه لا ينجز إلاّ القدر المشترك دون الخصوصيات الخاصة الخارجة عن القدر المشترك. نعم إن ما وقع عليه العلم واقعا هو إحدى الخصوصيتين وهذا لا يعلمه العالم ، فهو من هذه الجهة نظير ما لو ضربت أحد الشخصين ، فانّ ما وقع عليه الضرب هو إحدى الخصوصيتين لا القدر الجامع.

والخلاصة : أنّ العلم الاجمالي إن نظرنا إلى من وقع عليه العلم واقعا يكون حاله حال من وقع عليه الضرب واقعا في كونه إحدى الخصوصيتين ، وإن نظرنا إلى ما انكشف لدينا بذلك العلم الاجمالي فهو لا يكون إلاّ القدر الجامع بينهما ، فلا يكون المعلوم بالعلم الاجمالي إلاّ القدر الجامع ، ويكون كل واحد من الخصوصيتين مجهولا لدينا ، ولأجل ذلك نقول إن العلم الاجمالي ينحل إلى العلم التفصيلي بالنسبة إلى القدر الجامع والشك البدوي

ص: 254


1- أجود التقريرات 1 : 266 [ هذا المتن هو الصحيح المطابق للنسخة القديمة غير المحشاة لفظا وللحديثة مضمونا ، ولكن في الأصل سها قلم المصنف قدس سره ورسم العبارة هكذا : وكذا تعلق الإرادة التشريعية التي تتعلق بفعل الغير ... إلخ ].
2- أجود التقريرات 1 : 307.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 265 - 266.

بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين.

قوله : فالتخيير العقلي يحتاج إلى مقدمة ثالثة وهو وجود الجامع العرفي غير المتحقق في المقام (1).

هذا مسلّم ، ولكن ليس المراد من القول بالقدر الجامع هو كون التخيير عقليا ، بل المراد هو ما عرفت من الجامع الملاكي الذي توصل الشارع إلى إيصال العرف إليه بالتعبير بما هو مفاد لفظة « أو » ونحوها. ويكون هذا المقدار هو الفارق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي. نعم يبقى الكلام في الأمر الصوري في مثل قوله : صم أو أعتق أو أطعم ، وأنّ هذا الأمر هل تعلق بالقدر الجامع أو تعلق بأحدها على البدل. وهو أمر سهل ، فانّ أرباب هذا القول لا يريدون أن يقولوا إن مثل قوله « صم » قد تعلق بالقدر الجامع ، بل يقولون إنه إنما تعلق بنفس الصوم ، غايته أن قرينة العطف بأو تدل أنه تعلق لا على التعيين بل على نحو البدلية. ولعل هذا هو مراد القائلين بأن الواجب هو أحدها على البدل ، وحينئذ لا يكون النزاع إلاّ لفظيا.

وقد حررت عنه قدس سره في بيان الايراد على هذا الوجه ما هذا لفظه : إن ما حررناه في تحرير هذا الوجه من امتناع صدور الواحد عن الكثير وان كان حقا ، إلاّ أنه لا ينتج كون الوجوب متعلقا بالقدر الجامع بين العدلين ، إذ أقصى ما في ذلك أن يكون كل من العدلين مشاركا للآخر في كونه محصّلا للغرض الباعث على الأمر ، اعني المصلحة التي تنشأ عنها الأحكام الشرعية وأن اشتراكهما في ذلك كاشف عن اشتراكهما في قدر جامع يكون كل منهما مؤثرا ذلك الأثر بواسطة ذلك الجامع ، إلاّ أن ذلك لا يستلزم كون

ص: 255


1- أجود التقريرات 1 : 267 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الوجوب متعلقا بذلك الجامع ، لما عرفت غير مرة من أن الأغراض والمصالح التي هي ملاكات الأحكام مما يكون متعلقات تلك الأحكام بالنسبة إليها من قبيل المقدمات الاعدادية دون الأسباب التوليدية ، غير داخلة تحت الارادة والاختيار ، فلا يصح أن تقع متعلقا للارادة التشريعية ، وحينئذ فمجرد اشتراك العدلين في كون كل منهما محصّلا للغرض والملاك الباعث على الأمر لا يوجب رجوع التخيير بينهما إلى التخيير العقلي ، لعدم صحة تعلق الأمر بذلك الغرض كي يكون ذلك الغرض هو الجامع بينهما وهو المتعلق للوجوب الوارد صورة على كل واحد منهما.

ولو اريد من ذلك أن الوجوب متعلق بالقدر الجامع بين العدلين وليس هو نفس الغرض ، بل القدر الجامع بينهما المستكشف من اشتراكهما في محصلية الغرض ، ولا حاجة إلى معرفته تفصيلا بنفسه بل يكفي معرفته إجمالا بواسطة أثره ، فلا يكون الجامع المدعى كونه متعلقا للأمر هو نفس الغرض كي يرد عليه أن الأغراض لا يصح أن تتعلق بها الارادة التشريعية ، بل يكون الجامع بينهما هو ذلك المستكشف من وحدة أثرهما ، وذلك الجامع هو الذي تعلق به الطلب.

ففيه : أن الجامع الذي يتعلق به الطلب لا بدّ أن يكون جامعا قريبا عرفيا بحيث يعرفه العرف ، دون العقلي الصرف الذي لا نقول به إلاّ من جهة إلجاء البرهان العقلي القائل بامتناع صدور الواحد بما هو واحد عن الاثنين بما هما اثنان.

والحاصل : أنه لا بدّ في كون الجامع متعلقا للتكليف من كونه مقدورا داخلا تحت إرادة العبد واختياره ، ومن كونه قريبا عرفيا. فان كان المراد أن الجامع هو الغرض ، ورد عليه أنه فاقد لكلا الشرطين ، وإن كان المراد أن

ص: 256

الجامع هو محصّل الغرض ، ورد عليه أنه فاقد للشرط الثاني ، انتهى.

قلت : لا ريب أن المراد هو الثاني ، بمعنى أن الأمر إنما يرد على ما يكون محصّلا للملاك ، والمفروض أن محصّل الملاك هو القدر الجامع بين العدلين ، فتكون الخصوصية البدلية أجنبية عن مورد الأمر ، ويكون مورد الأمر هو القدر الجامع. وفي مقام الثبوت يكون الوجوب أو الأمر متعلقا بذلك القدر الجامع.

نعم في مقام الاثبات وإعلام المكلفين بهذا الوجوب لمّا لم يكن ذلك الجامع عرفيا توصل الشارع إلى تفهيمهم بالأمر به بالأمر بكل واحد من العدلين على سبيل البدل ، وبهذه الواسطة كان التخيير شرعيا ليصلوا بذلك إلى الواجب الحقيقي ، وإلاّ فلو كان ذلك الجامع ممّا تناله المعرفة العرفية وتعلق الأمر به ابتداء كان التخيير عقليا. وحينئذ يكون روح التخيير الشرعي راجعا بجعل العقل إلى التخيير العقلي. فان كان المراد هو الاكتفاء بهذا الأمر الصوري الذي التجأ الشارع إليه لأجل التوصل إلى إيصال عرف المكلفين إلى ما هو مطلوبه الحقيقي فهو حق لا ريب فيه ، لكن بعد البرهان على أن الخصوصية أجنبية عن ملاك الحكم وأن ما هو المحصّل للملاك هو القدر الجامع ، نضطر إلى القول بأن الجامع هو القدر الجامع بينهما وان كنا عاجزين عن التعبير عنه بعنوانه ، ولأجل ذلك قلنا إنا بعد الاطلاع على حقيقة الواقع حسبما قرره البرهان العقلي يكون النزاع حينئذ أشبه بالنزاعات اللفظية.

والتحقيق : أن هذا النزاع ليس من قبيل النزاعات اللفظية بل إنه نزاع جوهري ، حيث إن صاحب الكفاية قدس سره (1) القائل بالقدر الجامع يقول إن الأمر

ص: 257


1- كفاية الاصول : 140 - 141.

وارد على نفس ذلك القدر الجامع وان لم نعرفه بنفسه لكفاية معرفته بآثاره. وحينئذ يكون التخيير بين أفراد ذلك القدر الجامع تخييرا عقليا.

وشيخنا قدس سره (1) وإن التزم بذلك القدر الجامع إلاّ أنه حيث كان ذلك القدر الجامع غير معروف لدى العرف ولا نعرفه إلاّ بذلك البرهان الذي لا يعرفه إلاّ الأوحدي من أهل الفلسفة ، لم يتمكن الشارع من ايراد وجوبه على نفس ذلك القدر الجامع ، بل إنه قد اضطر إلى أن يورده على أفراده على البدل ، فلا يكون الواجب في عالم اللوح المحفوظ إلاّ نفس تلك الأفراد على البدل ، فلا يكون التخيير إلاّ شرعيا ، هذا.

ولكن المطلب بعد محتاج إلى تأمل ، فانّ الذي ينبغي للمكلف على مسلك الكفاية عند إتيانه باحدى خصال الكفارة كالعتق مثلا أن يأتي به بداعي الأمر الواقعي المفروض كون متعلقه هو القدر الجامع. ولا يكفي الاتيان به بداعي الأمر المتعلق بالعتق لعدم كونه أمرا شرعيا ، بل هو على مسلك الكفاية في صورة الأمر. وهذا بخلاف مسلك شيخنا قدس سره فانه بناء عليه يكون اللازم في الصورة المفروضة هو قصد الأمر بالعتق لا الأمر المتعلق بالقدر الجامع ، لأن المفروض أن الأمر الشرعي لم يتعلق بذلك القدر الجامع.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنه لو قصد الأمر الواقعي المتعلق بالعتق بما أنه من خصال الكفارة صح على كلا المسلكين. أما على مسلك الكفاية فلأن الأمر المتعلق بالقدر الجامع متعلق ومنحل إلى الأمر بكل واحد من مصاديقه بمقدار ما في كل واحد منها من طبيعة القدر الجامع ، وأما على مسلك شيخنا قدس سره فلأن الأمر حسب الفرض تعلق بكل واحد من مصاديقه غايته أنه

ص: 258


1- تقدم في صفحة : 255 - 256 ، وراجع أجود التقريرات 1 : 267.

على البدل ، فتأمل.

ثم إنّه في الحاشية : أن امتناع صدور الواحد من الكثير إنما يختص بصدور الواحد الشخصي من الكثير ، وأما الواحد النوعي فلا مانع من صدور فرد منه من شيء وصدور فرد آخر منه من شيء آخر من دون أن يكون بينهما جامع حقيقي أصلا (1).

ولا يخفى أن ذلك لا يكون نقضا على القاعدة المذكورة ، لأن هذا الفرد الصادر من هذا الشيء مباين للفرد الصادر من شيء آخر ، فأين ذلك من صدور الشيء الواحد عن المتعدد. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لأن الملاك شيء واحد ، فلا بدّ أن يكون أحد العدلين الموجد له مشاركا للعدل الآخر الموجد له في قدر جامع ، وليس لنا فردان من الملاك ينوجد أحدهما بأحد العدلين وينوجد الآخر بالعدل الآخر.

وبالجملة : إن تباين الفردان من الملاك كانت المسألة من وادي تعدد الملاك بتعدد موجده ودخلت في تزاحم الملاكات ، وإن لم يتباين الفردان بل لم يكن لنا إلاّ ملاك واحد من جميع الجهات يوجده هذا العدل تارة ويوجده ذلك العدل الآخر اخرى ، لم يكن لنا بدّ من إرجاع العدلين إلى قدر جامع يكون هذا القدر الجامع هو المؤثر في كلا الحالين.

قوله : ولا بأس في افتراقهما في بعض الامور ... الخ (2).

لا يخفى أن التعبدية والتوصلية ليست من صفات الارادة التشريعية ، وإنما هي من صفات متعلقها ، لما حقق في باب التعبدي والتوصلي (3) من

ص: 259


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 267.
2- أجود التقريرات 1 : 266.
3- أجود التقريرات 1 : 166 ، راجع أيضا صفحة : 451 - 453 من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

عدم الاختلاف بينهما بالهوية الذي هو حاصل الوجه الثاني من وجوه الفرق بين التعبدي والتوصلي ، وأن هذا الفرق من ناحية الأمر ، وقد تقدم إبطاله وأن الاختلاف بينهما في المتعلق على التفصيل المذكور في محله من كون ذلك من قبيل التقييد الشرعي أو التقييد العقلي الناشئ عن أخصية الغرض أو من قبيل تعدد الأمر.

وأما ما أفاده قدس سره من أن الارادة التكوينية لا تتعلق إلاّ بالشخص ، ففيه تأمل ، فانها وإن كانت علة لوجود ما تعلقت به إلاّ أن متعلقها إنما هو الطبيعة على ما هي عليه من سعة أو ضيق. نعم بعد تأثيرها وجود ذلك المعلول لا بدّ أن يكون الوجود شخصا خاصا ، فهي لا تختلف عن الارادة الشرعية في عدم التعلق إلاّ بالطبيعة.

قوله : فان الغرض المترتب على كل واحد من الفعلين إذا كان أمرا واحدا كما هو ظاهر العطف بكلمة « أو » ... الخ (1).

إن كلمة « أو » تعطي مدخلية الخصوصية الخاصة لكل من الفعلين ، ولكن لا في التأثير في غرض واحد وملاك واحد لاستحالة ذلك ، فالعطف بلفظة « أو » كاشف عن تعدد الغرض والملاك. ولو فرضنا أنه لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد يقوم به الجامع بينهما لكن لم يكن الجامع عرفيا تعيّن على الآمر الأمر بكل واحد منهما على البدل بما هو مفاد لفظة « أو » ، وحينئذ لا تكون لفظة « أو » على ظاهرها من مدخلية الخصوصية البدلية ، بل لا يكون ذكر الخصوصية البدلية حينئذ إلاّ لمجرد التوصل في الحصول على الجامع.

ص: 260


1- أجود التقريرات 1 : 266 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

قوله : الرابع : أن كل واحد من الواجبين واجب تعيينا إلاّ أن أحدهما يسقط بفعل الآخر - إلى قوله : - فيكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ... الخ (1).

الظاهر أن هذا إشارة إلى ما في الكفاية (2) ولكن صاحب الكفاية صرح بأن كل واحد منهما يكون واجبا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر ، وحينئذ يكون الوجوب التخييري الناشئ عن الملاكين مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني ، وبقول بعضهم إن مرجع التعييني إلى سدّ جميع أبواب العدم ، ومرجع التخييري إلى سدّ أبواب العدم إلاّ العدم المقارن لوجود العدل الآخر. كما أنه صرح بأنه ليس الواجب كل واحد منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، ولازمه أن لا يكون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر.

والخلاصة : أن كون الوجوب التخييري مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني ، وكون وجوب كل واحد منهما مشروطا بعدم الآخر ، وكون كل واحد منهما مسقطا لوجوب الآخر ، مبان مختلفة لا يكون أحدها راجعا إلى الآخر.

وتفصيل ذلك : أن التزاحم في الملاكات إذا كان مأموريا مثل إنقاذ أحد الغريقين ، كان خارجا عمّا نحن فيه من دعوى التخيير الشرعي ، وكان منتجا لحكم العقل بتقديم ما هو الأقوى ملاكا ، وإن لم يكن في البين ما هو الأقوى كان الخطاب بكل منهما مشروطا بحكم العقل بعدم الاتيان بالآخر ،

ص: 261


1- أجود التقريرات 1 : 264 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 141.

على التفصيل المشروح في محله من مبحث التزاحم من مباحث الترتب (1).

وإن كان آمريا فالذي ينبغي أن نقدم له مقدمة ، وهي أن الوجوه المتصورة في التخيير الشرعي أربعة :

الأوّل : كون الواجب هو أحدهما مصداقا.

الثاني : كون كل منهما واجبا مع السقوط بفعل الآخر.

الثالث : كون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الآخر.

الرابع : مسلك الكفاية من كونه نحوا من الوجوب.

إذا عرفت ذلك فنقول بعونه تعالى : إن تزاحم الملاكات آمريا يمكن أن يكون على صور :

الاولى : أن يكون الفعل في كل منهما رافعا لموضوع التكليف في الآخر ، مثل ما لو فرضنا أن هناك ملاكا يقتضي دفن الميت بالتراب وكان هناك ملاك آخر يقتضي إغراقه في الماء ، على وجه التباين بين الملاكين والمتعلقين ، ولا ريب في أن أحد هذين الفعلين بنفسه موجب لارتفاع موضوع التكليف المتعلق بالآخر.

الثانية : أن يكون أحد التكليفين موجبا لارتفاع موضوع التكليف بالآخر ، كما في تزاحم التكليفين المشروط كل منهما شرعا بالقدرة على وجه تكون القدرة دخيلة في ملاك كل من التكليفين ، فيكون كل من التكليفين رافعا لموضوع التكليف الآخر ولملاكه ولخطابه.

وفي كون كل من هاتين الصورتين من التزاحم الآمري أو التزاحم

ص: 262


1- أجود التقريرات 2 : 43 - 47 ، راجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 251 وما بعدها.

المأموري كلام لعله نتعرض له في مباحث التزاحم (1) إن شاء اللّه تعالى.

ولكن لو قلنا بأنه آمري كان على الآمر أن يعيّن ما هو الأقوى ملاكا ، وإن لم يكن في البين ما هو الأقوى ، ففي الصورة الاولى يجعل التكليف على كل واحد منهما مشروطا في مرحلة البقاء بعدم الاتيان بالآخر ، فتكون نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة المسقط لا نسبة شرط التكليف حدوثا كي يكون حدوث التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، وفي هذه الصورة يمكن أن تأتي طريقة الكفاية من كون هذا الوجوب التخييري مختلفا بالهوية مع الوجوب التعييني.

أما في الصورة الثانية عند تساويهما فلا يمكن سلوك طريقة إسقاط كل منهما للآخر ، لأن لازم ذلك هو أنه قبل الاتيان بأحدهما يكون مكلفا بكل منهما ، فيجتمع التكليف بأحدهما مع التكليف بالآخر ، وذلك غير معقول في الصورة المفروضة ، لأن المفروض أن التكليف بكل منهما يكون رافعا لموضوع التكليف بالآخر. فيمتنع فيه سلوك هذه الطريقة ، كما أنه يمتنع فيه سلوك طريقة اشتراط التكليف بكل منهما بعدم الاتيان بالآخر ، وحينئذ ينحصر الأمر في ذلك بالالتزام بأن المكلف به هو مصداق أحدهما. وعلى أيّ حال لا تتأتى فيه طريقة الكفاية من وجوب كل منهما مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، لأن لازمه هو أن يجب كل منهما قبل فعل الآخر ، وقد عرفت محالية ذلك. وبالجملة يكون حال هذه الطريقة حال طريقة المسقطية.

والظاهر تأتّي طريقة كون الواجب هو أحدهما المصداقي في كل من

ص: 263


1- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 247 وما بعدها.

الصورتين ، فانّ الشارع بعد أن اطلع على حال الفعلين وأن كل واحد منهما رافع لموضوع الآخر ، أو أنّ الجمع بينهما غير مقدور للمكلف مع فرض كون كل منهما ذا ملاك مستقل ، يكون الممكن التحصيل هو أحد الملاكين فيأمر بأحد الفعلين مصداقا.

والذي يهوّن الخطب هو أن واجباتنا التخييرية لا تنطبق مع إحدى الصورتين ، إذ ليس فيها ما يكون أحد الفعلين رافعا لموضوع الآخر ، ولا ما يكون المكلف غير قادر على الجمع بينهما مع كون كل منهما في حد نفسه واجبا تعيينا.

ولكن لا ينبغي الريب في أن التزاحم فيهما آمري وأن الشارع إن رأى أنّ أحدهما أرجح ملاكا من الآخر عيّنه ، وإلاّ أوجبهما معا مع سقوط كل منهما بفعل الآخر ، أو مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، أو جعل الواجب أحدهما المصداقي. هذا في مقام الثبوت.

وأما في مقام الاثبات فلو ورد ما ظاهره طلب كل منهما تعيينا وجب حمله على هذه الوجوه الثلاثة ، وذلك في الصورة الاولى واضح ، ولا مجال فيها لترجيح المكلف أحدهما على الآخر بأقوائية الملاك. والظاهر أنّ الثانية كذلك ، لأن قوله اغتسل إن قدرت وقوله توضأ إن قدرت لو اتفق أن المكلف غير قادر على الجمع بينهما ، يحصل التعارض بينهما نظير تعارض العموم من وجه. فان انتهت المسألة إلى التساقط لا يمكنه رفع اليد عن كلا الفعلين للعلم بأنه لا بدّ له من فعل أحدهما فيتخير بينهما ، لكن ليس له أن يرجح بأقوائية الملاك ، إذ ليس ذلك له بعد فرض علمه بأن المتحقق في حقه أحد الملاكين لا كلاهما ، إذ ليس له إلاّ قدرة واحدة وهي لا تولّد إلاّ ملاكا واحدا ، فالمتوجه اليه هو أحد التكليفين لا كلاهما ، وهو لا يقدر على

ص: 264

الجمع بينهما ليختار أقواهما ملاكا.

والخلاصة هي : أن الصورة الاولى من باب التضاد الدائمي ، وهي راجعة إلى باب التعارض ولازمه التزاحم الآمري ، ومقتضاه أنه لو كان أحد الملاكين أقوى عيّنه الشارع ، وإلاّ علّق الطلب بكل منهما مع الترخيص في تركه عند فعل الآخر ، أو علق الوجوب بأحدهما المصداقي.

وأما الصورة الثانية : فهي من التضاد الاتفاقي الناشئ عن اتفاق عدم قدرة المكلف على الجمع بين الفعلين ، ومقتضاه كونه من باب التزاحم المأموري ، لكن لمّا كان كل من الملاكين مشروطا بالقدرة واتفق عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما كان كل من التكليفين رافعا لموضوع الآخر ، ومقتضاه كون التزاحم آمريا ، إلاّ أن يمنع من كون التكليف بأحدهما رافعا للقدرة على الآخر ، ويدعى أنّ كلا منهما مقدور في حد نفسه فيكون التكليف به متوجها ، غايته أن المكلف لا يقدر على امتثالها ، فيكون اللازم على المكلف هو الترجيح بالأهمية ، وإلاّ حكم عقله بالتخيير بينهما.

أما لو قلنا بأن التزاحم في هاتين الصورتين مأموري فلا مجال فيه للترجيح بأقوائية الملاك ، بل يتعين التخيير العقلي في ذلك بقول مطلق ما لم يكن في البين تقدم زماني كما حرر في محله (1) ، لأن المفروض كون الملاك في كل منهما متوقفا على عدم الآخر. وهذه المرحلة من الترجيح ليست من أشغال المكلف ، بل هي من أشغال الشارع كما عرفت في التزاحم الآمري.

الصورة الثالثة : أن يكون استيفاء أحد الملاكين بأحد الفعلين موجبا

ص: 265


1- راجع أجود التقريرات 2 : 36 - 43 ، راجع أيضا المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 219 وما بعدها.

لارتفاع ملاك الآخر ، لا من جهة عدم القدرة على الفعلين ، بل إن طبع الملاكين كان هكذا على وجه لو استوفى أحدهما بفعله يرتفع الملاك في الآخر ، وان كان المكلف متمكنا من الاتيان بالفعل الآخر إلاّ أنه يكون حينئذ خاليا من الملاك.

الصورة الرابعة : هي هذه الصورة ولكن يكون الملاك في كل منهما مشروطا حدوثا بعدم وجود الآخر. والتزاحم في هاتين الصورتين يكون آمريا محضا ، وتكون نسبة أحد الفعلين إلى التكليف بالآخر من قبيل المسقط على الاولى منهما ، ومن قبيل كون عدمه شرطا في التكليف بالآخر على الثاني منهما. وحينئذ فالمولى إن رأى أن أحد الملاكين أقوى من الآخر عيّنه ، وإلاّ خيّر بينهما بمعنى أنه يوجبهما معا ويجعل الاتيان بأحدهما مسقطا للتكليف بالآخر في الصورة الاولى ، أو يجعل عدم كل منهما شرطا في أصل توجه التكليف بالآخر في الصورة الثانية.

وهل يتأتى فيها مسلك الكفاية من الاختلاف بالهوية؟ الظاهر أن الكلام هنا عين ما تقدم ، لكن العمدة في معقولية الاختلاف بالهوية ، إلاّ أن يكون المراد بذلك هو ما ذكرناه (1) في الطلب الاستحبابي من كونه مقرونا بالترخيص في الترك ، ويكون الحال في الطلب التخييري أنه طلب بكل معنى الكلمة ، غير أنه ينضم إليه جعل ثان وهو الترخيص في الترك المقارن لوجود العدل الآخر.

وأما دعوى كون الواجب هو كل واحد منهما مع السقوط بفعل الآخر ، فان كان المراد بالسقوط بفعل الآخر حكم العقل بالسقوط بفعل

ص: 266


1- راجع صفحة : 350 وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

الآخر ، توجه عليه أنه حينئذ لا وجه لحكم الشارع بوجوب كل منهما ، لأن السقوط إن كان لعدم استيفاء الملاك منه ، فلا وجه لايجاب الشارع كلا منهما ، وإن كان الاستيفاء ممكنا فلا وجه للسقوط حينئذ. وإليه إشارة بما في الكفاية : ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما ... (1).

وإن كان المراد هو حكم الشارع بسقوط كل منهما مع فعل الآخر هو ترخيصه في ترك أحدهما عند فعل الآخر ، رجع إلى ما في الكفاية بعد شرحه بما عرفت من احتياج الوجوب التخييري إلى جعلين : جعل الطلب بكل منهما ، وجعل الترخيص في الترك عند فعل أحدهما ، أو إلى اشتراط بقاء الوجوب لكل منهما بعدم الاتيان [ بالآخر ](2) فتكون نسبة كل منهما إلى وجوب الآخر نسبة المسقط ، لكون بقاء الوجوب لكل منهما مشروطا بعدم الآخر.

وبالجملة : أن القول بكون الواجب هو كل منهما مع السقوط بفعل الآخر راجع إلى ما أفاده في الكفاية ، وهما راجعان إلى القول بكون بقاء الوجوب لكل منهما مشروطا بعدم الآخر. والأقوال الثلاثة راجعة إلى القول بأن الواجب هو كل واحد منهما مع الترخيص الشرعي بتركه عند فعل الآخر فما يظهر من حاشية العلاّمة الاصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية (3) من جعل هذا الأخير قولا آخر غير ما في الكفاية ، وغير القول بكون الواجب هو أحدهما مع السقوط بفعل الآخر كما جرى عليه في الحاشية (4) من جعله

ص: 267


1- كفاية الاصول : 141.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- نهاية الدراية 2 : 269 - 270.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش 1 ) : 265.

وجها سادسا ، لا يخلو عن تأمل. وأما الايراد عليه بأنّ لازمه تعدد العقاب فهو لازم لباقي الأقوال ما عدا القول بكون الواجب هو أحدهما المصداقي أو كونه هو القدر الجامع.

والخلاصة : هي أنّ هذه العبائر الأربع أعني :

وجوب كل منهما مع السقوط بفعل الآخر.

وجوب كل منهما مع ترخيص الشارع بفعل الآخر.

وجوب كل منهما بنحو لا يجوز تركه إلاّ إلى بدله ( مسلك الكفاية ).

وجوب كل منهما مشروطا في مرحلة البقاء بترك الآخر.

كلها راجعة إلى مفاد واحد ، وتأتي كلها في الصورة الاولى من هاتين الصورتين. وأما الصورة الثانية منهما فلا يتأتى فيها إلاّ جعل الوجوب في كل منهما مشروطا في مرحلة الحدوث بعدم الآخر ، ولازمه هو أنه قبل فعل أحدهما يكون الظاهر أنهما معا واجبان لكن لو أتى بأحدهما انكشف عدم وجوب الآخر من أول الأمر ، ولو بقي مستمرا على عدم كل منهما إلى أن فات وقتهما كان مستحقا للعقابين. كما أنه كذلك - أعني مستحقا للعقابين - في الصورة الاولى من هاتين الصورتين ، بل إن الأمر كذلك في جميع الصور الأربع ، فانّ لازمها هو تعدد العقاب عند ترك الفعلين معا حتى فات الوقت ما لم ينزل بعضها على كون الواجب هو أحدهما المصداقي ، أما عند فعلهما دفعة واحدة فهو غير متصور في الاوليين من الأربع ، نعم هو متصور في الأخريين منها.

وقد يقال : إن لازم الأخيرة منها أعني الرابعة أن لا يتصف شيء منهما بالوجوب ، كما أن لازم الثالثة هو كون كل منهما مقرونا بمسقطه. ولكن هذا الاشكال إنما يتوجه فيما لو أمكن الاتيان بجميع الأعدال في آن

ص: 268

واحد ، إلاّ أنّ ما عرفناه من واجباتنا التخييرية لا يمكن فيه اجتماع الأعدال في آن واحد.

وتوضيح الحال في ذلك هو أن يقال : إنه لا يخفى على المتتبع في الواجبات التخييرية أنه لا يوجد فيها ما هو من قبيل الصورة الاولى ولا ما هو من قبيل الصورة الثانية ، فلو قلنا بتعدد الملاك فيما هو المعروف من واجباتنا التخييرية يكون المتعين هو الصورة الثالثة أو الرابعة ، ولازمها هو عدم وقوع كل من العدلين على صفة الوجوب لو أتى بهما دفعة واحدة. أما في الثالثة فلاجتماع كل منهما مع مسقطه أو مع المسوّغ لتركه. وأما في الرابعة فلاجتماع كل منهما مع ما يوجب عدم تعلق الوجوب به ، بعد فرض سقوط القول بأن الواجب في الصورتين هو أحدهما المصداقي على نحو نكرة صاحب الفصول (1) من جهة أن اجتماع الملاكين قاض بوجوب كل منهما ، إما مع سقوطه بفعل الآخر ، وإما مع كون عدم أحدهما شرطا في وجوب الآخر. ولا وجه مع اجتماع الملاكين لكون الواجب هو أحدهما المصداقي.

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الشارع بعد اطلاعه على حال هذين الملاكين وأنهما لا يمكن استيفاؤهما معا لكون استيفاء أحدهما رافعا للآخر أو كون استيفاء أحدهما موجبا لعدم الآخر من رأس ، يمكنه أن يجعل الوجوب على أحد العدلين مصداقا ، فعند الاتيان بهما معا دفعة واحدة يكون الواجب هو أحدهما المصداقي والآخر لغوا ، لا أن كلا منهما يكون لغوا ، لأن لغوية كل منهما إنما تتم لو قلنا بأن الواجب كل منهما مع السقوط بفعل

ص: 269


1- راجع الفصول الغروية : 163 ، 102.

الآخر ، أو مع عدم الاتيان بالآخر.

ولكن هذا الاشكال إنما يتوجه على القولين المذكورين إذا كان في واجباتنا التخييرية ما يمكن اجتماع الأعدال فيه دفعة واحدة ، وقد عرفت أنها ليست كذلك حسب التتبع. نعم لو فرضنا أن بعضها قابل للاجتماع الدفعي تعين القول فيه بأن الواجب في خصوص ذلك البعض هو أحدهما المصداقي بعد فرض تعدد الملاك. أما لو أنكرنا تعدد الملاك وقلنا بوحدته تعيّن القول بأن الواجب هو القدر الجامع بينهما ، وأن تعلق الطلب به يكون على نحو مطلوبية صرف الوجود من الطبيعة الحاصل بأول وجود من ذلك القدر الجامع ، وعند اجتماع الفردين دفعة واحدة يكون الجميع واجبا بوجوب واحد.

هذا كله لو كان المسقط للملاك في الصورة الثالثة أو الموجب لعدمه في الصورة الرابعة هو مجرد وجود أحد العدلين ، فانه يتوجه فيه الاشكال بأنه عند الاجتماع دفعة يكون كل منهما مقرونا بمسقطه أو مقرونا بما يكشف عن عدم وجوبه. أما لو لم نقل بذلك ، بل قلنا إن المؤثر في السقوط أو في عدم الحدوث هو سبق أحد العدلين ، فلا يكون الاجتماع الدفعي إلاّ من قبيل اجتماع الواجبات المتعددة في آن ، كما سيأتي (1) نظير هذا التوجيه في الواجب الكفائي إن شاء اللّه تعالى.

والخلاصة هي : أن عمدة همّنا في الواجبات التخييرية أمران ، الأوّل : ما يذكرونه من أنه عند ترك كل منهما يتحقق في حقه وجوب كل منهما ويعاقب على ترك كل منهما ، وعند فعل كل منهما لا يكون الواجب

ص: 270


1- في صفحة : 300 وما بعدها.

شيء منهما. والأمر الثاني : أنه عند الشك في مثل العتق والصيام بوجوبهما التخييري بأن وجوبهما على التعيين أو أنه على التخيير ، يكون المرجع بعد فعل أحدهما هو البراءة أو الاشتغال؟

فنقول بعونه تعالى : أما لو كان الملاك واحدا فالمتعين هو وجوب القدر الجامع أو مفهوم أحدهما أو مصداق أحدهما ، ولا يتأتى فيه الاحتمالات الأخر. ويكون الواجب هو أحدهما ، سواء تركهما معا أو فعلهما معا أو أتى بواحد منهما. أما مسألة الشك فانه بعد الاتيان بأحدهما يكون محصله هل أنه مكلف بواحد أو أنه مكلف باثنين ، ومقتضى البراءة هو الأوّل.

أما لو كان الملاك متعددا ففي الصورة الاولى وكذا في الثانية لا يتصور فيهما الاتيان بالعدلين معا ، لفرض عدم القدرة على ذلك ، فلا مورد فيهما لبيان أنه عند اجتماعهما هل يكون الواجب كل منهما. كما أنه لا مورد فيهما للشك بين التعيين والتخيير وأنه بعد الاتيان بأحدهما هل يكون المرجع هو البراءة من الآخر أو الاشتغال؟ لما عرفت من أن ذلك كله فرع إمكان الجمع ، والمفروض عدمه في الصورتين المزبورتين. وحينئذ فلا مانع من الالتزام في الصورة الاولى بأنه مكلف بكل منهما عند تركهما ، وأنه لو فعل أحدهما سقط الآخر ، بخلاف الصورة الثانية فانها لا يتأتى فيها احتمال التكليف بكل منهما مع السقوط بفعل الآخر ، بل ينحصر الأمر فيها بالتكليف بأحدهما المصداقي ، ولعله يمكن تأتّي أحدهما المفهومي ، أما القدر الجامع فهو لا يتصور فيها.

وأما الكلام على الصورة الثالثة والرابعة فلا ينبغي الريب في أنه عند تركهما معا يكون مكلفا بكل من العدلين ، ويكون معاقبا على ترك كل منهما. وعند الاتيان بكل منهما ينبغي القول بعدم اتصاف واحد منهما

ص: 271

بالوجوب كما شرحناه فيما مضى. أما صورة الشك لو أتى بأحدهما في وجوب الآخر فيختلف الحال في ذلك ، فعلى الثالثة تكون المسألة من قبيل الشك في المسقط ، ويكون المرجع حينئذ هو الاحتياط بالاتيان بالآخر. نعم على الرابعة تكون المسألة من قبيل الشك في التكليف ، ويكون المرجع حينئذ هو البراءة ، فلاحظ وتأمل.

قوله : إلاّ أنّ فرض وجود الغرضين كذلك من باب فرض أنياب الأغوال ، وظاهر الدليل يدفعه ... الخ (1).

يمكن التأمل في ذلك ، بأن تعدد الغرض والملاك وإن كان في حدّ نفسه بعيدا ، إلاّ أنا بعد ما انسدت علينا الوجوه في الواجبات التخييرية إلاّ هذا الوجه تعيّن لنا الالتزام به ، كما أنه حينئذ لا بأس بارتكاب خلاف الظاهر في مفاد لفظة « أو » بالحمل على كونه نتيجة لمفاد « ان » الشرطية. أما الوجه الثالث من كون ذلك من الترتب من الطرفين وصاحب الكفاية لا يقول به ، فيمكن الجواب عنه بأن صاحب الكفاية (2) إنما منع من الترتب المعروف من جهة أن تعليق الأمر بالصلاة على عدم الاتيان بالازالة لا يسقط الأمر بالازالة عن البعث إليها والتحريك نحوها ، فلم يخرج بذلك الترتب عن البعث إلى الضدين أعني الازالة والصلاة. وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان اشتراط وجوب أحد الفعلين في مقام التشريع بعدم وجود الآخر يوجب عدم وجوب الآخر عند وجوده ، فلا ينتهي إلى الأمر بالجمع بينهما ، بل أقصى ما فيه هو أنه عند عدم فعل كل منهما يكون كل منهما فعليا ، لكنه لا ينقلب عن كونه مشروطا ، فان تحقق الشرط لا يخرج المشروط عن كونه

ص: 272


1- أجود التقريرات 1 : 268 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 134.

مشروطا إلى كونه مطلقا ليكون ذلك منتهيا إلى الأمر بالجمع بينهما.

ولا يخفى أنه يتوجه الاشكال على شيخنا قدس سره بأنه يجوّز الترتب فلم لم يجوّزه في هذا المقام.

وقد أجاب عنه قدس سره بقوله : بل إن القول بالاشتراط في التزاحم الخطابي غير مستلزم للقول به في المقام ، فان الملاكين فيما نحن فيه متزاحمان في الملاكية ، ومن الواضح أن الملاك المزاحم لا يصلح لأن يكون داعيا إلى التكليف ... الخ (1).

ويمكن التأمل فيه بأن الآمر يكون في سعيه وإيجاد أمره الناشئ عن باعثية الملاك إلى تشريع الأمر على طبقه كحال المأمور في سعيه وايجاده الفعل المأمور به فيما لو كان أحد الأمرين أهم من الآخر في سعيه نحو الأهم وتركه المهم ، وحكم عقله بالتخيير في السعي إلى كل واحد منهما بأن يقول عقله : « افعل هذا إن لم تفعل ذاك » أو « افعل ذاك إن لم تفعل هذا » فكذلك الحال في التزاحم الأمري ، فانه يمكن للشارع أن يتخلص عن تزاحم الملاكين بالأمر بكل من المتعلقين مشروطا بعدم الآخر ، كما يمكنه أن يتخلص عن التزاحم المذكور بالأمر بأحد المتعلقين مصداقا أو مفهوما أو بالقدر الجامع بينهما.

ولا يخفى أن لازم كون كل منهما مشروطا بعدم الآخر أنه لو أتى بهما معا لم يكن أحدهما واجبا ، ولو تركهما فهو وإن كان موجبا لفعلية كل منهما واستحقاق العقابين ، إلاّ أنه لا يوجب التكليف بالجمع ، لأن وجود شرط الوجوب لا يخرجه عن الاشتراط إلى الاطلاق ، والمفروض أن لزوم وجوب الجمع إنما هو لو كان كل منهما مطلقا ، بخلاف ما لو كان كل منهما

ص: 273


1- أجود التقريرات 1 : 269 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

مشروطا بعدم الاتيان بالآخر كما حقق ذلك في مبحث الترتب (1).

ثم لا يخفى أن المفاهيم بأنفسها غير قابلة لتعلق الحكم بها أيا كان الحكم ، وإنما تتعلق بها الأحكام باعتبار واقعها الذي تحكي عنه تلك المفاهيم ، ولأجل ذلك تراهم يقولون إنّ الشخص إذا قال للمشتري « بعتك أحد هذين العبدين » وقصد مفهوم أحدهما كان غلطا ، لأن المفهوم لا يقع عليه البيع. ولو قصد واقع أحدهما لم يكن غلطا ، ولكنه يكون البيع باطلا لجهالة المبيع ، فلو كانت المعاملة لا يعتبر ذلك فيها كما لو صالحه على أحدهما ، أو أوصى بعتق أحدهما بأن نقول إنه لا يعتبر في الوصية في عتق عبده أن يكون العبد معلوما بأن يقول « اعتقوا عني أحد عبيدي » صحّ ذلك واستخرج بالقرعة. هذا كله لو كان المبيع هو واقع أحدهما المحكي بقوله « أحدهما » فربما يعبّر عن ذلك بأن المبيع هو مصداق أحدهما ، فانه لا بأس به إذا كان المقصود هو واقع أحدهما.

أما لو كان المقصود هو هذا المصداق أو هذا فلعله لا يكون إلاّ غلطا صرفا إن كان التردد في المصداق عبارة عن التردد في البيع الذي يوقعه بين كونه بيع هذا أو كونه بيع ذاك.

وإن شئت فقل : إن المعقول هو إيقاع البيع على شيء وهو العبد الواحد المردد بين عبيده ويكون الترديد فيما وقع عليه البيع. ولكن لو كان الترديد في نفس البيع بأن يكون حاصل قوله « بعتك أحد هذين العبدين » : أني إما بعتك هذا العبد أو أني بعتك هذا العبد ، فيكون الترديد في نفس الحكم الذي يوقعه وهل هو بيع هذا العبد أو هو بيع ذلك العبد ، فلا ريب أن ذلك من أغلط الأغلاط.

ص: 274


1- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 371 وما بعدها.

وهكذا الحال في الوصية بأن قال لوصيه : « اعتق أحد عبيدي » فانه إن كان من الترديد في الموصى به وأنه هل هو عتق زيد أو عتق عمرو بالقاء التخيير إلى الوصي صحّ ذلك. وان كان من قبيل التردد في الوصية وهي أن الموصي يقول لوصية : « أوصيتك بعتق زيد أو أوصيتك بعتق عمرو » كان من الأغلاط.

وهكذا الحال في باب الأمر ، فانك لو أمرت عبدك بأحد الفعلين من القيام أو الكتابة ، فان قصدت مفهوم أحدهما كان غلطا لأنه لا يعقل تعلق الوجوب بالمفهوم ، وإن قصدت الوجوب وجعلته لكن لم تعيّن الواجب وجعلت متعلقه هو أحد الفعلين صحّ ذلك ، وكان العبد هو المختار في فعل أيهما. وإن قصدت أني أوجبت عليك القيام أو أوجبت عليك الكتابة كان ذلك غلطا صرفا.

وهكذا الحال في إرادة الآمر إذا جعلناها بمعنى البعث والتحريك ، فان الترديد إن كان في متعلق ذلك البعث والتحريك فلا مانع منه ، وإن كان الترديد في نفس البعث وأنّ الآمر إما أن يبعث عبده إلى هذا الفعل وإما أن يبعثه إلى ذلك الفعل كان ذلك غلطا صرفا. وهذا بخلاف الارادة التكوينية المتعلقة بالقراءة أو بالكتابة ، فان الترديد هناك يكون في نفس الارادة وهو غير معقول ، ولا يعقل وقوع الترديد في خصوص المتعلق من دون تردد في الارادة.

وهكذا الحال في الفعل الخارجي ومتعلقه مثل الضرب على زيد أو عمرو ، فالحال فيه أسوأ من الارادة التكوينية ، فلا وجه لقياس متعلق الأحكام الوضعية والارادة الآمرية والبعث والتحريك على متعلق الارادة التكوينية أو متعلق الارادة الخارجية ، فلا حاجة إلى الجواب عن هذا القياس

ص: 275

بأن الأحكام من قبيل الامور الاعتبارية ، فيصح قيامها في عالم الاعتبار بأحد الأمرين ، بخلاف الارادة التكوينية والأفعال الخارجية ، فإنّ ذلك وإن صحّ في مثل الوجوب والملكية ونحوها من الأحكام الوضعية التي هي من الامور الاعتبارية ، إلاّ أنه لا يصح في البعث والتحريك ، فلاحظ وتدبر.

ثم إنّ ما ذكروه في بيع أحد العبدين من بطلان البيع لجهالة المبيع لا ينتقض ببيع الصاع من الصبرة ، لأن ذلك ليس من بيع أحد الصياع ، بل هو بيع صاع كلي في الذمة ، نظير ما لو باعه صاعا من حنطة البلاد الفلانية ، غايته أن دائرة ذلك الكلي في الذمة تتسع وتتضيق باعتبار المضاف إليه إلى أن تصل النوبة إلى صاع الحنطة من هذه الصبرة ، فيكون من قبيل الكلي في المعيّن وله آثاره. بخلاف ما لو نزّلناه على أحد الصوع الموجودة في هذه وصحّحناه وأغضينا النظر عن الجهالة بأن كان ذلك بطريق الصلح ، فإنّ له آثاره وهي الاشاعة ، لكنهم نزّلوا قوله « بعتك صاعا من هذه الصبرة » على الأوّل ، بخلاف ما لو افرزت الصوع وباعه واحدا منها أو صالحه عليه فانهم نزّلوه على بيع أحد الصوع ، فتترتب عليه آثاره من البطلان لو كان بطريق البيع.

والذي تلخص : هو أنّ الترديد إن كان في متعلق [ البيع ](1) كأن يقول « بعتك شيئا وهو إما هذا العبد وإما ذلك العبد » كان ذلك معقولا ، وإن كان باطلا من جهة جهالة المبيع بحيث لو أبدلناه لكان صحيحا ، بخلاف ما لو كان الترديد في نفس البيع بأن يقول « إني إما بعتك هذا العبد واما بعتك هذا العبد » كان غلطا وغير معقول. ولعله إليه يرجع ما يذكرونه من أنه لو كان المراد من أحدهما هو المفهوم كان معقولا ، ولو كان المراد هو مصداق

ص: 276


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

أحدهما كان غير معقول ، بأن يكون المراد هو أنه لا شبهة في أن البيع لا يقع على نفس المفهوم وإنما يقع على ما يحكيه ، ولكن إن وقع البيع على المحكي بمفهوم أحدهما بواسطة كونه مصداقا لأحدهما فكأن أحدهما طبيعة من الطبائع ، ويكون وقوع البيع على ما يحكيه مفهوم الطبيعة بواسطة ما فيه من كونه حصة من تلك الطبيعة كان ذلك معقولا. وإن جعلنا الطبيعة منظارا للمصداق وأوقعنا البيع على هذا المصداق أو على ذلك المصداق كان ذلك غير معقول ، لأنه حينئذ يكون لنا بيعان أحدهما واقع ابتداء على هذا العبد والبيع الآخر واقع على ذلك العبد. ونحن لمّا نقول بعتك أحد هذين العبدين نكون قد أوقعنا أحد البيعين ، وذلك غير معقول.

ولعل قولنا « بعتك هذا العبد أو هذا العبد » ظاهر في الوجه الثاني ، وهو وقوع البيع ابتداء على المصداق المردد ، الذي عرفت أنه يوجب التردد في نفس البيع بين كونه بيع هذا العبد أو كونه بيع ذلك العبد ، بخلاف قولنا « بعتك أحدهما » فانه ظاهر في الوجه الأوّل وهو وقوع البيع على هذا العبد أو على ذلك العبد بواسطة عنوان « أحدهما » المنطبق على كل منهما على البدل ، ويكون المبيع هو طبيعة أحدهما ، فلا يكون من التردد في البيع ، بل يكون من التردد في متعلقه الذي هو المبيع.

قوله : وأما الوجه الثالث فيرد عليه : أن مفهوم أحد الشيئين - إلى قوله : - لكنه قد عرفت إمكان تعلق التكليف بواقع أحدهما ، فتوسيط العنوان الانتزاعي يكون لغوا ... إلخ (1).

الذي حررته عنه قدس سره في بيان هذا الوجه ما هذا لفظه : ولا يرد عليه أن

ص: 277


1- أجود التقريرات 1 : 267 - 268 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

مفهوم أحدهما من المفاهيم الانتزاعية غير الصالحة لتعلق الطلب بها ، لأن المفاهيم الانتزاعية على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : ما كان محض صورة خيالية لا واقعية لها إلاّ في عالم المخيلة مثل أنياب الأغوال. ولا ريب في عدم معقولية تعلق الطلب بمثله.

النحو الثاني : ما يكون منتزعا من أمر واقعي مثل التقدم والتأخر ونحوهما ممّا ينتزع عن أمر واقعي ، وهو كون أحد الشيئين قبل الآخر زمانا أو مكانا. ولا ريب في صحة تعلق الطلب بمثل هذا.

النحو الثالث : ما يكون متوسطا بين النحوين الأولين ، وذلك مثل مفهوم أحد الأمرين الصالح للانطباق على كل منهما ، فانه باعتبار عدم المصداق المخصوص يكون مشابها للنحو الأوّل ، وباعتبار صلاحيته للانطباق على كل واحد منهما على البدل يكون ملحقا بالثاني ، ولأجل ذلك يصح تعلق الطلب به كما يصح أن يقع متعلقا للحكم الوضعي ، كالعتق والطلاق ونحوهما مما يمكن أن يكون مورده أحد الأمرين أو الامور. فإذا صح كونه موردا للأحكام الوضعية صح كونه موردا للطلب الوجوبي وغيره من الأحكام التكليفية بطريق أولى ، انتهى.

قلت : يمكن الفرق بين ما هو مورد الأحكام الوضعية وبين ما نحن فيه ، فان الأوّل يمكن أن يدعى كونه من قبيل النكرة على رأي صاحب الفصول (1) بخلاف الثاني فانه ليس المراد به ذلك المعنى ، وإلاّ رجع إلى ما يختاره شيخنا قدس سره ، بل المراد به مفهوم أحدهما الصالح للانطباق على كل منهما. والفرق بينه وبين النكرة على رأى صاحب الفصول هو دخول

ص: 278


1- راجع الفصول الغروية : 163 ، 102.

الخصوصيات الشخصية بناء على كونه من قبيل النكرة ، وعدم دخولها بناء على كون المراد به هو مفهوم الأحد لا مصداقه. فيكون الفرق بينهما هو الفرق بين المفهوم والمصداق. وهذا هو الفارق بين القولين أعني مختار شيخنا قدس سره والقول الثالث. والذي هو مورد الأحكام الوضعية هو ناحية المصداق ، ولأجل ذلك يقولون بأن بيع أحد العبدين يكون من بيع المجهول ، ولو كان المراد به هو المفهوم الكلي لم يكن مجهولا لأنه كلي طبيعي منحصر بفردين ، فهو نظير بيع عبد كلي موصوف ، لكنهم يقولون إن البيع لا يقع على مفهوم أحدهما لأنه لا واقعية له ، ولا على مصداقه لأنه مجهول ، فراجع كلمات شيخنا قدس سره (1) وغيره في باب البيع.

ومن ذلك كله يظهر لك أن ما في الحاشية (2) من اتحاد الوجه الأوّل مع هذا الوجه الثالث ، أشبه شيء بالخلط بين المصداق والمفهوم ، فان مرجع الوجه الأوّل إلى عالم المصداق ومرجع الوجه الثالث إلى عالم المفهوم ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر.

ثم إنا لو سلّمنا أن مفهوم أحد الشيئين من المفاهيم القابلة لتعلق الطلب بها ، إلاّ أنا نعلم قطعا أن هذا المفهوم أجنبي عن الملاك ، وإنما الذي هو منشأ الملاك والصلاح هو واقع أحدهما أو القدر المشترك الجامع بينهما ، فيدور الأمر بين الوجهين ، ويسقط الثالث ، والمتعين من الوجهين هو الثاني إن لم نقل بأن النزاع بين أرباب الوجهين المذكورين لفظي ، وإلاّ كان أحد الوجهين راجعا إلى الآخر.

ص: 279


1- منية الطالب 2 : 381.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش 1 ) : 268.

قوله : لا إشكال في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر إذا اخذ الاقل بشرط لا ... الخ (1).

أفاد قدس سره فيما حررته عنه ما هذا لفظه : بشرط أن يكون ذلك أعني أخذ الأقل بشرط لا أمرا عرفيا يساعد عليه الذوق العرفي ليمكن حمل التخيير عليه ، ومنه التخيير بين القصر والاتمام كما نص عليه أغلب الفقهاء. أما مثل التسبيحة الواحدة والأكثر فمما لم تساعد عليه الأدلة ، ولأجل ذلك لم يفت به إلاّ البعض. ثم إن لازم ذلك أن يكون تحقق الامتثال بالأقل مراعى بالخروج عن العمل بدون إلحاق الأكثر ، لا أنه يتحقق بمجرد الفراغ من الأقل ، إذ لا يتحقق الأقل بشرط لا ما دام يمكنه إلحاق الأكثر.

قلت : يمكن تعيّن الأقل بالنية فيما يكون من العبادات ، فيتحقق الامتثال به من دون حاجة إلى دعوى المراعاة والخروج عن المحل ، سيما إذا قلنا بأنّ التخيير بدوي لا استمراري فتأمل ، لإمكان أن يقال إنا وإن قلنا بكون التخيير استمراريا إلاّ أنه في مسألة الأقل والأكثر لا بدّ أن يكون بدويا ، لأن العدول في الأثناء من أحد العدلين إلى الآخر يحتاج إلى تغيير ما وقع عمّا وقع عليه ، ولم يعلم جريان العدول في مثل ذلك لكونه على خلاف القاعدة.

وكيف كان ، فلا تكون المسألة حينئذ من باب التخيير بين الأقل والأكثر بل من باب المتباينين كما صرّح به شيخنا قدس سره فيما حرره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي قدس سره فراجع (2). فلا يتوجه على شيخنا قدس سره ما في الحاشية (3) من رجوع ذلك إلى المتباينين ، لأنه قدس سره قد صرح بنفسه بذلك ،

ص: 280


1- أجود التقريرات 1 : 269 - 270.
2- فوائد الاصول 1 - 2 : 235.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 269 - 270.

وكأن هذا المحرر قد أغفله في الأصل فجعله إيرادا في الحاشية.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي فيما حرره عن شيخنا قدس سره : بقي في المقام التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو مع ملاحظة الأقل لا بشرط لا يعقل ، ومع ملاحظته بشرط لا بمكان من الامكان ، ويخرج حينئذ عن الأقل والأكثر لمباينة الشيء بشرط لا مع الشيء بشرط شيء كما هو واضح (1).

وقد وقع التمثيل لذلك في الكفاية (2) بالخط القصير والطويل ، واشترط عدم تخلل العدم ، ولم يعلم المراد من هذا الشرط ، فان الاشكال إنما هو من ناحية الامتثال ، وأنه عند تحقق حدّ الأقل يحصل به الامتثال فيكون الزائد لغوا. وهذا لا يدفعه عدم تخلل العدم والسكون ، وإنما يدفعه الأخذ بشرط لا. وهذا الأخذ كما يدفع الاشكال من ناحية الامتثال يدفعه أيضا من ناحية الملاك.

وحاصل الاشكال من ناحية الملاك بأنه بعد فرض كون الأقل حاصلا في ضمن الأكثر كيف يمكن أن يقال إن كلا من الأقل والأكثر مشتركان في ملاك واحد ، أو أن لكل منهما ملاكا مستقلا. ولا بدّ في الجواب عنه بأن الأقل بحدّه أعني بشرط لا لا يكون موجودا في ضمن الأكثر ، بل يكون مباينا له مباينة الشيء بشرط لا للشيء بشرط شيء.

وبه يندفع الاشكال من ناحية الامتثال ، لكنه يقع في محذور آخر وهو خروجه عن الأقل والأكثر ودخوله في التباين.

أما مسألة القصر والاتمام فيمكن القول فيها بالتباين الذاتي ، بدعوى أن ذات القصر مباينة لذات التمام ، لا من جهة كون القصر بشرط لا والتمام

ص: 281


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 235.
2- كفاية الاصول : 142.

بشرط شيء ، بل إن التباين بينهما ذاتي نظير التباين بين صلاة المغرب وصلاة العشاء ، فانّ ذات صلاة المغرب مباينة لذات صلاة العشاء ، لا لمجرد أنّ المغرب مأخوذ بشرط عدم الركعة الرابعة والعشاء بشرط وجودها ، فتأمل. كيف يكون ذلك والسلام على الثانية في القصر وعلى الثالثة في المغرب جزء منهما ، إلاّ أن يقال : إن السلام جزء على كل حال غايته أنه مخير بين الركعتين والسلام أو الاربع والسلام ، فلاحظ.

والخلاصة : هي أنه لو كان الأقل والأكثر ممّا هو قابل للايجاد الدفعي فالظاهر أنه يسهل الأمر في التخيير بينهما كما في الخط الدفعي القالبي ، وأما التدريجيات فالذي ينبغي أوّلا هو شرح الأكثر ، ولا ريب أنه عبارة عن الماهية بشرط شيء ، ولا ريب أن مقابله إنما هو الأقل وهو الماهية بشرط لا ، أينما كان هذان المفهومان ، سواء كان في مقام الاخبار أو في مقام الانشاء ، ولا خصوصية في هذه المقابلة لما إذا وقعا موقع التخيير الشرعي. وإلاّ فان الماهية لا بشرط لو قوبلت بالماهية بشرط شيء لم يكن الثاني هو الأكثر والأوّل هو الأقل ، بل كان الثاني من قبيل التعيين والأوّل من قبيل التخيير ، لأن الماهية لا بشرط وإن كان قسميا ، تنطبق خارجا على الماهية بشرط شيء وعلى الماهية الفاقدة لذلك ، هذا.

مضافا إلى ما عرفت من تصريح شيخنا قدس سره حسبما حرره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (1).

وبالجملة : أن مفهوم الأقل والأكثر أينما وجدا لا يكونان إلاّ من قبيل المتباينين. ونحن وإن قلنا بأنّ الأقل موجود في ضمن الأكثر إلاّ أنه ليس

ص: 282


1- تقدم في صفحة : 280.

الأقل بحدّه بل هو ذات الأقل ، وليس ذلك إلاّ الماهية لا بشرط ، فلاحظ.

ثم إنّه بعد أن رجع التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين الحدين نقول إن ذلك التخيير إن كان ناشئا عن ملاك واحد يقوم به كل من الحدين كان الوجوب في الحقيقة متعلقا بالقدر الجامع بين الحدين وهو الماهية لا بشرط القسمي ، فانها وإن كانت مباينة لكل من الحدين لحاظا إلاّ أنها وجودا قدر جامع بين الحدين. وإن كان ناشئا عن ملاكين ، ملاك يقوم به الماهية بحدها الأقلي ، وملاك آخر يقوم به الماهية بحدّها الأكثري ، وحينئذ يتأتى فيه ما قدّمناه (1) في التخيير الناشئ عن ملاكين.

ثم بعد هذا يقع الكلام في كيفية حصول المكلف على الحدّ الأوّل أو على الحد الثاني. وشيخنا قدس سره جعل ذلك مراعى بالخروج عن محل ذلك الواجب ، بأن يركع في مورد التخيير بين التسبيحات في قيام الركعة الثالثة أو الرابعة ، وكذلك رفع رأسه من الركوع بالنسبة إلى ذكر الركوع المفروض كون المكلف مخيرا فيه بين الأقل والأكثر. وذلك لا يخلو عن إشكال ، من جهة أن الماهية بحدها الأقلي لا يكفي فيها مجرد الاتيان بالذكر الواحد ورفع الرأس ، بل ان ذلك هو الماهية لا بشرط ، غايته أنه انطبق على ذلك الوجود المقرون بالعدم ، وإن كان دفع ذلك الاشكال واضحا ، لما عرفت من أن المراد بالأقل هو الأقل الخارجي ، وهو حاصل بوجود الذكر الواحد مع عدم إلحاق الزائد ، وليس المراد هو الأقل المفهومي ، فلاحظ.

وقد عرفت (2) إمكان الحصول على كل من الحدين بالنية ، وأنه ربما نافاه كون التخيير استمراريا ، لأن مقتضاه إمكان قلب ما تقدم من الماهية

ص: 283


1- في صفحة : 268 وما بعدها.
2- في صفحة : 278.

بحدّها الأقلي إلى الماهية بحدّها الأكثري ، فيكون عدوله من القصر إلى الاتمام بعد أن صلى ركعة واحدة موجبا لتحويل تلك الركعة من كونها جزء الأقل الذي هو القصر إلى جزئية الأكثر الذي هو الاتمام. وهذا ليس بمحال لو دل الدليل على أن المكلف مسلّط على ذلك التبديل بواسطة دليل استمرارية التخيير ، كما أنه أعني استمرارية التخيير خوّلته حق العدول عمّا سبق من الصوم بالغائه والعدول إلى إطعام ستين مسكينا. وعلى كل من هذين الطريقين أعني طريق المراعاة وطريق النية يندفع الاشكال في الحصول على الامتثال بالأكثر ، من دون حاجة إلى الالتزام بعدم تخلل السكون ، فلاحظ وتدبر.

ولا يخفى أنّ طريقة الاختلاف في النية تأتي في ذي الملاك الواحد كما تأتي في ذي الملاكين ، وأما طريقة المراعاة فلعلها لا تأتي في ذي الملاك الواحد ، لأنّ الواجب حينئذ هو الجامع بين الحدين وهو الطبيعة لا بشرط ، وهي تحصل قهرا عند تحقق الأقل ، فلا يبقى فيه مجال للزيادة فلا بدّ فيه من سلوك طريقة الاختلاف بالنية.

إلاّ أن الذي يظهر من الكفاية هو سلوكه طريقة المراعاة ، وذلك قوله قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فانه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام (1) ، ومع ذلك أجراها في ذي الملاك الواحد وذي الملاكين ، وذلك قوله : فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما

ص: 284


1- كفاية الاصول : 142.

كان هناك غرضان (1).

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الجامع ليس هو الطبيعة لا بشرط ، بل الجامع إنما هو القدر الجامع بين حدّ العدم وحدّ الوجود ، والعدم إنما يتحقق إذا لم يلحقه الزائد ، فترجع المسألة إلى المراعاة. لكن الجامع بين العدم والوجود غير معقول ، فلاحظ.

وهذا الثاني هو مراد الكفاية ، فانه ينفي كون الغرض مترتبا على الماهية لا بشرط ، وذلك قوله : نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد ، لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره (2) فانّ الأقل بهذا المعنى هو عين الماهية لا بشرط.

والذي تلخص من جميع ما حررناه : هو أن الأقل لا يكون موجودا في ضمن الأكثر حتى في مرتبة ذاته ، أما في الدفعيات فواضح ، وأما التدريجيات فكذلك إن كان المائز هو النية ، بل وكذلك الحال على المراعاة والدخول في الأجزاء اللاحقة مع عدم إلحاق الزائد ، في قبال ما لو كان الانتقال بعد إلحاق الزائد فانه أيضا لا يكون ذات الأقل موجودا في ضمن الأكثر ، بل كانا متباينين ، وإن كان الجامع بينهما هو الماهية لا بشرط القسمي أو المقسمي. وإذا رجعت المسألة إلى تباين العدلين تأتّى فيها ما تقدم (3) تفصيله في التخيير بين المتباينين من حيث وحدة الملاك وتعدده ، وكون الواجب هو أحدهما أو كل منهما مشروطا حدوثا أو بقاء بعدم الآخر ، فلاحظ.

ص: 285


1- كفاية الاصول : 142.
2- كفاية الاصول : 143.
3- راجع صفحة : 264 ، 270 - 271.

[ الوجوب الكفائي ]

قوله - في الوجوب الكفائي - : وتوضيح الحال فيه يحتاج إلى بيان مقدمة ، وهي أن الغرض من المأمور به تارة يترتب على صرف وجود الطبيعة ، وأخرى على مطلق وجوده أينما سرى ... الخ (1).

لا يخفى أن ما مرّ (2) في الواجب التخييري من وحدة الملاك تارة وتعدده اخرى مع فرض التزاحم بين الملاكات في مقام الاستيفاء الموجب لتزاحمها في مقام الجعل والتشريع متأت بعينه في الواجب الكفائي ، غير أنه في الواجب التخييري كان بالنسبة إلى فعل المكلف نفسه بمقابلته بفعله الآخر المعبّر عنه بعدله ، وفي الواجب الكفائي يكون ذلك بالنسبة إلى فعل أحد المكلفين بمقابلته بفعل المكلف الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ ملاك الواجب الكفائي مثل دفن الميت أو الصلاة عليه إن كان واحدا قائما بفعل واحد صادر من أحد المكلفين فقد تقدم (3) في نحوه من الواجب التخييري التردد بين كون القائم بذلك الملاك هو مصداق أحد الفعلين وكون القائم به هو القدر الجامع بين الفعلين ، فكذلك نقول هنا : إنه بعد فرض وحدة الملاك يكون التردد بين كون القائم به هو فعل أحد المكلفين بما أنه مصداق أحدهم ، وكون القائم به هو فعل القدر الجامع بين المكلفين. وإن شئت فقل : إن القائم به هو أحد أفعالهم أو أن

ص: 286


1- أجود التقريرات 1 : 270 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].
2- في صفحة : 249 وما بعدها.
3- في صفحة : 255 وما بعدها.

القائم به هو القدر الجامع بين أفعالهم ، وكما قلنا فيما تقدم من أنه لا بدّ من إرجاع الأوّل إلى الثاني ، نظرا إلى أن وحدة الأثر كاشفة عن وحدة المؤثر ، لا بدّ أن نقول هنا إن القدر الجامع هو المؤثر في الملاك لا أحدها المصداقي.

نعم بين المقامين فرق من جهة ثالثة ، وهي أنا في تلك المسألة لم نقل بورود الوجوب على القدر الجامع لعدم كونه معروفا لدى العرف ، ولأجل عدم كونه معروفا عندهم اضطررنا إلى القول بأن الوجوب وارد على مصداق أحدهما على البدل.

وفيما نحن فيه لا تأتي هذه الجهة ، لان الجامع بين أفراد الصلاة على الميت التي تقع من هذا المكلف ومن ذاك ، أمر واضح معروف لكل أحد ، وكذلك الجامع بين المكلفين أنفسهم ، بأن يكون الخطاب بالصلاة على الميت مثلا متوجها إلى القدر الجامع بين عامة المكلفين ، وهو المعبّر عنه في كلام شيخنا قدس سره (1) أن المكلف هو صرف الطبيعة لا كل واحد من أفرادها. وبناء على ذلك يكون المطلوب هو صلاة واحدة من صرف طبيعة المكلفين ، فان تركها الجميع عوقبوا جميعا ، لكنه على الظاهر عقاب واحد على عصيان واحد للتكليف بفعل واحد منبسط على عامة المكلفين ، لا عقابات متعددة على عصيانات متعددة ، ففرق بين ترك الجميع للصلاة على الميت وترك الجميع لصلاة الفجر من هذا اليوم مثلا ، ففي الأوّل لا يكون إلاّ عصيان واحد منبسط على الجميع ، وفي الثاني عصيانات متعددة حسب تعدد تكاليفهم وتعدد ملاكاتها.

ولو فعله الجميع دفعة واحدة مع فرض وحدة الفعل ، كما لو صلى

ص: 287


1- أجود التقريرات 1 : 271.

الجميع جماعة على ميت واحد وقلنا إن المجموع صلاة واحدة ، كان فعل الجميع إطاعة واحدة وامتثالا واحدا منبسطا على الجميع أيضا ، نظير ما لو اشترك الجميع برفع الحجر الواحد أو بدفع العدوّ عمّا يجب كفائيا دفعه عنه. وإن قلنا بأنها صلوات متعددة كان مقتضى وحدة الملاك ووحدة المكلف به هو الالتزام بكون واحد لا بعينه امتثالا ، وكون الباقي لغوا صرفا.

ويمكن أن يقال : إنه بعد أن كان المكلف هو صرف طبيعة المكلف الصادق على الواحد والكثير يكون الجميع امتثالا واحدا ، وإن كانت الأفعال متعددة ، فتأمل. هذا كله لو قلنا بوحدة الملاك.

أما لو قلنا بتعدد الملاكات وتزاحمها في مقام الجعل والتشريع ، وأن نتيجة ذلك التزاحم الآمري هو الوجوب على كل واحد مشروطا بعدم قيام الآخر به ، فانّ مقتضاه هو أنّهم لو تركوه جميعا كان كل واحد منهم عاصيا مستحقا للعقاب ، لأن نتيجة ذلك هو الوجوب التعيني على واحد منهم عند ترك غيره من المكلفين. ولو أقدموا جميعا على فعله دفعة واحدة كما لو صلّوا جميعا على الميت ، كان فعل كل واحد منهم مسقطا للوجوب على الباقي ، فيكون كل واحد قد فعله في مرتبة سقوطه عنه.

والحاصل : أن مقتضى القاعدة على هذا الوجه هو ما ذكرناه من أنه عند ترك الجميع يكون كل واحد منهم عاصيا ومستحقا للعقاب ، وأنه عند فعل الجميع يكون فعل كل واحد قد فعله في مرتبة سقوطه عنه بفعل الآخر. لكن لو ثبت أنهم جميعا يكونون مطيعين ممتثلين نقول إن ذلك كاشف عن أن السقوط بفعل الغير منوط باتمامه العمل ، بمعنى أنه لو شرع الغير في العمل وفرغ منه سقط التكليف عن الباقي ، بحيث كان إسقاط أحدها لملاك الآخر منوطا باتمام العمل ، فما دام لم يفرغ منه يكون ملاك

ص: 288

كل بحاله ويكون التكليف باقيا ، فيكون كل واحد منهم قد فعله في ظرف بقاء التكليف ، فيكون كل واحد منهم ممتثلا ومطيعا. وبذلك يندفع ما أورده المحشي في الحاشية ، فراجع (1).

مضافا إلى ما سيأتي (2) إن شاء اللّه تعالى من أنّ لنا أن نقول إن المسقط هو سبق أحدهما ، لا مجرد فعله ولو مقارنا مع الآخر.

وأما ما ذكره المحشي بقوله : فان كان الترك المفروض كونه شرطا في تعلق وجوبه بكل واحد منهم هو مطلق الترك ... الخ (3) ففيه : أن الترك بنفسه ليس بشرط في توجه التكليف على وجه يكون ملاك التكليف متوقفا عليه ، وإلاّ لكان فعل أحدهم كاشفا عن عدم الملاك بالنسبة إلى الآخر لا أنه مسقط له ، وحينئذ لا بدّ أن نقول : إن الترك إنما يكون شرطا في بقاء التكليف بمعنى أنه يجب عينا على كل واحد أن يفعل ، لكن بقاء هذا الوجوب يكون مشروطا بعدم إقدام أحدهم ، فلو أقدم أحدهم سقط التكليف عن الباقي ، لا أنه باقدام أحدهم ينكشف عدم التكليف من أول الأمر في الباقين ، وحينئذ فتوجه التكليف وتنجزه في حق كل واحد منهم لا ينافي سقوطه عن الجميع لو أقدم البعض على الفعل ، فلا معنى حينئذ للقول بأنّ « اللازم عند تحقق ذلك ( يعني الترك في برهة من الزمان ) أن يجب على كل مكلف أن يأتي به ولو مع فرض إتيان غيره به ، وهو خلاف ما فرض من سقوطه بفعل واحد منهم ... الخ » (4) فانك قد عرفت أن سقوطه

ص: 289


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 271 - 272.
2- راجع صفحة : 300 وما بعدها.
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 272.
4- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 272.

بفعل واحد منهم لا ينافي ثبوته في حق كل واحد منهم في ظرف تحقق تركه من كل واحد منهم. لكن لمّا كان الأغلب في الواجبات الكفائية هو وحدة الغرض والملاك كما في موارد الدفن والتغسيل بل في مثل الصلاة على الميت ، فان المطلوب والغرض هو أن يصلى على الميت وان لا يدفن بغير صلاة.

وهكذا الحال في جميع موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهما من الواجبات الكفائية ، مثل حفظ مال اليتيم والغائب ونحوها من الامور الحسبية هو حصول غاياتها ، فيكون الملاك واحدا ، ويكون المطلوب فعلا واحدا صادرا من واحد من المكلفين ، فلو قام به أحدهم سقط عن الباقين ، ولو لم يقم به أحد منهم كان الكل مسئولا عنه وهو معنى عقاب الكل ، أما أنه عقاب واحد منبسط على الكل ، أو أنه عقابات متعددة حسب تعددهم فذلك أمر آخر غير راجع إلينا. ومنه يعلم الحال فيما لو قام به الجميع.

أما لو تعدد الفعل منهم كما في مثل الصلاة على الميت ، فانه لا مانع من الالتزام بكون الكل ممتثلا امتثالا مستقلا ، بحيث تكون هناك امتثالات متعددة ، لا أنه امتثال واحد صادر من الكل. وهذا أيضا أمره سهل ، لأنه راجع إلى عالم الثواب والاطاعة.

قوله : ومثال ذلك فيما نحن فيه أنه لو فرضنا شخصين فاقدي الماء فوجدا في وقت الصلاة ماء لا يكفي لوضوئهما ... الخ (1).

لو لم يكن في البين إلاّ شخص واحد فلا إشكال على الظاهر في أنه

ص: 290


1- أجود التقريرات 1 : 273 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

يكون الوضوء واجبا عليه ، وبوجوب الوضوء عليه تجب عليه حيازة ذلك الماء من باب المقدمة ، وبذلك يكون تيممه منتقضا.

ولو انضم إليه شخص آخر مثله فحيث إنه قد اتفق أن الماء لا يكفي إلاّ لواحد منهما ، كان ذلك من باب اتفاق عدم إمكان الجمع بين التكليفين ، لكنه لا يوجب سقوط الملاك عن أحدهما ، بل يكون الملاك في كل منهما تاما ، غايته أنه لا يمكن أن يكون كل منهما مخاطبا بخطاب مطلق ، بمعنى أنه لا يصح أن يخاطب كل بالحيازة والوضوء خطابا مطلقا ، بل لا بدّ أن يكون الخطاب لكل منهما مشروطا بعدم سبق الآخر إلى ذلك ، من باب أن سبقه يكون مسقطا للخطاب في الآخر.

وحينئذ فقبل سبق أحدهما يكون كل منهما مخاطبا بذلك الخطاب المشروط ، وحيث إنه قبل السبق يكون الحكم والخطاب فعليا في حق كل منهما ، تكون فعلية ذلك الخطاب في حق كل منهما موجبة لانتقاض تيممه فيكون قد انتقض تيمم كل منهما. وحينئذ لو ترك كل منهما إلى أن خرج الوقت كان كل منهما عاصيا وقد انتقض تيممهما ، وهذا لا شبهة فيه.

كما أنه لو سبق أحدهما على وجه لم يكن مجال للآخر أن يحوز الماء لنفسه ، كان ذلك موجبا لانتقاض تيمم خصوص من سبق ، وكان من لم يكن له مجال للسبق على تيممه.

وإنما الاشكال فيما لو حصل المجال لكل منهما ومضت مدة على ذلك ثم سبق أحدهما إليه.

والذي ينبغي هو القول بأنه يكون كل منهما قد حصل في حقه فعلية وجوب الوضوء والحيازة ، وبذلك ينتقض تيمم كل منهما. نعم لو بعد ذلك حصل السبق من أحدهما لزمه الوضوء بذلك الماء ، وكان على الآخر اعادة

ص: 291

تيممه ، فهو نظير ما لو تمكن من الماء ومضت مدة على تمكنه منه ثم اتفق أن تلف ذلك الماء ، فان تأخر التلف لا يوجب انحفاظ تيممه ، بل يكون تيممه قد انتقض بذلك التمكن ، ويكون سقوط الوضوء عنه بعد التلف من قبيل السقوط بالعصيان.

ومن ذلك تظهر لك الخدشة فيما في الحاشية (1) من التفصيل بين صورتي سبق أحدهما وعدم سبقه ، إلاّ أن يكون المراد من السبق هو السبق على النحو الأوّل ، أعني ما لم يحصل للآخر مجال الحيازة.

نعم إن ما أفاده شيخنا قدس سره من التفكيك بين الجهات الثلاثة أعني انتقاض التيمم ووجوب الوضوء ووجوب الحيازة ، لعله قابل للتأمل المومأ إليه في الحاشية ، لأن الانتقاض فرع التمكن من استعمال الماء ، وهو محقق لوجوب الوضوء الملازم لوجوب الحيازة ، فراجع ما حررناه سابقا (2) على ما نقلناه عن شيخنا قدس سره وتأمل.

فما يظهر من شيخنا قدس سره من توقف وجوب الوضوء على تحقق الحيازة قابل للتأمل ، لما عرفت من أن الحيازة واجبة مقدميا للوضوء كوجوب الشراء ونحوه. بل يمكن أن يقال : إن الوضوء لا يتوقف على الحيازة بل يكفي فيه إباحة الماء إباحة شرعية ، وحينئذ يصح وضوءه منه وإن لم ينو حيازته ولا تملكه كما لو كان الماء لشخص وأباحه للوضوء. ولعل إدخال الحيازة في المقام من جهة كون حيازة أحدهم تكون موجبة لمنع الآخرين بواسطة صيرورة الحائز مالكا للماء.

ص: 292


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 273.
2- [ لعله قدس سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة وتأتي الإشارة إليها في الصفحة : 293 - 294 ].

وعلى أيّ حال أن التمكن من الوضوء لا يتوقف على فعلية الحيازة بل يكفي فيه التمكن من الحيازة ، نظير من تمكن من شراء الماء ، وحينئذ نقول إنهم لو بادروا إلى الحيازة فسبق أحدهم انكشف تمكنه وحده وعدم تمكن الباقين ، وبقاء الجميع على تيممه ما عدا السابق منهم. ولو تماهلوا ومضت مدة كان كل منهم متمكنا من حيازة الماء فيها انتقض تيمم الجميع ، ثم لو سبق بعد ذلك أحدهم وجب عليه الوضوء ووجبت على الباقي إعادة التيمم.

قال في الجواهر : ولو وجد جماعة ماء في المباح لا يكفي إلاّ أحدهم ففي المنتهى (1) انتقض تيممهم جميعا ، لصدق الوجدان على كل واحد. وينبغي تقييده بما إذا حصل التمكن من استعماله للجميع ، أما لو تبادروا إلى حيازته فسبق أحدهم انتقض تيممه خاصة. وإن لم يسبق بل تساوى الجميع لم ينتقض تيمم أحد منهم إلاّ مع بذل الشركاء نصيبهم لواحد. نعم لو كان معهم جنب وقلنا باختصاصه شرعا بحيث ليس لغيره المزاحمة له اختص النقض به ، فاطلاقه ذلك لا يخلو من تأمل (2).

فتراه جعل المدار على التمكن من الاستعمال. أما تكلمه في الحيازة فانما هي من جهة أنه لو حازه أحدهم صار ملكا له ، وكان ذلك موجبا لسقوط الوضوء عن الآخرين ، سواء أراد ذلك الحائز الوضوء به أو أنه لم يرد ذلك. نعم إن كانت حيازته بعد مضي مدة يمكن فيه للغير حيازته انتقض تيمم ذلك الغير أيضا. ولو سبق على وجه لم يحصل للغير برهة يتمكن فيها من حيازته لم ينتقض تيمم ذلك الغير ، واختص الانتقاض بمن

ص: 293


1- منتهى المطلب 3 : 158.
2- جواهر الكلام 5 : 265.

سبق على الوجه المذكور.

والذي حررته عن شيخنا قدس سره في هذه المسألة يظهر منه أن جلّ نظره قدس سره إلى حالة مسابقتهم إلى الحيازة ، وأن الحيازة في ذلك الحال واجبة بوجوب مستقل من باب المقدمة المفوّتة ، وهو أعني هذا الوجوب مشروط بعدم سبق الغير ، وإلاّ فلو سبق الغير سقط وجوب الحيازة عن الباقين لعدم بقاء الموضوع. أما وجوب الوضوء على كل واحد منهم فهو مشروط بأن يكون هو السابق ، لأن ذلك الحال أعني حال المسابقة ليس بحال وجدان الماء ، لأن المفروض هو المسابقة إلى وجدانه ، فلا يجب إلاّ حيث يتحقق الوجدان الفعلي ، ولا يتحقق الوجدان الفعلي إلاّ بالسبق ، فيكون وجوب الوضوء على كل واحد منهم مشروطا بأن يكون هو السابق. ولكنه قدس سره مع ذلك حكم بانتقاض تيمم الجميع ، لأن الانتقاض لا يتوقف على فعلية الوجدان الذي هو القدرة ، بل يكفي فيه إمكان القدرة. وهو محل تأمل ، لأن الظاهر أن الانتقاض تابع لفعلية الوجدان ، فراجع ما حررناه عنه قدس سره في هذا المقام وما حررته عليه هناك ، فتأمّل.

قال قدس سره فيما حررته عنه : والحاصل أن الصور الثلاث التي تقدمت الاشارة إليها في الواجب التخييري متأتية بعينها في الواجب الكفائي ، غاية الأمر أنها في الواجب التخييري جارية في ناحية المكلف به ، وفي الواجب الكفائي جارية في ناحية المكلف ، حيث إن الغرض أعني ملاك التكليف قد يكون غرضا واحدا قائما بصدور الفعل عن أحد المكلفين ، فيكون المطلوب منه ذلك الفعل هو صرف طبيعة المكلف ، بحيث إذا صدر ذلك الفعل من أحد منهم حصل الغرض الذي هو ملاك الأمر ، ولا يبقى محل لأفعال الباقين.

ص: 294

وقد يكون هناك أغراض وملاكات متعددة قائمة بفعل كل واحد من المكلفين ، ولكن تلك الأغراض والملاكات متزاحمة لا يمكن استيفاؤها أجمع ، وإنما يمكن استيفاء واحد منها ، فلا يمكن أن يكون المؤثر إلاّ واحدا منها ، فيكون ذلك موجبا لتعلق الطلب بفعل واحد من المكلفين ، فيكون المطلوب منه ذلك الفعل هو صرف طبيعة المكلف ، فاذا صدر الفعل من أحدهم لم يمكن استيفاء الأغراض الأخر ، فيعود إلى النحو الأوّل ، ويكون الوجوب في كلا النحوين كفائيا.

وقد يكون هناك أغراض متعددة حسب تعدد أفعال المكلفين بحسب تعددهم ، ولكن يكون فعل أحدهم مانعا من قدرة الآخر على الفعل ، كما لو كان جماعة متيممين وحصل فيما بينهم ماء مباح لا يكفي إلاّ لطهارة أحدهم.

وفي مثل هذه الصورة أعني ما لو كان من قبيل تعدد الملاك ولم يكن بينها تزاحم وتدافع ، وإنما يقع التدافع والتزاحم بين الخطابين في مقام الامتثال ، على وجه يكون امتثال أحد المكلفين لذلك الخطاب موجبا لسلب قدرة الآخرين على امتثاله ، فقهرا يكون كل من اولئك المكلفين مكلفا بذلك الفعل تكليفا عينيا ، ولكن يكون تكليف كل واحد منهم مشروطا بعدم صدور ذلك الفعل من الآخر ، فيتوافق في النتيجة مع الواجب الكفائي ، وإن كان أصل الوجوب عينيا كما ذكرنا من المثال بالمتيممين الواجدين لمقدار من الماء المباح الذي لا يكفي إلاّ لطهارة أحدهم ، فان كل واحد منهم يكون مكلفا تكليفا عينيا بحيازة ذلك الماء ولكنه مشروط بعدم سبق الآخر إلى حيازته ، وبعد أن يحوزه أحدهم يتوجه إليه الأمر بالوضوء ، فيكون توجه الأمر بالوضوء مشروطا بتحقق الحيازة منه لذلك الماء ،

ص: 295

ويكون وجوب الحيازة عليه مشروطا بعدم سبق الآخر إلى حيازته ، لا أن وجوب الوضوء يكون مطلقا وتكون حيازة الماء مقدمة للوضوء فيكون وجوبها أيضا وجوبا مطلقا لكونه حينئذ تابعا لوجوب ذيها ، فان وجوب الوضوء إنما يتوجه إلى من كان واجدا للماء ، وواجدية كل واحد منهم للماء في هذه الصورة إنما تتحقق عند عدم حيازة الآخر له الذي هو شرط لوجوب الحيازة عليه ، فيكون وجوب الحيازة وجوبا مستقلا ، ويكون وجوبه مشروطا بعدم حيازة الآخر ، ويكون وجوب الوضوء مشروطا بحيازة ذلك الماء لأنه لا يتوجه إلاّ لمن حازه منهم ، انتهى.

قلت : لا يخفى أن هذا النحو الأخير الذي أفاده قدس سره أعني ما يكون فيه أحد التكليفين مشروطا بعدم حصول متعلق الآخر ، لا يمكن أن يتأتى فيما لم يكن في البين إلاّ ملاك واحد ، سواء كان الملاك واحدا أصالة أو كان واحدا بواسطة تزاحم الملاكين.

أما أوّلا : فلأن مقتضى كون الملاك واحدا أن لا يكون منشأ إلاّ لخطاب واحد متعلق بأحد الفعلين على البدل في الواجب التخييري ، أو موجه إلى أحد المكلفين أو صرف طبيعة المكلف في الواجب الكفائي ، دون كون أحد الخطابين مقيدا بعدم حصول متعلق الآخر ، فانه وإن كان موافقا في النتيجة للخطاب التخييري أو الكفائي إلاّ أن ظاهر الواجب الكفائي والتخييري هو أن يكون ناشئا عن ملاك واحد ، وظاهر الخطاب المشروط بعدم حصول متعلق الآخر أن يكون هناك ملاكان وتكليفان ، ولأجل عدم إمكان امتثال كلا التكليفين كان أحدهما مشروطا بعدم حصول متعلق الآخر.

وأما ثانيا : فلأن مقتضى الخطاب المشروط بعدم حصول متعلق

ص: 296

الآخر هو فعلية كلا الخطابين في مورد عدم حصول متعلق كل منهما ، وهذا لا يجتمع مع كون الملاك واحدا ، إذ الملاك الواحد لا يعقل أن يكون منشأ لخطابين فعليين في حال من الأحوال ، فلا بد أن يكون الخطاب المشروط بما ذكرنا ناشئا عن ملاكين غير متزاحمين ، وانما يكون التزاحم بين نفس الخطابين. وهذا مقتبس مما افاده قدس سره خارج مجلس الدرس.

وأما ما أفاده شيخنا قدس سره من أن المكلف هو صرف طبيعة المكلف فلعله لا يخلو عن إشكال ، لأن صرف الطبيعة من المكلفين غير قابلة لأن يتوجه إليها الخطاب بل ولا التكليف.

وينبغي أن يعلم أن صاحب الكفاية قدس سره (1) قد التزم هنا بأن كل واحد مكلف مع السقوط بفعل أحدهم ، لكنه في الواجب التخييري (2) أنكر ذلك ومنعه ، وقد عرفت (3) أن السقوط بفعل البعض هو عين ما سلكه من الاختلاف بالهوية ، وأن مرجع الجميع إلى الاشتراط بقاء بعدم سبق الآخر.

وأما ما أفاده في آخر العبارة بقوله : « وسقوط الغرض بفعل الكل كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد » فقد عرفت أنه مع وحدة الملاك والغرض كما هو المفروض يكون الجميع امتثالا واحدا ، لكون الجامع هو صرف الطبيعة الحاصل بأفعال الكل ، فلا حاجة إلى التعليل بكونه من توارد العلل المتعددة على معلول واحد. اللّهم إلاّ أن يكون المراد أنه عند اجتماع العلل المتعددة على معلول واحد يكون المؤثر هو القدر الجامع بينها ، وهو هنا صرف الطبيعة. وظني أن هذا هو مراده قدس سره وإلاّ كان

ص: 297


1- كفاية الاصول : 143.
2- كفاية الاصول : 140 - 141.
3- راجع صفحة : 266 - 267.

نقضا لما تقدم منه في الواجب التخييري ، أعني قوله : وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، إلخ (1) فانّه كما لزمه هناك الالتزام بوجود الجامع فكذلك يلزمه هنا ، وليس هو هنا إلاّ صرف الطبيعة. ولا يخفى أن الجامع هنا أسهل منه هناك لكونه هنا عرفيا وهو صرف الطبيعة بخلافه هناك ، فلاحظ وتدبر.

وعلى كل حال يكون الواجب الكفائي الناشئ عن ملاك واحد مساويا لما يكون ناشئا عن تعدد الملاك في سقوطه عن الباقين لو فعله البعض منهم ، وفي استحقاق الجميع للعقاب لو تركه الكل ، وفي حصول الامتثال للجميع لو فعله الكل دفعة واحدة ، غايته أنه في ذي الملاك الواحد امتثال واحد وفي ذي الملاكات امتثالات متعددة ، لكن لازمه ما عرفت من كون كل واحد من المكلفين مكلفا بأمر واحد وهو صرف الطبيعة. ولعله لا يخلو من إشكال عدم المعقولية ، فلا بدّ أن ننزل الواجبات الكفائية على تعدد الملاك حتى فيما لو كان فعل أحدهم رافعا لموضوع فعل الآخرين كما في الدفن.

ولعل تخيل كون ذلك من قبيل ذي الملاك الواحد أو ذي الغرض الواحد قد نشأ من هذه الجهة ، أعني كون فعل أحدهم رافعا لموضوع الفعل الآخر ، فيتخيل المتخيل أن الملاك واحد ، فلاحظ وتدبر.

ولا يبعد أن ندعي أن أغلب الواجبات الكفائية من هذا السنخ ، أعني مما يكون فعل أحد المكلفين رافعا للموضوع من الآخرين ، حتى في مثل الصلاة على الميت ، إذ ليس المطلوب إلاّ صلاة واحدة على وجه لو قلنا بتشريع التكرار لم يكن إلاّ مستحبا لا واجبا.

ص: 298


1- كفاية الاصول : 141.

والخلاصة : هي أنّ لنا في الواجب الكفائي آثارا ثلاثة : سقوطه بفعل البعض ، معاقبة الجميع عند تركهم ، امتثال الجميع عند فعلهم. وهذه الآثار يمكن الجمع بينها بما تقدم من تعدد الملاك ، أما مع وحدته فقد عرفت أنه لو أمكن لكان جامعا لهذه الآثار الثلاثة ، لكنه يتوقف على الالتزام بكون المطلوب هو صرف الطبيعة من كل واحد من المكلفين ، كما التزم به بعض أجلّة العصر فيما نقله عنه بعض مقرري بحثه ، لكن الايراد الذي أورده على صاحب الكفاية بقوله : إن الغرض من الواجب إن كان يحصل بفعل الواحد فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع ، وإن كان لا يحصل إلاّ بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد ... (1) وارد عليه ، فانه يقال على مسلكه إن صرف الطبيعة إن كان يحصل بفعل الواحد فلا وجه لتوجه التكليف إلى الجميع. وكأنه لهذه الجهة قد التزم شيخنا قدس سره بأن المطلوب منه هو صرف طبيعة المكلف كما في هذا التحرير (2) ، أو أن المطلوب منه هو أحد المكلفين على نحو نكرة الفصول (3) كما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (4). وجميع هذه الويلات جاءت من ناحية الالتزام بوحدة الملاك ، فلو منعناه والتزمنا بتعدده استرحنا منها ، فلاحظ وتدبر.

هذا ما كنا حررناه سابقا ، ولكن لتوضيح الحال ينبغي مقايسة الواجب الكفائي بالواجب التخييري ، ويجعل الكلام تارة في فرض تعدد الملاك واخرى في فرض وحدته ، فنقول بعونه تعالى : أما في صورة تعدده

ص: 299


1- نهاية الاصول 1 : 229.
2- أجود التقريرات 1 : 271.
3- راجع الفصول الغروية : 163 ، 102.
4- فوائد الاصول 1 - 2 : 236.

فقد عرفت إمكان تصويره بصور أربعة :

الاولى : ما لو كان كل من الفعلين من أحد المكلفين رافعا لموضوع الفعل من الباقين ، كما في دفن الميت.

والثانية : ما لو وقع التزاحم من جهة القدرة الشرعية ، كما لو لم يكن في البين إلا ماء واحد وقد ابتلي به جماعة من المتيممين.

الثالثة : ما لو كان سبق أحدهم رافعا لملاك الفعل من الآخرين.

الرابعة : ما لو كان سبق أحدهم موجبا لعدم حدوث الملاك في فعل الآخرين.

وفي الصورة الاولى يكون كل واحد منهم مكلفا ولكن يسقط التكليف عنه بفعل أحدهم ، على معنى أن كل واحد مكلف مع الترخيص بالترك عند سبق أحدهم ، فلو تركوه عوقبوا ، ولو فعله البعض سقط عن الباقين. ولا يتصور في ذلك قيام كل واحد إلاّ بالاشتراك في الدفن الواحد ، فلا تتأتى فيه شبهة أن فعل كل واحد مقرون بمسقطه ، لما عرفت من أن المسقط إنما هو السبق.

وأما الصورة الثانية فحكمها كذلك ، غير أن السبق هنا إن قلنا بأنه مسقط لقدرة الباقين كان ذلك موجبا لانتقاض تيمم الجميع. وإن قلنا بأنه كاشف عن عدم حدوث القدرة لهم لم يكن موجبا لانتقاض تيممهم كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

ومن ذلك يظهر لك الحال في الصورة الثالثة والرابعة ، فيرجع الوجوب الكفائي فيهما إلى الوجوب العيني ، غير أن سبق أحدهم إلى الفعل يكون موجبا لسقوط التكليف عن الباقين على الصورة الثالثة ، ويكون كاشفا عن عدم حدوث التكليف لهم على الصورة الرابعة. ولو أتوا به دفعة واحدة

ص: 300

كان كل منهم ممتثلا ، ولم يكن من قبيل الاقتران بالمسقط ولا من قبيل الاقتران بما يوجب عدم حدوث التكليف ، لما عرفت من أن المسقط أو ما يكون عدمه شرطا في حدوث التكليف هو سبق أحدهم إلى الفعل ، لا مجرد الاتيان به ولو مقارنا لفعل الآخرين ، هذا كله في صورة تعدد الملاك.

وأما لو فرضنا الملاك واحدا فالذي ينبغي فيه أيضا هو القول بالوجوب على كل منهم مع السقوط بسبق أحدهم ، غير أنه عند الاتيان به منهم دفعة واحدة يكون من قبيل الامتثال الواحد من الجميع لا امتثالات متعددة ، لأن وحدة الملاك توجب كون المطلوب هو القدر الجامع بين الأفعال وهو صرف الطبيعة ، وقد حصل ذلك أعني صرف الطبيعة في ضمن الأفراد المتعددة دفعة واحدة. وفي الحقيقة يكون المكلف به هو صرف الطبيعة ، ويكون المكلف بذلك هو كل واحد من المكلفين.

ولا يخفى أنه لمّا كان المنظور إليه هو حال مسابقتهم إلى حيازة الماء كان وجوب الوضوء على كل منهم مشروطا بأن يكون هو السابق إلى حيازته ، أو بأن لا يسبقه غيره إلى ذلك. وفي هذه المرحلة تكون الحيازة مقدمة للوضوء ، فيكون وجوبها أيضا من هذه الناحية مشروطا بذلك كنفس ذي المقدمة الذي هو الوضوء ، ولكن مع ذلك تكون الحيازة واجبة على كل واحد منهم ، وهذا الوجوب هو الذي يبعث كل واحد منهم إلى المسابقة إلى الحيازة ، فلا بدّ أن نقول إنه وجوب مستقل من باب حرمة تفويت المقدمة.

وإنما نقول إن هذا الوجوب الاستقلالي للحيازة مشروط بعدم سبق الغير لأنه لو سبقه الغير ارتفع موضوع المسابقة ، فيكون سبق الغير حينئذ

ص: 301

مسقطا عن الباقين لبقائه بلا موضوع. ولكن مع ذلك كله لا يكون الانتقاض في هذه الصورة مطلقا ، بل إن الانتقاض في هذه الحالة أعني حالة المسابقة أيضا مشروط بأن يكون هو السابق ، أو أن لا يسبقه غيره بحيث إنه تسنح الفرصة لكل منهم في الحيازة وتوانى فيها.

ص: 302

[ الواجب الموسع والمضيّق ]

قوله : ثم إن مقتضى القاعدة ... الخ (1).

قلت : توضيح هذا البحث أو تلخيصه أوّلا : أنه قد يقال : كيف يمكن أن يكون الزمان قيدا في الفعل المأمور به مع أنه غير مقدور؟ والجواب : أنه يمكن ذلك بأحد وجوه :

أحدها : ما تقدم (2) من أن أخذ الزمان في الوجوب يوجب أخذه في الواجب ، وأن ما هو شرط للوجوب يكون شرطا للواجب ، فان جميع القيود راجعة إلى المادة ، غير أنه إذا كان المقيد هو نفس المادة كان الوجوب مطلقا وكان القيد واجب التحصيل. وإن كان المقيد هو المادة بلحاظ طروّ الطلب عليها كان الوجوب مشروطا وكان القيد غير واجب التحصيل ، وتقييد الفعل الواجب بالزمان يكون من هذا القبيل.

ثانيها : أن يقال إنا لو سلّمنا أن ما هو قيد الوجوب لا يلزم منه كونه قيدا للواجب ، نقول إذا قيل إذا زالت الشمس فصلّ كان دخول الزوال شرطا في وجوب الصلاة ، ولكن تبقى مطلقة بحيث إنه لو لا الفورية لجاز فعلها بعد الغروب ، فلو دل الدليل على انحصار وقتها بما بين الزوال والغروب

ص: 303


1- أجود التقريرات 1 : 276 [ وسيأتي منه قدس سره تعليقة اخرى على هذه العبارة في صفحة : 309 ].
2- راجع ما تقدم في صفحة : 43 ، وقد تقدم شرح مسلك الشيخ قدس سره من رجوع القيود إلى المادة في الصفحة : 19 وما بعدها.

كان ذلك الوقت قيدا لنفس الواجب ، ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، فان المفروض أن التكليف قد توجه إليه عند الزوال ، فلو كان المكلف به هو ايقاع الصلاة في هذا الوقت إلى ما قبل الغروب لم يكن ذلك تكليفا بغير المقدور أعني الفعل المقيد بالزمان ، إذ المفروض أن التكليف به قد توجه إليه عند تحقق ذلك الزمان ، وإنما يكون غير مقدور لو كان التكليف بذلك الفعل المقيد بذلك الزمان قد توجه إليه قبل تحقق ذلك الزمان ، بأن يكلف عند الصبح بالصلاة المقيدة بالزوال مثلا.

ثالثها : أن لا نلتزم بهذا ولا بذاك ، بل نقول إن التكليف قد تعلق ابتداء بالصلاة المقيدة بكونها واقعة بما بين الزوال إلى غروب الشمس كما هو مفاد الآية الشريفة ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) بناء على رجوع هذا القيد إلى نفس الصلاة لا إلى وجوبها المستفاد [ من ] ( أَقِمِ ) . لكن لمّا كان هذا القيد غير داخل تحت قدرة المكلف كان العقل حاكما بأن وجوب الصلاة المذكورة مقيد بالقدرة عليها ، وينحصر ذلك بتحقق الزوال ، وهذا معنى ما تكرر من الاستاذ قدس سره (2) من أنّ شرطية الزمان في الوجوب قد تكون من جهة القدرة ، فيكون الزمان شرطا في الوجوب خطابا لا ملاكا.

ثم نقول ثانيا : إنه بعد أن ثبت كون الزمان قيدا في الفعل الواجب بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة يقع الكلام في أنه لو انقضى الزمان المذكور ولم يتحقق فيه الاتيان بالفعل المذكور ، فهل يلزم الاتيان به في خارجه أو لا يجب ذلك إلاّ بدليل؟ والأوّل مبني على كون القضاء بالأمر السابق ،

ص: 304


1- الاسراء 17 : 78.
2- راجع أجود التقريرات 1 : 209 ، وراجع أيضا صفحة : 41 - 42 من هذا المجلد.

والثاني مبني على كونه بالأمر الجديد. ولو شك في وجوب القضاء كان المرجع على الأوّل أصالة الاشتغال ، وعلى الثاني أصالة البراءة.

والأوّل أعني كون القضاء بالأمر السابق لا يتم إلاّ بالالتزام بأحد وجهين :

أولهما : أن يكون التقييد بالزمان من باب تعدد المطلوب ، ولازم هذا المعنى - أعني كون التقييد من باب تعدد المطلوب - أنه لو تعمد في ترك القيد وجاء بالفعل مجردا عن القيد يكون ذلك الفعل مسقطا للأمر المتعلق به ، غايته أنه يكون مطيعا في ذلك وعاصيا في ترك القيد الذي هو الواجب الآخر. وهذا اللازم لا ريب في بطلانه في مثل قيدية الساتر والجهر والاخفات ونحو ذلك من القيود ، إلاّ أنه يمكن الالتزام به في قيدية الوقت ، بأن نقول لو ترك الصلاة في وقتها عمدا وجاء بها في خارج الوقت كان مطيعا في أصل الفعل عاصيا في ترك القيد الذي هو الزمان.

ولكن مع ذلك فان حمل التقييد ولو بمثل الزمان على تعدد المطلوب خلاف ما يقتضيه طبع التقييد من وحدة المطلوب ، سواء كان التقييد لبيا أو كان لفظيا ، متصلا كان أو منفصلا ، كان له إطلاق أو لم يكن ، من دون فرق في ذلك بين كون دليل الواجب مطلقا أو كونه لا إطلاق له.

وبالجملة : أن هذا الوجه أعني حمل التقييد على تعدد المطلوب ينفيه نفس التقييد ، فلا يمكن الالتزام به لتصحيح كون القضاء بالأمر السابق.

الوجه الثاني : أن يقال إن الزمان وإن كان قيدا للواجب ، ومقتضى قيديته كونه على نحو وحدة المطلوب ، إلاّ أنه يمكن حمل التقييد به على القيدية الخاصة ، أعني أنه يكون قيدا عند التمكن من القيد ، وعند التعذر يكون القيد ساقطا ، كما هو الشأن في القيود غير الركنية مثل الساتر ونحوه.

ص: 305

وهذا المعنى أعني الحمل على القيدية الخاصة أعني القيدية عند التمكن من القيد ، يلزمه أنه لو انقضى الزمان ولم يأت بالفعل فيه يلزمه الاتيان به في خارجه لتعذر القيد حينئذ ، سواء كان الترك في الوقت اختياريا أو كان اضطراريا.

وفي كون الحمل على هذه القيدية منافيا لطبع التقييد أو كونه منافيا لاطلاقه محل تأمل وإشكال ، ولكنا في غنى عن التمسك للحكم بنفي هذا الاحتمال بطبع التقييد أو باطلاقه ، وذلك لامكان الحكم بنفي هذا الاحتمال فيما نحن فيه بطريق آخر ، وهو أن حمل القيد على القيدية الخاصة أعني كون التقييد مختصا بحال التمكن من القيد وإن كان ممكنا في مثل الساتر ونحوه ، إلاّ أنه فيما نحن فيه من قيدية الزمان غير ممكن ، لأن التمكن من تحصيل القيد المذكور منحصر بوجود الزمان ، فيرجع القول بكون الزمان الخاص قيدا في الصلاة في خصوص حال التمكن منه إلى القول بكون الصلاة مقيدة به في حال كونها مقيدة به ، ويكون ذلك من تحصيل الحاصل ، فلا يكون لتقييد الصلاة بالزمان المذكور أثر أصلا. ولا يرد هذا الاشكال لو قلنا إن القيدية المذكورة مطلقة ، لما هو واضح من تحقق الأثر للقيدية المطلقة وهو سقوط الأمر بها عند انقضاء الزمان.

ولو منع من هذا الاطلاق من جهة عدم إمكان التقييد لقلنا يكفي كونه من باب نتيجة الاطلاق وإن لم يكن من الاطلاق اللحاظي.

وعلى أيّ حال فقد ظهر لك أنه لا معنى للتمسك بالاطلاق بناء على مسلك وحدة المطلوب وتعدده ، وإنما يجري ذلك بناء على مسلك اختصاص التقييد وإطلاقه ، لكن هذا المسلك لا يتأتى في قيدية الوقت ، لما قد عرفت من عدم إمكان اختصاص القيدية فيه.

ص: 306

ومنه يظهر الاشكال فيما أفاده في الكفاية (1) من التمسك باطلاق الأمر على إثبات كون التقييد بنحو تعدد المطلوب.

وبالجملة : إن أراد من التمسك باطلاق الأمر نفي احتمال وحدة المطلوب فقد عرفت أن مسألة وحدة المطلوب وتعدده لا تنحل بالاطلاق من ناحية الأمر ، ولا بالاطلاق من ناحية التقيد. وإن أراد بذلك نفي احتمال إطلاق القيدية ، ففيه ما عرفت من أن قيدية الزمان لا يحتمل فيها الاختصاص كي ينفي ذلك باطلاق القيدية أو يثبت باطلاق الأمر ، فتأمل. ويكون محصّل التقييد حينئذ هو لزوم الاتيان بالصلاة في وقتها ولا يجوز الاتيان بها في خارج الوقت.

وحيث قد تحقق بطلان هذين الاحتمالين يظهر لك سقوط القول بكون القضاء بالأمر السابق ، ويتعين كونه بالأمر الجديد ، لكن لا يلزم منه أن يكون ذلك لمصلحة جديدة كي يكون القضاء من قبيل الكفارة وسجود السهو ونحوهما ، كي يقال إن ذلك خلاف ظاهر أدلة القضاء ، بل يمكن أن يكون لمصلحة ضعيفة باقية من المصلحة الاولى ، وهذه المرتبة الباقية من المصلحة تكون مقتضية للأمر بالفعل في خارج الوقت ، ويكون ما يظهر من أدلة القضاء من كونه إتيانا لما وجب سابقا محمولا على ذلك ، أعني أنه بمرتبة ضعيفة من المصلحة السابقة. هذا حاصل البرهان على ما أفاده قدس سره من كون القضاء بالأمر الجديد.

وأما ما في التقريرات المطبوعة (2) من تأييده بالزمان الفاصل مثل الليل بالنسبة إلى قضاء الصوم فلا يخفى ما فيه ، فان أصل الوجوب متعلق

ص: 307


1- كفاية الاصول : 144.
2- أجود التقريرات 1 : 278.

بالصوم نهارا ، والقيد هو كون ذلك الصوم النهاري واقعا في يوم الجمعة مثلا ، فإذا مضى ذلك اليوم كان الوجوب الباقي هو الصوم في نهار آخر ، فلا يلزم القول بكونه بالأمر السابق ثبوت القضاء ليلا. وهكذا الحال في الزمان الباقي الذي لا يسع إلاّ نصف ركعة ، فانه يمكن أن يقال إن ذلك المقدار الباقي من الوقت هو وقت القضاء ، إذ ليس هو مختصا بخروج الوقت بتمامه ، بل المدار فيه على خروج الوقت الذي يمكن إيقاع الصلاة فيه ولو بمقدار ركعة ، فراجع التقريرات المذكورة وتأمل.

ثم لا يخفى أن أقصى ما يمكن للقائل بأن القضاء بالأمر السابق هو أن يدعي أن التوقيت وإن كان ظاهره وحدة المطلوب ، وأنه لا يجب الاتيان بالفعل خارج الوقت لو لم يؤت به في الوقت ، إلاّ أن دليل القضاء لمّا كان ظاهرا في كونه بالأمر السابق وجب الخروج عن مقتضى ظاهر التوقيت من وحدة المطلوب ، والحكم بأنه من قبيل تعدد المطلوب بأحد النحوين السابقين ، وقد عرفت ما فيه بما محصله أنه لا ظهور للقضاء بكونه بالأمر السابق ، وأنّ اللازم هو كونه بالأمر الجديد ، إلاّ أن ذلك لو سلّمناه فانما نسلّمه لو ثبت القضاء بدليله.

أما إذا شككنا في لزوم القضاء ، فلا ريب في أن دليل التوقيت محكّم فيما هو ظاهر فيه من كونه على نحو وحدة المطلوب ، الذي يكون مقتضاه عدم الوجوب في خارج الوقت ، ومعه كيف يمكن الرجوع في الشك المزبور إلى الاشتغال كما فرّعوا ذلك على القول بكون القضاء بالأمر السابق. نعم لو كان دليل التوقيت ساقطا في حدّ نفسه لكان المرجع بعد سقوطه هو أصالة الاشتغال لو قلنا إن القضاء بالأمر السابق ، دون ما لو قلنا بأنه بالأمر الجديد فان المرجع عليه هو البراءة ، لكن أنّى لنا بذلك ، وكيف

ص: 308

يمكننا القول بأنّ دليل التوقيت ساقط في حد نفسه ، سيما إذا قلنا إن دليل التوقيت بنفسه يقتضي وحدة المطلوب وإن لم يكن لنا إطلاق في القيدية المطلقة.

على أنا لو سلّمنا ذلك فلا يمكننا الرجوع إلى أصالة الاشتغال إلاّ إذا كان الترك في الوقت اختياريا دون ما لو كان غير اختياري ، للشك حينئذ في عروض الوجوب عليه بعد خروج الوقت وارتفاع العذر في ترك الفعل ، إذ لا يكون التكليف متوجها إليه بعد ارتفاع العذر وبعد خروج الوقت ، إلاّ إذا كان أصل التكليف على نحو تعدد المطلوب ، دون ما لو كان على نحو وحدته ، فانه بناء عليه لا يكون التكليف متوجها لا قبل خروج الوقت لكونه معذورا فيه ، ولا بعده لكونه غير مكلف بعد خروج الوقت (1).

قوله : ثم إن مقتضى القاعدة هل هو وجوب الاتيان بالموقت في خارج وقته ... إلخ (2).

لا يخفى أنهم في هذا المقام وفي مبحث الأوامر الاضطرارية وفي

ص: 309


1- ينبغي أن يصدّر هذا المبحث بأمر وهو أن التقييد بالوقت الموسّع هل يلزمه كون التخيير بين الأفراد الطولية تخييرا شرعيا لكونه ناشئا عن الحكم الشرعي الذي هو التقيد بالوقت الموسّع ، أو أن هذا التقييد لا يكون [ إلاّ ] من قبيل التقييد باخراج بعض الأفراد العرضية ، مثل تقييد الصلاة بالطهور المخرج للفاقدة له في أنه لا يوجب أن يكون التخيير فيما بقي من الأفراد العرضية تخييرا شرعيا ، وحينئذ لا يكون لتحديد الصلاة بما بين الحدين من الوقت أثر إلاّ إخراج ما هو خارج عن الحدين المذكورين من دون أن يكون موجبا للتخيير الشرعي بين الأفراد الطولية الواقعة فيما بين الحدين. وبقيت أبحاث أخر في الواجب المضيق والموسّع حررناها فيما علّقناه على تحريراتنا في الدرس فراجعها ، إذ لم يسع الوقت لنقلها إلى هذه التعليقة [ منه قدس سره ].
2- أجود التقريرات 1 : 276 [ تقدم منه قدس سره تعليقة اخرى على هذه العبارة في صفحة : 303 ].

بعض مباحث الأقل والأكثر فيما لو تعذر بعض الأجزاء والشرائط قد يقولون إن التقييد على نحو وحدة المطلوب ، فلا يجب القضاء ولا يجب الاتيان بفاقد القيد بعد تعذر قيده ، أو أنه على نحو تعدد المطلوب فيكون ذلك أعني القضاء وفاقد القيد واجبا ، وقد يرتبون ذلك أعني الوجوب المذكور وعدمه على كون القيدية مطلقة شاملة لحال التعذر ، فلا يجب القضاء ولا الفاقد للقيد بعد تعذر القيد إن كانت القيدية مطلقة ، ويكون كل من القضاء والفاقد واجبا إن كانت القيدية مختصة بحال التمكن.

وهذه المباني تحتاج إلى شرح وتوضيح ، ولنصطلح على المبنى الأوّل بأن الوحدة في قبال التعدد العرضي ، وعلى المبنى الثاني بأن الوحدة في قبال التعدد الطولي ، فنقول بعونه تعالى : إن كان المراد بتعدد المطلوب في هذا المقام هو المبنى الأوّل أعني التعدد العرضي ، بأن يكون أصل الصلاة مطلوبة وكونها مع الساتر أو كونها مقيدة به مطلوبا آخر في عرض المطلوب الأوّل ، فيكون ذلك من قبيل الواجب في ضمن واجب كما هو الظاهر من شيخنا قدس سره (1) ، لم يتجه ما في الكفاية (2) من التمسك باطلاق الأمر على كونه من قبيل التعدد ، إذ هذه المسألة أعني كون التقييد من قبيل الواجب في ضمن واجب أو من قبيل الواجب الواحد المقيد لا يكون المرجع فيها هو إطلاق الأمر أو إطلاق التقييد ، إذ لا يترتب على شيء منهما شيء من هذين الوجهين ، بل إن نفس التقييد ولو كان بدليل لبي كالاجماع ونحوه يكون مثبتا للوحدة ونافيا للتعدد.

ثم لا يخفى أن حمل التقييد على ذلك المعنى من التعدد أعني كونه

ص: 310


1- أجود التقريرات 1 : 277.
2- كفاية الاصول : 144.

واجبا في ضمن واجب لا يتأتى في مثل الساتر ونحوه ، لأن لازمه هو أنه لو تعمد تركه صحت صلاته ، غايته أنه يكون عاصيا في ترك الواجب الآخر وهو التستر في الصلاة ، هذا. مضافا إلى ما عرفت (1) من أن طبع التقييد يقتضي الوحدة ونفي التعدد.

نعم ، في التقييد بالزمان يمكن أن يتأتى التعدد بالمعنى المذكور ، بأن يكون أصل الصلاة واجبة وكونها في الوقت واجبا آخر ، إذ لا يرد عليه الاشكال السابق ، لأنه ما دام في الوقت لا يمكنه إيقاع الصلاة مجردة عن الوقت ، نعم لو تعمد تركها في الوقت فهو يمكنه إيقاعها مجردة منه خارج الوقت ، فيمكن الحكم بصحتها حينئذ ، ويكون ذلك نظير ما لو تعمد ترك الصلاة ما دام الساتر موجودا عنده ثم لمّا فقده صلّى عاريا ، فلا يكون داخلا في الاجماع المذكور.

نعم ، يرد على القول بكون التقييد بالزمان من هذا القبيل أعني تعدد المطلوب العرضي وكونه واجبا في ضمن واجب ، ما تقدم من أنه خلاف ما يقتضيه طبع التقييد من الوحدة.

أما المبنى الثاني ، وهو أنه بعد الفراغ عن الوحدة وأن المأمور به هو الصلاة المقيدة ، هل إن التقييد مختص بحال التمكن من القيد أو أنه مطلق شامل لصورة عدم التمكن؟ ومقتضى الاختصاص هو وجوب الفاقد بعد تعذر القيد ، ومقتضى الاطلاق هو عدم وجوبه ، فهو وإن تأتى في مثل الساتر ونحوه وكان لاطلاق الوجوب وإطلاق دليل التقييد أثر في ذلك ، ويتصور من ذلك صور أربع : إطلاق كل منهما ، إهمال كل منهما ، إطلاق

ص: 311


1- في صفحة : 305.

الأول وإهمال الثاني ، وإهمال الأوّل وإطلاق الثاني ، ويترتب الأثر على هذه الصور ، إلاّ أن ذلك أعني مبنى اختصاص التقييد وإطلاقه لا يتأتى في التقييد بالزمان ، إذ لا يتصور فيه أن تكون قيدية الزمان مختصة بحال التمكن منه ، لأن حال التمكن من الزمان عبارة عن كونه موجودا في الزمان ، فيكون جعل القيدية في ذلك لغوا لكونها من تحصيل الحاصل.

وحينئذ لا بد أن تكون قيدية الزمان مطلقة غير مقيدة بما دام الزمان موجودا ، والمفروض هو عدم كونه من قبيل الواجب في ضمن واجب ، فلا بدّ أن يكون التقييد بالزمان موجبا لسقوط الأمر عند انتهائه ، وأنه لا يعقل أن يكون القضاء بالأمر السابق إلاّ إذا أخرجناه عن التقييد وجعلناه من قبيل الواجب في ضمن واجب ، فلو دل الدليل على لزوم القضاء لزمنا حمله على كونه أمرا جديدا ، وإن لم نحمله على الأمر الجديد وحملناه على الأمر السابق كان المتعين تخريج التقييد بالزمان على الواجب في ضمن الواجب ، ولا يمكننا تخريجه على القيدية الخاصة لما عرفت من أن ذلك من قبيل تحصيل الحاصل.

ومنه يتضح لك التأمل فيما افيد عن شيخنا قدس سره من قوله : وإن كان يمكن تصوير كل من الوجهين الأوّلين في مقام الثبوت ... الخ (1) لما عرفت من أنه لا يمكن في مقام الثبوت تصوير كون قيدية الزمان مقيدة بحال التمكن منه ، لأنه إن كان المراد أنه قيد ما دام متمكنا منه لزم تحصيل الحاصل ، وإن كان المراد هو أن التمكن يوجب بقاء القيدية وإن ارتفع التمكن ، كانت النتيجة هي عدم وجوب القضاء فيما لو كان متمكنا في

ص: 312


1- أجود التقريرات 1 : 277 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

الوقت ، وانحصار وجوب القضاء فيما إذا لم يتمكن من الصلاة في الوقت وهو خلاف المفروض.

ويمكن أن يقال : إن صاحب الكفاية قدس سره ليس مراده من تعدد المطلوب في المقام هو ما تقدم من الواجب في ضمن الواجب ، كي يتوجه عليه ما ذكرتم من أن ذلك لا معنى للتمسك فيه بالاطلاق ، بل مراده من التعدد هو ذلك المعنى الآخر الذي هو التعدد الطولي ، فيكون محصّله أن إطلاق الأمر كاشف عن أن نفس الصلاة مطلوبة بقول مطلق ، سواء تمكن من الساتر أو لا ، وأن دليل التقييد حيث كان مهملا لا إطلاق له من ناحية التقييد كان المحكّم فيما بعد الوقت أو بعد تعذر القيد هو إطلاق الأمر ، فيكون ذلك راجعا إلى دعوى كون القيدية مختصة بحال التمكن من القيد ، لأن ذلك هو القدر المتيقن من دليل التقييد الذي فرض إهماله من هذه الجهة.

وحينئذ لا يتجه عليه ما ذكرتموه (1) ولا ما ذكره شيخنا قدس سره (2) من أن طبع التقييد يقتضي وحدة المطلوب ، وأنه لا خصوصية للزمان في ذلك من بين سائر القيود ، لأن ذلك كله إنما يتجه عليه لو كان مراده بذلك الاطلاق هو نفي الوحدة وإثبات التعدد العرضي ، أما لو أراد به نفي إطلاق التقييد وأن إطلاق الأمر لحال تعذر القيد يكشف عن أن التقييد مختص بحال التمكن من القيد ، لأن ذلك هو القدر المتيقن منه ، وتبقى صورة عدم التمكن من القيد مشمولة لاطلاق الأمر ، فلا يرد ذلك عليه.

نعم ، يرد عليه ما قدّمناه من أنه لا يمكن ادعاء كون القيدية في الزمان

ص: 313


1- في صفحة : 311 ، 305 ، وقد تعرض أيضا لكلام صاحب الكفاية قدس سره في صفحة : 307.
2- أجود التقريرات 1 : 277.

مختصة بحال التمكن ، مضافا إلى ما أورده عليه شيخنا قدس سره (1) من أنه خلاف ظاهر دليل القضاء.

ومن ذلك كله يظهر لك أن ما أفاده في الكفاية إن كان مبنيا على التعدد العرضي كان في غاية السقوط ، وإن كان مبنيا على التعدد الطولي كان راجعا إلى اختصاص القيدية بحال التمكن ، الذي عرفت أنها لا يمكن الالتزام [ بها ](2) في خصوص قيدية الزمان.

وعلى أيّ حال لا وجه لما في الحاشية (3) من أن ما في الكفاية في غاية المتانة ، بل هو على العرضية في غاية الضعف ، وعلى الطولية يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس سره من منافاته لدليل القضاء ، مضافا إلى ما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، فراجع وتأمل.

فالذي تلخص : أن طبع التقييد يقتضي الوحدة وينفي كونه من قبيل التعدد العرضي ، فلم يبق عندنا إلاّ احتمال كون التقييد بالزمان مختصا بحال التمكن ، وحيث إن هذا الاحتمال لا يمكن أن يتأتى في قيدية الزمان ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، فلا بدّ من الحكم بكون قيدية الزمان من باب وحدة المطلوب وأنها قيدية مطلقة نظير الطهور ، ومقتضى ذلك هو أنه لو انقضى الوقت ولم يصلّ لم يجب عليه القضاء ، كما لا يبعد استفادة ذلك من حديث لا تعاد (4) حيث جعل الوقت أحد الامور الخمسة المستثناة - على وجه لو صلى قبل الوقت وجبت عليه الاعادة في الوقت - فلو ورد

ص: 314


1- أجود التقريرات 1 : 277.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش 2 ) : 276.
4- وسائل الشيعة 1 : 371 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.

دليل يدل على القضاء لم يكن لنا بدّ من حمله على كونه أمرا جديدا ، لأن حمله على الأمر السابق يوجب الالتزام بأحد وجهين :

الأوّل : كون التقييد بالوقت مختصا بحال التمكن. وقد عرفت أنه غير ممكن.

الثاني : كون التقييد من باب التعدد العرضي. وهو وإن كان ممكنا في خصوص الزمان إلاّ أنه خلاف ما يقتضيه طبع التقييد من الوحدة ، هذا.

مضافا إلى أن التقييد بالزمان كالتقييد بالساتر ، وقد عرفت أن التقييد بالساتر لا يمكن أن ينزّل على التعدد العرضي ، لما عرفت من أن لازمه صحة الصلاة مع تعمد ترك الساتر ، فالتقييد بالوقت كالتقييد بالساتر ينبغي أن لا ينزّل على التعدد العرضي ، وغاية الفرق بينهما أن التقييد بالساتر المفروض فيه الوحدة وعدم التعدد يمكن أن يكون مختصا بحال التمكن ، ولازمه أنه عند تعذره يكون اللازم هو الاتيان بالفاقد ، والقاعدة وإن اقتضت إطلاق القيدية إلاّ أنه بعد أن دل الدليل على وجوب الباقي ينزّل ذلك على القيدية الخاصة ، وهذا بخلاف التقييد بالزمان فانه لا يمكن فيه القيدية الخاصة ، فبعد فرض ثبوت كونه على نحو وحدة المطلوب كما هو الشأن في جميع القيود وكما يقتضيه طبع التقييد ، ينحصر الأمر في دليل القضاء بالحمل على الأمر الجديد لا الأمر السابق ، فلاحظ وتأمل.

والحاصل : أن طريقة التعدد العرضي راجعة إلى جعل المسألة من قبيل الواجب في ضمن واجب ، بخلاف التعدد الطولي فانه راجع إلى وحدة الواجب ، لكنه يتقيد بحال خاصة كالتمكن ونحوه.

وهاتان الطريقتان يتعاكسان تقريرا وتحريرا ، فتقرير الاولى هي كون الواجب أوّلا هو ذات الصلاة والواجب الثانوي هو تقييدها بالساتر مثلا ،

ص: 315

بخلاف تقرير الثانية فانه يكون الواجب الأوّلي هو الصلاة المقيدة بالساتر ، وعند عدمه يكون الواجب الثانوي هو ذات الصلاة.

وهاتان الطريقتان كما يختلفان تقريرا فكذلك يختلفان موردا ، ففي مثل الساتر والاستقبال ونحوهما لم يتوهم أحد كون ذلك من قبيل الواجب في واجب.

نعم ، ربما خرّجوا مسألة الجهر والاخفات على ذلك ، فيقال إنه إذا فعل أحدهما في مورد الآخر نسيانا لم تجب عليه الاعادة وإن تذكّر وهو في أثناء القراءة ، واحتاط البعض فقال : الأحوط الاعادة بقصد القربة المطلقة ، وفي بعض العبائر ما لا يعجبني وهو الأحوط الاعادة بقصد القرآنية ، إذ أنّ قصد القرآنية لعلها لا تسدّ الجزئية لو كانت هي المطلوبة.

وعلى كل حال أن هذه الطريقة أعني الواجب في ضمن الواجب إنما يمكن القول بها في مثل الجهر والاخفات ، دون مثل الساتر والاستقبال. نعم يمكن أن تأتي في مثل الوقت ، بأن يكون الواجب الأوّلي هو ذات الصلاة ، وكونها في الوقت واجب آخر ، نظير المسارعة والفورية ونحوهما.

أما الطريقة الثانية وهي التعدد الطولي فيمكن الالتزام بها في كثير من قيود الصلاة مثل الساتر ونحوه ، فان الواجب الأوّلي هو الصلاة مع الساتر بمعنى أن تقييد الصلاة بالساتر واجب ، ولكن ذلك يختص بحال التمكن من الساتر ، بخلاف مثل أصل الطهور ، بل جعل بعضهم بعض القيود ذكريا مثل الطهارة من الخبث وسمّوه شرطا ذكريا ، إلى غير ذلك من موارد الاختصاص لبعض القيود.

لكن هذه الطريقة لا تأتي في مثل الزمان ، فان ما دل على تقييد الصلاة بالزمان الكذائي لا يمكن تقييده بصورة التمكن من ذلك القيد أعني

ص: 316

نفس الزمان ، فان ذلك عبارة اخرى عن أنه يجب على المكلف أن يقيد صلاته بالزمان الخاص عند تمكنه من ذلك الزمان الخاص ، أعني عند وجود ذلك الزمان الخاص ، فيكون انحصار هذا التقييد بصورة التمكن من هذا القيد من قبيل تحصيل الحاصل.

وتوضيح ذلك : أن تقييد الصلاة بالساتر مثلا إنما يكون لطرد فاقد القيد وهو الصلاة عاريا ، وحينئذ يمكننا أن نقول إن طرد الفاقد تارة يكون مطلقا سواء كان متمكنا من التستر أو كان غير متمكن منه ، ولازمه سقوط الصلاة عند عدم التمكن منه ، واخرى يكون طرد ذلك الفاقد أعني الصلاة عاريا مختصا بما إذا كان متمكنا من الساتر ، أما لو كان غير متمكن منه فلا يكون الفاقد للساتر أعني الصلاة عاريا مطرودا في ذلك الحال.

وإذا أجرينا هذه العملية في الزمان الخاص كما بين الطلوعين في صلاة الصبح ، فكانت الصلاة الواجبة مقيدة بذلك الزمان ، وكانت الصلاة الخارجة عن ذلك الزمان كالصلاة بعد طلوع الشمس مطرودة عن هذا الأمر ، فان كان التقييد مطلقا شاملا لحال وجود الزمان ولحال انقضائه صحت القضية ، وكان لازمها هو عدم صحة الصلاة في الخارج عن ذلك الزمان ، وهو معنى الركنية الذي يكون لازمه أن القضاء لو ثبت كان بالأمر الجديد. وإن كان ذلك التقييد مقيدا بحال التمكن الذي هو حال وجود الزمان ، كان طرده للفاقد الذي هو الصلاة في خارج الوقت مختصا بحال وجود الزمان ، ومحصله أنك في حال وجود الزمان لا تصلّ في خارجه ، ومن الواضح أنّ هذه الصلاة الفاقدة للزمان لا يمكن إيجادها في ذلك الزمان ، فيكون طردها في ذلك الحال تحصيلا للحاصل.

والفرق بين كون القيدية مطلقة وكونها مقيدة بحال التمكن ، أن

ص: 317

الخارج عن ذلك الزمان في حال وجود ذلك الزمان وإن كان منطردا بنفسه لكن بعد خروج الزمان يكون منطردا بواسطة إطلاق التقييد ، وهذا بخلاف ما لو كانت القيدية مختصة بحال التمكن أعني حال وجود الزمان الذي هو بين الطلوعين ، فان أثر القيدية ينحصر حينئذ بحال وجود الزمان ، إذ لا قيدية في حال خروجه ، ومن الواضح أن أثر القيدية هو طرد الخالي ، والمفروض أن الخالي في ذلك الزمان منطرد بنفسه ، فلا تكون القيدية المنحصرة في ذلك الحال إلاّ من قبيل تحصيل الحاصل.

لا يقال : إذا ورد الأمر بالصلاة مطلقا ثم ورد الأمر بالصلاة في الوقت واحتملنا في هذا الأمر الثاني أنه أمر مستقل ليكونا من قبيل التعدد العرضي ، أو أنه قيد في الأوّل لكن على نحو القيدية المختصة بحال التمكن ، أو أنه قيد فيه على نحو القيدية المطلقة ، كان إطلاق الأمر الأوّل وشموله للوقت ولما بعد الوقت كاشفا عن نفي الاحتمال الثالث ، ويبقى الاحتمالان الأوّلان ، ولعل ذلك هو مراد الكفاية (1). وبعد إبطالكم الاحتمال الثاني في خصوص التقيد بالزمان يتعين الاحتمال الأوّل.

لأنا نقول : قد عرفت فيما مضى (2) أن هذا الاحتمال منفي بنفس التقييد ، وأن التقييد بالزمان كالتقييد بغيره يعطي الوحدة في قبال التعدد العرضي.

ثم لا يخفى أن التعدد الطولي لو سلّمناه في الزمان وأغضينا النظر عن الاشكال فيه من جهة لزوم تحصيل الحاصل ، لا يكون منتجا لكون القضاء بالأمر السابق إلاّ على القول بجعل القيدية ، أما على القول بالانتزاع وأنه

ص: 318


1- كفاية الاصول : 144.
2- في صفحة : 305 ، 310 - 311 ، 314 - 315.

ليس في البين إلاّ الأمر المتعلق بالمقيد ، فأقصى ما في البين حينئذ هو كون ذلك الأمر المتعلق بالمقيد يكون مشروطا بالتمكن من القيد ، وأنه عند تعذر القيد يكون الأمر متعلقا بفاقد القيد ، فلا يكون هذا الأمر المتعلق بالفاقد المتوجه عند تعذر القيد إلاّ أمرا جديدا ، وليس هو ذلك الأمر السابق ، إلاّ بأن نقول إن المتوجه أوّلا هو الأمر بطبيعة الصلاة وأن المقيد هو الأمر بالقيد عند التمكن منه ، وعند سقوط هذا الأمر الثاني يبقى الأمر الأوّل بحاله ، وهذا إما راجع إلى التعدد العرضي ، أو هو مبني على جعل القيدية ابتداء أو بالأمر بالقيد ، والأوّل قد عرفت الحال فيه وأنه خلاف مقتضى التقييد ، والثاني خلاف ما هو المفروض من عدم جعل القيدية أو جعل الأمر بالقيد على حدة.

والحاصل : أن التمكن من هذا القيد أعني الزمان إن جعلناه قيدا في الوجوب الوارد على الصلاة المقيدة بالزمان ، وأنه عند عدم التمكن يكون الواجب هو الصلاة الفاقدة ، كان ذلك عبارة أخرى عن كون القضاء بأمر جديد. وإن جعلنا التمكن من هذا القيد قيدا في تقييد الصلاة بهذا القيد أعني الزمان ، كان لازمه تحصيل الحاصل ، لأن التمكن من هذا القيد مساوق لوجوده ، فيكون الحاصل أنه عند وجود هذا القيد يكون قيدا.

مضافا إلى أن نفس التقييد لا يقبل التقييد في نفسه ، سواء قلنا إنه عبارة عن نفس هذه الجهة الوضعية أعني التقييد ، أو قلنا بأنه عبارة عن الأمر بالقيد ، لما حقق في محله من أنه لا واقعية لكل منهما ، وأن الواقع إنما هو تعلق الأمر بالمركب والمقيد ، وعنه ينتزع الجزئية أو الأمر بالجزئية والقيدية أو الأمر بالقيد.

لا يقال : قد حقق في محله أنّ كلا من الجزء أو الشرط يكون مأمورا

ص: 319

به أمرا ضمنيا ، فهذا الأمر الضمني يكون هو مورد التقييد بالتمكن.

لأنا نقول : نعم إن كلا منهما يكون مأمورا به أمرا ضمنيا ، ولكن هذا الأمر الضمني تحليلي ، فليس هو بمستقل كي يكون في حد نفسه قابلا للتقييد بالتمكن.

والخلاصة : هي أن قيد التمكن إن رجع إلى الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة بالزمان كانت النتيجة هي كون القضاء بأمر جديد ، وإن رجع إلى الوجوب الاستقلالي المتعلق بقيدية الزمان كان من قبيل التعدد العرضي وقد عرفت الحال فيه.

قوله : ويؤيده ثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين ... الخ (1).

هذه المسألة تراجع في الفقه. وفي الجواهر في مبحث نذر الحج ( لو نذر الحج ماشيا فحج راكبا ) تعرّض لذلك ، ويظهر منه المنع من شمول القضاء ، نعم ربما يظهر منه الفرق بين كون المنذور هو حج هذه السنة وكون المنذور هو الحج فيها ، قال قدس سره : وفرق واضح بينهما ، لعدم تصور قضاء الأوّل وتداركه لفواته بفوات السنة ، بخلاف الثاني الذي هو ظرف للفعل ، فانه يمكن قضاؤه بعموم « من فاتته » (2) إلاّ أنه قد يقال بعدمه في خصوص النذر من حيث ظهور الأدلة بانحلاله بالمخالفة ، وهو مقتض لعدم الخطاب حينئذ ولو قضاء (3). ولكنه في مسألة ما لو نذر صوم يوم معيّن فصادف يوم العيد تعرض (4) لذلك أيضا ، ويظهر منه مسلّمية القضاء في

ص: 320


1- أجود التقريرات 1 : 278 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- عوالي اللئالي 2 : 54 / 143.
3- جواهر الكلام 35 : 385 ، 17 : 352.
4- جواهر الكلام 35 : 397 - 399.

نذر الصوم المعيّن من جهة الروايات.

وفي العروة في مسائل الحج بالنذر قال : والقول بعدم وجوبه بدعوى أن القضاء بفرض جديد ضعيف لما يأتي (1) ، فراجع.

وعلى كل حال فلو قلنا بثبوت القضاء في باب نذر الحج والصوم ، وأنه لا بدّ فيه من كونه بأمر جديد لعدم التعدد في قصد الناذر ، لم يكن ذلك دليلا على أن كل قضاء يكون بأمر جديد ، نعم يصلح مؤيدا من باب كونه نظيرا أو أحد أفراد محل البحث ، ويبعد اختصاصه بخصوصه بذلك فلاحظ.

قوله : [ ومنشأ الاشكال هو أن الفوت الذي علّق عليه وجوب القضاء في الأدلة ... الخ ](2).

بعض أدلة القضاء في باب الصلاة مشتمل على ذكر الفوت (3) ، وبعضه مشتمل على ذكر الترك (4) ، وعلى كل حال بعد أن كان المرجع في باب الصلاة هو قاعدة الحيلولة كان هذا البحث فيها ساقطا ، ويبقى الباقي من العبادات مما ثبت له القضاء ، فينبغي النظر في كل واحد من الأدلة.

وهاهنا أبحاث في كيفية استصحاب الوجوب بعد انقضاء الوقت تعرضنا لها فيما علّقناه على التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب (5) المعقود لبيان الاستصحاب في الزمان والزمانيات ، فراجعها.

ص: 321


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 4 : 498 مسألة 8.
2- أجود التقريرات 1 : 278 [ لا يخفى أنه قدس سره لم يذكر هذا المتن في الأصل لكنّا أضفناه للمناسبة ].
3- وسائل الشيعة 8 : 268 / أبواب قضاء الصلوات ب 6 وغيره.
4- وسائل الشيعة 8 : 264 / أبواب قضاء الصلوات ب 3 ح 25 ، ب 4 ح 1.
5- فوائد الاصول 4 : 434 ، وستأتي حواشي المصنّف قدس سره عليه في المجلّد التاسع.

ولا يخفى أن الاستصحاب الذي تعرضت له الكفاية (1) هو الجاري في الشبهة الحكمية ، بمعنى الشك في أصل وجوب القضاء وهو الراجع إلى التنبيه الرابع ، أما الاستصحاب الذي تعرض له شيخنا قدس سره فهو الجاري في الشبهة الموضوعية بعد فرض ثبوت وجوب القضاء ، بأن يحصل الشك بعد الوقت بالاتيان بالصلاة في الوقت ، والاشكال فيه راجع إلى الأصل المثبت فلاحظ.

ص: 322


1- كفاية الاصول : 144.

[ مبحث المرة والتكرار ]

قوله : المبحث الثامن في المرة والتكرار ... إلخ (1).

ربما استدل القائل بالمرة بأنه لو لا ذلك لكان اللازم تكرار الحج في كل عام ، وربما استدل القائل بالتكرار بأنه لو لاه لما وجب تكرار الصلاة عند كل وقت من أوقاتها ، ولما تكرر الصوم في كل عام.

ولا يخفى سخافة كل من الدليلين ، ولأجل ذلك أفاد شيخنا ما حاصله : أن هذا ليس من باب التكرار ، بل من باب وجود الحكم وتكرار وجوده بتكرار وجود موضوعه.

والذي ينبغي في تحرير هذا البحث بيان امور :

الأوّل : ما عرفت من سقوط هذا النزاع وأنه غير مبني على أساس علمي ، وأن الحق هو تعلق الأمر بصرف الطبيعة غير مقيدة بمرة ولا تكرار.

الثاني : ما أفاده في الفصول (2) من كون النزاع إنما هو في الصيغة لا في المادة ، لاتفاقهم على أن المصدر

المجرد موضوع لصرف الطبيعة وهو مادة الأفعال ، فكيف يمكن النزاع في مادة فعل الأمر أنها هل مقيدة بالمرة أو بالتكرار.

وأجاب عنه في الكفاية (3) بأن المصدر ليس هو المادة ، وحينئذ يجوز أن تكون مادة الفعل مشوبة بالمرة والتكرار فيكون النزاع راجعا إلى

ص: 323


1- أجود التقريرات 1 : 279.
2- الفصول الغروية : 71.
3- كفاية الاصول : 77 - 78.

المادة.

وفيه : ما لا يخفى ، لأن هذه المادة سارية في كل المشتقات ، ومن الواضح أن الموجود منها في اسم الفاعل مثلا لا مرة فيه ولا تكرار.

ثم إنه بعد أن تحقق أن نفس المصدر لا مرّة فيه ولا تكرار كيف يعقل لحوقهما للمادة السارية في جميع المشتقات سريان الهيولى في الصور ، لما عرفت في محله من كون تلك المادة أشد بساطة من المصدر ، فانك قد عرفت في محله أن مادة جميع المشتقات حتى المصدر واسم المصدر ملحوظة لا بشرط ، وهو في اسم المصدر ملحوظ بشرط لا ، وفي باقي المشتقات ملحوظ بشرط شيء وهو الانتساب ، حتى المصدر نفسه فان الحدث فيه ملحوظ به الانتساب ، غاية الأمر أن هيئته الحرفية لم تكن هي الموضوعة لتلك النسبة كما في سائر المشتقات ، بل هي ضابطة لحروفه ليس إلاّ ، وأن المدلول به على النسبة هو هيئة تركبه مع باقي المفردات من فاعله ومفعوله ونحو ذلك. وينبغي ملاحظة ما تقدم (1) من هذه الجهات في باب المشتق وفيما علّقناه على الكفاية ، فراجع.

الأمر الثالث : أن المراد بالمرة والتكرار هو الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؟ أفاد في الكفاية (2) أن كلا منهما محتمل.

الأمر الرابع : أن القائل بالأفراد أو القائل بالدفعات هل يريد بذلك أنها على نحو الارتباط ، فلازمه أنه لو تخلل زمان ولم يفعل فيه يسقط الواجب ولا يمكن التلافي لانحلال الارتباطية ، أو أنه يريد بذلك الوجوب الانحلالي ، فتكون تلك الأفراد أو الدفعات واجبات استقلالية لكل إطاعة

ص: 324


1- في صفحة : 269 وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.
2- كفاية الاصول : 78.

وعصيان على حدة ، لكن كل واحد من تلك الوجوبات لا يتجدد فيه النزاع المذكور من كونه للمرة أو التكرار ، لأن الفرد أو الدفعة لا تتكرر.

أما القائل بالمرة أو الدفعة فهل يعني ذلك بشرط لا ، فلازمه أنه لو ألحقه بفرد آخر أبطله ، ولا يمكن التلافي ، بل كل ما زيد عليه يكون منافيا لشرط لا ، وليس ذلك من قبيل تكبيرة الاحرام لأنها فاتحة الصلاة ، فلو أبطلها بثانية كانت الثانية أيضا باطلة لكونها منهيا عنها وبها يخرج من الصلاة ، فيفتحها حينئذ بتكبيرة ثالثة ، فتكون الثانية باطلة والثالثة صحيحة وهكذا ، وهذا بخلاف الفرد بشرط لا ، فانه كلما زيد عليه فرد آخر زاد إبطالا ، هذا إن اريد من المرة بشرط لا.

وإن اريد به الفرد لا بشرط وقد أتى بأفراد دفعة فما ذا يكون المأمور به وكلها فرد لا بشرط ، اللّهم إلاّ أن يقال إنه ما يختاره المولى ، ثم لو أتى بالفرد وأراد الاتيان بفرد آخر كان ذلك من قبيل الامتثال عقيب الامتثال.

أما على القول بالطبيعة فان كانت مطلقة في مقام البيان كان الحال فيه حال هذا الأخير في أنه يحصل الامتثال بالمرة ، لأنه وجود للطبيعة ويكون ما زاد من قبيل الامتثال عقيب الامتثال ، ولو جاء بأفراد دفعة واحدة كانت كلها امتثالا واحدا لكونها وجودا من الطبيعة ، أما لو كانت الطبيعة مهملة من هذه الناحية بمعنى احتملنا أن يكون المراد هو التكرار أو الفرد بشرط لا أو الفرد لا بشرط ، كان اللازم هو الاتيان بفرد لكونه واجبا قطعيا ، أما الآخر الباقي فيدور الأمر فيه بين الوجوب الارتباطي أو الانحلالي إن قلنا بالتكرار ، والحرمة إن قلنا بالفرد بشرط لا ، والاباحة إن قلنا بالفرد لا بشرط ، فتجري أصالة البراءة في كل من وجوبه وحرمته ، وحينئذ تكون النتيجة موافقة للقول بالمرة لا بشرط.

ص: 325

[ مبحث الفور والتراخي ]

قوله : ومعنى كون الواجب فوريا هو تضيقه ، كما أن معنى جواز التراخي هو التوسعة ... الخ (1).

ليس المراد من التضييق والتوسعة هو ما تقدم (2) من قسمي الوقت ، بل المراد من التضييق هو مجرد التعجيل وأن لا رخصة في التأخير ، فان القائلين بالفور لا يقولون بكون الواجب مضيّقا ، بمعنى كونه موقتا بأول أزمنة الامكان ، بحيث إنه لو لم يفعله في أوّل أزمنته يكون فعله بعد ذلك قضاء ، ولأجل ذلك لا يكون الحج في الأعوام المتأخرة عن عام الاستطاعة قضاء بل لا يكون إلاّ أداء. وبالجملة : أن الفورية عبارة عن لزوم التعجيل في الامتثال ، وذلك غير كون الواجب موقتا بأول أزمنة الامكان.

وتوضيح النزاع في هذه المسألة هو أن يقال : إنه بعد فرض أنه لم يقل أحد بوجوب التراخي يكون محصّل القول بالتراخي هو جواز التأخير في قبال وجوب الفور ، وحينئذ يقع الكلام في أن هذا الوجوب هل هو وجوب شرطي أو أنه وجوب نفسي مستقل ، وتنقيح ذلك يتوقف على ما يستفاد من أدلة أرباب هذا القول أعني الفورية ، وهي ثلاثة : الأوّل : التمسك بالاطلاق. الثاني : التمسك بالأدلة السمعية مثل آية الاستباق (3) وآية

ص: 326


1- أجود التقريرات 1 : 279 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- راجع أجود التقريرات 1 : 274 - 275.
3- البقرة 2 : 148 ، المائدة 5 : 48.

المسارعة (1). الثالث : حكم العقل خوفا من عدم التمكن فيما بعد.

أما الاطلاق فعلى تقدير تماميته يكون مفاده التقييد ، إذ لا يعقل أن يكون الأمر بالصلاة مثلا متكفلا لأمر نفسي يتعلق بالتعجيل فيها. لكن التقييد ممنوع ، لأنه إن كان من ناحية المادة فلا ريب في منعه ، لكونها صالحة للانطباق على الأفراد المتأخرة كما هي صالحة للانطباق على الأفراد المتقدمة. وأما الهيئة فكذلك ، إذ لا دلالة لها على أزيد من البعث نحو المادة وأن هذا البعث فعلي ، لكن ذلك لا يستلزم خروج الأفراد المتأخرة عن حيّز ذلك البعث ، على وجه يكون انقضاء أوّل أزمنة الامكان موجبا لسقوط ذلك الطلب وتبدله إلى طلب القضاء.

والحاصل : أن هذا القيد إن كان راجعا لنفس الهيئة كان مفاده اشتراط الوجوب به ، وهو ضروري البطلان فيما نحن فيه ، وإن كان راجعا إلى المادة فلا ريب أن المادة بنفسها لم تكن مقيدة بأوّل أزمنة الامكان ، وإن كان المدعى هو أن المادة بنفسها وإن لم تكن مقيدة بذلك إلاّ أنها يطرأ عليها التقييد المزبور بواسطة طروّ الطلب عليها ، ففيه أن طروّ الطلب لا يقتضي أزيد من البعث إليها ، وذلك لا يوجب تقييد المبعوث إليه بكونه واقعا في أوّل أزمنة الامكان على وجه يكون انقضاؤه موجبا لسقوط الطلب أو لتوجه الأمر بالقضاء. أما كون البعث فعليا في أوّل أزمنة الامكان فهو مسلّم إلاّ أنه لا يوجب التقييد ، حيث إن تحقق الطلب والبعث في ذلك الآن لم يكن على نحو التقييد ، وإنما أقصى ما في البين هو كون ذلك الآن ظرفا للطلب كسائر الآنات المتأخرة.

ص: 327


1- آل عمران 3 : 133.

أما الأدلة السمعية فهي على تقدير تماميتها صالحة لكل من النفسية والشرطية ، نظير قوله تطهّر في الصلاة ، إلاّ أن الكلام في تماميتها ، إذ ليس مفادها إلاّ الارشاد إلى حسن المسارعة للطاعة ، ولو سلّم فلا أقل من منع دلالتها على الوجوب ، وأقصى ما في البين هو الدلالة على الاستحباب.

وأما حكم العقل فهو مسلّم في مورد عدم المؤمّن ، لكن المؤمّن موجود وهو الاعتماد على استصحاب بقاء القدرة والتمكن إلى ما بعد ، لكن لو لم يكن ذلك المؤمّن موجودا لم يكن ذلك الحكم العقلي موجبا للتقييد بل ولا يوجب التكليف النفسي ، وإنما أقصى ما في البين هو حكم العقل بالمسارعة من باب لزوم الاطاعة والتحذير من المعصية ، ولا أثر لهذا المقدار لو خولف إلاّ الوقوع في المعصية لو اتفق عدم القدرة فيما بعد ، أو التجري لو اتفق استمرار القدرة وحصول الامتثال فيما بعد.

ومن ذلك يظهر لك أنه لا وجه للتقابل بين التراخي والقول بأن متعلق الأمر هو الطبيعة من دون دلالة على الفور ولا على التراخي ، فانه قد ظهر لك أن الأمر لا دلالة فيه على وجوب التراخي ولا على جوازه ، إذ الظاهر أنه لم يقل أحد بذلك أعني دلالة الأمر على وجوب التراخي أو على جوازه ، فلا يكون المقابل للفور إلاّ القول بصرف الطبيعة.

وأما جواز التراخي في الموسعات فانما هو لدليل التوسعة ، وحيث إن ذلك الدليل أعني التوسعة مفقود في المقام ، فيمكن أن يقال : إن مقتضى إطلاق الطلب هو فعلية البعث بمجرد توجهه ، ومقتضى فعلية البعث هو الانبعاث الفعلي ، فلا ترخيص في التأخير ، ومقتضاه لزوم الفور والتعجيل ، غايته أنه لا بنحو التوقيت ، بل من مجرد لزوم التعجيل بمعنى لزوم الانبعاث على وجه لو عصى وقصّر يلزمه التعجيل أيضا ، نظير التعجيل في إزالة

ص: 328

النجاسة عن المسجد ، فلم يبق في قبال إطلاق الطلب إلاّ إطلاق المادة وشمولها للأفراد الطولية ، فان قدّمنا إطلاق المادة على إطلاق الطلب كان نتيجة ذلك هو جواز التراخي ، وإلاّ كان المرجع هو ما يقتضي إطلاق الطلب من البعث الفعلي وكون التأخير عصيانا.

بل يمكن القول بأنه لا منافاة بين ما يقتضيه إطلاق الطلب من فعلية البعث وعدم الترخيص في التأخير ، وما يقتضيه إطلاق المادة من الشمول للأفراد الطولية ، على وجه لو أخّر ولو عصيانا يكون المأمور به منطبقا على ذلك الفرد الواقع في ثاني أزمنة الامكان ، فتأمل. هذا كله مع قطع النظر عن الدليل الخارج.

أما بالنظر إليه فان دل على الفورية والمسارعة فهو على وفق إطلاق الأمر ، وإن دل على التوسعة وجواز التأخير كان مقتضاه هو الحكم الشرعي بجواز التأخير ، وهل يكون ذلك راجعا إلى التخيير الشرعي؟ الظاهر نعم ، وحينئذ ينسدّ باب التخيير العقلي في الأفراد الطولية.

وعلى كل حال ، أن مورد حكم العقل بلزوم المبادرة حذرا من طروّ عدم القدرة إلاّ مع استصحاب بقاء القدرة إنما هو ذلك ، أعني مع دليل التوسعة شرعا القاضي بجواز التأخير إلى البدل الآتي ، ومع قطع النظر عن هذا الدليل لا مورد لتلك الحكومة العقلية أعني لزوم المبادرة إلاّ مع استصحاب بقاء القدرة ، إذ مع قطع النظر عن الدليل المذكور لا يجوز التأخير حتى مع العلم ببقاء القدرة ، كما أنه مع لزوم الفور والمبادرة لا محصل للتخيير العقلي بين الأفراد الطولية.

والخلاصة : هي أنه مع قطع النظر عن دليل التوسعة ، وبقينا نحن والأمر بالفعل القاضي بلزوم الانبعاث فعلا الذي هو عبارة عن الفورية ، لم

ص: 329

يبق مورد للتخيير العقلي بين الأفراد الطولية ، كما أنه لم يبق مورد للقول بحكم العقل بالمبادرة إلاّ مع الاعتماد على استصحاب بقاء القدرة ، بل إن التأخير لا يجوز عقلا حتى مع العلم ببقاء القدرة ، لأن التأخير عصيان للفورية. نعم لو دل الدليل الشرعي على التوسعة كما في الموقتات الموسعة يكون جواز التأخير منوطا باحراز بقاء القدرة ولو بواسطة الاستصحاب.

ثم إنا لو قلنا بأن مفاد دليل التوسعة هو التخيير الشرعي بين الأفراد الطولية لم يبق فيه مورد للتخيير العقلي بين الأفراد الطولية. نعم لو قلنا إن ذلك الدليل لا يوجب التخيير الشرعي كان التخيير العقلي فيه مجال ، فلاحظ وتأمل.

لا يقال : إن الأمر وإن كان مقتضيا للانبعاث إلاّ أن ذلك لا يقتضي الفورية ، لأن البعث تابع للفعل المبعوث إليه ، فإذا كان المبعوث إليه هو الطبيعة المطلقة لم تكن قضيته إلاّ لزوم الاتيان بالطبيعة المطلقة ، ويستوفي ذلك جميع أفرادها الطولية.

لأنا نقول : لو كان المراد من إطلاق الطبيعة هو شمولها لجميع أفرادها الطولية ، بحيث يكون محصّل الأمر بطبيعة الصلاة هو أنّ كلا من أفرادها الطولية داخل تحت الأمر ، لكان ذلك الاطلاق البدلي دليلا على التوسعة ، فيكون خارجا عمّا نحن فيه من فرض كون متعلق الأمر هو صرف الطبيعة لا جميع أفرادها على البدل ، ومن الواضح أن محصل الأمر بصرف الطبيعة هو البعث إلى صرف الطبيعة ، ففي الآن الأوّل يكون البعث إلى صرف الطبيعة متحققا فيكون الانبعاث إلى صرف الطبيعة في ذلك الآن لازما ، فما هو المسوّغ للتأخير عن ذلك الآن مع فرض تحقق البعث فيه وإن كان المبعوث إليه في ذلك الآن هو صرف الطبيعة ، لأن ذلك وهو

ص: 330

صرف الطبيعة مقدور له في ذلك الآن ، وقد فرضنا تعلق البعث به ، فما هو العذر المسوّغ للتأخير.

وبالجملة : أن جواز التأخير يتوقف على التوسعة في ذلك البعث ولو بواسطة كون متعلقه هو الطبيعة المطلقة إطلاقا بدليا شاملا شمولا بدليا للأفراد الطولية ، والمفروض هو عدم ذلك الاطلاق ، وليس بأيدينا إلاّ الطبيعة لا بشرط الذي عرفت أن مقتضاه كون الطلب متعلقا بصرف الطبيعة.

قال في الكفاية : نعم قضية إطلاقها جواز التراخي ، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما ، فلا بدّ في التقييد من دلالة أخرى ... إلخ (1).

جعل إطلاق المادة دليلا على عدم التقييد بالفورية ، فكأن القائل بالفورية يدعي تقييد المادة المأمور بها بالفورية ، ولازم ذلك سقوط الأمر عصيانا لو لم يبادر ، إلاّ أن يحمل التقييد بالفورية على نحو تعدد المطلوب العرضي بأن يكون من قبيل الواجب في واجب ، أو على التعدد الطولي بأن يكون الواجب أوّلا هو الطبيعة الفورية ، فان لم يحصل ذلك ولو لأجل العصيان يكون الواجب هو نفس الطبيعة بلا فور أو مع الفور ثانيا. ولكن التعدد الطولي والعرضي كل منهما خلاف ظاهر التقييد ، بل مقتضى التقييد هو وحدة المطلوب ، الموجب لسقوط الطلب عند عدم حصول القيد ولو عصيانا.

ومن ذلك كله يظهر لك الاشكال فيما أفاده بقوله : تتمة ... الخ ، ما ظاهره أنه عند عدم الفورية لا يسقط الأمر ، بل يبقى الأمر بالطبيعة لكنه

ص: 331


1- كفاية الاصول : 80.

مردد بين الفورية ثانيا وعدمها فلاحظ ، هذا.

ولكنك قد عرفت أن القول بالفورية ليس من قبيل تقييد المادة ، بل إنما هو بقضية نفس الأمر القاضي بالبعث الفعلي الموجب للانبعاث الفعلي ، فلو عصى كان الأمر بحاله متعلقا بالطبيعة فورا ، فهو على وتيرة ما لو قام دليل بالخصوص على وجوب الفورية مثل قضية الحج ، في أن العصيان في أول أزمنة الامكان لا يوجب سقوط الأمر بالطبيعة ولا سقوط لزوم الفور ، والنتيجة هي وجوب الطبيعة فورا ففورا ، فلاحظ.

ثم إن الفورية قد تكون مأخوذة من الحرمة ، كما في فورية إزالة النجاسة عن المسجد أو عن المصحف أو إخراجه من المحل غير المناسب له ، فان الأصل في ذلك ونحوه هو حرمة إبقاء النجاسة فيكون التأخير عصيانا ، ولعل الأمر كذلك في وجوب التوبة لكونها تخليصا للنفس من دنس الذنوب ، أو لكونه موجبا للخروج عن الاصرار عليها وهو في حدّ نفسه حرام.

أما في مثل قضاء صوم اليوم الفائت من شهر رمضان فان العقل يحكم بالمسارعة فيه خوفا من الفوت بالموت أو بالمرض ، إلاّ أن يستند في ذلك إلى استصحاب الحياة وعدم المرض ، فلو أخّر طمعا في أن يصوم في يوم الغدير مثلا اعتمادا على الأصل المزبور بأن قلنا بصحة الاعتماد عليه واتفق أنه مات قبله ، لم يكن مستحقا للعقاب وإن بقيت ذمته مشغولة به وكان اللازم أن يقضى عنه ذلك اليوم بعد وفاته ، وهكذا الحال في قضاء الصلوات اليومية.

وإن لم يكن في تأخيره معتمدا على الأصل واتفق أنه أدركه ، لم يكن في البين إلاّ مجرد التجري ، لكن لو اتفق موته قبله كان بذلك التأخير

ص: 332

مستحقا للعقاب ، لكن هو على ترك الواجب الذي هو قضاء اليوم.

وهل يستحق العقاب على نفس التأخير؟ محل تأمل وإشكال. ويمكن القول بالاستحقاق ، فان متعلق الأمر وإن كان هو ذات الطبيعة إلاّ أنه لمّا تعلق بها البعث الفعلي كان البعث مقتضيا للانبعاث ، فلو لم ينبعث فعلا وأدّاه فيما بعد كان عاصيا ، لأن عدم انبعاثه مع فعلية البعث لا يكون إلاّ عصيانا.

ويمكن المنع عن ذلك من جهة أن العصيان المدعى إنما هو عصيان الأمر بالطبيعة ، وهذا إنما يتم لو استمر على الترك إلى أن مات ، أما لو اتفق أنه فعله بعد ذلك انكشف انه لم يكن في ذلك الترك عاصيا للأمر بالطبيعة.

ولعل هذه المضايقات إنما جاءت من النظر إلى البعث والتحريك ، أما لو نظرنا إلى الواقع فليس في البين إلاّ مجرد الوجوب الذي هو من سنخ الحكم الوضعي ، فلا بعث إلاّ في مقام الاثبات ، وهو ليس من الأحكام الشرعية كي يقال كيف تأخر الانبعاث عن البعث.

ص: 333

[ مبحث الاجزاء ]

قوله : وبعبارة أخرى إذا بنينا على التكرار ولو ما دام العمر فلا إشكال في أن الأمر ينحل باعتبار تعدد متعلقه في الخارج ، فيقع النزاع في أن الفعل الأوّل المتعلق للأمر الأوّل هل يجزي عن التعبد به ثانيا أو لا (1).

لا يخفى أن هذا الأمر الانحلالي أيضا أمر فيقتضي التكرار ، ولا تكرار إذ لا يتكرر الفرد ، ولو قلنا بعدم الاجزاء كيف يعيد والمطلوب منه في كل آن التكرار لأصل الطبيعة. وكأن جميع هذه التكلفات في قبال قول صاحب الكفاية قدس سره : نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه (2) والذي يهوّن الخطب هو بطلان كل من التكرار وعدم الاجزاء ، فلاحظ.

قوله : نعم يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر في مقام الثبوت (3).

إن ما ورد من تبديل الامتثال يمكن تنزيله على المراعاة والشرط المتأخر ، بمعنى أن هذا الفرد الأوّل يكون امتثالا إن لم يلحقه بالفرد الآخر وإلاّ كان الامتثال بالفرد الآخر. ويمكن تنزيله على إعطاء المكلف حق الفسخ والاستقالة والاقالة عند إرادته التبديل ، ولعل الوجه الأوّل متوقف على الوجه الثاني ، وعلى كل حال يكون المأتي به ثانيا من باب امتثال الأمر الوجوبي ، لا أنه امتثال للأمر الاستحبابي بالاعادة كما ربما يظهر ذلك في

ص: 334


1- أجود التقريرات 1 : 281 [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].
2- كفاية الاصول : 82.
3- أجود التقريرات 1 : 282 [ وسيأتي التعليق عليها أيضا في الصفحة : 337 ].

مسألة تكرار صلاة الآيات ما دامت الآية موجودة ، فانه أجنبي عن تبديل الامتثال الذي ورد فيه أنه تعالى يختار أحبّهما إليه (1). ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما تضمنته الحاشية (2).

ولا يبعد أن يقال : إن المتعين في التبديل هو الطريقة الاولى ، أما الثانية فهي لا تخلو عن إشكال ، ولعلنا يمكننا تنزيل تكرار صلاة الآيات على بقاء الأمر الأول ، فانه لا يمتثل بالمكرر إلاّ نفس الواجب ، لا أنه نافلة مستحبة وإلاّ لم تجز فيه الجماعة وكان قطعها جائزا.

وأما الفرق الذي تعرضه في الكفاية (3) بين هذه المسألة ومسألة تبعية القضاء للأداء فهو في غاية الغرابة ، فان موضوع هذه المسألة هو الاتيان بالمأمور به ، وموضوع تلك المسألة هو عدم الاتيان به في وقته. نعم المأمور به بالأمر الاضطراري مثلا بالنسبة إلى المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي لعله يكون من باب عدم الاتيان ، لكن النظر في مسألتنا إلى جعله إتيانا وفي تلك المسألة إلى فرض عدم الاتيان ، فلاحظ.

قوله : ولذا نسبه المتأخرون من المحققين إلى الاتيان دون الأمر خلافا للمتقدمين حيث نسبوه إلى نفس الأمر (4).

الظاهر أنّ ما صنعه المتقدمون أوجه ليكون الاقتضاء بمعنى الدلالة ، ويكون النزاع في المأمور به بالأمر الاضطراري والأمر الظاهري ، وأنّ الأمر في ذلك هل يدل على أنّ المأمور به مجز عن الواقع أو أنّه لا يجزي عنه ، إذ

ص: 335


1- وسائل الشيعة 8 : 403 / أبواب صلاة الجماعة ب 54 ح 10.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 282.
3- كفاية الاصول : 82.
4- أجود التقريرات 1 : 281.

لا نزاع على الظاهر في أنّ الاتيان بالمأمور به يجزي عن أمر نفسه ، وإنما النزاع في إجزائه عن أمر غيره. مضافا إلى أنّ التعبير بالإجزاء يعطي فرض المغايرة ولو في الجملة ، ولو كان المراد هو الإجزاء عن أمر نفسه لكان التعبير بالاسقاط أنسب.

وأما ما تكلفه في الكفاية (1) من جعل النزاع في الأمر الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي صغرويا ، فهو تكلّف لا داعي إلى ارتكابه بعد ما عرفت أنّ حقيقة النزاع فيهما ، لا في متعلق كل أمر بالنسبة إلى أمر نفسه ، فانّه على الظاهر أنه لا ينبغي النزاع كما اعترف به بقوله : لو كان هناك نزاع.

قوله : الثاني أنّ المراد من لفظ « على وجهه » هو إتيان المأمور به بكل ما يعتبر فيه عقلا أو شرعا ... إلخ (2).

لا يخفى أنّ الأجزاء والشرائط الشرعية داخلة في المأمور به ، فلا يكون ذكر اعتبارها إلاّ توضيحا ، بخلاف الشرائط العقلية ، فالأنسب أن يكون المراد بالوجه هو خصوص العقلية ، لكن مدخلية قصد القربة في العبادات لا تكون عقلية على رأيه قدس سره ، فينحصر الوجه العقلي بمثل الجزم بالنية والاطاعة التفصيلية ، في قبال الاحتمالية والاجمالية بناء على أنّ العقل لا يراها إطاعة في مورد التمكن من الجزم والاطاعة التفصيلية ، ويكون التقييد بها منحصرا في مورد اعتبارها من العبادات التي يتمكن المكلف من تحصيل الجزم بالنية فيها.

ص: 336


1- كفاية الاصول : 82.
2- أجود التقريرات 1 : 281 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

قوله : نعم يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر في مقام الثبوت ... إلخ (1).

لا يخفى أنّه في مورد إعادة الامام صلاته إماما ثانيا في خصوص ما لو كانت الجماعة الثانية مساوية للاولى أو كانت أقل منها ، لا يبعد كونه من قبيل استحباب التكرار ، إذ لا مزية للثانية على الاولى كي يكون من قبيل التبديل بالأحسن.

ثم لا يخفى أنّه في موارد جواز التبديل لا بدّ من الالتزام بأن حصول الامتثال بالفرد الأوّل وسقوط الأمر به كان مراعى بعدم التبديل ، وإلاّ فلو كان حصول الامتثال به منجزا لكان الثاني لغوا.

والذي يظهر منه قدس سره بل الذي صرح به بعد الدرس هو كون السقوط بالأوّل وحصول الامتثال به منجّزا لا معلقا على عدم الاتيان بالفرد الآخر ، ولا ينافي ذلك جواز التبديل الذي دل عليه الدليل ، لأنّه حينئذ من قبيل تبديل ما حصل به الامتثال لا من قبيل تبديل الامتثال.

ولا يخفى أنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنه بعد الاتيان بالثاني لا مجال للقول بأن الامتثال وسقوط الأمر كان حاصلا بهما ، كما أنه لا مجال للقول بأن الامتثال والسقوط كان حاصلا بالأوّل ليكون الثاني لغوا صرفا ، أو يكون مستحبا صرفا بأمر آخر استحبابي غير الأمر الأوّل ، وإذا لم يمكن الالتزام بذلك كما هو واضح تعين كون الامتثال والسقوط حاصلا بالثاني ، وأن الامتثال والسقوط بالأوّل معلّق ومشروط بعدم الاتيان بالثاني ، بحيث يكون حصول الامتثال بالأوّل مراعى بعدم الاتيان بالثاني.

ص: 337


1- أجود التقريرات 1 : 282 [ تقدم التعليق عليها في صفحة : 334 ].

وكما يمكن تصوير تبديل الامتثال بما عرفت من التعليق ، فكذلك يمكن تصويره بجعل الشارع الخيار للمكلف نظير حق الفسخ والاقالة ، ولكن ذلك مشروط باتمام الثاني صحيحا.

ويمكن أن يقال : إن الثاني لا يكون على صفة الوجوب وإن كان موصوفا بأنه بداعي الأمر الأوّل السابق ، وذلك بناء على ما تقدم (1) من وحدة الأمر الوجوبي مع الأمر الاستحبابي ، غايته أن الدليل على الثاني ما دل على جواز الترك ، ويكون حاله حال التكرار في صلاة الآيات ، ويكون محصّل ذلك هو تعلق الأمر بها مكررة ، لكن الدليل على جواز ترك ما عدا الفرد الأوّل يكون موجبا لكون ما عدا الفرد الأوّل مستحبا ، وإن كان الأمر المتعلق بالجميع واحدا ، فتأمل.

قوله قدس سره في الكفاية في تصوير الأوامر الاضطرارية : وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب ... إلخ (2).

لا يخفى أن هذين القسمين يمكن إجراؤهما في صورة عدم إمكان استيفاء الباقي ، فانه يمكن أن يكون ذلك الباقي من المصلحة الذي لا يمكنه استيفاؤه واجبا ، كما يمكن أن يكون مستحبا ، بمعنى أن ذلك الباقي الذي لا يمكنه استيفاؤه تارة يكون مصلحة مهمة للشارع يلزم المحافظة عليها ، واخرى لا تكون بتلك الدرجة من الأهمية بل لا يبقى إلاّ خصوصية مستحبة ، فتكون الصور حينئذ خمسا.

لكن الصورة الثانية أعني ما لو كان الباقي الذي لا يمكن استيفاؤه

ص: 338


1- راجع صفحة : 350 وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.
2- كفاية الاصول : 84.

مستحبا داخلة في الصورة الاولى ، أعني ما يكون وافيا بتمام المصلحة ، بأن يكون وفاؤه بتمام المصلحة حتى الجهات الاستحبابية ، أو يبقى جهة استحبابية لا يمكن استيفاؤها ، فيكون حاصل التقسيم هو أنّ الفعل الاضطراري الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط إمّا أن يكون وافيا بمصلحة الواجد بتمام واجباتها ومستحباتها ، أو وافيا بالجهات الوجوبية وتبقى جهة استحبابية لا يمكن استيفاؤها بعد ذلك ، وذلك هو الصورة الاولى. وإمّا أن يكون وافيا ببعض المصلحة الوجوبية ويبقى منها ما يكون واجبا أيضا لكن لا يمكن استيفاؤه وذلك هو الصورة الثانية. وإما أن يبقى من مصلحة الوجوب شيء يمكن استيفاؤه ، وذلك هو الصورة الثالثة. وإما أن لا يبقى من مصلحة الوجوب شيء ، لكن يبقى من المصلحة جهة استحبابية يمكنه استيفاؤها بعد ذلك وذلك هو الصورة الرابعة ، فهذه الصورة الرابعة تشترك مع الشق الثاني من الصورة الاولى في الوفاء بتمام مصلحة الوجوب وأن الباقي جهة استحبابية ، لكن تنفرد عنه بأن الجهة المستحبة في الصورة الرابعة مما يمكن استيفاؤها بخلاف الجهة المستحبة الباقية في الشق الثاني من الصورة الاولى فانها لا يمكن استيفاؤها.

قوله قدس سره : ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة (1).

يعني ما لو كان الباقي من الجهة اللازمة من المصلحة لا يمكن استيفاؤه ، فانّ البدار حينئذ مفوّت لذلك الباقي من المصلحة اللازمة فلا يسوغ له البدار ، بل يلزمه الانتظار إلى أن يتضيق الوقت أو يكون مأيوسا من زوال العذر إلى آخر الوقت.

ص: 339


1- كفاية الاصول : 84.

والظاهر أنه يسوغ له الاعتماد على استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت ، فيصح له البدار اعتمادا على الاستصحاب المذكور ، كما صح الاعتماد في تحصيل الجزم بنية إتمام العمل على استصحاب بقاء القدرة إلى الفراغ منه.

ولو أخطأ الاستصحاب أو اليأس بعد إقدامه على العمل بأن ارتفع العذر بعد ذلك فلا شيء عليه ، إذ الفرض عدم التمكن من استيفاء الباقي ، إلاّ إذا كان وفاؤه ببعض المصلحة على وجه لا يمكنه استيفاء الباقي مشروطا بكون العذر مستوعبا لتمام [ الوقت ](1) فانّه حينئذ ينكشف الخطأ لو ارتفع العذر في الأثناء فيلزمه الاعادة.

قوله قدس سره : إلاّ لمصلحة كانت فيه ( أي في التعجيل في أوّل الوقت تحصيلا لفضيلة أول الوقت ) لما فيه ( أي في البدار ) من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة ( المفروض كونها لازمة ) لو لا مراعاة ما هو فيه من الأهم ، فافهم (2).

لا يخفى أن مصلحة التعجيل مصلحة استحبابية ، وهي مهما بلغت لا تقاوم مصلحة الواجب من الجزء أو الشرط. وبالجملة أن فرض الكلام منحصر فيما لو كان يعلم بارتفاع العذر في آخر الوقت بناء على صحة الاعتماد على استصحاب بقاء العذر ، أو فيه وفيما يحتمل ارتفاع العذر في آخر الوقت بناء على عدم صحة الاعتماد على الاستصحاب المذكور ، ففي مثل ذلك نقول إنه لا يسوغ له البدار ، ومن الواضح أنه في ذلك لا يمكن

ص: 340


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
2- كفاية الاصول : 84.

الحكم بجواز البدار وتفويت تلك المصلحة اللازمة ، ولا يكون صلاح أوّل الوقت الذي هو صلاح استحبابي مقاوما لما يفوت من صلاح الجزء أو الشرط المفقود الذي هو صلاح وجوبي.

ولو سلّمنا مقاومته (1) لصلاح الفعل التام في آخر الوقت ، كان ذلك داخلا في الصورة الاولى ، مثلا لو فرضنا أن الصلاة عن قيام بمقدار عشرين درجة ، والصلاة من جلوس للمضطر بمقدار عشر درجات ، لكن لو وقعت هذه الثانية في أوّل الوقت كان صلاح أول الوقت بمقدار عشر درجات ، كانت الصلاة من جلوس للمضطر في أوّل الوقت بمقدار عشرين درجة ، فتكون وافية بتمام المصلحة الأولية ، وتكون داخلة في الصورة الاولى ، ولو كان صلاح الصلاة الجلوسية في أول الوقت أقل من الصلاة القيامية في آخر الوقت ، على وجه يكون الباقي لازم التحصيل كما هو المفروض في هذه الصورة ، لم يكن الصلاح في أول الوقت مسوّغا لتفويتها ، وذلك واضح ، ولعل قوله قدس سره فافهم إشارة إلى ذلك.

قوله قدس سره : فانه يقال هذا كذلك لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت (2).

فانه لو أخر إلى أن ضاق الوقت ولم يرتفع عذره وفرضنا أنه بعد خروج الوقت يرتفع عذره ويتمكن من القضاء قائما ، تقع المزاحمة بين المحافظة على مصلحة الوقت فتفوته مصلحة القيام أو المحافظة على مصلحة القيام فتفوته مصلحة الوقت ، وكلاهما لزوميان ، فان تساويا تخير ، بأن كانت أصل مصلحة الصلاة عن قيام في الوقت بعشرين ومصلحتها في الوقت

ص: 341


1- [ في الأصل : بأن كان لصلاح الفعل ... ].
2- كفاية الاصول : 85.

بدون قيام بعشر ، ومصلحتها في خارج الوقت مع القيام بعشر أيضا. وإن كانت الاولى أكثر لزمه الاتيان بها في الوقت فاقدة للقيام ، وإن كانت الثانية أكثر لزمه التأخير والاتيان بها في خارج الوقت واجدة للقيام. فما دل على لزوم الاتيان بها في الوقت منزّل على الصورة الثانية ، وكان على المصنف توضيح ذلك ، لكنه يفهم من قوله : لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت ، إذ المفروض استكشاف اهميتها من الأمر بالوقت ، فلاحظ.

قوله قدس سره : ولا مانع عن البدار في الصورتين ... إلخ (1).

يمكن أن يقال : إنّه لا وجه للبدار في الصورة الاولى منهما إذا كان عالما بارتفاع العذر في آخر الوقت ، إذ لا يكون الأمر به إلاّ لغوا ، لأنّ المفروض وجوب الاعادة ، فتأمل.

وهذا الاشكال راجع إلى ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله : فالأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب قضاء الواجد في خارج الوقت متناقضان (2).

ولكن الجواب عنه يفهم مما أفاده صاحب الكفاية قدس سره في توجيه الأمر بالفاقد في الوقت مع كونه غير واف بتمام المصلحة ، على وجه يبقى من المصلحة اللازمة مقدار لا يمكن استيفاؤه في خارج الوقت ، من كون تلك المصلحة الفائتة مزاحمة بمصلحة الوقت على ما ذكرناه في شرح ذلك من أنه لو كانت مصلحة الوقت أرجح تعيّن الاتيان به فيه ، وإن كانت تلك أرجح تعيّن التأخير إلى خارج الوقت ، وإن تساويا تخير ، فيفهم من ذلك أنه لو أمكن استيفاء كل من المصلحتين وجبا معا ، بأن كان في كون الصلاة

ص: 342


1- كفاية الاصول : 85.
2- أجود التقريرات 1 : 283 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

في الوقت مصلحة وفي كونها مع القيام مصلحة اخرى من دون تزاحم بينهما تعيّن الجمع ، وكذلك الحال لو اختلفت المرتبة بأن كان في الصلاة في الوقت مقدار من المصلحة وتزيد هذه المصلحة إذا كانت الصلاة عن قيام ، وهذا الأخير يسقط في حال تعذره ويلزم مراعاته بعد ارتفاع التعذر ولو بعد الوقت ، لكنّه لا يجوز له التأخير إلى ارتفاع العذر ، لأنه مفوّت لمصلحة الوقت ، وفي الحقيقة يكون المدار على لزوم تحصيل المصلحتين مع فرض إمكانه.

ويمكن أن يقال : إن الاتيان بالصلاة المشتملة على القيام خارج الوقت بعد الاتيان بها فاقدة للقيام في داخل الوقت لأجل مجرد استيفاء مصلحة القيام في الصلاة لا يكون من باب القضاء ، بل هو داخل في قول شيخنا قدس سره : وأما إيجاب الفعل في خارج الوقت بعنوان آخر غير القضاء ، فهو وإن كان ممكنا إلاّ أنّه أجنبي عمّا نحن فيه ، وهو البحث عن الوجوب بعنوان القضاء التابع لفوت الفريضة في الوقت. لكن قوله : ولا فرق فيما ذكرنا بين أن تكون هناك مصلحة لزومية أخرى قائمة بنفس القيد بما هو قيد ، أو تكون المصلحة اللزومية منحصرة في مصلحة نفس الفريضة - إلى قوله : - فاذا فرض سقوط الأمر بالفريضة لقيام مصلحتها بالفاقد ، فلا يمكن استيفاء مصلحة القيد أصلا ولو كانت لزومية (1) يدل على عدم دخول ذلك في قوله : وأما إيجاب الفعل في خارج الوقت بعنوان آخر ... الخ.

ثم لا يخفى أنّ شيخنا قدس سره قد حصر صور الاضطرار بالصورة الاولى ، وهي كون الفاقد في حال الاضطرار واجدا لمصلحة الفعل الواجد في حال

ص: 343


1- أجود التقريرات 1 : 284 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

الاختيار ، لكنه قد أورد على نفسه بأنّه لو كان الأمر كذلك كان حال المسألة حال السفر والحضر ، وكان لازمه هو جواز تعجيز الإنسان نفسه ، وهو مما لا إشكال في بطلانه. وأطال الكلام في هذا الاشكال وفي الجواب عنه.

وآخر ما تحصّل منه حسبما فهمته هو الاختلاف بكمال المصلحة ونقصانها فيكون للقيد المتعذر مدخلية في كمال المصلحة ، ولأجل ذلك لا يجوز له تعجيز نفسه لأنّه تفويت لكمال المصلحة ، وهو أعني الكمال لازم التحصيل عند الامكان. وحينئذ يتوجه الاشكال على الأمر بالفاقد لكونه مفوّتا لذلك الكمال.

ويجاب عنه : بأنّ الملحوظ فيه مصلحة الوقت. وبالأخرة ينتهي البحث إلى كون مصلحة الوقت مزاحمة بمصلحة القيد ، وحيث كانت مصلحة الوقت أهم تعيّن الأمر بالفاقد في الوقت وسقوط مصلحة القيد وسقوط القيد في ذلك الحال ، لكنه ساقط خطابا لا ملاكا ، فان كانت مصلحة ذلك القيد غير قابلة للاستيفاء ولو بتكرار الفعل خارج الوقت سقط الأمر بالقضاء ، وإلاّ كان القضاء لازما ، ويتعين عليه الفاقد في الوقت والاتيان [ بالواجد ](1) خارج الوقت.

ومنه يظهر التأمل فيما أفاده في الكفاية في هذه الصورة - أعني صورة بقاء شيء من المصلحة مع إمكان استيفائه خارج الوقت بعد ارتفاع العذر - من التخيير بين الاتيان بالفعل الفاقد في الوقت مع الاتيان بالواجد خارج الوقت ، أو الاقتصار على التأخير إلى خارج الوقت ، وذلك قوله : ولا مانع

ص: 344


1- [ في الأصل : بالفاقد ، والصحيح ما أثبتناه ].

عن البدار في الصورتين ، غاية الأمر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار (1).

ومن ذلك يظهر لك إمكان الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين توجه الأمر بالفاقد في الوقت وتوجه القضاء بالاتيان بالواجد في خارج الوقت ، وأن ذلك لا يكفي فيه مجرد تعدد المطلوب الطولي ، بأن يكون المطلوب الأولي هو واجد القيد ومع تعذره يكون المطلوب هو فاقدة ، فان ذلك وإن صحح الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين سقوط القيد عند التعذر ، إلاّ أنه لا يصحح الجمع بينهما مع توجه الأمر بالفاقد في فرض كونه متمكنا من القيد بعد الوقت ، إلاّ إذا ضممنا إليه أن في الوقت مصلحة يلزم استيفاؤها ، وبذلك يحصل الجمع بين عدم جواز التعجيز وبين لزوم الفعل الفاقد في الوقت ، ثم إن أمكن استيفاء مصلحة القيد ولو بالفعل الواجد له عند ارتفاع العذر خارج الوقت وجب ذلك ، وبذلك يتم الجمع بين الأحكام الثلاثة ، أعني عدم جواز التعجيز ولزوم الفاقد في الوقت ولزوم الواجد بعد الوقت وارتفاع العذر.

وعلى ذلك تكون الصور العقلية ثلاثا :

الاولى : ما لو كان وافيا بتمام المصلحة ، فصوره الثلاثة [ هي ](2) التي أفادها في الكفاية ، أعني كون مجرد الاضطرار ، أو التأخير إلى آخر الوقت وإن لم يرتفع العذر فيه ، أو عدم ارتفاع العذر في تمام الوقت ، موجبا لكون الفاقد وافيا بتمام المصلحة ، وهذه يسوغ فيها التعجيز ويسقط معها كل من

ص: 345


1- كفاية الاصول : 85.
2- [ لم تكن في الأصل ، وإنما أضفناها لاستقامة العبارة ].

الاعادة والقضاء ، وجواز المبادرة منوط بأحد الصور الثلاثة المذكورة.

الثانية : ما لو بقي من مصلحة الواقع شيء لا يمكن تداركه ، وحينئذ يقع التزاحم بين مصلحة الوقت ومصلحة القيد المتعذر فعلا. والظاهر أنه آمري ، لأن كون الفعل في الوقت كذلك مما لا يعود إلى المكلف ، بل إن ذلك راجع إلى الشارع ، وهو بعد اطلاعه على ذلك يقدّم الأهم ، فان كان الوقت أهم أمر بالفعل فيه وسقط القضاء ، كما في الكثير من موارد الأمر الاضطراري ، وإن كان مصلحة القيد أهم أمر بالانتظار إلى ارتفاع العذر في خارج الوقت ، كما لو كان القيد هو الطهور على القول بوجوب الانتظار والقضاء خارج الوقت ، وإن تساوى المصلحتان خيّر بين الأداء والقضاء ، ولم أجد له مثالا ، ولعله لأجل أنه عند تساوي المصلحتين يكون المقدم مصلحة الوقت لأنه فعلي ومزاحمه غير مقدور فعلا للمكلف.

الثالثة : ما لو كان الباقي قابلا للاستيفاء في خارج الوقت ، ومقتضاها وجوب كلا الفعلين الفاقد في الوقت والواجد في خارجه ، كما في الطهور على القول بالجمع بين الأداء بلا طهور والقضاء مع الطهور ، وينبغي إخراج الباقي المستحب من الصورتين وإدخاله في الصورة الاولى ، ومقتضاه لزوم الاتيان بالفعل واستحباب الاعادة أو القضاء في خارج الوقت بعد ارتفاع العذر.

وعلى كل حال لا بأس في شرح ما أفاده شيخنا قدس سره بقوله في هذا التحرير : ولا فرق فيما ذكرنا بين أن تكون هناك مصلحة لزومية أخرى قائمة بنفس القيد بما هو قيد ، أو تكون المصلحة اللزومية منحصرة في مصلحة نفس الفريضة ... إلخ (1) ، وبمثل ذلك صرح في تحرير المرحوم

ص: 346


1- أجود التقريرات 1 : 284 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

الشيخ محمّد علي (1).

فنقول بعونه تعالى في توضيح ذلك : إنه ربما كانت مصلحة الصلاة عشر درجات مثلا لكن يكون حصولها متوقفا على القيد عند التمكن منه ، وعند عدم التمكن منه لا تكون المصلحة المذكورة متوقفة على القيد ، ولازم ذلك هو التنويع نظير الحاضر والمسافر ، على وجه تكون صلاة المضطر مساوية لصلاة المختار في الملاك ، ولعله مخالف لذوق المتشرعة فانهم يرون النقصان الملاكي في صلاة المضطر عنها في صلاة المختار.

وربما كان القيد موجبا لزيادة في مصلحة الصلاة من العشر إلى اثنتي عشرة ، لكن تكون تلك الزيادة منوطة بالتمكن من القيد ، وعند عدم التمكن منه لا يكون إلاّ مصلحة العشر. وفي هاتين الصورتين يجوز التعجيز ، وتكون القدرة على القيد دخيلة في الأمر به خطابا وملاكا ، ويكون لزومه مشروطا بالقدرة الشرعية ، ولو تزاحم مع مثله كان من قبيل التزاحم بين المشروطين بالقدرة الشرعية ، فلا يكون الترجيح بالأهمية بل يكون الترجيح بالتقدم الزماني ونحوه. ولا يرد على هذه الصورة ما ورد على التي قبلها من كونها خلاف ذوق المتشرعة من التساوي.

نعم ، لو كانت تلك الزيادة غير منوطة بالقدرة على القيد ، غايته أن القدرة عليه تكون دخيلة في الأمر به خطابا لا ملاكا ، ويكون لزومه مشروطا بالقدرة العقلية ، ففي هذه الصورة لا يجوز التعجيز لأنه مفوّت لذلك الملاك الزائد ، وعند اتفاق حصول العجز عن القيد يقع التزاحم بين الوقت والقيد المذكور إن كانت تلك الزيادة غير قابلة للتلافي ، وقد عرفت الحكم فيه.

ص: 347


1- فوائد الاصول 1 - 2 : 245.

وإن كانت قابلة للتلافي ولو باعادة الفعل واجدا للقيد خارج الوقت ، كان اللازم هو الاتيان به في الوقت فاقدا للقيد المذكور ، وإعادته بعد الوقت واجدا للقيد المذكور على ما عرفت التفصيل في ذلك.

وأما ما أفاده قدس سره في وجه عدم إمكان التلافي من كون ذلك القيد الموجب للزيادة قيدا في الفريضة ، فإذا سقط الأمر بالفريضة لم يبق مورد للقيد المزبور ، فهو خلف لما هو المفروض من إمكان التلافي ولو باعادة الفريضة ، وليس ذلك بمحال ، فلاحظ وتدبر.

والخلاصة : هي أنّ الصورة الاولى وهي ما لو كان الفاقد في الوقت وافيا بتمام المصلحة ، وكذلك الصورة الثانية وهي ما لو كان فاقدا لبعض المصلحة على وجه تكون القدرة على القيد دخيلة في ملاكه أعني ذلك المقدار الزائد ، تكون القدرة في كل منهما قدرة شرعية ، ولا تكون القدرة قدرة عقلية إلاّ في الصورة الثالثة.

وتشترك الصور الثلاث في أنّ البدار فيها منوط بالصور الثلاث التي أشار إليها في الكفاية (1) ، وأن الاولى منها وهي ما لو كان مجرد التعذر ولو في بعض الوقت من أوله موجبا لصحة الأمر بالفاقد ، لا مورد فيها لاستصحاب بقاء العذر ، وكذلك الثانية وهي ما لو كان الأمر المذكور مشروطا بالتأخير إلى آخر الوقت ولو مع العلم بعدم الارتفاع في تمام الوقت.

وينحصر مورد الاستصحاب المذكور في الصورة الثالثة ، وهي ما لو كان المصحح للأمر المذكور هو بقاء العذر في تمام الوقت ، وحينئذ لا بدّ

ص: 348


1- كفاية الاصول : 85.

من إحراز ذلك ، ومع عدم الاحراز يلزمه التأخير إلى أن يتضيق الوقت ، وطريق الاحراز هو العلم أو ما يقوم مقامه من اليأس العقلائي. وفي جريان استصحاب بقاء العذر إشكال ، والمعروف إجراؤه على حدّ إجرائه في جواز التأخير للقادر اعتمادا على استصحاب بقاء القدرة.

وخلاصة الاشكال هو ما عن الاستاذ العراقي قدس سره ، ونحن ننقل ما أفاده في هذه المسألة في رسالته روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي (1) قال : لو طرأ الاضطرار في الوقت وشك في بقائه إلى آخر الوقت ، فعلى القول بجواز البدار لاولي الأعذار حتى مع العلم بطروّ الاختيار في الوقت فلا إشكال ، وأما على القول بعدم الجواز إلاّ في ظرف بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت فقد يتوهم في المقام حينئذ بجواز الاقدام بالعمل ظاهرا بمقتضى الاستصحاب. ولكن فيه نظر ، إذ ذلك صحيح في فرض كون موضوع الجواز هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت بهذا العنوان ، وأما لو كان الموضوع هو الاضطرار عن الطبيعة الملازم لهذا الاضطرار الخاص عقلا ، فلا مجرى للاستصحاب المزبور كما لا يخفى ، وإلى ذلك نظر بعض الأعاظم في احتياطه بعدم الشروع بالعمل الاضطراري مع احتمال طروّ اختياره في الوقت ، كما أنه لا بأس باثبات عدم المشروعية بمقتضى استصحاب عدم طروّ الاضطرار على الطبيعة أو عدم اتصافها بكونها مضطرا إليها (2).

ولعل مراده هو أن موضوع الحكم الاضطراري هو عدم القدرة على الطبيعة ، وفي الآن الأوّل لو كان عاجزا لا يكون عجزه المذكور محققا لعدم

ص: 349


1- المطبوعة بعد وفاته ، التي فرغ منها - كما في آخرها - سنة 1337 [ منه قدس سره ].
2- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 78 - 79.

قدرته على الطبيعة ، لجواز ارتفاع العذر في الآن المتأخر ، فلا يصدق عليه في الآن الأوّل أنه غير قادر على الطبيعة لكونه قادرا عليها فيما يأتي ، وهذا مبني على أن من كان قادرا على الطبيعة في الأزمنة المتأخرة يكون فعلا قادرا عليها ، فلم يكن عدم قدرته على الطبيعة محرزا عنده في الزمان الأوّل كي يستصحبه فيما سيأتي.

وبعبارة أخرى أنه لمّا كان يحتمل أن يقدر على الطبيعة في الزمان الآتي لم يكن فعلا محرزا لعدم قدرته على الطبيعة.

نعم ، بقاء عجزه الفعلي إلى آخر الوقت ملازم لكونه فعلا غير قادر على الطبيعة ، فلا يكون استصحاب بقاء عجزه الفعلي إلاّ مثبتا.

وفيه : أن الفعل الآتي في الزمان المتأخر لا يكون محققا للقدرة فعلا كما حقق ذلك في إبطال الواجب المعلّق (1) ، فلا تكون القدرة على الطبيعة في الزمان الآتي منافية لعدم القدرة عليها فعلا ، لأنّ الطبيعة حينئذ يعني في الزمان الأوّل غير مقدورة قطعا ، وهذا المعنى أعني عدم القدرة فعلا على الطبيعة يكون هو مورد الاستصحاب.

وربما يقال : إن ذلك غير مبني على ما حقق في الواجب المعلق ، بل هو مبني على مطلب آخر ، وهو أن موضوع الحكم الاضطراري هو عدم القدرة على الطبيعة في تمام الزمان أعني ما بين الحدين ، وهذا المقدار من العجز وعدم القدرة على الطبيعة في الزمان الأوّل ليس هو موضوع الحكم المذكور ، فلا يكون استصحابه نافعا.

وبعبارة أخرى : أن موضوع الحكم هو عدم القدرة على الطبيعة في

ص: 350


1- راجع ما تقدم في صفحة : 49 وما بعدها ، وراجع أيضا صفحة : 60.

تمام الوقت ، وهو لأجل احتماله أنه يقدر عليها بعد ذلك لا يكون محرزا لذلك الموضوع.

وفيه : ما لا يخفى ، فان المتيقن وإن لم يكن هو عدم القدرة في تمام الوقت المعبّر عنه بما بين الحدين ، وإنما كان المتيقن هو عدم القدرة في الزمان الأول ، وليس هو تمام الموضوع ، وأن تمام الموضوع هو عدم القدرة في تمام الوقت ، إلاّ أن هذا المعنى أعني عدم القدرة في تمام الوقت نحرزه باستصحاب بقاء عدم قدرته إلى آخر الوقت ، ويكون ذلك أشبه شيء باحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، فانّ الموضوع حينئذ هو عدم القدرة المستمر من أول الزمان إلى آخره ، والمفروض أن عدمها في الزمان الأوّل محرز بالوجدان ، واستمرار ذلك العدم وبقاءه إلى آخر الوقت بالأصل.

ومن ذلك كلّه يتضح لك الاشكال أيضا فيما أفاده قدس سره أخيرا بقوله : كما أنه لا بأس باثبات عدم المشروعية بمقتضى استصحاب عدم طروّ الاضطرار على الطبيعة أو عدم اتصافها بكونها مضطرا إليها (1). ولعلّه مبني على الاكتفاء بمفاد ليس التامة في مورد ليس الناقصة ، أو على فرض كون الطبيعة قبل الوقت مقدورة له وعند دخول الوقت طرأه الاضطرار ، وكان يحتمل ارتفاعه فيما سيأتي من الآنات ، للشك حينئذ بكون ذلك الاضطرار الطارئ محققا لعدم القدرة في تمام الوقت ، فيكون المستصحب هو كونها مقدورة سابقا. لكنّك قد عرفت أن ذلك محقق للاضطرار وعدم القدرة ، فيكون المستصحب هو عدم القدرة الطارئ في الزمان الأوّل ، ويكون اليقين

ص: 351


1- روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي : 79.

السابق المتعلق بالقدرة عليها فيما قبل الوقت منتقضا باليقين بعدم القدرة الطارئ في الزمان الأوّل ، فلا يجري في حقه استصحاب القدرة الثابتة قبل الوقت كي يكون معارضا لاستصحاب عدمها الثابت في الزمان الأوّل من دخوله أو حاكما عليه.

وبالجملة : أن المسوّغ للبدار في المقام هو كون الطبيعة غير مقدورة في آخر الوقت ، كما أن المسوّغ للتأخير هو كونها مقدورة في آخر الوقت ، وكما أن استصحاب بقاء القدرة على الطبيعة إلى آخر الوقت يسوّغ التأخير لمن كان قادرا فعلا ، فكذلك استصحاب بقاء عدم القدرة على الطبيعة إلى آخر الوقت يسوّغ البدار والاتيان فعلا بوظيفة من كان عاجزا في آخر الوقت ، هذا.

ولكنه في المقالة (1) ذكر هذا الاشكال بعنوان توهم فقال : وتوهم عدم جريان الاستصحاب في المقام إذ المدار حينئذ على الاضطرار عن الطبيعة ، وبقاء الاضطرار إلى آخر الوقت من لوازمه عقلا فيكون من الاصول المثبتة غير الجارية أصلا ، مدفوع بأن في ظرف اضطراره في أوّل الوقت يصدق الاضطرار عن الطبيعة ، إلى قوله : فيستصحب هذا المعنى ، ثم قال : فان قلت (2).

وحاصل الاعتراض أنه إذا صدق الاضطرار في أول الوقت كان عموم الاضطرار شاملا له ، فأيّ حاجة إلى إثبات الاضطرار في آخر الوقت.

وأجاب عنه بقوله : قلت : وجه الاختصاص بالاضطرار الباقي هو انصراف العمومات إلى الاضطرار عن الجامع بين الأفراد التدريجية - إلى أن

ص: 352


1- المطبوعة في حياته سنة 1358 [ منه قدس سره ].
2- مقالات الاصول 1 : 270 - 271.

قال : - وما عرفت من الاضطرار المتيقن سابقا المصحح للاستصحاب هو الاضطرار عن الطبيعة دفعيا ، غاية الأمر يثبت تدريجية اضطراره ببقاء الاضطرار إلى آخر الوقت ولو بالاستصحاب ، وحينئذ لا قصور للاستصحاب في شموله للمقام وإثباته موضوع الحكم كما هو واضح (1).

قلت : لو كان موضوع الحكم هو العجز عن الأفراد الطولية فاستصحاب بقاء عجزه عن الأفراد العرضية إلى آخر الوقت لا يثبت به موضوع الحكم في الآن - أعني كونه في الآن الأوّل عاجزا عن الأفراد المتاخرة - إلاّ بالأصل المثبت.

إلاّ أن يقال كما في تحريرات الآملي (2) إنه فعلا عاجز عنها لعدم حصول زمانها ، وإن كان هو قادرا عليها في زمانها الآتي. إلاّ أن ذلك خلاف مسلكه في الواجب المعلق (3) ، فلا بدّ أن نقول : إن موضوع البدار هو كونه عاجزا في الزمان الآتي ، وباستمرار عجزه الفعلي إلى الزمان الآتي بالاستصحاب يتنقح هذا الموضوع ، وهو كونه في الزمان الآتي عاجزا ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل ، فان الموضوع هو العجز الفعلي وبقاؤه إلى الزمان الآتي ، والعجز الفعلي محرز بالوجدان ، وبقاؤه إلى الزمان الآتي بالأصل ، فلاحظ وتأمل.

تتمة : أنك قد عرفت (4) الصور الثلاث المتصورة عقلا في الأوامر الاضطرارية ، وأنه لا إعادة ولا قضاء في الاولى منها ولا في الثانية ، وإنما

ص: 353


1- مقالات الاصول 1 : 271.
2- بدائع الأفكار : 269.
3- [ الظاهر أن المراد بذلك ما ذكره المحقق قدس سره العراقي من أن الواجب المعلّق مقدور بالواسطة وممكن وقوعها قبل تحقيق ظرفه الزماني ، فراجع نهاية الأفكار 1 - 2 : 305 وما بعدها ، وبدائع الأفكار : 353 وما بعدها ].
4- في صفحة : 345 - 346.

يتصور القضاء أو الاعادة لو سوّغنا البدار فيها ، وحينئذ فعند توجه الأمر الاضطراري وامتثاله لو تردد بين الصور الثلاث يكون المرجع في الاعادة والقضاء هو البراءة ، ولا مجال لاستصحاب بقاء المصلحة ، لأنّ مجرد بقاء المصلحة وعدم وفاء المأتي به بتمامها لا يولد الأمر بالاعادة ولا بالقضاء ، بل لا بدّ في ذلك من كون الباقي قابلا للتدارك. هذا مضافا إلى أنّ مجرد بقاء شيء من المصلحة لا أثر له ما لم يتبعه الحكم الشرعي بوجوب التدارك. وبالجملة : أن لازم بقاء المصلحة هو حكم الشارع بلزوم التدارك ، لا أنه موضوع لذلك الحكم الشرعي كي يكون ترتبه عليه مصححا لاستصحابه ، فتأمل.

ولا يخفى أنّ الاشكال الجاري في استصحاب بقاء الاضطرار في مسألتنا يجري في استصحاب القدرة ، فيما لو كان في أول الوقت قادرا على القيام مثلا ولكنّه يحتمل أنه يطرئه العجز عن القيام في أواخر الوقت ، فانا قد قلنا إنه يلزمه المبادرة خوف الفوت ، ولكن هل يمكنه عدم المبادرة استنادا إلى استصحاب بقاء قدرته على القيام إلى آخر الوقت؟ الظاهر أنه لا مانع من ذلك ، وهل ذلك إلاّ من قبيل الاعتماد على بقاء حياته وقدرته على الاتمام في تحقق نية الاتمام منه ، إلاّ إذا كان في مورد يكون الاستصحاب المذكور فيه موهونا كما في موارد الزحام على وجه لا يحصل معه نية الاتمام لوهن الاستصحاب المذكور ، لقوة احتمال طروّ المزاحم له في مكانه الموجب لعدم التمكن من إتمام صلاته ، سيما إذا قلنا إن مدرك الاستصحاب هو السيرة العقلائية ، حيث إن العقلاء لا يعتمدون على الاستصحاب في أمثال هذه المقامات ، بل يمكننا القول باسقاطه حتى على

ص: 354

تقدير أن يكون مدركه هو الأدلة السمعية مثل « لا تنقض اليقين بالشك » (1) بدعوى انصراف مثل هذه الأدلة عن الصورة المزبورة ، فلاحظ وتدبر.

تكميل : قال بعض أعاظم العصر ( سلمه اللّه تعالى ) حسبما حرر عنه في درسه بعد أن نقل حاصل ما في الكفاية (2) من الصور الأربع في مقام الثبوت للأوامر الاضطرارية قال : أقول : مراجعة التكاليف الاضطرارية الثابتة في شريعتنا ترشدك إلى أن ما ذكره طاب ثراه لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطرارية ، لكون ما ذكره مبتنيا على أن يكون لنا أمران مستقلان : أحدهما واقعي أولي والآخر اضطراري ثانوي - إلى أن قال : - وإنّما المتحقق في التكاليف الاضطرارية الثابتة في شرعنا أن يتوجه أمر واحد من الشارع متعلقا بطبيعة واحدة مثل الصلاة متوجها إلى جميع المكلفين ، غاية الأمر أن الأدلة الشرعية دلت على اختلاف أفراد هذه الطبيعة باختلاف الحالات الطارئة على المكلفين ، وأن كل واحد قد وجب عليه إيجاد هذه الطبيعة في ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله ، إلى آخر ما أفاده (3).

لا يخفى أن الأوامر الاضطرارية ذات عرض عريض ، وليست جميعها كذلك بمعنى كون المأمور به واحدا وهو الطبيعة الجامعة ، ويكون تعيين الأفراد بحسب حال المكلفين راجعا إلى تعيين الشارع ، بل الظاهر أن المطلوب الأولي هو الجامع لجميع القيود والأجزاء ، وأن وجوب الباقي بعد سقوط بعض الأجزاء أو بعض القيود لأجل التعذر يحتاج إلى دليل ، مثل

ص: 355


1- وسائل الشيعة 1 : 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1.
2- كفاية الاصول : 84.
3- نهاية الاصول 1 : 127 - 128.

قاعدة الميسور وقاعدة ما لا يدرك أو استصحاب الوجوب الثابت على الباقي ، ونحو ذلك من أدلة وجوب الباقي بعد تعذر ما تعذر. نعم بعض هذه الموارد ورد النص به ، مثل تبدل الطهارة المائية إلى الترابية وتبدل المسح على البشرة بالمسح على الجبيرة ونحو ذلك.

وبالجملة : ليس المقام من قبيل تعدد العناوين ليكون من قبيل السفر والحضر ، بل هو من قبيل البدلية والتشريع الثانوي ، فلا بد من النظر في هذا التشريع الثانوي وهل تكون قضيته سقوط التشريع الأولي بتاتا حتى بعد ارتفاع العذر ، أو أنه لا يكون إلاّ من قبيل وظيفة الوقت مع بقاء التشريع الأولي بحاله ، غايته أنه ساقط خطابا لا ملاكا ، ولازمه الجري على طبقه بعد ارتفاع العذر ، وما التزم به من جواز التبديل بقوله : فاذا اقتضى الدليل فردية الصلاة مع التيمم مثلا لطبيعة الصلاة في حال الاضطرار أخذ الفقيه بمقتضاه وجعله دليلا على كونها في عرض سائر الأفراد من كل جهة ، حتى أن للمكلف أن يجعل نفسه موضوعا لهذا الفرد الاضطراري بأن يوجد الاضطرار لنفسه اختيارا ، نظير الحاضر الذي يسافر في حال الاختيار ... إلخ (1) لو تم في مسألة التيمم فهو لا يتم في الكثير من موارد الاضطرار ، وما أظنه في فقهه يفتح الباب في ذلك على مصراعيه ، فلاحظ وتدبر.

قوله : أما المسألة الاولى فالحق فيها الاجزاء ، لأنّ القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها ... إلخ (2).

الذي ينبغي في هذه المسألة تقديم مقدمات :

الاولى : الفرق بين كون الشيء من قبيل الواجب في ضمن الواجب

ص: 356


1- نهاية الاصول 1 : 131.
2- أجود التقريرات 1 : 283 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

كما قيل بذلك في وجوب المتابعة في الائتمام ، أو ترك الارتماس في الصوم ، أو الجهر بالقراءة في الصلاة ، أو الحرام في الواجب كحرمة ترك المتابعة أو الارتماس ونحو ذلك ، وبين كونه قيدا فيه كالتستر والاستقبال في الصلاة ، فالثاني يكون تركه موجبا للفساد ، بخلاف الأوّل فان تركه عمدا لا يوجب إلاّ عصيان التكليف الثاني وعدم إمكان تلافيه. ولعل الفرق بين كون التقييد على نحو تعدد المطلوب أو على نحو وحدته يكون راجعا إلى ذلك كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيحه في الموقتات (1).

الثانية : أن التقييد بعد ثبوته قابل للتقييد والاطلاق ، فيمكن أن يكون تقييد الصلاة بالاجهار في قراءتها مثلا مختصا بكونها ليليّة ، كما يمكن أن يكون تقيدها بذلك مطلقا شاملا لليل والنهار ، ومن جملة ما يمكن إطلاق التقييد بالقياس إليه أو تقييده به هو التمكن من القيد ، كما في تقييد الصلاة بالطهور الأعم من الترابية والمائية ، فانه يكون مطلقا شاملا لصورة التمكن منه وعدم التمكن ، بخلاف تقيدها بخصوص الطهارة المائية فانه يكون مختصا بحال التمكن منه.

الثالثة : أن لازم كون التقييد مطلقا شاملا لصورة عدم التمكن منه هو سقوط التكليف بذلك المقيد في حال عدم التمكن من ذلك القيد خطابا لا ملاكا ، فان كان تعذره مستوعبا للوقت سقط التكليف بذلك المقيد في الوقت ، ويبقى القضاء موكولا إلى دليله ، ولا دخل لذلك بمسألة الاجزاء عن القضاء وعدم الاجزاء عنه ، ولازم كون التقييد بذلك القيد الكذائي مقيدا بحال التمكن منه هو لزوم سقوط التقييد في خصوص حال عدم التمكن

ص: 357


1- الظاهر أن مقصوده قدس سره بحث الموسع والمضيق ، وقد تقدم ذلك ، راجع الصفحة : 309 من هذا المجلّد.

من القيد خطابا وملاكا ، لكون وجوب ذلك القيد حينئذ مشروطا بالقدرة الشرعية الموجب لسقوطه عند تعذره خطابا وملاكا ، ويبقى التكليف بذات المقيد بحاله لسقوط تقيده بذلك القيد في ذلك الحال ، ويكون أقل تكليف مما هو مشروط بالقدرة العقلية إذا كان مزاحما لذلك القيد رافعا لوجوب ذلك القيد خطابا وملاكا كما حررناه (1) في مسألة ما لو وجب صرف ماء الوضوء على النفس المحترمة أو على تطهير البدن أو الساتر ، فانه يقدم على تقييد الصلاة بالطهارة المائية ، لكونه مسقطا للتكليف به خطابا وملاكا ، والاشكال على تطهير البدن أو الساتر بأنه أيضا مشروط بالقدرة الشرعية نظرا إلى أن قيديته مختصة بحال التمكن ، لا بدّ من الجواب عنه بما سيتضح (2) إن شاء اللّه تعالى عند التعرض للاشكال على ذلك بأن لازمه تجويز تفويت القدرة في هذا النحو من القيود.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : إنا إذا فرضنا أن الواجب الأولي علينا هو الصلاة مع القيام ، وفرضنا أن مصلحة الصلاة القيامية بعشرين درجة ، وفرضنا تعذر القيام علينا ، لزمنا النظر في كيفية وجوب ذلك القيام علينا ، وما مقدار مدخليته في تلك المصلحة وذلك الوجوب الوارد على الصلاة قائما.

فتارة يكون للقيام من تلك العشرين خمس درجات من دون أن يكون له دخل في الخمس عشرة الباقية ، بمعنى أن وفاء الصلاة بها لا تتوقف على القيام بل تكون وافية بها وإن تركنا القيام عمدا ، فلا يكون استيفاء الصلاة لمصلحتها متوقفا على وجود القيام ، نعم إن استيفاء مصلحة

ص: 358


1- راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب : 179 وما بعدها.
2- في الصفحة : 364 وما بعدها.

القيام متوقف على الاتيان بالصلاة ليتحقق القيام ، وإلاّ فان القيام بنفسه مع قطع النظر عن كونه واقعا في الصلاة لا مصلحة فيه أصلا. وكيف كان نقول : إن في هذه الصورة يكون القيام من قبيل الواجب في واجب ، ويخرج عمّا نحن فيه من الكلام في إجزاء الأمر الاضطراري.

وثانية : تكون له المدخلية في مصلحة الصلاة مدخلية مطلقة على وجه يكون وفاء الصلاة بتلك المصلحة متوقفا على القيام ، وأنها مع فقد القيام لا تفي بشيء من ذلك الصلاح أصلا ، سواء كان فقده عمدا أو كان اضطرارا حتى لو كان ذلك الاضطرار مستوعبا لتمام الوقت.

وفي هذه الصورة يكون تقييد الصلاة به تقييدا مطلقا شاملا لحال تعذر القيد ، ويكون لازمه سقوط الأمر بذات المقيد خطابا لا ملاكا ، ويكون حال مدخلية القيام في ذلك على نحو الركنية في المطلوب ، وبذلك يخرج عمّا نحن فيه من الاجزاء أيضا ، إذ لا أمر بالفاقد كي يتكلم عنه أنه يكون الأمر الاضطراري به مجزيا عن الأمر الأولي أو لا يكون مجزيا عنه ، كما أنه لا محل للكلام في هذه الصورة عن جواز البدار وعدمه.

نعم ، هناك مطلب آخر وهو أن هذا المكلف بعد ارتفاع ذلك العذر عنه بعد خروج الوقت هل عليه القضاء أو لا؟ وتلك جهة أخرى تابعة لدليل القضاء خارجة عمّا نحن فيه من الاجزاء.

وثالثة : تكون مدخليته في مصلحتها مقيدة بحال التمكن منه ولو في آخر الوقت ، على وجه يكون التمكن منه في آخر الوقت موجبا لعدم وفائها بمصلحتها لو أتى بها في أول الوقت ، ولا تكون الصلاة وافية بمصلحتها إلاّ إذا لم يتمكن منه في تمام الوقت.

وفي هذه الصورة يكون تقييد الصلاة به مختصا بخصوص ما لو كان

ص: 359

هو أعني القيام متمكنا منه ولو في آخر الوقت ، ولا تكون قيديته ساقطة إلاّ إذا لم يتمكن في تمام الوقت ، ولا تكون الصلاة الفاقدة له مجزية ووافية بتمام مصلحتها إلاّ إذا لم يكن القيام ممكنا في تمام الوقت ، ولا يتوجه الأمر الاضطراري بالصلاة الفاقدة للقيام إلاّ فيما إذا لم يكن القيام ممكنا في تمام الوقت.

وفي هذه الصورة يجب تأخير الصلاة الفاقدة إلى آخر الوقت ولا يجوز البدار قبل آخر الوقت ، وحينئذ تكون تلك الصلاة الواقعة في آخر الوقت الفاقدة للقيام لتعذره في تمام الوقت وافية بتمام المصلحة ومجزية عن القضاء ، ولا مورد للكلام في إجزائها عن الاعادة ، لأن المفروض عدم بقاء شيء من الوقت يمكنه فيه إيقاع الصلاة كي يقع الكلام في إجزائها عن الاعادة ، لما عرفت من عدم مشروعية البدار في هذه الصورة. نعم لو تخيل ضيق الوقت وأتى بها ثم انكشف سعته وارتفاع العذر في آخره ، أو اعتقد وقطع بعدم زوال العذر (1) إلى آخر الوقت ، أو اعتمد في ذلك على استصحاب بقاء العذر ، فانه حينئذ يجوز له البدار اعتمادا على قطعه أو على الاستصحاب ، لكن بعد إقدامه تبين زوال العذر في آخر الوقت ، فان ذلك يدخله الكلام عن الاعادة ، لكن لا من حيث الأمر الاضطراري بل من حيث الأمر الظاهري ، فان حاصل ذلك أنه تخيل بقاء العذر إلى آخر الوقت وأن قيدية القيام ساقطة عنه ، فتبين فساد ما تخيله وعدم مطابقته للواقع ، وأنه في الواقع كان القيام قيدا في صلاته ، فيكون الكلام في إجزاء تلك الصلاة من ناحية أنه تخيل عدم قيدية القيام فتبين كونه قيدا.

ص: 360


1- [ في الأصل : « بعد زوال العذر » والصحيح ما أثبتناه ].

ورابعة : تكون مدخليته مقيدة بحال التمكن كالثالثة ، لكن لا يكون سقوطها مقيدا بما إذا لم يتمكن منه في تمام الوقت ، بل في أيّ حال كان غير متمكن منه كانت قيديته ساقطة وإن كان متمكنا منه بعد ذلك الحال ، ففي الحال التي لم يتمكن فيها منه تكون الصلاة وافية بتمام مصلحتها ومجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، وإن كان متمكنا منه بعد تلك الحال.

وفي هذه الصورة يجوز له البدار في أول الوقت ، بل يستحب لفضيلة أول الوقت ، وإن كان عالما بانه بعد ذلك يتمكن من القيام.

فقد تلخص لك : أنه حيث يوجد الأمر الاضطراري بالفاقد يكون ذلك الفاقد واجدا لتمام المصلحة ، لا أنه واجد لبعضها ويبقى بعضها. نعم يفقد مصلحة نفس ذلك المفقود التي هي غير مربوطة بمصلحة أصل الفعل ، بمعنى أن مصلحة أصل الفعل لا تكون متوقفة على وجوده ، لأن توقفها عليه خلف لما فرضناه من سقوط قيديته التي يتوقف على سقوطها توجه الأمر الاضطراري بالفاقد.

لكن سيأتي إن شاء اللّه (1) الاشكال في توجه الأمر الاضطراري مع فرض التمكن في آخر الوقت ، من جهة أن فيه تفويت مصلحة المفقود.

وينبغي أن يعلم أن ما فرضناه في الصور الثلاث من كون المفقود ذا مصلحة في حد نفسه مضافا إلى توقف صلاح الفعل عليه مطلقا أو في حال التمكن منه ، وإن كان غير بعيد بالنظر إلى أن ما يعتبر في الواجب من أجزاء وشرائط ينبسط عليها الوجوب ، وكل واحد منها يناله حظ من ذلك الوجوب ، وهو المعبّر عنه بالوجوب الضمني الذي لا يكون إلاّ عن صلاح

ص: 361


1- راجع ما يأتي في صفحة : 371 وما بعدها.

ولو ضمنا أيضا ، والارتباطية عبارة عن توقف الصلاح في كل من تلك الاجزاء والشرائط على وجود البواقي ، ولكن مع ذلك يمكن فرض خلافه بأن لا يكون لذلك المفقود مصلحة في حد نفسه ، ولا يكون في البين سوى توقف مصلحة الواجب عليه إما مطلقا أو في خصوص حال التمكن منه.

لا يقال : يمكن أن لا يكون لذلك المفقود مصلحة في حد نفسه ، لكن يمكن أن يكون في تقيد الواجب به مصلحة ، فذلك الفعل الواجب تكون مصلحته بعشر درجات مثلا ، لكن تقيده بذلك القيد يكون موجبا لكون صلاح الفعل الواجب بدرجة خمس عشرة ، فيكون الفعل الفاقد لذلك القيد في حال تعذر ذلك القيد وافيا ببعض مصلحته وهي العشرة ، وتبقى الخمسة من مصلحة ذلك الفعل.

لأنا نقول : إنا ننقل الكلام في هذه الصورة إلى التقيد نفسه ونقول : إن مصلحة الفعل نفسه وهي العشرة إن كانت غير متوقفة عليه كان واجبا مستقلا وهي الصورة الاولى ، وإن كانت متوقفة عليه مطلقا كان ركنا وهي الصورة الثانية ، وإن كانت متوقفة عليه في خصوص حال التمكن منه كان اعتباره ساقطا في حال التعذر ، وهي الصورة الثالثة إن كان المسقط تعذره في تمام الوقت ، أو الرابعة إن كان تعذره في حال مسقطا لاعتباره في تلك الحال.

لا يقال : لا نفرض القيد ذا مصلحة ولا نفرض التقيد به ذا مصلحة ، بل نفرض أن المصلحة كلها لنفس ذات الفعل ، ولكن نقول إنه يمكن أن يكون حال هذا القيد حال صفة العبد كالكتابة مثلا في كونها موجبة لزيادة ثمنه وإن لم تقابل هي بشيء من الثمن ، بأن لا يكون للقيام ولا لتقيد الصلاة به شيء من المصلحة ، لكنه يمكن أن يكون موجبا لزيادة مصلحة الصلاة

ص: 362

التي هي عشرة مثلا إلى خمس عشرة ، فتكون الصلاة الفاقدة للقيام في حال تعذره غير وافية بتمام مصلحتها التي هي الخمس عشرة ، بل يبقى من مصلحتها شيء وهو الخمسة ، فيلزم الاعادة أو القضاء بعد ارتفاع العذر تحصيلا لذلك الباقي.

لأنا نقول : إن تلك العشرة من مصلحة الصلاة إن لم تكن مربوطة بالخمس الاخرى ، بمعنى أن تلك العشرة يمكن الحصول عليها وإن لم تحصل تلك الخمسة الآتية لها من ناحية القيام ، كان القيام واجبا مستقلا وذلك هو الصورة الاولى.

وإن كانت تلك العشرة مربوطة بالخمسة الاخرى على وجه يتوقف حصول تلك العشرة على حصول تلك الخمسة ، كان فقدها القيام ولو لأجل تعذره في تمام الوقت موجبا لعدم حصول تلك العشرة ، وسقط التكليف بالصلاة في حال تعذر القيام ولو في تمام الوقت ، وذلك هو الصورة الثانية.

وإن كان ارتباط العشرة بتلك الخمسة مختصا بحال التمكن من القيام ولو في آخر الوقت ، كانت الصلاة الفاقدة للقيام لتعذره في تمام الوقت وافية بالعشرة ، وسقط ما يوجب تلك الخمسة وهو القيام وكانت مجزية عن القضاء ، وذلك هو الصورة الثالثة.

وإن كان ارتباطها بتلك الخمسة مختصا بحال التمكن ، ولم تكن مرتبطة بها في حال تعذره ولو في أول الوقت ، كانت الصلاة الفاقدة للقيام في حال تعذره وافية بالعشرة ، بمعنى أنها لم تكن مقيدة في ذلك الحال فتكون مجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، لحصول امتثال الأمر بالصلاة بالاتيان بتلك الصلاة ، ولا يمكن الحكم بلزوم الاعادة إلاّ بأمر جديد يكون متعلقا بايجاد الصلاة ثانيا ، لأن الأمر الأوّل في حال الاتيان بتلك الصلاة

ص: 363

السابقة لم يكن مقيدا بالقيام ، يعني أن الأمر الواقعي الأولي الذي كان متعلقا بالصلاة مع القيام قد ارتفعت قيدية القيام من متعلقه ، وتبدل متعلقه من المقيد بالقيام إلى المجرد من ذلك القيد ، والمفروض أنه قد سقط بامتثاله ، فلو أراد الشارع تحصيل تلك المصلحة الباقية - أعني الخمسة المذكورة - كان عليه تجديد الأمر متعلقا بالصلاة مع القيام.

لكن سيأتي (1) أنه لا يمكن توجه الأمر بالفاقد في حال تعذره مع فرض تمكنه منه في باقي الوقت ، إلاّ إذا لم يكن لذلك القيد مدخلية في المصلحة أصلا ، وكان غاية ملاك قيديته هو توقف مصلحة الصلاة على وجوده ، وكان ذلك التوقف مختصا بحال التمكن منه ، دون حال عدم التمكن ، ولو كان عالما بأنه يتمكن منه في باقي الوقت.

ثم إنك قد عرفت أن لازم الصورة الثانية هو كون القدرة على ذلك القيد شرطا عقليا في التكليف بالمأمور به المقيد بذلك القيد ، المفروض كونه قيدا حتى في حال تعذره ، فيكون التكليف بذلك المقيد في حال تعذر قيده المذكور ساقطا خطابا لا ملاكا ، بخلاف الثالثة والرابعة فان لازمهما كون القدرة على ذلك القيد شرطا شرعيا في اعتباره في المأمور به.

ولا يخفى أن لازم كون القدرة شرطا شرعيا في التقييد هو مدخليتها في ملاك ذلك التقييد ، فيكون عدمها موجبا لسقوط التقييد المذكور خطابا وملاكا ، ومقتضى ذلك هو جواز تفويت تلك القدرة ، لأن ذلك من قبيل إخراج المكلف نفسه من موضوع إلى موضوع آخر كالحضر والسفر ، لكن ذلك أعني جواز التفويت إنما يكون فيما إذا لم يكن لذلك القيد في حدّ

ص: 364


1- في صفحة : 371 وما بعدها.

نفسه مصلحة خاصة زائدة على توقف مصلحة ذات الواجب على وجوده عند القدرة عليه ، أو لم يكن لتقيده به مصلحة خاصة ، أو لم يكن هو أعني القيد موجبا لزيادة مصلحة نفس الواجب ، ففي صورة انتفاء هذه الجهات الثلاث لا يكون التفويت ممنوعا عنه.

أما إذا تحقق أحدها بأن كان لنفس القيد مصلحة خاصة ، أو كان لتقيد الواجب به مصلحة خاصة ، أو كان هو موجبا لزيادة مصلحة الواجب نفسه كما عرفت تفصيل الكلام في هذه الصور ، فانه لا يجوز تفويت القدرة في واحدة منها ، فان أصل مصلحة الواجب وإن نالها المكلف عند الاتيان بالفعل فاقدا لذلك القيد بعد تعذره عليه بسوء اختياره ، وكان ذلك الفعل مجزيا له عن الاعادة والقضاء ، إلاّ أنه قد عصى وفعل محرما بتفويته تلك الجهة الزائدة من المصلحة التي هي حسب الفروض غير مشروطة بالقدرة الشرعية ، فان الذي كان مشروطا بالقدرة الشرعية هو مدخلية وجود ذلك القيد في أصل مصلحة ذلك الواجب ، بمعنى أن قيديته لذلك الواجب وتوقف صحته على وجوده كان هو المشروط بالقدرة الشرعية ، دون مصلحة نفس ذلك القيد أو المصلحة الزائدة لذلك الواجب من ناحية تقيده به أو وجوده فيه ، فان هذه الجهات الزائدة من المصلحة لم تكن مشروطة بالقدرة الشرعية فلا يسوغ تفويتها ، وإن كان لو فوّتها المكلف على نفسه وعجّز نفسه عن ذلك القيد كان الواجب الفاقد لذلك القيد بعد أن عجّز نفسه عنه صحيحا. وبذلك يندفع الاشكال على ذلك بأنه مناف لذوق المتشرعة ، حيث إنهم يرون العاجز الذي صار تكليفه الاضطراري متعلقا بالفاقد محروما عن مقدار من المصلحة فاتته بذلك الاضطرار.

نعم ، يبقى إشكال آخر وهو أن لازم ذلك هو تساوي هذه القيود في

ص: 365

الاشتراط بالقدرة الشرعية ، فما هو الوجه في تقديم بعضها على بعض مثل تقديم الطهارة من الخبث على الطهارة المائية ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى (1) الجواب عنه.

ثم لا يخفى أنهم جوّزوا كما في العروة البدار مع احتمال زوال العذر في آخر الوقت في مسألة التيمم ، ومنعوه في مسألة الجبيرة ومسألة اللباس ومسألة القيام ، فراجع العروة في هذه المسائل (2) ، وقد عرفت أن مقتضى الاستصحاب الجواز في جميع هذه الصور ، ومع قطع النظر عن الاستصحاب فمقتضى القاعدة المنع في الجميع ، والتفرقة بكون الطهارة المائية مشروطة بالقدرة العقلية (3) فلا يجب الاحتياط فيها عند الشك في تحقق القدرة بخلاف البواقي ، قد عرفت الاشكال فيه وأن القدرة في الجميع بالنسبة إلى التقييد شرعية ، وإمكان استواء الجميع في احتمال الصلاح في نفس القيد الراجع إلى القدرة العقلية من هذه الناحية.

وينبغي مراجعة العروة في مسألة 13 فان شيخنا قدس سره في الحاشية (4) فرّق بين إراقة الماء وبين نقض الوضوء ، فجوّز الثاني ومنع من الأوّل ، ولم يتضح الوجه في ذلك. والظاهر أنه لا نص في المنع من الاراقة كما صرح به في الحدائق (5) في آخر الفرع الخامس فيما لو أخلّ بالطلب.

ص: 366


1- سيأتي في هذه الحاشية التعرض لذلك ، وينبغي مراجعة المجلّد الثالث من هذا الكتاب في صفحة : 179 وما بعدها ، وكذا صفحة : 273 وما بعدها.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 216 مسألة 3 ، وراجع أيضا 1 : 484 مسألة 32 ، و 2 : 355 مسألة 46 ، و 2 : 487 مسألة 22.
3- [ الظاهر أنه من سهو القلم ، والصحيح : بالقدرة الشرعية ].
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 168 مسألة 13.
5- الحدائق الناضرة 4 : 228.

وينبغي أيضا مراجعة جميع المسائل التي حررها في المسوّغ السادس فيما يرجع إلى مزاحمة الطهارة من الخبث مع الطهارة المائية ، فانه قدّم الاولى على الثانية لكون الثانية لها البدل دون الاولى ، وأضاف إليه قوله : مع أنه منصوص في بعض صوره (1).

أما كون الثانية لها البدل دون الاولى فيمكن منعه ، لما عرفت في محله من رجوع البدلية إلى اشتراط القدرة الشرعية ، وقد عرفت هنا أن الطهارة من الخبث مشروطة شرعا بالقدرة أيضا. اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنهما وإن اشتركا في كونهما مشروطين بالقدرة الشرعية إلاّ أن أحدهما لمّا جعل له الشارع [ البدل ](2) كان المستفاد من ذلك الجعل هو قيام ذلك البدل بمقدار من مصلحة المفقود ، وذلك المقدار كاف في التقديم في مقام المزاحمة وإسقاط التخيير بينهما ، لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى في باب التزاحم (3) المنع من ذلك.

وأما النص ، ففيه تأمل فان صاحب الحدائق (4) صرح في الفرع الثاني عشر بأنّ المسألة لا نص فيها. نعم إن صاحب الجواهر قدس سره بعد أن استدل للمسألة بما عرفت من البدلية والاجماع قال ما لفظه : وقد يشهد له مع ذلك أيضا ما في خبر أبي عبيدة « سئل الصادق عليه السلام عن المرأة ترى الطهر في السفر وليس معها ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال : إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي » الحديث (5) لتقديمه إزالة

ص: 367


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 178 - 181.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].
3- في المجلّد الثالث من هذا الكتاب في صفحة : 181.
4- الحدائق الناضرة 4 : 235.
5- وسائل الشيعة 2 : 312 / أبواب الحيض ب 21 ح 1 ( مع اختلاف يسير ).

النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها لو لاها (1) وفي دلالتها تأمل لعدم تعرضها للوضوء.

وما ذكره في مسألة 23 (2) من مزاحمة تقليل النجاسة للطهارة المائية وتقديم الثانية على التقليل لم يظهر وجهه ، مع تصريحه بلزوم التقليل في باب أحكام النجاسات (3).

ثم إن تقديم تطهير البدن على تطهير الثوب والطهارة المائية لم يظهر وجهه ، وكذا ما أفاده شيخنا قدس سره من قوله في الحاشية : بل هو المتعين على ما هو الأقوى من وجوب الصلاة عاريا مع الانحصار (4) فان كل واحد من هذه الجهات مشروط بالقدرة شرعا ، فكما أن الطهارة المائية مشروطة شرعا بالتمكن ، فكذلك تطهير البدن من الخبث ، وكذلك تطهير الثوب منه مشروط شرعا بالقدرة ، سواء قلنا إن بدله هو الصلاة عاريا أو الصلاة مع النجس.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إن الصلاة عاريا بدل شرعي ، بخلاف الصلاة مع النجس فانه من باب سقوط شرطية طهارة اللباس ، من دون أن يكون الصلاة مع النجس بدلا ، فتأمّل.

لكن يبقى الاشكال في مسألة 25 (5) ، لأنّ كلا من الصلاة عاريا ومع التيمم من باب البدلية حينئذ ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إن الصلاة عاريا إنما تكون

ص: 368


1- جواهر الكلام 5 : 117.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 180.
3- [ الظاهر أنه من سهو القلم ، والصحيح : أنه في بحث الصلاة في النجس ، راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 206 - 207 مسألة 9 ].
4- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 181.
5- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 2 : 182.

بدلا عن اللباس الطاهر لا عن أصل الساتر ، فتأمل.

وخلاصة المبحث وزبدة المخاض : أن ملخص ما أفاده شيخنا قدس سره هو أن تشريع الأمر الاضطراري في صورة كون العذر مستوعبا لتمام الوقت ملازم لامور ثلاثة ، لا ينفك عنها ولا تنفك هي بعضها عن بعض :

الأوّل : سقوط قيدية المتعذر واختصاصها بحال التمكن ولو في بعض الوقت ، فتكون القيدية المزبورة مشروطة بالقدرة الشرعية ولو في آخر الوقت ، وأنه عند تعذره في تمام الوقت لا يكون ذلك المتعذر قيدا.

الثاني : كون مصلحة ذلك الفاقد غير متوقفة في حال تعذر المفقود على ذلك المفقود ، فيكون ذلك الفاقد وافيا بتمام مصلحته.

الثالث : كون ذلك الفاقد المأتي به مجزيا عن القضاء ، أما الاعادة فليست هي محل كلامه قدس سره وسيأتي الكلام عليها إن شاء اللّه تعالى (1).

وملخص ما يمكن أن يتوجه عليه امور ثلاثة أيضا :

الأوّل : أن دعوى كون الفاقد وافيا بتمام المصلحة مما لا تساعد عليه أذهان المتشرعة ، لأنهم يرون العاجز عن القيام في تمام الوقت مثلا محروما عن مصلحة الصلاة القيامية وإن كان معذورا عندهم ، بل ربما عبّروا عن ذلك بعدم مساعدة التوفيق ونحو ذلك مما يدل على أنهم يرونه غير نائل لتلك المصلحة.

الثاني : أن لازم ذلك هو جواز تفويت القدرة بالنسبة إلى تلك الأجزاء أو الشرائط.

الثالث : أنه بناء على ذلك لا وجه لتقديم مثل الطهارة من الخبث

ص: 369


1- ستأتي الإشارة إليه في صفحة : 396.

على الطهارة المائية.

أما الأخير فقد عرفت الجواب عنه بمسألة البدلية. نعم يرد عليه كون تزاحم القيود والأجزاء من قبيل تزاحم المشروطات بالقدرة الشرعية ، وهو خلاف مسلكه قدس سره (1) في تزاحمها ، بل يراه من تزاحم المشروطات بالقدرة العقلية.

وأما الأوّل والثاني فهما إنما يتوجهان فيما لم يكن لذلك المفقود أثر أصلا سوى توقف مصلحة الواجب على وجوده ، أما إذا كان له مقدار من الصلاح فلا ورود لهما. ويمكن فرض ذلك بأحد امور ثلاثة :

الأول : كونه في حد نفسه ذا مصلحة ضمنية كما أنه ذو وجوب ضمني ، مضافا إلى أنه تتوقف مصلحة الواجب على وجوده الذي عرفت أنه محصل الارتباطية.

الثاني : كون تقيد الصلاة به ذا مصلحة وإن لم يكن هو بذاته ذا مصلحة ، ولعل ما يقولون من كون التقييد داخلا وكون القيد خارجا راجع إلى هذه الصورة.

لثالث : كونه موجبا لزيادة المصلحة في ذات الواجب وإن لم يكن هو ولا التقيد به ذا مصلحة ، فيكون حاله في ذلك حال وصف العبد المبيع بالكتابة في كونه موجبا لزيادة ثمن العبد ، وإن لم يقابل بشيء من الثمن.

وهذه الجهات من المصالح هي التي تفوت المكلف عند تعذر ذلك

ص: 370


1- يظهر من أجود التقريرات 2 : 49 أن أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعا ، ولكن يظهر مما ذكره قدس سره في أجود التقريرات 2 : 43 - 44 أن مثل القيام مشروط بالقدرة العقلية. وقد أشار إلى هذا التنافي المحقّق الخوئي قدس سره في هامش الأجود ، كما أشار إليه المصنف قدس سره في المجلّد الثالث من هذا الكتاب صفحة : 251.

القيد ، وهي المنشأ فيما عليه أذهان المتشرعة ، وهي المنشأ أيضا في عدم جواز تفويت القدرة عليه ، لعدم كونها مشروطة شرعا بالقدرة الشرعية ، وإن كان توقف أصل مصلحة الواجب على ذلك القيد الذي هو روح التقييد وملاكه مشروطا بالقدرة شرعا. نعم لو كانت مصلحة القيد مشروطة أيضا بالقدرة الشرعية كأصل التقييد عاد الاشكال الثاني والاشكال الثالث.

ثم بعد ذلك يتوجه الاشكال على الأمر بالفاقد في الوقت لكونه موجبا لتفويت مصلحة القيد ، فلا بدّ حينئذ من إيقاع التزاحم بين مصلحة الوقت ومصلحة نفس القيد إن كانت مصلحة القيد غير قابلة للاستيفاء بعد استيفاء مصلحة الوقت ، وإن كانت قابلة للاستيفاء كان اللازم هو توجه الأمرين ، الأمر بالفاقد في الوقت والأمر بالواجد بعد الوقت على ما مرّ (1) تفصيل الكلام فيه ، فلاحظ.

هذا كله فيما لو كان العذر مستوعبا لتمام الوقت ، بحيث كان المكلف عاجزا عن القيام مثلا في تمام الوقت المضروب للصلاة ، أما لو كان متمكنا في بعضه بأن كان في أوّل الوقت عاجزا لكنه يقدر عليه بعد ذلك ولو في آخر الوقت ، فان كان ذلك أجنبيا عن المصلحة بالمرة ، ولم يكن له أثر إلاّ توقف مصلحة الصلاة على وجوده ، من دون أن يكون لنفسه مصلحة خاصة ولا لتقيد الصلاة به ولا أنه موجب للزيادة في مصلحتها ، فان كان توقف مصلحة الصلاة عليه توقفا مطلقا حتى لو لم يكن مقدورا في تمام الوقت سقط الأمر بالصلاة كما عرفت فيما تقدم (2).

وإن كان توقف مصلحة الصلاة عليه مختصا بما لو تمكن منه ولو في

ص: 371


1- لاحظ ما تقدم في صفحة : 346 - 347.
2- في صفحة : 359 - 360.

آخر الوقت لم تسقط قيديته إلاّ في صورة تعذره بتمام الوقت ، وكان الاتيان بها فاقدة له فيما لو كان متعذرا في تمام الوقت مجزيا عن القضاء ، وكانت حينئذ وافية بتمام مصلحتها ، وخرجت المسألة عن محل الكلام في الاجزاء عن الاعادة ، لعدم تصور الاعادة حينئذ إلاّ فيما لو اعتقد بقاء العذر أو اعتمد على الاستصحاب ثم انكشف الخلاف ، فانه يدخله الكلام حينئذ في الاجزاء عن الاعادة ، لكن لا من جهة الأمر الاضطراري بل من جهة الأمر الظاهري.

وإن كان توقف مصلحة الصلاة عليه مختصا بحال التمكن دون حال التعذر - وإن كان ذلك التعذر في بعض الوقت مع فرض التمكن منه في البعض الآخر - كانت قيديته في حال التعذر ساقطة ، وكانت الصلاة الفاقدة له في ذلك الحال مجزية عن كل من الاعادة والقضاء ، وكانت وافية بتمام مصلحتها وإن كان يعلم أنه يتمكن منه بعد ذلك. وفي هذه الصورة يكون جواز البدار حكما واقعيا ، وتكون تلك الصلاة المأتي [ بها ](1) فاقدة لذلك القيد في حال تعذره وافية بتمام المصلحة الواقعية ، وإن كان عند الاتيان بها عالما بأنه بعد ذلك يرتفع تعذره ويتمكن من الحصول على ذلك القيد في باقي الوقت ، ويكون حال تعذر القيد وحال التمكن منه من قبيل اختلاف الموضوع نظير الحضر والسفر ، ويكون تفويت القدرة على ذلك القيد سائغا غير ممنوع عنه عقلا ولا شرعا ، ويكون أقل تكليف مشروط بالقدرة العقلية مقدما على تحصيل ذلك القيد ، لكونه رافعا للقدرة عليه وموجبا لسقوط لزوم تقييد الصلاة.

ص: 372


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

ولا يتوجه عليه ما تقدم (1) ذكره من أن ذوق المتشرعة لا يساعد على كون الفاقد مساويا للواجد ، لأنهم بعد اطلاعهم على أن الشارع قد أمره بالفاقد في حال تعذره حتى في صورة العلم بأنّه يتمكن من القيد بعد ذلك ، يستكشفون قهرا أن ذلك الفاقد واجد لتمام المصلحة التي ينالها عند التمكن من القيد. لكن فعلا لم أعثر على مثال يكون الأمر الاضطراري فيه من هذا القبيل ، بمعنى أنه يتوجه في حال تعذر القيد مع فرض العلم بارتفاع التعذر بعد ذلك في باقي الوقت ، حتى في مثل الطهارة المائية ، فانهم لا يسوّغون البدار فيها لمن كان عالما بأنه يتمكن من الماء في باقي الوقت وإن سوّغوه في صورة الاحتمال ، هذا كله فيما لا يكون لذلك القيد مصلحة أصلا ، ولم يكن له أثر إلاّ مجرد توقف مصلحة الصلاة على وجوده.

أما لو كان له مصلحة في حد نفسه بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدمة من المصلحة الضمنية أو المصلحة في التقيد به أو المصلحة الزائدة في الفعل بسببه ، بأن كانت مصلحة الصلاة الواجدة له في حال التمكن بدرجة عشرين ، وكان خمسة منها لاحقة لذات القيد أو لتقيده ، أو أنها تزيد في مصلحة الصلاة بسببه ، فانا وإن فرضنا أن مصلحة الصلاة التي هي خمس عشرة لا تكون متوقفة على وجوده في حال تعذره في أوّل الوقت حتى مع فرض التمكن منه في باقي الوقت ، وكان لازمه أنه لو أتى بالصلاة في ذلك الوقت تكون مسقطة لأمرها ووافية بمصلحة نفسها ، وأنه لا مجال لاعادتها بعد ذلك إلاّ بأمر جديد ، إلاّ أن ذلك كله إنما يتم لو توجه الأمر الاضطراري

ص: 373


1- في صفحة : 369.

إليه في ذلك الحال ، لكنه لا يمكن صدور مثل ذلك الأمر من الشارع ، لكونه مفوّتا لذلك المقدار من المصلحة أعني الخمس درجات.

نعم ، لو كان التعذر مستوعبا لتمام الوقت كان توجه الأمر الاضطراري إليه في محله ، نظرا إلى أن مصلحة الوقت أهم من المصلحة التي تفوته من ناحية القيام التي يحصل عليها في خارج الوقت ، فيكون ذلك الأمر كاشفا عن أهمية مصلحة التقييد بالوقت على مصلحة القيام في خارج الوقت ، على إشكال في ذلك فيما لو كان الاستناد في سقوط قيدية مثل القيام إلى الأدلة العامة مثل العسر والحرج ، منشؤه أن الحرج في مثل ذلك يكون في التقييد بالقيام أو التقييد بالوقت ، فتأمّل ، هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنا إذا فرضنا أن وفاء الصلاة بمصلحتها الخمس عشرة في حال تعذر القيام ولو في أوّل الوقت لا يكون متوقفا على وجوده ، لم تكن مصلحة القيام التي هي الخمسة في ذلك الحال إلاّ من قبيل الواجب في واجب ، الذي لا يكون تعذره بل مجرد تركه ولو عمدا موجبا لعدم صحة الأمر بذلك الفاقد.

اللّهم إلاّ أن يقال : إنا نلتزم في مسألة الواجب في ضمن الواجب أنه عند تعذره مع فرض التمكن منه بعد ذلك يسقط الخطاب بأصل الواجب في حال التعذر ، لكونه مفوّتا لمصلحة ذلك الواجب الضمني ، لكنه لو أتى به في ذلك الحال كان صحيحا ووافيا بملاك نفسه. نعم إن ذلك الخطاب غير ساقط في حال تركه عمدا ، لأنه لا يكون ذلك الخطاب حينئذ هو المفوّت بل المفوّت هو الترك العمدي.

وفيما نحن فيه أيضا نلتزم بذلك ، بمعنى أنا نلتزم بسقوط الخطاب بالباقي وبقائه ملاكا ، وأنه لو جاء به لكان صحيحا ووافيا بملاكه ، إلاّ أن

ص: 374

الشأن في ثبوت أصل هذه الصورة ، إذ لا طريق لنا إلى استكشافها إلاّ من توجه الأمر الاضطراري في حال تعذر القيد مع فرض التمكن منه في باقي الوقت ، مع فرض قيام الدليل أيضا على أنه لو كان في حال يمكنه فيه ذلك القيد لا يجوز له تفويت تلك القدرة ، فان هذين الدليلين لو اجتمعا تستنتج منهما النتيجة المزبورة ، بخلاف ما لو انفرد الأوّل عن الثاني فانه يمكن أن ينزّل على ما تقدم ذكره من عدم مدخلية للقيد في المصلحة ، وأنه لا أثر له إلاّ توقف مصلحة الواجب عليه في حال التمكن منه ، وأن قيديته ساقطة في حال تعذره ولو مع التمكن منه في باقي الوقت.

على أنك قد عرفت أن هذا المقدار أيضا مجرد فرض لا واقعية له ، وأن الأوامر الاضطرارية المشرّعة فيما عثرت عليه كلها مقيدة بالتعذر في تمام الوقت ، وأنه لا يسوغ البدار في شيء منها لمن كان يعلم أنه يتمكن من القيد في باقي الوقت ولو في آخره.

قوله : وأما المسألة الثالثة فادعى جماعة فيها الاجماع على عدم الاجزاء ، وجعلوا الاجزاء وعدمه من فروع مسألة التصويب والتخطئة وهو الحق ... الخ (1).

لا يخفى أن الأمر الظاهري ذو مراتب ، فأعلاها ما يستفاد من الأمارات ، ثم الاصول الاحرازية ، ثم الاصول التنزيلية ، ثم الاصول التي يكون مفادها جعل الحكم في مورد الشك ، سواء كان ذلك الحكم على طبق أحد طرفي الشك كما في قاعدة البناء على الأكثر أو قاعدة الطهارة ، أو كان حكما آخر كما لو حكم بالاباحة الظاهرية أو التخيير الشرعي الظاهري

ص: 375


1- أجود التقريرات 1 : 286 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

في موارد الدوران بين المحذورين ، ثم الاصول التي لا تعرض لها لأزيد من الوظيفة المقررة للشاك في مقام العمل ، كما في موارد الاحتياط الشرعي كالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وكما في البراءة الشرعية. وهذه الأوامر الظاهرية بأسرها تارة يكون مجراها هو الشبهة الحكمية ، واخرى يكون مجراها هو الشبهة الموضوعية.

ثم إن التبدل في الأمر الظاهري تارة يكون من جهة الانكشاف القطعي على خلافه ، وأخرى يكون من جهة الانكشاف الظني ، إلاّ أن الانكشاف القطعي في الأوامر الظاهرية الجارية في الشبهة الحكمية قليل جدا ، بل لا أستحضر له فعلا مثالا إلاّ ما قد يقال من الإجماع المحصل إذا فرض تحققه للمجتهد بعد العمل بالأمارة التي كان مقتضاها مخالفا لذلك الاجماع ، بخلاف ما يكون من الأحكام الظاهرية جاريا في الشبهات الموضوعية ، فان الانكشاف القطعي فيها كثير جدا ، كما لو عمل على طبق أصالة الطهارة في اللباس مثلا ثم علم بعد ذلك بأنه نجس ، كما يمكن الانكشاف الظني فيها أيضا ، كما لو عمل بمقتضى اليد من الملكية أو تذكية ما في يد المسلم ثم قامت البينة على الخلاف.

ثم لا يخفى أن معنى انكشاف الخلاف القطعي في الأوامر الظاهرية ليس معناه انكشاف الخطأ في ذلك الأمر الظاهري ، بحيث ينكشف قطعيا أن ذلك الأمر الظاهري كان خطأ ، كما في موارد القطع بالطهارة مثلا ثم يتبدل إلى القطع بالنجاسة ، فان هذا المعنى بعد فرض كونه حكما ظاهريا واردا في مورده لا يعقل ، بل المراد به أنه ينكشف أن الواقع كان على خلاف ذلك الحكم الظاهري ، بمعنى أن ذلك الحكم الظاهري لم يكن مطابقا للواقع بل كان الواقع على خلافه ، أما نفس ذلك الحكم الظاهري فلم يكن

ص: 376

في حد نفسه خطأ ، بل لا يمكن التفوّه بذلك بعد فرض كونه حكما شرعيا صدر في ظرفه في محلّه.

والحاصل : أن معنى انكشاف الخطأ في ذلك الحكم الظاهري ليس إلاّ عبارة عمّا افيد من التخطئة ، وأن لله تعالى في كل واقعة حكما واقعيا يصيبه من يصيبه ويخطأه من يخطأه ، بمعنى أن الحكم الظاهري لا يغيّر الواقع بل يكون الواقع محفوظا ، ولأجل انحفاظ ذلك الحكم الواقعي نقول إن العمل على طبق ذلك الحكم الظاهري لا يكون مجزيا عن الواقع لو انكشف أن الواقع كان على خلاف مقتضى ذلك الحكم الظاهري.

ولا يخفى أن صاحب الكفاية قدس سره (1) لم يحرر هذه الأقسام ، بل جعل محط التقسيم هو كون الحكم الظاهري جاريا في إثبات أصل التكليف كما لو أدى إلى وجوب صلاة الجمعة ، أو أنه يكون جاريا في إثبات موضوع التكليف يعني متعلقه ، وجعل هذا الأخير على قسمين : الأصل العملي والأمارة ، وحكم في الأوّل أعني الأصل العملي بالاجزاء ، بناء على أن مفاده هو تحقيق ما هو موضوع التكليف ، ولم يتعرض في ذلك لكونه جاريا في الشبهة الموضوعية ، كما لو شك في الطهارة أو الحل على نحو الشبهة الموضوعية ، أو كونه جاريا في الشبهة الحكمية كما في الشك في الطهارة أو الحل على نحو الشبهة الحكمية ، كمن شك في نجاسة بول الحمار أو شك في حلية لحم الأرنب واعتمد على قاعدة الطهارة والحل وصلى مع كل منهما ، بناء على أن القاعدتين غير مختصتين بالشبهات الموضوعية بل هما تجريان في الشبهات الحكمية ، فلنجعل الكلام معه قدس سره في أخس هذه

ص: 377


1- كفاية الاصول : 86 - 87.

الصور ، وهو ما لو اعتمد في الشبهة الموضوعية بالنجاسة على أصالة الطهارة ثم انكشف بعد العمل نجاسة ذلك الثوب مثلا انكشافا قطعيا ، فقد حكم في ذلك بالاجزاء.

وكلامه في ذلك يدور على امور ثلاثة : الأوّل : أن مفاد أصالة الطهارة هو تحقيق الشرط. الثاني : أنها تكون حاكمة على ما يدل على اشتراط الطهارة في اللباس ، ومبينة لأنّ الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية. الثالث : أنه عند تبين نجاسة ذلك الثوب لا يكون من قبيل تبين الخلاف وأنه لم يكن واجدا لذلك الشرط ، بل يكون من قبيل تبدل الموضوع ، ويكون العلم بنجاسة ذلك الثوب رافعا للشرط من حين التبين لا من أوّل الأمر.

ولا يخفى أن هذه الجهات تكون في بادئ النظر كالمتناقضة ، فان مقتضى الثالث هو كون الحكم الظاهري الثابت بقاعدة الطهارة حكما واقعيا وأن التبدل إلى النجاسة وفقدان الشرط يكون من قبيل تبدل الموضوع ، وهذا لا يلتئم مع ما في الأمر الثاني من أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية.

وربما يقال في توجيه أصل ما أفاده قدس سره من الإجزاء : إنه مبني على كون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة الواقعية لما هو مشكوكها ، فان الطهارة بعد فرض كونها من الأحكام الشرعية كان من الممكن جعلها لما هو المشكوك كما كان من الممكن جعلها للشيء بعنوانه الأولي كالماء مثلا ، وبناء على ذلك تكون طهارة المشكوك حكما واقعيا ، غايته أنها ثابتة للشيء بعنوان كونه مشكوكا لا بعنوانه الأولي ، وحينئذ تكون محققة لما هو الشرط ، ويكون ما دل على اشتراط الطهارة شاملا للطهارة الثابتة للشيء

ص: 378

بعنوانه الأولي وللشيء بعنوانه الثانوي ، ويكون العلم الطارئ بالنجاسة من قبيل التبدل من موضوع إلى آخر ، فلا يتصور فيه انكشاف الخلاف ، ويكون مقتضاه الاجزاء قطعا.

ولكن لا يخفى عليك أن حمل كلامه قدس سره على ذلك مما يقطع بخلافه وأنه لا يريده لا سيما بعد قوله : بل واستصحابهما في وجه قوي (1) ، فان كون الطهارة في ذلك واقعية لو سلّمنا قوله بها في قاعدة الطهارة إلاّ أن قوله بها في استصحابها مما يقطع بعدم إمكان نسبته إليه ، إلاّ أن يدعى أن مفاد استصحاب الطهارة هو أيضا جعل الطهارة للمشكوك ، غايته أنه الشك المسبوق باليقين لا مطلق الشك. وفيه أوّلا : أنه حينئذ لا وجه لحكومة مثل استصحاب النجاسة على قاعدة الطهارة ، إلاّ أن يلتزم في ذلك بطريقة التخصيص. وثانيا : لا يتأتى في استصحاب الموضوعات مثل الحياة والسواد والبياض ونحو ذلك ، إذ لا معنى للجعل في ذلك إلاّ بأن يلتزم بأن المجعول هو الآثار الشرعية لتلك الموضوعات عند الشك في بقاء تلك الموضوعات. وثالثا : أن ذلك خلاف ما صرح (2) به هو وغيره من مفاد دليل الاستصحاب.

وبالجملة : أن شأنه قدس سره أجلّ من أن يحمل كلامه على ذلك. هذا مع تصريحه بكون الطهارة ظاهرية بقوله : وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية (3) ، مضافا إلى أن كلامه لو كان مبنيا على ذلك لجعل الانقلاب في الطهارة والنجاسة لا في خصوص واجدية الشرط ، هذا أوّلا.

ص: 379


1- كفاية الاصول : 86.
2- كفاية الاصول : 392 ، 398.
3- كفاية الاصول : 86.

وثانيا : أن الطهارة المذكورة لو قلنا بكونها حكما ظاهريا ، كان الجمع بينها وبين النجاسة الواقعية لو صادف كون مجراها بولا في الواقع هو الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية كل على مشربه ، أما لو كانت حكما واقعيا ثابتة لما هو معنون بعنوان كونه مشكوكا يتوجه سؤال الجمع بينها وبين النجاسة الواقعية الثابتة للبول المذكور ، وأقصى ما يمكن أن يقال إن النجاسة الواقعية ثابتة للبول المعلوم البولية ، أو أن النجاسة الواقعية ثابتة لما هو معلوم النجاسة ، والطهارة الثابتة للمشكوك يكون موضوعها هو المشكوك البولية أو المشكوك النجاسة. ولا يخفى أن ذلك مما لا يمكن الالتزام به ، ولئن التزمنا به في خصوص الطهارة والنجاسة فلا يمكننا الالتزام به في جميع مجاري الاصول حتى الاستصحاب وغيره.

ولو قيل إن النجاسة في ذلك تكون حكما اقتضائيا ، كان محصّله أن البولية لا تكون مؤثرة في النجاسة الفعلية في مقام الشك ، بل يكون المؤثر هو عنوان الشك ويكون الحكم الواقعي هو الطهارة ، فيكون ذلك راجعا إلى الالتزام المذكور أعني تقيد مثل النجاسة والطهارة الواقعيين بالعلم بالموضوع أو العلم بنفس النجاسة والطهارة ، فان مرجع الحكم الاقتضائي إلى أن الحكم الواقعي يكون على طبق العنوان الثانوي ، والعنوان الأوّلي لا يؤثر أثره نظير ما لو كان شرب الماء مباحا في حد نفسه ومحرما باعتبار كونه مضرا مثلا ، بل نظير حرمة الالقاء في التهلكة أو الضرر أو قتل المسلم مع فرض وجوبه جهادا أو دفاعا عن النفس ونحو ذلك ، وحينئذ يرجع الأمر بالأخرة إلى انحصار النجاسة الواقعية بما هو غير مشكوك ، ولازمه عدم تصور الشك في النجاسة حينئذ ليكون مجرى قاعدة الطهارة ، وحينئذ لا يكون جريان القاعدة في الشبهات الحكمية معقولا.

ص: 380

وثالثا : أن لازم ذلك هو عدم الاعادة على من توضأ أو اغتسل بماء مشكوك الطهارة ثم بعد الفراغ تبين نجاسته.

ورابعا : أن ما هو الشرط في الصلاة إن كان هو خصوص الطهارة الثابتة للشيء بعنوانه الأولي ، لم يكن الاعتماد على قاعدة الطهارة نافعا في جواز الدخول في الصلاة. وإن كان الشرط هو الأعم فلازمه وإن كان هو الاجزاء ، إلاّ أن ذلك التعميم لا دليل عليه ، ومجرد قاعدة الطهارة بناء على هذا الوجه لا توجب التعميم المذكور ، كما أن حلية الاضطرار لا توجبه فيما لا يؤكل.

وخامسا : أن لازم ذلك هو كون الملاقي لما هو مشكوك الطهارة طاهرا واقعا وإن انكشف بعد ذلك كون الملاقى - بالفتح - بولا ، وذلك من جهة أن الملاقى - بالفتح - لم يكن نجسا حين الملاقاة ، لكونه في ذلك الحال مشكوكا ، وأقصى ما في البين أن العلم بنجاسته يوجب كونه نجسا من حين العلم لا من حين الملاقاة ، فتأمل.

ويمكن أن يقال : إن ما أفاده قدس سره لا يبتني على كون مفاد قاعدة الطهارة هي الطهارة الواقعية ، بل إنه مبني على أنها من الاصول التنزيلية ، وأنها لا تتكفل إلاّ الطهارة الظاهرية ، لكن هذه الطهارة بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة مثل الصلاة تكون مؤثرة أثرا واقعيا وهو صحة الصلاة ، لكونها واجدة لما هو الشرط فيها الذي هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، فتكون قاعدة الطهارة محققة لما هو الشرط واقعا ، وبواسطة تكفلها لتنزيل ما هو مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي في ترتيب أثره عليه الذي هو صحة الصلاة معه ، تكون موجبة لتعميم دائرة الشرط وأنه الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، وبواسطة أن الحكم الواقعي

ص: 381

وهو وجدان الشرط يكون تابعا لوجود ذلك الحكم الظاهري ، وأنه عند تبين النجاسة ينقطع الحكم الظاهري فيتبدل الشرط من الوجود إلى العدم ، لا أنه ينكشف عدم وجوده من أوّل الأمر ، وبذلك يتم ما أفاده من المطالب الثلاثة ، أعني كون القاعدة محققة لما هو الشرط ، وموجبة لتعميم دليل الشرط ، وأنه عند العلم بالنجاسة يكون بالنسبة إلى وجدان الشرط من قبيل تبدل الموضوع.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان كون الشرط في لباس المصلي هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية لا دليل عليه ، ومجرد تنزيل ما هو مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي لا يدل على هذا التعميم ، بل أقصى ما فيه أن يكون هذا الدليل مصححا لترتيب أثر الطاهر الواقعي على ما هو المشكوك ، وهو أعني هذا الترتيب حكم ظاهري لا واقعي ، فلا تكون محققا للشرط تحقيقا واقعيا ، بل أقصى ما فيه أنه يحققه تحقيقا ظاهريا ويكون تلك الصلاة صحيحة ظاهرا.

والحاصل : أن ملخص ما في الكفاية هو أن مثل قوله عليه السلام المشكوك طاهر ، لا ريب في كونه حكما ظاهريا ، إلاّ أن هذا الدليل له نسبتان : إحداهما نسبته إلى ما دل على الحكم الواقعي في مورده مثل قوله : البول نجس ، والاخرى نسبته إلى ما دل على اعتبار الطهارة في لباس المصلي ، ولا ريب أن تقدمه على الدليل الأوّل لا يكون إلاّ تقدما ظاهريا ، ولا تكون حكومته عليه إلاّ حكومة ظاهرية ، لكن نسبته إلى الدليل الآخر وتقدمه عليه لا يكون إلاّ تقدما واقعيا ، لأن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فتكون حكومته عليه حكومة واقعية.

وملخص الجواب عنه : أنه لو كان لنا دليل خارج عن هذين

ص: 382

الدليلين يدل على أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، لكان دليل قاعدة الطهارة محققا لأحد فردي الشرط تحقيقا واقعيا وتكون حكومته حينئذ عليه حكومة واقعية ، لكن المفروض أنه ليس لنا إلاّ ذلك الدليل أعني دليل قاعدة الطهارة ، وهو بنفسه لا يدل على هذه التوسعة الواقعية في دليل الشرط ، وإنما أقصى ما فيه هو اقتضاء قاعدة الطهارة لأن هذا المكلف واجد ظاهرا لما هو الشرط الواقعي وهو الطهارة الواقعية ، فلا تكون نسبته إلى دليل الشرط إلاّ كنسبته إلى دليل نجاسة البول في كون تقدمه عليه تقدما ظاهريا ، وكون حكومة ظاهرية.

وبالجملة : أن دليل التنزيل لا يدل على أزيد من كون هذا المشكوك بمنزلة الطاهر الواقعي في ترتيب آثار الطاهر عليه ، التي من جملتها وجدان شرط الصلاة الذي يكون لازمه جواز الدخول معه بالصلاة ، وأنها حينئذ تكون صحيحة ، لكن حيث كانت تلك الطهارة التنزيلية طهارة ظاهرية لا واقعية لا يكون وجدان الشرط وصحة الصلاة المترتبان عليها إلاّ وجدانا وصحة ظاهريين ، فلا تكون الحكومة إلاّ حكومة ظاهرية ، وكما أن حكومته على دليل نجاسة البول التي تكون نتيجتها التخصيص لا تكون إلاّ حكومة ظاهرية ، فكذلك حكومته على دليل الشرط التي تكون نتيجتها التعميم لا تكون إلاّ حكومة ظاهرية. وبعبارة اخرى أن نسبة هذا الدليل إلى أدلة آثار النجاسة تخصيص بطريق الحكومة الظاهرية ، فكذلك نسبته إلى أدلة آثار الطهارة تعميم بطريق الحكومة الظاهرية ، هذا.

مضافا إلى النقض بباب الغسل والوضوء في كونه مشروطا بطهارة الماء ، وأنه لو أقدم عليه معتمدا على قاعدة الطهارة ثم تبين نجاسة ذلك الماء لكان مقتضى ذلك هو عدم إعادته ، والظاهر أنه قدس سره لا يلتزم به. وهذا النقض

ص: 383

هو الاشكال الثالث (1) من الاشكالات السابقة المتوجهة على التوجيه السابق.

أما الاشكال الرابع : فلا يتوجه عليه ، لإمكان أن يقال : إنا نلتزم أن الشرط هو الطاهر الواقعي ، ولكن دليل قاعدة الطهارة حيث نزّل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي فأوجب ترتيب آثار الطاهر الواقعي عليه ، التي من جملتها كونه شرطا في صحة الصلاة ، كان ذلك مسوّغا للمكلف للدخول بالصلاة اعتمادا عليه ، ولازمه الحكم عليه بأنك واجد للشرط ، فيكون بذلك حاكما على دليل الشرط وموسّعا له.

نعم يرد عليه : أنه لمّا كان أصل الحكم المذكور أعني تنزيله منزلة الطاهر الواقعي حكما ظاهريا لكونه منوطا بالجهل ، لم يكن لحوق هذه اللوازم له إلاّ لحوقا ظاهريا ، فلا يكون وجدانه الشرط ولا جواز الدخول بالصلاة ولا الحكم بصحتها ولا توسعة دليل الشرط إلاّ آثارا ظاهرية ، وأن هذه الآثار ترتفع من أصلها عند انكشاف الخلاف. ولو لم ينكشف الخلاف إلى أن مات كان مقتضى القاعدة هو كون ذلك العمل فاسدا ، غايته أنه معذور في ذلك ، وعلى وارثه قضاؤه لو اطلع على الحال.

وهكذا الحال في الاشكال الخامس وهو الاشكال بالملاقي قبل انكشاف الخلاف ، فانه بناء على هذا التوجيه لا يكون الحكم بطهارته بعد انكشاف الخلاف لازما لهذا القول ، لأنّ حكم هذه الملاقاة متفرع على حكومة هذه القاعدة على دليل النجاسة ، وقد عرفت أنه بناء على هذا التوجيه لا تكون إلاّ حكومة ظاهرية ، فلا توجب قلب ذلك الملاقى - بالفتح - من النجاسة الواقعية إلى الطهارة الواقعية ، كي لا يمكن الحكم

ص: 384


1- المتقدم في صفحة : 381.

على ملاقيه بأنه نجس بعد انكشاف نجاسته واقعا ، وإن كانت الملاقاة واقعة في حال الحكم الظاهري عليه بالطهارة ، لأن ذلك الحكم الظاهري لا يغير ما هو عليه واقعا من النجاسة التي لازمها نجاسة ملاقيه ، ومن ذلك يظهر لك عدم توجه الاشكال الأوّل والثاني.

وبالجملة : أنه بناء على هذا التوجيه لا يرد شيء من الاشكالات السابقة على التوجيه السابق إلاّ إشكال النقض بالوضوء والغسل.

نعم ، يرد على هذا التوجيه إشكال آخر غير تلك الخمسة ، وهو أن تعميم الشرط لا يكون تعميما واقعيا بل يكون تعميما ظاهريا ، فلا يكون موجبا للاجزاء.

قوله : فتكون لا محالة حاكمة على الأدلة الدالة على اشتراط الصلاة مثلا بالطهارة ، فتكون معمّمة للشرط وأنه الأعم من الواقعي والظاهري ... الخ (1).

وبعين كونها معممة لدليل الشرط المذكور تكون مخصصة لما دل على آثار نجاسة البول مثلا ، ولكن كل من هذا التعميم وذلك التخصيص لا يكون إلاّ ظاهريا ، فلا أثر له بعد انكشاف الخلاف.

قوله : ويرد عليه أوّلا : أنّ الحكومة عند هذا القائل لا بدّ وأن تكون بمثل كلمة « أعني » ... إلخ (2).

هذا إشكال وارد على أصل تفسيره (3) الحكومة بالشارحية ، وأنه لا ينطبق على ما لدينا من حكومات بعض الأدلة على بعض.

ص: 385


1- أجود التقريرات 1 : 287 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 287.
3- راجع كفاية الاصول : 438 ، 429.

وبالجملة : أن هذا اشكال مستقل في تفسيره الحكومة بما ذكره من الشارحية ، ولا خصوصية للمقام في ذلك. مضافا إلى إمكان أن يكون مراده بالحكومة هنا هي حكومة ما دل على حكم الشيء بعنوانه الثانوي على ما دل على حكمه بعنوانه الأولي ، فان الطهارة في قاعدتها وإن كانت ظاهرية إلاّ أنها لمّا كانت واردة على عنوان الشك الذي هو عنوان ثانوي بالنسبة إلى العناوين الأولية ، التي هي مورد الحكم بنجاسة مثل البول وشرطية طهارة الثوب ، كانت حاكمة عليها من هذه الجهة ، وإن لم تكن شارحة ومفسّرة لها ولا رافعة لموضوعها.

قوله : وثانيا : أنّ وجود الحكم الظاهري لا بدّ وأن يكون مفروغا عنه حين الحكم بأعمية الشرط ... إلخ (1).

المراد أن الدليل المتكفل لجعل الطهارة الظاهرية لا يكفي في تعميم دليل الشرط ، بل لا بدّ أن يكون تعميم ذلك الدليل إلى الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية مستفادا من دليل آخر ، ولا بد أن تكون مرتبة ذلك الدليل الآخر بعد جعل تلك الطهارة الظاهرية. وبعبارة اخرى أن تعميم الشرط إلى الطهارة الظاهرية لا بدّ أن يكون بعد الفراغ عن جعل الطهارة الظاهرية ، فلا يعقل أن يكون دليل جعلها وافيا بذلك التعميم.

ولا يخفى أن هذا الاشكال إنما يكون متوجها لو كان التعميم واقعيا ، وهو من فروع كون الحكومة واقعية لا ظاهرية. أما لو كان التعميم المذكور تعميما ظاهريا وكانت الحكومة أيضا حكومة ظاهرية ، فلا يتوجه هذا الاشكال ، لأن الدليل المتكفل لتنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في

ص: 386


1- أجود التقريرات 1 : 288.

ترتيب أثره وهو الشرطية كاف في توسعة ذلك الشرط ، غايته أنها توسعة ظاهرية ، ومرادنا من التوسعة هو ما عرفت من أن لازم التنزيل هو جواز الدخول في الصلاة وصحتها ظاهرا الذي هو عبارة عن كونها واجدة للشرط ظاهرا ، والمفروض أنه لم تكن واجدة إلاّ للطهارة الظاهرية ، فكان الشرط حينئذ هو الطهارة الظاهرية ، وهذا هو المراد من توسعة الشرط. والحاصل أن المراد من توسعة الشرط هنا هو توسعته ظاهرا إلى ما ليس بطاهر واقعا ، لا توسعته واقعا إلى الطهارة الظاهرية.

لا يقال : يمكن أن يجعل الشارع الطهارة للأشياء طهارة واقعية ، ثم يجعل الطهارة الظاهرية لما هو المشكوك منها ، ثم يقول جعلت الأعم منهما شرطا في لباس المصلي ، فتكون الحكومة حينئذ واقعية ، ولازم ذلك عدم لزوم الاعادة.

لأنّا نقول : إن ذلك خلاف الفرض ، فان المفروض أن المجعول شرطا هو الطهارة الواقعية ، وأن التعميم إنما جاء من ناحية دليل قاعدة الطهارة ، لا أن الشرط هو الأعم وأن دليل قاعدة الطهارة محقق لأحد فردي الشرط.

ثم لا يخفى فساد هذه الطريقة ، لأن الطهارة الظاهرية إنما تجعل في طول آثارها ، فلا يتأتى جعلها إلاّ بعد جعل آثار الطهارة التي من جملتها الشرطية في الصلاة.

قوله : وقسم آخر يكون الشك في المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم ، فلا محالة لا يكون الدليل الحاكم في مرتبة المحكوم ، لتأخر موضوعه - وهو الشك في المحكوم - عنه ، فيستحيل كونه معمما أو

ص: 387

مخصصا له في الواقع ... إلخ (1).

لا يخفى أن هذا التأخر الرتبي في قاعدة الطهارة إنما هو عن الدليل الدال على حكم ما جرت فيه القاعدة من نجاسة أو طهارة ، لا عن دليل اشتراط الطهارة في لباس المصلي.

ثم الظاهر أن ميزان كون الحكومة ظاهرية ليس هو مجرد التقدم الرتبي ، بل إن ميزانه هو كون ما يتضمنه الحاكم حكما ظاهريا لا واقعيا ، فان قاعدة الطهارة وإن لم تكن متأخرة رتبة عن اشتراط الطهارة في اللباس ، إلاّ أنها لمّا كانت متضمنة للحكم الظاهري كان تقدمها عليه من قبيل الحكومة الظاهرية لا الواقعية ، كما أنه لا بدّ في كون الحكومة واقعية من عدم كون الشك في المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم ، أما كون الحاكم في رتبة الدليل المحكوم فعلى الظاهر أنه لا يعتبر فيها ، بل لا بدّ في الحكومة الواقعية من تأخر الحاكم رتبة باعتبار كون الحكم فيه متفرعا عن أصل الحكم في المحكوم ، إذ لو لم يكن حكم الشك هو البناء على الأكثر لم يتوجه نفي الشك عن كثير الشك بمعنى نفي حكمه عنه ، فتأمل وراجع ما افيد في ضابط الحكومة في باب التعادل والتراجيح (2).

قوله : ورابعا أن الحكومة المدعاة في المقام ليست إلاّ من باب جعل الحكم الظاهري ... الخ (3).

يمكن الجواب عن هذا الاشكال : بأن التعميم لدليل الشرط إنما يكون مستفادا من دليل التنزيل. فان كان لسان دليل الحكم الظاهري متكفلا

ص: 388


1- أجود التقريرات 1 : 288 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- فوائد الاصول 4 : 710 ، وتأتي حواشي المصنّف قدس سره عليه في المجلّد الثاني عشر.
3- أجود التقريرات 1 : 289.

للتنزيل ترتب عليه تعميم الشرط ، أما إذا لم يكن مفاده إلاّ الحكم باحراز الواقع فلا يترتب عليه التعميم المذكور ، ولا يكون دخوله في الصلاة من باب الحكم عليه بأنه طاهر تنزيلا ، كي يكون بذلك واجدا لأحد فردي الشرط الذي هو الطهارة الظاهرية ، بل إنما يكون جواز دخوله فيها من باب كونه محرزا للشرط وتنزيله منزلة العالم به ، وذلك لا يلزمه وجدان الشرط ، بل لا يكون حاله إلاّ كحال العالم بالشرط.

وبالجملة : فرق بين الحكم عليه بأنه محرز للواقع الذي هو الطهارة وتنزيل ذلك الاحراز الذي تكفله الأصل الاحرازي أو الأمارة منزلة العلم الوجداني ، وبين الحكم على ذلك المشكوك بأنه طاهر ، وأنه منزّل منزلة الطاهر الواقعي في ترتيب أثره عليه الذي يكون من جملته هو تحقق الشرط. فانّ الأول لا يوجب تعميم الشرط بخلاف الثاني فانه يوجبه. نعم يرد عليه ما تقدم مرارا من أنّ هذا التعميم لا يكون تعميما واقعيا ، بل لا يكون إلاّ ظاهريا ، فلا يكون موجبا للاجزاء.

وبالجملة : أن هذا التوجيه لا يرد عليه إلاّ النقض بالوضوء والغسل ، وإلاّ ما تقدم مرارا من الحل ، وهو أن التعميم وهذه الحكومة على دليل الشرط لا يكون إلاّ تعميما وحكومة ظاهرية تابعة للحكومة على دليل النجاسة ، التي تكون نتيجتها التخصيص الظاهري ، التي عرفت أنها لا تكون إلاّ حكومة ظاهرية.

ثم إنا قد نقحنا في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (1) أن طريقة التنزيل لا تخلو من الالتزام بالحكومة الواقعية ، وأن الأولى في

ص: 389


1- في المجلّد السادس في الحاشية فوائد الاصول 3 : 118 قوله : والسرّ في ذلك ...

مفاد مثل قاعدة الطهارة هو الالتزام بجعل احتمال الطهارة حجة شرعية للمكلف من حيث المعذرية ليس إلاّ ، فتكون نظير الاحتياط الشرعي في كونه ناشئا عن جعل حجية الاحتمال على المكلف من حيث المنجزية ، وحينئذ لا يكون الاعتماد على مثل قاعدة الطهارة موجبا للاجزاء ، وأقصى ما فيه أنه مسوّغ للدخول فيما يشترط فيه الطهارة.

والخلاصة : هي أنه بعد أن عرفت (1) أن صاحب الكفاية لا يريد أن يجعل قاعدة الطهارة مثلا من قبيل جعل الحكم الواقعي في مقام الشك ، لما عرفت من أن لازمه انحصار النجاسة في مقام الثبوت بمعلوم النجاسة ، وهو موجب لسقوط الشك في الطهارة ، بل إن مراد صاحب الكفاية هو جعل قاعدة الطهارة متضمنة للحكم الظاهري في مورد الشك في الطهارة ، فتكون من قبيل الأصول المتضمنة للتنزيل. وحينئذ تكون لنا أدلة ثلاثة : دليل نجاسة النجاسات العشر ونجاسة ملاقيها ، ودليل قاعدة الطهارة ، ودليل اشتراط الطهارة في لباس المصلي ، ونحن لو التزمنا بأن موضوع هذا هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، كان لدليل قاعدة الطهارة نسبتان :

إحداهما : نسبته إلى الدليل الأوّل القائل إن البول نجس ، وهذه النسبة نسبة الاخراج بطريق الحكومة الظاهرية.

والنسبة الاخرى : هي نسبته إلى الدليل الثالث ، وهي من قبيل الادخال بطريق الورود ، حيث إن موضوع الدليل الثالث هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، ودليل قاعدة الطهارة بواسطة التعبد الشرعي

ص: 390


1- في الصفحة : 379 وما بعدها.

بالطهارة الظاهرية ينقح لنا أحد فردي ذلك الموضوع في الدليل الثالث ، وحينئذ لك أن تسمي ذلك حكومة واقعية.

ولازم ذلك أنه عند انكشاف الخلاف بعد الصلاة يكون المطلب من قبيل التبدل من حينه ، لأن الحكم الظاهري لا ينكشف عدم وجوده فيما سبق ، وإنما ينكشف عدم مطابقته للواقع كما عرفته فيما تقدم (1) ، ويكون المكلف فيما سبق على ذلك الانكشاف واجدا للشرط حقيقة ، ولازم ذلك هو الاجزاء.

ولكن العمدة في إمكان كون الدليل الثالث شاملا للطهارتين ، وغاية ما يمكن أن يقال في تقريبه إنه يمكن ذلك بأن يجعل أوّلا الطهارة الواقعية ثم الطهارة الظاهرية ، ثم يقول قد جعلت الشرط في لباس المصلي الطهارة الشاملة للاثنين ، أو لا يحتاج إلى التقدم ، بل يكفي أن يجعل الشرط هو كل ما يكون طاهرا باحدى الطهارتين على نحو القضية الحقيقية ، ليكون الموضوع هو كل ما لو وجد وكان طاهرا وإن لم يكن في مقام جعل الشرطية طهارة ظاهرية أصلا ، وغاية ما يلزم من ذلك هو الجمع بين الفردين الطوليين.

ولكن لا يخفى أن الأمر ليس بمقصور على الشمول للأفراد الطولية ، بل إنّ المسألة داخلة في جعل الحكم موضوعا لنفسه ، فان الأمر لو كان مقصورا على هذا الأثر كما هو المفروض ، وهذا الأثر هو شرطية الصلاة وموضوعه هو الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، والمفروض أن الطهارة الظاهرية لا تنوجد إلاّ بتنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في أثره الذي

ص: 391


1- في صفحة : 376 - 377.

هو الاشتراط المذكور ، فيكون الحاصل هو توقف الطهارة الظاهرية على أثرها الذي هو الاشتراط ، فيكون ذلك الأثر الواحد وهو الاشتراط بالنسبة إلى الطهارة الظاهرية منقحا لموضوع نفسه وهو الطهارة الظاهرية. وليس لنا اشتراطان كي يكون المنقح لموضوع الثاني هو الأوّل منهما ، فلاحظ ، هذا كله.

مضافا إلى أن ذلك لو سلّمنا إمكانه فلا دليل عليه في مقام الاثبات ، حيث إن الظاهر من دليل الاشتراط هو كون الشرط هي الطهارة الواقعية ، وكونها الأعم منها ومن الظاهرية يحتاج إلى دليل. ومجرد جعل الطهارة الظاهرية لا يكشف عن أن المراد بالشرط هو الأعم ، وأقصى ما فيها أنها توجب إلحاق النجس المشكوك بالطاهر الواقعي إلحاقا ظاهريا ، وهو ما ذكرناه من الحكومة الظاهرية.

وعلى كل حال أن صاحب الكفاية قدس سره لم يعتمد على هذه الطريقة ، بل إنه يجعل المعمّم لدليل الشرط هو نفس قاعدة الطهارة ، ولا ريب أن التعميم حينئذ لا يكون إلاّ ظاهريا ، فلا تكون الحكومة إلاّ حكومة ظاهرية.

ومن ذلك يظهر لك التأمل في الحاشية ، وذلك قوله : الحكم بكون الشرط أعم من الواقع والظاهر - إلى قوله - وأما عموم الشرط فهو من لوازم جعل الطهارة ظاهرا ، فلا محذور من هذه الجهة في دعوى كون الشرط أعم من الواقع والظاهر (1) فان التعميم اللازم لجعل الطهارة إنما هو تعميم ظاهري وهو ممّا لا ينكر ، إلاّ أنه لا ينفعه ولا ينفع صاحب الكفاية ، فان المطلوب هو التعميم الواقعي ليكون من قبيل التبدل لا من قبيل الانكشاف.

ص: 392


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 288.

والعمدة في النزاع مع صاحب الكفاية هو هذه الجهة ، وهي أن الحكومة واقعية والتعميم واقعي.

وحينئذ يتوجه عليه إيراد شيخنا قدس سره :

أوّلا : أن هذا التعميم الواقعي لا تحدثه قاعدة الطهارة ، بل لا بدّ أن يكون الدليل الثالث عاما في نفسه للطهارة الظاهرية ، فيلزمه أن يكون وجود الحكم الظاهري مفروغا عنه (1) في مرتبة جعل الشرط. ولا جواب لهذا الاشكال إلاّ بما تقدم من أخذه على نحو القضية الحقيقية ، الذي عرفت الاشكال [ فيه ](2) من جهة لزوم تقدم الموضوع على حكم نفسه.

وثانيا : أن هذه الحكومة حكومة ظاهرية لا واقعية.

وثالثا : أن مجرد الحكم الظاهري الموجب للتوسعة الظاهرية لو كان موجبا للحكومة الواقعية والتوسعة الواقعية ، لجرى في الأمارة القائمة على الطهارة كما يجري في قاعدة الطهارة ، إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة أعني الاقتصار على التوسعة الظاهرية ، ومجرد كون مفاد قاعدة الطهارة الحكم الشرعي بالطهارة الظاهرية كما في الحاشية (3) لا ينفع ، بعد فرض كون الحكم المذكور حكما ظاهريا ، بل لو جعلناه حكما واقعيا بناء على كونه من قبيل الجعل في مورد الشك ، لما أمكن جعله موسعا لموضوع دليل الشرط كما عرفت تفصيله (4).

ص: 393


1- [ في الأصل : « موجودا » بدل مفروغا عنه ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- [ لم يكن في الأصل ، والصحيح ما أثبتناه ].
3- أجود التقريرات 1 ( الهامش 1 ) : 289.
4- [ الظاهر أنه قدس سره يشير إلى الإشكال الرابع على مبنى جعل الطهارة الواقعية للمشكوك المتقدم في صفحة : 381 ].

ورابعا (1) : النقض بالوضوء من الماء المشكوك الطهارة أو غسل النجاسة به ثم انكشاف كونه نجسا ، فانه لا فرق بين الدليل الدال على اشتراط الطهارة في لباس المصلي والدليل الدال على اشتراط الطهارة في ماء الوضوء أو في الماء الرافع للخبث ، وأما تبديله بالنقض بنجاسة الملاقي فعلى الظاهر أنه لا يرد على ما في الكفاية ، إذ ليس في البين دليل شرطية كي يدعى توسعته بقاعدة الطهارة. نعم لو كان مبنى صاحب الكفاية هو الجعل في مورد الشك لتوجه عليه النقض المذكور. اللّهم [ إلاّ ](2) أن يجعل الدليل الثالث هو كون ملاقي الطاهر طاهرا أو كون ملاقي النجس نجسا ، لتكون قاعدة الطهارة حاكمة على الأوّل حكومة توسعة أو على الثاني حكومة تضييق.

ص: 394


1- [ في الأصل : وثالثا ، والصحيح ما أثبتناه ].
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

[ استدراك ]

[ استدراك (1)]

وعمدة الاشكال الذي أفاده شيخنا قدس سره (2) على الكفاية (3) في الصورة الثالثة هو عدم اجتماع تشريع الأمر الاضطراري مع لزوم الاعادة أو القضاء ، وتوضيح ذلك : أن نفرض الكلام تارة في القضاء ، واخرى في الاعادة.

أما القضاء فتفصيل الكلام : هو أن القيد المتعذر إن كان على نحو وحدة المطلوب فقد عرفت أنه عند تعذره لا يكون الأمر بفاقده مشروعا ، لتوقف مصلحة ذات الواجب على ذلك القيد بقول مطلق حتى عند تعذر القيد ، ولازمه أنه لا مصلحة في الفعل الخالي منه.

وإن كان على نحو تعدد المطلوب العرضي بأن يكون من قبيل الواجب في واجب ، فقد عرفت أن الأمر بالخالي حاصل وساقط به حتى في صورة عدم تعذره ، ومع سقوط الأمر الأولي وحصول امتثاله لا مجال للواجب الثاني.

وإن كان على نحو التعدد الطولي فقد عرفت أن حاصله هو توقف المصلحة في الصلاة على كونها مع الساتر مثلا ، ولكن هذا التوقف عند التمكن من الساتر ، أما مع عدم التمكن منه فلا توقف ، وحينئذ يحصل

ص: 395


1- 14 / ذي القعدة / 1382 ه ق ، بالتاريخ المذكور وصل الدرس إلى هذه المقامات فحدثت زيادات في إحدى عشرة ورقة [ منه قدس سره. لا يخفى أن الزيادة تنتهي بقوله في ص 416 : عند الاختلاف في الطهارة والنجاسة ].
2- أجود التقريرات 1 : 283 - 285.
3- كفاية الاصول : 85.

امتثال الأمر بالصلاة إن صلاها عاريا مع عدم تمكنه من الساتر ، وبعد ذلك لا مجال للاعادة والقضاء ، فان التستر في الصلاة وإن كان في حد نفسه ذا مصلحة إلاّ أن مصلحته في حال امتثال الأمر بالصلاة ، ومع حصول امتثال الأمر لا مجال بعده للاتيان بالتستر في امتثال الأمر بالصلاة ، ويكون حاله من هذه الجهة حال التعدد العرضي أعني الواجب في واجب ، وتكون هذه المصلحة أعني مصلحة التستر في حال امتثال الأمر بالصلاة هي الفارقة بين ما نحن فيه ، وبين تبدل الموضوع كما في مسألة السفر والحضر ، في أن إخراج المكلف نفسه من موضوع الحاضر إلى المسافر لا حرج عليه فيه ، بخلاف ما نحن فيه فانه لا يجوز للمكلف أن يخرج نفسه بسوء اختياره من موضوع المتمكن من الساتر إلى العاجز عنه ، بأن يعدم الساتر الموجود عنده.

وأما الاعادة ، فان المكلف إن كان واجدا للساتر من أوّل الوقت إلى آخره فلا إشكال في كونه مخيرا بين أفراد الصلاة الطولية كأفرادها العرضية ، وهكذا الحال لو كان غير متمكن من الساتر من أوّل الوقت إلى آخره ، ولو صلى وارتفع العذر بعد خروج الوقت دخلت المسألة فيما تقدم من القضاء.

وإنما الكلام فيما لو كان في أوّل الوقت غير متمكن منه لكنه يتمكن منه في آخره ، وفي هذه الصورة يكون الفرد الأوّل خارجا ، ويكون التخيير العقلي فيما بعده. نعم لو اعتمد على الاستصحاب أو اليأس أو القطع بعدم ارتفاع العذر دخلت المسألة في إجزاء الحكم الظاهري عند انكشاف الخلاف فيه. ولو قلنا بأنه يسوغ البدار بمجرد طروّ التعذر وأنه لا يجب عليه الانتظار وقد أقدم على الصلاة عاريا ثم ارتفع العذر ، كان محصل ذلك هو أن مصلحة الصلاة لا تتوقف على التستر عند كونه غير قادر عليه ، ففي

ص: 396

حال كونه غير قادر عليه لا تكون الصلاة مقيدة بالتستر ، فيحصل الامتثال ولا مجال للاعادة ، إذ لا موضوع للتستر حينئذ كما عرفته فيما تقدم.

وأما ما تضمنته الكفاية (1) في الصورة الثانية من أن المسوّغ للبدار فيها هو المزاحمة بمصلحة الوقت ، فذلك بحث واسع ذو عرض عريض تعرض له شيخنا قدس سره (2) في مبحث التزاحم من مسألة الترتب ، وذلك هو مزاحمة الأجزاء بعضها مع بعض والقيود بعضها مع بعض.

والذي يتعلق بذلك فيما نحن فيه هو مزاحمة الوقت لبعض القيود كالساتر ونحوه. أما لو كان القيد مشروطا بالقدرة الشرعية كالطهارة المائية فلا إشكال في تقدم الوقت عليها وسقوطها ولزوم الانتقال إلى التيمم.

أما ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية مثل الساتر والاستقبال ومثل كلي الطهور ، أما الأخير فالذي يظهر منهم تقدمه على الوقت ، فلا تشرع الصلاة في الوقت فاقدة له. وأما البواقي فظاهرهم تقدم الوقت عليها ، بل إن ما يدل على مشروعية فاقد هذه القيود يدل بالملازمة على سقوطها في قبال الوقت ، وإلاّ لكان اللازم تأخير الصلاة إلى أن يتمكن ولو بعد الوقت. وحيث كان الوقت هو المقدم كان محصله هو سقوط قيدية الساتر عند تعذره ، وكان موجبا لانسداد باب التلافي بعد الامتثال كما عرفت التفصيل في ذلك.

ولا يخفى أن فتح باب التزاحم بين الوقت وبقية القيود كالساتر والاستقبال لا يكاد يتجه على الطريقة التي سلكها شيخنا قدس سره ، فان التقييد بالساتر إن كان على نحو وحدة المطلوب ، على وجه لا يكون في الصلاة

ص: 397


1- كفاية الاصول : 84 ، 85.
2- أجود التقريرات 2 : 49 - 51.

الفاقدة له مصلحة ولو في حال تعذره ، فلا تكون الصلاة حينئذ مأمورا بها في الوقت كي يدخلها التزاحم. وإن كان التقييد بالساتر على نحو تعدد المطلوب الطولي ، ففي صورة تعذره يكون المأمور به هو الصلاة عاريا فلا تزاحم التقييد بالوقت.

وإنما ينفتح باب التزاحم لو قلنا إن مصلحة الصلاة مع الساتر بثلاثين درجة ، ولكن عند تعذره يحصل المكلف بالصلاة عاريا على عشرين درجة ، فتفوته من أصل المصلحة عشر درجات على وجه لا يمكنه بعد ذلك الحصول عليها ، ولنفرض أنها أعني تلك العشرة الفائتة مصلحة مهمة لازمة ، ومقتضاه أن لا يشرع له الأمر بالفاقد ، بل يكون اللازم عليه هو الانتظار إلى ما بعد ارتفاع العذر ولو بعد الوقت ، فيصلي في خارج الوقت مع الساتر لكن تفوته مصلحة الوقت ، وهنا ينفتح باب التزاحم باعتبار أن تفويت الوقت يوجب تفويت أغلب المصلحة ، فيتعين الصلاة عاريا في الوقت ، ولا يجب عليه الاعادة والقضاء ، لأن المفروض عدم إمكان التدارك لما فات من المصلحة ، ولو أمكن التدارك وجب الفعل في الوقت قضاء لحقه ، والاعادة في خارجه أداء لحق الساترية إن كان ذلك الفائت لازم الاستيفاء ، وإن كان مستحبا تعيّن عليه الصلاة عاريا في الوقت واستحب له إعادتها بعد الوقت متسترا.

ويمكننا فتح باب المزاحمة بين الوقت وبين القيد الفائت على طريقة شيخنا قدس سره ، وذلك بأن نقول إن مصلحة أصل الصلاة بثلاثين مثلا ، وهذه المصلحة تتوقف على التستر عند التمكن منه ، وفيه - أعني نفس التستر - مصلحة خاصة به بمقدار عشر درجات على نحو الواجب في واجب ، وحينئذ عند تعذر التستر والصلاة عاريا لم يفته شيء من الثلاثين ، لأن

ص: 398

توقفها على التستر منحصر بالتمكن منه ، أما مع عدم التمكن منه فلا تتوقف الثلاثون عليه بل تحصل بالصلاة عاريا ، لكن فاته العشر درجات الخاصة بنفس التستر في الصلاة ، فيمكن أن يؤمر بالتأجيل إلى ارتفاع العذر ليحصل على العشرة المذكورة وعلى الثلاثين ، فكانت العلة في التأجيل هي تلك العشرة ، ولكن بعد فرض أنه بالتأجيل تفوته مصلحة الوقت وهي أكثر من العشرة ، فتقع المزاحمة بين مصلحة التستر وهي عشرة ومصلحة الوقت وهي عشرون مثلا. وهذا التزاحم آمري ، فالشارع يوجب عليه التعجيل لأجل نيل مصلحة الوقت ، وهي أهم عنده من مصلحة التستر في الصلاة.

والظاهر جريان هذه الطريقة حتى لو قلنا بأن التزاحم مأموري ، وأن العقل هو الحاكم من جهة أنه فعلا لا يمكنه تحصيل مصلحة الساتر لعدم تمكنه منه ، لكن يمكنه تحصيل مصلحة الوقت ، فيحكم العقل بلزوم تحصيلها بالصلاة في الوقت عاريا.

وإن شئت فقل : إنه يوجّه إليه فعلا تكليفان لا يمكنه الجمع بينهما وهما « تستّر في صلاتك » و « اجعل صلاتك في الوقت » ، وكل منهما يكون امتثاله موجبا لعدم نيله الثاني إلى آخر الدهر ، ولمّا كان الأوّل منهما غير متمكن منه فعلا ألزمه العقل بالثاني ، ويكون ذلك من قبيل المتزاحمين اللذين يكون أحدهما مقدما زمانا على الآخر في تقديم ما هو المقدم زمانا إن لم يكن المتأخر أقوى ملاكا ، والفرض فيما نحن فيه أن المقدم زمانا وهو الوقت هو الأقوى ملاكا.

وهذا بخلاف مزاحمة كلي الطهور مع الوقت ، حيث إنه أعني كلي الطهور أهم من الوقت ، بل لا مصلحة في الصلاة الفاقدة للطهور وان كانت في الوقت ، ويتعين حينئذ بحكم العقل تأخير الصلاة إلى ما بعد الوقت ،

ص: 399

فيكون المقدم هو الطهور ويسقط الوقت عن مزاحمته له.

والحاصل : أن طريقة التعدد العرضي راجعة إلى جعل المسألة من قبيل الواجب في ضمن واجب ، بخلاف التعدد الطولي فانه راجع إلى وحدة الواجب لكنه يتقيد بحالة خاصة كالتمكن ونحوه.

وهاتان الطريقتان يتعاكسان تقريرا وتحريرا. فتقرير الاولى هي كون الواجب أوّلا هو ذات الصلاة والواجب الثانوي هو تقييده بالساتر مثلا ، بخلاف تقرير الثانية فانه يكون الواجب الأولي هو الصلاة المقيدة بالساتر وعند عدمه يكون الواجب الثانوي هو ذات الصلاة.

وهاتان الطريقتان كما يختلفان تقريرا فكذلك يختلفان موردا ، ففي مثل الساتر والاستقبال ونحوهما لم يتوهم أحد كون ذلك من قبيل الواجب في واجب. نعم ربما خرّجوا مسألة الجهر والاخفات على ذلك ، فيقال إنه إذا فعل أحدهما في مورد الآخر نسيانا لم تجب عليه الاعادة للقراءة وان تذكر وهو في أثناء القراءة. نعم قد احتاط البعض فقال الأحوط الاعادة بقصد القربة المطلقة. وفي بعض العبائر ما لا يعجبني وهو أنّ الاحوط الاعادة بقصد القرآنية ، فان قصد القرآنية لعلها لا تسدّ الجزئية لو كانت هي المطلوبة.

وعلى كل حال ، أن هذه الطريقة أعني الواجب في واجب إنما يمكن القول بها في مثل الجهر والاخفات ، دون مثل الساتر والاستقبال ونحوهما. نعم يمكن أن تأتي في مثل الوقت ، بأن يكون الواجب الأولي هو ذات الصلاة ، وكونها في الوقت واجب آخر ، نظير المسارعة والفورية ونحوهما.

أما الطريقة الثانية وهي التعدد الطولي ، فيمكن الالتزام بها في كثير من قيود الصلاة مثل الساتر ونحوه ، فان الواجب الأولي هو الصلاة مع الساتر ،

ص: 400

بمعنى أن تقيد الصلاة بالساتر مثلا واجب ، ولكن ذلك مختص بحال التمكن من الساتر ، بخلاف مثل أصل الطهور ، بل جعل بعضهم بعض القيود ذكريا مثل الطهارة من الخبث وسمّوه شرطا ذكريا ، إلى غير ذلك من موارد الاختصاص لبعض القيود.

لكن هذه الطريقة لا تأتي في مثل الزمان ، فانّ ما دل على تقييد الصلاة بالزمان الكذائي لا يمكن تقييده بصورة التمكن من ذلك القيد أعني نفس الزمان ، فان ذلك عبارة اخرى عن أنه يجب على المكلف أن يقيد صلاته بالزمان الخاص عند تمكنه من ذلك الزمان الخاص ، أعني عند وجود ذلك الزمان الخاص ، فيكون انحصار هذا التقييد بصورة التمكن من هذا القيد من قبيل تحصيل الحاصل.

وتوضيح ذلك : أنّ تقييد الصلاة بالساتر إنما يكون لطرد فاقد القيد وهو الصلاة عاريا ، وحينئذ يمكننا أن نقول إن طرد الفاقد تارة يكون مطلقا سواء كان متمكنا من التستر أو كان غير متمكن منه ، ولازمه سقوط الصلاة عند عدم التمكن منه ، واخرى يكون طرد ذلك الفاقد أعني الصلاة عاريا مختصا بما إذا كان متمكنا من الساتر ، أما لو كان غير متمكن منه فلا يكون الفاقد للساتر - أعني الصلاة عاريا - مطرودا في ذلك الحال.

وإذا أجرينا هذه العملية في الزمان الخاص كما بين الطلوعين في صلاة الصبح ، فكانت الصلاة الواجبة مقيدة بذلك الزمان ، وكانت الصلاة الخارجة عن ذلك الزمان كالصلاة بعد طلوع الشمس مطرودة عن هذا الأمر ، فان كان التقييد مطلقا شاملا لحال وجود الزمان ولحال انقضائه صحت القضية ، وكان لازمها هو عدم صحة الصلاة في الخارج عن ذلك الزمان ، وهو معنى الركنية الذي يكون لازمه أنّ القضاء لو ثبت كان بالأمر

ص: 401

الجديد. وإن كان ذلك التقييد مقيدا بحال التمكن الذي هو حال وجود الزمان ، كان طرده للفاقد الذي هو الصلاة في خارج الوقت مختصا بحال وجود الزمان ، ومحصله أنك في حال وجود الزمان لا تصلّ في خارجه. ومن الواضح أن هذه الصلاة الفاقدة للزمان لا يمكن إيجادها في الزمان ، فيكون طردها في ذلك الحال تحصيلا للحاصل.

والفرق بين كون القيدية مطلقة وكونها مقيدة بحال التمكن ، أن الخارج عن الزمان في حال وجود الزمان وإن كان منطردا بنفسه ، لكن بعد خروج الزمان يكون منطردا بواسطة إطلاق التقييد ، وهذا بخلاف ما لو كانت القيدية مختصة بحال التمكن أعني حال وجود الزمان الذي هو بين الطلوعين ، فانّ أثر القيدية ينحصر حينئذ بحال وجود الزمان ، إذ لا قيدية في حال خروجه. ومن الواضح أن أثر القيدية هو طرد الخالي ، والمفروض أن الخالي في ذلك الزمان منطرد بنفسه ، فلا تكون القيدية المنحصرة في ذلك الحال إلاّ من قبيل تحصيل الحاصل.

لا يخفى أن صاحب الكفاية (1) في البحث عن إجزاء الأمر الظاهري لم يتعرض فيه إلاّ لصورة انكشاف الخلاف انكشافا قطعيا ، دون ما لو انكشف الخلاف بحكم ظاهري آخر مثل تبدل الرأي وتبدل التقليد. ثم إنه في صورة انكشاف الخلاف القطعي تعرض لما إذا كان الحكم الظاهري مأخوذا من الأصل ، مثل قاعدة الطهارة والحل واستصحابهما بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة والحل ، فجعل هذه الاصول حاكمة على الأدلة الأولية وموسعة لدائرة الشرط فتكون مجزية ، ولا يكون انكشاف الخلاف إلاّ من

ص: 402


1- كفاية الاصول : 86.

قبيل التبدل من حينه ، بخلاف ما لو كان الجاري في ذلك من الأمارات فانه لا يجزي إلاّ على القول بالسببية. وبعد فتح باب السببية تقع المقابلة بين مصلحة الواقع والمصلحة الآتية من قبل الامارة ، ويجري حينئذ ما تقدم ذكره في الأوامر الاضطرارية ، وحينئذ ينفتح باب الاجزاء في بعض الصور وإن كان ظاهر الأدلة هو الاجزاء. هذا كله فيما يجري في متعلقات التكاليف.

ولا يخفى أنه لا ينحصر بالشبهات الموضوعية ، بل إنه يجري في الشبهات الحكمية ، كما لو جرت قاعدة الطهارة أو قاعدة الحل فيما يشك في طهارته أو حليته على نحو الشبهة الحكمية ، مثل بول الحمير ومثل لحم الارنب فيما لو صلى معه اعتمادا على قاعدة الطهارة أو قاعدة الحل ليكون اللباس طاهرا ومما يؤكل لحمه.

وأما الشبهات الحكمية كما لو قام الأصل أو الطريق على وجوب الجمعة ثم انكشف الخلاف ، فانه لا يجزي إلاّ على السببية المعتزلية.

قال في الكفاية : المقام الثاني : في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه. والتحقيق : أن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه - إلى قوله - وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا ، كما هو لسان الأمارات فلا يجزي ... إلخ (1).

أما شيخنا قدس سره (2) فقد قسّم انكشاف الخلاف في الأمر الظاهري إلى قسمين : الأوّل ما كان بطريق القطع وهو الصورة الثالثة في كلامه ، والثاني ما كان بطريق الظن وهو الصورة الرابعة. أما الاولى فقد حكم فيها بعدم

ص: 403


1- كفاية الاصول : 86.
2- أجود التقريرات 1 : 286 وما بعدها.

الاجزاء فيما لو كان في مورد الشبهة الحكمية إلاّ على سببية المعتزلة ، بخلاف ما لو قلنا بالسببية التي ذكرها الشيخ. أما موارد الشبهات الموضوعية فان كان الجاري هو الأمارة فكذلك يعني عدم الاجزاء ، إلاّ إذا قلنا بالسببية على رأي المعتزلة ، حيث إن القول بها في الشبهات الموضوعية لا مانع منه لعدم الاجماع على خلافه. نعم إنه خلاف ظاهر الأدلة الواردة في حجية الامارات ، من دون فرق بين الجاري في الشبهات الموضوعية والجاري في الشبهات الحكمية. وأما لو كان الجاري هو الاصول مثل قاعدة الطهارة وقاعدة الحل والاستصحاب ، فالظاهر هو عدم الاجزاء.

ثم نقل مطلب الكفاية وأورد عليه بايرادات خمسة :

أوّلا : أن الحكومة عند صاحب الكفاية (1) منحصرة بالشرح ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ثانيا : لا بدّ أن يكون الحكم الظاهري موجودا عنده في درجة الحكم الواقعي ، ليكون دليل الأصل حاكما على دليل الشرط.

ثالثا : الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنها ليست موجبة لتعميم الشرط واقعا ، لأنها ليست واقعية بل هي ظاهرية ، فيكون حكمها منحصرا به ، فلا تتصرف في الواقع.

رابعا : أن الحكومة المدعاة ليست إلاّ من جهة جعل الحكم الظاهري وذلك موجود في جميع موارد الحكم الظاهري حتى في مورد الامارة.

خامسا : أن الحكومة لو كانت واقعية لكان اللازم ترتيب جميع آثار الطهارة مثلا ، فلا يكون ملاقيه نجسا.

ص: 404


1- راجع كفاية الاصول : 438 ، 429.

وخلاصة البحث : هي أنه لا يمكن تنزيل ما أفاده في الكفاية على كون مفاد قاعدة الطهارة وقاعدة الحل واستصحابهما هو جعل الحكم على المشكوك ، أما أولا : فلأنه مناف لمسلكه في الاستصحاب (1). وثانيا : أن لازمه هو كون النجاسة مشروطة بالعلم بها أو بالعلم بموضوعها ، ولعل ذلك غير معقول في الشبهة الحكمية ، إذ لا يتصور الشك في الطهارة حينئذ. وثالثا : أن لازمه عدم الاعادة في من توضأ بمشكوك الطهارة ثم علم بنجاسته. ورابعا : أنّ لازمه هو عدم تنجس الملاقي للبول في حال الشك وإن انكشف بعد ذلك أنه بول. وخامسا : أن الطهارة والحل التي هي شرط في اللباس إن كانت بالعنوان الاولي لم يجز الاعتماد على قاعدة [ الطهارة والحل ](2) في جواز الصلاة فيه ، ولذلك لا يجوز الصلاة في جلد الأرنب عند الاضطرار إلى أكل لحمه ، وجازت الصلاة مع جلد الغنم عند حرمة أكله لأجل كونه مضرا ، وإن كان الشرط هو الأعم من الأولية والثانوية كان محتاجا إلى دليل على التوسعة المذكورة ، ومجرد دليل قاعدة الطهارة لا يدل على التعميم ، كما أن دليل حلية لحم الأرنب عند الاضطرار لا يدل على التعميم المذكور.

وبعد سقوط هذا الوجه وهو كون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة في مورد الشك ، لا بدّ لنا من دعوى كون مفادها هو التنزيل ، ومن الواضح أن التنزيل يحتاج إلى منزّل ومنزّل عليه وإلى الوجه في التنزيل ، كما في باب التشبيه في احتياجه إلى المشبه والمشبه به وإلى وجه الشبه ، فنقول : إن المنزّل والمنزّل عليه في مثل قوله « كل مشكوك هو طاهر » إن كان

ص: 405


1- راجع كفاية الاصول : 392 ، 398.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

هو المانع المشكوك الطهارة ، وأن المنزّل عليه هو الماء المعلوم الطهارة ، لا بدّ أن يكون الوجه في التنزيل هو الحكم في المنزّل عليه الذي هو الطهارة ، عاد محذور جعل الحكم في المشكوك.

فلا بدّ أن نقول : إن المنزّل هو المشكوك والمنزّل عليه هو الطاهر الواقعي ، ويكون المصحح لهذا التنزيل هو حكم الطاهر الواقعي من كونه شرطا في صحة الصلاة وجواز شربه مثلا ، وذلك عبارة اخرى عن أن المشكوك يكون محكوما بأنه تصح الصلاة فيه ، وذلك عبارة اخرى عن توسعة دليل شرط صحة الصلاة وأنه الأعم من الطاهر الواقعي والمشكوك في طهارته ، فلا يكون مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الطهارة للمشكوك ، بل يكون مفادها هو ترتيب آثار الطهارة على ما هو مشكوك ، ومن جملتها كونه شرطا في صحة الصلاة ، وأنها معه تكون صحيحة ، من دون تعرض لاثبات الطهارة لا ظاهرا ولا واقعا ، وحينئذ يتم ما أفاده في الكفاية من توسعة دليل الشرط وأن الحكومة حكومة واقعية ، وأنه عند انكشاف الحال لا يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، بل يكون من قبيل التبدل من حينه.

ويمكن تأتّي هذا الوجه في الاستصحاب بعد البناء على كون اليقين في قوله « لا تنقض اليقين » من باب الطريقية لا الموضوعية ، ويكون محصّله هو أن الشارع نزّل مشكوك الطهارة بعد اليقين بها منزلة الطاهر الواقعي الذي هو المتيقن السابق ، فيجري حينئذ ما جرى في قاعدة الطهارة. لكن لازمه هو عدم الاعادة في الوضوء بالماء المشكوك الطهارة بعد تبين نجاسته ، وعدم تنجس ملاقيه إذا كانت الملاقاة في حال الشك.

وبعد بطلان هذا الوجه لا بدّ لنا من القول بأن أصالة الطهارة من قبيل الاصول الاحرازية ، ويكون حالها من هذه الجهة حال الأمارة وحال

ص: 406

استصحاب الطهارة في عدم الاجزاء. أو نقول إن أصل الطهارة من قبيل الاصول الترخيصية غير الاحرازية نظير حديث الرفع (1) ، وحينئذ يتوجه الاشكال في الجمع بين هذا الترخيص وبين الحكم الواقعي لو كان هو النجاسة ، وقد تعرضنا لذلك في محله (2) من مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، وقلنا إن مرجع هذا الترخيص إلى جعل الشك حجة في المعذورية ، فلا يكون في البين ترخيص شرعي ، ولا يكون لازمه الاجزاء فيما لو انكشف الخلاف وزال الشك وحصل العلم بالنجاسة وانقطعت حجية الشك في المعذورية ، فراجع.

هذا كله (3) بناء على ما ذكرناه في توجيه عدم إعادة الأفعال السابقة بقصور حجية الفتوى اللاحقة عن الشمول لتلك الأفعال السابقة.

ولكن شيخنا قدس سره (4) لم يسلك هذه الطريقة ، بل وجّه عدم الاعادة بالاجماع الموجب للخروج عن قاعدة عدم الاجزاء ، وهذا أعني الاستناد إلى الاجماع أشار إليه في الكفاية ولكن في خصوص تبدل الرأي ، فانه قال فيه : فلا بدّ من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر ، كما نهض في الصلاة وغيرها مثل لا تعاد (5) وحديث الرفع ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي (6).

ص: 407


1- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
2- في المجلّد السادس في الحاشية على فوائد الاصول 3 : 118 قوله : والسرّ في ذلك ...
3- [ لا يخفى أن هذا المطلب يرتبط بما سيأتي من بحث تبدل الحكم الظاهري في صفحة : 422 وما بعدها ].
4- أجود التقريرات 1 : 298.
5- وسائل الشيعة 1 : 371 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.
6- كفاية الاصول : 470.

أما حديث لا تعاد وحديث الرفع فقد تقدم (1) الكلام عليهما مفصلا. وأما الاجماع فقد أنكره الشيخ قدس سره على ما حكاه عنه في التقريرات ، فانه قال في الامور التي استدلوا بها على الاجزاء : الرابع ما يظهر من البعض (2) من دعوى كونه ظاهر المذهب ، بل قد أدعى بعض من لا تحقيق له الاجماع بل الضرورة. وفيه : مع كونه معارضا بدعوى الاجماع من العميدي (3) والعلاّمة (4) على خلافه ، أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ، إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدمين والمتأخرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك كما ستطلع عليه مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع علمه بتركها منه ، إلى غير ذلك (5).

وعلى كل حال أنّ شيخنا قدس سره قد استند في عدم الاعادة إلى الاجماع فقال : هذا كله فيما يقتضيه الأصل الأولي في المقام ، وإلاّ فربما يدعى الاجماع على الاجزاء إعادة وقضاء عند تبدل الحكم الظاهري اجتهادا أو تقليدا. ثم ذكر مقامات ثلاثة :

الأول : الأعمال العبادية.

الثاني : العقود ، كما لو عقد بالفارسية اجتهادا أو تقليدا لمن يقول بصحته ، ثم عدل إلى القول بالفساد أو رجع إلى من يفتي بالفساد مع تلف

ص: 408


1- بل سيأتي في صفحة : 425 وما بعدها.
2- هداية المسترشدين 3 : 711.
3- منية اللبيب : 364.
4- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 214.
5- مطارح الأنظار 1 : 169.

المال الذي انتقل إليه أو إتلافه.

الثالث : هو ذاك لكن مع بقاء المتعلق.

وجعل الأول هو القدر المتيقن دخوله في الاجماع ، وشكك في الثاني ، وجزم في الثالث بخروجه عن الاجماع - ثم قال : - وفتوى جماعة بالاجزاء من جهة ذهابهم إلى كون الاجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية ، لا من جهة الاجماع (1).

ولأجل ذلك أفاد قدس سره في حاشيته على العروة في مسائل الاجتهاد والتقليد بما هذا لفظه : لو أدى التقليد اللاحق إلى فساد عقد أو إيقاع وكذا نجاسة شيء أو حرمته أو عدم ملكية مال ونحو ذلك ، فمع فعلية الابتلاء بمورده يقوى لزوم رعايته (2).

ولا يخفى أنه بعد فرض كون مقتضى القاعدة هو بطلان العمل السابق ، وأن الموجب للخروج عن هذه القاعدة هو الاجماع ، فاللازم هو النظر في هذا الاجماع ، فما أحرزنا شمول الاجماع له كان اللازم هو الحكم بصحته ، وما شككنا في شمول الاجماع له يكون اللازم فيه هو الرجوع إلى القاعدة المذكورة. ومن الواضح أنه ليس لنا معقد إجماع كي نقول إنه شامل للعبادات ، وليس بشامل لما كان الموضوع فيه باقيا ، ونقف موقف التشكيك فيما يكون الموضوع تالفا.

وإن شئت فقل : بعد فرض الاجماع على صحة الأعمال السابقة ، لا يمكننا الجزم بخروج ما يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بدليل يدل على أنه لا بدّ من الحكم ببطلان العمل السابق الذي هو العقد بالفارسية مثلا ، وليس

ص: 409


1- أجود التقريرات 1 : 298 - 299 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 42 مسألة 53.

لنا مثل هذا ، فلا بدّ في الجزم بالحكم ببطلانه من قيام الاجماع على البطلان في هذه الصورة ، وإلاّ لم يحصل لنا الجزم بخروجه عن الاجماع الحاكم بالصحة. ولا ريب أنه لم يقم إجماع على بطلان العقد المذكور ، لما أفاده قدس سره بقوله : وفتوى جماعة بالاجزاء من جهة ذهابهم إلى كون الاجزاء هو مقتضى القاعدة الأولية لا من جهة الاجماع ، انتهى (1).

اللّهم إلاّ أن يقال : إن الاجماع على الصحة إنما هو من القائلين بأن القاعدة تقتضي عدم الاجزاء ، وحينئذ يمكن ادعاء الاجماع من هؤلاء على الفساد في المثال المزبور ، ولا يضره الفتوى بالصحة ممن قالوا بأن القاعدة تقتضي الاجزاء ، هذا كله.

مضافا إلى أن أصل الاجماع لم يتحقق كما عرفت من الشيخ قدس سره في التقريرات.

ولا يخفى أن هذه الطريقة - أعني دعوى قصور حجية الفتوى اللاحقة عن الأفعال السابقة - لو تمت فهي من أحسن ما يمكن فيه إثبات عدم الاعادة ، لا من باب الاجزاء ولا من باب التصويب ، بل من باب أن الحكم الظاهري الذي استند إليه المكلف في عمله السابق لم تقم حجة على خلافه.

ثم لو كان ذلك أعني قصور الحجية مشكوكا ، كان ذلك كافيا في المطلوب ، لعدم نهوض حجة حينئذ على بطلان العمل السابق ، ومعه لا حاجة إلى استصحاب حجية الفتوى السابقة.

ويمكن أن يدعى إجراء هذه الطريقة في تبدل رأي المجتهد في

ص: 410


1- أجود التقريرات 1 : 299 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

عمله السابق لو جزم بعدم حجية رأيه الأخير في أعماله السابقة أو شك في ذلك ، حتى لو كان بناؤه على عدم وجوب جلسة الاستراحة ثم عثر على أمارة تدل على ذلك كخبر الواحد ، فلعله يمكنه أن يقول إن حجية هذا الخبر عليّ إنما هي من حين قيامه وعثوري عليه ، وحينئذ يمكنه أن يشكك في شمول هذه الحجية الجديدة لأعماله السابقة.

وعلى كل حال أنا لو فتحنا هذا الباب في الأعمال السابقة ، وقلنا ببقائها على الصحة ، إما لما ذكرناه وإما للاجماع على عدم الاعادة ، فان ذلك إنما يكون في العمل نفسه كما في الصلاة ، وكما في العقد بالفارسية بيعا أو نكاحا حتى مع فرض بقاء المبيع عند المشتري وعدم إتلافه ، وكذلك في صورة بقاء الزوجة بحالها لم يفصل بينها وبين الزوج موت أو طلاق أو فسخ.

نعم لو كان الاشكال من ناحية نفس الموضوع ، كما لو تزوج من رضع معها عشر رضعات اعتمادا على فتوى مقلده القائل بأنه لا يحرم ، ثم بعد ذلك قلّد من يقول بالتحريم ، فليس له البقاء مع الزوجة المذكورة لأنها اخته من الرضاع ، وهي لا تكون زوجة له لا ابتداء ولا استدامة.

وما أشبه مسألتنا هذه بمسألة أن لكل قوم نكاحا ، وأنه لو أسلم الزوج والزوجة يبقيان على نكاحهما إذا كانت المخالفة من حيث العقد مثلا ، أما لو كانت المرأة زوجة أبيه مثلا ونحو ذلك من المحرمات الذاتية فلا يقره الاسلام عليها.

أما مسألة الذبيحة الموجودة التي كان ذبحها صحيحا على الفتوى السابقة وفاسدا على الفتوى اللاحقة ، فهل هي ملحقة بالنكاح بالفارسية أو هي ملحقة بنكاح من رضع معها عشر رضعات؟ بل يمكن التشكيك في من

ص: 411

عقد عليها سابقا بالعقد بالفارسية ، فيقال إن ابتداء النكاح وإن كان صحيحا إلاّ أن استدامته لا بدّ أن يرجع فيه إلى الفتوى اللاحقة.

وبالجملة : أن هذه الفروع الثلاثة تتفاوت في الوضوح والخفاء.

والأول منها وهو نكاح من رضع معها عشر رضعات هو الذي يتضح فيه البطلان لو قلّد من يقول بأنه محرم ، ودون ذلك مسألة الذبيحة ، ودونهما مسألة عقد النكاح بالفارسية ، فلاحظ وتأمل.

ثم لا يخفى أن ما تقدم كان فيما لو كان العمل السابق صحيحا على الفتوى السابقة وفاسدا على الفتوى اللاحقة ، وهو الذي تعرض له في العروة في مسألة 53 (1). وأما لو كان الأمر بالعكس بأن كان العمل السابق فاسدا على الفتوى السابقة وصحيحا على الفتوى اللاحقة ، فهو منشأ الاحتياط في العروة في مسألة 16 (2). وينبغي أن يعلم أنه قال في العروة في مسألة 7 : « عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل » (3) ، وعلّق عليه شيخنا قدس سره ما هذا لفظه : إذا خالف الواقع أو كان عبادة ولم يتمكن من قصد القربة لتزلزله وجهله.

ثم قال في العروة في مسألة 16 : عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقا للواقع ، وأما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فان كان مطابقا لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحا ، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل ، انتهى.

ص: 412


1- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 41.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 20.
3- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 13.

وينبغي توسعة المسألة للمعاملة مثل العقد بالفارسية ليستريح من إشكال التمكن من قصد القربة ، كما ينبغي توسعتها بفرضها لمن كان مقلدا لشخص ولكنه تخيّل أن فتواه هي الصحة ، ثم بعد العمل قلّد من يقول بالصحة وعلم أن مقلده السابق حينما أوقع العمل يقول بالبطلان ، ليستريح من الاشكال في أنه إذا لم يكن حين العمل مقلدا لذلك السابق لا تكون فتواه حجة عليه.

وعلى كل حال أن منشأ هذا الاحتياط هو احتمال قصور حجية فتوى الثاني عن الأفعال السابقة على تقليده ، فتبقى أعماله السابقة محكومة بالفساد طبقا لحجية الفتوى السابقة. ولو كان المستند هو الاجماع على عدم الاعادة فلا حاجة إلى الاحتياط المذكور ، وليس المنشأ في هذا الاحتياط هو احتمال السببية في حجية فتوى السابق كما نقله شيخنا قدس سره (1) في الأمر الثاني من التحرير ، فراجع.

وعلى كل حال لو كان قد صلّى بلا سورة في الوقت الذي كان مقلده يفتي بالبطلان ، ثم قلّد من يقول بالصحة ، وقلنا بقصور حجية الثانية عن العمل السابق ، أو قلنا بأن حجية الفتوى من باب السببية فتكون الثانية ناسخة للاولى ، كان لازم هذه الوجوه كلها هو الاعادة أو القضاء. ومن الواضح أن هذه المعادة لا يجب فيها أن تكون واجدة للسورة على طبق الفتوى السابقة ، بل لا بدّ أن تكون على طبق الفتوى اللاحقة ، وحينئذ فله أن يعيدها فاقدة للسورة لأن الثاني يقول بصحتها ، فتكون الجديدة عين الاولى فلما ذا هذه الاعادة.

ص: 413


1- أجود التقريرات 1 : 300.

هذا ، ولكن بعد البناء على أن التقليد هو العمل على طبق الفتوى لا مجرد الالتزام نقول بعونه تعالى : إن هذا الشخص في عمله السابق - أعني الصلاة بلا جلسة الاستراحة مثلا أو العقد بالفارسية - لمّا لم يكن مستندا في عمله السابق إلى فتوى من كان مقلدا له في حال العمل ، كان عمله السابق بلا تقليد ، سواء كانت فتوى السابق هي الصحة أو كانت هي الفساد. فلو قلنا بأن حجية فتوى اللاحق قاصرة عن الشمول للأفعال السابقة ، لم يمكنه البناء على بطلان عمله السابق ولا البناء على صحته ، إذ لا يمكنه أخذ ذلك من السابق لأنه لم يقلده فيه ، ولا من اللاحق لأن فتواه قاصرة الحجية عمّا سبق ، ولكنه مع ذلك حيث إن الاعادة عمل فعلي يلزمه الرجوع فيه إلى مقلده الفعلي ، فلو أفتاه بعدم لزوم الاعادة كفاه وإن لم تكن فتواه بالصحة حجة على صحة الفعل السابق ، وهكذا الحال فيما لو أفتاه بالاعادة لزمه ذلك.

بقي الكلام في الامور الأربعة التي نبّه عليها قدس سره (1) وكلها قد اتضحت مما تقدم.

فالأول منها : هو أنه لا فرق في عدم الاجزاء بين الموضوعات والأحكام ، وما ذكرناه من إمكان التصويب في الأول مسلّم ، لعدم قيام الاجماع على خلافه في الموضوعات ، إلاّ أنه خلاف ظاهر الأدلة.

الثاني : أنه لا فرق بين حجية الفتوى على العامي وحجية الأمارة على المجتهد ، ودعوى كون الاولى من قبيل السببية لأنها لا يعتبر فيها عدم الظن بالخلاف ، ولذلك يجب الرجوع إلى الأعلم وإن كانت فتواه مخالفة

ص: 414


1- أجود التقريرات 1 : 300 - 302.

للمشهور ، وذلك يوجب الظن بخلافها ، ممنوعة فان ذلك لا يوجب كونها من باب السببية ، ولا يشترط في حجية الأمارة على الطريقية أن لا يكون لنا ظن على خلافها.

الثالث : أنه لو قيل بالاجزاء فهو في الأحكام الشرعية لتوهم السببية فيها ، دون الأحكام العقلية كما في القطع والبراءة العقلية فانها لا يتأتى فيها احتمال السببية ، غايته أن العامل بالقطع ونحوه يكون معذورا إن لم يكن مقصرا ، ولو كان مقصرا كان عليه العقاب كما في الكفار القاطعين فانهم معاقبون لكونهم مقصرين ، هذا حاصل ما أفاده قدس سره.

ولكن الاشكال في صغرى التقصير بالنسبة إلى البعض منهم وإن لم يكن البحث عنه مهمّا لنا ، لأن ذلك راجع إليه تعالى ، وليس له أثر عملي يتعلق بنا.

وقد ألحق قدس سره بالأحكام العقلية بعض صور تبدل الرأي فقال : ولا يتوهم القول به في الحكم العقلي أصلا ، سواء كان منشؤه القطع بالحكم الشرعي أو أحد الظنون الاجتهادية أو إجراء البراءة العقلية (1). ومراده بذلك ما لو اشتبه في دلالة الخبر مثلا ، بخلاف ما لو عمل بالعام ثم عثر على الخاص. ولكن لو كان ذلك هو المراد فهو لا يخلو عن إشكال ، لأنه لا يخرج عن تبدل الرأي ، وغالب التبدلات في الرأي من هذا القبيل ، ولا ريب أن كل حكم ظاهري يكون مقطوعا به ، ولا يجوز الجري على الحكم الظاهري ما لم يحصل القطع به ، فتأمل.

الرابع : فيما يعود إلى اختلاف الشخصين في الاجتهاد أو التقليد إذا

ص: 415


1- أجود التقريرات 1 : 301 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

كان أحدهما محلا لابتلاء الآخر ، ومنه اختلاف المتعاقدين ، وقد ذكره الشيخ قدس سره في المكاسب (1) قبل تعرضه للمقبوض بالعقد الفاسد. وذكره في العروة في مسائل التقليد في مسألة 55 (2) وذكره شيخنا قدس سره في الوسيلة فقال : الثانية لو اختلف طرفا العقد اجتهادا أو تقليدا في صحته بعد تحقق قصد الانشاء ممن يرى فساده ، يجب العمل بمقتضاه على من يرى صحته ، وليس له إلزام الآخر بذلك ، إلاّ إذا حكم به الحاكم الشرعي ، ولو حكم بفساده انفسخ بالنسبة إلى من يرى صحته (3). وأشكل من ذلك مسألة الاقتداء ، وأشكل منه مسألة المباشرة عند الاختلاف في الطهارة والنجاسة (4).

وقد تعرض بعض أعاظم العصر ( سلمه اللّه ) (5) في درسه حسبما حرره عنه بعض تلامذته (6) للوجوه الخمسة التي أوردها شيخنا قدس سره (7) على الكفاية (8) ، لكن الذي يظهر أنه أخذ هذه الوجوه من تقرير آخر لدرس شيخنا قدس سره غير هذين التقريرين المطبوعين ، ولعله من تقرير المرحوم الشيخ موسى قدس سره ، فانه وإن أمكن أخذه خلاصة الخمسة من أحد التقريرين المطبوعين إلاّ أنه في نقل الايراد الخامس أطال الكلام في بيانه ثم قال « انتهى » ، ثم شرع في الايراد عليه بقوله « أقول : عمدة الاشكال في باب

ص: 416


1- المكاسب 3 : 178 - 179.
2- العروة الوثقى ( مع تعليقات عدة من الفقهاء ) 1 : 45 - 46.
3- وسيلة النجاة : ي [ لا يخفى أن الصفحات الاولى منها رمز لها بالحروف دون الأرقام ].
4- إلى هنا تنتهي الزيادات التي أشار إليها قدس سره كما تقدم في صفحة : 395.
5- وهو السيد البروجردي دام ظله [ منه قدس سره ].
6- بقوله [ في نهاية الاصول 1 : 141 ] : وقد استشكل بعض أعاظم العصر ... الخ [ منه قدس سره ].
7- أجود التقريرات 1 : 287 - 290.
8- كفاية الاصول : 86.

الاجزاء عبارة عن هذا الاشكال ».

وعمدة ما أجاب به عن هذه الاشكالات هو ما أجاب به عن هذا الاشكال وحاصله : هو دعوى الحكومة الواقعية ، وأن قوله عليه السلام : « كل شيء نظيف » (1) يدل على أنّ ما يؤتى به يصير منطبقا على العنوان المأمور به ، وأن ظهوره في ذلك أقوى من ظهور دليل شرطية الطهارة ، وأنه لا محصل للحكم الظاهري في المقام لفرض عدم الأثر له ، إذ المعذورية لا تكون إلاّ في مورد المخالفة للواقع ، وهي هنا لم تكن من المكلف وإنما جاءت من قبل الشارع الذي سوّغ له الصلاة مع ذلك الثوب ، فلاحظه إلى آخر صفحة : 140 (2).

وقد تقدم (3) أنه لا وجه للحكومة الواقعية ، وأن مجرد جعل الطهارة الظاهرية لا يوجب إلاّ التحكيم الظاهري وتسويغ الدخول في الصلاة ، وهذا كاف في فائدة جعل هذا الحكم الظاهري.

أما الايراد بالنقض بنجاسة الملاقي الذي جعله ثالث الايرادات فقد أجاب عنه بأن الحكم الظاهري إنما يثبت مع انحفاظ الشك ، وأما بعد زواله فينقلب الموضوع. فالملاقي يحكم بطهارته ما دام الشك ، وأما بعد زواله فيحكم بنجاسة كل من الملاقي والملاقى (4). فلم لا تجري هذه النظرية في الصلاة ، فيقال إن الحكم الظاهري بصحتها استنادا إلى قاعدة الطهارة إنما يثبت ما دام الشك ، فاذا حصل العلم بالنجاسة يحكم ببطلان تلك الصلاة ،

ص: 417


1- وسائل الشيعة 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4.
2- نهاية الاصول 1 : 151.
3- في صفحة : 378 وما بعدها.
4- نهاية الاصول 1 : 143.

فلاحظ.

أما الايراد بالنقض بالأمارة القائمة على الطهارة الذي جعله رابع الايرادات ، فهو وإن أجاب عنه باختلاف اللسان ، فلسان قاعدة الطهارة يجعل الطهارة ، ولسان الامارة عليها يحكي عن الواقع ، إلاّ أنه أطال الكلام ثم أخيرا التزم بورود النقض على صاحب الكفاية بالأمارة ، وأن الحكم الظاهري فيها يقتضي الاجزاء ، فلاحظه من صفحة 132 الى 139 (1).

ثم انه بعد الرد والبدل ، وبعد أجوبة اعتراضات ذكرها إلى صفحة 139 ، ومن ذلك المطالبة بملاك الشرط الفائت الذي هو الطهارة ، أجاب بعدم المانع من هذه الجهة ، لأن الغرض هو حصول الاطاعة وإن كان حصولها بفاقد الشرط - إلى أن قال : - وعلى هذا فيحتمل بحسب مقام الثبوت أن تكون الصلاة مع الطهارة مثلا مشتملة على ملاك غير ملزم ، ويكون المقصود من الأمر بها هو حصول عنوان الاطاعة لا حصول ملاكها ، وإلاّ لكان الأمر المتعلق بها ندبيا. ثم لمّا رأى المولى أن تحصيل الطهارة في بعض الأوقات موجب للعسر ، وأن مقصوده الأصلي أعني انطباق عنوان الاطاعة يترتب على إتيان الصلاة الفاقدة للطهارة أيضا إذا اتي بها بداعي الأمر ، صار هذا سببا لرفع اليد عن الطهارة لحصول الغرض الملزم بدونها ، والفرض أن ذات العمل أيضا لا يشتمل على ملاك ملزم. وهذا المعنى وإن كان صرف احتمال في مقام الثبوت ولكنه يكفي في رفع احتمال استحالة الاجزاء. وإذا أمكن في مقام الثبوت والمفروض دلالة أدلة الأحكام الظاهرية عليه في مقام الاثبات أيضا ، فلا مناص عن القول به فتدبر جيدا (2). وهذا

ص: 418


1- نهاية الاصول 1 : 143 - 151.
2- نهاية الاصول 1 : 150 - 151.

سنخ من سببية الشيخ قدس سره (1) جعله أقوى من السببية على طريقة المعتزلة.

ثم ذكر قدس سره تذنيبين ، التزم بالأول منهما باجزاء ما يفعله المكلف في مدة عمره من الصلوات الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط الواقعية وإن لم ينكشف عنده ذلك. وأنكر في ثانيهما الاجماع على بطلان التصويب ، وأن هذا الإجماع إنما هو إجماع المتكلمين لا الفقهاء فلا يكون حجة شرعية.

وفي الحقيقة هو ملتزم بالاجزاء والتصويب ، وهو ظاهر منه في أول البحث عند تصديه للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، فانه لم يخرج عنده من مقتضى التصويب إلاّ الأمارات القائمة على التكاليف الاستقلالية. ولم يظهر الوجه في استثنائها بعد فتح باب الكسر والانكسار وإنكار الاجماع على بطلان التصويب. نعم لا أثر للالتزام بالتصويب في ذلك ، إذ لا تترتب عليه إعادة ولا قضاء ، إلاّ فيما لو أدت الأمارة أو الأصل إلى عدم وجوب شيء ثم ثبت وجوبه ، وأنه ممّا يلزم فيه القضاء ، لكن القضاء حينئذ يكون لازما ولو قلنا بالتصويب ، لأن المدار فيه على عدم الاتيان بالفعل في وقته ، وإن كان المستند في عدم الاتيان في وقته هو الحكم الشرعي بعدم وجوبه.

أما ما يكون لسانه تبيين ما هو وظيفة الشاك في أجزاء الواجب وشرائطه وموانعه ، فقد التزم فيه بالاجزاء وسقوط الواقع وأن الحكم الفعلي هو ذلك الظاهري ، فراجع قوله : إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم - إلى قوله - بل الحكم الظاهري يكون فعليا في ظرف الشك ، ويكون العمل على طبقه مجزيا (2) ، فراجعه إلى أواخر صفحة 129 (3) تجد القول بالاجزاء والتصويب

ص: 419


1- فرائد الاصول 1 : 114 وما بعدها.
2- نهاية الاصول 1 : 136.
3- نهاية الاصول 1 : 141.

في هذا السنخ من الأحكام التي سمّاها غير استقلالية واضحا جليا.

والذي ينبغي إجراؤه هذه الطريقة في المعاملات كما أجراها في العبادات ، من دون فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية فتأمل. وكان عليه استثناء الخمسة التي تضمنها الاستثناء في حديث لا تعاد (1) ، ولعله يخصه بالنسيان. وإني في شك في نسبة هذه الامور إليه سلّمه اللّه ، وقد اعتذر المقرر في أول كتابه بقوله : وأقول أيضا معتذرا أنه لم يكن من عادتي ضبط كل درس بعد استفادته ... الخ (2).

ويؤيد ذلك أنّه سلّمه اللّه لم يحرر شيئا على هذا التقرير من تقريظ كما هو مجرى عادة الأساتذة فيما يحرره ويطبعه عنهم تلامذتهم ، إلاّ أنّ في نفسي شيئا من ذلك ، فانّه سلّمه اللّه لو كان غير قائل بهذه التفاصيل لكان نسبته إليه جناية في النقل ، فان التلميذ ربما سها أو اشتبه في جملة أو في بعض تقاريب أصل مطلب استاذه ، لكن لا بهذه السعة على وجه يكون أصل هذه المطالب التي حررها من صفحة 120 الى صفحة 141 (3) كله لا أساس له عن الاستاذ ، فان ذلك بعيد في غاية البعد ، فلاحظ وتأمل.

فقد تلخص لك من جميع ما تقدم : أن جميع موارد الأحكام الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية مع انكشاف الخلاف كشفا قطعيا لا توجب الاجزاء. واللازم هو الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، من دون فرق في ذلك بين كون الحكم الظاهري ناشئا عن الاصول أو الأمارات

ص: 420


1- وسائل الشيعة 6 : 401 / أبواب التشهد ب 7 ح 1.
2- نهاية الاصول 1 : 8.
3- نهاية الاصول 1 : 132 - 152.

كما في موارد اليد أو البينة ، ومن دون فرق أيضا بين كون الأصل من قبيل قاعدة الطهارة أو الحل أو الاستصحاب أو قاعدة الفراغ أو قاعدة التجاوز أو البراءة ، كما لو قلنا بها في مورد الشك في كون اللباس مما يؤكل لحمه ، إلى غير ذلك من موارد الاصول الاحرازية أو غير الاحرازية.

وقيام الدليل على عدم الاعادة في بعض تلك الموارد كما في الصلاة في النجس أو مع فوات بعض الأجزاء ، لا يكون من باب الاجزاء بل من باب سقوط شرطية ذلك الشرط أو جزئية ذلك الجزء. وما لم يدل دليل على عدم لزوم الاعادة كان مقتضى القاعدة هو البطلان ، ولزوم الاعادة لو انكشف الخلاف في الوقت والقضاء لو لم ينكشف إلاّ في خارجه.

ولو استمر الجهل ولم ينكشف الخلاف حتى مات ذلك المكلف بقي مشغول الذمة وإن لم يكن معاقبا بل كان معذورا في ذلك ، فعلى وليه أو وارثه القضاء عنه. وما ذلك إلاّ من قبيل من شك بعد خروج الوقت في الاتيان بالصلاة في وقتها وأجرى قاعدة الحيلولة مع فرض كونه في الواقع لم يأت بالصلاة في وقتها ، وبقي على ذلك حتى مات ، فان على وليه أو وارثه القضاء عنه ، فكذلك لو أجرى قاعدة التجاوز أو الفراغ في موارد الشك في الركوع بعد التجاوز مع أنّه في الواقع لم يركع وبقي على ذلك حتى مات ، فان على وليه القضاء عنه لو اطلع على ذلك. وهكذا الحال فيما لو كان المستند في ذلك الأمر الظاهري هو الأمارات كالبينة.

وما أفاده في الكفاية (1) وأتعب نفسه فيه من بيان الحكم بناء على السببية غير مجد ، فان هذه السببية التي أفادها هنا هي سببية المعتزلة

ص: 421


1- كفاية الاصول : 86.

المستلزمة للتصويب الذي لا نقول به ، وأين هي من السببية التي قالها الشيخ قدس سره (1) من المصلحة السلوكية التي لا تؤثر على المصلحة الواقعية.

وحينئذ يتضح لك أن ما أفاده في الكفاية (2) من جريان الصور الخمس التي ذكرها في الأمر الاضطراري مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان السببية بالمعنى الذي يقوله المعتزلة توجب قلب الواقع ، ولا محصّل لبقاء شيء من مصلحة الواقع ، إذ أنه بناء عليها يقع الكسر والانكسار في المصلحتين. فان كانت مصلحة الواقع هي الغالبة لم يعقل أن يجعل الشارع تلك الأمارة حجة ، وإن كانت مصلحة الأمارة هي الغالبة لم يأمر الشارع إلاّ بمقتضاها ولا يأمر بالواقع. وبالجملة : أن التزاحم بين المصلحتين لا يكون إلاّ آمريا ، ولا تكون نتيجته إلاّ وحدة الأمر إما على طبق الواقع وإما على طبق الامارة.

هذا كله فيما لو انكشف الخلاف انكشافا قطعيا في موارد الشبهات الموضوعية. أما الشبهات الحكمية فقد قدّمنا (3) ندرة انكشاف الخلاف فيها انكشافا قطعيا ، لكن لو اتفق كما لو بنى على عدم نجاسة ماء البئر ثم بعد العلم قام الإجماع القطعي على النجاسة مثلا ، فانه لو فرض ذلك فانه لا ينبغي الاشكال في عدم الاجزاء أيضا بعد البناء على أن الحكم الظاهري سواء كان من أمارة أو أصل أيّ أصل من الاصول لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه.

ومنه يظهر الحكم في موارد الانكشاف غير القطعي ، ونعني بذلك أن يتبدل الحكم الظاهري وينتقل المكلف من حكم ظاهري إلى حكم ظاهري

ص: 422


1- فرائد الاصول 1 : 114 وما بعدها.
2- كفاية الاصول : 86.
3- في صفحة : 376.

آخر ، يكون مقتضى الثاني هو بطلان العمل السابق الذي وقع على طبق الأول ، سواء كان ذلك في الشبهات الموضوعية ، أو كان في الشبهات الحكمية ويعبّر عنه بتبدل الرأي والعدول ، أو كان في تبدل التقليد.

كما أنه لا فرق في الأولين بين أن يكون الانتقال من أمارة إلى أمارة اخرى على خلافها ، أو من أصل إلى أصل آخر كما لو بنى على قاعدة الطهارة في هذا الماء ثم بعد العمل علم أنه كان نجسا سابقا وقد شك في تطهيره ، أو كان من قبيل الانتقال من أصل إلى أمارة ، أو كان من قبيل الانتقال من أمارة إلى أصل ، كما لو شهدت البينة ثم بعد العمل شهدت اخرى بضدّها ، أو عدلت الاولى عمّا شهدت به ، فرجع بعد ذلك إلى استصحاب النجاسة ، إلى غير ذلك من موجبات الانتقال من حكم ظاهري إلى آخر ، فان الحكم في جميع ذلك هو عدم الاجزاء ، ولزوم الاعادة فيما لو كان مقتضى الحكم الظاهري الثاني هو فساد العمل السابق الذي وقع على طبق الحكم الظاهري الأول ، من دون فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعية أو الشبهات الحكمية.

والظاهر أن الانتقال من تقليد لآخر يكون حكمه كذلك ، وإن كان الأول أوضح خصوصا في الشبهات الحكمية التي هي موارد تبدل رأي المجتهد ، فانه عند تبدل رأيه يرتفع قطعه بالحكم الظاهري الأول ، فهو الآن يرى رأيه السابق غير حجة ، وأن ذلك الحكم الظاهري السابق كان خطأ ، بخلاف فتوى المجتهد الثاني فانها لا تمسّ كرامة حجية فتوى المجتهد الأول في ظرفها ، على تأمل في هذا الفرق ، لأن الحكم الظاهري السابق في تبدل الرأي الذي كان على طبق الرأي السابق أيضا لا تمسّ كرامة حجيته

ص: 423

في ظرفه ، نعم تنقطع حجيته فعلا بالرأي اللاحق كما تنقطع حجية فتوى المجتهد السابق بفتوى المجتهد اللاحق.

وعلى كل حال فالظاهر أنّ حال تبدل التقليد كحال تبدل الرأي في اقتضائه فساد الأعمال السابقة ولزوم إعادتها ، إلاّ أن يقال إن فتوى المجتهد اللاحق وإن كانت شاملة للأفعال السابقة إلاّ أن دليل حجيتها قاصر عن الشمول للأفعال السابقة ، والقدر المتيقن من دليل حجيتها إنما هو الأفعال المتأخرة عن تقليده. أو نقول إن دليل حجيتها وإن كان في حد نفسه شاملا للأفعال السابقة ، إلاّ أن الاجماع على عدم الاعادة في ذلك كاشف عن اختصاص حجيتها بالأفعال المتأخرة عنها.

وحينئذ لو تم أحد هذين الأمرين من دعوى قصور دليل الحجية أو دعوى الاجماع المذكور ، لم يكن عدم الاعادة من باب الاجزاء كما أنه ليس من باب التصويب ، بل من باب عدم قيام الحجة على فساد الأعمال السابقة.

وبذلك التوجيه يمكن أن يكون عمل العامي المقلد لمن عدل رأيه على خلاف عمل ذلك المجتهد ، فان على المجتهد إعادة الأعمال السابقة لعدم قصور حجية رأيه الجديد ، وليس على ذلك العامي إعادتها لقصور دليل حجية هذا الرأي الجديد عن الشمول للأفعال السابقة عليه.

ويتضح ذلك في لزوم عمل المجتهد برأيه وعمل العامي بقول المجتهد ، فان الأول إنما يكون حجة على نفس ذلك المجتهد باعتبار كونه كاشفا له عن الواقع ، ومن الواضح أن ذلك لا يفرق فيه بين السابق واللاحق ، بخلاف الثاني فانه إنما يكون حجة على العامي باعتبار الاسترشاد والدلالة على الطريق ، وهذا إنما يكون فيما يأتي من الأعمال دون ما سبق.

ص: 424

ودخول ما سبق باعتبار الاعادة وأنها فعل لاحق ممنوع ، من جهة أن اقتضاء الاعادة فرع كون الحجية شاملة للفعل السابق ليكون بحسبها محكوما بالفساد لتجب إعادته.

قال في الكفاية في باب الاجتهاد فيما إذا اضمحل الاجتهاد السابق : وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بد من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر كما نهض في الصلاة وغيرها مثل حديث لا تعاد (1) وحديث الرفع (2) ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي. وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح ... الخ (3).

وحيث إن الكلام إنما هو في تبدل الرأي في الشبهات الحكمية كما لو بنى على عدم جزئية السورة ثم رجع عن ذلك ، ففي جريان حديث لا تعاد في مثل ذلك إشكال تعرض له شيخنا قدس سره في محله (4) ، والمتحصل منه هو عدم جريان حديث لا تعاد في موارد الجهل بالحكم. ولا يخفى أن لازم جريان حديث لا تعاد في الجزء المتروك جهلا بالحكم يوجب اختصاص جزئيته بصورة العلم بها ، فيتأتى فيه إشكال أخذ العلم بالحكم في موضوعه. ويدفع الاشكال بأن ذلك من قبيل متمم الجعل. وفيه تأمل ، إلاّ أن يخرّج على الوجوب النفسي وأن العلم به يوجب الجزئية ، فتأمل.

ص: 425


1- وسائل الشيعة 1 : 371 / أبواب الوضوء ب 3 ح 8.
2- وسائل الشيعة 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1.
3- كفاية الاصول : 470.
4- كتاب الصلاة 3 : 5 وما بعدها.

أما حديث الرفع فلم أتوفق لما هو المراد من إجرائه واقتضائه الاجزاء بمعنى عدم الاعادة أو القضاء (1) فان كان المراد هو إجراءه في الاعادة فلا يخفى ما فيه ، وإن كان المراد من إجرائه هو إجراءه في القضاء بناء على أنه بأمر جديد ، ففيه أنه بعد قيام الدليل على بطلان العمل السابق لا يبقى مجال للشك في لزوم القضاء بعد فرض كون ذلك الفعل الواجب مما يدخله القضاء. وإن كان المراد من إجرائه هو إجراءه في أصل العمل ، بمعنى أن ذلك المجتهد كان رأيه على عدم وجوب السورة استنادا إلى حديث الرفع ثم عدل عن ذلك لقيام الدليل على وجوبها ، ففيه : أن هذا من فروع كون الحكومة حكومة واقعية ، وقد تقدم (2) المنع من ذلك ، وأن مثل حديث الرفع لا يرفع الجزئية رفعا واقعيا على وجه يكون حاكما على دليل الجزئية واقعا حكومة واقعية ، وإنما أقصى ما فيه هو المعذورية والرفع الظاهري ، وذلك لا يقتضي الاجزاء وعدم الاعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف أو قيام الدليل على الجزئية ، هذا.

مضافا إلى أن ذلك سيأتي في آخر المبحث (3) فلا يمكن حمل هذه العبارة عليه مضافا إلى كونه خلاف الظاهر منها ، فان الظاهر منها هو بعد أن اضمحل الاجتهاد السابق يكون مقتضى القاعدة هي الاعادة ، إلاّ إذا نهض دليل على صحة العمل السابق مثل حديث لا تعاد وحديث الرفع ، فيكون حديث الرفع جاريا بعد أن تبدل الرأي لا أنه كان جاريا قبل ذلك وكان

ص: 426


1- نقل الشيخ فيما حكي عنه في التقريرات [ مطارح الأنظار 1 : 145 - 146 ] عن بعضهم الاحتجاج للاجزاء بالبراءة. وأورد عليه بأنه بعد الانكشاف ووجود الأمر الواقعي لا وجه لأصالة البراءة [ منه قدس سره ].
2- لاحظ ما تقدم في صفحة : 375 وما بعدها.
3- كفاية الاصول : 471.

جريانه هو المعدول عنه.

ويمكن أن يقال : إن جريان حديث الرفع بعد أن تبدل رأيه من عدم الجزئية إلى الجزئية ، لكن الجزئية ولو ثبتت عنده بالدليل الذي قام عنده أخيرا إلاّ أن حديث الرفع لما كان رافعا للجزئية في حال الجهل يكون رافعا للجزئية ، لأنه إنما ترك ذلك الجزء في حال الجهل بجزئيته ، فلا يرد عليه حينئذ إلاّ ما تقدم من أن هذه الحكومة لا تكون إلاّ ظاهرية ، فلا يكون حديث الرفع جاريا مع فرض قيام الدليل على الجزئية.

ويمكن دفع هذا الاشكال بأن يقال : إن الجزئية وإن ثبتت بالدليل إلاّ أنه لم يثبت كونها جزءا بقول مطلق حتى في حال الجهل ، فتكون الجزئية حينئذ في حال الجهل مشكوكة ، فيجري فيها حديث الرفع في ذلك الحال. اللّهم إلاّ أن يكون الثابت هو الجزئية المطلقة حتى في حال الجهل.

ولعل المراد من إجراء حديث الرفع هو إجراؤه في حال التبدل ، لكن ليس لأجل الجهل السابق بل لأجل الجهل الحالي ، حيث إنه فعلا شاك في حجية رأيه في أعماله السابقة ، فهو فعلا شاك في أن الجزئية ثابتة لأعماله السابقة ، فتكون الجزئية بالنسبة إلى أعماله السابقة مرفوعة عنه ، ولو كان ذلك هو المراد كان الجواب منحصرا بدعوى إطلاق دليل الحجية ، وإلاّ لكنا في غنى عن البراءة باستصحاب حجية الرأي السابق.

وأما الاجماع فهو على الظاهر في خصوص تبدل التقليد ، أما تبدل الرأي فلم يعلم تحقق الاجماع فيه ، بل يمكن تطرق الوهن إلى الأول أيضا. وإن شئت فراجع ما نقله في تقريرات درس الشيخ قدس سره في مقام ذكر أدلة الاجزاء وعدم الاعادة بقوله : الرابع : ما يظهر من البعض (1) من دعوى

ص: 427


1- هداية المسترشدين 3 : 711.

كونه ظاهر المذهب ، بل قد ادعى بعض من لا تحقيق له الاجماع بل الضرورة. وفيه مع كونه معارضا بدعوى الاجماع من العميدي (1) والعلاّمة (2) على خلافه ، أن ذلك ممّا لا سبيل إلى إثباته ، بل المتتبع الماهر في مطاوي كلماتهم يظهر له بطلان الدعوى المذكورة ، إذ لم نجد فيما وصلنا من كلمات المتقدمين والمتأخرين ما يلوح منه الحكم بعدم النقض ، بل يظهر من جملة من الفتاوى في نظير المقام خلاف ذلك كما ستطلع عليه ، مثل ما إذا اقتدى القائل بوجوب السورة بمن لا يرى ذلك مع علمه بتركها منه ، إلى غير ذلك. وبالجملة : فعلى تقدير كون الطرق الظاهرية طرقا إلى الواقع لا وجه للقول بالاجزاء إلاّ بواسطة دليل خارج ، وقد عرفت انتفاء ما يصلح لذلك (3).

ومراده بما حكاه عن العميدي ما ذكره في أوائل هذه الهداية (4) من لزوم الاعادة وعدم ترتيب الأحكام المترتبة على الأمارة السابقة وفاقا للنهاية (5) والتهذيب (6) والمختصر (7) وشروحه (8) وشرح المنهاج (9) على ما حكاه سيد المفاتيح (10) عنهم ، بل وفي محكي النهاية الاجماع عليه (11) ، بل

ص: 428


1- منية اللبيب : 364.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 214.
3- مطارح الأنظار 1 : 169.
4- مطارح الأنظار 1 : 155.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 214 - 215.
6- تهذيب الوصول : 288.
7- شرح المختصر للعضدي : 473.
8- منها : الشرح المتقدم ، بيان المختصر : 327.
9- راجع مناهج العقول 3 : 285 - 286.
10- مفاتيح الاصول : 582.
11- حكاه عنه في مفاتيح الاصول : 582 ، راجع نهاية الوصول : 214.

وادعى العميدي قدس سره الاتفاق على ذلك ، قال في نكاح امراة خالعها زوجها في المرة الثالثة معتقدا أن الخلع فسخ لا طلاق ثم تبدل اجتهاده واعتقد كونه طلاقا ما هذا لفظه : فان كان قد حكم بصحة ذلك النكاح حاكم قبل تغير اجتهاده بقي النكاح على حاله ، وإن لم يحكم به حاكم لزمه مفارقتها اتفاقا (1).

قلت : وفي قوله قدس سره : « فان كان قد حكم بصحة ذلك النكاح حاكم ... الخ » إشارة إلى مطلب ، وهو أن النزاع في الشبهات الحكمية لو حصل فيه حكم حاكم نفذ ذلك الحكم حتى لو تبدل رأي ذلك المدعي أو قلّد بعد ذلك من يقول بالخلاف ، بل يمكن أن يقال : إن ذلك الحكم لا يمكن نقضه حتى لو أن ذلك الحاكم بنفسه قد عدل عن تلك الفتوى التي حكم على طبقها ، والسر في ذلك هو أن الحكم ناقض للفتوى ، بخلاف الفتوى فانها لا تنقض الحكم. وفي آخر عبارة الفصول (2) في هذا المقام تعرض لان الحكم لا تنقضه الفتوى اتفاقا.

ثم إنه لو ثبت الاجماع المذكور فهل يكون هذا الاجماع مثل حديث لا تعاد في اقتضائه عدم الجزئية في حال الجهل ، أو أنه يكون دالا على أنّ حجية الدليل الثاني مقصورة على الأفعال الواقعة بعده دون الأفعال السابقة.

ولا يخفى بعد الأول ، سواء قلنا إنه من قبيل سقوط الجزئية في حال الجهل ، أو قلنا إنه من قبيل الاكتفاء بالفاقد ولو من جهة عدم التمكن - مع الاتيان به عن جهل - من استيفاء المصلحة القائمة بالفعل الواجد.

ص: 429


1- منية اللبيب : 364.
2- الفصول الغروية : 410.

فالأولى هو الوجه الثاني ، أعني كون حجية الدليل الثاني مقصورة على الأفعال المتأخرة عنه ، خصوصا في مثل تبدل التقليد ، فيكون عدم إعادة الأفعال السابقة من باب عدم قيام الحجة على فسادها ، فان الفتوى الثانية وإن كان مدلولها عاما لكل فعل ، إلاّ أنه من الممكن أن تكون حجيتها مقصورة على ما تأخر عنها.

ثم إنه في الكفاية (1) نقل عن الفصول التفصيل بين الأحكام ومتعلقاتها ، فيكون الرجوع مؤثرا في الأول دون الثاني.

لكن الظاهر من مراجعة الفصول (2) بعد التأمل أنه يفصّل بين العمل الذي وقع على طبق الفتوى السابقة ، مثل ما لو صلى تاركا للسورة أو في شعر الأرانب بانيا على الجواز ثم رجع ، فانه لا يعيد ذلك العمل الذي وقع على طبق الفتوى السابقة ، ومن ذلك ما لو حكم اعتمادا على فتواه ثم رجع عن الفتوى ، فان هذا الحكم لا ينتقض بالرجوع ، وهكذا الحال فيما لو أفتى بصحة العقد الفارسي وعقد عقد نكاح أو بيع بالفارسي ثم عدل فانه لا يعيد العقد ، وحاصل ذلك هو أن العمل الواقع على طبق الفتوى السابقة لا يلزم إعادته فلا ينقضه الرجوع.

بخلاف ما إذا لم يكن في البين عمل قابل للحكم بالفساد والاعادة ، بل لم يكن فيما تقدم إلاّ صرف الفتوى مع فرض بقاء الموضوع ، كما لو أفتى بطهارة عرق الجنب من الحرام ثم عدل عن ذلك ، فانّ هذا العرق وإن كان محكوما بالطهارة قبل الرجوع إلاّ أنه محكوم بالنجاسة بعد الرجوع ،

ص: 430


1- كفاية الاصول : 470.
2- الفصول الغروية : 409 - 410.

وهكذا الحال فيما لو لاقاه بيده مثلا قبل الرجوع ، فانّ يده قبل الرجوع وإن كانت محكوما بطهارتها إلاّ أنها بعده محكوم عليها بالنجاسة.

وهكذا الحال لو كان يفتي بحلية حيوان خاص وقابليته للتذكية ثم بعد أن ذكاه رجع ، فان ذلك الحيوان وإن كان محكوما بالحلية عنده قبل الرجوع إلاّ أنه بعد الرجوع يكون عنده محرما لا تؤثر فيه التذكية.

بل وهكذا الحال فيما لو كان يفتي بعدم تحريم العشر رضعات فعقد على من كان قد رضع معها كذلك ثم بعد العقد عدل ، فان هذا العقد بعد الرجوع يكون باطلا لا أثر له ، لا بمعنى أنه يلزم تجديده كما في العقد بالفارسية ، بل بمعنى أنه لا يؤثر أثرا أصلا ، وأن تلك المرأة لا يصح كونها زوجة له.

وبالجملة : ليس وقوع ذلك العقد عملا بتلك الفتوى السابقة ليكون حاله حال العقد بالفارسية ، لما هو واضح من أن الفتوى السابقة إنما تعلقت بحلية ذات العشر رضعات ، وأن ذلك الرضاع لا يؤثر في تحريمها ، وذلك لا دخل له بصحة العقد وفساده وإن كان لا أثر له على تقدير التحريم.

وبالجملة : أن العمل السابق تارة يكون هو عبارة عن العمل بنفس الفتوى ابتداء ، واخرى لا يكون عملا بنفس الفتوى ، بل أقصى ما في البين أن تكون الفتوى واردة على موضوع ذلك العمل ، ويكون ورود العمل على ذلك الموضوع متفرعا عن ورود تلك الفتوى عليه ، على وجه يكون العدول عن تلك الفتوى غير مقتض لاعادته إذ لا إعادة له. وهذا بخلاف ما لو أفتى بحلية الأرنب وصلى في وبره ثم عدل إلى الحرمة ، فانّ عدوله إليها قاض بلزوم إعادة الصلاة ، لكنها لا تعاد لما ذكره من عدم تحمل

ص: 431

الاجتهادين أو العسر والحرج والهرج والمرج. ففي الأول لا ينتقض العمل السابق ، وفي الثاني ينهدم الحكم السابق ويتبعه العمل الواقع بملاحظته. وفي الحقيقة أن العدول عن الفتوى هادم لها ، لكن العمل الصادر على طبقها لو كانت له إعادة لا يحكم ببطلانه ولا باعادته ، بخلاف العمل التابع للفتوى ، الذي لا إعادة له فانه يبطل بعده تبعا لموضوعه ، إذ لا يمكن بقاء الزوجية مع كونها محرمة عليه فعلا بمقتضى الفتوى الثانية.

هذا حاصل ما يمكن أن يستفاد من تفصيل صاحب الفصول ، غايته أنه سمى الأول بكون الواقعة مما يتعين في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى ، وسمى الثاني بكون الواقعة ممّا لا يتعين أخذها بمقتضى الفتوى. وهذه التسمية لا دخل لها بالتفصيل بين الحكم ومتعلقه.

ولا يخفى أنه نقل في تقريرات الشيخ قدس سره (1) كلام صاحب الفصول بطوله واستفاد منه أنه يريد التفصيل بين ما يعتبر فيه التقليد ، وما لا يعتبر بل يكفي في الحكم بصحته مجرد مطابقته للواقع وإن لم يكن عن تقليد.

والظاهر أن باقي كلام الفصول أجنبي عن ذلك ، وإنما عمدة نظره إلى التفصيل بين وقوع العمل الذي قد أفتى المفتي بصحته ، وبين ما إذا لم يكن في البين إلاّ موضوع خارجي كان قد أفتى بحليته ، ثم بعد ذلك أفتى بحرمته ، فانه ينهدم بالفتوى اللاحقة الأساس السابق. وأما الأعمال السابقة مثل الذبح والعقد والملاقاة فليست هي موردا للفتوى السابقة في شيء ، وإنما هي أعمال تعلقت بذلك الموضوع حينما كان حكمه الظاهري بحسب الفتوى السابقة هي الحلية أو الطهارة ، فإذا انهدم الحكم الظاهري السابق لم

ص: 432


1- مطارح الأنظار 1 : 169 - 172.

يبق أثر لتلك الأعمال. نعم يرد على الفصول أنه لا دليل على عدم الاعادة والاجزاء في القسم الأول أيضا ، فتأمل.

ثم إن صاحب الكفاية (1) أفاد أنه بناء على السببية لا بدّ من الالتزام بالاجزاء.

ولا يخفى أن ذلك إنما هو على سببية المعتزلة ، وأما على السببية التي يقولها الشيخ قدس سره (2) من المصلحة السلوكية فقد عرفت (3) أنها لا تقتضي الاجزاء.

ثم إن لصاحب الكفاية قدس سره (4) كلاما في الاجازة لبيع الفضولي في تحقيق الكشف الحكمي ، وأن ذلك من قبيل انقلاب العقد السابق من حين الاجازة من كونه غير نافذ في ظرفه إلى كونه نافذا في ظرفه أيضا. ودفع إشكال التناقض بالاختلاف بحسب الزمان.

ولا يخفى أنه يمكن إلزامه هنا بنظير ذلك بناء على سببية المعتزلة ، فيقال إن العمل السابق من حين وقوعه إلى حين تبدل الرأي صحيح واقعا ومن حين تبدل الرأي ينقلب ذلك العمل من حين وقوعه أيضا من الفساد إلى الصحة.

ثم إنه قدس سره (5) تعرض لما إذا كان المستند في صحة العمل السابق على تبدل الرأي هو الاستصحاب أو البراءة الشرعية ، فالتزم بالصحة وعدم الاعادة. وهذا مبني على مسلكه من كون حكومة هذه الاصول على الأدلة الأولية

ص: 433


1- كفاية الاصول : 86 ، 471.
2- فرائد الاصول 1 : 114 وما بعدها.
3- في صفحة : 421 - 422.
4- حاشية كتاب المكاسب : 61.
5- كفاية الاصول : 471.

حكومة واقعية ، وقد تقدم (1) الكلام على ذلك مفصلا.

أما ما وجهنا به كلامه في طليعة هذا البحث (2) من جعل حديث الرفع حاكما بصحة العمل السابق مع فرض تبدل الرأي إلى ثبوت الفساد ، فليس مبنيا على الحكومة الواقعية ، بل إنه يلتئم مع الحكومة الظاهرية بأن نقول : القدر المتيقن ممّا دل عليه دليل جزئية السورة هو جزئيتها في حال العلم ، أما حال الجهل فتكون الجزئية مشكوكة ، وحيث كان ترك السورة فيما سبق ناشئا عن الجهل بجزئيتها كانت جزئيتها من تلك الصلاة مشكوكة لنا فعلا ، فتكون مرفوعة بحديث الرفع ، ويكون هذا الرفع رفعا ظاهريا لكونه منوطا بالشك في الجزئية في حال الجهل ، فلو كانت السورة في الواقع جزءا في حال الجهل لم تكن حكومة دليل الرفع على ما يدل على جزئيتها في حال الجهل إلاّ حكومة ظاهرية ، وحيث إنّا الآن شاكون في الجزئية السابقة لكونها في حال الجهل فلا مانع من جريان البراءة في تلك الجزئية ، وتكون تلك الصلوات السابقة محكومة ظاهرا بالصحة فلا يلزم إعادتها ، وإن تبدل رأينا في أصل المسألة وهي وجوب السورة وأفتينا بلزومها وكونها جزءا من الصلاة ، إلاّ أنّ المتيقن من ذلك هو خصوص حالة العلم بتلك الجزئية.

أما حالة الجهل بتلك الجزئية فالمرجع فيه هو البراءة من الجزئية في حال الجهل ، سواء كان ذلك الترك سابقا على هذا الرأي أو كان متأخرا عنه ، كما لو كان المقلد لهذا الشخص قد ترك السورة بعد تقليده متخيلا عدم وجوبها عنده ، بل وكما لو أن ذلك المجتهد نفسه قد نسي هذا الحكم أعني

ص: 434


1- في صفحة : 377 وما بعدها.
2- في صفحة : 427.

الوجوب وترك السورة ، فانه حينئذ جاهل بجزئيتها ، فتكون مرفوعة في حقه ولا يلزمه الاعادة ، وإن كان ذلك الترك واقعا بعد فتواه بالوجوب.

قوله : فان تقدم الحجة الفعلية ورفعه لحجية المدرك السابق إما بالحكومة أو الورود ، وعلى كل تقدير فلم يكن المحكوم ولا المورود حجة مجعولة شرعا ... الخ (1).

لا يخفى أنه لو تم ذلك لكان تبدل الرأي في الاجزاء أردأ من انكشاف الخلاف قطعيا ، لأن ذلك أعني انكشاف الخلاف القطعي لا يوجب الخلل في الحكم الظاهري السابق ، وأنّ أقصى ما فيه هو تبين كونه مخالفا للواقع كما عرفت ، بخلاف تبدل الرأي بأن عمل على العام ثم بعده عثر على المخصص ، فانه لو قلنا بأن ذلك العام لم يكن حجة في ظرفه يكون موجبا للخلل في الحكم الظاهري على طبقه.

فلا بدّ من القول بأن حجية الخاص مقصورة على حال العثور عليه ، فلا يكون موجبا للخلل في الحكم الظاهري السابق الذي كان على طبق العام ، ولكن لمّا كان مقتضى الخاص هو فساد العمل السابق كان اللازم هو الاعادة من جهة ذلك الخاص ، لا من جهة الخلل في ناحية الحكم الظاهري السابق ، ولا من جهة انكشاف الخلاف في ذلك الحكم الظاهري انكشافا قطعيا ، فلاحظ وتأمل.

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيما أفاده قدس سره من قوله : لأن المفروض عدم الاتيان لا بالواقع ولا بما يكون مسقطا له وبدلا عنه ... الخ (2) فان ذلك

ص: 435


1- أجود التقريرات 1 : 291 [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].
2- أجود التقريرات 1 : 293 [ مع اختلاف عمّا في النسخة القديمة غير المحشاة ].

لو اقتصرنا عليه لأمكن الجواب عنه بأن ذلك المأتي به لمّا كان في ظرفه على طبق الحجة الفعلية ، كان في ظرفه بدلا عن الواقع وكان مسقطا له. لكن العمدة هو ما عرفت من قضية الخاص الذي عثر عليه بعد ذلك من فساد العمل السابق مع فرض سقوط العام بعد العثور عن الحجية.

وأما التمسك للاجزاء بحديث لا تعاد أو بحديث رفع الجزئية في حال الجهل لو فرضنا عدم إطلاق لدليل الخاص على وجه يشمل حال الجهل كما في الكفاية في مبحث الاجتهاد والتقليد (1) ، فلا يخلو من إشكال تقييد الحكم بالجزئية بالعلم بها ، وهكذا الحال في الاستدلال على الاجزاء بالاجماع ، فانه مضافا إلى عدم تحققه في المقام ، وإنما القدر المسلّم منه هو في تبدل التقليد ، أنّ نتيجته هي كون الجزئية مختصة بحال العلم بها ، بخلاف الاجماع في مسألة تبدل التقليد ، لامكان كشفه عن قصور حجية فتوى المجتهد الثاني عن شمول الأفعال السابقة الواقعة على طبق فتوى المجتهد السابق وهذا بخلاف الرأي الثاني للمجتهد الواحد ، فانّ حجيته لا تقصر عن الشمول لأفعاله السابقة الواقعة على طبق رأيه الأول.

تنبيه :

لا يخفى أن موارد العدول لا تنحصر بالاطلاع على ما يكون مقدما على الدليل السابق كما في العثور على الخاص بعد العمل بالعام ، بل إن أغلب موارد العدول من قبيل التبدل في الرأي من دون عثور على دليل لم يكن قد عثر عليه ، فانّ المجتهد ربما كان يجري قاعدة التجاوز مثلا في الركن كما يجريها في غير الركن عند العلم الاجمالي بفوت أحدهما ، وبعد

ص: 436


1- كفاية الاصول : 470.

التساقط يرجع إلى مقتضى الأصل وهو يقتضي الاعادة ، لكن ربما يعدل عن ذلك التعارض وينقدح في ذهنه أن قاعدة التجاوز في مثل الفرض لا تجري في غير الركن ، فيكون الجاري هو قاعدة التجاوز في الركن فقط ، وفي غير الركن تجري أصالة عدم الاتيان به. وهكذا الحال في أغلب موارد التصادم بين القواعد.

بل ربما جرى مثل ذلك في تعارض الأخبار ، بأن يبني على أن الشهرة الفتوائية مرجحة ثم يعدل عن ذلك ، إلى غير ذلك من موجبات العدول غير الراجعة إلى العثور على شيء لم يكن قد عثر عليه ، وجميع ما يقع فيه الخلاف بين المجتهدين من هذا القبيل.

وفي مثل هذه الموارد يكون العدول من قبيل تبين الخلل في نفس الحكم الظاهري السابق ، ويكون من قبيل ما لو عمل على طبق قطعه ثم قطع بخطإ قطعه السابق ، فيكون شبيها بالشك الساري ، ومن الواضح أنه لا مجال لتوهم الاجزاء في هذا النحو من تبدل الرأي ، فلاحظ وتأمل.

قوله : إذا نسخ الوجوب - إلى قوله : - لكون الأحكام كلها بسائط ... الخ (1).

تقدم (2) أن الاستحباب مؤلف من طلب الفعل مع ضم حكم آخر إليه وهو تجويز الترك ، وحينئذ لو تعلق النسخ بذلك الحكم الآخر الذي هو تجويز الترك لكان مقتضاه بقاء مجرد الطلب ، وحينئذ يكون مقتضيا للوجوب ، فيكون الحاصل بعد نسخ الجهة الزائدة هو بقاء الوجوب.

ص: 437


1- أجود التقريرات 1 : 303.
2- راجع في صفحة : 350 وما بعدها من المجلّد الأول من هذا الكتاب.

والمراد هو انقلاب الطلب عمّا كان فيه ممّا تضمنته الجهة الزائدة إلى ضد تلك الجهة الزائدة. وإن شئت فقل : إن الباقي هو مطلق الطلب ، وهو بنفسه يقتضي الوجوب والتحتم. ويمكن أن تأتي هذه الطريقة في الكراهة.

أما الوجوب وكذلك الحرمة فليس هو مثل الاستحباب في دعوى التركب الخارجي من حكمين ، ولا من قبيل المركب من الجنس والفصل كي يقال ببقاء الجنس متقوما بفصل آخر كما في حاشية العلاّمة الاصفهاني (1) كما في قطع الشجرة وإسقاط نموها وبقائها جسما مطلقا ، ولا من قبيل الاختلاف في الشدة والضعف كي يتأتى فيه دعوى بقاء المرتبة الثانية كما في تحرير الآملي لدرس الاستاذ العراقي قدس سره (2) ، بل إنه بسيط صرف فلاحظ ، هذا.

ولكن نحن وإن قلنا فيما تقدم إن الاستحباب مركب من طلب الفعل وتجويز الترك ، إلاّ أنّ ذلك إنما هو في مقام الانشاء بالصيغة ، فلا يتم الاستحباب إلاّ بإنشاءين : إنشاء الطلب وإنشاء تجويز الترك. لكن التحقيق أنه في مقام الثبوت بسيط في قبال الوجوب.

وبالجملة : أن هذه الأحكام - أعني الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة - في مقام الثبوت لا تكون إلاّ من سنخ الأحكام الوضعية التي قوامها الجعل والاعتبار ، وهي في هذه المرحلة بسائط يباين البعض منها البعض الآخر ، وهذا البعث وذاك الجواز للترك لا يكون هو حقيقة الاستحباب ، بل هو تفهيم أو مجرد تعبير وإعلام ، وليس شيء من ذلك

ص: 438


1- نهاية الدراية 2 : 262 - 264.
2- بدائع الأفكار : 197.

براجع إلى الأحكام الشرعية. والنسخ إنما يقع على نفس الحكم المجعول أعني الاستحباب ، ولا دخل له بمرتبة الاعلام ولا بمرتبة البعث والزجر.

قوله : فلا معنى للبحث عن جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ... الخ (1).

هذا بالنظر إلى القضية الحقيقية ، وأما بالنظر إلى القضية الخارجية فقد أفاد قدس سره أن الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم.

وقد يقال : إن الشرط لا يتصور في القضية الخارجية وإلاّ لكانت حقيقية.

لكن مراد شيخنا قدس سره أن الشرط في القضية الخارجية يكون من قبيل الداعي في جعل الحكم المطلق وتوجيهه إلى المكلف ، مثلا لو كانت المصلحة في وجوب الحج منوطة بالاستطاعة ، فتارة يأخذها شرطا في التكليف ويقول حج إن استطعت ، وهذه قضية حقيقية. واخرى يكون الآمر عالما بأن هذا الشخص واجد للاستطاعة فيوجّه الوجوب إليه حينئذ مطلقا من دون أن يأخذ الاستطاعة شرطا فيه ويخاطبه بقوله « حج » وهذه هي القضية الخارجية ، ولا يكون الشرط فيها راجعا إلى المجعول ، بل يكون راجعا إلى الجعل ، فيكون من مقدمات جعل التكليف من قبل الآمر ، ويكون المدار فيه على علم الآمر بوجوده.

ثم إن القضية الحقيقية لمّا كانت عبارة عن جعل الملازمة لم يكن معنى محصل للقول فيها بأنه يجوز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط. وما في الحاشية (2) من أنه لا يجوز الأمر مع علم الآمر بعدم اتفاق وجود الشرط

ص: 439


1- أجود التقريرات 1 : 304.
2- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 304.

لكونه لغوا ، أجنبي عمّا تعرض له شيخنا قدس سره من أن الشرط من قبيل الموضوع ، ويستحيل تحقق الحكم بدون تحقق موضوعه.

نعم ، إن جعل الوجوب فعلا مشروطا بشرط بنحو القضية الحقيقية مع فرض علمه بأنّ هذا الشرط لا يتفق حصوله ، لا بدّ فيه من فائدة ولو مثل توطين النفس ، كما في النسخ قبل وقت العمل.

والحاصل : أن الكلام إن كان في شرط الجعل باعتبار كون جعل الحكم من الأفعال الاختيارية للحاكم ، فلا بدّ فيها من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فلا ينبغي الريب في أن هذا النحو من الشروط يكون المدار فيه على علم الآمر لا على وجوده الواقعي ، ويستحيل حينئذ صدور الحكم وجعله من جانب الشارع مع علمه بأن شرطه غير موجود.

وإن كان الكلام في شرط المجعول الذي هو الحكم مثل الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فهذا أمر لا دخل لوجوده في جعل أصل القضية الحقيقية ، وإنما له الدخل في فعلية الحكم المجعول ، بمعنى أن الشارع جعل الوجوب على تقدير الاستطاعة ، فلا يكون الوجوب فعليا إلاّ عند الاستطاعة ، وحينئذ لا يكون في البين أمر جديد ، وإنما هو تحقق ما جعله الشارع ، فلا يكون معنى محصّل للقول بأن الآمر يأمر مع علمه بعدم الشرط.

ومن ذلك يتضح لك التأمل فيما أفاده في الكفاية من قوله : نعم لو كان المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر ... الخ (1) ، فانك قد عرفت أن تحقق الشرط في الخارج ليس

ص: 440


1- كفاية الاصول : 137.

بشرط في الفعلية ، بل إن الشرط شرط لنفس التكليف ، وتكون فعلية ذلك التكليف بفعلية شرطه ، فلا يكون لنا معنى محصل للقول بأنه يجوز الأمر إنشاء مع العلم بعدم تحقق شرط فعليته ، فان حاصل هذا هو أنه يجوز صدور الأمر من الشارع على نحو القضية الحقيقية مع فرض علمه بأنه لا يتحقق موضوعه في الخارج ولا يصل إلى درجة الفعلية ، وهو إن كان ممكنا إذا كان جعله بداع آخر غير داعي البعث ولو مثل توطين النفس ، فيكون حاله حال النسخ قبل وقت العمل ، إلاّ أنه أجنبي عمّا هو محل النزاع الذي فرّعوا عليه مسألة الكفارة على من أفطرت ثم فاجأها الحيض.

أما مسألة الكفارة على من أفطرت في أثناء النهار ثم فاجأها الحيض ولو كانت عالمة بذلك ، وكذلك من أكل صباحا وهو يعلم أنه يسافر قبل الزوال ، فقد تقدم (1) الكلام عليه في الموقتات ، وأن هذه الواجبات وإن كانت ارتباطية إلاّ أنّه لا ارتباط فيها بين الوجوب في الزمان الثاني والوجوب في الزمان الأول ، فلا يكون ارتفاع الوجوب في الزمان الثاني موجبا لارتفاعه في الزمان [ الأول ](2) ، وحينئذ يتم الوجوب قبل الحيض وقبل السفر ويتم الكفارة بمخالفته.

أو نقول : إن هذه القطعة من الزمان من طلوع الفجر إلى حين طروّ العذر وإن لم تكن واجبة الامساك بعنوان الصوم ، إلاّ أنه لا مانع من قيام الدليل على وجوب الامساك فيها ، وعلى أن مخالفته تكون موجبة للكفارة.

وعلى أيّ حال أنّ ذلك لا دخل له بمسألة جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ، إلاّ بأن ندّعي أنه يجوز للشارع أن يأمر هذه المرأة أو ذلك

ص: 441


1- في صفحة : 107.
2- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه لاستقامة العبارة ].

الرجل بالصيام الذي هو الامساك من أول الفجر إلى الغروب مع علمه بل ومع علم المأمور بأن الشرط لذلك الوجوب ينتفي بعد ساعة أو ساعتين ، ويكون أثر هذا الوجوب الذي قد حصل العلم بأن شرطه لا يدوم هو وجوب الكفارة عليه.

وفيه : ما لا يخفى ، فان وجوب الكفارة فرع على صحة الوجوب أعني وجوب الامساك من الفجر إلى الغروب مع فرض العلم بأن شرط هذا الوجوب لا يدوم ، فكيف يمكننا تصحيح هذا الوجوب باعتبار أثره المترتب على صحته ، فلاحظ وتدبر.

وإن كان المنظور في ذلك هو القضية الخارجية ، ففيه : أنها لا يتصور فيها الشرط بمعنى شرط المجعول وإلاّ لكانت حقيقية ، وإنما المتصور فيها هو شرط الجعل ، وذلك خارج عمّا نحن فيه.

وأما ما ذكره المحشي (1) من مثال القصاص مثل « اقتلوا القاتل » وأنّ غرض الآمر منه هو إعدام موضوعه لكونه موجبا لعدم تحقق القتل ، كما هو مقتضى قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ... ) (2) ففيه : أنّ إعدام الموضوع بمعنى تقليل موارد تعمد القتل ليس إلاّ من قبيل حكمة التشريع ، وإلاّ لكان الحكم معدما لموضوع نفسه ، وأين هذا من مسألة أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط الذي هو موضوع الحكم.

وأعلم أن هذا المعنى - أعني كون الحكمة في جعل الحكم هي إعدام موضوعه أو تقليل وجوده - لا يختص بالقصاص ، بل هو جار في جميع الحدود مثل حدّ السرقة وحدّ السكر وغيرهما من الحدود. فهذه الأحكام

ص: 442


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 304.
2- البقرة 2 : 179.

الراجعة إلى جعل عقوبة خاصة على من ارتكب الجريمة الفلانية وإن كان الشرط فيها هو الارتكاب ، وهذا الشرط ينعدم عند جعل ذلك الحكم المشروط به ، تكون الحكمة في جعلها هو سدّ باب تلك الجريمة ، وبذلك تخرج عن اللغوية كما ذكروه في كون توطين النفس حكمة في جعل الحكم الذي يعلم الجاعل أنه ينسخه عند وقته. ومن هذا القبيل جعل العقوبة على ارتكاب المحرمات ، فان الحكمة فيه هو سد باب الارتكاب وهكذا الحال في العقوبة على ترك الواجبات.

ص: 443

[ تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد ]

قوله : لاستبعاد احتياج تعلق الطلب بشيء إلى تقدير كلمة « أو » بمقدار أفراده ... الخ (1).

لو كان هذا وحده لكان الجواب عنه سهلا ، لامكان تعلق الطلب بعنوان « أيّ فرد » بأن يقول : « افعل أيّ فرد شئت من أفراد الصلاة » أو « أطلب منك صلاة » على نحو النكرة على ما يراه البعض من أن مفاد النكرة هو الفرد المردد على وجه تكون الخصوصية داخلة في المطلوب.

وإنما العمدة هو ما ذكره ثانيا من أن ذلك غير واقع ، وأنّ ما وقع من هذه التكاليف إنما هو تعلق الطلب بالقدر الجامع أعني الماهية المعبّر عنها بالكلي الطبيعي ، ولكن ليس ذلك إلاّ من باب الاستبعاد المحض ، وأنّ الأقرب هو تعلقه بالطبيعة ، ومن الواضح أن هذا إنما يقال في مقام الاختيار لا في المقام الذي نحن فيه أعني مقام تصور القول بتعلق الأمر بالأفراد.

وأما ما أفاده ثالثا من أنّ لازمه إنكار التخيير العقلي ، فذلك أيضا غير ضائر ، لامكان الالتزام به وإرجاع الأوامر إلى التخيير الشرعي ، غايته أنه ربما يكون التخيير بين طبيعتين مثل أعتق أو صم ، وربما كان التخيير بين أفراد طبيعة واحدة ، ولا مشاحة في الاصطلاح على الأول بأنه تخيير شرعي وعلى الثاني بأنه تخيير عقلي ، هذا.

ولكن العمدة هو بقاء الاشكال الأول الذي أشكله على تفسير الفرد

ص: 444


1- أجود التقريرات 1 : 305.

بالموجود من أن لازمه تحصيل الحاصل ، فانّ هذا الاشكال وارد على تقدير الإرجاع إلى الوجوب التخييري ، فانه يمتنع التخيير الشرعي بين الحاصلين ، فتأمل.

قوله : وبعبارة اخرى هل التشخصات في مرتبة سابقة ... الخ (1).

قال في الحاشية : لا يخفى أن حقيقة الوجود ... الخ.

إذا تحقق كون تشخص حقيقة الوجود ذاتيا له ، كانت إضافته إلى الوجود مجرّد تكثير العبارة ، إذ الوجود حينئذ عين التشخص ، لما سيأتي من أنّ وجود الماهية هو عين تشخصها بناء على كون الوجود طارئا عليها ، إذ يكون الوجود الطارئ على الماهية أشبه شيء بتجسد الروح. وبعد أن كان وجود الماهية عين تشخصها لا بدّ لنا من الالتزام بصدق قولنا « إن الماهية ما لم توجد لم تتشخص وما لم تتشخص لم توجد » ومفاد إحدى الجملتين عين مفاد الاخرى ، ويكون المتحصل أنها ما لم توجد لم توجد.

وحينئذ لا يكون في البين دور كي نجيب عنه بما أفاده شيخنا قدس سره (2) بأنه معي ، بل ليست هذه العبائر وهذه الجمل المتكثرة بحسب الصورة إلاّ من قبيل « أنت وابن أخت خالتك » بل لعل هاتين الجملتين توجد بينهما المباينة ولو بحسب المفهوم ، إلاّ أن التشخص الطارئ على الماهية الذي هو نظير التجسد الطارئ على الروح مثلا يكون عين وجودها مفهوما ومصداقا ، فلا يكون قولنا إن الماهية لا توجد ما لم تتشخص ولا تتشخص ما لم توجد إلاّ من قبيل قولك : السيف لا يكون صارما ما لم يكن قاطعا ولا

ص: 445


1- أجود التقريرات 1 : 306.
2- ستأتي الإشارة إليه في صفحة : 453 ، 454.

يكون قاطعا ما لم يكن صارما ( خواجة علي ، علي خواجة ).

هذا ما يعود إلى تشخص الماهية ووجودها الذي هو عبارة عن الفرد وإن شئت فهو الحصة من الماهية ، أما ما ينطبق على ذلك الفرد من جهات أخر ، فتلك ماهيات اخرى يكون ذلك الفرد عبارة عن وجودها وتشخصها وهي إن كانت من الذاتيات انحصرت بالنوع والفصل وما فوقهما من الأجناس العالية ، وإن كانت أعراضا استحال اتحادها وانطباق بعضها مع بعض ، وكان التركب فيها انضماميا لا اتحاديا. وإن كانت من العناوين العرضية مثل الكاتب والعالم لم تكن إلاّ منتزعة عن الذات باعتبار تلبسها بعرض من الأعراض ، ويكون اجتماع هذه العناوين في فرد واحد من قبيل التركب الاتحادي ، وليست هذه العناوين من قبيل الكليات الطبيعية والماهيات المتأصلة ، لوضوح استحالة اتحاد الماهيات المتأصلة بعضها مع بعض إلاّ فيما عرفت من النوع والفصل والأجناس ، ولا يتأتى فيها العموم من وجه.

والحاصل : أنّ ما ذكروه من [ هذا ](1) القسم من المحمولات أعني ما يكون من الخارج المحمول الذي يعبّرون عنه بأنه محمول حمل اشتقاق ، لا يكون فيه نفس العنوان المشتق إلاّ انتزاعيا وإن كان نفس المشتق منه من الأعراض المتأصلة ، فإنّ مثل العالم والكاتب لا يكون إلاّ من قبيل العنوان المنتزع عن الذات باعتبار عروض العلم عليها ، أو باعتبار عروض الكتابة عليها ، ويكون ذلك العنوان حاكيا عن نفس الذات بذلك الاعتبار ، ولا يكون كل من هذه العناوين إلاّ حاكيا عن شيء واحد وهو نفس الذات ،

ص: 446


1- [ لم يكن في الأصل ، وإنما أضفناه للمناسبة ].

ويكون الحكم في كل من العنوانين واردا على نفس تلك الذات ، غايته أن مبدأ الاشتقاق يكون بمنزلة العلة في ورود الحكم على تلك الذات.

ومن ذلك كله يظهر أن التركب الاتحادي لا يكون بين الأعراض مثل القيام والقعود بل حتى مثل المشي والسرعة ، وإنما يكون بين الذاتيات كما عرفت من النوع والجنس والفصل ، ولا يتأتى فيها العموم من وجه ، ويكون التركب الاتحادي أيضا بين العناوين العرضية المنتزعة عن الذات باعتبار تلبسها بعرض من الأعراض ، سواء كان بين العنوانين عموم من وجه مثل الأبيض والماشي ، أو كان بينهما عموم مطلق مثل الماشي والكاتب ، أو كان بينهما تساو مثل قابل العلم وقابل الكتابة ، ومنه قولنا الماهية موجودة والماهية متشخصة بالمعنى المتقدم ، لكنه أزيد من التساوي بل هو من قبيل الترادف.

أما ما أفيد في الحاشية (1) من تفسير قولهم « إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد » بحمل التشخص على التشخص الطارئ على الماهية في مرتبة علتها ، فذلك مما لم أتوفق لفهمه ، وهو على الظاهر أجنبي عمّا أفاده شيخنا قدس سره في توجيه القول بأن الموجود هو الفرد لا الكلي الطبيعي ، بأن الارادة التكوينية تتعلق بالكلي بما أنه متشخص ، فذلك التشخص ليس هو الواقع في مرتبة العلة ، بل هو نفس تشخص الماهية الذي هو عبارة عن وجودها ، غير أنّ المدعى هو أنّ الارادة التكوينية لا تتعلق بنفس الماهية وإنما تتعلق بها ملحوظا وجودها الخارجي.

ولا يخفى ما فيه ، فإن لحاظ المكوّن حين تكوينه لا علقة له بما هو

ص: 447


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 306.

الموجود. فانّ المكوّن وإن لاحظ الماهية الموجودة إلاّ أنه لا يفيض الوجود على الماهية الموجودة وإلاّ كان للوجود وجود. وهذا هو عمدة ما يشكل به على القول بأن الموجود هو الفرد بعد تفسير الفرد بالتشخص وتفسير التشخص بالوجود ، فان الأمر حينئذ ينتهي إلى أن الوجود موجود. هذا كله في التشخص الذي هو نفس وجود الماهية.

أما التشخص الذي هو عبارة عن المقارنات لها في الوجود ملازمة كانت أو اتفاقية ، فذلك وجود آخر لماهيات أخر ، ولم يقل أحد أن وجود الطبيعي عبارة عن وجود تلك الملازمات والمقارنات ، كما أنه لم يقل أحد بأن تعلق الحكم بالماهية يوجب تعلقه بالماهيات الأخر التي تلازمها أو تقارنها في الوجود.

وممّا حررناه يظهر لك أن مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تتفرع على النزاع في وجود الكلي الطبيعي ، بل على ما سيأتي منه قدس سره (1) من ابتنائها على التركب الاتحادي أو الانضمامي ، فان الموجود من الصلاة سواء كان هو الفرد أو الحصة أو نفس الماهية لا يتحد مع الموجود من الغصب ، ولا أثر في ذلك للقول بأن الموجود هو الطبيعة أو الموجود هو الفرد.

وأما فيما يكون التركيب اتحاديا كما في مثل العالم والفاسق ، فان امتناعه أيضا لا يكون مبتنيا على وجود الطبيعي ، لما عرفت من أن مثل هذه العناوين ليست من الكليات الطبيعية ، بل هي من قبيل العناوين الانتزاعية عن نفس الذات المحكية بها ، وهي لا تعدد فيها أصلا ، وإنما تعدد الأعراض التي أوجبت انتزاع تلك العناوين من تلك الذات باعتبار تلبسها

ص: 448


1- راجع أجود التقريرات 2 : 143 / المقدّمة السابعة.

بها وصدورها عنها.

ومن ذلك كله يظهر لك أن العموم من وجه إنما يتصور في مثل هذه العناوين ، دون العناوين الذاتية مثل النوع والفصل والجنس ، وأقصى ما يتصور من ذلك هو التساوي أو العموم المطلق ، فلاحظ وتأمل.

وتلخيص هذا المبحث يحصل ببيان امور :

الأول : أن نفس الوجود لا معنى لاضافة التشخص إليه بل هو عين التشخص ، فلا محصّل لاضافة التشخص إليه وادعاء أن تشخصه باقتضاء ذاته كما في الحاشية (1) فانه من قبيل ما يكون الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده. وبالجملة : أن الوجود مساوق للتشخص ، والتشخص مساوق للوجود ، وهما مساوقان للفرد ، وكما أنّه لا يضاف التشخص إلى الوجود فكذلك لا يضاف الوجود إلى التشخص أو إلى الفرد. ويكون كل من هذه الامور المتحدة من عوارض الماهية ، وهي من العوارض التي لا يكون الخارج ظرفا لوجودها ، وإنما يكون الخارج ظرفا لنفسها.

الثاني : أن تفسير قولهم « إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد » بالتشخص الذي يكون في مرتبة علة الشيء ، لم يتضح المراد منه ، لما عرفت من أن التشخص ليس إلاّ عبارة عن وجود الماهية في وعائها ، فلا معنى لكونه في مرتبة علتها وسابقا في الرتبة على وجودها ، إلاّ أن يكون هناك معنى آخر للتشخص هو غير وجود الماهية. ولو سلّمنا ذلك لكان خارجا عمّا نحن فيه من النزاع في أن الموجود هل هو الماهية أو الأفراد ، أو أن متعلق الأوامر هل هو الطبيعة أو الأفراد ، إذ لا ريب في أن المراد

ص: 449


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 306.

بالأفراد في هاتين المسألتين ليس هو التشخص بالمعنى المذكور ، أعني ما يكون في مرتبة علة وجود الماهية ، بل المراد به نفس وجود الماهية.

الثالث : أنه لا ريب في أن الطوارئ الأخر الزائدة على أصل وجود الطبيعة أجنبية عن نفس وجودها ، وإنما هي مقارنات أو ملازمات أخر يكون كل واحد منها وجودا لطبيعة وماهية اخرى ، وليس مراد القائلين بأن الموجود هو أفراد الكلي الطبيعي هو هذه الجهات الزائدة على أصل وجود الكلي الطبيعي ، بل المراد به هو نفس الوجود بما أنّه مضاف إلى تلك الطبيعة. كما أنه ليس المراد للقائلين بتعلق الأوامر بالأفراد هو كون مجمع العناوين مطلوبا من قرنه إلى قدمه ، بل المراد أن المطلوب هو الفرد من حيث إنه فرد لنفس الطبيعة ، أعني وجود تلك الطبيعة بما أنه وجود لها ، لا بما أنه وجود لها ولغيرها من الطبائع.

الرابع : أنك بعد أن عرفت أن الفرد هو عين تشخص الطبيعة وتشخصها عين وجودها ، وأن الجهات الزائدة على أصل وجود الطبيعة تكون وجودات وأفرادا لطبائع اخرى ، يتضح لك أنه لا معنى للقول بأن الموجود هو الفرد ، فان لازم ذلك أن يكون للوجود وجود ، كما أنه يتضح لك أنه لا معنى للقول بأن الطلب لا يتعلق بالطبيعة وأنه إنما يتعلق بالأفراد ، لأن الفرد حينئذ هو عين وجود الطبيعة ، ولا معنى لتعلق الطلب بالطبيعة إلاّ طلب إيجادها ، ولا معنى لطلب إيجادها إلاّ طلب خلق ذلك الوجود وإفاضته عليها ، وحينئذ يكون تعلق الطلب بالطبيعة عبارة اخرى عن تعلقه بوجودها ، وتعلقه بوجودها هو عين تعلقه بتشخصها ، وتشخصها هو عين وجودها ، ووجود الطبيعة هو عين فردها ، فلا فرق بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع أو تعلقه بالأفراد.

ص: 450

وما أفاده هنا شيخنا قدس سره (1) من أن الثمرة تظهر في باب الاجتماع ممّا لم يظهر وجهه ، حيث إن مبنى ذلك النزاع كما سيأتي منه قدس سره (2) إن شاء اللّه على كون التركب اتحاديا أو كونه انضماميا ، سواء قلنا إن المأمور به والمطلوب هو طبيعة الصلاة ، أو قلنا إن المطلوب هو الفرد ، بمعنى وجودها المقصور على كونها وجودها. نعم لو أخذنا الفرد بمعنى يدخل فيه جميع الجهات المقارنة أو الملازمة كان تعلق الأمر بالفرد بذلك المعنى مؤثرا في باب الاجتماع ، لكنك عرفت أن تلك الجهات خارجة عن الفرد من الصلاة ، وإنّما هي جهات أخر يكون كل واحد منها مصداقا وفردا لطبيعة اخرى.

ثم إن الجواهر يتحقق فيها التركب الاتحادي ، لكنه بنحو العموم المطلق ولا يتأتى فيها العموم من وجه ، وذلك أعني التركب الاتحادي فيها بنحو العموم المطلق إنما يكون بين الجنس والفصل بالنسبة إلى النوع.

أما الأعراض مثل العلم والبياض ونحوهما فهي على الظاهر من البسائط ، فلا يتحقق فيها التركيب الاتحادي حتى مثل العموم والخصوص المطلق ، اللّهم إلاّ إذا قلنا بتركبها ، فيكون حالها من هذه الجهة حال الجواهر في أنه يتحقق فيها التركب الاتحادي بنحو العموم المطلق ، ولا يتصور فيها العموم من وجه.

أما العناوين المأخوذة من تلك الأعراض ، أعني بذلك المشتقات منها مثل العالم والأبيض ونحوهما ، فيجري فيها التركب الاتحادي الذي على نحو العموم من وجه ، لكن المحكي بها ليس إلاّ الذات باعتبار تلبسها

ص: 451


1- أجود التقريرات 1 : 307.
2- راجع أجود التقريرات 2 : 143 / المقدّمة السابعة.

بالمبدإ ، فلا تكون تلك العناوين إلاّ انتزاعية ، فلا تدخل في الكليات الطبيعية إلاّ إذا عمّمنا الكلي الطبيعي إلى جميع الكليات حتى الانتزاعيات ولم نخصصه بالماهيات المتأصلة.

وإن شئت فقل : إن العناوين العرضية التي هي من قبيل المحمولات بالضميمة المعبر عنه بحمل الاشتقاق مثل العالم والكاتب ونحوهما يتأتى فيها العموم من وجه ، لكن لا يتصور فيها التركب الاتحادي ولا الانضمامي ، لأن المحكي بها هو نفس الذات باعتبار اتصافها بصفة عارضة عليها ، وهي أمر واحد لا تعدد فيها حتى يقال إن الماهيتين اتحدتا فيه أو انضم فيه إحداهما إلى الاخرى.

والسر في ذلك ما عرفت من كون مثل هذه العناوين بالنسبة إلى مصاديقها ليست من قبيل الماهيات والطبائع ، بل هي من قبيل العناوين المنتزعة عن الذات باعتبار تلبسها بواحدة من تلك الصفات ، فتأمل.

ومن جميع ما حررناه يظهر أن ما ربما يقال إن الفرد الواحد يكون فردا لماهيات شتى ، إن كان المراد أنه يكون كذلك بواسطة مقارناته وملازماته في الوجود ، فليس ذلك من قبيل الفرد الواحد ، بل هي أفراد متعددة لماهيات متعددة اتفق اجتماعها في الوجود على نحو التركب الانضمامي لا الاتحادي. وإن كان المراد أنه يكون كذلك بواسطة ذاته ونفسه ، فهذا إنما يتصور بحيث يكون التركب والاجتماع من قبيل التركيب الاتحادي فيما لو كانت الماهيات المذكورة من قبيل الأجناس والفصول والأنواع الذاتية ، أما في مثل الأعراض فلا يمكن ذلك إلاّ على تقدير كونها مركبات ، أما العرضيات وأعني بها المشتقات فليست هي في الحقيقة من الماهيات وإنما هي من الانتزاعيات. هذا ما حررناه سابقا.

ص: 452

ولكن يمكن أن يكون المراد بالتشخص الذي جعله شيخنا قدس سره مقابل الوجود هو التحصص بمعنى الحصة من الطبيعة ، وحينئذ فلا يكون هو عين الوجود ، بل هو مقارن للوجود إن قلنا إن الطبيعي موجود في الخارج ، وأن الوجود طارئ على نفس الطبيعة ، وهو حاصل قولهم إن الطبيعة ما لم توجد لم تتشخص أي لم تتحصص ، أو هو سابق في الرتبة على الوجود ويكون الوجود طارئا على الطبيعة المتحصصة إن قلنا إن الطبيعي غير موجود ، وأن الموجود هو فرده أعني الحصة منه ، وهو حاصل قولهم إن الطبيعة ما لم تتشخص لم توجد أي ما لم تتحصص لم توجد. فلا تكون إحدى القضيتين عين الاخرى كي يتوجه عليه ما ذكرناه من كونهما من قبيل ( علي خواجة ، خواجة علي ). ولا يكون كل منهما صادقا كي يتوجه الدور الذي نقله عنهم شيخنا قدس سره فيما حررته عنه ونقل الجواب عنه بأنه معي ، بل إن الصادق إحداهما وهي الاولى أعني ما لم يوجد لم يتشخص ، بناء على وجود الكلي الطبيعي ، أو الثانية وهي ما لم يتشخص لم يوجد بناء على عدم وجوده.

ويكون حاصل النزاع هو أن التشخص وبعبارة واضحة التحصص هل هو خارج عن الوقوع تحت الارادة التكوينية ، وأن ما يقع تحت الارادة التكوينية هو نفس ذات الطبيعة ، وأن تشخصها أعني صيرورتها حصة من الطبيعة يكون حاصلا في مرتبة وجودها الذي هو المعلول للارادة التكوينية ، أو أن التحصص المذكور يكون واقعا تحت الارادة التكوينية ، وأن المعلول للارادة التكوينية هو وجود الحصة من الطبيعة. والأول هو معنى وجود الطبيعي ، والثاني هو معنى عدم وجوده ، وأن الموجود هو فرده أعني الحصة منه.

ص: 453

ولكن بناء على ذلك لا وجه لما أفاده شيخنا قدس سره من أن من ثمرات هذا النزاع مسألة الاجتماع ، لأنه بناء على ذلك لو قلنا بتعلق الأحكام بالحصص تكون الحصة من الصلاة مباينة للحصة من الغصب ، ويتعين القول بالجواز كما هو الحال لو قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع. نعم من ثمراته هو كون التخيير عقليا لو قلنا بوجود الطبيعي ، وشرعيا لو قلنا بعدم وجوده وأن الموجود هو الفرد ، أعني الحصة من الطبيعة المباينة للحصة الاخرى ، فلاحظ وتدبر.

وعلى أيّ حال ليس المراد لشيخنا قدس سره من التشخص الذي تكلم عنه في المقام هو الخصوصيات الأخر التي يقترن بها الطبيعي في الخارج ، فانها حصص لطبيعي آخر ، وليست هي داخلة تحت الطلب المتعلق بذلك الطبيعي ، فلا يتوجه عليه ما في الحاشية بقوله : وعليه فلا مجال لتوهم أن الأمر بشيء يكون أمرا بمشخصاته المسامحية ... الخ (1).

نعم ، يرد على شيخنا قدس سره ما عرفت من عدم كون مسألة الاجتماع من ثمرات هذا النزاع ، لجريان القول بالجواز على كل من القول بوجود الطبيعي وعدم وجوده ، وأن الموجود هو الحصة منه بالمعنى الذي شرحناه ، فلاحظ.

قال شيخنا قدس سره : بل المراد بهذا النزاع مطلب آخر ، وهو أنهم ذكروا أن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد وما لم يوجد لم يتشخص ، وحيث إن الظاهر أن الالتزام بكل من هاتين القضيتين مستلزم للدور ، أجابوا عنه بأنه دور معي ، حيث إن التشخص مساوق للوجود ، لا أنه أمر آخر يتوقف عليه

ص: 454


1- أجود التقريرات 1 ( الهامش ) : 306.

الوجود كي يكون كل منهما متوقفا على الآخر ، وبعد الفراغ عن هاتين القضيتين وأن التشخص مساوق للوجود نقول : إن حقيقة النزاع في وجود الكلي الطبيعي هو أن ما تتعلق إرادته تعالى بتكوينه وإخراجه من العدم إلى الوجود وكذلك ما تتعلق به إرادتنا من سائر أفعالنا ، هل هو نفس الكلي الطبيعي ، وأن الخصوصيات الفردية خارجة عن حيز الارادة المذكورة ، وإنما هي من لوازم إخراجه من العدم إلى الوجود ، لما عرفت من أن التشخص مساوق للوجود وأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، أو أن متعلق الارادة المذكورة هو الفرد بخصوصياته ، بحيث كانت الخصوصية الفردية داخلة في حيز الارادة المذكورة. ومن ذلك يظهر لك الحال في حقيقة النزاع الذي نحن فيه ، أعني تعلق الأوامر بالطبائع أو الافراد ، فان ما تتعلق به الارادة التشريعية هو بعينه ما تتعلق به إرادتنا التكوينية ، انتهى.

وقد أورد عليه في الحاشية بما عرفت نقله - إلى قوله - فلا مجال لتوهم أن الأمر بشيء يكون أمرا بمشخصاته المسامحية - إلى قوله - ومن ذلك يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ قدس سره في المقام فلا تغفل ، انتهى.

وأنت بعد اطلاعك على هذا الذي حررته عنه قدس سره تعرف أن هذا الايراد غير وارد عليه ، لأنه إنما يرد لو كان مراده من التشخص هو المشخصات المقارنة لوجود الطبيعة من الاتصافات بكونه طويلا مثلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض ، أو نحو ذلك من الصفات التي هي مصاديق لكليات أخر كما حرره عنه المحرر المحشي.

أما بعد كون المراد له قدس سره من التشخص هو التحصص ، فان الكلي الطبيعي عند وجوده يكون حصة من الطبيعة وبذلك يكون متشخصا ، ويصدق بذلك أنه لا يوجد إلاّ إذا تحصص ، ولا يتحصص إلاّ إذا طرأه

ص: 455

الوجود ، فالوجود والتشخص والتحصص يطرءان عليه عند تأثير الارادة فيه ، فيوجد ويتشخص ويكون حصة من الطبيعة في قبال باقي الحصص منها ، ولأجل ذلك قال إن التشخص مساوق للوجود ولم يقل إنه عين الوجود ، وإلاّ لكان ذلك عبارة اخرى عن أنّ الشيء لا يوجد إلاّ إذا وجد ، فتكون هذه العبارة التي تصدّى لدفع الدور منها بأنّه معيّ عبارة مهملة مرجعها إلى ما يقال « أنت وابن اخت خالتك » أو « خواجة علي ، علي خواجة » فلاحظ وتأمل.

ص: 456

فهرس الموضوعات

الموضوع / الصفحة

الواجب المطلق والمشروط... 3

وجوه الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية... 3

رجوع القيد إلى المادة أو إلى الهيئة... 12

نقل كلام السيد أبي الحسن الاصفهاني قدس سره في المقام والتأمل فيه... 15

نقل كلام صاحب الدرر في المقام والاشكال عليه... 16

نقد ما ذهب إليه المحقق الرشتي قدس سره في المقام... 18

نقل ما في تقريرات الشيخ الأعظم قدس سره في المقام... 19

الكلام في إمكان رجوع الشرط إلى مفاد الهيئة... 26

نقد كلام السيد الخوئي قدس سره في المقام... 29

تحقيق المطلب فيما يتعلق بالمقام... 32

تنبيه : مناقشة كلام صاحب الكفاية قدس سره... 38

انقسام القيد إلى قيد الوجوب والواجب وقيدهما معا... 40

الاشكال في تقييد الواجب بقيد الوجوب وحلّه... 41

كل ما يوجب تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة... 43

مناقشة السيد الخوئي قدس سره في المقام... 44

الكلام في الواجب المعلّق... 52

الاشكال في تعليق الارادة التكوينية... 52

ص: 457

كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام ونقده... 53

خلاصة ما يرد على فكرة الواجب المعلّق... 57

الاشكال على الواجب المعلّق بعدم القدرة... 60

الكلام في كون الشرط هو العنوان المنتزع... 62

الايرادات على الواجب المعلّق... 65

تعميم صاحب الكفاية قدس سره الواجب المعلّق إلى المقيّد بأمر مقدور متأخر... 69

تكملة : نقل كلام الآخوند قدس سره في مناط فعلية وجوب المقدمة الوجودية... 77

نقل كلام الآخوند قدس سره تعليقا على كلام صاحب الفصول قدس سره... 79

تنبيه : نقل كلام عن صاحب البدائع قدس سره في المقام... 82

الكلام في التكليف بالتدريجيات من حيث الالتزام فيها بالشرط المتأخر أو الواجب المعلّق 83

تحقيق رشيق حول معنى ارتباطية الواجب من حيث تلازم الأجزاء في الاطاعة... 93

الكلام في وجوب الكفارة على من أفطر أول النهار مع علمه بطروّ الاضطرار في آخره 99

الكلام في وجوب المقدمات التي ادعي وجوبها قبل وجوب ذيها... 111

أنحاء اشتراط القدرة في التكليف... 111

الاستدلال بقاعدة الامتناع بالاختيار على وجوب المقدمة المفوّتة والمناقشة فيه... 112

قول صاحب البدائع بالوجوب التهيئي للمقدمات المفوّتة... 117

مختار المصنف (خلاصة الكلام) في المقدمات المفوّتة... 121

الكلام في وجوب التعلم... 128

خاتمة : في دوران القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة... 142

ص: 458

الواجب النفسي والغيري... 153

تعريف الآخوند قدس سره للواجب النفسي والغيري ومناقشة المصنف قدس سره له... 153

إصلاح تعريف المشهور للواجب الغيري... 156

الشك في واجب أنه نفسي أو غيري... 157

ترتب الثواب على الأمر الغيري وعبادية الطهارات الثلاث... 196

المناقشة فيما أفاده المحقّق النائيني قدس سره من اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الشرطي المتعلق بالوضوء والغسل 218

كلام صاحب الكفاية قدس سره فيما يتعلق بعبادية الطهارات الثلاث... 229

لو أتى بالطهارات الثلاث بداعي التوصل ثم بدا له... 234

الواجب التعييني والتخييري... 249

حقيقة الواجب التخييري ودفع الاشكال عنه... 249

الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي... 255

تزاحم الملاكات آمريا يتصور على صور... 262

أقسام المفاهيم الانتزاعية... 278

التخيير بين الأقل والأكثر... 280

الواجب الكفائي... 286

حقيقة الوجوب الكفائي... 286

الكلام في فرض تعدد الملاك في فرض وحدته... 299

الواجب الموسّع والمضيّق... 303

هل القضاء بالأمر السابق أو بأمر جديد... 304

ص: 459

مراد صاحب الكفاية قدس سره من تعدد المطلوب في المقام... 313

مبحث المرّة والتكرار... 323

التعرض لامور في المقام :

1 - عدم دلالة الأمر لا على المرّة ولا التكرار... 323

2 - هل النزاع في المقام راجع إلى الصيغة أو إلى المادة... 323

3 - هل المراد بالمرة والتكرار الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات... 324

4 - هل المراد بوجوب الأفراد أو الدفعات وجوبها ارتباطيا أو استقلاليا ، وهل المراد بالمرّة كونها بشرط لا أو لا بشرط 324

مبحث الفور والتراخي... 326

معنى التضيق والتوسعة المفسّر بهما الفور والتراخي... 326

أدلة القول بالفورية... 328

مختار المصنف قدس سره في المقام... 329

كلام صاحب الكفاية قدس سره في المقام والمناقشة فيه... 331

مبحث الإجزاء... 334

توجيه ما ورد من تبديل الامتثال... 334

الفرق بين هذه المسألة ومسألة تبعية القضاء للأداء... 335

معنى الاقتضاء المبحوث عنه في المقام... 335

المراد من « على وجهه » في عنوان النزاع... 336

تبديل الامتثال... 337

ذكر المحتملات الثبوتية في الواجب الاضطراري من حيث استيفاء

ص: 460

الملاك وما يترتب عليها من الإجزاء والبدار... 338

شرح ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في المقام... 346

ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من الاشكال في استصحاب بقاء العذر... 349

تتمة : في تردد الأمر بين الصور الثلاث في الأمر الاضطراري... 353

جريان الاشكال المتقدم في استصحاب القدرة... 354

تكميل : ذكر كلام للسيد البروجردي قدس سره في المقام... 355

المسألة الاولى : إجزاء المأتي به بالأمر الاضطراري عن المأمور به الواقعي... 356

تقديم مقدمات في المقام... 356

أنحاء دخل القيد المتعذر في ملاك الواجب واختلافها من حيث الإجزاء والبدار... 358

الاشكال فيما ذكروه من تجويز البدار في بعض الموارد ومنعه في ومنعه في الموارد الاخرى 365

الاشكال فيما ذكره في العروة من تقديم الطهارة الخبيثة على الطهارة المائية عند المزاحمة 367

مناقشة المصنف المحقق النائيني قدس سرهما في ملازمة تشريع الأمر الاضطراري لامور ثلاثة 369

المسألة الثانية : إجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي... 375

مراتب الأمر الظاهري... 375

أنحاء التبدل في الأوامر الظاهرية ومعنى انكشاف الخلاف القطعي فيها... 375

نقل كلام الآخوند قدس سره في المقام والمناقشة فيه... 377

إيرادات المحقق النائيني على صاحب الكفاية قدس سرهما... 385

استدراك : يتضمن اضافات ترتبط بما تقدم وبما سيأتي من الأبحاث :

ص: 461

1 - ما يرتبط بمبحث إجزاء الأمر الاضطراري... 395

2 - ما يرتبط بمبحث إجزاء الأمر الظاهري مع انكشاف الخلاف القطعي... 402

3 - ما يرتبط بمبحث إجزاء الحكم الظاهري مع انكشاف الخلاف بحجة معتبرة... 407

4 - الامور الأربعة التي نبّه عليها المحقق النائيني قدس سره في المقام... 414

نقل كلام السيد البروجردي قدس سره في المقام... 416

الكلام في تبدل الحكم الظاهري من حيث الإجزاء وعدمه... 422

المناقشة فيما نسبه الآخوند قدس سره إلى صاحب الفصول قدس سره... 430

تنبيه : عدم انحصار موارد العدول بالعثور على دليل لم يعثر عليه سابقا... 436

الكلام في نسخ الوجوب... 437

أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط... 439

تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد... 444

فهرست الموضوعات... 458

ص: 462

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.